الكتاب: اللباب في علوم الكتاب المؤلف: أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني (المتوفى: 775هـ) المحقق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان الطبعة: الأولى، 1419 هـ -1998م عدد الأجزاء: 20   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] ---------- اللباب في علوم الكتاب ابن عادل الكتاب: اللباب في علوم الكتاب المؤلف: أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني (المتوفى: 775هـ) المحقق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان الطبعة: الأولى، 1419 هـ -1998م عدد الأجزاء: 20   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] ـ[اللباب في علوم الكتاب]ـ المؤلف: أبو حفص سراج الدين عمر بن علي بن عادل الحنبلي الدمشقي النعماني (المتوفى: 775هـ) المحقق: الشيخ عادل أحمد عبد الموجود والشيخ علي محمد معوض الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت / لبنان الطبعة: الأولى، 1419 هـ -1998م عدد الأجزاء: 20 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] الْفَاتِحَة بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم. وَبِه نستعين. الْحَمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستهديه، وَنَسْتَغْفِرهُ، ونعوذ بِاللَّه من شرور أَنْفُسنَا، وَمن سيئات أَعمالنَا، من يهده الله فَلَا مضل لَهُ، وَمن يضلل فَلَا هادي لَهُ، وَأشْهد أَلا إِلَه إِلَّا الله وَحده، لَا شريك لَهُ، وَأشْهد أَن مُحَمَّدًا عَبده وَرَسُوله، أرْسلهُ بَين يَدي السَّاعَة بشيرا وَنَذِيرا - صلى الله عَلَيْهِ وعَلى آله وَصَحبه وَسلم تَسْلِيمًا كثيرا. وَبعد، فَهَذَا كتاب جمعته من أَقْوَال الْعلمَاء فِي عُلُوم الْقُرْآن وسميته: " اللّبَاب فِي عُلُوم الْكتاب "، وَمن الله أسأَل العون، وبلوغ الأمل، والعصمة من الْخَطَأ والزلل. الِاسْتِعَاذَة: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم. هَذَا لَيْسَ من الْقُرْآن إِجْمَاعًا، وَإِنَّمَا تعرضت لَهُ؛ لِأَنَّهُ وَاجِب فِي أول الْقِرَاءَة، أَو مَنْدُوب، وَقيل: وَاجِبَة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَحده. وَأَصَح كيفيات اللَّفْظ هَذَا اللَّفْظ الْمَشْهُور؛ لموافقته قَوْله تَعَالَى: {فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم} [النَّحْل: 98] . وَرووا فِيهِ حديثين: قَالَ الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ -: وَاجِب أَن يَقُول: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 وَهُوَ قَول أبي حنيفَة - رَضِي الله عَنهُ - قَالُوا: لِأَن هَذَا النّظم مُوَافق لِلْآيَةِ الْمُتَقَدّمَة، وموافق لظَاهِر الْخَبَر. وَقَالَ أَحْمد - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ -: الأوْلى أَن يَقُول: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم، إِنَّه هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم؛ جمعا بَين الْآيَتَيْنِ. وَقَالَ بعض الشَّافِعِيَّة: الأوْلى أَن يَقُول: أعوذ بِاللَّه السَّمِيع الْعَلِيم من الشَّيْطَان الرَّجِيم؛ لِأَن هَذَا - أَيْضا - جمع بَين الْآيَتَيْنِ. وروى الْبَيْهَقِيّ فِي كتاب " السّنَن " بِإِسْنَادِهِ، عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ قَالَ: كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِذا قَامَ من النّوم كبّر ثَلَاثًا، وَقَالَ: أعوذ بِاللَّه السَّمِيع الْعَلِيم من الشَّيْطَان الرَّجِيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وَقَالَ الثَّوْريّ، وَالْأَوْزَاعِيّ: الأوْلى أَن يَقُول: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم إِن الله هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم. وروى الضَّحَّاك عَن ابْن عَبَّاس: أَن أول مَا نزل جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - على مُحَمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - قَالَ: قل يَا مُحَمَّد: استعذ بِاللَّه السَّمِيع الْعَلِيم من الشَّيْطَان الرَّجِيم، ثمَّ قَالَ: قل: {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} {اقْرَأ باسم رَبك الَّذِي خلق} [العلق: 1] . وَنقل عَن بَعضهم، أَنه كَانَ يَقُول: أعوذ بِاللَّه الْمجِيد من الشَّيْطَان المريد. فصل اتّفق الْأَكْثَرُونَ على أَن وَقت الِاسْتِعَاذَة قبل قِرَاءَة الْفَاتِحَة. وَعَن النَّخعِيّ: أَنه بعْدهَا، وَهُوَ قَول دَاوُد الْأَصْفَهَانِي، وَإِحْدَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الرِّوَايَتَيْنِ عَن ابْن سِيرِين. وَقَالُوا: إِذا [قَرَأَ] الْفَاتِحَة وأمّن، يستعيذ بِاللَّه. دَلِيل الْجُمْهُور: مَا روى جُبَير بن مطعم - رَضِي الله عَنهُ -: أَن النَّبِي _ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشرف وكرم وبجل وَعظم وفخم - حِين افْتتح الصَّلَاة قَالَ: " الله أكبر كَبِيرا، ثَلَاث مَرَّات، وَالْحَمْد لله كثيرا، ثَلَاث مَرَّات، وَسُبْحَان الله بكرَة وَأَصِيلا، ثَلَاث مَرَّات، ثمَّ قَالَ: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم من همزه ونفخه ونفثه ". وَاحْتج الْمُخَالف بقوله تَعَالَى: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم} [النَّحْل: 98] دلّت هَذِه الْآيَة على أَن قِرَاءَة الْقُرْآن شَرط، وَذكر الِاسْتِعَاذَة جَزَاء، وَالْجَزَاء مُتَأَخّر عَن الشَّرْط؛ فَوَجَبَ أَن تكون الِاسْتِعَاذَة مُتَأَخِّرَة عَن الْقِرَاءَة. ثمَّ قَالُوا: وَهَذَا مُوَافق لما فِي الْعقل؛ لِأَن من قَرَأَ الْقُرْآن، فقد اسْتوْجبَ الثَّوَاب الْعَظِيم، فَرُبمَا يداخله الْعجب؛ فَيسْقط ذَلِك الثَّوَاب، لقَوْله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " ثَلَاث مهلكات " وَذكر مِنْهَا إعجاب الْمَرْء بِنَفسِهِ؛ فَلهَذَا السَّبَب أمره الله - تَعَالَى -[بِأَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 يستعيذ من الشَّيْطَان؛ لِئَلَّا يحملهُ الشَّيْطَان بعد الْقِرَاءَة] على عمل محبط ثَوَاب تِلْكَ الطَّاعَة. قَالُوا: وَلَا يجوز أَن يكون المُرَاد من قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه} أَي: إِذا أردْت قِرَاءَة الْقُرْآن؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {إِذا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاة فَاغْسِلُوا} [الْمَائِدَة: 6] . وَالْمعْنَى: إِذا أردتم الْقيام فَتَوضئُوا؛ لِأَنَّهُ لم يقل: فَإِذا صليتم فَاغْسِلُوا؛ فَيكون نَظِير قَوْله: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ} وَإِن سلمَان كَون هَذِه الْآيَة نَظِير تِلْكَ، فَنَقُول: نعم، إِذا قَامَ يغسل عقيب قِيَامه إِلَى الصَّلَاة؛ لِأَن الْأَمر إِنَّمَا ورد بِالْغسْلِ عقيب قِيَامه، وَأَيْضًا: فالإجماع دلّ على ترك هَذَا الظَّاهِر، وَإِذا ترك الظَّاهِر فِي مَوضِع لدَلِيل، لَا يُوجب تَركه فِي سَائِر الْمَوَاضِع لغير دَلِيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 أما جُمْهُور الْفُقَهَاء - رَحِمهم الله تَعَالَى - فَقَالُوا: إِن قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فاستعذ} يحْتَمل أَن يكون المُرَاد مِنْهُ: إِذا أردْت، وَإِذا ثَبت الِاحْتِمَال، وَجب حمل اللَّفْظ عَلَيْهِ تَوْفِيقًا بَين الْآيَة وَبَين الْخَبَر الَّذِي روينَاهُ، وَمِمَّا يُقَوي ذَلِك من المناسبات الْعَقْلِيَّة، أَن الْمَقْصُود من الِاسْتِعَاذَة نفي وساوس الشَّيْطَان عِنْد الْقِرَاءَة؛ قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أرسلنَا من قبلك من رَسُول وَلَا نَبِي إِلَّا إِذا تمنى ألْقى الشَّيْطَان فِي أمْنِيته} [الْحَج: 52] فَأمره الله - تَعَالَى - بِتَقْدِيم الِاسْتِعَاذَة قبل الْقِرَاءَة؛ لهَذَا السَّبَب. قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله تَعَالَى -: " وَأَقُول: هَا هُنَا قَول ثَالِث: وَهُوَ [أَن] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 يقْرَأ الِاسْتِعَاذَة قبل الْقِرَاءَة؛ بِمُقْتَضى الْخَبَر، وَبعدهَا؛ بِمُقْتَضى الْقُرْآن؛ جمعا بَين الدَّلَائِل بِقدر الْإِمْكَان ". قَالَ عَطاء - رَحمَه الله تَعَالَى -: الِاسْتِعَاذَة وَاجِبَة لكل قِرَاءَة، سَوَاء كَانَت فِي الصَّلَاة أَو غَيرهَا. وَقَالَ ابْن سِيرِين - رَحمَه الله تَعَالَى -: إِذا تعوذ الرجل مرّة وَاحِدَة فِي عمره، فقد كفى فِي إِسْقَاط الْوُجُوب، وَقَالَ الْبَاقُونَ: إِنَّهَا غير وَاجِبَة. حجَّة الْجُمْهُور: أَن النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَشرف وكرم وبجل وَعظم - لم يعلم الْأَعرَابِي الِاسْتِعَاذَة فِي جملَة أَعمال الصَّلَاة. وَلقَائِل أَن يَقُول: إِن ذَلِك الْخَبَر غير مُشْتَمل على بَيَان جملَة وَاجِبَات الصَّلَاة، فَلم يلْزم من عدم الِاسْتِعَاذَة فِيهِ، عدم وُجُوبهَا. وَاحْتج عَطاء على وجوب الِاسْتِعَاذَة بِوُجُوه: الأول: أَنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - واظب عَلَيْهِ؛ فَيكون وَاجِبا - لقَوْله تَعَالَى: {واتبعوه} [الْأَعْرَاف: 158] . الثَّانِي: أَن قَوْله تَعَالَى: {فاستعذ} أَمر؛ وَهُوَ للْوُجُوب، ثمَّ إِنَّه يجب القَوْل بِوُجُوبِهِ عِنْد كل [قِرَاءَة] ، لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم} [النَّحْل: 98] وَذكر الحكم عقيب الْوَصْف الْمُنَاسب يدل على التَّعْلِيل، وَالْحكم يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الْعلَّة. الثَّالِث: أَنه - تَعَالَى - أَمر بالاستعاذة؛ لدفع شَرّ الشَّيْطَان؛ وَهُوَ اجب، وَمَا لَا يتم الْوَاجِب إِلَّا بِهِ، فَهُوَ وَاجِب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 فصل فِي حكم التَّعَوُّذ قبل الْقِرَاءَة التَّعَوُّذ فِي الصَّلَاة مُسْتَحبّ قبل الْقِرَاءَة عِنْد الْأَكْثَرين. وَقَالَ مَالك - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ - لَا يتَعَوَّذ فِي الْمَكْتُوبَة، ويتعوذ فِي قيام شهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 رَمَضَان لِلْآيَةِ وَالْخَبَر، وَكِلَاهُمَا يُفِيد الْوُجُوب، فَإِن لم يثبت الْوُجُوب، فَلَا أقل من النّدب. فصل فِي الْجَهْر والإسرار بالتعوذ رُوِيَ أَن عبد الله بن عمر - رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا - لما قَرَأَ أسر بالتعويذ. وَعَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ -: أَنه جهر بِهِ؛ ذكره الشَّافِعِي - رَحمَه الله تَعَالَى - فِي " الْأُم " ثمَّ قَالَ: فَإِن جهر بِهِ جَازَ، [وَإِن أسر بِهِ جَازَ] . فصل فِي مَوضِع الِاسْتِعَاذَة من الصَّلَاة قَالَ ابْن الْخَطِيب: " أَقُول: إِن الِاسْتِعَاذَة إِنَّمَا تقْرَأ بعد الاستفتاح، وَقبل الْفَاتِحَة، فَإِن ألحقناها بِمَا قبلهَا، لزم الْإِسْرَار، وَإِن ألحقناها بِالْفَاتِحَةِ، لزم الْجَهْر، إِلَّا أَن المشابهة بَينهَا، وَبَين الاستفتاح أتم؛ لكَون كل مِنْهُمَا نَافِلَة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فصل فِي بَيَان هَل التَّعَوُّذ فِي كل رَكْعَة؟ قَالَ بعض الْعلمَاء - رَحِمهم الله -: إِنَّه يتَعَوَّذ فِي كل رَكْعَة. وَقَالَ بَعضهم: لَا يتَعَوَّذ إِلَّا فِي الرَّكْعَة الأولى. حجَّته: أَن الأَصْل هُوَ الْعَدَم، وَمَا لأَجله أمرنَا بالاستعاذة؛ هُوَ قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ بِاللَّه} [النَّحْل: 98] وَكلمَة " إِذا " لَا تفِيد الْعُمُوم. وَلقَائِل أَن يَقُول: إِن تَرْتِيب الحكم على الْوَصْف الْمُنَاسب يدل على الْعلَّة؛ فيتكرر الحكم بِتَكَرُّر الْعلَّة. فصل فِي بَيَان سَبَب الِاسْتِعَاذَة التَّعَوُّذ فِي الصَّلَاة، لأجل الْقِرَاءَة، أم لأجل الصَّلَاة؟ عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد - رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا - أَنه للْقِرَاءَة [وَعند أبي يُوسُف: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 أَنه للصَّلَاة] وَيتَفَرَّع على هَذَا الأَصْل فرعان: الأول: أَن الْمُؤْتَم هَل يتَعَوَّذ خلف الإِمَام؟ عِنْدهمَا: لَا يتَعَوَّذ؛ لِأَنَّهُ لَا يقْرَأ وَعِنْده يتَعَوَّذ؛ وَجه قَوْلهمَا قَوْله تَعَالَى: {فَإِذا قَرَأت الْقُرْآن فاستعذ} [النَّحْل: 98] علق الِاسْتِعَاذَة على الْقِرَاءَة، وَلَا قِرَاءَة على الْمُقْتَدِي. وَجه قَول أبي يُوسُف - رَحمَه الله - التَّعَوُّذ لَو كَانَ للْقِرَاءَة؛ لَكَانَ يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الْقِرَاءَة، وَلما لم لَكِن كَذَلِك، بل يتَكَرَّر بِتَكَرُّر الصَّلَاة؛ دلّ على أَنَّهَا للصَّلَاة. الْفَرْع الثَّانِي: إِذا افْتتح صَلَاة الْعِيد فَقَالَ: سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ، هَل يَقُول: أعوذ بِاللَّه، ثمَّ يكبر، أم لَا؟ عِنْدهمَا أَنه يكبر التَّكْبِيرَات، ثمَّ يتَعَوَّذ عِنْد الْقِرَاءَة. وَعند أبي يُوسُف - رَحمَه الله - يقدم التَّعَوُّذ على التَّكْبِيرَات. فصل السّنة أَن يقْرَأ الْقُرْآن مرتلا؛ لقَوْله تبَارك وَتَعَالَى: {ورتل الْقُرْآن ترتيلا} [المزمل: 4] . والترتيل: هُوَ أَن يذكر الْحُرُوف مبينَة ظَاهِرَة، والفائدة فِيهِ أَنا إِذا وَقعت الْقِرَاءَة على هَذَا الْوَجْه؛ فهم من نَفسه مَعَاني تِلْكَ الْأَلْفَاظ، وَأفهم غَيره تِلْكَ الْمعَانِي، وَإِذا قَرَأَهَا سردا، لم يفهم وَلم يفهم، فَكَانَ الترتيل أولى. روى أَبُو دَاوُد - رَحمَه الله تَعَالَى - بِإِسْنَادِهِ عَن ابْن عمر - رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " يُقَال للقارئ: اقْرَأ وارق، ورتل، كَمَا كنت ترتل فِي الدُّنْيَا؛ [فَإِن منزلتك عِنْد آخر آيَة تقرؤها "] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 قَالَ أَبُو سلمَان الْخطابِيّ - رَحمَه الله -: جَاءَ فِي الْأَثر أَن عدد آي الْقُرْآن على عدد درج الْجنَّة؛ يُقَال للقارئ: اقْرَأ وارق فِي الدرج على عدد مَا كنت تقْرَأ من الْقُرْآن، فَمن استوفى، فَقَرَأَ جَمِيع آي الْقُرْآن استولى على أقْصَى الْجنَّة. فصل فِي اسْتِحْبَاب تَحْسِين الْقِرَاءَة جَهرا إِذا قَرَأَ الْقُرْآن جَهرا، فَالسنة أَن يحسن فِي الْقِرَاءَة؛ روى أَبُو دَاوُد، عَن الْبَراء بن عَازِب - رَضِي الله عَنْهُمَا - قَالَ: قَالَ رَسُول الله (صلى الله عَلَيْهِ وَسلم) : " زَينُوا الْقُرْآن بِأَصْوَاتِكُمْ ". فصل فِي صِحَة الصَّلَاة مَعَ النُّطْق بالضاد والظاء قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله تَعَالَى -: " الْمُخْتَار عندنَا أَن اشْتِبَاه الضَّاد بالظاء عندنَا لَا يبطل الصَّلَاة؛ وَيدل عَلَيْهِ أَن المشابهة حَاصِلَة بَينهمَا جدا، والتمييز عسر، فَوَجَبَ أَن يسْقط التَّكْلِيف بِالْفرقِ. بَيَان المشابهة أَنَّهُمَا من الْحُرُوف المجهورة، وَأَيْضًا من الْحُرُوف الرخوة، وَأَيْضًا من الْحُرُوف المطبقة، وَأَيْضًا: أَن النُّطْق بِحرف الضَّاد مَخْصُوص بالعرب؛ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وَالسَّلَام -: " أَنا أفْصح من نطق بالضاد " فَثَبت بِمَا ذكر أَن المشابهة بَينهمَا شَدِيدَة، والتمييز عسر. وَأَيْضًا: لم يَقع السُّؤَال عَنهُ فِي زمن النَّبِي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - وأزمنة الصَّحَابَة، لَا سِيمَا عِنْد دُخُول الْعَجم فِي الْإِسْلَام، فَلَمَّا لم ينْقل وُقُوع السُّؤَال عَن هَذَا أَلْبَتَّة، علمنَا أَن التَّمْيِيز بَين هذَيْن الحرفين، لَيْسَ فِي مَحل التَّكْلِيف. فصل فِي عدم جَوَاز الصَّلَاة بالوجوه الشاذة اتّفق على أَنه لَا تجوز الْقِرَاءَة [فِي الصَّلَاة] بالوجوه الشاذة: لِأَن الدَّلِيل يَنْفِي جَوَاز الْقِرَاءَة مُطلقًا، لِأَنَّهَا لَو كَانَت من الْقُرْآن، لوَجَبَ بُلُوغهَا إِلَى حد التَّوَاتُر، وَلما لم يكن كَذَلِك، علمنَا أَنَّهَا لَيست من الْقُرْآن، عدلنا عَن هَذَا الدَّلِيل فِي جَوَاز الْقِرَاءَة بهَا خَارج الصَّلَاة، فَوَجَبَ أَن تبقى قرَاءَتهَا فِي الصَّلَاة على أصل الْمَنْع. فصل فِي قَوْلهم: " الْقرَاءَات الْمَشْهُورَة منقولة بالتواتر " اتّفق الْأَكْثَرُونَ على أَن الْقرَاءَات الْمَشْهُورَة منقولة بالتواتر، وَفِيه إِشْكَال؛ وَذَلِكَ لأَنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 نقُول: هَذِه الْقِرَاءَة إِمَّا أَن تكون منقولة بالتواتر، أَو لَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 فَإِن كَانَ الأول، فَحِينَئِذٍ قد ثَبت بِالنَّقْلِ الْمُتَوَاتر أَن الله - تَعَالَى - قد خيّر الْمُكَلّفين بَين هَذِه الْقِرَاءَة، وَسوى بَينهمَا فِي الْجَوَاز. وَإِذا كَانَ كَذَلِك، كَانَ تَرْجِيح بَعْضهَا على الْبَعْض وَاقعا على خلاف الحكم المتواترة؛ فَوَاجِب أَن يكون الذاهبون إِلَى تَرْجِيح الْبَعْض، مستوجبين للتفسيق إِن لم يلْزمهُم التَّكْفِير، لَكنا نرى أَن كل وَاحِد يخْتَص بِنَوْع معِين من الْقِرَاءَة، وَيحمل النَّاس عَلَيْهَا، ويمنعهم من غَيرهَا، فَوَجَبَ أَن يلْزم فِي حَقهم مَا ذَكرْنَاهُ. وَإِن قُلْنَا: هَذِه الْقرَاءَات مَا ثبتَتْ بالتواتر؛ بل بطرِيق الْآحَاد، فَحِينَئِذٍ يخرج الْقُرْآن عَن كَونه مُفِيدا للجزم، وَالْقطع الْيَقِين؛ وَذَلِكَ بَاطِل بِالْإِجْمَاع؛ وَلقَائِل أَن يُجيب عَنهُ؛ فَيَقُول: بَعْضهَا متواتر، وَلَا خلاف بَين الْأمة فِيهِ، وتجويز الْقِرَاءَة بِكُل وَاحِد مِنْهَا؛ وَبَعضهَا من بَاب الْآحَاد، لَا يَقْتَضِي كَون الْقِرَاءَة بكليته خَارِجا عَن كَونه قَطْعِيا، وَالله أعلم؛ ذكره ابْن الْخَطِيب. فصل فِي اشتقاق الِاسْتِعَاذَة وإعرابها العوذ لَهُ مَعْنيانِ: أَحدهمَا: الالتجاء والاستجارة. وَالثَّانِي: الالتصاق؛ وَيُقَال: " أطيب [اللَّحْم] عوذه " هُوَ: مَا الْتَصق بالعظم. فعلى الأول: أعوذ بِاللَّه، أَي: ألتجئ إِلَى رَحمَه الله، وَمِنْه العوذة: وَهِي مَا يعاذ بِهِ من الشَّرّ. وَقيل للرقية، والتميمة - وَهِي مَا يعلق على الصَّبِي: عوذة، وعوذة [بِفَتْح الْعين وَضمّهَا] ، وكل أُنْثَى وضعت فَهِيَ عَائِذ إِلَى سَبْعَة أَيَّام. وَيُقَال: عاذ يعوذا عوذا، وعياذا، وَمعَاذًا، فَهُوَ عَائِذ ومعوذ وَمِنْه قَول الشَّاعِر: [الْبَسِيط] (1 - ألحق عذابك بالقوم الَّذين طغوا ... وعائذا بك أَن يعلوا فيطغوني) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 قيل: عَائِذ - هُنَا - أَصله اسْم فَاعل؛ وَلكنه وَقع موقع الْمصدر؛ كَأَنَّهُ قَالَ: " وعياذا بك " وَسَيَأْتِي تَحْقِيق هَذَا القَوْل إِن شَاءَ الله تَعَالَى. و" أعوذ " فعل مضارع، وَأَصله: " أعوذ " بِضَم الْوَاو؛ مثل: " أقتل، وَأخرج أَنا " وَإِنَّمَا نقلوا حَرَكَة الْوَاو إِلَى السَّاكِن قبلهَا؛ لِأَن الضمة ثَقيلَة، وَهَكَذَا كل مضارع من " فعل " عينه وَاو؛ نَحْو: " أقوم، وَيقوم، وأجول، ويجول " وفاعله ضمير الْمُتَكَلّم. وَهَذَا الْفَاعِل لَا يجوز بروزه؛ بل هُوَ من الْمَوَاضِع السَّبْعَة الَّتِي يجب فِيهَا استتار الضَّمِير على خلاف فِي السَّابِع وَلَا بُد من ذكرهَا؛ لعُمُوم فائدتها، وَكَثْرَة دورها: الأول: الْمُضَارع الْمسند للمتكلم وَحده؛ نَحْو: " أفعل ". الثَّانِي: الْمُضَارع الْمسند للمتكلم مَعَ غَيره، أَو الْمُعظم نَفسه؛ نَحْو: " نَفْعل نَحن ". الثَّالِث: الْمُضَارع الْمسند للمخاطب؛ نَحْو: " تفعل أَنْت "، ويوحد الْمُخَاطب بِقَيْد الْإِفْرَاد، والتذكير؛ لِأَنَّهُ مَتى كَانَ مثنى، أَو مجموعا، أَو مؤنثا - وَجب بروزه؛ نَحْو: " تقومان - يقومُونَ - تقومين ". الرَّابِع: فعل الْأَمر الْمسند للمخاطب؛ نَحْو: " افْعَل أَنْت " ويوحد الْمُخَاطب أَيْضا - بِقَيْد الْإِفْرَاد، والتذكير؛ لِأَنَّهُ مَتى كَانَ مثنى، أَو مجموعا، أَو مؤنثا - وَجب بروزه؛ نَحْو: " افعلا - افعلوا - افعلي ". الْخَامِس: اسْم فعل الْأَمر مُطلقًا، سَوَاء كَانَ الْمَأْمُور مُفردا، أَو مثنى، أَو مجموعا، أَو مؤنثا؛ نَحْو: " صه يَا زيد - يَا زَيْدَانَ - يَا زيدون - يَا هِنْد - يَا هندان - يَا هندات ". بِخِلَاف فعل الْأَمر؛ فَإِنَّهُ يبرز فِيهِ ضمير غير الْمُفْرد الْمُذكر، كَمَا تقدم. السَّادِس: اسْم الْفِعْل الْمُضَارع؛ نَحْو: " أوه " أَي: أتوجع، و " أُفٍّ " أَي: أتضجر، و " وي " أَي: أعجب. وَهَذِه السِّتَّة لَا يبرز فِيهَا الضَّمِير؛ بِلَا خلاف. وتحرزت بقول: " اسْم فعل الْأَمر، وَاسم الْفِعْل الْمُضَارع " عَن اسْم الْفِعْل الْمَاضِي؛ فَإِنَّهُ لَا يجب فِيهِ الاستتار كَمَا سَيَأْتِي. السَّابِع: الْمصدر الْوَاقِع موقع الْفِعْل بَدَلا من لَفظه؛ نَحْو: " ضربا زيدا "؛ وَقَول الشَّاعِر: [الطَّوِيل] (2 - يَمرونَ بالدهنا خفافا عيابهم ... ويرجعن من دارين بجر الحقائب) (3 - على حِين ألهى النَّاس جلّ أُمُورهم ... فندلا زُرَيْق المَال ندل الثعالب) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وَقَوله تَعَالَى: {فَضرب الرّقاب} [مُحَمَّد: 4] . هَذَا إِذا جعلنَا فِي " ضربا " ضميرا مستترا؛ وَأما من يَقُول من النَّحْوِيين: إِنَّه لَا يتَحَمَّل ضميرا أَلْبَتَّة؛ فَلَا يكون من الْمَسْأَلَة فِي شَيْء. وَالضَّابِط فِيمَا يجب استتاره، وَإِن عرف من تعداد الصُّور الْمُتَقَدّمَة - " أَن كل ضمير لَا يحل مَحَله ظَاهر، وَلَا ضمير مُتَّصِل، فَهُوَ وَاجِب الاستتار كالمواضع الْمُتَقَدّمَة، وَمَا جَازَ أَن يحل مَحَله ظَاهر، فَهُوَ جَائِز الاستتار؛ نَحْو: " زيد قَامَ " فِي " قَامَ " ضمير جَائِز الاستتار، وَيحل مَحَله الظَّاهِر؛ نَحْو: " زيد قَامَ أَبوهُ " أَو الضَّمِير الْمُنْفَصِل، نَحْو: " زيد مَا قَامَ إِلَّا هُوَ " فَإِن وجد من لسانهم فِي أحد الْمَوَاضِع الْمُتَقَدّمَة، الْوَاجِب فِيهَا الاستتار ضمير مُنْفَصِل، فليعتقد كَونه توكيدا للضمير الْمُسْتَتر؛ كَقَوْلِه تَعَالَى: {اسكن أَنْت وزوجك الْجنَّة} [الْبَقَرَة: 35] ف " أَنْت " مُؤَكد لفاعل " اسكن ". و" بِاللَّه " جَار ومجرور، وَكَذَلِكَ: " من الشَّيْطَان " وهما متعلقان ب " أعوذ ". وَمعنى الْبَاء: الِاسْتِعَانَة، و " من ": للتَّعْلِيل، أَي: أعوذ مستعينا بِاللَّه من أجل الشَّيْطَان، وَيجوز أَن تكون " من " لابتداء الْغَايَة، وَلها معَان أخر ستأتي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. وَأما الْكَلَام على الْجَلالَة، فَيَأْتِي فِي الْبَسْمَلَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى. والشيطان: المتمرد من الْجِنّ، وَقيل: الشَّيَاطِين أقوى من الْجِنّ، والمردة أقوى من الشَّيَاطِين، والعفريت أقوى من المردة، والعفاريت أقواها. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة - رَحمَه الله -: الشَّيْطَان: اسْم لكل عَارِم من الْجِنّ، وَالْإِنْس، والحيوانات؛ [لبعده] من الرشاد قَالَ تبَارك وَتَعَالَى: {وَكَذَلِكَ جعلنَا لكل نَبِي عدوا شياطين الْإِنْس وَالْجِنّ} [الْأَنْعَام: 112] ، فَجعل من الْإِنْس شياطين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وَركب عمر - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ - برذونا، فَطَفِقَ يتبختر؛ فَجعل يضْربهُ، فَلَا يزْدَاد إِلَّا تخبترا؛ فَنزل عَنهُ، وَقَالَ: " مَا حملتموني إِلَّا على شَيْطَان ". وَقد يُطلق على كل قُوَّة ذميمة فِي الْإِنْسَان؛ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " الْحَسَد شَيْطَان، وَالْغَضَب شَيْطَان "؛ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا ينشآن عَنهُ. وَاخْتلف أهل اللُّغَة فِي اشتقاقه: فَقَالَ جمهورهم: هُوَ مُشْتَقّ من: " شطن - يشطن " أَي: بعد؛ لِأَنَّهُ بعيد من رَحْمَة الله تَعَالَى؛ وَأنْشد: [الوافر] (4 - نأت بسعاد عَنْك نوى شطون ... فَبَانَت والفؤاد بهَا رهين) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وَقَالَ آخر: [الْخَفِيف] (5 - إيما شاطن عَصَاهُ عكاه ... ثمَّ يلقى فِي السجْن والأكبال) وَحكى سِيبَوَيْهٍ - رَحمَه الله -: " تشيطن " أَي: فعل فِعل الشَّيَاطِين؛ فَهَذَا كُله يدل على أَنه من " شطن "؛ لثُبُوت النُّون، وَسُقُوط الْألف فِي تصاريف الْكَلِمَة، ووزنه على هَذَا: " فيعال ". وَقيل: هُوَ مُشْتَقّ من " شاط - يشيط " أَي: هاج، وَاحْتَرَقَ، وَلَا شكّ أَن هَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِيهِ، فَأخذُوا بذلك أَنه مُشْتَقّ من هَذِه الْمَادَّة، لَكِن لم يسمع فِي تصاريفه إِلَّا ثَابت النُّون، مَحْذُوف الْألف؛ كَمَا تقدم، ووزنه على هَذَا " فعلان " وَيَتَرَتَّب على الْقَوْلَيْنِ: صرفه وَعدم صرفه، إِذا سمي بِهِ، وَأما إِذا لم يسم بِهِ، فَإِنَّهُ متصرف أَلْبَتَّة؛ لِأَن من شَرط امْتنَاع " فعلان " الصّفة أَلا يؤنث بِالتَّاءِ، وَهَذَا يؤنث بهَا؛ قَالُوا: " شَيْطَانَة ". قَالَ ابْن الْخَطِيب: و " الشَّيْطَان " مُبَالغَة فِي الشيطنة؛ كَمَا أَن " الرَّحْمَن " مُبَالغَة فِي الرَّحْمَة. و " الرَّجِيم " فِي حق الشَّيْطَان " فعيل " بِمَعْنى " فَاعل ". إِذا عرفت هَذَا، فَهَذِهِ الْكَلِمَة تَقْتَضِي الْفِرَار من الشَّيْطَان الرَّجِيم إِلَى الرَّحْمَن الرَّحِيم. قَوْله: " الرَّجِيم " نعت لَهُ على الذَّم، وَفَائِدَة النَّعْت: إِمَّا إِزَالَة اشْتِرَاك عَارض فِي معرفَة؛ نَحْو: " رَأَيْت زيدا الْعَاقِل ". وَإِمَّا تَخْصِيص نكرَة؛ نَحْو: " رَأَيْت رجلا تَاجِرًا " وَإِمَّا لمُجَرّد مدح، أَو ذمّ، أَو ترحم؛ نَحْو: " مَرَرْت بزيد الْمِسْكِين " وَقد يَأْتِي لمُجَرّد التوكيد؛ نَحْو قَوْله: {نفخة وَاحِدَة} [الحاقة: 31] وَلَا بُد من ذكر قَاعِدَة فِي النَّعْت، تعم فائدتها: اعْلَم أَن النَّعْت إِن كَانَ مشتقا بِقِيَاس، وَكَانَ مَعْنَاهُ لمتبوعه، لزم أَن يُوَافقهُ فِي أَرْبَعَة من عشرَة؛ أَعنِي فِي وَاحِد من ألقاب الْإِعْرَاب: الرّفْع، وَالنّصب، والجر، وَفِي وَاحِد من: الْإِفْرَاد، والتثنية، وَالْجمع، وَفِي وَاحِد من: التَّذْكِير، والتأنيث، وَفِي وَاحِد من: التَّعْرِيف، والتنكير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وَإِن كَانَ مَعْنَاهُ لغير متبوعه، وَافقه فِي اثْنَيْنِ من خَمْسَة: فِي وَاحِد من ألقاب الْإِعْرَاب، وَفِي وَاحِد من التَّعْرِيف والتنكير؛ نَحْو: " مَرَرْت برجلَيْن عَاقِلَة أمهما "، فَلم يتبعهُ فِي تَثْنِيَة وَلَا تذكير. وَإِذا اختصرت ذَلِك كُله، فَقل: النَّعْت يلْزم أَن يتبع منعوته فِي اثْنَيْنِ من خَمْسَة مُطلقًا: فِي وَاحِد من ألقاب الْإِعْرَاب، وَفِي وَاحِد من التَّعْرِيف والتنكير، وَفِي الْبَاقِي كالفعل؛ يَعْنِي: أَنَّك تضع مَوضِع النَّعْت فعلا، فمهما ظهر فِي الْفِعْل، ظهر فِي النَّعْت؛ مِثَاله مَا تقدم فِي: " مَرَرْت برجلَيْن [عَاقِلَة أمهما "] ؛ لِأَنَّك تَقول: " مَرَرْت برجلَيْن عقلت أمهما ". " والرجيم " قد تبع موصوفه فِي أَرْبَعَة من عشرَة؛ لما عرفت، وَهُوَ مُشْتَقّ من " الرَّجْم "، وَالرَّجم أَصله: الرَّمْي بالرجام، وَهِي الْحِجَارَة، ويستعار الرَّجْم للرمي بِالظَّنِّ والتوهم. قَالَ زُهَيْر: [الطَّوِيل] (6 - وَمَا الْحَرْب إِلَّا مَا علمْتُم وذقتم ... وَمَا هُوَ عَنْهَا بِالْحَدِيثِ المرجم) ويعبر بِهِ - أَيْضا - عَن الشتم؛ قَالَ تَعَالَى: {لَئِن لم تَنْتَهِ لأرجمنك} [مَرْيَم: 46] قيل: أَقُول فِيك قولا سَيِّئًا. والمراجمة: المسابة الشَّدِيدَة اسْتِعَارَة كالمقاذفة، فالرجيم مَعْنَاهُ: المرجوم، فَهُوَ " فعيل " بِمَعْنى " مفعول "؛ كَقَوْلِهِم: كف خضيب أَي: مخضوب: وَرجل لعين أَي: مَلْعُون قَالَ الرَّاغِب: والترجمان تفعلان من ذَلِك كَأَنَّهُ يَعْنِي أَنه يَرْمِي بِكَلَام من يترجم عَنهُ إِلَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 غَيره؛ والرجمة: أَحْجَار الْقَبْر، ثمَّ عبر بهَا عَنهُ؛ وَفِي الحَدِيث: " لَا ترجموا قَبْرِي "، أَي: لَا تضعوا عَلَيْهِ الرجمة. وَيجوز أَن يكون بِمَعْنى " فَاعل "؛ لِأَنَّهُ يرْجم غَيره بِالشَّرِّ، وَلكنه بِمَعْنى " مفعول " أَكثر، وَإِن كَانَ غير مقيس. ثمَّ فِي كَونه مرجوما وَجْهَان: الأول: أَن معنى كَونه مرجوما كَونه ملعونا من قبل الله تَعَالَى؛ قَالَ الله تَعَالَى: {فَاخْرُج مِنْهَا فَإنَّك رجيم} [الْحجر: 34] واللعن يُسمى رجما. وَحكى الله تَعَالَى - عَن وَالِد إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - أَنه قَالَ: {لَئِن لم تَنْتَهِ لأرجمنك} قيل: عَنى بقوله الرَّجْم بالْقَوْل. وَحكى الله - تَعَالَى - عَن قوم نوح عَلَيْهِ السَّلَام أَنهم قَالُوا: {لَئِن لم تَنْتَهِ يَا نوح لتكونن من المرجومين} [الشُّعَرَاء: 116] وَفِي سُورَة يس: {لَئِن لم تنتهوا لنرجمنكم} [يس: 18] . وَالْوَجْه: أَن الشَّيْطَان إِنَّمَا وصف بِكَوْنِهِ مرجوما؛ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - أَمر الْمَلَائِكَة برمي الشَّيَاطِين بِالشُّهُبِ والثواقب؛ طردا لَهُم من السَّمَوَات، ثمَّ وصف بذلك كل شرير متمرد وَأما قَوْله فِي بعض وُجُوه الِاسْتِعَاذَة: إِن الله هُوَ السَّمِيع الْعَلِيم، فَفِيهِ وَجْهَان: الأول: أَن الْغَرَض من الِاسْتِعَاذَة الِاحْتِرَاز من شَرّ الوسوسة، وَمَعْلُوم أَن الوسوسة كَأَنَّهَا كَلَام خَفِي فِي قلب الْإِنْسَان، وَلَا يطلع عَلَيْهَا أحد، فَكَأَن العَبْد يَقُول: يَا من هُوَ يسمع كل مسموع، وَيعلم كل سر خَفِي أَنْت تعلم وَسْوَسَة الشَّيْطَان، وَتعلم غَرَضه مِنْهَا، وَأَنت الْقَادِر على دَفعهَا عني، فادفعها عني بِفَضْلِك؛ فَلهَذَا السَّبَب كَانَ ذكر السَّمِيع الْعَلِيم أولى بِهَذَا الْموضع من سَائِر الْأَذْكَار. الثَّانِي: أَنه إِنَّمَا تعين هَذَا الذّكر بِهَذَا الْموضع؛ اقْتِدَاء بِلَفْظ الْقُرْآن؛ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نزع فاستعذ بِاللَّه إِنَّه سميع عليم} [الْأَعْرَاف: 200] . فصل فِي احتجاج الْمُعْتَزلَة لإبطال الْجَبْر قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله تَعَالَى -: قَالَت الْمُعْتَزلَة قَوْله: " أعوذ بِاللَّه " يبطل القَوْل بالجبر من وُجُوه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 الأول: أَن قَوْله: " أعوذ بِاللَّه " اعْتِرَاف بِكَوْن العَبْد فَاعِلا، لتِلْك الِاسْتِعَاذَة، وَلَو كَانَ خَالق الْأَعْمَال هُوَ الله تَعَالَى، لامتنع كَون العَبْد فَاعِلا؛ لِأَن تَحْصِيل الْحَاصِل محَال، وَأَيْضًا فَإِذا خلقه الله فِي العَبْد، امْتنع دَفعه، وَإِذا لم يخلقه الله فِيهِ، امْتنع تَحْصِيله، فَثَبت أَن قَوْله: " أعوذ بِاللَّه " اعْتِرَاف بِكَوْن العَبْد موجدا لأفعال نَفسه. وَالثَّانِي: أَن الِاسْتِعَاذَة من الشَّيْطَان إِنَّمَا تحسن إِذا لم يكن الله تَعَالَى، خَالِقًا للأمور الَّتِي مِنْهَا يستعاذ. أما إِذا كَانَ الْفَاعِل لَهَا هُوَ الله تَعَالَى، امْتنع أَن يستعاذ بِاللَّه مِنْهَا؛ لِأَن بِهَذَا التَّقْدِير يصير كَأَن العَبْد استعاذ بِاللَّه فِي غير مَا يَفْعَله الله تَعَالَى. وَالثَّالِث: أَن الِاسْتِعَاذَة بِاللَّه من الْمعاصِي تدل على أَن العَبْد غير رَاض بهَا، وَلَو كَانَت الْمعاصِي تحصل بتخليق الله تَعَالَى، وقضائه، وَحكمه، وَجب أَن العَبْد يكون رَاضِيا بهَا؛ لما ثَبت بِالْإِجْمَاع أَن الرِّضَا بِقَضَاء الله تَعَالَى وَاجِب. وَالرَّابِع: أَن الِاسْتِعَاذَة بِاللَّه من الشَّيْطَان إِنَّمَا تحسن لَو كَانَت تِلْكَ الوسوسة فعلا للشَّيْطَان، أما إِذا كَانَت فعلا لله، وَلم يكن للشَّيْطَان فِي وجودهَا أثر أَلْبَتَّة، فَكيف يستعاذ من شَرّ الشَّيْطَان؟ بل الْوَاجِب أَن يستعاذ على هَذَا التَّقْدِير من شَرّ الله؛ لإنه لَا شَرّ إِلَّا من قبله. وَالْخَامِس: أَن الشَّيْطَان يَقُول إِذا كنت مَا فعلت شَيْئا أصلا، وَأَنت يَا إِلَه الْخلق علمت صُدُور الوسوسة عني، وَلَا قدرَة لي على مُخَالفَة قدرتك، وحكمت بهَا عَليّ، وَلَا قدرَة لي على مُخَالفَة حكمك، ثمَّ قلت: {لَا يُكَلف الله نَفسهَا إِلَّا وسعهَا} [الْبَقَرَة: 286] ، وَقلت: {يُرِيد الله بكم الْيُسْر وَلَا يُرِيد بكم الْعسر} [الْبَقَرَة: 185] وَقلت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} [الْحَج: 78] فَمَعَ هَذِه الْأَعْذَار الظَّاهِرَة، والأسباب القوية فَكيف يجوز فِي حكمتك، ورحمتك أَن تذمني، وتلعنني على شَيْء خلقته فيّ؟ وَالسَّادِس: جَعَلتني مرجوما ملعونا إِمَّا أَن يكون بِسَبَب جرم صدر مني، أَو لَا [يكون] بِسَبَب جرم صدر مني. فَإِن كَانَ الأول؛ فقد بَطل الْجَبْر، وَإِن كَانَ الثَّانِي، فَهَذَا مَحْض الظُّلم؛ وَأَنت قلت: {وَمَا الله يُرِيد ظلما للعباد} [غَافِر: 31] فَكيف يَلِيق هَذَا بك؟ فَإِن قَالَ قَائِل: هَذِه الإشكالات إِنَّمَا تلْزم على قَول من يَقُول بالجبر، وَأَنا لَا [أَقُول] بالجبر، وَلَا بِالْقدرِ، بل أَقُول: الْحق حَالَة متوسطة بَين الْجَبْر وَالْقدر؛ وَهُوَ الْكسْب. فَنَقُول: هَذَا ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ إِمَّا أَن يكون لقدرة العَبْد أثر فِي الْفِعْل على سَبِيل الِاسْتِقْلَال، أَو لَا يكون. فَإِن كَانَ الأول، فَهُوَ تَمام بالاعتزال، وَإِن كَانَ الثَّانِي، فَهُوَ الْجَبْر الْمَحْض، [والأسئلة] الْمَذْكُورَة وَارِدَة على هَذَا القَوْل، فَكيف يعقل حُصُول الْوَاسِطَة. قَالَ أهل السّنة وَالْجَمَاعَة - رَحِمهم الله - أما الإشكالات الَّتِي ألزمتموها علينا، فَهِيَ بأسراها وَارِدَة عَلَيْكُم من وَجْهَيْن: الأول: أَن قدرَة العَبْد إِمَّا أَن تكون مُعينَة لأحد الطَّرفَيْنِ، أَو كَانَت صَالِحَة للطرفين مَعًا، فَإِن كَانَ الأول، فالجبر لَازم، وَإِن كَانَ الثَّانِي، فرجحان أحد الطَّرفَيْنِ على الآخر، إِمَّا أَن يتَوَقَّف على الْمُرَجح، أَو لَا يتَوَقَّف. فَإِن كَانَ الأول، ففاعل ذَلِك الْمُرَجح يصير الْفِعْل وَاجِب الْوُقُوع، وعندما لَا يَفْعَله يصير الْفِعْل مُمْتَنع الْوُقُوع. وَحِينَئِذٍ يلزمكم كل مَا ذكرتموه. وَأما الثَّانِي: وَهُوَ أَن يُقَال: إِن رُجْحَان أحد الطَّرفَيْنِ على الآخر لَا يتَوَقَّف على مُرَجّح؛ فَهَذَا بَاطِل لوَجْهَيْنِ: الأول: أَنه لَو جَازَ لَك، لبطل الِاسْتِدْلَال [بترجح] أحد طرفِي الْمُمكن على الآخر على وجود الْمُرَجح. وَالثَّانِي: أَن بِهَذَا التَّقْدِير يكون ذَلِك الرجحان وَاقعا على سَبِيل الِاتِّفَاق، وَلَا يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 صادرا عَن العَبْد، وَإِذا كَانَ الْأَمر كَذَلِك، فقد عَاد الْجَبْر الْمَحْض، فَثَبت بِهَذَا الْبَيَان أَن كل مَا أوردتموه علينا، فَهُوَ وَارِد عَلَيْكُم. الْوَجْه الثَّانِي فِي السُّؤَال: أَنكُمْ سلمتم كَونه تَعَالَى عَالما بِجَمِيعِ المعلومات، وَوُقُوع الشَّيْء على خلاف علمه يَقْتَضِي انقلاب علمه جهلا؛ وَذَلِكَ محَال؛ والمفضي إِلَى الْمحَال محَال، فَكَانَ كل مَا أوردتموه علينا فِي الْقَضَاء وَالْقدر لَازِما عَلَيْكُم لُزُوما لَا جَوَاب عَنهُ. ثمَّ قَالَ أهل السّنة: قَوْله: " أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم " - يبطل القَوْل بالاعتزال من وُجُوه: الأول: أَن الْمَطْلُوب من قَوْلك: " أعوذ بِاللَّه " إِمَّا أَن يكون هُوَ أَن يمْنَع الله الشَّيْطَان من عمل الوسوسة مِنْهَا بِالنَّهْي والتحذير؛ أَو على سَبِيل الْقَهْر والجبر. أما الأول فقد فعله، وَلما فعله كَانَ طلبه من الله تَعَالَى محالا؛ لِأَن تَحْصِيل الْحَاصِل محَال. وَأما الثَّانِي فَهُوَ غير جَائِز؛ لِأَن الإلجاء يُنَافِي كَون الشَّيَاطِين مكلفين، وَقد ثَبت كَونهم مكلفين. أجَاب عَنهُ الْمُعْتَزلَة قَالُوا: الْمَطْلُوب بالاستعاذة فعل الألطاف الَّتِي تَدْعُو الْمُكَلف إِلَى فعل الْحسن، وَترك الْقَبِيح. لَا يُقَال: فَتلك الألطاف قد فعلهَا الله تَعَالَى بأسرها فِي الْفَائِدَة فِي الطّلب؛ لأَنا نقُول: إِن من الألطاف مَا لَا يحسن فعله إِلَّا عِنْد الدُّعَاء، فَلَو لم يتَقَدَّم هَذَا الدُّعَاء لم يحسن فعله. أجَاب أهل السّنة عَن هَذَا السُّؤَال بِوُجُوه: أَحدهَا: أَن فعل تِلْكَ الألطاف إِمَّا أَن يكون لَهُ أثر فِي تَرْجِيح جَانب الْفِعْل على جَانب التّرْك، أَو لَا أثر فِيهِ، فَإِن كَانَ الأول فَعِنْدَ حُصُول التَّرْجِيح يصير الْفِعْل وَاجِب الْوُقُوع: وَالدَّلِيل عَلَيْهِ أَن عِنْد حُصُول رُجْحَان جَانب الْوُجُود لَو حصل الْعَدَم، فَحِينَئِذٍ يلْزم أَن يحصل عِنْد رُجْحَان جَانب الْوُجُود رُجْحَان جَانب الْعَدَم، وَهُوَ جمع بَين النقيضين؛ وَهُوَ محَال. فَثَبت أَن عدم حُصُول الرجحان يحصل الْوُجُوب، وَذَلِكَ يبطل القَوْل بالاعتزال وَإِن لم يحصل بِسَبَب تِلْكَ الألطاف رُجْحَان [طرف] الْوُجُود] لم يكن لفعلها أَلْبَتَّة أثر؛ فَيكون فعلهَا عَبَثا مَحْضا؛ وَذَلِكَ فِي حق الله تَعَالَى محَال. الْوَجْه الثَّانِي: أَن يُقَال: إِن الله تَعَالَى إِمَّا أَن يكون مرِيدا لصلاح العَبْد، أَو لَا يكون. فَإِن كَانَ الْحق هُوَ الأول، فالشيطان إِمَّا أَن يتَوَقَّع مِنْهُ إِفْسَاد العَبْد أَو لَا يتَوَقَّع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 فَإِن توقع مِنْهُ إِفْسَاد العَبْد، مَعَ أَن الله تَعَالَى يُرِيد إصْلَاح العَبْد، فَلم خلقه، وَلم سلطه على العَبْد؟ وَإِن كَانَ لَا يتَوَقَّع من الشَّيْطَان إِفْسَاد العَبْد، فَأَي حَاجَة [للْعَبد] إِلَى الِاسْتِعَاذَة مِنْهُ؟ وَأما إِذا قيل: إِن الله قد لَا يُرِيد مَا هُوَ صَلَاح حَال العَبْد، فالاستعاذة بِاللَّه كَيفَ تفِيد الِاعْتِصَام من شَرّ الشَّيْطَان؟ الْوَجْه الثَّالِث: أَن الشَّيْطَان إِمَّا أَن يكون مجبورا على فعل الشَّرّ، أَو أَن يكون قَادِرًا على فعل الْخَيْر وَالشَّر، وعَلى فعل أَحدهمَا. فَإِن كَانَ الأول، فقد أجْبرهُ الله على الشَّرّ؛ وَذَلِكَ يقْدَح فِي قَوْلهم: إِنَّه - تَعَالَى - لَا يُرِيد إِلَّا الصّلاح وَالْخَيْر، وَإِن كَانَ الثَّانِي، وَهُوَ أَنه قَادر على فعل الشَّرّ وَالْخَيْر؛ فها هُنَا يمْتَنع أَن يتَرَجَّح فعل الْخَيْر على فعل الشَّرّ إِلَّا بمرجح، وَذَلِكَ الْمُرَجح يكون من الله تَعَالَى، وَإِذا كَانَ ذَلِك، فَأَي فَائِدَة فِي الِاسْتِعَاذَة؟ الْوَجْه الرَّابِع: هَب أَن الْبشر إِنَّمَا وَقَعُوا فِي الْمعاصِي بِسَبَب وَسْوَسَة الشَّيْطَان، فَإِن الشَّيْطَان كَيفَ وَقع فِي الْمعاصِي؟ فَإِن قُلْنَا: إِنَّه وَقع فِيهَا بِسَبَب وَسْوَسَة شَيْطَان آخر، لزم التسلسل. وَإِن قُلْنَا: وَقع الشَّيْطَان فِي الْمعاصِي لَا لأجل شَيْطَان آخر، فَلم لَا يجوز مثله فِي الْبشر؟ وعَلى هَذَا التَّقْدِير لَا فَائِدَة للاستعاذة من الشَّيْطَان، وَإِن قُلْنَا: إِنَّه - تَعَالَى - سلطه الشَّيْطَان على الْبشر، وَلم يُسَلط على الشَّيْطَان شَيْطَانا آخر، فَهَذَا أحيف على الْبشر، وَتَخْصِيص لَهُ بمزيد التثقيل، والإضرار؛ وَذَلِكَ يُنَافِي كَون الْإِلَه رحِيما نَاظرا لِعِبَادِهِ. الْوَجْه الْخَامِس: أَن الْفِعْل المستعاذ مِنْهُ إِن كَانَ مُمْتَنع الْوُقُوع، فَلَا فَائِدَة فِي الِاسْتِعَاذَة مِنْهُ، وَإِن كَانَ وَاجِب الْوُقُوع، كَذَلِك. اعْلَم أَن هَذِه المناظرة تدل على أَنه لَا حَقِيقَة لقَوْله: " أعوذ بِاللَّه " إِلَّا أَن ينْكَشف أَن الْكل من الله تَعَالَى، وَبِاللَّهِ. وَحَاصِل الْكَلَام مَا قَالَه الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - أعوذ برضاك من سخطك ... الحَدِيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 فصل فِي المستعاذ بِهِ وَهُوَ وعَلى وَجْهَيْن: أَحدهمَا: أَن يُقَال: " أعوذ بِاللَّه ". وَالثَّانِي: " أَن يُقَال: " أعوذ بِكَلِمَات الله التامات ". فَأَما الِاسْتِعَاذَة بِاللَّه، فبيانه إِنَّمَا يتم بالبحث عَن لفظ " الله " وَسَيَأْتِي ذَلِك فِي تَفْسِير: " بِسم الله " وَأما الِاسْتِعَاذَة بِكَلِمَات الله، فَاعْلَم أَن المُرَاد ب " كَلِمَات الله " هُوَ قَوْله: {إِنَّمَا قَوْلنَا لشَيْء إِذا أردناه أَن نقُول لَهُ كن فَيكون} [النَّحْل: 40] . وَالْمرَاد من قَوْله: " كن " نَفاذ قدرته فِي الممكنات، وسريان مَشِيئَته فِي الكائنات؛ بِحَيْثُ يمْتَنع أَن يعرض لَهُ عائق ومانع، وَلَا شكّ أَنه لَا تحسن الِاسْتِعَاذَة بِاللَّه - تَعَالَى - إِلَّا لكَونه مَوْصُوفا بِتِلْكَ الْقُدْرَة الْقَاهِرَة، والمشيئة النافذة. قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله تَعَالَى - فرق بَين أَن [يَقُول] : " أعوذ بِاللَّه " وَبَين أَن يَقُول: " بِاللَّه أعوذ "، فَإِن الأول لَا يُفِيد الْحصْر، وَالثَّانِي يفِيدهُ، فَلم ورد الْأَمر بِالْأولِ دون الثَّانِي، مَعَ أَنا بَينا أَن الثَّانِي أكمل؟ وَأَيْضًا: جَاءَ قَوْله: " الْحَمد لله " وَجَاء أَيْضا: قَوْله: " لله الْحَمد " وَأما هَا هُنَا، فقد جَاءَ قَوْله: " أعوذ بِاللَّه "، وَمَا جَاءَ " بِاللَّه أعوذ " فَمَا الْفرق؟ . فصل فِي المستعيذ اعْلَم أَن قَوْله: " أعوذ بِاللَّه " أَمر مِنْهُ لِعِبَادِهِ أَن يَقُولُوا ذَلِك، وَهُوَ غير مُخْتَصّ بشخص معِين، فَهُوَ أَمر على سَبِيل الْعُمُوم، لِأَنَّهُ - تَعَالَى - حَتَّى ذَلِك عَن الْأَنْبِيَاء، والأولياء، وَذَلِكَ يدل على أَن كل مَخْلُوق يجب أَن يكون مستعيذا بِاللَّه تَعَالَى؛ كَمَا حُكيَ عَن نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - أَنه قَالَ: {أعوذ بك أَن أسئلك مَا لَيْسَ لي بِهِ علم} [هود: 47] ؛ فَأعْطَاهُ [الله] خلعتين: السَّلَام والبركات؛ {اهبط بِسَلام منا وبركات عَلَيْك} [هود: 48] . وَقَالَ يُوسُف - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: {معَاذ الله إِنَّه رَبِّي} [يُوسُف: 23] ، فَأعْطَاهُ الله خلعتين صرف السوء عَنهُ والفحشاء، وَقَالَ أَيْضا: {معَاذ الله أَن نَأْخُذ إِلَّا من وجدنَا متاعنا عِنْده} [يُوسُف: 79] فَأكْرمه الله تَعَالَى بخلعتين: رفع أَبَوَيْهِ على الْعَرْش الْعَرْش وخروا لَهُ سجدا. وَحكي عَن مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - قَالَ: {أعوذ بِاللَّه أَن أكون من الْجَاهِلين} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 [الْبَقَرَة: 67] ؛ فَأعْطَاهُ الله خلعتين: إِزَالَة التُّهْمَة، وإحياء الْقَتِيل. وَحكي عَن مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - أَيْضا: {وَإِنِّي عذت بربكم وربكم أَن ترجمون} [الدُّخان: 20] ، وَفِي آيَة أُخْرَى: {إِنِّي عذت بربي وربكم من كل متكبر لَا يُؤمن بِيَوْم الْحساب} [غَافِر: 27] ؛ فَأعْطَاهُ الله خلعتين: أفنى عدوه، وأورثهم أَرضهم وديارهم. وَحكي أَن أم مَرْيَم قَالَت: {وَإِنِّي أُعِيذهَا بك وذريتها من الشَّيْطَان الرَّجِيم} [آل عمرَان: 36] ؛ فَأَعْطَاهَا الله - تَعَالَى - خلعتين: {فتقبلها رَبهَا بِقبُول حسن وأنبتها نباتا حسنا} [آل عمرَان: 37] . وَمَرْيَم - عَلَيْهَا السَّلَام - لما رَأَتْ جِبْرِيل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - فِي صُورَة بشر يقصدها: {قَالَت أعوذ بالرحمن مِنْك إِن كنت تقيا} [مَرْيَم: 18] ؛ فَوجدت نعمتين: ولدا من غير أَب، [وتبرئة] الله إِيَّاهَا بِلِسَان ذَلِك الْوَلَد عَن السوء؛ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي عبد الله} [مَرْيَم: 30] . وَأمر نبيه - مُحَمَّدًا - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - بالاستعاذة مرّة أُخْرَى: فَقَالَ: {وَقل رب أعوذ بك من همزات الشَّيْطَان وَأَعُوذ بك رب أَن يحْضرُون} [الْمُؤْمِنُونَ: 97، 98] . وَقَالَ تَعَالَى: {قل أعوذ بِرَبّ الفلق من شَرّ مَا خلق} [الفلق: 1 و 2] ، وَقَالَ تَعَالَى: {قل أعوذ بِرَبّ النَّاس} [النَّاس: 1] ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزغَنك من الشَّيْطَان نَزغ فاستعذ بِاللَّه إِنَّه سميع عليم} [الْأَعْرَاف: 200] ، فَهَذِهِ الْآيَات دَالَّة على أَن الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام - كَانُوا أبدا فِي الِاسْتِعَاذَة بِاللَّه - عز وَجل 0 من شَرّ شياطين الْجِنّ وَالْإِنْس. وَأما الْأَخْبَار؛ فكثيرة: عَن معَاذ بن جبل - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: استب رجلَانِ عِنْد النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وشرّف، وكرّم، وبجّل، وعظّم، وفخّم - وأغرقا فِيهِ؛ فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " إِنِّي لأعْلم كلمة لَو قَالَهَا لذهب ذَلِك عَنهُ؛ هِيَ قَوْله: أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم ". وَعَن معقل بن يسَار - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ - عَن النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - أَنه قَالَ: " من قَالَ حِين يصبح ثَلَاث مَرَّات: أعوذ بِاللَّه السَّمِيع الْعَلِيم "، وَفِي رِوَايَة: " من الشَّيْطَان الرَّجِيم ". وَقَرَأَ ثَلَاث آيَات من آخر سُورَة الْحَشْر؛ كل الله بِهِ سبعين ألف ملك يصلونَ عَلَيْهِ حَتَّى يُمْسِي، فَإِن مَاتَ فِي ذَلِك الْيَوْم مَاتَ شَهِيدا، وَمن قَالَهَا حِين يُمْسِي، كَانَ بِتِلْكَ الْمنزلَة. وَعَن ابْن عَبَّاس عَن النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف، وكرّم، وبجّل، وعظّم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وفخّم - أَنه قَالَ: " من استعاذ بِاللَّه فِي الْيَوْم عشر مَرَّات، وكّل الله تَعَالَى بِهِ ملكا؛ يذود عَنهُ الشَّيْطَان ". وَعَن خَوْلَة بنت حَكِيم - رَضِي الله تَعَالَى عَنْهَا - عَن النَّبِي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - أَنه قَالَ: " من نزل منزلا فَقَالَ أعوذ بِكَلِمَات الله التامات كلهَا من شَرّ مَا خلق؛ لم يضرّهُ شَيْء حَتَّى يرتحل من ذَلِك الْمنزل ". وَعَن عَمْرو بن شُعَيْب عَن أَبِيه، عَن جده - رَضِي الله عَنهُ - عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِذا فزع أحدكُم من النّوم فَلْيقل أعوذ بِكَلِمَات الله التَّامَّة: من غَضَبه، وعقابه، وَشر عباده، وَمن شَرّ همزات الشَّيَاطِين، وَأَن يحْضرُون، فَإِنَّهَا لن تضره "؛ وَكَانَ عبد الله بن عمر - رَضِي الله تَعَالَى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 عَنْهُمَا - يعلمهَا من بلغ من عبيده، وَمن لم يبلغ كتبهَا فِي صك ثمَّ علقها فِي عُنُقه. وَعَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا - عَن النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم -: كَانَ يعوذ الْحسن وَالْحُسَيْن - عَلَيْهِمَا السَّلَام - وَيَقُول: " أُعِيذكُمَا بِكَلِمَات الله التَّامَّة، من كل شَيْطَان وَهَامة، وَمن كل عين لَامة "؛ وَيَقُول: " كَانَ إِبْرَاهِيم - عَلَيْهِ السَّلَام - يعوّذ بهَا إِسْمَاعِيل، وَإِسْحَاق - عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام ". وَكَانَ - عَلَيْهِ السَّلَام - يعظم أَمر الِاسْتِعَاذَة؛ حَتَّى أَنه لما تزوج امْرَأَة، وَدخل بهَا، وَقَالَت: أعوذ بِاللَّه مِنْك؛ فَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " عذت بمعاذ، فالحقي بأهلك ". وروى الْحسن - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: بَيْنَمَا رجل يضْرب مَمْلُوكا لَهُ، فَجعل الْمَمْلُوك يَقُول: أعوذ بِاللَّه، إِذْ جَاءَ نَبِي الله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - فَقَالَ: أعوذ برَسُول الله؛ فَأمْسك عَنهُ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَام -: " عَائِذ الله أَحَق أَن يمسك عَنهُ "، قَالَ: فَإِنِّي أشهدك يَا رَسُول الله أَنه حر؛ لوجه الله - تَعَالَى -، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام: " أما وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ، لَو لم تقلها لدافع وَجهك سفع النَّار ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وَعَن سُوَيْد، سَمِعت أَبَا بكر الصّديق - رَضِي الله عَنهُ - يَقُول على الْمِنْبَر: " أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم "؛ وَقَالَ سَمِعت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم وفخّم يتَعَوَّذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم، فَلَا أحب أَن أترك ذَلِك مَا بقيت ". وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام يَقُول: " اللَّهُمَّ، أعوذ برضاك من سخطك، وَأَعُوذ بعفوك من عُقُوبَتك، وَأَعُوذ بك مِنْك ". فصل فِي المستعاذ مِنْهُ؛ وَهُوَ الشَّيْطَان. اعْلَم أَن الشَّيْطَان إِمَّا أَن يكون بالوسوسة أَو بغَيْرهَا؛ كَمَا قَالَ تبَارك وَتَعَالَى: {كَمَا يقوم الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس} [الْبَقَرَة: 275] . فَأَما كَيْفيَّة الوسوسة بِنَاء على أَن مَا رُوِيَ من الْآثَار ذكرُوا: أَنه يغوص فِي بَاطِن الْإِنْسَان، وَيَضَع رَأسه على حَبَّة قلبه، ويلقي إِلَيْهِ الوسوسة؛ وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ أَن النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم وفخّم - قَالَ: " إِن الشَّيْطَان ليجري من ابْن آدم مجْرى الدَّم؛ أَلا فضيقوا مجاريه بِالْجُوعِ " وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " لَوْلَا أَن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 الشَّيَاطِين يحومون على قُلُوب بني آدم، لنظروا إِلَى ملكوت السَّمَوَات ". وَقَالَ الْغَزالِيّ - رَحمَه الله - فِي كتاب الْإِحْيَاء: الْقلب مثل قبَّة لَهَا أَبْوَاب تنصب إِلَيْهَا الْأَحْوَال من كل بَاب، وَمثل هدف ترمى إِلَيْهِ السِّهَام من كل جَانب، وَمثل مرأة مَنْصُوبَة تجتاز عَلَيْهَا الْأَشْخَاص؛ فتتراءى فِيهَا صُورَة بعد صُورَة، وَمثل حَوْض تنصب إِلَيْهَا مياه مُخْتَلفَة من أَنهَار مَفْتُوحَة. قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله تَعَالَى -: لقَائِل أَن يَقُول: لمَ لمْ يقل: أعوذ بِالْمَلَائِكَةِ مَعَ أَن أدون ملك من الْمَلَائِكَة يَكْفِي فِي دفع الشَّيْطَان؟ فَمَا السَّبَب فِي أَن جعل ذكر هَذَا الْكَلْب فِي مُقَابلَة ذكر الله تَعَالَى؟ وَجَوَابه: كَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُول: عَبدِي إِنَّه يراك، وَأَنت لَا ترَاهُ؛ لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّه يراكم هُوَ وقبيله من حَيْثُ لَا ترونهم} [الْأَعْرَاف: 27] ؛ فَإِنَّهُ يُفِيد كَيده فِيكُم؛ لِأَنَّهُ يراكم، وَأَنْتُم لَا تَرَوْنَهُ؛ فَتمسكُوا بِمن يرى الشَّيْطَان وَلَا يرَاهُ؛ وَهُوَ الله تَعَالَى فَقيل: " أعوذ بِاللَّه من الشَّيْطَان الرَّجِيم ". فصل فِي وجود الْجِنّ اخْتلف النَّاس فِي وجود الْجِنّ وَالشَّيَاطِين، [فَمن النَّاس من أنكر الْجِنّ وَالشَّيَاطِين] . وَاعْلَم أَنه لَا بُد أَولا من الْبَحْث عَن مَاهِيَّة الْجِنّ وَالشَّيَاطِين؛ فَنَقُول: أطبق الْكل على أَنه لَيْسَ الْجِنّ وَالشَّيَاطِين عبارَة عَن أشخاص جسمانية كثيفة، تَجِيء وَتذهب؛ مثل النَّاس والبهائم؛ بل القَوْل المحصل فِيهِ قَولَانِ: الأول: أَنَّهَا أجسام هوائية قادرة على التشكل بأشكال مُخْتَلفَة، وَلها عقول وأفهام، وقدرة على أَعمال صعبة شاقة. وَالْقَوْل الثَّانِي: أَن كثيرا من النَّاس أثبتوا أَنَّهَا موجودات غير متحيزة، وَلَا حالّة فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 المتحيز، وَزَعَمُوا أَنَّهَا موجودات مُجَرّدَة عَن الجسمية. ثمَّ إِن هَذِه الموجودات قد تكون عالية مُقَدَّسَة عَن تَدْبِير الْأَجْسَام [بِالْكُلِّيَّةِ] ؛ وهم الْمَلَائِكَة المقربون - عَلَيْهِم السَّلَام - كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمن عِنْده لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَن عِبَادَته وَلَا يستحسرون} [الْأَنْبِيَاء: 19] . ويليها مرتبَة الْأَرْوَاح الْمُتَعَلّقَة بتدبير الْأَجْسَام، وَأَشْرَفهَا حَملَة الْعَرْش؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيحمل عرش رَبك فَوْقهم يَوْمئِذٍ ثَمَانِيَة} [الحاقة: 17] . والمرتبة الثَّالِثَة: مَلَائِكَة الْكُرْسِيّ. والمرتبة الرَّابِعَة: مَلَائِكَة السَّمَوَات طبقَة بطبقة. والمرتبة الْخَامِسَة: مَلَائِكَة كرة الْأَثِير. والمرتبة السَّادِسَة: مَلَائِكَة الْهَوَاء الَّذِي هُوَ فِي طبع النسيم. والمرتبة السَّابِعَة: مَلَائِكَة كرة الزَّمْهَرِير. والمرتبة الثَّامِنَة: مرتبَة الْأَرْوَاح الْمُتَعَلّقَة بالبحار. والمرتبة التَّاسِعَة: مرتبَة الْأَرْوَاح الْمُتَعَلّقَة بالجبال. والمرتبة الْعَاشِرَة: مرتبَة الْأَرْوَاح السفلية المتصرفة فِي هَذِه الْأَجْسَام النباتية والحيوانية الْمَوْجُودَة فِي هَذَا الْعَالم. وَاعْلَم أَنه على كلا الْقَوْلَيْنِ؛ فَهَذِهِ الْأَرْوَاح قد تكون مشرقة الْهَيْئَة، خيرية سعيدة؛ وَهِي الْمُسَمَّاة بالصالحين من الْجِنّ، وَقد تكون كدرة سفلية شريرة شقية، وَهِي الْمُسَمَّاة بالشياطين. وَاعْلَم أَن الْقُرْآن وَالْأَخْبَار يدلان على وجود الْجِنّ وَالشَّيَاطِين: أما الْقُرْآن فآيات: مِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَإِذ صرفنَا إِلَيْك نَفرا من الْجِنّ يَسْتَمِعُون الْقُرْآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصتُوا فَلَمَّا قضي ولوا إِلَى قَومهمْ منذرين قَالُوا يَا قَومنَا إِنَّا سمعنَا كتابا أنزل من بعد مُوسَى مُصدقا لما بَين يَدَيْهِ يهدي إِلَى الْحق} [الْأَحْقَاف: 29 و 30] ، وَهَذَا نَص على وجودهم، وعَلى أَنهم سمعُوا الْقُرْآن، وعَلى أَنهم أنذروا قَومهمْ. وَقَوله: {وَاتبعُوا مَا تتلوا الشَّيَاطِين على ملك سُلَيْمَان} [الْبَقَرَة: 102] . وَقَوله: {يعْملُونَ لَهُ مَا يَشَاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات} [سبأ: 13] . وَقَوله: {وَالشَّيَاطِين كل بِنَاء وغواص وَآخَرين مُقرنين فِي الأصفاد} [ص: 37 و 38] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 وَقَوله: {ولسليمان الرّيح} إِلَى قَوْله: {وَمن الْجِنّ من يعْمل بَين يَدَيْهِ بِإِذن ربه) [سبأ: 12] . وَقَوله: {يَا معشر الْجِنّ وَالْإِنْس إِن اسْتَطَعْتُم أَن تنفذوا} [الرَّحْمَن: 33] . وَقَوله تَعَالَى: {إِنَّا زينا السَّمَاء الدُّنْيَا بزينة الْكَوَاكِب وحفظا من كل شَيْطَان مارد} [الصافات: 6 و 7] . وَأما الْأَخْبَار فكثيرة مِنْهَا: مَا روى مَالك فِي " الْمُوَطَّأ "، عَن صَيْفِي بن أَفْلح، عَن أبي السَّائِب مولى هِشَام ابْن زهرَة، أَنه دخل على أبي سعيد الْخُدْرِيّ، قَالَ: فَوَجَدته يُصَلِّي، فَجَلَست أنتظره حَتَّى يقْضِي صلَاته، قَالَ: فَسمِعت تحريكا تَحت سَرِيره فِي بَيته، فَإِذا حَيَّة، ففرت ففهمت أَن أقتلها، فَأَشَارَ أَبُو سعيد: أَن اجْلِسْ، فَلَمَّا انْصَرف من صلَاته، أَشَارَ إِلَى بَيت فِي الدَّار، فَقَالَ: أَتَرَى هَذَا الْبَيْت؟ قلت نعم، قَالَ: إِنَّه كَانَ فِيهِ فَتى قريب عهد بعرس، وسَاق الحَدِيث إِلَى أَن قَالَ: فَرَأى امْرَأَته واقفة بَين النَّاس. فَهَيَّأَ الرمْح؛ ليطعنها؛ بِسَبَب الْغيرَة، فَقَالَت امْرَأَته: ادخل بَيْتك لترى، فَدخل [بَيته] فَإِذا هُوَ بحية على فرَاشه، فَرَكزَ فِيهَا الرمْح، فاضطربت الْحَيَّة فِي رَأس الرمْح وخر الْفَتى، فَمَا يدرى أَيهمَا كَانَ أسْرع موتا: الْفَتى أم الْحَيَّة؛ فسألنا رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - فَقَالَ: " إِن بِالْمَدِينَةِ جنا قد أَسْلمُوا، فَمن بدا لكم مِنْهُ فأذنوه ثَلَاثَة أَيَّام، فَإِن عَاد فَاقْتُلُوهُ فَإِنَّهُ شَيْطَان ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وروى فِي " الْمُوَطَّأ "، عَن يحيى بن سعيد، قَالَ: لما أسرِي برَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - رأى عفريتا من الْجِنّ يَطْلُبهُ بشعلة من نَار، كلما الْتفت رَآهُ، فَقَالَ جِبْرِيل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - أَلا أعلمك كَلِمَات إِذا قلتهن طفئت شعلته، قل: " أعوذ بِوَجْه الله الْكَرِيم، وبكلماته التامات اللَّاتِي ذَرأ فِي الأَرْض لَا يجاوزهن بر وَلَا فَاجر، من شَرّ مَا ينزل من السَّمَاء، وَمن شَرّ مَا يعرج فِيهَا، وَمن شَرّ مَا نزل إِلَى الأَرْض، وَشر مَا يخرج مِنْهَا، وَمن شَرّ فتن اللَّيْل وَالنَّهَار، وَمن شَرّ طوارق اللَّيْل وَالنَّهَار، إِلَّا طَارِقًا يطْرق بِخَير يَا رَحْمَن ". وروى مَالك - أَيْضا - فِي " الْمُوَطَّأ " أَن كَعْب الْأَحْبَار كَانَ يَقُول: أعوذ بِوَجْه الله الْعَظِيم، الَّذِي لَيْسَ شَيْء أعظم مِنْهُ، وبكلمات الله التامات الَّتِي لَا يجاوزهن بر وَلَا فَاجر، وبأسمائه كلهَا مَا قد علمت مِنْهَا، وَمَا لم أعلم، من شَرّ مَا خلق وذرأ وبرأ. وروى مَالك أَيْضا فِي الْمُوَطَّأ، أَن خَالِد بن الْوَلِيد، قَالَ: يَا رَسُول الله، إِنِّي [أروّع] فِي مَنَامِي، فَقَالَ: قل: " أعوذ بِكَلِمَات الله التامات من غَضَبه، وعقابه، وَشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 عباده، وَمن همزات الشَّيَاطِين، وَأَن يحْضرُون ". وَخبر خُرُوج النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم - لَيْلَة الْجِنّ، وقراءته عَلَيْهِم، ودعوته إيَّاهُم إِلَى الْإِسْلَام. وروى القَاضِي أَبُو بكر فِي " الْهِدَايَة " أَن عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام دَعَا ربه أَن يرِيه مَوضِع الشَّيْطَان من بني آدم، فَأرَاهُ ذَلِك، فَإِذا رَأسه [مثل رَأس الْحَيَّة، وَاضع رَأسه] على قلبه، فَإِذا ذكر الله تَعَالَى، [خنس] ؛ وَإِذا لم يذكرهُ، وضع رَأسه على حَبَّة قلبه. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " إِن الشَّيْطَان ليجري من ابْن آدم مجْرى الدَّم ". وَقَالَ: " وَمَا مِنْكُم من أحد إِلَّا وَله شَيْطَان " قيل: وَلَا أَنْت يَا رَسُول الله، قَالَ: " وَلَا أَنا، إِلَّا أَن الله تَعَالَى أعانني عَلَيْهِ فَأسلم " وَالْأَحَادِيث كَثِيرَة. فصل فِي قدرَة الْجِنّ على النّفُوذ خلال الْبشر الْمَشْهُور أَن الْجِنّ لَهُم قدرَة على النّفُوذ فِي بواطن الْبشر، وَأنكر أَكثر الْمُعْتَزلَة ذَلِك. أما حجَّة المثبتين فوجوه: الأول: أَنه إِن كَانَ الْجِنّ عبارَة عَن مَوْجُود لَيْسَ بجسم، وَلَا جسماني، فَحِينَئِذٍ يكون معنى كَونه قَادِرًا على النّفُوذ فِي بَاطِنه؛ أَنه يقدر على التَّصَرُّف فِي بَاطِنه، وَذَلِكَ غير مستبعد. وَإِن كَانَ عبارَة عَن حَيَوَان هوائي لطيف نَفاذ كَمَا وصفناه، كَانَ نفاذه فِي بَاطِن بني آدم - أَيْضا - غير مُمْتَنع قِيَاسا على النَّفس وَغَيره. الثَّانِي: قَوْله تَعَالَى: {لَا يقومُونَ إِلَّا كَمَا يقوم الَّذِي يتخبطه الشَّيْطَان من الْمس} [الْبَقَرَة: 275] . الثَّالِث: قَوْله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " إِن الشَّيْطَان ليجري من ابْن آدم مجْرى الدَّم ". وَأما المنكرون، فاحتجوا بقوله تَعَالَى حِكَايَة عَن إِبْلِيس: {وَمَا كَانَ لي عَلَيْكُم من سُلْطَان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 إِلَّا أَن دعوتكم فاستجبتم لي} [إِبْرَاهِيم: 22] صرح بِأَنَّهُ مَا كَانَ لي على الْبشر سُلْطَان، إِلَّا من الْوَجْه الْوَاحِد، وَهُوَ: إِلْقَاء الوسوسة، والدعوة إِلَى الْبَاطِل. وَأَيْضًا: فَلَا شكّ أَن الْأَنْبِيَاء - عَلَيْهِم الصَّلَاة وَالسَّلَام - وَالْعُلَمَاء، والمحققين - يدعونَ النَّاس إِلَى لعن الشَّيَاطِين، والبراءة مِنْهُم، فَوَجَبَ أَن تكون الْعَدَاوَة بَين الشَّيَاطِين وَبينهمْ، أعظم أَنْوَاع الْعَدَاوَة، فَلَو كَانُوا قَادِرين على النّفُوذ فِي البواطن، وعَلى إِيصَال الْبلَاء، وَالشَّر إِلَيْهِم، وَجب أَن يكون تضرر الْأَنْبِيَاء، وَالْعُلَمَاء، مِنْهُم أَشد من تضرر كل وَاحِد، وَلما لم يكن كَذَلِك، علمنَا أَنه بَاطِل. فصل فِي تنزه الْمَلَائِكَة عَن شهوتي الْبَطن والفرج اتَّفقُوا على أَن الْمَلَائِكَة - عَلَيْهِم السَّلَام - لَا يَأْكُلُون، وَلَا يشربون، وَلَا ينْكحُونَ؛ {يسبحون اللَّيْل وَالنَّهَار لَا يفترون} [الْأَنْبِيَاء: 20] . وَأما الْجِنّ وَالشَّيَاطِين، فَإِنَّهُم يَأْكُلُون وَيَشْرَبُونَ؛ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - فِي الروث والعظم: إِنَّه زَاد إخْوَانكُمْ من الْجِنّ. وَأَيْضًا: فَإِنَّهُم يتوالدون؛ قَالَ تَعَالَى: {أفتتخذونه وَذريته أَوْلِيَاء من دوني) [الْكَهْف: 50] . فصل فِي اشتقاق الْبَسْمَلَة الْبَسْمَلَة: مصدر " بسمل "، أَي: قَالَ: " بِسم الله "، نَحْو: " حوقل، وهيلل، وحمدل، وحيعل "، أَي قَالَ: لَا حول وَلَا قُوَّة إِلَّا بِاللَّه، وَلَا إِلَه إِلَّا الله، وَالْحَمْد لله، وَحي على الصَّلَاة وَمثله " الحسبلة " وَهِي قَوْله: " حَسبنَا الله "، و " السبحلة " وَهِي قَول: " سُبْحَانَ الله " و " الجعفلة ": قَول: جعلت فدَاك "، و " الطلبقة والدمعزة " حِكَايَة قَوْلك: " أَطَالَ الله تَعَالَى بَقَاءَك، وأدام عزك ". وَهَذَا شَبيه بِبَاب النحت فِي النّسَب، أَي أَنهم يَأْخُذُونَ اسْمَيْنِ، فينحتون مِنْهُمَا لفظا وَاحِدًا؛ فينسبون إِلَيْهِ؛ كَقَوْلِهِم: " حضرمي، وعبقسي، وعبشمي " نِسْبَة إِلَى " حَضرمَوْت، وَعبد قيس وَعبد شمس "؛ قَالَ الشَّاعِر: [الطَّوِيل] (7 - وتضحك مني شيخة عبشمية ... كَأَن لم ترى قبلي أَسِيرًا يَمَانِيا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وَهُوَ غير مقيس، فَلَا جرم أَن بَعضهم قَالَ فِي: " بسمل، وهيلل ": إنَّهُمَا لُغَة مولدة. قَالَ الْمَاوَرْدِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: يُقَال لمن قَالَ: " بِسم الله ": " مبسمل " وَهِي لُغَة مولدة؛ وَقد جَاءَت فِي الشّعْر؛ قَالَ عمر بن أبي ربيعَة: [الطَّوِيل] (8 - لقد بسملت ليلى غَدَاة لقيتها ... فِيهَا حبذا ذَاك الحبيب المبسمل) وَغَيره من أهل اللُّغَة نقلهَا، وَلم يقل إِنَّهَا مولدة ك " ثَعْلَب " و " المطرزي ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 " بِسم الله ": جَار ومجرور، وَالْبَاء مُتَعَلق بمضمر، فَنَقُول: هَذَا الْمُضمر يحْتَمل أَن يكون اسْما، وَأَن يكون فعلا، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ؛ فَيجوز أَن يكون مُتَقَدما ومتأخرا، فَهَذِهِ أَقسَام أَرْبَعَة. أما إِذا كَانَ مُتَقَدما، وَكَانَ فعلا؛ فكقولك: أبدأ بِبسْم الله. وَإِن كَانَ مُتَقَدما، وَكَانَ اسْما؛ فكقولك: ابتدائي بِبسْم الله. وَإِن كَانَ مُتَأَخِّرًا، وَكَانَ فعلا؛ فكقولك: بِسم الله أبدأ. وَإِن كَانَ مُتَأَخِّرًا، وَكَانَ اسْما؛ فكقولك: بِسم الله ابتدائي. وَأيهمَا أولى التَّقْدِيم أم التَّأْخِير؟ قَالَ ابْن الْخَطِيب: كِلَاهُمَا ورد فِي الْقُرْآن الْكَرِيم، أما التَّقْدِيم، فكقوله {بِسم الله مجْراهَا وَمرْسَاهَا} [هود: 41] وَأما التَّأْخِير؛ فكقوله تَعَالَى: {اقْرَأ باسم رَبك} [العلق: 1] وَأَقُول: التَّقْدِيم أولى؛ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - قديم وَاجِب الْوُجُود لذاته، فَيكون وجوده سَابِقًا على وجود غَيره، لِأَن السَّبق بِالذَّاتِ يسْتَحق السَّبق فِي الذّكر؛ قَالَ تبَارك وَتَعَالَى: {هُوَ الأول وَالْآخر} [الْحَدِيد: 3] وَقَالَ تَعَالَى: {لله الْأَمر من قبل وَمن بعد} [الرّوم: 4] ، وَقَالَ تَعَالَى: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} [الْفَاتِحَة: 5] . قَالَ أَبُو بكر الرَّازِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى - إِضْمَار الْفِعْل أولى من إِضْمَار الِاسْم؛ لِأَن نسق تِلَاوَة الْقُرْآن يدل على أَن الْمُضمر هُوَ الْفِعْل، وَهُوَ الْأَمر، لِأَنَّهُ - تبَارك وَتَعَالَى - قَالَ: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} ، فَكَذَا قَوْله تَعَالَى {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} التَّقْدِير: قُولُوا: بِسم الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وَأَقُول: لقَائِل أَن يَقُول: بل إِضْمَار الِاسْم أولى؛ لأَنا إِذا قُلْنَا: تَقْدِير الْكَلَام: بِسم الله ابْتِدَاء كل شَيْء، كَانَ هَذَا إِخْبَارًا عَن كَونه مبدأ فِي ذَاته لجَمِيع الْحَوَادِث، ومخالفا لجَمِيع الكائنات، سَوَاء قَالَه قَائِل، أَو لم يقلهُ، وَلَا شكّ أَن هَذَا الِاحْتِمَال أولى، وَتَمام الْكَلَام يَأْتِي فِي بَيَان أَن الأولى أَن يُقَال: الْحَمد لله وَسَيَأْتِي لذَلِك زِيَادَة بَيَان فِي الْكَلَام فِي الِاسْم إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فصل فِيمَا يحصر بِهِ الْجَرّ الْجَرّ يحصل بشيئين: أَحدهمَا بالحرف؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: " بِسم الله ". وَالثَّانِي: بِالْإِضَافَة؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: " الله " من قَوْله " بِسم الله ". وَأما الْجَرّ الْحَاصِل فِي لَفْظَة " الرَّحْمَن الرَّحِيم " فَإِنَّمَا حصل، لكَون الْوَصْف ثَابتا للموصوف فِي الْإِعْرَاب، فها هُنَا أبحاث: أَحدهَا: أَن حُرُوف الْجَرّ لم اقْتَضَت الْجَرّ؟ وَثَانِيها: أَن الْإِضَافَة لم اقْتَضَت الْجَرّ؟ وَثَالِثهَا: أَن اقْتِضَاء الْحُرُوف أقوى، أم اقْتِضَاء الْإِضَافَة؟ وَرَابِعهَا: أَن الْإِضَافَة بَين الْجُزْء وَالْكل، أَو بَين الشَّيْء الْخَارِج عَن ذَات الشَّيْء الْمُنْفَصِل؟ قَالَ مكي - رَحمَه الله تَعَالَى -: كسرت الْبَاء من " بِسم الله "؛ لتَكون حركتها مشبهة لعملها؛ وَقيل: كسرت ليفرق بَين مَا يخْفض، وَلَا يكون إِلَّا حرفا؛ نَحْو: الْبَاء، وَاللَّام، وَبَين مَا يخْفض، وَقد يكون اسْما نَحْو: الْكَاف. وَإِنَّمَا عملت الْبَاء وَأَخَوَاتهَا الْخَفْض؛ لِأَنَّهَا لَا معنى لَهَا إِلَّا فِي الْأَسْمَاء، فَعمِلت الْإِعْرَاب الَّذِي لَا يكون إِلَّا فِي الْأَسْمَاء، وَهُوَ الْخَفْض، وَكَذَلِكَ الْحُرُوف الَّتِي تجزم الْأَفْعَال، إِنَّمَا عملت الْجَزْم؛ لِأَنَّهَا لَا معنى لَهَا إِلَّا فِي الْأَفْعَال، فَعمِلت الْإِعْرَاب الَّذِي لَا يكون إِلَّا فِي الْأَفْعَال، وَهُوَ الْجَزْم. وَالْبَاء - هُنَا - للاستعانة؛ ك " عملت بالقدوم "؛ لِأَن الْمَعْنى: أَقرَأ مستعينا بِاللَّه، وَلها معَان أخر تقدم الْوَعْد بذكرها وَهِي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 الإلصاق: حَقِيقَة أَو مجَازًا نَحْو: مسحت برأسي، " مَرَرْت بزيد ". قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله تَعَالَى -: فرّع أَصْحَاب أبي حنيفَة - رَحمَه الله - على " بَاء " الإلصاق مسَائِل: إِحْدَاهَا: قَالَ مُحَمَّد - رَحمَه الله تَعَالَى - فِي " الزِّيَادَات ": إِذا قَالَ لامْرَأَته: أَنْت طَالِق بِمَشِيئَة الله، لَا يَقع الطَّلَاق؛ وَهُوَ كَقَوْلِه: أَنْت طَالِق إِن شَاءَ الله، وَلَو قَالَ: لم يَشَأْ الله يَقع؛ لِأَنَّهُ أخرجه مخرج التَّعْلِيل، وَكَذَلِكَ أَنْت طَالِق بِمَشِيئَة الله تَعَالَى لَا يَقع الطَّلَاق، وَلَو قَالَ أَو بِإِرَادَة الله لَا يَقع، [وَلَو قَالَ لإِرَادَة الله يَقع] أما إِذا قَالَ: أَنْت طَالِق بِعلم الله، أَو لعلم الله، فَإِنَّهُ يَقع فِي الْوَجْهَيْنِ، وَلَا بُد من الْفرق. وَثَانِيها: فِي بَاب الْأَيْمَان لَو قَالَ: إِن خرجت من هَذِه الدَّار إِلَّا بإذني، فَأَنت طَالِق، تحْتَاج فِي كل مرّة إِلَى إِذْنه، وَلَو قَالَ: إِن خرجت إِلَّا أَن آذن لَك، فَأذن لَهَا مرّة كفى، وَلَا بُد من الْفرق. وَثَالِثهَا: لَو قَالَ: طَلِّقِي نَفسك ثَلَاثًا بِأَلف، فَطلقت نَفسهَا وَاحِدَة، وَقعت بِثلث الْألف، وَذَلِكَ أَن الْبَاء تدل على الْبَدَلِيَّة، فيوزع الْبَدَل على الْمُبدل، فَصَارَ بِإِزَاءِ كل طَلْقَة ثلث الْألف، وَلَو قَالَ: طَلِّقِي نَفسك ثَلَاثًا على ألف، فَطلقت نَفسهَا وَاحِدَة، لم يَقع عِنْد أبي حنيفَة، لِأَن لَفْظَة " على " كلمة شَرط وَلم يُوجد الشَّرْط، وَعند صَاحِبيهِ يَقع وَاحِدَة بِثلث الْألف دلّت وَهَا هُنَا مسَائِل مُتَعَلقَة بِالْبَاء. قَالَ أَبُو حنيفَة رَضِي الله عَنهُ: الثّمن إِنَّمَا يتَمَيَّز عَن الْمُثمن بِدُخُول " الْبَاء " عَلَيْهِ، فَإِذا قلت: بِعْت كَذَا بِكَذَا، فَالَّذِي دخل عَلَيْهِ " الْبَاء " هُوَ الثّمن وعَلى هَذَا تبنى مَسْأَلَة البيع الْفَاسِد، فَإِذا قَالَ بِعْت هَذَا الكرباس من الْخمر صَحَّ البيع، وَالْعقد فَاسد. وَإِذا قَالَ: بِعْت هَذَا الْخمر، فالكرباس لم يَصح، وَله الْفرق فِي الصُّورَة الأولى: أَن الْخمر ثمن، وَفِي الثَّانِيَة الْخمر مثمن، وَجعل الْخمر مثمنا لَا يجوز. وَمِنْهَا قَالَ الشَّافِعِي - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ -: إِذا قَالَ: بِعْتُك هَذَا الثَّوْب بِهَذَا الدِّرْهَم تعيّن ذَلِك الدِّرْهَم. وَعند أبي حنيفَة - رَحمَه الله - لَا يتَعَيَّن. والسببية: {فبظلم من الَّذين هادوا حرمنا} [النِّسَاء: 160] أَي: بِسَبَب ظلمهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 والمصاحبة: نَحْو: " خرج زيد بثيابه " أَي: مصاحبا لَهَا. وَالْبدل: كَقَوْلِه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -: " مَا يسرني بهَا حمر النعم "، أَي: بدلهَا؛ وكقول الآخر: [الْبَسِيط] (9 - فليت لي بهم قوما إِذا ركبُوا ... شنوا الإغارة فُرْسَانًا وركبانا) أَي بدلهم. وَالْقسم: " أَحْلف بِاللَّه لَأَفْعَلَنَّ ". والظرفية: نَحْو: " زيد بِمَكَّة " أَي: فِيهَا. والتعدية: نَحْو: {ذهب الله بنورهم} [الْبَقَرَة: 17] . والتبعيض: كَقَوْل الشَّاعِر فِي هَذَا الْبَيْت: [الطَّوِيل] (10 - شربن بِمَاء الْبَحْر ثمَّ ترفعت ... مَتى لجج خضر، لَهُنَّ نئيج) أَي: من مَائه. والمقابلة: " اشْتريت بِأَلف " أَي: قابلته بِهَذَا الثّمن. والمجاوزة: نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَيَوْم تشقق السَّمَاء بالغمام} [الْفرْقَان: 25] ، وَمِنْهُم من قَالَ: لَا يكون كَذَلِك إِلَّا مَعَ السُّؤَال خَاصَّة؛ نَحْو: {فَسئلَ بِهِ خَبِيرا} [الْفرْقَان: 59] أَي: عَنهُ، وَقَول عَلْقَمَة: [الطَّوِيل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 (11 - فَإِن تَسْأَلُونِي بِالنسَاء فإنني ... خَبِير بأدواء النِّسَاء طَبِيب) (إِذا شَاب رَأس الْمَرْء [أَو] قل مَاله ... فَلَيْسَ لَهُ فِي ودهن نصيب) والاستعلاء كَقَوْلِه تَعَالَى: {من إِن تأمنه بقنطار} [آل عمرَان: 75] ، أَي: على قِنْطَار. وَبِمَعْنى " إِلَى ": كَقَوْلِه {وَقد أحسن بِي} [يُوسُف: 100] . وَالْجُمْهُور يأبون جعلهَا إِلَّا للإلصاق، أَو التَّعْدِيَة، ويردون جَمِيع الْمَوَاضِع الْمَذْكُورَة إِلَيْهِمَا، وَلَيْسَ هَذَا مَوضِع اسْتِدْلَال. وَقد تزاد مطردَة، وَغير مطردَة: فالمطردة: فِي فَاعل " كفى " نَحْو: {كفى بِاللَّه} [العنكبوت: 52] أَي: كفى الله بِدَلِيل سُقُوطهَا فِي قَول الشَّاعِر: [الطَّوِيل] (12 - ... ... ... ... ... ... ... كفى الشيب وَالْإِسْلَام للمرء ناهيا) وَفِي خبر " لَيْسَ " و " مَا " أُخْتهَا غير مُوجب ب " إِلَّا "؛ كَقَوْلِه تَعَالَى: {أَلَيْسَ الله بكاف عَبده} [الزمر: 36] {وَمَا رَبك بغافل} [الْأَنْعَام: 132] ، وَفِي: " بحسبك زيد ". وَغير مطردَة: فِي مفعول " كفى "؛ كَقَوْلِه: [الْكَامِل] (13 - فَكفى بِنَا فضلا على من غَيرنَا ... حب النَّبِي مُحَمَّد إيانا) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 أَي: كفانا، وَفِي الْبَيْت كَلَام آخر، وَفِي الْمُبْتَدَأ غير " حسب ". وَمِنْه فِي أحد الْقَوْلَيْنِ: {بأييكم الْمفْتُون} [الْقَلَم: 6] . [أَي: أَيّكُم الْمفْتُون] وَقيل: الْمفْتُون مصدر كالمعقول والميسور، فعلى هَذَا لَيست زَائِدَة. وَفِي خبر " لَا " أُخْت " لَيْسَ "؛ كَقَوْل الشَّاعِر: [الطَّوِيل] (14 - وَكن لي شَفِيعًا يَوْم لَا ذُو شَفَاعَة ... بمغن فتيلا عَن سَواد بن قَارب) أَي: مغنيا. وَفِي خبر " كَانَ " منفية؛ نَحْو: [الطَّوِيل] (15 - وَإِن مدت الْأَيْدِي إِلَى الزَّاد لم أكن ... بأعجلهم إِذْ أجشع الْقَوْم أعجل) أَي: لم أكن أعجلهم. وَفِي الْحَال، وَثَانِي مفعولي " ظن " منفيين أَيْضا؛ كَقَوْل الْقَائِل فِي ذَلِك الْبَيْت: [الوافر] (16 - فَمَا رجعت بخائبة ركاب ... حَكِيم بن الْمسيب مُنْتَهَاهَا) وَقَالَ الآخر: [الطَّوِيل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 (17 - دَعَاني أخي وَالْخَيْل بيني وَبَينه ... فَلَمَّا دَعَاني لم يجدني بقعدد) أَي: مَا رجعت ركاب خائبة، وَلم يجدني قعددا. وَفِي خبر " إِن "؛ كَقَوْل امْرِئ الْقَيْس: [الطَّوِيل] (18 - فَإِن تنأ عَنْهَا حقبة لَا تلاقها ... فَإنَّك مِمَّا أحدثت بالمجرب) أَي: فَإنَّك المجرب. وَفِي {أَو لم يرَوا أَن الله} [الْإِسْرَاء: 99] . وَالِاسْم لُغَة: مَا أبان عَن مُسَمّى، وَاصْطِلَاحا: مَا دلّ على معنى فِي نَفسه فَقَط غير متعرض بببنيته لزمان، وَلَا دَال جُزْء من أَجْزَائِهِ على جُزْء من أَجزَاء مَعْنَاهُ. وَبِهَذَا الْقَيْد الْأَخير خرجت الْجُمْلَة الاسمية، وَالتَّسْمِيَة: جعل اللَّفْظ دَالا على ذَلِك الْمَعْنى. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة - رَحمَه الله تَعَالَى -: ذكر الِاسْم فِي قَوْله تَعَالَى: " بِسم الله " صلَة زَائِد "، وَالتَّقْدِير: " بِاللَّه "، وَإِنَّمَا ذكر لَفْظَة " الِاسْم ": إِمَّا للتبرك، وَإِمَّا أَن يكون فرقا بَينه وَبَين الْقسم. قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله تَعَالَى -: وَأَقُول: المُرَاد من قَوْله تَعَالَى: " بِسم الله " ابدءوا ب " بِسم الله "، وَكَلَام أبي عُبَيْدَة ضَعِيف، لِأَن الله أمرنَا بِالِابْتِدَاءِ، فَهَذَا الْأَمر إِنَّمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 يتَنَاوَل فعلا من أفعالنا، وَذَلِكَ الْفِعْل، هُوَ لفظنا وَقَوْلنَا، فَوَجَبَ أَن يكون المُرَاد: ابدءوا ب " بِسم الله ". وَقَالَ صَاحب " الْبَحْر الْمُحِيط ": اخْتلف النَّاس: هَل الِاسْم عين الْمُسَمّى، أَو غَيره؟ وَهِي مَسْأَلَة طَوِيلَة تكلم النَّاس فِيهَا قَدِيما وحديثا، وَسَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. واستشكلوا على كَونه هُوَ الْمُسَمّى إِضَافَته إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ يلْزم مِنْهُ إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه. وَأجَاب أَبُو الْبَقَاء - رَحمَه الله - عَن ذَلِك بِثَلَاثَة أجوبة: أَجودهَا: أَن الِاسْم - هُنَا - بِمَعْنى التَّسْمِيَة، وَالتَّسْمِيَة غير الِاسْم؛ لِأَن التَّسْمِيَة هِيَ: اللَّفْظ بِالِاسْمِ، وَالِاسْم هُوَ: اللَّازِم للمسمى؛ فتغايرا. الثَّانِي: أَن فِي الْكَلَام حذف مُضَاف تَقْدِير: بِسم مُسَمّى الله. الثَّالِث: أَن لفظ " اسْم " زَائِد؛ كَقَوْلِه: [الطَّوِيل] (19 - إِلَى الْحول ثمَّ اسْم السَّلَام عَلَيْكُمَا ... وَمن يبك حولا كَامِلا فقد اعتذر) أَي: السَّلَام عَلَيْكُمَا. وَقَول ذِي الرمة: [الْبَسِيط] (20 - لَا ينعش الطّرف إِلَّا مَا تخونه ... دَاع يُنَادِيه باسم المَاء مبغوم) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو عُبَيْدَة، والأخفش وقطرب - رَحِمهم الله - وَاخْتلفُوا فِي معنى الزِّيَادَة: فَقَالَ الْأَخْفَش: " ليخرج من حكم الْقسم إِلَى قصد التَّبَرُّك ". وَقَالَ قطرب: " زيد للإجلال والتعظيم ". وَهَذَانِ الْوَجْهَانِ ضعيفان؛ لِأَن الزِّيَادَة، والحذف لَا يُصَار إِلَيْهِمَا إِلَّا إِذا اضْطر إِلَيْهِمَا. وَمن هَذَا الْقَبِيل - أَعنِي مَا يُوهم إِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه - إِضَافَة الِاسْم إِلَى اللقب، والموصوف، إِلَى صفته؛ نَحْو: " سعيد كرز " و " زيد قفة " و " مَسْجِد الْجَامِع " و " بقلة الحمقاء "؛ وَلَكِن النَّحْوِيين أوّلوا النَّوْع الأول بِأَن جعلُوا الِاسْم بِمَعْنى الْمُسَمّى، واللقب بِمَعْنى اللَّفْظ، فتقديره: جَاءَنِي مُسَمّى هَذَا اللَّفْظ، وَفِي الثَّانِي جَعَلُوهُ على حذف مُضَاف، فتقدير " بقلة الحمقاء ": " بقلة الحمقاء "، و " مَسْجِد الْجَامِع ": " مَسْجِد الْمَكَان الْجَامِع ". وَاخْتلف النحويون فِي اشتقاقه: فَذهب أهل " الْبَصْرَة ": إِلَى أَنه مُشْتَقّ من السمو، وَهُوَ [الْعُلُوّ و] الِارْتفَاع؛ لِأَنَّهُ يدل على مُسَمَّاهُ، فيرفعه ويظهره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وَذهب الْكُوفِيُّونَ: إِلَى أَنه مُشْتَقّ من الوسم، وَهُوَ: الْعَلامَة؛ لِأَنَّهُ عَلامَة على مُسَمَّاهُ، وَهَذَا وَإِن كَانَ صَحِيحا من حَيْثُ الْمَعْنى؛ لكنه فَاسد من حَيْثُ التصريف. وَاسْتدلَّ البصريون على مَذْهَبهم بتكسيرهم لَهُ على " أَسمَاء "، وتصغيرهم لَهُ على " سمي "، لِأَن التكسير والتصغير يردان الْأَشْيَاء إِلَى أُصُولهَا. وَتقول الْعَرَب: " فلَان سميّك، وَسميت فلَانا بِكَذَا وأسميته بِكَذَا، فَهَذَا يدل على أَن اشتقاقه من: " السمو "، وَلَو كَانَ من: " الوسم " لقيل فِي التكسير: " أوسام "، وَفِي التصغير " وسيم "؛ ولقالوا؛ وسيمك فلَان، ووسمت، وأوسمت فلَانا بِكَذَا فَدلَّ عدم قَوْلهم ذَلِك؛ أَنه لَيْسَ كَذَلِك. وَأَيّمَا فَجعله من " السمو " مدْخل لَهُ فِي الْبَاب الْأَكْثَر، وَجعله من " الوسم " مدْخل لَهُ فِي الْبَاب الْأَقَل؛ وَذَلِكَ أَن حذف اللَّام كثير، وَحذف الْفَاء قَلِيل. وَأَيْضًا فَإنَّا عهدنهم غَالِبا يعوضون فِي غير مَحل الْحَذف، فَجعل همزَة الْوَصْل عوضا عَن اللَّام مُوَافق لهَذَا الأَصْل، بِخِلَاف ادّعاء كَونهَا عوضا عَن الْفَاء. فَإِن قيل: قَوْلهم: " أَسمَاء " فِي التكسير، و " سمي " فِي التصغير، لَا دلَالَة فِيهِ؛ لجَوَاز [أَن يكون] الأَصْل: " أوساما " و " وسيْما "، ثمَّ قلبت الْكَلِمَة بِأَن أخرت فاؤها بعد لامها، فَصَارَ لفظ " أوسام "، " أسماوا " ثمَّ أعل إعلال " كسَاء "، وَصَارَ " وسيْم "، " سميّوا " ثمَّ أعل إعلال " جريّ " تَصْغِير " جرو ". فَالْجَوَاب: أَن ادّعاء ذَلِك لَا يُفِيد؛ لِأَن الْقلب على خلاف الْقيَاس، فَلَا يُصَار إِلَيْهِ، مَا لم تدع إِلَيْهِ ضَرُورَة. وَهل لهَذَا الْخلاف فَائِدَة أم لَا؟ وَالْجَوَاب: أَن لَهُ فَائِدَة، وَهِي أَن من قَالَ باشتقاقه من العلوّ يَقُول: إِنَّه لم يزل مَوْصُوفا قبل وجود الْخلق، وبعدهم، وَعند فنائهم، وَلَا تَأْثِير لَهُم فِي أَسْمَائِهِ، وَلَا صِفَاته، وَهُوَ قَول أهل السّنة - رَحِمهم الله -. وَمن قَالَ: إِنَّه مُشْتَقّ من الوسم: يَقُول: كَانَ الله تَعَالَى فِي الْأَزَل بِلَا اسْم، وَلَا صفة، فَلَمَّا خلق الْخلق جعلُوا لَهُ أَسمَاء وصفات، وَهُوَ قَول الْمُعْتَزلَة. وَهَذَا أَشد خطأ من قَوْلهم " بِخلق الْقُرْآن "، وعَلى هَذَا الْخلاف وَقع الْخلاف أَيْضا فِي الِاسْم والمسمى. فصل فِي لُغَات " الِاسْم " وَفِي الِاسْم خمس لُغَات: " اسْم " بمض الْهمزَة وَكسرهَا، و " سم " بِكَسْر السِّين وَضمّهَا. وَقَالَ أَحْمد بن يحيى: من قَالَ: " سم " بِضَم السِّين، أَخذه من سموت أسمو، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وَمن قَالَ بِالْكَسْرِ أَخذه من سميت أسمي، وعَلى اللغتين قَوْله: [الرجز] (21 - وعامنا أعجبنا مقدمه ... يدعى أَبَا السَّمْح وقرضاب سمه) (مبتركا لكل عظم يلحمه) ينشد بِالْوَجْهَيْنِ. وأنشدوا على الْكسر: [الرجز] (22 - باسم الَّذِي فِي كل سُورَة سمه) فعلى هَذَا يكون فِي لَام " اسْم " وَجْهَان: أَحدهمَا: أَنَّهَا وَاو. وَالثَّانِي: أَنَّهَا يَاء؛ وَهُوَ غَرِيب، وَلَكِن أَحْمد بن يحيى - رَحمَه الله تَعَالَى - جليل الْقدر ثِقَة فِيمَا ينْقل. و" سمى " مثل: هدى؛ وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بقول الشَّاعِر: [الرجز] (23 - وَالله أسماك سما مُبَارَكًا ... آثرك الله بِهِ إيثاركا) وَلَا دَلِيل فِي ذَلِك لجَوَاز أَن يكون من لُغَة من يَجعله منقوصا مضموم السِّين، وَجَاء بِهِ مَنْصُوبًا، وَإِنَّمَا كَانَ ينتهض دَلِيلا لَو قيل: " سمى " حَالَة رفع أَو جر. وهمزته همزَة وصل، تثبت ابْتِدَاء، وتحذف درجا، وَقد تثبت ضَرُورَة؛ كَقَوْلِه: [الطَّوِيل] (24 - وَمَا أَنا بالمخسوس فِي جذم مَالك ... وَلَا من تسمى ثمَّ يلْتَزم الإسما) وَهُوَ أحد الْأَسْمَاء الْعشْرَة الَّتِي ابتدئ فِي أوائلها بِهَمْزَة الْوَصْل وَهِي: اسْم، واست، وَابْن، وابنم، وَابْنَة، وامرؤ، وَامْرَأَة، وَاثْنَانِ، وَاثْنَتَانِ، وايمن فِي الْقسم. وَالْأَصْل فِي هَذِه الْهمزَة أَن تثبت خطا، كَغَيْرِهَا من همزات الْوَصْل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 وَإِنَّمَا حذفوها حِين يُضَاف الِاسْم إِلَى الْجَلالَة خَاصَّة؛ لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال. وَقيل: ليُوَافق الْخط اللَّفْظ. وَقيل: لَا حذف أصلا، وَذَلِكَ لِأَن الأَصْل " سِم " أَو سُم " بِكَسْر السن أَو ضمهَا، فَلَمَّا دخلت الْبَاء سكنت السِّين تَخْفِيفًا؛ لِأَنَّهُ وَقع بعد الكسرة كسرة أَو ضمة. قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله تَعَالَى -: إِنَّمَا حذفوا ألف " اسْم " فِي قَوْله تَعَالَى: " بِسم الله " وأثبتوها فِي قَوْله تَعَالَى: {اقْرَأ باسم رَبك} [العلق: 1] لوَجْهَيْنِ: الأول: أَن كلمة " بِسم الله " مَذْكُورَة فِي أَكثر الْأَوْقَات عِنْد أَكثر الْأَفْعَال؛ فلأجل التَّخْفِيف حذفوا الْألف، بِخِلَاف سَائِر الْمَوَاضِع، فَإِن ذكرهَا يقلّ. الثَّانِي: قَالَ الْخَلِيل - رَحمَه الله تَعَالَى - إِنَّمَا حذفت الْألف فِي " بِسم الله "؛ لِأَنَّهَا إِنَّمَا دخلت بِسَبَب أَن الِابْتِدَاء بِالسِّين الساكنة غير مُمكن، فَلَمَّا دخلت الْبَاء على الِاسْم نابت عَن الْألف، فَسَقَطت فِي الْخط، وَإِنَّمَا لم تسْقط فِي {اقْرَأ باسم رَبك} ؛ لِأَن الْبَاء لَا تنوب عَن الْألف فِي هَذَا الْموضع، كَمَا فِي " بِسم الله "؛ لِأَنَّهُ يُمكن حذف الْبَاء من {اقْرَأ باسم رَبك} مَعَ بَقَاء الْمَعْنى صَحِيحا، فَإنَّك لَو قلت: اقْرَأ اسْم رَبك صَحَّ الْمَعْنى، [أما لَو] حذفت [الْبَاء] من " بِسم الله " لم يَصح الْمَعْنى، فَظهر الْفرق. قَالَ بَعضهم: فَلَو أضيفت إِلَى غير الْجَلالَة ثبتَتْ نَحْو: " باسم الرَّحْمَن " هَذَا هُوَ الْمَشْهُور، وَحكي عَن الْكسَائي، والأخفش - رَحمَه الله تَعَالَى عَلَيْهِمَا - جَوَاز حذفهَا إِذا أضيف إِلَى غير الْجَلالَة من أَسمَاء الْبَارِي تَعَالَى؛ نَحْو: " بِسم رَبك " و " بِسم الْخَالِق ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وَإِنَّمَا طوّلوا الْبَاء من " بِسم الله " وَلم يطولوها فِي سَائِر الْمَوَاضِع لوَجْهَيْنِ: الأول: أَنه لما حذفت ألف الْوَصْل بعد الْبَاء طوّلوا هَذِه الْبَاء؛ ليدل طولهَا على الْألف المحذوفة الَّتِي بعْدهَا، أَلا ترى أَنهم لما كتبُوا {اقْرَأ باسم رَبك} بِالْألف ردوا الْبَاء إِلَى صفتهَا الْأَصْلِيَّة. قَالَ مكي - رَحمَه الله تَعَالَى -: حذفت الْألف من " بِسم الله " لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال. وَقيل: حذفت لتحرك السِّين فِي الأَصْل؛ لِأَن أصل السِّين الْحَرَكَة، وسكونها لعِلَّة دَخَلتهَا. الثَّانِي: قَالَ القتيبي: إِنَّمَا طولوا الْبَاء، لأَنهم أَرَادوا أَلا يستفتحوا كتاب الله - تَعَالَى - إِلَّا بِحرف مُعظم وَكَانَ عمر بن عبد الْعَزِيز رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ يَقُول لكتابه: " طوّلوا الْبَاء، وأظهروا السِّين، ودوروا الْمِيم تَعْظِيمًا لكتاب الله تَعَالَى. فصل فِي مُتَعَلق الْجَار وَالْمَجْرُور الْجَار وَالْمَجْرُور لَا بُد لَهُ من شَيْء يتَعَلَّق بِهِ، فعل، أَو مَا فِي مَعْنَاهُ، إِلَّا فِي ثَلَاث صور: " حرف الْجَرّ الزَّائِد "، و " لَعَلَّ " و " لَوْلَا " عِنْد من يجر بهما، وَزَاد ابْن عُصْفُور - رَحمَه الله تَعَالَى - " كَاف التَّشْبِيه "؛ وَلَيْسَ بِشَيْء، فَإِنَّهَا تتَعَلَّق. إِذا تقرر ذَلِك ف " بِسم الله " لَا بُد من شَيْء يتَعَلَّق بِهِ، وَلكنه حذف، وَاخْتلف النحويون فِي ذَلِك: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فَذهب أهل الْبَصْرَة: إِلَى أَن الْمُتَعَلّق اسْم. وَذهب أهل " الْكُوفَة ": إِلَى أَنه فعل. وَاخْتلف كل من الْفَرِيقَيْنِ: فَذهب بعض الْبَصرِيين: إِلَى أَن ذَلِك الْمَحْذُوف مُبْتَدأ حذف هُوَ، وَخَبره، وَبَقِي معموله، تَقْدِيره: ابتدائي بِسم الله كَائِن أَو مُسْتَقر، أَو قراءتي بِسم الله كائنة أَو مُسْتَقِرَّة؛ وَفِيه نظر: من حَيْثُ إِنَّه يلْزم حذف الْمصدر، وإبقاء معموله وَهُوَ مَمْنُوع. وَقد نَص مكي - رَحمَه الله تَعَالَى - على منع هَذَا الْوَجْه. وَذهب بَعضهم: إِلَى أَنه خبر حذف هُوَ ومبتدؤه - أَيْضا -، وَبَقِي معموله قَائِما مقَامه؛ وَالتَّقْدِير: ابتدائي كَائِن بِسم الله، نَحْو: " زيد بِمَكَّة "، فَهُوَ على الأول: مَنْصُوب الْمحل، وعَلى الثَّانِي: مرفوعه؛ لقِيَامه مقَام الْخَبَر. وَذهب بعض الْكُوفِيّين: إِلَى أَن ذَلِك الْفِعْل الْمَحْذُوف مُقَدّر قبله، قَالَ: لِأَن الأَصْل التَّقْدِيم؛ وَالتَّقْدِير: أَقرَأ بِسم الله، أَو أبتدئ بِسم الله. وَمِنْهُم من قدره بعده، وَالتَّقْدِير: بِسم الله أَقرَأ، أَو أبتدئ، أَو أتلو. وَإِلَى هَذَا نحا الزَّمَخْشَرِيّ - رَحمَه الله - قَالَ: " ليُفِيد التَّقْدِيم الِاخْتِصَاص؛ لِأَنَّهُ وَقع ردا على الْكَفَرَة الَّذين كَانُوا يبدءون بأسماء آلِهَتهم؛ كَقَوْلِهِم: باسم اللات، وباسم الْعُزَّى " وَهَذَا حسن جدا. ثمَّ اعْترض على نَفسه بقوله تبَارك وَتَعَالَى: {اقْرَأ باسم رَبك} حَيْثُ صرح بِهَذَا الْعَامِل مقدما على معموله. ثمَّ أجَاب: بِأَن تَقْدِيم الْفِعْل فِي سُورَة العلق أوقع؛ لِأَنَّهَا أول سُورَة نزلت؛ فَكَانَ الْأَمر بِالْقِرَاءَةِ أهمّ. وَأجَاب غَيره: بِأَن " بِسم رَبك " لَيْسَ مُتَعَلقا ب " اقْرَأ " الَّذِي قبله، بل ب " اقْرَأ " الَّذِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 بعده، فجَاء على الْقَاعِدَة الْمُتَقَدّمَة، وَفِي هَذَا نظر؛ لِأَن الظَّاهِر على هَذَا القَوْل أَن يكون " اقْرَأ " الثَّانِي توكيدا للْأولِ؛ فَيكون قد فصل بمعمول الْمُؤَكّد بَينه، وَبَين مَا أكده مَعَ الْفَصْل بِكَلَام طَوِيل. وَاخْتلفُوا - أَيْضا - هَل ذَلِك الْفِعْل أَمر أَو خبر؟ فَذهب الفرّاء: إِلَى أَنه أَمر تَقْدِيره: " اقْرَأ أَنْت بِسم الله ". وَذهب الزّجاج: إِلَى أَنه خبر تَقْدِيره: " أَقرَأ أَنا، أَو أبتدئ " وَنَحْوه. قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله تَعَالَى -: أَجمعُوا على أَن الْوَقْف على قَوْله تَعَالَى: " بِسم " نَاقص قَبِيح، وعَلى قَوْله تَعَالَى: " بِسم الله الرَّحْمَن " كَاف صَحِيح، وعَلى قَوْله: " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " تَامّ. وَاعْلَم أَن الْوَقْف لَا بُد وَأَن يَقع على أحد هَذِه الْأَوْجه الثَّلَاث: وَهُوَ أَن يكون نَاقِصا، أَو كَافِيا، أَو كَامِلا، فالوقف على كل كَلَام لَا يفهم بِنَفسِهِ نَاقص، وَالْوَقْف على كل كَلَام مَفْهُوم الْمعَانِي، إِلَّا أَن مَا بعده يكون مُتَعَلقا بِمَا قبله يكون كَافِيا، وَالْوَقْف على كل كَلَام تَامّ، وَيكون مَا بعده مُنْقَطِعًا عَنهُ يكون تَاما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 ثمَّ لقَائِل أَن يَقُول: قَوْله تَعَالَى: {الْحَمد لله رب الْعَالمين} [الْفَاتِحَة: 2] كَلَام تَامّ، إِلَّا أَن قَوْله تَعَالَى: {الرَّحْمَن الرَّحِيم مَالك} [الْفَاتِحَة: 3] مُتَعَلق بِمَا قبله؛ لِأَنَّهَا صِفَات، وَالصِّفَات تَابِعَة للموصوفات، فَإِن جَازَ قطع الصّفة عَن الْمَوْصُوف، وَجعلهَا وَحدهَا آيَة، فَلم لم يَقُولُوا: " بِسم الله الرَّحْمَن " آيَة؟ ثمَّ يَقُولُوا: " الرَّحِيم " آيَة ثَانِيَة، وَإِن لم يجز ذَلِك، فَكيف جعلُوا " الرَّحْمَن الرَّحِيم " آيَة مُسْتَقلَّة؟ فَهَذَا الْإِشْكَال لَا بُد من جَوَابه. فصل الِاسْم هَل هُوَ نفس الْمُسَمّى أم لَا؟ قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله تَعَالَى -: قَالَت الحشوية، والكرامية، والأشعرية: الِاسْم نفس الْمُسَمّى، وَغير التَّسْمِيَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وَقَالَ الْمُعْتَزلَة: الِاسْم غير الْمُسَمّى وَنَفس التَّسْمِيَة، وَالْمُخْتَار عندنَا أَن الِاسْم غير الْمُسَمّى، وَغير التَّسْمِيَة. وَقبل الْخَوْض فِي ذكر الدَّلَائِل لَا بُد من التَّنْبِيه على مُقَدّمَة، وَهِي أَن قَول الْقَائِل: الِاسْم هَل هُوَ نفس الْمُسَمّى أم لَا؟ يجب أَن يكون مَسْبُوقا بِبَيَان أَن الِاسْم مَا هُوَ؟ وَأَن الْمُسَمّى مَا هُوَ؟ حَتَّى ينظر بعد ذَلِك فِي " الِاسْم " هَل هُوَ نفس الْمُسَمّى أم لَا؟ فَنَقُول: إِن كَانَ المُرَاد بِالِاسْمِ هَذَا اللَّفْظ الَّذِي هُوَ أصوات مقطعَة، وحروف مؤلفة، الْمُسَمَّاة تِلْكَ الذوات فِي أَنْفسهَا، وَتلك الْحَقَائِق بِأَعْيَانِهَا، فالعلم الضَّرُورِيّ حَاصِل بِأَن الِاسْم غير الْمُسَمّى؛ والخوض فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على هَذَا التَّقْدِير يكون عَبَثا، وَإِن كَانَ المُرَاد بِالِاسْمِ ذَات الْمُسَمّى، وبالمسمى - أَيْضا - تِلْكَ الذَّات، فقولنا: " الِاسْم " هُوَ " الْمُسَمّى " مَعْنَاهُ: أَن ذَات الشَّيْء عين ذَات الشَّيْء، [وَهَذَا] وَإِن كَانَ حَقًا، إِلَّا أَنه من إِيضَاح الواضحات؛ وَهُوَ عَبث، فَثَبت أَن الْخَوْض فِي هَذَا الْبَحْث على جَمِيع التقديرات يجْرِي مجْرى الْعَبَث. قَالَ الْبَغَوِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى -: الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى، وعينه وذاته؛ قَالَ تبَارك وَتَعَالَى: {إِنَّا نبشرك بِغُلَام اسْمه يحيى} [مَرْيَم: 7] ثمَّ نَادَى الِاسْم فَقَالَ: {يَا يحيى} [مَرْيَم: 12] ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَا تَعْبدُونَ من دونه إِلَّا أَسمَاء سميتموها} [يُوسُف: 40] وَأَرَادَ الْأَشْخَاص المعبودة؛ لأَنهم كَانُوا يعْبدُونَ المسميات. وَاعْلَم أَنا استخرجنا لقَوْل من يَقُول: الِاسْم نفس الْمُسَمّى تَأْوِيلا لطيفا، وَبَيَانه أَن لفظ الِاسْم اسْم لكل لفظ دلّ على معنى من غير أَن يدل على زمَان معِين، وَلَفظ الِاسْم كَذَلِك، فَوَجَبَ أَن يكون لفظ الِاسْم فِي هَذِه الصُّورَة نفس الْمُسَمّى، إِلَّا أَن فِيهِ إشْكَالًا، وَهُوَ أَن كَون الِاسْم للمسمى من بَاب الْمُضَاف، وَأحد المضافين لَا بُد وَأَن يكون مغايرا للْآخر. فصل فِي الْأَدِلَّة على أَن الِاسْم لَا يجوز أَن يكون هُوَ الْمُسَمّى " فِي ذكر الدَّلَائِل الدَّالَّة على أَن الِاسْم لَا يجوز أَن يكون هُوَ الْمُسَمّى ": وَذَلِكَ أَن الْمُسَمّى قد يكون مَعْدُوما، فَإِن الْمَعْدُوم منفي سلب لَا ثُبُوت لَهُ. والألفاظ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 أَلْفَاظ مَوْجُودَة، مَعَ أَن الْمُسَمّى بهَا عدم مَحْض، وَنفي صرف. وَأَيْضًا قد يكون الْمُسَمّى مَوْجُودا، وَالِاسْم مَعْدُوما مثل الْحَقَائِق الَّتِي مَا وضعُوا لَهَا ألفاظا مُعينَة، وَبِالْجُمْلَةِ فثبوت كل وَاحِد مِنْهَا حَال عدم الآخر مَعْلُوم إِمَّا أَن يكون مُقَدرا أَو مقررا، وَذَلِكَ يُوجب الْمُغَايرَة. الثَّانِي: أَن الْأَسْمَاء قد تكون كَثِيرَة مَعَ كَون الْمُسَمّى وَاحِدًا، كالأسماء المترادفة، وَقد يكون الِاسْم وَاحِدًا [وَتَكون] المسميات كَثِيرَة، كالأسماء الْمُشْتَركَة، وَذَلِكَ - أَيْضا - يُوجب الْمُغَايرَة. الثَّالِث: أَن كَون الِاسْم اسْما للمسمى، وَكَون الْمُسَمّى مُسَمّى بِالِاسْمِ من بَاب الْإِضَافَة: كالمالكية، والمملوكية، وَأحد المضافين مُغَاير للْآخر، وَلقَائِل أَن يَقُول: يشكل هَذَا بِكَوْن الشَّيْء عَالما بِنَفسِهِ. الرَّابِع: الِاسْم أصوات مقطعَة وضعت لتعريف المسميات، وَتلك الْأَصْوَات أَعْرَاض غير بَاقِيَة، والمسمى قد يكون بَاقِيا، وَقد يكون وَاجِب الْوُجُود لذاته. الْخَامِس: أَنا إِذا تلفظنا بالنَّار، والثلج، فهذان اللفظان موجودان فِي ألسنتنا، فَلَو كَانَ الِاسْم نفس الْمُسَمّى لزم أَن يحصل فِي ألسنتنا النَّار والثلج، وَذَلِكَ لَا يَقُوله عَاقل. السَّادِس: قَوْله تبَارك وَتَعَالَى: {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا} [الْأَعْرَاف: 180] . وَقَوله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: " إِن لله تِسْعَة وَتِسْعين اسْما " فها هُنَا الْأَسْمَاء كَثِيرَة، والمسمى وَاحِد، وَهُوَ الله - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى -. السَّابِع: أَن قَوْله تَعَالَى: " بِسم الله، وَقَوله - تَعَالَى: - {تبَارك اسْم رَبك} [الرَّحْمَن: 78] فَفِي هَذِه الْآيَات يَقْتَضِي إِضَافَة الِاسْم إِلَى الله - تَعَالَى - وَإِضَافَة الشَّيْء إِلَى نَفسه محَال. الثَّامِن: أَنا ندرك تَفْرِقَة ضَرُورِيَّة بَين قَوْلنَا: " اسْم الله " وَبَين قَوْلنَا: " اسْم الِاسْم "، وَبَين قَوْلنَا: " الله الله "، وَهَذَا يدل على أَن الِاسْم غير الْمُسَمّى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 التَّاسِع: أَنا نصف الْأَسْمَاء بِكَوْنِهَا عَرَبِيَّة وفارسية، فَنَقُول: الله: اسْم عَرَبِيّ، وخوذاي: اسْم أعجمي، وَأما ذَات الله تَعَالَى، فمنزهة عَن كَونه كَذَلِك. الْعَاشِر: قَالَ تبَارك وَتَعَالَى: {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا} [الْأَعْرَاف: 180] أمرنَا بِأَنا نَدْعُو الله بأسمائه، وَالِاسْم آلَة الدُّعَاء، والمدعو هُوَ الله تَعَالَى، والمغايرة بَين ذَات الْمَدْعُو، وَبَين اللَّفْظ الَّذِي يحصل بِهِ الدُّعَاء مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ. وَاحْتج من قَالَ: الِاسْم هُوَ الْمُسَمّى بِالنَّصِّ، وَالْحكم: أما النَّص، فَقَوله تَعَالَى: {تبَارك اسْم رَبك} والمتبارك المتعالى هُوَ الله - تبَارك وَتَعَالَى - لَا الصَّوْت وَلَا الْحَرْف. وَأما الحكم: فَهُوَ أَن الرجل إِذا قَالَ: " زَيْنَب طَالِق "، وَكَانَ زَيْنَب اسْما لامْرَأَته، وَقع عَلَيْهَا الطَّلَاق، وَلَو كَانَ الِاسْم غير الْمُسَمّى، لَكَانَ قد أوقع الطَّلَاق على غير تِلْكَ الْمَرْأَة، فَكَانَ يجب أَلا يَقع الطَّلَاق عَلَيْهَا. الْجَواب عَن الأول: أَن يُقَال: لم لَا يجوز أَن يُقَال: كَمَا أَن يجب علينا أَن نعتقد كَونه منزها عَن النقائص والآفات، فَكَذَلِك يجب علينا تَنْزِيه الْأَلْفَاظ الْمَوْضُوعَة لتعريف ذَات الله - تَعَالَى - وَصِفَاته عَن الْعَبَث، والرفث، وَسُوء الْأَدَب؟ وَعَن الثَّانِي: أَن قَوْلنَا " زَيْنَب طَالِق " مَعْنَاهُ: أَن الذَّات الَّتِي يعبر عَنْهَا بِهَذَا اللَّفْظ " طَالِق "، فَلهَذَا السَّبَب وَقع الطَّلَاق عَلَيْهَا. و " الله " فِي " بِسم الله " مُضَاف إِلَيْهِ. وَهل الْعَامِل فِي الْمُضَاف إِلَيْهِ الْمُضَاف أَو حرف الْجَرّ الْمُقدر، أَو معنى الْإِضَافَة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ثَلَاثَة أَقْوَال خَيرهَا أوسطها وَهُوَ علم على المعبود بِحَق لَا يُطلق على غَيره [وَلم يجز لأحد من المخلوقين أَن يُسمى باسمه، وَكَذَلِكَ الْإِلَه قبل النَّقْل، والإدغام، لَا يُطلق إِلَّا على المعبود بِحَق] . قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ رَحمَه الله " كَأَنَّهُ صَار علما بالغلبة " وَأما " إِلَه " الْمُجَرّد عَن الْألف، فيطلق على المعبود بِحَق وعَلى غَيره، قَالَ تَعَالَى: {لَو كَانَ فيهمَا آلِهَة إِلَّا الله لفسدتا} [الْأَنْبِيَاء: 22] {وَمن يدع مَعَ الله إِلَهًا آخر لَا برهَان لَهُ بِهِ} [الْمُؤْمِنُونَ: 117] ، {من اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الْفرْقَان: 43] . قَالَ ابْن الْخَطِيب رَحمَه الله تَعَالَى: [من النَّاس] من طعن فِي قَول من يَقُول " الْإِلَه هُوَ المعبود " من وُجُوه: أَحدهَا: أَنه - تَعَالَى - إِلَه الجمادات والبهائم، مَعَ أَن صُدُور الْعِبَادَة مِنْهَا محَال. الثَّانِي: أَنه - تَعَالَى إِلَه المجانين والأطفال، مَعَ أَنه لَا تصدر الْعِبَادَة مِنْهُم. الثَّالِث: يلْزم أَن يُقَال: إِنَّه - تَعَالَى - مَا كَانَ إِلَهًا فِي الْأَزَل. وَقَالَ قوم الْإِلَه لَيْسَ عبارَة عَن المعبود، بل الْإِلَه هُوَ الَّذِي يسْتَحق أَن يكون معبودا، وَهَذَا القَوْل - أَيْضا - يرد عَلَيْهِ أَلا يكون إِلَهًا للجمادات، والبهائم، والأطفال، والمجانين، وَألا يكون إِلَهًا فِي الْأَزَل. وَأجِيب: بِأَن هذَيْن الإلزامين ضعيفان. فَإِن الله - تَعَالَى - مُسْتَحقّ لِلْعِبَادَةِ [فِي الْأَزَل] ، بِمَعْنى أَنه أهل لِأَن يعبد، وَهَذَا لَا يتَوَقَّف على حُصُول الْعِبَادَة. وَالثَّانِي - أَيْضا - ضَعِيف؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَزَل مُسْتَحقّ لِلْعِبَادَةِ. وَاخْتلف النَّاس: هَل هُوَ مرتجل أَو مُشْتَقّ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وَالصَّوَاب الأول وَهُوَ أعرف المعارف [حُكيَ أَن سِيبَوَيْهٍ رُؤِيَ فِي الْمَنَام فَقيل: مَا فعل الله بك؟ فَقَالَ: خيرا كثيرا؛ لجعل اسْمه أعرف المعارف] . ثمَّ الْقَائِلُونَ باشتقاقه اخْتلفُوا اخْتِلَافا كثيرا: فَمنهمْ من قَالَ: أَنه مُشْتَقّ من " لاه - يَلِيهِ "، أَي: ارْتَفع، وَمِنْه قيل للشمس: إلاهة - بِكَسْر الْهمزَة وَفتحهَا - لارتفاعها. وَقيل: لاتخاذهم إِيَّاهَا معبودا، وعَلى هَذَا قيل: " لهي أَبوك " يُرِيدُونَ لله أَبوك فَقلت الْعين إِلَى مَوضِع اللَّام، وخففه بِحَذْف الْألف وَاللَّام، وَحذف حرف الْجَرّ. وَأبْعد بَعضهم، فَجعل من ذَلِك قَول الشَّاعِر فِي ذَلِك: [الطَّوِيل] (25 - أَلا يَا سنا برق على قلل الْحمى ... لهنّك من برق عليّ كريم) فَإِن الأَصْل: " لله إِنَّك كريم عليّ " فَحذف حرف الْجَرّ، وحرف التَّعْرِيف، وَالْألف الَّتِي قبل الْهَاء من الْجَلالَة، وسكّن الْهَاء؛ إِجْرَاء للوصل مجْرى الْوَقْف، فَصَارَ اللَّفْظ: " لَهُ " ثمَّ ألْقى حَرَكَة همزَة " إِن " على الْهَاء فَبَقيَ " لهنّك " كَمَا ترى، وَهَذِه سماجة من قَائِله [وَفِي الْبَيْت قَولَانِ أيسر من هَذَا] . وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ مُشْتَقّ من " لاه - يلوه - لياها " [أَي احتجب فالألف على هذَيْن الْقَوْلَيْنِ أصيلة فَحِينَئِذٍ أصل الْكَلم لاه] " اللاه " ثمَّ أدغمت لَام التَّعْرِيف فِي اللَّام بعْدهَا؛ لِاجْتِمَاع شُرُوط الْإِدْغَام، وفخذمت لامه، ووزنه على الْقَوْلَيْنِ الْمُتَقَدِّمين إِمَّا: " فعَل " أَو " فعِل " بِفَتْح الْعين وَكسرهَا، وعَلى كل تَقْدِير: فَتحَرك حرف الْعلَّة، وَانْفَتح مَا قبله فَقلب ألفا، وَكَانَ الأَصْل: ليها أَو ليها أَو لوها أَو لوها. وَمِنْهُم من جعله مشتقا من " أَله " و " أَله " لفظ مُشْتَرك بَين معَان، وَهِي: الْعِبَادَة والسكون، والتحير، والفزع؛ قَالَ الشَّاعِر: [الطَّوِيل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 (26 - ألهت إِلَيْنَا والحوادث جمة ... ... ... ... ... ... ) أَي: سكنت؛ وَقَالَ غَيره: [الطَّوِيل] (27 - ألهت إِلَيْهَا والركائب وقّف ... ... ... ... ... ... ) أَي: فزعت إِلَيْهَا. فَمَعْنَى " إِلَه " أَن خلقه يعبدونه، ويسكنون إِلَيْهِ، ويتحيرون فِيهِ، ويفزعون إِلَيْهِ، وَمِنْه قَول رؤبة: [الرجز] (28 - لله در الغانيات المده ... سبّحن واسترجعن من تأله) أَي: من عبَادَة. وَمِنْه قَوْله تَعَالَى: {ويذرك وآلهتك} [الْأَعْرَاف: 127] أَي: عبادتك. وَإِلَى معنى التحير أَشَارَ أَمِير الْمُؤمنِينَ - رَضِي الله عَنهُ - بقوله: " كل دون صِفَاته تحير الصِّفَات، وضل هُنَاكَ تصاريف اللُّغَات "؛ وَذَلِكَ أَن العَبْد إِذا تفكر فِي صِفَاته تحيّر؛ وَلِهَذَا رُوِيَ: " تَفَكَّرُوا فِي آلَاء الله، وَلَا تَتَفَكَّرُوا فِي الله ". وعَلى هَذَا فالهمزة أَصْلِيَّة، وَالْألف قبل الْهَاء زَائِد "، فَأصل الْجَلالَة: " الْإِلَه "؛ كَقَوْل الشَّاعِر [فِي ذَلِك الْبَيْت] : [الطَّوِيل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 (29 - معَاذ [الْإِلَه] أَن تكون كظبية ... وَلَا دمية وَلَا عقيلة ربرب) فَالتقى حرف التَّعْرِيف مَعَ اللَّام، فأدغم فِيهَا وفخّم. أَو تَقول: إِن الْهمزَة من " الْإِلَه " حذفت للنَّقْل بِمَعْنى: أَنا نقلنا حركتها إِلَى لَام التَّعْرِيف، وحذفناها بعد نقل حركتها، كَمَا هُوَ الْمَعْرُوف فِي النَّقْل، ثمَّ أدغم لَام التَّعْرِيف؛ لما تقدم، إِلَّا أَن النَّقْل - هُنَا - لَازم؛ لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال. وَمِنْهُم من قَالَ: هُوَ مُشْتَقّ من " وَله "؛ لكَون كل مَخْلُوق واله نَحوه، وَلِهَذَا قَالَ بعض الْحُكَمَاء: الله مَحْبُوب للأشياء كلهَا وعَلى هَذَا دلّ قَوْله تَعَالَى: {وَإِن من شَيْء إِلَّا يسبح بِحَمْدِهِ} [الْإِسْرَاء: 44] . فأصله: " ولاه " ثمَّ أبدلت الْوَاو همزَة، كَمَا أبدلت فِي " إشاح، وإعاء " وَالْأَصْل: " وشاح، ووعاء ". فَصَارَ اللَّفْظ بِهِ: " إِلَهًا " ثمَّ فعل بِهِ مَا تقدم من حذف همزته، والإدغام، ويعزى هَذَا القَوْل للخليل - رَحمَه الله تَعَالَى -. فعلى هذَيْن الْقَوْلَيْنِ وزن " إلاه ": " فعال " وَهُوَ بِمَعْنى مفعول، أَي: معبود أَو متحير فِيهِ؛ كالكتاب بِمَعْنى مَكْتُوب، ورد قَول الْخَلِيل بِوَجْهَيْنِ: أَحدهمَا: أَنه لَو كَانَت الْهمزَة بَدَلا من وَاو، لجَاز النُّطْق بِالْأَصْلِ، وَلم يقلهُ أحد، وَيَقُولُونَ: " إشاح " و " وشاح "، و " إعاء " و " وعَاء ". وَالثَّانِي: أَنه لَو كَانَ كَذَلِك لجمع على " أولهة " ك " أوعية "، و " أوشحة "، فَترد الْهمزَة إِلَى أَصْلهَا، وَلم يجمع " إِلَه " إِلَّا على آلِهَة ". وللخليل أَن ينْفَصل عَن هذَيْن الاعتراضين؛ بِأَن الْبَدَل لزم [فِي] هَذَا الِاسْم؛ لِأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 اخْتصَّ بِأَحْكَام لم يشركهُ فِيهَا غَيره كَمَا ستقف عَلَيْهِ - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - ثمَّ جَاءَ الْجمع على الْتِزَام الْبَدَل. وَأما الْألف وَاللَّام، فيترتب الْكَلَام فِيهَا على كَونه مشتقا أَو غير مُشْتَقّ. فَإِن قيل بِالْأولِ كَانَت فِي الأَصْل معرفَة. وَإِن قيل بِالثَّانِي كَانَت زَائِدَة. وَقد شذّ حذف الْألف وَاللَّام من الْجَلالَة فِي قَوْلهم: " لاه أَبوك " وَالْأَصْل: " لله أَبوك " كَمَا تقدم، قَالُوا: وحذفت الْألف الَّتِي قبل الْهَاء خطا؛ لِئَلَّا يشْتَبه بِخَط " اللات ": اسْم الصَّنَم؛ لِأَن بَعضهم يقلب هَذِه التَّاء فِي الْوَقْف هَاء، فيكتبها هَاء تبعا للْوَقْف، فَمن ثمَّ جَاءَ الِاشْتِبَاه. وَقيل: لِئَلَّا يشبّه بِخَط " اللاه " اسْم فَاعل من " لَهَا - يلهو " وَهَذَا إِنَّمَا يتم على لُغَة من يحذف يَاء المنقوص وَقفا؛ لِأَن الْخط يتبعهُ، وَأمن من يثبتها وَقفا فيثبتها خطا، فَلَا لبس حِينَئِذٍ. وَقيل: حذف الْألف لُغَة قَليلَة جَاءَ الْخط عَلَيْهَا، وَالْتزم ذَلِك؛ لِكَثْرَة اسْتِعْمَاله؛ قَالَ الشَّاعِر: [الرجز] (31 - أقبل سيل جَاءَ من أَمر الله ... يحرد حرد الْجنَّة المغله) قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله -: وَيتَفَرَّع على هَذَا مسَائِل: أَحدهَا: لَو قَالَ عِنْد الْحلف: بلّه، فَهَل تَنْعَقِد يَمِينه أم لَا؟ قَالَ بَعضهم: لَا؛ لِأَن بلّه [اسْم] للرطوبة فَلَا ينْعَقد الْيَمين بِهِ. وَقَالَ آخَرُونَ: ينْعَقد الْيَمين؛ لِأَن ذَلِك بِحَسب أصل اللُّغَة جَائِز، وَقد نوى بِهِ الْحلف، فَوَجَبَ أَن تَنْعَقِد. وَثَانِيها: لَو ذكره على هَذِه الصّفة عِنْد الذَّبِيحَة هَل يصلح ذَلِك أم لَا؟ وَثَالِثهَا: لَو ذكر قَوْله: " الله " فِي قَوْله: " الله أكبر " هَل تَنْعَقِد الصَّلَاة بِهِ أم لَا؟ وَحكم لامه التفخيم، تَعْظِيمًا مَا لم يتقدمه كسر فترقق. وَقد كَانَ أَبُو الْقَاسِم الزَّمَخْشَرِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى - قد أطلق التفخيم، وَلكنه يُرِيد مَا قلته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وَنقل أَبُو الْبَقَاء - رَحمَه الله -: " أَن مِنْهُم من يرققها على كل حَال وَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء؛ لِأَن الْعَرَب على خِلَافه كَابِرًا عَن كَابر كَمَا ذكره الزَّمَخْشَرِيّ. وَنقل الفرّاء خلافًا فِيمَا إِذا تقدمه فَتْحة ممالة أَي قريبَة من الكسرة: فَمنهمْ من يرققها، وَمِنْهُم من يفخمها، وَذَلِكَ كَقِرَاءَة السُّوسِي فِي أحد وجهيه: {حَتَّى نرى الله جهرة} [الْبَقَرَة: 55] . قَالَ ابْن الْخَطِيب: رَحمَه الله تَعَالَى - " لم يقل أحد " الله " بالإمالة إِلَّا قُتَيْبَة فِي بعض الرِّوَايَات. وَنقل السُّهيْلي، وَابْن الْعَرَبِيّ فِيهِ قولا غَرِيبا، وَهُوَ أَن الْألف وَاللَّام فِيهِ أَصْلِيَّة غير زَائِدَة، وَاعْتَذَرُوا عَن وصل الْهمزَة، لِكَثْرَة الِاسْتِعْمَال كَمَا يَقُول الْخَلِيل فِي همزَة التَّعْرِيف، وَقد رد قَوْلهمَا بِأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَن ينون لفظ الْجَلالَة، وَكَانَ وَزنه حينئد " فعال " نَحْو: " لئال " و " سئال "، وَلَيْسَ فِيهِ مَا يمنعهُ من التَّنْوِين، فَدلَّ على أَن " أل " زَائِدَة على مَاهِيَّة الْكَلِمَة. وَمن غَرِيب مَا نقل فِيهِ - أَيْضا - أَنه لَيْسَ بعربي، بل هُوَ مُعرب، وَهُوَ سرياني الْوَضع، وَأَصله: " لَاها " فعربته الْعَرَب، فَقَالُوا: " الله "؛ وَاسْتَدَلُّوا على ذَلِك بقول الشَّاعِر: [مخلّع الْبَسِيط] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 (32 - كحلفة من أبي ريَاح ... يسْمعهَا لاهه الْكِبَار) فجَاء بِهِ على الأَصْل قبل التَّعْرِيف، نقل ذَلِك أَبُو زيد الْبَلْخِي - رَحمَه الله تَعَالَى -. وَمن غَرِيب مَا نقل فِيهِ - أَيْضا - أَن الأَصْل فِيهِ " الْهَاء " الَّتِي هِيَ كِنَايَة عَن الْغَائِب، قَالُوا: وَذَلِكَ أَنهم أثبتوه مَوْجُودا فِي نظر عُقُولهمْ؛ فأشاروا إِلَيْهِ بالضمير، ثمَّ زيدت فِيهِ لَام الْملك، إِذْ قد علمُوا أَنه خَالق الْأَشْيَاء ومالكها، فَصَارَ اللَّفْظ " لَهُ "، ثمَّ زيد فِيهِ الْألف وَاللَّام؛ تَعْظِيمًا وتفخيما، وَهَذَا لَا يشبه كَلَام أهل اللُّغَة، وَلَا النَّحْوِيين، وَإِنَّمَا يشبه كَلَام بعض المتصوفة. وَمن غَرِيب مَا نقل فِيهِ - أَيْضا - أَنه صفة، وَلَيْسَ باسم، واعتل [هَذَا الذَّاهِب إِلَى] ذَلِك؛ أَن الِاسْم يعرّف الْمُسَمّى، وَالله - تَعَالَى - لَا يدْرك حسا وَلَا بديهة، فَلَا يعرفهُ اسْمه، وَإِنَّمَا تعرفه صِفَاته؛ وَلِأَن الْعلم قَائِم مقَام الْإِشَارَة، وَذَلِكَ مُمْتَنع فِي حق الله تَعَالَى. وَقد رد الزَّمَخْشَرِيّ هَذَا القَوْل بِمَا مَعْنَاهُ: أَنَّك تصفه، وَلَا تصف بِهِ فَتَقول: إِلَه عَظِيم وَاحِد كَمَا تَقول: شَيْء عَظِيم، وَرجل كريم، وَلَا تَقول: شَيْء إِلَه، كَمَا لَا تَقول: شَيْء رجل، وَلَو كَانَ صفة لوقع صفة لغيره لَا مَوْصُوفا. وَأَيْضًا: فَإِن صِفَاته الْحسنى، لَا بُد لَهَا من مَوْصُوف بهَا تجْرِي عَلَيْهِ، فَلَو جعلناها كلهَا صِفَات بقيت غير جَارِيَة على اسْم مَوْصُوف بهَا، وَلَيْسَ فِيمَا عدا الْجَلالَة خلاف فِي كَونه صفة فَتعين أَن تكون الْجَلالَة اسْما لَا صفة، وَالْقَوْل فِي هَذَا الِاسْم الْكَرِيم يحْتَمل الإطالة، وَهَذَا الْقدر كَاف. فصل فِي اخْتِصَاص لفظ الْجَلالَة بِهِ سُبْحَانَهُ قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله تَعَالَى عَلَيْهِ -: أطبق جَمِيع الْخلق على أَن قَوْلنَا: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 " الله " مَخْصُوص بِاللَّه تبَارك وَتَعَالَى، وَكَذَلِكَ قَوْلنَا: " الْإِلَه " مَخْصُوص بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. وَأما الَّذين كَانُوا يطلقون اسْم الْإِلَه على غير الله - تَعَالَى - فَإِنَّمَا كَانُوا يذكرُونَهُ بِالْإِضَافَة كَمَا يُقَال: " إِلَه كَذَا "، أَو ينكرونه كَمَا قَالَ - تبَارك وَتَعَالَى - عَن قوم مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَام -: {اجْعَل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُم آلِهَة} [الْأَعْرَاف: 138] . فصل فِي خَواص لفظ الْجَلالَة قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله تَعَالَى -: " اعْلَم أَن هَذَا الِاسْم مَخْصُوص بخواص لَا تُوجد فِي سَائِر أَسمَاء الله تَعَالَى. فَالْأولى: أَنَّك إِذا حذفت الْألف من قَوْلك: " الله " بَقِي الْبَاقِي على صُورَة " الله " وَهُوَ مُخْتَصّ بِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَللَّه ملك السَّمَوَات وَالْأَرْض} [آل عمرَان: 189] ، وَإِن حذفت من هَذِه الْبَقِيَّة اللَّام الأولى بقيت الْبَقِيَّة على صُورَة " لَهُ "؛ كَمَا فِي قَوْله تبَارك وَتَعَالَى: {لَهُ مقاليد السَّمَوَات وَالْأَرْض} [الشورى: 12] ، وَقَوله تَعَالَى: {لَهُ الْملك وَله الْحَمد} [التغابن: 1] ، وَإِن حذفت اللَّام الْبَاقِيَة كَانَت الْبَقِيَّة " هُوَ " وَهُوَ - أَيْضا - يدل عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى؛ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {قل هُوَ الله أحد} [الْإِخْلَاص: 1] وَقَوله: {لَا إِلَه إِلَّا هُوَ} [الْبَقَرَة: 255] وَالْوَاو زَائِدَة؛ بِدَلِيل: سُقُوطه فِي التَّثْنِيَة وَالْجمع فَإنَّك تَقول: هما، وهم، وَلَا تبقي الْوَاو فيهمَا، فَهَذِهِ الخاصية مَوْجُودَة فِي لفظ " الله " - تَعَالَى " غير مَوْجُودَة فِي سَائِر الْأَسْمَاء، وكما [حصلت] هَذِه الخاصية بِحَسب اللَّفْظ [فقد حصلت - أَيْضا - بِحَسب الْمَعْنى] ، فَإنَّك إِذا دَعَوْت الله - تبَارك وَتَعَالَى - بِالرَّحْمَةِ فقد وَصفته بِالرَّحْمَةِ، وَمَا وَصفته بالقهر، وَإِذا دَعوته بالعليم، فقد وَصفته بِالْعلمِ، وَمَا وَصفته بِالْقُدْرَةِ. وَأما إِذا قلت: " يَا الله "، فقد وَصفته بِجَمِيعِ الصِّفَات؛ لِأَن الْإِلَه لَا يكون إِلَهًا إِلَّا إِذا كَانَ مَوْصُوفا بِجَمِيعِ هَذِه الصِّفَات، فَثَبت أَن قَوْلنَا: " الله " قد حصلت لَهُ هَذِه الخاصية الَّتِي لم تحصل لسَائِر الْأَسْمَاء. الخاصية الثَّانِيَة: أَن كلمة الشَّهَادَة، وَهِي الْكَلِمَة الَّتِي بِسَبَبِهَا ينْتَقل الْكَافِر من الْكفْر إِلَى الْإِيمَان، وَلَو لم يكن فِيهَا هَذَا الِاسْم، لم يحصل الْإِيمَان، فَلَو قَالَ الْكَافِر: أشهد أَن لَا إِلَه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 إِلَّا الرَّحِيم، أَو إِلَّا الْملك، أَو إِلَّا القدوس، لم يخرج من الْكفْر، وَلم يدْخل فِي الْإِسْلَام. أما إِذا قَالَ: أشهد أَن لَا إِلَه إِلَّا الله، فَإِنَّهُ يخرج من الْكفْر، وَيدخل فِي الْإِسْلَام، وَذَلِكَ يدل على اخْتِصَاص هَذَا الِاسْم بِهَذِهِ الخاصية الشَّرِيفَة. [وَفِي هَذَا نظر] ؛ لأَنا لَا نسلم هَذَا فِي الْأَسْمَاء المختصة بِاللَّه - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - مثل: القدوس والرحمن. فصل فِي رسم لَفْظَة الْجَلالَة كتبُوا لفظ " الله " بلامين، وَكَتَبُوا لفظ " الَّذِي " بلام وَاحِدَة، مَعَ استوائهما فِي اللَّفْظ، وَفِي أَكثر الدواران على الْأَلْسِنَة، وَفِي لُزُوم التَّعْرِيف؛ وَالْفرق من وُجُوه: الأول: أَن قَوْلنَا: " الله " اسْم مُعرب متصرف تصرف الْأَسْمَاء، فأبقوا كِتَابَته على الأَصْل. أما قَوْلنَا " الَّذِي " فَهُوَ مَبْنِيّ من أجل أَنه نَاقص، مَعَ أَنه لَا يُفِيد إِلَّا مَعَ صلته، فَهُوَ كبعض الْكَلِمَة، وَمَعْلُوم أَن بعض الْكَلِمَة يكون مَبْنِيا، فأدخلوا فِيهِ النُّقْصَان لهَذَا السَّبَب، أَلا ترى أَنهم كتبُوا قَوْله - تَعَالَى - " اللَّذَان " بلامين؛ لِأَن التَّثْنِيَة أخرجته عَن مشابهة الْحُرُوف؛ لِأَن الْحَرْف لَا يثنّى. الثَّانِي: أَن قَوْلنَا: " الله " لَو كتب بلام وَاحِدَة لالتبس بقوله: " إِلَه "، وَهَذَا الالتباس غير حَاصِل فِي قَوْلنَا: " الَّذِي ". الثَّالِث: أَن تفخيم ذكر الله - تَعَالَى - فِي اللَّفْظ وَاجِب، هَكَذَا فِي الْخط، والحذف يُنَافِي التفخيم. وَأما قَوْلنَا: " الَّذِي " فَلَا تفخيم لَهُ فِي الْمَعْنى، فتركوا - أَيْضا - تفخيمه فِي الْخط. قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحْمَة الله تَعَالَى عَلَيْهِ -: " إِنَّمَا حذفوا الْألف قبل الْهَاء من قَوْلنَا: " الله " فِي الْخط؛ لكَرَاهَة اجْتِمَاع الْحُرُوف [المتشابهة فِي الصُّورَة] ، [وَهُوَ مثل كراهتهم اجْتِمَاع الْحُرُوف الْمُقَابلَة فِي اللَّفْظ] عِنْد الْقِرَاءَة ". {الرَّحْمَن الرَّحِيم} [الْفَاتِحَة: 1] صفتان مشتقتان من الرَّحْمَة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 وَقيل: الرَّحْمَن لَيْسَ مشتقا؛ لِأَن الْعَرَب لم تعرفه فِي قَوْلهم: {وَمَا الرَّحْمَن) [الْفرْقَان: 60] وَأجَاب ابْن الْعَرَبِيّ عَنهُ: بِأَنَّهُم إِنَّمَا جعلُوا الصّفة دون الْمَوْصُوف؛ وَلذَلِك لم يَقُولُوا: وَمن الرَّحْمَن؟ وَقد تبعا موصوفهما فِي الْأَرْبَعَة من الْعشْرَة الْمَذْكُورَة. وَذهب الأعلم الشنتمري إِلَى أَن " الرَّحْمَن " بدل من اسْم " الله " لَا نعت لَهُ، وَذَلِكَ مَبْنِيّ على مذْهبه من أَن " الرَّحْمَن " عِنْده علم بالغلبة. وَاسْتدلَّ على ذَلِك بِأَنَّهُ قد جَاءَ غير تَابع لموصوف [كَقَوْلِه تَعَالَى: {الرَّحْمَن علم الْقُرْآن} [الرَّحْمَن: 1 - 2] و {الرَّحْمَن على الْعَرْش اسْتَوَى} [طه: 5] . وَقد رد عَلَيْهِ السُّهيْلي بِأَنَّهُ لَو كَانَ بَدَلا لَكَانَ مُبينًا لما قبله، وَمَا قبله وَهُوَ الْجَلالَة الْكَرِيمَة لَا تفْتَقر إِلَى تَبْيِين؛ لِأَنَّهَا أعرف الْأَعْلَام، أَلا تراهم قَالُوا: " وَمَا الرَّحْمَن " وَلم يَقُولُوا: وَمَا الله؟ وَأما قَوْله: " جَاءَ غير تَابع " فَذَلِك لَا يمْنَع كَونه صفة؛ لِأَنَّهُ إِذا علم الْمَوْصُوف جَازَ حذفه، وَبَقَاء صفته؛ كَقَوْلِه تبَارك وَتَعَالَى: {وَمن النَّاس وَالدَّوَاب والأنعام مُخْتَلف ألوانه} [فاطر: 28] أَي: نوع مُخْتَلف [ألوانه] ، وكقول الشَّاعِر [فِي ذَلِك الْمَعْنى] : [الْبَسِيط] (33 - كناطح صَخْرَة يَوْمًا ليفلقها ... فَمَا وهاها وأوهى قرنه الوعل) أَي: كوعل ناطح، وَهُوَ كثير. وَالرَّحْمَة: لُغَة: الرقة والانطاف، وَمِنْه اشتقاق الرَّحْمَن، وَهِي الْبَطن؛ لانعطافها على الْجَنِين، فعلى هَذَا يكون وَصفه - تَعَالَى - بِالرَّحْمَةِ مجَازًا عَن إنعامه على عباده، كالملك إِذا عطف على رَعيته أَصَابَهُم خَيره، هَذَا معنى قَول أبي الْقَاسِم الزَّمَخْشَرِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وَيكون على هَذَا التَّقْدِير صفة فعل، لَا صفة ذَات. وَقيل: الرَّحْمَة: إِرَادَة الْخَيْر لمن [أَرَادَهُ الله بذلك] وَوَصفه بهَا على هَذَا القَوْل حَقِيقَة، وَهِي حِينَئِذٍ صفة ذَات، وَهَذَا القَوْل هُوَ الظَّاهِر. وَقيل: الرَّحْمَة [رقة] تَقْتَضِي الْإِحْسَان إِلَى المرحوم، وَقد تسْتَعْمل تَارَة فِي الرقة الْمُجَرَّدَة، وَتارَة فِي الْإِحْسَان الْمُجَرّد، وَإِذا وصف بِهِ البارئ - تَعَالَى - فَلَيْسَ يُرَاد بِهِ [إِلَّا] الْإِحْسَان الْمُجَرّد دون الرقة، وعَلى هَذَا رُوِيَ: " الرَّحْمَة من الله - تَعَالَى - إنعام وإفضال، وَمن الْآدَمِيّين رقة وَتعطف ". وَقَالَ ابْن عَبَّاس - رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا -: " هما اسمان رقيقان أَحدهمَا أرق من الآخر، أَي أَكثر رَحْمَة ". قَالَ الْخطابِيّ: وَهُوَ مُشكل؛ لِأَن الرقة لَا مدْخل لَهَا فِي صِفَاته. [وَقَالَ الْحُسَيْن بن الْفضل: هَذَا وهم من الرَّاوِي؛ لِأَن الرقة لَيست من صِفَات الله - تَعَالَى - فِي شَيْء] ، وَإِنَّمَا هما اسمان رفيقان أَحدهمَا أرْفق من الآخر والرفق من صِفَاته. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " إِن الله - تَعَالَى - رَفِيق يحب الرِّفْق، وَيُعْطِي عَلَيْهِ مَا لَا يُعْطي على العنف "؛ وَيُؤَيِّدهُ الحَدِيث الآخر. وَأما الرَّحِيم فَهُوَ الرفيق بِالْمُؤْمِنِينَ خَاصَّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 وَاخْتلف أهل الْعلم فِي أَن " الرَّحْمَن الرَّحِيم " بِالنِّسْبَةِ إِلَى كَونهمَا بِمَعْنى وَاحِد، أَو مُخْتَلفين؟ فَذهب بَعضهم: إِلَى أَنَّهُمَا بِمَعْنى وَاحِد ك " ندمان ونديم "، ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ على قَوْلَيْنِ: فَمنهمْ من قَالَ: يجمع بَينهمَا؛ تَأْكِيدًا. وَمِنْهُم من قَالَ: لما تسمى مُسَيْلمَة - لَعنه الله - ب " الرَّحْمَن " قَالَ الله تَعَالَى لنَفسِهِ: " الرَّحْمَن الرَّحِيم " فالجمع بَين هَاتين الصفتين لله - تَعَالَى فَقَط. وَهَذَا ضَعِيف جدا؛ فَإِن تَسْمِيَته بذلك غير مُعْتَد بهَا أَلْبَتَّة، وَأَيْضًا: فَإِن " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " قبل ظُهُور أَمر مُسَيْلمَة. وَمِنْهُم من قَالَ: لكل وَاحِد فَائِدَة غير فَائِدَة الآخر، وَجعل ذَلِك بِالنِّسْبَةِ إِلَى تغاير متعلقهما؛ إِذْ يُقَال: " رحمان الدُّنْيَا، وَرَحِيم الْآخِرَة "، ويروى ذَلِك عَن النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم - وَذَلِكَ لِأَن رَحمته فِي الدُّنْيَا تعم الْمُؤمن وَالْكَافِر، وَفِي الْآخِرَة تخص الْمُؤمنِينَ فَقَط. ويروى: " رَحِيم الدُّنْيَا، ورحمان الْآخِرَة " وَفِي الْمُغَايرَة بَينهمَا بِهَذَا الْقدر وَحده نظر لَا يخفى. وَذهب بَعضهم إِلَى أَنَّهُمَا مُخْتَلِفَانِ، ثمَّ اخْتلف هَؤُلَاءِ أَيْضا: فَمنهمْ من قَالَ: الرَّحْمَن أبلغ؛ وَلذَلِك لَا يُطلق على غير البارئ - تَعَالَى -، وَاخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيّ، وَجعله من بَاب " غَضْبَان " و " سَكرَان " للممتلئ غَضبا وسكرا؛ وَلذَلِك يُقَال: " رحمان الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَرَحِيم الْآخِرَة فَقَط ". قَالَ الزَّمَخْشَرِيّ: " فَكَانَ الْقيَاس الترقي من الْأَدْنَى إِلَى الْأَعْلَى كَمَا يُقَال: " شُجَاع باسل " وَلَا يُقَال: " باسل شُجَاع ". ثمَّ أجَاب: بِأَنَّهُ أرْدف " الرَّحْمَن " الَّذِي يتَنَاوَل جلائل النعم وأصولها ب " الرَّحِيم "؛ ليَكُون كالتتمة والرديف؛ ليتناول " مَا دق مِنْهَا] ، ولطف. وَمِنْهُم من عكس: فَجعل " الرَّحِيم " أبلغ، وَيُؤَيِّدهُ رِوَايَة من قَالَ: " رَحِيم الدُّنْيَا، ورحمان الْآخِرَة "؛ لِأَنَّهُ فِي الدُّنْيَا يرحم الْمُؤمن وَالْكَافِر، وَفِي الْآخِرَة لَا يرحم إِلَّا الْمُؤمن. لَكِن الصَّحِيح أَن " الرَّحْمَن " أبلغ، وَأما هَذِه الرِّوَايَة فَلَيْسَ فِيهَا دَلِيل، بل هِيَ دَالَّة على أَن " الرَّحْمَن " أبلغ؛ وَذَلِكَ لِأَن الْقِيَامَة فِيهَا الرَّحْمَة أَكثر بأضعاف، وأثرها فِيهَا أظهر على مَا يرْوى: " أَنه خبأ لِعِبَادِهِ تسعا وَتِسْعين رَحْمَة ليَوْم الْقِيَامَة ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وَالظَّاهِر أَن جِهَة الْمُبَالغَة فيهمَا مُخْتَلفَة؛ فمبالغة " فعلان " من حَيْثُ: الامتلاء وَالْغَلَبَة، ومبالغة " فعيل " من حَيْثُ: التّكْرَار والوقوع بمحال الرَّحْمَة. وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَة: وَبِنَاء " فعلان " لَيْسَ كبناء " فعيل "؛ فَإِن بِنَاء " فعلان " لَا يَقع إِلَّا على مُبَالغَة الْفِعْل، نَحْو: " رجل غَضْبَان " للممتلئ غَضبا، و " فعيل " يكون بِمَعْنى " الْفَاعِل، وَالْمَفْعُول "؛ قَالَ الشَّاعِر: [الطَّوِيل] (34 - فَأَما إِذا عضت بك الْحَرْب عضة ... فَإنَّك مَعْطُوف عَلَيْك رَحِيم) ف " الرَّحْمَن " خَاص الِاسْم، عَام الْفِعْل، و " الرَّحِيم " عَام الِاسْم، خَاص الْفِعْل؛ وَلذَلِك لَا يتَعَدَّى " فعلان " وَيَتَعَدَّى " فعيل ". حكى ابْن سَيّده: " زيد حفيظ علمك وَعلم غَيْرك ". وَالْألف وَاللَّام فِي " الرَّحْمَن " للغلبة كهي فِي " الصَّعق "، وَلَا يُطلق على غير الْبَارِي - تَعَالَى - عِنْد أَكثر الْعلمَاء - رَحِمهم الله تَعَالَى - لقَوْله تَعَالَى: {قل ادعوا الله أَو ادعوا الرَّحْمَن} [الْإِسْرَاء: 110] فعادل بِهِ مَا لَا شركَة فِيهِ بِخِلَاف " رَحِيم "، فَإِنَّهُ يُطلق على غَيره - تَعَالَى - قَالَ فِي [حَقه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -] : {بِالْمُؤْمِنِينَ رءوف رَحِيم} [التَّوْبَة: 128] . وَأما قَول الشَّاعِر فِي [حق] مُسَيْلمَة الْكذَّاب - لَعنه الله تَعَالَى: [الْبَسِيط] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 (35 - ... ... ... ... ... ... وَأَنت غيث الورى لَا زلت رحمانا) فَلَا يلْتَفت إِلَى قَوْله، لفرط تعنتهم. وَلَا يسْتَعْمل إِلَّا مُعَرفا بِالْألف وَاللَّام أَو مُضَافا، وَلَا يلْتَفت لقَوْله: " لَا زلت رحمانا "؛ لشذوذه. وَمن غَرِيب مَا نقل فِيهِ أَنه مُعرب؛ لَيْسَ بعربي الأَصْل، وَأَنه بِالْخَاءِ الْمُعْجَمَة، قَالَه ثَعْلَب، والمبرد، وَأنْشد قَول الْقَائِل: [الْبَسِيط] (36 - لن تتركوا الْمجد أَو تشروا عباءتكم ... بالخز أَو تجْعَلُوا الينبوت ضمرانا) (أَو تتركون إِلَى القسين هجرتكم ... ومسحكم صلبهم رخمان قربانا) قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله تَعَالَى -: إِنَّمَا جَازَ حذف الْألف قبل النُّون من لَفْظَة " الرَّحْمَن " فِي الْخط على سَبِيل التَّخْفِيف، وَلَو كتب بِالْألف حسن، وَلَا يجوز حذف الْيَاء من " الرَّحِيم "؛ لِأَن حذف الْألف من " الرَّحْمَن " لَا يخل بِالْكَلِمَةِ، وَلَا يحصل فِي الْكَلِمَة التباس، [بِخِلَاف حذف الْيَاء] من " الرَّحِيم ". قَالَ ابْن الْخَطِيب: أَجمعُوا على أَن إِعْرَاب " الرَّحْمَن الرَّحِيم " هُوَ الْجَرّ؛ لِكَوْنِهِمَا صفتين للمجرور، إِلَّا أَن الرّفْع وَالنّصب جائزان فيهمَا بِحَسب الْحَال، أما الرّفْع فعلى تَقْدِير: " بِسم الله هُوَ الرَّحْمَن ". وَأما النصب فعلى تَقْدِير: " بِسم الله أَعنِي الرَّحْمَن الرَّحِيم ". وَفِي وصل " الرَّحِيم " ب " الْحَمد " ثَلَاثَة أوجه: الَّذِي عَلَيْهِ الْجُمْهُور: " الرَّحِيم " - بِكَسْر الْمِيم - مَوْصُوفَة ب " الْحَمد " وَفِي هَذِه الكسرة احْتِمَالَانِ: أَحدهمَا: وَهُوَ الْأَصَح: أَنَّهَا حَرَكَة إِعْرَاب. وَقيل: يحْتَمل أَن الْمِيم سكنت على نِيَّة الْوَقْف، فَلَمَّا وَقع بعْدهَا سَاكن حركت بِالْكَسْرِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وَالثَّانِي: من وَجْهي الْوَصْل: سُكُون الْمِيم وَالْوَقْف عَلَيْهَا، والابتداء بِقطع الْألف " ألحمد " رَوَت ذَلِك أم سَلمَة - رَضِي الله عَنْهَا وَعَلِيهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام -. الثَّالِث: حكى الْكسَائي عَن بعض الْعَرَب أَنَّهَا تقْرَأ " الرَّحِيم الْحَمد " بِفَتْح الْمِيم، وَوصل ألف الْحَمد كَأَنَّهَا سكنت الْمِيم، وَقطعت الْألف، ثمَّ أجرت الْوَقْف مجْرى الْوَصْل، فَأَلْقَت حَرَكَة همزَة الْوَصْل على الْمِيم الساكنة. قَالَ ابْن عَطِيَّة - رَحمَه الله تَعَالَى -: " وَلم ترو هَذِه قِرَاءَة عَن أحد فِيمَا علمت ". وَلِهَذَا نَظِير يَأْتِي تَحْقِيقه - إِن شَاءَ الله تَعَالَى - فِي: {الم الله} [آل عمرَان: 1، 2] . وَيحْتَمل هَذَا وَجها آخر، وَهُوَ: أَن تكون الْحَرَكَة للنصب بِفعل مَحْذُوف على الْقطع، وَهُوَ أولى من هَذَا التَّكَلُّف، كالقراءة المروية عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل وعظّم وفخّم. فصل فِي بَيَان هَل الْبَسْمَلَة آيَة من كل سُورَة أم لَا اخْتلف الْعلمَاء فِي الْبَسْمَلَة هَل هِيَ آيَة من كل سُورَة أم لَا؟ على ثَلَاثَة أَقْوَال: أَحدهَا: أَنَّهَا لَيست بِآيَة من " الْفَاتِحَة "، وَلَا من غَيرهَا، وَهُوَ قَول مَالك - رَحمَه الله - لِأَن الْقُرْآن لَا يثبت بأخبار الْآحَاد، وَإِنَّمَا طَرِيقه التَّوَاتُر. قَالَ ابْن الْعَرَبِيّ: " وَيَكْفِيك أَنَّهَا لَيست من الْقُرْآن الْكَرِيم اخْتِلَاف النَّاس فِيهَا، وَالْقُرْآن لَا يخْتَلف فِيهِ ". وَالْأَخْبَار الصَّحِيحَة [دَالَّة] على أَن الْبَسْمَلَة لَيست بِآيَة من " الْفَاتِحَة "، وَلَا من غَيرهَا، إِلَّا فِي " النَّمْل " وَاسْتدلَّ بِمَا روى [مُسلم رَحمَه الله] عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم ومجّد وبجّل وعظّم أَنه قَالَ: " يَقُول الله تبَارك وَتَعَالَى قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ ... . ". الحَدِيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 الثَّانِي: أَنَّهَا آيَة من كل سُورَة، وَهُوَ قَول عبد الله بن الْمُبَارك. الثَّالِث: قَالَ الشَّافِعِي - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ -: هِيَ آيَة فِي الْفَاتِحَة، وَتردد قَوْله فِي غَيرهَا، فَمرَّة قَالَ: هِيَ آيَة من كل سُورَة، وَمرَّة قَالَ: لَيست بِآيَة إِلَّا من " الْفَاتِحَة " وَحدهَا. وَلَا خلاف بَينهم فِي أَنَّهَا آيَة من الْقُرْآن فِي سُورَة " النَّمْل ". وَاحْتج الشَّافِعِي: بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ عَن النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم - أَنه رب الْعَالمين، فاقرءوا " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، إِنَّهَا أم الْقُرْآن، وَأم الْكتاب، والسبع المثاني، وبسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم إِحْدَى آياتها ". وَحجَّة ابْن الْمُبَارك مَا رَوَاهُ مُسلم أَن رَسُول الله - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم - قَالَ: " أنزلت عليّ آنِفا سُورَة " فَقَرَأَ: " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ": {إِنَّا أعطيناك الْكَوْثَر} [الْكَوْثَر: 1] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وَسَيَأْتِي بَقِيَّة الْكَلَام على الْبَسْمَلَة فِي آخر الْكَلَام على الْفَاتِحَة إِن شَاءَ الله تَعَالَى. فصل فِي بَيَان أَن أَسمَاء الله توقيفية أم اصطلاحية اخْتلف الْعلمَاء - رَحِمهم الله تَعَالَى - فِي أَن أَسمَاء الله - تَعَالَى -: توقيفية أم اصطلاحية؟ قَالَ بَعضهم: لَا يجوز إِطْلَاق شَيْء من الْأَسْمَاء وَالصِّفَات على الله - تَعَالَى - إِلَّا إِذا كَانَ واردا فِي الْقُرْآن وَالْأَحَادِيث الصَّحِيحَة. وَقَالَ آخَرُونَ: كل لفظ على معنى يَلِيق بِجلَال الله وَصِفَاته، فَهُوَ جَائِز؛ وَإِلَّا فَلَا. وَقَالَ الْغَزالِيّ رَحمَه الله تَعَالَى: " الِاسْم غير، وَالصّفة غير، فاسمي مُحَمَّد، واسمك أَبُو بكر، فَهَذَا من بَاب الْأَسْمَاء، وَأما الصِّفَات، فَمثل وصف هَذَا الْإِنْسَان بِكَوْنِهِ طَويلا فَقِيها، وَكَذَا، وَكَذَا، إِذا عرفت هَذَا الْفرق فَيُقَال: إِمَّا إِطْلَاق الِاسْم على الله، فَلَا يجوز إِلَّا عِنْد وُرُوده فِي الْقُرْآن وَالْخَبَر، أما الصِّفَات فَإِنَّهُ لَا تتَوَقَّف على التَّوْقِيف ". وَاحْتج الْأَولونَ بِأَن قَالُوا: إِن الْعَالم لَهُ أَسمَاء كَثِيرَة، ثمَّ إِنَّا نصف الله بِكَوْنِهِ عَالما، وَلَا نصفه بِكَوْنِهِ طَبِيبا وَلَا فَقِيها، وَلَا نصفه بِكَوْنِهِ متيقنا، وَلَا بِكَوْنِهِ متبينا، وَذَلِكَ يدل على أَنه لَا بُد من التَّوْقِيف. وَأجِيب عَنهُ فَقيل: أما الطَّبِيب فقد ورد؛ نقل أَن أَبَا بكر - رَضِي الله عَنهُ - لما مرض قيل لَهُ: نحضر الطَّبِيب؟ فَقَالَ: الطَّبِيب أَمْرَضَنِي. وَأما الْفَقِيه فَهُوَ أَن الْفِقْه: عبارَة عَن فهم غَرَض الْمُتَكَلّم من كَلَامه بعد دُخُول الشُّبْهَة فِيهِ. وَهَذَا مُمْتَنع الثُّبُوت فِي حق الله تَعَالَى. وَأما الْمُتَيَقن: هُوَ الْعَلِيم الَّذِي حصل بِسَبَب تعاقب الأمارات الْكَثِيرَة، وترادفها، حَتَّى بلغ الْمَجْمُوع إِلَى إِفَادَة الْجَزْم، وَذَلِكَ فِي حق الله - تَعَالَى - محَال. [وَأما التَّبْيِين: فَهُوَ عبارَة عَن الظُّهُور بعد الخفاء] . وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِن التَّبْيِين عبارَة عَن الظُّهُور بعد الخفاء، وَذَلِكَ لِأَن التَّبْيِين مُشْتَقّ من الْبَيْنُونَة وَهِي: عبارَة عَن التَّفْرِيق بَين أَمريْن متصلين، فَإِذا حصل فِي الْقلب اشْتِبَاه صُورَة بِصُورَة، ثمَّ انفصلت إِحْدَاهمَا عَن الْأُخْرَى، فقد حصلت الْبَيْنُونَة، فَلهَذَا السَّبَب سمي ذَلِك بَيَانا وتبيينا، وَمَعْلُوم أَن ذَلِك فِي حق الله - تَعَالَى - محَال. وَاحْتج الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ: لَا حَاجَة إِلَى التَّوْقِيف بِوُجُوه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الأول: أَن أَسمَاء الله - تَعَالَى - وَصِفَاته مَذْكُورَة بِالْفَارِسِيَّةِ، وبالتركية، وبالهندية، وَإِن شَيْئا مِنْهَا لم يرد فِي الْقُرْآن الْكَرِيم، وَلَا فِي الْأَخْبَار، مَعَ أَن الْمُسلمين أَجمعُوا على جَوَاز إِطْلَاقهَا. الثَّانِي: أَن الله - تبَارك وَتَعَالَى - قَالَ: {وَللَّه الْأَسْمَاء الْحسنى فَادعوهُ بهَا} [الْأَعْرَاف: 180] ، وَالِاسْم لَا يحسن إِلَّا لدلالته على صِفَات الْمَدْح، ونعوت الْجلَال، وكل اسْم دلّ على هَذِه الْمعَانِي كَانَ اسْما حسنا، فَوَجَبَ جَوَاز إِطْلَاقه فِي حق الله - تَعَالَى - تمسكا بِهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة. الثَّالِث: أَنه لَا فَائِدَة فِي الْأَلْفَاظ إِلَّا رِعَايَة الْمعَانِي، فَإِذا كَانَت الْمعَانِي صَحِيحَة كَانَ الْمَنْع من اللَّفْظ الْمُفِيد [إِطْلَاق اللَّفْظَة الْمعينَة] عَبَثا. وَأما الَّذِي قَالَه الْغَزالِيّ - رَحمَه الله تَعَالَى - فحجته: أَن وضع الِاسْم فِي حق الْوَاحِد منا يعد سوء أدب؛ فَفِي حق الله - تَعَالَى - أولى. أما ذكر الصِّفَات بالألفاظ الْمُخْتَلفَة، فَهُوَ جَائِز فِي حَقنا من غير منع، فَكَذَلِك فِي حق الْبَارِي تَعَالَى. فصل فِي بَيَان صِفَات لَا تثبت فِي حق الله اعْلَم أَنه قد ورد فِي الْقُرْآن أَلْفَاظ دَالَّة على صِفَات لَا يُمكن إِثْبَاتهَا فِي حق الله تَعَالَى، وَنحن نعد مِنْهَا صورا: فإحداها: الِاسْتِهْزَاء؛ قَالَ تبَارك وَتَعَالَى: {الله يستهزئ بكم} [الْبَقَرَة: 15] ثمَّ إِن الِاسْتِهْزَاء جهل؛ لقَوْل مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - حِين قَالُوا: {أتتخذنا هزوا قَالَ أعوذ بِاللَّه أَن أكون من الْجَاهِلين} [الْبَقَرَة: 67] . وَثَانِيها: الْمَكْر قَالَ الله تَعَالَى: {ومكروا ومكر الله} [آل عمرَان: 54] . وَثَالِثهَا: الْغَضَب؛ قَالَ الله تَعَالَى: {غضب الله عَلَيْهِم} [المجادلة: 14] . وَرَابِعهَا: التَّعَجُّب؛ قَالَ الله تَعَالَى: {بل عجبت ويسخرون} [الصافات: 12] . فَمن قَرَأَ: " عجبت " بِضَم التَّاء كَانَ التَّعَجُّب مَنْسُوبا إِلَى الله - تَعَالَى - والتعجب: عبارَة عَن حَالَة تعرض فِي الْقلب عِنْد الْجَهْل بِسَبَب الشَّيْء المتعجب مِنْهُ. وخامسها: التكبر؛ قَالَ الله تَعَالَى: {الْعَزِيز الْجَبَّار المتكبر} [الْحَشْر: 23] . وَهُوَ صفة ذمّ. وسادسها: الْحيَاء؛ قَالَ الله تَعَالَى: {إِن الله لَا يستحي أَن يضْرب مثلا} [الْبَقَرَة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 26 - ] وَالْحيَاء: عبارَة عَن تَغْيِير يحصل فِي الْقلب وَالْوَجْه عِنْد فعل شَيْء قَبِيح. وَاعْلَم أَن القانون الصَّحِيح فِي هَذِه الْأَلْفَاظ أَن نقُول: لكل وَاحِد من هَذِه الْأَحْوَال أُمُور تُوجد مَعهَا فِي الْبِدَايَة، وآثار تصدر عَنْهَا فِي النِّهَايَة -[أَيْضا]- . مِثَاله: أَن الْغَضَب: حَالَة تحصل فِي الْقلب عِنْد غليان دم الْقلب وسخونة المزاج، والأثر الْحَاصِل مِنْهَا فِي النِّهَايَة إِيصَال الضَّرَر إِلَى المغضوب عَلَيْهِ، فَإِذا سَمِعت الْغَضَب فِي حق الله - تَعَالَى -، فاحمله على نهايات الْأَعْرَاض، [لَا على بدايات الْأَعْرَاض] ، وَقس الْبَاقِي عَلَيْهِ. فصل فِي عدد أَسمَاء الله قَالَ ابْن الْخَطِيب - رَحمَه الله -: " رَأَيْت فِي بعض كتب الذّكر أَن لله - تَعَالَى - أَرْبَعَة آلَاف اسْم: ألف مِنْهَا فِي الْقُرْآن، وَالْأَخْبَار الصَّحِيحَة، وَألف فِي التَّوْرَاة، وَألف فِي الْإِنْجِيل، وَألف فِي الزبُور، وَيُقَال: ألف آخر فِي اللَّوْح الْمَحْفُوظ، وَلم يصل ذَلِك الْألف إِلَى عَالم الْبشر ". فصل فِي فضل الْبَسْمَلَة رُوِيَ أَن نوحًا - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - لما ركب السَّفِينَة قَالَ: {بِسم الله مجْراهَا وَمرْسَاهَا} [هود: 41] وجد النجَاة بِنصْف هَذِه الْكَلِمَة، فَمن واظب على هَذِه الْكَلِمَة طول عمره كَيفَ يبْقى محروما من النجَاة؟ وَأَيْضًا أَن سُلَيْمَان - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - ملكه الله - تَعَالَى - الدُّنْيَا وَالْآخِرَة بقوله تَعَالَى: {إِنَّه من سُلَيْمَان وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} [النَّمْل: 30] فالمرجو أَن العَبْد إِذا قَالَه، فَإِنَّهُ يملك الدُّنْيَا وَالْآخِرَة. فَإِن قيل: لم قدم سُلَيْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - اسْم نَفسه على اسْم الله - تَعَالَى - فِي قَوْله: {إِنَّه من سُلَيْمَان وَإنَّهُ} [فَالْجَوَاب من وُجُوه: الأول: أَن " بلقيس " لما وجدت ذَلِك الْكتاب مَوْضُوعا على وسادتها، وَلم يكن لأحد عَلَيْهَا طَرِيق، وَرَأَتْ الهدهد وَاقِفًا على طرف الْجِدَار، علمت أَن ذَلِك الْكتاب من سُلَيْمَان، فَأخذت الْكتاب، وَقَالَت: {إِنَّه من سُلَيْمَان} ، فَلَمَّا فتحت الْكتاب رَأَتْ " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " [قَالَت: {وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} ] . فَقَوله: {إِنَّه من سُلَيْمَان} من كَلَام " بلقيس "، لَا من كَلَام " سُلَيْمَان ". الحديث: 26 ¦ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الثَّانِي: لَعَلَّ سُلَيْمَان كتب على عنوان الْكتاب: {إِنَّه من سُلَيْمَان} ، وَفِي دَاخل الْكتاب ابْتَدَأَ بقوله: {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} كَمَا هُوَ الْعَادة فِي جَمِيع الْكتب، فَلَمَّا أخذت بلقيس ذَلِك الكاب، وقرأت مَا فِي عنوانه، قَالَت: {إِنَّه من سُلَيْمَان} [فَلَمَّا] فتحت الْكتاب، قَرَأت: {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} ، فَقَالَت: {وَإنَّهُ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم} . الثَّالِث: أَن بلقيس كَانَت كَافِرَة، فخاف سُلَيْمَان - عَلَيْهِ السَّلَام - أَن " بِسم الله " إِذا نظرته فِي الْكتاب شتمته، فَقدم اسْم نَفسه على اسْم الله تَعَالَى؛ ليَكُون الشتم لَهُ، لَا لله تَعَالَى. فصل الْبَاء من " بِسم الله " مُشْتَقّ من الْبر، فَهُوَ الْبَار على الْمُؤمنِينَ بأنواع الكرامات فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَأجل بره وكرامته أَن يكرمهم يَوْم الْقِيَامَة بِرُؤْيَتِهِ. مرض لبَعْضهِم جَار يَهُودِيّ قَالَ: فَدخلت [عَلَيْهِ] للعيادة وَقلت [لَهُ] أسلم، فَقَالَ: على مَاذَا؟ قلت: من خوف النَّار، قَالَ: لَا أُبَالِي بهَا، فَقلت: للفوز بِالْجنَّةِ، فَقَالَ: لَا أريدها، قلت: فَمَاذَا تُرِيدُ؟ قَالَ: على أَن يرني وَجهه الْكَرِيم، فَقلت: أسلم على أَن تَجِد هَذَا الْمَطْلُوب، فَقَالَ لي: اكْتُبْ بِهَذَا خطا، فَكتبت لَهُ بذلك خطا، فَأسلم وَمَات من سَاعَته فصلينا عَلَيْهِ ودفناه، فرأيته فِي النّوم فَقلت لَهُ: يَا شَمْعُون، [مَا فعل بك رَبك] قَالَ: غفر لي، وَقَالَ لي: أسلمت شوقا إليّ. وَأما السِّين فَهُوَ مُشْتَقّ من اسْمه السَّمِيع، يسمع دُعَاء الْخلق من الْعَرْش إِلَى مَا تَحت الثرى. رُوِيَ أَن زيد بن حَارِثَة - رَضِي الله عَنهُ - خرج مَعَ مُنَافِق من " مَكَّة " إِلَى " الطَّائِف "، فبلغا خربة، فَقَالَ الْمُنَافِق: ندخل هَا هُنَا ونستريح، فدخلا ونام زيد، فأوثق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الْمُنَافِق زيدا، وَأَرَادَ قَتله، فَقَالَ زيد: لم تقتلني؟ قَالَ: لِأَن مُحَمَّدًا يحبك، وَأَنا أبغضه، فَقَالَ زيد: يَا رَحْمَن أَغِثْنِي، فَسمع الْمُنَافِق صَوتا يَقُول: وَيحك لَا تقتله، فَخرج من الخربة، وَنظر فَلم ير أحدا، وَأَرَادَ قَتله فَسمع هاتفا أقرب من الأول يَقُول: لَا تقتله، فَخرج فَلم ير شَيْئا، فَرجع ليَقْتُلهُ، فَسمع صائحا أقرب من الأول [يَقُول] : لَا تقتله، فَخرج فَرَأى فَارِسًا مَعَه رمح، فَضَربهُ الْفَارِس ضَرْبَة فَقتله، وَدخل الخربة، فَحل وثاق زيد - رَضِي الله عَنهُ - وَقَالَ لَهُ: أما تعرفنِي؟ فَقَالَ: لَا؛ فَقَالَ: أَنا جِبْرِيل حِين دَعَوْت كنت فِي السَّمَاء السَّابِعَة فَقَالَ الله تَعَالَى: أدْرك عَبدِي، وَفِي الثَّانِيَة كنت فِي السَّمَاء الدُّنْيَا، وَفِي الثَّالِثَة بلغت إِلَى الْمُنَافِق. وَأما الْمِيم فَمَعْنَاه: أَن من الْعَرْش إِلَى مَا تَحت الثرى مَلكه ومُلكه. قَالَ السّديّ رَحمَه الله تَعَالَى: أصَاب النَّاس قحط على عهد سُلَيْمَان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام، فَأتوهُ فَقَالُوا لَهُ: يَا نَبِي الله، لَو خرجت بِالنَّاسِ إِلَى الاسْتِسْقَاء، فَخَرجُوا فَإِذا سُلَيْمَان - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - بنملة قَائِمَة على رِجْلَيْهَا باسطة يَديهَا، وَهِي تَقول: اللَّهُمَّ، إِنَّا خلق من خلقك، وَلَا غنى [لنا] عَن فضلك، قَالَ: فصب الله - تَعَالَى - عَلَيْهِم الْمَطَر، فَقَالَ: قد اسْتُجِيبَ لكم بِدُعَاء غَيْركُمْ. قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " من رفع قرطاسا من الأَرْض فِيهِ " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " إجلالا لله - تَعَالَى - كتب عِنْد الله من الصديقين وخفف عَن وَالِديهِ، وَلَو كَانَا مُشْرِكين ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 وَعَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله عَنهُ - أَنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - قَالَ: " يَا أَبَا هُرَيْرَة إِذا تَوَضَّأت فَقل: بِسم الله وَالْحَمْد لله، فَإِن حفظتك لَا تستريح تكْتب لَك الْحَسَنَات حَتَّى تفرغ، وَإِذا غشيت أهلك، فَقل: بِسم الله، فَإِن حفظتك يَكْتُبُونَ لَك الْحَسَنَات حَتَّى تَغْتَسِل من الْجَنَابَة، فَإِن حصل من تِلْكَ الْوَاقِعَة ولد، كتب لَك من الْحَسَنَات نفس ذَلِك الْوَلَد، وَبِعَدَد أنفاس أعقابه إِن كَانَ لَهُ عقب حَتَّى لَا يبْقى مِنْهُم أحد، يَا أَبَا هُرَيْرَة إِذا ركبت دَابَّة، فَقل: بِسم الله، وَالْحَمْد لله يكْتب لَك من الْحَسَنَات بِعَدَد كل خطْوَة، فَإِذا ركبت السَّفِينَة فَقل بِسم الله وَالْحَمْد لله يكْتب لَك من الْحَسَنَات حَتَّى تخرج مِنْهَا ". وَعَن أنس - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ - أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم قَالَ: " ستر مَا بَين أعين الْجِنّ وعورات بني آدم، إِذا نزعوا ثِيَابهمْ أَن يَقُولُوا: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم ". كتب قَيْصر إِلَى عمر - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ - أَن بِي صداعا لَا يسكن، فَابْعَثْ لي دَوَاء، فَبعث إِلَيْهِ عمر قلنسوة، فَكَانَ إِذا وَضعهَا على رَأسه سكن صداعه، وَإِذا رَفعهَا عَن رَأسه عَاد الصداع، فتعجب مِنْهُ ففتش القلنسوة، فَإِذا فِيهَا مَكْتُوب " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " [قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " من تَوَضَّأ وَلم يذكر اسْم الله تَعَالَى كَانَ طهُورا لتِلْك الْأَعْضَاء، وَمن تَوَضَّأ وَذكر اسْم الله تَعَالَى كَانَ طهُورا لجَمِيع بدنه "] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وَطلب بَعضهم آيَة من خَالِد بن الْوَلِيد فَقَالَ: إِنَّك تَدعِي الْإِسْلَام، فأرنا آيَة لنسلم؛ فَقَالَ: جيئوني بالسم الْقَاتِل، فَأتي بطاس من السم، فَأَخذهَا بِيَدِهِ وَقَالَ: بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، وَأكل الْكل، وَقَامَ سالما بِإِذن الله - تَعَالَى - فَقَالَ الْمَجُوسِيّ: هَذَا دين حق. مر عِيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - على قبر، فَرَأى مَلَائِكَة الْعَذَاب يُعَذبُونَ مَيتا، فَلَمَّا انْصَرف من حَاجته مرّ على الْقَبْر، فَرَأى مَلَائِكَة الرَّحْمَة مَعَهم أطباق من نور، فتعجب من ذَلِك، فصلى ودعا الله، فَأوحى الله - تَعَالَى - إِلَيْهِ: يَا عِيسَى، كَانَ [هَذَا] العَبْد عَاصِيا، ومذ مَاتَ كَانَ مَحْبُوسًا فِي عَذَابي، وَكَانَ قد ترك امْرَأَة حُبْلَى فَولدت ولدا، وربته حَتَّى كبر، فسلمته إِلَى الكتّاب، فلقنه الْمعلم " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم "، فَاسْتَحْيَيْت من عَبدِي أَن أعذبه بناري فِي بطن الأَرْض، وَولده يذكر اسْمِي على [وَجه] الأَرْض. وأسرار " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم " أَكثر من أَن تحصى وَهَذَا الْقدر كَاف وَالله أعلم. [سُورَة فَاتِحَة الْكتاب] وَهِي مَكِّيَّة فِي قَول الْأَكْثَرين، وَهِي سبع آيَات، وتسع وَعِشْرُونَ كلمة، وَمِائَة وَاثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ حرفا. عَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم -: " الْحَمد لله رب الْعَالمين، سبع آيَات، إِحْدَاهُنَّ بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم، وَهِي السَّبع المثاني، وَهِي أم الْقُرْآن، وَهِي فَاتِحَة الْكتاب ". قَالَ عَليّ بن أبي طَالب - كرم الله وَجهه -: " نزلت فَاتِحَة الْكتاب ب " مَكَّة " من [كنز] تَحت الْعَرْش ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وَقَالَ مُجَاهِد - رَضِي الله عَنهُ - " فَاتِحَة الْكتاب أنزلت بِالْمَدِينَةِ ". قَالَ الْحُسَيْن بن الْفضل: لكل عَالم هفوة " وَهَذِه نادرة من مُجَاهِد؛ لِأَنَّهُ تفرد بهَا، وَالْعُلَمَاء على خِلَافه. وَقد صَحَّ عَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم أَنَّهَا أول مَا نزل من الْقُرْآن وَأَنَّهَا السَّبع المثاني، [وَسورَة الْحجر مَكِّيَّة] بِلَا خلاف، وَلَا يُمكن القَوْل بِأَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ ب " مَكَّة " بضع عشرَة سنة بِلَا فَاتِحَة الْكتاب. قَالَ بَعضهم: وَيُمكن الْجمع بَين الْقَوْلَيْنِ بِأَنَّهَا نزلت مرَّتَيْنِ: مرّة ب " مَكَّة "، وَمرَّة ب " الْمَدِينَة ". وَلها أَسمَاء كَثِيرَة، وَكَثْرَة الْأَسْمَاء تدل على شرف الْمُسَمّى: فَالْأول: " فَاتِحَة الْكتاب " سميت بذلك؛ لِأَنَّهُ يفْتَتح بهَا فِي الْمَصَاحِف والتعليم، وَالْقِرَاءَة فِي الصَّلَاة. وَقيل: لِأَنَّهَا أول سُورَة نزلت من السَّمَاء. الثَّانِي: سُورَة الْحَمد؛ لِأَن أَولهَا لفظ الْحَمد. الثَّالِث: " أم الْقُرْآن " قيل: لِأَن أم الشَّيْء أَصله، وَيُقَال لمَكَّة: أم الْقرى: لِأَنَّهَا أصل الْبِلَاد، دحيت الأَرْض من تحتهَا. وَقَالَ الثَّعْلَبِيّ: سَمِعت أَبَا الْقَاسِم بن حبيب قَالَ: سَمِعت أَبَا بكر الْقفال قَالَ: سَمِعت أَبَا بكر بن دُرَيْد يَقُول: " الْأُم فِي كَلَام الْعَرَب الرَّايَة الَّتِي ينصبها الْعَسْكَر ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 قَالَ قيس بن الخطيم: [الوافر] (37 - نصبنا أمنا حَتَّى ازعرروا ... وصاروا بعد ألفتهم شلالا) فسميت هَذِه السُّورَة بِأم الْقُرْآن؛ لِأَن مفزع أهل الْإِيمَان إِلَى هَذِه السُّورَة، كَمَا أَن مفزع الْعَسْكَر إِلَى الرَّايَة. وَالْعرب تسمي الأَرْض أما، لِأَن معاد الْخلق إِلَيْهَا فِي حياتهم ومماتهم، وَلِأَنَّهُ يُقَال: أم فلَان فلَانا إِذا قَصده. وَالرَّابِع: السَّبع المثاني، سميت بذلك؛ قيل: لِأَنَّهَا مثنى نصفهَا ثَنَاء العَبْد للرب، وَنِصْفهَا عَطاء الرب للْعَبد. وَقيل: لِأَنَّهَا تثنى فِي الصَّلَاة، فتقرأ فِي كل رَكْعَة. وَقيل: لِأَنَّهَا مُسْتَثْنَاة من سَائِر الْكتب، قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا أنزلت فِي التَّوْرَاة، وَلَا فِي الْإِنْجِيل، وَلَا فِي الزبُور، وَلَا فِي الْفرْقَان مثل هَذِه السُّورَة، فَإِنَّهَا السَّبع المثاني، وَالْقُرْآن الْعَظِيم ". وَقيل: لِأَنَّهَا سبع آيَات، كل آيَة تعدل قرَاءَتهَا بِسبع من الْقُرْآن، فَمن قَرَأَ الْفَاتِحَة أعطَاهُ الله - تَعَالَى - ثَوَاب من قَرَأَ كلّ الْقُرْآن. وَقيل: لِأَنَّهَا نزلت مرَّتَيْنِ: مرّة ب " مَكَّة " وَمرَّة ب " الْمَدِينَة ". وَقيل: لِأَن آياتها سبع، وأبواب النيرَان سَبْعَة، فَمن قَرَأَهَا غلقت عَنهُ [أَبْوَاب النيرَان السَّبْعَة] . وَالدَّلِيل عَلَيْهِ مَا رُوِيَ أَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - قَالَ للنَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم -: " يَا مُحَمَّد، كنت أخْشَى الْعَذَاب على أمتك، فَلَمَّا نزلت الْفَاتِحَة أمنت، قَالَ: لم يَا جِبْرِيل؟ قَالَ: لِأَن الله - تَعَالَى - قَالَ: {وَإِن جَهَنَّم لموعدهم أَجْمَعِينَ لَهَا سَبْعَة أَبْوَاب لكل بَاب مِنْهُم جُزْء مقسوم} [الْحجر: 43، 44] ، وآياتها سبع، فَمن قَرَأَهَا صَارَت كل آيَة طبقًا على كل بَاب من أَبْوَاب جَهَنَّم، فتمر أمتك عَلَيْهَا سَالِمين ". وَقيل: لِأَنَّهَا إِذا قُرِئت فِي الصَّلَاة تثنى بِسُورَة أُخْرَى. وَقيل: سميت مثاني؛ لِأَنَّهَا أثنية على الله تَعَالَى ومدائح لَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الْخَامِس: " الوافية " كَانَ سُفْيَان بن عُيَيْنَة - رَضِي الله عَنهُ - يسميها بِهَذَا الِاسْم. وَقَالَ الثلعبي: وتفسيرها أَنَّهَا لَا تقبل التنصيف، أَلا ترى أَن كل سُورَة من الْقُرْآن لَو قرئَ نصفهَا فِي رَكْعَة، وَالنّصف الثَّانِي فِي رَكْعَة أُخْرَى لجَاز؟ وَهَذَا التنصيف غير جَائِز فِي هَذِه السُّورَة. السَّادِس: " الوافية " سميت بذلك؛ قيل: لِأَن الْمَقْصُود من كل الْقُرْآن الْكَرِيم تَقْدِير أُمُور أَرْبَعَة: الإلهيات، والمعاد، والنبوات، وَإِثْبَات الْقَضَاء وَالْقدر لله - تَعَالَى - فَقَوله: {الْحَمد لله رب الْعَالمين الرَّحْمَن الرَّحِيم} [الْفَاتِحَة: 2 - 3] يدل على الإلهيات. وَقَوله: {مَالك يَوْم الدّين} [الْفَاتِحَة: 4] يدل على الْمعَاد. وَقَوله: {إياك نعْبد وَإِيَّاك نستعين} [الْفَاتِحَة: 5] يدل على نفي الْجَبْر، وَالْقُدْرَة على إِثْبَات أَن الْكل بِقَضَاء الله وَقدره. وَقَوله تَعَالَى {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} [الْفَاتِحَة: 6] إِلَى آخرهَا يدل - أَيْضا - على إِثْبَات قَضَاء الله - تَعَالَى - وَقدره. وعَلى النبوات كَمَا سَيَأْتِي إِن شَاءَ الله تَعَالَى. السَّابِع: " الكافية " لِأَنَّهَا تَكْفِي عَن غَيرهَا، وَغَيرهَا لَا يَكْفِي عَنْهَا، روى مَحْمُود بن الرّبيع، عَن عبَادَة بن الصَّامِت - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم: " أم الْقُرْآن عوض عَن غَيرهَا، وَلَيْسَ غَيرهَا عوضا عَنْهَا ". الثَّامِن: " الأساس " قيل: لِأَنَّهَا أول سُورَة من الْقُرْآن، فَهِيَ كالأساس. وَقيل: إِن أشرف الْعِبَادَات بعد الْإِيمَان هِيَ الصَّلَاة، وَهَذِه السُّورَة مُشْتَمِلَة على كل مَا لَا بُد مِنْهُ فِي الْإِيمَان، وَالصَّلَاة لَا تتمّ إِلَّا بهَا. التَّاسِع: " الشِّفَاء " عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم: " فَاتِحَة الْكتاب شِفَاء من كل سم ". وَمر بعض الصَّحَابَة - رَضِي الله عَنْهُم - بِرَجُل مصروع فَقَرَأَ هَذِه السُّورَة فِي أُذُنه، فبرئ، فذكروه لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ: " هِيَ أم الْقُرْآن، وَهِي شِفَاء من كل دَاء ". الْعَاشِر: " الصَّلَاة " قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: يَقُول الله تَعَالَى: " قسمت الصَّلَاة بيني وَبَين عَبدِي نِصْفَيْنِ "، وَالْمرَاد هَذِه السُّورَة. وَقيل: لَهَا أَسمَاء غير ذَلِك. وَقيل: اسْمهَا " السُّؤَال ". وَقيل - أَيْضا -: أسمها " الشُّكْر ". وَقيل: اسْمهَا - أَيْضا - " الدُّعَاء ". وَقيل: " الرّقية " لحَدِيث الملدوغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 فصل فِي فضائلها عَن أبي سعيد الْخُدْرِيّ - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ - عَن النَّبِي - صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم - أَنه قَالَ: " فَاتِحَة الْكتاب شِفَاء من السم ". وَعَن حُذَيْفَة بن الْيَمَان - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: قَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم -: " إِن الْقَوْم ليَبْعَث الله عَلَيْهِم الْعَذَاب حتما فَيقْرَأ صبي من صبيانهم فِي الْمكتب: {الْحَمد لله رب الْعَالمين} [الْفَاتِحَة: 2] فيسمعه الله - تَعَالَى - فيرفع عَنْهُم بِسَبَبِهِ الْعَذَاب أَربع سِنِين ". وَعَن الْحسن - رَضِي الله عَنهُ - قَالَ: " أنزل الله - تَعَالَى - مائَة وَأَرْبَعَة كتب: التَّوْرَاة، وَالْإِنْجِيل، وَالزَّبُور، وَالْفرْقَان، ثمَّ أودع عُلُوم هَذِه الْأَرْبَعَة فِي الْقُرْآن، ثمَّ أودع عُلُوم الْقُرْآن فِي الْمفصل، ثمَّ أودع عُلُوم الْمفصل فِي الْفَاتِحَة، فَمن علم تَفْسِير الْفَاتِحَة، كَانَ كمن علم تَفْسِير جَمِيع كتب الله الْمنزلَة، وَمن قَرَأَهَا، فَكَأَنَّمَا قَرَأَ التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل، وَالزَّبُور، وَالْفرْقَان ". وَعَن أبي هُرَيْرَة - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ - قَالَ: مر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم - على أبيّ بن كَعْب - رَضِي الله عَنهُ - وَهُوَ قَائِم يُصَلِّي فصاح بِهِ فَقَالَ لَهُ: تَعَالَى يَا أبيّ، فعجّل أبيّ فِي صلَاته، ثمَّ جَاءَ لرَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم فَقَالَ: " مَا مَنعك يَا أبيّ أَن تُجِيبنِي، إِذْ دعوتك؟ أَلَيْسَ [الله تَعَالَى يَقُول] : {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا اسْتجِيبُوا لله وَلِلرَّسُولِ إِذا دعَاكُمْ} [الْأَنْفَال: 24] قَالَ أبيّ - رَضِي الله عَنهُ - لَا جرم يَا رَسُول الله لَا تَدعُونِي إِلَّا أَجَبْتُك، وَإِن كنت مُصَليا، فَقَالَ: " أَتُحِبُّ أَن أعلمك سُورَة لم تنزل فِي التَّوْرَاة، وَفِي الْإِنْجِيل، وَفِي الزبُور، وَلَا فِي الْفرْقَان مثلهَا "؟ فَقَالَ أبيّ - رَضِي الله عَنهُ -: نعم يَا رَسُول الله، قَالَ: " لَا تخرج من بَاب الْمَسْجِد حَتَّى تتعلمها - وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم يمشي يُرِيد أَن يخرج من الْمَسْجِد، فَلَمَّا بلغ الْبَاب ليخرج، قَالَ أبيّ: السُّورَة يَا رَسُول الله، فَوقف فَقَالَ: " نعم كَيفَ تقْرَأ فِي صَلَاتك "؟ فَقَالَ أبيّ: [إِنِّي أَقرَأ] أم الْقُرْآن، فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم: " وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ مَا أنزل فِي التَّوْرَاة، وَلَا فِي الْإِنْجِيل، وَلَا فِي الزبُور، لَا فِي الْقُرْآن مثلهَا، إِنَّهَا السَّبع المثاني الَّتِي آتَانِي الله عز وَجل ". " القَوْل فِي النُّزُول " ذكرُوا فِي كَيْفيَّة نزُول هَذِه السُّورَة أقوالا: أَحدهَا: أَنَّهَا مَكِّيَّة، روى الثَّعْلَبِيّ بِإِسْنَادِهِ عَن عَليّ بن أبي طَالب - كرم الله وَجهه - أَنه قَالَ: " نزلت فَاتِحَة الْكتاب ب " مَكَّة " من كنز تَحت الْعَرْش " ثمَّ قَالَ الثَّعْلَبِيّ: وَعَلِيهِ أَكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الْعلمَاء - رَحِمهم الله تَعَالَى - وروى أَيْضا بِإِسْنَادِهِ عَن عَمْرو بن شُرَحْبِيل - رَضِي الله عَنهُ - أَنه قَالَ: أول مَا نزل من الْقُرْآن: {الْحَمد لله رب الْعَالمين} [الْفَاتِحَة: 2] ، وَذَلِكَ أَن رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم أسر إِلَى خَدِيجَة - رَضِي الله عَنْهَا - فَقَالَ: " لقد خشيت أَن يكون خالطني شَيْء " فَقَالَت: وَمَا ذَاك؟ قَالَ: إِنَّنِي إِذا خلوت سَمِعت النداء {اقْرَأ} [العلق: 1] ، ثمَّ ذهب إِلَى ورقة بن نَوْفَل، وَسَأَلَهُ عَن تِلْكَ الْوَاقِعَة، فَقَالَ لَهُ ورقة: إِذا أَتَاك النداء، فَاثْبتْ لَهُ، فَأَتَاهُ جِبْرِيل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - فَقَالَ لَهُ: قل: {بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم الْحَمد لله رب الْعَالمين} [الْفَاتِحَة: 1 - 2] . وبإسناده عَن أبي صَالح، عَن ابْن عَبَّاس - رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا - قَالَ: قَامَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظّم وفخّم ب " مَكَّة " فَقَالَ: " بِسم الله الرَّحْمَن الرَّحِيم "، فَقَالَت قُرَيْش: رضّ الله فَاك. القَوْل الثَّانِي: أَنَّهَا نزلت ب " الْمَدِينَة "، روى الثَّعْلَبِيّ بِإِسْنَادِهِ، عَن مُجَاهِد أَنه قَالَ: " فَاتِحَة الْكتاب أنزلت بِالْمَدِينَةِ ". قَالَ الْحُسَيْن بن الْفضل: لكل عَالم هفوة، وَهَذِه هفوة مُجَاهِد؛ لِأَن الْعلمَاء - رَحِمهم الله تَعَالَى - على خِلَافه. وَيدل عَلَيْهِ وُجُوه: الأول: أَن سُورَة الْحجر مَكِّيَّة بالِاتِّفَاقِ، وَمِنْهَا قَوْله تَعَالَى: {وَلَقَد آتيناك سبعا من المثاني وَالْقُرْآن الْعَظِيم} [الْحجر: 87] ، وَهِي فَاتِحَة الْكتاب، وَهَذَا يدل على أَنه - تَعَالَى - آتَاهُ هَذِه السُّورَة فِيمَا تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وَهَذَا لَيْسَ فِيهِ دَلِيل، لِأَن النَّبِي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام - قَالَ: " أَعْطَيْت خمْسا لم يُعْطهنَّ أحد ... " الحَدِيث، فَيكون هَذَا الْإِتْيَان بِالنِّسْبَةِ إِلَى اللَّوْح الْمَحْفُوظ، فَإِن منع فِي الْبَعْض فَلَا يمْنَع فِي الشَّفَاعَة. الثَّانِي: أَنه يبعد أَن يُقَال: إِنَّه أَقَامَ ب " مَكَّة " بضع سِنِين بِلَا فَاتِحَة الْكتاب. الثَّالِث: قَالَ بعض الْعلمَاء: هَذِه السُّورَة نزلت ب " مَكَّة " مرّة، وب " الْمَدِينَة " مرّة أُخْرَى، فَهِيَ مَكِّيَّة مَدَنِيَّة، وَلِهَذَا السَّبَب سَمَّاهَا الله - تَعَالَى - بالسبع المثاني؛ لِأَنَّهُ ثنى إنزالها، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِك؛ مُبَالغَة فِي تشريفها. وأجمعت الْأمة على أَن الْفَاتِحَة سبع آيَات. وَرُوِيَ شاذا عَن الْحُسَيْن الْجعْفِيّ: أَنَّهَا سِتّ آيَات، وأجمعت الْأمة - أَيْضا - على أَنَّهَا من الْقُرْآن. وَنقل الْقُرْطُبِيّ: أَن الْفَاتِحَة مثبتة فِي مصحف ابْن مَسْعُود - رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 قولُه تعالى: {الحمد للَّهِ} . الحمدُ: الثناءُ على الجَمِيل سواءٌ كانت نِعمةً مُبْتدأة إلّى أَحَدٍ أَمْ لاَ. يُقال: حَمَدْتُ الرجلَ على ما أَنْعَمَ به، وحمدتُه على شَجَاعته، ويكون باللسانِ وَحْدَهُ، دون عمل الجَوَارح، إذ لا يُقالُ: حمدت زيداً أيْ: عملت له بيدي عملاً حسناً، بخلاف الشكر؛ فإنه لا يكونُ إلاّ على نعمةٍ مُبْتَدأةٍ إلى الغير. يُقال: شَكَرْتُه على ما أعطاني، ولا يُقالُ: شكرتُه على شَجَاعَتِه، ويكون بالقلبِ، واللِّسانِ، والجَوَارح؛ قال الله تعالى: {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} [سبأ: 13] وقال الشاعرُ: [الطويل] . 37 - أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلاثَةً ... يَدِي وَلِسانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَبَّبَا فيكونُ بين الحَمْدِ والشُّكْرِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ من وجه. وقيل: الحمدُ هو الشكر؛ بدليلِ قولِهم: «الحمدُ لِلَّهِ شُكراً» . وقيل: بينهما عُمومٌ وخصوص مُطْلق. والحمدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ. وقيلَ: الحمدُ: الثناءُ عليه تعالى [بأوصافِه، والشكرُ: الثناءُ عليهِ بِأَفْعاله] فالحامدُ قِسْمَانِ: شاكِرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجَمِيلة. وقيل: الحمدُ مَقْلُوبٌ من المَدْحِ، وليس بِسَدِيدٍ - وإِن كان منقولاً عن ثَعْلَب؛ لأنَّ المقلوبَ اقلُّ استِعمالاً من المقلوب منه، وهذان مُسْتَوِيانِ في الاستعمالِ، فليس ادعاءُ قلبِ أَحَدِهَما مِنَ الآخر أَوْلَى من العَكْسِ، فكانا مادّتين مُسْتَقِلَّتَيِن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وأيضاَ فإنه يمتنعُ إطلاقُ المَدْحِ حيثُ يَجُوزُ إطلاقُ الحَمْدِ، فإنه يُقالُ: حمدتُ الله - تعالى - ولا يقال: مَدَحْتُه، ولو كانَ مَقْلُوباً لما امتنع ذلك. ولقائلٍ: أَنْ يقولَ: منع من ذلك مانِعٌ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك. وقال الرَّاغِبُ: «الحَمْدُ لله» : الثناءُ بالفَضِيلَةِ، وهو أخصُّ من المدحِ، وأَعَمُّ من الشُّكْرِ، فإنَّ المدْحَ يقال فيما يكونُ من الإنسانِ باختيارِه، وما يكونُ منه بغَيْرِ اختيار، فقد يُمْدَح الإنسانِ بطولِ قَامَتِهِ، وصَبَاحةِ وجهه، كما يمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه، والحمدُ يكونُ في الثَّاني دُونَ الأوّلِ. قال ابنُ الخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: الفَرْقُ بين الحَمْدِ والمَدْحِ من وجوه: أحدها: أن المَدْحَ قد يحصلُ لِلحَيِّ، ولغيرِ الحَيِّ، أَلاَ تَرَى أَنَّ من رَأَى لُؤْلُؤَةً في غايةِ الحُسْنِ، فإنه يَمْدَحُها؟ فثبتَ أنَّ المدحَ أَعمُّ من الحمدِ. الثَّاني: أن المدحَ قد يكونُ قَبْلَ الإِحْسَانِ، وقد يكونُ بعدَه، أما الحمدُ فإنه لا يكونُ إلاَّ بعد الإحسان. الثالث: أنَّا المدحَ قَدْ يكونُ مَنْهِياً عنه؛ قال عليه الصلاةُ والسلامُ: «احْثُوا التُّرَابَ في وُجُوهُ المَدَّاحينَ» . أما الحمدُ فإنه مأمورٌ به مُطْلَقاً؛ قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ لَمْ يَحْمَدِ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ» الرابعُ: أنَّ المدحَ عبارةٌ عنِ القولِ الدَّالُّ على كونه مُخْتَصاً بنوع من أنواع الفَضَائل. وأمّا الحمدُ فهو القولُ الدَّالُّ على كونه مختصَّا بِفَضيلة مُعَيَّنَةٍ، وهي فضيلةُ الإنعامِ والإحسان، فثبت أنَّ المدحَ أعمُّ من الحمدِ. وأمَّا الفرقُ بين الحمدِ والشُّكرِ، فهو أنَّ الحمدَ يَعَمُّ إذا وَصَلَذلك الإنْعَامُ إليك أَوْ إلَى غَيْرِك، وأما الشُّكْرُ، فهو مُخْتَصٌّ بالإنعامِ الواصلِ إليك. وقال الرَّاغِبُ - رَحِمَهُ اللهُ -: والشكرُ لا يُقالُ إلاَّ في مُقَابلة نعمة، فكلُّ شُكْرٍ حَمْدٌ، وليس كُلُّ حمدٍ شُكْراً، وكل حمد مَدْحٌ، وليس كُلُّ مَدْحٍ حَمداً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ويقال: فُلانٌ مَحْمُودٌ إذَا حُمِد، ومُحَمَّدٌ وُجِدَ مَحْمُوداً، ومحمد كثرت خصالُه المحمودَةُ. واحمدُ أَيْ: أَنَّهُ يَفُوقُ غَيْرَه في الحَمْدِ. والألفُ: واللام في «الحَمْد» قِيل: للاستغراقِ. وقيل: لتعريفِ الجِنْس، واختاره الزَّمَخْشَرِيُّ؛ وقال الشاعر: [الطويل] 38 - ... ... ... ... ... ... ... إلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ وقيل: للعَهْدِ، ومنع الزمخشريُّ كونَها للاستغراقِ، ولم يُبَيِّنْ وجهةَ ذلك، ويشبه أن يُقالَ: إنَّ المطلوبَ من العبدِ إنشاء الحَمْدِ، لا الإخبار به، وحينئذٍ يَسْتَحيلُ كونها للاستغراقِ، إذْ لا يمكنُ العَبْد أن ينشىءَ جميعَ المَحَامِدِ منه ومن غيرِه، بخلاف كونها للجِنسِ. والصلُ في «الحَمْدِ» المصدريّة؛ فلذلك لا يُثَنَّى، ولا يُجْمَعُ. وحكى ابنُ الأَعْرَابِيُّ جَمْعَهُ على «أَفْعُل» ؛ وأنشد: [الطويل] 39 - وَأَبْيَضَ مَحْمُودِ الثَّنضاءِ خَصَصْتُهُ ... بأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلِ أَحْمُدِي وقرأ الجُمْهُورُ: «الحَمْدُ للهِ» برفْعِ وكسرِ لاَمِ الجَرِّ، ورفعُهُ على الابتداءِ، والخبرُ الجارُّ والمجرورُ بعده يَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ وهو الخَبَرُ في الحقيقة. ثم ذلك المحذوفُ إن شئتَ قدَّرْتَهُ [اسْماً، وهو المُخْتارُ، وإن شِئْتَ قَدَّرْتَهُ] فِعْلاً أَي: الحمدُ مُسْتَقِرٌّ لله، واسْتَقَرَّ لله. والدليلُ على اختيارِ القَوْلِ الأَوَّلِ: أَنَّ ذَلك يَتَعَيَّنُ في بَعضِ الصورِ، فلا أَقَلُّ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ترجيحِه في غَيْرِها، وذلك أنّك إذا قُلْتَ: «خَرجتُ فإِذَا في الدَّارِ زَيْدٌ» وأمَّا في الدَّارِ فَزَيْدٌ «يتعيّنُ في هاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ [أن يقدر بالاسم] ؛ لأنَّ» إذا «الفُجائية وأَمَّا الفُجائية وأَمَّا التَّفصِيليَّةُ لا يَلِيهِمَا إلاَّ المبتدأ. وقد عُورِضَ هذا اللَّفظُ بأنه يَتَعيَّنُ تقدير الفِعْلِ في بعضِ الصُّورِ، وهو ما إِذا وَقَعَ الجَارُّ والمجرورُ صِلَةً لموصولٍ، نحو: الَّذي في الدارِ فليكن رَاجِحاً في غيره؟ والجوابُ: أَنَّ ما رجحنا به من باب المبتدإِ، أَو الخبر، وليس أَجْنَبِيَّا، فكان اعتباره أوْلَى، بخلاف وقوعه صِلةً، [والأول غيرُ أَجْنَبِيٍّ] . ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قاعدةٍ - ها هنا - لعُمُومِ فائدتها، وهي أَنَّ الجار والمجرور والظرف إذا وَقَعا صلةً أو صِفَةً، أو حالاً، أو خبراً تَعلقا بمحذوفٍ، وذلك أن المحذوف لا يجوز ظهوره إذا كان كَوْناً مُطلقاً: فأمّا قول الشاعر: [الطويل] 40 - ... - لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلاكَ عَزَّ، وَإِنْ يَهُنْ فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُونِ كائِنُ ... وأما قولُه تبارك وتَعَالى: {فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ} [النمل: 40] فلم يقصدْ جعلِ الظَّرفِ كائناً فلذلك ذكر المتعلِّقَ به، ثم ذلك المحذوفُ يجوزُ تقديرهُ باسمٍ أَوْ فعلٍ إلاّ في الصلَةِ، فإنه يتعيّنُ أن يكونَ فِعلاً. واختلفُوا: أَيُّ التقديرَيْنِ أَوْلَى فيما عدا الصور المستثناة؟ فقومٌ رجّحُوا تقديرَ الفِعْلِ، [وقومٌ رجَّحُوا تقدير الاسمِ] ، وقد تقدمَ دليلُ الفريقين. وقُرِىءَ شَاذَّاً بنصب الدالِ من» الحَمْد «، وفيه وجهان: أظهرُهُما: انه منصوبٌ على المصدريَّةِ، ثم حُذِف العاملُ، ونابَ المصدرُ مَنَابه؛ كقولِهِم في الأخبار:» حمداً، وشكراً لا كُفْراً «والتقدير:» أَحمد الله حمداً «، فهو مصدرٌ نَابَ عن جملةٍ خبريَّةٍ. وقال الطَّبريُّ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «إنَّ في ضمنِهِ أَمْرَ عبادِه أَنْ يُثْنُوا به عليه، فكأَنَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 قال:» قولوا: الحَمْد للهِ «وعلى هذا يَجِيءُ قُولُوا: إيَّاكَ» . فعلى هذه العبارة يكونُ من المصادِر النائبَةِ عن الطَّلبِ لا الخبرِ، وهو محتملٌ للوجْهَيْنِ، ولكنْ كونُهُ خَبَرِيَّا أَوْلَى من كونه طَلَبياً، ولا يجوزُ إظهار الناصب، لئلاَّ يجمعَ بين البدلِ والمُبْدَلِ مِنْه. والثاني: أنه منصوبٌ على المَفْعُولِ بهِ، أَي: اجْمَعْ ضَبُعاً، والأوّلُ أَحْسَنُ؛ للدَّلالَةِ اللفظيةِ. وقراءَةُ الرفْعِ أمكنُ، وأَبْلَغُ مِنْ قراءَةِ النَّصب، لأنَّ الرفعَ في باب المَصَادِر التي أَصْلُها النِّيَابَةُ عَنْ أَفْعَالِها يدل على الثُّبُوتِ والاستقرَارِ، بخلافِ النَّصبِ، فإنه يدلُّ على التجددِ والحُدوثِ، ولذلك قال العلماء - رحمهم الله -: إن جوابَ إِبْرَاهيمَ - عليه الصلاة والسّلام - في قوله تَعَالَى حكايةً عنه: {قَالَ سَلاَمٌ} [هود: 69] أَحْسَنُ من قولِ الملائكة: {قَالُواْ سَلاَماً} [هود: 69] امتثالاً لقولِه تعالى: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} [النساء: 86] . و «لله» على قراءةِ النصبِ يتعّقُ بمحذوفٍ لا بالمصدرِ، لأنَّها للبيانِ، تقديرهُ: أَعْنِي لله، كقولِهم: «سُقْياً له ورَعياً لك» تقديرُه: «أَعْنِي له ولك» ، ويدلُّ على أنَّ اللام تتعلّقُ في هذا النوع بمحذوف لا بنفس المصدر، أنَّهم لم يُعْمِلُوا المصدر المتعدِّي في المجرور باللام، فينصبوه به فيقُولُوا: سُقْياً زيداً، ولا رَعْياً عمراً، فدلَّ على أنه ليس مَعْمولاً للمصدرِ، ولذلك غَلِطَ من جعل قولَه تَعَالَى: {والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ} [محمد: 8] ، مِنْ بَابِ الاشْتِغَالِ؛ لأنَّ «لَهُمْ» لا يتعلَّقُ ب «تَعْساً» كما مَرَّ. ويحتملُ أَنْ يُقالُ: إن اللام في «سُقياً لك» ونحوِهِ مقويةٌ لتعدِيَةِ العامل؛ لكونِهِ فَرْعاً فيكون عاملاً فيما بعده. وقُرىءَ: - أَيْضاً - بِكَسْرِ الدَّال، وجهُهُ: أَنَّها حركةُ إِتباعٍ لكسرَةِ لاَمِ الجَرِّ بعده، وهي لُغَةُ «تَمِيم» ، وبَعْضِ «غَطَفَان» ، يُتْبِعُونَ الأوّل للثَّاني؛ للتَّجانسِ. ومنه: [الطويل] 41 - ... ... ... ... ... ... اضْرِبِ السَّاقَيْنُ أُمُّكَ هَابِلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 بضمِ نُونِ التّثنِيَةِ لأجل ضمّةِ الهَمْزَةِ، ومثلُه، [البسيط] 42 - ... - وَيْلِمِّهَا فِي هَوَاءِ الْجَوِّ طَالِبَةً وَلاَ كَهَذَا الَّذِي في الأَرْضِ مَطْلُوبُ ... الأصل: وَيْلٌ لأُمِّهَا، فحذفَ اللَّامَ الأُولَى، واستثقَلَ ضَمَّةَ الهمزةِ بعد الكَسْرَةِ، فنقلَها إلى اللام بعد سَلْبِ حَرَكَتِها، وحذَفَ الهَمْزَةَ، ثم أَتْبَعَ اللاَّمَ المِيمَ، فصار اللفظ: «وَيْلِمِّهَا» . ومِنْهم مَنْ لا يُتْبِعُ، فيقول: «وَيْلُمِّهَا» بِضَمِّ اللاَّمِ، قال: [البسيط] 43 - وَيْلُمِّهَا خُلَّةً قَدْ سِيْطَ مِنْ دَمِهَا ... فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلافٌ وتَبْديلُ ويحتملُ أَنْ تَكُونَ هذه القراءةُ مِنْ رَفْعٍ، وأَنْ تَكُونَ مِنْ نَصْبٍ، لأنَّ الإعرابَ نُقَدَّرٌ مَنَعَ من ظُهُورِهِ حَرَكَةُ الإتباعِ. قرىء أيضاً: «لُلَّهِ» بضم لاَمِ الجَرِّ، قَالُوا: وهي إتباعٌ لحركةِ الدَّالِ وفضّلها الزمخشريُّ على قراءة كَسْرِ الدَّالِ، مُعَلِّلاً لذلك بِأَنَّ إتباعَ حركَةِ الإعرابِ أَحْسَنُ مِنَ العَكْسِ، وهي لغةُ بَعْضِ «قَيْس» ، يُتْبِعُون الثانِي نحو: «مُنْحَدُر ومُقُبِلِينَ» بضم الدَّال والقاف لأجل الميم، وعليه قرىء: {مُرُدفين} [الأنفال: 9] بِضَمِّ الراءِ، إِتْباعاً لِلْمِيمِ. فهذه أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ في «الحَمْدِ للهِ» . ومعنى لام الجَرِّ - هنا - الاستحقاقُ أَيْ: الحمدُ مستحقٌّ لله - تعالى - ولها معانٍ أخر نَذْكُرُها وهي: المُلْكُ: المالُ لِزَيْدٍ. والاستحقاقُ: الجُل لِلْفَرَسِ. والتَّمْليكُ: نحو: وهبتُ لَكَ وَشِبْهُهُ نحو: {جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [الشورى: 11] لتسكنوا إليها. والنسب: نحو: لِزَيْدٍ عَمٌّ. والتعليلُ: نحو: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس} [النساء: 105] ، والتبليغُ: نحو: قُلْتُ لَكَ. والتبليغُ: نحو قلتُ لك. وللتعجُّبِ في القَسَمِ خاصَّةً؛ كقوله: [البسيط] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 44 - للهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ ... بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيَّانُ وَالآسُ والتَّبيِينُ نحو قولِه تَعَالَى: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] . والصيرورةُ: نحو قولِهِ تَعَالَى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] . والظرفية إِمَّا بِمَعْنَى «فِي» : كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 47] ، أَوْ بِمَعْنَى «عِنْدَ» : كقولِهم: «كَتَبُتُهُ لِخَمْسٍ» ، أيْ: عِنْدَ خَمْسٍ، أَوْ بِمَعْنَى «بَعْدَ» : كقوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] أيْ: بَعْدَ دُلُوكها. والانتهاءُ: كقوله تعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} [الرعد: 2] . والاستعلاءُ: نحو قوله تعالى: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ} [الإسراء: 109] . وقد تُزَادُ باطّرادِ في معمول الفعلِ مُقدَّماً عليه؛ كقولِه تَعَالى: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] [وإذا] كان العامِلُ فرعاً، نحو قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] . وَبِغَيْرِ اطرادٍ؛ نحو قوله في ذلك البيت: [الوافر] 45 - فَلَمَّا أَنْ تَوَاقَفْنَا قَليلاً ... أَنَخْنَا لِلكَلاَكِلِ فَارتَمَيْنَا وأما قولُه تَعَالَى: {عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] فقِيل: على التَّضْمِينِ، وقِيلَ: هي زَائِدَةٌ. ومن الناسِ مَنْ قال: تقديرُ الكَلام: قُولُوا: الحمد لله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 قال ابنُ الخَطِيب: - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: وهذا عندي ضعيفٌ؛ لأنْ الإضمارَ إنما يُصارُ إليه ليصحّ الكلامُ، وهذا الإضمار يُوجِبُ فسادَ الكلامِ، والدليل عليه: أن قوله - تعالى - «الحَمْدُ للهِ» إخبارٌ عن كونِ الحَمْدِ حقَّا [لله تعالى] وملكاً له، وهذا كَلاَمٌ تام في نفسه، فلا حاجةَ إلى الإضمار. وأيضاً فإن قولَه: «الحمد لله» يدلُّ على كونِهِ مُسْتَحقاً للحمدِ بحسب ذاته، وبحسبِ أَفْعَالِه، سواءٌ حَمَدُوه أَوْ لَمْ يَحْمِدُوه. قال ابنُ الخَطِيب: رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «الحَمْدُ للهِ ثمانيةُ أَحْرُفٍ، وأبوابُ الجَنَّةِ ثمانية [أبواب] ، فمن قال:» الحمد لله «بصفاءِ قَلْبِهِ استحقَّ أَبْوابَ الجَنَّةِ الثمانية» والله أعلم. فَصْلٌ تمسَّكَ الجَبْرِيَّةُ والقدريَّةُ بقوله تعالى: «الحمدُ للهِ» أما الجبريةُ فقد تمسَّكوا به من وجوه: الأولُ: اَنَّ كُلَّ مَنْ كَان فِعْلهُ اشْرَفَ وأَكْمَل، وكانت النعمةُ الصادِرةُ عنه أَعْلَى وأفضل، كان استحقاقُه للحمدِ أكثرَ، ولا شك أنَّ أَشْرَفَ المخلُوقَاتِ هو الإيمانُ، فلو كان الإيمانُ فِعلاً للعبد، لكان استحقاقُ العبدِ للحمدِ أَوْلَى وأجلَّ مِنِ اسْتِحْقاقِ الله له، ولما لم يكنْ كذلك، علمنا أنَّ الإيمانَ حَصَلَ بخلقِ الله - تعالى - لا بِخَلْقِ العَبْدِ. الثاني: أجمعتِ الأمّةُ على قولِهم:: الحمدُ للهِ على نعمةِ الإيمانِ «؛ باطلاً، فإنَّ حمد الفاعِل على ما لاَ يَكُون فِعْلاً له باطلٌ قَبِيحٌ؛ لقوله تعالى: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} [آل عمران: 188] . الثالثُ: أّن قوله تعالى:» الحمدُ للهِ «يدلُّ ظاهِرُهُ على أنَّ كُلَّ الحمدِ لله، وانه لَيْسَ لِغَيْرِ الله - تعالى - حَمْدٌ أَصْلاً، وإنما يكونُ كلُّ الحمدِ لله تعالى إذا كان كُلُّ النِّعمِ من اللهِ تعالى، والإيمانُ أَفْضَلُ النعم، فوجب أَنْ يكونَ الإيمانُ من الله تعالى. الرابعُ: أَن قولَه:» الحَمد لله «مَدْحٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، ومدحُ النَّفْسِ قَبيحٌ فيما بينَ الخَلْقِ، فلما بدأ كتابَهُ بمدح النفْسِ، دلَّ ذلك على أَنَّ حالَهُ بخلافِ حَالِ الخلقِ، وأَنَّه يَحْسُن منه ما يقبحُ من الخَلْقِ، وذلك يدلُّ على أنه - تبارك وتعالى - مقدَّسٌ عن أن تُقَاس أفعالُه على أَفعالِ العِبَادِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الخامسُ: عند المعتزلةِ أفعالُه - تعالى - يجبُ أَنْ تكونَ حَسَنةً، ويجبُ أَنْ تكونَ لها صفةٌ زائِدَةٌ على الحُسْنِ، وإلا كان عبثاً، وذلك في حقه تعالى محالٌ، والزائدةُ على الحُسْنِ إمَّا [أن تَكُونَ] واجِبةً، وإما أن تكونَ من باب التَّفَضُّلِ. أما الواجبُ فهو مثلُ إِيصالِ الثواب، والعوض إلى المُكَلَّفِين. وأما الذي يكونُ من باب التفضل، فهو مثلُ أنَّه يزيدُ على قَدْرِ الواجِبِ على سبيلِ الإحْسَانِ. فنقولُ: هذا يَقْدّحُ في كونه - تعالى - مستحقاً للحمد، ويُبْطِلُ صحَّةَ قولنا: الحمدُ لله. وتقريرهُ أن نقولَ: أما أداةُ الواجِباتِ، فإنه لا يفيد استحقاقَ الحَمْدِ، ألا ترى أنَّ مَنْ كان له على غيره دَيْنُ دِينارِ، فادّاه، فإنه لا يَسْتَحِقُّ الحمدَ، فلو أوجبنا على الله تعالى فعلاً، لكان ذلك الفعلُ مخلصاً [له] عن الذَّمِّ، ولا يُوجِبُ استحقاقه للحمد. وأما فِعْلُ التفضُّلِ فعند الخصم أنه يستفيد بذلكَ مزيدَ حَمْدٍ ولو لم يصدرْ عنه ذلك الفعلُ، لما حَصَل له الحمدُ، فإذا كان كذلك كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره، وذلك يمنع مِنْ كونه - تعالى - مُسْتحقاً للحمدِ والمدح. السَّادسُ: قولُه: الحمدُ لله يدلُّ على أنه - تعالى - محمودٌ، فنقولُ: استحقاقُه للحمد والمدحِ إما أن يكونَ أَمْرا ثابتاً لذاتِه، فإن كان الأوّل، امتنَع ثُبوتُه لغيره، فامتنع - أيضاً - أن يكون شَيْءٌ من الأفعالِ موجباً له استحقاق الذم؛ لأن ما ثبت لِذَاتِهِ امتنع ارتفاعه، فوجب ألاَّ يجبَ للعباد عليه شيءٌ مِنَ الأعْواضِ والثَّوابِ، وذلك يَهْدِمُ أصولَ المعتزلة. وأمّا القسم الثَّاني - وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتاً لذاتِهِ - فنقول: فيلزم منه أن يكونَ ناقِصاً لذاته مُستكملاً بغيره، وذلك على الله - تعالى - محالٌ. أما قول المعتزلة: إنَّ قَوْلَهُ:» الحَمْدُ لله «لا يتم إلاَّ على قولِنَا؛ لأن المستحقَّ للحمدِ على الإطلاقِ هو الذي لا قَبِيحَ في فِعْلِهِ، ولا جَورَ في قَضِيَّتِهِ، ولا ظُلمَ في أحكامِهِ، وعندنا أنَ الله - تعالى - كذلك؛ فكان مُسْتَحِقَّاً لأعظمِ المَحَامِدِ والمدائح. أمّا على مذهب الجَبْرِ لا قَبِيحَ إلا وهو فِعْلُه، ولا جَوْرَ إلا وهو حُكْمُه، ولاَ عَبَثَ إلا وهو صُنْعُه؛ لأنه يخلقُ الكُفْرَ في الكافر، ثم يعذبُه عليه، ويؤلم الحيواناتِ مِنْ غَيْرِ أن يُعَوِّضَهَا، فكيف يُعْقلُ على هذا التقدِيرِ كونُه مُسْتحقاً للحمد؟ وأيضاً ذلك الحمد الذي يستحقه الله - تعالى - بسب الإلهيَّة؛ إِمَّا أن يستحِقُّهُ على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 العبدِ، أَوْ عَلَى نفسه، فغن كان الأول وجب كونُ العبدِ قادراً على الفِعْلِ؛ وذلك يُبْطِلُ القول بالجَبْرِ. وإنْ كان الثاني كان معناه أن الله تعالى يجب عليه أن يحمد نَفْسَهُ؛ وذلكَ بَاطِلٌ، قالوا: فثبت أَنَّ القولَ لا يصحُّ إلا على قولنا. فَصْل هل وجب الشكر يثبت بالعقل أو الشرع؟ اختلفوا في أَنَّ وُجُوبَ الشُّكْرِ ثابِتٌ بالعَقْلِ أَوْ بالسَّمْعِ. مِنَ الناس مَنْ قال: إنه ثابِتٌ بالسَّمْعِ، لقوله تبارك وتعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ، ولقوله تبارك وتعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] . ومِنْهم من قال: إنه ثَابِتٌ قبلَ مَجيء الشرع، وبعد مجيئه على الإطلاقِ؛ والدليلُ عليه قولُه تبارك وتعالى: «الحَمدُ للهِ» وبيانه من وجوه: الأولُ: أَن قولَه تعالى: «الحمدُ لله» يدلُّ على أن هذا الحمدَ حَقُّهُ، وملكُه على الإطْلاَقِ، وذلك يدل على أنّ ثبوت هذا الاستحقاقِ كان قبل مَجِيء الشرْع. الثاني: أنه تعالى قال: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] ؛ وقد ثَبَتَ في [أصُول] الفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ على الوَصْفِ المناسِبِ، يَدُلُّ على كونِ الحُكْمِ مُعَلِّلاً بذلك الوصف، فها هنا أثبتَ الحَمْدَ لنفسه، ووصف نَفْسَهُ بكونِه رَبَّ العالَمينِ رَحْماناً رَحِيماً بِهِم، مالكاً لعاقبةِ أمْرِهم في القيامَةِ، فهذا يدلُّ على أن استحقاقَ الحمدِ ثابتٌ - لله تعالى - في كل الأوقات، سواءٌ كان قَبْلَ مَجِيء النَّبي، أو بعده. فصل قال ابنُ الخَطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: تَحميدُ اللهِ - تعالى - ليس عبارةً عن قَوْلِنا: الحمدُ للهِ، إخبارٌ عن كُلِّ فِعْلٍ عن كُلِّ فِعلٍ يُشْعِرُ بتعظيم المنعم بسبب كَوْنِهِ مُنْعِماً، وذلك الفعل: إما أن يكونَ فِعْلَ القلبِ، أو فعل اللِّسان، أوْ فِعلِ الجوارح. أمَّا فعلُ القلبِ: فهو أنْ يَعْتَقِدَ فيه كونَهُ مَوْصُفاً بصفات الكمالِ والإجْلاَل. وأما فعل اللِّسان فهو أنْ يذكر ألفاظاً دالَّةً على كونه مَوْصُوفاً بصفات الكمال [والإجلال] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 [وأما فعل الجوارح؛ فهو أنْ يأتي بأفعالٍ دالّةٍ على كَوْنِ المنعمِ مَوصُوفاً بصفات الكمال والإجلال] . واعلم أن أهل العلم - رحمهم الله - افترقوا في هذا المقام فِرقاً كثيرةً: فمنهم مَنْ قال: إنه لا يجوزُ عقلاً أن يأمرَ الله عَبِيدَه بان يَحْمَدُوه، واحتجوا عليه بوجوه: الأولُ: أن ذلك التحميدَ، إما أن يكونَ بناءً على إنْعَام وَصَل إليهم، أَوْ لا بِنَاءَ عليه، فالأول باطِلٌ؛ لأن هذا يقتضي أنه - تعالى - طلبَ منهم على إنعامِهِ جَزَاء ومُكافَأةً، وذلك يقدحُ في كَمَال الكرم، فإنّ الكريم إذا أنعم لم يُطالِبْ بالمُكَافأة. وأما الثاني: فهو إِتْعَابٌ لِلْغَيْرِ ابتِداءً، وذلك يُوجِبُ الظُّلْمَ. الثاني: قالُوا: إنَّ الاشتغالَ بهذا الحمدِ مُتْعِبٌ للحامدِ، وغيرُ نَافِعٍ للمحمُودِ، لأنه كامِلٌ لذاتِهِ، والكامل [لذاته] يستحيل أن يستكملَ بِغَيْره، فثبت أنَّ الاشتغال بهذا التحميدِ عَبَثٌ وضَرَرٌ، فوجب ألا يكونَ مَشروعاً. الثالثُ: أنَّ مَعْنَى الإِيجَابِ: أنه لَوْ لم يفعل لاسْتَحَقَّ العذابَ، فإيجابُ حَمْدِ الله تعالى معناه: أنه لو لم تشتغلْ بهذا الحمدِ، لَعَاقَبْتُكَ، وهذا الحمدُ لا نفعَ لَهُ في حَقِّ اللهِ تبارك وتعالى، فكان معناه أن هذا الفعلَ لا فَائِدَة فِيه لأحدٍ، ولو تركته [لعاقبتك] أَبَدَ الآبادِ، وهذا لا يليقُ بالحَلِيم الكريم. والفريقُ الثاني: قَالُوا: الاشتغالُ بِحَمْدِ الله - تعالى - سُوءُ أَدَبٍ من وجوه: الأولُ: أنه يَجْرِي مَجْرَى مقابَلَةِ إحْسَانِ اللهِ بذلك الشُّكر القَلِيلِ. والثاني: أنَّ الاشتغالَ بالشُّكْرِ لا يتأتى مع استحضارِ تلك النِّعَمِ في القلْبِ، واشتغالُ القلبِ بالنعم يمنعه من الاسْتِغْرَاق في مَعْرِفَة المُنْعِمِ. والثالثُ: أنَّ الثناءَ على الله - تعالى - عند وُجْدَانِ النِّعْمَةِ يدلُّ على أنه إنَّما أَثْنَى عليه؛ لأجْلِ الفوز بتلك النعم، وهذا الرَّجُلُ في الحَقِيقَةِ مَعْبُوده، ومَطْلُوبُه إنما هو تلك النِّعَمِ، وحظُّ النَّفسِ، وذلك مقامٌ نَازِلٌ. وهذانِ مَرْدُودانِ بما تَقَدَّمَ وبأنَّ أفعالَهُ وأقوالَه وأسماءَهُ لا مدخل للعَقْلِ فيها، فقد سَمَّى رُوحَه مَاكِراً بقوله تعالى: {وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين} [آل عمران: 54] ، ومتكبراً وغيرَ ذلك ممَّا تقدّم في أسمائه من قوله تعالى: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15] وغَيْرِه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فإن قِيل: إنما ورد ذلك مِنْ حيثُ المُقَابلة، قُلْنَا: نُسلِّمُ، ولكنه قد سمى نفسه به، ونحن لا يجوزُ لنا تسميتُهُ به. وأما مِنْ حَيْثُ ورودُه في الشرع، فقال اللهُ تعالى: {فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] . قولُه تَعَالَى: {رَبِّ العالمين} . الرَّبُّ: لُغَةً: السيدُ، والمَالِكُ، والثَّابِتُ والمَعْبُودُ؛ ومنه قولُه: [الطويل] 46 - أرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ ... لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ والمُصْلِحُ، وزاد بعضُهم أنه بمعنى: الصّاحبِ؛ وأنشد القائل: [الكامل] 47 - قَدْ نَالَهُ رَبُّ الكِلاَبِ بِكَفِّهِ ... بِيضٌ رِهَابٌ ريشُهُنَّ مُقزَّعُ والظاهِرُ أَنَّهُ - هنا - بمعنى المَالِك، فليس هو معنى زائداً. وقيل: يكون بمعنى الخَالِقِ. واختُلِفَ فيه: هل هو في الأصلِ وَصْفٌ أو مصدر؟ فمنهم من قال: [هو وَصْفٌ أي صِفَة مشبهة بمعنى «مُرَبٍّ» ] ، ثم اختلف هَؤلاءِ في وزنه. [فمنهم من قال] : هو على «فَعِل» كقولك: «نَمَّ - يَنِمُّ - فهو نَمٌّ» من النّمام، بمعنى غَمَّاز. وقيل: وزنه «فَاعِل» ، وأصلُه: «رَابٌّ» ، ثم حُذِفت الألفُ؛ لكثرةِ الاستعمالِ؛ لقولِهم: رَجُلٌ بَارٌّ وَبَرٌّ. ولقائلٍ أن يقولَ: لا نسلم أن «بَرَّ» مأخوذ من «بَارّ» بل هما صِفتان مُسْتقلتَانِ، فَلاَ يَنْبَغِي أنْ يُدّعَى أنّ «ربَّا» أصله «رابٌّ» . ومنهم مَنْ: قال إنه مَصْدرٌ «رَبَّهُ - يَرُبُّهُ - رَبَّاً» أي: مَلَكَهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 قال: «لأنْ يَرُبَّنِي رَجَلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ من أن يَرُبَّنِي رَجَلٌ من هَوَازِنَ» . فهو مصدر في معنى الفاعل نحو: «رجل عَدْل وصَوْم» . ولا يُطْلقُ على غَيْرِ الباري - تعالى - إلاّ بقيد إضافةٍ، نحو قوله تعالى: {ارجع إلى رَبِّكَ} [يوسف: 50] ، ويقولون: «هو رَبُّ الدَّارِ، ورَبُّ البَعِير» ، وقد قالته الجاهليةُ لِلْمَلِكِ من الناس مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ؛ قال الحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: [الخفيف] 48 - وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ ... مِ الحِيَارَيْنِ وَالبَلاءُ بَلاَءُ وهذا مِنْ كُفْرِهِمْ. وقرأ الجمهورُ: «رَبِّ» مجروراً على النعتِ «لله» ، أو البَدَلِ منه. وقرِئَ مَنْصوباً، وفيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ: إمَّا بِمَا دَلَّ عليه الحمدُ، تقدِيرُه: «أحمد ربُّ العالمين» . أو على القطع من التبعية، أو على النِّداءِ وهذا أضعفُهَا، لأنه يُؤَدِّي إلى الفَصْلِ بين الصفة والموصوف. وقُرِىءَ مَرْفُوعاً على القَطْعِ من التبعية، فيكونُ خبراً لمبتدإٍ مَحْذّوفٍ، أيْ: «هُوَ رَبُّ» وإذْ قد عرض ذِكْرُ القَطْعِ في التَبعيَّةِ، فلنستطردْ ذِكْرَهُ، لِعُمُومِ فَائِدَتِهِ فنقول: اعلم أنَّ الموصوفَ إذا كان معلوماً بدون صفته، وكان الوصفُ مَدْحَاً، أو ذماً، أو ترحُّما - جاز في الوَصْفِ الإتباعُ والقطعُ. والقطعُ: إما على النصْبِ بإضمار فعل لائقٍ، وإمَّا على الرَّفعِ على خَبَرٍ لمبتدإ مَحْذُوفٍ، ولا يجوزُ إظهارُ هذا الناصِبِ، ولا هذا المبتدإ، نحو قولِهم: «الحَمْدُ لله أَهْلُ الحَمْدِ» رُوِيَ بنصبِ «أهْل» ورفعِه، أيْ: أعني أَهْلَ، أو هو أَهلُ الحمدِ. وإِذا تكررتِ النُّعوتُ، والحالةُ هذه، كُنْتَ مُخَيَّراً بين ثلاثة أوجه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 إما إتباعُ الجَميعِ، أو قَطْعُ الجَميع، أوْ قَطْعُ البَعْضِ، وإتباعُ البَعْضِ. إلاّ أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ، وقطعتَ البعضَ وجب أَنْ تَبْدَأ بالإتباعِ، ثُمَّ تأتي بالقَطْعِ من غير عَكْسٍ، نحو: «مررتُ بزيدٍ الفَاضِلِ الكَرِيمُ» ؛ لِئَلاَّ يلزمَ الفصلُ بين الصفَةِ والموصُوفِ بالجملةِ المَقْطُوعَةِ. و «العَالَمِينَ» خَفْضٌ بالإضافَةِ، عَلاَمةُ خفضِه الياءُ؛ لجريانه مَجْرى جمع المذكرِ السَّالِمِ، وهم اسْمُ جَمْعٍ؛ لأنَّ واحِدَهُ مِنْ غَيْرِ لفظه، ولا يَجوزُ أن يكونَ جمعاً ل «عَالَم» مُرَاداً به العاقل دُونَ غَيْره، فيزولَ المحذْورُ المذكور؟ وأُجِيبَ عنه: بأنه لَوْ جاز ذلك، لَجَازَ أَنْ يُقالَ: «شَيْئُون» جَمْعُ «شَيءٍ» مُرَاداً به العاقل دون غيره، فدل عَدَمُ جَوَازِه على عدم ادّعاءِ ذلك. وفي الجواب نَظَرٌ، إذْ لِقائل أنْ يقول: شيئون «منع منه مانِعٌ آخرُ، وهو كونهُ لَيْسَ صِفَةً ولا علماً، فلا يلزَمُ مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ» عَالَمِين «مراداً به العاقل. ويُؤَيِّدُ هذا ما نَقَلَ الراغِبُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رضى الله تعالى عنهما - أنَّ «عَالَمِين» إنما جمع هذا الجمع؛ لأن المراد به الملائكةُ والجنُّ والإنْسُ. وقال الراغِبُ أيضاً: «إنَّ العَالَم في الأصلِ اسم لما يُعْلَمُ به كالطَّابَعِ اسم لما يُطْبَعُ» وجُعِلَ بناؤُه على هذه الصيغَةِ، لكونه كالآلةِ، فالعالَمُ آلة في الدلالةِ على صَانعه. وقال الرَّاغبُ أيضاً: «إنَّ العَالَم في الأصل لما يُعْلَمُ به كالطَّابَعِ اسم لما يُطْبَعُ» وجُعِلَ بناؤه على هذه الصيغَةِ، لكونه كالآلةِ، فالعالَمُ آلة في الدلالةِ على صَانِعه. وقال الرَّاغِبُ: أيضاً: «وأما جمعُه جَمْعُ السَّلامةِ، فلكون الناس في جُمْلَتِهِم، والإنسانُ إذا شَارَك غيرَهُ في اللَّفظِ غَلَبَ حُكْمُ» ، فظاهر هذا أَنَّ «العَالَمِين» يطلق على العُقَلاء وغَيْرِه، وهو مُخالِفٌ لما تقدّم من اختصاصِهِ بالعقلاء، كما زعم بعضُهم، وكلام الراغِبِ هو الأصَحُّ الظّاهرُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فصل في وجوه تربية الله لعبده قال ابنُ الخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «وجوه تَرْبِيَةِ الله لِلْعَبْدِ كثيرةٌ غيرُ مُتَنَاهِيَةٍ، ونحن نذكر منها أمثله: الأولُ: لما وَقَعَتِ النّطفةُ مِنْ صُلْبِ الأَبِ إلى رَحِمِ الأُمِّ، فَرَبَّاهَا حتى صارت عَلَقَةً أَولاً، ثم مُضْغَةً ثانيةً، ثم تولّدت منه أعضاء مُختلفةٌ، مثلُ العِظَامِ، والغَضَارِيفِ، والرّبَاطَاتِ، والأَوْتَارِ، والأوردَةِ، والشرايِين، ثم اتصل البعضُ بالبعضِ، ثمَّ حَصَلَ في كُلِّ واحِدٍ منها نَوْعٌ خَاصٌّ من أنواع القُوَى، فحصلت القوّةُ الباصرة في العَيْنِ، والسَّامِعَةُ في الأُذُنِ، والنَّاطِقَةُ في اللِّسانِ، فسُبْحَانَ مَنْ بَصَّرَ بِشَحْمٍ، وأَسْمَعَ بِعَظْمٍ، وأَنْطَقَ بِلَحْمٍ» ! . والثَّاني: أن الحَبَّةَ الواحِدَةَ إذا وقعت في الأرض، فإذا وصلت نَدَاوةُ الأرضِ إليها، انتفَخَتْ ولا تنشق من شيء من الجوانِبِ إلاّ مِنْ أَعْلاَها وأسفلها، مَعَ أنَّ الانتفاخَ حاصلٌ من جميع الجوانب. أما الشق الأعلى، فيخرجُ منه الجزءُ الصاعِدُ، فبعد صعودِهِ يحصُلُ له سَاقٌ، ثم ينفصِلُ من ذلك الساقِ أَغْصَانٌ كثيرةٌ، ثم يظهر على تلك الأغصانِ الأَنْوَارُ أوَّلاً، ثُمَّ الثِّمَار ثانياً، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكَثَافَةِ، واللطافة، وهي القُشُور، واللّبوبُ، ثم الأدهان. وأما الجُزْءُ الغائِصُ من الشجرة، فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها، وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياع منعقدة، ومع غايةِ لُطْفِها، فإنها تغوص في الأرض الصّلبة اليابسة، وأودع فيها قُوى جاذبةً تجذِبُ اللّطيفةَ من الطين إلى نفسها، والحكمةُ في كلِّ هذه التدبِيرَاتِ تحصيلُ ما يحتاج العبد إليه من الغِذَاءِ، والإدام، والفواكه، والأشربةِ، والأدْوِيَةِ؛ كما قال تعالى: {أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً} [عبس: 25، 26] . فَصْلٌ اختلفوا في {العالمين} . قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «هُمُ الجنُّ والإِنْسُ؛ لأنهم المكلّفون بالخِطَابِ» ؛ قال الله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وقال قتادةُ: والحَسَنُ، ومُجَاهِدٌ - رضي الله تعالى عنهم -: «جميعُ المخلوقينَ» ؛ قال تبارك وتعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ} [الشعراء: 23 - 24] . واشْتِقَاقُه من العَلمِ والعَلاَمَةِ، سُمُّوا بذلك؛ لظُهورِ أَثَرِ الصنعة فيهم. قال أَبُو عُبَيد - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: هم أرْبَعُ أُمَم: والإنسُ، والجِنُّ، والشَّيَاطِينُ، مُشْتَقٌّ من العلم، ولا يُقَال للبهائِمِ؛ لأنها لا تَعْقِلُ. واخْتَلَفُوا في مبلغِهِم. قال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّب - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: «للهِ ألْفُ عَالَمٍ: سِتُّمائةٍ في البَحْرِ، وأربعمائة في البرِ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وقال مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: «ثَمانُونَ أَلْفاً، أَرْبَعُون ألفا في البَحْرِ، وأربعونَ ألفا في البَرِّ» . وقال وَهْبٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: «لله ثَمَانِيَةَ عَشرَ ألفَ عَالَمٍ، الدّنيا منها، وما العمران في الخَرَابِ إلا كفُسطاطٍ في صَحْراء» . وقال كَعْبُ الحبارِ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: «لا يُحْصي عَدَدَ العَالَمِين إلاّ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ -» ؛ قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] . قوله تعالى : {الرحمن الرحيم} نَعْتٌ أوْ بَدَلٌ - وقرئا منصوبين، ومَرْفُوعَيْنِ، وتَوْجِيهُ ذلك ما ذكر في: {رَبِّ العالمين} ، وتقدم الكلام على اشْتِقاقِهما في «البَسْمَلَةِ» فَأَغْنَى عن إِعَادَتِه. قوله تعالى: {مالك يَوْمِ الدين} يجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً أيضاً، أوْ بَدَلاًَ، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً، وهو مُشْتَقٌّ من «المُلْك» - بفتح الميم - وهو: الشَّدُّ والرَّبْطُ، قال الشاعرُ في ذلك: [الطويل] 49 - مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ... يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا ومنه: إِمْلاَكُ العَرُوسِ؛ لأنّه عَقْدٌ، ورَبْطٌ، للِّنِكاحِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 وقُرِىءَ: «مَالِك» بالألَفِ. قال الأَخْفَش - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - يُقال: مَلِك بَيَّنُ المُلْكِ - بضم الميم، و «مَالِك» من «المَلِكِ» بفتح الميم وكسرها. ورُويَ ضمُّها - أيضاً - بهذا المعنى. وروي عن العربِ: «لِي في هَذَا الوَادي مَلْكٌ ومُلْكٌ ومِلْكٌ» مُثَلَّثُ الفاء، ولكن المعروفَ الفرقُ بَيْنَ الأَلْفَاظِ الثَّلاثَةِ: فالمفْتُوح: الشَّدُّ والرَّبْطُ. والمضْمُومُ: هو القَهْرُ والتسلُّطَ على من يتأتّى منه الطَاعَةُ، ويكون باسْتِحْقَاقٍ وغَيْرِه، والمقصور: هو التَّسَلُّطَ عَلَى مَنْ يتأتّى منه الطاعة ومَنْ لا يتأتى منه، ولا يكونُ إلاَّ باستحقاقٍ؛ فيكونُ بَيْنَ المقصورِ والمضمُُومِ عمومٌ وخُصوصٌ من وجه. وقال الرَّاغِبُ: المِلْكُ أي «بالكَسْرِ» كالجِنْسُ للملك، أي «بالضَّم» فكُلُّ مِلْكٍ «بالكسر» ملك، وليس كُلُّ ملكٍ مِلْكاً، فعلى هذا يكُونُ بينما عُمُومٌ وخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، وبهذا يُعْرَفُ الفرقُ بين ملك ومالك، فَإِنَّ ملكاً مأْخُوذَةٌ مِنَ المُلْكِ بالضمِ ومالِكا مأخوذ من المِلك «بالكَسْرِ» وقيل: إنَّ الفرقَ بينهما: أنَّ المَلِكَ: اسْمُ كُلِّ مَنْ يَمْلِكُ السياسة، إِمَّا في نَفْسِه، بِالتمكُّنِ مِنْ زمام ِ قواه وصرفها عَنْ هَوَاهَا. وإِمَّا في نَفْسِهِ وفي غَيْرِهِ، سَوَاءٌ تولى ذلك أَوْ لَمْ يتولّ. وقد رَجَّحَ كُلُّ فَرِيقٍ إِحْدَى القِرَائَتَيْنِ على الأُخْرَى تَرْجِيحاً يكادُ يسقط القِرَاءَاتِ الأُخْرَى، وهذا غَيْرُ مَرْضيٍّ؛ لأنَّ كِلْتَيْهِما مُتَوَاتِرةٌ، ويدلُّ على ذلك ما رُوِيَ عن ثَعْلَب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - أنه قال: إِذَا اخْتَلَفَ الإِعْرَابُ في القرآن عن السَّبعةِ، لم أُفَضِّلُ إِعْرَابَاً على إعراب في القرآنِ، فإذا خرجتُ إلى كلامِ الناسِ، فصَّلْتُ الأَقْوَى. نقله أَبُو عَمْرو الزّاهد في «اليَوَاقيت» . قال أَبُو شَامَة - رَحِمَهُ اللهُ: - قَدْ أَكْثَر المُصَنِّفُونَ في القراءَات والتفاسِيرِ مِنَ التّرْجِيحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 بَيْنَ هَاتَيْنِ القِرَاءَتَيْنِ، حتى أن بعضهم يبالغ في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى، ولَيْسَ هذا بِمَحْمُودٍ بعد ثُبُوتِ القِرَاءَتَيْنِ، وصحَّةِ اتصافِ الربِّ - سبحانه وتعالى - بهما حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعَةٍ، وبهذه في رَكْعةٍ، ذكر ذلك عند قَوْلِهِ تعالى: مَالِك يَوْمِ الدِّين. وَرَوى الحُسَيْنُ بنُ عَليٍّ الجعفي، وعبدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ، عَنْ اَبِي عَمْروٍ: «مَلْكِ» بِجَزْمِ اللاَّمِ على النَّعْتِ أيضاً. وقرأ الأَعْمَشُ، ومحمدُ بنُ السّمفيع، واَبُو عَبْد الملك قاضي الجُنْد: «مَالِكَ» بنصب الكاف على النِّداءِ. روي أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال في بعض غزواته: يا مالك يوم الدين، وقُرىء بنصبِ الكَافِ من غير ألف النداء أيضاً، وهي قراءةُ عَطِيَّةَ بن قَيْس، وقرأ عَوْن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 العُقَيْلِيُّ بالأَلَف وَرَفْعِ الكَاف، على مَعْنَى: «هُوَ مَالِك» . وقرأَ يَحْيَى بنُ يَعْمُر «مالك» بالإمالة والإضجاع البليغ. وقرأ أيُّوبُ السَّخْتيَانِيّ: بَيْنَ الإمَالةِ والتّفْخِيم، ورواها قُتَيْبَةُ عنِ الكِسَائي. وقرأ الحَسَنُ «مَلَك يَوْمَ الدِّين» على الفِعْلِ، وهو اختيارُ أبِي حَنِيفَة - رضي الله تعالى عنه - ورُويتْ أيضاً عَنْ أَبِي حَيْوَة، ويَحيَى بن يعمر فمما رجحت به قراءة «مَالِكِ» أَنَّها أمْدَحُ؛ لعُمُوم إضافَتِه، إذ يُقالُ: «مَالِكُ الجِنِّ، والإِنْسِ، والطَّيْرِ» ولا يُقالُ: «مَلِك الطّيْرِ» ، وأنشدوا على ذلك: [الكامل] 50 - سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ [الوُجُوهُ] لِوَجْهِهِ ... مَلِكِ المُلُوكِ وَمَالِكِ العَفْوِ وقالُوا: فُلاَنُ مَالِك كَذَا، لِمَنْ يَمْلِكُه، بخلافِ مَلِك فَإِنَّهُ يُضَافُ إلى غَيرِ المُلُوكِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 نحو: «مَلِكِ العَرَب، والعَجَمِ» ، ولأَنَّ الزيادةَ في البناءِ تَدُّلُّ على الزيادةِ في المعنى، كما تقدم في «الرحمن» ولأنَّ ثواب تالِيها أَكثرُ من ثوابِ تَالِي «مَلِك» . ومما رُجِّحَتْ به قراءَةُ «مَلِكِ» ما حكاه الفَارسيّ، عن ابن السّرَّاجِ، عَنْ بَعْضِهِم: أنه وصف [نَفْسَه] بِأنه مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، بقوله: «رَبِّ العَالَمينَ» ، فَلا فَائِدَةَ في قراءَةِ مَنْ قَرَأَ «مَالِكِ» ؛ لأنها تَكْرَارٌ. قال أَبُو عَليٍّ: ولا حُجَّةَ فِيه؛ لأنَّ في التَّنْزِيلِ مِثْلهُ كَثِيرٌ، يَذْكُرُ العَامَُّ، ثُمَّ الخَاصُّ؛ نحو: {هُوَ الله الخالق البارىء المصور} [الحشر: 24] . وقال حَاتم: «مَالِكِ» أَبْلَغُ في مَدْحِ الخَالِقِ، و «مَلِكِ» أَبْلَغ في مَدْحِ المَخْلُوقِ، والفرق بَيْنَهُمَا: اَنَّ المَالِكَ مِنَ المخلوقين قد يَكُونُ غيرَ مَلِكٍ، وإذا كَانَ اللهُ - تعالى - مَلِكاً كان مالكاً [أيضاً] واختاره ابنُ العَرَبيِّ. ومِنْهَا: أَنَّها أَعَمُّ إذ تُضَافُ للملوكِ وغَيْرِ المَمْلوكِ، بخلاف «مَالِكِ» فإنه لا يُضَاف إلاَّ لِلْمملوكِ كما تقدم، ولإشْعَارِه بالكثرةِ، ولأنه تَمَدَّحَ تعالى - بقوله تعالى - «مَالِكِ المُلْكِ» ، وبقوله تعالى: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك} [آل عمران: 26] ، ومَلِكق مأخوذٌ منه [كما تقدّم، ولم يمتدح ب «مالك المِلْك» بكسر الميم الذي «مالك» مأخوذ منه] . وقال قَوْمٌ: «مَعْنَاهُمَا: واحِدٌ؛ مثلُ: فَرِهين وفَارِهِين، وحَذِرِين وحَاذِرِين» . ويُقالُ: المَلِكِ والمالِكِ: هو القَادِرُ على اختراع الأعيان من العَدَمِ إلى الوجود، ولا يَقْدِرُ عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 أحد غير الله تعالى. وجمع «مَالِكِ» : مُلاَّك ومُلَّك، وجَمْعُ «مَلِك» : أَمْلاَك ومُلُوك. وقُرِىء: «مَلْك» بسكون اللاّم، ومنه قول الشاعر: [الوافر] 51 - ... - وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍ طوَالٍ عَصَيْنَا المَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا كما يُقالُ: فَخِذٌ وفَخْذٌ، وجَمْعُه على هذا: أَمْلُك ومُلُوك، قاله مَكِّيٌّ رَحِمَهُ اللهُ. و «مَلِيك» ، ومنه: الكامل 52 - فَاقْنَعْ بِمَا قَسَمَ المَلِيكُ فَإِنَّمَا ... قَسَمَ الخَلاَئِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُهَا و «مَلَكي» بالإشْبَاعِ، وتُرْوَى عن نَافِع - رَحِمَهُ اللهُ -. إذا عُرِفَ هذا فيكونُ «مَلِك» نعتاً لله - تعالى - ظاهراً، فإنه معرفة بالإضافة. وأما «مَالِك» فإِنْ أُرِيدَ به مَعْنَى المُضّيِ، فجعلُه نَعْتاً واضِحٌ أيضاً؛ لأن إضافَتَه مَحْضَة فيتعرَّفُ بها، ويُؤيّد كونَهُ ماضِيَ المَعْنَى قِراءةُ من قرأ: «مضلَكَ يَوْمَ الدِّينِ» فجعل «مَلَكَ» فِعْلاً مَاضِياً، وإن أُرِيد به الحالُ، أو الاستقبالُ [فَيُشَكِلُ؛ لأنه: إِمَّا أنْ يُجْعَلَ نعتاً لله، ولا يجوزُ؛ لأنَّ إضافَةَ اسمِ الفاعلِ بمعنى الحالِ، أو الاستقبال] غَيْرُ محضةٍ، فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 يُعْرَف، وإذا لم يتعرَّفْ، فلا يكون نعتاً لمعرفةٍ؛ لما عرفت فيه تقدم من اشتراط الموافقة تَعْرِيفاً وتنكيراً. وإِمَّا أنْ يُجْعَلَ بَدَلاً، وهو ضَعيفٌ، لأن البدل بالمشتقاتِ نادِرٌ كما تقدم. والذي يَنْبَغِي أنْ يُقالَ: إنه نعت على مَعْنَى أنَّ تَقْييدَهُ بالزمانِ غَيْرُ مُعْتَبِرٍ؛ لأَنَّ الموصوفَ إِذَا عُرِّفَ بِوَصْفٍ كان تقييدُه بزمانٍ غير معتبرٍ، فكان المعنى - والله أعلم - أنه متَّصِفٌ بمالك يوم الدِّين مطلقاً من غير نظر إِلَى مُضِيٍّ وَلاَ حَالٍ، ولاَ اسْتِقْبالٍ، وهذا مَالَ إلَيهِ الزمخشريُّ رحمة الله تعالى. وإضافَةُ «مَالِكِ» و «مَلِكِ» إلى «يَوْمِ الدِّينِ» مِنْ بَابِ الاتِّساعِ؛ إذْ متعلّقهما غيرُ اليومِ، والتقديرُ: مَالِكِ الأَمْرِ كُلِّهِ يَوْم الدِّينِ. ونظيرُ إِضَافَةِ «مَالِكٍ» إلى الظَّرْفِ - هُنَا - نَظِيرُ إِضَافَةِ «طَبَّاخٍ» إلى «ساعات» في قول الشاعر: [الرجز] 53 - رُبَّ ابْنِ عَمِّ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ ... طَبَّاخِ سَاعَاتِ الكَرَى زَادَ الكَسَلْ إِلاَّ أَنَّ المَفْعُولَ في البيت مَذْكُورٌ - وهو «زادَ الكَسِلْ» ، وف الآية الكريمةِ غيرُ مذكورٍ؛ للدلاَلةِ علَيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 ويجوزُ أَنْ يكونَ الكَلاَمُ [على ظاهِرِه] من غيرَ تَقْدِيرِ حَذْفٍ. ونسْبَةُ «المِلك» والمُلْك «إلى الزمان في حَقِّ اللهِ - تعالى - غَيْرُ مُشْكِلِةٍ، ويُؤيِّدُه ظاهرُ قِرِاءَةِ مَنْ قَرأ:» مَلَكَ يَوْمَ الدّين «فِعْلاً ماضياً، فإن ظاهِرَهَا كونُ» يَوْمَ «مَفْعُولاً به والإضافةُ على مَعْنَى» اللامِ «، لأنَّها الأصل. ومِنْهم مضنْ جَعلها في هذا النحو على معنى» في «مُسْتَنِداً إلَى ظاهِرِ قَولِهِ تبارك وتعالى: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} [سبأ: 33] قال: المعنى» مَكْرٌ في اللَّيْلِ «إذ اللَّيلُ لاَ يُوصَفُ بالمكرِ، إنما يُوصَفُ بِه العُقَلاَءُ، فالمَكْرُ واقِعٌ فيه. والمشهورُ أَنَّ الإضافَةَ: إِمَّا على معنى» اللامِ «وإما على مَعْنى [مِنْ] ، وكونٌُها بمعنى» في «غَيْرُ صَحِيحٍ. وأَمَّا قولُه تعالى:» مَكْرُ اللَّيْلِ «فلا دَلاَلَةَ فِيه؛ لأنَّ هذا من بَابِ البَلاَغَةِ، وهو التَّجوزُ في أَنْ جَعَلَ ليلهم ونهارهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كَثْرة وقوعه منهم فيهما؛ فهو نَظيرُ قَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِم، ولَيْلُهُ قَائِم؛ وقول الشاعر في ذلك البيت: [البسيط] 54 - أَمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْد وَسِلْسِلَةٍ ... وَاللَّيْلِ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِنَ السَّاجِ لما كانت هذه الأشياءُ يكْثُر وقُوعها في هذه الظروفِ، وَصَفُوهَا بها مُبَالغةً في ذلك، وهو مَذْهَبٌ مَشْهُورٌ في كَلاَمِهِمْ. و «اليَوْمُ» لُغَةً: القِطْعَةُ مِنَ الزَّمَانِ، أيَِّ زَمَنٍ كَانَ مِنْ لَيْلٍ وَنَهار؛ قال الله تبارك وتعالى: {والتفت الساق بالساق إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق} [القيامة: 29 و30] وذلك كنايةٌ عن احتضار الموتى، وهو لا يختَصُّ بِلَيْلٍ ولا نَهَار. وأما في العُرْف: فهو من طُلُوعِ الفَجْرِ إلى غُرُوبِ الشمس. وقال الرَّاغِبُ: «اليوم» يُعَبَّرُ به عن وَقْتِ طُلُوعِ الشمسِ إلى [غُرُوبِها] . وهذا إنَّما ذكرُوهُ في النَّهارِ لا في اليَوم، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرتُ، وقد يُطْلَقُ اليوم على السَّاعةِ، قال تبارك وتعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ، وربما عُبِّرَ عَنِ الشِّدَّةِ باليومِ، يُقالُ يَوْمٌ أَيَوْمٌ؛ كما يُقالُ: لَيْلَةٌ لَيْلاَءُ. ذكره القُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى. و «الدِّينِ» مضافٌ إِلَيْه أَيْضاً، والمرادُ به - هنا - الجَزَاءُ؛ ومنهُ قولُ الشاعر: [الهزج] 55 - وَلَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوَا ... نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 أي: جَازيْنَاهُمْ كما جَازَوْنَا. وقال آخَرُ في ذلك: [الكامل] 56 - وَاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّ مُلْكَكَ زَائلٌ ... وَاعْلَمْ بَأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ ومثله: [المتقارب] 57 - إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْنَاهُمُ ... وَدِنَّاهُمْ مِثْلَ مَا يَقْرِضُونا ومثله [الطويل] 58 - حَصَادَكَ يَوْمَاً مَا زَرَعْتَ وإِنَّمَا ... يُدانُ [الفَتَى] يَوْماً كَمَا هُوَ دَائِنُ وقال ابنُ عباسٍ - رضي الله تَعَالَى عنهما - ومُقاتِلٌ والسُُّدَّيِّ: «مَالِكِ يَوْمِ لدِّينِ» : قَاضِي يَوْمِ الحِسَابِ؛ قال تعالى: {ذلك الدين القيم} [التوبة: 36] . أي الحسابُ المستقيمُ. وقال قَتَادَةُ: «الدِّين: الجَزَاءُ ويقعُ على الجزاءِ في الخَيْرِ والشَّرِّ جمِيعاً» . وقال مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِي: «مَالِكِ يَوْمِ الدِّين، يوم لا ينفعُ فيه إلاََّ الدِّين» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وقيل: الدين القَهْرُ: يُقالُ: دِنْتُهُ فَدَانَ أي: قَهَرْتُهُ فذلّ. وقيل: الدينُ الطاعَةُ؛ ومنه: «وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً» ، أيْ: طَاعَةٌ، وله مَعَاٍ أُخَرُ: العادَةُ؛ كقولِهِ هذا البيت: [الطويل] 59 - كَدِينِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرِثِ قَبْلِهَا ... وَجَارَتِهَا أُمِّ الرِّبابِ بمَأْسَلِ أَيْ: كَعَادَتِكِ. ومثله: [الوافر] 60 - تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي ... أَهَذَا دِينُهُ أَبَداً وَدينِي ودَانَ: عَصَى وأطاعَ: وذَلَّ وعَزَّ، فهو من الأضدَادِ [قاله ثعلب] . والقضاءُ؛ ومنه قولُه تبارك وتعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} [النور: 2] ، أَيْ: في قَضَائِهِ وحُكْمِهِ. والحَالُ؛ سُئِلَ بعضُ الأعرابِ فقال: «لو كنتُ على دِينٍ غير هذه، لأَجَبْتُكَ» ، أَيْ: على حَالَةٍ. والدَّاءُ؛ ومنه قولُ الشاعرِ في ذلك: [البسيط] 61 - يَا دِينَ قَلبِكَ مِنْ سَلْمَى وَقَدْ دِينَا ... ويُقالُ: جِنْتُهُ بفعله أَدِينُه دَيْناً أَدِينُه دَيْناً وَدِيناً - بفتح الدَّال وكَسْرِها في المصدر - أيْ: جَازَيْتُه. {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] . ويُقَالُ: دِينُ فُلاَنٌ يُدَانُ إذا حُمِلَ على مَكْروهٍ، ومنه قِيل للعبدِ: مَدِين، ولِلأَمَةِ: مَدِينَة. وقِيل: هو من دِنْتُهُ: إذا جازيته بطاعته، وجعل بعضُهم «المَدِينَة» مِنْ هذا البابِ قاله الرَّاغِبُ، وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظةِ عند ذكرها إِن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وإنما خُصَّ «يوم الدين» بالذكر مع كونِه مالِكا للأيّام كُلِّها؛ لأنَّ الأَمْلاَكَ يومئذَ زائِلة، فلا مُلْكَ ولاَ أَمْرَ إِلاَّ لَه؛ قال الله تعالى: {الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن} [الفرقان: 26] ، وقال: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] ، وقال تعالى: {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] . فصل فيمن قرأ بالإدغام هنا قرأ أَبُو عَمْرو - رَحِمَهُ اللهُ تعالى: - «الرَّحِيم ملك» بإدغام الميمِ في الميمِ، وكذلك يُدْغِمُ كُلُّ حَرْفَيْنِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَخْرج واحد، أو [كانا] قرِيبَي المَخْرج، سواءٌ كانَ الحرفُ سَاكِناً أَوْ مُتَحَرِّكاً، إلاُّ أَنْ يَكُونَ الحرفُ الأوَّلُ مُشَدَّداً، أَوْ مُنَوَّناً، أَوْ مَنْقُوصاً أَوْ مَفْتُوحاً، أوْ تَاءَ الخِطَابِ قبلَه ساكِن في غَيْرِ المِثْلَين، فإنه لا يدغمها وإدغامُ المتحرك يَكُونُ في الإدغَامِ الكَبيرِ، وافَقه حَمْزَة من إدغام المتحركِ في قوله تعالى: {بَيَّتَ طَآئِفَةٌ} [النساء: 81] [الصافات: 1 و2 و3] ، {والذاريات ذَرْواً} [الذاريات: 1] . وأَدْغَمَ التاءَ فيما بعدَها من الحُرُوف وافَقَهُ حَمْزَةُ بروايةَ رَجَاء، وخَلَف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 والكِسَائِي [في إدغام الساكن في المتحرك] إِلاَّ في الراءِ عند اللام، والدال عند الجيم، وكذلك لا يُدْغِمُ حَمْزَةُ الدَّالَ عند السين والصاد والزاي، ولا إدغام لسائر القراء إلاّ في أحرف معدودة. فصل في كلام القدرية والجبرية قال ابنُ الخَطِيب: قالتِ القدريَّةُ: إن كان خَالِقَ أَفْعالِ العبادِ، هو الله - تعالى - امتنع القول بالثواب، والعقاب، والجزاءِ، لأن الثوابَ للرّجل على ما لم يعملْ عَبَث، وعقابه على ما لم يعمل ظُلْمٌ وعلى هَذا التقديرِ، فيبطل كونه مَالِكاً ليوم الدين. وقالت الجبريةُ: لو لم تَكُنْ أعمالُ العبادِ بتقدير الله وترجيحه، لم يكن مالكاً لها، ولما أَجْمَعَ المسلِمُون على كونه مَالِكاً للعباد، ولأعمالِهم، عَلِمْنَا أَنَّهُ حالقٌ لها مقدرٌ لَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 إِيَّاكَ: كلمة ضمير خُصَّت بالإضافةِ إلى المُضْمَر، ويُسْتَعْمل مقدماً على الفعل، وإيَّاكَ أَسْأَلُ؛ ولا يُسْتَعْمَلُ مؤخراً إلاّ منفصلاً؛ فيُقال، ما عنيتُ إلاَّ إِيَّاكَ. وهو مفعولٌ مُقَدَّمٌ على «نعبد» قدِّم للاختصاصِ، وهوَ واجِبُ الانفصالِ. واخْتَلَفُوا فيه: هَلْ هو مِنْ قَبِيل الأسماءِ الظاهرة أو المضمرة؟ فالجمهورُ: على أنه مُضْمَرٌ. وقال الزَّجَّاجُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هو اسمٌُ ظاهر. والقَائِلُون بأَنَّهُ ضميرٌ اخْتَلَفُوا فيه على أربَعةِ أقوالٍ: احدُهما: أنه كلمةُ ضَمِيرٍ. والثاني: عَلَى أَنَّ «إِيَّا» وَحْدَهُ ضَمِيرٌ، وما بَعْدَهُ اسمٌ مُضَافٌ إليه يبيّن ما يُرادُ به [من تكلّم وغيبة وخطاب] . وثَالِثُها: أَنَّ «إِيَّا» وحده ضميرٌ، وما بعده حُرُوفٌ تبين ما يُرادُ به [من تكلم وغيبة وخطاب] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 ورابعُها: أَنَّ «إيَّا» عمادٌ وما بعده هو الضميرُ، وشذّت إضافته إلى الظاهِرِ في قولِهِم: «إذا بلغ الرَّجُلُ السِّتِّينَ، فإياه وإيَّايَ الشَّواب» بِإضَافَةِ «إيَّا» إلى «الشواب» ، وهذا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الكَافَ، والهاء، والياء في محلّ جر، إِذا قُلْتَ: «إِيَّاكَ إِيَّاه إِيَّايَ» وقد اَبْعَدَ بعضُ النَّحوِيِّينَ، فجعل له اشْتِقَاقَا، ثمَّ قال: هَلْ هو مشتقٌّ من «أَوَّ» ؛ كقول الشاعر في ذلك: [الطويل] 62 - فَأوِّ لِذِكْرَاهَا إِذَا ما ذَكَرْتُهَا ..... ... ... ... ... ... . أَوْ منْ «آيَة» ؛ كقوله [الرجز] 63 - لَمْ يُبْقِ هَذَا الدَّهْرُ مِنْ آيَائِهِ ... وهل وَزْنُه: «إفْعَل، أو فَعِيل، أو فَعُول» ثم صَيَّره التصريفُ إلى صِيغةِ «إيَّا؟ وهذا الذي ذكره لا يُجْدِي فائدةً، مع أنَّ التصريفَ والاشتقاق لاَ يَدْخُلان في المتوغِّل في البناءِ وفيه لُغاتٌ: أَشْهَرُها: كَسْرُ الهمزةِ، وتَشْدِيدُ اليَاءِ، ومنها، فَتْحُ الهمزةِ وإبدالها هاء مع تشديدِ الياءِ وتَخْفِيفها؛ قال الشَّاعر: [الطويل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 64 - فَهِيَّاكَ وَالأَمْرَ الَّذي إِن الَّذِي إِنْ تَرَاحَبَتْ ... مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلِيْكَ مَصَادِرُهْ وقال بعضُهم:» إيَّاكَ «بالتَخْفِيفِ مرغوبٌ عنه؛ لأنه بَصيرُ:» شَمْسَك نعبد «؛ فإِنَّ إِيَاةَ الشمسِ: ضَوْؤُها - بكسر الهَمْزةِ، وقد تُفْتَحُ. وقيل: هي لها بمنزلةِ الهَالةِ للقمر، فإذا حذفت التاءَ، مَدَدْتَ؛ قال: [الطويل] 65 - سَقَتْهُ إِيَاءُ الشَّمسِ إِلاَّ لِثَاتِه ... أُسِفَّ فَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بإثْمِدِ وقد قٌرِىءَ ببعضِهَا شَاذَّاً. وللضَّمائِرِ تَقسيمٌ مُتَّسِعٌ لا يحتمله هذا الكتاب، وإنما يأتي في غُضُونِه ما يليقُ به. و» نَعْبُدُ «فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ؛ لتجردِه من الناصبِ والجازِم، وقيل: لوقوعِه موقعَ الاسمِ، وهذا رأيُ البصريين. ومعنى المضارع المشابه، يعني: أنه أشبه الاسمَ في حركاتِهِ، وسكناتِهِ، وعدَدَ حُرُوفِهِ، ألاَ تَرَى أَنَّ» ضَارِباً «يُشْبِهُ» يَضْرِب «فيما ذكرت، وأنه يشيع ويختصُّ في الأزمانِ كما يشيعُ الاسمُ، ويختص في الأَشْخاصِ، وفَاعِلُهُ مستترٌ وُجُوباً لما مرَّ في الاستعاذة. والعبادَةُ: غايةُ التذللِ، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غاية الإفْضَالِ، وهو الباري - تعالى - وهو أبلغ من العُبُودِيَِّة إظهار التذلُّلِ، ويُقالُ: طريقٌ مُعَبَّدٌ، أَيْ: مُذَلَّلٌ بالوطْء فيه. وقال طَرَفة في ذلك: [الطويل] 66 - تُبَاري عِتَاقاً نَاجِيَاتٍ وَأُتْبِعَتْ ... وَظِيفاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 ومنه: العَبْدُ؛ لِذلَّتِهِ، وبَعيرٌ معبَّدٌ: أَيْ مُذلَّلٌ بِالقَطْرَان. وقيل: العبادةُ التَّجَرُّدُ، ويُقالُ: عَبَدْتُ اللهَ - بالتخفيف فقط - وعَبَّدْتُ الرجل - بالتشديدِ فقط، أَيْ: ذللتُه، واتخذتُه عبداً. وفي قوله تعالى: «إيَّاكَ نَعْبُد» التفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطَابِ، إِذْ لو جرى الكلامُ على اصله، لَقِل: الحمد لله، ثم قيل: إيَّاهُ نَعبدُ، والالتفاتُ: نوعٌ مِن البلاغَةِ. قال ابنُ الخَطيب - رَحِمَهُ اللهُ -: والفائدةُ في هذا الالتفاتِ وجوه: أحدُها: أن المصلِّي كان أَجْنَبِيَّاً عند الشروعِ في الصَّلاةِ، فلا جَرَمَ أَثْنَى على الله - تعالى - بألفاظ الغيبة، إلى قوله: «يَوْمِ الدِّينِ» ، ثم إنه تعالى كأنه قال له: حَمَدْتَنِي وأَقْرَرْتَ بكونِي إلهاً، ربَّا، رحماناً، رحيماً، مالكاً ليوم الدين، فَنَعْمَ العبْدُ أنت، فرفعنا الحجابَ، وأبدلنا البُعْدَ بالقُرْبِ، فتكلّم بالمخاطبة وقل: إياك نعبد. الثاني: أنّ أحسنَ السؤالِ ما وقع على سبيلِ المُشَافَهَةِ، [والسبب فيه أن الردَّ مِنَ الكريمِ إذا سُئِلَ] على سبيل المشَافهة والمخاطبة بَعِيدٌ. ومن الالتفاتِ - إلاّ كونه عَكْسَ هذا - قولُه تبارك وتعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] ولم يَقُلْ: «بكم» ؛ وقد التفتَ امرؤ القَيْسِ ثَلاثَ التفاتاتٍ في قوله: [المتقارب] . 67 - تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بَالأَثْمُدِ ... وَنَامَ الخَلِيليُّ وَلَمْ تَرْقُدِ وَبَاتَ وبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ ... كَلَيْلَةٍ دِي العَائِرِ الأرْمَدِ وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءنِي ... وَخُبِّرْتُهُ عَن أَبِي الأَسْوَدِ وقد خطَّأَ بعضُهم الزمخشريَّ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - في جَعْلِهِ هذا ثَلاثةَ التفاتَاتٍ، وقال: بل هما التفاتان: أحدُهما: خُروجٌ مِنَ الخِطابِ به في قولِهِ: «لَيْلُك» ، إلى الغَيْبَةِ في قوله: «وبَاتَتْ له لَيْلَةٌ» . والثاني: الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلِّم، في قولِه: «مِنْ نَبَأ جَاءَنِي وخُبِّرْتُهُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 والجوابُ: أَنَّ قولَه أَوّلاً: «تَطَاوَلَ لَيْلُك» فيه التفاتٌ؛ لأنه كان أصل الكلامِ أَنْ يقولَ: «تطاول لَيْلِي» ؛ لأنه هو المقصودُ، فالتفتَ مِنْ مقامِ التكلُّمِ إلى مقامِ الخِطَابِ، ومن مقامِ الخِطَابِ إلى الغيبة، ثمَّ مِنَ الغيبةِ إلى التكلُّمِ الذي هو الأصل. وقُرِىءَ شاذّاً: «إِيَّاكَ يُعْبَدُ» على بنائِهِ للمفعول الغائب؛ ووجهُها على إشْكَالِها: أن فيها استعارةً والتفاتاً: أما الاستعارةُ: [فإنه استُعِير] فيها ضميرُ النصبِ لضمير الرفْع، والأصل: أنت تُعْبَدُ، وهو شائع؛ كقولِهم: «عَسَاكَ، وعَسَاهُ، وعَسَانِي» في أحدِ الأقوالِ؛ وقول الآخر: [الرجز] 68 - يا ابْنَ الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا ... وَطَالَمَا عَنِّيْتَنَا إِلَيْكَا فالكافُ في «عَصَيْكَا» نائبةٌ عن التاءِ، والأصل: «عَصَيْتَ» . وأما الالتفاتُ: فكان من حقِّ هذا القارئ أَنْ يَقْرَأَ: «إِيَّاكَ تُعْبَدُ» بالخطابِ، ولكنه التفت من الخطاب في «إِيَّاكَ» إلى الغَيْبَةِ في «يُعْبَدُ» إلاّ أن هاذ الالتفاتَ غَريبٌ؛ لكونِهِ في جُمْلةٍ واحدةٍ، بخلاف الالتفاتِ المتقدّمِ؛ ونظيرُ هذا الالتفات قولُه: [الطويل] 69 - أَأَنْتَ الهِلاَلِيُّ الَّذي كُنْتَ مَرَّةً ... سَمِعْنَا بِهِ وَالأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ فقال: «بِهِ» بعد قوله: «أَنْتَ» و «كُنْتَ» . و «إِيَّاكَ» واجبُ التقديم على عامله؛ لأَنَّ القاعدَةَ أَنَّ المفعولَ به إذا كان ضميراً - لو تأخر عم عامله - وجب اتصالُهُ «، من نحو:» الدرهم إياه أعطيتك «لأنك لو أخرتَ الضميرَ هنا فقلتَ:» الدِّرْهَمُ أَعْطَيُكَ إِيَّاهُ «لم يَلْزَم الاتصالُ، لما سيأتي بل يجوزُ:» أعطيتكَهُ «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 فصل في معنى العبادة قال ابنُ الخَطيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: العبادةُ عبارةٌ عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تَعْظِيم الغَيْرِ، من قولهم: طريقٌ مُعّبَّدٌ، أَيْ: مذلَّلٌ، فقوله: إيَّاكَ نَعْبُدُ، معناه: لا أعبد أحداً سواك، ويدلُّ على هذا الحصر وجوه: فَذّكَر من جملتها: تسميَة الله، والرب، والرحمن، والرحيم، ومالك يوم الدين، وكونَهُ قادراً بان يُمسِكَ السّماءَ بلا إعانة، وأَرْضاً بلا دِعَامة، ويُسَيِّرُ الشمسَ والقمر، ويسكن القُطْبَيْن، ويخرجُ من السَّماء تارة النَّارَ؛ وهو البرق، وتارة الهواءَ؛ وهو الريح، وتارة الماء؛ وهو المطر. وأما في الأرضِ فتارةً يُخْرج الماء من الحَجَرِ؛ وتارةً يُخْرج الحجرَ من الماء؛ وهو الجمد، ثم جعل في الأرض أجساماً مُقيمةً لا تسافر؛ [وهي الجبال] ، وأجساماً مسافرة لا تقيم؛ وهي الأنهار، وخسف بقارون فجعل الأَرضَ فَوْقَهُ، ودفع محمداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى قَاب قَوْسَيْن، وجعل الماء ناراً لى قوم فرعون؛ لقوله: {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [نوح: 25] ، وجعل النارَ بَرْدَا وسلاماً على إِبْرَاهِيمَ - عليه السلام - ورفع مُوسَى - عليه السلام - فوق الطُّورِ، وغرق الدنيا من التّنُّورِ، وجعل البحر يبساً لموسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فهذا من أداة الحَصْرِ. والكلام في» إِيِّاكَ نَسْتَعِينُ «كالكَلاَمِ في» إِيَّاكَ نَعْبُدُ «. والواو: عاطِفَةٌ، وهي من المشتركةِ في الإعرابِ والمعنَى، ولا تقتضي تَرْتِيباً على قول الجمهور، خلافاً لطائفةٍ من الكوفيينَ ولها أحكام تختص بها تأتي إن شاء الله تعالى. وأصل» نَسْتَعِين «:» نَسْتَعْوِنُ «؛ مَثْلُ:» نَسْتَخْرِجُ «في الصحيح؛ لأنه من العَوْنِ، فاسْتُثْقِلَتِ الكسرةُ على الوَاوِ، فنقلت إلى السّاكنِ قَبْلَها، فسكنت الواوُ بعد النَّقلِ وانكَسَر ما قبلها؛ فَقُلِبَتْ ياءً. وهذه قاَعِدةٌ مطّردَةٌ؛ نَحْوَ:» مِيزَان، وميِقَات «، وهما من: الوَزْنِ، والوَقْتِ. والسِّينُ فيه معناها: الطلبُ، أَيْ نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ، وهو أحد المعاني التي ل» استفعل «وله معََانٍ أُخَرٌ: الاتخاذُ: نحو:» اسْتَحْجَرَ الطِّينُ «، أَيْ: نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ، وهو أحد المعاني التي ل» استفعل «، وله مَعَانٍ أُخَرٌ: الاتخاذُ: نحو:» اسْتَعْبِدْهُ «أي: اتخذْهُ عبداً. والتحولُ؛ نحو: «اسْتَحْجَرَ الطِّينُ» أَيْ: صار حجراً، ومنه قوله: «إنَّ البُغَاثَ بأَرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ» أي: تتحولُ إلى صفة النُّسور. ووجودُ الشَّيْءِ بمعنى ما صِيغَ منه؛ نحو: «اسْتَعْظَمَهُ» أَيْ: وجده عظيماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وعَدُّ الشَّيْ كذلك، وإِن لم يكُنْ؛ نحو: «اسْتَحْسَنَهُ» . ومطاوعةُ «أَفْعَل» ؛ نحو: أَشْلاَه فَاسْتَشْلَى «. وموافقتُه له أيضاً؛ نحو:» أَبَلَّ الْمَرِيضُ وَاسْتَبَلَّ «. وموافقةُ» تَفَعَّلَ «؛ نحو:» اسْتَكْبَرَ «بمعنى» تكبر «. وموافقةُ» افْتَعَلَ «؛ نحو:» اسْتَعْصَمَ «بمعنى» اعْتَصَمَ «. والإِغْنَاءُ عن المجرد؛ نحو:» اسْتَكَفّ «و» اسْتَحْيَا «، لم يتلفظ لهما بمجردِ استغناء بهما عنه. والإغْنَاءُ بهما عن» فَعَلَ «أي المجرد الملفوظ به نحو:» اسْتَرْجَعَ «و» استعان «، أيْ: رجع وحَلَق عانته. وقُرِىءَ:» نِسْتَعِينُ «بكسرِ حرف المضارعة؛ وهي لُغَةٌ مطردةٌ في حروف المُضَارعة. وذلك بشرط ألا يكن حرفُ المضَارعة ياءً؛ لثقل ذلك، على أنَّ بعضَهُم قال:» ييجَلُ «، مضارع» وَجَلَ «، وكأنه قصد إلى تَخْفِيفِ الواو إلى الياء، فكسر ما قبلها لتنقلب؛ وقد قُرِىءَ: {فإنَهم ييلَمُون} [النساء: 104] ، وهي هادمةٌ لهذا الاستثناءِ، وسيأتي تحقيقُ ذلك في موضعه إنْ شاء الله تعالى. وأن يكونَ المُضَارع من ماضٍ مكسورِ العَيْنِ؛ نحو:» تِعْلَمْ «من» عَلِمَ «، أو في أوله همزةُ وصلٍ، نحو» نِسْتَعِينُ «من» اسْتِعَانَ «، أو تاءُ مُطَاوَعةٍ؛ نحو:» نِتَعَلَّمُ «من» تَعَلَّمَ «، فلا يجوزُ في» يضْربُ «و» يقتلُ «كشر حرف المُضَارعة؛ لعدم الشرُّوط المذكورة. والاستعانَةُ: طلبُ العَوْنَ: وهو المُظَاهرة والنصرة، وقدم العِبَادَةَ على الاسْتِعَانَةِ؛ لأنها وصلةٌ لطلب الحاجة. وقال ابنُ الخَطيبِ: كأنه يقولُ: شَرَعْتُ في العِبَادَةِ: فأستعين بك في إتمامها، فلا تمنعني من إتمامها بالمَْوتِ، ولا بالمرضِ، ولا بقلب الدَّواعي وتَغَيُّرِها. وقال البَغَوِيُِّ: رَحِمَهُ اللهُ تعالى - فإن قيل: لم قدم ذِكْرُ العِبَادَةِ على الاستعانَةِ، والاستعانةُ لا تكون إلاَّ قبل العبادة؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 قلنا: هذا يلزمُ من جَعَلَ الاستعانةَ قبلَ الفعل، ونحن نَجْعلُ التوفيقَ، والاستعانةَ مع الفعل، فلا فرق بيت التقديم والتأخير. وقيل: الاستعانَةُ نوعُ تعبُّدٍ، فكأنه ذكر جملة العبادَةِ أوّلاً، ثم ذكر ما هو من تفاصيلها وأطلق كُلاًّ من فِعْلَيْ العبادَةِ والاستعانَةِ فلم يذكر لهما مفعولاً؛ ليتناول كل معبود به، وكلَّ مُسْتَعان [عليه] ، أَوْ يكون المُرادُ وقوعَ الفعلِ من غير نظر إلى مفعول؛ نحو: {كُلُواْ واشربوا} [البقرة: 60] أي أوقعوا هذين الفِعْلَيْنِ. فصل في نظم الآية قال ابنُ الخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: قال تعالى:» إيَّاكَ نَعْبُدُ «فقدَّمَ قولَه:» إيَّاكَ «على قوله:» نعبد «ولم يقل:» نعبدك «لوجوه: أحدُها: أنه - تبارك وتَعَالَى - قدّم ذِكْرَ نَفْسِهِ؛ لينبه العَابِدَ على أن المعبودَ هو اللهُ - تعالى - فلا يتكاسَلُ في التعظيم. وثانيها: أَنَّه إِنْ ثقلت عليك العبادات والطاعات وصعبت، فَاذْكُرْ أوَّلاً قولَه: «إياك» ؛ لتذكرني، وتحضر في قلبك معرفتي، فإذا ذكرتَ جَلاَلي وعظمتي، وعلمت أني مولاك، وأنك عبدي؛ سهلت عليك تلك العبادة. وثالثها: أن القديمَ الواجبَ لذاتِه متقدمٌ في الوجودِ على لمحدث الممكن لذاته، فوجب أن يكون ذكره متقدماً على جميع الأذكار. فصل في نون «نعبد» قال ابنُ الخَطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: لقائلٍ أّنْ يقولَ: النُّون في قوله تعالى: «نعبد» إما أن تكون نونَ الجمع، أو نونَ العظمةِ، والأول باطِلٌ، لأن الشخصَ الواحدَ لا يكون جَمْعَاً، والثاني باطل أيضاً؛ لأن عند أداء العبوديةِ، اللَّائق بالإنسان أن يذكر نفسه بالعَجْزِ والذّلة لا بالعَظَمَةِ. واعلم أنه يمكن الجوابُ عنه مِنْ وُجُوه: أحدها: أنّ المرادَ مِنْ هذه النونِ نونُ الجَمْعِ، وهو تنبيه على أنَّ الأَوْلَى بالإنسان، أَنْ يؤدي الصَّلاة بالجماعة. الثاني: أنَّ الرجلَ إِنْ كان يُصَلِّي في جماعة، فقوله: «نعبد» ، المُرَاد منه ذلك الجمعُ، وإن كان يصلّي الصَّلاة بالجماعة. الثالث: أنَّ المُؤْمِنين إخوةٌ، فلو قال: «إياك أعبدُ» كان قد ذكر عبادَةَ نفسِه، ولم يذكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 عبادَةَ غَيْرِه، أما إذا قال: «إياك نعبدُ» كان قد ذكر عبادَة نفسِه، وعبادة جميع المؤمنين شرقاً وغرباً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 اهْدِ: صِيغَةُ أمْرٍ، ومعناها: الدعاءُ، فقِيلَ معناه: أَرْشِدْنَا. وقال عَليٌّ: وأُبَيُّ بن كَعْب - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - ثبتنَ؛ كما يُقال للقائِم: قم حتى أعودَ إليك، أَيْ: دُمْ على ما أنت عليه، وهذا الدعاء من المؤمنين مع كونهم علَى الهدايَةِ بِمعنى التَّثْبِيتِ، وبمعنى طلبِ مزيد الهدَاية؛ لأنَّ الأَلْطافَ والهدايات من الله - تعالى - لا تتناهى على مذهب أَهْلِ السُّنة. قال ابنُ الخَطِيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: المرَادُ من قوله تعالى: «اهِدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ» هو: أنْ يكونَ الإنسانُ مُعْرِضاً عما سوى الله - تعالى - مُقْبِلا بكليةِ قلبه وفِكْرِه وذِكْرِه على الله تعالى. مثالُه: أنْ يصيرَ بحيثُ لو أُمِرَ بذبح غيرُه، لأطاعَ؛ كما فعل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ولو أُمِرَ بأَنْ ينقادَ، لأن يذبَحهُ غيرُه، لأطاعَ؛ كما فعله إسْماعِيلُ عليه الصلاةُ والسَّلام، ولو أُمِرَ باَنْ يُلْق] نفسَهُ في البحر، لأطاعَ؛ كما فعله يُونُس عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ولو أُمِرَ بأن يتلمذَ لمن هو أعلم منه بعد بلوغه في المَنْصب إلى أعلى الغايات، لأطاع؛ كما فعله موسى - عليه الصَّلاة والسلام - مع الخَضِر [عليه الصَّلاةُ والسلامُ] ، ولو أُمِرَ بأنْ يصبرَ في المر بالمَعْرُوف، والنهي عن المنكر على القتل، والتفريقِ بنصفين، لأطاع؛ كما فعله يَحْيَى بنُ زَكَرِيَّا - عليهما الصَّلاة والسلام - فالمراد بقوله تعالى «اهْدِنا الصِّراطَ المُسْتَقيمَ» ، هو الاقتداءُ بأنبياء اللهِ في الصَّبرِ على الشدائدِ، والثبات عند نزُولِ البلاءِ، ولا شَكّ أن هذا مقامٌ شَدِيدٌ؛ لأن أكثر الخَلْقِ لا طاقة لهم به. واعلم أن صيغةَ «أَفْعَلْ» تَرُِ لمعانٍ كثيرةٍ ذكرِها الأُصُوليُّونَ. وقال بعضُهم: إن وردت صيغةُ «افعل» من الأعلى للأدنى، قيل فيها: أَمرٌ، وبالعكس دُعاء، ومن المُساوي التماسٌ، وفاعله مستتر وُجُوباً، لِمَا مَرَّ، أي: اهْدِ أنت، و «ن» مفعولٌ أَوَّلٌ، وهو ضميرٌ متصل يكون للمتكلم مع غيره، أو المعظّم نفسه، ويستعملُ في موضع: الرّفع، والنصب، والجر، بلفظ واحد؛ نحو: «قُمْنَا» ، و «ضَرَبَنَا زَيْدٌ» ، و «مَرَّ بِنَا» ، ولا يشاركه في هذه الخصوصية غيره من الضَّمائر. وقد زعم بعضُ النَّاسِ أن الياء كذلك؛ تقولُ: «أكرمني» ، و «مرّ بي» ، و «أنت تقومين يا هند» ، و «الياء» في المثال الأوّل منصوبةُ المحلِّ، وفي الثاني مجرورته، وفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 الثالث مرفوعتهُ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأن الياءَ في حالةِ الرفع، ليست تلك الياء التي في حالة النَّصبِ والجر؛ لأن الأُولَى للمتكلم، وهذه المخاطبة المؤنثة. وقيل: بل يشاركُه لفظُ هُم؛ تقول: «هم نائمون» و «ضربتهم» و «مررت بهم» ، ف «هم» مرفوعُ المحلِّ، ومنصوبُهُ، ومجروره بلفظ واحد، وهو للغائبين في كل حالٍ، وهذا وإِنْ كان اَقربَ منَ الأولِ، إلاّ أَنَّهُ في حالة الرفع ضميرٌ منفصل، وفي حالة النصب والجر ضميرٌ متّصل. فافترقا، بخلاف «نَا» فإنَّ معناها لا يختلِفُ، وهي ضمير متصل في الأحوال الثلاثة. و «الصِّراطَ» مفعولٌ ثانٍ، و «المستقيم» صِفَتُه، وقد تبعه في الأربعةِ من العشرة المذكورة. وأصلُ «هَدَى» أن يتعدّى إِلَى الأولِ بنفسه وإلى الثاني بحرفِ الجَرِّ، وهو إما: «إلى» أو «اللام» ؛ كقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] ، {يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ثم يُتَّسَعُ فيه، فَيُحْذَفُ الجَرُّ، فيتعدى بنفسه، فأصلُ «اهْدِنا الصِّرَاطَ» : إهدنا للصِّراط أو إلى الصّراط، ثم حذف. والأمرُ عند البصريين مَبْنِيٌّ وعند الكوفين مُعْرَبٌ، ويَدَّعُونَ في نحو: «اضْرِبْ» ، أنَّ أصله: «لِتَضْرِبْ» بلامِ الأَمْرِ، ثم حذف الجازم، وتبعه حرفُ المُضَارعةِ، وأتي بهمزة الوصل؛ لأجل الابتداء بالسَّاكن، وهذا مما لا حاجة إليه، وللرد عليهم موضعٌ يليق به. ووزْنُ «اهْدِ» «افْعِ» ؛ حُذِفَتْ لاَمُه، وهي الياءُ حملاً [للأمر على المجزوم، والمجزوم تُحْذَفُ] منه لامه إذا كانت حرف علّة. ومعنى الهِدايَة: الإرشادُ أو الدلاَلَةُ، أو التقدّم. ومنه هواد الخيل لتقدمها. قال امرؤُ القَيْسِ: [الطويل] 70 - فَاَلْحَقَنَا بالهَادِيَاتِ وَدُونَهُ ... جَوَاحِرُهَا في صَرَّةٍ لَمْ تَزَيَّلِ أي: المتقدّمات الهَادية لغيرها. أو التَّبيينُ؛ نحو: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] أي: بيّنّا لهم؛ ونحو: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] ، أيْ: أَلْهَمَهُ لمصالحه. أو الدعاءُ؛ كقوله تعالى {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} [الرعد: 7] ، أيْ دَاعٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وقيل: هو المَيْلُ؛ ومنه قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] والمعنى: بقلوبِنا إِلَّيْكَ، وهذا غلط؛ فإن تَيْك مادةٌ أخْرى من «هَادَ - يَهُودُ» . وقال الرَّاغِبُ: الهِدَايَةُ: دَلاَلَةٌ بِلُطْفٍ، ومنه الْهَدِيَّةُ، وخصّ ما كان دلالةً ب، «هديت» وما كان إعْطَاءً ب «أهديت» . و «الصِّرَاط» : الطَّريقُ المستسهلُ، وبعضُهم لا يقيده بالمستسهلِ؛ قال [الرجز] 71 - فَضَلَّ عَنْ نَهْجِِ الطَّرِيقِ الْوَاضِحِ ... ومثله: [الوافر] 72 - أَمِيرُ الْمُؤْمِنينَ عَلَى صِرَاطٍ ... إِذَا اعْوَجَّ الْمَوَارِدُ مُسْتَقِيمِ وقال آخَرُ: [الوافر] 73 - شَحَّنَا أَرْضَهُمْ بِالْخَيْلِ حَتَّى ... تَرَكْنَاهُم أَذَلَّ مِنَ الصِّرَاطِ أَي: الطَّريقِ. وهو مُشْتَقٌّ من «السَّرْطِ» وهو: الابتِلاَع؛ إِمَّا لأنَّ سالكَهُ يَسْتَرِطُه، أَوْ لأنه يَسْتَرِطُ سَالِكَه؛ ألا ترى إلى قولهم: قَتَلَ أَرْضَاً عَالِمُهَا، وقَتَلَتْ أَرْضٌ جَاهِلُها؛ وبهذَيْن الاعتباريْن قال أبو تمام: [الطويل] 74 - رَعَتْهُ الْفَيَافي بَعْدَ مَا كَانَ حِقْبَةً ... رَعَاهَا وَمَاءُ المُزْنِ يَنْهَلُ سَاكِبُهْ وعلى هذا سُمِّيَ الطريقُ لَقَماً ومُلْتَقِماً؛ لأنه يلتقِمُ سالِكَه، أو يلتقمُهُ سالِكُه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وأصله: السّين: وقد قرأ به قُنْبُل رَحِمَهُ اللهُ تعالى حيث ورد، وإنما أُبْدِلَتْ صَاداً؛ لأجلِ حرفِ الاسْتِعْلاَءِ وإبدالها صاداً مُطَّرد عنده؛ نحو: «صَقَر» في «سَقَر» ، و «صَلَخ» في «سَلَخ» ، و «أَصْبغ» في «أَسْبَغ» ، و «مُصَيْطر» في «مُسَيْطر» لما بينهما من التَّقارب. وقد تُشَمُّ الصادُ في «الصِّرَاطِ» ونحوه زَاياً، وقرأ به خَلَفٌ، وحَمْزَةُ حيث ورد، وخَلاَّد: الأوَّلَ فقط، وقد تُقْرأُ زاياً مَحْضة، ولم تُرْسَمْ في المصحَفِ إلا بالصَّاد، مع اختلافٍ في قراءتِهم فيها كما تقدم. و «الصِّراطَ» يُذْكَرُ ويُؤَنَّثُ: فالتذكيرُ لُغَة تَميم، والتَّأنيثُ لغةُ «الحِجَازِ» ، فإِنِ اسْتُعمِلَ مُذكَّراً، جمع على «أَفْعِلَة» في القلّةِ، وعلى «فُعُل» في الكَثْرَةِ، نحو: «حِمَارِ» ، و «أَحْمِرَة» و «حُمُر» ، وإِنِ اسْتُعْمِلَ مُؤَنثاً، فقياسه أن يجمعَ على «اَفْعُل» : نحو: «ذِرَاع» و «أذْرُع» . و «المُسْتَقيمَ» اسمُ فَاعِلِ من استقامَ، بمعنى المُجَرّد، ومعناه: السَّوِيِّ مِنْ غَيْرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 اعْوِجَاج، واَصْلُه: «مُسْتَقْوم» ثُم أُعِلّ كإعلالِ «نَسْتَعِيْن» وسيأتي الكلامُ [مُسْتَوْفى] على مادتِه إن شاء الله - تعالى - عند قوله تعالى {وَيُقِيمُونَ الصلاة} [البقرة: 3] . و «الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ» قال ابنُ عَبَّاسٍ، وجَابِرٌ - رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: هو الإسْلام، وهو قولُ مُقَاتِلٍ، وقال ابنُ مَسْعودٍ رضي الله تعالى عنهما: هو القرآن الكريم، وروي عن علي - رضي الله تعالى عنه - مرفوعاً: الصِّرَاطُ المُسْتَقِيمُ: كِتَابُ اللهِ تَعَالى. وقال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه «طَريقُ الجَنَّة» . وقال سَهْلُ بن عَبْدِ الله رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هو طريقُ السُّنَّةِ والجَمَاعة. وقال بَكْرُ بنُ عبد الله المُزْنِيِّ: هو طريقُ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 وقال أَبُو العَالِيةِ، والحَسَنُ: رسولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصَاحِبَاه. قال ابنُ الخَطيب: الحِكْمَةُ في قوله: «اهْدِنَا» ولم يَقُلْ «اهدني» ؛ إما: لأن الدعاءَ مهما كان أعم، كان إلى الإجابة أَقْربَ. وإمَّا لقول النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «ادْعوا الله تعالى بأَلْسِنَةٍ مَا عَصَيْتُمُوه بها» قالُوا: يَا رَسُولِ الله، فمن لنا بتلك الأَلسِنَةِ؟ قال: «يَدْعُو بَعْضَكُمْ لبعضٍ؛ لأنك ما عصيت بِلِسَانه، وَهُوَ ما عَصَى بِلِسَانِكَ» . الثالث: كانّ العبدَ يقولُ: سمعتُ رَسُولَك يقولُ: «الجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ» ، فلما أَرَدْتُ حمدك، قلتُ: الحَمْدُ لله، ولما ذكرت العبادة، ذكرُ عبادةَ الجَمِيع، ولما ذكرتُ الاستعانةَ، ذكرتُ استعَانَة الجَمِيع، فلا جرم لَمَّا طلبتُ الهدايةَ، طلبتُها للجميع، ولما طلبتُ الاقتداءَ بالصالحين، طلبتُ اقتداءَ الجميع؛ فقلتُ: «غَيْرَ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّيْنَ» ، فلما لَمْ أُفارِق النبياءَ والصالحين في الدنيا، فأرجو ألا أفارِقََهم في الآخرة؛ كما قال تعالى: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} [النساء: 69] الآية الكريمةَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 قوله تعالى: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} «صِرَاطَ الذِيْنَ» بدل منه، بدل كُلِّ مِنْ كُلّ، وهو بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ. والبدلُ سبعةُ أَقْسَامٍ على خلاف في بعضها: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 بدلُ كُلَ من كُلّ، ولد بَعْضٍ من كُلّ، وبدلُ اشتِمَالٍ، وبدلُ غَلَطٍ، وبدل نِسْيَان، وبدل بَدَاء، وبدل كُلّ من بعض. أما الأقسامُ الثلاثَةُ الأُوَلُ، فلا خلاَف فِيها. وأما بدلُ البدَاء، فأثبته بعضُهم؛ مستدلاً بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «وإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصلاَة، وما كتب له نِصْفُهَا ثُلُثُهَا رُبعُها إلى العُشُرِ» ولا يَرِدُ هذا القرآن الكريمِ. وأما الغَلَطُ والنسْيَانُ: فأثبتهما بعضُهم؛ مُسْتَدِلاًّ بقول ذي الرُّمَّةِ: [البسيط] 75 - لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وَفِي اللِّثاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ قال: لأنَّ «الحُوّة» السّوادُ الخالِصُ، و «اللَّعَسُ» سواد يشوبه حُمْرَة، ولا يرِدُ هذان البدلان في كَلاَمٍ فصيحٍ. وأما بدل الكُلّ من البعض، فأثبته بعضهُم، مُسْتَدِلاَّ بظاهِر قوله: [الخفيف] 76 - نَضَرَ اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا ... بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ في رواية مَنْ نَصَبَ «طَلْحَةَ» ، قال: لأنَّ «الأَعْظُمَ» بعضُ «طَلْحَةَ» ، و «طَلْحَةَ» كُلّ وقد أُبْدِلَ منها؛ واستدلّ - أيضاً - بقول امرئ القيس [الطويل] 77 - كَأنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا ... لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ ف «غَدَاةَ» بعضُ «اليوم» ، وقد أُبْدِلَ «اليوم» منها. ولا حُجَّةَ في البيتَيْنِ، أما الأولُ: فإنَّ الأَصْلَ «أعظماً دفنوها أَعْظَمَ طلحة» ثم حُذِفَ المضافُ، وأُقيم المضافُ إليهِ مُقَامه؛ ويدلُّ على ذلك الروايةُ المشهورةُ وهي جَرُّ «طَلْحَةَ» على أن الأصل: «اعظم طلحة» ولم يَقُم المضاف إليه مقامَ المضاف. وأما الثاني: فإنَّ «اليَوْمَ» يُطلقُ على القطعةِ من الزمان، كما تقدّم، وليس هذا موضعَ البَحْثِ عَن دَلائِلِ المذهبيْن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وقيل: «الصراط» الثاني غير الأول، والمرادُ به: العلمُ بالله تعالى. قاله جَعْفَرُ بنُ محمد رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وعلى هذا فتخريجته أن يكونَ مَعْطُوفاً حُذِفَ منه حَرْفُ العَطْفِ، وبالجملة فهو مُشْكلٌ. والبدلُ ينقسمُ أيضاً إلى: بدل ظاهِر من ظاهرٍ: ومُضْمَرٍ مِنْ مُضْمَرٍ، وظاهرٍ مٍنْ مضمر، ومضمرٍ من ظاهر. وفائدةُ البَدَلِ: الإيضاحُ بعد الإبْهَامِ؛ لأنهُ يُفِيدُ تأكيداً من حَيْثُ المعنى، إذ هو على نيّةِ تَكْرَار العامل. و «الذين» في مَحَلِّ جرٍّ بالإضافة، وهو اسمُ موصولٍ، لافتقاره إلى صلةٍ وعائدٍ، وهو جمع «الذي» في المعنى، والمشهورُ فيه أن يكونَ بالياءِ، رفعاً، ونصباً، وجرَّاً؛ وبعضُهم يرفعُه بالواوِ؛ جَرْياً له مَجْرَى جَمْعِ المذكَّر السَّالم؛ ومنه: [الرجز] 78 - نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحُوا الصَّبَاحا ... يَومَ الفَسَادِ غَارَةً مِلْحَاحَا وقد تُحْذَفُ نُونُه استِطَالةً بصلته؛ كقوله: [الطويل] 79 - وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمَ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمِّ خَالِدِ ولا يقع إلاّ على أولي العلم، [ولا يقع مجرى جمع المذكر السَّالم، بخلاف مجرده فإنه يقع على أولي العلم] وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 و «أَنْعَمْتَ» : فِعْلٌ، وفاعلٌ، صِلَة المَوْصُولِ. والتاء في «أنعمتَ» ضميرٌ مرفوعٌ مُتَّصل. و «عليهم» جار ومجرور متعلّق ب «أنعمتَ» ، والضميرُ هو العائدُ، وهو ضمير جمع المذكرين العقلاء، ويستوي فيه لفظ مُتَّصِلِهِ ومُنْفَصِلِهِ. والهمزةُ في «أنعمتَ» ؛ لجَعْلِ الشيءِ صَاحِبَ ما صِيَغَ منه، فحقُّه أن يَتَعَدَّى بِنَفْسِه، ولكن ضُمِّنَ معنى «تَفَضَّلَ» فَتَعَدَّى تَعْدِيَتُهُ. وقرأ عمر بنُ الخَطّاب، وابنُ الزُّبَيْرِ رضي الله - تعالى - «صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ» . ول «أَفْعَلَ» أربعةٌ وعشرُونَ مَعْنى، تقدّمَ وَاحِدٌ. والتعدِيَةُ؛ نحو: «أَخْرَجْتُه» . والكثرةُ؛ نحو: «أظْبَى المَكَانُ» أَيْ: «كَثُرَ ظِبَاؤُه» . والصَّيرورة؛ نحو: «اَغَدَّ البَعِيرُ» صار ذا غُدّة. والإعانةُ؛ نحو: «أَحْلَبْتُ فُلاَناً» أي: أعنتُه على الحَلْبِ. والتَّشْكِيَةُ؛ نحو: «أَشكيته» أي: أزلتُ شِكَايَتَهُ. والتَّعرِيضُ؛ نحوك «أبعتُ المبتاعَ» ، أي: عرضتُه للبيع. وإصابةُ الشيءِ بمعنى ما صيغ منه؛ نحو: «أحمدتُه» أي: وجدتُه محموداً. وبلوغُ عَدَدٍ؛ نحو: «أعشَرتِ الدَّرَاهِمُ» ، أي: بلغتِ العَشَرَة. أو بلوغُ زَمانٍ؛ نحو «أصبح» ، أو مَكَانٍ؛ نحو «أَشْأَمَ» . وموافقَةُ الثّلاثي؛ نحو: «أحزتُ المكانَ» بمعنى: حُزْتُهُ. أَوْ أَغْنَى عن الثلاثي؛ نحو: «أَرْقَلَ البعيرُ» . ومطاوعةُ «فَعَلَ» ؛ نحو قَشَعَ الريح، فَأَقْشَع السّحابُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 ومطاوعةُ «فَعَّلَ» ؛ نحو: «فَطَّرْتُهُ، فَأَفْطَرَ» . ونَفْيُ الغريزَةِ؛ نحو: «أسرع» . والتَّسميةُ؛ نحو: «أخطأتهُ» ، أَيْ: قلتُ له: سَقَاكَ الله تعالى. والاستحقاقُ؛ نحو «أَحَصدَ الزرعُ» ، أيْ: استحقَّ الحصادَ. والوصولُ؛ نحوه: «أَعْلَقْتُهُ» ، أيْ: وصَّلتُ عقلي إليه. والاستقبالُ نحو: «أَفَفْتُهُ» ، أي: استقبلتُه بقول: أُفٍّ. والمجيءُ بالشيء؛ نحو: «أكثرتُ» أَيْ: جئت بالكثير. والفرقُ بين أَفْعَلَ وفَعَلَ، نحو: أَشْرَقَتِ الشَّمسُ: أضاءتْ، وشَرَقَتْ: طَلَعَتْ. والهجومُ؛ نحو: اَطْلَعْتُ على القوم، أيْ: اطَّلعْتُ عَلَيْهِمْ. و «على» حرف استعلاء حقيقةً أو مجازاً؛ نحو: عليه دَيْنٌ: ولها معانٍ أُخَرُ، منها: المُجَاوزة؛ كقوله: [الوافر] 80 - إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لِعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا أيْ: عَنِّي. وبمعنى «الباءِ» {حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ} [الأعراف: 105] ، أي: بأَنْ، وبمعنى «في» ؛ {الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} [البقرة: 102] أيْ: فِي [مُلْكٍ] ، {المال على حُبِّهِ ذَوِي القربى} [البقرة: 177] . والتعليلُ: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] ؛ أي لأجلِ هِدَايَتِه إياكم. وبمعنى «مِن» : {حَافِظُونَ إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ} [المؤمنون: 5، 6] ، أيْ: إلاّ مِنْ أَزواجهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 والزيادة كقوله: [الطويل] 81 - أبَى اللهُ إلاَّ أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ ... عَلَى كُلِّ أَفْنَانٍ العِضَاهِ تَرُوقُ لأنَّ «تُروقُ» يتعدى بنفسِه، ولكل موضع من هذه المواضع مَجَالٌ للنظر. وهي مترددةٌ بين الحَرْفِيَّةِ، والاسْمِيَّةِ؛ فتكونه اسماً في موضعين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 أحدهُما: أن يدخلَ عليها حَرْفَ الجَرّ؛ كقول الشاعر: [الطويل] 82 - غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَمَّ ظِمْؤُهَا ... تَصِلُ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَيزَاءَ مَجْهَلِ ومعناها «فَوق» ، أيْ: من فوقه. والثاني: أنْ يؤدي جعلُه حرفاً، إلى تعدِّي فعل المضمر المنفصل إلى ضمير المتّصل في غيرِ المَوَاضِع الجَائِز فيها؛ ومن ذلك قوله: [المتقارب] 83 - هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمُورَ ... بِكَفِّ الإلهِ مَقَادِيرُهَا ومثلُها في هذيْن الحُكْمَيَن «عن» ، وستأتي إن شاء الله تعالى. وزعم بعضُهم أنَّ «على» مترددةٌ بين الاسم، والفِعْلِ، والحرفِ. أما الاسمُ والحرفُ، فقد تقدما. وأما الفعلُ: قال: فإنك تقولُ: «عَلاَ زيدٌ» أي: ارتفع. وفي هذا نَظَرٌ؛ لأن «عَلاَ» إذا كان فِعْلاً، مُشْتَقٌّ من العُلُوِّ، وإذا كان اسماً أو حرفاً، فلا اشتقاقَ له، فليس هو ذَاكَ، إلاَّ أنَّ هذا القَائِلُ يَرُدَُّ هذا النظرَ، [بقولهم: إنَّ «خَلاَ» ، «وَعَدا» مترددانِ بين الفعليَّةِ والحرفيَّةِ، ولم يلتفتوا إلى هاذ النظر] . والأصلُ في هاء الكِناية الضَّمُّ، فإن تقدمها ياءٌ ساكنة، أو كسرةٌ، كَسَرَها غيرُ الحِجازَيين؛ نحو: عَلَيْهِم وفِيهِمْ وبِهِمْ. والمشهورُ في مِيمِها السكونُ قبل متحرك، والكسرُ قبل ساكن، هذا إذا كَسَرْتَ الهاء، أما إذا ضممتَ، فالكَسْرُ ممتنع إلاّ في ضَرُورة؛ كقوله: «وفِيهُمِ الحكام» بِكَسْرِ المِيمِ. وفي «عَلَيْهِمْ» عشرُ لُغاتٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 قُرِىءَ بِبَعْضِها: «عَلَيْهُمْ» بكسر الهاء وضمها، مع سُكُون الميم. «عَلَيْهِمي» ، بكسر الهاء، وزيادة الياء، وبكسر الميم فقط. «عليهُمُو» بضم الميم، وزيادة واو، أو الضم فقط. «عليهِمُو» بِكَسْرِ الهاءِ، وضم الميمِ، بزيادة الواو. «عليهُمِي» بِضَمِّ الهاء، وزيادة ياي بعد الميم. أو الكسر فقط «عليهِمُ» بكسر الهاء، وضم الميم، حكى ذلك ابنُ الأَنْبَاري. والتفسيرُ، قال البَغَويُّ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «صراط الذين أنعمت عليهم أي: مَنَنْتَ عليهم بِالهِدَايَةِ والتوفيق، وقال عِكْرِمة - رضي الله تعالى عنه -: مَنَنْتَ عليهم بالثَّبات على الإيمان والاسْتِقَامَةِ وعلى الأنبياء عليهم السلام. وقِيل: على كُلِّ مَنْ ثَبَتَهُ الله - تعالى - من النَّبِيين والمُؤْمنين الذي ذكرهم الله - تعالى - في قوله: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين} [النساء: 69] وقال ابنُ عباس - رضي الله تعالى عنهما - هُمْ قومُ مُوسَى، وعِيسَى - عليهما الصلاة والسلام، قبل أن غيروا دينهم. وقال أَبُو العَالِيَةَ: هم آلُ الرسولِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبو بكر، وعمر رَضِيَ اللهُ عَنْهما. وقال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: هم أصحابُ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأهل بَيْتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 وقرأ حَمْزَةُ «عَلَيْهُمْ» ، و «إلَيْهُمْ» ، و «لَدَيْهُمْ» بضم الهاء. ويضم يَعْقُوب كُلُّ هاءٍ قبلها ياءٌ ساكنة تثنيةً وجمعاً، إلاّ قوله تعالى: {بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ} [الممتحنة: 12] . والآخَرونَ: بكسرها. فَمَنْ ضَمَّها ردّها إلى الأصل؛ لأنها مضمومة عند الإنفراد. ومَنْ كسرها، فالأصل الياءُ السَّاكنة، والياءُ أختُ الكسرة. وضم ابنُ كَثِير، وأَبُو جَعْفَر كلَّ ميم جمع مُشْبِعاً في الوَصلِ، إذا لم يلقها ساكن، فإن لقيها ساكِنٌ فلا يُشبِعُ. ونَافِعٌ يُخَيَّرُ، ويضمُّ وَرْش عند ألِفِ القطع. وإذا تلقته ألفُ الوصلِ، وقبل الهاء كسرٌ، أو ياءٌ ساكنةٌ، ضمّ الهاءَ والمِيمَ حَمْزَةُ والكسائي - رحمهما الله - وكَسَرَهُما أبُو عَمْرو، وكذلك يَعْقُوبُ إذَا انْكَسر ما قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 والآخرون: بضمّ الميم، وكسرِ الهاء؛ لأجل الياء أو لكسر ما قبلها، وضمّ الميم على الأصل، وقرأ عمرُ بن الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه -: «صرَاطَ مَنْ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ» . قال ابنُ الخَطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: اخْتُلِفَ في حَدِّ النّعْمَةِ: فقال بعضُهم: إنَّها عِبَارَةٌ عن المَنْفَعَةِ المفعولة على جِهَةِ الإحسان إلَى الغيرِ. ومنهم مَنْ يقولُ: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحْسَان إلَى الغير] . قالوا: وإنما زدْنا على هذا القَيْدِ، لأن النعمةَ يستحقّ لها الشكر والإحسان [والحقّ أن هذا القيد غير معتبر؛ لأنه لا يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان] ، وإنْ كان فعله محظوراً؛ لأن جهةَ استحقاقِ السكر غير جهةِ استحقاق الذَّنْب والعِقاب، فأيُّ امتناعٍ في اجتماعهما؟ ألاَ ترى أن الفاسِقَ يستحقُّ بإنعامه الشُّكْرَ، والذَّمِّ بمعصيةِ الله تعالى، فلا يجوزُ أن يَكُونَ الأمرُ ها هنا كذلك. ولنرجع إلى تفسير الحَدِ: فنقول: أما قولُنا: «المنفعةُ» ؛ فلأن المَضَرَّةَ المحضةَ لا تكونُ نِعمَةً. وقولنا: المفعولة على جهة الإحسان؛ لأنه لو كان نفعاً وقَصَدَ الفاعلُ به نفعَ نفسه، نَفْعَ المفعولِ به، فلا يكونُ نِعْمَةً، كَمَنْ أحسن إلى جَاِريَتِهِ، ليربَحَ عليها. وها هنا فوائدُ: الفائِدَةُ الأُوْلَى: أنَّ كلّ ما يصل إلى الخلق من النفع، ودفع الضَّرر، فهو من الله تعالى على ما قال تبارك وتعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53] ، ثمَّ إنَّ النعمةَ على ثلاثةِ أَقْسَامٍ: أحدُها: نِعمةٌ تَفَرَّدَ الله - تعالى - بإيجَادِهَا، نحو: أنْ خَلَق وَرَزَقَ. وثانيها: نعمةٌ وصلت إلينا من جهةِ غيرِ الله - تعالى - في ظاهرِ الأمْرِ، وفي الحقيقة فهي - أيضاً - إنّما وصلت إلينا من الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأنه - تعالى - هو الخالقُ لتلك النعمةِ، والخالقُ لذلك المنعِِمِ، وخالقٌ لداعيةِ الإنْعَام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم، إلاّ أنه تبارك وتعالى لَمّا أَجْرَى تلك النعمة على يَدِ ذلك العَبْدِ، كان ذلك العبدُ مشكوراً، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله - تعالى - ولهذا قال تعالى: {أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير} [لقمان: 14] فبدأ بنفسِه، تنبيهاً على أن إنعامَ الخلقِ لا يتمّ إلاّ بإنعام الله تعالى. وثالثها: نِعْمُ وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا، وهي أيضاً من الله تعالى؛ لأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 لولا أنَّ الله - سبحانه وتعالى - وَفَّقنا للطاعات، وأعاننا عليها، وهدانا إليها، وأَزَاحَ الأعذار عَنا، وإلاّ لَمَا وصلنا إلى شَيْءٍ منها، فظهر بها التقرير أنَّ جَمِيعَ النعم في الحقيقة كم الله تَعَالى. الفائدةُ الثانيةُ: اختلفوا [في أنه] هل لله - تعالى - نعمةً على الكافرِ أَم لاَ؟ فقال بعضُ أصحابنا: ليس لله - تعالى - على الكافر نعمة. وقالت المعتزلةُ: لله - تعالى - على الكافر نعمة دينية، ونعمة دنيوية. واحتجَّ الأصحابُ على صحّةِ قولهم، بالقرآن [الكريم] ، والمعقول. أما القرآنُ؛ فقوله تبارك وتعالى: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ؛ وذلك لأنه لو طلب كان لله على الكافر نعمةٌ، لكانوا داخِلينَ تحت قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} فيكون طلباً لصراطِ الكُفَّارِ، وذلك بَاطِلٌ، فثبت بهذه الآيةِ أنه ليس لله - تعالى - على الكافر نعمةٌ. فإن قَالُوا: إنَّ قَوْله: {الصراط المستقيم} يدفعُ ذَلِكَ. قلنا: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدل مِنْ قَوْلِهِ: {الصراط المستقيم} ؛ فكان التَّقْدير: «اهدِنا صراطَ الذين أنعمت عليهم» ، وحينئذٍ يَعُودُ المحذوف المذكورُ. وقوله تبارك وتعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} [آل عمران: 178] . وأما المَعْقُولُ: فهو أَنَّ نِعَمَ الدنيا الفانيةَ في مقابلةِ عَذَابِ الآخرة على الدوام، كالقَطْرةِ في البحر، ومثل هذا لا يكون نِعْمَةً، فقد احتجُّوا بقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بِنَآءً} [البقرة: 21، 22] ، على أنه يَجِبُ على الكُلِّ طاعةُ الله - تعالى - لأجلِ هذه النعم، وإلاّ لما كانت هذه النعمُ العظيمةُ معتبرةً؛ وقولِه تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} [البقرة: 28] ، ذكر ذلك في معرض الامْتِنَانِ، وشرحِ النعم. وقولِه تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] . وقولِه تعالى: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] . وقول إبليس: {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ولو لم تحصل النعمة، لم يلزمْ من عَدَمِ إقدامِهم على الشكر محذورٌ؛ لأنّ الشكر لا يمكن إلاّ عند حصول النعمة. الفائدة الثالثةُ: قال ابنُ الخَطيب - رَحِمَهُ اللهُ -: قوله تعالى: {اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يدل على إمامةِ أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْه؛ لأنا ذكرنا أن تقديرَ الآية: «اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم» والله - تعالى - قد بيّن في آية أُخْرَى أَنَّ {الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} من هم؛ بقوله تعالى: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين} [النساء: 69] ورئيسهم أبو بكر الصّديق - رضي الله تعالى عنه - فكان معنى الآية أن الله - تعالى - أمرنا أن نطلب الهداية [التي كان عليها أبو بكر الصديق، وسائر الصّديقين، ولو كان أبو بَكْرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْه - فكان معنى الآية أن الله - تعالى - امرنا أن نطلب الهداية [التي كان عليها أبو بكر الصديق، وسائر الصّديقين، ولو كان أبو بَكْرٍ - رضي الله تعالى عنه - غيرَ إمام، لما جَازَ الاقتداء به] ، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا، أو نعمة الدين، والأول باطل فثبت أن المراد منه نعمة الدين. فنقول: كل نعمة ديِنيَّة سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان، وأمّا نعمة الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية، وهذا يدلّ على أن المراد من قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} هو نعمة الإيْمَان، فرجع حاصل القول في قوله تعالى: {1649;هْدِنَا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} أنه طلب لنعمة الإيمان، وإذا ثبت هذا الأصل، فيتفرع عليه أحكام: الأول: أنه لما ثبت أن المرادَ من هذه النعمة نِعْمَةُ الإيمان، إذ لفظ الآية الكريمة صريح في أن الله - تعالى - هو المنعم بالنعمة، ثبت أنّ الخالق للإيمان، والمعطي للإيمان هو الله تعالى، وذلك يدل على فساد قول المعتزلة، وكان الإيمان أعظم النعم، فلو كان الفاعل للإيمان هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله تعالى، ولو كان كذلك لما حسن من الله - تعالى - أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم. الحكم الثاني: يجب ألاَّ يبقى المؤمن مخلداً في النار؛ لأن قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} مذكور في معرض التَّعظيم بهذا الإنعام، ولو لم يكن له أثر في دفع العَذَاب المؤبّد لكان قليل الفائدة، فما كان يحسن من الله - تعالى - ذكره في معرض التعظيم. الحكم الثالث: دلّت الآية الكريمة على أنه لا يجب على الله - تعالى - رعاية [الصلاح والأصلح] في الدين؛ لأنه لو كان الإرشاد على الله - تعالى - واجباً لم يكن ذلك إنعاماً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 وحيث سماه الله - تعالى - إنعاماً علمنا أنه غير واجب. الحكم الرابع: لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام الإقدار على الإيمان؛ لأن الله - تبارك وتعالى - قدر المكلف عليه، وأرشده إليه، وأزاح أعْذَارَهُ وعِلَلَهُ عَنْهُ، لأن كل ذلك حاصل في حقّ الكفار، فلما خلص - تعالى - بعض المكلفين بهذا الإنعام، مع أن الإقدار، وإزاجة العلل حاصل في حَقّ الكل، علمنا أن المراد ليس هو الإقدار، وإزاحة الموانع. قوله تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} «غير» بدل من «الذين» بدل نكرة من معرفة. وقيل: نعت ل «الذين» ، وهو مشكل؛ لأن «غير» نكرة و «الذين» معرفة، وأجابوا عنه بجوابين: أحدهما: أن «غير» إنما يكن نكرة إذا لم يقع بين ضدّين، فأما إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغيرية، فيتعرف «غير» حينئذ بالإضافة، تقول: «مررت بالحركة غير السكون» والآية من هذا القبيل، وهذا إنما يتمشّى على مذهب ابن السّراج، وهو مرجوح. والثاني: أن الموصول أَشْبَهَ النكرات في الإبْهَام الذي فيه، فعومل معاملة النكرات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وقيل: إن «غير» بدل من المضمر المجرور في «عليهم» ، وهذا يشكل على قول من يرى أن البدل يحل محل المبدل منه، وينوي بالأول الطّرح؛ إذ يلزم منه خلة الصّلة من العائد، ألا ترى أن التقدير يصير: «صراط الذين أنعمت على غير المغضوب عليهم» . و «المغضوب» خفض بالإضافة، وهو اسم مفعول، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور، ف «عليهم» الأولى منصوبة المَحَلّ، والثانية مرفوعته، و «أل» فيه موصولة، والتقدير: «غير الذين غُضِب عليهم» . والصحيح في «أل» الموصولة أنها اسم لا حَرْفٌ. واعلم أن لفظ «غير» مفرد مذكر أبداً، إلا أنه إن أريد به مؤنث جاز تأنيث فعله المسند إليه، نقول: «قامت غيرك» ، وأنت تعني امرأة، وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل، وهو مغاير، ولذلك لا تتعرف بالإضافة، وكذلك أخواتها، أعني نحو: «مِثْل وشِبْه وشَبِيه وخِذن وتِرب» . وقد يستثنى بها حملاً على «إلاّ» كما يوصف ب «إلاّ» حملاً عليها، وقد يراد بها النفي ك «لا» ، فيجوز تقديم معمولها عليها، كما يجوز في «لا» تقول: «أنا زيداً غَيْرُ ضارب» أي: غير ضارب زيداً؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط] 84 - إِنَّ امرْءاً خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتْهُ ... عَلَى التَّنَائِي لَعِندِي غَيْرُ مَكْفُورِ تقديره: غير مكفور عندي، ولا يجوز ذلك فيها إذا كانت لغير النَّفي. لو قلت: «جاء القوم زيداً غير ضارب» ، تزيد: غير ضارب زيداً لم يجز؛ لأنها ليست بمعنى «لا» التي لا يجوز فيها ذلك على الصَّحيح من الأقوال في «لا» . وفيها قول ثانٍ يمنع ذلك مطلقاً. وقول ثالث: يفصل بين أن تكون جَوَاب قَسَمٍ، فيمتنع فيها ذلك، وبين ألاّ يكون فيجوز. وهي من الألفاظ اللاَّزمة للإضافة لفظاً وتقديراً، فإدخَال الألف واللام عليها خَطَأ. واختلفوا هل يجوز دخول «أل» على «غير وبعض وكل» والصحيح جوازه. قال البغوي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «غير» ها هنا بمعنى «لا» و «لا» بمعنى «غير» ، ولذلك جاز العَطْفُ عليها، كما يقال: «فلان غير مُحسن ولا مجمل» ، فإذا كان «غير» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 بمعنى «لا» ، فلا يجوز العَطْفُ عليها ب «لا» ؛ لا يجوز في الكلام: «عندي سوى عبد الله ولا زيد» . وقرىء: «غَيْرَ» نصباً، فقيل: حال من «الَّذِين» وهو ضعيف؛ لمجيئه من المُضَاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذَلِكَ، كما ستعرفه إن شَاءَ اللهُ تعالى: وقيل: من الضمير في «عليهم» . وقيل على الاستثناء المنقطع، ومنعه الفَرَّاء؛ قال: لأن «لا» لا تُزَادُ إلاّ إذا تقدمها نفي، كقول الشاعر: [البسيط] 85 - مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا ... وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ وأجابوا بأن «لا» صلة زائدة مثلها في قوله تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] ؛ وقول الشَّاعر: [الرجز] 86 - فَمَا أَلُومُ البِيضَ ألاّ تَسْخَرَا ... وقول الآخر: [الطويل] 87 - وَيَلْحَيْنَني في اللهْوِ أَلاَّ أُحِبَّهُ ... ولِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ وقول الآخر: [الطويل] 88 - أَبَى جُودُهُ لاَ البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِ ... نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ ف «لا» في هذه المواضع كلها صلةٌ. وفي هذا الجواب نظر؛ لن الفَرَّاء لم يقل: إنها غير زائدة، وقولهم: إن «لا» زائدة في الآية، وتنظيرهم بالمَوَاضِعِ المتقدّمة لا تفيد، وإنّما تحرير الجواب أن يقولوا: وجدت « الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 لا» زائدةً من غير تقدّم نفي، كهذه المواضع المتقدمة. ويحتمل أن تكون «لا» في قوله: «لا البُخْلَ» مفعولاً به ل «أَبَى» ، ويكون نصب «البُخْلَ» على أنه بدل من «لا» أي: أبى جُودُهُ قَوْلَ لا، وقول: لا هو البخل، ويؤيد هذا قوله: «واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ» فجعل «نَعَمْ» فاعل «اسْتَعْجَلَتْ» ، فهو من الإِسْنَادِ اللّفظي، أي: إلى وجود هذا اللَّفظ، واستعجل به هذا اللفظ. وقيل: إن نصب «غير» بإضمار أعني. ويحكى عن الخليل، وقدّر بعضهم بعد «غير» محذوفاً قال: التقدير: «صِرَاطِ المَغْضُوب» ، وأطلق هذا التَّقدير، فلم يقيده بِجَرّ «غير» ، ولا نصبه ولا يتأتى ذلك إلاَّ مع نصبها، وتكون صفةً لقوله تعالى: {الصراط المستقيم} وهذا ضعيف؛ لأنه متى اجتمع البدل والوصف قدم الوصف، فالأولى أن تكون صفةً ل «صراط الذين» ، ويجوز أن تكون بدلاً من «الصراط المستقيم» ، أو من «صراط الذين» إلا أنه يلزم منه تكرار البدل، وفي جوازه نَظَر، وليس في المَسْألة نقل، إلاّ انَهم قد ذكروا ذلك في بَدَلِ البَدَاء خَاصّة، أو حالاً من «الصراط» الأول أو الثاني. واعلم أنّه حيث جعلنا «غير» صفةً فلا بد من القول بتعريف «غير» ، أو إبهام الموصوف، وجريانه مجرى النكرة، كما تقدم تقريره ذلك في القراءة بجرّ «غير» . و «لا» في قوله تعالى: {وَلاَ الضآلين} زائدة لتأكيد معنى النَّفي المفهوم من «غير» لئلا يتوهّم عطف «الضّالين» على «الذين أنعمت» . وقال الكوفيون: هي بمعنى «غير» وهذا قريبٌ من كونها زائدةً، فإنه لو صرح ب «غير» كانت للتأكيد أيضاً، وقد قرأ بذلك عمر بن الخَطَّاب وأبيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهما. و «الضَّالين» مجرور عطفاً على «المغضوب» ، وقرىء شاذاً «الضَّأَلِّينَ» ، بهمز الألف؛ وانشدوا: [الطويل] 89 - وَلِلأَرْضِ أمَّا سُودُهَا فَتَجَلّلََتْ ... بَيَاضاً، وأَمَّا بِيضُهَا فَادْهَأَمَّتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 قال الزَّمَخْشَرِي «:» وفعلوا ذلك، لِلْجِدِّ في الهَرَبِ من التقاء السَّاكنين «. وقد فعلوا ذلك حتى لا سَاكِنَانِ؛ قال الشاعر: [الرجز] 90 - وَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذّا العَأْلَمِ ... بهمز» العألم «. وقال آخر: [البسيط] 91 - وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْرَأَةً ..... ... ... ... ... ... . بهمز ألف» زَوْرَأَة «، والظَّاهر أنها لغةٌ مطَّردةٌ؛ فإنهم قالوا في القراءة ابن ذَكْوَان:» مِنْسَأَتَهُ «بهمز ساكنة: إنَّ اصلها ألف، فقلبت همزة ساكنة. فإن قيل: لم أتى بصلة» الذين «فعلاً ماضياً؟ قيل: ليدلّ ذلك على ثبوت إنعام الله - تبارك وتعالى - عليهم وتحقيقه لهم، وأتى بصلة» أل «اسماً ليشمل سائر الأزمان، وجاء مبنيَّاً للمفعول؛ تحسيناً للفظ؛ لأنّ من طلبت منه الهداية، ونسب الإنعام إليه لا يناسبه نسبة الغضب إليه، لأنه مقام تلطُّف، وترفُّق لطلب الإحسان، فلا يحسن مواجهته بصفة الانتقام. والإنعام: إيصال الإحسان إلى الغير، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه الإحْسَان من العُقَلاء، فلا يقال: أنعم فلان على فَرَسِهِ، ولا حماره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 والغضب: ثَوَرَان دم القلب إرادة الانتقام، ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» اتَّقُوا الغَضَبَ فإنه جَمْرَةٌ تُوقَدُ في قَلْبِ ابنِ آدَمِ، ألم تَرَ إلى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ وحُمْرَةِ عينيه «. وإذا وصف به الباري - تبارك وتعالى - فالمراد به الانتقام لا غيره. قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: هنا قاعدة كليةٌ، وهي أن جميع الأعراض النَّفْسَانية - أعني الرحمة، والفرح، والسُّرور، والغضب، والحَيَاء، والعُتُوّ، والتكبر، والاستهزاء - لها أوائل ولها غايات. ومثاله: الغضب: فإنّ أول غليان دم القلب، وغايته: إرادة إيصال الضَّرَرِ إلى [المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار، وأيضاً الحَيَاءُ] له أول وهو انكسار النفس، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب. ويقال: فُلاَن غُضبَّة: إذا كان سريع الغَضَب. ويقال: غضبت لفلان إذا كان حيَّا وغضبت به إذا كان ميتاً. وقيل: الغضب تغيُّر القلب لمكروه. وقيل: إن أريد بالغضب العُقُوبة كان صفة فعل، وإن أريد به إرادة العقوبة كانت صفة ذاتٍ. والضلال: الخَفَاء والغيبوبة. وقيل: الهلاك، فمن الأول قولهم: ضَلَّ الناءُ في اللبن. [وقال القائل] : [الوافر] 92 - أَلَم تَسْأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيَارُ ... عَن الحَيِّ المُضَلِّلِ أَيْنَ سَارُوا؟ » والضَّلضلَة «: حجر أملس يَرُده السَّيْل في الوادي. ومن الثاني: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} [السجدة: 10] ، وقيل: الضّلال: العُدُول عن الطريق المستقيم، وقد يُعَبَّرُ به عن النِّسيْانِ كقوله تعالى: {أَن تَضِلَّ إْحْدَاهُمَا} [البقرة: 282] بدليل قوله: {فَتُذَكِّرَ} [البقرة: 282] . التفسير: قيل: «المغضوب عليهم» هم اليهود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وقيل: «الضالون» هم النصارى؛ لأن الله - تعالى - حكم على اليهود بالغَضَبِ فقال تعالى: {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} [المائدة: 60] ، وحكم على النصارى بالضَّلال فقال تعالى: {وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} [المائدة: 77] . وقيل: هذا ضعيف؛ لأن منكري الصَّانع والمشركين أَخْبَثُ ديناً من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز من دينهم أولى. وقيل: «المغضوب عليهم» : هم: الكُفَّار، و «الضّالون» : هم المنافقون. وقال سهل بن عبد الله رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «غير المغضوب عليهم» بالبِدْعَةِ، «والضّالين» عن السُّنَّة. والأَوْلَى أن يحمل «المغضوب عليهم» على كل من أَخْطَأَ في الاعتقاد؛ لأن اللفظ عام، والتقييد خلاف الأصل. فَصْلٌ في عصمة الأنبياء والملائكة قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «غير المغضوب عليهم» يدلُّ على أن أحداً من الملائكةِ، والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ما أَقْدَمَ على عملٍ مخالف قول الدين، ولا على اعتقاد مخالف اعتقاد دين الله؛ لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضَلَّ عن الحق، لقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [يونس: 32] ، ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم، ولا بطريقهم، ولكانوا خارجين عن قوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عِصْمةَ الملائكة، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام. فَضْلٌ في إضافة الغضب لله قالت المعتزلة: غَضَبُ الله - تعالى - عليهم يدلُّ على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم، وإلاّ لكان الغضب عليهم ظلماً من الله - تعالى - عليهم. وقال أصحابنا - رحمهم الله تعالى -: لما ذكر غضب الله عليهم، وأتبعه بذكر كونهم ضالين دلّ ذلك على أن غضب الله - تعالى - عليهم علّة لكونهم ضالين، وحينئذ تكون صفة الله - تعالى - مؤثرةً في صفة العبد. أما لو قلنا: إن كونهم ضالين يوجب غضب الله - تعالى - عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى، وذلك مُحَال. فَصْلٌ قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: دلّت هذه الآية على أن المكلّفين ثلاث فرق: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 أهل الطاعة، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} . وأهل البغي والعدوان، وهم المراد بقوله تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} . وأهل الجهل في دين الله، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: {وَلاَ الضآلين} . فإن قيل: لم قدم ذكر العُصَاة على ذكر الكَفَرَةِ؟ قلنا: لأن كل أحد يحترز عن الكفر، أما قد لا يحترز عن الفِسْق، فكان أهم فقدم لهذا السّبب ذلك. قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: ها هنا سؤال، وهو أن غضب الله إنما تولّد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه، فهذا العلم إما أن يقال: إنه قديم، أو محدث، فإن كان قديماً فلم خلقه، ولم أخرجه من العَدَمِ إلى الوجود، مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العَذَاب الدَّائم، ولأنه من كان غضبان على الشَّيء كيف [يعقل] إقدامه على إِجَادِهِ وتكوينه؟ فإن كان ذلك العلم حادثاً لكان الباري - تعالى - محلاَّ للحوادث، إلاَّ أنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سَبْقِ علمٍ آخر، وتسلسل، وهو مُحَال. والجواب: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد. سؤال آخر وهو من أنعم الله - تعالى - عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه، وأن يكون من الضَّالين، فلما ذكر قوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، فما الفائدة في أن ذكر عقبيه: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} ؟ والجواب: الإيمان إنما يكمل بالرَّجاء والخوف، كما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَوْ وُزِنَ خَوْفُ المُؤْمِن وَرَجَاؤُهُ لاعتْدَلا» ، فقوله: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} يوجب الرَّجَاء الكامل، وقوله تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} يوجب الخوف الكامل، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه، وينتهي إلى حَدِّ الكمال. سؤال آخر ما الحكمة في أنه - تَعَالَى - جعل المقبولين طائفةً واحدةً، وهم الذين أنعم الله عليهم، والمردودين فريقين: المغضوب عليهم، والضَّالين؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 فالجواب: أنّ الذين كلمت نعم الله - تعالى - عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحَقِّ لذاته، والخير لأجل العمل به فهؤلاء هم المُرَادون بقوله: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ، فإن اختلّ قيد العمل فهم الفَسَقَةُ، وهم المغضوب عليهم، كما قال تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [النساء: 93] . وإن اختلّ قيد العلم فهم الضَّالون لقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [يونس: 32] . فصل في حروف لم ترد في هذه السورة قالوا: إنّ هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف، وهو الثاء، والجيم، والخاء، والزاي، والشين، والظاء، والفاء، والسبب فيه أن هذه الحروف مُشْعرة بالعذاب، فالثناء أوّل حروف الثبور. والجيم أوّل حروف جهنم. والخاء: أول حرف الخِزْيِ. والزاي والشين أول حروف الزفير والشّهيق، والزّقوم والشّقاوة. والظَّاء أول حرف ظلّ ذي ثلاث شعب، ويدل أيضاً على لَظَى الظاء. والفاء أول حروف الفراق تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ} [الروم: 14] . قلنا: فائدته أنه - تعالى - وصف جهنَّم بأن {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ} [الحجر: 44] فلما أسقط هذه الحروف السّبعة الدّالة على العَذّاب من هذه السورة نبّه بذلك على أن من قرأ هذه السورة، وآمن بها، وعرف حقائقها أمن من دَرَكَاتِ جهنم السّبعة. القول في «آمين» : ليست من القرآن إجماعاً، ومعناها: اللهم اسمع واستجب. وقال ابن عباس وقتادة - رضي الله تعالى عنهما -: معناه كذلك يكون فهي اسم فعل مَبْنِيّ على الفَتْحِ. وقيل: ليس باسم فعل، بل هو من أسماء البَارِي تعالى، والتقدير: يا آمين، وضعف أبو البقاء هذا بوجهين: أحدهما: أنه لو كان كذلك لَكَانَ ينبغي أن يبني على الضَّمِّ، لنه منادى مفرد معرفة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 والثاني: أن أسماء الله - تعالى - توقيفيةٌ. ووجه الفارسي قول من جعله اسماً لله - تعالى - على معنى: أن فيه ضميراً يعود على الله تعالى؛ لأنه اسم فعل، وهو توجيه حسن نقله صاحب «المُغْرِب» . وفي «آمين» لغتان: المَدّ، والقَصْر، فمن الأول قول القائل: [البسيط] 93 - آمِينَ آمِينَ لاَ أَرْضَى بِوَاحِدةٍ ... حَتَّى اُبَلِّغَهَا أَلْفَيْنِ آمِينَا وقال الآخر: [البسيط] 94 - يَا رَبِّ لاَ تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَدَاً ... ويَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قَالَ: آمينَا ومن الثاني قوله: [الطويل] 95 - تَبَاعَدَ عَنِّي فُطْحَلٌ إِذ رَأَيْتُهُ ... أضمِينَ فَزَادَ اللهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَا وقيل: الممدود: اسم أَعْجَمِيّ، لأنه بِزِنَةِ قَابِيلَ وهَابِيل. وهل يجوز تشديد الميم؟ المشهور أنه خطأ، نقله الجَوْهَرِيّ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفر الصّادق - رضي الله تعالى عنهما - التشديد، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ، من أمِّ: إذا قصد، أي: نحن قاصدون نحوك. ومنه: {ولاا آمِّينَ البيت الحرام} [المائدة: 2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وقيل: معناه: هو طابع الدعاء. وقيل: هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم كخاتم الكتاب يمنعه من الفسادِ، وظهور ما فيه. وقال النَّووي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - في «التهذيب» : وقال عطية العرفي: [ «آمين» ] كلمة عبرانية، أو سُرْيانية، وليست عربية. وقال عَبْدُ الرَّحمن بن زيد: «آمِينَ» كَنْزٌ من كنوز العَرْشِ لا يعلم أحد تأويله إلاّ الله تعالى. وروي فيها الإمَالَة مع المَدّ عن حَمْزَةَ والكِسَائي، والنون فيها مفتوحة أبداً مثل: أَيْنَ وَكَيْفَ. وقيل: آمين درجة في الجَنَّة تجب لقائلها. وقيل: معناه: اللهم استجب، وأعطنا ما سألناك «. وقالوا: إن مجيء» آمِين «دليلٌ على أنها ليست عربية] ؛ إذ ليس في كلام العرب» فَاعِيل «. فأما» آري «فليس ب» فاعِيل «، بل هو عند جماعة» فَاعُول «. وعند بعضهم» فَاعلي «. وعند بعضهم [» فَاعِي «] بالنقصان. وقال بعضهم: إن» أمين «المقصورة لم يجئ عن العرب، والبيت الذي ينشد مقصوراً لا يصح على هذا الوجه إنما هو: [الطويل] 96 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 فآمِينَ زَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا روي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» إِذّا قَالَ الإمَامُ: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} ، فقولوا: آمِين، فإنّ المَلائِكَةَ تقول: آمين، فمن وافق تَأْمِينُهُ تأمينَ الملائكةِ غُفِرَ له ما تقدم من ذَنْبِهِ «. فصل في وجوب القراءة في الصلاة قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبةٌ في الصلاة. وعن الَصَمِّ والحسن بن صالح - رضي الله تعالى عنهما - أنهما قالا: لا تجب لنا [أن كلّ دليل نذكره في بيان أن] قراءة الفاتحة واجبة، فهو يدلّ على أن أصل القراءة واجب، ونزيد - ها هنا - وجوهاً: الأول: فهو قوله تبارك وتعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل وَقُرْآنَ الفجر} [الإسراء: 78] . والمراد بالقرآن القراءة، والتقدير: أقم قراءة الفجر، وظاهر الأمر الوجوب. الثاني: عن أبي الدَّرْدَاء - رضي الله تعالى عنه - أن رجلاً سال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أفي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 الصَّلاَةِ قِراءةٌ فقال: «نَعَمْ» فقال السائل: وجبت، فأقر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك الرجل على قوله: «وَجَبَتْ» . الثالث: عن ابن مَسْعُودٍ: رضي الله تعالى عنه - أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سُئِلَ: أيقرأ في الصلاة؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَتَكُونُ صَلاَةً بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ» ، هذان الخبران نقلهما من تعليق الشيخ أبي أحمد الإسفرايني «. وحجّة الأصم - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلّي «جعل الصلاة من الأشياء المرئية، والقراءة ليست مرئية، فوجب كونها خارجةً عن الصلاة، والجواب: أنّ الرؤية إذا كانت متعديةً إلى مفعولين كانت بمعنى العلم. فصْلٌ قال الشافعي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: قراءة الفاتحة واجبةٌ في الصلاة، فإن ترك منها حرفاً واحداً وهو يحسنها لم تصحّ صلاته، وبه يقال الأكثرون. وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه -: لا تجب قراءة الفَاتِحَةِ. لنا وجوه: الأول: انه - عليه الصّلاة والسلام - وَاظَبَ طول عمره على قراءة الفاتحة في الصَّلاة، فوجب علينا ذلك، لقوله تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 158] ، ولقوله: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] ، ولقوله تعالى: {فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} [آل عمران: 31] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 ويا للعجب من أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - انه تمسّك في وجوب مسح النّاصية بخبر واحدٍ، في أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مسح على النّاصية، فجعل ذلك القَدْرَ من المسح شرطاً لصحة الصلاة، وها هنا نقل أهل العلم نقلاً متواتراً أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - واظب على قراءة الفاتحة، ثم قال: إن صحّة الصَّلاةِ غير موقوفةٍ عليها، وهذا من العَجَائب. الثاني: قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} [البقرة: 43] ، والصلاة لفظ مُحَلّى بالألف واللام، فيكون المراد منها المعهود السَّابق، وليس عند المسلمين معهودٌ سابق من لفظ الصَّلاةِ إلى الأعمال التي كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأتي بها. وإذا كان كذلك كان قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} جارياً مجرى أمره بقراءة الفاتحة، وظاهر الأمر الوجوب، ثم إنّ هذه اللَّفظة تكررت في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة، فكان ذلك دليلاً قاطعاً على وجوب قراءة الفَاتِحَةِ في الصَّلاةِ. الثالث: أنّ الخلفاء الراشدين - رضي الله تعالى عنهم - واظبوا على قراءتها طول عمرهم، ويدلُّ عليه ما روي في» الصّحيحين «أن النَّبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وأبا بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - كانوا يستفتحون القراءة ب {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} ، وإذا ثبت هذا وَجَب علينا ذلك، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ من بَعْدِي» . ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «اقْتَدُوا باللَّذينِ مِنْ بَعْدِي: أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ» رَضِيَ اللهُ عَنْهما. والعجب من أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ - أنه تمسّك بطلاق الفَارّ بأثر عثمان - رَضِيَ اللهُ عَنْه - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 مع أن عبد الرحمن، وعبد الله بن الزبير - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - كانا يخالفانه - ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرْث، فلم يتمسّك بعمل [كل] الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - على سبيل الإطباق، والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة، مع أن هذا القول على وَفْقِ القرآن، والإخبار، والمعقول! الرابع: أن الأمّة [وإن] اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا؟ لكنهم اتفقوا عليه في العَمَل فإنك لا ترى أحدا من المسلمين في العرف إلا ويقرأ الفاتحة في الصَّلاة، وإذا ثَبَتَ هذا فنقول: إنَّ من صَلَّى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركاً سبيل المؤمنين، فيدخل تحت قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} [النساء: 115] فإن قالوا: إنَّ الذين اعتقدوا انَّه لا يَجِب قراءتها قَرَءُوهَا لا عن اعتقاد الوجوب، بل على اعتقاد النّدبية، فلم يحصل الإجماع على وجوب قرَاءتها. فنقول: أعمال الجوارح غير أعمال القلوب، ونحن قد بيَّنَّا إطباق الكُلُّ على الإتيان بالقراءة، فمن لم يَأْتِ بالقراءة كان تاركاً طريقة المؤمنين في هذا العَمَل فدخل تَحْتَ الوَعِيدِ، وهذا القدر يكفينا في الدَّليلِ، ولا حاجة في تقرير هذا الدَّليل إلى ادّعاء الإجماع في اعتقاد الوجوب. الخامس: قوله عزَّ وجَلَّ: «قسمتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وبَْنَ عَبْدِي نِصْفَيْن، فإذا قَالَ العَبْدُ: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} يقول الله تَعَالى: حَمِدَنِي عَبْدِي ... » ، إلى آخر الحديث. وجه الاستدلال: أنه - تَعَالى - حكم على كل صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين، ثم بين أنّ هذا التصنيف لم يحصل إلا بسبب هذه السورة، ولازم اللازم لازم، فوجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 كون هذه السورة من لوازم الصلاة، وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا: قراءة الفاتحة شرط في صحّة الصلاة. السَّادس: قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا صَلاَةَ إلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» . قالوا: حرف النفي دخل على الصَّلاة، وليس صرفه إلى الصِّحة أولى من صرفه إلى الكمال. والجواب من وجوه: الأول: أنه جاء في بعض الرِّوَايات: «لاَ صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ» ، وعلى هذه الرواية فالنَّفي ما دخل على الصَّلاة، وإنما دخل على حصولها للرَّجل، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها، وخروجه عن عُهْدَةِ التَّكْليف بسببها، وعلى هذا التَّقدير فإنه يمكن إجراء حرف النَّفي على مُسَمَّى الصلاة إنما يصح لو ثبتَ أن الفَاتحَةَ ليست جزءاً من الصّلاة، وهذا [هو] أول المسألة، فثبت أن قولنا: يمكن إجراء هذه اللفظة على أنه معنى تعذَّر العمل بالحقيقة، وحصل للحقيقة مجازان أحدهما: أقرب إلى الحقيقة، والثاني: أبعد؛ فإنه يجب حمل اللَّفظ على المَجَاز الأقرب. إذا ثبت هذا فنقول: المُشَابهة بين المعدوم، وبين الموجود الذي يكون صحيحاً [أتم من المُشابَهةَ بين المعدوم وبين لموجود الذي لا يكون صحيحا] ، لكنه لا يكون كاملاً، فكان حمل هذا اللَّفظ على نفي الصِّحة أولى. الحُجَّة السَّابعة: عن أ [ي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «كُلّ صَلاَةٍ لم يقرأ فيها بِأُمِّ القُرْآنِ فهي خِدَاج، فهي خداج» أي غير تمام، قالوا: الخِدّاجُ هو النقصان، وذلك لا يدل على عدم الجواز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 قلنا: بل هذا يدلّ على عدم الجواز؛ لأن التكليف بالصَّلاةِ دائم، والأصل في الثابت، البقاء، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصَّلاة على صفة الكَمَالِ، فعند الإتيان بها على سبل النُّقصان يوجب ألاّ يخرج عن العُهْدَةِ، والذي يقوي هذا أنَّ عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - يصح الصوم يوم العيد إلا أنه قال: لو صام يوم العيدِ قضاء عن رَمَضَان لم يصح؛ لأن الواجب عليه هو الصُّوم الكامل، والصوم في هذا اليوم ناقص، فوجب ألا يفيد هذا للقضاء الخروج عن العُهْدَة. وإذا ثبت هذا فنقول: فلم لم يقل بمثل هذا الكلام ها هنا؟ الحُجَّة الثامنة: نقل الشيخ أبو حامد في «تعليقه» عن ابن المُنْذِرِ أنه روى بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا تُجْزِىء صَلاَةٌ لا يُقْرَأ فيها بِفَاتِحَةِ الكِتَاب» . الحجّة التاسعة: روى رفاعة بن مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أن رَجُلاً دخل المَسْجِد فصلّى، فلما فرغ من صلاته، ذكر في الخبر أن للرجل قال: علّمني الصَّلاة يا رسول الله، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إذا تَوَجَّهْتُم إلى القِبْلَةِ فَكَبَّرُوا، واقْرَءُوا بفاتحة الكِتَاب» ، وهذا أمر، والأمر للوجوب. الحُجّة العاشرة: روي أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ألا أخبركم بِسُورَةٍ ليس في التَّوْرَاة ولا في الإِنْجِيل ولا في الزَّبُور مثلها» قالوا: نعم، قال: «فما تقرءونه في صَلاَتكم» ؟ فقالوا: الحمد لله ربّ العالمين، قال: «هِيَ هِيَ» . وجه الدليل: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما قال: «ما تَقْرَءُونَهُ في صلاتكم» قالوا: الحمد لله رب العالمين، وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عند الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - أنه لا يصلي أحد إلاّ بهذه السورة، فكان هذا إجماعاً معلوماً عندهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الحُجَّة الحادية عشرة: التمسُّك بقوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} [المزمل: 20] فهذا أمر، والأمر للوجوب، فهذا يقتضي أن قراءة ما تَيَسَّرَ من القرآن واجبةٌ. فنقول: المراد بما تيسّر من القرآن، إما أن يكون هو الفاتحة بعينها واجبة، وهو المطلوب وإمّا يقتضي أن قراءة غير الفاتحة واجبة، وذلك باطل بالإجماع، أو يقتضي التخيير بين قراءة الفاتحة، وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع، لأن الأمّة مجمعةٌ على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها. وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خِدَاجٌ ناقصة، والتخيير بين النقائص والكامل لا يجوز. واعلم أنه إنما سمى قراءة الفاتحة لما تيسّر من القرآن؛ لأن هذه السّورة محفوظة لجميع المكلّفين من المسلمين، فهي متيسّرة للكل، أما سائر السُّور فقد تكون محفوظة، وقد لا تكون، وحينئذٍ لا تكون متيسّرة للكلّ. الحُجّة الثَّانية عشرة: الأصل بقاءُ التكليف، فالقولُ بأنَّ الصَّلاةَ بدون قراءة الفاتحة يقتضي الخروج عن العهدة، إما أنْ يعرف بالنَّص أو بالقياس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 أما الأول فباطل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 [لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} وقد بينا أنه دليلنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 [لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} وقد بينا أنه دليلنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 [لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} وقد بينا أنه دليلنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وأما القياس] فباطل؛ لأن التعبدّات غالبة على الصَّلاَة، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس. الحُجّة الثالثة عشرة: أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وَاظَبَ على الصَّلاة بها طول عمره، فيكون قراءة غير الفاتحة ابتداعاً وتركاً للاتباع، وذلك حرام لقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اتَّبِعُوا وَلاَ تَبْتَدِعُوا» ، و «أَحْسَن الهَدْي هَدْيُ مُحَمَّدٍ، وَشَرّ الأمُورِ مثحْدَثَاتُهَا» . واحتج أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - بالقرآن والخبر. أما القرآن الكريم فقوله تبارك وتعالى: {فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن} . وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنهما - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 قال «أمرني رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن أخرج وأنادي: لاَ صَلاَةَ إلا بِقَرَاءَةٍ، ولو بفاتحة الكِتَاب» . والجواب عن الأول: أنا بيّنا أنّ هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا. وعن الثاني: أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة، وأيضاً لا يجوز أن يقال: المراد من قوله: «لا صَلاَةَ إلا بقراءة، ولو بفاتحة الكتاب» وهو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى. فصل في بيان هل التسمية آية من الفاتحة أم لا؟ قال الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: التّسمية آية من الفاتحة، ويجب قراءتها مع الفاتحة، وقال مالك والأوزاعي، - رضي الله تعالى عنهما -: إنها ليست من القرآن إلاّ في سورة النَّمل، ولا يجب قراءتها سرّا ولا جهراً، إلاّ في قيام شهر رمضان، فإنه يقرؤها. وأما أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ - فلم ينص عليها، وإنما قال: يقول: بسم الله الرحمن الرحيم ويُسِرّ بها، ولم يقل: إنها آية من أول السورة أم لا. قال: سُئل محمد بن الحسن - رَحِمَهُ اللهُ - عن «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال: ما بين الدّفَّتَيْنِ كلام الله - عَزَّ وَجَلَّ - القرآن. قلت: فَلِمَ يُسَرُّ بها؟ فلم يجبني. وقال الكَرْخي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدّمي أصحابنا، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة. وقال بعض الحنفية - رحمهم الله -: تورّع أبو حنيفة وأصحابه - رحمهم الله - عن الوقوع في هذه المسألة؛ لأن الخوض في أن التسمية من القرآن، أو ليست من القرآن أمر عظيم، فالأولى السّكوت عنه. حُجّة من قال: إن التسمية من الفاتحة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 روى الشافعي عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مُلَيْكة عن أم سلمة - رَضِيَ اللهُ عَنْها - أنها قالت: «قرأ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاتحة الكتاب، فعد بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم آية منها والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ آية، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ آية، إيَّاكِ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ آية، اهْدِنَا السِّراطَ المُسْتَقِيمَ آية، صِرَاطَ الَّذِينّ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ آية» ، وهذا نَصّ صريح. وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ألا أُخْبِرُكَ بآية لم تنزل على أَحَدٍ بعد سُلَيْمَانَ بن داود - عليهما السلام - غيري» ؟ فقلت: بلى قال: «بأي شيء يُفْتَتَحُ القرآن إذا افتتحت الصَّلاة؟» قلت: بسم الله الرحمن الرحيم قال: «هِيَ هِي» وهذا يدل على أنَّ التسمية من القرآن. وروى الثَّعْلبي بإسناده عن جعفر بن مُحِمَّدٍ عن أبيه عن جابر بن عبد الله - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - أنّ النبي - عليه الصّلاة والسلام - قال له: «كيف تَقُول إذا قُمْتَ إلى الصَّلاة» ؟ قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 أقول: الحمد لله رب العالمين، قال: «قل: بسم الله الرحمن الرحيم» . وروى أيضاً بإسناده عن سعيد بن جُبَيْرٍ عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - في قوله تبارك وتعالى: {آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم} [الحجر: 87] قال: فاتحة الكتاب، فقيل للنابغة، أين السَّابعة؟ فقال: «بسم الله الرحمن الرحيم» . وبإسناده عن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - فقال: كنت مع النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المسجد، والنبي يحدث أصحابه، إذ دخل رجل يصلّي، فافتتح الصَّلاة وتعوّذ، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، فسمع النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك، فقال له رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يا رجل، قَطَعْتَ عَلى نَفْسِكَ الصَّلاة، أما علمت أن بسم الله الرَّحمن الرحيم من الحَمْد؟ من تركها فقد تركها تَرَكَ آيةً منها، ومن ترك أيةً منها فقد قطع عليه صلاته، فإنه لا صَلاَةَ إلا بِهَا» . وروى بإسنادة عن طَلْحَةَ بن عبيد الله - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: «مَنْ تَرَكَ بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم، فقد تَرَكَ آية من كِتاب الله تَعَالى» . وروي أنَّ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأبيّ بن كَعب - رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: «مَا أعظم أيَةٍ في كِتَابِ الله تَعَالى» ؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فصدقة النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ومعلوم أنها ليست آيةً تامّة في النمل، فتعيّن أن تكون آية تامّةً في أوّل الفاتحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وروي أن معاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْه - لما قدم «المدينة» فصلّى بالناس: «مَنْ تَرَكَ بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم، فقد تَرَكَ آية من كِتاب الله تَعَالى» . وروي أنَّ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأبيّ بن كَعب - رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: «مَا أعظم أيَةٍ في كِتَابِ الله تَعَالى» ؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فصدقة النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ومعلوم أنها ليست آيةً تامّة في النمل، فتعيّن أن تكون آية تامّةً في أوّل الفاتحة. وروي أن معاوية - رَضِيَ اللهُ عَنْه - لما قدم «المدينة» فصلّى بالناس صَلاَةً يجهر فيها، فقرأ أمّ القرآن، ولم يقرأ «بسم الله الرحمن الرحيم» ، فلمى قضى صلاته نَادَاهُ المُهَاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم حين اسْتَفْتَحْتَ القرآن؟ فأعاده معاوية الصَّلاة؟ وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم. وهذا يدلّ على إجماع الصَّحَابة على أنها من القُرْآن ومن الفاتحة، وعلى أن الأولى الجَهْرُ بقراءتها. فصل في بيان عدد آيات الفاتحة حكى عن الزَّمخشري: الاتفاق على كَوْن الفاتحة سَبْعَ آيات. وحكى ابن عطية قولين آخرين: أحدهما: هي ستّ آيات، فأسقط البَسْمَلَة، وأسقط «أنعمت عليهم» . والثاني: أنها ثماني آيات فأثبتهما. قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: رأيت في بعض الروايات الشَّاذة أن الحسن البَصْري - رضي الله تعالى عنه - كان يقول: إنّ هذه السورة ثماني آيات، فأما الرواية المشهورة التي عليها الأكثرون أنها سبع آيات، وبه فسّروا قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم} [الحجر: 87] . إذا ثبت هذا، فنقول: إنَّ الذين قالوا: إن البَسْمَلَة آية من الفاتحة قالوا: قوله تعالى: {صِرَاطَ الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] إلى آخرها آية تامة منها. وأما أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - فإنه لما أسقط البَسْمَلَة قال: قوله تعالى: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} آية، وقوله: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} آية أخرى. ودليل الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - أن مقطع قوله تعالى: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} لا يشابه مقطع الآيات المتقدمّة، ورعاية التشابه في المَقَاطع لازم، لأنَّا وجدنا مقاطع القرآن على ضربين: مُتَقَاربة، ومُتَشَاكلة. فالمتقاربة كَسُورَةِ «ق» . والمُشَاكلَة في سورة «القمر» ، وقوله تعالى: {أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} ليس من القسمين، فامتنع جعله من المَقَاطع. وأيضاً إذا جعلنا قوله تعالى: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} ابتداء آية، فقد جعلنا أول الآية لفظ «غير» ، وهذا اللفظ إمّا أن يكون صفةً لما قبله، أو استثناء مما قبله، والصّفة مع الموصوف كالشَّيء الواحد، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كالشيء الواحد، وإيقاع الفَصْل [بينهما] على خلاف الدليل، أما إذا جعلنا قوله تعالى: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} إلى آخر السورة آية واحدة [كُنّا قَدْ جعلنا الموصوف مع الصّفة، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كلاماً واحداً، وآية واحدة] ، وذلك أقرب إلى الدّليل. فَصلٌ هل البَسْمَلَةُ آية من أوائل السور أم لا؟ وللشافعي قولان: قال ابن الخطيب: «والمُحَقّقون من أصحابنا اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السّور، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من كل سورة، أو هي مع ما بعدها آية» . وقال بعض الحنفية: إنّ الشافعي خالف الإجماع في هذه المسألة؛ لأن أحداً ممن قبله لم يقل: إن بسم الله آية من أوائل سائر السُّور. ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخط القرآن، فوجب كونه قرآناً، واحتج المخالف بما روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى آله وسلم - قال في سورة «الملك» إنها ثلاثون آية، وفي سورة «الكوثر» إنها ثلاث آيات، ثم أجمعوا على أنَ هذا العدد حاصل بدون التسمية، فوجب ألاّ تمون التسمية آية من هذه السّور. والجَوَاب أنا إذا قلنا: بسم الله الرحمن الرحيم كع ما بعدها آية واحدة، فالإشْكَال زائل. فإن قالوا: لما اعترفتم بأنها آية تامةٌ من أول الفاتحة، فكيف يمكنكم أن تقولوا: إنها بعض آية من سائر السور؟ قلنا: هذا غير بعيدٍ، ألا ترى أن قوله تعالى: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} آية تامة؟ ثم صار مجموع قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] آية واحدة، فكذا ها هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 وأيضاً فقوله: سورة «الكوثر» ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات، وأما التسمية فهي كالشيء المشترك فيه بين جميع السُّور، فسقط هذا السُّؤال، والله أعلم. فصل في الجهر بالتسمية والإسرار بها يروى عن أحمد بن حَنْبَل - رضي الله تعالى عنه - فإنه قال: ليست آية من الفاتحة ويجهر بها. وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: ليست آية من الفاتحة، ولا يجهر بها. والاستقراء دلّ على أن السورة الواحدة، إما أن تكون بتمامها سريةً أو جهريةً، وإما أن يكون بعضها سرياً، وبعضها جهرياً، فهذا مفقودٌ في جميع السور، وإذا ثبت هذا كان الجَهْرُ بالتسمية شروعاً في القراءة الجهرية. وقالت الشِّيعة: السُّنة هي الجَهْر بالتسمية، سواء كانت الصلاة [جهرية أو سرية] . والذين قالوا: إن السمية ليست من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المُصْحَف في أول كل سورة، وفيه قولان: الأول: أن التسمية ليست من القرآن، وهؤلاء فريقان: منهم من قال: كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بين السُّور، وهذا الفصل قد صار الآن معلوماً، فلا حاجة إلى إثبات التسمية، فعلى هذا لو لم تكتب لَجَازَ. ومنهم من قال: إنه يجب إثباتها في المُصْحف، ولا يجوز تركها أبداً. والقول الثاني: أنها من لقرآن، وقد أنزلها الله تعالى، ولكنها آية مستقلة بنفسها، وليست بآية من السورة، وهؤلاء أيضاً فريقان: منهم من قالك إن الله - تعالى - كان ينزلها في أول كل سورة على حِدَةٍ. ومنهم من قال: لا، أنزلها مرة واحدة، وأمَرَ بإثباتها في [أول] كل سورة. والذي يدلّ على أن الله - تعاىل - أنزلها، وعلى أنها من القرآن ما روي عن أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يعد «بسم الله الرحمن الرحيم» آية فاصلةً. وعن إبراهيم بن يزيد قال: قلت لعمرو بن دينا: إنّ الفضل الرقاشي يزعم أن « الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 بسم الله الرحمن الرحيم» ليست من القرآن، فقال: سبحان الله ما أَجْرَأَ هذا الرجل! سمعت سعيد بن جُبَيْرٍ يقول: سمعت ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - يقول: كان النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إذا أنزل عليه «بسم الله الرحمن الرحيم» على أن تلك السُّورة ختِمَتْ وفُتِحَ غيرها. وعن عبد الله بن المُبارك أنه قال: من ترك «بسم الله الرحمن الرحيم» فقد ترك مائة وثلاث عشرة آيةً. فَصْلٌ قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ -: نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْه - كان ينكر كَوْنَ سورة الفاتحة من القرآن الكريم، وكان ينكر كون المُعَوّذتين من القرآن. واعلم أن هذا في غاية الصعوبة؛ لأنا إن قلنا: إن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بِكَوْنِ سورة الفاتحة من القرآن، فحينئذٍ كان ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْه - عالماً فإنكاره يوجب الكُفْر أو نقصان العقل. وإن قلنا: النقل المتواتر ما كان حاصلاً في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال: إن نقل القرآن ليس بمتواترٍ في الأصل، وذلك يخرج القرآن عن كونه حُجَّةً يقينية. والأغلب على الظن أن يقال: هذا المذهب عن ابن مسعود نَقْلٌ كاذِبٌ باطل، وبه يحصل الخلاص عن هذه العُقْدَةِ، والله الهادي إلى الصواب، إليه يرجع الأمر كله في الأول والمآب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 سورة البقرة مدنية مائتان وستة وثمانون آية نزلت في مُدَد شتى. وقيل: هي أول سورة نزلت ب " المدينة " إلا قوله تعالى: {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} [البقرة: 281] فإنها آخر آية نزلت، ونزلت يوم النحر في حَجّة الوداع ب " منى "، وآيات الرِّبا أيضاً من أواخر ما نزل من القرآن. قال خالد بن معدان: ويقال لها: فُسطاط القرآن. وتعلمها عمر - رضي الله عنه - بفقهها، وما تحتوي عليه في اثني عشرة سنة، وابنه عبد الله في ثماني سنين. قال ابن العربي رضي الله عنه: " سمعت بعض أشياخي يقول: فيها ألف أَمْر، وألف نَهْي، وألف حُكْم، وألف خَبَر ". وهي مائتان وستة وثمانون آيةً، وستة آلاف ومائة وإحدى وعشرون كلمةً، وخمسة وعشرون ألفاً وخمسمائة حرف. عن سهل بن سعد - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إن لكل شيء سَنَاماً وإنِّ سَنَام القرآن سورةُ البقرة، من قَرَأَهَا في بيته نَهَاراً لم يدخله شَيْطَانٌ ثلاثةَ أيامٍ، ومن قرأها في بيته ليلاً لم يدخله شيطانٌ ثلاثَ ليالٍ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: بعث النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعثا ثم أتبعهم بسفر، فجاء إنسان منهم فقال: " ما معك من القرآن؟ " حتى اتى على أحدثهم سنا فقال له: " ما معك من القرآن؟ " قال: كذا وكذا، وسورة البقرة فقال: " اخرجوا وهذا عليكم أمير " فقالوا: يا رسول الله هو أحدثنا فقال: " معه سورة البقرة ". بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 إن قيل: إن الحروف المقطّعة في أوائل السور أسماء حروف التهجَّي، بمعنى أن الميم اسم ل «مه» والعين ل «عَه» ، وإن فائدتها إعلامهم بأن هذا القرآن منتظمٌ من جنس ما تنتظمون من كلامهم، ولكن عجزتم عنه، فلا محلّ لها حينئذ من الإعراب، وإنما جيء بها لهذه الفائدة، فألقيت كأسماء الأعداد ونحو: «واحد اثنان» ، وهذا أصح الأقوال الثلاثة، أعني أن في الأسماء التي لم يقصد الإخبار عنها ولا بها ثلاثة أقوال: أحدها: ما تقدم. والثاني: أنها معربة، بمعنى أنها صالحة للإعراب، وإنما فات شرطه وهو التركيب، وإليه مال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ. والثالث: أنها موقوفة أي لا معربة ولا منيبةٌ. أو إن قيل: إنها أسماء السور المفتتحة بها، أو إنها بعض أسماء الله - تعالى - حذف بعضها، وبقي منها هذه الحروف دالّة عليها وهو رأي ابن عبّاس - رضي الله تعالى عنهما - كقوله: الميم من «عليهم» ، والصاد من «صادق» ، فلها حينئذ محلّ من الإعراب ويحتمل الرفع والنصب والجر: فالرفع على أحد وجهين أيضاً: إما بإضمار فعلٍ لائقٍ، تقديره: اقرءوا: «الم» ، وإما بإسقاط حرف القسم؛ كقول الشاعر: [الوافر] 97 - إِذا مَا الْخَبَزُ تَأْدِمُهُ بِلَحْمٍ ... فَذَاكَ أَمَانَةَ اللهِ الثَّريدُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 يريد: وأَمَانَةِ الله. وكذلك هذه الحروف أقسم الله بها. وقد رد الزَّمَخْشَرِيّ هذا الوجه بما معناه: أنّ القرآن في: {والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] وللقلم في {ن والقلم وَمَا يَسْطُرُونَ} [القلم: 1] محلوف بهما لظهور الجرّ فيهما، وحينئذ لا يخلو أن تُجْعَل الواو الداخلة عليها للقسم، أو للعطف، والأول يلزم منه محذور، وهو الجمع بين قسمين على مقسم قال: [وهم يستكرهون] ذلك. والثاني ممنوع، لظهور الجَرِّ فيما بعدها، والفرض أنك قدرت المعطوف عليه من مَحَلّ نصب، وهو ردّ واضح، إلا أن يقال: في محلّ نصب إلا فيما ظهر فيه الجر [فيما بعده] كالموضعين المتقدمين؛ {حموالكتاب} [الزخرف: 1 - 2] ، و {ق والقرآن} [ق: 1] ولكن القائل بذلك لم يفرق بين موضع وموضع، فالرد لازم كله. والجَرِّ من وجهٍ واحدٍ، وهو أنها مقسمٌ بها، حذف حرف القسم، وبقي عمله كقولهم: «اللهِ لأفعلنَّ» أجاز ذلك الزمخشري، وأبو البقاء رحمهما الله، وهذا ضعيف؛ لأن ذلك من خصائص الجَلاَلَة المعظمة لا يشاركها فيه غيرها. فتخلص مما تقدم أن في «الم» ونحوها ستة أوجه وهي: أنها لا محل لها من الإعراب، أوْ لَهَا محل، وهو الرفع بالابتداء، أو الخبر. والنَّصب بإضمار فعل، أو حذف حرف القسم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فصل في الحروف المقطعة سئل الشعبي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - عن هذه الحروف فقال: سرّ الله، فلا تطلبوه. وروى أبو ظِبْيَانَ عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - قال: عجزت العلماء عن إدْرَاكِهَا، وقال الشعبي وجماعة رحمهم الله سائر حروف التهجّي في أوائل السور من المتشابهة الذي استأثر الله بعلمه، وهي سرّ القرآن؛ فنحن نؤمن بظاهرها، ونَكِلُ العلمَ فيها إلى الله تعالى. قال أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه: «في كل كتاب سِرّ» وسرُّ الله - تعالى - في القرآن أوائل السور «. ونقل ابنُ الخَطِيِبِ رَحِمَهُ اللهُ أن المتكلمين أنكروا هذا القول، وقالوا: لا يجوز أن يرد في كتاب الله ما لاَ يَكُونُ مفهوماً للخلق، واحتجوا عليه بآيات منها: قوله تبارك وتعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ} [محمد: 24] بالتدَّبر في القرآن، ولو كان غير مفهوم، فكيف يأمر بالتدبّر فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وكذا قوله {أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا} [النساء: 82] فكيف يأمر بالتدبر لمعرفة نفي التناقض والاختلاف، وهو غير مفهوم للخلق؟ ومنها قوله تعالى: {نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين} [الشعراء: 193 - 195] ، فلو لم يكن مفهوما بطل كون الرسول - عليه السلام - منذرا به، وأيضا قوله: {بلسان عربي مبين} يدل على أنه نازل بلغة العرب، وإذا كان كذلك وجب أن يكون مفهوما. ومنها قوله تعالى: {لعلمه الذين يستنبطونه منهم} [النساء: 83] ، والاستنباط منه لا يمكن إلا مع الإحاطة بمعناه. ومنها قوله تعالى: {تبيينا لكل شيء} [النحل: 89] . وقوله تعالى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء} [الأنعام: 38] . وقوله تعالى: {هدى للناس} [البقرة: 185] ، {هدى للمتقين} [البقرة: 2] ، وغير المعلوم لا يكون هدى. وقوله تعالى: {وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين} [يونس: 57] وكل هذه الصفات لا تحصر في غير المعلوم. وقوله تبارك وتعالى: {قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين} [المائدة: 15] . وقوله تعالى: {أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون} [العنكبوت: 51] فكيف يكون الكتاب كافيا وكيف يكون ذكره مع أنه غير مفهوم؟ وقوله تعالى: {هذا بلاغ للناس ولينذروا به} [إبراهيم: 52] ، فكيف يكون بلاغا؟ وكيف يقع به الإنذار مع أنه غير معلوم؟ وقال في آخر الآية: {ولينذروا به وليعلموا أنما هو إله واحد وليذكر أولوا الألباب} ، وإنما يكون كذلك لو كان معلوما. وقوله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} [الإسراء: 9] فكيف يكون هاديا، مع أنه غير معلوم، ومن الأخبار قوله عليه الصلاة والسلام: " إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وسنتي " فكيف يمكن التمسك به وهو غير معلوم؟ وعن علي بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه - أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 عليكم بكتاب الله - فيه نبأ ما قبلكم، وخبر من بعدكم، وحكم ما بينكم هو الفصل ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله تعالى. ومن اتبع الهدى في غيره أضله الله - تعالى - هو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تشبع به العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد ولا تنقضي عجائبه، من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن خاصم به فلج، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم ". ومن المعقول أنه لو ورد شيء لا سبيل إلى العلم إلا به لكانت المخاطبة به نحو مخاطبة العرب باللغة الزنجية، ولما لم يجز ذلك فكذا هذا. وأيضا المقصود من الكلام الإفهام، فلو لم يكن مفهوما لكانت المخاطبة عبثا وسفها، وهو لا يليق بالحكيم. وأيضا أن التحدي وقع بالقرآن، وما لا يكون معلوما لا يجوز وقوع التحدي به. واحتج مخالفوهم بالآية، والخبر، والمعقول. أما الآية فهو أن المتشابه من القرآن، وأنه غير معلوم؛ لقوله تعالى: {وما يعلم تأويله إلا الله} [آل عمران: 7] والوقف ها هنا، لوجوه: أحدها: أن قوله تعالى: " والراسخون في العلم " لو كان معطوفا على قوله تعالى " إلا الله " لبقي قوله: " يقولون آمنا به " منقطعا عنه، وإنه غير جائز؛ لأنه لا يقال: إنه حال، لأنا نقول: فحينئذ يرجع إلى كل ما تقدم، فيلزم أن يكون الله تعالى قائلا: {يقولون آمنا به كل من عند ربنا} وهذا كفر. وثانيها: أن الراسخين في العلم لو كانوا عالمين بتأويله لما كان لتخصيصهم بالإيمان به وجه، فإنهم لما عرفوه بالدلالة لم يكن الإيمان به إلا كالإيمان بالمحكم، فلا يكون في الإيمان به مزيد مدح. وثالثها: أن تأويلها كان مما يجب أن يعلم لما كان طلب ذلك التأويل ذما، لكن قد جعله ذما حيث قال: {فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله} [آل عمران: 7] وأما الخبر فروي أنه - عليه الصلاة والسلام - قال: " إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى فإذا نطقوا به أنكره أهل الغرة بالله ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 ولأن القول بأن هذه الفَوَاتح غير معلومة مروي عن أكابر الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهم فوجب أن يكون حقَّاً، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» أَصْحَابي كالنُّجُوم بأيّهم اقْتَدَيْتُمْ اهتديتم «. وأما المعقول فهو أنَّ الأفعال التي كلّفنا الله تعالى بها قسمان: منها ما يعرف وَجْهَ الحكمة فيه على الجُمْلَة بعقولنا كأفعال الحَجِّ في رَمْيِ الجَمَرَات، والسَّعي بين الصفا والمروة، والرَّمل، والاضْطِبَاع. ثم اتفق المحققون على أنه كما يحسن من الله - تعالى - أن يأمر عباده بالنوع الأول، فكذا يحسن الأمر بالنوع الثاني؛ لأنّ الطَّاعة في النوع الأول، تدلُّ على كمال الانقياد والتسليم، لاحتمال أن المأمور إنما أتى به لما عرف بعقله من وَجْهِ المصلحة فيه. أما الطاعة في النوع الثاني، فإِنها تدلّ على كمال الانقياد والتسليم، فإذا كان الأمر كذلك في الأفعال، فلم لا يجوز أيضاً أن يكون [الأمر] كذلك في الأقوال؟ وهو أن يأمر الله - تعالى - تارةً أن نتكلم بما نقف على معناه، وتارةً بما لا نقف على معناه، ويكون المَقْصُود من ذلك ظهور الانقياد والتَّسليم. القول الثَّاني: قول من زعم أنَّ هذه الفَوَاتح معلومة، واختلفوا فيه، وذكروا وجوهاً: الأوّل: أنها أسماء السّور، وهو قول أكثر المتكلمين، واختيار الخليل وسيبويه رحمهما الله تعالى. قال القفَّال - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - وقد سّمت العرب هذه الحروف أشياء فسموا ب» لام «: والد حارثة بن لام الطَّائي، وكقولهم للنَّخاس:» صاد «، وللنقد:» عين «، وللسحاب:» غين «. وقالوا: جبل» قاف «، وسموا الحوت:» نوناً «. الثاني: أنها أسماء الله تَعَالى، روي عن علي - رضي الله تَعَالى عنه - أنه كان يقول: يا حم عسق. الثالث: أنها أبعاض أسماء الله تَعَالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 قال سعيد بن جبير رَحِمَهُ اللهُ: قوله:» الر، حم، ونون «مجموعها هو اسم الرحمن، ولكنا لا نقدر على كيفية تركيبها في البَوَاقي. الرابع: أنها أسماء القرآن، وهو قول الكَلْبِيّ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - والسّدي وقتادة رضي الله تعالى عنهم. الخامس: أن كلّ واحد كمنها دالّ على اسم من أسماء الله - تعالى - وصفة من صفاته. قال ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - في «الم» : «الألف إشارة إلى أنه [أحد، أول، آخر، أزلي،» واللام «إشارة إلى أنه لطيف،» والميم «إشارة إلى أنه] مَلِك مَجِيد مَنَّان» . وقال في «كهيعص» : إنه ثناء من الله - تعالى - على نفسه، «والكاف» يدل على كونه كافياً، «والهاء» على كونه هادياً، «والعين» على العالم، «والصاد» على الصادق. وذكر ابن ابن جرير عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنه حمل «الكاف» على الكبير والكريم، «والياء» على أن الله يجير، «والعين» على أن الله العزيز والعدل. والفرق بين هذين الوجهين أنه في الأول خصّص على كل واحد من هذه الحروف باسم معين، وفي الثاني ليس كذلك. السادس: بعضها يدلّ على أسماء الذات، وبعضها على أسماء الصّفات. قال ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - في «الم» أنا الله أعلم، وفي «المص» أنا الله أفصل، وفي «الر» أنا الله أرى، وهذه رواية أبي صالح، وسعيد بن جبير عنه. قال الزَّجَّاج: «وهذا أحسن، فإن العرب تذكر حرفاً من كلمة تريدها كقولهم: [مشور السريع] 98 - قُلْنَا لَهَا: قِفِي لَنَا قَالت: قَافْ ... ... ... ... ... ... ..... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 وأنشد سيبويه لغيلان: [الرجز] 99 - نَادُوهُمْ أَنَ الْجِمُوا، أَلاَ تَاَ ... قَالُوا جَمِعاً كُلُّهُمْ أَلاَ فَا أي: لا تَرْكَبُوا، قالوا: بَلَى فَارْكَبُوا. وأنشد قُطْرب: [الرجز] 100 - جَارَيَةٌ قَدْ وَعَدَتْنِي أنْ تَا ... تَدْهُنَ رَأْسي وَتُفَلِّيني وَتَا السّابع: كلّ مها يدلّ على صفات الأفعال، ف» الألف «آلاؤه، و» اللاّم «لُطْفه، و» الميم «مَجْدُه، قاله محمد بن كَعْبٍ القُرَظي. الثَّامن: بعضها يدلّ على أسماء الله - تعالى - وبعضها يدلّ على أسماء غير الله تعالى. قال الضَّحاك:» الألف «من الله، و» اللم «من جبريل، و» الميم «من محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ [أّي أنزل الله الكتاب على لسان جبريل عليه الصَّلاة والسلام] . التاسع: ما قاله المبرّد: واختاره جمعٌ عظيم من المحقَّقين - أن الله - تعالى - إنَّما ذكرها احتجاجاً على الكُفَّار، وذلك أن الرَّسول - عليه الصلاة والسّلام - لما تحدّاهم أن يأتوا بِمِثْلِ القرآن، أو بِعَشْرِ سُوَرٍ، أو بسورة، فعجزوا عنه أنزلت هذه الأحرف تنبيهاً على أن القرآن ليس إلاّ من هذه الأحرف، وأنتم قادرون عليها، وعارفون بقوانين الفَصَاحة، فكان يجب أن تأتوا بِمِثل هذا القرآن، فلما عجزتم عنه دلّ ذلك على أنه من عِندِ الله لا من البَشَرِ. العاشر: قول أبي روق وقُطْرب: إن الكفَّار لما قالوا: {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] وتواصوا بالإعراض عنه أراد الله - تعالى - لما أحب صلاحهم ونفعهم أن يُورِدَ عليهم ما لا يعرفونه، ليكون ذلك سبباً لإسْكَاتِهم، واستماعهم لما يرد عليهم من القرآن، فأنزل الله - تعالى - عليهم هذه الأحرف، فكانوا إذا سمعوها قالوا كالمتعجبين: اسمعوا إلى ما يجيء به محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فإذا أصغوا هجم عليهم القرآن فكان ذلك سبباً لاستماعهم، وطريقاً إلى انتفاعهم، فكان كالتنبيه لما يأتي بعده من الكلام كقوله الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الحادي عشر: قول أبي العَالِيَةِ «إنّ كل حرف منها في مُدّة أعوام وآجال آخرين» . قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «سُرّ أبو ياسِر بن أَخْطَب برسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو يَتْلُو سورة البقرة» الم ذَلِكَ الكِتَابُ «، ثم أتى أخوه حُيَيُّ بن أَخْطَب، وكَعْب بن الأَشْرَف، وسألوه عن» الم «وقالوا: ننشدك الله الذي لا إله إلا هو أحقّ أنها أَتَتْكَ من السماء؟ فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» نعم كذلك نزلت «، فقال حُيَيّ: إن كنت صادقاً إني لأعلم أَجَلَ هذه الأمة من السنين، ثم قال: كيف ندخل في دين رجل دلّت هذه الحروف بحساب الجمل على أن منتهى أَجَل مُدّته إحدى وسبعون سنةً، فضحك رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال حُيَيّ: فهل غير هذا؟ قال:» نعم المص «فقال حُيَيّ: هذا أكثر من الأولى هذه مائة وإحدى وثلاثون سنة، فهب غير هذا؟ قال:» نعم الر «قال حُيَيّ: هذه أكثر من الأولى والثانية، فنحن نشهد إن كنت صادقاً ما ملكت أمتك إلا مائتين وإحدى وثلاثين سنةً، فهل غير هذا؟ قال:» نعم «قال:» المر «قال: فنحن نشهد أنا من الذين لا يؤمنون، ولا ندري بأي أقوال نأخذ. فقال أبو ياسر: أما أنا فأشهد على أن أنبياءنا قد أخبرونا عم مُلْكِ هذه الأمّة، ولم يبينوا أنها كم تكون، فإن كان محمد صادقاً فيما يقول، إني لأراه يستجمع له هذا كله فقام اليهود، وقالوا اشتبه علينا أمرك، فلا ندري أَبِالْقَلِيْلِ نأخذ أم الكثير؟ فذلك قوله تعالى: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} [آل عمران: 7] الآية الكريمة. ورُوي عن ابن عَبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنا أقسام. وقال الأخفش: أقسم الله - تعالى - لشرفها وفضلها؛ لأنها مبادئ كتله المنزلة، ومباني أسمائه الحسنى. وقيل فيها غير ذلك. واعلم أن الله - تعالى - أورد في هذه الفَوَاتح نصف عدد أَسامي حروف المُعْجَم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وهي أربعة عشر: الألف، واللام، والميم، والصاد، والراء، والكاف، والهاء، والعين، والطاء، والسين، والحاء، والقاف، والباء، والنون في تسع وعشرين سورة. وجاءت أيضاً مختلفة الأعداد، فوردت» ص ق ن «على حرف. و» طه وطس ويس وحم «على حرفين. و «الم والر وطسم» على ثلاثة أحرف. و «كهيعص وحم عسق» على خمية أحرف، والسبب فيه أن أبنية كلامهم على حرف وحرفين إلى خمسة أحرف، فكذا هاهنا. قوله: {ذَلِكَ الكتاب} يجوز في «ذلك» أن تكون مبتدأ ثانياً، و «الكتاب» خبره، والجملة خبر «الم» ، وأغنى الربط باسم الإشَارة، ويجوز أن يكون «الم» مبتدأ. و «ذلك» خبره، و «الكتاب» صفة ل «ذلك» ، أو بدل منه، أو عطف بيان، وأن يكون «الم» نبتدأ، و «ذلك» مبتدأ ثانٍ، و «الكتاب» : إما صفة له، أو بدل منه، أو عطف بيان له. و «لا ريب فيه» [خبر] عن المبتدأ الثاني، وهو خبره خبر عن الأول. ويجوز أن يكون «الم» خبر مبتدأه مضمر، تقديره: «هذا الم» ، فتكون جملة مستقلة بنفسها، ويكون «ذلك» مبتدأ ثانياً، و «الكتاب» خبره. ويجوز أن يكون صفة له، أو بدلاً، أو بياناً، و «لا ريب فيه» هو الخبر عن «ذلك» أو يكون «الكتاب» خبراً ل «ذلك» ، و «لا ريب فيه» خبر ثان، وفيه نظر من حيث إنه تعدّد الخبر، وأحدهما جملة، لكن الظاهر جوازه؛ كقوله تعالى: {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} [طه: 20] ، إذا قيل بأن «تسعى» خبر. وأما إن جُعِلَ صفة فلا. و «ذلك» اسم إشارة: الاسم منه «ذا» ، و «اللاَّم» للبعد، و «الكاف» للخطاب، ولها ثلاث رُتَب: دُنْيَا: ولها المُجَرّد من اللام والكاف نحو: «ذا وذي» و «هذا وهذي» . وَوُسْطَى: ولها المتّصل بحرف الخطاب، نحو «ذاك وذيك وتيك» . وقُصْوَى: ولها المتّصل ب «اللام» و «الكاف» نحو: «ذلك وتلك» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ولا يجوز أن تأتي ب «اللام» إلاّ مع «الكاف» ، ويجوز دخول حرف التَّنبيه على سائر أسماء الإشارة إلاّ مع «اللاَّم» ، فيمتنع للطول. وبعض النحويين لم يذكر إلاّ رتبتين: دُنْيَا وغيرها. واختلف النحويون في «ذا» هل هو ثلاثي الوضع أم أصله حرف واحد؟ الأول قول البصريين، ثم اختلفوا على عينه ولامه ياء، فيكون من باب «حيي» ، أو غينه واو ولامه ياء فيكون من باب «غويت» ثم حذفت لامه تخفيفاً، وقلبت العين ألفاً لتحركها، وانفتاح ما قبلها، وهذا كله على سبيل التّمرين. وأيَّا فهذا مبني، والمبني لا يدخله تصريف، وإنما جيء هنا بإشارة البعيد تعظيماً للمُشَار إليه ومنه: [الطويل] 101 - أَقُولُ لَهُ والرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ ... تَأَمَّلْ خُفَافاً إِنَّنِي أنا ذَلِكَا أو لأنه لما نزل من السَّماء إلى الأرض أشير بإشارة البعيد. أو لأنه كان موجوداً به بنبيّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. أو أنه أشير به إلى ما قضاه وقدّره في اللَّوح المحفوظ. وفي عبارة المفسرين أشير بذلك إلى الغائب يعنون البعيد، وإلا فالمشار إليه لا يكون إلا حاضراً ذِهْناً أو حِسّاً، فعبروا عن الحاضر ذِهْناً بالغائب أي حسّا وتحريراً لقول ما ذكرته لك. وقال الأصَمّ وابن كيْسَان: إن الله - تعالى - أنزل قبل سورة «البقرة» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 سوراً كذب بها المشركون، ثم أنزل سورة «البقرة» فقال: «ذلك الكتاب» يعني ما تقدّم «البقرة» من السّور لا شك فيه. قال ابن الخَطِيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: سلّمنا أن المُشَار إليه حاضر، لكن لا نسلّم أن لفظة «ذلك» لا يشار بها إلا إلى البعيد. بيانه: أن «ذلك» و «هذا» حرف إشارة، وأصلهما «ذا» لأنه حرف الإشارة، قال تعالى: {مَّن ذَا الذي} لبقرة: 245] . ومعنى «ها» تنبيه، فإذا قرب الشيء أشير إليه فقيل: هذا، أي: تَنَبَّهْ أيّها المُخَاطب لما أشرت إليه، فإنه حاضر معك بحيث تَرَاه، وقد تدخل «الكاف» على «ذَا» للمخاطبة، و «اللام» لتأكيد معنى الإشارة، فقيل: «ذلك» ، فكأن المتكلّم بالغ في التنبيه لتأخّر المُشَار إليه عنه، فهذا يدلّ على أن لفظة «ذلك» لا تفيد البُعْد في أصل الوَضْع، بل اختص في العُرْف بالفرس، وإن كانت في أصل الوضع متناولة لكل ما يدبّ على الأرض. وإذا ثبت هذا فنقول: إنا نحمله ها هنا على مقتضى الوضع اللّغوي، لا على مقتضى الوضع العرفي، وحينئذ لا يفيد البُعْد، ولأجل هذه المُقَارنة قام كلّ واحد من اللَّفْظَين مقام الآخر. قال تعالى: {واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [ص: 45] ، إلى قوله: {وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار} [ص: 48] ثم قال: {هذا ذِكْرٌ} [ص: 49] وقال: {وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف أَتْرَابٌ هذا مَا تُوعَدُونَ} [ص: 52 - 53] . وقال: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ} [ق: 19] . وقال تعالى: {فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى} [النازعات: 24 - 25] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور} [الأنبياء: 105] وقال تعالى: {إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً} [الأنبياء: 106] . وقال: {فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى} [البقرة: 73] [أي هكذا يحيي الموتى] . وقال: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى} [طه: 18] أي ما هذه التي بيمينك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 و «الكتاب» في الأصل مصدر؛ قال تعالى: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] وقد يراد به المكتوب، قال الشاعر: [الطويل] 102 - بَشَرْتُ عِيَالِي إِذْ رأَيْتُ صَحِيفَةً ... أَتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا ومثله [الوافر] 103 - تُؤَمِّلُ رَجْعَةً مِنِّي وفِيهاَ ... كِتَابٌ مِثْلُ مَا لَصِقَ الْغِرَاءُ وأصل هذه المادة الدّلالة على الجَمْعِ، ومنه كتيبة الجَيْش، وكَتَبْتُ القربة، وكَتَبْتُ القربة: خَرَزْتُها، وَالكُتَبة - بضم «الكاف» الخرزة، والجمع كَتَب، قال: [البسيط] 104 - وَفْرَاءَ غَرْفِيَّةٍ أَثْأَى خَوَارِزُهَا ... مُشَلْشِلٌ ضَيَّعَتْهُ بَيْنَهَا الْكُتَبُ وكَتَبْتُ الدَّابة [إذا جَمَعْتَ بين شُفْرَي رَحِمِها بِحَلْقَةٍ أَو سَيْرٍ] قال الشاعر: [البسيط] 105 - لاَ تَأْمَنَنَّ فَزَارِيَّا حَلَلْتَ بِهِ ... عَلَى قَلُوصِكَ واكتُبْهَا بِإِسْيَارِ والكتابة عرفاً ضمّ بعض حروف الهجاء إلى بعض. قال ابن الخطيب: «واتفقوا على أنَّ المراد من الكتاب القرآن، قال تبارك وتعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} [ص: 29] . والكتاب جاء في القرآن جاء في القرآن على وجوه: أحدها: الفرض {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} [البقرة: 178] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] ، {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103] . ثانيها: الحُجَّة والبُرْهان: {فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الصافات: 157] أي: بِبُرْهانكم وحجّتكم. ثالثها: الأَجَل: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] أي: أَجَل. رابعها: بمعي مُكَاتبة السيد عبده: {والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النور: 33] وهذا المصدر» فِعَال «بمعنى» المُفَاعلة «كالجِدَال والخَصَام والقِتَال بمعنى: المُجَادلة والمُخَاصمة والمُقَاتلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 والكتاب - هنا - المُرَاد به القرآن، وله أسماء: أحدها: الكِتَاب كما تقدم. وثانيها: القُرْآن: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً} [الزخرف: 3] ، {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] . وثالثها: الفُرْقَان: {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان} [الفرقان: 1] . ورابعها: الذِّكْر، والتَّذْكِرَة، والذِّكْرَى: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50] ، {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} [الحاقة: 48] وقوله تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} [الذاريات: 55] . وخامسها: التَّنْزِيل: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 192] . وسادسها: الحديث: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} [الزمر: 23] . وسابعها: المَوْعِظَة: {قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [يونس: 57] . وثامنها: الحُكْم، والحِكْمَة، والحَكِيم، والمُحْكَم: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} [الرعد: 37] ، {حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ} [القمر: 5] ، {يس والقرآن الحكيم} [يس: 1 - 2] ، {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] . وتاسعها: الشِّفَاء: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ} [الإسراء: 82] . وعاشرها: الهُدَى، والهَادِي {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ، {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] ، {قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد} [الجن: 1 - 2] . وذكروا له أسماء أُخَر منها: » الصِّرَاط المستقيم، والعِصْمَة، والرَّحْمَة، والرُّوح، والقَصَص، والبَيَان، والتِّبْيَان، والمُبِين، والبَصَائر، والفَصْلُ، والنُّجُوم، والمَثَاني، والنّعْمَة، والبُرْهَان، والبَشِير، والنَّذِير، والقَيِّم، والمُهَيْمِن، والنور، والحق، والعزيز، والكريم، والعظيم، والمبارك «. قوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} . يجوز أن يكون خبراً كما تقدّم بيانه. قال بعضهم: هو خبر بمعنى النّهي، أي: لا ترتابوا فيه كقوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة: 197] أي: لا ترفثوا ولا تفسقوا. قرأ ابن كثير:» فِيهِ «بالإشباع في الوَصْلِ، وكذلك كل هاء كناية قبلها ساكن يشبعها وصلاً ما لم يَلِهَا ساكن، ثم إن كان السَّاكن قبل الهاء ياء يشبعها بالكسر ياء، وإنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 كان غيرها يشبعها بالضم واواً، ووافقه حفص في قوله: {فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان: 69] فأشبعه. ويجوز أن تكون هذه الجملة في محلّ نصب على الحال، والعامل فيه معنى الإشارة، و» لا «نافية للجنس محمولة في العمل على نقيضها. «إنَّ» ، واسمها معرب ومبني: فيبنى إذا كان مفرداً نكرة على ما كان ينصب به، وسبب بنائه تضمنّه معنى الحرف، وهو «من» الاسْتِغْرَاقِيَّة يدلّ عليه ظهورها في قول الشاعر: [الطويل] 106 - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ ... فَقَالَ إلاَ لاَ مِنْ سَبِيلٍ إِلَى هِنْدِ وقيل: بني لتركُّبه معها تركيب خمسةَ عَشَرَ، وهو فاسد وبيانه في غير هذا الكتاب. وزعم الزَّجَّاج أن حركة «لاَ رَجُلَ» ونَحْوِه حركة إعراب، وإنما حذف التنوين تخفيفاً، ويدل على ذلك الرجوع إلى هذا الأصل كقوله: [الوافر] 107 - ألاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللهُ خَيْراً ... يَدُلُّ عَلَى مُحضصِّلَةٍ تَبِيتُ ولا دليل له لأن التقدير: إَلاَ تَرَونَنِي رَجُلاً؟ فإن لم يكن مفرداً - وأعني به المضاف والشبيه به - أُعْرِبَ نَصْباً نحو: طلا خيراً من زيد «، ولا عمل لها في المعرفة ألبتة، وأما نحو قوله: [الطويل] 108 - تُبَكِّي عَلَى زَيْدٍ ولاَ زَيْدَ مِثْلُهُ ... بَرِيءٌ مِنَ الحُمَّى سَلِيمُ الجَوَانِحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وقول الآخر: [الوافر] 109 - أَرَى الْحَاجَاتِ عَنْدَ أَبِي خُبَيْبٍ ... نَكِدْنَ وَلاَ أُمَيَّةَ فِي البِلاَدِ وقول الآخر: [الرجز] 110 - لاَ هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ ... وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام:» لا قُرَيْشَ بعد اليَوْمِ، إذا هلك كِسْرَى، فلا كسرى بَعْدَه «فمؤوَّل. و» رَيْبَ «اسمها، وخبرها يجوز أن يكون الجار والمجرور وهو» فيه «إلاّ أن بني» تميم «لا تكاد تذكر خبرها، فالأولى أن يكون محذوفاً تقديره: لا ريب كائن، ويكون الوَقْفُ على» ريب «حينئذ تامَّا، وقد يحذف اسمها ويبقى خبرها، قالوا:» لا عليك «أي: لا بأس عليك. ومذهب سيبويه رَحِمَهُ اللهُ: أنها واسمها في مَحَلّ رفع بالابتداء، ولا عمل لها في الخبر. ومذهب الأخفش: أن اسمها في مَحَلّ رفع، وهي عاملة في الخبر. ولها أحكامٌ كثيرة، وتقسيمات منتشرة مذكورة في كتب النحو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 واعلم أن» لا «لفظ مُشْتَرَك بين النَّفي، وهي فيه على قسمين: قسم تنفي فيه الجنس فتعمل عمل إنَّ كما تقدم، وقسم تنفي فيه الوحدة، وتعمل حينئذ عمل» ليس «، ولها قسم آخر، وهو النهي والدُّعاء فتجزم فعلاً واحداً، وقد تجيء زيادة كما تقدم في قوله: {وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 7] . و» الرَّيْب «: الشّك مع تهمة؛ قال في ذلك: [الخفيف] 111 - لَيْسَ فِي الْحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ ... إِنَّمَا الرَّيْبُ مَا يَقُولُ الكَذُوبُ وحقيقته على ما قال الزَّمخشري:» قلق النفس واضطرابها «. ومنه الحديث:» دَعْ ما يُرِيبُكَ إلى ما يُرِيبك «. ومنه أنه مَرّ بظبي خائفٍ فقال:» لاَ يُرِبهُ أَحَدق بشيءٍ «. فليس قول من قال:» الرَّيب الشك مطلقاً «بجيّد، بل هو أخصّ من الشَّك كما تقدم. وقال بعضهم: في» الرّيب «ثلاثة معانٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 أحدها: الشّك؛ قال ابن الزِّبَعْرَى: [الخفيف] 112 - لَيْسَ فِي الحَقِّ يَا أُمَيْمَةُ رَيْبٌ ..... ... ... ... ... ... ... ... . وثانيها: التُّهْمَةُ؛ قال جميل بُثَيْنَةَ: [الطويل] 113 - بُثَيْنَةُ قَالَتْ يَا جَمِيلُ أَرَيْتَنِي ... فَقُلْتُ: كِلاَنَا يَا بُثَيْنُ مُرِيبُ وثالثها: الحاجات؛ قال: [الوافر] 114 - قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلَّ رَيْبٍ ... وَخَيْبَرَ ثُمَّ أَجْمَعْنَا السُّيُوفَا قال ابن الخطيب: الريب قريب من الشك، وفيه زيادة، كأنه ظن سوء، كأنه ظن سوء، تقول: رَابَني أمر فلان إذا ظننت به سوءاً. فإن قيل: قد يستعمل الريب في قولهم: «ريب الدهر» و «ريب الزمان» أي: حوادثه، قال تعالى: {نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون} [الطور: 30] ويستعمل أيضاً فيما يختلج في القلب من أسباب الغيظ، كقول الشاعر: [الوافر] 115 - قَضَيْنَا مِنْ تِهَامَةَ كُلُّ رَيْبٍ ..... ... ... ... ... ... . قلنا: هذا يرجعان إلى معنى الشك، لأن من يخاف من ريب المنون محتمل، فهو كالمشكوك فيه، وكذلك ما اختلج بالقلب فهو غير متيقن، فقوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} المراد منه: نفي كونه مَظَنَّةً للريب بوجه من الوجوه، والمقصود أنه لا شُبْهَة في صحته، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 ولا في كونه من عند الله تعالى ولا في كونه معجزاً. ولو قلت: المراد لا ريب في كونه معجزاً على الخصوص كان أقرب لتأكيد هذا التأويل بقوله تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} [البقرة: 23] . فإن قيل: لم تأت، قال ها هنا: «لاَ رَيْبَ فِيهِ» وفي موضع آخر: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] قلنا: لأنهم يقدمون الأهمّ، وهاهنا الأهم نفي الريب بالكليّة عن الكتاب. ولو قلت: «لا فيه ريب» لأَوْهَمَ أن هناك كتاباً آخر حصل فيه الريب لا ها هنا، كما قصد في قوله تعالى {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} تفضيل خمر الجنّة على خمر الدنيا، بأنها لا تَغْتَال العقول كما تغتالها خمر الدنيا. فإن قيل: من أين يدلّ قوله: «لاَ رَيْبَ فِيهِ» على نفي الريب بالكلية؟ قلنا القراءة المشهورة توجب ارتفاع الريب بالكلية، والدّليل عليه أن قوله: «لا ريب» نفي لماهيّة الريب؛ ونفي الماهية يقتضي نفي كل فرد من أفراد الماهية؛ لأنه لو ثبت فرد من أفراد الماهيّة لثبتت الماهية، وذلك مُنَاقض نفي الماهية، ولهذا السّر كان قولنا: «لا إله إلا الله» نفياً لجميع الآلهة سوى الله تعالى. وقرأ أبو الشعثاء: «لاَ رَيْبُ فِيهِ» بالرفع، وهو نقيض لقولنا: «ريب فيه» ، وهذا يفيد ثبوت فرد واحدٍ، وذلك النفي يوجب انتفاء جميع الأفراد، فيتحقق التناقض. والوقف على «فيه» هو المشهور. وعن نافع وعاصم أنهما وَقَفَا على «ريب» ، ولا بد للواقف من أن ينوي خبراً، ونظيره قوله: {لاَ ضَيْرَ} [الشعراء: 50] وقول العرب: «لا بأس» . واعلم أن الملحدة طعنوا فيه وقالوا: إن عني أنه لا شَكّ فيه عندنا، فنحن قد نشك فيه، وإن عني أنه لا شكّ فيه عنده فلا فائدة فيه. الجواب: [المراد] أنه بلغ في الوضوح إلى حيث لا ينبغي لمرتاب أن يرتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 فيه، والأمر كذلك؛ لأن العرب مع بلوغهم في الفَصَاحة إلى النهاية عجزوا عن معارضة أَقْصَرِ سورة من القرآن، وذلك يشهد بأنه لقيت هذه الحُجَّة في الظهور إلى حيث لا يجوز للعاقل أن يرتاب فيه. وقيل: في الجواب وجوه أخر: أحدها: أن النفي كونه متعلقاً للريب، المعنى: أنه منعه من الدلالة، ما إن تأمله المُنْصِف المحق لم يرتب فيه، ولا اعتبار بمن وجد فيه الريب؛ لأنه لم ينظر فيه حَقّ النظر، فريبه غير معتدّ به. والثاني: أنه مخصوص، والمعنى: لا ريب فيه عند المؤمنين. والثالث: أنه خبر معناه النهي. والأول أحسن. قوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} . يجوز فيه عدة أوجه: أحدها: أن يكون مبتدأ، وخبره فيه متقدماً عليه إذا قلنا: إن خبر «لا» محذوف. وإن قلنا: «فيه» خبرها، كان خبره محذوفاً مدلولاً عليه بخبر «لا» ، تقديره: لا ريب فيه، فيه هدى، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر تقديره: هو هدى، وأن يكون خبراً ثانياً ل «ذلك» ، على أن يكون «الكتاب» صفةً أو بدلاً، أو بياناً، و «لا ريب» خبر أول، وأن يكون خبراً ثالثاً ل «ذلك» ، على أن يكون «الكتاب» خبراً أول، و «لا ريب» ، خبراً ثانياً، وأن يكون منصوباً على الحل من «ذلك» ، أو من «الكتاب» ، والعامل فيه على كلا التقديرين اسم الإشارة، وأن يكون حالاً من الضَّمير في «فيه» ، والعامل ما في الجَارِّ والمجرور من معنى الفعْلٍ، وجعله حالاًَ مما تقدم: إما على المُبَالغة، كأنه نفس الهُدَى، أو على حذف مضاف، أي: ذا هُدَى، أو على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل، وهكذا كلُّ مصدر وقع خبراً، أو صفة، أو حالاً فيه الأقوال الثلاثة، أرجحها الأول. وأجازوا أن يكون «فيه» صفةً ل «ريب» ، فيتعلّق بمحذوف، وأن يكون متعلقاً ب «ريب» ، وفيه إشكال؛ لأنه يصير مطولاً، واسم «لا» إذا كان مطولاً أعرب إلاّ أن يكون مُرَادهم أنّه معمول لِمَا عليه «ريب» لا لنفس «ريب» . وقد تقدّم معنى الهدى «عند قوله تبارك وتعالى: {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6] . و» هُدّى «مصدر على وزن» فُعَل «فقالوا: ولم يجىء من هذا الوزن في المَصَادر إلا» سُرّى «و» بُكّى «و» هُدّى «، وجاء غيرها، وهو» لَقِيتُهُ لُقًى «؛ قال الشَّاعر: [الطويل] 116 - وَقَدْ زَعَمُوا حُلْماً لُقَاكَ وَلَمْ أَزِدْ ... بحَمْدِ الَّذي أَعْطَاكَ حِلْماً وَلاَ عَقْلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 و «الهدى» فيه لغتان: التذكير، ولم يذكر اللّحْياني غيره. وقال الفراء: بعض بني أسد يؤنثه، فيقولون: هذه هدى. و «في» معناها الظرفية حقيقةً أو مجازاً، نحو: «زيد في الدار» ، {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179] ولها معان آخر: المصاحبة: نحو: {ادخلوا في أُمَمٍ} [الأعراف: 38] . والتعليل: «إن امرأة النَّارِ في هِرَّةٍ» وموافقة «على» : {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] [أي: على جذوع] ، والباء: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] أي بسببه. والمقايسة نحو قوله تعالى: {فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة} [التوبة: 38] . و «الهاء» في «فيه» أصلها الضم كما تقدم من أن «هاء» الكناية أصلها الضم، فإن تقدمها ياء ساكنة، أو كسرة كسرها غري الحجازيين، وقد قرأ حمزة: «لأَهْلِهُ امْكُثُوا» وحفص في: «عَاهَدَ عَلَيهُ الله» [الفتح: 10] ، {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ} [الكهف: 63] بلغه أهل الحِجَاز، والمشهور فيها - إذا لم يلها ساكن وسكن ما قبلها نحو: «فيه» و «منه» - الاختلاس، ويجوز الإشْبَاع، وبه قرأ ابن كثير، فإن تحرّك ما قبلها أُشْبِعَتْ، وقد تختلس وتسكن، وقرىء ببعض ذلك كما سيأتي مفصلاً إن شاء الله تعالى. و «للمتقين» جارّ ومجرور متعلّق ب «هدى» . وقيل: صفة ل «هدى» ، فيتعلّق بمحذوف، ومحله حينئذ: إما الرفع أو النصب بحسب ما تقدم في موصوفه، أي هدى كائن أو كائناً للمتقين. والحسن من هذه الوجوه المتقدمة كلها أن تكون كل جملة مستقلّة بنفسها، ف « الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 الم» جملة إن قيل: إنها خبر مبتدأ مضمر، و «ذلك الكتاب» جملة، و «لا ريب» جملة، و «فيه هدى» جملة، وإنما ترك العاطف لشدّة الوصل؛ لأن كلّ جملة متعلّقة بما قبلها آخذة بعنقها تعلقاً لا يجوز معه الفصل بالعطف. قال الزمخشري: «وقد أصيب بترتيبها مفصل البلاغة حيث جيء بها مُتَنَاسقة هكذا من غير حرف نسق. [وذلك لمجيئها مُتَتَابعة بعضها بعنق] بعض، والثانية متحدة بالأولى، وهلم جَرَّاً إلى الثالثة والرابعة. بيانه: أنه نبّه أولاً على أنه الكلام المتحدي به، ثم أشير إليه بأنه الكتاب المَنْعُوت بنهاية الكَمَال، فكان تقريراً لجهة التحدي. ثم نفى عنه أن يتشبث به طرف من الريب، فكان شهادة بكماله. ثم أخبر عنه بأنه» هدى للمتقين «، فقرر بذلك كونه يقيناً، لا يحوم الشّك حوله، ثم لم تَخْلُ كل واحدة من هذه الأربع بعد أن رتبت هذه الترتيب الأنيق [من] نُكْتَةٍ ذات جَزَالة: ففي الأولى الحذف، والرمز إلى الغرض بألطف وجه. وفي الثانية ما في التعريف من الفَخَامة. وفي الثانية ما في تقديم الريب على الظَّرف. وفي الثالثة ما في تقديم «الريب» على الظرف. وفي الرابعة الحذف، ووضع المصدر الذي هو «هدى» موضع الوصف الذي هو «هاد» وإيراده منكراً. «المتقين» جمع «مُتَّقٍ» ، وأصله: مُتَّقِيينَ بياءينِ، الأولى: لام الكلمة، والثانية علامة الجمع، فاستثقلت الكسرة على لام الكلمة، وهي الياء الأولى فحذفت، فالتقى ساكنان، فَحذف إحداهما وهي الأولى. و «متقٍ» من اتقى يتّقي وهو مُفْتَعِل الوِقَايَةِ، إلا أنه يطرد في الواو والياءلا إذا كانتا فاءين، ووقعت بعدهما «تاء» الافتعال أن يبدلا «تاء» نحو: «اتَّعَدض» من الوَعْدِ، و «اتَّسَرَ» من اليُسْرِ. وَفِعْلُ ذلك بالهمزة شاذ، قالوا: «اتَّزَرَ» و «اتَّكَلَ» من الإِزَارِ، والأَكْلِ. ول «افتعل» اثنا عشر معنى: الاتِّخَاذ نحو: «اتقى» . والتسبب نحو: «اعمل» . وفعل الفاعل بنفسه نحو: «اضطرب» . والتخير نحو: «انتخب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 والخطف نحو: «استلب» . ومطاوعة «أَفْعَلَ» نحو: «انتصف» . ومطاوعة «فَعَّلَ» نحو «عمّمته فاعتمّ. وموافقة» تَفَاعَلَ «و» تَفَعَّلَ «و» اسْتَفْعَلَ «نحو: احتور واقتسم واعتصم، بمعنى تحاور وتقَسَّم واستعصم. وموافقة المجرد، نحو» اقتدر «بمعنى: قَدَرَ. والإغناء عنه نحو:» اسْتَلَم الحجر «، لم يُلْفَظْ له بمجرد. و» الوقاية «: فرط الصيانة، وشدة الاحتراس من المكروه، ومنه» فرس وَاقٍ «: إذا كان يقي حافِرهُ أدنى شيء يصيبه. وقيل: هي في أصل اللَّغة قلّة الكلام. وفي الحديث:» التَّقِيُّ مُلْجَمٌ «. ومن الصيانة قوله: [الكامل] 117 - سَقَطَ النَّصِيفُ وَلَمْ تُرِدْ إِسْقَاطَهُ ... فَتَنَاوَلَتْهُ وَاتَّقَتَا بِاليَدِ وقال آخر: [الطويل] 118 - فَاَلْقَتْ قِنَاعً دُوُنَهُ الشَّمْسَ واتَّقَتْ ... بِأَحْسَنِ مَوْصُولَيْنِ كَفَّ وَمِعْصَمِ قال أبو العباس المقرىء: ورد لفظ» الهدى «في القرآن بإزاء ثلاثة عشر معنى: الأول: بمعنى» البَيَان «قال تعالى: {أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 5] أي: على بيان، ومثله، {وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52] أي: لتبين، وقوله تبارك وتعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] أي: بَيَّنَّا لهم. الثاني: الهُدَى: دين الإسلام، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} [آل عمران: 73] أي: دين الحق هو دين الله. وقوله: {إِنَّكَ لعلى هُدًى} [الحج: 67] أي: دين الحق. الثالث: بمعنى» المَعْرِفَة «قال تعالى: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] أي: يعرفون، وقوله تعالى: {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ} [النمل: 41] أي: أتعرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 الرابع: بمعنى» الرسول «قال تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} [البقرة: 38] أي: رسول. الخامس: بمعنى «الرشاد» قال تعالى: {واهدنآ إلى سَوَآءِ الصراط} [ص: 22] أي أرشدنا. وقوله: {عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل} [القصص: 22] . وقوله تعالى: {اهدنا الصراط} [الفاتحة: 6] . السادس: بمعنى: «القرآن» قال تعالى: {وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى} [النجم: 23] أي: القرآن. السابع: بمعنى: بعثة النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال تبارك وتعالى: {وَإِنَّكَ لتهدي} [الشورى: 52] . الثامن: بمعنى «شرح الصدور» قال تعالى: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الأنعام: 125] . التاسع: التوراة، قال تبارك وتعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى} [غافر: 53] يعني: التوراة. العاشر: «الجنة» قال تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ} [يونس: 9] أي: يدخلهم الجنة. الحادي عشر: «حج البيت» قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] أي الحج. الثاني عشر: «التوبة» قال تعالى: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} [يوسف: 52] أي: لا يصلح. الثالث عشر: «التوبة» قال تعالى: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] أي: تُبْنَا ورجعنا. فصل في المقصود بالهدى قال ابن الخطيب «رضي الله تعالى عنه» : الهُدَى عبارة عن الدلالة. وقال صاحب «الكشاف» : الهدى هو الدلالة الموصّلة للبغية. وقال آخرون: الهدى هو الاهتداء والعلم والدليل على صحة الأول أنه لو كان كونه الدلالة موصلة إلى البغية معتبراً في مسمى الهدى لامتنع حصول الهدى عند عدم الاهتداء؛ لأن كون الدلالة موصلة إلى الاهتداء حال عدم الاهتداء مُحَال، وقد ثبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 الهدى على عدم حال الاهتداء قال الله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى} [فصلت: 17] أثبت الهدى مع عدم الاهتداء. واحتج صاحب «الكشَّاف» بأمور ثلاثة: [أوّلها] : وقوع الضلالة في مُقَابلة الهدى، قال تعالى: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16] ، وقال تعالى: {قُلِ الله وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] . وثانيها: يقال: مهديّ في موضع المدح كالمهتدي، فلو لم يكن من شرط الهدى كَوْن الدلالة موصلة إلى البغية لم يكن الوصف بكونه مهدياً مدحاً؛ لاحتمال أنه هدي، فلم يَهْتَدِ. وثالثها: أن «اهتدى» مطاوع «هَدَى» يقال: هَدَيْتُه فَاهْتَدَى، كما يقال: كسرته فانكسر، وقطعته فانقطع، فكنا أن الانكسار والانقطاع لَزِمَانِ للكسر والقطع، وجب أن يكون الاهتداء من لوازم «الهدى» . والجواب عن الأوَّلِ: أن الفرق بين الهدى والاهتداء معلوم بالضرورة، فمقابل «الهدى» هو «الإضلال» ومقابل «الاهتداء» هو «الضلال» فجعل «الهدى» في مقابلة «الضلال» ممتنع. وعن الثاني: المنتفع بالهدى سمي مهدياً؛ لأن الوسيلة إذا لم تُفْضِ إلى المقصود كانت نازلة منزلة المعدوم. وعن الثالث: أن الائتمار مُطَاع الأمر يقال: أمرته فائتمر، ولم يلزم منه أن يكون من شرط كونه أمراً حصول الائتمار، وكذا لا يلزم من كونه هذه أن يكون مفضياً إلى الاهتداء، على أنه معارض بقوله: هديته فلم يهتد. ومما يدل علة فساد قول من قال: الهدى هو العلم خاصة أن الله - تعالى - وصف القرآن بأنه هدى، ولا شك أنه في نفسه ليس بعلم، فدلّ على أن الهدى هو الدلالة لا الاهتداء والعلم. فصل في اشتقاق المتقي والمتقي في اللغة: اسم فاعل من قولهم: وقاه فاتَّقى، والوقاية: فرط الصيانة. قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: التقيّ: من يتقي الشّرْك والكبائر والفواحش، وهو مأخوذ من الاتقاء، وأصله: الحجز بين شيئين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وفي الحديث: «كان إذا احمَرَّ البأسُ اتَّقينا برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» . أي: إذا اشتد الحَرْبُ جعلنا بيننا وبين العدو، فكأن المتقي جعل الامتثال لأمر الله، والاجتناب عما نَهَاهُ حاجزاً بينه وبين العذاب، وقال عمر بن الخَطَّاب لكعب الأحبار: «حدثني عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقاً ذا شَوْكٍ؟ قال: نعم، قال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت وشَمّرت، قال كعب: ذلك التَّقوى» . وقال عمر بن عبد العزيز: التقوى تَرْكُ ما حَرَّمَ الله، وأداء ما افترض الله، فما رزق الله بعد ذلك فهو خير إلى خير. وقال ابن عمر: التَّقوَى ألا ترى نفسك خيراً من أحد. إذا عرفت هذا فنقول: إن الله - تعالى - ذكرَ المتقي هاهنا في معرض المدح، [ولن يكون ذلك] بان يكون متقياً فيما يتصل بالدّين، وذلك بأن يكون آتياً بالعبادات، محترزاً عن المحظورات. واختلفوا في أنه هل يدخل اجتناب الصَغائر في التقوى؟ فقال بعضهم: يدخل كما تدخل الصّغائر في الوعيد. وقال آخرون: لا يدخل، ولا نزاع في وجوب التوبة عن الكُلّ، إنما النزاع في أنه إذا لم يتوقّ الصغائر هل يستحق هذا الاسم؟ فروي عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنه قال: «لا يَبْلُغُ العَبْدُ درجة المتّقين حتى يَدَعَ ما لا بَأسَ به حَذَراً مما به بَأسُ» . وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما - أنهم الذين يَحْذَرُون من الله العُقُوبَة في تَرْكِ ما يميل الهَوَى إليهن ويرجعون رحمته بالتَّصديق بما جاء منه. واعلم أن حقيقة التقوى، وإن كانت هي التي ذكرناها إلاَّ أنها قد جاءت في القرآن، والغرض الأصلي منها الإيمان تارة؛ كقوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} [الفتح: 26] أي: التوحيد {أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى} [الحجرات: 3] ، {قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ} [الشعراء: 11] أي: لا يؤمنون. وتارة التوبة كقوله تبارك وتعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا} [الأعراف: 96] ، {وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون} [المؤمنون: 52] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وتارة ترك المعصية كقوله تعالى: {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا واتقوا الله} [البقرة: 189] أي: فلا تعصوه. وتارة الإخلاص كقوله: {فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب} [الحج: 32] أي: من إخلاص القلوب. وهاهنا سؤالات: السؤال الأول: كون الشَّيء هدى ودليلاً لا يختلف بحسب شخص دون شخص فلماذا جعل القرآن هدى للمتَّقين فقط؟ وأيضاً فالمتقي مهتدي؟ والمهتدي لا يهتدي ثانياً، والقرآن لا يكون هدى للمتقين؟ والجواب: أن القرآن كما أنه هدى للمتقين، ودلالة لهم على وجود الصانع، وعلى صدق رسوله، فهو أيضاً دلالة للكافرين؛ إلا أن الله تبارك وتعالى ذكر المتقين مدحاً ليبين أنهم هم الذين اهتدوا، وانتفعوا به كما قال: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] وقال: {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} [يس: 11] . وقد كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ منذراً لكلّ الناس، فذكر هؤلاء الناس لأجل أن هؤلاء هُمُ الذين انتفعوا بإنذاره. وأما من فسر الهُدَى بالدلالة الموصلة إلى المقصود، فهذا السؤال زائل عنه؛ لأن كونه القرآن موصلاً إلى المقصود ليس إلاَّ في حق المتقين. السّؤال الثاني: كيف وصل القرآن كله بأنه هدى، وفيه مجمل ومتشابه كثير، ولولا دلالة العقل لما تميز المُحْكم عن المُتَشَابه، فيكون الهدى في الحقيقة هو الدلالة العقلية لا القرآن؟ ونقل عن علي بن أبي طالب أنه قال لابن عباس حيث بعثه رسولاً إلى الخوارج: لا تَحْتَجَّ عليهم بالقرآن، فإنه خَصْمٌ ذو وجهين، ولو كان هدى لما قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْه - ذلك فيه، ولأنا نرى جميع فرق الإسلام يحتجون به، ونرى القرآن مملوءاً من آيات بعضها صريح في الجبر، وبعضها صريح في القدر؛ فلا يمكن التوفيق بينهما إلا بالتعسُّف الشديد، فكيف يكون هدى؟ الجواب: أن ذلك المُتَشَابه والمُجْمَل لما لم ينفك عما هو المراد على التعيين - وهو إما دلالة العقل، أو دلالة السمع - صار كله هُدًى. السؤال الثالث: كل ما يتوقَّف كون القرآن حُجّة على صحته لم يكن القرآن هدى فيه، فإذا استحال كون القرآن هدى في معرفة ذات الله - تعالى - وصفاته، وفي معرفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 النبوة، فلا شَكَّ أن هذه المَطَالب أشرفُ المطالب، فإذا لم يكن القرآن هدى فيها، فكيف جعله الله هدى على الإطلاق؟ الجواب: ليس من شرط كونه هدى أن يكون هدى في كل شيء، بل يكفي فيه أن يكون هدى في بعض الأشياء، وذلك بأن يكون هدى في تعريف الشَّرَائع، أو يكون هدى في تأكيد ما في العقول، وهذه الآية من أَقْوَى الدلائل على أن المُطْلق لا يقتضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 العموم، فإن الله - تعالى - وصفة بكونه هُدًى من غير تقييد في اللَّفظ، مع أنه يستحيل أن يكون هدى في إثبات الصَّانع، وصفاته، وإثبات النبوة، فثبت أنّ المطلق لا يفيد العموم. السّؤال الرابع: الهُدَى هو الذي بلغ في البيان والوضوح إلى حيث بين غيره، والقرآن ليس كذلك، فإن المفسّرين ما ذكروا آية إلاّ وذكروا فيها أقوالاً كثيرة متعارضة، ويؤيد هذا قوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . وما يكون كذلك لا يكون مبيناً في نفسه، فضلاً عن أن يكون مبيناً لغيره، فكيف يكون هدى؟ قلنا: من تكلم في التفسير بحيث يورد الأقوال المُتَعَارضة، ولا يرجح واحداً منها على الباقي يتوجه عليه السؤال، وأما من رجح واحداً على البواقي فلا يتوجّه عليه السؤال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 «الذين» يحتمل الرفع والنصب والجر، والظاهر الجر، وهو من ثلاثة أوجه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 أظهرها: أنه نعت ل «المتقين» . والثاني: بدل. والثالث: عطف بيان. وأما الرفع فمن وجهين: أحدهما: أنه خبر مبتدأ محذوف على معنى القطع، وقد تقدم. والثاني: أنه مبتدأ، وفي خبره قولان: أحدهما: «أولئك» الأولى. والثاني: «أولئك» الثانية، والواو زائدة، وهذان القولان منكران؛ لأنه قوله: «والذين يؤمنون» يمنع كونه «أولئك» الأولى خبراً أيضاً. وقولهم: الواو زائدة لا يلتفت إليه. والنصب على القطع. و «يؤمنون» صلة وعائد. قال الزمخشري: «فإذا كان موصولاً كان الوقف على» المتقين «حسناً غير تام، وإذا كان منقطعاً كان واقفاً تاماً» . وهو مضارع علامة رفعه «النون» ؛ لأنه أحد الأمثلة الخَمْسَةِ وهي عبارة عن كل فعل مضارع اتصل به «ألف» اثنين، أو «واو» جمع، أو «ياء» مخاطبة، نحو: «يؤمنان - تؤمنان - يؤمنون - تؤمنون - تؤمنين» . والمضارع معرب أبداً، إلاّ أن يباشر نون توكيد أو إناث، على تفصيل ياتي إن شاء الله - تعالى - في غُضُون هذا الكتاب. وهو مضارع «أمن» بمعنى: صدق، و «آمن» مأخوذ من «أمن» الثلاثي، فالهمزة في «أمن» للصّيرورة نحو: «أعشب المكان» أي: صار ذا عُشْب. أو لمطاوعة فعل نحو: «كبه فأكب» ، وإنما تعدى بالباء، لنه ضمن معنى اعترف، وقد يتعدّى باللام كقوله تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17] ، {فَمَآ آمَنَ لموسى} يونس: 83] إلاَّ أن في ضمن التعدية باللام التّعدية بالباء، فهذا فرق ما بين التعديتين. وأصل «يؤمنون» : «يؤأمنون» بهمزتين: الأولى: همزة «أفْعَل» . والثاني فاء الكلمة، حذفت الولى؛ لأن همزة «أفْعَل» تحذف بعد حرف المُضَارعة، واسم فاعله، ومفعوله نحو: طأكرم «و» يكرم «و» أنت مُكْرِم، ومُكْرَم «. وإنما حذفت؛ لأنه في بعض المواضع تجتمع همزتان، وذلك إذا كان حرف المُضّارعة همزة نحو:» أنا أكرم «، الأصل: أأكرم بهمزتين، الولى: للمضارعة والثانية: همزة أفعل، فحذفت الثانية؛ لأن بها حصل الثّقل؛ ولأن حرف المضارعة أولى بالمحافظة عليه، ثم حصل باقي الباب على ذلك طَرْداً للباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ولا يجوز ثبوت همزة» أفعل «في شيء من ذلك إلا في ضرورة؛ كقوله: [الرجز] 119 - فَإَنَّهُ أَهْلٌ لأَنْ يُؤَكْرَمَا ... وهمزة» يؤمنون «- وكذلك كل همزة ساكنة - يجوز أن تبدل بحركة ما قبلها، فتبدل حرفاً متجانساً نحو:» راس «و» بير «و» يومن «، فإن اتفق أن يكون قبلها همزة أخرى وجب البدل نحو:» إيمان «و» آمن «. فصل قال بعضهم: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} يحتمل أن يكون كالتفسير لكونهم متقين، وذلك لأن المتقي هو الذي يكون فاعلاً للحسنات وتاركاً للسيئات، أما الفعل فإما أن يكون فعل القلب وهو قوله: «الذين يؤمنون» . وإما أن يكون فعل الجوارح، أساسه الصَّلاة والصدقة؛ لأن العبادة إما أن تكون بدنية، وأصلها الصَّلاة، أو مالية وأصلها الزكاة، ولهذا سمى الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الصَّلاَة عِمَاد الدِّين، والزَّكَاة قَنْطَرَة الإسلام» أما التَّرْك فهو داخل في الصَّلاة، لقوله تعالى: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] واختلف الناسي في مسمى الإيمان في عرف الشرع على أربع فرق: الفرقة الاولى: قالوا: الإيمان اسم لأفعال القلوب، والجوارح، والإقرار باللسان، وهم المعتزلة والخوارج والزيدية، وأهل الحديث. أما الخوارج فقد اتفقوا على أن الإيمان بالله يتناول المعرفة بالله، وبكل ما وضع عليه دليلاً عقلياً، أو نقلياً من الكتاب والسُّنة، ويتناول طاعة الله في جميع ما أمر الله به من الأفعال والتروك صغيراً كان أو كبيراً. فقالوا: مجموع هذه الأشياء هو الإيمان، وترك كل خصلة من هذه الخصال كفر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 أما المعتزلة فقد اتفقوا على أنَّ الإيمان إذا عدي بالباء، فالمراد به التصديق؛ إذ الإيمان بمعنى أداء الواجبات لا يمكن فيه هذه التعدية، فلا يقال: فلان آمن بكذا إذا صلّى وصام، بل يقال: فلان آمن بالله كما يقال: صام وصلّى لله، فالإيمان المعدى بالباء يجري على طريقة أهل اللغة. أما إذا ذكر مطلقاً غير معدى، فقد اتفقوا على أنه منقولٌ من المُسمَّى اللغوي - الذي هو التصديق - إلى معنى آخر، ثم اختلفوا فيه على وجوه: أحدها: أن الإيمان عبارةٌ عن فعل كل الطَّاعات، سواء كانت واجبة أم مندوبة، أو من باب الأقوال أو الأفعال، أو الاعتقادات، وهو قول واصل بن عَطَاءٍ، وأبي الهذيل، والقاضي عبد الجبار بن أحمد. وثانيها: أنه عبارة عن فعل الواجبات فقط دون النوافقل، وهو قول أبي علي وأبي هاشم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وثالثها: أن الإيمان عبارة عن [اجتناب كل ما جاء فيه الوعيد. ثم يحتمل أن يكون من الكبائر ما لم يرد فيه الوعيد] . فالمؤمن عند الله كل من اجتنب] كل الكبائر، والمؤمن عندنا كل من اجتنب ما ورد فيه الوعيد، وهو قول النّظام، ومن أصحابه من قال: شرط كونه مؤمناً عندنا وعند الله اجتناب الكبائر كلها. وأما أهل الحديث فذكروا وجهين: الأول: أن المعرفة إيمان كامل وهو الأصل، ثم بعد ذلك كل طاعة إيمان على حِدَةِ، وهذه الطاعات لا يكون شيء منها إيماناً إذلا إذا كانت مرتبة على الأصل الذي هو المعرفة. وزعموا أن الجحود وإنكار القلب كفر، ثم كل معصية بعد كُفْر على حِدَةٍ، ولم يجعلوا شيئاً من الطاعات إيماناً ما لم توجد المعرفة والإقرار، ولا شيئاً من المعاصي كفراً ما لم يوجد الجثحُود والإنكار؛ لأن الفرع لا يحصل بدون ما هو أصله، وهو قول عبد الله بن سعيد بن كلاب. والثاني: زعموا أن الإيمان اسم للطاعات كلها، وهو إيمان واحد، وجعلوا الفرائض والنوافل كلها من جملة الإيمان، ومن ترك شيئاً من الفرائض فقد انتقص إيمانه، ومن ترك النوافل لا ينتقص إيمانه. ومنهم من قال: الإيمان اسم للفرائض دون النوافل. الفرقة الثانية الذين قالوا: الإيمان باللِّسان والقَلْب نعاً، وقد اختلف هؤلاء على مذاهب: الأول: أن الإيمان إقرار باللسان، ومعرفة بالقلب، وهو قول أبي حنيفة وعامّة الفقهاء، ثم هؤلاء اختلفوا في موضعين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 أحدهما: اختلفوا في حقيقة هذه المعرفة، فمنهم من فَسَّرها بالاعتقاد الجازم - سواء كان اعتقاداً تقليدياً، أو كان علماً صادراً عن الدليل - وهم الأكثرون الذين يحكمون بأن المقلّد مسلم. ومنهم من فسرها بالعلم الصادر من الاستدلال. وثانيهما: اختلفوا في أن العلم المعتبر في تحقيق الإيمان عِلْمٌ بماذا؟ قال بعض المتكلّمين: هو العلم بالله، وبصفاته على سبيل الكمال والتمام، ثم إنه لما كثر اختلاف الخلق في صفات الله تعالى لا جرم أقدم كلّ طائفة على تكفير من عداها من الطوائف. وقال أهل الإنصاف: المعتبر هو العلم بكل ما علم بالضرورة كونه من دين محمد عليه الصَّلاة والسلام، فعلى هذا القول العلم بكونه تعالى عالماً بالعلم، أو عالماً بذاته، وبكونه مرئياً أو غير مرئي، لا يكون داخلاً في مسمى الإيمان. القول الثاني: أن الإيمان هو التصديق بالقلب واللسان معاً، وهو قول بشر بن غياث المَرِيسِي، وأبي الحسن الأشعري، والمراد من التصديق بالقلب الكَلاَم القائم بالنفس. الفرقة الثالثة الذين قالوا: الإيمان عبارة عن عمل القلب فقط، وهؤلاء اختلفوا على قولين: أحدهما: أن الإيمان معرفة الله بالقَلْبِ، حتى إن من عرف الله بقلبه، ثم جحد بلسانه ومات قبل أن يُقرَّ بِهِ فهو مؤمن كامل الإيمان، وهو قول جهم بن صَفْوَان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وأما معرفة الكتب والرسل واليوم الآخر فقد زعم أنها غير داخلةٍ في حَدّ الإيمان. وحكى الكعبي عنه: أنّ الإيمان معرفة الله مع معرفة كلّ ما علم بالضَّرورة كونه من دين محمد. ثانيهما: أنّ الإيمان مُجَرَّد التصديق بالقَلب، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ البَجَلي. الفرقة الرابعة الذين قالوا: الإيمان هو الإقرار باللسان فقط، وهم فريقان: الأول: أن الإقرار باللسان هو الإيمان فقط، لكن شرط كونه إيماناً حصول المعرفة في القلب، فالمعرفة شرط لكونه الإقرار اللساني إيماناً، لا أنها داخلةٌ في مسمى الإيمان، وهو قول غيلان بن مسلم الدّمشقي، والفضل الرقاشي، وإن كان الكعبي قد أنكر كونه ل «غيلان» . الثاني: أن الإيمان مجرد الإقرار باللسان، وهو قول الكرامية، وزعموا أن المُنَافقمؤمن الظاهر كافر السريرة، فثبت له حكم المؤمنين في الدنيا، وحكم الكافرين في الآخرة، فهذا مجموع أقوال الناس في مسمى الإيمان في عرف الشرع. و «بالغيب» متعلّق ب «يؤمنون» ، ويكون مصدراً واقعاً موقع اسم الفاعل، أو اسم المفعول، وفي هذا الثاني نظر؛ لأنه من «غاب» وهو لازم، فكيف يبنى منه اسم مفعول من «فَعَّلَ» مضعفاً متعدياً، أي: المُغَيَّب، وفيه بعد. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون مخففاً من «فَيْعِل» نحو: «هَيِّن» من «هَيْن» ، و «مَيِّت» من «مَيْت» . وفيه نظر؛ لأنه لا ينبغي أن يدعى ذلك فيه حتى يسمع مثقلاً كنظائره، فإنها سمعت مخفَّفةً ومثقلةً، ويبعد أن يقال: التزم التخفيف في هذا خاصّة. ويجوز أن تكون «الباء» للحال فيتعلّق بمحذوف أي: يؤمنون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 متلبسين بالغيب عن المؤمن به، و «الغيب» حينئذ مصدر على بابه. فصل في معنى «يؤمنون بالغيب» في قوله «يؤمنون بالغيب» قولان: الأول: قول أبي مسلم الأصفهاني أن قوله: «يؤمنون بالغيب» صفة المؤمنين معناه: أنهم يؤمنون بالله حال الغيبة كما يؤمنون به حال الحضور، لا كالمنافقين الذين «إِذَا لَقُوا الَّذِيْنَ آمَنُوا، آمَنَّ: وَإذَا خَلوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ» . نظيره قوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] ، وذلك مدح للمؤمنين بأن ظاهرهم موافق لباطنهم ومباين لحال المُنَافقين. الثاني: وهو قول جمهور المُفَسّرين أن الغيب هو الَّذي يكون غائباً عن الحاسّة، ثم هذا الغيب ينقسم إلى ما هو عليه دليل، وإلى ما ليس عليه دليل. فالمراد من هذه الآية مدح المتقين بأنهم يؤمنون بالغَيْبِ الذي دل عليه بأن يتفكروا، ويستدلوا فيؤمنوا به، وعلى هذا يدخل فيه العلم بالله - تعالى - وبصفاته والعلم بالآخرة، والعلم بالنبوة، والعلم بالأحكام بالشرائع، فإن في تحصيل هذه العلوم بالاستدلال مشقّة يصلح أن يكون سبباً لاستحقاق الثَّنَاء العظيم. واحتج أبو مسلم بأمور: الأول: أن قوله: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] إيمان بالأشياء الغائبة، فلو كان المراد من قوله: «الَّذِين يُؤْمِنُونَ بالْغَيْبِ» هو الإيمان بالأشياء الغائبة لكان المعطوف نفس المعطوف عليه، وهو غير جائز. الثاني: لو حملناه على الإيمان بالغيب يلزم إطلاق القول بأن الإنسان يعلم الغيب، وهو خلاف قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] وكذا سائر الآيات الباقية تدلّ على كون الإنسان عالماً بالغيب. أما على قولنا فلا يلزم هذا المحذور. الثالث: لفظ «الغيب» إنما يجوز إطلاقه على من يجوز الحُضُور، فعلى هذا لا يجوز إطلاق لفظ الغيب على ذات الله - تعالى - وصفاته، فقوله: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ» لو كان المراد منه الإيمان بالغيب لما دخل فيه الإيمان بذت الله وصفاته، ولا ينبغي فيه الإيمان بالآخرة، وذلك غَيْرُ جائز؛ لأن الركن الأعظم هو الإيمان بذات الله وصفاته، فكيف يجوز حمل اللّفظ على معنى يقتضي خروج الأصل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 أما على قولنا فلا يلزم خذا المحذور. والجواب عن الأول: أن قوله: «يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ» الإيمان بالغائبات على الإجمال، ثم إن قوله بعد ذلك: «وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ» يتناول الإيمان ببعض الغائبات، فكان هذا من باب عَطْفِ التَّفصيل على الجملة، وهو جائز كقوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98] . وعن الثاني: لا نزاع في أننا نؤمن بالأشياء الغائبة عنَّا، فكان ذلك التخصيص لازماً على الوجهين جميعاً. فإن قيل: أفتقولون: العبد يعلم الغيب أم لا؟ قلنا: قد بينا أن الغيب ينقسم إلى ما عليه دليل، وإلى ما لا دليل عليه. أما الذي عليه دليل فلا يمتنع أن نقول: نعلم من الغيب ما لنا عليه دليل، وعلى هذا الوجه قال العلماء: الاستدلال بالشاهد على الغائب أحد أقسام الأدلة. وعن الثالث: لا نسلّم أن لفظ الغيبة لا يستعمل إلاَّ فيما يجوز عليه الحُضُور، والدَّليل على ذلك أنّ المتكلمين يقولون هذا من باب إلحاق الغائب بالشَّاهد، ويريدون بالغائب ذات الله تعالى وصفاته، والله أعلم. واختلفوا في المراد ب «الغيب» . قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: «الغيب - ها هنا - كل ما أمرت بالإيمان به فيما غاب عن بصرك مثل: الملائكة والبَعْث والجَنّة والنَّار والصِّراط والمِيزَان» . وقيل: الغيب هاهنا هو الله تعالى. وقيل: القرآن. وقال الحسن: الآخرة. وقال زرُّ بن حبيش، وابن جريج: بالوحي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ونظيره: {أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب} [النجم: 35] قال ابن كيسان: بالقدر. وقال عبد الرحمن بن يزيد: كنا عند عبد الله بن مَسْعُودٍ، فذكرنا أصحاب رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وما سبقوا به، فقال عبد الله: إن أمر محمدا كان بيناً لمن رآه، والذي لا إله غيره ما آمن أحد قطّ أفضل من إيمان الكتب، ثم قرأ: «الم ذَلِكَ الكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ» إلى قوله «المفلحون» . وقال بعض الشيعة: المراد بالغيب المَهْدي المنتظر. قال ابن الخطيب: «وتخصص المطلق من غير دليل باطل» . قرأ أبو جعفر، وأبو عمرو وورش: «يُؤمِنُونَ» ، بترك الهمزة. ولذلك يترك أبو جعفر كل همزة ساكنة إلاّ في {أَنبِئْهُمْ} [البقرة: 33] ، و {يُنَبِّئُهُمُ} [المائدة: 14] ، و {نَبِّئْنَا} [يوسف: 36] . ويترك أبو عمرو كلها، إلا أن يكون علامةً للجزم نحو: {وَنَبِّئْهُمْ} [الحجر: 51] ، «وأَنبئْهُمْ» ، و {تَسُؤْهُمْ} [آل عمران: 120] ، و {إِن نَّشَأْ} [الشعراء: 4] ونحوها، أو يكون خروجاً من لُغَةٍ إلى أخرى نحو: {مُّؤْصَدَةُ} [البلد: 20] ، و {وَرِءْياً} [مريم: 74] . ويترك ورش كلّ همزة ساكنة كانت «فاء» الفعل، إلا {وتؤويا} [الأحزاب: 51] و {تُؤْوِيهِ} [المعارج: 13] ، ولا يترك من عين الفعل إلا {الرؤيا} [الإسراء: 60] وبابه، أو ما كان على وزن «فعل» . و «يقيمون» عطف على «يؤمنون» فهو صلةٌ وعائد. وأصله: يؤقومون حذفت همزة «أفعل» ؛ لوقوعها بعد حرف المُضّارعة كما تقدم فصار: يقومون، فاستثقلت الكسرة على الواو، ففعل فيه ما فعل في «مستقيم» ، وقد تقدم في الفاتحة. ومعنى «يقيمون» : يديمون، أو يظهرون، قال تعالى: {على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ} [المعارج: 23] وقال الشاعر: [الوافر] 120 - أَقْمَنَا لأَهْلِ العِرَاقَيْنِ سُوقَ البطْ ... طِعَانِ فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِعا وقال آخر: [الكامل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 121 - وَإِذَا يُقَالُ: أَتَيْتُمُ لَمْ يَبْرَحُوا ... حَتَّى تُقِيْمَ الخَيْلُ سُوقُ طِعَانٍ من قامت السّوق: إذا أنفقت؛ لأنها إذا حوفظ عليها كانت كالشيء النافق الذي تتوجّه إليه الرغبات، وإذا أضيفت كانت كالشّيء الكاسد الذي لا يرغب فيه. أو يكون عبارة عن تعديل أركانها، وحفظها من أن يقع خَلَل في فرائضها وسُننها، أو يكون من قام بالأمر، وقامت الحرب على ساق. وفي ضده: قعد عن الأمر، وتقاعد عنه: إذا تقاعس وتثبط، فعلى هذا يكون عبارة عن التجرُّد لأدائها، وألاّ يكون في تأديتها فُتُور، أو يكون عبارةً عن أدائها، وإنما عبر عن الأداء بالإقامة؛ لأن القيام ببعض أركانها كما عبر عنه بالقنوت. وذكر الصّلاة بلفظ الواحد، وأن المراد بها الخمس كقوله تعالى: {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق} [البقرة: 213] يعني: الكتب. و «الصّلاة» مفعول به، ووزنها: «فَعضلَة» ، ولامها واو، لقولهم: صَلَوات، وإنما تحركت الواو وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، واشتقاقها من: «الصَّلَوَيْنِ» وهما عِرْقَان في الوِرْكَيْنِ مفترقان من «الصّلاَ» ، وهو عِرْق مُسْتَبْطِنٌ في الظهر منه يتفرق الصَّلَوان عند عَجَبِ الذَّنْبِ، وذلك أن المصلّي يحرك صَلَوَيْهِ، ومنه «المُصَلِّي» في حَلَبَةِ السِّباق لمجيئه ثانياً عند «صَلَوَي» السابق. ذكره الزَّمخشري. قال ابن الخطيب: وهذا يفضي إلى طَعْنٍ عظيم في كون القرآن حُجّة؛ وذلك لأن لفظ «الصلاة» من أشدّ الألفاظ شهرة، وأكثرها درواناً على ألسنة المسلمين، واشتقاقه من تحريك الصّلوين من أبعد الأشياء اشتهاراًَ فيما بين أهل النقل، ولو جوزنا أن [يقال] : مسمى الصلاة في الأصل ما ذكره، ثم إنه خفي واندرس حتى صار بحيث لا يعرفه إلاّ الآحاد لكان مثله في سائر الألفاظ جائزاً، ولو جوزنا ذلك لما قطعنا بأن مراد الله - تعالى - من هذه الألفاظ ما تتبادر أفهامنا إليه من المَعَاني في زماننا هذا، لاحتمال أنها كانت في زمن الرسول موضوعة لمعانٍ أخر، وكان مراد الله - تعالى - تلك المعان] ، إلاّ أن تلك المعاني خَفِيت في زماننا، واندرست كما وقع مثله في هذه اللَّفظة، فلما كان ذلك باطلاً بإجماع المسلمين علمنا أن الاشتقاق الذي ذكره مردود باطل. وأجيب عن هذا الإشكال بأن بعثة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بالإسلام، وتجديد الشريعة أمر طبق الآفاق، ولا شَكّ أنه وضع عبارات، فاحتاج إلى وضع ألفاظ، ونقل ألفاظ عمّا كانت عليه، والتعبير مشهور. وأما ما ذكره من احتمال التعبير فلا دليل عليه، ولا ضرورة إلى تقديره فافترقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 و «الصَّلاة» لغة: الدّعاءُ: [ومنه قول الشاعر] [البسيط] 122 - تَقُولُ بِنْتِي وَقَدْ قَرَّبْتُ مُرْتَحلاً ... يَا رَبِّ جَنِّبْ أَبِي الأَوْصَابَ وَالوَجَعَا فَعَلَيكِ مِثْلُ الَّذي صَلَّيْتِ فَاغْتَمِضِي ... يَوماً فَإِنَّ لجَنْبِ الْمَرْءِ مُضْطَجِعاً أي: مثل الَّذي دعوت، ومثله: [الطويل] 123 - لَهَا حَارِسٌ لاَ يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا ... وإِن ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا وفي الشرع: هذه العبادة المعروفة. وقيل: هي مأخوذة من اللزوم، ومنه: «صَلِيَ بِالنَّارِ» أي: لزمها، ومنه قوله تعالى: {تصلى نَاراً حَامِيَةً} [الغاشية: 4] قال: [الخفيف] 124 - لَمْ أَكُنْ مِنْ جُنَاتِهَا عَلِمَ اللَّ ... هُ وإِنِّي بِحَرِّهَا الْيَومَ صَالِ وقيل: من صَلَيْتُ العودَ بالنَّار، أي: قَوَّمْتُهُ بالصَّلاَء - وهو حَرّ النار، إذا فَتَحْتَ قَصَرْتَ، وإن كَسَرْتَ مَدَدْتَ، كأن المصلِّي يُقَوِّم نفسه؛ قال: [الوافر] 125 - فَلاَ تَعْجَلْ بِأَمْرِكَ واسْتَدِمْهُ ... فَمَا صَلَّى عَصَاكَ كَمُسْتَدِيمِ ذكر ذلك الخَارزنجِيّ، وجماعة أجلّة، وهو مشكل، فإن «الصلاة» من ذوات الواو، وهذا من الياء. وقيل في قوله تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56] الآية: إنّ الصّلاة من الله الرحمة، ومن الملائكة الاسْتِغْفَار، ومن المؤمنين الدعاء. {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ} مما: جاء ومَجْرور متعلّق ب «ينفقون» و «ينفقون» معطوف على الصّلة قبله، و «ما» المجرورة تحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون اسماً بمعنى «الذي» ، و «رزقناهم» صِلَتِهَا، والعائد محذوف. قال أبو البقاء: «تقديره رزقناهموه، أو رزقناهم إياه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وعلى كل واحد من هذين التقديرين إشكال؛ لأن تقديره متصلاً يلزم منه اتصال الضَّمير مع اتحاد الرُّتبة، وهو واجب الانفصال، وتقديره منفصلاً يمنع حذفه؛ لأنَّ العائد متى كان منفصلاً امتنع حذفه، نصُّوا عليه، وعللوا بأنه لم يفصل إلا لغرض، وإذا حذف فاتت الدلالة على ذلك الغرض. ويمكن أن يجاب عن الأوّل بأنه لما اختلف الضَّميران جمعاً وإفراداً - وإن اتحدا رتبةً - جاز اتصاله؛ ويكون كقوله: [الطويل] 126 - فَقَدْ جَعَلَتْ نَفْسِي تَطِيبُ لِضَغْمَةٍ ... لِضَغْمِهمَاهَا يَقْرَعُ الْعَظْمَ نَابُهَا وأيضاً فإنه لا يلزم من منع ذلك ملفوظاً به منعه مقدّراً لزوال القُبْحِ اللفظي. وعن الثَّاني: بأنه إنما يمنع لأجل اللَّبْسِ موصوفةً، والكلام في عائدها كالكلام في عائدها موصولةً تقديراً واعتراضاً وجواباً. الثَّالث: أن تكون مصدريةً، ويكون المصدر واقعاً موقع المفعول أي: مرزوقاً. وقد منع أبو البقاء هذا الوَجْهَ قال: «لأنَّ الفعل لا يتفق» ، وجوابه ما تقدّم من أنّ المصدر يراد يه المفعول. والرزق لغة: العَطَاء، وهو مصدر؛ قال تعالى: {وَمَن رزقناه مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} [النحل: 75] وقال الشَّاعر: [البسيط] 127 - رُزِقْتَ مَلاً وَلَمْ تُرْزَقْ مَنَافِعَهُ ... إِنَّ الشَّقِيَّ هُوَ الْمَحْرُومُ مَا رُزِقَا وقيل: يجوز أن يكون «فِعْلاً» بمعنى «مفعول» نحو: «ذِبْح» ، و «رِعْي» بمعنى: «مَذْبوح» ، و «مَرْعيّ» . وقيل: «الرِّزْق» - بالفتح - مصدر، وبالكسر اسم، وهو في لغة أزد شنوءة: الشّكر، ومنه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] . وقال بعضهم: ويدخل فيه كل ما ينتفع به حتى الولد والعَبْد. وقيل: هو نصيب الرجل، وما هو خاص له دون غيره. ثم قال بعضهم الرزق كل شيء يؤكل أو يستعمل، وهو باطل؛ لأن الله - تعالى - أمرنا بأن ننفق مما رزقنا فقال: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا} [المنافقون: 10] ، فلو كان الرزق هو الذي يؤكل لما أمكن إنفاقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وقال آخرون: الرزق هو ما يملك وهو باطل أيضاً؛ لأن الإنسان قد يقول: اللهم ارزقني ولداً صالحاً، أو زوجة صالحة، وهو لا يملك الولد ولا الزَّوجة، ويقول: اللهم أرزقني عقلاً أعيش به، والعقل لي بمملوك، وأيضاً البهيمة يحصل له رزقٌ ولا يكون لها ملك. وأما في عُرف الشَّرع فقد اختلفوا فيه، فقال أبو الحَسَنِ البَصْرِي: الرزق تمكين الحَيَوَان من الانتفاعِ بالشيء، والحظر على غيره أن يمنعه من الانتفاع به. فإذا قلنا: قد رزقنا الله الأموال، فمعنى ذلك أنه مَكَّننا بها من الانتفاع بها، وإذا سألنا - تعالى - أن يرزقنا مالاً فإنا لا نقصد بذلك أن يجعلنا بالمال أخصّ. واعلم أن المعتزلة لما فسّروا الرزق بذلك لا جَرَمَ قالوا: الحرام لا يكون رزقاً. وقال أصحابنا: الحرام قد يكون رزقاً. قال ابن الخطيب: حُجّة الأصحاب من وجهين: الأول: أنّ الرزق في أصل اللغة هو الحظ والنصيب على ما بيناه، فمن انتفع بالحرام، فذلك الحرام صار حظَّا ونصيباً، فوجب أن يكون رزقاً له. الثَّاني: أنه تعالى قال: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6] ، وقد يعيش الرجل طول عمره لا يأكل إلا من السّرقة، فوجب أن يقال: إنه طول عمره لم يأكل من رزق شيئاً. أما المعتزلة: فقد احتجُّوا بالكتاب، والسُّنة، والمعنى: أما الكتاب فوجوه: أحدها: قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] مدحهم على الإنفاق مما رزقهم الله تعالى فلو كان الحرام رزقاً لوجب أن يستحقوا المدح إذا أنفقوا من الحرام، وذلك باطل بالاتفاق. ثانياً: لو كان الحرام رزقاً لجاز أن ينفق الغاصب منه، لقوله تعالى: {مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ} [المنافقون: 10] ، وأجمع المسلمون على أنَّهُ لا يجوز للغاصب أن ينفق [مما أخذه] ، بل يجب رَدّه، فدلّ على أنَّ الحرام لا يكون رزقاً. ثالثها: قوله تَعَالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} [يونس: 59] فبين أن من حرم رزق الله، فهو مُفْتَرٍ على الله، فثبت أن الحرام لا يكون رزقاً. وأما السُّنة فما رواه أبو الحسين في كتاب «الفرائض» بإسناده عن صفوان بن أمية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 قال: «كنا عند رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذْ جاءه عمرو بن مُرَّةَ فقال له: يا رسول الله إنّ الله كتب عليَّ الشّقْوة، فلا أُرَانِي أُرْزقَ من دُفِّي بِكَفِّي، فائذن لي في الغناء من غير فَاحِشَةٍ. فقال عليه الصّلاة والسلام:» لا آذَنَ لَكَ ولا كَرَاهة ولا نعْمة كَذَبت أي عَدُوّ الله لقد رزقك الله [رزقاً] طيباً فاخترت ما حَرَّمَ الله عليك من رِزْقِهِ على ما أَحَلّ الله لك من حَلاَلِهِ، أَمَا لو قُلْتَ بعد هَذِهِ المقدّمة شيئاً ضَرَبْتُكَ ضرباً وجيعاً «. وأما المعنى فإنَّ الله - تَعَالَى - منع المكلّف من الانتفاع بهن وأمر غيره بمنعه من الانتفاع به، ومن منع من أخذ الشيء والانتفاع به لا يقال: إنه رزقه إياه، ألا ترى أنه لا يقال: إن السلطان قد رزق جنده مالاً قد منعهم من أخذه، وإنما يقال: إنه رزقهم ما مكَّنهم من أخذه، ولا يمنعهم منه، ولا أمر بمنعهم منه. وأجاب أصحابنا عن التمسُّك بالآيات بأنه كان الكلّ من الله، فإنه لا يُضَاف إليه ذلك؛ لما فيه من سُوءِ الأدب، كما يقال: يا خالق المحدثات والعرش والكرسي، ولا يقال: يا خالق الكِلاَب والخَنَازير، وقال: {يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] فخصّ اسم العباد بالمتّقين، وإن كان الكُفَّار أيضاً من العباد، وكلك هاهنا خصّ اسم الرزق بالحلال على سبيل التشريف، وإن كان الحرام رزقاً أيضاً. وأجابوا عن التمسُّك بالخبر بأنه حُجَّة لنا؛ لأن قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» فَاخْتَرْتَ ما حَرَّمَ اللهُ عليك من رِزْقِه «صريح في أن الرزق قد يكون حراماً. وأجابوا عن المعنى بأن هذه المسألة مَحْضُ اللغة، وهو أن الحرام هل يسمى رزقاً أم لا؟ ولا مجال للدلائل العقلية في الألفاظ، والله أعلم. و» نفقط الشيء: نفد، وكلّ ما جاء مما فاؤه نون، وعينه فاء، فدالّ على معنى ونحو ذلك إذا تأملت، قاله الزمخشري، وذلك نحو: نَفِدَ نَفَقَ نَفَرَ «نفذ» «نَفَشَ» «نَفَحَ» «نفخ» «نفض» «نفل» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 و «نفق» الشيء بالبيع نَفَاقاً ونَفَقَتِ الدابة: ماتت نُفُوقاً، والنفقة: اسم المُنْفَق. فصل في معاني «من» و «من» هنا لابتداء الغاية. وقيل: للتبعيض، ولها معانٍ أخر: بيان الجنس: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] . والتعليل: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق} [البقرة: 19] . والبدل: {بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] . والمُجَاوزة: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: 121] . وانتهاء الغاية: «قربت منه» . والاستعلاء {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} [الأنبياء: 77] . والفصل: {يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} [البقرة: 220] . وموافقة «الباء» {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] ، {مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} [فاطر: 40] . والزيادة باطّراد، وذلك بشرطين كون المجرور نكرة والكلام غير موجب. واشترط الكوفيون التنكير فقط، ولم يشترط الأخفش شيئاً. و «الهمزة» في «أنفق» للتَّعدية، وحذفت من «ينفقون» لما تقدم في «يؤمنون» . فصل في قوله تعالى «ومما رزقناهم ينفقون» قال ابن الخَطِيبْ: في قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} فوائد: إحداها: أدخل «من» للتبعيض نهياً لهم عن الإسراف والتَّبذير المنهي عنه. وثانيها: قدم مفعول الفعل دلالة على كونه أهَمّ، كأنه قال: يخصّون بعض المال بالتصدق به. وثالثها: يدخل في الإنفاق المذكور في الآية، الإنفاق الواجب، والإنفاق المندوب، والإنفاق الواجب أقسام: أحدها: الزكاة وهي قوله تعالى: {يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا} [التوبة: 34] . وثانيها: الإنفاق على النفس، وعلى من تجب عليه نفقته. وثالثها: الإنفاق في الجهاد. وأما الإنفاق المندوب فهو أيضاً إنفاق لقوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ} [المنافقون: 10] ، وأراد به الصدقة؛ لقوله بعد: {فَأَصَّدَّقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: 10] فكل هذه داخلةٌ تحت الآية، لأن كل ذلك سبب لاستحقاق المدح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 «والَّذِين» عطف على «الذين» قبلها، ثم لك اعتباران: أحدهما: أن يكون من باب عطف بعض الصفات على بعض كقوله: [المتقارب] 128 - إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وابْنِ الْهُمَامِ وَلَيْثِ الْكَتِيبَةِ فِي الْمُزْدَحَمْ وقوله: [السريع] 129 - يَا وَيْحَ زَيَّابَةَ لِلْحَارِثِ الصْ ... صَابِحِ فَالغَانِمِ فَالآيِبِ يعني: أنهم جامعون بين هذه الأوصاف إن قيل: إن المراد بها واحد. والثاني: أن يكونوا غيرهم. وعلى كلا القولين، فيحكم على موضعه بما حكم على موضع «الَّذِين» المتقدمة من الإعراب رفعاً ونصباً وجرًّا قطعاً وإتباعاً كما مر تفصيله. ويجوز أن يكون عطفاً على «المتقين» ، وأن يكون مبتدأ خبره «أولئك» ، وما بعدها إن قيل: إنهم غير «الذين» الأولى. و «يؤمنون» صلة وعائد. و «بما أنزل» متعلّق به و «ما» موصولة اسمية، و «أنزل» صلتها، وهو فعل مبني للمفعول، لعائد هو الضَّمير القائم مقام الفاعل، ويضعف أن يكون نكرة موصوفة وقد منع أبو البقاء ذلك قال: لأن النكرة الموصوفة لا عموم فيها، ولا يكمل الإيمان إلا بجميع ما أنزل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 و «إليك» متعلّق ب «أنزل» ، ومعنى «إلى» انتهاء الغاية، ولها معان أخر: المُصَاحبة: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] . والتبيين: {رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ} [يوسف: 33] . وموافقة اللام و «في» و «من» : {والأمر إِلَيْكِ} [النمل: 33] أي: لك. وقال النابغة: [الطويل] 130 - فَلاَ تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأَنِّنِي ... إِلى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ الْقَارُ أَجْرَبُ وقال الآخر: [الطويل] 131 - ... ... ... ... ... ... ... ... أَيُسْقَى فَلاَ يُرْوَى إِلَيَّ ابْنُ أَحْمَرَا أي: لا يروى منّي، وقد تزاد؛ قرىء: «تَهْوَى إليهم» [إبراهيم: 37] بفتح الواو. و «الكاف» في محل جر، وهي ضمير المُخَاطب، ويتّصل بها ما يدل على التثنية والجمع تذكيراً وتأنيثاً ك «تاء» المُخَاطب. ويترك أبو جعفر، وابن كثير، وقالون، وأبو عمرو، ويعقوب كل مَدّة تقع بين كلمتين، والآخرون يمدونها. و «النزول» الوصول والحلول من غير اشتراط عُلُوّ، قال تعالى: {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ} [الصافات: 177] أي حلّ ووصل. قال ابن الخطيب: والمراد من إنزال الوَحْي، وكون القرآن منزلاً، ومنزولاً به - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 أن جبريل سمع في السماء كلام الله - تعالى - فنزل على الرسول به، كما يقال: نزلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 رسالة الأمير من القَصْر، والرسالة لا تنزل ولكن المستمع يسمع الرسالة من عُلوّ، فينزل ويؤدي في سفل، وقول الأمير لا يُفَارق ذاته، ولكن السامع يسمع فينزل، ويؤدي بلفظ نفسه، ويقال: فلان ينقل الكلام إذا سمع وحدث به في موضع آخر. فإن قيل: كيف سمع جبريل كلام الله تعالى؛ وكلامه ليس من الحروف والأصوات عندكم؟ قلنا: يحتمل أن يخلق الله - تعالى - له سمعاً لكلامه، ثم أقدره على عبارة يعبر بها عن ذلك الكلام القديم، ويجوز أن يكون الله - تعالى - خلق في اللَّوح المحفوظ كتابةً بهذا النظم المخصوص، فقرأه جبريل - عليه السلام - فحفظه، ويجوز أن يخلق الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 أصواتاً مقطّعة بهذا النظم المخصوص في جسم مخصوص، فيتلقّفه جبريل - عليه السلام - ويخلق له علماً ضرورياً بأنه هو العبارة المؤدّية لكعنى ذلك الكلام القديم. فصل في معنى فلان آمن بكذا قال ابن الخطيب: لا نزاع بين أصحابنا وبين المعتزلة في أن الإيمان إذا عدّى ب «الباء» فالمراد منه التصديق. فإذا قلنا: فلان آمن بكذا، فالمراد أنه صدق به، فلا يكون المراد منه أنه صام وصلى، فالمراد بالإيمان - هاهنا - التصديق، لكن لا بُدّ معه من المعرفة؛ لأن الإيمان - هاهنا - خرج مخرج المدح، والمصدق مع الشّك لا يأمن أن يكون كاذباً، فهو إلى الذَّم أقرب. و «ما» الثانية وَصِلَتُهَا عطف «ما» الأولى قبلها، والكلام عليها وعلى صِلَتِهَا كالكلام على «ما» التي قبلها، فتأمله. واعلم أن قوله: «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالغَيْبِ» عام يتناول كل من آمن بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، سواء كان قبل ذلك مؤمناً بموسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام، أو لم يكن مؤمناً بهما، ثم ذكر بعد ذلك هذه الآية وهي قوله: {والذين يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ} [البقرة: 4] يعني: التوراة والإنجيل؛ لأن في هذا التخصيص مزيد تشريف لهم كما في قوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] ، ثم في تخصيص عبد الله بن سلام، وأمثاله بهذا التشريف ترغيبٌ لأمثاله في الدِّين، فهذا هو السبب في ذكر هذا الخاص بعد ذكر العام. و «من قبلك» متعلّق ب «أنزل» ، و «من» لابتداء الغاية، و «قبل» ظرف زمان يقتضي التقدم، وهو نقيض «بعد» ، وكلاهما متى نُكّر، أو أضيف أعرب، ومتى قطع عن الإضافة لفظاً، وأريدت معنى بني على الضم، فمن الإعراب قوله: [الوافر] 132 - فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ وَكُنْتُ قَبْلاً ... أَكَادُ أَغَصُّ بِالمَاءِ الْقَرَاحِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وقال الآخر: [الطويل] 133 - وَنَحْنُ قَتَلْنَا الأُسْدَ أُسْدَ خَفِيَّةٍ ... فَمَا شَرِبُوا بَعْدَاً عَلَى لذَّةٍ خَمْراً ومن البناء قوله تعالى: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] وزعم بعضهم أن «قبل» في الأصل وصف نَابَ عن موصوفه لزوماً. فإذا قلت: «قمت قبل زيد» فالتقدير: قمت [زماناً قبل زمان قيام زيد، فحذف هذا كله، وناب عنه قبل زيد] ، وفيه نظر لا يخفى على متأمله. واعلم أن حكم «فوق وتحت وعلى وأول» حكم «قبل وبعد» فيما تقدّم. وقرىء: «بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ» مينياً للفاعل، وهو الله - تعالى - أو جبريل، وقرىء أيضاً: «بِمَا أُنْزِلّ لَيْكَ» بتشديد اللام، وتوجيهه أن يكون سكن آخر الفعل كما يكنه الأخر في قوله: [الرمل] 134 - إِنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ قدْ خُلِطَ بِجُلْجُلاَنِ ... بتسكين «خُلط» ثم حذف همزة «إليك» ، فالتقى مِثْلاَن، فأدغم لامه. و «بالأخرة» متعلّق ب «يوقنون» ، و «يوقنون » خبر عن «هم» ، وقدّم المجرور؛ للاهتمام به كما قدم المنفق في قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] لذلك، وهذه جملة اسمية عطفت على الجملة الفعلية قبلها فهي صلةٌ أيضاً، ولكنه جاء بالجملة هنا من مبتدأ وخبر لخلاف: «وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ» ؛ لأن وصفهم بالإيقان بالآخرة أوقع من وصفهم بالإنفاق من الرزق، فناسب التأكيد بمجيء الجملة الاسمية، أو لئلا يتكرّر اللفظ لو قيل: «ومما رزقناكم هم ينفقون» . والمراد من الآخرة: الدَّار الآخرة، وسميت الآخرة آخرة، لتأخرها وكونها بعد فناء الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 والآخرة تأنيث آخر مقابل ل «أول» ، وهي صفة في الأصل جرت مجرى الأسماء، والتقدير: الدار الآخرة، والنشأة الآخرة، وقد صرح بهذين الموصوفين، قال تعالى: {وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ} [الأنعام: 32] وقال: {ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة} [العنكبوت: 20] . و «يوقنون» من أيقن بمعنى: استيقن، وقد تقدّم أن «أفعل» [يأتي] بمعنى: «استفعل» أي: يستيقنون أنها كائنة، من الإيقان وهو العلم. وقيل: اليقين هو العلم بالشيء بعد أن كان صاحبه شاكًّا فيه، فلذلك لا تقول: تيقّنت وجود نفسي، وتيقنت أن السماء فوقي، ويقال ذلك في العلم الحادث، سواء أكان ذلك العلم ضرورياً أو استدلالياً. وقيل: الإيقان واليقين علم من استدلال، ولذلك لا يسمى الله موقناً ولا علمه يقيناً، إذ ليس علمه عن استدلال. وقرىء: «يُؤْقِنُون» بهمز الواو، وكأنهم جعلوا ضمّة الياء على الواو لأن حركة الحرف بين بين، والواو المضمومة يطرد قبلها همزة بشروط: منها ألاّ تكون الحركة عارضة، وألاّ يمكن تخيفها، وألاّ يكون مدغماً فيها، وألاّ تكون زائدة؛ على خلاف في هذا الأخير، وسيأتي أمثلة ذلك في سورة «آل عمران» عند قوله: {وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ} [آل عمران: 153] ، فأجروا الواو السَّاكنة المضموم ما قبلها مُجْرَى المضمومة نفسها؛ لما ذكرت لك، ومثل هذه القراءة قراءةُ قُنْبُلٍ «بالسُّؤْقِ» [ص: 33] و «على سُؤْقِهِ» [الفتح: 29] وقال الشاعر: [الوافر] 135 - أَحَبُّ المُؤْقِدَيْنِ إِلَيَّ مُؤْسَى ... وَجَعْدَةُ إِذْ أَضَاءَهُمَا الْوَقُودُ بهمز «المؤقدين» . وجاء بالأفعال الخمسة بصيغة المضارع دلالة على التجدُّد والحدوث، وأنهم كل وقت يفعلون ذلك. وجاء ب «أنزل» ماضياً، وإن كان إيمانهم قبل تمام نزوله تغليباً للحاضر المنزول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 على ما لم ينزل؛ لأنه لا بُدّ من وقوع، فكأنه نزل من باب قوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] ، بل أقرب منه؛ لنزول بعضه. فصل فيما استحق به المؤمنون المدح قال ابن الخطيب: إنه - تعالى - مدحهم على كونهم متيقنين بالآخرة، ومعلوم أنه لا يمدح المرء بتيقّن وجود الآخرة فقط، بل لا يستحق المدح إلاّ إذا تيقن وجود الآخرة مع ما فيها من الحساب، والسؤال، وإدخال المؤمنين الجَنّة، والكافرين النار. روي عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنه قال: «يا عجباً كل العَجَب من الشَّاك في الله وهو يرى خَلْقَهُ، وعجباً ممن يعرف النَّشْأَةَ الأولى ثم ينكر النَّشْأَة الآخرة، وعجباً ممن ينكر البَعْثَ والنشور، وهو [في] كل يوم وليلة يموت ويَحْيَا - يعني النوم واليقظة - وعجباً ممن يؤمن بالجنّة، ما فيها من النعيم، ثم يسعى لدار الغرور؛ وعجباً من المتكبر الفخور، وهو يعلم أن نطفةٌ مَذِرَةٌ، وآخره جيفة قَذرة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 «أولئك» مبتدأ، خبره الجار والمجرور بعده أي: كائنون على هُدًى، وهذه الجملة: إما مستأنفة، وإما خبر عن قوله: الذي يؤمنون إما الأولى وإما الثانية، ويجوز أن يكون «أولئك» وحده خبراً عن «الذين يؤمنون» أيضاً إما الأولى أو الثانية، ويكون «على هُدًى» في هذا الوجه في محلّ نصب على الحال، هذا كله إذا أعربنا «الذين يؤمنون» مبتدأ أما إذا جعلناه غير مبتدأ، فلا يخفى حكمه مما تقدم. ويجوز أن يكون «الذين يؤمنون» مبتدأ و «أولئك» بدل أو بَيَان، و «على هدى» الخبر. و «أولئك» : اسم إشارة يشترك فيه جماعة الذُّكور والإناث، وهو مبني على الكَسْرِ؛ لشبهة بالحرف في الافتقار. وقيل: «أولاء» كلمة معناها الكناية عن جماعة نحو: «هم» و «الكاف» للخطاب، كما في حرف «ذلك» ، وفيه لغتان: المد والقصر: ولكن الممدود للبعيد، وقد يقال: «أولالك» قال: [الطويل] 136 - أُولاَلِكَ قَوْمِي لَمْ يَكُونُوا أُشَابَةَ ... وَهَلْ يَعِظُ الضِّلِّيلَ إِلاَّ أُولاَلِكَا وعند بعضهم: المقصور للقريب والممدود للمتوسّط، و «أولالك» للبعيد، وفيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 لغات كثيرة، وكتبوا «أولئكَ» بزيادة «واو» قبل «اللام» . قيل: للفرق بينها وبين «إليك» . و «الهدى» الرشد والبيان والبَصِيرة. و «مِنْ رَبِّهِمْ» في محل جر صفة ل «هدى» و «مِنْ» لابتداء الغاية، ونكر «هدى» ليفيد إبهامه التَّعظيم كقوله: [الطويل] 137 - فَلاَ وَأَبِي الطَّيْرَ الْمُرِبَّةِ بِالضُّحَى ... عَلَى خَالِدٍ لَقَدْ وَقَعْتُ عَلَى لَحْمِ وروي «من ربهم» بغير غُنّة، وهو المشهور، وبغّنَة، ويروى على أبي عمرو، و «أولئك» مبتدأ، و «هم» مبتدأ ثانٍ، و «المفلحون» خبره، والجملة خبر الأول، ويجوز أن يكون «هم» فصلاً أو بدلاً، و «المفلحون» الخبر. وفائدة الفصل: الفرق بين الخبر والتابع، ولهذا سمي فصلاً، ويفيد - أيضاً - التوكيد. قال ابن الخطيب: يفيد فائدتين: إحداهما: الدلالة على أن «الوارد» بعده خبر لا صفة. والثاني: حصر الخبر في المبتدأ، فإنك لو قلت لإنسان ضاحك فهذا لا يفيد أن الضاحكية لا تحصل إلاّ في الإنسان. وقد تقدم أنه يجوز أن يكون «أولئك» الأولى، أو الثاّنية خبراً عن «الذين يؤمنون» ، وتقدم تضعيف هذين القولين. وكرر «أولئك» تنبيهاً على أنهم كما ثبت لهم الأثرة بالهدى ثبت لهم بالفلاح، فجعلت كل واحدة من الإُثْرَتَيْنِ في تميزهم بها عن غيرهم بمثابة لو انفردت لكانت مميزة عن حدّها، وجاء هنا بالواو بين جملة قوله تعالى: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون} [الأعراف: 179] لأن الخبرين - هنا - متغايران، فاقتضى ذلك العطف، وأما تلك الآية الكريمة، فإن الخبرين فيها شيء واحد؛ لأن لتسجيل عليهم بالغَفْلَةِ، وتشبيههم بالأنعام معنى واحد، فكانت عن العَطْف بمعزل. قال الزمخشري: وفي اسم الإشارة هو «أولئك» إيذانٌ بأن ما يراد عقبه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 والمذكورين قبله أهل لاكتسابه الخَصَال التي عددت لهم، كقول حاتم: [الطويل] 138 - وَللهِ صُعْلُوكٌ ... . ..... ... ... ... ... ... ... . . ثم عدَّد له فاضلة، ثم عقَّب تعديدها بقوله: [الطويل] 139 - فَذَلِكَ إِنْ يَهْلِكْ فَحُسْنَى ثَنَاؤُهُ ... وَإِنْ عَاشَ لَمْ يَقْعُدْ ضَعِيفاً مُذَمَّمَاً و «الفلاح» أصله: الشقُّ؛ ومنه قوله: [الرجز] 140 - إّنَّ الحَدِيدَ بِالْحَدِيدِ يُفْلِحُ ... ومنه قول بكر النّطاح: [الكامل] 141 - لاَ تَبْعَثَنَّ إِلَى رَبِيعةَ غَيْرَهَا ... إِنَّ الْحَدِيدَ بِغَيْرِهِ لا يُفْلَحُ ويعبر به عن الفوز، والظفر بالبغية وهو مقصود الآية؛ ويراد به البقاء قال: [الرجز] 142 - لَوْ أَنَّ حَيَّا مُدْرِكُ الفَلاَحِ ... أَدْرَكَهُ مُلاَعِبُ الرِّمَاحِ وقال: [الطويل] 143 - نَحُلُّ بِلاَداً كُلُّهَا حُلَّ قَبْلَنَا ... ونَرْجُو الفَلاَحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ وقال: [المنسرح] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 144 - لِكُلٍّ هَمٌّ مِنَ الْهُمُومِ سَعَهْ ... والمْمُسْيُ وَالصُّبْحُ لاَ فَلاَحَ مَعَهُ والمُفْلج - بالجيم - مثله، ومعنى التعريف في «المُفْلِحون» الدلالة على أن المتقين هم الناي أي: أنهم الذين إذا حصلت صفةُ المفلحين فهم هم كما تقول لصاحبك: هل عرفت السد، وما جُبِلَ عليه من فرط الإقدام؟ إن زيداً هو هو. فصل فيمن احتج بالآية على مذهبه هذه الاية يتمسّك بها الوعيدية والمُرْجِئة. أما الوعيديّة فمن وجهين: الأول: أن قوله: «وَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ» يقتضي الحصر، فوجب فيمن أخل بالصلاة والزكاة أن لا يكون مفلحاً، وذلك يوجب القطع بوعيد تارك الصَّلاةِ والزكاة. الثاني: أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علة لذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الحكم، فيلزم أن تكون علّة الفلاح في فعل الإيمان والصلاة والزكاة، فمن أخلّ بهذه الأشياء لم تحصل له علّة الفلاح، فوجب إلا يحصل الفلاح. وأما المُرْجئة: فقد احتجّوا بأن الله حكم بالفَلاَح على الموصوفين بالصفات المذكورة في هذه الآية، فوجب أن يكون الموصوف بهذه الأشياء مفلحاً، وأن زَنَى وشَرِبَ الخَمْرَ وسَرَقَ، وإذا ثبت تحقق العفو في هذه الطائفة ثبت في غيرهم ضرورة؛ لأنه لا قائل بالفرق. قال ابن الخطيب: والجواب أن كل واحد من الاحتجاجيين معارض بالآخر، فيتساقطان. والجواب عن قول الوعيدية: أن قوله: «أولئك هم المفلحون» يدل على أنهم الكاملون في الفلاح، فيلزم أن يكون صاحب الكبيرة غير كامل الفلاح، ونحن نقول بموجبه، فإنه كيف يكون كاملاً في الفلاح، وهو غير جازمٍ بالخلاص من العذاب، بل يجوز له أن يكون خائفاً. وعن الثاني: أن نفي السبب لا يقتضي نفي المسبب، فعندنا من أسباب الفلاح عفو الله تَعَالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 والجواب عن قول المرجئة: أنّ وصفهم بالتقوى يكفي لنَيْلِ الثواب؛ لأنه يتضمّن اتقاء المعاصي، واتقاء ترك الواجبات، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 اعلم أن الحروف لا أَصْلَ لها في العمل، لكن الحروف أشبه الفعل صورة ومعنى، فاقتضى كونه عاملاً. أما المُشَابهة في اللفظ فلأنه تركّب من ثلاثة أحرف انفتح آخرها، ولزمت الأسماء كالأفعال، وتدخل نون الوقاية نحو «إنّني وكأنّني» كما تدخل على الفعل نحو: «أعطاني وأكرمني» ، وأما المعنى فلأنه يفيد معنى في الاسم، فلما اشبهت الأفعال وجب أن تشبهها في العمل. روى ابن الأنباري «أن الكِنْدِيّ» المتفلسف ركب إلى المبرد وقال: إني أجد في كلام العرب حشواً، أجد العرب تقول: «عبد الله قائم» ، ثم يقولون: «إنَّ عبد الله قائم» ثم يقولون: «إنَّ عبد الله لقائم» . فقال المبرد: بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ: فقولهم:: عبد الله قائم «إخبار عن قيامه، وقولهم:» إن عبد الله قائم «جواب عن سؤال سائل، وقولهم:» إن عبد الله لقائم «جواب عن إنكار منكر لقيامه. واحتج عبد القاهر على صحّة قوله بأنها إنما تذكر جواباً لسؤال سائلٍ بقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} [الكهف: 83] إلى أن قال: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ} [الكهف: 84] ، وقوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} [الكهف: 13] ، وقوله: {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي برياء} [الشعراء: 216] . قال عبد القاهر: والتحقيق أنّها للتأكيد، فإذا كان الخبر ليس يظنّ المخاطب خلافه لم يحتج إلى» أن «، وإنما يحتاج إليها إذا ظنّ السامع الخلاف، فأما دخوله اللاّم معها في جواب المنكر، فلأن الحاجة إلى التأكيد أشد. فإن قيل: فلم لا دخلت» اللام «في خبرها في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 16] ، وأدخل» اللام «في خبرها في قوله قبل ذلك: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 ذلك لَمَيِّتُونَ} [المؤمنون: 15] ، وهم كانوا يتيقنون الموت، فلا حاجة إلى التأكيد، فكانوا ينكرون البعث فكانت الحاجة لدخول» اللام «على البعث أشد ليفيد التأكيد. فالجواب: أن التأكيد حصل أولاًَ بقوله: {خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 12 - 14] . فكان ذكر هذه السبع مراتب في خلق الإنسان أبلغُ في التأكيد من دخول» اللام «على خبر» إن «، وهي تنصب الاسم، وترفع الخبر خلافاً للكوفيين بأن رفعه بما كان قبل دخولها. وتقرير الأول أنها لما صارت عاملة فإما أن ترفع المبتدأ أو الخبر معاً، وتنصبهما معاً، أو ترفع المبتدأ وتنصب الخبر أو بالعكس والأول باطل؛ لأنهما كانا مرفوعين قبل دخولهما، فلم يظهر للعمل أثر البتة، ولأنها أعطيت عمل الفعل، والفعل لا يرفع الاسمين، فلا معنى للاشتراك، والفرع لا يكون أقوى من الأصل. والثاني - أيضاً - باطل، لأنه مخالف لعمل الفِعْل، لأن الفعل لا ينصب شيئاً مع خُلوه عما يرفعه. والثالث - أيضاً - باطل لأنه يؤدي إلى التسوية بين الأصل والفرع؛ لن الفعل يعمل في الفاعل أولاً بالرفع؛ ثم في المفعول بالنصب، فلو جعل الحرف هاهنا كذلك لحصلت التسوية بين الأصل والفرع. ولما بطلت الأقسام الثلاثة تعيّن الرابع، وهي أنها تنصب الاسم، وترفع الخبر، وهذا مما ينبّه على أن هذه الحروف لَيْسَتْ أصلية في العمل؛ لأنّ تقديم المنصوب على المرفوع في باب الفعل عدول عن الأصل. وتخفّف «إن» فتعمل وتهمل، ويجوز فيها أن تباشر الأفعال، لكن النواسخ غالباً تختص بدخول «لام» الابتداء في خبرها، أو معمولة المقدم عليها، أو اسمها المؤخّر، ولا يتقدم خبرها إلا ظرفاً أو مجروراً، وتختص - أيضاً - بالعَطْفِ على محل اسمها، ولها ولأخواتها أحكام كثيرة. و «الذين» اسمها و «كفروا» صلة وعائد، و «لا يؤمنون» خبرها، وما بينهما اعتراض، و «سواء» مبتدأ، و «أنذرتهم» وما بعده في قوة التًَّأويل بمفرد هو الخبر، والتقدير: سواء عليهم الإنذار وعدمه، ولم يحتج هنا إلى رَابِطٍ؛ لأنّ الجملة نفس المبتدأ، ويجوز أن يكون «سواء» خبراً مقدماً، و «أنذرتهم» بالتأويل المذكور مبتدأ مؤخر تقديره: الإنذار وعدمه سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 قال ابنُ الخَطِيبِ: اتفقوا على أنّ الفِعل لا يخبر عنه؛ لأن قوله: «خرج ضرب» ليس بكلام منتظم، وقد قدحوا فيه بوجوه: أحدها: أنَّ قوله: «أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» فعل، وقد أخبر عنه بقوله: سَوَاءٌ عَلِيْهِمْ «، ونظيره» ثُمَ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوا الآيَات لَّيَسْجُنُنَّهُ «فاعل» بَدَا «هو» يسجننه «. وثانيها: أن المخبر عنه بأنه فعل لا بد وأن يكون فعلاً، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل. فإن قيل: المخبر عنه بأنه فعل لا بد وأن يكن فعلاً، فالفعل قد أخبر عنه بأنه فعل. فإن قيل: المخبر عنه بأنه فعل هو تلك الكلمة، وتلك الكلمة اسم. قلنا: فعلى هذا المخبر عنه بأنه فعل إذا لم يكن فعلاً بل اسماً كان هذا الخبر كذباً؛ والتحقيق أن المخبر عنه بأنه فعل إما أن يكون اسماً أو لا يكون، فإن كان الأول كان هذا الخبر كذباً؛ لأن الاسم لا يكون فعلاً، وإن كان فعلاً فقد صار الفعل مخبراً عنه. وثالثها: أنا إذا قلنا: الفعل لا يخبر عنه، فقد أخبرنا عنه بأنه لا يخبر عنه، والمخبر عنه بهذا الخبر لو كان اسماً لزم أَنَّا قد أخبرنا عن الاسم بأنه لا يخبر عنه، وهذا خطأ، وإن كان فعلاً صار الفعل مخبراً عنه. ثم قال هؤلاء: لما ثبت أه لا امتناع في الإخبار عن الفعل لم يكن بنا حاجةٌ إلى ترك الظاهر. أما جمهور النحويين فقالوا: لا يجوز الإخبار عن الفعل، فلا جرم كان التقدير: سواء عليهم إنذارك وعدمه. وهذه الجملة يجوز أن تكون معترضة بين اسم «إن» وخبرها، وهو «لا يؤمنون» كما تقدم، ويجوز أن تكون هي نفسها خبراً ل «إن» ، وجملة «لا يؤمنون» في محل نصب على الحال، أو مستأنفة، أو تكون دعاءً عليهم بعد الإيمان - وهو بعيد - أو تكون خبراً بعد خبر على رأي من يجوز ذلك. ويجوز أن يكون «سواء» وحده خبر «إن» ، و «أأنذرتهم» وما بعده بالتأويل المذكور في محل رفع بأنه فاعل له، والتقدير: استوى عندهم الإنذار وعدمه. و «لا يؤمنون» على ما تقدّم من الأوجه0 أعني: الحال والاستئناف والدعاء والخبرية. والهمزة في «أأنذرتهم» الأصل فيها الاستفهام، وهو - هنا - غير مراد، إذ المراد التسوية، و «أنذرتهم» فعل وفاعل ومفعول. و «أم» - هنا - عاطفة وتسمى متصلةً، ولكونها متصلة شرطان: أحدهما: أن يتقدمها همزة استفهام أو تسوية لفظاً أو تقديراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 والثاني: أن يكون ما بعدها مفرداً أو مؤولاً بمفرد كهذه الآية، فإن الجملة فيها بتأويل مفرد كما تقدم، وجوابها أحد الشِّيئين أو الأشياء، ولا تجاب ب «نعم» ولا ب «لا» ، فإن فقد الشرط سميت منقطعة ومنفصلة، وتقدر ب «بل والهمزة» ، وجوابها «نعم» أو «لا» ولها أحكام أخر. و «لم» حرف جزم معناه نفي الماضي مطلقاً خلافاً لمن خصَّها بالماضي المنقطع، ويدلّ على ذلك قوله تعالى: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} [مريم: 4] {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] . وهذا لا يتصور فيه الانقطاع، وهي من خواصّ صيغ المضارع إلاّ أنها تجعله ماضياً في المعنى كما تقدم. وهل قلبت اللفظ دون المعنى أو المعنى دون اللفظ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 قولان: أظهرهما الثاني: وقد يحذف مجزومها كقوله: [الكامل] 145 - إِحْفَظْ وَدِيعَتَك الَّتِي اسْتُودِعْتَهَا ... يَوْمَ الأَعَازِبِ، إِنْ وَصَلْتَ، وإِنْ لَمِ و «الكفر» أصله: الستر؛ ومنه: «الليل الكَافِرُ» ؛ قال: [الرجز] 146 - فَوَرَدَتْ قَبْلَ انْبِلاَجِ الفَجْرِ ... وَابْنُ ذُكَاءٍ كَامِنٌ فِي كَفْرِ وقال [الكامل] 147 - فَتَذَكَّرَا ثَقَلاً رَثِيداً بَعْدَمَا ... أَلْقَتْ ذُكَاءُ يَمِينَهَا فِي كَافِرِ والكفر - هنا - الجحود. وقال آخر: [الكامل] 148 - ... ... ... ... ... ... ... ..... فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا قال أبو العباس المقرىء: ورد لفظ «الكفر» في القرآن على أربعة أَضْرُبٍ: الأول: الكُفْر بمعنى ستر التوحيد وتغطيته قال تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} ؟ الثاني: بمعنى الجُحُود قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89] . الثالث: بمعنى كفر النّعمة، قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ} [إبراهيم: 7] أي: بالنعمة، ومثله: {واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] وقال تعالى: {أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40] . الرابع: البراءة، قال تعالى: {إِنَّا بُرَءآؤاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ} [الممتحنة: 4] أي: تبرأنا منكم، وقوله: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ} [العنكبوت: 25] . و «سواء» اسم معنى الاستواء، فهو اسم مصدر، ويوصف على أنه بمعنى مستوٍ، فيحتمل حينئذٍ ضميراً، ويرفع الظاهر، ومنه قولهم: «مررت برجل سواء والعدم» برفع « الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 العدم» على أنه معطوفٌ على الضمير المستكنّ في «سواء» ، وشذ عدم بمعنى: «مثل» ، تقول: «هما سِيّان» بمعنى: مِثْلان، قال: [البسيط] 149 - مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ سِيَّانِ على أنه قد حكي سواءان. وقال الشاعر: [الطويل] 150 - وَلَيْلٌ تَقُولُ النَّاسُ فِي ظُلُماتهِ ... سَوَاءٌ صَحِيحَاتً العُيُونِ وَعُورُهَا ف «سواء» خبر عن جمع هو «صحيحات» ، وأصله: العدل؛ قال زهير: [الوافر] 151 - أَرُونَا سُبَّةً لا عَيْبَ فِيهَا ... يُسَوِّي بِيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ أي: يعدل بيننا العدل. وليس هو الظرف الذي يستثنى به في قولك: «قاموا سواء زيد» وإن شاركه لفظاً. ونقل ابن عطية عن الفارسي فيه اللغات الأربع المشهورة في «سوى» المستثنى به، وهذا عجيب فإن هذه اللغات في الظرف لا في «سواء» الذي بمعنى الاستواء. وأكثر ما تجيئ بعده الجملة المصدرية بالهمزة المُعَادلة ب «أم» كهذه الآية، وقد تحذف للدلالة كقوله تعالى: {فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ} [الطور: 16] أي: أصبرتم أم لم تصبروا، وقد يليه اسم الاستفهام معمولاً لما بعده كقول علقمة: [الطويل] 152 - سَوَاءٌ عَلَيْهِ أَيَّ حِينٍ أَتَيْتَهُ ... أَسَاعَةَ نَحْسٍ تُتَّقَى أَمْ بأَسْعَدِ ف «أي حين» منصوب ب «أتيته» ، وقد يعرى عن الاستفهام، وهو الأصل؛ نحو: [الطويل] 153 - ... ... ... ... ... ..... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 سَوِاءٌ صَحِيْحاتُ العُيُونِ وَعُورُهَا فصل في استعمالات «سواء» وقد ورد لفظ «سواء» على وجوه: الأول: بمعنى: الاستواء كهذه الآية. الثاني: بمعنى: العَدْل، قال تعالى: {إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران: 64] أي: عدل؛ ومثله: {سَوَآءَ السبيل} [الممتحنة: 1] أي: عدل الطريق. الثالث: بمعنى: وسط، قال تعالى: {فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55] أي: وسط الجحيم. الرابع: بمعنى: البَيَان؛ قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} [الأنفال: 58] أي: على بيان. الخامس: بمعنى: شرع، قال تعالى: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً} [النساء: 89] يعني: شرعاً. السادس: بمعنى: قصد، قال تعالى: {عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل} [القصص: 22] أي: قصد الطريق. و «الإنذار» : التخويف. وقال بعضهم: هو الإبلاغ، ولا يكاد يكون إلاَّ في تخويف يسع زمانه الاحتراز، فإن لم يسع زمانه الاحتراز، فهو إشعار لا إنذار؛ قال: [الكامل] 154 - أَنْذَرْتُ عَمْراً وَهُوَ فِي مَهَلٍ ... قَبْلَ الصَّبَاحِ فقَدْ عَصَى عَمْرُو ويتعدّى لاثنين، قال تعالى: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} [النبأ: 40] ، {أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت: 13] فيكون الثاني في هذه الآية محذوفاً تقديره: أأنذرتهم العذاب أم لم تنذروهم إياه، والأحسن ألا يقدر له مفعول، كما تقدم في نظائره. والهمزة في «أنذر» للتعدية، وقد تقدّم أن معنى الاستفهام هنا غير مراد؛ لأن التسوية هنا غير مرادة. فقال ابن عَطيَّةَ: لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام؛ لأنَّ فيه التسوية التي هي الاسْتِفْهَام، ألا ترى أنك إذا قلت مخبراً: «سواء علي أَقُمْت أم قعدت» ، وإذا قلت مستفهماً: «أخرج زيد أم قام» ؟ فقد استوى الأمران عندك؟ هذان في الخبر، وهذان في الاستفهام، وعدم علم أحدهما بعينه، فلما عمتهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 التسوية جرى على الخبر لفظ الاستفهام؛ لمشاركته إيَّاه في الإبهام، فكلّ استفهام تسوية وإن لم تكن كل تسوية استفهاماً، إلاَّ أن بعضهم ناقشه في قوله: «أأنذرتهم أم لم تنذرهم» لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه «الخبر» بما معناه: أن هذا الذي صورته صورة استفهام ليس معناه الخبر؛ لأنه مقدر بالمفرد كما تقدم، وعلى هاذ فليس هو وحده في معنى الخبر؛ لأن الخبر جملة، وهذا تأويل مفرد، وهي مناقشة لفظية. وروي الوقف على قوله: «أَمْ لَمْ تُنْذِرْ» والابتداء بقوله: «هُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ» على أنها جملة من مبتدأ وخبر. وهذا ينبغي ألا يلتفت إليه، وإنْ كان قد نقله الهُذَلِيّ في «الوقف والابتداء» له. وقرىء «أأنذرتهم» بهمزتين محقّقتين بينهما ألف، وبهمزتين، محقّقتين بلا ألف بينهما وهي لغة «بني تميم» ، وأن تكون الأولى قوية، والألف بينهما، وتخفيف الثانية بين بين، وهي لغة «الحجاز» وبتقوية الهمزة الأولى، وتخفيف الثانية، وبينهما ألف. فمن إدخال الألف بين الهمزتين تخفيفاً وتحقيقاً قوله: [الطويل] 155 - أَيَا ظَبْيَةَ الوَعْسَاءِ بَيْنَ جُلاَجِلٍ ... وَبَيْنَ النَّقَا آأَنْتَ أَمْ أُمُّ سَالِمِ؟ وقال آخر: [الطويل] 156 - تَطَالَلْتُ فَاسْتَشْرَفْتُهُ فَعَرَفْتُهُ ... فَقُلْتُ لَهُ آأَنْتَ زَيْدُ الأَرَانِبِ؟ وروي عن وَرْش إبدال الثَّانية ألفاً محضة. ونسب الزمخشري هذه القراءة لِلَّحْنِ، قال: إنما هو بَيْنَ بَيْنَ. وهذا منه ليس بصواب، لثبوت هذه القراءة تواتراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وقرأ ابن محيصن بهمزة واحدةٍ على لفظ الخبر، وهمزة الاستفهام مرتدة، ولكن حذفها تخفيفاً، وفي الكلام ما يدلّ عليها، وهو قوله: «أم لم» ؛ لأن «أم» تُعَادل الهمزة، وللقراء في مثل هذه الآية تفصيل كثير. فصل في المراد بالكافرين في الآية المراد من «الذين كفروا» يعني مشركي العرب كأبي لَهَبٍ؛ وأبي جهل، والوليد بن المغيرة وأضرابهم. وقال الكلبي: «هم رؤساء اليَهُودِ والنُعَاندون» وهو قول ابن عباس. والكفر - هنا - الجحود، وهو على أربعة أضرب: كفر إنكار، وكفر جُحُود، وكفر عِنَادٍ، وكفر نفاق: ف «كفر الإنكار» : هو ألا يعرف الله أصلاً، ولا يعترف به. وكفر الجُحُود: هو أن يعرف الله بقلبه، ولا يقر بلسانه، ككفر إبليس؛ قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89] . وكفر العناد: هو أن يعرف الله بقلبه، ويعترف بلسانه، ولا يدين به؛ ككفر أبي طَالِبٍ؛ حيث يقول: [الكامل] 157 - وَلقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ دِينَ مُحَمَّدٍ ... مِنْ خَيْرِ أَدْيَانِ الْبَرِيَّةِ دِينَا لَوْلاَ الْمَلاَمَةُ أَوْ حِذَارِ مَسَبَّةٍ ... لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا وكفر النفاق: هو أن يقر باللسان، ولا يعتقد بالقلب، وجميع هذه الأنواع سواء في أن من لقي الله - تعالى - بواحد منها؛ لا يغفر له. فصل في تحقيق حد الكفر قال ابن الخطيب: تحقيق القول في حد الكفر أن كل ما نقل عن محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنه ذهب إليه، وقال به، فإما أن يعرف صحة ذلك النقل بالضرورة، أو بالاستدلال، أو بخبر الواحد الذي علم بالضرورة، فمن صدق به جميعه، فهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 مؤمن، ومن لم يصدق بجميعه، أو لم يصدق ببعضه، فهو كافر، فإذن الكفر عدم تصديق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 الرسول في شيء مما علم بالضرورة أنه ليس من دين محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 ومثاله من أنكر وجود الصّانع، أو كونه عالماً مختاراً، أو كونه واحداً، أو كونه منزهاً عن النَّقَائص والآفات، أو أنكر نبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ كوجوب الصَّلاة والزكاة والصوم والحج وحرمة الربا والخمر، فذلك يكون كافراً. فأما الذي يعرف بالدليل أنه من دين محمد مثل كونه عالماً بالعلم أو بذاته، وأنه مرئي أو غير مرئي، وأنه خالق أعمال العباد أم لا، فلم ينقل بالتواتر القاطع للعُذْرِ، فلا جرم لم يكن إنكاره والإقرار به داخلاً في ماهيّة الإيمان، فلا يكون موجباً للكفر، والدليل عليه أنه لو جاء جزءاً من ماهية الإيمان لكان يجب على الرسول ألا يحكم بإيمان أحد إلاّ بعد أن يعرف أنه عرف الحق في تلك المسألة بين جميع الأمّة؛ ولنقل ذلك على سبيل التواتر، فلمَّا لم ينقل ذلك دلّ على أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما وقف الإيمان عليها، ولما لم يكن كذلك وجب ألا تكون معرفتها من الإيمان، ولا إنكارها موجباً للكفر، ولأجل هذه القاعدة لا يكفر أحد من الأمة من أرباب التأويل، وأما الذي لا سبيل إليه إلا برواية الآحاد، فظاهر أنه لا يمكن توقّف الكفر والإيمان عليه، والله أعلم. فصل في الردّ على المعتزلة احتجت المُعْتَزلة بكل ما أخبر الله عن شيء ماض مثل قوله: «إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا» ، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9] ، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] ، {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً} [نوح: 1] على أن كلام الله محدث، سواء كان الكلام هذه الحروف، أو الأصوات، أو كان شيئاً آخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 قالوا: لأن الخبر على هذا الوجه لا يكون صدقاً إلاّ إذا كان مسبوقاً بالمخبر عنه، والقديم يستحيل أن يكون مسبوقاً بالغير، فهذا الخبر يستحيل أن يكون قديماً، فيجب أن يكون محدثاً. أجاب القائلون بقدم الكلام عنه بوجهين: الأول: أن الله - تعالى - كان في الأزل عالماً بأن العالم سيوجد، فلما أوجده انقلب العلم بأنه سيوجد في المستقبل علماً بأنه قد حدث في الماضي، ولم يلزم حدوث علم الله تَعَالَى، فلم لا يجوز أيضاً أن يقال: إن حبر الله - تعالى - في الأزل كان خبراً بأنهم سيكفرون، فلما وجد كفرهم صار ذلك الخبر خبراً عن أنهم قد كفروا، ولم يلزم حدوث خبر الله تعالى؟ . الثاني: أن الله - تعالى - قال: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام} [الفتح: 27] ، فلما دخلوا المسجد الحرام، ولا بد أن ينقلب ذلك الخبر إلى انهم قد دخلوا المسجد الحرام من غير أن يتغير الخبر الأول، فإذا أجاز ذلك فلم لا يجوز في مسألتنا؟ فإن قلت: قوله: «إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا» صيغة جمع مع «لام» التعريف، وهي للاستغراق بظاهره، ثم إنه لا نزاع في تكلّم بالعام وأراد الخاص، إما لأجل أنَّ القرينة الدالّة على أن المراد من ذلك العام ذلك الخصوص كانت ظاهرةً في زمان الرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فحسن ذلك لعدم اللّبس، وظهور المقصود، وإمّا لأجل أنّ المتكلّم بالعام لإرادة الخاص جائز، وإن لم يكن البيان مقروناً به عند من يجوز تأخير بَيَان التخصيص عن وقت الخِطَاب، وإذا ثبت ذلك ظهر أنه لا يمكن التمسُّك بشيء من صيغ العموم على القطع بالاستغراق، لاحتمال أن المراد منها هو الخاص، وكانت القرينة الدالة على ذلك ظاهرة في زمان الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فلا جَرَمَ حين ذلك، وعدم العلم بوجود قرينة لا يدلّ على العدم. وإذا ثبت ذلك ظهر أنّ استدلال المعتزلة بعمومات الوعيد على القطع بالوعيد في نهاية الضعف، والله أعلم. فصل في المذهب الحق في «تكليف ما لا يطاق» قال ابن الخطيب: احتج أهل السُّنة بهذه الآية وما أشبهها على تكليف ما لا يطاق وتقريره: أنه - تعالى - أخبر عن شخص معين أنه لا يؤمن قطّ، فلو صدر منه الإيمان لزم انقلاب خبر الله - تعالى - الصدق كذباً، والكذب عند الخصم قبيح، وفعل القبيح يستلزم إما الجهل وإما الحاجة، وهما مُحَالان على الله تعالى، والمفضي إلى المُحَال محال، فصدور الإيمان منه مُحَال، فالتكليف به تكليف بالمحال، وقد يذكر هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 في صورة العلم، وهو أنه - تعالى - لما علم منه أنه لا يؤمن، فكان صدور الإيمان منه يستلزم انقلاب علم الله جهلاً، وذلك محال، ويستلزم من المُحَال محال، فالأمر واقع بالمحال. ونذكر هذا على وجهٍ ثالثٍ: وهو أن وجود الإيمان يستحيل أن يوجد مع العلم بأنه لا يؤمن؛ لأنه إنما يكون علماً لو كان مطابقاً للمعلوم، والعلم بعدم الإيمان يلزم أن يجتمع في الإيمان كونه موجوداً ومعدوماً معاً، وهذا مُحَال، والأمر بالإيمان مع وجود علم الله بعدم الإيمان أمر بالجمع بين الضِّدِّين، بل أمر بالجمع بين العدم والوجود، وكل ذلك مُحَال. ونذكر هذا على وَجْه رابع: وهو أنه - تعالى - كلف هؤلاء الذين أخبر عنهم بأنهم لا يؤمنون البتة [والإيمان يعتبر فيه تصديق الله - تعالى - في كل ما أخبر عنه أنهم لا يؤمنون قط] وقد صاروا مكلفين بأن يؤمنون بأنهم لا يؤمنون قط، وهو مكلف بالجمع بين النفي والإثبات. ونذكر هذا على وجه خامس: وهو أنه - تعالى - عاب الكُفَّار على أنهم حاولوا فعل شيء على خلاف ما أخبر عنه في قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ الله مِن قَبْلُ} [الفتح: 15] ، فثبت أن القصد إلى تكوين ما أخبر الله عن عدم تكوينه قصد لتبديل كلام الله، وذلك منهي عنه. ثم هاهنا أخبر الله - تعالى - عنهم أنهم لا يؤمنون ألبتة، فمحاولة الإيمان منهم تكون قصداً إلى تبديل كلام الله، وذلك منهي عنه وترك محاولة الإيمان يكون - أيضاً - مخالفة لأمر الله، فيكون الذم حاصلاً على الترك والفعل. فهذه هي الوجوه المذكورة في هذا الموضع وهي هادمة لأصول الاعتزال، وكل ما استدلّ به المعتزلة من الآيات الواردة، فيأتي الجواب عنها عند ذكر كل آية منها إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 اعلم أنه - تعالى - لما بيَّن في الآية الأولى أنَّهُمْ لا يؤمنون أخبر في هذه الآية السَّبب الذي لأجله لم يؤمنوا وهو الختم. واعلم أن الختم والكَتْم أخوان وهو: الاشتياق بالشَّيء بضرب الخاتم عليه كتماً له وتغطية؛ لئلا يتوصّل إليه، ومنه: الخَتْم على الباب. «على قلوبهم» متعلّقة ب «ختم» ، و «على سمعهم» يحتمل عطفه على «قلوبهم» ، وهو الظاهر، للتصريح بذلك، أعني: نسبة الختم إلى السمع في قوله تعالى: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ} [الجاثية: 23] ويحتمل أن يكون خبراً مقدماً، وما بعده عطف عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 و «غشاوة» مبتدأ، وجاز الابتداء بها لأن النكرة متى كان خَبَرُها ظرفاً، أو حرف جر تاماً، وقدم عليها جاز الابتداء بها، [ويكون تقديم الخبر حينئذٍ واجباً؛ لتصحيحه الابتداء بالنكرة] ، والآية من هذا القبيل، وهذا بخلاف قوله تعالى: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} [الأنعام: 2] ؛ ويبتدأ بما بعده، وهو «وعلى أبصارهم غشَاوَةٌ» ف «على أبصارهم» خبر مقدم، و «غِشَاوة» مبتدأ مؤخر. وعلى الاحتمال الثاني يوقف على «قلوبهم» ، وإنما كرر حرف الجر؛ ليفيد التأكيد ويشعر بذلك بِتَغَايُرِ الختمين، وهو: أن ختم القلوب غير ختم الأسماع. وقد فرق النحويون بيم «مررت بزيد وعمرو» وبين «مررت بزيد وبعمرو» فقالوا في الأول هو ممرور واحد، وفي الثاني هما ممروران، وهو يؤيد ما قُلْتُهُ، إلا أن التعليل بالتأكيد يشمل الإعرابين، أعني: جعل «وعلى سمعهم» معطوفاً على قوله: «على قلوبهم» ، وجعله خبراً مقدماً. وأما التعليل بتغاير الختمين فلا يجيء إلا على الاحتمال الأول، وقد يُقَال على الاحتمال الثاني أن تكرير الحرف يُشعر بتغاير الغِشَاوتين، وهو أنَّ الغشاوة على السَّمع غير الغِشَاوة على البَصَرِ، كما تقدم ذلك في الختمين. وقرىء: غِشَاوة بالكسر والنصب، وبالفتح والنصب وبالضَّم والرفع، وبالكسر والرفع - و «غشوة» بالفتح والرفع والنصب - و «غشاوة» بالعين المهملة، والرفع من العَشَا. فأما النصب ففيه ثلاثة أوجه: الأول: على إضمار فعل لائق، أي: وجعل على أبصارهم غِشَاوة، وقد صرح بهذا العامل في قوله تعالى: {وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] . والثاني: الانتصاب على إسقاط حرف الجر، ويكون «على أَبْصَارهم» معطوفاً على ما قبله، والتقدير: ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم بغشاوة، ثم حذف الجر، فانتصب ما بعده؛ كقوله: [الوافر] 159 - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تُعُوجُوا ... كَلاَمُكُم عَلَيَّ إِذَنْ حَرَامُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 أي: تمرون بالدِّيَار، ولكنه غير مقيس. والثالث: أن يكون «غشاوة» اسماً وضع موضع المصدر الملاقي ل «خَتَمَ» في المعنى؛ لأن الخَتْمَ والتغشية يشتركان في معنى السّتر، فكأنه قيل: «وختم التغشية» على سبيل التأكيد، فهو من باب «قعدت جلوساً» ، وتكون «قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوماً عليها مغشاة» . وقال الفَارِسِيّ: قراءة الرفع الأولى، لأن النَّصب إما أن تحمله على فعل يدلّ عليه «ختم» ، تقديره: وجعل على أبصارهم غشاوة، فهذا الكلام من باب: [الكامل] 160 - يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحاً وقوله: [الرجز] 161 - عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِداً ... حتَّى شَتَتْ هَمَّالَةٌ عَيْنَاهَا ولا تكاد تجد هذا الاستعمال في حالة سَعَةٍ، ولا اختيار. واستشكل بعضهم هذه العبارة، وقال: لا أدري ما معنى قوله؛ لأن النصب إما أن تحمله على «خَتَم» الزاهر، وكيف تحمل «غشاوة» المنصوب على «ختم» الذي هو فعل هذا ما لا حمل فيه؟ قال: اللهم إلا أن يكون أراد أن قوله تعالى: «ختم الله على قلوبهم» دعاء عليهم لا خَبَر، ويكون «غشاوة» في معنى المصدرية المَدْعو به عليهم القائم مقام الفعل، فكأنه قيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وغَشَّى الله على أبصارهم، فيكون إذ ذاك معطوفاً على «ختم» عطف المصدر النائب مناب فعله في الدّعاء، نحو: «رحم الله زيداً وسُقياً له» فتكون إذ ذاك قد حُلْت بين «غشاوة» المعطوف وبين «خَتَمَ» المعطوف عليه بالجار والمجرور. وهو تأويل حسن، إلاّ أن فيه مناقشة لفظيةً؛ لأن الفارسي ما ادّعى الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه إنما ادعى الفصل بين حرف العطف والمعطوف عليه أي بالحرف، فتحرير التأويل أن يقال: فيكون قد حُلْت بين غشاوة وبين حرف العطف بالجار والمجرور. والقراءة المشهورة بالكسر؛ لأن الأشياء التي تدلّ على الاشتمال تجيء أبداً على هذه الزُّنَة كالعِصَابة والعِمَامَة. والغِشَاوة فِعَالة: الغطاء من غشاه إذا غطاه، وهذا البناء لِمَا يشتمل على الشيء، ومنه غشي عليه، وَالغِشْيَان كناية عن الجِمَاع. و «القلب» أصله المصدر، فسمي به هذا العضو الصَّنَوْبَرِي؛ لسرعة الخواطر إليه وتردُّدها عليه، ولهذا قال: [البسيط] 162 - مَا سُمِّيَ الْقَلْبُ إِلاَّ مِنْ تَقَلُّبِهِ ... فَاحْذَرْ عَلَى القَلْبِ مِنْ قَلْبٍ وَتَحْوِيلِ ولما سمي به هذا العضو التزموا تفخيمه فرقاً بينه وبين أصله، وكثيراً ما يراد به العقل ويطلق أيضاً على لُبِّ كل شيء وخالصه. و «السمع» و «السماع» مصدران ل «سمع» ، وقد يستعمل بمعنى الاستماع؛ قال: [البسيط] 163 - وَقَدْ تَوَجَّسَ رِكْزَاً مُقْفِرٌ نَدُسٌ ... بِنَبْأَةِ الصَّوْتِ مَا فِي سَمْعَهَ كَذِبُ أي: ما في استماعه. و «السِّمْع» - بالكسر - الذِّكْر بالجميل، وهو - أيضاً - ولد الذئب من الضَّبُع، ووحد وإن كان المراد به الجمع كالذي قبله وبعده؛ لأنه مصدر حقيقة، يقال: رَجُلان صَوْم، ورجال صوم، ولأنه على حذف مضاف، أي: مواضع سمعهم، أو حواس سمعهم، أو يكون كني به عن الأُذُن، وإنما لفهم المعنى؛ كقوله [الوافر] 164 - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ أي: بطونكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ومثله قال سيبويه: «إنه وإن وُحِّد لفظ السمع إلاَّ أن ذكر ما قبله وما بعجه بلفظ الجمع دليل على إرادة الجمع» . ومنه أيضاً قال تَعَالى: {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] ، {عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال} [ق: 17] ؛ قال الراعي. 165 - بِهَا جِيَفُ الحَسْرى فأمّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ أي: جلودها. وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ: «أسماعهم» . قال الزمخشري: واللفظ يحتمل أن تكون الأسماع داخلة في حكم الخَتْم، وفي حكم التَّغْشِيَةِ، إلاّ أن الأولى دخولها في حكم الختم؛ لقوله تعالى: {وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] و «الأبصار» : جمع بصر، وهو نور العين الذي يدرك به المرئيات. قالوا: وليس بمصدر لجمعه، ولقائل أن يقول: جمعه لا يمنع كونه مصدراً في الأصل، وإنما سهل جَمْعَهُ كَوْنُهُ سمي به نور العين، فَهُجِرَت فيه معنى المصدرية، كما تقدم في قلوب جمع قَلْب. وقد قلتم: إنه في الأصل مصدر ثم سمي به، ويجوز أن يكنى به عن العَيْن، كما كي بالسمع عن الأذن، وإن كان السَّمع في الأصل مصدراً كما تقدم. وقرأ أبو عمرو والكِسَائي: «أبصارهم» بالإِمَالَةِ، وكذلك كلّ ألف بعدها مجرورة في الأسماء كانت لام الفعل يميلانها. ويميل حمزة منها ما تكرر فيه الراء «كالقرار» ونحوه، وزاد الكسائي إمالة {جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] ، و {الجوار} [الشورى: 32] ، و {بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] ، و {مَنْ أنصاريا} [آل عمران: 32] ، و {نُسَارِعُ} [المؤمنون: 56] وبابه، وكذلك يميل كل ألف هي بمنزلة لام الفعْل، أو كانت علماً للتأنيث مثل: {الكبرى} [طه: 23] ، و {الأخرى} [الزمر: 42] ، ولام الفعل مثل: {يَرَى} [البقرة: 165] ، و {افترى} [آل عمران: 94] يكسرون الراء منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 و «الغشاوة» : الغطاء. قال: [الطويل] 166 - تَبِعْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا وقال: [البسيط] 167 - هَلاَ سَأَلْتِ بَنِي ذُبْيَانَ مَا حَسبِي ... إِذا الدُّخَانُ تَغَشِّى الأَشْمَطَ الْبَرِمَا وجمعها «غشاءٌ» ، لما حذفت الهاء قلبت الواو همزة. وقيل: «غشاوي» مثل «أداوي» . قال الفارسي: لم أسمع من «الغشاوة» فعلاً متصرفاً ب «الواو» ، وإذا لم يوجد ذلك، وكان معناها معنى ما «اللام» منه «الياء» ، وهو غشي بدليل قولهم: «الغِشْيَان» ، و «الغشاوة» من غشي ك «الجِبَاوة» من جبيت في أن «الواو» كأنها بدل من «الياء» ، إذْ لم يُصَرَّفْ منه فعل كما لم يُصَرَّف منه الجباوة. وظاهر عبارته أن «الواو» بدل من «الياء» ، و «الياء» أصل بدليل تصرف الفعل منها دون مادة «الواو» . والذي يظهر أن لهذا المعنى مادتين «غ ش و» ، و «غ ش ي» ، ثم تصرفوا في إحدى المادتين، واستغنوا بذلك عن التصرف في المادة الأخرى، وهذا أقرب من ادعاء قلب «الواو» «ياء» من غير سبب، وأيضاً «الياء» أخف من «الواو» ، فكيف يقلبون الأخف للأثقل؟ و «لهم» خبر مقدم فيتعلّق بمحذوف، و «عذاب» مبتدأ مؤخر و «عظيم» صفة. والخبر - هنا - جائز التقديم؛ لأن للمبتدأ مسوغاً وهو صفة ونظيره: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} [الأنعام: 2] من حيث الجواز. والعذاب في الأَصْل: الاستمرار، ثم سمي به كلّ استمرار أَلِمٍ. وقيل: أصله: المَنْع، وهذا هو الظَّاهر، ومنه قيل للماء: عَذَب؛ لأنه يمنع العطش، والعذاب يمنع من الجريمة. «عظيم» اسم فاعل من «عَظُمَ» ، نحو: كريم من «كَرُم» غير مذهوب به مذهب الزمان، وأصله أن توصف به الأجرام، ثم قد توصف به المعاني. وهل هو و «الكبير» بمعنى واحد أو هو فوق «الكبير» ؛ لأن العظيم يقابل الحقير، والكبير يقابل الصغير، والحقير دون الصغير؟ قولان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 و «فعيل» له معانٍ كثيرة، يكون اسماً وصفة، والاسم مفرد وجمع، والمفرد اسم معنى، واسم عين، نحو: «قميص وظريف وصهيل وكليب جمع كلب» . والصفة مفرد «فُعْلَة» ك «غَزِب» يجمع على غُزَاة «ومفرد» فَعَلَة «ك» سَرِي «يجمع على» سَرَاة «. ويكون اسم فاعل من» فَعُلَ «نحو: عظيم من عَظُم كما تقدم. ومبالغةً في» فَاعِل «، نحو» عليم من عالم «. وبمعنى» أَفْعَل «ك» شميط «بمعنى:» أشمط «و» مَفْعُول «ك» جريح «بمعنى: مجروح، و» مُفْعِل «ك» سَمِيع «بمعنى» «مُسْمِع» ، و «مُفْعَل» ، ك «وَلِيد» بمعنى: مُولَد، و «مُفَاعِل» ، ك «جَلِيس» بمعنى: مُجَالِس، و «مُفْعَل» ، ك «بَدِيع» بمعنى: مُبْتَدِع، و «مُفْتَعِّل» ك: «سَعِير» بمعنى: مُتَسَعِّر «، و» مُسْتَفْعِل «ك» مَكِين «بمعنى:» مُسْتَمْكن «. و» فَعْل «ك» رطيب «بمعنى:» رَطْبْ «، و» فَعَل «ك» عجيب «بمعنى:» عجب «و» فِعَال «ك» صحيح «بمعنى: صِحَاح، وبمعنى:» الفاعل والمفعول «ك» صريخ «بمعنى:» صاروخ ومصروخ «. وبمعنى الواحد والجمع نحو: «خليط» ، وجمع فاعل ك «ريب» جمع غارب. فصل في أيهما أفضل: السمع أو البصر؟ من الناس من قال: السَّمع أفضل منى البَصَرِ؛ لأن الله - تعالى - حيث ذكرهما قد السَّمع على البصر، والتقديم دليلٌ على التفضيل، ولأن السمع شرط النبوّة بخلاف البَصَرِ، ولذلك ما بعث الله رسولاً أَصَمّ، وقد كان فيهم الأعمى، ولأنَّ بالسَّمع تصلُ نتائج عقول البعض إلى البعض، فالسمع كأنه سبب لاستكمال العَقْلِ بالمعارف، والبَصَر لا يوقفك إلى على المحسوسات، ولأن السمع متصرف في الجهات السّت بخلاف البَصَرِ، ولأن السمع متى بطل النُّطق، والبصر إذا بطل لم يبطل النُّطق. ومنهم من قدم البصر؛ لأنّ آلة القوة الباصرة أشرف، ولأن متعلق القوة الباصرة هو النور، ومتعلّق القوة السَّامعة هو الريح. فصل في ألفاظ وردت بمعنى الختم الألفاظ الواردة في القرآن القريبة من معنى الخَتْم هي «الطَّبع» و «الكنان» و «الرين» على القلب، و «الوقر» في الأذن، و «الغشاوة» في ابصر. واختلف الناس في هذا الخَتْم: فالقائلون بأن أفعال العباد مخلوقة لله - تعالى - فهذا الكلام على مذهبهم ظاهر، ثم لهم قولان: منهم من قال: الختم هو خلق الكُفْر في قلوب الكفار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ومنهم من قال هو خلق الدَّاعية التي إذا انضمّت إلى القدرة صار مجموع القدرة معها سبباً موجباً لوقوع الكُفْر. وأما المعتزلة فأوّلوا هذه الآية، ولم يرجوها على ظاهرها. أما قوله تعالى: «لهم عذاب عظيم» أي: في الآخرة. وقيل: الأَسْر والقَتْل في الدنيا، والعذاب الدائم في العُقْبى. و «العذاب» مشتق من «العَذْب» وهو القَطْع، ومنه سمي الماء الفرات عَذْباً، لأنه يقطع العطش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 «من الناس» خبر مقدم، و «من يقول» مبتدأ مؤخر، و «مَنْ» تحتمل أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة أي: الذي يقول، أو فريق يقول، فالجملة على الأول لا محل لها؛ لكونها صلة، وعلى الثاني محلها الرفع؛ لكونها صفة للمبتدأ. واستضعف أبو البقاء أن تَكُونَ موصولة، قال: لأن «الذي» يتناول قوماً بأعيانهم، والمعنى هنا على الإبهام. وهذا منه غير مسلم؛ لأنّ المنقول أنّ الآية نزلت في قوم بأعيانهم كعبد الله بن أبي ورهطه. وقال الزمخشري: إن كانت أل للجنس كانت «منْ» نكرة موصوفة كقوله: {مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله} [الأحزاب: 23] . وإن كانت للعَهْد كانت موصولة، وكأن قصد مناسبة الجنس للجنس، والعهد للعهد، إلا أن هذا الذي قاله غير لازم، بل يجوز أن تكون «أل» للجنس، وتكون «منْ» موصولة، وللعهد، و «منْ» نكرة موصوفة. وزعم الكِسَائِيّ أنها لا تكون نكرة إلاّ في موضع تختص به النكرة؛ كقوله: [الرمل] 168 - رُبَّ مَنْ أَنْضَجْتُ غَيْظاً صَدْرَهُ ... لَوْ تَمَنَّى لِيَ مَوْتاً لَمْ يُطِعْ وهذا الذي قاله هو الأكثر، إلا أنها قد جاءت في موضع لا تختصّ به النكرة؛ قال: [الكامل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 169 - فَكَفَى بِنَا فَضْلاً عَلَى مَنْ غَيْرَنا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... و «من» تكون موصولة، ونكرة موصوفة، أو زائدة؟ فيه خلاف. واستدل الكسَائي على زيادتها بقول عنترة: [الكامل] 170 - يَا شَاةَ منْ قَنَصٍ لِمَنْ حَلَّتْ لَهُ ... حَرُمَتْ عَلَيَّ وَلَيْتَهَا لَمْ تَحْرُمِ ولا دليل فيه، لجواز أن تكون موصوفة ب «قَنَصٍ» إما على المبالغة، أو على حذف مضاف، وتصلح للتثنية والجمع الواحد. فالواحد كقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} [الأنعام: 25] والجمع كقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] ، والسبب فيه أنه موحّد اللفظ مجموع المعنى. و «مِنْ» في «من الناس» للتبعيض، وقد زعم قومٌ أنها لِلْبَيَانِ وهو غَلَطٌ؛ لعدم تقدم ما يتبين بها. و «النَّاس» اسم جمع لا واحد له من لَفْظِهَ، ويرادفه «أَنَاسِيّ» جمع إنسان أو إنسي، وهو حقيقة في الآدميين، ويطلق على الجِنّ مجازاً. واختلف النحويون في اشتقاقه: فمذهب سيبويه والفراء أن أصله همزة ونون وسين، والأصل: أناس اشتقاقاً من الأُنس، قال: [الطويل] 171 - وَمَا سُمِّيَ الإِنْسَانُ إِلاَّ لأُنْسِهِ ... وَلاَ القَلْبُ إِلاَّ أَنَّهُ يَتَقَلَّبُ لأنه أنس ب «حواء» . وقيل: بل أنس بربه ثم حذفت الهمزة تخفيفاً؛ يدلّ على ذلك قوله: [الكامل] 172 - إِنَّ الْمَنَايَا يَطَّلِعْ ... نَ عَلَى الأُنَاسِ الآمِنِينَا وقال آخر: [الطويل] 173 - وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وقال آخر: [الطويل] 174 - وَكُلُّ أُنَاسٍ سَوْفَ تَدْخُلُ بَيْنَهُمْ ... دُوَيْهِيَةٌ تَصْفَرُّ مِنْهَا الأَنَامِلُ وذهب الكسائي إلى أنه من «نون وواو وسين» والأصل: «نوس» فقلبت «الواو» «ألفاً» لتحركها، وانفتاح ما قبلها، والنَّوسُ: الحركة. وذهب بعضهم إلى أنه من «نون وسين وياء» ، والأصل «نسي» ، ثم قلبت «اللام» إلى موضع العين، فصار: «نيس» ثم قلبت «الياء» «ألفاً» لما تقدم في «نوس» ، قال: سموا بذلك لنسيانهم؛ ومنه الإنسان لنسيانه؛ قال: [البسيط] 175 - فَإِنْ نَسِيتَ عُهُوداً مِنْكَ سَالِفةً ... فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ ومثله: [الكامل] 176 - لا تَنْسَيَنْ تِلْكَ الْعُهُودَ فَإِنَّمَا ... سُمِّيتَ إِنْسَاناً لإِنَّكَ نَاسِي فوزنه على القول الأول: «عَال» ، وعلى الثاني: «فَعَلٌ» ، وعلى الثالث: «فَلَعٌ» بالقَلْبِ «. و» يقول «: فعل مضارع، وفاعله ضمير عائد على:» من «. والقول حقيقةً: اللفظ الموضوعُ لمعنى، ويطلق على اللَّفْظِ الدَّال على النسبة الإسنادية، وعلى الكلام النَّفساني أيضاً، قال تعالى: {وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ} [المجادلة: 8] . وتراكيبه السّتة وهي:» القول «، و» اللوق «و» الوقل «، و» القلو «،» و «اللّقو» ، و «الولق» تدل على الخفّة والسرعة، وإن اختصت بعض هذه المواد بمعانٍ أخر. و «القول» أصل تعديته لواحد نحو: «قُلْتُ خطبة» ، وتحكي بعده الجمل، وتكون في محل نصب مفعولاً بها، إلا أن يُضَمَّنَ معنى الظن، فيعمل عمله بشروط عند غير «بني سُلَيْمٍ» ؛ كقوله: [الرجز] 177 - مَتَى تَقُولُ الْقُلُصَ الرَّوَاسِمَا ... يُدْنِينَ أُمَّ قَاسِمٍ وقَاسِمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وبغير شرط عندهم، كقوله: [الرجز] 178 - قَالَتْ وَكُنْتُ رَجُلاً فَطِينَا ... هَذَا لَعَمْرُ اللهِ إِسْرَائِينَا و «آمنا» فعل وفاعل، و «بالله» متعلّق به، والجملة في محلّ نصب بالقول، وكررت «الباء» في قوله: «وباليوم» ، للمعنى المتقدّم في قوله: {وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 7] فإن قيل: الخبر لا بدّ وأن يفيد غير ما أفاد المبتدأ، ومعلوم أنّ الذي يقول كذا هو من الناس لا من غيرهم؟ فالجواب: أنّ هذا تفصيل معنوي، لأنه تقدّم ذكر المؤمنين، ثم ذكر الكَافرين، ثم عقب بذكر المُنافقين، فصار نظير التَّفصيل اللَّفظي، نحو قوله: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ} [البقرة: 204] ، {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي} [لقمان: 6] ، فهو في قوّة تفصيل النَّاس إلى مؤمن، وكافر، ومنافق. وأحسن من هذا أن يقال: إنَّ الخبر أفاد التَّبعيض المقصود؛ لأنَّ النَّاس كلهم لم يقولوا ذلك، وهم غير مؤمنين، فصار التقدير: وبعض الناس يقول كَيْتَ وكَيْت. واعلم أن «مَنْ» وأخواتها لها لفظ ومعنى، فلفظها مفرد مذكر، فإن أريد بها غير ذلك، فَلَكَ أن تراعي لفظها مَرّة، ومعناها أخرى، فتقول: جاء مَنْ قام وقعدوا، والآية الكريمة كذلك روعي اللفظ أولاً فقيل: «من يقول» ، والمعنى ثانياً في «آمنا» . وقال ابن عطية: جسن ذلك؛ لأن الواحد قبل الجمع في الرتبة، ولا يجوز أن يرجع متكلّم من لفظ جمع إلى توحيد. فلو قلت «» ومن الناس من يقومون «وتتكلّم لم يجز. وفي عبارة ابن عطية نظر، وذلك لأنّه منه مِنْ مُرَاعاة اللَّفظ بعد مُرَاعاة المعنى، وذلك جائز، إلاَّ أن مراعاة اللّفظ أولاً أولى، يرد عليه قول الشَّاعر: [الخفيف] 179 - لَسْتُ مِمَّنْ يَكُعُّ أَوْ يَسْتَكِينُو ... نَ إِذَاَ كَافَحَتْهُ خَيْلُ الأَعَادِي وقال تعالى: {وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ} [الطلاق: 11] إلى أن قال:» خَالِدين «، فراعى المعنى، ثم قال:» فَقَدْ أَحْسَنَ الله له رِزْقاً «، فراعى اللفظ بعد مُرَاعاة المعنى، وكذا راعى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 المعنى في قوله:» أو يستكينون «، ثم راعى اللفظ في:» إذا كافحته «، وهذا الحمل جاز فيها من جميع أحوالها، أعني من كونها موصولة وشرطية، واستفهامية. أما إذا كانت موصوفة فقال الشيخ أثير الدين أبو حَيّان:» ليس في محفوظي من كلام العرب مُرَاعاة المعنى يعني فتقول: مررت بمن محسنون لك. و «الآخر» صفة ل «اليوم» ، وهذا مقابل الأوّل، ومعنى اليوم الآخر: أي عن الأوقات المحدودة. ويجوز أن يُرَاد به الوقت الَّذي لا حَدّ له، وهو الأبد القائم الذي لا انقطاع له، والمراد بالأخر: يوم القيامة. «وما هم بمؤمنين» «ما» : نافية، ويحتمل أن تكون هي الحِجَازية، فترفع الاسم وتنصب الخبر، فيكون «هم» اسمها، و «بمؤمنين» خبرها، و «الباء» زائدة تأكيداً. وأن تكون التَّمِيْمِيّة، فلا تعمل شيئاً، فيكون «هم» مبتدأ، و «بمؤمنين» الخبر، و «الباء» زائدة أيضاً. وزعم ابو علي الفَارِسِيّ، وتبعه الزمخشري أن «الباء» لا تزاد في خبرها إلاّ إذا كانت عاملة، وهذا مردود بقول الفَرَزْدَقِ، وهو تميمي: [الطويل] 180 - لَعَمْرُكَ مَا مَعْنٌ بِتَارِكِ حَقِّهِ ... وَلاَ مُنْسِىءٌ مَعْنٌ وَلاَ مُتَيَسِّرُ إلا أنّ المختار في «ما» أن تكون حِجَازية؛ لأنه لما سقطت «الباء» صرح بالنصب قال الله تعالى: {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] {مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وأكثر لغة «الحجاز» زيادة الباء في خبرها، حتى زعم بعضهم أنه لم يحفظه النصب في غير القرآن، إلاّ قول الشاعر: [الكامل] 181 - وَأَنَا النَّذِيرُ بِحَرَّةٍ مُسْوَدَّةٍ ... تَصِلُ الْجُيوشُ إِلَيْكُمُ أَقْوَادَهَا أَبْنَاؤُهَا مُتَكَنِّفُونَ أَبَاهُمُ ... حَنِقُو الصُّدُورِ وَمَا هُمُ أَوْلاَدَهَا وأتى الضمير في قوله: «وما هم بمؤمنين» جمعاً اعتباراً للمعنى كما تقدّم في قوله: «آمنا» . فإن قيل: لم أتي بخبر «ما» اسم فاعل غير مقيّد بزمان، ولم يؤت بعدها بجملة فعلية حتى يطابق قولهم: آمنّا «: فيقال: وما آمنوا؟ فالجواب: أنه عدل عن ذلك ليفيد أن الإيمان منتف عنهم في جميع الأوقات، فلو أتى به مطابقاً لقولهم:» أمنا «فقال: وما آمنوا لكان يكون نفياً للإيمان في الزمن الماضي فقط، والمراد النَّفي مطلقاً أي: أنهم ليسوا ملتبسين بشيء من الإيمان في وقتٍ من الأوقات. فصل في سبب نزول الآية قال ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْه - إنما نزلت في مُنَافقي أَهْلِ الكتاب، كعبد الله بن أبي سلول ومعتب بن قُشَيْرٍ، وجدّ بن قيس وأصحابهم، كانوا إذا لقوا المؤمنين يظهرون الإيمان والتصديق، ويقولون: إنا لنجد نَعْتَهُ وصفته في كتابنا، ولم يكونوا كذلك إذا خَلاَ بعضهم إلى بعض. فصل في حقيقة النفاق قال ابن الخَطِيْبِ: الكلام في حقيقة النفاق لا يتخلّص إلا بتقسيم، وهو أنّ أحوال القلب أربعة: وهي أن تعتقد مستنداً لدليل وهو العلم، أو تعتقد لا عن دليل لكن تقليد، أو تعتقد لا عن دليل ولا تقليدج وهو الجهل، أو يكون حال القلب عن هذه الأحوال كلها. وأما أحوال اللسان فثلاثة: الإقرار، والإنكار، والسكوت. فأما الأول: وهو أن يحصل العرفان القلبي، فإما أن ينضم إليه الإقرار باللسان، فإن مان الإقرار اختيارياً، فصاحبه مؤمن حقًّا، بالاتفاق. وإن كان اضطراريَّاً فهذا يجب أن يعد منافقاً؛ لأنه بقلبه منكر مكذب لموجب الإقرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 فإن كان منكراً بلسانه عارفاً بقلبه، فهذا الإنكار اضطرارياً كان مسلماً؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106] ، وإن كان اختيارياً كان كافراً معانداً. وإن كان عارفاً بقلبه، وكان ساكتاً، فهذا السكوت إن كان اضطرارياً كما إذا خاف ذكره باللسان، فهو مسلم حقّاً، أو كما إذا عرف الله بالدليل، ثم لما تمّم بالنظر مات فهو مؤمن قطعاً؛ لأنه أتى بما كلف به، ولم يجد زَمَانَ الإقرار، فكان معذوراً فيه، وإن كان السّكوت اختيارياً، فهذا محل البحث، فميل الغَزَالي إلى أنه يكون مؤمناً لقوله عليه الصَّلاة والسلام:» يَخْرُجُ من النَّار من كَانَ في قَلْبِهِ ذرّة من الإيمان «وهذا قلبه مملوء من نور الإيمان، فكيف لا يخرج من النار؟ النوع الثاني: أن يحصل في القلبِ الاعتقاد التقليدي، فإما أن يوجد معه الإقرار باللسان، أو الإنكار أو السكوت. فإن وجد مع التّقليد الإقرار باللسان، فإن كان اختياراً فهي المسألة المشهورة من أن المقلد هل هو مؤمن أم لا؟ وإن كان اضطرارياً فهذا يفرع على الصورة الأولى، فإن حكمنا في الصورة الأولى بالكفر، فهاهنا لا كلام، وإن حكمنا هُنَاك بالإيمان وجب أن بحكم هاهنا بالنِّفَاق؟ لأن في هذه الصورة لو كان القلب عارفاً لكان هذا الشخص منافقاً، فمات يكون منافقاً عند التقليد. فإن حصل الاعتقاد والتقليد مع الإنكار اللساني، فهذا الإنكار إن كان اختيارياً فلا شَكّ في الكفر، وإن كان اضطرارياً، وحكمنا بإيمان المُقَلّد وجب أن نحكم بالإيمان في هذه الصُّورة. فإن حصل الاعتِقَادُ التقليدي مع السُّكوت اضطرارياً كان أو اختيارياً فحكمه حكم القسم مع النَّوْعِ الأوّل إذا حكمنا بإيمان المُقَلّد. النوع الثَّالث: اعتقاد الجَاهِل، فإما أن يوجد معه الإقرار اللِّسَاني، فذلك الإقرار إن كان اضطرارياً فهو المُنَافق، وإن كان اختيارياً مثل أن يعتقد بناء على شبهة أن العالم قديم، ثم بالاختيار أقرّ باللسان أن العالم مُحْدّث، وهذا غير مستبعدٍ، فهذا أيضاً من النفاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 النوع الرابع: القَلْبُ الخالي عن جميع الاعتقادات، وهذا إما أن يوجد معه الإقرار، أو الإنكار، أو السكوت. فإن وجد الإقرار، فإن كان الإقرار اختيارياً، فإن كان صاحبه في مُهْلة النظر لم يلزمه الكفر، لكنه فعل ما لا يجوز حيث أخبر عما لا يدري هل هو صَادق فيه أم لا؟ وإن كان الإقرار اضطرارياً لم يكفر صاحبه؛ لأن توقّفه إذا كان في مُهْلة النظر، وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً. فإن كان مع القلب الخالي السُّكوت، فهذا إن كان في مُهْلة النظر، فذلك هو الواجب، وإن كان خارجاً عن مُهْلة النظر وجب تكفيره، ولا يحكم عليه بالنِّفَاق ألبتة. فصل في بيان أقبح الكفر اختلفوا في أنّ كفر الكافر الأصلي أقبح أم كفر المُنَافق؟ قال قوم: كفر الأصلي أقبح؛ لأنه جاهل بالقلب كاذب باللسان. وقال آخرون: بل المنافق أيضاً كاذبٌ باللسان، فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه، ولذلك قال تعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] ، وقال تعالى: {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] ثم إن المنافق اختص بمزيد أمور منكرة: أحدها: أنه قصد التَّلبيس، والكافر الأصلي ما قصد ذلك. وثانيها: أنّ الكافر على طبع الرجال، والمُنَافق على طبع الخُثُونة. وثالثها: أنَّ المنافق ضمّ إلى كفره الاستهزاء، بخلاف الكافر الأصلي، ولأجل غلظ كفره قال تعالى: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145] . وخامسها: قال كجاهد: إنه - تعالى - ابتداء بذكر المؤمنين في أربع آيات، ثم ثَنّى بذكر الكفار في آيتين، ثم ثلث بذكر المنافقين في ثلاثة عشرة آية، وذلك يدلّ على أنَّ المُنَافق أعظم جرماً، وفي هذا نظراً [لأن كثرة الاقتصاص بخبرهم لا توجب كون جرمهم أعظم] لأنه قد يكون عظم جرمهم لضمهم إلى الكفر وجوهاً من المعاصي، كالمُخَادعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 والاستهزاء، وطلب الغَوَائل وغير ذلك، ويمكن أن يُجَاب بأن كثرة الاقتصاص بخبرهم تدلُّ على أنَّ الاهتمام بدفع شرهم أشدُّ من الاهتمام بِدَفْعِ شرّ الكُفار، وذلك يدلّ على أنهم أعظم جرماً من الكفار، والله أعلم. فصل في ادعائهم الإيمان واليوم الآخر ذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً وهو: أنّ المنافقين كانوا مؤمنين بالله، واليوم الآخر، ولكنهم كانوا منكرين نبوة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فلم كذبوا في ادّعائهم الإيمان بالله، واليوم الآخر؟ وأجاب فقال: إن حملنا على مُنَافقي أهل الكتاب - وهم اليهود - فإنما كذبهم الله - تعالى - لأن إيمان اليَهُود بالله ليس بإيمان؛ لأنّهم يعتقدونه جماً، وقالوا: عزيرٌ ابن الله، وكذلك إيمانهم باليوم الآخر ليس بإيمان، فلما قالوا: آمنّا بالله كان خبثهم فيه مضاعفاً؛ لأنهم كانوا بقلولهم يؤمنون به على ذلك الوجه الباطل، وباللِّسَان يوهمون المسلمين بقولهم: إنا آمنا بالله مثل إيمانكم، فلهذا كذبهم الله - تعالى - فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 قوله: «يخادعون» هذه الجملة الفعلية يحتمل أن يكون مستأنفةً جواباً لسؤال مقدّر هو: ما بالهم قالوا: آمنا وما هم بؤمنين؟ فقيل: يخادعون الله، ويحتمل أن تكون بدلاً من الجملة الواعقة صلة ل «من» وهي «يقول» ، ويكون هذا من بدل الاشْتِمَالِ؛ لأن قولهم كذا مشتمل على الخداع، فهو نظير قوله: [الرجز] 182 - إِنَّ عَلَيَّ اللهَ أَنْ تُبَايِعَا ... تُؤْخَذَ كَرْهاً أَوْ تَجِيءَ طَائِعَا وقول الآخر: [الطويل] 183 - مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 ف «تؤخذ» بدل اشتمال من «تبايع» ، وكذا «تُلْمِم» بدلٌ من «تَأْتِنَا» . وعلى هذين القولين، فلا مَحَلَّ لهذه الجملة من الإعراب. والجمل التي لا مَحَلَّ لها من الإعراب أربع لا تزيد على ذلك - وإن توهّم بعضهم ذلك - وهي: المبتدأ والصِّلة والمُعْترضة والمفسّرة، وسيأتي تفسيرها في مواضعها. ويحتمل أن تكون هذه الجملة حالاً من الضَّمير المستكن في [ «يقول» تقديره: ومن الناس من يقول حال كونهم مخادعين. وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير المستكن] في «بمؤمنين» ، والعامل فيها اسم الفاعل. وقد ردّ عليه بعضهم بما معناه: أن هذه الآية الكريمة نظير: «ما زيد أقبل ضاحكاً» ، قال: وللعرب في مثل هذا التركيب طريقان: أحدهما: نفي القيد وحده، وإثبات أصل الفعل، وهذا هو الأكثر، والمعنى: أن الإقبال ثابت، والضحك منتفٍ، وهذا المعنى لا يتصوّر إرادته في الآية، أعني: نفي الخِدَاع، وثبوت الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 الطريق الثاني: أن ينتفي القَيْدُ، فينتفي العامل فيه، فكأنه قيل في المثال السابق: لم يقبل، ولم يضحك، وهذا المعنى - أيضاً - غير مراد بالآية الكريمة قطعاً، أعني: نفي الإيمان والخداع معاً، بل المعنى على نَفْي الإيمان، وثبوت الخداع، ففسد جعلها حالاً من الضمير في «بمؤمنين» . والعجب من أبي البَقَاءِ كيف استشعر هذا الإشكال، فمنع من جعل هذه الجملة في محل جر صفة ل «مؤمنين» ؟ قال: لأن ذلك يوجب نفي خِدَاعهم، والمعنى على إثبات الخداع، ثم جعلها حالاً من ضمير «بمؤمنين» ، ولا فرق بين الحال والصفة في هذا. و «الخداع» أصله: الإخفاءُ، ومنه الأَخْدَعَان: عِرْقان مُسْتَبْطنان في العُنُقِ، ومنه مخدع البيت، وخَدَع الضَّبُّ خِدْعاً: إذا توارى في جُحْرِه، وطريق خادع وخديع: إذا كان مخالفاً للمقصد، بحيث لا يفطن له؛ فمعنى يخادع: أي يوهم صاحبه خلاف ما يريد به المَكْروه. وقيل: هو الفساد أي يفسدون ما أَظْهَروا من الإيمان بما أَضمروا من الكُفْرِ قال الشاعر: [الرمل] 184 - أَبْيَضُ اللَّوْنِ لَذِيذٌ طَعْمُهُ ... طَيِّبُ الرِّيقِ إِذَا الرِّيقُ خَدَعْ أي: فسد. ومعنى «يُخَادعون الله» أي: من حيث الصورة لا من حيث المَعْنِى. وقيل: لعدم عرفانهم بالله - تعالى - وصفاته ظنّوه ممن يُخَادَع. وقال الزَّمخشري: إن اسم الله - تعالى - مُقْحَم، والمعنى: يخادعون الذين آمنوا، ويكون من باب: أعجبني زيد وكرمه. والمعنى: أعجبني كرم زيد، وإنَّما ذكر «زيد» توطئةً لذكر كرمه. وجعل ذلك نظير قوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] ، وهذا منه غير مُرْضٍ؛ لأنه إذا صح نسبة مخادعتهم إلى الله - تعالى - بالأوجه المتقدّمة، فلا ضرورة تدعو إلى ادعاء زيادة اسم الله تعالى. وأما «أعجبني زيد وكرمه» ، فإن الإعجاب أسند إلى «زيد» بجملته، ثم عطف عليه بعض صفاته تمييزاً لهذه الصفة من بين سائر الصفات للشرف، فصار من حيث المعنى نظيراً لقوله تعالى: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 والمصدر «الْخِدْع» بكسر الخاء، ومثله: الخديعة. و «فَاعَلَ» له معانٍ خمسة: المشاركة المعنوية نحو: ضارب زيد عمراً. وموافقة المجرد نحو: «جاوزت زيداً» أي: جُزْتُه. وموافقة «أفعل» متعدياً نحو: «باعدت زيداً وأبعدته» . والإغناء عن «أفعل» نحو: «واريت الشيء» . وعن المجرد نحو: سافرت وقاسيت وعاقبت، والآية «فَاعَل» فيها يحتمل المعنيين الأوّلَيْن. أما المشاركة فالمُخَادعة منهم الله - تعالى - تقدم معناها، ومخادعة الله إياهم من حيث إنه أجرى عليهم أَحْكام المسلمين في الدنيا، ومُخَادعة المؤمنين لهم كونهم امتثلوا أمر الله - تعالى - فيهم، وأما كونه بمعنى المُجّرَّد، فيبينه قراءة ابن مسعود وأبي حَيَوَةَ «يَخْدَعُونَ» . وقرأ أبو عمرو والرميان «وَمَا يُخَادِعُونَ» كالأولى، والباقون «وَمَا يَخْدَعُونَ» ، فيحتمل أن تكونا القراءتان بمعنى واحد، أي: يكون «فَاعَلَ» بمعنى «فَعَل» ، ويحتمل أن تكون المُفَاعلة على بابها، أعني صدورها من اثنين، فهم يُخَادعون أنفسهم، حيث يُمَنُّونَها الأباطيل، وأَنْفُسهمْ تخادعهم تمنِّيهم ذلك، فكأنها مُحَاورة بين اثنين، ويكون هذا قريباً من قول الآخر: [المنسرح] 185 - لَمْ تَدْرِ مَا لاَ؟ وَلَسْتَ قَائِلَهَا ... عُمْرَكَ ما عِشْتَ آخِرَ الأَبَدِ وَلَمْ تُؤَامِرْ نَفْسَيْكَ مُمْتَرِياً ... فِيهَا وَفِي أُخْتِهَا وَلَمْ تَلِدِ وقال آخر: [الطويل] 186 - يُؤَامِرُ نَفْسَيْهِ وَفِي الْعَيْشِ فُسْحَةٌ ... أَيَسْتَوْقِعُ الذُّوبَانَ أَمْ لاَ يَطُورُهَا قال الومخشري: الاقتصار ب «خادعت» على وجهه أن يُقَال: عني به «فعلت» ، إلا أنه على وزن «فاعلت» ، لأن الزِّنَةَ في أصلها للمغالبة، والفعل متى غولب فيه جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مُغَال لزيادة قوة الداعي إليه، ويعضده قراءة أبي حيوة المتقدمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 وقرىء: «وَمَا يُخَدِّعَونَ» ، ويُخَدِّعُونَ من خَدَّعَ مشدداً. و «يُخَدِّعَونَ» بفتح الياء والتشديد؛ الأصل يختدعون، فأدغم. وقرىء: «وما يُخْدَعُونَ» ، «ويُخَادَعُونَ» على لفظ ما لم يسم فاعله، وتخريجها على أن الأصل: وَمَا يُخْدَعُونَ إِلاَّ عَنْ أنفسهم «فلما حذف الجَرّ انتصب على حَدّ: [الوافر] 187 - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . » إلا أنفسهم «» إلا «في الأصل حرف استثناء و» أنفسهم «مفعول له، وهذا استثناء مفرغ، وهو: عبارة عما افتقر فيه ما قبل» إلا «لما بعدها، ألا ترى أن» يخادعون «يفتقر إلى مفعول؟ ومثله:» ما قام إلا زيد «، ف» قام «يفتقر إلى فاعل، والتَّام بخلافه، أي: ما لم يفتقر فيه ما قيل» إلا «لما بعدها، نحو: قام القوم إلاّ ويداً، وضربت القوم إلا بكراً، فقام أخذ فاعله، وضربت أخذ مفعوله، وشرط الاستثناء المُفَرَّغ أن يكون بعد نفي، أو شبهة كالاستفهام والنهي. وأن قولهم: قرأت إلاّ يوم كذا، فالمعنى على نفي مؤول تقديره: ما تركت القراءة إلاَّ يوماً، هذا ومثله: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] و {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] . وللاستثناء أحكام كثيرة تأتي مفصّلة في مواضعها إن شاء الله تعالى. والنَّفْسُ: هنا ذات الشيء وحقيقته، ولا تختص بالأجسام لقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] ،» وَمَا يَشْعُرُونَ «هذه الجملة الفعلية يحتمل إلا يكون لها محلّ من الإعراب؛ لأنها استئناف، وان يكون لها محلّ، وهو النصب على الحال من فاعل» يخدعون «والمعنى: وما يرجع وَبَال خداعهم إلاَّ على أنفسهم غير شاعرين بذلك، ومفعول» يشعرون «محذوف للعلم به، تقديره: وما يشعرون أن وَبَالَ خداعهم راجع على أنفسهم، واطّلاع الله عليهم. والأحسن ألا يقدّر مفعول؛ لأن الغرض نفي الشعور عنه ألبتة من غير نظر إلى مُتَعلِّقه، والأوّل يسمى حذف الاختصار، ومعناه: حذف الشيء بدليل. والثاني يسمى حذف الاختصار، وهو حذف الشيء لا لدليل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 والشُّعور: إدراك الشيء من وجه يدقّ، وهو مشتقّ من الشَّعَر لدقّته. وقيل: هو الإدراك بالحاسّة مشتقّ من الشِّعِر، وهو ثوب يلي الجَسَد، ومنه مشاعر الإنسان أي: حواسّه الخمسة التي يشعر بها. فصل في حد الخديعة اعلم أن الخديعة مذمومة. قال ابن الخطيب:» وَحَدُّهَا هي إظهار ما يوهم السّلامة والسّداد، وإبطال ما يقتضي الإضرار بالغير، أو التخلّص منه، فهو بمنزلة النِّفَاق في الكفر والرِّياء في الأفعال الحسنة، وكل ذلك بخلاف ما يقتضيه الدين؛ لأن يوجب الدين يوجب الاستقامة والعدول عن الغُرُورِ والإساءة، كما يوجب المُخَالصة في العبادة «. فصل في امتناع مخادعة الله تعالى مخادعة الله - تعالى - ممتنعة من وجهين: أحدهما: أنه يعلم الضَّمائر والسرائر، فلا يصح أن يُخَادَع. والثاني: أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم، فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله، فثبت أنه لا يمكن إجْراءُ هذا اللفظ على ظاهره، فلا بُدّ من التأويل، وهو من وجهين: الأول: أنه - تعالى - ذكر نفسه، وأراد به الرسول على عادته في تَفْخِيْمِ أمره، وتعظيم شأنه. قال: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] . والمنافقون لما خادعوا [الله ورسوله] قيل: إنهم يخادعون الله. الثاني: أن يقال: صورة حالهم مه الله حيث يظهرون الإيمان وهم كافرون صورة من يُخَادع، وصورة صنع الله معهم حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده من الكَفَرَةِ صورة صنع الخادع، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم حيث امتثلوا أمر الله فيهم، فأجروا أحكامه عليهم. فصل في بيان الغرض من الخداع في الآية الغرض من ذلك الخداع وجوه: الأول: أنهم ظنوا أن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وأصحابه يجرونهم في التَّعْظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 والإكرام مجرى سائر المؤمنين إذا أظهروا لهم الإيمان. الثاني: يجوز أن يكون مرادهم إفشاء النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أَسْرَاره، والاطّلاع على أسرار المؤمنين، فينقلونها إلى الكفار. الثالث: أنهم دفعوا عن أنفسهم أَحْكَام الكفار، كالقَتْلِ وغيره. الرابع: أنهم كانوا يطعمون في أموال الغَنَائم. فإن قيل: فالله تعالى كان قادراً على أن يوحي إلى نبيه كَيفية مَكْرِهِمْ وخِداعهم، فَلِمَ لَمْ يَفْعَلْ ذلك هتكاً لسترهم؟ قلنا: هو قادر على استئصال «إبليس» وذريته ولكنه - تعالى - أبقاهم وقواهم، إما لأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، أو لحكمة لا يطلع عليها إلا هو. وقوله: «وما يَخْدّعُونَ إلا أنفسهم» فيه وجهان: الأول: أنه - تعالى - يجازيهم على ذلك، ويعاقبهم عليه، فلا يكونون في الحقيقة خادعين إلاّ أنفسهم. والثاني: ما ذكره أكثر المفسرين، وهو أم وَبَالَ ذلك راجع إليهم في الدنيا؛ لأن الله - تعالى - كان يدفع ضرر خِدَاعهم عن المؤمنين ويصرفه إليهم، وهو كقوله: {إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] ونظائره. «في قلوبهم مرض» الجار والمجرور خبر مقدّم واجب التقديم لما تقدّم ذكره في قوله تعالى: {وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] . والمشهور تحريك الراء من «مرض» . وَرَوَى الصمعي عن أبي عمرو سكونها، وهما لغتان في مصدر مَرِضَ يَمْرَضُ. «والمرض» : الفتور. وقيل: الفساد. وقيل: صفة توجب وقوع الخَلَلِ في الأفعال الصادرة عن الفاعل، ويطلق على الظلمة؛ وأنشدوا: [البسيط] 188 - فِي لَيْلَةٍ مَرِضَتْ مِنْ كُلِّ نَاحِيَةٍ ... فَمَا يُحِسُّ بِهِ نَجْمٌ وَلاَ قَمَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 أي: لظلمتها، ويجوز أن يكون أراد ب «مَرِضَتْ» فَسَدَت، ثم بين جهة الفَسَادِ بالظُّلمةِ. قوله: «فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضاً» . هذه جملة فعلية معطوفة على الجملة الاسمية قبلها، متسبّبة عنها، بمعنى أنَّ سبب الزِّيَادة حصول المرض في قلوبهم، إذ المراد بالمرض هنا الغِلّ والحسد لظهور دين الله تعالى. و «زاد» يستعمل لازماً ومتعدياً لاثنين ثانيهما غير الأول ك «أَعْطَى وكَسَا» ، فيجوز حذف مفعوليه، وأحدهما اختصاراً واقتصاراً، تقول: «زاد المال» فهذا لازم، و «زدت زيداً أجراً» ومنه: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] ، {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} [البقرة: 10] و «ودت زيداً» ولا تذكر ما زدته، و «زدت مالاً» ولا تذكر من زدته. وألف «زاد» منقلبة عن ياء؛ لقولهم: «يزيد» . وقرأ ابن عامر وحمزة: «فزادهم» بالإمالة. وزاد حمزة «زاد» حيث وقع، و {زَاغَ} [النجم: 17] {وَخَابَ} [إبراهيم: 15] ، و {طَابَ} [النساء: 3] ، و «حَاقَ» [الأنعام: 10] ، والآخرون لا يميلونها. فصل في أوجه ورود لفظ المرض ورد لفظ «المرض» على أربعة أوجه: الأول: الشّك كهذه الآية. الثاني: الزِّنَا قال تعالى: {فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} [الأحزاب: 32] . الثالث: الحَرَجُ قال تعالى: {أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ} [النساء: 102] . الرابع: المرض بعينه. قوله: {وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} نظيره قوله تعالى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ} [البقرة: 7] وقد تقدّم. و «أليم» هنا بمعنى: مُؤْلِم، كقوله: [الوافر] 189 - ونَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلاَتِ ... يَصُكُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ ويجمع على «فُعَلاَء» ك: «شريف وشرفاء» ، و «أفْعَال» مثل: «شريف وأشراف» ، ويجوز أن يكون «فعيل» : هُنَا للمُبَالغة محولاً من «فَعِل» بكسر العَيْنِ، وعلى هذا تكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 نسبة الألم إلى العَذّابِ مجازاً، لأنّ الألم حلّ بمن وقع به العذاب لا بالعذاب، فهو نظير قولهم: «شِعْرٌ شَاعِر» . و {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} متعلّق بالاستقرار المقدر في «لهم» ، أي: استقر لهم عَذَابٌ أليم بسبب تكذيبهم. و «ما» يجوز أن تكون مصدرية، أي: بكونهم يكذبون، وهذا على القول بأن ل «كان» مصدراً، وهو الصحيح عند بعضهم للتصريح به في قول الشاعر: [الطويل] 190 - بِبَذْلٍ وَحِلْمٍ سَادَ في قوْمِهِ الفَتَى ... وَكَوْنُكَ إِيَّاهُ عَلَيْكَ يَسِيرُ فقد صَرّح بالكون، ولا جائز أن يكون مصدر «كان» التَّامة لنصبه الخبر بعدها، وهو «إياه» على أنَّ للنظر في هذا البيت مجالاً ليس هذا موضعه. وعلى القول بأن لها مصدراً لا يجوز التصريح به معها، لا تقول: «كان ويداً قائماً كوناً» ، قالوا: لأن الخبر كالعوض من المصدر، ولا يجمع بين العوض والمُعَوَّض منه، وحينئذ فلا حَاجَةَ إلى ضمير عائد على «ما» ؛ لأنها حرف مصدري على الصحيح، خلافاً للأخفش وابن السَّراجِ في جعل المصدرية اسماً. ويجوز أن تكون «ما» بمعنى «الذي» ، وحينئذ فلا بُدّ من تقدير عائدٍ أي: بالذي كانوا يكذبونه، وجاز حَذْفُ العائد لاستكمال الشُّروط، وهو كونه منصوباً بفعل، وليس ثمَّ عائد آخر. وزعم أبو البَقَاءِ أن كون «ما» موصولةً اسميةً هو الأظهر، قال: لأنّ الهاء المقدرة عائدة على «الَّذِي» لا على المصدر. وهذا الَّذِي قاله غير لازم، إذ لقائل أن يقول: لا نسلّم أنه لا بُدَّ من هاءٍ مقدّرة حتى يلزم جعل «ما» اسمية، بل من قرأ {يَكْذِبُونَ} مخففاً فهو عنده يكذبون الرَّسول والقرآن، أو يكون المشدّد بمعنى المخفّف، وقرأ الكوفيون: {يَكْذِبُونَ} بالفتح والتَّخفيف، والباقون بالضَّم والتشديد. و «يكذّبون» مضارع «كذَّب» بالتشديد، وله معانٍ كثيرة: الرَّمي بكذا، ومنه الآية الكريمة والتعدية نحو: «فَرَّحْتُ زيداً» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 والتكثير نحو: «قَطَّعْتُ الأثواب» . والجعل على صفة نحو: «قَطَّرْتُه» أي: جعلته مقطراً؛ ومنه: [السريع] 191 - قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وَجَارَاتَهَا ... مَا قَطَّرَ الفَارِسَ إِلاَّ أَنَا والتسمية نحو: «فَسَّقْتُهُ» أي: سميته فاسقاً والدعاء له نحو: «سَقَّيْتُهُ» أي قلت له: «سَقَاكَ الله» . أو الدعاء عليه نحو: «عَقَّرْتُه» أي قلت: عَقْراً لك. والإقامة على الشي نحو: مَرَّضْتُه «والإزالة نحو:» قَذَّيْتُ عينه «أي: أزلت قَذَاها. والتوجّه نحو:» شَرَّقَ وغَرَّبَ «، أي: توجّه نحو الشرق والغرب. واختصار الحكاية نحو:» أمَّنَ «قال: آمين. وموافقة» تَفَعَّلَ «و» فَعَلَ «مخففاً نحو: وَلَّى بمعنى تولّى، وقَدَّرَ بمعنى قَدَر، والإغناء عن» تَفَعَّلَ «و» فَعَلَ «مخففاً نحو» حَمَّرَ «أي تكلم بلغة» حمير «، قالوا:» مَنْ دخل ظَفَارِ حَمَّرَ وعَرَّدَ في القِتَال «هو بمعنى مخففاًن وغن لم يلفظ به. و» الكذب «اختلف النَّاس فيه، فقائل: هو الإخبار عن الشيء بخير ما هو عليه ذهناً وخارجاً، وقيل: غير ما هو عليه في الخارج، سواء وافق في ما في الخارج أم لا، والصّدق نقيضه. فصل في معنى الآية قال المفسرون: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} شكّ ونفاق {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} ؛ لأن الآيات كانت تنزل آيةً بعد آيةٍ، كلما كفروا بآيةٍ ازدادوا كفراً ونفاقاً، وذلك معنى قوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] والسورة لم تفعل ذلك، ولكنهم ازدادوا رجساً عند نزولها حين كفروا بها قبل ذلك، وهو كقوله تعالى: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً} [نوح: 6] والدعاء لم يفعل شيئاً من هذا، ولكنهم ازدادوا فراراً عنده، وقال: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} [فاطر: 42] . قالت المعتزلة: لو كان المراد من المرض - هاهنا - الكفر والجَهْل لكان قوله: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} محمولاً على الكُفْرِ والجَهْلِ، فيلزم أن يكون الله - تعالى - فاعلاً للكفر والجهل. قالت المعتزلة: ولا يجوز أن يكون الله - تعالى - فاعلاً للكفر والجَهْلِ لوجوه: أحدها: أنّ الكفار كانوا في غَايَة الحرص على الطَّعن في القرآن، فلو كان المعنى ذلك لقالوا لمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إذا فعل الله الكفر فينا، فكيف تأمران بالإيمان؟ وثانيها: أنه - تعالى - ذكر هذه الآيات في معرض الذَّم لهم على كُفْرِهِمْ، فكيف يذمّهم على شيء خلقه الله فيهم. وثالثها: قوله: {وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ} فإن كان الله خلق ذلك فيهم كما خلق لونهم وطولهم، فأيّ ذنب لهم حتَّى يعذبهم؟ ورابعها: أنه - تعالى - أضافه إليهم بقوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} وبأنهم يفسدون في الأرض، وأنهم هم السّفهاء، وأنهم إذا خلوا إلى شَيَاطِينهم قالوا: إنا معكم، وإذا ثبت هذا فلا بُدّ من التأويل، وهو ن وجوه: الأول: يحمل المرض على الغَمّ، لأنه يقال: مرض قلبي من أمر كذا، والمعنى: أن المنافقين مرضت قلوبهم لما رأوا إثبات أمر النبي - عليه أفضل الصلاة والسلام -، واستعلاء شأنه يوماً فيوماً، وذلك يؤدي إلى زوال رياستهم، كما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مَرَّ بعبد الله بن أُبّيِّ على حِمَارٍ، فقال له: نَحّ حمارك يا مُحَمّد فقد آذانا رِيحُهُ، فقال له بعض الأنصار، اعْذُرْهُ يا رسول الله، فإنه كان مؤملاً أن نُتَوِجَهُ الرياسة قبل أن تقدم علينا، فهؤلاء لمَّا اشتدَّ عليهم الغَمّ وصفهم الله بذلك فقال: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} أي: زادهم غمَّاً على غَمِّهِمْ. وثانيها: المراد من زيادة المرض زيادة منع الألطاف فيكون بسبب ذلك المَنْع خاذلاً لهم. الثالث: أنَّ العرب تصف فتور النَّظر بالمرض يقولون: جاريةٌ مريضةُ الطرف. قال جرير: [البسيط] 192 - إِنَّ العُيُونَ الَّتِي في طَرْفِهَا ... مَرَضٌ قَتَلْنَنَا ثُمَّ لَمْ يُحْيِينَ قَتْلاَنَا فكذا المرض هاهنا إنما هو الفتور في النِّية؛ لأن قلوبهم كانت قويً على المُحَاربة، والمُنَازعة، والمخاصمة، ثم انكسرت شوكتهم، فأخذوا في النِّفَاق بسبب ذلك الخوف، والانكسار، فقال تعالى: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} أي: زادهم الانْكِسَارَ والجُبْنَ والضعف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وحقق الله ذلك بقوله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} [الأحزاب: 26] الرابع: أن يحمل المرض على أَلَم القلب؛ لأنَّ المُبْتَلَى بالحَسَدِ والنِّفَاقِ، ومشاهدة ما يكره ربما صار ذلك سبباً لتغيير مِزَاجَهَ، وتألُّم قلبه، وحَمْلُ اللَّفْظِ على هذا الوَجْهِ حَمْلٌ له على حقيقته، فكان أولى. وقوله: {وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} صريح أن كذبهم علّة للعذاب الأليم، وذلك يقتضي أن يكون كل كذب حراماً. فأما ما يروى عن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنه كذب ثلاث كذبات، فالمراد التعريض، ولكن لما كانت صورته الكذب سمي بذلك. والمراج بكذبهم قولهم: آمنا بالله وباليوم الآخر، وهم غير مؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 «إذا» ظرف زمان مستقبل ويلزمها معنى الشرط غالباً، ولا تكون إلاّ في الأمر المحقق، أو المرجح وقوعه، فلذلك لم تجزم إلا في شِعْرٍ؛ لمخالفتها أدوات الشرط؛ فإنها للأمر المحتمل، فمن الجزم قوله: [البسيط] 193 - تَرْفَعُ لي خِنْدِفٌ واللهُ يَرْفَعُ لِي ... نَاراً إِذَا خَمَدَتْ نِيرَانُهُمْ تَقِدِ وقال آخر: [الكامل] 194 - وَاسْتَغْنِ مَا أَغْنَاكَ رَبُّكَ بِالغِنَى ... وَإِذّا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ وقال الآخر: [الطويل] 195 - إِذَا قَصُرَتْ أَسْيَافُنَا كَانَ وَصْلُهَا ... خُطَانَا إِلَى أَعْدَائِنَا فَنُضَارِبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 فقوله: «فَنُضَارب» مجزوم لعطفه على محل قوله «كان وصلها» . وقال الفرزدق: [الطويل] 196 - فَقَامَ أَبُو لَيْلَى إِلَيْهِ ابْنُ ظَالِمِ ... وَكَانَ إذَا مَا يَسْلُلِ السَّيْفَ يَضْرِبِ وقد تكون للزمن الماضي ك: «إذ» كما قد تكون «إذ» للمستقبل ك «إذا» . فمن مجيء «إذا» ظرفاً لما مَضَى من الزمان واقعةً موقع «إذ» قوله تعالى: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ} [التوبة: 92] ، وقوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] ، قال به ابن مالك، وبعض النحويين. ومن مجيء «إذ» ظرفاً لما يستقبل من الزمان قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 70] . وتكون للمفاجأة أيضاً، وهل هي حينئذ باقية على زمانيتها، أو صارت ظرف مكان أو حرفاً؟ ثلاثة أقوال: أصحُّها الأول استصحاباً للحال، وهل تتصرف أم لا؟ الظاهر عدم تصرفها، واستدلّ من زعم تصرفها بقوله تعالى في قراءة من قرأ: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً} [الواقعة: 1 - 4] بنصب «خافضة رافعة» ، فجعل «إذا» الأولى مبتدأ، والثانية خبرها. والتقدير: وَقْتُ وقوع الواقعة رجّ الأرض، وبقوله: {حتى إِذَا جَآءُوهَا} [الزمر: 71] ، و {حتى إِذَا كُنتُمْ} [يونس: 22] فجعل «حتى» حرف جر، و «إذا» مجرورة بها، وسيأتي تحقيق ذلك في مواضع. ولا تُضَاف إلاَّ الجُمَلِ الفعلية خلافاً للأخفش. وقوله: «قيل» فعل ماضٍ مبني للمفعول، وأصله: «قَوَلَ» ك: «ضرب» ، فاستثقلت الكسرة على «الواو» ، فنقلت إلى «القاف» بعد سَلْبِ حركتها، فسكنت «الواو» بعد كسرة، فقلبت «ياء» ، وهذه أفصح اللغات، وفيه لغة ثانية، وهي الإشمام، والإشمام عبارة عن جعل الضّمة بين الضم والكَسْرِ. ولغة ثالثة وهي: إخلاص الضم، نحو: «قُولَ وبُوعَ» ، قال الشاعر: [الرجز] 197 - لَيْتَ وَهَلْ يَنْفَعُ شَيْئاً لَيْتَ ... لَيْتَ شَبَاباً بُوعَ فَاشْتَرَيْتُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 وقال الآخر: [الرجز] 198 - حُوكَتْ عَلَى نَوْلَيْنِ إذْ تُحَاكُ ... تَخْتَبِطُ الشَّوْكَ وَلاَ تُشَاكُ وقال الأخفش: «ويجوز» قُيُل «بضم القاء والياء» ، يعني مع الياء؛ لأن الياء تضم أيضاً. وتجيء هذه اللغات الثلاث في «اختار» و «انقاد» ، و «ردّ» و «حَبَّ» ونحوها، فتقول: «اختير» بالكسر، والإِشْمَام، و «اختورط، وكذلك:» انقيد «، و» انقود «، و» رَدَّ «، و» رِدَّ «، وأنشدوا: [الطويل] 199 - وَمَا حِلُّ مِنْ جَهْلٍ حُبَا حُلَمَائِنَا ... وَلاَ قَائِلُ المَعْرُوفِ فِينَا يُعَنَّفُ بكسر حاء» حل «. وقرىء:» وَلَوْ رِدُّوا « [الأنعام: 28] بكسر الراء. والقاعدة فيما لم يسم فاعله أن يُضَمّ أول الفعل مطلقاً؛ فإن كان ماضياً كسر ما قبل آخره لفظاً نحو:» ضرب «، أو تقديراً نحو:» قيل «، و» اختير «. وقد يضم ثاني الماضي أيضاً إذا افتتح بتاء مُطَاوعة نحو:» تُدُحْرج الحجر «، وثالثه إن افتتح بهمزة وصل نحو:» انْطُلِقَ بزيد «واعلم أن شرط جواز اللغات الثلاث في» قيل «، و» غيض «، ونحوهما ألا يلتبس، فإن التبس عمل بمقتضى عدم اللَّبْس، هكذا قال بعضهم، وإن كان سيبويه قد أطلق جواز ذلك، وأشَمّ الكسائي: {قِيلَ} [البقرة: 11] ، {وَغِيضَ} [هود: 44] ، {وَجِيءَ} [الزمر: 69] ، {وَحِيلَ} [سبأ: 54] {وَسِيقَ الذين} [الزمر: 71] و {سياء بِهِمْ} [هود: 77] ، و {سِيئَتْ وُجُوهُ} [الملك: 27] ، وافقه هشام في الجميع، وابن ذكوان في» حِيْل «وما بعدها، ونافع في» سيء «و» سيئت «، والباقون بإخلاص الكسر في الجميع. والإشْمَام له معان أربعة في اصطلاح القراء سيأتي ذلك في قوله: {لاَ تَأْمَنَّا} [يوسف: 11] إن شاء الله تعالى. و» الهم «جار ومجرور متعلّق ب» قيل «، و» اللاَّم «للتبليغ، و» لا «حرف نهي يجزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 فعلاً واحداً، و» تفسدوا «مجزوم بها، وعلامة جزمه حذف النون؛ وعلامة جزمه حذف النون؛ لأنه من الأمثلة الخمسة. و» في الأرض «متعلّق به، والقائم مقام الفاعل هو الجُمْلَةُ من قوله:» لا تفسدوا «لأنه هو القول في المعنى، واختاره الزمخشري. والتقدير: وإذا قيل لهم هذا الكلام، أو هذا اللّفظ، فهو من باب الإسناد اللَّفْظي. وقيل: القائم مقام الفاعل مضمر، تقديره: وإذا قيل لهم هو، ويفسّر هذا المضمر سياق الكلام كما فسّره في قوله: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32] . والمعنى؟ :» وإذا قيل لهم قول سديد «فأضمر هذا القول الموصوف، وجاءت الجملة بعده مفسّرة، فلا موضع لها من الإعراب، فإذا أمكن الإسناد المعنوي لم يعدل إلى اللَّفْظِيّ، وقد أمكن ذلك بما تقدّم. وهذا القول سبقه إليه أبو البَقَاءِ، فإنه قال:» والمفعول القائم مَقَام الفاعِلِ مصدر، وهو القول، وأضمر لأن الجملة بعد تفسّره، ولا يجزز أن يكون «لا تفسدوا» قائماً مقام الفاعل؛ لأن الجملة لا تكون فاعلاً، فلا تقوم مقام الفاعل «. وقد تقدم جواب ذلك من أن المعنى: وإذا قيل لهم هذا اللفظ، ولا يجوز أن يكون «لهم» قائم مقام الفاعل إلاَّ في رأي الكوفيين والأخفش، إذ يجوز عندهم إقامة غير المفعول به مع وجوده. وتلخصّ من هذا: أنَّ جملة قوله: «لا تفسدوا» في مَحَلّ رفع على قول الزَّمخشري، ولا محلّ لها على قول أبي البَقَاءِ ومن تبعه، والجملة من قوله: «قيل» وما في حَيّزه في محل خفضٍ بإضافة الظرف إليه. والعامل في «إذا» جوابها، وهو «قالوا» ، والتقدير: قالوا «: إنما نحن مصلحون، وقت قول القائم لهم: لا تفسدوا. وقال بعضهم: الذي نختاره أن الجُمْلَةَ الَّتي بعدها وتليها ناصبة لها، وأنَّ ما بعده ليس في مَحَلّ خَفْضٍ بالإضافة؛ لأنها أداة شرط، فحكمها حكم الظروف التي يُجَازى بها، فكما أنك إذا قلت:» متى تَقُمْ أَقُمْ «كان» متى «منصوباً بفعل الشرط، فكذلك إذا قال هذا القائل. والذي يفسد مذهب الجمهور جواز قولك:» إذا قمت فعمرو قائم «ووقوع: إذا» الفُجَائية جواباً لها، وما بعد «الفاء» . و «إذا» الفجائية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وهو اعتراض ظاهر. وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} «إنَّ» حرف مكفوف ب «ما» الزائدة عن العمل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ولذلك تليها الجملة مطلقاً، وهي تفيد الحَصْرَ عند بعضهم. وأبعد من زعم أنّ «إنما» مركبة من «إنَّ» التي للإثبات، و «ما» التي للنفي، وأنّ بالتركيب حدث معنى يفيد الحَصْرَ. واعلم أن «إن» وأخواتها إذا وَلِيْتَهَا «ما» الزائدة بطل عملها، وذهب اختصاصها بالأسماء كما مرَّ، إلا «لَيْتَ» فإنه يجوز فيها الوجهان سماعاً، وأنشدوا قول النابعة: [البسيط] 200 - قَالَتْ: أَلاَ لَيْتَمَا هَذَا الحَمَامُ لَنَا ... إِلَى حَمَامَتِنَا وَنِصْفهُ، فَقَدِ برفع «الحَمَام» ونصبه، فأما إهمالها فلبقاء اختصاصها، وأمّا إهمالها فلحملها على أَخَوَاتِهَا، على أنه قد روي عن سيبويه في البيت أنها معملة على رواية الرفع أيضاً، بأن تجعل «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، كالتي في قوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69] و «هذا» خبر مبتدأ محذوف هو العائد، و «الحَمَام» نعت لهذا، و «لنا» خبر ل «ليت» ، وحُذِفَ العائد وإن لم تَطُل الصلة. والتقدير: ألا ليت الذي هو [هذا] الحمام كَائِنٌ لنا، وهذا أولى من أن يدعي إهمالها، لأن المقتضى للإعمال - وهو الاختصاص - باقٍ. وزعم بعضهم أنّ «ما» الزائدة إذا اتَّصلت ب «إنَّ» وأخواتها جاز الإعمال في الجميع. و «نحن» مبتدأ، وهو ضمير مرفوع منفصل للمتكلم، ومن معه أو المعظّم نفسه، و «مصلحون» خبره، والجملة في محل نَصْبٍ، لأنها محكية ب «قالوا» . والجملة الشرطية وهي قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ} عطف على صلة «من» ، وهي «يقول» ، أي: ومن النَّاس من يقول، ومن النَّاس من إذا قيل لهم: لا تفسدوا في الأرض قالوا: وقيل: يجوز أن تكون مستأنفةً، وعلى هذين القولين، فلا مَحَلّ لها من الإعراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 لما تقدم، ولكنها جزء كلام على القول الأول، وكلام مستقل على القول الثاني، وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن تكون معطوفةً على «يكذبون» الواقع خبراً ل «كانوا» ، فيكون محلّها النصب. وردّ بعضهم عليهما بأن هذا الذي أجازاه على أَحَدِ وجهي «ما» من قوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] خطأ، وهو: أن تكون موصولةً بمعنى «الذي» ، إذْ لا عائد فيها يعود على «ما» المَوْصُولة، وكذلك إذا جعلت مصدريةً، فإنها تفتقر إلى العائد عند الأَخْفَشِ، وابن السراج. والجواب عن هذا أنهما لا يُجِيْزَانِ ذلك ألا وهما يعتقدان «ما» موصولة حرفية. وأما مذهب الأخفش وابن السراج فلا يلزمهما القول به، ولكنه يُشَكِلُ على أبي البَقَاءِ وحدهن فإنه يستضعف كون «ما» مصدرية كما تقدم. فصل في أوجه ورود لفظ الفساد ورد لفظ «الفساد» على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى العِصْيَان كهذه الآية. الثاني: بمعنى الهَلاَكِ قال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآءَالِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أي: أهلكتا. الثالث: بمعنى السحر قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} [يونس: 81] . فصل في بيان من القائل منهم من قال: إن ذلك القائل هو الله تعالى، ومنهم من قال: هو الرسول، ومنهم من قال: بعض المؤمنين، وكل ذلك محتمل. والأقرب أن ذلك القائل هو الله تعالى، ومنهم من قال: هو الرسول، ومنهم من قال: بعض المؤمنين، وكل ذلك محتمل. والأقرب أن ذلك القائل كان مشافهاً لهم بذلك الكلام، فإما أن يكون الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بلغه عنهم النفاق، ولم يقطع بذلك، فنصحهم فأجابوا بما يحقّ إيمانهم، وأنهم في الصَّلاح بمنزلة سَائِرِ المؤمنين، وإما أنْ يكون بعض من يلقون إليه الفَسَاد كان لا يقبله منهم، وكان ينقلب واعظاً لهم قائلاً لهم: {لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} [البقرة: 11] فإن قيل: إنما كانوا يخبرون الرَّسول بذلك؟ قلنا: نعم، كانوا إذا عوقبوا عادوا إلى إظهار الإسلام، وكذبوا النَّاقلين عنهم، وحلفوا بالله عليه كما قال - تعالى - عنهم: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر} [التوبة: 74] . وقيل هذا الكلام لليهود. و «الفساد» خروج الشيء عن كونه منتفعاً به، ونقيضه الصلاح. واختلفوا في ذلك الفساد فقال ابن عباس والحَسَن وقَتَادَة والسّدي: الفساد في الأرض إظهار معصية الله تعالى. قال القَفّال - رَحِمَهُ اللهُ -: وتقريره أن الشرائع سُنن موضوعة بين العباد، فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 تمسكوا بها زَوَال العدوان، ولزم كل أحد شأنه، وحقنت الدّماء، وسكنت الفتن، فكان فيه صلاح الأرض، وصلاح أهلها، وإذا تركوا التمسُّك بالشرائع، وأقدم كلّ واحد على ما يَهْوَاه، وقع الهَرَجُ والمَرَجُ والاضطراب، ووقع الفساد في الأرض. وقيل: الفساد هو مُدْرَارَاةُ المنافقين للكافرين، ومخالطتهم معهم؛ لأنهم إذا مالوا إلى الكُفْرِ مع أنهم في الظاهر مؤمنون أَوْهَمَ ذلك ضعف الرسول وضعف أنصاره، فكان ذلك يجري للكفار على إظهار عداوة الرسول، ونَصْبِ الحروب له. وقال الأصَمَ: كانوا يدعون في السّر إلى تكذيبه، وجَحْد الإسلام، وإلقاء الشُّبهات، وتفريق بين النَّاس عن الإيمان. فصل في مراد المنافقين بالإصلاح قوله: {قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} هم المُنَافقون، لأن مرادهم بهذا الكلام نقيض ما نهوا عنه، وهو الإفساد في الأرض؛ فقولهم: إنما نحن مُصْلحون كالمُقَابِل له، وفي هذا احتمالان. أحدهما: أنهم اعتقدوا أن دينهم صواب، فكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدّين، لا جرم قالوا: إنما نحن مصلحون، يعني: أن هذه المُدَاراة سَعْيٌ لأجل تقوية ذلك الدّين، لا جرم قالوا: «إنما نحن مصلحون» أي: نحن نصلح أمر الفساد. وقال ابن الخطيب: العلماء استدلّوا بهذه الآية على أنَّ من أظهر الإيمان وجل إجراء حكم المؤمنين عليه، وتجويز خلافه لا يطعن فيه، وتوبة الزِّنْدِيق مقبولةٌ، والله أعلم. وقوله: {ألاا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون} «ألا» حرف تنبيه، واستفتاح، وليست مركّبة من همزة الاستفهام و «لا» النافية، بل هي بَسِيطَةٌ، ولكنها لفظ مشترك بين التَّنبيه والاستفتاح، فتدخل على الجُمْلَة اسميةً كانت أو فعليةً، وبين العرض والتخصيص، فتختصّ بالأفعال لفظاً أو تقديراً، وتكون النافية للجنس دخلت عليها همزة الاستفهام، ولها أحكام تقدّم بعضها عند قوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] ، وتكون للتَّمَنِّي، فتجري مجرى «ليت» في بعض أحكامها. وأجاز بعضهم أن تكون جواباً بمعنى «بَلَى» يقول القائل: ألم يقل زيد؟ فتقول: «ألا» بمعنى: «بلى قد قام» وهو غريب. و «إنّهم» إنّ واسمها، و «هم» تحتمل ثلاثة وجه: أحدها: أن تكون تأكيداً لاسم «إنَّ» ؛ لأن الضمير المنفصل المرفوع يجوز أن يؤكد به جميع ضروب الضَّمير المتصل. وأن تكون فصلاً، وأن تكون مبتدأ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 و «المفسدون» خبره، والجملة خبر ب «إن» . وعلى القولين الأوّلين يكون «المفسدون» وحده خبراً ل «إن» ، وجيء في هذه الجملة بضروب من التأكيد منها: الاستفتاح والتنبيه، والتَّأكيد ب «إن» ، والإتيان بالتأكيد، والفَصْل بالضَّمير، وبالتعريف في الخبر مبالغةً في الرد عليهم فيما ادّعوا من قولهم: «إنما نحن مُصْلِحُون» ؛ لأنهم أخرجوا الجواب جملةً اسميةً مؤكدةً ب «إنما» ليدلّوا بذلك على ثُبُوت الوَصْفِ لهم، فرد الله عليهم بأبلغ وآكد مما ادعوه. وقوله : {ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} الواو عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها. و «لكن» معناها الاستدراك، وهو معنى لا يُفَارقها، وتكون عاطفةً في المفردات، ولا تكون إلاّ بين ضدّين، أو نقيضين، وفي الخلافين خلاف، نحو: «ما قام زيد لكن خرج بكر» ، واستدلّ بعضهم على ذلك بقوله طَرَفَةَ: [الطويل] 201 - وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ لِبَيْتِهِ ... وَلَكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ القَوْمَ أرفِدِ فقوله: «متى يسترفد القوم أرفد» ليس ضدًّا ولا نقيضاً لما قبله، ولكنه خلافه. قال بعضهم: وهذا لا دليل فيه على المدّعى، لأن قوله: «لستُ بحلاّل التِّلاعِ لبيته» كنايةٌ عن نفي البُخْلِ أي: لا أحلّ التِّلاَع لأجل البُخْل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وقوله: «متى يسترفد القوم أرفد» كناية عن الكَرَمِ، فكأنه قال: لست بخيلاً ولكن كريماً، فهي - هاهنا - واقعة بين ضدّين. ولا تعمل مخففة خلافاً ل «يونس» ، ولها أحكام كثيرة. ومعنى الاسْتِدْرَاك في هذه الآية يحتاج إلى تأمل ونظر، وذلك أنهم لما نهوا عن اتخاذ مثل ما كانوا يتعاطونه من الإفساد، فقابلوا ذلك بأنهم مصلحون في ذلك، وأخبر - تعالى - بأنهم هم المفسدون كانوا حقيقين بأن يعملوا أن ذلك كما أخبر - تعالى - وأنهم لا يدعون بأنهم مصلحون، فاستدرك عليهم هذا المعنى الذي فَاتَهُمْ من عدم الشعور بذلك. ومثله قولك: «زيد جاهل، ولكن لا يعلم» ، وذلك لأنه من حيث اتّصف بالجهل، وصار الجهل وصفاً قائماً به كان ينبغي أن يعلم بهذا الوَصْف من نفسه؛ لأن الإنسان له أن يعلم ما اشتملت عليه نفسه من الصفات، فاستدركت عليه أنَّ هذا الوصف القائم له به لا يعلمه مُبَالغة في جهله. ومفعول «يشعرون» محذوف: إمّا حذف اختصار، أي: لا يشعرون بأنهم مفسدون، وإما حذف اقتصار، وهو الأحسن، أي: ليس لهم شعور ألبتة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 الكلام عليها كالكلام على التي قبلها. و «آمنوا» فعل وفاعل، والجملة في محل رفع لقيامها مقام الفاعل على ما تقدم في {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} [البقرة: 11] والأقوال هناك تعود هُنَا. والكاف في قوله «كما آمن» في محلّ نصب. وأكثر المعربين يجعلون نعتاً لمصدر محذوف، والتقدير: آمنوا إيماناً كإيمان النَّاس، وكذلك يقولون في: «سير عليه حثيثاً» : أي سيراً حثيثاً وهذا ليس مذهب سيبويه، إنما مذهبه في هذا ونحوه أن يكون منصوباً على الحال من المصدر والمضمر المفهوم من الفعل المتقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وإنما أحوج سيبويه إلى ذلك أن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه لا يجوز إلاَّ في مواضع محصورة، ليس هذا منها، فتلك المواضع: أن تكون الصفة خاصة بالموصوف، نحو: «مررت بكاتب» . أو واقعة خبراً نحو: «زيد قائم» . أنو حالاً نحو: «جاء زيد راكباً» . أو صفة لظرف نحو: «جلست قريباً منك» . أو مستعملة استعمال الأسماء، وهذا يحفظ ولا يُقَاس عليه، نحو: «الأبْطَح والأَبْرَق» وما عدا هذه المواضع لا يجوز فيها حذف المَوْصوف؛ ألا ترى أنَّ سيبويه منع لا ماء ولو بارداً، وإن تقدّم ما يدلُّ على الموصوف، وأجاز: «إلا ماء ولو بارداً» ؛ لأنه نصب على الحال. و «ما» مصدرية في محل جَرّ بالكاف، و «آمَنَ النَّاسُ» صلتها. واعلم أنَّ «ما» المصدرية توصَلُ بالماضي أو المضارع المتصرّف، وقد شَذَّ وصلها بغير المتصرف في قوله: [الطويل] 202 - ... ... ... ... ... ... ..... بِمَا لَسْتُمَا أَهْلَ الخِيَانَةِ، والغَدْرِ وهل توصل بالجمل الاسمية؟ خلاف، واستدل على جوازه بقوله: [الكامل] 203 - وَاصِلْ خَلِيلَكَ ما التَّواصُلُ مُمْكِنٌ ... فَلأَنْتَ أَوْ هُوَ عَنْ قَلِيلٍ ذَاهِبُ وقال الآخر: [البسيط] 204 - أَحْلاَمُكُمْ لِسِقَامِ الجَهْلِ شَافِيَةٌ ... كَمَا دِمَاؤُكُمُ تَشْفِي مِنَ الكَلَبِ وقول الآخر: [الوافر] 205 - فإِنَّ الحُمْرَ مِنْ شَرِّ المَطَايَا ... كَمَا الحَبِطَاتُ شَرُّ بَنِي تَمِيمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 إلاّ أن ذلك يكثر فيها إذا أفهمت الزمان؛ كقوله: [الكامل] 206 - وَاصِلْ خَلِيلَكَ ... ... ... ....... ... ... ... ... ... ... البيت. وأجاز الزَّمخشري وأبو البقاء أن تكون «ما» كافّة ل «الكاف» عن العمل. مثلها في قولك: ربما قدم زيد، ولا ضرورة تدعو إلى هذا؛ لأن جعلها مصدريةً مبقٍ ل «الكاف» على ما عهد لها من العمل، بخلاف جعلها كافة. والألف واللام في «النَّاس» تحتمل أن تكون للجنس، وفيها وجهان. أحدهما: المراد «الأوس» و «الخزرج» ؛ لأن أكثرهم كانوا مسلمين، وهؤلاء المنافقون كانوا منهم، وكانوا قليلين، ولفظ العموم قد يُطْلق على الأكثر. والثاني: المُرَاد جميع المؤمنين؛ لأنهم هم النَّاس؛ لكونهم أعطوا الإنسانية حقَّهَا؛ لأن فضل الإنسان على سَائِرِ الحيوان بالعَقْلِ المرشد. وتحتمل أن تكون «الألف» و «اللام» للعهد، فيكون المراد «كما آمن الرسول ومن معهن وهم ناسٌ معهودون، أو عبد الله بن سلام وغيره من مؤمني أهل الكتاب. فصل في أوجه ورود لفظ الناس ورد لفظ " النَّاس " على سبعة أوجه: الأول: المُراد به عبد الله بن سلام، وأصحابه من مؤمني أهل الكتاب. الثاني: المُرَاد به النَّبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54] . أيك يحسدون النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على النِّساء. الثَّالث: الناس: المؤمنون خاصّة قال تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] ، ومثله: {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] . الرابع والخامس: كُفَّار قريش، وزيد بن مسعود، قال تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] يعني نَعِيم المكّي: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173] . السادس: آدم - عليه الصلاة والسَّلام - قال تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} [البقرة: 199] يعني: آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. السابع: الرَّجَال؛ قال تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] يعني: الرجال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 فصل في إعراب الآية الهمزة في» أنؤمن «للإنكار، والاستهزاء، ومَحَلّ» أنؤمن «ب» قالوا «وقوله: {كَمَآ آمَنَ السفهآء} القول في» الكاف «و» ما «كالقول فيهما فيما تقدّم، و» الألف «و» اللام «في» السفهاء «تحتمل أن تكون للجنس أو للعهد، وأبعد من جعلها للغَلَبَة كالعيّوق؛ لأنه لم يغلب هذا الوصف عليهم، بحيث إذا قيل: السفهاء فيهم منهم ناس مخصوصون، كما يفهم من العيوق كوكب مخصوص. والسَّفه: الخِفَّة، يقال: ثوب سفيه أي: خفيف النَّسْج، ويقال: سفهت الرِّيح الشيء: إذا حَرَّكته؛ قال ذو الرمّة: [الطويل] 207 - جَرَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِيَاحٌ تَسَفَّهِتْ ... أَعَالِيَهَا مَرَّ الرِّيَاحِ النَّوَاسِمِ وقال أبو تمام: [الوافر] 208 - سَفِيهُ الرُّمْحِ جَاهِلُهُ إذَا مَا ... بَدَا فَضْلُ السَّفيهِ عَلَى الحَلِيمِ أراد سريع الطَّعن بالرُّمْحِ خفيفه، وإنما قيل لبذيء اللسان: سفيه؛ لأنه خفيف الهداية. وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» شَارِبُ الخَمْرِ سَفِيهٌ «لقلة عقله. وقيل: السفيه: الكَذَّاب الذي يعمل بخلاف ما يعلم، وإنما سمّى المنافقون المسلمين بالسُّفهاء، لأن المُنَافقين كانوا من أهل الرياسة، وأكثر المسلمين كانوا فقراء، وكان عند المنافقين أن دين محمد باطلٌ، والباطل لا يقبله إلا السَّفيه، فلهذا نسبوهم إلى السَّفاهة، ثم إنّ الله - تعالى - قلب عليهم هذا القول فقال:» أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ «لوجوه: وثانيها: أنَّ من باع آخرته بِدُنْيَاهُ فهو السَّفيه. وثالثها: أنَّ من عادى الله، وذلك هو السَّفيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 والكلام على قوله: {ألاا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} كالكلام على قوله: {ألاا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] . وقرأ أهل» الشام «و» الكوفة «» السّفهاء أَلاَ «بتحقيق الهمزتين، وكذلك كل همزتين وقعتا في كلمتين اتفقتا أو اختلفتا، والآخرون يحققون الأولى، ويليّنون الثانية والمختلفتين طلباً للخفّة فإن كانتا متّفقتين مثل: {هؤلاء إِن} [البقرة: 31] ، و {أَوْلِيَآءُ أولئك} [الأحقاف: 32] ، و {جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ} [هود: 101] قرأها أبو عمرو والبزي عن ابن كثير بهمزة واحدةٍ. وقرأ أبو جعفر، وورش، ويعقوب: بِتَحْقِيق الأولى وتَلْيين الثانية. وقرأ قَالُون: بتليين الأولى، وتحقيق الثانية، لأن مت يستأنف أولى بالهمزة ممّا يسكت عليه. فصل في نظم الآية إنما قال هناك: «ولكن لا يشعرون» ، وقال ها هنا: «ولكن لا يعلمون» لوجهين: أحدهما: أن المثبت لهم - هناك - الإفساد، وهو مما يدرك بأدنى تأمّل، لأنه من المحسوسات التي لا تحتاج إلى فِكْرٍ كثير، فنفى عنهم ما يدرك بالمشاعر، وهي الحواسّ مبالغة في تجهيلهم، وهو أنَّ الشعور الذي قد ثبت للبهائم مَنْفِيّ عنهم، والمثبت - هنا - هو السَّفه والمصدر به هو الأمر بالإيمان، وذلك مما يحتاج إلى إمْعَان فكرٍ ونَظَرٍ، فإنه مُفْضٍ إلى الإيمان والتصديق، ولم يقع منهم المأمور به وهو الإيمان، فناسب ذلك نفي العلم عنهم. الوجه الثاني: أن السَّفه خفّة العقل والجَهْل بالأمور؛ قال: [السريع] 209 - نَخَافُ أنْ تَسْفَهَ أحْلاَمُنَا ... فَنَجْهَلَ الجَهْلَ مَعَ الجَاهِلِ والعلم نقيض الجَهْل فقابله بقوله: {لاَّ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] ؛ لأن عدم العلم بالشيء جهل به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فصل في تعلق الآية بما قبلها قال ابن الخطيب: لما نهاهم في الآية الأولى عن الفساد في الأرض، ثم أمرهم في هذه الآية بالإيمان دلّ على أن كمال الإنسان لا يحصل إلا بمجموع الأمرين، وهو تركه ما لا يَنْبَغِي، وفعل ما ينبغي. وقوله: {آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس} أي: إيماناً مقروناً بالإخلاص بعيداً عن النفاق. ولقائل أن يستدلّ بهذه الآية على أنّ مجرد الإقرار إيمان، فإنه لو لم يَكُنْ إيماناً لما تحقّق مُسَمّى الإيمان إلاَّ إذا حصل بالإخلاص، فكان قوله: «آمنوا» كافياً في تحصل المطلوب، وكان ذكر قوله: {كَمَآ آمَنَ الناس} لغواً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 «إذا» منصوب ب «قالوا» الذي هو جواب لها، وقد تقدّم الخلاف في ذلك، و «لقوا» فعل وفاعل، الجملة في محلّ خفض بإضافة الظّرف إليها. وأصل «لقوا» : لقيوا بوزن «شربوا» فاستثقلت الضمة على «الياء» التي هي «لام» الكلمة، فحذفت الضمة فالتقى ساكنان: لام الكلمة وواو الجمع، ولا يمكن تحريك أحدهما، فحذف الأول وهو «الياء» ، وقلبت الكسرة التي على القاف ضمّة؛ لتجانِسَ واو الضمير، فوزن «لَقُوا» : «فَعُوا» ، وهذه قاعدة مطّردة نحو: «خشوا» ، و «حيوا» . وقد سمع في مصدر «لقي» أربعة عشر وزناً: «لُقْيَاً وَلِقْيَةً» بكسر الفاء وسكون العَيْن، و «لقاء ولقاءة» بفتحها أيضاً مع المَدّ في الثلاثة، و «لَقَى» بفتح الفاء وضمّها، و «لُقْيَا» بضم الفاء، وسكون العين و «لِقِيَّا» بكسرها والتشديد و «لُقِيَّا» بضم الفاء، وكسر العَيْنِ مع التشديد، و «لُقْيَاناً وَلِقْيَاناً» بضم الفاء وكسرها، و «لِقْيَانَةً» بكسر الفاء خاصّة، و «تِلْقَاء» . وقراءة أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ -: «وَإِذّا لاَقُوا» . و «الَّذِينَ آمَنُوا» مفعول به، و «قالوا» جواب «إذا» ، و «آمَنَّا» في محل نصب بالقول. قال ابن الخطيب: «والمراد بقولهم:» آمنا «: أخلصنا بالقلب؛ لأن الإقرار باللسان كان معلوماً منهم مما كانوا يحتاجون إلى بَيَانِهِ، إنما المشكوك فيه هو الإخلاص بالقلب، وأيضاً فيجب أن يحمل على نقيض ما كانوا يظهرونه لشياطينهم، وإنما كانوا يظهرون لهم التَّكذيب بالقلب» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 وقوله: {وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا} تقدّم نظيره، والأكثر نظيره، والأكثر في «خَلاَ» أن يتعدّى بالباء، وقد يتعدّى ب «إلى» ، وإنما تعدّى في هذه الآية ب «إلى» لمعنى بديع، وهو أنه إذا تعدّى بالباء احتمل معنيين: أحدهما: الانفراد. والثاني: السُّخرية والاستهزاء، تقول: خلوت به «أي: سخرت منه، وهو من قولك: خَلاَ فلان بعرض فلان أي: يَعْبَثُ به. وإذا تعدّى ب» إلى «كان نصّاً في الانفراد فقط، أو تقول: ضمن» خلا «معنى» صرف «فتعدّى» إلى «، والمعنى: صرفوا خَلاَهم إلى شَيَاطينهم، أو تضمّن معنى» ذهبوا وانصرفوا «ومنه:» القرون الخالية «. وقيل:» إلى «- هنا - بمعنى» مع «، كقوله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } [النساء: 2] . وقيل: هي هنا بمعنى «الباء» ، وهذان القولان إنما يجوزان عند الكوفيين، وأما البصريون فلا يُجِيزون التجوّز في الحروف؛ لضعفها. وقيل المعنى: وإذا خلوا رجعوا إلى شَياطينهم. ف «إلى» على بابها. والأصل في خَلَوا: خَلَوُوا، فقلبت «الواو» الأولى التي هي «لام» الكلمة «ألفاً» لتحركها، وانفتاح ما قبلها، فبقيت ساكنة وبعدها «واو» الضمير ساكنة، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما، وهو «الألف» ، وبقيت الفتحة دالةً عليها. و «شياطينهم» : جمع شيطان، جمع تكسير، وقد تقدّم القول في اشتقاقه، فوزن شياطين: إما «فَعَالِيل» أو «فَعَالِين» على حسب القولين المتقدّمين في الاستعاذة، والفصيح في شياطين وبابه أن يعرب بالحركات؛ لأنه جمع تَكْسير، وهي لغةٌ رديئة، وهي إجراؤه إجراء الجمع المذكر السالم، سمع منهم: «لفلان البستان حوله البُسْتَانُون» . وقرئ شاذَّا: «وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطون» [الشعراء: 210] . وشياطينهم: رؤساؤهم وكَهَنَتُهُمْ. قال ابن عباس: وهم خمسة نفر من اليهود: كَعْبُ بن الشرف ب «المدينة» ، وأبو بردة ب «الشام» في بني أسلم، وعبد الدار في «جهينة» ، وعوف بن عامر في بني أسد، وعبد الله بن السوداء ب «الشام» ولا يكون كاهن إلا ومعه شيطان تابع له. وقال مجاهد: شياطينهم: أصحابهم من المنافقين والمشركين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 وقوله: {إِنَّا مَعَكْمْ} «إنّ» واسمها و «معكم» خبرها، والأصل في «إنا» : «إننا» لقوله تعالى: {إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً} [آل عمران: 194] ، وإنما حذفت نُونَي «إنّ» لما اتصلت بنون «ن» ، تخفيفاً. وقال أبو البقاء: «حذفت النون الوُسْطَى على القول الصحيح، كما حذفت في» إن «إذا خففت» . و «مَعَ» ظرف والضمير بعده في محلّ خفض بإضافته إليه وهو الخبر - كما تقدم - فيتعلّق بمحذوف وهو ظرف مكان، وفهم الظرفية منه قلق. قالوا: لأنه يدلّ على الصحبة، ومن لازم الصحبة الظَّرفية، وأما كونه ظرف مكان، لأنه يخبر به عن الجُثَثِ نحو: «زيد معك» ، ولو كان ظرف زمان لم يَجُزْ فيه ذلك. واعلم أن «مع» لا يجوز تسكين عينها إلا في شعر كقوله: [الوافر] 210 - فَرِيشِي مِنْكُمُ وَهَوَايَ مَعَكُمْ ... وَإِنْ كَانَتْ زَيَارَتُكُمْ لِمَامَا وهي حينئذ على ظرفيتها خلافاً لمن زعم أنها حينئذ حرف جَرّ، وإن كان النَّحاس ادّعى الإجماع في ذلك، وهي من الأسماء اللازمة للإضافة، وقد تقطع لفظاً، فتنتصب حالاً غالباً، تقول: جاء الويدان معاً أي: مصطحبين، وقد تقع خبراً، قال الشاعر: [الطويل] 211 - حَنَنْتَ إلى رَيَّا وَنَفْسُكَ بَاعَدَتْ ... مَزَارَكَ مَنْ وَشَعْبَاكُمَا مَعاً ف «شَعْبَاكُمَا» مبتدأ، و «مَعاً» خبره، على أنه يحتمل أن يكون الخبر محذوفاً، و «مَعاً» حال. واختلفوا في «مع» حال قطعها عن الإضافة؛ هل هي من باب المقصور نحو: «عصى» و «رحا» ، أو المنقوص نحو: «يد» و «دم» ؟ قولان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 الأوّل: قول يونس، والأخفش. والثاني: قول الخليل وسيبويه، وتظهر فائدة ذلك إذا سمّي به فعلى الأول تقول: «جاءني معاً» و «مررت بمَعٍ» ك «يَدٍ» ، ولا دليل على القول الأوّل في قوله: «وشعباكما معاً» ؛ لأن معاً منصوب على الظَّرف النائب عن الخبر، نحو: «زيد عندك» وفيها كلام كثير. فصل في نظم الآية لم كانت مُخَاطبتهم للمؤمنين بالجملة الفعلية ومخاطبة شياطينهم بالجملة الاسمية محققة ب «إن» ؟ قال ابن الخطيب: الجواب: ليس ما خاطبوا به المؤمنين جديراً بأقوى الكلامين؛ لأن أنفسهم لا تساعدهم على المبالغة، لأن القول الصادر عن النّفاق والكراهة قلّما يحصل معه المبالغة، وإما لعلمهم بأن ادِّعاء الكمال في الإيمان لا يروج على المسلمين، وأما كلامهم مع إخوانهم، فكانوا يقولونه عن الاعتقاد، ويعلمون أنّ المستمعين يقبلون ذلك منهم، فلا جَرَمَ كان التأكيد لائقاً به. واختلفوا في قائل هذا القول أَهَمُّ كُلُّ المُنَافقين، أو بعضهم؟ فمن حمل الشَّيَاطين على كبار المُنَافقين، فحمل هذا القول على أنه من صغارهم، فكانوا يقولون للمؤمنين: «آمنا» وإذا عادوا إلى أكابرهم قالوا: «إنا معكم» ، ومن قال: المراد بالشّياطين الكفار لم يمنع إضافة هذا القول إلى كُلّ المُنَافقين. وقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} كقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] ، وهذه الجملة الظاهرة أنها لا محلّ لها من الإعراب لاستئنافها؛ إذ هي جواب لرؤسائهم، كأنهم لما قالوا لهم: «إنَّا مَعَكُمْ» توجّه عليهم سؤال منهم، وهو: فما بالكم مع المُؤْمنين تُظَاهرونهم على دينهم، فأجابوهم بهذه الجملة. وقيل: محلّها النصب، لأنها بدلٌ من قوله: «إنَّا مَعَكُمْ» . وقياس تخفيف همزة «مستهزؤون» ونحوه أن تجعل بَيْنَ بَيْنَ، أي بين الهمزة والحرف الذي منه حركتها وهو «الواو» ، وهو رأي سيبويه، ومذهب الأخفش قلبها «ياء» محضة. وقد وقف حمزة على {مُسْتَهْزِئُونَ} و {فَمَالِئُونَ} [الصافات: 66] و {لِيُطْفِئُواْ} [الصف: 8] و {لِّيُوَاطِئُواْ} [التوبة: 37] و {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ} [يونس: 53] و {الخاطئين} [يوسف: 29] و {الخاطئون} [الحاقة: 37] ، و {مُّتَّكِئِينَ} [الكهف: 31] و {مُتَّكِئُونَ} [ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 يس: 56] ، و {المنشئون} [الواقعة: 72] بحذف صورة الهَمْزَةِ اتباعاً لرسم المُصْحَفِ. وقولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} توكيد لقولهم: «إنَّا مَعَكُمْ» . وقوله: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} الله: رفع بالابتداء، و «يستهزىء» : جملة فعلية في محلّ رفع خبر، و «بِهِمْ» متعلّق به، ولا محل لهذه الجملة لاستئنافها. و «يَمُدُّهُمْ» يتركهم ويُمْهِلُهُمْ، وهو في محل رفع أيضاً لعطفه على الخَبَرِ، وهو «يستهزىء» . و «يَعْمَهُونَ» في مَحَلِّ الحال من المفعول في «يَمُدُّهُمْ» ، أو من الضمير في «طغيانهم» ، وجاءت الحال من المُضّاف إليه؛ لأنَّ المُضّاف مصدر. و «في طُغْيَانِهِم» يحتمل أن يتعلّق ب «يمدهم» ، أو ب «يعمهون» ، وقدّم عليه، إلاَّ إذا جعل «يعمهون» حالاً من الضَّمير في «طغيانهم» ، فلا يتعلّق به حينئذ، لفساد المعنى. وقد منع أبو البَقَاءِ أن يكون «في طغيانهم» ، و «يعمهون» حَالَيْن من الضَّمير في «يمدهم» معللاً ذلك بأن العاملَ الواحدَ لا يعمل في حالين، وهذا على رأي من منع ذلك. وأما من يجيز تعدُّد الحال مع عدم تعدُّد صاحبها فيجيز ذلك، إلاّ أنه في هذه الآية ينبغي أن يمنع من ذلك إلا ما ذكره أبو البَقَاءِ، بل لأن المعنى يأبى جَعْلَ هذا الجار والمجرور حالاً؛ إذ المعنى منصب على أنه متعلّق بأحد الفعلين، أعني: «يمدّهم» ، أو «يعمهون» لا بمحذوف على أنه حال. والمشهور: فتح «الياء» من «يمدهم» . وقرىء شاذاً: «يُمِدُّهُمْ» بضم الياء. فقيل: الثلاثي والرُّباعي بمعنى واحد تقول: «مدّه» و «أمدّه» بكذا. وقيل: «مدّه» إذا زاده عن جِنْسِهِ، و «أمدّه» إذا أراد من غير جِنْسِهِ. وقيل: مدّه في الشَّرِّ لقوله تعالى: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} [مريم: 79] ، وأمدّه في الخير لقوله تعالى: {وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ} [نوح: 12] {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ} [الطور: 22] ، {أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملاائكة} [آل عمران: 124] إلا أنه يعكر على هذين الفرقين أنه قرىء: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي} [الأعراف: 202] باللغتين، ويمكن أن يُجَاب عنه بما ذكره الفارسي في توجيه ضم «الياء» أنه بمنزلة قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} [آل عمران: 21] ، {فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} [الليل: 10] يعني أبو علي - رَحِمَهُ اللهُ - بذلك أنه على سبيل التهكُّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وأصل المدد الزيادة. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم زعمت أنه من المَدَد دون المَدّ في العُمُر والإمْلاء والإمْهَال؟ قلت: كفاك دليلاً على لك قراءة ابن كثير، وابن محيصن: «ويمدهم» وقراءة نافع: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ} [الأعراف: 202] على أنَّ الذي بمعنى أَمْهَلَ إنما هو مَدّ له ب «اللام» كأملى له. والاستهزاء لغةً: السخرية واللّعب؛ يُقَال: هَزِئَ به، واستهزأ، قال: [الرجز] 212 - قَدْ هَزِئَتْ مِنِّي أُمُّ طَيْسَلَهْ ... قالَت: أَرَاهُ مُعْدِماً لاَ مَالَ لَهْ وقيل: أصله الانتقام؛ وأنشد: [الطويل] 213 - قَدِ اسْتَهْزَؤُوا مِنْهُمْ بِأَلْفَيْ مُدَجَّجِ ... سَرَاتُهُمُ وَسْطَ الصَّحَاصِحِ جُثَّمُ فعلى هذا القول الثَّاني نسبة الاستهزاء إليه - تعالى - على ظاهرها. وأما على القول الأول فلا بد من تأويل وهو من وجوه: الأول: قيل: المعنى: يجازيهم على استهزائهم فسمى العقوبة باسم الذَّنب ليزدوج الكَلاَم، ومنه: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ} [الشورى: 40] ، {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] . وقال: {إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] ، {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل: عمران: 54] . وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «اللهُمَّ إنّ فلاناً هَجَاني، وهو بعلم أني لَسْتُ بِشَاعِرٍ، اللهم فاهجُهُ، اللهم فالْعَنْهُ عَدَدَ ما هَجَانِي» ؛ وقال عليه الصلاة والسَّلام: «تَكَلَّفُوا من الأَعْمَالِ ما تُطِيقونَ فإنَّ الله لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا» ؛ وقال عمرو بن كلثوم: [الوافر] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 214 - أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحَدٌ عَلَيْنا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا وثانيها: أنَّ ضرر استهزائهم بالمُؤْمنين راجعٌ إليهم، وغير ضَارّ بالمؤمنين، فيصير كأن الله استهزأ بهم. وثالثها: أنّ من آثار الاستهزاء حُصُول الهَوَان والحَقارة، فذكر الاستهزاء، والمراد حُصُول الهَوَان لهم فعبّر بالسَّبب عن المُسَبِّب. ورابعها: أنَّ استهزاء الله بهم أن يظهر لهم من أَحْكَامِهِ في الدُّنْيا ما لهم عند اللهِ خلافها في الآخرة، كما أنهم أَظْهَرُوا [للنَّبي و] المؤمنين أمراً مع أنَّ الحاصل منهم في السر خلافه، وهذا ضعيف؛ لأنه - تعالى - لما أظهر لهم أحكام الدُّنيا، فقد أظهر الأدلّة الواضحة بما يعاملون به في الدَّار الآخرة، فليس في ذلك مخالفة لما أظهره في الدنيا. وخامسها: أن الله - تعالى - يُعَاملهم مُعَاملة المُسْتَهْزِئِ في الدُّنيا والآخرة، أما في الدنيا، فلأنه أطلع الرسول على أَسْرَارِهِمْ لِمُبَالغتهم في لإخْفَائِها، وأمّا في الآخرة فقال ابنُ عَبَّاس: هو أن يفتح لهم باباً من الجنة، فإذا رأوه المُنافقون خرجوا من الجَحِيمِ متوجّهين إلى الجنة، فإذا وصلوا إلى باب الجنة، فهناك يغلق دونهم الباب، فذلك قوله تعالى: {فاليوم الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ} [المطففين: 34] وقيل: هو أن يُضْرَبَ للمؤمنين نورٌ يَمْشون به على صراط، فإذا وصل المنافقون إليه حِيَلَ بينهم وبينه، كما قالَ تَعَالَى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} [الحديد: 13] الآية. فإن قيل: هلا قيل: إن الله يستهزئ بهم ليكون مطابقاً لقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] ؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 والجواب: أنَّ «يستهزئ: يفيد حدوث الاستهزاء وتجدّده وقتاً بعد وقت، وقتاً بعد وقت، وهكذا كانت نكايات الله فيهم {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} [التوبة: 126] . و» الطُّغيان «: الضلال مصدر طَغَى يَطْغَى طِغْياناً وطُغياناً بكسر الطَّاء وضمها. وبكسر الطَّاء قرأ زيد بن علي، ولام» طغى «قيل: ياء. واو، يقال: طَغَيْتُ وطَغَوْتُ، وأصل المادّة مُجاوزة الحَدّ، ومنه: طغى الماء. و» العَمَةُ «: التردُّد والتحيُّر، وهو قريب من العَمَى، إلا أن بينهما عموماً وخصوصاً، لأن العَمَى يطلق على ذهاب ضوء العين، وعلى الخطأ في الرأي، والعَمَةُ لا يطلق إلا على الخطأ في الرأي، يقال: عَمِهَ عَمَهاً وَعَمَهَاناً فهو عَمِهٌ فهو عَمِهٌ وعَامِهٌ. فصل في الرد على المعتزلة قالت المعتزلة: هذه الآية لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجوه: أحدها: قوله تعالى: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي} [الأعراف: 203] أضاف ذلك الغيّ إلى إخوانهم، فكيف يكون مضافاً إلى الله. وثانيهما: أن الله - تعالى - ذمّهم على هذا الطغيان، فلو كان فعلاً لله - تعالى - فكيف يذمهم عليه؟ وثالثهما: لو كان فعلاً لله - تعالى - لبطلت النبوة، وبطل القرآن، فكان الاشتغال بتفسيره عَبَثاً. ورابعهم: أنه - تعالى - أضاف الطّغيان إليهم بقوله: {فِي طُغْيَانِهِمْ} ، ولو كان من الله لما أضافه إليهم فظهر أنه إنما أضافه إليهم ليعلم أنه - تعالى - غير خالق لذلك، ومصداقه أنه حين أسند المَدّ إلى الشَّياطين أطلق الغيّ، ولم يقيده بالإضافة في قوله: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي} إذا ثبت هذا، فلا بُدَّ من التأويل، وهو من وجوه: أحدها: قال الكَعْبِيّ وأبو مسلم الأصفهاني: إن الله - تعالى - لَمَّا منحهم أَلْطافَهُ التي منحها للمؤمنين، وخَذَلَهُمْ بسبب كفرهم وإصرارهم عليه بقيت قلوبهم مُظْلِمَةً بتزايد الرَّيْن فيها، وكتزائد النور في قلوب المؤمنين، فسمى ذلك النور مدداً، وأسنده إلى الله تعالى، لأنه مسبّب عن فعله بهم. وثانيها: أن يحمل على منع القَسْرِ والإِلْجاءِ. وثالثها: أن يسند فعل الشيطان إلى الله - تعالى - لأنه بتمكينه، وإقْدَاره، والتَّخلية بينه وبين إغواء عباده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 ورابعها: قال الجُبَّائي: ويمدهم أي يمد عمرهم، ثم إنهم مع ذلك في طغيانهم يعمهون، وهذا ضعيف من وجهين: الأول: ما بَيَّنَا أنه لا يجوز في اللُّغة تفسير «ويمدهم» بالمَدّ في العمر. الثاني: هَبْ أنه يصحّ ذلك، ولكنه يفيد أنه - تعالى - يمد عمرهم بغرض أن يكونوا في طُغيانهم يعمهون، وذلك يفيد الإشكال. أجاب القَاضِي عن ذلك بأنه ليس المُراد لأنه - تعالى - يبقيهم، ويلطف بهم الطَّاعة، فيأبون إلاَّ أن يعمهوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 «أولئك» : رفع بالابتداء و «الذين» وصلته خبره. وقوله تعالى: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} هذه الجملة عطف على الجملة الواقعة صلة، وهي: «اشتروا» . وزعم بعضهم أنها خبر المُبْتَدَأ، وأنَّ الفاء دخلت في الخَبَرِ لما تضّمنه الموصول من معنى الشَّرْط، فيصير قوله تعالى: {الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} [البقرة: 274] ، ثم قال: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ} [البقرة: 274] وهذا وهم؛ لأن «الذين» ليس مبتدأ حتى يدّعي دخول الفاء في خبره، بل هو خَبَرٌ عن «أولئك» كما تقدّم. فإن قيل: يكون الموصول مبتدأ ثانياً، فتكون الفاء دخلت في خبره. قلنا: يلزم من ذلك عدم الربط بين المبتدأ والجملة الواقعة خبرً عنه، وأيضاً فإنَّ الصّلة ماضية معنى. فإن قيل: يكون «الَّذين» بدلاً من «أولئك» فالجَوابَ يصير الموصول مخصوصاً لإبداله من مخصوص، والصّلة أيضاً ماضية. فإن قيل: «االذين» صفة ل «أولئك» ، ويصير نظير قولك: «الرجل الذي يأتيني فله درهم» . قلنا: يرد بما رد به السؤال الثَّاني، وبأنه لا يجوز أن يكون وصفاً له؛ لأنه أعرف منه، ففسد هذا القَوْلُ. والمشهور ضمّ واو «اشتروا» لالتقاء الساكنين، وإنما ضممت تشبيهاً بتاء الفاعل. وقيل: للفرق بين واو الجِمْعِ والواو الأصلية نحو: {لَوِ استطعنا} [التوبة: 42] . وقيل: لأن الضمة - هنا - أخفّ من الكسرة؛ لأنّها من جنس الواو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وقيل: حركت بحركة الياء المحذوفة، فإن الأصل: «اشتريوا» كما سيأتي. وقيل: هي للجمع فهي مثل: «نحن» . وقرئ بكسرها على أصل التقاء الساكنين، وبفتحها؛ لأنها أخف. وأجاز الكسائي همزها تشبيهاً لها ب «أَدْؤُر» و «أَثْؤب» وهو ضعيف؛ لأن ضمها غير لازم. وقال أبو البَقَاءِ: «ومنهم من يَخْتَلِسُهَا، فيحذفها لالتقاء السَّاكنين؛ وهو ضعيف جداً، لأن فيحذفها لالتقاء السَّاكنين؛ وهو ضعيف جداً، لأن قبلها فتحة، والفتحة لا تدلّ عليها» . وأصل اشتروا: اشتريوا: فتحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقبلت أفلاً، قم حذفت لالتقاء السَّاكنين، وبقيت الفتحة دالّة عليها. وقيل: بل حذفت الضَّمَّة من الياء فسكنت، فالتقى سَاكِنَانِ، فحذفت الياء لالتقائها ساكنةً مع «الواو» . فإن قيل: واو الجمع قد حركت، فينبغي أن يعود السَّاكن المحذوف؟ فالجواب: أنَّ هذه الحركة عارضةٌ فهي في حكم السَّاكن، ولم يجئ ذلك إلاَّ في ضرورة الشعر؛ وأنشد الكِسَائيُّ: 215 - يَا صَيَاحِ لَمْ تَنَامِ العَشِيَّا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . فأعاد الألف لما حركت الميم حركةٌ عارضةٌ. و «الضَّلالة» مفعولة، وهي: الجور عن القَصْدِ، وفقد الاهتداء، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين. و «بالهدى» متعلّق ب «اشتروا» والباء هنا للعوض، وهي تدخل على المتروك أبداً. فأما قوله تعالى: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة} [النساء: 74] ، فإنَّ ظاهره أن الآخرة هي المأخوذة لا المتروكة. فالجواب ما قاله الزَّمَخْشَرِيَ: «أن المراد ب» المشترين «المبطئون وعظوا بأن يغيروا ما بهم من النِّفَاق، ويخلصوا الإيمان بالله - تعالى - ورسوله، ويجاهدوا في الله حَقّ الجهاد، فحينئذ دخلت» الباء «على المتروك. والشِّراء - هاهنا - مَجَاز عن الاستبدال بمعنى أنهم لما تركوا الهدى، وآثروا الضلالة، جُعِلُوا بمنزلة لها بالهُدَى، ثم رشح هذا المجاز بقوله تعالى: {فَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} فأسند الرِّبْحِ إلى التِّجارة، والمعنى: فما ربحوا في تِجارتِهم؛ ونظير خذا التَّرْشيح قول الآخر: [الطويل] . 216 - بَكَى الخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وَأَنْكَرَ جِلْدَهُ ... وَعَجَّتْ عَجِيجاً مِنْ جُذَامَ المَطَارِفُ لما أسند البكاء إلى الخَزّ من أجل هذا الرجل - وهو رَوْح - وإنكاره لجلده مجازاً رَشّحه بقوله:» وَعَجّت المَطَارف من جُذام «أي: استغاثت الثياب من هذه القبيلة. وقول الآخر: [الطويل] . 217 - وَلَمَّا رَأَيْتُ النَّسْرَ عَزَ ابْنُ دَايةٍ ... وَعَشَّشَ في وَكْرَيْهِ جَاشَ لَهُ صَدْرِي لما جعل» النَّسْرَ «عبارة عن الشَّيب، و» ابن داية «وهو الغُرَاب عبارة عن الشباب، مجازاً رَشّحه بذكر التعشُّش في الوَكْرِ، وقول الآخر: [الوافر] . 218 - فَمَا أُمُّ الرُّدَيْنِ وَإنْ أَدَلَّتْ ... بِعَالِمَةٍ بأَخلاقِ الكِرامِ إِذا الشَّيْطانُ قَصَّعَ في قَفَاهَا ... تَنَفَّقْنَاهُ بِالحبْلِ التُّؤَامِ لما قال:» قَصّع في ثقاها «أي: دخل من القاصعاء، وهي: جُحر من جِحَرَة اليَرْبُوعِ هنا لما ذكر سبحانه الشِّر، أتبعه بما يُشاكله، وهو الربح تمثيلاً لخسارتهم. والربح: الزيادة على رأس المال. وقوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} هذه الجملة معطوفةٌ على قوله: {فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ} . والمهتدي: اسم فاعل من اهتدى، و» افتعل «عنا للمُطَاوعة، ولا يكون» افتعل «للمطاوعة إلا من فعل نتعدٍّ. وزعم بعضهم أنه يجيء من اللاَّزم، واستدل على ذلك بقول الشاعر: [الزجر] . 219 - حَتَّى إذَا اشْتَالَ سُهَيْلٌ في السَّحَرْ ... كَشُعْلَةِ القَابِسِ تَرْمِي بالشَّرَرْ قال: ف» اشْتال «افتعل لمُطاوعة» شال «، وهو لازم، وهذا وهم؛ لأن» افتعل «هنا ليس للمطاوعة، بل بمعنى» فَعَلَ «المجرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 ومعنى الآية أنهم ما كانوا مهتدين من الضلالة، وقيل: مُصِيبين في تِجارتِهم؛ لأنّ المقصود من التِّجَارة سلامةُ رأس المال، والربح، وهؤلاء أضاعوا الأمرين؛ لأن رأس مالهم هو العَقْل الخالي عن المانع، فلما اعتقدوا هذه الضلالات صارت تلك العقائد الفاسدة مانعةً من الاشتغال بطلب العقائد الحقة. فهؤلاء مع أنهم لم يربحوا فقد أفسدوا رأس المال، وهو العقل الهادي إلى العقائد الحقة. وقال قتادة:» انتقلوا من الهُدَى إلى الضَّلالة، ومن الطاعة إلى المعصية، ومن الجَمَاعة إلى الفُرْقة، ومن الأمن غلى الخوف، ومن السُّنة إلى البِدْعَةِ «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 اعلم أن المقصود من ضرب المِثَالِ أنه يؤثر في القَلْبِ ما لا يؤثره وصف الشيء في نفسه، وذلك لأن الغرض من المَثَلِ تشبيه الخَفِيّ بالجَلِيّ والغائب بالشاهد، فيتأكّد الوقوف على ماهيته، ويصير الحس مطابقاً للعقل، وذلك هو النهاية في الإيضاح في الترغيب في الإيمان لذا مثل بالظّلمة، فإذا أخبرت عن ضعف أمر ومثّلته بِنَسْجِ العنكبوت كان ذلك أبلغ في وقعه في القلب بالخبر مجرداً. قوله: «مثلهم» مبتدأ و «كمثل» جار ومجرور خبره، فيتعلّق بمحذوف على قاعدة الباب، ولا مُبَالاة بخلاف من يقول: إنّ «كاف» التشبيه لا تتعلّق بشيء، والتقدير: مثلهم مستقر كَمَثَلِ. وأجاز أبو البقاء وابن عطية أن تكون «الكاف» اسماً هي الخبر، ونظيره قول الشاعر: [البسيط] . 220 - أَتَنْتَهُونَ؟ وَلَنْ يَنْهَى ذَوِي شَطَطٍ ... كَالطَّعْنِ يَذْهَبُ فيهِ الزَّيْتُ والفُتُلُ وهذا مذهب الأخفش: يجيز أن تكون «الكاف» اسماً مطلقاً. وأما مذهل سيبويه فلا يُجِيزُ ذلك إلا في شعر، وأمّا تنظيره بالبيت فليس كما قال؛ لأنّ في البيت نضطر إلى جعلها اسماً لكونها فاعلة، بخلاف الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 والذي ينبغي أن يقال: إن «كاف» التشبيه لها ثلاثة أحوال: حال يتعيّن فيها أن تكون اسماً، وهي ما إذا كانت فاعلة، أو مجرورة بحرف، أو إضافة. مثال الفاعل: [البسيط] 221 - أَتَنْتَهونَ وَلَنْ يَنْهَى ... ... ... . ..... ... ... ... ... ... ... ... البيت. ومثال جَرِّها بحرف قول امرئ القَيْسِ: [الطويل] 222 - وَرُحْنَا بكَابْنِ المَاءِ يُجْنَبُ وَسْطَنَا ... تَصَوَّبُ فِيهِ العَيْنُ طَوْراً وَتَرْتَقِي وقوله: [الوافر] 223 - وَزَعْتُ بِكَالْهِرَاوَةِ أَعْوَجِيِّ ... إذَا وَنَتِ الرُّكَابُ جَرَى وَثابَا ومثال جَرِّها بالإضافة قوله: [السريع أو الرجز] 224 - فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ ... وحال يتعيّن أن تكون فيها حرفاً، وهي الواقعة صلة، نحو: جاء الذي كزيد؛ لأن جعلها اسما يستلزم حذف عائد مبتدأ من غير طول الصِّلة، وهذا ممتنع عند البصريين. وحال يجوز فيها الأمران، وهي ما عدا ذلك نحو: «زيد كعمرو» . وأبعد من جعلها زائدة في الآية الكريمة، أي: مثلهم مثل الذي، ونظّره بقوله: «ونظّره يقوله:» فَصُيِّرُوا مثل كعصف «كأنه جعل المثل والمثل بمعنى واحد، والوجه أن المثل - هنا - بمعنى القصّة والتقدير: صفتهم وقصتهم كقصّة المستوقد، فليست زائدةً على هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 التأويل، وهذا جواب عن سؤال أيضاً، وهو أن يقال: قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد} يقتضي تشبيه مثلهم مثل المستوقد، فما مثل المنافقين ومثل المُسْتَوْقِدِ حتّى شّبّه أحدهما بالآخر؟ فالجواب: أن يقال: استعير المثل للقصّة وللصفة إذا كان لها شأن وفيها غرابة، كأنه قيل: قصتّهم العجيبةُ كقصّة الذي استوقد ناراً، وكذا قوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [الرعد: 35] أي فيما قصصنا عليه من العَجَائب قصّة الجنّة العجيبة. {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} [النحل: 60] أي: الوصف الذي له شأن من العظمة والجلالة. {مَثَلُهُمْ فِي التوراة} [الفتح: 29] أي: وصفهم وشأنهم المتعجّب منه، ولكن المَثَل - بالفتح - ولذلك حوفظ في لفظه فلم يغير. و «الذي» : في محلّ خفض بالإضافة، وهو موصول للمفرد المذكّر، ولكن المراد به - هنا - جمع ولذلك روعي مّعٍنَاه في قوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} فأعاد الضمير عليه جمعاً، والأولى أن يقال: إنَّ «الذي» وقع وصفاً لشيء يفهم الجمع، ثم حذف ذلك الموصوف للدّلالة عليه. والتقدير: ومثلهم كمثل الفريق الذي استوقد، او الجمع الذي اسْتَوْقَدَ؛ ويكون قد روعي الوصف مرة، فعاد الضمير عليه مفرداً في قوله: {استوقد نَاراً} و «حوله» ، والموصوف أخرى فعاد الضمير عليه مجموعاً في قوله: «بنورهم» ، و «تركهم» . وقيل: إنَّ المنافقين ذاتهم لم يشبهوا بذات المُسْتوقد، وإنما شبهت قصّتهم بقصّة المستوقد، ومثله قوله: {مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار} [الجمعة: 5] ، وقوله: {يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت} [محمد: 20] . وقيل: المعنى: ومثل كل واحد منهم كقوله: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر: 67] أي: يخرج كلّ واحد منكم. ووهم أبو البقاء، فجعل هذه الآية من باب ما حذفت منه النُّون تخفيفاً، وأنّ الأصْل: «الذين» ثم خففت بالحذف، وكأنه مثل قوله تعالى: {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} [التوبة: 69] ، وقول الشاعر: [الطويل] . 225 - وَإِنَّ الَّذي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ القَمْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمُّ خَالِدِ والأصل: «كالذين خَاضُوا» «وإنَّ الذين حانت» . وهذا وَهْم؛ لأنه لو كان من باب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 ما حذفت النون منه لوجب مُطَابقة الضمير جمعاً كما في قوله تعالى: {كالذي خاضوا} [التوبة: 69] و «دِماؤُهُمْ» ، فلما قال تعالى: {استوقد} بلفظ الإفراد تبيّن أحد الأمرين المتقدّمين: إمّا بصلة من باب وقوع المفرد موقع الجمع؛ لأن المراد به الجنس، او أنه من باب ما وقع فيه من صفة لموصوف يفهم الجمع. وقال الزمخشري ما معناه: إنَّ هذه الآية مثل قوله تعالى: {كالذي خاضوا} [التوبة: 69] ، واعتل لتسويغ ذلك بأمرين. أحدهما: أن «الذي» لما كان وصلةً لوصف المعارف ناسب حذف بعضه لاستطالته، قال: «ولذلك نهكوه بالحذف، فحذفوا ياءه ثم كسرته، ثم اقتصروا منه على اللاَّم في أسماء الفاعلين والمفعولين» . والأمر الثاني: أنّ جمعه ليس بمنزلة جمع غيره بالواو والنون، إنما ذلك علامةٌ لزيادة الدّلالة، ألا ترى أنَّ سائر المَوْصُولاَتِ لَفْظُ الجَمْعِ والمفرد التي نظر بها. والوجه الثاني: أنه اعتقد كون الموصول بقيته «الذي» ، وليس كذلك، بل «أل» الموصولة اسم موصول مستقلّ، أي: غير مأخوذ من شيء، على أنَّ الراجح من جهة الدَّليل كون «أل» الموصولة حرفاً لا اسماً كما سيأتي. وليس لمرجّح أن يرجّح قول الزمخشري بأنهم قالوا: إنَّ الميم في قولهم: «مُ الله» بقية «أيمن» ، فإذا انتهكوا «أيمن» بالحذف حتى صار على حرف واحد، فأولى أن يقال بذلك فيما بقي على حرفين، لأن «أل» زائدة على ماهية «الذي» ، فيكونون قد حذفوا جميع الاسم، وتركوا ذلك الزائد عليه، بخلاف «ميم» «أيمن» ، وأيضاً فإن القول بأن «الميم» بقية «أيمن» قول ضعيف مردود يأباه قول الجُمًهُور. وفي «الَّذي» لُغَاتٌ، أشهرها ثبوت الياء ساكنةً ود تُشَدِّد مكسورة مطلقاً، أو جاريةً بوجوه الإعراب، كقوله: [الوافر] 226 - وَلَيْسَ المَالُ فَاعْلَمْهُ بِمَالٍ ... وَإِنْ أَرْضَاكَ إلا لِلِّذِيِّ يَنَالُ بِهِ العَلاَءَ وَيَصْطَفِيِهِ ... لأَقْرَبِ أَقْرَبَيْهِ وَلِلْقَصِيِّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 فهذا يحتمل أن يكون مبنيَّا، وأن يكون معرباً. وقد تُحْذَفُ ساكناً ما قبلها؛ كقول الآخر: [الطويل] 227 - فَلَمْ أَرَ بَيْتاً كَانً أَحْسَنَ بَهْجَةً ... مِنَ اللِّذْ بِهِ مِنْ آلِ عَزَّةَ عَامِرُ أو مكسوراً؛ كقوله: [الرجز] 228 - واللِّذِ لَوْ شاءَ لَكَانَتْ بَرَّا ... أَوْ جَبَلاً أَشَمَّ مُشَمَخِرَّا ومثل هذه اللغات في «التي» أيضاً. قال بعضهم: «وقولهم: هذه لغات ليس بجيِّد؛ لأن هذه لم ترد إلاّ ضرورةً، فلا ينبغي أن تسمى لغاتٍ» . و «استوقد» : «استفعل» بمعنى «أَفْعَل» ، نحو: «استجاب» بمعنى «أَجَابَ» ، وهو رأي الأخفش وعليه قول الشاعر: [الطويل] 229 - وَدَاعٍ دَعَا: يَا مَنْ يَجِيبُ إلى الهُدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ لأي: فلم يجبه. وقيل: بل السّين للطلب، ورجّح قول الأخفش بأن كونه للطَّلب يستدعي حذف جملة، ألا ترى أن المعنى: استدعوا ناراً فأوقدوها، فلما أضاءت؛ لأن الإضاءة لا تنشأ عن الطلب إنما تنشأ عن الإيقاد. والفاء في قوله: «فَلَمَّا» للسبب. وقرأ ابن السَّميفع: «كمثل الذين» بلفظ الجمع، واستوقد بالإقراد، وهي مُشْكلة، وقد خرجوها على أوجه أضعف منها وهي التوهّم، أي: كأنه نطق ب «مَنْ» ؛ إذا أعاد ضمير المفرد على الجمع كقولهم، «ضربني وضربت قومك» أي: ضربني من، أو يعود على اسم فاعل مفهوم من «استوقد» ، والعائد على الموصول مَحْذوف، وإن لم يكمل شرط الحذف، والتقدير: استوقدها مستوقدٌ لهم. وهذه القراءة تقوّي قول من يقول: إنّ أصل «الذي» : «الذين» ، فحذفت النون. و «لَمَّا: حرف وجوب لوجوب هذا مذهب سيبويه. وزعم الفارسي وتبعه أبو البقاء، أنها ظرف بمعنى» حين «، وأن العامل فيها جوابها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وقد ردّ عليه بأنها أجيبت ب» ما «النافية، و» إذا «الفُجائية، قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} [فاطر: 42] . وقال تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] ، و «ما» النافية، و «إذا الفجائية لا يعمل ما بعدهما فيما قبلهما، فانتفى أن تكون ظرفاً. وتكون بمعنى» إلاّ «قال تعالى: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا} [الزخرف: 35] في قراءة من قرأ بالتَّشديد. و» أضاء «: يكون لازماً ومتعدياً، فإن كان متعدياً، ف» ما «مفعول به، وهي موصولة، و» حوله «ظرف مكان مخفوض به، صِلةٌ لها، ولا يتصرّف، وبمعناه: حَوَال؛ قال الشاعر: [الرجز] . 231 - وأَنَا أَمْشِي الدَّأَلَى حَوَالَكَا ... ويُثَنَّيان؛ قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» اللهُمَّ حَوَالَيْنَا «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ويجمعان على» أَحْوال «. ويجوز أن تكون» ما «نكرة موصوفة، و» حوله «صفتها، وإن كان لازماً، فالفاعل ضمير» النار «أيضاً، و» ما «زائدى، و» حوله «منصوب على الظرف العامل فيه» أضاء «. وأجاز الزمخشري أن تكون» ما «فاعلة موصولة، أو نكرة موصولة، وأُنِّثَ الفعل على المعنى، والتقدير: فلما أضاءت الجهةُ التي حوله أو جهةٌ حوله. وأجاز أبو البقاء فيها أيضاً أن تكون منصوبة على الظرف، وهي حينئذ: إما بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة، والتقدير: فلما أضاءت النَّار المكان الذي حوله، أو مكاناً حوله، فإنه قال: يقال: ضاءت النّار، وأضاءت بمعنى، فعلى هذا تكون» ما «ظرفاً. وفي» ما «ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون بمعنى الذي. والثاني: هي نكرة موصوفة، أي: مكاناً حوله. والثالث: هي زائدة. وفي عبارته بعض مُنَاقشته، فإنه بعد حكمه على» ما «بأنها ظرفية كيف يُجَوِّزُ فيها - والحالة هذه - أن تكون زائدة، وإنما أراد في» ما «هذه من حيث الجملة ثلاثة أوجه. وقول الشاعر: [الطويل] 232 - أَضَاءَتٍ لَهُمْ أَحْسَابُهُمْ وَوُجُوهُهُمْ ... دُجَى اللَّيْلِ حَتَّى نَظَّمَ الجَزْعَ ثَاقِبُهْ يحتمل التعدّي واللزوم كالآية الكريمة. وقرأ ابن السَّمَيْفع:» ضاءت «ثلاثياً. قوله:» ذهب الله بنورهم «هذه الجملة الظاهر أنها جواب ل» ما «. وقال الزمخشري:» جوابها محذوف، تقديره: فلما أضاءت خَمَدَتْ «وجعل هذا أبلغ من ذكر الجواب، وجعل جملة قوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} مستأنفة أو بدلاً من جملة التمثيل. وقد رد عليه بعضهم هذا بوجهين: أحدهما: أن هذا التقدير مع وجود ما يغني عنه، فلا حاجة إليه؛ إذ التقديرات إنما تكون عند الضَّرورات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 والثَّاني: أنه لا تبدل الجملة الفعلية من الجملة الاسمية. و» بنورهم «متعلّق ب» ذهب «، والباء فيه للتَّعدية وهي مُرادفة للهمزة في التَّعدية، هذا مذهب الجمهور. وزعم أبو العباس أنَّ بينهما فرقاً، وهو أن الباء يلزم معها مُصاحبة الفاعل للمفعول في ذلك الفِعْلِ الذي فبله، والهزة لا يلزم فيها ذلك. فإذا قلت: «ذهبت بزيد» فلا بُدَّ أن تكون قد صاحبته في الذِّهَاب فذهبت معه. وإذا قلت: أذهبته جاز أن يكون قد صحبته وألاَّ يكون. وقد رد الجمهور على المُبَرّد بهذه الآية؛ لأن مصاحبته - تعالى - لهم في الذهاب مستحيلة. ولكن قد أجاب [أبو الحسن] ابن عُصْفور عن هذا بأنه يجوز أن يكون - تعالى - قد أسند إلى نفسه ذهاباً يليق به، كما أسند إلى نفسه - تعالى - المجيء والإتيان على معنى يليق به، وإنما يُرَد عليه بقول الشاعر: [الطويل] . 233 - دِيارُ الَّتِي كَانَتْ وَنَحْنُ عَلَى مِنَى ... تَحُلُّ بِنَا لَوْلاَ نَجَاءُ الرَكائِبِ أي: تجعلنا جلالاً بعد أن كُنَّا مُحْرِمِين بالحج، ولم تكن هي مُحْرِمَة حتى تصاحبهم في الحِلِّ؛ وكذا قول امرئ القيس: [الطويل] 234 - كُمِيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ ... كَمَا زَلَّتِ الصَّفْواءُ بِالمُتَنَزِّلِ «الصفواء» الصخرة، وهي لم تصاحب الذي تزله. والضمير في «بنورهم» عائد على مَعْنَى الذي كما تقدم. وقال بعضهم: هو عائد على مُضاف محذوف وتقديره: كمثل أصحاب الذي استوقد، واحتاج هذا القائل إلى هذا التقدير، قال: حتى يتطابق المشبه والمشبه به؛ لأنّ المشبه جمع، فلو لم يقدر هذا المُضاف، وهو «أصحاب» لزم أن يشبه الجمع بالمفرد وهو الذي استوقد. ولا أدري ما الذي حمل هذا القائل على مَنْعِ تشبيه الجمع بالمفرد في صفة جامعة بينهما، وأيضاً فإنَّ المشبّه والمشبه به إنما هو القصّتان، فلم يقع التشبيه إلاَّ بين قصَّتين إحداهما مُضافة إلى جمع، والأخرى إلى مُفْرد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 قوله: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} ههذه جملة معطوفة. فإن قيل: لم قيل: ذهب بنورهم، ولم يقل: أذهب الله نورهم؟ فالجواب: أن معنى أذهبه: أزاله، وجعله ذاهباَ، ومعنى ذهب به: إذا أخذه، ومضى به معه، ومنه: ذهب السُّلطان بماله: أخذه، قال تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} [يوسف: 15] فالمعنى: أخذ الله نوره، وأمسكه، فهو أبلغ من الإذهاب، وقرأ اليماني: «أَذْهَبَ اللهُ نُورَهُمْ» . فإن قيل: هلاّ قيل: ذهب الله بضوئهم [لقوله: {فَلَمَّآ أَضَاءَتْ} ؟ الجواب: ذكر النور أبلغ؛ لأن الضوء فيه دلالة على الزيادة.] فلو قيل: ذهب الله بضوئهم لأوهم ذهاب [الكمال، وبقاء] ما يسمى نوراً والغرض إزالة النُّور عنهم بالكلية، أَلا ترى كيف ذكر عقبيه: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} والظلمة عبارة عن عدم النور. وقوله: [ {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} ] هذه جملة معطوفة على قوله: «ذهب الله» ، وأصل الترك: التخلية، ويراد به التّصيير، فيتعدّى لاثنين على الصَّحيح؛ كقول الشَّاعر: [البسيط] 235 - أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... فَقَدْ تَرَكْتَكَ ذَا مالٍ وَذَا نَضَبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 فإن قلنا: هو متعدّ لاثنين كان المفعول الأول هو الضمير، والمفعول الثاني: «في ظلمات» و «لا يبصرون» حال، وهي حال مؤكدة؛ لأن من كان في ظلمة فهو لا يُبْصِرُ. وصاحب الحال: إما الضمير المنصوب، أو المرفوع المُسْتَكِنّ في الجار والمجرور. ولا يجوز أن يكون «في ظلمات» حالاً و «لا يبصرون» هو المفعول الثاني؛ لأن المفعول الثاني خبر في الأصل، والخبر لا يؤتى به للتأكيد، فإذا جعلت «في ظلمات» حالاً فهم من عدم الإبصار، فلو يفد قولك بعد ذلك: «لا يبصرون» إى التَّأكسد، لكن التأكيد ليس من شَاْنِ الأخبار، بل من شأن الأحوال؛ لأنها فضلات. ويؤيّد ما ذكرت أن النحويين لما أعربوا قول امرئ القيس: [الطويل] 236 - إِذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقِّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوِّلِ أعربوا: «شقّ» مبتدأ و «عندنا» خبره، و «لم يُحَوَّلِ» خبراً، و «عندنا» صفة ل «شق» مُسَوِّغاً للابتداء به قالوا: لأنه فهم معناه من قوله: «عندنا» ؛ لأنه إذا كان عنده عُلِمَ منه أنه لم يُحَوَّل. وقد أعربه أبو البَقَاءِ كذلك، وهو مردود بما ذكرت. ويجوز إذا جعلنا «لا يبصرون» هو المفعول الثاني أن يتعلّق «في ظُلُمَاتٍ» به، أو ب «تركهم» ، التقدير: «وتركهم لا يبصرون في ظلمات» . وإن كان «ترك» متعدياً لواحد كان «في ظُلُمَاتٍ» متعلّقاً ب «تركهم» ، و «لا يبصرون» حال مؤكّدة، ويجوز أن يكون «في ظُلُمَاتٍ» حالاً من الضَّمير المنصوب في «تركهم» ، فيتعلّق بمحذوف، و «لا يبصرون» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 حال أيضاً، إما من الضمير في تركهم، فيكون له حالان، ويجري فيه الخلاف المتقدّم، وإما من الضمير المرفوع المستكنّ في الجار والمجرور قبله، فتكون حالين متداخلتين. فصل في سبب حذف المفعول فإن قيل: لم حذف المفعول من «يبصرون» ؟ فالجواب: أنه من قبيل المَتْرُوك الذي لا يلتفت إلى إخطاره بِالبَالِ، لا من قبيل المقدّر المَنْوِيّ كأنّ الفعل غير متعدٍّ أصلاً. قال ابن الخطيب: ما وجه التمثيل في أعطي نوراً، ثم سلب ذلك النور، مع أنّ المنافق ليس هو نور، وأيضاً أن من استوقد ناراً فأضاءت قليلاً، فقد انتفع بها وبنورها ثم حرم، والمنافقون لا انتفاع لهم ألبتة بالإيمان، وأيضاً مستوقد النًَّار قد اكتسب لنفسه النور، والله - تعالى - ذهب بنوره، وتركه في الظُّلمات، والمنافق لم يكتسب خيراً، وما حصل له من الحيرة، فقد أتي فيه من قبل نفسه، فما وجه التَّشبيه؟ والجواب: أنَّ العلماء ذكروا في كيفية التَّشبيه وجوهاً: أحدها: قال السّدي: إن ناساً دخلوا في الإسلام عند وصوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى «المدينة» ثم إنهم نافقوا، والتشبيه - ها هنا - في غاية الصحة؛ لأنهم بإيمانهم أولاً اكتسبوا نوراً، ثم ينافقهم ثانياً أبطلوا ذلك النور، ووقعوا في حيرة من الدنيا، وأما المتحيّر في الدِّين، فإنه يخسر نفسه في الآخرة أبَد الآبدين. وثانيها: إن لم يصحّ ما قاله السّدي بل كانوا مُنَافقين من أول الأمر، فها هنا تأويل آخر. قال ابن عباس: وقتادة، ومقاتل، والضحاك، والسدي، والحسن: نزلت في المُنافقين يقول: مَثَلُهُمْ في نِفاقِهِم كَمَثَلِ رجل أوقد ناراً في ليلة مظلمة في مَغَارةٍ، فاستدفأ، ورأى ما حوله فاتَّقَى مما يخاف، فَبَيْنَا هو كذلك إذْ طُفِئَتْ ناره، فبقي في ظلمة خائفا متحيراً، فكذلك المنافقون بإظهارهم كلمة الإيمان أمنوا على أموالهم، وأولادهم، وناكحوا المؤمنين، وأورثوهم، وقاسموهم الغَنَائم، وسائر أحكام المسلمين، فذلك نورهم، فإذَا ماتوا عادوا إلى الظُّلْمَةِ والخوف، ولما كان ذلك بالإضافة إلى العذاب الدَّائم مثل الذّرة، شبههم بمستوقد النّار الذي انتفع بضوئها قليلاً، ثم سلب ذلك، فدامت حسرته وحيرته للظُّلمة العَظِيمةِ التي جاءته عقيب النُّور اليسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وثالثها: أن نقول ليس التَّشبيه في أنَّ للمنافق نوراً، بل وجه التَّشْبيه بالمستوقد أنه لما زال النُّور عنه تحيَّروا تحيُّر من كان في نور ثم زال عنه أشَدّ من تحيّر سالك الطريق في ظلمة مستمرة، لكنه - تعالى - ذكر النور في مستوقد النَّار لكي يصحّ أن يوصف بهذه الظُلمة الشديدة، لا أن وجه التشبيه النور والظلمة. ورابعها: قال مُجاهد: إنَّ الذي أظهروه يوهم أنه من باب النور الذي ينتفع به، وذهاب النور هو ما يظهره لأصحابه من الكفر والنِّفَاق، ومن قال بهذا قال: إن المثل إنما عطف على قوله: {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكْمْ} [البقرة: 14] فالنار مثل لقولهم: «آمنا» وذهابه مثل لقولهم للكُفّار «إنا معكم» . فإن قيل: كيف صار ما يُظْهره المنافق من كلمة الإيمان ممثلاً بالنور، وهو حين يتم نُوره، وإنما سمى مجرّد ذلك القول نوراً؛ لأنه قول حقّ في نفسه. وخامسها: يجوز أن يكون استيقاد النار عبارةً عن إظهار المُنَافق كلمة الإيمان، وإنما سمى نوراً؛ لأنه يتزين به ظاهراً فيهم، ويصير ممدوحاً بسببه فيما بينهم، ثم إنّ الله يذهب ذلك النور بِهَتْكِ ستر المُنافق بتعريف نبيّه والمؤمنين حقيقة أمره، فيظهر له اسم النِّفاق بدل ما يظهر منه من اسم الإيمان، فيبقى في ظُلُمَاتٍ لا يبصر؛ إذ النُّور الذي كان له قبل كَشْفِ الله أمره قد زال. وسادسها: أنهم لما وصفوا بأنهم اشتروا الضَّلالة بالهُدَى عقب ذلك بهذا التمثيل ليمثل هُداهم الذي باعوه بالنار المُضيئة ما حول المستوقد والضَّلالة التي اشتروها، وطلع بها على قُلُوبِهِمْ بذهاب الله بنورهم، وتركه إيّاهم في ظلمات. وسابعها: يجوز أن يكون المستوقد - ها هنا - مستوقد نار لا يرضاها الله تعالى، والغرض تشبيه الفتنة التي حاول المنافقون إثارتها بهذه النار، فإنَّ الفتنة التي كانوا يثيرونها كانت قليلة البقاء، ألا ترى إلى قوله تعالى: {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} [المائدة: 64] . وثامنها: قال سعيد بن جبير: نزلت في اليهود، وانتظارهم لخروج النبي - عليه الصلاو والسلام - لإيقاد النَّار، وكفرهم به بعد ظهوره، كزوال ذلك النور؛ قاله محمد بن كَعْبٍ، وعطاء. والموقود - هنا - هو سطوع النَّار وارتفاع لهبها. والنَّار: جوهر لطيف مضيء حامٍ محرق، واشتقاقها من نَارَ يَنُورُ إذا نفر؛ لأن فيها حركةً واضطراباً، والنور مشتق منها، وهو ضوؤها، والمنار العلامة، والمَنَارة هي الشَّيء الذي يؤذن عليها ويقال أيضاً للشيء الذي يوضع عليه السّراج منارة، ومنه النُّورَة لأنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 تطهر البدن، والإضاءة فرط الإنارة، ويؤيده قوله تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} [يونس: 5] . وما حول الشيء فهو الذي يتّصل به تقول: دار حوله وحواليه. والحًوْل: السَّنة؛ لأنها تحول، وحال العَهْدِ أي: تغير، ومنه حال لونه. والحوالة: انقلاب الحّقّ من شخص إلى شخص، والمُحَاولة: طلب الفعل بعد أن لم يكن طالباً له، والحَوَل: انقلاب العَيْنِ، وَالحِوَل: الانقلاب قال تعالى: {لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً} [الكهف: 108] . والظّلمة: عدم النُّور عما من شأنه أنْ يَسْتَنِيرَ، والظّلم في الأصل عِبَارةٌ عن النُّقصان قال تعالى: {ءَاتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً} [الكهف: 33] أي: لم تَنْقُص. والظّلم: الثلج، لأنه ينقص سريعاً. والظَّلَمُ: ماء آسنٌ وطلاوته وبياضه تشبيعاً له بالثلج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 الجمهور على رفعها على أنّها خبر مبتدأ محذوف، هم صم بكم، ويجيء فيه الخلاف المَشْهُور في تعدُّد الخبر، فمن أجاز ذلك حمل الآية عليه من غير تأويل، ومن منع ذلك قال: هذه الأخبار: وإن تعدّدت لفظاً، فهي متحدة معنى؛ لأن المعنى: هم غير قائلين للحق بسبب عَمَهُمْ وصَمَمِهِمْ، فيكون من باب: «هذا حُلْوٌ حَامِضٌ» أي: مُزٌّ، وهذا أعسر أيسر أي: أضبط، وقول الشاعر: [الطويل] 237 - يَنَامُ بإِحْدَى مُقْلَتَيْهِ ويَتَّقِي ... بِأُخْرَى الأَعَادِي، فَهُوَ يَقْظَانُ هَاجِعُ أي: متحرّز. أو يقدر لكل خبر مبتدأ تقديره: هم صُمّ بُكْمٌ، هم عُمْيٌ. والمعنى: أنهم جامعون لهذه الأوصاف الثلاثة، ولولا ذلك لجاز أن تكون هذه الآية من باب ما تعدّد فيه الخبر لتعدّد المبتدأ، كقولك: الزيدون فقهاء شعراء كاتبون، فإنه يحتمل أن يكون المعنى أن بعضهم فقهاء، وبعضهم شعراء، وبعضهم كاتبون، وأنهم ليسوا جامعين لهذه الأوصاف الثلاثة، بل بعضهم اختصّ بالفقه، والبعض الآخر اختصّ بالشعر، والآخر بالكتابة. وقرأ بعضهم «صمَّا بكمً عمياً» بالنصب، وفيه ثلاثة أوجه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 أحدها: أنه حالٌ، وفيه وجهان: أحدهما: هو حال من الضمير المنصوب في «تركهم» . والثاني: من المرفوع في «لا يُبًصِرُون» . الثاني: النَّصْب على الذَّم كقوله: {حَمَّالَةَ الحطب} [المسد: 4] وقول الآخر: 238 - سَقَوْنِي الخَمْرَ ثُمَّ تَكَنَّفُونِي ... عُداةَ اللهِ مِنْ كَذِبٍ وزُورِ أي: أذمُ عُداة الله. الثالث: أن يكون منصوباً ب «ترك» ، أي: صمَّا بكماً عمياً. والصّمم: داء يمنع من السَّمَاع، وأصله من الصَّلابة، يقال: قناة صَمّاء: أي: صلبة. وقيل: أصله من الانسداد، ومنه: صممت القَارُورَة أي: سددتها. والبَكَمُ: داءٌ يمنع الكلام. وقيل: هو عدم الفَهْمِ. وقيل: الأبكم من وُلِدً أَخْرَسَ. وقوله: «فهم لا يرجعون» جملة خبرية معطوفة على الجملة الخبرية قبلها. وقيل: بل الأولى دعاء عليهم بالصَّمم، ولا حاجة إلى ذلك. وقال أبو البقاء: وقيل: فهم لا يرجعون حال، وهو خطأ؛ لأن «الفاء» ترتب، والأحوال لا ترتيب فيها. و «رجع» يكون قاصراً ومتعدياً باعتبارين، وهذيل تقول:: أرجعه غيره «، فإذا كان بمعنى» عاد «كان لازماً، وإذا كان بمعنى» أعاد «كان متعدياً، والآية الكريمة تحتمل التَّقديرين، فإن جعلناه متعدياً، فالمفعول محذوف، تقديره لا يرجعون جواباً، مثل قوله: {إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} [الطارق: 8] ، وزعم بعضهم أنه يضمَّن معنى» صار «، فيرفع الاسم، وينصب الخبر، وجعل منه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» لا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفّاراً يَضْرِب بَعْضُكُم رِقابَ بَعْضٍ «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 ومن منع جريانه مجرى» صار «جعل المنصوب حالاً. فصل في المراد بنفي السمع والبصر عنهم. لما كان المعلوم من حالهم أنهم كانوا يسمعون، وينطقون، ويبصرون امتنع حمل ذلك على الحقيقة فلم يَبْقَ إلاّ تشبيه حالهم لشدة تمسُّكهم بالعناد، وإعراضهم عن سماع القرآن، وما يظهره الرسول من الأدلة والآيات بمن هو أصمّ في الحقيقة فلا يسمع، وإذا لم يسمع لم يتمكّن من الجواب، فلذلك جعله بمنزلة الأَبْكَمِ، وإذا لم ينتفع بالأدلّة، ولم يبصر طريق الرشد، فهو لمنزلة الأعمى. وقوله: {فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} أي: من التمسُّك بالنفاق فهم مستمرون على نفاقهم أبداً. وقيل: لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه، او عن الضَّلالة بعد أن اشتروها. وقيل: أراد أنّهم بمنزلة المتحيّرين الّضين بقوا خامدين في مَكَانِهِمْ لا يبرحون، ولا يدرون أيتقدّمون أم يتأخرّون؟ وكيف يرجعون إلى حيث ابتدءوا منه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 اعلم أنّ هذا مثل ثانٍ للمنافقين، وكيفية المشابهة من وجوه: أحدها: أنه إذا حصل السحاب والرعد والبرق، واجتمع مع ظلمة السّحاب ظلمة الليل، وظلمة المَطَرِ عند ورود الصواعق عليهم يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصَّوَاعق حَذَرَ الموت، وأن البرق يكاد يخطف أبصارهم، فإذا أضاء لهم مَشَوْا فيه، وإذا ذهب بَقَول في ظلمة عظيمة، فوقفوا متحيّرين؛ لأنّ من أصابه البرق في هذه الظلمات الثلاث ثم ذَهَبَ عنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 تشتدّ حيرته، وتعظم الظُّلمة في عينيه أكثر من الذي لم يزل في الظلمة، فشبّه المنافقين في حيرتهم وجهلهم بالدِّين بهؤلاء الذين وصفهم، إذا كانوا لا يرون طريقاً، ولا يهتدون. وثانيها: أن المَطَرَ وإن كان نافعاً إلاّ أنه لما وجد في هذه الصُّورة مع هذه الأحوال الضَّارة صار النفع به زائلاً، فكذا إظهار الإيمان نافعٌ للمنافقين لو وافقه الباطن، فإذا فقد منه الاخلاص، وحصل أنواع المَخَافَةِ، فحصلت في المنافقين نهاية الحَيْرَةِ في الدين، ونهاية الخوف في الدنيا؛ لأنّ المنافق يتصور في كل وقت أنه لو حصل الوقوف على باطنه لقتل، فلا يزال الخَوْفُ في قلبه مع النفاق. ورابعها: المراد من الصَّيِّب هو الإيمان والقرآن، والظلمات والرعد والبرق هي الأشياء الشَّاقة على المنافقين من التكاليف كالصَّلاة والصوم وترك الرِّيَاسات، والجهاد مع الآباء والأمّهات، وترك الأديان القديمة، والانقياد لمحمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع شدّة استنكافهم عن الانقياد، فكأنّ الإنسان يبالغ في الاحتراز عن المَطَرِ الصَّيِّب الذي [هو] أشَدُّ الأشياء نفعاً بسبب هذه الأُمُور المُقارنة، كذلك هؤلاء. والمراد من قوله: {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ} أنّه متى حصل لهم شيء من المَنَافع، وهي عصمة أموالهم ودمائهم، وحصول الغنائم، فإنهم يرغبون في الدِّين. قوله: {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} أي متى لم يجدوا شيئاً من تلك المنافع، فحينئذ يكرهون الإيمان، ولا يرغبون فيه. فصل في «أو» في «او» خمسة أقوال: أظهرها: أنها للتفصيل بمعنى: أنَّ الناظرين في حال منهم من يشبههم بحال المُسْتَوْقد، ومنهم من يشبههم بأَصْحاب صَيِّبٍ هذه صفته. قال ابن الخطيب: «والثاني أبلغ؛ لأنه أدلُّ على فرط الحيرة» . والثاني: أنها للإبهام، أي: أن الله أَبْهَمَ على عباده تشبيههم بهؤلاء أو بهؤلاء. والثالث: أنها للشَّك، بمعنى: أنَّ الناظر يشكُّ في تشبيههم. الرابع: أنها للإباحة. الخامس: أنها للتخيير، قالوا: لأن أصلها تساوي شيئين فصاعداً في الشك، ثم اتسع فيها، فاستعيرت للتساوي في غير الشك كقولك: «جالس الحسن أو ابن سيرين» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 يريد أنهما سيّان، وأن يجالس أيهما شاء، ومنه قوله تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] ، أي: الإثم والكفر متساويان في وجوب عصيانهما، وزاد الكوفيون فيها معنيين آخرين: أحدهما: كونها بمعنى «الواو» ؛ وأنشدوا: [البسط] 239 - نضال الخِلاَفَةَ أوْ كَانَتْ لَهُ قَدَراً ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ وقال تعالى: {تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور: 61] وقال: [الطويل] 240 - وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّيَ فَاجِرٌ ... لِنَفْسِي تُقَاهَا أوْ عَلَيْهَا فُجُورُهًا قال ابن الخطيب: وهذه الوجوه مطردة في قوله: {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} [البقرة: 74] . المعنى الثاني: كونها بمعنى: «بل» ؛ قال تعالى: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] وأنشدوا: [الطويل] 241 - بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشَّمْسِ في رَوْنَقِ الضُّحَى ... وَصُورَتِها أوْ أَنْتَ في العَيْنِ أمْلَحُ أي: بل أنت. و «كصيب» معطوف على «كَمَثَلِ» ، فهو في محل رفع، ولا بد من حذف مضافين؛ ليصح المعنى، التقدير يراد: «أو كمثل ذوي صيّب» ولذلك رجع عليه ضمير الجمع في قوله: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ في آذَانِهِم} ، لأن المعنى على تشبيههم بأصحاب الصَّيِّب لا بالصيب نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 و «الصَّيب» المَطَر سمي بذلك لنزوله، يقال: صاب يصوب إذا نزل؛ ومنه: صوَّب رأسه: إذا خفضه؛ قال [الطويل] 242 - فَلَسْتُ لإنْسِيَّ ولَكِنْ لِمَلأَكِ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ وقال آخر: [الطويل] 243 - فَلاَ تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمَّرٍ ... سَقَتْكِ رَوَايَا المُزْنِ حَيْثُ تَصُوبُ وقيل: إنه من صَابَ يَصُوب: إذا قصد، ولا يقال: صَيّب إلا للمطر الجَوَاد، كان - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يقول: «اللهم اجعله صَيِّباً هَنِيئاً» أي: مطراً جواداً، ويقال أيضاً للسحاب: صَيّب؛ قال الشماخ: [الطويل] 244 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَأَسْحَمَ دَانٍ صادَقِ الرَّعْدِ صَيِّبِ وتنكير «صيب» يدلّ على نوع زائد من المطر شديد هائلٍ كما نكرت «النَّار» في التمثيل الأول. وقرئ «كصائب» ، والصَّيب أبلغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 واختلف في وزن «صَيِّب» . فقد ذهب البصرون أنه «فَيَعِل» ، والأصل: صَيْوِب أدغم ك «مَيّت» و «هَيّن» ، والأصل: مَيوت وهَيْوِن. وقال بعض الكوفيين: وزنه «فَعِيل» والأصل: صَوِيب بزنة طويل. قال النحاس: وهذا خطأ؛ لأنه كان ينبغي أن يصح ولا يُعَلّ كطويل، وكذا أبو البقاء. وقيل وزنه: «فَعْيَل» فقلب وأُدغم. واعلم أنه إذا قيل بأن الجملة من قوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] استئنافية، ومن قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] إنها من وصف المنافقين كانتا جملتي اعتراض بين المتعاطفين، أعني قوله: «كَمَثَل» و «كَصَيِّبٍ» وهي مسألة خلاف منعها الفارسي ورد عليه بقول الشاعر: [الوافر] 245 - لَعَمْرِكَ والخُطُوبُ مُغَيِّراتٌ ... وَفِي طُولِ المُعَاشَرَةِ التَّقَالِي لَقَدْ بَالَيْتُ مَظْعَنَ أُمٌّ أَوْفَى ... وَلَكِنْ أُمُّ أَوْفَى لا تُبَالِي ففصل بين القسم، وهو «لعمرك» وبين جوابه، وهو «لَقَدْ بَالَيْتُ» بجملتين إحداهما: «والخطوب متغيرات» . والثانية: «وفي طول المُعَاشرة التَّقالي» . و «من السماء» يحتمل وجهين: أحدهما: أن يتعلّق ب «صيب» ؛ لأنه يعمل عمل الفعل، والتقدير: كمطر يَصُوب من السماء، و «مِنْ» لابتداء الغاية. والثَّاني: أن يكون في محلّ جر صفة ل «صيب» ، فيتعلّق بمحذوف، وتكون «من» للتبغيض، ولا بُدّ حينئذ من حذف مضاف تقديره: كصيّب كائن من أمطار السَّماءِ. والسماء: هذه المطلّة، وهي في الأصل كل ما عَلاَكَ من سَقْفٍ ونحوه، مشتقة من السُّمو، وهو الإرتفاع، والأصل: سَمَاو، وإنما قُلبت الواو همزة لوقوعها طرفاً بعد ألف زائدة وهو بدل مُطّرد، نحو: «كساء ورداء» ، بخلاف «سقاية وشقاوة» لعدم تطرف حرف العلّة، ولذلك لما دخلت عليها تاء التأنيث صحَّت؛ نحو: «سماوة» . قال الشاعر: [الرجز] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 246 - طَيِّ اللَّيالِي زُلُفاً فَزُلَفَا ... سَمَاوَةَ الهِلاَلِ حَتَّى احْقَوْقَفَا والسماء مؤنث قال تعالى: {إِذَا السمآء انفطرت} [الانفطار: 1] وقد تذكَّر؛ قال تعالى: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] ؛ وأنشد: [الوافر] . 247 - وَلَوْ رَفَعَ السَّمَاءَ إلَيْهِ قَوْماً ... لَحِقْنَا بَالسَّمَاءِ مَعَ السَّحَابِ فأعاد الضَّمير من قوله: «إلَيْهِ» على «السَّمَاءِ» مذكَّراً، ويجمع على «سَمَاوَاتٍ» ، وأَسْمِيَة، وَسُمِيّ «، والأصل» فعول «، إلا أنه أعلّ إعلال» عِصِيّ «بقلب الواوين ياءين، وهو قلب مطّرد في الجمع، ويقلّ في المفرد نحو: عتا - عُتِيًّا، كما شذّ التصحيح في الجمع قالوا:» إنكم لتنظرون في نُحُوٍّ كثيرةٍ «، وجمع أيضاً على» سماء «، ولكن مفرده» سَمَاوة «، فيكون من باب تَمْرَةٍ وتضمْرٍ، ويدلّ على ذلك قوله: [الطويل] 248 - ... ... ... ... ... ... ....... ... ... ... فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَا ووجه الدّلالة أنه مُيِّزَ به» سَبْع «ولا تُمَيِّزُ هي وأخواتها إلاّ بجمع مجرور. وفي قوله:» من السَّمَاءِ «ردّ على من قال: إن المطر إنما يحصل من ارتفاع أبخرة رطبة من الأَرْض إلى الهواء، فتنعقد هناك من شدّة برد الهواء، ثم ينزل مرة أخرى، فذاك هو المطر؛ فأبطل الله هذا المذهب بأن بَيّن أن الصِّيب نزل من السَّمَاء، وقال: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً} [الفرقان: 48] . وقال: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43] . قوله: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ} [البقرة: 19] يحتمل أربعة أوجه: أحدها: أن يكون صفة ل» صَيّب «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 الثاني: أن يكون حالاً منه، وإن كان نكرة لتخصصه، إما بالعمل في الجار بعده، أو بصفة بالجار بعده. الثالث: أن يكون حالاً من الضمير المُسْتَكِنّ في» من السماء «إذا قيل: إنه صفة ل» صَيّب «، فيتعلق في التقادير الثلاثة بمحذوف، إلاّ أنه على القول الأوّل في محلّ جر لكونه صفة لمجرور، وعلى القولين الأخيرين في مَحَلّ نَصْب على الحال. و «ظلمات» على جميع هذه الأقوال فاعل به؛ لأنَّ الجار والمجرور والظرف متى اعتمدا على موصوف، أو ذي حالٍ، أو ذي خبر، أو على نَفْي، أو استفهام عملاً عمل الفعل، والأخفش يُعْمِلُهُمَا مطلقاً كالوصف، وسيأتي تحرير ذلك. الرابع: أن يكون خبراً مقدماً، و «ظلمات» مبتدأ، والجملة تحتمل وجهين: الأول: الجر على أنها صفة ل «صيب» . والثاني: النَّصْب على الحال، وصاحب الحال يحتمل أن يكون «كصيب» ، وإن كان نكرة لتخصيصه بما تقدّمه، وأن يكون الضَّمير المستكن في «من السَّماء» إذا جعل وصفاً ل «صيّب» ، والضمير في «فيه» ضمير «الصيب» ، واعلم أن جعل الجار صفة أو حالاً، ورفع «ظلمات» على الفاعلية به أَرْجَحُ من جعل {فِيهِ ظُلُمَاتٌ} جملة برأسها في محلّ صفة أو حال؛ لأنّ الجار أقرب إلى المفرد من الجملة، وأصل الصفة والحال أن يكونا مفردين. و «رَعْدٌ وبَرْقٌ» : معطوفان على «ظلمات» بالاعتبارين المتقدّمين، وهما في الأصْل مصدران تقول: رَعَدَتِ السماء تَرْعَدُ رَعْداَ، وبَرَقَتْ بَرْقاً. قال أبو البقاء: وهما على ذلك مُوَحَّدَتَانَ هنا يعني على المصدرية ويجوز أن يكونا بمعنى الرَّاعد والبارق، نحو: رجل عَدْل. والظاهر أنهما في الآية ليس المُرَاد بهما المصدر، بل جعلا اسماً [للهز واللمعان] . والبرق: اللَّمَعَان، وهو مقصود الآية، ولا حاجة حينئذ إلى جعلهما بمعنى اسم فَاعِلٍ. وقال علي وابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - وأكثر المفسرين: الرعد: اسم ملك يسوق السَّحاب، والبرق: لَمَعَانُ سَوْط] من نور يزجر به المكل السحاب. وقيل: الرعد صوت انضغاط السّحاب. وقيل: تسبيح الملك، والبرق ضحكه. وقال مجاهد: الرعد اسم الملك؛ ويقال لصوته أيضاً: رعد، والبرق اسم ملك يسوق السحاب. وقال شهر بن حَوشَبٍ: الرعد ملك يُزْجِي السحاب، فإذا تبددت ضمها فإذا اشتد غضبه طارت من فيه النَّار فهي الصواعق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 وقيل: الرعد صوت انحراق الريح بين السحاب. فإن قيل: لم جمع «الظّلمات» ، وأفرد «الرعد والبرق» ؟ فالجواب: أن في «ظلمات» اجتمع أنواع منها، كأنه قيل: فيه ظلمات داجيةٌ، ورعد قاصف، وبرق خاطف. {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ} ، وهذه الجملة الظاهر أنها لا محلّ لها لاستئنافها كأنه قيل: ما حالهم؟ فقيل: يجعلون. وقيل: بل لها محلّ، ثم اختلف فيه فقيل: جرّ؛ لأنها صفة للمجرور، أي: أصحاب صيب جاعلين، والضمير محذوف. أو نابت الألف واللام منابه، تقديره: يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق منه أو من صواعقه. وقيل: محلُّها نصب على الحال من الضمير في «فيه» . والكلام في العائد كما تقدّم، والجَعْل - هنا - بمعنى الالتقاء، ويكون بمعنى الخَلْق، فيتعدّى لواحد، ويكون بمعنى «صَيَّرَ» أو «سمى» ، فيتعدى لاثنين، ويكون للشروع، فيعمل عمل «عسى» . و «أَصَابِعهُمْ» جمع إصبع، وفيها عشر لُغَات: بتثليث الهمزة مع تثليت البَاءِ، والعاشرة «أصبوع» بضم الهمزة. والواو في «يَجْعَلُون» تعود لِلْمُضَاف المحذوف، كما تقدم إيضاحه. واعلم أنه إذا حذف المضاف جاز فيه اعتباران: أحدهما: أن يلتفت إليه. والثاني: ألا يلتفت إليه، وقد جمع الأمران في قوله تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] ، والتقدير: وكم من أهل قرية فلم يراعه في قوله: {أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا} [الأعراف: 4] ، ورعاه في قوله تعالى: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] وذكر الأصابع، وإن كان المجهول إنما هو رؤوس الأصابع تسمية للبعض باسم الكُلّ كما في قوله تعالى: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، و {في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق} كلاهما متعلّق بالجعل، و «من» معناها التعليل. و «الصَّوّاعق» : جمع صاعقة، وهي الضَّجَّة الشديدة من صوت الرعد تكون معها القطعة من النار. ويقال: «ساعقة» بالسّين، و «صاعقة» ، و «صاقعة» بتقديم القاف؛ وأنشد: [الطويل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 249 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ المُجْرِمِين أصَابَهُمْ ... صَوَاقِعُ لاَ بَلْ هُنَّ فَوقَ الصَّواقِعِ ومثله قول الآخر: [الرجز] 250 - يَحْكُونَ بِالمَصْقُولَةِ القَوَاطِعِ ... تَشَقُّقَ اليَدَيْنِ بِالصَّوَاقِعِ وهي قراءة الحسن. قال النَّحَّاس: وهي لغة «تميم» ، وبعض «بني ربيعة» ، فيحتمل أن تكون «صاعقة» مقلوبة من «صَاعِقة» ويحتمل ألاّ تكون، وهو الأظهر لثبوتها لغةً مستقلةً كما تقدم. ويقال: «صقعة» أيضاً، وقد قرأ بها الكسَائي في «الذاريات» . يقال: صُعِقَ زيد، وأصعقه غيره قال: [الطويل] 251 - تَرَى النُّعَرَاتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لَبَانِهِ ... أُحَادَ وَمَثْنَى أصعَقَتْهَا صَوَاهِلُهْ وقيل: «الصّاعقة» [قصف رعد ينقض منها شعلة] من نارٍ لطيفة قوية لا تمرُّ بشيء إلاّ أتت عليه إلاّ أنها مع قوتها سريعة الخمود. وقيل: الصاعقة: قطعة عذاب ينزلها الله على من يَشَاءُ، وروي عن سالم بن عبد الله ابن عمر عن أبيه أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا سمع صوت الرَّعْدِ والصواعق قال: «اللهُمّ لا تقتلنا بغضبك ولا تُهْلكنا بِعَذَابِكَ وَعَافِنَا قبل ذَلِكَ» . قوله: {حَذَرَ الموت} أي: مَخَافَةَ الهلاك، وفيه وجهان: أظهرهما: أنه مفعول من أجله ناصبه «يجعلون» ، ولا يضر تعدّد المفعول من أجله؛ لأن الفعل يعلّل يعلل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 الثاني: أنه منصوب على المصدر وعامله محذوف تقديره يحذرون حذراً مثل حَذَرِ الموت. و «الحَذَرُ» و «الحِذَار» مصدران ل «حذر» أي: خاف خوفاً شديداً. واعلم أن المفعول من أجله بالنسبة إلى نصبه وجره بالحرف على ثلاثة أقسام: قسم يكثر نصبه، وهو ما كان غير معرف ب «أل» ولا مضاف نحو: «جئت إكراماً لك» . وقسم عكسه، وهو ما كان معرَّفاً ب «أل» ؛ ومن مجيئه منصوباً قول الشاعر: [الرجز] 252 - لا أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ ... ولَوْ تَوَالَتْ زُمَرُ الأَعْدَاءِ وقسم يستوي فيه الأمران، وهو المضاف كالآية الكريمة، ويكون معرفةً ونكرةً، وقد جمع حاتم الطائي الأمرين في قوله: [الطويل] 253 - وَأَغْفِرُ عَوْرَاءَ الكَرِيمِ ادِّخَارَهُ ... وأُعْرِضُ عَنْ شَتْمِ اللَّئِيمِ تَكَرُّمَا و «حَذَرَ المَوْتِ» مصدر مضاف إلى المفعول، وفاعله محذوف، وهو أحد المواضع التي يجوز فيها حذف الفاعل وحده. والثاني: فعل ما لم يسم فاعله. والثالث: فاعل «أفعل» في التعجُّب على الصحيح، وما عدا هذه لا يجوز فيه حذف الفاعل وحده خلافاً للكوفيين. والموت: ضد الحياة؛ يقال: مَاتَ يَمُوتُ ويَمَاتُ؛ قال الشاعر: [الرجز] 254 - بُنَيَّتي سَيِّدَةَ البَنَاتِ ... عِيشِي وَلاَ يُؤْمَنُ أَنْ تَمَاتِي وعلى هذه اللّغة قرئ «مِتْنا» و «مِتُّ» - بكسر الميم - ك «خِفْنَا» و «خَفْتُ» ، فوزن «مَاتَ» على اللغة الأولى «فَعَلَ» بفتح العين، وعلى الثانية «فَعِلَ» بكسرها، و «المُوَات» : بالضمِّ المَوْت أيضاً، وبالفتح: ما لا روح فيه، والمَوْتَان بالتحريك ضد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 الحيوان؛ ومنه قولهم: «اشْتَرِ المَوْتَانَ، ولا تَشْتَرِ الرَّقيق، فإنه في مَعْرَضِ الهَلاَك؛ و» المَوْتَان «بضمّ» الميم «: وقوع الموت في الماشية، ومُوِّتَ فلانٌ بالتشديد للمبالغة؛ قال: [الوافر] 255 - فَعُرْوَةُ مَاتَ مَوْتاً مُسْتَرِيحاً ... فَهَا أَنَا ذَا أُمَوَّتُ كُلَّ يَوْمِ و» المُسْتَمِيت «: الأمر المُسْتَرْسِل؛ قال رؤْبَة: [الرجز] 256 - وَزَبَدُ البَحْرِ لَهُ كَتِيتُ ... وَاللَّيْلُ فَوْقَ المَاءِ مُسْتَمِيتُ قوله: {والله مُحِيطٌ بالكافرين} [البقرة: 19] . وهو مجاز أي: لا يفوتونه. فقيل: عالم بهم، كما قال: {أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمَا} [الطلاق: 12] . وقيل: جامعهم وقدرته مُسْتولية عليهم؛ كما قال: {والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ} [البروج: 20] . وقال مجاهد: يجمعهم فيعذبهم» . وقيل: يهلكهم، قال تعالى: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] أي: تَهْلِكُوُا جميعاً. وقيل: «ثَمَّ» مضافٌ محذوفٌ، أي: عقابه محيطٌ بهم. وقال أبو عَمْرو، والكسَائِيُّ: «الكَافِرِينَ» [بالإمالة] ولا يميلان {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41] ، وهذه الجملة مبتدأ وخبر. وأصل «مُحِيط» : «مُحْوِط» ؛ لأنه من حَاطَ يَحُوطُ فأُعِلّ كإِعْلاَلِ «نَسْتِعِين» . والإحاطةُ: حصر الشيء من جميع جهاته، وهذه الجملة قال الزمخشريُّ: «هي اعتراض لا مَحَل لها من الإعراب» كأنه يعني بذلك أن جملة قوله: {يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ} ، وجملة قوله: {يَكَادُ البرق} شيءٌ واحد؛ لأنهما من قصّة واحدة؛ فوقع ما بينهما اعتراضاً. «يَكَادُ» مضارع «كَادَ» ، وهي للِمُقَارَبَةِ الفعل، تعمل عمل «كان» إلاَّ أن خبرها لا يكون إلاَّ مُضَارعاً، وشذَّ مجيئُهُ اسماً صريحاً؛ قال: [الطويل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 257 - فَأُبْتُ إلّى فَهْمٍ وَمَا كِدْتُ آيباً ... وَكَمْ مِثْلِهَا فَارَقْتُهَا وَهِيَ تَصْفِرُ والأكثر في خبرها تجرّده من «أن» ، عكس «عسى» ، وقد شذّ اقترانه بها؛ قال رُؤْبَة: [الرجز] 258 - قَدْ كَادَ مِنْ طُولِ البِلَى أَنْ يَمْحَصَا ... لأنها لمقاربة الفعل، و «أَنْ» تخلص للاستقبال، فتنافيا. واعلم أن خبرها - إذا كانت هي مثبتة - منفيٌّ في المعنَى، لأنها للمقاربة. فإذا قلت: «كَادَ زَيْدٌ يَفْعَلُ» كان معناه: قارب الفعل إلاّ أنه لم يفعل، فإذا نُفِيَتِ، انتفى خبرها بطريق الأولَى؛ لأنه إذا انتفت مقاربة الفعل انتفى هو من باب أوبى؛ ولهذا كان قوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] أبلغ من أن لو قيل: لَمْ يَرَهَا، لأنه لم يقارب الرُّؤْيَة، فكيف له بها؟ وزعم جماعة منهم ابن جِنِّي، وأبو البَقَاءِ، وابن عطية أن نفيها إثبات، وإثباتها نفي؛ حتى ألغز بعضُهُمْ فيها؛ فقال: [الطويل] 259 - أَنحويَّ هَذَا العَصْرِ مَا هِيَ لَفظةٌ ... جَرَتْ في لِسَانَيْ جُرْهُمٍ وَثَمُودِ إِذَا نُفِيتْ - والله أَعْلَمُ - أُثْبِتَتْ ... وَإِنْ أُثْبِتَتْ قَامَتْ مَقَامَ جُحُودِ وحكوا عن ذي الرَّمَّة أنه لما أنشد قولَهُ: [الطويل] 260 - إذا غَيَّرَ النَّأْيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَكَدْ ... رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةَ يَبْرَحُ عيب عليه؛ لأنه قال: «لم يكد يَبْرَحُ» ، فيكون قد بَرِحَ، فغيَّره إلى قوله: «لَمْ يَزَلْ» أو ما هو بمعناه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 والذي غرَّ هؤلاء قوله تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] قالوا: «فهي هنا منفية» وخبرها مثبت في المعنى؛ لأن الذبح وقع لقوله: «فَذَبَحُوهَا» ، والجواب عن هذه الآية من وجهين: أحدهما: أنه يحمل على اختلاف وقتين، أي: ذبحوها في وقت، وما كادوا يفعلون في وقت آخر. والثاني: أنه عبّر بنفي مُقَاربة الفعل عن شدَّة تعنُّتهم، وعسرهم في الفعل. وأما ما حكَوْهُ عن ذي الرُّمَّة، فقد غلَّط الجمهورُ ذا الرمَّة في رجوعِهِ عن قوله الأوَّل، وقالوا: «هو أبلغُ وأحْسَنُ مما [غيَّره إليه] . واعلم أن خبر» كاد «وأخواتها - غير» عَسَى «- لا يكون فاعله إلاّ ضميراً عائداً على اسمها؛ لأنها للمقاربة أو للشُّرُوع، بخلاف» عسى «، فإنها للترجِّي؛ تقول:» عَسَى زَيْدٌ أَنْ يَقُومُ أَبُوهُ «، ولا يجوز ذلك في غيرها، فأما قوله: [الطويل] 261 - وَقَفْتُ عَلَى رَبْعٍ لِميَّةَ نَاقَتِي ... فَمَا زِلْتُ أَبْكِي عِنْدَهُ وَأُخَاطِبُهْ وَأَسْقِيهِ حَتَّى كَادَ مِمَّا أَبُثُّهُ ... تُكَلِّمُني أَحْجَارُهُ وَمَلاَعِبُهْ فأتى بالفاعل ظاهراً، فقد حمله بعضهم على الشُّذُوذ، ينبغي أن يقال: إنما جاز ذلك؛ لأن الأحجار والملاعب هي عبارة عن الرَّبْعِ، فهي هو، فكأنه قيل: حتَّى كادَ يكلُّمُني؛ ولكنه عبّر [عنه] بمجموع أجزائه. وأما قول الآخَرِ: [البسيط] 262 - وَقَدْ جَعَلْتُ إِذَا ما قُمْتُ يُثْقِلُني ... ثَوْبِي فَأَنْهَضُ نَهْضَ الشَّارِبِ السَّكِرِ وَكُنْتُ أَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ مُعْتَدِلاً ... فَصِرْتُ أَمْشي عَلَى أُخْرَى مِنَ الشَّجَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 فأتى [بفاعل] [خبر] جعل ظاهراً، فقد أجيب عنه بوجهين: أحدهما: أنه على حذْف مضاف، تقديره: وقد جعل ثوبي إذا ما قمت يثقلني. والثاني: أنه من باب إقامة السَّبب مقام المُسَبَّبِ، فإن نهوضه كذا متسبَّب عن إثقال ثوبه إيَّاه، والمعنى: وقد جعلت أنهض نَهْضَ الشارب الثَّمل لإثقال ثوبي إيَّاي. ووزن «كَادَ كَوِدَ» بكسر العين، وهي من ذوات الواو؛ ك «خَافَ» يَخَافُ، وفيها لغةٌ أخرى: فتح عينها، فعلى هذه اللُّغة تضم فاؤها إذا أسندت إلى تاء التكلّم وأخواتها، فتقول: «كُدْتُ، وكُدْنَا» ؛ مثل: قُلْتُ، وقُلْنَا، وقد تنقل كسر عينها إلى فائها مع الإسناد إلى ظاهر، كقوله: [الطويل] 263 - وَكِيدَ ضِبَاعُ القُفِّّ يَأْكُلْنَ جُثَّتي ... وَكِيدَ خِرَاشٌ عِنْدَ ذَلِكَ يَيْتَمُ ولا يجوز زيادتها خلافاً [للأخفش] ، وسيأتي إن شاء الله هذا كله في «كاد» الناقصة. أما «كاد» التامة بمعنى «مَكَرَ» فوزنها فَعَل بفتح العَيْن من ذوات «الياء» ؛ بدليل قوله: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} [الطارق: 15، 16] . و «البرق» اسمها، و «يخطف» خبرها ويقال: خَطِفَ يَخْطَفُ [بكسر عين الماضي، وفتح المضارع، وخَطَفَ يَخْطَفُ] عكس اللغة الأولى وفيه تراكيب كثيرة، والمشهور منها الأولى. الثانية: يخطِف بكسر الطاء، قرأها مجاهد. الثالثة: عن الحسن بفتح «الياء والخاء والطاء» ، مع تشديد «الطاء» ، والأصل: «يَخْتَطِفُ» ، فأبدلت «تاء» الافتعال «طاء» للإدغام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 الرابعة: كذلك، إلاّ أنه بكسر الطاء على [أنه] أصل التقاء السَّاكنين. الخامسة: كذلك، إلا أنه بكسر «الخاء» إتباعاً لكسرة الطاء. السَّادسة: كذلك إلا أنه بكسر الياء أيضاً إتباعاً للخاء. السابعة: «يختطف» على الأصْل. الثامنة: يَخْطِّف بفتح الباء، وسكون الخاء، وتشديد الطاء [وهي رديئة لتأديتها إلى التقاء ساكنين. التاسعة: بضمّ الياء، وفتح الخاء، وتشديد الطاء] مكسورة، والتضعيف فيه للتكثير لا للتعدية. العاشرة: «يَتَخَطَّفُ» عن أُبّيّ من قوله: {وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] . و «الخَطْف» : أخذ شيء بسرعة، وهذه الجملة - أعني قوله: «يَكَادُ البرق يخطف» لا محلّ لها، لأنه استئناف كأنه قيل: كيف يكون حالهم مع ذلك البرق؟ فقيل: يكاد يخطف، ويحتمل أن تكون في محل جر صفة ل «ذوي» المحذوفة: التقدير: كذوي صيِّب كائدٍ البرق يخطف. قوله: {كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ} . «كُلَّ» نصب على الظرف؛ لأنها أضيفت إلى «ماط الظرفية، والعامل فيها جوابها، وهو» مشوا «. وقيل:» ما «نكرة موصوفة ومعناها الوقت أيضاً، والعائد محذوف تقديره: كل وقت أضاء لهم فيه، ف» أضاء «على الأول لا مَحَلَّ له؛ لكونه صلةً، ومحلّه الجر على الثاني. و «أضاء» يجوز أن يكون لازماً. وقال المُبَرِّدُ: «هو متعدّ، ومفعوله محذوف أي: أضاء لهم البَرْقُ الطريق» ف «الهاء» في «فيه» تعود على البَرْقِ في قول الجمهور، وعلى الطَّريق المحذوف في قول المُبَرّد. و «فيه» متعلّق ب «مشوا» ، وطفي «على بابها أي: إنه محيط بهم. وقيل: بمعنى الباء، ولا بد من حذفٍ على القولين: أي: مشوا في ضوئه: أي بضوئه، ولا محل لجملة قوله:» مشوا «؛ لأنها مستأنفة، كأنه جواب لمن يقول: كيف يمضون في حالتي ظهور البرق وخفائه؟ والمقصود تمثيل شدة الأمر على المنافقين بشدته على أصحاب الصَّيِّب، وما هم فيه من غاية التحيُّر والجهل بما يأتون، وما يذرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 واعلم أن» كلّ «من ألفاظ العموم، وهو اسم جامع لازم للإضافة، وقد يحذف ما يُضَاف إليه، وهل تنوينه حينئذ تنوين عوض، أو تنوين صرفٍ؟ قولان: والمضاف إليه» كل «إن كان معرفة وحذف، بقيت على تعريفها، فلهذا انتصب عنها الحال، ولا يدخلها الألف واللام، وإن وقع ذلك في عبارة بعضهم، وربما انتصب حالاً، وأصلها أن تستعمل توكيداً ك» أجمع «، والأحسن استعمالها مبتدأ، وليس كونها مفعولاً بها مقصوراً على السماع، ولا مختصّاً بالشعر، خلافاً لزاعم ذلك. وإذا أضيفت إلى نكرة أو معرفة بلام الجنس حسن أن تلي العواملة اللفظية، وإذا أضيفت إلى نكرة تعين اعتبار تلك النكرة فيما لها من ضمير وغيره، تقول:» كل رجال أَتَوْكَ، فأكرمهم «، ولا يجوز أن تراعي لفظ» كل «فتقول:» كلُّ رجالٍ أتاكَ، فأكْرِمه «، و» كلُّ رجلٍ أتاكَ، فأكْرِمه «ولا تقول» كلُّ رجلٍ أتَوْك، فأكْرِمْهم «؛ اعتباراً بالمعنى، فأما قوله: [الكامل] 264 - جَادَتْ عَلَيْه كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتَرَكْنَ كُلَّ حَدِيقَةٍ كَالدِّرْهَمِ فراعى المعنى، فهو شاذّ لا يقاس عليه. وإذا أضيفت إلى معرفة فوجهان، سواء كانت بالإضافة لفظاً؛ نحو: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً} [مريم: 95] فرَاعى لفظ» كُل «. أو معنى نحو: [العنكبوت: 40] فراعى لفظها، وقال: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] فراعى المعنى. وقول بعضهم:» إن كلما «تفيد التكرار» ليس ذلك من وضعها، وإنما استفيد من العموم التي دلّت عليه. فإنك إذا قلت: «كلما جئتني أكرمتك» كان المعنى أكرمك في كل فرد [فرد] من جيئاتك إلَيّ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وقرأ ابن أبي عبلة «ضَاءَ» ثلاثياً، وهي تدل علىأن الرباعي لازم. وقرىء: «وَإِذَا أُظْلِمَ» مبنياً للمفعول، وجعله الزمخشري دالاًّ على أن «أظلم» متعدٍّ، واستأنس أيضاً بقول حَبيبٍ: [الطويل] 265 - هُمَا أَظْلَمَا حالَيَّ ثُمَّتَ أَجْلَيَا ... ظَلاَمَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أَمْرَدَ أَشْيَبِ ولا دليل في الآيَةِ؛ لاحتمالِ أنَّ أصله، «وإذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ عليهم» ، فلما بني للمفعول حذف الليل، وقام «عَلَيْهِم» مقامه، وأما بينت حبيب فمولّد. وإنما صدرت الجملة الأولى ب «كلّما» والثانية ب «إذا» ، قال الزمخشري: «لأنهم حراصٌ على وجود ما هَمّهم به، معقود من إمكان المشي وتأتِّيه، فكلما صادفوا منه فرصة انتهزوها، وليس كذلك التوقُّفُ والتَّحبُّسُ» وهذا هو الظاهر، إلاَّ أن من النحويين من زعم أن «إذا» تفيد التكرار أيضاً؛ وأنشد: [البسيط] 266 - إِذَا وَجَدْتُ أُوَارَ الحُبِّ في كَبِدِي ... أَقْبَلْتُ نَحْوَ سِقَاءِ القَوْمِ أَبْتَرِدُ قال: «معناه معنى» كلما «. قوله:» قَامُوا «أي وقفوا أو ثبتوا في مكانهم، ومنهن» قامت السوق «. قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} . » لو «حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، هذه عبارة سيبويه وهي أولى من عبارة غيره، وهي حرف امتناع لامتناع لصحة العبارة الأولى في نحو قوله تعالى: {لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} [الكهف: 109] . وفي قوله عليه السلام:» نِعْمَ العَبْدُ صُهَيْب، لو لم يَخفِ الله لم يَعْصِهِ «وعدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 صحّة الثانية في ذلك كما سيأتي محرراً، ولفساد قولهم:» لو كان إنساناً لكان حيواناً «؛ إذْ لا يلزمُ من امتناع الإِنسَانِ امتناعُ الحيوان، ولا يجزم بها خلافاً لقَوْم، فأما قوله: [الرمل] 267 - لو يَشَأْ طَارَ بِهِ ذُو مَيْعَةٍ ... لاَحِقُ الآطَالِ نَهْدٌ ذُو خُصَلْ وقول الآخر: [البسيط] 268 - تَامَتْ فُؤَادَكَ لَوْ يَحْزُنْكَ مَا صَنَعَتْ ... إِحْدىَ نِسَاءِ بَنِي ذُهْلِ بْنِ شَيْبَانَا فمن تسكين المتحرك ضرورةً. وأكثر ما تكون شرطاً في الماضي، وقد تأتي بمعنى» إِن «؛ كقوله تعالى: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ} [النساء: 9] وقوله: [الطويل] 269 - وَلَوْ أَنَّ لَيْلَى الأخْيَليَّةَ سَلَّمَتْ ... عَلَيّ ودُوني جَنْدَلٌ وَصَفَائِحُ [لَسَلَّمْتُ تَسْلِيمَ البَشَاشَةِ أَوْ زَقَا ... إِلَيْهَا صَدًى مِنْ جَانِبِ القَبْرِ صَائِحُ] ولا تكون مصدريةً على للصحيح، وقد تُشَرَّب معنى التمني، فتنصب المضارع بعد» الفاء «جواباً لها؛ نحو: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ} [الشعراء: 102] وسيأتي تحريره إن شاء الله تعالى. قال ابن الخطيب: المشهور أن» لو «تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، ومنهم من أنكر ذلك، وزعم أنها لا تفيد إلا الرَّبط، واحتج عليه بالآية والخبر: أما الآية فقوله تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] ، فلو أفادت كلمة» لو «انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره لزم التَّنَاقض؛ لأن قوله: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} [الأنفال: 23] ، يقتضي أنه ما علم فيهم خيراً وما أسمعهم، وقوله: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] ، يقيد أنه ما أسمعهم، ولا تولوا؛ لكن عدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 التولي خير، فيلزم أن يكون قد علم فيهم خيراً، وما علم فيهم خيراً. وأما الخبر فقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «نعم الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لو لم يَخَفِ اللهَ لم يَعْصِهِ» فعلى مقتضى قولهم: يلزم أنه خاف الله وعصاه، وذلك متناقض، فعلمنا أن كلمة «لو» إنما تفيد الربط. و «شاء» أصله: «شيء» على «فعِل» بكسر العين، وإنما قلبت «الياء» «ألفاً» للقاعدة الممهدة ومفعوله محذوف تقديره ولو شاء الله إذهاباً؛ وكثر حف مفعوله ومفعول «أراد» ، حتى لا يكاد ينطق به إلا في الشيء المستغرب؛ كقوله تعالى: {لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} [الزمر: 4] ؛ وأنشدوا: [الطويل] 270 - وَلَوْ شِئْتُ أَنْ أَبْكِي دَماً لَبَكَيْتُهُ ... عَلِيْهِ وَلَكِنْ سَاحَةُ الصَّبْرِ أَوْسَعُ واللام في «لذهب» جواب «لو» . واعلم أن جوابها يكثر دخول «اللا» عليه مثبتاً، وقد تحذف؛ قال تعالى: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة: 70] . ويقلّ دخولها عليه منفياً ب «مَا» ، ويمتنع دخولها عليه منفياً بغير «مَا» ؛ نحو: «لو قمت لَمْ أَقُمْ» ؛ لتوالي لامين فيثقل، وقد يحذف؛ كقوله: [الكامل] 271 - لا يُلْفِكَ الرَّاجُوكَ إِلاَّ مُظْهِراً ... خُلُقَ الكِرَامِ وَلَوْ تكُونُ عَدِيمَا و «بسمعهم» كتعلّق ب «ذهب» . وقؤئ: «لأَذْهَبَ» فتكون «الياء» زائدة أو تمون فَعَل وأَفْعَل بمعنى، ونحوه {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] والمراد من السمع: السماع، أي: لذهب بأسماعهم وأبصارهم الظاهرة كما ذهب بأسماعهم وأبصارهم الباطنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وقيل: لذهب بما استفادوا من العِزِّ والأمان الذي لهم بمنزلة السمع والبصر. وقر ابن عامر وحمزة «شاء» و «جاء» حيث كان بالإمالة. قوله: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . هذه جملة مؤكّدة لمعنى ما قبلها، و «كُلّ شيء» متعلّق ب «قدير» وهو «فعيل» بمعنى «فاعل» ، مستق من القُدْرة، وهي القوة والاستطاعة، وفعلها «قَدَرَ» بفتح العين، وله ثلاثة عشر مصدراً: «قدْرَة» بتثليث القاف، و «مَقْدرَة» بتثليث الدال، و «قَدْراً» ، و «قَدَراَ» ، و «قُدَراَ» ، و «قَدَاراً» ، و «قُدْرَاناً» ، و «مَقِْراً» و «قدير» أبلغ من «قادر» ، قاله الزَّجاج. وقيل: هما بمعنى واحد؛ قال الهَرَوِيّ. والشيء: ما صحّ أن يعلم من وَجْه ويخبر عنه، وهو في الأصل مصدر «شاء يشاء» ، وهل يطلق على المعدوم والمستحيل؟ خلاف مشهور. فَصْلٌ في بيان المعدوم شيء؟ استدلّ بعضهم بهذه الآية على أن المعدوم شيء، قال: «لأنه - تعالى - أثبت القدرة على الشيء، والموجود لا قدرة عليه؛ لاستحالة إيجاد الموجود، فالذي عليه القُدْرة معدوم وهو شيء، فالمعدوم شيء» . والجواب: لو صَحَّ هذا الكلام لزم أنَّ ما لا يقدر عليه ألا يكون شيئاً، فالموجود إذا لم يقدر الله عليه وجب ألا يكون شيئاً. فصل في بيان وصف الله تعالى بالشيء قال ابن الخطيب: احتج جَهْمٌ بهذه الآية على أنه - تعالى - ليس بشيء لأنه - تعالى - ليس بمقدور له، فوجب إلاَّ يكون شيئاً، واحتج أيضاً بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . قال: «لو كان الله - تعالى - شيئاً، لكان - تعالى - مثل نفسه، فكان قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] كذب، فوجب ألا يكون شيئاً؛ حتى لا تتناقض هذه الآية» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 قال ابن الخطيب: وهذا الخلاف في الاسم؛ لأنه لا واسطة بين الموجود والمعدوم، قال: واحتج أصحابنا بقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ} [الأنعام: 19] . وبقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] والمستثنى داخل في المستثنى منه، فوجب أن يكون شيئاً. فصل في أن مقدور العبد مقدور لله تعالى قال ابن الخطيب: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن مقدور العبد مقدور لله تعالى، خلافاً لأبي هَاشِم وأبي عَلِيّ. وجه الاستدلال: أن مقدور العَبْدِ شيء، وكلّ شيء مقدور لله - تعالى - بهذه الآية، فيلزم أن يكون مقدور العبد مقدوراً لله تعالى. فصل في جواز تخصيص العام تخصيص العام جائز في الجملة، وأيضاً تخصيص العام بدليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 العقل، فإن قيل: إذا كان اللَّفظ موضوعاً للكل، ثم تبين أن الكل غير مراد كان كذباً، وذلك يوجب الطَّعن في كلّ القرآن. والجواب: أن لفظ «الكُلّ» كما أنه يستعمل في المجموع، فقد يستعمل مجازاً في الأكثر، وإذا كان ذلك مجازاً مشهوراً في اللَّغة لم يكن استعمال اللفظ فيه كذباً، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 اعلم أنه - تعالى - لما بين أحكام الفِرَقِ الثلاث - أعني المؤمنين والكفار والمنافقين - أقبل عليهم بالخطاب وهو من باب «الالتفات» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 «يا» حرف نداء وهي أم الباب. وزعم بعضهم أنها اسم فعل، وقد تحذف نحو: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} [يوسف: 29] . وينادي بها المندوب والمستغاث. قال أبو حيان: «وعلى كثرة وقوع النداء في القرآن لم يقع نداء إلاَّ بها» . وزعم بعضهم أن قراءة: «أَمَنْ هُوَ قَانِتٌ» [الزمر: 9] بتخفيف الميم أن الهمزة فيه للنداء، وهو غريب، وقد يراد بها مجرد التنبيه فيليها الجمل الاسمية والفعلية، قال تعالى: {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} [النمل: 25] بتخفيف أَلاَ؛ وقال الشاعر: [الطويل] 272 - أَلاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَةِ سِنْجَالِ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . وقال آخر: [البسيط] 273 - يا لَعْنَةُ اللهِ وَالأَقْوَامِ كُلُّهِمُ ... وَالصَّالِحِينَ عَلَى سمْعَانَ مِنْ جَارِ و «أي» اسم منادى في محلّ نصب، ولكنه بني على «الضم» ؛ لأنه مفرد معرفة، وزعم الأخفش أنها هنا موصولة، وأن المرفوع بعدها خبر مبتدأ مضمر، والجملة صلةٌ، والتقدير: «يا الَّذِين هُمُ النَّاس» ، والصحيح الأول، والمرفوع بعدها صفة لها، [والمشهور] : يلزم رفعه، ولا يجوز نصبه على المحلّ خلافاً للمازني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 و «ها» زائدة للتنبيه لازمة لها، والمشهور فتح هَائِهَا، ويجوز ضمُّها إتباعاً للياء، وقد قرأ ابن عامر بذلك في بعض المواضع نحو «أَيُّهُ المُؤْمِنُونَ» [النور: 31] والمرسوم يساعده. ولا توصف «أي» هذه إلا بما فيه الألف واللام، أو بموصول هما فيه، أو باسم إشارة نحو: {ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} [الحجر: 6] وقال الشاعر: [الطويل] 274 - ألاَ أَيُّهَذَا النَّابِحُ السِّيدَ إِنَّنِي ... عَلَى نَأْيهَا مُسْتَبْسِلٌ مِنْ وَرَائِهَا وفسر بعضهم يا زيد: أنادي زيداً، وأخاطب زيداً، وهو خطأ من وجوه: أحدهما: أن قوله: «أنادي زيداً» خبر يحتمل الصدق والكذب، وقوله: يا زيد لا يحتملهما. وثانيها: أن قولنا: «يا زيد» يقتضي أن زيداً منادى في الحال، و «أنادي زيداً» لا يقتضي ذلك. وثالثها: أن قولنا: «يا زيد» يقتضي صيرورة زيد خاطباً هذا الخطاب، و «أنادي زيداً» لا يقتضي ذلك؛ لأنه لا يمكن أن يخبر إنساناً آخر بأن أنادي زيداً. ورابعها: أن قولنا: أنادي زيداً إخبار عن النداء، والإخبار عن النداء غير النداء. واعلم أن «يا» حرف وضع في أصله لنداء البعيد، وإن كان لنداء القريب، [لكن بسبب أمر مهم جدًّا، وأما نداء القريب فله: «أي» والهمزة] ثم استعمل في نداء من سها وغفل وإن قرب، تنزيلاً له منزلة البعيد. فإن قيل: فلم يقول الداعي: «يا رب» ، «يا الله» وهو أقرب إليه من حبل الوريد؟ قلنا: هو استبعاد لنفسه من مَظَانّ الزُّلْفَى، إقراراً على نفسه بالتقصير. و «أي» وصلة إلى نداء ما فيه الألف واللام كما أن «ذو» الذي وصلة إلى وصلة إلى الوصف بأسماء الأجناس ووصف المعارف بالجمل، وهو اسم مبهم، فافتقر إلى ما يزيل إبهامه، فلا بد وأن يردفه اسم جنس، أو ما جرى مجراه، ويتصف به حتى يحصل المقصود بالنداء. ول «أي» معانٍ أخر كالاستفهام، والشرط، وكونها موصولة، ونكرة موصوفة لنكرة، وحالاً لمعرفة. و «النَّاس» صفة «أي» ، أو خبر محذوف حسب ما تقدم من الخلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 و «اعبدوا ربكم» جملة أمرية لا محلّ لها؛ لأنها ابتدائية. «الَّذي خَلَقَكُمْ» فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: نصبه على النَّعت ل «ربكم» . الثَّاني: نصبه على القطع. الثالث: رفعه على القطع أيضاً. وقد تقدّم معناه. فصل في تقسيم ورود النداء في القرآن الكريم قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْه: «يا أيُّهَا النَّاسُ» خطاب لأهل «مكة» و «يا أيُّهَا الَّذِين آمَنُوا» لأهل «المدينة» ، ورد على قوله هذه الآية بان البقرة مدنية. وقال غيره: كلّ ما كان في القرآن من قوله: «يا أيها الذين آمنوا» فهو مدني. وأما قوله: {يَاأَيُّهَا الناس} فمنه مكّي، ومنه [مدني] وهذا خطاب عام؛ لأنه لفظ جمع معرف، فيفيد العموم، لكنه مخصوص في حقّ ما لا يفهم، كالصَّبي، والمجنون، والغافل، ومن لا يقدر، لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . ومنهم من قال: إنه مخصوص في حق العبيد، لأنّ الله - تعالى - أوجب عليهم طاعة مواليهم، واشتغالهم بطاعة المولى كمنعهم عن الاشتغال بالعبادات، والأمر الدَّال على وجوب طاعة المولى أخصّ من الأمر الدَّال على وجوب العبادة، والخاصّ مقدّم على العام، والكلام على هذا مذكور في أصول الفقه. قال ابن الخطيب: قوله: {يَاأَيُّهَا الناس} يتناول جميع الناس الموجودين في ذلك العصر، فهل يتناول الَّذين سيوجدون بعد ذلك أم لا؟ قال: «والأقرب أنه لا يتناولهم؛ لأن قوله: {يَاأَيُّهَا الناس} خطاب مُشَافهة، وخطاب المُشَافهة مع المعدوم لا يجوز» ، وأيضاً فالذين سيوجدون ما كانوا موجودين في تلك الحالة، وما لا يكون موجوداً لا يكون إنساناً، فلا يدخل تحت قوله: {يَاأَيُّهَا الناس} . فإن قيل: فوجب أن يتناول أحداً من الَّذين وجدوا بعد ذلك الزمان، وإنه باطل قطعاً. قلنا: لو لم يجد دليل منفصل لكان الأمر كذلك، إلاَّ أنا عرفنا بالتَّواتر من دين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 محمد أن تلك الخطابات ثابتة في حَقِّ من سيوجد بعد ذلك إلى قيام السَّاعة؛ فلهذه الدلالة المنفصلة أوجبنا العموم. فصل في المراد بالعبادة في القرآن قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْه: «كلّ ما ورد في القُرْآن من العبادة فمعناها التوحيد» . وقال ابن الخطيب: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ} أمر كلّ واحد بالعبادة، فهل يفيد أمر الكلّ بكل عبادة؟ الحقّ لا؛ لأن قوله: {اعبدوا} معناه: أدخلوا هذه الماهية في الوجود، فإذا أتوا بفرد من أفراد هذه الماهيّة في الوجود فقد أدخلوا الماهية في الوجود؛ لأن الفرد من أفراد الماهية مشتمل على الماهية، لأن هذه العبادة عبارة عن العِبَادَةِ مع قيد كونها هذه، ومتى وجد المركب فقد وجد فيه قيده، فالآتي بفرد من أفراد العبادة أتى بالعبادة، وأتى بتمام ما اقتضاه قولنا: «اعْبُدُوا» ، وإذا كان كذلك وجب خروجه عن العهدة. فصل في قول منكري التكليف ذكر ابن الخطيب عن منكري التكليف أنهم لا يجوِّزون ورود الأمر من الله - تعالى - بالتكاليف لوجوه: منها أنَّ الَّذي ورد به التكليف: إما أن يكون قد علم الله في الأزل وقوعه، أو علم أنه لا يقع، أو لم يعلم لا هذا ولا ذاك، فإن كان الأوّل كان واجب الوقوع، فلا فائدة في الأمر به، وإن علم أنه لا يقع كان ممتنع الوقوع، فكان الأمر به أمراً بإيقاع الممتنع، وإن لم يعلم لا هذا ولا ذاك كان ذلك قولاً بالجهل على الله، وهو محال. وأيضاً فورود الأمر بالتكاليف إمَّا أن يكون لفائدة، أو لا لفائدة، فإن كان لفائدة فإما أن يعود إلى المعبود، أو إلى العابد، أمّا إلى المعبود فمحال؛ لأنه كامل لذاتهن والكامل لذاته لا يكون كاملاً بغيره، ولأنا نعلم بالضرورة أنّ الإله العالي على الدَّهر والزمان يستحيل أن ينتفع بركوع العبد وسجوده. وإن كانت الفائدة تعود إلى العابد فمحال؛ لأن جميع الفوائد محصورة في حصول اللَّذَّة ودفع الألم، وهو - سبحانه وتعالى - قادر على تحصيل كلّ ذلك للعبد، من غير واسطة هذه المشاق، فيكون توسّطها عبثاً، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 والعبث غير جائز على الحكيم. وأيضاً إنَّ العبد غير موجد لأفعاله؛ لأنه غير عالم بتفاصيلها، ومن لا يعلم تفاصيل الشيء لا يكون موجداً له، وإذا لم يكن العبد موجداً لأفعال نفسه، فإن أمره بذلك الفعل حالة ما خلقه فيه فقد أمره بتحصيل الحاصل، وإن أمره حالة ما لم يخلقه فيه فقد أمره بالمحال، وكل ذلك باطل. وأجاب ابن الخطيب بوجهين: أحدهما: أن أَصْحَابَ هذه الشّبه، أوجبوا بما ذكروه اعتقاد عدم التَّكليف، فهذا التكليف ينفي التكليف، وإنه متناقض. والثاني: أن عندنا يحسن من الله كل شيء، سواء كان ذلك تكليف ما لا يطاق أو غيره؛ لأنه - تعالى - خالقٌ مالكٌ، والمالك لا اعتراض عليه في فِعْلِهِ. والخَلْق اختراع الشَّيء على غير مِثَالٍ سبق، وهذه الصِّفة ينفرد بها الباري تعالى، ويُطْلَقُ أيضاً على التقْدِيرِ «؛ قال زُهَيْر: [الكامل] 275 - وَلأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْ ... ضُ القَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي وقال الحَجَّاج: «ما خَلَقْتُ إلاَّ فَرَيْتُ وَلاَ وَعَدْتُ إلاَّ وَفَيْتُ» وهذه الصّفة لا يختص بها الله تعالى، وقد غلط أبو عبد الله البصري في أنه لا يطلق اسم «الخَالِقِ» على الله - تعالى؛ قال: «لأنه مُحَالٌ، وذلك أن التقدير والتسوية في حقِّ اللهِ ممتنعانِ، لأنهما عبارة عن التفكُّر والزَّن» ، وكأنه لم يسمع قوله تعالى: {هُوَ الله الخالق البارىء} [الحشر: 24] {الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] ، وكأنَّه لا يعلَم أن الخَلْق يكون عبارة عن الإنشاء والاختراع. قوله: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} محلّه العطف على المنصوب في «خلقكم» و «من قبلكم» صلة «الذين» ، فيتعلّق بمحذوف على ما تقرر. و «من» لابتداء الغاية، واستشكل بعضهم وقوع «من قبلكم» صلة من حيث إن كل ما جاز أن يخبر به جاز أن يقع صلة، و «من قبلكم» ناقص ليس في الإخبار به عن الأعيان فائدة إلا بتأويل، فكذلك الصّلة. قال: وتأويله أن ظرف الزمان إذا وصف صح الإخبار والوصل به تقول: «نحن في يوم طيب» ، فيكون التقدير هنا - والله أعلم - «والَّذِينَ مِنْ قَبْلَكُمْ» - بفتح الميم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 قال الزمخشري: ووجهها على إشكالها أن يقال: أقحم الموصول الثاني بين الأوّل وَصِلَتِهِ تأكيداً، كما أقحم جرير في قوله: [البسيط] 276 - يَا تَيْمُ تَيْمَ عَدِيِّ لاَ أَبَا لَكُمُ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . تيْماً الثاني بين الأوَّل، وما أضيف إليه، وكإقحامهم لام الإضَافةِ بين المضاف والمضاف إلَيْه في نَحْو: «لاَ أَبَا لَكَ» قيل: هذا الذي قاله مذْهَبٌ لبعضهم؛ ومنه قوله: [الطويل] 277 - مِنَ النَّفَرِ اللاَّءِ الَّذِينَ إذَا هُمُ ... يَهَابُ اللِّئَامُ حَلْقَةَ البَابِ قَعْقَعُوا ف «إذا» وجوبها صلةُ «اللاَّء» ، ولا صلةَ للذين؛ لأنه توكيد للأول، إلا أن بعضهم يرد هذا القول، ويجعله فاسداً من جهة أنه لا يؤكد الحرف إلا بإعادة ما اتّصل به، فالموصول أولى بذلك، وخرج الآية والبيت على أن «مَنْ قَبْلَكُمْ» صلةٌ للموصول الثَّاني، والموصول الثَّاني وصلته خبر لمبتدأ محذوف، والمبتدأ وخبره صلة الأول، والتقدير: «والَّذين هُمْ مِنْ قَبْلِكُم» ، وكذا [البيت] فجعل «إذا» وجوابها صلةً [للَّذِينَ، واللَّذِينَ خبر لمبتدأ محذوف، وذلك المبتدأ وخبره صلة] ل «اللاء» ، ولا يخفَى ما في هذا التعسُّف. قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} . «لعل» واسمها وخبرها، وإذا ورد في كلام الله - تعالى - فللناس فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أن «لَعَلّ» على بابها من الترجّي والإطماع، ولكن بالنسبة إلى المخاطبين، أي: لعلَّكم تتقون على رجائكم وطمعكم؛ وكذا قاتل سيبويه في قوله تعالى: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] : أي: اذْهَبَا على رجائِكُمَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 والثَّاني: أنها للتعْليل: أي: اعْبُدُوا ربَّكُم؛ لِكَيْ تَتَّقُوا، وبه قال قُطْرُبٌ، والطبريُّ وغيرُهُما؛ وأنشدوا: [الطويل] 278 - وقُلْتُمْ لَنَا: كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنَا ... نَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ فَلَمَّا كَفَفْنَا الحَرْبَ كَانَتْ عُهُودُكُمْ ... كَلَمْعِ سَرَابٍ في المَلاَ مُتَأَلِّقِ أي: لنكُفَّ الحَرْبَ، ولو كانت «لَعَلّ» للترجِّي، لم يقل: وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ. والثَّالث: أنها للتعَرُّض للشيْءِ؛ كأنه قيل: افْعَلُوا ذلك متعرضِّين لأن تَتَّقُوا. وقال القَفَّال: «لعل» مأخوذةٌ من تكرير الشيء لقولهم: عللاً بعد نَهَلِ، و «اللام» فيها هي «لام» التأكيد كاللام التي تدخل في «لقد» ، فأصل «لعل» : طعل «؛ لأنهم يقولون:» علك أن تفعل كذا «: أي لعلك. وإن كانت حقيقة في التكرير والتأكيد، كان قول القائل: افعل كذا لعلّك تظفر بحاجتك. معناه: افعله؛ فإن فعلك له يؤكد طلبك له ويقويك عليه، وهذه الجملة على كل قول متعلّقة من جهة المعنى ب» اعبدوا «أي: اعبدوا على رجائكم التَّقوى، أو لتتقوا، أو متعرّضين للتقوى، وإليه مال المهدوي، وأبو البقاء. وقال ابن عطيّة:» [يتجه] تعلّقها بخلقكم، لأنَّ كل مولود يولد على الفطرة، فهو بحيث يرجى أن يكون متقياً «، إلاَّ أن المهدوي منع من ذلك. قال: لأن من ذرأه الله لجهنم لم يخلقه ليتقي، ولم يذكر الزمخشري غير تعلّقها ب» خلقكم «ثم رتب على ذلك سؤالين: أحدهما: أنه كما خلق المُخاطبين لعلّهم يتقون، كذلك خلق الذين من قبلهم لذلك فلم خصّ المخاطبين بذلك دون من قبلهم؟ وأجاب عن ذلك بأنه لم يقصر عليهم، بل غَلّب المخاطبين على الغائبين في اللفظ والمعنى على إرادة الجميع. السُّؤال الثاني: هلا قيل:» تعبدون «لأجل» اعبدوا «أو اتقوا لمكان» تتقون «ليتجاوب طرفا النظم؟ وأجاب بأن التقوى ليست غير العبادة حتى يؤدي ذلك إلى تنافر النَّظْم، وإنَّما التقوى قصارى أمر العابد، وأقصى جهده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 قال أبو حَيَّان: وأما قوله: ليتجاوب طرفا النَّظم، فليس بشيء؛ لأنه لا يمكن هنا تجاوب طرفي النظم، إذ يصير اللفظ: اعبدوا ربكم لعلكم تعبدون، أو اتقوا ربكم لعلكم تتقون، وهذا بعيد في المعنى؛ إذ هو مثل: اضرب زيداً لعلك تضربه، واقصد خالداً لصحّته أن يكون» لعلكم تتقون «متعلّقاً بقوله:» اعبدوا «فالَّذي نودوا لأجله هو الأمر بالعبادة، فناسب أن يتعلّق بها ذلك، وأتى بالموصول وصلته في سبيل التوضيح، أو المدح الذي تعلقت به العبادة، فلم يُجَأْ بالموصول ليحدّث عنه، بل جاء في ضمن المقصود بالعيادة، فلم يكن يتعلّق به دون المقصود، وأجاب بعضهم عن كلام الزمخشري بأنه جعل» لعل «متعلّقة ب» خلقكم «لا ب» اعبدوا «، فلا يصير التقدير: اعبدوا لعلكم تعبدون، وإنما التقدير: اعبدوا الذي خلقكم لعلكم تعبدون؛ أي خلقكم لأجل العبادة، يوضِّحه: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . وفي «لَعَلّ» لغاتٌ كثيرةٌ، وقد يُجَرُّ بها؛ قال: [الوافر] 279 - لَعَلَّ اللهِ فَضَّلَكُمْ عَلَيْنَا ... بِشَيْءٍ أَنَّ أُمَّكُمُ شَرِيمُ ولا تنصب الاسمين على الصحيح، وقد تدخل «أَنْ» في خبرها؛ حملاً على «عَسَى» ؛ قال: [الطويل] 280 - لَعَلَّكَ يَوْماً أنْ تُلِمَّ مُلِمَّةٌ ..... ... ... ... ... ... ... ... وقد تأتي للاستفهام والتعليل كما تقدم، ولكن أصلها أن تكون للترجّي والطمع في المحبوبات والإشفاق من المكروهات ك «عسى» ، وفيها كلام طويل يأتي في غضون هذا الكتاب إن شاء الله تَعَالَى. و «تَتَّقَونَ» أصله «توتقيون» ؛ لأنه من «الوقاية» ، فأبدلت الواو ياء قبل تاء الافتعال، وأدغمت فيها، وقد تقدم ذلك في «المتقين» ، ثم استثقلت «الضّمة» على «الياء» فقدرت، فسكنت الياء والواو بعدها، فحذفت الياء لالتقاء السَّاكنين، وضمت القاف لتجانسها، فوزنه الآن «تفتعون» ، وهذه الجملة أعني «لعلكم تتقون» لا يجوز أن تكون حالاً؛ لأنها طلبية، وإن كانت عبارة بعضهم تُوهمُ ذلك، ومفعول «تتقون» محذوف أي: تتقون الشرك، أو النار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 فَصْلٌ في الاستدلال بالآية على الصانع هذه الآية تدلّ على الصانع القادر الفاعل المختار، سأل بعض الدهرية الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - ما الدَّليل على الصانع؟ فقال: ورقة الفِرْصَاد طعمها ولونها وريحها وطبعها واحد عندكم؟ قالوا: نعم. قال: فتأكلها دودة القَزّ فيخرج منها الإبْرَيْسم، ويأكلها النحل فيخرج منها العَسَل، والشَّاة فيخرج منها البَعَر، وتأكلها الظِّبَاء فينعقد في نوافجها المسك، فمن الذي جعلها لذلك مع أن الطَّبع واحد؟ فاستحسنوا ذلك وآمنوا على يديه، وكانا سبعة عشر. وسئل أبو حنيف - رَضِيَ اللهُ عَنْه - عن الصَّانع فقال: الوالد يريد الذكر، فيكون أنثى، وبالعكس فيدلّ على الصَّانع. وتمسك أحمد بن حنبل بقلعة حصينة مَلْسَاء لا فُرْجَةَ فيها، ظاهرها كالفضّة المُذّابة، وباطنها كالذهب الإبريز، ثم انشقت الجدران، وخرج من القلعة حيوان سميع بصير، فلا بُدّ من الفاعل؛ عنى بالقلعة البيضة، وبالحيوان الفرخ. وقال آخر: عرفت الصَّانع بنحلة بأحد طرفيها عسل، وبالآخر لسع، والعسل مقلوب لسع. فإن قيل: ما الفائدة في قوله {والذين مِن قَبْلِكُمْ} ، وخلق الذين من قبلهم لا يقتضي وجوب العبادة عليهم. والجواب: أن الأمر وإن كان على ما ذكر ولكن علمهم بأن الله - تعالى - خلقهم كعلمهم بأنه خلق من قبلهم؛ لأن طريقة العلم بذلك واحدة. وأيضاً أن من قبلهم كالأصول لهم، وخلق الأصول يجري مجرى الإنعام على الفروع، كأنه - تعالى - يذكرهم عظيم إنعامه عليهم، أي: لا تظن أني إنما أنعمت عليك حين وجدت، بل كنت منعماً عليك قبل أن وجدت بألوف سنين، بسبب أني كنت خالقاً لأصولك. فإن قيل: إذا كانت العبادة تقوى فقوله: {اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ما وجهه؟ والجواب من وجهين: الأول: لا نسلّم أن العبادة نفس التقوى، بل العبادة فعل يحصل به التقوى؛ لأن الاتِّقاء هو الاحتراز عن المَضَارّ، والعبادة فعل المأمور به، ونفس هذا الفعل ليس هو نفس الاحتراز، بل موجب الاحتراز، فإنه - تعالى - قال: {اعبدوا رَبَّكُمُ} لتحترزوا به عن عقابه. وإذا قيل في نفس الفعل: «إنه اتقاء» فذلك غير ما يحصل به الاتقاء، لكن لما اتصل أحد الأمرين بالآخر أجري اسمه عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 الثاني: أنه - تعالى - إنما خلق المكلفين لكي يتقوا ويطيعوا، على ما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فكأنه - تعالى - أمر بعبادة الرَّبِّ الذي خلقهم لهذا الغرض، وهذا التأويل لائق بأصول المعتزلة. فَصْلٌ في القراءات في الآية قرأ أبو عمرو: خَلَقَكُمْ بالإدغام، وقرأ ابن السَّميفع: «وَخَلَقَ مَنْ قَبْلَكُم» . قوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ} يحتمل النصب والرَّفع، فالنصب من خمسة أوجه: أحدها: أن يكون نصبه على القطع. الثاني: أنه نعت لربكم. الثالث: أنه بدل منه. الرابع: أنه مفعول ل «تتقون» ، وبه قال أبو البقاء. الخامس: أنه نعت النعت، أي: الموصول الأول، لكن المختار أن النعت لا ينعت، بل إن جاء ما يوهم ذلك جعل نعتاً للأول، إلا أن يمنع مانع فيكون نعتاً للنعت، نحو قولهم: «يا أيها الفارس ذو الجمة» فذو الجمة نعت للفارس لا ل «أي» ؛ لأنها لا تنعت إلا بما تقدم ذكره. والرَّفع من وجهين: أحدهما وهو الأصح: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هو الذي جعل. والثاني: أنه مبتدأ، وخبره قوله بعد ذلك: فلا تجعلوا لله، وهذا فيه نظر من وجهين: أحدها: أنّ صلته ماضية فلم يشبه الشرط، فلا يزاد في خبره «الفاء» . الثاني: عدم الرابط، إلا أن يقال بمذهب الأخفش، وهو أن يجعل الربط مكرر الاسم الظَّاهر إذا كان بمعناه نحو: «زيد قام أبو عبد الله» إذا كان أبو عبد الله كنية لزيد، وكذلك هنا أقام الجلالة مقام الضَّمير، كأنه قال: الذَّي جعل لكم، فلا تجعلوا له أنداداً. و «الذي» كلمة موضوعة للإشارة إلى المفرد عند محاولة تعريفه بقضية معلومة كقولك: ذهب الرجل الذي أبوه منطلق، فأبوه منطلق قضية معلومة، فإذا حاولت تعريف الرجل بهذه القضية المعلومة أدخلت عليه الَّذي، وهو يحقّق قولهم: إنه مستعمل لوصف المعارف بالجمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 وإذا ثبت هذا فقوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} يقتضي أنهم كانوا عالمين بوجود شيء جعل الأرض فراشاً، والسّماء بناءً، وذلك تحقيق قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] . و «جعل» فيها وجهان: أحدهما: أن تكون بمعنى «صَيَّر» فتتعدى لمفعولين فيكون «الأرض» مفعولاً أول، و «فراشاً» مفعولاً ثانياً. والثاني: أن يكون بمعنى «خلق» فيتعدّى لواحد وهو «الأرض» ويكون «فراشاً» حالاً. و «السماء بناء» عطف على «الأرض فراشاً» ونظيره قوله: {أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً} [النمل: 61] وقوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [طه: 53] . واعلم أن كون الأرض فراشاً مشروط بأمور: قال ابن الخطيب: أحدها: كونها ساكنة؛ فإنها لو كانت متحركة لم يمكن الانتفاع بها لما تقرر في المعقولات. الثاني: ألا تكون في غاية الصَّلابة كالحجر؛ فإن النّوم عليه والمشي مما يؤلم البدن، وأيضاً لو كانت الأرض من الذَّهب مثلاً لتعذّرت الزراعة ولتعذّر حفرها، وتركيبها لما يراد. وألاَّ تكون في غاية اللين كالماء الذي تغوص فيه الرِّجْل. الثالث: ألاّ يكون في غاية اللّطافة والشفافية؛ فإن الشفّاف لا يستقر النور عليه، وما كان كذلك ف"نه لا يسخن بالشمس فكان يبرد جدًّا، فجعل كيفية لونه أخضر ليستقر النور عليهن فيتسخن فيصلح أن يكون فراشاً للحيوانات. الرابع: أن تكون بارزةً من الماء؛ لأن طبع الأرض أن يكون غائصاً في الماء فكان يجب أن تكون البحار محيطةً بالأرض، ولو كانت كذلك لما كانت فراشاً لنا، فقلب الله طبيعة الأرض وأخرج بعض أجزائها [من المياه] كالجزيرة البارزة حتى صلحت لأن تكون فراشاً لنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 ومن الناس من زعم أن الشرط في كون الأرض فراشاً ألا تكون كرة واستدل بهذه الآية، وهذا بعيد؛ لأن الكرة إذا عظمت جدًّا كانت القطعة منها كالسطح في إمكان الاستقرار عليه، والذي يؤيده كون الجبال أوتاداً للأرض ويمكن الاستقرار عليها، فها هنا أولى. فَصْلٌ في منافع الأرض وصفاتها فأولها: الأشياء المتولّدة فيها من المعادن، والنبات، والحيوان، والآثار العلوية والسّفلية، ولا يعلم تفاصيلها إلا الله تعالى. وثانيها: اختلاف بقاع الأرض، فمنها أرض رخوة، وصلبة، ورملة، وسبخة، وحرّة، قال تعالى: {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} [الرعد: 4] . وقال تعالى: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً} [الأعراف: 58] . وثالثها: اختلاف طعمها وروائحها. ورابعها: اختلاف ألوانها فأحمر، وأبيض، وأسود، ورمادي، وأغبر، قال تعالى: {وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ} [فاطر: 27] . وخامسها: انصداعها بالنبات، قال تعالى: {والأرض ذَاتِ الصدع} [الطارق: 12] . وسادسها: كونها خازنةً للماء المنزل، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض} [المؤمنون: 18] . وسابعها: العيون والأنهار العظام. وثامنها: ما فيها من المَفَاوِزِ والفَلَواتِ {والأرض مَدَدْنَاهَا} [ق: 7] . وتاسعها: أن لها طبع الكرم؛ لأنك تدفع إليها حبّة وهي تردها عليك سبعمائة {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] . وعاشرها: حَبَاتها بعد موتها {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا} [يس: 33] . الحادي عشر: ما فيها من الدَّواب المختلفة الألوان والصّور والخلق، {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} [البقرة: 164] . الثانية عشرة: ما فيها من النبات المختلف ألوانه، وأنواعه، ومنافعه: {وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 7] . وفي اختلاف ألوانها دلالة، واختلاف روائحها دلالة، فمنها قوت البشر، ومنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 قوت البهائم: {كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ} [طه: 54] ومطعوم البشر، فمنها الطعام ومنها الإدام، ومنها الرَّوَاء، ومنها الفاكهة، ومنها الأنواع المختلفة في الحَلاَوَةَ والحموضة، ومنها كسوة البشر؛ لأن الكسوة إمّا نباتية وهي القطن والكتان، وإما حيوانية وهي الشَّعَر والصُّوف، والأَبْرَيْسَم، والجاود، وهي من الحيوانات التي بثّها الله في الأرض، فالمطعوم من الأرض، والملبوس من الأرض؛ ثم قال: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] . وفيه إشارة إلى منافع كثيرة لا نعلمها نحن، والله [تعالى عالم بها] ، فَصْلٌ قال بعضهم: السَّماء أفضل من الأرض لوجوه: أحدها: أن السَّماء متعبَّد الملائكة، وما فيها عُصي الله فيها. وثانيها: لما أتى آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الجَنّة بتلك المعصية قيل: اهبط من الجنة، وقال الله: «لا يسكن في جواري من عَصَاني» . وثالثها: {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32] وقوله: {تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً} [الفرقان: 61] ولم يذكر في الأرض مثل ذلك. ورابعها: في أكثر الأمر ورد ذكر السَّماء مقدماً على الأرض في الذكر. وقال آخرون: بل الأرض أفضل؛ لوجوه: أحدها: أنه - تعالى - وصف بقاعاً في الأرض بالبركة {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً} [آل عمران: 96] ، {فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة} [القصص: 30] {إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] . ووصف أرض «الشام» بالبركة فقال: {مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا} [الأعراف: 137] . ووصف جملة الأرض بالبركة فقال: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض} [فصلت: 9] إلى قوله: {وَبَارَكَ فِيهَا} [فصلت: 10] . فإن قيل: فأي بركةٍ في الفَلَواتِ الخالية، والمَفَاوزِ المُهْلِكَةِ؟ قلنا: إنها مساكن الوحوش ومرعاها، ومَسَاكن النَّاس إذا احتاجوا إليها، فلهذه البركة قال تعالى: {وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ} [الذاريات: 20] وهذه الآيات وإن كانت حاصلةً لغير المؤمنين، لكن ممَّا لم ينتفع بها إلا الموقنون جعلها آيات للمؤمنين تشريفاً لهم كما قال: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وثانيها: أنه - سبحانه - خلق الأنبياء المكرمين من الأرض على ما قال: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55] ولم يخلق من السماء شيئاً، لأنه قال: {وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً} [الأنبياء: 32] . وثالثها: أن الله - تعالى - أكرم نبيّه، فجعل الأرض كلها مسجداً، وجعل ترابها طهوراً. فَصْلٌ في فَضْلِ السَّمَاءِ وهو من وجوه: الأول: أن الله - تعالى - زيَّنَهَا بسبعة أشياء: بالمصابيح {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ} [الملك: 5] . وبالقمر {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} [نوح: 16] وبالشمس: {وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} [نوح: 16] . وبالعرش، وبالكرسي، وباللوح المحفوظ، وبالقلم، فهذه السَّبعة ثلاثة منها ظاهرة، وأربعة مثبتة بالدلائل السَّمعية. الثاني: انه - تعالى - سمّاها بأسماء تدلّ على عظم شانها سماء، وسقفاً محفوظاً، وسبعاً طباقاً، وسبعاً شداداً، ثم ذكر عاقبة أمرها فقال: {وَإِذَا السمآء فُرِجَتْ} [المرسلات: 9] ، {وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ} [التكوير: 11] ، {إِذَا السمآء انفطرت} [الانفطار: 1] ، و {إِذَا السمآء انشقت} [الانشقاق: 1] ، {يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ} [الأنبياء: 104] ، {تَكُونُ السمآء كالمهل} [المعارج: 8] ، {يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً} [الطور: 9] . {فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان} [الرحمن: 37] . وذكر مبدأها فقال: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] وقال: {أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا أَنَّ السماوات والأرض كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا} [الأنبياء: 30] فهذا الاستقصاء والتشديد في كيفية حدوثها وفنائها يدلُّ على أنه - سبحانه وتعالى - خلقها لحكمة بالغة على ما قال: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} [ص: 27] . الثَّالث: أنه - تعالى - جعل السَّماء قِبْلَةَ الدعاء، فالأيدي تُرفع إليها، والوجوه تتوجّه نحوها، وهي منزل الأنوار، ومحل الضياء والصّفاء، والطهارة، والعصمة من الخلل والفَسَاد. والبناء: مصدر «بنيت» ، وإنما قلبت «الياء» همزة لتطرُّفها بعد ألف زائدة، وقد يراد به المفعول، و «أنزل» عطف على «جعل» و «من السماء» متعلّق به، وهي لابتداء الغاية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 ويجوز أن يتعلّق بمحذوف على أن تكون حالاً من «ما» ؛ لأن صفة النكرة إذا قدمت عليها نصيب حالاً، وحينئذ معناها التبعيض، وثَمَّ مضاف محذوف أي: من مياه السماء ماء. وأصل «ماء» موه بدليل قولهم: «مَاهَتِ الرَّكِيَّةُ تَمُوهُ» وفي جمعه مياه وأمواه، وفي تصغيره: مويه، فتحركت «الياء» وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً، فاجتمع حرفان خفيفان: «الأف» و «الهاء» ، فأبدلوا من «الهاء» أختها وهي الهمزة؛ لأنها أجلد منها. فإن قيل: كيف قال: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} [البقرة: 22] وإنما ينزل من السَّحاب؟ فالجواب أن يقال: ينزل من السَّماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض. فَصْلٌ في أوجه ورود لفظ الماء قال أبو العباس المقري: ورد لفظ الماء في القُرْآن على ثلاثة أوجه: الأوّل: بمعنى الماء المُطْلَق كهذه الآية. الثاني: بمعنى النّطفة. قال تعالى: {خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] . وقوله: {مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ} [السجدة: 8] . الثالث: بمعنى القرآن. قال تعالى: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] بمعنى القرآن، احتمله الناس على قَدَرٍ. قوله: «فاخرج» عطف على «أنزل» مرتب عليه، و «به» متعلق به، و «الباء» فيه للسببية، و «من الثمرات» متعلّق به أيضاً، و «من» هنا للتبعيض، كأنه قصد بتنكير الماء والرزق معنى البعضِيّة، كأنه قيل: وأنزل من السماء بعض الماء، فأخرج به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم؛ إذ ليس جميع رزقهم هو بعض الثمرات، إنما ذكر بعض رزقهم. وأبعد من جعلها زائدة لوجهين: أحدهما: زيادتها في الواجب، وكون المجرور بها معرفةً، وهذا لا يقول به بَصْرِيّ ولا كُوفِيّ إلاّ أبا الحسن الأَخْفَشَ. والثاني: أن يكون جميع الثمرات رزقاً لنا. وهذا يخالف الواقع؛ إذ كثير من الثمرات ليس رزقاً لنا. وجعلها الزمخشري لبيان الجنس، وفيه نظر؛ إذ لم يتقدم ما يبين هذا، وكأنه يعني أنه بيان ل «رزقاً» من حيث المعنى. و «رزقاً» ظاهره أنه مفعول به ناصبه «أخرج» ، ويجوز أن يكون «من الثمرات» في موضع المفعول به، والتقدير: فأخرج ببعض الماء بعض الثمرات، وفي «رزقاً» حينئذ وجهان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 أحدهما: أن يكون حالاً على أن الرزق بمعنى المرزوق كالطَّحْن والرَّعْي. والثاني: أن يكون مصدراً منصوباً على المفعول من أجله، وفيه شروط النصب موجودة. وأجاز أبو البقاء أن يكون «من الثمرات» حالاً من «رزقاً» ؛ لإنه لو تأخر لكان نعتاً، فعلى هذا يتعلق بمحذوف. وجعل الزمخشري «من الثمرات» واقعاً موقع الثمر، أو الثمار، يعني مما ناب فيه جمع قلّة عن جمع الكَثْرة نحو: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ} [الدخان: 25] و {ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] ، ولا حاجة تدعو إلى هذا؛ لأن جمع السَّلامة المحلَّى ب «أل» الَّتي للعموم يقع للكثرة، فلا فَرْقَ إذن بين الثَّمَرَات والثِّمَار، ولذلك ردَّ المحقِّقون قول من رَدَّ على حَسَّان بن ثابت رَضِيَ اللهُ عَنْه: [الطويل] 281 - لَنَا الجَفَنَاتُ الغُرُّ يَلْمَعْنَ في الضُّحَى ... وَأَسْيَافُنَا يَقْطُرْنَ مَنْ نَجْدَةٍ دَمَا قالوا: كان ينبغي أن يقول: «الجِفَان» ، و «سيوفنا» ؛ لأنه أمدح، وليس بصحيح؛ لما ذكرت قبل ذلك. و «لكم» يحتمل التعلّق ب «أخرج» ، ويحتمل التعلّق بمحذوف، على أن يكون صفة ل «رزقاً» . هذا إن أريد بالرزق المرزوق، وإن أريد به المصدر، فيتحمل أن تكون الكاف في «لكم» مفعولاً بالمصدر واللام مقوية له نحو: «ضربت ابني تأديباً له» أي: تأديبه. قوله: {فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} «الفاء» للتسبب أي: تسبب عن إيجاد هذه الآيات الباهرة النهي عن اتخاذكم الأنداد، و «لا» ناهية، و «تجعلوا» مجزوم بها، علامة جزمه حذف النون، وهي هنا بمعنى تُصَيِّرُوا. وأجاز أبو البَقَاءِ أن تكون بمعنى: تُسَمُّوا، وعَلَى القولين فيتعدى لاثنين. أولهما: «أنداداً» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 وثانيهما: الجار والمجرور قبله، هو واجب التقديم، و «أنداداً» جمع نِدّ. وقال أبو البقاء: «أنداداً» جمع «نِدّ» و «نديد» ، وفي جعله «نديد» نظر؛ لأنّ أفعالاً يحفظ في فعيل بمعنى فاعل، نحو: شريف وأشراف، ولا يقاس عليه. فإن قيل: بم تعلّق قوله: «فلا تجعلوا» ؟ فالجواب فيه وجوه: أحدها: أن يتعلّق بالأمر أي: اعبدوا، ولا تجعلوا لله أنداداً، فإن أصل العبادة التوحيد. وثانيها: ب «لعل» على أن ينتصب ب «تجعلوا» انتصاب «فَاطَّلِع» في قراءة حَفْصٍ. قال الزمخشري: والمعنى خلقكم لكي تتقوا، وتخافوا عقابه فلا تثبتوا له ندًّا، فإنه من أعظم موجبات العقاب، فعلى هذا تكون «لا» نافية، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» في جواب الترجي، وهذا لا يجيزه البصريون، وسيأتي تأويل «فَاطَّلِعَ» ، ونظائِرِه في موضعه إنْ شَاءَ الله تعالى. وثالثها: بقوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} إذا جعلت «الذي» خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الذي خلق لكم هذه الدلائل الباهرة فلا تتخذوا له شريكاً. و «النِّدُّ» المقاوم المُضاهي، سواءٌ كان مِثْلاً، أو ضدًّا، أو خلافاً. وقيل: هو الضِّدُّ عن أبي عُبَيْدة. وقيل: الكُفْء والمِثْلُ؛ قَال حَسَّان: [الوافر] 282 - أَتَهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِنِدٍّ ... فَشَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ أي: «وَلَسْتُ لَهُ بِكُفْءٍ» . وقد رُوِيَ ذلك؛ وقال آخر: [الرمل] 283 - نَحْمَدُ اللهَ وَلاَ نِدَّ لَهُ ... عِنْدَهُ الخَيْرَ وَمَا شاءَ فَعَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وقال الزمخشري: النِّدُّ المِثْلُ: ولا يقال إلا للنِّدِّ المخالف؛ قال جرير: [الوافر] 284 - أَتَيْماً تَجْعَلُونَ إِلَيَّ نِدًّا ... وَمَا تَيْمٌ لِذِي حَسَبٍ نَدِيدُ ونَادَدْتُ الرّجل: خالفته ونافرته، من: نَدَّ َيَنِدُّ نُدُوداً، أي: نَفَر. ومنه الحديث: «أيّ بعيرٍ نَدّ فأعياهم» . ويقال: «نَدِيدَة» على المبالغة؛ قال لَبِيد: [الطويل] 285 - لِكَيْلاَ يَكُونَ السَّنْدَرِيُّ نَدِيدَتِي ... وَأَجْعَلَ أَقَوَاماً عُمُوماً عَمَاعِمَا وأما «النِّد» بفتح النون فهل التَّلُّ المرتفع، والنِّدُّ الطيب أيضاً، ليس بعربي. وقرأ محمد بن السَّمَيْفَع: «فلا تَجْعَلُوا للهِ نِدًّا» . فإن قيل: إنهم بم يقولوا: إن الأصنام تنازع الله. قلنا: لما عبدوها وسموها آلهة أشبهت حالهم حَالَ من يعتقد أنها آلهة قادرة على منازعته فقيل لهم ذلك على سبيل التهكُّم بهم. قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 ومفعول العلم متروك، لأن المعنى، وأنتم من أهل العلم، أو حذف اختصاراً أي: وأنتم تعلمون بطلاق ذلك، والاسم من «أنتم» قيل: «أن» و «التاء» حرف خطاب يتغير بحسب المخاطب، وقيل: بل «التاء» هي الاسم، و «أن» عماد قبلها « وقيل: بل هو ضمير برمته وهو ضمير رفع منفصل وحكم ميمه بالنسبة إلى السكون والحركة والإشباع والاختلاس حكم» ميم «هم، وقد تقدّم جميع ذلك. والمعنى: إنكم لكمال عقولكم تعلمون أن هذه الأشياء لا يصح جعلها أنداداً لله - تعالى - فلا تقولوا ذلك؛ فإن القول القبيح ممن علم قبحه يكون أقبح. وهذا الخطاب للكافرين، والمنافقين، قاله ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه. فإن قيل: كيف وصفهم بالعِلْمِ، وقد نعتهم بالخَتْمِ، والطَّبْعِ، والصَّمَمِ، والعمى؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: وأنتم تعلمون العلم الخاص أن الله خلق، وأنزل الماء، وأنبت الرزق، وهو المنعم عليهم دون الأَنْدَادِ. الثاني: وانتم تعلمون وحدانيته بالفرد والإمكان لو تدبرتم ونظرتم، وفي هذا دليل على استعمال حجج المعقول، وإبطال التقليد. وقال ابن فوُرِك: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين، والمعنى: لا ترتدوا أيها المؤمنون، وتجعلوا لله أَنْدَاداً بعد علمكم بان الله واحد. فَصْلٌ في فرق المشركين قال ابن الخطيب: ليس في العالم أحد يثبت له شريكاً يساويه في الوجود، والقدرة، والعلم، والحكم، هذا مما لم يوجد، لكن الثنوية يثبتون إليهن، أحدهما: حكيم يفعل الخير، والثاني: سفيه بفعل الشر؛ وأما اتخاذ معبود سوى الله، فالذاهبون إلى ذلك فرق. فمنهم عبدة الكواكب. ومنهم الصَّائبة فإنهم يقولون: إنَّ الله - تعالى - خلق هذه الكواكب، وهي مدّبرات لهذا العالم قالوا: فيجب علينا أن نعبد الكواكب، والكواكب تعبد الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 الفريق الثاني: الَّذين يعبدون المسيح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 الثالث: عبدة الأوثان. واعلم انه لا دين من أديان الكفر أقدم من دين عبادة النار؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 لأنه يروى أنّ النّار لما أكلت قربان «هابيل» جاء «إبليس» إلى قابيل «، وأخبره أنها إنما أكلت قربان أخيه، لنه عبدها، فعبدت النار من ذلك الوقت. وقيل: لا دين من أديان الكفر أقدم من دين الأوثان؛ لأن أقدم الأنبياء الذين نقل إلينا تاريخهم هو نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ لأنه إنما جاء بالرد عليهم على ما أخبر الله - تعالى - عن قومه في قوله تعالى: {وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} [نوح: 23] فعلمنا أن هذه المقالة كانت موجودةً قبل نوح عليه الصلاة والسَّلام باقية إلى الآن، والمذهب الذي هذا شأنه، فيستحيل معرفة فساده بالضرورة، لكن العلم بأن هذا الحجر المنحوت في هذه السَّاعة ليس هو الذي خلقه وخلق السماء والأرض علم ضروري، فيستحيل إطباق الجمع العظيم عليه؛ فوجب أن يكون لعبدة الأوثان غرض آخر سوى ذلك، والعلماء ذكروا فيه وجوهاً: أحدها: ما ذكره أبو معْشَرٍ جَعْفَرُ بن محمد المنجم البَلْخي أن كثيراً من أهل» الصِّين «و» الهند «كانوا يقولون بالله، وملائكتهن ويعتقدون أنه - تعالى - جسم وصورة كأحسن ما يكون من الصُّور، وهكذا حال الملائكة أيضاً في صورهم الحسنة، وأنهم كلّهم قد احتجبوا عنا بالسماء، وأن الواجب عليهم أن يصوغوا تماثيل أنيقة المنظر، حسنة المرأى، على الهيئة التي كانوا يعتقدونها من صور الإله والملائكة، فيعكفون على عبادتها قاصدين به طلب الزُّلْفَى إلى الله - سبحانه - وملائكته. فإن صَحّ ما قال أبو معشر، فالسَّبب في عبادة الأوثان اعتقاد الشبه. وثانيها: ما ذكر أكثر العلماء أن الناس رأوا تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب؛ فإنه بحسب قرب الشمس وبعدها عن سمت الرأس يحدث الفصول المختلفة، والأحوال المتباينة، ثم إنهم رصدوا أحوال سائر الكواكب، فاعتقدوا ارتباط السعودة والنحوسة في الدنيا بكيفية وقوعها في طوالع الناس، فلما اعتقدوا ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 بالغوا في تعظيمها، فمنهم من اعتقد أنها أشياء واجبة الوجود لذواتها، وهي التي خلقت هذه العوالم، ومنهم من اعتقد أنها مخلوقة للإله الأكبر، لكنها [خالقة لهذا] العالم، فالأولون اعتقدوا أنها هي الإله في الحقيقة، والآخرون أنها هي الوسائط بين الله وبين البشر، فلا جرم اشتغلوا بعبادتها والخضوع لها، ثم لما رأوا الكواكب مستترة في أكثر الأوقات عن الأبصار اتخذوا لها أصناماً، وأقبلوا على عبادتها قاصدين بتلك العبادات الأجرام العالية، ومتقرّبين إلى أشباحها الغائبة، ثم لما طالت المدة ألغوا ذكر الكواكب وتجرّدوا لعبادة تلك التماثيل، فهؤلاء في الحقيقة عبدة الكواكب. وثالثها: أن أصحاب الأحكام كانوا يعيّنون سنين متطاولة، نحو الألف والألفين، ويزعمون أن [من اتخذ] طلمساً في ذلك الوقت على وجه خاص، فإنه ينفع في أحوال مخصوصة نحو السَّعادة والخصب، ودفع الآفات، وكانوا إذا اتخذوا ذلك الطلسم عَظَّموه لاعتقادهم أنهم ينتفعون به، فلمَّا بالغوا في ذلك التعظيم صار ذلك كالعبادة، ولمَّا طالت مدّة ذلك الفِعْلِ نسوا مبدأ الأمر، وانشغلوا بعبادتها على الجهالة بأصل الأمر. ورابعها: أنه متى مات منهم رجل كبير يعتقدون في أنه مجاب الدعوة، ومقبول الشَّفاعة عند الله - تعالى - اتخذوا أصناماً على صورته، ويعبدونه على اعتقاد أن ذلك الإنسان يكون شفيعاً لهم يوم القيامة عند الله - تعالى - على ما أخبر الله عنهم في قولهم: {هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} [يونس: 18] . وخامسها: لعلهم اتخذوها محاريب لصلاتهم، وطاعاتهم، ويسجدون غليها لا لها كما أنَّا نسجد إلى القبلة لا للقبلة، ولما استمرت هذه الحالة ظنّ الجهال من القوم أنه يجب عبادتها. وسادسها: لعلّهم كانوا يعتقدون جواز حلول الرب فيها فعبدوها على هذا التأويل. فهذه هي الوجوه التي يمكن حلم هذه المقالة عليها حتى ليصير بحيث يعلم بطلانه بضرورة العقل. واعلم أنّ إقامة الدّلالة على افتقار العالم إلى الصَّانع المختار يبطل القول بعبادة الأوثان على كلّ التأويلات، والله أعلم. فَصْلٌ اعلم أن من بيوت الأصنام المشهورة «غمدان» الذي بناه الضحاك على اسم الزهرة بمدينة «صنعاء» وخربه بن عفان، ومنها «» نوبهار بلخط الذي بناه «منوشهر» الملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 على اسم القمر، ثم كان لقبائل العرب أوثان معروفة مثل: ود ب «دومة الجندل» لكلب، و «سواع» لبني هذيل، و «يغوث» ب «اليمن» لمذحج، و «يعوق» لمرادية همدان و «نَسْر» بأرض «حمير» لذي الكُلاَع، و «اللات» ب «الطائف» ل «ثقيف» ، و «مناة» ب «يثرب» للخزرج، و «العُزّى» لكنانة بنواحي «مكّة» و «أساف» و «نائلة» على «الصفا» و «المروة» . وكان قُصَيّ جَدّ رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ينهاهم عن عبادتها، ويدعوهم إلى عبادة الله سبحانه وتعالى، وكذلك زَيْدُ بْنُ عَمْرو بْنُ نُفَيْلٍ، وهو الذي يقول: [الوافر] 286 - أَرَبٌّ وَاحِدٌ أَمْ اَلْفُ رَبٍّ ... أَدِينُ إِذَا تَقَسَّمَتِ الأُمُورُ؟! تَرَكْتُ اللاَّتَ والعُزَّى جَمِيعاً ... كَذَلِكَ يَفْعَلُ الرَّجُلُ البَصِيرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 اعلم أنه سبحانه لما أقام الدلائل القاطعة على إثبات الصّانع، وأبطل القول بالشريك عقبه بما يدلّ على النبوة، ولما كانت نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبنية على كون القرآن معجزاً أقام الدلالة على كونه معجزاً. واعلم أن كونه معجزاً يمكن بيانه من طريقين: الأول: ألا يخلو حاله من أحد وجوه ثلاثة: إما أن يكون مساوياً لكلام الفصحاء، أو زائداً على كلام الفصحاء بقدر لا ينقض العادة، أو زائداً عليه بقدر ينقض العادة، والقسمان الأولان باطلان فتعين الثالث. وإنما قلنا: إنهما باطلان؛ لأنه لو كان كذلك لوجب أن يأتوا [بمثل سورة منه] إما مجتمعين، أو منفردين، فإذا وقع التَّنَازع، فالشهود والحكام مزيلون الشبهة وذلك نهاية الاحتجاج؛ لنه كان من معرفة اللغة والاطلاع على قوانين الفصاحة في الغاية، وكانوا في محبة إبطال أمره في الغاية حتى بذلوا النفوس والأموال، وارتكبوا المهالك والمحن، وكانوا في الحمية والأنفة على حد لا يقبلون الحق، فكيف الباطل، وكل ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 يوجب الإتيان بما يقدح في قوله، فلما لم يأتوا بمثلها علمنا عجزهم عنها، فثبت أن القرآن لا يماثل قولهم، وأنَّ التفاوت بينه وبين كلامهم ليس تفاوتاً معتاداً، فهو إذن تفاوت ناقص للعادة، فوجب أن يكون معجزاً. والعم أنه قد اجتمع في القرآن وجوه كثير، تدلُّ على أنه أبلغ في الفصاحة النهاية التي لا غاية لها: أحدها: أن فصاحة العرب أكثرها في وصف المشاهدات مثل وصف بعير، أو فرس، أو جارية، أو ملك، أو ضربة، أو طعنة أو وصف حرب، أو وصف غارة، وليس في القرآن شيء من هذا، فكان يجب على هذا ألا يحصل فيه شيء من الفصاحة، التي اتفقت العرب في كلامهم عليها. وثانيها: أنه - تعالى - راعي فيه [طريقة] الصِّدق، وتنزَّه عن الكذب في جميعه، وكل شاعر ترك الكذب، ولزم الصدق زكي شعره، ألا ترى لبيد بن ربيعة، وحسان بن ثابت لما أسلما زكي شعرهما، [ولم يكن شعرهما] الإسلامي في الوجوه كشعرهما في الجاهلية، والقرآن مع لزوم الصدق وتنزُّهه عن الكذب بلغ الغاية في الفصاحة كما ترى. وثالثها: أن الكلام الفصيح والشعر الفصيح في القصيدة كلها، إنما هو بيت أو بيتان والباقي ليس كذلك، وأما القرآن فكله فصيح، فعجز الخلق عن بعضه كما عجزوا عن جملته. ورابعها: أن كل من وصف شيئاً بشعر، فإن كرره لم يكن كلامه الثَّاني في وصف ذلك الشيء بمنزلة كلامه الأول، وأما القرآن ففيه تكرار كثير، وهو في غاية الفَصَاحة، ولم يظهر التفاوت أصلاً. وخامسها: أنهم قالوا: شعر امرئ القيس يحسن عند الطَّرب، وذكر النِّسَاء، وصفة الخَيْلِ، وشعر النابغة عند الخوف، وشعر الأعشى عند الطَّلَبِ، ووصف الخَمْرِ، وزهير عند الرَّغْبَةِ والرجاء، وبالجملة فكل شاعر يحسن كلامه في فَنٍّ، ويضعف كرمه في غيره، والقرآن جاء فصيحاً في كل الفنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 وسادسها: أن القرآن أصل للعلوم كلها، فعلم الكلام كلّه في القرآن، وعلم الفقه مأخوذ من القرآن، كذا علم أصول الفقه، وعلم النحو، واللغة، وعلم الزهد في الدُّنيا، وأخبار الآخرة، واستعمال مكارم الأخلاق. وأما الطريق الثاني: أن يقول: القرآن لا يخلو إما أن يكون بالغاً في الفصاحة إلى حَدّ الإعجاز، أو لم يكن، فإن كان الأول ثبت أنه معجز، وإن كان الثاني كانت المُعَارضة على هذا التقدير ممكنة، فعدم إتيانهم بالمُعَارضة، مع توفُّر داعيهم على الإتيان بها، أمر خارق للعادة، فكان ذلك معجزاً، فثبت أنَّ القرآن معجز على جميع الوجوه. «إن» حرف شرط يجزم فعلين: شرطاً وجزاءً، فلا تقول: «إن غربت الشمس» . فإن قيل: فكيف قال هاهنا: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ} ، وهذا خطاب مع الكفار، والله تَعَالَى يعلم أنه في ريب، وهم يعلمون ويقرون أنهم في ريب، ومع ذلك فالتعليق حسن. فالجواب: الخصائص الإلهية لا تدخل في الأوضاع العربية، بل الأوضاع العربية مبنية على خصائص الخلق، والله - تعالى - أنزل القرآن بلغة العرب، وعلى منوالهم، فكل ما كان في لغة العرب حسناً نزل القرآن على ذلك الوجه، وما كان نسخاً في لسان العرب لم ينزل في القرآن، فثبت بهذا أن كل ما جاء في العادة مشكوكاً فيه بين الناس، حسن تعليقه، سواء كان من قبل الله - تعالى - أو من قل غيره، وسواء كان معلوماً للسَّامع أو المتكلّم أم لا، وكذلك حسن قوله: إن كان زيد في الدار فأكرمه، مع أنك علم أن زيداً في الدار؛ لأن حصول زيد في الدار، شأنه أن يكون في العادة مشكوكاً فيه، ولا يكون إلاَّ في المحتمل وقوعه، وهي أم الباب؛ فلذلك يحذف مجزومها كثيراً، وقد يحذف الشَّرط والجزاء معاً؛ قال: [الرجز] 287 - قَالَتْ بَنَاتُ العَمِّ: يا سَلْمَى وَإِنْ ... كَانَ فَقِيراً مُعْدماً قَالَتْ: وَإِنْ أي: وإن كان فقيراً تزوجته. وتكون «إن» نافية فتعمل وتهمل، وتكون مخففة وزائدة باطِّراد وعدمه، وأجاز بعضهم أن تكون بمعنى «إذا» ، وبعضهم أن تكون بمعنى «قد» ، ولها أَحْكَام كثيرة. و «في ريب» خبر كان، فيتعلّق بمحذوف، ومحل «كان» الجزم، وهي إن كانت ماضية لفظاً فهي مستقبلة معنى. وزعم المبرد أنَّ ل «كان» الناقصة حكماً مع «إنْ» ، ليس لغيرها من الأفعال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 الناقصة، فزعم أّنه لقوة «كان» أنّ «إنْ» الشرطية لا تقلب معناها إلى الاستقبال، بل تكون على مَعْنَاها من المُضِيّ، وتبعه في ذلك أبو البَقَاءِ، وعلل ذلك بأن كثيراً استعملوها غير دالّة على حدث، وهذا مردود عند الجمهور، لأن التعليق إنما يكون في المستقبل، وتأولوا ما ظاهره غير ذلك نحو: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ} [يوسف: 26] إما بإضمار «يكن» بعد «إن» ، وإما على التبيين، والتقدير: «إن يكن قميصه، أو إن يتبين كونه قميصه» ولما خفي هذا المعنى على بعضهم جعل «إن» هنا بمنزلة «إذ» وقوله: «في ريب» مجاز من حيث إنه يجعل الريب ظرفاً محيطاً بهم، بمنزلة المكان لكثرة وقوعه منهم. و «مِمَّا» يتعلّق بمحذوف؛ لأنه صفة لريب، فهو في محل جَرّ، و «من» للسَّببية، أو لابتداء الغاية، ولا يجوز أن تكون للتبعيض، ويجوز أن تتعلّق ب «ريب» أي: إن ارتبتم من أجل، ف «من» هُنا للسَّببية، و «ما» موصولة أو نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف، أي: نزلناه، والتضعيف في «نَزّلنا» هنا للتعدية مرادفاً لهمزة التعدي، ويدلّ عليه قراءة «أنزلنا» بالهمز، وجعل الزمخشري التضعيف هنا دالاًّ على نزوله منجماً في أوقات مختلفة. قال بعضهم: «وهذا الذي ذهب إليه في تضعيف الكلمة هنا، هو الَّذي يعبر عنه بالتكثير أي يفعل مرة بعد مرة، فيدل على ذلك بالتضعيف ويعبر عنه بالكثرة» قال: «وذهل عن قاعدة، وهي أن التضعيف الدّال على ذلك من شرطه أن يكون في الأفعال المتعدّية قبل التضعيف غالباً نحو:» جَرَّحْتُ زِيْداً، وفَتَّحْتُ الباب «، ولا يقال جَلَّس زيدٌ» و «نَزَّل» [لأنه] لم يكن متعدياً قبل التضعيف، وإنَّ ما جعله متعدياً تضعيفه «. وقوله:» غالباً «لأنه قد جاء التضعيف دالاًّ على الكثرة في اللاَّزم قليلاً نحو:» مَوَّت المال «، وأيضاً فالتضعيف الدَّال على الكثرة لا يجعل القاصر متعدياً، كما تقدم في» مَوَّتَ المال «و» نَزَّل «كان قاصراً فصار بالتضعيف متعدياً، فدلّ على أنَّ تضعيفه للنقل لا للتكثير، وأيضاً كان يحتاج قوله تعالى: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] إلى تأويل، وأيضاً فقد جاء التضعيف حيث لا يمكن فيه التكثير، نحو قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ} [الأنعام: 37] ، {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95] إلا بتأويل بعيد جدًّا، إذ ليس المعنى على أنهم اقترحوا تكرير نزول [آية، ولا أنه علق تكرير نزول] مَلَك رسول على تقدير كون ملائكة في الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 وفي قوله: {نَزَّلْنَا} التفات من الغيبة إلى التكلّم؛ لأن قبله: {اعبدوا رَبَّكُمُ} [البقرة: 21] جاء الكلام عليه لقيل:» مما نزّل عَلَى عَبْدِهِ «ولكن التفت للتفخيم. و» عَلَى عَبْدِنَا «متعلّق ب» نَزَّلْنَا «وعُدِّي ب» على «لإفادتها الاستعلاء، كأن المنزل تمكّن من المنزول عليه ولبسه، ولهذا جاء أكثر القرآن بالتعدّي بها دون» إلى «فإنها تمكّن من المنزول عليه ولبسه، ولهذا جاء أكثر القرآن بالتعدّي بها دون» إلى «فإنها تفيد الانتهاء والوصول فقط، والإضافة في» عبدنا «تفيد التشريف؛ كقوله: [السريع] 288 - يَا قَوْمِ قَلْبي عِنْدَ زَهْرَاءِ ... يَعْرِفُهُ السَّامِعُ وَالرَّائِي لاَ تَدْعُنِي إلاَّ بِيَا عَبْدَهَا ... فَإِنَّهُ أَشْرَفُ أَسْمَائِي وقرئ «عبادنا» فقيل: المراد النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وأمته؛ لأن جدوى المنزل حاصل لهم. وقيل: المراد بهم جميع الأنبياء عليهم السلام. والعبد: مأخوذ من التعبد، وهو التذلل؛ قال طَرَفَةُ: [الطويل] 289 - إِلَى اَنْ تَحَامَتْنِي العَشِيرَةُ كُلُّهَا ... وأُفْرِدْتُ إِفْرَادَ البَعِيرِ المُعَبَّدِ أي: المذلَّل. ولما كانت العبادة أشرف الخصال والتسمّي بها أشرف الخطط سمَّى نبيه عبداً. قوله: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ} جواب الشرط، والفاء هنا واجبة؛ لن ما بعدها لا يصحّ أن يكون شرطاً بنفسه، واصل «فأتوا» «إأْتِيُوا» مثل: اضربوا، فلهمزة الأولى همزة وصل أُتي بها للابتداء بالسَّاكن، والثَّانية فاء الكلمة، فلما اجتمع همزتان، وجب قلب ثانيهما ياءً على حَدِّ «إيمان» وبابه، واستثقلت «الضمة» على «الياء» التي هي «لام» الكلمة فقدرت، فسكنت «الياءط وبهدها طواو» الضمير ساكنة، فحذف «الياء» لالتقاء ساكنين، وضُمّت «التاء» للتجانُسِ، فوزن «ايتوا» : «افعوا» ، وهذه الهمزة إنما يحتاج إليها ابتداءً، أما في الدَّرْج فإنه يُسْتَغْنَى عنها، وتعودُ الهمزةُ اليت هي «فاءُ» الكلمة؛ لأنّها إنّما قُلِبَتْ ياءً للكسرِ الذي كان قبلها، وقد زال نحو: «فأتوا» وبابه، وقد تحذف الهمزة التي هي «فاء» الكلمة في الأمر كقوله: [الطويل] 290 - فَإِنْ نَحْنُ لَمْ نَنْهَضْ لَكُمْ فَنَبَرَّكُمْ ... فَتُونَا فَعَادُونَا إذاً بالجَرَائِمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 يريد: فأتونا كقوله: فأتوا. قال ابن كيسان: «وهو أمر معناه التعجيز؛ لأنه - تعالى - علم عجزهم عنه» . و «بسورة» متعلّق بأتُوا، والسورة واحدة السُّوَر، وهي طائفة من القُرْآن. وقيل: السُّورة الدَّرجة الرفيعة، قال النابغة: [الطويل] 291 - أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَها يَتَذَبْذَبُ وسميت سورة القرآن بذلك؛ لأن قارئها يشرف بها وترفعه، أو لرفعة شأنها، وجلالة محلّها في الدِّين، وإن جعلت واوها منقلبة عن «الهمزة» ، فيكون اشتقاقها من «السُّؤْر» ، وهو البقية، والفضلة؛ ومنه: «أَسْأَرُوا في الإِنَاءِ» ؛ قال الأعشى: [المتقارب] 292 - فَبَانَتْ وَقَدْ أَسَأَرتْ في الفُؤَا ... دِ صَدْعاً عَلَى نَأْيِهَا مُسْتَطِيرَا أي: أَبْقَتْ، ويدلّ على ذلك أن «تميماً» وغيرها يهمزون فيقولون: سؤرة بالهمزة. وسميت سورة القرآن بذلك؛ لأنها قطعة منه، وهي على هذا مخفّفة من «الهمز» . وقيل: اشتقاقها من سُور البناء؛ لأنها تحيط بقارئها، وتحفظه كَسُورِ المدينة، ولكنّ جَمْعَ سُورةِ القرآن سُوَر بفتح الوَاوِ، وجَمْعَ سُورةِ البناء سُوْر بسكونها، ففرقوا بينهما في الجمع. فإن قيل: ما فائدةُ تقطيع القُرْآن سُوَراً؟ قلنا: وجوه: أحدها: ما لجله بوب المصنِّفون كتبهم أبواباً وفصولاً. وثانيها: أن الجنس إذا حصل تحته كان إفراد كل نوع من صاحبه أحسن. وثالثها: أنّض القارئ إذا ختم سورة، أو باباً من الكتاب، ثم أخذ في آخر كان أنشط له، كالمسافر إذا علم أنه قطع ميلاً أو طوى فرسخاً نشطه للمسير. فَصْلٌ في بيان أن ترتيب القرآن توقيفي قال ابن الخطيب: قوله: «فأتوا بسورة» يدلُّ على أن القرآن وما هو عليه من كونه سوراً هو على حدّ ما أنزله الله - تعالى - بخلاف قول كثير من أهل الحديث، أنه نظم على هذا الترتيب في أيام عثمان، فلذلك صحّ التحدّي بالقرآن على وجوه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 أحدها: قوله: {فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى} [القصص: 49] . وثانيها: قوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] . وثالثها: قوله: {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] . ورابعها: قوله: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] ، ونظير هذا لمن يتحدّى صاحبه فيقول: ائتني بمثله، ائتني بنصفه، ائتني بربعه، ائتني بمسألة مثله، فإن هذا هُوَ النّهاية في التحدّي، وإزالة لعُذْر. قوله: {مِّن مِّثْلِهِ} في الهاء ثلاثة أقوال: أحدهما: أنها تعود على «ما نَزَّلنا» عند الجمهور كعمرو، وابن مسعود، وابن عباس، والحسن، وقتادة، ومجاهد، وغيرهم، فيكون «من مثله» صفة ل «سورة» ، ويتعلّق بمحذوف على ما تقرر: أي بسورة كائنة من مثل المنزل في فصاحته، وإخباره بالغيوب، وغير ذلك، ويكون معنى «من» التبعيض. واختار ابن عطية والمَهْدَويّ أن تكون للبيان، وأجازا هما وأبو البقاء أن تكون زائدة ولا تجيء إلاَّ على قول الأخفش. الثاني: أنها تعود على «عَبْدنا» فيتعلّق «من مثله» ب «أتوا» ، ويكون معنى «من» ابتداء الغاية، ويجوز على هذا الوجه أيضاً أن تكون صفة لسورة أي: «بسورة كائنة من رجل مثل عبدنا أمي لا يقرأ ولا يكتب» . قال القرطبي: و «من» على هذين التأويلين للتبعيض. الثالث: قال أبو البقاء: «إنها تعود على الأنداد بلفظ المفرد كقوله: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] ولا حاجة تدعو إلى ذلك، والمعنى يأباه أيضاً. قال القرطبي: وقيل: يعود على التوراة والإنجيل، والمعنى: فأتوا بسورة من كتاب مثله؛ فإنها تصدِّق ما فيه، والوقف على» مثله «ليس بتام؛ لن» وادعوا «نسق عليه. قوله : {وادعوا شُهَدَآءَكُم} هذه جملة أمر معطوفة على الأمر قبلها، فهي في مَحَلّ جزم أيضاً، ووزن «ادعوا» افعوا؛ لأن لام الكلمة محذوف دلالة على السكون في الأمر الذي هو جزم في المُضَارع، و «الواو» ضمير الفاعلين. و «شهداءكم» مفعول به جمع «شهيد» كظريف. وقيل: بل جمع «شاهد» ك «شاعر» والأوّل أولى؛ لاطَِّرَادِ «فعلاء» في «فعيل» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 دون فاعل، والشهادة الحضور، وفي المراد من الشهداء وجهان: الأول: المراد من الشهداء الأوثان. والثاني: المراد من الشهداء أكابرهم، أو من يوافقهم في إنكار أمر محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، والمعنى: ادعوا أكابركم، ورؤساءكم ليعينوكم على المُعَارضة، أو ليشاهدوا ما تأتون به، فيكون [الرد على الجميع أوكد] . و «من دون الله» متعلّق ب «ادعوا» من دون الله شهداءكم، فلا تستشهدوا بالله، فكأنه قال: وادعوا من غير الله من يشهد لكم، ويحتمل أن يتعلّق ب «شهداءكم» والمعنى: ادعوا من اتخذتموه من دون الله، وزعمتم أنهم يشهدون لكم بصحّة عبادتكم إياهم، وأعوانكم من دون الله أولياء الذين تستعينون بهم دون الله، أو يكون معنى «من دون الله» بين يدي الله؛ كقوله: [الطويل] 293 - تُرِيكَ القَذَى مِنْ دُونِهَا وَهِيَ دُونَهُ ... لِوَجْهِ أَخِيهَا في الإِنَاءِ قُطُوبُ أي: تريك القذى قُدَّامه؛ لرقَّتها وصفَائِها. واختار أبو البقاء أن يكون «من دُونِ الله» حالاً من «شهدائكم» والعامل فيه محذوف قال: «تقديره: شهدائكم منفردين عن الله، أو عن أنصار الله» . و «دون» من ظروف متصرّفة، وجعل من ذلك قوله تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] فقال: «دون» مبتدأ و «منّا» خبره، وإنما بني لإضافته إلى مبنيٍّ، وقد شذَّ رفعُهُ خبراً في قول الشاعر: [الطويل] 294 - أَلَمْ تَر أَنِّي قَدْ حَمَيْتُ حَقِيقَتي ... وبَاشَرْتُ حَدَّ المَوْتِ وَالمَوْتِ دُونُهَا وهو من الأسماء اللاَّزمة للإضافة لفظاً ومعنى. وأمّا «دون» التي بمعنى رديء فتلك صفة كسائر الصفات، تقول: «هذا ثوب دُون» ، و «رأيت ثوباً دوناً» أي: رديئاً، وليست مما نحن فيه. و «دون» أيضاً نقيض «فوق» ويقال: هذا دون ذاك، أي: أقرب منه، ويقال في الأخذ بالشَّيء: دونكه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 قال تميم للحجَّاج: أَقَبِرنا صالحاً - وكان قد صلبه - فقال: دونكموه. قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} هذا شرط حذف جوابه للدلالة عليه تقديره: إن كنتم صادقين فافعلوا، ومتعلّق الصدق محذوف، والظاهر تقديره هكذا: إن كنتم صادقين في كونكم في رَيْبٍ من المنزل على عبدنا أنه من عندنا. وقيل: فيما تقدرون عيله من المُعَارضة، وقد صرّح بذلك عنهم في آية أُخْرَى، حيث قال تعالى حاكياً عنهم: {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} [الأنفال: 31] والصدق ضد الكذب وقد تقدم، والصّديق مشتقٌّ مه لصدقه في الوُدِّ والنُّصحِ، والصّدْق من الرماح: الصُّلبة. فَصلٌ في التهكم بالكافرين قال ابن الخطيب: «وفي أمرهم بان يستظهروا بالجماد الذي ينطق في معارضة القرآن المعجز بالفصاحة غاية التهكم بهم» . فصل في الاحتجاج على الجبرية قال القاضي: هذا التحدّي يبطل القول بالجَبْرِ من وجوه: أحدها: أنه مبني على تعذُّر مثله ممن يصح الفعل منه، فمن ينفي كون العبد فاعلاً لم يمكنه إثبات التحدّي أصلاً، وفي هذا إبطال الاستدلال بالمعجز. وثانيها: أن تعذُّره على قولهم يكون لفقد القدرة الموجودة، ويستوي في ذلك ما كان معجزاً، وما لا يكون، فلا يصح معنى التحدي على قولهم. وثالثها: أن ما يضاف إلى العبد فالله - تعالى - هو الخالق له، فتحديه يعود في التحقيق إلى أنه مُتَحَدٍّ لنفسه، وهو قادرٌ على مثله من غير شك فيجب ألا يثبت الإعجاز على هذا القول. ورابعها: أنّ المعجز إنما يدلّ بما فيه من بعض العادة، فإذا كان من قولهم: إن المعتاد أيضاً ليس بفعل لم يثبت هذا الفرق، فلا يصحّ الاستدلال بالمعجز. وخامسها: أنَّ الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحتج بأنه - تعالى - لم يكن داخلاً في الإعجاز، وعلى قولهم بالجبر لا يصح هذا الفرق؛ لأن المعتاد وغير المعتاد لا يكون إلاَّ من قبله. والجواب: أن المطلوب من التحدي أن يأتي الخصم بالمتحدّى به قصداً، وأن يقع ذلك منه اتفاقاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 والثاني باطل؛ لأن الاتفاقيات لا تكون في وُسْعِهِ، فثبت الأول، وإذا كان كذلك ثبت أن إتيانه بالمتحدى موقوف على أن يحصل في قلبه قصد إليه، فذاك القصد إن كان من لزم التسلسل، وهو محال، وإن كان من الله - تعالى - فحينئذ يعود الجبر، ويلزمه كل ما أورده علينا، فبطل كل ما قال. قوله: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ} «إن» الشرطية داخلة على جملة «لم تفعلوا» و «تفعلوا» مجزوم ب «لم» ، كما تدخل «إن» الشرطية على فعل منفي ب «لا» نحو: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ} [الأنفال: 73] ، فيكون لم تفعلوا في محل جزم بها. وقوله: «فاتقوا» جواب الشَّرط، ويكون قوله: {وَلَن تَفْعَلُواْ} جملة معترضة بين الشرط وجزائه. وقال جماعة من المفسّرين: معنى الآية: وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين، [ولن تفعلوا فإن لم تفعلوا فاتقوا النَّار، وفيه نظر لا يخفى، وإنما قال تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ] وَلَن تَفْعَلُواْ} فعبر بالفعل عن الإتيان؛ لأن الفعل يجري مجرى الكناية، فيعبر به عن كل فعل، ويغني عن طول ما تكنى به. وقال الومخشري: «لو لم يعدل من لفظ الإتيان إلى لفظ الفعل، لاسْتُطِعَ ان يقال: فإن لم تأتوا بسورة من مثله، ولن تأتوا بسورة من مثله» . قال أبو حيان: «ولا يلزم ما قال؛ لأنه لو قال:» فإن لم تأتوا ولن تأتوا «كان المعنى على ما ذكر، ويكون قد حذف ذلك اختصاراً، كما حذف اختصاراً مفعول» لم تفعلوا، ولن تفعلوا «ألا [ترى] أن التقدير: فإن لم تفعلوا الإتيان بسورة من مثله، ولن تفعلوا الإتيان بسورة من مثله؟» . فإن قيل: كيف دخلت «إن» على «لم» وللا يدخل عامل على عامل؟ فالجواب: أنَّ «إنْ» ها هنا غير عاملة في اللفظ، ودخلت على «لم» كما تدخل على الماضي، لأنها لا تعمل في «لم» كما لم تعمل في الماضي، فمعنى «إن لم تفعلوا» إن تركتم الفعل. و «لَنْ» حرف نصف معناه نفي المستقبل، ويختص بصيغة المضارع ك «لَمْ» ولا يقتضي نفيُهُ التَّأبيدَ، وليس أقلَّ مدة من نفي «لاَ» ، ولا نونُه بدلاً من ألف «لاَ» ، ولا هو مركَّباً من «لاَ أَنْ» ؛ خلافاً للخليل، وزعم قومٌ أنها قد تجزم، منهم أبو عُبَيْدَة؛ وأنشدوا: [الخفيف] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 295 - لَنْ يَخِبِ الآنَ مِنْ رَجَائِكَ مَنْ حَرْ ... رَكَ مشنْ دُونِ بَابِكَ الحَلْقَهْ وقال النابغة: [البسيط] 296 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... فَلَنْ أُعْرِّضْ أَبَيْتَ اللَّعْنَ بِالصَّفَدِ ويمكن تأويل ذلك بأنه مما سُكِّن فيه للضَّرورة. قوله تعالى: {فاتقوا النار} هذا جواب الشرط كما تقدم، والكثير في لغة العرب: «اتَّقَى يَتَّقِي» على افْتَعَلَ يَفْتَعِلُ، ولغى «تميم» و «أسد» تَقَى يَتْقِي: مثل: رَمَى يَرْمِي، فيسكنون ما بعد حرف المضارعة؛ حكى هذه اللغة سيبويه، ومنهم من يحرك ما بعد حرف المضارعة؛ وأنشدوا: [الوافر] 297 - تَقُوهُ أَيُّهَا الفِتْيَانُ إنِّي ... رَأَيْتُ اللهَ قَدْ غَلَبَ الجُدُودَا وقال آخر: [الطويل] 298 - ... ... ... ... ... ... ... . ... تَقِ اللهَ فِينَا وَالكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو قوله تعالى: {النار} مفعول به، و «الَّتي» صفتها، وفيها أربعُ اللغات المتقدِّمة، كقوله: [الكامل] 299 - شُغِفَتْ بِكَ اللَّتْ تَيَّمَتْكَ فَمِثْلُ مَا ... بِكَ مَا بِهَا مِنْ لَوعَةٍ وَغَرَامِ وقال آخر: [الوافر] 300 - فَقُلْ لِلَّتْ تَلُومُكَ إنَّ نَفْسِي ... أَرَاهَا لا تُعَوَّذُ بَالتَّمِيمِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 و «وقودها النَّاس والحجارة» جملة من مبتدأ وخبر، صلة وعائد، والألف واللام في «النار» للعهد. فإن قيل: الصِّلة مقررة، فيجب أن تكون معلومةً فكيف علم أولئك أن نار الآخرة توقد بالناس والحجارة؟ والجواب: لا يمتنع أن يتقدّم لهم بهذه الصّلة معهودة عند السامع بدليل قوله تعالى: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى} [النجم: 10] وقوله: {إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى} [النجم: 16] وقوله: {فَغَشَّاهَا مَا غشى} [النجم: 54] وقال: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] إلا أنه خلاف المشهور أو لتقدم ذكرها في سورة التحريم - وهي مدينة بالاتفاق - وقد غلط الزمخشري في ذلك. والمشهور فتح واو الوقود، وهو اسم ما يوقد به. وقيل: هو مصدر كالوَلوع والقَبُول والوَضُوء والطَّهُور، ولم يجيء مصدر على «فَعُول» غير هذه الألفاظ فيما حكاه سيبويه. وزاد الكسائي: الوَزُوع. وفرئ شاذًّا في سورة «ق» {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38] فتصير سبعة، وهناك ذكرت هذه القراءة، ولكن المشهور أن الوَقُود والوَضُوء والطَّهُور بالفتح اسم، وبالضم مصدر. وقرأ عيسى بن عمر بفتحها وهو مصدر. وقال ابن عطية: وقد حكيا في المصدر. انتهى. فإن أريد اسم ما يوقد به فلا حاجة إلى تأويل، وإن أريد بهما المصدر فلا بد من تأويل، وهو إما المُبَالغة أي: جُعِلُوا نفس التوقد مبالغة في وضعهم بالعذاب، وإمَّا حذف مضاف، إمّا من الأول أي أصحاب توقدها، وإمّا من الثاني أي: يوقدها إحراق الناس، ثم حذف المُضَاف، وأقيم المضاف إليه مُقَامه. والهاء في «الحِجَارة» لتأنيث الجمع. فَصْلٌ في تثنية «الَّتي» وجَمْعِهِ وفي تثنية «الّتي» بحذف النون، و «اللَّتانّ» بتشديد النون، وفي جمعها خَمْسُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 لُغَاتٍ: «اللاَّتي» - وهي لغة القرآن - و «اللاَّتِ» - بكسر التاء بلا ياء - و «اللَّوَاتي» ، و «اللَّوَاتِ» - بلا ياء، وأنشد أبو عُبَيْدة: [الرجز] 301 - مِنَ اللَّوَاتِي وَالَّتِي وَاللاَّتِ ... زَعَمْنَ أَنِّي قَدْ كَبِرْتُ لِدَاتي و «اللَّوَاءِ» بإسقاط «التاء» حكاه الجوهريُّ. وزاد ابن الشَّجَرِيَّ: «اللاَّئي» بالهمز وإثبات «الياء» ، و «اللاءِ» بكسر «الهمزة» وحذف «الياء» و «اللاّ» بحذف الهمزة، فإن جمعت الجمع، قلتَ في «اللاتي» : «اللواتي» وفي «اللائي» : «اللوائي» . قال الجوهريُّ: وتصغير «الَّتي» «اللَّتَيَّا» بالفتح والتشديد، قال الراجز: [الرجز] 302 - بَعْدَ اللَّتَيَّا واللَّتَيَّا وَالَّتِي ... إذَا عَلَتْهَا أَنْفُسٌ تَرَدَّتِ وبعض الشعراء أدخل على «الَّتي» حرْفَ النداء، وحروف النداء لا تدخلُ على ما فيه الألف واللام إلاَّ في قولنا: «يَا أَللَّه» وحده، فكأنه شبهها به؛ من حيث كانت الألفُ واللاَّمُ غير مفارقتين لها، وقال: [الوافر] 303 - مِنْ أجْلِكِ يَا الَّتي تَيَّمْتِ قَلْبِي ... وَأَنْتِ بَخِيلَةٌ بِالوُدِّ عَنِّي ويقال: «وقع فُلاَنٌ في اللَّتَيِّا وَالَّتي» وهما اسمان من أسماء الداهِيَة. فَصْلٌ قال ابن الخطيب: انتفاء إتيانهم بالسورة واجبٌ، فهلاًّ جيء ب «إذا» الذي للوجوب دون «إن» الذي للشك؟ والجواب: من وجهين: أحدهما: أنه ساق القول معهم على حسب حسابهم، وأنهم لم يكونوا بعد جازمين بالعجز عن المُعَارضة؛ لاتكالهم على فصاحتهم، واقتدارهم على الكلام. والثَّاني: أنه تهكّم بهم كما يقزل الموصوف بالقوة الواثق من نفسه بالغلبة لمن هو دونه: «إن غلبتك لم أُبْقِ عليك» ، وهو عالم أنه غالبه تهكماً به. فإن قيل: ما معنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 اشتراطه في اتقاء النار انتفاء إتيانهم بسورة من مثله. والجواب: إذا ظهر عجزهم عن المُعَارضة صَحّ عندهم صدق رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإذا صَحّ ذلك ثم لزموا العِنَادَ استوجبوا العقاب بالنار، فاتقاء النار يوجب ترك العناد، فأقيم المؤثر مقام الأثر، وجعل قوله: {فاتقوا النار} قائماً مقام قوله: فاتركوا العناد، فأناب إبقاء النار منابه. و «الحجارة» روي عن ابن مسعود والفراء - رضي الله تعالى عنهما - أنها حجارة الكبريت، وخصّت بذلك؛ لأنها تزيد على جميع الأحجار بخمسة أنواع من العذاب: سرعة الإيقاد، ونتن الرائحة، وكثرة الدُّخَان، وشدّة الالتصاق بالأبدان، وقوة حرها إذا حميت. وقيل: المراد بالحجارة الأصنام، لأنهم لما قرنوا أنفسهم بها في الدنيا حيث نحتوها أصناماً، وجعلوها أنداداً لله، وعبدوها من دونه قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] وفي معنى «الناس والحجارة» و «حصب جهنم» في معنى «وقودوها» . ولما اعتقد الكفار في حجارتهم المعبودة من دون الله أنها الشّفعاء، والشهداء الذين يشفعون لهم، ويستدفعون بها المضار عن أنفسهم جعلهم الله عذابهم، فقرنهم بها محماة في نار جهنم إبلاغاً في تحسيرهم، ونحوه ما يفعل بالكافرين الذين جعلوا ذهبهم وفضتهم عدة وذخيرة فشحُّوا بها، ومنعوها من الحقوق، حيث يحمى عليها في نار جهنّم، فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم. قال ابن الخطيب: والقول بأنها حجارة الكبريت تخصيص بغير دليل، بل فيه ما يدلّ على فساده؛ لأن الغرض هُنَا تفخيم صفة النَّار، والإيقاد بحجارة الكبريت أمر معتاد، فلا يدلّ الإيقاد بها على قوة النار. أما لو حملنا على سائر الحجارة، دلّ على عظم أمر النار؛ فإن سائر الأحجار تطفأ بها النيران، فكأنه قال: تلك النار نار بلغت لقوتها أن تتعلق في أوّل أمرها بالحجارة التي هي مطفئة لنيران الدُّنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 قال القرطبي: «وليس في قوله تعالى: {وَقُودُهَا الناس والحجارة} [البقرة: 24] دليلٌ على أنه ليس فيها غير الناس والحجارة، بدليل ما ذكره في غير موضع، مع كون الجن والشياطين فيها» وروي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «كلُّ مؤذٍ في النَّار» وفي تأويله وجهان: أحدهما: كل من آذى الناس في الدنيا عذبه الله في الآخرة بالنار. والثاني: أن كل ما يؤذي النَّاس في الدنيا من السِّباع والهوام وغيرها في النار معدّ لعقوبة أهل النار. وذهب بعض أهل التأويل إلى أن هذه النار المخصوصة بالحجارة هي للكافرين خاصّة. روى مسلم عن العباس بن عبد المطّلب - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال: قلت: يا رسول الله، إنّ أبا طالب كان يحوطك وينصرك، فهل ينفعه ذلك؟ قال: «نعم، وَجَدْتُهُ في غَمَرَاتٍ من النَّارِ فأخرجته إلى ضَحْضَاحٍ» . وفي رواية: «ولَوْلاَ أَنَا لكان في الدَّرَكِ الأَسْفَلِ من النار» ويدلُّ على هذا التأويل قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} . وقال ابن الخطيب: وليس فيها ما يدلُّ على أنه ليس هناك نيران أخر غير موصوفة بهذه الصِّفة، معدّة لفساق أهل الصلاة. قوله تعالى: {أُعِدَّتْ} فعلٌ لما لم يسمَّ فاعلُهُ، والقائم مقام الفاعل ضمير «النَّارِ» ، والتاء واجبةٌ، لأن الفعل أسند إلى ضمير المؤنَّث، ولا يلتفتُ إلى قوله: [المتقارب] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 304 - فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إبْقَالَهَا لأنه ضرورة؛ خلافاً لابن كَيْسَان. و «للكافرين» متعلّق به، ومعنى «أُعِِدَّتْ» : هُيِّئَتْ؛ قال: [مجزوء الكامل] 305 - أَعْدَدَتُ لِلْحَدَثَانِ سَا ... بِغَةً وَعَدَّاءً عَلَنْدَى وقرئ: «أُعْتِدَتْ» من العَتَاد بمعنى العدة، وهذه الجملة الظاهر انها لا محلّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 لها، لكونها مستأنفة جواباً لمن قال: لمن أعدت؟ وقال أبو البَقَاء: محلها النصب على الحال من «النار» ، والعامل فيها «اتقوا» . قيل: وفيه نظر، فإنها معدة للكافرين اتقوا أم لم يتقوا، فتكون حالاً لازمة، لكن الأصل في الحال التي ليست للتوكيد أن تكون منتقلة، فالأولى أن تكون استئنافاً. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكون حالاص من الضمير في «وقودها» لثلاثة أشياء: أحدها: انها مضاف إليها. الثاني: أن الحطب لا يعمل يعني أنه اسم جامد. الثالث: الفصل بين المصدر أو ما يعمل عمله، وبين ما يعمل فيه الخبر وهو «الناس» ، يعني أن الوقود بالضم، وإن كان مصدراً صالحاً للعمل، فلا يجوز ذلك أيضاً؛ لأنه عامل في الحال، وقد فصلت بينه وبينها بأجنبي، وهو «الناس» وقال السّجستاني: «أعدّت للكافرين» من صلة «التي» كقوله: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [آل عمران: 131] . قال بان الأنْبَاري: وهذا غلطاً؛ لأنا لا نسلم أن «وقودها الناس» - والحالة هذه - صلة، بل إما معترضة، لأن فيها تأكيداً وإما حالاً، وهذان الوجهان لا يمنعهما معنى، ولا صناعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 اعلَمْ: أنَّه - سبحانه وتعالى - لمَّا تكلَّم في التوحيد والنُّبوَّة، تكلَّم بعدهما في ذكر المَعَاد، وبيَّن عقاب الكافر، وثواب المُطيعِ، ومن عادة الله - تعالَى - أنه إذا ذَكَرَ الوَعِيدَ، أَنْ يعقبَهُ بذكرِ الوَعْد. وها هنا فُصُولٌ: الأوَّلُ: هذه الآياتُ صريحةٌ في أنَّ الجنَّة والنَّار مخلوقَتَانِ، لأنه - تعالى -[قال] في صفَة النَّار: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] وقال في صفَة الجَنَّة في آية أخْرَى: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ، وقال ها هنا: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} وهذا إخبار عن وُقُوع هذا المُلْك وحُصُوله، وحُصُول المُلْك في الحالِ يقْتَضي حصُولَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 المَمْلُوك في الحال؛ فَدَلَّ على أنَّ الجنَّة والنَّار مخْلُوقَتَان. الثاني: مَجَامَعُ اللَّذَّاتِ: إما المَسْكن، أو المَطْعم، أو المَنْكَح. فَوَصَفَ تعالى المَسْكَن بقولِهِ: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} والمَطْعَمَ بقوله: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً} والمَنْكَح بقوله: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} . ثم هذه الأشياءُ إنْ حصَلَتْ، وقارنَهَا خوْفُ الزوالِ، كان النَّعِيمُ مُنَغَّصاً، فبيَّن - تعالى - زوالَ هذا الخَوْف بقوله: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} ؛ فدلَّت الآيةُ على كَمَال النَّعيم والسُّرور. الثالثُ: قولُهُ: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ} هذه الجملةُ معْطُوفة على ما قَبْلها، عَطَف جُمْلَةَ ثوابِ المُؤْمنين، على جملة ثَوَاب الكافرين، وجاز ذلك؛ لأنَّ مذْهب سِيبَويهِ - وهو الصَّحيحُ -: أنَّه لا يشترطُ في عَطْفِ الجُمَلِ التَّوافُقُ معْنًى، بل تُعْطَف الطلبيَّة على الخَبَرية؛ وبالعكس؛ [بدليل] قوله: [الطويل] 306 - تُنَاغِي غَزَالاً عِنْدَ بَابِ ابْنِ عَامِرٍ ... وَكَحَّلْ أَمَاقِيكَ الحِسَانَ بِإِثْمِدِ وقولِ امرِئ القَيْسِ: [الطويل] 307 - وإِنَّ شِفَائِي عَبْرَةٌ مُهْرَاقَةٌ ... وَهَلْ عِنْدَ رَسْمِ دَارِسٍ مِنْ مُعَوَّلِ وقال ابنُ الخَطِيبِ: ليس الَّذي اعتمد بالعَطْف هو الأَمْر، حتى يطلب له مشاكل من أمر ونهي يعطف عليه، إنما المعتمد بالعطف هو جملة ثواب المؤمنين؛ فهي معطوفة على جملة وَصْف عقاب الكافرين كما تقول: زيد يعاقب بالقيد والضرب وَبَشِّرْ عمرو بالعفو والإطلاق. وأجاز الزمخشري وأبو البقاء أن يكون عطفاً على «فاتَّقوا» ليعطف أمراً على أمر، وهذا قد رده أبو حيان بأن «فاتقوا» جواب الشرط، فالمعطوف يكون جواباً؛ لأن حكمَه حكمُه، ولكن لا يصح؛ لأن تبشيره للمؤمنين لا يترتب على قوله: «فإن لم تفعلوا» . وقرئ: «وبُشَِّرَ» [ماضياً] مبنيًّا للمفعول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 وقال الزمخشري: «وهو عَطْف على أعدت» . قيل: وهذا لا يتأتى على إعراب «أعدت» حالاً؛ لأنها لا تصلح للحالية. وقيل: عطفها على «أعدت» فاسد؛ لأن «أعدت» صلة «التي» ، والمعطوف على الصلة صلة، ولا يصلح أن يقال: «الباء» التي بشر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أنَّ لهم جنَّاتٍ، إلاَّ أن يعتقد أن قوله: «أُعِدَّتْ» مستأنفٌ، والظاهِرُ أنَّهُ من تمام الصلة، وأنَّهُ حالٌ من الضمير في «وقودها» ، والمأمور بالبشارة يجوز أن يكون الرسولُ عليه السَّلامُ، وأن يكون كُلُّ سَامِعِ، كما قال عليه السلام: «بَشِّر المَشِّائِينَ إلَى المَسَاجِدِ في الظُّلَمِ بِالنُّورِ التَّامِّ يوم القِيَامِةِ» ، لم يأمر بذلك أحداً بعينه، وإنَّما كل أحدٍ مأمور به. و «البِشارةُ» : أوّل خبرٍ من خيرٍ أو شَرٍّ؛ قالوا: لأنَّ أثرها يظهرُ في البَشَرَةِ، وهي ظاهرُ جِلْدِ الإنْسَانِ؛ وأنْشَدُوا: [الوافر] 308 - يُبَشِّرُنِي الغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي ... فَقُلْتُ لَهُ: ثَكِلَتُكَ مِنْ بَشِيرِ وقال آخر: [الطويل] 309 - وَبَشَّرْتَنِي يَا سَعْدُ أنَّ أَحِبَّتِي ... جَفَوْني وأّنَّ الوُدَّ مَوْعِدُهُ الحَشْرُ وهذا رأى سيبويه، إلاّ أنَّ الأكثر استعمالُهَا في الخير، وإن استُعْمِلَتْ في الشَّرِّ فَبِقَيْدٍ؛ كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ} [آل عمران: 21] ، وإن أُطْلِقَتْ، كان للخَيْرِ. وقال البغويُّ: «البِشَارَةُ كل خبر صدقٍ» . وقال ابن الخطيب: إنَّها الخبرُ الذي يُظْهِرُ السرور، ولهذا قال الفقهاءُ: إذا قال لعبيده: أيُّكم يُبَشِّرُنِي بقدوم فلان فهو حرٌّ، فَبَشَّروه فُرَادَى، عَتَق أولهم؛ لأنَّهُ هو الذي أفاد خبره السرور. ولو قال مكان بَشَّرَني «: اَخْبَرَنِي عَتَقُوا جميعاً؟ لأنَّهم جميعاً أخبروه، ظاهِرُ كلام الزمخشري أنَّها تختص بالخير؛ لأنَّهُ تَأَوَّلَ» فبشِّرهم بعذابٍ «على العكس في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الكلام الذي يقصد به الزيادة في غيظ المُسْتَهْزَأ بَهِ وتَأَلُّمِهِ، كما يقول الرَّجُلُ لِعَدوِّه: أَبْشِرْ بقتل ذريتك ونَهْبِ مالك. والفِعْلُ منها بَشَرَ وبَشََّرَ مخففاً ومثقلاً، فالتثقيل للتكثير بالنسبة إلى البشيرة. وقد قُرِئ المضارع مخففاً ومشدَّداً. وأمَّا الماضي فلم يقرأ به إلا مثقلاً نحو {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود: 71] وفيه لغةٌ أخرى: أَبْشَرَ مِثل أَكْرَمَ. وأنكر أبو حَاتِمٍ التخفيف، وليس بصواب لمجيء مضارعه. وبمعنى البشارة: البُشُور والتَّبْشِير والإِبْشَار، وإن اختلفت أفعالُها، والبِشَارةُ أيضاً: الجَمَالُ، والبشيرُ: الجميلُ، وتباشيرُ الفَجْرِ أَوائِلُهُ. وكون صلة» الَّذين «فعلاً ماضياً دون كونه اسم فاعل، دليلٌ على أنه يستحقُّ التبشير بفضل الله ممن وقع منه الإيمانُ، وتحقَّقَ به وبالأعمال الصالحة. و» الصَّالِحَاتُ «: جمع» صالحة «، وهي من الصفات التي جَرَت مجرى الأسماءِ في إيلائِها العوامل؛ قال: [البسيط] 310 - كَيْفَ الهِجَاءُ وَمَا تَنْفَكُّ صَالِحَةٌ ... مِنْ آلِ لأْمٍ بِظَهْرِ الغَيْبِ تَأْتِيني وعلامةُ نصبه الكَسْرَةُ؛ لأنَّهُ من باب جمع المؤنث السالم عن الفتحةِ، التي هي أصلُ النَّصْبِ. قال معاذ:» العملُ الصالحُ الذي فيه أربعة أشياء: العِلْمُ والنِّيَّهُ والصَّبْرُ والإخْلاصُ «. وقال عثمان بن عَفَّان:» أخلصوا الأعمال «. فَصْلٌ قال ابن الخطيب: هذه الآية تدلّ على أن الأعمالَ غير داخلةٍ في الإيمان؛ [لأنَّهُ لمَّا ذكر الإيمان] ، ثمَّ عطف عليه العمل الصالح، فوجب التغير وإلا لزم التكرار، وهو خلاف الأصل. قوله: {أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ} . » الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 جنَّاتٍ «: اسم:» أنَّ «. و» لهم «خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. ولا يجوز تقديم خبر «أنَّ وأخواتها إلاَّ ظرفاً أو حرف جرٍّ، و» أنَّ «وما في حيِّزها في محل جرٍّ عند الخليل والكسائي، ونصب عند سيبويه والفرَّاء؛ لأنَّ الأصل: وبَشِّرِ الذين آمنوا بأنَّ لهم، فحذف حرف الجرِّ مع» أنَّ «، وهو حذفٌ مطَّرِدٌ معها، ومع» أنَّ «الناصبة للمضارع، بشرط أَمْنِ اللَّبْسِ، بسبب طولهما بالصلةِ، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجرَِّ، جرى الخلافُ المذكورُ، فالخليلُ والكسائيُّ يقولان:» كأنَّ الحرف موجود، فالجرُّ بَاقٍ «. واستدلَّ الأخفشُ لهما بقول الشاعر: [الطويل] 311 - وَمَا زُرْتُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ حَبِيبَةً ... إِلَيَّ وَلاَ دَيْنٍ بِهَا أَنَا طَالِبُهْ فَعَطْفُ» دَيْنٍ «بالجرِّ على محلِّ» أنْ تَكُونَ «يُبَيِّنُ كونَها مجرورةً. قيل:» ويحتملُ أن يكون من باب عطفِ التَّوَهُّمِ، فلا دليل فيه «. والفرَّاءُ وسيبويه يقُولاَن: وجَدْنَاهُمْ إذا حذفوا حرفَ الجرِّ، نَصَبُوا؛ كقولِهِ: [الوافر] 312 - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا ... كَلاَمُكُمْ عَلَيَّ إِذَنْ حَرَامُ أي: بالدِّيار، ولا يجوزُ الجَرُّ إلاَّ في نادرِ شِعْرٍ؛ كقوله: [الطويل] 313 - إِذَا قِيلَ: أيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ؟ ... أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ أي: إلى كُلَيْبٍ؛ قول الآخر: [الكامل] 314 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... حَتًَّى تَبْذَّخَ فَارْتَقَى الأعْلاَمِ أي: إلى الأَعْلاَم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 و» الجَنَّةُ «: البُسْتَانُ. وقيل: الأرضُ ذات الشَّجرِ، سمّيت بذلك لسترها من فيها، ومنه» الجَنِينُ «لاستتاره، و» المِجَنُّ «: التُّرْسُ، وكذلك» الجُنَّةُ «لاستتارهم عن أَعْيُنِ النَّاسِ. قال الفرَّاءُ:» الجنَّةُ «ما فيه النخيل، و» الفردوس «: ما فيه الكرم. فإن قيل: لم نُكِّرت» الجنَّاتُ «وعُرِّفت» الأنهار «؟ فالجواب: أنَّ» الجنَّة «اسم لدار الثَّواب كلها، وهي مشتملةٌ على جنّات كثيرة مُرَتَّبةٌ مراتبَ على استحقاقات العاملين، لكل طبقةٍ منهم جنةٌ من تلك الجنَّات. وأمَّا تعريف» الأنهار «، فالمرادُ به الجنس، كما يقال: لفلان بستانٌ فيه الماء الجاري والتين والعنب، يشيرُ إلى الأجناس التي في علم المخاطب، أو يشار باللام إلى أنهاٍ مذكورةٍ في قوله: {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد: 15] . قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} هذه الجملة في محلّ نصبٍ، لأنَّها صفةٌ ل» جنَّات «. و» تَجْري «مرفوع لتجرُّدِه من الناصب والجازم، وعلامةُ رفعه ضمّةٌ مقدرةٌ في» الياء «استثقالاً، وكذلك تقدَّرُ في كُلٍِّ فَعْلٍ مُعْتَلٍّ نحو:» يَدْعو «، و» يَخْشَى «، إلاَّ أنَّها تُقَدَّرُ في» الأَلِفِ «تعذُّراً. » من تحتها «أي: من تحت أَشْجَارها ومساكنها. وقيل: من تحتها أي: بأمرهم. كقول فرعون: {تَجْرِي مِن تحتيا} [الزخرف: 51] أي: بأمري. و «الأنهارُ» جمعُ نَهْرٍ بالفتح، وهي اللُّغةُ العالية، وفيه تسكين «الهاء» ولكن «أفعال» لا ينقاس في «فَعْل» السَّاكن العين، بل يحفظ نحو: «أَفْراخ» ، و «أَزْنَاد» ، و «أفراد. و» النَّهرُ «: دونَ البحرِ، وفوق الجدول، وهل هو مجرى الماءِ، أو الماء الجاري نفسُه؟ والأوَّلُ أظهرُ؛ لأنًَّه مشتقٌّ من» نَهَرَُ «أي: وَسَّعْتُ. قال قَيْسُ بن الخطِيمِ يصفُ طَعْنَةً: [الطويل] 315 - مَلَكْتُ بِهَا كَفَِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 أي: وَسَّعْتُ. ومنه:» النَّهارُ «لاتِّساع ضوئِهِ، وإنَّما أُطْلِقَ على الماء مجازاً إطلاقاً للمحلِّ على الحالِّ. ومنه قوله عليه السَّلامُ:» ما أَنْهَرَ الدَّمَ «معناه: ما وسَّعَ الذَّبْحَ؛ حَتَّى يجري الدَّم كالنَّهْرِ، وجمعُ النَّهرِ: نَهَرٌ وأَنْهَارٌ، وَنَهْرٌ نَهِرٌ: كثير الماء. قال أبو ذُؤَيب: [المتقارب] 316 - أَقَامَتْ بِهِ وَابْتَنَتْ خَيْمَةً ... عَلَى قَصَبٍ وَفُرَاتٍ نَهِرْ ورُوِيَ أنَّ أنهار الجنة ليست في أخاديد، إنَّما تجري على سطح الجنَّةِ منبسطة بالقدرة، والوقفُ على» الأنهار «حَسَنٌ وليس بتامٍّ و» من تَحْتِهَا «متعلقٌ ب» تجري «، و» تحت «مكانٌ لا يتصرَّفُ، وهو نقيض» فوق «، إذا أُضِيفَا أُعْرِبَا، وإذا قَطِعَا بنيا على الضَّمِّ. و» مِنْ «لابتداء الغاية. وقيل: زائدةٌ. وقيل: بمعنى» في «، وهما ضعيفان. واعلم أنَّهُ إذا قيل بأنَّ الجَنَّة هي الأرضُ ذاتُ الشَِّجرِ، فلا بُدَّ م حَذْفِ مضاف، أي: من تحت عَذْقِها أو أَشْجَارها. وإن قيل: بأنَّها الشَّجَرُ نفسه، فلا حَاجَةَ إلى ذلك. وإذا قيل: بأنَّ الأنهار اسمٌ للماء الجاري فَنِسْبَةُ الجَرْي إليه حقيقة، [وإن قيل بأنَّهُ اسمٌ للأُخْدُودِ الذي يَجْرِي فيه، فنسبةُ الجَري إليه] مجازٌ، كقول مهلهل: [الكامل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 317 - نُبِّئْتُ أَنَّ النَّارَ بَعْدَكَ أُوقِدَتِ ... وَاسْتَبَّ بَعْدَكَ يَا كُلَيْبُ المَجْلِسُ قال أبو حيِّان: وقد ناقض ابن عطية كلامه هنا، فإنَّه قال:» والنهارُ: المياهُ في مجاريها المتطاولةِ الواسعةِ «ثمَّ قال: نُسِبَ الجريُ إلى النَّهْرِ، وإنَّمَا يجري الماءُ وحدّث توسُّعاً وتجوُّزاً، كما قال: {واسأل القرية} [يوسف: 82] وكما قال: [الكامل] 318 - ب - نُبِّئْتُ أنَّ النَّارَ ... ... ... ... ... ....... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . والألف واللاَّمُ في» النهار «للجنس. وقيل: للعَهْدِ لذكرها في سورةِ القتالِ. وقال الزمخشري: يجوز أن تكون عوضاً من الضَّمير كقوله: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] أي:» أَنْهَارُها «يعني أنَّ الأصل: واشتعل رأسي، فَعَوَّضَ» أل «عن ياء المتكلم، وهذا ليس مذهب البَصَريين، بل قال به بعضُ الكوفيِّين؛ وهو مردود بأنَّهُ لو كانت» أَلْ «عوضاً من الضمير، لَمَا جُمِعَ بينهما، وقد جُمِعَ بينهما؛ قال النَّابغةُ: [الطويل] 318 - ب - رَحِيبٌ قِطَابٌ الجَيْبِ مِنْهَا رَقِيقَةٌ ... بجَسِّ النَّدَامَى بَضَّةُ المُتَجَرِّدِ فقال: الجيب منها، وأمَّا ما ورد، وظاهره ذلك، فيأتي تأويله في موضعه. قوله تعالى: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ} تقدَّم القولُ في «كُلَّمَا» وهذا لا يخلو إمَّا أن يكون صفة ثانيةِ ل «جنَّاتٍ تجري» ، أو خبر مبتدأ محذوف، أو جملة مستأنفة؛ لأنَّه لَمَّا قيل: «أنَّ لهم جنَّاتٍ» لم يَخْلُ قَلْبُ السَّامِعِ أنْ يقع فيه أنَّ ثمار تلك الجنَّات تُشبهُ ثِمَارَ الدُّنْيَا أم لا؟ والعامِلُ في «كُلَّما» هاهنا «قالوا» . و «مِنْهَا» متعلِّقٌ ب «رُزِقُوا» ، و «مِن» لابتداء الغاية، وكذلك «من ثَمَرَةٍ» ، لأنَّها بدلٌ من قوله: «منها» بدلُ اشتمالٍ بإعادة العاملِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 وإنَّما قلنا: إنه بدل اشتمال؛ لأنَّهُ لا يتعلّق حرفان بمعنى واحدٍ بعاملٍ واحد، إلاَّ على سبيل البدلية، أو العطف. وأجاز الزَّمخشري أنَّ «مِنْ» للبيان كقولك: «رأيتُ منك أسداً» ؛ وفيه نظرٌ؛ لأنَّ من شرط ذلك أن يَحِلَّ مَحَلَّها موصولٌ، وأن يكون ما قبلها مُحَلَّى ب «أل» الجنسية، وأيضاً فليس قبلها شيء يَتَبَيَّنُ بها، وكونُها بياناً لما بعدها بعيدٌ جِداً، وهو غير المصطلح. «رِزْقاً» مفعولٌ ثانٍ ل «رُزِقُوا» ، وهو بمعنى «مَرْزُوقٍ» ، وكونُهُ مصدراً بعيدٌ؛ لقوله: {هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} ، والمصدر لا يؤتى به متشابهاً، وإنما يؤتى بالمرزوق كذلك. قوله: {قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} . «قالوا» : هو العاملُ في «كلما» كما تقدّم، و «هَذَا الَّذِي رزِقْنَا» مبتدأ في محل نصب بالقول، وعائِدُ الموصول محذوفٌ؛ لاستكماله الشُّروط، أي: رُزِقْناه. و «مِنْ قبلُ» متعلِّقٌ به. و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، ولَمَّا قطعت «قَبْلُ» بُنِيَتْ [وإنما بنيت] على الضَّمَّةِ؛ لأنها حركة لم تكنْ لها حالَ إعرابها. واختلف في هذه الجملةِ، فقيل: لا محلَّ لها من الإعراب؟ لأنَّها استئنافيةٌ، فإنَّهُ قيل: لَما وصفت الجَنَّاتُ ما حالها؟ فقيل: كُلَّمَا رُزِقُوا قالوا. وقيل: لَهَا محلٌّ، ثُمَّ اختلف فيه، فقيل: رَفْعٌ على أنَّه خبر مبتدأ محذوف، واختلف في ذلك المبتدأ، فقيل: ضمير «الجنَّات» ، أي: هي كلَّما وقيل ضمير «الَّذين آمنوا» أي: هم كُلَّما رُزِقوا قالوا. وقيل: مَحَلُّها نَصْبٌ على الحالِ، وصاحبُها: إمَّا «الذين آمنوا» ، وإمَّا «جنات» ، وجاز ذلك، وإن كانت نكرة؛ لأنها تخصصت بالصفةِ، وعلى هذين تكون حالاً مُقَدَّرة؛ لأنَّ وقت البشارة بالجَنَّاتِ لم يكونوا مرزوقين ذلك. وقيل: مَحَلُّهَا نَصبٌ على أنَّها صفة ل «جنات» أيضاً. فَصْلٌ في المشبه به في الآية الآية تَدُلُّ على أنَّهُمْ شَبَّهُوا رزقهم الذي يأتيهم في الجنَّة بِرِزْقهم قبل ذلك، فالمُشَبَّهُ بِهِ أهو من أرزاق الدنيا، أم من أرزاق الآخرة؟ ففيه وجهان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 أحدهما: أنَّه من أَرْزَاق الدنيا، وفيه وجهان: أحدهما: هذا الذي وَعَدنَا به في الدُّنيا. والثَّاني: هذا الذي رُزِقنا في الدنيا، لأنَّ لونه يشبهُ ثمار الدُّنيا، فإذا أكلوا وجدوا طَعْمَهُ غير ذلك. الوجه الثاني: أنَّ المُشَبَّهُ به ثمار الآخرة، واختلفوا فيما حصلت المشابهة فيه على وجهين: الأول: المراد تساوي ثوابهم في كُلِّ الأوقات في القدر والدرجة؛ حَتَّى لا يزيدَ ولا ينقص. الثاني: المراد المُشَابهة في المنظر، فيكون الثاني كأنَّه الأوّل على ما رُوِيَ عن الحسن، ثمَّ هؤلاء اختلفوا، فمنهم من يقول: الاشتباهُ كما يقع في المنظر يقع في الطَّعمِ. ومنهم من يقول: وإن حصل الاشتباه في اللَّون، لكِنَّها تكون مختلفةً في الطَّعْم. قال الحَسَنُ: يؤتى أَحَدُهُمْ بالصّحفة فيأكل منها، ثُمَّ يُؤْتَى بالأخرى فيقول: هذا الذي أُوتِينَا به من قَبْلُ: فيقول الملك: «كُل فاللَّونُ واحدٌ، والطعمُ مختلفٌ» . فإن قيل: قوله: {كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا} مع قوله: «قالُوا: هذا الذي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ» - هذا صيغةُ عموم، فيشمل كُلُّ الأوقاتِ التي رُزِقوا فيها، فيدخل فيه أوّل مَرّة رُزِقوا في الجنَّة، فلا بُدَّ وأن يقولوا: «هذا الذي رُزِقْنَا من قَبْلُ» فما الجواب على قولنا بَأَنَّ المشبَّه به ثِمَارُ الآخِرة؟ والجواب أنَّ عمل ذلك على ما وعدوا به في الدُّنْيَا، أو يكون تقدير الكلام: هذا الَّذِي رُزِقْنَا في الأَزَلِ. قوله: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً} الظاهِرُ أنَّها جملةٌ مستأنفة. وقال الزمخشريُّ فيها: هو كقولك: «فلانُ أَحْسِن بِفُلانٍ» ونِعْمَ ما فعل، ورأى من الرَّأي كذا، وكان صواباً. ومنه: {وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً وكذلك يَفْعَلُونَ} [النمل: 34] . وما أشْبَه ذلك من الحُمَلِ التي تُُسَاقُ في الكلام معترضةً للتقرير، يعني بكونها معترضة، أي من أحوال أَهْلِ الجنَّةِ، فإنَّ بَعْدَهَا: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ} ، وإذا كانت معترضةً فلا محلَّ لها. وقيل: هي عَطْفٌ على «قالوا» . وقيل: مَحَلُّها النَّصبُ على الحالِ، وصاحبُها فاعل «قالوا» أي: قالوا هذا الكلام في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 هذا الحال، ولا بُدَّ من تقدير «قد» قبل الفعل، أي: «وَقَدْ أُتُوا» ، وأَصْلُ أُتُوا: أُتِيُوا مِثْل: ضُرِبوا، فأُعِلَّ كَنَظَائِرِهِ. [وقرأ هارون] الأعور: «وأَتوا» مبنيّاً للفاعل، والضَّمير للولدان والخدم للتصريح بهم في غير موضع، والضميرُ في «به» يعود على المرزوق الذي هو الثمرات، كما أن هذه إشارة إليه. وقال الزمخشري: «يعود إلى المرزوق في الدُّنْيَا والآخرة؛ لأنَّ قوله: {الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ} انطوى تحته ذكر ما رُزِقُوه في الدَّارَيْنِ. ونظيرُ ذلك قوله تعالى: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] » . أي: بجنسي الغنيِّ والفقير المدلول عليهما بقوله: {غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً} [النساء: 135] ويعني بقوله: «انطوى تحته ذِكْرُ ما رُزُِقوه في الدَّارَيْنِ» اَنَّهُ لَمَّا كان التقديرُ: مِثْلَ الَّذي رُزِقْناه كان قد انطوى على المرزوقين معاً، كما أنَّ قَوْلَكَ: «زَيْدٌ مثلُ حاتمٍ» مُنْطَوٍ على زيدٍ وحاتمٍ. قال أبو حيَّان: «وما قاله غيرُ ظاهرٍ؛ لأنَّ الظاهِرِ عَوْدُه على المرزوقِ في الآخرة فقط؛ لأنَّه هو المُحَدّثُ عنه، والمشبَّهُ بِالَّذِي رُزقوه من قبلُ، لا سيما إذا فسِّرت القبلية بما في الجنَّةِ، فَإِنَّهُ يتعيّنُ عَوْدُ على المرزوق في الجنَّةِ فقط، وكذلك إذا أعربت الجملة حالاً؛ إذ يصير التقديرُ: قالوا: هذا الذي رُزِقْنَا من قَبْلُ وقد أتوا به؛ لأنه الحامل لهم على هذا القول، كأنَّه أُتُوا به مُتَشَابِهاً وعلى تقدير أن يكون معطوفاً على قالوا، لا يَصِحُّ عوده على المرزوق في الدَّارين؛ لأن الإتيان إذ ذاك يستحيل أن يكون ماضياً معنىً؛ لأنَّ العامل في» كُلَّما «أو ما في حيزها يحتمل هُنا أن يكون مستقبل المَعْنَى؛ لأنها لا تخلو من معنى الشرط، وعلى تقدير كونها مستأنفة لا يظهر ذلك أيضاًً، لأنَّ هذه محدَّث بها عن الجَنَّةِ وأحوالها» . قوله: {مُتَشَابِهاً} حالٌ من الضَّمير في «به» ، أي: يشبه بعضه في المنظر، ويختلف في الطعمِ، قاله بان عبَّاس ومجاهد، والحسن وغيرهم رضي الله - تعالى - عنهم. وقال عكرمة: «يُشْبِهُ ثَمَرَ الدُّنيا، ويباينه في جل الصَّفات» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 قال ابن عبَّاس: «هذا على وَجْه التَّعَجُّبِ، وليس في الدُّنْيَا شيءٌ مما في الجَنَّةِ سِوَى الأسماء، فكأنَّهم تَعَجَّبُوا لِمَا رأوه من حُسْنِ الثَّمَرَةِ، وعِظم خالقها» . وقال قتادةُ: «خياراً لا رَذلَ فيه، كقوله تعالى: {كِتَاباً مُّتَشَابِهاً} [الزمر: 23] وليس كثمار الدنيا التي لا تتشابه؛ لأنَّ فيها خياراً وغير خِيَار» . قوله: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} «لهم» خبر مُقَدَّم، وأزواج مبتدأ، و «فيها» متعلّق بالاستقرار الذي تعلّق به الخبر. قال أبو البقاء: «لا يكون فيها الخبر، لأنَّ الفائدة تقل؛ إذ الفائدة في جَعْلِ الأَزواج لهم» . وقوله: «مُطَهَّرةٌ» صفة، وأتى بها مفردة على حدِّ: النساءِ طَهُرَتْ ومنه بيت الحماسة: [الكامل] 319 - وَإِذَا العَذَارَى بَالدُّخَانِ تَلَفَّعَتْ ... وَاسْتَعْجَلَتْ نَصْبَ القُدُورِ فَمَلَّتِ وقرأ زيد بن عليّ: «مُطَهَّراتٌ» على حَدِّ: النساءُ طَهَرْنَ. وقرأ عبيد بن عمير: «مُطَهَّرة» يعني: متطَهِّرة. والزوج ما يكون معه آخر، ويقالُ زوج للرَّجل والمرأة، وأمَّا «زَوْجَةٌ» فقليلٌ. قال الأَصْمَعِيُّ: لا تكاد العربُ تقول: زوجة، ونَقَلَ الفرّاءُ أنّها لغة «تميم» ، وأنشد للفرزدق: [الطويل] 320 - وَإِنَّ الَّذِي يَسْعَى لِيُفْسِدَ زَوْجَتِي ... كَسَاعٍ إلَى أُسْدِ الشَّرَى يَسْتَبِيلُهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 وفي الحديث عن عمَّار بن ياسرِ في حقِّ عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «إنِّي لاَعْلَمْ أنَّها زَوْجَتَهَ في الدُّنيا والآخرة» ذكره البُخَاري رَضِيَ اللهُ عَنْه، واختاره الكسائيُّ. والزَّوجُ أيضاً: الصِّنْفُ، والتثنية: زوجان. والطّهارة: النظافة، والفِعْلُ منها طَهَرَ بالفتح، ويَقِلُّ الضَّمُ، واسم الفاعل منها «طاهر» فهو مقيسٌ على الأوَّلِ، شاذّ على الثَّاني، ك «خاثر» و «حامِض» من خَثُرَ اللبنُ وحَمُضَ بضمِّ للعين. فإن قيل: طاهرة، الجوابُ: في المُطَهَّرةِ إشعارٌ بأنَّ مُطَهِّراً طَهَّرَهُنَّ، وليس ذلك إلاَّ الله تعالى، وذلك يفيد فخامة أهل الثواب، كأنَّهُ قيل: إنَّ الله - تعالى - هو الَّذي زَيَّنَهُنَّ. قال مُجَاهد: «لا يَبُلْنَ ولا يَتَغَوَّطْنَ وَلاَ يلِدْنَ وَلاَ يَحِضْنَ، وَلاَ يُبْغَضْنَ» . وقال بعضه: «مُطَهَّرةٌ في اللغة أجمع من طاهرة وأَبْلَغ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 قوله: {وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} هم مبتدأ، وخالدون خبره، وفيها متعلّق به. وقال القرطبيُّ: «والظرفُ مَلْغِيٌّ، وقُدِّم ليوافق رؤوس الآي» وأجازوا أن يكون «فيها» خبراً أول، و «خالدون» خبر ثانٍ، وليس هذا بِسَدِيدٍ، وهذه الجملة والتي قبلها عطفٌ على الجملةِ قبلهما حسب ما تقدَّم. وقال أبو البقاء: «وهاتان الجملتان مستأنفتان، ويجوز أن تكون الثانية حالاً من الهاء والميم في» لهم «، والعامِلُ فيها معنى الاستقرار» . قال القرطبي: «ويجوز في غير القرآن نصب» خالدين «على الحال» . و «الخلود» : المكث الطويل، وهل يُطْلَقُ على ما لا نهاية له بطريق الحقيقة أو المجاز؟ قولان. قالت المعتزلة: «الخلد» : هو الثباتُ اللاَّزم، والبقاء الدائمُ الذي لا يقطع، واحْتَجُّوا بالآية، وبقوله: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] فنفى الخلد عن البَشَرِ مع أنَّه - تعالى - أعطى بعضهم العمر الطويل، والمنفيّ غير المثبت، فالخلدُ هو البقاءُ الدَّائمُ؛ وبقول امرئ القيس: [الطويل] 321 - وَهَلْ يَنْعَمَنْ إلاَّ سَعيدٌ مُخَلَّدٌ ... قَلِيلُ الهُمُومِ ما يَبِيتُ بأَوْجَالِ قال ابن الخطيب: وقال أصحابنا: الخلدُ هو الثّباتُ الطويل، سواء دام أو لم يَدُم؛ واستدلُّوا بقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} [التوبة: 100] ولو كان التأبيد داخلاً في مفهوم الخلد، لكان ذلك تكرُّراً، واستدلّوا أيضاً بالعرفِ؛ يقال: حَبَسَ فلانٌ فُلاَناً حَبْساً مُخَلَّداً، ويكتبُ في الأوقاف: وقَفَ فلانٌ وَقْفاً مُخَلَّداً. وقال الآخرون: «العقلُ يَدُلُّ على دوامه؛ لأنه لو لم يجب الدوام، لجوّزوا انقطاعه، فكان خوف الانقطاع ينغص عليهم تلك النعمة، لأنَّ النِّعْمَةَ كُلَّمَا كانت أعظم كان خوفها انقطاعها أعظم وقعاً في القَلْبِ، وهذا يقتضي ألا ينفك أهل الثواب [ألبتة] من الغم والحسرةِ، وقد يجابُ عنه بأنَّهم عرفوا ذلك بقرينة قوله:» أبداً «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 اعلم أنَّه - تعالى - لَمَّا بَيَّنَ كون القرآن مُعْجزاً، أورد الكُفَّار هنا شبهةً قدحاً في ذلك، وهي أنَّهُ جاء في القرآن ذِكْرُ النَّحلِ، والعنكبوت، والنَّملِ، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفُصَحَاء، فاشتمالُ القرآن عليها يقدحُ في فصاحته، فَضْلاً عن كونه مُعْجزاً، وأجاب الله - تعالى - عنه بأنَّ صِغَر هذه الأَشْيَاء لا يقدح في فصاحةٍ، إذا كان ذكرها مشتملاً على حكم بالغة، فهذا هو الإشارة إلى كيفية تَعُلُّق هذه الآية بما قبلها. روي عن ابن عبّاس - رضي اللهُ تعالى عنه - أنَّه لما قال: {ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ فاستمعوا لَهُ} [الحج: 73] فطعن في أصنامهم، ثُمَّ شَبَّه عبادتها ببيت العَنْكَبُوت. قال اليهود: أي قدر للذُّبَاب والعنكبوت حتَّى يَضْربَ اللهُ المَثَل بهما؟! فنزلت هذه الآية. وقيل: إنَّ المُنَافقين طَعَنوا في ضرب الأمثال بالنَّار، والظلمات، والرَّعد، والبَرْق في قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} [البقرة: 17] وقوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء} [البقرة: 19] قالوا: اللهُ أَجَلُّ وأعلى من أن يضرِبَ الأمثالَ، فأنزل الله هذه الآية، وهذه رواية أبي صالح عن ابن عبّاس. وروى عطاء عن ابن عبّاس أيضاً أنَّ هذا الطعن كان من المشركين. فقال القَفَّالُ رَحِمَهُ اللهُ: الكُلُّ محتملٌ هاهنا. أمَّا اليهود، فلأنه قيل في آخر الآية: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} وهذا صفة اليهود؛ لأنَّ الخطاب بالوفاءِ بالعهدِ إنَّمَا هو لبني إسرائيل، وأمَّّا الكفار والمنافقون فقد ذكروا في سورة «المدثر» : {وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} [المدثر: 31] ، فالذين في قلوبهم مرض هم الكافرون المُنَافقون، والذين كفروا يحتمل المشركين، لأنَّ السورة مَكِّيَةٌ، فقد جُمِعَ الفريقان ها هنا. إذا ثبت هذا، فنقول: احتمال الكُلِّ هاهنا قائمٌ؛ لأنَّ الكافرين والمُنافقين واليهود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 كانوا مُتَوَافقين في إيذاء الرَّسول، وقد مضى من أوّلِ السُّورةِ إلى هذا الموضع ذكر المنافقين، واليهود، والمشركين، وكُلُّهم من الذين كفروا. ثُمَّ قال القَفَّال: «وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداءً من غير سبب؛ لأنَّ معناه مفيدٌ في نفسه» . فَصْلٌ في معنى الحياء واشتقاقه الحياء: تَغَيَّرَ وانكسارٌ يعتري الإنسانَ من خوفِ ما يُعَابُ بِهِ ويُذَم، واشتقاقه من الحياة، ومعناه على ما قال الزمخشري: نقصت حياته، واعتلت مجازاً، كما يُقَالُ: نَسِيَ وخَشِيَ، وشظي القوسُ: إذا اعتلت هذه الأعضاء، جُعِلَ الحييُّ لما يعتريه من الانكسار، والتَّغَيُّرِ منتكس القوة منتقص الحياة كما قالوا: فلان هلك من كذا حياءً، ومات حياءً، وذاب حياءً، يعني بقوله: «نَسِيَ وخَشِيَ وشظي» أي: أصيبَ نَسَاه، وهو «عرق» وحَشَاه، وهو ما احتوى عليه البَطْنُ، وشظاهُ وهو عَظْم في الوَرِك، واستعماله هُنَا في حَقِّ الله - تعالى - مَجَازٌ عن التَّرْكِ. وقيل: مجاز عن الخِشْيَةِ؛ لأنَّها أيْضاً من ثمراته، وَرَجَّحَهُ الطَّبريُّ، وجعله الزمخشريُّ من باب المُقَابلةِ، يعني أنَّ الكُفَّارَ لَمَّا قالوا: أَمَا يَسْتَحي رَبُّ محمد أن يضرب المثَلَ بالمُحْقّرَات، «قُوبِلَ» قولهم ذلك بقوله: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} [ونظيره قول] أبي تمَّام: [الكامل] 322 - مَنْ مُبْلِغٌ أَفْنَاءَ يَعْرُبَ كُلَّهَا ... أَنِّي بَنَيْتُ الجَارَ قَبْلَ لمَنْزِلِ لو لم يذكر بناء الدَّارِ لم يصحّ بناء الجار. وقيل: معنى لا يستحيي، لا يمتنع، وأصْلُ الاستحياء الانقباضُ عن الشَّيء، والامتناعُ منه؛ خوفاً من مُواقعة القبيح، وهذا محالٌ على الله تعالى، وفي «صحيح مسلم» عن أم سلمة قالت: «جاءت أم سليم إلى النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: يا رسولَ الله إنَّ اللهَ لا يَسْتَحي من الحَقِّ» المعنى لا يأمر بالحَيَاء فيه، ولا يمتنع من ذكره. قال ابن الخطيب: «القانون في أمثال هذه الأشياء، أنَّ كُلَّ صفةٍ ثبتت للعبدِ مما يختص بالأجسام، فإذا وصف الله بذلك، فلذلك محمولٌ على نهايات الأعراض، لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 على بدايات الأعراض، مثاله: حالةٌ تَحْصُلُ للإنسان، ولكن هل لها مبدأ ومنتهى، أمَّا المبدأ فهو التغيُّر الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن يُنْسبَ إليه القبيح، وأمَّا النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل، فإذا ورد الحياءُ في حقِّ الله تعالى، فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته، بل تركُ الفعلِ الذي هو منتهاه وغايته، وكذلك الغضبُ [له مقدمةٌ] وهو غليان دم القَلْبِ وشهوة الانتقام وله غاية، وهي إنزال العقاب بالمغضوب عليه، فإذا وصفنا الله - تعالى - بالغَضَبِ، فليس المراد ذلك المبدأ، يعني شهوة الانتقام، وغليان دم القَلْبِ، بل المرادُ تلك النّهاية، وهي إنزال العقاب، فهذا هو القانون الكُلِّ في هذا الباب» . فَصْلٌ في تنزيه الخالق سبحانه قال القاضي: ما لا يجوز على الله - تعالى - من هذا الجنس إثباتاً، فيجب أَلاَّ يطلق على طريقة النفي عليه، وإنَّما يقال: إنَّه - تعالى - لا يوصفُ به، فأمَّا أن يقال: «لا يستحي» ويطلقُ عليه فمحالٌ؛ لأنَّهُ يوهم نفي ما يجوز عليه، وما ذكره الله - تعالى - في كتابه من قوله: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] ، {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ} [الإخلاص: 3] فهو بصورة النفي، وليس بنفي على الحقيقة، وكذلك قوله تعالى: {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] ، وكذلك قوله تعالى: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] وليس كل ما ورد في القرآن جائز أن يُطْلَقَ في المخاطبة، فلا يجوز أن يطلق ذلك إلاَّ مع بيان أنَّ ذلك مُحَالٌ. ولقائلٍ أن يقولَ: لاَ شَكَّ أنَّ هذه الصِّفات منتفيةٌ عن الله تعالى، فكان الإخبار عن انتفائها يدلُّ على صحّتها عليه. فنقول: هذه الدلالة ممنوعة، وذلك أن تخصيص هذا النفي بالذكر، لا يَدُلُّ على ثبوته لغيره، لو قرنَ اللَّفظ بما يَدُلُّ على انتفاء الصِّحة كان ذلك أحسن، من حيث إنه يكون مبالغة في البيان، وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون ذلك قبيحاً. فَصْلٌ في إعراب الآية قوله: «لا يَستَحيي» جملة في محلِّ الرفع خبراً ل «أن» ، واستفعل هنا للإغناء عن الثُّلاثي المجرّد. وقال الزمخشري: «إنَّه مُوَافق له أي: قد ورد» حَيي «، و» استَحْيى «بمعنى واحد، والمشهور: اسْتَحْيَى يَسْتَحْيي فهو مستحيٍ ومُسْتَحْيىً منه من غير حَذْف» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 قال القرطبي: «ويستحيي» أصله يَسْتَحْييُ عينه ولامه حرفا علة أعلّت «اللام» منه بأن استثقلت الضمةُ على «الياء» فسكنت، والجمعُ مستحيون ومستحيين، وقد جاء استحى يستحي فهو مستح مثل: اسْتَقَى يَسْتَقِي. وقرأ به ابن محيصن. ويروى عن ابن كثير، وهي لغة «تميم» و «بكر بن وائل» ، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى «الحاء» فسكنت، ثم استثقلت الضَّمة على الثانية، فسكنت، فحذف إحداهما للالتقاء، والجمعُ مستحون ومستحين، قاله الجوهري. ونقل بعضهم أن المحذوف هنا مختلفٌ فيه؛ فقيل: عينُ الكلمة، فوزنُه يَسْتَفِل. وقيل: لامُه، فوزنه يَسْتَفِع، ثُمَّ نُقِلت حركةُ اللاَّم على القول الأوّل، وحركةُ العَيْن على القول الثاني إلى الفاء، وهي الحاء؛ ومن الحذف قولُه: [الطويل] 323 - ألا تَسْتَحِي مِنَّا المُلُوكُ وَتَتَّقِي ... مَحَارِمَنا لاَ يَبُؤِ الدَّمُ بِالدَّمِ وقال آخر: [الطويل] 324 - إذا ما اسْتَحَيْنَ المَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ ... كَرَعْنَ بِسبْتٍ في إِنَاءٍ مِنَ الوَرْدِ و «استحيي» يتعدَّى تارة بنفسه، وتارة بحرف جرّ تقول: استحييتُه وعليه: إذا ما استحين الماء. . واستحييت منه؛ وعليه: أَلاّ تستحي مِنَّا الملوك. . فيحتمل أن يكون قد تعدَّى في هذه الآية إلى أن يضرب بنفسه، فيكون في محل نصب قولاً واحداً، ويحتمل أن يكون تَعَدَّى إليه بحرف المحذوف، وحينئذٍ يجري الخلافُ المتقدّم في قوله: «أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ» . و «يَضْرِب» معناه: يُبَيِّنُ فيتعدَّى لواحدٍ. وقيل: معناه التصييرُ، فيتعدّى لاثنين نحو: «ضَرَبْتُ الطِّينَ لَبِناً» . وقال بعضهم: «لا يتعدَّى لاثنين إلاَّ مع المثل خاصة» ، فعلى القول الأوّلِ يكونُ « الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 مَثَلاً» مفعولاً و «ما» زائدة. وقال أبو مسلم الأصفهاني: «معاذ الله أنْ يكون في القرآن زيادة» . وقال ابن الخطيب: والأصح قول أبي مُسْلِمِ؛ لأن الله - تعالى - وصف القرآن بكونه: هدى وبَيَاناً، وكونه لَغْواً ينافي ذلك، فعلى هذا يكون «ما» صفة للنكرة قبلها، لتزداد النكرة اتساعاً. ونظيره قولهم: «لأَمْرٍ مَّا جَدَعَ قَصيرٌ أَنْفُهُ» وقولُ امرئ القيس: [المديد] 325 - وَحَدِيثُ الرَّكبِ يَوْمَ هُنَا ... وَحَدِيثٌ مَّا عَلَى قِصَرِهْ وقال أبو البَقَاءِ: وقيل: «ما» نَكِرَةٌ موصوفةٌ، ولم يجعل بعوضة صفتها، بل جعلها بدلاً منها، وفيه نظرٌ؛ إذ يحتاج أن يُقدِّر صفةً محذوفة ولا ضرورة لذلك، فكان الأولى أن يجعل بعوضةً صفتها بمعنى أنَّهُ وصفها بالجنس المُنكَّرِ لإبهامِه، فهي في معنى «قليل» ، وإليه ذهب الفرّاء والزَّجَّاجُ وثَعْلَبٌ، وتكون «ما» وصفتها حينئذٍ بدلاً من «مَثَلاً» و «بعوضة» بدلاً من «ما» ، أو عطف بيان لها، إن قيل: «ما» صفة ل «مثلاً» ، أو نعتٌ ل «ما» إن قيل: إنَّها بدلٌ من «مثلاً» كما تقدَّم في قول الفَرَّاء، وبدلٌ من «مثلاً» أو نعتٌ ل «ما» إن قيل: إنَّها بدلٌ من «مثلاً» كما تقدَّم في قول الفَرَّاء، وبدلٌ من «مثلاً» أو عطف بيان له إن قيل: إن «ما» زائدة. وقيل: «بعوضة» هو المفعول، و «مثلاً» نُصِبَ على الحالِ قُدِّمَ على النكرةِ. وقيل: نُصِبَ على إسقاط الخافض، التقدير: ما بين بعوضةٍ، فلمَّا حُذِفَتْ «بين» أعربت «بعوضة» بإعرابها، وتكون الفاء في قوله: «فما فوقها» بمعنى إلى، أي: إلى ما فوقها، ويعزى هذا للكسائي والفرّاء وغيرهم من الكوفيين؛ وأنشدوا: [البسيط] 326 - يَا أَحْسَنَ النَّاسِ مَا قَرْناً إلَى قَدَمٍ ... وَلاَ حِبَالَ مُحِبٍّ وَاصِلٍ تَصِلُ أي: ما بين قَرْنٍ. وَحَكَوْا: «له عشرون ما ناقةً فَجَمَلاً» ، وعلى القول الثَّاني يكونُ «مثلاً» مفعول أوَّلَ، و «ما» تحتمل الوجهين المتقدمين، و «بعوضةً» مفعولٌ ثانٍ. وقيل: بعوضةً هي المفعولُ الأولُ، و «مَثَلاً» هو الثَّاني، ولَكِنَّهٌُ قُدِّم. وتلخَّص مما تقدَّم أنَّ في «ما» ثلاثة أوجه: زائدة، صفة لما قبلَها، نكِرةٌ موصوفةٌ، وأنَّ في «مثلاً» ثلاثة أيضاً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 مفعول أوّل، أو مفعول ثان، أو حالٌ مقدّمة، وأنَّ في «بعوضة» تسعة أوجه، والصوابُ من ذلك كُلُّه أن يكون «ضَرَبَ» متعدِّياً لواحدٍ بمعنى بَيَّنَ، و «مثلاً» مفعولٌ به، بدليل قوله: «ضُرِبَ مَثَلٌ» ، و «ما» صفةٌ للنَّكِرة، و «بعوضةً» بدلٌ لا عطف بيان، لأن عطف البيان ممنوع عند جمهور البصريين في النكرات. وقرأ إبراهيم بن أبي عَبْلَةَ والضَّحَّاكُ ورؤبة بن العجاج برفع «بعوضةٌ» واتفقوا على أنَّها خبرٌ لمبتدأ، ولكنهم اختلفوا في ذلك المبتدأ، فقيل: هو «ما» على أنَّها استفهاميةٌ أيك أيُّ شيء بعوضةٌ، وإليه ذهب الزمخشري ورَجَّحَهُ. وقيل: المبتدأ مضمرٌ تقديرُه «: هو بعوضةٌ، وفي ذلك وجهان: أحدهما: أن تُجْعَلَ هذه الجملة صلة ل» ما «لكونها بمعنى الذي، ولكنَّه حذف العائد، وإن لم تَطُل الصِّلةُ، وهذا لا يجوز عند البصريين إلاَّ في» أيّ «خاصّة لطولها بالإضافة، وأمَّا غيرُها فشاذٌّ، أو ضرورة كقراءة: {تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] وقوله: [البسيط] 327 - مَنْ يُعَنْ يِالحَقِّ لاَ يَنْطِقْ بِمَا سَفَهٌ ... وَلاَ يَحِدْ عَنْ سَبِيلِ الحَمْدِ وَالكَرَمِ أي: الذي هو أحسنُ، وبما هو سَفَهٌ، وتكونُ «ما» على هذا بدلاً من «مثلاً» كأنَّهُ قيل: مثلاً الذي هو بعوضةٌ. قال النَّحَّاسُ: «والحذفُ في» ما «أقبحُ منه في» الذي «لأن» الذي «إنّما له وجه واحد، والاسم معه أطول» . والثاني: أن تُجْعَلَ «ما» زائدة، أو صفةً، وتكون «هو بعوضةٌ» جملة كالمفسِّرة لما انطوى عليه الكلامُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 ويقال: إنَّ معنى: «ضربتُ له مثلاً» مَثَّلْتُ له مَثَلاً، وهذه الأبنيةِ على ضربٍ واحدٍ، وعلى مثال [واحد] ونوعٍ واحد. والضربُ: النوعُ، والبعوضةُُ: واحِدةُ البعوض، وهو معروف، وهو في الأَصْلِ وَصْفٌ على فَعُول كالقَطُوع، مأخوذ من البَعْض، وهو القَطْع، وكذلك البَضْع والعَضْب؛ قال: [الوافر] 328 - لَنِعْمَ البَيْتُ بَيْتُ أَبِي دِثَارٍ ... إِذَا مَا خَافَ بَعْضُ القَوْمِ بَعْضَا وقال الجوهري: البعوض: البَقُّ، الواحدة بعوضة، سُميت بذلك لصغرها. فَصْلٌ في استحسان ضرب الأمثال اعلم أنّ ضرب الأمثال من الأمور المستحسنة في العقول، وقد اشتهر العربُ في التمثيل بأحقر الأشياء، فقالوا في التمثيل بالذَّرَّةِ: «أجمع من ذَرَّةٍ» ، و «أضبط من ذرَّة» ، «وأخفى من ذَرَّةٍ» ، وفي التمثيل بالذُّباب: «أجرأ من الذُّبَاب» ، «وأخطأ من الذُّبَاب» ، «وأطيش من الذباب» ، و «أشبه من الذبابِ بالذباب» ، «وألخّ من الذُّبَاب» . وفي التمثيل بالقراد: «أسمع من قراد» ، وأضعف من قرادة، وأعلق من قرادة، وأغم من قرادة، وأدبّ من قرادة. وقالوا في الجراد: أَطْيَرُ من جَرَادة، وأحْطَم من جَرَادة، وأَفْسد من جرادة، وأصفى من لعاب الجرادة. وفي الفراشة: «أضعف من فراشة» ، «وأجمل من فراشة» ، و «أطيش من فراشة» . وفي البعوضةِ: «كلفني مخّ البعوضة» ، مثلٌ في تكليف ما لا يُطاق. فقولهم: ضرب الأمثال لهذه الأشياء الحقيرة لا يليق بالله تعالى. قلنا: هذا جَهْلٌ، لأنَّهُ - تعالى - هو الذي خلق الكبير والصغير، وحكمه في كُلِّ ما خلق وبرأ عام؛ لأنَّه قد أحكم جميعه، وليس الصغير أخفّ عليه من العظيم، ولا العظيم أصعب عليه من الصَّغير، وإذا كان الكُلُّ بمنزلةٍ واحدةٍ لم يكن الكبير أَوْلَى من أن يضربه مثلاً لعباده من الصغير، بل المعتبر فيه ما يليقُ بالقضيَّةِ، وإذا كان الأليق بها الذُّباب والعنكبوت، ضرب المثل بهما، لا بالفيل والجمل، فإذا أراد أن يُقَبَّحَ عبادتهم للأصنام، ويُقَبِّحَ عدو لهم عن عبادة الرحمن، صَلَحَ أن يضرب المثل بالذُّبَاب، لِيُبَيِّنَ أن قدر مَضَرَّتها لا تندفع بهذه الأصنام، ويضرب المثل العَنْكَبُوت؛ لِيُبَيِّنَ أنَّ عبادتها أَوْهَى وأضعف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 من ذلك كُلَّما كان المضروب به المثل أضعف كان المثل أقوى وأوضح، وضرب المَثَلِ بالبعوضة؛ لأَنَهُ من عجائب خلق الله تعالى؛ فإنه صغير جِدًّا، وخرطومه في غاية الصغر، ثُمَّ إنَّه من ذلك مجوّف، ثمَّ ذلك الخرطوم مع فرط صغره، وكونه مجوّفاً يغوص في جلد الفِيل والجَامُوس على ثَخَانَتِهِ، كما يضرب الرجل أصابعه في الخبيص، وذلك لما رَكَّبَ الله في رأس خرطومه من السم. قوله: {فَمَا فَوْقَهَا} قد تقدَّم أنَّ «الفاء» بمعنى «إلى» ، وهو قولٌ مرجوحٌ جَدًّا، و «ما» في «فَمَا فَوْقَهَا» إن نصبنا «بعوضة» كانت معطوفة عليها موصولةً بمعنى «الذي» ، وصلتُهَا الظَّرفُ، أو موصوفةً وصفتها الظرفُ أيضاً، وإن رفعنا «بعوضةٌ» ، وجعلنا «ما» الأولى موصولة أو استفهامية، فالثانية معطوفة عليها، لكن في جَعْلِنَا «ما» موصولةً يكون ذلك من عَطْفِ المفردات، وفي جعلنا إيَّاها استفهامية يكون من عَطْفِ الجمل، وإن جعلنا «ما» زائدة، أو صفة لنكرةٍ، و «بعوضةٌ» ل «هو» مضمراً كانت «ما» معطوفة على بعوضة. فَصْلٌ في معنى قوله: «فما فوقها» قال الكِسَائيّ وأبو عُبَيْدَةَ، وغيرهما: معنى «فما فوقها» والله اعلمُ: ما دونها في الصِّغَرِ، والمحقّقون مالوا إلى هذا القول؛ لأنَّ المقصود من هذا التمثيل تحقير الأوثان، وكُلَّمَا كان المشبَّهُ به أشدَّ حقارةً كان المقصود أكمل حصولاً في هذا الباب. وقال قتادة، وابن جريج: «المعنى في الكبر كالذُّباب، والعنكبوت، والكلبِ، والحمار؛ لأنَّ القوم أنكروا تمثيل اللهِ بتلك الأشياء» . قوله: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ} . «أمَّا» حرفٌ ضُمِّنَ معنى اسم شرط وفعله، كذا قَدَّرَه سيبويه قال: «أمَّا» بمنزلةِ مَهْمَا يَكُ مِنْ شَيءٍ. وقال الزَّمَخْشَرِيّ: وفائدته في الكلام أن يعطيه فَضْلَ توكيد، تقولُ: زيدٌ ذاهبُ، فّا قصدت توكيد ذلك، وأنَّهُ لا محالة ذاهبٌ، قلت: أمَّا زيدٌ فذاهبُ. وقال بعضهم: «أمَّا» حرف تفصيل لما أجمله المتكلم، أو ادَّعاه المخاطبُ، ولا يليها إلاَّ المبتدأ، وتلزم الفاءُ في جوابها، ولا تُحْذَفُ إلاَّ مع قولٍ ظاهرٍ ومقدَّرٍ كقوله: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] أي: فيقال لهم: أكَفَرْتُمْ، وقد تحذفُ حيث لا قَوْلَ؛ كقوله: [الطويل] 329 - فأَمَّا القِتَالُ لا قِتَالَ لَدِيْكُمُ ... وَلَكِنَّ سَيْراً في عِرَاضِ المَوَاكِبِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 أي: فلا قتالَ. ولا يجوز أن تليها «الفاء» مباشرة، ولا أن تتأخّر عنها بِجُزْأَي جملةٍ، لو قلت: «أَمَّا زَيدٌ منطلقٌ ففي الدَّار» لم يجز، ويجوز أنْ يَتَقَدَّمَ معمولُ ما بعد «الفاءِ» عليها ممتليٌّ أمَّا كقوله: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [الضحى: 9] ولا يجوز الفصلُ بَيْن أَمَّا والفاءِ بمعمول خبر «إنَّ» خلافاً للمبرد، ولا بمعمول خبر «ليت» و «لَعَلَّ» خلافاً للفرّاء، وإن وقع بعدها مصدرٌ نحو: «أمَّا عِلْماً فعالمٌ» فإن كان نكرةً جاز نصبه عند التميميين فيه الرفع والنصب نحو: «أَمَّا العِلْمُ فَعَالِمٌ» ، ونصب المنكِّر عند سيبويه على الحال، والمعرَّف مفعول له. وأمَّا الأخفشُ فنصبهما عنده على المفعول المطلق، والنصب بفعلِ الشرط المقدَّر، أو بما بعد الفاء، ما لم يمنع مانعٌ، فيتَعَيَّن فِعلُ الشرط نحو: أمَّا عِلْمَاً فلا عِلْمَ له أو: فإنَّ زيداً عالمٌ؛ لأن «لا» و «إنَّ» لا يَعْمَلُ ما بعدهما فيما قبلهما. وأمَّا الرفعُ فالظاهِرُ أنه بفعل الشرط المقدَّرِ، أي: مهما يُذْكَرْ عِلْمٌ، أو: العلم فزيدٌ عالمٌ، ويجوز أن يكون مبتدأ، وعالمٌ خبر مبتدأ محذوف، والجملةُ خبرةُ، والتقديرُ: أَمَّا علمٌ - أو العلمُ - فزيدٌ عالمٌ به، وجاز الابتداء بالنكرة، لأنَّهُ موضعُ تفصيل، وفيها كلام طويل. و «الَّذِينَ آمَنُوا» في مَحَلِّ رفع بالابتداء، و «فيعلمون» خبره. قوله: «فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ» . الفاءُ جواب «أَمَّا» لما كان تضمنته من معنى الشَّرط، و «أَنَّهُ الْحَقُّ» سَادٌّ مَسَدَّ المفعولين عند الجمهور، [وساد] مسدّ المفعول الأوّل فقط، والثاني محذوف، عند الأخفش، أي: فيعلمون حَقِيْقَتَهُ ثَابِتَةً. وقال الجمهور: لا حَاجَةَ إلى ذلك؛ لأنَّ وجود النسبة فيها بعد «أّنَّ» كافٍ في تَعَلُّقِ العلمِ، أو الظَّنِّ به، والضمير في «أَنَّهُ» عائدٌ على المَثَلِ. وقيل: على ضرب المثل المفهوم من الفِعْلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 وقيل: على ترك الاستحياء. و «الحقُّ» : هو الثابت، ومنه حَقَّ الأمْرُ أي: ثبت، ويقابله الباطل. و «الحق» واحدُ الحقوق، و «الحَقَّة» بفتح الحاء أخص منه، يقال: هذه حَقَّتِي، و «مِنْ» لابتداء الغاية المَجَازية. قوله: «وأَمَّا الَّذِينَ كفروا» لغة «بني تميم» ، و «بني عامر» في «أَمَّا» «أَيْمَا» يبدلون من أحد الميمَْن ياءً؛ كراهيةٌ للتضعيف؛ وأنشد عمرُ بنُ أبي رَبِيعَةَ: [الطويل] 330 - رَأَتْ رَجُلاً أَيْمَا إِذَا الشَّمْسُ عَارَضَتْ ... فَيَضْحَى وَأَيْمَا بِالعَشِيِّ فَيَخْصَرُ قوله: «فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللهُ» . اعلم أَنَّ «ما» في كلام العرب ستى استعمالات: أحها: أن تكون «ما» اسم استفهام في محل رفع بالابتداء، و «ذا» اسمُ إشارةٍ خبرُهُ. والثاني: أن تكون «ما» استفهاميةً و «ذا» بمعنى الَّذِي، والجملةُ بعدها صلةٌ، وعائدها محذوفٌ، والأجودُ حينئذٍ أن يرفع ما أجيبَ به أو أُبْدِلَ منه؛ كقوله: [الطويل] 331 - لاَ تَسْأَلاَنِ المَرْءَ مَاذَا يُحَاوِلُ ... أَنَحْبٌ فَيُقْضَى أَمْ ضَلاَلٌ وَبَاطِلُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 ف «ذا» هنا بمعنى الذي؛ لأنه أُبْدِلَ منه مرفوعٌ، وهو «أَنْحبٌ» ، وكذا {مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} [البقرة: 219] في قراءة أبي عمرو. والثالث: أن يُغَلَّبَ حكم «ما» على «ذا» فَيُتْرَكَا، ويصيرا بمنزلة اسمٍ واحدٍ، فيكون في محلِّ نصبٍ بالفِعْلِ بَعْدَهُ، والأجودُ حينئذٍ أن يُنْصبَ جوابُه والمبدلُ منه كقوله: «مَاذَا يُنْفِقُونَ قلِ: الْعَفْوَ» في قراءة غير أبي عمرو، و {مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً} [النحل: 30] عند الجميع. ومنه قوله: [البسيط] 332 - يَا خُزْرَ تَغْلِبَ مَاذَا بَالُ نِسْوَتِكُمْ ... لاَ يَسْتَفِقْنَ إِلَى الدِّيِدَيْنِ تَحْنَانَا ف «ماذا» مبتدأ، و «بالُ نسوتكم» خبرُه. الرابع: أن يُجْعَلَ «ماذا» بمنزلةِ الموصول تغليباً ل «ذا» على «ما» عكس الصورة التي قبله، وهو قليلٌ جداًّ؛ ومنه قوله: [الوافر] 333 - دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ سَأَتَّقِيهِ ... وَلَكِنْ بِالْمُغَيِّبِ حَدِّثِينِي ف «ماذا» بمعنى الذي؛ لأنَّ ما قبله لا تعلّق له به. الخامس: زعم الفَارِسِيُّ أَنَّ «ماذا» كله نكرة موصوفة، وأنشدَ: «دَعِي مَاذَا عَلِمْتِ» أي: دَعِي شيئاَ معلوماً، وقد تقدَّم تأويله. السَّادس: وهو أضعفها أَنْ تكون «ما» استفهاماً، و «ذا» زائدة، وجميع ما تقدَّم يُصْلُحُ أن يكون مثالاً له، ولكنَّ زيداة الأسماء ممنوعة أو قليلة جِداً. إذا عُرِفَ ذلك فقوله «مَاذَا أَرَادَ اللهُ» يجوز فيه وجهان دون الأربعة الباقية: أحدهما: أن تكون «ما» استفهامية في محلِّ دفع بالابتداء، و «ذا» بمعنى «الذي» ، و «أراد اللهُ» صِلَة، والعائِدُ محذوف لاستكمال شروطَه، تقديره: «أراد اللهُ» والموصول خَبَرُ «ما» الاستفهامية. والثاني: أن تكون «مَاذَا» بمنزلةِ اسم واحدٍ في مَحَلِّ نَصْبٍ بالفعلِ بعده، تقديره: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 أيَّ شيء أراد اللهُ. قال ابن كَيْسَان: وهو الجيد ومحل هذه الجملة النصب بالقول، و «مثلا» نصب على التمييز، قيل: وجاء على معنى التوكيد؛ لأنه من حيث أُشير إليه بهذا عُلِمَ أَنَّهُ مَثَلٌ، فجاء التمييز بعده مؤكّدا للاسم الذي أُشيرَ إليه. وقيل: نصب على الحالِ، واختلف في صاحبها، فقيل: اسم الإشارة، والعاملُ فيها معنى الإشارة. وقيل: اسم اللهِ - تعالى - مُتَمَثِّلاً بذلك. وقيل: على القطع وهو رأي الكوفيين، وَمَعْنَاه عندهم: أَنَّهُ كان أصله أن يتبع ما قبله، والأصلُ: بهذا المَثلِ، فلمَّا قَطِعَ عن التَّبعيَّةِ انتصب؛ وعلى ذلك قول امرئ القيس: [الطويل] 334 - سَوامِقُ جَبَّارٍ أَثِيثِ فُرُوعُهُ ... وَعَالَيْنَ قِنْواناً مِنَ البُسْرِ أَحْمَرَا أصله: من البُسْرِ الأَحْمَرِ. فَصْلٌ في معنى الإرادة واستقاقها و «الإرادةُ» لغةٌ طلبُ الشيءً مع المَيْلِ إليه، وقد تتجرّد للطلب، وهي التي تنسبُ إلى اللهِ - تعالى - وعَيْنُها واوٌ من رادَ يرودُ، طَلَبَ، فأصلُ «أراد» أَرْوَدَ «مثل: أقام، والمصدرُ الإرادةُ مثلُ الإقامةِ، وأصلُها: إرْوَاد فأُعِلَّتٍ وعُوِّضَ من محذوفِها تاءُ التأنيث. فَصْلٌ في ماهية الإرادة و» الإرادةُ «ماهية يجدها العاقل من نفسه، ويُدْرِكُ بالتفرقةِ البديهية بينها وبين علمه وقدرته وألمه ولذّته، وإذا كان كلك لم يكن تصور ماهيتها محتاجاً إلى التعريف. وقال المتكلمون: إنها صفة تقتضي رُجْحَانَ أحد طرفي الجائز على الآخر، لا في الوقوع، بل في الإيقاع، واحترزنا بهذا القِيْدِ الأخير عن القدرةِ. قوله:» {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً} الياء فيه للسَّببيَّة، وكذلك في «يهدي به» ، وهاتان الجملتان لا محل لهما؛ لأنَّهما كالبيان للجملتين المُصَدَّرَتِيْنِ ب «أَمَّا» ، وهما من كلام الله تعالى. وقيل: في محلِّ نَصْبِ؛ لأنهما صفتان ل «مَثَلاً» أي: مَثَلاً يُفَرِّقُ النَّاس به إلى ضُلاَّلٍ ومُهْتَدِين، وهما على هذا من كلام الكفَّار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وأجاز أبو البقاء أن تكون حالاً من اسم الله، أي: مُضِلاَّ به كثيراً، وهادياً به [كثير] . وجَوَّزَ ابن عطية أن يكون جملة قوله: «يُضِلُّ بِعِ كَثِيراً» من كلام الكُفَّارِ، وجملةُ قوله: «وَيَهْدِي بِهِ كَثيراً» من كلام الباري تعالى. وهذا ليس بظاهرٍ لأنّهُ إلباسٌ في التركيب. والضميرُ في «به» عائدٌ على «ضَرْب» المضاف تقديراً إلى المَثَل، أي يضرب المثل، وقيل: الضميرُ الأوّل للتكذيب، والثاني للتصديق، ودَلَّ على ذلك قوة الكلام. [وقُرِئ: «يُضَلُّ به كثيرٌ، ويُهِدَى به كثيرٌ، وما يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقُونَ» بالبناء للمفعول] . وقُرِئَ أيضاً: «يَضِلُّ كَثِيرٌ ويَهْدِي به كثيرٌ، وما يَضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفَاسِقون» بالبناء للفاعل. قال بعضهم: «وهي قراءة القَدَرِيَّة، وقد نَقَلَ ابن عطية عن أبي عمرو الدَّاني أنَّهَا قراءة المعتزلة» . ثم قال: وابن أبي عبلةَ من ثِقَاتِ الشاميين «يعني قارئها، وفي الجملةِ فهي مخالفة لسواد المصحفِ. فإنْ قيل: كيف وصف المهتدين هنا بالكثرة وهم قليلون؛ لقوله: {وَقَلِيلٌ مَّا هُمْ} [ص: 24] ، و {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] فالجوابُ أَنّهم، وإن كانوا قليلينَ في الصُّورة، فهم كثيرون في الحقيقةِ؛ كقوله: [البسيط] 335 - إِنَّ الكِرَامَ كَثِيرٌ فِي الْبِلاَدِ وَإِنْ ... قَلُّوا كَمَا غَيْرُهُمْ قَلَّ وَإِنْ كَثُرُوا فصار ذلك باعتبارين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 فَصْلٌ في استعمالات الهمزة قال ابن الخطيب:» الهمزةُ تجيءُ تارةً لتنقل الفِعْلِ من غير التعدِّي إلى التعديّ كقولك: «خَرَجَ» فَإِنَّهُ غير متعدٍّ، فإذّا قلت «أَخْرج» فقد جعلته متعدّياً، وقد تجيء لتنقل الفعل من التعدِّي إلى غير التعدِّي كقوله: كَبَبَتْهُ فأكب «وقد تجيء لمجرّد الوجدان» . حُكِيَ عن عمرو بن معد يكرب أَنَّهُ قال لبني سليم: «قَاتَلْنَاكُمْ فَمَا أَجْبَنّاكُم، وَهَاجَيْنَاكم فما أفْحَمْنَاكُم، وسألناكم فما أبخلناكم» ، أي: ما وجدناكم جبناء ولا مفحمين، ولا بخلاء. ويقال: أتيت أرضَ فُلاَن فأعمرتها، أي: وجدتها عامرةً. ولقائل أن يقولَ: لم لا يجوز أن يقال: الهمزة لا تفيد إلاَّ نقل الفعل من غير التعدّي إلى التعدِّي، وأمَّا قوله: كَبَبْتُهُ فَأَكَبَّ، فلعلَّ المراد كببته فأكبَّ نفسه على نفسه فيكون قد ذكر الفعل مع حذف المفعولين، وهذا ليس بعرف؟! وأما قوله: «قاتلناكم فما أجبناكم» فالمراد ما أثّر قتالنا في صيرورتكم جبناء، وكذا القول في البواقي وهذا الذي قلناه أولى دفعاً للاشتراك. إذا ثبت هذا فنقول قولنا: «أَضَلَّهُ الله» لا يمكن حمله إلاّ على وجهين: أحدهما: أنه صَيَّرَهُ ضَالاَّ عن الدِّين. والثاني: وجده ضالاَّ. فَصْلٌ في معنى الإضلال واعلم أن معنى الإضلالِ عن الدين في اللًُّعة: هو الدعاء إلى ترك الدِّيْنِ، وتقبيحه في عَيْنِهِ، وهذا هو الإضلال الذي أضافه اللهُ - تعالى - إلى «إبليس» فقال: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ} [القصص: 15] وقال: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ} [النساء: 119] . وقوله: {رَبَّنَآ أَرِنَا اللذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} [فصلت: 29] ، وأيضاً أضاف هذا الإضلال إلى فرعون، فقال: {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى} [طه: 79] . واعلم أنَّ الأُمَّةَ مجمعة على أن الإضلال بهذا المَعنى لا يجوز على اللهِ تعالى؛ فإنَّه ما دعا إلى الكفر، وما رَغَّبَ فيه، بل نهى عنه، وزَجَرَ وتَوَعَّدَ بالعقاب عليه، وإذا كان المعنى الأصلي في الإضلال في اللُّغة هذا، وهذا المعنى منفي بالإجماع، ثبت انعقاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 الإجماع على أنه لا يجوز إجراء هذا اللَّفظ على ظاهره، وعند هذا افتقر أهل الْجَبْرِ والقدر إلى التأويل. أمَّا أهل الجَبْرِ فقد حملوه على أَنَّهُ - تعالى - خالق الضلال والكفر فيهم وصدّهم عن الإيمان، وحال بينهم وبينهُ، ورُبَّما قالوا: هذا هو حقيقةُ اللفظ في أصل اللغةِ؛ لأنَّ الإضلال عبارة عن جَعْلِ الشَّيء ضالاَّ كما أنَّ الإخراج والإدخال عبارةٌ عن جَعْلِ الشيء خارجاً وداخلاً. وأما المعتزلة فقالوا: التأويل من وجوه: أحدها: قالوا: إنَّ الرَّجُلَ إذا ضَلَّ باختياره عن حضور شيء من غير أن يكون لذلك الشَّيء أثر في ضلالة فيقال لذلك الشيء: إنَّهُ أَضَلَّهُ قال تعالى في حق الأصنام: {إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً} [إبراهيم: 36] أي: ضَلُّوا بِهِنَّ وقال: {وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً} [نوح: 23 - 24] أي: ضَلَّ كثيرٌ من النَّاسِ بهم. وقال: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} [المائدة: 64] . وقوله: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً} [نوح: 6] أي: لم يزدهم الدُّعاءُ إلاَّ فِراراً. وقال: {فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} [المؤمنون: 110] وهم لم ينسوهم في الحقيقة، وكانوا يُذَكِّرونهم الله. وقال: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 124 - 125] . فأخبر تعالى أنَّ السورة المشتملة على الشَّرَائعِ يُعَرَّفُ أحوالهم. فمنهم من يصلح عليها؛ فيزداد بها إيماناً؛ ومنهم من يفسد عليها فيزداد بها كُفْراً، فأضيفت الزيادةُ في الإيمان، والزيادة في الكُفُرِ إلى السُّورة؛ إذ كانوا إنَّما صلحوا عند نزولها وفسدوا، فهكذا أُضيفَ الضَّلالُ والهُدَى إلى الله تعالى؛ إذ كان حدوثهما عند ضربة - تعالى - الأمثال لهم. وثانيهما: أنَّ الإضلال هو التسمية بالضلالة، فيقال: أَضَلَّهُ إذا سماه ضالاً، وأكفر فلان فلاناً إذا سمّاه كافراً، وذهب إليه قطرب، وكثير من المعتزلة. ومن أهل اللغةِ من أنكره، وقال: إِنَّمَا يقال: ضللته تضليلاً، إذا سمَّيْتُهُ ضالاًّ، وكذلك فَسّقته وفَجَّرته، أي: سَمَّيْتُه: فاسقاً وفاجراً. وأجيب عنه بأنَّه حتى صَيَّرَهُ في نَفْسِهِ ضالاَّ لَزِمَهُ أي يُصَيِّره محكوماً عليه بالضَّلال فهذا الحكم من لوازم ذلك التصيير وإطلاق اسم الملزوم على اللازمِ مشهورٌ. وثالثهما: أن يكون الإضلال هو التَّخلية، وترك المنع بالقهر، والجبر، فيقال: أَضَلَّهُ أي: خَلاَّه وضلاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 قالوا: ومجازه من قولهم: «أَفْسَدَ فُلانٌ ابْنَهُ، وأهلكه» إذا لم يتعهدّه بالتأديب؛ ومنه قوله: [الوافر] . 336 - أَضَاعُونَي وَأَيِّ فَتَىً أَضَاعُوا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ويقال لمن ترك سيفه في الأرضِ النَّدِيَّةِ حَتَّى فَسَدَ وصدئ: أفسدت سيفك وأصدأته. ورابعها: الضلال، والإضلال هو العذاب والتعذيب لقوله {إِنَّ المجرمين فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ} [القمر: 47] {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار} [القمر: 48] ، فوصفهم بأنَّهُم يوم القيامةِ في ضلال، وذلك هو عذابه. وخامسها: أن تحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال، كقوله: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 1] قيل: أهلكها، وأبطلها، ومجازه من قولهم: «ضَلَّ الماءُ في اللَّبَنِ» إذا صار مستهلكاً فيه. ويقال: أضَلَّ القَوْمَ مَيِّتَهُمْ، أي: واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يُرَى. وقالوا: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} [السجدة: 10] فيتحمل أن يضل الله إنساناً أي: يهلكه ويعدمه. وسادسها: أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجَنَّةِ. قالت المعتزلة: وهذا في الحقيقة ليْسَ تأويلاً، بل حَمْلٌ للَّفظ على ظاهره فإن الآية تَدُلُّ على أَنَّهُ يضلّهم، وليس فيها دلالة على أنه عن ماذا يُضلهم؟ فنحن نحملها على أنَّهُ - تعالى - يُضِلُّهم عن طريق الْجَنَّةِ، ثُمَّ حملوا كُلَّ ما في القرآنِ من هذا الجنس على هذا المحمل، وهو اختيار الجُبَّائي. قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعير} [الحج: 4] أي: يُضِلُّه عن الجَنَّةِ وثوابها هذا كله إذا حملنا الهمزة في الإضلال على التعدية. وسابعها: ان تحمل الهمزة لا على التعدية، بل على الوجدان على ما تقدَّم، فيقال: أَضَلَّ فلانٌ بَعِيرَهُ أي: ضَلَّ عنه، فمعنى إضلال الله - تعالى - لهم أَنَّهُ وجدهم ضَالِّين. وثامنها: أن يكون قوله: «يُضِلُّ به كَثِيراً، ويَهْدِي بِهِ كَثِيراً» من تمام قول الكُفَّار كأَنَّهم قالوا: ماذا أراد اللهُ بهذا المثل الذي لا يظهر وجه الفائدة فيه؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 ثُمَّ قالوا: يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً، ذكروه على سبيل التَّهَكُّمِ، فهذا من قول الكُفَّارِ، ثُمَّ قال تعالى جواباً لهم: «وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِيْنَ» أي ما أضَلَّ إِلاَّ الفاسقين. هذا مجموع كلام المعتزلة. قالت الجبرية: وهذا معارضٌ بمسألة الدّاعي، وهي أن القادِرَ على العلم والْجَهِلِ والإهداء والضلالِ لم فعل أحدهما دون الآخر؟ ومعارضٌ أيضاً بمسألة العلم ما سبق تقريرها في قوله تعالى: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} [البقرة: 7] . والجَوَابُ عن الآيات يأتي في مواضعه. قوله: «وما يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقِيْنَ» «الفاسقين» مفعول ل «يضل» وهو استثناء مُفَرّغ، وقد تقدَّم معناه، ويجوز عند القرّاء أن يكون منصوباً على الاستثناء والمستثنى منه محذوف تقديره: «وما يُضِلُّ به أحداً إِلاَّ الفاسقين» ؛ كقوله: [الطويل] 337 - نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقِهِ ... وَلَمْ يَنْجُ إِلاَّ جَفْنَ سَيْفٍ ومئزَرَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 أي: لم ينجُ بشيء، ومنع أبو البقاء نصبه على الاستثناء، كأنَّه اعتبر مذهب جمهور البَصْريين. و «الفِسْقُ» لغةً: الخروجُ، يقالُ: فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عن قِشْرهَا، أي: خَرَجَتْ، والفأرة من جُحُرِها. و «الفاسقُ» : خارج عن طاعةِ الله، يقال: فَسَقَ يَفْسُقُ وَيَفْسِقُ بالضم والكسر في المضارح فِسْقاً وفُسُوقاً، عن الأخفش فهو فَاسِقٌ. وزعم ابن الأعرابي، أنَّه لم يسمع في كلام الجاهلية، ولا في شعرهم «فاسق» ، وهذا عجيبٌ، وهو كلامٌ عربيٌّ حكاه عنه ابن فارس والجَوْهَرِيُّ، وقد ذكر ابنُ الأَنْبَارِيُّ في كتاب «الزَّاهِر» لمَّا تَكَلَّمَ على معنى «الفِسْقِ» قَوْلَ رُؤْبَة: [الرجز] 338 - يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْراً غَائِراً ... فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا و «الفسيق» : الدائم الفسق، ويقال في النداء: يا فَاسِق ويا خبيث، يريد يا أيُّها الفاسق ويا أيها الخبيث. والفسقُ في عرف الاستعمال الشرعي الخروج من طاعةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فقد يقع على من خرج بعصيان. واختلف أهل القبلة في أنَّهُ مؤمنٌ أو كافر. فعند بعضهم أنَّه مؤمن، وعند الخوارج: أنَّه كافرٌ، وعند المعتزلة: أنَّه لا مؤمن ولا كافر. واحْتَجَّ الخَوَارجُ بقوله تعالى: {بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} [الحجرات: 11] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وقال: {إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] . وقال: {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الأيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات: 7] وهذه مسألة طويلة مذكورة في علم الكلام. قوله: «الَّذيِنَ يَنْقُضُون» فيه أربعة وجوه: أحدها: أَن يكون نعتاً ل «الفاسقين» . والثاني: أَنَّهُ منصوبٌ على الذَّمِّ. والثالث: أَنَّه مرفوعٌ بالابتداء، وخبره الجملة من قوله «أُولَئِكَ هُمُ الخَاسِرُونَ» . والرابع: أَنَّهُ خبر لمبتدأ محذوف أي: هم الفاسقون. والعهدُ في كلامهم على معانٍ: منها الوصيَّةُ والضَّمان، والاكتفاء، والأمر. و «مِنْ بَعْدِ» متعلِّق ب «ينقضون» ، و «من» لابتداء الغاية، وقيل: زائدة، وليس بشيء. والضميرُ في ميثاقه يجوز أن يعود على العهد، وأن يعود على اسم الله تعالى، فهو على الأوّل مصدرٌ مضاف إلى المفعول، وعلى الثَّاني مضافٌ للفاعل. و «الميثاقُ» العَهْدُ المؤكَّدُ باليمين مِفْعَال الوثاقةِ والمعاهدةِ، والجمع: المواثيق على الأصل؛ لن أصل مِيِثَاق: مِوْثَاق، صارت «الواو» ياء؛ لانكسار ما قبلها وهو مصدرٌ ك «الميلاد» و «المِيعَاد» بمعنى الولادة، والوعد؛ وقال ابن عطية: هو اسْمٌ في وضع المصدر؛ كقوله: [الوافر] 339 - أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمِائَةِ الرِّتَاعَا أي: إِعْطَائِكَ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك، والمادة تَدُلُّ على الشَّدِّ والرَبْطِ، وجمعه مَوَاثِيق، ومَيَاثِق، أيضاً، ومَيَاثيق؛ وأنشد ابن الأعرابيِّ: [الطويل] 340 - حِمًى لا يَحِلُّ الدَّهْرُ إلاَّ بإِذْنِنَا ... وَلاَ نَسْأَلُ الَقْوَامَ عَهْدَ الْمَيَاثِقِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 والمَوْثِق: المِيثَاق والمُواثَقَة والمُعَاهَدَة؛ ومنه قوله تعالى: {وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ} [المائدة: 7] . فَصْلٌ في النقض النقضُ إفسادُ ما أبرمته من بناءٍ أو حبل أو عهد، والرجوع به إلى الحالة الأولى. والنقاضة: ما نُقِضَ من حبل الشعر، والمُنَاقضةُ في القولِ: أَنْ يَتَكَلَّمَ بما يناقض معناه، والنَّقيضةُ في الشّعر ما ينقضُ به. والنَّقض: المَنْقُوض، واختلف النَّاسُ في هذا العَهْدِ، فقيل: هو أذلي أخذه اللهُ على بني آدم - عليه السَّلام - حين استخرجهم من ظهره. قال المتكلمون: «هذا ساقطٌ» ؛ لأنَّه - تعالى - لا يحتج على العبادِ بعهد وميثاق لا يشعرون به، كما لا يؤاخذهم بالسَّهْوِ والنسيان وقيل: هو وصيَّةُ اللهِ - تعالى - إلى خلقه، وأمرمه إياهم بها أمرهم به من طاعته، ونهيه إياهم عما نهاهم من معصيته في كتبه على ألسنة رسله، ونقضهم ذلك ترك العمل به، وقيل: بل نَصبَ الأدلّة على وحدانيته بالسموات، والأرضِ، وسائر الصنعة، وهو بمنزلة العَهْدِ، ونقضهم ترك النَّظَر في ذلك. وقيل: هو ما عهده إلى من أوتي الكتاب أن يبينوا نبوَّة محمد عليه السَّلام، ولا يكتموا أمره، فالآية على هذا في أَهْل الكتاب. وقاب أبو إسحاق الزَّجَّاج: عهده جَلَّ وعَزَّ ما أخذه على النَّبيين ومَنْ تبعهم، ألاَّ يَكْفُرُوا بالنبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ودليلُ ذلك: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين} [آل عمران: 81] إلى قوله: {وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي} [آل عمران: 81] أي: عهدي. قوله: «وَيَقْطَعُونَ» عطف على «يَنْقُضُونَ» فهي صلة أيضاً، و «ما» موصولة، و «أَمَرَ الله به» صلتها وعائدها. وأجاز أبو البقاء أن تكون نكرةً موصوفةً، ولا يجوز أن تكون مصدرية لعود الضمير عليها إلاَّ عند أبي الحَسَن وابن السراج وهي مفعولة ب «يَقْطَعُونَ» والقطع معروف، والمصدر - في الرّحم - القطيعة، يقال: قطع رحمه قطيعة فهو رجل قُطَعٌ وقُطَعَةٌ، مثل «هُمَزَة» ، وقَطَعْتُ الحبل قَطْعاً، وقطعت النهر قُطُوعاً، وقَطَعَت الطير قُطُوعاً، وقُطَاعاً، وقِطَاعاً إذ خرجت من بَلَدٍ إلى بَلَدٍ. وأصاب الناسَ قُطْعَةٌ: إذا قلت مياههم، ورجل به قُطْعٌ أي انبهار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 قوله: «مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ» «ما» في موضع نصب ب «يقطعون» و «أَنْ يُوصلَ» فيه ثلاثة أوجه: أحدها: الجر على البدل من الضمير في «بِهِ» أي ما أمر الله بِوَصْلِهِ؛ كقول امرئ القيس: [الطويل] 341 - أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... فَتَقْصُرُ عَنْهَا خُطْوَةٌ أَوْ تَبُوصُ أي: أمِنْ نَأْيِهَا. والنصب وفيه وجهان: أحدهما: أنه بدل من «مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ» بدل اشتمال. والثاني: أنه مفعول من أجله، فقدره المَهْدوِيّ: كراهية أن يوصل، وقدره غيره: ألا يوصل. والرفع على أنه خبر مبتدأ [مضمر] أي: هو أن يوصل، وهذا بعيداً جداً، وإن كان أبو البقاء ذكره. واختلف في الشيء الذي أمر بوصله فقيل: صلة الأرْحَام، وحقوق القرابات التي أمر الله بوصلها، وهو كقوله تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] وفيه إشارة إلى أنهم قطعوا ما بينهم وبين النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من القرابة، وعلى هذا فالآية خاصة. وقيل: أمر أن يوصل القول بالعمل، فقطعوا بينهما بأن قالوا، ولم يعملوا. وقيل: أمر أن يوصل التصديق بجميع أنبيائه، فقطعوه بتصديق بعضهم، وتكذيب بعضهم. وقيل: الإشارة إلى دين الله، وعبادته في الأرض، وإقامة شرائعه، وحفظ حدوده، فهي عامة في كل ما أمر الله - تعالى - أمرهم أن يصلوا حَبْلَهُمْ بِحَبْلِ المؤمنين، فانقطعوا عن المؤمنين، واتصلوا بالكفار. وقيل: إنهم نهوا عن التنازع وإثارة الفتن، وهم كانوا مشتغلين بذلك. و «يُفْسِدُونَ» عطف على الصّلة أيضاً، و «في الأَرْضِ» متعلق به. والأظهر أن يراد به الفساد في الأرض الذي يتعدى دون ما يقف عليهم. وقيل: يعبدون غير الله، ويجورون في الأفعال، إذ هي بحسب شهواتهم، ثم إنه - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 تعالى - أخبر أن من فعل هذه الأَفَاعيل خسر فقال: «أُولِئَكَ هُمُ الخَاسِرُونَ» كقوله: {وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5] ، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون هذه الجملة خبر «الذِينَ يَنْقُضُونَ» إذا جعل مبتدأ. وإن لم يجعل مبتدأ، فهي مستأنفة، فلا محل لها حينئذ، و «هم» زائدة، ويجوز أن يكون «هم» مبتدأ ثان، و «الخَاسِرُونَ» خبره، والثاني وخبره خبر الأول. والخاسر: الذي نقص نفسه حظها من الفلاح والفوز. والخسران: النقصان، كان في ميزان أو غيره؛ قال جرير: [الرجز] 342 - إِنَّ سَلِيطاً فِي الخَسَارِ إِنَّهْ ... أَوْلادُ قَوْمٍ خُلِقُوا أَقِنَّهْ يعني بالخسار ما ينقص من حظوظهم وشرفهم. قال الجوهري: وخسرت الشيء بالفتح - وأخسرته نقصته. والخَسَار والخَسَارَة والخَيْسَرَى: الضَّلال والهلاك. فقيل للهالك: خاسر؛ لأنه خسر نفسه، وأهله يوم القيامة، ومنع منزله من الجَنَّة. فصل قال القرطبي: في هذه الآية دليلٌ على أنَّ الوفاء بالعهد والتزامه، وكل عهد جائز ألزمه المرء نفسه، فلا يحل له نقضه، سواء أكان بين مسلم أم غيره، لذم الله - تعالى - من نقض عهده. وقد قال: {أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] وقد قال لنبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} [الأنفال: 58] فنهاه عن الغَدْرِ، وذلك لا يكون إلاَّ بنقض العهد، على ما يأتي إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 اعلم أنه - تعالى - لما تكلَم في دلائل التوحيد، والنبوة، والمعاد شَرَعَ في شَرْحِ النعم التي عمت جميع المكلفين. فالمراد بهذا الاستخبار التَّبكيت والتعنيف. قوله: «كيف» استفهام يسأل به عن الأحوال، وبني لتضمنه معنى الهمزة، وبني على أخف الحركات، وكان سبيلها أنْ تكون ساكنةً؛ لأن فيها معنى الاستفهام الذي معناه التعجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 وشذّ دخول حرف الجر عليها، قالوا: «على كيف تبيعُ الأَحْمَرَيْنِ» . وكونها شرطاً قليل، ولا يجزم بها خلافاً للكوفيين، وإذا أبدل منها اسم، أو وقع جواباً، فهو منصوبٌ إذا كان بعدها فعل متسلّط عليها نحو كيف قمت. أصحيحاً أم سقيماً؟ وكيف سرت؟ فتقول: رَاشِداً، وإلا فمرفوعان نحو: كيد زيد؟ أصحيح أم سقيم؟ وإن وقع بعدها اسم مسؤول عنه بها، فهو مبتدأ، وهي خبر مقدم، نحو: كيف زيد؟ وقد يحذف الفعل بعدها، قال تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا} [التوبة: 8] أي: كيف تُوَالُونَهُمْ؟ . وكيف في هذه الآية منصوبة على التشبيه بالظرف عند سيبويه، أي: في أي حالة تكفرون؟ وعلى الحال عند الأخفش. أي: على أي حال تكفرون؟ والعامل فيها على القولين «تكفرون» ، وصاحب الحال الضمير في «تكفرون» . ولم يذكر أبو القاء غير مذهب الأخفش، ثم قال: والتقدير: معاندين تكفرون؟ وفي هذا التقدير نظر؛ إذ يذهب معه معنى الاستفهام المقصُود به التنعجّب، أو التوبيخ، أو الإنكار. قال الزمخشري بعد أن جعل الاستفهام للإنكار: وتحريره أنه إذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها، وقد علم أن كلّ موجود لا بدَّ له من حالٍ، ومُحَالٌ أن يوجد بغير صفة من الصفات كان إنكاراً لوجوده على الطريق البرهاني. وفي الكلام التفات من الغيبة في قوله «وأَما الَّذين كَفَروا» إلى آخره إلى الخطاب في قوله: «تَكْفُرُونَ» و «كُنْتُم» . وفائدته: أن الإنكار إذا توجّه إلى المخاطب كان أبلغ. وجاء «تَكْفُرُون» مضارعاً لا ماضياً؛ لأن المنكر الدّوام على الكفر، والمُضَارع هو المشعر بذلك، ولئلا يكون ذلك توبيخاً لمن آمن بعد كفر. وكَفَر «يتعدّى بحرف الجر نحو:» تَكْفُرُونَ باللهِ « {تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} [آل عمران: 70] {كَفَرُواْ بالذكر} [فصلت: 41] وقد يتعدّى بنفسه في قوله تعالى: {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ} [هود: 18] وذلك لما ضمن معنى جحدوا. فإن قيل: كيف يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب، وهم لم يكفروا بالله؟ فالجواب أنهم [لما] لم يسمعوا أمر محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولم يصدقوه فيما جاء به، فقد أشركوا؛ لأنهم لم يقروا بأن القرآن من عند الله، ومن يزعم أن القرآن من كلام البشر، فقد أشرك بالله، وصار ناقضاً للعَهْدِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 فصل في الرد على المعتزلة قال المعتزلة: هذه الآية تدلّ على أن الكفر من قبل العباد من وجوه: أحدها: أنه - تعالى - لو كان هو الخالق للكفر فيهم لما جاز أن يقول: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ» موبخاً لهم، كما لا يجوز أن يقول: كيف تَسْوَدُّونَ وتبيضون وتصحون وتسقمون لما كان ذلك كله من خلقه فيهم. وثانيها: إذا كان خلقهم أولاً للشقاء والنار، وما أراد بخلقهم إلاّ الكفر وإرادة الوقوع في النَّار، فكيف يصح أن يقول موبخاً لهم: «كيف تكفرون» ؟ . وثالثها: أنه - تعالى - إذا قال للعبد كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ، فهذا الكلام إما أن يكون موجهاً للحجّة على العبد، وطلباً للجواب منه، أو ليس كذلك، فإن لم يكن لطلب هذا المعنى لم يكن في ذكره فائدة، فيكون هذا الخطاب عبثاً، وإن ذكره لتوجيه الحجّة على العبد، فللعبد أن يقول: حصل في حقي أمور كثيرة موجبة للكفر. فالأول: أنك علمت بالكفر منّي، والعلم بالكفر يوجب الكفر. والثاني: أنك أردت الكفر مني، وهذه الإرادة موجبة له. والرابع: أنك خلقت فيّ قدرة موجبة للكفر. والخامس: أنك خلقت فيَّ إرادة موجبة للكفر. والسادس: أنك خلقت فيَّ قدرة موجبة للإرادة الموجبة للكفر. ثم لما حصلت هذه الأسباب السّتة في حصول الكفر، فالإيمان متوقّف على حُصُول هذه الأسباب السّتة في طرف الإيمان، وهي بأسْرِهَا كانت مفقودةً، فقد حصل لعدم الإيمان اثنا عشر سبباً واحد منها مستقل [بالمنع من الإيمان] ومع قيام هذه الأَسْبَاب الكثيرة فكيف يعقل أن يقال: كيف تكفرون بالله؟ وآيات أخر تأتي في مواضعها إن شاء الله تعالى. والجواب عن هذا انّ الله - سبحانه - علم أن لا يكون، فلو وجد [لانقلب عليه] جهلاً، وهو محال، ووقوعه محال، وأيضاً فالقدرة على الكفر إن كانت صالحةً للإيمان امتنع كونها مصدراً للإيمان على التعيين إلاّ لمرجح، وذلك المرجّح إن كان من العبد عاد السؤال، وإن كان من الله، فلما لم يحصل ذلك المرجح من الله امتنع حصول الكفر، وإذا حصل ذلك امرجح وجب، وعلى هذا يعقل قوله: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ» قاله ابن الخطيب. قوله: «وكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُم» «الواو» الحال، وعلامتها أن يصلح موضعها « الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 إذ» . [والجملة في] موضع نَصْبٍ على الحال، ولا بد من إضمار «قد» ليصح وقوع الماضي حالاً. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف صح أن يكون حالاً، وهو ماض؟ قلت: لم تدخل «الواو» على «كُنْتُمْ أَمْوَاتاً» وحده، ولكن على جملة قوله: «كُنْتُمْ أَمْوَاتاً» إلى «تُرْجَعُونَ» كأنه قيل: كيف تكفرون بالله، وقصتكم هذه، وحالكم أنكم كنتم أمواتاً في أصلاب آبائكم، فجعلكم أحياء، ثم يميتكم بعد هذه الحَيَاة ثم يحييكم بعد الموت، ثم يُحَاسبكم؟ . ثم قال: فإن قلت: بعض القصّة ماض، وبعضها مستقبل، والمستقبل كلاهما لا يصح أن يقع حالاً حتى يكون فعلاً حاضراً وقت وجود ما هو حال عنه، فما الحاضر الذي وقع حالاً؟ قلت: هو العلم بالقصّة كأنه قيل: كيف تكفرون، وأنتم عالمون بهذه القصة بأولها وآخرها؟ قال أبو حيان ما معناه: هذا تكلّف، يعني تأويله هذه الجملة بالجملة الاسمية. قال: والذي حمله على ذاك اعتقاده أن الجمل مندرجةً في حكم الجملة الأولى، قال: ولا يتعيّن، بل يكون قوله تعالى: «ثُمَّ يُمِيتُكُمْ» وما بعده جملاً مستأنفة أخبر بها - تعالى - لا داخلة تحت الحال، ولذلك غاير بينها وبين ما قبلها من الجمل بحرف العطف، وصيغة الفعل السَّابقين لها في قوله: «وكُنْتُم أَمْوَاتاً فأحْيَاكُمْ» . و «الفاء» في قوله «فأحياكم» على بابها من التَّعقيب، و «ثُمَّ» على بابها من التَّرَاخي؛ لأن المراد بالموت الأول العدم السابق، وبالحَيَاة الأولى الأولى الخَلْق، وبالموت الثاني المَوْتَ المعهود، وبالحياة الثانية الحياة للبعث، فجاءت الفاء، و «ثم» على بابهما من «التَّعقيب» والتراخي على هذا التفسير، وهو أحسن الأقوال. ويعزى لابن عباس وابن مسعود ومجاهد، والرجوع إلى الجزاء أيضاً متراخٍ عن البعث. قال ابن عطية: وهذا القول هو المُرَاد بالآية، وهو الذي لا مَحِيدَ للكفار عنه لإقرارهم بهما، وإذا أذعنت نفوس الكُفّار لكونهم أمواتاً معدومين، ثم الإحياء في الدنيا، ثم الإماتة فيها قوي عليهم لزوم الإِحْيَاءِ الآخر، وجاء جحدهم له دعوى لا حُجّة عليها، والحياة التي تكون في القبر على هذا التأويل في حكم الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وقيل: لم يعتدّ بها كما لم يعتد بموت من أَمَاتَهُ في الدنيا، ثم أحياهُ في الدنيا. وقيل: كنتم أمَواتاً في ظهر آدم، ثم أخرجكم من ظهره كالذُّرِّ، ثم يميتكم موت الدنيا، ثم يبعثكم. وقيل: كنتم أمواتاً - أي نُطَفاً - في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، ثم نقلكم من الأرحام فأحياكم، ثم يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم في القبر للمسألة، ثم يميتكم في القبر، ثم يحييكم حَيَاةَ النشر إلى الحَشْرِ وهي الحياة التي ليس بعدها موت. قال القرطبي: فعلى هذا التأويل هي ثلاث مَوْتَات، وثلاث إحْيَاءَات، وكونهم موتى في ظهر ابن آدم، وإخراجهم من ظهره والشهادة عليهم غير كونهم نطفاً في أصلاب الرجال، وأرحام النساء، فعلى هذا تجيء أربع موتات وأربع إحياءات. وقد قيل: إن الله - تعالى - أوجدهم قبل خلق آدم - عليه الصَّلاة والسّلام - كالهَبَاءُ، ثم أماتهم، فيكون هذا على خمس موتات، وخمس إحياءات، وموتة سادسة للعُصَاة من أمة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذا دخلوا النَّار، لحديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أما أهل النَّارِ الَّذِين هم أهلها فَإِنَّهُمْ لا يَمُوتُونَ فيها ولا يَحْيَون، ولكن ناس أصابَتْهُمُ النَّارُ بذنوبهم - أو قال بِخَطَايَاهم - فأماتهم الله إماتَةً حتى إذا كانوا فَحْماً أذن في الشَّفاعة، فجيء بهم ضَبَئر ضَبَئر، فَبُثُّوا على أنهار الجَنَّة ثم قيل: يا أهل الجَنّة أفيضوا عليهم فينبتون نَبَات الحِبَّة تكون في حَمِيْل السّيل» الحديث. قال: فقوله: «فأماتهم الله» حقيقة في الموت، لأنه أكّده بالمصدر، وذلك تكريماً لهم. وقيل: يجوز أن يكون «أماتهم» عبارة عن تغييبهم عن آلامها بالنوم، ولا يكون ذلك موتاً على الحقيقة، والأول أصح، وقد أجمع النحويون على أن الفعل إذا أكّد بالمصدر لم يكن مجازاً، وإنما هو على الحقيقة، كقوله: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] ، على ما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقيل: المعنى: وكنتم أمواتاً بالخمول، فأحياكم بأن ذكرتم، وشرفتم بهذا الدين، والنبي الذي جاءكم، ثم يميتكم فيموت ذكركم، ثم يحييكم للبعث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 فصل في أوجه ورود لفظ الموت قال أبو العبَّاس المقرئ: ورد لفظ «الموت» على خمسة أوجه: الأول: بمعنى «النُّطْفة» هذه الآية. الثاني: بمعنى «الكفر» قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] ومثله: {وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات} [فاطر: 22] . الثالث: بمعنى «الأرض التي لا نَبَات لها» ، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا} [يس: 33] . الرابع: بمعنى «الضّم» قال تعالى: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ} [النحل: 20، 21] . الخامس: بمعنى «مفارقة الروح الجسد» . فصل في أوجه ورود لفظ الحياة الأول: بمعنى دخول الرُّوح في الجَسَدِ كهذه الآية. الثاني: بمعنى «الإسلام» قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] أي: هديناه إلى الإسلام. الثالث: بمعنى «صفاء القلب» قال تعالى: {اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: 17] أي يصفي القلوب بعد سَوَاداها. الرابع: بمعنى «الإنبات» قال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا} [يس: 33] أي: أنبتناها. الخامس: بمعنى «حياة الأنفس» قال تعالى: {ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} [الفجر: 24] . السادس: بمعنى «العيش» قال تعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] أي: لنرزقنّه عيشاً طيباً. فصل في إثبات عذاب القبر قال ابن الخطيب: احتج قوم بهذه الآية على بطلان عذاب القَبْرِ، قالوا: ويؤيده قوله: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 15، 16] ولم يذكر حياةً فيما بين هاتين الحالتين، قالوا: ولا يجوز الاستدلال بقوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} [غافر: 11] ؛ لأنه قول الكفار، ولأنّ كثيراً من الناس أثبتوا حياة الذَّر في صُلب آدم حين استخرجهم وقال لهم: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 32] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 وعلى هذا التقدير حصل حَيَاتان وموتتان من غير حَاجَةٍ غلى إثبات حَيَاةٍ في القبر، فالجواب لم يلزم من عدم الفِكْرِ في هذه الآية ألا تكون حاصلة، وأيضاً فللقائل أن يقول: إن الله - تعالى - ذكر حَيَاة القبر في هذه الآية؛ لأن قوله: «ثُمَّ يُحْيِيكُمْ» ليس هو الحياة الدائمة، وإلا لما صح أن يقول: «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون» ؛ لأن كلمة «ثُمَّ» تقتضي التَّراخِي، والرجوع إلى الله - تعالى - حاصل عقب الحَيَاةِ الدَّائمةِ من غير تَرَاخٍ، فلو جعلنا الآية من هذا الوجه دليلاً على حياة القبر كان قريباً. قوله: «ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُون» الضمير في «إليه» لله تعالى، وهذا ظاهر؛ لأنه كالضمائر قبله، وثَمَّ مضاف محذوف أي: إلى ثوابه وعقابه. وقيل: على الجزاء على الأعمال. وقيل: على المكان الذي يتولّى الله فيه الحكم بينكم. وقيل: على الإحياء المدلول عليه ب «أحياكمط، يعني: أنكم ترجعون إلى الحال الأولى التي كنتتم عليها في ابتداء الحياة الأولى من كونكم لا تملكون لأنفسكم شيئاً. والجمهور على قراءة» تُرْجَعُون «مبنياً للمفعول. وقرأ يحيى بن يعمر: وابن أبي إسحاق، ومُجَاهد، وابن مُحَيصن، وسلام، ويعقوب مبنياً للفاعل حيث جاء. ووجه القراءتين أن» رجع «يكون قاصراً ومتعدياً فقراءة الجُمْهور من المتعدّي، وهو أرجح؛ لأن أصلها» ثُمَّ إِلَيْهِ مرجعكم «لأن الإسناد في الأفعال السَّابقة لله تَعَالَى، فناسب أن يكون هذا كله، ولكنه بني للمفعول لأجل الفواصل والمقاطع. و» أموات «جمع» ميِّت «وقياسه على فعائل كسيّد وسيائد، والأولى أن يكون أن يكون» أموات «جمع» مَيْت «مخففاً ك» أقوال «في جمع» قول «، وقد تقدمت هذه المادّة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 هذا هو النعمة الثانية اليت عمّت المكلفين بأسرهم. «هو» مبتدأ، وهو ضمير موفوع منفصل للغائب المذكر، والمشهور تخفيفُ واوه وفتحها، وقد تشدد؛ كقوله: [الطويل] 343 - وَإِنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا ... وَهُوَ عَلَى مَنْ صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ وقد تسكن، وقد تحذف كقوله: [الطويل] 344 - فَبَيْنَاهُ يَشْرِي رَحْلَهُ ... . ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . والموصول بعده خبر عنه. و «لكم» متعلّق ب «خلق» ، ومعناها السَّببية، أي: لأجلكم، وقيل: للملك والإباحة، فيكون تميكاً خاصاً بما ينتفع به. وقيل: للاختصاص، و «ما» موصولة، و «في الأرض» صلتها، وهي في محلّ نصب مفعول به، و «جميعاً» حال من المفعول بمعنى «كلّ» ، ولا دلالة لها على الاجتماع في الزَّمَان، وهذا هو الفَارِقُ بين قولك: جَاءُوا جميعاً و «جاءوا معاً» فإنّ «مع» تقتضى المُصَاحبة في الزمان، بخلاف «جميع» قيل: وهي - هُنَا - حال مؤكدة، لأن قوله: «مَا فِي الأَرْضِ» عام. فصل في بيان أن الأصل في المنافع الإباحة استدلّ الفُقَهَاء بهذه الآية على أنّ الأصل في المَنَافع الإباحة. وقيل: إنها تدلُّ على حرمة أكل الطِّين، لنه خلق لنا ما في الأرض دون نفس الأرض، وفيه نظر؛ لأن تخصيص الشيء بالذِّكر لا يدلّ على نفي الحكم عما عَدَاه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 وأيضاً فالمعادن داخلة في ذلك، وكذلك عروق الأرض، وما يجري مجرى البعض لها. وقد تقدّم تفسير الخلق، وتقديره الآية كأنه - سُبْحانه وتعالى - قال: كيف تكفرون بالله، وكنتم أمواتاً فأحياكم؟ وكيف تكفرون بالله، وقد خلق لكم ما في الأرض جميعاً؟ أو يقال: كيف تكفرون بقدرة الله على الإعادة، وقد أحياكم بعج موتكم، وقد خلق لكم كل ما في الأرض، فكيف يعجز عن إعادتكم؟ . قوله: «ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتَ» . أصل «ثم» أن تقتضي تراخياً زمانياً، ولا زمان هنا، فقيل: إشارة إلى التراخي بين رُتْبَتَيْ خلق الأرض والسماء. وقيل: لما كان بين خلق الأرض والسماء أعمال أُخَر من جعل الجِبَال والبَرَكة، وتقدير الأقوات، كما أشار إليه في الآية الأخرى عطف ب «ثم» ؛ إذ بين خلق الأرض والاستواء إلى السماء تراخ. و «استوى» : معناه لغة: استقام واعتدل، من استوى العُودُ. وقيل: علا وارتفع؛ قال الشاعر: [الطويل] 345 - فأَوْرَدْتُهُمْ مَاءً بِفَيْفَاءَ قَفْرَةٍ ... وَقَدْ حَلَّقَ النَّجْمُ اليَمَانِيُّ فَاسْتَوَى وقال تعالى: {فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك} [المؤمنون: 28] . ومعناه هنا: قصد وعمل. وفاعل «اسْتَوَى» ضمير يعود على الله. وقيل: يعود على الدُّخَان نقله ابن عطية. وهو غلط لوجهين: أحدهما: عدم ما يدلّ عليه. والثاني: أنه يرده قوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ} [فصلت: 11] . و «إلى» حرف انتهاء على بَابها. وقيل: هي بمعنى «عَلَى» ؛ فتكون في المَعْنَى كقول الشاعر: [الرجز] 346 - قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى الْعِرَاقِ ... مَنْ غَيْرِ سَيْفٍ ودَمٍ مُهْرَاقِ ومثله قوله الآخر: [الطويل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 347 - فَلَمَّا َعَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ ... تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ وقيل: ثَمَّ مضاف محذوفٌ ضميره هو الفاعل، أي: استوى أمره، و «إلَى السَّمَاءِ» متعلّق ب «اسْتَوَى» ، والضمير في «فَسَوَّاهُنّ» يعود على السَّمَاء، إما لأنها جمع «سماوة» كما تقدم، وإما لأنها اسم جنس يطلق على الجمع. وقال الزمخشري: «هُنَّ» ضمير مبهم، و «سَبْعَ سَمَاوَاتٍ» تفسيره، كقولهم: رُبَّهُ رَجُلاً «، وقد رد عليه بأنه ليس من [المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده؛ لأن النحويين حصروا ذلك في سبع مواضع] : ضمير الشأن، والمجرور ب» رب «، والمرفوع ب» نعم وبئس «، وما جرى مجراهما، وبأول المتنازعين، والمفسر بخبره، وبالمُبْدَل منه. ثم قال هذا المعترض: إلا أن يتخيل فيه أن يكون» سَبْعَ سَمَاواتٍ «بدلاً، وهو الذي يقتضيه تشبيهه ب» رُبُّهُ رَجَلاً «فإنه ضمير مبهم ليس عائداً على شيء قبله، لكن هذا يضعف بكون التقدير يجعله غير مرتبطٍ بما قبله ارتباطاً كلياً، فيكون أخبرنا بإخبارين: أحدهما: أنه استوى إلى السماء. والثاني: أنه سوى سبع سماوات. وظاهر الكلام أن اذلي استوى إليه هو المستوي بعينه. ومعنى تسويتهنّ: تعديل خلقهن، وإخلاؤه من العِوَجِ، والفُطُور وإتمام خَلْقهن. قوله:» سَبْعَ سَمَواتٍ «في نصبه خمسة أوجه: أحسنها: انه بدلٌ من الضمير في» فَسَوَّاهُنَّ «العائد على» السَّمَاءِ «كقولك، أخوك مررت به زيد. الثاني: أنه بدل من الضمير أيضاً، ولكن هذا الضمير يفسره ما بعده، وهذا يضعف بما ضعف به قول الزمخشري المتقدّم. الثالث: أنه مفعول به، والأصل، فسوَّى منهن سَبْعَ سموات، وشبهوه بقوله تعالى: {واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا} [الأعراف: 155] أي: من قومه قاله أبو البقاء وغيره، وهذا ضعيف لوجهين: أحدهما: بالنسبة إلى اللفظ. والثاني: بالنسبة إلى المعنى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 أما الأول فلأنه ليس من الأفعال المتعدية لاثنين. أحدهما: بإسقاط الخافض؛ لأنها محصورة في» أمر «و» اختار «وأخواتها. الثاني: أنه يقتضي أن يكون ثَمَّ سماوات كثيرة، سوى من جملتها سبعاً، وليس كذلك. الرابع: أن» سوى «بمعنى» صَيَّر «فيتعدّى لاثنين، فيكون» سَبْعَ «مفعولاً ثانياً، وهذا لم يثبت أيضاً، أعني جعل» سَوَّى «مثل» صَيَّرَ «. فصل في هيئة السماوات السبع اعلم أن القرآن - هاهنا - قد دلّ على سبع سماوات. وقال أصحاب الهيئة: أقربها إلينا كرة القمر، وفوقها كرة عطارد، ثم كرة الزّهرة، ثم كرة الشَّمس، ثم كرة المرّيخ، ثم كرة المشتري، ثم كرة زُحَل، قالوا: لن الكوكب الأسفل إذا مَرَّ بين أبصارنا، وبين الكوكب الأعلى، فإنهما يصيران ككوكب واحدٍ، ويتميز السَّاتر عن المَسْتور بلونه الغَالب كَحُمْرَةِ المريخ، وصُفْرَة عطارد، وبَيَاض الزهرة، وزُرْقَة المُشْتري، وكدرة زُحَل، وكلّ كوكب فإنه يكسف الكوكب الذي فوقه. فصل في الاستدلال على سبق خلق السماوات وعلى الأرض قال [بعض المَلاَحدة] : هذه الآية تدلّ على أن خلق الأرض قبل خلق السَّماء، وكذا قوله: {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] إلى قوله تعالى: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء} وقال في سورة «النازعات» : {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] وهذا يقتضي أن يكون خلق الأرض بعد السماء، وذكروا في الجواب وجوهاً: أحدها: يجوز أن يكون خلق الأرض قبل السماء إلاّ أنه دَحَاهَا حتى خلق السماء؛ لأن التدحية هي البَسْط. ولقائل أن يقول: هذا مُشْكل من وجهين: الأول: ان الأرض جسم عظيم، فامتنع انفكاك خلقها عن التَّدْحية، وإذا كانت التَّدْحية متأخّرة عن خلق السماء كان خلقها لا مَحَالَة متأخراً عن خلق السماء. الثاني: أن قوله: «خَلَقَ لَكُم الأَرْضَ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء» يدلّ على أن خلق الأرض، وخلق كل ما فيها متقدم على خلق السماء، وخلق هذه الأشياء في الأرض لا يمكن إِلاَّ إذا كانت مدحوةً، فهذه الآية على كونها مدحوة قبل خلق السَّماء، فيعود التَّنَاقض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 والجواب الثاني: أن قوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] يقتضي تقديم خلق السماء على الأرض، ولا يقتضي أن تكون تسوية السماء مقدّمة على خَلْقِ الأرض، وعلى هذا التَّقْدِير يزول التناقض. ولقائل أن يقول: قوله: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا} [النازعات: 27 - 28] يقتضي أن يكون خلق السماء، وتسويتها مقدماً على تدحية الأرض، ولكن تَدْحِيَةَ الأرض ملازمة لخلق ذات الأرض، وحينئذ يعود السؤال. والجواب الثالث وهو الصحيح أن قوله: «ثُمّ» ليس للترتيب هاهنا، وإنما هو على جِهَةِ تعديد النعم، على مثل قول الرَّجل لغيره: أليس قد أعطيتك النعم العظيمة، ثم وقعت الخُصُوم عنك، ولعلّ بعض ما أخره في الذكر قد تقدّم فكذا ها هنا، والله أعلم. فإن قيل: هل يَدُلّ التنصيص على سَبْعِ سموات على نَفْي العدد الزائد؟ قال ابن الخطيب: الحق أن تخصيص العدد بالذكر لا يَدُلُّ على نفي الزائد. فصل في إثبات سبع أَرْضين ورد في التنزيل أن السموات سبع، ولم يأت في التنزيل أن الأرضين سبع إلاَّ قوله {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] وهو محتمل للتأويل، لكنه وردت في أحاديث كثيرة صحيحة تدلّ على أن الأرضين سبع كما روي في «الصحيحين» عن رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «من ظَلَمَ قِيْد شِبْرٍ مِنَ الأرض طُوِّقَهُ من سبع أرضين» إلى غير ذلك. وروى أبو الضحى - واسمه مسلم - عن ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال: «الله الذي خَلَقَ سبع سَمَاواتٍ ومن الأرضِ مِثْلَهُنَّ قال: سبع أرضين في كل أرض نَبِيّ كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم وعِيسَى كعيسى» قال البيهقي: إسناد هذا عن ابن عَبَّاسٍ صحيح وهو شاذّ لا أعلم لأبي الضّحى عليه دليلاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 و «السماء» تكون جمعاً ل «سماوة» في قول الأخفش، و «سماءة» في قول الزّجاج، وجمع الجمع «سَمَاوات» و «سماءات» ، فجاء «سِوَاهن» إما على أن «السّماء» جمع، وإما على أنها مفرد اسم جنس، وقد تقدّم الكلام على «السَّماء» في قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء} [البقرة: 19] . قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} هو: مبتدأ، و «عليم» خبره، والجار قبله يتعلّق به. واعلم انه يجوز تسكين هاء «هُو» و «هي» بَعْدَ «الواو» و «الفاء» و «لام» الابتداء و «ثُمّ» ؛ نحو: {فَهِيَ كالحجارة} [البقرة: 74] {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة} [القصص: 61] {لَهُوَ الغني} [الحج: 64] {لَهِيَ الحيوان} [العنكبوت: 64] وقرأ بها الكسائي وقالون عن نافع، تشبيهاً ل «هُو» ب «عَضُد» ول «هِي» ب «كَتِف» ، فكما يجوز تسكين عين «عَضُد» و «كَتِف» يجوز تسكين هاء «هُوَ» ، و «هِي» بعد الأحرف المذكورة؛ إجراءً للمنفصل مجرى المتّصل، لكثرة دورها معها، وقد تسكن بعد كاف الجر؛ كقوله: [الطويل] 348 - فَقُلْتُ لَهُمْ: مَا هُنَّ كَهِيَ فَكَيْفَ لِي ... سُلُوٌّ وَلاَ أَنْفَكُّ صَبًّا مُتَيَّمَا وبعد همزة الاستفهام؛ كقوله: [البسيط] 349 - فَقُمْتُ للطَّيْفِ مُرتاعاً فَأَرَّقَنِي ... فَقُلْت: أَهِيَ سَرَتْ أمْ سَرَت أَمْ عَادِنِي حُلُمُ وبعد «لكن» في قراءة ابن حَمْدُون: {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي} [الكهف: 38] وكذا في قوله: {يُمِلَّ هُوَ} [البقرة: 282] . فإن قيل عليم «فعيل» من «علم» ، و «علم» متعدّ بنفسه، فكيف تعدّى ب «الباء» ، وكان من حقه إذا تقدم مفعوله أن يتعدّى إيله بنفسه أو ب « الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 اللام» المقوية، وإذا تأخر أن يتعدى إيله بنفسه فقط؟ فالجواب: أن أمثلة المُبالغة خالفت أفعالها، وأسماء فاعليها لمعنى وهو شبهها ب «أفعل» التفضيل بجامع ما فيها ن مَعْنَى المبالغة، و «أفعل» التفضيل له حكم في التعدّي، فأعطيت أمثلة المُبَالغة ذلك الحكم، وهو أنها لا تَخْلُو من أن تكون من فعل متعدٍّ بنفسه أو لا. فإن كان الأول فإما أن يفهم علماً أو جهلاً أو لا. فإن كان الأول تعدت بالباء نحو: {هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ} [النجم: 32] {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} [الحديد: 6] و «زيد جهول بك» و «أنت أجهل به» وإن كان الثَّاني تعدّت ب «اللام» نحو: «أنا أضرب لزيد منك» و «أنا ضراب له، ومنه: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ، وإن كانت من متعدٍّ بحرف جَرّ تعدّت هي بذلك الحرف نحو:» أنا أصبر على كذا «و» أنا صبور عليه «، و» أزهد فيه منك «، و» زهيد فيه «. فصل في إثبات العلم لله سبحانه بخلقه هذه الآية تدلّ على أنهلا يمكن أن يكون خالقاً للأرض وما فيها، وللسماوات وما فيها من العَجَائب والغرائب إذى إذا كان عالماً بها محيطاً بجزئياتها وكلّياتها، وذلك يدلّ على أمور: أحدها: أن يفسد قول الفَلاَسفة الَّذين قالوا: إنه لا يعلم الجُزئيات، ويدلّ على صحة قول المتكلمين فإنهم قالوا: إنه - تعالى - فاعل لهذه الأجسام على سبيل الإحكام والإِتْقَان، وكل فاعل على هذا الوجه، فإنه لا بد وأن يكون عالماً بما فعله كما ذكر في هذه الآية. وثانيها: يدل على فساد قول المعتزلة، وذلك لأنه - سبحانه وتعالى - بين أن الخالق للشَّيء على سبيل التقدير والتحديد، ولا بد أن يكون عالماً به وبتفاصيله، لأن خالقه قد خصّه بقدر دون قدر، والتخصيص بقدر معين لا بُدّ وأن يكون بإرادة، وإلا فقد حصل الرُّجْحَان من غير مرجّح، والإرادة مشروطة بالعلم، فثبت أن خالق الشَّيء لا بد وأن يكون عالماً به على سبيل التفصيل. فلو كان العبد موجداً لأفعال نفسه لكان عالماً بها، وبتفاصيلها في العَدَدِ والكميّة والكيفية، فلمَّا لم يحصل هذا العلم علمنا أنه غير موجدٍ لأفعال نفسه. وثالثها: قالت المعتزلة: إذا جمع بين هذه الآية وبين قوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] ظهر أنه - تعالى - عالم بذاته. والجَوَاب: قوله تعالى:» وَفَوْقَ كُلُّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ «عام، وقوله: {أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] خاصّ والخاص مقدّم على العام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 هذه الآية دالّة على كيفية تنظيم الله - تعالى - لآدم عليه الصَّلاة والسلام، فيكون ذلك إنعاماً عامًّا على جميع بني آدم، فيكون هذا هو النعمة الثالثة من تلك النعم العامّة التي أوردها. «إذ» ظرفُ زمانٍ ماض، يخلص المضارع للمضي، وبني لشبهة بالحَرْفِ في الوضع والافتقار، وتليه الجُمَل مطلقاً. قال المبرد: إذا جاء «إذ» مع المستقبل كان معناه ماضياً كقوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ} [الأنفال: 30] يريد: إذ مكروا، وإذا جاء مع الماضي كان معناه مستقبلاً كقوله: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] وقد يبقى على مُضِيِّهِ كهذه الآية. وإذا كانت الجملة فعلية قبح تقديم الاسم، وتأخير الفعل نحو: «إذ زيد قام» ، ولا يتصرّف إلا بإضافة الزمن إليه، نحو: «يومئذ» ، ولا يكون مفعولاً به، وإن قال به اكثر المعربين، فإنهم يقدرون «ذكر وقت كذا» ، ولا ظرف مكان، ولا زائداً، ولا حرفاً للتعليل، ولا للمفاجأة خلافاً لمن زعم ذلك. وقد تحذف الجملة المضاف هو إليها للعلم، ويعرض منها تنوين كقوله: {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} [الواقعة: 84] وليس كَسْرَته - والحالةُ هذه - كسرة إعراب، ولا تنوينه تنوينَ صرفٍ خلافاً للأخفش، بل الكسر لالتقاء السَّاكنين، والتنوين للعوض بدليل وجود الكسر، ولا إضافة؛ قال الشاعر: [الوافر] 350 - نَهَيْتُكَ عَنْ طِلاَبِكَ أُمُّ عَمْرٍو ... بِعَاقِبَةٍ وَأَنْتَ إِذٍ صَحِيحُ وللأخفش أن يقول: أصله: «وأنت حينئذ» فلما حذف المضاف بقي المُضَاف إليه على حاله، ولم يقم مقامه نحو: {والله يُرِيدُ الآخرة} [الأنفال: 67] بالجر، إلا أنه ضعيف. و «قَالَ رَبُّكَ» : جملة فعلية في محلّ خفض بإضافة الظرف إليها، واعلم أنّ «إذ» فيه تسعة أوجه، أحسنها أنه منصوب ب «قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا» أي: قالوا ذلك القول وضقْتَ قول الله عَزَّ وَجَلَّ إني جاعل في الأرض خليفة، وهذا أسهل الأوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 الثاني: أنه منصوب ب «اذكر» مقدراً، وقد تقدم أنه لا يتصرّف، فلا يقع مفعولاً. الثالث: أنه منصوب ب «خلقكم» المتقدّم في قوله: {اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] والواو زائدة. وهذا ليس بشيء لطول الفصل. الرابع: أنه منصوب ب «قال» بعده، وهذا فاسد؛ لأن المضاف إليه لا يعمل في المضاف. الخامس: أنه زائد، ويُعْزَى لأبي عبيدة. السادس: أنه بمعنى «قد» . السابع: أنه خبر لمبتدأ مَحْذوف تقديره: ابتداء خلقكم وَقْتَ قول ربك. الثامن: أنه منصوب بفعل لائقٍ تقديره: ابتداء خلقكم وَقْتَ قوله ذلك. وهذان ضعيفان، لأن وقت ابتداء الخَلْقِ ليس وقت القول، وايضاً لا يتصرف. التاسع: أنه منصوب ب «أحياكم» مقدراً، وهذا مردودٌ باختلاف الوقتين أيضاً. و «للملائكة» متعلّق ب «قال» واللاَّم للتبليغ. و «ملائكة» جمع «مَلَك» ، واختلف في «ملك» على ستة أقوال، وذلك أنهم اختلفوا في ميمه، ها هي أصلية أو زائدة؟ والقائلون بأصالتها اختلفوا. فقال بعضهم: «ملك» وزنه «فَعَلٌ» من المِلْك، وشذّ جمعه على «فَعَائلة» ، فالشذوذ في جمعه فقط. وقال بعضهم: بل أصله «مَلأْك» ، والهمزة فيه زائدة ك «شَمْأَل» ، ثم نقلت حركة الهمزة إلى «اللام» ، وحذفت الهمزة تخفيفاً، والجمع جاء على أصل الزيادة، فهذان قولان عند هؤلاء. والقائلون بزيادتها اختلفوا أيضاً: فمنهم من قال: هو مشتقٌّ من «أَلَكََ» أي: أرسل، ففاؤه همزة، وعينه لام؛ ويدلّ عليه قوله: [المنسرح] 351 - أَبْلِغْ أَبا دَخْتَنُوسَ مَألُكَةً ... عَنِ الَّذِي قَدْ يُقَالُ مِلْكَذِب وقال الآخر: [الرمل] 352 - وَغُلاَمٍ أَرْسَلَتْهُ أُمُّهُ ... بِأَلُوكٍ فَبَذَلْنَا مَا سَأَلْ وقال آخر: [الرمل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 353 - أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلَكاً ... أَنَّه قََدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَاري فأصل ملك: ثم قلبت العين إلى موضع الفاء «، و» الفاء «إلى موضع» العين «على وزن» مَفْعَلٍ «ثم نقلت حركة» الهمزة «إلى» اللام «، وحذفت» الهمزة «تخفيفاً، فيكون وزن ملك:» مَعَلاً «بحذف الفاء. ومنهم من قال: هو مشتقّ من» لأك «أي: أرسل أيضاً، ففاؤه لام، وعينه همزة، ثم نقلت حركة الهمزة، وحذفت كما تقدّم، ويدلّ على ذلك أنه قد نطق بهذا الأصل قال: [الطويل] 354 - فَلَسْتَ لإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لمَلأَكٍ ... تَنَزَّلَ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ ثم جاء الجمع على الأصل، فردّت الهمزة على كلا القولين، فوزن» ملائكة «على هذا القول» مَفَاعلة «، وعلى القول الذي قبله» مَعَافِلَة «بالقَلْب. وقيل: هو مشتقٌّ من:» لاَكَهُ - يَلُوكُه «إذا» أداره - يديره «؛ لأن الملك يدير الرسالة في فِيهِ، فأصل مَلْك: مَلُوك، فنقلت حركة» الواو «إلى» اللام «الساكنة قبلها، فتحرك حرف العلّة، وانفتح ما قبله فقلب» ألفاً «، فصار: ملاكاً مثل:» مقام «، ثم حذفت الألف تخفيفاً، فوزنه:» مفل «بحذف العين، وأصل» ملائكة «:» ملاوكة «، فقلبت» الواو همزة «، ولكن شرط قلب الواو والياء همزة بعد ألف مفاعل أن تكون زائدة نحو:» عَجَائز «و» رَسَائل «، على أنه قد جاء ذلك في الأصل قليلاً قالوا:» مَصَائب «و» مَنَائِر «، وقرىء شاذَّا، {مَعَايِشَ} [الأعراف: 10] بالهمز، فهذه خمسة أقوال. السّادس: قال النضر بن شُمَيْلٍ: لا اشتقاق ل» الملك «عند العرب» والهاء «في» ملائكة «لتأنيث الجمع، نحو:» صَلاَدمة «. وقيل: للمُبَالغة ك «عَلاّمة» و «نسَّابة» ، وليس بشيء، وقد تحذف هذه الهَاء شذوذاً؛ قال الشاعر: [الطويل] 355 - أَبَا خَالِدٍ صَلَّتْ عَلَيْكَ المَلاَئِكُ ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 فصل في ماهية الملائكة اختلفوا في ماهيّة الملائكة، وحقيقتهم، والضابط فيه أن يقال: إن المَلاَئكة ذوات قائمة بنفسها، وهي إما متحيّزة، أو ليست بمتحيّزة، فإن كانت متحيّزة فهاهنا أقوال: أحدها: أنها أجسام لطيفة هَوَائية تقدر على التشكُّل بأشكال مختلفةٍ مسكنها السموات، وهذا قول أكثر المسلمين. الثاني: قول طوائف من عَبَدَةِ الأوثان: أن الملائكة هي هذه الكواكب الموصوفة بالإسْعَادِ، والإِنْحَاسِن فَالْمُسْعِدَات منها ملائكة الرَّحمة، والمنحسات منها مَلاَئكة العذاب. الثالث: قول معظم المَجُوس، والثنوية: وهو أن هذا العَالمَ مركّب من أصلين أزليين، وهما النور والظّلمة، وهُمَا في الحقيقة جَوْهَرَان شَفَّافان مُخْتَاران قادران، متضادا النّفس والصورة، مختلفا الفعل والتدبير، فجوهر النُّور فاضل خيّر، نفيّ طيّب الريح، كريم النفس يسر ولا يضر، وينفع ولا يمنع، ويَحْيَا ولا يبلى، وجوهر الظلمة على ضدّ ذلك. ثم إنَّ جوهر النور لم يزل يولد الأولياء، وهم الملائكة لا على سبيل التَّنَاكح، بل على سبيل تولّد الحكمة من الحكيم، والضوء من المضيء، وجوهر الظلمة لم يزل يولد الأعداء، وهم الشياطين على سبيل تولّد السَّفهِ من السفيه لا على سبيل التناكح. القول الثاني: وهو أنها ذوات قائمة بأنفسها، وليست بمتحيّزة، ولا بأجسام. فهاهنا قولان: الأول: قول طوائف من النَّصَارى، وهو أن الملائكة في الحقيقة هي الأنفس النَّاطقة المفارقة لأبدانها على نَعْتِ الصفاء والخيرية، وذلك لأن هذه النفوس المفارقة إن كانت صافيةً خالصة فهي الملائكة، وإن كانت خبيثةً كَدِرَةً فهي الشياطين. والثاني: قول الفَلاَسفة وهي أنها جَوَاهر قائمة بأنفسها وليست بمتحيّزة ألبتة، وأنها بالماهية مخالفة لأنواع النفوس النَّاطقة البشرية، وأنها أكملُ قوةً منها، وأكثر علماً منها، وأنها للنفوس البشرية جارية جرى الشَّمس بالنسبة إلى الأضواء، ثم إنَّ هذه الجَوَاهر على قسمين: منها ما هي بالنسبة إلى أجْرَام الأَفْلاَك والكواكب كنفوسنا الناطقة بالنسبة إلى أبداننا، ومنها ما هي لا هي عَلَى شَيْءٍ من تدبير الأفلاك، بل هي مستغرقة في معرفة الله، ومحبته ومشتغلة بطاعته، وهذا القسم هُمُ الملائكة المُقَرَّبُون، ونسبتهم إلى الملائكة الَّذين يدبرون السَّمَاوات، كنسبة أولئك المدبرين إلى نفوسنا النَّاطقة، فهذان القِسْمان قد اتفقت الفلاسفة على إثباتهما، ومنهم من أثبت انواعاً أُخَرَ من الملائكة، وهي الملائكة الأرضية المدبِّرة لأحوال هذا العالم السفليّ، ثم إن المدبرات لهذا العَالَم إن كانت خيرةً فهم الملائكة، وإن كانت شريرةً فهم الشياطين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 فصل في شرح كثرتهم قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أطَّتِ السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أن تَئِطَّ ما فيها مَوْضِعَ قَدَمٍ إلا وفيه مَلَكٌ ساجدٌ، أو راكع» . [وروي أن بني آدم عشر الجن، والجن وبنو آدم عشر حيوانات البَرّ، وهؤلاء كلهم عُشر حيونات البَرّ، وهؤلاء كلّهم عشر حيوانات البَحْرِ، وهؤلاء كلّهم عشر ملائكة الأرض الموكّلين بها، وكلّ هؤلاء ملائكة سَمَاء الدنيا، وكل هؤلاء عشر ملائكة السَّماءِ الثانية وعلى هذا الترتيب إلى ملائكة السّرادق الواحد من سُرَادقات العرش التي عددها ستمائة ألف، طول كلّ سرادق وعرضه وسمكه إذا قوبلت به السَّمَاوات والأرضون وما فيها وما بينها، فإنها كلها تكون شيئاً يسيراً وقدراً صغيراً، وما من مقدار موضع قدم إلا وفيه مَلَكٌ ساجد، أو راكع] وقائم، لهم زَجَلٌ بالتسبيح والتَّقديس، ثم كلّ هؤلاء في مُقَابلة الملائكة الذين يَحُومُونَ حول العرش كالقَطْرَةِ في البحر، ولا يعلم عَدَدَهُمْ إلا اللهُ تعالى، ثم مع هؤلاء ملائكة اللَّوحِ الذين هم أشياع إسرافيل عليه السّلام، والملائكة الذين هم جنود جبريل عليه السَّلام، ولا يحصى أجناسهم ولا مدة أعمارهم ولا كيفية عبادتهم إلا الله تعالى، على ما قال: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدثر: 31] . وروي في بعض كتب التَّذكير أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حين عرج به رأى ملائكة في مَوْضِعٍ بمنزلة سوق بعضهم يمشي تُجَاهَ بعض، فسأل رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إلَى أيْنَ يَذْهَبُونَ؟» فقال جبريل عليه السَّلام: لا أَدْرِي إِلاّ أَنِّي أراهُمْ مذ خلقت ولا أرى واحداً منهم قد رأيته قبل ذلك، ثم سأل واحداً منهم وقيل له: مذ كم خلقت؟ فقال: لا أدري غير أن الله - تعالى - يخلق كوكباً في كلّ أربعمائة ألف سنةٍ، فخلق مثل ذلك الكوكب منذ خَلَقَنِي أربعمائة ألف مرة فسبحانه من إله ما أعظم قدرته وما أجلّ كماله. فصل فيمن قيل له من الملائكة: «إني جاعل» اختلفوا في المَلاَئكة الَّذين قال لهم: «إنِّي جاعلٌ لهم» كلّ الملائكة، أو بعضهم؟ فروى الضَّحَّاك عن ابن عباس أنه سبحانه إنما قال هذا القول للملائكة الذين [كانوا مُحَاربين] مع «إبليس» ؛ لأن الله - تعالى - لما أسكن الجنّ الأرض، فأفسدوا فيها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 وسفكوا الدّماء، وقتل بعضهم بعضاً، بعث الله «إبليس» في جُنْدٍ من الملائكة، فقتلهم «إبليس» بعسكره حتى أخرجوهم من الأرض؛ وألْحَقُوهُمْ بِجَزَائِرِ البَحْر، وشعوب الجِبَالِ، وسَكَنُوا الأرض، وخفّف الله عنهم العبادة، وأعطى «إبليس» ملك الأرض، وملك سماء الدنيا، وخزانة الجنّة، فكان يعبد الله تارة في الأرض، وتارة في السماء، وتارة في السماء، وتارة في الجنة، فاخذه العجب وقال في نفسه: ما أعطاني الله هذا المُلْكَ إلا لأني أكرم الملائكة عليه فقال تعالى لهم: «إنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً» . وقال أكثر الصحابة والتابعين إنه قال ذلك لجماعة الملائكة من غير تخصيص، لأن لفظ الملائكة يفيد العُمُوم. فإن قيل: ما الفائدة في أن الله قال للملائكة: «إنِّي جَاعِلٌ في الارضِ خليفةً» مع أنه منزّه عن الحاجة إلى المَشُورة؟ . فالجواب من وجهين: الأوّل: أنه - تعالى - علم أنهم إذا اطَّلعُوا على ذلك السّر أوردوا عليه ذلك السُّؤال، فكانت المَصْلَحَة تقتضي إحاطتهم بذلك الجَوَاب، فعرّفهم هذه الواقعة لكي يوردوا ذلك السُّؤال، ويسمعوا ذلك الجواب. والثاني: أنه - تعالى - علم عباده المَشُورة. قوله: «إنِّي جَاعِلٌ في الأَرْضِ خَلِيفَةً» هذه الجملة معمولُ القول، فهي في محل نصب به، وكسرت «إنَّ» هنا، لوقوعها بعد القول المجرّد من معنى الظَّنِّ محكية به، فإن كان بمعنى الظَّن جرى فيها وجهان: الفَتْح والكَسْر؛ وأنشدوا: [الطويل] 356 - إِذَا قُلْتَ إِنِّي آيبٌ أَهْلَ بَلْدَةٍ ... نَزَعْتُ بِهَا عَنْهُ الْوَلِيَّةَ بِالهَجْرِ وكان ينبغي أن يفتح ليس إلاَّ؛ نظراً لمعنى الظن، لكن قد يقال جاز الكسر مُرَاعاةً لصورة القول. و «إن» على ثلاثة أقسام: قسم يجب فيه كسرها، وقسم يجب فيه فتحها، وقسم يجوز فيه الوجهان. والضابط الكُلّي في ذلك: أن كلَّ موضع سَدَّ مسدَّها المصدرُ، وجب فيها فتحها؛ نحو: «بلغني انك قائمٌ» ، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّهَا، وجب فيه كَسْرُها؛ كوقوعها بعد القول ومبتدأةً وصلةً وحالاً، وكلّ موضع جاز أن يسدّ مسدّها، جاز الوجهان؛ كوقوعها بعد فاء الجزاء، و «إذا» الفجائية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 و «جاعل» فيه قولان: أحدهما: أنه بمعنى «خالق» فيكون «خليفة» مفعولاً به و «فِي الأَرضِ» فيه حينئذ قولان: أحدهما: وهو الواضح - أنه متعلّق ب «جاعل» والثاني: أنه متعلّق بمحذوف؛ لأنه حال من النكرة بعده. القول الثانيك أنه بمعنى «مُصَيِّر» ذكره الزَّمَخْشَرِي، فيكون «خليفة» هو المفعول الأول، و «في الأرض» هو الثَّاني قدم عليه، ويتعلّق بمحذوف على ما تقرر. والأرض قيل: إنها «مكة» ، روى ابن سابط عن النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «دُحِيَتِ الأَرْضُ من مَكَّةَ» ولذلك سميت «أم القرى» ، قال: وقبر نوح، وهود، وصالح، وشعيب بين «زمزم» والمَقَام. والظاهر أنّ الأرض في الآية جميع الأرض من المشرق والمغرب. و «خليفة» يجوز أن يكون بمعنى «فاعل» أي: يخلفكم أو يخلف من كان قبله من الجنّ، وهذا أصح، لدخول تاء التأنيث عليه. وقيل: بمعنى «مفعول» أي: يخلف كل جيل من تقدمه، وليس دخول «التَّاء» حينئذ قياساً، إلاَّ أن يقال: إن «خليفة» جرى مجرى الجَوَامِدِ ك «النَّطيحة» و «الذَّبيحة» . وإنما استغنى بذكره كما يستغنى بذكر أبي القَبِيلَةِ نحو: «مُضَر» و «رَبِيعَة» وقيل: المعنى على الجنس. وقال «ابن الخطيب» : الخليفة: اسم يصلح للواحد والجمع كما يصلح للذكر والأنثى. و «الخَلَفُ» - بالتحريك - من الصَّالحين، وبتسكينها من الطَّالحين. واختلفوا في أنه لِمَ سمّاه - أي: خليفة - على وجهين: فروي عن «ابن عباس» أنه - تعالى - لما نفى الجنّ من الأرض، وأسكنها آدم كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 آدم - عليه الصلاة والسَّلام - خليفة لأولئك الجنّ الذين تقدّموه، لأنه خلفهم. والثاني: إنما سمَّاه الله خليفةً، لأنه يخلف الله في الحكم بين خلقه، ويروى عن ابن مسعود، وابن عباس، والسّدي وهذا الرأي متأكّد بقوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} [ص: 26] . [روى أبو ذر قال: قلت: يا رسول الله أنبياً كان آدم مرسلاً؟ قال: «نعم. .» الحديث] . فإن قيل: لمن كان رسولاً إلى ولده، وكانوا أربعين ولداً في عشرين بطناً في كل بَطْنٍ ذكر وأنثى، وتوالدوا حتى كثروا، وأنزل عليهة تحريم الميتة والدَّم ولحم الخِنْزِير، وعاش تسعمائة وثلاثين سنةً. ذكره أهل التوراة والله أعلم. [وروي عن وهب بن منبه أنه عاش ألف سنة] . وقرئ: «خلِيقةً» بالقاف، و «خليفة» منصوب ب «جاعل» كما تقدّم؛ لأنه اسم فاعل، وأسم الفاعل يعمل عمل فعله مطلقاً إن كان فيه الألف واللام، ويشترط الحال أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه، ويجوز إضافته تخفيفاً ما لم يفصل بينهما كهذه الآية. فصلٌ في وجوب نصب خليفة للناس هذه الآية دليلٌ على وجوب نصب إمام وخليفة يسمع له ويُطَاع، لتجتمع به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة، ولا خلاف في وجوب ذلك بَيْنَ الأئمة إلاّ ما روي عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 الأصَمّ، وأتباعه أنها غير واجبةٍ في الدين - وأن الأمة متى أقاموا حججهم وجهادهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحقّ من أنفسهم، وقسموا الغَنَائم والفَيء والصدقات على أهلها، وأقاموا الحُدُود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولّى ذلك، وشروط الإمامة مذكورة في كتب الفِقْه. وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحقّ من أنفسهم، وقسموا الغَنَائم والفَيْء والصدقات على أهلها، وأقاموا الحُدُود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولّى ذلك، وشروط الإمامة مذكورة في كتب الفِقْه. قوله: «قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا» قد تقدم أن «قالوا» عامل في «إِذْ قَالَ رَبُّكَ» ، وأنه المختار، والهمزة في «أتجعل» للاستفهام على بابها، وقال الزمخشري: «للتعجب» ، وقيل: للتقرير؛ كقوله: [الوافر] 357 - أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا ... وَأَنْدَى الْعَالِمينَ بُطُونَ رَاحِ وقال «أبو البَقَاءِ» للاسترشاد، أي: أتجعل فيها من يفسد كمن كان قبل. و «فيها» الأولى متعلّقة ب «تجعل» إن قيل: إنها بمعنى «الخَلْق» ، و «من يفسد» مفعول به. وإن قيل: إنها بمعنى «التصيير» ، فيكون «فيها» مفعولاً ثانياً قدّم على الأول، وهو «من يفسد» ، و «من» تحتمل أن تكون كموصولةً، أو نكرة موصوفة، فعلى الأول لا محلّ للجملة بعدها من الإعراب، وعلى الثَّاني محلها النصب، و «فيها» الثانية متعلّقة ب «يفسد» . و «يفسك» عطف على «يفسد» بالاعتبارين. والجمهور على رَفْعِهِ، وقرئ منصوباً على جواب الاتسفهام بعد «الواو» التي تقتضي الجمع بإضمار «أن» كقوله: [الكامل] 358 - أَتَبِيتُ رَيَّانَ الجُفُونِ مِنَ الكَرَى ... وَأَبِيتَ مِنْكَ بِلَيْلَةِ الْمَلْسُوعِ وقال: «ابن عطية» : «منصوب بواو الصرف» وهذه عبارةُ الكوفيين، ومعنى «واو الصرف» أن الفعل كان يقتضي إعراباً، فصرفته «الواو» عنه إلى النصب. والمشهور «يَسْفِكُُ» بكسر الفاء، وقرئ بضمها أيضاً بضم حرف المُضَارعة من «أُسْفِكُ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وقرئ أيضاً مشدداً للتكثير. و «السَّفْك» : هو الصَّب، ولا يستعمل إلاّ في الدم. وقال ابن فارس والجوهري: «يستعمل أيضاً في الدمع» . وقال «المَهْدَوِيّ» : ولا يستعمل السَّفك إلاّ في الدم، وقد يستعمل في نَثْرِ الكلام، يقال: سفك الكلام، أي: نثره. و «السَّفاك» : السفاح، وهو القادر على الكلام. و «الدِّمَاء» جمع «دَم» ولا يكون اسمٌ معربٌ على حرفين، فلا بُدَّ له من ثالث محذوف هو لامه، ويجوز أن تكون «واواً» وأن تكون «ياء» ؛ لقولهم في التثنية «دَمَوَان» و «دَمَيَان» ؛ قال الشاعر: [الوافر] 359 - فَلَوْ أَنَّا عَلَى حَجَرٍ ذُبِحْنَا ... جَرَى الدَّمَيَانِ بِالخَبَرِ الْيَقِينِ وهل وزن دم: «فَعْل بسكون العين، أو» فَعَل «بفتحها؟ قولان؛ وقد يُرَدُّ محْذُوفُهُ، فيستعمل مقصوراً ك» عَصَا «؛ وعليه قول الشاعر: 360 - كَأَطُومٍ فَقَدَتْ بُرْغُزَهَا ... أَعْقَبَتْهَا الغُبْسُ مِنْهُ عَدَمَا غَفَلَتْ ثُمَّ أَتَتْ تَرْقُبُهُ فَإِذّا هِيَ بِعِظَامٍ وَدَمَا » الأَطُوم «: الناقة،» وبرغزها «: ولدها، و» الغُبْسُ «: الضباع. وقد تشدّد ميمه؛ قال الشاعر: [البسيط] 461 - أَهانَ دَمَّكَ فَرْغاً بَعْدَ عِزَّتِهِ ... يَا عَمْرُو بَغْيُكَ إِصْرَاراً عَلَى الْحَسَدِ وأصل الدَّمَاء:» الادِّمَاو «أو» الدِّمَاي «فقلب حرف العلّة همزة لوقوعه طرفاً بعد ألف زائدةٍ، نحو:» كِسَاء «و» رِدَاء «. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 فإن قيل: الملائكة لا يعلمون إلا بما عملوا، ولا يسبقونه بالقول، فكيف قالوا:» أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا «. فالجواب: اختلف العلماء فيه، فمنهم من قال: إنهم ذكروا ذلك عن ظَنّ قياساً على حالِ الجِنّ الذين كانوا في الأرض قبل آدم عليه الصَّلاة والسّلام، قاله ابن عباس، والكلبي وأحمد بن يحيى. الثَّاني: أنهم عرفوا خلقة آدم، وعرفوا أنه مركب من الأخلاط الأربعة فلا بد وأن يتولد منه المشهور بالغَضَبِ، فيتولّد الفساد من الشَّهْوَةِ، وسَفْكِ الدماء من الغضب. ومنهم من قال: إنهم قالوا ذلك على يَقِيْنِ، وهو مروي عن «ابن معود» وناس من الصحابة، وذكروا وجودهاً: أحدها: أنه - لما قال: «إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةٌ» قالوا: ربنا وما يكون ذلك الخليفة. قال: يكون له ذرية يفسدون في الأرض، ويتحاسدون، ويقتل بعضهم بعضاً، فعند ذلك قالوا: «أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ» ؟ إما على طريق التَّعجُّب من استخلاف الله من يعصيه، أو من عصيان الله من يستخلفه في أرضه، وينعم عليه بذلك، وإما على طريق الاستعظام والاستكبار للفعلين جميعاً الاستخلاف والعصيان. وثانيها: أنه - تعالى - كان قد أعلم الملائكة أنه إذا كان في الأرض خلقٌ عظيم أفسدوا فيها، وسفكوا الدماء. وثالثها: قال ابن زَيْدٍ: لما خلق الله النَّار خافت الملائكة خوفاً شديداً، فقالوا: ربنا لمن خلقت هذه النار؟ قال: لمن عَصَانِي من خلقي، ولم يَكُنْ لله يومئذ خلقٌ سوى الملائكة، ولم يكن في الأرض خلق ألبتة، فلما قال: «إني جاعل في الأرض خليفةٌ» عرفوا أن المعصية تظهر منهم. ورابعها: لما كتب القلم في اللوح [المحفوظ] ما هو كائن إلى يوم القيامة، فلعلّهم طالعوا اللّوح، فعرفوا ذلك. وخامسها: إذا كان مَعْنَى الخليفة من يكون نائباً لله في الحكم والقضاء، والاحتياج إلى الحاكم والقاضي إنما يكون عند التنازع، والتَّظَالم، فكان الإخبار عن وُجود الخليفة إخباراً عن وقوع الفساد والشَّرِّ بطريق الالتزام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 وسادسها: قال قتادة: كان الله أعلمهم أنه إذا جعل في الأرض خليفةً يفعل كذا وكذا، قالوا: أتجعل فيها الَّذي علمناه أم غيره. قوله: «ونَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ» الواو: للحال، و «نحن نسبح» : جملة من مبتدأ وخبر في محلٍّ النصب على الحال. و «بحمدك» : متعلّق بمحذوف؛ لأنه حالٌ أيضاً، و «الباء» فيه للمصاحبة أي: نسبّح ملتبسين بحمدك، نحو: جاء زيدٌ بثيابه. فهما حَالاَنِ مُتَدَاخِلان، أي حال في حال. وقيل: «الباء» للسببية فتتعلّق بالتسبيح، قل «بن عطية» : ويحتمل ن يكون قولهم: «بحمدك» اعتراضً بين الكلامين، كأنهم قلوا: ونحن نسبح ونقدس، ثم اعترضا على جهة التسليم، أي: وأنت المَحْمُودُ في بالهداية إلى ذلك وكأنه يحاول أنه تكون «الباء» فعلاً محذوفاً لائقاً بالمعنى تقديره: حصل لنا التسبيح والتقديس بسبب حمدك. و «الحمد» هنا: مصدر مُضَاف لمفعوله، وفاعله محذوف تقديره بحمدنا إيّاك، وزعم بعضهم أنّ الفاعل مضمر فيه، وهو غلط؛ لأنَّ المصدر اسم جامد لا يضمر فيه على أنه قد حكي الخِلاَف في المصدر الواقع موقع الفِعْل، نحو: «شرياً زيداً» هل يتحمّل ضميرً أو لا وقد تقدم. و «نُقَدِّسُ» عطف على «نُسَبِّحُ» فهو خير أيضاً عن «نحن» ، ومفعوله محذوف أي: نقدس أنفسنا وأفعالنا لك. و «لك» متعلّق به، أو ب «نسبح» ومعناها العلّة. وقل: زائدة، فإنَّ ما قبلها متعدٍّ بنفسه، وهو ضعيف، إذ لا تُزادَ «اللام» إلا مع تقديم المعمول، أو يكون العامل فرعاً. وقيل: هي مُعَدِّيَةٌ: نحو: «سجدت لله» . وقيل: للبيان كهي في قولك: «سُقْياً لك» فعل هذا تتعلّق بمحذوف، ويكون خبر مبتدأ مضمر أي: تقديساً لك. وهذا التقدير أحسن من تقدير قولهم: أعني؛ لأنه أليق بالموضع. وأبعد من زعم أن جملة «ونحن نسبح» داخلة في حيز استفهام مقدر تقديره: وأنحن نسبح أم نتغير؟ واستحسنه ابن عطية مع القول بالاستفهام المحض في قولهم: «أتجعل» وهذا يأباه الجمهور، أعني: حذف همزة الاستفهام من غير ذكر «أم» المعادلة وهو رأي «الأخفش» وجعل من ذلك قوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] أي: وأتلك نعمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 وقول الآخر: [الطويل] 362 - طَرِبَتْ وَمَا شَوْقَاً إلى البِيضِ أَطْرَبُ ... وَلا لَعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يَلِعًبُ أي: وأذو الشيب؟ وقول الآخر: [المنسرح] 363 - أَفَرِحَ أَنْ أُزْرَأَ الكِرَامَ وَأَنّْ ... أُورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاَ نَبَلا أي: أأفرح؟ . فأما مع «أم» جائز لدلالتها عليه؛ كقوله: [الطويل] 364 - لَعَمْرِكَ ما أدْرِي وَإِنْ كُنْتُ دَارِياً ... يِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أَمْ بِثَمَانٍ أي: أبسبع؟ و «التسبيح» : التنزيه والبَرَاءة، وأصله من السَّبح وهو البعد، ومنه السَّابح في الماء، فمعنى «سبحان الله» أي: تنزيهاً له وبراءة عما لا يليق بجلاله ومنه: [السريع] 365 - أَقُولُ لَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبٍحَانَ مِنْ عَلْقَمَةَ الْفَاخِرِ أي: تنزيهاً، وهو مختص بالباري تَعَالى. قال «الراغب» في قوله: سبحان من عَلْقَمَةَ الفاخر إن أصله: سُبْحَانَ علقمة، على سبيل التهكُّم فزاد فيه «من» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 وقيل: تقديره: سبحان الله من أجل عَلْقَمَة، فظاهر قوله أنه يجوز أن يقال لغير البَارِي على سبيل التهكُّم، وفيه نظر. و «التقديس» : التَّطهير، ومنه الأرض المقدَّسَة، وبيت المَقْدِس، ورُوح القُدُس؛ وقال الشاعر: [الطويل] 366 - فَأَدْرَكْنَهُ يَأْخُذْنَ بِالسَّاقِ وَالنِّسَا ... كَمَا شَبْرَقَ الْوِلْدَانُ ثَوْبَ الْمُقَدِّسِ أي: المُطَهِّر لهم. وقال: «الزمخشري» : هو من قدس في الأرض: إذا ذهب فيها وأبعد، فمعناه قريب من معنى «نسبّح» . ثم اختلفوا على وجوع: أحدها: نطهرك أي: نَصِفُكَ بما يليق بك من العلو والعزّة. وثانيها: قول مجاهد: نطهر أفعالنا من ذنوبنا حتى تكون حالصةٌ لك. ورابعها: نطهر قلوبنا عن الالتفات إلى غيرك حتى تصير مستغرقةً في أنوار معرفتك. قالت المعتزلة: هذه الآية تدلّ على مذهبنا من وجوه: أحدها: قولهم: «ونَحْنُ نُسَبِّحُ بحَمْدِكَ ونُقَدِّسُ لَكَ» أضافوا هذه الأفعال إلى أنفسهم، فلو كانت أفعالاً لله - تعالى - لما حسن التمدُّح بذلك، ولا فضل لذلك على سفك الدماء؛ إذ كل ذلك من فعل الله تعالى. وثانيها: إذا كان لا فاحشة، ولا ظُلْم، ولا وجود إلاّ بصنعه وخلقه ومشيئته، فكيف يصح التنزيه والتقديس؟ وثالثها: أن قوله: «أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» يدلّ على مذهب العَدْلِ، لأنه لو كان خالقاً للكفر لكان خلقهم لذلك الكفر، فكان ينبغي أن يكون الجواب نعم خلقهم ليفسدوا وليقتلوا، فلما لم يَرْضَ بهذا الجواب سقط هذا المذهب. ورابعها: لو كان الفساد والقَتْلُ من فعل الله - تعالى - لكان ذلك جارياً مجرى أجسامهم، وألوانهم، وكما لا يصح التعجُّب من هذه الأشياء، فكا من الفساد والقتل. والجواب: المُعَارضة بمسألة الداعي والعلم، والله أعلم. قوله: " إني أعلم ما لا تعلمون ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 أصل «إنّي» : فاجتمع ثلاثة أمثال، فحذفنا أحدها، وهل هو «نون» الوقاية، أو «النون» الوسطى؟ قولان: الصحيح الثاني، وهذا شبيه بما تقدم في {إِنَّا مَعَكْمْ} [البقرة: 14] وبابه، والجملة في محل نَصْب بالقول. و «أعلم» يجوز فيه أن يكون فعلاً مضارعاً، وهو الظاهر، و «ما» مفعول به، وهي: إما نكرة موصوفة أو موصولة، وعلى كل تقدير، فالعائد محذوف لاستكماله الشروط: أي: تعلمونه. وقال «المهدي، ومكّيّ: وتبعهما» أبو البقاء «: إن» أعلم «اسم بمعنى» عالم «؛ كقوله: [الطويل] 367 - لَعَمْرُكَ مَا أَدْرِي وإنّي لأَوْجَلُ ... عَلَى أَيِّنَا تَعْدُو المَنِيَّةُ أَوَّلُ ف» ما «يجوز فيها أن تكون في محلّ جر بالإضافة، أو نصب ب» أعلم «، ولم ينون» أعلم «لعدم انصرافه بإجماع النحاة. واختلفوا في أفعل إذا سمي به وكان نكرة، فسيبويه والخليل لا يصرفانه، والأخفش يصرفه نحو:» هؤلاء حَوَاجّ بيت الله «. وهذا مبني على أصلين ضعيفين: أحدهما: جعل» أفعل «بمعنى» فاعل «من غير تفضيل. والثاني: أن» أفعل «إذا كانت بمعنى اسم الفاعل علمت عمله، والجمهور لا يثبتونها. وقيل:» أعلم «على بابها من كونها للتفضيل، والمفضل عليه محذوف، أي: اعلم منكم، و» ما «منصوبة بفعل محذوف دلّ عليه» أفعل «أي: علمت ما لا تعلمون، ولا جائز أن ينصب ب» أفعل «التفضيل؛ لأنه أضعف من الصفة المشبّهة التي هي أضعف من اسم الفاعل الذي هو أضعف من الفِعْلِ في العمل، وهذا يكون نظير ما أوّلوه من قول الشاعر: [الطويل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 368 - فَلَمْ أَرَ مِثْلَ الحَيِّ حَيَّاً مُصَبِّحاً ... وَلاَ مِثْلَنَا يَوْمَ الْتَقِيْنَا فَوَارِسَا أَكَرَّ وأَحْمَى لِلْحَقِيقَةِ مِنْهُمُ ... وَأَضَرَبَ مِنَّا بالسُّيُوف القَوَانِسَا ف «القَوَانِس» منصوب بفعل مقدر أي: ب «ضرب» لا ب «أضرب» ، وفي ادعاء مثل ذلك في الآية الكريمة بعد الحَذْفِ يتبيّن المفضل عليه، والناصب ل «ما» . فصل في بيان علام الجواب في الآية اختلف علماء التأويل في هذا الجواب وهو قوله: «إِنَّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ» فقيل: إنه جواب لتعجّبهم، كأنه قال: لا تتعجّبوا من أن فيهم من يفسد، ويقتل، فإني أعلم مع هذا أن فيهم صالحين، ومتّقين، وأنتم لا تعلمون. وقيل: إنه جواب لغمّهم كأنه قال: لا تغتمّوا بسبب وجود المفسدين، فإني أعلم أيضاً أن فيهم جمعاً من المتّقين، ومن لو أقسم على لأبرّه. وقيل: إنه طلب الحكمة كأنه قال: إن مصلحتكم أن تعر فرا وجه الحكمة فيه على الإجمال دون التفصيل. بل ربما كان ذلك التفصيل مفسدة لكم. وقال «ابن عباس» : كان «إبليس» - لعنة الله - قد أعجب ودخله الكِبَرُ لما جعله خازن السّماء، وشرفه، فاعتقد أن ذلك لمزيّةٍ له، فاستحب الكفر والمعصية في جانب آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقالت الملائكة: «ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك» ، وهي لا تعلم أن في نفس إبليس خلاف ذلك، فقال الله لهم: «إني أعلم ما لا تَعْلَمُونَ» ، وقيل: المعنى عام، أي: أعلم ما لا تعلمون مما كان، وما يكون، وما هو كائن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 اعلم أن الملائكة لما سألوا عن وجه الحكمة، فأجابهم على سبيل الإجمال بقوله: «إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُون» . أراد الله تعالى أن يزيدهم بياناً، وأن يفصّل لهم ذاك المُجْمَل، فبين تعالى لهم من فضل آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما لم يكن معلوماً لهم، وذلك بأن علم آدم الأسماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 كلها، ثم عرضهم عليهم ليظهر بذلك كَمَال فَضْلِه، وقُصُورهم عنه في العلم، فيتأكّد ذلك الجواب الإجمالي بهذا الجواب التفصيلي. فصل في إعراب الآية قوله: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسمَاء» هذه الجملة يجوز ألاَّ يكون لها مَحَلّ من الإعراب، لاستئنافها، وأن يكون محلها الجر، لعطفها على «قَالَ رَبُّكَ» . و «علم» متعدّية إلى اثنين، وكانت قبل التضعيف متعديةً لواحد؛ لأنها عرفانية، فتعدّت بالتضعيف لآخر، وفرقوا بين «علم» العِرْفَانية واليَقِينيّة في التعدية، فإن أرادوا أن يعدوا اليقينية عدوها بالهمزة ذكر ذلك «أبو علي الشّلوبين» . وفاعل «علم» يعود على الباري تَعَالى، و «آدم» مفعوله. وآدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كُنيته أبو البَشَر، وقيل: أبو محمد ذكره السُّهيلي، وقيل: كنيته في الأرض أبو البشر، وكنيته في الجنة أبو محمد. وأصله بهمزتين، لأنه «أفعل» إلا أنهم لَيَّنُوا الثانية، فإذا احتجت إلى تحريكها جعلتها «واواً» فقلت: «أوادم» في الجمع؛ لأنه ليس لها أصل في الياء معروف، فجعلت الغالب عليها الواو، عن «الأخفش» . وفي «آدم» ستة أقوال: أرجحها أنه اسم أعجمي لا اشتقاق فيه، ووزنه «فَاعَلَ» كَنَظَائره نحو: «آزر» و «شالخ» ، وإنّما مُنعَ من الصَّرف للعلمية والعُجْمة الشخصية. والثاني: أنه مشتقٌّ من «الأُدْمَةِ» ، وهي حُمْرَةٌ تميل إلى السَّوَاد، واختلفوا في الأُدْمَةِ، فزعم «الضَّحاك» أنها السُّمرة، وزعم «النَّضْر» أنها البياض، وأن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان أبيض، مأخوذ من قولهم: ناقة أَدْمَاء، إذا كانت بيضاء، وعلى هذا الاشتقاق جمعه «أَدْمٌ» و «أَوَادِمُ» ك «حُمَرٍ: و» أَحَامِرَ «، ولا ينصرف بوجه. الثالث: أنه مشتقٌ من أديم الأرض، وهو وجهها. ومنع من الصَّرف على هَذَيْنِ القولين للوزن والعلميّة. الرابع: أنه مشتقٌ من أَدِيم أيضاً على هذا الوزن أعني وزن فاعل، وهذا خطأ، لأنه كان يبنغي أن ينصرف، لأن كونه مشتقٌّ من الأُدْمَة، وهو أديم الأرض جمعه» آدَمُون «فيلزم قاشلو هذه المقالة صرفه. الخامس: أنه عِبْرِيّ من الإدام، وهو التراب. السّادس: قال» الطبري «: إنه في الأصل فعل رباعي مثل:» أكرم «، وسمي به لغرض إظهار الشيء حتى تعرف جِهَته. والحاصل أن ادّعاء الاشتقاق فيه بعيد؛ لأن الأسماء الأعجمية لا يَدْخُلُهَا اشتقاق ولا تصريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 و «آدم» وإن كان مفعولاً لفظاً فهو فاعل معنى، و «الأسماء» مفعول ثانٍ، والمسألة من باب «أعطى وكَسَا» ، وله أحكام تأتي إن شاء الله تعالى. وقرئ: «عُلَِمَ» مبنياً للمفعول و «آدمُ» رفع لقيامه مقام الفاعل. و «كُلَّهَا» تأكيد للأسماء تابع أبداً، وقد يلي العوامل كما تقدّم. وقوله: «الأَسْمَاءَ كُلَّهَا» الظاهر أنه لا يحتاج إلى ادِّعَاء حذف؛ لأن المعنى: وعلم آدم الأسماء، ولم يبين لنا أسماء مخصوصة، بل دلّ قوله: «كلها» على الشُّمول، والحكمة حاصلة بتعلُّم الأسماء، وإن لم يعلم مسمياتها، أو يكون أطلق الأسماء، وأراد المسميات، فَعَلَى هذين الوجهين لا حَذْفَ. وقيل: ى بُدّ من حذف، واختلفوا فيه، فقيل: تقديره: أسماء المسميات، فحذف المُضاف إليه للعلم. قال الزمخشري: وعوض منه «اللام» ، كقوله تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] ورجّح هذا القول بقوله: «أَنْبِئُونِي بأَسْمَاءِ هَؤلاَءِ» ، «فَلَمَا أَنْبَأَهَمْ بَأَسْمَائِهِمْ» ولم يقل: «أَنْبِئُونِي بِهَؤُلاَءِ» ، «فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِهِمْ» ولكن في قوله «وعوض منه اللام» نظر؛ لأن الألف واللام لا تقوم مَقَامَ الإضافة عند البصريين. وقيل: تقديره: مسميات الأسماء، فحذف المُضاف، وأقيم المُضَاف إليه مقامه، ورجح هذا القول بقوله: «ثُمَ عَرَضَهُمْ» لأن الأسماء لا تجمع كذلك، فدلّ عوده على المسميات، ونحو هذه الآية قوله تعالى: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ} [النور: 40] . تقديره: أو كَذِي ظُلُمَاتٍ، فالهاء في «يغشاه» على «ذي» المحذوف. فصل في المراد بالأسماء في الآية اختلف أهل التأويل في معنى الأسماء التي علّمها لآدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقال ابن عباس، وعكرمه، وقتادة، ومجاهد، وابن جبير: علمه أسماء جميع الأشياء كلّها جليلها وحقيرها. وروى عاصم بن كليب عن سعد مولى الحَسَنِ بن علي قال: «كنت جالساً عند ابن عباس، فكروا اسْمَ الآنِيَةِ وَاسْمَ السّوط، قال ابن عباس: وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا» . وروي عن ابن عبَّاس، ومجاهد، وقتادة: «علمه أسماء كلّ شيء حتى القصْعَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 والقصيعة وحتى الجَفنة والمِخْلب» وعن قتادة قال: علم آدم من الأسماء أسماء خلقه ما لم تعلم المَلائكة، وسمى كل شيء باسمه، وأنحى منفعة كل شيء إلى جنسه. قال النَّحَّاس: «وهذا أحسن ما روي» . وقال الطبري «علمه أسماء الملائكة وذريّته» واختار هذا، ورجّحه بقوله: «ثم عرضهم» . وقال القتيبي «أسماء ما خلق في الأرض» . وقيل: أسماء الأجناس والأنواع. وقال الربيع بن أنس: «أسماء الملائكة» . وقيل: أسماء ذريّته. وقيل: أسماء ما كان وما يكون إلى يوم القيامة. وقيل: صنعة كلّ شيء. وقال أصحاب التأويل: إن الله - عزّ وَجَلّ - علم آدم جميع اللُّغات، ثم تكلم كل واحد من أولاده بلغة فتفرقوا في البلاد، واختص كل فرقة منهم بِلُغةٍ. فصل في بيان أن اللغات توقيفية أو اصطلاحية؟ قال «الأشعري» و «الجبائي» و «الكعبي» : اللُّغات كلها توفيقيةٌ، بمعنى أن الله تعالى خلق علماً ضرورياً بتلك الألفاظ، وتلك المعاني، وبأن تلك الألفاظ موضوعةٌ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 لتلك المعاني: لقوله تعالى: «وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 وقال «أبو هاشم» : إنه لا بد من تقدم لغة اصطلاحية، وأن الوضع لا بد وأن يكون مسبوقاً على الاصطلاح، واحتج بأمور: أحدها: أنه لو حصل العلم الضروري بأنه - تعالى - وضع ذلك اللَّفظ لذلك المَعْنَى لصارت صفةُ الله معلومةً بالضرورة، مع أن ذاته معلومة بالاستدلال، وذلك مُحَال، ولا جائز أن يحصل لغير العاقل، لأنه يبعد في العقول أن يحصل العلم بهذه اللُّغَات مع ما فيها من الحكم العجيبة لغير العاقل، فالقول بالتوقيف فاسد. وثانيعا: أنه - تعالى - خاطب الملائكة، وذلك يوجب تقدُّم لغة على ذلك التكلم. وثالثها: أن قوله: «وَعَلَّم آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا» يقتضي إضافة التعليم إلى الأسماء، وذلك يقتضي في تلك الأسماء أنها كانت أسماء قبل ذلك التَّعليم، وإذا كان كذلك كانت اللُّغات حاصلةٌ قبل ذلك التعليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 ورابعها: أن آدم - عليه الصَّلاة والسلام - لما تَحَدَّى الملائكة بعلم الأسماء، فلا بد وأن تعلم الملائكة كونه صادقاً في تعيين تلك الأسماء لتلك المسميات على ذلك التعليم. فصل في بيان هل كان آدم نبياً قبل المعصية؟ قالت المعتزلة: إن علم آدم الأسماء معجزة دالّة على نبوّته - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والأقرب أنه كان مبعوثاً إلى حَوّاء، ولا يبعد أيضاً أن يكون إلى من توجّه التحدي إليهم من الملائكة؛ لأن جميعهم وإن كانوا رسلاً فقد يجوز الإرْسَال إلى الرسول، كبعثة إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى لُوطٍ - عليه الصلاة والسّلام - واحتجوا بأن حصول ذلك العلم له ناقصٌ للعادة، فوجب أن يكون معجزاً، وإذا ثبت كونه معجزاً ثبت كونه رسولاً في ذلك الوقت. ولقائل أن يقول: لا نسلم أن ذلك العلم ناقص للعادة؛ لأن حصول العلم باللُّغة لمن علمه الله، وعدم حصوله لمن لم يعلمه ليس بناقصٍ للعادة. وأيضاً فإما أن يقال: الملائكة علموا كون تلك الأسماء موضوعةً لتلك المسميات، فحينئذ تحصل المُعَارضة، ولا تظهر المزية، وإن لم يعلموا ذلك، فكيف عرفوا أن آدم أصاب فيما ذكر من كون كلّ واحد من تلك الألفاظ اسماً لكل واحد من تلك المعاني؟ واعلم أنه يمكن دفع هذا السُّؤال من وجهين: الأول: ربّما كان لكل صِنْفٍ من أصناف الملائكة لغة من هذه اللغات، وكان كل صنف جاهلاً بلغة الصنف الآخر، ثم إن جميع أصناف الملائكة حضروا وإن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما عَدّ عليهم جميع تلك اللُغات بأسرها عرف كل صنف إصابته في تلك اللُّغة خاصّة، فعرفوا بهذه الطريق صدقة إلاَّ انهم بأسرهم عجزوا عن معرفة تلك اللغات بأسرها، فكان ذلك معجزاً. الثَّاني: لا يمتنع أن يقال: إنه - تعالى - عرفهم قبل ذلك أنهم إذا سمعوا من آدم - عليه الصلاة والسَّلام - أظهر فعلاً خارقاً للعادة، فَلِمَ لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات أو من باب الإرهاص؟ وهما عندنا جائزان. واحتج من قطع بأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان نبياً في ذلك الوَقْتِ بوجوه: أحدها: أنه لو كان نبياً في ذلك الزمان لكان قد صدرت منه المعصية بعد النبوة، وذلك غير جائز. وثانيها: لو كان رسولاً في ذلك الوقت لكان إما أن يكون مبعوثاً إلى أحد، أو لا يكون مبعوثاً إلى أحد، وإما أن يكون مبعوثاً إلى الملائكة والإنس والجن، والأوَّل باطل، لأن الملائكة عند المعتزلة أفضل من البشر، ولا يجوز جعل الأدون رسولاً إلى الأشرف؛ لأن الرسول متبوع، والأمّة تبع، وجعل الأدون متبوع الأشرف خلاف الأصل، وأيضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 فالمرء إلى قبول القول ممن هو من جنسه أمكن، ولهذا قال الله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام: 9] ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى البشر، لأنه ما كان هناك أحد من البشر إلا حَوّاء، وحواء ما عرفت التكليف إلا بواسطة آدم لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} [البقرة: 35] شافههما بهذا التكليف، وما جعل آدم واسطة، ولا جائز أن يكون مبعوثاً إلى الجن؛ لأنه ما كان في السماء أحد من الجنّ، ولا جائز أيضاً أن يكون مبعوثاً إلى أحد، لأن المقصود من جعله رسولاً التبليغ، فحيث لا مبلغ لم يكن في جعله رسولاً فائدة. وثالثها: قوله تعالى: {ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ} [طه: 122] دليل على أنه إنما اجتباه ربه بعد الزّلة، فوجب أن يكون قبل الزِّلة غير مجتبي، وإذا لم يكن ذلك الوقت مجتبي وجب ألا يكون رسولاً؛ لأن الاجتباء والرسالة مُتَلاَزمان، لأن الاجتباء لا مَعْنَى له إلاّ التخصيص بأنواع التشريفات، وكل من جعله الله رسولاً، فقد خصّه بذلك لقوله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] . قوله: «ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى المَلاَئِكَةِ» . «ثم» : حرف للتَّرَاخي كما تقدّم، والضَّمير في «عَرَضَهُمْ» للمسميات المقدّرة، أو لإطلاق الأسماء وإرادة المسميات، كما تقدم. وقيل: يعود على الأسماء. ونقل عن ابن عباس، ويؤيده قراءة أُبيّ «عَرَضَهَا» ، وقراءة ابن مسعود: «عَرَضَهُنَّ» إلا أن في هذا القول جعل ضمير غير العقلاء كضمير العقلاء أو نقول: إنما قال ابن عباس ذلك بناء منه أنه أطلق الأسماء، وأراد المسميات كما تقدم وهو واضح. و «عَلَى المَلاَئِكَةِ» متعلّق ب «عَرَضَهُمْ» . قال ابن مسعود وغيره: عرض الأشخاص، لقوله تعالى: «عَرَضَهُمْ» وقوله: «أَنْبِئُونِي لأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ» . وفي الحديث: «إنَّه عَرَضَهُمْ أَمْثَالَ الذَّرِّ» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 وقال ابن عباس وغيره: عرض الأسماء. فصل في بيان أول من تكلم بالعربية اختلف في أوَل من تكلم بالعربية. روى كعب الأحبار: أن أول من وضع الكتاب العربي والسّرياني والكتب كلها، وتكلم بالألسنة كلها آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. فإن قيل: روى ثور بن يزيد عن خَالِدِ بن مَعْدَان عن كعب قال: أوّل من تكلّم بالعربية جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهو الذي أَلْقَاهَا على لسان نُوحٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وألقاها نوح على لسان ابنه سَام. وقال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَعَلمً آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا حَتَّى القَصْعَة والقُصَيْعَة» وما ذكروه يحتمل أن يكون المراد به أول من تكلّم بالعربية من ولد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إسماعيل عليه الصلاة والسَّلام، وكذلك إن صَحّ ما سواه فإنه يكون محمولاً على أن المذكور أول من تكلّم من قبيلته بالعربية. وكذلك جبريل أول من تكلم بها من الملائكة، وألقاها على لسان بعد أن علمها الله آدم أو جبريل، على ما تقدم. قوله: «أَنْبِئُونِي بأَسْمَاءِ هَؤُلاَءِ» . «الإِنْبَاء» الإخبار، وأصل أنبأ أن يتعدّى لاثنين ثانيهما بحرف الجر كهذه الآية، وقد يحذف حرف الجر، قال تعالى: {مَنْ أَنبَأَكَ هذا} [التحريم: 3] أي: بهذا، وقد يتضمّن معنى أعلم اليقينية، فيتعدّى تعديتها إلى ثلاثة مَفَاعيل، ومثل أنبأ: نبّأ وأخبر، وخبر وحدث. و «هؤلاء» في محل خفض بالإضافة، وهو اسم إشارة، ورتبته دُنْيَا، ويُمَدُّ وَيُقْصَرُ؛ كقوله: [الخفيف] 369 - هَؤُلَى ثُمَّ كُلاًّ اعْطَيْ ... تَ نِعَالاً مَحْذُوَّةً بِمِثَالِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 والمشهورة بناؤه على الكَسْرِ، وقد يضم، وقد ينوِّن مكسوراً، وقد تبدل همزته هاء، فيقال: هؤُلاَه، وقد يقال: هَوْلاءِ؛ كقوله: [الوافر] 370 - تَجَلَّدْ لاَ يَقُلْ هَؤْلاَءِ: هَذَا ... بَكَى لَمَّا بَكَى أَسَفاً عَلَيِكَا ولامه عند الفارسي همزة فتكون فاؤه ولامه من مادّة واحدة، وعند المبرد أصلها ياء، وإنما قلبت همزةً لتطرفها بعد الألف الزَّائدة. قوله: «إنْ كُنْتُمْ صَادِقِيْنَ» تقدّم نظيره وجوابه محذوف أي: إنْ كُنتم صادقين، فأنبئوني. والكوفيين والمبرد يرون أن الجواب هو المتقدم، وهو مردود بقولهم: «أنت ظالم إن فعلت» لأنه لو كان جواباً لوجبت الفاء معه كما تجب معه متاخراً. وقال ابن عطية: إن كون الجواب مَحْذوفاً هو رأي المبرد، وكونه متقدماً هو رأي سيبويه، وهو وهم؛ لأن المنقول عن المبرد أن التقدير: إن كنتم صادقين أن بني آدم يفسدون في الأرض فأنبئوني. وهذه الآية دالة على فضيلة العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 «سبحان» : اسم مصدر، وهو التسبيح، وقيل: بل هو مصدر؛ أنه سمع له فعلٌ ثلاثيٌّ، وهو من الأسماء اللاَّزمة للإضافة، وقد بفرد، وإذا أفرد، منع الصَّرف للتعريف، وزيادة الألف والنون؛ كقوله: [السريع] 371 - أَقُولُ أَمَّا جَاءَنِي فَخْرُهُ ... سُبحَانَ ... ... ... ... ... ... ... ... ... . وَقَدْ جَاءَ مُنَوَّناً كقوله: [البسيط] 372 - سُبْحَانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً نَعُوذُ بِهِ ... وَقَبْلَنَا سَبَّحَ الْجُودِيُّ وَالْجُمُدُ فقيل: صرف ضرورة. وقيل: هو بمنزلة «قَبْلُ» و «بعدُ» أن نوي تعريفه بقي على حاله، وإن نكر اعرب منصرفاً، وهذا البيت يساعد على كونه مصدراً لا اسم مصدر، لوروده منصرفاً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 ولقائل القول الأول أن يجيب عنه بأن هذا نكرة لا معرفة، وهو من الأسماء اللازم النصب على المصدرية، فلا ينصرف والناصب له فعل مقدر لا يجوز إظْهاره، وقد روي عن الكَسائِيّ أنه جعله مُنَادَى تقديره: يا سُبْحَانَك ومنعه جمهور النحويين وإضافته - هُنا - إلى المفعول؛ لأن المعنى: نسبحك نحن. وقيل: بل إضافته للفاعل، والمعنى تنزّهت وتباعدت من السُّوء. وسبحانك العامل فيه في مَحَلّ نصب بالقول. قوله: «لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا» كقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} و «إلاّ» حرف استثناء، و «ما» موصولة، و «علمتنا» صلتها، وعائدها محذوف، على أن يكون «علم» بمعنى «معلوم» ، ويجوز أن تكون مصدرية، وهي في محلّ نصب على الاستثناء، ولا يجوز أن تكون منصوبةً بالعلم الذي هو اسم «لا» ؛ لأنه إذا عمل كان معرباً. وقيل: في محلّ رفع على البَدَل من اسم «لا» على الموضع. وقال ابن عطية: هو بدلٌ من خبر التبرئة كقولهم: «لا إله إلا الله» ، وفيه نظر؛ لأن الاستثناء إنَّمَا هو من المحكوم عليه بقيد الحكم لا من المحكوم به. ونقل هو عن «الزَهراوي» أن «ما» منصوبةٌ ب «علمتنا» بعدها، وهذا غير معقول؛ لأنه كيف ينتصب الموصول بصلته وتعمل فيه؟ قال أبو حيان: إلاّ أن يتكلّف له وجه بعيد، وهو أن يكون استثناء منقطعاً بمعنى لكن، وتكون «ما» شرطية، و «علمتنا» ناصب لها، وهو في محل جزم بها، والجواب محذوف، والتقدير: «لكن ما علمتنا علمناه» . فصل الضمير يحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون تأكيداً لاسم «إنَّ» فيكون منصوب المحل، وأن يكون مبتدأ، وخبره ما بعده، والجملة خبر «إنَّ» ، وأن يكون فصلاً، وفيه الخلاف المشهور. وهل له محل من الإعراب أم لا؟ وإذا قيل: إن له محلاًّ، فهل بإعراب ما قبله كما قال الفراء، فيكون في محل نصب، أو بإعراب ما بعده فيكون في محل رفع كقول الكسائي؟ قوله: «الحكيم» خير ثانٍ أو صفة «العليم» ، وهما «فعيل» بمعنى «فاعل» وفيهما من المُبالغة ما ليس فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 و «الحكيم» لغة: الإتقان، والمنع من الخروج عن الإرادة، ومنه حَكَمَةُ الدابة؛ وقال جَرِيرٌ «: [الكامل] 373 - أَبَنِي حَنِيفَةَ أَحْكِمُوا سُفَهَاءَكُمْ ... إنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمُ أَنْ أَغْضَبَا وقدم» العليم «على» الحكيم «؛ لأنه هو المتّصل به في قوله:» وعلم «، وقوله:» وعلم «، وقوله:» لا عِلْمَ لنا «فناسب اتصاله به؛ ولأن الحِكْمَةَ ناشئةٌ عن العلم وأثر له، وكثيراً ما تقدّم صفة العلم عليها. والحكيم صفةٌ ذاتٍ إن فسر بذي الحِكْمَةِ، وصفة فعل إن فسر بأنه المحكم لصنعته فكأن الملائكة قالت: أنت العالم بكل المعلومات، فأمكنك تعليم آدم، وأنت الحكيم في هذا الفعل المصيب فيه. وعن» ابن عباس «أن مراد الملائكة من» الحكيم «أنه هو الذي حكم بجعل آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - خليفةً في الأرض. فصل احتج أهل الإسلام بهذه الآية على أنه لا سَبِيْلَ إلى معرفة المغيبات إلا بتعليم الله - تعالى - وأنه لا يمكن التوصُّل إليها بعلم النجوم والكهانة، ونظيره قوله تعالى: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] وقوله: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً} [الجن: 26] . قوله:» يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بأسْمَائِهِمْ «. آدم: مبني على الضم؛ لأنه مفرد معرفة، وكل ما كان كذلك بُني على ما كان يرفع به، وهو في محل نصب لوقوعه موقع المَفْعول به، فإن تقديره: ادعوا آدم، وبني لوقوعه موقع المُضْمَرِ، والأصل: يا إياك كقولهم:» يَا قَدْ كَفَيْتُكَ «، و» يا أَنْتَ «؛ كقوله [الرجز] 374 - يَا أَبْجَرُ بْنُ أَبْجَرٍ يَا أَنْتَا ... أَنْتَ الَّذِي طَلَّقْتَ عَامَ جُعْتَا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ وَقَدْ أَسَأْتَا ... و» يَا إِيَّاكَ «أقيس من» يا أنت «؛ لأن الموضع موضع نصب، ف» إياك «أليق به، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 وتحرزت بالمفرد عن المضاف نحو: يا عبد الله، ومن الشبيه به، وهو عبارة عما كان الثَّانِي فيه من تمام معنى الأوّل نحو:» يا خيراً من زيد «و» يا ثلاثةً وثلاثين «، وبالمعرفة من النكرة المقصودة؛ نحو قوله: [الطويل] 375 - فَيا إِمَّا رَاكِباً إِمَّا عَرَضْتَ فَبَلَغَنْ ... نَدَامَاي مِنْ نَجْرَانَ أَنْ لاَ تَلاَقيَا فإن هذه الأنواع الثلاثة معربة نصباً. » أنبئهم «فعل أمر، وفاعل، ومفعول، والمشهور» أنبئهم «مهموز مضموماً، وقرئ بكسر الهاء. ويروى عن» ابن عامر «، كأنه أتبع الهاء لحركة» الباء «، ولم يعتد ب» الهمزة «، لأنها ساكنةٌ، فهي حاجز غير حَصِيْنٍ. وقرئ بحذف الهمزة، ورُويت عن «ابن كثير» ، قال «ابن جنّيّ» هذا على إبدال الهمزة ياء، كما تقول: أنبيت كأعطيت، قال: وهذا ضعيف في اللّغة؛ لأنه بدلٌ لا تخفيف، والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر. وهذا من أبي الفَتْحِ غيرِ مرضٍ، لأن البدل جاء في سَعَة الكلام، حكى «الأخفش» في «الأوسط» أنهم يقولون في أَخْطَأَت: أَخْطَيْت، وفي توضأت: توضيت. قال: وربما حَرَّكوه إلى «الواو» ، وهذا قليل قالوا: «رَفَوْت» في «رَفَأْت» ، ولم أسمع «رَفَيْت» . إذا تقرر ذلك، فللنحويين في صرف العلّة المبدل من الهمزة نظر في أنه هل يجرى مجرى العلّة الأصلي أم ينظر إلى أصله؟ ورتبوا على ذلك أحكاماً، ومن جملتها: هل يحذف جزماً كالحرف غير المبدل أم لا نظراً إلى أصله؟ واستدل بعضهم على حذفه جزماً بقول زهير: [الطويل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 376 - جَرِيءٍ مَتَى يُظْلَمُ ... يُعَاقِبْ سَرِيعاً وإلاَّ يُبْدَ بِالظُّلْمِ يَظْلِمِ لأن أصله: «يبدأ» بالهمزة، فكذلك هذه الآية أُبدلت الهمزة ياء، ثم حذفت حملاً للأمر على المجزوم. وقرئ: «أَنْبِهُمْ» بإثبات «الياء» نظراً إلى «الهمزة» وهل تضم «الهاء» نظراً للأصل أم تكسر نظراً للصورة؟ وجهان منقولان عن حمزة «عند الوقف عليه. و» بِأَسْمَائِهِمْ «: متعلّق ب» أَنْبِئْهُمْ «، وهو المفعول الثاني كما تَقَدَّم، وقد يتعدّى ب» عن «نحو:» أنبأته عن حاله «، وأما تعديته ب» من «في قوله: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} [التوبة: 94] فسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. قوله:» فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ: أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمواتِ وَالأرْضِ «. والمراد من هذا الغيب أنه كان عالماًَ بأحوال آدم قبل نطقه، وهذا يدل على أنه سبحانه يعلم الأشياء قبل حدوثها، وذلك يدلّ على بطلان مذهب» هشام بن الحكم «في أنه لا يعلم الأشياء إلاَّ عند وقوعها، فإن قيل: قوله:» الَّذِيْنَ يُؤْمِنُونَ بالغَيْبِ «يدلّ على أنّ العبد قد يعلم الغيب؛ لأن الإيمان بالشَّيء فرع العلم به، وهذا الآية مشعرة بأن علم الغيب ليس إلا لله تعالى، وأن كل من سواه فهم خالُونَ عن علم الغيب. والجواب: ما تقدم في قوله: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3] . قوله:» قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ «» قال «جواب» فلما «، والهمزة للتقرير إذا دخلت على تفي تقرير قررته، فيصير إثباتاً كقوله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} [الشرح: 1] أي: قد شرحنا. و» لم «حرف جزم، و» أقل «: مجزوم بها حذفت عينه، وهي» الواو «لالتقاء الساكنين، و» لكم «متعلّق به، و» اللام «للتبليغ، والجُمْلَة من قوله:» إني أعلم «في محلّ نصب بالقول. وقد تقدم نظائر هذا التركيب. قوله: «وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ» كقوله «أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ» من كون «أعلم» فعلاً مضارعاً، و «أفعل» بمعنى «فاعل» أو «أفعل» تفضيل، وكون ما في محلّ نصب أو جر، وقد تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 والظاهر: أن جملة قوله: «وأعلم» معطوفة على قوله: «إنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ» ، فتكون في محلّ نصب بالقول. وقال «أبو البقاء» : إنه مستأنف، وليس محكياً بالقول: ثم جوَّز فيه ذلك. و «تبدون» وزنه: «تفعون» ؛ لأن أصله: تبدوون مِثْل: تخرجون، فأعلّ بحذف «الواو» بعد سكونها، و «الإبداء» : الإظهار، و «الكَتْم» الإخفاء؛ يقال: بَدَا يَبْدُو بَدَاء؛ قال: [الطويل] 377 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... بَدَا فشي تِلْكَ القَلُوصِ بَدَاءُ وقوله: «وَمَا كُنْتُمْ تَكْتَمونَ» عطف على «ما» الأول بحسب ما تكون عليه من الإعراب. روي عن ابن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن جبير: أن قوله: «ما تُبْدُون» أراد به قولهم: «أَتَجْعَلُ فِيْهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيْهَا» وبقوله: «وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُون» أراد به ما أسر «إبليس» في نفسه من الكبر وألاَّ يسجد. قال «ابن عطية» : وجاء «تكتمون» للجماعة، والكاتم واحدٌ في هذا القول على تجوّز العرب واتِّسَاعها، كما يقال لقوم قد جَنَى مهم واحد: أنتم فعلتم كذا، أي: منكم فاعله، وهذا مع قَصْد تعنيف، ومنه قوله: {إَنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات} [الحجرات: 4] وإنما ناداه منهم عُيَيْنَةُ. وقيل: «إنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ» من الأمور الغائبة، والأسرار الخفية التي يظن في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 الظاهر أنه لا مصلحة فيها، ولكن لعلمي بالأسرار المغيبة أعلم أنّ المصلحة في خلقها. وقيل إنه - تعالى - لما خلق آدم رأت الملائكة خلقاً عجيباً قالوا: ليكن ما شاء فلن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أكرم عليه منه، فهذا الذي كَتَمُوا، ويجوز أن يكون هذا القول سرًّا أسروه بينهم، فأبداه بعضهم لبعض، وأسروه عن غيرهم، فكان في هذا الفعل الواحد إبداء وكتمان. وقالت طائفة: الإبْدَاء والكَتْم المراد به العموم في معرفة أسرارهم وظواهرهم أجمع، وهذه الآية تدلّ على فضيلة العلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 العامل في «إذ» محذوف دلّ عليه قوله: «فَسَجَدُوا» تقديره: أطاعوا وانقادوا، فسجدوا؛ لأن السجود ناشئ عن الانقياد. وقيل: العامل «اذكر» مقدراً. وقيل: زائدة وقد تقدّم ضعف هذين القولين. وقال «ابن عطية» : «وإذ قلنا» معطوف على «إذ» المتقدمة، ولا يصحّ هذا لاختلاف الوقتين. وقيل: «إذ» بدل من «إذ» الولى، ولا يصحّ لما تقدّم، ولتوسّط حرف العَطْف، وجملة «قلنا» في محل خَفْضٍ بالظرف، ومنه التفات من الغيبة إلى التكلُّم للعظمة، و «اللام» للتَّبليغ كنظائرها. والشمهور جَرّ تاء «الملائكة» بالحَرْف «، وقرأ» أبو جعفر «بالضم إتباعاً لضمة» الجيم «ولم يعتد بالسَّاكن، وغلّطه الزَّجاج وخطأه الفارسي، وشبهه بعضهم بقوله تعالى: {وَقَالَتِ اخرج} [يوسف: 31] بضم تاء التأنيث، وليس بصحيح، لأن تلك حركة التقاء الساكنين، وهذه حركة إعراب، فلا يتلاعب بها، والمقصود هناك يحصل بأي حركة كانت. وقال الزمخشري: لا يجوز استهلاك الحركة استهلاك الإعرابية إلاّ في لغة ضعيفة كقراءة {الحمد للَّهِ} [الفاتحة: 2] يعني بكسر الدال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 قال الشيخ» شهاب الدين «: وهذا أكثر شذوذاً، وأضعف من ذاك مع ما في ذاك من الضَّعف المتقدم؛ لأن - هناك - فاصلاً، وإن كان ساكناً. وقال» أبو البقاء «: وهي قراءة ضعيفة جدًّا، وأحسن ما تحمل عليه أن يكون الرَّاوي لم يضبط عن [القارئ] أشار إلَى الضَّم تنبيهاً على أنّ الهمزة المحذوفة مضمومةٌ في الابتداء، فلم يدرك الراوي هذه الإشارة، وقيل: إنه نَوَى الوَقْفَ على» التَّاء «ساكنة، ثم حركها بالضم إتباعاً لحركة الجيم، وهذا من إجراء الوصل مجرى الوَقْفِ. ومثله ما روي عن امرأة رأت رجلاً مع نساء، فقالت:» أفي السَّوتَنْتُنَّهْ «- نوت الوقف على» سوءة «، فسكنت التاء، ثم ألقت عليها حركة همزة» أنتن «فعلى هذا تكون هذه حركة السَّاكنين، وحينئذ تكون كقوله:» قَالَتُ: أخْرُجْ «وبابه، وإنما أكثر الناس توجيه هذه القراءة لجلالة قارئها أبي جعفر يزيد بن القَعْقَاع شيخ نافع شيخ أهل» المدينة «وترجمتها مشهورة. و» اسجدوا «في محل نصب بالقول، و» اللام «في» لآدم «الظَّاهر أنها متعلّقة ب» اسجدوا «، ومعناها التعليل، أي: لأجله. وقيل: بمعنى» إلى «أي: إلى [جهته له] جعله قبلة لهم، والسجود لله. وقيل: بمعنى مع، لأنه كان إمامهم كذا نقل. وقيل: اللاَّم للبيان فتتعلّق بمحذوف، ولا حاجة إلى ذلك. و» فسجدوا «الفاء للتعقيب، والتقدير: فسجدوا له، فحذف الجار للعلم به، والسُّجود لغة: التذلَّل والخضوع، وغايته وضع الجَبْهَةِ على الأرض، وقال» ابن السكيت «:» هو الميل «، قال:» زيد الخيل «: [الطويل] 378 - بِجَمْعٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ ... تَرَى الأُكْمَ فِيهَا سُجَّداً لِلْحَوَافِرِ يريد: أن الحوافر تطأ الأرض، فجعل بأثر الأُكْمِ للحوافر سجوداً؛ وقال آخر: [المتقارب] 379 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... سُجُودَ النَّصَارَى لأَحْبَارِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 وفرق بعضهم بين «سجد» ، و «أسجد» ف «سجد» : وضع جبهته، وأسجد: أَمَال رأسه وَطَأْطَأْ؛ قال الشاعر: [المتقارب] 380 - فُضُولَ أَزِمَّتِهَا أَسَجَدَتْ ... سُجُودَ النَّصَارَى لأَحْبَارِها وقال آخر: [الطويل] 381 - وَقُلْنَ لَهُ أَسْجِدْ لِلَيْلَى فَأَسْجَدَا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... يعني أن البعير طَأْطَأَ رأسَه لأجلها. ودَرَاهِمُ الأسجاد: دَرَاهِمُ عليها صُوَرٌ كانوا يسجدون لها، قال: [الكامل] 382 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَافَى بِهَا كَدَرَاهِمِ الأَسْجَادِ فصل في تعداد النعم العامة على بني آدم اعلم أن هذا هو النعمة الرّابعة من النعم العامة على جميع البشر، وهو أنه خصص آدم بالخلافة أولاً، ثم خصصه بالعلم ثانياً، ثم بلوغه في العلم إلَى أن صارت الملائكة عاجزين عن بلوغ درجته في العلم، ثم ذكر الآن كونه مسجوداً للملائكة. فإن قيل: الأمر بالسجود حصل قبل أن يسوي الله - تعالى - خلقه آدم بدليل قوله: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 71 - 72] ، فظاهر هذه الآية يدلّ على أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما صار حيًّا صار مسجود الملائكة؛ لأن «الفاء» في قوله: «فَقَعُوا» للتعقيب، وعلى هذا التقدير يكون تعليم الأسماء، ومناظرته مع الملائكة في ذلك الوَقْتِ حصل بعد أن صار مسجود الملائكة. فالجَوابُ: أجمع المسلمون على أن ذلك السُّجود ليس سُجُودَ عِبَادَةٍ، ثم اختلفوا على ثلاثة أقوال: الأول: أن ذلك السجود كان لله - تعالى - وآدم - عليه السلام - كان كالقِبْلَةِ، وطعنوا في هذا القول من وجهين: الأول: أنه لا يقال: صلّيت للقبلة، بل يقال: صليت إلى القبلة، فلو كان - عليه الصّلاة والسلام - قبلة لقيل: اسْجُدوا إلى آدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 الثاني: أن «إبليس» قال: {أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} [الإسراء: 62] أي: أن كونه مسجوداً يدلّ على أن أعظم حالاً من السّاجد، ولو كان قِبْلَةً لما حصلت هذه الدرجة بدليل أن محمداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يصلِي إلى الكعبة، ولم تَكُنِ الكعبة أفضل من محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. والجواب عن الأول: أنه كما يجوز أن يقال: صَلَّيْتُ إلَى القبلة، جاز أن يقال: صَلَّيْتُ للقبلة؛ قال تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] والصّلاة لله لا للِدُّلُوكِ؛ وقال حسان: [البسيسط] 383 - مَا كُنْتُ أَعْرِفُ أَنَّ الأَمْرَ مُنْصَرِفٌ ... عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهَا عَنْ أَبِي حَسَنِ أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِكُمْ وَأَعْرَفَ النَّاسِ بالقٌرْآنِ وَالسُّنَنِ والجواب عن الثاني: لا نسلم أن التكرُّم حصل بمجرد ذلك السُّجود، بل لعله حصل بذلك مع أمور أخر. والقول الثاني: أن السجدة كان لآدم تعظيماً له وتحيَّةً له كالسَّلام مهم عليه، وقد كانت الأمم السَّالفة تفعل ذلك. قال قتادة: قوله: {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَ} [يوسف: 100] كانت تحيّة الناس يومئذ. الثَّالث: أنَّ السجود في أَصْلِ اللُّغة، هو الانقياد والخضوع، ومنه قوله تعالى: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] . واعلم أن القول الأوّل ضعيف، لأن المقصود تعظيم آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وجعله مجرّد القِبْلَةِ لا يفيد تعظيم حاله. والقول الثالث: ضعيف أيضاً؛ لأن السجود في عرف الشرع عبارة عن وضع الجَبْهَةِ على الأرض فوجب أن يكون في أصل اللغة كذلك؛ لأن الأصل عدم التغيير. فإن قيل: السجود عِبَادَةٌ، والعبادة لغير الله لا تجوز. فالجواب: لا نسلم عِبَادَةٌ، والعبادة لغير الله لا تجوز. فالجواب: لا نسلم أنه عِبَادَةٌ؛ لأن الفعل قد يصير بالمُواضعة مفيداً كالقول، كقيام أحدنا للغير يُفِيدُ من الإعظام ما يفيده القول، وما ذاك إلا للعادة، وإذا ثبت ذلك لم يمتنع أن يكون في بعض الأوقات سقوط الإنسان على الأَرْضِ وإلصاقه الجَبينَ بها مفيداً ضرباً من العظيم، وإن لم يكن ذلك عِبَادَة، وإذا كان كذلك لم يمتنع أن يتعبّد الله النلائكة بذلك إظهاراً لرفعته وكرامته. فصل في بيان أن الأنبياء أفضل من الملائكة قال أكثر أهل السُّنة: الأنبياء أفضل من الملائكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 وقالت المعتزلة: الملائكة أَفْضَلُ من الأنبياء، وهو اختيار القاضي أبي بكر الباقِلاني [وأبي عبد الله الحليميّ] . وحجّة المعتزلة أمور: أحدها: قوله تعالى: {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأنبياء: 19] والمراد من هذه العِنْدِيَّة القرب، والشرف، وهذا حاصل لهم لا لغيرهم. ولقائل أن يقول: إنه - تعالى - أثبت هذه الصّفة في الآخرة لآحاد المؤمنين في قوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55] . وأما في الدنيا فقال عليه الصَّلاة والسلام يقول الله سبحانه: «أَنا مَعَ المُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُمْ لأَجْلِي» . وهذا أكثر إشعاراً بالتعظيم؛ لأن كون الله - تعالى - عند العبد أدخل في التعظيم من كون العبد عند الله. وثانيها: قالوا: عبادات الملائكة أشَقّ من عبادات البشر، فيكونون أكثر ثواباً من عبادات البشر، فإن الملائكة سُكّان السماوات، وهي جَنَّات، وهم آمنون من المَرضِ والفقر، ثم إنهم مع استكمال أسباب النّعم لهم خاشعون وجِلُونَ كأنهم مَسْجُونون لا يلتفتون إلى نعيم الجنات، بل يقبلون على الطَّاعة الشاقة، ولا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يوماً واحداً فضلاً عن تلك الأعصار المُتَطَاولة، ويؤيّده قصّة آدم - عليه الصّلاة والسلام - فإنه أطلق له الأكل في جميع مواضع الجنة، ثم إنه منع من شجرة واحدة فلم يملك نفسه. وثالثها: أن انتقال المكلّف من نوع عِبَادَةٍ إلى نوع آخر كالانتقال من بُسْتَان إلى بستان، أما الإقامة على نَوْعٍ واحدٍ، فإنها تورث المَشَقّة والمَلاَلَة، والملائكة كلّ واحد منهم مُوَاظب على عمل واحد لا يعدل عنه إلى غيره، فكانت عبادتهم أَشَقّ، فيكون أفضل لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَفْضَلُ الأَعْمَالِ أَحْمَزُهَا» أي: أَشَقُّهَا، وقوله لعائشة: «إنَّمَا أَجْرُكِ على قَدْرِ نَصْبِكِ» . ولقائل: أن يقول: في الوَجْه الأول لا نسلّم أن عبادة الملائكة أشقّ. أما قولهم: السماوات جنات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 قلنا: نسلم، ولم قلتم بأن العبادة في المَوَاضع الطّيبة أشقّ من العبادة في المواضع الرَّديئة؟ أكثر ما في الباب أنه تهيّأ لهم أسباب النعم، فامتناعه عنها مع تهيئتها له أشق، ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمعةٌ على البشر، ومع هذا يرضون بقضاء الله، ولا تغيرهم تلك المِحَنُ عن المُوَاظبة على عبوديته، وهذا أعظم في العبودية. وأما قولهم: المُوَاظبة على نَوْعٍ واحدٍ من العبادة أشقّ. قلنا: لما اعتادوا نوعاً واحداً صاروا كالمَجْبُورين الذين لا يقدرون على خِلاَفِهِ؛ لأنَّ العادة طبيعة خامسة، ولذلك قال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَفْضَلُ الصَّوْمِ صَوْمَ دَاوُدَ كان يصوم يوماً ويُفْطر يوماً» . ورابعها: قالوا: عبادات المَلاَئكة أَدْوَم؛ لأن أَعمارهم أطول، فكانت أفضل لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَفْضَلُ العُبَّاد من طل عمره، وحَسُنَ عمله» . ولقائل أن يقول: إن نوحاً ولقمان والخَضِر - عليهم الصَّلاة والسلام - كانوا أطول عمراً من محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فوجب أن يكونوا أفضل منه، وذلك باطل بالاتفاق. وخامسها: أنهم أسبق في كل العِبَادِاتِ فيكونون أفضل لقوله تعالى: {والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 10، 11] ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من سَنَّ سُنَّةٌ حَسَنَة فله أَجْرُهَا وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 ولقائل أن يقول: فهذا يقتضي أن يكون آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أفضل من محمد عليه الصلاة والسّلام؛ لأنه أوّل من سَنّ عبادة الله من البشر وأسبق، وذلك باطل. وسادسها: أن الملائكة رُسُل إلى الأنبياء، والرسول أفضل من الأمة. فإن قيل: إن السلطان إذا أرسل واحداً إلى جمع عظيم ليكون حاكماً فيهم، فإنه يكون أشرف منهم، أمّا إذا أرسل واحداً إلى واحد، فقد لا يكون الرسول أشرف، كما إذا أرسل السلطان مَمْلُوكَهُ إلى وزيره في مُهِمَّة [فإنه لا يلزم أن يكون ذلك العبد أشرف من الوزير] . قلنا: لكن جبريل - عليه السلام - مبعوث إلى كافة الأنبياء والرسل من البشر، فعلى هذا يكون جبريل أفضل منهم. وأيضاً أن الملك قد يكون رسولاً إلى ملك آخر أو إلى أحد من الأنبياء، وعلى التقديرين الملك رسول، وأمته رسل، والرسول الذي كل أمته رسل أفضل من الرسول الذي ليس كذلك، ولأن إبراهيم - عليه الصّلاة والسلام - كان رسولاً إلى لُوطٍ - عليه السّلام - فكان أفضل منه، وموسى كان رسولاً إلى الأنبياء الذين كانوا في عَصْرِهِ، فكان أفضل منهم. ولقائل أن يقول: الملك إذا أرسل رسولاً إلى بعض النواحي، فقد يكون ذلك الرسول حاكماً ومتولياً أمورهم، وقد يكون ليخبرهم عن بعض الأمور مع أنه لا يجعله حاكماً عليهم، فالقسم الأوّل هم الأنبياء المبعوثون إلى أممهم، فلا جرم كانوا أفضل من الأنبياء. وسابعها: قوله: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملاائكة المقربون} [النساء: 172] فقوله: «ولا الملائكة» خرج مخرج التأكيد للأول، وهذا التأكيد إنما يكون بذكر الأفضل يقال: هذه الخَشَبة لا يقدر على حملها العَشْرة، ولا المائة، ولا يقال: لا يقدر على حملها العشرة ولا الواحد، ويقال: هذا العالم لا يَسْتَنْكِفُ عن خدمته الوزير ولا الملك، ولا يقال: ولا يستنكف عن خدمته الوزير ولا البواب. ولقائل أن يقول: هذه الآية إن دلّت، فإنما تدلّ على فضل الملائكة المقرّبين على المسيح، لكن لا يلزم منه فَضْلُ الملائكة المقربين على مَنْ هو أفضل من المسيح، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 محمد - عليه أفضل الصلاة والسلام - وموسى وإبراهيم - عليهما الصلاة والسلام - بإجماع المسلمين. ثم نقول قوله: «ولا المَلاَئكَة» ليس فيه إلا «واو» العطف، و «الواو» للجمع المُطْلق، فيدلّ على أنّ المسيح لا يستنكف، والملائكة لا يستنكفون، فأما أن يدلّ على أن الملائكة أفضل من المسيح فلا. قال تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد} [المائدة: 2] أو نقول: سلمنا أن عيسى دون مَجْمُوعِ الملائكة في الفَضْلِ، فإن قلتم: دون كل واحد من الملائكة في الفضل؟ فإن قيل: وصف الملائكة بكونهم مقربين يوجب ألاَّ يكون المسيح كذلك. قلنا: تخصيص الشّيء بالذكر لا يدلُّ على نفيه عما عداه. وثامنها: قوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} [الأعراف: 20] ولو لم يكن متقرراً عند آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - أن الملك أفضل من البَشَرِ لم يقدر «إبليس» على غرورهما بذلك. ولقائل أن يقول: هذا قول «إبليس» فلا يكون حُجّة، ولا يقال: إن آدم اعتقد صحة ذلك، واعتقاد آدم حُجّة، لأنا نقول: لعلّ آدم - عليه الصَّلاة والسّلام - ما كان نبياً في ذلك الوقت، فلم يلزم من فَضْلِ الملك عليه في ذلك الوَقْتِ فضل الملك عليه حال ما صار نبيًّا، ولأن الزَّلَّة جائزة على الأنبياء. وأيضاً فهب أن الآية تدلّ على أن الملك أفضل من البَشَرِ في بعض الأمور المرغوبة. فلم قلتم: إنها تدلّ على فضل الملك على البَشَرِ في باب القدرة والقوة، والحسن والجمال، والصفاء والنقاء عن الكُدُورات الحاصلة بسبب التركيبات؟ فإن الملائكة خلقوا من الأنوار وآدم خلق من التراب، فلعل آدم وإن كان أفضل منهم في كثرة الثواب إلاّ أنه رغب في أن يكون مساوياً لهم في تلك الأمور المعدودة. وتاسعها: قوله تعالى: {قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله ولاا أَعْلَمُ الغيب ولاا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ} [الأنعام: 50] . ولقائل أن يقول: يحتمل أن يكون المراد: ولا أقول لكم إني مَلَكٌ في كثرة العلوم، وشدة القوة، ويؤيده أن الكفار طالبوه بأمور عظيمة نحو: صعود السَّماء، ونقل الجِبَالِ، وإحضار الأموال العظيمة، وأيضاً قوله: «قل: لا أقول لكم عِنْدِي خَزَائِنُ الله» يدلّ على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 اعترافه بأنه لا يعلم كلّ المعلومات، فلذلك لا أدّعي قُدْرَةٌ مِثْلَ قُدْرَةِ الملك، ولا علماً مثل علمه. وعاشرها: قوله تعالى: {مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] . فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد التشبيه في الجمال؟ قلنا: الأَوْلَى أن يكون هذا التشبيه في السِّيرة لا في الصّورة، لأن الملك إنما تكون سِيرَتُهُ المرضية لا بمجرد الصورة. ولقائل: أن يقول: قول المرأة: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] كالصريح في أن مراد النِّسَاء بقولهن: {إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] تعظيم لحسن يُوسف وجماله لا في السَِّيرة؛ لأن ظهور عُذْرِهَا في شدّة عشقها، إنما يحصل بسبب فرط يوسف في الجَمَال لا بسبب فرط زُهْده وورعه، فإن ذلك لا يُنَاسب شدّة عشقها. سلمنا أن المراد تشبيه يوسف - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بالمَلَكِ في حسن السِّيرة، فلم قلتم: يجب أن يكون أقل ثواباً من الملائكة؟ الحادي عشر: قوله تعالى: {وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70] ، ومخلوقات الله - تعالى - إما المكلفون، أو من عداهم، ولا شك أن المكلفين أفضلُ من غيره، فالمكلّفون أربعة أنواع: الملائكة، والإنس، والجنّ، والشياطين، ولا شَكّ أن الإنس أفضل من الجنّ والشياطين، فلو كان البشر أفضل من الملائكة لزم أن يكون البشر أفضل من كلّ المخلوقات، وحينئذ لا يبقى لقوله: «وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى جَمِيْعِ مَنْ خَلَقْنَا» ، ولما لم يقل ذلك علمنا أن الملك أفضل من البشر. ولقائل أن يقول: هذا تمسُّك بدليل الخطاب؛ لأن التصريح بأنهم أفضل من كثيرٍ من المَخْلُوقات لا يدلّ على أنه ليس أَفْضل من الباقي ألا بواسطة دليل الخطاب. وأيضاً فهب أن جنس الملائكة أفضل من [جنس بني آدم، ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من] المجموع الثاني [أن يكون كُلّ واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من أفراد المجموع الثاني] ، فإنا إذا قدرنا عشرة من العَبيدِ كلّ واحد منهم يساوي مائة دينار، وعشرة أخرى حصل فيهم عبد يساوي مائتي دينار والتسعة الباقية كل واحد منهم ديناراً، فالمجموع الأول أفضل من آحاد المجموع الأول فكذا ها هنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 الثاني عشر: قوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11] فيدخل فيه الأنبياء وغيرهم، وهذا يقتضي كونهم أفضل من البشر لوجهين: الأوّل: أنه - تعالى - جعلهم حَفَظَةً، والحافظ للمكلّف عن المعصية يكون أبعد عن الخطأ من المحفوظ، وذلك يقتضي أن يكون قولهم أولى بالقَبُولِ من قول البشر، ولو كان البشر أعظم حالاً منهم لكان الأمر بالعكس. ولقائل أن يقول: أما كون الحافظ أكرم من المحفوظ، فهذا بعيد، فإن المَلكَ قد يوكّل بعض عبيده على ولده. وأما الثاني فقد يكون الشاهد أدون حالاً من المشهود عليه. الثالث عشر: قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن} [النبأ: 38] . والمقصود من ذكر أحوالهم المُبَالغة في شَرْحِ عظمة الله وجلاله، ولو كان في الخلق طائفة أخرى قيامهم وتضرعهم أقوى في الإنباء عن عَظَمةِ الله وجلاله وكبريائه من قيامهم لكان ذكرهم أولى. ولقائل أن يقول: ذلك يدلّ على أنهم أزيد حالاً من البَشَرِ في بعض الأمور، فلم لا يجوز أن تكون تلك الحالة هي قوتهم وشدّتهم وبطشهم؟ وهذا كما يقال: إن السُّلطان لما جلس وقف حَوْلَ سريره ملوك أطراف العالم خاضعين فإن عظمة السُّلطان إنما تشرح بذلك، ثم إنَّ هذا لا يدلُّ على أنهم أكرم عند السلطان من ولده، فكذا ها هنا. الرابع عشر: قوله: {والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ} [البقرة: 285] فبيّن تعالى أنه لا بدّ في صحّة الإيمان من الإيمان بهذه الأشياء، فبدأ بنفسه، وثَنَّى بالملائكة، وثلّث بالكتب، وربّع بالرسل، وكذا في قوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18] ، وقال: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56] ، والتقديم في الذّكر يدلّ على التقديم في الدرجة؛ لأن تقديم الأدْوَنِ على الأشرف في الذكر قبيح عرفاً، فوجب أن يكون قبيحاً شرعاً. ولقائل أن يقول: هذه الحجّة ضعيفة؛ لأن الاعتماد إن كان على «الواو» ف «الواو» لا تفيد الترتيب، وإِنْ كان على التقديم في الذِّكْرِ ينتقض بتقديم سورة «تَبّت» على سورة {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] . الخامس عشر: قوله تعالى: «إِنَّ اللهَ وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ» ، فجعل صلوات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 الملائكة كالتشريف للنبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذلك يدلّ على كون الملائكة أشرف من النبي. ولقائل أن يقول: هذا ينتقض بقوله: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً» فأمر المؤمنين بالصلاة على النبي، ولم يلزم كون المؤمنين أفضل من النبي، فكذا في الملائكة. واحتجّ من قال بتفضيل الأَنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - على الملائكة بأمور: أحدها: أن الله - تعالى - أمر الملائكة بالسجود لآدم، وثبت أن آدم لم يكن كالقِبْلَةِ، فوجب أن يكون آدم أفضل منهم؛ لأن السجود نهايَةَ التواضُعِ، وتكليف الأشرف بنهاية التواضُعِ للأَدْوَنِ مُسْتَقْبَحٌ في العقول. وثانيها: أن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - خليفةٌ له، والمراد منه خلافة الولاية لقوله: {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} [ص: 26] . ومعلوم أن أعلى الناس منصباً عند الملك من كان قائماً مَقَامَهُ في الولاية والتصرف، فهذا يدل على أن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان أشرف الخلائق. فالدنيا خلقت متعةً لبقائه، والآخرة مملكة لجزائه، وصارت الشياطين ملعونين بسبب التكبُّر عليه، والجن رعيته، والملائكة في طاعته وسجوده، والتواضع له، ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته، وبعضهم منزلين لرزقه وبعضهم مستغفرين لزلاَّته. وثالثها: أن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان أعلم، والأعلم أفضل، أما أنه أعلم فلأنه - تعالى - لما طلب منهم علم الأسماء {قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ} [البقرة: 32] فعند ذلك قال الله: {يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ} [البقرة: 33] وذلك يدلّ على أن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان عالماً بما لم يكونوا عالمين به، والعالم أَفْضَلُ لقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] . ورابعها: قوله تعالى: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين} [آل عمران: 33] والعَالَم عبارة عن كل ما سوى الله - تعالى - فمعناه أن الله - تعالى - اصطفاهم على المخلوقات. فإن قيل: يُشْكل بقوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47] . قلنا: الإشكال مدفوع؛ لأن قوله: «وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العَالَمينَ» خطاب مع الأنبياء الذين كانوا أسلاف اليهود، وحينما كانوا موجودين لم يكن محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - موجوداً في ذلك الزمان، والمعدوم لا يكون من العالمين؛ لأن اشتقاق العالم من العَلَمِ فكل ما كان عَلَماً على الله ودليلاً عليه فهو عالم، وإذا كان كذلك لم يلزم اصْطِفاء الله إياهم على العالمين في ذلك الوقت أن يكونوا أفضل من محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 والملائكة كانوا موجودين، فيلزم أن يكون الله - تعالى - قد اصطفى هؤلاء على الملائكة، وأيضاً فهب أن تلك دَخَلَها التخصيص لقيام الدليل، وها هنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر، فوجب إجراؤه على ظاهره في العموم. وخامسها: قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] والملائكة من جملة العالمين، فكان محمد - عليه الصلاة والسَّلام - رحمة لهم، فوجب أن يكون أفضل منهم. وسادسها: أنَّ الآدمي له شهوةٌ تدعوهم إلى المعصية، وهي شهوة الرئاسة. قلنا: هَبْ أن الأمر كذلك، لكن البشر لهم أنواع كثيرة من الشهوات مثل شهوة البَطْنِ والفَرْجِ، وشهوة الرئاسة والملك ليس إلا شهوة واحدة، وهي شهوة الرئاسة، والمبتلى بأنواع كثيرة من الشهوات تكون الطاعة عليه أشقّ من المبتلى بشهوة واحدة. وأيضاً الملائكة لا يعملون إلاَّ بالنَّص لقوله: {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ} [البقرة: 32] وقوله: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] والبشر لهم قوّة الاسْتنباط والقياس، والعمل بالاسْتِنْبَاط أشقَ من العمل النص، وأيضاً فإن الشبهات للبشر أكثر منها للملائكة؛ لأن من جملة الشبهات القوية كون الأفلاك والأنجم السَّيَّارة أسباباً لحوادث هذا العالم، فالبَشَرُ احتاجوا إلى دفع هذه الشُّبهة، والملائكة لا يحتاجون إليها، لأنهم ساكنون في عالم السَّمَاوات، فيشاهدون كيفية افتقارها إلَى المدبّر الصَّانع، وأيضاً فإن الشيطان لا سَبِيلَ له إلى وسوسة الملائكة، وهو مسلّط على البشر في الوَسْوَسَةِ، وذلك تفاوت عظيم. إذا ثبت أن طاعتهم أشقّ، فوجب أن يكونوا أكثر ثواباً للنص والقياس. فأما النص قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَفْضَلُ العِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا» أي: أشقُّها، وأما القياس فإن الشيخ الذي ليس له مَيْلٌ إلى النِّسَاء إذا امتنع عن الزِّنَا ليست فضيلته كفضيلة من يمتنع عنه مع النَيْلِ الشّديد، والشَّوق العظيم. وسابعها: أن الله - تعالى - خلق للملائكة عقولاً بلا شهوة، وخلق للبهائم شهوةً بلا عَقْلٍ، وخلق الآدمي وجمع فيه الأمرين، فصار الأدمي بسبب العَقْل فوق البهيمة بدرجة، فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون المَلاَئكة، ثم وجدنا الآدمي هَوَاهُ عقله، فإنه بصير دون البَهِيْمَةِ على ما قال: «أولئك كَالأَنْعَام بَلْ هُمْ أَضَلُّ» فيجب أن يقال: إذا غلب عقله هواه أن يكون فوق الملائكة اعتباراً لأحد الطرفين بالآخر. وثامنها: أن الملائكة حَفَظَةٌ، وبنو آدم محفوظون، والمحفوظ أشرف من الحافظ، أجاب القائلون بتفضيل الملك عن الأول، فقالوا: قد سبق بيان أنّ من الناس من قال: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 المراد من السُّجود التَّواضع لا وضْع الجَبْهَةِ على الأرض، وإن سلم أنه وضع الجبهة لكنه قال: السُّجود لله وآدم قبله، فزال الإِشْكَال، وإن سلم أن السجود كان لآدم، فلم قلتم: إن ذلك لا يجوز من الأشرف؟ وذلك لأن الحكمة قد تقتضي إظهار نهاية الانقياد، والطاعة، فإن للسلطان أن يجلس عَبْداً من عبيده، ويأمر الأكابر بخدمتهن ويكون غرضه إظهار كونهم مُطِيْعِين مُنْقَادين له في كلّيات الأمور، وأيضاً فإن الله - تعالى - يفعل ما يَشَاءُ، ويحكم ما يريد، فإن أفعاله غير معلّلة، ولذلك قلنا: إنه لا اعتراض عليه في خلق الكُفْرِ في الإنسان، ثم يعذبه عليه أبد الآباد، وإذا كان كذلك، فكيف يعترض عليه في ان أمر الأعلى بالسجود لمن هو دونه. وأما الحجّة الثانية فجوابها أن كون آدم خليفة في الأرض وهذا يقتضي أن يكون آدم - عليه السلام - كان أَشْرَفَ من كل من في الأرض ولا يدلّ على كونه أشرف من ملائكة السماء. فإن قيل: فَلِمَ لم يجعل واحداً من ملائكة السماء خليفة له في الأرض؟ قلت: لوجوه: منها أن البشر لا يطيقون رُؤْيَةَ الملائكة، ومنها أن الجنس إلى الجنس أميل. وأما الحجّة الثالثة: فلا نسلّم أنّ آدم كان أعلم منهم، وأكثر ما في الباب أن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان عالماً بتلك الُّلغات، وهم ما علموها، لكنهم لعلهم كانوا عالمين بسائر الأشياء، مع أن آدم - عليه السلام - ما كان عالماً بها ويحقق هذا أن محمداً - عليه أفضل الصلاة والسلام - أفضل من آدم - عليه السلام - مع أن محمداً ما كان عالماً بهذه اللُّغات بأسرها، وأيضاً فإن «إبليس» كان عالماً بأن قرب الشجرة مما يوجب خروج آدم من الجَنّة، وأن آدم - عليه السلام - ليس كذلك، والهُدْهُد قال لسليمان صلوات الله وسلامه عليه: {أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ} [النمل: 22] ولم يكن أفضل من سُلَيْمَانَ، سلمنا أنه كان أعلم منهم، ولكن لِمَ لَمْ يجز أن يقال: إن طاعنهم أكثر إخلاصاً من طاعة آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؟ . وأما الحجة الرابعة: فهي قويّة. وأما الخامسة: فلا يلزم من كون محمّد - عليه الصّلاة والسلام - رحمة لهم أن يكون أفضل منهم كما في قوله تعالى: {فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ الله كَيْفَ يُحْيِيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ} [الروم: 50] ولا يمتنع أن يكون - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - رحمةً لهم من وجه، وهم يكونون رحمة له من وجه آخر. وأما الحجّة السادسة: وهي أن عبادة البشر أشقّ فهذا ينتقض بما أنا نرى الواحد من الصُّوفية يتحمّل في طريق المُجّاهدة من المَشَاقّ والمتاعب ما يقطع بأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لم يتحمّل مثلها مع أنا نعلم أن محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أفضل من الكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 أما الحُجّة السَّابعة: فهي جمع بين الطَّرفين من غير جامع. فإن قيل: فإذا لم يكن افضل منهم، فما الحكمة بالأمر بالسجود له؟ قيل له: إنَّ الملائكة لما استعظموا تَسْبِيْحَهُمْ، وتقديسهم أمرهم بالسجود لغيره ليريه استغناءه عنهم، وعن عبادتهم. وقال بعضهم: عيروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصنع به، فأمروا بالسجود له تكريماً، ويحتمل أن يكون إنما أمرهم بالسجود له معاقبة لهم على قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] . فإن قيل: فقد استدلّ ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - على فضل البشر بأن الله - تعالى - أقسم بحياة مُحَمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقال: {لَعَمْرُكَ} [الحجر: 72] وأمنه من العذاب لقوله: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] ، وقال للملائكة: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] . قيل له: إنما لم يقسم بحياة الملائكة كما لم يقسم بِحَيَاةِ نفسه سبحانه فلم يقل: «لَعَمْري» وأقسم بالسماء والأرض، ولم يدلّ على أنها أرفع قدراً من العرش، وأقسم ب «التِّين والزَّيْتُون» . وأما قوله سبحانه: «وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ» فهو نظير قوله لنبيه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ} [الزمر: 65] وهذا آخر الكلام في هذه المسألة. قوله: «إلاَّ إِبْلِيسَ» «إِلاَّ» حرف استثناء، و «إبليس» نصب على الاستثناء، وهل نصبه ب «إلا» وحدها أو بالفعل وحده أو به بوساطة «إلاّ» أو بفعل محذوف أو ب «أن» أقوال؟ وهل هو استثناء متّصل أو منقطع؟ خلاف مشهور. والأصح أنه متّصل - وأما قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 50] ، فلا يرد؛ لأن الملائكة قد يسمونه جنًّا لاجْتِنَابِهِمْ، قال الشاعر في سليمان: [الطويل] 384 - وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلاَئِكِ تِسْعَةً ... قِيَاماً لَدَيْهِ يَعْمَلُونَ بِلاَ أَجْرِ وقال تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158] يعني: الملائكة. واعلم أن المستثنى على أربعة أقسام: قسم واجب النّصْب، وقسم واجب الجَرّ، وقسم جائز فيه النصب والجر، وقسم جائز فيه النَّصْب والبَدَل مِمَّا قبله، والأرجح البدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 الأول: المُسْتَثْنَى من الموجب والمقدّم، والمكرر والمنقطع عند «الحجاز» مطلقاً، والواقع بعد «لا يَكُون» و «لَيْسَ» و «ما خَلاَ» و «ما عَدَا» عند غير الجَرْمِيّ؛ نحو: «قَامَ القَوْمُ إلاَّ زَيْداً» ، و «مَا قَامَ إلاَّ زَيْداً القَوْمُ» ، و «ما قَامَ أحدٌ إلاّ زَيْداً إلا عَمْراً» ، و «قاموا إلاّ حِمَاراً» و «قَامُوا لا يكونُ زيداً» و «مَا خضلاَ ويداً» و «مَا عَدَا زيداً» . الثاني: المستثنى ب «غَيْر» و «سِوًى» و «سُوًى» و «سَوَاء» . الثالث: المستثنى ب «عَدَا» و «حَاشَا» و «خَلاَ» . الرابع: المستثنى من غير الموجب؛ نحو: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [النساء: 66] . و «إبليس» اختلف فيه، فقيل: إنه اسم أعجمي منح من الصّرف للعلمية والعُجْمة، وهذا هو الصّحيح، قاله «الزَّجاج» وغيره؛ وقيل: أنه مشتقٌّ من «الإبْلاَس» وهو اليأس من رحمة الله - تعالى - والبعدُ عنها؛ قال: [السريع أو الرجز] 385 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَفِي الْوُجُوهِ صُفْرَةٌ وَإِبْلاَسْ ووزنه عند هؤلاء: «إِفْعِيل» ؛ واعترض عليهم بأنه كان ينبغي أن يكون منصرفاً، وأجابوا بأنه أِبه الأسماء الأعجميّة لعدم نظيره في الأسماء العربية؛ ورد عليهم بأنه مثله في العربية كثير؛ نحو: «إزْمِيل» و «إكْلِيل» و «إغريض» و «إخْرِيط» . وقيل: لما لم يقسم به أحدٌ من العرب، صار كأنه دَخِيلٌ في لسانهم، فأشبه الأعجمية، وفيه بُعْدٌ. فصل في جنس إبليس اختلفوا في «إبليس» فقال أكثر المتكلمين والمعتزلة: إنه لم يكن من المَلاَئكة، وهو مرويّ عن ابن عَبَاس، وابن زيد، والحسن، وقتادة - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - قالوا: «إبليس أبو الجِن كما أن آدم أبو البَشَرِ، ولم يكن ملكاً فأشبه الحرف» . وقال شهر بن حَوْشَبٍ، وبعض الأصوليين: «كان من الجن الذين كانوا في الأرض، وقاتلهم الملائكة فَسَبُوهُ وتعبّد مع الملائكة وخوطب» . وحكاه الطبري، وابن مسعود، وابن جريح، وابن المسيب، وقتادة وغيرهم، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 اختبار الشيخ أبي الحَسَنِ، ورجّحه الطبري، وهو ظاهر الآية أنه من الملائكة. قال ابن عباس: «وكان اسمه عزَازِيل، وكان من أشراف الملائكة، وكان من أُولِي الأَجْنِحَةِ الأَرْبَعَةِ ثم إبليس بعد» . وروى سليمان بن حَرْب عن عكرمة عن ابن عَبَّاس قال: كان إبْلِيسُ من الملائكة، فلما عَصَى الله غضب عليه فَلَعَنَهُ، فصار شيطاناً. وحكى المَاوَرْدِيّ عن قتادة: أنه كان من أَفْضَلِ صنف من الملائكة يقال لهم الجنّة. وقال سعيد بن جبير: إن الجنّ سِبْطٌ من الملائكة خُلقوا من نار، وإبليس منهم، وخلق معاشر الملائكة من نور. حجّة القول الأول، وهو أنه لم بكن من الملائكة وجوه: أحدها: قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 50] وإذا كان من الجنّ وجب أن ألاّ يكون من الملائكة لقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ قَالُواْ سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} [سبأ: 40، 41] ، وهذا صريح في الفرق بين الجنّ والمَلَكِ. فإن قيل: لا نسلّم أنه كان من الجنّ، لأن قوله: {كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 50] يجوز أن يكون المراد كان من الجنّة على ما روي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أنه كان من الجنّ كان خازن الجنة. سلمنا ذلك، لكن لِمَ لاَ يجوز أن يكون قوله: «من الجن» أي: صار من الجن كقوله: {وَكَانَ مِنَ الكافرين} . سلّمنا ما ذكرتم، فَلِمَ قلتم: إن كونه من الجنّ ينافي كونه من الملائكة؛ لأن الجن مأخوذ من الاجتنان، وهو الستر، ولهذا سمي الجَنين جنيناً لاجتِنَانِه، ومنه الجُنّة لكونها سائرة، والجِنّة لكونها مستترة بالأَغْصَان، ومنه الجُنُون لاستتار العَقْل به، والملائكة مستترون عن الأعين، فوجب جواز إطلاق لفظ الجِنّ عليهم بحسب اللُّغة، يؤيد هذا التأويل قوله تعالى في الآية الأخرى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158] ، وذلك لأن قريشاً قالت: الملائكة بنات الله، فهذه الآية تدلّ على أن الملائكة تسمى جنًّا. والجواب: لا يجوز أن يكون المُرَاد من قوله: «كان من الجن» أنه كان خازن الجنّة؛ لأن قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 50] يشعر بتعليل تركه السُّجود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 بكونه جنياً، ولا يمكن تعليل ترك السجود بكونه خازن الجنّة، فبطل ذلك. {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158] قلنا: يحتمل أن بعض الكُفّار أثبت ذلك النسب في الجنّ، كما أثبته في الملائكة، وأيضاً أن الملك يسمى جنّاً بحسب أصل اللُّغة، لكن لفظ الجنّ بحسب العرف اختص بالغير، كما أن لفظ الدَّابة يتناول كل ما دَبّ بحسب اللُّغة الأصلية، كلغة بحسب العرف اختص ببعض ما يدبّ، فيحتمل أن تكون هذه الآية على اللغة الأصلية والآية التي ذكرناها على العرف الحادث. وثانيها: أن «إبليس» له ذريّة لقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ} [الكهف: 50] والملائكة لا ذريّة لها؛ لأن الذريّة إنما تحصل من الذَّكَرِ والأُنْثَى، والملائكة لا أنثى فيها لقوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ} [الزخرف: 19] أنكر على من حكم عليهم بالأنوثة. وثالثها: أنّ الملائكة معصومون، و «إبليس» لم يكن كذلك فوجب ألا يكون من الملائكة. ورابعها: أن «إبليس» مخلوق من نار لقوله تعالى حكاية عن «إبليس» : {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} [الأعراف: 12] . قال: {والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السموم} [الحجر: 27] والملائكة مخلوقون من النّور، لما روت عائشة عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «خلقت المَلاَئِكَةُ من نُورٍ وخُلِقَ اجَانّ من مَارِجٍ من نَارٍ» . حجّة القول الثاني، وهو أن «إبليس» كان من الملائكة أمران: الأول: أن الله - تعالى - استثناه من الملائكة، والاستثناء المنقطع مشهور في كلام العرب، قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26، 27] وقال: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} [الواقعة: 25، 26] وقال: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً} [مريم: 62] ، وقال: {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ} [النساء: 29] ، وقال: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً} [النساء: 92] وأيضاً فلأنه كان جنيًّا واحداً بين اللوف من الملائكة، فغلبوا عليه في قوله: فسجدوا، ثم استثني هو منهم استثناء واحد منهم؛ لأنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 نقول: كل واحد من هَذَيْنِ الوجهين على خلاف الأصل، وذلك إنما يُصَار إليه عند الضرورة، والدلائل الذي ذكرتموها في نفي كونه من المَلاَئكة ليس فيها إلاّ الاعتماد على العُمُومَاتِ، فلو جعلنا من الملائكة لزم تَخْصِيصُ ما عَوَّلْتُمْ عليه من العُمُومَاتِ. ولو قلنا: إنه ليس من الملائكة لزمنا جعل الاستثناء منقطعاً، فكان قولنا أولى، وأيضاً فالاستثناء إنما يتحقّق من الشيء والصرف، ومعنى الصرف إنما يتحقّق حَيْثُ لولا الصّرف لدخل، والشيء لا يدخل في غير جنسه، فيمتنع تحقق معنى الاستثناء منه. وأما قوله: إنه جني واحد من الملائكة لما كان قوله: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا} متناولاً، ولا استحال أن يكون تركه السجود إباءً واستكباراً ومعصية، ولما استحقّ الذم والعقاب، ولما حصلت هذه الأمور، علمنا أن ذلك الخطاب يتناوله، ولن يتناوله ذلك الخطاب إلاّ إذا كان من الملائكة. لا يقال: إنه وإن لم يكن من الملائكة إلا أنه لمّا نشأ منهم، وطالت خُلْطته بهم والتصق بهم علا ولكن الله تعالى أمر بالسجود بلفظ آخر ما حكاه في القرآن بدليل قوله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] لأنا نقول: أما الأول فجوابه: أن المُخَالطة لا توجب ما ذكرتموه ولهذا قيل في أصول الفقه: خطاب الذكور لا يتناول الإناث وبالعكس مع شدّة المخالطة بين الصنفين، وأيضاً فشدّة المُخَالطة بين الملائكة، وبين «إبليس» لما لم يمنع اقتصار اللَّعن على إبليس، فكيف يمنع اقتصار ذلك التَّكليف على المَلاَئِكَةِ، لونا كونه أمر بأمر آخر غير محكي في القرآن، فإن ترتيب الحكم على الوَصْفِ يشعر بالغَلَبَةِ، فلما ذكر قوله: «أَبَى واسْتَكْبَرَ» عقيب قوله: «وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ: اسْجُدُوا لآدَمَ» ، أشعر هذا التعقيب بأن هذا الإباء إنما حصل بسبب مُخَالفة هذا الأمر، لا بسبب مُخَالطة أمر آخر، وطريق الجمع بين الدليلين ما ذكرنا عن ابن عباس أن «إبليس» كان من الملائكة، فلما عَصَى الله غضب عليه، فَصَار شيطاناً. وقول سعيد بن جبير إن الجن سبط من الملائكة خلقوا من نَارٍ، وإبليس منهم وليس في خلقه من نَارٍ، ولا في تركيب الشَّهْوَةِ حيث غضب عليه ما يدفع أنه من المَلاَئِكَةِ، وحكى الثعلبي عن ابن عباس: «أنّ إبْلِيسَ كان من حَيّ من أحياء الملائكة يقال لهم: الجِنّ خلقوا من نارِ السَّمُوم، وخلقت الملائكة من نُورٍ، وكان اسمه بالسّريانية عَزَازيل، وبالعربية الحَارِث، وكان من خزّان الجنّة، وكان رئيس ملائكة السماء الدنيا، وكان من سُلْطَانها، وسلطان الأرض، وكان من أشدّ الملائكة اجتهاداً، وأكثرهم علماً، وكان يَسُوسُ ما بين السَّماء والأرض، فرأى لنفسه بذلك شرفاً وعظمةً، فذلك الذي دعاه إلى الكُفْرِ، فعصى الله، فمسخه شيطاناً رجيماً» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 قوله تعالى: «أَبَى واسْتَكْبَرَ» . الظاهر أن هاتين الجملتين استئنافيتان لمن قال: فما فعل؟ والوقف على قوله: «إلاَّ إِبْلِيسَ» تام. وقال أبو البقاء: «في موضع نصب على الحال من» إبليس «تقديره: ترك السجود كارهاً له ومستكبراً عنه» . فالوقف عنده على «واستكبر» ، وجوز في قوله: «وَكَانَ مِنَ الكَافِرينَ» أن يكون مستأنفاً، وأن يكون حالاً أيضاً، و «الإباء» : الامتناع؛ قال الشاعر: [الوافر] 386 - وَإِمَّا أنْ يَقُولُوا قَدْ أَبَيْنَا ... وَشَرُّ مَوَاطِنِ الحَسَبِ الإبَاءُ وهو من الأفعال المفيدة للنفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء المفرّغ قال تعالى: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} [التوبة: 32] . والمشهور «أَبِيَ - يَأْبَى» بكسرها في الماضي، وفتحها في المضارعن وهذا قياس، فيحتمل أن يكون من قال: «أَبَى - يَأْبَى» بالفتح فيهما استغنى بمُضَارع من قال «أَبِيَ» بالكسر ويكون من التداخل نحو: «رَكَنَ - يَرْكَنُ» وبابه. واستكبر بمعنى: تَكَبَّرَ، وإنما قدم الإباء عليه، وإن كان متأخراً عنه في الترتيب؛ لأنه من الأفعال الظَّاهرة؛ بخلاف الاستكبار؛ فإنه من أفعال القلوب. قوله: «وَكَانَ» بل: هي هنا بمعنى «صَارَ» ؛ كقوله: [الطويل] 387 - بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا أي: قد صارت. ورد هذا ابن فورك وقال: «تردّه الأصول، والأظهر أنها على بابها والمعنى: كان من القوم الكافرين الَّذين كانوا في الأَرْضِ قبل خَلْقِ آدم على ما روي، وكان في علم الله» . فصل في بيان بطلان قول أهل الجبر قال القاضي: هذه الاية تدلُّ على بطلان قول أهل الجبر من وجوه: أحدها: أنهم يزعمون أنه لما لم يسجد لم يقدر على السُّجود؛ لأن عندهم القُدْرَة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 على الفعل شرط، فإن من لا يقدر على الشيء لا يقال: إنه أباه. وثانيها: أن من لا يَقْدِرُ على الفعل لا يقال: استكبر بأن لم يفعل، فإنما يوصف بالاستكبار إذا لم يفعل مع أنه لو أراد الفعل لأمكنه. وثالثها: قال: «وكَانَ مَنَ الكَافِرِينَ» ولا يجوز أن يكون كافراً بأن لم يفعل ما لا يقدر عليه. ورابعها: أن استكباره، وامتناعه خلق من الله فيه، فهو بأن يكون معذوراً أولى من أن يكون مذموماً قال: ومن اعتقد مذهباً يقيم العذر لإبليس فهو خاسر الصَّفقة. والجواب: يقال له: صدور ذلك عن «إبليس» لا يخلو، إما أن يكون عن قَصْدٍ ودَاعٍ أو لا. فإن وقع لا عن فاعل، فكيف يثبت الصّانع، وإن وقع العبد فوقوع ذلك القصد عنه إن كان عن قصد آخر فيلزم التسلسل. وإن كان لا عن قَصْدٍ فقد وقع الفعل لا عن قَصْد. [أما إن قلت وقع ذلك الفعل عنه لا عن قصد] وداعٍ، قد ترجّح الممكن من غير مرجّح، وهو يسد باب إثبات الصانع، وأيضاً فإن كان كذلك كان وقوع ذلك الفعل اتفاقياً، والاتفاقي لا يكون في وسعه واختياره، فكيف يؤمر به وينهى عنه، وإن وقع عن فاعل هو الله، فحينئذ يلزمك كل ما أوردته علينا. فإن قيل: هذا منقوض بأفعال الله - سبحانه وتعالى - فإن التقسيم وارد فيها ليس اتفاقية ولا خبراً؟ قلنا: الله - تعالى - واجب الوجود لذاته، وإذا كان كذلك كان واجب الوجود أيضاً في صفاته، وإذا كان كذلك فهو مُسْتَغْنٍ في فاعليته عن المؤثرات والمرجّحات، إذ لو افتقر لكان محتاجاً. فصل في بيان حال إبليس قال قوم: كان «إبليس» منافقاً منذ كان. وقال آخرون: كان كافراً، واستدلوا بقوله: «وضكَانَ مِنَ الكَافِرِينَ» ؛ لأن كلمة «من» للتبعيض، والحكم عليه بأنه بعض الكافرين يقتضي وجود قوم آخرين من الكفار حتى يكون هو بعضاً منهم، ويؤكده ما روي عن أبي هُرَيْرَةَ قال: إن الله خلق خلقاً من الملائكة، ثم قال لهم: إني خالق بشراً من طين؛ فإذا سوّيته، ونفخت فيه من روحي فَقَعُوا له سَاجِدِينَ. فقال: لا تفعل ذلك، فبعث الله عليهم ناراً، فأحرقتهم، وكان «إبليس» من أولئك الذين أَبْوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 وقال آخرون: إنّ «كان» ها هنا بمعنى «صار» فيكن معنى الآية صار من الذين وقعوا في الكُفْرِ بعد ذلك، وأنه كان من قبل ذلك مؤمناً، وهذا قول «الأصَمّ» ، وذكر في مثاله قوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} [التوبة: 67] فأضاف بعضهم إلى بعض بسبب المُوَافقة في الدين، وأيضاً فإن هذه إضافة لفرد من أفراد الماهية إلى تلك الماهية، وصحّة هذه الإضافة لا تقتضي وجود تلك المَاهِيّة، كما أن الحيوان الذي خلقه الله تَعَالَى أولاً يصح أن يقال: إنه فرد من أفراد الحيوان، لا بمعنى أنه وَاحِدٌ من الحيوانات الموجودة خارج الذهن، بل بمعنى أنهة فرد من أفراد هذه الماهية. واعلم أنه بتفرع على هَذَا أن «إبليس» هل كان أول من كفر بالله؟ والذي عليه الأكثرون أنه أول من كفر بالله. فصل في بيان أن الأمر كان للملائكة كلهم قال الأكثرون: إن جميع الملائكة كانوا مأمورين بالسُّجُودِ لآدم، واحتجوا عليه بوجهين: الأول: أن لفظ المَلاَئكة صيغة جمع، وهي تفيد العموم، لا سيما وقد أكدت بأكمل وجوه التوكيد في قوله: «كلّهم أَجْمَعُونَ» . الثاني: أن استثناء «إبليس» منهم، واستثناء الشخص الواحد منهم يدلّ على أن من عدا ذلك الشخص يكون داخلاً في ذلك الحكم، ومن الناس من أنكر ذلك، وقال: المأمور بهذا السُّجود هم ملائكة الأرض، واستعظم أن يكون أكابر الملائكة مأمورين بذلك. وأما الحُكّمّاء فإنهم يحملون المَلاَئكة على الجَوَاهر الرُّوْحَانية، وقالوا: يستحيل أن تكون الأرواح السَّمَاوية مُنْقَادة للنفوس الناطقة، والكلام في هذه المسألة مذكور في العقليات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 الجملة من قوله: {وَقُلْنَا يَاآدَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} معطوفة على جملة «إذ قُلْنَا» لا على «قلنا» وحده لا خلاف زمنيهما. و «أنت» توكيد للضمير المستكن في «أسكن» ليصح العطف عليه «وزوجك» الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 عطف عليه، هذا هو مذهب البَصْرِيين، أعني اشتراط الفعل بين المُتَعَاطفين إذا كان المعطوف عليه ضميراً مرفوعاً متصلاً، ولا يشترط أن يكون الفاصل توكيداً؛ بل أي فصل كان، نحو: {مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] . وأما الكوفيون فيجيزون ذلك من غير فاصل؛ وأنشدوا: [الخفيف] 388 - قُلْتُ إذْ أَقْبَلَتْ وَزُهْرٌ تَهَادَى ... كَنِعَاجِ الفَلاَ تَعَسَّفْنَ رَمْلا وهذا عند البصريين ضرورة لا يقاس عليه، وقد منع بعضهم أن يكون «زوجك» عطفاً على الضمير المستكن في «أسكن» ، وجعله من عطف الجُمَلِ، بمعنى أن يكون «زوجك» مرفوعاً بفعل محذوف، أي: وَلْتَسْكُنْ زَوْجُكَ «فحذف لدلالة» اسكن «عليه، ونظيره قوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ} [طه: 58] وزعم أنه مذهب سيبويه، وكان شبهته في ذلك أن من حَقّ المعطوف حلوله محل المعطوف عليه، ولا يصح هنا حلول» زوجك «محلّ الضمير لأنّ فاعل فعل الأمر الواحد المذكور نحو: قُمْ واسْكُن» لا يكون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 إلا ضميراً مستتراً وكذلك فاعل يفعل، فكيف يصح وقوع الظاهر المضمر الذي قبله؟ وهذا الذي يزعم ليس بشيء؛ لأنَّ مذهب سيبويه بنصّه يخالفه؛ ولأنه لا خلاف في صحّة: تقوم هند وزيد «ولا يصحّ مُبَاشرةُ» زيد «لا تقوم» لتأنيه. و «السُّكُون» و «السُّكَنى» : الاستقرار، ومنه «المِسْكِينُ» لعدم حركته وتصرّفه، والسّكين لأنها تقطع حركة المَذْبوح، والسَّكينة لأن بها يذهب القَلَقُ. وسكّان السفينة عربي لأنه يسكنها عن الاضطراب، والسّكن: النار. قال الشاعر: [مشطور السريع] 389 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... قَدْ قُوِّمَتْ بِسَكَنٍ وَأَدْهَانْ و «الجَنّ» : مفعول به لا ظرف، نحو: «سكنت الدَّار» . وقيل: هي ظَرْف على الاتساع، وكان الأصل تعديته إليها ب «في» لكونها ظرف مكان مختصّ، وما بعد القول منصوب به. فصل في بيان هل الأمر في الآية للإباحة أو لغير ذلك اختلفوا في قوله: «اسكن» هل هو أمر أو إباحة؟ فروي عن قتادة: أن الله ابتلى آدم بإسكان الجنة كما ابْتَلَى الملائكة بالسُّجود، وذلك لأن كلفه بأن يكون في الجنّة يأكل منها حيث شاء، ونهاه عن شجرة واحدة. وقال آخرون: إن ذلك إباحة. والصحيح أن ذلك الإسكان مشتمل على إباحة، وهي الانتفاع بجميع نعم الجنة وعلى تكليف، وهو النهي عن أَكْلِ الشجرة. قال بعضهم: قوله: «اسكن» تنبيه عن الخُرُوج؛ لأن السُّكْنَى لا تكون ملكاً؛ لأن من اسكن رجلاً مَسْكَنَاً له فإنه لا يملكه بالسُّكْنى، وأن له يخرجُه منه إذا انقضت مدة الإسكان، وكان «الشَّعْبِيّ» يقول: إذا قال الرجل: داري لك سُكْنَى حتى تموت، فهي له حياته وموته، وإذا قال: داري هذه اسْكُنْهَا حتى تموت، فإنها ترجع إلى صاحبها إذا مَاتَ، ونحو السُّكْنَى العُمْرَى، إلا أن الخلاف في العُمْرَى أقوى منه في السُّكْنَى. قال «الحربي» : سمعت «ابن الأعرابي» يقول: لم يختلف العَرَبُ في أن هذه الأشياء على ملك أربابها، ومنافعها لمن جعلت له العُمْرَى والرُّقْبَى والإفقار والإخْبَال والمِنْحَة والعَرِيّة والسُّكْنَى والإطْراق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 فصل في وقت خلق حواء اختلفوا في الوَقْتِ الذي خلقت زوجته فيه، فذكر «السّدي» عن ابن مسعود، وابن عباس، وناس من الصَّحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهم: أن الله - تعالى - لما أخرج «إبليس» من الجنة، وأسكن آدم بقي فيها وَحْدَهُ ما كان معه من يَسْتَأنس به، فألقى الله - تعالى - عليه النَّوم، ثم أخذ ضلعاً من أضلاعه من شِقِّهِ الأيسر، ووضع مكانه لحماً، وخلق حواء منه، فلما استيقظ وَجَدَ عند رأسه امرأةً قاعدةً فسألها ما أنت؟ قال: امرأة. قيل: ولم سميت امرأة؟ قال: لأنها من المراء أخذت، فقالوا له: ما اسمها؟ قال: حَوّاء، قالوا: ولم سميت حواء؟ قال: لأنها خلقت من حََيّ. وعن «ابن عباس» رَضِيَ اللهُ عَنْهما قال: «بعث الله جنداً من الملائكة، فحملوا آدم وحَوّاء - عليهما السلام - على سَرِيْرٍ من ذهب كما يحمل الملوك، ولباسهما النور حتى أدخلا الجنّة» . فهذا الخبر يدلّ على أن حواء خلقت قبل إدخالهما الجنة. روى الحسن عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «إنَّ المرأة خلقت من ضِلع الرَّجُل، فإذا أردت تَقْوِيمَهَا كَسَرْتَها، وإن تركتها انْتَفَعْتَ بها واسْتَقَامَتْ» ، وهذا القول منقول «عن أبي بن كعب، وابن عباس ووهب بن منبه، وسفيان بن عُيَيْنَةَ» . واختاره ابن قتيبة في «المَغَازي» ، [والقاضي منذر بن سعيد البلوطي] وحكاه عن «أبي حنيفة» وأصحابه، وهو نصّ التوراة التي بأيدي أهل الكتاب. وفي رواية: «وإنْ أَعْوَجَ شَيءٍ في الضِّلْعِ أَعْلاَهُ؛ لن تستقيم لك على طَرِيقَةٍ واحدة، فإن اسْتَمْتََعْتَ بها، استمتعت وبها عِوَجٌ، وإن ذهبت تُقِيمُها كَسْرَتَهَا، وكَسْرُهَا طَلاَقُهَا» ؛ وقال الشاعر: [الطويل] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 390 - هِيَ الضَّلَعُ العَوْجَاءُ لَسْتَ تُقِيمُها ... أَلاَ إِنَّ تَقْوِيمَ الضُّلُوعِ انِكِسَارُهَا أَتَجْمَعُ ضَعْفَاً وَاقْتِداراً عَلَى الفَتَى ... أَلَيْسَ عَجِيباً ضَعْفُهَا وَاقْتِدَارُهَا فصل في بيان خلافهم في الجنة المقصودة اختلفوا في هذه الجنة هل كانت في الأرض أو في السماء؟ وبتقدير أنها كانت في السَّمَاء، فهل هي دار ثواب او جنّة الخُلْدِ؟ فقال أبو القاسم البَلْخِيّ، وأبو مسلم الأصفهاني: هذه الجنة كانت في الأرض وحملا الإهباط على الانتقال من بُقْعَةٍ إلى بُقْعَةٍ كما في قوله: {اهبطوا مِصْراً} [البقرة: 61] واحتجّا عليه بوجوه: أحدها: أن هذه الجنة لو كانت هي دار الثواب لكانت جنة الخلد، ولو كان آدم في جنة الخلد لما لحقه الغُرُورُ من إبليس ولما صحّ قوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} [الأعراف: 20] . وثانيهما: أن من دخل هذه الجَنَّة لا يخرج منها لقوله تعالى: {وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 48] . وثالثهما: أن إبليس لما امتنع عن السجود لعن فما كان يقدر مع غضب الله أن يصل إلى جنة الخلد. ورابعها: أن جنة الخلد لا يفنى نعيمها لقوله: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا} [هود: 108] إلى أن قال: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] أي: غير مقطوع. وخامسها: لا نزاع في أن الله - تعالى - خلق آدم في الأَرْضِ، ولم يذكر في هذه القصّة أنه نقله إلى السماء، ولو كان - تعالى - قد نقله إلى السَّماء لكان أولى بالذكر؛ لأن نقله من الأرض إلى السماء من أعظم النعم، فدلّ على أن ذلك لم يحصل، وذلك يوجب أن هذه الجنّة غير جنّة الخلد. وقال «الجُبَّائي» : أن تلك الجَنّة كانت في السَّمَاء السَّابعة، والدليل عليه قوله: «اهْبِطُوا مِنْهَا» ثم إنّ الاهباط الأول كان من السَّماء السَّابعة إلى السماء الأولى، والإهباط الثاني كان مِنَ السماء غلى الأرض. وقال أكثر العلماء: إنها دَارُ الثواب؛ لأنَّ الألف واللام في لفظ الجَنَّةِ لا يفيدان العموم؛ لأن سكون جميع الجِنَان مُحَال، فلا بد من صرفها إلى المَعْهُود السَّابق، وجنّة الخلد هي المعهودة بين المسلمين، فوجب صرف اللفظ إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 وقال بعضهم: الكُلّ ممكن، والأدلّة النقلية ضعيفة ومتعارضة، فوجب التوقٌّف وترك القطع، والله أعلم. فصل في إعراب الآية قوله: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} هذه الجملة عطف على «اسْكُنْ» ، فهي في محلّ نصب بالقول، وأصل «اؤكل» بهمزتين: الأولى هزة وصل، والثانية فاء الكلمة، فلو جاءت هذه الكلمة على الأصل لقيل: أوكلُ بإبدال الثانية حرفاً مجانساً لحركة ما قبلها، إلاّ أن العرب حذفت فاءه في الأمر تخفيفاً، فاستغنت حينئذ عن همزة الوَصْلِ، فوزنه إلاّ أن العرب حذفت فاءه في المر تخفيفاً، فاستغنت حينئذ عن همزة الوَصْلِ، فوزنه «عُلْ» ومثله: «خُذْ» و «مُرْ» ، ولا يقاس على هذه الأفعال غيرها، في تقول: من «أَجَرَ - جُر» ولا تَرَدُّ العرب هذه الفاء في العَطْفِ، بل تقول: «قم وخذ وكل» إلاَّ «مُرْ» ، فإن الكثير رَدّ فاءه بعد الواو والفاء، قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ} [طه: 132] ، وعدم الرد قليل. وحكى سيبويه «اؤكل» على الأصل، وهو شاذّ. وقال «ابن عطية» : حذفت النون من «كُلا» للأمر. وهذه العِبَارَةُ موهمةٌ لمذهب الكوفيين من أنّ الأمر عندهم معرب على التدريج، وهو عند البصريين محمول على المجزوم، فإن سكن المجزوم سكن المر منه، وإن حذف منه حرف حذف من الأمر. و «منها» متعلّق به، و «من» للتبعيض، ولا بُدّ من حذف مضاف أي: من ثمارها ويجوز أن تكون «من» لابتداء الغاية، وهو حسن. فإن قيل: ما الحكمة في عطفه هنا «وَكُلاّ» بالوا، وفي «العراف» بالفاء؟ والجواب: كلّ فعل عطف عليه شيء، وكان الفعل بمنزلة الشَّرط، وذلك الشَّيء بمنزلة الجزاء، عطف الثَّاني على الأوَّل بالفاء دون الواو، كقوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ مِنْهَا} [البقرة: 58] فعطف «كلوا» على «ادخلوا» بالفاء لما كان وجود الأكل منها متعلقاً بدخولها فكأنه قال: إن دخلتموها أكلتم منها، فالدُّخول موصل إلى الأَكْل، والكل متعلّق وجوده بوجوده يبين ذلك قوله في سورة «الأعراف» : {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية وَكُلُواْ} [الأعراف: 161] فعطف «كلوا» على قوله: «اسكنوا» بالواو دون الفاء؛ لأن «اسكنوا» من السُّكْنَى، وهو المقام مع طول اللّبْث والكل لا يختص وجوده بوجوده؛ لأن من دخل بستاناً قد يأكل منه، وإن كان مجتازاً، فلما لم يتعلّق الثاني بالأول تعلّق الجزاء بالشرط وجب العطف بالواو دون الفاء. إذا ثبت هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 فقوله: «اسكن» يقال لمن أراد منه، الزم المَكَان الذي دخلته، فلا تنفك عنه، ويقال أيضاً لمن لم يدخله: اسكن هذا المكان يعني: ادخله واسكن فيه، فقوله في سورة البقرة: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة وَكُلاَ} إنما ورد بعد أن كان آدم في الجنّة، فكان المُرَادُ منه اللُّبث والاستقرار، وقد بَيَّنَّا أن الأكل لا يتعلّق به، فلهذا ورد بلفظ الواو، وفي سورة «الأعراف» هذا الأمر إنما ورد قبل دخول الجَنّة، فكان المراد منه دخول الجنة، وقد بينا أن الأَكْلَ متعلّق به، فلهذا ورد بلفظ الفاء، والله اعلم. و «رَغَداً» نعت لمصدر مَحْذوف، وقد تقدم أن مذهب سيبويه في هذا ونحوه أن ينتصب حالاً. وقيل: هو مصدرٌ في موضع الحال أي: كُلاَ طَيِّبَيْنِ مُهَنَّأَيْنِ. وقرأ النَّخْعي: وابن وَثّاب: «رَغْداً» بسكون الغَيْنِ، وهي لغة «تميم» . وهذا فيه نظر، بل المنقول أن «فَعْلاً» بسكون العين إذا كانت عينه حَلْقِية لا يجوز فتحها عند البصريين؛ إلاّ أن يسمع فيقتصر عليه، ويكون ذلك على لُغِتِيْن؛ لأن إحداهُما مأخوذة من الأخرى. وأما الكوفيون فبعض هذا عندهم ذو لُغَتِيْنِ، وبعضه أصله السّكون، ويجوز فتحه قياساً، أما أن «فَعَلاً» المفتوح العين الحَلْقِيها يجوز فيه التسكين، فيجوز في السَّحر: السَّحْر، فهذا لا يجيزه أحد. و «الرَّغد» الواسع الهنيء؛ قال امرؤ القيس: [الرمل] 391 - بَيْنَمَا المَرْءُ تَرَاهُ نَاعِمَاً ... يَأْمَنُ الأَحْدَاثُ في عِيْشٍ رَغْدٍ ويقال: رَغُدَ عيشهم - بضم الغَيْن وبكسرها - وأرغد القوم: صاروا في رَغَدٍ. «حَيْثُ شِئْتُمَا» حيث: ظرف مكان، والمشهور بناؤها على الضم لشبهها بالحرف في الافتقار إلى جملة، وكانت حركتها ضمة تشبيهاً ب «قَبْلَ وَبَعْدَ» . ونقل «الكسائي» إعرابها عن «قيس» وفيها لغات: «حَيْث» بتثليث الثاء، و «حَوْث» بتثليثها أيضاً، ونقل: «حَاثَ» بالألف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 وهي لازمة الظرفية لا تتصرف، وقد تجر ب «من» كقوله تعالى: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] {مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 182] وهي لازمة للإضافة إلى جملة مطلقاً، ولا تضاف إلى المفرد إلا نادراً؛ قالوا: [الرجز] 392 - أَمَا تَرَى حَيْثُ سُهِيْلٍ طَالِعَا ... وقال آخر: [الطويل] 393 - وَنَطْعَنُهُمْ تَحْتَ الحُبَى بَعْدَ ضَرْبِهِمْ ... بِبيضِ المَوَاصْي حَيْثُ لَيَّ العَمَائِمِ وقد تزداد عليها «ما» فتجزم فعلين شرطاً وجزاءً ك «إن» ، ولا يجزم بها دون «ما» خلافاً لقوم، وقد تُشْرَبُ معنى التعليل، وزعم الأخفش أنها تكون ظرف زمان، وأنشد: [المديد] 394 - لِلْفِتَى عَقْلٌ يَعِيشُ بِهِ ... حَيْثُ تَهْدِي سَاقَهُ قَدَمُهْ ولا دليل فيه، لأنها على بابها. والعامل فيها هنا «كُلاَ» أي: كلا أي مكان شئتما «توسعه عليهما. وأجاز» أبو البقاءِ «أن تكون بدلاً من» الجنة «قال:» لأنّ الجنة مفعول بهما، فيكون حيث مفعولاً به «وفيه نظر؛ لأنها لا تتصرّف كما تقدّم إلا بالجر ب» من «. و» شئتما «الجملة في محلّ خفض بإضافة الظرف إليه. وهل الكسرة التي على لاشين أصل كقولك: جئتما وخفتما، أو محوّلة من فتحة لتدلّ على ذوات الياء نحو: يعتمد؟ قولان مبنيان على وزن شاء ما هو؟ فمذهب المبرد أنه:» فَعَل «بفتح العين، ومذهب سيبويه» فَعِل «بكسرها، ولا يخفى تصريفهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 قوله: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} » لا «ناهية و» تَقْرَبَا: مجزوم بها حذفت نونه. وقرئ: «تِقْرَبَا» بكسر حرف المُضَارعة، و «الألف» فاعل، وتقول: «قَرِبْتُ» الأمر «أَقْرَبَهُ» - بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع أي: التسبب به. وقال «الجَوْهَرِيّ» «قَرُبَ» - بالضم - «يَقْرُبُ» - «قُرْباً» أي دنا. وَ «قَرْبِتُه» - بالكسر - «قِرْبَاناً» دنوت منه. وَقَرَبت - أَقْرَبُ - قِرَابَةً - مثل: كَتَبت - أَكْتُبُ - كِتَابَةً - إذا سِرْتَ إلى الماء وبينك وبينه ليلة. وقيل: إذا قيل: لا تَقْرَب - بفتح الرَّاء كان معناه - لا تلتبس بالفِعْلِ، وإذا قيل: لا تَقْرَب - بالضَّم - لا تَدْنُ منه. و «هذه» مفعول به اسم إشارة للمؤنث، وفيها لُغات: هَذِيِ وَهَذِهِ وهَذِهِ بِكسر الهاء بإشباع [ودونه] «وَهَذِه» بسكونها و «هذِهْ» بكسر الذال فقط، والهاء بدل من الياء لقربها منها في الخفاء. قال «ابن عطية» ونقل أيضاً عن النَّحاس وليس في الكلام هاء تأنيث مكسور ما قبلها غير «هذه» ، وفيه نظر؛ لأن تلك الهاء التي تدلُّ على التأنيث ليست هذه؛ لأن «تيك» بدل من تاء التأنيث في الوقف، وأما هذه الهاء فلا دلالة لها على التأنيث، بل الدَّال عليه مجموع الكلمة كما لا يقال: الياء في «هذي» للتأنيث، وحكمها في القرب والبعد والتوسُّط، ودخول هاء التنبيه وكاف الخطاب حكم «ذا» وقد تقدم. ويقال فيها أيضاً: «تيكَ» و «تيلك» و «تَالِكَ؛ قال: [الوافر] 395 - تَعَلَّمْ أَنَّ بَعْدَ الغَيِّ رُشْدَاً ... وأَنَّ لِتَالِكَ العُمْرِ انْكِسَاراً قال هشام: ويقال:» تَا فَعَلَتْ «؛ وأنشد [الطويل] 396 - خَلِيلِيِّ لَوْلاَ سَاكِنُ الدَّارِ لَمْ أقِمْ ... بِتَا الدَّارِ إِلاَّ عَابِرَ ابْنِ سَبِيلِ و» الشجرة «بدل من» هذه «. وقيل: نعت لها لتأويلها بمشتقِّ، أي: بهذه الحاضرة من الشجر. والمشهور أنَّ اسم الإشارة إذا وقع بعده مشتقّ كان نعتاً له، وإن كان جامداً كان بدلاً منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 و» الشجرة «واحدة» الشجر «: اسم جنس، وهو ما كان على ساقٍ، وله أغصان، وقيل: لا حاجة إلى ذلك لقوله تعالى: {وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ} مع أنها كالزرع والبِطِّيخ، فلم يخرجه ذهابه على وجه الأرض من أن يكون شجراً. قال المبرد:» وأحسب كلّ ما تفرعت له عِيدان وأغصان، فالعرب تسميه شجراُ في وقت تشعبه «. وأصل هذا أنه كلما تشجر، أي: أخذ يَمْنَةٍ ويسره، يقال: رأيت فلاناً قد شجرته الرّماح، قال تعالى: {حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] وتَشَاجَرَ الرجُلاَنِ في أمر كذا. وقرئ:» الشَّجَرة «بكسر الشين والجيم، وبإبدالها ياءً مع فتح الشِّين، وكسرها؛ لقربها منها مخرجاً؛ كما أبدلت الجيم منها في قوله: [الرجز] 397 - يَارَبِّ لإِنْ كُنْتَ قَبِلْتَ حَجَّتجْ ... فَلاَ يَزالُ شَاححٌ يَأْتِيكَ بِخْ يريد: حجّتي وبي. وقال الراجز أيضاً: [الرجز] 398 - خَالِي عُوَيْفٌ وَاَبُو عَلِجْ ... أَلمُطْعِمَانِ اللَّحْمِ بالعِشِجّ يريد: أبو عَلِيّ، وبالْعَشِيّ. وقال الشاعر في» شيَرَة «: [الطويل] 399 - إذَا لَمْ يَكُنْ فِيكُنَّ ظِلٌّ وَلاَ جَنَى ... فَأَبْعَدَكُنَّ اللهُ مِنْ شِيرَاتِ وقال أبو عمرو: «إنما يقرأ بها برابر مكة وسودانها، وجمعت» الشَّجَرَةِ «على» شَجْرَاء «، ولم يأت جمع على هذه الزِّنَةِ إلا قَصَبة وقَصْبَاء، وطَرَفَة وطَرْفَاء، وحَلَفَة وحَلْفَاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 وكان الأصمعي يقول:» حَلِفَة - بكسر اللام «وعند سيبويه أن هذه الألفاظ واحدة وجمع. و» المشجرة «: موضع الأشجار، وأرض مشجرة، وهذه الأرض أشجر من هذه أي أكثر شجراً، قاله الجوهري. فصل في جنس الشجرة المذكورة اختلف العلماء في هذه الشجرة المنهي عنها، فروي عن بعض العلماء أنه نهى عن جنس من الشجر. وقال آخرون: إنما نهى عن شَجَرِ بعينه، واختلفوا في تلك الشجرة. روى السُّدى عن ابن مسعود، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وجَعْدَة بن هُبَيْرَةَ هي الكَرْمُ، ولذلك حرمت علينا الخَمْرُ. وقال ابن عباس أيضاً: وأبو مالك وقتادة، ورواه أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللهُ عَنْه - عن النّبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هي السُّنْبُلة، والحَبَّة منها كشكل البقر، أحلى من العَسَلِ، وألين من الزّبد، قاله وهب بن منبّه. ونقل ابن جريج عن بعض الصحابة أنها التين، وهو مروي أيضاً عن مجاهد وقتادة، ولذلك تعتبر في الرُّؤيا بالندامة لآكلها، ذكره السهيلي. وروي عن قتادة أيضاً هي شجرة العلم، وفيها من كل شيء. وقال عَلِيّ: شجرة الكافور. فصل في الإشعار بأن سكنى آدم لا تدوم. قال بعض أرباب المعاني في قوله:» ولا تقربا «إشعار بالوقوع في الخَطِيئَةِ، والخروج من الجنة، وانَّ سُكْنَاهُ فيها لا يدوم، لأن المخلد لا يخطر عليه شيء، والدليل على هذا قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30] فدلّ على خروجه منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 فصل في المراد بالنهي عن الكل من الشجرة هذا النهي نهي تحريم، أو تنزيه؟ فيه خلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 قال قوم: هذا نهي تَنْزيه؛ لأن هذه الصِّيغة وردت في التنزيه والتحريم، والأصل عدم الاشتراك فلا بُدّ من جعل اللفظ حقيقةً في القَدْرِ المشترك بين القسمين، وما ذلك إلاَّ أن يجعل حقيقة في ترجيح جانب الترك على جانب الفعل، من غير أن يكون فيه دلالة على المنع من الفعل، أو الإطلاق فيه كان ثابتاً بحكم الأصل، عدم الاشتراك فلا بُدّ من جعل اللفظ حقيقةً في القَدْرِ المشترك بين القسمين، وما ذلك إلاَّ أن يجعل حقيقة في ترجيح جانب الترك على جانب الفعل، من غير أن يكون فيه دلالة على المنع من الفعل، أو الإطلاق فيه كان ثابتاً بحكم الأصل، فإن الأصل في المَنَافِع الإباحة، فإذا ضممنا مَدْلَولَ اللفظ إلى هذا الأصل صار المجموع دليلاً على التنزيه، قالوا: وهذا هو الأولى بهذا المَقَام؛ لأنّ على هذا التقدير يرجع حاصل معصية آدم - عليه الصلاة والسَّلام - إلى ترك الأولى، ومعلوم أن كل مذهب أفضى إلى عِصْمَةِ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - كان أولى. وقال آخرون: بل هذا نهي تحريم، واحتجوا عليه بأمور: أحدها: أن قوله: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} كقوله: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} [الإسراء: 34] فكما أن هذا للتحريم فكذا الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 وثانيهما: قوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} أي: إن أكلتما منهما ظلمتما أنفسكما ألا ترى لما أكلا {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] . وثالثهما: لو كان للتنزيه لما استحقّ آدم بفعله الإخراج من الجنة، ولما وجبت التوبة عليه. قال ابن الخطيب: الجواب عن الأول: أن النهي وإن كان في الأَصْلِ للتنزيه، لكنه قد يحمل على التحريم بدليل منفصل. وعن الثاني: أن قوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} أي: فتظلما أنفسكما بفعل ما الأولى بكما تركه؛ لأنكما إذا فعلتما ذلك أخرجتما من الجنّة التي لا تظمآن فيها، ولا تَضْحَيَان ولا تَجُوعان ولا تَقْرُبَان إلى موضع ليس فيه شيء من هذا. وعن الثالث: أنا لا نسلم أن الإخراج من الجنّة كان لهذا السبب. فصل في فحوى الآية قال قوم قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} يفيد بِفَحْوَاهُ النهي عن الأكل؛ وفيه نظر لأن النهي عن القُربان لا يستلزم النهي عن الأَكْلِ؛ إذ ربما كان الصلاح في ترك قربها مع انه لو حمل إليه لجاز له أكله، بل الظاهر [إنما] يتناول النهي عن القرب. وأما النهي عن الكل، فإنما عرف بدلائل أخرى وهي قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} [الأعراف: 22] ولأنه حدث الكلام بالأكل فقال: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} فصار ذلك كالدّلاَلَةِ على أنه تعالى نَهَاهُمَا عن أكل ثمرة الشَّجرة، لكن النهي بهذا القول يعم الكل، وسائر الانتفاعات، ولو كان نصّ على الأكل ما كان يعمّ ذلك، ففيه مزيد فائدة. قوله: {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} فتكونا: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون مجزوماً عطفاً على «تَقْرَبا» ؛ كقوله: [الطويل] 400 - فَقُلْتُ لَهُ: صَوِّبْ وَلاَ تَجْهَدَنَّهُ ... فِيُدْرِكُ مِنْ أَعْلَى القَطَاةِ فَتَزْلَقِ والثَّاني: أنه منصوب على جواب النَّهْي لقوله تعالى: {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ} [طه: 81] والنصب بإضمار «أن» عند البَصْريين، وبالفَاءِ نفسها عند الجرمي، وبالخلاف عند الكوفيين. وهكذا كل ما يأتي مثل هذا. و «الظَّالِمِينَ» خبر «كان» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 و «الظلم» : وضْع الشَّيْ في غَيْرَ موضعه، ومنه قيل للأرض الَّتي لم تستحقَّ الحَفْر، فتحفر: مَظْلُومة، قال النابغة: [البسيط] 401 - إِلاَّ الأَوَارِيَّ لأْياً مَا أُبَيِّنُهَا ... وَالنُّؤْيُ كَالحَوْضِ بَالمَظْلُومَةِ الجَلَدِ وقيل: سميت مظلومةً؛ لأنَّ المَطَر لم يأتها، قال عَمْرُو بْنُ قَمِيئَةَ: [الكامل] 402 - ظَلَمَ البِطَاحَ بِهَا انْهِلاَلُ حَرِيصَةٍ ... فَصَفَا النِّطافُ بِهَا بُعَيْدَ المُقْلِعِ وقالوا: «مَنْ أَشْبَهَ أَبَاهُ فَمَا ظَلَمَ» ؛ قال: [الرجز] 403 - بِأَبِهِ اقْتَدَى عَدِيُّ في الكَرَمْ ... وَمَنْ يُشَابِهُ أَبَهُ فَمَا ظَلَمْ والمراد من الآية هو أنكما إن أكلتما منها فقد ظلمتما أنفسكما؛ لأن الأكل من الشجرة لا يقتضي ظُلْمَ الغير، وقد يكون ظالماً بأن يظلم نفسه، وبأن يظلم غيره، فظلم النفس اعم وأعظم. والظلم على وجوه: الأول: ظلم الظَّالم لنفسه بالمعصية كهذه الآية أي: فتكونا من العاصين. الثاني: الظَّالمون المشركون، قال تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18] يعني: المشركين. الثالث: الظلم: الضرر، قال تعالى: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [النحل: 118] ، أي: ما ضررناهم، ولكن كانوا أنفسهم يضرون. الرابع: الظلم: الجحود، قال تعالى: {وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} [الأعراف: 51] ومثله: «فَظَلَمُوا بِهَا» أي: فجحدوا بها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 المفعول في قوله: «فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطََانِ» واجب التقديم، لأنه ضمير متّصل، والفاعل ظاهر، وكل ما كان كذا فهذا حكمه. وقرأ «حمزة» : «فأَزَالَهُمَا» والقراءتان يحتمل أن تكونا بمعنى واحد، وذلك أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 قراءة الجماعة «أزلهما» يجوز أن تكون من «زَلَّ عَنِ المَكَانِ» : إذا تنحى عنه، فتكون من الزوال كقراءة «حمزة» ، ويدل عليه قول امرئ القيس: [الطويل] 404 - كُمَيْتٍ يَزِلُّ اللِّبْدُ عَنْ حَالِ مَتْنِهِ ... كَمَا زَلَّتْ الصَّفْوَاءُ بِالمُتَنَزِّلِ وقال أيضاً: [الطويل] 405 - يَزِلُّ الغُلاَمُ الخِفُّ عَنْ صَهَوَاتِهِ ... وِيُلْوِي بِأَثْوَابِ العَنِيفِ المُثَقَّلِ فرددنا قراءة الجماعة إلى قراءة «حمزة» ، أو نرد قراءة «حمزة» إلى قراءة الجماعة بأن نقول: معنى أزالهما: أي صرفهما عن طاعة الله، فأوقعهما في الزِّلةِ؛ لأن إغواءه وإيقاعه لهما في الزِّلة سبب للزوال، ويحتمل أن تفيد كل قراءة معنى مستقلاً، فقراءة الجماعة تؤذن بإيقاعها في الزِّلةِ، فيكون «زلّ» بمعنى: استزلّ، وقراءة: حمزة «تؤذن بتنحيتهما عن مكانهما، ولا بُدَّ من المجاز في كِلْتَا القراءتين، لأن الزَّلَلَ أصله من زلّة القدم، فاستعمل هنا في زلّة الرأي والتنحية لا يقدر عليها الشَّيطان، وإنما يقدر على الوسوسة التي هي سبب التنحية. و» عنها «متعلّق بالفعل قبله، ومعنى» عن «هنا السَّببية إن أعدنا الضمير على» الشجرة «أي: أوقعهما في الزِّلة بسبب الشجرة. قال» الزَّمخشري «لفظة» عن «في هذه الآية كما في قوله: {وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي} [الكهف: 82] . ويجوز أن تكون على بابها من المُجاوزة إن عاد الضمير على» الجنّة «، وهو الأظهر، لتقدّم ذكرها، وتجيء عليه قراءة» حمزة «واضحة، ولا تظهر قراءته كلّ الظُهور على كون الضمير ل» الشجرة «. قال» ابن عطيّة «فأما من قرأ» أزالهما «فإنه يعود على» الجنة «فقط. وقيل: الضَّمير للطاعة، أو للحالة، أو للسماء، وإن لم يجر لهما ذكر لدلالة السياق عليهما. وهذا بعيد جدَّا. فإن قيل: إن الله - تعالى - قد أضاف الإزْلاَل إلى» إبليس «فلم عاتبهما على ذلك الفعل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 والجواب: أن قوله:» فأزلهما «أنهما عند وَسْوَسَتِهِ أتيا بذلك الفعل، وأضيف ذلك إلى» إبليس «كما في قوله: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً} [نوح: 6] قال تعالى حاكياً عن إبليس: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22] ، هذا قول المعتزلة، والتحقيق في هذه الإضافة ما ذكرناه، وهو أن القادر على الفعل والترك مع التَّسَاوي يستحيل أن يكون موجداً لأحد هذين الأمرين إلا عند انضمام الدَّاعي إليه، والدَّاعي في حَقّ العبد عبارة عن علم أو ظن، أو اعتقاد بكون الفعل مشتملاً على مصلحةٍ، فإذا حصل ذلك العلم أو الظن بسبب منبّه نبه عليه كان الفعل مضافاً إلى ذلك المنبّه؛ لأنه هو الفاعل لما لأجله صار الفَاعِلُ بالقوة فاعلاً بالفعل، فهكذا المَعْنَى انضاف - ها هنا - إلى الوسوسة. فإن قيل: كيف كانت الوَسْوَسَةُ؟ فالجواب: هي التي حكى الله عنها في قوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} [الأعراف: 20] فلم يقبلا ذلك منه، فلما أيس عدل إلى اليمين على ما قال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] فلم يصدقاه. والظاهر أنه بعد ذلك عَدَلَ إلى شيء آخر، وهو أنه شغلهما باستيفاء اللاَّت المُبَاحَة حتى صارا مستغرقين فيها، فَحَصَلَ بسبب استغراقهما فيها نِسْيَان النهي، فعند ذلك حصل ما حصل، والله اعلم. فصل في بيان كيف وسوس إبليس لآدم اختلفوا في أنه كيف تمكّن إبليس من وَسْوَسَةِ آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع أن إبليس كان خارج الجنّة، وآدم عليه الصَّلاة والسَّلام داخل الجنّة؟ وذكروا فيه وجوهاً: أحدها: ما روي عن وهب بن منبّه والسدي عن ابن عباس وغيره: أن إبليس أراد دخول الجنة، فمنعته الخزنة، فأتى الحية بعد ما عرض نفسه على سائر الحيوانات فما قبله واحد من الحيوانات، فابتلعته الحية وأدخلته الجَنَّة خفية من الخَزَنَةِ، فلما دخلت الحَيّة الجنة خرج إبليس من فيها واشتغل بالوَسْوَسَةِ، فلا جرم لعنت الحَيّةِ، وسقطت قوائمها، وصارت تمشي على بطنها، وجعل رزقها في التراب، وصارت عدواً بني آدم، وأمرنا بقتلها في الحِلّ والحَرَمِ. قال ابن الخطيب: وهذا وأمثاله يجب ألا يلتفت إليه؛ لأن إبليس لو قدر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 الدخول في فَمِ الحيّة فلم يقدر على أن يجعل نَفسه حَيّة ثم يدخل الجَنَة؟ ولأن الحية لو فعلت ذلك، فلم عوقبت مع أنها ليست بعاقلة ولا مكلفة؟ وأيضاً فلما خرج من بطنها صارت في الجنة كانت الملائكة والخزنة يرونه. وثانيها: أن «إبليس» دخل الجَنَّة في صورة دَابّة، وهذا القول أقلّ فساداً من الأول. وثالثها: قال بعض أَهْلِ الأصول: لعلّ آدم وحَوّاء - عليهما السلام - كانا يخرجان إلى باب الجنة، وإبليس كان بقرب الماء يُوَسْوِسُ لهما. ورابعها: قال الحسن: كان إبليس في الأرض، وأوصل الوَسْوَسَةَ إليهما في الجنَة. قال بعضهم: هذا بعيد؛ لأن الوسوسة كلام خفيّ، والكلام الخفيّ لا يمكن إيصاله من الأرض إلى السَّماء. واختلفوا في أن «إبليس» باشر خطابهما، أو أوصل الوسوسة إليهما على لسان بعض أتباعه. حجّة الأول: قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] {فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ} [الأعراف: 22] . وحجّة الثاني: أن آدَمَ وحواء - عليهما الصَّلاة والسَّلام - كان يعرفانه، ويعرفان ما عنده من العداوة والحَسَد، فيستحيل في العادة أن يقبلا قوله، فلا بد وأن يكون المباشر للوسوسة بعض أتباع إبليس. وقد يُجَاب عن هذا بأن إبليس لما خالف أمر ربّه ولعن لعلّه انتقل من تلك الصورة التي يُعْرَفُ بها إلى صورة أخرى، ولعلّ إبليس تشكّل لهما في صورة لا يعرفانها، فإن له قدرة التشكل، والله أعلم. فصل في بيان أن آدم عصى ربه ناسياً اختلفوا في صدور ذلك الفعل عن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بعد النبوة، هل فعله ناسياً أو ذاكراً؟ قال طائفة من المتكلَمين: فعله ناسياً، واحتجوا بقوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] ومثلوه بالصَّائم إذا أكل ناسياً، وهذا باطل من وجهين: الأول: قوله تعالى: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} [الأعراف: 20] . وقوله: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] يدلّ على أنه ما نسي النهي حال الإقدام. الثاني: أنه لو كان ناسياً لما عوتب على ذلك الفعل. أما من حيث العقل فلأن الناسي غير قادر على الفعل فلا يكون مكلفاً به لقوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَ} [البقرة: 286] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 وأما من حيث النقل فلقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «رُفعَ عَنْ أمّتي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ» . وقد يجاب عن الأول بأنا لا نسلّم أن آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - قَبَلاَ من إبليس ذلك الكلام وصَدّقاه؛ لأنهما لو صدقاه لكانت معصيتهما في ذلك التصديق أعظم من أكل الشَّجرة؛ لأن إبليس لما قال لهما: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} [الأعراف: 20] الآية فقد ألقى إليهما سوء الظَّن بالله - تعالى - ودعاهما إلى ترك التَّسْلِيم لأمره، والرضا بحكمه، وان يعتقدوا فيه كون إبليس ناصحاً لهما، وأن الرب - تَعَالَى - قد غضهما ولا شك أن هذه الأشياء أعظم من أكل الشجرة، فوجب أن تكون المُعَاتَبَةِ في ذلك أشد، وأيضاً آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان عالماً بتمرد «إبليس» ، وكونه مبغضاً له وحاسداً له، فكيف يجوز من العاقل أن يقبل قول عدوّه مع هذه القرائن، وليس في الآية أنهما أقدما على ذلك الفعل عند ذلك الكلام. وأما الجواب الثاني: فهو أن العتاب إنما حصل على قلّة التحفُّظ من سباب النسيان، وهذا الضرب من السَّهو موضوع عن المسلمين، وقد كان يجوز أن يؤاخذوا به، وليس بموضوع عن الأنبياء لعظم خَطَرِهِمْ ومثّلوه بقوله: {يانسآء النبي لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النسآء} [الأحزاب: 32] ، ثم قال: {مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] . وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَشَدُّ النَّاس بَلاَءً الأنبياءُ ثم الأوْلِيَاءُ ثم الأَمْثَلُ فالأَمْثَلُ» ، ولقد كان على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من التَّشْديدات في التَّكليف ما لم يَكُنْ على غيره. وذكر بعض المفسّرين أن حوّاء سقته الخَمْرَ، فسكر وزفي أثناء السّكر فعل ذلك قالوا وهذا ليس ببعيد؛ عليه الصَّلاة والسَّلام - كان مأذوناً له في تناول كل الأشياء سوى تلك الشجرة، فكان مأذوناً له في تناول الخمر، ولقائل أن يقول: إن خمر الجَنَّة لا يسكر لقوله تعالى في صفة خمر الجنة: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] . القول الثاني: أن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فعله عامداً؛ فها هنا قولان: أحدهما: أن ذلك النهي نهي تَنْزِيِهِ، لا نهي تحريم، وقد تقدم. الثاني: أنه تعمّد وأقدم على الكل بسبب اجتهاد أخطأ فيه، وذلك لا يقتضي كون الذَّنْبِ كبيرة، وهذا اختيار أكثر المعتزلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 وبيان خطأ الاجتهاد أنه لما قيل له: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} [الأعراف: 19] فلفظ «هذه» يشار به إلى الشَّخص، وقد يشار به إلى النوع، كما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - اخذ حريراً وذهباً بيده وقال: «هَذَانِ حَلاَلٌ لإنَاثِ أمّتِي حَرَامٌ على ذُكُرِهَا» وأراد به توعهما، وتوضأ مرة وقال: «هذا وُضُوءٌ لا يقبل الله الصَّلاةَ إلاَّ به» وأراد نوعه، فلما سمع آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قوله: «ولا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ» ظنّ أن النهي إنما يتناول تلك الشجرة المعينة، فتركها وتناول من شجرة أخرى من ذلك النوع، فكان مخطئاً في ذلك الاجتهاد؛ لأن مراد الله - تعالى - النهي عن النوع لا عن الشخص. والاجتهاد في الفروع إذا كان خطأً لا يوجب استحقاق العقاب لاحتمال كونه صغيرةً مغفورة كما في شرعنا. فغن قيل: الكلام على هذا القول من وجوه: أحدها: أن كلمة «هذا» في أصل اللغة للإشارة إلى الشَّيء الحاضر، وهو لا يكون إلا شيئاً معيناً، فإن أشير بها إلى النوع، فذاك على خلاف الأصل، وأيضاً فأنه - تعالى - لا تجوز الإشارة عليه، فوجب ان يكون أمر بعض الملائكة بالإشَارَةِ إلى ذلك الشَّخص، فكان ما عداه خارجاً عن النهي لا مَحَالة، وإذا ثبت هذا فالمجتهد مكلف يحمل اللفظ على حقيقته، فأدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما حمل لفظ «هذه» على المُعَيّن كان قد فعل الواجب، ولا يجوز له حمله على النوع، وهذا متأيد بأمرين: أحدهما: أن قوله: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا} [البقرة: 35] أفاد الإذْنَ في تناول كل ما في الجنّة إلا ما خصه الدليل. والثاني: أن العقل يقتضي حلّ الانتفاع بجميع المَنَافِع إلاَّ ما خصّه الدليل، والدليل المخصص لم يدلّ على ذلك المعيّن، وإذا ثبت هذا امتنع أن يستحقّ بسبب تناول غيره وغن كان من ذلك النوع المنهي عنه عتاباً، فوجب على هذا أن يكون مصيباً لا مخطئاً. الاعتراض الثاني: هب أن لفظة «هذه» مترددة بين الشخص والنوع، ولكن هل قرن الله بهذا اللَّفْظ ما يدلّ على أن المراد منه النوع دون الشخص أو لا؟ فإن قرن به، فإما أن يقال: إن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قصر في معرفة ذلك البيان، فحينئذ يكون قد أتى بالذَّنب وإن لم يقصر بل عرفه، فحينئذ يكون إِقْدَامه على التَّناول من شَجَرَة من ذلك النوع إقداماً على الذنب قصداً. الاعتراض الثالث: أن الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - لا يجوز لهم الاجْتِهَادُ؛ لأن الاجتهاد إقدام على العمل بالظنّ وذلك إنما يجوز في حَقّ من لا يتمكن من تحصيل العلم، أمّا الأنبياء فإنهم قادرون على تَحْصِيلِ اليقين، فوجب ألا يجوز لهم الاجتهاد؛ لأن الاكتفاء بالظن مع القدرة على تحصيل اليقين غير جائز عقلاً وشرعاً، وذا ثبت ذلك ثبت أن افقدام على الاجتهاد معصية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 الاعتراض الرابع: هذه المسألة إما أن تكون من المَسَائل القَطْعِية او الظنية، فإن كانت من القطيعات كان الخطأ فيها كبيراً، وحينئذ يعود الإشكال، وإن كانت من الظَّنيات فإن قلنا: إن كل مجتهد مصيب فلا يتحقّق الخطأ فيها أصلاً. وإن قلنا: المصيب فيها واحد، والمخطيء فيها معذور بالاتفاق، فكيف صار هذا القدر من الخطأ سبباً لإخراج آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من الجنة؟ والجواب عن الأوّل: أن لفظة «هذا» وإن كان في الأصل إشارة إلى الشَّخص، لكنه قد يستعمل في الإشارة إلى النوع كما تقدم بيانه. والجواب عن الثاني: أن الله - سبحانه وتعالى - كان قد قرن به ما دلّ على أنّ المراد هو النوع، لكن لعلّ آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قصر في معرفة ذلك الدَّليل؛ لأنه ظنّ أنه لا يلزمه ذلك في الحال. أو يقال: إنه عرف ذلك الدليل في وقت ما نهاه الله - تعالى - عن عين الشَّجرة، فلما طالت المدة غفل عنه، لأن في الخبر أن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بقي في الجَنّة الدهر الطويل، ثم اخرج. والجواب عن الثالث: أنه لا حاجة ها هنا إلى إثبات أن الأنبياء تمسَّكوا بالاجتهاد، فإنَّا بيَّنَّا أن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قصّر في معرفة تلك الدّلالة، وإن كان قد عرفها، لكنه قد نسيها، وهو المراد من قوله تعالى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] . والجواب عن الرَّابع: يمكن أن يقال [كانت] الدلالة قطيعة [إلا أنه]- عليه الصَّلاة والسَّلام - لما نسيها صار النِّسْيان عذراً في ألاّ يصير الذنب كبيراً، أو يقال: كانت ظنيةً إلاَّ أنه ترتَّب عليه من التَّشديدات ما لم يترتّب على خطأ سائر المجتهدين؛ لأن ذلك يجوز أن يختلف باختلاف الأشخاص، وكما أن الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - مخصوص بأمور كثيرة في باب التَّشديدات بما لا يثبت في حق المة فكذا ها هنا. واعلم أنه يمكن أن يقال في المسألة وجه آخر، وهو أنه - تعالى - لما قال: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} [الأعراف: 19] فهم آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - من هذا النهي أنهما إنما نُهِيَا حال اجتماعهما؛ لأن قوله: «وَلاَ تَقْرَبَا» نهي لهما عن الجمع، ولا يلزم من حصول النهي حال الاجتماع حصوله حال الاجتماع حال الانفراد، فلعل الخطأ في الاجتهاد إنما وقع من هذا الوجه. قوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 «الفاء» - هنا - فاء السببية. وقال المَهْدَويّ: إذا جعل «فأزلهما» بمعنى زلَّ عن المضكَان كان قوله: {فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} توكيداً، إذ قد يمكن أن يزولا عن مكان كانا فيه إلى مكان آخر، وزهذا الذي قال المَهْدَوِيّ أشبه شيء بالتأسيس لا التأكيد، لإفادته معنى جديداً. قال «ابن عطية» : وهنا محذوف يدلّ عليه الظاهر تقديره: فأكلا من الشَّجرة، يعني بذلك أن المحذوف [يقدر] قبل قوله: «فَأَزَلَّهُمَا» . و «مَمَّا كَانَا» متعلّق ب «اخرج» ، و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، وأن تكون نكرة موصوفة، أي: من المكان أو النعيم الَّذِي كانا فيه، أو من مكان، أو نعيم كانا فيه، فالجملة من «كان» واسمها وخبرها لا مضحَلّ لها على الأوّل ومحلّها الجَرّ على الثاني، و «من» لابتداء الغابة. فصل في قصة الإغواء روي عن ابن عبّاس، وقتادة قال الله تعالى لآدم: أَلَمْ يك فيما أبحتك الجَنّة مَنْدُوحَة عن الشَّجَرة، قال: بلى يا رَبّ وعزّتك، ولكن ما ظننت أن احداً يحلف بك كاذباً قال: فبعزّتي لأهبطنّك إلى الأرض، ثم لا تَنَالُ العيش إلا كدّاً، فأهبطا من الجنة، فكانا يأكلان فيها رغداً فعلم [صنعة] الحديد، وامر بالحَرْثِ فحرث وزرع وسقى، حتى إذا بلغ حصد، ثم دَاسَهُ، ثم ذَرَاه، ثم طحنه، ثم خبزه، ثم أكله، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله تعالى. ويروي أن «إبليس» أخذ من الشجرة التي نهى آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - عنها فجاء بها إلى حَوّاء فقال: انظري إلى هذه الشَّجرة ما أطيب ريحها، وأطيب طعمها، وأحسن لَوْنَهَا، فلم يزل يغويها حتى أخذتها فأكلتها وقالت لآدم: كُلْ فإني قد أكلت فلم تضرني، فأكل منها فبدت لهما سَوْآتهما، [وبقيا] عرايا، فطلبا ما يستتران به، فتباعدت الأشجار عنهما، وبكّتوه بالمعصية، فرحمته شجرة التين، فأخذ من وَرقها، فاسْتَتَرُوا به فَبُلِيَ بالعُرْيِ دون الشجر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 وقيل لحواء: كما أدميت الشجرة، فذلك يصيبك الدّم كلّ شهر، وتََحْمِلين وتَضَعِيِن كرهاً، وتُشْرفين [به] على المضوْتِ، وزاد الطبري والنَّقاش، وتكونين سفيهةً وقد كنت حليمةً [ولعنت] الحية وردّت قوائمها في جَوْفِهَا، وجعلت العداوة بينها وبين بني آدم، ولذلك أمرنا بِقِتْلِهَا. قوله: {اهبطوا} جملة أمرية في محلّ نصب بالقول قبلها، وحذفت الألف من «اهبِطُوا» في اللفظ؛ لأنها ألف وصل، وحذفت الألف من «قلنا» في اللفظ؛ لسكونها وسكون الهاء بعدها. وقرئ: «اهْبُطُوا» بضم الباء، وهو كثير في غير المتعدّي. وأما الماضي ف «هَبَطَ» بالفتح فقط، وجاء في مضارعه اللّغتان، والمصدر «الهبوط» بالضم، وهو النزول. وقيل: الانتقال مطلقاً. وقال المفضل: الهبوط: الخروج من البلد، وهو - أيضاً - الدخول. وفيه نظر: لأن «إبليس» حين أَبَى عن السُّجود أخرج من الجنة لقوله تعالى: {فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف: 13] وقوله: {فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} [الحجر: 34] وزلة آدم وحَوّاء إنما وقعت بعد ذلك بمدّة طوسلة، فكيف يكون متناولاً له فيها وهو من الأضداد؟ والضمير في «اهبطوا» الظاهر أنه لجماعة، فقيل: لآدم وحواء والحيّة وإبليس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 وقيل: لهما وللحيّة. وفيه بعد؛ لأنّ المكلفين بالإجماع هم المَلاَئكة والجنّ والإنس. وقيل: لهما وللوسوسة. وفيه بعد. وقيل: لبني آدم وبني إبْلِيِسَ، وهذا وإن كان نقل عن «مُجَاهد والحَسَن» لا ينبغي أن يقال؛ لأنهما لم يولد لهما في الجنة بالاتفاق. وقال الزَّمَخْشَرِيّ: إنه يعود لآدم وحواء، والمراد هما وذرّيتهما؛ لأنهما لما كانا أصل الإنس ومتشعّبهم جعلا كأنهما الإنس كلهم، ويدلّ عليه: {قَالَ اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً} [طه: 123] . وهذا ضعيف؛ لأن الذّرية ما كانوا موجودين في ذلك الوَقْتِ، فكيف يتناولهم الخطاب؟ أما من زعم ان أقل الجمع اثنان، فلا يرد عليه شيء من هذا. قوله: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} هذه جملة من مبتدأ وخبر، وفيها قولان: أصحهما: أنها في محل نصب على الحال، أي اهبطوا متعادين. والثاني: أنها لا محل لها؛ لأنها استئناف إخبار بالعداوة. وأفرد لفظ «عدو» وإن كان المراد به جمعاً لأحد وجهين: إما اعتباراً بلفظة «بعض» فإنه مفرد، وإمّا لأن «عدوَّا» أشبه بالمَصادر في الوزن ك «القَبُول» ونحوه. وقد صرح «أبو البقاء» بأن بعضهم جعل «عدوّا» مصدراً، قال: وقيل: «عدو» مصدر ك «القبول والولوع» ، فلذلك لم يجمع. وعبارة «مكي» قريبة من هذا. فإنه قال: وإنما وحد وقبله جمع؛ لأنه بمعنى المصدر، تقديره: «ذوي عداوة» ونحوه: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} [الشعراء: 77] و {هُمُ العدو فاحذرهم} [المنافقون: 4] . واشتقاق العدو من «عدا» - «يعدو» : إذا ظلم. وقيل: من «عَدَا» - «يَعْدُو» : إذا جاوز الحق، وهما متقاربان. وقيل: من عَدْوَتَي الجبل، وهما طَرَفَاه، فاعتبروا بعد ما بينهما. ويقال: عدْوَة، وقد يجمع على «اعداء» . فأما حصول العداوة بين آدم ولإبليس فلقوله تعالى: {ياآدم إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ} [طه: 117] ، وقوله: {إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً} [فاطر: 6] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 وأما عداوة الحَيّة فلما نقله أهل التفسير من إدخاله إبليس في فِيِها، وقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اقتلوا الحَيَّات صَغِيرَهَا وكَبِيرَهَا وأَبْيَضَهَا وأَسْوَدَهَا، فإن من قتلها كانت له فِدَاءً من النار ومن قَتَلَتْهُ كان شهيداً» . وما كان من الحيات في البيوت فلا يُقْتَل حتى يؤذن ثلاثة أيام؛ لقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن بالمَدِينَةِ جِنَّا قد أسلموا، فإذا رَأَيْتُمْ منهم شيئاً فآذنوه ثلاثة أيام، فإن بَدَا لكم بعد ذلك فَاقْتُلُوه فإنما هو شَيْطَان» . وفي رواية: «إنَّ لهذه البيوت عَوَامِرَ فإذا رَأَيْتُمْ شيئاً منها فَحَرَّجُوا عليها ثلاثاً، فإن ذهب وإلا فَاقْتُلُوهُ فإنه كافر» . وصفة الإنذار أن يقول: أنذرتكم بالعَهْدِ الذي أخذه عليكم سليمان - عليه الصَّلاة والسَّلام - أن تخرجوا. واما كون الجنّ حيات فلقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «الجنّ على ثَلاَثَةِ أثْلاثِ فثُلُثٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يِطِيرُونَ في الهَوَاءِ، وثُلث حَيَّت وكِلاَب، وثُلُث يَحلُّونَ وَيَظْعَنُونَ» . واللاَّم في «لِبَعْضٍ» متعلقة ب «عدو» ، فلما قدم عليه انتصب حالاً، فتتعلق اللام حينئذٍ بمحذوف، وهذه الجملة الحالية لا حاجة إلى ادّعاء حذف «واو» الحال منها؛ لأن الرَّبْطَ حصل بالضمير، وإن كان الكثر في الجمل الاسمية الواقعة حالاً أن تقترن بالواو. و «البعض» في الأصل مصدر بَعضَ الشيء يَبْغَضُهُ، إذا قطعه فأطلق على القطعة من النَّاس؛ لأنها قطعة منه، وهو مقابل «كلاًّ» ، وحكمه حكمه في لزوم الإضَافَةِ معنى، وأنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 معرفة بنيّة الإضافة فلا تدخل عليه «أل» وينتصب عنه الحال؛ تقول: «مررت ببعض جالساً» وله لفظ ومعنى، وقد تقدم تقرير ذلك. تنبيه من قال: إن جنّة آدم كانت في السماء فسّر الهبوط بالنزول من العُلُو إلى أسفل، ومن قال: إنها كانت في الأرض فسره بالتحوّل من مكان إلى آخر كقوله: {اهبطوا مِصْراً} [البقرة: 61] . هذه الجملة يجوز فيها الوجهان المتقدّمان في الجملة قبلها من الحالية، والاستئناف كأنه قيل: اهبطوا مثَُعَادين، ومستحقين الاستقرار. و «لكم» خبر مقدم. و «في الأرض» متعلّق بما تعلّق به الخبر من الاستقرار. وتعلقه به على وجهين: أحدهما: أنه حال. والثاني: أنه غير حال، بل كسائر الظروف، ويجوز أن يكون «في الأرض» هو الخبر، و «لكم» متعلّق بما يتعلّق به هو من الاستقرار، لكن على أنه غير حال؛ لئلا يلزم تقديم الحال على عاملها المعنوي، على أن بعض النحويين أجاز ذلك إذا كانت الحال نفسها ظرفاً، أو حرف كهذه الآية، فيكون في «لكم» أيضاً الوجهان، قال بعضهم: ولا يجوز أن يكون «في الأَرْض» متعلّقاً ب «مستقر» ، سواء جعل مكاناً أو مصدراً؛ اما كونه مكاناً فلأن أسماء الأمكنة لا تعمل، وأما كونه مصدراً فلأن المَصْدَرَ الموصول لا يجوز تقديم معمول عليه. ولقائل ان يقول: هو متعلّق به على أنه مصدر، لكنه غير مؤول بحرف مَصْدَرِيّ، بل بمنزلة المصدر في قولهم: «لَهُ ذَكَاءُ الحُكَمَاءِ» وقد اعتذر صاحب هذا القَوْلِ بهذا العذر نفسه في موضع آخر مثل هذا. و «إلى حِينَ» الظَّاهر أنه متعلّق ب «متاع» ، وأن المسألة من باب الإعمال؛ لأن كل واحد من قوله: «مستقر ومَتَاع» يطلب قوله: «إلى حِين» من جهة المعنى. وجاء الإعمال هُنضا على مختار البَصْريين، وهو إعمال الثَّاني وإهمال الأول، فلذلك حذف منه، والتقدير: ولكم في الأرض مستقرّ إليه، ومتاع إلى حين، ولو جاء على إعمال الأول لأضمر في الثاني. فإن قيل: من شرط الإعمال أن يصحّ تسلّط كل من العاملين على المعمول، و «مستقر» لا يصحّ تسلّطه عليه لئلاّ يلزم الفصل بين المَصْدَر ومعموله، والمصدر بتقدير الموصول. فالجواب: أن المحذور في المصدر الذي يُرَاد به الحدث، وهذا لم يرد به حَدَث، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 فلا يؤول بموصول، وأيضاً فإنّ الظرف وشبهه فيه رَوَائِح الفعل حتى الأعلام؛ كقوله: [الرجز] 406 - أَنَا ابْنُ مَاوِيَّةَ إذْ جَدَّ النَّقُرْ ... و «مستقر» يجوز ان يكون اسم مكان، وأن يكون اسم مصدر، «مستفعل» من القَرَار، وهو اللَّبْثُ؛ ولذلك سميت الأرض قراراً؛ قال: [الكامل] 407 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... فَتَرَكْنَ كُلَّ قَرَارِةِ كَالدِّرْهَمِ ويقال: استقر وَقَرَّ بمعنى واحد. قال قوم: «المُسْتَقَرّ» : حالتا الحياة والموت، وروى السّدي عن ابن عباس أن المُسْتَقَرّ هو القبر، والأول أولى؛ لأنه - تعالى - قرن به المَتَاع من الأكل والشرب وغيره، وذلك لا يليق إلا بِحَالِ الحَيَاة؛ ولأنه خاطبهم بذلك عند الإهباط، وذلك يقتضي الحياة والمَتَاع.: واختار أبو البَقَاء أن يكون «إلى حين» في مَحَلّ رفع صفة ل «متاع» . و «المتاع» : البُلْغَة مأخوذة من متع النهار، أي: ارتفع. وقال أبو العباس المقرئ: و «المتاع» على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى «العيش» كهذه الآية. الثاني: بمعنى: «المَنْفَعَة» قال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ} [المائدة: 96] أي: منفعة لكم ولأنعامكم. الثالث: بمعنى «قليل» قال تعالى: {وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ} [الرعد: 26] أي: قليل. و «الحين» : القطعة من الزمان طويلةً كانت او قصيرةً، وهذا هو المشهور. وقيل: الوقت البعيد ويقال: عاملته مُحَايَنَةً، من الحِينِ، وَأَحْنَيْتُ بِالمَكَانِ: إِذا أقمت بهِ حيناً. وحان حين كذا، أي: قرب؛ قالت بُثَيْنَةُ: [الطويل] 408 - وإِنَّ سُلوِّي عَنْ جَمِيلٍ لسَاعَةٌ ... مِنَ الدَّهْرِ مَا حَانَتْ وَلاَ حَانَ حِينُها وقال بعضهم: تزاد عيه التاء فيقال: «تَحِينَ قُمْتَ» ، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 تعالى، وأنشد على زيادة التاء قوله: [الكامل] 409 - أَلعَاطِفُونَ تَحِينَ مَا مِنْ عَاطِفٍ ... والمُطْعِمُونَ زَمَانَ أَيْنَ المُطْعِمُ فصل في المراد بالحين واختلفوا في «الحِيْنِ» على أقوال فقالت فرقة: إلى الموت. وقيل: إلى قيام السَّاعة، فالأوّل قول من يقول: المستقرّ هو البَقَاء في الدُّنيا. والثَّاني قول من يقول: المستقر هو في القبور. وقيل: الحين: الأَجَلْ، والحين، المدّة، قال تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ} [الإنسان: 1] . والحين: الساعة، قال تعالى: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب} [الزمر: 58] والحِينُ ستة أشهر، قال تعالى: {تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] وقيل: الحين: اسم كالوقت يصح لجميع الأزمان كلّها طالت أم قصرت. فصل في هبوط آدم ومن معه يروي أن آدم أهبط ب «سرنديب في الهند» بجبل يقال له «نود» ، ومعه ريح الجنة فعلق بشجرها، وأوديتها، فامتلأ ما هنالك طيباً، فمن ثم يؤتى بالطّيب من ريح آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. وكان السَّحَاب بمسح رَأْسَهُ فأصلع، فأورث ولده الصلع. روى البُخَارِي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «خَلَقَ اللهُ آدَمَ وطولِهِ سِتُّونَ ذِراعاً» . وأهبطت حواء ب «جدّة» وإبليس ب «الأبلة» و «الأبلة» موضع من «البصرة» على أميال، والحية ب «بيسان» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 وقيل: ب «سجستان» ، وقيل: ب «أصفهان» ، ولولا أن العِرْبدِّ يأكلها ويغني كثيراً منها لخلت «سجستان» من أجل الحيات. [ذكره أبو الحسن المسعودي] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 الفاء في قوله: «فتلقى» عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها، و «تلقى» «تفعل» من اللِّقاء بمعنى المجرد. وله معانٍ أخر: مطاوعة «فعل» نحو: «كسرته فتكسر» . والتكلّف نحو «تحلّم. والصيرورة: تَأَلَّمْ. واتخاذُ: نحو: تَبَنَّيْتُ الصبي، أي: اتخذته ابناً. ومُواصَلَةِ العمل في مُهْلَة نحو، تجرّع وتفهم. ومُوافقة استفعل نحو: تكبر. والتوقُّع نحو: تخوّف. والطَّلب نحو: تنجزّ حاجته. والتكثير نحو: تغطَّيت بالثياب. والتلبُّس بالمُسَمَّى المُشْتَقْ منه نحو: تقمّص، أو العمل فيه نحو: تسخّر. والختل: نحو: تغفلته. وزعم بعضهم أن أصل» تَلَّقَّى «:» تَلَقَّنَ «بالنون فأبدلت النون الفاً، وهذا غلط؛ لأن ذلك إنما ورد في المضعّف نحو» قَصَصْتَ «و» تَظَنَّنْتُ «، و» أمْلَلْتُ «فأحد الحرفين إنما يقلب ياء إذا تجانسا. قال القَفَّال: أصل التلقّي هو التعرُّض للقاء، ثم وضع في موضع الاستقبال للمتلقِّي، ثم يوضع القبول والأخذ، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ} [النمل: 6] ويقال: خرجنا نتلقى [الحاجَّ] ، أي: نستقبلهم، وكان - عليه الصَّلاة والسَّلام - يتلقَّى الوحي، أي: يستقبله ويأخذه. وإذا كان هذا أصل الكلمة، وكان من تلقى رجلاً فتلاقيا لقي كل واحد صاحبه، فأضيف الاجتماع إليهما معاً صلح أن يشتركا في الوَصْفِ بذلك، تلقَّى آدمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 بالنَّصب على معنى جاءته عن الله - تعالى - كلمات، و» من ربه «متعلّق ب» تلقى «، و» من «لابتداء الغاية مجازاً. وأجاز أبو البَقَاءَ أن يكون في الأصل صفة ل» كلمات «فلما قدم انتصب حالاً، فتصبح نسبة الفعل إلى كلّ واحد. وقيل: لما كانت الكلمات سبباً في توبته جعلت فاعلة، ولم يؤنث أنَ مَنْ تلقَّاك فقد تلقيته، فتصبح نسبة الفعل إلى كلّ واحد. وقيل: لما كانت الكلمات سبباً في توبته جعلت فاعلة، ولم يؤنث الفعل على هذه القراءة وإن كان الفاعل مؤنثاً؛ لأنه غير حقيقي، وللفصل أيضاً، وهذا سبيل كل فعلٍ فصل بينه وبين فاعله المؤنثّ بشيء، أو كان الفاعل مؤنثاً مجازياً. فصل في الكلمات التي دعا بها آدم ربه اختلفوا في تلك الكلمات ما هي؟ فروى» سعيد بن جبير «رضي الله أن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال: يا ربّ ألم تخلقني بِيَدِكَ بلا وَاسِطَةٍ؟ قال: بلى، قال: يا رب أَلَمْ تنفخ فِيَّ من رُوحِكَ؟ قال: بلى. قال: ألم تُسْكِني جنتك؟ قال: بلى. قال: يا ربّ ألم تسبق رحمتك غَضَبَكَ؟ قال: بلى. قال يا رب إن تُبْتُ وأصلحت تردّني إلى الجنة؟ قال: بلى. فهو قوله: {فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ} . وزاد السّدى فيه: يا ربّ هل كنت كتبت علي ذنباً؟ قال: نعم. وقال النَّخعي: أتيت ابن عباس فقلت: ما الكلمات التي تلقى آدم من ربه؟ قال: علّم الله آدم أمر الحجّ فحجا، وهي الكلمات التي تقال في الحجّ، فلما فرغا الحجّ أوحى الله - تعالى - إليهما قبلت توبتكما. وروي عن ابن عباس، والحسن، وسعيد بن جبير، والضحاك، ومجاهد، وقتادة في قوله تعالى: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الأعراف: 23] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 وعن مجاهد أيضاً: «سبحانك اللهم لا إله إلاَّ أنت ظلمتني فاغفر لي إنك أنت الغفور الرحيم» . وقالت طائفة: رأي مكتوباً على ساق العرش: محمد رسول الله، فشفّع بذلك. وعن ابن عباس، ووهب بن منبّه أن الكلمات سبحانك اللهم وبحمدك، لا إله إلا أنت علمت سوءاً، وظلمت نفسي [فاغفر لي إنك خير الغافرين، سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت عملت سوءاً، وظلمت نفسي] فتب عليّ إنك أنت التَّوَّاب الرحيم «. قالت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها: لما أراد الله أن يتوبَ على آدم، وطاف بالبيت سبعاً - والبيت حينئذ ربوة حمراء - فلما صلّى ركعتين استقبل البيت، وقال:» اللهم إنك تعلم سرِّي وعلانيتي، فأقبل مَعْذِرَتِي، وتعلم حاجتي فأعطني سؤلي، وتعلم ما في نفسي فاغفر لي ذنوبي، اللهُمّ إني أسألك إيماناً يُبَاشِرُ قلبي، ويقيناً صادقاً حتى أعلم أنه لن يصيبني إلاَّ ما كتبت لي ورضِّني بما قسمت لي «فأوحى الله - تعالى - إلىَ آدم يا آدم قد غفرت لك ذنوبك، ولن يأتي أحد من ذريّتك فيدعوني بمثل الذي دعوتني إلاَّ غفرت ذنبه، وكشفت هُمُومه وغمومه، ونزعت الفَقْرَ من عينيه، وجاءته الدُّنيا وهو لا يريدها» . قوله: {فَتَابَ عَلَيْهِ} عطف على ما قبله، ولا بُدَّ من تقدير جملة قبلها أي: فقالها. و «الكلمات» جمع «كلمة» وهي: اللَّفظ الدَّالُ على معنى مفرد، وتطلق على الجمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 المفيدة مجازاً تسمية للكلّ باسم الجزء كقوله تعالى: {إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ} [آل عمران: 64] ثم فسرها بقوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ} [آل عمران: 64] إلى آخر الآية، وقال: {كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ} [المؤمنون: 100] يريد قوله: {رَبِّ ارجعون} [المؤمنون: 99] إلى آخره، وقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَصْدَقُ كلمةٍ قالها شَاعِرٌ كلمة لَبِيِد» وهو قوله: [الطويل] 410 - أَلاَ كُلَّ شَيءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ ... وَكُلَُ نَعِيمٍ لاَ مَحَالَةَ زَائِلُ فسمى هذا البيت كلمةً، والتوبة: الرجوع، ومعنى وصف الله - تعالى - بذلك أنه عبارةٌ عن العَطْفِ على عباده، وإنقاذهم من العذاب. وقيل: قبول توبته. وقيل: خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسمى، وآخر الطَّاعات على جَوَارحه، ووصف عن العَطْفِ على عباده، وإنقاذهم من العذاب. وقيل: قبول توبته. وقيل: خلقه الإنابة والرجوع في قلب المسمى، وآخر الطَّاعات على جَوَارِحِه، ووصف العَبْدِ بها ظاهر؛ لأنه يرجع عن المعصية إلى الطاعة. و «التواب الرحيم» صفتا مُبَالغة، ولا يختصَّان بالباري تعالى. قال تعالى: {يُحِبُّ التوابين} [البقرة: 222] ، ولا يطلق عليه «تائب» ، وإن صرح بفعله مسند إليه تعالى. وقدم «التواب» على «الرحيم» لمناسبة «فتاب عليه» ، ولأنه مناسب لختم الفواصل بالرحيم. وقوله: {إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم} نظير قوله تعالى: {إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم} [البقرة: 32] . وأدغم أبو عمرو هاء «إنَّه» في هاء «هُوَ» ، واعترض على هذا بأنّ بين المثلين ما يمنع من الإدغام وهو «الواو» ؛ واجيب: بأن «الواو» وُصْلَةٌ زائدةٌ لا يعتدّ بها؛ بدليل سقوطها في قوله: [الوافر] 411 - لَهُ زَجلٌ كأَنَّهُ صَوْتُ حَادٍ ... إذَا طَلَبَ الوَسِيقَةَ أَوْ زِميرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 وقوله: [البسيط] 412 - أوْ مُعْبَرُ الظَّهْرِ يُبْنِي عَنْ وَلِيَّتِهِ ... مَا حَجَّ رَبَّهُ في الدُّنْيَا وَلاَ اعْتَمَرَا والمشهور قراءة «إنه» بكسر «إن» ، وقرئ بفتحها على تقدير لام العلّة، وقرأ الأعمش: «آدَم مِّنْ رَبِّهِ» مدغماً. فصل في نظم الآية قوله: «فتاب عليه» أي: قبل توبته، أو وفقه للتوبة، وكان ذلك في يوم عاشوراء في يوم الجُمُعَة. فإن قيل: لم قال «عليه» ولم يقل: «عليهما» ، وحواء مُشَاركة له في الذنب. فالجواب: انها كانت تبعاً له كما طوى حكم النِّسَاء في القرآن والسُّنة. وقيل: لأنه خصّه بالذكر في أوّل القصّة بقوله: {اسكن} [البقرة: 35] ، فكذلك خصّه بالذكر في التلقّي. وقيل: لأن المرأة حرمة ومستورةٌ، فأراد الله السّتر بها، ولذلك لم يذكرها في القصّة في قوله: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 كرر قوله: «قلنا: اهبطوا» ؛ لأن الهبوطين مختلفان باعتبار تعلّقهما، فالهبوط الأوّل علّق به العداوة، والثاني علّق به إتيان الهدى. وقيل: لأن الهبوط الأول من الجنّة إلى السماء، والثاني من السماء إلى الأرض. واستبعده بعضهم لوجهين: الأول: لقوله: {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ} [البقرة: 36] وذكر هذا في الهبوط الثَّاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 أولى. وهذا ضعيف؛ لأنه يجوز أن يراد: ولكم في الأرض مستقرّ بعد ذلك. وثانيهما: أنه قال في الهُبُوط الثَّاني: «اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً» ، والضمير في «منها» عائد إلى «الجنّة» وذلك يقتضي كون الهُبُوط الثاني من الجنّة. قال «ابن عطية» وحكى «النَّقَّاش» أن الهبوط الثَّاني إنما هو من الجنّة إلى السّماء، والأولى في ترتيب الآية إنما هو إلى الأرض، وهو الآخر في الوقوع. وقيل: كرّر على سبيل التاكيد نحو قولك: «قم قم» . والضَّمير في «منها» يعود على الجنّة، أو السَّماء. قال «ابن الخطيب» : وعندي فيه وجه ثَالثٌ، وهو أن آدم لما أتيا بالزِّلَّة أمرا بالهبوط، فتابا بعد الأمر بالهبوط، فأعاد الله الأمر بالهبوط مَرّةً ثانيةً ليعلما أن الأمر بالهبوط ما كان جزاء على ارتكاب الزِّلَّة حتى يزول بزوالها، بل الأمر بالهبوط باق بعد التوبة؛ لأن الأمر به كان تحقيقاً للوَعْدِ المتقدّم في قوله: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30] . قوله: «جميعاً» حال من فاعل «اهْبِطُوا» أي: مجتمعين: إما في زمان واحدٍ، أو في أزمنة متفرقة؛ لأن المُرَاد الاشتراك في أصل الفعل، وهذا هو الفرق بين «جاءوا جميعاً» ، و «جاءوا معاً» ، فإن قوك: «معاً» يستلزم مجيئهم جميعاً في زمن واحد، لما دلّت عليه «مع» من الاصْطِحَاب بخلاف «جميعاً» فإنها لا تفيد إلا أنه لم يتخلّف أحد منهم عن المجيء من غير تعرُّض لاتحاد الزمان. و «جميع» في الأَصْلِ من ألفاظ التَّوكيد، نحو: «كل» ، وبعضهم عدها معها. وقال: «ابن عطية» : و «جميعاً» حال من الضمير في «اهبطوا» ، وليس بمصدر ولا اسم فاعل، ولكنه عوض منهما دالّ عليهما، كأنه قال: هبوطاً جميعاً أو هابطين جميعاً، كأنه يعني ان الحال في الحقيقة محذوف، وأن «جميعاً» تأكيد له، إلاَّ أن تقديره بالمصدر ينفي جعله حالاً إلا بتأويل لا حَاجَةَ إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 وقال بعضهم: التَّقْدِير: قلنا: اهبطوا مجتمعين، فهبطوا جميعاً، فحذف الحال من الأول لدلالة الثَّني عليه، وحذف العامل من الثاني لدلالة الول عليه، وهذا تكلّف لم تدع إليه الضرورة. قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ} الفاء مرتبة معقبة. و «إمّا» أصلها: أن الشرطية زيدت عليها «ما» تأكيداً، و «يأتينكم» في مَحَلّ جزم بالشَّرْط؛ لأنه بني لاتصاله بنون التوكيد. وقيل: بل هو معرب مطلقاً. وقيل: مبني مطلقاً. والصّحيح: التفصيل: إن باشرته كهذه الآية بني، وإلا أعرب، نحو: هل يَقُومَانِ؟ وبني على الفَتْحِ طلباً للخفّة، وقيل: بل بني على السُّكون، وحرك بالفتح لالتقاء السَّاكنين. وذهل الزجاج والمبرد إلى أن الفعل الواقع بعد «إن» الشَّرطية المؤكِّدة ب «ما» يجب تأكيده بالنون، قالا: ولذلك لم يأت التَّنْزيل إلاّ عليه، وذهب سيبويه إلى أنَّه جائز لا واجب؛ لكثرة ما جاء به منه في الشعر غير مؤكَّد، فكثرة مجيئه غير مؤكَّد يدلُّ على عدو الوجوب؛ فمن ذلك قوله: [الطويل] 413 - فَإِمَّا تَرَيْنِني كَابْنِةِ الرَّمْلِ ضَاحِياً ... عَلَى رِقَّةٍ أخْفَىَ وَلاَ أَتَنَعَّلُ وقولُ الآخر: [البسيط] 414 - يَا صَاحِ إمَّا تَجِدْنِي غَيْرَ دِي جِدةٍ ... فَمَا التَّخَلِّي عَنِ الخُلاَّنِ مِنْ شِيَمِي وقول الآخر: [المتقارب] 415 - فَإِمَّا تَرَيْنِي وَلِي لِمَّةٌ ... فَإنَّ الحَوادِثَ أوْدَى بِهَا وقول الآخر: [الكامل] 416 - زَعَمَتْ تُمَاضِرُ أنَّنِي إمَّا أَمُتْ ... يَسْدُدْ أُبَيْنُوهَا الأَصَاغِرُ خَلَّتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 وقال المهدوي: «إما» هي «إن» التي للشرط زيدت عليها «ما» ليصحّ دخول «النّون» للتوكيد في الفعل، ولو سقطت «ما» لم تدخل النّون، و «ما» تؤكّدا أول الكلام، والنون نؤكد آخره، وتبعه ابن عطية. وقال بعضهم: هذا الذي ذهبا إليه من أن النّون لازمة لفعل الشرط إذا وصلت «إن» ب «ما» هو مذهب المُبَرّد والزَّجَّاج، وليس في كلامهما ما يدلُّ على لزوم «النُّون» كما ترى، غاية ما فيه أنهما اشترطا في صحّة تأكيده بالنون زيادة «ما» على «إن» ، أما كون التوكيد لازماً، وغير لازم، فلم يتعرضا له، وقد جاء تأكيد الشرط بغير «إن» ؛ كقوله: [الكامل] 417 - مَنْ يُثْقَفَنْ مِنْهُمْ فَلَيْسَ بِآئِبِ ... أبَداً وَقَتَلُ بَنِي قُتَيْبَةَ شَافِي و «مني» متعلق ب «يأتين» وهي لابتداء الغاية مجازاً، ويجوز أن تكون في محل حال من «هدى» لأنه في الأصل صفة نكرة قدم عليها، وهو نظير ما تقدم في قوله: {مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] . و «هدى» فاعل، والفاء مع ما بعدها من قوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} جواب الشرط الأول، والفاء في قوله: {فَلاَ خَوْفٌ} جواب الثَّاني. وقد وقع الشَّرْط الثاني وجوابه جواب الأول، ونقل عن «الكسائي» أن قوله: «فَلاَ خَوْفٌ» جواب الشَّرطين معاً. قال: ابن عطية «بعد نقله عن» الكِسَائي «ذلك: هكذا حكي، وفيه نظر، ولا يتوجّه أن يخالف سيبويه هنا، وإنما الخِلاَفُ في نحو قوله: {فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ} [الواقعة: 88، 89] فيقول سيبويه: جواب أحد الشرطين محذوف، لدلالة قوله: «فروح» عليه. ويقول الكوفيون: «فروح» جواب الشرطين، وأما في هذه الآية، فالمعنى يمنع أن يكون «فلا خوف» جواباً للشرطين. وقيل: جواب الشرط الأوّل محذوف تقديره: «فإمّا يأتينكم منّي هُدىً فاتبعوه» وقوله: «فمن تبع» جملة مستقلة [وهو بعيد أيضاً] . فصل في المراد بالهدى اختلف في «الهُدَى» فقال «السّدي» : كتاب الله، وقال قوم: الهدى الرّسل، وهذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 إنما يتم لو كان المُخَاطب بهذا الكلام آدم وبنيه، فالرُّسل إلى آدم من الملائكة، وإلى بنيه من البشر. وقيل: المراد من الهُدَى كل دلالة وبيان. وقيل: التوفيق للهداية. وفي قوله: «مني هُدىً» إشارة إلى أن أفعال العباد خلق الله تعالى. و «من» يجوز أن تكون شرطية، وهو الظاهر، ويجوز أن تكون موصولة، ودخلت الفاء في خبرها تشبيهاً لها بالشرط، ولا حاجة إلى هذا، فإن كانت شرطية كان «تبع» في محل جزم، وكذا «فلا خوف» لكونهما شرطاً وجزاء، وإن كانت موصولةً فلا مَحَلّ ل «تبع» ، وإذا قيل بأنها شرطية فهي مبتدأ أيضا، وفي خبرها خلاف مشهور. والأصح أنه فعل الشرط، بدليل أنه يلزم عود ضمير من فعل الشرط اسم الشرط، ولا يلزم ذلك في الجواب، تقول: «من يقم أكرم زيداً» ، فليس في «أكرم زيداً» ضمير يعود على «من» ولو كان خبراً للوم فيه ضمير. ولو قلي: «من يقم زيداً أكرمه» وأنت تعيد الهاء على «من» لم يجز، لخلوّ فعل الشرط من الضمير. وقيل: الخبر الجواب، ويلزم هؤلاء أن يأتوا فيه بعائد على اسم الشرط، فلا يجوز عندهم: «من يقم أكرم زيداً» ولكنه جائز، هذا ما أورده أبو البقاء. وسيأتي تحقيق القول في لزوم عود الضَّمِيِر من الجواب إلى اسم الشَّرْط عند قوله: {قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] . وقيل: مجموع الشرط والجزاء هو الخبر، لأن الفائدة إنما تحصل بهما. وقيل: ما كان فيه ضمير عائد على المبتدأ، فهو الخبر والمشهور «هُدَايَ» ، وقرئ: «هُدَيَّ» بقلب الألف ياء، وإدغامها في ياء المتكلم، وهي لغة «هُذَيْل» ، يقولون في عَصَاي: عَصَيَّ، وقال شاعرهم: [الكامل] 418 - سَبَقُوا هَوَيَّ وأَعنَقوا لِهَواهُمُ ... فَتُخُرِّمُوا وَلِكُلِّ جَنْبٍ مَصرَعُ كأنهم لما لم يصلوا إلى ما تستحقه ياء المتكلّم من كسر ما قبلها لكونه ألفاً أتوا بما يجانس الكسرة، فقلبوا الألف ياء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 نقل «النحاس» هذه العلّة عن الخليل وسيبويه وهذه لغة مطّردة عندهم إلاّ أن تكون الألف للتثنية، فإنهم يثبتونها: نحو: «جاء مسلماي، وغلاماي» . قوله: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} قد تقدّم أنه يجوز أن يكون جواباً للشرط، فيكون في محلّ جزم، وأن يكون خبراً ل «من» إذا قيل بأنها موصولة، وهو أولى لمقابلته بالمَوْصُول في قوله: {والذين كَفَرواْ} [البقرة: 39] ، فيكون في محل رفع، و «لا» يجوز أن تكون عاملة عمل «ليس» فيكون «خوف» اسمها، و «عليهم» في محلّ نصب خبرها، ويجوز أن تكون غير عاملة، فيكون «خوف» مبتدأ «، و» عليهم «في محلّ رفع خبره، وهذا أولى مما قبله لوجهين: أحدهما: أن عملها عمل» ليس «قليل، ولم يثبت إلاّ شيء محتمل، وهو قوله: [الطويل] 420 - وَحَلَّتْ سَوَادَ القَلْبِ لا أَنَا بَاغِيَا ... سِوَاهَا وَلاَ في حُبِّهَا مُتَرَاخِيَا ف» أَنَا «اسمها و» بَاغِيَا «خبرها. قيل: ولا حجّة فيه؛ لأن» بَاغِيَا «حال عاملها محذوف هو الخَبَرُ في الحقيقة تقديره: وَلاَ أَنَا أَرَى بَاغِياً، أو يكون التقدير: ولا أَرَى باغِيا، فلما حذف الفعل انفصل الضمير. وقرئ:» فَلاَ خَوْفٌ «بالرفع من غير تنوين، والأحسن فيه أن تكون الإضافة مقدّرة، أي: خوف شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 وقيل: أنه على نِيَّةِ الألف واللام. وقيل: حذف التنوين تخفيفاً، وقرأ الزهري، والحسن وعيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق، ويعقوب:» فَلاَ خَوْفَ «مبنياً على الفتح؛ لأنها» لا «التبرئة، وهي أبلغ في النَّفي، ولكن الناس رجَّحوا قراءة الرفع. قال» أبو البقاء «: لوجهين: أحدهما: أنه عطف عليه ما لا يجوز فيه إلاَّ الرفع، وهو قوله:» ولا هم «لأنه معرفة، و» لا «لا تعمل في المَعَارِف، فالأولى أن يجعل المعطوف عليه كذلك لِتَتَشَاكل الجملتان، ثم نظره بقولهم:» قام زيد وعمراً كلّمته «يعني في تَرْجيح النَّصْب في جملة الاشتغال للتشاكل. ثم قال: والوجه الثاني: من جهة المعنى، وذلك أن البناء يدلّ على نفي الخوف عنهم بالكلية، وليس المراد ذلك، بل المراد نفيه عنهم في الآخرة. فإن قيل: لم لا يكون وجه الرفع أن هذا الكلام مذكور في جزاء من اتبع الهُدَى، ولا يليق أن ينفى عنهم الخوف اليسير، ويتوهّم بثبوت الخوف الكثير. قيل: الرفع يجوز أن يضمر معه نفي الكثير، تقديره: ولا خوف كثير عليهم، فيتوهّم ثبوت القليل، وهو عكس ما قدر في السُّؤال، فبان أن الوجه في الرفع ما ذكرنا. قوله:» ولا هم يحزنون «تقدّم أنه جملة منفية، وأن الصَّحيح أنها غير عاملةٍ. و» يحزنون «في محلّ رفع خبر للمبتدأ، وعلى ذلك القَوْل الضَّعيف يكون في محلّ نصب و» الخوف «: الذُّعر والفَزَع، يقال: خاف يَخَاف خوفاً، فهو خائف، والأصل: خوف بوزن» علم «ويتعدّى بالهمزة والتضعيف، قال تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ} [الإسراء: 60] ولا يكون إلا في الأمر المستقبل. والحُزْن: ضد السرور، وهو مأخوذ من «الحَزْن» ، وهو ما غلظ من الأرض، فكأنه ما غلظ من الهَمّ، ولا يكون إلا في الأمر الماضي، يقال: حَزِنَ يَحْزَنُ حُزْناً وَحَزَناً، ويتعدّى بالهمزة نحو: أَحْزَنْتُهُ، وحَزّنته بمعناه، فيكون «فعّل» و «أَفْعَل» بمعنى. وقيل: أَحْزَنَهُ حَصَّل له حزناً. وقيل: الفتحة مُعَدِّية للفعل: نحو: شترَتْ عينه وشَتَرها الله، وهذا يدل علة قول من يرى أن الحركة تعدّي الفعل، وقد قرئ باللغتين: «حَزَنَهُ وأَحْزنه» ، وسيأتي تحقيقهما إن شاء الله تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 فَصْلٌ في لغات «حزن» قال ابن الخطيب: قال اليزيدي: حَزَنَه لغة «قريش» ، وأَحْزَنَهُ لغة «تميم» ، وَحَزِنَ الرجل - بالكسر - فهو حَزِنٌ وحَزِينٌ، وأُحْزِنَ فهو مَحْزُونٌ، واحتَزَنَ وتَحَزَّنَ بمعنى. وهذه الجُمْلة مع اختصارها تجمع شيئاً كثيراً من المعاني؛ لأن قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} دخل فيه الإنعام بجميع الأدلّة العقليّة، والشرعية الواردات للبيان، وجميع ما لا يتمّ ذلك إلاّ به من العقل، ووجوه التمكُّن، وجميع قوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} تأمل الأدلّة بنصّها والنظر فيها، واستنتاج المعارف منها، والعمل بها وجميع قوله: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} جميع ما أعدَّ الله - تعالى - لأوليائه؛ لأن زوال الخوف يتضمّن السَّلامة من جميع الآفات، وزوال الحزن يقتضي الوصول إلى كل اللَّذَّات والمرادات، وقدم على الخَوْف على عدم الحزن؛ لأن زوال ما لا ينبغي مقدّم على طَلَبِ ما ينبغي وهذا يدلّ على أن المكلّف الذي أطاع الله - تَعَالَى - لا يلحقه خوف في القَبْرِ، ولا عند البَعْثِ، ولا عند حضور المَوْقِف، ولا عند تَطَايُرِ الكُتب، ولا عند نَصْب الموازين، ولا عند الصراط كما قال: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 103] وقال قوم من المتكلّمين: إن أهوال القيامة كما تصل إلى الكُفّار والفسّاق تصل إلى المؤمنين لقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] فإذا انكشفت تلك الأهوال، وصاروا إلى الجنّة والرضوان صار ما تقدّم كأن لم يكن، بل ربما كان زائداً في الالتذاذ بما يجده من النعيم، وهذا ضعيف؛ لأن قوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] أخص من قوله: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] والخاص مقدّم على العام. فإن قيل: هذا يقتضي نَفْيَ الخَوْفِ والحُزْن مطلقاً في الدنيا والآخرة، وليس الأمر كذلك؛ لأنهما حصلا في الدنيا للمؤمنين أكثر من حصولهما لغير المؤمنين قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «خُصَّ البَلاَءُ بالأَنْبِيَاءِ، ثم الأَوْلِيَاءِ ثُمّ الأَمْثَل فالأمْثَل» . وأيضاً فالمؤمن لا يمكنه القطع بأنه أتى بالعَبَادات كما ينبغي، فخوف التقصير حاصلٌ وأيضاً فخوف سوء العاقبة حاصل. قلنا: قَرَائِنُ الكلام تدلّ على أنّ المراد نفيهما في الآخرة لا في الدنيا، ولذلك حكى الله عنهم أنهم قالوا حين دخلوا الجنة: {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 34] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 لما وعد الله من اتبع الهدى بالأَمْنِ من العَذَاب والحزن عقبه بذكر كمن أعدّ له العَذَاب مثال الذين كفروا. و «الذين» مبتدأ وما بعدها صلة وعائد، و «بآياتنا» متعلّق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 ب «كذبوا» ، ويجوز أن تكون أن تكون الآية من باب الأعمال؛ لأن «كفروا» يطلبها، ويكون من إعمال الثَّاني للحذف من الأوّل، والتَّقدير: والذين كفروا بنا وكذّبوا بآياتنا. و «أولئك» مبتدأ ثان، و «أصحاب» خبره، والجملة خبر الأول، ويجوز أن يكون «أولئك» بدلاً من الموصول، أو عطف بيان له، و «أصحاب» خبر المبتدأ الموصول. وقوله: «هم فيها خالدون» جملة اسمية في محلّ نصب على الحال للتَّصريح بذلك في مواضع قال تعالى: «أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدينَ» . وأجاز «أبو البقاء» : أن تكون حالاً من «النار» قال: لأن فيها ضميراً يعود عليها، ويكون العامل فيها معنى الإضافة، أو اللاَّم المقدرة. وقد عرف ما في ذلك، ويجوز أن تكون في محل رفع خبر ل «أولئك» أيضاً، فيكون قد أخبر عنه بخبرين: أحدهما: مفرد وهو «أصحاب» . والثاني: جملة، وقد عرف ما فيه من الخلاف. و «فيها» متعلّق ب «خالدون» قالوا: وقد حذف من الكلام الأوّل ما أثبت في الثاني، ومن الثاني ما أثبت في الأول، والتقدير: فمن تبع هُدَاي فلا خوف ولا حُزْن يلحقه، وهو صاحب الجَنَّة، ومن كفر وكذب لحقه الخَوْفُ والحزن، وهو صاحب النار؛ لأنّ التقسيم يقتضي ذلك، ونظروه بقول الشَّاعر: [الطويل] 421 - وَإِنِّي لتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ هِزَّةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ «والآية» لغة: العلامة؛ قال النَابغَةُ: [الطويل] 422 - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَعْوَامٍ وَذَا للعَامُ سَابِعُ وسميت آية القرآن [آية] ؛ لأنه علامة لانفصال ما قبلها عما بعدها، وقيل: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 سُمِّيَتْ بذلك؛ لأنها تجمع حروفاً من القرآن، فيكون من قولهم، «خَرَجَ بنُو فلاَنٍ بآيتِهِمْ» أي: بجماعتهم؛ قال: [الطويل] 423 - خَرَجْنَا مَنَ النَّقْبَيْنِ لاَ حَيَّ مِثْلُنَا ... بِآيَاتِنَا نُزْجِي اللِّقَاحَ المَطَافِلاَ واختلف النحويون في وزنها: فمذهب «سيبويه والخليل» أنها «فَعَلَة» والأصل: «أَيَيَة» - بفتح العين - تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت الفاً، وهو شاذّ؛ لأنه إذا اجتمع حرفا عِلّة أعلّ الأخير؛ لأنه محلّ التغيير نحو: هوى وحوى، ومثلها في الشّذوذ: «غَايَة، وطَايَة، وَرَايَة» . ومذهب «الكِسَائِيّ» أن أصلها: «آيِيَة» على وزن «فَاعِلَة» ، فكان القياس أن يدغم فيقال: آية ك «دابّة» ، إلاّ أنه ترك ذلك تخفيفاً، فحذوفوا عينها، كما خففوا «كَيْنُونة» والأصل: «كيّنونة» بتشديد الياء، وضعفوا هذا بأن «كيّنونة» أثقل فَنَاسب التَّخفيف بخلاف هذه. ومذهب «الفَرَّاء» أنها فَعْلَة «بسكون العين، واختاره أبو» البَقَاء «قال: لأنها من تايَّا القوم، إذا اجتمعوا، وقالوا في الجمع: آياء، فظهرت الياء الأولى، والهمزة الأخير بدل من ياء، ووزنه» أفعال «والألف الثانية بدل من همزة هي فاء الكلمة، ولو كانت عينها» واو «لقالوا في الجمع:» آواء «ثم إنهم قلبوا» الياء «الساكنة» ألفاً «على غير قياس. يعني: أن حرف العلّة لا يقلب حتى يتحرّك وينفتح ما قبله. وذهب بعض الكوفيين إلى أن وزنها» آيِيَة «بكسر العَيْنِ مثل» نَبِقَة «فَأُعِلّ، وهو في الشّذوذ كمذهب» سيبويه والخَليل «. وقيل: وزنها» فَعُلَة «بضم العَيْن، وقيل: أصلها: أَيَاة» بإعلال الثاني، فقلبت: بأن قدمت الازم، وأخرت العين، وهو ضعيف. فهذه ستة مذاهب لا يسلم واحد منها من شذوذ. فصل في معنى «الصحبة» الصّحبة: الاقتران بالشيء في حالة ما، في زمان ما، فإن كانت الملازمة والخُلْطة فهي كمال الصُّحبة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 [اعلم] أنه لما أقام دلائل التوحيد، والنبوة، والمعاد أولاً، ثم عقبها بذكر الإنعامات العّامة لكل البشر عقبها بذكر الإنعامات الخاصّة على أسلاف اليَهُودِ استمالةٌ لقلوبهم، وتنبيهاً على ما يدلّ على نبوة «محمّد عليه الصَّلاة والسَّلام» من حيث كونها إخباراً عن الغيب، موافقاً لما كان موجوداً في التَّوْراة والإنجيل من غير تعلّم، ولا تتلمُذِ. قوله: «يَابَنِي» منادى منصوب وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جمع مذكّر سالم، وحذفت نونه للإضافة، وهو شبيه بجمع التَّكسير لتغير مفرده، ولذلك عاملته العرب ببعض معاملة جمع التكسير، فألحقوا في فعله المسند إليه تاء التأنيث، نحو: «قالت بنو فلان» ، وقال الشاعر: [البسيط] 424 - قَالَتْ بَنُو عَامرٍ خَالُوا بَنِي أَسَدٍ ... يَابُؤْسَ لِلْجَهْلِ ضَرَّاراً لأَقْوَامِ وأعربوه بالحركات أيضاً إلحاقاً له به، قال الشاعر: [الوافر] 425 - وَكَانَ لَنَا أبُو حَسَنٍ عَليٌّ ... أَباً بَرًّا وَنَحْنُ لَهُ بَنِينُ [فقد روي بَنِينُ] برفع النون، وهل لامه ياء؛ لأنه مشتقّ من البناء؛ لأن الابن من فرع الأب، ومبنيٌّ عليه، أو واو؛ لقولهم: البُنُوًَّة كالأُبُوَّة والأُخُوَّة؛ قولان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 الصَّحيح الأول، وأما البُنّوة فلا دلالة فيها؛ لأنهم قد قالوا: الفُتُوَّة ولا خلاف أنها من ذوات «اليَاءِ» . إلا أن «الأخفش» رجّح الثاني بأن حذف الواو أكثر. واختلف في وزنه فقيل: «بَنَيٌ» بفتح العين، وقيل: بَنْيٌ _ بسكونها، وقد تقدم أنه أحد الأسماء العَشْرة التي سكنت فاؤها وعوض من لامها همزة الوَصْل. و «إسرائيل» خفض بالإضافة، ولا ينصرف للعملية والعُجْمة، وهو مركّب تركيب الإضافة مثل: «عبد الله» فإن «إِسْرَا» هو العبد بلغتهم، و «إيل» هو الله تعالى. وقيل: «إسْرا» هو مشتقّ من الأسْر، وهو القوّة، فكان معناه الذي قَوَّاه الله. وقيل «إسْرَا» هو صفوة الله، و «إيل» هو الله. وقال القَفّال: قيل: إن «إسرا» بالعبرانية في معنى إنسان، فكأنه قيل: رجل الله، فكأنه خطاب مع اليَهُودِ الذين كانوا بالمدينة. وقيل: إنه أسرى بالليل مهاجراً إلى الله. وقيل: لأنه أَسَرَ جِنِّنًّا كان يطفىء سِرَاجَ بَيْتِ المَقْدِسِ. قال بعضهم: فعلى هذا يكون بعض الاسم عربيّاً، وبعضه أعجميّاً، وقد تصرفت فيه العرب بلغات كثيرة أفصحها لغة القرآن، وهي قراءة الجمهور. وقرأ «أبو جعفر والأعمش» : «إسْرَايِل» بياء بعد الألف من غير همزة، وروي عن «وَرْش» «إسْرَائِل» بهمزة بعد الألف دون ياء، و «إسْرَأَل» بهمزة مفتوحة، و «إسْرَئِل» بهمزة مكسورة بين الراء واللام، و «إسْرَال» بألف محضة بين الراء واللام؛ قال: [الخفيف] 426 - لاَ أَرَى مَنْ يُعِينُنِي في حَيَاتِي ... غَيْرَ نَفْسِي إلاَّ بَنِي إسْرَالِ وروي قراءة غير نافع قرأ عن نافع. و «إسْرائيل» هذه مهموزة مختلسة حكاها شنبوذ، عن ورش، و «إسْرَايل» من غير همز ولا مَدّ و «إسْرَائِين» أبدلوا من اللام نوناً ك «أُصَيْلاَن» في «أُُصَيْلاَل» ؛ قال: [الرجز] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 427 - يَقُولُ أَهْلُ السُّوءِ لَمَّا جِينَا ... هَذَا وَرَبِّ البَيْتِ إِسْرائِينَا وقال آخر: [الرجز] 428 - قَالَتْ وَكُنْتُ رَجُلاً فَطِينَا ... هَذَا لعَمْرُ الله إٍسْرَائِينَا ويجمع على «أَسَارِيل» . وأجاز الكوفيون «أَسَارِلَة» و «أَسَارل» ، كأنهم يجيزون التعويض بالياء وعدمه، نحو: «فَرَازِنة» و «فَرَازين» . قال الصَّفار: لا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوله. قال ابن الجوزي: ليس في الأنبياء من له اسمان غيره إلا نبينا محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنَّ له أسماء كثيرة. وقد قيل في المسيح إنه اسم علم لعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام غير مشتقّ، وقد سمَّاه الله تَعَالَى روحاً والمسيح، وإسرائيل ويعقوب، ويونس وذو النُّون، وإلياس وذو الكِفْل، صولات الله وسلامه عليهم أجمعين. قول: {اذكروا نِعْمَتِيَ} . «اذكرو» فعل وفاعل، و «نعمتي» مفعول. وقال «ابن الأنباري» : لا بدّ له من حذف مضاف تقديره: شكر نِعْمتي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 و «الذكر» بضم الذال وكسرها بمعنى واحد، ويكونان باللِّسان والجِنَان. وقال «الكسائي» : هو بكسر اللسان، وبالضّّم للقَلْب ضدّه النسيان، والذي محلّه اللسان ضده الصَّمت، سواء قيل: إنهما بمعنى واحد أم لا. و «الذَّكَر» بالفتح خلاف الأُنْثَى، و «الذِّكر» أيضاً الشرف ومنه قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] . فصل في النعمة النعمة اسم لما ينعم به، وهي شبيهة ب «فِعْل» بمعنى «مفعول» نحو: ذبح ورعي، والمراد الجمع؛ لأنها اسم جنس، قال الله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} [النحل: 18] . قال «أبو العباس المقرىء» : «النَّعْمَة» بالكسر هي الإسلام، قال تعالى: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} [آل عمران: 103] . وقال: {فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً والله} [الحجرات: 8] يعني الإسلام. وقال: {رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ} [النمل: 19] . وقوله: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ} [آل عمران: 171] أي: الإسلام. فصل في حد النعمة قال ابن الخطيب: حَدّ النعمة أنها المنفعة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير. وقيل: الحسنة المفعولة على جهة الإحسان إلى الغير، قالوا: وإنما زدنا هذا؛ لأن النعمة إن كانت حسنة يستحق بها الشكر، وإن كانت قبيحة لم يستحق بها الشكر. قال: والحقّ أن هذا القيد غير معتبر؛ لأنه يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان، وإن كان فعله محظوراً؛ لأن جهة استحقاق الشكر غير جِهَةِ استحقاق الذَّم والعقاب، فأي امتناع في اجتماعهما؟ ألا ترى أن الفاسق يستحقّ الشكر بإنعامه والذّم بمعصيته، فلم لا يجوز هاهنا أن يكون الأمر كذلك؟ واعلم أن نعم الله على العَبْدِ لا تتناهى، ولا تحصى كما قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] . فإن قيل: فإذا كانت النعم غير مُتَنَاهية، وما لا يتناهى لا يحصل به العلم في حق العبد، فكيف أمر بتذكرها في قوله: {اذكروا نِعْمَتِيَ} ؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 والجواب: أنها غير مُتَنَاهية بحسب الأشخاص والأنواع، إلاّ أنها متناهية بحسب الأجناس، وذلك يكفي في التذكّر الذي يفيد العلم بوجود الصَّانع الحكيم. فصل في بيان هل لله نعمة على الكافر في الدنيا اختلفوا في أنه هل لله نعمة على الكافر في الدنيا؟ فمنهم من قال: هذه النعم القليلة في الدنيا لما كانت مؤدّية إلى الضرر في الآخرة لم تكن نعمة، فإن من جعل السّم في الحلوى لم يعد النفع الحاصل من أكل الحلوى نعمة لما كان ذلك سَبيِلاً إلى الضرر العظيم، ولهذا قال تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] . ومنهم من قال: إنه تعالى وإن لم ينعم على الكافر بنعمة الدِّين، فلقد أنعم عليه بنعمة الدنيا [وهو قول القاضي أبي بكر الباقلاني رَحِمَهُ اللهُ] . قال ابن الخطيب: وهذا القول أصوب ويدلّ عليه وجوه: أحدها: قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] الآيات فأمر الكُلّ بطاعته لمكان هذه النعم وهي نعمة الخلق والرزق. وثانيها: قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً} [البقرة: 28] وذكره في معرض الامتنان، وشرح النعم، ولو لم يصل إليهم من الله تعالى شَيْءٌ من النعم لما صَحّ ذلك. وثالثها: قوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} وهذا نصّ صريح؛ لأنه خطاب لأهل الكتاب، وكانوا من الكفار، وكذا قوله تعالى: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 47] إلى قوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] . ورابعها: قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض} إلى قوله: {وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً} [الأنعام: 6] . وخامسها: قوله تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر} [الأنعام: 63] إلى قوله: {ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 64] . وسادسها: قوله تعالى {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10] وقال في قصة «إبليس» : {وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] . وسابعها: قوله: {واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض} [الأعراف: 74] وقال: {قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين} [الأعراف: 140] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 وثامنها: قوله: {ذلك بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ} [الأنفال: 53] . وتاسعها: قوله: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق} [يونس: 5] . وعاشرها: قوله: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} [يونس: 22] إلى قوله: {يَبْغُونَ فِي الأرض} [يونس: 23] . واعلم أن الخلاف في هذه المسألة لفظي؛ لأنه لا نِزَاعَ في أن الحياة والعقل والسمع والبصر، وأنواع الرزق، والمنافع من الله تعالى إنما الخِلاَفُ في أن أمثال هذه المنافع إذا حصل عقيبها تلك المَضَارّ الأبدية، هل يطلق عليها في العرف اسم النعمة أم لا؟ ومعلوم أن ذلك نِزَاعٌ في مجرّد عبارة. فَصْلٌ في النعم المخصوصة ببني إسرائي وهي كثيرة منها: استنقذهم من فرعون وقومه، وخلّصهم من العبودية وأولادهم من القَتْلِ ونساءهم من الاستحياء، وخلصهم من البلاء، ومكنهم في الأرض، وجعلهم ملوكاً، وجعلهم الوَارِثين بعد أن كانوا عبيداً للقبط، وأهلك أعداءهم وأورثهم أرضهم وديارهم، وأموالهم، وأنزل عليهم [الكتب العظيمة، وجعل فيهم أنبياء، وآتاهم ما لم يُؤْت أحداً من العَالَمينَ، وظَلَّل عليهم الغمام، وأنزل عليهم] المّنّ والسَّلْوَى، وأعطاهم الحجر ليسقيهم ما شَاءُوا من الماء متى أرادوا، فإذا استغنوا عن الماء رفعوها فاحتبس الماء عنهم، وأعطاهم عموداً من النور يضيء لهم بالليل، وكانت رؤوسهم لا تتشعّث وثيابهم لا تَبْلَى. رواه «ابن عباس» . فصل في سبب تذكيرهم بهذه النعم قال ابن الخطيب: إنما ذكرهم بهذه النعم لوجوه: أحدها: أن جملة النعم ما يشهد بصدق محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهي التوراة، والإنجيل، والزَّبُور. وثانيها: أن كثرة النعم توجب عظم المعصية، فذكرهم تلك النعم لكي يحذروا مُخَالفة ما دعوا إليها من الإيمان بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبالقرآن. وثالثها: أن تذكّر النعم الكثيرة يفيد الحَيَاءَ عن إظهار المخالفة. ورابعها: أن تذكر النعم الكثيرة يفيد أن المُنْعِمَ خصّهم من بين سائر الناس بها، ومن خص أحداً بنعم كثيرة، فالظاهر أن تذكر تلك النعم يطمع في النِّعَمِ الآيتة، وذلك الطمع مانعٌ من إظهار المخالفة والمخاصمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 فإن قيل: إن هذه النِّعم إنما كانت على المُخَاطبين وأسْلافهم، فكيف تكون نعمة عليهم؟ فالجواب: لَوْلاَ هذه النعم على آبائهم لما بقوا، فصارت النعم على الآباء نعمة على الأبناء، وأيضاً فالانتساب إلى الآباء المخصوصين بنعم الدِّين والدنيا نعمة عظيمة في حق الأولاد، وأيضاً فإنّ الأولاد متى سمعوا أن الله تعالى خصّ آباءهم بهذه النِّعَم لطاعتهم وإعراضهم عن الكفر رغب الولد في هذه الطريقة؛ لأنَّ الولد مجبول على الاقتداء بالأب في أفعال الخير، فيصير هذا التذكر داعياً إلى الاشْتِغَال بالخيرات. قوله: {التي أَنْعَمْتُ} . «التي» صفة «النعمة» والعائد محذوف. فإن قيل: من شرط [حذف] عائد الموصول إذا كان مجروراً أن يجرّ الموصول بمثل ذلك الحرف، وأن يتّحد متعلقهما، وهنا قد فقد الشَّرطان، فإن الأصل: التي أنعمت بها. فالجواب: إنما حذف بعد أن صار منصوباً بحذف حرف الجرّ اتساعاً فبقي «أنعمتها» وهو نظير: {كالذي خاضوا} [التوبة: 69] في أحد الأوجه، وسيأتي إن شاء الله تعالى. و «عليكم» متعلّق به، وأتى ب «على» دلالة على شمول النعمة لهم. قوله: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} . هذه جملة أمرية عطف على الأمكرية قبلها. ويقال: «أَوْفَى» ، و «وَفَى» مشدداً ومخففاً ثلاث لغاتٍ بمعنى؛ قال الشاعر: [البسط] 429 - أَمَّا ابْنُ [طُوْقٍ] فَقَدْ أَوْفَى بِذِمَّتِهِ ... كَمَا وَفَى بِقِلاَصِ النَّجْمِ حَادِيها فجمع بين اللغتين. وقيل: يقال: أوفيت ووفيت بالعهد، وأوفيت الكَيْلَ لا غير، وعن بعضهم: أن اللغات الثلاث واردة في القرآن. أما «أوفى» فكهذه الآية. وأما «وَفَّى» بالتشديد فكقوله: {وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى} [النجم: 37] . وأما «وَفَى» بالتخفيف، فلم يصرح به، وإنما أخذ من قوله تعالى: {أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} [التوبة: 111] وذلك أن «أَفْعَل» التفضيل لا يبنى إلاّ من الثلاثي كالتعجُّب هذا هو المشهور، وإن كان في المسألة كلام كثير ويحكى أن المستنبط لذلك أبو القاسم الشَّاطبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 ويجيء «أَوْفَى» بمعنى: ارتفع؛ قال: [المديد] 430 - رُبَّمَا أَوْفَيْتُ في عَلَمٍ ... تَرْفَعَنْ ثَوْبِي شَمَالاتُ و «بعهدي» متعلّق ب «أوفوا» ، و «العَهْد» مصدر، ويحتمل إضافته للفاعل أو المفعول. والمعنى: بما عاهدتكم عليه من قَبُولِ الطَّاعة، ونحوه: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ} [يس: 60] أو بما عاهدتموني عليه، ونحوه: {وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله} [الفتح: 10] ، {صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] . و «أُوفِ» مجزوم على جواب الأمر، وهل الجازم الجملة الطَّلبية نفسها لما تضمّنته من معنى الشرط، أو حرف شرط مقدر تقديره: إن توفوا بعهدي أوف؟ قولان. وهكذا كل ما جزم في جواب طلب يجري فيه هذا الخلاف. وقرأ الزّهري: «أَوَفِّ» بفتح الواو وتشديد الفاء للتَّكثير. و «بِعَهْدِكُمْ» متعلّق به [وهذا] محتمل للإضافة إلى الفاعل، أو المفعول على ما تقدّم. فصل في المراد بالعهد المأمور بوفائه في العَهْدِ المأمور بوفائه قولان: أحدهما: أنه جميع ما أمر الله به من غير تخصيص، وقوله: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أراد به الثواب والمغفرة. وقال «الحسن» : هو قوله: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمْ الزكاة} إلى قوله: {الأنهار} [المائدة: 12] . وحكى «الضحاك» عن ابن عباس أوفوا بما أمرتكم به من الطَّاعات، ونهيتكم عنه من المعاصي، وهو قول جمهور المفسرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 وقيل: هو ما أثبته في الكتب المتقدّمة في صفة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنه سيبعثه على ما قال في سورة المائدة: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ} إلى قوله: {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} [المائدة: 12] . وقال في سورة الأعراف: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] إلى قوله {والإنجيل} [الأعراف: 157] وأما عهد الله معهم، فهو أن يضع عنهم إصْرَهُمْ والأغلال، لقوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] الآية وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ} [الصف: 6] . وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: [إن الله تعالى] كان عهد إلى بني إسرائيل في التَّوْرَاة أني باعث من بني إسماعيل نبيَّا أمياً، فمن تبعه وصدّق بالنور الذي يأتي به أي القرآن [أغفر له ذنبه، وأدخله] الجَنَّة، وجعلت له أجرين؛ أجراً باتباع ما جاء به موسى وجاءت به أنبياء بني إسرائيل، وأجراً [باتباع] ما جاء به محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [النبي الأمي] من ولد إسماعيل، وتصديق هذا القُرْآن في قوله تعالى: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] إلى قوله {أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ} [القصص: 54] . وتصديقه أيضاً بما روى أبو مسوى الأشعري عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ثلاثة يُؤْتَوْنَ أجرهم مَرَّتَيْنِ بما صبروا: رَجُل من أهْل الكتاب آمن بِعِيسَى، ثم آمَنَ بمحمّد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [فله أَجْرَانِ] ، ورجل أدّب أَمَتَهُ فأحسن تَأدِيبَهَا، وعلّمها فأحسن تعليمها، ثم أَعْتَقَهَا فتزوَّجَهَا، فله أَجْرَان، وعبد أَطَاعَ الله، وأطاع سَيّدَهُ فله أَجْرَان» . فإن قيل: إنْ كان الأمر هكذا، فكيف يجوز جَحْدَهُ من جماتهم؟ فالجواب من وجهين: الأول: أنّ هذا العلم كان حاصلاً عند العلماء في كتبهم، لكن لم يكن منهم عَدَدٌ كثير، فجاز منهم كِتْمَانُ ذلك. الثاني: أن ذلك النصّ كان خفيًّا لا جليًّا، فجاز وقوع الشَّكَ فيه. فإن قيل: الشخص الموعود به في هذه الكتب، أما أن يكون قد ذكر فيه هذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 الكتب وَقْت خروجه، ومكان خروجه، وسائر التَّفَاصيل المتعلّقة بذلك، أو لم يذكر شيء من ذلك. فإن كان الأول كان [ذلك] النص نصًّا جليًّا وارداً في كتب مَنْقُولة إلى أهل العلم بالتواتر، فيمتنع قدرتهم على الكِتْمَانِ، ويلزم أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة من دين الأنبياء المتقدمين. وإن كان الثاني لم [يدلّ] ذلك النَّص على نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لاحتمال أن يقولوا: إن ذلك المبشّر به سيجيء بعد ذلك على ما هو معتقد جمهور اليهود. والجواب: قال بن الخطيب: «لم يكن منصوصاً عليه نصًّا جليًّا يعرفه كل أحد، بل كان منصوصاً عليه نصًّا خفيًّا، فلا جَرمَ لم يلزم أن يعلم ذلك بالضَّرورة من دين الأنبياء المتقدّمين» . قوله : {وَإِيَّايَ فارهبون} . «إياي» ضمير منصوب منفصل، وقد عرف ما فيه في «الفاتحة، ونصبه بفعل محذوف يفسره الظاهر بعده، والتقديرط» وإيايَ ارْهَبُوا فارْهَبُون «وإنما قدرته متأخراً فيهح لأن تقديره متقدماً عليه لايحسن لانفصاله، وإن كان بعضهم قدره كذلك. والفاء في» فارهبون «فيها قولان للنحويين: أحدهما: أنها جواب أمر مقدر تقديره: تنبّهُوا فارهبونن وهو نظير قولهم:» زيداً فاضرب «أي: تنبيه فاضرب زيداً، ثم حذف» تنبه «، فصار: فاضرب زيداً، ثم قدم المفعول إصلاحاً للفظ؛ لئلا تفع الفاء صدراً، وإنما دخلت الفاء لتربط هاتين الجملتين. والقول الثاني في هذه» الفاء «: أنها زائدة. وقال» أبو حيان «بعد أن حكى القول الأول: فتحمل الآية وجهين: أحدهما: أن يكون التدقير:» وإيّاي ارهبوا تنبهوا فارهبون «، فتكون» الفاء «حصلت في جواب الأمر، وليست مؤخّرة من تقديم. والوجه الثاني: أن يكون التقدير: وتنبّهوا فارهبون، ثم قدّم المفعول فانفصل، وأتى بالفاء حين قدّم المفعول، وفعل الأمر الذي هو» تنبهوا «محذوف، فالتقى بعد حذفه الواو والفاء، يعني: فصار التقدير:» وفإياي ارهبوا «، فقدم المفعول على الفاء إصلاحاً للفظ، فصار:» وإيّاي فارهبوا «، ثم أعيد المفعول على سبيل التَّأكيدن ولتكمل الفاصلة، وعلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 هذا في» إياي «منصوب بما بعده لا بفعل محذوف، ولا يبعد تأكيد المنفصل بالمتّصل، كما لا يمتنع تأكيد المتصل بالمنفصل. و» الرَّهَبُ «و» الرَّهْب «، و» الرَّهْبَة «: الخوف، مأخوذ من الرّهَابة، وهي عظم في الصدر يؤثر فيه الخوف، وسقطت» الياء «بعد» النون «؛ لأنها رأس فاصلة. وقرأ ابن أبي إسحاق:» فأرْهَبُوني «بالياء، وكذا: {فاتقون} [البقرة: 41] على الأصل. ويجوز في الكلام» وأنا فارهبون «على الابتداء والخير. وكون» فارهبون «الخبر على تقدير الحذف كان المعنى:» وأنا ربكم فارهبون «. ذكره القُرْطبي. وفي الآية دليلٌ على أنّ المرء يجب عليه ألا يخاف أحداً إلا الله تعالى، ولما وجب ذلك في الخوف، فكذا في الرجاء فيها دلالة على أنه يجب على المكلف أن يأتي بالطاعات للخوف والرجاء، وأن ذلك لا بد منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 قوله: «ما» يجوز أن تكون بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف، أي: بالذي أنزلته، ويجوز أن تكون مصدرية، والمصدر واقع موقع المفعول أيك [بالمنزل] . و «مصدقاً» نصب على الحال، وصاحبها العائد المَحْذُوف. وقيل: صحابها «ما» والعامل فيها «آمنوا» ، وأجاز بعضهم أن تكون «ما» مصدرية من غير جعله المصدر واقعاً موقع الفعل به، وجعل «لما معكم» من تمامه، أي: بإنزالي لما معكم، وجعل «مصدقاً» حالاً من «ما» المجرورة باللاَّم قدمت عليها، وإن كان صاحبها مجروراً؛ لأن الصَّحيح جواز تقديم حال المجرور بحرف الجر عليه؛ كقوله [الطويل] 431 - فَإِنْ يَكُ أُصِبْنَ وَنِسْوَةٌ ... فَلَن تّذْهَبُوا فِرْغاً بِقَتْلِ حِبَالِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 «فِرْغاً» حال من «بِقَتْل» ، وأيضاً فهذه «اللام» زائدة، فهي في حكم المطرح، و «مصدقاً» حل مؤكّدة؛ لأنه لا تكون إلا كذلك. والظاهر أن «ما» بمعنى «الذي» وأن «مصدقاً» حال من عائد الموصول، وأن اللاّم في «لما» مقوية لتعدية «مصدقاً» ل «ما» الموصولة بالظَّرْفِ. فصل في بيان المخاطبين في الآية اعلم أن المخاطبين بقوله: «وآمنوا» هم بنو إسرائيل لتعطفه على قوله: «اذْكُرُوا نِعْمَتِي» ، ولقوله: «مُصَدّقاً لِمَا مَعَكُمْ» . وقوله: «بِمَا أَنْزَلت» فيه قولان: أحدهما: أنه القرآن؛ لأنه وصفه بكونه منزلاً، وبكونه مصدقاً لما معهم. والثاني: قال قَتَادَةُ: بما أنزلت من كتاب ورسول تجدونه مكتوباً في التَّوراة، والإنجيل. ومن جعل «ما» مصدرية قدّرها ب «إنزالي لما معكم» يعني: التوراة. وقوله {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} فيه تفسيران: أحدهما: أن في القرآن أنَّ موسى وعيسى حَقّ، والتوراة والإنديل حَقّ، فالإيمان بالقرآن مؤكّد للإيمان بالتوارة والإنجيل. والثاني: أنه حصلت البِشَارَةُ بمحمد عليه الصَّلاة والسَّلام وبالقرآن في التوراة والإنجيل، فكان الإيمان بالقرآن، وبمحمد تصديقاً للتوراة والإنجيل، وتكذيب محمد والقرآن تكذيبٌ للتوراة والإنجيل. قال ابن الخطيب: وهذا يدلّ على نبوة محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من وجهين: الأول: أن شهادة كتب الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام لا تكون إلا حقًّا. والثاني: أنه عليه الصلاة السَّلام لم يقرأ كتبهم، ولم يكن له معرفة بذلك إلاَّ من قبل الوحي. قوله: «وَلاَ تكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ» . «أول» خبر كان، وفيه أربعة أقوال: أحدهما وهو مذهب سيبويه: أنه «أفعل» ، وأن فاءه وعينه واو، وتأنيثه «أُوْلَى» ، وأصلها: «وُوْلَى» ، فأبدلت الواو همزة وجوباً، وليست مثل «وُورِي» في عدم قلبها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 لسكون الواو بعدها، لأن واو «أُوْلَى» تحركت في الجمع في قولهم «أوْل» ، فحمل المفرد على الجمع في ذلك، ولم يتصرف من «أول» فعل لاستثقاله. وقيل: هو من «وأل» إذا نجا، ففاؤه واو، وعينه همزة، وأصله: «أوأل» فخففت بأن قلبت الهمزة واواً، وأدغمت الواو الأولى فيها فصار: «أول» ، وهذا ليس بقياس تخفيفه، بل قياسه أن تلقى حركة الهمزة على «الواو» الساكنة، وتحذف الهمزة، ولكنهم شبهوه ب «خَطِية وبَرِية» وهو ضعيف، والجمع: «أوَائِل» و «أَوَالي» أيضاً على القلب. وقيل: هو من «آلَ يَئُولُ» إذا رجع، وأصله: «أَأْوَل» بهمزتين، الأولى زائدة والثانية فاؤه، ثم قلبت فأخرت الفاء بعد العين فصار: «أَوْأَل» بوزن «أَعْفَل» ، ثم فعل به ما فعل في الوجه الذي قبله من القلب والإدْغَام، وهو أضعف منه. وقيل: هو «وَوّل» بوزن «فَوْعَل» ، فأبدلت الواو الأولى همزة، وهذا القول أضعفها؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرف، والجمع «أوائل» والأصل: «وواول» فقلبت الاولى همزة لما تقدم، والثالثة أيضاً لوقوعها بعد ألف الجمع، وإنما لم يجمع لعى «أواول» لاستثقالهم اجتماع واوين بينهما ألف الجمع. واعلم أن «أوّل» «أفعل» تفضيل، و «أفعل» التفضيل إذا أضيف إلى نكرة كان مفرداً مذكراً مطلقاً، ثم النكرة المضاف إليها «أفعل» ، إما أن تكون جامدةً أو مشتقةً، فإن كانت جامدة طابقت ما قبلها نحو: الزّيدان أفضلُ رجلين، الزيدون أفضلُ رجال، الهندات أفضلُ نسوة. وأجاز المبرد إفرادها مطلقاً. وإن كانت مشتقة، فالجمهور أيضاً على وجوب المطابقة، نحو: «الزيدون أفضلُ ذاهبين وأكرمُ قادمين» ، وأجاز بعضهم المُطَابقة وعدمها؛ أنشد الفراء: [الكامل] 432 - وَإِذَا هُمُ طَعِمُوا فَأَلأَمُ طَاعِمٍ ... وَإِذَا هُمْ جَاعُوا فَشَرٌّ جِيَاع فأفرد في الأول، وطابق في الثاني، ومنه عندهم: {وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41] . إذا تقرر هذا، فكان ينبغي على قوله الجمهور أن يجمع «كافر» ، فأجابوا عن ذلك بأوجه: أجودها: أن «أفْعَل» في الآية، وفي البيت مُضَاف لاسم مفرد مفهم للجمع حذف، وبقيت صفته قائمةً مقامه، فجاءت النكرة المضاف إليها «أفعل» مفردة اعتباراً بذلك الموصوف المحذوف، والتقدير: ولا تكونوا أوّل فريق أو فَوْجٍ كافر، وكذا «فألأم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 فرق طاعم» ، وقيل: لأنه في تأويل: «أول من كفر به» . وقيل: لأنه في معنى: لا يكن كل واحد منكم أول كافر، كقولك: كَسَانَا حُلّة أي: كل واحد منَّا، ولا مفهوم لهذه الصفة هنا فلا يراد: ولا تكونوا أول كافر، بل آخر كافر؛ لأن ذكر الشّيء ليس فيه دلالة على أن ما عداه بخلافه. وأيضاً فقوله: {وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} دليل على أن كفرهم أولاً وآخراً محظور، وأيضاً قوله: {رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2] لا يدلّ على وجود عَمَدٍ لا يرونها، وقوله: {وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 181] لا يدلّ على وقوع قتل الأنبياء بحق. وقوله بعد هذه الآية: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41] لا يدلّ على إبَاحَةِ ذلك بالثّمنِ الكثير، فكذا هاهنا، ولما اعتقد بعضهم أن لها مفهوماً احتاج إلى تأويل جعل «أول» زائداً، قال تقديره: ولا تكونوا كافرين به، وهذا ليس بِشَيْءٍن وقدّره بعضهم بأن ثَمَّ معطوفاً محذوفاً تقديره: ولا تكونوا أوّل كافر به، ولا آخر كافر، ونصّ على الأول؛ لأنه أفحش للابتداء به؛ وهو نظير قوله: [الرممت] 433 - مِنْ أُنَاسِ لَيْسَ في أَخْلاَقِهِمْ ... عَاجِلُ الفُحْشِ وَلاَ سُوءُ الجَزَعْ لا يريد أن فيهم فحشاً آجلاً، بل يريد لا فحش عندهم لا عاجلاً ولا آجلاً. والهاء في «ب» تعود على «ما أنزلت» . وقيل: على الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ لأن التنزيل يستدعي منزلاً إليه. وقيل: على النعمة ذهاباً بها إلى معنى الإحسان. فإن قيل: كيف جعلوا أوّل من كفر به، وقد سبقهم إلى الكُفْرِ به مشركو العرب؟ فالجواب: من وجوه: أحدها: أن هذا تعريض بأنه كان يجب أن يكونوا أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به وبصفته؛ لأنهم كانوا هم المبشّرين بزمان محمد عليه الصَّلاة والسَّلام والمُسْتفتحين على الذين كفروا به، فلّما بعث كان أمرهم على العكس لقوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89] . وثانيها: المُرَاد: ولا تكونوا مثل أو كافر به، يعني: من أشرك من أهل «مكة» ، أي أنتم تعرفونه مذكوراً في التوراة والإنجيل، فلا تكونوا مثل من لم يعرفه، وهو مشرك لا كتاب له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 وثالثها: ولا تكونوا أول كافر به من أهل الكتاب؛ لأن هؤلاء كانوا أول من كفر بالقرآن من بني إسرائيل، وإن كانت قريش كَفَرَتْ به قبل ذلك. ورابعها: ولا تكونوا أو كافر به، يعني بكتابكم يقول ذلك لعلمائهم، أي: ولا تكونوا أول أحد من أمتكم كذب كتابكم؛ لأن تكذيبكم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بموجب تَكْذِيبَكُمْ بكتابكم. وخامسها: ولا تكونوا أوّل كافر به عند سَمَاعكم بذكره، بل تثبَّتوا فيه، وراجعوا عقولكم فيه. قوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} . «بآياتي» متعلّق بالاشتراء وضمن الاشتراء معنى الاستبدال، فلذلك دخلت الباء على الآيات، وكان القياس دخولها على ما هو ثَمَن؛ لأن الثمن في البيع حقيقته أن يشتري به، لا أن يشترى، لكن لما دخل الكلام معنى الاستبدال جاز ذلك؛ لأن معنى الاستبدال أن يكون المنصوب فيه حاصلاً والمجرور بالباء زائلاً. وقد ظنّ بعضهم أن قولك: «بدلت الدِّرْهَمَ بالدينار» وكذا: «أبدلت» أيضاً أن الدينار هو الحاصل، والدرهم هو الزَّائل، وهو وهم؛ ومن مجيء «اشترى» بمعنى «استبدل» قوله: [الجز] 434 - كَمَا اشْتَرَى المُسْلِمُ إذْ تَنَصَّرَا ... وقول الآخر: [الطويل] 435 - فَإِنْ تَزْعُمِيني كُنْتُ أَجْهَلُ فيكُمُ ... فَإِنِّي شَرَيْتُ الحِلْمَ بَعْدَكِ بِالجَهْلِ وقال المهدوي: دخول «الباء» على «الآيات» كدخولها على «الثَّمن» ، وكذلك كل ما لا عَيْنَ فيه، وإذا كان في الكلام دَرَاهم أو دنانير دخلت الباء على الثمن، قاله الفرّاء، يعني أنه إذا لم يكن في الكلام دِرْهَمٌ ولا دينار صحّ أن يكون كلّ من العوضين ثمناً، ومثمناً، لكن يختلف ذلك بالنسبة إلى المُتَعَاقدين، فمن نسب الشراء إلى نفسه أدخل الباء على ما خرج منه، وزال عنه، ونصب ما حصل له، فتقول «اشتريت هذا الثَّوْبَ بهذا العبد» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وأما إذا كان ثَمّ دراهم أو دنانير كان ثمناً ليس إلا، نحو «اشتريت الثوب بالدرهم» ، ولا تقول: «اشتريت الدِّرْهَمَ بالثوب» . وقدر بعضهم مضافاً فقال: بتعليم آياتي؛ لأن الآيات نفسها لا يُشْتَرَى بها، ولا حَاجَةَ إلى ذلكح لأن معناه الاستبدال كما تقدم. و «ثمناً» مفعول به، و «قليلاً» صفته. و «إيَّايَ فَاتَّقُونِ» كقوله: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] . وقال هنا: «فَاتَّقُونِ» وهناك: «فَارْهَبُونِ» لأن ترك المأمور به هناك معصية، وهي ترك ذكر النعمة والإيفاء بالعَهءد، وهنا ترك الإيمان بالمنزل والاشتراء به ثمناً قليلاً كفر، فناسب ذكر الرهب هناكح لأنه أخف يجوز العفو عنه لكونه معصية، وذكر التقوى هنا؛ لأنه كفر لايجوز العفو عنه؛ لأن التقوى اتخاذ الوقاية لما هو كائن لا بُدْ منه. فصل في الباعث على كفر زعماء اليهود قال ابن عباس: إن رؤساء اليهود مثل كَعْب بن الأَشْرَشف وحُيَي بن أَخْطَبَ وأمثالهما كانوا يأخذون من فقراء اليهود الهَدَايا، وعلموا أنهم لو ابتعوا محمداً لانقعطت عنه تلك الهدايا، فأصروا على الكفر لئلا ينقطع عنهم ذلك القَدْرُ المحتقر. قال القرطبي: في تفسيره: هذه الآية وإن كانت خاصّة ببني إسرائيل، فهي تتناول من فعل فعلهم، فمن أخذ رِشْوَةً على تغيير حق، أو إبطاله، أو امتنع من تعليم ما وجب عليه، أو أداء ما علمه، وقد تعيّن عليه حتى يأخذ عليه أجراً، فقد دخل في مقتضى الآية. وروى أبو داود عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من تَعَلَّم علماً مما يبتغي به وَجْه الله لا يتعلَّمُهُ إلا لِيُصِيبَ به غرضاً من الدنيا لم يَجِدْ عرفَ الجَنَّةِ يوم القِيَامَةِ» يعني: ريحَهَا. وقد اختلف العلماء في أخذ الأُجْرة على تعليم القرآن والعلم، فمنع ذلك الزّهري، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 وأصحاب الرأي وقالوا: لا يجوز أخذ الأُجْرة على تعليم القُرْآن؛ لأن تعليمه واجب من الواجبات التي يحتاج فيها إلى نِيَّةِ التقرب، فلا يؤخذ عليها أجره كالصَّلاة والصيام. واستدلوا بالآية وروى أبو هريرة قال: قلت: يارسول الله ما تقول في المُعَلِّمِينَ؟ قال: «درهمهم حَرَام، وشربهم سُحْتٌ وكلامهم رِيَاءٌ» . وروى عبادة بن الصامت قال: علمت ناساً من أهل الصفّة القرآن والكتابة، فأهدى إليّ رجل مهم قَوْساً، فقلت: ليست بمال [وأرمي] عنها في سبيل الله، فسألت عنها رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «إنْ سَرَّكَ أن تُطَوَّقَ بها طَوْقاً من نارٍ فاقْبَلْهَا» . وأجاز أخذ الأُجْرَةِ على تعليم القرآن مالكُ، والشَّافعي، وأحمد، وأبو ثور، وأكثر العلماء، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في حديث الرُّقية: «إنَّ أَحَقّ ما أَخَذْتُمْ عليه أجراً كِتَابُ الله» أخرجه البُخَاري، وهو نصّ [برفع الخلاف، فينبغي أن يُعَوْل عليه] . وأما حُجّة [المخالفين] فقياسهم في مقابلة النَّص، وهو قادر، ويمكن الفرق، وهو أن الصَّلاة والصَّوم عبادات مُخْتَصَّة بالفاعل، وتعليم القرآن عبادة متعدّية لغير المعلم، فيجوز الأجرة على مُحَاولته النقل كتعليم كتابة القرآن. قال ابن المنذر، وأبو حنيفة: يُكْره تعليم القرآن بأجرة، ويجوز أن يستأجر الرجل يكتب له لوحاً أو شعراً أو غناء معلوماً بأجر معلوم، فيجوز الإجارة فيما هو مَعْصية، ويبطلها فيما هو طَاعَةٌ. وأما الآية فهي خَاصَّة ببني إسرائيل، وشرع من قبلنا هل هو شرعٌ لنا؟ فيه خلاف، وهو لا يقول به، ويمكن أن تكون الآية فيمن تعيّن عليه التَّعْليم، فأبى حتى يأخذ عليه أجراً. فأما إذا لم يتعيّن فيجوز له أخذ الأُجرة بدليل السُّنّة في ذلك، وقد يتعيّن عليه إلاّ أنه ليس عنده ما ينفقه على نفسه، ولا على عِيَالِهِ، فلا يجب عليه التَّعليم، وله أن يقبل على صِنْعَتِهِ وحِرْفَتِهِ. [وأما أحاديثهم فلا يصح منها شيء في الدليل] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 أمر بترك الإغواء والإضلال وإضلال الغير له طريقان: أحدهما: أن يكون لغير قد سمع دَلاَئِلَ الحق، فإضلاله لا يمكن إلا بتشويش دلائل الحقّ عليه بالشبهات. والثاني: أن تخفي تلك الدَّلائل عنه، وتمنعه من الوصول إليها فقوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} إشارة إلى الأول، وقولهك {وَتَكْتُمُواْ الحق} إشارة إلى الثاني. والباء في قوله: «بالباطل» للإلصاق كقولك: «خلطت المَاءَ باللَّبَنِ» ، أي: لا تخلطوا الحقّ بالباطل، فلا يتميز. وقال «الزمخشري» : إن كانت صلةً مثلها في قولك: ليست الشيء بالشَّيء، وخلطته به كان المعنى: ولا تَكْتُبُوا في التوراة ما ليس فيها فَيَخْتَلِطَ الحق المنزّل بالباطل الذي كتبتم. وإن كانت «باء» الاستعانة كالتي في قولك: «كتبت بالقَلَمِ» كان المعنى: ولا تجعلوا الحقَّ مشتبهاً بباطلكم الذي تكتبونه. فأجاز فيها وجهين كما ترى، ولا يريد بقوله «صِلَة: انها زائدة، بل يريد أنها موصلة للفعل كا تقدم. وقال» أبو حيان «:» وفي جعله إياها للاستعانة بُعْد، وصرف عن الظاهر من غير ضرورة «، ولا أدري ما هذا الاستبعاد مع وضوح هذا المعنى الحق؟ وقال ابن الخطيب: [إنها» باء «الاستعانة] . والمعنى: ولا تلبسوا الحَقّ بسبب الشبهات التي تُورِدُونَهَا على السَّامعين، وذلك لأن النصوص الواردة في التوراة والإنجيل في أمر محمد كانت نصوصاً خفيةً يحتاج في معرفتها إلى الاستدلال، ثم إنهم كاناو يُجَادلون فيها، ويشوشون وجه الدلالة على المتأملين فيها بإلقاء الشبهات، فهذا هو المراد بقوله: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل} ، فهو المذكور في قوله: {وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق} [غافر: 5] . و» اللَّبْسُ «: الخَلْط والمَزْج؛ لقوله: لَبَسْتُ عليه الأمر أَلْبِسُهُ خَلَطْتُ بَيِّنَهُ بمُشْكِلِهِ؛ ومنه قوله الخَنْسَاءِ: [البسيط] . 436 - تَرَى الجَلِيسَ يَقُولُ الحَقَّ تَحْسَبُهُ ... رُشْداً وَهَيْهَاتَ فَانْكُرْ مَا بِهِ الْتَبَسَا صَدِّقْ مَقَالَتَهُ وَاحْذَرْ عَدَاوَتَه ... وَالْبِسْ عَلَيْهِ أُمُوراً مِثْلَ مَا لَبَسَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 وقال العَجَّاج: [الرجز] 437 - [لَمَّا لَبَسْنَ الحَقَّ بِالتَّجَنِّي ... غَنِينَ وَاسْتَبْدَلْنَ زَيْداً مِنِّي] ومنه أيضاً: [البسيط] 438 - وَقَدْ لَبَسْتُ لِهَذَا الأَمْرِ أَعْصُرَهُ ... حَتَّى تَجَلَّلَ رَأْسِي الشَّيْبُ فَاشْتَعَلا وفي فلان مَلْبَسٌ، أي مستمتع؛ قال: [الطويل] 439 - أَلاَ إِنَّ بَعْدَ العُدْمِ لِلْمَرْءِ قُنْوَةً ... وَبَعْدَ المَشِيبِ طُولَ عُمْرٍ وَمَلْبَسَا وقول الفَرَّاء وغيره: [الكامل] 440 - وَكتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِبَةٍ ... حَتَّى إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي يحتمل أن يكون منه، وأن يكون من» اللِّبَاس «، والآية الكريمة تحتمل المعنيين، أي: لا تغطّوا الحق بالباطل. ولبس الهَوْدَج والكعبة: ما عليهما من» لِبَاس «بكسر اللام ولِبَاسُ الرجل زوجته، وزوجها لِبَاسُهَا. قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] وقال النابغة: [المتقارب] 441 - إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا ... تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَنْ لِبَاسَا و «اللَّبُوس» : كل ما يُلْبَس من ثياب ودرع؛ قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} [الأنبياء: 80] ولاَبَسْتُ فلاناً حتى عرفت باطنه. و «الباطل» : ضد الحق، وهو الزائل؛ كقول لَبِيدٍ: [الطويل] 442 - أَلاَ كُلٌّ شَيْءٍ مَا خَلاَ الله بَاطِلُ ... ويقال: بَطَلَ الشيءُ يَبْطُلُ بُطُولاً وبُطْلاً وبُطْلانَاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 و «البَطَل» : الشّجاع، سمي بذلك؛ لأنه يبطل شجاعة غيره. وقيل: لأنه يبطل دمه فهو «فَعَل» بمعنى «مفعول» . وقيل: لأنه يبطل دم غيره فهو بمعنى «فاعل» . وقد بَطُلَ بالضَّم يَبْطُلُ بُطُولاً وبَطَالَةً، أي: صار شجاعاً؛ قال النابغة: [البسيط] 443 - لَهُمْ لِوَاءُ بِكَفِّيْ مَاجِدٍ بَطَلٍ ... لاَ يَقْطَعُ الخَرْقَ إلاَّ طَرْفُهُ سَامِي وبَطَل الأجيرُ بالفتح بِطَالة بالكَسْر: إذا تعطَّل، فهو بَطَّال، وذهب دمه بُطْلاً بالضم أي: هدراً. فصل في المراد من قوله تعالى: «الحق بالباطل» اختلفوا في المراد من قوله: «الحَقّ بِالبَاطِلِ» فروي عن «ابن عباس» وغيره: لا تخلطوا ما عندكم من الحَقّ في الكتاب بالباطل، وهو التغيير والتبديل. وقال «أبو العالية» : قالت اليَهُود: محمد بمعوثٌ ولكن إلى غيرنا، فإقرارهم ببعثته حق، وجحدهم أه بعث اليهم باطل. وقال «مجاهد» : لا تخلطوا اليهودية والنصرانية بالإسلام. قوله: «وَتَكْتمُوا الحَقّ» فيه وجهان: أحدهما، وهو الأظهر: أنه مجزوم بالعَطْفِ على الفعل قبله، نَهَاهم عن كل فعل على حِدَتِهِ، أي: لا تفعلوا هذا ولا هذا. والثاني: أنه منصوب بإضمار «أن» في جواب النهي بعد «الواو» التي تقتضي المعية، أي: لا تجمعوا بين لَبْسِ الحق بالباطل وكِتْمَانه، ومنه: [الكامل] 444 - لا تَنْهَ عَنْ خُلُقِ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ ... عَارٌ عَلَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ و «أن» مع ما في حيّزها في تأويل مصدر، فلا بد من تأويل الفعل الذي قبلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 بمصدر أيضاً ليصبح عطف [الاسم] على مثله، والتقدير: لا يكن منكم لَبْس الحق بالباطل وكتمانه، وكذا سائر نظائره. وقال «الكوفيون» : منصوب ب «واو» الصرف، وقد تقدم معناه، والوجه الأول أحسن؛ لأنه نهي عن كل فعل على حِدَتِهِ، وأما الوجه الثاني فإنه نهي عن الجمع، ولا يلزم من النَّهْي عن الجمع بين الشَّيئين النهي عن كل واحد حِدَتِهِ إلا بدليل خارجي. فصل في المراد بالكتمان قال «ابن عبَّاس» : يعني كتمانهم أمر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم يعرفونه. وقال «محمد بن سِيرِينَ» : نزل عصابة من ولد هَارُونَ ب «يثرب» لما أصاب بني إسرائيل ما أصابهم من ظهور العَدُوْ عليهم، وتلك العصابة هم حَمَلَةُ التوراة يومئذ، فأقاموا ب «يثرب» يرجون أن يخرج محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين ظَهْرَانيهم، وهم مؤمنون مصدقون بنبوته، فمضى أولئك الآباء، وهم مؤمنون، وخلف الأبناء وأبناء الأبناء، فأدركوا محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكفروا به وهم يعرفون، وهو معنى قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} [البقرة: 89] . قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحَالِ، وعاملها: إما «تلبسوا» أو «تكتموا» إلاّ أن عمل «تكتموا» أولى لوجهين: أحدهما: أنه أقرب. والثاني: أن كتمان الحَقّ مع العلم به أبلغ ذمّاً، وفيه نوع مقابلة. ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الإعمال؛ لأنه يستدعي الإضمار، ولا يجوز إضمار الحال؛ لأنه لا يكون إلا نكرةّ، ولذلك منعوا الإخبار عنه ب «الذي» . فإن قيل: تكون المسألة من باب الإعمال على معنى أنا حذفنا من الأوّل ما أثبتناه في الثاني من غير إضمار، حتى لا يلزم المَحْظور المذكور، والتتقدير: ولا تلبسوا الحق بالباطل وأنتم تعلمون، ولا تكتموا الحق وأنتم تعلمون. فالجواب: أن هذا لايقال: فيه إعمال، لأن الإعمال يستدعي أن يضمر في المهمل، ثم يحذف. وأجاز «ابن عطيَّة» ألا تكون هذه الجملة حالاً، فإنه قال: «ويحتمل أن تكمون شهادة عليهم بعلم حق مخصوص في أمر محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ولم يشهد لهم بالعلم على الإطلاق، فعلى هذا لا تكون الجُمْلة في موقع الحال» . وفيما قاله نظر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 وقرىء شاذاً: «وَتَكْتُمُونَ» بالرفع، وخرجوها على أنها حَالٌ، وهذا غير صحيح؛ لأنه مضارع مثبت فمن حقه ألا يقترن بالواو، وما ورد من ذلك، فهو مؤول بإضمار متبدأ قبله، نحو: «قُمْتُ وأَصُكُّ عَيْنَهُ» ، وقول الآخر: [االمتقارب] 445 - فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ ... نَجَوْتُ وأرْهَنُهُمْ مَالِكَا أي: «وأَنَا أَصُكُّ» ، و «أَنَا أَرْهَنُهُمْ» ، وكذا «وأنتم تكتمون» ، إلا أنه يلزم منه إشكال آخر، وهو أنهم منهيُّون عن اللّبس مطلقاً، والحال قيد في الجملة السابقة، فيكون قد نهوا بقيد، وليس ذلك مراداً إلاّ أن [يقال: إنها حال لازمة، وقد قيّده «الزمخشري» ب «كاتمين» ، فجعله حالاً، وفيه الإشكال المقتدّم، إلاّ أنه] يكون أراد تفسير المعنى لا تفسير الإعرابن قال «ابن الخطيب» : وجواب الإشكال أنه إذا لم يعلم حال الشيء لم يعلم أن ذلك اللبس والكتمان حق أو باطل، وما لا يعرف كونه حقًّا وباطلاً لا يجوز الإقدام عليه بالنفي، ولا بالإثبات، بل يجب التوقّف فيه. وسبب ذكر هذا القيد أن الإقدام على الفعل الضَّار مع العلم بكونه ضارًّا أفحش من الإقدام عليه عند الجَهْلِ بكونه ضارّاً، فلما كانوا عالمين [بما] في التبليس من المفاسد كان إقدامهم عليه أقبح. ويجوز أن تكون جلمة خبرية عطفت على جملة طلبية، كأنه تعالى نَعَى عليهم كتمهم الحقّ مع علمهم أنه حق. [ومفعول] العلم غير مُرَاد؛ لأن المعنى: وأنتم من ذوي العلم. وقيل: حذف للعلم به، والتقدير: تعلمون الحقّ من الباطل. وقدره «الزمخشري» : «وأنتم تعلمون في حال علمكم أنكم لابسون كاتمون» ، فجعل المفعول اللَّبْس والكَتْم المفهومين من الفعلين السابقين. وهو حسن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 أمرهم بالإيمان، ثم نهاهم عن لَبْس الحق الباطلن وكِتْمَان دلائل النُّبوة، ثم ذكر بعد ذلك بيان ما لزمهم من الشّرائع، وذكر من جملته ما هو كالأصل فيها، وهو الصَّلاة التي هي أعظم العبادات البدنية، والزكاة التي هي أعظم العبادات المالية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 قوله: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} هذه الجُمْلَة وما بعدها عطف على الجملة قبلها عطف أمر على نهي. وأصل «أقيموا» : «أقْوِمُوا» ، ففعل به ما فعل ب {وَيُقِيمُونَ} [البقرة: 3] وقد تقدحم الكلام عليها وعلى «الصًّلاة» ، وأصل «آتوا» «ائْتِيُوا» بهمزتين مثل «أكْرِمُوا» ، فقلبت الثانية ألفاً لسكونها بعد همزة مفتوحة، واستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان «الياء والواو» ، فحذفت الياء؛ لأنها أول وحركت التاء بحركتها. وقيل: بل ضمت تبعاً للواو، كما ضم آخر «اضربوا» ونحوه، ووزنه: «افعوا» بحذف اللام. وألف «الزكاة» منقلبة عن واو، لقولهم: زَكَوَات، وزَكَا يَزْكُو، وهي النحو. وقيل: الطهارة. وقيل: أصلها الثَّنَاء الجميل، ومنه: زكى القاضي الشُّهود، والزَّكَا: الزوج صار زوجاً بزيادة فرد آخر عليه، والخَسَا: الفرد، قال: [البسيط] 446 - كَانُوا خَساً أَوْ زَكاً مِنْ دُونِ أْرْبَعَةٍ ... لَمْ يَخْلَقُوا وَجُدُودُ النَّاسِ تعْتَلِجُ قوله: {مَعَ الراكعين} منصوب ب «ارْكَعُوا» . و «الركوع» : الطّمأنينة والانْحِنَاء، ومنه قوله: [الطويل] 447 - أُخَبِّرُ أْخْبَارَ القُرُونِ الَّتِي مَضَتْ ... أَدِبُّ كَأَنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ وقيل: الخضوع والذِّلَّة؛ ومنه: [المسرح] 448 - وَلاَ تُهِينَ الفَقِيرَ عَلَّكَ أنْ ... تَرْكَعَ يَوْماً والدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 فصل في عدم تأخير البيان عن الحاجة قال ابن الخطيب: القائلون بأنه لا يجوز تأخير بيان المجمل عن وقت الخطاب، قالوا: إنما جاء في قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} بعد أن كان النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلام وصف لهم أركان الصَّلاة وشرائطها، فكأنه تعالى قال: وأقيموا الصلاة التي عرفتموها، والقائلون بجواز التأخير قالوا: يجوز أن يراد الأمر بالصَّلاة، وإن كانوا لا يعرفون أن الصَّلاة ما هي؟ ويكون المقصود أن يوطن السَّامع نفسه على الامتثال، وإن كان لا يعلم أن المأمور به، ما هو؟ كما يقول السيد لعبده: إني آمرك غداً بشيء فلا بد وأن تفعله، ويكون غرضه مه بأن يعزم العَبْدُ في الحال على أدائه في الوقت الثاني. فصل في أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع قوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} خطاب مع اليهود، وذلك يدل على أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام. فإن قيل: قوله: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} أمر بالصَّلاة، وقوله: {واركعوا مَعَ الراكعين} أمر بالصّلاة أيضاً، فيكون تكراراً. فالجواب: أن قوله: {واركعوا مَعَ الراكعين} أي: صَلُّوا مع المصلِّين، ففي الأوّل أمر بإقامة الصَّلاة، وفي الثاني أمر بفعلها في الجماعة فلا تكْرار وقيل: إن اليهود لا ركوع في صلواتهم، فخصّ الركوع بالذكر تحريضاً لهم على الإتيان بصلاة المسلمين. وقيل: الركوع: الخضوع، فيكون نهياً عن الاستكبار المذموم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 الهمزة في «أتأمرون» للإنكار والتَّوبيخ، أو للتعجُّب من حالهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 و «أمر» يتعدى لاثنين: أحدهما بنفسه، والآخر بحرف الجر، وقد يحذف، وقد جمع الشاعرُ بين الأمرين في قوله: [البسيط] 449 - أَمْرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبِ و «الناس» مفعول أول، و «بالبر» مفعول ثانٍ، و «البر» سَعَةُ الخير من الصّلة والطاعة، ومنه: «البرّ» و «البَرِيَة» لسعتهان والفعل منه: «بَرَّ يَبَرُّ» ، على وزن «فَعِلَ يَفْعَلَ» ك «عَلِمَ يَعْلَمُ» ؛ قال: [الرجز] 450 - لاهُمَّ رَبِّ إنَّ بَكْراً دُونَكَا ... يَبَرُّكَ النَّاسُ وَيَفْجُرُونَكَا أي: يطيعونك. و «البِرّ» أيضاً: ولد الثَّعْلب، وسوق الغَنَم، ومنه قولهم: «لا يعرفُ الهِرَّ مِنَ البِرِّ» ، أي لا يعرف دُعَاءها من سوقها. و «البِرّ» أيضاً: الفؤادُ، قال: [الطويل] 451 - أَكُونُ مَكَانَ البِرِّ مِنْهُ ودُونَهُ ... وَأَجْعَلُ مَا لِي دُونَهُ وأُوَامِرُهْ و «البَرّ» بالفتح الإجْلاَل والتعظيم، ومنه: ولد بَرّ بوالديه، أي يعظمهما، والله تعالى بَرّ لِسَعَعِ خيره على خَلْقِهِ، وقد يكون بمعنى الصدقِ كما يقال: بَرّ في يمينه أي: صدق ولم يَحْنَثْ ويقال: صَدَقْتُ وَبَرَرْتُ. قوله: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} داخل في حَيّز الإنكار، وأصل «تنسون» : تَنْسَيُون «فأُعلّ بحذف الياء بعد سكونها، وقد تقدّم في {اشتروا} [البقرة: 16] فوزنه» تَفْعُون «والنسيان: ضد الذِّكْرن وهو السَّهو الحاصل بعد حصول لعلم، وقد يطلق على التَّرك، ومنه:» نَسُوا اللهِ فَنَسِيَهُمْ «، وقد يدحخله التعليق حملاً على نقيضه، قال: [الطويل] 452 - وَمَنْ أَنْتُمُ إِنَّا نَسِينَا مَنَ أَنْتُمُ ... وَرِيحُكُمْ مِنْ أَيِّ رِيحِ الأَعَاصِرِ ويقال: رجل» نَسْيَان « [بفتح النون كثير النِّسْيَان ونسيت الشيء نِسْيَاناً، ولا يقال:» نَسَيَاناً «] بالتحريك، لأن النَّسَيَان تثنية نَسَا العِرْق. و» الأَنْفُس «: جمع نَفْس. فإن قيل: النّسيان عبارة عن السّهو الحادث بعد حصول العلم، والنَّاسي غير مكلّف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 ومن لا يكون مكلفاً لا يجوز أن يذمّه الله تعالى على ما صدر منه، فالمراد بقوله: {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} أنكم تغلفون عن حق أنفسكم، وتعدلون عما لها فيه من النَّفْعِ. قوله: {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب} مبتدأ وخبر في محلّ نصب على حال، العامل فها» تنسون «. و» التّلاوة «: التتابع، ومنه تولاة القرآنح لأن القارىء يتبع كلماته بَعْضَها ببعض، ومنه: {والقمر إِذَا تَلاَهَا} [الشمس: 2] واصل» تتلوون «بواوين فاستثقلت الضمة على الواو الأولى فحذفتن فالتقى ساكنان، فحذفت الأولى فوزنه» تفعون «. ويقال: تلوته إذا تبعته تلواً، وتلوت القرآن تِلاَوَةَ. وتلوت الرجل تلواً إذا خذلته. والتَّلِيَّة والتُّلاوة: البقية، يقال: تليت لي من حقّي تلاوةً وتليةً أي بقيت. وأتليت: أبقيت. وتتليت حقّي إذا تتبعته حتى تستوفيه. قال «أبو زيد» : «تلي الرجل إذا كان بآخر رمق» . قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} الهمزة للإنكار أيضاً، وهي في نية التأخير عن الفاء؛ لأنها حرف عطف، وكذا تتقدّم أيضاً على «الواو» و «ثم» نحو: {أَوَلاَ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 77] {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ} [يونس: 51] والنِّيَة بها التأخير، ما عدا ذلك من حروف العطف فلا تتقدّم عليه، تقول: «ما قام زيد بل أقعد؟» هذا مذهب الجُمْهور. وزعم «الزمَّخشري» أن الهمزة في موضعها غير مَنْوِيّ بها التأخير، ويقدر قبل «الفاء» و «الواو» و «ثم» فعلاً محذوفاً، فاعطف عليه ما بعده فيقدر هنا: أتغفلون فلا تعقلون، وكذا {أَفَلَمْ يَرَوْاْ} [سبأ: 9] أي: أعموا فَلَم يروا؟ وقد خالف هذا الأصل ووافق الجمهور في مواضع يأتي التنبيه عليها إن شاء الله تعالى. ومفعول «تعقلون» غير مراد؛ لأن لامعنى: أفلا يكون منكم عَقْل، وقيل تقديره: أفلا تعقلون قُبْحَ ما ارتكبتم من ذلك. والعَقْل: الإدراك المانع من الخطأ، وأصله المَنْعن منه العِقَال، لأنه يمنع البعير عن الحَرَكَةِ، وَعَقْل الدِّيَةِ، لأنه يمنع من قَتْلِ الجَانِي، والعَقْل أيضاً ثُوْب موشَّى؛ قال عقلمة: [البسيط] 453 - عَقْلاً وَرَقْماً يَظَلُّ الطَّيْرُ يَتْبَعُهُ ... كَأَنَّهُ مِنْ دَمِ الأجْوافِ مَدْمُومُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 قال ابن فارس: «والعَقْل من شِيَاتِ الثيابِ ما كان نقشه طولاً، ما كانن نقشه مستديراً فهو الرَّقم» . ولا محلّ لهذه الجملة لاستئنافها. فصل في المراد بالبر في الآية اختلفوا في المراد بالبرّ في هذا الموضع على وجوه: أحدها: قال «السُّدّي» إنهم كانوا يأمرون النَّاس بطاعة الله، وينهونهم عن معصية الله، وهم يتركون الطّاعةن ويقدمون على المعصية. وثانيها: قال «ابن جُرَيْجٍ» إنهم كانوا يأمرون النَّاس بالصَّلاة والزكاة، وهم يتركونها. وثالثها: كان إذا جاءهم أحد في الخُفْية لاستعلام أمر محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا: هو صادق فيما يقول، أمره حقّ فاتبعوه، وهم كانوا لايتبعونه لطمعهم في الهَدَايا والصّلات التي كانت تصل إليهم من أتباعهم. ورابعها: أن جماعة من اليهود كانو قبل مَبْعَثِ الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام يخبرون بعث الله محداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَسَدُوهُ وكفروا به، فبكّتهم الله تعالى بسبب أنهم كانوا يأمرون باتباعه قبل ظهوره، فلما ظهر تركوه، وأعرضوا عن دينه، وهذا اختيار «أبي مُسْلِم» . وخاسمها: قال «الزَّجَّاج» : «إنهم كانوا يأمرون الناس ببَذْلِ الصدقة، وكانوا يشحُّون بها، لأن الله تعالى وصفهم بقَسَاوَةِ القلوبن وأكل الربا والسُّحت» . فصل في سبب هذا التعجب سبب هذا التعجُّب وجوه: الأوْل: أن المقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إرشاد الغَيْر إلى تحصيل المصلحة، وتحذيره عما يوقعه في المَفْسَدَةِن والإحسان إلى النفس أولى من الإحسان إلى الغير. الثاني: أنّ من وعظ النَّاس، وأظهر علمه للخلق، ثم لم يَتَّعظ صار ذلك الوَعْظُ سبباً لرغبة الناس في المعصية؛ لأن الناس يقولون: إنه مع هذا العلم لولا أنه مُطّلع على أنه لا أصل لهذه التخويفات، وإلاّ لما أقدم على المَعْصية، وإذا كان الوَاعِظ زاجراً عن المعصية، ويأتي بفعل يوجب الجَرَاءة على المعصية، فكأنه جمع بين المُتَناقضين، وذلك لا يليق بالعاقل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 والثالث: أنّ من وعظ، فلا بد وأن يجتهد في أن يصير وعظه نافذاً في القلوب، والإقدام على المعصية مما يُنَفّر القلوب عن القبول. فصيل في دفع شبه المبتدعة في اشتراطهم العدالة في الأمر بالمعروف قال: «القُرْطبي» : «احتجّت المبتدعة بقوله تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} ، وقوله تعالى: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] على أنه يشترط فيمن يأمن بالمعروف، وينهى عن المنكر أني كون عدلاً. قال: وهذا استدلال سَاقِطٌ؛ لأن الذم هاهنا إنما وقع على ارتكاب ما نهى عنه لا عن نهيه عن المنكر، ولا شك أن النهى عن المنكر ممن يأتيه أقبح ممن لا يأتيه، وأيضاً فإن العَدَالَة محصورة في القليل من الناس، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عام في جميع الناس. وذكر عن» ابن عبد البر «أنه قال: أجمع المسلمون على أنه لا يَجِبُ على كلّ من قدر على إزالة المنكر أن يغيره إذغ لم يحصل له بتغييره إلا اللَّوم الذي لا يصل إلى الأذى. فصل في ماهية العقل قال بعض الفلاسفة: العَقْلُ جَوْهَرٌ لطيف في البَدَنِ ينبثّ شعاعه منه بمنزلة السِّرَاج في البيت، يفصل بين حَقَائق المعلومات. ومنهم من قال: إنه جَوْهَرٌ بسيط، ثم اختلفوا في محلّه. فقالت طائفة منهمك محلّه الدِّماغ؛ لأن الدماغ محل الحسّ. ومنهم من قال: محله القلب؛ لأن القلب معدن الحَيَاة، ومادّة الحواس. وقالت طائفة: محله القلب وله أشعة إلى الدماغ. وقال» أبو الحسن الأشعري وأبو إسحاق الإسفراييني «وغيرهما: العقل هو العِلْم. وقال» القاضي أبو بكر «: العَقْلُ علوم ضرورية بوجوب الواجبات، وجواز الجائزات، واستحالة المستحيلات. واختار» أبو المَعَالي «في» البُرْهان «أنه صفة يتأتى بها دَرْكُ العُلُوم. وقال» الشافعي «: العَقْلُ غريزةٌ. وقال» أبو العَبَّاس القلانسي «: العقل قوة التَّمييز. وحكي عن» المحاسبي «أنه قال: العَقْل أنوار وبصائر. فصل في خلق أفعال العباد احتجّت المعتزلة بهذه الآية على أنّ فعل العبد غير مخلوق لله تعالى فقالوا قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 تعالى: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} إنما يصحّ، ويحسن لو كان ذلك الفعل منهم، فأما إذا كان مخلوقاً فيهم على سبيل الاضطرار، فإن ذلك لا يحسن إذ لا يجوز أن يقال للأسود: لم لا تبيض؟ والجواب: أنّ قدرته لما صلحت للضدين بأن حصل أحد الضدين دون الآخر لا لمرجع كان ذلك مَحْض الاتفاق، والأمر الاتفاقي لا يمكن التوبيخ عليه، وإن حصل المرجح فإن كان ذلك المرجح منه عاد البَحْث فيه، وإن حصل من الله تعالى فعند حصوله يصير ذلك الطرف راجاً، والآخر مرجوحاً، والمرجوح ممتنع الوقوع؛ لأنه حال الاستواء لما كان ممتنع الوقوع، فحال المرجوحية أولى بأن يكون ممتنع الوقوع، وإذا امتنع أحد النقيضين وجب الآخر، فيعود عليهم ما أوردوه، ثم الجواب الحَقِيقي عن الكل: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] . قوله : {واستعينوا بالصبر والصلاة} جملة أمرية عطف على ما قبلها من الأوامر، ولكن اعترض بينهما بهذه الجمل. وأصل «اسْتَعِنُوا» : «اسْتَعونُوا» ففعل فيه ما فعل في «نَسْتَعِين» وقد تقدم تحقيقه ومعناه. و «بالصبر» متعلّق به، والياء للاستعانة أو للسّببية، والمُسْتَعَان عليه محذوف ليعم جميع الأحوال المستعان عليهان واستعان يتعدّى بنفسه نحو: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] ، ويجوز أن تكون الباء للحال، أي: مُلْتَبِسِينَ بالصبر. والظَّاهر أنه يتعدّي بنفسه وبالباء، تقول: استعنت الهل واستعنت بالله، وقد تقدم أن السِّين للطلب. والصّبر: الحبس على المكروه؛ ومنه: «قُتِلَ فُلاَنٌ صَبْراً» ؛ قال: [الوافر] 454 - فَصَبْراً في مَجَالِ المَوْتِ صَبْراً ... فَمَا نَيْلُ الخُلُودِ بِمُسْتَطَاعِ و «المَصْبُورة» التي نهي عنها في الحديث هي المَحْبوسة على الموت، وهي المجثمة. والصبر المأمور به هو الصَّبر على الطَّاعة. قال النحاسيك «ولا يقال لمن صبر على المصيبة: صابر إنما يقال: صابر على كذا» . ويرده قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصابرين} [البقرة: 155] ثم قال: {الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ} [البقرة: 156] الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 فصل في فضل الصلاة خص الصلاة بالذكر من بين سائر العِبَادات تنويهاً بذكرها. وكان عليه الصلاة والسَّلام «إذا حَزَبَهُ أمر فَزَعَ إلى الصَّلاة» . ومنه ما روي عن عبد الله بن عَبَّاسِ أنه نُعي إليه أخوه قثم وقيل بنت له وهو سَفَرٍ فاسْتَرجع وقال: عَوْرَةٌ سَتَرَها الله، ومُؤْنَةٌ كَفَاها الله، واجْرٌ ساقه الله، ثم تَنَحَّى عن الطريق وصَلَّى، ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ: {واستعينوا بالصبر والصلاة} . فالصلاة على هذا التأويل هي الشرعية. وقال قومك هي الدعاء على عرفها في اللُّغة، فتكون الآية على هذا التأويل مشبهة لقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله} [الأنفال: 45] ؛ لأن الثبات هو الصبر، والذكر هو الدعاء. وقال مجاهد: الصبر في هذه الآية الصَّوم، ومنه قيل لرمضان: شهر الصَّبْرِ، فجاء الصَّوم والصَّلاة على هذا القول في الآية متناسباً في أن الصِّيَام يمنع من الشَّهَوَات، ويزهد في الدنيا، والصَّلاة تنهى عن الفَحْشَاء والمُنْكَرِ، وتخشع، ويقرأ فيها القرآن الذي يذكر الآخرة. وإنما قد الصَّبر على الصلاة؛ لأن تأثير الصَّبر في إزالة ما لا ينبغي، وتأثير الصَّلاة في حصول ما ينبغي. وقد وصف الله تعالى نفسه بالصَّبْرِ كما في حديث أبو موسى عن النبي صلى الله عليه سلم قال: «ليس أَحَدٌ أو ليس شيء أَصْبَرَ على أَذَى سمعه من الله تعالى إنهم ليدعون له ولداّ وإنه ليُعَافِيهمْ ويَرْزُقُهُمْ» أخرجه البُخَاري. قال العلماء: وَصْفُ الله تعالى بالبصبر إنما هو بمعنى الحِلْمِ، ومعنى وصفه تعالى بالحِلْمِ هو تأخير العقوبة عن مستحقِّيها، ووصْفُهُ تعالى بالصَّبْرِ لم يرد في التنزيل، وإنما ودر في حديث أبي موسى وتأوله أهل السُّنة على الحِلْمِ، قاله «ابن فورك» وغيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 وجاء في أسمائه «الصبور» للمبالغة في الحِلْمِ عمن عَصَاه. قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} إن واسمها وخبرها، والضَّمير في «إ‘نها» قيل: يعود على «الصلاة» ، وإن تقدم شيئان؛ لأنها أغلب منه وأهم، وهو نظير قوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] أعاد الضمير على التِّجَارة؛ لأنها أهم وأغلب، كذا قيل، وفيه نظر؛ لأن العطف ب «أو» فيجب الإفراد، لكن المراد أنه ذكر الأهم من الشَّيئين، فهو نظيرها من هذه الجهة. وقيل: يعود على الاستعانة المفهومة من الفعل نحو: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] . وقيل: على العبادة المّدْلُول عليها بالصَّبر والصلاة، وقيل: هو عائد على الصبر والصَّلاة، وإن كان بلفظ المفرد، وهذا ليس بشيء. وقيل: حذف من الأول لدلالة الثاني عليه؛ وتقديره: وإنه لكبيرٌ؛ نحو قوله [الخفيف] 455 - إنَّ شَرْخَ الشَّبَابِ والشَّعَرَ الأَسْوَدَ ... مَالَمْ يُعَاصَ كَانَ جُنُونا ولم يقل: «يُعَاصيا» ردّ إلى الشباب؛ لأن الشعر داخل فيه، وكذا الصَّبر لما كان داخلاً في الصلاة عاد عليها كما قال: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، ولم يقل: يرضوهما؛ لأن رضا الرسول داخلٌ في رِضَا الله عَزّ وجلّ. وقيل: ردّ الكتابة إلى كل واحد منهما، لكن حذف اختصاراً، كقوله: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ، ولم يقل: آيتين، وقال الشاعر: [الطويل] 456 - فَمَنْ يَكُ أَمْسَى بِالمَدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ أراد: «لَغَرِيبَانِ» . وقيل: على إجابة محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، لأنَّ الصبر والصَّلاة مما كان يدعو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 إليه، وقيل: على الكَعْبَةِ؛ لأن الأمر بالصَّلاة إنما هو إليها. قوله: «لَكَبِيرَةٌ» : لشاقَة ثقيلة من قولك: كَبُرَ هذا عليَّ؛ قال تعالى: {كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} [الشورى: 13] . و «إلاَّ عَلَى الخَاشِعِينَ» استثناء مُفَرّع، وجاز ذلك وإن كان الكلام مثبتاً، لأنه في قوة النفي، أي لا تسهل ولا تخفّ إلا على هؤلاء. و «عَلَى الخَاشِعِين» متعلّق ب «كبيرة» نحو: «كَبُرَ عليّ هذا» أيك عظم وشق. فإن قيل: إن كانت ثقيلةً على هؤلاء سهلةً على الخاشعين، فوجب أن يكون ثوابهم أكثر، وثواب الخاشعين أقلّ، وهذا باطل. فالجواب: ليس المراد أن الذي يحلقهم من التَّعب أكثر مما يلحق الخاشع، وكيف يكون ذلك، والخاشع يستعمل عند صلاته جوارِحَهُ وقَلْبَهُ وسمعه وبصره، ولا يغفل عن تدبُّر ما يأتي من الذِّكر، والتذلُّل والخضوع، وإذا تذكّر الوعيد لم يخل من حَسْرَةٍ وغَمّ، وإذا ذكر الوَعْدَ فكمثل ذلك، وإذا كان هذا فعل الخاشع فالثِّقْلُ عليه بفعل صلاته أعظم، وإنما المراد بقوله هاهنا لثقيلة على من لم يَخْشَعْ من حيث لا يعتقد في فعلها ثواباً، ولا في تركها عقاباً، فيصعب عليه فلعها؛ لأن الاشتغال بما لا فائدة فيه يثقل على الطَّبْعِ. و «الخشوع» ك الخضوع، وأصله: اللِّينُ والسُّهولة، ومنه «الخُشْعَةُ» للرَّمْلَةِ، وقيل: قطعة من الأرض رخوة، وفي الحديث «كَانَتْ خُشْعَةً على المَاءِ ثم دُحِيَتْ بَعْدُ» أي: كانت الأرض لَيِّنَةً. وقال النابغة: [الطويل] 457 - رَمَادٌ كَكُحْلِ العَيْنِ لأْياً أُبَيِّنُهُ ... ونُؤْيٌ كَجِذْمِ الحَوْضِ أَثْلَمُ خَاشِعُ أي: عليه أثر الذُّل. وفرق بعضهم بين الخضوع والخشوع، فقال: الخضوع في البدن خاصّة، والخشوع في البَدَن والصّوت والبَصَرِ، فهو أعم منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 «الذين» يحتمل موضعه الحَرَكات الثلاث، فالجر على أنه تابع لما قبله نعتاً، وهو الظَّاهر، والرفع والنَّصْب على القطع، وقند تقدم معناه. وأصل الظَّن رجحان أحد الطرفين وأما هذه الآية ففيها أوجه: أحدهما: وعليه الأكثر أن الظَّن هاهنا بمعنى اليقين؛ ومثله {أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} [ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 الحاقة: 20] ؛ وقال تعالى: {أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ} [المطففين: 4] . وقال دُرَيْدُ بنُ الصِّمَّة: [الطويل] 458 - فَقُلْتُ لَهُمْك ظُنُّوا بأَلْفَي مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمْ في الفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ وقال أبو دُؤَاد: [الخفيف] 459 - رُبَّ هَمٍّ فَرَّجْتُهُ بِعزيمٍ ... وُغُيُوبِ كَشَّفْتُهَا بِظُنُونِ فاسْتُعْمِلَ الظَّن استعمال اليَقين [مجازاً، كما استعمل العِلْم استعمال الظّن؛ كقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] ولكن العرب لا تستعمل الظَّن استعمال اليقين] إلاّ فيما لم يخرج إلى الحسّ والمشاهدة كالآيتين والبَيْت، ولا تجدهم يقولون في رجل حاضر: أظنّ هذا إنساناً. قائلو هذا القول قالوا: إن الظن هنا بمعنى العلم، قالوا: لأنّ الظن وهو الاعتقاد الذي يقارنه تجويز النقيض يقتضي أن يكون صاحبه غير جازم بيوم القيامة، وذلك كفر والله تعالى مدح على [الظّن] ، والمدح على الكُفْرِ غير جائز، فوجب أن يكون المراد من الظن هاهنا العلم، وسبب هذا المجاز أن العلم والظن يشتركان في كون كل واحد منهما اعتقاداً راجحاً، إلا أن العلم راجحٌ مانعن من النقيض، والظن راجحُ غير مانع من النقيض، فلما اشتبها من هذا الوجه صَحّ إطلاق اسم أحدهما على الآخر، كما في الآية والبَيْت. والثاني: أن الظّن على بابه وفيه تأويلان: أحدهما: أن تجعل مُلاَقَاة الرب مجازاً عن الموت؛ لأن مُلاَقاة الرب سبب عن الموت، فأطلق المسبّب، وأراد السبب، وهو مجاز مشهور فإنه يقال لمن مات: إنه لقي رَبَّهُ، فتقدير الآية: وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو المَوْت في كل لَحْظَةِ، فإن من كان متوقعاً للموت في كل لحظة، فإنه لا يفارق قلبه الخشوع. وثانيها: أنهم يظنون مُلاَقاة ثواب ربهم؛ لأنهم ليسوا قاطعين بالثواب، دون العِقَاب، والتقدير: يظنون أنهم ملاقو ثَوَاب ربهم، ولكن يشكل على هذا عطف {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فإنه إذا أعدناه على الثَّوَاب المقدر، فيزول الإشْكَال أو يقال: إنه بالنسبة إلى الأوّل بمعنى الظَّن على بابه، وبالنِّسْبَة إلى الثَّاني بمعنى اليقين، ويكون قد جمع في الكلمة الوَاحِدَةِ بين الحقيقة والمجاز، وهي مسألة خلاف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 وثالثها: قال المَهْدَوِيّ والمَاوَرْدِيّ وغيرهما: أن يضمر في الكلام «بذنوبهم» ، فكأنهم يتوقعون لقاءه مذنبين؛ لأن الإنسان الخاشع قد ينسى ظنه بيقينه وبأعماله. قال «ابن عطية» : «وهذا تعسُّف» . فصل في أوجه ورود لفظ الظن قال «أبو العباس المقرىء» : وقد ورد «الظَّن» في القرآن بإزاء خمسة معان: الأول: بمعنى «اليقين» كهذه الآية، ومثله: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} ، [الحاقة: 20] ومثله: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله} [البقرة: 249] . الثاني: بمعنى «الشَّك» قال تعالى: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] . الثالثك بمعنى «حسب» قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الانشقاق: 14] أي: حسب ألا يرجع، ومثله: {ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [فصلت: 22] . الرابع: بمعنى «الإنكار» قال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} [ص: 27] أي: إنكارهم. والخامس: بمعنى «الجَحْد» قال تعالى: {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} [يونس: 60] أي: وما جَحْدُهم. و «أن» وما في حَيْزها سادّة مسدّ المفعولين عند الجمهور، ومَسَدّ الأول والثاني محذوف عند «الأخفش» ، وقد تقدّم تحقيقه. و: مُلاَقُو رَبِّهِمْ «من باب إضافة اسم الفاعل لمعموله إضافة تخفيف؛ لأنه مستقبل، وحذفت النون للإضافة، والأصل:» مُلاَقُون ربَهم «والمُفَاعلة هنا بمعنى الثلاثي نحو: عَافَاكَ الله. قال» المهدوي «: قال» ابن عطية «: وهذا ضعيف؛ لأن» لَقِيَ «يتضمن مَعْنَى» لاَقى «. كأنه يعني أن المادّة لذاتها تقتضي المُشَاركة بخلاف غيرها من» عَاقَبْت وطَارَقْت وعَافَاك «. وقد تقدم أن في الكلام حذفاً تقديره: ملاقو ثَوَاب ربهم وعقابه. قال» ابن عطية «:» ويصح أن تكون المُلاَقاة هاهنا بالرؤية التي عليها أهل السُّنة، وورد بها متواتر الحديث «. فعلى هذا الذي قاله لا يحتاج إلى حَذْفِ مضاف. و» أَنَّهُمْ إلَيْهِ رَاجِعُونَ «عطف على» أنهم «وما في حَيّزها، و» إليه «متعلّق ب» راجعون «، والضمير: إما للرَّبِّ سبحانه، أو للثواب كما تقدّم، أو للقاء المفهوم من قولهك» إنهم مُلاَقُوا «. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 ويجوز:» وإنهم «بالكسر على القطع. فصل في رؤية الله تعالى استدّل بعض العلماء بقوله:» مُلاَقُو رَبِّهِمْ «على جواز رؤية الله تعالى، قالت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 المعتزلة: لفظ اللِّقاء لا يفيد الرؤية، لقوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} [ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 التوبة: 77] ، وقوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68] ، وقوله: {واتقوا الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ} [البقرة: 223] وهو يتناول المؤمن والكافر، والرؤية لا تثبت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 للكافر، وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» من حَلَفَ على يَمِينٍ ليقتطع بها مَالَ أمْرىءٍ مسلمٍ لَقِيَ الله وهو عَلَيْه غَضْبان «وليس المراد رؤية الله؛ لأن ذلك وصف لأهل النار، فعلمنا أن اللقاء ليس عبارةً عن الرؤية. وفي العرف قول المسلمين: من مات لَقِيَ الله، ولا يعنون أنه رأى الله، وأيضاً فاللقاء يراد به القُرْب، فإن الأمير إذا أذن للشَّخص في الدخول عليه يقول: لقيته، وإن كان ضريراً، وإذا منعه من الدُّخول يقول: ما لقيته، وإن كان قد رآه، ويقال: لقي فلان جهداً، وكل هذا يدلّ على أنّ اللقاء ليس عبارة عن الرُّؤية، وقال تعالى: {فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 12] وهذا إنما يصحّ في حقّ الجسمن ولا يصح في [حق] الله تعالى. قال ابن الخطيب: أجاب الأصحاب بأن اللقاء في اللُّغة: عبارة عن وصول أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 الجِسْمَيْن إلى الآخر بحيثُ يماسّه بمسطحه، يقال: لقي هذا ذاك إذا ماسّه، واتصل به، ولما كانت المُلاَقاة بين الجسمين المدركين سبباً لحصول الإدراك بحيث لا يمتنع إجراء اللفظ عليه، وجب حمله على الإدراك؛ لأن إطلاق لفظ السبب على معنى المسبّب من أقوى وجوه المجاز، فثبت أنه يجب حمل لفظ اللِّقَاء على الإدراك [أكثر ما في الباب أنه ترك هذا المعنى في بعض الصُّور بدليل يخصه، فوجب إجراؤه على الإدراك] في البواقي. وعلى هذا التقرير زالت السُّؤالات. وأما قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً} [التوبة: 77] الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 قلنا: لاجل الضرورة؛ لأن المراد: إلى يوم يلقون جزاءه وحكمه، والإضمار على خلاف الدليل، فلا يُصَار إليه إلاّ عند الضرورة. وأما قوله: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} فلا ضرورة في صَرْفِ اللفظ عن ظاهره، ويمكن أن يقال ملاقاة كل أحد بحسبه، فالمؤمن من يلقى الله، وهو عنه راضٍ، فيثيبه، وينعم عليه بأنواع النعم: والكافر والحالف الكاذب يلقى الله، وهو عليه غضبان، فعيذبه بأنواع العِقَابِ، كما أن خاصّة الأمير يلقون الأمير، وهو راضٍ عنهم، فيعطيعهم وينعم عليهم، وأما اللّص وقاطع الطريق إذا لقوا الأمير عاقبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم بما استحقوا، وشَتَان بين اللقاءين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 قلنا: لاجل الضرورة؛ لأن المراد: إلى يوم يلقون جزاءه وحكمه، والإضمار على خلاف الدليل، فلا يُصَار إليه إلاّ عند الضرورة. وأما قوله: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} فلا ضرورة في صَرْفِ اللفظ عن ظاهره، ويمكن أن يقال ملاقاة كل أحد بحسبه، فالمؤمن من يلقى الله، وهو عنه راضٍ، فيثيبه، وينعم عليه بأنواع النعم: والكافر والحالف الكاذب يلقى الله، وهو عليه غضبان، فعيذبه بأنواع العِقَابِ، كما أن خاصّة الأمير يلقون الأمير، وهو راضٍ عنهم، فيعطيعهم وينعم عليهم، وأما اللّص وقاطع الطريق إذا لقوا الأمير عاقبهم، وقطع أيديهم وأرجلهم وصلبهم بما استحقوا، وشَتَان بين اللقاءين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 أعاد الكلام توكيداّ للحجّة عليهم، وتحذيراً من ترك اتباع محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. قوله: «وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ» «أن» وما في حَيْزها في محلّ نصب لعطفها على المَنْصُوب في قوله: «اذْكُرُوا نِعْمَتي» أيك اذكروا نِعْمَتِي وتفضيلي أيَّاكم، والجار متعلّق به، وهذا من باب عطف الخَاصّ على العام؛ لأن النعمة تشمل التَّفْضِيل. والفضلك الزيادة في الخير، واستعماله في الأصل التعدّي ب «على» ، وقد يتعدَّى ب «عَنْ» إمَّا على التضْمِين، وإما على التجوُّز في الحذف؛ كقوله: [البسيط] 460 - لاَهِ ابْنُ عَمِّكَ لا أَفْضَلْتَ في حَسَبٍ ... عَنِّي وَلاَ أَنْتَ دَيَّانِي فتَخْزُوني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 وقد يتعدّى بنفسه؛ كقوله: [الوافر] 461 - وَجَدْنَا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقَيْماً ... كَفَضْلِ ابْنِ المَخَاضِ عَلَى الفَصِيلِ فعدّاه بنفسه، وب «عن» ، وفعله «فَضَل» بالفَتْحِ «يَفْضُل» بالضم ك: «قَتَل يَقْتُل» . وأما الذي معناه «الفَضْلَة» من الشيء، وهي: البقيّة فَفِعْلُه أيضاً كما تقدم. ويقال فيه أيضاً: «فَضِل» بالكسر «يَفْضَلُ» بالفتح ك: «عَلِم يَعْلَم» ، ومنهم من يكسرها في الماضي، ويضمّها في المضارع، وهو من التَّدَاخل بين اللغتين. فإن قيل: قوله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} يلزم منه أن يكونوا أفضل من محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وذلك باطل. والجواب من وجوه: أحدها: قال قوم: العالم عبارةٌ عن الجمع الكثير من النَّاس كقولك: رأيت عالماً من النَّاس، والمراد منه الكثرة، [وهذا] ضعيف؛ لأن لفظ العالم مشتقّ من العلم وهو الدليل، فكل ما كان دليلاً على الله تعالى فإنه عالم، وهذا تحقيق قول المتكلمين: العالم كلّ موجود سوى الله. وثانيها: المراد فضلتكم على عالمي زمانكم، فإن الشَّخص الذي لم يوجد بعد ليس من جملة العالمين، ومحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما كان موجوداً في ذلك الوَقْتِ، فما كان ذلك الوقت من العالمين، فلا يلزم من كون بني إسرائيل أَفْضَلَ العالمين في ذلك الوَقْت كونهم أفضل من محمد، وهذا هو الجواب ايضاً عن قوله تعالى: {إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين} [المائدة: 20] ، وقال: {وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين} [الدخان: 32] ، أراد به عالمي ذلك الزمان. وثالثها: قوله: {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} عام في العالمين، لكنه مطلق في الفضل، والمطلق يكفي في صدقه صورة واحدة، فالآية تدلّ على أن بني إسرائيل فضّلوا على كل العالمين في أمرِ ما، وهذا لايقتضي أن يكونوا أفضل من كلّ العالمين في كل الأمور، بل لعلهم، وإن كانوا أفضل من غيرهم في أمر واحد، فغيرهم يكون أفضل منهم فيما عدا ذلك الأمر، وعند ذلك يظهر أنه لا يصحّ الاستدلال بقوله تعالى: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى العالمين} [آل عمران: 33] على أن الأنبياء أفضل من الملائكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 تنبيه قال: «ابن زَيْدٍ» : أراد به المؤمن منهم؛ لأن عُصَاتهم مُسِخُوا قردةً وخنازير. وقال: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 78] . فصل في بيان أن خطاب الله لبني إسرائيل هو كذلك للعرب جمعي ما خوطب به بنو إسرائيل تنبيه للعرب، وكذلك أقاصيص الأنبياء تنبيه وإرشاد، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} [يوسف: 111] ، وقال تعالى: {الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] . وروي قتادة قال: ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رَضِيَ اللهُ عَنْه كان يقول: قد مضى والله بَنُوا إسرائيل وما يغني ما تَسْمَعُونَ [عن] غيركم. فإن قيل: لما [خصهم] بالنعم العظيمة في الدنيا، فهذا يناسب أن يخصهم أيضاً بالنعم العظيمة في الآخرة، كما قيل: إتمام المعروف خَيْرٌ من ابتدائه، فلم أردف ذلك التخويف الشديد في قوله: {واتقوا يَوْماً} [البقرة: 48] . والجواب: [أن] المعصية مع عظيم النِّعمة تكون أقبح وأفحِش، فلهذا حذرهم عنها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 «يوماً» مفعول به، [ولا بد من حذف] مضاف أي: عذاب يوم أو هول يوم، وأجيز أن يكون منصوباً على الظرف، والمفعول محذوف تقديره: واتقوا العَذَاب في يومٍ صِفَتثهُ كَيْتَ وَكَيْتَ. ومنع «أبو البقاء» كونه ظرفاً، قال: «لأن الأمر بالتقوى لا يقع في يوم القيامة» . والجواب عما قاله: أن الأمر بالحَذَرِ من الأسباب المؤدّية إلى العقاب في يوم القيامة. وأصل «اتَّقُوا» : «اوْتَقُوا» ، ففعل به ما تقدم في {تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] . قوله: {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ} . التنكير في «نفس» و «شيئاً» معناه أن نفساً من الأنفس لا تجزي عن نفس مثلها شيئاً من الأشياء، وكذلك في «شَفَاعة» و «عَدْل» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 قال الزمخشري: و «شيئاً» مفعول به على أن تجزي بمعنى «تقتضي» ، أي: لا تقضي نفسٌ عن غيرها شيئاً من الحُقُوقن ويجوز أن يكون في موضع مَصْدَر، أي: قليلاً من الجزاء كقوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم: 60] ، أي: شيئاً من الجزاء؛ لأن الجزاء شيء، فوضع العام موضع الخاص. واحْتَزَأْتُ بالشَّيء اجْتِزَاءً: اكْتَفَيْتُ، قال الشاعر: [الوافر] 462 - بأَنَّ الغَدْرَ في الأَقْوَامِ عَارٌ ... وَأَنَّ الحُرَّ يَجْزَأُ بِالكُرَاعِ أي: يجتزىء به. والجملة في محلّ نصب صفة ل «يوماً» والعائد محذوف، والتقدير: لا تَجْزِي فيه، ثم حذف الجار والمجرور، لأن الظروف يتّسع فيها ما لا يتّسع في غيرها، وهذا مذهب «سيبويه» . وقيل: بل حذف بعد حذف حَرْفِ الجَرّ، ووصول الفعل إليه فصار: لا تجزية؛ كقوله: [الطويل] 463 - وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وَعَامِراً ... قَلِيلٍ سِوَى الطَّعْنِ النَّهَالِ نَوَافِلُهْ ويُعْزَى للأخفش، إلاّ أن «المهدوي» نقل أن أن الوجهين المتقدّمين جائزان عند الأخفش وسيبويه والزجاج؛ ويدلّ على حذف عائد الموصوف إذا كان منصوباً قوله: [الوافر] 464 - فَمَا أَدْرِي أَغَيَّرَهُمٍ قَنَاءٍ ... وَطُولُ الدَّهْرِ أَمْ مَالٌ أَصَابُوا؟ أي: أصابوه، ويجوز عند الكوفيين أن يكون التقدير: يوماً يوم لا تَجْزي نفسٌ، فيصير كقوله تعالى: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ} [الانفطار: 19] ، ويكون «اليوم» الثاني بدلاً من يوماً الأول، ثم حذف المُضَاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، كقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] ، وعلى هذا لا يحتاج إلى تقدير عائدٍ؛ لأن الظرف متى أضيف إلى الجملة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 بعده لم يؤت له فيها بضمير، إلاّ في ضرورة شعر؛ كقوله: [الوافر] 465 - مَضَتْ مائَةٌ لِعَامَ وُلِدْتُ فِيهِ ... وَسَبْعٌ بَعْدَ ذَاكَ وَحِجَّتَانِ و «عن نفس» متعلّق ب «تجزي» ، فهو في محلّ نصب به. قال «أبو البَقَاء» : يجوز أن يكون نصباً على الحال. و «الجزاء» : القضاء والمكافأة؛ قال: [الرجز] 466 - يَجْزِيهِ رَبُّ العَرْشِ عَنِّي إِذْ جَزَى ... جَنَّاتِ عَدْنٍ في العَلاَلِيِّ العُلا و «الإجزاء» : الإغناء والكِفَايَة، أجزأئي كذا: كفاني، قال: [الطويل] 467 - وأَجْزَأْتَ أَمْرَ العَالَمِينَ وَلَمْ يَكُنْ ... لِيَجْزَأَ إلاَّ كَامِلٌ وَايْنُ كَامِلِ وأجْزَأْتُ وجَزَأْتُ متقاربانِ. وقيل: إن الإِجْزَاء والجَزَاء بمعنَى، تقول فيه: جَزَيْتُهُ وأَجْزَيْتُهُ. وقد قرىء: «تُجْزِىء» بضم حرف المُضَارعة من «أجزأ» . قوله: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} هذه الجملة عطف على ما قبلها، فهو صفة أيضاً ل «يوماً» والعائد «منها» عليه محذوف كما تقدم، ولا يقبل منها فيه شفاعة. و «شفاعة» مفعول لم يُسَمّ فاعله، فلذلك رُفِعَتْ. وقرىء: «يُقْبَل» بالتذكير والتأنيث، فالتأنيث للفظ، والتذكير لأنه مؤنّث مجازي، وحسنه الفصل. وقرىء: «ولا يَقْبَلُ» مبنياً للفاعل وهو «الله» تعالى. و «شَفَاعةٌ» نصبا مفعولاً به. «وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ» صفة أيضاً، والكلام فيه واضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 و «منها» متعلّق ب «يُقْبَل» و «يُؤْخَذ» . وأجاز أبو البقاء: أن يكون نصباً على الحال؛ لأنه في الأصل صف ل «شفاعة» و «عَدْل» ، فلما قدم عليهما نصب على الحَالِ، ويتعلّق حينئذ بمحذوف، وهذا غير وَاضِحٍ، فإنّ المعنى منصب على تعلقه بالفعل، والضمير في «منها» يعود على «نفس» الثانية؛ لأنها أقرب مذكور، ويجوز أن يعود الضَّمير الأول على الأولى، وهي النفس الجازية، والثاني يعود على الثَّانية، وهي المجزيّ عنها، وهذا مُنَاسب. و «الشَّفَاعة» مشتقة من الشَّفْع، وهو الزوج، ومنه «الشُّفْعَة» ؛ لأنها ضَمَ ملك إلى غيره، والشافع والمشفوع له؛ لأن كلاًّ منهما يزوج نفسه بالآخرن ونَاقَةٌ شَفُوعٌ يجمع بين مَحْلَبَيْنِ في حَلْبَةٍ واحدة، وناقة شَافِعٌ: إذا اجتمع لها حَمْلٌ وَوَلَدٌ يَتْبَعُهَا. وَالعَدْل بالفتح الفِدَاء وبالكَسْرِ: المِثْل، يقال: عَدْل وعَدِيل. وقيل: عَدْل بالفتح المساوي للشيء قيمةً وقدراً، وإن لم يكن من جنسه، وبالكَسْرِ: المساوي له في جنسه وجِرْمِهِ. وحكى الطبري: «أن من العرب من يكسر الذي بمعنى الفِدَاء، وأما عِدْل واحد الأعدال فهو بالكسر لاغيره» . وعَدْل واحد الشهود [فبالفتح لا غير، وأما قوله عليه السلام: «لَمْ يَقْبَلِ الله مِنْهُ صَرْفاً وَعَدْلاً» ] فهو بالفتح أيضاً. وقيل: المراد ب «الصَّرْف» : النَّافلة، وب «العَدْل» : الفريضة. وقيل: الصَّرف: التوبة، والعَدْل: الفِدْيَة. قوله: {وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} جملة من مبتدا وخبر معطوفة على ما قلها، وإنما أتى هنا بالجملة مصدّرة بالمبتدأ مخبراً عنه بالمُضَارع تنبيهاً على المُبَالغة والتأكيد في عدم النصرة. والضمير في قوله «وَلاَهُمْ» يعود على «النَّفس» ؛ لأن المراد بها جنسُ الأنفس، وإنما عاد الضمير مذكراً، وإن كانت النفس مؤنثةً؛ لأنّ المراد بها العباد والأَنَاسِيّ. قال الزمخشري: «كما تقول: ثلاثة أنفس» . يعني: إذا قصد به الذُّكُور؛ كقوله: [الوافر] 468 - ثَلاَثةُ أَنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذوْدٍ ..... ... ... ... ... ... ... ... . . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 ولكن النُّحَاة نَصُّوا على أنه ضرورةٌ، فالأَوْلَى أن يعود على الكفار الذين اختصتهم الآية؛ كما قال «ابن عطية» . و «النَّصْر» : العون:، والأَنْصَار: الأَعْوَان، ومنه {مَنْ أنصاري إِلَى الله} [آل عمران: 52] والنّصر أيضاً الانتقام، انتصر زيد: انتقم، والنصر: الإتْيَان نَصَرْتُ أَرْضَ بني فلانِ: أتيتها؛ قال الشاعر: [الطويل] 469 - إذَا دَخَلَ الشَّهْرُ الحَرَامُ فَوَدِّعِي ... بِلاَدَ تَمِيمٍ وانْصُرِي أَرْضَ عَامِرِ والنَّصْر: المطر، يقال: نصرت الأرض: مطرت. قال «القَفّال» : تقول العرب: أرض مَنْصورَة أي ممطورة، والغَيْثُ ينصر البلاد: إذا أنبتها، ف: انه أغاث أَهْلَهَا. وقيل في قوله: {مَن كَانَ يَظُنُّ أَن لَّن يَنصُرَهُ الله} [الحج: 15] أي: لن يرزقه الله، كما يرزق الغَيْثُ البِلادَ. والنَّصْر: العَطَاءُ؛ قال: [الرجز] 470 - إِنِّي وَأَسْطَارٍ سُطِرْنَ سَطْرَا ... لَقَائِلٌ: يَا نَصْرٌ نَصْرٌ نَصْرَا ويتعدّى ب «على» قال تعالى: {فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [البقرة: 286] وأما قوله: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} [الأنبياء: 77] فيحتمل التعدّي ب «من» ويحتمل أن يكون من التضمين. أي: نصرناه بالانتقام له منهم. فإن قيل: قوله: {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} تفيد ما أفاده {وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} فما المقصود من هذا التكرار؟ فالجواب: أن قوله: {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ} أي: لا تتحمّل عنه غيره ما يلزمه من الجَزَاء. وأما النُّصْرَة فهو أن يحاول تخليصه من حكم المعاقب، فإن قيل: قدم في هذه الآية قَبُول الشفاعة على أخذ الفدية، وفي الآية التي قيل قوله {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 124] قدم قبول الفدية على ذكر الشَّفاعة فما [الحكم؟ قال ابن الخطيب:] فالجواب: أن من كان مَيْله إلى حبّ المال أشدّ من ميله إلى عُلُوّ النفس فإنه يقدّم [التمسُّك] بالشافعين على إعطاء الفدية، ومن كان بالعَكْسِ يقدّم الفدية على الشفاعة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 ففائدة تغيير الترتيب الإشارة إلى هذين الصنفين. فصلل في سبب نزول الآية ذكروا أن سبب هذه الآية أن بني إسرائيل قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وأبناء أنبيائه، وسيشفع لنا آباؤنا، فأعلمهم الله تعالى عن يوم القيامة أنه لا تُقْبَلُ فيه الشفاعات، ولا يؤخذ فيه فدية. وإنما خصّ الشّفاعة والفدية والنصر بالذِّكْرِ، لأنها هي المعاني التي اعتادها بَنُو آدم ف يالدنيا، فإنّ الواقع في الشِّدَّة لا يتخلَّص إلا بأن يشفع له، أو يفتدى، أو ينصر. فصل في الشفاعة أجمعت الأمّة على أنّ الشفاعة في الآخرة لمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم [اختلفوا في] أن شفاعته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ [لمن] تكون أي للمؤمنين المستحقّين للثواب أم لأهل الكبائر المستحقين للعقاب؟ فذهب المعتزلة إلى أنها للمستحقّين للثواب، وتأثير الشفاعة زيادة المَنَافع على ما استحقّوه. وقال أصحابنا: تأثيرها في إسقاط العقاب عن المستحقّين العقاب بأن يشفع لهم في عرصة القيامة حتى لا يدخلوا النار، فإن دخلوا النار، فشفع لهم حتى يخرجوا منها ويدخلوا الجنة. واتفقوا على أنها ليست للكفار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 «إذا» في موضع نصب عطفاً على «نعْمَتي» وكذلك الظُّروف التي عبده نحو: {وَإِذْ وَاعَدْنَا} [البقرة: 51] ، {وَإِذْ قُلْتُمْ} [البقرة: 55] . وقرىء: [أَنْجَيْتُكُمْ] على التوحيد. وهذا الخطاب للموجودين في زمن الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولا بُدّ من حذف مضاف، أي: أنجينا آباءكم، نحو: {حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية} [الحاقة: 11] ؛ لأن إنجاء الآباء سبب في وجود الأبناء، وأصل الإنْجَاء والنَّجَاة: الإلقاء على نَجْوَةِ من الأرض، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 وهي المرتفع منها ليسلم من الآفات، ثم أطلق الإنْجاء على كل فَائِزٍ وخارج من ضِيْقٍ إلى سَعَةٍ، وإن لم يُلْقِ على نَجْوَةٍ. و «من آل» متعلّق به، و «من» لابتداء الغاية. و «آل» اختلف فيه على ثلاثة أقوال: فقال «سيبويه» [وأتباعه] : إن أصله «أهل» فأبدلت الهاء همزة لقربها منها [كما قالوا: ماء، وأصله ماه] ، ثم أبلدت الهمزة ألفاً، لسكونها بعد همزة مفتوحة نحو: «آمن وآدم» ولذلك إذا صُغِّرَ رجع إلى أصله فتقول: «أُهَيْل» . قال أبو البقاء: وقال بعضهم: «أويل» ، فأبدلت الألف واواً] . ولم يرده إلى أصله، كما لم يردوا «عُبَيْداً» إلى أصله في التصغير يعني فلم يقولوا: «عُوَيْداً» لأنه من «عَادَ يَعُود» ، قالوا: لئلا يلتبس بِعُودِ الخَشَبِ. وفي هذا نظر؛ لأن النحاة قالوا: من اعتقد كونه من «أهل» صغره على «أُهَيْل» ، من اعتقد كونه من «آل يَئُول» أي: رجع صَغّره على «أُوَيل» . وذهب «النحاس» إلى أن أصله «أَهْل» أيضاً، إلا أنه قلب الهاء ألفاً منغير أن يقلبها أولاً همزة، وتصغيره عنده على «أُهَيْلٍ» . وقال الكسَائِيٌّ: «أُوَيْل» وقد تقدّم ما فيه. ومنهم من قال أصله: «أَوَلَ» مشتق من «آل يَئُول» ، أي: رجع؛ لأنّ الإنسان يرجع إلى آله، فتحركت الواو، وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً، وتصغيره على «أُوَيْل» نحو: «مَال» و «مُوَيْل» و «بَاب» و «بُوَيْب» ويعزى هذا الكسَائِيِّ. وجمعه: «آلُون» و «آلين» وهذا شاذٌّ ك «أَهْلِين» ؛ لأنه ليس بصفة ولا عَلَمٍ. قال ابن كَيْسَان: إذا جمعتَ «آلا» قُلْتَ: «آلُونَ» ، فإن جمعت «آلا» الذي هو [السَّراب] قلت: «آوَال» ليس إلاّ؛ مثل: «مَال وأَمْوَال» . واختلف فيه فقيل: «آل» الرجل قرابته كأهله. وقيلك من كان من شيعته، وإن لم يكن قريباً منه؛ قال: [الطويل] 471 - فَلاَ تَبْكِ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أَجَنَّهُ ... عَلِيٌّ وَعَبَّاسٌ وَآلُ أبِي بَكْرِ ولهذا قيل: آل النبي من آمن به إلى آخر الدَّهْرِ، ومن لمؤ يؤمن به فليس بآله، وإن كان نسيباً له، كأبي لَهَبٍ وأبي طالب، ونقل بعضهم أن «الرَّاغب» ذكر في «المفردات أن» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 الآل «يطلق على الرَّجل نفسه. واختلف فيه النُّحَاة: هل يضاف إلى الضمير أم لا؟ فذهب الكسائي، وأبو بكر الزبيدي، والنحاس إلى أن ذلك لا يجوز، فلا يجوز اللهم صَلِّ على محمَّد وآله، بل وعلى آل محمد، وذهب جَمَاعة، منهم ابن السِّيدِ إلى جوازه؛ واستدلُّوا بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما سئل فقيل: يا رسول الله من آلُكَ؟ فقال:» آلِي كُلُّ تَقِيٍّ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ «؛ وأنشدوا قول [عبد المطلب] : [الكامل] 472 - لاَهُمَّ إنَّ العَبْدَ يَمْنَعُ ... رَحْلَهُ فَامْنَعْ حَلاَلَكْ وانْصُرْ عَلَى آل الصَّلِيبِ ... وَعَابِدِيهِ اليَوْمَ آلَكْ [وقول نُدْبَة: [الطويل] 473 - أَنَا الفَارِسُ الحَامِي حَقِيقَةَ وَالِدِي ... وَآلِي كَمَا تَحْمِي حَقِيقَةَ آلِكَا] واختلفوا أيضاً فيه: هل يُضَاف إلى غير العُقَلاَء فيقال: آل» المدينة «وآل» مكة «؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 فمنعه الجمهور، وقال» الأخفش «: قد سمعناه في البُلْدَان، قالوا: أهل» المدينة «وآل» المدينة «ولا يضاف إلاَ إلى مَنْ له قَدْرٌ وخَطرٌ، فلا يقال: آل الإسْكَاف ولا آل الحَجّام، وهو من الأسماء اللازمة للإضافة معنّى ولفظاً، وقد عرفت ما اختص به من الأحكام دون أصله الذي هو» أهل «هذا كلّه في» آل «مراداً به لأهل، أما» آل «الذي هو السَّراب فليس مما نحن فيه في شيء، وتصغيره» أُوَيْل «نحو:» مَال وَمُوَيْل «وتقدم جمعه. قوله: {فِرْعَوْنَ} خفض بالإضافة، ولكنه لا ينصرف للعُجْمَةِ والتعريف. واختلف فيه: هل هو علم شخص، أو علم جنس؛ فإنه يقال لكلّ [من] ملك القِبْط و» مِصْر «: فرعون، مثل كِسْرَى لكل من ملك الفرس، وقَيْصَر [وهرقل] لكل من ملك الروم، ويقال لكل من ملك» الهند «: نهمز، وقيل: يَعْفُورن ويقال لمن ملك الصَّابئة: نمْرُوذ، ولمن ملك البربر: جَالُوت، [ولمن ملك اليهود فيطون، والمعروف شالخ ولمن ملك فَرْغَانَة الإخشيد] ، ولمن ملك العرب من قبل العَجم النُّعْمَان؛ ولمن ملك» الصين «يعفو، وهِرَقْل لكل من ملك الروم، والقَيْل لكل من ملك» حِمْير «، والنَّجاشي لكل من ملك» الحبشة «وبَطْلَيْمُوس لكل من ملك» اليونان «وتُبَّع لمن ملك» اليمن «، وخَاقَان لمن ملك التُّرك. وقال» الزمخشري «: وفرعون علم لمن ملك العَمَالقة كقيصر للروم، ولعُتُوّ الفراعنة اشتقوا منه تَفَرْعَنَ فلانٌ، إذا عَتَا وتَجَبَّرَ؛ وفي مُلَحِ بعضهم: [الكامل] 474 - قد جَاءَهُ الموسَى [الكَلُومُ] فَزَادَ في ... أَقْصَى تَفَرْعُنِهِ وَفَرْطِ عُرَامِهِ وقال «المَسْعُودي» : «لا يعرف لفرعون تفسير بالعربية» . وظاهر كلام «الجوهري» أنه مشتق من معنى العتو، فإنه قال: «والعُتَاة: الفَرَاعنة، وقد تَفَرْعَنَ، وهو ذو فَرْعَنَةٍ، أي دهاء ومكر» . وفي الحديث: «أخذنا فِرْعَون هذه الأُمّة» إلا أن [يريد] معنى ما قاله الزمخشري المتقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 واسم فرعون موسى: قَابُوس في قول أهل الكتاب، نقله وهب بن منبه وقال ابن إسحاق وَوَهْب: «اسمه الوليد بن مصعب بن الريان، ويكنى أبا مُرَّة» . وحكى ابن جريج «أن» اسمه مصعب بن رَيّان، وهو من بني عمْلِيق بن ولاد بن إرم بن سام بن نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. وذكر ابن الخطيب أن [ابن] وهب قال: إن فرعون يوسف عليه الصَّلاة والسَّلام هـ فرعون موسى، لقول موسى عليه الصَّلاة والسلام. {وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات} [غافر: 34] وقال: هذا غير صحيح، إذ كان بين دخول يوسف «مصر» ، وبين أن دخلها موسى أكثر من أربعمائة سنة. وذكر النووي أن فرعون موسى عمر أكثر من أربعمائة سنة، فمشى قول ابن وهب. وقال محمد بن إسحاق: «هو غير فرعون يوسف إن فرعون يوسف كان اسمه الريان بن الوليد» . قوله: {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب} هذه الجملة في محل نصب على الحال من «آل» أي: حال كونهم سَائِمِين، ويجوز أن تكون مستأنفة لمجرد الإخبار بذلك، وتكون حكاية حال ماضية، قال بمعناه ابن عطية، وليس بظاهر. وقيل: هو خبر لمبتدأ محذوف، أي: هم يسومونكم، ولا حَاجَةَ إليه أيضاً. و «كم» مفعول أول، و «سوء» مفعول ثان؛ لأن «سَامَ» يعتدّى لاثنين ك «أعْطَى» ، ومعناه أَوْلاَهُ كذا، وألزمه إياه؛ ومنه قول عمرو بن كُلْثُومٍ: [الوافر] 475 - إِذَا مَا المَلْكُ سَامَ النَّاسَ خَسْفاً ... أَبَيْنَا أن نُقِرَّ الخَسْفَ فينا قال الزمخشري: «وأصله من سَامَ السّلعة إذا طلبها، كأنه بمعنى يبغونكم سوء العذاب، ويزيدونكم عليه» . وقيل أصل السَّوم: الدوام، ومنه سَائِمَةُ الغَنَمِ لمداومتها الرعي. والمعنى: يديمون تعذيبكم. وسوء العذاب: أشدّه وأقطعه، وإن كان كله سيّئاً، كأنه أقبحه بالإضافة إلى سائره. والسوء: كل ما يعم الإنسان من أمْرٍ دنيوي وأخروي، وهو في الأصل مصدر، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 ويؤنث بالألف، قال تعالى: {أَسَاءُواْ السواءى} [الروم: 10] . [وأجاز بعضهم أن يكون «سوء» نعتاً لمصدر محذوف تقديره: يسومونكم سوماً سيئاً، كذا قدره. وقال أيضاً:] «ويجوز أن يكون بمعنى سوم العذاب» ، كأنه يريد بذلك أنه منصوب على نوع المصدر نحو: «قعد جلوساً» ؛ لأن سوء العذاب نوع من السوم. قال أبو العباس المُقْرىء: ورد لفظ «السّوء» على خمسة عشر وجهاً: الأول: بمعنى «الشدة» كهذه الآية، أي: شدة العذاب. الثاني: بمعنى «العَقْر» قال تعالى: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء} [هود: 64] . الثالث: «الزِّنا: قال تعالى: {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء} [يوسف: 51] . الرابع:» المَرَض «قال تعالى: {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} [طه: 22] . الخامس:» اللّعْنة «قال تعالى: {إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين} [النحل: 27] . السادس:» العَذَاب «قال تعالى: {لاَ يَمَسُّهُمُ السواء} [الزمر: 61] . السابع:» الشِّرْك «قال تعالى: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} [النحل: 28] . الثامن:» العِصْيَان «قال تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء بِجَهَالَةٍ} [النحل: 119] . التاسع:» الشَّتْم «قال تعالى: {ويبسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسواء} [الممتحنة: 2] أي: بالشَّتم، ومثله: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول} [النساء: 148] أي: الشَّتْم. العاشر:» الجُنُون «قال تعالى: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء} [هود: 54] أي بجنون. الحادي عشر:» اليأس «قال تعالى: {وَلَهُمْ سواء الدار} [الرعد: 25] أي: يأس الدار. الثاني عشر:» المرض «قال تعالى: {وَيَكْشِفُ السواء} [النمل: 62] يعني المرض. الثالث عشر:» الفَقْر «قال تعالى: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير وَمَا مَسَّنِيَ السوء} [الأعراف: 188] أي: الفقر. الرابع عشر:» الهَزِيمة «قال تعالى: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174] أي: هزيمة. الخامس عشر:» السوء «: الصيد، قال تعالى: {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء} [الأعراف: 165] أي: الصيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 فصل في السوء الذي ضرب على بني إسرائيل قال» محمد بن إسحاق «: جعلهم خولاً وخدماً له، وصنفهم في [أعماله] فصنف يَبْنُون، وصنف يَحْرُثُون، وصنف يَزْرَعُون، وصنف يخدمونه، ومن لم يكن في فرع من أعماله، فإنه يضع عليه جزيةّ يؤديها. وقال» السُّدي «: جعلهم في الأعمال الصَّعبة الشديدة مثل: كنس المَبْرزن وعمل الطِّين، ونحت الجِبَال. قوله: {يُذَبِّحُونَ} هذه الجملة يُحْتَمَلُ أن تكون مفسّرة للجملة قبلها، وتفسيرها لها على وجهين: أحدهما: أن تكون مستأنفةً، فلا محلّ لها حيئنذ من الإعراب، كأنه قيل: كيف كان سومهم العذاب؟ فقيل يذبحون. الثاني: أن تكون بدلاً منها؛ كقوله: [الطويل] 476 - مَتَى تأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا في دِيَارنَا ..... ... ... ... ... ... ... ... {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً 0 يُضَاعَفْ لَهُ العذاب} [الفرقان: 68 - 69] ، ولذلك ترك العاطف، ويحتمل أن تكون حالاً ثانية، لا على أنها بدل من الأول. وذلك على رأي من يجوز تعدد الحال وقد منع» أبو البقاء «هذا الوجه محتجاً بأن الحال تشبه المفعول بهن ولا يعمل العامل في مفعولين على هذا الوصف، وهذا بناء منه على أحد القولين، ويحتمل أن تكون حالاً من فاعل:» يسومونكم «. وقرىء: «يَذْبَحُونَ» بالتخفيف، والأولى قراءة الجماعة؛ لأن الذبح متكرر. فإن قيل: لِمَ لم يؤت هُنَا بواو العطف كما أُتِيَ بها في إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؟ فالجواب: أنه أريد هنا التَّفسير كما تقدَّم، وفي سورة إبراهيم معناه: يعذِّبُونَكُم بالذَّبْح وبغير الذَّبْح. وقيل: يجوز أن تكون «الواو» زائدةً، فتكون كآية «البقرة» ؛ واستدلَّ هذا القائل على زيادة الواو بقوله: [الطويل] 477 - فَلَمَّا أَجَزْنَا سَاحَةَ الحَيِّ وانْتَحَى ..... ... ... ... ... ... . . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 يريد: انتحى. وقوله: [المتقارب] 478 - إلَى المَلِكَ القَزْمِ وَابْنِ الهُمَامِ ..... ... ... ... ... ... ... ... . . والجواب الأول أصح. قل ابن الخطيب: المقصود من ذكر العطف في سورة «إبراهيم» عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه تعالى قال قبل هذه الآية: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} [إبراهيم: 5] والتذكير بأيام الله لا يصحل إلا [بتعدد] النعم، فوجب أن يكون المراد من قوله: {يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب} نوعاً من العذاب، والمارد من قوله: {يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ} نوعاً آخر، فتحصل منهما نوعان من النعمة، فلهذا وجب ذكر حرف العَطْف، وأما هذه الآية لم يرد الأمر إلاَّ بتذكر جنس النعمة، وهي قوله: {اذكروا نِعْمَتِي} [البقرة: 47] ، فسواء كان المراد من سوء العذاب هو الذّبح أو غيره، فإنَّ التذكير لجنس النعمة حاصل. «والذّبح» أصله الشَّقّ، منه المَذَابح لأَخَادِيد السُّيول في الأرض. والذَّبحك المذبوح «والذُّبَاح» : تشقق في [أصول] الأصابع. والمَذَابح أيضاً: المحاريب. وأما «أبناء» جمع «ابن» ، رجع به إلى أصله، فَزُدَّت لامه، إما الواو أو الياء حسبما تقدم. والأصل: «أبناو» أو «أبناي» ، فأبدل حرف العلة همزة لتطرفه بعد ألف زائدة، والمراد بهم: الأطفال عند أكثر المفسرين. وقيل: الرجال، وعبر عنهم بالأبناء باعتبار ما كانوا؛ لأنه ذكرهم في مُقَابلة النساء. و «النِّسَاء» أسم للبَالِغَات، فكذا المُرَاد من الأبناء الرِّجَال البالغون. قالوا: إنه كان يأمر بقَتْلِ الرجال الذين يخافون منهم الخُرُوج عليهم والتجمُّع لإفساد أمره. والأول أولى لحمل لفظ الأبناء على ظاهره، ولأنه كان متعذّر قتل جميع الرِّجَال على كثرتهم، وأيضاً فكانوا مُحْتَاجين إليهم في استعمالهم في الأعمال الشَّاقة، ولو كان كذلك لم يكن لإلقاء موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في التَّابوت حال صغره معنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 وأما قولهم: لأنه ذكرهم في مقابلة النساء ففيه جوابان: الأول: أن الأبناء لما قتلوا حَالَ الطفولة لم يصيروا رجالاً، لم يجز إطلاق اسم الرجال عليهم. أما البنات لما لم يُقْتَلْنَ، بل وصلن إلى حَدّ النساء جاز الإطلاق اسم النساء عليهن اعتباراً بالمآل. الثانيك قال بعضهم: المراد بقوله: {وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ} أي يُفَتِّشُون حيء المرأة أي: فَرْجَهَا هل بها حمل أم لا؟ فصل في السبب الباعث على تقتيل الأبناء ذكروا في سبب قَتْلِ الأبناء وجوهاً: أحدها: قال ابن عباس: وقع إلى فرعون وطبقته ما كان الله وعد به إبراهيم أنيجعل في ذرّيته أنبياء وملوكاً فخافوا ذلك، واتفقت كلمتهم على إعدد رِجَالٍ يطوفون في بني إسرائيل، فلا يجدون مولوداً ذكراً إلا ذَبَحُوهُ فلما رأوا أكابرهم يموتون، وصغارهم يذبحون خافوا الفَنَاءَ فلا يجدون من يُبَاشر الأعمال الشّاقة، فصاروا يقتلون عاماً دون عام. وثانيها: قال السُّدي: إن فرعون رأى ناراً أقبلت من بيت المَقْدِسِ حتى اشتملت على بيوت «مصر» ، فأحرقت القبط، وتركت بني إسرائيل فدعا فرعون الكَهَنَةَ، وسألهم عن ذلك؟ فقالوا: يخرج من بيت المقدس من يكون هلاك القِبْطِ على يديه. وثالثها: أن المنجّمين أخبروا فرعون بذلك. قال ابن الخطيب: والأقرب هو الأول؛ لأن الذي يُسْتَفَاد من علم التعبير، وعلم النجوم لا يكون أمراً مفصلاً، وإلا قدح ذلك في كون الإخبار عن الغَيْبِ معجزاً، بل يكون أمراً مجملاً، والظاهر من حال العاقل ألاَّ يقدم على مثل هذا الأمر العظيم بسببه. فإن قيل: إنَّ فرعون كان كافراً بالله فبأن يكون كافراً بالرسل أولى، وإذا كان كذلك فكيف يمكن أن يقدم على هذا الأمر العظيم بسبب إخبار إبْرَاهِيمَ عليه الصَّلاة والسلام عنه؟ فالجواب: لعلّ فرعون كان عارفاً بالله، وبصدق الأنبياء إلاَّ أنه كان كافراً كفر عِنَادٍ أو يقال: إنه كان شاكًّا متحيراً في دينه، وكان يجوِّز صدق إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فأقدم على ذلك الفعل احتياطاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 قوله: «وَيَسْتَحْيُونَ» عطف على ما قبله، واصله: «يَسْتَحييُون» ، فأعلّ بحذف الياء بعد حذف حركتها، وقد تقدم بيانه فوزنهك «يَسْتَفعُون» . والمراد بالنِّسَاء: الأطفال، وإنما عبر عنهم بالنساء، لمآلهن إلى ذلك. وقيل: المراد غير الأطفال كما قيل في الأبناء. ولام «النساء» الظاهر أنها من واو لظهورها في مرادفه وهوك نِسْوَان ونِسْوَة. وهل «نساء» جمع «نسوة» أو جمع «امرأة» من حيث المعنى؟ قولان، ويحتمل أن تكون ياءً اشتقاقاً من النّسْيَان. قوله: {وَفِي ذَلِكُمْ بلااء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} الجار والمجرور خبر مقدم، و «بَلاَء» مبتدأ. ولامه واو لظهورها في الفعل نحوك بَلَوْتُه {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} [البقرة: 155] ، فأبدلت همزة. والبلاء يكون في الخير والشر، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] ؛ لأن الابتلاء امتحان، فيمتحن الله عباده بالخير ليشكروا، وبالشر ليصبروا. وقال ابن كيسن: «أَبْلاَه وبَلاَه في الخير والشر» ؛ وأَنْشَدَ: [الطويل] 479 - جَزَى الله بِالخَيْرَاتِ ما فعلاَ بِكُمْ ... وَأَبْلاَهُمَا خَيْرَ البَلاَءِ الَّذِي يَبْلُو فجمع بين اللغتين. وقيل: الأكثر في الخير أَبْلَيْتُهُ، وفي الشر بَلَوْتُهُ، وفي الاختبار ابْتَلَيْتُهُ وبَلَوْتُهُ. قال النحاس: فاسم الإشارة من قوله: «وفي ذلكم» يجوز أن يكون إشارة إلى الإنْجَاءِ وهو خير محبوب، ويجوز أن يكون إشارة إلى الذّبح، وهو شر مكروه. وقال الزمخشري: والبلاء: المِحْنة إن أشير ب «ذلكم» إلى صنيع فِرْعَونَ، والنعمة إن أشير به إلى الإنجاء، وهو حسن. وقال ابن عطية: «ذلكم» إشارة إلى جملة الأمر، إذ هو خير فهو كفرد حاضر، كأنه يريد أن يشير به إلى مجموع الأمرين من الإنْجَاءِ، والذبحن ولهذا قال بعده: «يكون البلاء في الخير والشر» ، وهذا غير بعدي؛ ومثله: [الرمل] 480 - إنَّ لِلْخَيْرِ ولِلشَّرِّ مَدًى ..... ... ... ... ... ... ... . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 وكل ذلك وجه. وقيل: و «من ربكم» متعلّق ب «بلاء» ، و «من» لابتداء الغاية مجازاً. وقال أبو البقاء: هو في موضع رفع صفة ل «بلاء» ، فيتعلّق بمحذوف. وفي هذها نظر، من حيث إنه إذا إجتمع صفتان، إحْدَاهما صريحة، والأخرى مؤولة، قُدِّمت الصريحة، حتى إن بعض الناس يجعل ما سواه ضرورةً، و «عظيم» صفة ل «بلاء» وقد تقدم معناه مستوفى [في أول السورة] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 «إذْ» في موضع نصب، و «الفَرْق» [والفَلْق] واحد، وهو الفصل والتمييز، ومنه: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} [الإسراء: 106] أيى: فَصّلناه ومَيَّزْنَاه بالقرآن والبيان. والقرآن فُرقان لتمييزه بين الحق والباطل. وقرأ الزُّهْرِي: «فَرَّقْنَا» بتشديد الراء. أي: جعلناه فرقاً. قوله: «بكم» الظاهر أن الباء على بابها من كونها داخلة على الآلة، فكأنه فرق بهم كما يفرق بين الشَّيئين بما توسط بينهما. وقال أبو البقاء: ويجوز أن تكون المعدية كقولك: «ذهبت بزيد» ، فيكون التقدير: أفرقناكم البَحْر، ويكون بمعنى: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر} [الأعراف: 138] . وهذا أقرب من الأول. ويجوز أن تكن الباء للسببية أي: بسببكم، ويجوز أن تكون للحال من «البحر» أيك فرقناه ملتبساً بكم، ونظره الزمخشري بقوله: [الوافر] 481 - ... ... ... ... ... ..... تَدُوسُ بِنَا [الجَمَاجِمَ] والتَّرِيبَا أي: تَدُوسُهاَ ونحن راكبوها. قال أبو البقاء: أي: فرقنا البحر وأنتم به، فيكون إما حالاً مقدرة أو مقارنة، ولا حاجة إلى ذلك؛ لأنه لم يكن مفروقاً إلا بهم حال كونهم سالكين فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 وقال أيضاً: و «بكم» في موضع نصب مفعول ثانٍ ل «فَرَقْنَا» و «البحر» مفعول أول، والباء هنا في معنى اللام. وفيه نظر؛ لأنه على تقدير تسليم كون الباء بمعنى اللامن فتكون لام العلّة، والمجرور بلام العلة لا يقال: إنه مفعول ثانٍ، لو قلت: ضربت زيداً لأجلك، لا يقول النحوي: «ضرب» يتعدّى لاثنين إلى أحدهما بنفسه، وللآخر بحرف الجر. و «البَحْر» اصله: الشِّق الواسع، ومنه «البَحِيْرة» لِشَقِّ أذنهان وفيه الخلاف المتقدّم في «النهر» في كونه حقيقة في الماء، أو في الأّخْدُود؟ ويقال: فرس بَحْر أي: واسع الجَرْي، ويقال: أبْحَرَ الماء: ملح؛ قال نُصَيْب: [الطويل] 482 - وَقَدْ عَادَ مَاءُ الأَرْضِ بَحْراً فَزَادَنِي ... إلَى مَرَضِي أنْ أبْحَرَ المَشْرَبُ العَذْبُ والبَحْر يكنى إياه، وقد يطلق على العَذْب بحراً، وهو مختص بالماء المَلْح وفيه خلاف. و «البَحْر» : البلدة، يقال: هذه بَحْرتنا، أي: بلدتنا. و «البحر» ك السُّلال يصيب الإنسان. ويقولون: لقيته صَحْرَةٌ بَحْرَةٌ، أي: بارزاً مكشوفاً. قوله: «فأنجيناكم» أي: أخرجنانكم منه، يقال: نجوت من كذا نِجَاءً، ممدوداً، ونَجَاةً، مقصوراً، والصدق مَنْجَاة، وأَنْجَيْت غيري ونَجَّيته، وقرىء بهما: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم} [البقرة: 49] «فأنجيناكم» . قوله: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} . «الغَرَق» : الرسول في الماء، يقال: غَرِقَ في الماء غَرَقاً، فهو غَرِقٌ وغَارِقٌ أيضاً، وأَغْرَقَ غَيْرَهُ وغَرَّقَهُ، فهو مُغَرَّقٌ وغَرِيقُ؛ قال أبو النَّجْمِ: [الرجز] 483 - مِنْ بَيْن مَقْتُولٍ وطَافٍ غَارِقٍ ... ويطلق على القتل بأي نوع كان؛ قال الأعشى: [الطويل] 484 - ... ... ... ... ... ... . ... ألاّ لَيْتَ قَيْساً غَرَّقَتْهُ القَوابِلُ وذلك إن القَابِلَةَ كانت تغرق المولود في دم السَّلَى عام القَحْطِن ذكراً كان أو أنثى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 حتى يموت، فهذا الأصل، ثم جعل كل قتل تغريقاً، ومنه قول ذي الرمة: [الطويل] 485 - إذَا غَرَّقَتْ أرْبَاظُهَا ثِنْيَ بَكْرةٍ ... بِتَيْهَاءَ لَمْ تُصْبِحْ رَءُوماً سَلُوبُهَا والأَرْبَاض: الحِبَال. والبَكْرَة: النَّاقة. وثِنْيُهَا: بطنها الثَّاني، وإنما لم تعطف على ولدها لما لحقها من التعب. قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} جملة من مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من «آل فرعون» أي: وأنتم تنظرون إغْرَاقَكُم، والعامل «أغرقنا» ، ويجوز أن يكون حالاً من مفعول «أنجيناكم» . والنَّظر يحتمل أن يكون بالبَصَرِ؛ لأنهم كانوا يبصرون بعضهم بعضاً لقربهم؛ وقيل: إن آل فرعون طغوا على الماء، فنظروا إليهم. وأن يكون بالبصيرة والاعتبار. وقيل المعنى: وأنتم بحال من ينظر لو نظرتم، ولذلك لم يُذْكر له مفعول. فصل في البحر الذي أغرق فيه فرعون وقومه قال بعض المفسرين: والبَحْرُ الذي أغرق الله فيه فرعون وقومه هو «نيل مصر» ، وقيل: بحر «قلزم» طرف من بحر «فارس» ؟ وقال قتادة: بحر من وراء «مصر» يقال له «إسَافَة» واختلفوا هل تفرق البحر عرضاً أو طولاً؟ فقيل: إنه [تفرق] عرضاً وأن بني إسرائيل خرجوا إلى البَرِّ الذي كانوا فيه أولاً. وهذا هو الظاهر وفيه جمع بين القولين، فإنهم دخلوا فيه أولاً عرضاً، ثم مشوا فيه طولاً، وخرجوا من بَرْ الطول، وتبعهم فرعون فالْتَطَم عليه البحر، فغرق هو وجنوده، وصار بنو إسرائيل في بَرْ الطول، وإلا فأي من يقابل بر «القلزم» خرجوا إليه حتى ذهبوا إلى «الطُّور» . ومن قال: إن البحر هو النيل فلا إشْكال؛ لأنهم كانوا في «مصر القديمة» ، وجاءوا إلى شاطىء النيل، فانفرق لهم، وخرجوا إلى بَرّ الشرق، وذهبوا إلى «برية الطور» . فصل في نعم الله على موسى وقومه في تلك الواقعة اعلم أن هذه الواقعة تضمّنت نعماً كثيرة في الدنيا والدين في حَقّ موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وبني إسرائيل. أما نعم الدنيا فهي أنهم لما وقعوا إلى ذلك المَضِيقِ، ومن ورائهم فرعون وجنوده، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 وقُدَّامهم البحر، فإن توقّفوا أدركهم فرعون وأهلكهم، وإن ساروا أغرقوا، فلا خوف أعظم من ذلك، ثم إن الله تعالى نَجّاهم بغرق البحر، فلا نِعْمَةَ أعظم من ذلك، وإيضاً فإنهم شاهدوا هَلاَكَ أعدائهم، وأورثهم أرضهم وديارهم، وأموالهم، وخلّصهم من أيديهمنولو أنه تعالى خلّص موسى وقومه من تلك الحالة، وما أهلك فرعون لكان الخوف باقياً؛ لأنه رُبّما اجتمعوا واحتالوا على من أذاهم بحيلة، ولكن الله تعالى حَسَمَ عنهم مادة الخوف. وأما نعم الدِّين فهي أن قوم موسى لما شَاهَدُوا تلك المُعْجزة الباهرة زالت عن قلوبهم الشُّكُوك والشُّبُهَات، فإنّ دلالة مثل هذا المعجز على وجود الصَّانع الحكيم، وعلى صدق موسى تُقَرِّب من العلم الضروري، فكأنه تعالى رفع عنهم تحمُّل النظر الدقيق، والاستدلال، وأيضاً لما عاينوا ذلك صار داعياً لقوم فرعون إلى ترك تكذيب موسى، والإقدام على تكذيب فرعون، وايضاً أنهم عرفوا أن الأمور بيد الله، وأنه لم يكن في الدنيا أكمل ما كان لفرعون، ولا شدّة أكثر مما كانت لبني إسرائيل، ثم إنّ الله تعالى في لحظة واحدة جعل العزيز ذليلاً، والذليل عزيزاً، وذلك يوجب انقطاع القَلْب عن عَلاَئق الدُّنيا، والإقبال بالكليّة على خدمة الخالق، والتوكُّل عليه في كل الأمور. فإن قيل: إن فرعون لما شاهد فَلْقَ البحر وكان عاقلاً فلا بد وأن يعلم أن ذلك من فعل قادرٍ عالمٍ مخالفٍ لسائر القادرين، فكيف بقي على الفكر؟ والجواب: لعلّه اعتقد أن ذلك أيضاً السحر، كما قال حين ألقى موسى عصاه، وأخرج يده. يروى أن فرعون كان راكباً حصاناً، فلما أراد العُبُور في البحر خلف بني إسرائيل جَفل الحصان، فجاء جبريل على فَرَسٍ أنثى فتقدّمهم فتبعه الحصان، فلمّا اقتحموا البحر، وميكائيل خلفهم يَسوقهم حتى لم يَبْقَ منهم أحد، وخرج جبريل وهم أولهم بالخروج أمر الله البحر فالْتَطَمَ عليهم. واعلم أن هنا لطائف: أولها: أن كل نبي لأمّته نصيب مما أعطي نبيهم، فموسى عليه الصَّلاة السلام لما نُجِّي من الغَرَقِ حين ألقي في اليَمِّ، كذلك [نُجّيت] أمته من الغَرَقِ. ثانيها: أن فرعون ادَّعى العلو والربوبية، فأغرق ونزل إلى الدَّرْك الأسفل. ثالثها: أنه لما ذبح أبناءهم، والذبح هو إنْهَار الدم، أغرقه الله في النَّهر. فصل في فضل يوم عاشوراء روى مسلم عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما قدم «المدينة» ، فوجد اليهود صياماً يوم عاشوراء، فقال لهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا هَذا اليوم الذي تَصُومُونَهُ» فقالوا: هذا يوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 عَظِيم أنجى الله فيه موسى وقومه وأغرق فرعون وقومه فصامه موسى شكراً فنحن نصومه فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فنحن أَحَقّ وأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ» ، فصامه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمر بصيامه. وأخرجه البخاري أيضاً عن ابن عباس، وأن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأصحابه: «أَنْتُمْ أَحَقّ بموسى منهم فَصُومُوا» . فظاهر هذا أنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما صامه اقتداءً بموسى عليه السَّلام على ما أخبره اليَهُود، وليس كذلك، لما روته عائشة قالت: «كان يوم عَاشُورَاء تصومه قُرَيْشٌ في الجاهلية، وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصومه في الجاهلية، فلما قدم» المدينة «صامه وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان ترك صِيَامَ يوم عَاشُورَاء، فمن شاء صامه، ومن شاء تَرَكَه» . مُتَّفَقٌ عليه. فإن قيل: يحتمل أن تكون قريش إنما صامته؛ لأن اليهود أخبروهم، وكانوا عندهم أصحاب عِلْمٍ، فصامه النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كذلك في الجاهلية، أيى ب «بمكة» ، فلما قدم «المدينة» ، ووجد اليهود يصومونه قال: «نَحْنُ أَحَقّ وأولى بموسى منكم» ، فصامه اتِّبَاعاً لموسى. فالجوابك أن هذا مبني على أنه عليه الصلاة والسَّلام كان متعبداً بشريعة موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وليس كذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 قرأ أبو عمرو ويعقوب: «وَعَدْنَا» هنا، وما كان مِثْلَه ثلاثاً، وقرأ الباقون: «وَاعَدْنَا» بالألفن واختار أبو عبيدة قراءة أبي عمرو، ورجّحها بأن المُوَاعدة إنما تكون من البَشَرِ، وأمَا الله عَزَّ وَجَلَّ فهو المنفرد بالوَعْدِ والوَعِيدِ، على هذا وجدنا القرآن نحو: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ} [المائدة: 9] ، {وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} [إبراهيم: 22] ، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله} [الأنفال: 7] . ورجحه مكّي فقال: وأيضاً فإن ظاهر اللفظ فيه «وعد» من الله تعالى لموسى، وليس فيه «وَعْد» من موسى، فوجب حمله على الواحد، بظاهر النص ثم ذكر جماعة جلّة من القراء عليها كالحَسَنِ، وإبي رجاء، وأبي جعفر، وشيبة، وعيسى بن عمر، وقتادة، وابن إسحاق، ورجّحه أبو حاتم أيضاً بأن قراءة العامة عندنا «وَعَدْنَا» بغير ألف؛ لأن المُوَاعدة أكثر ما تكون بين المَخْلُوقين والمُتَكَافئين. وقد أجاب الناس عن قول أبي عبيد، وأبي حاتم، ومكي بأن «المُفَاعلة» هنا صحيحة، بمعنى أن موسى نزل قبوله لالتزام الوفاء بمنزلة الوعد منه، أو أنه وعد أن يفي بما كلفه ربه. وقال القفال: «ولا يبعد أن يكون الآدمي يعد الله تعالى ويكون معناه يعاهد الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 تعالى» ، ومنه قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله} [التوبة: 75] إلى أن قال: {بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ} [الأنفال: 77] . وقال مكّي: المُوَاعدة أصلاً من اثنين، وقد تأتي بمعنى «فعل» نحو: «طَارَقْتُ النَّعْل» فجعل القراءتين بمعنى واحدٍ. وقال الكسائي: ليس قوله الله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ} [النور: 55] من هذا الباب في شيء؛ لأن «واعدنا موسى» إنما هو من باب المُوَافاة، وليس من الوعد في شيء، وإنما هو من قولك: «موعدك يوم كذا» ، و «موضع كذا» . والفصيح في هذا أن يقال: «واعدته» ، قال تعالى حكاية عن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه قال: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} [طه: 59] . وقال الزجاج: «وَاعَدْنَا» بالألف جَيّد؛ لأن الطَّاعة في القبول بمنزلة المُوَاعد، فمن الله وَعْد، ومن موسى قَبُول واتباع، فجرى مجرى المواعدة. وقال مكّي أيضاً: «والاختيار» واعدنا «بالألف؛ لأنه بمعنى» وعدنا «في أحد معنييه؛ ولأنه لا بُدَّ لموسى من وَعْد أو قَبُول يم مقام الوَعْدِ فتصحّ المُفَاعلة» . قال ابن الخَطِيب: الأقوى أن الله تعالى وعد الوَحْي، وهو وعد الله المجيء للميقات. قال الجوهري: «المِيعَادُ: المُوَاعدة والوقت والموضع» ؟ ووعد يتعدّى لاثنين، ف «موسى» مفعول أول، و «أربعين» مفعول ثانٍ، ولا بد من حذف مضاف، أي: تمام أربعين، ولا يجوز أن يتنصب على الظَّرف، لفساد المعنى، وعلامة نصبه الياء؛ لأنه جار مجرى جمع المذكر السَّالم، وهو في الأصل مفرد اسم جمع، سمي به هذا العَقْد من العدد، ولذلك أعربه بعضهم بالحركات؛ ومنه في أحد القولين: [الوافر] 486 - وَمَاذَا يَبْتَغِي الشُّعَرَاءُ مِنِّي ... وَقَدْ جَاوَزْتُ حَدَّ الأَرْبَعِينِ بكسر النون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 و «ليلة» نصب على التَّمييزن والعقود التي هي من عشرين إلى تِسْعِين، وأحد عشر إلى تسعة عشر كلها تميز بواحد منصوب. و «موسى» هو موسى بن عِمْران بن يصهر بن قاهت بن لاوي ين يَغْقُوب بن إسْحَاق ابن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، اسم أعجمي غير منصرف، وهو في الأصل على ما يقال مركّب والأصلأ: مُوشَى بالشين لأن «ماء» بلغتهم يقال له: «مو» والشّجر يقال له: «شَا» فعربته العرب فقالوا: موسى. قالوا: إما سمي به؛ لأن أمه جعلته في التَّابوت حين خافت عليه من فِرْعون، وألقته في البحر، فدفعته أمواج البحر حتى أدختله بين أشْجَار عند بيت فرعون، فخرجت جَوَاري آسيَةَ امرأة فرعون يَغْسِلْنَ فوجدن التَّابوت، فأخذنه فسمي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ باسم المكان الَّذِي أصيب فيه وهو الماء والشجر، وليس لموسى اسم النَّبِيّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ اشتقاق؛ لأنه أعجمي؛ لأن بني إسرائيل والقْبط ما كانوا يتكلّمون بلغة العرب. ومنهم من قال: إنه مشتق، واختلفوا في اشتقاقه، فقيل: هو «مفعل» من أوْسَيْت رأسه: إذا حلقته فهو مُوسى، ك «أعطيته فهو مُعْطَى» ن فمن جعل اسمه عليه مشتقاً قال: إنما سمي بذلك لِصَلَعِهِ. وقيل: مشتق من «مَاسَ يَمِيسُ» أي: يَتَبَخْتَرُ في مشيته ويتحركن فهو «فعلى» وكان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كذلك، فقلبت الياء واواً لانظمام ما قبلها ك «مُوقِن» من «اليَقين» . والصحيح الأول، وهذا الاشتقاق إنما هو في مُوسى آلة الحَلْق. فصل في قصة موسى بعد نجاة قومه ذكر المفسرون أن موسى عليه الصلاة والسَّلام قال لبني إسرائيل: إن خرجنا من البحر سالمين آتيكم بكتاب من عند الله يبيّن لكم فيه ما يجب عليكم من الفِعْل والتَّرْكِ، فلما جاوز البحر، وأغرق الله فرعون قالوا: يا موسى ائتنا بذلك الكتاب الموعود، فخرج إلى الطُّور في سَبْعين من [أخيار] بني إسرائيل، وصعدوا الجبل، وواعدهم إلى تمام أربعين ليلةً، فعدوا فيما ذكر المفسرون وعشرين يوماً وعشرين ليلة، وقالوا: قد [أخلفنا] موعده. فاتّخذوا العجل. وقال أبو العالية: «بلغنا أنه لم يحدث حدثاً في الأربعين ليلة حتى هبط من الطور» . فإن قيل: لم خصّ الليالي بالذِّكْر دون الأيَام؟ قيل: لأن الليلة أسبق من اليوم فهي قَبْلَهُ في الرتبة وقع بها التاريخ، فاللَّيَالي أول الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 الشهور، والأيام تَبَعٌ لها، وأيضاً فليس المراد انقضاء أي أربعين كان، بل أربعين معيناً وقيل: لأن الظلمة سابقة على النُّور، فهي الأصل يؤيده قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] . فصل في معنى أربعين ليلة قوله: {أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} معناه: واعدنا موسى انقضاء أربعين ليلةً كقولهم: «اليوم أربعين يوماً منذ خروج فلان» أي: تمام الأربعين، والحاصل أنه حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه كقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] وأيضاً فليس المراد انقضاء أي أربعين كان، بل أربعين معيناً، وهو الثلاثون من ذي القِعْدَة، والعشر الأول من ذي الحجّة؛ لأن موسى عليه السَّلام كان عالماً بأن المراد هو هذه الأربعون، وكان ذلك بعد أن جاوز البحر. قال ابن الخطيب: ويحتمل أن يكون المراد أنه وعد قَبْلَ هذه الأربعين أن يجيء إلى الجَبَل بعد انقضاء هذه الأربعين. قال: وهذا الاحتمال هو المؤيّد بالأخبار. فإن قيل: قوله هاهنا: «أربعين ليلة» يفيد أن المواعدة كانت من أول الأمر على الأربعين. وقوله في الأعراف: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142] يفيد أن المُوَاعدة كانت في أول الأمر على الثلاثين، فكيف التوفيق بينهما؟ أجاب الحَسَن البَصْري فقال: ليس المراد أن وعده كان ثلاثين ليلة، ثم بعد ذلك وعده بعشر، لكنه وعده أربعين ليلة جميعاً، وهو كقوله: {ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196] . قوله: {ثُمَّ اتخذتم العجل} «اتَّخَذَ» يتعدّى لاثنين، والمفعول الثاني محذوف أي: اتخذتم العِجْلَ إلهاً، وقد يتعدّى لمفعول واحد إذا كان معناه «عمل» و «جعل» نحو: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} [البقرة: 116] . وقال بعضهم: «تَخِذَ» و «اتَّخَذَ» يتعدّيان لاثنين ما لم يفهما كسباً، فيتعديان لواحد، واختلف في «اتَّخَذَ» فقيل: هو «افتعل» من الأّخْذِ، والأصل: «ائْتَخَذَ» الأولى همزة وصل، والثانية فاء الكلمة، فاجتمع همزتان ثانيتهما ساكنة بعد أخرى، فوجب قلبها ياء ك «إيمان» فوقعت الياء فاء قبل تاء الافتعال، فأبدلت تاء، وأدغمت في تاء الافتعال ك «اتَّسَرَ» من اليُسْرِ «، إلا أن هذا قليل في باب الهمز؛ نحو:» اتَّكَلَ «من» الأَكْل «، و» اتَّزَر «من» الإزَار «؛ وقال أبو عليٍّ: هو» افْتَعَل «من تَخِذَ يَتْخَذُ؛ وأنشد: [الطويل] 487 - وَقَدْ تَخِذَتْ رِجْلِي إلَى جَنْبِ غَرْزِهَا ... نَسِيفاً كَأُفْحُوصٍ القطَاةِ المُطَوِّقِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 وقال تعالى: {لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} [الكهف: 77] وهذا أسهل القولين. والقُرّاءُ على إدغام الذَّال في التاء لقرب مخرجهما، وابن كثير، وعاصم في رواية حَفْص بالإظهار، وهذا الخلاف جارٍ في المفرد نحو:» اتَّخَذْتُ «، والجمع نحو:» اتَّخَذْتُم «، وأتى في هذه الجملة ب» ثم «دلالة على أن الإتِّخَاذ كان بعد المُوَاعدة بمهلة. وقال ابن الخطيب: لما أنعم عليهم بهذه النِّعْمَة، وأتوا عَقِيْبَ ذلك بأقبح أنواع الجهل الكُفْر، كان ذلك في حل التعجُّبن فهو كمن يقول: إني أحسنت إليك، وفعلت كذا وكذا، ثم إنك تقصدني بالسُّوء والإيذاء منه، ومثله: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] ، {ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ} [الأنعام: 2] ؛ {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك} [البقرة: 74] ، {ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً} [الجاثية: 8] ، {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] . قوله: «مِنْ بعْدِهِ» متعلّق ب «اتَّخَذَتُمْ» ، و «مِنْ» لابتداء الغاية والضمير بعود على مُوسى، ولا بُدّ من حذف مضافٍ، إي: من بعد انطلاقه أو مُضِيّه. وقل ابن عطية: «يعود على موسى» . وقيل: «على انطلاقه للمتكلّم» . ويل: عرى الوَعْدِ، وفي كلامه بعض مُنَاقشة، فإن قوله: «وقيل يعود على انطلاقه» يقتضي عوده على موسى من غير تقدير مضاف، وذلك غير مُتَصَوَّر. قوله: «وَأَنْتُم ضَالِمُونَ» جملة حالية من فاعل «اتَّخَذْتُمْ» . و «العِجْل» ولد البقرةن والعُجُول مثله، والجمع عَجَاجِيْل، والأنثى «عِجْلة» ، عن أبي الحسن، وسمي العجل عِجْلاً لاستعجالهم عبادته، ذكره القُرْطبي، وفيه نظر؛ لأن العِجْلَ ولد البقرة كان موجوداً قبل أن يتخذ بنو إسرائيل العِجْل. فصل قال أهل التَّفسير: لما ذهب موسى إلى الطُّور، وقال لأخيه هارون: اخلفني في قَوْمي، وكان قد بقي مع بني إسرائيل الثياب والحُلِيّ الذي استعاروه من القِبْطِ قال لهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 هارون: إن هذه الثياب والحُلِيّ لا تحلّ لكم، وكان السَّامِرِيُّ من مسيره مع موسسى عليه السلام إلى البحر ينظر إلى حافر دَابّة جبريل حين تقدم على فرعون في دخول البحر. قال بعض المفسرين: كان لكما نقل حافره يخضرّ مكانه نَبْتاً، فلهذا سمي فرس الحياة، ولا يصيب شيئاً إلا حَيي، فقال السّامريُّ: «إن لهذا النبت نَبَتأً، فقبض منه قَبْضَةَ، وقيل: قبض من تراب حَافِرِهِ، فذلك قوله: {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول} [طه: 96] ، ثم إن السَّامري أخذ ما كان معهم من الذَّهب، فصوَّر منه عِجْلاً وألقى فيه تلك القَبْضة، فخرج له صوت كالخُوَارِ، فقال القوم:» هذا إلَهُكُمْ وإله موسى « قال ابن عبّاس:» لأنه كان مُنَافقاً يظهر الإسلام، وكان يعبد البقر، وكان اسمه موسى بن ظفر «. وقيل: متَّى. وقيل: هارون، وإنهم عبدا العجل بعد مُجاوزة النَّهر لقوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ البحر فَأَتَوْاْ على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] . فإن قيل: كل عاقل يعلم ببديهة عقله أن الصنم الذي لا يتحرّك، ولا يحسّ، ولا يعقل مستحيل أن يكون له إله السموات والأرض، وَهَبْ أنه ظهر من خُوَار، ولكن هذا القَدْر لا يصلح أن يكون شُبْهة في قَلْب أحد من العقلاء في كونه إلهاً، وأيضاً فإن القوم قد شاهدوا قبل ذلك من المعجزات الظاهرة التي تكون قريبةً من حَدّ الإلجاء من الدلالة على الصانع وصدق موسى عليه السَّلام فمع قوة هذه الدلالة وبلوغها إلى حَدّ الضرورة، لا يكون صدور الخُوَارِ من ذلك العِجْلِ يقتضي شبهة في كون ذلك الجسم المصوت إلهاً. قال ابن الخطيب: والجواب أنّ هذه الواقعة لا يمكن تصحيحها إلاّ على وجه واحدٍ، وهو أن السَّامري ألقى إلى القوم أن موسى عليه السَّلام إنما قدر على ما أتى به؛ لأنه كان يتّخذ طلسمَات على قوى ملكية، وكان يقدر بواسطها على هذه المُعجِزَاتِ فقال السَّامري للقوم: «وأنا أتخذ لكم طلسمات مثل طلسمته، وروّج عليهم ذلك بأن جعله بحيث خرج منه صَوْتٌ عجيب، فأطمعهم في أن يصيروا مثل مُوسَى عليه السَّلام في الإتيان بالخوارق، أو لعلَ القوم كانوا مجسّمة وحُلُولية، فجوزوا حلول الإله في بعض الأجْسَام، فلذلك وقعوا في تلك الشبهة. فصل في فوائد من قصة بني إسرائيل في هذه القصة فوائد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 أحدها: أنها تدلّ على أن أمّة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خير الأمم؛ لأن أولئك اليهود مع مُشَاهدتهم تلك البَرَاهين البَاهِرَة اغْتَرُّوا بهذه الشبهة الرَّكيكة، وأمّا أمة محمد عليه السلام فإنهم مع أنهم محتاجون في ثبوت كون القُرْآن معجزاً إلى الدَّلائل الدقيقة لم يَغْتَرُّوا بالشُّبُهَات العظيمة، وذلك يدلُّ على أنهم أكمل عَقْلاً، وأدعى خاطراً من اليهود. وثانيها: فيه تحذير عظيم من التقليد والجَهْل بالدلائل، فإن هؤلاء الأقوام لو عرفوا الله بالدَّليل معرفة تامّة لما وقعوا في شبهة السامري. وثالثها: تسلية النبي صلى الله علي وسلم عما كان شَاهَدَ من مشركي العرب، واليهود، والنَّصارى من الخلاف، فكأنه تعالى أمره بالصَّبْرِ على ذلك كما صَبَرَ مُوسَى عليه السلام في هذه الواقعة المنكرة، فإنهم بعد أن خلّصهم الله تعالى من فرعون، وأراهم المعجزات العجيبة من أوّل ظهور مُوسَى إلى ذلك الوقت، اغْتَرُّوا بتلك الشبهة الرّكيكة، وأن موسى عليه السلام صبر على ذلك، فَلأَنْ يصبر محمد عليه السلام على أّذِيَّةِ قومه أولى. ورابعها: أن اشدّ الناس مجادلةّ وعداوة مع الرسول هم اليهود، فكأنه تعالى قال: إن هؤلاء يفتخرون بأسلافهم، ثم إن أسلافهم كاانوا في البَلاَدَةِ، والجهالة، والغباوة إلى هذا الحد بحيث إن أشدّ الأشياء بَلاَدَة، وجهالة، وغباوة، هم البقر، فجعلوه إلهاً، فكيف هؤلاء الأخلاف. فصل في تفسير الظّلم وجهان: الأول: قال فيه أبو مسلم الظُّلم في أصل اللغة من النقص قال تعالى: {كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً} [الكهف: 33] . والمعنى: أنهم تكروا عبادة الخلاّق المحيي المميت، واشتغلوا بعبادة العِجْلِ، فقد صاروا ناقصين في خيرين: الدين والدنيا. والثّاني: أن الظلم في العرف عبارة عن الضرر الخالي عن نفع يزيد عليه، ودفع مضرّة أعظم منه، والاسْتِحْقَاقُ غير العرفي علمه أو ظنّه، فإذا كان بهذه الصفة كان فاعلاً ظلماً، ثم إن الرجل إذا فعل ما يؤدّيه إلى العقاب والنار، قيل: «إنه ظالم لنفسه» ، وإن كان في الحال نفعاً ولذّة كما قال: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . وقال: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} [فاطر: 32] ولمّا كانت عبادتهم لغير الله ظُلماً ومؤدّياً إلى عذاب النار سُمّي ظلماً. فصل في ردّ شبهة للمعتزلة استدّلت المعتزلة بهذه الآية على أنّ المعاصي ليست بخلق الله من وجوه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 أحدها: أنه تعالى ذمَّهم عليها، ولو كانت مخلوقةً له لكانوا مطيعين بفعلها؛ لأن الطَّاعة عبارة عن فعل المراد. وثانيها: لون كان العصيان مخلوق لله تعالى لكان الذَّم بسببه يجري مجرى الذم بسبب كونه أَسْوَدَ، وأبيض، وطويلاً. قال ابن الخطيب: وهذا تمسّك بفعل المدح والذم، وهو معارض بمسألتي الداعي والعلم، وقد تقدّم. قوله: «ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ» . و «العفو» المَحْوُن منه: «عَفَا الله عَنْكُمْ» أيك محا ذنوبكم، والعافية: لأنها تمحو السّقم، وعَفَتِ الريح الأَثَر؛ قال: [الطويل] 488 - فَتُوضِحَ فَالمِقْراةِ لَمْ يَعْفُ رَسْمُهَا ... لِمَا نَسَجَتْهَا مِنْ جَنُوبٍ وَشَمْأَلِ وقيل: عَفَا كذا أي: كَثُرَ، ومنه «وأَعْفُوا اللِّحَى» فيكون من الأضداد. وقال ابن عطية: «العَفْوُ تَغطية الأثر، وإذهاب الحال الأوّل من الذَّنْب أو غيره، ولا يستعمل العَفْوُ بمعنى الصَّفح إلا في الذنب» . وهذا الذي قاله قريب من تَفْسِيْرِ الغُفْرَان؛ لأن الغفر التغطية والسَّتر، ومنه: المغفر، ولكن قد فُرِّق بينهما بأن العفو يجوز أن يكون بعد العقوبة، فيجتمع معها، وأمّا الغُفْرَانُ فلا يكون مع عقوبة. وقال الرَّاغب: «العَفُو» : القصد لتناول الشَّيء، يقال: عَفَاه واعْتَفَاهُ أي: قصده مُتَناولاً ما عنده، وعَفَتِ الريحُ التُّرابَ قصدتها متناولةً آثارها، وعَفَتِ الديار كأنها قصدت نحو البِلَى وعفا النَّبْت والشَّعْرُ قصد تناولَ الزِّيادة، وعفوتُ عنك كأنه قصد إِزَالَةَ ذَنْبِهِ صارفاً عنه، وأعْفَيْتُ كذا، أي: تركته يعفو ويكثر، ومنه «أعْفُوا اللِّحَى» فجعل القصد قدراً مشتركاً في العَفْوِ، وهذا ينفي كونه نم الأَضْدَادِن وهو كلام حسن؛ وقال الشاعر [الطويل] 489 - ... ... ... ... ... ... ... إِذَا رَدَّ عَافِي الْقِدْر مَنْ يَسْتَعِيرُهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 معناه: أن العَافِي هنا ما يبقى في القَدْرِ من المَرَقِ ونحوه، فإذا أراد أحد أن يستعير القِدْرَ يُعَلِّلُ صاحبها بالعَافي الذي فيها، فالعَافِي فاعل، ومن يستعيرها مَفْعُول، وهو من الإسناد المجازي؛ لأن الرَّاد في الحقيقة صاحب القِدْرِ بسبب العافي. فصل في تفسير المعتزلة للعفو في الآية قالت المعتزلة: «المراد ثم عفونان عنكم بسبب إتيانكم بالتَّوْبَة، وهي قتل بعضكم بَعْضاً» . قالت بن الخطيب: وهذا ضعيف من وجهين: الأول: أن قبول التوبة وَاجبٌ عَقْلاً، ولو كان المُرَاد ذلك لما جاز عدُّه في معرض الإنعام، لأن أداء الواجب لا يُعَدّ من باب الإنعام، والمقصود من هذه الآيات تَعْدِيْدُ نِعَمِ الله تعالى عليهم. الثاني: أن العَفْوَ اسم لإسقاط العقاب المستحقّ؛ وأمّا إسقاط ما يجب إسقاطه، وذلك لا يُسمَّى عَفْواً، ألا ترى أن الظالم لما لم يجز له تعذيب المظلوم، فإذا ترك عذابه لم يكن الترك عفواً، فكذلك هاهنا. إذا ثبت هذا فنقول: لا شَكّ في حصول التوبة في هذه الصورة لقوله تعالى: {فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وإذا كان كذلك دَلَّت الآية على أن قَبُولَ التوبة غير واجب عَقْلاً، وإذا ثبت ذلك ثبت أيضاً أنه تعالى أسقط عُقُوبَةَ من يجوز عقابه عقلاً، وشرعاً، وذلك أيضاً خلاف قول المعتزلة، وإذا ثبت أنه عفا عن كفّار قوم موسى، فلأن يعفوا عن فُسّاق أمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أنهم خير أمة أُخرجت للنَّاس كان أولى. قوله: «لَعَلَّكُمْ تِشْكُرُونَ» . «تَشْكُرُونَ» في محل رفع خبر «لعلّ» ، وقد تقدّم تفسير الشكر عند ذكر الحمد. وقال الراغب: هو تصور النعمة وإظهارها. وقيل: هو مقلوب عن الكَشْر أي: الكَشْف، وهو ضدّ الكفر، فإنه تَغْطِيَةُ النعمة وقيل: أصله من «عَيْن شَكْرى» أي: ممتلئة، فهو على هذا الامتلاء من ذكر المنعم عليه. و «شَكَر» من الأفعال المتعدّية بنفسها تارةً، وبحرف الجرِّ أُخْرَى، وليس أحدهما أصلاً للآخَرِ على الصحيحن فمن المتعدِّي بنفسه قوله عَمْرِو بْنِ لُحَيِّ: [الطويل] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 490 - هُمُ جَمَعُوا بُؤْسَى ونُعْمَى عَلَيْكُمُ ... فَهَلاَّ شَكَرْتَ الْقَوْمَ إِذْ لَمْ تُقَاتِلِ ومن المتعدِّي بحرف الجر قوله تعالى: {واشكروا لِي} [البقرة: 152] ، وسيأتي هنا تحقيقُهُ. فصل في الرد على المعتزلة قالت المعتزلة: إنه تعالى بَيَّن أنه عفا عنهم، ولم يؤاخذهم لكي يشركوا، وذلك يدلّ على أنه تعالى لم يرد منهم إلا الشكر. والجواب: لو أراد الله تعالى منهم الشكر لأراد ذلك، أنما شرط أن يحصل للشَّاكر داعية للشكر أولاً بهذا الشرط، والأول باطل؛ إذ لو أراد ذلك بهذا الشِّرط، فإن كان هذا الشرط من العَمْدِ لزم افتقار الدَّاعية إلى داعية أخرى، وإن كان من الله بحيث خلق الله الدَّاعي حصل الشكر لا محالة، وحيث لم يخلق الدَّاعي استحال حُصُول الشكر، وذلك ضد قول المعتزلة، وإن أراد حصول الشُّكر منه من غير هذه الداعية، فقد أراد منه المُحَال؛ لأن الفِعْلَ بدون الدواعي مُحَال. فثبت أن الإشكال ورادٌ عليهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 «الكتاب» و «الفُرْقان» مفعول ثان ل «آتيْنَا» . وهل المراد بالكتاب والفرقان شيء واحد، وهو التوراة؟ كأنه قيل: الجامع بين كونه كتاباً مُنَزَّلاً، وفرقاناً يفرِّق بَيْن الْحَقِّ والْبَاطل، نحو: رَأَيْتُ الغَيْثَ واللَّيْثَ، وهو مِنْ باب قوله: [المتقارب] 491 - إِلَى الْمَلِكِ الْقَرْمِ وَابْنِ الهُمَامِ ..... ... ... ... ... ... ... ... . أو لأنهم لمَّا اختلف اللفظ، جاز ذلك؛ كقوله: [الوافر] 492 - فَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لِرَاهِشَيْه ... وَأَلْقَى قَوْلَهَا كَذِباً وَمَيْنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 وقوله: [الطويل] 493 - ... ... ... ... ... ... ..... وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ وقوله عنترة: [الكامل] 494 - ... ... ... ... ... ... ..... أَقْوَى وَأَقْفَرَ بَعْدَ أُمِّ الْهَيْثَمِ قال النحاس: «هذا إنما يجوز في الشِّعر، فالأحسن أن يراد بالفُرْقَانِ ما علَّمه الله موسَى من الفَرْقِ بين الحقِّ والباطل» . وقيل: «الواو زائدة» ، و «الفرقان» نعت للكتاب أو «الكتابُ» التوراةُ، و «الفرقان» ما فرٌّ به بين الكُفْرِ والإيمان، كالآيات من نحو: العَصَا واليَدِ أو ما فرّق به بين الحلال والحرام من الشرائع. و «الفُرْقَان» في الأَصل مصدر مثل الغُفْرَان. وقد تقدّم معناه في {فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [البقرة: 50] . وقيل: «الفُرقَانُ» هنا اسم للقرآن، قالوا: والتقدير: ولقد آتينا موسى الكتاب، ومحمّداً الفرقان. قال النحاس: هذا خطأ في الإعراب والمعنى، أمّا الإعراب فلأن المعطوف على الشيء مثله، وهذا يخالفه، وأمّا المعنى فلقوله: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان} [ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 الأنبياء: 48] . وقال قُطْرب وزيد: «الفُرْقَانُ انْفِرَاقُ البَحْرِ له» . فإن قلت: هذا مذكور في قوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [البقرة: 50] وأيضاً قوله بعد ذلك: «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» لا يليق إلاّ بالكتاب؛ لأن ذلك لا يذكر إلا عقيب الهدى، فالجواب عن الأولى أنه تعالى لم يبين في قوله: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} أن ذلك كان لأجل موسى عليه السلام، وفي هذه الآية بَيّن ذلك بالتنصيص. وعن الثاني: أن فَرْقَ البحر كان من الدّلائل فلعلّ المُرَاد: آتينا موسى الكتاب ليستدلُّوا بذلك على وجود الصانع، وصدق موسى عليه السَّلام، وذلك هو الهِدَايَةُ، وأيضاً فالهدى قد يُرَادُ به الفَوْزُ والنَّجَاة ولم يُرَدْ به الدلالة، فكأنه تعالى بيّن أنه أتاهم الكتاب نعمةً من الدين والفرقان الذي جعل به نجاتهم من الخَصْمِ نعمةً عاجلةً. وقيل: الفرقان: الفَرَجُ من الكَرْب؛ لأنهم كانوا مستعبدين مع القبط، {إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} [الأنفال: 29] أي: فَرَجاً ومَخْرَجاً وقيل: الحجّة والبَيَان، قاله ابن بحر. وقيل: الفُرْقَان الفَرْقُ بينهم وبين قوم فرعون، أنجى هؤلاء، وغرق أولئك، ونظيره يوم الفُرْقَان، فقيل يعني به يوم بدر. فصل في الرد على المعتزلة استدلت المعتزلة بقوله: «لعلكْم تهتدون» على أن الله أراد الاهتداء من الكُلّ، وذلك يبطل قول من يقول: أراد لكُفْرَ من الكافر. وأيضاً إذا كان هداهم أنه تعالى لم يخلق الاهتداء ممن يهتدي، والضلال ممن يضل، فما الفائدة في إنزال لكتاب والفرقان، ولقوله: «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» ومعلوم أن الاهتداء إذا كان يخلقه، فلا تأثير لإنزال الكتب فيه لو كان الاهتداء [ولا كتاب لحصل] الاهتداء ولو أنزل الكتاب، ولم يخلق الاهتداء فيهم لما حصل الاهتداء، فيكف يجوز أن يقول: أنزلت [الكتاب] لكي تهتدوا؟ وقد تقدّم مثل [هذا] الكلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 «يا قوم» أعْلَمْ أن في المنادى المضاف إلى ياء المتكلم ستَّ لُغَات. أفصحها: حذفها مجتزئاً عنها بالكَسْرَةِ، وهي لغة القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 والثانية: ثبوت الياء ساكنة. الثالثة: ثبوتها مفتوحة. الرابعة: قلبها ألفاً. الخامسة: حذف هذه الألف، والاجتزاء عنها بالفتحة؛ كقوله: [الوافر] 495 - وَلَسْتُ بِرَاجِعِ مَا فَاتَ مَنِّي ... بِلَهْفَ وَلاَ بِلَيْتَ وَلاَ لَوَ أنِّي أي يقول: يا لَهْفَا. السَّادِسَةُ: بناء المضاف إليها على الضَّمّ تشبيهاً بالمفرد، نحو قراءة من قرأ: {قَالَ رَبِّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112] . قال بعضهم: لأن «ياقوم» في تقدير: يا أيها القوم والقوم: سم جمع؛ لأنه دالّ على أكثر من اثنين، وليس له واحد من لفظه، ولا هو على صيغة مختصّة بالتكسير، ومُفْردُهُ «رَجُل» ، واشتقاقه من «قَامَ بالأَمرْرِ يقومُ به» ، قال تعالى: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء} [النساء: 34] والأصل في إطلاقه على الرجال؛ ولذلك قوبل بالنِّسَاء في قوله تعالى: {لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ} [الحجرات: 11] . وقول زهير: [الوافر] 496 - وَمَا أَدْرِي وَسَوْفَ إِخَالُ أَدْرِي ... أَقَوْمٌ جِصْنٍ أمْ نِسَاءَ وأما قوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} [الشعراء: 105] و {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} [الشعراء: 106] والمكذبون رجال ونساء فإنما ذلك من باب التَّغْلِيب، ولا يجوز أن يطلق على النِّساء وحدهن آلبتة، وإن كانت عبادة بعضهم توهم ذلك. فصل في نظم الآية في قوله: «يا قوم» لطيفة، وهي أنه أضاف القوم إلى نفسه، وأضاف نفسه إليهم إضافة اختلاط، وامتزاج، فكأنه منهم [وهم] منه فَصَارَا كالجَسَدِ الواحد فهو مقيد لهم ما يريد لنفسه، وإنما يضرهم ما يضره وما ينفعهم ينفعه كقول القائل لغيره إذا نصحه: ما أُحِبُّ لك إلا ما أُحِبُّ لنفسي وذلك إشارة إلى اسْتِمَالَةِ قلوبهم إلى قَبُولِ دعواه، وطاعتهم له فيما أمرهم به، ونَهَاهُمْ عنه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 قوله تعالى: {باتخاذكم العجل} الباء للسببية، متعلّقة ب «ظلمتم» ، وقد تقدم الخلاف في مثل هذه لمادة. و «العِجْل» مفعول أوّل، والثَّاني محذوف أي: إلهاً كما تقدم، والمصدر هُنَا مضاف للفاعل، وهو أحسن الوجهين، فإن المصدر إذا اجتمع فاعله ومفعوله فالأولى إضافته إلى الفاعل؛ لأنه رتبته التقديم، وهذا من الصور التي يجب فيها تقديم الفاعل. وأما {قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} [الأنعام: 137] فسيأتي إن شاء الله تعالى. وتقدّم الكلام في «العِجْل» . قوله: {إلى بَارِئِكُمْ} متعلّق ب «توبوا» ، والمشهور كسر الهمزة؛ لأنها حركة إعراب. وروي عن أبي عمرو ثلاثة أوجه أخر: الاخْتِلاَس: وهو الإتيان بحركة خفية، والسكون المحض، وهذه قد طعن فيها جماعة من النحاة، ونسبوا راويها إلى الغَلَطِ على أبي عَمْرو. وقال سيبويه: «إنما اختلس أبو عمرو فظنَّه الراوي سَكَّن ولم يضبط» . وقال المبرِّد: «لا يجوز التسكين مع تَوَالِي الحركات في حرف الإعراب في كلام ولا شِعْرِ، وقراءة أبي عمرو لحن» . وهذه جرأة من المبرد، وجهل بأشعار العرب، فإن السُّكُونَ في حركات الإعراب قد ورد في الشعر كثيراً؛ منه قول امرء القيس: [السريع] 497 - فَالْيَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُنْتَحْقِبٍ ... إِنْماً مِنَ الله وَلاَ وَاغِلِ فَسكَّن «أَشْرَبْ» ، وقال جَرِير: [البسيط] 498 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وَنَهْرُ تِيرَى فَلاَ تَعْرِفْكُمُ العَرَبُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 وقال آخر: [السريع] 499 - رُحْتِ وفي رِجْلَيْكِ مَا فِيهِمَا ... وَقَدْ بَدَا هَنْكِ مِنَ المِئْزَرِ يريد: «هَنُك وتَعْرِفُكُكم» فهذه حركات إعراب، وقد سُكّنت، وقد أنشد ابن عطية وغيره رَدَّا عليه قوله: [الرجز] 500 - قَالَتْ سُلَيْمَى: اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا ... وقول آخر: [الرجز] 501 - إِذَا اعْوَجَجْنَ قُلْتُ: صَاحِبْ قَوِّمِ ... وقول الآخر: [الرمل] 502 - إِنَّما شِعْريَ شَهْدٌ ... قَدْ خُلِطْ بِجْلْحُلانِ ولا يحسن ذلك؛ لأنها حركات بناء، وإما منع هو ذلك من حركات الإعراب، وقراءة أبي عمرو صحيحةٌ، وذلك أن الهمزة حرف ثقيلٌ، ولذلك اجتزء عليها بجميع أنواع التخفيف، فاستثقلت عليها الحركة فقدِّرتن وهذه القراءة تشبه قراءة حمزة رَحِمَهُ اللهُ في قوله تعالى: {وَمَكْرَ السيىء وَلاَ} فإنه سكن همزة «السّيِّىء» وصلاً، والكلام عليهما واحد، والذي حسنه هنا أنّ قبل كسرةِ الهمزةِ راءٌ مكسورةٌ، والراء حرف تكرير، فكأنه توالى ثلاث كسرات فحسن التَّسْكين، وليت المبرِّد اقتدى بسيبويه في الاعْتِذَار عن أبي عمرو. وجميع رواية أبي عمرو دائرة على التَّخْفيف، وذلك يدغم المثلين، والمتقاربين، ويُسَهِّل الهمزة، ويسكن نحو: {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160] و {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] و {بِأَعْلَمَ بالشاكرين} [الأنعام: 53] علكى تفصيل معروف عند القُرَّاء، وروي عنه إبدالُ هذه الهمزة السَّاكنة ياءً، كأنه لم يعتدّ بالحركة المقدرة، وبعضهم ينكر ذلك عنه، فهذه أربع قراءات لأبي عمرو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 وروى ابن عطية عن الزهري: «بَارِيكُمْ» بكسر الياء من غير همزة قال: «ورويت عن نافع» . قلتك من حق هذا القارىء أن يكسن الياء؛ لأن الكسرة ثقيلةٌ عليها، ولا يجوز ظهورها إلاّ في ضرورة شعر؛ كقول أبي طالب: [الطويل] 503 - كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ الله نُبْزِي مُحَمَّداً ... وَلَمْ تَخْتَضِبْ سُمْرُ العَوَالِي بالدَّمِ وقرأ قتادة: «فَاقْتَالُوا» وقال: هي من الاستِقَالة. قال ابن جنِّي: اقْتَالَ: افتعل، ويحتمل أن تكون عينها واواً ك «اقْتَادُوا» أوياء ك «اقْتَاسَ» ، والتصريف يضعف أن تكون من الاستقالة. ولكن قتادة ينبغي أن يُحْسَنَ الظنُّ به في أنه لم يورد ذلك إلا بحجّة عنده. وقرىء أيضاً: «فَأَقِيلُوا أنفسكم» بالياء المُثَنَّاة التحتية، وهي موافقة للرسم أيضاً. «والبارىء» : الخالق، برأ الله الخلق أيك خلقهم، وقد فرق بعضهم بين الخَالِقِ والبارىء، بأن البَارِىءَ هو المبدع والمُحْدِث، والخالق هو المقدر النَّاقل من حال إلى حال، وأصل هذه المادّة يدلّ على الانفصال والتميز، ومنه: برأ المريض بُرْءاً وبَرْءاً وبَرَاءَةً، وبرئت أيضاً من الدَّيْن براءةً، والبَرِيّة: الخلق؛ لأنهم انفصلوا من العَدَمِ إلى الوجود، إلاّ أنه لا يهمز. وقيل: أصله من البَرَى وهو التراب. وسيأتي تحقيق القولين إن شاء الله تعالى. قوله: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} . قال بعض المفسرين: هذه الآية وما بعدها منقطعمةٌ عما تقدم من التذكير بالنعم؛ لأنها أمر بالقَتْلِ، والقتل لايكون نعمة، وهذا ضعيف لوجوه. أحدها: أن الله تعالى نبَّههم على عظم ذنبهم، ثم نبّههم على ما به يتخلّصون عن ذلك الذنب العظيم، وذلك من أعظم النعم في الدين، وإذا عدّد الله عليهم النعم الدنيوية، فتعديد النعم الدينية أولى، ثم إنّ هذه النعمة، وهي كيفية التَّوبة لما لم يكن وصفها إلا بمقدّمة ذكر المعصية كان ذكرها أيضاً مع تمام النّعمة، فصار كل ما تضمّنته هذه الآية معدوداً في نعم الله تعالى، فجاز التذكير بها. وثانيها: أنه تعالى لما أمرهم بالقَتْلِ رفع ذلك الأمر عنهم قيل فَنَائِهِمْ بالكلية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 فكان ذلك نعمة في حَقِّ الباقين والموجودين في زمن محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه رفع القَتْلَ عن آبائهم، فكان نعمة في حقهم. وثالثها: أنه تعالى لما بين أنّ توبة أولئك ما تمّت إلا بالقَتْلِ مع أن محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقول لهم: لا حَاجَةَ بكم الآن في التوبة إلى الَقَتْلِ، بل إن رجعتم عن كفركم، وآمنتم قَبِلَ الله إيمانكم فكان بيان التَّشديد في تلك التوبة تنبيهاً على أن توبة الحاضرين نعمة عظيمة لكونها سهلةٌ هيّنةٌ. ورابعها: أن فيه ترغيباً شديداً لأمة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوبة، فإن أمة موسى عليه الصَّلاة والسَّلام لما رغبوا في تلك التَّوْبة مع [غاية] مشقْتها على النفس، فلأن نرغب نحن في التوبة التي هي مُجَرّد الندم أولى. فصل في كيفية قتل أنفسهم أجمعوا على أنه لم يؤمر كلّ واحد من عبدة العِجْلِ بأن يقتل نفسه بِيَدِهِ، قال الزُّهرِي: لما قيل لهم: «فَتُوبُوا إلى بَارِئَكُمْ» قاموا صَفّين، وقتل بعضهم بعضاً، حتى قيل لهم: كفُّوا، كفان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحَيّ. وقيل: أرسل الله عليهم ظلاماً ففعلوا ذلك. وقيل: قام السبعون الذين كانوا مع موسى فقتلوا، إذ لم يعبدوا العِجْل. وقيل: إن يُوشَعَ بن نُون خرج عليهم وهم مُحْتَبُونَ فقال: ملعون من حلّ حَبْوَتَهُ أم مَدّ طرفه إلى قاتله، أو اتَّقَاهُ بِيَدٍ أو رِجْلٍ. فلم يَحلّ أحد منهم حبْوَتَه حتى قتل منهم من قتل. ذكره النحاس وغيره. وإنما عوقب الذين لم يبعدوا العِجْلَ بقتل أنفسهم على القول الأول لأنهم لم يغيروا المنكر، وإنما اعتزلوا، وكان الواجب عليهم أن يُقَاتلوا من عبده. وهذه سُنّة الله في عبادة، قال رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ما من قَوْمٍ يُعمل فيهم بالمَعَاصِي هم أعزُّ منهم وأمنع لا يُغَيِّرُون إلا عَمَّهُمُ الله بِعِقَابٍ» . فإن قيل: التوبة لا تكون إلا للباري فما الفائدة في ذكره؟ والجواب: كأنه قال: لما أذنبتم إلى الله وجب أن تتوبوا إلى الله. فإن قيل: كيف استحقُّوا القتل، وهم تابوا من الردَّة، والتائب من الردة لا يقتل؟ والجواب: أن ذلك مما يختلف [بالشرائع] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 قوله: {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ} . قال بعضهم: «ذلكم» مفرد وقاع مقوع «ذانكم» المُثَنَّى؛ لأنه قد تقدّم اثنان: التوبة، والقَتْل. قال أبو البقاء: «وهذا ليس بشيء؛ لأن قوله:» فاقتلوا «تفسير للتوبة فهو واحد» . و «خير» «أفعل» تفضيل، و~أصله: أَخْيَر، وإنما حذفت همزته تخفيفاً، ولا ترجع هذه الهمزة إلا في ضرورة؛ قال: [الرجز] 504 - بِلاَلٌ خَيْرٌ النَّاسِ وَابْنُ الأخْيَرِ ... ومثله: «شَرّ» لا يجوز «أَشَرّ» إلا في ندور، وقد قرىء: {مَّنِ الكذاب الأشر} [القمر: 26] وإذا بني من هذه المادة فعل تعجّب على «أفْعَل» ، فلا تحذف همزته إلا في ندور، كقولهم: «ما خَي} ر اللبن للصحيح، وما شَرّه للمبطون» ف «خَيْر وشَرّ» قد خرجا عن نظائرهما في باب التَّفضيل والتعجُّب. و «خَيْر» أيضاً مخفف من «خَيْر» على «فَيْعل» ولا يكون من هذا الباب، ومنه: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] . قال بعضهم: مخفف من «خَيِّرات» . والمفضّل عليه محذوف للعلم به، أي: خير لكم من عدم التوبة. ول «أفعل» التفضيل أحكام كثيرة، وباقي منها ما يضطر إليه. قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} في الكلام حّذْفٌ، وهو: ففعلتم ما أمرتم به من القتل فتاب عليكم، والفاء الأولى في قوله: «فَتُوبُوا» للسببية؛ لأن الظلم سَبَبُ التوبة. والثانية للتعقيب؛ لأن المعنى: فاعزموا على التَّوْبةن فاقتلوا أنفسكم. والثَّالثة متعلقة بمحذوف ولا يخلو: إما أن ينتظم في قول مُوسَى لهم فيتعلّق بشرط محذوف، كأنه قال: وإن فعلتم فقد تاب عليكم، وإما أن يكون خطاباً من الله لهم على طريقة الالْتِفَاتِ، فيكون التقدير: ففعلتم ما أمركم به موسى، فتاب عليكم بارئكم. قاله الزمخشري. وقوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} ، أي فتجاوز عن الباقين منكم. إنه هو التواب الرحيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 قوله: {لَن نُّؤْمِنَ} إنما تعّدى ب «اللام» دون «الباء» لأحد وجهين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 إمّا أن يكون التقدير: لن نؤمن لأجل قولك. وإما أن يضمن معنى الإقرار، أي: لن نقر لك بما ادعيته. وقرأ أبو عمرو بإدغام النون في اللام، لتقاربهما. وفرق بعضهم بين قوله: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} وجعل الإيمان به بما جاء به، والإيمان له هو الاستسلام والانقياد. قوله: {جَهْرَةً} فيها قولان: أحدهما: أنها مصدر، وفيها حيئنذ قولان: أحدهما: أن ناصبها محذوف، وهو من لفظها تقديره: جهرتم جهرة، نقله «أبو البقاء» . والثاني: أنها مصدر من نوع الفعل، فتنتصب انتصاب «القرفصاء» من قولك، «قعد القُرْفُصَاء» فإنها نوع من الرؤية، وبه بدأ «الزمخشري» . والثَّاني: أنها مصدر واقع الحال، وفيها حينئذ أربعة أقوال: أحدها: أنه حَالٌ من فاعل «نرى» ، أي: ذوي جَهْرَة، قاله «الزمخشري» . والثاني: أنها حال من فاعل «قُلْتم» ، أي: قلتم ذلك مُجَاهرين، قاله «أبو البقاء» . وقال بعضهم: فيكون في الكلام تقديم وتأخير أي: قلتم جَهْرَةً: لن نؤمن لك، ومثل هذا لا يقال فيه تقديم وتأخير، بل أتي بمقول القول، ثم بالحال من فاعله، فهو نظير: «ضربت هنداً قائماً» . والثالث: أنها حال من اسم الله تعالى أي: نراه ظاهراً غير مستور. والرابع: أنها حال من فاعل «نؤمن» ، نقله «ابن عطية» ، ولا معنى له. والصحيح من هذه الأقوال هو الثاني. وقرأ «ابن عَبَّاس» : جَهَرَةً بفتح الهاء، وفيها قولان: أحدهما: أنها لغة في «جَهْرَة» . قال «ابن عطية» : «وهي لغة» مسموعة «عند البصريين فيما كفيه حرف الحَلْق ساكن قد انفتح ما قبله، والكُوفيون يُجِيزُونَ فيه الفتح، وإن لم يسمعوه» وقد تقدم تحريره. والثاني: أنها جمع «جَاهِر» نحك «خَادِم وخَدَمَ» ، والمعنى: حتى نرى الله كَاشِفِينَ هذا الأمر، وهي تؤيد كون «جَهرة» حالاً من فاعل «نرى» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 و «الجَهْر» : ضد السِّرّ، وهو الكشف والظهور، ومنه: جَهَرَ بالقراءة أي: أظهرها. قال الزمخشري: «كأن الَّذِي يرى بالعين جاهر بالرُّؤية، والذي يرى بالقلب مخافت بها» . قوله: {فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة} قرأ عمر وعثمان وعلي رَضِيَ اللهُ عَنْهم «الصَّعْقة» بغير ألف، وقرأ الباقون بالألف، وهما لغتان. فصل في زمان هذه الواقعة قال محمد بن إسحاق: هذه الواقعة قَبْلَ تكليفهم بالقَتْلِ لما رجع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من الطُّور، فرأى ما همم عليه من عِبَادَةِ العِجْلِ، وقال لأخيه والسامري ما قال، وحرق العجل، وألقاه في البَحْرِ، واختار من قومه سبعين رجلاً، فلما خرجوا إلى الطور قالوا لموسى: [أرنا ربك حتى] يسمعنا كلامه، فسأل موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فأجاب الله إليه، ولما دنا من الجبل وقع عليه عمود من الغَمَامِ، وتغشّى الجبل كله، ودنا من موسى الغَمَام، فدخل فيه فقال للقوم: ادخلوا وادعوا، وكان موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ متى كلمه ربه أوقع على جبهته نوراً ساطعاً لا يستطيع أحد من بني آدم النظر إليه، وسمع القوم كلام الله تعالى مع موسى يقول له: افْعَلْ ولاتَفْعَلْ، فلما تم الكلام انكشف عن موسى الغَمَام الذي دخل فيه، فقال القوم بعد ذلك: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة} فماتوا جميعاً، وقام موسى رافعاً يديه إلى السماء يدعو، ويقول: يا إلهي اخترت بني إسرائيل سبعين رجلاً ليكونوا شهودي بقبول توبتهم، فأرجع إليهم، وليس معي منهم واحد، فما الذي يقولون لي؟ فلم يزل موسى مشتغلاً بالدعاء حتى ردّ الله عليه أرواحهم، وطلب تَوْبَةَ بني إسرائيل من عبادة العجل فقال: «لا، إلا أن يقتلوا أنفسهم» . وقال «السُّدي» : لما تاب بنو إسرائيل من عبادة العجل بأن قتلوا أنفسهم أمر الله تعالى أن يأتيهم موسى في ناسٍ من بني إسرائيل يعتذرون من عبادتهم العِجْلَ، فاختار موسى سبعين رجلاً، فلما أتوا الطور قالوا: لن نؤمن لك حَتَّى نرى الله جهرةٌ، فأخذتهم الصاعقة، وماتوا، فقام موسى يبكي ويقول: يا رب ماذا أقول لبني إسرائيل، فإ‘ني أمرتهم بالقَتْلِ، ثم اخترت من أنفسهم هؤلاء، فإذا رجعت إليهم، وليس معي منهم أحد فماذا أقول لهم؟ فأحياهم الله تعالى فقاموا، ونظر كل واحد منهم إلى الآخر [كيف يحييه الله تعالى] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 فصل في «الصَّاعقة» قولان: الأول: قال «الحَسَن وقتادة» : هي الموت، لقوله تعالى: {فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله} [الزمر: 68] وهذا ضعيف لوجوه: أحدها: قوله تعالى: {فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} ، ولو كانت الصاعقة هي الموت لا متنع كونه ناظرين إلى الصَّاعقة. وثانيها: قوله تعالى: {وَخَرَّ موسى صَعِقاً} [الأعراف: 143] أثبت الصَّاعقة في حقه مع أنه لم يكن ميتاً؛ لأنه قال: أَفَاقَ، والإفاقة لا تكون عن الموت. وثالثها: أن الصَّاعقة وهي التي تصعق، وذلك إشارة إلى سبب الموت. والقول الثاني: الصَّاعقة هي سبب الموت، واختلفوا فيها. فقيل: هي نار وقعت من السماء فأحرقتهم. وقيل: صحية جاءت من السماء. وقيل: أرسل الله جنوداً، فلما سمعوا حسّها خروا صَعِقِيْنَ ميتين يوماً وليلةً. قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} جلمة حالية، والمعنى: وأنتم تنظرون موت بعضكم خلف بعض، أوك تنظرون إلى ما حَلّ بكم، أو: أنتم أعيتكم صَيْحَةٌ وتفكّر. قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ} [أحييناكم من بعد موتكم] . قال قتادة: ماتوا وذهبت أرواحهم، ثم ردوا لاستيفاء آجالهم. قال النحاس:: «وهذا احتجاج على من لم يؤمن بالبَعْثِ من قريش، واحتجاج على أهل الكتاب إذ خبروا بهذا» . قوله: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ما فعل بكم من البعث بعد الموت. وقيل: ماتوا موت هُمُودٍ يعتبر به الغير، ثم أرسلوا. وأصل البَعْث الإرسال. وقيل: بل أصله إثارة الشيء من محلِّه، يقال: بعثت الناقة: أثرتها، أي حركتها؛ قال امرؤ القيس: [الطويل] 505 - وَفِتْيَانِ صِدْقٍ قَدْ بَعَثْتُ بِسُحْرَةٍ ... فَقَامُوا جَمِيعاً بَيْنَ عَاثٍ وَنشْوَانِ وقال غيره: [الكامل] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 506 - وَصَحَابَةٍ شُمٍّ الأُنُوفِ بَعَثْتُهُمْ ... لَيْلاً وَقَدْ مَالَ الكَرَى بِطُلاَهَا وقيل: {بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ} علَّمناكم من بعد جهلكم. فصل في اختلافهم في تكليف من بعث بعد موته قال المَاوَرْدِيّ: اختلف في بقاء تكليف من أعيد بعد موته، ومُعَاينة الأحوال المضطرة إلى المعرفة على قولين: أحدهما: بقاء تكليفهم لئلا يَخْلُو عاقل من تعبد. الثاني: سقوط تكليفهم معتبراً بالاستدلال دون الاضطرار. والأول أَصَحّ، لقوله تعالى {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، ولفظ: الشكر يتناول جميع الطاعات، لقوله تعالى: {اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً} [سبأ: 13] . فإن قيل: كيف يجوز أن يكلفهم وقد أماتهم، ولو جاز ذلك جاز تكليف أهل الآخرة بعد البعث؟ فالجواب: أنّ الذي منع من تكليف أهْل الآخرة ليس هو الإماتة ثم الإحْياء، وإنما المانع كونه اضطرهم يوم القِيَامةَةِ إلى معرفته لَذَات الجَنّة، وآلام النَّار، وبعد العلم الضروري لا تكليف، وإذا كان كذلك، فيكون مَوْتُ هؤلاء بمنزلة النَّومَ والإغماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 هذا هو الإنعام السابع المذكور في سورة «الأعراف» ، وظاهر هذه الآية يدلّ على أن هذا الإضلال كان بعد البعث، لأنه تعالى قال: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 56] ، {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام} أي: وجعلنا الغَمَام يظلكمن وذلك في التِّيْهِ سخر الله تعالى لهم السحاب يظلّهم من الشمس، ونزل عليهم المَنّ وهو «التَّرنْجِبِين» بالتاء والراء من طلوع الفجر إلى إلى طلوع الشمس لكل إنسان صاع. وقال «مجاهد» : هو شيء كالصمغ كان يقع على الأشجار طَعْمُهُ كالشَهد. وقال «وهب» : خبز الرقاق. وقال «السدي» : عَسَل كان يقع على الشجر من الليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وقال «الزجاج» : «المَنّ: ما يمنّ الله عَزَّ وَجَلَّ به مما لا تَعَبَ فيه ولا نصب» . روي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «الكَمَأةُ من المَنّ وماؤها شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ» . «والسَّلْوَى» قال «ابن عباس» وأكثر المفسرين: هو طَائِرٌ يشبه السّماني. وقال أبو العالية ومقاتل: هو السّماني. وقال «عكرمة» : طير «الهِنْدِ» أ: بر من العصفور. وقيل: السَّلوى: العسل نقله المؤرّج، وأنشد قول الهذليِّ: [الطويل] 507 - وَقَسَمَها بِالله جَهْداً لأَنْتُمُ ... أَلَذُّ مِنَ السَّلْوَى إِذَا مَا نَشُورُهَا وغله «ابن عطية» وادّعى الإجماع على أن السَّلْوَى: طائرن وهذا غير مُرْضٍ، فإ‘ن «المؤرج» من أئمة اللغة والتفسير، واستدلّ ببيت الهذلي، وذكر أنه بلغة «كنانة» . وقال «الراغب» : «السَّلْوَى مصدر، أي: لهم بذلك التَّسلِّي» . قوله: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام} تقديرهك وجعلنا الغمام يُظَلِّلُكُمْ. قال: «ابو البقاء» : ولا يكون كقولك: «ظَلَّلْتُ زيداً يُظَلُّ» ؛ لأن ذلك يقتضي أن يكون الغمام مستوراً بظل آخر. وقيل التقدير: بالغمام، وهذا تفسير معنى لا إعراب، لأن حذف الجر لا يَنْقَاس. فصل في اشتقاق الغمام الغمام: السَّحَاب، لأنه يغم وَجْه السماء، أي: يَسْتُرُهَا، وكل مستور مغموم أي مغطى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 وقيل: الغمام: السَّحاب الأبيض خاصّة، ومثله: الغَيْمُ والغَيْن بالميم والنون وفي الحديث: «إنه لَيُغَانُ عَلىَ قَلْبِي» . وواحدته «غَمَامَةٌ» فهو اسم جنس. و «المَنّ» تقدم تفسيره، ولا واحد له من لفظه. والمَنّ أيضاً مقدار يوزن به، وهذا يجوز إبدال نونه الأخيرة حرف علّة، فيقال: مَناً مثل: عَصاً، وتثنيته: مَنَوَان، وجمعه: أمْنَاء. والسَّلْوَى تقدمت أيضاً، واحدتها: سَلْوَاةٌ؛ وأنشدوا: [الطويل] 507 - وَإنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ سَلْوَةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ السَّلْوَاةُ مِنْ بَلَلِ القَطرِ فيكون من باب «قَمْح وقَمْحَة» . وقيل: سَلْوَى مفرد وجمعها: سَلاَوى ك «فَتْوَى وَفَتَاوَى» قاله «الكسائي» . وقيل: سلوى يستعمل للواحد والجمع ك: دِفْلَى. و «السُّلْوَانَةُ» بالضم خَرَزَةٌ كانوا يقولون: إذا صُبَّ عليها ماء المَطَرِ فشربه العاشق سَلاَ؛ [قال: [الطويل] 509 - شَرِبْتُ عَلَى سُلْوَانَةٍ مَاءً مُزْنَةٍ ... فَلاَ وَجَدِيدِ العَيْشِ يَا مَيُّ مَا أَسْلُو] واسم ذلك الماء «السُّلْون» . وقال بعضهم: «السُّلْوَان» دواء يُسْقَاه الحزين فَيَسْلُو، والأطباء يسمونه المُفَرِّح. يقال: سَلَيْتُ وسَلَوْت، لُغَتَان. وهو في سُلْوة من العيش، قاله «أبو زيد» . و «السَّلوى» عطف على «المَنّ» لم يظهر فيه الإعراب، لأنه مقصور، وهذا في المقصور كلّه؛ لأنه لا يخلو من أن يكون في آخره ألف. قال الخليل: «والألف حرف هَوَائِيّ لا مُسْتَقَرّ له، فأشبه الحركة، فاستحالت حركته» . وقال «الفراء» : «لو حركت الألف صارت همزة» . فصل في سبب تقديم المن على السلوى فإن قيل: المعهود تقديم الأهم [فالأهم] والمأكول مقدّم على الفاكهة والحلوى؛ لأن به قيام البِنْيَةِ، فالإنسان أول ما يأكل الغذاء، ثم بعد الشِّبع يتحلّى ويأكل الفاكهة وهاهنا قدم المَنّ وهو الحلوى على الغذاء وهو السلوى فما فائدته؟ فالجواب: أن نزول الحَلْوَى من السماء آمر مخالف للعادة، فقدم لاستطعامه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 بخلاف الطيور المأكولة، فإنها ليست مخالفةً للعادة، فإنها مألوفةٌ الأكل. «كلوا» هذا على إضمار القول، أي: وقلنا لهم: كلوا، وإضمار القول كثير، ومنه قوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ} [الرعد: 23] أي: يقولون سلام، {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ} [الزمر: 3] أي: يقولونك ما نعبدهم إلاّ. {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ} [آل عمران: 106] أي: فيقال لهم: أكفرتم، وتقدم الكلام في كل تصريفه. قوله: «مِنْ طَيِّبَات» منك لابتداء الغاية، أو للتبعيض. وقال: «أبو البقاء» : أو لبيان الجِنْسِ. والمفعول محذوف، أي: كلوا شيئاً من طيبات. وهذا ضعيف؛ لأنه كيف يبين شيء ثم يحذف. قولهك «مَا رَزَقْنَاكُم» يجوز في «ما» أن تكون بمعنى الَّذي، وما بعدها حاصلة لها، والعائد محذوف، أي: رَزَقْنَاكُمُوهُ، وأن تكون نكرة موصوفة. فالجملة لا محلّ لها على الأول، ومحلّها الجر على الثَّاني، والكلام في العَائِد كما تقدّم، وأن تكون مصدريةٌ، والجملة صلتها، ولم تَحْتَجْ إلى عائدٍ على ما عرف قبل ذلك، ويكون هذا المصدر واقعاً موقع المفعول، أي: من طيبات مرزوقنا. قوله: «أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ» . «أنفسهم» مفعول مقدم، و «يظلمون» في محل نصب خبر «كانوا» وقدّم المفعول إيذاناً باختصاص الظُّلم بهم، وأنه لا يتعّداهم. والاستدراك في «لكن» واضح، ولا بُدّ من حذف جملة قبل قوله: «وَمَا ظَلَمُونَا» ، فقدره ابن عطية: فعصوا، ولم يقابلوا النعم بالشكر. وقال الزمخشري «: تقديره فظلمونا بأن كفروا هذه النعم، وما ظلمونا، فاختصر الكلام بحذفه لدلالة» وَمَا ظَلَمُونَا «عليه. فإن قيل: قوله:» وَمَا ظَلَمُونَا «جلمة خبرية، فكيف عطفت على قوله:» كلوا «، وهي جملة أمرية؟ . فالجواب من وجهين: الأول: أن هذه جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بما قبلها. والثاني: أَنَّهَا معطوفة على الجملة القولية المحذوفة أي: وقيل لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم، وما ظلمونا، فيكون قد عطف جملة خبرية على خَبَرِيّة. و» الظلم «: وضع الشيء في غير موضعه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 وقوله:» كانوا «وكانت هذه عادتهم كقولكك» كان حاتم كريماً «. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 هذا هو الإنعام الثَّامن، وحذفت الألف من «قلنا» لسكونها، وسكون الدال بعدها، والألف التي يبتدأ بها قبل الدّال ألف وصل؛ لأنه من يدخل. قوله: «هَذِهِ الْقَرْيَةَ» . هذه منصوبة عند سيبويه على الظرف، وعند الأخفش على المفعول به، وذلك أنّ كل ظرف مكان مختصّ لا يتعدّى إليه الفعل إلاّ ب «في» ، تقول: صلّيت في البيت ولا تقول: صلّيت البيت إلاّ ما استثني. ومن جملة ما استثني «دخل» مع كل مكان مختصّ، «دخلت البيت والسُّوق» ، وهذا مذهب سيبويه وقال الأخفش: الواقع بعد «دَخَلت» مفعول به كالواقع بعد «هَدَمت» كقولك: «هَدَمت البيت» فول جاء «دَخَلْت» مع الظرف تعدّى ب «في» نحو: «دخلت في الأمر» ولا تقول: «دَخَلْت الأمر» ، وكذا لو جاء الظرف المختصّ مع غير «دخل» تعدّى ب «في» إلا ما شَذَّ؛ كقوله: [الطويل] 510 - جَزَ الله [رَبُّ النَّاسِ خَيْرَ جَزَائِهِ] ... رَفِيقَيْنِ قَالاَ خَيْمَتَيْ أُمِّ مَعْبَدِ و «القرية» «المدينة» ، وهي نعت ل «هذه» ، أو عطف بَيَان كما تقدم، والقرية مشتَقّة من قَرَيْتُ أي: جمعت، تقول: قَرَيْتُ المَاءَ في الحَوْض، أي: جَمَعْتُهُ، واسم ذلك الماء قِرى بكسر القاف و «المِقْرَاة» للحوض، وجمعها «مَقَارٍ» ، قال: [الطويل] 511 - عِظَام الْمَقَارِي ضَيْفُهُمْ لاَ يُفَزَّعُ ..... ... ... ... ... ... ... . . و «القَرْيَان» اسم لمجتمع الماء، و «القَرْيَةُ» في الأصل اسم للمكان الذي يجتمع فيه القوم، وقد يطلق عليهم مجازاً، وقوله تعالى {واسأل القرية} [يوسف: 82] يحتمل الوجهين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 وقال الراغب: «إنها اسم للموضع وللناس جميعاً، ويُسْتَعْمَل في كل واحد منهما» و «القِرْية» بكسر القاف في لغة «اليمن» ، واختلف في تعيينها. فقال الجمهور: هي بيت المقدس. وقال ابن عباس: «أَرِيْحا» وهي قرية الجَبَّارين، وكان فيها قوم من بَقِيَّةِ عَادٍ يقال لهم: العَمَالقة، ورئيسهم عوج بن علق. وقال «ابن كيسان» : «الشّام» . وقال الضحاك: «الرَّمْلَة» و «الأردنُّ» ، و «فلسطين» و «تَدْمُرُ» . وقال مقاتلك «إيليا» . وقيل: بلقاء. وقيل: «مصر» . والصحيح الأول، لقوله من المائدة: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ} [المائدة: 21] . قوله: «وَكُلوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً» تقدّم الكلام على هذه المادة. قوله: «الْبَابَ سُجَّداً» حال من فاعل «ادْخُلُوا» وهو جمع «سَاجِد» . قال أبو البقاءك «وهو أبلغ من السجود» ، يعنيك أن جمعه على «فُعَّل» فيه من المُبَالغة ما ليس في جمعه على «فُعُول» . وأصل باب: بَوَبٌ، لقولهم: أَبْوَاب، وقد يجمع على «أَبْوِبة» ؛ لازدواج الكلام؛ قال: [البسيط] 512 - هَتَّاك أَخْبِيَةٍ وَلاَّجُ أَبْوِبَةٍ ... يَخْلِطُ بِالْجِدِّ مِنْهُ الْبِرَّ واللِّينا ورواه الجَوهريُّ: [البسيط] 513 - ... ... ... ... ... ... ..... يَخْلِطُ بالْبِرِّ مِنْهُ الْجِدَّ وَاللِّيْنَا ولو أفرده لم يجزن ومثله قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مرحباً بالقَوْمِ أو بالوفد غير خَزَايَا ولا نَدامَى» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 وتَبَوَّبْتُ بَوَّاباً اتخذته. وأبواب مُبَوَّبة، كقولهم: أصناف مصنّفة، وهذا شيء من بابتك، أي: يصلح لك وتقدّم معنى السجود. قوله: «وَقُولُوا» قال [ابن كثير] الواو هنا حالية لا عاطفة، أي: ادخلوا سُجَّداً في حال قولكم حطّة. وأما قوله: «حطّة» قرىء بالرّفع والنصب، فالرفع على أنه خبر متبدأ محذوف، أي: مسألتنا حطّة، أو أمرك حطة. قال: «الزمخشري» : والأصل النصب بمعنى: حُطّ عنا ذنوبنا حطّة، وإنما رفعت لتعطي مَعْنَى الثبات كقوله: [الرجز] 514 - يَشْكُو إِليَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ... صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى والأصل: صبراً عَلَيَّ، أصْبِرْ صبراً، فجعله من باب {سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 24] وتكن الجملة في محلّ نصب بالقول. وقال «ابن عطية» وقيل: أمروا أن يقولوها مرفوعة على هذا اللفظ. يعني: على الحكاية، فعلى هذا تكون هي وحَدْهَا من غير تقدير شيء في محلّ نصب بالقول وإنما منع [النصب] حركة الحكاية. وقال أيضاً: وقال عكرمة: أُمِرُوا أن يقولوا: لا إله إلا الله، لِتحطَّ بها ذنوبهم وحَكَى قَوْلَيْن آخرين بمعناه، ثم قال: «فعلى هذه الأقوال تقتضي النَّصب» ، يعني أنه إذا كان المَعْنَى على أنّ المأمور به لا يتعيّن أن يكون بهذا اللَّفظ الخاً، بل بأيّ شيء يقتضي حطّ الخطيئة، فكان ينبغي أن ينتصب ما بعد القول مفعولاً به نحك قيل لزيد خيراً، المعنى: قل له ما هو من جنس الْخُيُور. وقال النَّحَاسك الرفع أولى، لما حكي عن العرب في معنى «بَدَّل» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 قال أحمد بن يحيى: بَدّلته أي غيرته، ولم أزل عينه، وأبْدَلْتُه أَزَلْتُ عينه وشَخْصَهُ؛ كقوله: [الرجز] 515 - عَزْلَ الأَمِيْرِ لِلأَمِير المُبْدَلِ ... وقال تعالى: {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هاذآ أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] . وبحديث ابن مسعود قالوا: حطّةٌ تغيؤر على الرَّفع يعني: أن الله تعالى قال: فبدَّل الذي يقتضي التَّغيير لا زَوَالَ العين، قال: وهذا المعنى يقتضي الرَّفع لا النصب. وقرأ بان أبي عبلة: حطَّةً بالنصب وفيها وجهان: أحدهما: أنها مصدر نائب عن الفعل، نحو: ضرباً زيداً. والثاني: أن تكون منصوبة بالقول، أي: قولوا هذا اللَّفظ بعينه، كما تقدم في وجه الرَّفع، فهي على الأوّل منصوبةٌ بالفعل المقدر، وذلك الفعل المقدر ومنصوبه في محل نصب بالقول، ورجح الزمخشري هذا الوجه. و «الحطّة» اسم الهَيْئَةِ من الْحَطِّ ك «الجِلْسَة» و «الْقِعْدَة» . وقيل: هي لفظة أمروا بها، ولا ندري معناها. وقيل: هي التَّوْبة، وأنشد: [الخفيف] 516 - فَازَ بِالْحِطَّةِ الَّتِي جَعَل الله ... بِهَا ذَنْبَ عَبدِهِ مَغْفُورَا فصل في المراد بالباب اختلفوا في «الباب» قال ابن عباس، ومجاهد، والضّحاك، وقتادة: إنه باب يدعى باب الحطّة من بيت المقدس، وحكى الأَصَمّ عن بعضهم أنه عنى بالباب جِهَةً من جهات القرية، ومدخلاً إليها. واختلفوا في «السُّجود» ، فقال الحسن: أراد به نفس السُّجود، إي: إلصاق الوجه بالأرض، وهذا بعيد، لأن الظَّاهر يقتضي وجوب الدُّخول حال السجود، فلو حملنا السجود على ظاهره لامتنع ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس: أنَّ المُراد به الركوع، لأنّ الباب كان صغيراً يحتاج الدَّاخل فيه إلى الانحناء. قال ابن الخَطِيْبِ: وهذا بعيد؛ لأنه لو كان ضيقاً لكانوا مضطرين إلى دخوله ركّعاً، فلا حاجة فيه إلى الامر. وأجيب بأنه روي عن ابن عَبَّاس: أنهم دخلوا يزحفون على أَسْتاههمْ. وقيل: المراد بالسجود: الخضوع. وهو الأقرب؛ لأنه لما تعذّر حمله على السجود الحقيقي وجب حمله على التواضع؛ لأن التَّائب عن الذنب لا بُدّ وأن يكون خاضعاً. فصل في تفسير «الحطة» وأما تفسير «الحطّة» فقال «القاضي» : إنه تعالى لما أمرهم بدخول الباب خاضعين أمرهم بأن يقولوا ما يَدُلّ على التوبة؛ لأن التوبة صفةُ القلب، فلا يطلع الغير عليها، فإذا اشتهر واحدٌ بذنب، أو بمذهب خطأ، ثم تاب عن الذنب، أو أظهر له الحق، فإنه يلزم أن يعرف إخوانه الَّذِين عرفوا منه ذلك الذنب، أو ذلك المذهب، فتزول عنه التُّهْمَة في الثبات على الباطل، ويعودوا إلى مُوَالاته، فالحاصل أنه أمر القوم أن يدخلوا البا ب على وَجْهِ الخضوع، وأن يذكروا بلسانهم الْتِمَاسَ حَطّ الذنوب حتى يكونوا جامعين بين ندم القلب، وخضوع الجوارح، والاستغفار باللِّسان. وقال «الأصَمّ» : هذه اللَّفظة من ألفاظ أهل الكتاب التي لا يعرف معناها في العربية. وقال أبو مسلم الأَصْفَهَاني: معناه: أمرنا حطّة، أي: أن نحطّ في هذه القرية، ونستقر فيها، ورد القاضي ذلك، وقال: لو كان المراد ذلك لم يكن غفران خَطَايَاهُمْ متعلقاً به، ولكن قوله: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} يدلّ على أن غفران الخَطَايا كان لأجل قولهم حطّةن ويمكن أن يجاب عنه بأنهم لما حطُّوا ف يتلك القرية حتى يدخلوا سجدًّا مع التَّوَاضُع كان الغفران متعلقاً به. وقال معناه: اللهم حط عنا ذنوبنا، فإنّا إنما انحططنا لوجهك، وإرادة التذلل لك، فحطّ عنا ذنوبنا. فصل في بيان التلفظ بالحطة أو بمعناها اختلفوا هل كلّفوا بهذه اللفظة بعينها، أو بما يؤدي معناها؟ روي عن ابن عباس: أنهم أمروزا بهذه اللفظة بعينها، وفيه نظر؛ لأن هذه اللفظة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 96 عربية، ولم يكونوا يتكلمون بالعربية، وأيضاً فإنما أمروا بأن يقولوا قولاً دالاً على التوبة والندم؛ فلو قالوا: اللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك لكان المقصود حاصلاً. قولهك «نَغْفِرْ» هو مجزوم ف يجواب الأمر، وقد تقدم الخلاف، هل الجازم نفس الجملة، أو شرط مقدر؟ أي: يقولوا نغفر. وقرىء: «نَغْفِرْ» بالنون وهو جار على ما قبله [من قوله:] «وإذ قلنا» و «تُغْفَر» بالتاء بالياء مبنيّاً للمفعول. و «خطاياكم» معفول لم يسم فاعله، فالتَّاء لتأنيث الخَطَايا، والياء؛ لأن تأنيثها غير حقيقين وللفصل أيضاً ب «لكم» . وقرىء: «يغفر» مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى وهو في معنى القراءة الأولى، إلاّ أن فيه التفاتاً. و «لكم» متعلّق ب «نغفر» . وأدغم «أبو عمرو» الراء في اللاّم، والنحاة يستضعفونها، قالوا: لأن الرَّاء حرف تكرير فهي أقوى من اللام، والقاعدة أن الأضعف يدغم في الأقوى من غير عَكْسٍ، وليس فيها ضعف، لأن انحراف اللاّم يقاوم تكرير الراء. وقد بَيَّن «أبو البَقَاءِ» ضعفه، وتقدم جوابه. قوله: «خطاياكم» : إما منصوب بالفعل قبله، أو مرفوع حسب ما تقدّم من القراءات، وفيها [أربعة] أقوال: أحدها: قول الخليل [أنّ] أصلها «خَطَايىء» بياء بعد الألف، ثم همزة؛ لأنها جمع «خطيئة» مثل: «صَحِيْفة وصَحَايف» ، فلو تركت على حالها لوجب قَلْبُ الياء همزة؛ لأن مدة «فَعَايل» يفعل بها كذا، على ما تقرر في التصريف، فضر من ذلك، لئلا تجتمع همزتان، بأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 قلب فقدم اللام، وأخّر عنها المدّة فصارت: «خَطَائي» ، فاستثقلت الكسرة على حرف ثقيل في نفسه، وبعده ياء من جنس الكَسْرَةِ فقلبوا الكسرة فتحة، فتحرك حرف العّلة، وانفتح ما قبله فقلبت ألفاً، فصارت: «خَطَاءا» بهمز بين ألفين، فاستثقلوا ذلك، فإنّ الهمزة تشبه الألف، فكأنه اجتمع ثلاث ألفات، فقلبوا الهمزة ياء؛ لأنها واقعة موقعها قبل القَلْبِ، فصارت «خَطَايَا» على وزن «فَعَالَى» ففيها أربعة أعمال: قلب، وإبدال لكسرة فتحة، وقلب الياء ألفاًن وإبدال الهمزة ياء، هكذا ذكر التصريفيون، وهو مذهب الخليل. الثاني: وعزاه «أبو البقاء» إليه أيضاً أنه: «خطائيء» يهمزتين: الأولى منهما مكسورة وهي المنقلبة عن الياء الزائدة في «خَطِيْئة» فهو مثل «صَحِيْفة» و «صَحَائف» ، فاستثقلوا الجمع بين الهمزتين، فنقلوا الهمزة الأولى إلى موضع الثانية، فصار وزنه «فَعَلى» ، وإنما فَعَلوا ذلك، لتصير المكسورة ظرفاً، فتنقلب ياء، فتصير «فعالىْ» ، ثم أبدلوا من كسرة الهمزة الأولى فتحة، فانقلبت الياء بعدا ألفاً كما قالوا في: يا لَهْفى «» ويا أَسَفى «، فصارت الهمزة بين ألفين، فأبْدِل منها يا، لأن الهمزة قريبة من الألف، فاستنكروا اجتماع ثلاث ألفات. فعلى هذا فيها خمسة تغييرات: تقديم اللام، وإبدال الكسرة فتحة، وإبدال الهمزة الأخيرة ياء، ثم إبدالها ألفاً، ثم إبدال الهمزة التي هي لام ياء. والقول الأول أَوْلَى، لقلّة العمل، فيكون للخليل في المسألة قولان. الثالث: قول سيبويه أن أصلها عنده: «خَطَايىء» كما تقدم، فأبدل الياء الزائدة همزة، فاجتمع همزتان، فأبدل الثانية منهما «ياء» لزوماً، ثم عمل العمل المتقدّمن ووزنها عند «فَعَائل» مثل: «صَحَائف» ، وفيها على قوله خمسة تغييرات: إبدال الياء المزيدة همزة وإبدال الهمزة الأصلية ياء، وقلب الكسرة فتحة، وقلب الياء الاصلية ألفاً، وقلب الهمزة المزيدة ياء. الرابع: قول «الفَرَّاء» ، هو أن «خَطَايا» عنده ليس جمعاً ل «خطيئة» بالهمز، إنما هو جمع ل «خَطِيّة» ك «هَدِيَة وهَدَايا» و «رَكيّة ورَكَايَا» . قال الفراء: ولو جمعت «خَطيئة» مهمزة لقلت: «خَطَاءا» يعني: فلم تقلب الهمزة ياء، بل تبقيها على حالها، ولم يعتد باجتماع ثلاث ألفات. ولكنه لم يقله العرب، فدلّ ذلك عنده أنه ليس جمعاً للمهموز. وقال «الكسائي» : ولو جمعت مهموزة أدغمت الهمزة في الهمزة مثل: «دواب» . وقرىء: «يَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيْئَاتِكُمْ» و «خَطِيْئَتَكُمْ» بالجمع والتوحيد، وبالياء والتاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 على مالم يُسَمَّ فاعله، و «خَطَايَاكُمْ» بهمز الألف الأولى دون الثانية، وبالعكس. والمعنى في هذه القراءات واحد؛ لأن الخطيئة إذا غفرها الله تعالى فقد غفرت، وإذا غفرت فإنما يغفرها الله. والفعل إذا تقدّم الاسم المؤنث، وحال بينه وبين الفاعل حَائِلٌ جاز التذكير والتّأنيث كقوله تعالى: {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} [هود: 67] . و {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ} [هود: 94] . وقرأ الجحدري: «خَطِيئتكم» بمدة وهمزة وتاء مرفوعة بعد الهمزة. وقرأ ابن كثير: «خَطَايأكم» بهمزة قبل اكاف. وقرأ الكسائي: بكسر الطاء والتاء، والباقون بإمالة الياء. و «الغَفْر» : السّتر، ومنه المِغْفَر: لِسُتْرة الرأسن وغفران الذُّنوبح لأنها تغطيها، وتقد تقدّم الفرق بينه وبين العَفُوا. و «الغِفارَة» : خِرْقَةٌ تستر الْخِمَار أن يَمَسَّه دهن الرأس. و «الخَطِيئة» من الخَطَأ، وأصله: العدول عن الجهة، وهو أنواع: أحدها: إرادة غير ما تحسن إرادته، فيفعله، وهذا هو الأصل [التام] يقال منه: «خَطِىءَ يَخْطَأ خِطْأً وخِطْأةً» . والثاني: أن يريد ما يحسن فعله، ولكن يقع بخلافه، يقال منه: أَخْطَأ إِخْطَاء، فهو مخطىء، وجملة الأمر أنَّ من أراد شيئاً، فاتفق منه غيره يقال: «أخطأ» ، وإن وقع كما أراد، يقال: «أصَاب» ، وقد يقال لمن فعل فعلاً لا يحسن أو أراد إرادة لا تجمل: إنه أخطأ ولهذا يقال: أَصَابَ الخَطَأ، وأَخْطَأَ الصَّوابَ، وأصاب الصواب، وأخطأ الخطأ. قوله: «وَسَنَزِيدُ المُحْسِنينَ» أي نزيدهم إحساناً على الإحْسَان المتقدم عندهم، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 اسم فاعل من «أحسن» ، والمُحْسِنُ من صحّح عقد توحيده، وأحسن سياسَةَ نفسهن وأقبل على أداء فرائضه، وكفى المسلمين شره. وقال بعض المفسرين: معناه: من كان محسناً جازيناه بالإحسان إحساناً، أو زيادة كما جعل للحسنة عشراً وأكثر. وقيل: من كان محسناً بهذه الطاعة والتوبة، فإنا نغفر خَطَاياه، ونزيده على غُفْران الذنوب إعطاءَ الثواب الجزيل، وفيه وجه آخر أن المعنى من كان خاطئاً غفرنا له ذنبه بهذا الفعل، ومن لم يكن خاطئاً، بل كان محسناً زدنا في إحسانه. قوله: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ} . لا بُدّ في هذا الكلام من تأويل؛ إذ الذّم إنما يتوجه عليهم إذا بدّلوا القول الذي قيل لهم، لا إذا بدَّلوا قولاً غيره. فقيل: تقديره: فبدل الذين ظلموا بالذي قيل لهم قولاً غير الذي قيل لهم ف «بدّل» يتعدّى لمفعول واحد بنفسه، وإلى آخر بالباء، والمجرور بها هو المتروك، والمنصوب هو الموجود، كقول أبي النجم: [الرجز] 517 - وَبُدِّلَتْ والدَّهْرُ ذُو تَبَدُّلِ ... هَيْفاً دَبُوراً بِالصَّبَا وَالشَّمْأَلِ فالمتطوع عنها الصَّبا، والحاصل لها الهَيْفُ. قاله أبو البقاء وقال يجوز أن يكون «بدل» محمولاً على المعنى، تقديره: فقال الذين ظلموا قولاً غير الذي قيل لهم؛ لأن تبديل القول كان بقول «فَنَصْبُ» غير عنده في هذين القولين على النِّعت ل «قولاً» . وقيل: تقديره: فبدل الذين قولاً بغير الذي، فحذف الحرفن فانتصب «غير» . ومعنى التَّبْديل: التغيير كأنه قيل: فغيروا قولاً بغيره، إي جَاءُوا بقول آخر، فكان القول الذي أمروا به، كما يروا في القصّة أنهم قالوا: بدل حطّة حِنْطَة. والإبْدَال والتبديل والاستبدال: جعل الشيء مكان آخر، وقد يقال: التبديل: التغيير، وإن لم يأت ببدله. وقد تقدم الفرق بين بدل وأَبْدَلَ، وهو أن بدّل بمعنى غيّر من غَيْر إزالة العين، وأبدل تقتضي إزالة العين، إلا أنه قرىء: {عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا} [القلم: 32] {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا} [الكهف: 81] بالوجهين، وهذا يقتضي اتِّحَادهما معنى لا اختلافهما والبديل والبدل بمعنى واحد، وبدله غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 ويقال: بِدْل وَبَدل كَشِبْه وَشَبَه، وَمِثْل وَمَثَل، وَنِكْل وَنَكَل [قال أبو عُبَيْدة: لم يسمع في فِعْل وفَعَل غي رهذه الأربعة أحرف] . فصل في بيان التبديل قال أبو مُسلمك قوله: «فبدّل» يدلّ على أنهم لم يفلعوا ما أمروا به لأجل أنهم أتوا له ببدل، ويدلّ عليه أن تبديل القول قد يستعمل في المُخَالفة، قال تعالى: «سَيَقُولُ المُخَلَّفُونَ» إلى قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} [الفتح: 15] ولم يكن تبديلهم الخلاف في الفعل لا في القول، فكذا هاهنا لما أمروا بالتواضع، وسؤال المغفرة لم يمتثلوا أمر الله. وقال جمهور المفسرين: إنَّ المراد بالتبديل أنهم أتوا ببدل له؛ لأن التبديل مشتقّ من البدل، فلا بُدّ من حصول البدل، كما يقال: بدّل دِيْنَهُ أي: انتقل من دِيْنٍ إلى دين، ويؤيده قوله تعالى: «قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ» . فصل في الباعث على تبديلهم وقوله: «الَّذِيْنَ ظَلَمُوا» تنبيه على أن الباعث لهم على التبديل هو الظلم، واختلفوا هل هو مُطْلق الظلم، فيكونون كلهم بدلوا، أو الظالمون منهم هم الذين بدلوانوهم الرؤساء والأشراف، وهذا هو الظاهر، لقوله في سورة «الأعراف» : {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} [الأعراف: 162] واختلفوا هل التقوا كلهم على الأشياء التي بَدّلوهان أو بدّل كلّ أناس منهم شيئاًن أو بدّلوا في كل وقت شيئاً؟ فإن قيل: إنّهم قد بدّلوا القول والفعلن فلم خصّ القول بالتبديل؟ فالجواب: أن ذكر تبديلهم القول يدلّ على تبديل الفعل كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبرد، فكأنه قالك بدّلوا القول والفعل، وأيضاً فقد يكون المراد بالقول المبدل هو الأمر، والأمر يشتمل القول المأمور به والفعل. واختلفوا في ذلك القول: فروي عن ابن عَبّاس: أنّهم لم يدخلوا الباب سجداً، ولم يقولوا حطّة، بل دخلوا زَاحِفِيْنَ على اسْتَاههم قائلين جِنْطة. وقال ابن زيد: استهزؤوا بموسى وقالوا ما شاء موسى أن يلعب بنا لا لعب بنا حطة أي شيء حطة. وقال «مجاهد» : طؤطىء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم، ويركعوا، فدخلوا زَاحِفِيْنَ. وقيل لهم: قولوا حطة فقالوا: حطًّا شمقاً ما يعني حطة حمراء استخفافاً بأمر الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 قوله: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ} أي: أضروا بأنفهسم، وأوسعوا في نقصان خيراتهم في الدين والدنيا. و «الرجز» : هو العذاب. فصل في لغات الرجز وفيه لُغة أخرى وهي ضمّ الراء، وقرىء بهما. وقيل: المضموم اسم صَنَم، ومنه: {والرجز} [المدثر: 5] . والرِّجْز والرِّجْس بالزاي والسين بِمَعْنَى ك: السُّدْغ والزُّدْغ. والصحيح أن الرِّجْزَ: الْقَذَر، والرِّجَز: ما يصيب الإبل، فترتعش منه، ومنه: بحر الرِّجَز في الشّعر. قوله: «مِنَ السَّمَاءِ» يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن يكون متعلقاً ب «أَنْزَلْنَا» ، و «من» لابتداء الغاية، أي: من جهة السماء، وهذا الوجه هو الظاهر. والثاني: أن يكون صفة ل «رِجْزاً» فيتعلّق بمحذوف، و «من» أيضاً للابتداء. وقوله: {عَلَى الذين ظَلَمُواْ} فأعادهم بذكرهم أولاً، ولم يقل: «عليهم» تنبيهاً على أن ظُلْمهم سبب في عقابهم، وهو من إيقاع الظاهر موقع المُضْمَر لهذا الغرض، وإيقاع الظاهر موقع المُضْمَر على ضربين: ضرب يقع بعد تمام الكلام كهذه الآية، وقول الخنساء: [المتقارب] 518 - تَعَرَّقَنِي الدَّهْرُ [نَهْساً] وَحَزَّا ... [وَأَوْجَعَنِي] الدَّهْرُ قَرْعاً وَغَمْزا أي: أصابتني نوائبه جُمَعُ. وضرب يقع في كلام واحد؛ نحو قوله: {الحاقة 0 مَا الحآقة} [الحاقة: 1، 2] . 519 - لَيْتَ الغُرَابَ غَدَاةَ يَنْعَبُ دَائِباً ... كَانَ الغُرَابُ مُقَطَّعَ الأَوْدَاجِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 وقد جمع عدي بن زيد المعنيين فقال: [الخفيف] 520 - لاَ أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا قوله: «بَمَا كَانُوا» متعلِّق ب «أنْزَلْنَا» و «الباء» للسببية، و «ما» يجوز أن تكون مصدرية وهوالظّاهر أي: بسبب فِسْقِهِمْ، وأن تكون موصولة اسمية، والعائد محذوف على التدريج المذكور في غير موضع، والأصل: يفسقونه، ولا يقوى جعلها نكرة موصولة. وقرأ «ابن وَثّاب» : «يَفْسِقُون» بكسر السين، وتقدم أنهما لُغَتَان. فصل في تفسير الظلم قال أبو مسلم: هذا الفِسْقُ هو الظلم المذكور في قوله: {عَلَى الذين ظَلَمُواْ} وفائدة التكرار التأكيد. قال ابن الخطيب: والحق أنه غيره؛ لأن الظلم قد يكون من الصَّغائر، ولذلك قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 بعض الأنبياء: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] وقد يكون من الكَبَائر، قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، والفِسْق لا بُدّ وأن يكون من الكبائر، ويمكن أن يجاب عنه: بأن أبا مُسْلِم لم يقل بأن الفسق مطلق الظلم، وإنما خصّه بظلم معين، وهو الذي وصفوا به في أوَّول الآية، ويحتمل أنهم استحقُّوا اسم الظلم بسبب ذلك التبديل، فنزل الرِّجْزُ عليهم بالفِسْقِ الذي كانوا يفعلوه قيل التبديل، فيزول التكرار. احتجّ بعضهم بقوله: «فَبَدَّل الَّذِينَ ظَلَمُوا» على أنَّ ما ورود من الأذكار لا يجوز تبديله بغيره، وعلى هذا لا يجوز تحريم الصَّلاة بفلظ التَّعْظيمن لا يجوز القراءة بالفارسية. وأجاب أبو الرَّازِي: «بأنهم إنما استحقُّوا الذَّم لتبديلهم القول إلى قول يُضَاد معناه معنى الأول، فلهذا استوجبوا الذم، فأما تغيير اللفظ مع بقاء المعنى فليس كذلك» . قال ابن الخطيب: «والظَّاهر أن هذا بتناول كل من بدّل قولاً يقول آخر سواء اتَّفَقَا أو لم يتفقا» . فإن قيل: قال هنا: «وإذ قلنا» ، وفي «الأعراف» : {وَإِذْ قِيلَ} [الأعراف: 161] . قيل: لأن سورة «الأعراف» مكية، و «البقرة» مدنية فأبهم القائل في الأولى وهي «الأعراف» ليكون لهم وَقْع في القلب، ثم بَيَّنَهُ في هذه السورة المدنية، كأنه قال: ذلك القائل هناك هو هذا. وقال هنا: «ادْخُلُوا» وفي «الأعراف» : «اسْكُنُوا» . قال ابن الخطيب: «لأنّ الدخول مقدّم على السُّكْنَى» . وهذا يرد عليه، فإن «الأعراف» قبل «البقرة» ؛ لأنها مكية. وقال [هنا] «فَكُلُوا» بالفاء، وفي «الأعراف» «وَكُلُوا» بالواو. والجواب ها هنا هو الذي ذكرناه في قوله تعالى في سورة البقرة: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} ، وفي الأعراف {فَكُلاَ} . [ولم ذكر قوله: «رغداً» في «البقرة» ، وحذفه في «الأعراف» ؟ لأنه اسند الفعل إلى نفسه لا جرم ذكر معه الإنْعَام الأعظم وهو أن يأكلوا رغداً] ، وفي «الأعراف» لما لم يسند الفعل إلى نفسه [لا جرم] لم يذكر الإنعام الأعظم. وقال هنا: {وادخلوا الباب سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ} ، وفي «الأعرافش» قدّم المؤخر؛ لأن الواو للجمع المطلق، وأيضاً يحمتل أن يكون بعضهم مذنباً، وبعضهم ليس بمذنب، المُذْنِب يكون اشتغاله أولاً بالتوبة، ثم بالعبادة فكلفوا أن يقولوا أولاً «حطة» ثم يدخلوا الباب سُجَّداً، وأما الذي ليس بمذنب، فالأولى به أن يشتغل بالعبادة أولاً، ثم [يذكروا] التوبة ثانياً على سبيل هَضْم النفس، وإزالة العجب في فعل تلك العبادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 فكلفوا أن يدخلوا الباب سجداً أولاً، ثم يقولوا «حطة» ، فذكر حكم كل قسم في سورة قاله ابن الخطيب. وفيه نظر؛ لأن هذا القول إنما كان مَرّة واحدة. قال هنا: {وَسَنَزِيدُ المحسنين} بالواو، وفي «الأعراف» بغير واو. وقال ابن الخطيب: لأنه ذكر في «الأعراف» أمرين: قول الحطة، وهو إشارة إلى التوبة، ودخول الباب سجداً، وهو إشارة العبادة، ثم ذكرجزاءين: قوله تعالى: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} ، وهو واقع في مقابلة قول الحطّة، وقوله: {وَسَنَزِيدُ المحسنين} ، وهو واقع في مُقَابلة دخول الباب سجداً، [فترك] الواو يفيد توزيع كل واحد مِنَ الجَزَاءين على كل من الشرطين. وأما في «البقرة» فيفيد كون مجموع المغفرة والزيادة جزاءً واحداً لمجموع الفعلين. وقال هنا: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً} ، وفي «الأعراف» زاد كلمة «منهم» . قال ابن الخطيب: لأنه تعالى قال: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ} ، فذكر أن منهم من يفعل ذلك، ثم عدّد صنوف إنعامه عليهم، وأوامره لهم فلما انتهت القصّة قال: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} [فذكر لفظة «مِنْهُمْ» في آخر القصّة كما ذكرها في أول القصة] ليكون آخر الكلام مطابقاً لأوله، وأما هنا فلم يذكر الآيات التي قيل قوله: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} تمييزا وتخصيصاً حتى يلزم في آخر القصة ذكر ذلك التخصيص. وقال هنا: {فَأَنزَلْنَا} وفي [سورة] «الأعراف» {فَأَرْسَلْنَا} ، وأتى بالمضمر دون الظاهر؛ لأنه تعالى عدّد عليم في هذه السُّورة نعماً جسيمة كثيرة، فكان توجيه الذّمن عليهم، وتوبيخهم بكفرانها أَبْلَغ من حيث إنه لم يعدّد عليهم هناك ما عَدّد هنا. فلفظ «الإنزال» للعذاب أبلغ من لفظ «الإرسال» . وقال هنا: {يَفْسُقُونَ} ، وفي «الأعراف» : {يَظْلِمُونَ} تنبيها على أنهم جامعون بين هذين الوصفين القبيحين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 كسرت الذّال من «إذ» لالتقاء الساكنين، والسين للطلب على وجه الدعاء أي: سأل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 لهم السُّقْيَا، وألف «إسْتَسْقَى» منقلبة عن ياء؛ لأنه من «السَّقْي» ، وتقدَّم معنى «اسْتَفْعَلَ» ، ويقال: «سَقَيْتُه» و «أَسْقَيْتُهُ» ، بِمَعْنّى؛ وأنشد: [الوافر] 521 - سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وَأَسْقَى ... نُمَيْراً وَالقَبَائِلَ مِنْ هِلاَلِ وقيل: «سقيته» : أعطيته ما يشرب، «وأسقيته» : جعلت ذلك له يتناوله كيف شاء. و «الإسْقاء» أبلغ من «السَّقْي» على هذا. وقيل: أسقيته: دَلَلْتُه على الماء، وسيأتي عند قوله: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] وسقى وأسقى متعدّيان لمفعولين، قال تعالى: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً} [الإنسان: 21] وقال: {وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً} [المرسلات: 27] . و «لِقَوْمِهِ» متعلّق بالفعل، واللام للعلّة، أي: لأجل، أو تكمون للبيان لما كان المراد به الدعاء كالتي في قولهم: «سُقْياً لَكَ» فتتعلّق بمحذوف كنظيرتها. قوله: {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر} الإدغام هنا واجبٌ؛ لأنه متى اجتمع مثلان في كلمتين؛ أو كلمة أوّلهما ساكن وجب الإدغام نحو: اضرب بكراً، وألف «عصاك» منقلبة عن واو؛ لقولهم في النّسب: عَصَوِيٌّ، وفي التثنية عَصَوَان؛ قال: [الطويل] 522 - ... ... ... ... ... ... . ... عَلَى عَصَوَيْهَا سَابِرِيٌّ مُشَبْرَقُ والجمع: «عُصِيّ» «وَعِصِيّ» بضم العين وكسرها إتباعاً، و «أَعْصِ» مثل «زَمَنٍ» «وأَزْمُن» ، والأصل: «عُصُوُو» و «أَعْصُو» ، فأعلّ. وعَصَوْتُه بالعَصَا، وعَصَيْتُه بالسيف. و «ألقى عَصَاه» يعبر به عن بلوغ المنزل، قال: [الطويل] 523 - فَأَلْقَتْ عَصَاهَا وَاسْتَقَرَّ بِهَا النَّوَى ... كَمَا قَرَّعَيْنَا بِالإيَابِ المُسَافِرُ وانشقت العَصَا بين القوم، أي: وقع الخلاف؛ قال: [الطويل] 524 - إذَا كَانَتِ الهَيْجَاءُ وَانْشَقَّتِ العَصَا ... فَحَبْسُكَ وَالضَّحَّاحُ سَيْفٌ مُهَنَّدٌ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 قال الفَرَّاء: «أوّل لحن سمع ب» العراق «هذه عَصَاتي» ، يعني: بالتاء. وفي [المثل] : «العَصَا من العُصَيَّة» أي: بَعْضُ الأمر من بَعْضٍ. و «الحَجَر» مفعول. و «أل» فيه للعَهْدِ. وقيلك للجنس، وهو معروف، وقياس جمعه في أدنى العدد «أَحْجَار» وفي التكثير: «حِجَارٌ وحِجَارَةٌ» نادر، وهو كقلونا: «جَمَل وجِمَالة» ، و «ذَكَر وذِكَارة» قاله ابن فارس والجَوْهري. وكيف يكون نادراً وفي القرآن: {فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الحجارة} [البقرة: 27] ، {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً} [الإسراء: 50] ، {تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ} [الفيل: 4] ، {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً} [هود: 82] . قوله: {فانفجرت} «الفاء» عاطفة على محذوف لا بُدّ من تقديره: فضرب فانفجرت. قال ابن عصفور: إن هذه «الفاء» الموجودة هي الداخلة على ذلك الفعل المحذوف، والفاء الداخلة على «انْفَجَرَتْ» محذوفة، وكأنه يقول: حذف الفعل الأول لدلالة الثاني عليه، وحذفت «الفاء» الثانية لدلالة الأولى عليها. ولا حاجة إلى ذلك، بل يقال: حذفت الفاء، وما عطفته قبلها. وجعلها الزمخشري جواب شرط [مقدر] قال: [أو] فإن ضربت فقد انفجرت، قال: «وهي على هذا فاء فَصِيحة لا تقع إلا في كلام بليغ» . وكأنه يريد تفسير المعنى لا الإعراب. و «الانْفِجَار» : الانشقاق والتفتُّح، ومنه: الفَجْر لانشقاقه بالضَّوء. وفي «الأعراف» : {فانبجست} [الأعراف: 160] فقيل: هما بمعنى. وقيل: «الانْبِجَاس» أضيق؛ لأنه يكون أولاً والانفجار ثانياً. وقيل: انبجس وتبجّس وتفجّر وتفتّق بمعنّى وَاحِدٍ. قوله: {اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} فاعل «انْفَجَرَتْ» ، والألف علامة الرفع؛ لأنه محمول على المُثَنّى، وليس بمثنى حقيقة، إذ لا واحد له من لفظه، وكذلك مذكره «اثنان» ، ولا يضاف إلى تمييز، لاستغنائه بذكر المعدود «مثنى» تقول: «رجلان وامرأتان» ولا تقول: يضاف إلى «اثنا رَجُل، ولا اثنتا امرأة» إلا ما جاء نادراً فلا يقاس عليه، قال: [الرجز] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 525 - كَأَنَّ خُصْيَيْهِ مِنَ التَّدَلْدُلِ ... ظَرْفُ عَجُوزٍ فِيهِ ثِنْتَا حَنْضَلِ و «ثنتان» مثل «اثنتين» ، وحكم اثنين واثنتين في العدد المركب أن يُعْرَبا بخلاف سائر أخواتهما، قالوا: لأنه حذف معهما ما يحذف في المعرب عند الإضافة، وهي النون، فأشبها المعرب فأعربا كالمثنى بالألف رفعاً والباء نصباً وجرًّا. وأما «عَشْرة» فمبني لتنزله منزلة تاء التأنيث، ولها أحكام كثيرة. و «عَيْناً» تمييز. وقرأ مجاهد وطلحة وعيسى: «عَشِرَة» بكسر الشين، وهي لغة تميم. قال النحَّاس: «وهذا عجيب فإن لغة تميم» عشرة «بالكسر، وسبيلهم التخفيف، ولغة» عَشْرة «بالسكون، وسبيلهم التثقيل» . وقرأ الأعمش: «عَشَرَة» بالفتح. و «العَيْن» : اسم مشترك بين عَيْنِ الإنسان، وعَيْنِ الماء، وعين الرَّكّية، وعَيْنِ الشمس، وعَيْنِ الذهب، وعين الميزان. والعين: سحابة تقبل من ناحية القبلة. والعين: المَطَر الدائم ستًّا أو خمساً. والعين: الثقب في المَزَادة، وبلد قليل العين، أي: قليل النَّاس. [وبها عين، محركة الياء] . فإن قيل: إذا كانت العين لفظاً مشتركاً بين حقائق، فكيف وقعت هنا تمييزاً؟ فالجواب: أن قوله: «وَإذِ اسْتَسْقَى» ، وقوله: «فَانْفَجَرَتْ» ، وقوله: «مَشْرَبَهُمْ» دليل على إرادة عين الماء، فاللفظ مع القرينة مميز، والعَيْن من الماء شبيهة بالعين من الحيوان لخروج الماء منها، كخروج الدَّمع من عين الحيوان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 وقيل: لما كان عين الحيوان اشرف ما فيه شبّهت به عين الماء؛ لأنها أشرف ما في الأرض. قوله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} [الأعراف: 82] قد تقدّم الكلام على أنّ «أناس» أصل «النّاس» . وقال الزمخشري في سورة «الأعراف» : «إنه اسم جمع غير تكسير» ، ثم قال: «ويجوز أن يكون الأصل الكسر، والتكسير، والضمة بدل من الكسرة، كما أبدلت في سُكَارى» من الفتحة وسيأتي البحث معه إن شاء الله تعالى. قوله: {مَّشْرَبَهُمْ} مفعول ل «علم» بمعنى «عرف» ، و «المَشْرَب» هنا موضع الشُّرْب؛ لأنه روي أنه كان لكل سِبْطٍ عَيْنٌ من اثنتي عشرة عيناً، لا يشاركه فيها سبط غيره. وقيلك هو نفس المشروب، فيكون مصدراً واقعاً موقع المفعول به، وضمير الجمع في قوله: «مشربهم» يعود على معنى «كُلُّ أُنَاسِ» . فصل في بيان أن الاستسقاء كان في التِّيه قال جمهور المفسرين: هذا الاستسقاء كان في التِّيْهِ؛ لأن الله تعالى لما ظَلَّلَ عليهم الغمام، وأنزل عليهم المَنّ والسَّلْوَى، وجعل ثيابهم بحيث لا تَبْلَى، ولا تَتَّسِخ خافوا العَطَش، فأعطاهم الله الماء من ذلك الحَجَرِ، وأنكر أبو مسلم ذلك وقال: بل هو كلام مفرد بِذَاتِهِ، ومعنى الاسْتِسْقَاء طلب السُّقْيَا من المطر على عادة الناس إذا [أقحطوا] ، ويكون ما فعله الله من تَفْجِيِر الحجر بالماء فوق الإجابة بالسُّقيا، [وإنزال الغيث] . [وقال ابن الخطيب:] وليس في الآية ما يدلّ على أحد القولين، وإن كان الأقرب أن ذلك وقع في التِّيْهِ؛ لأن المعتاد في البلاد الاستغناء عن طلب الماء إلا في النَّادر، وأيضاً روي أنهم كانوا يحملون الحَجَر معهم؛ لأنه صار معدًّا لذلك، [فكما كان] المَنّ والسّلوى ينزلا من كل غَدَاة، فكذلك الماء يتفجّر لهم في كل وقت، وذلك لا يليق إلا بأيّامهم في التّيْهِ. فصل في جنس الشجرة اختلفوا في العَصَا، فقال الحسن: كانت عَصَا أخذها من بعض الأشجار وقيل: كانت من آس الجَنّة طولها عشرة أَذْرُع على طول موسى، ولها شُعْبَتَان تَتَّقِدَان في الظلمة، واسمه عليق، وكان آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حمله معه من الجَنّة إلى الأرض، فتوارثه صَاغراً عن كَابِرٍ حتى وصل إلى شُعَيْب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فأعطاه لموسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. والذي ينبغي أن يقال: إنها كانت بمقدار يصحّ أن يتوكّأ عليها، وأن تنقلب حَيَّةً عظيمة، وما زاد على ذلك لا دليل عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 قال ابن الخطيب: «والسُّكوت عن هذه المباحث واجب؛ لأنه ليس فيها نَصّ متواتر، ولا يتعلّق بها عمل حتى يكتفى فيها بالظَّن المستفاد من أخبار الآحاد» . فصل في المراد بالحجر إن قلنا: الألف واللام في «الحَجَرِ» للعَهْد، فالإشارة إلى حَجَرٍ معلوم، روي أنه حجر طُوري مربّع قدر رأس الشَّاة يلقى في كسر جوالق ويرحل به، ينبع من كل وَجْه ثلاثة أعين لكل سِبْط عين تسيل في جدول إلى ذلك السّبط فإذا نزلوا وضع في وسط محلّتهم. وقيل: بل كانوا يجدونه في كل مَرْحَلة في منزلته من المرحلة الأولى، وهذا من [أعظم] الإعجاز. وقال سعيد بن جُبَيْرٍ: هو الحَجَرُ الذي وضع عليه موسى ثَوْبَهُ حين اغتسل، فضربه حتى بَرَّأَهُ الله مما رموه به من الأُدْرَة، فقال له جبريل: فيقول الله تعالى لك: أرفع هذا الحَجَرَ، فإن لي فيه قدرة، ولك فيه مُعْجزة، فحمله في مخْلاَتِهِ. قال أبو روق: كان من [الكدّان] ، وقيل: من الرُّخَام. [فإن قلت] : الألف واللام للجنس، فمعناه: [اضرب] أي حجر كان. قال الحسن: لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه، قال: وهذا أظهر في الحُجّة. وروي أنه كان يضره ضربةً واحدة، فيظهر فيه اثنتا عشر عيناً كل عين مثل ثَدْي المرأة فيعرق، وهو الانْبِجَاس، ثم ينفجر بالأنهار. قال عطاء: ثم يضربه ضربةً واحدة فَيَيْبَسُ. وقال عبد العزيز بن يحيى الكتاني: كان يضربه اثنتا عشرة ضربةً لكل عين ضربة. قال القرطبي: ما أوتي نبينا محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من نَبْعِ الماء وانفجاره من بين أصابعه أعظم في المُعْجزة، فإنا نشاهد الماء يتفجّر من الأحجار، ومعجزة نبينا محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يخرج الماء من بين لَحْمِ ودَمٍ! وروى الأئمة الثقات عن عبد الله قال: كنا مع النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم مجد ماءً فأتي بِتَوْرٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 فأدخل يده فيه، فلقد رأيت الماء يتفجّر من بين أصابعه، ويقول: «حي على الطّهور» . قال الأعمش: حدثني سالم بن أبي الجَعْدن قال: قلت لجابر: كم كنتم يومئذ؟ قال: ألفاً وخمسمائة. لفظ النَّسَائي. فصل في وجوه الإعجاز في انفجار الحجر والحكمة في جَعْلِ الماء اثنتي عشرة عيناً قطع التنازع والتَّشَاجر بينهم، وهذا الانفجار يدلّ على الإعجاز من وجوه. أحدها: أن نفس ظهور الماء معجزة. وثانيها: خروج الماء العظيم من الحجر الصغير. وثالثها: خروج الماء بِقَدْر حاجتهم. ورابعها: خروج الماء عند الضَّرْب بالعصا. وخامسها: خروج الماء بالضَّرب بعصا معينة. وسادسها: انقطاع الماء عند الاستغناء عنه، فهذه الوجوه لا يمكن تحصيلها إلا بِقُدْرَةٍ تامة في كل الممكنات، وعلم نافذ في جميع المعلومات. قوله: {كُلُواْ واشربوا} هاتان الجمليتان في محلّ نصب بقول مضمر تقديره: وقلنا لهم: كلوا واشربوا. وقد تقدّم تصريف «كُلْ» وما حذف منه. قوله: {مِن رِّزْقِ الله} هذه من باب الإعمال؛ لأن كلّ واحد من الفعلين يصحّ تسلّطه عليه، وهو من باب إعمال الثاني للحذف من الأول. والتقدير: كلوا منه. و «مِنْ» يجوز أن تكون لابتداء الغاية، وأن تكون للتبعيض، ويجوز أن يكون مفعول الأكل محذوفاً، وكذلك مفعول الشرب؛ للدلالة [عليهما] ، والتقدير: كلوا المَنّ والسَّلوى لتقدمهما في قوله: {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} [البقرة: 57] ، واشربوا ماء العيون المتفجّرة. وعلى هذا فالجار والمجرور يحتمل تعلّقه بالفعل قبله، ويحتمل أن يكون حالاً من ذلك المفعول المحذوف، فيتعلّق بمحذوفة. وقيل: المراد بالرِّزْقِ الماء وحدهن ونسب الأكل إليه لما كان سبباً في نَمَاءِ ما يؤكل وحَيَاته، فهو رزق يؤكل منه ويشرب. والمُرَاد بالزرق المرزوق، وهو يحتمل أن يكون من باب «ذِبْح ورِعْي» ، وأن يكون من باب «درهم ضرب الأمير» وقد تقدم بيانه. فإن قيل: قوله: {مِن رِّزْقِ الله} يفهم منه أن ثَمَّ رزقاً ليس لله، وذلك باطل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 فالجواب: من [وجوه] : [أحدها: أن هذا مفهوم لقب؛ فلا يدل] الثاني: أن هذا رِزْقٌ لم تعمل فيه أيديهم بِحَرْثٍ ولا غيره، فهو خالص أرسله الله إليهم. الثالث: أن إضافته إلى الله تعالى إضافة تشريف لكونه أشرف ما يؤكل، وما يشرب؛ لأنه تسبّب عن معجزٍ خارقٍ للعادة. فصل في كلام المعتزلة واحتجّت المعتزلة بهذه الآية على أن الرزق هو الحلاق قالوا: لأن أقل درجات قوله: كلوا واشربوا الإباحة، فهذا يقتضي كون الرزق مباحاً، فلو وجد رزق حرام لكان ذلك الرزق مباحاً وحراماً وإنه غير جائز. قوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} . أصل «تعثوا» : «تَعْثَيُوا» ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان فحذف الأول منهما وهو الياء، أو لما تحركت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفاً فالتقى ساكنان، فحذفت الألف، وبقيت الفتحة تدل عليها. وهذا أولى، فوزنه «تفعون» . و «العِثِيّ» و «العَيْث» : أشد الفساد وهما متقاربان. وقال بعضهمك «إلا أنّ العَيْثَ أكثر ما يقال فيما يدرك حسّه، والعِثِيّ فيما يدرك حكماً، يقال: عَثِيَ يَعْثَى عِثِيًّا، وهي لغة القرآن، وَعَثَا يَعْثُو عُثُوًّا، وعَاثَ يَعيثُ عَيْثاً» . وليس «عاث» مقلوباً من «عَثِيَ» ك «جَبَذَ وجَذَبَ» لتفاوت معنييهما كما تقدم. ويحتمل ذلك، ثم اختصّ كل واحد بنوع، ويقال: عَثِي يَعْثَى عِثِيًّا ومَعَاثاً، وليس «عَثِيَ» أصله «عَثِوَ» فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، ك «رضي» من الرِّضْوَان، لثبوت العِثِيِّ، وإن تَوَهَّم بعضهم ذلك. ويقال: عَثَّ يَعُيُّ مضافاً أي: فسد، قال ابن الرِّقَاع: [الكامل] 526 - لَوْلاَ الحَيَاءُ وَأَنَّ رَأَسِيَ قَدْ عَثَا ... فِيهِ المَشِيبُ لَزُرْتُ أُمَّ القَاسِمِ ومنه: العُثَّة: [سوسة] تفسد الصُّوف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 وأما «عَتَا» بالتاء المُثَنّاة من فوق فهو قريب من معناه، وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. و «مُفْسِدِينَ» حال من فاعل «تَعْثُوا» وهي حال مؤكدة؛ لأن معناها قد فهم من عاملها، وحسن ذلك اختلاف اللفظين، ومثله: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] ، هكذا قالوا. ويحتمل أن تكون حالاً مبينة؛ لأن الفساد أعم، والمعنى أخص، ولهذا قال الزمخشري: فقيل لهم لا تَتَمَادّوْا في الفساد في حال فسادكم؛ لأنهم كانوا متمادين فيه. فغاير بينهما كما ترى. و «في الأرض» يحتملم أن يتعلّق ب «تعثوا» وهو الظاهر، وأن يتعلّق ب «مفسدين» . والمراد بالأرض: عموم الأرض [لا] أرض التِّيْهِ. والمراد بالفساد هاهنا هو قوله في سورة طه: {وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ} [طه: 81] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 «لن نَصْبِرَ» ناصب منصوب، والجملة في محلّ نصب بالقول، وتقدم الكلام على «لن» . قوله: {طَعَامٍ وَاحِدٍ} ، وإنما كان طعامين هما: المَنّ والسَّلْوَى؛ لأن المراد بالواحد ما لا يختلف ولا يتبدّل، فأريد بالوحدة نفي التبديل لا الاختلاف، أو لأنهما ضرب واحد؛ لأ، هما من طعام أهل التلذُّذ والترف، ونحن أهل زِرَاعات لا نريد إلا ما ألفناه من الأشياء المتفاوتة، أو لأنهم كانوا يأكلون أحدهما بالآخر، أو لأنهما كانا يؤكلان في وقت واحد. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كانوا يعجنون المَنَّ والسّلوى، فيصير طعاماً واحداً. وقيل: لأن العرب تعبّر عن الاثنين بلفظ الواحد، وبلفظ الواحد عن الواحد، كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] ، وإنما يخرجان من المِلْحِ دون العَذْب. قال ابن الخطيب: ليس المراد أنه واحد في النوع، بل إنه واحد في المَهْجِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 كما يقال: إن طعام فلان على مائدة طعام واحداً إذا كان لا يتغيّر عن نهجه. وقيل: كنوا بذلك عن الغنى، فكأنهم قالوا: لن نرضى أن نكون كلنا مشتركين في شيء واحد فلا يخدم بعضنا بعضاً، وكذلك كانوا أول من اتخذ الخدم والعبيد. و «الطعام» : اسم لكل ما يطعم من مأكول ومشروب، ومنه: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} [البقرة: 249] ، وقد يختص ببعض المأكولات كاختصاصه بالبُرّ والتَّمْرِ في حديث الصًّدَقة، أو صاعاً من طعام أو صاعاً من شعير. والطَّعم بفتح الطاء المصدر أو ما يشتهى من الطعام أو ما يؤديه الذوق، تقول: طَعْمُهُ حُلْو وطَعْمُهُ مُرّ، وبضمها الشيء المطعوم كالأُكْلِ والأَكْل؛ قال أبو خِرَاشٍ: [الطويل] 527 - أَرُدُّ شُجَاعَ البَطْنِ لَوْ تَعْلَمِينَهُ ... وأُوثِرُ غَيْرِي مِنْ عِيَالِكِ بالطُّعْمِ وأَغْتَبِقُ المَاءَ القَرَاحَ فَأَنْتَهِي ... إذَا الزَّادُ أَمْسَى للْمُزَلَّجِ ذَا طَعْمِ أراد بالأول المطعوم، وبالثاني ما يُشْتَهَى منه، وقد يعبَّر به عن الإعطاء؛ قال عليه السلام: «إِذا استَطْعَمَكُمُ الإمام فَأَطْعِمُوهُ» أي: إذا استفتح، فافتحوا عليه، وفلان ما يَطْعَمُ النومَ إلاَّ قائماً؛ قال: [المتقارب] 528 - نَعَاماً بِوَجْرَةَ صُفْرَ الْخُدُودِ ... مَا تَطعَمُ النَّوْمَ إِلاَّ صِيَامَا قوله: «فادع» اللّغة الفصيحة «ادْعُ» . بضم العين من «دَعَا يدعو» . ولغة بني عامر «فَادْعِ» بكسر العين قال أبو البقاء: «لالتقاء السَّاكنَيْنِ؛ يُجْرُونَ المعتلَّ مُجْرَى الصَّحيح، ولا يراعون المحذُوفَ» يعني أن العَيْنَ ساكنةٌ، لأجل الأمر، والدَّالُ قبلها ساكنةٌ، فكسرت العين، وفيه نظرٌ، لأن القاعدة في هذا ونحوه أن يُكْسَر الأوَّو من الساكنين، لا الثاني، فيجوزُ أنْ يكُون من لُغتِهِمْ «دَعَا يَدْعِي» مثل «رَمَى يَرْمي» ، والدُّعَاء هنا السُّؤال، ويكون هنا بمعنَى التَّسْمية؛ كقوله: [الطويل] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 529 - دَعَتْنِي أَخَاهَا أُمُّ عَمْرٍ و ... ..... ... ... ... ... ... . وقد تقدم، و «لنا» متعلّق به، واللام للعلة. قوله: «يُخْرِجْ» مجزوم في جواب الأمر. وقال بعضهم: مجوزم بلا الأمر مقدرة، أي «ليخرج» ، وضعفه الزجاج وسيأتي الكلام على حذف لام الأمر إن شاء الله تعالى. والقراءة المشهورة «يُخْرِجْ» بضم «الياء» وكسر «الراء» و «تُنْبِت» بضم «التاء» وكسر «الباء» وقرأ زيد بن علي «يَخْرُج» بفتح «الياء» وضم «الراء» و «تَنْبُت» بفتح «التاء» وضم «الباء» . قوله: «مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ» مفعول «يخرج» محذوف عن سيبويه تقديره: مأكولاً مما، أو شيئاً ممّا تنبت الأرض. والجار يجوز أن يتعلّق بالفعل قبله، ويكومن «مِنْ الابتداء الغاية، وأن تكون صفةً لذلك المفعول المحذوف، فيتعلّق بمضمر، أي: مأكولاً كائناً مما تنبته الأرض. و» مِنْ «للتبعيض، ومذهب الأخفش: أن» من «زائدة في المفعول، والتقدير: يخرج ما تُنْبِتُهُ الأرض؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً. قال النَّحاس: وإنما دعى الحسن إلى زيادتها؛ لأنه لم يجد مفعولاً ل» يخرج «فأراد أن يجعل» ما «مفعولاً و» ما «يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة، والعائد محذوف، أي من الذي تُنْبته، أو من شيء تُنْبته، ولا يجوز جعلها مصدريّة؛ لأن المفعول المحذوف لا يُوصَف بالإنبات؛ لأن الإنبات مصدر، [والمُخْرج] جوهر، وكذلك على مذهب الأخفش؛ لأن المخرج جوهر لا إنبات. قوله:» مِنْ بَقْلِهَا «يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن يكون بدلاً من» ما «بإعادة العامل، و» من معناها: بيان الجِنْس. والثاني: أن يكون في محلّ نصب على الحال من الضمير المحذوف العائد على «ما» أي: مما تُنْبته الأرض في حال كونه من بقلها، و «من» أيضاً للبيان. و «البَقْل» : كل ما تنبته الأرض من النَّجم، أي: ما لا سَاقَ له، وجمعهه «بُقُول» . و «القِثَّاء» معروف. الواحدة: قِثَّاءة، فهو من باب قَمْح وقَمْحة، وفيها لغتان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 المشهورة كسر القاف وهي قراءة العامة، وقرأ يحيى بن وَثّاب، وطلحة بن مصرّفن والأشهب العُقَيْلِيُّ بضم القاف وهي لغة «تميم» . و «القِثَّاء» مُفْرَدُهُ وَجَمْعُهُ ممدود، تقول: «قِثَاء» و «قِثَّاءة» وَ «دِبَّاءَ» وَ «دِبَّاءة» ، وَ «دَاء» وَ «دَوَاء» والهمزة أصلٌ بنفسها في قولهم: «أَقْثَأَتِ الأرض» ، أي: كثر قِثَّاؤها. ووزنها «فِعَّال» ، ويقال في جمعها: «قَثَائِي» ، مثل: «عِلْبَاء» و «عَلاَبِي» . قال بعضهم: إلا أن «قِثَاء» من ذوات الواو، تقول «أَقْثَأْتُ القَوْمَ» ، أي: أطمعتهم ذلك، وَقَثأْتُ القِدْرَ سَكَّنْتُ غليانَهَا بالماء. قال الجعدي: [الطويل] 530 - تَفُورُ عَلَيْنَا قِدْرُهُمْ فَنُدِيمُهَا ... وَنَقْثَؤُهَا عَنَّا إِذَا حَمْيُهَا غَلاَ وهذا وهم فاحش؛ لأنه لما جعلها من ذوات الواو كيف يستدلّ عليه بقولهم: «أقْثأت القوم» بالهمز، بل كان ينبغي أن يقال: «أَقْثَيْثُ» والأصل «أٌقْثوْتُ» لكن لما وقعت الواو في بناء الأربعة قلبت ياء، ك «أَغْزَيْتُ» من الغَزْوِ، ولكان ينبغي أن يقال: قَثَوْتُ القِدْرَ «بالواون ولقال الشاغر: [نَقْثُهَا] بالواو. وَ» الْمَقْثَأة «و» الْمَقْثُؤَة «بفتح الثاء وضمها: موضع» القِثَّاء «. و» الفُوم «: الثُوم وروي عن علقمة وابن مسعود أنه قرأ:» وثُومها «، وهي قراءة ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما وفي مصحف عبد الله. والفاء تبدل من الثاء كما قالوا:» جدث وجدف «و» عَاثُور وعَافُور «و» مَغَافير ومَغَاثير «، ولكنه غير قياس. وعن ابن عباس الفُوم: الخُبْز، تقول العرب: فَوِّمُوا لنا: أي: أختَبزُوا» . وقال ابن عباس أيضاً وعطاء أبو مالك: هو الحِنْطَة وهي لغة قديمة، وأنشد ابن عباس لمن سأله عن «الفُومِ» : [الكامل] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 531 - قدْ كُنْتَ أَحْسِبُنِي كَأَغْنَى وَاحِدٍ ... [نَزَلَ] الْمَدِينَةَ عَنْ زِرَاعةِ فُومِ وقال ابن دُرَيْدٍ «» الفُومَةُ السُّنْبُلَةُ «، وأنْشَد: [الوافر] 532 - وَقَالَ رَبيئُهُمْ لَمَّ أَتَانَا ... بِكَفِّهِ فُومَةٌ أَوُ فُومَتَانِ وقال القتيبي:» هو الحبوبُ كلها «. قال الكلبي والنضر بن شُمَيْل والكسَائي والمؤرجك الصّحيح أنه الثُّوم، لقراءة ابن عباس، ولكونه في مُصْحِف عبد الله بن مسعود وثُومها؛ ولأنه لو كان المراد الحِنْطة لما جاز أن يقال لهم: أَتَسْتَبْدِلُون الذي هو أدنى بالذي هو خير؛ لأن الحِنْطة أشرف الأطعمة، ولأنَّ الثوم أوفق للعَدَس والبَصَل من الحِنْطة وأنشد المؤرج لحسان: [المتقارب] 533 - وَأَنْتُمْ أُنَاسٌ لِئَامُ الأُصُولِ ... طَعَامُكُمُ الْفُومُ وَالْحَوْقَلُ يعني: الثوم والبصل؛ وأنشد النضر لأمية بن أبي الصَّلْت: [البسيط] 534 - كَانَتْ مَنَازِلُهُمْ إِذْ ذَاكَ ظاهِرَةً ... فِيْها الْفَرَادِيسُ وَالْفُومَانُ وَالْبَصَلُ الفَرَادِيس: واحدها فِرْدِيسُ. وَكَوْمٌ مُفَرْدَسٌ، أي: مُعَرَّش. وقال بعضهم:» الفُوم: الحِمَّص لغة شامِيّة «. قوله:» وَعَدَسِهَا «العَدَس معروف، والعَدَسَة: بَثْرَةٌ تخرج بالإنسانن وربما قَتَلَتْ وعَدَسْ زجر للبِغَال؛ قال: [الطويل] 535 - عَدَسْ مَا لِعَبَّادِ عَليْكِ إِمَارَةٌ ... نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 والعدس: شدة الوَطْء، والكَدح أيضاً، يقال: عدسه. وعدس في الأرض ذهب فيها، وعدست إليه المَنِيّة أي: سارت؛ قال الكميت: [الطويل] 536 - أُكَلِّفُهَا هَوْلَ الظَّلاَمِ وَلَمْ أَزْلْ ... أَخَا اللَّيْلِ مَعْدُوساً إِلَيَّ وَعَادِسَا أي: يسار إليّ بالليل. وعدس لغة في حدس، قاله الجوهري. وعن لعي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «عليكم بالعَدَس فإنه مُبَارك مُقَدّس، وإنه يرقق القَلْب ويكثر الدَّمْعَة فإنه بارك فيه سبعون نبياً آخرهم عِيْسَى ابن مريم» . اختلف العلماء في أكل البصل والثّوم [والكراث] وما له رائحة كريهة من البُقُول. فذهب الجمهور إلى الإبَاحَةِ، للأحاديث الثابتة في ذلك. وذهبت طائفة من أهل الظاهر القائلين بوجوب صلاة الفرض في الجَمَاعة إلى المَنْعِ؛ لان النبي عليه الصَّلاة والسَّلام سمّاها خبيثةً. وقال تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} [الأعراف: 175] والصحيح الأول؛ لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام لبعض أصحابه: «كُلْ فِإنِّي أُنَاجي من لا تُنَاجي» . فصل في لفظ أدنى قوله: «أَتَسْتَبْدِلُون» ؛ وفي مصحف أُبي «أَتُبَدِّلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى» ، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها: وهو الظاهر قول الزجاج أن أصله: «أَدْنَوْ» من الدنو، وهو القرب، فقلبت الواو ألفاً لتحركها، وانفتاح ما قبلها، ومعنى الدُّنُوِّ في ذلك فيه وجهان: أحدهما: أنه أقرب لقلّة قيمته وخَسَاسته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 والثاني: أانه أقرب لكم؛ لأنه في الدنيا بخلاف الذي هو خير، فإنه بالصبر عليه يحصل نفعه في الآخرة. والثاني: قول علي بن سليمان الأَخْفَش أن أصله: «أَدْنَأُ» مَهْمُوزاً من دَنَأَ بَدْنَأُ دَنَاءَة، وهي الشيء الخَسِيْس، إلا أنه خفّف همزته؛ كقوله: [الكامل] 537 - ... ... ... ... ... ... ... ... فَارْعَيْ فَزَارَةُ لاَ هَنَاكِ الْمَرْتَعُ ويدل عليه قراءة زهير [القرقبي] الكسائي: «أدنأ» بالهمز. الثالث: أن أصله: أّدْوَن من الشيء الدّون، أي: الرَّدِيء، فقلب بأن أخرت العين إلى موضع اللام، فصار: أَدْنُوُ، فأعلّ كما تقدم. ووزنه «أفلع» ، وقد تقدم معنى الاستبدال. و «أدنى» خبر عن «هو» ، والجملة صلة وعائد، وكذلك: «هو خير» صلة وعائد أيضاً. فصل في معنى الآية ومعنى الآية: أتستبدلون البقل والقثّاء والفوم والعدس والبصل الذي هو أدنى بالمَنْ والسَّلوى الذي هو خير؟ من وجوه: الأول: أنّ البقول لا خطر لها بالنسبة إلى المَنّ والسلوىن لأنهما طعام مَنّ الله به عليهم، وأمرهم بأكله، فكان في استدامته شكر نعمة الله، وذلك أَجْر وذُخْر في الآخرة، والذي طلبوه عَارٍ من هذه الخصال، فكان أدنى. وأيضاً لما كان المَنَّ والسَّلوى ألذّ من الذي سألوه، وأطيب كان أدنى، وأيضاً لما كان ما أعطوه لا كُلْفة فيه، ولا تعب، وكان الذي طلبوه لا يجيء إلا بالحَرْثِ والتعب كان [أيضاً] أدنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 وأيضاً لما كان ما ينزل عليهم لا مِرْيَة في حلّة وخُلُوصه لنزوله من عند الله، والحبوب والأرض يتخلّلها البيوع والغُضُوب وتدخلها الشُّبه، كانت أدنى من هذا الوجه. وأفرد في قوله: {الذي هُوَ أدنى} وإن كان ما طلبوه أنواعاً حملاً على قوله: «ما» في قوله: {مِمَّا تُنْبِتُ الأرض} ، أو على الطعام المفهوم من قوله: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ} . قوله: {اهبطوا مِصْراً} القراءة المعروفة «أهْبِطُوا» بكسر الياء، وقرىء بضمها. و «مصراً» قرأ الجمهور منوناً، وهو خطّ المصحف. فقيل: إنهم أمروا بهبوط مِصْرٍ من الأمطار فلذلك صرف. وقيل: أمروا بِمْصرٍ بعينه، وإنما صرف لخفّته، لسكون وسطه ك «هِنْد ودَعْد» ؛ وأنشد: [المنسرح] 538 - لَمْ تَتَلفَّعْ بِفَضْلِ مِئْزَرِهَا ... دَعْدٌ وَلَمْ تُسْقَ دَعدُ في العُلَبِ فجمع بين الأمرين. أو صرفه ذهاباً به إلى المكان. وقرأ الحسن: «مِصْرَ» بغير تنوين، وقال: الألف زائدة من الكاتب، وكذلك في بعض مصاحف عُثْمان، ومصحف أُبيّ، وابن مَسْعُودن كأنهم عَنَوْا مكاناً بعينه، وهو بلد فرعون وهو مروي عن أبي العالية وقال الزمخشري: «‘نه معرّب من لسان العَجَمِ، فإن أصله مِصْرائيمن فعرب» ، وعلى هذا إذا قيل بأنه علم لمكان بعينه، فلا ينبغي أن يصرف ألبتة لانضمام العُجْمة إليه، فهو نظير «ماه وَجور وحِمْص» ، ولذلك أجمع الجمهور على منعه في قوله: {ادخلوا مِصْرَ} [يوسف: 99] . والمِصْر في أصل اللغة: الحَدّ الفاصل بين الشيئين، وحكي عن أهل «هَجَر» أنهم إذا كتبوا بيع دار قالوا: «اشترى فلانٌ الدَّارَ بِمُصُورِهَا» أي: حُدُودها؛ وأنشد: [البسيط] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 539 - وَجَاعِلُ الشَّمْسِ مِصْراً لا خَفَاءَ بِهِ ... بَيْنَ النَّهَارِ وَبَيْنَ اللَّيْلِ قَدْ فَصَلاَ قوله: {مَّا سَأَلْتُمْ} «ما» في محلّ نصب اسماً ل «إن» ، والخبر في «لكم» ، و «ما» بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: الَّذي سألتموه. قال أبو البَقَاءك «ويضعف أن تكون نكرة موصوفة» . يعني: أنَّ الذي سألوه شيءٌ معيَّنٌ، فلا يحسُنُ أن يُجَابُوا بشيء مُبهَمٍ. وقرىء: «سِلْتُمْ» مثل: بِعْتُمْ، وهي مأخوذةٌ من «سَالَ» بالألف قال حَسَّان رَضِيَ اللهُ عَنْه: [البسيط] 540 - سَالَت هُذَيْلٌ رَسُولَ الله فَاحِشَةً ... ضَلَّتْ هُذَيْلٌ بِمَا سَالَتْ وَلَمْ تُصِبِ وهل هذه الألف منقلبة عن ياء أو واو لقولهم: يَتَساوَلاَنِ، أو عن همزة؟ ثلاثة أقوال يأتي بيانها في سورة «المعارج» إن شاء الله تعالى. فصل في بيان أنه هل عصوا بذلك السؤال أكثر المفسرين زعموا أن ذلك السؤال كان معصية. قال ابن الخطيب: وعندنا ليس الأمر كذلك، والدليل عليه أن قوله: «كلوا واشربوا» عند إنزال المَنّ والسّلوى ليس بإيجاب، بل هو إباحةٌ، وإذا كان كذلك لم يكن قولهم: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ} معصية؛ لأن من أُبيح له ضرب الطعام محسن منه أن يسأل غير ذلك، إما بنفسه أو على لسان الرسول، فلما كان عندهم أن سؤال موسى أقرب إلى الإجابة جاز لهم أن يسألوه ذلك، ولم يكن فيه معصية. واعلم أن سؤال النَّوع الآخر من الطعام يحتمل أن يكون لأغراض منها: أنهم لما تناولوا ذلك النوع الواحد أربعين مَلّوه سنةً، فاشْتَهَوْا غيره. ومنها: لعلّهم ما تعودوا ذلك النوع، وإما تعودوا سائر الأنواعن ورغبة الإنسان فيما اعتاده في أصل التربية وإن كان خسيساً فوق رَغْبته فيما لم يَعْتَدْهُ وإن كان شريفاً. ومنها: لعلهم ملوا البقاء في التِّيْه، فسألوه هذه الأطعمة التي لا توجد إلاَّ في البلاد، وغرضهم الوصول إلى البلاد لا نفس الأطعمة. ومنها: أن المُوَاظبة على نوع واحد سببٌ لنقصان الشهوة، وضعف الهَضْم، وقلّة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 الرغبة والاستكثار من الأنواع بضد ذلكن فثبت أن تبديل طعام بغيره يصلح أن يكون مقصود العقلاء، وليس في القرآن ما يدلّ على منعهم، فثبت أن هذا القَدْرَ لا يجوز أن يكون معصية، ومما يؤكد ذلك أن قوله: {اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} كالإجابة لما طلبوا، ولو كانوا عاصين في ذلك السُّؤال لكانت الإجابة إليه معصية، وهي غير جائزة على الأنبياء، لا يقال: إنهم لما أبوا شيئاً اختاره الله لهم أعطاهم عاجل ما سألوه كما قال: {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20] لأن هذا خلاف الظاهر. واحتجوا على أن ذلك السؤال معصية بوجوه: الأول: قولهم: لن نصبر على طعامٍ واحدٍ يدلّ على أنهم كرهوا إنزال المَنَ والسلوى، فتلك الكراهة معصية. الثاني: أن قول موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُك {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ} استفهام على سبيل الإنكار، وذلك يدلّ على كونه معصية. الثال: أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وصف ما سألوه بأنه أدنى، ما كانوا عليه بأنه خير، وذلك يدلّ على ما قلناه. والجواب عن الأول: أن قولهم: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ} ليس فيه دليل على أنهم كرهوه، بل اشتهوا شيئاً آخر؛ لأن قلهم: لن صبر إشارةٌ إلى المستقبلح لأن «لن» لنفي المستقبل، فلا يدلّ على أنهم سخطوا الواقع. وعن الثاني: بأن الاستفهام على سبيل الإنكار قد يكون لما فيه من تفويت الأ نفع في الدنيا، وقد يكون لما فيه من تَفْويت الأنفع في الآخرة. وعن الثالث: بأن الشيء قد يوصف بأنه خير من حيث إن الانتفاع به حاضر متيقّن، ومن حيث إنه حصل بِلاَ كَدّ ولا تَعَب، فكما يقال ذلك في الحاضر، فقد يقال في الغائب المشكوك فيه: إنه أدنى من حيث إنه لا يتيقّن من حيث لا يوصل إليه إلا بالكَدّ، فلا يمتنع أن يكون مراده عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هذا المعنى، أو بعضه، فثبت أن ذلك السؤال لم يكن معصية، بل كان سؤالاً مباحاً، وإذا كان كذلك فقوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله} ، لا يجوز أن يكون لما تقدم؛ بل لما ذكره الله تعالى بعد ذلك وهو قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} إلى آخره. فهذا هو الموجب للغَضَبِ والعقاب لا كونهم سألوه ذلك. فصل في المراد ب «مصر» قال: قوم: المراد من «مصر» البلد الذي كانوا فيه مع فرعون؛ لقوله تعالى: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ} [المائدة: 21] فأوجب دخول تلك الأرض، وذلك يقتضي المنع من دخول غيرها، وأيضاً قوله: {كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} يقتضي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 دوامهم فيه؛ وقوله: {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ} [المائدة: 21] صريح في المَنْعِ من الرجوع عن بيت المقدس، وأيضاً فإنه تعالى، بعد الأمر بدخول الأرض المقدّسة، قال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض} [المائدة: 26] . فلما بيّن تعالى أنهم ممنوعون من دخولها هذه المُدّة، فعند زوال تلك المُدْة يجب أن يلزمهم دخولها، وإذا كان كذلك لم يجز أ، يكون المراد من مِصْر سواها. فإن قيل: هذه الوجوه ضعيفة. أما الأول: فلأن قوله: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَة} [المائدة: 21] أمر ندب فلعلّهم ندبوا إلى دخول الأرض المقدسة، مع أنهم ما منعوا من دخول مصر، وأما قوله: {كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} فذلك يدل على دوام تلك الأرض المقدسة. وأما قوله: {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ} فلا نسلّم أنّ معناه: ولا ترجعوا إلى مصر، بل يحتمل أن يكون معناه: ولا تعصوا فيما أمرتكم؛ لأن العرب تقول لمن عصى الأمر: أرتَدّ على عقبة، فالمراد من هذا العصيان كونهم أنكروا أن يكون دخول الأرض المقدسة أولى. ويحتمل أن يكون ذلك النهي مخصوصاً بِوَقْتٍ معين. والجوابك أنه ثبت في الأصول أن ظاهر الأمر للوجوب، وإن سلّمنا أنه للندب، ولكن الإذن في تركه يكون إذناً في ترك المندوب، وهو لا يليق بالأنبياء. وأما قوله: لا نسلّم أن المراد من قوله: «ولا ترتدوا» : ولا ترجعوا. قلنا: الدليل عليه أن أمره بدخول الأرض المقدّسةن ثم قوله بعده: {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ} يتبادر إلى الفَهْم أن النهي يرجع إلى ما تعلّق به ذلك الأمر. وقوله: «تخصيص النهي بوقت معين» . قلنا: التخصيص خلاف الظاهر. قال أبو مسلم الأصفهاني: يجوز أن يكون المراد «مِصْر فرعون» لوجهين: الأول: من قرأ «مِصْرَ» بغير تنوين كان عَلَماً للبلد المُعَيّن، وليس في العالم بلدة ملقبة بهذا اللقب سواها، فحمل اللفظ عليه، ولأن اللفظ إذا دَارَ بين كونه علماً، وبين كونه صفة فحمله على العلم أولى. ومن قرأه منوناً فإما أن تجعله اسم عَلَم، وتقول: إنما نون لسكون وسطه، فيكون القريب أيضاً ما تقدم، وإن جعلناه اسم جنس فقوله: {اهبطوا مِصْراً} يقتضي التخيير، كما إذا قال: أَعْتِقْ رَقَبَةً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 الوجه الثاني: أن الله تعالى ورث بن إسرائيل أرض «مصر» لقوله: {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ} [الشعراء: 59] وإذا موروثةً لهم امتنع أن يحرم عليهم دخولها. فإن قيل: قد يكون الرجل مالكاً للدَّار وإن كان ممنوعاً من دخولها كمن أوجب على نفسه اعتكافَ أيام المسجد، فإنه يحرم عليه دخول دَارِهِ، وإن كانت مملوكةً له، فلم لا يجوز أن يقال: إن الله تعالى وَرَّثهم «مصر» بمعنى الولاية، والتصرف فيها، ثم إنه تعالى حرم عليهم دخولها بإيجابه عليهم سُكْنى الأرض المقدسة؟ قلنا: الأصل أن الملك مطلق للتصرف والمنع من التصرف خلاف الدليل. وأجاب الفرق الأول عن حجّتي أبي مسلم. أما قوله «إن القراءة المشهورة بالتنوين يقتضي التخيير» . قلنا: نعم، لكنا نخصّص العموم في حقّ هذه البلدة المعينة بما ذكرنا من الدليل. وأما الثاني: فإنّا لا ننازع في أن الملك لمطلق التصرف لكن قد يترك هذه الأصل لعارض كالمرهون والمستأجر، فنحن تركنا هذا الأصل لما قدمنا من الدّلائل. قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} أيك جُعِلَتِ الذِّلَّة محيطً بهم، مشتملةً عليهم؛ كمن يكون في القُبَّة المَضْرُوبَةِ؛ قال الفرزدقُ لجرير: [الكامل] 541 - ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الكِتَابُ المُنْزَلُ أو ألصفت بهم حتى لزمتهم كما يضرب الطِّين على الحائط فيلزمه. ومن قال: إنها الجزية فبعيد؛ لأن الجزية لم تكن مضروبةً حينئذ. وقال بعضهم: هذا من باب المُعْجِزَات؛ لأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أخبر عن ضرب الذِّلّة والمَسْكَنة عليهم، ووقع الأمر كذلك، فكان معجزة. و «الذِّلّة» : الصَّغَار. والذُّلّ بالضم: ما كان عن قَهْرٍ، وبالكسر: ما كان بعد شماس من غير قهر. قاله الراغب. و «المَسْكَنَةُ» : مَفْعَلَة من السُّكون، لأن المسكين قليل الحركة والنهوض، لما به من الفَقْرِ، و «المسكين: مُفْعِيْل منه، إلاّ أن هذه الميم قد ثبتت في اشتقاق هذه الكلمة، قالوا: تمسكن يتمسكن فهو متمسكن، وذلك كما تثبت ميم» تَمْنَدل وتَمَدْرَعَ «من» النَّدْلِ «و» الدَّرعِ «وذلك لا يدلّ على أصالتها؛ لأن الاشتقاق قضى عليها بالزِّيَادة. وقال الراغب: قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة} : فالميم في ذلك زائدة في أصحّ القولين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 وإيراد هذا الخلاف يؤذن بأن النون زائدة، وأنه من» مسك «و» ضربت «مبني للمفعول و» الذّلة «مقام الفاعل. قول: {وَبَآءُوا} ألف» بَاءَ بكذا «منقلبة عن واو؛ لقوله:» بَاءَ يَبُوءُ «مثل:» قَالَ يَقُولْ «قال عليه الصَّلاة والسَّلام:» أَبُوءُ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ «، المصدر» البَوَاء «؟ وبَاءَ معناه: رَجَع؛ وأنشد بعضهم هذا: [الوافر] 542 - فَآبُوا بِالنِّهَابِ وَبِالسَّابَايَا ... وأُبْنَا بِالمُلُوكِ مُصَفَّدينَا وهذا وَهَمٌ؛ لأن هذا البيت من مادة: «آبَ يَئوب» فمادته من همزة، وواو، وبَاءٍ، و «بَاءَ» مادته من باء، وواو، وهمزة، وادعاء القلب به بعيدٌ؛ لأنه لم يُعْهَد تقدُّم العين واللام معاً على الفاء في مقلوب، وهذا من ذلك. والبَوَاءك الردوع بالقَوَدِ، وهُمْ في هذا الأمر بَوَاء، أي: سَوَاء؛ قال: [الطويل] 543 - أَلاَ تَنْتَهي عَنَّا [مُلُوكٌ] وتَتَّقِي ... مَحَارِمَنَا لاَ يَبُؤِ الدَّمُ بِالدَّمِ أي: لا يرجعُ الدم بالدم في القَوَدِ. وبَاءَ بكذا: أقرَّ أيضاً، ومنه الحديث المتقدِّم أي: أُقِرُّ بها، وأُلْزِمُهَا نَفْسِي، وقال: [الكامل] 544 - أَنْكَرْتُ بَاطِلَها وَبُؤْتُ بِحَقِّهَا ..... ... ... ... ... ... ... ... وقال الراغبك «أصل البَواء مُسَاوَاةٌ الأَجْزَاءِ في المكان خلاف النَّبْوَة الذي هو مُنَافاة الأجزاء» . وقوله: «وَبَاءوا بِغَضَبٍ» أي: حلُّوا مَبْوَأً ومعه غَضَب، واستعمال «بَاءَ» تنبيه على أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 مكانه الموافق يلزمه فيه غضب الله فكيف بغيره من الأمكنة، وذلك نحو: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] . ثم قال: وقول من قال: بؤت بحقها، أي: أقررت فليس تفسيره بحسب مقتضى اللفظ. وقولهم: «حَيّاك الله وبَيّاك» أصله: بَوّأك، وإنما غير للمُشَاكلة، قاله خلف الأحمر. وقيل: باءوا: استحقوا، ومنه قوله تعالى: {إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ} [المائدة: 29] أي: يستحق لإثم جمعياً، ومن قال: إنه الرجوع فلا يقال: باء إلا بِشَرّ. قوله: «بغضب» في موضع الحال من فاعل «باءوا» أي: رجعوا مغضوباً عليهم، وليس مفعولاً به ك «مررت بزيد» . وقال الزمخشري: هو من قولك: باء فلان بفلان إذا كان حقيقاً بأن يقتل به لمُسَاواته له ومكافأته، أي صاروا أحقاء بغضبه. وعلى هذا التفسير ينبغي كون الباء للحال. قوله: {مِّنَ الله} الظاهر أنه محلّ جر صفة ب «غضب» ، فيتعلّق بمحذوف، أي: بغضب كائن من الله. و «من» لابتداء الغاية مجازاً. وقيل: هو متعلّق بالفعل نفسه أي: رجعوا من الله بِغَضَبٍ. وليس، بقوي. قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ} . «ذلك» مبتدأ أشير به إلى ما تقدّم من ضرب الذِّلّة والمسكنة [والخلافة] بالغضب. و «بأنهم» الخبر، والباء للسببية، أي: ذلك مستحقّ بسبب كفرهم. وقال المهدوي: الباء بمعنى اللام أي: لأنهم، ولا حاجة إلى هذا، فإن باء السببية تفيد التَّعطيل بنفسها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 و «يكفرون» في محلّ نصب خبراً ل «كان» ، و «كان» وما في حَيّزها في حل رفع خبراً للمبتدأ كما تقدم. قوله: {بِآيَاتِ الله} متعلّق ب «يكفرون» والباء للتعدية. قوله: {وَيَقْتُلُونَ} في محلّ نصب عطفاً على خبر «كان» ، وقرىء: «تقتلون» بالخطاب التفاتاً إلى الخطاب الأول بعد الغيبة. و «يُقَتَّلونُ» بالتشديد للتكثير. قوله: {النبيين} مفعول به جمع «نبي» . والقراءة على ترك الهمزة في النُّبوة، وما تصرف منها، ونافع المدني على الهمز في الجميع إلاّ موضعين: في سورة «الأحزاب» : {لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ} [الأحزاب: 50] ، {بُيُوتَ النبي إِلاَّ} [الأحزاب: 53] ، فإن قالون حكى عنه في الوَصْلِ كالجماعة وسيأتي. وما من همز فإنه جعله مشتقاً من «النبأ» وهو الخبر، فالنَّبِيُّ «فعيل» بمعنى «فاعل» أي: مُنَبِّىءٌ عن الله برسالته، ويجوز أن يكون بمعنى «مفعول» ، أي: أنه مُنَبَّأٌ من الله بأوامره ونواهيه، واستدلُّوا على ذلك بجمعه على «نُبَآء» ك «طَرِيف وظُرَفَاء» قال العَبَّاسُ بنُ مِرْدَاسٍ: [الكامل] 545 - يا خَاتَمَ النُّبَآءِ إِنَّكَ مُرْسَلٌ ... بِالحَقِّ كُلُّ هُدَى الإلَهِ هُدَاكَا فظهور الهمزتين يدلُّ على كونه من «النَّبَأ» ، واستضعف بعض النحويين هذه القراءة، قال أبو علي: «قال سيبويه» : بلغنا أن قوماً من أهل التحقيق يحققون «نبيئاً وبريئة» قال: وهو رَدِيء، وإنما استردأه؛ لأن الغالب في استعماله التخفيف. وقال أبو عبيدة الجمهور الأعظم من القراء والعَوَامّ على إسقاط الهمز من النَّبِي والأَنْبِيَاء، وكذلك أكثر العرب مع حديث رويناه، فذكر أن رجلاً جاء إلى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «يا نَبِيءَ الله» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 فهمز، فقال: «لَسْتُ بِنَبِيءِ الله» فهمز ولَكِنِّي نَبِيُّ اللهِ، ولم يهمز، فأ، كر عليه الهمز. قال: وقال لي أبو عبيدة: العرب تبدل الهمزة في ثلاثة أحرف: «النبيّ والبَرية والخَابِية» وأصلهن الهَمْز. قال أبو عبيدة: ومنها حرف رابع: «الذُّرِّيَّة» من ذَرأَ يَذْرَأ، ويدلّ عل أن الأصل الهمز قال سيبويه: [إنهم] كلّهم يقولون: تنبأ مُسَيْلمة فيهمزون. وبهذا لا ينبغي أن ترد به قراءة هذا الإمام الكبير، أما الحديث فقد ضعفوه. قال ابن عطيةك ومما يقوي ضعفه أنه لما أنشده العَبَّاس: [الكامل] 546 - يَا خَاتضمَ النُّبَآءِ ... ... ... ... . ..... ... ... ... ... ... ... . . لم ينكره، ولا فرق بين الجمع والواحد، ولكن هذا الحديث قد ذكره الحاكمك في «المستدرك» وقال: هو صحيح على شرط الشَّيخين، ولم يخرجاه. فإذا كان كذلك فليلتمس للحديث تخريجٌ يكون جواباً عن قراءة نافع، على أنّ الَطْعِيٌ لا يُعَارَضُ بالظني، وإنما يذكر زيادة فائدة. والجواب عن الحديث: أنّ أبا زيد حكى: نَبَأْتُ من أرض كذا إلى أرض كذا، أي: خرجت منها إليها فقوله: «يا نبيء الله» بالهمز يوهم يا طَرِيدَ الله الذي أخرجه من بلده إلى غيره، فَنَهَاه عن ذلك لإيهامه ما ذكرنا، لا لسبب يتعلّق بالقراءة. ونظر ذلك نهيه المؤمنين عن قولهم: {رَاعِنَا} [البقرة: 104] لما وجدت اليهود بذلك طريقاً إلى السَّب به في لغتهم، أو يكون حضَّا منه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على تَحَرِّي أفصح اللغات في القرآن وغيره، وأما من لم يهمز، فإنه يحتمل وجهين: أحدهما: أنه من المهموز، ولكن [خفف] ، وهذا أولى ليُوافق القراءتين، ولظهور الهمز في قولهم: تنبأ مسليمة: «يا خاتم النُّبَآء ... . .» . والثاني: أنه أصل آخر بنفسه مشتقّ من «نَبَا يَنْبُو» : إذا ظهر وارتفع، ولا شَكَ أن رتبة النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مرتفعة، ومنزلته ظاهرة بخلاف غيره من الخَلْقِ، والأصل: «نبيو وأنبواء» ، فاجتمع الياء ولواو: وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء ك «ميت» في «ميوت» ، وانكسر ما قبل الواو في الجمع فقلبت ياء، فصار: أنبياء. والواو في «النبوة» بدل من الهمزة على الأول، وأصل بنفسها على الثّاني، فهو «فعيل» بمعنى «فاعل» ، أي: ظاهر مرتفع، أو بمعنى مفعول أي: رفعه الله على خَلْقِهِ، أو يكون مأخوذاً من النبي الذي هو الطريق، وذلك أن النبي طريق الله إلى خلقه، به الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 يتوصّلون إلى معرفة خالقهم؛ قال الشاعر: [البسيط] 547 - لَمَّا وَرَدْنَ نُبَيِّا وَاسْتَتَبَّ بِنَا ... مُسْحَنْفِرٌ كَخُطُوطِ النَّسْجِ مُنْسَحِلُ وقال الشاعر: [المتقارب] 548 - لأَصْبَحَ رَتْاً دُقَاقَ الحَصَى ... مَكَانَ النَّبِيِّ مِنَ الكَاثِبِ «الرَّتْم» بالتاء المثناة والمثلثة جمعياً: الكسر. و «الكَاثِب» بالمثلثة: اسم جَبَل، وقالوا في تحقير نُبُوّة مسيلمة: نَبِيئة. وقالوا: جمعه أبيناء قياس مُطّرد في «فعيل» المعتل نحو: «وَلِيّ وأولياء، وصَفِيّ وأصفياء» . وأما قَالُون فإنما ترك الهمز في الموضعين المذكورين لمَدْرَكٍ آخر، هو أنه من أصله في اجتماع الهمزتين من كلمتين إذا كانتا مكسورتين أن تسهل الأولى، إلا أن يقع قبلها حرف مدّ، فتبدل وتدغم، فلزمه أن يفعل هنا ما فعل في: {بالسواء إِلاَّ} [يوسف: 53] من الإبدال والإدغام، إلاّ أنه روي عنه خلاف في: {بالسواء إِلاَّ} ولم يُرْو عنه [هنا] خلافٌ كأنه التزم البدل لكثرة الاستعمال في هذه اللَّفظة وبابها، ففي التحقيق لم يترك همزة «النَّبيّ» ن بل همزه ولما همزه أدّاه قياس تخفيفه إلى ذلك، ويدلّ على هذا الاعتبار أنه إنما يَفْعَل ذلك حيث يَصِل، أمّا إذا وقف فإنه يهمزه في الموضعين، لزوال السَّبب المذكور، فهو تارك للهمز لفظاً آتٍ به تقديراً. فإن قيل: قوله: «يَكْفُرُونَ» دخل تحته قتل الأنبياء، فَلِمَ أعاد ذكره؟ فالجواب: إن المذكور هنا هو الكفر بآيات الله، وهو الجهل والجَحْد بآياته، فلا يدخل تحته قتل الأنبياء. قوله: {بِغَيْرِ الحق} في محلّ نصب على الحال من فاعل «يقتلون» تقديره: يقتلونهم مبطلين، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف تقديره: قتلاً كائناً بغير الحَقِّ، فيتعلّق بمحذوف. قال الزمخشري: قتل الأنبياء لا يكون إلاَّ بغير الحَقّ، فما فائدة ذكره؟ وأجاب: بأن معناه أنهم قتلوهم بغير الحَقّ عندهم؛ لأنهم لم يقتلوا والا أفسدوا في الأرض حتى يقتلوا، فو سئلوا وأنصفوا من أنفسهم لم يذكروا وجهاً يستحقّون به القتل عندهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 وقيل: إنما خرج وصفهم بذلك مخرج الصّفة لقتلهم بأنه ظلم في حقهم لا حقٌ، وهو أبلغ في الشناعة والتعظيم لذنوبهم. وقيل: هذا التكرير للتأكيد، كقوله تعالى: {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] ، ويستحيل أن يكون لمدعي الإله الثاني بُرْهَان. وقيل: إن الله تعالى [لو ذمّهم على مجرد القتل قالوا: أليس أنّ الله يقتلهم، فكأنه تعالى قال: القَتْلُ الصادر من الله تعالى] قَتْلٌ بحقِّ، ومن غير الله قَتْلٌ بغير حق. فإن قيل: كيف جاز أن يخلّي بين الكافرين [وقتل] الأنبياء؟ قيل: ذلك كرامة لهم، وزيادة في منازلهم كمن يقتل في سبيل الله من المؤمنين، وليس ذلك بِخُذْلان لهم. قال ابن عباس والحسن رَضِيَ اللهُ عَنْهم: لم يقتل قَطّ نبي من الأنبياء إلا من لم يؤمر بقتال، وكل من أمر بقتال نصر. فصل في أوجه ورود لفظ الحق وقد ورد «الحَقّ» على أحد عشر وجهاً: الأول: بمعنى «الجَزْ» لقوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 112] أي: بغير جَزْمٍ كهذه الآية. الثاني: بمعنى «الصّفة» قال تعالى: {الآن جِئْتَ بالحق} [البقرة: 71] أي: بالصفة التي نعرفها. الثالث: بمعنى «الصّدق» قال تعالى: {وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين} [الروم: 47] ، ومثله {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق} [مريم: 47] أي: قول الصدق. الرابع: بمعنى: «وجب» قال تعالى: {ولكن حَقَّ القول مِنِّي} [السجدة: 13] أي: وجب، ومثله: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [غافر: 6] أي: وجبت. الخامس: بمعنى: «الولد» قال تعالى: {بَشَّرْنَاكَ بالحق} [الحجر: 55] أي: بالولد. السادس: الحقّ: الحُجّة قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 76] أي: جاءتهم الحجّة، وهي اليَدُ والعَصَاة. السابع: بمعنى «القَضَاء» قال تعالى: {قَالَ رَبِّ احكم بالحق} [الأنبياء: 115] أي: اقض، ومثله: {وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ} [النور: 49] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 الثامن: بمعنى: «التوحيد» قال تعالى: {بَلْ جَآءَ بالحق} [الصافات: 37] أي بالتوحيد. التاسع: الحَقّ: الإسلام قال تعالى: {وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل} [الإسراء: 81] أي: جاء الإسلام، وذهب الكفر، ومثله: {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق} [يونس: 35] أي: إلى الإسلام، ومثله: {إِنَّكَ عَلَى الحق المبين} [النمل: 79] . العاشر: بمعنى القرآن، قال تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ} [ق: 5] أي: بالقرآن. الحادي عشر: الحَقّ: هو الله تعالى، قال تعالى: {وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ} [المؤمنون: 71] أي: في إيجاد الولد، ومثله: {وَتَوَاصَوْاْ بالحق } [العصر: 3] أي: بالله. قوله: «ذَلِكَ بَمَا عَصَوا» مثل ما تقدم. وفي تكرير اسم الإشاره قولان: أحدهما: أمه مُشَار به إلى ما أشير بالأول إليه على سبيل التأكيل. والثاني: ما قاله الزمخشري: وهو أن يشار به إلى الكُفْرِ، وقَتْلِ الأنبياء، على معنى أن ذلك بسبب عصيانهم، واعتدائهم؛ لأنهم انهمكوا فيها. و «ما» مصدرية، و «الباء» للسببية، أي بسبب عصيانهم، فلا محلّ ل «عصوا» لوقوعه صلةً، وأصل «عَصَوْا» : «عَصَيُوا» تحركت الياء وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً، فالتقى سكنان [الياء] والواو، فحذفت الياء لكونها أوّل السّاكنين، وبقيت الفتحة تدلّ عليها، فوزنه «فَعَوْا» . وأصل «العصيان» : الشدة. واعتصمت النَّوَاة: إذا اشتدت. قوله: {وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ} المراد منه الظُّلم، أو تجاوز الحَقّ إلى الباطل. وأصل: «الاعتداء» : المُجَاوزة من «عَدَا» «يعْدُوا» ، فهو «افْتِعَال» منه، ولم يذكر متعلّق العصيان والاعتداء، ليعم كل ما يُعْصى ويعتدى فيه. وأصل «يَعْتَدُون» : «يَعْتَدِيُون» ، ففعل به ما فعل ب {تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] من الحذف والإعلال، وقد تقدم، فوزنه: «يَفْتَعُون» . والواو من «عصوا» واجبة الإدغام في الواو بعدها، لانفتاح ما قبلهان وليس فيها [مدٌّ] يمنع من الإدغام، ومثله: {فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ} [آل عمران: 20] وهذا بخلاف ما إذا انظم ما قبل الواو، فإن المَدّ يقوم مقام الحاجز بين المثلين: فجيب الإظهار، نحو: {آمَنُواْ وَعَمِلُواْ} [البقرة: 25] ومثله: {الذى يُوَسْوِسُ} [الناس: 5] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 فإن قيل: ما الفرق بين ذكره «الحَقّ» هاهنا معرفاً، وبين ذكره في «آل عمران» منكراً في قوله {وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ} [آل عمران: 112] ؟ والجواب: أن الحَقّ المعلوم الذي يوجب القتل فيما بين الناس هو قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا يَحِلّ دَمُ امرىءٍ مسلم إلا بإحْدَى ثَلاَثٍ، كُفْر بعد [إيمان] ، وزِنّى بعد [إحْصَان] ، وقَتْل نفس بغير حق» . فالمعرّف إشارة إلى هذا، والمنكّر المراد به تأكيد العموم، أي: لم يكن هناك حقّ ألبتّة لا لهذا الذي يعرفه المسلمون ولا غيره. فإن قيل: ما الفائدة في جمعه «الأنبياء» هنا جمع سَلاَمة، وفي «آل عمران» جمع تكسير؟ فالجواب: [ذلك لموافقة ما بعده من جمعي السَّلامة، وهو «النَّبِيِّين» «الصَّابِئِين» بخلاف الأنبياء] . . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 قال ابن عباس: والمراد ب «الذين آمنوا» هم الذين آموا قبل [مبعث] محمد بعيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع البراءة عن أباطيل اليهود مثل قَسّ بن سَاعِدة، وبحيرى الراهب، وحبيب النَّجَّار، وزيد بن عمرو بن نُفَيل، وَورقَة بن نَوْفَل وسلمان الفَارِسي، وأبو ذر الغفاري، وخَطَر بن مَالِك، ووَفْد النجاشي، فكأنه قال: إن الذين آمنوا قبل مبعث محمد، والذين كانوا على الأديان الباطلة كلّ من آمن منهم بعد مبعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالله واليوم الآخر ومحمد، فلهم أجرهم. وقال سفيان الثوري: المراد من قوله: «الذين آمنوا» هم المنافقون؛ لأنهم يؤمنون باللّسَان دون القَلْبِ، ثم اليهود والنصارى والصَّائبون، فكأنه قال: هؤلاء المُبطلون كل من آمن منهم بالإيمان الحقيقي، فلهم أجرهم. وقال المتكلمون: المراد أنَّ الذين آمنوا بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الحقيقة، وهو عائد إلى الماضي، ثم قوله: «من آمن بالله» يقتضي المستقبل، فكأنه قال: إن الذين آمنوا في الماضي، وثبتوا عليه في المستقبل. و «هَادُوا» في ألفه قولان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 أحدهما: أنه من واو، والأصل «هَادَ يَهُود» أي: تاب؛ قال الشاعر [السريع] 549 - ... ... ... ... ... . ... إنِّي امْرُؤٌ مِنْ حُبِّهِ هَائِدُ أي: تائب، منه سمي اليَهُود، لأنهم تابوا عن عبادة العِجْلِ، وقالوا: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] أي: تُبْنَا ورجعنا. [قاله] ابن عباس. وقيل: هو من التهويد، وهو النطق في سكون ووَقَارٍ؛ وأنشدوا: [الطويل] 550 - وَخُودٌ مِنَ اللاَّئِي تَسَمَّعْنَ بِالضُّحَى ... قَرِيضَ الرُّدَافَى بِالغِنَاءِ المُهَوِّدِ وقيل: من «الهَوَادَة» ، وهي الخضوع. الثاني: أنها من ياء، والأصل: «هَادَ يَهِيد» ، أي: تَحَرَّك، ومنه سمي اليهود؛ لتحركهم في دراستهم، قاله أبو عمرو بن العلاء. وقيل: سموا يهوداً نسبة ليَهُوذَا بالذال المعجمة وهو ابن يَعْقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فغيَّرته العرب بالدّال المهملة، جرياً على عادتها في التلاعب بالأسماء الأعجمية، فعرب ونسب الواحد إليه، فقيل يَهُودِيّ، ثم حذف الياء في الجمع، فقيل يَهُود. وكل جمع منسوب إلى جنس، فهو بإسقاط ياء النسب؛ كقولهم في «زِنْجِيّ» : زَنْجٌ، وفي «رُومِيّ» : رُوم أيضاً. وهيادا: إذا دخل في اليهودية، وتهوَّد إذا [نسبه إليهم] وهوّد إذا دعا إلى اليهودية. والنَّصَارى جمع واحده «نَصْرَان» ، و «نَصْرَانة» ك: «نَدْمَان ونَدمانة ونَدَامَى» ، قاله سيبويه؛ وأنشد: [الطويل] 551 - فَكِلْتَاهُمَا خَرَّتْ وَأَسْجَدَ رَأْسُهَا ... كَمَا أَسْجَدَتْ نَصْرَانَةٌ لَمْ تَحَنَّفِ وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «فَابواه يُهَوِّدَانِهِ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وقرأ أبو السمال ومجاهد: «هادَوْا» بفتح الدال، وإسكان الواو كأنهما من المفاعلة، والأصل: هادَيُوا فأعلّ كنظائره. وقيل: سُمُّوا يهوداً ليملهم عن دين الإسلام، وعن دين موسى، فعلى هذا إنما سموا يهوداً بعد أنبيائهم. وقال ابن الأعرابي: يقال: هَادَ: إذا رجع من خير إلى شَرّ، ومن شَرّ إلى خير، وسمي اليهود بذلك لتخليطهم، وكثرة انتقالهم من مذاهبهم، نقله النووي في «التهذيب» عن الوَاحِديّ. وأنشد الطبري على «نَصْران» [قول الشاعر] : [الطويل] 552 - يَضَلُّ إذَا دَارَ العِشَا مُتَحَفِّناً ... وَيُضْحِي لَدَيْهِ وَهْوَ نَصْرانُ شَامِسُ قال سيبويه: إلا أنه لم يستعمل في الكلام إلا بياء النَّسَب. وقال الخليل: «واحد النصارى نَصْرِيّ، كمَهْرِيٍّ ومَهَارَى» . وقال الزمخشريُّ: الياء في «نَصْرانِيّ» للمبالغة كالتي في «أحَمَرِيّ» و «نَصَارَى» نكرةٌ، ولذلك دخلت عليه آل، ووصف بالنكرة في قول الشاعر: [البسيط] 553 - صَدَّتْ كَمَا صَدَّ عَمَّا لاَ يَحِلُّ لَهُ ... سَاقِي نَصَارى قُبَيْلَ الفِصْحِ صُوَّامِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 وقال جاءت جموع على غير ما يستعمل واحدهان وقياسه النَّصَارنيون. وسموا بذلك نسبة إلى قرية يقال لها: «نَاصِرة» كان ينزلها عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، قاله ابن عباس، وقَتَادة، وابن جُرَيْج. فنسب عيسى إليها، فقيل: عيسى الناصري، فلما نسب أصحابه إليه قيل: النَّصَارَى. قال الجوهري: و «نَصْران» قررية ب «الشَّام» ينسب إليها النصارَى. أو لأنهم كانوا يتناصرون؛ قال الشاعر: [الرجز] 554 - لَمَّا رَأَيْتُ نَبَاطاً أَنْصَارَا ... شَمَّرْتُ عَنْ رُكْبَتي الإِزَارَا كُنْتُ لَهُمْ من النَّصَارَى جَارَا ... وقيل: لأن عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال للحواريين: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} [آل عمران: 52] . و «الصَّابئين» الجمهور على همزة، وقرأه نافع وشيبة والزهري بياء ساكنة غير مهموزة، وعن أبي جعفر بياءين خَالِصَتَيْنِ بدل الهمزة، فمن همزه جعله من صَبَأَ نابُ البعير أي: خرج، وصبأت النجوم: طلعت. وقال أبو علي: صَبَأَتُ على القوم إذا طَرَأْتُ عليهم. فالصَّابىء: التَّارك لدينه، كالصَّابىء الطارىء على القوم، فإنه تارك لأرضهن ومنتقل عنها. ومن لم يهمز فإنه يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مأخوذا من المهموز فَأَبْدَلَ من الهمزة حرف علّة إما ياء أو واواً، فصار من باب المنقوص مثل: «قاض أو غازٍ» ، والأصل: صاب، ثم جمع كما يجمع القاضي أو الغازي، إلا أن سيبويه لا يرى قلب هذه الهمزة إلاَّ في الشعر، والأخفش وأبو زيد يريان ذلك مطلقاً. الثَّاني: أنه من باب «صَبَا. . يَصْبُو» إذا مال، ولذلك كانت العرب يسمون النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صابئاً؛ لأنه أظهر ديناً خلاف أديانهم، فالصَّابي كالغازي أصله: «صَابِوُا» فأعلّ كإعلال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 غازٍ، وأسند أبو عبيد إلى ابن عباس: «ما الصَّابون إنا هي الصابئون، والخَاطُون إنما هي الخاطئون» . فقد اجتمع في قراءة نافع همز «النبيين» ، وترك همز «الصابئين» . [وقد عُلم أنّ العكس فيهما أفصح] . فصل في تفسير الصابئين [وللمفسرين في تفسير «الصَّابئين» أقوال] : فقال مُجَاهد والحسن: هم طائفة بين اليَهُود والمجوس لا تؤكل ذبائحهم، ولا تنكح نساؤهم. وقال السّدي: هم فرقة من أهل الكتاب [وقاله إسحاق بن راهوية. قال ابن المنذر] : وقال إسْحَاق: لا بأس بذبائح الصابئين؛ لأنهم طائفة من أهل الكتاب. وقال أبو حنيفة: لا بأس بذبائحهم، ومناكحة نسائهم. وقال الخليل: هم قوم يشبه دينهم دين النَّصَارى، إلاَّ أن قبلتهم نحو مهبّ الجنوب، يزعمون أنهم على دين نوح عليه الصَّلاة والسَّلام. [نقله] القرطبي. وقال قَتَادَةٌ: قوم يعبدون الملائكة، ويصلون إلى الشمس كل يوم خمس صلوات. وقال أيضاً: الأديان خمسة أربعة للشَّيطان، وواحد للرحمن، وهم: الصابئون وهم يعبدون الملائكة، والمَجُوس يعبدون النَّار، والذين أشركوا يعبدون الأوثان، واليهود والنَّصَارى، وقال: قبيلة نحو «الشام» بين اليهود والنَّصَارى، والمجوس لا دين لهم، وكان مجاهد لا يراهم من أهل الكِتَابِ، وهو منقول عن أبي حنيفة. وقال قتادة ومُقَاتل: هم قوم يقرون بالله عَزَّ وَجَلَّ، ويعبدون الملائكة، ويقرون بالزَّبُور، ويصلون إلى الكعبة أخذوا من كلّ دين شيئاً. وقال [الكلبي] : «هم قوم بين اليهود والنَّصارى يحلقون أوساط رؤوسهم، ويجبُّون مذاكيرهم» . وقال عبد العزيز بن يحيى: درجوا وانقرضوا. وقيل: هم الكلدانيون الذين جاءهم إبراهيم علي الصَّلاة والسَّلام ردًّا عليهم ومبطلاً لقولهم، وكانوا يعبدون الكواكب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 قال ابن الخطيب: وهو الأقرب، ثم لهم قولان: أحدهما: أنَّ الله خلق هذا العالم، وأمر بتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قِبْلَةَ الصلاة، والدعاء والتعظيم. والثاني: أن الله سبحانه وتعالى خلق الأفلاك والكواكب، وجعل الكواكب مدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر، والصحة والمرض، فيجب على البشر تعظيمها؛ لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم. قوله: {مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً} آمن: صدق. و «من» في قوله: «مَنْ آمَنَ» في موضع نصب بدل من «الَّذِينَ آمَنُوا» . والفاء في قوله: «فَلَهُمْ» داخلة بسبب الإبهام الذي في «مَنْ» . وقيل: ف يموضع رفع بالابتداء، ومعناها الشرط، و «آمن» في موضع جزم بالشرط، و «الفاء» جواب و «لَهُمْ أَجْرُهُمْ» خير «من» والجملة كلها خبر «إن» ، والعائد على «الذين» محذوف تقديره: من آمن منهم بالله، وحمل الضمير على لفظ «مَنْ» فأفرد، وعلى المعنى في قوله: «فَلَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» فجمع؛ كقوله: [الطويل] 555 - أَلِمَّا بِسَلْمَى عَنْكُمَا إنْ عَرَضْتُمَا ... وقُولاَ لَهَا: عُوجِي عَلَى مَنْ تَخَلَّفُوا وقال الفرزدق: [الطويل] 556 - تَعَالَ فِإنْ عَاهَدْتَنِي لاَ تَخْونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ [فراعى المعنى] وقد تقدم تحقيق ذلك [عند) قوله: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا} [البقرة: 8] والأجر في الأصل مصدر يقال: أجره الله يَأْجُرُه أَجْراً، وقد يعبر به عن نفس الشيء المُجَازَى به، والآية الكريمة تحتمل المعنيين. والمارد بهذه العِنْدِيَّةِ أن أجرهم متيقّن جارٍ مجرى الحاصل عندهم. قوله: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فقيل: أراد زوال الخوف [عنهم] في الدنيا. وقيل: الآخرة وهو أصح؛ لأنه عامّ في النفي، وكذا قوله: «وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ» ، وهذه لا تحصل في الدنيا؛ لأنّ المكلف في الدنيا لا ينفك من خوف وحزن، إما في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 أسباب الدنيا، أو في أمور الآخرة، فكأنه سبحانه وعَدَهُمْ في الآخرة بالأجر، ثم بين صفة ذلك الأجر أن يكون خالياً من الخوف والحزن، وذلك يوجب أن يكون نعيمهم دائماً؛ لأنهم لو جوّزوا كونه منقطعاً لاعتراهم الخوف العظيم. فإن قيل: فما الحكمة في قوله تعالى هاهنا: «الصَّابئين» منصوبة، وفي «المائدة» : {والصابئون} [المائدة: 69] مرفوعة. وقال في الحج: {والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} [الحج: 17] فقدم «الصَّابئين» على «النصارى» في آية، وأخَّر «الصَّائبين» في الأخرى، فهل في ذلك حكمة ظاهرة. قال ابن الخَطيب: إن أدركنا تلك الحكم فقد فُزْنَا بالكمال، وإن عجزنا أحلنا القصور على أفهامنا لا على كلام الحكيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 هذا هو الإنعام العاشر. والميثاق إنما يكون بفعل الأمور التي توجب الانقياد والطاعة. واختلفوا في ذلك الميثاق. قال الأصَمّ: [ما وعده الله القوم] من الدَّلائل الدَّالة على صدق أنبيائه ورسله، وهذا النوع من المواثيق أقوى المواثيق والعُهُود، لأنها لا تحتمل الخلف والكذب والتبديل بوجه ألبتة. وقال أبو مسلم: هو ما روى عبد الرَّحمن بن زيد بن أسلم أن موسى عليه الصَّلا والسَّلام لما رجع إلى قومه بالألواحن قال لهم: «إن فيها كتاب الله تعالى» فقالوا: لن نأخذ بقولك حتى نرى الله جَهْرَةً فيقول: هذا كتابي فخذوه فأخذتهم الصَّاعقة، فَمَاتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ، ثم قال لهم بعد ذلك: خذوا كتاب الله، فأبوا فرفع الطور وقيل لهم: خذوا الكتاب وإلا طرحناه عليكم، [فأخذوه] فرفع الطور هو الميثاق؛ لأنه آية [باهرة] عجيبةُ تبْهِرُ العقول، وتردّ المكذبَ إلى التصديق، والشَّاكَّ إلى اليقين، وأكدوا ذلك، وعرفوا أنه من قبله تعالى وأظهروا التوبة، وأعطوا العهد والميثاق ألاَّ يعودوا إلى ما كان منهم، وأن يقوموا بالتوراة، فكان هذا عهداً موثقاً. وري عن عبد الله بن عباس: أن لله مِثَاقَيْنِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 الأول: حين أخرجهم من صلب آدم، وأشهدهم على أنفسهم. والثاني: أنه ألزم النَّاس متابعة الأنبياء، وهو المراد من هذا العَهْدِ. قال ابن الخَطِيبِ: «وهذا ضعيف» . فإن قيل: لهم قال: «ميثاقكم» ولم يقل: «مواثيقكم» ؟ قال القَفَّال: لوجهين: أحدهما: أراد به الدلالة على أنّ كلّ واحد منهم قد أخذ ذلك كما قال: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر: 67] أي: كل واحد منهم أخذ عليه ما أخذ على غيره، فلا جرم كان كله ميثاقاً واحداً. والثاني: أنه لو قال: مواثيقكم لأبهم أن يكون هُنَاك مواثيق أخذت عليم لا ميقاق واحد. قوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} نظيره: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ} [الأعراف: 171] . و «الواو» في قوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ} واو عطف على تفسير ابن عباس، والمعنى: أن أخذ الميثاق كان متقدماً فلما نقضوه بالامتناع عن قَبُول الكتاب رفعنا عليهم الجبل. وعلى تفسير أبي مسلم ليست واو عطف ولكنها واو الحال، كما يقال: «فعلت ذلك والزمان زمان» فكأنه قال: وإذ أخذنا ميثاقكم عند رفعنا الطُّور فوقكم. وفوقكم ظرف مكان ناصبه «رفعنا» ، وحكم «فوق» مثل حكم «تحت» ، وقد تقدم الكلام عليه. قال أبو البقاء: ويَضْعُفُ أن يكون حالاً من «الطور» ؛ لأن التقدير يصير: ورفعنا الطور عالياً، وقد استفيد من «رفعنا» . وفي هذا نظر؛ لأن المراد به علو خاص، وهو كونه عالياً عليم لا مُطْلَقَ العلو حتى يصير: رفعناه عالياً كما قدره. قال: «لأن الجبل لم يكن فوقهم وقت الرفع، وإنما صار فوقهم بالرفع» . ولقائل أن يقول: لم لا تكون حالاً مقدرة، وقد قال هو في قوله: {بِقُوَّةٍ} إنها حال مقدرة كما سيأتي. و «الطور» اسم [لكلّ] جبل، وقيل: [لما] أَنْبَتَ منها خاصة دون ما لم ينبت، وهل هو عربي أو سُرْيَانيّ قولان. وقيل: سمي بطور بن إسماعيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ وقال العَجَّاج: [الرجز] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 557 - دَانَى جَنَاحَيْهِ مِنَ الطُّورِ فَمَرّ ... تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ وقال الخليل: الطُّور اسم جبل معلوم؛ لأن التعريف تقتضي حلمه على جبل معهود مسمى بهذا الاسم، وهو جبل المُنَاجاة. وقد يجوز أن ينقله الله إلى حيث هم، فيجعله فوقهم وإن كان بعيداً منهم. وقال ابن عباس: أمر الله جبلاًُ من جبال «فلسطين» ، فانقلع من أصله حتى قام فوقهم كالظُّلة، وبعث ناراً من قبل وجوههم، وأتاهم البحر الملح من خلفهم، وقيل لهم: خذوا ما آتيناكم، أي: اقبلوا ما أعطيناكم وإلاَّ رضختكم بهذا الجبل، وغرقتكم في هذا البحر، وأحرقتكم بهذه النار فلما رأوا أن لا مهرب منه قلوا ذلك، وسجدوا خوفاً، وجعلوا يلاحظون الجبل، وهم سجود، فصارتْ سُنّة في اليهود لا يسجدون إلاَّ على أنصاف وجوههم. قوله: «خذوا» في محل نصب بقول مضمر، أي: وقلنا لهم: خذوا، وهذا القول مضمر يجوز أن يكون في محل نصب على الحال من فاعل «رفعنا» والتدقير: ورفعنا الطور قائلين لكم خذوا. وقد تقدّم أن خذ محذوف الفاء أن الأصل: اؤخذ، عند قوله: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} [البقرة: 35] . قوله: {مَآ آتَيْنَاكُم} مفعول «خذوا» ، و «ما» موصولة بمعنى الذي لا نكرة موصوفة، والعائد محذوف أي: ما آتيناكموه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 140 قوله: «بقوة» في محل نَصْبٍ على الحال، وفي صاحبها قولان: أحدهما: إنه فاعل «خذوا» وتكون حالاً مقدرة، والمعنى: خذوا الذي آتيناكموه حال كونكم عازمين على الجدّ في العمل به. والثاني: أنه ذلك العائد المحذوف، والتقدير: خذوا الذي آتيناكموه في حال كونه مشدداً فيه أي: في العمل به، والاجتهاد في معرفته. قوله: «ما فيه» الضمير يعود على «ما آتيناكم» أي: أذكروا ما في الكتاب، واحفظوه وادرسوه، ولا تغفلوا عنه، ولا يحمل على الذكر الذي هو ضدّ النسيان؛ لأنه ليس من فعل العبد، فلا يجوز الأمر به، وفي حرف «أُبَيِّ» «واَّكِرُوا» بذال مشددة وكسر الكاف، وفي حرف عبد الله «وتَذَكَّروا مَا فِيهِ» [ومعناه] : اتّعظوا به. قوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} أي: لكي تتقوا فتنجوا من الهلاك في الدنيا، والعذاب في العقبى. قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ} التولّي تفعل من الوَلْي، وأصله: الإعراض والإدبار عن الشَّيء بالجسم، ثم استعمل في الإعراض عن الأوامر والمعتقدات اتساعاً ومجازاً وذلك إشارة إلى ما تقدم من رفع الطُّور، وايتاء التوراة. قال القَفَّال رَحِمَهُ اللهُ: «إنهم بعد قبول التوراة، ورفع الطور تولّوا عن التَّوْراة بأمور كثيرة، فحرّفوا التوراة وتركوا العمل بها، وقتلوا الأنبياء، وكفروا بها وعصوا أمرهم ولعلّ فيها اختصّ به بعضهم دون البعض، ومنها ما علمه أوائلهم، ومنها ما فعله متأخروهم، ولم يزالوا في التِّيهِ مع مشاهدتهم الأعاجيب ليلاً ونهاراً يخالفون موسى، ويعرضون عنه، ويلقونه بكلّ أذى، ويجاهرون بالمعاصي حتى لقد خسف ببعضهم، وأحرقت النار بعضهم، وعوقبوا بالطاعون، وكلّ هذا مذكور في تراجم التوراة، ثم فعل متأخروهم ما لا خَفَاءَ به من تخريب» بيت المقدس «، وكفروا بالمسيح وهمّوا بقتله. والقرآن وإن لم يكن فيه بَيَانُ ما تولوا به عن التوراة، فالجملة معروفة من إخبار الله تعالى عن عِنَادِ أسلافهم، فلا عَجَبَ في إنكارهم ما جاء به محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من الكتاب والنبوة» . قوله: {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله} «لولا» هذه حرف امتناع لوجود، والظَّاهر أنها بسيطة وقال أبو البَقَاءِ: هي مركّبة من «لو» ، و «لا» و «لو» قبل التركيب يمتنع بها الشيء لامتناع غيره، و «لا» للنفي، والامتناع نفي في المعنى، وقد دخل النفي ب «لا» على أحد امتناعي «لو» والامتناع نفي في المعنى، والنَّفي إذا دخل على النَّفي صار إيجاباً، فمن [ثمَّ] صار معنى «لولا» هذه يمتنع بها الشيء لوجود غيره وهذا تكلْف ما لا فائدة فيه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 وتكون «لولا» أيضاً حرف تحضيض فتختص بالأفعال، وسيأتي الكلام علهيا إن شاء الله تعالى. و «لولا» هذه تختص بالمبتدأ، ولا يجوز أن يليها الأفعال، فإن ورد ما ظَاهِرُهُ ذلك أُوِّل؛ كقوله: [الوافر] 558 - وَلَوْلاَ يَحْسِبُونَ الحِلْمَ عَجْزاً ... لَمَا عَدِمَ المُسِيئُونَ احْتِمَالي وتأويله أن الأصل: «ولولا أن تحسبوا» فلما حذفت أن ارتفع الفعل؛ كقوله: [الطويل] 559 - أَلاّ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الوَغَى ..... ... ... ... ... ... ... . أي: «أَنْ أَحْضُرَ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 والمرفوع بعدها مبتدأ خلافاً للكسائي حيث رفعه بفعل مضمر، وللفراء حيث قال: «مرفوع بنفس لولا» . وخيره واجب الحذف للدلالة عليه وسد شيء مسده وهو جوابها والتقدير: ولولا فَضْل الله كائن أو حاصل، ولا يجوز أن يثبت إلا في ضرورة شعر، ولذلك لُحِّنَ المعرِّيُّ في قوله: [الوافر] 560 - يُذِيبُ الرُّعْبُ مِنْهُ كُلَّ عَضْبٍ ... فَلَوْلاَ الغِمْدُ يُمْسِكُهُ لَسَالاَ حيث أثبت خبرها بعدها، هكذا أطلقوا، وبعضهم فَصَّل فقال: إن كان خبر ما بعدها كونناً مطلقاً، فالحذف واجب، وعليه جاء التنزيل وأكثر الكلام، وإن كان كوناً مقيداً فلا يخلو إما أن يدلّ عليه دليل أوْ لا، فإن لم يدلِّ عليه دليل، وجب ذكره؛ نحو قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «لَوْلاَ قَوْمُكِ حَديثُو عَهْدٍ بِكُفْرٍ» ، وقول الآخر: [الطويل] 561 - فَلَوْلاَ بَنُوهَا حَوْلَهَا لَخَبَطْتُهَا ..... ... ... ... ... ... . . وإن دلّ عليه دليل جاز الذِّكر والحذف نحو: «لولا زيد لَغُلِبْنَا» : شجاع، وعليه بيت المعرّي المتقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 وقال أبو البَقَاءِ: ولزم حذف الخبر للعلم به، وطول الكَلاَم فإن وقعت «أن» بعدها ظهر الخبر كقوله: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} [الصافات: 143] فالخبر في اللّفظ ل «أن» ، وهذا الَّذِي قاله موهم، ولا تعلّق لخبر «أن» بالخبر المحذوف، ولا يغني عنه ألبتة فهو كغيره سواء، والتقدير: فلولا كونه مسبحاً حَاضِرٌ أو موجودٌ. فأي فائدة في ذكره لهذا؟ [والخبر] يجب حذفه في صور أخرى تأتي مفصّلة إن شاء الله تعالى في مواضعها، وقد تقدم عنى الفضل عند قوله: {فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47] . قوله: {لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين} اللاَّ جواب «لولا» والعم أن جوابها إن كان مثبتاً، فالكثير دخول اللام كهذه الآية ونظائرها، ويقلّ حذفها؛ قال: [البسيط] 562 - لَوْلاَ الحَيَاءُ وَلَوْلاَ الذِّينُ عِبْتُكُمَا ... بِبَعْضِ مَا فِيكُمَا إذْ عِبْتُمَا عَوَرِي وإن كان منفيًّا فلا يخلو: إما أن يكون حرف النَّفي «ما» أو غيرها، إن كان غيرها فترك اللام واجب نحو: «لولا زيد لم أقم، ولن أقوم» ، لئلا يتوالى لامان، وإن كان ب «ما» فالكثير الحَذْف، ويقلّ الإتيان بها، وهكذا حكم جواب «لو» الامتناعية، وقد تقدم عند قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20] ، ولا محلّ لجوابها من الإعراب. و «من الخاسرينَ» في محلّ نصب خبر «كان» ، و «من» للتبعيض. فصل في تفسير فضل الله عليهم ذكر القَفَّال في تفسيره وجهين: الأول: لولا تفضل الله عليكم من إمهالكم، وتأخير العذاب عنكم لكنتم من الخاسرين، أي من الهالكين [الذين باعوا أنفسهم بنار جهنم] ، ومنه قوله تعالى: {خَسِرَ الدنيا والآخرة} [الحج: 11] . والثاني: أن يكون الخبر قد انتهى عند قوله: {ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذلك} ، ثم قال: {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} رجوعاً بالكلام إلى أوله، أي: لولا لطف الله تعالى بكم برفع الجبل فوقكم لَدُمْتُمْ على ردّكم الكتاب ولكنه تفضل عليكم ورحمكم ولولا ذلك لكنتم من الخاسرين ببقائكم على تلك الحالة حتى يتم. فإن قيل: كلمة «لولا» تفيد انتفاء الشيء لوجود غيره، فهذا يقتضي أن انْتِفَاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 الخسران من لوازم حُصُول فضل الله تعالى بحيث حصل الخُسْران وجب أن يحصل هناك لطف الله تعالى. وهذا يقتضي أن الله تعالى لم يفعل بالكافر شيئاً من الألطاف الدينية، وذلك خلاف قوله المعتزلة. أجاب الكعبي بأنه تعالى سَوّى بين الكُلّ في الفضل، لكن بعضهم انتفع دون بعض، فصح أن يقال ذلك كما يقول القائل لرجل وقد سوى بين أولاده في العطية فانتفع بعضهم لولا أن أباك [فضّلك] لكنت فقيراً، هذا ضعيف؛ لأن أهل اللّغة نصوا على أن «لولا» تفيد انتفاء الشيء لثبوت غيره، وإذا ثبت هذا فكلام الكَعْبِي ساقط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 لما عدّد وجوه إنعامه عليهم شرح [إليهم] ما وجه إليهم من التشديدات. و «اللام» في [لقد] جواب قسم محذوف تقديرهك والله لَقَد، وكذلك نظائرها. قال بعض المتأخرين لها نحو أريين معنى، قال: وجميع أقسام «اللام» التي هي حرف معنى يرجع عند التَّحقيق إلى قسمين: عاملة، وغير عاملة، فالعاملة قسمان: جارّة، وجازمة، وزاد الكوفيون النَّاصبة للفعل. وغير العاملة خمسة أقسام: لام ابتداء، ولام فارقة، ولام الجواب، ولام موطّئة، ولام التعريف عند من جعل حرف التعريف أحادياً. أما الجارة فلها ثلاثون قسماً مذكورة في كتب النحو. وأمّا الجازمة فلام الأمر، والدعاء والالْتِمَاس. وحركة هذه اللام الكسر. ونقل ابن مالك عن الفرّاء أن فتحها لغة، ويجوز إسكانها بعد الواو والفاء، وهو الأكثر. وفي حذف لام الطلب وإبقاء عملها أقوال: وأما اللام [هنا فهي لام «كي» ] عند الكوفيين، وعند البصريين لام جَرّ. ولام الجحود نحو: ما كان زيد لِيَذْهَبَ، ولام الصَّيرورة، وتسمى لام التَّعَاقُب، ولام المآل واللام الزائدة كقوله: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] واللام بمعنى الفاء كقوله: {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} [يونس: 88] أي: فيضلوا. والكلام على هذه اللاَّمات ليس هذا موضعه، وإنما نبّهنا عليه، فيطلب من مكانه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 و «قد» حرف تحقيق وتوقّع، وتنفيذ في المضارع التقليلّ إلاّ في أفعالِ الله تعالى فإنها للتحقيق، وقد تخرج المضارع إلى المُضِيِّ كقوله: [البسيط] 563 - قَدْ أَتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرَّا أَنامِلُهُ ... كَانَ أُثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفِرْصَادِ وهي أداة مختصّة بالفعل، وتدخل على الماضي والمضارع، وتحدث في الماضي التقريب من الحال. وفي عبارة بعضهم: «قد» حرف يصحب الأفعال، ويُقَّرب الماضي من الحال، ويحدث تقليلاً في الاستقبال. والحاصل أنها تفيد مع الماضي أحد ثلاثة مَعَانٍ: التوقّع، في التقريب، والتحقيق، ومع المضارع أحد أربعة معانٍ: التوقّع، والتقليل، والتكثير، والتحقيق. قال ابن مالك: «والدَّالة على التقليل تصرف المضارع» ، وكذلك الدّالة على التكثير. وأما الدالة على التحقيق، فقد تصرفه إلى المُضِيِّ، ولا يلزم فيها ذلك، وهي مع الفعل كجزء منه، فلا يفصل بينهما بغير القسمح كقوله: [الطويل] 564 - أخَالِدُ قَدْ والله أوْطَأْتَ عَشْوَةً ... وَمَا العَاشِقُ المَظْلُومُ فِينَا بِسَارِقِ وإذا دخلت على الماضي، فيشترط أن يكون متصرفاً، وإذا دخلت على المضارع، فيشترط تجرّدهُ من جازم وناصب، وحرف تنفيس، وتكون اسماً بمعنى «حَسْب» ؛ نحو: «قَدْنِي دِرْهَمٌ» ، أي: حَسْبِي، وتتّصل بها نون الوقاية مع ياء المتكلم غالباً، وقد جمع الشاعر بين الأمرين، قال: [الرجز] 565 - قَدْنِي مِنْ نَصْرِ الخُبْيبَيْنِ قَدِي ... والياء المتّصلة ب «قدني» في موضع نصب إن كان «قَدْني» اسم فعل، وفي موضع جرّ إن كانت بمعنى «حَسْب» . والياء في «قدي» تحتمل أن تكون بمعنى «حسبي» ، ولم يأت بنون الوقاية على أحد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 الوجهين، وتحتمل أن تكون اسم فعل، وحذفت النون للضرورة، وتحتمل أن تكون اسم فعل، والياء للإطلاق. وإن كانت حرفاً جاز حذف الفعل بعدها، كقوله: [الكامل] 566 - أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لَمّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ أي: قد زالت. وللقسم وجوابه أحكام تأتي إن شاء الله تعالى [مفصلة] . و «عَلِمْتُم» بمعنى: عرفتم، فيتعدّى لواحد فقط. والفرق بين العِلْمِ والمَعْرفة أن العلم يستدعي معرفة الذات، وماهي عليه من الأحوال نحو: «علمت زَيداً قائماً أو ضاحكاً» ، والمعرفة تستدعي معرفة الذَّات. وقيل: لأن المعرفة يسبقها جهل، والعلم قد لايسبقه جهل، ولذلك لا يجوز إطلاق المعرفة عليه سبحانه وتعالى. و «الَّذِينَ اعْتَدَوا» الموصول وصِلَتُهُ في محصل نصب مفعول به، ولا حاجة إلى حذف مضاف كما قدره بعضهم، أي: أحكام الذين اعتدوا؛ لأن المعنى عرفتم أشخاصهم وأعيانهم. وأصل «اعْتَدَوْا» : «اعْتَدَيُوا» ، فأعلّ بالحذف، ووزنه «افْتَعَوْا» ، وقد عرف تصريفه ومعناه. و «منكم» في محلّ نصب على الحال من الضمير في «اعتدوا» ، ويجوز أن يكون من «الذين» . أي من المعتدين كائنين منكم. و «من» للتبعيض. و «السَّبْتِ» متعلّق ب «اعتدوا» ، والمعنى: في حكم السبت. وقال أبو البقاء: وقد قالوا: «اليوم السَّبت» ، فجعلوا «اليوم» خبراً عن «السبت» ، كما يقال: «اليوم القتيال» ، فعلى ما ذكرنا يكون في الكلام حذف، تقديره: في يوم السَّبْت، فالسَبت في الأصل مصدر «سَبَتَ» أي: قطع العمل. وقال ابن عطية: والسَّبْت: إما مأخوذ من «السُّبُوت» الذي هو الراحة والدَّعَة، وإما من «السَّبْت» وهو القطْع؛ لأن الأشياء فيه سبتت، وتمت خِلْقَتُهَا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 ومنه قولهم: سبت رأسه أي: حلقه. وقال الزمخشري: «والسّبت مصدر [سبتت] اليهود: إذا عظمت يوم السبت» . وفيه نظر، فإنّ هذا اللفظ موجود، واشتقاقه مذكور في لسان العرب قبل فعل اليَهُود ذلك، اللهم إلا [أن] يريد هذا السبت الخاصَّ المذكور في هذه الآية. والأصل فيه المصدر كما ذكرت، ثم سمي به هذا اليوم من الأسبوع، لاتفاق وقوعه فيه كما تقدم أن خلق الأشياء تَمّ وانقطع، وقد يقال: يوم السبت فكيون مصدراً. وإذا ذكر معه «اليوم» ، أو مع ما أشبهه من أسماء الأزمنة مما يتضمّن عملاً وحدثاً جاز نصب «اليوم» ، ورفعه، نحو: «اليوم الجمعة» ، «اليوم العيد» كما يقال: «اليوم الاجتماع والعَوْد» . فإن ذكر مع «الأحد» وأخوته وجب الرفع على المشهور، وتحقيقها مذكور في [كتب] النحو. فصل في قصة عدوانهم بالصيد روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أنه قال: هؤلاء القوم كانوا في زمان دَاوُدَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ب «أيلة» على ساحل البحر بين «المدينة» و «الشام» وهو مكان يجتمع إليه الحيتان من كل أرض في شهر من السّنة حتى لا يرعى الماء لكثرتها، وفي غير ذلك الشهر في كل سَبْت يجتمعون هناك حتى يخرجن بخراطيمهن من لماء لأمنها، فإذا مَضَى السَّبت تفرقن، ولزمن قَعْرَ البحر فذلك قوله: {إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} [الأعراف: 163] فعمد رجال فحفروا حِيَاضاً عند البحر، وشرعوا إليها الجَدَاول، فإذا كانت عشية يوم الجمعة فَتَحُوا تلك الجداول، فكانت الحيتان تدخل إلى الحِيَاض، فلا تطيق الخروج منها لبعد عُمْقِها، وقلّة الماء، فيأخذونها يوم الأحد. وقيل: كانوا ينصبون الحَبَائل والشّصُوص يوم الجمعة، ويخرجونها يوم الأحد، وذلك هو اعتداؤهم، ففعلوا ذلك زماناً واشتغلوا وهم خائفون من العقوبة، فلما طال العَهْدُ، ولم تنزل عقوبة قَسَتْ قلوبهم [وتجرءوا] على الذنب فاسْتَنّ الأبناء بِسُنَّة الآباء، واتخذوا الأموال، وقالوا: ما نرى السبت إلاّ وقد أحل لنان فمشى إليهم طوائف من أهل المدينة الذين كرهوا الصيد في السبت، ونهرهم عن ذلك فلم ينتهوا، وقالوا: نحن في هذا العمل منذ زمان، فما زادنا الله به إلا عِزًّا فقيل لهم: لا تفتروا فربما نزل بكم العَذَابُ، فانقسموا ثلاثة أصناف: صنف أَمْسَكَ وانتهى، وصنف ما أمسك ولم يَنْتَهِ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 وصنف انتهكوا الحرمة فلما أبوا قَبُولَ النصح قال الناهون: والله لا ننساكم فقسموا القرية بجدار، ومكثوا على ذلك سنين، فلعنهم داود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وغضب الله عَزَّ وَجَلَّ عليهم لإصرارهم على المعصية، فخرج النَّاهون ذات يوم من بابهم، والمجرمون لم يفتحوا بابهم، ولم يخرج منهم أحد فلما أبطئوا تَسَوروا عليهم الحائط، فإذا هم جميعاً قدرة خاسئين. فإن قيل: إذا كانوا قد نهوا عن الاصْطِيَاد يوم السَّبت، فما الحكمة في أن أكثر الحيتان يوم السَّبت دون سائر الأيام؟ فالجواب: أما على مذهب أهل السُّنة فإرادة الإضلال جائزة من لله تعالى. وأما على مذهب المعتزلة، فالتشديد في التكاليف حسن لغرض ازياد الثواب. و «قِردَةً خَاسِئِيْنَ» يجوز فيه أربعة أوجه: أحدها: أن يكونا خبرين، قال الزَّمخشري: «أي: كونوا جامعين بين القِردَيّة والخسوء» . وهذا التقدير منه بناء على أن الخبر لا يتعدّد، فلذلك قدرهما بمعنى خبر واحد من باب: «هذا حُلْو حَامض» وقد تقدّم القول فيه. والثَاني: إن يكون «خاسئين» نعتاً ل «قردة» قاله أبو البقاء. وفيه نظر من حيث إنّ القردة غير عقلاء، وهذا جمع العقلاء. فإن قيل: المخاطبون عقلاء؟ فالجواب: أنّ ذلك لا يفيد؛ لأن التقدير عندكم حينئذ: كونوا مثل قدرة من صفتهم الخُسوء، ولا تعلّق للمخاطبين بذلك، إلا أنه يمكن أن يقال: إنهم مشبَّهُون بالعقلاء كقوله: {لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] و {أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] . والثالث: أن يكون حالاً من اسم «كونوا» ، والعامل فيه «كونوا» ، وهذا عند من يجيز ل «كان» أن تعمل في الظروف [والأحوال] وفيه خلاف سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى عند قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} [يونس: 2] . الرابع: وهو الأجود أن يكون حالاً من الضمير المُسْتكنّ في «قردة» ؛ لأنه في معنى المشتق أي: كونوا ممسوخين في هذه الحال. وجمع «فِعْل» على «فِعَلَة» قليل لا يَنْقَاس. ومادة «القرد» تدلّ على اللُّصوق والسكون، تقول: قَرَد بمكان كذا: لصق به وسكن، ومنه: الصُّوف «الْقَرَد» أي: المتداخل، ومنه أيضاً: «القُرَادُ» هذا الحيوان المعروف ويقال: «خسأته فخَسَاً، فالمتعدي والقاصر سواء نحو: زاد وغاض وقيل: خسأته فخسىء وانسخاً، والمصدر» الخسوء «و» الْخَسْء «. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 وقال الكسائي:» خسأت الرجل خسأ، وخسأ هو خسوءاً «، ففرق بين المصدرين. والخسوء: الذّلة والصَّغار والطرد والبعد، ومنه: خسأت الكلب قال مجاهد وقتادة والربيع: وهي لغة» كنانة «. وقال أبو روق: يعني خرساً لقوله تعالى: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] والمراد من هذا الأمر سرعة التكوين لا نفس الأمر. روي عن مجاهد رَضِيَ اللهُ عَنْه أن الله تعالى مسخ قلوبهم يعني: بالطَّبع والخَتْم، إلا أنه مَسَخَ صورهم لقوله {كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً} [الجمعة: 5] وهذا مَجَاز ظاهر [مشهور] . فصل في المقصود من ذكر هذه القصة والمقصود من ذكر هذه القصّة أمران: الأول: إظهار معجزة سيدنا محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه كالخطاب لليهود الذي كانوا في زمانه، أخبرهم عليه الصَّلاة والسَّلام عن هذه الواقعة مع أنه كان أمياً لم يقرأ ولم يكتب، ولم يخالط القوم دلّ على أنه إنما عرفه بالوحي. والثاني: أنه تعالى لما أخبرهم بما عاجل به أصحاب السَبت، فكأنه يقول لهم: لا تتمردوا ولاتغتروا بالإمهالن فينزل بكم ما نزل بهم، ونظيره قوله تعالى {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ} [النساء: 47] الآية. فإن قيل: إنهم بعد أن صاروا قدرةً لا يبقى لهم فَهْم، ولا عَقْل، ولا علم، فلا يعلمون ما نزل بهم من العذاب، ووجود القرديّة غير مؤلم. فالجواب: لم لا يجوز أن يقال: إنّ الذي كان إنساناً عاقلاً فاهماً كان ثابتاً لم يتغير، وإنما تغيرت الصورة فلم يقدر على النّطق والأفعال الإنسانية، لكنها كانت تعرف ما نالها من تغير الخِلْقة بسبب المعصية، فكانت في نهاية الخوف والخَجَل، وربما كانت متألمة بسبب تغير تلك الأعضاء؟ . فإن قيل: أولئك القردة بقوا أو هلكوا، فإن قوا فالقردة الموجودون في زماننا هل يجوز أن يكونوا من نَسْلِهمْ أم لا؟ فالجواب: الكل جائز، إلاّ أن الرواية عن ابن عباس أنهم مكثوا ثلاثة أيام، ثم هلكوا ولم يأكلوا ولم يشربوا، ولم ينسلوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 قال ابن عطية: وروي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال «إن المَمْسوخ لا يَنْسِلُ، ولا يَأْكل، ولا يَشْرَب، ولا يَعيْش أكثر من ثَلاَثَة أيام» قاله القُرْطبي. وهذا هو الصحيح. واحتج ابن العَرَبيّ وغيره على أن المَمْسُوخَ يَعيش، ويَنسل، لقوله عليه الصلاة واللام: «إنّ امة من بَنِي إسْرَائِيْلَ لا يُدْرى ما فعلت ولا أراها إلا الفَأْر ألا ترونها إذا وضع لها أَلْبَان الإِبِلِ لم تَشْرَبْهُ وإذا وضع لها أَلْبَان الشَّاة تشربها» . ويقول جابر رَضِيَ اللهُ عَنْه: أُتِيَ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِضَبٍّ فأَبى أن يأكل منه وقال: «لا أَدْرى لعلّه من القُرُون التي مُسِخَتْ» . وروى البخاري عن عمر بن ميمن أنه قال: «رأيت في الجاهلية قدرةً قد زَنَتْ فرجموها فرجمتها معهم» . قال ابن العربيك فإن قيل: كيف تعرف البَهَائم الشرائع حتى ورثوها خَلْفاً عن خَلْفٍ إلى زمان عمر؟ قلنا: نعم! كان ذلك؛ لأن اليهود غَيَّرُوا الرَّجم، فأراد الله أن يقيمه في مسوخهم حتى يكون أبلغ في قيام الحُجَّة على ما أنكروا وغيّروه، حتى تشهد عليم كتبهم، وأَخْبارهم، ومسوخهم، حتى يعلموا أنّ الله يعلم ما يُسِرُّون وما يعلنون. قال القرطبي: ولا حُجَّة في شيء من ذلك، أما حديث الفأر والضَّبّ فكان هذا حَدْساً منه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن يوحى إليه أنّ الممسوخ لا يعيش ولا يَنْسل. وأما حديث القدرة ففي بعض الروايات لم يذكروا فيها أنها زنت إنما ذكر الرَّجم فقط، وإنما أخرجه البخاري دلالة على أن [عمر بن ميمون أدرك الجاهلية، ولم يُبَالِ بظنه الذي ظنه في الجاهلية، وذكر ابن عبد البر أن] عمرو بن ميمون من كبار التابعين من لكوفيين، هو الذي رأى الرجم في الجاهلية من القردة. «فَجَعَلْنَاهَا» فعل وفاعل ومفعول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 «نَكَالاً» مفعول ثانٍ ل «جعل» التي بمعنى «صبر» والأول هو الضمير، وفيه أقوال: أحدها: يعود على المَسْخَة. وقيل: على القرية، لأن الكلام يقتضيها كقوله: {فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً} [العاديات: 4] أي: بالمكان. وقيل: على العقوبة. وقيل: على الأمة. «النكال» المنع، ومنه: النّكل، والنِّكلْك اسم للقيد من الحديد، واللِّجَام؛ لأنه يُمنع به، وسمي العقاب نَكَالاً؛ لأنه يُمنْع به غير المعاقب أن يفعل فِعْلَه، ويمنع المعاقب أن يعود إلى فَعله الأول. و «التنكيل» : إصابة الغير بالنِّكَال لِيُردَعَ غيره، ونَكَلَ عن كذا يَنْكلُ نُكُولاً: امتنع، وفي الحديث: «إنّ الله يحب الرُّجُلَ النِّكل» أي: القوي على الغرس. «والْمَنْكَل» : مَا يُنكَّلُ به الإنسان، قال: [الرجز] 567 - فَارْمِ عَلَى أَقفَائِهِمْ بِمَنْكَلِ ... والمعنى: أنا جعلنا ما جرى على هؤلاء عقوبة رادعة لغيرهم. والضمير في «يَدَيْهَا» و «خلفها» كالضمير في «جَعَلْنَاهَا» . قال ابن الخطيب: لما قبلها وما معها وما بعدها من الأمم والقرون، لأن مَسْخَهُمْ ذكر في كتب الأولين، فاعتبروا بها، «ما يحضرها من [القرون] والأمم. وما خَلْفَهَا من بعدهم. وقال الحَسَنُك عقوبة لجميع ما ارتكبوه من هذا الفعْلِ، وما بعده. و» مَوْعِظَةً «عطف على» نَكَالاً «وهي» مَفعِلَةٌ «، من الوَعْظ وهو التخويف. وقال الخليل:» التذكير بالخير فيما يرق له القلب «. والاسم:» العظة «ك» العِدَة «و» الزِّنَة «و» لِلْمُتَّقِينَ «متعلّق ب» موعظة «، واللام للعلّة، وخصّ المتّقين بالذِّكر وإن كانت موعطةً لجميع العالم البَرّ والفاجر؛ لأن المنتفع بها هم المتقون دون غيرهم، ويجوز أن تكون اللام [مقوية] ؛ لأن» موعظة «فرع على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 الفعل في العمل فهو نظير {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] فلا تعلّق لها لزيادتها، ويجوز أن تكون متعلّقة بمحذوف؛ لأنها صفة ل» موعظة «. أي: موعظة كائنة للمتّقين، أي: يعظ المتقون بعضهم بعضاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 في مناسبة هذه القصة لما قبلها ثلاثة أوجه: أحدها: أنه تعالى لما عدد النعم المتقدمة على بني إسرائيل كإنزال المَنّ والسَّلْوَى، ورفع الطُّور، وغير ذلك ذكر بعده هذه النعم الت بها بيّن البريء من غيره وذلك من أعظم النعم. الثاني: أنه تعالى لما حكى عنهم التَّشْديدات والتعنُّت كقوله: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] وقولهم: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61] ، وغير ذلك من التعنُّت ذكر بعده تعنتاً آخر، وهو تعنتهم في صفة البقرة. الثالث: ذكرها معجزة للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه أخبر بهذه القصّة من غير تعلّم وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب. وهذه الآية متأخرة في المعنى دون التلاوة عن قوله: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} [البقرة: 72] وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى. والجمهور على ضم الرَّاء في «يَأْمُرُكم» ؛ لأنه مضارع معرب مُجَرّد عن ناصب وجازم، وروي عن أبي عمرو سكونها سكوناً محضاً، واختلاس الحركة، وذلك لتوالي الحركات، لأن الراء حرف تكرير، فكأنها حرفان، وحركتها حركتان. وقيل: شبَّهها ب «عَضْد» فَسُكِّن أوسطه إجراء للمنفصل مجرى المتصلن وهذا كما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 تقدم في قراءة {بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] وقد تقدم ذكر من استضعفها من النُّحَاة، وتقدّم ذكر الأجوبة عنه. ويجوز إبدال همزة «يَأمُرُكمْ» ألفاً، وهذا مطرد. و «يأمركم» هذه الجُمْلة في محلّ رفع خبر ل «إن» ، و «إن» وما في حيّزها في محلّ نصب مفعولاً بالقول، والقول وما في حيّزه في محلّ جرّ بإضافة الظرف إليه، والظرف معمول لفعل محذوف أيك اذكر. قوله: {أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً} أن وما حيّزها مفعول ثانِ ل «يأمركم» ، فموضعها يجوز أن يكون نصباً، وأن يكون جرَّا على ما مضى من الخلاف، لأن الأصل على إسقاط حرف الجر أي بأن تَذْبَحُوا، يجوز أن يوافق الخليل هنا على أن موضعها نصب؛ لأن هذا الفعل يجوز حذف الباء معه، ولو لم تكن الباء في «أن» نحو: «أمرتكم الخير» . و «البقرة» واحدة البقر، تقع على الذّكر والأنثى نحو: «حَمَامة» ، والصِّفة تميز الذّكر من الأنثى، تقول: بقرة ذكر، وبقرة أنثى. وقيل: بقرة اسم للأنثى خاصّة من هذا الجنس مقابل الثور، نحو: نَاقَة وجَمَل، وأَتَان وحِمَار. وسمي هذا الجنس بذلك، لأنه يَبْقُر الأرض، أي: يشقّها بالحرث، ومنه: بَقَرَ بطنه، والباقر أبو جعفر، لشقِّه العلم، والجمع «بَقَر وَبَاقِر وَبَيْقُور وَبَقِير» . و «البَقِيرة» : ثوب يشقّ فتلقيه المرأة في عنقها من غير كُمَّين. فصل في قصة القتيل روي عن ابن عباس وسائر المفسرين: أن رجلاً من بني إسرائيل قتل قريباً له ليرثه، وقيل: لينكح زوجته، وقيل: إن ابن أخيه قتله ليتزوج ابنته، وكان امتنع من تزويجها له، فقتله ثم رماه في مجمع الطريق، ثم شكا ذلك إلى موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فاجتهد موسى في أن يعرف القاتل، فلما لم يظهر قالوا: قل لربك «بَيِّنْه» فأوحى الله إليه أن يأمرهم بأن يذبحوا بقرة [فعجبوا] من ذلك، ثم شددوا على أنفسهم بالاستفهما حالاً بعد حال، واستقصوا في طلب الوصف، فلما تعينت لم يجدوها بذلك النَّعت إلاَّ عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 إنسان معيّن ولم يبعها إلاَّ بأضعاف ثمنها فاشتروها وذبحوها، وأمرهم موسى عليه الصَّلاة والسَّلام أن يأخذوا عُضْواً منها، فيضربوا به القتيل، ففعلوا فأحيا الله القتيل، وسمى لهم قاتلهم، وهو الذي ابتدأ بالشّكاية فقتلوه [فوراً] . قوله: «أَتتَّخِذُنَا هُزواً» المفعول الثاني ل «أتتخذنا» هو «هُزواً» ، وفي وقوع «هزواً» مفعولاً ثانياً ثلاثة أقوال: أحدها: أنه على حَذْف مضاف، أي: ذوي هزء. الثاني: أنه مصدر واقع المفعول به، أي مهزوءاً بنا. الثالث: أنهم جعلوا نفس الهزء مُبَالغة. وهذا أولى. وقال الزمخشري: وبدأ ب «أَتَجْعَلُنَا» مكان هُزْءٍ، وهو قريب من هذا. وفي «هزواً» ستّ قراءات، المشهور منها ثلاث: «هُزُؤًا» بضمتين مع الهمز، و «هُزْءًا» بسكون الزَّاي مع الهمز وصلاً، وهي قراءة حمزة رَحِمَهُ اللهُ، فإذا وقف أبدلها واواً، وليس قياس تخفيفها، وإنما قياسه إلقاء حركتها على الساكن قبلها. وإنما اتبع رسْمَ المصحف، فإنها رسمت فيه «واو» ، ولذلك لم يُبْدِلها في «جزءاً» واواً وقفاً لأنها لم تُرْسَم فيه واواً كما سيأتين وقراءته أصلها الضم كقراءة الجماعة إلاّ أنه خُفِّفَ كقولهم في عنق: عُنْق. وقيل: بل هي أصل بنفسها ليست مخففةً من ضم. كى مكّي عن الأخفش عن عيسى بن عمر: «كل اسم ثلاثي أوله مضموم يجوز فيه لغتانك التخفيف والتثقيل» . و «هُزُواً» بضمتين مع الواو وصلاً ووفقاً، وهي قراءة حفص عن عاصم، كأنه أبدل الهمزة واواً تخفيفاً، وهو قياس مطرد في كل همزة مفتوحة مضموم ما قبلها نحو: جُوَن في جُؤن، وحكم [كُفْواً] في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] حكم «هزواً» في جميع ما تقدم قراءةً وتوجيهاً. و «هْزاً» بإلقاء حركة الهمزة على الزاي وحذفها، وهو أيضاً قياس مطرد. و «هُزْواً» بسكون العين مع الواو. و «هُزًّا» بتشديد لزاي من غير همزة، ويروى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 عن أبي جعفر [وتقدم معنى «الهزء» في أول سورة] . وقال الثعلبي في تفسيره: قرىء: «هُزُؤًّا» و «كُفُؤًّا» مثقلات ومهموزات، وهي قراءة أبي عمرو وأهل «الشام» و «الحجاز» واختار الكسائي، وأبو عبيد، وأبو حاتم «هُوُزًّا» و «كُفُوًّا» مثقلات بغير همز قال: وكلّها لغات صحيحة فصيحة معناها: الاستهزاء. فصل في الباعث على تعجبهم القوم إنما قالوا ذلك؛ لأنهم لما طلبوا من موسى عليه الصلاة والسَّلام تعيين القاتل، فقال موسى عليه الصّلاة والسلام: اذبحوا بقرة فلم يفرقوا، وبين هذا الجواب وذلك السؤال مناسبة، فظنوا أنه عليه الصَّلاة والسَّلام يُدَاعبهم؛ لأنه من المحتمل أن يكون عليه الصَّلاة والسَّلام أمرهم بذبح البقرة، ولم يعلمهم أنهم إذا ذبحوا البقرة، وضربوا القتيل ببعضها يصير حياً، فلا جرم وقع هذا القول منهم موقع الهزء، ويحتمل أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بيّن لهم كيفية الحال إلاّ أنهم تعجّبوا من [أن] القتيل كيف يصير حيًّا بأن يضرب ببعض أجزاء البقرة، وظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء. نقل القرطبي عن المَاوَرْدَيّ قال: «وإنما أمروا والله أعلم بذبح بقرة دون غيرها؛ لأنها من جنس ما عبدوه من العِجْل ليُهَوِّن عندهم ما كانوا يرونه من تعظيمه، وليعلم بإجابتهم ما كان في نفوسهم من عبادته» . وهذا المعنى علّة في ذبح البقرة، وليس بعلّة في جواب السَّائل، ولكن المعنى فيه أن يحيا القتيل بقتل حَيّ، فيكون أظهر لقدرته في اختراع الأشياء من أضدادها. فصل في بيان هل كفر قوم موسى بسؤالهم ذلك؟ قال بعضهم: إن أولئك الأقوام كفروا بقولهم لموسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: أتتخذنا هزوًا، لأنهم إن قالوا لموسى ذلك لأنهم شكّوا في قدرة الله تعالى على إحياء الميت فهو كفر، وإن شكّوا في ذلك أن الذي أمرهم به موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هل هو بأمر الله، فقد جَوْزوا الخيانة على موسى عليه الصَّلاة والسِّلام في الوحي، وذلك أيضاً كفر، ومن الناس من [قال] : إنه لا يوجب الكفر لوجهين: الأول: أن المداعبة على الأنبياء جائزة، فلعلهم ظنوا أنه عليه الصَّلاة والسَّلام يداعبهم مُدَاعبة حقّه، وذلك لا يوجب الكفر. والثاني: أن معنى قوله: «أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً» أي: ما أعجب هذا الجواب، كأنك تستهزىء بنا لا أنهم حققوا على موسى الاستهزاء. قوله: «أَعُوذُ بِالله» تقدم إعرابه في الاستعاذة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وهذا جواب لاستفهامهم في المعنى، كأنه قال لا أهزأ مستعيذاً بالله من ذلك فإن الهازىء جاهل، فلم يستعذ موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من الشَّيء الذي نسبوه إليه، لكنه استعاذة من السَّبب الموجب له، كما يقول: أعوذ بالله من عدم العَقْل؛ وغلبة الهَوَى، والحاصل أنه أطلق اسم السّبب على المسبب مجازاً. ويحتمل أن يكون المراد «أعوذ بالله أن أكُونَ من الجَاهِلِين» بما في الاستهزاء في أمر الدين من العقاب الشديد، والوعيد والعظيم، فإني متى علمت ذلك امتنع إقْدَامي على الاستهزاء. وقال بعضهم: إن نفس الهزوّ قد يسمى جهلاً وجهالة، فقد روي عن بعض أهل اللُّغة أن الجَهْل ضدّ الحلم، كما قال بعضهم: إنه ضدّ العلم. قوله: «أَنْ أَكُونَ» أي من أن أكون، فيجيء فيه الخلاف المعروف. و «مِنَ الْجَاهِلِيْنَ» خبرها، وهو أبلغ من قولك: أن أكون جاهلاً. فإن المعنى أنّ انتظم في سلك قوم اتصفوا بالجهل. قوله: «قَالُوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ» ف «يبيّن» مجزوز على جواب الأمر كقوله: {فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا} [البقرة: 61] . قوله: «مَا هِيَ» ، «ما» استفهامية في محلّ رفع بالابتداء، تقديره: أي شيء هي؟ وما [الاستفهامية] يطلب بها شرح الاسم تارة، نحو: ما العَنْقَاء؟ وماهية المسمى أخرى، نحو: ما الحركة؟ . وقال السكاكي: «يسأل ب» ما «عن الجنس، تقول: ما عندك» أي: أيّ أجناس الأشياء عندك؟ وجوابه «كتاب» ونحوه، أو عن الوصف، تقول: ما زيد؟ وجوابه: «كريم» ، وهذا هو المراد في الآية. و «هي» ضمير مرفوع منفصل في محلّ رفع خبراً ل «ما» والجلمة في محلّ نصب ب «يبيّن» ؛ لأنه معلّق عن الجلمة بعده، وجاز ذلك، لأنه شبيه بأفعال القلوب. قوله: «لاّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ» لا «نافية» ن و «فارض» صفة ل «بقرة» . واعترض ب «لا» بين الصفة والموصوف، نحوك «مررت برجل لا طويل ولا قصير» . وأجاز أبو البقاء: أن يكون خبر المبتدأ محذوف، أي: لا هي فَارِضٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 وقوله: «ولا بِكْر» مثل ما تقدّم. وتكررت «لا» لأنها متى وقعت قبل خبر، أو نعت، أَو حال وجب تكريرها تقول: «زيد لا قائم ولا قاعد» ، و «مررت به لا ضحاكاً ولا باكياً» . ولا يجوز عدم التكرار إلا في ضرورة خلاقاً للمبرّد وابن كَيْسَان؛ فمن ذلك: [الطويل] 568 - وَاَنْتَ امْرُؤٌ مِنَّا خُلِقْتَ لِغَيْرنا ... حَيَاتُكَ لاَ نَفْعُ ومَوْتُكَ فَاجِعُ وقوله: [الطويل] 569 - قَهَرْتُ الْعِدَا لاَ مُسْتَعِيناً بِعُصْبَةٍ ... وَلَكِنْ بَأَنْواعِ الْخَدائِعِ وَالمَكْرِ فلم يكرهها في الخبر، ولا في الحال. و «الفارض» : المُسِنّة الهَرِمَة، قال الزمخشريُّ: كأنها سميْت بذلك؛ لأنها فَرَضَتْ سِنَّها، أي: قَطَعَتْهَا وبلغت آخرها؛ قال: [الطويل] 570 - لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْطَيْتَ ضَيْفَكَ فَارِضاً ... تُسَاقُ إِلَيْهِ مَا تَقُومُ عَلَى رِجْلِ ويقال لكل ما قَدُمَ: فارض؛ قال [الرجز] 571 - شَيَّبَ أَصْدَاعِيْ فَرَأْسِي أَبْيَضُ ... مَحَامِلٌ فِيهَا رِجَالٌ فُرَّضُ أي: كبار قدماء. وقال آخر: [الرجز] 572 - يَارُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ ... لَهُ قُرُوءٌ كَقُروءِ الْحَائِضِ وقال الرَّاغب: سميت فارضاً، لأنها تقطعه الأرض، والْفَرْضُ في الأصل القطع، وقيل: لأنها تحمل الأعمال الشاقة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 وقيل: لأن فريضة البقر تَبِيعٌ ومُسِنَّةٌ، قال: فعلى هذا تكون الفارض اساً إسلاميّاً. وقيل: «الفَارِضُ» : التي ولدت بطوناً كثيرة فيتسّع جوفها لذلك؛ لأن معنى الفارض في اللغة الواسع، نقله القرطبي عن بعض المتأخرين. ويقال: فَرَضَتْ تَفْرِضُ بالفتح فُرُوضاً. وقيل: فَرُضَتْ بالضم أيضاً. وقال المفضَّل بن سَلَمَةَ: الفارض: المُسِنَّة. و «البِكْر» : ما لم تحمل. وقيل: ما ولَدَتْ بطناً واحداً، وذلك الولد بِكْرٌ أيضاَ. قال: الرجز] 573 - يَا بِكْرَ بَكْرَين وَيَا خِلْبَ الْكَبِدْ ... أَصْبَحْتَ مِنِّي كِذِرَاع مِنْ عَضُدْ و «البِكْر» من الحيوان: من لم يطرقه فحل، و «البَكْر» بالفتح الْفَتِيُّ من الإِبل، والبَكَارة بالفتح المصدر. وقال المفضَّل بن سلمة: البِكْر: الشابة. قال القفال رَحِمَهُ اللهُ تعالى: اشتقاق البكر يدل على الأول، ومنه الباكورة لأول الثمرة، ومنه: بُكْرَة النهار، ويقال: بكرت عليه البارحة، إذا جاء في أول الليل. والأظهر أنها هي التي لم تلد؛ لأن المعروف من اسم البكر من إناث بني آدم: ما لم يَنْزُ عليها الفحل. قوله: عَوَانٌ صفة ل «بقرة» ، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوف أي: هي عَوانٌ كما تقدم في {لاَّ فَارِضٌ} [البقرة: 68] والعوان: النَّصَف، وهو التوسُّط بين الشيئين، وذلك أقوى ما يكون وأحسنه؛ قال: [الوافر] 574 - ... ... ... ... ... ... ... ..... نَوَاعِمُ بَيْنَ أَبْكَارٍ وَعُون وقال الشاعر يصف فرساًك [الطويل] 575 - كُمَيْتٍ بَهِيمٍ اللَّونِ لَيْسَ بِفَارضٍ ... وَلاَ بِعَوانٍ ذَاتِ لَوْنٍ مُخَصَّفِ «فرس أخصف» إذا ارتفعَ الْبَلَق من بطنه إلى جنبه، ويقال للنخلة الطويلة: عوان، وهي فيما زعموا لغة عَانِيَة، حكاه القرطبي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 وقيل: هي التي ولدت مرة بعد أخرى منه «الحرب العوان» أي التي جاءت بعد حرب أخرى؛ قال زهير: [الطويل] 576 - إِذَا لَحِقَتْ حَرْبٌ عَوَانٌ مُضِرَّةٌ ... ضَرُوسٌ تُهِمرُّ النَّاسَ أَنْيَابُهَا عُصْلُ والعُوْن بسكون الواو الجمع، وقد يضم ضرورة كقوله: [السريع] 577 - ... ... ... ... ... ... ... ....... . . في الأَكُفِّ اللاَّمِعَاتِ سُوُرْ بضم الواو. ونظيره في الصحيح «قَذَال وقُذُل» و «حِمَار وحُمُر» . قوله: «بين ذلك» صفة ل عوان « [فهي] في محلّ رفع، ويتعلق بمحذوف، أي: كائن بين ذلك، و» بين «إنما تضاف لشيئين فصاعداً، وجاز أن تضاف هنا إلى مفرد؛ لأنه يشار به إلى المُثَنَّى والمجموع؛ كقوله: [الرمل] 578 - إِنَّ لِلْخَيْرِ وَلِلشَّرِّ مَدًى ... وَكِلاَ ذَلِكَ وَجْهٌ وَقَبَلْ كأنه قيل: بين ما ذكر من الفارض البكر. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز أن يشار به إلى مؤنثين، وإنما هو لإشارة المذكر؟ قلت: لأنه في تأويل ما ذكر وما تقدم، وقال: وقد يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة في هذا، قال أبو عبيدة: قلت لرؤبة في قوله: [الرجز] 579 - فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ إن أردت الخطوط فقل: كأنها، وإن أردت السواد والبَلَق فقل: كأنهما، فقال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 أردتُ: ذَاكَ وَذلِكَ. والذي حسن منه أن أسماء الإشارة تثنيتها، وجمعها، وتأنيثهما ليست على الحقيقة، وكذلك الموصولات، ولذلك جاء «الذي» بمعنى الجمع واحتج بعض العلماء بقوله: «عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ» على جواز الاجتهاد، واستعمال غلبة النَّص في الأحكام، إذ لا يعلم أنها بين الفَارِض والبِكْر إلا من طريق الاجتهاد. قوله: {مَا تُؤْمَرونَ} «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف تقديره: تؤمرون به، فحذفت الباء، وهو حذف مطرد، فاتصل الضمير فحذفت «الهاء» ، وليس هو نظير: {كالذي خاضوا} [التوبة: 69] فإن الحذف هناك غير مقيس. ويضعف أن تكون «ما» نكرة موصوفة. قال أبو البقاء: لأن المعنى على العموم، وهو ب «الذي» أشبه، ويجوز أن تكون مصدرية أي: أمركم بمعنى مأموركم، تسمية للمفعول بالمصدر ك «ضَرْب الأمير» قاله الزمخشري. و «تؤمرون» مبني للمعفول، و «الواو» قائم مقام الفاعل، ولا محلّ لهذه الجملة لوقوعها صلة. صل في الغاية من وصف البقرة والمقصود كون البقرة في أكمل أحوالها، وذلك لأن الصَّغيرة تكون ناقصة؛ لأنها لم تصل إلى حالة الكمال، والمُسِنّة صارت ناقصةً؛ لتجاوزها حَدّ الكمال، والمتوسط هو الذي يكون في حال الكمال. قاله الثعلبي. قوله: {مَا لَوْنُهَا} كقوله: «مَا هِيَ» . وقرأ الضحاك: «لونها» بالنصب. وقال أبو البقاء: لو قرىء: لَوْنَهَا «بالنصب لكان له وَجْهٌ، وهو أن تكون» ما «زائدة كهي في قوله {أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ} [القصص: 28] ويكون التقدير: يبين لنا لَوْنَهَا وهذا تجديد للأمر، وتأكيد وتنبيه على ترك التعنّتن وهذا يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب، ويدل على أن الأمر على الفور؛ لأنه تعالى ذمهم على التأخير بقوله: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] . واستدل بعضهم على أن الأمر على التراخي؛ لأنه تعالى لم يعنفهم على التأخير والمُرَاجعة في الخطاب، قاله القرطبي عن ابن خُوَيْزِمَنْداد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 قال الثعلبي: وقرأ الضحاك:» لونَهَا «بالنصب. وأما» ما هي «فابتداء وخبر لا غَيْرُ، إذ لا يمكن جعل» ما «زائدة؛ لأن» هي «لا يصح أن يكون مفعول» يبين «يعني: أنها بصيغة الرفع، وهذا ليس من مواضع زيادة» ما «فلا حاجة إلى هذا. واللَّوْن عبارة عن الحُمْرة والسَّوَاد ونحوهما، واللَّوْن أيضاَ النَّوع، وهو الدَّقَل نوع من النخل. قال الأَخْفَشُ: «هو جماعة واحدها لِينَة» وفلان يَتَلَوَّنُ، أي: لا يثبتُ على حال؛ قال الشاعر: [الرمل] 580 - كُلَّ يَوْمٍ تَتَلَوَّنْ ... غَيْرُ هَذَا بِكَ أَحْمَلُ و «صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا» يجوز أن يكون «فاقع» صفة، و «لونها» فاعل به، وأن يكون خبراً مقدماً و «لونها» مبتدأ مؤخر، والجملة صفة ذكرهما أبو البقاء. وفي الوجه الأول نظر، وذلك أن بعضهم ذكر أن هذه التوابع للألوان لا تعمل عمل الأفعال. فإن قيل: يكون العمل ل «صفراء» لا ل «فاقع» كما تقول: «مررت برجل أبيض ناصع لونه» ف «لونه» مرفوع ب «أبيض» لا ب «ناصع» . فالجواب: أن ذلك هاهنا ممنوع من جهة أخرى، وهو أن «صفراء» مؤنَث اللفظ، ولو كان رافعاً ل «لَوْنُها» لقيل: أصفر لونها، كما تقول: مررت بأمرأة أصفر لونها، ولا يجوز: صفراء لونها؛ لأن الصفة كالفعل، إلاَّ أن يقال: إنه لما أضيف إلى مؤنث اكتسب منه التأنيث، فعومل معاملته كما سيأتي. ويجوز أن يكون «لونها» مبتدأ و «تَسُرُّ» خبره، وإنما أنث الفعل لاكتسابه بالإضافة معنى التأنيث؛ كقوله: [الطويل] 581 - مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحٌ تَسَفَّهَتْ ... أَعَالِيهَا مَرٌّ الرِّياحِ النَّوَاسِمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 162 وقول الآخر: [الطويل] 582 - وَتَشْرَقُ [بَالقَوْلِ] الَّذِي قَدْ أَذَعْتَهُ ... كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّم أنّث فعل المَرِّ والصَّدْرِ لما أَضيفا لمؤنث، وقرىء: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} [يوسف: 10] . وقيل: لأن المراد باللَّون هنا الصُّفرة، وهي مؤنّثة، فحمل على المعنى في ذلك، ويقال: أصفر فاقع، وأبيض ناصع، ويَقِقٌ ولَهِقٌ ولِهَاقٌ، وأخضر ناضر، وأحمر قانىء، وأسود حالك وحائك وَحُلْكُوك، ودَجُوجِيٌّ وغِرْبِيبُ، وبَهِيم. وقيل: «البهيم الخالص من كل لون» . وبهذا يظهر أن «صفراء» على بابها من اللون المعروف لا سَوْدَاء كما قاله بعضهم: فإن الفُقُوع من صفة الأصفر خاصّة، وأيضاً فإنه مجاز بعدي، ولا يستعمل ذلك إلا في الإبل لِقُرْبِ سوادها من الصّفرة، كقوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ} [المرسلات: 33] وقال [الخفيف] 583 - تِلْكَ خَيْلِي مِنْهُ وتِلْكَ رِكَابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أَوْلاَدُهَا كَالزَّبِيبِ فإن قيل: هلاّ قيل: صفراء فاقعة؟ وأي فائدة في ذلك اللون؟ فالجواب: فائدته التأكيد؛ لأن اللون اسم للهَيْئَةِ، وهي الصّفرة، فكأنه قال: شديدة الصفرة صفرتها فهو من قولك: جدّ جدّه. وعن وهب: إذا نظرت إليها خُيِّل إليك أن شعاع الشمس يخرج من جِلْدِهَا، فمعنى قوله: «تَسُرُّ النَّاظِرينَ» أي: يعجبهم حسنها وصَفَاءُ لونها، لأن العين تسر بالنظر إلى الشيء الحسن. قال علي بن أبي طالب رضى الله عنه: من لبس نعلاً صفراء قلْ همه؛ لأن الله تعالى يقول: {صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ الناظرين} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 قال الكسائي؛ يقال: فَقَع لونها يَفْقَعُ فُقُوعاً، إذا خَلَصَت صفرته، والإفْقَاع: سوء الحال، وفَوَاقِعُ الدهر: بَوَائِقُه، وفَقَّع بأصابعه: إ ذا صوَّت، ومنه حديث أبن عباس: «نَهَى عن التَّفقيع في الصلاة» ، وهي الفرقعة، هي غَمْزُ الأصابع حتى تُنْقِض، قاله القرطبي. واختلفوا هل كانت جميعها صفراء حتى قُرونها وأظلآفها، أو الصفرة المعتادة؟ قولان. وفي قوله «فاقع» لطيفة، وهي أنه وصفها باسم الفاعل الذي هو نعت للدوام والاستمرار. يعني: في الماضي والمستقبل. وفي قوله: «تَسُرُّ» لطيفةٌ، وهي أنه أتى بصيغة المضارع وهو يقتضي التجدُّد والحدوث، بخلاف الماضي. وفي قوله: «النَّاظرين» آية لطيفة، وهي أنه أتى بصيغة الجمع المُحَلّى بالألف واللام، ليعمّ كلّ ناضر منفردين ومجتمعين. وقيل: المراد بالنظر نظر البصر للمرء والمرأة أو المراد به النظر بعين اليقين، وهو التفكر في المخلوقات. قوله: {تَسُرُّ الناظرين} جلمة في محل رفع صفة ل «بقرة» أيضاً، وقد تقدم أنه يجوز أن تكون خبراً عن «لونها» بالتأويلين المذكورين. و «السرور» لذّة في القلب عند حصول نفع أو توقّعه، ومنه [السرير] الذي يُجْلس عليه إذا كان لأولي النعمة، وسرير الميت تشبيهاً به في الصورة وتفاؤلاً بذلك. قوله: {ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنَ لَّنَا مَا هِيَ} تقرير للسؤال عن حالها وصفتها، واستكشاف زائد، ليزدادوا بياناً لوصفها، وفي مصحف عبد الله: «سل لنا ربك يبين لنا ما هي؟ وما صفتها» . قوله: {إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا} البَقَر: اسم إن، وهو اسم جنس كما تقدم. وقرأ محمد ذو الشامة الأموي: «إنّ البَاقِرَ» وهو جمع البَقَر ك «الجَامِل» جماعة الجَمَل؛ قال الشاعر: [الكامل] 584 - مَالِي رَأَيْتُكَ بَعْدَ عَهْدِكَ مُوحِشاً ... خَلِقاً كَحَوْضِ البَاقِرِ المُتَهَدِّمِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 قال قطرب: «يقال لجمع البقرة: بَقَر وبَاقِر وبَاقُور وبَيْقُور» . وقال الأَصْمَعِيّ: «الباقر» جمع باقرة، قال: ويجمع بقر على بَاقُورة، حكاه النّحاس. قال القرطبي: والباقر والبقر والبيقور والبقير لُغَات بمعنى واحد والعرب تذكره وتؤنثه، وإلى ذلك ترجع معاني القراءات في «تشابه» . و «تشابه» جملة فعلية في محلّ رفع خبر ل «إن» ، وقرىء: «تَشَّابَهُ» مشدَّداً ومخفَّفاً، وهو مضارع الأصل: «تَتَشَابَهُ» بتاءين، فَأُدْغِمَ تارةً، وحذف منه أخرَى، وكلا الوجهين مقيس. وقرىء أيضاً: «يَشَّابَهُ» بالياء من تحت، [وأصله: يَتَشَابَهُ فأدغم أيضاً، وتذكير الفعل وتأنيثه جائزات؛ لأن فاعله اسم جنس] وفيه لغتان: التذكيرُ والتأنيثُ، قال تعالى: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] فَأَنَّث، و {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] فذكر، وقيل: ذكر الفعل لتذكير لفظ «البقرة» ؛ كقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} . وقال المبرِّد: سئل سِيبَوَيْهِ عن هذه الآية، فقال: «كل جمع حروفه أقل من حروف وَاحِده، فإن العرب تذكره» ؛ واحتج بقول الأعشى: [البسيط] 585 - وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلْ ... [وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أيُّهَا الرَّجُلُ] ولم يقل: «مرتحلون» . وفي «تشابه» قراءاتك «تَشَابَهَ» بتخفيف الشين وفتح الباء والهاء، وهي قراءة العامة. و «تَتَشَابَه» بتاءين على الأصل. و «تَشَّبَّه» بتشديد الشين والباء من غير ألف، والأصل: تَتَشَبَّهُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 و «تَشَابَهَتْ» على وزن «تَفَاعلت» وهو في مصحف أُبَيّ كذلك أَنّثه لتأنيث البقرة. و «مُتَشَابِهَة» و «مُتَشَبِّهة» على اسم الفاعل من تشابه وتشبّه. وقرىء: «تَشَبَّهَ» ماضياً. وقرأ ابن أبي إسحاق: «تَشَّابَهَتْ» بتشديد الشين، قال أبو حاتم: هذا غلط، لأن التاء في هذا الباب لا تدغم إلاّ في المضارع. . وهو معذور في ذلك. وقرىء: «تَشَّابَهَ» كذلك، إلاّ أنه بطرح تاء التأنيث، ووجهها على إشكالها أن يكون الأصل: إن القرة تشابهت، فالتاء الأولى من البقرة و [التاء] الثانية من الفعل، فلما اجتمع مثلان أدغم نحو: الشجرة تمايلت، إلاّ أنه يُشكِل أيضاً في تَشَّابَه من غير تاء؛ لأنه كان يجب ثبوت علامة التأنيث. وجوابه: أنه مثل: [المتقارب] 586 - ... ... ... ... ... ... . ... وَلاَ أَرْضَ أَبْقَلَ إِبْقَالَهَا مع أن ابن كيسان لا يلتزم ذلك في السّعَةِ. وقرأ الحسنك «تَشَابَهُ» بتاء مفتوحة وهاء مضمومة وتخفيف الشين أراد: تتشابه. وقرأ الأعرج: «تَشَّابَهُ» بفتح التاء وتشديد الشين وضمّ الهاء على معنى: تتشابه. وقرأ مجاهد: «تَشَّبَّه» كقراءة الأعرج، إلا أنه بغير ألف. ومعنى الآية: [التلبيس] والتشبه. قيل: إنما قالوا: «إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا» أي: اشتبه أمره علينا، فلا نهتدي إليه؛ لأن وجوه البقر [تتشابه] يريد: أنها يشبه بعضها بعضاً، ووجوه البقر تتشابه. قوله: {إِن شَآءَ الله} هذا شرط جوابه محذوف لدلالة «إنْ» ، ما في حيّزها عليه، والتقدير: إن شاء الله هِدَايتنا للبقرة، اهتدينا، ولكنهم أخرجوه في جملة اسمية مؤكدة بحرفي تأكيد مبالغة في طلب الهِدَاية، واعترضوا بالشرط تيمُّناً بمشيئة الله تعالى. «المهتدون» اللام: لام الابتداء داخلة على خبر «إن» . وقال أبو البقاء: جواب الشرط «إن» وما عملت فيه عند سيبويه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 وجاز ذلك لما كان الشرط متوسطاً، وخبر «إنَّ» هو جواب الشرط في المعنى، وقد وقع بعده، فصار التقدير: إن شاء الله هدايتنا اهتدينا. وهذا الذي قاله لا يجوز، فإنه متى وقع جواب الشرط ما لا يصلح أن يكون شرطاً وجب اقترانه بالفَاءِ، وهذه الجملة لا تصلح أن تقع شرطاً، فلو كانت جواباً لزمتها الفاء، ولا تحذف إلا ضرورة، ولا جائز أن يريد أبو البقاء أنه دالّ على الجواب، وسماه جواباً مجازاً؛ لأنه جعل ذلك مذهباً للمبرد مقابلاً لمذهب سيبويه فقال: وقال المبرد: والجواب محذوف دلت عليه الجملة؛ لأن الشرط معترض، فالنية به التأخير، فيصير كقولك: أنت ظالم إن فعلت. وهذا الذي نقله عن المبرد هو المنقول عن سيبويه، والذي نقله عن سيبويه قريبٌ مما نقل عن الكوفيين وأبي زيد من أنه يجوز تقديم جواب الشَّرْط عليه، وقد ردّ عليهم البصريون بقول العرب: «أنت ظالم إن فعلت» . إذ لو كان جواباً لوجب اقترانه بالفاء لما ذكرت ذلك. وأصل «مُهْتَدُون» : «مُهْتَدِيُون» ، فأعلّ بالحذف، وهو واضح. فصل في الاستثناء بالمشيئة قال الحسن رضي الله تعالى عنه عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَالَّذِي نَفْسَ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَوْ لَمْ يَقُولُوا: إنْ شَاءَ اللهُ لَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهَا أَبَداً» . واعلم أن التلّفظ بهذه الكلمة مندوب إليه في كلّ عمل يراد تحصيله، قاله تعالى: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً 0 إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23، 24] . وفيه استعانة بالله وتفويض الأمور إليه، والاعتراض بقدرته. فصل في الإرادة الكونية احتج أهل السُّنة بهذه الآية على أن الحوادث بأسرها مرادة لله تعالى. وعند المعتزلة أن الله تعالى لما أمرهم بذلك، فقد أراد اهتداءهم لا مَحَالَة، وحينئذ لا يبقى لقولهم: «إنْ شاء الله» فائدة. قال ابن الخطيب: أما على قول أصحابنا، فإن الله تعالى قد يأمر بما لا يريد فحينئذ يبقى لقولهم: «إن شاء الله» فائدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 فصل في مذهب المعتزلة في المشيئة احتج المعتزلة بهذه الآية على أن مشيئة الله تعالى محدثة من وجهين: الأول: أن دخول حرف «إن» يقتضي الحدوث. الثاني: أنه تعالى علّق حصول الاهتداء على حصول مشيئة الاهتداء، فلم لم يكن حصول الاهتداء أزليًّا وجب ألاّ تكون مشيئة الاهتداء أزلية. فصل في تقدير المشيئة ذكر القفال في تقدير هذه المشيئة وجوهاً: أحدها: وإنا بمشيئة الله نهتدي للبقرة المأمور بذبحها عند تحصيل أوصافها المميزة لها عن غيرها. وثانيها: وإنا إن شاء الله تعريفها إيَّانا بالزيادة لنا في البيان نهتدي إليها. وثالثها: وإنا إن شاء الله على هدى، أي: في استقصائنا في السّؤال عن أوصاف البقر، أي إنّا لسنا على ضلالة فيما نفعل من هذا البحث. ورابعها: إنا بمشيئة الله نَهْتَدِي للقاتل إذا وصفت لنا هذه البقرة بما تمتاز به عن غيرها. قال القرطبي: وفي هذا الاستثناء إنابةٌ وانقياد، ودليل نَدَم على عدم موافقة الأمر. وتقدير الكلام: وإنما لمهتدون إن شاء الله. فقدم على ذكر الاهتداء اهتماماً به. قوله: {إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ} المشهور «ذَلُولٌ» بالرفع على أنها صفة ل «بقرة» ، وتوسطت «لا» للنفي كما تقدم في «لاَ فَارِض» ، أو على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: لا هي ذلول، والجملة من هذا المبتدأ أو الخبر في [محل] رفع صفة ل «بقرة» . وقرىء: «لاَ ذَلُولَ» بفتح اللام على أنها «لا» التي للتَّبرئة والخبر محذوف تقديره: لا ذلولَ ثَمَّ أو ما أشبهه، وليس المعنى على هذه القراءة، ولذلك قال الأخفس: «لا ذلول نعت، ولا يجوز نصبه» . و «الذَّلول» : التي ذُلِّلَت بالعمل، يقال: بقرة ذَلُوث بَيِّنَةٌ الذِّل بكسر الذال، ورجل ذَليل: بين الذُّل بضمّها، وقدم عند قوله: {الذلة} [البقرة: 61] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 [قوله] : {تُثِيرُ الأرض} في هذه الجملة أقوال كثيرة: أظهرها: أنها في محلّ نصب على الحال من الضمير المستكن في «ذلول» تقديره: لا تُذَلُّ حال إثارتها. وقال ابن عطية: وهي عند قوم جملة في موضع الصفة ل «بقرة» أي: لا ذلولٌ مثيرة. وقال أيضاً: «ولا يجوز أن تكون هذه الجملة في موضع الحال، لأنها نكرة» . أما قوله: في موضع الصفة فإنه يلزم منه أن البقرة كانت مثيرة للأرض، وهذا الم يقل به الجمهور، بل قال به بعضهم، وسيأتي إن شاء الله. وأما قوله: لا يجوز أن تكون حالاً يعني من «بقرة» ؛ لأنها نكرة. فالجواب: أنَّا لا نسلم أنها حال من «بقرة» ، بل من الضمير في «ذلول» كما تقدم، أو تقول: بل هي حال من النكرة؛ لأن النكرة قد وصفت وتخصصت بقوله: «لا ذَلُول» ، وإذا وصفت النكرة ساغ إتيان الحال منها اتفاقاً. وقيل: إنها مستأنفة، [واستئنافها على وجهين: أحدهما: أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: هي تثير. والثاني: أنها مستأنفة] بنفسها من غير تقدير مبتدأ، بل تكون جملة فعلية ابْتُدِىءَ بها لمجرد الإخبار بذلك. وقد منع من القول باستئنافها جماعة منه الأخْفَشُ عليّ بن سليمان، وعلل ذلك بوجهينك أحدهماك أن بعده: «وَلاَ تَسْقِي الحَرْثَ» فلو كان مستأنفاً لما صحّ دخول «لا» بينه وبين «الواو» . والثّانيك إنها لو كانت تثير الأرض لكانت الإثارة قد ذللتها، والله تعالى نفى عنها ذلك بقوله: «لا ذَلُول» وهذا المعنى هو الذي منع أن يكون «تُثِير» صفة ب «بقرة» ؛ لأن اللازم مشترك، ولذلك قال أبو البقاء: ويجوز على قول مَنْ أثبت هذا الوجه [يعني: كونه تثير الأرض ولا تسقي أن تكون «تثير» في موضع رفع صفة ل «بقرة» . وقد أجاب بعضهم عن الوجه الثاني] ، فإن إثارة الأرض عبارة عن مَرَحِهَا ونَشَاطِهَا؛ كما قال امرؤ القيس: [الطويل] 587 - يُهِيلُ ويُذْرِي تُرْبَهُ وَيُثِيرُهُ ... إِثَارَةَ نَبَّاثِ الهَوَاجِرِ مُخْمِسِ أي: تثير الأرض مرحاً ونشاطاً لا حَرثاً وعملاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 وقال أبو البقاء: وقيل: هو مستأنف، ثم قال: وهو بعيد عن الصّحة لوجهين: أحدهما: أنه عطف عليه قوله: «وَلاَ تَسْقِي الحَرْثَ» ، فنفى المعطوف، فيجب أن يكون المعطوف عليه كذلك؛ لأنه في المعنى واحد، ألا ترى أنك لا تقول: مررت برجل قائم ولا قاعد، بل تقول: لا قاعد بغير واو، كذلك يجب أن يكون هذا. وذكر الوجه الثاني لما تقدم، وأجاز أيضاً أن يكون «تثير» في محلّ رفع صفة ل «ذلول» ، وقد تقدم خلاف هل يوصف الوصف أم لا؟ فهذه ستة أوجه تلخيصها: أنها حال من الضمير في «ذَلُول» ، أو من «بقرة» ، أو صفة ل «بقرة» ، أو ل «ذلول» ، أو مستأنفة بإضمار مبتدأ، أو دونه. قوله: {وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا} الكلام فيه هذه كالكلام فيما قبلها من كونها صفة ل «بقرة» ، أو خبر لمبتدأ محذوف. وقال الزمخشري: و «لا» الأولى للنفي يعني الدَّاخلة على «ذلول» . والثانية مزيدة لتأكيد الأولى؛ لأن المعنى: لا ذلول تثير [الأرض] وتسقي، على أن الفعلين صفتان ل «ذَلُول» ، كأنه قيل: لا ذلول مثيرة وساقية. وقرىء: «تُسْقى» بضم التاء من «أَسْقى» . وإثارة الأرض: تحريكها وبَحْثُهَا، ومنه: {وَأَثَارُواْ الأرض} [الروم: 9] أي: بالحَرْث والزراعة، وفي الحديث: «أَثِيرُوا القُرْآنَ فَإِنَّهُ عِلْمُ الأَوَّلِينَ وَالأَخِرِينَ» . وفي رواية: «مَنْ أَرَادَ العِلْمَ فَلْيُثوِّرِ القُرْآن» . وجملة القول أن القرة لا يكون بها نَقْص، فإن الذلول بالعمل لكونها تثير الأرض، وتسقي الحرث لابد وأن يظهر بها النقص. قال القرطبي: قال الحسن: وكانت تلك البقرة وَحْشٍية، ولهذا وصفها الله تعالى بأنها لا تثير الأرض، ولا تسقي الحرث. وقال: الوقف هاهنا حسن. و «مُسَلَّمة» قيل: من العيوب مطلقاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 وقيل: من آثار العمل المذكور. وقيل: مسلمة من الشّبه التي هي خلاف لونها، أي: خلصت صُفْرتها عن اختلاط سائر الألوان بها، وهذا ضعيف؛ لأن قوله: «لاَ شِيَةَ فِيهَا» يصير تكراراً. و «شِيَة» : مصدر وَشَيْتُ الثوب أَشِيه وَشْياً وَشِيَةً، حذفت فاؤها؛ لوقوعها بين ياء وكيرة في المضارع، ثم حمل باقي الباب عليه، ووزنها «عِلَةٌ» ومثلها: «صِلَةٌ وعِدَةٌ وَزِنَة» . وهي عبارة عن اللُّمْعَة المخالفة للون، ومنه: ثوب مَوْشِيٌّ: أي: منسوج بلونين فأكثر، وثور مَوْشِيٌّ القَوَائِم، أي: أَبْلَقُهَا؛ قال: [البسيط] 588 - مِنْ وَحْشِ وَجْرَةً مَوْشِيٍّ أَكَارِعُهُ ... طَاوِي المَصِيرِ كَسَيْفِ الصَّيْقَلِ الفَرِدِ ومنه: الواشي للنَّمَّام؛ لأنه يَشِي حديثه، أي يزينه ويخلطه بالكذب. وقال بعضهم: ولا يقال له وَاشٍ حتى يغير كلامه ويزينه. ويقال: ثور أَشْيَهُ، وفرس أَبْلَقُ، وكمَبْش أخْرَجُ، وتَيْس أَبْرَق، وغُراب أَبْقَع، كل ذلك بمعنى البلقة. و «شية» اسم «لا» ، و «فيها» خبرها. فصل في ضبط الحيوان بالصفة دلت هذه الآيات على ضَبْطِ الحيوان بالصفة، وإذا ضبط بالصفة وحصر بها جاز السَّلَمُ فيه، وكذلك كل ما ضبط بالصفة. وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لاَتَصِفُ المَرْأَةُ المَرْأَةَ لِزَوْجِهَا كَأَنَّهُ يَنْظُرُ إلَيْهَا» فجعل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الصّفة تقدم مقام الرؤية. قوله: {الآن جِئْتَ} الآن منصوب ب «جئت» ، وهي ظَرْف للزّمان يقتضي الحال، ويخلص المضارع له عند جمهور النّحاة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 وقال بعضهم: هذا هو الغالب، وقد جاء حيث لا يمكن أن يكون للحال، كقوله: {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن} [الجن: 2] {فالآن بَاشِرُوهُنَّ} [البقرة: 187] فلو كان يقتضي لحال لما جاء مع فعل الشرط والأمر اللذين هما نصّ في الاستقبال، وعبر عنه هذا القائل بعبارة تُوافق مذهبه وهي: «الآن» لوقت حصر جميعه أو بعضه يريد بقوله: «أو بعضه» نحو: «فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ» ، وهو مبني. واختلف في علّة بنائه: فقال الزَّجَّاج: لأنه تضمن معنى الإشارة؛ لأن معنى أفعل الآن، أي: هذا الوقت. وقيل: لأنه أشبه الحرف في لزوم لَفْظ واحد، من حيث إنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمع ولا يصغّر. وقيل: لأنه تضمّن معنى حرف التعريف، وهو الألف واللام ك «أمس» ، وهذه الألف واللام زائدة فيه بدليل بنائه، ولم يُعْهَد مُعرفٌ ب «أل» إلا معرباً، ولزمت فيه الألف واللام كما لزمت في «الذي والّتي» وبابهما، ويعزى هذا للفارسي، وهو مردود بأن التضمين اختصار، فكيف يختصر الشيء، ثم يؤتى بمثل لفظه. وهو لازم للنظر فيه، ولا يتصرف غالباً، وقد وقع مبتدأ في قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «فَهُوَ يَهْوِي في قَعْرِهَا الآنَ حِينَ انْتَهَى» . ف «الآن» مبتدأ، وبني على الفتح لما تقدم، و «حين» خبره، بُنِيَ لإضافته إلى غير متمكّن، ومجروراً في قوله: 589 - أَإِلَى الآنِ لاَ يَبِينُ ارْعِوَاءُ ..... ... ... ... ... ... ... . وادعى بعضهم إعرابه مستدلاً بقوله: [الطويل] 590 - كَأَنَّهُمَا مِلآنِ لَمْ يَتَغَيَّرا ... وَقَدْ مَرَّ لِلدَّارَيْنِ مِنَ بَعْدِنَا عَصْرُ يريد: «مِنَ الآنِ» فجره بالكسرة، وهذا يحتمل أن يكون بني على الكسر، وزعم الفراء أنه منقول من فعل ماضي، وأن أصله «آنَ» بمعنى: «حان» فدخلت عليه «أل» زائدة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 واسْتُصْحِب بناؤه على الفَتْح، وجعله مثل قولهم «ما رأيته من شب إلى دُبَّ» . وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «وأنْهَاكُمْ عَنْ قِيلٍ وَقَال» . ورد عليه بأن «أل» لا تدخل على المنقول من فعل ماض، وبأنه كان ينبغي أن يجوز إعرابه كنظائره. وعنه قول آخر أن أصله «أوان» فحذفت الألف، ثم قلبت الواو ألفاً، فعلى هذا ألفعه عن واو. وأدخله الرَّاغب في باب «أين» ، فتكون ألفه عن «ياء» . والصواب الأول. وقرىء: قالوا: ألآن بتحقيق الهمزة من غير نَقْل، وهي قراءة الجمهور. و «قَالُ: لأنَ» بنقل حركة الهمزة على اللام قبلها، وحذف الهمزة، وهو قياس مطّرد، وبه قرأ نافع وحمزة باختلاف عنه. و «قَالُوا: لآنَ» بثبوت «الواو» من «قالوا» ؛ لأنها إنما حذفت لالتقاء السكانين، وقد تحركت «اللام» لنقل حركة «الهمزة» إليها، واعتدوا بذلك كما قالوا في الأحمر «مَحْمَر» . وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى في {عَاداً الأولى} [النجم: 50] ويحكى وجه رابع «قَالُوا: آلآنَ» بقطع همزة الوصل، وهو بعيد، و «بِالحَق» يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن تكون باء التَّعدية كالهمزة كأنه قيل: «أَجَأْتَ الحق» ، أي: ذكرته. الثاني: أن يكون في محلّ نصب على الحال من فاعل «جئت» أي: جئت ملتبساً بالحق، أو «ومعك الحق» . فصل في تحقيق أنهم لم يكفروا قال القاضي: قولهم: «الآن جِئْتَ بِالْحَقِّ» كفر من قِبَلِهم لا محالة؛ لأنه يدل على أنهم اعتقدوا فيما تقدم من الأوامر أنها ما كانت حقّة. قال ابن الخطيب: وهذا ضعيف لاحتمال أن يكون المراد الآن ظهرت حقيقة ما أمرنا به حتى تميزت من غيرها فلا يكون كفراً. قوله: «فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ» أي: فذبحوا البقرة. و «كَادُوا» كاد واسمها وخبرها، والكثير في خبرها تجرده من «أن» . وشذ قوله: [الرجز] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 591 - قَدْ كَادَ مِنْ طُولٍ الْبِلَى أَنْ يَمْصَحَا ... وهي عكس «عسى» وذكروا ل «كاد» تفسيرين: أحدهما: قالوا: نفيها إثبات وإثباتها نفي، فقوله: كاد يفعل كذا، معناه: قرب من أن يفعل، لكنه ما فعله. والثاني: قال عبد القاهر النحوي: إن «كاد» لمقاربة الفعل، فقوله: «كاد يفعل» [معناه] قرب من فعله. وقوله: «ما كاد يفعل» معناه: ما قرب منه. وللأولين أن يحتجوا بهذه الآية؛ لأن قوله: «ومَا كَادُوا» معناه ما قاربوا الفعل، ونفى المقاربة من الفعل يناقض إثبات وقوع الفعل، فلو كانت «كاد» للمقاربة لزم وقوع التناقض في الآية، وقد تقدم الكلام معلى كاد عند قوله: {يَكَادُ البرق} [البقرة: 20] . فصل في النسخ بالأشقّ روي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما أنه قال: لو ذبحوا آيّة بقرة أرادوا لأجزأت عنهم؛ لكنه شددوا على أنفسهم، فشدد الله تعالى عليهم، فعلى هذا نقول: التكاليف متغيرة فكلفوا في الأول أية بقرة كانت، فلما لم يفعلوا كلفوا بأن تكون لا فارضاً ولا بكراً، قيل: عَوَان، فلما لم يفعلوا كلفوا أن تكون صفراء، فلما لم يفعلوا كُلِّفوا أن تكون مع ذلك لا ذَلُول تثير الأرض ولا تسقي الحرث؛ لأنه قد ثبت أنه لا يجوز تأخير البيان، فلا بد من كونه تكليفاً بعد تكليف وذلك يدلّ على نسخ الأسهل بالأشقّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 على جواز النسخ قبل الفعل، وعلى وقوع النسخ في شرع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعلى أن الزيادة على النصح نسخ، وعلى حسن التكليف ثانياً لمن عصى ولم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 على جواز النسخ قبل الفعل، وعلى وقوع النسخ في شرع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعلى أن الزيادة على النصح نسخ، وعلى حسن التكليف ثانياً لمن عصى ولم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 يفعل ما كلف أولاً، وعلى أن الأمر للوجوب والفور؛ لأنه تعالى ذمَّ التثاقل فيه، والتكاسل في الاشتغال بمقتضاه، ولم يوجد في هذه الصورة إلا مجرد الأمر. قال القاضي: إنما وجب؛ لأن فيه إزالة شرّ وفتنة، فأمر تعالى بذبح البقرة، لكي يظهر القاتل، فيزول الشَّر والفتنة، فلما كانت المصلحة في هذا الفعل صار واجباً. وقال بعضهم: إما أمروا بذبح بقرة معيّنة في نفسها، فلذلك حسن موقع سؤالهم لأن المأمور به إذا كان مجملاً حسن الاستفسار والاستعلام، وعلى القول الأول لا بُدّ من بيان ما الذي حملهم على [هذا] الاستفسار؟ فقيل: إن موسى عليه الصلة والسلام لما أمرهم بذبح بقرة وأن يضربوا القتيل ببعضها فيصير حيًّا تعجبوا من ذلك، وظنوا أنّ تلك البقرة التي لها هذه الخاصية لا تكون إلا بقرة معينة فلا جرم استقصوا في السؤال عنها كَعَصا موسى المخصوصة من بين سائر العصِيّ بتلك الخواص، إلاّ أن القوم أخطئوا في ذلك؛ لأن هذه الآية العجيبة ما كانت خاصة للبقرة، بل كانت معجزة يظهرها الله تعالى على يد موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. وقيل: لعلّ القوم أردوا أَيَّ بقرة معينة لا مطلق البقرة، فلما وقعت المنازعة رجعوا عند ذلك إلى موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. قال القُشيريّ في تفسيره: قيل: إن أوّل من راجع موسى عليه الصَّلاة والسلام في البحث عن البقرة القاتل خوف أن يفتضح، وقد وجدت تلك البقرة عند الشّاب. وقيل: إن الخطاب الأول للعموم، إلاَّ أن القوم أرادوا الاحتياط فيه، فسألوا طلباً لمزيد البيان، وإزالة سائر الاحتمالات إلاّ أن المصلحة تغيرت، واقتضت الأمر بذبح البقرة المعينة. وقيل: كان سؤالهم تقديراً من الله عَزَّ وَجَلَّ ّ وحكمة، ومصلحة لصاحب البقرة، فإنه يروى أن رجلاً صالحاً من بني إسرائيل كان له ولد بارّ، وكان له عجلة فأتى بها غَيْضَة وقال: اللهم إن استودعتكها لابْنِي حتى يكبر، ثم مات الأب فشبّت، وكانت من أحسن البقر [وأتمّها] وهي البقرة التي وصفها الله لهم فساوموها اليتيم وأمه حتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 اشتروها بملء مَسْكِها ذهباً، وكانت البقرة إذ ذاك بثلاثة دنانير. ذكر مكي: أن هذه البقرة نزلت من السماء، ولم تكن من بقر الأرض قاله القرطبي. وزاد المارودي: ثم فرق ثمنها على بني إسرائيل، فأصاب كل فقير دينارين، وروي أنهم طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة. فصل في سبب تثاقلهم اختلفوا في السبب الذي كان لأجله «ما كادوا يفعلون» ، فقيل: لأجل غلاء ثمنها، وقيل: لخوف الشهوة والفضيحة، وعلى كلا القولين فالإحْجَام عن المأمور به غير جائز. أما الأول فلأن ذبح البقرة ما كان يتمّ إلا بالثمن الكثير فوجب؛ لأن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، إلاّ أن يدل دليل على خلافه. وأما خوف الفضيحة فلا يدفع التكليف، فإن القَوَدَ إذا وجب عليه لزمه تسليم النفس من وليّ الدم إذا طالب، وربما لزمه التعويض ليزول الشر والفتنة، وإنما لزمه ذلك لتزول التّهمة عن القوم الذين طرحوا القتيل بالقرب منهم، لأنه الذي عرضهم إليه، فيلزمهم أزالتها، فكيف يجوز جعله سبباً للتَّثَاقُلِ في هذا الفعل. قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا} . أعلم أن وقوع ذلك القتل كان متقدماً على الأمر بالذبح، فأما الإخبار عن وقع ذلك القتل، وعن ضرب القتيل ببعض البقرة، فلا يجب أن يكون متقدماً في التلاوة في الأول؛ لأن هذه القصة في نفسها يجب أن تكون متقدمة على الأولى في الوجود، فأما التقدم في الذكر فغير واجب؛ لأنه تارة يتقدّم ذكر السبب على الحكم، وتارة على العكس، فكأنه لما وقعت لهم تلك الواقعة أمرهم الله تعالى بذبح البقرة فلما ذبحوها قال: وإذا قتلتم نفساً من قبل، واختلفتم وتنازعتم، فإني أظهر لكم القاتل الذي [سترتموه] بأن يضرب القتيل ببعض هذه البقرة المذبوحة. وذلك مستقيم والواو لا تقتضي الترتيب. قال القرطبي: {حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} [هود: 40] إلى قوله «إِلاَ قَلِيْلٌ» فذكر أهلاك من هلك منهم، ثم عطف عليه بقول: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} [هود: 41] فذكر الركوب متأخراً، ومعلوم أن ركوبهم كان قبل الهلاك، ومثله في القرآن كثير، قال تعالى: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا 0 قَيِّماً} [الكهف: 1، 2] أي: أنزل على عبده الكتاب قَيِّماً ولم يجعل له عوجاً فإن قيل [هب أنه] لا خلل في هذا النظم [ولكن النظم] الآخر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 كان مستحسناً، فما فائدة في ترجيح هذا النظم؟ قلنا: إنما قدمت قصة الأمر بالذبح على ذلك القتل؛ لأنه لو عمل على عكسه لكانت قصة واحدة، ولو كانت قصة واحدة لذهب الغرض من تثنية التفريع. فصيل في نسبة القتل إلى جميعهم «فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا» فعل وفاعل، والفاء للسببية؛ لأن التَّدَارُؤَ كان مسبباً عن القتل، ونَسَبض القتل إلى الجميع، وإن لم يصدر إلا من واحد أو اثنين كما قيل؛ لأنه وُجِد فيهم وهو مجاز شائع. وأصل «ادّارأتم» : تدارأتم تَفَاعلتم من الدَّرْء هو الدّفع، فاجتمعت «التاء» مع «الدال» وهي مُقارِبتها، فأريد الإدغام فقلبت التاء دالاً، وسكنت لأجل الإدغام، ولا يمكن الابتداء بساكن، فاجتلبت همزة الوصل ليبتدأ بها فبقي «ادارأتم» ، والأصل ادْدَارأتم فأدغم، وهذا مطرد في كل فعل على «تفاعل» أو «تفعّل» فاؤه دال نحو: «تَدَايَنَ وادَّايَنَ، وتَدَيَّنَ وأدِّيَنَ» أو طاء، أو ظاء، أو صاداً، أو ضاداً نحو: «تطاير واطَّايَر» وتطير واطّير [وتظاهر واظَّاهر، وتطهر واطَّهَّر، والمصدر على التفاعل أو التفعّل نحو: تَدَارُؤ وتَطَهُّر] نظراً إلى الأصل. وهذا أصل نافع في جميع الأبواب. معنى: «ادرأتم» : اختلفتم واختصمتم في شأنها. وقيل: [تدافعتم] أي كل واحد ينفي القتل عن نفسه ويضيفه إلى غيره. والكناية في قوله: «فيها» للنفس. وقال القفال: ويحتمل إلى القتلة؛ لأن قوله: «قتلتم» يدل على المصدر. قوله: «والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ» الله رفع بالابتداء و «مخرج» خبره، و «ما» موصولة منصوبة المحل باسم الفاعل. فإن قيل: اسم الفاعل لا يعمل بمعنى الماضي إلا محلّى بالألف واللام، فالجواب: أن هذه حكاية حال ماضية، واسم الفاعل فيها غير ماض وهذا كقوله تعالى: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} [الكهف: 18] . والكسائي يُعْمِله مطلقاً، ويستدل بهذا ونحوه. و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، فلا بد من عائد، تقديره: مخرج الذي كنتم تكتمونه، ويجوز أن تكون مصدرية، والمصدر واقع موضع المفعول به، أي: مخرج مكتومكم وهذه الجملة لا محلّ لها من الاعراب؛ لأنها معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه وهما: «فَادَّارَأْتُمْ» وقوله: «فَقُلْنَا: اضْرِبُوهُ» قاله الزمخشري. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 والضمير في: فاضربوه «يعود على» النفس «لتأويلها بمعنى الشخص والإنسان، أو على القتيل المدلول عليه بقوله:» والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ «والجملة من» اضربوه «في محلّ نصب بالقول. وفي الكلام محذوف والتقدير: قلنا: اضربوه ببعضها فضربوه ببعضها فحيي، إلا أنه حذف ذلك لدلالة قوله:» يُحْيِي الله الموتى «عليه، فهو كقوله: {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] أي فضرب فانفجرت [وقوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة: 184] أي: فأفطر فعدّة] وقوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] أي: فحلق ففدية. فصل في بيان المضروب به اختلفوا في البعض الذي ضربوا القتيل به. فقيل: اللِّسَان، لأنه آلة الكلام قال الضحاك والحسين بن الفَضْل. وقال سعيد بن جُبَير: يعجب ذنبها قاله يمان بن رئاب وهو أولى؛ لأنه أساس البدن الذي ركب عليه الخلق، وهو أول ما يخلف وآخر ما يبلى. وقال مجاهد: بذنبها. وقال عكرمة والكَلْبي: بخذها الأيمن. وقال السَدّي: بالبَضْعة التي بين كتفيها. وقيل: بأذنها. وقال ابن عباس: بالعظم الذي يلي الغضروف، وهو أصل الأذن [وهو المقتل] . والأقرب أنهم كانوا مخيرين في أبعاض البقرة؛ لأنهم أمروا بضرب القتيل ببعض البقرة وأي بعض من أبعاض البقرة ضربوا القتيل به، فإنهم ممتثلين الأمر، والإتيان بالمأمور به يدل على الخروج عن العُهْدة. وليس في القرآن ما يدل على تعيين ذلك البعض، فإن ورد فيه خبر صحيح قُبِلَ، وإلا وجب السكوت عنه. فإن يل: ما الفائدة في ضرب المقتول ببعض البقرة مع أن الله تعالى قادر على أن يحييه ابتداء؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 فالجواب: أن الفائدة فيه لتكون الحُجّة أوكد، وعن الحيلة أبعد، فقد يجوز في العقل للملحد أن يوهمهم أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إنما أحياه بضرب من السِّحر أو من الحيلة، فلما حيي بالضرب بقطعة من البقرة المذبوحة فانتفت الشبّهة. فإن قيل: هلا أمر بذبح غير البقرة؟ فالجواب: أن الكلام في غيرها لو أمروا به كالكلام فيها. ثم ذكروا فيها فوائد: أحدهما: التقريب بِالقَرَابِيْن التي كانت العادة بها جارية، ولأن هذا القُرْبَان كان عندهم أعظم القرابين، ولما فيه من مزيد الثواب لتحمل الكُلْفة في تحصيل هذه البقرة. قيل: على غلاء ثمنها، ولما فيه من حصول المال العظيم لمالك البقرة. قوله: «كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى» «كذلك» في محلّ نصب؛ لأنه نعت لمصدر محذوف تقديره: يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك الإحياء، فيتعلّق بمحذوف، أي: إحياء كائناً كذلك الإحياء، أو لأنه حال من المصدر المعروف، أي: ويريكم الإراءة حال كمونها مُشَبِهَةً ذلك الإحياء، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه. و «الموتى» جمع مَيِّت، وفي هذه الإشارة وجهان: أحدهما: أنها إشارة إلى نفس ذلك الميت. والثاني: أنها احتجاج على صحّة الإعادة. قال الأصم: إنه على المشركين؛ لأنه إن ظهر لهم بالتَّوَاتر [أن هذا الإحياء قد كان على هذه الوجه علموا صحّة الإعادة، وإنن لم يظهر ذلك بالتواتر] ، فإنه داعية إلى التفكُّر. وقال القَفّال: ظاهره يدلّ على أن الله تعالى قال هذا لبني إسرائيل أي: إحياء الله الموتى يكون مثل هذا الذي شاهدتم؛ لأنهم وإن كانوا مؤمنين بذلك إلاَّ أنهم لم يؤمنوا به إلاَّ من طريق الاستدلال، ولم يشاهدوا شيئاً منه، فإذا شاهدوه اطمأنت قلوبهم، وانتفت عنهم الشّبهة، فأحيا الله القتيلَ عياناً، ثم قال لهمك كذلك يحيي الله المَوْتَى، أي: كما أحياها في الدُّنيا يحييها في الآخرة من غير احتياج إلى مادّة ومثال وآلة التي لا يخلو منها المستدل. قوله: «وَيُريكُمْ آيَاتِهِ» الرؤيا هنا بَصَرية، فالهمزة للتعدية أكسبت الفعل مفعولاً ثانياً وهو «آياته» ، والمعنى: يجعلكم مُبْصرين آياته. و «كم» هو المفعول الأول، وأصل «يريكم» : يُأَرْإيكم، فحذفت همزة «أفعل» في المضارعة لما تقدم في {يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 3] وبابه، [فبقي يُرْئيكم] ، فنقلبت حركة الهمزة على «الراء» ، وحذفت «الهمزة» تخفيفاً، وهو نقل لازم في مادة «رأى» وبابه دون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 غيره مما عينه همزة نحو: «نأى ينأى» ولا يجوز عدم النقل في «رأي» وبابه إلا ضرورة كقوله: [الوافر] 592 - أُرِي عَيْنَيَّ مَالَمْ تَرْأَيَاهُ ... كِلاَنا عَلِمٌ بِالتُّرَّهَاتِ فصل في نظم الآية [القائل أن يقول] : إن ذلك كان آية واحدة فلم سميت بالآيات؟ فالجواب: أنها تدلّ على وجود الصانع القادر على المقدورات العالم بكلّ المعلومات المختار في الإيجاد والإبداع، وعلى صدق موسى عليه الصَّلاة والسَّلام ت وعلى براءة من لم يقتل، وعلى تعيين القاتل، فهي وإن كانت آية واحدة إلا أنها لَمَّا دلت على [هذه] المدلولات الكبيرة لا جرم جرت مجرى الآيات. قوله: {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} تقدم تفسير العَقْل. قال الواقديك كل ما في القرآن من قوله: «لَعَلَّكُمْ» فهو بمعنى «لكن» إلاّ التي في الشعراء: {وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ} [الشعراء: 129] فإنه بمعنى لعلكم تخلدون فلا تموتون. فإن قيل: القوم كانوا عقلاء قبل عرض هذه الآية عليهم، وإذا كانوا عقلاء امتنع أن يقال: إني عرضت عليك الآية الفلانية لكي تصير عاقلاً [فالجواب أنه] لا يمكن إجراء الآية على ظاهرها، بل لا بد من التأويل، وهو أن يكون المراد: لعلكم تعلمون لعدم الاختصاص حتى لاينكروا المبعث فصل في توريث القاتل ذكر كثير من المتقدمين أن من جملة أحكام هذه الآية أن القاتل هل يرث أم لا؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 قالوا: لا، لأنه روي عن عَبِيْدَةَ السَّلْمَاني أن الرجل القاتل في هذه [الواقعة] حرم الميراث لكونه قاتلاً. قال القاضي: «لا يجوز جعل هذه المسألة من أحكام هذه الآية؛ لأنه ليس في ظاهر الآية أن القاتل هل كان وارثاً لقتيله أم لا» وبتقدير أن يكون وارثاً فهل حرم الميراث أم لا؟ وليس يجب إذ روي عن عبيدة أن القاتل حرم الميراث لكونه قاتلاً، أي: بعد ذلك في جملة أحكام القرآن إذا كان لا يدلّ عليه لا مجملاً ولا مفصلاً، وإذا كان كذلك لم يثبت أن شرعهم كشرعنا، وأنه [لا] يلزم الاقتداء لهم. واستدل مالك بهذه الآية على صحّة القول بالقَسَامَةِ بقول المقتول: حقّي عند فلان، أو فلان قتلني. ومنعه الشافعي وغيره؛ لأن قول القتيل: دمي عند فلان، أو فلان قتلني خبر يحتمل الصدق والكذب، ودم المدعى عليه معصوم غير مباح إلا بيقين، ولا يقين مع الاحتمال، وأما قتيل بني إسرائيل فكانت معجزة فأخبر تعالى أنه يحييه، وذكره يتضمن الإخبار بقاتله خبر ما لا يدخله الاحتمال. قال ابن العربي: المعجزة إنما كانت في إحيائه، فلما صار حيًّا صار كلامه كسائر كلام الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 قال القفال: يجوز أن يكون هذا الخطاب لأهل الكتاب الذين كانوا في زمان محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أي: اشتدت قلوبكم وقَسَت وضلّت من بعد البَيّنات التي جاءت أوائلكم، والعقاب الذي نزل بمن أَصَرَّ على المعصية منهم، والآيات التي جاءهم بها أنبياءهم، فأخبر بذلك عن طُغْيَانهم، وجَفَائهم على ماعندهم من العلم بآيات الله التي تلين عندها القلوب. قال: لأنه خطاب مُشَافهة فَحَمْله على الحاضرين أولى، ويحتمل أن يكون المراد أولئك اليهود الذين كانوا في زمان موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خصوصاً. وروي أن ذلك القتيل لما عين القاتل كذبه، وما ترك الإنكار وساعده عليه جمع، فتكون الإشارة لقوله بعد ذلك إلى ما أظهره الله تعالى من إحياء القتيل بِضَرْبِهِ ببعض البقرة المذبوحة. ويحتمل أن تكون الإشارة إلى جميع ما عدده الله تعالى من النعم العظيمة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 والآيات الباهرة التي آظهرها الله تعالى على يد موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فإنّ أولئك اليهود بعد أن كثرت مشاهدتها لها ما خلوا من العِنَاد والاعتراض على موسى عليه الصَّلاة والسَّلام. فإن قيل: لم أتى ب «ثم» التي تقتضى الترتيب والمُهْلة، فقال: «ثم قست» ، وقال: «مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ» والبَعْدية لا تقتضي التعقيب، وقلوبهم لم تزل قاسيةً مع رؤية مالآية وبعدها؟ فالجواب: أنه أتى ب «من» التي لابتداء الغاية فقال: من بعد ذلك فجعل ابتداء المقصود عقيب رؤية الآيات، فنزلت المهلة. وقال أبو عبيدة: «معنى قَسَتْ: جفت» . وقال الواقدي: خفت من الشّدة فلم تكن. وقال المؤرخ: «غلظت» . وقيل: اسودت. وقال االزجاج: «القَسْوة ذهاب اللّين والرحمة والخشوع والخضوع» . قوله: «أَوْ أشَدُّ قَسْوَةً» «أو» هذه ك «أو» التي في قوله: {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] فكل ما قبل ثمة يمكن القول به هنا، ولما قال أبو الأسود: [الوافر] 593 - أُحِبُّ مُحَمَّداً حُبًّا شَديداً ... وَعَبَّاساً وَحَمْزَةَ أَوْ عَلِيًّا اعترضوا عليه في قوله: «أو» التي تقتضي الشك، وقالوا له: أشككت؟ فقال: كلا، واستدل بقوله تعالى: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ} [سبأ: 24] فقال: أو كان شاكًّا من أخبر بهذا؟ وإنما قصد رَحِمَهُ اللهُ الإبهام على المخاطب. قال ابن الخطيب: كلمة «أو» للتردد، وهي لا تليق بعلاَّم الغيوب، فلا بد من التأويل وهو من وجوه: أحدهما: أنها بمعنى «الواو» كقوله: {إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] وقوله: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ} [النور: 31] وقوله: {أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ} [النور: 61] ومن نظائره قوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] . وثانيها: أن المراد: فهي كالحجارة ومنها ما هو أشد قسوة من الحجارة. [وثالثها: أي: في نظركم واعتقادكم إذا طلعتم على أحوال قلوبهم قلتم: إنها كالحجارة أو أشدّ قسوة من الحجارة] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 ورابعها: أن «أو» بمعنى «بل» ؛ وقال الشاعر: [الطويل] 594 - فَوَاللهِ مَا أَدْرِي أَسَلْمَى تَقَوَّلَتْ ... أَمِ النَّوْمُ أَو كُلُّ إِلَيَّ حَبِيبُ وخامسها: أنه على حد قولك: «ما أكل إلا حلواً أو حامضاً» أي: طعامه لا يخرج عن هذين، وليس الغرض إيقاع التردّد بل نفي غيرهما. وسادسها: أن «أو» حرف إباحة، أي: بأي هذين شبّهت قلوبهم كان صدقاً كقولهم: «جالس الحَسَنَ أو ابن سيرين» أي أيهما جالست كنت مصيباً أيضاً. و «أشَدّ» مرفوع لعطفه على محل «كَالحِجَارةِ» أي: فهي مِثْلُ الحجارة أو أشد. والكاف يجوز أن تكون حرفاً فتتعلّق بمحذوف، وأن كون اسماً فلا تتعلّق بشيء، ويجوز أن يكون خبر المبتدأ محذوفاً أي: أو هي أشد. و «قسوة» منصوب على التمييز؛ لأن الإبْهَامَ حصل في نسبة التفضيل إليهما، والمفضل عليه محذوف للدلالة عليه، أي: أشدّ قسوة من الحِجَارَةِ. وقرىء: «أَشَدْ» بالفتح وَوَجْهُهَا: أنه عطفها على «الحجارة» أي: فهي كالحجارة أو [كأشد] منها. قال الزمخشري موجهاً للرفع: و «أشد» معطوف على الكاف، إما على معنى: أو مثل أشد، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وتعضده قراءة الأعمش بنصب الدال عطفاً على «الحجارة» ويجوز على ما قاله أن يكون مجروراً بالمضاف المحذوف ترك على حاله، كقراءة: {والله يُرِيدُ الآخرة} [الأنفال: 67] بجر «الآخرة» أي: ثواب الآخرة، فيحصل من هذا أن فتحه الدال يُحتمل أن تكون للنصب، وأن تكون للجر. وقال الزمخشري أيضاً: فإن قلت: لم قيل: أشدُّ قسوة مما يَخْرُج منه «أفعل» التفضيل وفعل التعجب؟ يعني: أنه [مستكمل] للشروط من كونه ثلاثياً تاماً غير لون ولا عاهة متصرفاً غير ملازم للنفي. ثم قال: قلت: لكونه أبين وأدلّ على فرط القسوة، ووجهٌ آخر وهو الاّ يقصد معنى الأقسى، ولكنه [قصد] وصف القسوة بالشدة، كأنه «اشتدت قسوة الحجارة، وقلوبهم أشد قسوة» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 وهذا الكلام حسن، إلا أن كون «القسوة» جوز بناء التعجّب منها فيه نظر من حيث إنها من الأمور الخِلْقِية أو من العيوب، وكلاهما ممنوع منه بناء البابين. وقرىء: «قاسوة» . فصل في أوجه شدة القسوة من الحجارة إنما وصفها بأنها أشد قسوةً من الحجارة لوجوه: أحدها: أن الحجارة لو كانت عاقلة، ورأت هذه الآية لقبلتها كما قال: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله} [الحشر: 21] . وثانيها: أن الحجارة ليس فيها امتناع لما يحدث فيها من أمر الله فقال: وإن كانت قاسيةً، بل منصرفة على مراد الله تعالى غير ممتنعة، وهؤلاء مع ما وصفنا في اتّصَال الآيات عندهم، وتتابع نِعَمِ الله عليهم يمتنعون من الطاعة، ولا تلين قلوبهم بمعرفة حق الله. وثالثها: أن الأحجار ينتفع بها من بعض الوجوه، أما قلوب هؤلاء فلا نفع منها ألبتة. فصل في الرد على المعتزلة قال القاضي: إن كان الدَّوام على الكفر مخلوف فيهم، فكيف يحسن ذمهم؟ فلو قال: إن الذي خلق الصَّلابة في الحجارة هو الذي خلق في قلوبنا القَسْوة، والخالق في الأحجار الأنهار هو القادر على أن ينقلنا عما نحن عليه من الكُفر بخلق الإيمان فينا، فإذا لم يفعل فعذرنا ظاهر لكانت حجّتهم على موسى أَوْكد من حجّته عليهم، وهذا النمط قد تكرر مراراً. قوله: {وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار} . واعلم أنه سبحانه وتعالى فَضَّل الحجارة على قلوبهم بأنه قد يحصل في الحجارة أنواع من المنافع، ولا يوجد في قلوب هؤلاء شيء من المنافع. فأولها: قوله: «وَإِنَّ مِنَ الحجارة لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأنهار» واللاّم في «لَمَا» لام الابتداء دخلت على اسم «إن» لتقدم الخبر، وهو «من الحجارة» ، وهي «ما» التي بمعنى «الذي» في محلّ النصب، ولو لم يتقدم الخبر لم يَجُزْ دخول اللام على الاسم؛ لئلاَّ يتوالى حَرْفاً تأكيد، وإن كان الأصل يقتضي ذلك، والضمير في «منه» يعود على «ما» حملاً على اللفظ. قال أبو البقاء: ولو كان في غير القرآن لجاز «منها» على المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وهذا الذي قاله قد قرأ به أُبّي بن كعب والضحاك. وقرأ مالك بن دينار «يَنْفَجِر» من الانفجار. وقرأ قتادة: «وَإِنْ مِنَ الْحِجَارَةِ» بتخفيف «إنْ» من الثقيلة، وأتى باللام فارقة بينها وبين «إن» النافية، وكذلك: «وَإِنْ منْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ» و «إنْ مِنْهَا لَمَا يَهْبِط» ، وهذه القرءاة تحتمل أن تكون «ما» فيها في محل رفع وهو المشهور، وأن تكون في محلّ نصب؛ لأن «إنْ» المخففة سمع فيها الإعمال والإهمال، قال تعالى: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ} [هود: 111] في قراءة من قرأه. وقال في موضع آخر: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا} [يس: 32] إلا أن المشهور الإهمال. والتفجير: الفتح بالسّعة والكثرة؛ يقال: انفجرت قرحة فلان أي: انشقت بالمدّة، ومنه: الفَجْر والفُجُور. فصل في تولد الأنهار قالت الحكماء: الأنهار إنما تتولّد عن أَبْخِرَةٍ تجتمع في باطن الأرض، فإن كان ظاهر الأرض رَخْواً انشقت تلك الأبخرة وانفصلت، وإن كان ظاهر الأرض صلباً حجريّاً اجتمعت تلك الأَبْخِرَةُ، ولا يزال يتصل بعضها ببعض حتى تكثر كثرة عظيمة، فيعرض حينئذ من كثرتها وتواتر مَدِّها أن تنشقّ الأرض، وتسيل تلك المياه أوديةً وأنهاراً. قوله: {وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ المآء} أي: وإنَّ من الحجارة لما يتصدّع، فينبع الماء منه فيكون عَيْناً لا نهراً جارياً. و «يَشَّقَّقُ» أصله: يَتَشَقّق، فأدغم وبالأصل قرأ الأعمش، وقرأ طلحة بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 مصرف: «لَمَّا بتشديد» الميم «في الموضعين قال ابن عطية:» وهي قراءة غير متّجهة «. وقرأ أيضا:» ينشقّ «بالنون وفاعله ضمير» ما «. وقال ابو البقاء: ويجوز أن يكون فاعله ضمير» الماء «لأن» يَشَّقَّقُ «يجوز أن يُجْعل ل» الماء «على المعنى، فيكون معك فِعْلان، فيعمل الثاني منهما في الماء، وفاعل الأول مضمر على شريطة التفسير. وعند الكوفيين يعمل الأول، فيكون في الثاني ضمير، يعني: أنه من باب التنازع، ولا بد من حذف عائد من» يشقق «على» ما «الموصولة دلَّ عليه قوله:» منه «، والتقدير: وإن من الحجارة لما يشقق الماء منه، فيخرج الماء منه. وقال أيضاً: ولو قرىء:» تتفجّر «بالتاء جاز. قال أبو حاتم: يجوز» لما تتفجر «بالتاء؛ لأنه أنثه بتأنيث الأنهار، وهذا لا يكون في» تشقق «يعني التأنيث. قال النَّحَّاس: يجوز ما أنكره على المعنى، لأن المعنى: وإن منها الحجارة تتشقق يعني فيراعى به معنى» لما «، فإنها واقعة على الحجارة. قوله:» وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ الله «. قال أبو مُسْلم:» الضمير في قوله: «وَإِنَّ مِنْها» راجع إلى «القلوب» ، فإنه يجوز عليهما الخَشْيَة، والحجارة لا يجوز عليها الخَشْيَة. وقد تقدم ذكر القلوب كما تقدم ذكر الحجارة، وأقصى ما في الباب أن الحجارة أقرب المذكورين إلاّ أنّ هذا الوصف ألْيَقُ بالقلوب من الحجارة، فوجب رجوع الضمير إلى «القلوب» دون «الحجارة» ، وفيه بعد لتنافر الضّمائر. وقال الجمهور المفسرين: الضمير عائد إلى «الحجارة» . وقالوا: يجوز أن يكون حقيقة على معنى أن الله خلق فيها قَابِليَّةً لذلك، وأن المراد من ذلك جَبَلُ موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين تقطع وتجلّى له ربه، وذلك لأن الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 تعالى خلق فيه الحياة والعقل والإدْرَاك، وهذا غير مستعبد في قدرة الله تعالى. ونظيره قوله تعالى: {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} [فصلت: 21] . فكما جعل الجِلْد ينطق ويسمع ويعقل، فكذلك الجَبَل وصفه بالخشية. وقال أيضاً: {لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله} [الحشر: 21] . وروي أنه حنّ الجِذْع لصعود رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المنبر، ولما أتى الوحي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أول المبعث، وانصرف رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى منزله سلمت عليه الحِجَارَةُ فكلها كانت تقول: السَّلام عليك يا رسول الله. قال مجاهد: ما تَرَدَّى حَجَرٌ من رأس جبل، ولا تَفَجَّرَ نَهْرٌ من حَجَر، ولا خرج منه ماء إلاَّ من خشية الله، نزل بذلك القرآنُ، مثله عن ابن جُرَيْجِ وثبت عنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «إنَّ حَجَراً كَانَ يُسَلِّمُ عَلَيَّ فِي الجَاهِلِيَّةِ إنِّي أَخَافُ أَنْ يَقْتُلُوكَ عَلَى ظَهْري فَيُعَذّبني اللهُ فَنَادَاهُ حِرَاءٌ:» إِلَيَّ يَا رَسُولَ اللهِ «وقوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة} [الأحزاب: 72] الآية. وأنكرت المعتزلة ذلك، ولا يلتفت إليهم؛ لأنه لا دليل لهم إلا مجرد الاستبعاد. لو قال بعض المفسِّرين: الضمير عائدٌ إلى» الحجارة «و» الحجارة «لا تعقلُ، ولا تَفْهَم، فلا بدَّ من التأويل، فقال بعضُهُمْ: إسناد الهبوط استعارة؛ كقوله: [الكامل] 595 - لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ وقوله:» مِنْ خَشْيَةِ اللهِ «أي: ذلك الهبوط لو وجد من العاقل لكان به خاشياً لله، وهو كقوله تعالى: {جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} [الكهف: 77] أي جداراً قد ظهر فيه المَيَلاَن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 ومقاربة السقوط ما لو ظهر مثله في حيّ مختارٍ، لكان مريداً للانقضاض، ونحو هذا قوله: [الطويل] 596 - بَخِيْلٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ فِي حَجَرَاتِهِ ... تَرَى الأُكْمَ فِيهِ سُجَّداً لِلْحَوَافِرِ فجعل ما ظهر في الأكم من أثر الحَوَافر من عدم امتناعها مِنْ دفع ذلك عن نفسها كالسُّجود منها للحوافر. الوجه الثاني: من التأويل: قوله:» مِنْ خَشْيَةِ اللهِ «: من الحجارة ما ينزل، وما يشقق، ويتزايل بعض عن بعض عند الزلازل من أجل ما يريد الله بذلك من خَشْية عباده له وفزعهم إليه بالدعاء والتوبة. وتحقيقه أنه كان المقصود الأصلي من أهباط الأحجار في الزلازل الشديدة أن تحصل الخشية في القلوب. الوجه الثالث: قال الجُبَّائي:» الحجارة «البَرَدُ الذي يهبط من السحاب تخويفاً من الله تعالى لعباده لِيَزْجُرَهُمْ به. قال: وقوله:» مِنْ خَشْيَةِ اللهِ «أي: خشية الله، أي: ينزل بالتخويف للعباد، أو بما يوجب الخشية لله، كما تقول: نزل القرآن بتحريم كذا، وتحليل كذا، أي: بإيجاب ذلك على الناس. قال القاضي: هذا التأويل ترك للظَّاهر من غير ضرورة؛ لأن البَرَد لا يوصف بالحجارة؛ لأنه ماء في الحقيقة. قوله:» مِنْ خَشْيَةِ اللهِ «منصوب المحلّ متعلق ب» يهبط «، و» من «للتعليل. وقال أبو البقاء:» من «في موضع نصب ب» يهبط «، كما تقول: يهبط بخشية الله، فجعلها بمعنى» الباء « [المعدية] وهذا فيه نظر لا يخفى. و «خشية» مصدر مضاف للمفعول تقديره: من أن يخشى الله، وإسناد الهبوط إليها استعارة؛ كقوله: [الكامل] 597 - لَمَّا أَتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تَواضَعَتْ ... سُورُ الْمَدِينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ ويجوز أن يكون حقيقة على معنى: أن الله خلق فيها قابليّةً لذلك. وقيل: الضمير في «منها» يعود على «القلوب» ، وفيه بُعْد لتنافر الضمائر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 قوله: «وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ» قد تقدم في قوله: «وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ» . قال القرطبي: «بغافل» في موضع نصب على لغة «الحِجَاز» ، وعلى لغة «تميم» في موضع رفع. قوله: «عَمَّا تَعْمَلُونَ» متعلّق ب «غافل» ، و «ما» موصولة اسمية، والعائد الضمير، أي: تعملونه، أو مصدرية فلا يحتاج إليه أي: عن عملكم، ويجوز أن يكون واقعاً موقع المفعول به، ويجوز ألاّ يكون. وقرىء: يَعْمَلُونَ «بالياء والتاء. فصل في المقصود بالآية والمعنى: أن الله بِالْمِرصَاد لهؤلاء القاسية قلوبهم، وحافظ لأعمالهم مُحْصٍ لهان فهو مجازيهم بها وهو كقوله: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} [مريم: 64] وهذا وعيد وتخويف كبير. فإن قيل: هل يصح أن يوصف الله بأنه ليس بغافل؟ قال القاضي: لا يصح؛ لأنه يوهم جواز الغَفْلة عليه، وليس الأمر كذلك؛ لأن نفي الصفة عن الشيء لا يستلزم ثبوت صحّتها عليه، بدليل قوله {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 قال القرطبي: هذا استفهما فيه معنى الإنكار، كأنه أَيْأَسَهُمْ من إيمان هذه الفرقة من اليهود. ويقال: طَمِع فيه طَمَعاً وطَماعيةً مخفف فهو طَمِعٌ على وزن «فَعِل» وأطمعه فيه غيره. ويقال في التعجب: طَمُعَ الرُّجل بضم الميم أي: صار كثير الطّمع. والطمع: رزق الجُنْد، يقال: أمر لهم الأمير بأَطْمَاعهم، أي: بأرزاقهم. وامرأة مِطْمَاع: تُطْمِعُ وَلاّ تُمَكِّن. فصل في قبائح اليهود لما ذكر قَبَائح أفعال أَسْلاف اليهود شرع قَبَائح أفعال اليَهود الذين كانوا في زمن محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 قال القَفّال رَحِمَهُ اللهُ: إن فيما ذكره الله تعالى في [سورة البقرة] من أقاصيص بني إسرائيل وجوهاً من المقاصد. أحدها: الدلالة بها على صحّة نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه أخبر عنها غير تعلّم، وذلك لا يكون إلا بالوَحْي، ويشترك في الانتفاع بهذه الدلالة أهل الكتاب والعرب. أما أهل الكتاب فكانوا يعلمونها، فلما سمعوها من محمد عليه الصَّلاة والسَّلام من غير تفاوت، علموا لا محالة أنه ما أخذها إلا من الوَحْي. وأما العرب فلما [شاهدوا] من أن أهل الكتاب يصدقون محمداً في هذه الأخبار، فلم يكونوا يسمعون هذه الأخبار إلاّ من علماء أهل الكتاب، فيكون ميلهم إلى الطّاعة أقرب. وثانيها: تعديد النِّعَم على بني إسرائيل، وما مَنَّ الله به على أَسْلاَفهم من أنواع النعم، كالإنْجَاءِ من آل فرعون بعد اسْتِبْعَادهم، وتَصْيِيْرِ أبنائهم أنبياء وملوكاً، وتمكينهم في الأرض، وفَرْق البحر لهم، وأهلاك عَدُوّهم، وإنزال التوراة والصَّفْح عن الذنوب التي ارتكبوها من عبادة العَجْل، ونَقْض المَوَاثيق، ومسألة النَّظّر إلى الله جَهَرةً، ثم ما أخرجه لهم في التِّيْهِ من الماء من الحَجَر، وإنزال المَنّ والسَّلْوَى وتَظْلِيل الغَمَام من حَرّ الشمس، فذكّرهم بهذه النعم كلها. وثالثها: إخبار النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقديم كُفْرهم وخلافهم، وتعنّتهم على الأنبياء، وعِنَادهم، وبلوغهم في ذلك ما لم يبلغه أحد من الأمم قبلهم، وذلك لأنهم بعد مُشَاهدتهم الآيات الباهرة عَبَدوا العِجْل بعد مفارقة موسى بمدّة يسيرة، ولما أمروا بدخول الباب سُجّداً وأن يقولوا حطّة، ووعدهم أن يغفر لهم خَطَاياهم، ويزيد في ثواب محسنهم، فبدلوا القول وفَسَقوا، وسألوا الفُومَ البَصَلَ بَدَلَ المَنّ والسَّلوى، وامتنعوا من قَبُول التوراة بعد إيمانهم بموسى عليه الصّلاة والسلام وأخذ منهم المَوَاثيق أن يؤمنوا به حين رفع فوقهم الجَبَل، ثم استحلّوا الصيد في السّبت واعتدوا، ثم أمروا بذبح البقرة، فشافهوا موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقولهم: «أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً» . ثم لما شاهدوا إحْيَاء الموتى ازدادوا قَسْوى، فكأن الله تعالى يقول: إذا كانت هذه أفعالهم مع نبيهم الذي أعزّهم الله به، فغير بديع ما يعامل به أخلافهم محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فَلْيَهُنْ عليكم أيها النبي والمؤمنون ما ترونه من عنادهم، وإعراضهم عن الحق. ورابعها: تحذير أَهْل الكِتَاب الموجودين في زمن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من نزول العذاب علهيم كما نزل بأسلافهم في تلك الوقائع المعدودة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 وخامسها: الاحتجاج على من أنكر الإعادة من مشركي العرب مع إقراره بالابتداء كما في قوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى} [البقرة: 73] . فصل في تسلية النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اعلم أن المراد تسلية رسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فيما يظهر من أَهْل الكتاب في زمانه من قلّة القبول فقال: «أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ» . قال الحسن: هو خطاب مع الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ والمؤمنين. قال القاضي: وهذا الأليق بالظاهر، وإن كان الأصل في الدّعاء، فقد كان من الصحابة من يدعوهم إلى الإيمان، ويظهر لهم الدلائل. قال ابن عَبَّاس: إنه خطاب مع النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خاصّة؛ لأنه هو الدّاعي، وهو المقصود بالاستجابة. واللفظة وإن كانت للعموم لكن حملناها على هذا الخصوص لهذن [القرينة] . روي أنه حين دخل «المدينة» ودعا اليهود إلى كتاب الله، وكذبوه، فأنزل الله تعالى وسبب هذه الاستعباد ما ذكرناه أي: أتطمعون أن يؤمنوا مع أنهم ما آمنوا بموسى عليه الصَّلاة والسَّلام الذي كان هو السبب في خَلاَصهم من الذّل، وفضلهم على الكل بظهور المُعْجزات المتوالية على يَدِهِ، مع ظهور أنواع العذاب على المتمردين، فأي استبعاد في عدم إيمان هؤلاء. فصل في إعراب الآية قوله: «أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ» ناصب ومنصوب، وعلامة النصب حذف النون والأصل في «أن» وموضعها نصب أو جر على ما عرف، وعدي «يؤمنوا» باللاّم لتضمّنه معنى أن يحدثوا الإيمان لأجل دعوتكم قاله الزمخشري. فإن قيل: ما معنى الإضافة في قوله: «يُؤْمِنُواْ لَكُمْ» والإيمان إنما هو لله؟ فالجواب: أن الإيمان وإن كان الله فهم الدّاعون إليه كما قال تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} [العنكبوت: 26] لما آمن بنبوّته وتصديقه، ويجوز أن يراد أن يؤمنوا لأجلكم، ولأجل تشدّدكم في دعائهم. قوله: «وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ» «الواو» : للحال. قال بعضهم: وعلامتها أن يصلح موضها «إذ» ، والتقدير: أفتطمعون في إيمانهم، والحال أنهم كاذبون محرفون لكلام الله تعالى. و «قد» مقربة للماضي من الحال سوّغت وقوعه حالاً. و «يَسْمَعُون» خبر «كان» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 و «منهم» في محلّ رفع صفة ل «فريق» ، أي: فريق كائن منهم. قال سيبويه: واعلم أن ناساً من ربيعة يقولون: «مِنْهِم» بكسر الهاء إتباعاً لكسرة الميم. لم يكن المسكن حاجزاً حصيناً عندهم. و «الفريق» اسم جمع لا واحد له من لفظه ك «رَهْط وَقَوْم» ، وجمعه في أدنى العدد «أَفْرقه» ، وفي الكثير «أفْرِقَاء» . و «يَسْمَعُون» نعت ل «فريق» ، وفيه بعد، و «كان» وما في حَيّزها في محلّ نصب على ما تقدم. وقرىء: «كَلِمَ اللهِ» وهو اسم جنس واحدة كلمة، وفرّق النحاة بين الكلام والكلم، بأن الكلام شرطه الإفادة، والكلم شرطه التركيب من ثلاث فصاعداً؛ لأنه جمع في المعنى، وأقلّ الجمع ثلاثة، فيكون بينهما عموم وخصوص من وجه، وهل «الكلام» مصدر أو اسم مصدر؟ خلاف. والمادة تدل على التأثير، ومنه الكَلْم وهو الجُرْح، والكَلاَم يؤثر في المخاطب. قال الشاعر: [المتقارب] 598 - ... ... ... ... ... . ... وَجُرْحُ اللِّسَانِ كَجُرْحِ الْيَدِ ويطلق الكلام لغة على الخَطِّ والإشارة؛ كقوله: [الطويل] 599 - إِذَا كَلَّمَتْنِي بِالعُيُونِ الفَوَاتِرِ ... رَدَدْتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوادِرِ وعلى النفساني؛ قال الأخطل: [الكامل] 600 - إِنَّ الْكَلاَمَ لَفِي الْفُؤَادِ وَإِنِّمَا ... جُعِلَ اللِّسَانُ عَلَى الْفُؤَادِ دَلِيلاً وقيل: لم يوجد هذا البيت في ديون الأخطل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 وأما عند النحويين [فيطلق] على اللّفظ المركب المفيد بالوضع. و «ثم» للتراخي إما في الزمان أو الرتبة. و «التحريف» : الإمالة والتحويل، وأصله من الانحراف عن الشيء، ويقال: قلم محرّف إذا كان مائلاً. قوله: «منْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ» متعلق ب «يحرفونه» ، و «ما» يجوز أن تكن موصولة اسمية، أي: ثم يحرفون الكلام من بعد المعنى الذي فهموه وعرفوه، ويجوز أن تكون مصدرية. والضمير في «عقلوه» يعود حينئذ على الكلام أي: من بعد تعقلهم إياه. قوله: «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» جملة حالية، وفي العامل قولان: أحدهما: «عقلوه» ، ولكن يلزم منه أن تكون حالاً مؤكدة؛ لأن معناها قد فهم من قوله: «عقلوه» . والثاني وهو الظاهر: أنه «يحرفونه» ، أي: يحرفونه حال علمهم بذلك. فصل في تعيين الفريق قال بعضهم: الفريق مَنْ كان في زمن موسى عليه الصَّلاة والسَّلام؛ لأنه وصفهم بأنهم سمعوا كلام الله، والذين سمعوا كلام الله هم أهل المِيْقَاتِ. قال ابن عباس: هذه الآية نزلت في السَبعين المختارين الذين ذهبوا مع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إلى المِيْقَات، سمعوا كلام الله، وأمره ونهيه، فلما رجعوا إلى قومهم رجع الناس إلى قولهم، وأما الصادقون منهم فأدّوا كما سمعوا. قالت طائفة منهم: سمعنا الله في آخر كلامه يقول: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، وإن شئتم ألاَّ تفعلوا فلا بأس. قال القرطبي: ومن قال: إنّ السبعين سمعوا كما سمع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقد أخطأ، وأذهب بفضيلة موسى، واختصاصه بالتكليم. وقال السُّدِّي وغيرهك لم يطيقوا سماعه، واختلطت أذهانهم، ورغبوا أن يكون موسى يسمع ويعيده لهم، فلمَّا فرغوا وخرجوا بدلت طائفة منهم ما سمعت من كلام الله على لسان موسى عليه الصلاة والسَّلام، كما قال تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} [التوبة: 6] . ومنهم من قال: المراد بالفريق مَنْ كان في زمن محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما غيّروا آية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 الرجم، وصفة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم يعلمون أنهم كاذبون، وهو قول مجاهد وقتادة وعكرمة ووهب والسدي وهذا أقرب؛ لأن الضمير في قوله: «وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ» راجع إلى ما تقدم من قوله: «أَفتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ» والذي تعلّق الطبع بإيمانهم هم الذين كانوا في زمن محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. وقولهم: الذين سمعوا كلام الله هم الذين حضروا المِيْقَات ممنوع؛ لأن من سمع التوراة والقرآن يجوز أن يقال: إنه سمع كلام الله. فإن قيل: كيف يلزم من إقدام البعض على التَّحْريف حصول اليأس من إيمان الباقين، فإن عناد البعض لا ينافي إقرار الباقين؟ أجاب القَفّال فقال: يحتمل أن يكون المعنى يؤمن هؤلاء، وهم إنما يأخذون دينهم، ويتعلمونه من علمائهم وهم قوم يتعمدون التحريف عناداً، فأولئك إنما يعلمونهم ما حرفوه وعرفوه. فصل في كلام القدرية والجبرية قوله: «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ» استفهام على سبيل الإنكار، فكان ذلك جَزماً بأنهم لا يؤمنون ألبتة، وإيمانُ من أخبر الله تعالى عنهم بأنه لا يؤمن ممتنع، فحينئذ تعود الوجوه المذكورة للقدرية والجبرية. قال القاضي: قوله: «أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لكمْ» يدل على أن إيمانهم من قلبهم؛ لأنه لو كان بخلق الله تعالى فيهم لكان لا يتغّير حال الطمع فيهم بصفة الفريق الذي تقدّم ذكرهم، ولما صحّ كون ذلك تسليةً للرسول وللمؤمنين؛ لأن الإيمان موقوف على خلقه تعالى ذلك، وزواله موقف على ألا يخلقه فيهم. وأيضاً إعظامه تعالى لكذبهم في التحريف من حيث فعلوه، وهم يعلمون صحته. وإضافته تعالى التحريف إليهم على وجه الذم يدلّ على ذلك، واعلم أن الكلام عليه قد تقدم جوابه مراراً. فصل في ذم العالم المعاند قال أبو بكر الرازي: الآية تدلّ على أن العالم المعاند أبعد من الرّشد، وأقرب إلى اليأس من الجاهل؛ لأن تعمّده التحريف مع العلم بما فيه من العذاب يكون أشد قسوة، وأعظم جناية. فصل في بيان أنهم إنما فعلوا ذلك لأغراض فإن قيل: إنما فعلوا ذلك لضرب من الأغراض كما قال تعالى: {واشتروا بِهِ ثَمَناً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 قَلِيلاً} [آل عمران: 187] وقال: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] . قال ابن الخطيب: ويجب أن يكونوا قليلين؛ لأن الجَمْع العظيم لا يجوز عليم كِتْمَان ما يعتقدون؛ لأنا إنْ جوزنا ذلك لم نعلم المحق من المبطل، إن كثر العدد. فإن قيل: قوله: «عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ» تكْرار. أجاب القَفّال رضى الله عنه بوجهين: أحدهما: «مَنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوا مراد الله تعالى منه» ، فأوّلوه تأويلاً فاسداً يعلمون أنه غير مراد الله تعالى. والثاني: أنهم عقلوا مراد الله تَعَالى، وعلموا أن التأويل الفاسد يكسبهم العذاب والعقوبة من الله تعالى. واعلم أن المقصود من ذلك تسلية الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وتصبيره على عنادهم فكلما كان عنادهم أعظم كان ذلك في التسلية أقوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 روي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه أن منافقي أهل الكتاب كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى عليه وسلم قالوا لهم: آمنا بالذي آمنتم به، نشهد أنَّ صاحبكم صادق، وأنَّ قوله حقّ، ونجده بِنَعْتِهِ وصفته في كتابنا، ثم إذا خَلاَ بعضهم إلى بعض قال الرؤساء كعب بن الأشرف، وكعب بن أسد، ووهب بن يهودا وغيرهم أتحدّثونهم بما فتح الله عليكم في كتابه من نَعْتِهِ وصفته ليحاجوكم به. قال القَفَّال رَحِمَهُ اللهُ تعالى في قوله تعالى: {فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ} : مأخوذ من قولهم: فتح الله على فلان في علم كذا أي [رزقه الله ذلك] وسهل له طلبه. قال الكَلْبي: بما قضى الله عليكم من كتابكم أن محمداً حق، وقوله صِدْق، ومنه قبل للقاضي: الفَتَّاح بلغة «اليَمَن» . وقال الكِسَائي: ما بَيّنه الله عليكم. وقال الواقدي: بما أنزل الله عليكم نظيره {لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} [الأعراف: 96] أي: أنزلنا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 197 وقال أبو عبيدة والأخفش: بما مَنَّ الله عليكم به، وأعطاكم من نصركم على عدوكم. وقيل: بما فتح الله عليكم أي: أنزل من العذاب ليعيركم به، ويقولون فمن أكرم على الله منكم. وقال مجاهد والقاسم بن أبي بزّة: هذا قول يهود «قُرَيظة» بعضهم لبعض حين سبهم النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقال: «يَا إخْوَانَ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ وَعَبَدَ الطَّاغُوتِ» فَقَالُوا: من أخبر محمداً بهذا؟ ما خرج هذا إلاَّ منكم. وقيل: الإعلام والتبيين بمعنى: أنه بيّن لكم صفة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. فصل في إعراب الآية قد تقدّم على نظير قوله: «وإذ لَقُوا» في أول السورة وهذه الجملة الشرطية تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون مستأنفة كاشفة عن أحوال اليهود والمنافقين. والثاني: أن تكون في محلّ نصب على الحال معطوفة على الجملة الحالية قبلها وهي: «وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ» والتقدير: كيف تطمعون في إيمانهم وحالهم كيت وكيت؟ وقرأ ابن السّميفع: «لاَقوا» وهو بمعنى «لقوا» فَاعَل بمعنى فَعِل نحو: «سافر» وطارقت النعل: وأصل «خلا» : «خَلَو» قلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها، وتقدم معنى «خلا» و «إلى» في أول السورة. قوله: {بِمَا فَتَحَ الله} متعلق ب «التحديث» قبله، و «ما» موصولة بمعنى «الذي» والعائد محذوف، أي: فتحه. وأجاز أبو البَقَاءِ أن تكون نكرة موصوفة أو مصدرية، أي: شيء فتحه، فالعائد محذوف أيضاً، أو بِفَتْحِ الله عليكم. وفي جعلها مصدرية إشكال من حيث إنَّ الضمير في قوله بعد ذلك: «لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ» عائد على «ما» و «ما» المصدرية حرف لا يعود عليها ضمير على المشهورن خلافاً للأخفش، وأبي بكر بن السراج، إلاّ أن يُتَكَلّف فيقال: الضمير يعود على المصدر المفهوم من قوله: «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» أو من قوله: «فتح» ، أي: ليحاجُّوكم بالتحديث الذي حدّثتموهم، أو بالفتح الذي فتحه الله عليكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 والجملة في قوله: «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» في محلّ نصب بالقول، قال القُرْطبي: ومعنى فتح: حكم. والفتح عند العرب: القضاء والحكم، ومنه قوله تعالى: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} [الأعراف: 89] أي: الحاكمين. والفتاح: القاضي بلغة «اليمن» ، يقال: بيني وبينك الفَتّاح، قيل ذلك لأنه ينصر المظلوم على الظالم. والفتح: النصر، ومنه قوله: {يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ} [البقرة: 89] وقوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} [الأنفال: 19] . قوله: «لِيُحَاجُّوكُمْ» أي: ليخاصموكم، ويحتجوا بقولكم عليكم، وهذه اللام تسمى لام «كي» بمعنى أنها للتعليل، كما أن «كي» كذلك لا بمعنى أنها تنصب ما بعدها بإضمار ب «كي» كما سيأتي، وهي حرف جر، وإنما دخلت على الفعل؛ لأنه منصوب ب «أن» المصدرية مقدّرة بعدها، فهو معرب بتأويل المصدر أي: للمُحَاجَّة، فلم تدخل إلاّ على اسم، لكنه غير صريح. والنصب ب «أن» المضمرة كما تقدم لا ب «كي» خلافاً لابن كَيْسَان والسّيرافي، وإن ظهرت بعدها نحو قوله تعالى: {لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ} [الحديد: 23] لأن «أن» هي أم الباب، فادعاء إضمارها أولى من غيرها. وقال الكوفيون: النَّصْب ب «اللام» نفسها، وأن ما يظهر بعدها من «كي» ، ومن «أَنْ» إنما هو على سبيل التأكيد، وللاحتجاج موضعٌ غير هذا. ويجوز إظهار «أن» وإضمارها بعد هذه «اللام» إلاَّ في صورة واحدة، وهي إذا وقع بعدها «لا» نحو قوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29] {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ} [البقرة: 150] وذلك لما يلزم من توالي لاَمَيْنِ، فَيثْقُل اللفظ. والمشهور في لغة العرب كسر هذه اللام؛ لأنها حرف جر، وفيها لغة شاذة وهي الفتح. قال الأخفش: «لأن الفتح الأصل» . قال خلف الأحمر: هي لغة بني العَنْبَر. وهذه اللام متعلّقة بقوله: «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» . وذهب بعضهم إلى أنها متعلّقة ب «فتح» وليس بظاهر؛ لأن المُحَاجَّة ليست علّة للفتح، وإنما هي نشأت عن التحديث، اللهم إلا أن يقال: تتعلّق به على أنها لام العاقبة، وهو قول قيل به، فصار المعنى أن عاقبة الفتح ومآله صار إلى أن يحاجُّوكم. أو تقول: إن اللاَّم لام العلة على بابها، وإنما تعلّقت ب «فتح» ؛ لأنه سبب للتحديث، والسبب والمسبب في هذا واحد. والحُجّة: الكلام المستقيم على الإطلاق، ومن ذلك محجّة الطريق، وحاججت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 فلاناً [فحججته] أي: غالبته، ومنه الحديث: «فَحَجَّ آدَمُ مُوسَى» ، وذلك لأن الحجّة نفي الطَّريق المسلوك الموصّلة للمراد. والضمير في «به» يعود على «ما» من قوله تعالى: {بِمَا فَتَحَ الله} وقد تقدم أنه يضعف القول بكونها مصدرية، وأنه يجوز أن يعود على أحد المصدرين المفهومين من «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» و «فتح» . قوله: «عِنْدَ رَبِّكُمْ» ظرف معمول لقوله: «لِيُحَاجُّوكُمْ» بمعنى: ليحاجُوكم يوم القيامة، فيكون ذلك زائداً في ظهور فضيحتكم على رؤوس الخَلاَئق في الموقف، فكنى عنه بقوله: «عِنْدَ رَبِّكُمْ» قاله الأصم وغيره. وقال الحسن: «عند» بمعنى «في» أي: ليحاجُّوكم في ربكم أي: فيكونون أحقّ به منكم. وقيل: ثم مضاف محذوف أي: عند ذكر ربكم. وقال القَفّال رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يقال: فلان عندي عالم أي: في اعتقادي وحُكْمي، وهذا عند الشَّافعي حَلاَل، وعند أبي حنيفة رَحِمَهُ اللهُ تعالى حرام أي: في حكمهما وقوله: «لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ» أي: لتصيروا محجوجين [عند ربكم] بتلك الدلائل في حكم الله. ونظيره تأويل بعض العلماء قوله: {يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون} [النور: 13] اي: في حكم الله وقضائه أن القاذف إذا لم يأت بالشهود لزمه حكم الكاذبين وإن كان في نفسه صادقاً. وقيل: هو معمول لقوله: «بِمَا فَتَحَ اللهُ» أي: بما فتح الله من عند ربّكم ليحاجّوكم، وهو نَعْته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأخذ ميثاقهم بتصديقه. ورجّحه بعضهم وقال: هو الصحيح؛ لأن الاحتجاج عليهم هو بما كان في الدّنيا. وفي هذا نظر من جهة الصناعة، وذلك أن «ليُحَاجُّوكُمْ» متعلق بقوله: «أَتُحَدِّثُونَهُمْ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 على الأظهر كما تقدم، فيلزم الفَصْل به بين العامل وهو «فتح» وبين معمول وهو عند ربك وذلك لا يجوز؛ لأنه أجنبي منهما. قوله: «أَفَلاَ تَعْقِلُونَ» في هذه الجملة قولان: أحدهما: أنها مندرجة في حَيِّز القول، أي: إذا خَلاَ بعضهم ببعض قالوا لهم: أتحدثونهم بما يرجع وَبَاله عليكم وصِرْتُم محجوجين به، أفلا تعقلون أن ذلك لا يليق، وهذا أظهر لأنه من تمام الحكاية عنهم، فَعَلَى هذا محلها النصب. والثاني: أنها من خطاب الله تعالى للمؤمنين، وكأنه قدح في إيمانهم، لقوله: {أَفَتَطْمَعُونَ أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ} [البقرة: 75] قاله الحسن. فعلى هذا لا محلّ له، ومفعول «تعقلون» يجوز أن يكون مراداً، ويجوز ألاّ يكون. قوله: «أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللهَ» تقدم أن مذهب الجمهور أن النّية بالواو والتقديم على الهمزة؛ لأنها عاطفة، وإنما أخزت عنها، لقوة همزة الاستفهام، وأن مذهب الزمخشري تقدير فعل بعد الهمزة و «لا» للنفي. و «أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ» في محلّ نصب وفيها حينئذ تقديران: أحدهما: أنها سادّة مسدّ مفرد إن جعلنا «علم» بمعنى «عرف» . والثاني: أنها سادّة مسدّ مفعولين إن جعلناها متعدية لاثنين ك «ظننت» ، وقد تقدم أن هذا مذهب سيبويه والجمهور، وأن الأخفش يدعي أنها سدّت مسدّ الأول، والثاني محذوف. و «ما» يجوز أن تكون بمعنى «الذي» ، وعائدها محذوف، اي: ما يسرونه ويعلنونه، وأن تكون مصدرية، أي يعلم سرهم وعلانيتهم. [والسر] والعلانية يتقابلان. وقرأ ابن محيصن «تسرون» و «تعلنون» بالتاء على الخطاب. فصل في أن المراد بالسؤال هو التخويف والزجر في الآية قولان: الأول: وهو قول الأكثرين أن اليهود كانوا يعرفون أن الله يعلم السّر والعلانية، فخوّفهم به. والثاني: أنهم ما علموا بذلك، فرغبهم بهذا القول في أن يتفكّروا، فيعرفوا أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 ربهم يعلم سرهم وعلانيتهم، وأنهم لا يأمنون حلول العِقَابِ بسببِ نِفَاقِهِمْ، وعلى كلا القولين فهذا الكلام زَجْر لهم عن النفاق، وعن وصية بعضهم بعضاً بكتمان دلائل نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والأقرب أن اليهود المخاطبين بذلك كانوا عالمين بذلك؛ لأنه لا يكاد يقال على طريق الزجر: أو لا يعلم كيف وكيت، إلاّ وهو عالم بذلك الشيء، ويكون ذلك زاجراً له عن ذلك الفعل. فصل في الاستدلال بالآية على أمور قال القاضي: الآية تدلّ على أمور منها: أنه تعالى إن كان هو الخالق لأفعال العباد، فكيف يصح أن يزجرهم عن تلك الأقوال والأفعال، ومنها أنها تدلّ على صحّة الحجاج والنظر وأن ذلك قد كان على طريقة الصّحابة والمؤمنين. ومنها أنها تدلّ على أن الآتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية يكون أعظم جرماً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 واعلم أنه تعالى لما وصف اليهود العِنَادِ، وأزال الطمع عن إيمانهم بين فرقهم، فالفرقة الأولى هي الضَّالة والمضلّة، وهم الذين يحرّفون لكلم عن مواضعه. والفرقة الثانية: المنافقون. والفرقة الثالثة: الذين يُجَادلون المنافقين. والفرقة الرابعة: هم المذكورون هنا، وهم العامة الأمّيون الذين لا يعرفون القراءة، ولا الكتابة، وطريقتهم التقليد وقَبُول ما يقال لهم، فبين الله تعالى أن المُمْتَنِعِينَ عن الإيمان ليس سبب ذلك واحداً، بل لكل قسم سبب. وقال بعضهم: هم بعض اليهود والمنافقين. وقال عكرمة والضَّحاك: «هم نصارى العرب» . وقيل: «هم قوم من أهل الكتاب رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها، فصاروا آمنين» . وعن علي رَضِيَ اللهُ عَنْه هم المجوس. قولهك «مِنْهُمْ» خبر مقدم، فتعلّق بمحذوف. و «أمّيون» مبتدأ مؤخر، ويجوز على رأي الأخفش أن يكون فاعلاً بالظرف قبله، وإن لم يعتمد. وقد بنيت على ماذا يعتمد فيما تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 و «أُمِّيُّونَ» جمع «أمّي» وهو من لا يَكْتب ولا يَقْرأ. واختلف في نسبته فقيل: إلى «الأمّ» وفيه معنيان: أحدهما: أنه بحال أُمّه التي ولدته من عدم معرفة الكتابة، وليس مثل أبيه؛ لأن النساء ليس من شُغْلهن الكتابة. والثاني: أنه بحاله التي ولدته أمه عليها لم يتغير عنها، ولم ينتقل. وقيل: نسب إلى «الأُمَّة» وهي القَامَة والخِلْقَة، بمعنى أنه ليس له من النَّاس إلا ذلك. وقيل: نسب إلى «الأُمَّة» على سَذَاجتها قبل أن يَعْرِف الأشياء، كقولهم: عامي أي: على عادة العامة. وعن ابن عَبَّاس: «قيل لهم: أميون؛ لأنهم لم يصدقوا بأم الكتاب» . وقال أبو عبيدة: «قيل لهم: أُميون، لإنْزَال الكتاب عليهم، كأنهم نسبوا لأم الكتاب» . وقرأ ابن أبي عَبْلة: «أُمِّيُون» بتخفيف الياء كأنه استثقل توالي تضعيفين. وقيل: الأمي: من لا يُقِرّ بكتاب ولا رسول. قوله: «لاَ يَعْلَمُونَ» جملة فعلية في محلّ رفع صفة ب «أميون» ، كأنه قيل: أميون غير عالمين. قوله: «إلاَّ أَمَانِيَّ» هذا استثناء منقطع؛ لأن «الأماني» ليست من جنس «الكتاب» ، ولا مندرجة تحت مدلوله، وهذا هو المُنْقطع، ولكن شرطه أن يتوهّم دخوله بوجه ما، كقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} [النساء: 157] وقوله النَّابغة: [الطويل] 601 - حَلَفْتُ يَمِيناً غَيْرَ ذِي مَثْنَوِيَّةِ ... وَلاَ عِلْمَ إِلاَّ حُسْنَ ظَنٍّ بِصَاحِبِ لأن بذكر العلم اسْتُحضِر الظن، ولهذا لا يجوز: صَهَلَتِ الخيل إلاَّ حماراً. واعلم أن المنقطع على ضربيين: ضرب يصحّ توجه العامل عليه، نحو: جاء القوم إلاّ حماراً. وضرب لا يتوجه نحو ما مثل به النحاة: «ما زاد إلا ما نقص» ، و «ما نفع إلا ما ضر» فالأول فيه لُغتَان: لغة «الحجاز» وجوب نصبه، ولغة «تميم» أنه كالمتّصل، فيجوز فيه بعد النفي وشبهه النصب والإتباع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 والآية الكريمة من الضرب الأولن فيحتمل في نصبها وَجْهَان: أحدهما: على الاستثناء المنقطع. والثاني: أنه بدل من «الكتاب» . و «إلاّ» في المنقطع تقدر عند البصريين ب «لَكِنَّ» ، وعند الكونفيين ب «بل» ، وظاهر كلام أبي البقاء أن نصبه على المصدر بفعل مَحْذُوف، فإنه قال: «إلا أماني» اسثناء منقطع؛ لأن الأماني ليس من جنس العلم، وتقدير «إلاّ» في مثل هذا ب «لكن» أي: لكن يتمنونه أماني، فيكون عنده من باب الاستثناء المفرّغ المنقطع، فيصير نظير: «ماعلمت إلا ظنّاً» . [وفيه نظر] . الأَمَاني مع «أُمْنِيَّة» بتشديد الياء فيها. وقال ابو البَقَاءِ: «يجوز تخفيفها فيها» . وقرأ أبو جعفر بتخفيفها، حَذَفَ إحدى الياءين تخفيفاً. قال الأخفشك «هذا كما يقال في جمع مفتاح: مفتاح ومفاتيح» . قال النَّحَّاس: «الحذف في المعتلّ اكثر» ؛ وأنشد قول النابغة: [الطويل] 602 - وَهَلْ يُرْجِعُ التَّسْلِيمَ أو يَكْشِفُ العَمَى ... ثَلاثُ الأَثافِي والرُّسُومُ البَلاَقِعُ وقال أبو حَاتِمٍ: «كلّ ما جاء واحده مشدداً من هذا النوع فلك في الجمع الوجهان» . وأصله يرجع إلى ما قال الأخفش. ووزن «أمنية» : «أُفْعُولَة» من تَمَنَّى يَتَمَنَّى: إذا تلا وقرأ؛ قال: [الطويل] 603 - تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ آخِرَ لَيْلِهِ ... تَمَنِّيَ دَاوُدَ الزَّبُورَ عَلَى رِسْلِ وقال كعب بن مالك: [الطويل] 604 - تَمَنَّى كِتَابَ اللهِ أَوَّلَ لَيْلِهِ ... وآخِرَهُ لاَقى حِمَامَ المقَادِرِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 وقال تعالى: {إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] أي: قرأ وتلا. والأصل على هذا: «أُمْنُويَة» فأعلت إعلال «ميت» و «سيد» وقد تقدم. وقيل: الأمنية: الكذب والاختلاق. قال أعرابي لابن دَأْب في شيء يحدث به: أهذا الشيء رويته أم تمنيته أي: اختلقته. وقيل: ما يتمّناه الإنسان ويشتهيه. وقيل:: ما يقدره ويحزره من مَتَّى: إذا كذب، أو تمنى، أو قدر؛ كقوله: [البسيط] 605 - لاَ تَأْمَنَنَّ وَإِنْ أَمْسَيْتَ في حَرَمٍ ... حَتَّى تُلاَقِيَ مَا يَمْنِي لَكَ المَانِي أي: يقدر لك المقدر. قال الراغب: والمني: التقدير، ومنه «المَنَا» الذي يُوزَن به، ومنه «المنية» وهو الأجل المقدر للحيوان، «والتَّمَنِّي» : تقدير شيء في النفس وتصويره فيها، وذلك قد يكون عن ظنّ وتخمين، وقد يكون بناء على رَوِيَّةٍ وأصل، لكن لما كان أكثره عن تخمين كان الكذب أملك له، فأكثر التمني تصوّر ما لاحقيقة له [والأمنية: الصورة الحاصلة في النفس من تمني الشيء] . ولما كان الكذب تصوّر ما لا حقيقة له وإيراده باللفظ الدَّال صار التمني كالمبدأ للكذب فعبر عنه. ومنه قوله عثمان: «ما تغنيت ولا تمنيت منذ أسلمت» . وقال الزمخشري: والاشتقاق من منَّى: إذا قدَّر؛ لأن المتمني يُقَدِّرُ في نفسه، ويَحْزر ما يتمناه، وكذلك المختلق، والقارىء يقدر أن كلمة كذا بعد كذا، فجعل بين هذه المعاني قدراً مشتركاً وهو واضح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 وقال أبو مسلم: حَمْله على تمني القلب أولى بقوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} [البقرة: 111] . وقال الأكثرون: حمله على القراءة أليق؛ لأنا إذا حَمَلْنَاه على ذلك كان له به تعلّق، فكأنه قال: لا يعلمون الكتاب إلاَّ بقدر ما يتلى عليهم فيسمعونه، وبقدر ما يذكر لهم فيقبلونه، ثم إنَّهُمْ لا يتمكّنون من التدبُّر والتأمل، وإذا حمل على أن المراد الأحاديث والأكاذيب أو الظن والتقدير وحديث النفس كان الاستثناء فيه نادراً. قوله: {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ} «إن» نافية بمعنى «ما» وإذا كانت نافية المشهور أنها لا تعمل عمل «ما» الحِجَازية. وأجاز بعضهم ذلك ونسبه لسيبويه، وأنشد: [المنسرح] 606 - إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً عَلَى أَحَدٍ ... إلاَّ عَلَى أَضْعَفِ المَجَانِينِ «هو» اسمها، و «مستولياً» خبرها. فقوله: «هم» في محل رفع الابتداء لا سام «إن» لأنها لم تعمل على المشهور، و «إلا» للأستثناء المفرغ، ويظنون في محلّ الرفع خبراً لقوله «هم» . وحذف مفعولي الظَّن للعمل بهما واقتصاراً، وهي مسألة خلاف. فصل في بطلان التقليد في الأصول الآية تدلّ على بطلان التقليد. قال ابن الخطيب: وهو مشكل؛ لأن التقليد في الفروع جائز عندنا. قوله: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب} «ويل» مبتدأ، وجاز الابتداء به وإن كان نكرة، لأنه دعاء عليهم، والدعاء من المسوغات، سواء كان دعاء له نحو: «سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ» أو دعاء عليه كهذه الآية، والجار بعده الخبر، فيتعلّق بمحذوف. وقال أبو البقاء: ولو نصب لكان له وجه على تقدير: ألزمهم الله ويلاً، واللام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 للتبيين؛ لأن الاسم لم يذكر قبل المصدر يعني: أن اللام بعد المنصوب للبيان، فيتعلّق بمحذوف. وقوله: لأن الاسم لم يذكر قبل، يعني أنه لو ذكر قبل «ويل» فقلت: «ألزم الله زيداً ويلاً» لم يحتج إلى تبيين بخلاف ما لو تأخر. وعبارة الجرمي توهم وجوب الرفع في المقطوع عن الإضافة؛ ونصّ الأخفش على جواز النّصب، فإنه قال: ويجوز النصب على إضمار فعل أي: ألزمهم الله ويلاً. واعلم أن «وَيْلاً» وأخواته وهي: «وَيْح» و «وَيْس» و «وَيْب» و «وَيْه» و «ويك» و «عَوْل» من المصادر المنصوبة بأفعال من غير لفظها، وتلك الأَفْعَال واجبة الإضمار، لا يجوز إظهارها ألبتة؛ لأنها جعلت بدلاً من اللفظ بالفعل، وإذا فصل عن الإضافة فالأحسن فيه الرفع نحوك «ويل له» وإن أضيف نصب على ما تقدم، وإن كانت عبارة الجرمي توهم وجوب الرفع عند قَطْعه عن الإضافة، فإنه قال: فإذا أدخلت اللاّم رفعت فقلت: «ويل له» و «ويح له» كأنه يريد على الأكثر، ولم يستعمل العرب منه فعلاً؛ لاعتلال عنيه وفائه. وقد حكى ابن عرفة: «تَوَيَّلَ الرجل» إذا دعا بالوَيْلِ. وهذا لا يرد؛ لأنه مثل قولهم: سَوَّفْتَ ولَوْلَيت إذا قلت له: سَوْفَ وَلَوْ. ومعنى الويل: شدة الشر، قاله الخليل. وقال الأَصْمَعِيّ: الويل: التفجُّع، والويح: الترحم. وقال سيبويه: وَيْلٌ لمن وقع في الهَلكة، وويح زجر لمن أشرف على الهلاك. وقيل: الويل: الحزن. وهل «ويل وويح وويس وويب» بمعنى واحد أو بينها فرق؟ خلاف فيه، وقد تقدم ما فرقه به سيبويه في بعضها. وقال قوم: «ويل» في الدعاء عليه، و «ويح» وما بعده ترحم عليه. وزعم الفراء أنّ أَصْل «ويل» : وَيْ، أي: حزن، كما تقول: وي لفلان أي حُزْنٌ له، فوصلته العرب باللاّم، وقدرت أنها منه فأعربوها، وهذا غريب جدَّا. ويقال: وَيْلٌ وَوَيْلَة. وقال امرؤ القيس [الطويل] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 607 - لَهُ الوَيْلُ إنْ اَمْسَى وَلاَ أُمُّ عَامِرٍ ... لَدَيْه وَلاَ البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا وقال أيضاً: [الطويل] 608 - وَيَوْمَ دَخَلْتُ الخِدْرَ خِدْرَ عُنَيْزَةٍ ... فَقَالَتْ: لَكَ الوَيْلاَتُ إِنَّكَ مُرْجِلِي ف «وَيْلات» جمع «وَيْلة» لا جمع «وَيْل» كما زعم ابن عطية؛ لأن جمع المذكر بالألف والتاء لا ينقاس. قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه: «الويل العذاب الأليم» ، وعن سفيان الثورى أنه قال: «صديد أهل جهنم» . [وروى أبو سعيد الخدري عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه قال: «الوَيْلُ وَادٍ في جَهَنَّمَ يَهْوِي فِيهِ الكَافِرُ أَرْبَعِينَ خَرِيفاً قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ قَعْرَهُ» ] . وقال سعيد بن المسيب: «وَادٍ في جهنم لو سيرت فيه جبال الدّنيا لانماعت من شدّة حره» . وقال ابن يزيد: «جبل من قَبح ودم» . وقيل: صهريج في جهنم. وحكى الزهراوي عن آخرين: أنه باب من أبواب جَهَنَّم. وعن ابن عباس: الويل المشقّة من العذاب. وقيل: ما تقدم في اللغة. قوله: «بِأَيْدِيْهِمْ» متعلّق ب «يكتبون» ، ويبعد جعله حالاً من «الكتاب» ، والكتاب هنا بعض المكتوب، فنصبه على المفعول به، ويبعد جعله مصدراً على بابه، وهذا من باب التأكيد، فإن [الكتابة] لا [تكون] بغير اليد، [ونظيره] : {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167] . وقيل: فائدة ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم، ولم يأمروا به غيرهم، فإنّ قولهم: فعل كذا يحتمل أنه أمر بفعله ولم يباشره، نحو: «بنى الأمير المدينة» فأتى بذلك رفعاً لهذا المجاز. وقيل: فائدة [ذكره أنهم باشروا ذلك بأنفسهم، ولم يأمروا به غيرهم. ففائدته] بيان جرأتهم ومجاهرتهم، فإن المُبَاشر للفعل أشدّ مواقعة ممن لم يباشره. وهذان القولان قريبان من التأكيد، فإنَّ أصل التأكيد رفع توهّم المجاز. وقال ابن السراج: ذكر الأيدي كناية عن أنهم اختلقوا ذلك من تِلْقَائهِمْ، ومن عند أنفسهم، وهذا الذي قاله لا يلزم. والأيدي: جمع «يد» ، والأصل: أَيْدُيٌ بضم الدال ك «فلس وأفلس» في القِلّة، فاستثقلت الضمة قبل الياء، فقلبت كسرة للتجانُس، نحو: «بيض» جمع «أبيض» ، والأصل «بُيْض» بضم الباء ك «حمر» جمع «أحمر» ، وهذا رأي سيبويه، أعني أنه يقر الحرف ويغير الحركة، ومذهب الأخفش عكسه، وسيأتي تحقيق مذهبهما عند ذكر «معيشة» إن شاء الله تعالى. وأصل «يد» : يَدْيٌ بسكون العين. وقيل: يَدَيٌ بتحريكها فَتحرَّكَ حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفاً، فصار: يَداً ك «رَحًى» وعليه التثنية: يَدَيَانِ [وعليه أيضاً قوله: [الزجز] 609 - يَارُبَّ سَارٍ بَاتَ ما تَوَسَّدَا ... إلاَّ ذِرَاعَ العَنْزِ أَوْ كَفَّ اليَدَا] [والمشهور في تثنيتها عدم ردِّ لامها، قال تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64] {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ} [المسد: 1] وقد شذّ الردُّ في قوله: يَدَيَانِ؛ قال: [الكامل] 610 - يَدَيَانِ بَيْضَاوَانِ عِنْدَ مُحَلَّمٍ ... قَدْ يَمْنَعَانِكَ أَنْ تُضَامَ وتُقْهَرَا و «أياد» جمع الجمع، نحو: كلب وأكلب وأكالب، ولا بد في قوله: «يَكْتُبُونَ الكِتَابَ» من حذف يصح معه المعنى، فقدره الزمخشري: «يكتبون لكتاب المحرف» ، وقدره غيره حالاً من الكتاب تقديره: ويكتبون الكتاب محرفاً، وإنما [أحوج] إلى هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 الإضمار؛ لأن الإنكار لا يتوجّه على من كتب اللكتاب بيده إلا إذا حرفه غيره. قوله: «لِيَشْتَرُوا» اللام: لام كي، وقد تقدمت، والضمير في «به» يعود على ما أشاروا إليه بقوله «هذا من عند الله» . و «ثَمَناً» مفعوله. وقد تقدّم تحقيق دخول الباء على غير الثمن عند قوله: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41] فليلتفت إليه، واللاّم متعلقة ب «يقولون» أي: يقولون ذلك لأجل الاشتراء. وأبعد من جعلها متعلّقة بالاستقرار الذي تضمنه قوله: «مِنْ عِنْد اللهِ» . قوله: «مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ» متعلّق ب «ويل» أو بالاستقرار في الخبر. و «من» للتعليل و «ما» موصولة اسمية، والعائد محذوف، ويجوز أن تكون نكرة موصوفة. والأول أقوى، والعائد أيضاً محذوف أي: كتبته، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: من كَتْبِهِمْ. و «وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» مثل ما تقدم قبله، وإنما كرر الوَيْل؛ ليفيد أن الهَلَكَة متعلقة بكل واحد من الفعلين على حِدَته لا بمجموع الأمرين، وإنا قدم قوله: «كَتَبَتْ» على «يَكْسِبُون» ؛ لأن الكتابة مقدمة، فنتيجتها كَسْب المال، فالكَتْب سبب والكَسْب مسبب، فجاء النظم على هذا. فصل في سبب هذا الوعيد هذا الوعيد مرتّب على أمرين: على الكتابة الباطلة لقصد الإضلال، وعلى أن المكتوب من عند الله، فالجمع بينهما منكر عظيم. وقوله: «لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً» تنبيه على أمرين: الأول: أنه يدلّ على نهاية شقاوتهم؛ لأن العاقل لا يرضى بثمن قليل في الدنيا يحرمه الأجر العظيم الأبدي في الآخرة. والثاني: إنما فعلوا ذلك طلباً للمال والجَاهِ، وهذا يدلّ على أن أخْذَ المال بالباطل وإن كان بالتّراضي فهو مُحَرّم؛ لأن الذي كانوا يعطونه من المال كان عن محبة ورضا. وقوله: {فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} دليل علىأخذهم المال عليه، فلذلك كرر [ذكر] الويل. واختلفوا في قوله: «يَكْسِبُونَ» هل المراد سائر معاصيهم، أو ما كانوا يأخذون على الكتابة والتحريف؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 والأقرب في نظم الكلام أنه راجعٌ إلى الكَسْب المأخوذ على وجه الكتابة والتحريف، وإن كان من حيث العموم أنه يشمل الكل. فصل في الرد على المعتزلة قال القاضي: دلت الآية على أن كتابتهم ليست خلقاً لله تعالى لأنها لو كانت خلقاً لله تعالى لكانت إضافتها إليه تعالى بقولهم: «هو من عند الله» حقيقة؛ لأنه تعالى إذا خلقها فيهم فَهَبْ أن العبد يكتسب إلا أن نسبة ذلك الفعل إلى الخالق أقوى من انتسابه إلى المكتسب، فكان إسناد تلك الكتابة إلى الله تعالى أولى من إسنادها إلى العَبْدِ، فكان يجب أن يستحقوا الحمد على قولهم فيها: إنها من عند الله، ولما لم يكن كذلك علمنا أن تلك الكتابة ليست مخلوقة لله تعالى. والجواب: أنَّ الداعية الموجبة لها من خَلْق الله كما تقدم في مسألة الداعي. فصل يروى أن أَحْبار اليهود خافوا ذهاب كَلِمتهم ومآكلهم وزوال رِيَاستهم حين قدم رسول الله صلى لله عليه وسلم «المدينة» فاحْتَالوا في تَعْويق اليهود عن الإيمان، فعمدوا إلى صفة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة فغيّروها، وكان صفته فيها حَسَن الوجه، حَسَن الشعر، أَكْحَل العينين رَبْعة القامة فغيّروها وكتبوا مكانها طويلاً أَزْرق سَبْطَ الشعر، فإذا سألهم سَفَلتهم عن محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرءوا ما كتبوه عليهم، فيجدونه مخالفاً لصفته فيكذبونه. وقال أبو مَالِكٍ: نزلت هذه الآية في الكاتب الذي كان يكتب لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيغير ما يملي عليه. روى الثعلبي بإسناده عن أنس أن رجلاً كان يكتب للنبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان قد قرأ «البقرة» و «آل عمران» وكان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلا «غفوراً رحيماً» فكتب «عليماً حكيماً» فيقول له النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اكْتُبُ كَيْفَ شِئْتَ» قال: فارتد ذلك الرجل عن الإسلام، ولحق بالمشركين فقال: أنا أعلمكم بمحمد إنِّي كنت أكتب ما شئت، فمات ذلك الرجل فقال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ الأَرْضَ لاَ تَقْبَلُهُ» قلا: فأخبرني أبو طَلْحَة: أنه أتى الأرض التي مات فيها، فوجده منبوذاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 قال أبو طلحة: ما شأن هذا الميت؟ قالوا دفناه مراراً فلم تقبله الأرض. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 فقوله: «إلاّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً» استثناء مفرّغ، و «أيَّاماً» منصوب على الظرف بالفعل قبله، والتدقير: لن تَمّسنا النار أبداً إلاّ أياماً قلائل يَحْصُورُها العَدُّ؛ لأن العد يحصر القليل، وأصل: «أيّام» : أَيْوَام؛ لأنه جمع يوم، نحو: «قوم وأقوام» ، فاجتمع الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فوجب قلب الواو ياء، وإدغام الياء في الياء مثل: «هَيّت وميّت» ؟ فصل ذكروا في الأيام المعدودة وجهين: الأول: أن لفظه الأيام [لا تضاف إلا إلى العشرة فما دونها، ولا تضاف إلى ما فوقها، فيقال: أيام خمسة، وأيام عشرة، ولا يقال: أيام أحد عشر. إلاَّ أن هذا] يشكل بقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] إلى أن قال: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 184] وهي أيام الشهر كله، وهي أزيد من العشرة. قال القاضي: إذا ثبت أن الأيام محمولة على العَشْرة فما دونها، فالأشبه أن يقال: إنه الأقل أو الأكثر؛ لأن من يقول ثلاثة يقول: أحمله على أقل الحقيقة فله وجه، ومن يقول: عشرة يقول: أحمله على الأكثر وله وجه. فأما حمله على أقل من العشرة وأزيد من الثلاثة فلا وجه له؛ لأنه ليس عَدَدٌ أولى من عَدَدٍ، اللهم إلا إنْ جاءت في تقديرها رواية صحيحة، فحينئذ يجب القول بها. روي عن ابن عباس ومجاهد: أن اليهود كانت تقول: «الدنيا سبعة آلاف سنة، فالله يعذب على كلّ ألف سنة يوماً واحداً» . وحكى الأصم عن بعض اليهود: أنهم عبدوا العِجْل سبعة أيام. وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه: أنه قدر هذه الأيام بالأربعين، وهو عدد الأيام التي عبد آباؤهم العجل فيها، وهي مدّة غيبة موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عنهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 وقال الحسن وأبو العالية: قالت اليهود: إن ربنا عتب علينا في أمرنا، فأقسم ليعذّبنا أربعين يوماً، فلن تمسّنا النار إلاّ أربعين يوماً تحلّة القسم، فكذبهم الله تعالى بقوله تعالى: «قُلْ: أتخَذْتُمْ عِنْدَ اللهِ عَهْداً» . وقالت طائفة: إن اليهود قالت في التوراة: إنَّ جهنم مسيرة أربعين سنة، وأنهم يقطعون في كلّ يوم سنة حتى يكملوها، وتذهب جهنّم. رواه الضَّحاك عن ابن عباس. وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه زعم اليهود أنه وجدوا في التوراة مكتوباً أن ما بين طرفي جهنّم أربعين سنة إلى أن ينتهوا إلى شجرة الزَّقوم، فتذهب جهنم وتهلك. فإن قيل: «وَقَالُوا: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً» وقال في مكان آخر: {أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24] والمصروف في المكانين واحد وهو «أيام» . فالجواب: أن الاسم إن كان مذكراً، فالأصل في صفة جمعه التاء، يقال: كُوز وكِيزان مكسورة، وثياب مَقْطوعة، وإن كان مؤنثاً كان الأصل في صفة جمعه الألف والتاء يقال: جرّة وجِرَار مكسورات، وخَابِية وخَوَابي مكسورات، إلا أنه قد يوجد الجمع بالألف والتاء فيما واحده مذكّر في بعض الصور، وعلى هذا ورد قوله: {في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] ، و {في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] . فصل في مدة الحيض ذهب الحنفيّة إلى أنّ أقل الحَيْض ثلاثة أيام، وأكثره عشرة، واحتجوا بقوله عَلَيْهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «دَعِي الصَّلاةَ أَيَّامَ أَقْرَائِكِ» فمدّة الحيض تسمى أياماً، وأقلّ عدد يسمى أياماً ثلاثة، وأكثره عشرة على ما بَيّنا، وعليه الإشكال المتقدم. قوله: «أَتَّخَذْتُمْ» الهمزة للاستفهام، ومعناها الإنكار والتَّقْريع، وبها استغني عن همزة الوصل الدّاخلة على «أتخذتم» كقوله: {أفترى عَلَى الله} [سبأ: 8] {أَصْطَفَى} [الصافات: 153] وبابه. وقد تقدم القول في تصريف «أتَّخَذْتُمْ» وخلاف أبي علي فيها. ويحتمل أن تكون هنا لواحد. وقال أبو البقاء: وهو بمعنى «جَعَلتم» المتعدية لواحد. ولا حاجة إلى جعلها بمعنى «جعل» لتعديها لواحد، بل المعنى: هلأ أخذتم من الله عهداً؟ ويُحتمل أن يتعدّى لاثنين، الأول «عهد» ، والثاني «عند الله» مقدماً عليه، فعلى الأول يتعلّق «عند الله» ب «اتَّخَذْتُمْ» . وعلى الثاني يتعلّق بمحذوف. ويجوز نقل حركة همزة الاستفهام إلى لام «قل» قبلها، فتفتح وتحذف الهمزة. وهي لغة مطّردة قرأ بها نافع في رواية وَرْش عنه. قوله: «فَلَنْ يُخْلِفَ اللهُ» هذا جواب الاستفهام المقتدم في قوله: «أتَّخَذْتُمْ» . وهل هذا بطريق تضمين الاستفهام معنى الشرط، أو بطريق إضمار الشَّرط بعد الاستفهام وأخواته؟ قولان [تقدم تحقيقها] واختار الزمخشري القول الثاني، فإنه قال: «فَلَنْ يُخْلِفَ» متعلّق بمحذوف تقديره: إن اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده. وقال ابن عطيةك «فلن يخلف الله عَهْده: اعتراض بين أثناء الكلام» كأنه يعني بذلك أن قوله: «أم تقولون» مُعَادل لقوله: «أتخذتم» فوقعت هذه الجملة بين المتعادلين مُعْترضة، والتقدير أيّ هذين واقع اتخاذكم العهد أم قولكم بغير علم؟ فعلى هذا لا محلّ لها من الإعراب، وعلى الأول محلها الجزم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 قوله: «أَمْ تَقُولُونَ» «أم» هذه يجوز فيها وجهان: أحدهما: أن تكون متّصلة، فتكون للمعادلة بين الشيئين، أي: أيّ هذين واقع، وأخرجه مُخْرج المتردّد فيه، وإن كان قد علم وقوع أحدهما، وهو قولهم على الله مالا يعلمون للتقرير، ونظيره: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [سبأ: 24] علم أيهما على هدى، وأيهما في ضلال، وقد عرف شروط المتصلة أول السورة. ويجوز أن تكون منقطعة، فتكون غير عاطفة، وتقدر ب «بل» والهمزة، والتقدير: بل أتقولون، ويكون الاستفهام للإنكار؛ لأنه قد وقع القول منهم بذلك، هذا هو المشهور في «أم» المنقطعة، وزعم جماعهة أنها تقدر ب «بل» وحدها دون همزة استفهام، فيعطف ما بعدها [على ما قبلها] في الإعراب؛ واستدّل عليه بقولهم: «إن لنا إبلاً أَمْ شَاءً» بنصب «شَاءً» وقول الآخر: [الطويل] 611 - فَلَيْتَ سُلَيْمَى في الْمَمَاتِ ضَجِيعَتي ... هُنَالِكَ أَمْ فِي جَنَّةٍ أَمْ جَهَنَّمِ التقدير: بل في جهنَّم، ولو كانت همزة الاستفهام مقدَّرةً بعدها لوجب الرفع في «شاء» ، و «جهنم» على أنها خبر لمبتدأ محذوف، وليس لقائل أن يقول: هي في هذين الموضعين مُتَّصلة لما عرف أن من شرطها أن تتقدّمها الهمزة لفظاً أو تقديراً، ولا يصلح ذلك هنا. قوله: «مَا لاَ تَعْلَمُونَ» ما منصوبة ب «تقولون» ، وهي موصولة بمعنى «الذي» أو نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف، أي: ما لا تعلمونه، فالجملة لا محلّ لها على القول الأول، ومحلّها النصب على الثاني. فصل في الاستدلال بالآية على أمور الآية تدلّ على أمور: أحدها: أن القول بغير دليل باطل. الثاني: ما جاز وجوده وعدمه عقلاً لم يجز المصير إلى الإثبات أو إلى النفي إلاَّ بدليل سمعي. الثالث: تمسّك منكرو القياس وخبر الواحد بهذه الآية، قالوا: لأن القياس وخبر الواحد لا يفيدان العلم، فهو قول على الله بما لا يعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 والجواب: أنه دلت الدلائل على وجوب العمل عند حصول الظّن المستفاد من القياس، منه خبر الواحد، فكان وجوب العمل عنده معلوماً، فكان القول به قولاً بالمعلوم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 «بلى» حرف جواب ك «نعم وجير وأَجَلوإي» ، إلا أن «بلى» جواب لنفي متقدم، سواءً دخله استفهام أم لا فيكون إيجاباً له نحو قول زيد، فتقول: بلى، أي: قد قام، وتقول: أليس زيد قائماً فتقول: بلى أيى هو قائم قال تعالى: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] ويروى عن ابن عَبّاس أنهم لو قالوا نعم لكفروا. وقال بعضهم: إن «بلى» قد تقع جواباً لنفي متقدّم وقد تقع جواباً لاستفهام إثبات كما قال عليه الصّلاة والسلام للذي سأله عن عطية أولاده: أَتُحِبُّ أَنْ تُسَاوِيَ بَيْنَ أَوْلاَدِكَ في البِرِّ «قال:» بَلَى «. وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لرجل: أَلَسْتَ أَنْتَ الَّذِي لَقِيتُهُ ب» مكة «؟ قال:» بلى «فأما قوله: [الوافر] 612 - أَلَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أُمَّ عَمْرٍو ... وَإِيَّانَا، فَذَاكَ بِنَا تَدَانِي نَعَمْ وَتَرى الْهِلاَلَ كَمَا أَرَاهُ ... وَيعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلاَنِي فقيل: ضرورة. وقيل: نظر إلى المعنى؛ لأن الاستفهام إذا دخل على النفي قرره وبهذا يقال: فيكف نقل عن ابن عباس أنهم لو قالوا لكفروا مع أنّ النفي صار إيجاباً. وقيل: قوله:» نعم «ليس جواباً ب» أليس «إنما هو جواب لقوله:» فَذَاكَ بَنَا تَدانِي «فقوله تعالى:» بَلَى «رد لقولهم:» لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ «أي: بلى تمسّكم أبداً، في مقابلة قولهم:» إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ «وهو تقدير حسن. والبصريون يقولون: إن» بلى «حرف بَسِيْط، وزعم الكوفيون أن أصلها» بلى «التي للإضراب زيدت عليها» الباء «ليحسن الوَقْف عليها، وضمنت الياء معنى الإيجاب قيل: تدّل على رد النفي، والياء تدلّ على الإيجاب يعنون بالياء الألف. وإنما سموها ياء؛ لأنها حرف عال وتكتب بالياء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 و» مَنْ «يجوز فيها وَجْهَان. أحدهما: أن تكون موصولة بمعنى» الذي «والخبر قوله:» فأولئك «، وجاز دخول الفاء في الخبر لاستكمال الشروط، ويؤيد كونها موصولة، وذكر قسيمها موصولاً وهو قوله:» وَالَّذِينَ كَفَرُوا «، ويجوز أن تكون شرطية، والجواب قولهك» فَأُوْلَئِكَ «، وعلى كلا القولين فحملّها الرفع بالابتداء، ولكن إذا قلنا: إنها موصولة كان الخبر:» فأولئك «وما بعدها بلا خلاف، ولا يكون لقوله:» كَسَبَ سَيِّئَةً «وما عطف عليه محلّ من الإعراب؛ لوقوعة صلة. وإذا قلنا: إنها شرطية جاء في خبرها الخلاف المشهور، إما الشرط أو الجزاء، أو هما حسب ما تقدم، ويكون قوله:» كَسَبَ «وما عطف عليه في محلّ جزم بالشرط. «سَيّئة» مفعول به، وأصلها: «سَيْوِئَة» ؛ لأنها من ساء يسوءُ فوزنها «فَيْعِلَة» فاجتمع الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فأعلت إعلال «سَيِّد ومَيِّت» كما تقدم. وراعى لفظ «مَن» فأفرد في قوله: «كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ» والمعنى مرة أخرى مجمع في قوله: «فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فيهَا خَالِدُونَ» . وقرأ نافع وأهل «المدينة» «خَطِيئَاتِه» بجمع السلامة والجمور: «خَطِيْئة» بالإفراد، ووجه القراءتين ينبني على معرفة السّيئة والخطيئة. وفيهما أقوال: أحدها: أنهما عبارتان عن الكُفْر بلفظين مُخْتلفين. الثاني: أنهما عبارتان عن الكُفْر بلفظين مخْتلفين. الثالث: [عكس الثاني] . فوجه قراءة الجماعة على الأول والثالث أن المراد بالخطيئة الكفر، وهو مفرد، وعلى الوجه الثَّاني أن المراد به جنس الكبيرة، ووجه قراءة نافع على الوَجْه الأول والثالث أن المراد بالخَطِيئات أنواع الكُفْر المتجددة في كلّ وقت، وعلى الوجه الثاني أن المراد به الكبائر وهي جماعة. وقيل المراد بالخطيئة نفس السّيئة المتقدمة، فسماها بهذين الاسمين تقبيحاً لها كأنه قال: وأحاطت به خطيئهُ تلك أي السيئة، ويكون المراد بالسّيئة الكُفْر، أو يراد بهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 العُصَاة، ويكون أراد بالخلود المُكث الطويل، ثم بعد ذلك يخرجون. وقوله: «فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ» إلى آخره تقدم نظيره. وقرى «خطاياه» تكسيراًن وهذه مخالفة لسواد المصحف؛ فإنه رسم «خطيئتهُ» بلفظ التوحيد، وتقدم القول في تعريف خَطَايا. فصل في لظفة «بلى» قال صاحب «الكشاف» : بلى إثبات لما بعد حرف النفي، وهو قوله: «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ» أي: بلى تمسكم أبداً بدليل قوله: «هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ» . أما السيئة فإنها تتناول جميع المعاصي، قال تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] «مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ» ولما كان من الجائز أن يظن أن كلّ سيئة صغرات أو كبرت، فحالها سواء في أنّ فاعلها يخلد في النَّار لا جرم بَيَّنَ تعالى أن الذي يستحقّ به الخلود أن يكون سيئة مُحِيْطة به، ومعلوم أن لفظ الإحاطة حقيقة في إحاطة جسم بجسم آخر كإحاطة السُّور بالبلد والكُوز بالماء، وذلك هاهنا ممتنع، فنحمله على ما إذا كانت السيئة كبيرة لوجهين: أحدهما: أن المحيط يستر المحاط به، والكبيرة لكونها محيطة لثواب الطاعات كالسَّاترة لتلك الطاعات، فكانت المُشَابهة حاصلةً من هذه الجهة. والثانيك أن الكبير إذا أَحْبَطَتْ ثواب الطَّاعات، فكأنها استولت على تلك الطاعات، وأحاطت بها كما يحيط العَسْكر بالإنسان بحيث لا يتمكن من التخلص منه فكأنه تعالى قال: بلى من كَسَبَ كبيرة وأحاطت كبيرته بطاعاته، فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون فإن قيل: هذه الآية: وردت في حق اليهود؟ [فالجواب] : العبرة بعموم اللّفظ لا بخصوص السبب، هذا وجه استدلال المعتزلة في إثبات الوعيد لأصحاب الكبائر. وقد اختلف أهل القبلة [فيه] فمنهم من قطع بوعيدهم وهم فريقان؛ منهم من أثبت الوعيد المؤبّد، وهم جمهور المعتزلة والخوارج. ومنهم من أثبت وعيداً منقطعاً، وهو قول بشر المريسي. ومنهم من قطع بأنه لا وعيد لهم، وهو قول شاذّ ينسب إلى مقاتل بن سليمان المفسر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 والقول الثالث: أنّا نقطع بأنه سبحانه يعفو عن بعض العُصَاة ولكنا نتوقف في حقّ كل أحد على التعيين، ونقطع بأنه إذا عَذَّبَ أحداً منهم، فإنه لا يعذبه أبداً، بل يقطع عذابه، وهذا قول أكثر الأَصْحَاب والتابعين، وأهل السنة والجماعة، وأكثر الإمامية، فيشتمل هذا البحث على مسألتين. إحداهما: القطع بالوعيد. والأخرى: إذا ثبت الوعيد، فهل يكون ذلك على صفة الدوام أم لا؟ أما المعتزلة فإنهم استدلوا بالعمومات الواردة وهي على قسمين: أحدهما: صيغة «من» في معرض الشرط. والثاني: صيغة الجمع. فأما صيغة «من» في الشرط فإنها تفيد العُمُوم على ما ثبت في أصول الفقه، فكلّ آية وردت في القرآن بصيغة «من» في الوعيد، فقد استدلّت المعتزلة بها. قالوا: لأنها تفيد العموم من وجوه: أحدها: أنها لو لم تكن موضوعة للعموم لكانت إما موضوعة للخصوص، أو مشتركة بينهما، والقسمان باطلان، فوجب كونها موضوعة للعموم. أما بطلان كونها موضوعة للخُصُوص، فلأنه لو كان كذلك لما حسن من المتكلّم أن يعطي الجزاء لكلّ من أتى بالشرط؛ لأنّ على هذا التقدير لا يكون ذلك الجزاء مرتباً على ذلك الشّرط لكنهم أجمعوا على أنه إذا قال: من دخل داري أكرمته أنه يحسن أن يكرم كلّ من دخل داره، فعلمنا أن هذه اللفظة ليست للخصوص. وأما بطلان كونها موضعة للاشتراك فلأمرين: الأول: أنَّ الاشتراك خلاف الأصل. والثاني: أنه لو كان ذلك لما عرف كيفية ترتّب الجزاء على الشرط إلاَّ بعد الاستفهام عن جميع الأقسام الممكنة مثل أنه إذا قال: مَنْ دخل داري أكرمته، فيقال له: أردت الرجال أو النساء؟ فإذا قال: أردت الرجال يقال له: أردت العرب أم العجم؟ فإذا قال: أردت العرب يقال له: أردت ربيعة أم مضر؟ وهلم جرّاً إلى إن يأتي على جميع التقسيمات المُمْكنة، لما علمنا بالضرورة من عادة أهل اللسان قُبْحَ ذلك علمنا أن القول بالاشتراك باطل. الوجه الثاني: صحة الاستثناء منهما، فإن الاستثناء يخرج من الكلام ما لولاه لدخل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 الوجه الثالث: أنه لما نزل قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] قال ابن الزبعرى: لأخصمن محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال يا محمد أليس قد عبدت الملائكة؟ أليس قد عبد عيسى ابن مريم، فتمسك بعموم اللفظ والنبي عليه الصلاة لم ينكر عليه ذلك، فدل ذلك على أن هذه الصيغة تفيد العموم. النوع الثاني من دلائل المعتزلة: التمسّك في الوعيد بصيغة الجمع المعرفة بالألف واللام، قال تعالى: {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 14] فإنها تفيد العموم، ويدل عليه وجوه: أحدها: قول أبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْه: «الائمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ» والأنصار سلموا له صحة تلك الحجة. ولما هَمّ بقتال مانعي الزكاة قال له عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه: أليس قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «اُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» فاحتج عليه بهذا اللفظ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 بعمومه، ولم يقل أبو بكر ولا أحد من الصحابة: إن اللفظ لا يفيده، بل عدل إلى الاستثناء، فقال إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «إِلاَّ بحَقِّهَا» . الثاني: أن هذا الجمع يؤكّد بما يقتضي الاستغراق، فوجب أن يفيد الاستغراق لقوله تعالى: {فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] وما كان كذلك فوجب أن يؤكد المؤكد في أصله الاستغراق؛ لأن هذه الألفاظ مسماة بالتأكيد أجماعاً، والتأكيد هو تقوية الحكم الذي كان ثابتاً في الأصل. الثالث: صحّة الاستثناء منه. الرابع: أن المعرف يقتضي الكثرة فوق المنكر؛ لأنه يصح انتزع المنكر من المعرف ولا ينعكس، ومعلوم أن المنتزع [منه أكثر من المنتزع] . النوع الثاني: صيغ الجموع المقرونة بحرف «الذي كقوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى} [النساء: 10] {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة} [النحل: 28] {والذين كَسَبُواْ السيئات} [يونس: 27] {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} [التوبة: 34] {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} [النساء: 18] فلو لم يكن الفاسق من أهل الوعيد لم يكن له في التوبة حاجة. النوع الثالث: لفظة» ما «كقوله {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} [آل عمران: 180] . النوع الرابع: لفظة» كل «كقوله: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ} [يونس: 54] . النوع الخامس: ما يدلّ على أنه سبحانه لا بد وأن يفعل ما توعدهم به وهو قوله: {لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد 0 مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ} [ق: 28، 29] صريح في أنه تعالى لا بد وأن يفعل ما دلّ اللفظ عليه، وكذا الكلام في الصّيغ الواردة في الحديث. والجواب من وجوه: أحدها: لا نسلم أن صيغة» من «في [معرض] الشرط للعموم، ولانسلّم أن صيغة الجمع إذا كانت معرفة بالألف واللام كانت للعوم، والذي يدلّ عليه أمور: الأول: أنه يصحّ إدخال لفظتي الكل والبعض على هاتين اللَّفظتين، فيقال: كل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 دخل داري أكرمته، وبعض مَنْ دخل داري أكرمته، ويقال أيضاً: كل الناس كذا، وبعض الناس كذا، ولو كانت لفظة» من «في معرض الشرط تفيد العموم لكان إدخال لفظة» كل «عليها تكريراً، وإدخال لفظة» بعض «عليها نقضاً، وكذلك في [فلظ الجمع] المعرف. الثاني أن هذه الصيغ جاءت في كتاب الله تارةً للاستغراق، وأخرى للبعض، فإن أكثر العمومات مخصوصة، والمجاز والاشتراك خلاف الأصل، فلا بد من جعله حقيقة في القدر المشترك بين العموم والخصوص، وذلك هو أن يحمل على إفادة الأكثر من غير بيان أن يفيد الاستغراق أو لا يفيد. الثالث: أن هذه الصيغ لو أفادت العموم إفادة قطعية لاستحال إدخال لفظ التأكيد عليها؛ لأن تحصيل الحاصل مُحَال، فحيث حسن إدخال هذه الألفاظ عليها علمنا أنها لا تفيد معنى العموم لا مَحَالة، سلمنا أنها تفيد معنى ولكن إفادة قطعية أو ظنية، والأول ممنوع وباطل قطعاً؛ لأن من المعلوم بالضرورة أنَّ الناس كثيراً ما يعبرون عن الأكثر بلفظ الكل، والجمع على سبيل المبالغة كقوله تعالى: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] وإذا كانت هذه الألفاظ تفيد معنى العموم إفادة ظنية، وهذه المسألة ليست من المسائل الظنية، سلّمنا أنها تفيد معنى العموم إفادة قطعية، ولكن لا بد من اشتراط أَلاَّ يوجد شيء من المخصصات، فإنه لا نزاع في جواز تطرق التخصيص إلى العام، فلم قلتم: إنه لم يوجد شيء من المخصصات؟ أقصى ما في الباب أن يقال: بحثنا فلم نجد شيئاً من المخصصات، لكن عدم الوِجْدَان لا يدلّ على عدم الوجود. وإذا كانت إفادة هذه الألفاظ الاستغراق متوقفة على نفي المخصصات، وهذا الشرط غير معلوم [كانت الدلالة متوقفة على شرط غير معلوم] فوجب ألاَّ تحصل الدلالة، ومما يؤكد هذا قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] حكم على كل الذين كفروا أنهم لا يؤمنون، ثم إنا شاهدنا قوماً منهم قد آمنوا، فعلمنا أنه لا بد من أحد الأمرين: إما لأن هذه الصيغة ليست موضوعة للشمول، أو لأنها وإن كانت موضوعة لهذا المعنى، إلاَّ أنه قد وجدت قرينة في زمان الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا يعلمون من أجلها أ، مراد الله تعالى من هذا العموم هو الخصوص، وأما ما كان هناك فَلِمَ يجوز مثله هاهنا؟ سلمنا أنه لا بد من بيان المخصص لكن آيات العفو مخصصة لها، والرجحان معنا؛ لأن آيات العفو بالنسبة إلى آيات الوعيد خاصة بالنسبة إلى العام، والخاصّ مقدم على العام لا محالة، سلّمنا أنه لا يوجد المخصّص، ولكن عمومات الوعيد مُعَارضة بعمومات الوعد، ولا بدّ من الترجيح، وهو معنى من وجوه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 أحدها: أنَّ الوفاء بالوعد أدخل في الكرم من الوفاء بالوعيد. الثاني: أنه قد اشتهر في الأخبار أن رحمة الله سابقة على غضبه وغالبة عليه، فكان ترجيح عمومات الوعد أولى. الثالث: أن الوعيد حق الله تعالى والوعد حق العبد، وحق العبد أولى بالتحصيل من حق الله تعالى، سلّمنا أنه لم يوجد المعارض، ولكن هذه العمومات نزلت في حق الكُفَّار، فلا تكون قاطعة في العمومات. فإن قيل: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب. قلنا: هَبْ أنه كذلك، ولكن لما رأينا كثيراً من الألفاظ العامة وردت في الأسباب الخاصة، والمراد تلك الأسباب الخاصة فقط علمنا أنّ إفادتها للعموم لا تكون قوية. والله أعلم. فهذا أصل البَحْث في دلائل الفريقين، وأما دلائل الفريقين من الكتاب والسُّنة فكثيرة، فمنها على هذه الأصل حجّة من قال بالعفو في حق العبد، [وبعض] الآيات الدالة على أنه تعالى غفور رحيم غافر غفار، وهذا لا يحسن إلاّ في حق من يستحق العذاب. [فإن قيل] : لم لا يجوز حمله على تأخير العِقَابِ كقوله في قصة اليهود: {ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُمِ} [البقرة: 52] والمراد تأخير العقاب إلى الآخرة، وكذا قوله: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 30] وكذا قوله: {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ} [الشورى: 34] . فالجواب: العفو أصله الإزالة من عَفَا أمره كما قال تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] وليس المراد منه التأخير إلى وقت معلوم، بل الإسقاط المطلق، فإن الغريم إذا أخر المطالبة لا يقال: إنه عفى فيه، ولو أسقطه يقال: إنه عفى عنه. الثانية: قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] وهذا يتناول صاحب [الصغيرة وصاحب الكبيرة] قبل التوبة؛ لأن الغفران للتائبين وأصحاب الصغائر واجب غير معلّق على المشيئة. فإن قيل: لا نسلم أن تلك المغفرة تدلّ على أنه تعالى لا يعذب العُصَاة في الآخرة؛ لأن المغفرة إسقاط العقاب، وهو أعم من إسقاطه دائماً أو لا دائماً واللفظ الموضوع بإزار القَدْرِ المشترك لا إشعار له بكل واحد، فيجوز أن يكون المراد أن الله تعالى لا يؤخر عقاب الشرك في الدنيا لمن يشاء، ويؤخر عقاب ما دون ذلك في الدنيا لمن يشاء. فحصل بذلك تخويف كل الفريقين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 سلمنا أنَّ الغفران عبارة عن الإسقاط على الدوام، فلم لا يمكن حمله على مغفرة التائب، ومغفرة صاحب الصغيرة؟ وأيضاً لا نسلم أن قوله: «مَا دُونَ ذَلِكَ» يفيد العموم لصحة إدخال لفظ «كل» و «بعض» على البدل، [مثل أن] يقال: ويغفر كل ما دون ذلك، وهو يمنع العموم. سلمنا أنه للعموم، ولكنا نخصصه بصاحب الصغيرة وصاحب الكبيرة بعد التوبة. فالجواب: أما إذا حملنا المغفرة على التأخير، وجب أن يكون عقاب المشركين في الدنيا أكثر [من عقاب المؤمنين] ، وإلاَّ لم يكن في التفضيل فائدة، وليس كذلك لقوله تعالى: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ} [الزخرف: 33] . قوله: لم قلتم: إن قوله: «مَا دُونَ ذَلِكَ» يفيد العموم؟ قلنا: لأن قوله «ما» تفيد الإشَارَة إلى الماهية الموصوفة بأنها دون الشرك وهذه الماهيّة ما هية واحدة، وقد حكم قطعاً بأنه يغفرها، ففي كل صغيرة متحقق فيها هذه الماهية وجب تحقق الغفران. الثالثة: قال يحيى بن معاذ: إلهي إذا كان توحيد ساعة يَهْدم كفر خسمين سنة فتوحيد خمسين سنة كيف لا يهدم معصية ساعة إلهي لما كان الكفر لا ينفع معه شيء من الطاعات كان مقتضى العَدْل أن الإيمان لا يضر معه شيء من المعاصي لعمومات الوعد وهي كثيرة ثم نقول: لما وقع التعارض فلا بد من الترجيح وهو معنا من وجوه: أحدها: أن عمومات الوعد أكثر، والترجيح بكثرة الأدلة أمر معتبر في الشرع. وثانيها: قوله تعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] [يدلّ على أن الحسنة إنما كانت مذهبة للسيئة لكونها حسنة، فوجب أن تكون كل حسنة مذهبة لكل سيئة] ترك العمل به في حسنات الكُفَّار، [فإنها لا تذهب سيئاتهم] فيبقى معمولاً به في الباقي. وثالثها: تضعف الحسنة، كما قال تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] ثم زاد فقال: «وَاللهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ» وفي جانب السَّيئة قال: {وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] . ورابعها: قال في آية الوعد: {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً وَعْدَ الله حَقّاً وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} [النساء: 122] . ذكره للتأكيد ولم يقل في شيء من المواضع وعيد الله حقّاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 وخامسها: أن القرآن مملوء من كونه تعالى غافراً غفوراً رحيماً كريماً عفوّاً رحماناً. والأخبار في هذا قد بلغت حدّ التواتر، وكل ذلك يوجب رُجْحَان الوعد، وليس في القرآن ما يدل على أنه تعالى بعيد عن الرحمة والكرم والعفو، وكل ذلك يوجب رُجْحَان جانب الوعد. سادسها: أن الإنسان [هذا أتى] بأفضل الخيرات وهو الإيمان ولم يأت بأقبح القبائح وهو الكفر [بل أتى بالبشر الذي هو في طبقة القبائح ليس في الغاية والسيد إذا أتى عبده من الطاعات، وأتى بمعصية متوسطة، فلو تولى بتلك المعصية على الطاعة لعد لئيماً مؤذياً] . فصل في الاستدلال بالآية قد شُرِطَ في هذه الآية شرطان: أحدهما: اكتساب السّيئة. والثاني: إحاطة تلك السيئة بالعَبْدِ، وذلك يدل على أنه لا بُدّ من وجود الشرطين ولا يكفي وجود أحدهما، وهذا يدل على أن من عقد اليمين على شرطين في طلاق أو أعتاق أنه لا يحنث بوجود أجدهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 اعلم أنه سبحانه وتعالى: ما ذكر في القرآن آية وعيد إلا وذكر في جنبها آية وَعْد، وذلك لفوائد: أحدها: أن يظهر سبحانه بذلك عدله؛ لأنه لما حكم بالعذاب الدائم على المصّرين على الكفر، وجب أن يحكمم بالنَّعيم الدائم على المصرين على الإيمان. وثانيهما: أنّ المؤمن لا بد وأن يعتدل خوفه ورجاؤه على ما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «المؤمن لَوْ وَزِنَ خُوْفُهُ وَرَجَاؤهُ لاَعْتَدَلاَ» وذلك الاعتدال لا يحصل إلا بهذا الطريق. وثالثها: أن يظهر بوعده كمال رحمته وبوعيده كما حِكْمته، فيصير ذلك سبباً [للعرفان] . فإن قيل: دلّت الآية على أنْ العمل الصالح خارج عن الإيمان؛ لأنه لو دلّ الإيمان على العمل الصالح لعد الإيمان تكريراً. أجاب القاضي: بأن الإيمان وإن كان يدخل فيه جميع الأعمال الصالحة إلاّ أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 قوله: «آمن» لا يفيد إلا أنه فعل فعلاً واحداً من أفعال الإيمان، فلهذا حسن أن يقول: «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ. والجواب: أن فعل الماضي يدلّ على حصول المصدر في زمان معين والإيمان هو المصدر فلو دلّ ذلك على جميع الأعمال الصالحة لكان قوله:» آمَنَ «دليلاً على صدور تلك الأعمال منه. فصل في مرتكب الكبيرة هذه الآية تدلّ على أن صاحب الكبيرة قد يدخل الجنة؛ لأنه أتى بالإيمان والأعمال الصالحات، ثم أتى بعد ذلك بالكبيرة، ولم يَتُبْ عنها، فهذا الشَّخص قبل إتيانه بالكبيرة كان قد صدق عليه أنه آمن، وعلم الصالحات [في ذلك الوقت، ومن صدق عليه ذلك قوله:» أُولَئِكَ أًصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ «. فإن قيل قوله تعالى:» وعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ «لا يصدق عليه إلا إذا أتى بجميع [الأعمال] ، ومن جملة الصَّالحات التوبة، فإذا لم يأت بها لم يكن آتياً بالصالحات، فلا يندرج تحت [الآية] . قلنا: [لو سلمنا أنه قبل] الإتْيَان بالكبيرة [صدق] عليه أنه آمن وعمل الصالحات [لأنه متى صدق المركب يجب صدق المفرد، بل إنه إذا أتى بالكبيرة لم يصدق عليه أنه آمن وعمل الصالحات] في كل الأوقات، لكن قولنا: آمن وعمل الصالحات أعم من قولنا: إنه كذلك في كل الأوقات، أو في بعض الأوقات، والمعتبر في الآية هو القَدْرُ المشترك، فثبت أنه مندرج تحت حكم الوَعْدِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 «إذْ» معطوف على الظرف قبله، وقد تقدم ما فيه من كونه متصرفاً أو لا. و «أّخَذْنَا» في محلّ خفض، أي: واذكر وَقْت أَخْذنا ميثاقهم، أو نحو ذلك. «لا تَعْبُدُونَ» قرأ ابن كثير وغيره والكِسائي بالياء، والباقون بالتاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 فمن قرأ فلأن الأسماء الظَّاهرة حكمها الغيبة، ومن قرأ بالخطاب هو الْتِفَات، وحكمته أنه أدعى لِقَبُول المخاطب الأمر والنهي الواردين عليه. وجعل أبو البقاء قراءة الخِطَاب على إضمار القول. قال: يقرأ بالتاء على تقدير: قلنا لهم: لا تعبدون إلا الله وكونه التفاتاً أحسن. وفي هذه الجملة المنفيّة من الإعراب ثمانية أوجه: أظهرها: أنها مفسرة لأخذ الميثاق، وذلك لأنه تعالى لما ذكر أنه أخذ ميثاق بني إسرائيل كان ذلك في إبْهَام للميثاق ما هو؟ فأتى بهذه الجُمْلة مفسرة له، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب. الثاني: أنها في محلّ نصب على الحال من «بَنِي إِسْرَائِيْلَ» وفيها حينئذ وجهان: أحدهما: أنها حال مقدّرة بمعنى: أخذنا ميثاقهم مقدّرين التوحيد أبداً ما عاشوا. والثَّاني: أنَّها حال مقارنة بمعنى: أخذنا مِيْثَاقهم ملتزمين الإقامة على التوحيد، قاله أبو البقاء [وسبقه إلى ذلك قطرب والمبرد] . وفيه نظر من حيث مجيء الحال من المضاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذلك على الصحيح، خلافاً لمن أجاز مجيئها من المُضَاف إليه مطلقاً، لا يقال: المضاف إليه معمول له في المعنى ل «ميثاق» ؛ لأن ميثاقاً إما مصدر أو في حكمه، فيكون ما بعده إما فاعلاً أو مفعولاً، وهو غير جائز «لأن من شرط عمل المصدر غير الواقع موقع الفعل أن ينحل إلى حرف مصدري، وفعل هذا لا ينحل لهما، لو قدرت: وإذ أخذنا أن نواثق بني إسرائيل، أو أن يواثقنا بنو إسرائيل، لم يصح ألا ترى أنك لو قلت: أخذت علم زيد لم يتقدر بقول: أخذت أن يعلم زيد، ولذلك منع ابن الطَّراوة في ترجمة سيبويه:» هذا باب علم ما الكلم من العربية «أن يقدر المصدر بحرف مصدري والفعل، ورده وأنكر على من أجازه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 الثالث: أن يكون جواباً لقسم محذوف دلّ عليه لفظ المِيْثَاق، أي: استحلفناهم، أو قلنا لهم: بالله لا تعبدون، ونسب هذا الوجه لسيبويه، ووافقه الكسائي والفَرّاء والمبرد. الرابع: أن يكون على تقدير حذف حرف الجر، وحذف» أن «، والتقدير: أخذنا ميثاقهم على ألاَّ تعبدوا، فَحُذِف حرف الجر؛ لأن حذفه مطرد مع» أنَّ وأنْ «كما تقدم، ثم حذفت» أن «الناصبة، فارتفع الفعل بعدها؛ كقول طرفة: [الطويل] 613 - أَلاّ أَيُّهَذَا الزَّاجِرِي أَحْضُرُ الْوَغَى ... وَأَنْ أَشْهَدَ اللَّذَّاتِ، هَلْ أَنْتَ مُخْلِدِي وحكي عن العرب: «مُرْهُ يَحْفِرَهَا» أي: بأن يحفرها، والتقدير: عن أن يحضر، أو بأن يحفرها، وفيه نظر، فإن [إضمار] «أن» لا ينقاس، إنما يجوز في مواضع عدها النحويون، وجعلوا ما سواها شاذّاً قليلاً، وهو الصحيح خلافاً للكوفيين، وإذا حذفت «أن» ، فالصحيح جواز [النصب والرفع] ، وروي «مُرْهُ يَحْفِرهَا» و «أحضر الوَغَى» بالوجهين، وهذا رأي المبرد والكوفيين خلافاً لأبي الحسن، حيث التزم رفعه. وأيد الزمخشري هذا الوجه الرابع بقراءة عبد الله: «لاَ تَعْبُدُوا» على النهي، قال: إلاَّ أنه جاء على لفظ الخبر لقوله تعالى: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] ، قال: والذي يؤكد كونه نهياً [قوله: «وأقيموا الصلاة» ] فإنه تنصره قراءة عبد الله وأُبي: «لا تعبدوا» . الخامس: أن يكون في محلّ نصب بالقول المحذوف، وذلك القول حال تقديره: قائلين لهم: لا تعبدون إلا الله، ويكون خبراً في معنى النهي، ويؤيده قراءة أُبَي المتقدمة، ولهذا يصح عطف «قُولُوا» عليه، وبه قال الفَرّاء. السادس: أَنَّ «أنْ» الناصبة مضمرة كما تقدم، ولكنها هي وما في حَيّزها في محلّ نصب على أنها بدل من «مِيْثَاق:، وهذا قريب من القول الأول من حيث إن هذه الجملة مفسرة للميثاق، وفيه النظر المتقدم أعني حذف أن في غير المواضع المقيسة. السابع: أن يكون منصوباً بقول محذوف، وذلك القول ليس حالاً، بل مجرد أخبار، والتقدير: وقلنا لهم ذلك، ويكون خبراً في معنى النهي. قال الزمخشري: كما تقول: تذهب إلى فلان تقول له: كذا تريد الأمر، وهو أبلغ من صريح الأمر والنهي؛ لأنه كأنه سُورعَ إلى الامتثال والانتهاء، فهو يخبر عنه، وتَنْصره قراءى عبد الله وأُبَيّ:» لاَ تَعْبُدُوا «ولا بد من إرادة القول بهذا. الثامن: أن يكون التقدير:» ألاَّ تَعْبُدُونَ «وهي» أن «المفسرة؛ لأن في قوله: أخَذْنَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 مِيْثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ» إيهاماً كما تقدم، وفيه معنى القول، ثم حذف «أن» المفسرة، ذكره الزَّمخشري. وفي ادعاء حذف حرف التفسير نظر لا يخفى. قوله: «إِلاَّ اللهَ» استثناء مفرغ؛ لأن ما قبله مفتقر إليه وقد تقدم تحقيقه أولاً. وفيه التفات من التكلّم إلى الغيبة، إذ لو جرى الكَلاَم على نسقه لقيل: لا تعبدون إلاَّ إيانا، لقوله: «أَخّذْنَا» . وفي هذا الالتفات من الدّلالة على عظم هذا الاسم والتفرد به ما ليس في المضمر، وأيضاً الأسماء الواقعة ظاهرة، فناسب أن يجاوز الظاهرُ الظاهرَ. فصل في مدلول «الميثاق» هذا الميثاق يدلّ على تمام ما لا بد منه في الدينن لأنه تعالى لما أمر بعبادته، ونهى عن عبادة غيره، وذلك مسبوق بالعِلْمِ بذاته سبحانه، وجميع ما يجب ويجوز ويستحيل عليه، وبالعلم بوحدانيته وبراءته عن الأضداد والأنداد، ومسبوق أيضاً بالعلم بكيفية تلك العبادة الَّتِي لا سبيل إلى معرفتها إلا بالوَحْي والرسالة، فقوله: «لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ» يتضمّن كلّ ما اشتمل عليه الكلام والفقه والأحكام. وقال مكّي: «هذه الميثاق هو الذي أخذه عليهم حين أخرجوا من ظهر آدم كالذَّر» و «بِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً» فيه خمسة أوجه: أحدها: أن تتعلق الباء ب «إحساناً» على أنه مصدر واقع [موقع} فعل الأمر، والتقدير وأحسنوا وبالوالدين، والباء ترادف «إلى» في هذا المعنى، تقول: أحسنت به وإليه، بمعنى أن يكون على هذا الوجه ثَمَّ مضافٌ محذوف، وأحسنوا بر الوالدين بمعنى: أحسنوا إليهما برّهما. قال ابن عطية: يعترض على هذا القول، أن يتقدّم على المصدر معمولُهُ، وهذا الاعتراض لا يتم على مَذْهَب الجمهور، فإن مذهبهم جواز تقديم معمول المَصْدر النَّائب عن فعل الأمر عليه، تقول: «ضرباً زيداً» وإن شئتك «زيداً ضرباً» وسواء عندهم إن جعلنا العمل للفعل المقدر، أم للمصدر النائب عن فعله، فإن التقديم عندهم جائز، وإنما بمتنع تقدم معمول المَصْدر المنحل لحرف مصدري والفعل كما تقدم وإنما يتم على مذهب أبي الحسن، فإنه منع تقديم معمول المصدر النائب عن الفعل، ويخالف الجمهور في ذلك. الثاني: أنها متعلّقة بمحذوف وذلك المحذوف يجوز أن يقدر فعل أمر مُرَاعاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 لقوله: «لاَ تَعْبُدُونَ» فإنه في معنى النهي كما تقدم، كأنه قال: لا تبعدوا إلا الله وأحسنوا بالوالدين، ويجوز أن يقدر خبراً مراعاة لِلَفْظِ «لاَ تَعْبُدُونَ» والتقدير: وتحسنون [وإن كان معناه الأمر، وبهذين] الاحتمالين قدره الزمخشري، وينتصب «إحساناً» حينئذ على المصدر المؤكّد لذلك الفعل المحذوف. وفيه نظر من حيث إن حذف عامل المؤكّد منصوصٌ على عدم جوازه، وفيه بحث ليس هذا موضعه. الثالث: أن يكون التقدير: واستوصوا بالوالدين، ف «البَاء» متعلّقة [بهذا الفعل المقدر] أيضاً، وينتصب «إحساناً» حينئذ على أنه مفعول به. الرابع: تقديره: وَوَصَّيْنَاهُمْ بالوالدين، فالباء متعلّقة بالمحذوف أيضاً، وينتصب «إحساناً» [حينئذ] على أنه مفعول لأجله، أي: لأجل إحساننا إلى الموصى بهم من حيث إنّ الإحسان متسبّب عن وصيتنا بهم، أو الموصى لما يترتب الثواب منّا لهم إذا أحسنوا إليهم. الخامس: أن تكون الباء وما عملت فيه عطفاً على قوله: «لاَ تَعْبُدُونَ» إذا قيل بأن «أن» المصدرية مقدرة فينسبك منها ومما بعدها مصدر يعطف عليه هذا المجرور، والتقدير: أخذنا ميثاقهم بإفراد الله بالعبادة وبالوالدين، أي: وببرّ الوالدين، أو: بإحسان إلى الوالدين، فتتعلّق «الباء» حينئذ ب «الميثاق» لما فيه من مَعْنَى الفعل، فإن الظرف وشبهه تعمل فيه رَوَائح الأفعال، وينتصب «إحساناً» حينئذ على المصدر من ذلك المضاف المحذوف، وهو «البر» لأنه بمعناه، أو الإحسان الذي قدرناه. والظّاهر من هذه الأوجه هو الثَّاني، لعدم الإضمار اللازم في غيره، أو لأن ورود المصدر نائباً عن فعل الأمر مطّرد شانع. وإنما تقدّم المعمول اهتماماً به وتنبيهاً على أنه أولى بالإحسان إليه ممن ذُكِرَ معه. و «الَوالِدَان» الأب والأم، يقال لكل واحدٍ منهما: والد؛ قال: [الطويل] 614 - عَجِبْتُ لمَوْلُودٍ وَلَيْسَ لَهُ أَبٌ ... وَدْي وَلَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أِبَوَانِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 وقيل: لا يقال في الأم: والدة بالتاء، وإنما قيل فيها وفي الأب: والدان تغليباً للذكر. و «الإحسان» : الإنعام على الغير. وقيل: بل هو أعم من الإنعام. وقيل: هو النَّافع لكل شيء. فصل في وجوه ذكر البر بالوالدين مع عبادة الله قال ابن الخَطِيْبِ: إنما أراد عبادة الله بالإحْسَان إلى الوالدين لوجوه: أحدها: أن نعمة الله على العَبْدِ أعظم النعم، فلا بد من تقديم شكره على شُكْرِ غيره، ثم بعد نعمة الله فنعمة الوالدين أعظم النّعم؛ لأن الوالدين هما الأصل في وجود الولد، ومنعمان عليه بالتربية، فإنعامهما أعظم والإنْعَام بعد إنعام الله تعالى. وثانيها: أن الله سبحانه وتعالى المؤثر في وجود الإنْسَان في الحقيقة، والوالدان مؤثران في وجوده بحسب العُرْفِ الظاهر، فلأنه المؤثر الحقيقي أردفه بذكر المؤثر بحسب العرف الظَّاهر. وثالثها: أن الله سبحانه وتعالى لا يطلب على إنعامه على العبد عوضاً ألبتَّة، وإنعام الوالدين كذلك، فإنهما لا يطلبان على الإنعام على الولد عوضاً. ورابعها: أن الله لا يملّ من الإنعام على العبد، ولو أتى العبد بأعظم الجرائم، فإنه لا يقطع عنه مواد نعمه، وكذلك الوالدان لا يملاَّن الولد ولا يقعطان عنه موادتهما وإن كان الولد مسيئاً إلى الوالدين. وخامسها: كما أن الوالد المشفق يتصرّف في مال ولده بالاسْتِرْبَاح، وطلب الزيادة ويصونه عن البخس والنقصان، فكذلك الحقّ سبحانه وتعالى يتصرف في طاعة العبد، فيصونها عن الضياع ويضاعفها كما قال: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} [البقرة: 261] . فلما تشابها من هذه الحيثيات كانت نعم الوالدين قليلة بالنسبة إلى نِعَمِ الله تعالى، [بل النعم كلها من الله تعالى فلا] جَرَمَ ذكر الإحسان إلى الوالدين عقب ذكر عبادة الله تعالى. فصل في وجوب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين اتفق أكثر العلماء على أنه يجب تعظيم الوالدين وإن كانا كافرين لقوله في هذه الآية: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً» بغير تقييد بكونهما مؤمنين أم لا، وقد ثبت في أصول الفقه أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 الحكم المرتب على الوصف يشعر بغلبة الوصف فالأمر بتعظيم الوالدين لمحض كونهما وَالدَيْن، وذلك يقتضي العموم، وهكذا الاستدلال بقوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23] وهذا نهاية المبالغة في المنع من إيذائهما إلى أن قال: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} [الإسراء: 24] فصرّح ببيان السّبب في وجوب هذا التعظيم، وكذلك قوله: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] وقوله تعالى: {وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدنيا مَعْرُوفاً} [لقمان: 15] صريح في الدّلالة. و «ذِي الْقُرْبى» وما بعده عطف على المجرور بالباء، وعلامة الجر فيها الياء؛ لأنها من الأسماء الستة التي ترفع بالواو، وتنصب بالألف، وتجر بالياء بشروط مذكورة، وهل إعرابها بالحروف أو بغيرها؟ عشرة مذاهب للنَّحويين فيها. وهي من الأسماء اللاَّزمة للإضافة لفظاً ومعنى إلى أسماء الأجناس الظاهرة؛ ليتوصّل بذلك إلى وصف النكرة باسم الجنس؛ نحو: «مَرَرْتُ بِرَجُلٍ ذِي مَالٍ» وإضافته إلى المضمر ممنوعةٌ إلا في ضرورة أو نادر كلام؛ كقوله: [الوافر] 615 - صَبَحْنَا الْخزرَجِيَّةَ مُرْهَفَاتٍ ... أَبَانَ ذَوِي أَرُومَتِهَا ذَوُوهَا وأنشد الكسائِيُّ: [الرمل] 616 - إِنَّما يَعْرِفُ الْمَعْرُوفَ ... في النَّاسِ ذَوُوهُ وعلى هذا قولهم: «اللهم صَلِّ على محمد وذويه» . وإضافته إلى العلم قليلة جدًّا، وهي على ضربين: واجبة: وذلك إذا اقترنا وضعاً، نحو: «ذي يزن» و «ذي رعين» . وجائزة وذلك إذا لم يقترنا وضعاً، نحو: «ذي قطري» و «ذي عمرو» أي: صاحب هذا الاسم. وأقل من ذلك إضافتها إلى ضمير المخاطب؛ كقوله: [الطويل] 617 - وَإِنَّا لَنَرْجُو عَجِلاً مِنْكَ مِثْلَ مَا ... رَجَوْنَاهُ قِدْماً مِنْ ذَوِيكَ الأَفَاضِلِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 وتجيء «ذو» موصولة بمعنى «الَّذِي» وفروعه، والمشهورُ حينئذ بِنَاؤها وتذكيرها، ولها أحكام كثيرة. و «القربى» مضاف إليه، وألفه للتَّأنيث، وهو مصدر ك «الرُّجْعَى والعُقْبَى» ، ويطلق على قرابة الصُّلْب والرَّحِم؛ قال طَرَفَةُ: [الطويل] 618 - وَظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً ... عَلَى الْحُرِّ مِنْ وَقْعِ الْحُسَامِ الْمُهَنَّدِ وقال أيضاً: [الطويل] 619 - وَقَرَّبْتُ بالْقُرْبَى وَجَدِّكَ إِنَّهُ ... مَتَى يَكُ أَمْرٌ لِلنَّكِيثَةِ أَشْهَدِ والمادة تدلّ على الدّنو عند البعد. فصل اعلم أن حقّ ذوي القُرْبى كالتَّابع لحق الوالدين؛ لأن اتصال الأقارب بواسطة اتِّصَال الوالدين، فلذلك أَخَّر الله تَعَالى ذكرهم بعد ذكر الوالدين، والسبب في تأكيد رعاية هذا الحق إلى القرابة؛ لأن القرابة مظنّة الاتِّحَاد والأُلْفَة والرعاية والنصرة، فهذا وجبت رعاية حُقُوق الأَقَارب. فصل في أحكام تؤخذ من الآية قال الشَّافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: لو أوصى لأقارب زيد دخل فيه الوارث المَحرم، وغير المَحرَم، ولا يدخل الأب والابن؛ لأنها لا يعرفان بالقَرابَة، ويدخل الأحفاد والأجداد. وقيل: لا يدخل الأصول والفروع. وقيل: يدخل الكلّ. قال الشافعي: يرتقي إلى أقرب جدّ ينسب هو إليه ويعرف به، وإن كان كافراً. وذكر أصحابه في مثاله: لو أنه أوصى لأقارب الشافعي، فإنا نصرفه إلى بني شَافعٍ دون بني المطّلب، وبني عبد مناف، وإن كانوا أقارب؛ لأنّ الشّافعي ينتسب في المشهور إلى بني شافع دون عبد مَنَاف. قال الغَزَالي: وهذا في زمان الشَّافعي، أما في زماننا فلا ينصرف إلاَّ إلى أولاد الشافعي ولا يرتقي إلى بني شافع؛ لأنّه أقرب من يعرف به أقاربه في زماننا، أما قرابة الأم، فإنها تدخل في وصيّة العجم، ولا تدخل في وصيّة العرب الأَظْهر؛ لأنهم لا يعدون ذلك قَرَابةً أما لو قال: لأرحام فلان دخل قَرَابَة الأب والأم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 قوله: «وَاليَتَامَى» وزنه «فَعَالى» ، وألفه للتأنيث، وهو جمع «يتيم» ك «نديم ونَدَامى» ولا ينقاس هذا الجمع. وقال ابن الخطيب: جمعه «أَيْتَام ويتامى» واليُتْم: الانفراد، ومنه اليتيم؛ لانفراده عن أبويه أو أحدهما، ودرة يتيمة: إذا لم يكن لها نظير. وقيل: اليَتَيم: الإبطاء، ومنه: صبي يتيم؛ لأنه يبطىء عنه البرّ وقيل: هو التغافل، لأن الصبيّ يتغافل عما يصلحه. قال الأَصْمَعيّ: «اليتيم في الآدميين من فَقَدَ الآباء، وفي غيرهم من فقد الأمّهات» . وقال المَاوَرْدِي: إن اليتم أيضاً في الناس من قبل فقد الأمهات. والأول هو المعروف عند أهل اللغة، ويسمى يتيماً إلى أن يبلغ، يقال: يَتِمَ يَيْتَم يَتْماً مثل: سَمِعَ يَسْمعُ سَمْعاً ويَتُمَ يَيْتُم يُتْماً مثل: عَظُمَ يَعْظُم عُظْماً، فهاتان لُغَتان مشهورتان حكاهما الفرَّاء، ويقال: أيتمه الله إيتاماً، أي: فعل به ذلك. وعلامة الجَرّ في «القربى» و «اليَتَامى» كسرة مقدرة على الألف، وإن كانت للتأنيث؛ لأنَّ ما لا ينصرف إذا أضيف أو دخلته «أل» انجزّ بالكسرة، وهل يسمّى حينئذ منجرّاً أو منصرفاً. ثلاثة أقوال، يفصل في الثالث بين أن يكون أحدَ سببيه العلمية، فيسمى منصرفاً نحو: «يَعْمُرُكُمْ» أو لا يسمى منجراً نحو: «بالأحمر» ، و «القربى واليتامى» من هذا الأخير. فصل في رعاية اليتيم [اليتيم كالتالي] لرعاية حقوق الأقارب؛ لأنه لصغره لا ينتفع به وليتمه وخلوه عمن يقوم به يحتاج إلى من ينفعه، والإنسان قلّما يرغب في صُحبة مثل هذا، وإن كان هذا التكليف شاقّاً على الأنفس لا جَرَمَ كانت درجته عظيمةً في الدين. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَنَا وَكَافِلُ اليَتِيْمِ كَهَاتَيْنِ فِي الجَنَّةِ» وأشار بالسَّبَّابة والوسطى. وقال عله الصلاة والسلام: [ «مَا قَعَدَ يَتِيْم مع قَوْم عَلَى قَصْعَتِهِمْ فَيقرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 قَصْعَتَهُمُ الشَّيْطَانُ» وقال عليه السلام] : «مَنْ ضَمَّ يَتِيْماً مِنْ بَيْنِ المُسْلِميْنَ إِلَى طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ حَتَّى يُغْنِيَهُ اللهًُ عَزَّ وَجَلَّ غُفِرَتْ لَهُ ذُنُوبُهُ أَلْبَتَّةَ إِلاَّ أَنْ يَعْمَلَ عَمَلاً لاَ يُغْفَرُ» . قوله: «والمساكين» جمع «مسكين» ، ويسمونه جمعاً لا نظير له من الآحاد، وجمعاً على صيغة منتهى الجُمُوع، وهو من العِلَلِ القائمة مقام علّتين، وسيأتي تحقيقه قريباً إن شاء الله تعالى. وتقدم القول في اشتقاقه عند ذكر المسكنة. واختلف فيه: هل هو بمعنى الفقير أو أسوأ حالاً منه كقوله: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] أي: لصق جلده بالتراب، وهو قول أبي حنيفة وغيره بخلاف القير؛ فإن له شيئاً ما. قال: [البسيط] 620 - أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ... وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَم يُتْرَكْ لَهُ سَبدُ أو أكمل حالاً؛ لأن الله جعل لهم ملكاً ما، قال: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79] وهو قول الشافعي وغيره. فصل إنما تأخّرت درجتهم عن اليتامى؛ لأن المِسْكين قد ينتفع به في الاستخدامن فكان الميل إلى مُخَالطته أكثر من المَيْل إلى مُخَالطة اليتامى، وأيضاً المسكين يمكنه الاشتغال بتعهّد نفسه، ومصالح معيشته، واليتيم ليس كذلك، فلا جَرَمَ قدم الله ذكر اليتيم على المسكين. قال: عليه الصَّلاة والسلام: «السَّاعِي عَلَى الأَرْمَلَةِ والمِسْكِينَ كَالمُجَاهِدِ فِي سَبِيْلِ اللهِ وأحسبه قال وَكَالقَائِمِ لاَ يَفْتُرُ مِنْ صَلاَةٍ وَكَالصَّائم لاَ يُفْطِرُ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 قال ابن المنذر: كان طاوس يرى السَّعي على الأخواب أفضل من الجهاد في سبيل الله. قوله: «وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً» هذه الجملة عَطْفٌ على قوله: «لاَ تْعُبُدُونَ» في المعنى، كأنه قال: لا تعبدوا إلا الله، وأحسنوا بالوالدين وقولوا، أو على «أحسنوا» المقدر، كما تقدم تقريره في قوله تعالى: «وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً» . وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً لقول محذوف تقديره: وقلنا لهم: قولُوا. وقرأ حمزة والكسائي: «حَسَناً» بفتحتين، و «حُسُناً» بضمتين، و «حُسْنَى» من غير تنوين ك «حُبْلى» و «إِحْسَاناً» من الرباعي. فأما من قرأ: «حُسْناً» بالضم والإسكان، فيحتمل أوجهاً: أحدها وهو الظَّاهر أنه مصدر وقع صفةً لمحذوف تقديره: وقولوا للناس حُسناً أي: ذا حسن. الثاني: أن يكون وصف به مُبَالغة كأنه جعل القول نفسه حسناً. الثالث: أنه صفة على وزن «فُعْل» ، وليس أصله المصدر، بل هو كالحلو والمر، فيكون بمعنى «حَسَنٍ» بفتحتين، فيكون فيه لغتان: حُسْن وحَسَن ك «البُخْل والبَخَل، والحُزْن والحَزَن، والعُرْب والْعَرب» . الرابع: أنه منصوب على المَصْدر من المعنى، فإن المعنى: وَلْيَحْسُنْ قَوْلُكم حُسْناً. وأما قراءة: «حَسَناً» بفتحتين فصفة لمصدر محذوف تقديره: قولاً حسناً، كما تقدم في أحد أوجه «حُسْناً» . وأما «حُسْناً» بضمتين، فضمة السين لإتباع الحاء، فهو بمعنى «حُسْناً» بالسكون، وفيه الأوجه المتقدمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 وأما «حُسْنَى» بغير تنوين فمصدر ك «البُشْرَى والرُّجْعَى» . وقال النحاس في هذه القراءة: ولا يجوز هذا في العربية، لا يقال من هذا شيء إلا بالألف واللام، نحو: الكُبْرَى والفُضْلى. هذا قول سيبويه، وتابعه ابن عطية على هذا، فإنه قال: ورده سيبويه؛ لأن «أفعل» و «فعلى» لا يجيء إلا معرفة إلاَّ أن يزال عنها معنى التَّفضيل، ويبقى مصدراً ك «العُقْبى» ، فذلك جائز، وهو وجه القراءة بها. انتهى وناقشه أبو حيان وقال: في كلامه ارْتباك؛ لأنه قال: لأن «أفعل» و «فعلى» لا يجيء إلا معرفة، وهذا ليس بصحيح. أما «أَفْعل» فله ثلاثة استعمالات. أحدها: أن يكون معها «مِنْ» ظاهرة أو مقدرة، أو مضافاً إلى نكرة، ولا يتعرف في هذين بحال. الثاني: أن تدخل عليه «أل» فيتعرف بها. الثالث: أن يضاف إلى معرفة فيتعرف على الصحيح. وأما «فُعْلى» فلها استعمالان: أحدهما: بالألف واللام. والثاني: الإضافة لمعرفة، وفيها الخلاف السابق. وقوله: «إلا أن يزال عنها معنى التفضيل، وتبقى مصدراً» ظاهر هذا أن «فُعْلى» أنثى «أفعل» إذا زال عنها معنى التفضيل تبقى مصدراً وليس كذلك، بل إذا زال عن «فعلى» أنثى «أفعل» معنى التفضيل صارت بمنزلة الصفة التي لا تفضيل فيها؛ ألا ترى إلى تأويلهم «كُبْرى» بمعنى كبيرة، «وصُغْرى» بمعنى صغيرة، وأيضاً فإن «فعلى» مصدر لا يَنْقَاسُ، إنما جاءت منها الألفاظ ك «العُقْبَى والبُشْرَى» ثم أجاب الشيخ عن هذا الثاني بما معناه أن الضمير في قوله: «عنها» عائد إلى «حسنى» لا إلى «فعلى» أنثى «أفعل» ، ويكون استثناء منقطعاً كأنه قال: إلا أن يزال عن «حسنى» التي قرأ بها أُبَيّ معنى التفضيل، ويصير المعنى: إلا أن يُعْتقد أن «حسنى» مصدر لا أنثى «أفعل» . وقوله: «وهو وجه القراءة بها» أي والمصدر وجه القراءة بها. وتخريج هذه القراءة على وجهين: أحدهما: المصدر ك «البُشْرى» وفيه الأوجه المتقدمة في «حسناً» مصدراً، إلا أنه يحتاج إلى إثبات «حُسْنى» مصدراً من قول العرب: حَسُن حُسْنَى، كقولهم: رَجَع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 رُجْعَى، إذا مجيء «فُعْلى» مصدراً لا يَنْقَاسُ. والوجه الثاني: أن تكون صفةً لموصوف محذوف، أي: وقولوا للناس كلمةً حُسْنَى، أو مقالةً حسنى، وفي الوصف بها حينئذ وجهان: أحدهما: أن تكون للتفضيل، ويكون قد شَذَّ استعمالها غير معرفة ب «ألْ» ، ولا مضافة إلى معرفة، كما شذَّ قوله: [البسيط] 621 - وَإِنْ دَعَوتِ إِلَى جُلَّى وَمَكْرُمَةٍ ... يَوْماً سَرَاةَ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا وقوله: [الرجز] 622 - في سَعْي دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مَدَّتِ ... والوجه الثاني: أن تكون لغير التفضيل، فيكون معنى حُسْنى: حَسَنة ك «كبرى» في معنى كبيرة، أي: وقولوا للناس مَقَالة حَسَنة، كما قال: يوسف أحسن إخوته في معنى حسن إخوته انتهى. وبهذا يعلم فساد قول النحاس. وأما من قرأ: «إحساناً» فهو مصدر وقع صفةً لمصدر محذوف، أي: قولاً إحساناً [وفيه تأويل مشهور] ، ف «أحساناً» مصدر من أحسن الذي همزته للصيرورة، أي: قولاً ذا حُسْن، كما تقول: أعشبت الأرض، أي: صارت ذا عُشْب. فإن قيل: لم خوطبوا ب «قُولوا» بعد الإخبار؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه على طريقة اللْتِفَاتِ، كقوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] . الثاني: فيه حذف، أي: قلنا لهم: قولوا. الثالث: الميثاق لا يكون إلا كلاماً كأنه قيل: قلت: لا تعبدوا وقولوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 فصل في بيان هل الكفار داخلون في المخاطبة بالحسنى قال بعضهم: إنما يجب القول الحسن مع المؤمنين، أما مع الكُفّار والفُسَّاق فلا، بدليل أنه يجب لعنهم وذمّهم ومحاربتهم، فكيف يمكن أن يكون القول معهم حسناً، وأيضاً قوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148] والقائلون بهذا القول منهم من زعم أن هذا الأمر صار منسوخاً بآية القِتَالِ. ومنهم من قال: إنه دخله التَّخصيص. وزعم أبو جعفر محمد بن علي البَاقِر أن هذا العموم باقٍ على ظاهره، ولا حاجة إلى التخصيص، ويدلّ عليه أن موسى وهارون مع عُلوّ منصبهما أُمِرَا بالرِّفْق واللِّين مع فرعون، وكذا محمد صلى لله عليه وسلم أمر بالرفق وترك الغِلْظَة بقوله: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125] . وال: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] . وقوله: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] . وقوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199] . وأما ما تمسكوا به من أنه يجب لعنهم وذمهم. قلنا: لا نسلّم أنه يجب لعنهم، وإن سلّمنا لكن لا نسلّم أن اللّعن ليس قَوْلاً حسناً. بيانه: أنّ القول الحسن ليس عبارة عن القول الذي يستهوونه، بل القول الحسن هو الذي يحصل انتفاعهم به، ونحن إذا لعنَّاهم وذَمَمْنَاهم ليرتدعوا به عن الفعل القبيح كان ذلك نافعاً في حقهم، فكان قولاً حسناً، كما أن تغليظ الوالد لولده في القول يكون حسناً ونافعاً من حيث يَرْتَدِعُ به عن الفعل القبيح. سلمنا أنّ لعنهم ليس قولاً حسناً، ولكن لا نسلّم أن وجوبه ينافي وجوب القول الحسن. بيانه: أنه لا مُنَافَاةَ بين كون الشخص مستحقًّا للتعظيم بسبب إحسانه إلينا، ومستحقًّا للتحقير بسبب كفره، وإذا كان كذلك، فلم لا يجوز أن يقال بوجوب القول الحَسَنِ معهم، وأما تمسّكهم بقوله تعالى: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148] فجوابه: لِمَ يجوز أن يكون المراد منه كشف حال الظالم ليحترز الناس عنه [وهو المراد بقوله عليه السلام «اذكروا الفاسق بما فيه كي يحذره الناس» ] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 فصل في أن الإحسان كان واجباً عليهم ظاهر الآية يدلّ على أن الإحسان إلى ذي القربى واليتامى والمساكين كان واجباً علهيم في دينهم، وكذا القول الحسن للناس كان واجباً عليهم؛ لأن أخذ الميثاق يدلّ على الوجوب، وذلك لأن ظاهر الأمر للوجوب، والأمر في شرعنا أيضاً كذلك من بعض الوجوه، وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه: أن الزّكاة نسخت كلّ حق، وهذا ضعيف؛ لأنه لا خلاف أن من اشتدت به الحاجة، وشاهدناه بهذه الصفة، فإنه يلزمنا التصدق عليه، وإن لم يجب علينا الزكاة حتى أنه إن لم تندفع حاجتهم بالزَّكَاةِ كان هذا التصدّق واجباً، ولا شك في وجوب مُكَالمة الناس بطريق لا يتضررون منه. قال ابن عَبَّاس معنى الآية: «قولوا لهم لا إله إلا الله» . وفسّره ابن جريج: «قولوا للناس حسناً صدقاً في أمر محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يتغيّروا صفته» . وقال سفيان الثوري: مروهم بالمعروف وأنْهوهم عن المنكر. وقال أبو العالية: «قولوا لهم الطّيب من القول، وجاوزهم بأحسن ما تحبون أن تجازوا به» ، وهذا كلّه حضٌّ على مكارم الأخلاق، فينبغي للإنسان أن يكون قوله للناس لَيْناً حسناً، كما قال تعالى لموسى وهارون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} [طه: 44] . وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لعائشة: «لاَ تَكُوني فَحَّاشَةً فَإِنَّ الفُحْشَ لَوْ كَانَ رَجُلاً لَكَانَ رَجُلَ سُوءٍ» ، ويدخل في هذه الآية المؤمن والكافر. قوله: «وَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ» تقدم نظيره. وقال ابن عطية: «زكاتهم هي التي كانوا يضعونها، وتنزل النَّار على ما تقبل منه، ولم تنزل على ما لم يتقبل، ولم تكن كزكاتنا. قال القرطبي:: وهذا يحتاج إلى نَقْل ... » . قوله: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ» . قال الزمخشري: «وهذا على طريقة الالتفات» وهذا الذي قاله إنما يجيء على قراءة: «لاَ يَعْبُدُونَ» بالغيبة، وأما على قراءة الخطاب فلا التفات ألبتَّة، ويجوز أن يكون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 أراد بالالتفات الخروج من خطاب بني إسرائيل القدماء إلى خطاء الحاضرين في زمن النبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [وقد قيل ذلك] ويؤيده قوله تعالى: «إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ» . قيل: يعني بهم الذين أسلموا في زمانه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كعبد الله بن سَلام وأضرابه، فيكون التفاتاً على القِرَاءتين. ثم قال ابن الخطيب: الآية تحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون المُرَاد من تقدم من بني إسرائيل، لأنه تعالى قد سَاقَ الكلام الأول في إظهار النعم بإقامة الحجج ثم بيّن بعد أنهم تولوا إلا قليلاً، فإنهم بقوا على ما دخلوا فيه، فإنّ أول الكلام في المتقدمين، فالظاهر يقتضي أن آخره فيهم، إلا بدليل يوجب الانصراف عن الظاهر. وثانيها: أنه خطاب للحاضرين في عصر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، يعني: أعرضتم بعد ظهور المعجزات كإعراض أَسْلاَفكم؛ لأنه خطاب مشافهة، وهو بالحاضرين أليق. وثالثها: أن يكون المراد بقوله: «ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ» من تقدم؛ لأنه تعالى لما بين أنه تعالى أنعم عليهم بتلك النّعم ثم تولّوا عنها بعد ذلك كان ذلك دالاًّ على نهاية قبح أفعالهم، ويكون قوله: وأنتم معرضون مختصاً بمن كان في زمان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: انكم بمنزلة المتقدّمين الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق، فإنكم بعد إطّلاعكم على صدق دلائل النّبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعرضتم عنه، فكنتم بهذا الإعراض بمثابة أولئك المتقدمين [الذين تولّوا بعد أخذ المواثيق بذلك الشِّرك] في ذلك التولي والله أعلم. و «قليلاً» منصوب على الاستثناء؛ لأنه من موجب. وقال القرطبي: المستثنى عند سيبويه منصوب؛ لأنه مشبه بالمَفْعُول. وقال محمد بن يزيد: هو المفعول حقيقة؛ لأن معناه: استثنيت قليلاً. وروي عن أبي عمرو وغيره: «إلاَّ قَلِيلٌ» بالرفع، وفيه ستّة أقوال: أصحها: أن رفعه على الصفة بتأويل «إلاّ» وما بعدها بمعنى «غَيْر» ، وقد عقد سيبويه رَحِمَهُ اللهُ في كتابه لذلك باباً فقال: «هذا باب ما يكن فيه» إلاَّ «ما بعدها وصفاً بمنزلة غَيْر ومثل» وذكر من أمثلة هذا الباب: «لو كان معنا رجلٌ إلا زيدٌ لغُلِبْنَا» و {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] . قال الطويل: 623 - ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 قَلِيلٌ بِهَا الأَصْوَاتُ إِلاَّ بُغَامُهَا وسَوَّى بين هذا وبين قراءة: {لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر} [النساء: 95] برفع «غير» وجوز في نحو: «ما قام القومُ إلا زيدٌ» بالرفع البدل والصِّفةن وخرج على ذلك قوله: [الوافر] 624 - وَكُلّ أخٍ مُفَارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أبِيكَ إلاَّ الفَرْقَدَانِ كأنه قيل: «وكلُّ أخٍ غيرُ الفَرْقَدَين مُفَارِقُهُ أخُوهُ» ؛ كما قال الشَّمَّاخ: [الطويل] 625 - وَكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هَاضِمِ نَفْسِهِ ... لِوَصلِ خَلِيلٍ صَارٍمٌ أَو مُعَارِزُ وأنشد غيره: [الرمل] 626 - لِدَمٍ ضَائِعٍ تَغَيَّبَ عَنْهُ ... أَقْرَبُوهُ إلاَّ الصَّبَا والجَنُوبُ وقوله: [البسيط] 627 - وَبِالصَّرِمَةِ مِنْهُمْ مَنْزِلٌ خَلَقٌ ... عَافٍ تَغَيَّرَ إلاَّ النُّؤْيُ والوَتِدُ والفرق بين الوصف «إلاَّ» والوصْفِ بغيرها أنَّ «إلاَّ» توصف بها المعارفُ والنكرات، والظاهرُ والمضمرُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 وقال بعضهم: «لا توصف بها إلا النكرة أو المعرفة بلام الجنس، فإنه في قوة النكرة» . وقال المبرِّد: «شرطه صلاحية البدلِ في موضعه» . الثاني: أنه عطف بيان، قاله ابن عصفور. وقال: «إنما يعني النحويون بالوصف» إلاَّ «عطف البيان» ، [وفيه نظرٌ] . الثالث: أنه مرفوع بفعل مَحْذُوف، كأنه قال: امتنع قليل. الرابع: أن يكون مبتدأ وخبره محذوف، أي إلاَّ قليل منكم لم يتولّوا، كما قالوا «مامررت بأحد إلاّ رجلٌ من بني تميم خيرٌ منه» . الخامس: أنه توكيد للضمير المرفوع، ذكر هذه الأوجه أبو البقاء. وقال: سيبويه وأصحابه يسمونه نعتاً ووصفاً يعني التوكيد، وفي هذه الأوجه التي ذكرها ما لا يخفى، ولكنها قد قيلت. السادس: أنه بدلٌ من الضمير «تولّيتم» . قال ابن عطية: وجاز ذلك مع أن الكلام لم يتقدم فيه نفي؛ لأنَّ «توليتم» معناه النفي كأنه قال: لم تَفُوا بالميثاق إلا قليل، وهذا الذي ذكره مِنْ جَوَاز البدل منعه النحويون، فلا يجيزون «قام القوم إلا زيد» على البدل. قالوا: لأن البدل يَحُلّ محلّ المبدل منه فيؤول إلى قولك: «قام إلا زيد» ، وهو ممتنع. وأما قوله: إنه في تأويل النفي، فما من موجب إلاَّ يمكن فيه ذلك، ألا ترى أن قولك: «قام القوم إلا زيد» في حكم قوله: «لم يجلسوا إلاَّ زيد» ، فكل موجب إذا أخذت نفي نقيضه أو ضده كان كذلك، ولم تعتبر العرب هذا في كلامها، وإنما أجاز النحويون: «قام القوم إلا زيد» بالرفع على الصيغة كما تقدم تقديره. و «منكم» صفة ل «قَلِيلاً» فيه في محل نصب، أو رفع على حسب القراءتين، والظاهر أن القليل مراد بهم الأشخاصُ لوصفه بقوله: «مِنْكُمْ» . وقال ابن عطية: «ويُحْتَمَل أن تكون القلة في الإيمان، أي: لم يبق حينَ عَصَو وكمفروا آخرهم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا إيمان قليل، إذ لا ينفعهم، والأول أقوى» انتهى. وهذا قول بعيد جدّاً أو ممتنع. «وأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ» جملة من مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال من فاعل «تَوَلَّيْتُمْ» وفيها قولان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 أحدهما: أنها حال مؤكِّدة؛ لأن التولّي والإعراَ مُتَرَادفان، وقيل مبيِّنة، فإن التولي باليدين والإعراض بالقلب، قاله أبو البقاء. وقال بعده: وقيل: «تَوَلَّيْتُمْ» يعني آباءهم، و «وأنتم معرضون» يعني أنفسهم، كما قال: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] أي آباءهم انتهى. وهذا يؤدّي إلى أن جلمة قوله: «وأنْتُمْ معْرِضُونَ» لا تكون حالاً؛ لأن فاعل التولّي في الحقيقة ليس هو صَاحِبَ الحال والله أعلم. وكذلك تكون «مبيّنة» إذا اختلف متعلّق التولي والإراض كما قال بعضهم: ثم توليتم عن أخذ ميثاقكم، وأنتم معرضون عن هذا النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: التولّي والإعراض مأخوذان من سلوك الطريق، وذلك أنه إذا سلك طريقاً ورجع عَوْدَه على بَدْئه سمي ذلك تولياً، وإن سلك في عُرْض الطريق سمي إعراضاً. وجاءت الحال جملة اسمية مصدرة ب «أنتم» ؛ لأنه أكد. وجيء بخبر المبتدأ اسماً، لأنه أولّ على الثبوت فكأنه قيل: وأنتم عادتكم التولي والإعراض عن الحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 هذا الخطاب كله كالذي قبله: وقوله: «لاَ تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ» كقوله: «لاَ تَعْبُدُونَ إَلاَّ اللهَ» في الإعراب سواء. و «تُسْفِكُونَ» من «أَسْفَك» الرّباعي. وقرأ طلحة بن مصرف، وشعيب بن أبي حمزة بضم الفاء وهي لغةن وأبو نهيك «تُسَفْكْونَ» بضم التاء، وفتح السين وتشديد الفاء. و «وَلاَ تْخْرِجُونَ» معطوف. فإن قيل: الإنسان ملجاً إلى ألاَّ يقتل نفسه فأي فائدة في النهي عنه؟ فالجواب من أوجه: أحدها: أن هذا الإلجاء قد تغير كما ثبت في أهل «الهِنْدِ» أنهم يقدرون في قتل النفس التَّخلُّص من عالم الفساد، واللحوق بعالم النور والصلاح، أو كثير ممن صعب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 عليه الزمان، وثقل عليه أمر من الأمور، فيقتل نفسه، فإذا انتفى كون الإنسان ملجاً إلى ترك قتله نفسه صحّ كونه مكلفاً به. وثانيها: المراد لا يقتل بعضكم بعضاً، وجعل غير الرجل نفسه إذا اتّصل به نَسَباً وديناً كقوله تعالى: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وثالثها أنه إذا قتل غيره، فكأنما قتل نفسه؛ لأنه يقتصُّ منه بإقامة المسبّب مقام السَّبب، وهو قريب من قولهم: «القَتْلُ أَنْفَى لِلْقَتْلِ» ؛ وقال: [الطويل] 628 - سَقَيْنَاهُمُ كَأْساً سَقَوْنَا بِمِثِلْهَا ... وَلَكِنَّهُمْ كَانُوا عَلَى المَوْتِ أَصْبَرَا وقيل: لا تفسكوا بارتكاب أنفسكم ما يوجب سفكها كالارْتِدَاد نحوه وهو قريب مما قبله. ورابعها: لا تتعرضوا لمُقَاتلة من يقتلكم، فتكونوا قد قتلتم أنفسكم. وخامسها: لا تسفكوا دماءكم من قوامكم في مصالح الدنيا، فتكونوا مهلكين لأنفكسم. قوله: «وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ» فيه وجهان. الأول: لا تفعلون ما تستحقّون بسببه أن تخرجوا من دياركم. الثاني: المراد النهي عن إخراج بعضهم بعضاً من ديارهم؛ لأن ذلك مما يعظم فيه المحنة. «مِنْ دِيَارِكُمْ» متعلّق ب «تخرجون» ، و «من» لابتداء الغاية، و «ديار» جمع دار الاصل: دَوَرَ؛ لأنه من دَارَ يَدُورُ دَوَرَاناً، فأصل دِيَار: دِوَار، وإنما قلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها، واعتلالها في الواحد. وهذه قاعدة مطّردة [في كل جمع على «فِعَالٍ» صحيح اللام قد اعتلت عين مفردة، أو سكنت حرف علة نحو:] ديار وثياب، ولذلك صحّ «رِوَاء» لاعتلال لامه، و «طِوَال» لتحرك عين مفردة، وهو «طويل» . فأما «طيال» في «طوال» فَشَاذّ، وحكم المصدر حكم هذا نحوك قام قياماً، وصام صياماً، ولذلك صح «لِوَاذ» لصحة فعله في قولهم: «لاوذ» . وأما دَيَّار فهو من لفظه الدار، وأصله: ديوان، فاجتمع الياء والواو فأعلاً على القاعدة المعروفة فوزنه: «فَيْعَال» لا «فَعَّال» ، إذ لو كان «فَعَّالاً» لقيل: دَوَّار ك «صَوَّام وقَوَّام» والدَّار: مجتمع القوم من الأَبنية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 وقال الخَلِيلُ: كل موضع حَلَّه الناس، وإن لم يكن أبنية. [وقيل: سميت داراً لدورها على سكانها، كمى سمي الحائط حائطاً لإحاطته على ما يحويه] . و «النفس» مأخوذ من النّفَاسة، فنفس الإنسان أشرف ما فيه. وقوله: «ثم أقررتم» . قال أبو البقاء: فيه وجهان: أحدهما: أن «ثُمّ» على بابها في إفادة العطف والتراخي، والمعطوف عليه محذوف تقديره: فَقَبِلْتُمْ، ثم أقررتم. والثاني: أن تكون «ثم» جاءت لترتيب الخبر لا لترتيب المخبر عنه، كقوله تعالى: {ثُمَّ الله شَهِيدٌ} [يونس: 46] . قوله: «وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» كقوله: {وَأَنْتُمْ مُّعْرِضُونَ} [البقرة: 83] وفيها وجوه: أحدها: أقررتم بالمِيثَاق، ثم اعترفتم على أنفسكم بلزومه، وأنتم تشهدون عليها، كقولك: فلان مقرّ على نفسه بكذا، شاهد عليها. وثانيها: اعترفتم بقَبُوله، وشهد بعضكم على بعض بذلك؛ لأنه كان شائعاً بينكم مشهوراً. وثالثها: وأنتم تشهدون اليوم ما مَعْشَرَ اليهود على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق. ورابعها: أن المراد بهذا الإقرار الذي هو الرِّضا بالأمر والصبر عليه، كما يقال فلان لا يقر على الضَّيم، فيكون المعنى أنه تعالى أمركم بذلك، ورضيتم به، وأقمتم عليه، وشهدتم على وجوبه وصحته. فإن قيل: لم قال «أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ» والمعنى واحد؟ فالجواب من ثلاثة أوجه: أحدها: أقررتم يعني أسْلافكم، وأنتم تشهدون الآن على إقرارهم. الثاني: أقررتم في وقت المِيثَاقِ الذي مضى، وأنتم بعد ذلك تشهدون [بقلوبكم] . الثالث: أنه للتأكيد. قوله: «ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ» فيه سبعة أقوال: أحدها: وهو الظاهر أن «أنتم» في محل رفع بالابتداء، وهؤلاء خبره و «تقتلون» « الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 حال، والعامل فيها اسم الإشارة لما فيه من معنى الفِعْل، وهي حال منه ليتّحد ذُوا الحال وعاملها. وقد قالت العرب:» ها أنت ذا قائماً «و» ها أنا ذا قائماً «و» ها هوذَا قائماً «فأخبروا باسم الإشارة عن الضَّمير في اللَّفظ والمعنى على الإخبار بالحال، فكأنه قال:» أنت الحاضر «، وأنا الحاضر» ، وهو الحاضر «في هذه الحالة. ويدل على أن الجملة من قوله:» تَقْتُلُونَ «حال وقوع الحال الصريحة موقعها كما تقدم في:» ها أنا ذا قائماً «ونحوه إلى هذا المعنى نَحَا الزمخشري فقال:» ثُمّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ «استبعاد لما أسند إليهم من القتل والإجلاء بعد أخذ الميثاق منهم وإقرارِهم وشَهَادتِهم، والمعنى: ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون: يعني أنكم قوم آخرون غيرُ أولئك المقربين، تنزيلاً لتغير الصّفة منزلة تغير الذَّات كما تقول: رجعت بغير الوجه الذي خرجت به. وقوله: «تَقْتُلُونَ» بيان لقوله: «ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ» . واعترضه أبو حَيَّان فقال: الظاهر أن المشار إليهم بقوله: «ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاَءِ» هم المخاطبون أولاً، فليسوا قوماً آخرين، ألا ترى أن التقدير الذي قَدَّره الزمخشري من تقدير [تغير الصّفة منزلة] تغيّر الذات لا يتأتى في نحو: ها أنا ذا قائماً، ولا في نحو: ها أنتم هؤلاء، بل المُخَاطب هو المشار إليه من غير تَغَيُّرٍ. وأجيب بأن هذا الإيراد بعيد غير واضح. والثاني: أن «أنتم» أيضاً مبتدأ، و «هؤلاء» خبره، ولكن بتأويل حذف مضاف تقديره: ثم أنتم مِثْلُ هؤلاء، و «تقتلون» حال ايضاً، العامل فيها معنى التشبيه، إلا أنه يلزم منه الإشَارة إلى غائبين؛ لأن المراد بهم أَسْلاَفهم علىهذا، وقد يقال: إنه نزل الغائب منزلة الحاضر. الثالث: ونقله «ابن عطية» عن شيخه «ابن الباذش» أن «أنتم» خبر متقدم، و «هؤلاء» مبتدأ مؤخر. وهذا فاسد؛ لأن المبتدأ أو الخبر متى استويا تعريضاً وتنكيراً لم يَجُزْ تقدم الخبر، وإن ورد منه ما يوهم فمتأول. الرابع: أن «أنتم» مبتدأ و «هؤلاء» مُنَادى حذف منه حرف النِّدَاء، وتقلتون خبر المبتدأ، وفصل بالنداء بين المبتدأ وخبره. وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به «الفراء» وجماعة؛ أنشدوا: [البسيط] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 629 - إِنَّ الأُولى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ ... هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولاَ أي: يا هذا، وهذا لا يجوز عند البصريين، ولذلك لُحِّنَ المتنبي في قوله: [الكامل] 630 - هَذِي بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيَا ..... ... ... ... ... ... ... وفي البيت كلام طويل. الخامس: أن «هؤلاء» موصول بمعنى «الذي» ، و «تقتلون» صلته، وهو خبر عن «أنتم» أي: أنتم الذين تقتلون. وهذا لا يجيزه جمهور البصريين إنما قال به «الفراء» وجماعة؛ أنشدوا: [البسيط] 631 - ... ... ... ... ... ... . ... نَجَوْتِ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ أي: والذي تحملين، ومثله: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ} [طه: 17] يعني: وما التي؟ السادس: أنَّ «هؤلاء» منصوب على الاختصاص، بإضمار «أعني» و «أنتم» مبتدأ، و «يقتلون» خبره، اعترض بينهما بجملة الاختصاص، وإليه ذهب ابن كَيْسَان. وهذا لا يجوز، لأن النحويين قد نصّوا على أن الاختصاص لا يَكُون بالنكرات، ولا أسماء الإشارة، والمستقرأ من لسان العرب أن المنصوب على الاختصاص: إما «أي» نحو: «اللهم اغفر لنا أيتها العِصَابة» أو معرف ب «أل» نحو: نحن العَرَبَ أَقْرَى النَّاس للضيف، أو بالإضافة نحو: نحن مَعَاشِرَ الأنبياء لا نورّث، وقد يجيء كقوله: [الرجز] 632 - بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 وأكثر ما يجيء بعد ضمير تكلُّم كما تقدم، وقد يجيء مخاطب كقولهم: «بك الله نرجو الفضل» . السابع: أن يكون «أَنْتُمْ هَؤُلاَء» على ما تقدّم من كونهما مبتدأ أو خبر، والجُمْلة من «تقتلون» مستأنفة مبينة للجملة قبلها، يعني: أنتم هؤلاء الأشخاص الحَمْقَى، وبيان حَمَاقتكم وقلّة عقلوكم أنكم تقتلون أنفسكم، وتخرجون فريقاً منكم من دِيَارِهِمْ، وهذا ذكره الزَّمخشري في آل عمران في قوله: {هاأنتم هؤلااء حَاجَجْتُمْ} [آل عمران: 66] ولم يذكر هنا، وسيأتي بنصه إن شاء الله تعالى. قوله: «تَظَاهَرُونَ» هذه الجملة في محلّ نصب على الحال من فاعل «تُخْرجون» وفيها خمس قراءات: «تَظَّاهرُون» بتشديد الظَّاء، والأصل: تتظاهرون فأُدغم لقرب الظاء من التاء. و «تَظَاهَرُون» مخففاً، والأصل كما تقدم، إلا أنه خفّفه بالحذف، وهل المحذوف الثانية وهو الأَوْلَى؛ لحصول الثقل بها، ولعدم دلالتها على معنى المُضَارعة، أو الأُولَى كما زعم هشام؛ قال الشاعر: [البسيط] 633 - تَعَاطَسُونَ جَمِيعاً حَوْلَ دَارِكُمُ ... فَكُلُّكُمْ يَابَنِي حَمْدَانِ مَزكُومُ أراد: تتعاطسون فحذف. و «تَظَّهَّرُون» بتشديد الظاء والهاء. و «تَظَاهَرُون» من «تَظَاهر» و «تَتَظَاهَرُونَ» على الأصل من غير حذف، ولا إدْغَام وكلهم يرجع إلى معنى المعاونة والتَّنَاصُر من المظاهرة، كأن كل واحد منهم يسند ظَهْرَهُ للآخر ليتقوّى به، فيكون له كالظَّهر؛ قال: [الطويل] 634 - تَظَاهَرْتُمُ أَسْتَاهَ بَيْتٍ تَجَمَّعَتْ ... عَلَى وَاحِدٍ لاَ زِلْتُمُ قِرْنَ وَاحِدِ قال ابن الخطيب: الآية تدلّ على أن الظُّلم كما هو محرم، فإعانة الظالم على ظلمه محرمة. فإن قيل: أليس أن الله تعالى لما أقدر الظَّالم على الظّلم، وأزال العوائق والموانع، وسلط عليه الشهوة الدّاعية إلى الظلم كمان قد أعانه على الظلم، فلو كانت إعانة الظالم على ظلمه قبيحةً لوجب ألاَّ يوجد ذلك من الله تعالى؟ والجواب: أنه تعالى وإن مكّن الظَّالم من ذلك فقد زَجَرَهُ عن الظلم بالتَّهْديد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 والزجر، بخلاف المعني للظالم على ظلمه، فإنه يرغبه فيه، ويحسنه له ويدعوه إليه فظهر الفرق. و «الإثم» في الأصل: الذنب، وجمعه «آثام» ، ويطلق على الفعل الذي يستحقّ به صاحبه الذّم واللوم. وقيلك هو ما تَنْفِرُ منه النفس، ولا يطمئنّ إليه القَلْب، فالإثْمُ في الآية يحتمل إن يكون مراداً به [أحد] هذه المعاني ويحتمل أن يتجوّز به عما يوجب الإثم من إقامة السَّبب مقام السَّبب مقام المسببح كقوله: [الوافر] 635 - شَرِبءتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بِالعُقُولِ فعبر عن الخمر بالإثم، لما كان مسبَّباً عنها. فصل في معنى العدوان واشتقاقه و «العُدْوَان» : التجاوز في الظلم، وقد تقدم في {يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61] وهو مصدر ك «الكُفْرَان والغُفْرَان» والمشهور ضمّ فائه، وفيه لغة بالكَسْر. قوله: «وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ» «إن» شرطية، و «يأتوكم» مجزوم بها بحذف النون والمخاطب مفعول. و «أسارى» حال من الفاعل في «يأتوكم» . وقرأ الجماعة غير حمزة «أُسارى» وقرأ هو: «أَسْرَى» وقرء:: أَسَارَى «بتفح الهمزة، فقراءة الجماعة تحتمل أربعة أوجه: أحدها: أنه جُمِعَ جَمْع» كَسْلاَن «لما جمعهما من عدم النَّشَاط والتصرف، فقالوا:» أسير وأسارى «بضم الهمزة ك» كَسْلاَن وكُسَالَى «و» سَكْرَان وسُكَارى «، كما أنه قد شبه كَسْلان وسَكْران به فجمعا جمعه الأصلي الذي هو على» فعلى «فقالوا: كسلان وكَسْلى، وسكران وسَكْرى لقولهم: أسير وأسرى. قال سيبويه: فقالوا: في جمع كَسْلان كَسْلَى شبّهوه ب» أَسْرَى «. كما قالوا: أُسارى شبَّهوه ب» كَسَالى «، ووجه الشبه أنَّ الأسْر يدخل على المرء كرهاً كما يدخل الكَسَل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 قال بعضهم: والدَّليل على اعتبار هذا المعنى أنهم جمعوا» مريضاً وميتاً وهالكاً «على» فَعْلَى «فقالوا:» مرضى وموتى وهَلْكَى «لما جمعها المَعْنَى الذي في» قَتْلَى وجَرْحَى «. الثَّاني: أنَّ» أُسَارى «جمع» أسير «، وقد وجدنا» فَعِيلاً «يجمع على» فُعَالى «قالوا: شيخ قديم، وشيوخ قُدَامى. وفيه نظر، فإن هذا شاذ لا يقاس عليه. الثالث: أنه جمع» أسير «أيضاً، وإنما ضموا الهمزة من» أُسَارى «وكان أصلها الفَتْح ك» نديم ونُدَامى «كما ضمت الكاف والسين من» كُسَالى «و» سُكَارى «وكان الأصل فيهما الفتح نحوك» عَطْشَان وعَطَاشى «. الرابع: أنه جمع» أسرى «الذي هو جمع» أسير «فيكون جمع الجمع. وأما قراءة حمزة فواضحة؛ لأن» فَعْلَى «ينقاس في» فعيل «نحو:» جريح وجرحى «و» قتيل وقَتْلَى «و» مريض ومرضى «. وأما» أَسَارَى «بالفتح فقد تقدم أنها أصل أُسَارَى بالضم عند بعضهم، ولم يَعْرِفْ أهل اللُّغَة فرقاً بين» أُسَارَى «و» أَسْرَى «إلاَّ ما حكاه أبو عُبَيْدَة عن أبي عمرو بن العلاء، فإنه قال:» ما كان في الوَثَاقِ «فهم الأُسَارَى، وما كان في اليد، فهم الأَسْرَى» ونقل بعضهم عنه الفرقَ بمعنًى آخر، فقال: «ما جاء مستأسراً فهم الأسْرَى، وما صار في أيديهم، فهم الأُسَارَى» ، وحكى النقَّاشُ من ثَعْلَبِ؛ أنه لما سمع هذا الفَرْق قال: «هذا كلامُ المَجَانِينِ» ، وهي جُرْآة منه على أبي عمرو، وحكى عن المبرِّد أنه يقال: «أسِير وأُسَرَاء» ك «شَهِيدٍ وشُهَدَاء» و «الأَسير» : مشتقٌّ من «الإسَارِ» وهو القَيْدُ الذي يُرْبَطُ به من المحمل، فسمي الأسير أسيراً، وإن لم يُرْبَط، والأَسْر: الخلْقُ في قوله: {وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 29] وأُسْرَة الرَّجْل: من يتقوَّى بهم، والأُسْر: احتباس البَوْل، ورجل مَأْسُوةر: أصابه ذلك؛ وقالت العربُ: أسَرَ قَتَبَهُ: أي: شَدَّه؛ قال الأعشىك [المتقارب] 636 - وَقَيَّدَنِي الشِّعْرُ في بَيْتِهِ ... كَمَا قَيَّدَ الآسِرَاتُ الحَمَارَا يريد: أنه بلغ في الشعر النّهاية؛ حتى صار له كالبيت الذي لا يَبْرَحُ عنه. قوله: «تُفَادُوهُمْ» قرأ نافع وعاصم والكسائيك «تُفَادُوهُمْ» ، وهو جواب الشرط، فلذلك حذف نون الرفع، وقرأ الباقون: «تَفْدُوهُمْ» ، وهل القراءتان بمعنى واحد، ويكون معنى «فَاعَل» مثل معنى «فَعَل» المجرد مثل: «عاقبت وسَافرت» أو بينهما فرق؟ خلاف مشهور، ثم اختلف الناس في ذلك الفرق ما هو؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 فقيل: معنى «فَدَاه» أعطى فيه فِدَاء من مال، و «فَادَاهُ» : أعطى فيه أسيراً مثله؛ وأنشد: [الطويل] 637 - وَلَكِنَّنِي فَادَيْتُ أُمِّيَ بَعْدَمَا ... عَلاَ الرَّأْسَ مِنْهَا كَبْرَةٌ وَمَشِيبُ وهذا القول يرده قوله العباس رَضِيَ اللهُ عَنْه: فَادَيْتُ نفسي وفاديت عقيلاً، ومعلوم أن لم يُعْط أسيره في مقابلة نفسه ولا وَلَدِهِ. وقيل: تفدوهم بالصّلح، وتفادوهم بالعنف. وقيل: تفدوهم تعطوا فديتهم، وتفادوهم تطلبون من أعدائكم فِدْيَةَ الأسير الذي في أيديكم؛ ومنه: [الوافر] 638 - قِفِي فَادِي أَسِيرَكِ إنَّ قَوْمِي ... وَقَوْمَكِ مَا أَرَى لَهُمُ اجْتِمَاعَا والظاهر أن «تفادوهم» على أصله من أثنين، وذلك أن الأسير يعطى المال والأسير يعطى الإطلاق، وتفدوهم على بابه من غير مُشَاركة، وذلك أن الفريقين يَفدي صاحبه من الآخر بمال أو غيره، فالفعل على الحقيقة من واحد. و «الفِدَاء» ما يفتدى به، فإذا كسروا فاءه، جاز فيه وجهان: المدُّ والقَصْر، فمن المَدِّ قول النابغةك [البسيط] 639 - مَهْلاً فِدَاءَ لَكَ الأَقْوَامُ كُلُّهُمُ ... وَمَا أُثَمِّرُ مِنْ مَالٍ وَمِنْ وَلَدِ ومن القصر قوله: [الطويل] 640 - ... ... ... ... ... ... ... ... فِدَى لَكَ مِنْ رَبٍّ طَرِيفِي وتَالِدِي ومن العرب من يكسر: «فدى» مع لام الجر خاصّة، نحو: فِدّى لَكَ أَبي وأمي «يريدون الدعاء له بذلك، وفدى يتعدّيان لاثنين أحدهما بنفسه، والآخر بحرف جر، تقول:» فديت أو فاديت الأسير بمال «، وهومحذوف في الآية الكريمة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 قال ابن عطية: وحَسُنَ لفظ الإتْيَان من حيث هو في مُقابلة الإخراج، فيظهر التَّضادّ المقبح لفعلهم في الإخراج. يعني: أنه لايناسب من أسأتم إليه بالإخراج من داره أن تحسنوا إليه بالفداء. فصل فيما أخذ الله على بني إسرائيل قال السّدي: إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ألاَّ يقتل بعضهم بعضاً، ولا يخرج بعضهم بعضاً من ديارهم، وأيّما عبد أو أمة وجدتموه من بني إسرائيل فاشتروه بما قام من ثمنه وأعتقوه، وكانت» قريظة «حلفاء» الأوس «،» والنضير «حلفاء» الخزرج «، وكانوا يقتلون في حرب سِنِيْنَ، فيقاتل» بنو قريظة «مع حلفائهم،» وبنو النضير «مع حلفائهم، وإذا غلبوا خربوا ديارهم، وأخرجوهم منها، وإذا أسر رجل من الفريقين جمعوا له حتى يفدوه، وإن كان الأسير من عدّوهم، فتعيّرهم العرب، ويقولون: كيف تقاتلونهم وتفدونهم؟ قالوا: إنا أمرنا أن نفديهم، فيقولون: فلم تقاتلونهم؟ قالوا: إنا نستحي أن تذلّ حلفاؤنا، فعيّرهم الله تعالى، فقال:» ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ «. وفي الآية تقديم وتأخير، ونظمها: وتخرجون فريقاً منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان، وهو محرم عليكم إخراجهم، وإن يأتوكم أسارى تفادوهم فكان الله تعالى أخذ عليهم أربعة عهود: ترك القتال، وترك الإخراج، وترك المظاهرة عليهم مع أعدائهم، وفداء أسرائهم، فأعرضوا عن الكل إلا الفداء، فقال عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] . وقال مجاهد: يقول: إن وجدته في يد غيرك فديته، وأنت تقتله بيدك. قوله: «وَهُوَ مُحَرَّمٌ» فيه وجوه. والظاهر منها: أن يكون «هو» ضمير الشأن والقصّة، فيكون في محلّ رفع بالابتداء، و «محارم» خبر مقدم، وفيه ضمير قائم مقام الفاعل، و «إخراجهم» مبتدأ مؤخر، والجملة من هذه المبتدأ والخبر في محل رفع خبراً لضمير الشأن، ولم تحْتَجْ هنا إلى عائد على المبتدأ؛ لأن الخبر نفس المبتدأ أو عينه. وهذه الجملة مفسرة لهذا الضمير، وهو أحد المواضع التي يفسر فيها الضمير بما بعده وقد تقدّمت، ولسي لنا من الضَّمائر ما يفسَّر بجلمة غيرُ هذا الضمير، ومن شرطه أن يؤتى به في مَوَاضع التَّعْظيم، وأن يكون معمولاً للابتداء أو نواسخه فقط، وأن يفسر بجملة مصرح بجزيئها، ولا يُتبع بتابع من التَّوَابع الخمسة، ويجوز تذكيره وتأنيثه مطلقاً خلافاً لما فصل، فتذكيره باعتبار الأمر والشأن، وتأنيثه باعتبار القصّة فتقول: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 «هو زيد قائم» ، ولا يثنى ولا يجمع، ولا يحذف إلا في مواضع تذكر إن شاء الله تعالى، والكوفيُّون يسمونه ضمير المَجْهُول، وله أحكام كثيرة. الوجه الثاني: أن يكون «هو» ضمير الشأن أيضاً، و «محرم» خبره، و «أخراجهم» مرفوع على أنه مفعول لَمْ يسمّ فاعله. وهذا مذهب الكوفيين، وإنما فَرُّوا من الوجه الأول؛ لأن عندهم أن الخبر المحتمل ضميراً مرفوعاً لا يجوز تقديمه على المبتدأ، فلا يقال: قائم زيد على أن يكون «قائم» خبراً مقدماً، وهذا عند البصريين ممنوع لما عرفته أن ضمير الشأن لا يفسّر إلا بجملة، والاسلا المشتق الرافع لما بعده من قبيل المُفْرَدَات لا الجمل، فلا يفسر به ضمير الشَّأن. الثَّالث: أن يكون «هو» كناية عن الإخْرَاج، وهو مبتدأ، و «محرم» خبره، و «إخراجهم» بدل منه، وهذا على أحد القولين. وهو جواز إبدال الظَّاهر من المضمر قبله ليفسره، واستدلّ من أجاز ذلك بقوله: [الطويل] 641 - عَلَى حَالَةٍ لَوْ أَنَّ ... في الْقَوْمِ حَاتِماً عَلَى جُودِهِ لَضَنَّّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ ... ف «حَاتم» بَدلٌ عن الضمير في «جُودِهِ» . الرابع: أن يكون «هو» ضمير الإخراج المَدْلُولَ عليه بقوله: «وَتُخْرِجُونَ» و «مُحَرَّمٌ» خبره، و «إخْرَاجُهُمْ» بدل من الضمير المستتر في «محرم» . الخامس: كذلك، إلا أن «أخراجهم» بدلٌ من «هو» . نقل هذين الوجيهن أبو البقاء، وفي هذا الأخير نظر، وذلك أنك إذا جعلت «هو» ضمير الإخراج المدلول عليه بالفعل كان الضمير مفسراً به نحو: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] فإذا أبدلت منه «أخراجهم المَلْفُوظَ به كان مَفسّراً به أيضاً، فيلزم تفسيره بشيئين، إِلاَّ أن يقال: هذان الشيئان في الحقيقة شيء واحد فيُحتمل ذلك. السادس: أجاز الكوفيون أن يكن» هو «عماداً، وهو الذي يسميه البصريون ضمير الفَصْل قُدّم مع الخبر، والأصل: وإخراجهم هو محرم عليكم، و» إخراجهم «مبتدأ، و» محرم «خبره، و» هو «عِمَاد، فلما قدم الخبر قدم معه. قال الفراء: لأن الواو هنا تطلب الاسم، وكل موضع نطلب فيه الاسم فالعماد جائز وهذا عند البصريين ممنوع من وجهين: أحدهما: أنَّ الفصل عندهم من شرطه أن يقع بين معرفتين أو بين معرفة ونكرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 قريبة من المعرفة في امتناع دخول ألأ ك» أفعل من «ومثل وأخواتها. والثاني: أن الفَصْل عندهم لا يجوز تقديمه مع ما اتصل به. والسابع: قال ابن عطية: وقيل في» هو «: إنه ضمير الأمر، والتقدير: والأمر محرم عليكم، وإخراجهم في هذا القول بدل من» هو «. وقال أبو حَيَّان: وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: تفسير ضمير الأمر بمفرده، وذلك لا يجيزه بَصْري ولا كُوفي، أما البصري فلا شتراطه جملة، وأما الكوفي فلا بد أن يكون المفرد قد انتظم منه [نحو» ظننته قائماً الزيدان «. والثاني: أنه جعل» إخراجهم «] بدلاً من ضمير الأمر، وقد تقدم» أَلاَّ يُتْبَع بِتَابعٍ «. الثامن: قال ابن عطيّة أيضاً: وقيل: هو فاصلة، وهذا مذهب الكوفيين، وليست هنا بالتي هي عماد، و» مُحَرّم «على هذا ابتداء، و» إخراجهم «خبر. قال: أبو حيان والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب، أي: يكون «إخراجهم» متبدأ مؤخراً، «محرم» خبر مقدم قّدِّم مع الفَصْل كما تقدم، وهو الموافق للقواعد، ولا يلزم منه الإخبار بمعرفة عن نكرة من غير ضرورة تدعو إلى ذلك. التاسع: نقله ابن عطيّة أيضاً عن بعضهم أن «هو» الضمير المقدر في «محرم» قدم وأَظْهِر. قال الشيخ: وهذا ضعيف جدّاً؛ إذ لا ضرورة تدعو إلى انفصال هذا الضمير بعد اسْتِتَارِهِ وتقديره، وأيضاً فإنه يلزم خلوّ اسم المفعول من ضمير؛ إذ على هذا القول يكون «محرم» خبراً مقدماً، و «إخراجهم» متبدأ مؤخراً ولا يوجد اسم فاعل، ولا مفعول خالياً من الضمير إلاَّ إذا رفع الظَّاهر، ثم يبقى هذا الضمير لا ندري ما إعرابه، إذ لا يجوز مبتدأ، ولا فاعلاً مقدماً وفي قول الشيخ: «يلزم خُلُّوه من ضمير» نظر؛ إذ هو ضمير مرفوع به، فلم يخل منه غاية ما في الباب أنه انفصل للتقديم. وقوله: «لا ندري ما إعرابه» ؟ قد دري، وهو الرفع بالفاعلية. وقوله: والفاعل لا يقدم «ممنوع» فإن الكوفي يجيز تقديم الفَاعِلِ، فيحتمل أن يكون هذا القاتل يرى ذلك، ولا شكّ أن هذا قول رديء منكر لا ينبغي أن يجوز مثله في الكلام، فكيف في القرآن! فالشيخ معذور، والعجب من ابن عطية كيف يورد هذه الأشياء حاكياً لها ولم يُعَقِّبْها بنكير؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 وهذه الجملة يجوز أن تكون محذوفةً من الجمل المذكورة قبلها، وذلك أنه قد تقدم ذكر أربعة أشياء كلها محرمة وهي قوله: تقتلون أنفسكم وتخرجون [فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ] ، وتظاهرون، وتفادون فيكون التقدير: تقتلون أنفسكم وهو محرّم عليكم قتلها وكذلك مع البواقي. ويجوز أن يكون خصّ الإخراج بذكر التحريم، وإن كانت كلها حراماً، لما فيه من معرَّة الجلاء والنّفي الذي لا ينقطع شرّه إلا بالموت والقَتْل، وإن كان أعظمَ منه إلاَّ أن فيه قطعاً للشر، فالإخراج من الدِّيَار أصعب الأربعة بهذا الاعتبار. و «المحرم» : الممنوع، فإن التَّحريم هو المَنْع من كذا، والحَرَام: الشَّيء الممنوع منه يقال: حَرَامٌ عليك وسيأتي تحقيقه في «الأنبياء» إن شاء الله تعالى. فصل في المراد بالكفر والإيمان في الآية اختلف العلماء في قوله: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} قال ابن عباس وقتادة وابن جريج: «أخراجهم كفر، وفداؤهم إيْمَان؛ لأنه ذمهم على المُنَاقضة، إذ أتوا ببعض الواجب وتركوا البعض» . فإن قيل: هَبْ أن ذلك الأخراج كان معصيةً، فَلِمَ سماها كفراً؟ مع أنه ثبت أن العاصي لا يكفر. فالجواب: لعلّهم صرحوا بأن ذلك الإخراج غير واجب مع أنّ صريح التوراة كان دالاً على وجوبه. الثاني: أن المراد تمسّكهم بنبوة موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع التكذيب بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أن الحُجّة في أمرها سواء. قوله: {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ} «ما» يجوز فيها وجهان: أحدهما: أن تكون نافية، و «جزاء» متبدأ، و «إلاَّ خِزْيٌ» خبره وهو استثناء مفرّغ وبَطَلَ علمها عند الحِجَازيين لانتقاض النفي ب «إلاّ» ، وفي ذلك خلاف وتفصيل وتلخيصه: أن خبرها الواقع بعد «إلا» جمهور البصريين على وجوب رفعه مطلقاً سواءً كان هو الأول، أمر منزلاً منزلته، أو صفة أو لم يكن، ويأولون قوله: [الطويل] 642 - وَمَا الدَّهْرُ إِلاَّ مَنْجَنُوناً بِأَهْلِهِ ... وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إِلاَّ مُعَذَّبَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 على أن الناصب ل «منجنوناً» و «معذباً» محذوف، أي: يدور دَوَرَان منجنون، ويعذب مُعَذَّباً تّعْذِيباً. وأجاز يونس النصب مطلقاً، وإن كان النَّحَّاس نقل عدم الخلاف في رفع ما زيد إِلاَّ أخوك فإن كان الثَّاني منزلاً منزلة الأوّل نحو: «ما أنت إِلاَّ عمامتك تحسيناً وإلاَّ رداءك تزييناً» . فأجاز الكوفيون نصبه، وإنْ كان صفة نحو «ما زيد إلا قائم» فأجاز الفراء أيضاً. والثانيك أن تكون استفهاميةً في محلّ رفع بالابتداء، و «جزاء» خبره، و «إِلاَّ خِزْي» بدل من «جزاء» نقله أبو البَقَاءِ. و «الجزاء» : المقابلة خَيْراً كان أو شَرَّا. و «مَنْ» موصولة، أو نكرة موصوفة، و «يفعل» لا محلّ لها على الأول، ومحلها الجر على الثاني. «مِنْكُم» في محلّ نصب على الحال من فاعل «يفعل» ، فيتعلّق بمحذوف، أي: يفعل ذلك حال كونه منكم. و «الخِزْي» : الهَوَان والذّل والمَقْت، يقال: أخزاه الله إذا مَقَتَهُ وأبعده، ويقال: خَزِيَ بالكسر يَخْزى خِزْياً فهو خَزْيَان، وامرأة خَزْيَا، والجمع خَزَايَا. وقال ابن السِّكِّيت: الخزي الوقوع في بَليَّةٍ، وخَزِيَ الرجل في نفسه يخزى خزايةً إذا استحيا. وإذا قيل: أخْزَاه الله، كأنه قيل: أوقعه موقعاً يُستحيى منه، فأصله على هذا الاستحياء. قوله: «فِي الْحَيَاةِ» يجوز فيه وَجْهَان: أحدهما: أن يكون محلّه النصب على أنه ظرف ل «خِزْي» ، فهو منصوب به تقديراً. و «الدُّنْيَا» «فُعْلَى» تأنيث الأدنى من الدَّنو، وهو القُرْب، وألفها للتأنيث، ولا تحذف منها «أل» إلا لضرورة كقوله: [الرجز] 643 - يَوْمَ تَرَى النُّفُوسُ مَا أَعَدَّتِ ... في سَعْيِ دُنْيَا طَالَمَا قَدْ مُدَّتِ وياؤها عن واو، وهذه قاعدة مطردة، وهي: كل «فُعْلَى» صفة لامها واو تبدل ياء. نحو «الدنيا والعُلْيَا» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 فأما قولهم: «القُصْوَى» عند غير «تميم» ، و «الحُلْوَى» عند الجميع فَشَاذٌّ. فلو كانت «فُعْلَى» اسماً صحّت الواو؛ كقوله: [الطويل] 644 - أَدَارًا بِحُزْوَى هِجْتِ لِلْعَيْنِ عَبْرَةً ... فَمَا الْهَوَى يَرْفَضُّ أَوْ يَتَرَقْرقُ وقد استعملت استعمال الأسماء، فلم يذكر [موصوفها، قال تعالى: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} [الأنفال: 67] وقال ابن السّراج في «المقصور والممدود» : و «الدنيا» ] مؤنّثة مقصورة، تكتب بالألف، هذه لغة «نجد» و «تميم» ، إلاَّ أن «الحجاز» ، «وبني اسد» يلحقونها ونظائرَهَا بالمَصَادر ذوات الواو، فيقولون: دَنْوَى مثل شَرْوَى وكذلك يفعلون بكل «فُعْلَى» موضع لامها واو، ويفتحون أولها، ويقلبون باءها واواً، وأما أهل اللغة الأولى، فيضمون الدال، ويقلبون من الواو ياء لاستثقالهم الواو مع الضمة. فصل في المراد بالخِزْي في الآية اختلفوا في هذا الخِزْي على جوه: أحدها: قال الحَسَن: وهو الجزية والصَّغَار، وهو ضعيف؛ لأن الجِزْيَةَ لم تكن ثابتةً، في شريعتهم، بل إن حملنا الآية على خطاب الذين كانوا في زمن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيصحّ. الثاني: خِزْي «بني قريظة» بالقَتْل والسَّبي، وخزي بني النَّضير بالجَلاَء والنفي عن منازلنهم إلى «أَذْرعات» و «أريحا» من «الشام» ، وهذا أيضاً إنما يصحّ إذا حملنا الآية على الحاضرين في زمان صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الثالث: قال ابن الخَطِيْبِ وهو الأولى: إنّ المراد منه الذَّمّ العظيم ولتحقير البالغ من غير تخصيص ذلك ببعض الوجوه دون بعض، والتنكير في قوله: «خزي» يدلّ على أن الذّم واقع في النهاية العظمى. [وقوله] يُرَدُّونَ [قرىء] بالغيبة على المشهور وفيه وجهان. أحدها: أن يكون التفاتاً، فيكون راجعاً إلى قوله «أَفَتُؤْمِنُونَ» فخرج من ضمير الخطاب إلى الغيبة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 والثَّاني: أنه لا التفات فيه، بل هو راجع إلى قوله: «مَنْ يَفْعَلْ» . وقرأ الحسنك «تُرَدُّون» بالخطاب وفيه الوجهان المتقدمان: فالالتفات نظراً لقوله: «مَنْ يَفْعَلْ» ، وعدم الالتفات نظراً لقوله: «أَفَتُؤْمِنُونَ» . وكذلك: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قرىء في المشهور بالغيبة والخطاب والكلام فيهما كما تقدم. فإن قيل: عذاب الدّهري الذي ينكر الصَّانع يجب أن يكون أَشدَّ من عذاب اليهود، فكيف يكون في حقّ اليهود {يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب} ؟ فالجواب: المراد منه أشد من الخِزْي الحاصل في الدنيا، فلفظ الأشد وإن كان مطلقاً إلاّ أن المراد أشد من هذه الجهة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 قد تقدم إعراب نظائرها إلا أنّ بعضهم ذكر وجوهاً مردودة لا بُدّ من التنبيه عليها، فأجاز أن يكون «أولئك» مبتدأ، و «الذين اشتروا» خبره، «فلا يُخَفَّف عنهم العَذَاب» خبراً ثانياً ل «أولئك» . قال: ودخلت الفاء في جواب الخبر لأجل الموصول المشبه بالشرط وهذا خطأ فإن قوله: «فَلا يُخَفَّفُ» لم يجعله خبراً للموصول حتى تدخل «الفاء» في خبره، وإنما جعله خبراً عن «أولئك» وأين هذا من ذاك؟ وأجاز أيضاً أن يكون الذين مبتدأ ثانياًن و «فلا يخفف» خبَره، دخلت لكونه خبراً للموصول، والجملة خبراً عن «أولئك» . قال: ولم يَحْتَج هذا إلى عائد؛ لأن «الذين» هم «أولئك» كما تقول: «هذا زيد منطلق» ، وهذا أيضاً خطأ لثلاثة أوجه: أحدها: خلوّ الجملة من رابط، وقوله: «لأن الذين» هم «أولئك» لا يفيد، فإن الجملة المستغنية لا بُدّ وأن تكون نفس المبتدأ. وأما تنظيره ب «هذا زيد منطلق» فليس بصحيح، فإن «هذا» مبتدأ و «زيد» خبره، و «منطلق» خبر ثانٍ، ولا يجوز أن يكون «زيد» مبتدأ ثانياً، و «منطلق» خبره، والجملة خبر عن الأول، للخلو من الرابط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 الثاني: أن الموصول هنا لقوم معيّنين وليس عامّاً، فلم يُشبه الشرط، فلم تدخل «الفاء» في خبره. الثالث: أن صلته ماضية لفظاً ومعنى، فلم تشبه فعل الشرط في الاستقبالن فلا يجوز دخول الفاء في الخبر. فتعيّن أن يكون «أولئك» مبتدأ والموصول بصلته خبَره، و «فلا يخفف» معطوف على الصِّلَةِ، ولا يضر تَحَالُف الفعلين في الزمان، فإنّ الصِّلاتِ من قبيل الجُمَل، وعطف الجمل لا يشترط فيه اتحاد الزمان، فيجوز أن تقول: جاء الذي قتل زيداً أمس، وسيقتل عَمْراً غداً، وإنما الذي يشترط فيه ذلك حيث كانت الأفعال منزلة منزلة المفردات. وقيل: دخلت «الفاء» بمعنى جواب الأمر كقوله: أولئك الضّلال انتبه فلا خير فيهم. فصل في تفسير تخفيف العذاب حمل بعضهم عدم التخفيف على عدم الانقطاع؛ لأنه لو انقطع لكان قد خفف، وحمله آخرون على الشدّة لا على الدوام، أو في كلّ الأوقات، فإذا عذابهم بأنه لا يخفّف عنهم اقتضى ذلك نَفْيَ جميع ما ذكرناه. قوله: «وَلاَ هُمْ يَنْصَرُونَ» يجوز في «هو» وجهان: أحدهما: أن يكون محلّ رفع بالابتداء، وما بعده خبره، ويكون قد عطف جملة اسمية على جملة فعلية وهي: «فلا يخفف» . والثاني: أن يكون مرفوعاً بفعل محذوف يفسره هذا الظاهر، وتكون المساألةُ مِنْ باب الاشتغال، فما حذف الفعل انفصل الضَّمير؛ ويكون كقوله: [الطويل] 645 - فإِنْ هُوَ لَمْ يَحْمِلْ عَلَى النَّفْسِ ضَيْمَهَا ... فَلَيْسَ إِلَى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبِيلُ وله مرجّح على الأول بكونه قد عطف جملة على مثلها، وهو من المواضع المرجح فيها الحمل على الفعل في باب الاشْتِغَال. وليس المرجوح كونه تقدمه «لا» النافية، فإنها ليست من الأدوات المختصة بالفعل ولا الاولى به، خلافاً لابن السيد حيث زعم أَنَّ «لا» النافية من المرجّحات لإضمار الفِعْل، وهو قول [مرغوب عنه] ولكنه قَوِيَ من حيث البحث. فقوله: «ينصرون» لا محلّ له على هذا؛ لأنه مُفَسِّرٌ، ومحلّه الرفع على الأولى لوقوعه موقع الخبر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 فصل حمله بعضهم على نفس النُّصْرة في الآخرة، والأكثرون حلموه على نفي النُّصْرة في الدنيا. قال ابن الخطيب: والأول أولى، لأنه تعالى جاء على صنعهم ولذلك قال: {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب} وهذه الصّفة لا تليق إلا بالآخرة؛ لأنَّ عذاب الدنيا وإن حصل، فيصير كالحدود؛ لأن الكُفَّار قد يصيرون غالبين للمؤمنين في بعض الأوقات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 روي عن ابن عباس أن التَّوراة لما نزلت أمر الله موسى بِحَمْلِهَا فلم يطق ذلك، فبعث لكل حرف منها ملكاً فلم يطيقوا حلمها، فخفّفها الله على موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فحملها. [قوله] : {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} التضعيف في «قَفَّيْنَا» ليس للتَّعدية؛ إِذْ لو كان كذلك لتعدّى إلى اثنين؛ لأنه قيل: التضعيف يتعدّى لواحد، نحو: «قَفَوْتُ زَيْداً» ، ولكنه ضُمِّن معنى «جئنا» كأنه قيلك وجئنا من بعده الرُّسل. فإن قيل: يجوز أن يكون متعدياً لاثنين على معنى أنَّ الأول محذوف، والثاني «بالرسل» والباء فيه زائدة تقديره: «وَقَفَّيْنَا من بعده الرسل» . فالجَوَاب: أن كثرة مجيئه في القرآن كذلك يبعد هذا التَّقْدِير، وسيأتي لذلك مزيد بيان في «المائدة» [الآية: 46] إن شاء الله تعالى. و «قَفَّيْنَا» أصله: قَفَّوْنَا/ ولكن لما وقعت «الواو» رابعة قلبت «ياء» ، واشتقاقه من «قَفَوْتَ» ، وقَفَوْتُه إذا اتَّبَعْتُ قَفَاه، ثم اتُّسِع فيه، فأطلف على تابع، وإن بَعُدَ زمان التابع عن زمان المتبوع. قال أميَّةُ: [البسيط] 646 - قَالَتْ لأخْتٍ لَهُ قُصِّيهِ عَنْ جُنُبٍ ... وَكَيْفَ تَقْفُو وَلاَ سَهْلٌ وَلاَ جَبَلُ و «القَفَا» : مؤخّر العُنُق، ويقال له: القافية أيضاً، ومنه الحديث: «يعقد الشيطان على قَافِيَة رَأْس أَحَدِكُمْ» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 والقَفَاوَة: ما يدّخر من اللّبن وغيره لمن تريد إكرامه، وقفوت الرجل: قذفته بِفُجُور، «وفلان قِفْوتِي» : أي تُهْمتي، وقِفْوتي أي خيرتي. قال ابن دريد: كأنه من الأضداد. ومنه قافية الشعر؛ لأنها يتلو بعضها بعضاً، ومعنى قفّينا: أي أتبعنا، كقوله: {ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} [المؤمنون: 44] . و «مِنْ بَعْدِهِ» متعلق به، وكذلك: «بالرُّسُل» وهو جمع رسول بمعنى مُرْسَل، وفُعُل غير مقيس في «فعيل» بمعنى «مفعول» وسكون العين لغة «الحجاز» وبها قرأ الحسن، والضم لغة «تميم» وبها قرأ السَّبعة إلاَّ أبا عمر، وفيما أضيف إلى «ن» أو «كم» أو «هم» ، فإنه قرأ بالسكون لتوالي الحركات. فصل في تعيين الرسل المقفى بهم هؤلاء الرُّسل: يوشع، وشمويل، وداود، وسليمان، وشعياء، وأرمياء، وعزير، وحزقيل، وإلياس، ويونس، وزكريا، ويحيى، وغيرهم. وروي أن بعد موسى إلى أيام عيسى كانت الرسل متواترةً، ويظهر بعضهم في أثر البعض. والشريعة واحدة في أيام عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت فإنه جاء بشريعة مجدّدة، والدليل على ذلك قوله: {وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل} ؛ لأنه يقتضي أنهم على حدٍّ واحدٍ في الشريعة يتبع بعضهم بعضاً فيها. وقال القاضي: إنَّ الرسول الثاني لا يجوز أن يكون على شِرْعَةِ الأوّل بحيث لا يؤدي إلا تلك بعينها من غير زيادة ولا نُقْصَان، مع أنّ تلك الشريعة محفوظةٌ يمكن معرفتها بالتَّواتر عن الأول؛ لأن الرَّسُول إذا كان هذا حاله لم يممكن أن يعلم من جنهة إلاَّ منا كان قد علم من قبل، أو يمكن أن يعلم من قبل، فكما لا يجوز أن يبعث الله رسولاً لا شريعة معه أصلاً، فكذا هاهنا، فثبت أنه لا بد وأن يكونوا قد بعثوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 بشريعة جديدة إن كانت الأولى محفوظةً، أو محيية لبعض ما اندرس من الشَّريعة الأولى. والجواب: لم لا يجوز أن يكون المقصود من بعثة هؤلاء الرسل التعبُّد بتلك الشريعة السَّابعة بنوع آخر من الأَلْطَاف لا يعلمه إلا الله؟ فصل في لفظ عيسى [قوله] : «عيسى» : علم أعجمي فلذلك لم ينصرف، وقد تكلم النحويون في وَزْنِهِ، واستقاقه على تقدير كونه عَرَبيَّ الوضع فقال سيبويه: وزنه «فِعْلَى» والياء فيه ملحقة ببنات الأربعة كياء «مِعْزى» بالياء لا الألف، سمّاها ياء لكتابتها بالياء. وقال الفارسي: ألفه ليست للتأنيث ك «ذِكْرَى» ، بدلالة صرفهم له في النكرة. وقال عثمان بن سعيد الصيرفي: وزنه «فِعْللَ» فالألف عنده أصيلة بمعنى أنها مُنْقلبة عن أصل. ورد عليه ذلك ابن البَاذش بأن الياء والواو لا يكونان أصليين في بنات الأربعة، فمن قال: إن «عيسى» مشتق من «الْعَيْس» : وهو بياض تُخالطه شُقْرة ليس بمصيب، لأن الأعجمي لا يدخله اشتقاق ولا تصريف. وقل الزمخشري: «وقيل: عيسى بالسُّريانية يشوع» . قوله: «ابن مريم» عطف بيان له أو بدل، ويجوز أن يكون صفة إلا أن الأول أولى؛ لأن «ابن مريم» جرى مجرى العلم له، وللوصف ب «ابن» أحكام تخصّه، ستأتي إن شاء الله تعالى مبينة، وقد تقدم اشتقاق «ابن» وأصله. و «مريم» أصله بالسّريانية صفة بمعنى الخَادِمِ، ثم سُمِّيَ به؛ فلذلك لم ينصرف، وفي لغة العرب: هي المرأة التي تُكْثر مخالطة الرجَال ك «الزِّير» من الرجال، وهو الذي يكثر مُخالطتَهُن. قال رؤبة: [الرجز] 647 - قُلْتُ لِزِيرٍ لَمْ تَصِلْهُ مَرْيَمُهْ ... و «ياء» الزّير عن واو؛ لأنه من «زار يزور» فقلبت للكسرة قبلها ك «الريح» ، فصار لفظ «مريم» مشتركاً بين اللِّسَانين، ووزنه عند النحويين «مَفْعَل» لا «فَعْيَل» ، قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 الزمخشري: لأن «فَعْيلاً» ، بفتح الفاء لم يثبت في الأبنية كما ثبت نحو: «عثير وعِلَيْب» وقد أثبت بعضهم «فَعْيلاً» ، وجعل منه نحو: «ضهيد» : اسم مكان و «مَدْين» على القول بأصالة ميمه و «ضهيأ» بالقَصْر ت وهي المرأة التي لا تحيض، أو لا ثَدْيَ لها، مشتقّة من «ضَاهَأَت» أي: «شابهت» ؛ لأنها شابهت الرجال في ذلك، ويجوز مدّها قاله الزَّجَّاج. وقال ابن جني: وأما «ضهيد وعثير» فمصنوعان فلا دلالة فيهما على ثبوت «فَعْيَل» ، وصحة الياء في «مريم» على خلاف القياس، إذْ كان من حقّها الإعلال بنقل حركة الياء إلى الراء، ثم قَلْب الياء ألفاً نحوك «مُبَاع» من البيع، ولكنه شذّ كما شذ «مَزْيَد ومدين» . وقال ابو البقاء: ومريم على أعجمي، ولو كان مشتقّاً من «رام يَرِيم» لكان مَرِيْماً بسكن الياء. وقد جاء في الأعلام فتح الياء نحو: [مزيد] وهو على خلاف القياس. و «البَيِّنَات» قيل: هي المُعْجِزَات المذكورة في سورة «آل عمران» و «المائدة» . وقيل: الإنجيل. وقيل: أعم ذلك. قوله: «وَأَيَّدْنَاهُ» معطوف على قوله: «وَآتيْنَا عِيسَى» . وقرأ الجمهور: «وَأَيَّدْنَاهُ» على «فَعَّلْنَاهُ» ، وقرأ مجاهد وابن محيصن ويروى عن أبي عمرو: «وَآيَدْنَاهُ» على «أَفْعَلْنَاهُ» ، والأصل فيه: «أَأْيد» بهمزتين ثانيتهما ساكنة، فوجب إبدال الثانية ألفاً نحو: «أأمن» وبابِه، وصححت العين كما صحّت في «أغليت وأغميت» وهو تصحيح شاذّ إلا في فعل العجّب نحو: ما أبين أطول. وحكي عن أبي زيد أن تصحيح «أغليت» مقيس. فإن قيل: لم لا أعلّ «أَيَّدْنَاه» كما أعلّ نحو: أَبَعْنَاهُ حتى لا يلزم حلمه على الشَّاذ؟ . فالجواب: أنه لو أعلّ بأن ألقيت حركة العَيْن على الفاء، فيلتقي ساكنان العين واللام، فتحذف العين لالتقاء السكانين، فتجتمع همزتان مَفْتُوحتان، فيجب قلب الثانية واواً نحو: «أوادم» فتتحرك الواو بعد فتحة، فتقلب ألفاً فيصير اللفظ: أَأَدْنَاهُ؛ لأدّى إلى إعلال الفاء والعين، فالأجل ذلك رُفِضَ بخلاف أَبَعْنَاه وأقمناه، فإنه ليس فيه إلاَّ إعلال العَيْن فقط، قال أبو البقاء: فإن قلت: فلم لم تحذف الياء التي هي عَيْن كما حذفت من نحو: «أسلناه» من «سال يسيل» ؟ . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 قيل: لو فعلوا ذلك لتوالى إِعْلاَلاَن: أحدهما: قلب الهمزة الثانية ألفاً، ثم حَذْفُ الألف المبدلة من الياء لسكونها، وسكون الألف قبلها، فكان يصير اللَّفظ أدْنَاه، فتحذف الفاء والعين، وليس «أَسَلْنَاه» كذلك؛ لأن هناك حذفت العين فقط. وقال الزمخشري في «المائدة» : «أَيَّدْتُك على أَفْعَلْتُكَ» . وقال ابن عطية: «على فاعَلْتُكَ» ، ثم قال: «ويظهر أنَّ الأصل في القراءتين: أفعلتك، ثم اختلف الإعلال، والذي يظهر أن» أَيَّدَ «» فَعَّلَ لمجيء مضارعه على يُؤَيِّد بالتشديد، ولو كان أَيَّدّ بالتشديد بزنة «أَفْعَل» لكان مضارعه «يُؤْيِدُ» ك «يُؤْمِنُ» من «آمن» وأما آيَدَ بالمدّ فَيحْتَاج في نقل مُضَارعة إلى سماع، فإن سُمِع «يُؤايِد» ك «يُقَاتل» فهو «فَاعَلَ» فإن سمع «يُؤْيِد» ك «يكرم» و «آيَد» فهو أَفْعَلَ، ذكر جميع ذلك أبو حَيّان في «المائدة» ، ثم قال: إنه لم يظهر كلام ابن عطيّة في قوله: اختلف الإعلال «، وهو صحيح، إلاَّ أن قوله: والذي يظهر أن» أَيَّد «في قراءة الجمهور» فَعَّل «لا» أَفْعَل «إلى آخره فيه نظر؛ لأنه يُشْعِرُ بجواز شيء آخر متعذّر. كيف يتوهّم أن «أَيَّدَ» بالتشديد في قراءة الجمهور بزنة «أَفَعْلَ» ، هذا ما لا يقع. و «الأَيْد» : القوة. قال عبد المطّلب: [الرجز] 648 - أَلْحَمْدُ لِلَّهِ الأعَزِّ الأَكْرَمِ ... أَيَّدَنَا يَوْمَ زُحُوفٍ الأَشْرَمِ والصحيح أن «فَعَّلَ» و «أفْعَل» هنا بمعنى واحد وهو «قَوَّيْنَاهُ» ، وقد فرق بعضهم بينهما، فقال: «أما المَدُّ فمعناه: القوة، وأما القَصْر فمعناه: التأييد والنصر» وهذا في الحقيقة ليس بفرق، وقد أبدلت بعض العرب في آيَدَ على أَفْعَلَ الياء جميعاً فقالت: آجَدَهُ أي قواه. قال الزمخشري: «يقال: الحمد لله الذي آجَدَني بعد ضَعْف، وأوجدني بعد فَقْر» . وهذا كما أبدلوا من يائه جيماً فقالوا: لا أفعل ذلك جَدَ الدَّهْرِ أو مد الدهر، وهو إبدال لا يطّرد. ومن إبدال الياء جميعاً قول الراجز: [الرجز] 649 - خَالِي عُوَيْفٌ وَأَبُو عَلِجِّ ... أَلْمُطْعِمَانِ اللَّحْمَ بِالْعَشِجِّ يريد: «وأبو علي» و «بالعشي» . قوله: «بِرُوحِ القُدُسِ» متعلق ب «أيدناه» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 وقرأ ابن كثير: «القُدْس» بإسكان الدال، والباقون بضمها، وهما لغتان: الضم ل «الحجاز» والإسكان ل «تميم» ، وقد تقدم ذلك، وقرأ أبو حيوة: «القُدُّوس» بواو، فيه لغة فتح القاف والدال معناه: الطَّهارة أو البركة كما [تقدم عند قوله: {وَنُقَدِّسُ لَكَ} [البقرة: 30]] و «الروح» في الأصل: اسم للجزء الذي تحصل به الحياة في الحيوان، قاله الرَّاغب. فصل في المارد ب، «روح القدس» اختلفوا في «روح القُدُس» هنا على وجوه: أحدها: أنه جبريل عليه السلام؛ لقول حسّان: [الوافر] 650 - وجبْرِيلٌ رَسولُ اللهِ فِينَا ... ورُوحُ القُدْسِ لَيْسَ بِهِ كِفَاءُ قال الحسن: القُدُوس هو الله عزّ وجلّ، وروحه: جبريل، قال تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} [النحل: 102] وقيل: سمي جبريل روحاً لِلَطَافته ولمكانته من الوَح] ي الذي هو سبب حياة القلوب. قال النحاس: وسمي جبريل روحاً أو أضيف إلى القدس؛ لأنه كان بتكوين الله عزّ وجلّ له روحاً من غير ولادة والد والده [وقيل: المارد بروح القدس الإنجيل كما قال في القرآن «روحاً من أمرنا» لأنه الذي يوحى به] ، وكذلك سمي عيسى روحاً لهذا. وقال ابن عَبَّاس وسعيد بن جُبَيْرٍ: «هو الاسم الأعظم الذي كان يحيي به عيسى الموتى» . وقيل: هو الروح الذي نفخ فيه. والقُدُس والقُدُّوس هو الله، فنسب روح عيسى إلى نفسه تعظيماً وتشريفاً، كما يقال: بَيْت الله، ونَاقَة الله؛ قاله الربيع وغيره، كقوله: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 12] وعلى هذا المراد به الروح الذي يحيى به الإنسان. [واعلم أن إطلاق الروح على «جبريل» وعلى الإنجيل والاسم الأعظم مجاز] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 قوله: {أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ} الهمزة هنا للتوبيخ والتَّقريع، والفاء للعطف عَطَفَتْ هذه الجملة على ماقَبْلَها، واعْتُنِيَ بحرف الاستفهام فَقَدِّم، وتقدم تحقيق ذلك، وأن الزمخشري يقدر بين الهمزة حرف العطف جملةً ليعطف عليها، وهذه الجملة يجوز أن تكون معطوفة على ما قبلها من غير حذف شيء كأنه قال: ولقد آتينا يا بني إسرائيل أنبيائكم ما آتيناهم فكلما جاءكم رسول. ويجوز أن يُقَدَّر قبله محذوف أي: ففعلتم ما فعلتم فكلما جاءكم رسول، وقد تقدّم الكلام في «كلما» عند قوله «كُلَّمَا أَضَاءَ» ، والناصب لها هنا استكبرتم. و «جاء» يتعدّى بنفسه تارة كهذه الآية، وبحرف الجر أخرى، نحو: «جئت إليه» و «رسول» «فَعُول» بمعنى «مفعول» أي: مُرْسَل، وكون «فَعُول» بمعنى «المفعول» قليل، جاء منه: «الرُّكُوب والحَلُوب» ، ويكون مصدراً بمعنى: الرِّسالة قاله الزمخشري؛ وأنشد: [الطويل] 651 - لَقَدْ كَذَبَ الوَاشُونَ ما فُهْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلاَ أَرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ أي: برسالة، ومن عنده: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] . قوله: {بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ} متعلّق بقوله: «جاءكم» و «ما» موصولة بمعنى الَّذِي، والعائد محذوف لاستكمال الشّروط والتقدير: بما لا تَهْوَاه، و «تهوى» مضارع «هَوِي» بكسر العين ولامه من ياء؛ لأن عينه واو، وباب «طويت وشويت» أكثر من باب «قُوَّةٌ وحُوةٌ» ولا دليل في «هَوِي» لانكسار العين، وهو مثل «شَقِي» من الشّقاوة، وقولهم في تثنية مصدر هوي: هَوَيان أدلُّ على ذلك. ومعنى تهوى: تحبّ وتختار، وأصل الهَوَى: الميل، سمي بذلك؛ لأنه يَهْوي بصاحبه في النار، ولذلك لا يستعمل غالباً إلاّ فيما لا خير فيه، وقد يستعمل فيما هو خير، ففي الحديث الصحيح قول عمر في أسارى «بدر» : فهوي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قال أبو بكر، ولم يَهْو ما قلت «. وعن عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها: «والله ما أرى رَبَّك إلا يُسَارع في هواك» . وجمعه «أهواء» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 قال تعالى: {بِأَهْوَائِهِم} [الأنعام: 119] ولا يجمع على «أَهْوِية» ، وإن كان قد جاء «نَدَى» و «أنْدِية» ؛ قال الشاعر: [البسيط] 652 - فِي لَيْلَةٍ مِنْ جُمَادَى ذَاتِ أَنْدِيَةٍ ... لاَ يُبْصِرُ الكَلْبُ مِن ظَلْمَائِهَا الطُّنُبَا وأما «هَوَى يَهْوِي» بفتحها في الماضي وكسرها في المضارع فمعناه السُّقوط، و «الهَوِيُّ» بفتح الهاء، ذهاب في انْحِدَار. و «الهُوِيُّ» : ذهاب في صعود وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى. وأسند الفعل إلى «الأنفس» دون المُخَاطب فلم يقل: «بما لا تَهْوُون» تنبيهاً على أنّ النفس يُسْند إليها الفعل السيّىء غالباً نحو: {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} [يوسف: 53] {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} [يوسف: 18] و «استكبر» بمعنى: «تكبر» . قوله: «فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ» «الفاء» عاطفة جملة «كذبتم» على «استكبرتم» ، و «فريقاً» مفعول مقدم، قدم لتتفق رؤوس الآي، وكذا: «فَرِيقاً تَقْتُلُونَ» ، ولا بُدّ من محذوف، أي: فريقاً منهم، والمعنى أنه نشأ عن اسْتِكْبَارهم مُبَادرة فريق من الرسل بالتكذيب، ومبادرةُ آخرين بالقتل. وقدم التكذيب؛ لأنه أول ما يفعلونه من الشَّر؛ ولأنه مشترك بين المقتول وغيره، فإنَّ المقتولين قد كذبوهم أيضاً، وإنما لما يُصَرِّح به؛ لأنه ذكر أقبح منه في الفِعل. وجيء ب «يقتلون» مضارعاً، إما لكونه مستقبلاً؛ لأنهم كانوا يَرُومُونَ قتل رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولذلك سحروه، وسَمُّوا له الشاة، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عند موته: «مَا زَالَتْ أَكْلَةُ خَيْبَرَ تُعَاوِدُنِي، فَهَذَا أوان انْقِطَاع أَبْهَرِ» ولما فيه من مُنَاسبة رؤوس الآي والفَوَاصل، وإما أن يراد به الحال الماضية؛ لأن الأمر فظيع، فأريد استحضاره في النُّفوس، وتصويره في القلوب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 وأجاز الرَّاغب أنْ يكون «ففريقاً كَذّبتم» معطوفاً على قوله: «وآتيناه» ، ويكون «أفكلّما» مع ما بعده فصلاً بينهما على سبيل الإنْكَارِ. والأظهر الأول وإن كان ما قاله محتملاً. فصل في بيان الذي استحق به بنو إسرائيل نهاية الذم هذا نهاية الذَّم؛ لأن اليهود من بني إسرائيل كانوا إذا أتاهم رسول بخلاف ما يهوون كذبوه، وإن تهيأ لهم قتله قتلوه، لإرادتهم الرّفعة في الدنيا، وطلب لذاتها، والتَّرؤس على عامتهم، وأخذ أموالهم بغير حَقّ، وكانت الرسل تبطل عليهم ذلك، فيكذبونهم ويوهمون عوامهم كونهم كاذبين، ويحتجون في ذلك بالتحريف وسوء التأويل، وبعضهم كان يستكبر على الأنبياء استكبار إبليس على آدم عليه الصلاة والسَّلام، فلما سمعت اليهود ذكر عيسى عليه الصَّلاة السلام قالوا: يا محمد لا مثل عيسى فعلت كما تزعم ولا كما تقص علينا من الأنبياء فعلت فائننا بما أتى به عيسى عليه الصلاة والسَّلام إن كنت صادقاً، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ: أفكلّما جَاءَكم يا معشر اليهود رسول بما لا تهوي أنفسكم استكبرتم، وتعظّمتم عن الإيمان به، فطائفة كذبتم مثل عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وطائفة تقتلون أي: قتلتم مثل: زكريا ويحيى وشعيب، وسائر من قتلوا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 «قُلُوبُنَا غُلْفٌ» متبدأ وخبر، والجملة في محلّ نصب بالقول قبله، وقرأ الجمهور: «غُلْف» بسكون اللام، وفيها وجهان: أحدهما: وهوالأظهر أن يكن جمع «أَغْلَف» ك «أحمَر وحُمْر» و «أصفر وصُفْر» ، والمعنى على هذا: أنها خلقت وجعلت مغشَّاة لا يصل إليها الحَقّ، فلا تفهمه ونظيره: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ} [فصلت: 5] قال مجاهد وقتادة استعارة من الأَغْلَف الذي لم يَخْتَتِنْ. والثاني: أن يكون جمع «غلاف» ، ويكون أصل اللام الضم، فتخفف نحو: «حمار وحمر» ، و «كتاب وكتب» ، إلاّ أن تخفيف «فُعُل» إنما يكون في المفرد غالباً نحو: «عُنُق» في «عُنْق» وأما «فُعْل» الجمع فقال ابن عطية: «لا يجوز تخفيفه إلاَّ في ضرورة» ، وليس كذلكن بل هو قليل، وقرأ ابن عَبَّاس والأعرج ويروى عن أبي عمرو بضمّ اللام، وهو جمع «غلاف» ، ولا يجوز أن يكون «فُعُل» في هذه القراءة جمع أَغْلَف؛ لأن تثقيل « الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 فعل» الصحيح العين، لا يجوز إلاَّ في شعر، والمعنى على هذه القراءة: أن قلوبنا أوعية فهي غير محتاجة إلى علم آخر، وهو قول ابن عباس وعَطَاء. وقال الكلبي: «معناه» أوعية لكلّ علم فهي لا تسمع حديثاً إلا وَعَتْهُ إلاَّ حديثك لا تعلقه ولا تعيه، ولو كان فيه خبر لفهمته ووعته «. وقيل: غلف كالغلاف الذي لا شيء فيه مما يدلّ على صحة قولك: التغليف كالتعمية في المعنى. فصل في كلام المعتزلة قالت المعتزلة: هذه الآية تدلّ على أنه ليس في قلوب الكُفَّار مَا لاً يمكنهم معه الإيمان، لا غلاَف ولا كِنّ ولا سدّ على ما يقوله المجبرة، لأنه لو كان كذلك لكان هؤلاء اليهود صَاديقين في هذا القول، فلا يكذبهم الله في قوله: {بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ} وإنما يذمّ الكاذب المبطل لا الصَّادق المحق، وقالوا: هذا يدل على أن معنى قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الكهف: 57] و {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً} [يس: 8] {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً} [يس: 9] ليس المراد كونهم ممنوعين عن الإيمان، بل المراد: إما منع الألْطَاف، أو تشبيه حالهم في إصْرَارهم على الكُفُرِ بمنزلة المجبور على الكفر. قالوا: ونظير ذم الله تعالى اليهود على هذه المَقَالَةِ ذمه الكافرين على مثل هذه المَقَالة، وهو قوله تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] ولو كان الأمر على مايقوله المجبرة لكان هؤلاء القوم صادقين، وإذا كان الأمر كذلك لم يذمّوا. قال ابن الخطيبك واعلم أنا بَيْنا في تفسير «الغلف» ثلاثة أوجه، فلا يجب الجزم بواحد منها من غير دليل. سلمنا أن المراد منه ذلك الوجه لكن لم قلتم: إن الآية تدل على أن ذلك القول مذموم؟ فإن قيل: إنما لعنهم الله بسبب هذه المقالة. فالجواب من وجوه: أحدها: لا نسلم، بل لعلّه تعالى حكى عن حالهم، أو عنهم قولاً، ثم بين أن من حالهم أنهم ملعونون بسبب كفرهم. وثانيها: لعلّ المراد من قوله تعالى: «قُلُوبُنَا غُلْفٌ» أنهم ذكروا ذلك على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار، يعني: ليس قلوبنا في غلاف ولا في غطاء، بل أفهامنا قويّة، وخواطرنا منيرة، ثم إنا تأملنا في دلائلك فلم نجد شيئاً قويًّا فلما ذكروا هذه الوصف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 الكاذب لا جَرَمَ لعنهم الله على كفرهم الحاصل بهذا القول. وثالثها: أن قلوبهم لم تكن في أغْطية، بل كانوا عالمين بصحة نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال تعالى: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ} [البقرة: 146] إلاّ أنهم أنكروا تلك المعرفة وادّعوا أن قلوبهم غُلف، فكان كفرهم عناداً. قوله: «بَلْ لَعَنَهُمْ اللهُ» «بل» : حرف إضراب، والإضراب راجع إلى ما تضمَّنه قولهم من أن قلوبهم غُلْف، فردّ الله عليهم ذلك بأن سببه لعنهم بكفرهم السّابق، والإضراب على قسمين: إبطال، وانتقال. فالأول، نحو: «ما قام زيد بل عمرو» ، والانتقال كهذه الآية، ولا تعطف «بل» إلا المفردات، وتكون في الإيجاب والنفي والنهي، ويزاد قبلها «لا» تأكيداً. واللَّعن: الطَّرد والبُعْد، ومنه: شأو لَعِينٌ، أي: بعيد؛ قال الشَّمَّاخ: [الوافر] 653 - ذَعَرْتُ بِهِ القَطَا وَنفَيْتُ عَنْهُ ... مَقَامَ الذِّئْبِ كَالرَّجُلِ اللَّعينِ أي: الرجل البعيد، وكان وجه الكلام أن يقول: «مقام الذّئب اللّعين كالرجل» والباء في «بكفرهم» للسبب، وهي متعلّقة ب «لَعَنَهُم» . وقال الفارسي: النية به التقدم أي: وقالوا: قلوبنا غلف بسبب كفرهم، فتكون الباء متعلقة ب «قالوا» ، وتكون «بل لعنهم» جحملة معترضة، وفيه بُعْد، ويجوز أن تكون حالاً من المفعول في «لعنهم» أي: لعنهم كافرين، أي: ملتبسين بالكُفْرِ كقوله {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر} [المائدة: 61] . قوله: «فَقَلِيلاً مَا يؤْمِنُونَ» في نصب «قليلاً» ستة أوجه: أحدها: أنه نَعْت لمصدر محذوف، أي: فإيماناً قليلاً يؤمنون؛ لأنهم كانوا يؤمنون بالله، ويكفرون بالرسل. الثاني: أنه حال من ضمير ذلك [المصدر] المحذوف، أي: فيؤمنونه أي: الإيمان في حال قلّته، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه، وتقدّم تقريره. الثالث: أنه صفة لزمان محذوف، أي: فزماناً قليلاً يؤمنون، وهو كقوله: {آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ} [آل عمران: 72] . الرابع: أنه على إسقاط الخافض، والأصل: فبقليل يؤمنون، فلما حذف حرف الجرّ انتصب، ويعزى لأبي عبيدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 الخامس: أن يكون حالاً من فاعل «يؤمنون» أي: فَجَمْعاً قليلاً يؤمنون، أي: المؤمن فيهم قليلٌ، قال معناه ابن عباس وقتادة والأصم وأبو مسلم. قال ابن الخطيب: «وهو الأولى؛ لأن نظيره قوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 155] ، ولأن الجملة الأولى إذا كان المصرح فيها [ذكر] الكقوم فيجب أن يتناول الاستثناء بعض هؤلاء القوم» . وقال المهدوي: ذهب قتادة إلى أن المعنى: فقليل منهم يؤمن، وأنكره النحويون، وقالوا: لو كان كذلك للزم رفع «قليل» . وأجيب: بأنه لا يلزم الرَّفْع مع القول بالمعنى الذي ذهب إليه قَتَادَةٌ لما تقدم من أنَّ نصبه على الحال وافٍ بهذا المعنى. و «ما» على هذه الأقوال كلها مزيدة للتأكيد. السادس: أن تكون «ما» نافية، أي فما يؤمنون قليلاً ولا كثيراً، ومثله: {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} [الأعراف: 10] {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] ، كما يقال: قليلاً ما يغفل أي: لا يعقل ألبتة. قال الكِسَائي: «تقول العرب: مررنا بأرض قليلاً ما تنبت» ، يريدون: لا تنبت شيئاً، وهذا قول الوَاقِدِيّ. وهو قوي من جهة المعنى، وإنما يضعف من جهة تقديم ما في حَيّزها عليها قاله أبو البقاء [وإليه ذهب ابن الأنباري] ، إلا أن تقديم ما في حيّزها عليها لم يُجِزْه البصريون، وأجازه الكوفيون. قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن تكون» ما «مصدرية؛ لأن» قليلاً «يبقى بلا ناصب» ، يعني: أنك إذا جعلتها مصدرية كان ما بعدها صلتها، ويكون المصدر مرفوعاً ب «قليلاً» على أنه فاعل به فأين الناصب له؟ وهذا بخلاف قوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] فإن «ما» هاهنا يجوز أن تكون مصدرية؛ لأن «قليلاً» منصوب ب «كان» وقال الزمخشري: «يجوز أن تكون القلّة بمعنى العدم» . وقال أبو حَيَّان: وما ذهب إليه من أن «قليلاً» يراد به النَّفي فصحيح، لكن في غير هذا التركيب، أعني قوله تعالى: «فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ» لأن «قليلاً» انتصب بالفعل المثبت، فصار نظير: «قمت قليلاً» أي: قمت قياماً قليلاً، ولا يَذْهب ذاهب إلى أنك إذا أتيت بفعل مثبت، وجعلت «قليلاً» منصوباً نعتاً لمصدر ذلك الفِعْل يكون المعنى في المثبت الواقع على صفة، أو هيئة انتفاء ذلك المثبت رأساً وعدم وقوعه بالكلية، وإنما الذي نقل النحويون: أنه قد يراد بالقلّة النفي المحض في قولهم: «أقل رجل يقول ذلك وقلّما يقوم زيد» ، وإذا تقرر هذا فحمل القلّة على النفي المحض هنا ليس بصحيح «انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 وأجيب [بأن ما] قاله الزمخشري من أن معنى التقليل هنا النَّفي قد قال به الوَاقِدِيّ قبله، كما تقدم فإنه قال:» أي: لا قليلاً ولا كثيراً «، كما تقول: قلّما يفعل كذا، أي: ما يفعله أصلاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 اتفقوا على أنّ هذا الكتاب غير ما هو معهم، وما ذاك إلاَّ القرآن. قوله: «مِنْ عِنْدِ اللهِ» فيه وجهان: أحدهما: أنه في محلّ رفع صفة ل «كتاب» ، فيتعلّق بمحذوف، أي كتاب كائن من عند الله. والثاني: أن يكون في محلّ نصب لابتداء غاية المجيء قاله أبو البقاء. وقد رد أبو حيان هذا الوجه فقال لا يقال: إنه يحتمل أن يكون «من عند الله» متعلقاً ب «جَاءَهُمْ» ، فلا يكون صفةً، للفصل بين الصفة والموصوف بما هو معمول لغير أحدهما يعني أنه ليس معمولاً للموصوف ولا للصفة، فلا يفتقر الفصل به بينهما. والجمهور على رفع «مصدق» على أنه صفة ثانية، وعلى هذا يقال: قد وجد صفتان إحداهما صريحة، والأخرى مؤولة، وقد قدّمت المؤولة. وقد تقدم أن ذلك ممتنع، وإن زعم بعضهم أنه لا يجوز إلا ضَرُورَةً. والذي حسن تقديم غير الصريحة أن الوصف بيكنونته من عند الله آكد، وأن وصفه بالتصديق ناشىء عن كونه من عند الله. وقرأ ابن أبي عبلة: «مصدقاً» نصباً، وكذلك هو في مصحف أُبَيّ، ونصبه على الحال، وفي صاحبها قولان: أحدهما: أنه «كتاب» . فإن قيل: كيف جاءت الحال من النكرة؟ فالجواب: أنها قربت من المعرفة لتخصيصها بالصفة وهو «مِنْ عِنْد اللهِ» كما تقدم. على أن سيبويه أجاز مجيئها منها بلا شَرْطٍ، وإلى هذا الوجه أشار الزمخشري. والثاني: أنه الضَّمير الذي تحمله الجار والمجرور لوقوعه صفةً، والعامل فيها إما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 الظرف، أو ما يتعلق به، ولهذا اعترض بعضهم على سيبويه في قوله: {مجزوء الوافر] 654 - لِمَيَّةَ مَوحِشاً طَلَلُ ... يَلَوحُ كَأَنَّه خِلَلُ إن «موحشاً» حال من «طَلَل» ، وساغ ذلك لتقدمه، فقال: لا حاجة إلى ذلك، إذ يمكن أن يكون حالاً من الضمير المستكنّ في قوله: «لِمَيَّةَ» الواقع خبراً ل «طَلَل» ، وجوابه في موضع غير هذا. واللام في «لما معهم» وقعت لتعدية «مصدق» لكونه فرعاً. و «ما» موصولة، والظَّرف صلتها، ومعنى كون مصدقاً، أي: موافقاً لما معهم من التوراة في أمر يتعلّق بتكاليفهم بتصديق محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في النبوة، وما يدلّ عليها من العلامات والنعوت، فإنهم عرفوا أنه ليس بموافق لما مَعَهُمْ في سائر الشَّرائع، وعلمنا أنه لم ترد الموافقة في أدلّة القرآن؛ لأن جميع كتب الله كذلك، فلم تبق إلاَّ الموافقة فيما ذكرناه. قوله: «وَكَانُوا» يجوز فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون معطوفاً على «جاءهم» فيكون جوابا «لما» مرتباً على المجيء والكون. والثاني: أن يكون حالاً، أي: وقد كانوا، فيكون جواب «لما» مرتباً على المجيء بقيد في مفعوله، وهم كونهم يستفتحون. قال أبو حيان: وظاهر كلام الزمخشري أن «وكانوا» ليست معطوفة على الفعل بعد «لما، ولا حالاً لأنه قدر جواب» لما «محذوفاً قبل قبل تفسيره يستفتحون، فدلَّ على أن قوله:» وكانوا «جملة معطوفة على مجموع الجملة من قوله:» ولما «. وهذا هو الثالث. و» مِنْ قَبْلُ «متعلق ب» يستفتحون «، والأصل: من قبل ذلك، فلما قطع بني على الضم. و» يَسْتَفْتِحُونَ «في محل نصب على أنه خبر» كان «. واختلف النحويون في جواب» لما «الأولى الثانية. فذهب الأخفش والزَّجاج إلى أن جواب الأولى محذوف تقديره: ولما جاءهم كتاب كفروا به، وقدّره الزمخشري:» كذبوا به واستهانوا بمجيئه «. وهو حسن، ونظيره قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] أي: لكان هذا القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 وذهب الفَرّاء إلى أن جوابها الفاء الداخلة على» لما «، وهو عنده نظير قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ} [البقرة: 38] قال: لا يجوز أن تكون الفاء ناسقة، إذ لا يصلح موضعها» الواو «. و» كَفَرُوا «جواب» لما «الثانية على القولين. وقال أبو البَقَاءِ: في جواب» لما «الأولى وجهان: أحدهما: جوابها» لما «الثانية وجوابها، وهذا ضعيف؛ لأن» الفاء «مع» لما «الثانية، و» لما «لا تجاب بالفاء إلاَّ أن يعتقد زيادة» الفاء «على مايجيزه الأخفش. قال شهاب الدين: ولو قيل برأي الأخفش في زيادة» الفاء «من حيث الجملة، فإنه لا يمكن هاهنا لأن» لما «لا يجاب بمثلها، لا يقال:» لما جاء زيد لما قعد أكرمتك « على أن يكون» لما قعد «جواب» لما جاء «والله أعلم. وذهب المبرد إلى أن» كفروا «جواب» لما «الأولى، وكررت الثَّانية لطول الكلام، ويفيد ذلك تقرير الذنب وتأكيده كقوله تعالى: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ} [المؤمنون: 35] إلى قوله: {أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] ، وهو حسن لولا أن» الفاء «تمنع من ذلك. وقال ابو البقاء بعد أن حكى وجهاً أول: والثاني: أن» كفروا «جواب الأولى والثانية؛ لأن مقتضاها واحد. وقيل: الثانية تكرير، فلم تحتج إلى جواب. فقوله: وقيل: الثانية تكرير، هو قول المبرّد، وهو في الحقيقة ليس مغايرةً للوجه الذي ذكره قبله من كون» كفروا «جواباً لهما بل هو هو. فصل في الاستفتاح اختلفوا في هذا الاستفتاح، فقال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه وقتادة والسّدي: نزلت في بني «قريظة» و «النضير» كانوا يستفتحون على «الأوس» و «الخزرج» برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل المبعث. وقال أبو مسلم: كانوا يقولون لمخالفيهم: غداً القتال هذا نبي قد أظلّ زمان مولده، ويصفونه بأنه نبي، ومن صفته كذا، ويتفحّصون عنه على الذين كفروا، أي: على مشركي العرب. وقيل: إن اليهود وقبل مبعث النبي محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا يستفتحون أي: يسألون الفَتْح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 والنصر، وكانوا يقولون: اللهم افتح علينا، وانصرنا بالنبي الأمّيّ [المبعوث] في آخر الزمان الذي نجد صِفَتَهُ في التوراة، وكانوا يستنصرون، وكانوا يقولون لأعدائهم من المشركين: قد أظلّ زماننا نبيٌّ يخرج بتصديق ما قلنا، فنقتلكم معه قَتْلَ عَادٍ وإرَم، فلما جاءهم ما عرفوا يعني محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غير بني إسرائيل، وعرفوا نَعْتَهُ وصدقه كفروا به بَغْياً. [وقيل:] نزلت في أَحْبَار اليهود كانوا إذا قرأوا وذكروا محمداً في التوراة، وأنه مبعوث من العرب سألوا مشركي العرب عن تلك الصِّفات ليعلموا أنه هل ولد فيهم من يوافق حاله حال هذا المبعوث وهذه الآية دلّت على أنهم كانوا عارفين بنبوته. فإن قيل: التوراة نقلت نقلاً متواتراً، فإما أن يقال: إنه حصل فيها نعت محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على سبيل التَّفصيل أعني بيان أن الشَّخص الموصوف بالصُّورة الفلانية، والسيرة الفلانية سيظهر في السَّنة الفلانية في المكان الفُلاني، أو لم يوجد هذا الوصف على هذا الوجه، فإن كان الأول كان القوم مضطرين إلى معرفة شَهَادَةِ التوراة على صدق محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فكيف يجوز على أهل التواتر إطباقهم على الكذب؟ وإن لم يكن الوصف على هذه الصفة لم يلزم من الأوصاف المذكورة في التوراة [كون محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً فكيف قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ} والجواب: أن الوصف المذكور في التوراة] كان وصفاً إجمالياً، وأن محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يعرفوا نبوته بمجرد تلك الأوصاف، بل كانت كالمؤكدة، فلهذا ذمهم الله تعالى على الإنكار. قال ابن الخطيب: وأما كُفْرهم فيحتمل أنهم كانوا يظنّون أن المبعوث يكون من بني إسرائيل لكثرة من جاء من الأنبياء من بني إسرائيل، وكانوا يرغبون النَّاس في دينه، ويدعونهم إليه، فلما بعث الله محمداً من العرب من نسل إسماعيل عَظُمَ ذلك عليهم، فأظهروا التكذيبن وخالفوا طريقهم الأول. وهذا فيه نظر؛ لأنهم كانوا عالمين أنه من العرب. ويحتمل أنهم لأجل اعترافهم بنوّته كان يوجب عليهم زوال رِيَاسَتِهِمْ وأموالهم، فَأَبَوْا وأصرُّوا على الإنكار. ويحتمل أنهم ظنوا أنه مبعوث إلى العرب خاصّة، فلا جرم كفروا به. قوله: {فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين} جحملة من مبتدأ أو خبر متسببة عمّا تقدم، والمصدر هنا مضاف للفاعل، وأتى ب «على» تنبيهاً على أن اللَّعْنة قد استعلت عليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 وشملتهم. وقال: «على الكافرين» ولم يقل: «عليهم» إقامة للظَّاهر مقام المضمر، لينبّه على السبب المقتضي لذلك وهو الكفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 «بِئْس» فعل ماض غير متصرِّف، معناه الذَّمُّ، فلا يعمل إلاَّ في معرَّف ب «أل» أو فيما أضيف إلى ما هُمَا فيه، أو في مضمر مفسَّر بنكرة، أو في «مَا» على قول سيبويه. وفيه لغات: بَئِسَ بكسر العين وتخفيف هذا الأصل، وبِئِسَ بكسر الفاء إتباعاً للعين، وتخفيف هذا الإتباع، وهو أشهر الاستعمالات ومثلها «نِعْمَ» في جميع ما تقدم من الأحكام واللغات. قال ابن الخطيب: ما كان ثانية حرفَ حَلْق وهو مكسورٌ يجوز فيه أربع لغات: الأول: على الأصل أعني: بفتح الأول وكسر الثاني. والثاني: إتباع الاول للثاني، وهو أن يكون بكسر النون والعين، كما يقال: «فِخِذٌ» بكسر الفاء والخاء، وهم وإن كانوا يفرُّون من الجمع بين الكَسْرتين إلاَّ أنهم جَوّزوه ها هنا؛ لكون الحرف الحَلْقيٍّ مستتبعاً لما يجاوره. الثالث: إسكان الحرف الحَلْقيِّ المكسور، وترك ما قبله ما كان، فيقال: نَعْمَ وَبَأْسَ بفتح الأول وإسكان الثاني؛ كما يقال: «فَخْذٌ» . الرابع: أن يسكن الحرف الحَلْقِيُّ، وتنقل كسرته إلى ما قبله فيقال: «نِعْم» بكسر النون وإسكان العين؛ كما يقال: «فِخْذٌ» بكسر الفاء وإسكان الخاء. واعلم أن هذا التغيير الأخير، وإن كان في حّدِّ الجواز عند إطلاق هاتين الكلمتين، إلاّ أنهم جعلوه لازماً لهما؛ لخروجهما عمًّا وضعت له الأفعالُ الماضية من الإخبار عن وجود المصدر في الزمان والماضي، وصيرورتهما كلمتي مَدْحِ وذَمٍّ، ويراد بهما المُبَالغة في المدح والذم؛ ليدلّ هذا التَّغيير اللازم في اللَّفظ على التغيير عن الأصل، وفي المعنى؛ فيقولون: «نِعْمَ الرَّجُلُ زَيْدٌ» ولا يذكرونه على الأصل إلا في ضرورة الشِّعْر؛ كما أنشد المبرِّد: [الرمل] 655 - فَفِدَاءَ لِبَنِي قَيْسٍ عَلَى ... مَا أَصَابَ النَّاسَ مِنْ شَرَّ وَضُرْ مَا أَقَلَّتْ قَدَمَايَ إِنَّهُمْ ... نَعِمَ السَّاعُونَ في الأَمْرِ المُبِرْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 وهما فعلان من نَعِمَ يَنْعَمُ وَبئِسَ يَبْأَسُ. والدليل عليه دخول التاء التي هي علامة التأنيث فيهما، فيقال: نعمتْ وبئستْ. وزعم الكوفيون أنهما اسمان؛ مستدلين بدخول حرف الجر عليهما في قول حسان: [الطويل] 656 - أَلَسْتُ بِنِعْمَ الجَارُ يُؤْلِفُ بَيْتَهُ ... مِنَ النَّاسِ ذّا مَالٍ كَثِيرٍ وَمُعْدِمَا وبما روي أن أعرابيًّا بشر بمولوده فقيل له: نعم المولودة مولودتك! فقال: «والله ما هي نيعم المولودة: نُصْرتها بكاء، وبرّها سرقة» و «نِعْمَ السَّيْر على بِئْسَ العِيرِ» . وقوله: [الرجز] 657 - صَبَّحَكَ اللهُ بِخَيْرٍ بَاكِرِ ... بِنِعْمَ طَيْرٍ وَشَبَابٍ فَاخِرِ وخرجه البصريون على حذف موصوف، قامت صفته مقامه، تقديره: والله ما هي بمولدة مَقُول فيها: نعم المولودة. فصل في نعم وبئس اعلم أنَّ «نعم وبئس» أصلان للصّلاح والرَّدَاءة، ويكون فالعها اسماً يستغرق الجنس إما مظهراً وإما مضمراً، فالمظهر على وجهين: الأول: كقولك: «نعم الرجل زيد» لا تريد رجلاً دون رجل، وإنما تقدص الرَّدل على الإطلاق. والثاني: نحو قولك: «نعم غلام الرَّجل زيد» . وأما قوله: [البسيط] 658 - فَنِعْمَ صَاحِبُ قَوْمٍ لاَ سِلاَحَ لَهُمْ ... وَصَاحِبُ الرَّكْبِ عُثْمَانُ بْنُ عَفانا فنادر. وقيل: كان ذلك لأجل أن قوله: «وَصَاحِبُ الرَّكْبِ» قد دل على المقصود؛ إذ المراد واحد، فإذا أتى بالمركّب بالألف واللام، فكأنه قد أتى به في القوم، وأما المضمر فكقولك: «نعم رجلاً زيد» الأصل: نعم الرجل رَجُلاً زيد الأصل ثم ترك ذكر الأول؛ لأن النكرة المنصوبة تدل عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 ف «رجلاً نصب على التمييز، مثله في قولكك عشرون رَجُلاً والمميّز لا يكون إلا نكرة، ألا ترى أن أحداً لا يقول:» عشرون الدّرهم «ولو أدخلوا الألف واللام على هذا فقالوا:» نعم الرجلُ «بالنصب لكان نقضاً لِلْغَرَضِ، وإذ لو كانوا يريدون الإتيان بالألف واللام لرفعوا، وقالوا::» نعم الرجلُ «وكَفَوْا أنفسهم مؤنة الإضمار، وإنما أضمروا الفاعل قصداً للاختصار، إذ كان» نعم رجلاً «يدل على الجنس الذي فضل عليه. فصل في إعراب المخصوص بالمدح في أسلوب» نِعْمَ « إذا قلت:» نعم الرجل زيد «فهو على [وجهين] : أحدهما: أن يكون متبدأ مؤخراً، كأنه قيل:» زيد نعم الرجل «أخرت» زيداً «والنية به التقديم كما تقول: مررت به المسكين تريدك المسكين ممرت به، فأما الراجع إلى المبتدأ، فإن الرجل لما كان شائعاً ينتظر فيه الجِنْس كان» زيد «داخلاً تحته، فصار بمنزلة الذكر الذي يعود إليه. والوجه الآخر: أن يكون» زيد «في قولك:» نعم الرجل زيد «خبرا مبتدأ محذوف، كأنه لما قبلك نعم الرجل قيل: من هذا الذي أثنى عليه؟ فقيل: زيد، أي: هو زيد. فصل في شرط نعم وبئس ولا بد بعد هذين الفعلين من خصوصين من المَدْح أو الذم، وقد يحذف لقرينة وأما» ما «الواقعة بعد» بئس «كهذه الآية، فاختلف فيها النحاة، هل لها محلّ من الإعراب أم لا؟ فذهب الفراء: إلى أنها مع» بئس «شيء واحد ركّب تركيب» حَبَّذا «، نقله ابن عطية عنه نقل عنه المَهْدوي أنه يجوز أن تكون» ما «مع» بئس «بمنزلة» كلما «، فظاهر هذين النقلين أنها لا محل لها. وذهب الجمهور أن لها محلاًّ، ثم اختلفوا في محلّها هل هو رفع أو نصب؟ . فذهب الأخفش إلى أنها في محلّ نصب على التمييز، والجملة بعدها في محل نصب صفة لها، وفاعل» بئس «مضمر تفسره» ما «، والمخصوص بالذم هو قوله:» أَنُ يَكْفُرُوا «لأنه في تأويل مصدر، والتقدير: بئس هو شيئاً اشتروا به أنفسهم كُفْرهم، وبه قال الفارسي [في أحد قوليه] ، واختاره الزَّمخشري، ويجوز على هذا أن يكون المخصوص بالذَّم محذوفاً و» اشتروا «صفة له في محلّ رفع تقديره: بئس شيئاً شيء أو كفر اشتروا به، كقوله: [الطويل] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 659 - لَنِعْمَ الْفَتَى أَضْحَى بَأكْنَافِ حَائِلٍ ..... ... ... ... ... ... . . أي: فَتًى أَضْحَى. و «أَنْ يَكْفُرُوا» بدل من ذلك المحذوف أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هو أن يكفروا. وذهب الكسائي إلى أ، «ما» منصوبة المحلً أيضاً، [لكنه] قدر بعدها «ما» موصولة أخرى بمعنى «الذي» ، وجعل الجملة من قوله: «اشْتَرَوا» صلتها، و «ما» هذه الموصولة هي المخصوص بالذم، والتقدير: بئس شيئاً الذي اشتروا به أنفسهم، فلا محلّ ل «اشتروا» على هذا، أو يكون «أن يكفروا» على هذا القول خبراً لمبتدأ محذوف كما تقدم. فتلخّص في الجملة الواقعة بعد «ما» على القول بنصبها ثلاثة أقوال: الأول: أنها صفة لها، فتكون في محلّ نصب، أو صلة ل «ما» المحذوفة، فلا محلّ لها، أو صفة للمخصوص بالذم فتكون في محل رفع. وذهب سيبويه: إلى أن موضعها رفع على أنها فاعل «بئس» ، فقال سيبويه: هي معرفة تامّة، التقدير: بئس الشيء، والمخصوص بالذم على هذا محذوف، أي: شيء اشتروا به أنفسهم وعزي هذا القول أيضاً للكسائي. وذهب الفراء والكسائي أيضاً إلى أن «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، والجملة اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، ف «أن يكفروا» هو المخصوص بالذم. قال أبو حَيَّان: وما نقله ابن عطية عن سيبويه هم عليه ونقل المَهْدوي وابن عطيّة عن الكسائي أيضاً أن «ما» يجوز أن تكون مصدرية، والتقدير: بئس اشتراؤهم، فتكون «ما» وما في حيّزها في محل رفع. قال ابن عطيية: وهذا معترض؛ لأن «بئس» لا تدخل على اسم معيّن يتعرف بالإضافة إلى الضمير. قال أبو حَيَّان: وهذا لا يلزم، إلاَّ إذا نصّ أنه مرفوع «بئس» ؛ أما إذا جعله المخصوص بالذم، وجعل فاعل «بئس» مضمراً، والتمييز محذوفاً لفهم المعنى، والتقدير: بئس اشتراء اشتراؤهم، فلا يلزم الاعتراض. قال شهاب الدين: وبهذا أعني: بجعل فاعل «بئس» مضمراً فيها جوز أبو البقاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 في «ما» أن تكون مصدرية، فإنه قال والرابع: أن تكون مصدرية، أي بئس شراؤهم، وفاعل «بئس» على هذا مضمر؛ لأن المصدر هنا مخصوص ليس بجنس يعني فلا يكون فاعلاً، لكن يبطل هذا القول عود الضمير في «به» على «ما» والمصدرية لا يعود عليها؛ لأنه حذف عند الجمهور. فصل في المراد بالشراء في الآية في الشراء هنا قولان: أحدهما: أنه بمعنى البيع، بيانه أنه تعالى لما مكن المكلّف من الإيمان الذي يفضي به إلى الجنة، والكفر الذي يؤدّي به إلى النَّار صار اختياره لأحدهما على الآخر بمنزلة اختيار مالك السِّلعة ثمنها على سلعته، فإذا اختار الإيمان مِلْك بملك صلح أن يوصف كلّ واحد منهما بأنه بائع ومشترٍ لوقوع هذا المعنى من كل واحد منهما. الوجه الثاني: أن المكلّف إذا كان يخاف على نفسه من عقاب الله تعالى يأتي بأعمال ينظن أنها تخلصه من العقاب، فكأنه قد اشترى نفسه بتلك الأعمال، فهؤلاء اليهود لما اعتقدوا فيما أتوا به أنه يخصلهم من العقاب، ويوصّلهم إلى الثواب، فقد ظنوا أنهم اشتروا أنفسهم به، فذمّهم الله تعالى وقال: {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ} . قوله: «أو يكفروا» قد تقدم فيه أنه يجوز أن يكون هو المخصوص بالذم، ففيه الأوجه الثلاثة إما متبدأ أو خبره الجملة قبله، ولا حاجة إلى الرابط؛ لأن العموم قائم مقامه، إذ الألف واللام في فاعل «نعم وبئس» للجنس، أو لأن الجملة نفس المبتدأ، وإما خبر لمبتدأ محذوف وإما مبتدأ أو خبره محذوف، وتقدم أنه يجوز أن يكون بدلاً أو خبراً لمبتدأ حسبما تقرّر وتحرر. وأجاز الفراء أن يكون في محلّ جر بدلاً من الضمير في «به» إذا جعلت «ما» تامة. قوله: «بَمَا أَنْزَلَ اللهُ» متعلّق ب «كفروا» ، وتقدّم أن «كفر» يتعدّى بنفسه تارة، وبحرف الجر أخرى، و «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف تقديره: أنزله، ويضعف جعلها نكرة موصوفة، وكذلك جعلها مصدريّة، والمصدر قائم مقام المفعول، أي: بإنزاله يعني: بالمنزل. قوله: «بَغْياً» فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه مفعول من أجله وهومستوفٍ لشروط النصب، وفي الناصب له قولان: أحدهما وهو الظاهر أنه يكفروا، أي علة كفرهم البَغْي، وهذا تنبيه على أن كفرهم [بَغْي وحَسَد] ، ولولا هذا القول لجوزنا أن يكون كفرهم جهلاً، والمراد بذلك: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 كفرهم بالقرآن، لأن الخطاب لليهود، وكانوا مؤمنين بغيره فبيّن تعالى غرضهم من هذا البَغْي بقوله: {أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [البقرة: 90] وهذا لا يليق إلا باليهود؛ لأنهم ظنوا أن ذلك الفضل العظيم بالنبوّة المنتظرة تحصل في قومهم، فلما وجدوه في العرب حملهم ذلك على الحَسَد والبَغْي. والقول الثاني: أن الناصب لقوله «بَغْياً» «اشْتَروا» ، وإليه ينحو كلام الزمشخري، فإنه قال: «وهو علّة» اشتروا. الوجه الثاني: أنه منصوب على المصدر بفعل مَحْذوف يدل عليه ما تقدم، أي: بَغَوا بغياً. والثالث: أنه في موضع حالٍ، وفي صاحبها القَوْلاَن المتقدّمان: إما فاعل «اشتروا» ، وإما فاعل «يكفروا» ، تقديره: اشتروا باغين، أو يكفروا باغين. والبَغْي: أصله الفَسَاد، من قولهم: بغي الجرح أي: فسد، قاله الأَصْمعي. وقيل: هو شدة الطلب، ومنه قوله تعالى: {مَا نَبْغِي} [يوسف: 65] ومنه البّغِيّ للزانية، لشدة طلبها له وقال القُرْطبي: البغي معناه: الحَسَد، قاله قتادة والسُّدي، وهو مفعول من أجله، وهو في الحقيقة مصدر. [وقال الراجز: [السريع او الرجز] 660 - أنْشُدُوا الْبَاغِي يُحِبُّ الْوِجْدَانْ ... قَلاًئِصاً مُخْتَلِفَاتِ الأَلوَانْ] قوله: «أَنْ يُنَزِّلَ اللهُ» فيه وجهان: أحدهما: أنه مفعول من أجله، والناصب له «بغياً» أي: علّة البغي إنزال الله فَضْله على محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. والثاني: أنه على إسقاط الخافض، والتقدير: بغياً على أن ينزل، اي: حسداً على أن ينزل، فجيء فيه الخلاف المَشْهُور، أهو في موضع نصب أو جر؟ والثالث: أنه في م حل جر بدلاً من «ما» في قوله تعالى: «بِمَا أَنْزَلَ اللهُ» [بدل اشتمال أي بإنزال الله] فيكون كقول امرىء القيس: [الطويل] 661 - أَمِنْ ذِكْرِ سَلْمَى أَنْ نَأَتْكَ تَنُوصُ ... فَتَصُرُ عَنْهَا خُطْوَةً أَوْ تُبُوصُ وقرأ أبو عمرو وابن كثير جميع المضارع مُخَففاً من «أنزل» إلا ما وقع الإجماع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 على تشديده في «الحجر» {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ} [الحجر: 21] وقد خالفا هذا الأصل. أما أبو عمرو فإنه شدد {على أَن يُنَزِّلٍ آيَةً} [الأنعام: 37] في «الأنعام» . وأما أبن كثير فإنه شدّد في الإسراء {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن} [الإسراء: 82] {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً} [الإسراء: 93] والباققون بالتشديد في جميع المضارع إلاّ حمزة والكسائي، فإنهما خالفا هذا الأصل مخففاً {وَيُنَزِّلُ الغيث} آخر لقمان [لقمان: 34] {وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث} في الشورى [الآية: 28] . والهمزة والتضعيف للتعدية، وقد تقدم: هل بينهما فَرْق؟ وتحقيق كلّ من القولين، وقد ذكر القراء مناسبات الإجماع على الشديد في تلك المواضع، ومخالفة كلّ واحد أصله؟ لماذا بما يطول ذكره والأظهر من ذلك كله أنه جمع بين اللغات. قوله: «مِنْ فَضْلِهِ» من لابتداء الغاية، وفيه قولان: أحدهما: أنه صفة لموصوف محذوف هو مفعول «ينزل» أي: ينزل الله شيئاً كائناً من فَضْله، فيكون في محلّ نصب. والثاني: أن «من» زائدة، وهو رأي الأخفش، وحينئذ فلا تعلق له، والمجرور بها هو المفعول أي: أن ينزل الله فضله. قوله: «عَلَى مَنْ يَشَاءُ» متعلّق ب «ينزل» و «من» يجوز أن تكون موصولةً، أو نكرة موصوفة، والعائد على الموصول أو الموصوف محذوف لاستكمال الشُّروط المجوزة للحذف، والتقدير: على الذي يَشَاؤه، أو على رجل يَشَاؤه. وقدره أبو البقاء مجروراً فإنه قال بعد تجوزه في «من» أن تكون موصوفة أو موصولة «ومفعول يشاء محذوف، أي: يشاء نزوله عليه، ويجوز أن يكونك يشاء يختار ويَصْطفي» انتهى. وقد عرفت أن العائد المجرور لا يحذف إلاَّ بشروط، وليست موجودة هنان فلا حاجة إلى هذا التقدير. قوله: «مِنْ عِبَادِهِ» فيه قولان. أحدهما: أنه حال من الضَّمير المحذوف الذي هو عائد على الموصوف أو الموصول، والإضافة تقتضي التشريف. والثاني: أن يكون صفةً ل «من» بعد صفة على القول بكونها نكرة، قاله أبو البقاء وهو ضعيف؛ لأن البداية بالجار والمجرور على الجملة في باب النعت عند اجتماعهما أولى لكونه أقرب إلى المفرد فهو في محلّ نصب على الأول وجرّ على الثاني، وفي كلا القولين متعلّق بمحذوف وجوباً لما تقرر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 قوله: «فَبَاءُوا بِغَضَبٍ» الباء للحال، أي: رجعوا ملتبسين بغضب، أي مغضوباً عليهم، وقد تقدم ذلك. قوله: «عَلَى غَضَبٍ» في محلّ جر؛ لأنه صفة لقوله: «بِغَضَبٍ» أي: كائن على غضب أي بغضب مترادف. فصل في تفسير الغضب في تفسير الغَضَبِ وجوه: أحدها: لا بد من إثبات سببين للغضبين: أحدهما: تكذيبهم عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وما أنزل عليه، والآخر تكذيبهم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قاله الحسن والشَّعبي وعكرمة وأبو العالية وقتادة. وقال ابن عباس ومجاهد: الغضب الأول تضييعهم التَّوراة وتبديلهم. والثاني: كفرهم بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال عطاء، وأبو عبيد: ليس المراد إثبات الغضبين فقط، بل المراد إثبات أنواع من الغضب مترادفة لأجل أمور مترادفة صدرت عنهم نحو قولهم: {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181] وغير ذلك من أنواع كفرهم. وقال أبو مسلم: المراد به تأكيد الغضب وتكثيره لأجل الكفر، وإن كان واحداً إلا أنه عظيم. وقال السدي: الغَضَبُ الأول بعبادتهم العِجْل والثاني بكتمانهم صفة محمد وجَحْدهم نبوّته. قولهك «مهين» صفة ل «عذاب» . واصله: «مُهْوِن» ؛ لأنه من الهوان، وهو اسم فاعل من أهان يُهِين إهانة مثل: أقام يقيم إقامة، فنقلت كسرة «الواو» على الساكن قبلها، فسكنت «الواو» بعد كسرة، فقلبت ياء. والإهانةك الإِذْلالَ والخِزْي. وقال «وَلِلْكَافِرِيْنَ» ولم يقل: «ولهم» تنبيهاً على العلّة المقتضية للعذاب المُهين، فيدخل فيها أولئك الكفّار وغيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 «وإذ قيل لهم» : يعني اليهود. «آمنوا بما أنزل الله» : أي بكل ما أنزل الله، والقائلون بالعموم احتجّوا بهذه الآية على أن لفظه «ما» بمعنى «الذي» تفيد العموم، قالوا: لأن الله تعالى أمرهم أن يؤمنوا بما أنزل الله، فلما آمنوا بالبعض دون البعض ذمهم على ذلك، ولولا أنَّ لفظة «ما» تفيد العموم لما حسن هذا الذم، ثم إنه تعالى أمره بذلك {قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا} يعني: التوراة وكتب سائر الأنبياء الذي أتوا بتقدير شَرْع موسى عليه السلام ثم أخبر الله تعالى عنهم أنهم يكفرون بما وراءه، هو الإنجيل والقرآن، وأورد هذه الحكاية عنهم على سبيل الذَّملهم، وذلك أنه لا يجوز أن يقال لهم: آمنوا بما أنزل الله إلاَّ ولهم طريق إلى أن يعرفوا كونه منزلاً من عند الله، وإلاَّ كان ذلك تكليف ما لا يُطَاق، وإذ أول الدليل على كونه منزلاً من عند الله وجب الإيمان به، فإيمانهم بالبَعْضِ دون البَعْضِ تناقض، ويجاب بوجيهن: أحدهما: أن العموم إنما استفيد من عموم العلّة، وهو كونه من عند الله؛ لأن كلّ ما أنزله الله يجب الإيمان بكونه منزلاً من عند الله لا لكون «ما» يقتضي العموم. الثاني: أنا لا نمنع أن «ما» استعمل للعموم؛ لأن ذلك مجال لا خلاف فيه، وإنما الخلاف في كونها هل هي موضوعة للعموم أو لا؟ فالقائل بأنها ليست موضوعةً للعموم أنها إنما استعملت للعموم مجازاً هاهنا. فإن قيل: الأصل في الاستعمال الحقيقة. فالجواب: أنها لو كانت للعموم حقيقةً لما جاز إدخال لفظة «كل» عليها. فإن قيل: إنما دخلت «كلّ» للتوكيد. فالجواب: أن أصل المؤكّد يأتي بعد ما يؤكده لا قبله. قوله: «وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ» يجوز في هذه الجملة وَجْهَان: أحدهما: أن تكون: استئنافية استؤنفت] للإخبار بأنهم يكفرون بما عدا التَّوْراة، فلا محل لها من الإعراب. والثاني: أن تكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي: وهم يكفرون، والجملة في محلّ نصب على الحال، والعامل فيها «قالوا» ، أي قالوا: نؤمن حال كونهم كافرين بكذا، ولا يجوز أن يكون العامل فيها «نؤمن» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 قال أبو البقاء: إذا لو كان كذلك لكان لفظ الحال نكفر، أي ونحن نكفر. يعني: فكان يجب المُطَابقة. ولا بد من إضمار هذا المبتدأ لما تقدم من أن المضارع المثبت لا يقترن بالواو، وهو نظير قوله: [المتقارب] 662 - ... ... ... ... ... . ... نَجَوْتُ وَأَرْهَنُنُمْ مَالِكَا وحُذِفَ الفاعل من قوله تعالى: «بِمَا أُنْزِلَ» وأقيم المفعولُ مقامه للعلم به، إذ لا يُنَزِّل الكتب السماوية إلا الله، أو لتقدم ذكره في قوله: «بِمَا أَنْزَل الله» . قوله: «بِمَا وَرَاءَهُ» متعلّق ب «يكفرون» و «ما» موصولة، والظروف صلتها، فمتعلّقةُ فعل ليس إلا و «الهاء» في «وراءه» تعود على «ما» في قوله: «نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِل» . و «وَرَاء» من الظروف المتوسّطة التصرف، وهو ظرف مكان، والمشهور أنه بمعنى «خلف» وقد يكون بمعنى «أمام» قال تعالى: {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] . وقال: {وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان: 27] فهو من الأضداد، وفسره الفراء هُنَا بمعنى «سوى» التي بمعنى «غير» . وفسره أبو عبيدة وقتادة بمعنى «بعد» . وفي همزة قولان: أحدهما: أنه أصل بنفسه [وإليه ذهب ابن جني مستدلاً] بثبوتها في التصغير في قولهم: «وريئة» . الثاني: أنها مبدلة من ياء، لقولهم: تواريت. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تكومن الهمز بدلاً من واو؛ لأن ما فاؤه واو، لا تكون لامه واواً إلاّ ندوراً نحو: «واو» اسم حرف هجاء، وحكم «وَرَاء» حكم «قَبْلُ» و «بَعْدُ» في كونه إذا أضيف أعرب، وإذا قطع بني على الضم. وأنشد الأخفش على ذلك قول الشاعر: [الطويل] 663 - إِذَا أَنَا لَمْ أُومَنْ عَلَيْكَ وَلَمْ يَكْنُ ... لِقَاؤُكَ إِلاَّ مِنْ وَرَاءُ وَرَاءُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 286 وفي الحديث عن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «كُنْتُ خَلِيْلاً مِنْ وَرَاءُ وَرَاءُ» . وثبوت الهاء في تصغيرها شاذّ؛ لأن ما زاد من المؤنث على ثلاثة لا تثبت الهاء في مصغره إلا في لفظتين شذتا وهما: «ورئية» و «قديديمة» : تصغير «وراء» و «قدام» . وقال ابن عصفور: لأنهما لم يتصرفا فلو لم يُؤنَّثَا في التصغير لتُوُهِّمَ تذكيرهما. والوراء: ولد الولد أيضاً. قوله: «وَهُوَ الْحَقُّ» مبتدأ أو خبر، والجملة في محلّ نصب على الحالن والعامل فيها قوله «يكفرون» [وصاحبها فاعل يكفرون] وأجاز أبو البقاء أن يكون العامل الاستقرار الذي في قوله: «بما وراءه» أي بالذي استقرّ وراءه، وهو الحق. وهذا إشارة إلى وجوب الإيمان بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه لما ثبت نبوّته بالمعجزات التي ظهرت عليه، ثم إنه عليه الصَّلاة والسَّلام أخر أن هذا القرآن منزّل من عند الله، وأن فيه أمر المكلفين به، فكان الإيمان به محقّق لا مَحَالة. قوله: «مُصَدِّقاً» حال مؤكدة، لأن قوله: «وَهُوَ الْحَقُّ» قد تضمّن معناها، والحال المؤكدة: إما أن تؤكد عاملها، نحو: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] وإما أن تؤكد مضمون جملة، فإن كان الثاني التزم بإضمار عاملها، وتأخيرها عن الجملة، ومثله أنشد سيبويه: [البسيط] 664 - أَنا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفاً بِهَا نَسَبِي ... وَهَلْ بِدَارَةَ يَا لَلنَّاسِ مِنّ عَارِ والتقدير: وهو الحق أحُقّه مصدقاً وابنَ دَارَةَ أعْرَف معروفاً، هذا تقرير كلام النحويين، وأما أبو البقاء، فإنه قال: مصدقاً حال مؤكِّدة، والعامل فيها ما في «الحق» من معنى الفعل، إذ المعنى: وهو ثابت مصدقاً، وصاحب الحال الضمير المستتر في «الحَقّ» عند قوم، وعند آخرين صاحب الحال ضمير دلّ عليه الكلام، و «الحق» : مصدر لا يتحّمل الضمير على حسب تحمّل اسم الفاعل له عندهمم. فقوله: «وعند آخرين» هو القول الذي قدّمناه وهو الصواب، و «ما» في قوله: «لِمَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 مَعَهُمْ» في موضع خفض باللام، و «معهم» صلتها، و «معهم» نصب بالاستقرار. فصل في بيان ما تشير إليه الآية وهذا أيضاً إشارة إلى وجوب الإيمان بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من وَجْهَيْنِ: الأول: أن محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يتعلم [علماً] ، ولا استفاد من أُسْتاذ، فلما أخبر بالحكايات والقصص موافقاً لما في التوراة من غير تفاوت أصلاً علمنا أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إنما استفادها من الوَحْي والتنزيل. والثاني: أن القرآن يدلّ على نبوته عليه الصَّلاة والسَّلام فلما أخبر الله تعالى عنه أنه مصدق للتوراة، وجب اشتمال التَّوْراة على الإخبار عن نبوته، وإلاَّ لم يكن القرآن مصدقاً للتوراة، بل مكذباً لها، وإذا كانت التوراة مشتملةً على نبوته عليه الصَّلاة والسَّلام، وهم قد اعترفوا بموجوب الإيمان بالتوراة لزمهم من هذه الجهة وجوب الإيمان بالقرآن. قوله: «فلم تقتلون» الفاء جواب شرط مقدر وتقديره: إن كنتم آمنتم بما أنزل عليكم فلم قتلتم الأنبياء؟ وهذا تكذيب لهم؛ [لأن الإيمان بالتوراة مناف لتقل أشرف خلقه وذلك] لأن التوراة دلّت على أن المعجزات تدلّ على الصدق، وتدل على أنّ من كان صادقاً في ادعاء النبوة كان قتله كفراً، وإذا كان الأمر كذلك كان السعي في قَتْل يحيى وزكريا وعيسى عليهم السلام كفراً فلم سعيتم في ذلك إن صدقتم في ادّعائكم كونكم مؤمنين بالتوراة؟ و «لم» جار ومجرور، واللام حرف، و «ما» استفهامية في محلّ جرن أي: لأي شيء؟ ولكن حذف ألفها فرقاً بينها وبين «ما» الخبرية. وقد تحمل الاستفهامية على الخبرية فتثبت ألفها؛ قال الشاعر: [الوافر] 665 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتُمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي التُّرَابِ وهذا ينبغي أن يُخَصّ بالضرورة، كما نص عليه بعضهم، والزمخشري يجيز ذلك، ويخرج عليه بعض أي القرآن، كما قد تحمل الخبرية على الاستفهامية في الحَذْف في قولهم: اصنع بم شئت وهذا لمجرد التشبيه اللفظي. وإذا وُقِفَ على «ما» الاستفهامية المجرورة، فإن كانت مجرورة باسم وَجَبَ لَحاقُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 هاء السَّكْت نحو مجيء «مه» ، وإن كانت مجرورة بحرف فالاختيار اللحاق، والفرق أن الحرف يمتزج بما يدخل عليه فتقوى به الاستفهامية، بخلاف الاسم المضاف إليها، فإنه في نيّة الانفصال، وهذا الوَقْف إنما يجوز ابتداء، أو بقطع نفس، ولا جَرَمَ أن بعضهم منع الوَقْف على هذا النحو قال: «إنه إن وقف بغير هاء كان خطأ؛ لنقصان الحرف، وإن وقف بها خالف السَّواد» . لكن البزي قد وقف بالهاء، ومثل ذلك لا يُعد مخالفة للسَّواد، ألا ترى إلى إثباتهم بعضَ ياءات الزوائد. والجار متعلق بقوله: «تقتلون» ، ولكنه قُدِّم عليه وجوباً، لأن مجروره له صدر الكلام، والفاء وما بعدها من «تقتلون» في محلّ جزم، وتقتلون وإن كان بصيغة المضارع، فهو في معنى الماضي [لفهم المعنى] ، وأيضاً فمعه قوله «مِنْ قَبْل» [وأيضاً فإن الأنبياء عليهم السلام إنما كانوا في ذلك الزمان، وأيضاً فالحاضرون لم يفعلوا ذلك ولا يتأتى لهم قتل الماضيين] ، وجاز إسناد القتل إليهم وإن لم يَتَعَاطَوه؛ لأنهم لما كانوا راضين بفعل أَسْلاَفهم جعلوا كأنهم فعلوا هم أنفسهم. فإن قيل: كيف جاز قوله: «فَلِمَ تَقْتُلُونَ» من قبل، ولا يجوز أن يقال: أنا أضربك أمس؟ فالجواب من وَجْهَيْن: الأول: أن ذلك جائز فيما كان بمنزلة الصّفة اللازمة كقولك لمن تعرفه بما سلف من قبح فعله: ويحك لم تكذب؟ كأنك قلت: لم يكن هذا من شأنك. قال الله تعالى: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} [البقرة: 102] ولم يقل: ماتلت الشياطين؛ لأنه أراد من شأنها التلاوة. والثاني: كأنه قال: لم ترضون بقتل الأنبياء من قبل إن كنتم مؤمنين بالتوراة؟ قال بعضهم: جاء «تقتلون» بلفظ الاستقبال، وهو بمعنى المُضِيّ لما ارتفع الإشكال بقوله: «من قبل» وإذا لم يشكل فجائز أن يأتي الماضي بمعنى المستقبل وبالعكس. قال الحطيئة: [الكامل] 666 - شَهِدَ الْحُطَيْئَةُ يَوْمَ يَلْقَى رَبَّهُ ... أَنَّ الْوَلِيدَ أَحَقُّ بِالْعُذْرِ شهد بمعنى يشهد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 قوله: «إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» . في: «إنْ» قولان: أحدهما: أنها شرطية، وجوابه محذوف تقديره: إن كنتم مؤمنين فلم فعلتم ذلك؟ ويكون الشرط وجوابه قد ذكر مرتين فَحُذِفَ الشَّرْط من الجملة الأولى، وبقي جوابه وهو: فلم تقتلون، وحذف الجواب من الثَّانية، وبقي شرطه، فقد حذف من كلّ واحدة ما أثبت في الأخرى. قال ابن عطية رَحِمَهُ اللهُ: جوابها متقدم، وهوقوله «فلم» وهذا إنما يتأتى على قول الكُوفيين، وإبي زيد. والثاني: أن «إن» نافية بمعنى «ما» أي: ما كنتم مؤمنين لمُنَافَاةِ ما صدر منكم الإيمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 «بِالبَيِّنَاتِ» يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن يكون حالاً من «موسى» أي: جاءكم ذا بيِّنات وحُجَج، أو ومعه البينات. وثانيهما: أن يكون مفعولاً، أي: بسبب إقامة البَيّنات، وهي قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [الإسراء: 101] وهي: العصا والسّنون واليد والدم والطّوفان والجراد والقمل والضفادع وفلق البحر. وقيل: البينات التوراة وما فيها من الدّلالات. واللام في «لقد» لام القسم. «ثم أتَّخَذْتُمُ العِجْل» توبيخ، وهو أبلغ من «الواو» في التَّقريع بها والنظر في الآيات، أي بعد النظر في الآيات والإتيان به اتّخذتم، [وهذا يدّل على أنهم إنما فلعوا ذلك بعد مُهْلة من النظر في الآيات، وذلك أعظم لجُرْمهم] . وما بعده من الجمل قد تقدم مثله، والسبب في تكريرها أنه تعالى لما حركى طريقة اليَهُودِ في زمان محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، وصفهم بالعِنَادِ والتكذيب، ومثلهم بسلفهم في [قتلهم] الأنبياء الذي يناسب التكذيب؛ بل يزيد عليه إعادة ذكر موسى عليه السلام وما جاء به من البيّنات، وأنهم مع وضوح ذلك أجازوا أن يتخذو العجل إلهاً وهو مع ذلك صابر ثابت على الدعاء إلى ربه، والتمسّك بدينه، فكذلك القول في حالي معكم وإن بالغتم في التَّكذيب والإنكار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 قوله: «واسمعوا» أي أطيعوا وليس معناه الأمر بإدراك القول فقط، وإنما المراد اعملوا بما سمعتم والتزموه، ومنه قولهم: سمع الله لمن حمده، أي قبل وأجاب؛ قال [الوافر] 667 - دَعَوْتُ اللهَ حَتَّى خِفْتُ أَلاَّ ... يَكُونَ اللهُ يَسْمَعُ ما أَقُولُ أي يقبل. وقال الرَّاجز: [الرجز] 668 - وَالسَّمْعُ والطَّاعة والتَّسْلِيمْ ... خَيْرٌ وَأَعْفَى لِبَنِي تَمِيمْ فصل في التكرار وفي هذا التكرير وجها: أحدهما: أنه للتأكيد، وإيجاب الحُجَّة على الخصم. الثاني: كرره لزيادته على دلالة وهي قولهم: «سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا» [فرفع الجبل لا شك أنه من أعظم المعجزات، مع ذلك أصرُّوا على كفرهم، وصرحوا بقولهم: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} [النساء: 46]] . وأكثر المفسرين ذكروا أنهم قالوا هذا القول. وقال أبو مسلم: يجوز أن يكون المعهنى سمعوه فقتلوه بالعصيان، فعبر عن ذلك بالقول، وإن لم يقولوه كقوله تعالى: {أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] وكقوله: {قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] والأول أولى، لأن هذا صَرْف للكلام عن ظاهره بغير حاجة. قوله: «وأُشْربوا» يجوز أن يكون معطوفاً على قوله. «قَالُوا: سَمِعْنَا» ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل «قالوا» أي: قالوا ذلك، وقد أشربوا. ولا بد من إضمار «قد» ليَقْرُبَ الماضي إلى الحال خلافاً للكوفيين، حيث قالوا: لا يحتاج إليها، ويجوز أن يكون مستأنفاً لمجرد الإخبار بذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 واستضعفه أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى قال: لأنه قال بعد ذلك: «قل بِئْسَمَا يأمركم» فهو جواب قولهم: «سمعنا وعصينا» فالأولى ألا يكون بينهما أجنبي. و «الواو» في «أشربوا» وهي المفعول الأول قامت مقام الفاعل، والثاني هو «العِجْل» ؛ لأن «شرب» يتعدّى بنفسه، فأكسبته الهمزة مفعولاً آخر، ولا بد من حذف مُضَافين قبل «العِجْل» والتقدير: وأشربوا حُبَّ العِجْل. وحسن حَذْفُ هذين المضافين للمبالغة في ذلك حتى كأنه تُصُوِّر إشراب ذات العِجْل، والإشراب مُخَالطة المائع بالجامد، ثم اتّسع فيه حتى قيل في الألوان نحو: أشرب بياضُه حُمْرةً، والمعنى: أنهم دَاخَلَهم حُبُّ عبادته، كما داخلَ الصّبغُ الثوبَ. ومنه قول الشاعر: [الوافر] 669 - إذّا ما القَلْبُ أُشْرِبَ حُبَّ شَيْءٍ ... فَلاَ تَأْمَلْ لَهُ الدَّهْرَ انْصِرَافا وعبر بالشرب دون الأكل؛ لأ، الشرب يَتَغَلْغَلُ في باطن الشيء، بخلاف الأكل فإنه مُجَاور؛ ومنه في المعنى: [الطويل] 670 - جَرَى حُبُّهَا مَجْرَى دَمِي في مَفَاصِلِي ..... ... ... ... ... ... ... ... وقال بعضهم: [الوافر] 671 - تَغَلْغَلَ حُبُّ عَثْمَةَ في فُؤَادِي ... فَبَادِيهِ مَعَ الخافِي يَسِيرُ تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ ... وَحُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرورُ أَكَادُ إِذَا ذكَرْتُ العَهْدَ مِنْهَا ... أَطِيرُ لَوَ أنَّ إِنْسَاناً يَطِيرُ فهذا وجه الاستعارة. وقيل: الشرب مادة لحياة ما تخرجه الأرض، فكذلك كانت تلك المحبة مادة لجميع ما صدر عنهم من الأفعال. وقيل: الإشراب هنا حقيقة؛ لأنه يروى أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ برد العجل بِالمبْرد، ثم جعل تلك البُرَادة في الماء، وأمرهم بشربه، فمن كان يحب العجل ظهرت البُرَادة على شَفَتَيْهِ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 روي القَشَيْري رَحِمَهُ اللهُ أنه ما شربه أحد إلا جُنَّ. قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: أما تَذْرِيَتُهُ في الماء فقد دلّ عليه قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً} [طه: 97] ، وأما شرب الماء وظهور البُرَادة على الشِّفاه وهذا وإن كان قال به السّدي وابن جريج وغيرهما فردّه قوله: «في قُلُوبِهِمْ» . فصل في فاعل الإشراب قوله: «وأُشْرِبُوا في قُلُوبِهِم» يدلّ على أن فاعلاً غيرهم بهم ذلك، ومعلوم أنه لا يقدر عليه سوى الله تعالى. أجاب المعتزلة بوجهين: الأول: ما أراد الله تعالى أن غيرهم فعل بهم ذلك، لكنهم لِفَرْطِ ولوعهم وَإِلْفِهِمْ بعبادته أشربوا قلوبهم حُبّه، فذكر ذلك على ما لم يسمّ فاعله كما يقال: فلان معجب بنفسه. والثاني: أن المراد من «أشرب» أي: زيّنه لهم، ودعاهم إليه كالسَّامري، وإبليس، وشياطين الإنس والجن. وأجابوا: بأن هذا صرف اللَّفظ عن عن ظاهره، وذلك لا يجوز المصير إليه إلاّ بدليل منفصل، وقد أقيمت الدلائل العقلية القَطْعية على أن محدث الأشياء هو الله تعالى فلا حاجة لنا إلى ترك هذا الظاهر. قوله: «بِكُفْرِهِم» فيه وجهان: أظهرهما: أن «الباء» سببية متعلّقة ب «أُشْرِبُوا» أي: أشربوا بسبب كفرهم السَّابق. والثاني: أنها بمعنى «على» يعنون بذلك أنها للحال، وصاحبها في الحقيقة ذلك للفاعل المحذوف أي: أشربوا حبّ عبادة العِجْل مختلطاً بكفرهم، والمصدر مضاف للفاعل، أي: بأن يكفروا. قوله: «قُلْ» بِئْسَمَا يَأمُرُكُمْ «كقوله:» بِئْسَمَا اشْتَرَوْا «. والمعنى: فبئسما يأمركم به إيمانكم الذي زعمتم في قولكم: {نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ} [البقرة: 91] . وقيل: إن هذا خطاب للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمر له بأن يوبّخهم أي: قل لهم يا محمد: بئس هذه الأشياء التي فعلتم، وأمركم بها [إيمانكم] أي: بالتوراة لأنه ليس في التوراة عبادة العِجْل وإضافة الأمر إلى إيمانهم كما قالوا لشعيب صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ} [هود: 87] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 قوله:» إنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ «يجوز فيها الوجهان السابقين من كونها نافيةً وشرطيً، وجوابه محذوف تقديره: فبئسما يأمركم. وقيل: تقديره: فلا تقتلوا أنبياء الله، وَلاَ تُكَذِّبُوا الرّسل ولا تكتموا الحق؛ وأسند الإيمان إليهم تهكُّماً بهم، ولا حاجة إلى حذف صفة، أي إيمانكم الباطل، أو حذف مُضَاف، أي: صاحب إيمانكم. وقرأ الحسن:» بِهُو إيمَانُكُمْ «بضم الهاء مع الواو. فإن قيل: الإيمان عرض، ولا يصح الأمر والنهي. فالجواب: أن الدَّاعي إلى الفعل قد يشبه بالأمر كقوله: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وهذا نوع آخر من قبائح أفعالهم، وهو زعمهم أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون النَّاس، ويدلّ عليه أنه لايجوز أن يقال للخصمك إن كان كذا أو كذا فافعل كذا، والأول مذهبه، ليصحّ إلزام الثاني عليه. ويدلّ على ذلك أيضاً قولهم: {يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقولهم: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] . وأيضاً اعتقادهم في أنفسهم أنهم همم المحقّون؛ لأن النسخ غير جائز في شرعهم، وأن سائر الفرق مبطلون، وأيضاً اعقادهم أن أنتِسَابَهُمْ إلى أكابر الأنبياء علهيم الصلاة والسلام، أعني: يعقوب وإسماعيل وإسحاق وإبراهيم عليه السلام يخصلهم من [عقاب] الله تعالى ويوصلهم إلى ثوابه، فكذّبهم الله تعالى وألزمهم الحُجّة، فقال: قل لهم يا محمد: إن كانت لكم الدار الآخرة يعني الجَنّة خالصة من دون النَّاس، فتمنوا الموت: فأريدوه وأسألوه؛ لأن من علم أنا لجنة مَأْواه حنّ إليها؛ لأن نعم الدنياعلى قلّتها كانت منغصةً عليهم بسبب ظهور محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ومنازعته لهم بالجِدَالِ والقتال، ومن كان في النّعم القليلة المنغصة، وهو يتيقّن بعد الموت أنه ينتقل إلى تلك النعم العظيمة، فإنه لا بد وأن يرغب في الموت. وقيل: إن الله تعالى صرفهم عن إظْهَار التمنِّي، وقصرهم على الإمساك ليجعل ذلك آية لنبيه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وقيل: فمتنّوا الموت: ادعوا بالموت على الفِرْقَةِ الكاذبة. روى ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لو تمنوا الموت لشرق كلّ إنسان بريقه وما بقي على وجه الأرض يهودي إلاَّ مات» . قوله: {إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً} شرط جوابه «فَتَمَنّوا» . و «الدار» اسم «كان» وهي الجنة، والأولى أن يقدّر حذف مضاف، أي: نعيم الدار الآخرة؛ لأن الدَّار الآخرة في الحقيقة هي انقضاء الدُّنيا، وهي للفريقين. واختلفوا في خير «كان» على ثلاثة أقوال: أحدها: أنه «خالصة» ، فيكون «عند» ظرف ل «خالصة» ، أو للاستقرار الذي «لكم» ويجوز أن تكون حالاً من «الدار» ، والعامل فيه «كان» ، أو الاستقرار. وأما «لكم» فيتعلق ب «كان» ؛ لأنها تعمل في الظرف وشبيهه. قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ويجوز أن تكون للتبيين، فيكون موضعها بعد «خالصة» أي: خالصة لكم فتتعلّق بنفس «خالصة» ، وهذا فيه نظر؛ لأنه متى كانت للبيان تعلّقت بمحذوف تقديره: أعني لكم، نحو: سُقْياً لك، تقديره: أعني بهذا الدعاء لك، وقد صرح غيره في هذا الموضع بأنها للبيان، وأنها متعلّقة حينئذ بمحذوف كما تقدم، ويجوز أن يكون صفة ل «خالصة» في الأصل قُدْمَ عليها فصار حالاً منها، فيتعلّق بمحذوف. الثاني: أن الخبر «لكم» فيتعلّق بمحذوف وينصب خالصة حينئذ على الحال، والعامل فيها إما «كان» ، أو الاستقرار في «لكم» ، و «عند» منصوب بالاستقرار أيضاً. الثالث: أن الخبر هو الظَّرف، و «خالصة» حال أيضاً، والعامل فيها إما «كان» أو الاستقرار، وكذلك «لكم» ، وقد منع من هذا الوجه قَوْمٌ فقالوا: لا يجوز أن يكون الظرف خبراً؛ لأن هذا الكلام لا يستقل. وجوز ذلك المهدوي، وابن عطية، وابو البقاء، واستشعر أبو البقاء هذا الإشكال، وأجاب عنه بأن قال: وسوغ أن يكون «عند» خبر «كان لكم» يعني لفظ «لكم» سوغ وقوع «عند» خبراً إذ كان فيه تخصيص وَتَبْيِينٌ، ونظيره قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] ، لولا «له» لم يصحّ أن يكون «كفواً» خبراً. و «مِنْ دُونِ النَّاسِ» في محلّ نصب ب «خالصة» ؛ لأنك تقول: خَلُصَ كذا من كذا، والمراد به سوى لا معنى المكان، كما يقول القائل لمن وهب منه ملكاً: هذا لك دون النّاس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 وقرأ الجمهور: «فتَمَنَّوُا المَوْتَ» بضم الواون ويروى عن أبي عمرو فتحها تخفيفاً واختلاس الضمة، وقرأ ابن أبي إسحاق بكسرها على التقاء السَّاكنين تشبيهاً بواو {لَوِ استطعنا} [التوبة: 42] المراد بها عندية المنزلة. قال ابن الخطيب: «ولا بعد أيضاً في حمله على [المكان] فلعل اليهود كانوا مشبّهة، فاعقدوا العِنْدِيَة المكانية» . وقوله تعالى: «فتمنوا الموت» هذا أمر متعلّق على أمر مفقود، وهو كونهم صادفين، فلا يكون الأمر موجوداًن أو الغرض إظهار كذبهم في دعواهم، وفي هذا التمني قولان: أحدهما: قول ابن عباس: إنهم أمروا بأن يَدْعُوَ الفريقان بالموت على الفرقة الكاذبة. والثاني: أن يقولوا: ليتنا نموت وهذا أولى؛ لأنه أقرب إلى موافقة اللفظ. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَوْ تَمَنَّوا المَوْتَ لَغَصَّ كُلُّ إنْسَانٍ بِرِيقِهِ وَمَا بَقِيَ عَلَى وَجْهِ الأَرضِ يَهُودِيٌّ إلاَّ مَاتَ» وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَوْ أنَّ اليَهُودَ تَمَنَّوا المَوْتَ لماتُوا ورَأوا مَقَاعِدَهُمْ من النَّارِ وَلَوْ خَرَجَ الَّذِينَ يُبَاهِلُونَ [رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] ، لَرَجَعُوا إلاَ يَجِدُونَ أَهْلاً وَلاَ مَالاً» . قوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} كقوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 91] . فصل في سؤالات واردة السؤال الأول: لعلّهم كانوا يعلمون أن نعم الآخرة عظيمة لا سبيل إليها إلاَّ بالموت، والذي يتوقف عليه المطلوب يجب أن يكون مطلوباً لكونه وسيلةً إلى ذلك المطلوب، إلاَّ أنه يكون مكروهاً نظراً إلى ذاته، والموت مما لا يحصل إلا بالآلام العظيمة، وما كانوا يطيقونها، فلا جرم ما تمنوا الموت. السؤال الثاني: أنه كان لهم أن يقلبوا هذا السؤال على محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقولون إنّك تدَّعي الدار الآخرة خالصة لك ولأمتك دون من ينازعك في الأمر، فإنْ كان الأمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 كذلك فارْض بأن نقتلك ونقتل أمتك، فإنَّا نراك ونرى أمتك في الضّر الشديد، والبلاء العظيم بسبب الجدال والقتال، وبعد الموت فإنكم تتخلّصون إلى نعيم الجنّة، فوجب أن ترضوا بقتلكم. السؤال الثالث: لعلّهم كانوا يقولون: الدار الآخرة خالصة لمن كان على دينهم، لكن بشرط الاحتراز عن الكَبَائر، فأما صاحب الكبيرة فإنه يبقى مخلداً في النار أبداً؛ لأنهم كانوا وعدوا به، أو لأنهم جوّزوا في صاحب الكبيرة أن يصير معذباً، فلأجل هذا ما تمنّوا الموت، وليس لأحد أن يدفع هذا السُّؤال بأن مذهبهم أنه لا تمسُّهم النار إلاَّ أياماً معدودة؛ لأن كلّ يوم من أيام القيامة كألف سنة، فكانت هذه الأيام، وإن كانت قليلة بحسب العدد، لكنها طويلة بحسب المدة، فلا جَرَمَ ما تمنّوا الموت بسب الخوف. السؤال: الرابع: أنه عليه الصلاة والسَّلام نهي عن تمنّي الموت فقال: «لاَ يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُم المَوْت لِضُرِّ نَزَلَ بِهِ وَلَكِنْ لِيَقْلْ: اللهُمَّ أَحْيِنِي إِنْ كَانَتِ الحَيَاةُ خَيْراً لِي وتَوَفَّنِي إِنْ كَانَتِ الوَفَاةُ خَيْراً لِي» وأيضاً قال تعالى: في كتابه: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا} [الشورى: 18] فكيف يجوز أن ينهى عن الاستعجال، ثم إنه يتحدّى القوم بذلك؟ السؤال الخامس: أنَّ لفظ التمني بين التمنّي الذي هو المعنى القائم بالقلب، وبين اللفظ الدَّال على ذلك المعنى، وهو قول القائل: ليتني متّ، فلليهود أن يقولوا: إنك طلبت منا التمني، والتمنّي لفظ مشترك، فإن ذكرناه باللِّسان، فله أن يقول: ما أردت به هذا اللَّفظ، وإنما أردت به المعنى الذي في القَلْب، وإن فعلنا ذلك المعنى القائم بالقَلْب، فله أن يقول: كذبتم ما أتيتم بذلك في قلوبكم، ولما علم اليهود أنه أتى بلفظة مشتركة لا يمكن الاعتراض عليها لا جرم لم يلتفتوا إليه. السؤال السادس: هَبْ أن الدار الآخرة لو كانت لهم لوجب أن يتمنّوا الموت، فلم قلت: إنهم لم يتمنوا الموت؟ والاستدلال بقوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} ضعيف؛ لأن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 الاستدلال بهذا إنما يصحّ لو ثبت كون القرآن حقًّا، والنزاع ليس إلا فيه. والجواب كون الموت متضمناً للآلام يكون كالصارف عنه تمنّيه. قلنا: كما أن الألم الحاصل عند الحجَامَةِ لا يصرف عن الحِجَامَةِ للعلم الحاصل؛ لأن المنفعة الحاصلة عن الحِجَامة عظيمة وجب أن يكون الأمر هاهنا كذلك. وقوله: لو قلبوا الكلام على محمد لزمه أن يرضى بالقتل. قلنا: الفرق بين محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وبينهم أن محمداً كان يقول: إني [مبعوث] لتبليغ الشَّرَائع إلى أهل التَّوَاتر، وهذا المقصود لم يحصل بعد فالأجل هذا لا أرضى بالقَتْل، وأما أنتم فلستم كذلك فظهر الفرق. وقوله ثالثاً: كانوا خائفين من العقاب. قلنا: القوم ادعوا أن الآخرة خالصة لهم، وذلك يؤمنهم من الامتزاج. وقوله رابعاً: نهي عن تمني الموت. قلنا: هذا النهي طريقه الشرع، فيجوز أن يختلف الحال فيه بحسب اختلاف الأوقات. فصل في بيان متى يُتمنى الموت روي أن عليًّا رَضِيَ اللهُ عَنْه كان يطوف بين الصَّفَّيْن في [غِلالَة] ، فقال له ابنه الحسن رَضِيَ اللهُ عَنْه ما هذا بِزِيِّ المحاربين، فقال: بابنيَّ، لا يبالي أبوك أعلى المَوْتِ سقط أم عليه [بسقط] . وقال عمار رَضِيَ اللهُ عَنْه ب «صفين: [الرجز] 672 - الآن أُلاَقِي الأَحِبَّة ... مُحَمداً وَحِزْبَهُ وقد ظهر عن الأنبياء في كثر من الحالات تمنّي الموت على أن هذا النهي مختصّ بسبب مخصوص، فإنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حَرّم أن يتمنّى الإنسان الموت عند الشَّدائد؛ لأن ذلك كالجزع والخروج عن الرضا بما قسم الله تعالى فإين هذا مما نحن فيه؟ وقوله خامساً:» إنهم ما عرفوا المراد التمنّي باللسان أم بالقلب؟ «. قلنا: التمني في لغة العرب لا يعرف إلا بما يظهر بالقول، كما أن الخبر لا يعرف إلاَّ بما يظهر بالقول، ومن المحال أن يقول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» تَمَنَّوا المَوْتَ «، ويريد بذلك [ما لا يمكن الوقوف عليه] ، مع أن الغرض بذلك لا يتمّ إلاَّ بظهوره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 وقوله سادساً: ما الدليل على أنه ما وجد التمنّي؟ قلنا من وجوه: أحدها: لو حصل ذلك لنقل نقلاً متواتراً؛ لأنه أمر عظيم، فإنه بتقدير عدمه يثبت القول بصحّة نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبتقدير حصول هذا التمنّي يبطل القول بنبوّته، وما كان كذلك من الوقائع العظيمة، فوجب أن ينقل نقلاً متواتراً، ولما لم ينقل علمنا أنه لم يوجد. وثانيها: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع تقدّمه في الرأي والحزم، وحسن النَّظر في العاقبة، والوصول إلى الرياصة العظيمة التي انْقَادَ لها المخالف قَهْراً والموافق طوْعاً، لا يجوز وهو غير واثقِ من جهة رَبّه بالوحي النازل عليه أن يتحدَّاهم بأمر لا يأمن عاقبة الحال فيه، ولا يأمن من خصمه أن يقهره بالدليل والحجّة؛ لأن العاقل الذي لم [يعرف] الأمور لم يرض بذلك، فكيف الحال في أعقل العقلاء؟ فثبت أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما أَقْدَمَ على هذه الأدلة إلا بوحي من الله تعالى إليه بأنهم لا يتمنونه. وثالثها: ماروى ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «لَوْ تَمَنَّوا المَوْتَ لَشَرِقُوا بهِ وَلَمَاتُوا» وقد نطق القرآن بذلك في قوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} أي: ولو تمنّوه بقلوبهم لأظهروه بألسنتهم ردًّا على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإبطالاً لحجّته. والحديثان المتقدّمان، وبالجملة الأخبار الواردة في أنهم ما تمنوا الموت بلغت مبلغ التواتر. قوله: «وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ» خبر قاطع عن أنّ ذلك لايقع في المستقبل، وهذا إخبار عن الغيب؛ لأن من توفّر الدواعي على تكذيب محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسهولة الإتيان بهذه الكلمة أخبر أنهم لا يأتون بذلك، فهذا إخبار جازم عن أمر قامت الأمارات على ضدّه، فلا يمكن الوصول إليه إلا بالوحي. قوله: «أبداً» منصوب ب «يتمنّوه» ، وهو ظرف زمان يقع للقليل والكثير، ماضياً كان أو مستقبلاً. قال القرطبي: كالحين والوقت، وهو هاهنا من أول العمر إلى الموت تقول: ما فعلته أبداً. وقال الراغب هو عبارة عن مدّة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان، وذلك أنه يقال: زمان كذا، ولا يقالك أبدُ كذا، وكان من حقّه على هذا ألاَّ يثنى ولا يجمع، وقد قالوا: آباد، فجمعوه لاختلاف أنواعه. وقيل: آباد لغة مولّدة، ومجيئه بعد «لن» يدلّ على أن نفيها لا يقتضي التأبيد، وقد تقدم غير ذلك، ودعوى التأكيد فيه بعيدة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 فصل في بيان أن بالآية غيبين واعلم أن هذا أخبار عن غيب آخر، لأنه أخبر أن ذلك لا يوجد في شيء من الأزمنة، ولاشك أن الإخبار عن عدمه بالنسبة إلى عموم الأوقات فهما غَيْبان، وقال هنا: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ} [البقرة: 95] فنفى ل «لن» ، وفي الجمعة ب «لا» [قال صاحب «المنتخب» :] وذلك لأن دعواهم هنا أعظم من دعواهم هناك؟ لأن السعادة القُصْوَى فوق مرتبة الولاية؛ لأن الثانية تراد لحصول الأولى، فإنهم ادعوا هنا أنَّ الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس، وادعوا في سورة «الجمعة» أنهم أولياء لله من دون النَّاس، والسعادة القصوى هي الحصول في دار الثواب؛ ومرتبة الولاية وإن كانت شريفة إلا أنها لا تراد ليتوسّل بها إلى الجنة، فلما كانت الأولى أعظم لا جَرَمَ ورد النفي ب «لن» ؛ لأنه أبلغ من النفي ب «لا» . قوله: «بما قَدَّمَتْ أيديهم» بيان للعلّة التي لها لا يتمنّون؛ لأنه إذا علموا سوء طرقهم وكثرة ذنوبهم دعاهم ذلك إلى عدم تمنّي الموت، وهذه الجملة متعلّقة ب «يتمنّوه» ، والباء للسببية، أي: بسبب اجْتِرَاجِهِم العظائم، و «أيديهم» في محلّ رفع حذفت الضمة من الباء لثقلها مع الكسرة. و «ما» يجو فيها ثلاثة أوجه: أظهرها: كونها موصولةً بمعنى «الذي» . والثاني: نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف، أي: بما قدّمته، فالجملة لا محلّ لها على الأولى، ومحلّها الجر على الثاني. والثالث: أنها مصدرية أي: بِتَقْدِمَةِ أيديهم. ومفعول «قدمت» محذوف أي: بما قدمت أيديهم الشَّر، أو التبديل ونحوه. قوله: «واللهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ» ابتداء وخبر، وهذا كالزَّجْر والتهديد؛ لأنه إذا كان عالماً بالسر والنجوى لا يخفى عليه شيء صار ذلك من أعظم الصَّوَارف للمكلّف عن المعاصي، وإنما ذكر الظالمين؛ لأن كلّ كافر ظالم، وليس كلّ ظالم كافراً، فذكر الأعم؛ لأنه أولى بالذكر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 فأخبر تعالى أولاً بأنهم لا يتمنّون الموت، ثم أخبر عنهم هنا بأنهم في غاية الحِرْصِ؛ لأن ثم قسماً آخر، وهو أن يكون الإنسان بحيث لا يتمنّى الموت، ولا يتمنّى الحياة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 وهذه «اللام» جواب قسم محذوف، والنون للتوكيد تقديره: والله لتجدنّهم. و «وجد» هنا متعدية لمفعولين أولهما لضمير، والثاني «أحرص» ، وإذا تعدّت لاثنين كانت: ك «علم» في المعنى، نحو: {وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] . ويجز أن تكون متعدية لواحد، ومعناها معنى «لقي وأصاب» ، وينتصب «أحرص» على الحال، إما على رأي مَنْ لا يشترط التنكير في الحال، وإما على رأي من يرى أنَّ إضافة «أفعل» إلى معرفة غير مَحْضَةٍ، و «أحرص» أفعل تفضيل، ف «مِنْ» مُرادَةٌ معها، وقد أضيفت لمعرفة، فجاءت على أحد الجائزين، أعني عدم المُطَابقة، وذلك أنها إذا أضيفت معرفة على نيّة من أجاز فيها وجهي المطابقة لما قبلها نحوك «الزَّيدان أفضلا الرجال» ، و «الزيدون أفاضل الرجال» ، و «هند فُضْلى» و «الهنود فُضْليات النِّسَاء» ومن قوله تعالى: {أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} [الأنعام: 123] وعدمها، نحو: «الزيدون أفضل الرجال» ، وعليه هذه الآية، وكلا الوجهين فصيح خلافاً لابن السّراج. وإذا أضيفت لمعرفة لزم أن تكون بعضها، ولذلك منع النحويون «يُوسُفُ أحسن إخوته» على معنى التفضيل، وتأولوا ما يوهم غيره نحو: «النَّاقِصُ والأَشَجُّ أَعْدَ لاَبَنِي مَرْوَانَ» بمعنى العَادِلاَنِ فيهم؛ وأما قوله [الرجز] 673 - يَارَبَّ مُوسَى أَظْلَمِي وَأَظْلَمُهْ ... فَاصْبُبْ عَلَيْهِ مَلكاً لاَ يَرْحَمُهْ فشاذٌّ، وسوغ ذلك كون «أظلم» الثاني مقتحماً كأنه قال: «أَظْلَمُنَا» . وأما إذا أضيف إلى نكرة فقد تقدّم حكمها عند قوله: {أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} [البقرة: 41] . قوله تعالى: {على حَيَاةٍ} متعلّق بت «أَحْرَصَ» ح لأنّ هذا الفعل يتعدّى ب «على» تقول: حرصت عليه. والتنكير في حياة تنبيه على أنه أراد حياةً مخصوصةً، وهي الحياة المتطاولة، ولذلك كانت القراءة بها أوقع من قرأءة أبيّ «على الحياة» بالتعريف. وقيل:: إن ذلك على حذف مضاف تقديره: على طول الحياة، والظّاهر أنه لا يحتاج إلى تقدير صفة ولا مضاف، بل يكون المعنى: أنهم أحرص النَّاس على مطلق الحياة. وإن قلت: فيكف وإن كثرت، فيكون أبلغ من وصفهم بذلك، وأصل حياةك «حَيَيَة» تحركت الياء، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً. قوله: «ومِنَ الّذِينَ أشْرَكُوا» يجوز أن يكون متصلاً داخلاً تحت «أفعل» التفضيل ويجوز أن يكون منقطعاً عنه وعلى القول باتّصاله به فيه ثلاثة أقوال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 أحدها: أنه حمل علكى المعنى، فإن معنى أحرص الناس: أحرص من الناس، فكأنه قيل: أحرص من النّاس، ومن الذين أشركوا. الثاني: أن يكون حذف من الثَّاني لدلالة الأولى عليه، والتقدير: وأحرص من الذين أشركوا، وعلى ما تقرر من كون «مِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوا» متّصلاً ب «أفعل» التفضيل، فلا بد من ذكر «من؛ لأن» أحرص «جرى على اليهود، فلو عطف بغير» من «لكان معطوفاً على النَّاس، فيكون المعنى: ولتجدنَّهم أحرص الذين أشركوا، فيلزم إضافة» أفعل «إلى غير من درج تحته؛ لأن اليهود ليسوا من هؤلاء المشركين الخاصّين؛ لأنهم قالوا في تفسيرهم: إنهم المجوس، أو عرب يعبدون الأصنام، اللهم إلا أن يقال: إنه يغتفر في الثواني ما لا يغتفر في الأوائل، فحينئذ لو لم يؤت ب» من «لكان جائزاً. الثالث: أن في الكلام حذفاً وتقديماً وتأخيراً، والتقدير: ولتجدنّهم وطائفة من الذين أشركوا أحرص الناس، فيكون من» مِنَ الّذِينَ أَشْرَكُوا «صفة لمحذوف، ذلك المحذوف معطوف على الضمير في» لتجدّنهم «وهذا وإن كان صحيحاً من حيث المعنى، ولكنه يَنْبُو عنه التركيب لا سيّما على قول من يَخُصُّ التقديم والتأخير بالضرورة. وعلى القول بانقطاعه من» أفعل «يكون» من الذين أشركوا «خبراً مقدماً، و» يودّ أحدهم «صفة لمبتدأ محذوف تقديره: ومن الذين أشركوا قوم أو فريق يودّ أحدهم، وهو من الأماكن المطّرد فيها حذف الموصوف بجملته كقوله: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] ، وقوله:» منَّا ظَعَنَ وَمِنَّا أقَامَ «. والظاهر أن الذين أشركوا غير اليهود كما تقدم وأجاز الزَّمخشري أن يكون من اليهود؛ لأنهم قالوا: عزيزٌ ابن الله، فيكون أخباراً بأن من هذه الطائفة التي اشتدّ حرصها على الحياة من يودّ لو يعمر ألف سنة، ويكون من وقوع الظَّاهر المشعر بالغَلَبَةِ موقع المضمر، إذ التقديرك ومنه قوم يودّ أحدهم. وقد ظهر مما تقدم أن الكلام من باب عطف المفردات على القول بدخول» من الَّذِين أَشْرَكُوا «تحت» أفعل «ومن باب عطف الجمل على القول بالانقطاع. فصل في المراد بالذين أشركوا قيل: االمراد بالذين أشركوا المجوس، لأنهم كانوا يقولون لملكهم: عش ألف نَيْرُوز وأللإ مِهْرَجَان، قاله أبو العالية والربيع: وسموا مشركين لأنهم يقولون بالنور والظلمة، وهذه تحية المجوس فيما بينهم: عِشْ ألف سنة، ولك ألف نَيْرُوز ومِهْرَجان. وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنه هو قول الأعاجم: زِهً هَزَارْسال. وقيل: المراد مشركو العرب. وقيل: كل مشرك لا يؤمن بالمعاد لما تقدم؛ لأن حرص هؤلاء على الدنيا ينبغي أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 يكون أكثر، وليس المراد ذكر ألف سنة قول الأعاجم [عش ألف سنة] بل [خرج مخرج] التكثير، وهو معروف في كلام العرب. قوله: «يودّ أحدهم» هذا مبني على ما تقدّم، فإن قيل بأن «من الذين أشركوا» داخل تحت «أفعل» كان في «يود» خمسة أوجه: أحدها: أنه حال من الضمير في «لتجدنّهم» أي: لتجدنهم وَادًّا أحدهم. الثاني: أنه حال من الذين أشركوا، فيكون العامل فيه «أحرص» المحذوف. الثالث: أنه حال من فاعل «أشركوا» . الرابع: أنه مستأنف استؤنف للإخبار بتبيين حال أمرهم في ازدياد حرصهم على الحياة. الخامس: وهو قول الكوفيين: أنه صلة لموصول محذوف، ذلك الموصول صفة للذين أشركوا، والتقدير: ومن الذين أشركوا الذين يودّ أحدهم. وإن قيل بالانقطاع، فيكون في محلّ رفع؛ لأنه صفة لمبتدأ محذوف كما تقدّم. قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالىك أصل «يَوَدُّ» يَوْدَدُ «، أدغمت لئلا يجمع بين حرفين من جنس واحد متحركين ونقلت حركة الدال إلى الواو، ليدل ذلك على أنه يفعل. وحكى الكسائي: وَدَدْتُ، فيجوز على هذا يَوِدُّ بكسر الواو و» أحد «هنا بمعنى واحد، وهمزته بدل من واو، وليس هو» أحد «المستعمل في النفي، فإن ذاك همزته أصل بنفسها، ولا يستعمل في الإيجاب المحض. و» يود «مضارع وَدِدْت بكسر العين في الماضي، فلذلك لم تحذف الواو في المضارع؛ لأنها لم تقع بين ياء وكسرة، بخلاف» يعد «وبابه. وحكى الكسائي فيه» وَدَدْتُ «بالفتح. قال بعضهم: فعلى هذا يقال:» يودّ «بكسر الواو. و» الوِدَادُ «: التمني. قوله:» لو يعمّر «في» لو «هذه ثلاثة أقوال: أحدها: وهو الجاري على قواعد نحاة» البصرة «أنها حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، وجوابها محذوف لدلالة» يَوَدُّ «عليه، وحذف مفعول» يَوَدُّ «لدلالة» لو يعمّر «عليه والتقدير: يود أحدهم طول العمر، لو يعمر ألف سنة لَسُرَّ بذلك، فحذف من كلّ واحد ما دلّ عليه الآخر، ولا محلّ لها حينئذ من الإعراب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 والثاني: وبه قال الكوفيون وأبو علي الفارسي وأبو البقاء، أنها مصدرية بمنزلة» أن «الناصبة، فلا يكون لها جوابن [وينسبك] منها وما بعدها مصدر يكون مفعولاً ل» يودّ «، والتقدير: يود أحدهم تعميره ألف سنة. واستدل أبو البقاء بأن الامتناعية معناها في الماضي، وهذه يلزمها المستقل ك» أنْ «وبأنّ» يَودّ «يتعدى لمفعول، وليس مما يُعَلق، وبأن» أنْ «قد وقعت يعد» يود «في قوله {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} [البقرة: 266] وهو كثير، [وجوابه في غير هذا الكتاب] . الثالث: وإليه نحا الزمخشري: أن يكون معناها التمني، فلا تحتاج إلى جواب؛ لأنها في قوة: «يا ليتني أُعَمَّرُ» ، وتكون الجملة من «لو» وما حيّزها في محلّ نصب مفعول به على طريق الحكاية ب «يود» إجراء له مجرى القول. قال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى: فإن قلت: كيف اتّصل «لو يعمر» ب «يود أحدهم» ؟ قلت: هي حكاية لودادتهم و «لو» في معنى التمنّي، وكان القياسك «لو أُعَمَّر» إلا أنه جرى على لفط العينية لقوله: «يود أحدهم» ، كقولك: «حلف بالله تعالى ليفعلن» انتهى وقد تقدّم شرحه، إلاّ قوله وكان القياس لو أعمر، يعني بذلك أنه كان من حقّه أن يأتي بالفعل مسنداً للمتكلم وحده، وإنما أجرى «يود» مجرى القول؛ لأن «يود» فعل قَلْبي، والقول ينشأ عن الأمور القلبية و «الف سنة» منصوب على الظرف ب «يعمر» ، وهو متعد لمفعول واحد قد أقيم مقام الفاعل، وفي «سنة» قولان: أحدهما: أن أصلها: سنوة لقولهمك سنوات وسُنَيَّة وسَانَيْت. والثاني: أنها من «سَنَهَة» لقولهم: سَنَهَاتٌ وسُنَيْهَةٌ وسَانَهْتُ، واللّغتان ثابتتان عن العرب كما ذكرت لك. قوله تعالى: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب} في هذا الضمير خمسة أقوال: أحدها: أنه عائد على «أحد» وفيه حينئذ وجهان: أحدهما: أنه اسم «ما» الحجازية، و «بمزحزحه» خبر «ما» ن فهو محل نصب والباء زائدة. و «أن يعمر» فاعل بقوله: «بمزحزحه» والتقدير: وما أحدهم مزحزحهُ تَعْمِيرُه. الثاني: من الوجهين في «هو» : أن يكون مبتدأ، و «بمزحزحه» خبره، و «أن يعمر» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 فاعل به كما تقدمن وهذا على كون «ما» تميمية، الوجه الأول أحسن لنزول القرآن بلغة الحجاز، وظهور النصب في قوله: {مَا هذا بَشَراً} [يوسف: 31] ، {مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ} [المجادلة: 2] . الثاني: من الأقوال: أن يعود على المصدر المفهوم من «يُعَمَّر» ، أيك وما تعميره، ويكون قوله: «أن يعمر» بدلاً منه، ويكون ارتفاع «هو» على الوجهين المتقدمين أي قوله: اسم «ما» أو متبدأ. الثالث: أن يكون كناية عن التعمير، ولا يعود على شيء قبله، ويكون «أن يعمّر» بدلاً منه مفسراً له، والفرق بين هذا وبين القول الثاني أن ذاك تفسيره شيء متقدم مفهوم من الفعل، وهذا مُفَسَّرٌ بالبدل بعده، وقد تقدم أن في ذلك خلافاً، وهذا ما عنى الزمخشري بقوله: ويجوز أن كيون «هو» مبهماً، و «أن يعمر» موضحه. الرابعك أنه ضمير الأمر والشأن وإليه نحا الفارسي في «الحلبيَّات» موافقة للكوفيين، فإنّهم يفسرون ضمير الأمر بغير جملة إذا انتظم من ذلك إسناد مَعْنوي، نحو: ظننته قائماً الزيدان، وما هو بقائم زيد؛ لأنه في قوة: ظننته يقوم الزيدان، وما هو يقوم زيد، والبصريون يأبون تفسيره إلاَّ بجماعة مصرح بجزئيها سالمة من حرف جر، وقد تقدم تحقيق القولين. الخامس: أنه عماد، نعني به الفصل عن البصريين، نقله ابن عطيّة عن الطَّبري عن طائفة، وهذا يحتاج إلى إيْضَاحن وذلك أن بعض الكوفيين يجيزون تقديم العِمَاِ مع الخبر المقدم، يقولون في زيد هو القائم: هو القائم زيد، وكذلك هنا، فإن الأصل عند هؤلاء أن يكون «بمزحزحه» خبراً مقدماً و «أن يعمر» مبتدأ مؤخراً، و «هو» عماد، والتقدير: وما تعميره وهو بمزحزحه، فلما قدم الخبر قدم معه العماد. والبصريون لا يجيزون شيئاً من ذلك. و «من العذاب» متعلّق بقوله: «بمزحزحه» و «من» لابتداء الغاية والزحزحة: التَّنحية، تقول: زحزحته فَزَحْزَح، فيكون قاصراً ومتعدياً فمن مجيئه متعدياً قوله: [البسيط] 674 - يَا قَابِضَ الرُّوحِ مِنْ نَفْسِي إِذَا احْتَضَرَتْ ... وَغَافِرَ الذَّنْبِ زَحْزِحْنِي عَنِ النَّارِ وأنشده ذو الرُّمَّة: [البسيط] 675 - يَا قَابِضَ الرُّوح مِن جِسْمٍ عَصَى زَمَناً ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ومن مجيئه قاصراً قول الآخر: [الطويل] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 676 - خَلِيلَيَّ مَا بَالُ الدُّجَى لاَ يُزَحْزَحُ ... وَمَا بَالُ ضَوْءِ الصُّبْحِ لاَ يَتَوَضَّحُ قوله: «أَنْ يُعَمَّرَ» : إما أن يكون فاعلاً أو بدلاً من «هو» ، أو مبتدأ حسب ما تقدم من الإعراب في «هو» . {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} مبتدأ وخبر، و «بما» يتعلّق ببصير. و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية أو نكرة موصوفة، والعائد على كلا القولين محذوف أي: يعملونه، ويجوز أن تكون مصدرية أي: بعملهم. والجمهور «يعملون» بالياء، نسقاً على ما تقدم، والحسن وغيره «تعملون» بالتاء، وللخطاب على الالتفات، وأتى بصيغة المضارع، وإن كان علمه محيطاً بأعمالهم السَّالفة مراعاة لرءوس الآي، وختم الفواصل. قال ابن الخطيب: «والبصير قد يراد به العليم، وقد يراد به أنه على صفة لو وجدت المبصرات لأبصرها، وكلا الوصفين يصحّان عليه سبحانه إلاَّ أن من قال: إن في الأعمال ما لا يصحّ أن يرى حمل هذا البصر على العلم لا محالة» [قال العلماء رحمهم الله تعالى: وصف الله تعالى نفسه بأنه بصير على معنى أنه عالم بخفيَّات الأمور، والبصير في كلام العرب العالم بالشيء الخبير به. ومنه قولهم: فلان خبير بالطب، وبصير بالفقه، وبصير بُمَلاَقاةِ الرجال. وقيل: وصف تعالى نفسه بأنه بصير على معنى أنه جاعل الأشياء المبصرة ذوات أبصار أي: مدركة للمبصرات بما خلق لها من الآلة المدركة] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 هذا نوع آخر من قَبَائح اليهود، ومنكرات أقوالهم، فلا بد من أمر قد ظهر من اليهود حتى أمره تعالى بمخاطبتهم بذلك؛ لأنه يجري مجرى المُحَاجّة، والمفسرون ذكروا أموراً: أحدها: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما قدم «المدينة» أتاه عبد الله بن صوريا فقال يا محمد: كيف نومك، فقد أخبرنا عن نوم النبي الذي يجيء في آخر الزمان؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «تَنَامُ عَيْنَايَ وَلاَ يَنَامُ قَلْبِي» قال: صدقت يا محمد، فأخبرني عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 الولد أمن الرجل يكون أم من المرأة؟ فقال: «أَمَّا العِظَامُ وَالعَصَبُ وَالعُرُوقُ فَمِنَ الرَّجُل، وأَمَّا اللَّحْمُ واَلدَّمُ وَالظِّفْرُ وَالشَّعْرُ فِمنَ المَرْأَةٍ» فقال: صدقت يا محمد فما بال الولد يشبه أعمامه دون أخواله أو يشبه أخواله دون أعمامه؟ فقال: «أَيُّهُمَا غَلَبَ مَاؤُهُ صَاحِبَهُ كَانَ الشَّبَهُ لَهُ» ، قال: صدقت فقال: أخبرني أي الطعام حَرَّمَ إسرائيل على نفسه، وفي التوراة أن النبي الأمي بخبر عنه؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أَنْشُدُكُمْ بَاللهِ الَّذِي أَنْزَلَ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى هَلْ تَعْلَمُونَ أَنَّ إِسْرَائِيْلَ مَرِضَ مَرضاً شَدِيْداً فطَالَ سَقَمُهُ فَنَذَرَ الله نَذْراً لَئِنْ عَافَاهُ اللهُ مِنْ سَقَمِهِ لُيُحَرِّمَنَّ عَلَى نَفْسِهِ أَحَبَّ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَهُوَ لُحْمَانُ الإِبِلِ وَأَلْبَانُهَا» فقالوا: اللهم نعم. فقال له: بقيت خصلة واحدة إن قلتها آمنت بكل أي ملك يأتيك بما تقول عن الله عَزَّ وَجَلَّ؟ قال: «جِبْريلُ عليه السلام» . قال: إن ذلك عدونا ينزل بالقتال والشدّة، ورسولنا ميكائيل يأتي بالبشر والرَّخاء فلو كان هو الذي يأتيك آمنا بك فقال عمر رضي الله تعالى عنه: وما مبدأ هذه العداوة؟ فقال ابن صوريا أول هذه العداوة أن الله تعالى أنزل على نبينا أن «بيت المقدس» سيخرب في زمان رجل يقال له: بخت نصرّ ووصفه لنا [وأخبرنا بالجنّ الذي يخرب فيه، فلما كان وقته بعثنا رَجُلاً من قوم بني إسرائيل في طلبه ليقتله، فانطلق حتى لقي ب «بابل» غلاماً مسكيناً فأخذه ليقتله] . [فطلبناه فلما وجدناه بعثنا لقتله رجالاً] فدفع عنه جبريل وقال: إن سلطكم الله تعالى على قتله فهذا ليس هو ذاك الذي أخبر الله عنه أنه سيخرب «بيت المقدس» فلا فائدة من قتله، ثم إنه كبر وقوي وملك، وغزانا وخرّب «بيت المقدس» ، فلذلك نتّخذه عدوّاً [فأنزل الله تعالى هذه الآية قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وفي هذا القول نظر؛ لأنهم قالوا في هذه الرواية: إن رسولهم ميكائيل، وهو الذي يأتي بالبِشْر والرخاءن وأنهم يحبونه، ثم إنه تعالى أثبت عداوتهم لميكائيل أيضاً في الآية التي تليها فقال: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} [البقرة: 98] وهذا مناقض لهذه الآية المذكورة هاهنا] . وثانيها: قال قتادة وعكرمة والسّديكم كان لعمر بن الخَطَّاب رَضِيَ اللهُ عَنْه أرض بأعلى «المدينة» وممرها على مِدْرَاس اليهود، وكان إذا أتى على أرضه يأتيهم، وسمع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 منهم، فقالوا له ما في أصحاب محمد أحب إلينا منك، فإنهم يمرّون علينا فيؤذوننا وأنت لا تؤذينا، وإنا لنطمع فيك فقال عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهك والله ما آتيكم لحيّكم ولا أسألكم لأني شاكّ في ديني، وإني أدخل علكيم لأزداد بصيرة في أمر محمد صلى لله عليه وسلم وأرى أثاره في كتابكم فقالوا: مَنْ صاحب محمد الذي يأتيه من الملائكة فقال: جبريل فقالوا: ذلك عدونا يُطْلع محمداً على أَسْرَارنا، وهو صاحب كل عذاب وخَسْف شدّة، وإن ميكائيل يأتي بالخِصْبِ السّلامة، فقال لهم عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه: تعرفون جبريل، وتنكرون محمداً عليه الصَّلاة السَّلام فقالوا: نعم قال: فأخبروني عن منزلة جبريل وميكائيل من الله عَزَّ وَجَلَّ قالوا: جبريل عن يمينه، وميكائيل عن يساره وميكائيل عدوّ لجبريل، قال فإن كان كما تقولون فماهما بعدوين، ولأنتم أكفر [من الحمير، وإني أشهد أنّ من كان عدوّاً لجبريل فهو عدو لميكائيل، ومن كان عدواً لميكائيل فهو عدو لجبريل، ومن كان عدواً لهما فإن الله تعالى عدوّ له، ثم رجع عمر فوجد جبريل عليه السلام قد سبقه بالوَحْي، فقرأ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآيات وقال: «لقد وافقك ربك يا عمر» ، فقال عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه فقد رأيتني بعد ذلك في دين الله تعالى أَصْلَبَ من الحجر] . وثالثها: قال مقاتل: زعمت اليهود أن جبريل عليه السلام عدّونا، أمر أن يجعل النبوة فينا، فجعلها في غيرنا فأنزل الله تعالى هذه الآيات. قال ابن الخطيب: والأقرب أن يكون سبب عداوتهم لا أنه كان ينزل القرآن على محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 97] مشعر بأن هذا التنزيل [لا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة؛ لأن إنما فعل ذلك بأمر الله، فلا ينبغي أن يكون سبباً للعداوة، وتقرير هذا من وجوه: أولها: أن الذينزل جبريل من] القرآن {الذي نزل به فيه] بشارة المطيعين بالثواب، وإنذار العصاة بالعقاب، والأمر بالمُحَاربة والمقاتلة لم يكن ذلك باختياره، بل بأم رالله تعالى الذي يعترفون أنه لا محيص عن أمره، ولا سبيل إلى مُخَالفته فعداوة مَنْ هذا سبيله توجب عداوة الله تعالى وعداوة الله تعالى كفر، فيلزم أن معاداة مَنْ هذا سبيله كفر. ثانيها: أن الله تعالى لو أمر ميكائيل بإنزال مثل هذا الكتاب، فإما أن يقال: إنه كان [يتمرد أو يأبى] عن قبول أمر الله، وذلك غير لائق بالملائكة المعصومين، أو كان يقبله وينزل به على وفق أمر الله، فحئنئذ يتوجه على ميكائيل ما ذكروه على جبريل عليهما السلام فما الوجه في تخصيص جبريل بالعداوة؟ وثالثها: أن إنزاال القرآن على محمد عليه السلام كما شق على اليهود، فإنزال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 التوراة على موسى عليه السلام شق على قوم آخرين، فإن اقتضت نَفْرة هؤلاء لإنزال القرآن قُبْحه فلتقتض نَفْرة أولئك المتقدمين قبح إنزال التوراة على موسى عليه السلام قبحه، ومعلوم أن كل ذلك باطل، فثبت بهذه الوجوه فساد ما قالوه. فإن قيل: إنا نرى اليهود في زماننا مُطبقين على إنكار ذلك مصرّين على أن احداً مِنْ سَلَفهم لم يقل بذلك. فالجواب: أن هذا باطل، لأن كلام الله أصدق، ولأن جهلهم كان شديداً، وهم الذين قالوا: {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] . قوله تعالى: «مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ} » مَنْ «شرطية في محلّ رفع بالابتداء، و» كان «خبره على ما هو الصحيح كما تقدم، وجوابه محذوف تقديره: من كان عدوّاً لجبريل فلا وجه لعداوته، أو فليمت غيظاً ونحوه. ولا جائز أن يكون» فَإِنَّهُ نَزَّلهُ «جواباً للشرط لوجهين: أحدهما: من جهة المعنى. والثاني: من جهة الصناعة. أما الأول: فلأن فعل التنزيل متحقّق المضي؛ والجزاء لا يكون إلا مستقبلاً. ولقاتل أن يقول: هذا محمول على التَّبين، والمعنى: فقد تبين أنه نزله، كما قالوا في قوله: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27] ونحوه. وأما الثاني: فلأنه لا بد من جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط فلا يجوز: مَنْ يقم فزيد منطلق، ولا ضمير شفي قوله:» فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ «يعود على» مَنْ «فلا يكون جواباً للشرط، وقد جاءت ماضع كثيرة من ذلك، ولكنهم أَوَّلُوهَا على حذف العائدن فمن ذلك قوله: [الوافر] 677 - فَمَنْ تكُنِ الْحَضَارَةُ أَعْجَبَتْهُ ... فَأَيَّ رِجَالِ بَادِيَةٍ تَرَانَا وقوله: [الطويل] 678 - فَمَن يِكُ أَمْسَى بِالْمَدينَةِ رَحْلُهُ ... فَإِنِّي وَقَيَّارٌ بَهَا لَغَرِيبُ وينبغي أن بينى ذلك على الخلاف ف يخبر اسم الشَّرْط. فإن قيل: إنَّ الخبر هو الجزاء وحده أو هو الشَّرْط فلا بدّ من الضمير، وإن قيل بإنه فعل الشَّرْط، فلا حاجة إلى الضمير، وقد تقدم قول أبي البقاء وغيره في ذلك عند الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 قوله تعالى:» فَمَنْ تَبعَ هُدَايَ «، وقد صّرح الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ بأنه جواب الشَّرْط، وفيه النَّظر المذكور، وجوابه ما تقدم. و «عَدُوّاً» خبر «كان» ، ويستوي فيه الواجد غيره، قال: «هُمُ العَدُوُّ» والعَدَاوَةُ: التجاو قال الرَّاغب: فبالبقلب يقال: العداوة وبالمشي يقال: العدو، وبالإخلال في العدل يقال: العدوان وبالمكان أو النسب يقال: قوم عِدَي أي غرباء. و «لِجْبِريلَ» يجوز أن يكون صفة ل «عَدُوّاً» فيتعلّق بمحذوف، أو تكون اللام مقوية لتعدية «عَدُوّاً» إليه. و «جبريل» اسم ملك وهو أعجمي، فلذلك لم ينصرف، وقول من قال: إنّه مشتقّ من جبروت الله: بعيد؛ لأن الاشتقاق لا يكون في الاسماء الأعجمية، وكذا قول من قال: إنه مركّب تركيب الإضافة، وأن «جبر» معناه: عبد، و «إيل» اسم من أسماء الله تعالى فهو بمنزلة عبد الله؛ لأنه كان ينبغي أن يجرى الأول بوجوه الإعراب وأن ينصرب الثاني [وهذا القول مَرْوِيّ عن ابن عَبَّاس، وجماعة من أهل العلم، فقال أبو علي السّنوي: وهذا لايصحّ لوجهين: أحدهما: أنه لايعرف من أسماء الله «إيل» . والثاني: أنه لو كان كذلك لكان آخر الاسم مجروراً] . وقال المهدوي: إنه مركّب تركيب مرج نحو: حضرموت وهذا بعيد أيضاً؛ لأنه كان ينبغي أن يبنى الأول على الفتح ليس إلاّ. وَرَدَّ عليه أبو حَيَّان بأنه لو كان مركباً تركيب مزج لجاز فيه أن يعرب إعراب المُتَضَايفين، أو يبنى على الفَتْح كأحد عشر، فإن كلّ ما ركب تركيب المزج [يجوز فيه هذه الأوجه، وكونه لم يسمع فيه البناء، ولا جريانه مجرى المتضايفين دليل على عدم تركيبه تركيب المزج] وهذا الرد لا يحسن ردَّا؛ لأنه جاء على أحد الجائزين، واتفق أنه لم يستعمل إلا كذلك. قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والصَّحيح في هذه الألفاظ أنها عربية نزل بها جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام بلسان عربي مبين. قال النحاس: ويجمع جبريل على التكسير جباريل، وقد تصرفت فيه العرب على عادتها في الاسماء الأعجمية، فجاءت فيه بثلاث عشر لغة. أشهرها وأفصحها: «جبريل» بزنة قِنْديل، وهي قراءة أبي عمرو، ونافع وابنِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 عامرِ ومحفْصِ عن عاصم، وهي لغة «الحجاز» ؛ قال ورقةُ بنُ نَوْفَلِ: [الطويل] 679 - وَجِبْرِيلُ يَأْتِيهِ وَمِيكَالُ مَعْهُمَا ... مِنَ اللهِ وَحْيٌ يَشْرحُ الصَّدْرَ مُنْزَلُ وقال حَسَّان: [الوافر] 680 - وَجِبْرِيلٌ رَسُولُ اللهِ فِينَا ... وَرُوحُ الْقُدْسِ لَيْسَ لَه كِفَاءُ وقال عمران بن حِطَّان: [البسيط] 681 - وَالرُّوحُ جِبْرِيلُ مِنْهُمْ لاَ كِفَاءَ لَهُ ... وَكَانَ جِبْرِيلُ عِنْدَ اللهِ ماأْمُونَا الثانية «كذلك إلا أنه فتح الجيم، وهي قراءة ابن كثير والحسن، وقال الفَرَّاء:» لا أحبها؛ لأنه ليس في كلامهم فَعْلِيلُ «وما قاله ليس بشيء؛ لأن ما أدخلته العرب في لسانها على قسمين قسم ألحقوه بأبنيتهم ك» لِجَامٍ «، وقسم يلحقوه ك» إِبْرَيْسَمٍ «، على أنه قيل: إنه نظير شَمويل اسْمَ طائر. وعن ابن كثير أنه رأى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو يقرأ «جَبْرِيلَ ومِيكَائيلَ» ، قال: فلا أزال أقرؤها كذلك. الثالثة: جَبْرَئِيل كَعْنتَريس، وهي لغة قيس وتميم، وبها قرأ حمزة والكسائيُّ؛ وقال حسَّان: [الطويل] 682 - شَهِدْنَا فَمَا تَلْقَى لَنَا مِنْ كَتِيبَةٍ ... يَدَ الدَّهْرِ إِلاَّ جَبْرَئِيلُ أمَامَهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 وقال جريرٌ: [الكامل] 683 - عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَّبُوا بِمُحَمَّدٍ ... وَبِجَبْرئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيكَالاَ الرابعة: كذلك إلاَّ أنه لا ياء بعد الهمزة، وتروى عن عاصم ويحيى بن يعمر الخامسة: كذلك إلاّ أن اللام مشددة، وتروى أيضاَ عن صام ويحيى بن يعمر أيضاً قالوا: و «إِلٌّ» بالتشديد اسم الله تعالى. وفي بعض التفاسير: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 10] قيل: معناه: الله وروي عن أبي بكر لما سمع بِسَجْع مسيلمة: هذا كلام لم يخرج من إِلَّ. السادسة: جَبْرَائِل بألف بعد الرَّاء، وهمزة مكسورة بعد الألف، وبها قرأ عكرمة. السابعة: مثلها إلا أنها بياء الهمزة. الثامنة: جِبْرَائيل بياءين بعد الألف من غير همزة، وبها قرأ الأعمش ويحيى أيضاً. التاسعة: جِبْرَال. العاشرة: جِبْرَايل بالياء والقصر، وهي قراءة طلحة بن مُصَرِّف. الحادية عشرة: جَبْرِينَ بفتح الجيم والنون. والثانية عشرة: كذلك إلا أنه بكسر الجيم. والثالثة عشرة: جَبْرايين. والجملة من قوله: «مَنْ كَانَ» في محلّ نصب بالقول، والضمير في قوله «فإنّه» يعود على جبريل وفي قوله: «نزله» بعود على القرآن، وهذا موافق لقوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] في قراءة من رفع «الروح» ولقوله: «مصدقاً» . وقيل: الأول يعود على الله، والثاني يعود على جبريل، وهو موافق لقراءة من قرأ «نَزَّ بهِ الرُّوح» بالتشديد والنصب، وأتى ب «التي تقتضي الاستعلاء دون» إلى «التي تقتضي الانتهاء، وخصّ القلب بالذكر؛ لأنه خزانة الحِفْظ، بيت الربّ عَزَّ وَجَلَّ [وأكثر الأمة على أنه أنزل القرآن عليه، لا على قلبه، إلاَّ أنه خصّ القلب بالذكر؛ لأن الذي نزل به ثبت في قلبه حفظاً حتى أدَّاه إلى أمّته، فلمّا كان سبب تمكّنه من الأداء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 ثبات حفظه قي قلبه جاز أن يقال: نزله على قلبك، وإن كان في الحقيقة نزل عليه لا على قلبه، ولأنه أشرف الأعضاء. قال عليه الصَّلاة السَّلام:» أَلاَ إِنَّ فِي الجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ أَلاَ وَهِيَ القَلْبُ «] وأضافه ضمير المخاطب دون ياء المتكلم، وإن كان ظاهر الكلام يقتضي أن يكون» على قلبي «لأحد الأمرين: ‘إما مراعاة لحال الأمر بالقول فَتَسْرُد لفظة بالخطاب كما هو نحو قولك: قل لقومك: لا يهينوك، ولو قلت: لا تهينوني لجاز، ومنه قول الفرزدق: [الطويل] 684 - أَلَمْ تَرَ أَنِّي يَوْمَ جوِّ سُوَيْقَةٍ ... دَعَوْتُ فَنَادَتْنِي هُنَيْدَةُ: مَاليَا فأحرز المعنى ونَكَّبَ عن نداء هندية «ما لك» ؟ ، وإما لأن ثَمَّ قولاً آخر مضمراً بعد «قل» والتقدير، قل يا محمد: قال الله «من كان عدوًّا لجبريل فإنه نزله على قلبك» ، [وإليه نحا الزمخشري بقوله: جاءت على حكاية كلام الله، قل: ما تكلمت به من قولي: من كان عدوًّا لجبريل، فإنه نزله على قلبك] فعلى هذا الجملة الشرطية معمولة لذلك القول المضمر، والقول المضمر معمول للفظ «قل» ، والظاهر ما تقدم من كون الجملة معمولة للفظ «قل» بالتأويل المذكور أولاً، ولا ينافيه قول الزمخشري، فإنه قصد تفسير المعنى لا تفسير الإعراب. والضمير في «أنه» يحتمل معنيين: الأول: فإن الله نزل جبريل على قلبك. الثاني: فإن جبريل نزل القرآن على قلبك، ودلت الآية على شرف جبريل عليه السلام وذمّ معادية قاله القُرْطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى. قوله تعالى: «بإِذْن اللهِ» في محلّ نصب على الحال من فاعل: «نزله» إن قيل: إنهُ ضمير جبريل، أو من مفعوله إن قيل: إن الضمير المرفوع في «نزل» يعود على الله، والتقدير: فإنه نزل مأذوناً له أو معه إذن الله، والإذن في الأصل العلم بالشَّيء، والإيذان، كالإعلام، آذن به: علم به، وآذنته بكذا: أعلمته به، ثم يطلق على التمكين، أذن في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 كذا: أمكنني منه، وعلى الاختبار، فعلته بإذنك: أي باختيارك، وقول من قال بإذنه أي بتيسّره راجع إلى ذلك. قال ابن الخطيب: تفسير الإذن هُنا بالأمر أي بأمر الله، وهو أولى من تفسيره بالعلم لوجوه: أولها: أنَّ الإذن حقيقة في الأمر، ومجاز في العلم، واللَّفظ واجب الحمل على حقيقته ما أمكن. وثانيها: أن إنزاله كان من الواجبات، والوجوب مستفاد من الأمر لا من العلم. وثالثها: أن ذلك الإنزال إذا كان من أمر لازم كان أوكد في الحجة. قوله تعالى: «مُصَدِّقًا» حال من الهاء في «نزّله» إن كان يعود الضمير على القرآن، وإن عاد على جبريل ففيه احتمالان: أحدهما: أن يكون من المجرور المحذوف لفهم المعنى، والتقدير: فإن الله نزّل جبريل بالقرآن مصدقاً. الثاني: أن يكون من جبريل بمعنى مصدقاً لما بين يديه من الرسل، وهي حال مؤكدة، والهاء في «بين يديه» يجوز أن تعود على «القرآن» أو على «جبريل» . وأكثر المفسرين على أن المراد ما قبله من كتب الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام لا يخصّ كتاباً دون كتاب، ومنهم من خصَّه بالتوراة، وزعم أنه إشارة إلى أن القرآن يوافق التوراة في الدلالة على نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فإن قيل: أليس أن شرائع القرآن مخالفة لشرائع سائر الكُتب فلم صار مصدقاً لها؟ فالجواب: أنها كلها متوافقة في الدلالة على التوحيد واصول الدين. قوله تعالى: «هُدًى وَبُشْرى» حالان معطوفان على الحال قبلهما، فهما مصدران موضوعان موضع اسم الفاعل، أو على المبالغة أو على حَذْف مضاف أيك ذا هدى و «بشرى» ألفها للتأنيث، وجاء هذا التَّرتيب اللفظي في هذه الأحوال مطابقاً للترتيب الوجودي، وذلك أنه نزل مصدّقاً للكتب؛ لأنها من ينبوع واحد، وحصلت به الهداية بعد نزوله، وهو بشرى لمن حصلت له به الهداية، وخصّ المؤمنين، لأنهم المنتفعون به دون غيرهم، كقوله: بشرى للمتقين، أو لأن البشرى لا تكن إلاَّ للمؤمنين؛ لأن البُشْرَى هي الخبر الدَّال على الخير العظيم، وهذا لا يحصل إلا للمؤمنين. قوله تعالى: «مَنْ كَانَ عَدُوًّا» : الكلام في «مَنْ» كما تقدم، إلاَّ أن الجواب هنا يجوز أن يكون {فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ} . فإن قيل: وأين الرَّابط؟ فالجواب من وجهين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 أحدهما: أن الاسم الظاهر قام مقام المضمر، وكان الأصل: فإن الله عَدُوّ لهم، فأتى بالظَّاهر تنبيهاً على العلة. والثاني: أن يراد بالكافرين العموم، والعموم من الرَّوَابط، لاندراج الأول تحته، ويجوز أن يكون محذوفاً تقديره: من كان عدوّاً لله فقد كفر ونحوه. وقال بعضهم: اواو في قوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} بمعنى «أو» ، قال: لأن نم عادى واحداً من هؤلاء المذكورين، فالحكم فيه كذلك. وقال بعضهم: هي للتفضيل، ولا حاجة إلى ذلك، فإن هذا الحكم معلوم، وذكر جبريل ميكال بعد اندراجهما أولاً تنبيهٌ على فضلهما على غيرهما من الملائكة، وهكذا كُلْ ما ذكر خاص بعد عام، ويحتمل أن يكون أعاد ذكرهما بعد اندراجهما؛ لأن الذي جرى بين الرَّسول وبين اليهود هو ذكرهما، والآية إنما نزلت بسببهما، فلا جَرَمَ نصّ على اسميهما، واعلم أنَّ هذا يقتضي كونهما أشرف من جميع الملائكة، وبعضهم يسمى هذا النوع بالتجريد، كأنه يعني به أنه جرد من العموم الأول بعض أفراده اختصاصاً له بمزية، وهذا الحكم أعني ذكر الخاصّ بعد العام مختصّ بالواو ولايجوز في غيرها من حروف العطف. وجعل بعضهم مثل هذه الآية أعني: في ذكر الخاصّ بعد العام تشريفاً له قوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 68] وهذا فيه نظر، فإن «فاكهة» من باب المطلق؛ لأنها نكرة في سياق الإثبات، وليست من العموم في شيء، فإن عنى أن اسم الفاكهة يطلق عليهما من باب صِدْق اللَّفظ على ما يحتمله، ثم نص عليه فصحيح، وأتى باسم الله ظاهراً في قوله: «فإِنَّ اللهَ عَدُوٌّ» ؛ لأنه لو أُضمر فقيل: «فإنه» لأوهم عوده على اسم الشرط، فينعكس المعنى، أو عوده على ميكال؛ لأنه أقرب مذكور. وميكائيل اسم أعجمي، والكلام فيه كالكلام في «جبريل» من كونه مشتقّاً من ملكوت الله عَزَّ وَجَلَّ، أو أن «ميك» بمعنى عبدن و «إيل» اسم الله، وأن تركيبه تركيب إضافة أو تركيب مزج، وقد عرف الصحيح من ذلك. وفيه سبع لغات: «مِيكَال» بزنة «مِفْعَال» وهي لغة «الحجاز» ، وبها قرأ أبو عمر وحفص عن عصام، وأهل «البصرة» ؛ قالوا: [البسيط] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 685 - وَيَوْمَ بَدْرٍ لَقِينَاكُمْ لَنَا عُدَدٌ ... فِيهِ مَعَ النَّصْرِ مِيكَالٌ وَجِبْرِيلُ وقال جرير: [الكامل] 686 - عَبَدُوا الصَّلِيبَ وَكَذَبُوا بمُحَمَّد ... وَبِجَبْرَئِيلَ وَكَذَّبُوا مِيْكَالاَ الثانية: كذلك، إلاَّ أن بعد الألف همزة، وبها قرأ نافع وأهل «المَدينة» بمهزة واختلاص ميكائيل. الثالثة: كذلك، إلا أنه بزيادة ياء بعد الهمزة بوزن «ميكائيل» ، وهي قراءة الباقين. الرابعة: ميكئيل مثل ميكعيل، وبها قرأ ابن محيصن. الخامسة: كذلك، إلاَّ أنه لا ياء بعد الهمزة، فهو مثل: مِيكَعِل، وقرىء بها. السادسة: ميكاييل بياءين بعد الألف، وبها قرأ الأعمش. السابعة: ميكاءَل بهمزة مفتوحة بعد الألف كما يقال: «إسراءَل» ، وحكى المَاوَرْدِيّ عن بان عباس رضي الله تعالى عنهما أن «جَبْر» بمعنى عَبْد بالتكبير، و «ميكا» بمعنى عُبَيْد بالتصغير، فمعنى جبريل: عبد الله، ومعنى ميكائيل: عبيد الله قال: ولا يعلم لابن عباس في هذا مخالف. وقال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وزاد بعض المفسّرين: وإسرافيل عبد الرحمن. قال النحاس: ومن قال: «جبر» عبد، و «إل» الله وجب عليه أن يقول: هذا جَبْرُئِل، ورأيت جَبْرَئِل، ومررت بِجَبْرِئِل، وهذا لا يقال، فوجب أن يكون مسمى بهذا. وقال غيره: ولو كان كما قالوا لكان مصروفاً، فترك الصرف يدلّ على أنه اسم واحد مفرد ليس بمضاف. قال ابن الخطيب: يجب أن يكون جبريل عليه الصَّلاة والسَّلام أفضل من ميكائيل لوجوه: أحدها: أنه قدمه في الذّكر، وتقديرم المَفْضُول على الفاضل في الذكر مستقبح عرفاً. وثانيها: أن جبريل ينزل بالقرآن والوحي والعلم، وهو مادة بقاء الأرواح، وميكائيل ينزل بالخصب والأمطار، وهي مادة بقاء الأبدان، ولما كان العلم أشرفل من الأغذية وجب أن يكون جبريل أفضل من ميكائيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 وثالثها: قوله تعالى في صفة جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 21] ذكره بوصف المطاع على الإطلاق، وظاهره يقتضي كونه مطاعاً بالنسبة إلى ميكائيل عليه الصَّلاة والسَّلام فوجب أن يكون أفضل منه. فإن قيل: حقّ العَدَاوة الإضرار بالعدون وذلك مُحَال على الله تعالى، فكيف يجوز أن يكونوا أعداء الله؟ فالجواب: أن معنى العداوة على الحقيقة لا يصح إلاّ فينا؛ لأن العدو للغير هو لذي يريد إنزال المَضَارِّ به، وذلك مُحَال على الله تَعَالى بل المراد أحد وجهين: إما أن يعادوا أولياء الله، فيكون ذلك عداوة الله، كقوله: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] ، وكقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] ؛ لأن المراد بأولياء الله دونه لاستحالة المحابة والأذيَة عليه، وإما أن يراد بذلك كراهيتهم القيام بطاعته وعبادته، وبعدهم عن الطريقةن فلما كان العدو لا يكاد يوافق عدوه أو ينقاد له شبه طريقتهم في هذا الوجه بالعداوة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما:: إن اليهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل مبعثه، فلما بعث من العرب كفروا به، وجحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل: يا معشر اليهود اتَّقوا الله وأسلموا فقد كتنم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل الشرك، وتخبروننا أنه مبعوث، وتصفون لنا صفته. فقال ابن صوريا: يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه من الأيات، وما هو بالذي كنا نذكر لكم، فأنزل الله تعالى هذه الآيات، والمرادة بالآيات البينات: آيات القرآن مع سائر الدَّلائل من المُبَاهلة، ومن تمني الموت وسائر المعجزات نحو: إشباع الخَلْق الكثير من الطعام القليل [ونبع] الماء من بين أصابعه وانشقاق القمر. وقال بعضهم: الأولى تخصيص ذلك بالقرآن، لأن الآيات إذا قرنت بالتنزيل كانت أخصّ بالقرآن. فإن قيل: الإنزال عبارة عن تحريك الشَّيْ من أعلى إلى أسفل، وذلك محقّق في الأجسام، ومحال في الكلام. فجوابه: أن جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما نزل من الأعلى إلى الأسفل وأخبر به سمي ذلك إنزالاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 قوله تعالى: {وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون} هذا استثناء مفرّغ، وقد تقدم أن الفراء يجيز فيه النصب. والكفر بها من وجهين: الأول: جحودها مع العلم بصحتها. والثاني: جحودها مع الجهل، وترك النظر فيها، والإعراض عن دلائلها، وليس في الظَّاهر تخصيص، فيدخل الكل فيه. قال ابن الخطيب: والفِسْقُ في اللّغة: خروج الإنسان عما حدّ له قال الله تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] . وتقول العرب للنواة إذا خرجت من الرّطبة عند سقوطها: فسقت النواة، وقد يقرب من معناه الفُجُور؛ لأنه مأخوذ من فجور السّد الذي يمنع الماء من أن يسير من الموضع الذي يفسد، فشبه تعدّي الإنسان ما حدّ له إلى الفساد بالذي فجر السَّد حتى صار إلى حيث يفسد. فإن قيل: أليس صاحب الصغيرة تجاوز أم رالله، ولا يوصف بالفسق والفجور؟ قلنا: إنه إنما يسمى بهما كل أمر يعظم من الباب الذي ذكرنا؛ لأن من فتح من النهر نقباً يسيراً لا يوصف بأنه فجر ذلك النهر، وكذلك الفِسْق إنما يقال إذا عظم التعدّي، إذا ثبت هذا فنقول: في قوله: «إِلاَّ الْفَاسِقُونَ» وجهان: أحدهما: أن كل كافر فاسق، ولا ينعكس، فكأن ذكر الفاسق يأتي على الكافر وغيره، فكان أولى. الثاني: أن يكون المراد ما يكفر بها إلاَّ الكافر المتجاوز على كلّ حدّ في كفره، والمعنى: أن هذه الآيات لما كانت بيّنة ظاهرة لم يكفر بها إلاَّ الكافر الذي يبلغ في الكفر إلى النهاية القصوى، والأحسن في الجواب أن يقال: إنه تعالى لما قال: «وَمَا يَكْفُرُ بِهَا» أفهم أن مراده بالفاسق هو الكافر لا عموم الفاسق فزال الإشكال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 الجمهور على تحريك واو «أَوَكلما» ، واختلف النحويون في ذلك على ثلاثة أقوال: فقال الأخفش: إن الهمزة للاستفهام، والوو زائدة وهذا على رأيه في جواز زيادتها. وقال الكسائي هي «أو» العاطفة التي بمعنى «بل» و‘نما حركت الواو. ويؤيده قراءة من قرأها ساكنة. وقال البصريون: هي واو العطف قدمت عليها همزة الاستفهام على ما عرف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 قال القرطبي: كما دخلت همزة الاستفهام على «الفاء» في قوله: {أَفَحُكْمَ الجاهلية} [المائدة: 50] ، {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} [يونس: 42] ، {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ} [الكهف: 50] . وعلى «ثم» كقوله: «أَثُمَّ إِذَا مَا» . وقد تقدم أن الزمخشري يقدر بين الهمزة وحرف العطف شيئاً يعطف عليه ما بعده، لذلك قدره هُنَا: أكفروا بالآيات البينات، وكلما عاهدوا. وقرأ أبو السّمَال العدوي: «أوْ كلما» ساكنة الواو، وفيها ثلاثة أقوال: فقال الزمخشري: إنها عاطفة على «الفاسقين» ، وقدره بمعنى إلا الذين فسقوا أو نقضوا، يعني به: أنه عطف الفعل على الاسم؛ لأنه في تأويله كقوله: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ} [الحديد: 18] أي: اصَّدَّقُوا وأقرضوا. وفي هذا كلام يأتي في سورته إن شاء الله تعالى. وقال المهدوي: «أو» لانقطاع الكلام بمنزلة «أم» المنقطعةن يعني أنها بمعنى «بل» ، وهذا رأى الكوفيين، وقد تقدم تحريره وما استدلّوا به من قوله: [الطويل] 687 - ... ... ... ... ... . ..... ... أَوْ أَنْتَ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ في أول السورة. وقال بعضهم: هي بمعنى «الواو» فتتفق القراءاتان، وقد وردت «أو» بمنزلة «الواو» كقوله: [الكامل] 688 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... مَا بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أَوْ سَافِعِ {خطيائة أَوْ إِثْماً} [النساء: 112] {آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] فلتكن [هنا] كذلكن وهذا أيضاَ رأي الكوفيين. والناصب ل «كلّما» بعده، وقد تقدم تحقيق القول فيها، وانتصاب «عَهْداً» على أحد وجهين: إما على المصدر الجاري على غير المصدر وكان الأصل: «مُعَاهَدَة» أو على المفعول به على أن يضمن عاهدوا معنى «أَعْطوْا» ويكون المفعول الأول محذوفاً، والتقدير: عاهدوا الله عَهْداً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 وقرىء: «عَهِدُوا» فيكون «عَهْداً» مصدراً جارياً على صدره. وقرىء أيضاً: «عُوهِدُوا» مبيناً للمفعول. قال ابن الخطيب: المقصود من هذه الاستفهام، الإنكار، وإعظام ما يقدمون عليه، ودلّ قوله: «أو كلما عاهدوا» على عهد بعد عهد نقضوه، ونبذوه، ويدل على أن ذلك كالعادة فيهم، فكأنه تعالى أراد تسلية الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن كفرهم بما أنزل عليه من الآيات بأن ذلك ليس ببدع منهم، بل هو سجيّتهم وعادتهم، وعادة سَلَفهم على ما بيّنه فيما تقدم من نَقْضهم العهود والمواثيق حالاً بعد حال؛ لأن من يعتاد منه هذه الطريقة، فلا يصعب على النفس مُخَالفته كصعوفة مَنْ لم تَجْرِ عادته بذلك. وفي العهد وجوه: أحدها: أن الله تعالى لما أظهر الدَّلائل الدَّالة على نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى صحّة شرعه كان ذلك كالعهد منه سبحانه وتعالى وقبولهم لتلك الدلائل كالمعاهدة منهم لله سبحانه وتعالى. وثانيها: قولهم قبل مبعثه: لئن خرج النبي لنؤمنن به، ولنخرجن المشركين من ديارهم [قال ابن عباس: لما ذكرهم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما أخذ الله تعالى عليهم، وعهد إليهم في مُحَمّد أن يؤمنوا به قال مالك بن الصيف: والله ما عهد إلينا من محمد عهد فنزلت هذه. قال القرطبي: ويقال فيه: «ابن الصّيف» ويقال: «ابن الضَّيْف» ] . وثالثها: أنهم كانوا يعاهدون الله كثيراً وينقضونه. ورابعها: قال عطاء: إن اليهود كَانُوا قد عاهدوا على ألاَّ يعينوا عليه أحداً من الكافرين، فنقضوا ذلك، وأعانوا عليه قريشاً يوم «الخندق» [ودليله قوله تعالى: {الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ} [الأنفال: 56] «] إنما قال:» نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ «لأن في جملة من عاهد من آمن، أو يجوز أن يؤمن، فلما لم يكن ذلك صفة جميعهم خص الفريق بالذكر، ثم لما كان يجوز أن يظن أن ذلك الفريق هم الأقلّون بين أنهم الأكثر فقال:» بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ «وفيه قولان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 الأول: أن أكثر أولئك الفسّاق لا يصدقون بك أبداً لحسدهم وبغيهم. [والثاني: لا يؤمنون] أي: لا يصدقون بكتابهم، لأنهم في قومهم كالمُنَافقين مع الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يظهرون لهم الإيمان بكتابهم ورسوله، ثم لا يعلمون بموجبه ومقتضاه. قوله تعالى:» بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ «فيه قولان: أحدهما: أنه من باب عَطْف الجمل، وتكون» بل «لإضراب الانتقال لا الإبطال، وقد [علم] أن» بل «لا تسمَّى عاطفة حقيقية إلا في المفردات. الثاني: أنه يكون من عطف المفردات، ويكون» أكثرهم «معطوفاً على» فريق «، و» لاَ يُؤْمِنُونَ «جملة في محلّ نصب على الحال من» أكثرهم «. وقال ابن عطيَّة: من الضمير في» أكثرهم «، وهذا الذي قاله جائز، لا يقال: إنها حال من المضاف إليه؛ لأن المضاف جزء من المضاف إليه، وذلك جائز. وفائدة هذا الإضراب ما تقدم ذكره آنفاً. والنَّبْذُ: الطرح ومنه النَّبِيذ والمَنْبُوذ، وهو حقيقة في الأجْرَام وإسناده إلى العَهْد مَجَاز. وقال بعضهم: النَّبذ والطَّرْح الإلقاء متقاربة، إلاّ أن النبذ أكثر ما يقال فيما يبس والطَّرح أكثر ما يُقال في المبسوط والجاري مجراه، والإلقاء فيما يعتبر فيه مُلاَقاة بين شيئين؛ ومن مجيء النبذ بمعنى الطَّرْح قوله: [الكامل] 689 - إِنَّ الَّذِينَ أَمَرتَهُمْ أَنْ يَعْدِلُوا ... نَبَذُوا كِتَابَكَ وَاسْتَحَلُّوا الْمَحْرَما وقال أبو الأسود: [الطويل] 690 - وَخَبَّرَنِي مَنْ كُنْتُ أَرْسَلْتُ أَنَّما ... أَخَذْتَ كِتَابِي مُعْرضاً بشِمَالِكا نَظَرْتَ إِلَى عُنْوَانِهِ فَنبَذْتَهُ ... كَنَبْذِكَ نَعْلاً أَخْلَقَتْ مِنْ نِعَالِكَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 قال القرطبي: «مصدّق لما معهم» نعت للرَّسول، ويجوز نصبه على الحال. والعم أن معنى كون الرسول مصدقاً لما معهم هو أنه كان معترفاً بنبوّة موسى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 عليه الصَّلاة والسَّلام وبصحة التوراة، أو مصدقاً لما معهم من حيث إنّ التوراة بشرت بمقدم محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فإذا جاء محمد كان مجرد مجيئه مصدقاً للتوراة. وقوله: {مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} فيه وجهان: أحدهما: أن المراد ممن أوتي علم الكتاب من يدرسه ويحفظه بدليل قوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} . والثاني: المراد من يدعي التمسّك بالكتاب، سواء علمه أم لم يعلمه، وهذا كوصف المسلمين بأنهم من أهل [القرآن] لا يختص بذلك من يعرف علومه، بل المراد من يؤمن به. قوله تعالى: «الْكِتَابَ كِتَابَ اللهِ» : «الكتاب» مفعول ثان ل «أوتوا» ؛ لأنه يتعدى في الأصل إلى اثنين، فأقيم الأول مقام الفاعل، وهو «الواو» ، وبقي الثاني منصوباً، [وقد تقدم أنه عند السهيلي مفعول أول] و «كتاب الله» مفعول نبذ، و «وراء» منصوب على الظرف وناصبه «نَبَذ» ، وهذا مثل لإهمالهم التوراة؛ تقول العرب: «جعل هذا الأمر وَرَاءَ ظَهْرهن ودَبْرَ أُذُنِه» أي: أهمله؛ قال الرزدَقُ: [الطويل] 691 - تَمِيمُ بَْ مُرِّ لاَ تَكُونَنَّ حَاجَتِي ... بِظَهْرٍ فَلا يَعْيَا عَلَيَّ جَوَابُهَا والمراد بكتاب الله: القرآن. وقيل: إنه التوراة لوجهين: الأول: أن النبذ لا يعقل إلا فيما تمسكوا به أولاً، وأما إذا لم يلتفتوا إليه فلا يقال: إنهم نبذوه. والثاني: أنه قال تعالى: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} ولو كان المراد به: القرآن لم يكن لتخصيص الفريق معنى؛ لأنَّ جميعهم لا يصدقون بالقرآن. فإن قيل: كيف يصحّ نَبْذهم التوراة، وهم متمّسكون بها؟ قلنا: إنها لما كانت تدلّ على نبوة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بنعته، ووجوب الإيمان به، ثم عدلوا عنه كانوا نابذين للتَّوْرَاة. قال السّدي رَحِمَهُ اللهُ تعالى نبذوا التوراة، وأخذوا بكمتاب «آصف» ، وسحر «هاروت وماروت» . قوله: «كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» جلمة في محلّ نصب على الحال، وصاحبها: فريق، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 وإن نكرة لتخصيصه بالوصف، والعامل فيها «نبذ» ، والتقدير: مُشْبِهِيْنَ للجُهَّال، ومتعلق العلم محذوف تقديره: أنه كتاب الله لا يُدَاخلهم فيه شكّ، والمعنى: أنهم كفروا عناداً؛ لأنهم نبذوه عن علم ومعرفة؛ لأنه لا يقال ذلك إلاَّ فيمن يعلم. قال ابن الخطيب: ودلّت الآية من هذه الجِهَةِ على أن هذا الفريق كانوا عالمين بصحة نبوته إلا أنهم جحدوا ما يعلمون وقد ثبت أن الجمع العظيم لا يصح الجحد عليهم، فوجب القطع بأن أولئك الجاحدين كانوا في القلّة بحيث تجوز المُكَابرة عليهم. قوله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 : {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} : هذه الجملة معطوفة على مجموع الجملة السابقة من قوله: «ولما جاءهم» إلى آخرها. وقال أبو البقاء: إنها معطوفة على «أشربوا» أوع لى «نبذ فريق» ، وهذا ليس بظاهر؛ لأن عطفها على «نبذ» يقتضي كونها جواباً لقوله تعالى: {وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ} . واتِّباعُهُم لما تتلو الشياطين ليس مترتباً على مجيء الرسول عليه الصَّلاة والسَّلام بل كان اتباعهم لذلك قبله، فالأولى أن تكون معطوفة على جملة «لما» كما تقدم، و «ما» موصولة، وعائدها محذوف، والتقدير: تتلوه. وقيل: «ما» نافية، وهو غلط فاحش لا يقتضيه نظم الكلام، [ذكره] ابن العربي. و «يتلو» في معنى «تلت» فهو مضارع وقاع موقع الماضي؛ كقوله: [الكامل] 692 - وَإِذَا مَرَرْتَ بِقَبْرِهِ فَاعْقِرْ بِهِ ... كُومَ الهِجَانِ وَكُلَّ طَرْفٍ سَابِحِ واتْضَحْ جَوَانِبَ قَبْرِ بِدِمَائِهَا ... فَلَقَدْ يَكُونُ أَخَا دَمٍ وَذَبَائِحِ أي: فلقد كان. وقال الكوفيون: الأصل: وما كانت تتلو الشياطين، ولا يريدون بذلك أن صلة «ما» محذوفة، وهي «كانت» و «تتلو» في موضع الخبر، وإنما قصدوا تفسير المعنى، وهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 نظير: «كان زيد يقوم» المعنى على الإخبار، وبقيامه في الزمن الماضي، وقرأ الحسن والضحاك «الشياطون» إجراء له مجرى جمع السَّلامة، قالوا: وهو غلط. وقال بعضهم: لحن فاحش. وحكى الأصمعي «بُسْتَانُ فُلاَنٍ حَوْلَهُ بساتون» وهو يقوي قراءة الحسن. قوله تعالى: {على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} فيه قولان: أحدهما: أنه على معنى «في» ، أي: في زمن ملكه، والمُلْكُ هنا شَرْعه. والثاني: أن يضمن تتلوا معنى تَتقوَّل أي: تقول على ملك سليمانن وتَقَوَّل يتعدى بعلى، قال تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل} [الحاقة: 44] . وهذا الثاني أولى، فإن التجوّز في الأفعال أولى من التجوّز في الحروف، وهو مذهب البصْريين كما تقدم وإنما أحْوَجَ إلى هذين التأويلين؛ لأن تلا إذا تعدَّى ب «على» كان المجرور ب «على» شيئاً يصحّ أن يتلى عليه نحو: تلوت على زيد القرآن، والملك ليس كذلك. قال أبو مسلم: «تتلو» أي: تكذب على ملك سليمان يقال: تلا عليه: إذا كذب وتلا عنه إذا صدق. وإذا أبهم جاز الأمران. قال ابن الخطيب: أي يكون الذي كانوا يخبرون به عن سليمان مما يتلى ويقرأ فيجتمع فيه كل الأوصاف، والتلاوة: الاتباع أو القراءة وهو قريب منه. قال أبو العباس المقرىء: و «على» ترد على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى «في» كهذه الآية. وبمعنى «اللام» ، قال تعالى {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] أي: للذي. وبمعنى «» من «، قال تعالى: {الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ} [المطفيين: 2] أي: من الناس يستوفون. و» سليمان «علم أعجمي، فلذلك لم ينصرف. وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى:» وفيه ثلاثة أسباب: العُجْمة والتَّعريف والألف والنون «، وهذا إنما يثبت بعد دخول الاشتقاق فيه، والتصريف حتى تعرف زيادتها، وقد تقدَّم أنهما لا يَدْخُلان في الأسماء الأعجميّة، وكرر قوله:» وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ «بذكره ظاهراً؛ تفخيماً له، وتعظيماً؛ كقوله: [الخفيف] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 693 - لا أَرَى المَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْءٌ ..... ... ... ... ... ... ... وقد تقدم تحقيق ذلك. فصل في المراد بقوله تعالى: واتبعوا» المراد بقوله: «وَاتَّبَعُوا» هم اليهود. فقيل: هم الذين كانوا في زمن محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. وقيل: هم الذين كانوا في زمن سليمان صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من السَّحَرة؛ لأن أكثر اليهود ينكرون نبوّة سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ويعدونه من جُمْلة الملوك في الدنيا، وهؤلاء ربما اعتقدوا فيه أنه إنما وجد الملك العظيم بسبب السحر. وقيل: إنه يتناول الكل وهو أولى. قال السّدي: لما جاءهم محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عارضوه بالتوراة فخاصموه بها، فاتفقت التوراة والفرقان، فنبذوا التوراة، وأخذوا بكتاب «آصف» وسِحْر «هاروت وماروت» فلم يوافق القرآن، فهذا هو قوله تعالى: {وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ. واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ} أخبر عنهم بأنهم كتب السّحر. واختلفوا في المراد من الشياطين. فقال المتكلمون من المعتزلة: هم شياطينُ الإنس، وهم المتمرِّدون في الضلال؛ كقول جرير: [البسيط] 694 - أَيَّامَ يَدْعُونَنِي الشَّيْطَانُ مِنْ غَزَلِي ... وَكُنَّ يَهْوَيْنَنِي إِذْ كُنْتُ شَيْطَانَا وقيل: هم شياطين الإنس والجن. قال السدي: إن الشياطين كانوا يسترقون السَّمع، ثم يضمون إلى ما سمعوا أكاذيب يلقونها إلى الكَهَنَةِ، وقد دوّنها في كتب يقرءونها ويعلمونها الناس، وفشا ذلك في زمن سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقالوا: إن الجنّ تعلم الغيب، وكانوا يقولون: هذا علم سليمان، وما تم له ملكه إلاَّ بهذا العلم، سخّر الجن والإنس [والطير] والريح التي تجري بأمره. وأما القائلون بأنهم شياطين الإنس فقالواك روي أن سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان قد دفن كثيراً من العلوم التي خصّه الله تعالى بها تحت سرير ملكه حرصاً على أنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 إن هلك الظَّاهر منها يبقى ذلك المدفون، فلما مضت مدة على ذلك توصل قوم من المنافقين إلى أن كتبوا في خلال ذلك أشياء من السِّحْر تناسب تلك الأشياء من بعض الوجوه، ثم بعد موته واطّلاع الناس على تلك الكتب أوهموا الناس أنه من عمل سليمان، وأنه ما وصل إلى ما وصل إليه إلاّ بسبب هذه الأشياء. فصل في الباعث على نسبتهم السحر لسليمان إنما أضافوا السِّحْر إلى سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لوجوه: أحدها: أضافوه تفخيماً لشأنه، وتعظيماً لأمره، وترغيباً للقوم في قبول ذلك منهم. وثانيها: أن اليهود كانوا يقولون: إن سليمان إنما وجد ذلك الملك بسبب السّحر. وثالثها: أنه تعالى لما سخر الجن لسليمان، فكان يخاطلهم، ويستفيد منهم أسراراً عجيبة غلب على الظنون أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ استفاد السحر منه فقوله تعالى: «وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ» تنزيه له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن الكفر، وذلك بدلّ على أن القوم نسبوه إلى الكُفْرِ السحر، فروي عن بعض أَحْبَار اليهود أنهم قالوا: ألا تعجبون من محمد عليه الصَّلاة والسَّلام يزعم أن سليمان كان نبياً وما كان إلا ساحراً، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وروي أن السَّحرة من اليهود زعموا أنهم أخذوا السحر عن سليمان، فبرأه الله تعالى من ذلك، وبين أن الذي برأه الله منه لاصق بغيره، وهو قوله تعالى: «وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ» . هذه الواو عاطفة جملة الاستدراك على ماقبلها. وقرأ ابن عامر، والكسائي وحمزة بتخفيف «لكن» ورفع ما بعدها، والباقون بالتشديد، والنصب وهو واضح. وأما القراءة الأولى، فتكون «لكن» مخففة من الثقيلة جيء بها لمجرّد الاستدراك، وإذا خففت لم تعمل عند الجمهور ونٌقِل جواز ذلك عن يونس [والأخفش. وهل تكون عاطفة؟ الجمهور على أنها تكون عاطفة إذا لم يكن معها «الواو» ، وكان ما بعدها مفرداً وذه يونس] إلاَّ أنها لا تكون عاطفةً وهو قوي، فإنه لم يسمع في لسانهم: ما قام زيد لكن عمرو، وإن وجد ذلك في كتب النحاة فمن تمثيلاتهم، ولذلك لم يمثل بها سيبويه رَحِمَهُ اللهُ إلا مع الواو وهذا يدل على نفيه. وأما إذا وقعت بعدها الجمل فتارة تقترن بالواو، وتارة لا تقترن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 قال زهير: [البسيط] 695 - إنَّ ابْنَ وَرْقَاءَ لاَ تُخْشَى بَوَادِرُهُ ... لَكِنْ وَقَائِعُهُ في الحَرْبِ تُنتَظَرُ وقال الكسائي والفراء: الاختبار تشديدها إذا كان قبلها «واو» وتخفيفها إذا لم يكن، وهذا جنوح منهما إلى القول بكونها حرف عَطْف، وأبعد من زعم أنها مركّبة من ثلاثة كلمات: لا النافية، وكاف الخطابن وإن التي للإثبات، وإنما حذفت الهمزة تخفيفاً. قوله: «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» «الناس» مفعول أول، و «السِّحْر» مفعول ثان، واختلفوا في هذه الجملة على خمسة أقوال: أحدها: أنها حال من فاعل «كفروا» أي مُعَلِّمين. الثاني: أنها حال من الشياطين، وردّه أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى بأن «لكن» لا تعمل في الحال، وليس بشيء فإن «لكن» فيها رائحة الفعل. الثالث: أنها في محلّ رفع على أنها خبر ثان للشياطين. الرابع: أنها بَدَلٌ من «كفروا» أبدل الفعل من الفعل. الخامس: أنها استئنافية، أَخْبر عنهم بذلك، وهذا إذا أعدنا الضمير من «يعملون» على الشَّيَاطين. أما إذا أعدناه على «الذين اتَّبَعُوا ما تتلو الشَّياطين» فتكون حالاص من فاعل «اتبعوا» . أو استئنافية فقط. والسِّحْر: كلّ ما لَطف ودَقَّ سِحْرُهُ، إذا أَبْدَى له أمرأ يدقُّ عليه ويخفى. قال: [الطويل] 696 - ... ... ... ... ... . ... أَدَاءُ عَرَانِي مِنْ حُبَابِكِ أمْ سِحْرُ ويقال: سَحَرَهُ: أي خَدَعَهُ وعلَّله؛ قال امرؤ القيس: [الوافر] 697 - أَرَانَا مُوضِعِينَ لأَمْرٍ غَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بِالطَّعَامِ وبِالشَّرَابِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 أي: نُعَلَّلُ، وهو في الأصل: مصدر يقال: سَحَرَهُ سِحْراً، ولم يجىء مصدر ل «فَعَلَ» يَفْعَلُ على فِعْلٍ إلا سِحْراً وَفِعْلاً. والسَّحر بالنصب هو الغذاء لخائه ولطف مَجَاريه، والسّحر هو الرئة وما تعلق بالحُلْقُوم [ومنه قول عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها توفي رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بين سحري ونحري] وهذا أيضاً يرجع إلى معنى الخفاء. ومنه قوله تعالى: {إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين} [الشعراء: 153] {مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} [الشعراء: 154] ، ويحتمل أنه ذو سحر مثلنا. وقال تعالى: {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم} [الأعراف: 116] . وقال تعالى: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى} [طه: 69] ، والسّحر في عرف الشرع مختصّ بكل أمر يخفى سببه، ويتخيل على غير حقيقته، ويجري مجرى التَّمويه والخداع، وهو عند الإطلاق يذم فاعله، ويستعمل مقيداً فيما يمدح وينفع، فقال رسول الله صلى الله عليه «إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً» . فسمى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعض البيان سحراً؛ لأن صاحبه يوضح الشيء المشكل، ويكشف عن حقيقته بحسن بيانه، ويبلغ عبارته، فعلى [هذا] يكون قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً» خرج مخرج المدح. وقال جماعة من أهل العلم: خرج مخرج الذم للبلاغة والفصاحة، إذ شبهها بالسّحر يدلّ عليه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «فَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ بَعْضٍ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ أَبْغَضَكُمْ إلَيَّ الثَّرْثَارُونَ المُتَفَيْهِقُونَ» . [الثرثرة: كثرة الكلام وتردده، يقال: ثرثر الرجل فهو ثَرْثار مِهْذَار والمتفيهق نحوه] قال ابن دريد: فلان يتفيهق في كلامه إذا توسّعوتنطَع، قال: «وأصله الفَهْقُ، وهو الامتلاء كأنه ملأ به فمه» . قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وبهذا المعنى الذي ذكرناه فسره عامر الشعبي راوي الحديث وصعصعة بن صوحان، فقالا: أما قوله صلى لله عليه وسلم: «إنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْراً» ، فالرجل عليه الحق وهو ألحن بالحُجَج من صاحب الحقّ [فيسحر] القوم ببيانهن فيذهب بالحق، وهو عليه، وإنما يحمد العلماء البلاغة واللسان ما لم تخرج إلى جدّ الإسهاب والإطناب، وتصوير الباطل في صورة الحق. فإن قيل: كيف يجوز أن يسمى ما يوضح إظهار الحقّ سِحْراً، وهو إنما قصد إظهار الخفي لا إخفاء الظاهر، ولفظ السحر إنما يفيد الظاهر؟ فالجواب: إنما سمي السَحر سحراً لوجهين: الأول: أن ذلك القَدْر لِلُطْفه وحسنه استمال القلوب، فأشبه السّحر الذي يستميل القلوب من هذا الوجه. الثاني: أنَّ القادر على البيان يكون قادراً على تحسين ما يكون قبيحاً، وتقبيح ما يكون حسناً فأشبه السحر من هذا الوجه. فصل في ماهية السحر قال بعض العلماء: إن السِّحر تخيُّل لا حقيقة له، لقوله تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] . وقيل: إنه حقيقة؛ لأنَّ النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سحره لبيد بن الأعصم فإن السحر أخرج من بئر، وحلت عقوده، وكلما انحلت عقدة خفَّ عنه عليه السلام إلى أن سار كما نشط من عقال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 وذهب ابن عمر إلى «خيبر» ليخرص ثمرها فسحره بعض اليهود فانكشفت يده، فأجلاهم عمر رضي الله تعالى عنه وجاءت امرأة لعائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها فقالت: يا أم المؤمنين ما على المرأة إذا عقلت بيرها، فقالت عاشئة: ليس عليها شيء، فقالت: إني عقلت زوجي عن النساء، فقالت عائشة: أخرجوا عني هذه الساحرة. وأجابوا عن الآية بأنها لا تمنع بأنَّ من السحر ما هو تخيّل، وغير تخيل. فإن قيل: إن الله تعالى قال في حقَّه عليه السَّلام: «واللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ» فكيف أثر فيه السحرُ؟ فالجواب أن قوله تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] المراد به عصمة القلب والإيمان لا عصمة الجسد عما يرد عليه من الأمور الحادثة الدنيوية، فإنه عليه السلام قد سحر وكسرت رباعيته، ورُمي عليه الكرش والثرب، وآذاه جماعة من قريش. قال ابن الخطيب: السِّحر على أقسام: الأول: سحر الكلدانيين الذين كانوا في قديم الدهر يعبدون الكواكب، ويزعمون أنها هي المدبرة لهذا العالم، ومنها يصدر الخير والشر والفرح والسرور والسعادة والنحوسة، وهم الذين بعث الله تعالى إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مبطلاً لمقالتهم ورادًّا عليهم وهم ثلاث فرق: الاولى: الذين زعموا أن الأفلاك والكواكب واجبة في ذواتها، وأنه لا حاجة بها إلى موجد ومدبر وخالق، وهي المدبّرة لعالم الكون والفساد، وهم الصَّابئة الدهرية. والفريق الثاني: القائلون بإلاهية الأفلاك، وقالوا: إنها هي المؤثّرة للحوادث باستدارتها وتحرّكها، فعبدوها وعظّموها، اتخذوا لكل واحد منهما هيكلاً مخصوصاً وصنماً معيناً، واشتغلوا بخدمتها، فهذا دين عبدة الأصنام والأوثان. والفريق الثالث: الذين أثبتوا لهذه الأفلاك والنُّجوم فاعلاً مختاراً خلقها وأجدها بعد العدم إلاَّ أنهم قالوا: إن الله تعالى عَزَّ وَجَلَّ ّ أعطاهم قوة عالية نافذة في هذا العالم، وفوض تدبير هذا العالم إليها. النوع الثاني: سحر أصحاب الأَوْهَام، والنفوس القوية. النوع الثالث: الاستعانة بالأرواح الأرضية. واعلم أن القول بالجنّ مما أنكره بعض المتأخرين من الفلاسفة والمعتزلة. أما أكابر الفلاسفة فإنهم لم ينكروا القول به إلا أنهم سمّوها بالأرواح الأرضية، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 وهي في أنفسها مختلفة منها خيرة، ومنها شريرة، فالخيرة هم مؤمنو الجن، والشريرة هم كفار الجن وشياطينهم. النوع الرابع: التخيُّلات والأخذ بالعيون، وذلك أن أغلاط البَصَرِ كثيرة، فإن راكب السَّفينة ينظر السفينة واقفة والشَّط متحركاً، وذلك يدلّ على أن السَّاكن متحرك والمتحرك يُرَى ساكناً، والقطرة النازلة ترى خطّاً مستقيماً، والذّبالة التى تدار بسرعة ترى دائرة، والعنبة ترى فى الماء كبيرة كالأجَّاصة، والشخص الصغير يرى فى الضَّباب عظيماً. النوع الخامس: الأعمال العجيبة التى تظهر من تركيب الآلات على النُّصُب الهندسية مثل صورة فارس على فرس يده بُوق، فإذا مضت ساعة من النهار صوت بالبوق من غير أن يسمه أحد، ومثل تصاوير الروم على اختلاف أحوال الصور من كونها ضاحكة وباكية، حتى ييفرق فيها بين ضحك السرور، وضحك الخَجلِ، وضحك الشَّامت، وكان سحر سحرة فرعون من هذا الضرب، ومن هذا الباب تركيب صندوق السَّاعات، ويندرج فى هذا الباب علم جَرَّ الأثقال وهو أن يجر ثقلاً عظيماً بآلة خفيفة سهلة، وهذا فى الحقيقة لا ينبغي أن يعد من باب السحر؛ لأن لها أسباباً معلومة يقينية من اطّلع عليها قدر عليها. النوع السادس: الاستعانة بخواصّ الأدوية المبلّدة المزيلة للعقل والدّخن المسكرة. النوع السابع: تعليق القلب وهو أن يدعي السَّاحر أنه يعرف الاسم الأعظم، وأن الجن تطيعه، وينقادون له، فإذا كان السامع ضعيف العَقْل قليل التمييز اعتقد أنه حق، وتعلّق قلبه بذلك، وحصل فى نفسه نوع من الرُّعب والخوف، فحينئذ يُمكّن الساحر من أن يفعل به حينئذ ما شاء. فصل فى مذهب الشافعي فى السحر حكي عن الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه أنه قال: الساحر يخيل ويمرض ويقتل وأوجب القصاص على من يقتل به فهو من عمل الشيطان يتلقَّاه الساحر منه بتعليمه إيَّاه، فإذا تلقاه منه استعمله فى غيره. وقيل: إنه يؤثر فى قَلْبِ الأعيان، والأصح أن ذلك تخييل. قال: تعالى: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [طه: 66] ، لكنه يؤثر فى الأبدان بالأمراض والمت والجنون، وللكلام تأثير فى الطِّباع والنفوس، كما إذا سمع الإنسان ما يكره فيحمرّ [وربما يحمّ منه} ويغضب وقد مات قوم بكلام سمعوه فهو بمنزلة العلَل التي تؤثر فى الأبدان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 فصل فى خرق الساحر للعادات قال القرطبى رَحِمَهُ اللهُ تعالى: قال علماؤنا: لا ينكر أن يظهر على يد السّاحر خَرْقُ العادات مما ليس فى مقدور البشر من مرض وتفريق، وزوال عقل وتَعْويج عُضُو، إلى غير ذلك مما قام الدليل على استحالة كونه من مقدورات العباد. قالوا: ولا يعبد فى السِّحر أن يًسْتَدِقّ جسم السَّاحر حتى [يلج} فى الكُوَّات والانتصاب على رأس قَصَبَةٍ، والجري على خيط متسدق، والطيران فى الهواء، والمشي على الماء، وركوب كل وغير ذلك. ولا يكون السحر علة لذلك، ولا موجباً له، وإنما [يخلق] الله تعالى هذه الاشياء، ويحدثها عند وجود السحر، كما يخلق الشبع عند الأكل، والرِّي عند شرب الماء [روى سفيان عن عمار الدهنى أن ساحراً كان عند الوليد بن عقبة يمشي على الحبل، ويدخل فى اسْت الحمار، ويخرج من فيه، فاستل جندب السيف فقلته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 هذا هو جندب بن كعب الأسدي ويقال: البجلي وهو الذى قال فى حقه النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «يكُونُ فى أُمَّتي رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ جُنْدب يَضْرِبُ ضَرْبَةً بالسَّيْفِ يَفْرُقُ فيها بَيْنَ الحَقّ والبَاطِلِ» فكانوا يرونه جندباً هذا قاتل السّاحر. قال علي بن المديني: وروى عنه حراثة من مُضَرَّب] . فصل في إمكان السحر واختلف المسلمون في إمكان السحر، فأما المعتزلة فقد أنكروه أعنى: الأقسام الثلاثة الأولى ولعلهم كَفّروا من قال بها وبوجودها. أما أهل السّنة فقد جَوّزوا أ، يقدر الساحر على أن يطير فى الهواء، ويقلب الإنسان حماراً، والحمار إنساناً؛ إلاَّ أنهم قالوا: إن الله تعالى هو الخالق لهذه الأشياء عندما يقرأ الساحر كلماتٍ معينة، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 102] . وقد روي أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سُحِرَ، وأن السحر عمل فيه حتى قال: «إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إلَيَّ أنِّي أقُولُ الشَّيْءَ وَأَفْعَلُهُ وَلَمْ أَفْعَلْهُ» . وأن امرأة يهودية سحرته، وجعلت ذلك السحر تحت رَاعُونَةِ البئر، فلما استخرج الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 ذلك زال عن النبى صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك العارض، ونزلت المُعَوِّذَتَان بسببه. وروي أن امرأة أتت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها: فقالت لها: إني ساحرة فهل لي من توبة؟ فقالت عائشة: وما سحرك؟ فقالت: صرت إلى الموضع الذي فيه هاروت وماروت ب «بابل» أطلب علم السحر، فقالا لي: يا أمة الله لا تختاري عذاب الآخرة بأمر الدنيا فأبيت، فقالا لي: اذهبي فَبُولِي على ذلك الرماد، فذهبت لأبول عليه ففكرت في نفسي فقلت لا أفعله وجئت إليهما فقلت قد فعلت، فقالا لي ما رأيت لما فعلت؟ فقلت: ما رأيت شيئاً فقالا لي: أ، ت على رأس أمر، فاتقي الله ولا تفعلي فأبيت فقالا لي: اذهبي فافعلي فذهبت ففعلت، فرأيت كأن فارساً مقنّعاً بالحديد قد خرج من فرجي، فصعد إلى السماء فجئتهما فأخبرتهما فقالا: إيمانك قد خرج عنك، وقد أحسنت السحر. فقلت: وما هو؟ قالا: ما تريدين شيئاً فَتُصَوّريه فى وَهْمك إلا كان، فصورت في نفسي حباً من حِنْطة فإذا أنا بحبّ فقلت: ازرع فانزرع، فخرج من ساعته سُنْبُلاً فقلت: انطحن من ساعته، فقلت: انخبز فانخبز، وأنا لا أريد شيئاً أصوره فى نفسي إلا حصل، فقالت عائشة: ليس لك توبة. فصل فى أنّ معجزات الله ليست من قبيل السّحر قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أجمع المسلمون على أنه ليس من السحر ما يفعل الله عند إنزال الجراد والقمل، والضفادع، وفلق البحر، وقلب العصا، وإحياء الموتى، وإنطاق العَجْمَاء وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام، والفرق بين السحر والمعجزة أن السحر يأتي بن الساحر وغيره، وقد يكون جماعة يعرفونه، ويمكنهم الإتيان به فى وقت واحد، والمعجزة لا يمكن الله أحداً أن يأتي بمثلها. فصل في أن العلم بالسحر ليس بمحظور قال ابن الخطيب: اتفق المحققون على أن العلم بالسحر ليس قبيحاً ولا بمحظور؛ لأن العلم لذاته شريف وأيضاً لقوله تعالى: «هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ» [الزمر: 9] ولأن الساحر لو لم يكن يعلم لما أمكن الفرق بين وبين المُعْجزة، والعلم بكون المعجز معجزاً واجب، [وما يتوقّف الواجب عليه فهو واجب، فهذا يقتضي أن يكون تحصيل العلم بالسحر واجباً، وما يكون واجباً] كيف يكون حراماً وقبيحاً. [ونقل بعضهم وجوب نقله عن المفتي حتى يعلم ما يقتل فيه وما لا يقتل فيفتي به وجوب القصاص] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 فصل في أمور لا تكون من السرح ألبتة قد تقدم عن القرطبي قوله: أجمع المسلمون على أنه ليس فى السحر ما يفعل الله عند إنزال الجراد والقمل والضفادع وفلق البحر وقلب العصا وإحياء الموتى [وإنطاق العجاء] ، وأمثال ذلك من عظيم آيات الرسل عليهم السلام فهذا ونحوه مما يجب القطع بأنه لا يكون، ولا يفعله الله عند إرادة الساحر. قال القاضي أبو بكر بن الطيب: وإنما منعنا ذلك بالإجماع، ولولاه لأجزناه نقله القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى فى تفسيره، وأورد عليه قوله تعالى عن حبال سحرة فرعون وعصيهم: {يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى} [66] ، فأخبر عن إقلاب العِصِيّ والحبال بأنها حيّات. فصل فى أن الساحر كافر أم لا؟ اختلف العلماء فى الساحر هل يكفر أو لا؟ اعلم أنه لا نزاع في أن من اعتقد أن الكواكب هي المدبّرة لهذا العالم، وهي [الخالقة] لما فيه من الحوادث، فإنه يكون كافراً مطلقاً، وهو النوع الأول من السحر. وأما النوع الثاني: وهو أن يعتقد [أن الإنسان تبلغ روحه] فى التصفية والقوة إلى حيث يقدر بها على إيجاد الأجسام والحياة والقدرة وتغيير البِنْيَةِ والشكل، [فالظاهر] إجماع الأمة أيضاً على تكفيره. وإما النوع الثالث: وهو أن يعتقد السَّاحر أنه [بلغ] فى التصفية وقراءة الرّقى وتدخين بعض الأدوية إلى حيث يخلق الله تعالى عقيب أفعاله على سبيل خرق العادة الأجسام والحياة والعقل وتغيير البنية والشكل، والمعتزلة كفروه وغيرهم لم يكفروه. فإن قيل: إن اليهود لما أضافوا السِّحر إلى سليمان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال الله تعالى تنزيهاً له عنهك {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ} [البقرة: 102] فظاهر الآية يقتضي أنهم كفروا لأجل أنهم كانوا يعلمون السحر؛ لأن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، وتعليم ما لا يكون كفراً لا يوجب الكفر، وهذا يقتضي أنّ السحر على الإطلاق كفر، وأيضاً قوله: «عَلَى المَلَكَيْنِ» {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} [البقرة: 102] . قلنا: حكاية الحال يكفي في صدقها صورة واحدة، فيحمل على سحر من يعتقد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 إلاهية النجوم وأيضاً فلا نسلم أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بالعلّية، بل المعنى أنهم كفروا، وهم مع ذلك يعلمون السحر. فصل فى سؤال الساحر حلّ السحر ع المسحور قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هل يسأل الساحر حل السحر عن المسحور؟ اختلفوا: قال سعيد بن المسيّب: يجوز. ذكره «البخاري» ، وإليه مال المزني، وكرهه الحسن البصري. وقال الشعبي: لا بأس بِالنُّشْرَةِ. قال ابن بَطّال: وفى كتاب وهب بن منبه: أن يأخذ سبع ورقات من سِدْرٍ أخضر ويدقه بين حَجَرين، ثم يضربه بالماء، ويقرأ عليه آية الكرسي ثم يحسو منه ثلاث حسوات ويغتسل به، فإنه يذهب عنه كلّ ما به إن شاء الله تعالى، وهو جيّد للرجل إذ حُبِسَ عن أهله. فصل في أن الساحر هل يتقل أم لا؟ هل يجب قتل الساحر أم لا. أما النوعان الأولان فلا شكّ في [قتل] معتقدهما. قال ابن الخطيب: يكون كالمرتد يُسْتَتَاب فإن أصر قتل. وروي عن مالك وأبي حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْهما توبته. لنا أنه إن أسلم فيقبل إسلامه لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «نَحْنُ نَحْكُمُ بِالظَّاهِرِ» . وأما النوع الثالث: فإن اعتقد أن إتيانه به مباح كفر؛ لأن حكم على المحظور بكونه مباحاً، وإن اعتقد حرمته، فعند الشَّافعي رضي الله عه حكمه حكم الجِنَاية، إن قال: إني سحرته وسحري يَقْتُلُ غالباً، يجب عليه القَوَدُ. وإن قال: سحرته وسحري قد يقتل وقد لا يقتل، فهو شبه عمد. وإن قال: سحرت غيره فوافق اسمه فهو خطأ يجب عليه الدِّيَةُ مخففة في ماله؛ لأنه ثبت بإقراره إلاّ أن تصدقه العاقلة، فجينئذ يجب عليهم. هذا تفصيل مذهب الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه. وروى الحسن بن زياد عن أبى حنيفة رَحِمَهُ اللهُ أنه قال يقتل السَّاحر إذا علم أنه ساحر، ولا يستتاب ولا يبقل قوله: إني أترك السحر وأتوب منه، فإذا أقر أنه ساحر فقد حلّ دمه، وإن شهد شاهدان على أنه ساحر أو وصفوه بصفة يعلم أنه ساحر قتل ولا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 يُسْتَتَاب، وإن أقر بأني كنت أسحر مرة، وقد تركت ذلك منذ زمان قبل منه، ولم يقتل. وحكى محمد بن شجاع عن علي الرازي قال: سألت أبا يوسف عن قول أبي حنيفة فى السَّاحر: يقتل ولا يُسْتَتَاب لم يكن ذلك بمنزلة المرتد، فقال الساحر جمع مع كفره السعي فى الأرض بالفساد، ومن كان كذلك إذا قَتَل قُتل. واحتج أصحاب الشافعي بأنه لما ثبت أن هذا النوع ليس بكفر، فهو فسق، فإن لم يكن جناية على حق الغير كان فيه التفضيل المتقدم. وأيضاً فإن ساحر اليهود لا يقتل؛ لأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سحره رجل من اليهود يقال له: لبيد من أعصم، وامرأة من يهود «خيبر» يقال لها: زينب فلم يقتلهما، فوجب أن يكون المؤمن كذلك لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَهُمْ مَا لِلْمُسْلِمِينَ وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى المُسْلِمِينَ» . واحتج أبو حنيفة بما روى نافع عن ابن عمر رضى الله عنه أن جارية لحفصة سرحتها، وأخذوها فاعترفت بذلك فأمرت عبد الرحمن بن زيد، فقلتها فبلغ ذلك عثمان، فأنكره فأتاه ابن عمر وأخبره أمرها فكأن عثمان إنما أنكر ذلك، لأنها قتلت بغير إذن، وبما روى عمرو بن دينار أن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: «اقتلوا كل ساحر وساحرة فقتلنا ثلاث سَوَاحر» . والجواب: لعل السحرة الذين قتلوا كانوا من الكفرة، فإن حكاية الحال تكفي في صدقها صورة واحدة، وأما بقية [أنواع] السحر من الشَّعْوذة، والآلات العجيبة المبينةن على النسب الهندسية، وأنواع التخويف، والتقريع والوهم، فكل ذلك ليس بكفر، ولا يوجب القتل. قوله: «وَمَا أُنْزِلَ» فيه أربعة أقوال: أظهرها: أن «ما» موصولة بمعنى «الذي» محلّها النصب عطفاً على «السحر» ، والتقدير: يعلّمون الناس السحر، واتلنزل على الملكين. الثاني: أنها موصولة أيضاً، ومحلها النصب لكن عطفاً على «مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ» ، والتقدير: واتبعوا ما تتلو الشياطين، وما أنزل على الملكين. وعلى هذا فما بينهما اعتراض، ولا حاجة إلى القول بأن في الكلام تقديماً وتأخيراً. الثالث: أن «ما» حرف نفي، والجملة معطوفة على الجملة المفنية قَبْلَها، وهي «وما كفر سُلَيْمَان» والمعنى: وما أنزل على الملكين إباحة السحر. قال القرطبي: و «ما» نافية، والواو للعطف على قوله: [ «وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ» ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 وذلك أن اليهود قالوا: إن الله أنزل جبريل، وميكائيل بالسحر، فنفى الله ذلك. وفي الكلام تقديم وتأخير والتقدير: وما كفر سليمان] ، وما أنزل على الملكين، ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السِّحر ببابل هَارُوت وماروت، فهاروت وماروت بدل من الشَّيَاطين فى قوله: «وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَُوا» قال: وهذا أولى ولا يلتفت إلى سواه، فالسحر استخراج الشياطين للطافة جوهرهم، وأكثر ما يتعاطاه من الإنس النساء، وخاصة فى حالة طَمْثهن؛ قال الله تعالى: {وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد} [الفلق: 4] . فإن قيل: كيف يكون اثنان بدلاً من الجميع والبدل إنما يكون على حد المبدل منه؟ فالجواب من وجوه ثلاثة: الاول: أن الاثنين قد يطلق عليهما اسم الجمع؛ كما قال تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11] . الثاني: أنهما لما كانا الرأس في التعليم نصّ عليهما دون اتباعهما كقوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} [المدثر: 30] . الثالث: إما خُصَّا بالذكر من بينهم لتمرّدهما، كتخصيصه تعالى النخل [والرمان] فى قوله: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن؛68] فقد ينص على بعض أشخاص العموم إما لشرفه؛ كقوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي} [آل عمران: 68] وإما لطيبه كقوله: {فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} وإما لأكثريته؛ كقوله صلى الله عليه سلم: «جُعِلَتْ لِيَ الأَرْضُ مَسْجِداً وَتُرَابُهَا طَهُوراً» وإما لتمردهم كهذه الآية. الرابع: أن محلّها الجر عطفاً على «ملك سليمان» ، والتقدير: افتراء على ملك سليمان وافتراء على ما أنزل على الملكين، وهو اختيار أبي مسلم. وقال أبو البقاء: «تقديره» وعلى عهد الّذي أنزل. واحتج أبو مسلم: بأن السحر لو كان نازلاً عليهما لكان مُنْزله هو الله تعالى، وذلك غير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 جائز، كما لا يجوز في الأنبياء أن يبعثوا السِّحر، كذلك في الملائكة بطريق الأولى. وأيضاً فإن تعليم السحر كفر بقوله تعالى: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر} . وأيضاً فإنما يضاف السحر إلى الكفرة والمردة، فكيف يضاف إلى الله تعالى ما ينهى عنه؟ والمعنى: أن الشياطين نسبوا السحر إلى ملك سليمان مع أن ملك سليمان كان مبرأ عنه، فكذلك نسبوا ما أنزل على الملكين إلى السحر، مع أن المنزل عليهما كانا مبرّأين عن السحر؛ لأن المنزل عليهما هو الشرع والدين، وكانا يعلمان الناس ذلك مع قولهما: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} توكيداً لبعثهم على [قبوله] والتمسّك به، فكانت طائفة تتمسّك، وأخرى تخالف. قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والأول أولى؛ لأن عطف «وَمَا أُنْزِلَ» على ما يليه أولى من عطفه على مابعد عنه إلا لدليل، أما قوله: «لو كان منزلاً عليهما لكان مُنَزِّلهُ هو الله تعالى» . قلنا: تعريف صفة الشيء قد يكون لأجل الترغيب فى إدخاله في الوجود، وقد يكون لأجل أن يقع الاحتراز عنه؛ قال: [الهزج] 698 - عَرَفْتُ الشَّرَّ لا لِلشَّرْرِ ... لَكِنُ لِتَوَقِّيهِ وقوله: لا يجوز بعثة الأنبياء [لتعليم السحر، فكذا الملائكة] . قلنا: الغرض من ذلك التعليم التَّنبيه على إبطاله. وقوله: «تعليم السِّحْر كفر» . قلنا: إنه واقعة حال فيكفي في صدقها سورة واحدة. وقوله: يضاف السحر للكفرة والمردة. قلنا: فرق بين العمل والتعليم، فيجوز أن يكون العمل منبهاً عنه، والتعليم لغرض التنبيه على فساده فلا يكون مأموراً به. والجمهور على فتح لام «المَلَكين» على أنهما من الملائكة. وقرأ ابن عباس وأبو الأسود والحسن والضحاك بكسرها على أنهما رجلان من الناس، وسيأتي تقريره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 قوله: «بِبَابِلَ» متعلق ب «أنزل» ، والباء بمعنى «في» أي: في «بابلط. ويجوز أن يكون فى محلّ نصب على الحال من المَلَكين، أو من الضمير في» أنزل «فيتعلق بمحذوف. ذكر هذين الوجهين أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ. و» بابل «لا ينصرف للعُجْمة والعلمية، فإنها اسم أرض، وإن شئت للتأنيث والعلمية وسميت بذلك قيل: لِتَبَلْبُلِ السنة الخلائق بها، وذلك أن الله تعالى أمر ريحاً، فحشرتهم بهذه الأرض، فلم يدر أحد ما يقول الآخر، ثم فرقتهم الريح في البلاد فتكلم كل واحد بلغة، والبَلْبَلَة التفرقة. وقيل: لما أُهْبِط نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ نزل فبنى قرية، وسماها» ثمانين «، فأصبح ذات يوم وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة. وقيل: لتبلبل ألسنة الخلق عند سقوط صرح نمرود. وهي بابل» العراق «. وقال ابن مسعود:» بابل «أرض» الكوفة «. وقيل:» جبل نهاوَند «. قوله:» هَارُوتَ وَمَارُوتَ «الجمهور على فتح تائها. واختلف النحاة في إعرابها، وذلك مبني على القراءتين في» الملكين «، فمن فتح لام» الملكين «، وهم الجمهور كان في هاروت وماروت أربعة أوجه: أظهرها: أنها بدل من» الملكين «، وجُرَّا بالفتحة لأنهما ينصرفان للعجمة والعلمية. الثاني: أنهما عطف بيان لهما. الثالث: أنهما بدل من» الناس «في قوله تعالى: يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ» وهو بدل بعض من كل، أو لأن أقل الجمع اثنان. الرابعك أنهما بدل من «الشياطين» في قوله: «ولكن الشياطين كفروا» في قراءة من نصب، وتتوجيه البدل كما تقدم. وقيل: هاروت وماروت اسمان لقبيلتين من الجن، فيكون بدل كل من كل، والفتحة على هذين القولين اللنصب. وأما من قرأ برفع «الشياطين» ، فلا يكون «هاروت وماروت» بدلاً منهم، بل يكون منصوباً في هذا القول على الذم أي: أذم هاروت وماروت من بين الشياطين كلها؛ كقوله: [الطويل] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 699 - أقَارعُ عَوْشفٍ لا أُحَاوِلُ غَيْرَهَا ... وُجُوهَ قُرُودٍ تَبْتَغِي مَنْ تُجَادِعُ أي: أذم وجود قرود، ومن كسر لامهما، فيكون بدلاً منهما كالقول الأول إلاَّ إذا فسر الملكان بداود وسليمان عليهما الصلاة والسلام كما ذكره بعض المفسرين، فلا يكونان بدلاً منهما، بل يكونان متعلّقين بالشياطين على الوجيهن السَّابقين في رفع الشياطين ونصبه، أو يكونان بدلاً من «الناس» كما تقدم. وقرأ الحسن «هَارُوتُ وماروتُ» برفعهما، وهما خبر لمبتدأ محذوف أي: هما هاروت وماروت، ويجوز أن يكون بدلاً من «الشياطين» الأولى وهو قوله: «ما تَتْلُو الشياطين» ، أو الثاني على قراءة من رفعه. ويُجْمَعَان على هَوَاريت ومَوَاريت، وهَوَارتة ومَوَارتة، وليس من زعم اشتقاقهما من الهَرْتِ والمَرْتِ وهو الكسر بمصيب لعدم انصرافهما، ولو كانا مشتقّين كما ذكر لانصرفا. فصل في توجيه قراءة فتح اللام أما القرءاة بفتح لام «الملكين» ، فقيل: هما ملكان من السماء اسمهما هاروت وماروت. وقيل: هما جبريل وميكائيل عليهما الصلاة والسلام. وقيل غيرهما. وأما من كسر اللام فقيل: إنهما اسم لقبيلتين من الجن. وقيل: هما داود وسليمان عليهما الصلاة والسلام. وقيل: هما رجلان صالحان. وقيل: كانا رجلين ساحرين. وقيل: كانا علجين أقنعين ب «بابل» يعلمان الناس السحر. قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} هذه الجملة عطلف على ما قبلها، والجمهور على «يُعَلِّمَان» مضعفاً. واختلف فيه على قولين: أحدهما: أنه على بابه من التعليم. والثاني: أنه بمعنى يعلمان من «أعلم» ، فالتضعيف والهمزة متعاقبان. قالوا: لأن المَلَكين لا يعلمان الناس السحر، إنما يُعْلِمانِهِمْ به، ويَنْهَيَانِهِم عنه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 وإليه ذهب طحلة بن مصرف، وكان يقرأ «يُعْلِمَان» من الأعلام. ومن حكى أن تَعَلَّمْ بمعنى «اعْلَم» ابنُ الأعرابي، وابن الأنباريِّ؛ وأنشدوا قول زُهَيْر: [البسيط] 700 - تَعَلَّمَنْ هما لَعَمْرُ اللهِ ذا قَسَماً ... فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أَيْنَ تَنْسَلِكُ؟ وقول القُطَامِيُّ: [الوافر] 701 - تَعَلَّمْ أَنَّ بَِعْدَ الْغَيِّ رُشْداً ... وَأَنَّ لِذَلِكَ الغَيِّ انْقِشَاعَا وقول كعب بن مالك: [الطويل] 702 - تَعَلَّمْ رَسُولَ اللهِ أَنَّكَ مُدْرِكِي ... وَأَنَّ وَعِيداً مِنْكَ كَالأَخْذِ بِالْيَدِ وقول الآخر: [الوافر] 703 - تَعَلَّمْ أَنَّهُ لاَ طَيْرَ إِلاَّ ... عَلَى مُتَطَيِّرٍ وَهُوَ الثُّبُورُ والضيمر في «يعلمان» فيه قولان: أحدهما: أنه يعود على هاروت وماروت. والثانيى: أنه عائد على [الملكين، ويؤيده قراءة أُبَيّ بإظهار الفاعل: «وَمَا يُعَلِّم الملكان» . والأول هو الأصح؛ لأن الاعتماد إنما هو على البدل] دون المبدل منه، فإنه في حكم المطَّرح، فمراعاته أولى؛ تقول: «هِنْدٌ حُسْنُهَا فَاتِنٌ» ولا تقول: «فَاتِنَةٌ» مراعاة لِهِنْد، إلاّ في قليل من الكلام؛ كقوله: [الكامل] 704 - إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّهَا ورَواحَهَا ... تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأَعْضَبِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 وقال الآخر: [الكامل] 705 - فَكَأَنَّهُ لَهِقُ السَّراة كَأَنَّهُ ... مَا حَاجِبَيْهِ مُعَيَّنٌ بِسَوادِ فراعى المُبْدَلَ منه في قوله: «تَرَكَتْ» ، وفي قوله: «مُعَيَّن» ، ولو راعى البَدَل، وهو الكثير، لقال «تَرَكَا» و «مُعَيَّنَان» ؛ كقول الآخر: [الطويل] 706 - فَمَا كَانَ قَيْسُ هُلْكُهُ هُلْكَ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا ولو لم يراع البدل للزم الإخبار بالمعنى عن الجُثَّة. وأجاب أبو حيان عن البيتين بأن «رَوَاحها وغدوها» منصوب على الظرف، وأن قوله: «مُعَيَّن» خبر عن «حَاجِبَيْهِ» ، وجاز ذلك؛ لأن كل اثنين لا يغني أحدهما عن الآخر، يجوز فيهما ذلك؛ قال: [الهزج] 707 - ... ... ... ... ... ... ... ..... بِهَا الَيْنَان تَنْهَلُّ وقال: [الكامل] 708 - لَكَأَنَّ فِي الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أَوْ سُنْبُلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ ويجوز عكسه؛ قال: [الطويل] 709 - إِذَا ذَكَرَتْ عَيْنِي الزَّمَانَ الّّذِي مَضَى ... بِصَحْرَاءَ فَلْجٍ ظَلَّتَا تِكِفَانِ و «من» زائدة لتأكيد الاستغراق لا للاستغراق؛ لأن «أحداً» يفيده بخلاف: «ما جاء من رجل» فإنها زائدة للاستغراق. و «أحد» هنا الظاهر أنه الملازم للنفي، وأنه الذي همزته أصل بنفسها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 وأجاز أبو القاء أن يكو بمعنى واحد، فتكون همزته بدلاً من الواو. فصل فيمن قال بأنهما ليسا من الملائكة القائلون بأنهما ليسا من الملائكة احتجوا بأن الملائكة عليهم السلام لا يليق بهم تعليم السحر، وقالوا: كيف يجوز إنزال الملكين مع قوله: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر} [الأنعام: 8] . وأيضاً لو أنزل الملكين، فإما أن يجعلهما فى صورة الرجلين، أو لا يجعلهما كذلك، فإن جعلهما في صورة الرجلين مع أنهما ليسا برجلين كان ذلك تجهيلاً وتلبيساً على الناس وهو لا يجوز، ولو جاز ذلك فلم لا يجوز أن كل واحد من الناس الذي تشاهدهم أنه لا يكون الحقيقة إنساناً، بل يكون ملكاً ن الملائكةن؟ وإن لم يجعلهما في صورة الرجلين قدح ذلك في قوله تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام: 9] . وأجاب القائلون بأنهما من الملائكة عن الأول بأنا سنبين وجه الحكمة في إنزال [الملكين] لتعليم السحر وعن الثاني: بأن هذه الآية عامة، [وقراءة المَلَكين بفتح اللام متواتورة وتلك] خاصة والخاص مقدم على العام. وعن الثالث: أن الله تعالى أنزلهما في صورة رَجُلين، كان الواجب على الملكين في زمان الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أن يقطعوا على من صروته صورة الإنسان بكونه إنساناً، كما أنه في زمان الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كانالواجب على من شاهد حية الكَلْبي ألاَّ يقطع بكونه من البشر، بل الواجب التوقف فيه. فصل في فساد رواية الزهرة رووا قصة الزُّهَرة وما جرى لها الملكين. ولهم في الزهرة قولان: أحدهما: أنها الكوكب المعروف. والثاني: أنها من بنات آدم ومسخت إلى هذا الكوكب. وقيل: مسخت بها. قال ابن الخطيب: وهذه الرواية فاسدة مردودة؛ لأنه ليس في كتاب الله تعالى مايدل عليها، بل فيه ما يبطلها من وجوه: الأول: الدلائل الدالة على عِصْمَةِ الملائكة عليهم السلام من كل المعاصي. الثاني: أن قولهم: إنهما خُيِّرا بَيْن عذاب الدنيا، وبين عذاب الآخرة فاسد، بل كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 الأولى أن يُخَيَّرا بَيْنَ التوبة والعذاب؛ لأن الله تعالى خير بينهما من أشرك به طول عمره، فكيف يبخل عليهما بذلك؟ الثالث: أن من أعجب الأمور قوله: أنهما يعلمان السحر في حال كونهما معذبين، ويدعوان إليه، وهما يعاقبان [ولما ظهر فساد هذا القول فنقول: السبب] في إنزالهما وجوه: أحدها: أن السحرة كثرت في ذلك الزمان، واستنبطت أبواباً غريبة من السحر، وكانوا يَدَّعُون النبوة، ويتحَدَّون الناس بها، فبعث الله تعالى هذين الملكين لأَجْلِ أن يعلّما الناس أبواب السِّحر حتى يتمكّنوا من معارضة أولئك الذين كانوا يدعون النبوة كذباً، ولا شك أن هذا من أحسن الأغراض والمقاصد. وثانيها: أن العلم بكون المعجزة مخالفة للسّحر متوقّف على العلم بماهية المعجزة، وبماهية السحر، والناس كانوا جاهلين بماهية السِّحر، فلا جرم تعذّرت عليهم معرفة حقيقة المعجزة، فبعث الله تعالى هذين الملكين لتعريف ماهية السحر لأجل هذا الغرض. وثالثها: لا يمتنع أن يقال: السحر الذي يوقع الفرقة بين أعداء الله، والألفة بين أولياء الله كان مباحاً عندهم، أو مندوباً، فالله تعالى بعث مَلَكين لتعليم السِّحر لهذا الغرض، ثم إن القوم تعلموا ذلك منهما، واستعملوه في الشر، وإيقاع الفُرْقة بين أولياء الله، والألفة بين أعداء الله. ورابعها: أن تحصيل العلم بكل شيء حسن، ولما كان السِّحر منهياً عنه وجب أن يكون متصوراً معلوماً؟ لأن الذي لا يكون متصوراً يمتنع النهي عنه. وخامسها: لعل الجن كان عندهم أنواع من السحر لم يقدر البشر على الإتيان بمثلها، فبعث الله الملائكة ليعلموا البشر أموراً يقدرون بها على معارضة الجن. وسادسها: يجز أن يكون ذلك تشديداً في التكليف من حيث إنه إذا علمه ما أمكنه أن يتوصّل به إلى اللَّذات العاجلة، ثم منعه من استعمالها كان ذلك في نهاية المشقّة، فيستوجب به الثواب الزائد، كما ابتلي قوم طالوت بالنهر على ما قال: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} [البقرة: 249] فثبت بهذه الوجوه أنه لا يبعد من الله تعالى إنزال الملكين لتعليم السّحر، والله أعلم. فصل في زمن وقوع هذه القصة. قال بعضهم: هذه الواقعة إنما وقعت في زمان إدريس عليه الصَّلاة والسلام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 قوله: {حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ} . «حتى» : حرف غاية ونصب، وهي هنا بمعنى «إلى» ، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» ولا يجوز إظهارها، وعلامة النصب حذف النوت، والتقدير: إلى أن يقولا وهي متعلقة بقوله: «وَمَا يُعَلِّمَانِ» ، والمعنى أنه ينتفي تعليمهما أو إعلامهما على ما مضى من الخلاف إلى هذه الغاية، وهي قولهم: {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ} . وأجاز أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ أن تكون «حتى» بمعنى «إلا» قال: والمعنى: وما يعلمان من أحد إلاّ أن يقولا وهذا الذي أجاز لا يعرف عن أكثر المتقدمين، وإنما قاله ابن مالك؛ وأنشد: [الكامل] 710 - لَيْسَ الْعَطَاءُ مِنَ الْفُضُولِ سَمَاحَةً ... حَتَّى تَجُودَ وَمَا لَدَيْكَ قَلِيلُ قال: تقديره: إلا أن تجُودَ. و «حتى» تكون حرف جر بمعنى «إلى» كهذه الآية، وكقوله: {حتى مَطْلَعِ الفجر} [القدر: 5] ، وتكون حرف عطف، وتكون حرف ابتداء فتقع بعدها الجمل؛ كقوله: [الطويل] 711 - فَمَا زَالَتِ الْقَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا ... بِدَجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دَجْلَةَ أَشْكَلُ والغاية معنى لا يفارقها في هذه الأحوال الثلاثة، فلذلك لا يكون ما بعدها إلا غاية لما قبلها: إما في القوة، أو الضعف، أو غيرهما، ولها أحكام أُخر ستأتي إن شاء الله تعالى. و «إنما» مكفوفة ب «ما» الزائدة، فلذلك وقع بعدها الجملة، وقد تقدم أن بعضهم يجيز إعمالها، والجملة في محلّ نصب بالقول، وكذلك: «فَلاَ تَكْفُر» . فصل في المراد بالفتننة المراد هاهنا بالفتنة المحنة التي بها يتيمز المطيع عن العاصي، كقولهم: فتنت الذهب بالنار أذا عرض على النار ليتميز الخاصّ عن المشوب، وقد بَيّنا الحكمة في بعثة الملكين لتعليم السحر. فالمراد أنهما لا يعلمان أحداً السحر ولا يصفانه عن المشوب، وقد بَيْنا الحكمة في بعثة الملكين لتلعيم السحر. فالمراد أنهما لا يعلمان أحداً السحر ولا يصفانه لأحد، ولا يكشفان له وجوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 الاحتيال حتى يبذلا له النَّصيحة فيقولا له: «إِنَّمَا نَحْنُ فَتْنَةٌ» أي: هذا الذي نصفه لك، وإن كان الغرض منه أن يتميز به الفرق بين السحر عن المعجزة، ولكنه يمكنك أن تتوصّل به إلى المفاسد والمعاصي، فإياك أن تستعمله فيما نهيت عنه، أو تتوصل به إلى شيء من الأعراض العاجلة. قوله تعالى: «فَيَتَعَلَّمُونَ» في هذه الجملة سبعة أقوال: أظهرها: أنها معطوفة على قوله تعالى: «وما يعلمان» والضمير في «فيتعلّمون» عائد على «أحد» ، وجمع حملاً على المعنى، كقوله تعالى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] . فإن قيل: المعطوف عليه منفي، فيلزم أن يكون «فيتعلّمون» منفياً أيضاً لعطفه علبيه، وحينئذ ينعكس المعنى. فالجواب ما قالوه، وهو أن قوله: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ} ، وإن كان منفياً لفظاً فهو موجب معنى؛ لأن المعنى: يعلمان الناس السحر بعد قولهما: إنما نحن فتنة، وهذا الوجه ذكره الزجاج وغيره. الثَّاني: أنه معطوف على «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السَّحْر» قاله الفراء. وقد اعترض الزجاج هذا القول بسبب لفظ الجمع في «يعلمون» مع إتيانه بضمير التثنية في «منهما» يعنى: فكان حقه أن يقال: «منهم» لأجل «يعلمون» وأجازه [أبو علي] وغيره، وقالوا: لا يمتنع عطف «فيتعلمون» على «يعلِّمون» ، وإن كان التعليم من الملكين خاصّة، والضمير في «منهما» راجع إليهما، فإن قوله: «منهما» إنما جاء بعدم تقدّم ذكر المَلَكَيْنِ. وقد اعترض على قول الفراء من وجه آخر: وهو أنه يلزم منه الإضمار قبل الذكر، وذلك أن الضمير في «منهما» عائد على الملكين، وقد فرضتم أن «فيتعلمون منهما» عطف على «يعلمون» ، [فيكن التقدير: «يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ فَيَتَعَلَّمُونَ منهما» ] فيلزم الإضمار في «منهما» قبل ذكر المَلَكيْن، وهو اعتراض وَاهٍ فإنهما متقدمان لفظاً، وتقدير تأخرهما لا يضرّ؛ إذ المحذور عَوْدُ الضمير على غير مذكور في اللفظ. الثالث: وهو أحد قولي سيبويه أه عطف على «كفروا» ، فعل في موضع رفع، فلذلك عطف عليه فعل مرفوع. قال سيبويه: [وارتفع] «فيتعلمون» ؛ لأنه لم يُخْبِرْ عن الملكين أنهما قالا: لا تكفر فيتعلموا ليَجْعَلا كفره سبباً لتعلم غيره، ولكنه على: كفروا فيتعلمون، وشَرْحُ ما قاله هو أنه يريد أن ليس «فيتعلمون» جواباً لقوله: فلا تكفر فيتنصب في جواب النهي، كما النصب: {فَيُسْحِتَكُم} [طه: 61] ، بعد قوله: «لاَ تَفْتَرُوا» لأن كُفْرَ من نهياه أن يكفر ليس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 سبباً لتعلّم من يتعلم. واعترض على هذا بما تقدّم من لزوم الإضمار قبل الذكر، وتقدم جوابه. الرابع: وهو القول الثاني ل «سيبويه» أنه خبر مبتدأ محذوف، والتقديرك «فهم يتعلمون» ، فعطف جلمة اسمية على فعلية. الخامس: قال الزَّجَّاج أيضاً: والأجود أن يكون معطوفاً على «يعلّمان فيتعلّمون» فاستغني عن ذكر «يعلمون» على ما في الكلام من الدليل عليه [واعتراض أبو علي قول الزجاج؛ فقال: «لا وجه لقوله: اسغني عن ذلكر» يعلمان «؛ لأنه موجود في النص» . وهذا الاعتراض من أبي علي ت حامل عليه لسبب وقع بينهما؛ فإن الزجاج لم يرد أن «فيتعلمون» عطف على «يعلمان» المنفي ب «ما» في قوله: «وما يعلمان» حتى يكون مذكوراً في النص، وإنما أراد أن ثم فعلاً مضمراً يدل عليه قوة الكلام وهو: «يعلمان فيتعلمون» ] . السَّادس: أنه عطف على معنى ما دلّ عليه أول الكلام، والتقدير: فيأتون فيتعلّمون، ذكره الفراء والزجاج أيضاً. السَّابع: قال أبو البقاء: وقيل: هو مستأنف، وهذا يحتمل أن يريد أنه خبر مبتدأ مضمر كقول سيبويه رَحِمَهُ اللهُ وأن يكون مستقلاً بنفسه غير محمل على شيء قبله، وهو ظاهر كلامه. قوله: «مِنْهُمَا» متعلّق ب «يعلمون» . و «من» لابتداء الغاية، وفي الضمير ثلاثة أقوال: أظهرها: عوده إلى المَلَكين، سواء قرىء بكسر اللام أو فتحها. والثاني: يعود على السّحر وعلى المنزل على الملكين. والثالث: أنه يعود على الفتنة، وعلى الكفر المفهوم من قوله: «فلا تكفر» ، وهو قول أبى مسلم. قوله: «مَا يُفَرِّقُونَ به» الظَّاهر في «ما» أنها موصولة اسمية. وأجاز أبو البقاء أن تكن نكرة موصوفة، وليس بواضح، ولا يجوز أن تكن مصدرية لعود الضمير في «به» عليها، والمصدرية حرف عند جمهور النحويين كما تقدم غير مَرّة. و «بَيْنَ الْمَرْءِ» ظرف ل «يُقَرّقُونَ» . والجمهور على فتح ميم «المَرْءِ» مهموزاً، وهي اللغة العالية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 348 وقرأ أين أبي أسحاق: «المُرْء» بضم الميم مهموزاً. وقرأ الأشهب العقيلي والحسن: «المِرْءُ» بكسر الميم مهموزاً. فأما الضم فلغة محكية. وأما الكسر فيحتمل أن يكون لغة مطلقاً، ويحتمل أن يكون للإتباع، وذلك أن في «المرء» لغة وهي أن «فاءه» تَتْبَعُ «لامه» ، فإن ضم ضمت، وإن فتح فتحت، وإن كسر كسرت، تقول: «ما قام المُرْءُ» بضم الميم و «رأيت المَرْءَ» بفتحها، و «مررت بالمِرْءِ» بكسرها، وقد يجمع بالواو والنون، وهو شاذ. قال الحسن في بعض مواعظه: «أحْسِنُوا مَلأَكُمْ أَيُّهَا المَرْؤون» أي: أخلاقكم. وقرأ الحسن، والزهري «المَرِ» بفتح الميم وكسر الراء خفيفة، ووجهها أنه نقل حركة الهمزة على «الواو» وحذف الهمزة تخفيفاً وهو قياس مطّرد. وقرأ الزهري أيضاً: «المَرِّ» بتشديد الرَّاء من غير همز، ووجهها أنه نقل حرة الهمزة إلى الرَّاء، ثم رأى الوقف عليها مشدّداً، كما روي عن عصام {مُّسْتَطَرٌ} [القمر: 53] بتشديد الراء ثم أجرى الوَصْل مجرى الوقف. فصيل في تفسير التفريق ذكروا في تفسير التفريق هاهنا وجهين: الأول: أن هذا التفريق إنما يكون بأن يعتقد بأن ذلك السرح مؤثر في هذا التفريق، فيصير كافراً، وإذا صار كافراً بَانَتْ منه امرأته، فيحصل تفريق بينهما. الثاني: أنه يفرق بينهما بالتمويه والحِيَل، والتَّضْريب وسائر الوجوه المذكورة. وذكره التفريق دون سائر الصُّور التي يتعلّمونها تنبيهاً على الباقي، فإن ركون الإنسان إلى زوجته معروف زائد على مودّة قريبة، فإذا وصل بالسحر إلى هذا الأمر مع شدّته فغيره أولى، يدلّ عليه قوله تعالى: «وَما هُمْ بِضَارِّينَ بهِ مِنْ أَحَدِ» يجوز في «ماء» وجهان. أحدهما: أن تكون الحجازية، فيكون «هم» اسمها، و «بِضَارين» خبرها، و «الباء» زائدة، فهو في محل نصب. والثاني: أن تكون التميمية، فيكون «هم» مبتدأ، و «بِضَارِّينَ» خبره، و «الباء» زائدة أيضاً فهو في محل رفع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 والضمير فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه عائد على السَّحرة العائد عليهم ضمير «فَيَتَعَلَّمُونَ» . الثاني: يعود على اليهود العائد عليهم ضمير «واتبعوا» . الثالث: يعود على الشياطين والضمير في «به» يعود على «ما» في قوله: «وَمَا يُفَرِّقُونَ بِهِ» . والجمهور على «بَضَارِّينَ» بإثبات النون و «مِنْ أَحَدٍ» مفعول به، وقرأ الأعمش: «بِضَرِّي» من غير نون، وفي توجيه ذلك قولان: أظهرهما: أنه أسقط النون تخفيفاً، وإن لم يقع اسم الفاعل صلةً ل «أل» ؛ مثل قوله: [الطويل] 712 - وَلَسْنَا إِذَا تَأْبَوْنَ سِلْماً بِمُذْعِنِي ... لَكُمْ غَيْرَ أَنَّا إِنْ نُسَالَمْ نُسَالمِ أي: بمذعنين ونظيره في التَّثْنية: «قَطَا قَطَا بَيْضُك ثِنْتَا، وَبِيْضِي مِائَتَا» يريدون ثِنْتَانِ وَمِائَتَانِ. والثاني وبه قال الزَّمخشري، وأبن عطية أن النُّونَ حذفت للإضافة إلى «أحدٍ» ، وفصل بين المضاف والضاف إليه بالجار والمجرور، وهو «به» ؛ كما فصل به في قوله الآخر: [الطويل] 713 - هُمَا أَخَوَا فِي الْحَرْبِ مَنْ لاَ أَخَا لَهُ ... إِذَا خَافَ يَوْماً نَبْوةً فَدَعَاهُمَا وفي قوله: [الوافر] 714 - كَمَا خُطَّ الْكِتَابُ بِكَفِّ يَوْماً ... يَهُودِيِّ يُقارِبُ أَوْ يُزِيلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 ثم استشكل الزمخشري ذلك فقال: فإن [قلت] كيف يضاف إلى «أحد» هو مجرور؟ قلت: جعل الجار جزءاً من المجرور. قال أبو حيان: وهذا التخريج ليس يجوز؛ لأن الفصل بين المتضايفين بالظَّرف والمجرور من ضَرَائر الشعر، وأقبح من ذلك ألا يكون ثم مضاف إليه؛ لأنه مشغول يعامل جَرّ، فهو المؤثر فيه لا الإضافة. وأما جعله حرف الجر جزءاً من المجرور فليس بشيء؛ لأن هذا مؤثر فيه، وجزء الشيء لا يؤثر فيه. وأجيب بأن الفصل من ضرائر الشعر فليس كما قال، لأنه قد فصل بالمفعول به في قراءة ابن عامر، فالباظرف وشبهه أولى، وسيأتي تحقيق ذلك في الأنعام. وأما قوله: «لأن جزء الشيء لا يؤثر فيه. فإنما ذلك في الجزء الحقيقي، وهذا إنما قال: ننزله منزلة الجزء، ويدلّ على ذلك قول [النجاة] الفعل كالجزء من الفاعل، ولذلك آنّث لتأنيثه، ومع ذلك فهو مؤثِّر فيه. و» من «في» من أحد «زائدة لتأكيد الاستغراق كما تقدم في:» وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ «. وينبغي أن يجيء قول أبي البقاء: إن» أحداً «يجوز أن يكون بمعنى واحد، والمعهود زيادة» من «في المفعول به المعمول لفعل منفي نحو: ما ضربت من أحد، إلا أنه حملت الجملة الاسمية الدَّاخل عليها حرف النفي على الفعليّة المنفية في ذلك؛ لأن المعنى: وما يضرون من أحد، إلا أنه عدل إلى هذه الجملة المصدرة بالمبتدأ المخبر عه باسم الفاعل الدّال على الثبوت، والاستقرار المزيد فيه باء الجر للتوكيد االمراد الذي لم تفده الجملة الفعلية. قوله: «إِلاَّ بإِذْنِ اللهِ» هذا استثناء مفرّغ من الأحوال، فهو في محل نَصْب على الحال، فيتعلّق بمحذوف، وفي صاحب هذه الحال أربعة أوجه: أحدها: أنه الفاعل المستكن في «بضارين» . الثاني: أنه المفعول هو «أحد» وجاءت الحال من النكرة؛ لاعتمادها على النفي. والثالث: أن الهاء في «به» أي بالسحر، والتقدير: وما يضرون أحداً بالسحر إلا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 ومعه علم الله، أو مقروناً بإذن الله ونحو ذلك. والرابع: أنه المصدر المعروف وهو الضرر، إلا أنه حذف للدلالة عليه. فصل في تأويل الإذن قال ابن الخطيب: الإذن حقيقة في الأمر والله لا يأمر بالسحر، لأنه تعالى أراد عيبهم وذمهم عليه، ولو كان قد أمرهم به لما جاز أن يذمهم عليه، فلا بد من التأويل، وفيه وجوه: أحدها: قال الحسن: المراد منه التَّخْلية يعنى الساحر إذا سحر إنساناً، فإن شاء الله تعالى منعه منه، وإن شاء خَلَّى بينه وبين ضرر السحر. وثانيها: قال الأصم: المراد: «إِلاَّ يعلم الله» ، وإنما سمي الأذان أذاناً، لأنه إعلام للناس بدخول وقت الصلاة، وسمي الإيذان إيذاناً؛ لأن بالحاسة به تدرك الإذن، وكذلك قوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج} [التوبة: 3] أي: إعلام، وقوله تعالى {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] معناه: فاعلموا، وقوله: {آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ} [الأنبياء: 109] يعنى: أعلمتكم. وثالثها: أن الضرر الحاصل عند فعل السِّحر إنما يحصل بخلق الله، وإيجاده وإبداعه، وما كان كذلك فإنه يصح أن يضاف إلى الله تعالى كما قال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] . ورابعها: أن يكون المراد بالإذن الأمر، وهذا الوجه لا يليق إلاَّ بأن يُفَسّر التفريق بين المرء وزوجه بأن يصير كافراً، والكفر يقتضي التفريق، فإنَّ هذا حكم شرعي، وذلك لا يكون إلا بأمر الله تعالى. قوله: «وَلاَ يَنْفَعُهُمْ» في هذه الجملة وجهان. أحدهما: وهو الظاهر أنها عطف على «يضرهم» فتكون صلة ل «ما» أيضاً، فلا محلّ لها من الإعراب. والثاني، وأجازه أبو البقاء: أن تكون خبراً لمبتدأ مضمر تقديره: وهو لا ينفعهم، وعلى هذا فتكون «الواو» للحال، والحملة من المبتدأ والخبر في محلّ نصب على الحال، وهذه الحال تكون مؤكّدة؛ لأن قوله: «ما يضرهم» يفهم منه عدم النفع. قال أبو البقاء: ولا يصح عطفه على «ما» ؛ لأن الفعل لا يعطف على الاسم. وهذا من المواضع المستغنى عن النصّ على منعها لوضوحها، وإنما ينص على منع شيء يتوهم جوازه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 وأتى هنا ب «لا» لأنها ينفى بها الحال والاستقبال، وإن كان بعضهم خصّها بالاستقبال، والضُّرُّ والنفع معروفان، يقال ضَرَّهُ يَضُرُّهُ بضم الضاد، وهو قياس المضاعف المتعدِّي، والمصدر: الضَّر والضَّر بالضم والفتح، والضَّرَر بالفك أيضاً، ويقال: ضَارَةُ يَضِيرُهُ بمعناه ضَيراً؛ قال الشاعر: [الطويل] 715 - تَثُولُ أُنَاسٌ لاَ يَضِيرُكَ نَأْيُهَا ... بَلَى كُلُّ ما شَفَّ النُّفُوسَ يَضِيْرُهَا وليس حرف العلة مبدلاً من التضعيف. ونقل بعضهم: أنه لا يبنى من نفع اسم مفعول فيقال: منفوع، والقياس لا يأباه. قوله: «وقد علموا» تقدم أن هذه اللاَّم جواب قسم محذوف. و «علم» يجوز أن تكون متعدية إلى اثنين أو إلى واحد، وعلى كلا التقديرين فهي مُعَلَّقة عن العمل فيما بعدها لأجل اللام، فالجملة بعدها في محل نصب؛ إما سادّة مسدَّ مفعولين، أو مفعول واحد على حسب ما تقدم، ويظهر أثر ذلك في العطف عليها، فإن اعتقدنا تعديها لاثنين عطفنا على الجملة بعدها مفعولين، وإلا عطفنا واحداً، ونظيره في الكلام: علمت لزيد قائم وعمراً ذاهباً، أو علمت لزيد قائم وذهاب عمرو. والذي يدل على أن الجملة المعلقة بعد علم في محل نصب وعَطْفَ المنصوب على محلها قولُ الشاعر: [الطويل] 716 - وَمَا كُنْتُ أَدْرِي قَبْلَ عَزَّةَ مَا الْهَوَى ... وَلاَ مُوجِعَاتِ القَلْبِ حَتَّى تَوَلَّتِ روي بنصب «موجعاتِ» على أنه عطف على محل «ما الهَوَى» ، وفي البيت كلام إذ يحتمل أن تكون «ما» زائدة، «والهوى» مفعول به، فعطف «موجعاتِ» عليه، ويحتمل أن تكون «لا» نافية للجنس و «موجعاتِ» اسمها، والخبر محذوفٌ كأنه قال: ولا موجعاتِ القلبِ عنْدِي حتى تولَّتِ. ةوالضمير في «علموا» فيه خمسة أقوال: أحدها: ضمير الهيود الذين بحضرة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو ضمير من بحضرة سليمان، أو ضمير جميع اليهود، أو ضمير الشياطين أو ضمير الملكين عند من يرى أن الاثنين جمع. قوله: «لَمَنِ اشْتَرَاهُ» في هذه اللام قولان: أحدهما: وهو ظاهر قول النحاة أنها لام الابتداء المُعَلَّقة ل «عَلِمَ» عن العمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 كما تقدم، و «مَنْ موصولة في محلّ رفع بالابتداء، و» اشتراه «صلتها وعائدها. و {مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} جلمة من مبتدأ وخبر، و» من «زائدة في المبتدأ، والتقدير: ماله خلاق في الآخرة. وهذه الجملة في محل رفع خبر ل» من «الموصولة، فالجملة من قوله:» ولقد علموا «مقسم عليها كما تقدم، و» لَمَن اشْتَرَاهُ «غير مقسم عليها، هذا مذهب سيبويه رَحِمَهُ اللهُ تعالى والجمهور. الثاني: وهو قول الفراء، وبتبعه أبو البقاء: أن تكونه هذه اللام هي الموطّئة للقسم، و «مَنٍ» شرطية في محل رفع بالابتداء، و {مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} جواب القسم، ف «اشترااه» على القول الأول صلة، وعلى الثاني خبر لاسم الشرط، ويكون جواب الشرط محذوفاً؛ لأنه إذا اجتمع شرط وقسم، ولم يتقدمهما ذو خبر أجيب سابقهما غالباً، وقد يجاب الشرط مطلقاً كقوله: [الطويل] 717 - لَئِنْ كَانَ مَا حُدِّثْتُهُ الْيَوْمَ صَادِقاً ... أَصُمْ فِي نَهَارِ الْقَيْظِ لِلشَّمْسِ بَادِيَا ولا يحذف جواب الشرط إلا وفعله ماض، وقد يكون مضارعاً كقوله: [الطويل] 718 - لَئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ رَبِّي أَنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ فعلى قول الفَرَّاء تكون الجملتان من قوله: «وَلَقَدْ عَلِمُوا» ، و «لَمَنِ اشْتَرَاهُ» مُقْسَماً عليهما ونقل عن الزجاج منع قول الفراء فإنه قال: هذا ليس موضع شرط ولم يوجه منع ذلك، والذي يظهر في منعه، أن الفعل بعد «مَنْ» وهو «اشْتَرَاهُ» ماض لفظاً ومعنى، فإن الاشتراء قد وقع وانفصل، فجعله شرطاً لا يصح؛ لأن فعل الشرط وإن كان ماضياً لفظاً، فلا بد أن يكون مستقبلاً معنى. فصل في أوجه استعارة لفظ الشراء واستعير لفظ الشراء لوجوه: أحدها: أنهم لما نبذوا كتاب الله وراء ظُهُورهم، وأقبلوا على التمسُّك بما تتلو الشَّياطين، فكأنهم قد اشتروا ذلك السحر بكتاب الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 وثانيها: أن المَلَكين إنما قصدا بتعليم السحر الاحتراز عنه ليصل بذلك الاحتراز إلى منافع الآخرة، فلما استعمل السحر، فكأنه اشترى بمنافع الآخرة منافع الدنيا. وثالثها: أنهم تحملوا مشقة تعليمه ليستعملوه، فكأنهم أبدلوا الراحة في مقالبة التعليم لأجل الاستعمال. والخَلاَق: النصيب. قال الزّجاج: أكثر استعماله في الخير. فأما قول أميّة بن أي الصلت: [البسيط] 719 - يَدْعُونَ بالْوَيْلِ فِيهَا لاَ خَلاَقَ لَهُمْ ... إِلاَّ سَرَابِيلُ مِنْ قَطْرٍ وَأَغْلاَلُ فيحتمل ثلاثة أوجه. أحدها: أنه على سبيل التهكُّم بهم؛ كقوله: [الوافر] 720 - ... ... ... ... ... ... ... . ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ َجِيعُ والثاني: أنه استثناء منقطع، أي: لكن لهم السَّرَابيل من كذا. الثالث: أنه استعمل في الشر على قلة. والخلاق: القَدْر؛ قال: [المتقارب] 721 - فَمَا لَكَ بَيْتٌ لَدَى الشَّامِخَاتِ ... وَمَا لَكَ فِي غَالِبٍ مِنْ خَلاَقْ أي: من قَدر ورتبة، وهو قريب من الأول. قال القَفَّال رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يشبه أن يكون أصل الكلمة من الخلق، ومعناه التقدير، ومنه: خلق الأديم، ومنه يقال: قدر للرجل كذا درهماً رزقاً على عمل كذا. والضمير المنصوب في «اشتراه» فيه أربعة أقوال: يعود على السحر، أو الكفر، أو كَيْلهم الذى باعوا به السحر، أو القرآن لتعويضهم كتب السحر عنه. وتقدم الكلام على قوله: «وَلَبْئْسَ مَا» وما ذكر الناس فيها، واللام في «لبئسما» جواب قسم محذوف تقديره: والله لبئسما، والمخصوص بالذّّم محذوف أي: السحر أو الكفر. قوله: «لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» جواب «لو» محذوف تقديره: لو كانوا يعلمون ذم ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 لما باعوا به أنفسهم، وهذا أحسن من تقدير أبي البقاء: لو كانوا ينتفعون بعلمهم لامتنعوا من شراء السحر؛ لأن المقدر كلما كان مُتصَيَّداً من اللفظ كان أَوْلَى. والضمير في «به» يعود على السحر، أو الكفر، وفي «يعلمون» يعود على اليَهُودِ باتفاق. قال الزمخشري: فإن قلت كيف أثبت لهم العلم أولاً في: «وَلَقَدْ عَلِمُوا» على سبيل التوكيد القسمي، ثم نفاه عنهم في قوله: «لوْ كانُوا يَعْلَمُونَ» . قلت: معناه: لو كانوا يعملون بعلمهم، جعلهم حين لم يعملوا به كأنهم منسلخون عنه، وهذا بناء منه على أن الضميرين في «عَلِمُوا» و «يَعْلَمُونَ» لشيء واحد. وأجاب غيره على هذا التقدير بأن المراد بالعلم الثاني العَقْل؛ لأن العلم من ثمرته، فلما انتفى الأصل انتفى ثمرته، فصار وجود العلم كعدمه حيث لم ينتفعوا به كما سمى الله تعالى، الكفار «صُمّاً وبُكْماً وعُمْياً» إذ لم ينتفعوا [بهذه الحواس] أو يغاير بين متعلّق العلمين أي: علموا ضرره في الآخرة، ولم يعلما نفعه في الدنيا. وأما إذا أعدت الضمير في «علموا» على الشياطين، أو على مَنْ بحضرة سليمان، أو على الملكين، فلا إشكال لاختلاف المسند إليه العلم حينئذ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ} «لو» هنا فيها قولان: أحدهما: أنها على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره، وسيأتي الكلام في جوابها، وأجاز الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى أن تكون للتمني أي: لَيْتَهُمْ آمنوا على سبيل المجاز عن إرادة الله إيمانهم، واختيارهم له، فعلى هذا لا يلتزم أن يكون لها جواب، لأنها قد تجاب بالفاء حينئذ، وفي كلامه اعتزال. و «أنهم آمنوا» مؤول بمصدر، وهو في محل رفع، [وفيه قولان] أحدهما وهو قول سيبوبيه: أنه في محلّ رفع بالابتداء، وخيره محذوف تقديره: ولو كاان إيمانهم ثابت، وشذّ وقوع الاسم بعد «لو» ، وإن كانت مختصة بالأفعال، كما شذ نصب «غدوة» بعد «لدن» . وقيل: لا يحتاج هذا المبتدأ إلى خبر لجريان الفظ المسند والمسند إليه في صلة «أنَّ» . وصحح أبو حَيَّان هذا فى سورة «النساء» وهذا يشبه الخلاف في «أن» الواقعة بعد «ظنّ وأخواتها» ، وتقدم تحقيقه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 والثاني: وهو قول المبرد أنه في محلّ رفع بالفاعلية، رافعه محذوف تقديره: ولو ثبت إيمانهم؛ لأنها لا يليها إلاَّ الفعل ظاهراً أو مضمراً، وقد ردّ بعضهم هذا بأنه لا يضمر بعدها الفعل إلا مفسَّراً بفعل مثله، ودليل كلا القولين مذكور في كتب النحو. والضمير في «أنهم» فيه قولان: أحدهما: عائد على اليهود، والثاني: على الذين يعلمون [الناس] السحر. قال ابن الخطيب: إنَّ الله تعالى لما قال: {نَبَذَ فَرِيقٌ مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب كِتَابَ الله وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} [البقرة: 101] ثم وصفهم بأنهم {اتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ} ، وأنهم تسّكوا بالسحر قال بعد: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ} يعنى بما بنذوه من كتاب الله. فإن حملت ذلك على القرآن جاز، وإن حملته على كتابهم المصدق للقرآن جاز، وإن حملته على الأمرين جاز، والمراد بالتقوى الاحتراز عن فعل المنهيات، وترك المأمورات. قوله تعالى: {لَمَثُوبَةٌ مِنْ اللهِ} . في هذه اللام قولان: أحدهما: أنها لام الابتداء، وأن مابعدها استئناف إخبار بذلك، وليس متعلقاً بإيمانهم وتقواهم، ولا مترتباً عليه، وعلى هذا فجواب «لو» محذوف إذا قيل بأنها ليست للتمني، أو قيل بأنها للتمني، ويكون لها جواب تقديره: لأثيبوا. والثاني: أنها جواب «لو» ، فإن «لو» تجاب بالجملة الاسمية. قال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أوثرت الجملة الاسمية على الفعلية في جواب «لو» لما في ذلك من الدلالة على ثبوت المَثُوبَةِ واستقراراها، كما عَدَلَ عن النصب إلى الرفع في {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54] لذلك. [وفي] وقوع جواب «لو» جملة إسمية نظر يحتاج إلى دليل غير مَحلّ النزاع. قال أبو حيان رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لم يعهد في كلام العرب وقوع الجملة الابتدائية جواباً ل «لو» ، إنما جاء هذا المختلف في تخريجه، ولا تَثْبُت القواعد الكلية بالمحتمل. والمثوبة فيها قولان: أحدهما: أن وزنها «فعولة» ، والأصل مَثْوُوبَة، فَثَقُلَت الضَّمة على «الواو» ، فنقلت إلى الساكن قبلها، فالتقى ساكنان فحذف أحدهما مثل: مَقُولة ومجوزة ومصونة ومشوبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 وقد جاءت مصادر على مفعول كالمعقول، فهي مصدر نقل ذلك الواحدي. والثاني: أنها «مَفْعُلَة» من الثواب بضم العين، وإنما نقلت الضّمّة إلى الثاء، ويقال: «مَثْوبَة» بسكون الثاء وفتح الواو، وكان من حَقّها الإعلال فيقال: «مثابة» ك «مقامة» ، إلا أنهم صححوها كما صححوا في الإعلال «مَكْرَزَة» ، وبذلك قرأ أبو السمال وقتادة كمشورة. ومعنى «المثوبة» أي: ثواب وجزاء من الله. وقيل: لرجعة إلى الله تعالى خير. قوله: {مِنْ عِنْدِ اللهِ] في محلّ رفع صفة «لمثوبة» ، فيتعلّق بمحذوف، أي: لمثوبة كائنة من عند الله تعالى. والعندية هنا مجاز تقدم في نظائره. قال أبو حيان: وهذا الوصف هو المسوغ لجواز الاتبداء بالنكرة. قلت: ولا حاجة إلى هذا؛ لأن المسوغ هنا شيء آخر، وهو الاعتماد على لام الابتداء، حتى لو قيل في الكلام: {لَمَثُوبَةٌ خَيْرٌ] من غير وصف لصح. والتنكير في «لمثوبة» يفيد أن شيئاً من الثواب وإن قلّ خير، فذلك لا يقال له قليل، ونظيره: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72] . وقوله: «خَيْرٌ» خبرٌ «لِمَثُوبَة» ، وليست هنا بمعنى «أفعل» التفضيل، بل هي لبيان أنها فاضلة، كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] {أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ} [فصلت: 40] . قوله تعالى: {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} جوابها محذوف تقيدره: لكان تحصيل المثوبة خيراً، أي: تحصيل أسبابها من الإيمان والتقوى، وكذلك قَدّره بعضهم: لآمنوا. وفي مفعول «يعلمون» وجهان: أحدهما: أنه محذوف اقتصاراً أي: لو كانا من ذوي العلم. والثاني: أنه محذوف اختصاراً تقيدره: لو كانوا يعلمون التفضيل في ذلك، أو يعلمون أن ما عند الله خير وأبقى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 اعلم أن الله تعالى لما شرح قبائح أفعالهم قبل مبعث محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 وَالسَّلَام ُ أراد أن يشرح قبائح أفعالهم عند مبعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجدّهم واجتهادهم في القَدْحِ فيه والطعن في دينه. واعلم أنّ الله تعالى خاطب المؤمنين بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} في ثمانية وثمانين موضعاً من القرآن. قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْه: «وكان يخاطب في التوراة بقوله: يا أيها المَسَاكين» . فصل في لفظ راعنا روي أن المسلمين كانوا يقولون: راعنا يا رسول الله من المُرَاعاة، أيك راعنا سمعك أي فَرّغ سمعك لكلامنا، يقال: رعى إلى الشيء وَرَعَاه، أي: أَصْغى إليه وأسمعه، وكانت هذه اللفظة شيئاً قبيحاً بلغة اليهود. وقيل: معناه عندهم اسمع لا سمعت. وقيل: هو من الرُّوعنة، وإذا أرادوا أن يحمقوا إنساناً قالوا: راعنا بمعنى يا أحمق، فلما سمع اليهود هذه اللفظة من المسلمين قالوا فيما بينهمك كنا نسبُّ محمداً سرًّا، فأعلنوا به الآن، فكانوا يأتونه ويقولون: راعنا يا محمد، ويضحكون فيما بينهم، فسمعها سعد بن مُعَاذٍ، ففطن لها، وكان يعرف لغتهم، فقال لليهود: لئن سمعتها من أحد منكم يقولها لرسول الله صلى الله عليه سولم لأضربن عُنُقه قالوا: أو لستم تقولونها؟ فأنزل الله تعالى: {يا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقُولوا: رَاعِنَا} لكي لا يتخذ اليهود ذلك سبيلاً إلى شَتْم رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَقُولُوا أنْظُرْنَا} ويدلّ على هذا قوله تعالى في سورة «النساء» : {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين} [النساء: 46] . قال قُطْرب: هذه الكليمة وإن كانت صحيحة المعنى، إلاّ أن أهل «الحجاز» ما كنةوا يقولونها إلاّ عند الهَزْل والسخرية، فلا جرم نهى الله عنها. وقيل: إن اليهود كانوا يقولونك راعنا أيك أنت راعي غنمنا فنهاهم الله عنها. وقيل: قوله: «راعنا» خطاب مع الاستعلاء كأنه يقول: راعِ كلامي فلا تغفل عنه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 ولا تشتغل بغيره، وليس في قوله: «انظرنا» إلا سؤال الانتظار إلى مقدار ما يصل إلى فهم كلامه. والجمهور على أن «راعنا» أمر من المُرَاعاة، وهيى النظر في مصالح الإنسان، وتدبر أموره، و «راعنا» يقتضي المشاركة؛ لأن معناه: ليكن منك رعاية لنا، وليكن منا رعاية لك، فنهوا عن ذلك؛ لأن فيه مساواتهم به عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. وبين أنه لا بد من تعظيم الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المُخَاطبة كما قال تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} [النور: 63] . وقرأ الحسن وابو حيوة: «رَاعِناً» بالتنوين، ووجهه أنه صفة لمصدر محذوف، أي: قولاً راعناً، وهو على طريق النسب ك «لابنٍ] و» تامِرٍ «، والمعنى: لا تقولوا قولاً ذا رُعونَةٍ. والرعونة: الجهل والحُمقُ والهَوَج، وأصل الرعونة: التفرُّق، ومنه: «جيشٌ أرْعَنُ» أي: متفرِّق في كل ناحية، ورجلٌ أَرْعَنُ: أي ليس له عَقْل مجتمع، وامرأة رَعْنَاء. وقيل للبَصْرَة: الرعْنَاء؛ قال: [البسيط] 722 - لَوْلاَ ابْنُ عُتْبَةَ عضْرٌو والرَّجَاءُ لَهُ ... مَا كَانَتِ البَصْرَةُ الرَّعْنَاءُ لِي وَطَنا قيل: سميت بذلك لأنها أشبهت «رَعُنَ الجَبَل» وهو النَّاتيىء منه. وقال ابن فارس: يقال: «رَعُنَ الرجل يَرْعُنَ رَعْناَ» . وقرأ أُبيّ، وزرُّ حُبَيش، والإعمش ذكرها القرطبي «راعونا» ، وفي مصحف عبد الله كذلك، خاطبوه بلفظ الجمع تعظيماً، وفي مصحف عبد الله أيضاً «ارعونا» لما تقدم. والجملة في محل نصب بالقول، وقدم النهي على الأمر؛ لأنه من باب التروك فهو أسهل. فإن قيل: أفكان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعجل عليهم حتَّى يوقلوا هذا؟ فالجَوَاب من وجهين: أحدهماك أن هذه اللفظة قد تقال في خلال الكلام، وإن لم تكن هناك عجلة تحوج إلى ذلك كقول الرجل في خلال حديثة: اسمع أو سمعت. الثاني: أنهم فسروا قوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} {القيامة: 16] أنه عليه السلام كان يعجل قول ما يلقيه إليه جبريل عليه السلام حرصاً على تحصيل الوَحْي، وأخذ القرآ،، فقيل له: لا تحرّك به لسانك لتعجل به، فلا يبعد أن يجعل فيما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 يحدث به أصحابه من أمر الدين حرصاً على تعجيل أفهامهم، فكانوا يسألونه في هذه الحالة أن يمهلهم فيما يخاطبهم به إلى أن يفهموا كل ذلك الكلام. قوله: «انْظُرْنَا» الجملة أيضاً في محلّ نصب بالقول، والجمهور على انظرنا [بالوصل] الهمزة، وضم الظاء أمراً من الثلاثي، وهو نَظَر من النَّظِرَة، وهي التأخير، أي: أخرنا وتأَنَّ عَلْينا؛ قال امرؤ القَيْسِ: [الطويل] 723 - فَإنّكُمَا إنْ تَنْظُرَانِيَ سَاعَةً ... مِنَ الدَّهْرِ يَنْفَعْنِي لَدَي أُمِّ جُنْدَبِ وقيل: هو من نظر أي: أَبْصَرَ، ثم اتُّسع فيه، فعدّي بنفسه؛ لأنه في الأصل يتعدى ب «إلَى» ؛ ومنه: [الخفيف] 724 - ظَاهِرَاتُ الجَمَالِ وَالحُسْنِ يَنْظُرْنَ ... كَمَا يَنْظُرُ الأَرَاكَ الظِّبَاءُ أي: إلى الأراك. وقيل: من نظر أي: تفكر ثم اتسع فيه أيضاًن فإن أصله أن يتعدّى ب «في» ، ولا بد من حذف مضاف على هذا أي: انظر في أمرنا، وقرأ أبيّ والأعمش: «أنْظِرْنَا» بفتح الهمزة وكسر الظاء أمراً من الرباعي يمعنى: أَمْهِلْنَا وأَخِّرْنَا؛ قال: [الوافر] 725 - أَبَا هِنْدٍ فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْنَا وأنْظِرْنَا نُخَبِّرْكَ اليَقِينَا أي: أمهل علينا، وهذه القراءة تؤيد أن الأول من النَّظِرَةِ بمعنى التأخير، لا من البَصَر، ولا من البَصِيرَة، وهذه الآية نظير [آية] الحديد {انظرونا نَقْتَبِسْ} [الحديد: 13] فإنها قرئت بالوجيهن. قوله: «وَاسْمَعُوا» حصول السماع عند سلامة الحاسّة أمر ضروري خارج عن قدرة البشر، فلا يجوز وقوع الأمر به، فإذن المراد منه أحد أمور ثلاثة: أحدها: فرغوا أسماعكم لما يقول النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة. [وثانيها: اسمعوا سماع قبول وطاعة، ولا يكن سماعكم كسماع اليهود حيث قالوا: سمعنا وعصينا] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 وثالثها: اسمعوا ما أمرتكم به حتى لا ترجعوا إلى مانهيتم عنه تأكيداً عليهم، ثم إنه تعالى بين ما للكافرين من العذاب الأليم إذا لم يسلكوا مع الرسول هذه الطيقة من الإعظام والتبجيل والإصْغَاء إلى ما يقول. وقتدم الكلام على معنى «العذاب الأليم» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 لما بين حال اليهود والكفار في العَدَاوة والمعاندة وصفهم بما يوجب الحّذَر منهم فقال: {ما يُوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا «فنفى عن قلوبهم الودّ والمحبة لكلّ ما يظهر به فضل المؤمنين. قوله: {مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ} : في» من «قولان: أحدهما: أنها للتعبيض، فتكون هي ومجرورها في محلّ نصب على الحال، وتعلّق بمحذوف أي: ما يودّ الذين كفروا كائنين من أهل الكتاب. والثاني: أنها لبيان الجنس، وبه قال الزمخشري؛ لأن» الذين كفروا «جنس تحته نوعان أهل الكتاب والمشركون بدليل قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} [البينة: 1] . قوله: {وَلاَ المُشْرِكِينَ} عطف على» أهل «المجرور ب» من «و» لا «زائدة للتوكيد؛ لأن المعنى: {ما يود الذين كفورا من أهل الكتاب والمشركين} كقوله: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} [البينة: 1] بغير زيادة» لا «. وزعم بعضهم أنه مخفوض على الجوار، وأن الأصل ولا المشركون، عطفاً على الذين، وإنما خفض للمجاورة، نحو {بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] فى قراءة الجر، وليس بواضح. وقال النحاس: ويجوز: ولا المشركون بعطفه على» الذين «وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ: وإن كان قد قرىء:» وَلاَ المُشْرِكُونَ «بالرفع فهو عطف على الفاعل، والظاهر أنه لم يقرأ بذلك وهذان القولان يؤيدان ادّعاء الخفش على الجوار. قوله:» أنْ يُنَزّلَ «ناصب ومنصوب في تأويل مصدر مفعول ب» يؤدّ «أيى: ما يود إنزاله من خير، وبني الفعل للفعول للعمل بالفاعل؛ وللتصيح به في قوله:» مِنْ ربِّكُمْ «، وأتي ب» ما «في النفي دون غيرها؛ لأنها لنفي الحال، وهم كانوا متلبّسين بذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 قال القُرْطبي: و» أن «في موضع نصب، أي بأن ينزل. قوله:» مِنْ خَيْرٍ «هذا هو القائم مقام الفاعل، و» من «زائدة، أي: أن ينزل خير من ربكم. وحسن زيادتها هنا، وإن كان» ينزل «لم يباشره حرف النفي؛ لانسحاب النفي عليه من حيث المعنى؛ لأنه إذا نفيت الوَدَادَة انتفى متعلّقها، وهذا له نظائر في كلامهم نحو:» ما أظن أحداً يقول ذلك إلاّّ زيد «برفع» زيد «بدلاً من فاعل» يقول «وإن لم يباشر النفي، لكنه قوة:» ما يقول أحد ذلك إلاَّ زيد في ظني «. وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ} [الأحقاف: 33] زيدت» الباء «؛ لأنه في معنى: أو ليس الله بقادر، وهذا على رأي سيبويه وأتباعه. وأما الكوفيّون والأخفش فلا يحتاجون إلى شيء من هذا. وقيل «من» للتبعيض، أي: ما يودون أن يُنَزَّل من الخير قليل ولا كثير، فعلى هذا يكون القائم مقام الفاعل: «عليكم» ، والمعنى: أن ينزل عليكم بخير من الخُيُور. والمراد بالخير هنا الوَحْي. والمعنى: أنهم يرون أنفسهم أحقّ بأن يوحى إليهم فيحسدونكم، فبيّن سبحانه وتعالى أن حسدهم لا يؤثّر في زوال ذلك بقوله: {اللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} . قوله: «مِنْ رَبِّكُمْ» في «من» أيضاً قولان: أحدهما: أنها لابتداء الغاية، فتتعلّق ب «ينزّل» . والثاني: أنها للتبعيض، ولا بد حينئذ من حّذْف مضاف تقديره: من خُيُور ربّكم، وتتعلق حينئذ بمحذوف، لأنها ومجرورها صفة لقولهك «من خير» أي: من خير كائن من خُيُور ربكم، ويكون في محلّها وجهان: الجر على اللفظ، والرفع على الموضع، لأن «من» زائدة في «خير» ، فهو مرفوع تقديراً لقيامه مقام الفاعل كما تقدم. وتلخص مما تقدم أن في كل واحدة من لفظ «ممن» قولين: الأول: قيل: إنها للتبعيض، وقيل: أو لبيان الجنس. وفي الثانية قولان: زائدة أو للتعبيض. وفي الثالثة: أيضاً قولان: لابتداء الغاية، أو التبعيض. قوله: {واللهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ} هذه جملة ابتدائية تضمنت ردّ وَدادَتهم ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 و «يختص» يحتمل أن يكون متعدياً، وأن يكون لازماًن فإن كانت متعدياً كان فيه ضمير يعود على الله تعالى، وتكن «من» مفعولاً به أي يختص الله الذي يشاؤه برحْمته، ويكون معنى «افتعل» هنا معنى المجرد نحو: كسب مالاً واكتسبه، وإن كان لازماً لم يكن فيه ضمير، ويكون فاعله «من» أي: والله يختصّ برحمته الشَّخً الذي يشاؤه، ويكون «افتعل» بمعنى الفاعل بنفسه نحو: اضطراب، والاختصاص ضد الاشتراك، وبهذا [يتبين فساد] قول من زعم أنه هنا متعدّ ليس غلاّ. و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولة أو موصوفة، وعلى كلا التقديرين فلا بد من تقدير عائد، أي: يشاء اختصاصه. ويجوز أن يمضن «يشاء» معنى يختار، فحينئذ لا حاجة إلى حَذْف مضاف، بل تقدره ضميراً فقط أي: يشاؤه، و «يشاء» على القول الأول لا محلّ له لكونه صلةً، وعلى الثاني محلّه النَّصب، أو الرفع على [حسب] ما ذكر في موصوفه من كونه فاعلاً أو مفعولاً. فصل في تفسير الرحمة في الآية قال علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْه: «يختصّ برحمته» أي بنبوّته، خص بها محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: الرحمة القرآن. وقيل: هنا عامة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديماً وحديثاُ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 اعلم أن المشركين طعنوا في الإسلام قالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمرن ثم ينهاهم عنه، ويأمرهم بخلافه ويقول اليوم قولاً، وغداً يرجع عنه، كما قال تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101] فنزلت هذه الآية. فى «ما» قولان: أحدهما وهو الظاهر أنها مفعول مقدم لأ «ننسخ» ، وهي شرطية أيضاً جازمة ل «ننسخ» ولكنها واقعة موصع المصدر، و «من آية» هو المفعول به، والتقدير: أي شؤء ننسخ كقوله: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ} [الإسراء: 110] ، أو: أيَّ نَسْخ نَنْسَخ من آية، قاله ابو البقاء وغيره، وقالوا: مجيء «ما» مصدراً جائز؛ وأنشدوا: [الكامل] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 364 726 - نَعَبَ الغُرَابُ فَقُلْتُ بَيْنٌ عَاجِلٌ ... ما شئْتَ إذْ ظَعَنُوا لِبَيْنٍ فَانْعَبِ ورد هذا القول بشيئين: أحدهما: أنه يلزم خلوّ جملة الجزاء من ضمير يعود على اسم الشرط، وهو غير جائز، لما تقدم عند قوله: {مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] . والثاني: أن «مِنْ» لا تزاد في الموجب، والشرط موجب، [وهذا فيه خلاف لبعض] البصريين أجاز زيادتها في الشرط؛ لأنه يشبه النفي، ولكنه خلاف ضعيف. وقرأ ابن عامر: «نُنْسِخْ» بضم النون، وكسر السين من «أنسخ» . قال ابو حاتم: «هو غلط» وهذه جُرْأة منه على عادته. وقال أبو علي: «ليست لغة» ؛ لأنه لا يقال: نسخ وأنسخ بمعنى، ولا هي للتعدية؛ لأن المعنى يجيْ: ما نكتب من آية، وما ننزل من آية، فيجيء القرآن كله على هذا منسوخاً، وليس الأمر كذلك، فلم يبق إلا أن يكون المعنى: ما نَجِده منسوخاً كما يقال: أحمدته وأبخلته، أي: وجدته كذلكن ثم قالك «وليس نجده منسوخاً إلاّ بأن ننسخه، فتتفق القراءتان في المعنى، وإن اختلفتا في اللفظ» . فالهمزة عنده ليست للتعدية. وجعل الزمخشري، وابن عطية الهمزة للتعدية، إلا أنهما اختلفا في تقدير المفعول الأول المحذوف، وفي معنى الإنساخ، فجعل الزمخشري المفعول المحذوف جبريل عليه السّلام، الإنساخ هو الأمر بنسخها، أي: الإعلام به. وجعل ابن عطية المعفول ضمير النبي عليه السلام، والإنساخ إباحة النَّسْخ لنبيه، كأنه لما نسخها أباح له تركها، فسمى تلك الإباحة إنساخاً. وخرج ابن عطية القراءة على كون الهمزة للتعدية من وجه آخر، وهو من نسخ الكتاب، وهو نقله من غير إزالة له. قال: ويكون المعنى: ما نكتب وننزل من اللَّوح المحفوظ، أو ما نؤخر فيه، ونتركه فلا ننزله، أي ذلك فعلنا فإنا نأتي بخير من المؤخر المتروك أو بمثله، فيجيء الضميران في «منها» و «بمثلها» عائدين على الضمير في «نَنسَأْهَا» . قال ابو حيان: وذهل عن القاعدة، هي أنه لابد من ضمير يعود من الجزاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 على اسم الشرط، و «ما» في قوله: «ما ننسخ» شرطية، وقوله: «أو ننسأها» عائد على الآية، وإن كان المعنى ليس عائداً عليهها من حيث اللفظ والمعنى، بل إ‘نما يعود عليها من حيث اللفظ فقط نحو: عندي درهم ونصفه، فهو في الحقيقة على إضمار «ما» الشرطية، التقدير: أو ما ننسأ من آية ضرورة أن المنسوخ غير المنسوء، ولكن يبقى قوله: ما ننسخ من آية مفلتاً من الجواب؛ إذ لا رابط يعود منه إليه، فبطل هذا المعنى الذى قاله. والنسخ في اللغة هو الإزالة من غير بدل يعقبه، يقال: نسخت الكتاب: إذا نقلته، وتناسخ الأرواح، وتناسخت القرون. وتناسخ المواريث إنما هو التحول من واحد إلى آخر بدلاً من الاول. دليل الاول أنه إذا نسخه الأثر والظّل، فهو إعدامه؛ لأنه قد لا يصحل الظل في مكان آخر حتى يظن أنه انتقل إليه. وقال تعالى: {فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان} [الحج: 52] أي: فيزيله ويبطله، والأصل في الكلام الحقيقة. وإذا ثبت كون اللفظ حقيقة في الإبطال وجب ألاَّ يكون حقيقة في النقل دفعاً للاشتراك. فإن قيل: الريح والشمس ليسا مزيلين للأُر والظل في الحقيقة، وإنما المزيل في الحقيقة هو الله تعالى وإذا كان ذلك مجازاً امتنع الاستدلال به على كون اللفظ حقيقة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 في مدلوله، ثم نعارض ما ذكرتموه، [ويقال] : النسخ هو النقل والتحويل، [ومنه نسخه الكتاب إلى كتاب آخر، كأنه ينقله إليه، أو ينقل حكياته] كما قلنا في نسخ الكتاب والأرواح والقُرون والمواريث، فإنه تحويل من واحد إلى آخر. وإذا كان كذلك فيكون حقيقة في النقل مَجَاز في الإبطال دفعاً للشتراك. [وأجيب] عن الأول من وجهين: أحدهما: أنه لا يتمنع أن يكون الله تعالى، هو الناسخ لذلك من حيث إنه فعل التشمس والريح والمؤثرتين في تلك الإزالة، ويكونان ناسخين لكونهما مختصين بذلك التأثير. والثانيك أن أ÷ل اللغة إنما أخطئوا في إضافة النسخ إلى الشمس والريح، فَهَبْ أنه لكن تمسكنا بإطلاقهم لفظ النسخ على الإزالة لإسنادهم هذا الفعل إلى الريح والشمس. وعن الثاني: أن النقل أخصّ من الإبطال، لأنه حيث وجد النقل، فقد عدمت صفة، وحصل عقيبها صفة أخرى، فإن مطلق العدم أهم من عدمه يحصل عقيبه شيء آخر، وإذا دار اللَّفظ بين الخاص والعام كان جعله حقيقة في العام أولى. وقال آخر: [والنسخ: الإزالة، وهو في الغة على ضربين: ضرب فيه إزالة شيء وإقامة غيره مقامه نحه: نسخت الشمس الظل، إذا أزالته وقامت مقامه. والثاني: أن يزيله كما تزيل الريح الأثر] . قوله: «مِنْ آيةٍ» «من» للتبعيض، فهي متعلقة بمحذوف؛ لأنها صفة لاسم الشرط، ويضعف جعلها حالاً، والمعنى: أي شيء ننسخ من الآيات، ف «آية:» مفرد وقع موقع الجمع، وكذلك تخريج كل ما جاء من هذا التركيب: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2] {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53] ، هذا المجرور هو المخصص والمبين لاسم الشرط؛ وذلك أن فيه إبْهَاماً من جهة عمومه، ألا ترى أنك لو قلتك «من يكرم أكرم» تناول النساء والرجال. فإذا قلت: «من الرحال» بيّنت وخصّصت ما تناوله اسم الشرط. وأجاز أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى فيها وجهين آخرين: أحدهما: أنها في موضع نصب على التمييز، والمُمَيَّز «ما» ولتقدير: أيَّ شيء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 ننسخ، قال: ولا يحسن أن تقدر: أي آية ننسخ، لأنك لا تجمع بين «آية» ، وبين المميز بآية، لا تقول: أي آية ننسخ من آية، يعنى أنك لو قدرت ذلك لا ستغنيت عن التمييز. والثاني: أنها زائدة و «آية» حال، والمعنى: أي شيء ننسخ قليلاً أو كثيراً، وقد جاءت «آية» حالاً في قوله: {هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} [الاعراف: 73] أي: «علامة» وهذا فاسد؛ لأن الحال لا تجر ب «من» ، وقد تقدم أنه مفعول بها، و «من» زائدة على القول يجعل «ما» واقعة موقع المصدر، فهذه أربعة أوجه. قوله تعالى: «أوْ نُنْسِهَا» «أو» [هنا للتقسيم] ، و «نُنْسِهَا» مجزوم عطفاً على فعل الشرط قبله. وفيها ثلاث عشرة قراءة: «نَنْسَأَهَا» بفتح حرف المضارعةن وسكون النون، وفتح السين مع الهمزة، وبها قرأ أبو عمرو وابن ك ثير. الثانية: كذلك إلا أنه بغير همزن ذكرها أبو عبيد البكري عن سعد بن أبي وَقّاص رَضِيَ اللهُ عَنْه. قال ابن عطية: «وأرواه وهم» . الثالثة: «تَنْسَها» بفتح التاس التي للخطاب، بعدها نون ساكنة وسين مفتوحة من غير همز، وهي قراءة الحسن، وتروى عن ابن أبي وقاص، فقيل لسعد بن أبي وقاص: «إن سعيد بن المسيب يقرؤها بنون أولى مضمومة وسين مكسورة فقال: إن القرآن لم ينزل على المسيب، ولا على ابن المسيب» وتلا: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] يعني سعد بذلك أن نسبة النسيان إليه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ موجودة في كتاب الله، فهذا مثله. الرابعة: كذلك إلا أنه بالهمز. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 الخامسة: كذلك إلا أنه بضم التاء، وهي قراءة أبي حيوة. السادسة: كذلك إلا أنه بغير همز، وهيى قراءة سعيد ابن المسيب. السابعة: «نُنْسِهَا» بضم حرف المضارعة وسكون النون وكسر السين من غير همز، وهي قراءة باقي السبعة. الثامنة: كذلك إلا أنه بالهمزة. التاسعة: نُنَسِّها بضم احرف المضارعة وفتح النون وكسر السين [مشددة، وهي قراءة الضَّحاك، وأبي رجاء. العاشرة: «نُنْسِك» ، بضمّ حرف المضارعة، وسكون النون، وكسر السين، وكاف بعدها للخطاب. الحادية عشرة:] كذلك إلا أنه بفتح النون الثانية، وتشديد السين مكسورة، وتروى ع الضحاك، وأبى رجاء أيضاً. الثانية عشرة: كذلك إلاَّ أنه بزيادة ضمير الآية بعد الكاف «نُنَسِّكَها» وهي قراءة حذيفة، وكذلك هي في مصحف سالم مولاه. الثالثة عشرة: «ما نُنْسِك من آية أو نَنْسخْها فَجِيءْ بمثلها» وهي قراءة الأعمش، وهكذا ثبت في مصحف عبد الله. فأما قراءة الهَمْز على اختلاف وجوهها، فمعناها التأخير من قولهم: نَنَسأَ الله، وأنسأ الله في أَجَلك أي: أَخَّرَهُ، وبِعْتُه نَسِيئَةً أي متأخراً. وتقول العرب: نَسَأْت الإبل عن الحوض أنْسَؤُهَا نَسْئاً، وأنسأ الإبل: إذا أخرها عن ورودها يومين فأكثرن فمعنى الآية على هذا فيه ثلاثة أقوال: أحدهاك نؤخر نسخها، ونزولها، وهو قول عطاء. الثاني: نمحها لفظاً وحكماً، وهو قول ابن زيد. الثالث: نُمضها فلا نَنْسَخْها، وهو قول أبي عبيد، [قال الشاعر: [الطويل] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 727 - أَمُونٍ كَألوَاحِ الإِرَانِ نَسَأْتُهَا ... عَلَى لاَحِبٍ كَأَنَّهُ ظَهْرُ] وهو ضعيف لقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} ؛ لأن ما أُمْضِي وأُقِرَّ لا يقال فيه: فَأْت بخير منه. وأما قراءة غير الهمز على اختلاف وجوهها أيضاً ففيها احتمالان: أظهرهما: أنها من النِّسْيَان، وحينئذ يحتمل أن يكون المراد به في بعض القراءات ضدّ الذكر، وفي بعضها الترك. فإن قيل: وقوع هذا النيسيان [يتمنع] عقلاً ونقلاً. أما العقل فلأن القرآن لا بدّ من انتقاله إلى أهل التواتر، والنيسان على أهل التواةتر بأجمعهم ممتنع. وأما النقل فلقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . والجواب عن الأول من وجهين: الأول: أن النسيان يصح بأن يأمر الله تعالى بطرحه من القرآن، وإخراجه من جلمة ما يلتى، ويؤتى به في الصَّلاة ويحتج به، فإذا زال حكم التعبُّد به قال: العهد نسي، وإن ذكر فعلى طريق ما يذكر خبر الواحد، فيصير لهذا الوجه منسياً من الدصورن وأيضاً روى: أنهم كانوا يقرءون السور، فيصبحون وقد نسوها. وعن الثاني أنه معارض بقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى إِلاَّ مَا شَآءَ الله} [الأعلى: 6، 7] وبقوله: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24] . والثاني: أن أصله الهمز من النَّسِيء، وهو التأخير، إلا أنه أبدل من الهمز ألف فحينئذ تتحد القراءتان. ثم من قرأ من القراء: «ننساها» من الثلاثي فواضح. وأما من قرأ منهم من «أَفْعَل» ، وهم نافع وابن عامر والكوفيون، فمعناه عندهم: «نُنْسِكها» ، أي: نجعلك ناسياً لها، أو يكون المعنى نأمر بتركهان يقال: أنسيته الشيء، أي: أمرته بتركه، ونَسِيتُهُك تَرَكْتُهُ؛ وأنشدوا: [الرجز] 728 - إنَّ عَلَيَّ عُقْبَةً أَقْضِيهَا ... لَسْتُ بِنَاسِيهَا وَلاَ مُنْسِيهَا أي: لا تاركها ولا آمراً بتركها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 وقال الزجاج: «هذه القراءة لا يتوجّه فيها معنى الترك، لا يقال: أنسى بمعنى ترك» . قال الفارسي وغيره: «ذلك متّجه؛ لأنه بمعنى نجحعلك تتركها» ، وضعف الزجاج أيضاً تحمل الآية على معنى النسيان ضد الذكر وقال: إن هذا لم يكن له عليه السلام ولا نسي قرآناً. [بدليل] قوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] ، أي: لم نفعل شيئاً من ذلك. وأجاب الفارسي بأن معناه لم نذهب بالجميع. قوله تعالى: «نَأتِ» هو جواب الشرط، ودجاء فعل الشرط والجزاء مضارعين، وهذا التركيب أفضح التراكيب، أعن: مجيئها مضارعين. قوله: «بِخَيْرٍ مِنْهَا» متعلّق ب «نَأْتِ» ، وفي «خير» هنا قولان: الظاهر منهما: أنها على بابها من كونها للتفضيل، وذلك أن الآتي به إن كان أخفّ من المنسوخ، أو المسنوء، فخيريته بالنسبة إلى سقوط أعباء التكليف، وإن كان أثقل فخيرته بالنسبة إلى زيادة الثواب. وقوله تعالى: «أو مثلها» أي: في التكليف والثواب، وهذا واضح. والثاني: أن «خيراً» هنا مصدراً، وليس من التفضيل في شيء، وإنما هو خير من الخُيُور، كخير في قوله: {أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 105] و «من» لابتداء الغاية، والجار والمجرور صفة لقوله «خير» أي: خير صادر من جهتها، والمعنى عند هؤلاء: ما ننسخ من آية أو نؤخّرها نَأْت بخير من الخيور من جهة المَنْسوخ أو المنسوء. وهذا بعد جدّاً لقوله بعد ذلك: «أوْ مِثْلِهَا» فإنه لا يصح عظفه على «بخير» على هذا المعنى، اللهم إلا أن يقصد الخير عد التكليف، فيكون المعنى: نأت بخير من الخُيُور، وهو عدم التكليف، أو نأت بمثل المنسوخ أو المنسوء. وأما عطف «مثلها» على الضمير في «منها» ، فلا يجوز إلأَ عند الحكوفيين لعدم أعادة الخافض. وقوله: «مَا نَنْسَخْ» فيه التفات من غَيْبة إلى تكلم، ألا ترى أن قبلة «وَاللهُ يَخْتَصُّ» «واللهُ ذُو الفَضْلِ» . فصل في بيان معنى النسخ قال ابن الخطيب: الناسخ عبارة عن طريق شرعي يدلّ على إزالة الحكم الذى كان ثابتاً بطريق شرعي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 والنسخ جائز عقلاً واقع سمعاً، ومن الهيود من أنكره عقلاً، منهم من جَوّزه عقلاً، ومنع منه سمعاً. ويروى عن بعض المسلمين إنكار النسخ. واحتد الجمهور من المسلمين على جواز ووقوعه؛ لأن الدلائل دلّت على نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونبوته لا تصحّ غلا م القول بنسخ شرع من قبله، فوجب القط بالنَّسْخِ. على اليهود إلزامان. الأول: جاء فى التوراة أن الله تعالى قال لنوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، عند خروجه من الفلك: «إني جعلت كل دابة مأكلاً لك، ولذريتك، وأطلقت ذلك لكم كنبات العشب وما خلا الدّم فلا تأكلوه» . ثم إنه تعالى حرم على موسى، وعلى بني إسرائيل كثيراً من الحيوان. الثاني: كان آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يزوج الأخت من الأخ، وقد حرمه بعد ذلك على موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعلى غيره. قال منكر النَّسخ: لا نسلم أن نبوة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا تصح إلاَّ مع القول بالنسخ، لأن من الجائز أن يقال: إن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام [أمر الناس بشرعهما إلى زمان ظهور شرع محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ثم بعد ذلك أمر النَّاس باتّباع محمد عليه الصلاة السلام، فعند ظهور شرع محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ زل التكليف بشرعهما، وحصل التكليف بشرع محمد عليه الصلاة السلام لكنه] لا يكون ذلك نَسْخاً، بل جارياً مجرى قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] ومن أنكر وقوع النسخ من المسلمين بنوا مذهبهم على هذا الحرف، وقالوا: قد ثبت في القرآن أن موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قد بشرا في التَّوْرَاة والإنجيل بمبعث محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأن عند ظهوره يجب الرُّجُوع إلى شرعه، وإذا كان الأمر كذلك فمع قيام هذا الاحتمال امتنع الجزم بقوع النسخ. فصل فى حجج منكرى النسخ احتج مكرو النَّسْخ بأن قالوا: إن الله تعالى لما بيّن شرع عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فاللفظ الدال على تلك الشريعة، إما أن يقال: إنها دالة على دوامها، أو لا يدل على دوامها، أو [لم يكن] فيها دلالة على الدوام، ولا على [عدم الدوام] ، فإن بيّن فيها ثبوتها على الدوام، ثم تبين أنها ما دامت كان الخبر الأول كذباً؛ لأنه غير جائز على الشرع، وأيضاً فلو جوزنا ذلك لم يكن لنا طريق غلى العلم بأن شرعنا لا يصير منسوخاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 في شرع موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام مع أنهما لم يدوما، زال الوثوق عنه في كل الصور. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: ذرك اللفظ الدَّال على الدوام، ثم قرن به ما يدلّ على أنه سينسخه أو ما قرب به إلا أنه نصّ على ذلك، إلا أنه لم ينقل إلينا في الجملة؟ قلت: هذا ضعيف لوجوه: أحدها: أن التنصيص على اللفظ الدال على الدوام مع التنصيص على أنه لا يدوم جميع بين كلامين متناقضين. وثانيها: على هذا التقدير قد بين الله تعالى أن شرعهما سيصير منسوخاً، فإذا نقل شرعه وجب أن ينقل هذه الكيفية أيضاًح لأنه لو جاز أن ينقل أصل الشرع بدون هذه الكيفية لجاز مثله في شرعنا أيضاً، وحينئذ لا يكون لنا طريق إلى القطع بأن شرعنا غير منسوخ؛ لأن ذلك من الوقائع العظيمة التى تتوفّر فيها الدواعي على نقله، وما كان كذلك وجب اشتهاره، وبلوغه إلى حَدّ التواتر، وإلا فلعلّ القرآن عورض، ولم تنقل معارضته، ولعلّ محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غير هذا الشرع من هذا الوضع، ولم ينقلن [وإذا كان ذلك غير جائز وجب] أن تنقل هذه الكيفية على سبيل التواتر، فنقول: لو أن الله تعالى نصّ في زمان موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام على أن شرعيهما سيصيران منسوخين لكان ذلك مشهوراً لأهل التواتر، وكان معلوماً لهم بالضرورة، ولو كان كذلك لاستحال مُنَازعة الجمع العظيم فيه، فحيث رأينا اليهود والنصارى مطبقين على إنكار ذلك علمان أنه لم يوجد التنصيص على أن شرعيهما يصيران منسوخيني. وأما القسم الثاني: وهو أن يقال: [إن الله تعالى نص على شرع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقرن به ما يدل به على أنه منقطع غير دائم] . فهذا باطل لما بت أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون ذلك معلوماً بالضرورة لأهل التواتر. وأيضاً فبتقدير صحته لا يكون ذلك نسخاً، بل يكون ذلك انتهاء للغاية. وأما القسم الثالث: وهو أنه [تعالى نص على شرع موسى عليه الصلاة السلام ولم يبيّن فيه كونه دائماً، أو كونه غير دائم] فنقول: إنه ثبت في أصول الفقة أن مجرد الأمر لا يفيد التكرار، وإ‘نما يفيد المرة الواحدة، فإذا أتى المكلف بالمرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 الواحدة، فقد خرج عن عُهْدة الأمر، فورود أمر آخر بعد ذلك لايكون نَسْخاً للأمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 الأول، فثبت بهذا التقيسم أن القول بالنسخ مُحَال. فصل في تحرير محلّ الاستدلال بالآية قال ابن الخطيبك والاستدلال بهذه الآية على وقوع النَّسخ ضعيف؛ لأن «ما» هاهنا تفيد الشرط والجزاء، وكما أن قولك: «من جائك فأكرمه» لا يدعل على حصول المجيء، بل على أنه متى جاء وَجَبَ الإكرام،، فكذا هذه الآية لا تدلّ على حصول النسخ، بل على أنه متى حصل النسخ وجب أن يأتي بما هو خير منه، فالأقوى أن تعوّل في الإثبات على قوله تعالى {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] وقوله: {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39] . فصل في فوائد معرفة النسخ قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: معرفة هذا الباب أكيدةٌ عظيمة، لا يستغنى عن معرفته العلماءن ولا ينكره إلا الجَهَلة؛ لما يترتب عليه من الأحكام، ومعرفة الحلال من الحرام. روى أبو البختي قالك دخل علي رَضِيَ اللهُ عَنْه المسجد، فإذا رجل يخوف الناس؛ فقال: ما هذا؟ قالوا: رجل يذكر الناس؛ فقال: ليس برجل يذكر الناس {لكنه يقول: أنا فلان ابن فلان فاعرفوني، فأرسل إليه فقال: أتعرف الناسخ من المنسوخ؟} فقال: لا؛ قال: فأخرج من مسجدنا ولا تُذكِّر فيه. وفي رواية أخرى: أَعَلِمْتَ الناسخ والمنسووخ؟ قال: لا؛ قال: قد هلكت وأهلكت! . ومثله عن ابن عباس رضى الله عنهما. فصل في أن للناسخ حقيقة هو الله اعلم أن الناسخ في الحققية هو الله تعالى، وسمي الخطاب الشرعي ناسخاً تجوزاً واحتجوا على وقوع النسخ في القرآن بوجوه: أحدها: هذه الآية. وأجاب عنها أبو مسلم بوجوه: الأول: أن المراد بالآيات المنسوخة هي الشرائع التي في الكتب القديمة من التوراة والإنجيل، كالسَّبْت، والصلاة إلى المشرق والمغرب مما وضعه الله تعالى وتعبّدنا بغيره، فإن اليهود والنصارى كانوا يقولون: لا تأمنوا إلا لمن تبع دينكم، فأبطل الله عليهم ذلك بهذه الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 الوجه الثاني: المراد من النسخ نَقْلهُ من اللوح المحفوظ، [وتحويله عنه] إلى سائر الكتب اوهو كما يقال: نسخت الكتاب. الوجه الثالث: أنا بينا أن هذه الآية لا تدلّ على وقوع النسخ، بل على أنه لو وقع النسخ لوقع إلى خير. [ومن الناس من أجاب عن الاعتراض] الأول بأن الآية إذا أطلقت، فالمراد بها آيات القرآن؛ لأنه هو المعهود عندنا. وعن الثاني بأن نقل القرآن من اللوح المحفوظ لا يختصّ ببعض القرآن، وهذا النسخ مختص ببعضه. ولقائل أن يقول على الأول: لا نسلم أن لفظ الآية مختص بالقرآن، بل هو عام في جميع الدلائل. وعلى الثاني لا نسلم أن النسخ المذكور في الآية مختص ببعض القرآن، بل التقدير والله أعلم: ما ننسخ من اللوح المحفوظ، فإنا نأتي بعده بما هو خير منه. الحجة الثانيك [للقائلين بوقوع النسخ في القرآن] أن الله تعالى أمر المرأة المتوفى عنها زوجها بالاعتدداد حولاً كاملاً، وذلك في قوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول} [البقرة: 240] ثم نسخ ذلك بأربعة أشره وعشر، كما قال {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] . قال أبو مسلمك الاعتداد بالحَوْل ما زال بالكلية؛ لأنها لو كانت حاملاً ومدة حملها حول كامل لكانت عدتها حولاً كاملاً، وإذا بقي هذا الحكم في بعض الصور كان ذلك تخصيصاً لا ناسخاً. والجواب أن مدة عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل، سواء حصل وضع الحمل بِسَنَةٍ أو أقل أو أكثر، فجعل السّنة العدة يكون زائلاً بالكلية. الحجة الثالثةك أمر الله بتقديم الصدقة بين يدي نجوى الرسول بقوله تعالى {ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة: 12] ، ثم نسخ ذلك. قال أبو مسلم: إنما زال ذلك لزوال سببه؛ لأن سبب التعبّد بها أن يتماز المنافقون من حيث إنهم لا يتصدقون عن المؤمنين، فلما حصل هذا العرض سقط التعبد. والجواب: لو كان كذلك لكان من لم يتصدق منافقاً وهو باطل؛ لأنه روي أنه لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 يتصدق غير علي رَضِيَ اللهُ عَنْه ويدل عليه أيضاً قوله تعالى: {فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [المجادلة: 13] ٍ. الحجة الرابعة: أنه تعالى أمر بثبات الواحد للعشرة بقوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 65] ، ثم نسخ ذلك بقوله تعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 66] . الحجة الخامسة: قوله تعالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] ثم أزالهم عنها بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} [البقرة: 144] قال أبو مسلم: «حكم تلك القبلة مازال بالكلية جواز التوجيه إليها عند الإشكال، أو مع العلم إذا كان هناك عذر» . الجواب: أن على ما ذكرته لا فرق بين «بيت المقدس» ، وسائر الجهات، فالخصوصية التي امتاز بها «بيت المقدس» عن سائر الجهات قد زالت بالكلية، فكان نسخاً. الحجة السادسةك قوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} [النحل: 101] والتبديل يشتمل على رفع إثبات، والمرفوع: إما التلاوة، وإما الحكم فكيف كان فهو رفع ونسخ. واحتجّ أبو مسلم بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] فلو نسخ لكان قد أتاه الباطل. والجواب: أن المراد أن هذا الكتاب لم يتقدمه من كتب الله ما يبطله، ولا يأتيه من بعده أيضاً ما يبطله. فصل في أنواع النسخ تراة ينسخ الحكم، وتارة التلاوة، وتارة هما معاً، فأما نسخ الحكم دون التلاوة فكهذه الآيات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 وأما نسخ التلاوة دو الحكم، فكما يروى عن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: كنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 نقرأ «الشَّيْخُ وَالشَّيْخَةُ إِذَا زَنَيا فَارُجُمُوهُمَا أَلْبَتَّةَ نَكَلااً مِنَ اللهِ واللهُ عَزِيْزٌ حَكِيْمٌ» . وروي: «لَوْ كَانَ لابْنِ آدَمَ واديَان مِنْ مالٍ لاَبْتَغَى إِلَيْهمَا ثَالِثاً، وَلاَ يَمْلاًُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلاَّ التُّرَابُ، وَيتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ» . وأما نسخ الحكم والتلاوة معاً، فكما روت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها قالت: «أنزل في القرآن عشر رضعات معلومات فنُسِخْن بخمس معلومات» ، فالعشر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 مرفوع التلاوة والحكم جميعاً، والخمس مرفوع التلاوة ثابت الحكم. ويروى أيضاً أن سورة «الأحزاب» كانت بمنزلة السبع الطوال، أو أزيد، ثم انتقص منها. [وروى ابن شهاب، قال: حدثني أبو أمامة في مجلس سعيد بن المسيب أن رجلاً قام من الليل ليقرأ سورة من القرآن، فلم يقدر على شيء منها، وقام آخر فلم يقدر على شيء منها فغدوا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال أحدهم: قمت الليل يا رسول الله لأقرا سورة من القرآن فلم أقدر على شيء، فقام الآخر، فقال: وأنا كذلك يا رسول الله، فقال الآخر: فإنا والله كذلك يا رسول الله فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إِنَّهَا مِمَّا نَسَخَ اللهُ البَارِحَةً» وسعيد بن المسيّب يسمع ما يحدث به أبو أمامة، فلا ينكره. فصل في بيان أنه ليس شرطاً البدل في النسخ قال قومك لا يجوز نسخ الحكم إلاَّ بدل واحتجوا بهذه الآية. وأجيبوا بأن نفي الحكم، وإسقاط التعبُّد به خير من ثبوته في ذلك الوقت، وقد نُسِخَ تقديم الصدقة بين يدي الرسول لا إلى بدل] . فصل في جواز النسخ بالأثقل قال قوم: لا يجوز نسخ الشيء إلى ماهو أثقل منه، واحتجوا بأن قوله: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} ينافي كونه أيقلح لأن الأثقل لا يكون خيراً منه ولا مثله. وأجيب: بأن المراد بالخير ما يكون أكثر ثواباً في الآخرة، ثم إن الذي يدلّ على وقوعه أن الله سبحانه نسخه في حقّ الزناة الحبس في البيوت إلى الجلد والرجم، ونسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان، وكانت الصَّلاة ركعتين عند قوم، فنخست بأربع فى الحضر. وأما نسخه إلى الأخف، فكنسخ العدّة من حَوْل إلى أربعة أشهر وعشرة، وكنسخ صلاة اللَّيل إلى التخيير فيها. وأما نسخ الشيء إلى المثل فتحويل القِبْلَة. فصل: الكتاب لا ينسخ بالسُّنَّة المتواترة قال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: الكتاب لا ينسخ بالسُّنة المتواترة، واستدل بهذه الآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 قال: لأنه قوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} يفيد أنه يأتي بما هو من جنسه خير منه، كما إذا قال الإنسان: ما أخذ منك من ثواب آتيك بخير منه، وجنس القرآن قرآن، وأيضاً المنفرد بالإتيان بذلك الخير، وهو القرآ، الذي هو كلام الله تَعَالى. وأيضاً فإن [السُّنة لا تكون خيراً من القرآن] . وروى الدَّارقطني عن جابر أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «القُرْآنُ يَنْسَخُ حَدِيُثِي وحَديْثِي لا يَنْسَخُ القُرْآنَ» . وأجيب عن قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3 - 4] وقوله: {وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] وإذا ثبت أن الكل من عند الله، فالناسخ في الحقيقة هو الله تعالى [أقصى ما فيه أنَّ الوحي ينقسم إلى قسمين متلوّ، وغير متلو] وقد نسخت الوصية للأقربين، لقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ وَصِيَّة لِوَارِثِ» . ونسخ حبس الزَّاني في البيوت بخبر الرجم. والجواب: استدل به الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه من الآية، وأما الوصية فإنها نسخت بأية المواريث قاله عمر وابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما وأشار النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى هذا بقوله: «إِنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقًّ حَقَّهُ فَلاَ وَصِيَّة لِوَارِثٍ» . وأما حبس الزاني، فإنما هو أمر بإمساكهن إلى غاية، وهي إلى {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] فبيّن صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما هو وليس بنسخ. وروي أيضاً أن قوله: «الشَّيخ والشيخة إذا زينا، فارجموهما ألبتة» كان قرآناً، فلعل الناسخ إما وقع به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 فصل هل يدخل النسخ في الأخبار؟ اختلفوا في الأخبار هل يدخلها النسخ؟ فالجمهور على أن النسخ لا يدخل الخبر، لاستحالة الكذب على الله تعالى. وقيل: إن الخخبر إذا تضمّن حكماً شرعيّاً جاز نسخه، كقوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} [النحل: 67] . فصل هل يجوز حمل الجنب للقرآن الكريم؟ القرآن المنسوخ التلاوة يجوز للجنب حمله، ولو صلى به لم تصح صلاته. فصل في استدلال المعتزلة بهذه الآية على خلق القرآن استدلت المعتزلة بهذه الآية على [خلق القرآن] من وجوه: أحدها: أن كلام الله تعالى لو كان قديماً لكان الناسخ والمنسوخ قديمين وذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 مُحَال؛ لأن الناسخ يجب أن يكون متأخراً عن المَنْسُوخ، والمتأخر يستحيل قدمه، والمنسوخ يجب زوااله وارتفاعه، ما ثبت زواله استحل قدمه. وثانيها: أن الآية دلّت على أن بعض الآيات خير من بعض، وما كان كذلك لا يكون قديماً. وثالثها: قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} يدل على أنه القادر على نسخ بعضها، وإتيانه بشيء آخر بدلاً من الأولن وما كان داخلاً تحت القدرة، وكان فعلاً كان محدثاُ. وأجيب عنه: بأن كونه ناسخاً ومنسوخاً إنما هو من وعوارض الأَلْفَاظ، ولا نزاع في حدوثها، فلما قلتم: إن المعنى الحقيقي الذي هو مدلول العبارات والاصطلاحات محدث بها. قالت المعتزلة: لا شكّ أن تعلقه الأول قد زال، وحدث له تعلق آخر، فالتعلق الأول محدث؛ لأنه زال، والقديم لا يزول، والتعلق الثاني حادث، لأنه حصل بعد أن لم يكن، والكلام الحقيقي لا ينفك عن هذه التعلقات، وما لا ينفك [عن الحدث] محدث. والجواب: أن قدرة الله تعالى كانت في الأَزَلِ متعلّقة بإيجاد العالم، فعند دخول العالم في الوجود، هل يبقى ذلك التعلّق أو لم يبق؟ فإن بقي يلزم أن يكون القادر قادراً على إيجاد الموجود وهو محال، وإن لم يبق فقد زال ذلك التعلق، فألزمكم حدوث قدرة الله تعالى على ما ذكرتم، وكذلك علم الله تعالى كان متعلقاً بأن العالم سيوجد، فعند دخول هذا العالم في الوجود إن بقي التعلّق الأول كان جَهْلاً، وإن لم يَبْقَ يلزمكم كون التعلق الأول حادثاً؛ لأنه لو كان قديماً لما زال، ووكون التعلّق الذي حصل بعد ذلك حدثاً فإِذاً عالمية الله تعالى لا تنفكّ عن التعلّقات الحادثة، وما لا ينفك عن المحدث [محدث] فعالمية الله محدثة، فكل ما تجعلونه جواباً عن العالمية والقادرية هو جوابنا عن الكلام. قوله: «أَلَم تَعْلَمْ» هذا استفهام معناه التقرير، فلذلك لم يحتج إلى معادل يعطف عليه ب «أم» ، و «أم» في قوله: «أَمْ تُرِيْدُونَ» منقطعة هذا هو الصحيح في الآية. قال ابن عطية: ظاهره الاستفهام المَحْضُ، فالمعادل هنا على قول جماعة: «أم تريدون» ، وقال قوم: «أم» منقطعة، فالمعادل محذوف تقديره: أم علمتم، هذا إذا أريد بالخطاب أمته عليه السلام. أما إذا أريد هو به، فالمعادل محذوف لا غير، وكلا القولين مروي انتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 وهذا فيه نظر؛ لما مرَّ أن المراد به التقرير، فهو كقوله: {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] . والاستفهام بمعنى التقرير كثير جدّاً لا سيما إذا دخل على نفي كما مثلته لك. وفي قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله} التفاتان. أحدهما: خروج من خطاب جماعة، وهو «خير من ربكم» . والثاني: خروج من ضمير المتكلّم المعظم نفسه إلى الغيبة بالاسم الظاهر، فلم يقل: ألم تعلموا أننا، وذلك لما لا يخفى من التعظيم والتَّفخْيم. و {أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} «أن» وما في حَيِّزها، إما سادة مسدّ مفعولين كما هو مذهب الجمهور، أو واحد، والثاني محذوف كما هو مذهب الأخفش. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 قال ابن الخطيب: لما حكم بجواز النسخ عَقّبه ببيان أن ملك السموات والأرض له لا لغيره، وهذا هو التنيه على أنه سبحانه وتعالى إنما حين [منه الأمر والنهي لكونه مالكاً للخلق، وهذا هو مذهب اصحابنا، وأنه] إنما حسن التكليف منه لمحض كونه مالكاً للخلق مستولياً عليهم لا لثواب يحصل، أو لعقاب يندفع. فقال القفال رَحِمَهُ اللهُ تعالىك ويحتمل أن يكون هذا إشارة إلى أمْمر القِبْلَة، فإنه تعالى أخبرهم بأنه ملك السموات والأرض، وأن الأمكنة والجهات كلها له، وأنه ليس بعض الجهات أكبر حرمة من البعض، إلاَّ من حيث يجعلها هو تعالى له، وإذا كان كذلك وكان الأمر باستدلال القِبْلَة إنما هو مَحْضُ التخصيص بالتشريف، فلا مانع يمنع من تغييره من جهة إلى جهة. قوله: «أَلَمْ تعْلَمْ» جزم ب «لم» ، وحروف الاستفهام لا تغير عمل العامل، وقوله: «أَلَمْ تَعْلَمْ» خطاب للنبيّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووالمراد أمته، لقوله: {وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} . وفي قوله: «مُلْك» وجهان: أحدهما: أنه مبتدأ، وخبره مقدم عليه، والجملة في محلّ رفع خبر ل «أن» . والثاني: أنه مرفوع بالفاعلية، رَفَعَهُ الجار قبله عند الأخفش، لا يقال: إن الجار هنا قد اعتمد لوقوعه خبراً ل «أن» ، فيرفع الفاعل عند الجميع؛ لأن الفائدة لم تتم به، فلا يجعل خبراً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 والمُلْك بالضم الشيء المملوك، وكذلك هو بالكسر، إلا أنَّ المضموم لا يستعمل إلا فى مواضع السّعة وبسط السلطان. وتقدم الكلام في حقيقة الملك في قوله: {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] . قوله: «وَمَا لَكُمْ» يجوز في «ما» وجهان. أحدهما: أن تكون تميمة، فلا عمل لها، فيكون «لكم» خبراً مقدماً، و «من ولِيّ» مبتدأ مؤخراً زيدت فيه «من» ن فلا تعلّق لها بشيء. والثاني: أن تكون حجازية، وذلك عند من يجيز تقديم خبرها ظرفاً أةو حرف جر، فيكون «لكم» في محلّ نصب خبراً مقدماً، و «مِنْ وَلِيّ» اسمها مؤخراً، و «من» فيه زائدة أيضاً. و «من دون الله» يه وجهان: أحدهما: أنه متعلّق بما تعلق به «لكم» من الاستقرار المقدر، و «من» لا بتداء الغاية. والثاني: أنه في محلّ نصب على الحال من قوله: «من ولي أو نصير» ؛ لأنه في الأصل صفة للنكرة، فلما قدم عليها انتصب حالاً قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى. فعلى هذا يتعلّق بمحذوف غير الذي تعلّق به «لَكُمْ» ، ومعنى «مِنْ دُونِ اللهِ» سِوَى الله؛ كما قال أمية بن أبي الصلت [البسيط] 729 - يَا نَفْسُ مَالَكِ دُونَ اللهِ مِنْ واقِ ... [وَمَا عَلَى حَدَثَانِ الدَّهْرِ مِنْ بَاقِ] والولي: من وليت أمر فلان، أي قمت به، ومنهك وليّ العهد أيك المقيم بما عهد إليه من أمر المسلمين. «وَلاَ نَصِيرٍ» عطل على لفظ «وليّ» ولو قرىء برفعه على الموضع لكان جائزاً، وأتى بصيغة «فعيل» في «ولي» و «نصير» ؛ لأنها أبلغ من فاعل، ولأن «ولياً» أكثر استعمالاً من «وَالٍ» ولهذا لم يجىء في القرآن إلا في سورة «الرعد» . وأيضاً لتواخي الفواصل وأواخر الآي. وفي قوله: «لكم» التفاوتٌ من خطاب الواحد لخطاب الجماعة، وفيه مناسبة، وهو أن المَنْفِيَّ صار نصّاَ في العموم بزيادة «من» فناسب كون المنفي عنه كذلك فَجُمِعَ لذلك. فصل في أن الملك غير القدرة استدل بعضهم بهذه الآية على أن الملك غير القدرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 فقال: إنه تعالى قال أولاً: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] ثم قال بعده: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} . فلو كان المُلْك عبارة عن القدرة لكان هذا تكريراً من غير فائدة، والكلام في حقيقة الملك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 ذكروا في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوها: أحدها: أنه تعالى لما حكم بجواز النسخ في الشرائع، فلعلّهم كانوا يطالبونه بتفاصيل ذلك الحكم، فمنعهم الله تعالى عنها، وبين أنَّهم ليس لهم أن يشتغلوا بهذه الأسئلة الفاسدة [كسؤالات قوم موسى عليه الصلاة ولسلام] . وثانيها: لما تقدم من الاوامر والنواهي قال لهم: إن لم تقبلوا ما أمرتكم به وتمرّدتم عن الطاعة كنتم كمن سأل موسى عليه السلام ما ليس له أن يسأله. عن أبي مسلم. وثالثها: لما أمر ونهى قال: أتفعلون ما أمرتم أم تفعلون كما فعل من قبلكم من قوم موسى؟ و «أم» هذه يجوز أن تكون متّصلة معادلة [لقوله تعال: «ألم تعلم» وهي مفرقة لما جمعته أي: كما أن «أو» مفرقة لما جمعته تقول: اضرب أيهم شئت زيداً أم عمراً، فإذا قلت: أضرب أحدهم. قلت: اضرب زيداً أو عمراً. أو تكون منقطعة، فقتدم ب «بل» والهمز، ولا تكون إِلاَّ بعد كلام تام كقوله: نما الإبل أم شاء؛ كأنه قال: بل هي شاء، ومنه قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} [هود: 35] أي: يقولون. قال الأخْطَلُ: [الكامل] 730 - كَذَبَتْكَ عَيْنُكَ أَمْ رَأَيْتَ بِوَاسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلاَمِ مِنَ الرَّبابِ خَيَالاً ويكون إضراباً للالتفات من قصة إلَى قصة] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 قال أبو البقاء: أم هنا منقطعة، إذ ليس في الكلام همزة تقع موقعها ومع أم أَيّهُما، والهمزة من قوله: «ألم تعلم» ليست من «أم» في شيء، والمعنى: بل أتريدون فخرج من كلام إلى كلام. وأصل تريدون: «تُرْوِدُون» ؛ لأنه من رَادَ يَرُودُ، وقد تقدّم، فنقلت حركة «الواو» على «الراء» ، فسكنت «الواو» بعد كسرة فقلبت ياء. وقيل: «أم» للاستفهام، وهذه الجملة منقطعة عما قبلها. وقيل: هي بمعنى «بل» وحدجها، وهذان قولان ضعيفان. قوله تعالى: «أَنْ تَسْأَلُوا» نصب ومنصوب في محل نصب مفعولاً به بقوله: «تريدون» أي: أتريدون سؤال رسولكم. قوله: «كَمَا سُئِلَ» متعلق ب «تسألوا» و «الكاف» في محلّ نصب، وفيها التقديران المشهوران: فتقدير سيبويه ورَحِمَهُ اللهُ تعالى أنها حال من ضمير المصدر المحذوف. أي: إن تسألوه أي: السؤال حال كونه مُشَبَّهاً بسؤال قوم موسى له، وتقيدر جمهور النجاة: أنه نعت لمصدر محذوف، أي: إن تسألوا رسولكم سؤالاً مشبهاً كذا. و «ما» مصدرية، أي: كسؤال موسى. [وأجاز الحوفي كونهنا بمعنى الذي فلا بد من تقدير عائد أي كالسؤال الذي سأله موسى] و «موسى» مفعول لم يسمّ فاعله، حذف الفاعل للعم به، أي كما سأل قوم موسى. والمشهور: «سئل» بضم السين وكسر الهمزة، وقرأ الحسنك «سِيلَ» بكسر السين وياء بعدها من: سال يسال نحوك خفت أخاف، وهل هذه الألف في «سال» أصلها الهمز أو لا؟ تقدم خلاف فيه، وسيأتي تحقيقه في «سأل» وقرىء بتسهيل الهمزة بَيْنَ بَيْنَ و «من قبل» متعلّق ب «سئل» ، و «قبل» مبينة على الضم؛ لأن المضاف إليه معرفة أي: من قبل سؤالكم، وهذا توكيد، وإلا فمعلوم أن سؤال موسى كان متقدماً على سؤالهم. قوله: «بالإيمان» فيه وجهان: أحدهما: أنها ياء العِوَضية، وقد تقدم تحقيق ذلك. والثاني: أنها للسببية. قال أبو البقاء: يجوز أن يكون مفعولاً يتبدّل، وتكون الباء للسبب، كقولك: اشترتيت الثوب بدرهم، وفي مصاله هذا نظر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 وقوله تعالى: {فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} قرىء بإدغام الدَّال في الضاد وإظهارها. و «سواء» قال أبو البقاء: سواء السبيل ضرف بمعنى وسط السبيل وأعدله، وهذا صحيح فإن «سواء» جاء بمعنى وسط. قال تعالى: {فِي سَوَآءِ الجحيم} [الصافات: 55] . وقال عيسى بن عمر: ما زلتُ أكتب حتى انقطع سَوَائِي؛ وقال حَسَّان: [الكامل] 731 - يَا وَيْحَ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ورَهْطِهِ ... بَعْدَ الْمُغَيَّبِ فِي سَوَاءِ المْلْحَدِ ومن مجيئه بمعنى العدل قول زهير: [الوافر] 732 - أَرُنَا خُطَّةً لاَ عَيْبَ فِيهَا ... يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيْهَا السَّوَاءُ والغرض من هذه الآية التشبيه دون نفس الحقيقة، ووجه التشبيه في ذلك أن من سلك طريقة الإيمان، فهو جَارٍ على الاستقامة المؤدية إلبى الفوز والظّفر بالطلبة من الثواب والنعيم، فالمُبَدِّل لذلك بالكفر عادل عن الاستقامة فقيل فيه: إنه ضل سواء السبيل. والسبيل يذكر ويؤنث: {قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] . والجملة من قوله: «فقد ضَلَّ» في محل جزم؛ لأنها جزاء الشرط، والفاء واجبة هنا لعدم صلاحيته شرطاً. فصل في المخاطب بهذا في المخاطب بهذا ثلاثة أوجه: أحدها: [أنهم المسلمون قاله الأصم، والجُبَّائي، وأبو مسلم، ويدل عليه وجوه: أحدها: أن قوله تعالى] : «أَمْ تُرِيدُونَ» يقتضي معطوفاً عليه وهو قوله: «لاَ تَقُولُوا رَاعِنَا» فكأنه قال: وقولوا: انظرنا واسمعوا فهل تفعلون ذلك كما أمرتم أم تريدون أن تسألوا رسولكم؟ وثانيها: أن المسلمين كان يسألون محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم وبجل وعظم عن أمور لا خير لهم في البَحْثِ عنها ليعلموها كما سأل اليهود موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مالم يَكُنْ لهم فيه خير عن البحث عنه. وثالثها: سأل قوم من المسلمين أن يجعل لهم ذات أَنْواطٍ كما كان للمشركين ذات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 أنواط، وهي شجرة كانوا يعبدونهان ويعلقون عليها المأكول والمشروب، كما سألوا موسى أن يجعل لهم إلهاً كما لهم آلهة. القول الثاني: أنه خطاب لأهل «مكة» ، وهو قول ابن عباس ومجاهد رضي الله تعالى عنهم؛ لأنه يروى أنّ عبد الله بن أمية المخزومي أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في رهط من قريش فقال: يا محمد والله ما أومن بك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً، أو تكون لك جنة من نخيل وعنب فتفجر الأنهار خلالها تفجيراً أو يكون لك بيت من زخرف أو ترقى في السماء بأن تصعدن ولن نؤمن لرقيّك بعد ذلك حتى تنزل علينا كتاباً [من عند الله إلى عبد الله بن أمية أن محمداً رسول الله فأتبعوه. وقال له بقية الرَّهْطك فإن لم تستطع ذلك فائتنا بكتاب من] عند الله جملة واحدة فيه الحلال والحرام والحدود والفرائض، كما جاء موسى إلى قومه بالألواح من عند الله فيها كلّ ذلك، فنؤمن لك عند ذلك. فأنزل الله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ} محمداً أن يأتيكم بالآيات من عند الله كما سأل السبعون فقالوا: {نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55] . وعن مجاهد رَحِمَهُ اللهُ تعالى أنّ قريشاً سألت محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يجعل لهم الصَّشفا ذهباً وفضّة، فقال: نعم هو لكم كالمائدة لبني إسرائيل فأبوا ورجعوا. القول الثالث: المراد بهم اليهود، [وهذا القول أصح، لأن هذه السورة من أول قوله] : {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي} [البقرة: 47] حكاية ومحاجّة معهم؛ ولأن الآية مدنية، ولأنه جرى ذكر اليهود وما جرى ذكر غيرهم. فصل في سؤالهم [قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ليس في الآية أنهم أتوا بالسؤال فضلاً عن كيفيته، وإنما المرجع فيه إلى الروايات المذكورة. فإن قيل: إن كان ذلك السؤال طلباً للمعجزة فليس بكفر؛ لأن طلب الدليل على الشيء لا يكون كفراً، وإن كان طلباً لوجه الحكمة في نسخ الأحكام فهذا أيضاً لا يكون كفراًح لأن الملائكة عليهم السلام طلبوا الحكمة في خَلْق البشر، ولم يكن ذلك كفراً. والجواب أن يُحملأ على أنهم طلبوا أن يُجعل لهم إله كما لهم آلهة، أو طلبوا المعجزة على سبيل التعنُّت، أو اللَّحَاج، فهذا كفر، والسبب هذا السؤال، والله أعلم] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا لحذيفة بن اليمان، وعمار بن ياسر بعد وقعة «أحد» ألم تروا ما أصابكم، ولو كنتم على الحق ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا، فهو خير لكم وأفضل، ونحن أهدى منكم سبيلاً. فقال عمار: كيف نقض العهد فيكم؟ قالوا: شديد، قال: فإني قد عاهدت أني لا أكفر بمحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم وبجل وعظم ما عشت. فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ، وقال حذيفة: وأما أنا فقد رضيت بالله ربّاً، وبالإسلام ديناً، وبالقرآن إماماً، وبالكعبة قِبْلَةً، وبالمؤمنين إخواناً، ثم أتيا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأخبراه فقال: أصبتما خيراً وأفلحتما فنزلت هذه الآية. قوله تعالى: {لَوْ يَردُّنَكُمٍ} الكلام في «لو» كالكلام فيها عند قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ} [البقرة: 96] ، فمن جعلها مصدرية هناك جعلها كذلك هنا، وقال: هي مفعول «يود» أي: ودّ كثير ردَّكم. ومن أبي جعل جوابها محذوفاً تقديره: لو يردونكم كفاراً لسُرُّوا أو فرحوا بذلك. وقال بعضهمك تقديره: لو يردونكم كفاراً لودّوا ذلك، ف «وَدَّ» دَالَّى على الجواب، وليست بجواب؛ لأن «لو» لا يتقدمها جوابها كالشرط. وهذا التقدير الذي قدره هذا القائل فاسد، وذلك أن «لو» حرف لما كان سيقع لوقوع غيره، فيلزم من تقديره ذلك أن وَدَادتهم ذلك لم تقع؛ لأن الموجب لظفاً منفي معنى، والغرض من وَدَادَتهم ذلك واقعة باتفاق، فتقدير لسروا ونحوه هو الصحيح. و «يرد» هنا فيه قولان. أحدهما وهو الواضح أنها المتعدّية لمفعولين بمعنى «صَيَّر» ، فضمير المخاطبين مفعولً أول، و «كفاراً» مفعول ثان؛ ومن مجيء «رَدَّ» بمعنى «صَيَّر» قوله: [الوافر] 733 - رَمَى الْحَدَثانُ نِسْوَةَ آلِ حَرْبٍ ... بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُودَا فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً ... وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ البِيضَ سُودَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 وجعل أبو البقاء كفاراً حالاً من ضمير المفعول على أنها المتعدية لواحد، وهو ضعيف، فأن الحال يستغنى عنها غالباً، وهذا لابد منه. و «مِنْ بَعد» متعلق ب «يردُّونكم» و «من» لابتداء الغاية. قوله تعالى: «حسداً» نصب على المفعول له، وفيه الشروط المجوّزة لنصبه، والعامل فيه «ود» أي: الحامل على ودادتهم رَدُّكم كُفََاراً حَسَدُهُم لكم. وجوزوا فيه وجهين آخرين: أحدهما: أنه مصدر في موضع الحال، وإنما لم يجمع لكوه مصدراً، أي: حاسدين، وهذا ضعيف، لأن مجيء المصدر حالاً لا يطّرد. الثاني: أنه منصوب على المصدرية بفعل من لفظه أي يحسدونكم حسداً [والأول أظهر الثلاثة] . قوله تعالى: {مِنْ عِنَدِ أَنْفُسِهِمْ} في هذا الجار ثلاثة أوجه: أحدها: أنه متعلّق ب «ود» أي: ودوا ذلك من قبل شهواتهم لا من قبل التدين [والميل مع الحق؛ لأنهم ودّوا ذلك من بعد ما تبيّن لهم أنكم على الحق] و «من» لابتداء الغاية. الثاني: أنه صفة ل «حسداً» فهو في محلّ نصب، ويتعلّق بمحذوف أي: حسداً كائناً من قبلهم وشهوتهم، ومعناه قريب من الأول. [الثالث: أنه متعلّق ب «يردّونكم» ، و «من» للسببية. أي: يكون الردّ من تلقائهم وجهتهم وبإغوائهم] . قوله تعالى: «من بعد ما» متعلّق ب «وَدَّ» ، و «من» للابتداء، أي: أنَّ ودادتهم ذلك ابتدأت من حيث وضوح الحق، وتبيّنه لهم، فكفرهم عُنَادٌ، و «ما» مصدرية أي: من بعد تبيين الحَقّ. والحسد: تمنِّي زوال نعمة الإنسان. والمصدر حَسَدٌ. فإن قيل: إنّ النَّفْرة القائمة بقلب الحاسد من المحسود أمر غير داخل في وسعه، فكيف يعاقب عليه؟ فالجواب: أن الذي هو في وصعه أمران: أحدهما: كونه راضياً بتلك النَّفْرَة. والثاني: إظهار آثار تلك النَّفْرَة من القَدْح فيه، والقَصْد إلى إزالة تلك النعمة عنه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 وجدّ أسباب المحبة إليه، فهذا هو الداخل تحت التكليف. والحمد نوعان: مذموم ومحمود، فالمذموم أن يتمنّى زوال نعمة الله عن المسلم، سواء تمينت مع ذلك أتعود إليك أم لا؛ لأنه فيه تسفيه الحق سبحانه وتعالى وأنه أنعم على مَنْ لا يستحقّ. والمحمود كقوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ حَسَدَ إِلاَّ فِي اثْنَتَيْن: رَجُل آتاهُ اللهُ تعالى القُرْآنَ فَهُوَ يَقُومُ بِهِ آناءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَار، وَرَجُلٍ آتاهُ اللهُ مَالاً فَهُوَ يُنْفِقُ آناءَ اللَّيْلَ وَآناء النَّهَارِ» . وهذا الحديث معناه «الغِبْطة» كذا ترجم عليه البُخَاري رَحِمَهُ اللهُ تعالى. والصَّفْحُ قريب من العفو، مأخوذ من الإعراض بصفحة العُنْق. وقيل: معناه التجاوز، من تصفّحت الكتاب أي: جَاوَزْتُ وَرَقَهُن والصَّفُوح من أسماء الله، والصَّفُوح أيضاً: المرأة تستر وجْهَها إعراضاً؛ قال الشاعر: [الطويل] 734 - صَفُوحٌ فَمَا تَلْقَاكَ إلاَّ بِحِيلَةٍ ... فَمَنْ مَلَّ مِنْهَا ذَلِكَ الوَصْلَ مَلَّتِ قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: العفو: ترك المُؤَاخَذَة بالذَّنب. والصّفح: أزالة أثرِه من النفس. يقال: صَفَحْتُ عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه، وقد ضربت عنه صَفْحاً إذا أعرضت عنه وتركته، ومنه قوله تعالى: {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً} [الزخرف: 5] . فصل في المراد بهذه الآية [المراد بهذه الآية أنهم كانوا يريدون رجوع المؤمنين عن الإيمان من بعد ما تبيّن لهم أن الإيمان صواب وحقّ، والعالم بأن غيره على حقّ لا يجوز أن يريد ردّه عنه إلاَّ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 بشبهة يلقيها إليه، لأن المحق لا يعدل عن الحق إلاَّ بشبهة، والشبهة ضربان: أحدها: ما يتّصل بالدنيا، وهو أن يقال لهم: قد علمتم ما نزل بكم من إخراجكم من دياركم، وضيق الأمر عليكم، واستمرار المخافة بكم، فاتركوا الإيمان الذي ساقكم إلى هذه الأشياء. والثاني: في باب الدين: بطرح الشبه في المُعْجزات، أو تحريف ما في التوراة. فصل في المقصود بأمر الله قوله: {فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} يحتمل أمرين: الأول: أن المراد ترك المقابلة والإعراض عن الجوابح لأن ذلك أقرب إلى تَسْكين الثائرة في الوقت، فكأنه تعالى أمر الرسول بالعَفْو والصفح عن اليهود، فكذا أمره بالعفو والصفح عن مشركي العرب بقوله تعالى: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} [الجاثية: 14] وقوله: {واهجرهم هَجْراً جَمِيلاً} [المزمل: 10] ولذلك لم يأمر بذلك على الدوام، بل علّقه بغاية فقال {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} . وذكروا فيه وجوهاً: أحدها: أنه المُجَازاة يوم القيامة عن الحسن. وثانيه: أنه] قوة الرسول صولات الله وسلامه عليه وكثرة أمته. وثالثها: وهو قول أكثر الصحابة والتابعين رَضِيَ اللهُ عَنْهم، أنه الأمر بالقتال؛ لأن عنده يتعين أحد أمرين: إما الإسلام، وإما الخضوع لدفع الجزية، وتحمل الذل والصَّغار، فلهذا قال العلماء: إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} [التوبة: 29] . ورُويَ أنَّه لم يؤمر رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتال حتى نزل جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} [الحج: 39] وقلّده سيفاً فكان أول قتال قاتل أصحاب عبد الله بن جَحْش ب «بطن نخل» ، وبعده غزوة «بدر» . فإن قيل: كيف يكون منسوخاً وهو معلق بغاية كقوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] . وإن لم يكن ورود الليل ناسخاً، فكذا هاهنا. فالجواب: أن الغاية التي تعلق بها الأمر إذا كانت لا تعلم إلا شرعاً لم يخرج ذلك الوارد شرعاً عن أن يكون ناسخاً، ويحلّ محل قوله تعالى: «فَاعفُوا واصْفَحُوا» إلى أن أنسخه عنكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 فإن قيل: كيف يعفون ويصفحون، والكفار كانوا أصحاب الشوكة والقوة، والصفح لا يكون إلا عن قدرة؟ فالجواب: أن الرجل من المسلمين كان ينال بالأذى، فيقدر في تلك الحالة قبل اجتماع الأعداء أن يدفع عداوتهم عن نفسه وأن يستعين بأصحابه، فأمر الله سبحانه تعالى عند ذلك بالعَفوِ والصفح كي لا يهيّجوا شراً وقتالاً. قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: [قال أبو عبيدة:] كل آية فيها ترك للقتال فهي مكّية منسوخة بالقتال. قال ابن عطية: [الحكم] بأن هذه الآية مكّية ضعيف: لأن مُعَاندات اليهود إنما كانت ب «بالمدينة» . قال القرطبي: «وهو الصحيح» . [التفسير الثاني: العفو والصفح] أنه حسن الاستدعاء، واستعمال ما يلزم فيهم من النصح والإشْفَاق والتشدّد فيه، وهذا لا يجوز نسخه. وقوله: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} تحذير لهم بالوعيد، سواء حمل على الأمر بالقتال أو غيره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 لما أمرنا بالعفو والصفح عن اليهود عقبه بقوله تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} تنبيهاً لهما على ما أعد لهما من الواجبات وقوله بعده: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ} [المزمل: 20] . الأظهر أن المراد به التطوّعات من الصلوات والزكواتن وبيّن تَعَالى أنهم يجدونه، وليس المراد أنهم يجدون عين تلك الأعمال؛ لأنها لا تبقى، ولأن وِجْدَان عين تلك الإشياء، ولا يرغب فيه، فبقي أن المراد وِجْدَان ثوابه وجزائه. قوله تعالى: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ} كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 601] . فيجوز في «ما» أن تكون مفعولاً بها، وأن تكون واقعةً موقع المصدر، ويجوز في «مِنْ خَيْرٍ» الأربعة أوجه التي في «من آيّةٍ» : من كونه مفعولاً به، أو حالاًن أو تمييزاً، أو متعلّقاً بمحذوف. و «مِنْ» تبعيضية، وقد تقدم تحقيقها، فليراجع ثَمَّة. و «لأَنْفُسِكُمْ» متعلّق بت «تقدمُّوا» ، أي: لحياة أنفسكمن وحذف، و «تجدوه» جواب الشرط، وهي متعدّية لواحد؛ لأنها بمعنى الإصابة، ومصدرها الوِجْدَان يكسر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 الواو كما تقدم، ولا بد من حذف مضاف أي: تجدوا ثوابه، وقد جعل الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى الهاء عائدة على «ما» ، وهو يريد ذلك؛ لأنَّ الخير المتقدم سبب منقض لا يوجد، إما يوجد ثوابه. [فصل فيما بعد الموت جاء في الحديث أن العبد إذا مات قال الناس: مَا خَلَّشفَ؟ وقالت الملائكة عليهم السلام: ما قَدَّمَ؟ وجاء عن عُمَرَ رضي الله تعالى عَنْهُ أنه مَرَّ ببقيع «الغَرْقَد» فقال: السلامُ عليكمُ يا أهل القبور، أخبارُنَا عنْدَنا أنَّ نِسَاءكم قد تزوَّجْن، ودُروكُم قد سُكِنَتْ، وأموالكم قد قُسَّمَتْ، فأجابه هاتفٌ: يا بان الخطاب، أخبارُ ما عندنا أنَّ ما قدَّمْنَاه وجَدْنَاه، وما أنفقْنَاه فقد ربِحْنَاه، وما خلَّفناه فقد خَسِرْناه؛ وقد أحسن القائلُ حيثُ قال: [الكامل] 735 - قَدِّمْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ مَوْتِكَ صَالِحاً ... وَاعْمَلْ فَلَيْسَ إلى الخُلُودِ سَبِيلُ وقال آخر: [الكامل] 736 - قَدِّمْ لِنَفْسِكَ تَوْبَةً مَرْجُوَّةً ... قَبْلَ المَمَاتِ وَقَبْلَ حَبْسِ الأَلْسُنِ وقال آخر: [السريع] 737 - وَقَدِّمِ الخَيْرَ فَكُلُّ امْرِىءٍ ... عَلَى الَّذِي قَدَّمَهُ يَقْدَمُ] فصل في إعراب الآية قوله: «عِنْدَ اللهِ» يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلّق ب «تَجِدُوهُ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 والثاني: أنه متعلّق بمحذوف على أنه حال من المفعول أي: تجدوا ثوابه مدّخراً معدّاً عند الله تعالى، والظَّرفية هنا مجاز نحو: «لك عند فلان يد» . قوله تعالى: {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي: لا يخفى عليه القليل ولا الكثير من الأعمال فهو ترغيب وتحذير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 اعلم أن هذا نوع آخر من تخليط اليهود، وإلقاء الشبه في قلوب المسلمين. قوله تعالى: {لاَّ مَن كَانَ هُوداً} . «من» فاعل بقوله: «يَدْخُلَ» وهو استثناء مفرغ، فإن ما قبل «إلاَّ» مفتقر لما بعدها، والتقدير: لن يدخل الجنّة أحد، وعلى مذهب الفرَّاء يجوز في «مَنْ» وجهان آخران، وهما النَّصْب على الاستثناء والرفع على البدل من «أحد» المحذوف، فإن الفراء رَحِمَهُ اللهُ تعالى يراعي المحذوف، وهو لو صرّح به لجاز في المستثنى الوجهان المذكوران، فكذلك جاز مع التقدير عنده، وقد تقدّم تحقيق المذهبين. والجملة من قوله تعالى: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن} في محلّ نصب بالقولنوحمل أولاً على لفظ «من» فأفرد الضمير في قوله: «كان» ، وعلى معناها ثانياً فجمع في خبرها وهو «هوداً» ، وفي مثل هاتين الجملتين خلاف، أعني أن يكون الخبر غير فعل، بل وصفاً يفصل بين مذكره ومؤنثه تاء التأنيث. فمذهب جمهور البصريين والكوفيين جوازه، ومذهب غيرهم منعه، منهم أبو العَبَّاس، وهم محجوجون بسماعه من العرب كهذه الآية، فإن هوداً جمع «هائد» على أظهر القولين، نحو: بازل وبُزْل، وعَائد وعُوْد، وحَائِل وحُوْل، وبائِر وبُوْر. و «هائد» من الأوصاف، الفارقُ بين مذكَّرها ومؤنثها «تاء» التأنيث؛ قال الشاعر: [المتقارب] 738 - وَأَيْقَظَ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ نِيَامَا ... و «نايم» جمع نائم، وهو كالأول. وفي «هود» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه جمع هائد كما تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 والثاني: أنه مصدر على «فُعَل» نحو حزن وشرب يوصف به الواحد وغيره نحو: عدل وصوم. والثالث: وهو قول الفراء أن أصله «يهود» ، فحذفت الياء من أوله، وهذا بعيد. و «أول» هنا للتَّفْصيل والتنويع؛ لأنه لما لَفَّ الضمييرَ في قوله تعالى: «وقالوا» : فَصَّل القائلين، وذلك لفهم المعنى، وأمن الإلباس، والتقدير: [وقال اليَهُودُ: لن يدخل الجَنَّة إلاَّ من كان هوداً. وقال الأنصاري: لن يدخل إلاَّ من كان نصارى] ؛ لأن من المعلوم أنَّ اليهود لا تقول: لن يدخل الجنة إلا من كان يهودياً، وكذلك النصارى لا تقول: [لا يدخل الجنة إلا من كان نصرانياص] . ونظيره قوله: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 135] إذ معلوم أن اليهود لا تقول: كونوا نصارى، ولا النَّصارى تقول: كونوا هوداً. صدرت الجملة بالنفي ب «لن» ؛ لأنها تخلص المضارع للاستقبالن ودخول الجنة مستقبل. وقدمت اليهود على النصارى لَفْظاً لتقدمهم زماناً. وقرأ أُبيّ بن كعب «إلاَّ مَنْ كَانَ يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا» . قوله تعالى: {تِلْكَ أَمَانِيُّهمْ} «تلك» مبتدأ، و «أَمَانِيُّهُمْ» خبره، ولا محلّ لهذه الجملة من الإعراب لكونها وقعت اعتراضاً بين قوله: «وَقَالُوا» ، وبين قوله تعالى: {قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ} ، فهي اعتراض بين الدعوى ودليلها. والمشار إليه ب «تلك» فيه ثلاثة احتمالات: أحدها: أنه المقالة المفهومة من: «قَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الجنة» ، أي: تلك المقالة أمانيهم. فإن قيل: كيف أفرد المبتدأ وجمع الخبر؟ فالجواب: أن تلك كناية عن المَقَالة، والمقالة في الأصل مصدر، والمصدر يقع بلفظ الإفراد للمفرد المثنى والمجموع، فالمراد ب «تِلْكَ» الجمع من حيث المعنى. وأجاب الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ أن «تِلْكَ» يشار بها إلى الأماني المذكورة، وهي أمنيتهم [ألا ينزل على المؤمنين خير من ربهم، وأمنيتهم أن يردوهم كفاراً أي] ألاَّ يدخل الجنة غيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 قال أبو حيان رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وهذا ليس بظاهر؛ لأن كل جملة ذكر فيها ودّهم لشيء قد كملت وانفصلت، وانفصلت، واستقلت بالنزول، فيبعد أن يشار إليها. وأجاب الزمخشري أيضاً أن يكون على حذف مضاف أي: أمثال تلك الأمنية أمانيهم، يريد أن أمانيهم جميعاً في البُطْلاَن مثل أمنيتهم هذه يعني أنه أشير بها إلى واحد. قال أبو حيان: وفيه قلب الوَضْع، إذ الأصل أن يكون «تِلْك» مبتدأ، و «أَمَانِيُّهُمْ» خبر، فقلب هذا الوضع، إذ قال: إن أمانيهم في البطلان مثل أمنتيهم هذه، وفيه أنه متى كان الخبر مشبهاً به المبتدأ، فلا يتقدم الخبر نحو: زيد زهير، فإن تقدم كان ذلك من عكس التشبيه كقولك: الأسد زيد شجاعة [قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «العَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا، وَتَمَنَّى عَلَى اللهِ تَعَالَى» وقال علي رَضِيَ اللهُ عَنْه: «لا تتكل على المُنَى، فإنها تضيع المتكل» ] . قوله: «هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ» هذه الجملة في محلّ نصب بالقول. واختلف في «هات» على ثلاثة أقوال: أصحها: أنه فعل، [وهذا هول صحيح لا تَّصَاله بالضمائر المرفوعة البارزة نحو: هاتوا، هاتي، هاتيا، هاتين. الثاني: أنه اسم فعل بمعنى أحضر. الثالث: وبه قال الزمخشري: أنه اسم صوت بمعنى «ها» التي بمعنى: رَامى يُرَامي مُرَامَاة، فوزنه «فاعل» فتقول: هات يا زيد، وهاتي يا هند، وهاتوا وهاتين يا هندات، كما تقول: رَام رَامِي رَامِيا رَامُوا رَامِينَ. وزعم ابن عطية رَحِمَهُ اللهُ أن تصريفه مُهْجُور لا يقال فيه إلاّ الأمر، وليس كذلك. الثاني: أن «الهاء» بدل من الهمزة، وأن الأصل «آتى» وزنه: أفعل مثل أكرم. وهذا ليس بجيد لوجهين: أحدهما: أن «آتى» يتعدى لاثنين، وهاتي يتعدى لواحد فقط. [وثانيهما] : أنه كان ينبغي أن تعود الألف المبدلة من الهمزة إلى أصلها [الزوال] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 موجب قلبها، وهو الهمزة الأولى، ولم يسمع ذلك. الثالث: أن هذه «ها» التي للتنبيه دخلت على «أتى» ولزمتها، وحذفت همزة أتى لزوماً، وهذا مردود، فإن معنى «هات» أحضر كذا، ومعني ائت: احضر أنت، فاختلاف المعنى يدلّ على اختلاف المادة. فتحصل في «هَاتُوا» سعبة أقوال: فعل، أو اسم فعل، أو اسم صوت، والفعل هل ينصرف أو لا ينصرف؟ وهل هاؤه أصلية، أو بدل من همزة، أو هي هاء التنبيه زيدت وحذفت همزته؟ وأصل «هاتو» : «هاتيوا» ، فاستثقلت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى سكنان فحذف أولهما، وضم ما قبله لمُجَانسة «الواو» فصار «هاتوا» . قوله تعالى: «بُرْهَانكُمْ» مفعول به. قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: «البرهان» الدَّليل الذي يوقع اليقين، وجمعه بَرَاهين، مثل قُرْبَان وقرابين، وسُلْطَان وسلآطين «. واختلفوا فيه على قولين: أحدهما: أنه مشتقّ من» البُرْهِ «وهو القطع، وذلك أنه دليل يفيد العلم القطعي، ومنه: بُرْهَة الزمان أي: القطعه منه، فوزنه» فُعْلاَن «. والثاني: أن نونه أصلية لثبوتها في بَرْهَنَ يُبَرْهِنُ بَرْهَنَةً، والبَرْهَنَةُ البَيَانُ، فبرهن فَعْلَلَ لا فَعْلَنَ، لأن فَعْلَنَ غير موجود في أبنيتهمن فوزنه» فَعْلالَ «؛ [وعلى هذين القولين يترتب الخلاف في صَرْف» بُرْهَان «وعدمه، إذا سُمَّيَ به. ودلَّت الآية على أن الدَّليلَ على المدَّعِي، سواءٌ ادَّعَى نفياً، أو إثباتاً، ودلَّتْ على بطلان القول بالتقليد؛ قال الشاعر: [السريع] 739 - مَنِ ادَّعَى شَيْئاً بِلاَ شَاهِدِهْ ... لاَ بُدَّ أَنْ تَبْطُلَ دَعْوَاهُ] وقوله تعالى: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} يعنى: في إيمانمم أي في قولكم: إنكم تدخلون الجنة، أي: بينوا ما قلتم ببرهان. قوله تعالى:» بَلَى «فيه وجوه: الاول: أنه إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنة. الثاني: أنه تعالى لما نفى أن يكون لهم برهان أثبت أن لمن أسلم وجهه لله برهناً. الثالث: كأنه قيل لهم: أنتم على ما أنتم عليه لا تفوزون بالجنَّة، بل إن غيّرتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 طريقتكم، وأسلمتم وجهكم لله، وأحسنتم فلكم الجنة، فيكون ذلك تَرْغيباً لهم في الإسلام، وبَيَاناً لمُفَارقة حالهم لحال من يدخل الجنة لكي يُقْلعوا عما هم عليه، ويعدلوا إلى هذه الطريقة. قوله تعالى: {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ} هو إسلام الفنس لطاعة الله تعالى، وإنما خصّ الوجه بالذكر لوجوه: أحدها: لأنه أشرف الأعظاء من حيث إنه مَعْدن الحواس والفكر والتخيّل [ولذلك يقال: وَجْهُ الأَمْر، أي معظمه؛ قال الأعشَى: [السريع] 740 - أُؤَوِّلُ الحُكْمَ عَلَى وَجْهِهِ ... لَيْسَ قَضَائِي بِالهَوَى الجَائِرِ] فإذا تواضع الأشارف كان غير أولى. وثانيها: أن الوجه قد يكنى به عن النفس، قال الله تعالى {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] ، {إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى} [الليل: 20] . وثالثها: أن أعظم العبادات السجدة، وهي إنما تحصل بالوجه، فلا جرم خصّ الوجه بالذكر. [ومعنى «أسلم» : خضع قال زيد بن عمرو بْن نُفَيْلٍ: [المتقارب] 741 - أوَأَسْلَمُتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ الأَرْضُ تَحْمِلُ صَخْراً ثِثالاً 741 - ب وَأَسْلَمْتُ وَجْهِي لِمَنْ أَسْلَمَتْ ... لَهُ المُزْنُ تَحْمِلُ عَذْباً زُلاَلاً فيكون المراد هنا نفسه، والأمر بإذلالها، وأراد به نفس الشيء، وذلك لايكون إلاَّ بانقياد الخضوع، وبإذلال النَّفْس في طاعة الله عَزَّ وَجَلَّ وتجنبها عن معاصيه] . ومعنى «لله» أي: خالصاً لله لا يشوبه شِرْك. قوله تعالى: «وَهُوَ مُحْسِنٌ» جملة في محلّ نصب على حال [والعامل فيها «أسلم» وهذه الحال حال مؤكدة لأن من «أسلم وجهه لله فهو محسن» ] . وقال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى وهو مُحْسن له في عمله فتكون على رأيه مبيّنة؛ لأن من أسلم وجهه قسمان: محسن في عمله وغير محسن أنتهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 قوله تعالى: «فله أجره» الفاء جواب الشرط إن قيل بأن «مَنْ» شرطية، أو زائدة في الخبر إن قيل بأنها موصولة، وقد تقدم تحقيق القولين عند قوله سبحانه وتعالى: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة: 81] وهذه نظير تلك فليلتفت إليها. وهنا وجه آخر زائد ذكره الزمخشري، وهو أن تكون «مَنْ» فعله بفعل محذوف أي: بلى يدخلها من أسلم، و «فَلَهُ أَجْرُهُ» كلام معطوف على يدخلها هذا نصه. و «لَهُ أَجْرُهُ» مبتدأ وخبره، إما في محلّ جزم، أو رفع على حسب ما تقدّم من الخلاف في «مَنْ» . وحمل على لفظ «مَنْ» فأفرد الضمير في قوله تعالى: {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ} وعلى معناها، فجمع في قوله: {عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} ، وهذا أحسن التركيبين، أعني البداءة بالحمل على اللفظ ثم الحمل على المعنى والحامل في «عند» ما تعلق به «له» من الاستقرار، ولما أحال أجره عليه أضاف الظرف إلى لفظة «الرّب» لما فيها من الإشعار بالإصلاح والتدبير، ولم يضفه إلى الضمير، ولا إلى الجلالة، فيقول: فله أجره عنده أو عند الله، لما ذكرت لك، وقد تقدم الكلام في قوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ} [البقرة: 38] بما فيه من القراءات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 اليهودُ ملَّة معروفة، والياء فيه أصلية لثبوتها في التَّصريف، وليست من مادّة «هود» من قوله تعالى: {هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقد تقدم أن الفراء رَحِمَهُ اللهُ يدعي أن «هُوداً» أصله: يَهُود، فحذفه ياؤه، وتقدم أيضاً عند قوله تعالى: {والذين هَادُواْ} [البقرة: 62] أن اليهود نسبة ل «يهوذا بن يَعْقُوب» . وقال الشَّلَوبِينُ: يهود فيها وجهان: أحدهما: أن تكون جمع يَهُودِيّ، فتكون نكرة مصروفةً. والثاني: أن تكون عَلَماً لهذه القبيلة، فتكون ممنوعةً من الصرف. انتهى.، وعلى الأول دخلت الألف واللام، وعلى الثاني قوله: [الطويل] 742 - أُولَئِكَ أَوْلَى مِنْ بِمِدْحَةٍ ... إِذَا أَنْتَ يَوْماً قُلْتَهَا لَمْ تُؤَنَّبِ وقال آخر: [الكامل] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 743 - فَرّت يَهُودُ وَأَسْلَمَتْ حِيرَانُهَا ..... ... ... ... ... ... ... ... . . ولو قيل بأن «يهود» منقول من الفعل المُضَارع نحو: يزيد ويشكر الكان قَوْلاً حسناً. ويؤيده قولهم: سمّوا يهوداً لاشتقاقهم من هَادَ يَهُودُ إذا تحرك. قوله تعالى: «لَيْسَت النَّصَارَى» «ليس» فعل ناقص أبداً من أخوات «كان» ولا يتصرف، ووزنه على «فَعِل» بكسر الين، كان من حق فائه أن تكسر إذا أسند إلى تاء المتكلم ونحوها على الياء مثل: شئت، إلا أنه لما لم ينصرف بقيت «الفاء» على حالها. وقال بعضهم: «ليست» بضم الفاء، ووزنه على هذه اللغة: فَعُل بضم العين، ومجيء فَعُل بضمّ العين فيما عينه ياء نادر، لم يجىء منه إلاَّ «هيؤ الرجل» ، إذا حسنت هيئته. وكون «ليس» فعلاً هو الصحيح خلافاً للفارسي في أحد قوليه، ومن تابعه في جعلها حرفاً ك «ما» كما قيل ويدلّ على فعليتها اتصال ضمائر الرَّفْع البارزة بها، ولها أحكام كثيرة، و «النَّصَارى» اسمها، و «عَلَى شَيْءٍ» خبرها، وهذا يحتمل أن يكون مما حذفت فيه الصفة، أي على شيء معتدّ به كقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] أي: أهلك الناجين، وقوله: [الطويل] 744 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... ... ... ... ... . لَقَدْ وَقَعْتِ عَلَى لَحْمِ أي: لحم عظيم، وأن يكون نفياً على سبيل المُبَالغة، فإذا نفى إطلاق الشيء على ما هم عليه، مع أن الشيء يُطْلق على المعدوم عند بعضهم كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد به، وصار كقوله: «أقل من لا شيء» . فصل في سبب نزول هذه الآية روي أن وقد نجران لما قدموا على رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتاهم أحبار اليهودن فتناظروا حتى ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شيء من الدين، وكفروا بعيسى عليه السلام والإنجيل. وقالت النصارى لهم نحوه، كفروا بموسى عليه السَّلام والتوراة، فأنزل الله هذه الآية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 واختلفوا فيمن هم الذين عناهم الله تعالى أَهُمُ الذين كانوا زمن بعثة عيسى عليه السلام أو في زمن محمد عليه السلام؟ [فإن قيل: كيف قالوا ذلك مع أن الفريقين كانوا يثبتون الصَّانع وصفاته سبحانه، وذلك قوله فيه فائدة؟ والجواب عندهم من وجيهن: الأول: أنهم لما ضمّوا إلى ذلك القول الحسن قَوْلاً باطلاً يحبط ثواب الأول، فكأنهم لم يأتوا بذلك الحق. قوله تعالى: «وَهُمْ يَتْلُونَ» جملة حالية، وأصل يتلون: يَتْلُوُونَ فأعلْ بحذف «اللاَّم» ، وهو ظاهر. و «الكتاب» اسم جنس، أي قالوا ذلك حال كونهم من أهل العلوم والتلاوة من كتب، وحَقُّ من حمل التوراة، أو الإنجيل، أو غيرهما من كتب الله، وآمن به ألاَّ يكفر بالباقي؛ لأن كل واحد من الكتابيين مصدق للثاني شاهد لصحته. قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} في هذه الكاف قولان: أحدهما: أنها في محلّ نصب، وفيها حينئذ تقديران: أحدهما: أنها نعت لمصدر محذوف قدم على عالمه، تقديره: قولاً مثل ذلك القول [الذي قال أي قال القول] الذين لا يعلمون. [الثاني: أنها في محلّ نصب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه. قال: تقديره: مثل ذلك القول قاله أي: قال القول الذين لا يعلمون] حال كونه مثل ذلك القول، وهذا رأي سيبويه رَحِمَهُ اللهُ، والأول رأي النُّحَاة، كما تقدم غير مرة، وعلى هذين القولين ففي نصب «مِثْلَ قَوْلِهم» وجهان: أحدهما: أنه منصوب على البدل من موضع الكاف. الثاني من الوجهين: أنه مفعول به العامل فيه «يَعْلَمُونَ» ، أي: الذين لا يعملون مثل مَقَالة اليهود، والنَّصَارى قالوا مثل مقالتهم، أي: أنهم قالوا ذلك على سبيل الاتِّفاق، وإن كانوا جاهلين بمقالة اليَهُود والنصارى. الثاني من القولين: أنها في محلّ رفع بالابتداء، والجملة بعدها خبر، والعائد محذوف تقديره: [مثل ذلك قاله الذين لايعملون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 وانتصاب «مِثْلَ قَوْلِهِمْ» حينئذ إما على أنه نعت لمصدر محذوف، أو مفعول ب «يعلمون» تقديره] مثل قول اليهود والنصارى قال الذين لا يعملون اعتقاد اليهود والنصارى، ولا يجوز أن ينتصب نصب المفعول يقال لأنه أخذ معفوله، وهو العائد على المبتدأ، ذكر ذلك أبو البقاء، وفيه نظر من وجهين: أحدهما: أن الجمهور يأبى جعل الكاف اسما. والثاني: حذف العائد المنصوب، [والنحاة] ينصُّون على منعه، ويجعلون قوله: [السريع] 745 - وَخَالِدٌ يَحْمدُ سَادَاتُنا ... بِالْحَقِّ لاَ يُحْمَدُ بَالْبَاطِلِ ضرورة. [وللوكفيين في هذا تفصيلٌ] . فصل في المراد بالذين لا يعلمون قوله تعالى: {قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} فقال مقاتل رَحِمَهُ اللهُ: إنهم مشركو العرب قالوا في نبيهم محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأصحابه: إنهم ليسوا على شيء من الدين، فبيّن تعالى أنه إذا كان قول اليهود والنَّصَارى، وهم يقرؤون الكتاب لا يلتفت إليه فقول كفار العرب أولى ألاَّ يلتفت إليه. وقال مجاهد: عوام النصارى فَصْلاً بين خواصهم وعوامهم. وقال عطاء: أسماء كانت قبل اليهود والنصارى مثل قوم نوح، وقوم هود وصالح، ولوط وشعيب، قالوا لنبيهم: إنه ليس على شيء. وقيل: إن حملنا قوله: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ} على الحاضرين في زمن صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حملنا قوله: {قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} على المُعَاندين المتقدمين ويحتمل العكس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 قوله: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: قال الحسن: يكذبهم جميعاً، ويدخلهم النار. وثانيها: ينصف المظلوم المكذَّب من الظالم المكذِّب. وثالثها: يريهم من يدخل الجنة عياناً، ومن يدخل النار عياناً، وهو قول «الزجاج» . قوله: {بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} منصوبان ب «يحكم» ، و «فيه» متعلق ب «يَخْتَلِفُونَ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 «مَنْ» استفهام في محلّ رفع بالابتداء، و «أظْلَمُ» أفعل تفضيل خبره، ومعنى الاستفهام هنا النفي، أي: لا أحد أظلم منه، ولما كان المعى على ذلك أورد بعض الناس سؤالاًنوهو أن هذه الصيغة قد تكررت في القرآن {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى} [الأنعام: 21] {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ} [السجدة: 22] {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله} [الزمر: 37] كل واحدة منها تقتضي أن المذكور لا يكون أحد أظلم منه، فكيف يوصف غيره بذلك؟ والجواب من وجوه: أحدها: وهو أن يخصّ كل واحد بمعنى صلته كأنه قالك لا أحد من المنانعين أظلم ممن منع من مساجد الله، ولا أحد من المفترين أظلم ممن افترى على الله، ولا أحد من الكَذَابين أظلم ممن كذب على الله، وكذلك ما جاء منه. الثاني: أن التَّخصيص يكون بالنيِّسْبة إلى السَّبْق، لما لم يسبق أحد إلى مثله حكم عليهم بأنهم أظلم ممن جاء بعدهم سالكاً طريقهم في ذلك، وهذا يؤول معناه إلى السبق في المانعية والافترائية ونحوها. الثالث: أن هذا نفي للأظلمية، ولما كان نفي الأظلمية لا يستدعي نفي الظَّالمية لم يكن مناقضاً؛ لأن فيها إثبات التسوية في الأظلمية، وإذا ثبتت التسوية في الأظلمية لم يكن أحد ما وصف بذلك يزيد على الآخر؛ لأنهم متساوون في ذلك، وصار المعنى: ولا أحد أظلم ممن منع، وممن افترى وممن ذكر،، ولا إشكال فى تساوي هؤلاء في الأظلمية، ولا يدلّ ذلك على أن أحد هؤلاء يزيد على الآخر في الظلم، كما أنك إذ قلتك «لا أحد أفقه من زيد وبَكْر وخالط» لا يدلّ على أن أحدهم أَفْقَهُ من الآخر، بل نفيت أن يكون أحد أفقه منهم، لا يقال: إن من منع مساجد الله، وسعى في خَرَابها، ولم يفتر على الله كذباً أقلّ ظلماً ممن جمع بين هذه الأشياء، فلا يكونون متساوين في الأظلمية إذ هذه الآيات كلها في الكُفَّار، وهم متساوون في الأظلمية إذْ كانت طرق الأظلمية مختلفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولة، فلا محلّ للجملة بعدها، وأن تكون موصوفةً فتكون الجملة محلّ جار صفة لها. و «مَسَاجِدَ» مفعول أول بت «منع» ، وهي جمع مسجد، وهو اسم مكان السجود، وكان من حقه أن يأتي على «مَفْعَل» بالفتح لانضمام عين مضارعة، ولكن شذّ كسره، [كما شذّت ألفاظ تأتي] . وقد سمع «مَسْجَد» بالتفح على الأصل. قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: قال الفَرَّاء: كل ما كان على «فَعَلَ يَفْعُل» ، مثل دَخَلَ يَدخُل، فالمَفْعَل منه بالفتح اسماً كان أو مصدراً، ولا يقع فيه الفرق، مثل: دخل يَدْخُل مَدْخَلاً، وهذا مَدْخَلُه، إلاَ أحرفاً من الأسماء ألزموها كسر العين، من ذلك: المَسْجِد، والمَطْلع، المَغْرِب، والمَشْرِقن والمَسْقِط، والمَفْرِق، والمْجزِر، والمَسْكِن، والمَرْفِق، من: رفَقَ يَرْفُق، والمَنْبِت، والمنْسك مَنْك نَسَكَ يَنْسُك، فجعلوا الكَسر علامة للاسم. والمَسْجَد بالفتح جَبْهَةُ الرجل حيث يصيبه مكان السجود. قال الجوهري رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الأعظاء السَّبعة مَسَاجد، وقد تبدل جيمه ياء، ومنه: المَسْجد لغة «. قوله تعالى:» أَنْ يُذْكَرَ «ناصب ومنصوب، وفيه أربع أوجه: أحدها: أنه ثاني ل» منع «، تقول: منعته كذا. وقال أبو حيان: فتعين حذف مضاف أي دخول مساجد الله، ما أشبهه. والثالث: أنه بدل اشتمال من» مَسَاجِدَ «أي: منع ذكر اسمه فيها. والرابع: إنه على إسقاط حرف الجر، والأصل من أن يذكر، وحينئذ يجيء فيها مذهبان مشهوران م كونها في محلّ نصب أو جر، و» في خرابها «متعلق ب» سعى «. واختلف في» خراب «فقال أبو البقاءك» هو اسم مصدر بمعنى التخريب كالسَّلام بمعنى التسليم، وأضيف اسم المصدر لمفعوله؛ لأنه يعمل عمل الفعل «. وهذا على أحد القولين في أسم المصدر، هل يعمل أو لا؟ وأنشدوا على إعماله: [الوافر] 746 - أَكُْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرِّتَاعَا وقال غيره: هو مصدر: خَرِبَ المكمان يَخْرُبَ خرباًن فالمعنى: سعى في أن تَخْرب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 406 هي بنفسها بعدم تَعَاهدها بالعِمَارة، ويقال: منزل خَرَاب وخَرِب؛ كقوله: [البسيط] 747 - ما رَبْعُ مَيِّةَ مَعْمُوراً يَطِيفُ بِهِ ... غَيْلاَنُ أَبْهَى رُباً مِنْ رَبْعِها الخَرِبِ فهو على الاول مضاف للمفعول وعلى الثاني مضاف للفاعل. فصل في تعلق الآية بما قبلها في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه: فأما من حملها على النصارى، وخراب» بيت المقدس «قال: تتصل بما قبلها من حيث النصارى ادّعوا أنهم من أهل الجنة فقط. فقيل لهم: كيف تكونون كذلك مع أن معاملتكم في تخريب المساجد، والسعي في خراباها هكذا؟ وأما من حمله على المسجد الحرام، وسائر المساجد، قال: جرى مشركي العرب في قوله تعالى: {كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ} [البقرة: 113] . وقيل: [ذم جميع الكفار] ، فمرة وجه الذَّنب إلى اليهود والنصارى، ومرة إلى المشركين. فصل فيمن خرب» بيت المقدس « قال بن عباس رضي الله تعالى عنه: [إن ملك النصارى غزا» بيت المقدس «فخربه، وألقى فيه الجيف، وحاصر أهله، وقلتهم، وسبى البقية، وأحرق التوراة] ، ولم يزل» ببيت المقدس «خراباً حتى بناه أهل الإسلام في زمن عمر. وقال الحسن وقتادة والسديك نزلت في بخت نصر وأصحابه غزو اليهود وخربوا بيت المقدس، وأعانه على ذلك [الرومي وأصحابه النصارى من أهل» الروم «. قال السدي: من أجل أنهم قلتوا يحيى بن زكريا عليهما السلام. قال قتادة: حلمهلم بغض اليهود على معاونة بخث نصر البابلي المجوسي] . قال ابو بكر الرازي رَحِمَهُ اللهُ تعالى في «أحكام القرآن» : هذان الوَجهان غلطان؛ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 407 لأنه لا خلاف بين أهل العلم بالسير أن عهد «بختنصّر» كان قبل مولد المسيح عليه السلام بدهر طويل، والنصارى كانوا بعد المسيح، فيكف يكونون مع بختنصّر في تخريب «بيت المقدس» ؟ وأيضاً فإن النصارى يعتقدون في تعظيم «بيت المقدس» مثل اعتقاد اليهود وأكثر، فكيف أعانوا على تخريبه. وقيل: نزلت في مشركي العَرَبِ الذين منعوا الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن الدعاء إلى الله ب «مكة» وألجئوه إلى الهِجْرةن فصاروا مانعين له ولأصحابه أن يذكروا الله في المسجد الحرام، وقد كان الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْه بنى مسجداً عند دارهن فمنع وكان ممن يؤذيه وِلْدَان قريش ونساؤهم. وقيل: إن قوله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110] نزلت في ذلك، فمنع من الجهر لئر يؤذى، وطرح أبو جهل العذرة على ظهر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقيل: ومن أظلم من هؤلاء المشركين الذين يمنعون المسلمين الذين يوحّدون الله ولا يشركون به شيئاً، ويصلون له تذللاً، وخشوعاًن ويشغلون قلوبهم بالفكر فيه، وألسنتهم بالذكر له، وجميع جسدهم بالتذلُّل لعظمته وسلطانه. وقال أبو مسلم: المراد منه الذين صّدُّوه عن المسجد الحرام حين ذهب إليه من «المدينة» عام «الحديبية» ، واستشهد بقوله تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [الفتح: 25] حلم قوله تعالى: «إلاَّ خَائِفِينَ» بما يعلي الله من يده، ويظهر من كلمته، كما قال في المُنَافقين: {ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ إِلاَّ قَلِيلاً مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثقفوا أُخِذُواْ وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً} [الأحزاب: 6061] . [فإن قيل: كيف يجوز حمل لفظ المساجد علكى مسجد واحد؟ والجواب: أن هذا كمن يقول: من أظلم ممن آذى صالحاً واحداً، ومن أظلم ممّن آذى الصالحين. أو يقال: إن المسجد موضع السجود، والمسجد الحرام لا يكون في الحقيقة مَسْجداً واحداً] . قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه خامس، وهو أقرب إلى رعاية النظم، وهو أن يقال: إنه لما حولت القِبْلَة إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهودن فكانوا يمنعون النَّاس عن الصَّلاة عند توجّههم إلى الكعبة، ولعلّهم أيضاً سعةوا في تخريب الكعبة بأن حملوا بعض الكفار على تخريبها، وسعوا أيضاً في تخريب مسجد الرَّسُول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لئلا يصلوا فيه متوجّهين إلى القِبْلَةِ، فعابهم الله بذلكن وبيّن سوء طريقتهم فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 قال: وهذا التأويل أوْلَى مما قبله، وذلك لأن الله تعالى لم يذكر في الآيات السَّابقة على هذه الآية إلاَّ قبائح أفعال اليهود ولنصارى، وذكر أيضاً بعدها قَبَائح أفعالهم، فكيف يليق بهذه الآية الواحدة أن يكون المراد منها قبائح أفعال المشركين في صَدّهم الرسول عن المَسجِدِ الحرام. وأما حمل الآية على سَعْيِ النَّصَارى في تخريب «بيت المقدس» فضعيف أيضاً على ما شرحه أبو بكر الرَّازي رَحِمَهُ اللهُ تعالى، فلم يبق إلاَّ ما قلناه. فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي أن هذا الفعل أعظم أنواع الظلم، وفيه إشكال؛ لأن الشرك ظلم على ماقال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 113] مع أن الشِّرك أعظم من هذا الفعل، كذا الزنا، وقتل النفس أعظم من هذا الفعل. فالجواب عنه: [مضى ما في الباب] أنه عام دخله التخصيص، فلا يقدح فيه. والله أعلم. فصل فيما يستدل بالآية عليه قال القُرْطبي رَحِمَهُ اللهُ: لا يجوز منع المرأة من الحجّ إذا كانت ضرورة، سواء كان لها محرم أم لم يكن، ولا تمنع أيضاً من الصَّالا في المَسَاجد، ما لم يخف عليها الفتنة لقوله عليه الصلاة واسلام: «لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» وكذلك لا يجوز نقض المسجد، ولا بيعه، ولا تعطيله، إن خربت المحلّة، ولا يمنع بناء المساجد إلاَّ أن يقصدوا الشِّقاق والخلاف، بأن يَبْنُوا مسجداً إلى جنب مَسْجد أو قَرْية، يريدون بذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 تفريق أهل المسجد الأول وخرابه، واختلاف الكلمة، فإن المسجد الثَّاني ينقض، ويمنع من بنيانه، وسيأتي بقية الكلام [في سورة «براءة» إن شاء الله تعالى] . قوله تعالى: {أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ} . «أولئك» مبتدأ، «لهم» خبر «كان» مقدّم على اسمها، واسمها «أنْ يَدْخُلُوهَا» لأنه في تأويل المصدر، أي: ما كان لهم الدخول، والجملة المنفية محلّ رفع خبر عن «أولئك» . قوله: إلاَّ خَائِفِينَ «حال من فاعل» يَدْخُلُوهَا «وهذا استثناء مفرّغ من الأحوال؛ لأن التقدير: ما كان لهم الدخول في جميع الأحوال، إلاَّ في حالة الخوف. وقرأ أبي» خُيَّفاً «وهو جمع خَائِف، ك» ضارب و «ضُرّب» ، والأصل: خُوَّف ك «صُوَّم» ، إلا أنه أبدل الواوين ياءين وهو جائز، قالوا: صوم وصيم، وحَمَل أولاً على لفظ «من» ، فأفرد في قوله: «منع، وسعى» وعلى معناه ثانياً، فجمع في قوله: «أولئك» وما بعده. فصل في ظاهر الآية ظاهر الآية يقتضي أنَّ الذين منعوا وسعوا في تخريب المَسْجد هم الذين يحرم عليهم دخوله إلاَّ خائفين. وأما من جعله عامَّا في الكل، فذكروا في تفسير هذا الخوف وجوهاً: أحدها: ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مَسَاجد الله إلاَّ خائفين على حال الهيبة؛ وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فَضْلاً أن يستولوا عليها، ويمنعوا المؤمين منها، ولمعنى فما كان الحقّ والواجب إلا ذلك الولاء ظلم الكفرة وعتوّهم. وثانيها: أن هذا بشارة من الله للمسلمين بأنه سيظرهم على المسجد الحرام، وعلى سائر المساجد، وأنه يذلّ المشركين لهم حتَّى لا يدخل المسجد الحرام واحد منهم إلاَّ خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب، أو يقتل إن لم يسلمنوقد أنجز الله تعالى ت صدق هذا الوعد، فمنعهم من دخول المسجد الحرام، ونادى فيه عام حجّ أبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْه: «ألا لا يحجن بعد العام مشرك» ن وأمر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأخراج اليهود من جزيرة العرب، فحجّ من العام الثاني ظارهاً على المساجد لا يجترىء أحد من المشركين أن يحج ويدخل المسجد الحرام، وهذا هو تفسير أبي مسلم. ثالثها: أن يحمل هذا الخوف على ما يلحقهم من الصَّغّار والذل بالجِزْيَةِ والإذْلال. ورابعها: أنه يحرم عليهم دخول المسجد الحرام، إلاّ في أمر يتضمن الخوف نحو أن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 يدخلوا للمُخَاصمة والمُحَاكمة والمُحَاجّة؛ كلّ ذلك يتضمّن الخوف، والدليل عليه قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ} [التوبة: 17] . وخامسها: قال قتادة والسُّديك بمعنى أن النصارى لا يدخلون «بيت المقدس» إلا أكثر من مائة سنة في أيدي النَّصَارى بحيث لم يتمكّن أحد من المسلمين من الدُّخول فيه إلا خائفاً، إلى أن استخلصه الملك صلاح الدين رَحِمَهُ اللهُ في زماننا. وسادسها: أنه كان لفظه لفظ الخبر، لكن المراد منه النهي عن تمكينهم من الدخول، والتخلية بينهم وبينه كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الأحزاب: 53] . [وسابعها: أنه خبر بمعنى الإنشاء أي أنهضوهم بالجهاد حتى لا يدخلها أحد منهم إلاَّ خائفاً من القتل والسَّبي] . قوله: {لَّهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ} هذه الجملة وما بعدها لا محلّ لها لاستئنافها عما قبلها، ولا يجوز أن تكون حالاً، لأن خزيهم ثابتٌ على كلّ حال لا يتقيّد بحال دخول المساجد خاصّة. اختلفوا في الخِزْي، فقال بضعهم: ما يلحقهم من الذُّل بمنعهم من المساجد، وقال قتادة القَتْلُ للخزي، والجزية للذمي. وقال السدي: الخزي لهم في الدنيا قيام المهدين وفتح «عَمورِيّة» و «رُومِيَّة» و «قُسْطَنْطِنيَّة» ، وغير ذلك من مُدنهم، والعَذاب العظيم [فقد وصفه الله تعالى ت بما] يجري مجري النهاية في المبالغة؛ لأن الذين قدم ذكرهم وصفهم باعظم الظلمن فبيّن أنهم يستحقون العقاب العظيم. فصل في دخول الكفار المسجد اختلفوا في دخول الكافر المسجد، فجوزه أبو حنيفة مطلقاً، وأباه مالك مطلقاً. وقال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: يمنع دخول الحرم، والمسجد الحرام، واحتج بوجوه منها قوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] ، قال: قد يكون المراد المسجد الحرام الحرم لقوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام} [الإسراء: 1] وإنما أسرى به من بيت خديجة فالآية دالة، إما على المسجد فقط، أو على الحرم كله، وعلى التقديرين، فالمقصود حاصل؛ لأن الخلاف حاصل فيهما جميعاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 فإن قيل: المراد به الحجّ لقوله: {بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] لأن الحجّ إما يفعل في السنة مرة واحدة. فالجواب من وجوه: أحدها: أنه ترك للظَّاهر من غير موجب. الثَّاني: ثبت في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون ذلك الوصف علّة لذلك الحكم، وهذا يقتضي أن المانع من قربهم من المسجد الحرام نَجَاستهم، [وذلك يقتضي أنهم ما داموا مشركين كانوا ممنوعين عن المسجد الحرام] . الثالث: أنه تعالى لو أراد الحج لذكر البقاع ما يقع فيه معظم أركان الحج هو «عرفة» . الرابع: الدَّليل على أن المراد دخول الحرم لا الحج فقط قوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 28] فأراد به الدخول للتجارة. منها قوله تعالى: {أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ} وهذا يقتضي أن يمنعوا من دخول المساجد، وأنهم متى دخلوا كانوا خائفين من الإخراج إلاَّ ما قام عليه الدليل. فإن قيل: هذه الآية مخصوصة بمن خرب «ببيت المقدس» ، أو بمن منع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من العِبَادَةِ في الكعبة. وأيضاً يحتمل أن يكون خوف الجزية والإخراج. فالجواب عن الأول: أن الآية ظاهرة في العموم فتخصيصه ببعض الصور خلاف الظاهر، وعن الثاني أن الآية تدل على أن الخوف إنما يحصل من الدخولن وعلى ما يقولونه لا يكون الخوف متولداً من الدخول، بل من شيء آخر. ومنها [أن الحرم واجب التعظيم والتكريم والتشريف والتفخيم، وأن صونه عمّا يوجب تحقيره واجبٌ، وتميكن الكُفَّار من الدخول فيه تفويض له بالتحقير؛ لأنهم لفسادهم ربما استخفُّوا به، وأقدموا على تلويه وتنجسه. ومنها أنه تعالى] أمر بتطهير البيت في قوله: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} [البقرة: 125] والمشرك نجس لقوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] . والتطهير على النجس واجب، فيكون تعبيد الكافر عنه واجباً، وبأنا أجمعنا على أن الجُنب يمنع منه، فالكافر بأن يمنع منه أولى. واحتج أبو حنيفة رَحِمَهُ اللهُ بأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لماتقدم عليه وفد « الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 يثرب» فأنزلهم المسجد بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ وَمَنْ دَخَلَ الكَعْبَةَ فِهُوَ آمِنٌ» . وهذا يقتضي إباحة الدخول. وأيضاً فالكافر جاز له دخول سائر المساجد، فكذلك المسجد الحرام كالمسلم. الجواب عن الحديثين: أنهما كانا في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بالآية، وعن القياس أن المسجد الحرام [أعظم] قدراً من سائر المساجد، فظهر الفرق، والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 قوله: عَزَّ وَجَلَّ: {وَللَّهِ المشرق والمغرب} جلمة مرتبطة بقوله: «مَنَعَ مَسَاجِدَ اللهِ، وسَعَى في خَرَابِهَا» . يعنى: أنه إن سعى في المنع من ذكره تعالى وفي خراب بيوته، فليس في ذلك مانعاً من أداء العبادة في غيرها؛ لأن المشرق والمغرب، وما بينهما له تعالى، والتنصيص على ذكر المشرق والمغرب دون غيرها لوجهين: أحدهما: لشرفهما حيث جعلا لله تعالى. والثاني: أن يكون من حذف المعلوم للعلم، أي: لله المشرق والمغرب وما بينهما، كقوله: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] والبرد؛ وكقول الشاعر: [البسيط] 748 - تَنْفِي بَدَاهَا الحَصَى في كُلَّ هاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدَّرَاهِيمِ تَنْقَادُ الصَّيارِيفِ أي: يداها ورِجْلاَهَا؛ ومثله: [الطويل] 749 - كأَنَّ الحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأَمَامِهَا ... إَّذَا نَجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أَعْسَرَا أي: رجلُها ويدَاها. وفي المشرق والمغرب قولان: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 أحدهما: أنهما اسمان مكان الشروق والغروب. والثاني: أنهما اسما مصدر، أي: الإشراق والإغراب، والمعنى: لله تعالى تولي إشراق الشمس من مشرقها، وإغرابها من مغْربها، وهذا يبعده قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} ، وأفرد المشرق والمغرب إذ المراد ناحيتهما، أو لأنهما مصدران، وجاء المَشَارق والمغارب باعتبار وقوعهما في كل يوم، والمشرقين والمغربين باعتبار مشرق الشتاء والصيف ومغربيهما، وكان من حقهما فتح العين لما تقدم من أنه إذا لم تنكسر عين المضارع، فحق أسم المصدر والزمان والمكان فتح العين، ويجوز ذلك قياساً لا تلاوة. قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ} «أَيْنَ» هنا اسم شرط بمعنى «إنْ» و «ما» مزيدةٌ عليها، و «تولو» مجزوم بها. وزيادة «ما» ليست لازمةً لها؛ بدليل قوله: [الخفيف] 750 - أَيْنَ تَضْرِبْ بِنَا العُدَاةَ تَجِدْنَا ..... ... ... ... ... ... . وهي ظرف مكان، والناصب لها ما بعدها، وتكون اسم استفهام أيضاً، فهي لفظ مشترك بين الشرط والاستفهام ك «مَنْ» و «مَا» . وزعم بعضهم أن أصلها السؤال عن الأمكنة، وهي مبنية على الفتح لتضمنها معنى حرف شرط أو الاستفهام. وأصل تُولُوا: تُولِّيوا فأعل بالحذفن وقرأ الجمهور: تُوَلُّوا «بضم التاء واللام بمعنى تستقبلوا، فإن» ولى «وإن كان غالب استعمالها أدبر، فإنها تقتضي الإقبال إلى ناحية ما. تقول: وليت عن كذا إلى كذا، وقرأ الحسن:» تَوَلَّوا «بفتحهما. وفيها وجهان: أن يكون مضارعاً، والأصل: تتولوا من التولية، فحذف إحدى التاءين تخفيفاً، نحو: {تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4] . والثاني: أن يكون ماضياً، والضمير للغائبين ردّاً على قوله:» لَهُمْ في الدُّّنْيَا ولهم في الآخرة «فتتناسق الضمائر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 وقال أبو البقاء: والثاني: أنه ماض والضمير للغائبين، والتقدير: إينما يَتَلّوا، يعنى: أنه وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معى ثم قال: وقد يجوز أن يكون ماضياً قد وقع، ولا يكون» أين «شرطاً في اللفظ، بل في المعنى، كما تقول:» ما صنعتَ صنعتُ «إذا أردت الماضي، وهذا ضعيف؛ لأن» أين «إما شرط، أو استفهما، وليس لها معنى ثالث. انتهى وهو غير واضح. قوله: {فَثَمَّ وَجْهُ الله} الفاء وما بعدها جواب الشَّرْط، فالجملة في محلّ جزم، و «ثَمَّ» خبر مقدمن و «وَجْهُ اللهِ» رفع بالابتداء، و «ثَمَّ» اسم إشارة للمكان البعيد خاصة مثل: هنا وهنَّا بتشديد النون، وهو مبني على الفتح لتضمّنه معنى حرف الإشارة أو حرف الخطاب. قال أبو البقاء: لأنك تقول في الحاضر هنا وفي الغائب هناك، وثَمَّ ناب عن هناك [وهذا ليس بشيء] . وقيل: بني لشبهه بالحَرْشفِ في الافتقار، فإنه يفتقر إلى مشار إليه، ولا ينصرف بأكثر من جره ب «من» . ولذلك غَلِظ بعضهم في جعله مفعولاً في قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} [الإنسان: 20] ، بل مفعول «رأيت» محذوف. فصل في نفي التجسيم وهذه الآية من أقوى الدلائل على نفي التجسيم وإثبات التنزيه؛ لأنه لو كان الله تعالى جسماً، وله جه جسماني لكان مختصاً بجانب معين وجهةٍ معينة، ولو كان كذلك لكان قوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} كذبان ولأن الةوجه لو كان محاذياً للمشرق لاستحال في ذلك الزمان أن يكون محاذياً للمغرب أيضاً، وإذا ثبت هذا، فلا بد فيه من التأويل، ومعنى «وَجْهُ اللهِ» جهته التي ارتضاها قِبْلَةٌ وأمر بالتوجه نحوها، أو ذاته نحو: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 68] ، أو المراد به الجَاهُ، أي: فَثَمَّ جلال الله وعظمته من قولهم: هو وجه القول، أو يكون صلةً زائداً، وليس بشيء. وقيل: المراد به العمل قاله الفراء؛ وعليه قوله: [البسيط] 751 - أَسْتَغْفِرُ اللهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصٍيَهُ ... رَبَّ العِبَادِ إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 [قوله تعالى: «وَاسِعُ عَليم» أي: يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم. وقيل: واسع المغفرة. فصل في سبب نزول الآية في سبب نزول الآية قولان: أحدهما: أنه أمر يتعلّق بالصلاة. والثاني: في أمر لا يتعلق بالصلاة. فأما القول الأول فاختلفوا فيه على وجه: أحدها: أنه تعالى أراد به تحويل المؤمنين عن استقابل «بيت المقدس» إلى الكعبة، فبيّن تعالى أن المشرق والمغرب، وجميع الجهات كلّها مملوكة له سبحانه وتعالى، فإينما أمركم الله عزّ وجلّ باستقباله فهو القبلة؛ لأن القبلة ليست قبلة لذاتها؛ بل لأن الله تعالى جعلها قبلة، فهو يدبر عباده كيف يريد] وكيف يشاء فكأنه تعالى ذكر ذلك بياناً لجواز نسخ القبلة من جانب إلى جانب آخر. وثانيها: قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما لما تحولت القِبْلَة عن «بيت المقدس» أنكرت اليهود ذلك، فنزلت الآية ونظيره قوله تعالى: {قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] . وثالثها: قال أبو مسلم: إن اليهود والنَّصَارى كل واحد منهم قال: إنَّ الجنة له لا لغيره، فردَّ الله عليهم بهذه الآية؛ لأن اليهود إنما استقبلوا «بيت المقدس» ؛ لأنهم اعتقدوا أن الله تعالى صعد السماء من الصَّخرة والنصارى استقبلوا المشرق؛ لأن مريم انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً، فولدت عيسى عليهما الصلاة والسلام هناك، فردَّ الله عليهم أقوالهم. ورابعها: قال قتادة وابن زيد: إن الله تعالى نسخ «بيت المقدس» بالتخيير إلى أي جهة شاء بهذه الآية، فكان للمسلمين أن يتوجّهوا إلى حيث شاءوا في الصلاة، إلاَّ أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يختار التوجّه إلى «بيت المقدس» ، مع أنه كان له أن يتوجّه حيث شاء، ثم إنه تعالى نسخه ذلك بتعيين الكعبة. وخامسها: أن المراد بالآية من هو مشاهد الكعبة، فإنّ له أن يستقبلها من أي جهة شاء وأراد. [وسادسها: ماروى عبد الله بن عامر بن ربيعة رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: كنا مع رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ليلة سوداء مظلمة فلم نعرف القبلة، فجعل كل واحد منا مسجده حجارة موضوعة بين يديه، ثم صلينا فلما أصبحنا، فإذا نحن على غير القِبْلَةِ، فذكرنا ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فانزل الله تعالى هذه الآية، وهذا الحديث يدلّ على أنهم نقلوا حينئذ إلى الكعبة؛ لأن القتال فرض بعد الهجرة بعد نسخ «بيت المقدس» ] . وسابعها: أن الآية نزلت في المسافر يصلى النوافل حيث تتوجّه به راحتله. وعن سعيد بن جبر عن ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهما أنه قال: «إنما نزلت هذه الآية في الرَّجل يصلي إلى حيث توجّهت به راحتله في السفر» . قال ابن الخطيب: فإن قيل: فأي هذه الأقاويل أقرب إلى الصَّواب؟ قلنا: إن قوله تبارك وتعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} مشعر بالتخيير، والتخيير لا يَثْبُت إلا في صورتين: إحداهما: في التَّطوع على الراحلة. وثانيهما: في السفر عند تعذُّر الاجتهاد لظلمه أو لغيرها؛ لأن في هذين الوجهين المصّلي مخير. فأما على غير هذين الوجهين فلا تخيير، والذين حملوا الآية على الوجه الأول، فلهم أن يقولوا: إن القِبْلَةَ لمّا حولت تكلم اليهود في صلاة الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصلاة المؤمنين إلى بيت المقدس، فبين تعالى بهذه الآية أن تلك القبلة كان التوجه إليها صواباً في ذلك الوقت، والتوجه إلى الكعبة صواب في هذا الوقت، وبين أنهم أينما يولوا من هاتين القِبْلَتَين في المأذون فيه، فَثَمَّ وجه الله، قالوا: وحمل الكلام على هذا الوجه أولى؛ لأنه يعم كل مصلِّ، وإذا حمل على الأول لا يعم؛ لأنه يصير محمولاً على التَّطوع دون الفرد، وعلى السفر في حالة مخصوصة دون الحضر، وإذا أمكن إجراء اللفظ العام على عمومه، فهو أولى من التخصيص، وأقصى ما في ال «فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا» باب أن يقال: إنَّ على هذا التأويل لا بد أيضاً من ضرب تقييد وهو أن يقال: من الجهات المأمور بها «فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» إلاَّ أن هذا الإضمار لا بد منه على كلّ حال؛ لأنه من المحال أن يقول تعالى: «فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا» بحس ميل أنفسكم «فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ» ، بل لا بد من الإضمار الذي ذكرناهن وإذا كان كذلك، فقد زالت طريقة التخيير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 القول الثاني: أنَّ هذه الآية نزلت في آمر سوى الصَّلاة وفيه وجوه: أولها: أن المعنى أن هؤلاء الذين ظلموا بمنع مساجي أن يذكر فيها اسمي، وسعوا في خرابها أولئك لهم كذا وكذا، ثم إنهم أينما ولُّوا هاربين عني وعن سلطاني، فإن سلطانى يلحقهم، [وتدبيري] يسبقهم، فعلى هذا يكون المراد منه [سعة القدرة والسطان] وهو نظير قوله: «وَهُوَ مَعَكُمْ أيْنَمَا كُنْتُمْ:، وقوله: {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً} [غافر: 7] ، وقوله: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه: 98] . وثاينها: قال قَتَادة: إن النبي عليه السلام قال:» إِنَّ أَخَاكُمُ النَّجَاشِيَّ قَدْ مَاتَ فَصَلُّوا عَلَيْهِ «، وقالوا: نصلي على رجل ليس بمسلم فنزل قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ} [آل عمران: 199] فقالوا: إنه كان لايصل [إلى القِبْلَة، فأنزل الله تعالى: {وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} ومعناه أن الجهات التي يصلي إليها أهل الملل من شرق وغرب، وما بينهما كلها لي، فمتى وجّه وجهه نحو شيء منها بأمر يريدني، ويبتغي طاعتي وجدني هناك أي وجد ثوابي فكان هذا عذراً للنجاشي وأصحابه الذين ماتوا على استقبالهم المشرق، وهو نحو قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] . وثالثها: قال الحسن، ومجاهد والضحاك رَضِيَ اللهُ عَنْهم: لما نزل قوله سبحانه وتعالى: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قالوا: أين ندعوه؟ فنزلت هذه الآية. ورابعها: قال علي بن عيسى رَحِمَهُ اللهُ: إنه خطاب للمؤمنين ألا يمنعكم تخريب من خرب مساجد الله تعالى عن ذكره حيث كنتم من أرضهم، فللَّه المشرق والمغرب، والجهات كلها. وخامسها: زعم بعضهم أنها نزلت في المجتهدين الوافدين بشرائط الاجتهاد فهو مصيب] . فصل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 قرأ الجمهور: «وَقَالُوا» بالواو عطفاً لهذه الجملة الخبرية على ما قبلها، وهو أحسن في الربط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 وقيل: هي معطوفة على قوله: «وَسَعَى» فيكون قد عطف على الصّلة مع الفعل بهذه الجمل الكثيرة، وهذا ينبغي أن ينزّه القرآن عن مثله. وقرأ ابن عامر وكذلك هي في مصاحف «الشام» : «قَالُوا» من غير «واو» ، وكذلك يحتمل وجيهن: أحدهما: الاستئناف. والثاني: حذف حرف العَطْف وهو مراد، استغناءٌ عنه بربط الضَّمير بما قبل هذه الجملة، و «اتَّخَذَ» يجوز أن يكون بمعنى عمل وصنع، فيتعدّى لمفعول واحد، وأن يكون بمعنى صَيَّر، فيتعدّى لاثنين، ويكون الأول هنا محذوفاً تقديره: وقالوا: اتخذ الله بعض الموجودات ولداً، إلا أنه مع كثرة دور هذا التركيب لم يذكر معها إلا مَفْعُول واحد: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} [الأنبياء: 26] ، {مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ} [المؤمنون: 91] ، {وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً} [مريم: 92] . والوَلد فعل بمعنى مفعول كالقَبْض والنقص وهو غير مقيس والمصدر: الولادة والوليدية وهذا الثاني غ ريب. وقوله: «سبحانه» . قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: «سُبْحَان» منصوب على المصدر، ومعناه التبرئة والتنزيه عما قالوا. قوله تعالى: {بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض} . «بَلْ» إضراب وانتقال، و «لَهُ» خبر مقدم، و «ما» مبتدأ مؤخر، وأتى هنا ب «مَا» ؛ لأنه إذا اختلط العاقل بغيره كان المتكلّم مخيراً في «مَا» و «مَنْ» ، ولذلك لما اعتبر العقلاء غلبهم في قوله «قَانِتُونَ» ، فجاء بصيغة السَّلامة المختصّة بالعقلاء. قال الزمخشري فإن قلت: كيف جاء ب «مَا» التي لغير أولي العلم مع قوله: «قَانِتُونَ» . قلت: هو كقولهك «سبحان ما سخركن لنا» وكأنه جاء ب «ما» دون «من» تحقيراً لهم وتصغيراً لشأنهم، وهذا جنوح منه إلى أن «ما» قد قد تقع على أولي العلم، ولكن المشهور خلافه. وأما قوله: «سُبْحان ما سَخَّرَكُنَّ لَنَا» فسبحان غير مضاف، بل هو كقوله: 752 - ... ... ... ... ... ... سُبْحَانَ مِنْ عَلْقَمَةً ... ... ... . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 و «ما» مصدرية ظرفية. قوله تعالى: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} مبتدأ وخبر، و «كُلُّ» مضاف إلى محذوف تقديراً، أي: كلّ مَنْ في السموات والأرض. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون كل من جعلوه لله ولداً كذا قال أبو حيان رَحِمَهُ اللهُ تعالى. وهذا بعيد جداً، لأن المجعول ولداً لم يَجْرِ له ذكر، ولأن الخبر يشترك فيه المجعول ولداًَ وغيره «. قوله: «لم يَجْرِ له ذكر» بل قد جرى ذكره فلا بُعْدَ فيه. وجمع «قَانِتُونَ» حملاً على المعنى لما تقدم من أن «كُلاَّ» إذا قطعت عن الإضافة جاز فيها مراعاة اللفظ، [ومراعاة المعنى، وهو الاكثر نحوه: {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] ومن مراعاة] اللَّفظ: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} [الإسراء: 84] {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 40] ، وحسن الجمع هنا لِتَوَاخي رُؤُوس الآي. والقُنُوت: أصله الدوام، ويستعمل على أربعة أوجه: الطاعة والانقياد، كقوله تعالى: {يامريم اقنتي لِرَبِّكِ} [آل عمران: 43] وطول القيام، كقوله عليه السلام «لما سئل: أي الصَّلاة أفضل؟ قال: طول القُنُوت» وبمعنى السّكوت [كقول زيد بن أرقم رَضِيَ اللهُ عَنْه: كنا نتكلّم في الصلاة حتى نزل قوله تعالى: {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] فأمسكنا عن الكلام والدعاء، ومنه القنوت. قال ابن عباس ومجاهد رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «قانتون» أي: أن كل من في السموات والأرض مطيعون. وأورد على هذا أن الكفار ليسوا مطيعين. وقال السّدي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يطيعون يوم القيامة، وأوردوا على هذا أيضاً بأن هذا صفة المتّكلين] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 وقوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السماوات} يتناول مَنْ لا يكون مكلفاً، فعند هذا فسّروا القنوت بوجوه أخر: الأول: بكونها شاهدةً على وجود الخالق سبحانه بما فيها من آثار الصّنعة، وأمارات الحدوث والدلائل على الربوبية. الثاني: كون جميعها في ملكه وقهره يتصرّف فيها كيف يشاء، وهو قول أبي مسلم رَحِمَهُ اللهُ تعالى، وعلى هذين الوجيهن الآية عامة. الثالث: أراد بما في السَّموات الملائكة وما في الأرض عيسى والعزيز؛ أي كل من هؤلاء الذين حكموا عليه بالولدية أنهم قانتون له. فصل فيمن قال اتخذ الله ولداً قال ابن الخطيب: اعلم أن الظاهر من قوله: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} أن يكون راجعاً إلى قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله} [البقرة: 114] وقد ذركنا أن منهم من تأوّله على النصارى. ومنهم من تأوّله على مشركي العرب. ونحن قد تأولناه على اليهود، وكل هؤلاء أثبوا الولد لله تعالى؛ لأن اليهود قالوا: عزير ابن الله، والنَّصَارى قالوا: المسيح ابن الله، ومشركوا العرب قالوا: الملائكة بنات الله، فلا جَرَمَ صحت هذه الحكاية على جميع التقديرات. قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: إنها نزلت في كعب بن الأشرف، وكعب بن الأسد، ووهب بن يهوذا؛ فإنهم جعلوا عزيراً ابن الله [سبحانه لم يتخذ صاحبة ولا ولداً. وروى ابن عباس رضي الله تعالى عنهما] عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: قال الله تعالى: «كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَزَعَمَ أنِّي لاَ أََقْدِرُ أنْ أُعِيدَهُ كَمَا كَانَ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ: لِي وَلَدٌ فَسُبْحَانِي أنْ أَتْخِذَ صَاحِبَةً أوْ وَلَداً» . فصل في تنزيه الله تعالى قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ: احتج على التنزيه بقوله تعالى: {بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض} ووجه الاستدلال من وجوه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 الأول: أن كل ما سوى الموجود الواجب ممكن لذاتهن وكل ممكن لذاته محدث، وكل محدث فهو مخلوق لواجب الوجود، والمخلوق لا يكون ولداً [لأن المخلوق محدث مسبوق بالعدم، ووجوده إنما حصل يخلق الله تعالى وإيجاده وإبداعه، فثبت أن ما سواه فهو عبده، وملكه، فيستحيل أن يكون كل شيء مما سواه ولداً له، كلّ هذا مستفاد من قوله: «بل له ما في السموات والأرض» أي: له كلّ ماسواه على سبيل الملك والخلق والإيجاد والإبداع] . والثاني: أن هذا الذي أضيف إليه بأنه ولده، إما أن يكون قديماً أزلياً أو محدثاً، فإن كان أزليًّا لم يكن حكمنا بجعل أحدها ولداً والآخر والداً أولى من العكس، فيكون ذلك الحكم حكماً مجرّداً من غير دليل، وإن كان الولد حادثاً كان مخلوقاً لذلك القديم وعبداً له فلا يكون ولداً له. والثالث: أن الولد لا بد وأن يكون من جنس الوالد، فلو فرضنا له ولداً لكان مشاركاً له من بعض الوجوه، وممتازاً عنه من وجه آخر، وذلك يقتضي كون كلّ واحد منهما مركباً ومحدثاً وذلك مُحَال، فإذن المجانسة ممتنعةٌ، فالولدية ممتنعة. الرابع: أن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في الكبر، ورجاء الانتفاع بمعونته حال عَجْزِ الأب عن أمور نفسه، فعلى هذا إيجاد الولد إنما يصحّ على من يصح عليه الفَقْر [يحكى أن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللهُ عَنْه قال لبعض النصارى: لولا تمرد عيسى عن عبادة الله عَزَّ وَجَلَّ لصرت على دينه فقال النصراني: كيف يجوز أن ينسب ذلك إلى عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع جده في طاعة الله تعالى؟ فقال علي رَضِيَ اللهُ عَنْه: فإن كان عيسى إلهاً فكيف يعبد غيره، إنما العبد هو الذي تليق به العبادة، فانقطع النصراني] . قوله تعالى: «بَدِيعُ السَّمَوَاتِ» المشهور رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو بديع. وقرىء بالجر على أنه بدل من الضمير في «لَهُ» [وفيه الخلاف المشهور] وقرىء بالنصب على المدح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 و «بديع السموات» من باب الصفة المشبهة أضيفت إلى منصوبها الذي كان فاعلاً في الأصل، والأصل بديع سماواتُه، أي بَدُعَت لمجيئها على شكل فائق حسن غريب، ثم شبهت هذه الصفة باسم الفاعل، فنصبت ما كان فاعلاً، ثم أضيفت إليه تخفيفاً، وهكذا كلّ ما جاء نظائره، فالإضافة لا بد وأن تكون من نصب؛ لئلا يلزم إضافته الصفة إلى فاعلها، وهو لا يجوز في اسم الفاعل الذي هو الأصل. وقال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ: و «بديعُ السَّمَوَاتِ» من باب إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها. ورده أبو حيان بما تقدم، ثم أجاب عنه بأنه يحتمل أن يريد إلى فاعلها في الأصل قبل أن يشبه. وأجاز الزمخشري فيه وجهاً ثانياً: وهو أن يكون «بديع» بمعنى مُبْدِع؛ كما أن سميعاً في قول عَمْرو بمعنى مسمع؛ نحو: [الوافر] 753 - أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقُنِي وأصْحَابِي هُجُوعُ إلا أنه قال: «فيه نظر» ، وهذا الوجه لم يذكر أبن عطية غيره، وكأن النظر الذى ذكره الزمخشري والله أعلم هو أن «فعيلاً» بمعنى «مُفْعِل» غيرُ مقبس، وبيت عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْه متأول، وعلى هذا القول يكون بديع السموات من باب إضافة اسم الفاعل لمصوبة تقديراً. والمبدع: المخترع المنشىء، والبديع: الشيء الغريب الفائق غيره حسناً. قوله تعالى: {وَإِذَا قضى أَمْراً} العامل في «إذَا» محذوف يدل عليه الجواب من قوله: «فَإنَّمَا يَقُولُ» ، والتقدير: إذا قضى أمراً يكون، فيكون هو الناصب له. و «قضى» له معانٍ كثيرة. قال الأزهري رَحِمَهُ اللهُ تعالى: «قضى» على وجوه مرجعُها إلى انقطاع الشَّيء وتمامه؛ قال أبو ذُؤَيْبٍ: [الكامل] 754 - وَعَلَيْهِمَا مَسْرُودَتَانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أَوْ صَنَعُ السَّوَابِغِ تُبَّعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 وقال الشَّماخ: [الطويل] 755 - قَضَيْتَ أُمُوراً ثُمَّ غَادَرْتَ بَعْدَهَا ... بَوَائِقَ في أَكْمَامِهَا لم تُفَتَّقِ فيكون بمعنى «خَلَقَ» نحو: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] وبمعنى أَعلم: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4] . وبمعنى أمر: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] . وبمعنى ألزم: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} [القصص: 29] . وبمعنى ألزم: قضى القاضي بكذا. وبمعنى أراد: «إِذَا قَضَى أمْراً» . وبمعنى أَنْهَى، ويجيء بمعنى قَدَّر وأَمْضَى، تقول: قَضَى يَقْضِي قََضَاءَ؛ قال: [الطويل] 756 - سَأَغْسِلُ عَنِّي العَارَ بَالسَّيْفِ جَالِباً ... عَلَيَّ قَضَاءُ اللهِ مَا كَانَ جَالِبَا ومعناه الذي يدل تركيبه عليه هو معنى القطع، من قولهم: قضى القاضي لفلان على فلان بكذا إذا حكم؛ لأنه فصل للدعوى. ولهذا قيل: حاكم فَيْصل إذا كان قاطعاً للخصومات. وحكى ابن الأنباري عن أهل اللّغة أنهم قالوا: القاضي معناه القاطع الأمور المحكم لها. ومنه: انقضى الشيء: إذا تم وانقطع. وقولهم: قضى حاجته أي: قطعها عن المحتاج ودفعها عنه. وقضى دينه: إذا أدَّاه إليه كأنه قطع التقاضي والاقتضاء عن نفسه، أو انتفع كل منهما من صاحبه. وقولهم: قضى الأمر، إذا أتمه وأحكمه. وأما قولهم: قضى المريض وقضى نَحْبَه: إذا مات، وقضى عليه: قتله فمجاز. [اختلفوا في الأمر هل هو حقيقة في القول المخصوص أو حقيقة في الفعل وفي المقدر المشترك وهو كذا في أصول الفقه والله أعلم] . قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والأمر في القرآن يتصرف على أربعة عشر وجهاً: الأول: الدين؛ قال الله تعالى: {حتى جَآءَ الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله} [التوبة: 48] يعني: دينه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 الثاني: القول؛ قال تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} [المؤمنون: 27] يعني قولنا. وقوله: {فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} [طه: 62] يعنى قولهم. الثالث: العذاب؛ قال تعالى: «لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ» يعني لما وجب العذاب بأهل النار. الرابع: عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، قال الله تعالى: {إِذَا قضى أَمْراً} [مريم: 35] يعنى: عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. الخامس: القتل ب «بدر» ، قال الله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله} [غافر: 78] يعنى: القتل ب «بدر» وقوله: {لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} [الأنفال: 42] يعنى قتل كفار «مكة» . السادس: فتح «مكة» ؛ قال الله تعالى: {فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [التوبة: 42] يعنى فتح «مكة» . السابع: قتل «قريظة» وجلاء «بني النضير» ؛ قال الله تعالى: {فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109] . الثامن: القيامة، قال الله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] . التاسع: القضاء؛ قال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر} [الرعد: 2] يعنى القضاء. العاشر: الوحي؛ قال الله تعالى: {يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض} [السجدة: 5] يعنى الوحي. الحادي عشر: أمر الخلق؛ قال الله تعالى: {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} [الشورى: 53] . الثاني عشر: النصر، قال الله تعالى: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} [آل عمران: 154] يعنون: النصر، {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} [آل عمران: 154] يعني النصر. الثالث عشر: الذنب؛ قال الله تعالى: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} [الطلاق: 9] يعنى جزاء ذنبها. الرابع عشر: الشأن والفعل، قال الله تعالى: {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] لعله: وشأنه. قوله تعالى: «فيكون» الجمهور على رفعه، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون مستأنفاً أي خبراً لمبتدأ محذوف أي: فهو يكون، ويعزى لسيبوبه، وبه قال الزَّجَّاج في أحد قوليه. والثاني: أن يكون معطوفاً على «يقول» ، وهو قول الزَّجاج والطبري، ورد ابن عطية هذا القول، وقال: إنه خطأ من جهة المعنى؛ لأنه يقتضي أن القول مع التَّكوين الوجود. انتهى. يعني أن الأمر قديم والتكوين حادث فكيف يعطف عليه بما يقتضي تعقيبه له؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 وهذا الرد إنما يلزم إذا قيل بأن الأمر حقيقة. أما أذا قيل بأنه على سبيل التمثيل، وهو [الأصح] فلا. ومثله قوله أبي النجم: [الرجز] 757 - إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الْحَقي ... الثالث: أن يكون معطوفاً على «كن» من حيث المعنى، وهو قول الفارسي، وضَعَّفَ أن يكون عطفاً على «يقول» ؛ لأن من المواضع ما ليس فيه «يقول» كالموضع الثاني في «آل عمران» ، وهو «ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُون» ولم ير عطفه على «قال» من حيثُ إنه مضارعن فلا يعطف على ماضي، فأورد على نفسه: [الكامل] 758 - وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لاَ يَعْنِينِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 فقال: «أَمُرُّ بمعنى مَرَرْتُ» . قال بعضهم: ويكون في هذه الآية ت يعنى في آية «آل عمران» ت بمعنى «كان» فَلْيَجُزْ عَطْفُهُ على «قال» . وقرأ ابن عامر: «فيكونَ» نصباً هنا، وفي الأولى من «آل عمران» ، وهي {كُنْ فَيَكُونُ} ، تحرزاً من قوله تعالى: {كُن فَيَكُونُ الحق مِن رَّبِّكَ} [آل عمران: 5060] . وفي مريم: {كُن فَيَكُونُ وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} [مريم: 3536] . وفي غافر: {كُن فيَكُونُ أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُجَادِلُونَ} [غافر: 6869] . ووافقه الكسائي على ما في «النحل» و «يس» . وهي: {أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [يس: 82] . أما آيتا «النحل» و «يس» فظاهرتان: لأن ما قبل الفعل منصوباً يصح عطفه عليه، وسيأتي. وأما ما انفرد به ابن عامل في هذه المواضع الأربعة، فقد اضطرب كلام النَّاس فيها، وهي لَعَمْري تحتاج إلى فضل نظر وتأمل، ولذلك تجرأ بعض الناس على هذا الإمام اكلبير، فقال ابن مجاهد: قرأ ابن عامر: «فَيَكُونَ» نصباً، وهذا غير جائز في العربيةح لأنه لا يكون الجواب هنا للأمر بالفاء إلاَّ في «يس» و «النحل» ن فإنه نسق لا جواب. وقال في «آل عمران» : قرأ ابن عامر وحده: «كُنْ فَيَكُونَ» بالنصب وهو وَهَمٌ. قال: وقال هشامك كان أيوب بن تميم يقرأ: «فَيَكُونَ» نصباً، ثم رجع فقرأ: «يَكُونُ» رفعاً. وقال الزجاج: «كُنْ فَيَكُونُ» رفع لاغير. وأكثر ما أجابوا بأن هذا مما روعي فيه ظاهر اللَّفظ من غير ناظر لملعنى، يريدون أه قد وجد في اللفظ صورة أمر فَنُصِبَتا في جوابه بالفاء. وأما إذا نظرنا إلى جانب المعنى، فإن ذلك لا يصح لوجهين: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 أحدهما: أن هذا وإن كان بلفظ الأمر، فمعناه الخبر نحو: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن} [مريم: 75] . أي فيمدّ، وإذا كان معناه الخبر، لم ينتصب في جوابه بالفاء إلا ضرورة؛ كقوله: [الوافر] 759 - سَأَتْرُكُ مَنْزِلِي تَمِيمٍ ... وَأََلْحَقُ بِالحِجَازِ فَأَسْتَرِيحَا وقول الآخر: [الطويل] 760 - لَنَا هَضْبَةٌ لاَ يَنْزِلُ الذُّلُّ وَسْطَهَا ... وَيَأْوِي إلَيْهَا المُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا والثاني: أن من شرط النصب بالفاء في جواب الأمر أن ينعقد منهما شرط وجزاء نحو: «ائتني فأكرمك» تقديره: «إن أتيتني أكرمتك» . وها هنا لا يصح ذلك إذ يصير التدقير: إن تكن تكن، فيتحد فعلا الشرط والجزاء معنى وفاعلاً، وقد علمت أنه لابد من تغايرهما، وإلا يلزم أن يكون الشيء شرطاً لنفسه وهو مُحَال، قالوا: والمُعَاملة اللفظية، واردةٌ في كلامهم نحو: {قُل لِّعِبَادِيَ الذين آمَنُواْ يُقِيمُواْ} [إبراهيم: 31] {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ} [الجاثية: 14] . وقال عمر بن أبي ربيعة: [الطويل] 761 - فَقْلْتُ لجَنَّادٍ خُذِ السَّيْفَ وَاشْتَمِلْ ... عَلَيْهِ بِرِفْقٍ وَارْقُبِ الشَّمْسَ تَغْرُبِ وَأَسْرِجْ لِيَ الدَّهْمَاءَ وَاذْهَبْ بِمِمْطَرِي ولاَ يَعْلَمَنْ خَلْقٌ مِنَ النَّاسِ مَذهَبِي فجعل «تَغْرُب» جوابابً ل «ارقب» وهو غير مترتِّب عليه، وكذلك لا يلزمُ من قوله أَنْ يفعلوا، وإنما ذلك مُرَاعة لجانب اللفظ. أما ما ذكره في بيت عمر فصحيح. وأما الآيات فلا نسلم أَنَّه غير مترتب عليهح لأنه أراد بالعباد الخُلّص، وبذلك أضافهم إليه. أو تقولُ: إن الجزَمَ على حَذْفِ لامِ الأمر، وسيأتي تحقيقه في موضعه إن شاء الله تعالى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 وقال ابن مالك: «إنَّ» «أنْ» الناصبةَ قد تُضْمر بعد الحَصْر ب «إنما» اختياراً، وحكاه عن بعض الكوفيين. قال: وحكوا عن العرب: إنما هي ضربة من الأسد فتحطمَ ظهره بنصب «تحطم» ، فعلى هذا يكون النَّصْب في قراءة ابن عامر محمولاً على ذلك إلاَّ أنَّ هذا الذي نصبوه دليلاً لا دليل فيه لاحتمال أن يكون من باب العطف على الاسم تقديره: إنما هي ضَرْبَة فَحَطمح كقوله: [الوافر] 762 - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقرَّ عَيْنِي ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ فصل في تحرير كلمة كن قال ابن الخطيب: أعلم أن ليس المراد من قوله تعالى: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} هو أنه تعالى يقول له: «كُنْ» ، فحينئذ يتكون ذلك الشيء، فإن ذلك فاسد، والذي يدل عليه وجوه: الأول: أن قوله تعالى: «كُنْ» ما أن يكون قديماً أو محدثاً، والقسمان فاسدان، فبطل القول بتوقّف حدوث الأشياء على «كُنْ» إنما قلنا إنه لا يجوز أن يكون قديماً لوجوه: الأول: أن كلمة «كُنْ» لفظة مركّبة من الكاف والنون بشرط تقدّم الكاف على النون فالنون لكونه مسبوقاً بالكاف لا بد وأن يكون محدثاُ، والكاف لكونه متقدماً على المحدث بزمان واحد، يجب أن يكون محدثاً. الثاني: أن كلمة «إذا» لا تدخل إلا على الاستقبال، فذلك القضاء لا بد وأن يكون محدثاً؛ لأنه دخل عليه حرف إذا وقوله: «كُنْ» مرتّب على القضاء ب «فاء» التعقيب؛ لأنه قال: {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} والمتأخر عن المحدث محدث، فاستحال أن يكون «كُنْ» قديماً. الثالث: أنه تعالى رتّب تكوين المخلوق على قوله: «كُنْ» ب «فاء» التعقيب، فيكون قوله: «كُنْ» مقدماً على تكوين المخلوق بزمان واحد، والمتقدم على المحدث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 بزمان واحد لا بد وأن يكون محدثاً، فقوله: «كُنْ» لا يجوز أن يكون قديماًن ولا جائز أيضاً أن يكن قوله: «كُنْ» محدثاُ؛ لأنه لو افتقر كل محدث إلى قوله: «كُنْ» ، وقوله «كُنْ» أيضاً محدث، فيلزم افتقار «كُنْ» إلى «كُنْ» آخر، ويلزم التسلسل والدور، وهما مُحَالان، فثبت بهذا الدليل أنه لا يجوز توقّف إحداث الحوادث على قوله: «كُنْ» وأن قوله: «كن» إن [كان] خطاباً له حال وجوده، فتحصيل للحاصل، قاله أبو الحسن الماوردي. قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: والجواب من ثلاثة أوجه: الأول: أنه خبر من الله تعالى عن نفوذ أوامره في خلقه، كما في بني إسرائيل أن يكونوا قِرَدَةً خاسئين، ولا يكون هذا في إيجاد المعدومات. الثاني: أن الله تعالى علام بما هو كائن قبل كونهن فكانت الأشياء التي لم تكن كائنة لعلمه بها قبل كونها مشابهة للتي هي موجودة، فجاز أن يقول لها: كوني، وبأمرها بالخروج من حال العدم إلى ح ال الوجودح لتصير جميعها له، ولعلمه بها في حال العدم. الثالث: أن ذلك خبر من الله تعالى عام عن جميع ما يحدث ويكوِّنهن إذا أراد خلقه وإنشاءه كان ووجد من غير أن يكون هناك قول يقوله، وإنما هو قضاء يريده، فعبر عنه بالقول وإن لم يكن قولاً، كقول أبي النَّجْم: [الرجز] 763 - إذْ قَالَتِ الأَنْسَاعُ لِلْبَطْنِ الحَقِي ... ولا قول هناك، وإنما أراد أن الظهر قد لحق بالبطن. وكقول عمروا بن هممة الدَّوْسِيّ: [الطويل] 764 - فَأَصْبَحْتُ مِثْلَ النَّسْرِ طَارَتْ فِرَاخُهُ ... إِذَا رَامَ تَطْيَراً يُقَالُ لَهُ: قَعِ وقال الآخر: [الرجز] 765 - قَالَتْ جَنَاحَاهُ لِسَاقَيْهِ الحَقَا ... وَنَجِّيَا لَحْمَيْكُمَا أَنْ يُمْرَقَا الحجة الثانية: أنه تعالى إما أن يخاطب المخلوق ب «كُن» قبل دخوله في الوجود، أو حال دخوله في الوجود، والأول باطل؛ لأن خطاب المعدوم حال عدمه سَفَه. والثاني أيضاً باطل؛ لأنه يرجع حاصله إلى أنه تعالى أمر الموجود بأن يصير موجوداً، وذلك أيضاً لا فائدة فيه. الحجة الثالثة: أن المخلوق قد يكون جماداً، وتكليف الجماد عبثن ولا يليق بَالحكيم. الحجة الرابعة: أن القادر هو الذي يصحّ منه الفعل وتركه بحسب الإيرادات، فإذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 430 فرضنا القادر المريد منفكاً عن وقله: «كُنْ» فإما أن يتمكّن من الإيجادج والإحداث، أو لا يتمكّن، فإن تمكن لم يكن الإيحاد موقوفاً على قوله «كن» ، وإن لم يتمكن فحينئذ يلزم ألاَّ يكون القادر قادراً على الفعل إلا عند تكلمه ب «كن» فيرجع حاصل الأمر إلى أنكم سمّيتم القادرة ب «كن» وذلك نزاع لفظي. الحجة الخامسة: أن «كُنْ» كلمة لو كان لها أثر في التكوين لكنا إذا تكلمنا بهذه الكلمة وجب أن يكون لها ذلك التأثير ولما علمنا بالضرورة فساد ذلك علمنا أنه لا تأثر لهذه الكلمة. الحجة السادسة: أن لفظة «كُنْ» ككلمة مركبة من الكاف والنون، بشرط كون الكاف متقدماً على النونن فالمؤثر إما أن يكون هو أحد هذين الحرفين أو مجموعهما؛ فإن كان الا ل لم يكن لكلمة «كُنْ» أثر البتة بل التأثير لأحد هذه الحرفينن وإن كان الثَاني فهو مُحَال؛ لأنه لا وجود لهذا المجموع ألبتة؛ لأنه حين حصل الحرف الأول لم يكن الثَّاني حاصلاًُ، حين جاء الثَّاني فقد فات الأولن وإن لم يكن للمجموع وجود ألبتة استحال أن يكون للمجموع أثر ألبتة. الحجة السابعة: قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] بين أن قوله «كُنْ» متأخر عن خلقه، إذ المتأخر عن الشَّيء لا يكون مؤثراً في المتقدم عليه، فعلمنا أنه لا تأثير لقوله: «كُنْ» في وجود الشيء، فظهر بذه الوجوه فساد هذا المذهب، فإذا ثبت هذا فنقول: لا بد من التأويل وهو من وجوه: الأول: أن المراد من هذه الكلمة سرعة نفاذ قدرة الله في تكوين الأشياء، وأنه تعالى يخلق الأشياء لا بفكرة ومعاناة وتجربة. الثاني: قال أبو الهُذَيل: إنه علامة يفعلها الله تعالى للملائكة إذا سمعوها علما أنه أحدث أمراً. الثالث: قال الاصم: إنه خاصٌّ بالموجودين الذين قال لهم: {كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} [البقرة: 65] ، من جرى مجراهم. الرابع: أنه أمر للأحياء بالموت، وللموتى بالحياة. والكل ضعيف، والقوي هو الأول. وقال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: التكوين مع الأمر لا يتقدم الموجود، ولا يتأخر عنه، فلا يكون الشيء مأموراً بالوجود إلاّ وهو موجود بالأمر، ولا موجود إلا وهو مأمور بالوجودن ونظيره قيام الناس من قبورهم لا يتقدم دعاء الله تعالى ولا يتأخر عنه كما قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ} [الروم: 25] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وتلخيص المعتقد في هذه الآية: أن الله عَزَّ وَجَلَّ لم يزل آمراً للمعومات بشرط وجودها، قادراً مع تأخّر المقدورات، عالماً مع تأخر المعلومات، فكل ما في الآية يقتضي الاستقبال، فهو بحسب المأمورات؛ إذ المحدَثَات تجيء بعد أن لم تكن. كل ما يسند إلى الله تعالى من قدرة وعلم، فهو قديم لم يزل ولمعنى الذي تقتضيه عبارة «كُنْ؛ هو قديم قائم بالذات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 «لو» و «لولا» يكونان حرفي ابتداء، وقد تقدم عند قوله: {فَلَوْلاَ فَضْلُ الله} [البقرة: 64] ويكونان حرفي تحضيض بمنزلة: «هلا» فيختصَّان بالأفعال ظاهرة أو مضمرة، كقوله: [الطويل] 766 - تَعُدُّونَ عَقْرَ النِّيبِ أَفْضَلَ مَجْدِكُمْ ... بَنِي ضَوْطَرَى لَوْلاَ الكَمِيَّ المُقَنَّعَا أي: لولا تعدون الكمَيَّ، فإن ورد ما يوهم وقوع الاسم بعد حرف التخصيص يؤوَّشل؛ كقوله: [الطويل] 767 - ونُبِّئْتُ لَيْلَى أَرْسَلَتْ بِشَفَاعَةٍ ... إلَيَّ فَهَلاَّ نَفْسُ لَيْلَى شَفِعُهَا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 ف «نفس ليلى» مرفوع بفعل محذوف يفسره «شفيعها» أي: فهلا شفعت نفس ليلى. وقال أبو البقاء: إذا وقع بعدها المستقبل كانت للتحضيض، وإن وقع بعدها الماضي كانت للتوبيخ وهذا شيء يقوله علماء البيان، وهذه الجملة التخضيضية في محلّ نصب بالوقل. قوله: {كَذَلِكَ قَالَ الذين} قد تقدم الكلام على نظيره فليطلب هناك. وقرأ أبو حيوة، وابن أبي إسحاق: «تَشَّابَهَت» بتشديد الشين. قال الدَّاني: «وذلك غير جائز؛ لأنه فعل ماض» ، يعني: أن التاءين المزيدتين إنما تجيثان في المضارع فتدغم أما الماضي فلا. فصل في قبائح اليهود والنصارى والمشركين هذا نوع آخر من قبائح اليهود والنصارى والمشركين، فإنهم قدحوا في التوحيد باتَّخاذ الولد، وَقَدَحُوا الآن في النبوّة. قال ابن عباس: «هم اليهود» . وقال مجاهد: «هم النصارى» لأنهم المذكورون أولاً، ويدلّ على أن المراد أهل الكتاب قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك} [النساء: 153] . فإن قيل: المراد مشركو العرب، لأنه تعالى وصفهم بأنهم لا يعلمون، وأهلب الكتاب أهل العلم. [قلنا] : المراد أنهم لا يعلمون التوحيد والنبوة كما ينبغي، وأهل الكتاب كانوا كذلك. وقال قتادة وأكثر المفسرين: هم مشركو العرب لقوله: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون} [الأنبياء: 5] ، وقالوا: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] . وتقرير هذه الشبهة أنك تقول: إن الله تعالى يكلّم الملائكة وكلم موسى، ويقول: يا محمد إن الله تعالى كلّمك فلم يكلمنا مُشَافهة، ولا ينص على نبوتك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 حتى يتأكّد الاعتقاد، وتزول الشبهة، فأجابهم أنا قد أيدنا قول محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمعجزات، وبالآيات وهي القرآن، وسائر المعجزات، فكان طلب هذه الزوائد من باب التعنّت، فلم يجب إجابتها لوجوه: أحدها: أنه إذا حصلت الدلالة الواحدةن فقد تمكّن المكلف من الوصول إلى المطلوب، فلو كان غرضه طلب الحق لاكتفى بتلك الدلالة، فحيث لم يكتف بها، وطلب الزائد عليها علمنا أن ذلك من باب العناد، ويدل له قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] . وثانيها: لو كان في [علم الله تبارك وتعالى] أنهم يؤمنون عند إنزال هذه الآسية لَفَعَلَهَا، ولكنه علم أنه لو أعطاعهم ما سألوه لما ازدادوا إلا لجاجاً فلا جرم لم يفعل ذلك، وذلك قال تعالى: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] . وثالثها: إنه ربما كان كثرتها وتعاقبها يقدح في كونها معجزة؛ لأن الخوارق متى توالت صار انخراقُ العادة عادة، فحينئذ يخرج عن كونه معجزاً. وأما قوله تعالى: «تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ» [فالمراد أن المكذبين للرسل ت تتشابه أقوالهم وأفعالهم] ، فكما أن قوم موسى، [كانوا أبداً في التعنت واقتراح] الأباطيل، كقولهم: {لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ} [البقرة: 61] وقولهم: {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] وقولهم: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة: 67] وقولهم: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 152] ، فكذلك هؤلاء المشركون يكونون أبداً في العِنَادِ واللّجاج، وطلب الباطل. قوله: {قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} يعنى القرآن وغيره من المعجزات كمجيء الشجرة، وكلام الذِّئْب، وإشباع الّخلق الكثير من الطعام القليل، آيات قاهرةٌ، ومعجزات باهرة لمن كان طالباً لليقين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 اعلم أن القوم لما أَصرُّوا على العِنَّاد واللّجَاج الباطل، واقترحوا المعجزات على سبيل التعنت بيّن الله تعالى لرسوله صلى الله أنه لا مزيد على مافعله في مصالح دينهم من إظهار الأدلة. قوله: «بالحَقِّ» يجوز فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون مفعولاً به، أي: بسبب إقامة الحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 الثاني: أن يكون حالاً من المفعول في «أَرْسَلْنَاكَ» أي: أرسلناك ملتبساً بالحق. الثالث: أن يكون حالاً من الفاعل، أي: ملتبسين في الحق. وفيه وجوه: أحدها: أنه الصدق كقوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس: 53] أي: صدق وقال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «بالقرآن» ، لقوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ} [ق: 5] . وقال ابن كيسان: «بالإسلام وشرائعه» ، لقوله تعالى: {وَقُلْ جَآءَ الحق} [الإسراء: 81] ، وقال مقاتل: «لم نُرسِلْك عبثاً وإنما أرسناك بالحق» لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} [الأحقاف: 3] وعلى هذه الأقوال في تعلّق هذا الجار وجوه: أحدها: أنه متعلق بالإرسال. وثانيها: أنه متعلّق بالبشير والنذير أي: أنت مبشر بالحق ومنذر به. وثالثها: أن يكون المراد من الحق الدين والقرآن، أي أرسلناك بالقرآن حال كونك بشيراً لمن أطاع الله بالثواب، ونذيراً لمن كفر بالعقاب، والأولى أن يكون البشير والنذير حالاً من الرسول، أي: أرسلناك بالحق لتكون بشيراً ونذيراً لمن اتبعك [ونذيراً لمن كفر بك] ويجوز أن يكون بشيراً ونذيراً حالاً من «الحق» ؛ لأنه يوصف أيضاً بالبشارة والنَّذَارة، وبشير ونذير على صيغة «فعيل» . أما بشير فتقول: هو من بَشَرَ مخففاً؛ لأنه مسموع فيهن و «فعيل» مطرد من الثلاثي. وأما: «نذير» فمن الرباعي، ولا ينقاس عَدْل مُفْعِل إلى فَعِيل، إلا أن له هنا مُحَسِّناً. قوله تعالى: «وَلاَ تُسْأَلُ» قرأ الجمهور: «تُسْأَلُ» مبنيًّا للمعفول مع رفع الفعل معلى النفي، وفي معنى هذه القراءة وجوه: أحدها: أن مصيرهم إلى الجحيم، فمعصيتهم لا تضّرك، ولست مسؤولاً عن ذلك، وهنو كقوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب} [الرعد: 40] وقوله: {عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ} [النور: 54] . الثاني: أنك هَادٍ وليسي لك من الأمر شيء، ولا تَغْتَمّ لكفرهم ومصيرهم إلى العذاب، ونظيره قوله تعالى: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] . الثالث: أنك لا تسأل عن ذَنْب غيرك ويعضد هذه القراءة قراءة أُبَيّ: «وما تسأل» ، وقراءة عبد الله «ولن تسأل» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 وقال مقاتل رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لَوْ أنَّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ بَأْسَهُ بِاليَهُودِ لآمَنُوا» ؛ فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} وقُرىء «تَسْألُ» مبيناً للفاعل مرفوعاً أيضاً، وفي هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنه حال، فيكون معطوفاً على الحال قبلها، كأنه قيل: بشيراً أو نذيراً، وغيكر مسؤول. والثاني: أن تكون مستأنفةً. وقرأ نافع ويعقوب: «تَسْأَلْ» على النَّهي، وهذا مستأنف فقط، ولا يجوز أن تكون حالاً؛ لأن الطَّلب لا يقع حالاً. وفي المعنى على هذه القراءة وجهان: الاول: روي أنه قال: ليت شعري ما فعل أبواي؟ فنهي عن السؤال عن أحوال الكفرة. قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ: وهذه الرواية بعيدة؛ لأنه عليه الصَّلاة والسَّلام كان عالماً بكفرهم، وكان علاماً بأن الكفار معذّب، فمع هذا العلم لا يجوز أن يسأل. والثاني: معنى هذا النهي تعظيم ما وقع فيه الكُفَّار من العذاب، كما إذا سألت عن إنسان واقع في بليّة، فيقال لك: لا تسأل عنه. وقرأ ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْه: «ولن تسأل» . وقرأ أبي: «وما تسأل» ؛ ومعناهما موافق لقراءة الجمهور، نفي أن يكون مسؤولاً عنهم. والجحيم: شدّة توقّد النار، ومنه قيل لعين الأسد: «جَحْمَة» لشدة توقُّدها، يقال: جَحِمَتِ النَّارُ تَجْحَمُ؛ ويقال لشَّدة الحر «» جاحم «؛ قال: [مجزوء الكامل] 768 - وَالحَرْبُ لاَ يَبْقَى لِجَا ... جِمِهَا التَّخَيُّلُ وَالمِرَاحُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 والرِّضَا: ضد الغضب، وهو من ذوات «الواو» لقولهم: الرضوان، والمصدر: رضاً ورِضَاء بالقصر والمد، ورِضْواناً بكسر «الفاء» وضمها. قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: رَضِيَ يَرْضَى رِضاً ورِضاءً ورِضْواناً ورُضواناً ومَرْضاة، وهو من ذوات «الواو» ويقال في التثنية: رِضَوان، وحكى الكسائي رَحِمَهُ اللهُ: رِضيان، وحكى رضاء ممدود، وكأنه مصدر رَاضَى يُرَاضِي مُرَاضَاعةً ورِضَاءً. وقد يتضمّن معنى «عَطَف» فيتعدى ب «عَلى» ؛ قال: [الوافر] 769 - إذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ..... ... ... ... ... ... ... . والملّة في الأصل: الطريقة، يقال: طريق مُملٌّن أي: أثَّر فيه [المشي] ، ويعبر بها عن الشريعة تشبيهاً بالطريقة. وقيلك بل اشتقت من «أَمْلَلْتُ» ؛ لأن الشريعة فيها مَن يُمْلي ويُمْلَى عليه. فصل في سبب نزول هذه الآية اعلم أنه تعالى لما بين أن العلّة قد انزاحت من قبله لا من قبلهم، وأنه لا عذر لهم في الثبات على التكذيب به عقب ذلك بأن القوم بلغ حالهم في [تشددهم في باطلهم، وثباتهم على كُفْرهم] أنهم يريدون منك أن تتبع ملّتهمن ولا يرضون منك بالكُفْر، بل الموافقة لهم في دينهم وطريقتهم. قال ابن عباس رَحِمَهُ اللهُ: هذا في القِبْلَةِ، وذلك أن يهود «المدينة» ونصارى «نجران» كانوا يرجون النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين كان يصلِّي إلى قبلتهم، فلما صرف الله القبلة إلى الكَعْبة أَيسُوا منه الموافقة على دينهم فنزلت هذه الآية. وقيل: كانوا يسألون النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الهدنة، ويطمعونه أنه إن أمهلهم اتبعوه، فأنزل الله هذه الآية. معناه: إنك إن هادنتهم، فلا يرضون بها، ولا يطلبون ذلك تعللاً ولا يرضون منك إلا باتباع ملتهم. قوله: «تَتَّبعَ» منصوب ب «أن» مضمرة بعد «حتى» قاله الخليل، وذلك أن «حتى» خافضة بالاسم لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {حتى مَطْلَعِ الفجر} [القدر: 5] وما يعمل في الاسم لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 يعمل في الفعل ألبتة وما يخفض اسماً لا ينصب شيئاً. وقال النَّحاسك «تَتَّبع» منصوب ب «حتى» ، و «حتى» بدل من «أن» . فصل في أن الكفر ملّة واحدة دلت هذه الآية على أن الكفر ملّة واحدة لقوله تعالى: «مِلَّتَهُمْ» فوحّد الملّة، وبقوله تعالى: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] ، وأمّا قوله صلوات الله وسلامه عليه: «لا يتوارَثُ أَهْل ملّتين شيء» المراد به الإسلام والكفر بدليل قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا يُوَرّثُ المُسْلِمُ الكَافِرَ، وَلا الكَافِرُ المُسْلِمَ» ثم قال تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} [البقرة: 120] يعني الإسلام هو الهدى الحقّ الذى يصح أن يسمى هدى، وهو الهدى كله ليس وراء هدى. قوله تعالى: «هو» يجوز في «هو» أن يكون فصلاً أو مبتدأ، وما بعده خبره، ولا يجوز أن يكون بدلاً من «هُدَى اللهِ» لمجيئه بصيغة الرفع. وأجاز أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى فيه أن يكون توكيداً لاسم «إن» ، وهذا لا يجوز فإن المضمر لا يؤكّد المظهر. قوله: «وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ» هذه تسمى «اللام» الموطِّئَة للقسم، وعلامتها أن تقع قبل أدوات الشرط، وأكثر مجيئها مع «إن» وقد تأتي مع غيرها نحو: {لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ} [آل عمران: 81] ، {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} {مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ} وحذف جواب الشَّرْط، ولو أجيب الشرط لوجبت «الفاء» وقد تحذف هذه «اللاَّم» ويعمل بمقتضاها، فيجاب القسم نحو قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} [المائدة: 73] . والأهواء جمع هوى، كما تقول: «جمل وأجمال» ، ولما كانت مختلفة جمعت، ولو حمل على أفراد الملة لقال: هواهم. قوله: «مِن العِلْمِ» في محلّ نصب على الحال من فاعل «جَاءَكَ» و «مِن» للتبعيض، أي جاءك حال كونه بعَ العلم. فصل في المراد بهذا الخطاب قيل: المراد بهذا الخطاب الأمة كقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 فالخطاب مع الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد الأمة. {بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم} البيان بأن دين الله هو الإسلام، والقبلة قبلة إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهي الكَعْبَةٌ. {مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أي معين يعصمك ويذبّ عنك. فصل فيما تدل عليه الآية قالوا: الآية تدلّ على أمور: منها أن الذي علم الله منه أنه لا يفعل الشيء يجوز منه أن يتوعده على فعله. وثانيها: أنه لا يجوز الوعيد إلا بعد نصب الأدلّة، ويبطل القول بالتقليد. وثالثها: أن اتباع الهَوَى لا يكون إلا باطلاً فمن هذا الوجه يدلّ على بطلان التقليد. ورابعها: سئل الإمام أحمد رَحِمَهُ اللهُ عمن يقول: القرآن مخلوق، فقال: كافر. فقيل: بم كفرته؟ فقال: بآية من كتاب الله، تعالى، {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} [البقرة: 145] فالقرآن من علم الله تعالى، فمن زعم أنه مخلوق فقد كفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 قوله تعالى: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} رفع بالابتداء، وفي خبره وجهان: أحدهما: «يَتْلُونَهُ» ، وتكون الجملة من قوله: «أولئِكَ يُؤْمِنُونَ» : إما مستأنفة وهو الصحيح. وإما حالاً على قول ضعيف مثله أو السورة. والثاني: أن الخبر هو الجملة من قوله: «أولئِكَ يُؤْمِنُونَ» . ويكون «يَتْلُونَهُ» وتكون الجملة في محلّ نصب على الحال إما من المفعول في «آتْنَاهُمْ» وإما من الكتاب، وعلى كلا القولين فهي حال مقدرة؛ لأن وقت الإيتاء لم يكونوا تالين، ولا كان الكتاب متلوًّا. وجوز الحوفي أن يكون «يتلونه» خبراً، و «أولَئِكَ يُؤْمِنُونَ» خبراً بعد خبر، قال: مثل قولهم: «هذا حلو حامض» كأنه يريد جعل الخبرين في معنى واحد، هذا إن أريد ب «الذين» قوم مخصوصون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 وإن أريد بهم العموم، كان «أولئِكَ يُؤْمِنُونَ» الخبر. قال جماعة منهم ابن عطية رَحِمَهُ اللهُ وغيره و «يَتْلُونَهُ» حالاً يستغنى عنها، وفيها الفائدة. وقال أيضاً أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون «يَتْلُونَهُ» خبراً؛ لئلا يلزم منه أنّ كل مؤمن يتلو الكتاب حَقَّ تلاوته بأي تفسير فسرت التلاوة قال أبو حيان: ونقول: ما لزم من الامتناع مِنْ جَعْلِهَا خبراً يلزم من جعلها حالاً؛ لأنه ليس كل مؤمن على حال التلاوة بأي تفسير فسرت التلاوة. قوله تعالى: «حَقَّ تِلاَوَتِهِ» فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه نصب على المصدر وأصله: «تلاوةً حقًّا» ثم قدم الوصف، وأضيف إلى المصدر، وصار نظير «ضربت شديد الضرب» أي: ضَرْباً شديداً. فلما قدم وصف المصدر نصب نصبه. الثاني: أنه حال من فاعل «يَتْلُونَهُ» أي: يتلونه محقين. الثالث: أنه نعت مصدر محذوف. وقال ابن عطية: و «حَقَّ» مصدر، والعامل فيه فعل مضمرن وهو بمعنى «أفعل» ، ولا تجوز إضافته إلى واحد معرف، إنما جازت هنا؛ لأن تَعَرُّفَ التلاوة بإضافتها إلى الضمير ليس بتعرف محض، وإنما هو بمنزلة قولهم: رجل وَاحِدُ أُمِّه وَسِيجُ واحده يعني: أنه في قوة «أفعل» التفضيل بمعنى أحقّ التلاوة، وكأنه يرى أن إضافة «أفعل» غير محضة، ولاحاجة إلى تقدير عامل فيه؛ لأن ما قبله يطلبه. والضمير في «به» فيه أربعة أقوال: أحدهما وهو الظاهر: عوده على الكتاب. الثاني: عوده على الرسول، قالوا: «ولم يَجْرِ له ذكر لكنه معلوم» ، ولا حاجة إلى هذا الاعتذار، فإنه مذكور في قوله: {أَرْسَلْنَاكَ} [البقرة: 119] ، غلا أن فيه التفاتاً من خطاب إلى غيبة. الثالث: أنه يعود على الله تعالى، وفيه التفات أيضاً من ضيمر المتكلّم المعظم في قوله: «أَرْسَلْنَاكَ» إلى الغيبة. الرابع: قال ابن عطية: إنه يعود على «الهدى» وقرره بكلام حسن. فصل فيمن نزلت فيهم هذه الآية قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أهل السَّفينة الذين كانوا مع جفعر بن أبي طالب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 وكانوا أربعين رجلاً اثنان وثلاثون من «الحبشة» وثمانية من رهبان «الشام» منهم بحيرى. وقال الضحاك: هو من آمن من اليهود: عبد الله بن سلام، وشعبة بن عمرو، وتمام ابن يهوذا، وأسيد وأسد ابنا كعب وابن تامين، وعبد الله بن صوريا. دليل هذين التأويلين تقدم ذكر الكتاب. وقال قتادة وعكرمة: هم المؤمنون عامة لقوله: {يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ} هذا حثّ وترغيب في تلاوة هذا الكتاب، وهذا شأن القرآن؛ لأن التوراة والإنجيل لا يجوز قراءتهما، وأيضاً قوله: {يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فأولئك هُمُ الخاسرون} وهذا الوصف لا يليق إلا بالقرآن. والتلاوة لها معنيان: أحدهما: الاتباع فعلاً؛ لأن من اتبع غيره يقال: تلاه فعلاً، قال تعالى: {والقمر إِذَا تَلاَهَا} [الشمس: 2] . والثاني: القراءة. وفي حق التلاوة وجوه: أحدها: أنهم يدبّروه، فعلموا بموجبه [حتى تمسّكوا بأحكامه من حلال وحرام وغيرهما] . وثانيها: أنهم خضعوا عند تلاوته. وثالثها: أنهم عملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه، وتوقفوا فيما أشكل عليهم منه، وفوضوه إلى الله تعالى. ورابعها: يقرءونه كما أنزل الهل، ولا يحرفونه، ولا يتأولونه على غير حق. وخامسها: روي عن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوا، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا. وسادسها: المراد أن تحمل الآية على كل هذه الوجوه؛ لأنها مشتركة في مفهوم واحد، وهو تعظيمها، والانقياد لها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 العامل في «إذ» «قال» . وقيل: العامل فيه «اذكر» مقدراً، وهو مفعول، وقد تقدم أنه لا يتصرف فالأولى ما ذكرته أولاً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 وقدره الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ تعالى كان كيت وكيت، فجعله ظرفاً، ولكن عامله مقدر. و «ابْتَلَى» ما بعده في محلّ خفض بإضافة الظرف إليه. وأصل ابتلى: ابْتَلَوَ، فألفه عن «واو؛ لأنه» من بَلاَ يَبْلو «أي؛ اختبر. و» إبْرَاهِيم «مفعول مقدم، وهو واجب التقديم عند جمهور النحاة؛ لأنه متى اتَّصَل بالفاعل ضمير يعود على المفعول وجب تقديمه، لئلا يعود الضمير على متأخر لفظاً وربتة، هذا هو المَشْهثور، وما جاء على خلافه عدوه ضرورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 وخالف أبو الفتح في ذلك وقال:» إن الفعل كما يطلب الفاعل يطلب المفعول، فصار للفظ به شعور وطلب «. وقد أنشد ابن مالك أبياتاً كثيرة تأخر فيها المفعول المتصل ضميره بالفاعل، منها: [السريع] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 770 - لَمَّا عَصَى أَصْحَابُهُ مُصْعَباً ... أَدَّى إِلَيْهِ الكَيْلَ صَاعاً بِصَاعْ ومنها: [البسيط] 771 - جَزَى بَنُوهُ أَبَا الْغِيلاَنِ عَنْ كِبَرٍ ... وَحُسْنِ فِعْلِ كَمَا يُجْزَى سِنِمَّارُ وقال ابن عطية: وقدم المفعول للاهتمام بمن وقع إلابتلاء به، إذا معلوم أن الله هو المبتلي، واتِّصَال ضمير الفعل بالفاعل موجب للتقديم، يعنى أن الموجب للتقديم سببان: سبب معنوي وسبب صناعي. و» إبراهيم «علم أعجمي. قيل: معناه قبل النقل أب رحيم. فصل في تفسير لفظ إبراهيم قال الماوردى: هذا التفسير بالسريانية وبالعربية فيما حكى ابن عطية أب رحيم. قال السهيلي: كثيراً ما يقع الاتفاق بين السرياني والعربي، أو يقاربه في اللفظ، ألا ترى أن إبراهيم تفسيره أب رحيم، راحم بالأطفال، ولذلك جعل هو وسارة زوجته كافلين لأطفال المؤمنين الذي يموتون صغاراً إلى يوم القيامة [على ماروى البُخَاري في حديث الرؤيا الطويل أن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى في الروضة إبراهيم عليه السلام وحوله أولاد الناس] . وفيه لغات سبع، أشهرها: إبراهيم بألف وياء، وإبْرَاهام بألفين، وبها قرأ هشام وابن ذكوان في أحد وجهيه في» البقرة «، وانفرد هشام بها في ثلاثة مواضع في آخر» النساء «وموضعين في آخر» براءة «وموضع في آخر» الأنعام «وآخر» العنكبوت «، وفي» النجم «و» الشورى «و» الذاريات «و» الحديد «والأول في» الممتحنة «، وفي» إبراهيم «وفي» النحل «موضعين، وفي» مريم «ثلاثة، فهذه ثلاثة وثلاثون موضعاً منها خمسة عشر في» البقرة «وثلاثة عشر في السور المذكورة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 وروي عن ابن عامر قراءة جميع ما في القرآن كذلك. ويروى أنه قيل لمالك بن أنس: إن أهل «الشام» يقرءون ستة وثلاثين موضعاً إبراهام بالألف، فقال: أهل «دمشق» بأكل البطِّيخ أبصر منهم بالقراءة. فقيل: إنهم يدعون أنها قراءة عثمان. فقال: هذا مصحف عثمان، فأخرجه فوجده كما نقل له. الثالثة: إبْرَاهِم بألف بعد الراء، وكسر الهاء دون ياء، وبها قرأ أبو بكر؛ وقال زيد بنُ عمروِ ينِ نُفَيْلِ: [الرجز] 722 - عُذْتُ بِمَا عَاذَ بِهِ إِبْرَاهِمُ ... إذْ قَالَ وَجْهي لَكَ عَانٍ رَاغِمُ الرابعة: كذلك، إلا أنه بفتح الهاء. الخامسة: كذلك إلا أنه بضمها. السادسة: إبْرَهَم بفتح الهاء من غير الف وياء. قال عبد المطلب: [الرمل] 773 - نحْنُ آلُ الله ِ فِي كَعْبَتِهِ ... لَمْ نَزَلْ ذَاكَ عَلَى عَهْدِ ابْرَهَمْ السَّابعة: إبْرَاهُوم بالواو. قال أبو البقاء: ويجمع على «أَبَاره» عند قوم، وعند آخرين «بَرَاهِم» . وقيل: أبارِهَة وبَرَاهِمَة ويجوز أَبَارِهَة [وقال المبرد رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لا يقال براهم فإن الهمزة لا يجوز حذفها] . وحكى ثعلب فيه: «بَرَاهٍ» كما يقال في تصغيره: «بُرَيْه» بحذف الزوائد. والجمهور على نصب «إبراهيم» ورفع «رَبُّهُ» كما تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 وقرأ ابن عباس وأبو الشعثاء وأبو حنيفة بالعكس. قالوا: وتأويلها دعا ربه، فسمى دعاءه ابتلاء مجازاً؛ لأن في الدعاء طلب استكشاف لما تجري به المقادير. والضمير المرفوع في «فَأَتمّهُنّ» فيه قولان: أحدهما: أنه عائد على «ربّه» أي: فأكملهن. والثاني: أنه عائد على «إبْرَاهِيمَ» أي: عمل بهن، ووفّى بهن. وهو إبراهيم بن تارح بن ناحور مولده ب «الشوس» من أرض «الأهواز» . وقيل: «بابل» ، وقيل: «كولى» وقيل «كسكر» وقيل: «حيران» . ونقله أبوه إلى «بابل» أرض نمرود بن كنعان، كان له أربع بنين: إسماعيل وإسحاق ومدين ومدائن، ذكره السهيلي. فصل فيما دلتش عليه السورة اعلم أنه سبحانه وتعالى لما شرح وجوه نعمه على بني إسرائيل شرح قبائحهم في أديانهم وأعمالهم، وختم هذا الفصل بشرح النعم بقوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 122] بين نوعاً آخر من البيان، وهو أن ذكر قصة إبراهيم عليه السلام والحكمة فيه أن إبراهيم عليه السلام معترف بفضله جميع الطَّوائف، والمشركون أيضاً معترفون بفضله متشرّفون بأنهم من أولاده، ومن ساكني حرمه، وخادمي بيته، فذكر فضيلته لهم؛ لأنها تدلّ على قبول محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من وجوه: أحدها: أنه تعالى لما أمر ببعض التكاليف، فلما وفّ لأى بها وخرج لا جرم نال النبوة والإمامة. وثانيها: أنه لما طلب الإمامة لذريته فقال تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} فدلّ ذلك على أنّ من أراد هذا المنصب وجب عليه ترك اللَّجَاج والتعصّب للباطل. وثالثها: أن الحج من خصائص دين محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فحكى الله تعالى ذلك عن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 إبراهيم ليكون ذلك كالحُجَّة على اليهود والنصارى في وجوب الانقياد لذلك. واربعها: أن القبلة لما حولت إلى الكعبة شقّ ذلك على اليهود والنصارى، فبيّنم الله تعالى أن هذا البيت قبلة إبراهيم الذي يعترفون بتعظيمه، ووجوب الاقتداء به، فكان ذلك مما يوجب زوال الغضب على قلوبهم. فصل في معنى الاتبلاء والابتلاء هنا الاختبار والامتحان، وابتلاء الله ليس ليعلم أقوالهم بالابتلاء؛ لأنه تعالى عالم بجميع المعلومات على سبيل التَّفَصايل من الأَزَلِ إلى الأبد، ولكن ليعلم الناس أحوالهم حتى يعرف بعضهم بعضاً، أو عاملهم معاملة المختبر. وختلف في «الكَلِمَاتِ» فقال مجاهد: هي المذكورة بعدها في قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} إلى آخرها من الآيات، ورفع البيت، وتطهير البيت، ورفع القواعد، والدعاء ببعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإن هذه أمور شاقّة؛ لأن الإمامة هاهنا هي النبوة وتتضمن مشاقاً عظيمة. وأما بناء البيت وتطهيره، ورفع قواعده، فمن وقف على ما روي في كيفية بنائه عرف شدّة البلوى فيه، ثم إنه يتضمّن إقامة المَنَاسك، وقد امتحن الله تعالى الخليل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بالشَّيْطَان في الموقف لرمي الجِمَار وغيرها. وأما اشتغاله بالدعاء ببعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو مما يحتاج إلى اخلاص العمل لله تعالى، وإزالة الحَسَد عن القلب، فكل هذه تكاليف شاقّة، ويدلّ على إرادة ذلك أنه عقبه بذكره من غير فصل بحرف عطف، فلم يقبل وقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} . واعترض القاضي على هذا، فقال: إنما يجوز هذا لو قال تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمها إبراهيم، ثم قال بعد ذلك: إني جاعلك للناس إماماً فأتمهن. وأجيب عنه: بأنه ليس المراد من الكلمات الإمامة فقط، بل الإمامة وبناء البيت وتطهيره والدعاء ببعث محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكأنه تعالى ابتلاه بمجموع هذه الأشياء، فأخبر كأنه ابتلاه بأمور على الإجمال، ثم أخبر عنه أتمّها، ثم عقب ذلك بالشرح والتفصيل، وهذا ليس ببعيد. وقال طاوس عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: عشر خصال كانت فَرْضاً في شرعه، وهي سُنّة في شرعنا: خمس في الرأس، وخمس في الجسد، أما التي في الرأس: فالمضمضة، والاستنشاق، وفرق الرأس، وقصّ الشارب، والسِّوَاك، وأما التي في البدن: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 فالخِتَان، وحَلْق العَانَةِ، ونَتْف الإبط، وتقليم الأظفار، [والاستنجاء بالماء. وفي الخبر أن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أول من قصّ الشارب، وأول من اختتن وأول من قلّم الأَظفار] . وقال أبو الفرج بن الجوزي حديثاً عن كعب الأحبار رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: خلق من الأنبياء ثلاثة عشر مَخْتُونين: آدم وشيث ونوح وإدريس وسام ولوط ويوسف وموسى وشعيب وسليمان ويحيى وعيسى ومحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال محمد بن حبيب الهاشمي أربعة عشر: آدم وشيث ونوح وهود وصالح ولوط وشعيب ويوسف وموسى وسليمان وزكريا وعيسى وحنظلة بن صفوان من أصحاب الرَّسِّ، ومحمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وروي أن عبد المطلب ختن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم سابعه وجعل مَأْدُبة، وسماه محمداً عليه أفضل الصلاة والسلام. قال يحيى بن أيوب رضي الله تعالى عنه طلبت هذا الحديث فلم أجده عند أحد من أهل الحديث ممّن لقيته إلاَّ عند ابن أبي السّريّ. وقال عكرمة عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما لم يُبْتلَ أحد بهذا الدين فأقامه كله إلا إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام ابتلاه بثلاثين خَصْلة من خصال الإسلام: عشر منها في سورة «براءة» : {التائبون العابدون} [التوبة: 112] إلى آخر الآية. وعشر منها في سورة «الأحزاب» : {إِنَّ المسلمين والمسلمات} [الأحزاب: 35] إلى آخر الآية وعشر منها في «المؤمنين» : {قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون} إلى قوله {أولئك هُمُ الوارثون} [المؤمنون 110] . وروي عن ابن عباس: أربعون فزاد: وعشر في {سَأَلَ سَآئِلٌ} إلى قوله تعالى {يُحَافِظُونَ} [المعارج: 1 - 34] . وقال ابن عباس، وقتادة، والربيع: هي مناسك الحَجّ. [وقال الحسن] : ابتلاه بسبعة أشياء: بالشمس والقمر، والكواكب، والخِتَان على الكِبَر، والنار، وذَبْح الولد، والهجرة، فوفّى بالكلّ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 448 وقال يمَان بن رباب: هي مَحَاجّته قومه، والصلاة، والزكاة، والصوم، والضيافة، والصبر عليها. وقال بعضهم: هي قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 131] . وقال سعيد بن جبير: هو قول إبراهيم وإسماعيل إذ يَرْفَعَان البَيْتَ: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} [البقرة: 127] الآية. وقيل: هي قوله: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] الآيات. قال القَفّال: وجملة القول أن الابتلاء بتناول إلزام كلّ ما في فعله كُلفة شدة ومشقة، فاللفظ يتناول مجموع هذه الأشياء، ويتناول كل واحد منهان فلو ثبتت الرواية في الكل وجب القول بالكل، ولو ثبتت الرواية في البعض دون البعض، [فحينئذ يقع بين هذه الروايات] ، فوجب التوقّف. فصل في وقت هذا الابتلاء قال القاضي: هذا الابتلاء إنما كان قبل النبوة؛ لأنَّ الله تعالى جعل قيامه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بهنّ كالسبب لأنْ يجعله الله إماماً، والسبب مقدم على المسّبب، وإذا كان كذلك فالله تعالى ابتلاه بالتكاليف الشَّاقّة، فلما وفَّى بها لا جرم أعطاه خُلْعة النبوة والرسالة. وقال غيره: إنه بعد النبوة، لأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا يعلم كونه مكلفاً بتلك التكاليف إلا من الوحي، فلا بد من تقدم الوحي على معرفته. وأجاب القاضي: بأنه يحتمل أنه تعالى أوحى إليه على لسان جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بهذه التكاليف، فلما تمّم ذلك جعله نبيّاً مبعوثاً إلى الخلق. إذا عرفت هذا فنقول: قال القاضي: يجوز أن يكون المراد بالكلمات ما ذكر الحَسَن من أمر الكواكب والشمس والقمر، فإنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ابْتُلِيَ بذلك قبل النبوة. وأما ذبح الولد والهجرة والنار، وكذا الخِتان، فكل ذلك بعد النبوة. يروى أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ختن نفسه، وكان سنه مائة وعشرين سنة. ثم قال: فإن قامت الدلالة السمعية القاهرة على أن المراد من الكلمات هذه الأشياء كان المراد من قوله: «أَتَمَّهُنَّ» أنه سبحانه علم من حاله أنه يتمهن، ويقوم بهن بعد النبوةن فلا جَرَمَ أعطاه خلعة الإمامة والنبوة. فصل قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ روى في الموطأ عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 المسيب، يقول: إبراهيم عليه السلام أول من اختتن، وأول من أضاف اضيف، وأول من استحدّ، وأول من قلّم الأظافر، وأول من قَصَّ الشارب، وأول من شاب، فلما رأى الشيب قال: ما هذا؟ قال: وقار، قال: يا رب زدني وقاراً. وذكر أبو بكر بن أبي شيبة عن سعيد بن إبراهيم عن أبيه قال: أول من خطب على المنابر إبراهيم خليل الله. قال غيره: وأول من ثَرَدَ الثَّرِيدَ، وأول من ضرب بالسيف، وأول من اسْتَاك، وأول من استنجى بالماء، وأول من لبس السراويل. قوله: «قَالَ إِنِّي» هذه الجملة القولية يجز أن تكون معطوفة على ما قبلها، إذا قلنا بأنها عاملة في «إذْ» ؛ [لأن التقدير: وقال أِنِّي جاعلك إذ ابتلى، ويجوز أن تكون استئنافاً إذا قلنا: إن العامل في «إذْ» مضمر] ، كأنه قيل: فماذا قال له ربه حين أتم الكلمات؟ فقيل: قال: إنِّي جَاعِلُكَ. ويجز فيها أيضاً على هذا القول أن تكون بياناً لقوله: «ابْتَلَى» وتفسيبراً له، فيراد بالكلمات ما ذكره من الإمامة، وتطهير البيت، ورفع القواعد، وما بعدها، نقل ذلك الزمخشري. قوله: «جَاعِلُكَ» هو اسم فاعل من «جَعَلَ» بمعنى «صَيَّرَ» فيتعدّى لاثنين: أحدهما: «الكاف» ، وفيها الخلاف المشهور هل هي في محلّ نصب أو جر؟ وذلك أن الضمير المتصل باسم الفاعل فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه في محل جر بالإضافة. والثاني: أنه في محل نصب، وإنما حذف التنوين لشدة اتّصال الضمير، قالوا: ويدلّ على ذلك وجوده في الضرورة؛ كقولهم: [الوافر] 774 - فَمَا أَدْرِ وَظَنِّي كُلَّ ظَنِّ ... أَمُسْلِمُنِي إِلَى قَوْمِي شَرَاحِي وقال آخر: [الطويل] 775 - هُمُ الْفَاعِلُونَ الْخَيْرَ وَالآمِرُونَهُ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 وهذا يدل على تسليم كون «نون» مسلمني تنويناً، وإلاّ فالصحيح أنها نون وقاية. الثالث وهو مذهب سيبوبه أنّ حكم الضمير حكم مظهره، فما جاز في المظهر يجوز في مضمره. والمفعول الثاني «إمَاماً» . قوله: «لِلنَّاسِ» يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلق بجاعل أي لأجل النَّاس. والثاني: أنه حال من «إمَاماً» ، فإنه صفةُ نكرةٍ قدم عليها، فيكون حالاً منها؛ إذ الأصل: إمَاماً للناس، فعلى هذا يتعلق بمحذوف. و «الإِمَامُ» : اسم ما يؤتمّ به أي يقصد ويتبع كالإزار اسم ما يؤتزر به. ومنه قيل لحائط البناء: «إِمَام» ويكون في غير هذا جمعاً ل «آمّ» اسم فاعل من آمّ يؤمّ نحو: قائم وقيام، ونائم ونيام وجائع وجياع. والمراد من الإمام هاهنا النبي، ويدلّ عليه وجوه: منها أن قوله: «للنَاسِ إِمَاماً» يدل على أنه تعالى جعله إماماً لكل الناس، والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون رسولاً من عند الله مستقلاًّ بالشرع؛ لأنه لو كان تبعاً لرسول آخر لكان مأموماً [لذلك الرسول لا إماماً له، فحينئذ] يبطل العموم. وأيضاً إنّ اللفظ يدلّ على أنه إمام في كل شيء [والذي يكون كذلك لا بد وأن يكون نبيّاً. وأيضاً إنّ الأنبياء عليهم السلام أئمة من حيث يجب على الخلق اتباعهم] قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 21] . والخلفاء أيضاً أئمة؛ لأنه رتّبوا في محل يجب على الناس اتباعهم، وقبول قولهم، وأحكامهم. والقضاة، والفقهاء أيضاً أئمة لهذا المعنى، والذي يصلّي بالناس يسمى أيضاً إماماً به. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إِنَّمَا جُعِلَ الإِمَام إِمَاماً لِيُؤْتَمَّ بِهِ فَإِذَا رَكَعَ فَارْكَعُوا» الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 وقد يسمى من يؤتم به في الباطل، قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} [القصص: 41] إلا أنه لا يستعمل إلا مقيداً. فصل في إمامة سيدنا إبراهيم اعلموا أن الله تعالى لما وعده بأن يجعله إماماً للناس حقّق الله تعالى ذلك الوعد فيه إلى قيام السَّاعة، فإن أهل الأديان على شدّة اختلافها ونهاية تنافيها يعظمون إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ويتشرفون بالانتساب إليه إما في النسب، وإما في الدين والشريعة حتى إن عَبَدَةَ الأوثان كانوا معظمين لإبراهيم عليه الصَّلاة والسلام. وقال الله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [النحل: 123] وقال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] . وقال عَزَّ وَجَلَّ: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ} [الحج: 78] . وجميع أمة محمد ت عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يقولون في صلاتهم: وارْحَمْ محمّداً وآل محمد كما صليت وباركت وترحّمت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم. قوله: «وَمِنْ ذُرِّيتِي» فيه ثلاثة أقوال: أحدها: أ، «ومنْ ذُرِّيَّتي» صفة لموصوف محذوف هو مفعول أول، والمفعول الثَّاني والعامل فيهما محذوف تقديره: قال: واجعل فريقاً من ذريتي إماماً قاله أبو البقاء. الثاني: أن «وَمِنْ ذُرِّيَتِي» عطف على «الكاف» ، كأنه قال: «وجاعل بعض ذرّيتي» كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: وزيداً. قال أبو حَيَّان: لا يصح العطف على الكاف؛ لأنها مجرورة، فالعطف عليها لا يكون إلاَّ بإعادة الجار، ولم يُعَدْ؛ ولأن «مِنْ» لا يمكن تقدير إضافة الجار إليها لكونها حرفاً، وتقديرها مرادفة لبعض حتى تصحّ الإضافة إليها لا يصح، ولا يصح أن يقدر العطف من باب العطف على موضع الكاف؛ لأنه نصب، فتجعل «مِنْ» في موضع نصب؛ لأنه ليس مما يعطف فيه على الموضع [في مذهب سيبويه رَحِمَهُ اللهُ تعالى] لفوات المحرز، وليس نظير ما ذكر؛ لأن «الكاف» في «سأكرمك» في موضع نصب. الثالث: قال أبو حيان: والذي يقتضيه المعنى أني يكون «مِنْ ذُرِّيَّتِي» متعلقاً الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 بمحذوف، التقدير: واجعل من ذريتي إماماً، لأن «إبراهيم» فهم من قوله: إني جاعلك للنَّاس إماماً الاختصاص فسأل أ، يجعل من ذرّيته إماماً. قال شهاب الدِّين: إن أراد الشيخ التعلّق الصناعي، فيتعدّى «جاعل» لواحد، فهذا ليس بظاهر. وإن أراد التعلق المعنوي، فيجوز أن يريد ما يريده أبو البقاء، ويجوز أن يكون «مِنْ ذُرِّيَّتِي» مفعولاً ثانياً قدم على الأول، فيتعلّق بمحذوف، وجاز ذلك لأنه ينعقد من هذين الجزءين مبتدأ وخبر لو قلت: «من ذريتي إمام» لصح. وقال ابن عطية: وقيل هذا منه على جهة الاستفهام عنهم أي: ومن ذرّيتي يا رب ماذا يكون؟ فيتعلّق على هذا بمحذوف، ولو قدره قبل «مِنْ ذُرِّيَّتِي» لكان أولى؛ لأن ما في حَيّز الاستفهام لا يتقدم عليه. وفي «ذرية» ثلاث لغات ضمّ الذال وكسرها وفتحها، وبالضم قرأ الجمهور، وبالفتح قرأ أبو جعفر الداني وبالكسر قرأ زيد بن ثابت. وفي تصريفها كلام طويل يحتاج الناظر فيه إلى تأمل. فصل في اشتقاق ذريّة فأما اشتقاقها ففيه أربعة مذاهب: أحدها: أنها مشتقة من «ذَرَوْتُ» . الثاني: من «ذَرَيْتُ» . الثالث: من ذَرَأَ الله الخَلْق. الرابع: من الذَّرِّ. وأما تصريفها فَذُرِّيَّة بالضم إن كانت من ذَرَوْتُ، فيجوز فيها أن يكون وزنها «فُعُّولَة» ، والأصلك «ذُرُّوْوَة» ، فاجتمع واوان: الأولى زائدة للمد، والثانية لام الكلمة فقلبت لام الكلمة ياء تخفيفاً، فصار اللفظ «ذُرُّويَة» ، فاجتمع ياء وواو، وسَبَقَتْ إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء التي هي منقلبة من لام الكلمة، وكسر ما قبل الياء، وهي الراء للتجانس. ويجوز أن يكون وزنها «فُعِّيلَة» ، والأصل: «ذُرِّيْوَة» ، فاجتمع ياء المد والواو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 التي هي لام الكلمة، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت فيها ياء المد. وإن كانت من ذَرَيْتُ لغة في ذَرَوْتُ فيجوز فيها أيضاً أن يكون وزنها «فْعُّولة» أو فُعِّيلَة كما تقدم، وإن كانت «فُعُّولة» فالأصل «ذُرُّوْيَة» ففعل به ما تقدم من القلب والإدغام. وإن كانت «فُعِّيْلَة» فالأصل «ذُرِّيَية» ، فأدغمت الياء الزائدة في الياء التي هي لام. وإن كانت من ذرأ مهموزاً، فوزنها، «فُعِّيْلة» ، والأصل: «ذُرِّيْئة» فخففت الهمزة بأن أبدلت ياء كهمزة «خطيئة» والنسيء «، ثم أدغمت الياء الزائدة في الياء المبدلة من الهمزة. وإن كانت من» الذَّر «فيجوز في وزنها أربعة أوجه: أحدها:» فُعْلِيَّة «وتحتمل هذه الياء أن تكون للنَّسب، وغَيَّرُوا الذَّال من الفتح إلى الضم كما قالوا في النسب إلى الدهر: دُهْرِي، وإلى السهل سُهْلي بضم الدال والسين، وأن تكون الغير النسب فتكون ك» قُمْرية «. الثاني: أن تكون» فُعِّيْلَة «ك» مُرِّيقَة «والأصل» ذُرِّيرة «، فقلبت الراء الآخيةر ياء لتوالي الأمثال، كما قالوا: تسرّيت وتظنّيت في تسررت وتظننت. الثالث: أن تكون» فُعُّولَة «ك» قدوس «و» سبُّوح «، والأصل:» ذُرُّوْرَة «فقلبت الراء ياء لما تقدم، فصار ذُرُّوْيَة فاجتمع واو وياء، فجاء القلب والإدغام كما تقدم. الرابع: أن تكون فعلولة، والأصل: ذُرُّوْرَة، ففعل بها ما تقدم في الوجه الذي قبله. وأما ذِرِّية بكسر الذال فإن كانت من ذروت فوزنها فِعَّيلة، والأصل: ذِرَّيْوَة، فأبدلت الواو ياء وأدغمت في الياء بعدها، فإ، كانت من ذريت فوزنها فِعلية أيضاً، وإن كانت من ذرأ فوزنها فِعَّيلَة أيضاً كبطِّيخة، والأصل ذِرِّيْئَة، ففعل فيها ما تقدم في المضمومة الذال. وإن كانت من الذَّرِّ فتحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون وزنها فِعَلِيَّة نسبة إلى الذر على غير قياس في المضمومة. الثاني: أن تكون» فِعَّيلَة «. اثالث: أن تكون» فِعْليلة «ك» حلتيت «والأصل فيها: ذِرِّيرة ففعل فيهما من إبدال الراء الآخيرة ياء والإدغام فيها. وأما» ذَرِّيَّة «بفتح الذال: فإن كانت من ذروت أو ذريت فوزنها: فَعِّيْلة ك» سكينة «والأصل» ذَرِّيْوة أو ذَرِّيية أو فَعُّولة والأصل ذَرُّورَة أو ذَرُّويَة، ففعل به ما تقدم في نظيره. وإن كانت من ذرأ فوزنها: إما فعِّيلَة ك «سكينة» ، والأصل ذَرِّيئة وإما فَعُّولة ك «خرّوية» والأصل: ذَرَّوءة ففعل به ما تقدم في نظيره. وإن كانت من الذر ففي وزنها أيضاً أربعة أوجه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 أحدها: فَعْلِيَّة، والياء أيضاً تحتمل أن تكون للنسب، ولم يَشِذُّوا فيه بتغيير كما شذّوا في الضم والكسر وألاّ يكون نحو: بَرْنية. الثاني: فَعُّولة ك «خَرُّوبة» والاصل ذَرُّوْرَة. الثالث: فَعَّيلَة ك «سكينة» والأصل: ذريرة. الرابع: فَعْلُولة ك «بكُّولة» ، والأصل ذرورة أيضاً، ففعل به ما تقدم في نظيره من إبدال الراء الأخير، وإدغام ما قبلها وكسرت الذال إتباعاً، وبهذا الضبط الذي فعلته اتضح القول في هذه اللفظة. فصل في معنى الذّرية النسل يقعل على الذكور والإناث، والجمع الذراري. وزعم بعضهم أنها تقع على الآباء كوقوعها على الأبناء مستدلاًّ بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون} [يس: 41] يعنى: نوحاً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ومن معه، وسيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى. فصل هل كان إبراهيم عليه السَّلام مأذوناً له في قوله تعالى: «ومن ذرّيتي» أو لم يكن مأذوناً فيه؟ فإن أذن الله تعالى في هذا الدعاء فلم ردّ دعاءه؟ وإن لم يأذن له فيه كان ذنباً. قلنا: قوله: «ومن ذرّيتي» يدلّ على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ طلب أن يكون بَعْضُ ذريته أئمة، وقد حقق الله تعالى إجابة دُعَاءه في المؤمنين من ذريته ك «إسماعيل» ، و «يعقوب» ، و «يوسف» ، و «موسى» ، و «هارون» و «داود» ، و «سليمان» ، و «أيّوب» و «يونس» ، و «زكريا» ، و «يحيى» و «عيسى» ، عليهم السلام وجعل آخرهم نبينا صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين من ذرّيته الذي هو أفضل الخلق عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام. قوله تعالى: {قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} . الجمهور على نَصْب «الظَّالمِينَ» مفعولاً، و «عَهْدِي» فاعل، اي: لا يصل عهدي إلى الظالمين فيدركهم. وقرأ قتادة، والأعمش، وأبو رجاء: «الظَّالِمُونَ» بالفاعلية، و «عَهْدِي» مفعول به، والقراءتان ظاهرتان؛ إذ الفعل يصحّ نسبته إلى كل منهما، فإن من نالك فقد نِلْته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 والنَّيْل: الإدراك، وهو العطاء أيضاً، نال يَنَال نيلاً فهو نائل، وقرأ حمزة وحفص بإسكان الياء من: «عَهْدِيْ» ، الباقون بفتحها. فصل في تحرير معنى العهد اختلفوا في العَهْدِ، فقيل: الإمامة. وقال السدي: النبوة، وهو قول ابن عباس. وقال عطاءك رحمتي. وقيل: عهده أمره، ويطلق على الأمر، مقال سبحانه وتعالى: {إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} [آل عمران: 183] أي: أمرنا، وقال تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ} [يس: 60] يعنى ألم أقدم إليكم الأمر به، فيكون معنى قوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} أي: لا يجوز أن يكونوا بمحلّ من يقبل أوامر الله. [قال قتادة رَحِمَهُ اللهُ تعالى: هو الإيمان. وقال مجاهد والضحاك رحمهما الله هو طاعتي، أي: ليس لظالم أن يطاع في ظلمه ومعنى الآية: لا ينال ما عهدت إليك من النبوة والإمامة من كان ظالماً من ولدك. وقال أبو عبيدة رَحِمَهُ اللهُ تعالى: العهد الأمان من النار؛ لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن} [الأنعام: 82] . قال ابن الخطيب: والأول أولى؛ لأنه جواب لسؤال الإمامة. فإن قيل: أفما كان إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام عالماً بأن النبوة لا تليق بالظَّالمين؟ فالجواب: بلى، ولكن لم يعلم حال ذرّيته، فبيّن الله تعالى أن فيهم من هذا حاله، وأن النبوة إنما تحصل لمن ليس بظالم. فصل في عصمة الأنبياء الآية تدلّ على عصمة الأنبياء من وجهين. الأول: أنه قد ثبت أن المراد من هذا العهد: الإمامة، ولا شكّ أن كل نبي إمام، فإن الإمام هو الذي يؤتم به، والنبي أولى الناس، وإذا دلّت الآية على أن الإمام لا يكون فاسقاً، فبأن تدلّ على أن الرسول لا يجوز أن يكون فاسقاً فاعلاً للذنب والمعصية أولى. الثاني: أنَّ العَهْدَ إن كان هو النبوة، وجب أن تكون لا ينالها أحد من الظَّالمين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 وإن كان هو الإمامة، فكذلك لأن كل نبي لا بد وأن يكون إماماً يؤتم به، وكل فاسق ظالم لنفسه، فوجب ألاَّ تحصل النبوة لأحد من الفاسقين. فصل في أنه هل يجوز عقد الإمام للفاسق؟ قال الجمهور من الفقهاء والمتكلّمين: الفاسق حال فسقه لا يجوز عقد الإمامة له، واختلفوا في أنَّ الفسق الطَّارىء هل يبطل الإمامة أم لا؟ واحتج الجمهور على أنّ الفاسق لا يصلح أن تعقد له الإمامة بهذه الآية، ووجه الاستدلال بها من وجهين: [الأول: ما بيّنا أن قوله: «لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» جواب لقوله: «وَمِنْ ذُرِّيَّتِي» وقوله: «وَمِنْ ذُرِّيََّتِي» طلب الإمامة الَّتي ذكرها الله تعالى، فوجب أن يكون المراد بهذا العهْدِ هو الإمامة، ليكون الجواب مُطَابقاً للسؤال، فتصير الآية كأنه تعالى قال: لا ينال الإمامة الظَالمين، وكل عاص فإنه ظالم لنفسه، فكانت الآية دالّة على ما قلناه] . فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي انتفاء كونهم ظالمين ظاهراً وباطناً ولا يصح ذلك في الأئمة والقضاة. [قلنا] : أما الشيعة [فيستدلون] بهذه الآية على صحة قولهم في وجوب العِصْمَةِ ظاهراً وباطناً. وأما نحن فنقول: مقتضى الآية ذلك إلاّ أنا تركنا عبارة الباطن، فتبقى العدالة الظاهرة معتبرة. فإن قيل: أليس أن يونس عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين} [الأنبياء: 87] وقال آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] ؟ قلنا: المذكور في الآية هو الظلم المطلق، وهذا غير موجود في آدم ويونس عليهما السلام. الوجه الثاني: أن العهد قد يستعمل في كتاب الله بمعنى الأمر، قال الله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بني آدَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان} [يس: 60] يعني: ألم آمركم بهذا؟ وقال الله تعالى: {قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا} [آل عمران: 183] يعنى أمرنا، ومنه عهود الخلفاء إلى أمرائهم وقضائهم. إذا ثبت أن عهد الله هو أمره فنقول: لا يخلو قوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} من أن يريد أن أن الظالمين غير مأمورين وأن الظالمين لا يجوز أن يكونوا بمحلّ من يقبل منهم أوامر الله تعالى، ولما بطل الوجه الأول لانفاق المسلمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 على أن أوامر الله تعالى لازمة للظالمين، كلزومها لغيرهم ثبت الوجه الآخر، وهو أنهم غير مؤتمنين على أوامر الله تعالى وغير مقتدى بهم فيها، فلا يكونون أئمة في الدّين، فثبت بدلالة الآية بطلان إمامة الفاسق، قال عليه السلام: «لاَ طَاعَة لِمَخْلُوقٍ في مَعْصِيَةِ الخَالِقِ» ودل أيضاً على أن الفاسق لا يكون حاكماً، وأن أحكامه لا تنفذ إذ وُلِّيَ الحكم، وكذلك لا تقبل شهادته، ولا خبره [عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا فتياه إذا أفتى، ولا يُقَدَّم للصَّلاة، وإن كان هو بحيث لو اقتدى به، فإنه لا تفسد صلاته] . وقال ابو بكر الرَّازيك «ومن النَّاس من يظن أن مذهب أبي حنيفة أن يجوز كون الفاسق إماماً وخليفة، ولا يجوز كون الفاسق قاضياً» ، قال: وهذا خطأ، ولم يفرق أبو حنيفة بين الإمام والحاكم في أن شرط كل واحد منهما العدالة، وكيف يكون خليفةً، وروايته غير مقبولة، وأحكامه غير نافذة. قال: وإنما غلط من غلط في هذه الرواية أن قول أبي حنفية: أن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه، وتولى القضاء من إمام جائر فإنَّ أحكامه نافذة، والصَّلاة خلفه جائزة؛ لأن القاضي إذا كان عدلاً في نفسه، ويمكنه تنفيذ الأحكام كانت أحكامه نافذة، فلا اعتبار في ذلك بمن وَلاَّه؛ لأن الذي ولاَّه بمنزلة سائر أعوانه، وليس شرط أعوان القاضي أن يكونوا عدولاً، ألا ترى أن أهل بلد لا سلطان عليهم لو اجتمعوا على الرِّضَا بتولية رجل عدل منهم القضاء حتى يكونوا أعواناً له على من امتنع من قبول أحكامه ولكان قضاؤه نافذاً، وإن لم يكن له ولاية من جهة إمام ولا سلطان. والله أعلم. فصل في أخذ الأرزاق من الأئمة الظَّلمة ونقل القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى عن أبن خويز منداد أنه قال: وأما أخذ الأرزاق من الأئمّة الظلمة فله ثلاثة أحوال: إن كان جميع ما في أيديهم مأخذاً على موجب الشريعة، فجائز أخذه؛ وقد أخذت الصحابة والتابعون من يد الحَجّاج وغيره. وإن كان مختلطاً حالالاً وظلماً، كما في أيدي الأمراء اليومن فالوَرَعُ تركه، ويجوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 للمحتاج أخذه، وهو كَلِصٍّ في يده مال مسروق، ومال حلال، [وقد وكله فيه رجل، فجاء اللص يتصدق به على إنسان] ، فيجوز أن تؤخذ منه الصَّدقة، وكذلك لو باع أو اشترى كان العَقْدُ صحيحاً لازماً، وإن كان الوَرَعُ التنزُّه عنه، وذلك أن الأموال لا تحرم بأعيانها، [وإنما تحرم لجهاتها، وإن كان في أيديهم ظلماً صراحاً، فلا يجوز أن يؤخذ من أيديهم] ، ولو كان ما في أيديهم من المال مغصوباً غير أنه لا يعرف له صاحب، ولا مطالب، فهو كما لو وجد في أيدي اللصوص وقطّاع الطريق [ويجعل في بيت المال] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 «إذْ» عطف على «إذْ» قبلها، وقد تقدم الكلام فيها، و «جَعَلْنَا» يحتمل أن يكون بمعنى «خَلَقَ» و «وضعَ» فيتعدّى لواحدن وهو «البيت» ، ويكون «مَثَابَةً» نصباً على الحال وأن يكون بمعنى «صيّر فيتعدى لاثنين، فيكون» مَثَابَةً «هو المفعول الثاني. والأصل في» مثابة «» مثوبة «فأعلّ بالنقل والقلب، وهل هو مصدر أو اسم مكان قولان؟ وهل الهاء فيه للمبالغة ك» عَلاَّمة «و» نَسَّابة «لكثكرة من يثوب إليه، أي يرجعن أو لتأنيث المصدر ك» مقامة «أو لتأنيث البقعة؟ ثلاثة أقوال، وقد جاء حذف هذه الهاء؛ قال ورقةُ بنُ نَوْفَل: [الطويل] 776 - مَثابٌ لأَفْنَاءِ القَبَائِلِ كُلِّهَا ... تَخُبُّ إلَيْهَا اليَعْمَلاَتُ الذَّوَامِلُ وقال: [الرمل] 777 - جَعَلَ البَيْتَ مَثَاباً لَهُمُ ... لَيْسَ مِنْهُ الدَّهْرَ يَقْضُونَ الوَطَرْ وهل معناه من ثاب يثوب أي: رجع أو من الثواب الذي هو الجزاء؟ قولان: أظهرهما: أولهما قال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير رَضِيَ اللهُ عَنْهم: إنهم يثوبون إليه في كل عام. وعن ابن عباس ومجاهد رَضِيَ اللهُ عَنْهما: [أنه لا ينصرف عنه أحد إلا وهو يتمنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 العود إليه] ، وقرأ الأعمش وطلحة» مَثَابَاتٍ «جمعاً، ووجهه أنه مثابة لكلّ واحد من الناس. قوله تعالى:» لِلنَّاسِ «فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلّق بمحذوف؛ لأنه صفة لمثابة ومحلّه النصب. والثاني: أنه متعلّق بجعل أي: لأجل الناس يعنى مناسكهم. قوله تعالى:» وَأَمْناً «فيه وجهان: أحدهما: أنه عطف على» مثابة «وفيه التأويلات المشهورة: إما في جعله نفس المصدر، وإما على حذف مضاف، أي: ذا أمن، وأما على وقوع المصدر موقع اسم الفاعل، أيك آمناً، على سبيل المجاز كقوله: {حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67] . والثاني: أنه معمول لفعل محذوف تقديره: وإذ جعلنا البيت مثابة، فجعلوه آمناً لا يعتدي فيه أحد على أحد. والمعنى: أن الله جعل البيت محترماً بحكمه، وربما يؤيد هذا بقرأءة:» اتَّخِذُوا «على الأمر، فعلى هذا يكون» وأَمْناً «وما عمل فيه من باب عطف الجمل عطفت جملة أمرية على خبرية، وعلى الأول يكون من عَطْفِ المفردات. فصل في تحرير المقصود من البيت اعلم أنه لما ذكر أمر تكليف إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بالإمامة ذكر بعده التكليف الثاني، وهو تطهير البيت، فنقول: المراد ببيت الله الحرام؛ لأن الألف واللام فيه: إما للعهد أو للجنس، وقد علم المخاطبون أنه لم يرد الجنس، فانصرف إلى المعهود عندهم وهو الكعبة. قال ابن الخطيب: وليس المراد نفس الكعبة؛ لأنه تعالى وصفه بكونه» أمناً «وهذا صفة لجميع الحرم لا الكعبة فقط بدليل جواز إطلاق البيت، والمراد منه كل حرم. قال تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] والمراد حرم كله لا الكعبة نفسها؛ لأنه لا يذبح في الكعبة، ولا في المسجد الحرام، وقال تعالى: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 والمراد والله أعلم منعهم من الحج وحضور مواضع النسك، وقال الله تعالى مخبراً عن إبراهيم {رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} [إبراهيم: 35] ، فدلّ هذا على أنه وصف البيت بالأمن، فاقتضى جميع الحرم. والسّبب في أنه تعالى أطلق لفظ البيت، وعنى به الحرم كله أن حرمة الحرم لما كانت معلّقة بالبيت جاز أن يعبر عنه باسم البيت. فصل في تحرير معنى الأمن قوله: «وأمناً» أي: وموضع أمن يؤمنون فيه من إيذاء المشركين، ولا شَكَّ أن قوله تعالى: {جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} خبر فتارة يتركه على ظاهره، ويقولك هو خبر وتارة يصرفه عن ظاهره، ويقول: هو أمر. أما على الأول فالمراد أنه جعل أهل الحرم آمنين من القَحْط والجدب على ما قال {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} [العنكبوت: 67] وقوله: {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ} [القصص: 57] ولا يمكن أن يكون المراد منه الإخبار عن عدم وقوع القَتْلِ في الحرم؛ لأنا نشاهد أن القتل الحرام قد يقع فيه. وأيضاً فالقتل المباح قد يوجد فيه، قال الله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم} [البقرة: 191] فأخبر عن وقوع القَتْلِ فيه. وإن حملنا الكلام على الأمر فالمعنى: أن الله تعالى أمر الناس بأن يجعلوا ذلك الموضوع آمناً من الغارة والقَتل، فكان البيت محرماً بحكم الله تعالى، وكانت الجاهلية يحرمونه ولا يتعرّضون لأهل «مكة» ، وكانوا يسمون قريشاً: أهل الله تعظيماً له، ثم اعتبر فيه أمر الصيد حتى أن الكلب ليَهُمَّ بالظَّبي خارج الحرم فيفر الظبي منه فيتبعه الكلب، فإذا دخل الظبي الحرم لم يتبعه الكَلْب قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم فتح «مكة» : «إنَّ هَذَا البَلَدَ حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ، فَهُوَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ تَعَالَى إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ، لاَ يُعْضَدُ شُوْكُهُ، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهُ، وَلاَ يَلْتَقِطُ إلاَّ مَنْ عَرَّفَهَا، وَلاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا» فقال العباس رَحِمَهُ اللهُ: يا رسول الله إلإذْخِرَ. فقال: «إلاَّ الإذْخِرَ» . فصل في أنه هل يجوز القتال في الحرم؟ قال الشَّافعي رَحِمَهُ اللهُ تعالى ورضي عنه: إذا دخل البيت من وجب عليه حَدٍّ فلا تستوف منه، لكن الإمام يأمر بالتضييق عليه حتى يخرج من الحرم، فإذا خرج أقيم عليه الحد في الحلّ، فإن لم يخرج حتى قتل في الحرم جاز، وكذلك من قاتل في الحرم جاز قتله فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 وقال أبو حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْه: لا يجوز. واحتج الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه بأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أمر عندما قتل عاصم بن ثابت بن الأفلح وخبيب بقتل أبي سفيان في داره ب «مكة» غيلة إن قدر عليه، وهذا في الوقت الذي كانت «مكة» فيه محرمة، وذلك يدل أنها لا تمنع أحداً من شيء وجب عليه، وأنها إنما تمنع من أن ينصب الحرب عليها كما ينصب على غيرها. واحتج أبو حنيفة رَحِمَهُ اللهُ بهذه الآية. والجواب عنه أن قوله: «وأمناً» ليس فيه بيان أنه جعله آمناً في ماذا؟ فيمكن أن يكون أمناً من القَحْط، وأن يكون آمناً من نَصْب الحروب، وأن يكون آمناً من إقامة الحُدُود، وليس اللفظ من باب العموم حتى يحمل على الكل، بل حَمْلُه على الأمن من القَحْط والآفات أَوْلَى؛ لأنا على هذا التفسير لا نحتاج إلى حمل لفظ الخبر على معنى الأمر، وفي سائر الوجوه نحتاج إلى ذلك، فكان قول الشَّافعي رَحِمَهُ اللهُ أولى. قوله تعالى: «واتَّخِذُوا» قرأ نافع وابن عامر: «واتَّخَذُوا» فعلاً ماضياً على فلظ الخبر، والباقون على لفظ الأمر. فأما قراءة الخبر ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنه معطوف على «جَعَلْنَا» المخفوض ب «إذ» تقديراً، فيكون الكلام جملة واحدة. الثاني: أنه معطوف على مجموع قوله: «وإذْ جَعَلْنَا» فيحتاج إلى تقدير «إذْ» أي: وإذ اتَّخّذُوا، ويكون الكلام جملتين. الثالث: ذكره أبو البقاء أن يكون معطوفاً على محذوف تقديره: فثابوا واتخذوا. وأما قراءة الأمر فيها أربعة أوجه: أحدها: أنها عطف على «اذكروا» إذا قيل بأن الخطاب هنا لبني إسْرَائِيل، أي: اذكروا نعمتي واتخذوا. والثاني: أنها عطف على الأمر الذي تضمنه قوله: «مثابة» ، كأنه قال: ثوبوا واتخذوا، ذكر هذين الوجهين المَهْدَوِي. الثالث: أنه مفعول لقول محذوف، أي: وقلنا: اتخذوا، إن قيل بأن الخطاب لإبراهيم وذريته، أو لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأمته. الرابع: أن يكون مستأنفاً ذكره أبو البقاء. قوله تعالى: «مِنْ مَقَامِ» في «من» ثلاثة أوجه: أحدها: أنها تبعيضية، وهذا هو الظاهر. الثاني: أنها بمعنى «في» . الثالث: أنها زائدة على قول الأخفش، وليس بشيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 والمقام هنا مكان القيام، وهو يصلح للزمان والمصدر أيضاً. واصله: «مَقْوَم» فأعل بنقل حركة «الواو» إلى السَّاكن قبلها، وقلبها آلفاً، ويعبر به عن الجماعة مجازاً؛ كما يعبر عنهم بالمجلس؛ قال زهير: [الطويل] 778 - وفِيهِمْ مَقَامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمٍ ... وَأَنْدِيَةٌ يَنْتَابُهَا القَوْلُ وَالفِعْلُ قوله: «مُصَلَّى» مفعلو «اتَّخِذُوا» ، وهو هنا اسم مكان أيضاً، وجاء في التفسير بعنى قبله. وقيل: هو مصدر، فلا بد من حذف مضاف أي: مكان صلاة، وألفه منقلبة عن واو، والأصل: «مُصَلَّو» ؛ لأن الصلاة من ذوات «الواو» كما تقدم أول الكتاب. فصل في المقصود بالمقام اختلفوا في «المقام» فقال الحسن والربيع بن أنس وقتادة: هو موضع الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين غسلت رأسه، فوضع إبراهيم عليه السلام رجله عليه، وهو راكب فغسلت أحد شقّي رأسه، ثم رفعته من تحته، وقد غاصت رجله في الحَجر، فوضته تحت الرجل الآخرى، فغاصت رجله أيضاً فيه، فجعله الله تعالى من معجزاته يروى أنه كان موضع أصابع رجليه بيِّناً فاندرس من كثرة المسح بالأيدي، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهم أن إبراهيم عليه السلام كان يبني البيت وإسماعيل يناوله الحجارة ويقولان: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} [البقرة: 127] فلما ارتفع البنيان وضعف إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن وضع الحجارة قام على حجر وهو مقام إبراهيم عليه السلام، وقال مجاهد رَحِمَهُ اللهُ وإبراهيم النخعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: «مقام إبراهيم الحرم كله» وقال يمان: المسجد كله مقام إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. [وقال عطاءك إنه عرفة والمزدلفة والجمار، وقال ابن عباس: «الحج كله مقام إبراهيم] . واتفق المحققون على أن القول الأول أولى لما روى جابر رحمة الله عليه أنه عليه الصَّلاة والسلام لما فرغ من الطواف أتى المقام، وتلا قوله تعالى: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 وروي أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مرّ بالمقام، ومعه عمر رضي الل عنه فقال: يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى، فلم تغب الشمس من فوقهم حتى نزلت الآية، وقال تعالى: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} . وليس للصلاة تعلق بالحرم، ولا بسائر المواضع إلا بهذا الموضع، فيكون مقام إبراهيم هو هذا، ولو سأل أهل» مكّة «عن مقام إبراهيم لم يجبه أحد، ولم يفهم منه إلا هذا الموضع لما روي أن الحجر صار تحت قدميه في رُطُوبة الطّين حتى غاصت فيه رِجْلا إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وذلك من أظهر الدلائل على وَحْدَانية الله تعالى ومعجزة إبراهيم عليه السلام، فكان اختصاصه بإبراهيم أولى من اختصاص غيره، وثبت في الأخبار أنه قام على هذا الحجر عند المغتسل، ولم يثبت قيامه على غيره، فحمل هذا اللفظ، أعنى: مقام إبراهيم عليه السلام على الحجر يكون أولى. قال القَفَّال: ومن فسر» مقام إبراهيم «بالحجر خرج قوله تعالى: {واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى} على مجاز قول الرجل: اتخذت من فلان صديقاً، وقد أعطاني الله من فلان أخاً صالحاً، وإنما تدخل» من «لبيان المتخذ الموصوف، ويميزه في ذلك المعنى من غيره. فصل في تحرير معنى المُصَلّى اختلفوا في «المُصَلّى» . فقال مجاهد رَحِمَهُ اللهُ تعالى: «هو الدعاء» ، قال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56] وإنما ذهب إلى هذا التأويل ليتم له قوله: إن الحرم كله مقام إبراهيم. وقال الحسن رَضِيَ اللهُ عَنْه: أراد به قبلة إبراهيم. وقال قتادة والسّدي: أمروا أن يصلوا عنده، وهذا القول أولى؛ لأن لفظ «الصَّلاة» إذا أطلق يعقل منه الصَّلاة الشَّرعية وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لأسامة بن زيد المصلى أمامك يعني به موضع الصلاة. وصلَّى النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى آله وسلم وشرف وكرم وبجل وعظم عنده بعد تلاوة الآية. وهاهنا بحثان وهو أن ركعتي الطواف هل هي فرض أو سنة فإن كان الطواف فرضاً فعن الشافعي رَحِمَهُ اللهُ قولان: أحدهما: أنهما فرض؛ لهذه الآية، فإن الأمر للوجوب. والثاني: أنهما سنة؛ لقول النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للأعرابي حين سأله هل عليَّ غيرها؟ قال لا إلاَّ أن تطوع، وإن كان الطواف سنة فهما سنة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 فصل في الكلام على البيت المعمور روي عن علي رضي الله تعالى عنه قال: البيت المعمور بيت في السماء يقال له الضراح، وهو بجال الكعبة من فوقها، حرمته في السَّماء كحرمة البيت في الأرض، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة لا يعودون فيه أبداً. وذكر علي رضي الله تعالى عنه أنه مر عليه الدهر بعد بناء إبراهيم، فانهدم فبنته العَمَالقة، ومر عليه الدهر فانهدم، فبنته جُرْهم، ومر عليه الدهر فانهدم، بنته قريش ورسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يومئذ شابّ، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود اختصموا فيه، فقالوا: يحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السّكة، وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أول من خرج عليهم، فقضى بينهم أن يجعلوا الحجر في مِرْطٍ، ثم ترفعه جميعُ القبائل، فرفعوه كلهم فأخذه رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ووضعه. وعن الزهري قال: بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ثلاثة صفوح في كل صفح كتاب. في الصفح الأول: أنا الله ذو بَكَّة صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حفًّان وباركت لأهلها في اللحم واللبن. وفي الصفح الثاني: أنا الله ذو بَكَّة خلقت الرحم، وشققت لها اسماً من اسمي من وصلها وصلته، ومن قطعها قطتعه. وفي الثالث: أنا الله ذو بكَّة خلقت الخير والشرّ، فطوبى لمن كان الخير على يديه، وويل لمن كان الشر على يديه. وقال صلوات الله وسلامه عليه: «الرُّكْنُ وَالمَقَامُ يَاقُوتَتَانِ مِنْ يَوَاقِيتِ الجَنَّةِ طَمَسَ اللهُ تَعَالَى نُورَهُمَا، وَلَوْلاَ ذَلِكَ لأَضَاءَ لَهُمَا مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ، وَما مسهما ذُو عَاهَةٍ وَلاَ سَقِيمٌ إلاَّ شُفِيَ» . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هَذَا الحَجَرُ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا يَوْمَ القِيَامَةِ وَإنَّهُ كَانَ أَشَدَّ بَيَاضاً مِنَ الثَّلْجِ حَتَّى سَوَّدَتْهُ خَطَايَا أهْلِ الشِّرْكِ» . وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: عن النبي صل الله عليه وسلم أنه قال: «هَذَا الحَجَرُ يَأْتِي يَوْمَ القِيَامَةِ لَهُ عَيْنَانِ يُبْصِرُ بِهِمَا، وَلسَانٌ يَنْطِقُ بِهِ، يَشْهَدُ عَلَى مَن اسْتَلَمَهُ بِحَقِّ» . وعن ابن عمر رضى الله تعالى عنهما أنه قَبَّل الحجر الأَسْوَد وقال: «إِنِّي لأعلم أنك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 حجر لا تضر ولا تنفع، وأن الله ربّي، ولولا أني رأيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقبّلك ما قبَّلتك» . قوله تعالى: {وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ} تقدم معنى العَهْد. قيل: معناه هاهنا أمرنا وقيل: أوحينا. قوله: «وَإسْمَاعِيلَ» إسماعيل علم أعجميٌّ، وفيه لغتان: باللام والنون؛ وعليه قول الشاعر: [الرجز] 779 - قَالَ جَوَارِي الحَيِّ لَمَّا جِينَا ... هَذَا وَرَبِّ البَيْتِ إسْمَاعِينَا ويجمع على: «سَمَاعلة» و «سماعيل» و «أساميع» . ومن أغرب مانقل في التسمية أن إبراهيم عليه السلام لما دعا لله أن يرزقه ولداً كان يقول: اسمع إيل اسمع إيل، وإيل هو الله تعالى فسمى ولده بذلك. قوله: «أَنْ طَهِّرَا» يجوز في «أن» وجهان: أحدهما: أنها تفسيرية لجملة قوله: «عَهِدْنَا» ، فإنه يتضمن معنى القول؛ لأنه بمعنى أمرنا أو وصينا، فهي بمنزلة «أي» التي للتفسير، وشرط «أن» التفسيرية أن تقع بَعْدَما هو بمعنى القول لا حروفه. وقال أبو البقاء: والمفسرة تقع بعد القول، وما كان في معناه. فقد غلط في ذلك، وعلى هذا فلا محل لها من الإعراب. والثاني: أن تكون مصدرية، وخرجت على نظائرها في جواز وصلها بالجملة الأمرية، قالوا: «كتبت إليه بإن قم» وفيها بحث ليس هذا موضعه، والأصل: بأن ظهرا، ثم حذفت الباء، فيجيء فيها الخلاف المشهور من كونها في محل نصب، أو خفض. و «بَيْتِيَ» معفول به أضيف إليه تعالى تشريفاً وقرأ أهل «المدينة» وحفص «بيتيَ» بفتح الياء هاهنا، وفي سورة «الحج» ، وزاد حفص في سورة «نوح» عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. و «الطائف» اسم فاعل من: «طاف يطوف» ، ويقال: أطاف رباعياً، قال: [الطويل] 780 - أطَافَتْ بِهِ جَيْلاَنُ عِنْدَ قِطَاعِهِ ..... ... ... ... ... ... ... . . وهذا من باب «فَعَل وأفْعَل» بمعنى. فصل في معنى تطهير البيت يجب أن يراد به تطهير البيت من كل أمر لا يليق به، لأنه موضع الصَّلاة فيجب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 تطهيره من الشرك، ومن كل ما لا يليق به، وذكر المفسّرون وجوهاً: أحدها: أن معنى «طَهِّرَا بَيْتِيَ» ابنياه وطَهّراه من الشرك، وأسِّسَاه على التقوى. وثانيهما: عرّفا الناس أن بيتي طهرة لهم متى حجّوه، وزاره وأقاموا به. ومجازه: اجعلاه طاهراً عندهم، كما يقال: فلان يطهر هذا، وفلان ينجسه. وثالثها: ابنياه، ولا تدعا أحداً من أهل الريب أو الشرك يزاحم الطَّائفين فيه، بل اقرَّاه على طهارته من أهل الكفر والريب كما يقال: طهر الله الأرض من فلان، وهذه التأويلات مبنيّة على أنه لم يكن هناك ما يوجب إيقاع تَطْهيره من الأَوثَان والشرك، وهو كقوله تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] فمعلوم أنهنّ لم يطهرن عن نجس، بل خلقن طاهرات، وكذا البيت المأمور بتطهيره خلق طاهراً. ورابعها: معناه: أن نظّفا بيتي من الأوثان والشرك والمعاصي، ليقتدي الناس بكما في ذلك. وخامسها: قال بعضهم: إن موضع البيت قبل البناء كان يلقى فيه الجِيف والأقذار، فأمر الله تعالى إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام بإزالة تلك القَاذُورَات وبناء البيت هناك، وهذا ضعيف؛ لأن قيل البناء ما كان البيت موجوداً، فتطهير تلك العَرْصَة لا يكون تطهيراً للبيت، ويمكن أن يجاب عنه بأنه سماه بيتاً، لأنه علم أن مآله إلى أن يصير بيتاً لكنه مجاز. قوله تعالى: {لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود} . الطائفين: الدَّائرين حوله والعاكفين المقيمين الملازمين. والرّكع «، وجمع» راكع «. والعكوف لغة: اللزوم واللبثح قال: [الوافر] 781 - ... ... ... ... ... ... ... ... عَلَيْهِ الطَّيْرُ تَرْقُبُهُ عُكُوفَا وقال: [الرجز] 782 - عَكْفَ النَّبِيطِ يَلْعَبُونَ الفَنْزَجَا ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 ويقال: عَكَفَ يَعْكُفُ وَيَعْكِفُ، بالفتح في الماضي، والضم والكسر في المضارع، وقد قرىء بهما. و» السُّجُود «يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه جمع ساجد نحو: قاعد وقعود، وراقد ورقود، وهو مناسب لما قبله. والثاني: أنه مصدر نحو: الدخول والقعود، فعلى هذا لابد من حذف مضاف أي: ذوي السّجود ذكره أبو البقاء. وعطف أحد الوصفين على الآخر في قوله:» الطَّائِفِينَ والعَاكِفِينَ «لتبايُنِ ما بينهما، ولم يعطف إحدى الصّفتين على الأخرى في قوله:» الرُّكَّعِ السُّجُودِ «، لأن المراد بهما شيء واحد وهو الصلاة إذ لو عطف لتوهم أن كل واحد منهما عبادة على حِيَالِهَا، وجمع صفتين جمع سلامة، وأخْريَيْن جمع تكسير لأجل المقابلة، وهو نوع من الفَصَاحة، وأخر صيغة» فعُول «على» فُعّل «؛ لأنها فاصلة. فصل في الكلام على الأوصاف الثلاثة المتقدمة في هذه الأوصاف الثلاثة قولان: أحدهما: أن يحمل ذلك على فرق ثلاثة؛ لأن من حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه، فيجب أن يكون الطائفون غير العاكفين والعاكفون غير الركع السجود لتصح فائدة العطف. فالمراد بالطَّائفين: من يقصد البيت حاجًّا أو معتمراً، فيطوف به، والمراد بالعاكفين: من يقين هناك ويجاوزر، والمراد بالركع السجود: من يصلي هناك. والثاني: قال عطاء: إنه إذا كان طائفاً فهو من الطائفينن وإذا كان جالساً فهو من العاكفين، وإذا كان مصلياً فهو من الركع السجود. وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما العاكفون هم الذين يصلون عند الكعبة. خصّ الركوع والسجود بالذكر؛ لأنها أقرب أحوال المصليم إل الله تعالى. فصل فيما تدل عليه الآية هذه الآية تدل على أمور منها: أنا إذا فسرنا الطائفين بالغرباء، فحينئذ تدل الآية على أن الطواف للغرباء أفضل من الصلاة؛ لأنه تعالى كما خصّهم بالطواف دلّ على أن لهم به مزيد اختصاص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 وروي عن ابن عباس ومجاهد وعطاء: أن الطواف لأهل الأنصَارِ أفضل، والصلاة لأهل «مكة» أفضل. ومنها جواز الاعتكاف في البيت. ومنها جواز الصلاة في البيت فرضاً أو نَفْلاً إذ لم تفرق الآية بين شيئين منها، خلافاً لمن منع جواز الصَّلاة المفروضة في البيت. فإن قيل: لا تسلم دلالة الآية على ذلك؛ لأنه تعالى لم يقل: الركّع السجود في البيت، وكما لا تدلّ الآية على جواز فعل الطَّواف في جوف البيت، وإنما دلّت على فعله خارج البيت كذلك دلالته مقصورة على جواز فعل الصَّلاة إلى البيت متوجّهة إليه، فالجواب ظاهر لأنه يتناول الرجع السجود إلى البيت، سواء كان ذلك في البيت، أو خارجاً عنها، وإنما أوجبنا وقوع الطواف خارج البيت هو أن يطوب بالبيت، ولا يسمى طائفاً بالبيت مَنْ طاف في جوفه، والله تعالى إنما أمر بالطواف به لا بالطواف فيه، لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} [الحج: 29] . وأيضاً المراد لو كان التوحه إليه للصلاة، لما كان الأمر بتطهير البيت للركع السجود وجه، إذ كان حاضرو البيت والغائبون عنه سواء في الأمر بالتوجّه إليه. فإن قيل: احتجّ المخالف بقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} [البقرة: 144] ومن كان داخل المسجد الحرام لم يكن متوجّهاً إلى المسجد، بل إلى جزء من أجزائه. والجواب: أن المتوجّه الواحد يستحيل أن يكون متوجهاً إلى كلّ المسجد، بل لا بد وأن يكون متوجهاً إلى جزء من أجزائه، ومن كان داخل البيت فهو كذلك، فوجب أن يكون داخلاً تحت الآية. فصل في تظهير جميع بيوت الله ويدخل في هذا المعنى جميع بيوت الله تعالى، فيكون حكمها حكمه في التطهير والنظافة، وإنما خص الكعبة بالذكر، لأنه لم يكن هناك غيرها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 قال القاضي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: في هذه الآيات تقديم وتأخير، لأن قوله: {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً} لا يمكن إلاَّ بعد دخول البلد في الوجود، والذي ذكره من بعد وهو قوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} [البقرة: 127] وإن كان متأخراً في التلاوة، فهو متقدم في المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 قوله تعالى: {اجعل هذا بَلَداً آمِناً} والجعل هنا يعنى التَّصيير، فيتعدّى لاثنين ف «هذا» مفعول أول و «بلداً» مفعول ثان، والمعنى: اجعل هذا البلد، أو هذا المكان، و «آمناً» صفة أي ذا أمن نحو: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] أو آمناً من فيه نحو: ليلُهُ نائم. والبلد معروف، وفي تسميته قولان: أحدهما: أنه مأخوذ من البلد. والبلْد في الأصل: الصدر يقال: وضعت الناقة بَلْدَتَها إذا بركت، أي: صدرها، والبلد صدر القرى، فسمي بذلك. والثاني: أن البلد في الأصل الأثر، ومنه: رجل بليد لتأثير الجهل فيه. وقيل لبركة البعير: «بَلْدَة» لتأثيرها في الأرض إذا برك، قال الشاعر [الطويل] 783 - اُنِيخَتْ فَأَلْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ ... قَلِيلُ بِهَا الأًصْوَاتُ إلاَّ بُغَامُها إنما قال في هذه السورة «بَلَداً آمناً» على التنكير. وقال في سورة إبراهيم: {هذا البلد آمِناً} [إبراهيم: 35] على التعريف لوجهين: الأول: أن الدعوة الأولى وقعت، ولم يكن المكان قد جعل بلداً، كأنه قال: اجعل هذا الوادي بلداً آمناً؛ لأنه تعالى حكى عنه أنه قال: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} [إبراهيم: 37] . فقال هاهنا اجعل هذا الوادي بلداً آمناً، والدعوة الثانية وقعت وقد جعل بلداً، فكأه قال: اجعل هذا المكان الذي صيّرته بلداً ذا أمن وسلامة، كقولك: جعلت هذا الرجل آمناً. الثاني: أن يكون الدعوتان وقعتا بعدما صار المَكَان بلداً، فقوله: {اجعل هذا بَلَداً آمِناً} تقديره: اجعل هذا البلد بلداً آمناً، كقولك: كان اليوم يوماً حارًّا، وهذا إنما تذكره للمبالغة في وصفه بالحرارة؛ لأن التنكير يدلّ على المبالغة، فقوله: {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً} معناه: اجعله من البلدان الكاملة في الأمن، وأما قوله: {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً} فليس فيه إلاَّ طلب الأمن لا طلب المبالغة، والله أعلم. فصل في المراد بدعاء سيدنا إبراهيم قيل: المراد من الآية دعاء إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ للمؤمنين من سكّان « الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 مكة» بالأمن والتَّوْسعة بما يجلب إلى «مكة» فلم يصل إليه جَبّار إلا قَصَمَهُ الله عَزَّ وَجَلَّ ّ كما فعل بأصحاب الفيل. فصل في الرد على بعض الشُّبهات فإن قيل: أليس أن الحَجّاج حارب ابن الزبير، وخرب الكَعْبة، وقصد أهلها بكل سوء وتم له ذلك؟ فالجواب: لم يكن مقصوده تخريب الكمعبة لذاتها، بل كان مقصوده شيئاً آخر. فإن قيل: ما الفائدة في قول إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} [إبراهيم: 35] ، وقد أخبر الله تعالى قبل ذلك بقوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: 125] ؟ فالجواب: من وجوه: أحدها: أن الله تعالى لما أخبره بأنه جعل البيت مثابة للناس وأمناً، ووقع في خاطره أنه إنما جعل البيت وحده آمناً، فطلب إبرراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يكون الأمن بجميع البلد. وثانيها: أن يكون قوله تعالى: «وَإِذْ جَعَلْنَا البَيْتَ» بعد قوله أبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً} فيكون إجابة لدعئه، وعلى هذا فيكون مقدماً في التلاوة مؤخراً في الحكم. وثالثها: أن يكون المراد من الأَمْنِ المذكور في قوله تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً} [البقرة: 125] هو الأمن من الأعداء والخيف والخَسْف والمَسْخ، والمراد من الأمن في دعاء إبراهيم هو الأمن من القَحْط، ولهذا قال: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} . فإن قيل: الأمن والخصب مما يتعلّق بمنافع الدنيا، فكيف يليق بالرسول المعظم طلبها؟ فجوابه من وجوه: أحدها: أن الدنيا إذا طلبت ليتقوى بها على الدين كان ذلك من أعظم أركان الدين، وإذا كان البلد آمناً مخصباً تفرغ أهلها لطاعة الله تعالى وإذا كان ضد ذلك كانوا على ضد ذلك. وثانيها: أنه تعالى جعله مثابة للناس، والناس إنما يمكنهم الذَّهاب إليه إذا كانت الطرق آمنةً، والأقوات هناك رخصية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 وثالثها: أن الأمنو الخَصْب مما يدعوا الإنسان إلى الذهاب إلى تلك البلدة، فحينئذ يشاهل المشاعر العظيمة، والموقف الكريمة، فيكون الأمن تتمّةً في تلك الطاعة. فصل في المراد بالأمن اختلفوا في الأمن المسؤول هنا فقيل: الأمن من القَحْط؛ لأنه أسكن ذرّيته بوادٍ غير ذي زرع ولا ضَرْع. وقيل: الأمن من الخَسْف والمَسْخ. وقيل: الأمن من القتل هو قول أبي بكر الرازي، واحتج عليه بأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سأله الأمن أولاً، ثم سأله الرِّزْق ثانياً. ولو كان المَطْلوب هو الأمن من القَحْط لكان سؤال الرِّزْق بعده تكرار، وقد يجاب بأنه: لعل الأمن المسؤول هو الأمن من الخَسْف والمَسْخ، أو لعله الأمن من القَحْط، ثم الأمن من القحط قد يكون بحصول ما يحتاج إليه من الأغذية، وقد يكون بالتَّوْسعة فيها، فهو بالسؤال الأول طلب إزالة القَحْطِ، وبالسؤال الثاني طلب التوسعة. قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: دعا إبراهيم لذريته وغيرهم بالأمن، وَغَدٍ العيش. فروي أنه لما دعا بهذا أمر الله تعالى جبريل، فاقتلع «الطائف» من «الشام» فطاف بها حول البيت أسبوعاً، فسميت «الطائف» لذلك، ثم أنزلها «تهامة» ، وكانت «مكة» وما يليها حين ذلك قَفْراً لا ماء فيها ولا نَبَاتَ، فبارك الله فيما حولها كالطائف وغيرها، وأنبت فيها أنواع الثَّمَرات. فصل في أنه متى صارت مكة آمنة؟ اختلفوا هل كانت مكة آمنة محرمة قبل دعوة إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أو إنما صارت كذلك بدعوته؟ فقالوا: إنها كانت كذلك أبداً لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ اللهَ حَرَّمَ مَكَّة يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 قال إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم} [إبراهيم: 37] وهذا يقتضي أنها كان محرمة قبل ذلك، ثم إن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أكّده بهذا الدعاء. وقيل: إنها إنوما صارت حرماً آمناً بدعاء إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقبله كانت كسائر البَلَدِ، الدليل عليه قوله عليه السلام: «اللهُمَّ إِنِّي حَرَّمْتُ المَدِينْةَ كَمَّا حَرَّمَ إِبْرَاهِيْمُ مَكَّة» . وقيل: كانت حراماً قبل الدعوة بوجه غير الوجه الذي صارت به حراماً بعد الدعوة. قوله: «مَنْ آمَنَ» بدل بعض من كلّ، [وهو «أَهْلَهُ» ] ولذلك عاد فيه ضميره على المبدل منه، و «من» في «مِنَ الثَّمَرَاتِ» للتبعيض. وقيل: للبيان، وليس بشيء، إذ لم يتقدّم مبهم يبين بها. فصل في تخصيص المؤمنين بهذا الدَّعاء إنما خصَّ المؤمنين بهذا الدعاء لوجيهن: الاولك أنه لما سأل الله تعالى فصار ذلك [تأديباً] في المسألة، فلما ميّز الله تعالى المؤمنين عن الكافرين في باب الإمامة: خصّص المؤمنين بهذا الدُّعاء دون الكفارين. الثاني: يحتمل إن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قوي في ظنه أنه إن دعا للكلّ كثر في البلد الكفار، فيكون في كثرتهم مفسدة ومضرّة في ذهاب الناس إلى الحَجّ، فخصّ المؤمنين بالدعاء لهذا السبب. قوله: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ] يجوز في «من» ثلاثة أوجه. أحدها: أن تكون موصولة، وفي محلّها وجهان: أحدهما: أنها في محلّ نصب بفعل محذوف تقديره، قال الله: وأرزق من كفر، ويكون «فأمتعه» معطوفاً على هذا الفعل المقدر. والثاني: [من الوجهين] : أن يكون في محلّ رفع بالابتداء، و «فأمتعه» الخبر، دخلت الفاء في الخبر تشبيهاً له بالشرط. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 وسيأتي أن أبا البقاء يمنع هذا، والرد عليه. الثَّاني من الثلاثة الأوجه: أن تكون نكرة موصوفة ذكره أبو البقاء، والحكم فيها ما تقدّم من كونها في محلّ نصب أو رفع. الثالث: أن تكون شرطية، ومحلّلها الرفع على الابتداء فقط، و «فَأُمتِّعُهُ» جواب الشرط. ولا يجوز في «من» في جميع وجوهها أن تكون منصوبةً على الاشتغال. أما إذا كانت شرطاً فظاهر لأن الشرطية إنما يفسر عاملها فعل الشرط لا الجزاء، وفعل الشرط عنا غير ناصب لضميرها بل رافعة. وأما إذا كانت موصولة فلأن الخبر الذي هو «فأمتعه» شبيه بالجزاء، وذلك دخلته الفاء، فكما أن الجمزاء لا يفسر عاملاً فما أشبهه أولى بذلك، وكذا إذا كانت موصوفة فإن الصفة لا تفسر. وقال أبو البقاء: لايجوز أن تكون «من» مبتدأ، و «فأمتعه» الخبر؛ لأن «الذي» لا تدخل «الفاء» في خبرها إلا إذا كان الخبر مستحقاً بالصلة نحو: الذي يأتينين فله درهم، والكُفْر لا يستحقّ به التمتع. فإن جعلت الفاء زائدة على قوله الأخفش جاز، أو جعلت الخبر محذوفاً، و «فامتعه» دليلاً عليه جاز تقديرهك ومن كفر أرزقه فأمتعه. ويجوز أن تكون «من» شرطية، والفاء جوابها. وقيل: الجواب محذوف تقديره: ومن كفر أرزق، و «من» على هذا رفع بالابتداء، ولا يجوز أن تكون منصوبة؛ لأن أدوات الشرط لا يعمل فيها جوابها، بل فعل الشرط انتهى. أما قوله: «لأن الكفر لا يستحقّ به التمتّع» فليس بمسلّم، بل التمتُّع القليل والمصير إلى النار مستحقَّان بالكفر. وأيضاً فإن التمتُّع وإن سلّمنا أنه ليس مستحقّاً بالكفر؛ ولكن قد عطف عليه ماهو مستحقّ به، وهو المصير إلى النار، فناسب ذلك أن يقعا جميعاً خبراً. وأيضاً فقد ناقض كلامه؛ لأنه جوز فيها أن تكون شرطية، وهل الجزاء إلاَّ مستحق بالشرط، ومترتب عليه؟ فكذلك الخبر المشبه به. وأما تجويزه زيادة الفاء، وحذف الخبر، أو جواب الشرط فأوجه بعيدة لا حاجة إليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 وقرىء «أُمْتِعُهُ» مخفَّفاً من أمتع يمتع، وهي قراءة ابن عامر رَضِيَ اللهُ عَنْه، و «فأمتعه» بسكون العين، وفيها وجهان: أحدهما: أنه تخفيف كقوله: [السريع] 784 - فَاليَوْمَ أَشْرَبْ غَيْرَ مُسْتَحْقِبِ ..... ... ... ... ... ... ... ... . . والثاني: أن «الفاء» زائدة وهو جواب الشرط؛ فلذلك جزم بالسكون، وقرأ ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما ومجاهد «فَأمْتِعْهُ ثُمَّ اضْطرَه» على صيغة الأمر فيهما، ووجهها أن يكون الضمير في «قال» لإبراهيم يعني سأل ربه ذلك و «من» على هذه القراءة يجوز أن تكون متبدأ، وأن تكون منصوبة على الاشتغال بإضمار فعل سواء جعلتها موصولة أو شرطية، إلا أنك إذا جعلتها شرطية قدرت الناصب لها متأخراً عنها؛ لأن أداة الشرط لها صدر الكلام. وقال الزمخشري: «وَمَنْ كَفَر» عطف على «من آمن» كما عطف «ومن ذرّيتي» على الكاف في «جاعلك» قال أبو حيان: أما عطف «من كفر» على «من آمن» فلا يصح؛ لأنه يتنافى تركيب الكلام؛ لأنه يصير المعنى: قال إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأرزق من كفر؛ لأنه لا يكون معطوفاً عليه حتى يشركه في العامل. «من آمن» العامل فيه فعل الأمر، وهو العامل في «ومن كفر» ، وإذا قدرته أمراً تنافى مع قوله: «فأمتعه» ؛ لأن ظاهر هذا إخبار من الله تعالى بنسبة التمتع، وإلجائهم إليه تعالى وأن كلاًّ من الفعلين تضمَّن ضميراً، وذلك لا يجوز إلاَّ على بعد بأن يكون بعد الفاء قول محذوف فيه ضمير لله تعالى، أيك قال إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: وازرق من كفر، فقال الله: أمتعه قليلاً ثم أَصطره، ثم ناقض الزمخشري قوله هذا أنه عطف على «من» كما عطف «ومن ذريتي» على الكاف في «جاعلك» . فقال: فإن قلت لم خص إبراهيم بذلك المؤمنين حتى رد عليه؟ فالجواب: قاس الرزق على الإمامة، فعرف الفرق بينهما بأن الإمامة لا تكون للظالم، وأما الرزق فربما يكون استدراجاً. والمعنى: قال: «وارزق من كفر فأمتعه» فظاهر قوله «والمعنى قال» أن الضمير في «قال» لله تعالى، وأن «من كفر» منصوب بالفعل المضارع المسند إلى ضمير المتكلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 و «قليلاً» نعت لمصدر محذوف أو زمان، وقد تقدم له نظاره واختبار سيبويه فيه. وقرأ الجمهور: «أَضْطَرُّهُ» خبراً. وقرأ يحيى بن وثاب بكسر الهمزة، ووجهها كسر حرف المضارعة كقولهم في أخال: إِخَال. وقرأ ابن محيصن «أطَّرَّه» بإدغام الضاد في الطاء، [نحو] : اطَّجع في اضطجع وهي مَزْذولة؛ لأن الضاد من الحروف الخمسة التي يدغم فيها، ولا تدغم هي في غيرها وهي حروف: ضغم شقر، نحو: اطجع في اضطجع، قاله الزمخشرين وفيه نظر؛ فإن هذه الحروف أدغمت في غيرها، أدغم أبو عمرو الدَّاني اللام في {يَغْفِرْ لَكُمْ} [نوح: 4] والضاد في الشين: {لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ} [النور: 62] والشين في السين: {العرش سَبِيلاً} [إلاسراء: 42] . وأدغم الكسائي الفاء في الباء: {نَخْسِفْ بِهِمُ} [سبأ: 9] . وحكى سيبويه رَحِمَهُ اللهُ تعالى أن «مْضَّجَعًا» أكثر، فدلّ على أن «مطّجعاً» كثيرٌ. وقرأ يزيد بن أبي حبيب: «أضطُرُّهُ» بضم الطاء كأنه للإتباع. وقرأ أبي: «فَنُمَتِّعُهُ ثُمَّ نَضْطَّرُّهُ» بالنون. واضطر افتعل من الضَّرِّ، وأصله: اضْتَرَّ، فأبدلت التاء طاء؛ لأن تاء الافتعال تبدل طاء بعد حروف الإطباق وهو متعدِّ، عليه جاء التنزيل؛ وقال: [البسيط] 785 - إِضْطَرَّكَ الْحِرْزُ مِنْ سَلْمَى إِلَى أَجَإٍ ..... ... ... ... ... ... ... . والاضطرار: الإلجاء والإلزاز إلى الأمر المكوره. قوله: «أُمَتِّعُهُ» قيل: بالرزق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 وقيل: بالبقاء في الدنيا. وقيل: بهما إلى الخروج محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيقتله أو يخرجهُ من هذه الديار إن قام على الكُفْر، [وقيد المتاع بالقلّة] ؛ لأن متاع الدنيا قليلٌ بالنسبة إلى متاع الآخرة المؤبد. وفي الاضطرار قولانك أحدهما: أن يفعل به ما يتعذّر عليه الخلاص منه، كما قال الله تعالى: {يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا} [الطور: 13] و {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48] يقال اضطررته إلى الأمر أي: ألجأته [وحملته عليه] وقالوا: إن أصله من الضَّر؛ وهو إدناء الشيء، ومنه ضرة المرأة لدنوّها. الثاني: أن يصير الفاعل بالتخويف والتهديد إلى أن يفعل ذلك اختياراً، كقوله تعالى: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} [البقرة: 173] فوصفهُ بأنه مضطر إلى تناول الميتة، إن كان ذلك الأكل فعله، فيكون المعنى: أن الله تعالى يلجئه إلى أن يختار النار، ثم بيّن تعالى أن ذلك بئس المصير؛ لأن نعم المصير ما ينال فيه النعيم والسرور، وبئس المصير ضده. قوله: «وَبِئْسَ الْمَصِيرُ» المصير فاعل، والمخصوص بالذم محذوف، أي: النار ومصير: مفعل من صار يصير، وهو صالح للزمان والمكان. وأما المصدر فيقاسه الفتح؛ لأن ماكسر عين مضارعه، فقياس ظرفية الكسر ومصدره الفتح، ولكن النحويين اختلفوا فيما كانت عينه ياء على ثلاثة مذاهب. أحدها: كالصحيح [وقد تقدم] . والثاني: أنه مخير فيه. والثالث: أن يتبع المسموع فما سمع بالكسر أو الفتح لا يتعدّى، فإن كان «المصير في الآية اسم مكان فهو قياسي اتفاقاً، والتقدير: وبئس المصير النّار كما تقدم، وإن كان مصدراً على رأي من أجازه فالتقدير: وبئس الصيرورة صيرورتهم إلى النَّار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 «إذ» عطف على «إذ» قبلها، فالكلام فيهما واحد. و «يرفع» في معنى ماضياً، ح لأنها من الأدوات المخلصة المضارع للمضي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 وقال الزمخشري: «هي حكاية حال ماضية» قال أبو حيان: وفيه نظر. و «القوعد» جمع قاعدة، وهي الأساس والأصل لما فوق، وهي صفة غالبة، ومعناها الثابتة، ومنه «قَعَّدَك الله» أي: أسأل الله تثبيتك، ومعنى رَفْعِها البناءُ عليها؛ لأنه إذا بني عليها نقلت من هيئة الانخفاض إلى الارتفاع. وأما القواعد من النِّسَاء فمفردها «قاعد» من غير تاء؛ لأن المذكر لا حظَّ له فيها إذ هي من: قَعَدَتْ عن الزوج. ولم يقل «قواعد البيت» ، بالإضافة لما في البيان بعد الإبهام من تفخيم شأن المبين. [فصل في مشاركة إسماعيل في رفع القواعد الأكثرون على أن البيت كان موجوداً قبل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ واختلفوا هل كان إسماعيل شريكاً له في رفع القواعد؟ فالأكثرون على أنه كان شريكاً له؛ للعطف عليه. وروي عن علي رَضِيَ اللهُ عَنْه أنه لما بنى البيت خرج وخلف إسماعيل وهاجر. فقالا: إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله تعالى، فعطش إسماعيل ولم ير الماء، فناداه جبريل أن اضرب الأرض بأصبعكن فضربها بأصبعه، فنبع زمزم. وهذا ضعيف؛ وذلك لقوله تعالى: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} وذها يوجب صرفه إلى المذكور السابق: وهو رفع القواعد] . فصل في الكلام على رفع القواعد يروى أن الله تبارك وتعالى خلق موضع البيت قبل الأرض بألفي عام، وكانت زبدة بيضاء على الماء، وأنزل الله البيت المعمور من ياقوتة من يواقيت الجنة له بابان من زُمُرّد أخضر، وأنزل الله الحجر، كان أبيض فاسود من لمس الحيض في الجاهلية، وأمر الله تعالى آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يحج إليه، ويطوف به. قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: حج آدم صلوات الله وسلامه عليه أربعين حجّة من «الهند» إلى «مكة» ماشياً، وكان ذلك إلى أيام الطوفان، فرفعه الله تعالى إلى السماء الرابعة، وبعث جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حتى خبأ الحجر الأسود في جبل أبي قبيس، وكان موضع البيت خالياً إلى زمن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ثم أمر الله تعالى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بعد ما ولد إسماعيل ت عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 ببناء البيت، فسأل الله تعالى أن يبين له موضعه، فبعث الله السّكينة ليدله على موضع البيت، فتبعها حتى أتيا «مكة» ، هذا قول علي رضي الله تعالى عنه. وقال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: بعث الله سحابة على قدر الكَعْبَة، وذهب إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في ظلها إلى أن وافت «مكة» فوقعت على موضع البيت، فنودي منها يا إبراهيم ابْنِ على ظلها ولا تزل ولا تنقص. [وقيل: أرسل الله جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ليدله على موضع البيت قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: بُنِي البيت من خسمة أجبل: طوزر سيناء، وطور زيتا، ولبنان جبال بالشام، والجودي: جبل بالجزيرة وقواعده من حراء جبل بمكة المشرفة، فلما انتهى لموضع الحجر قال لإسماعيل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يطلبه فصاح أو قُبيس: يا إبراهيم إنّ لك عندي وديعة فخذها، فأخذ الحجر الأسود، فوضعه مكانه. وقيل: إن الله تبارك وتعالى بنى البيت المعمور في السماء، وسمي «صراح» ، وأمر الملائكة أن يبنوا الكعبة في الأرض بحياله على قدره وبقية الكلام على البيت يأتي في سورة «الحج» ‘إن شاء الله تعالى والله أعلم] . قوله: «من البيت» فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلّق ب «يرفع» ومعناها اتبداء الغاية. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من «القواعد» ، فيتعلّق بمحذوف تقديره: كائنة في البيتن ويكون معنى «من» التبعيض [روى ابن كثير رَحِمَهُ اللهُ عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما، «أن القواعد حجارة كأسنمة البخت بعضها من بعض، وحكى عن رجل من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها؛ ليخرج بها أحدهما، فتحركا تحرك الرجل، فانتفضت مكة بأسرها، فانتهوا عن ذلك الأساس» . وقيل: أبصر القوم برقة، كادت تخطلف بصر الرجل فبرأ الرجل من يدهن فوقع في موضعه، فتركوه ورجعوا إلى بنيانهم] . قوله: «وَإٍسْمَاعيِلُ» فيه قولان: أحدهما: وهو الظاهر أنه عطف على «إبراهيم» ن فيكون فاعلاً مشاركاً في الرفع، ويكون قوله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} في محلّ نصب بإضمار القول، ذلك القول في محل نصب على الحال منهما، أي: يرفعان يقولان: ربنا تقبل، ويؤيد هذا قراءة عبد الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 بإظهار فعل القول، وقرأ: «يَقُولاَنِ: رَبَّنَا تَقَبَّشلْ» أي: قائلين ذلك، ويجوز ألا يكون هذا القول حالاً، بل هو جملة معطوفة على ما قبلها، ويكون هو العامل في «إذ» قبله، والتقدير: يقولان: ربنا تقبل إذ يرفعان، أي: وقت رفعهما. والثَّاني: الواو [واو الحال] ، و «إسماعيل» مبتدأ وخبره قول محذوف هو العامل في قوله: «رَبَّنَا تَقَبَّلْ» فيكون إبراهيم هو الرَّافع، وإسماعيل هو الدَّاعي فقط، قالوا: لأن إسماعيل كان حينئذ طفلاً صغيراً، ورَوَوْه عن علي رَضِيَ اللهُ عَنْه والتقدير إذ يرفع إبراهيم حال كون إسماعيل يقول: ربنا تقبل منّا. وفي المجيْ بلفظ «الرب» جل وعز تنبيه بذكر هذه الصفة على التربية والإصلاح. و «تقّبل» بمعنى «اقبل» ، ف «تَفَعَّلْ» هنا بمعنى المجرد. وتقدم الكلام على نحو «إنك أنت السميع» من كان «أنت» يجوز فيه التأكيد والابتداء والفَصْل. وتقدمت صفة السَّمع، وإن كان سؤال التقبل متأخراً عن العمل للمجاورةن كقوله تعالى {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الذين اسودت} [آل عمران: 106] وتأخرت صفة العلم، لأنها فاصلة، ولأنها تشمل المسموعات وغيرها. [فإن قيل: قوله: {إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} يفيد الحصر، وليس الأمر كذلك، فإن غعيره قد يكون سميعاً. فالجواب أنه تعالى لكماله ف يهذه الصفة كأنه هو المختص بها دن غيره] . قوله: «مسلمين» مفعول ثاني للجعل؛ لأنه بمعنى [التصييير، والمفعول الأول هو] «ن» . وقرأ ابن عباس: مُسْلِمِيْنَ «بصيغة الجمع وفي ذلك تأويلان: أحدهما: أنهما أجريا التثنية مجرى الجمع، وبه استدل من يجعل التثنية جمعاً. والثاني: أنها أرادا أنفسهما وأهلهما ك» هاجر «. قوله:» لك «فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلق ب» مسلمين «لأنه بمعنى نُخْلص لك أوجهنا نحو: {أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} [آل عمران: 20] فيكون المفعول محذوفاً لفهم المعنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 والثاني: أنه نعت لمسلمين أي: مسلميمن مستقرين لك أي مستسلمين. والأول أقوى معنى. فصل فيمن استدل بهذه الآية على القول بخلق الأعمال استدلوا بهذه الآية على خلق الأعمال بقوله: {رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} ، فإن الإسلام إما أن يكون المراد منه الدين والاعتقاد، أو الاستسلام والانقياد، وكيف كان فقد رغبا ف يأن يجعلهما بهذه الصفة لامعنى له إلاّ خَلْق ذلك فيهما، فإن [الجعل] عبارة عن الخلق. قال الله تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] فدلّ هذا على أن الإسلام مخلوق لله تعالى. فإن قيل: هذه الآية الكرمية متروكة الظاهر؛ لأنها تقتضي أنهما وقت السُّؤال [كانا] غير مسلمين إذ لو كانا مسلمين لكان طلب أن يجعلهما مسلمين طلباً لتحصيل الحاصل، وإنه باطل، لكن المسلمين أجمعوا على أنهما كانا في ذلك الوقت مسلمين؛ ولأن صدور هذا الدُّعَاء منهما لا يصلح إلاَّ بعد أن كانا مسلمين، وإذا ثبت أن الآية متروكة الظاهر لم يجز التمسّك بها، سلمنا أنها ليست متروكة الظاهر، لكن لا نسلم أن الجَعْل عبارة عن الخَلْق والإيجاد بل له معانٍ أخر سوى الخلق: أحدها:» جعل «بمعنى» صيّر «، قال [الله] تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الليل لِبَاساً والنوم سُبَاتاً وَجَعَلَ النهار نُشُوراً} [الفرقان: 47] . وثانيها:» جعل «بمعنى» وهب «، تقول: جعلت لك هذه الضيعة وهذا العبد وهذا الغرس. وثالثها: [جعل] بمعنى الوصف للشيء والحكم به كقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] . وقال: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن} [الأنعام: 10] . ورابعها: «جعل» كذلك بمعنى الأمر كقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} [السجدة: 24] يعنى أمرناهم بالاقتداء بهم، وقال: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] فهو الأمر. وخامسها: أن يجعله بمعنى التعليم كقوله: جعلته كتاباً [وشاعراً] إذا علمته ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 وسادسها: البيان والدّلالة تقول: جعلت كلام فلان باطلاً إذا أوردت [من الحجة] ما بين بطلان ذلك. إذ ثبت ذلك فنقول: لم لا يجوز أن يكن المراد وصفهما بالإسلام، والحكم لهما بذلك كما يقال: جعلني فلان لصّاً، وجعلني فاضلاً أديباً إذا وصفه بذلك سّمنا أن المراد من الجَعْل الخَلْق، لكن لم لا يجوز أن يكون المراد منه خلق الألطاف الداعية لهما إلى الإسلام، وتوفيقهما لذلك؟ فمن وفّقه الله لهذه الأمور حتى يفعلها، فقد جعله الله مسلماً له، ومثاله من يؤدّب ابنه حتى يصير أديباً، فيجوز أن يقال: صيّرتك أديباً، وجعلتك أديباً، وف يخلاف ذلك يقال: جعل ابنه لصّاً محتالاً. سلمان أن ظاهر الآية الكريمة يقتضي كونه تعالى خالقاً للإسلام، لكنه على خلاف الدَّلاَئل العقلية، فوجب ترك القول به. وإما قلنا [إنه] على خلاف الدَّلائل العقلية؛ لأنه لو كان فعل العَبْد خلقاً لله تعالى لماك استحق العبد به مدحاً ولا ذمّاً، ولا ثواباً ولا عقاباً، ولوجب أن يكون الله تعالى هو المسلم المطيع لا العبد. والجواب: قوله: الآية متروكة الظاهر. [قلنا] : لا نسلّم وبيانه من وجوه: الأول: أن الإسلام عرض قائم بالقلب، وأنه لا يبقى زمانين فقوله: «واجعلنا مسلمين لك» أي: اخلق هذا العرض، فينافي الزمان المستقبل دائماً، وطلب تحصيله في الزمان المستقبل لا ينافي حصوله في الحال. الثاني: أن يكون المراد منه الزِّيَادة في الإسلام كقوله: {ليزدادوا إِيمَاناً مَّعَ إِيمَانِهِمْ} [الفتح: 4] {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] ويؤيد هذا قوله تعالى {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] فكأنهما دعواه بزيادة اليقين والتصديق، وطلب الزيادة لا ينافي حصول الأصل في الحال. الثالث: أن «الإسلاَم» إذا أطلق يفيد الإيمان والاعتقاد أما إذا أضيف بحرف «اللام» كقوله: «مُسْلِمَيْنِ لَكَ» ، فالمراد الاستسلام له والانقياد والرِّضا بكل ما مقدر [وترك المنازعة في أحكام الله تعالى وأقضيته، فلقد كانا عارفين مسلمين لكن لعله بقي في قلوبهما نوع من المنازعة الحاصلة بسبب البشرية، فأراد أن يزيل الله ذلك عنهما بالكلية ليصحل لهما مقام الرضا بالقضاء على سبيل الكمال] فثبت بهذه الوجوه أن الآية ليست متروكة الظاهر. قوله: يحمل الجعل على الحكم بذلك فلا نسلم أن الموصوف إذا حصلت الصفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 له فلا فائدة في الصفة، وإذا لم يكن المطلوب بالدعاء هو مجرد الوصف، وجب حمله على تحصيل الصفة، ولا يقال: وصفه تعالى بذلك ثناء ومدح، وهو مرغوب له فيه. قلنا: نعم! لكن الرغبة في تحصيل نفس الشيء أكثر من تحصيل الرغبة في تحصيل الوَصْف به والحكم به، فكان حمله على الأول أولى. وأيضاً أنه متى حصل الإسلام فيها فقد استحقا التسمية بذلك والله تعالى لا يجوز عليه الكذبن فكان ذلك الوصف حاصلاً، وأي فائدة في طلبه بالدعاء. وأيضاً أنه لو كان المراد به التسمية لوجب أن كلّ من سمى إبراهيم مسلماً جاز أن يقال: جعله مسلماً. أما قوله: يحمل ذلك على فعل الألطاف. فالجواب: هذا مدفوع من وجوه: أحدها: أن لفظ الجَعْل مضاف إلى «الإسلام» ، فصرفه عنه إلى غيره ترك للظاهر. وثانيها: أن تلك الألْطَاف قد فعلها الله تعالى وأوجدها، وأخرجها إلى الوجود على مذهب المعتزلة، فطلبها يكون طلباً لتحصيل الحاصل، وإنه غير جائز. وثالثها: أن تلك الألطاف إما أن يكون لها أثر في تَرْجيح جانب الفعل على الترك أو لا. فإن لم يكن لها أثر في هذا الترجيح لم يكن ذلك لطفاً. وإن كان لها أثر في الترجيح، فنقول: متى حصل الرجحان فقد حصل الوجوب، وذلك أن مع حصول ذلك القدر من الترجيح، إما أن يجب الفعل، أو يمتنع، أو لا يجب أصلا ولا يمتنع. فإن وجب فهو المطلوب. وإن امتنع فهو مانع لا مرجح، وإن لم يجب ولا يمتنع فحينئذ يمكن وقوع الفعل معه تارة ولا وقوعه أخرى فاختصاص وقت الوقوع بالوقوع: إما أن يكون لانظمام أمر إليه لأجله تميز ذلك الوقت بالوقوع أو ليس كذلك فإن كان الأول كان المرجح مجمع اللطف مع هذه الضميمة الزائدة فلم يكن لهذا اللطف أثر في الترجيح أصلاً، وقد فرضناه كذلك هذا خلف. وإن كان الثاني لزم رجحان أحد طرفي الممكن المساوي على الآخر من غير مرجّح وهو محال، فثبت أن القول بهذا اللطف غير معقول. قوله: الدلائل العقلية دلت على امتناع وقوع فعل العبد بخلق الله تعالى وهو فصل المدح والذم. قلنا: إنه معارض بسؤال العلم وسؤال الداعي على ما تقدم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 قال القرطبي: سألاه التثبت والدوام و «الإسلام» في هذا الموضع: الإيمان والأعمال جميعاً، منه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] ، وكفى هذا دليلاً لمن قال إن الإيمان والإسلام هما شيء واحد، ويؤيده قوله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين} [الذرايات: 35، 36] والله أعلم. قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً} فيه قولان: أحدهماك وهو الظاهر أن «من ذرّيتنا» صفة لموصوف محذوف وهو مفعول أول، و «أمة مسلمة» مفعول ثاني تقديره: واجعل فريقاً من ذرّيتنا أمة مسلمة. وفي «من» حينئذ ثلاثة أقوال: أحدها: أنها للتعبيض. والثاني: أجازه الزمخشري أن تكون للتبيين، قال تبارك وتعالى: {الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ} [النور: 55] . الثالث: أن تكون لابتداء غاية الجعل، قاله أبو البقاء. والثاني: من القولين: أن يكون «أمة» وهو المفعول الأول، و «من ذرّيتنا» حال منها؛ لأنه في الأصل صفة نكرة، فلما قدم عليها انتصب حالاً، و «مسملة» هو المفعول الثاني، والأصل: واجعل الأمة من ذريتنا مسلمة، ف «الواو» داخلة في الأصل على «أمة» ، وإنما فصل بينهما بقوله: «مِنْ ذُرِّيَتِنَا» وهو جائز؛ لأنه من جملة الكلام المعطوف، وفي إجازته ذلك نظر، فإن النحويين كأبي عليٍّ وغيره منعوا الفصل بالظَّرف [بين حرف العطف] إذا كان على حرف واحد وبين المعطوف وجعلوا منه قوله: [المنسرح] 786 - يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أَرْدِيةٍ ... الْعَصْبِ وَيَوْماً أَدِيمُا نَغِلاَ ضرورة، فالفصل في الحال أبعد، وصار ما أجازه نظير قولك: «ضرب الرجل ومتجردة المرأة زيد» وهذا غير فصيح، ولا يجوز أن يكون أجعل المقدرة بمعنى أخلْقُ وأُوْجِد، فيتعدى لواحد، ويتعلق «من ذرّيتنا» به، ويكون «أمة» مفعولاً به، لأنه إن كان من عطف المفردات لزم التشريك في العامل الأول، والعامل الأول ليس معناه «اخلق» إنما معناه «صَيَّرْ» . وإن كان من عطف الجمل، فلا يحذف إلا ما دلّ عليه المنطوقن والمنطوق ليس بمعنى الخلق، فكذلك المحذوف ألا تراهم منعوا في قوله: {هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 وَمَلاَئِكَتُهُ} [الأحزاب: 43] أن يكون التقدير: وملائكته يصلون لا ختلاف مدلول الصَّلاتين، وتأولوا ذلك على قدر مشترك بينهما، وقوله: «لك» فيه الوجهان المتقدمان بعد «مسلمين» . فصل إنماخص بعضهم؛ لأنه تعالى أعلمهما [أن] في ذريتهما الظالم بقوله {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] . وقيل: أراتد به العرب؛ لانهم من ذريتهما. وقيل: هم أمّة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقوله تعالى: {وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 129] . فإن قيل: قوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] كما يدلّ على أن في ذرّيته من يكون ظالماً فكذلك [يوجب فيهم من لا يكون ظالماً] ، فإذن كون بعض ذريته أمة مسلمة صار معلوماً بتلك الآية، فما الفائدة في طلبه بالدعاء مرة أخرى؟ فالجواب: تلك الدلالة ما كانت قاطعة، والتشفيق بسوء الظن مولع. فإن قيل: لم خص ذريتهما بالدعاء أليس أن هذا يجرى مجرى البُخْل في الدعاء؟ فالجواب: الذرية أحق بالشفقة والمصلحة قال الله تعالى: {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6] ولأن أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم غيرهم. والأمة هناك الجماعة، وتكون واحداً إذا كان يقتدى به في الخير، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} [النحل: 120] . وقد يطلق لفظ الأمّة على غير هذا المعنى [كقوله تعالى: {إنا وجدنا آباءنا على أمة} أي دين وملة] . ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [الأنبياء: 92] . وقد تكون بمعنى الحِيْن والزمان، ومنه قوله تعالى: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] أي: بعد حين وزمان. ويقال هذا أمة زيدن أي أّمُّ زيدٍ، والأمة أيضاً: القامة، يقال: فلان حسن الأّمَّة، أي: حسن القامة؛ قال [المتقارب] 787 - وَإِنَّ مُعَاوِيَة الأَكْرمِينَ ... حِسَانُ الْوُجُوهِ طِوَالُ الأُمَمْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 وقيل: الأمة الشَّجَّة التي تبلغ أم الدماغ، يقال: رجل مأموم وأميم نقله القرطبي. قوله: {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} الظّاهر أن الرؤية هنا بصرية، فرأى في الأصل يتعدّى لواحد، فلما دخلت همزة النقل أكسبتها معفولاً ثانياً، ف «أنا» مفعول أول، وم «مناسكنا» مفعول ثان. وأجاز الزمخشري أن تكون منقولة من «رأى» بمعنى عرف، فتتعدى أيضاً لاثنين كما تقدم، وأجاز قوم فيما حكاه ابن عطية أنها هنا قلبية، والقلبية تقبل [النَّقْل] لاثنين كقول القائل: [الطويل] 788 - وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً ... إِذَا مَات رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُولُ وقال الكُمَيْت: [الطويل] 789 - بِأَيِّ كِتَابٍ أَمْ بِأَيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُمٍ عَاراً علَيَّ وَتَحْسِبُ وقال ابن عطية: ويلزم قائله يتعدّى الفعل منه إلى ثلاثةن وينفصل عنه بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب كغير المعدى؛ وأنشد قول حُطَائِطَ بْنِ يَعْفُرَ: [الطويل] 790 - أَرِينِي جَوَاداً مَاتَ هُزْلاً لأَنِنَّي ... أََرَى ما تَرَيْنَ أَوْ بَخِيلاً مُخَلَّدَا يعنى: أنه قد تعدت «علم اقلبية إلى اثنين، سواء كان مجردة من الهمزة أم لا، وحينئذ يشبه أن يكون ما جاء فيه» فَعِلَ وأَفْعَل «بمعنى وهو غريب، ولكن جَعْلَه بيت حطَائط من رؤية القلب ممنوعن بل معناه من رؤية البَصَرِ، ألا ترى أن قوله:» جواداً مات «من متعلقات البصر، فيحتاج في إثبات تعدي» أعلم «القلبية إلى اثنين إلى دليل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وقال بعضهم: هي هنا بصرية قلبية معاً؛ لأن الحج لا يتم إلاّ بأمور منها ما هو معلوم ومنها منا هو مبصر. ويلزمه على هذا الجمع بين الحقيقة والمجاز، أو استعهمال المشترك في معنييه معاً. وقرأ الجمهور: {أَرِنَا} بإشباع كسر» الراء «هنا، وفي [النساء: 153] وفي [الأعراف: 143] {أرني أَنظُرْ} ، وفي [فصلت: 29] {أَرِنَا اللذين} . وقرأ ابن كثير بالإسْكَان في الجميع، ووافقه في» فصلت «ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، واختلف عن أبي عمرو، فروي عن السوسي موافقة ابن كثير بالإسكان في الجميعن وروي عه الدَّوري اختلاس الكَسْر فيها. أما اكسر فهو الأصل. وأما الاختلاص فحسن مشهور. وأما الإسكان فللتخفيف، شبهوا المصتل بالمنفصل فسكنوا كسره، كما قالوا في فَخِذ: فَخْذ، وكَتِف: كَتْف. وقد غلط قوم راوي هذه القراءة. وقالوا: صار كسر الراء دليلاً على الهمزة المحذوفة، فإن أصله: «أرئنا» ثم نقل. قال الزمخشري تابعاً لغيره: قال الفارسي: التغليط ليس بشيء لأنها قراءة متواترة، وأما كسرة الراء فصارت كالاصل؛ لأن الهمزة مرفوضة الاستعمال. وقال ايضاً: ألا تراهم أدغموا في {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي} [الكهف: 38] ، والأصل «لكان أنا» نقولا الحركة، وحذفوا، ثم أدغموا، فذهاب الحركة في «أرنا» ليس بدون ذهابها في الإدغام، وأيضاً فقد سمع الإسكان في هذا الحرف نصّاً عن العرب؛ قال القائل: [البسيط] 791 - أَرْنَا إِدَاوَةَ عَبْدِ اللهِ نَمْلَؤُهَا ... مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ إِنَّ الْقَوْمَ قَدْ ظَمِئُوا وأصل أرنا: أَرئنَا، فنقلت حركة «الهمزة» إلى «الراء» وحذفت هي، وقد تقدم الكلام بأشبع من هذا عند قوله: {حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55] . و «المناسك» واحدها: «مَنْسِك» بفتح العين وكسرها، وقد قرىء بهما والمفتوح هو المقيس لانضمام عين مضارعة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 ويقال: المنسك بفتح السين بمعنى الفعل وبكسر السين بمعنى الموضع، كالمسجد والمشرق والمغرب. قال الله تعالى: {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ} [الحج: 67] قرىء بالفتح الكسر، وظاهر الكلام يدلّ على الفعل، وكذلك قوله عليه السلام «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» أمرهم بأن يتعلّموا أفعاله في الحجّ، لا أنه أراد: خذوا عنِّي مواضع نسككم، وبعض المفسرين حمل المَنَاسك على الذبيحة فقط. قال ابن الخطيب: وهو خطأ، لأن الذبيحة إنما تسمى نسكاً لدخولها تحت التعبُّد، [لا لكونها مذبوحة] ولذلك لا يسمون ما يذبح للأكل بذلك. قال القرطبي: [قوله تعالى: «مَنَاسِكَنَا» يقال] : إن أصل النُّسك في اللغة الغَسْل، يقال منه نسك ثوبه إذا غسله. وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال: رجل ناسك إذا كان عابداً. فصل في تسمية عرفات وقال الحَسَن: إن جبريل عليه السلام أرى إبراهيم المناسك كلّها حتى بلغ «عرفات» ، فقال: يا إبراهيم أعرفت ما رأيتك من النماسك؟ قال: نعم [فسميت «عرفات» ] فلما كان يوم النحر أراد أن يزور البيت فعرض له إبليس فسد عليه الطريق، فأمره جبريل عليه السلام بأن يرميه بسبع حَصَيات، ففعل فذهب الشيطان، ثم عرض له في اليوم الثاني والثالث والرابع كلّ ذلك يأمره جبريل عليه السلام برمي سَبْعِ حصيات. فبعضهم حمل المناسك هنا على [شعائر] الحج، وأعماله كالطواف والسعي والوقوف. وبعضهم حمله على المواقف والمواضع التي يقام فيها شرائع الحج، ثمل «منى» و «عرفات» و «المزدلفة» ونحوها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 وبعضهم حمله على المجموع. فصل في استلام الأركان قال ابن إسحاق: وبلغني أن آدم عليه السلام كان يَسْتَلِمُ الأركان كلها قبل إبراهيم عليه السلام. وقال: حج إسقحاق وسارة من «الشَّام» ، وكان إبراهيم عليه السلام يحجه كل سَنَةٍ على البُرَاق، وحجّة بعد ذل الأنبياء والأمم. وروي محمد بن سابط عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «كَانَ النَّبِيُّ مِنَ الأَنْبِيَاءِ إذَا هَلَكَتْ أُمَّتُهُ لَحِقَ مَكَّة فَتَعَبَّدَ بِهَا هُوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ حَتَّى يَمُوتُوان فَمَاتَ بِهَا نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَقُبورُهُمْ بَيْنَ زَمْزَمَ وَالحَجرِ» . وذكر ابن وهب أن شعيباً ما ب «مكة» هو من معه من المؤمنين، فقبورهم في غربيّ «مكة» بين دار الندوة وبين بني سهم. وقال ابن عباس: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبل إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام، فقر إسماعيل في الحجر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود. وقال عبد الله بن ضمرة السلولي: ما بين الرُّكن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيّاً جاءوا حجاجاً فقبروا هنالك، صلوات الله عليهم أجمعين. قولهك «وتب علينا» احتج به من جوز الذنب على الأنبياء قال: لأن التوبة مشروطة بتقدم الذنب، فلولا تقدم الذنب، وإلاَّ لكان طلب التوبة طلباً للمحال. قالت المعتزلة: الصغيرة تجوز على الأنبياء. ولقائل أن يقول: إن الصَّغائر قد صارت مكفّرة بثواب فاعلها، وإذا صارت مكفرة فالتوبة عنها مُحَال؛ لأن تأثير التوبة في إزالتها وإزالة الزائل محال. قال ابن الخطيب: وهاهنا أجوبة تصلح لمن جوز الصغيرة، ولمن لم يجوزها، وهي من وجوه: أولها: يجوز أن يأتي بصورة التوبة تشدُّداً في الانصراف عن المعصية؛ لأن من تصور نفسه بصورة النَّادم العازم على التحرز التشديد، كان أقرب إلى ترك المعاصي. وثانيها: أن العبد وإن اجتهد في طاعة ربه، فإنه لا ينفكّ عن التَّقْصِير من بعض الوجوه: إما على سبيل السهو أو على سبيل ترك الأولى، فكان هذا الدعاء لأجل ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 وثالثها: أنه تعالى لما أعلم إبراهيم عليه السلام أن في ذريته من يكون ظالماً عاصياً، لا جرم سأل هاهنا أن يجعل بعض ذرّيته أمة مسلمة، ثم طلب منه أن يوفق أولئك العُصَاة للتوبة فقال: «وَتُبْ علَيْنَا» أي على المُذْنبين من ذرّيتنا، والأب المشفق على ولده إذا أذنب ولده، فاعتذر الوالد عنه، فقد يقول: أجرمت وعصيت فاقبل عُذْري، ويكون مراده: أن ولدي أذنب فاقبل عُذْره؛ لأن ولد الإنسان يجري مجرى نفسه، والذي يقوي هذا التأويل وجوه: الأولك ما حكى الله تعالى في سورة «إبراهيم» أنه قال: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 3536] . فيحتمل أن يكون المعنى: ومن عصاني فإنك قادر على أن تتوب عليه إن تاب، وتغفر له ما سلف من ذنوبه. الثاني: ذكر أن في قراءة عبد الله: «وَاََرِهِمْ مَنَاسِكَهُم وَتُبْ عَلَيْهم» . الثالث: أنه قال عطفاً على هذا: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 129] . الرابع: تأولوا قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ} [الأعراف: 11] بجعل خلقه إياه خلقه لهم إذ كانوا فيه، فكذلك لا يبعد أن يكون قوله: «أَرِنَا مَنَاسِكَنَا» أية «ذُرّيتنا» . قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أجاب بعضهم عن هذا الإشكال فقال: إنهما لما قالا «وَتُبْ علينا» وهم أنبياء معصومون إنما طلبا التثبيت والدوام؛ لأنهما كان لهما ذنب. قال القرطبي: وهذا حسن، وأحسن مه أن يقال: إنهما لما عرفا المَنَاسك وبنيا البيت أراد أن يبيّنا للناس، ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصُّل من الذنوب وطلب التوبة. فصل فيمن استدل بالآية على خلق الأفعال لله تعالى دلّت الآية الكريمة على أن فعل العبد خلق الله تعالى لأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ طلب من الله تعالى أن يتوب عليه، فلو كانت التوبة مخلوقة للعبد، لكان طلبها من الله تعالى [مُحَالاً وجهلاً. قالت المعتزلة: هذا معارض بما أن الله تعالى] طلب التوبة منا. [فقال] {يا أيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم: 8] ولو كانت فعلاً لله تعالى، لكان طلبها من العبد محالاً وجهلاً، وإذا ثبت ذلك حمل قوله: «وَتُبْ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 عَلَيْنَا» على التوفيق، وفعل الألطاف، أو على قبول التوبة من العبد. والجواب: [قال ابن الخَطِيْب] متى لم يخلق الله تعالى داعيةً موجبة للتوبة استحال حصول التوبة، فكانت التوبة من الله تعالى لا من العَبْدِ، وتقرير دليل الداعي قد تقدم غير مرّة. فصل في معنى التوبة اعلم أن التوبة هي الرجوع، فمعنى توبة الله تعالى أن يرجع برضاه وتوحيده عليهم، ومعنى توبة العبد أن يرجع عما ارتكبه من المَعَاصي، فمتعلّق التوبة مختلف، وإذا اختلفت التعلّعات ضعفت دلالة الآية الكريمة على مذهب أهل السّنة. فصل في الدعاء قال بعضهم: إذا أراد الله من العبد أن يجيب دعاءه، فليدع بأسماء الله المناسبة لذلك الدعاء، فإن كان الدعاء للرحمة والمغفرة، فليدع باسم الغفار والتواب والرحيم وما أشبهه، وإن كان دعاؤه لشر، فليدع بالعزيز والمنتقم، وبما يناسبه. وتقدم الكلام على قوله: {إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم} . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 في ضمير «فيهم» قولان: أحدهما: أنه عائد على معنى الأمة؛ إذ لو عاد على لفظها لقال: «فيها» قاله أبو البقاء. والثاني: أنه يعنود على الذّرية بالتأويل المتقدم وقيل: يعود على أهل «مكة» ، ويؤيده: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ} [الجمعة: 2] ، وفي قراءة أبي: «وَابْعَثْ فيهِمْ فِي آخِرِهُمْ رَسُلاً مِنْهُمْ» . قوله: «مِنْهُمْ» في محلّ نصب، لأنه صفة ل «رسولاً» ، فيتعلّق بمحذوف، أي: رسولاً كائناً منهم. قال ابن الأنباري: يشبه أن يكون أصله من قولهم: ناقة مرْسَال ورسلة، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النُّوق. ويقال للجماعة المهملة المرسلة: رسل، وجمعه أَرْسَال. ويقال: جاء القوم أَرْسالاً، أي بعضهم في أثر بعض، ومنه يقال للبن: رسل، لأنه يرسل من الضرع. نقله القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى. قوله: «يَتْلُوا» في محلّ هذه الجملة ثلاثة أوجه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 أحدهما: أنها في محلّ نصب صفة ثانية ل «رسولاً» ، وجاء هذا على الترتيب الأحسن، إذا تقدم ما هو شبيه بالمفرد، وهو المجرور على الجملة. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من «سولاً» ؛ لأنه لما وصف تخصص. الثالث: أنها حال من المضير في «منهم» ، والعامل فيها الاستقرار الذي تعلّق به «منهم» لوقوعه صفةً. وتقدم قوله: «العزيز» ؛ لأنها صفة ذات، وتأخر «الحكيم» ؛ لأنها صفة فعل. ويقال: عَزَّ، ويَعَزُّ، ويعِزُّ، ولكن باختلاف معنى، فالمَضْمُوم بمعنى «غلب» ، ومنه: {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23] . والمفتوح بمعنى [الشدة، ومنه: عزّ لحم الناقة، أي: اشتد، وعَزّ عليّ هذا الأمر، والمكسور بمعنى] النَّفَاسة وقلّة النظير. فصيل في الكلام على دعاء سيدنا إبراهيم اعلم أن هذا الدعاء يفيد كمال حال ذرّيته من وجهين: أحدهما: أن يكون فيهم رسول يكمل لهم الدين والشرع. والثاني: أن يكون المبعوث منهم لام من غيرهم، لأن الرسول والمرسل إليه إذا كانا معاً من ذريتهن كان أشرف لطلبته إذا أجيب إليها، وإذا كان منهم، فإنهم يعرفون مولده ومنشأه، فيقرب الأمر عليهم في معرفة صدقه، وأمانته، وكان أحرص الناس على خيرهم، وأشفق عليهم من الأجنبي لو أرسل إليهم. أجمع المفسرون على أن الرسول هو محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ روي أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: «أَنَا دَعْوَةُ إِبْرَاهِيْمَ وَبِشَارَةُ عِيْسَى» . وأراد بالدعوة هذه الآية، وبِشَارة عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما ذكره في سورة «الصف» من قوله: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} [الصف: 6] . وثالثها: أن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إنما دعا بهذا الدعاء ب «مكة» لذريته الذين يكونون بها، وبما حولها، ولم يبعث الله تعالى إلى من ب «مكة» وما حولها إلاّ محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: كل الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام من بني الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 إسرائيل إلا عشرة: هود ونوح وصالح وشعيب ولوط وإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. قوله: {يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ} فيه وجهان: الأول: أنها الفُرْقان الذي أنزل على محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن الذي كان يتلوه عليهم ليس إلا ذلك، فوجب حمله عليه. الثاني: يجوز أن تكون الآيات هي الأعلام الدَّالة على وجود الصَّانع وصفاته سبحانه وتعالى، ومعنى تلاوته إيّاها عليهمك أنه كان يذكرهم بها، ويدعوهم إليها، ويحملهم على الإيمان بها. قوله: «وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَاب» أي: القرآن يعلمهم مافيه من الدَّلائل والأحكام. وأما الحكمة فهي: الإصابة في القول والعمل. وقيلك أصلها من أحكمت الشيء أي رددته، فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ، وهو راجع إلى ما ذكرنا من الإصابة في القول والعمل. اختلف المفسرون [في المراد بالحكمة] هاهنا. قال ابن وهب قلت لمالك: ما الحكمة؟ قال: معرفة الدين، والفقه فيه، والاتباع له. وقال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: الحكمة سُنّة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قول قتادة. وقال أصحاب الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: والدليل عليه أنه تعالى ذكر تلاوة الكتاب أولاً، وتعلميه ثانياً، ثم عطف عليه الحكمة، فوجب أن يكون المراد من الحكمة شيئاً خارجاً عن الكتاب، وليس ذلك إلاَّ سُنّة الرسول عليه اسلام. فإن قيل: لم لا يجوز حَمْله على تعليم الدَّلائل العقلية على التوحيد والعدل والنبوة؟ فالجواب: لأن العقول مستقبلة كذلك فحمل هذا اللفظ على ما لا يُسْتفاد من الشرع أَوْلَى. وقيل: الحكمة هي الفصل بين الحق والباطل. وقال مقاتل: هي مواعظ القرآن الكريم، وما فيه منا لأحكام. وقال ابن قتيبة: هي العلم والعمل به. وقيل: حكمة تلك الشرائع، وما فيها من وجوه المصالح والمنافع. وقيل: أراد بالكتاب الآيات المحكمة، واراد بالحكمة المتشابهات. [وقال بان دُريد: كل كلمة وعظتك أو دعتك إلى مكرمة أو نهتك عن قبيح فهي حكمة] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 وأما قوله: «وَيُزَكِّيهِمْ» . قال الحسن: يطهّرهم من شركهم. وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: التزكية هي الطاعة والإخلاص. وقال بان كيسان: يشهد لهم يوم القيامة بالعدالة إذا شهدوا هم للأنبياء بالبلاغ لتزكية المزكي للشهود. وقيل: يأخذ زكاة أموالهم. ولما ذكر هذه الدعوات، فتمّمها بالثناء على الله تعالى فقال: {إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} . و «العزيز» : هو القادر الذي لا يغلب، و «الحكيم» : هو العليم الذي لا يجهل شيئاً. [واعلم أن «العزيز» و «الحكيم» بهذين التفسيرين صفة للذات، وإذا أريد بالعزيز أفعال العزة وهو الامتناع من استيلاء الغير عليه، وأراد بالحكمة: أفعال الحكمة، لم يكن «العزيز» و «الحككيم» من صفات الذات أزلية، وصفات الفعل ليست كذلك، وصفات الفعل أمور سببية يعتبر في تحققها صدور الآثار عن الفعل، وصفات الذات ليست كذلك. فصل] [و] قال الكلبي: العزيز المتقدم لقوله تعالى: {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} [آل عمران: 4] . وقال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: العزيز الذي لا يوجد مثله. وقيل: المنيع الذي لا تناله الأيدي، ولا يصل إليه شيء. وقيل: القوي. والعزّة القوة، لقوله تعالى: {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14] أي قوينا. وقيل: الغالب، لقوله: {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23] أي غلبنين ويقال: من عزيز أي من غلب. والعم أن مناسبة قوله: {أَنتَ العزيز الحكيم} لهذا الدعاء هو أن العزيز هو القادر، والحكيم هو العالم بوضع الأشياء في مواضعها، ومن كان عالماً قادراً فهو قادر على أن يبعث فيهم رسولاً يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 «من» اسم استفهام بمعنى الإنكار، فهو نفي في المعنى، لذلك جاءت بعده «إلاَّ» التي للإيجاب، ومحلّه رفع بالابتداء. و «يرغب» خبره، وفيه ضمير يعود عليه. والرغبة أصلها الطلب، فإن تعدت ب «في» كانت بمعنى الإيْثَار له، والاختيار نحو: رغبت في كذا، وإن تعدت ب «عن» كانت بمعنى الزّهَادة نحو: رغبت عنك. قوله: {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} في «مَنْ» وجهان. أحدهما: أنها في محلّ رفع البدل من الضمير في «يرغب» ، وهو المختار؛ لأن الكلام غير موجب، والكوفيون يجعلون هذا من باب العطف. فإذا قلت: ما قام القوم إلاَّ زيد، ف «إلاَّ» عندهم حرف عطف، وزيد معطوف على القوم، وتحقيق هذا مذكور في كتب النحو. الثاني: أنها في محلّ نصب على الاستثناء، و «من» يحتمل أن تكون موصولة، وأن تكون نكرة موصوفة، فالجملة بعدها لا محلّ لها على الأول، ومحلها الرفع، أو النصب على الثاني. قوله: «نَفْسَهُ» في نصبه سبعة أوجه: أحدها: وهو المختار أن يكون مفعولاً به؛ لأنه حكي أن «سَفِهَ» بكسر الفاء يتعدّى بنفسه كما يتعدى «سَفَّه» بفتح الفاء والتشديد، وحكى عن أبي الخَطّاب أنها لغة، وهو اختيار الزّمخشري [فإنه قال] : «سفه نفسه: امتهنها، واستخف بها» ، ثم ذكر أوجهاً أخرى. ثم قال الوجه الاول، وكفى شاهداً له بما جاء في الحديث: «الكِبْرُ أَنْ تَسْفَهَ الحَقَّ وَتُغْمِضَ النَّاسَ» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 الثاني: أنه مفعول به ولكن على تضمين «سفه» معنى فعل يتعدى، فقدره الزجاج وابن جني بمعنى «جهل» ، وقدره أبو عبيدة بمعنى «أهلك» . قال القرطبي: وأمام سَفُهَ بالضم فلا يتعدى قاله ثعلب والمبرد] . الثالث: أنه منصوب على إسقاط حرف الجَرّ تقديره: سَفِهَ في نَفْسه. الرابع: توكيد لمؤكد محذوف تقديره: سفه في نفسه، فحذف المؤكد قياساً على النعت والمنعوت، حكاه مكّي. الخامس: أنه تمييز، وهو قول الكوفيين. قال الزمخشري: ويجز أن يكون في شذوذ تعريف المميِّز؛ نحو قوله: [الوافر] 792 - ... ... ... ... ... ... . ... وَلاَ بِفزَارَةَ الشُّعْرِ الرِّقَابَا [الوافر] 793 - ... ... ... ... ... ... ... أَجَبَّ الظَّهْرَ لَيْسَ لَهُ سَنَامُ فجعل «الرِّقَاب» و «الظَّهر» تمييزين، وليس كذلكن بل هما مُشَبَّهان بالمفعول به؛ لأنهما معمولا صفة مشهبة، وهي «الشُّعْر» جمع أَشْعَر، و «أَجَبّ» وهو اسم. السادس: أنه مشبه بالمفعول وهو قول بعض الكوفيين. السابع: أنه توكيد لمن سفه؛ لأنه في محل نصب على الاستثناء في أحد القولين، وهو تخريج غريب نقله صاحب «العَجَائب والغَرَائب» . والمختار الأول؛ لأن التضمين لا ينقاص، وكذلك حرف الجر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 وأما حذف المؤكد وإبقاء التوكيد، فالصحيح لا يجوز. وأما التمييز فلا يقع معرفة، ما ورد نادر أو متأول. وأما النصب على التشبيه بالمفعول، فلا يكون في الأفعال إنما يكون في الصّفات المشبهة خاصة. فصل في مناسبة الآية لما قبلها من الآيات لما ذكر أمر إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام وشرائعه ابتلاه الله بها، وبناء بيته، والحرص على مصالح عباده، ودعائه [الخير لهم] ، وغير ذلك عدب الناس فقال: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} . قال النحاس: وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي، أي وما يرغب والمعنى: يزهد فيها، وينأى بنفسه عنها، أي: الملّة وهي الدين والشرع؛ إلاّ من سَفِهَ نَفْسَهُ. قال قتادة: وكل ذلك توبيخ اليهود، والنصارى، ومشركي العرب؛ لأن اليهود إنما يفتخرون بالوَصْلَة إلى إسرائيل وقريش، فإنهم إنما نالوا كلّ خير بالبيت الذي بناه، [فصاروا لذلك يدعون إلى كتاب الله] ، وسائر العرب، [وهم العدنانيون] مرجعهم إلى إسماعيل، وهم يفتخرون على [القَحْطَانيين] بما أعطاه الله تعالى من النبوة، فرجع عند التحقيق افتخار الكل بإبراهيم عليه السلام، ولما ثبت أنّ إبراهيم عليه السلام هو الذي طلب من الله تعالى بعثة هذا الرسول في آخر الزمان ثبت أنه هو الذي تضرع إلى الله تعالى في تحصيل هذا المقصود، والعجب ممن [أعظم مفاخره وفضائله الانتساب إلى إبراهيم عليه السلام] ثم إنه لا يؤمن بالرسول الذي هوم دعوة إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ومطلوبه بالتضرّع لا شك أن مما يستحق أن يتعجب منه. [فإن قيل: لعل الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الذي طلب إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بعثه غير هذا الشخص. فالجواب أن التوراة والإنجيل شاهدة بصحة هذه الرواية، والمعتمد في إثبات نبوته صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وظهور المعجزة على يده، وهو القرآن الكريم وإخباره عن الغيوب منسوخ، ولفظ «الملة» يتناول الفروع والأصول؛ فيكون محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. والجواب لمّا أنه طلب من الله بعثه هذا الرسول وتأييده ونشر شريعته، عبر عن هذا المعنى بأنه ملة إبراهيم] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 فصل روي أن عبد الله بن سلام دعا ابني أخيه سلمة ومهاجراً إلى الإسلام فقال لهما: إن الله تعالى قال في التوراة: إني باعث من ولد إسماعيل نبيّاً اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى، ومن لم يؤمن به فهو ملعون، وأَسْلم سَلَمَةُ، ومهاجراً أَبَى أن يسلم، فنزلت هذه الآية الكريمة. قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: «إلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ» خَسر نفسه. وقال الكلبي: «ضلّ من قتل نفسه» . وقال أبو البقاء، وأبو عبيدة: «أهلك نفسه» . وقال ابن كيسان والزجاج: «جهل نفسه» ؛ لأنه لم يعرف الله تعالى خالقها، وقد جاء «مَنْ عَرَفَ نَفْسَهُ عَرَفَ رَبَّهُ» . وقال ابن بحر: معناه جهل نفسه، وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعاً ليس كمثله شيء، فيعلم به توحيد الله وقدرته. وهذا معنى قول الزجاج رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لا يفكّر في نفسه من بيدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وعينين يبصر بهما، وأذنين يسمع بهما، ولسان ينطق به، وأضراس نبتت له عند غناه عن الرضاع، وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام، ومَعِدَة أعدّت لطبخ الغذاء، وكبد يصعد إليها صَفْوه، وعروق ينفذ بها إلى الأطراف، وامعاء يرتكز إليها نقل الغذاء، فيبرز من أسفل البدن، فيستدل بها على أن له خالقاً قادراً عليماً حكيماً وهذا معنى قوله تعالى: {وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ} {الذاريات: 21] . قوله: {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا} اخترناه من سائر الخلق في الدنيا، وإنّه في الآخةر عظيم المنزلة. [قال الحسين بن فضيل: فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد اصطفيناه في الدنيا وإنه في الآخرة لمن الصالحين، وإذا صح الكلام من غير تقديم وتأخير كان أولى. وقال الحسن: من الذين يستحقون الكرامة وحسن الثواب] . قوله: «فِي الآخِرَةِ» فيه خمسة أوجه: أحدها: أنه متعلّق بالصالحين على أن الألف واللام للتعريف، وليست موصولة. الثاني: أنه متعلّقة بمحذوف تقديره أعني في الآخرة كقولك: بعد سقياه. الثالث: يتعلق بمحذوف أيضاً، لكن من جنس المفلوظ به أي: وإنه لصالح في الآخرة لمن الصالحين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 الرابع: أن يتعلق بقوله الصالحين، وإن كانت «آل» موصولة؛ لأنه يُغْتفر في الظروف وشبهها ما لا يغتفر في غيرها اتساعاً، ونظيره قول الشاعر: [الرجز] 794 - رَبَّيْتُهُ حَتَّى إِذَا تَمَعْدَدَا ... كَانَ جَزَائِي بِالْعَصَا أَنْ أُجْلَدَا الخامس: أن يتلّق ب «اصطفيناه» . قال الحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير مجازه: ولقد اصطفيناه في الدنيا وفي الآخرة. وهذا ينبغي ألا يجوز مثله في القرآن لنُبُوِّ السمع عنه. والاصطفاه: الاختيار، «افتعال» من صورة الشيء، وهي خياره، وأصله: اصتفى، وإنما قلبت تاء الافتعال «طاء» مناسبة للصاد لكونها حرف إطْبَاق، وتقدم ذلك عند قوله: {أَضْطَرُّهُ} [البقرة: 126] . وأكد جملة الأصطفاء باللام، والثانية ب «أن» و «اللام» ؛ لأن الثانية محتاجة لمزيد تأكيد، وذلك أن كونه في الآخرة من الصالحين أمر مُغَيَّب، فاحتاج الإخبار به إلى فَضْل توكيد. وأما اصطفاء الله فقد شاهدوه منه، ونقله جيل بعد جيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 في «إذ» خمسة أوجه: أصحها: أنه منصوب ب «قال أسلمت» ، أي: قال أسلمت وقت قول الله لم أسلم. الثاني: أنه بدل من قوله: «في الدنيا» . الثالث: أنه منصوب ب «اصطفيناه» . الرابع: أنه منصوب ب «اذكر» مقدراً، ذكر أبو البقاء، والزمخشري، وعلى تقدير كونه معمولاً ل «اصطفيناه» أو ل «اذكر» مقدراً يبقى قوله: «قَالَ: أَسْلَمْتُ» غير منتظم مع ما قبله، إلاّ أن يقدر حذف حرف عطف أي: فقال، أو يجعل جواباً بسؤالٍ مقدر، أي ما كان جوابه؟ فقيل: قال أسلمت. الخامس: أبعد بعضهم، فجعله مع ما بعده في محلّ نصب على الحال، والعامل في «اصْطَفَيْنَاه:. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 وفي قوله: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ} التفات، إذ لو جاء على نسقه لقيل: إذ قلنا؛ لأنه بعد» ولقد اصطفيناه «، وعكسه في الخروج من الغيبة إلى الخطاب قوله: [البسيط] 795 - بَاتَتْ تَشَكَّى إِلَيَّ النَّفْسُ مُجْهِشَةً ... وَقَدْ حَمَلْتُكِ سَبْعاً بَعْدَ سَبْعِينا وقوله:» لرَبِّ الْعَالَمِينَ «فيه من الفخامة ما ليس في قوله» لك «أو» لربي «، لأنه إذا اعترف بأنه ربّ جميعا العالمين اعترف بأنه بربه وزيادة، بخلاف الأول، فذلك عدل عن العبارتين. وفي قوله:» أسلم «حَذْفُ مفعول تقديره: أسلم لربك. فصل في تحرير وقت قول الله لإبراهيم: أسلم الأكثرون على أن الله تعالى إنما قال ذلك قبل النبوة وقبل البلوغ، وذلك عند استدلاله بالكوكب والقمر والشمس، واطّلاعه على أمَارَات الحدوث فيها، فلما عرف ربه قال له تعالى: {أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} ؛ لأنه لا يجوز أن يقول له ذلك قبل أن يعرف ربه، ويحتمل أيضاً أن يكون قوله:» أسلم «كان قبل الاستدلال، فيكون المراد من هذا القول دلالة الدليل عليه [لا نفس القول] على حسب مذاهب العرب في هذا، كقول الشاعر: [الرجز] 796 - إِمْتَلأَ الْحَوْضُ وَقَالَ: قَطْنِي ... مَهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأْتِ بَطْنِي ويدل على ذلك قوله تعالى: {أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ} [الروم: 35] فجعل دلالة البُرْهان كلاماً. وذهب بعضهم إلى أن هذا الأمر بعد النبوة، واختلفوا في المراد منه. فقال الكلبي والأصمّ: أخلص دينك، وعبادتك لله تعالى. وقال عطاء: أسلم نفسك إلى الله، وفوّض أمورك إليه. قال: أسلمت، أي: فوضت. قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: وقد تحقّق ذلك حيث لم يأخذ من الملائكة من ألقي في النار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 قال القرطبي: والإسلام هنا على أتم وجوهه، فالإسلام في كلام العرب الخضوع والإنقياد للمستسلم والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 قرىء: «وَصَّى» ، وفيه معنى التكثير باعتبار المفعول الموصَّى، وأوصى رباعياً، وهي قراءة نافع، وابن عامر، وكذلك هي في مصاحف «المدينة» و «الشام» . وقيل: أوصى ووصى بمعنى. والضمير في «بها» فيه ستّة أقوال: أحدها: أنه يعود على الملّة في قوله: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 130] . قال أبو حيان: «وبه أبتدأ الزمخشري، ولم يذكر المهدوي غيره» . والزمخشري رَحِمَهُ اللهُ لم يذكر هذا، وإنما ذكر عوده على قوله «أسلمت» لتأويله بالكلمة. قال الزمخشري: والضمير في «بها» لقوله: {أسلمت لرب العالمين} على تأويل الكلمة والجملة، ونحوه رجوع الضمير في قوله: {وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً} [الزخرف: 28] إلى قوله: {إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الذي فَطَرَنِي} [الزخرف: 26 27] وقوله: «كَلِمَةً بَاقِيَةً» دليل على أن التأنيث على معنى الكلمة. انتهى. الثاني: أنه يعود على الكلمة المفهومة من قوله: «أسلمت» كما تقدم تقريره عن الزمخشري. قال ابن عطية: «وهو أصوب لأنه أقرب مذكور» . الثالث: أنه يعود على متأخرن وهو الكلمة المفهومة من قوله: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} . الرابع: أنه يعود على كلمة الإخلاص، وإن لم يَبْدُ لها ذكر قاله الكلبي ومقاتل. الخامس: أنه يعود على الطَّاعة للعلم بها أيضاً. السادس: أنه يعود على الوصيّة المدلول عليها بقوله: «ووصّى» ، و «بها» يتعلّق ب «وَصَّى» و «بينه» مفعول به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 روي أنهم ثمانية: إسماعيل، واسم أمه هاجر القبطية، وإساحق، وأسم أمه سارة وستة، واسم أمهم قنطورا بنت قطن الكنعانية تزوجها إبراهيم بعد وفاة سارة، فولدت له مدين ومداين ونهشان وزمران وتشيق وشيوخ، ثم توفي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. وكان بين وفاته وبين مولد النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نحو من ألفي سنةٍ وستمائة سنة، واليهود ينقصون ذلك نحواً من أربعمائة سنة. قوله: «وَيَعْقُوب» والجمهور على رفعة وفيه قولان: أظهرهما: أنه عطف على «إبراهيم» ، ويكون مفعوله محذوفاً، أي: ووصى يعقوب بنيه أيضاً. والثاني: أن يكون مرفوعاً بالابتداء، وخبره محذوف تقديره: ويعقوب قال: يا بني إن الله اصطفى. وقرأ إسماعيل بن عبد الله، وعمرو بن فائد بنصبه عطفاً على «بنيه» ، أي: ووصّى إبراهيم يعقوب أيضاً. [ولم ينقل أنّ يعقوب جده إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وإنما ولد بعد موته قاله الزمخشري، وعاش يعقوب مائة وسبعة وأربعين سنة، ومات بمصر، وأوصى أن يحمل إلى الأرض المقدسة ويدفن عند ابنه إسحاق، فحمله يوسف، ودفنه عنده] . قوله: «يَابَنِي» فيه وجهان: أحدهما: أنه مقول إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وذلك على القول بعطف يعقوب على إبراهيم، أو على قراءته منصوباً. والثَّاني: أنه من مقول يعقول إن قلنا رفعه باللابتداء، ويكون قد حذف مقول إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ للدلالة عليه تقديره: «ووصّى إبراهيم بنيه يا بني» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 وعلى كل تقدير فالجملة من قوله: «يابني» وما بعدها منصوبة بقول محذوف على رأي البصريين، أي: فقال يابني، وبفعل الوصية؛ لأنها في معنى القول على رأي الكوفيين، [قال النحاس: يا بني نداء مضاف، وهذه ياء النفس لا يجوز هنا إلا فتحها؛ لأنها لو سكنت لا لتقى سكنان، وبمعناه {بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] ونحوه] . وقال الراجز: [الرجز] 797 - رَجْلاَنِ مِنْ ضَبَّةَ أَخْبَرَانَا ... إِنَّا رَأَيْنَا رَجُلاً عُرْيَانَا بكسر الهمزة على إضمار القول، أو لإجراء الخبر مجرى القول، ويؤيد تعلّقها بالوصية قراءة ابن مسعود: «أن يا بني» ب «أن» المفسرة ولا يجوز أن تكون هنا مصدرية لعدم ما يَنْسبك منه مصدر. قال الفراء: ألغيت «أن» لأن التوصية كالقول، وكل كلام رجع إلى القول جاز فيه دخول «أن» وجاز إلغائها، وقال النحويون: إنما أراد «أن» وألغيت ليس بشيء. ومَنْ أبَى جعلها مفسرة وهم الكوفيون يجعلونها زائدة. و «يعقوب» علم أعجمي ولذلك لا ينصرف، ومن زعم أنه سُمِّي يعقوب؛ لأنه وُلِد عقب العيص أخيه، وكانا توأمين، أو لأنه كثر عَقبهُ ونَسْلُه فقد وهم؛ لأنه كان ينبغي أن ينصرف، لأنه عربي مشتق. ويعقوب أيضاً ذَكَرُ الْحَجَل، إذ سمي به المذكر انصرف؛ والجمع يَعَاقِبَة وَيَعَاقِيب، و «اصْطَفَى» ألفه عن ياء تلك الياء منقلبة عن «واو» ؛ لأنها من الصَّفْوة، ولما صارت الكلمة أربعة فصاعداً، قلبت ياء، ثم انقلبت ألفاً. اصْطَفَى: اختار. قال الراجز: [الرجز] 798 - يا ابْنَ مُلُوكٍ وَرَّثُوا الأمْلاَكَا ... خِلآفةَ اللهِ الَّتِي أَعْطَاكَا لَكَ اصْطَفَاهَا وَلَهَا اصْطَفَاكَا ... والدين: الإسلام. و «لكم» أي لأجلكم، والألف واللام في «الدين» للعهد؛ لأنهم كانوا عرفوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 قوله: {فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ} هذا في الصورة عن الموت، وهو في الحقيقة عن كونهم على خلاف حال الإسلام إذا ماتوا كقولك: «لا تصلً إلا وأنت خاشع» ، فنهيك له ليس عن الصلاة، وإنما هو عن ترك الخشوع في حال صلاته، والنُّكْتة في إدخال حرف النهي على الصلاة، وهي غير مَنْهِي عنها هي إظهارُ أَنَّ الصلاة التي لا خشوع فيها كَلاَ صلاة، كأنه قال: أنهاك عنها إذا لم تُصَلِّها على هذه الحالة، وكذلك المعنى في الآية الكريمة إظهار أن موتهم لا على حال الثابت على الإسلام موت لا خير فيه، وأن حقّ هذا الموت ألا يجعل فيهم. [وعن الفضيل بن عياض أنه قال: «إلا وأنتم مسلمون» ، أي: مسلمون الظن، أي محسنون الظن بربكم، وروي عن جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه سولم قبل موته بثلاثة أيام يقول: «لا يموتن أحد إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى» ] . وأصل تموتُن: تَمُوتُوننَّ: النون الأولى علامة الرفع، والثانية المشددة للتوكيد، فاجتمع ثلاثة أمثال فحذفت نون الرفع؛ لأن نون التوكيد أولى بالبقاء لدلالتها على معنى مستقلّ، فالتقى سكنان: الواو والنون الأولى المدغمة، فحذفت الواو لالتقاء الساكنين، وبقيت الضمة تدلّ عليها، وهكذا كل ما جاء في نظائره. قوله: {إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} هذا استثناء مفرغ من الأحوال العامة، و «أنتم مسلمون» مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال، كأنه قال تعالى: «لا تموتنّ على كل حالا إلا على هذه الحال» ، والعامل فيها ما قبل إلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 «أم» في أم هذه ثلاثة أقوال: أحدها وهو المشهور: أنها منقطعة والمنقطعة تقدر ب «بل» ، وهمزة الاستفهام. وبعضهم يقدرها ب «بل» وحدها، ومعنى الإضراب انتقال من شيء إلى شيء لا إبطال. ومعنى الاستفهام الإنكار والتوبيخ فيؤول معناه إلى النفي، أي: بل أكنتم شهداء يعنى لم تكونوا. الثاني: أنها بمعنى همزة الإستفهامن وهو قول ابن عطية والطبري، إلا أنهما اختلفا في محلها. فإن ابن عطية قال: و «إم» تكون بمعنى ألف الاستفهام ف يصدر الكلام، لغة يمانية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 وقال الطبري: إن أم يستفهم بها وسط كلام قد تقدم صدره. قال ابو حيان في قول ابن عطية: «ولم أقف لأحد من النحويين على ما قال» . وقال في قول الطبري: وهذا أيضاً قول غريب. الثالث: أنها متصلة، وهو قول الزمخشري. قال الزمخشري بعد أن جعلها منقطعة، وجعل الخطاب للمؤمنين قال بعد ذلك: وقيل: الخطاب لليهود؛ لأنهم كانوا يقولون: ما مات نبي إلا على اليَهُودية، إلا أنهم لو شهدوه، وسمعوا ما قاله لبنيه، وما قاله لظهر لهم حرصُه على ملّة الإسلام، وَلَمَا ادَّعوا عليه اليهودية، فالآية الكريمة مُنَافية لقولهم، فكيف يقال لهم: أم كنتم شهداء؟ ولكن الوجه أن تكون «أم» متصلة على أن يقدر قبلها محذوف كأنه قيل: أَتَدَّعُون على الأنبياء اليهودية أم كنتم شهداء، يعني أن أوائلكم من بني إسرائيل كانوا مشاهدين له إذْ أراد بنيه على التوحيد وملّة الإسلام، فما لكم تَدَّعُونَ على الأنبياء ما هم منه براء؟ قال أبو حيان: ولا أعلم أحداً أجاز حذف هذه الجملة، لا يحفظ ذلك في شعر ولا غيره، لو قلت «أم زيد» تريد: «أقام عمرو وأم زيد» لم يجز، وإنما يجوز حذف المعطوف عليه مع الواو والفاء إذا دلّ عليه دليل كقولك: «بلى وعمراً» لمن قال: لم يضرب زيداً، وقوله تعالى: {فانفجرت} [البقرة: 60] أي فضرب فانفجرت، وندر حذفه مع «أو» ؛ كقوله: [الطويل] 799 - فَهَلْ لَكَ أَوْ مِنْ وَالِدٍ لَكَ قَبْلَنَا ..... ... ... ... ... ... ... . أي: من أخ أو والد، ومع حمتى كقوله: [الطويل] 800 - فَوَعَجَبَا حَتَّى كُلَيْبٌ تُسُبُّنِي ... كَأَنَّ أَبَاهَا نَهْشَلٌ أَوْ مُجَاشِعُ أي: يسبني الناسُ حتى كليبٌ، على نظر فيه، وإنما الجائز حذف «أم» مع ما عطفت كقوله: [الطويل] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 801 - دَعَانِي إِلَيْهَا الْقَلْبُ إِنِّي لأَمْرِهِ ... سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلاَبُهَا أي: أم غَيٌّ، وإنما جاز ذلك؛ لإن المستفهم على الإثبات يتضمنّن نقيضه، ويجوز حذف الثواني المقابلات إذا دلّ عليها المعنى، ألا ترى إلى قوله: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] كيف حذف و «الْبَرْدَ» انتهى. و «شهداء» خبر كان، وهو جمع شاهد أو شهيد، وقد تقدم أول السورة. قوله: «إذ حضر» إذ منصوب بشهداء على أنه ظرف لا مفعول به أي: شهداء وقت حضور الموت إياه، وحضور الموت كناية عن حضور أسبابه مقدماته؛ قال الشاعر: [البسيط] 802 - وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ... قَوْلاً يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ أي: أنا سببه، والمشهور نصب «يعقوب» ، ورفع «الموت» ، قدم المفعول اهتماماً وقرأ بعضهم بالعكس. وقرىء: «حَضِر» بكسر الضاد، قالوا: والمضارع يَحْضُر بالضم شاذ، وكأنه من التداخل وقد تقدم. قوله: «إذْ قَالَ» ، «إذ» هذه فيها قولان: أحدهما: بدل من الأولى، والعامل فيها، إما العامل في «إذ» الأولى إن قلنا: إن البدل لا على نية تكرار العامل، أو عامل مضمر إن قلنا بذلك. الثاني: أنها ظرف ل «حضر» . قوله: «مَا تَعْبُدُونَ» ، ما أسم استفهام في محلّ نصب؛ لأنه مفعول مقدم بتعبدون، وهو واجب التقديم؛ لأن له صدر الكلام، وأتى ب «ما» دون «من» لأحد أربعة معانٍ. أحدها: أن «ما» للمبهم أمره. فإذا عُلِم فُرّق ب «ما» و «مَنْ» . [قال الزمخشري: وكفاك دليلاً قول العلماء: «مَن» لما يعقل. الثاني: أنها سؤال عن صفة المعبود] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 قال الزمخشري: كما تقول: ما زيد؟ تريد: أفقيه أم طبيب، أم غير ذلك من الصفات؟ الثالث: أن المعبودات في ذلك الوقت كانت غير عقلاء، كالأوثان والأصنام والشمس والقمر، فاستفهم ب «ما» التي لغير العاقل، فعرف بَنُوه ما أراد، فأجابوه عنه بالحق. الرابع: أنه اختبرهم وامتحنهم فسألهم ب «ما» دون «من» ، لئلا يَطْرُق لهم الاهتداء، فيكون كالتلقين لهم، ومقصوده الاختبار. وأجاب ابن الخطيب بوجهين: الاول: أن «ما» عام في كل شيء، والمعنى: أي شيء تعبدون. والثاني: قوله: «مَا تَعْبُدُونَ» كقولك عند طلب الحد والرسم ما الإنسان؟ وقوله: «مِنْ بَعْدي» أي: بعد موتي. قوله: {قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ} . تمسّك المقَلِّدة بهذه الآية الكريمة قالوا: إن أبناء يعقوب اكتفوا بالتقليد، ولم ينكره عليهم. والجواب: أن هذا ليس تقليداً، وإنما هو إشارة إلى ذكر الدليل على وجود الصَّانع كقوله: {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] فهاهنا المراد من قوله: {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ} أي: الإله الذي دلّ عليه وجودك، ووجود آبائك. فصل في نزول هذه الآية قال القَفَال: وفي بعض التفاسير أن يعقوب عليه السلام لما دخل «مصر» رأى أهلها يعبدن النيران والأوثان، فخاف على بنيه بعد وفاته، فقال لهم هذا القول تحريضاً لهم على التمسّك بعبادة الله تعالى. وحكى القاضي عن ابن عباس: أن يعقوب عليه السَّلام جميعهم إليه عند الوفاة، وهم كانوا يعبدون الأوثان والنيران، فقال: يا بني ما تبعدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك. ثم قال القاضي: هذا بعيد لوجهين: الأول: أنهم بادروا إلى الاعتراف بالتوحيد مبادرة من تقدم منه العلم واليقين. الثاني: أنه تعالى ذكر في الكتاب الأَسْبَاط من أولاد يعقوب، وأنهم كانوا قوماً صالحين، وذلك لا يليق بحالهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 [وقال عطاء: إن الله لم يقبض نبياً حتى يخبره بين الموت والحياة، فلما خير يعقوب قال: أنظرني حتى أسأل ولدي وأوصيهم؛ ففعل ذلك به، فجمع ولده وولد ولده، وقال لهم: قد حضر أجلي فما تعبدون من بعدي؟ قالوا: نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إلهاً واحداً ونحن له مسلمون، والعرب تسمي العم أباً كما تسمي الخالة أماً، وسيأتي الكلام على ذلك قريباً إن شاء الله تعالى] . وقال القَفَّال: وقيل: إنما قدّم ذكر إسماعيل على إسحاق؛ لأن إسماعيل [كان أسنّ من إسحاق] . قوله: «وَإِلَهَ آبائِكَ» أعاد ذكر الإله، لئلا يَعْطِفَ على الضمير المجرور دون إعادة الجار، والجمهور على «آبائك» . وقرأ الحسن ويحيى وأبو رجاء: «أبيك» . وقرأ أُبّي: «وَإلَهَ إِبْرَاهِيمَ» فأسقط «آبائك» . فأما قراءة الجمور فواضحة. وفي «إبراهيم» وما بعده حينئذ ثلاثة أوجه: أحدها: أنه بدل. والثاني: أنه عطف بيان، ومعنى البدلية فيه التفصيل. الثالث: أنه منصوب بإضمار «أعني» فالفتحة على هذا علامة للنصب، وعلى القولين قبله علامة للجر لعدم الصَّرْف، وفيه دليل على تسمية الجَدِّ والعم أباً، فإن إبراهيم جده إسماعيل عمه، كما يطلق على الخالة أمّ، ومنه: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ} [يوسف: 100] في أحد القولين. قال بعضهم: وهذا من باب التَّغليب، يعنى: أنه غلب الأب على غيره، وفيه نظر، فإنه قد جاء هذا الإطلاق حيث لا تثنية ولا جمع، فيغلب فيهما. وأما قراءة «أبيك» فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مفرداً غير جمع، وحينئذ فإما أن يكون واقعاً موقع الجمع أو لا، فإنْ كان واقعاً موقع الجمع، فالكلام في «إبراهيم» وما بعده كالكلام فيه على القراءة المشهورة. وإن لم يكن واقعاً موقعَهُ، بل أريد به الإفراد لفظاً ومعنى، فيكون «إبراهيم» وحده على الأوجه الثلاثة المتقدمة، ويكون إسماعيل وما بعده عطفاً على «أبيك» ، أي: وإله إسماعيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 الثاني: يكون جمع سلامة بالياء والنون، وإنما حذفت النون للإضافة، وقد جاء جمع آب على «أبُونَ» رفعاً، و «أبين» جراً ونصباً، حكاها سيبويه؛ قال الشاعر: [المتقارب] 803 - فَلَمَّا تَبَيَّنَّ أصْوَاتَنَا ... بَكَيْنَ وَفَدَّيْنَنَا بِالأَبِينَا ومثله: [الوافر] 804 - فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إنَّا أَخُوكُمْ ..... ... ... ... ... ... ... . والكلام في إبراهيم وما بعده كالكلام فيه بعد جمع التكسير، وإسحاق: علمٌ أعجميٌّ، ويكون مصدر أسحاق، فلو سُمِّي به مذكرٌ لا نصرف، والجمع: أسحاقهٌ وأساحيق. قال القرطبي: ولم ينصرف إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق؛ لأنَّها أعجميةٌ. قال الكسائيُّ: وإن شِئْتَ صرفت «إسحاق» ، وجعلته من السّحق، وصرفت «يعقوب» وجعلته من الطَّير. وسمى الله تعالى كل واحد من العم والجد أباً، وبدأ بذكر الجد، ثم إسماعيل العم؛ لأنَّهُ أكبر من إسحاق. فصل في تحرير اختلاف الفقهاء في كون الجد أباً ذهب أبو حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْه إلى أن الجد أب، وأسقط به الإخوة، والأخوات، وهو قول أبي بكر الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْه وابن عباس وعائشة، وجماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومن التابعين، والحسن، وطاوس وعطاء. وذهب الشافعي إلى أن الجد لا يسقط الإخوة والأخوات للأب، وهو قول عمر، وعثمان، وعلي رَضِيَ اللهُ عَنْهم وهو قول مالك، وأبي يوسف ومحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 واحتج أبو حنيفة رَضِيَ اللهُ عَنْه بأدلة منها هذه الآية الكريمة، وأنه أطلق لفظ الأب على الجد. فإن قيل: قد أطلقَهُ على العمِّ، وهو إسماعيل مع أنه ليس بأب اتفاقاً. فالجواب: الأصل في الاسْتِعْمَال الحقيقة وترك العمل به في العم لدليل قام به، فيبقى في الثاني حجة. والثاني: منها قوله تبارك وتعالى مخبراً عن يوسف: {واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} [يوسف: 38] . ومنها: ما روى عطاء عن ابن عباس أنَّهُ قال: من شاء لاَعَنْتُهُ عند الحجر الأسود أنّ الجدّ أب. وقال أيضاً: ألا لا يتقي الله زيد بن ثابت يجعل ابن الابن أبناً، ولا يجعل أب الأب أباً. واحتجَّ الإمام الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه وأرضاه بأدلّة. منها: {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ} [البقرة: 132] فلم يدخل يعقوب في بنيه، بل ميَّزه عنهم، فلو كان الصاعد في الأبوَّة أباً لكان النازل في النبوَّة ابناً في الحقيقة، فلما لم يكن كذلك ثبت أن الجدَّ ليس بأب [ومنها أن الأب لا يصح نفي اسم الأبوة عنه بخلاف الجد، فعلمنا أنه حقيقة من الأب مجاز الجد] . ولو كان الجد أباً على الحقيقة لما صح لِمَنْ مات أبُوه وجدُّه حَيٌّ أن ينفي أنَّ له أباً، كما لا يصح في الأب القريب، ولما صح ذلك علمنا أنه ليس بأب في الحقيقة. فإن قيل: اسم الأبوة وإن حصل في الكل إلا أنَّ رُتْبَةَ الأدنى أقْرَبُ من رتبةِ الأبعد، فلذلك صح فيه النفي. فالجواب: لوك كان الاسم حقيقة فيهما جميعاً لم يكن الترتيب في الوجود سبباً لنفي اسم الأب عنه. ومنها: لو كان الجد أباً على الحقيقة لصحَّ القول بأنَّهُ مات، وخلف أُمًّا وآباء كثيرين، وذلك مما لم يطلقه أحدٌ من الفقهاء، وأرباب اللغة، والتفسير. ومنها: [ول كان الجدُّ أباً ولا شكَّ] أنَّ الصحابة عارفون باللغة لما كانوا يختلفون في ميراث الجدن ولو كان الجد أباً لكانت الجدة أُمًّا، ولو كان كذلك لما وقعت الشُّبهة في ميراث الجدة حتى يحتاج أبو بكر رَضِيَ اللهُ عَنْه إلى السؤال عنه، [فهذه الدلائل دلت على أنَّ الجدَّ ليس بأب] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 ومنها: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} [النساء: 11] فلو كان الجدُّ أباً لكان ابن الابن ابناً لا محالة، فكان يلزم بمقتضى هذه الآية حصول الميراث لابن الابن مع قيام الابن، ولما لم يكن كذلك علمنا أن الجد ليس بأب. وأما الجواب عن الآية الكريمة فمن وجهين: الأول: أنه قرأ أُبيّ: «وإلَهَ إبْرَاهِيمَ» بطرح «آبائك» إلاَّ أنَّ هذا لا يقدح في الغرض؛ لأن القراءة الشاذَّة لا تدفع القراءة المتواترة. بل الجواب أن يقال: إنَّه أطلق لفظ الأب على الجدِّ وعلى العمِّ. وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في العبَّاس: «هَذَا بَقِيَّةٌ آبَائِي» . وقال: «رُدٌُّوا عَلَيَّ أبي، فإنِّي أخْشَى أنْ تَفْعَلَ بِهِ قُرَيْشٌ مَا فَعَلَتْ ثَقِيفٌ بِعُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودِ» ، فدلنا ذلك على أنَّهُ ذكره على سبيل المجاز، ولو كان حقيقة لما كان كذلك. وأمَّا قول ابن عباس فإنما أطلق الاسم عليه نظراً إلى الحكم الشرعي، لا إلى الاسم اللغوي؛ لأن اللغات لا يقع الخلاف فيها بين أهل اللِّسَان. قوله: «إلهاً واحداً» فيه ثلاثة أَوْجُهٍ: أحدها: أَنَّهُ بَدَلٌ من «إلهك» بدل نكرة موصوفة من معرفة كقوله: {بالناصية نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ} [العلق: 1516] . والبصريون لا يشترطون الوصف مستدلين بقوله: [الوافر] 805 - فَلاَ وَأَبِيكِ خَيْرٍ مِنْكِ إِنِّي ... لَيُؤْذِينِي التَّحَمْحُمُ والصَّهِيلُ ف «خير» يدلٌ من «أبيك» ، وهو نكرةٌ غيرُ موصوفةٍ. والثاني: أنَّهُ حال من «إلهك» والعامل فيه «نعبد» ، وفائدة البدل الحال التنصيص على أنَّ معبودهم فَرْدٌ إذْ إضافة الشيء إلى كثير تُوهِم تَعْدَادَ المضاف، فنصَّ بها على نفي ذلك الإبهام. وهذه الحال تمسى «حالاً مُوَطِّئة» ، وهي أن تذكرها ذاتاً موصوفة، نحو: جاء زيد رجلاً صالحاً. الثالث: وإليه نَحَا الزَّمَخْسَرِيُّ: أن يكون منصوباً على الاختصاص، أي: نريد بإلهك إلهاً واحداً. قالوا: أبو حيَّان رَحِمَهُ اللهُ: وقد نصّ النحويون على أن المنصوب على الاختصاص لا يكون نكرةً ولا مبهماً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنَّها معطوفةٌ على قوله: «نعبد» يعني: أنها تتمّةٌ جوابهم له، فأجابوه بزيادة. والثني: أنهَّا حال من فاعل «نعبد» ، والعامل «نعبد» . والثالث: وَإليه نَحَا الزَّمخشري: ألاَّ يكون لها محل، بل هي جملة اعتراضيّة مؤكدة، أي: ومن حالنا أنَّا له مخلصون. قال ابو حيّان: ونصّ النحويون على أنَّ جملة الاعتراض هي التي تفيد تقويةً في الحكم، أمّا بين جزئَيْ صلة وموصول؛ كقوله: [البسيط] 806 - مَاذّا وَلاَعَتْبَ في المَقْدُورِ رُمْتَ أَمَا ... يَكْفِيكَ بِالنُّجْحِ أمْ خُسْرٌ وتَظْلِيلُ وقوله: [الكامل] 807 - ذَاكَ الَّذِي وأَبِيكَ يَعْرِفُ مالِكاً ... وَالحَقُّ يَدْفَعُ تُرَّهَاتِ البَاطِلِ أو من مُسْنَد ومُسْنَد إليه كقوله: [الطويل] 808 - وَقَدْ أَدْرَكَتْنِي والحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... أَسِنَّةٌ قَوْمٍ ضِعَافٍ وَلاَ عُزْلِ أو بين شرط وجزاء، أو قسم وجوابه، مما بينهما تلازم. وهذه الجملة قبلها كلامٌ مستقل عمّا بعدها، لا يُقَال: إنَّ بين المشار إلَيْهِ وبين الإخبار عنه تلازماً؛ لأنَّ ما قبلها من مقول بني يعقوب، وما بعدها من كلام الله تعالى، أخبر بها عنهم، والجملة الاعتراضية إنما تكون من الناطق بالمتلازمين لتوكيد كلامه. نتهى ملخصا. وقال ابن عطية: «ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» ابتداء وخبر، أي: كذلك كنا، ونحن نكون. قال أبو حيان: يظهر منه أنَّهُ جعل هذه الجملة عطفاً على جملةٍ محذوفة، ولا حاجة إليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 «تلْكَ» مُبْتَدَأ، و «أمَّةٌ» خبره، ويجوز أنْ تَكُونَ «أُمَّة» بدلاً من «تلك» ، و «قد خلت» خبر للمبتدأ. وأصل «تلك» : «تي» ، فلمَّا جاء باللاَّم للبعد حُذِفَتِ الياء لالتقاء الساكنين، فإن قيل: لِمَ لَمْ تسكر اللام حتى لا تحذف الياء؟ فالجواب: أنَّهُ يثقل اللفظ بوقوع الياء بين كسرتين. وزعم الكوفيون أنَّ التاء وحدَها هي الاسمن وليس ثَمَّ شيء محذوف. وقوله: «قد خلت» جملة فعلية في محل رفع صفة ل «أُمَّة» إنْ قيل إنها خبر «تلك» أو خبرُ «تلك» إن قيل: إن «أمة» بدل من «تلك» كما تقدم، و «خلت» أي صارت إلى الخلاءن وهي الأرض التي لا أنيس بها، والمراد به ماتت، والمشار إليه هو إبراهيم ويعقوب وأبناؤهم. والأمة: الجماعة، وقيل: الصنف. قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} في هذه الجملة ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون صفة ل «أمة» أيضاً، فيكون محلها رفعاً. والثاني: أن تكون حالاً من الضمير في «خلت» فحملها نصب، أي: خلت ثابتاً لَهَا كَسْبُها. والثالث: أن تكون استئنافاً فلا محلّ لها. وفي «ما» من قوله: «ما كسبت» ثلاثة أوجه: أظهرها: أنها بمعنى الذي. والثاني: أنها نكرة موصوفةن والعائد على كلا القولين محذوف أي: كسبته، إلا أن الجملة لا محلّ لها على الأول. والثالث: أن تكون مصدرية، فلا تحتاج إلى عائد على المشهور، ويكون المصدر واقعاً موقع المفعول أي: لها مكسوباً أو يكون ثَمَّ مضاف، أي: لها جزاء كسبها. قوله: {وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ} إن قيل: إن قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} مستأنف كانت هذه الجملة عطفاً عليه. وإن قيل: إنه صفة أو حال فلا. أما الصفة فلعدم الرابط فيها. وأما الحال فلاختلاف زمان استقرار كسبها لها، وزمان استقرار كسب المخاطبين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 وعطف الحال على الحال يوجب اتحاد الزمان، و «ما» من قوله: «ما كسبتم» ك «ما» المتقدمة. فصل فيمن استدل بالآية على إضافة بعض الأكساب إلى العبد دلت هذه الآية على أن العبد يضاف إليه أعمال وأكساب، وإن كان الله تعالى أقدره على ذلك، إن كان خيراً فبفضله وإن كان شرًّا فبعدله، فالعبد مكتسب لأفعاله، على معنى أنه خلقت له قدرة مُقَارنة للفعل يدرك بها الفرق بين حركة الاختيار وحركة الرَّعشة مثلاً، وذلك التمكن هو مَنَاط التكليف، وهذا مذهب أهل السُّنة. وقالت الجبرية بنفي اكتساب العَبْدِ، وأنه كالنبات الذي تصرفه الرياح. وقالت القدرية والمعتزلة خلاف هذين القولين، وأن العبد يخلق أفعاله، نقلهُ القرطبي. قوله: «وَلاَ تُسْأَلُونَ» هذه الجملة استئناف ليس إلاَّ، ومعناها التوكيد لما قبلها؛ لأنه لما تقدم أن أحداً لا ينفعه كسب أحد، بل هو مختص به إن خَيْراً وإن شرًّا، فلذلك لا يسأل أحد عن غيره، وذلك أن اليهود افتخروا بأسلافهم، فأخبروا بذلك. و «ما» يجوز فيها الأوجه الثلاثة من كونها موصلة أسمية، أو حرفية، أو نكرة، وفي الكلام حذف، أي: ولا يُسْألون عما كنتم تعملون. قال أبو البقاء: ودلّ عليه: لها ما كسبت، ولكم ما كسبتم انتهى. ولو جُعِل الدالُّ قوله: «ولا تسألون عما كانوا يعملون» كان أوْلى؛ لأنه مقابلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 والكلام في «أو» [كالكلام فيها عند] قوله: {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] . و «تهتدوا» جزم على جواب الأمرن وقد عركف ما فيه من الخلاف: أعني هل جزمه بالجملة قبله، أو ب «إن» مقدرة. قوله: «مِلَّة إبْرَاهِيمَ» قرأ الجمهور: «ملّة» نصباً، وفيها أربعة أوجه: أحدها: أنه مفعول فعل مضمر، أي بل نتبع ملة؛ [فحذف المضاف وإقيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 المضاف إليه مقامه] لأن معنى كونوا هوداً: اتبعوا اليهودية أو النصرانية. الثاني: أنه منصوب على خبر «كان» ، أي: بل نكون ملّة أي: أهل ملّة كقول عدي ابن حاتم: «إني من دين» أي من أهل دين، وهو قول الزَّجَّاج، وتبعه الزمخشري. الثالث: أنه منصوب على الإغْرَاء، أي: الزموا ملّة، هو قول أبي عبيدة، وهو كالوجه الأول في أنه مفعول به، وإن اختلف العامل. الرابع: أنه منصوب على إسقاط حرف الجر، والأصل: نقتدي بملّة إبراهيم، فلما حذف الحرف انتصب. وهذا يحتمل أن يكون من كلام المؤمنين، فيكون تقدير الفعل: بل نكون، أو نتبع، أو نقتدي كما تقدم، وإن يكون خطاباً للكفار، فيكون التقدير: كونوا أو اتبعوا أو اقتدوا. وقرأ ابن هرمز، وابن أبي عبلة «مِلَّةٌ» رفعاً وفيها وجهان: أحدهما: أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: بل ملتنا ملّة إبراهيم، أو نحن ملة، أي: أهل ملة. الثاني: أنها مبتدأ حذف خبره، تقديره: ملة إبراهيم ملتنا. قوله: «حَنيفاً» في نصبه أربعة أقوال: أحدها: أنه حال من «إبراهيم» ؛ لأن الحال تجيء من المضاف إليه قياساً في ثلاثة مواضع على ما ذكر بعضهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 أحدها: أن يكون المضاف عاملاص عمل الفعل. الثاني: أن يكون جزءاً نحو: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: 47] . الثالث: أن يكون الجزء كهذة الآية؛ لأن إبراهيم لما لازمها تنزلت منه منزلة الجزء. والنحويون يستضعفون مجيئها من المضاف إليه، ولو كان المضاف جزءاً، قالوا: لأن الحال لا بد لها من عامل، والعامل في الحال هو العامل في صاحبها، والعامل في صاحبها لا يعمل عمل الفعل، ومن جوز ذلك قدر العامل فيها معنى اللام، أو معنى الإضافة، وهما عاملان في صاحبها عند هذا القائل. ولم يذكر الزمخشري غير هذا الوجه وشبهه بقولك: «رأيت وجه هند قائمة» ، وهو قول الزجاج. الثاني: نصبه بإضمار فعل، أي: نبتع حنيفاً وقدره أبو البقاء، ب «أعني» ، وهو قول الأخفش الصغير، وجعل الحال خطأ. الثالث: أنه منصوب على القطع، وهو رأي الكوفيين، وكان الأصل عندهم: إبراهيم الحنيف، فلما نكره لم يمكن إتْباعه، وقد تقدم تحرير ذلك. الرابع: وهو المختار: أن يكون حالاً من «ملّة» فالعامل فيه ما قَدَّرناه عاملاً فيها، وتكون حالاً لازمة؛ لأن الملة لا تتغير عن هذا الوصف، وكذلك على القول بجعلها حالاً من «إبراهيم» ؛ لأنه لم ينتقل عنها. فإن قيل: صاحب الحال مؤنث، فكان ينبغي أن يطابقه التأنيث، فيقال: حنيفة. فالجواب من وجهين: أحدهما: أن «فعيلاً» يستوي فيه المذكر والمؤنث. والثاني: أن الملّة بمعنى الدين، ولذلك أبدلت منه في قوله {دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [الأنعام: 161] ذكر ذلك ابن الشَّجَرِيِّ في «أماليه» . و «الحَنَفُ» : الميل، ومنه سمي الأَحْنَفُ؛ لميل إحدى قدميه بالأصابع إلى الأخرى؛ قالت أُمُّهُ: [الرجز] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 809 - وَاللهِ لَوْلاَ حَنَفٌ بِرِجْلِهِ ... مَا كَانَ في فِتْيَانِكُمْ مِنْ مِثْلِهِ ويقال: رجل أَحْنَفُ، وامرأة حَنْفَاءُ. وقيل: هو الاستقامة، وسمي المائل الرِّجْل بذلك تفاؤلاً؛ كقولهم لِلَّدِيغ «سَلِيم» ولِلْمَهْلكة: «مَفَازة» قاله ابن قتيبة [وهو مروي عن محمد بن كعب القرظيّ] . وقيل: الحَنيفُ لقب لمن تديَّن بالإسلام؛ قال عَمْرٌو: [الوافر] 810 - حَمِدْتُ اللهَ حِينَ هَدَى فُؤَادِي ... إلى الإسْلاَمِ وَالدِّينِ الحَنِيفِ [قاله القفال. وقيل: الحنيف: المائل عما عليه العامة إلى ما لزمه] . قال الزجاج؛ وأنشد: [الوافر] 811 - وَلَكِنَّا خُلِقْنَا إذْ خُلِقْنَا ... حَنِيْفاً دِينُنَا عَنْ كُلِّ دِيْنِ وأما عبارات المفسرين، فقال ابن عباس والحسن ومجاهد رضي الله تعالى عنهم أجمعين: الحنيفية حج البيت. وعن مجاهد أيضاً: اتباع الحق. وعن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: الحنيف المائل عن الأديان كلها إلى دين الإسلام. وقيل: اتباع شرائع الإسلام. وقيل: أخلاص الدين قاله الأصم. وقال سعيد بن جبير: هي الحج الحسن، وقال قَتَادة: الحنيفية الختان، وتحريم الأمهات والبنات والأخوات والعمات، وإقامة المناسك. قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} تنبيه على أن اليهود والنصارى أشركوا؛ لأن بعض اليهود قالوا: عزيزٌ ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله وذلك شرك. وأيضاً إن الحنيف اسم لمن دَانَ بدين إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ومعلوم أنه عليه السلام أتى بشرائع مخصوصة، من حجّ البيت الخِتَان وغيرهما، فمن دَانَ بذلك فهو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 حنيف، وكانت العرب تدين بهذه الأشياء، ثم كانت تشرك، فقيل من أجل هذا «حنيفاً، وما كان من المشركين» ونظيره قوله: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} [يوسف: 6] . فصل في الكلام على هذه الآية اعلم أن الله تعالى ذكر هذه الآية على طريق الإلزام لهم وهو قوله: «ملّة إبراهيم حنيفاً» وتقديره: إن كان طريق الدين التقليد فالأولى في ذلك اتباع ملة إبراهيم حنيفاً؛ لأن هؤلاء المختلفين قد «أتفقوا» على صحّة دين إبراهيم، والأخذ بالمتفق عليه أولى من الأخذ بالمختلف فيه، فكأنه سبحانه وتعالى قال: إن كان المقول في الدين على الاستدلال والنظر، فقد قدمنا الدلائل، وإن كان المقول على التقليد، فالرجوع إلى دين إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وترك الهيودية والنصرانية أولى. فإن قيل: اليهود والنصارى إن كانوا معترفين بفضل إبراهيم مقرّين أن إبراهيم ما كان من القائلين بالتشبيه والتثليث امتنع أن يقولوا بذلك، بل لا بد وأن يكونوا قائلين بالتنزيه والتوحيد، ومتى كانوا قائلين بذلك لمن يكن في دعوتهم إليه فائدة، وإن كانوا منكرين فضل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أو كانوا مقرين به، لكنهم أنكروا كونه منكراً للتجسيم والتثليث لم يكن ذلك متفقاً عليه، فحينئذ لا يصح إلزام القول بأن هذا متفق عليه، فكان الأخذ به أولى. فالجواب: أنه كان معلوماً بالتواتر أن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما أثبت الولد لله تعالى فلما صح عن اليهود والنصارى أنهم قالوا بذلك ثبت أن طريقتهم مخالفة لطريقة إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. فإن قيل: أليس أن كلّ واحد من اليهود والنصارى يدعي أنه على دين إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؟ فالجواب أن إبراهيم كان قائلاً بالتوحيد، وثبت أن النصارى يقولون بالتَّثْليث، واليهود يقولون بالتشبيه، فثبت أنهم ليسوا على دين إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأنّ محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما ادعى التوحيد كان على دين إبراهيم. فصل [اعلم أن قوله تعالى: {وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} ليس المراد منه التخيير، إذ من المعلوم من حال اليهود أنها لا تُجَوِّزُ اختيار النصرانية على اليهودية، بل تزعم أنه كفر، وكذلك أيضاً حال النصارى، وإنما المراد أن اليهود تدعو إلى اليهودية، والنصارى إلى النصرانية، فكل فريق يدعو إلى دينه، ويزعم أنه على الهدى] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 «قولوا» : في هذا الضمير قولان: أحدهما: أنه للمؤمنين، والمراد بالمنزل إليهم القرآن على هذا. والثاني: أنه يعود على القائلين كانوا هوداً أو نصارى. والمراد بالمُنزل إليهم: إما القرآن، وإما التوراة والإنجيل [قال الحسن رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لما حكى الله تعالى عنهم أنهم قالوا: كونوا هوداً أو نصارى ذكر في مقابلته للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قل: بل «ملة» إبراهيم، قال: {قولوا آمَنَّا بالله} ] . وجلمة «آمنَّا» في محلّ نصب ب «قولوا» ، وكرر الموصول في قوله: {وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ} لاختلاف المنزل إلينا، والمنزل إليه، فلو لم يكرر لأوهم أن المنزل إلينا هو المنزل إليهم، ولم يكرر في «عيسى» ؛ لأنه لم يخالف شريعة موسى إلاّ في نزر يسير، فالذي أوتيه عيسى هو عَيْن ما أوتيه موسى إلا يسيراً، وقدم المنزل إلينا في الذكر، وإن كان متأخراً في الإنزال تشريفاً له. والأسباط جمع «سِبْط» وهم في ولد يعقوب كالقبائل في ولد إسماعيل والشّعوب في العجم. وقيل: هم بنو يعقوب لصلبه. وقال الزمخشري: «السبط هو الحَافِدُ» . واشتقاقهم من السبط وهو التتابع، سموا بذلك؛ لأنهم أمة متتابعون. وقيل: من «السَّبط» بالتحريك جمع «سَبَطَة» وهو الشجر الملتف. وقيل ل «الحَسَنَيْنِ» : سِبْطا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لانتشار ذرّيتهم. ثم قيل لكل ابن بنت: «سِبْط» . قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: جميع إبراهيم براهم، وإسماعيع سماعيل، قاله الخليل وسيبويه والكوفيون، وحكوا: بَراهِمة وسَماعِلة، وحكوا براهِم وسماعِل. قال محمد بن يزيد: هذا غلط؛ لأنه الهمزة ليس هذا موضع زيادتها، ولكن أقول: أباره وأسامع، ويجوز أباريه وأساميع. وأجاز أحمد بن يحيى «بِراه» ، كما يقال في التصغير «يريه» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 قوله: {وَمَآ أُوتِيَ موسى} يجوز في «ما» وجهان: أحدهما: أن تكون في محل جر عطفاً على المؤمن به، وهو الظاهر. والثاني: أنها في محل رفع بالابتداء، ويكون {وَمَا أُوتِيَ النبيون} عطفاً عليها. وفي الخبر وجهان: أحدهما: أن يكون «من ربهم» . والثاني: أن يكون «لا نُفَرِّقُ» هكذا ذكر أبو حيان، إلا أن في جعله «لا نُفَرِّقُ» خبراً عن «ما» نظر لا يخفى من حيث عدم عد الضمير عليها. ويجوز أن تكون «ما» الأولى عطفاً على المجرور، و «ما» الثانية مبتدأه، وفي خبرها الوجهان، وللشيخ أن يجيب عن عدم عود الضمير بأنه محذوف تقديره: لا نفرق فيه، وحذف العائد المجرور ب «في» مطَّرِد كما ذكر بعضهم، وأنشد: [المتقارب] 812 - فَيَوْمٌ علَيْنَا وَيَوْمٌ لَنَا ... وَيَوْمٌ نُسَاءُ وَيَوْمٌ نُسَرْ أي: نُسَاءُ فيه ونُسَرُّ فيه. قوله: «من ربِّهم» فيه ثلاثة أوجه: أحدهما وهو الظاهر أنه في محل نصب، و «من» لابتداء الغايةن ويتعلّق ب «أوتي» الثانية إن أَعَدْنَا الضمير على النبيين فقط دون موسى وعيسى، أو ب «أوتي» الأولى، وتكون الثانية تكراراً لسقوطها في «آل عمران» إن أعدنا الضمير على موسى وعيسى عليهما السلام والنبيين. الثاني: أن يكون في محلّ نصب على الحال من العائد على الموصول فيتعلّق بمحذوف تقديره: وما أوتيه كائناً من ربهم. الثالث: أنه في محل رفع لوقوعه خبراً إذا جعلنا «ما» مبتدأ. قوله: «بين أحد» متعلق ب «لا نفرق» ، وفي «أحد» قولان: أظهرهما: أنه الملازم للنفي الذي همزته أصلية، فهو للعموم وتحته أفراد، فلذلك صحّ دخول «بين: عليه من غير تقدير معطوف نحو:» المال بين الناس «. والثاني: أنه الذي همزته بدل من» واو «بمعنى واحدٍ، وعلى هذا فلا بد من تقدير معطوف ليصح دخول» بين «على متعدد، ولكنه حذف لفهم المعنى، والتقدير: بَيْنَ أحدٍ منهم؛ ونظيره ومثله قول النابغة: [الطويل] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 813 - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أَبُو حُجُرٍ إلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ أي: بين الخير وبَيْنِي. و» له «متعلِّق ب» مُسْلِمُون «، قدم للاهتمام به لعود الضمير على الله تعالى أو لتناسب الفواصل. فصل في الكلام على الآية قدم الإيمان بالله؛ لأن من لا يعرف الله يستحيل أن يعرف نبيًّا أو كتاباً، فإذا عرف الله، وآمن به عرف أنبياءه، وما أنزل عليهم. وقوله: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} فيه وجهان: الأول: لا نؤمن ببعض ونكفر ببعض كما فعلت اليهود والنصارى، بل نؤمن بالكل، روي عن أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام؛ فقال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» لاَ تُصَدِّقُوا أَهْلَ الكِتَابِ ولا تُكَذِّبُوهُمْ وَقُولُوا: آمَنَّا باللهِ وَمَا أُنْزِلَ ... «الآية. الثاني: لا نقول: إنهم متفرقون في أصول الديانات، بل هم يجتمعون على الأصول التي هي الإسلام كما قال تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ كَبُرَ عَلَى المشركين} [الشورى: 13] . [فإن قيل: كيف يجوز الإيمان بأبراهيم وموسى وعيسى مع القول بأن شرائعهم منسوخة؟ قلنا: نحن نؤمن بأن كل واحد من تلك الشرائع كان حقاً في زمانه، فلا تلزمنا المناقضة، وإنما تلزم المناقضة لليهود والنصارى؛ لاعترافهم بنبوة من ظهر المعجز على يده. لم يؤمنوا] . وقوله:» وَنَحْنُ مُسْلِمُونَ «يعنى أن إسلامنا لأجل طاعة الله لا لأجل الهوى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 «الباء» في قوله «بمثل» فيه أقوال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 أحدها: أنها زائدة كهي في قوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] وقوله: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ} [مريم: 25] ؛ وقوله: [البسيط] 814 - ... ... ... ... ... . ... سُودُ المَحَاجِرِ لاَ يَقْرَأْنَ باِلسُّوَرِ والثاني: أنها بمعنى «على» ، أي: فإن آمنوا على مثل إيمانكم بالله. والثالث: أنها للاستعانة كهي في «نجرت بالقدُّوم» ، و «كتبت بالقلم» ، والمعنى: فإن دخلوا في الإيمان بشهادةٍ مثل شهادتكم. وعلى هذه الأوجه، فيكون المؤمَن به حذوفاً، و «ما» مصدرية، والضمير في «به» عائداً على الله تعالى والتقدير: فإن آمنوا بالله إيماناً مثل إيمانكم به، و «مثل» هنا فيها قولان: أحدهما: أنها زائدة، والتقدير: بما آمنتم به، وهي قراءة عبد الله بن مسعود، وابن عباس [وذكر البيهقي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما لا تقولوا بمثل ما آمنتم به، فإن الله تعالى ليس له مثل، ولكن قولوا بالذي آمنتم به، وهذا يروى قراءة أُبيّ] ونظيرها في الزيادة قول الشاعر: [السريع أو الرجز] 815 - فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْشفٍ مَأْكُولْ ... وقال بعضهم: هذا من مجاز الكلام تقوم: هذا أمر لا يفعله مثلك، أي: لا تفعله أنت. والمعنى: فإن آمنوا بالذي آمنتم به، نقله ابن عطية، وهو يؤول إلى إلغاء «مثل» وزيادتها. والثاني: أنها ليست بزائدة، والمثليّة متعلقة بالاعتقاد، أي: فإن اعتقدوا بمثل اعتقادكم، أو متعلقة بالكتاب، أي: فإن آمنوا بكتاب مثل الكتاب الذي آمنتم به، والمعنى: فإن آمنوا بالقرآن الذي هو مصدق لما في التوراة والإنجيل، وهذا التأويل ينفي زيادة «الباء» . قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وفيها وجوه، وذكر بعضها أن المقصود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 منه التثبيت، والمعنى: إن حصلوا ديناً آخر مثل دينكم، ومساوياً له في الصحة والسداد، فقد اهتدوا، ولمَّا استحال أن يوجد دين آخر يساوي هذا الدين في الصواب والسَّدَاد استحال الاهتداء بغيره ونظيره قولك للرجل الذي تشير عليه: ها هو الرأي الصواب، فإ، كان عندك رأي أصوب مه فاعمل به، وقد علمت أن لا أَصْوَبَ من رأيك، [ولكنك تريد تثبيت صاحبك، وتوقيفه على أن ما رأت لا رأي وراءه] . وقيل: إنكم آمنتم بالفرقان من غير تصحيف وتحريف، فإن آمنوا بمثل ذلك، وهو التوراة من غير تصحيف وتحريف، فقد اهتدوا؛ لأنهم يتوصّلون به إلى معرفة نوبة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: فإن صاروا مؤمنين بمثل ما به صرتم مؤمنين، فقد اهتدوا. و «ما» ف يقوله: «بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ» فيها وجهان: أحدهما: أنها بمعنى الذي، والمراد بها حينئذ: إما الله تعالى بالتأويل المتقدم عند من يجيز وقوع «ما» على أولي العلم نحو: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] . وإما الكتاب المنزل. [والثاني: أنها مصدرية، وقد تقدم ذلك. والضمير في «به» فيه أيضاً وجهان: أحدهما: أنه يعود على الله تعالى كما تقدم] والثاني: أن يعود على «ما» إذا قيل: إنها بمعنى الذي. قوله: «فَقَدِ اهْتَدَوا» جواب الشرط في قوله: «فَإِنْ آمَنُوا» ، وليس الجواب محذوفاً، كهو في قوله: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ} [فاطر: 40] ، لأن تكذيب الرسل ماض محقق هناك، فاحتجنا إلى تقدير جواب. وأما هنا فالهداية منهم لم تقع بعد، فهي مستقبلة معنى، وإن أبرزت في لفظ المعنى. [قال ابن الخطيب: والآية تدل على أن الهدىية كانت موجودة قبل هذا الاهتداء، وتلك الهداية لا يمكن حملها إلا على الدلائل التي نصبها الله تعالى وكشف عنها، وبين وجوه دلالتها، ثم بيَّن وجه الزجر وما يلحقهم إن تولوا، فقال: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ} ] . قوله: «فِي شِقَاقٍ» خبر لقوله: «هم» ، وجعل الشقاق ظرفاً لهم، وهم مظروفون له مبالغة في الأخبار باستعماله علهيم، وهو أبلغ من قولك: هم مُشَاقّونَ، وفيه: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} [الأعراف: 66] ونحوه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 والشِّقَاق: مصدر من شاقَّهُ يُشَاقّه نحو: ضاربه ضِراباً، ومعناه المخالفة والمعاداة. وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال: أحدها: أنه من الشّق وهو الجانب. وذلك أن أحد المشاقين يصير في شقّ صابحه، أي: جانبه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل] 816 - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقِّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ أي: بجانب. الثاني: أنه من المشقة، فإن كلاًّ منهما يحرص على ما يَشُقّ على صاحبه. الثالث: أنه من قولهم: «شققتُ العَصَا بين وبينك» ، وكانوا يفعلون ذلك عند تعاديهم. فصل في الكلام على الآية قال ابن الخطيب: معناه إن تركوا مثل هذا الإيمان فقد التزموا المناقضة، والعاقل لا يلتزم المناقضة ألبتة، فحيث التزموها علمنا أنه ليس غرضهم طَلَب الدين، والانقياد للحق، وإنما غرضهم المنازعة، وإظهار العداوة. قال ابن عباس وعطاء رَضِيَ اللهُ عَنْهما «فإنما هم في شِقَاقٍ» أي: في خلاف منذ فارقوا الحقّ، وتمسّكوا بالباطل، فصاروا مخالفين لله. وقال أبو عبيدة ومقاتل: «في شِقَاقٍ» ، أي: في ضلال. وقال ابن زيد: في منازعة ومُحَاربة. وقال الحسن: في عداوة. قال القاضي: ولا يكاد يقال في المُعَاداة على وجه الحق، أو المخالفة التي لا تكون معصية: إنه شقاق، وإنما يقال ذلك في مخالفة عظيمة توقع صاحبها في عداوة الله وغضبه ولعنته وفي استحقاق النَّار، فصار هذا القول وعيداً منه تعالى لهم، وصارَ وَصْفُهُمْ بذلك دليلالآ على أنهم معادون للرسول، مضمرون له السوء مترصّدون لإيقاعه في المِحَنِ، فعند هذا آمنه الله تعالى ت من كيدهم، وآمن المؤمنين من شرّهم ومكرهم، [فقال: «سَيَكْفِيكَهُمْ اللهُ» تقوية لقلبه وقلوب المؤمنين] . و «الفاء» في قوله: «فَسَيْكَفِيْكَهُمْ» تشعر بتعقيب الكفاية عقب شقاقهم، وجيء ب «السين» دون «سوف» ؛ لأنها أقرب منها زماناً بوضعها، ولا بد من حذف مضاف أي: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 فسيكفيك شقاقهم؛ لأن الذوات لا تكفى إنما تكفى أفعالها، والمكفي به محذوف، أي: بمن يهديه الله، أو بتفريق كلمتهم. [ولقد كفى بإجلاء بني النضير، وقتل بني قريظة، وبني قينقاع، وضرب الجزية على اليهود والنصارى] . قوله: {وَهُوَ السميع العليم} أي: السميع لأقوالهم، العليم لأحوالهم. وقيل: السميع لدعائك العليم بنيتك، فهو يستجيب لك ويصولك لمرادك. [وروي أن عثمان رضي الله تعالى عنه كان يقرأ في المصحف، فقتل فقطرت نقطة من دمه على قوله تعالى «سَيَكْفِيكَهُمْ اللهُ» . كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم وبجل وعظم، قد أخبره بذلك] . والكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان؛ ويجوز في غير القرآن الكريم: «فسيكفيك» . فصل في الكلام على سمع الله وعلمه واحتجوا بقوله تعال: {وَهُوَ السميع العليم} على أنه سمعه تعالى زائد على علمه بالمسموعات، وإلا يلزم التكرار، وهو غير جائز، فوجب أن يكون صفة كونه تعالى سميعاً أمراً زائداً على وصفه بكونه عاليماً. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 قرأ الجمهور «صيغة» بالنصب. وقال الطبري رَحِمَهُ اللهُ: من قرأ: «ملّةُ إبراهيم» بالرفع قرأ «صبغة» بالرفع وقد تقدم أنها قراءة ابن هرمز، وابن أبي عبلة. فاما قراءة الجمهور ففيها أربعة أوجه: أحدها: أن انتصابها انتصاب المصدر المؤكد، وهذا اختاره الزمخشري، وقال: «هو الذي ذكره سيبويه، والقول ما قالت حَذَام انتهى قوله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 واختلف حينئذ عن ماذا انْتَصَبَ هذا المصدر؟ فقيل: عن قوله:» قولوا: آمنا «. وقيل عن قوله:» ونَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ «. وقيلك عن قوله:» فَقَد اهْتَدُوا «. الثاني: أن انتصابها على الإغراء أي: الزموا صبغة الله. وقال أبو حيان وهذا ينافره آخر الآية، وهو قوله: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} [فإنه خبر والأمر ينافي الخبر] إلا أن يقدر هنا قول، وهو تقدير لا حاجة إليه، ولا دليل من الكلام عليه. الثالث: أنها بدل من» ملة «وهذا ضعفيف؛ إذ قد وقع الفصل بينهما يجمل كثيرة. الرابع: انتصابها بإضمار فعل أي: اتبعوا صِبْغَةَ الله، ذكر ذلك أبو البقاء مع وجه الإغراء، وهو في الحقيقة ليس زائداً فإنَّ الإغراء ايضاً هو نصب بإضمار فعل. قال الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ: هي أي الصبغة من» صَبَغَ «كالجِلْسَة من» جَلَس «، وهي الحالة التي يقع عليها الصَّبْغُ، والمعنى: تطهير الله؛ لأن الإيمان يطهر النُّفُوس. فصل في الكلام على الصّبغ الصّبغ ما يلون به الثياب ويقال: صبغ الثوب يصبغُهُ بفتح الباء وكسرها وضمها ثلاث لغات صبغاً بفتح الصاد وكسرها. و» الصِّبْغة «فعلة من صبغ كالجِلْسَة من جلس، وهي الحالة التي يقع عليها الصبغ. ثم اختلفوا في المراد بصبغة الله على أقوال: الأول: أنه دين الله، وذكروا في تسمية دين الله بالصبغة وجوهاً. أحدها: أن بعض لنصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمونه المعمودية، ويقولون: هو تطهير لهم. وإذا فعل الواحد بولده ذلك قال: الآن صار نصرانياً فأمر المسملون أن يقولوا: آمنا وصبغنا الله صِبْغة لا مثل صِبْغتكم، وإنما جيء بفلظ الصِّبغة على طريق المُشَاكلة كما توقول لمن يغرس الأشجار: [اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلاً يصطنع الكرم. والسبب في إطلاق لفظ الصبغة على الدين طريقة المُشَاكلة كما تقول لمن يغرس الأشجار وأنت تريد أن تأمره بالكرم] : اغرس كما يغرس فلان، تريد رجلاً مواظباً على الكرم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 ونظيره قوله تعالى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 1415] ، {يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] ، {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] ، {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ، {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} [هود: 38] . وثانيها: اليهود تصبغ أولادها يهوداً، والنصارى تصبغ أولادها نصارى بمعنى يلقونهم، فيصبغونهم بذلك لما يشربون في قُلُوبهم. عن قتادة قال ابن الأنباري رَحِمَهُ اللهُ يقال: فلان يصبغ فلاناً في الشيء، أي: يدخله فيه، ويلزمه إياه كما يجعل الصبغ لازماً للثوب. وأنشد ثعلب: [الطويل] 817 - دَعِ الشَّرَّ وانْزِلْ بالنَّجَاةِ تَحَرُّزاً ... إِذا أنْتَ لَمْ يَصْبَغْكَ بِالشّرْعِ صَابِغُ وثالثها: سمي الدين صبغة؛ لأن هيئته تظهر بالمشاهدة من أثر الطَّهَارة والصلاة قال الله تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود} [الفتح: 29] . [وقال مجاهد والحسن وأبو العالية وقتادجة رضي الله تعالى عنهمك أصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم فيما يسمونه المعمودية، وصبغوه بذلك ليطهروه به، كأنه الخِتَان، لأن الختان تطهير، فلما فعلوا ذلك قالوا: الآن قد صار نصرانياً حقًّا، فرد الله تعالى عليهم بقوله: {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} وهي الإسلام فسمى الإسلام صبغة استعارة ومجازاً من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين كما يظهر أثر الصبغ في الثوب. قال بعض شعراء ملوك «همدان» : [المتقارب] 818 - وَكُلُّ أُنَاسٍ لَهُمْ صِبْغةٌ ... وَصِبْغَةُ هَمْدَانَ خَيْرُ الصِّبَغْ صَبَغْتنَا عَلَى ذَاكَ أَبْنَاءَنَا ... فَأَكْرِمْ بِصِبْغَتِنَا في الصِّبَغْ] ورابعها: قال القاضي: قوله: «صِبْغَةَ اللهِ» متعلّق بقوله: {قولوا آمَنَّا بالله} [البقرة: 136] إلى قوله: «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ» فوصف هذا الإيمان منهم بأنه صبغة الله تَعَالى؛ ليبيّن أن المُبَاينة بين هذا الدين الذي اختاره الله، بين الدِّين الذي اختاره المبطل ظاهرة جلية، كما تظهر المباينة بين الألوان والأصباغ لذي الحسّ السليم. القول الثاني: أن صبغة الله فطرته، وهو كقوله: {فِطْرَةَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} [الروم: 30] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 ومعنى هذا الوجه أن الإنسان موسوم في تركيبه وبِنْيَتِهِ بالعَجْزِ والفَاقَة، والآثار الشاهدة عليه بالحدوث والافتقار إلى الخالق، فهذه الآثار كالصبغة له وكالسِّمَة اللاَّزمة. [قال القاضي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: من حمل قوله تعالى: «صبغة الله» على الفطرة فهو مقارب في المعنى لقول من يقول: هو دين الله؛ لأن الفطرة التي أمروا بها هو الدين الذي تقتضيه الأدلّة من عَقْل وشرع، وهو الدين أيضاً الذي ألزمكم الله تعالى التمسّك به، فالنفع به سيظهر دُنيا ودين، كالظهور حُسْن الصبغة، وإذا حمل الكلام على ما ذكرنا، لم يكن لقول من يقول إنما قال ذلك لعادة جارية لليهود والنصارى، وفي صبغ يستعملونه في أولادهم معنى؛ لأن الكلام إذا استقام على أحسن الوجوه بدونه، فلا فائدة فيه] . القول الثالث: أن صبغة الله هي الختان، الذي هو تطهير، أي كما أن المخصوص الذي للنصارى تظهير لهم، فكذلك الختان تظهير للمسلمين قاله أبو العالية. القول الرابع: قال الأصم رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أنه حجة الله. القول الخامس: قال أبو عبيدة رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إنه سُنة الله وأما قراءة الرفع فتحتمل وجهين: أحدهما: أنها خبر مبتدأ محذوف أي: ذلك الإيمان صبغة الله. والثاني: أن تكون بدلاً من «ملَّة» ؛ لأن من رفع «صبغة» رفع «ملة» كما تقدم فتكون بدلاً منها كما قيل بذلك في قراءة النصب. قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وقيل: الصِّبْغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلاَم، بدلاً من مَعْمُودية النصارى، ذكر ذلك الماوردي رَحِمَهُ اللهُ تعالى. وعلى هذا التأويل يكون غسل الكافر واجباً، وبهذا المعنى جاءت السُّنة الثابتة في قيس بن عاصم وثمامة بن أثال حين اسلما. وقيل: «وَمَنْ أَحْسَنُ» مبتدأ وخبر، وهذا استفهام معناه النفي أي: لا أحد، و «أحسن» هنا فيها احتمالان: أحدهما: أنها ليست للتفضيل؛ إذ صبغة غير الله منتف عنها الحسن. والثاني: أن يراد التفضيل باعتبار من يظنّ أن في «صبغة» غير الله حسناً لا أن ذلك بالنسبة غلى حقيقة الشيء. و «من الله» متعلق بأحسن، فهو في محل نصب. و «صبغة» نصب على التمييز من أحسن، وهو من التمييز المنقول من المبتدأ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 والتقدير: ومن أحسن من صبغة الله، فالتفضيل إنما يجري بين الصّبغتين لا بين الصَّابغين. [وهذا غريب معنى، وغني عن القول كون التمييز منقولاً عن المبتدأ] . قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ عَابِدونَ} جلمة من مبتدأ خبر معطوف على قوله: «قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ» فهي في محلّ نصب بالقول. قال الزمخشري: وهذا العطف يرد قول من زعم أن «صبغة الله» بدل من «ملّة» ، أو نصب على الإغراء بمعنى عليكم صبغة الهل لما فيه من فكّ النظم، وإخراج الكلام عن الْتِئَامِهِ واتساقه. قال أبو حيان: وتقديره في الإغراء: علكيم صبغة ليس بجيد؛ لأن الإغراء إذا كان بالظروف والمجرورات لا يجوز حذف ذلك الظرف ولا المجرور، ولذلك حين ذكرنا وجه الإغراء قدّرناه: ب «الزمموا صبغة الله» انتهى. كأنه لضعف العمل بالظّروف والمجرورات ضعف حذفها وإبقاء عملها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 الاستفهام في قوله: «أَتُحَاجُّونَنَا» للإنكار والتوبيخ. والجمهور: «أتحاجوننا» بنونين الأولى للرفع، والثانية نون «ن» . وقرأ زيد والحسن والأعمش رحمهم الله بالإدغام. وأجاز بعضهم حذف النون الأولى. فأما قراءة الجمهور فواضحة. وأما قراءة الإدغام فلاجتماع مثلين، وسوغ الإدغام وجود حرف المد وللين قبله القائم مقام الحركة. وأما من حذف فبالحمل على نون الوقاية كقراءة: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] ؛ وقوله [الوافر] 819 - تَرَاهُ كَالثَّغَامِ يُعَلُّ مِسْكاً ... يَسُوءُ الفَالِيَاتِ إذَا فَلَيْنِي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 يريد «فَليْنَنِي» ، وهذه الآية مثل قوله: {أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64] ، فإنه قرئت بالأوجه الثلاثة: الفَكِّ والإدغام والحذف، ولكن في المتواتر. وها لم يُقْرأ في المشهور كما تقدَّم إلا بالفكّ. ومَحَلُّ هذه الجملة النصب بالقول قبلها. والضمير في «قل» يَحْتَمِلُ أن يكون للنبي عليه الصلاة والسَّلام أو لكلّ من يصلح للخطاب، والضمير المرفوع في: «أتحاجُّوننا» اليهود والنصارى، أو لمشركي العرب أو للكلّ. و «المحاجّة» مفالعة من حَجَّة يَحُجُّهُ. فصل في حرير معنى المحاجّة اختلفوا في تلك المحاجة: فقيل: هي قولهم: إنهم أولى بالحق والنبوة لتقدم النبوة فيهم، والمعنى: أتجادلوننا في أن الله اصطفى رسوله من العرب لأمتكم، وتقولونك لو أنزل الله على أحد لأنزل عليكم، وترونكم أحق بالنبوة منا. وقيل: هي قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وقوله: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] ، وقولهم: {كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} [البقرة: 135] قاله الحسن رَضِيَ اللهُ عَنْه. وقيل: {أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللهِ} أي: أتجادلوننا في دين الله. وقوله: «في الله» لا بد من حذف مضاف أي: في شأن الله، أو دين الله. قوله: «وَهُوَ رَبُّنَا» مبتدأ وخبر في محلّ نصب على الحال، وكذا ما عطف عليه من قوله: «وَلَنَا أعمالنا» ولا بد من حذف مضاف أي: جزاء أعمالنا، ولكم جزاء أعمالكم. فصل قوله: {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} فيه وجهان: الأول: أنه أعلم بتدبير خلقه، وبمن يصلح للرسالة، وبمن لا يصلح لها، فلا تعتضوا على ربكم، فإنّ العبد لس له أن يعترض على ربه، بل يجب عليه تفويض الأمر إليه. الثاني: أنه لا نسبة لكم إلى الله تعالى إلى بالعبودية وهذه النسبة مشتركة بيننا وبينكم، فلم ترجّحون أنفسكم علينا، بل الترجيح من جانبنا؛ لأنا مخلصون في العبودية، ولستم كذلك، وهذا التأويل أقرب. قوله تعالى: {وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} المراد منه النَّصيحة في الدين، كأنه تعالى قال لنبيه: قل لهم هذا القول على وجه الشَّفقة والنصيحة، اي: لا يرجع إليَّ من أفعالكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 القبيحة ضرر حتى يكون المقصود من هذا القول دفع ذلك الضرر، وإنما المراد [نصحكم] وإرشادكم إلى الأصلح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: وجمع إسحاق: أساحيق. وحكى الكوفيون: أساحقة، وأساحق؛ وكذا يعقوب ويعاقيب ويعاقبة ويعاقب. قال النحاس رَحِمَهُ اللهُ: فأما إسرائيل فلا نعلم أحداً يجيز حذف الهمزة من أوّله، وإنما يقال: «أساريل» . وحكى الكوفيون «اسارلة» ، و «أسارل» . والباب في هذا كله أن يجمع مسَّماً فيقال: «إبراهيمون» ، و «إسحاقون» ، و «يعقوبون» ، والمسلَّم لا عمل فيه. قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى وقوله تعالىك «أَمْ تَقُولُونَ» : قرأ حمزة، والكسائي، وحفص، وابن عامر بتاء الخطاب، والباقون بالياء. فأما قراءة الخطاب، فتحتمل «أم» فيها وجهين: أحدهما: أن تكون المتّصلة، والتعادل بين هذه الجملة وبين قوله: «أَتُحَاجُّونَنَا» فالاستفهام عن وقوع أحد هذين الأمرين: المُحَاجَّة في الله، أو ادعاء على إبراهيم، ومن ذكر معه اليهودية والنصرانية، وهو استفهام إنكار وتوبيخ كما تقدم، فإنّ كلا الأمرين باطلٌ. قال ابن الخَطِيبِ: إن كانت متّصلة تقديره: بأي الحُجّتين تتعلّقون في أمرنا؟ أَبِالتَّوْحِيدِ فنحن موحدون، أم باتباع دين الأنبياء فنحن متّبعون؟ والثاني: أن تكون المنقطعة، فتتقدر ب «بل» والهمزة على ما تقدر في المنقطعة على أصح المذاهب. والتقدير: بل أتقولون؟ والاستفهام للإنكار والتوبيخ أيضاً فيكون قد انتقل عن قوله: أتحاجوننا وأخذ في الاستفهام عن قضية أخرى، والمعنى على إنكار نسبة اليهودية والنصرانية إلى إبراهيم ومن ذكرمعه، [كأنه قيل: أتقولون: إن الأنبياء علليه السلام كانوا قبل نزول التوراة والإنجيل هوداً أو نصارى] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 وأما قراءة الغيبة فالظاهر أن «أم» فيها منقطعة على المعنى المتقدم، وحكى الطبري عن بعض النحويين أنها متّصلة؛ لأنك إذا قلت: أتقوم أم يقوم عمرو؛ أيكون هذا أم هذا، أورد ابن عطية هذا الوجه فقال: هذا المثال غير جيّد؛ لأن القائل غير واحد، والمخاطب واحد، والقول في الآية من اثنين، والمخاطب اثنان غيران، وإما تتّجه معادلة «أم» للألف على الحكم المعنوى، كأن معنى قل: أتحاجوننا: «أيحاجون يا محمد أم تقولون» . وقال الزمخشري: وفيمن قرأ بالياء لا تكون إلاَّ منطقعة. قال أبو حيان رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ويمكن الاتصال مع قراءة الياء، ويكون ذلك من الالتفات إذا صار فيه خروج من خطاب إلى غيبة، والضمير لناس مخصوصين. وقال ابو البقاء: أم تقولون يقرأ بالياء ردًّا على قوله: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ» ، فجعل هذه الجملة متعلّقة بقوله: «فَسَيَكْفِيكَهُمُ» ، وحينئذ لا تكون إلا منقطعة لما عرفت أن من شرط المتصلة تقدم همزة استفهام أو تسوية مع أن المعنى ليس على أن الانتقال من قوله: «فسيكفيكهم» إلى قوله: «أم يقولون» حتى يجعله ردّاً عليه، وهو بعيد عنه لفظاً ومعنى. وقال أبو حيان: الأحسن في القراءتين أن تكون «أم» منقعطة، وكأنه أنكر عليهم محاجتهم في الله، وسبة أنبيائه لليهودية والنصرانية، وقد وقع منهم ما أنكر عليهم ألا ترى إلى قوله: {ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 65] الآيات. وإذا جعلناها متصلة كان ذلك غير متضمن وقوع الجملتين، بل إحداهما، وصار السؤال عن تعيين إحداهما، وليس الأمر كذلك إذ وقعا معاً. وهذا الذي قاله الشيخ حَسَن جداً. و «أو» في قوله: «هُوداً أو نصارى» كهي في قوله: {لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] وقد تقدم تحقيقه. قوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} . معناه: أن الله أعلم، وَخَبره أصدق، وقد أخبر في التوراة والإنجيل، وفي القرآن على لسان محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه كانوا مسلمين مبرئي عن اليهودية والنصرانية. فإن قيل: إنما يقال هذا فيمن لا يعلمن وهم علموه وكتموه، فكيف يصح الكلام؟ فالجواب: من قال «إنهم كانوا على ظَنّ وتوهم، فالكلام ظاهر، ومن قال: علموا وجحدوا، فمعناه: أن منزلتكم منزلة المعترضين على ما يعلم أن الله أخبر به، فلا ينفعه ذلك مع إقراره بأن الله تعالى أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 [و» أم «في قوله تعالى:» أم الله «متصلهة، والجلالة، عطف على» أنتم «، ولكنه فصل بي المتعاطفين بالمسؤول عنه، وهو أحسن الاستعمالات الثلاثة؛ وذلك أنه يجوز في مثل هذا التركيب ثثة أوجه: تقدم المسؤول عنه نحو قوله:» أأعلم أم الله «، وتوسطه نحو» أأنتم أعلم أم الله «، وتأخيره نحو: أأنتم أم الله أعلم. وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى:» أم الله «مبتدأ، والخبر محذوفل أي: أم الله أعلم، و» أم «هنا متصلة، أي: ربكم أعلم، وفيه نظر؛ لأنه إذا قدر له خبراً صناعياً صار جملة، و» أم «المتصلة لا تعطف الجمل، بل المفرد وما فيها معناه. وليس قول أبي البقاء بتفسير معنى، فيغتفر له ذلك، بل تفسير إعراب، والتفصيل في قوله:» أعلم «على سبيل الاستهزاء، وعلى تقدير أن يظن بهم علم، فيكون من الجهلة، وإلا فلا مشاركة، ونظيره قول حسان: [الوافر] أَتهْجُوهُ وَلَسْتَ لَهُ بِكُفْءٍ ... شَرُّكُمَا لِخَيْرِكُمَا الفِدَاءُ وقد علم أن الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خير الكل] . قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله} . في» من «من قوله:» مِنَ اللهِ «أربعة أوجه: أحدها: أنها متعلقة ب» كنتم «، وذلك على حذف مضاف أي: كتم من عباد الله شهادة عنده. الثاني: أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة لشهادة بعد صفة؛ لأن «عنده» صفة لشهادة، وهو ظاهر قول الزمخشري رَحِمَهُ اللهُ، فإنه قال: و «من» في قوله: «شَهَادَةً مِنَ اللهِ» مثلها في قولك: «هذه شهادة مني لفلان» إذا شهدت له، ومثله: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [التوبة: 1] . الثالث: أنها في محلّ نصب على الحال من المضمر في «عنده» يعني: من الضمير المرفوع بالظَّرف لوقوعه صفة، ذكره أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى. الرابع: أن يتعلّق بذلك المحذوف الذي تعلق به الظرف، وهو «عنده» لوقوعه صفة، والفرق بينه وبين الوجه الثاني أن ذلك له عامل مستقل غير العامل في الظرف. قال أبو البقاء: ولا يجوز أن تعلق «من» بشهادة لئلاً يفصل بين الصلة والموصول بالصفة يعني: أن «شهادة» مصدر مؤول بحرف مصدري وفعل، فلو عَلّقت «مِنْ» بها لكنت قد فصلت بين ما هو في معنى الموصول، وبين أبعاض الصّلة بأجنبي، وهو الظرف الواقع صفة لشهادة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 وفيه نظر من وجهين: أحدهما: لا نسلم أن «شهادة» ينحل إلى الموصول وصلته فإن كل مصدر لا ينحل لهما. والثاني: سلمنا ذلك، ولكن لا نسلم والحالة هذه أن الظرف صفة، بل هو معمول لها، فيكون بعض الصلة أجنبياً حتى يلزم الفصل به بين الموصول وصلته، وإنما كان طريق منع هذا بغير ما ذكر، وهو أن المعنى يأبى ذلك. و «كتم» يتعدّى لا ثنين، فأولهما في الآية الكريمة محذوف تقديره: كنتم النَّاس شهادةً، والأحسن من هذه الوجوه أن تكون «من الله» صفة لشهادة أو متعلّقة بعامل الظرف لا متعلقة ب «كنتم» ، وذلك أن كتمان الشهادة مع كونها مستدعة من الله عنده ابلغ في الأظلمية من كتمان شهادة مطلقة من عبادة الله. وقال في «ري الظمآن» : في الآية التقديم وتأخير، والتقدير: ومن أظلم من الله ممن كتم شهادة حصلت له كقولك: «ومن أظلم من زيد من جملة الكلمتين للشهادة» ، والمعنى: لو كان إبراهيم وبنوه يهوداً أو نصارى، ثم إن الله كتم هذه الشهادة لم يكن أحد ممن يكتم الشهادة أظلم منه، لكن لما استحال ذلك مع عدلهن وتنزيهه عن الكذب علمنا أن الأمر ليس كذلك. قال ابو حيان: وهذا متكلّف جدّاً من حيث التركيب، ومن حيث المدلول. أما التركيب فإن التقديم والتأخير من الضَّرائر عند الجمهور. وأيضاً فيبقى قوله: «مِمَّنْ كَتَمَ» متعلقاً: إما ب «أظلم» ، فيكون ذلك على طريق البدلية، ويكون إذ ذلك بدل عام من خاص، وليس بثابت، وإن كان بعضهم زعم وروده، لكن الجمهور تأولوه بوضع العامّ موضع الخاص، أو تكون «من» متعلقة بمحذوف، فتكون في موضع الحال، أي: كائناً من الكاتمين. وإمّا من حيث المدلول، فإن ثبوت الأظلمية لمن جُرَّ ب «من» يكون على تقدير، أي: إن كتمها فلا أحد أظلم منه، وهذا كله معنى لا يليق به تعالى وينزه كتابه عنه. قوله تعالى: « {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعيد وإعلام بأنه لم يترك أمرهم سُدى، وأنه يجازيهم على أعمالهم. والغافل الذي لا يفطن إلى الأمور إهمالاً منه؛ مأخوذ من الأرض الغُفْل، وهي التي لا عَلَم لها ولا أثر عمارة. وناقة غُفْلك لا سِمَة بها. ورجل غُفْلك لم يجرب الأمور. وقال الكسائي:» أرض غُفْل لم تمطر «، غفلت عن الشيء غَفْلَةً وغُفُولَةً، وأغفلت الشيءك تركته على ما ذكر منك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 فإن قيل: ما الحكمة في عدوله عن قوله:» وَاللهُ عَلِيمٌ «إلى» وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ «. فالجواب: أن نفي النقائص وسلبها عن صفاتا لله تعالى أكمل من ذكر الصفات مجردة عن ذكر نفي نقيضها، فإن النقيض يستلزم إثبات النقيض وزيادة، والإثبات لا يستلزم نفي النقيض؛ لأن العليم قد يفضل عن النقيض، فلما قال الله تعالى:» وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ «دلّ ذلك على أنه عالم، وعلى أنه غير غافل، وذلك أبلغ في الزجر المقصود من الآية. فإن قيل: قد قال تعالى في موضع آخر: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [يوسف: 19] . فالجواب: أن ذلك سيق لمجرد الإعلام بالقصّة لا للزجر، بخلاف هذه الآية، فإن المقصود بها الزجر والتهديد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 اعلم أن الله تعالى لما حاجّ اليهود في هؤلاء الأنبياء عقبه بهذه الآية ليكون وعظاً لهم، وزجراً حتى لايتّكلوا على فضل الآباءن فكلّ واحد يؤخذ بعمله. وأيضاً أنه تعالى لما ذكر حسن طريقة الأنبياء الذين ذكرهم في هذه الآيات بين أن الدليل لا يتم بذلك، بل كل إنسان مسؤول عن عمله، ولا عذر له في ترك الحق بأن يتوهم أنه متمسّك بطريقة من تقدم؛ لأنهم أصابوا أو أخطئوا لا ينفع هؤلاء ولا يضرهم لئلا يتوهم أن طريقة الدين التقليد. فإن قيل: لم كررت هذه الآية؟ فالجواب من وجهين: الأول: قال الجُبَّائي: إنه عني بالآية الأولى إبراهيم، ومن ذكر معه، والثانية أسلاف اليهود. قال القاضي: هذا بعيد؛ لأن أسلاف اليهود والنصارى لم يَجْرِ لهم ذلك مصرح، وموضع الشبهة في هذا القول أن القوم لما قالوا في إبراهيم وبينه: إنهم كانوا هوداً، فكأنهم قالوا: إنهم كانوا على مثل طريقة أسلافنا من اليهود، فصار سلفهم في حكم المذكورين فجاز أن يقول: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ} ويعنيهم ولكن ذلك كالتعسُّف، بل المذكور السابق هو إبراهيم وبنوه، فقوله: «تلك أمة» يجب أن يكون عائداً إليهم. الوجه الثاني: أنه متى اختلفت الأوقات والأحوال والمواطن لم يكن التَّكْرار عبثاً، فكأنه تعالى قال: ما هذا إلا بشر، فوصف هؤلاء الأنبياء فيما أنتم عليه من الدين لا يسوغ التقليد في هذا [الجنس] ، فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة، فلها ما كسبت، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 وانظروا فيما دعاكم إليه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإن ذلك أنفع لكم، وأعود عليكم، ولا تُسألون إلا عن عملكم. قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: كررها، لأها تضمّنت معنى التهديد والتخويف، أي: إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم، فأنتم أحرى، فوجب التأكيد فذلك كررها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ} فيه قولان: أحدهما: وهو اختيار القفال أن هذا اللفظ وإن كان للمستقبل ظاهراً، لكنه قد يستعمل في الماضي أيضاً كالرجل يعمل عملاً، فيطعن فيه بعض أعدائه، فيقول: أنا أعلم أنهم [سيطعنون عليَّ فيما فعلت، ومجاز هذا أن يكون القول فيما يكرر ويعاد] ، فإذا ذكروه مَرَّة، فسيذكرونه بعد ذلك مرات، فصحّ على هذا التأويل أن يقال: سيقول السُّفهاء من الناس ذلك، وقد وردت الأخبار أنهم لما قالوا ذلك [نزلت الآية] . [قال القرطبي: «سيقول» بمعنى: قال؛ جعل المستقبل موضع الماضي، دلالة على استدامة ذلك] وأنهم يستمرون على ذلك القول. و «السفهاء» جمع، واحده سفيه، وهو الخفيف العقل، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج وقد تقدم. والنساء سفائه. وقال المؤرج: السَّفيه: البهات الكاذب المتعمد خلاف ما يعلم. وقال قُطْرب: الظلوم الجهول. القول الثاني: أن الله تعالى أخبر عنهم قبل أن ذكروا هذا الكلام أنهم سيذكرونه وفيه فوائد. أحدها: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إذا أخبر عن ذلك قبل وقوعه، كان هذا إخباراً عن الغيب فيكون معجزاً. وثانيها: أنه - تعالى - إذا أخبر عن ذلك أولاً، ثم سمعه منهم، فإنه يكون تأذيه من هذا الكلام أقلّ مما إذا سمعه فيهم أولاً. وثالثها: أن الله - تعالى - إذا أسمعه ذلك أولاً، ثم ذكر جوابه معه، فحين يسمعه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - منهم يكون الجواب حاضراً، كان ذلك أولى مما إذا سمعه ولا يكون الجواب حاضراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 فصل في الكلام على السفيه تقدم الكلام على السَّفه في قوله: {كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء} وبالجملة فإن السفيه من لا يميّز ما له وما عليه، فيعدل عن طريق ما ينفعه إلى ما يضره، يوصف بالخفّة والسفه، ولا شك أن الخطأ في باب الدين أعظم معرّة منه في باب الدنيا، [فإذا كان العادل عن الرأي واضحاً في أمر دنياه يعدّ سفيهاً، فمن يكون كذلك في أمر دينه كان أولى بهذا الاسم فلا كافر إلا وهو سفيه، فهذا اللفظ] يمكن حمله على اليهود، وعلى المشركين، وعلى المنافقين وعلى جملتهم، وذهب إلى كلّ واحد من هذه الوجوه قوم من المفسرين. قال ابن عباس ومجاهد: هم اليهود، وذلك لأنهم كانوا يأتسون بموافقة الرسول لهم في القِبْلة، وكانوا يظنون أن موافقته لهم في القبلة ربما تدعوه إلى أن يصير موافقاً لهم بالكلية، فلما تحول عن ترك القبلة اغْتَمُّوا وقالوا: قد عاد إلى طريقة آبائه ولو ثبت على قبلتنا لعلمنا أنه الرسول المنتظر المبشر به في التوراة، فنزلت هذه الآية. قال ابن عباس والبراء بن عازب والحسن والأصم رَضِيَ اللهُ عَنْهم: إنهم مشركو العرب، [وذلك لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان متوجهاً إلى «بيت المقدس» حين كان ب «بمكة» والمشركون] كانوا يتأذون منه بسبب ذلك، فلما جاء إلى «المدينة» وتحول إلى الكعبة قالوا: رجع إلى موافقتنا، ولو ثبت عليه لكان أولى به. وقال السدي: هم المنافقون إنما ذكروا ذلك استهزاء من حيث لا يتميز بعض الجهات عن بعض بخاصية معقولة تقتضي تحويل القبلة إليها، فكان هذا التحويل مجرد العبث، والعمل بالرأي والشهوة، وإنما حملنا لفظ السفهاء على المنافقين، لأن هذا الاسم مختص بهم، قال الله تعالى: {ألاا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] . وقيل: يدخل فيه الكل؛ لأن لفظ السفهاء لفظ عموم، ودخل فيه الألف واللام، وقد بَيّنا صلاحيته لكلّ الكفار بحسب الدليل العقلي، والنص أيضاً يدلّ عليه، وهو قوله: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] . [فإن قيل: المقصود من الآية بيان وقوع هذا الكلام منهم في الجملة، وإن كان كذلك لم يكن ادعاء العموم فيه بعيداً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 قلنا: هذا القدر لا ينافي العموم، ولا يقتضي تخصيصه؛ بل الأقرب أن يكون الكل قد قالوا ذلك؛ لأن الأعداء مجبولون على القدح والطعن، فإذا وجدوا مجالاً لم يتركوا مقالاً] . قوله تعالى: {مِنَ النَّاسِ} في محلّ نصب على الحال من «السفهاء» والعامل فيها «سيقول» ، وهي حال مبينة، فإن السَّفه كما يوصف به الناس يوصف به غيرهم من الجماد والحيوان، وكما ينسب القول إليهم حقيقة ينسب لغيرهم مجازاً، فرفع المجاز بقوله: «مِنَ النَّاسِ» ذكره ابن عطية وغيره. قوله: {ما وَلاّهُمْ} «ما» مبتدأ، وهي استفهامية على وجه الاستهزاء والتعجب، والجملة بعدها خبر عنها و {عن قبلتهم} متعلّق ب «ولاّهم» ، ولا بد من حذف مضاف في قوله: «عليها» أي: على توجهها، أو اعتقادها، وجملة الاستفهام في محلّ نصب بالقول والاستعلاء في قوله: «عليها» مجاز، نزَّل مواظبتهم على المُحَافظة عليها منزلة من اسْتَعْلَى على الشيء، والله أعلم. فصل في الكلام على التولّي وَلاَّه عنه: صرفه عنه، وولى إليه بخلاف ولّى عنه، ومنه قوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] وفي هذا التولّي قولان: المشهور عند المفسرين: أنه لما حولت القبلة إلى الكعبة عاب الكفار المسلمين، فقالوا: {مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمْ} فالضَّمير في قوله: {مَا وَلاَّهُمْ} للرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والمؤمنين والقبلة التي كانوا عليها هي «بيت المقدس» . واختلفوا في تاريخ تحويل القِبْلَة بعد ذهابه إلى «المدينة» فقال أنس بن مالك - رَضِيَ اللهُ عَنْه - بعد تسعة أشهر أو عشرة أشهر وقال معاذ: بعد ثلاثة عشر شهراً، وقال قتادة: بعد ستة عشر شهراً. وعن ابن عباس والبراء بن عازب بعد سبعة عشر شهراً، [وهذا القول أثبت عندنا من سائر الأقوال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 وعن بعضهم ثمانية عشر شهراً] من مقدمه. وقال الواقدي: صرفت القِبْلَة يوم الاثنين النصف من رجب على رأس سبعة عشر شهراً. وقال آخرون: بل سنتان. القول الثاني: قول أبي مسلم وهو أنه لما صح الخبرُ بأن الله - تعالى - حوّلها إلى الكعبة وجب القول به، ولولا ذلك لاحتمل لفظ الآية أن يراد بقوله: {كَانُوا عَلَيْهَا} ، أي: السفهاء كانوا عليها فإنهم كانوا لا يعرفون إلا قِبْلَة اليهود والنصارى، فقبلة اليهود إلى العرب؛ لأن النداء لموسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ جاء فيه وهو قوله تعالى: {وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي} [القصص: 44] ، ولأنه مكان غروب الشمس والكواكب، وذلك شبه الخروج من الدنيا والعبور إلى الآخرة، وهو وقت هُمُود الناس الذي هو الموت الأصغر، واستقبلوا المغرب لشبهه بوقت القدوم على الله تعالى، والنَّصَارى إلى المشرق؛ لأن جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنما ذهب إلى مريم في جانب المَشرق، لقوله تعالى: {إِذِ انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} [مريم: 16] ؛ لأن المشرق مكان إشراق الأنوار، ومنه تشرق الكواكب بأنوارها، فهو مشتبه بحياة العالم فاستقبلوه؛ لأن منه مبتدأ حياة العالم، والعرب ما جرت عادتهم بالصلاة حتى يتوجّهوا إلى شيء من الجهات، فلما رأوا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ متوجهاً إلى الكعبة استنكروا ذلك، فقالوا: كيف يتوجه أحد إلى غير هاتين الجهتين المعروفتين، فقال تبارك وتعالى رداً عليهم: {قُلْ: لِلَّهِ المَشْرِقُ وَالمَغْرِبُ} . قال ابن الخطيب: «ولولا الروايات الظاهرة لكان هذا القول محتملاً والله أعلم» . فصل في تحرير معنى القبلة القبلة هي الجهة التي يستقبلها الإنسان، وهي من المقابلة، وإنما سميت القبلة قبلةً؛ لأن المصلي يقابلها وتقابله. وقال قطرب: يقولون في كلامهم: ليس لفلان قبلة أي: ليس له جهة يأوي إليها، وهو أيضاً مأخوذ من الاستقبال. وقال غيره: إذ تقابل الرجلان، فكلّ واحد منهما قبلة للآخر. [قال القرطبي: وجمع القبلة في التكسير قبل، وفي التسليم قبلات، ويجوز أن يبدل من الكسرة فتحة، وتقول: قبلات، ويجوز أن تحذف الكسرة، وتسكن الباء] . فصل في بعض شبه اليهود والنصارى قال ابن الخطيب: هذه شبهة من شبه اليهود والنصارى التي طعنوا بها في الإسلام، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 فقالوا: النسخ يقتضي: إما الجهل أو التجهيل، وكلاهما لا يليق بالحكيم، وذلك لأن الأمر إما أن يكون خالياً عن القَيْدِ، وإما أن يكون مقيداً بلا دوام [وإما أن يكون مقيداً بقيد الدوام، فإن كان خالياً عن القيد لم يقتضِ الفعل إلا مرة واحدة، فلا يكون ورود الأمر بعد ذلك على خلافه ناسخاً له، وإن كان مقيداً بقيد الدوام، فإن كان الأمر يعتقد فيه أن يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدلّ على] أنه يبقى دائماً، ثم إنه رفعه بعد ذلك، فها هنا كان جاهلاً، ثم بدا له ذلك، [وإن كان عالماً بأنه لا يبقى دائماً مع أنه ذكر لفظاً يدلّ على أن يبقى دائماً كان ذلك تجهيلاً] فثبت أن النسخ يقتضي: إما الجهل أو التجهيل، وهما مُحَالان على الله تعالى، فكان النسخ منه محالاً، [فالآتي بالنَّسْخ في أحكام الله - تعالى - يجب أن يكون مبطلاً] ، فبهذا الطريق توصّلوا بالقدح في نسخ القبلة إلى الطعن في الإسلام، ثم إنهم خصصوا هذه الصورة بمزيد شبهة، فقالوا: إنا إذا جوزنا النسخ إنما نجوزه عند اختلاف المصالح، وهنا الجهات متساوية في أنها لله - تعالى - ومخلوقة له وتغيير القبلة من [جانب إلى] جانب فعل خالٍ عن المصلحة فيكون عبثاً، والعَبَثُ لا يليق بالحكيم، فدل هذا على أن هذا التغيير ليس من الله تعالى، وقد أجاب الله - تعالى - على هذه الشبهة بقوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ المَشْرِق وَالمَغْرِبُ} . وتقديره: أن الجهات كلها لله - عَزَّ وَجَلَّ - مُلْكاً ومِلْكاً، فلا يستحق منها شيء لذاته أن يكون قبلة، بل إنما تصير قبلة؛ لأن الله عَزَّ وَجَلَّ جعلها قبلة، وإذا كان كذلك فلا اعتراض عليه بالتَّحويل من جهة إلى جهة؛ لأنه لا يجب تعليل أحكام الله تعالى وأفعاله على قول أهل السُّنة. وأما على قول المعتزلة فلهم طريقان: الأول: لا يمتنع اختلاف المصالح لحسب اختلاف الجهات، وبيانه من وجوه: أحدها: أنه إذا رسخ في أوهام بعض الناس أن هذه الجهة أشرف من غيرها بسبب أن هذا البيت بناه الخليل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وعظّمه، كان هذا الإنسان عند استقباله أشد تعظيماً وخشوعاً، وذلك مصلحة مطلوبة. وثانيها: أن الكعبة منشأ محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فتعظيم الكعبة يقتضي تعظيم محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وذلك أمر مطلوب [لأنه متى رسخ في قلوبهم تعظيمه كان قبولهم لأوامره ونواهيه أسهل وأسرع، والمفضي إلى المطلوب مطلوب] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 وثالثها: أن الله - تعالى - بين ذلك في قوله: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ} [البقرة: 143] فأمرهم الله - تعالى - حين كانوا ب «مكة» أن يتجهوا إلى «بيت المقدس» ليتميزوا عن المشركين، فلما هاجروا إلى «المدينة» وبها اليهود أمروا بالتوجه إلى الكعبة ليتميزوا عن اليهود. [ورابعها: أن في أفعاله حكماً، ثم إنها تارة تكون ظاهرة لنا، وتارة تكون مستورة خفية عنا، وتحويل القبلة يمكن أن يكون لمصالح خفية، وإذا كان كذلك استحال الطعن بهذا التحويل في الإسلام] . فصل في استقبال الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيت المقدس هل كان عن رأي واجتهاد أم لا؟ اختلفوا هل كان استقباله بيت المقدس عن رأي واجتهاد أم لا؟ فقال الحسن: كان عن رأي واجتهاد، وهو قول عكرمة وأبي العالية. وقال القرطبي: كان مخيراً بينه وبين الكعبة، فاختار بيت المقدس طمعاً في إيمان اليهود واستمالتهم. وقال الزجاج: امتحاناً للمشركين، لأنهم ألغوا الكعبة. وقال ابن عباس: وجب عليه استقباله بأمر الله - تعالى - ووحيه لا مَحَالَةَ، ثم نسخ الله ذلك، وهو قول جمهور العلماء نقله القرطبي. فصل اختلفوا أيضاً حين فرضت عليه الصَّلاة أولاً ب «مكة» ، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة؟ على قولين: فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وب «المدينة» سبعة عشر شهراً، ثم صرفه الله - تعالى - إلى الكعبة، قاله ابن عباس. وقال آخرون: أول ما افترضت الصلاة إلى الكعبة، ولم يزل يصلّي إليها طول مقامه ب «مكة» على ما كان عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل، فلما قدم «المدينة» صلى إلى «بيت المقدس» ستة عشر شهراً، أو سبعة عشر شهراً على الخلاف، ثم صرفه الله إلى «الكعبة» . قال ابن عمر: وهذا أصح القولين عندي. قوله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} تقدم الكلام على الهداية، قالت المعتزلة: إنما هي الدلالة الموصلة، والمعنى: أنّه - تعالى - يدلّ على ما هو للعبادة أصلح، والصراط المستقيم هو الذي يؤديهم - إذ تمسّكوا به - إلى الجنة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 قال أصحابنا: هذه الهداية: إما أن يكون المراد منها الدعوة، أو الدلالة، أو تحصيل العلم فيه، والأولان باطلان؛ لأنهما عامّان لجميع المكلفين، فوجب حمله على الوجه الثالث، وذلك يقتضي بأن الهداية والإضلال من الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 الكاف في قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ» فيها الوجهان المَشْهُوران كما تقدم ذلك غير مَرَة: إما النصب على النعت، أو على الحال من المصدر المحذوف. والتقدير: وكذلك جعلناكم أمّة وسطاً جعلاً مثل ذلك، ولكن المشار إليه ب «ذلك» غير مذكور فيما تقدم، وإنما تقدم ام يدلّ عليه. واختلفوا في «ذلك» على خمسة أوجه: أحدها: أن المشار إليه هو الهُدى المدلول عليه بقوله: {يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . والتقدير: جعلناكم أمة وسطاً مثل ما هديناكم. الثاني: أنه الجعل، والتقدير: جعلناكم أمة وسطاً مثل ذلك الجَعْل القريب الذي فيه اختصاصكم بالهداية. الثالث: قيل: المعنى كما جعلنا قبلتكم متوسّطة جعلناكم أمة وسطاً. الخامس - وهو أبعدها - أن المشار إليه قوله: {وَلَقَدِ اصطفيناه فِي الدنيا} [البقرة: 130] أي: مثل ذلك الاصطفاء جعلناكم أمة وسطاً. [قال ابن الخطيب: ويحتمل عندي أن يكون التقدير: ولله المشرق والمغرب، فهذه الجهات بعد استوائها لكونها مِلْكاً لله تعالى، خصّ بعضها بمزيد الشرف والتكريم، بأن جعله قبلة فضلاً منه، وإحساناً؛ فكذا العباد كلهم يشتركون في العبودية إلا أنه خص هذه الأمة بمزيد الفضل والعبادة، فضلاً منه وإحساناً لا وجوباً. وفيه وجه آخر: وهو أنه قد يذكر ضمير الشيء، وإن لم يكن المضمر مذكوراً إذا كان المضمر مشهوراً معروفاً، كقوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] لأن المعروف عند كل أحد أنه - سبحانه وتعالى - وهو القادر على إعزاز من يشاء من خلقه، وإذلال من يشاء، فقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي: ومثل ذلك الجعل العجيب الذي لا يقدر عليه أحد سواه جعلناكم أمة وسطاً] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 و «جعل» بمعنى صير، فيتعدّى لاثنين، فالضمير مفعول أول، و «أمة» مفعول ثاني ووسطاً نعته. والوَسَط بالتحريك: اسم لما بين الطرفين، ويطلق على خيار الشيء؛ لأن الأوساط محميَّة بالأطراف؛ قال حَبِيبٌ: [البسيط] . 821 - كَانَتْ هِيَ الوَسَطَ المَحْمِيَّ فَاكْتَنَفَتْ ... بِهَا الحَوَادِيُ حَتَّى أَصْبَحَتُ طَرَفَا ووسط الوادي خير موضع فيه؛ قال زُهَيْر: [الطويل] 828 - هُمُ وَسَطٌ تَرْضَى الأَنَامُ بِحُكْمِهِمْ ... إذَا نَزَلَتْ إِحْدَى البَلاَياَ بِمُفْضَلِ [وقال آخر: [الراجز] . 822 - كُنْ مِنَ النَّاسِ جَمِيعاً وَسَطَا] ... وقال تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28] أي أعدلهم. [وروى القفال عن الثورى عن أبي سعيد الخدري - رَضِيَ اللهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وبجل وعظم وكرم «أمّة وَسَطاً» ؛ قال: «عَدْلاً» . وقال عليه صلوات الله وسلام: «خَيْرُ الأُمُورِ أَوْسَطُهَا» ؛ أي: أعدلها. وقيل: كان النبي - صلوات الله وسلامه عليه - أوسط قريش نَسَباً. وقال عليه أفضل الصلاة والسلام: «عَلَيْكُمْ بالنَّمطِ الأَوْسَطِ» قال الجوهري في الصحاح: «أمة وسطاً» أي: عدلاً، وهو الذي قاله الأخفش، والخليل، وقطرب، فالقرآن والحديث والشعر يدلون على أن الوَسَط: خيار الشيء] . وأما المعنى فمن وجوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 أحدها: أن الوسط حقيقة في البُعْد عن الطرفين، ولا شك أن طرفي الإفراط والتفريط رذيلتان، فالمتوسّط في الأخلاق يكون بعيداً عن الطرفين، فكان معتدلاً فاضلاً. وثانيها: إنما سمي العدل وسطاً؛ لأنه لا يميل إلى أحد الخصمين، [والعدل هو المعتدل الذي لا يميل إلى أحد الطرفين] . وثالثها: أن المراد بقوله: {جُعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} طريقة المدح لهم؛ لأنه لا يجوز أن يذكر الله - تعالى - وصفاً، ويجعله كالعلة في أن جعلهم شهوداً له ثم عطف على ذلك شهادة الرسول، وذلك مدح، فثبت أن المراد بقوله: «وَسَطاً» ما يتعلّق بالمدح في باب الدين، ولا يجوز أن يمدح الله الشُّهود حال حكمه عليهم بكونهم شهوداً لا بكونهم عدولاً؛ فوجب أن يكون المراد من الوَسَط العدالة. ورابعها: أن الأوساط محمية بالأطراف، وحكمها مع الأطراف على حَدّ سواء، والأطراف يتسارع إليها الخَلَل والفساد، والوسط عبارة عن المعتدل الذي لا يميل إلى جِهَةٍ دون جهة. وقال بعضهم: تفسير الوسط بأنه خيار الشيء [أوْلى من تفسيره بالعدالة؛ لأن العدالة لا تطلق على الجمادات، فكان أَوْلَى، والمراد من الآية: أنهم لم يغلوا؛ كما غلت النصارى، فجعلوه ابناً وإلهاً، ولا قصَّروا؛ كتقصير اليهود في قتل الأنبياء، وتبديل الكُتُبِ وغير ذلك] . وفرق بَعْضهم بين «وَسَط» بالتفح و «وَسْط» بالتسكين. فقال: كلُّ موضع صَلَحَ فيه لفظ «بَيْن» يقال بالسكون، وإلا فبالتحريك. فقتلو: جلست وَسْطَ القومِ، بالسكون. وقال الراغب: وسط الشيء ما له طرفان متساويان القَدْر، ويقال ذلك في الكمية المتصلة كالجسم الواحد، فتقول: وسطه صلب، ووسْط بالسكون يقال في الكميّة المنفصلة؛ كشيء يفصل بين جسمين نحو: «وَسْط القوم» كذا. وتحرير القول فيه هو أن المفتوح في الأصل مَصْدَرٌ، ولذلك استوى في الوصف به الواحدُ وغيره، والمؤنَّث والمذكَّر، والسَّاكن ظَرْفٌ، والغاب فيه عدم التصرُّف، وقد جاء متمكِّناً في قول الفرزدق: [الطويل] . 824 - أَتَتْهُ بِمَجْلُومٍ كَأَنَّ جَبِينَهُ ... صَلاَءَةُ وَرْسٍ وَسْطُهَا قَدْ تَفَلَّقَا روي برفع الطَّاء، والضمير ل «صلاءة» ، وبتفحها والضمير للجائية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 فصل في الاستدلال بالآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى احتج الأصحاب بهذه الآية على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى؛ لأن هذه الآية دالة على أن عدالة هذه الأمة وخيرتيهم بجعل الله وخلقه، وهذا صريح في المذهب. وقالت المعتزلة: المراد من هذا الجعل فعل الألطاف. أجيب عنه بوجوده: الأول: أن هذا ترك للظاهر، وذلك محال لا يصار ليه إلا عند عدم إمكان حمل الآية على ظاهرها، أقصى ما للمعتزلة في هذا الباب التمسّك بفصل المَدْح والذم والثواب والعقاب، وقد بيّنا أن هذه الطريقة منتقضةٌ على أصولهم بمسألة العلم ومسألة الداعي: والثاني: أنه تعالى - قال قبل هذه الآية {يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة: 142] . وقد بيذنا دلالة هذه الآية على قولنا في أنه - تعالى - يخص البعض بالهداية دون البعض، فهذه الآية يجب أن تكون محمولة على ذلك لتكون كل واحدة منها مؤكدة لمضمون الأخرى. والثالث: أن كلّ ما في مقدور الله - تعالى - من الألطاف في حقّ الكل فقد فعله، وإذا كان كذلك لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذا المعنى فائدة. فصل في الاستدلال بالآية على أن الإجماع عجّة احتج الجمهور بهذه الآية على أن الإجماع حجة فقالوا: أخبر الله - تعالى - عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 عدالة هذه الأمة، وعن خيريتهم، فلو أقدموا على شيء من المَحْظُورات لما اتّصفوا بالخيرية وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المَحْظُورات وجب أن يكون قولهم حجّة، فإن قيل: الآية متروكة الظاهر؛ لأن وصف الأمة بالعدالة يقتضي اتِّصَاف كل واحد منهم بها، وخلاف ذلك معلوم بالضرورة، فلا بد من حملها على البعض، فنحن نحملها على الائمة المعصومين. فالجواب: أنها ليست متروكة الظاهر، لكن لا نسلم أن الوسط من كل شيء خياره، والوجوه التي ذكرتموها معارضة بوجهين: الأول: أن عدالة الرجل عبارة عن أداء الواجبات، واجتناب المحرمات، وهذا من فعل العبد، وقد أخبر الله - تعالى - أنه جعلهم وسطاً، وذلك يقتضي أن يكون كونهم وسطاً غير كونهم عدولاً، وإلا لزم وقوع مقدور واحد بقادرين وهو محال. الثاني: أن الوَسَط اسم لما يكون متوسطاً بين شيئين، فجعله حقيقة في العدالة والخيرية يقتضي الاشتراك، وهو خلاف الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 سلّمنا اتصافهم بالخيرية، وذلك لا يكفي في حصول هذا الوصف الاجتناب عن الكبائر فقط، وإذا كان كذلك احتمل أن الذي اجتمعوا عليه وإن كان خطأ، لكنه من الصَّغائر، فلا يقدح ذلك في خيريتهم، ومما يؤكّد ذلك الاحتمال أنه - تعالى - حكم بكونهم عدولاً ليكونوا شهداء على الناس، وفعل الصغائر لا يمنع الشهادة. سلمنا اجتنابهم عن الصغائر والكبائر، ولكن الله - تعالى - بيّن وصفهم بذلك لكونهم شهداء على النَّاس، ومعلوم أن هذه الشهادة إنما تتحقق في الآخرة، فيلزم وجوب تحقق عدالتهم هناك، لأن عدالة الشهود إنما تعتبر حالة الأداء لا حالة التحمّثلن وذلك لا نزاع فيه؛ لأن الأمة تصير عصومة في الآخرة. فلم قلت: إنهم في الدنيا كذلك؟ سلمنا وجوب كونهم عدولاً في الدنيا، لكن المخاطبين بهذا الخطاب [هم الذين كانوا موجودين عند نزول هذه الآية، لأن الخطاب] مع مَنْ لم يوجد مُحَال، وإذا كان كذلك، فهذه الآية تقتضي عدالة أولئك الذين كانوا موجودين في ذلك الوقت لا عدالة غيرهم، فدلّت الآية على أن إجماع [أولئك} حق، يجب ألاَّ نتمسّك بالإجماع إلا إذا علمنا حصول قول كل أولئك فيه. لكن ذلك لا يمكن [إلا إذا علمنا كل واحد من أولئك الأقوام بأعيانهم، وعلمنا بقاء كل واحد] منهم إلى ما بعد وفاة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلمنا حصول أقوالهم بأسرهم في ذلك الإجماع، ولما كان ذلك كالمتعذّر امتنع التمسّك بالإجماع. والجواب عن قولهم: الآية متروكة الظاهر. قلنا: لا نُسلّم فإن قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} يقتضي أنه - تعالى - جعل كلّ واحد منهم عند اجتماعه مع غيره بهذه الصفة. وعندنا أنهم في كل أمر اجتمعوا عليه، فإنّ كل واحد منهم يكون عدلاً في ذلك الأمر، بل إذا اختلفوا، فعند ذلك قد يفعلون القبيح، وإنما قلنا: إن هذا الخطاب معهم حال الاجتماع، لأن قوله: «جَعَلْنَاكُمْ» خطاب لمجموعهم لا لكلّ واحد منهم وحده، على أنا وإن سلمنا أن هذا يقتضي كون كل واحد فيهم عدلاً، لكنا نقول ترك العمل به في حقّ البعض لدليل قام عليه، فوجب أن يبقى معمولاً به في حقّ الباقي، وهذا معنى ما قاله العلماء: ليس المراد من الآية أن كلهم كذلك، بل المراد أنه لا بد وأن يوجد فيما بينهم من يكون بهذه الصفة، فإذا كُنَّا لا نعلمهم بأعيانهم افتقرنا إلى إجماع جماعتهم على القول والفعل لكي يدخل المعتبرون في جملتهم. مثاله: أن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إذا قال: إن واحداً من أولاد فلان لا بد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 وأن يكون مصيباً في الرأي، فإذا لم نعلمه بعينه، ووجدنا أولاده مجتمعين على رأي علمناه حقّاً؛ لأنه لا بد وأن يوجد فيهم ذلك المحق. فأما إذا اجتمعوا سوى الواحد على رأي لم نحكم بكونه حقّاً، لتجويز أن يكون الصواب مع ذلك الواحد المخالف. ولهذا قال العلماء: إنا لو ميزنا في الأمة من كان مصيباً عمن كان مخطئاً كانت الحجة قائمة في قول المصيب ولم نعتبر ألبتة [بقول المخطئ. قوله: لو كان المراد من كونهم وسطاً هو عدالتهم لزم أن يكون فعل العبد خلقاً لله تعالى. قلنا: هذا مذهبنا. فإن قيل] قولهم: لم قلتم: إن إخبار الله - تعالى - عن عَدَالتهم وخيريّتهم اجتنابهم عن الصغائر؟ قلنا: خبر الله - تعالى - صدق، والخبر الصدق يقتضي حصول المخبر عنه، وفعل الصغيرة ليس بخبر، فالجمع بينهما متناقض. ولقائل أن يقول: الإخبار عن الشَّخْص بأنه خير أهم من [الإخبار عنه بأنه خير في جميع الأمور، أو في بعض الأمور، ولذلك فإنه يصحّ تقسيمه إلى] هذين القسمين، فيقال: الخير إما أن يكون خيراً في بعض الأمور دون البعض، أو في كل الأمور، ومورد التقسيم مشترك بين القسمين، فمن كان خيراً من بعض الوجود دون البعض يصدق عليه أنه خير، فإذن إخبار الله - تعالى - عن خيرية الأمة لا يقتضي إخباره - تعالى - عن خيريتهم في كل الأمور، فثبت أن هذا لا ينافي إقدامهم على الكبائر فضلاً عن الصغائر، [وكنا قد نصرنا هذه الدلالة في أصول الفقه إلاَّ أن هذا السؤال وارد عليهم، أما السؤال الآخر فقد أجيب عنه بأن قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} خطاب لجميع الأمة أولها وآخرها، من كان منهم موجوداً وقت نزول هذه الية، ومن جاء بعدهم إلى [قيام الساعة] ، كما أن قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} [البقرة: 178] ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] يتناول الكل، ولا يختص بالموجودين في ذلك الوقت، [وكذلك سائر تكاليف الله - تعالى - وأوامره وزواجره خطاب لجميع الأمة] فإن قيل: لو كان الأمر كذلك لكان هذا خطاباً لجميع من يوجد إلى قيام الساعة، فإنما حكم جماعتهم بالعدالة، فمن أين حكمت لأهل كل عصر بالعدالة حتى جعلتهم حجّة على من بعدهم؟ قلنا: لأنه - تعالى - لما جعلهم شهداء على الإنسان فلو اعتبرنا أول الأمة وآخرها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 بمجموعها في كونها حجة على غيرها لزالت الفائدة، إذ لم يبق بعد انقضائها من تكون الأمة حجة عليه. فعلمنا أن المراد به أهل كلّ عصر، ويجوز تسمية أهل العصر الواحد بالأمة، فإن الأمة الجماعة التي تؤمّ جهة واحدة، ولا شك أن أهل كل عصر كذلك، ولأنه - تعالى - قال: «أُمَّةً وَسَطاً» فعبر عنهم بلفظ النكرة، ولا شك أن هذا يتناول أهل كل عصر. [قال النووي - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - في «التهذيب» : الأُمّة تطلق على معانٍ: منها من صدق النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وآمن بما جاءه، واتبعه فيه، وهذا هو الذي جاء مَدْحه في الكتاب والسُّنة كقوله تعالى: {كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} و {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] . وقوله صلوات الله وسلام عليه: «شَفَاعَتِي لأُمَّتِي» و «تَأْتِي أُمَّتِي يَوْمَ القِيَامَةِ غُرّاً مُحَجَّلِينَ» وغير ذلك. ومنها من بعث إليهم النبي - صلوات الله وسلامه عليه - من مسلم وكافر. ومنه قوله عليه أفضل الصلاة والسلام: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ لاَ يَسْمَعُ بي مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلاَ نَصْرَانِيٌّ ثم يموت وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلَتُ بِهِ إِلاَّ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ» رواه مسلم. ويأتي باقي الكلام عن الأمة في آخر «النحل» إن شاء الله - تعالى - عند قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] إلى قوله: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] . فصل في الكلام على قوله: لتكونوا قوله تعالى: «لِتَكُونُوا» يجوز في هذه اللام وجهانِ: أحدهما: أن تكون لام «كي» فتفيد العلة. والثاني: أن تكون لام الصيرورة، وعلى كلا التقديرين فهي حرف جر، وبعدها «أن» مضمرة، وهي وما بعدها في محلّ جر، وأتى ب «شهداء» جمع «شهيد» الذي يدلّ على المبالغة دون شاهدين وشهود جميع «شاهد» . وفي «على» قولان: أحدها: أنها على بابها، وهو الظاهر. والثاني: أنها بمعنى «اللام» ، بمعنى: أنكم تنقلون إليهم ما علمتموه من الوحي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 والدين، كما نقله الرسول - عليه السلام - وكذلك القولان في «على» الأخيرة، بمعنى أن الشهادة لمعنى التزكية منه - عليه السلام - لهم. وإنما قدم متعلّق الشهادة آخراً، وقدم أولاً لوجهين: أحدهما: وهو ما ذكره الزمخشري أن الغرض في الأول إثبات شهادتهم على الأمم، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم. والثاني: أن «شهيداً» أشبه بالفَوَاصل والمقاطع من «عليكم» ، فكان قوله «شهيداً» تمام الجملة، ومقطعها دون «عليكم» ، وهذا الوجه قاله الشيخ مختاراً له رادّاً على الزمخشري مذهبه من أن تقديم المعفول يشعر بالاختصاص، وقد تقدم ذلك. فصل في الكلام على الشهادة. اختلفوا في هذه الشهادة هل هي في الدنيا أو في الآخرة؟ فالقائل بأنها في الآخرة وهم الأكثرون لهم وجهان: الأول: أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على أُمَمِهِمْ الذين يكذبونهم. روي أن الأمم يجحدون تبليغ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فيطالب الله - تعالى - الأنبياء بالبّينة على أنهم قد بلّغوا وهو أعلم، فيؤتى بأمة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيشهدون فتقول الأمم: من أين عرفتم فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله تعالى في كتابه النَّاطق على لسان نبيه الصَّادق، فيؤتى بمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فيسأل عن حال أمته، فيزكيهم ويشهد بعدالتهم، وذلك قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] وقد طعن القاضي رَحِمَهُ اللهُ تعالى في هذ الرواية من وجوه: أحدها: أن مَدَار هذه الرواية على أن الأمم يكذبون أنبياءهم، وهذا بناء على أن أهل القيامة يكذبون. وهذا باطل عند القاضي، وسيأتي الكلام على هذه المسألة في سورة «الأنعام» عند قوله تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الأنعام: 23 - 24] . وثانيها: أن شهادة الأمة، وشهادة الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مستندةٌ في الآخرة إلى شهادة الله - تعالى - على صدق الأنبياء، وإذا كان كذلك، فَلِمَ لم يشهد الله - تعالى - لهم بذلك ابتداء؟ والجوا: الحكمة في ذلك تمييز أمة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الفضل عن سائر الأمم بالمبَادرة إلى تصديق الله - تعالى - وتصديق جميع الأنبياء، والإيمان بهم جميعاً، فهم بالنسبة إلى سائر الأمم كالعَدْل بالنسبة إلى الفاسق. وثالثها: أن مثل هذه الأخبار لا تسمّى شهادة، وهذا ضعيف لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 وَالسَّلَام ُ: «إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْس فاشْهَدْ» والشيء الذي أخبر الله تعالى عنه فهو معلوم مثل الشمس، فوجب جواز الشَّهَادة عليه. والثاني: قالوا معنى الآية: لتشهدوا على الناس بأعمالهم التي خالفوا الحقّ فيها، قال ابن زيد رَحِمَهُ اللهُ تعالى: الأشهاد الأربعة: الملائكة الموكلون بإثبات أعمال العباد، قال تعالى: {وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق: 21] . وقال: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] وقال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12] . وثانيها: شهادة الأنبياء، وهو المراد بقوله حاكياً عن عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [المائدة: 117] . وقال تعالى في حق سيدنا محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمته في هذه الآية: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} . وقال في حق - محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] . وثالثها: شهادة أمة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال تعالى: {وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء} [الزمر: 69] . وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد} [غافر: 51] . ورابعها: شهادة الجَوَارح، وهي بمنزلة الإقرار، بل أعجب منه. قال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ} [النور: 24] . الآية، وقال: {اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ} [يس: 65] الآية. القول الثاني: أن أداء هذه الشهادة إنما يكون في الدنيا، وتقديره أن الشهاة والمشاهدة والشهود هو الرؤية يقال: شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته. ولما كان بين الإبصار بالعَيْن وبين المعرفة بالقَلْب مناسبة شديدة، لا جَرَمَ قد تسمى المعرفة التي في القلب: مشاهدة وشهوداً، والعارف بالشيء: شاهداً ومشاهداً، ثم سميت الدلائل على الشيء: شاهداً على الشيء، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً، ولما كان المخبر عن الشيء والمبيّن لحاله جارياً مجرى الدليل على ذلك سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً، ثم اختصّ هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات مخصوصة. إذا ثبت هذا فنقول: إن كلّ من عرف حال شيء وكشف عنه كان شاهداً عليه، والله سحبانه وتعالى وصف هذه الأمة بالشهادة، فهذه الشهادة: إما أن تكون في الآخرة، أو الدنيا، ولا جائز أن تكون في الآخرة؛ لأن الله - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 تعالى - جعلهم عدولاً في الدنيا لأجل أن يكونوا شهداء، وذلك يقتضي أن يكونوا شهداء في الدنيا] . فإن قيل: تحمُّل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا، ومتحمّل الشهادة قد يسمى شاهداً، وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة. وإنما قلنا: إنه - تعالى - جعلهم عدولاً في الدنيا؛ لأنه - تعالى -[قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَةً وَسطاً} وهذا إخبار عن الماضي، فلا أقل من حصوله في الحال، وإنما قلنا: إن ذلك يقتضي صيرورتهم شهوداً في الدنيا؛ لأنه تعالى] قال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} رتب كونهم شهداء على صيرورتهم وسطاً ترتيب الجزاء على الشرط، فإذا حصل وصف كونهم وسطاً في الدنيا [وجب أن يحصل وصف كونهم شهداء في الدنيا] . وفإن قيل: تحمُّل الشهادة لا يحصل إلا في الدنيا، ومتحمّل الشهادة قد يسمى شاهداً، وإن كان الأداء لا يحصل إلا في القيامة. قلنا: الشهادة المعتبرة في الآية لا التحمل، بدليل أنه - تعالى - اعتبر العدالة في هذه الشهادة، والشهادة التي تعتبر فيها العدالة، هي الأداء لا التحمّل، فثبت أن الآية تقتضي كون الأمة مؤدّين للشهادة في الدنيا، وذلك يقتضي أن يكون مجموع الأمة إذا أخبروا عن شيء أن يكون قولهم حجّة، ولا معنى لقولنا: الإجماع حجة إلا هذا، فثبت أن الآية تدلّ على أن الإجماع حجّة [من هذا الوجه أيضاً] . واعلم أن هذا الدليل لا ينافي كونهم شهوداً في القيامة أيضاً على الوجه الذي وردت الأخبار به، ويؤيد ذلك قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} يعني مؤدياً ومبيناً، ثم لا يمتنع أن تحصل مع ذلك لهم الشَّهادة في الآخرة، فيجري الواقع منهم في الدنيا مجرى التحمّل، لأنهم إذا أثبتوا الحقّ عرفوا عنده من [القابل ومن الراد] ، ثم يشهدون بذلك يوم القيامة [على أن الشَّاهد على العقود يعرف الذي تم، والذي لم يتم، ثم يشهدون بذلك عند الحاكم. قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: معنى قوله تعالى: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} أي: بأعمالكم يوم القيامة وقيل: «عليكم» بمعنى لكم أي: يشهد لكم بالإيمان. وقيل: يشهد عليكم بالتبليغ لكم] . وقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ ... } في هذه الآية خمسة أوجه: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 أحدها: أن «القبلة» مفعول أول، و «التي كنت عليها» مفعول ثان، فإن الجعل بمعنى التصيير، وهذا ما جزم به الزّمخشري فإنه قال: {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} ليس بصفة للقبلة، إنما هي ثاني مفعوليْ جعل، يريد: وما جعلنا القِبْلَةَ الجهة التي كنت عليها، وهي الكَعْبَة؛ لأنه صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يصلي ب «مكة» إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى صخرة بيت المقدس، ثم حول إلى الكعبة. الثاني: أن «القِبْلَة» هي المفعول الثاني، وإنما قدم، و «التي كنت عليها» هو الأول، وهذا ما اختاره الشيخ محتجّاً له بأن التصيير هو الانتقال من حَالٍ إلى حَالٍ، فالمتلبس بالحالة الأولى هو المفعول الأول، والمتلبس بالحالة الثانية هو المفعول الثاني، ألا ترى أنك تقول: جعلت الطين خزفاً، وجعلت الجاهل عالماً، والمعنى هنا على هذا التقدير: وما جعلنا القِبْلَة الكعبة التي كانت قبلة لك أولاً، ثم صرفت عنها إلى «بيت المقدس» قبلتك الآن إلا لنعلم. ونسب الزمخشري في جعله «القِبْلَة» مفعولاً أول إلى الوهم. الأصح: أن «القِبْلَة» مفعول أول، و «التي كنت» صفتها، والمفعول الثَّاني محذوف تقديره: وما جعلنا القِبْلة التي كنت عليها منسوخة. ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه قدره: وما جعلنا القبلة التي كنت عليها قبلة، ولا طائل تحته. الرابع: أن «القبلة» مفعول أول، و «إلاَّ لنعلم» هو المفعول الثَّاني، وذلك على حذف مضاف تقديره: وما جعلنا صرف القِبْلَة التي كنت عليها إلا لنعلم، نحو قولك: ضرب زيد للتأديب، أي: كائن، أو ثابت للتأديب. الخامس: أن «القبلة» مفعول أول، والثاني محذوف، و {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} صفة لذلك المحذوف، والتقدير: وما جعلنا القِبْلة القبلة التي، ذكره أبو البقاء، وهو ضعيف. وفي قوله: «كُنْتَ» وجهان: أحدهما: أنها زائدة، ويروى عن ابن عباس أي: أنت عليها، وهذا منه تفسير معنى لا إعراب، وهو كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] والقبلة في الأصل اسم للحالة التي عليها المقابلة نحو: الجِلْسَة، وفي التعاريف صار اسماً للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة. وقال قطرب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: يقولون: ليس له قِبْلَة أي جهة يتوجه إليها. وقال غيره: إذا تقابل رجلان فكلّ واحد قبلة للآخر. فصل في الكلام على الآية. في هذا الكلام وجهان: الأول: أن يكون هذا الكلام بياناً للحكمة في جعل الكعبة قِبْلة، وذلك لأنه - عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يصلّي إلى الكعبة، ثم أمر بالصلاة إلى «بيت المقدس» بعد الهجرة تأليفاً لليهود، ثم حول إلى الكعبة فقال: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة} الجهة {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} أولاً يعني: وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس. الثاني: يجوز أن يكون قوله: {التي كُنتَ عَلَيْهَآ} لساناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة يعني أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، وأن استقبالك «بيت المقدس» كان أمراً عارضاً لغرض، وإنما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها قبل وقتك هذان وهي «بيت المقدس» لنمتحن الناس، وننظر من يتبع الرسول، ومن لا يتبعه وينفر عنه. وذكر أبو مسلم وجهاً ثالثاً فقال: لولا الروايات لم تدلّ على قبلة من قبل الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لأنه قد يقال: كنت بمعنى: صرت، كقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} وقد يقال: كان في معنى لم يزل كقوله تعالى: {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 158] فلا يمتنع أن يراد بقوله: {وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ} أي: التي لم تزل عليها، وهي الكعبة إلاَّ كذا وكذا. قوله: «إلاَّ لِنَعْلَمَ» قد تقدم أنه في أحد الأوجه يكون مفعولاً ثانياً. وأما على غيره فهو استثناء مفرّغ من المفعول العام، أي: ما سبب تحويل القبلة لشيء من الأشياء إلاَّ لكذا. وقوله: «لِنَعْلَمَ» ليس على ظاهره، فإن علمه قديم، ونظره في الإشكال قوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} [محمد: 31] . وقوله: {1649;لآنَ خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} [الأنفال: 66] ، وقوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 42] ، وقوله: {فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ} [العنكبوت: 3] . وقوله: {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة} [سبأ: 21] ، فلا بد من التأويل وهو من أوجه: أحدها: لتمييز التابع من النَّاكص إطلاقاً للسبب، وإرادة للمسبّب. وقيل: على حذف مضاف أي: لنعلم رسولنا فحذف، كما يقول الملك: فتحنا البَلْدة الفلانية بمعنى: فتحها أولياؤنا. ومنه يقال: فتح عمر السّواد. ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فيما يحكيه عن ربه: «اسْتَقْرَضْتُ عَبْدِي فَلَمْ يُقْرِضْنِي، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُمْ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَشْتُمَنِي يقول: وادهراه وأنا الدهر» وفي الحديث: «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيَّا فَقَدْ أَهَانَنِي» وقيل: معناه: إلا لنرى. فصل قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: وهذا قول ابن أبي طالب وقول العرب، تضع العلم مكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 الرؤية، والرؤية مكان العلم، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل} [الفيل: 1] بمعنى ألم تعلم، وعلمت، وشهدت، ورأيت، ألفاظ تتعاقب. وقيل: حدوث العلم في هذه الآية راجع إلى المخاطبين، معناه: لتعلموا. والغرض من هذا الكلام الاستمالة والرفق في الخطاب كقوله: {وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى} [سبأ: 24] فأضاف الكلام الموهم للشك إلى نفسه ترقيقاً للخطاب، ورفقاً بالمخاطب. وقيل: يعاملكم معاملة المختبر الذي كأنه لا يعلم. وقيل: العلم صلة زائدة معناه إلاَّ ليحصل اتباع المتبعين، وانقلاب المنقلبين. ونظيره قولك في الشيء الذي تنفيه عن نفسك: ما علم الله هذا مني أي ما كان هذا مني، والمعنى: أنه لو كان لعلمه الله. قوله: {مَنْ يَتَّبع} في «من» وجهان: أحدهما: أنها موصولة، و «يتبع» صلتها، والموصول في محلّ المفعول ل «نعلم» ؛ لأنه يتعدّى إلى واحد. والثاني: أنها استفهامية في محلّ رفع بالابتداء، و «يتبع» خبره، والجملة في محلّ نصب؛ لأنها معلقة للعلم، والعلم على بابه، وإليه نحا الزَّمخشري في أحد قوليه. وقد رد أبو البقاء هذا الوجه، فقال: لأن ذلك يوجب تعلّق «نعلم» عن العمل، وإذا علقت عنه لم يبق ل «من» ما تتعلّق به، لأن ما بعد الاستفهام لا يتعلّق بما قبله، ولا يصحّ تعلها ب «يتبع» ؛ لأنها في المعنى متعلّقة بلا علامة، وليس المعنى: أي فريق يتبع ممن ينقلب انتهى. وهو رد واضح إذ ليس المعنى على ذلك، إنما المعنى على أن يتعلق «مِمَّنْ يَنْقَلِبُ» ب «نعلم» نحو: علمت من أحسن إليك مِمّن أساء، وهذا يقوي التجوز بالعلم عن التمييز، فإن العلم لا يتعدى ب «من» إلا إذا أريد به التمييز. ورأ الزهري: «إلاَّ لِيُعْلم» على البناء للمفعول، وهي قراءة واضحة لا تحتاج إلى تأويل، لأنا لا نقدر ذلك الفاعل غير الله تعالى. قوله: «عَلَى عَقِبَيْهِ» في محلّ نصب على الحال، أي ينقلب مرتدّاً راجعاً على عقبيه، وهذا مجاز، [ووجه الاستعارة أن: المنقلب على عقبيه قد ترك ما بين يديه وأدبر عنه، فلما تركوا الإيمان والدلائل بمنزلة المدبر عما بين يديه، فوصفوا بذلك لما قال تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر} [المدثر: 23] وقوله تعالى: {كَذَّبَ وتولى} [طه: 48] . وقرئ «عَلَى عَقْبَيْهِ» بسكون القاف، وهي لغة «تميم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 فصل اختلفوا في هذه المحنة، هل حصلت بسبب تعيين القبلة، أو بسبب تحويلها؟ فقال بعضهم: إنما حصلت بسبب تعيين القبلة؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يصلّي غلى الكعبة، فلما جاء «المدينة» صلى إلى «بيت المقدس» ، فشق ذلك على العرب لترك قبلتهم. قال القرطبي رَحِمَهُ اللهُ: والآية جوا لقريش في قولهم: {مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] وكانت قريش تألف الكعبة، فأراد الله - عَزَّ وَجَلَّ - أن يمتحنهم بغير ما ألفوه. وقال الأكثرون: حصلت بسبب التحويل قالوا: إن محمداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو كان على يقين من أمره لما تغير رأيه. روى القَفَّال عن ابن جريج أنه قال: بلغني أنه رجع ناس ممن أسلموا، فقالوا: مرة ههنا ومرة ههنا. وقال السدي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: لما توجه النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - نحو المسجد الحرام واختلف الناس، فقال المنافقون: ما بالهم كانوا على قبلة ثم تركوها؟ وقال المسلمون: ليتنا نعلم حال إخواننا الذين ماتوا وهم يصلون نحو بيت المقدس. وقال آخرون: اشتاق إلى بلد أبيه ومولده. وقال المشركون: تحيّر في دينه. قال ابن الخطيب: وهذا القول أولى؛ لأن الشبهة في أمر النَّسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بسبب تعيين القبلة [وقد وصفها الله - تعالى - بالكبر فقال عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} فكان حمله عليه أولى] . قوله: «وإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً» «إنْ» هي المخففة من الثقيلة دخلت على ناسخ المبتدأ والخبر، وهو أغلب أحوالها، و «اللام» للفرق بينها وبين «إن» النافية، وهل هي لام الابتداء، أو لام أخرى أتى بها للفرق؟ خلاف مشهور. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 وزعم الكوفيون أنها بمعنى «ما» النافية، وأن «اللام» بمعنى «إلا» ، والمعنى: ما كانت إلا كبيرة، نقل ذلك عنهم أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ [وفيه نظر. واعلم أن «إن» المكسورة الخفيفة تكون على أربعة أوجه: جزاء، وهي تفيد ربط إحدى الجملتين بالأخرى، فالمستلزم هو الشرط، واللازم هو الجزاء، كقولك: إن جئتني أكرمتك. ومخففة من الثقيلة، وهي تفيد توكيد المعنى في الجملة بمنزلة المشددة، كقولك: إن زيداً لقائم، قال تعالى: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] ، {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} [الإسراء: 108] . وللجحد، لقوله تعالى: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} [الأنعام: 57] {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} [الأنعام: 148] {وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا} [فاطر: 41] . أي: ما يمسكهما. وزائدة كقوله: ما إن رأيت زيداً] ، والقراءة المشهورة نصب «كبيرة» على خبر «كان» ، واسم كان مضمر فيها يعود على التولية، أو الصلاة، أو القبلة المدلول عليها بسياق الكلام. وقرأ اليزيدي عن أبي عمرو: برفعها. وفيه تأويلان: أحدهما - وذكره الزمخشري -: أن «كان» زائدة، وفي زيادتها عاملةً نظر لا يخفى؛ وقد استدلّ الزمخشري على ذلك بقوله: [الوافر] . 825 - فَكَيْفَ إذَا مَرَرْتَ بِدَارِ قَوْمٍ ... وَجِيرَانٍ لَنَا كَانُوا كِرَامِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 فإن قوله: «كرام» صفة ل «جيران» ، وزاد بينهما «كانوا» ، وهي رافعة للضمير، ومن منع ذلك تأول «لنا» خبراً مقدماً، وجملة الكون صفة ل «جيران» . والثاني: أن «كان» غير زائدة، بل يكون «كبيرة» خبراً لمبتدأ محذوف، والتقدير: وإن كانت لهي كبيرة، وتكون هذه الجملة في محلّ نصب خبراً لكانت، ودخلت لام الفرق على الجملة الواقعة خبراً، وهو توجيه ضعيفٌ، ولكن لا توجه هذه القراءة الشَّاذة بأكثر من ذلك. [والضمير في «كانت» فيه وجهان: الأول: أنه يعود على القبلة؛ لأن المذكور السابق هو القبلة. والثاني: يعود إلى ما دلّ عليه الكلام السّابق، وهو مفارقة القبلة، والتأنيث للتولية أي: وإن كانت التولية؛ لأن قوله تعالى: «ما ولاهم» يدل على القولية، ويحتمل أن يكون المعنى: وإن كانت هذه الفعلة نظيره «فبها ونعمت» . ومعنى «كبيرة» ثقيلة شاقّة مُسْتنكرة. وقوله تعال: {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} [الكهف: 5]] . قوله: «إلاَّ عَلَى الَّذِينَ» متعلق ب «كبيرة» ، وهو استثناء مفرغ. فإن قيل: لم يتقدم هنا نفي ولا شبهة، وشرط الاستثناء المفرغ تقدم شيء من ذلك. فالجواب: أن الكلام وإن كان موجباً لفظاً فغنه في معنى النفي؛ إذ المعنى أنها لا تخف ولا تسهل إلا على الذين، وهذا التأويل بعينه قد ذكروه في قوله: {وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] . وقال أبو حيان: [هو استثناء من مستثنى محذوف تقديره: وإن كانت لكبيرة على النّاس إلا على الذين] وليس استثناء مفرغاً؛ لأنه لم يتقدمه نفي ولا شبهة، وقد تقدم جواب ذلك [واستدل الأصحاب رحمهم الله - تعالى - بهذه الآية على خلق العمال] . قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ} في هذا التركيب وما أشبهه [مما ورد في القرآن وغيره] نحو: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} [آل عمران: 179] ، {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ} [آل عمران: 179] قولان: أحدهما: قول البصريين؛ وهو أن خبر «كان» محذوف، وهذه اللام تسمى لام الجُحود ينتصب الفعل بعدها بإضمار «أن» وجوباً، فينسبك منها ومن الفعل مصدر منجرّ بهذه «اللام» ، وتتعلق هذه اللام بذلك الخبر المحذوف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 والتقدير: وما كان الله مريداً لإضاعة أعمالكم، وشرط لام الجحود عندهم أن يتقدمها كون منفي. [واشترط بعضهم مع ذلك أن يكون كوناً ماضياً، ويفرق بينها وبين «لام» ما ذكرنا من اشتراط تقدم كون مَنْفي] ، ويدلّ على مذهب البصريين التصريح بالخبر المحذوف في قوله: [الوافر] . 826 - سَمَوْتَ وَلَمْ تَكْنْ أَهْلاً لِتَسْمُو ... والقول الثاني للكوفيين: وهو أن «اللام» وما بعدها في محلّ الجر، ولا يقدرون شيئاً محذوفاً، ويزعمون أن النصب في الفعل بعدها بنفسها لا بإضمار «أن» ، وأن «اللام» للتأكيد، وقد رد عليهم أبو البقاء فقال: وهو بعيد، لأن «اللام» لام الجر، و «أن» بعدها مرادة، فيصير التقدير على قولهم: وما كان لله إضاعة إيمانكم، وهذا الرد غير لازم لهم، فإنهم لم يقولوا بإضمار «أن» بعد اللام كما قدمت نقله عنهم، بل يزعمون النصب بها، وأنها زائدة للتأكيد ولكن للرد عليهم موضع غير هذا. واعلم أن قولك: «ما كان زيد ليقوم» ب «لام» الجحود أبلغ من: «ما كان زيد يقوم» . أما على مذهب البصريين فواضح، وذلك أن مع «لام» الجحود نفي الإرادة للقيام والتَّهيئة، ودونها نفي للقيام فقط، ونفي التَّهيئة والإرادة للفعل أبلغ من نفي الفعل؛ إذ لا يلزم من نفي الفِعْلِ نفي إرادته. وأما على مذهب الكوفيين فلأن «اللام» عندهم للتوكيد، والكلام مع التوكيد أبلغ منه بلا توكيد. وقرأ الضحاك: «لِيُضَيِّعَ» بالتشديد، وذلك أن: أَضَاعَ وَضيَّعَ بالهمزة، والتضعيف للنقل من «ضاع» القاصر، يقال: ضَاعَ الشيء يَضيعُ، وأَضَعْتُه أي: أهملته، فلم أحفظه. وأما ضَاعَ المِسْكُ يَضُوعُ أي: فاح، فمادة أخرى. فصل في مناسبة اتّصال هذه الآية بما قبلها وجه اتصال هذه الآية الكريمة بما قبلها أن رجلاً من المسلمين كأبي أمامة، وسعد ابن زُرَارة، والبراء بن عازب، والبراء بن مَعْرُور، وغيرهم ماتوا على القبلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 قال عشائرهم: يا رسول الله توفي إخواننا على القبلة الأولى، فكيف حالهم؟ فأنزل الله - تعالى هذه الآية. [واعلم أنه لا بد من هذا السبب، وإلا لم يتّصل بعض الكلام ببعض، ووجه تقرير الإشكال أن الذين لم يجوّوزوا النسخ إلا مع البَدَاء يقولون: إنه لمّا تغير الحكم وجب أن يكون الحكم مفسدة] فبين أن النسخ نقل من مَصْلحة إلى مصلحة، ومن تكليف إلى تكليف، والأول كالثاني في أن القائم به متمسّك بالدين، وأن من هذا احاله، فإنه لا يضيع أجره. ونظيره: ما سألوا بعد تحريم الخَمْر عمن مات، وكان يشربها، فأنزل الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ} [المائدة: 93] فعرفهم الله - تعالى - أنه لا جُنَاحَ عليهم فيما مضى لما كان ذلك بإباحة الله تعالى فإن قيل: إذا كان الشك إنما تولّد من تجويز البَدَاء على الله - تعالى - فكيف يليق ذلك بالصحابة؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أن ذلك الشّك وقع لمنافق، فذكر الله - تعالى - ذلك ليذكره المسلمون جواباً لسؤال ذلك المنافق. وثانيها: لعلهم اعتقدوا أن الصَّلاة إلى الكعبة أفضل فقالوا: ليت إخواننا ممن مات أدرك، فذكر الله - تعالى - هذا الكلام جواباً عن ذلك. وثالثها: لعله - تعالى - ذكر هذا الكلام ليكون دفعاً لذلك اسؤال لو خَطَر ببالهم. ورابعها: لعلهم توهموا أن ذلك لما نُسِخَ وبطل، وكان ما يؤتى به بعد النسخ من الصلاة إلى الكعبة كَفّارة لما سلف، واستغنوا عن السؤال عن أمر أنفسهم لهذا الضرب من التأويل، فسألوا عن إخوانهم الذين ماتوا، ولم يأتاو بما يكفر ما سلف؛ قال: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} ، والمراد: أهل ملّتكم، كقوله لليهود الحاضرين في زمان محمد صلى الله عيله وسلم: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} [البقرة: 72] ، {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [البقرة: 50] ، ويجوز أن يكون السؤال واقعاً عن الأحياء والأموات معاً، فإنهم أشفقوا على ما كان من صلاتهم أن يبطل ثوابهم، وكان الإشفاق واقعاً في الفريقين، فقيل: إيمانكم للأحياء والأموات، إذ من شأن العرب إذا أخبروا عن حاضر وغائب أن يغلبوا الخطاب، فيقولوا: كنت أنت وفلان الغائب فعلتما والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 وقال أبو مسلم: يحتمل أن يكون ذلك خطاباً لأهل الكتاب، والمراد بالإيمان صلاتهم، وطاعتهم قبل البعثة ثم نسخ. وإنما اختار ابو مسلم هذا القول، لئلا يلزمه وقوع النسخ في شرعنا. قال القرطبي: «وسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نيّة وقول وعمل» . استدلت المعتزلة بقوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} على أن الإيمان اسم لفعل الطاعات، فإنه - تعالى - أراد بالإيمان ها هنا الصلاة. والجواب: لا نسلم أن المراد من الإيمان هنا الصلاةن بل المراد منه التَّصديق، والإقرار، فكأنه - تعالى - قال: إنه لا يضيع تصديقكم بوجوب تلك الصلاة. سلمنا أن المراد من الإيمان هاهنا الصلاة، ولكن الصلاة أعظم الإيمان، وأشرف نتائجه وفوائده، فجاز إطلاق اسم الإيمان على الصلاة على سبيل الاسْتِعَارة من هذه الجهة. فصل في الكلام على الآية. قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي: لا يضيع ثواب إيمانكم؛ لأن الإيمان قد انقضى وفني، وما كان كذلك استحال حفظه وإضاعته، إلاّ أنَّ استحقاق الثواب قائم بعد انقضائه، فصح حفظه وإضاعته، وهو كقوله تعالى: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ} [آل عمران: 195] . قوله: {لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ} . قرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وأبو بكر: «لَرَؤُفٌ» على وزن: «نَدُس» و «رَعُف» مهموزاً غير مُشْبَع، وهي لغة فاشيةٌ، كقول: [الوافر] . 728 - وَشَرُّ الظَّالِمين فَلا َتَكُنْهُ ... يُقَاتِلُ عَمَّهُ الرَّؤُفَ الرَّحِيمَا وقال آخر: [الوافر] . 828 - يَرَى لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ حَقّاً ... كَحَقِّ الوَلِدِ الرِّؤُفِ الرَّحِيمِ وقرأ الباقون: «لرؤوفٌ» مثقلاً مهموزاً مشبعاً على زنة «شكور» . وقرأ أبو جعفر «لروف» من غير هَمْزٍ، وهذا دأبه في كل همزة ساكنة أو متحركة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 و «الرأفة» : أشد الرحمة، فهي أخص منها، [وقيل بينهما عموم وخصوص، فلا ترى فيه اكمل من الرحمة بالكيفية، والرحمة اتصال النعمة برقة يكون معها إيلام كقطع العضو المتآكل وشرب الدواء] . وفي «رءوف» لغتان أخريان لم تصل إلينا بهما قراءة وهما: «رئِف» على وزن «فَخِذ» ، و «رأف» على وزن «ضَعْف» . وإنم قدم على «رحيم» لأجل الفواصل، والله أعلم. فصل فيمن استدل بالآية على أن الله تعالى لا يخلق الكفر استدلت المعتزلة بهذه الآية على أنه تعالى لا يخلق الكفر ولا الفساد قالوا: لأنه - تعالى - بين أنه بالنَّاس لرءوف رحيم، فوجب أن يكون رءوفاً رحيماً بهم، وإنما يكون كذلك لو لم يخلق فيهم الكُفْر الذي يجرّهم إلى العقاب الدائم، والعذاب السَّرمَدِي، ولو لم يُكَلّفهم ما لا يُطِيقون، فإنه - تعالى - لَوْ كان مع مثل هذا الإضرار رءوفاً رحيماً، فعلى أيّ طريقٍ يتصور ألاَّ يكون رَءُوفاً رَحيماً. واعلم أنَّ الكلامَ عليه قد تَقَدَّم مِرَاراً، والله أعلمُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 قال العلماء: هذه الآيةُ متقدِّمةٌ في النزول على قَوْلِهِ تَعَالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس} [البقرة: 143] . ومَعْنَى «» : تحرُك وَجْهِكَ إلى السَّمَاءِ. اعلم أنَّ «قَدْ» هذه قال فيها بعضُهم: إنها تَصْرفُ المضارعَ إلى مَعْنى المُضِيّ، وجَعَلَ مِنْ ذلك هذه الآيةَ وأمثالَها، وقوْلَ الشاعِرِ: [الطويل] 829 - لِقَوْمٍ لَعَمْرِي قَدْ نَرَى أَمْسِ فِيهُمُ ... مَرَابِطَ للأَمْهَارِ وَالعَكَرِ الدَّثِرْ وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: «قَدْ نَرَى» : رُبَّما نَرَى، ومعناه كثرةُ الرؤية؛ كقوله: [البسيط] 830 - قَدْ أَتْرُكُ الْقِرْنَ مُضفَرّاً أَنَامِلُهُ ... كَأَنَّ أَثْوَابَهُ مُجَّتْ بِفُرْصَادِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 قال أَبُو حَيَّان: وشرحه هذا على التحقيق مُتَضَادّ؛ لأنه شرح «قَدْ نَرَى» ب «رُبَّمَا نَرَى» ، و «ربّ» على مَذْهب المحققين إنما تكون لِتَقْلِيل الشَّيْءِ في نَفْسِه، أو لتقليل نَظِيره. ثُمَّ قال: «ومعناه كثرةُ الرُّؤْيةِ» فهو مضادٌّ لمدلولِ «رُبّ» على مذهب الجمهور. ثم هذا الذي ادَّعاه من كثرة الرؤية لا يدل عليه اللفظ، لأنه لم توضع للكثرة «قد» مع المضارع، سواء أريد به المضي أم لا، وإنَّما فُهِمَتِ الكَثْرة من متعلّق الرؤية، وهو التقلب. قوله: «في السَّمَاءِ» في متعلّق الجار ثلاثةُ أَقْوالٍ: أحدهما: أنه المصدرُ، وهو «تَقَلُّب» ، وفي «في» حينئذٍ وَجْهَان: أحدهما: أنها على بَابِهَا من الظرفية، وهو الواضِحُ. والثَّاني: أنها بمعنى «إلَى» أي: إلى السَّمَاءِ ولا حاجةَ لذلك، فإنَّ هذا المصْدَرَ قد ثَبَت تعديه ب «في» ، قال تعالى: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد} [آل عمران: 196] . والثاني من الأقوال: أنه «نَرَى» ، وحينئذٍ تَكُون «فِي» بمعنى «مِنْ» أي: قد نرى من السَّماءِ، وذِكْرُ السماءِ وإن كان تَعَالى لا يتحيّز في جِهَةٍ على سَبيل التشريفِ. والثالث: أنه محل نَصْب على الحَال من «وَجْهِكَ» ذكره أَبُوا البَقَاءِ، فيتعلّق حينئذ بمحذُوفٍ، والمصدرُ هنا مضافٌ على فَاعِله، ولا يجوزُ أنْ يكُونَ مُضَافاً إلى مَنْصُوبه؛ لأنه مصدرُ ذلك التقلِيبِ، ولا حَاجَةَ إلى حَذْفٍ، ومِنْ قَوْلِه: «وَجْهَكَ» وهو بَصَر وَجْهِك، لأن ذلك لا يكاد يستعمل، بل ذكر الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء، وهو الذي يقبله السَّائل في حاجته، وقيل: كنى بالوجه عن البصر؛ لأنه محلّه. قوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً} «الفَاء» هنا للِتَّسَبُّب وهو وَاضِحٌ، وهذا جوابُ قَسَم مَحْذُوفٍ، أيْ: فواله لنولّينَّكَ، و «نُولِّي» يتعدّى لاثْنين: الأولُ الكَافُ، والثَّانِي «قِبْلَةُ» و «تَرْضَاهَا» الجملة في محلّ نَصْبٍ صفةً ل «قبلة» . قال أَبُو حَيَّان: وهذا؛ يعني: «فَلَنولّينك» يدلّ على أن الجملةَ السابقةَ محذوفة تقديرهُ: قَدْ نَرَى تقلّ وَجْهِكَ في السَّماء طَالِباً قبلة غير التي أَنْت مُسْتقبلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 فصل في الكلام على الآية في الآية قَوْلاَنِ: القولُ الأولُ: وهو المشهورُ الذي عليه أَكْثر المُفَسِّرين أن ذلك كان لانتظارِ تَحْوِيله من «بيتِ المقْدِس» إلى الكَعْبة، وذكروا في ذلك وجوهاً: أحدها: أنه كان يكره التوجّه إلى بيت المقْدِس، ويحبّ التوجّه إلى الكَعْبة، إلاّ أنه ما كان يتلكَّم بذلك، فكان يقلّب وجْهَهُ في السَّماء لهذا المعنى. رُوي عن عباس أنه [صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] قال: «يَا جِبريلُ وَدِدْتُ أنَّ اللهَ - تَعَالى - صَرَفَنِي عَنْ قِبْلَةِ اليَهُود، إلَى عَيْنِهَا فَقَدْ كَرِهْتُهَا» فقال جبريلُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «أنَا عَبْدٌ مِثْلُكَ فَاسْأَلْ ربَّكَ ذَلِكَ» . فجَعَلَ رسولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُدِيمُ النَّظرَ إلى السماء؛ رجاء مجيء جِبْرِيلَ بما سأَلَ، فأَنْزل الله تعالى هذه الآية، وهؤلاءِ ذكروا في سببِ هذه المِحْنة أموراً: الأولُ: أنَّ اليَهُودَ كانوا يَقُولُونَ: إنه يُخَالِفُنَا، ثم إنه يتبع قِبْلَتَنَا، ولولا نحْنُ لم يدر أَيْن يستقبل. فعند ذلك كَرِهَ أن يتوجّه إلى قِبْلتهم. الثَّاني: أنَّ الكَعْبة كانتِ قِبْلة إبْراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. [الثَّالث: أنه - صلوات الله وسلامه عليه - كان يقدِّرُ أن يَصِير ذلك سبباً لاسْتمالة العرب، ولدخولهم في الإسلامِ. الرَّابع: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أَحَبَّ] أن يحصل هذا الشرفُ للمسجدِ الذي في بلْدَتِهِ ومَنْشَئه لا في مسجدٍ آخر. واعترض القَاضِي على هذا الوجْهِ، وقال: إنه لا يَلِيقُ به - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يكره قِبْلَةً أُمِرَ أَنْ يُصَلِّي إليها، ويحبّ أن يحوله ربُّه عنها إلى قِبْلَةٍ يَهْوَاها بطبْعِه، ويميلُ إِلَيْها بحسب شَهْوتِه؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - علم أنَّ الصَّلاحَ في خلاف الطَّبْعِ والمَيْلِ. قال ابنُ الخَطِيب: وهذا قليلُ التحْصِيل؛ لأنَّ المُسْتنكَرَ من الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يعرض عما أمره الله - تعالى - به، ويشتغل بما يدعوه طبعه إليه. فأما أن يميل قلبه إلى شيء، فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه، فذلك مما لا إنكار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 عليه، لا سيما إذا لم ينطق به، [أي بعد في أن يميل طبع الرسول إلى شيء، فيتمنى في قلبه أن يأذن الله له فيه، وهذا مما لا استبعاد فيه بوجه من الوجوه] . الوجهُ الثاني: أنه - عليه الصلاةُ والسلامُ - قد استأذَنَ جبريل - عليه السلام - في أن يدعو الله - تعالى - بذلك، فأخبره جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بأن الله قد أذن له في هذا الدعاء، وذلك لأن الأنبياء لا يسألون الله تعالى شيئاً إلا بإذن منه، لئلا يسألون ما لا صَلاَحَ فيهن فلا يجابوا إليه، فيفضي ذلك إلى تحقير شأنهم، فلما أذن الله - تعالى - له في الإجابة، علم أنه يستجاب إليه، فكان يقلّب وجهه في السَّماء ينتظر مجيء جبريل - عليه السلام - بالوَحْيِ في الإجابة. الوجه الثالث: قال الحسن: إن جبريل - عليه السلام - أتى رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يخبره أن الله - تعالى سيحوّل القبلة عن بيت المقدس إلى قبلة أخرى، ولم يبين له إلى أي موضع يحوّلها، ولم تكن قبلة أحبّ إلى الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من الكَعْبة، فكان رسول الله يقلّب وجهه في السّماء ينتظر الوحي؛ لأنه - عليه السلام - على أنّ الله تعالى لا يتركه بغير صلاة، فأتاه جبريل عليه السلام، فأمره أن يصلّي نحو الكعبة. والقائلون بهذا الوجه اختلفوا، فمنهم نم قال: إنه - عليه السلام - منع من استقبال «بيت المقدس» ولم يعين له القِبْلة، فكان يخاف أن يرد وق الصلاة، ولم تظهر القبلة، فتتأخر صلاته، فلذلك كان يقلّب وجهه. عن الأصم. وقال آخرون: بل وعد بذلك، وقِبْلة بيت المقدس باقية، بحيث تجوز الصلاة إليها، لكن لأجل الوعد كان يتوقع ذلك، ولأنه كان يرجو عند التحويل عن «بيت المقدس» إلى «الكعبة» وجوهاً كثيرة من المصالح الدينية: نحو: رغبة العرب في الإسلام، والمُبَاينة عن اليهود، وتَمْيِيز المُوافق من المُنَافِق، لهذا كان يقلّب وجهه، وهذا الوجه أولى، وإلاّ لما كانت القِبْلَة الثانية ناسخة للأُولى، [بل كانت مبتدأه. والمفسرون أجمعوا على أنها ناسخة للأولى] ، ولأنه لا يجوز أن يؤمر بالصلاة إلاَّ مع بيان موضع التوجّه. الرابع: أن تقلب وجهه في السَّماء هو الدعاء. القول الثاني: وهو قول أبي مسلم الأَصْفَهَاني، قال: لولا الأخبار التي دلّت على هذا القول، وإلا فلفظ الآية يحتمل وجهاً آخر، وهو أنه يحتمل أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنما كان يقلّب وجهه في أول مقدمة «المدينة» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 فقد روي أنه - عليه السلام - كان إذا صلّى ب «مكة» جعل الكعبة بينه وبين «بيت المقدس» ، وهذه صلاة إلى الكعبة، فلما هاجر لم يعلم أين يتوجه، فانتظر أمر الله - تعالى - حتى نزل قوله: {} . فصل اختلفوا في صلاته إلى بيت المقدسن فقال قوم: كان ب «مكة» يصلي إلى الكعبة فلما صار إلى المدينة أمر بالتوجه [إلى بيت المقدس سبعة عشر شهراً. وقال قوم: بل كان ب «مكة» يصلي إلى بيت المقدس، إلا أنه يجعل الكعبة بينه وبينها. وقال قوم: بل كان يصلي إلى بيت المقدس فقط وب «المدينة» أولاً سبعة عشر شهراً، ثم أمره الله تعالى بالتوجه إلى الكعبة لما فيه من الصلاح. واختلفوا في توجه النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] إلى بيت المقدس هل كان فرضاً لا يجوز غيره، أو كان مخيراً في التوجه إليه وإلى غيره، فقال الربيع بن أنس: قد كان مخيراً في ذلك. وقال ابن عباس: كان التوجه إليه فرضاً. وعلى كلا الوجهين صار منسوخاً، واحتج الأولون بالقرآن والخبر. أما القرآن فقوله تعالى: {وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] . وذلك يقتضي كونه مخيراً في التوجه إلى أي جهة شاء. وأما الخبر فما روى أبو بكر الرّازي في كتاب «أحكام القرآن» : أن نَفَراً قصدوا الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من «المدينة» إلى «مكة» للبيعة قبل الهِجْرَةِ، وكان فيها البراء بن معرور، فتوجّه بصلاته إلى الكعبة في طريقه، وأبى الآخرو، وقالوا: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يتوجّه إلى بيت المقدس، فلما قدموا «مكة» سألوا النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال له: قد كنت على قبلة يعني بيت المقدس لو ثَبَتَّ عليها أجزأك، ولم يأمره باستئناف الصلاة، فدلّ على أنهم قد كانوا مخيرين. واحتجّ الذاهبون إلى القول الثَّاني بأنه - تعالى - قال: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} فدلّ على أنه - عليه السلام - ما كان يرتضي القبلة الأولى، فلو كان مخيراً بينها وبين الكعبة ما كان يتوجّه إليها، فحيث توجّه إليها مع أنه كان ما يرتضيها علمنا أنه ما كان مخيراً بينها وبين الكَعْبة. فصل في نسخ التوجه إلى بيت المقدس المشهور أن التوجّه إلى «بيت المقدس» إنما صار منسوخاً [بالأمر بالتوجّه إلى الكعبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 ومن الناس من قال: التوجّه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله تعالى: {وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] ثم إن ذلك صار منسوخاً بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} . واحتجوا عليه بالقرآن والأثر. أما القرآن فهو أنه تعالى ذكر أولاً قوله: {وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} ] ثم ذكر بعده: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] ثم ذكر بعده: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} . وهذا الترتيب يقتضي صحّة المذهب الذي قلناه بأن التوجذه إلى بيت المقدس صار منسوخاً بقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} . فلزم أن يكون قوله تعالى: {سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس} [متأخراً في النزول والدرجة عن قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} فحينئذ يكون تقديمه عليه في الترتيب على خلاف الأصل، فثبت ما قلناه. وأما الأثر فما] روي عن ابن عباس أن أمر القبلة أول ما نسخ من القُرْآن، والأمر بالتوجه إلى بيت المقدس غير مذكور في القرآن، إنما المذكور في القرآن {وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} فوجب أن يكون قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} ناسخاً لذلك، لا للأمر بالتوجذه إلى «بيت المقدس» . قوله: «فَلَنُوَلِّيَنَكَ» : فلنعطينّك ولنمكننّك من استقبالها من قولك: ولّيته كذا، إذ جعلته والياً له، أو فلنجعلنّك تَلِي سَمْتها دون سَمْت بيت المقدس. قوله: «تَرْضَاهَا» فيه وجوه: أحدها: ترضاها: تحبّها وتميل إليها؛ لأن الكعبة كانت أحبّ غليه من غيرها بحسب ميل الطبع، وتقدم كلام القاضي عليه وجوابه. وثانيها: «قِبْلَةً تَرْضَاهَا» أي: تحبها بسبب اشتمالها على المَصَالح الدينة. وثالثها: قال الأصم: أي: كل جهة وجّهك الله إليهان فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط كما فعل من انقلب على عقبيه من العرب الذين كانوا قد أسلموا، فلما تحولت القبلة ارتدوا. ورابعها: «تَرْضَاهَا» أي: ترضى عاقبتها؛ لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام، مما يتبعك لغير ذلك من دنيا يصيبها، أو مال يكتسبه. قوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} «ولّى» يتعدى لاثنين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 أحدهما: «وجهك» . والثاني: «شطر» . ويجوز أن ينتصب «شَطْرَ» على الظرف المكاني، فيتعدى الفعل لواحد، وهو قول النحاس، ولم يذكر الزمخشري غيره. والأول: أوضح، وقد يتعدى إلى ثانيهما ب «إلى» . [والمراد من الوجه ها هنا جملة بدن الإنسان؛ لان الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط، والوجه قد يُراد به العضو، وقد يعبر عن كل الذات بالوجه. قال أهل اللغة: «الشطر» اسم مشترك يقع على معنيين. أحدهما: النصف من الشيء والجزء منه، يقال: شطرت الشيء، أي: جعلته نصفين، ويقال في المَثَل: اجلب جلباً لك شطره، أي: نصفه. ومنه الحديث: «الطُّهُورُ شَطْرُ الإِيمَانِ» وتكون من الأضداد. ويقال: شطر إلى كذا إذا أقبل نحوه، وشطر من كذا إذا ابتعد عنه وأعرض، ويكون بمعنى الجهة والنحو، واستشهد الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْه - في كتاب «الرسالة» في هذا لأربعة أبيات] قال: [الوافر] 831 - أَلاَ مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي رَسُولاً ... وَمَا تُغْنِي الرِّسَالَةُ شَطْرَ عَمْرِو وقال: [الوافر] 832 - أَقُولُ لأُمِّ زِنْبَاعِ أَقِيمِي ... صُدُورُ العِيْسِ شَطْرَ بَنِي تَمِيمِ وقال: [البسيط] 833 - وَقَدْ أَظَلَّكُمُ مِنْ شَطْرِ ثَغْرِكُمُ ... هَوْلٌ لَهُ ظُلَمٌ يَغْشَاكُمْ قِطَعَا وقال ابْنُ أَحْمَر: [البسيط] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 834 - تَعْدُو بِنَا شَطْرَ نَجْدٍ وَهْيَ عَاقِدَةٌ ... قَدْ قَارَبَ العَقْدُ مِنْ إيفادِهَا الحُقبَا وقال: [المتقارب] 835 - وَأَظْعَنُ بِالرُّمْحِ شَطْرَ المُلُو ... كِ ... ... ... ... ... ... . . وقال: [البسيط] 836 - إِنَّ العَسِيرَ بِهَا دَاءٌ يُخَامِرُوهَا ... وَشَطْرَهَا نَظَرُ العَيْنَيْنِ مَحْسُورُ كل ذلك بمعنى: «نحو» و «تلقاء» [فعلى هذا المراد الجهة، وهو قول جمهور المفسّرين من الصحابة والتابعين والمتأخرين، واختار الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أن المراد جهة المسجد الحرام وتلقاءه. وقرأ أبي بن كعب تلقاء المسجد الحرام. قال القرطبي: وهو في حرف ابن مسعود: «تِلْقَاء المسجد الحرام» ، وقال الجبائي: المراد من التشطير هاهنا وسط المسجد، ومنتصفه؛ لأن الشطر هو النصف، والكعبة لما كانت واقعة في نصف المسجد حسن أن يقول: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} يعني: النصف من كل جهة، كأنه عبارة عن بُقْعة الكعبة، وهذا اختيار القاضي، ويدل عليه وجهان: الأول: أن المصلي خارج المسجد لو وقف بحيث يكون متوجهاً إلى المسجد ولكن لا يكون متوجهاً إلى منتصف المسجد الذي هو موضع الكعبة لم تنفع صلاته. الثاني: لو فسرنا الشرط بالجانب لم يَبْق لذكر الشطر مزيد فائدة؛ لأنك لو قلت: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} لحصلت الفائدة المطلوبة. وإذا فسرنا الشطر بما ذكرناه كان لذكره فائدة زائدة] . ويقال: شَطر: بعد، ومنه: الشّاطر، وهو الشّاب البعيد من الجيران الغائب عن منزله، ويقال: شَطَر شُطُوراً. والشَّطِيرُ: البعيد، ومنه: منزل شَطِيرٌ، وشطر إليه أي: أقبل. وقال الراغب: وصار يعبر بالشّاطر عن البعيد، وجمعه: شُطُرٌ، والشاطر أيضاً لمن يتباعد من الحق، وجمعه شُطَّارٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 [فصل في الكلام على المسجد الحرام قال الأزرقي: ذرع المسجد الحرام مقصراً مائة ألف وعشرون ألف ذِرَاع، وعدد أساطينه من شقّه الشَّرْقي: مائة وثلاث أُسْطُوَانات. ومن شقّه الغربي: مائة وخمس أُسْطُوانات، ومن شقّه الشّامي: مائة وخمس وثلاثون أسطوانة، ومن شقّه اليمنى: مائة وإحدى وأربعون أسطوانة. وذرع ما بين كل أُسطوانتين ستة أذرع وثلاثة عشر إصبعاً. وللمسجد الحرام ثلاثة وعشرون باباً، وعدد شُرُفاته مائتا شرفه واثنان وسبعون شرفة ونصف شرفة، ويطلب المسجد الحرام، وَيُرَاد به الكعبة. قال تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} . ويطلب ويراد به المسجد معها. وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ لِثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِدِ الحَرَامِ» إلى آخره، ويطلق ويراد به «مَكّة» كلها، وقال سبحانه وتعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام} [الإسراء: 1] قال المفسرون: كان الإسراء من بيت أُمِّ هانئ بنت أبي طالب. ويطلق ويراد به «مكة» كلها، قال سبحانه وتعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} [البقرة: 196] . قال البعض: حاضروا المسجد الحرام من كان منه دون مسافة نفر. وقال تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] ، هل تعتبر هذه المسافة من نفس «مكة» أو من طرف الحرم؟ والأصح أنها من طرف الحرم] . فصل في المراد بالمسجد الحرام اختلفوا في المراد من المسجد الحرام. روي عن ابن عباس، أنه قال: البيت قِبْلة لأهل المسجد، والمسجد قِبْلة لأهل الحرم، والحرم قبلة لأهل المشرق والمغرب، وهذا قول مالك رَضِيَ اللهُ عَنْه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 وقال آخرون: القِبْلة هي الكعبة، والدليل عليه ما أخرج في «الصحيحين» عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس، قال: أخبرني أسامة بن زيد، قال: إنه لمّا دخل النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ البيت دعا في نَوَاحيه كلها، ولم يصلِّ حتى خرج منه، فلما خرج صلى ركعتين في قُبُل الكعبة، وقال: هذه القبلة. قال القفال: وقد وردت الأخبار الكثيرة في صرف القِبْلة إلى الكعبة. وفي خبر البراء بن عازب: ثم صرف إلى الكعبة، وكان يحبّ أن يتوجذه إلى الكعبة. وفي خبر ابن عمر في صلاة أهل قباء: فأتاهم أتٍ فقال: إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حول إلى الكعبة. وفي رواية ثمامة بن عبد الله بن أنس: جاء منادي رسول الله، فنادى أن القبلة حولت إلى الكعبة. هكذا عامة الروايات. وقال آخرون: بل المراد المسجد الحرام الحرمُ كلّه، قالوا: لأن الكلام يجب إجراؤه على ظاهر لفظه، إلاّ إذا منع منه مانع. وقال آخرون: المراد من المسجد الحرام الحرمُ كلّه، والدليل عليه قوله تعالى {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام} [الإسراء: 1] وهو - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنما أسري به خارج المسجد، فدلّ هذا على أن الحرم كله مسمى بالمسجد الحرام. وقوله تعالى: {وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ} هنا وجهان: أظهرهما: أنها شرطية، وشرط كونها كذلك زيادة «ما» بعدها خلافاً للقراء ف «كنتم» في محلّ جزم بها، و «فولُّوا» جوابها، وتكون هي منصوبة على الظرفية ب «كنتم» فتكون هي عاملة فيه الجزم، وهو عامل فيها النصب نحو: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} [الإسراء: 110] . واعلم أن «حَيْثُ» من الأسماء اللازمة للإضافة فالجملة التي بعدها كان القياس يقتضي أن تكون في محلّ خفض بها، ولكن منع من ذلك مانع، وهو كونها صارت من عوامل الأفعال. قال أبو حيان: وحيث هي ظرف مكان مضافة إلى الجملة، فهي مقتضية للخفض بعدها، وما اقتضى الخفض لا يقتضي الجزم؛ لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال والإضافة موضحة لما أضيف، كما أن الصلة موضحة، فينافي اسم الشرط؛ لأن اسم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 الشرط مبهم، فإذا وصلت ب «ما» زال منها معنى الإضافة، وضمنت معنى الشرط وجُوزِيَ بها، وصارت من عوامل الأفعال. والثاني: أنها ظرف غير مضمن معنى الشرط، والناصب له قوله: «فولّوا» قاله أبو البقاء، وليس بشيء، لأنه متى زيدت عليها «ما» وجب تضمّنها معنى الشرط. وأصل «ولّوا» : وليوا، فاستثقلت الضمة على الياء، فحذفت، فالتقى ساكنان فحذف أولهما، وهو الياء وضم ما قبله ليجانس الضمير، فوزنه «فعوا» . وقوله: «شَطْرَهُ» فيه القولان، وهما: إما المفعول به، وإما الظرفية كما تقدم. فصل في الصلاة في المسجد الحرام قال صاحب التهذيب: الجماعة إذا صلوا في المسجد الحرام يتسحب أن يقف الإمام خلف المقام، والقوم يقفون مستدبرين البيت، فإن كان بعضهم أقرب إلى البيت من الإمام جاز، فلو امتدّ الصف في المسجد، فإنه لا تصحّ صلاة من خرج عن مُحاذاة الكعبة. وعند أبي حنيفة تصحّ؛ لأن عنده الجهة كافية. وحجة الشّافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: القرآن والخبر والقياس. أما القرآن فهو ظاهر هذه الآية، وذلك لأنا دللنا على أن المراد من شطر المسجد الحرام جانبه، وجانب الشيء هو الذي يكون محاذياً له، وواقعاً في سَمْته، والدليل عليه أنه لو كان كل واحد منهما إلى جانب المشرق، إلا أنه لا يكون وجه أحدهما محاذياً لوجه الآخرن لا يقال: إنه ولّى وجهه إلى جانب عمرو، فثبت دلالة الآية على أن استقبال عين الكعبة واجب. وأما الخبر فما روينا أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما خرج من الكعبة ركع ركعتين في قِبْلة الكعبة، وقال: «هَذِهِ القِبْلَةُ» وهذه الكلمة تفيد الحصر، فثبت أنه لا قبلة إلا عين الكعبة، وكذلك سائر الأخبار التي رَوَيْنَاها في أن القبلة هي الكعبة. وأما القياس فهو أن مبالغة الرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في تعظيم الكعبة أمر بلغ التواتر، والصلاة من أعظم شعائر الدين، وتوقيف صحتها على استقبال عين الكعبة مما يوجب حصول مزيد شرف الكعبة، فوجب أن يكون مشروعاً، ولأن كون الكعبة قبلة أمر معلوم، وكون غيرها قبلة أمر مَشْكُوك، والأَوْلَى رعاية الاحتياط في الصلاة، فوجب توقيف صحة الصلاة على استقبال الكعبة. واحتج ابو حنيفة بظاهر الآية؛ لأنه - تعالى - أوجب على المكلف أن يولّي وجهه إلى جانبه، فمن ولى وجهه إلى الجانب الذي حصلت الكعبة فيهن فقد أتى بما أمر به. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 سواء كان مستقبلاً الكعبة أم لا، فوجب أن يخرج على العهدة. وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: «مَا بَيْنَ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ قِبْلَةٌ» قال أصحاب الشافعي رَحِمَهُ اللهُ تعالى: ليس المراد من هذا الحديث أن كلّ ما يصدق عليه أنه بين مشرق ومغرب فهو قبلة؛ لأن جانب القُطب الشمالي يصدق عليه ذلك، وهو بالاتفاق ليس بقبلة، بل المراد أن الشيء الذي هو بين مشرق معين، وغرب معين قبلة، ونحن نحمل ذلك على الذي يكون بين المشرق الشتوي، وبين المغرب الصيفي، فإن ذلك قبلة، وذلك لأن المشرق الشتوي جنوبي متباعد عن خط الاستواء بمقدار الميل، والمغرب الصيفي شمالي متباعد عن خطّ الاستواء بمقدار الميل، والذي بينهما هو سَمْت «مكة» . قالوا: فهذا الحديث بان يدلعلى مذهبنا أَوْلى بالدلالة على مذهبكم، أما فعل الضحابة فمن وجهين: الأول: ان أهل مسجد «قبال» كانوا في صلاة الصبح ب «المدينة» مستقبلين لبيت المقدس، مستدبرين للكعبة؛ لأن «المدينة» بينهما. فقيل لهم: ألا إن القبلة قد حوّلت إلى الكعبة، فاستداروا في أثناء الصَّلاة من غير طَلَبِ دلالةلة، ولم ينكر النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليهم، وسمى مسجدهم ب «ذي القبلتين» ومقابلة العين من المدينة إلى «مكة» لا تعرف إلا بأدلّة هندسية يطول النظر فيها، فكيف أدركوها على البديهة في أثناء الصلاة وفي ظلمة الليل؟ الثاني: أن الناس من عهد رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بنوا المساجد في جميع بلاد الإسلام، ولم يحضروا قط مهندساً عند تسوية المحراب، ومقابلة العين لا تدرك إلا بدقيق نظر الهندسة. وأما القياس فمن وجوه: الأول: لو كان استقبال عين الكعبة واجباً، إما علماً أو ظنّاً، وجب ألاّ تصح صلاة أحد قط؛ لأنه إذا كان مُحَاذاة الكعبة مقدار نيف وعشرين ذراعاً، فمن المعلوم أن أهل المشرق والمغرب يستحيل أن يقفوا في مُحَاذات هذا المقدار، بل المعلوم أن الذي يقع منهم في مُحَاذاة هذا القدر القليل قليل بالنسبة إلى كثير. ومعلوم أن العبرة في أحكام الشرع بالغالب، والنادر ملحق به، فوجب ألاَّ تصح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 صلاة أحد منهم لا سيما وذلك الذي وقع في مُحَاذاة الكعبة لا يمكنه أن يعرف أنه وقع في مُحَاذاتها، وحيث اجتمعت الأمة على صحة صلاة الكل علمنا أن المحاذاة معتبرة. فإن قيل: الدائرة وإن كانت عظيمة إلا أن جميع النقط المفروضة عليها تكون محاذية لمركز الدائرة، فالصفوف الواقعة في العالم بأسرها كأنها دائرة بالكعبة، والكعبة كأنها نقطة لتلك الدائئرة إلا أن الدائرة إذا صَغُرت صغر التَّقَوُّس والانحناء في جميعها، وإن اتسعت وعظمت لم يظهر التقوس والانحناء في كل واحد من قسمها، بل نلى كل قطعة منها شبيهاً بالخطّ المستقيم، فلا جرم صحت الجماعة بصفّ طويل في المشرق والمغرب يزيد طولاه على أضعاف البيت، والكلّ يسمون متوجهين إلى عين الكعبة. قلنا: هَبْ أن الأمر على ما ذكرتموه، ولكن القطعة من الدائرة العظيمة، وإن كانت شبيهة بالخط المستقيم في احس، إلا أنها لا بد وأن تكون منحنيةً في نفسها؛ لأنها لو كانت في نفسها مستقيمة، وكذا القول في جميع قطع تلك الدائرة، فحينئذ تكون الدَّائرة مركبة من خطوط مستقيمة يتّصف بعضها ببعض، فيلزم أن تكون الدائرة إما مضلعة أو خطّاً مستقيماً، فالصفوف المتصلة في أطراف العالم إنما يكون كل واحد منها مستقبلاً لعين الكعبة لو لم تكن تلك الصفوف واقعة على خط مستقيم، بل إذ حصل فيها ذلك الانحناء القليل إلاَّ أن ذلك الانحناء القليل الذي لا يفي بإدراكه الحس ألبتة، لا يمكن أن يكون في محلّ التكليف، وإذا كان كذلك كان كل واحد من هؤلاء الصفوف جاهلا بأنه هل هو مستقبل لعين الكعبة أو لا؟ فلو كان استقبال عين الكعبة شرطاً لكان حصول هذا الشرط مجهولاً للكلّ والشّك في حصول الشرط يقتضي الشَّك في حصول المشروط، فوجب أن يبقى كل واحد من أهل هذه الصفوف شاكّاً في صحة صلاته، وذلك يقتضي أن لا يخرج عن العُهْدَة ألبتة. وحيث اجتمعت الأمة على أنه ليس كذلك علمنا أن استقبال العين ليس بشرط لا علماً ولا ظنّاً، وهذا كلام بيّن. الثاني: أنه لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لا سبيل إليه إلاّ بالدلالة الهندسية، وما لا يتأدى الواجب إلا به فهو واجب، فكان يلزم أن يكون تعلم الدلالة الهندسية واجباً على كل واحد، ولما لم يكن كذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب. فإن قيل: عندنا استقبال عين الجهة واجب ظنّاً لا يقيناً، والمفتقر إلى الدلائل الهندسية هو الاستقبال يقيناً لا ظنّاً. قلنا: لو كان استقبال عين الكعبة واجباً لكان القادر على تحصيل اليقين، لا يجوز له الاكتفاء بالظن، والقادر على تحصيل ذلك بواسطة تعلم الدلائل الهندسية، فكان يجب عليه تعلم تلك الدلائل، ولما لم يجب ذلك علمنا أن استقبال عين الكعبة غير واجب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 الثالث: لو كان استقبال العين واجباً إام علماً أو ظنّاً، ومعلوم أنه لا سبيل إلى ذلك الظن إلا بنوع من أنواع الأمارات، وما لا يتأدّى الواجب إلاَّ به فهو واجب، فكان يلزم أن يكون تعلم تلك الأمارات فرض عَيْن على كل واحد من المكلفين، ولما لم يكن كذلك علمنا أان استقبال العين غير واجب. فصل في وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة دلّ قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} على وجوب الاستقبال في عموم الأمكنة في الصلاة وغيرها، ويؤيده قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «خَيْرُ المَجَالِسِ مَا اسْتُقْبِلَ بِهِ القِبْلَةُ» خرج منه الصلاة حال المُسَايفة، والخوف، والمطلوب والخائف والهارب من العدود، ويبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. فإن قيل: قوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَه} تكرار لقوله: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} . فالجواب: أن هذا ليس بتَكْرَار، وبيانه من وجهين: أحدهما: أن قوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} خطاب مع الرسول - عليه السلام - لا مع الأمة. وقوله: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَه} خطاب مع الكل. وثانيهما: أن المراد بالأولى مخاطبتهم، وهم ب «المدينة» خاصة، وقد كان من الجائز لو وقع الاقتصار عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لأهل «المدينة» خاصة، فبيّن الله تعالى أنهم أينما صلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة. [قوله تعالى: {وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب} . قال السُّدٍّي: هم اليهود خاصة، والكتاب: التوراة. وقال غيره: أحبار اليهود، وعلماء النصارى؛ لعموم اللفظ، والكتاب التوراة والإنجيل. فلا بد أن يكون عدداً قليلاً؛ لأن الكثير لا يجوز عليهم التواطؤ على الكتمان] . قوله تعالى: «أَنَّهُ الحَقُّ» يحتمل أن تكون «أن» واسمها وخبرها سادّة مسدّ المفعولين ل «يعلمون» عند الجمهور، ومسدّ أحدهما عند الأخفش، والثاني محذوف على أنها تتعدى لاثنين، وأن تكون سادّة مسد مفعول واحد على أنها بمعنى العِرْفان، وفي الضمير ثلاثة أقوال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 أحدها: يعود على التولّي المدلول عليه بقوله: «فولّوا» . والثاني: على الشطر. والثالث: على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، [أي: يعلمون أن الرسول مع شرعه وبنوّته حقّ] ويكون على هذا التفاتاً من خطابه بقوله: «فلنولِّينَّك» إلى الغيبة. [قوله تعالى: «من ربهم» متعلب بمحذوف على أنه حال من الحق، أي كائناً من ربهم] . فصل في كيفية معرفة أهل الكتاب اختلفوا في كيفية معرفتهم فذكروا فيه وجوهاً: أحدها: أن قوماً من علماء اليهود كانوا عرفوا في كتب أنبيائهم خبر الرسول، وخبر القبلة، وأنه يصلي إلى القبلتين. وثانيها: أنهم كانوا يعلمون أن الكعبة هي البيت العتيق الذي جعله الله - تعالى - قبلة لإبراهيم وإسماعيل عليهما السلام. وثالثها: أنهم كانوا يعلمون نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما ظهر عليه من المعجزات، ومتى علموا نبوته، فقد علموا لا محالة أن كل ما أتى به فهو حق، فكان هذا التحويل حقّاً. قوله تعالى: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} تقدم معناه. وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي «تعملون» بالتاء على الخطاب للمسلمين وهو الظاهر أو ل «للذين» على الالتفات تحريكاً لهم وتنشيطاً، والباقون بالغيبة ردّاً على الذين أوتوا الكتاب، أو ردّاً على المؤمنين، ويكون التفاتاً من خطابهم بقوله: «وجوهكم - كنتم» فإن جعلناه خطاباً للمسلمين، فهو وعد لهم، وبشارة أي: لا يخفى عليَّ جدّكم واجتهادكم في قَبُول الدين، فلا أخل بثوابكم. وإن جعلناه كلاماً مع اليهود، فهو وعيد وتهديد لهم، ويحتمل أيضاً أنه ليس بغافل عن مكافأتهم ومجازاتهم، وإن لم يعجلها لهم، كقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 42] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 قوله تعالى: {وَلِئَنْ أَتَيْتَ} فيه قولان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 أحدهما: قول سيبويه وهو أن «اللام» هي الموطّئة للقسم المحذوف، و «إن» شرطية، فقد اجتمع شرط وقسم، وسبق القسمن فالجواب له إذ لم يتقدمهما ذو خبر. فلذلك جاء الجواب للقسم ب «ما» النافية وما بعدها، وحذف جواب الشرط لسدّ جواب القسم مسده، ولذلك جاء فعل الشرط ماضياً؛ لأنه متى حذف الجواب وجب مضيّ فعل الشرط إلا في ضرورة، و «تَبِعُوا» وإن كان ماضياً لفظاً فهو مستقبل معنى أي: ما يتبعون لأن الشرط قيد في الجملة والشرط مستقبل، فوجب أن يكون مضمون الجملة مستقبلاً ضرورة أن المستقبل لا يكون شرطاً في الماضي. الثاني: وهو قول الفراء، وينقل أيضاً عن الأخفش والزجاج أن «إن» بمعنى «لو» ، ولذلك كان «ما» في الجواب، وجعل «ما تَبِعُوا» جواباً ل «إن» لأنها بمعنى «لو» . أما إذا لم تكن بمعناها، فلا تجاب ب «ما» وحدها، بل لا بد من الفاء، تقول: إن تزرني فما أزورك. ولا يجيز الفراء: «ما أزورك» بغير فاء وقال ابن عطية: وجاء جواب «لئن» كجواب «لو» ، وهي ضدها في أنَّ «لو» تطلب المضي والوقوع، و «إنْ» تطلب الاستقبال؛ لأنهما جميعاً يترتب قبلهما القسم، فالجواب إنما هو للقسم؛ لأن أحد الحرفين يقع موضع الآخر هذا قول سيبويه. قال أبو حيان: هذا فيه تثبيج، وعدم نصّ على المراد؛ لأن أوله يقتضي أن الجواب ل «إن» ، وقوله بعد: الجواب للقسم يدل على أنه ليس ل «إن» ، وتعليله بقوله: لأن أحد الحرين يقع موقع الآخر لا يصلح علة لكون «ما تَبِعُوا» جواباً للقسم، بل لكونه جواباً ل «إن» . وقوله: «قول سيبويه» ليس في كتاب سيبويه ذلك، إنما فيه أن «ما تبعوا» جواب القَسَم، ووقع فيه الماضي موقع المستقبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 قال سيبويه وقالوا: لئن فعلت ما فعل، يريد معنى ما هو فاعل وما يفعل. وتلّخص مما تقدم أن قوله: «مَا تَبِعُوا» فيه قولان: أحدهما: أنه جواب للقسم سادّ مسدّ جواب الشرط، ولذلك لم يقترن بالفاء. والثاني: أنه جواب ل «إن» إجراء لها مجرى «لو» . وقال أبو البقاء: «ما تَبِعُوا» أي: لا يتبعوا فهو ماض في معنى المستقبل، ودخلت «ما» حملاً على لفظ الماضي، وحذفت الفاء في الجواب؛ لأن فعل الشرط ماض. وقال الفراء: «إِنْ» هنا بمعنى «لو» . وهذا من أبي البقاء يؤذن أن الجواب للشرط وإنما حذفت الفاء لكون فعل الشرط ماضياً، وهذا منه غير مُرْضٍ؛ لأنه خالف البصريين والكوفيين بهذه المَقَالَة. فصل في المراد بالآية. قال الأصم: المراد من الآية علماؤهم الذين أخبر عنهم في الآية الكريمة المتقدمة بقوله تعالى: {وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 144] ؛ لأن الآية الكريمة لا تتناول العوام، ولو كان المراد الكل لامتنع الكِتْمان؛ لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكِتْمَان، ولأنا لو حملناه على العموم لصارت الآية كذباً؛ لان كثيراً من أهل الكتاب آمن بمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وتبع قبلته. وقال آخرون: بل المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى؛ لأن الذين أوتوا الكتاب صيغة عموم، فيتناول الكل. فصل في لفظ «آية» «الآية» : وزنها «فَعَلَة» أصلها: أَيَيَة «، فاستثقلوا التشديد في الآية فأبدلوا من الياء الأولى ألفاً لانفتاح ما قبلها. والآية: الحُجّة والعلامة، وآية الرجل: شخصه، وخرج القول بآيتهم أي: جماعتهم. وسميت آية القرآن بذلك؛ لأنها جماعة حروف. وقيل: لأنها علامة لانقطاع الكلام الذي بعدها. وقيل: لانها دالة على انقطاعها عن المخلوقين، وأنها ليست إلا من كلام الله تعالى. فصل في سبب نزول هذه الآية روي أن يهود» المدينة «، ونصارى» نجران «قالوا للرسول صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 وبجل وعظم: ائتنا بآية كما أتى الأنبياء قبلك فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال ابن الخطيب:» والأقرب أان هذه الآية ما نزلت في واقعة مبتدأة، بل هي من بقية أحكام تحويل القبلة «. قوله: {وَمَا أَنْتَ بِتَابِعِ قِبْلَتَهُمْ} . » ما «تحتمل الوجهين أعني: كونها حجازية، أو تميمية: فعلى الأول يكون» أنت «مرفوعاً بها، و» بتابع «في محلّ نصب. وعلى الثاني يكون مرفوعاً بالابتداء، و» بتابع «في محلّ رفع، وهذه الجملة معطوفة على جملة الشرط، وجوابه لا على الجواب وحده، إذ لا يحل محله؛ لأن نفس تبعيتهم لقبلته مقيد بشرط لا يصح أن يكون قيداً في نفي تبعيته قبلتهم، وهذه الجملة أبلغ في النفي من قوله: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} من وجوه: أحدها: كونها اسمية متكررة فيها الاسم، مؤكد نفيها بالباء. ووحّد القبلة وإن كانت مثناة: لأن لليهود قبلة، وللنصارى قبلة أخرى لأحد وجهين: إما لاشتراكهما في البطلان صارا قبلة واحدة، وإما لأجل المقابلة في اللفظ؛ لأن قبله: {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ} . وقرئ: {بِتَابِعٍ قِبْلَتِهِمْ} بالإضافة تخفيفاً؛ لأن اسم الفاعل المستكمل لشروط العمل يجوز فيه الوجهان. واختلف في هذه الجملة: هل المراد بها النهي أي: لا تتبع قبلتهم، ومعناه: الدوام على ما أنت عليه؛ لأن معصوم من اتباع قبلتهم، أو الإخبار المَحْض بنفي الأتبّاع، والمعنى أن هذه القبلة لا تصير مَنْسوخة، أو قطع رجاء أهل الكتاب أن يعود إلى قبلتهم؟ قولان مشهوران. قوله: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} . قال القفال: هذا يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال. أما على الحال فمن وجوه: الأول: أنهم ليسوا مجتمعين على قِبْلَةٍ واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها. الثاني: أن اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة، فكيف يدعونك إلى ترك قبلتك، مع أنهم فيما بينهما مختلفون. الثالث: أن هذا إبطال لقولهم: إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب؛ لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 وأما حمل الآية على الاستقبال ففيه إشكال وهو أن قوله: {وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر، لكن ذلك قد وقع فيفضي إلى الخلف، وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في ذلك الزمان، فلم يثبت عندنا أن أحداً منهم تبع قبلة الآخر، فالخلف غير لازم. وإن حملناه على الكل قلنا: إنه عاّ دخله التخصيص. قوله تعالى: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ} [البقرة: 120] كقوله: {وَلَئِنْ أَتَيْتَ} . وقوله: «إِنَّكَ» جواب القسم، وجواب الشرط محذوف كما تقدم في نظيره. قال أبو حيان: لا يقال: غنه يكون جواباً لهما لاتمناع ذلك لفظاً ومعنى. أما المعنى فلأن الاقتضاء مختلف، فاقتضاء القسم على أنه لا عمل له فيه؛ لأن القَسَم إنما جيء به توكيداً للجملة المقسم عليها، وما جاء على سبيل التوكيد لا يناسب أن يكون عاملاً، واقتضاء الشرط على أنه عامل فيه، فتكون الجملة في موضع جزم، وعمل الشرط لقوة طلبه له. وأام اللفظ فإن هذه الجملة إذا كانت جواب قسم لم تحتج إلى مزيد رابط، فإذا كانت جواب شرط احتاجت إلى مزيد رابط وهو الفاء، ولا يجوز أن تكون خالية من الفاء موجودة فيها، فلذلك امتنع أن تكون جواباً لهما معاً. فصل في الهوى الهوى المقصور: هو ما يميل إليه الطبع [وقيل: هو شهوة نتجت عن شبهة، والممدود هو الجو] .؟ اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب. قال بعضهم: الرسول. وقال بعضهم: الرسول وغيره. وقال آخرون: بل غيره؛ لأنه - تعالى - عرف أن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لا يفعل ذلك، فلا يجوزأن يخصّه بهذا الخطاب، وهذا خطأ من وجوه: أحدها: أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب ألا ينهاه عنه، لكان ما علم أن يفعله وجب ألا يأمره به، وذلك يقتضي ألا يكون النبي مأموراً بشيء، ولا منهيّاً عن شيء، وإنه بالاتفاق باطل. وثانيها: لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عنه فلما كان ذلك الاحتراز الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 مشروطاً بذلك النهي والتحذير، فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافياً للنهي والتحذير. وثالثها: أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذاك في العقل، فيكون الغرض منه التأكيد، ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعدما قرّرها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل، فأي بعد في مثل هذا الغرض هاهنا. ورابعها: قوله تعالى في حق الملائكة: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] مع أنه - تعالى - أخبر عن عصمتهم في قوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل: 50] وقال في حق محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] . والإجماع على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما أشرك، وما مال إليه، وقال {يا أَيُّهَا النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] وقال: {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] ، وقوله: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] . فثبت بما قلنا أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مَنْهي عن ذلك وأن غيره أيضاً منهي عنه؛ لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواصّ الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. بقي أن يقال: فلم خصه بالنهي دون غيره؟ فنقول فيه وجوه: أحدها: أن كل من كان نعم الله عليه أكثر، كان صدور الذنب منه أقبح، فكان أَوْلَى بالتخصيص. وثانيها: أن مزيد الحبّ يقتضي التخصيص بمزيد التحذير. وثالها: أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم، فزجره عن أمر بحضرة جماعه أولاده، فإنه يكون منبهاً بذلك على عظم ذلك الفعل إن ارتكبوه، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية. القول الثاني: أن قوله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ} [البقرة: 120] ليس المراد منه إن اتبع أهواءهم في كل الأمور، فلعله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان في بعض الأمور يتبع أهواءهم، مثل ترك المُخَاشنة في القول والغِلْظَة في الكلام، طمعاً منه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في استمالتهم، فنهاه الله - تعالى - عن ذلك القدر أيضاً، وآيَسَهُ منهم بالكلية على ما قال: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً} [الإسراء: 74] . القول الثالث: أن ظاهر الخطاب وإن كان مع الرسول إلا ان المراد منه غيره وهذا كما أنك إذا عاتبت [إنساناً أساء عبده إلى عبدك فتقول له: لو فعلت مرة أخرى مثل] هذا الفعل لعاقبتك عليه عقاباً شديداً، فكان الغرض منه زجر العبد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 قوله تعالى: {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} . إنه - تعالى - لم يرد بذلك أنه نفس العلم، بل المراد الدَّلائل والآيات والمعجزات؛ لأن ذلك من طرق العلم، فيكون ذلك من باب إطلاق اسم الأثر على المؤثّر، والغرض من هذا الاستعارة هو المبالغة [والتعظيم في] أمر النبوات والمعجزات بأنه سمّاه باسم العلم، وذلك ينبّهك على أن العلم أعظم المخلوقات شرفاً ومرتبة، ودلّت الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشد من توجّهه على غيرهم. [قوله تعالى: {إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين} أي إِنّك لو فعلت ذلك لكنت بمنزلة القوم في كفرهم، وظلمهم أنفسهم] . و «إذاً» حرف جواب وجزاء بنص سييبويه، وتنصب المضارع بثلاثة شروط: أن تكون صدراً، وألا يفصل بينها وبين الفعل بغير الظرف والقسم، وألا يكون الفعل حالاً، ودخلت هنا بين اسم «إن» وخبرها لتقرير النسبة بينهما وكان حدها أن تتقدم أو تتأخر، فلم تتقدم، لأنه سبق قسم وشرط والجواب هو للقسم، فلو تقدمت لتوهّم أنها لتقرير النسبة التي بين الشرط والجواب المحذوف، ولم تتأخر لئلا تفوت مناسبة الفواصل رؤوس الآي. قال أبو حيان: وتحرير معنى «إذاً» صعب اضطرب الناس في معناها، وفي فهم كلام سيبويه فيها، وهو أن معناها الجواب والجزاء. قال: والذي تحصل فيها أنها لا تقع ابتداء كلام، بل لا بد أن يسبقها كلام لفظاً أو تقديراً، وما بعدها في اللفظ أو التقدير، وإن كان متسبباً عما قبلاه فهي في ذلك على وجهين: أحدهما: أن تدلّ على إنشاء الارتباط والشرط، بحيث لا يفهم الارتباط من غيرها، مثال ذلك: أزورك فتقول: إذاً أزورك، فإنما تريد الآن أن تجعل فعله شرطاً لفعلك، وإنشاء السببية في ثاني حال من ضرورته أن يكون في الجواب، وبالفعلية في زمان مستقبل، وفي هذا الوجه تكون عاملة، ولعملها شروط مذكورة في النحو. الوجه الثاني: أن تكون مؤكّدة لجواب ارتبط بمقدم، أو مبّهة على مسبب حصل في الحال، وهي في الحالين غير عاملة؛ لأن المؤكدات لا يعتمد عليها والعامل يعتمد عيله، وذلك، نحو: «إن تأتني إِذَاً آتك» ، و «والله إِذاً لأفعلن» فلو أسقطت «إِذاً» لفهم الارتباط، ولما كانت في هذا الوجه غير معتمد عليها جاز دخولها على الجملة الاسمية الصريحة نحو: «أزورك» فتقول: «إِذاً أنا أكرمك» ، وجاز توسطها نحو: «أنا إِذاً أكرمك» وتأخرها، وإذا تقرر هذا فجاءت «إذاً» في الآية مؤكدة للجواب المرتبط بما تقدم، وإنما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 قررت معناها هنا؛ لأنها كثيرة الدور في القرآن، فتحمل في كل موضع على ما يناسب من هذا الذي قررناه انتهى كلامه. واعلم أ، ها إذا تقدمها عاطف جاز إعمالها وإهمالها، وهو الأكثر، وهي مركبة من «همزة وذال ونون» ، وقد شبهت العرب نونها بتنوين المنصوب قلبوها في الوقف ألفاً، وكتبوها في الكتاب على ذلك، وهذا نهاية القول فيها. وجاء في هذا المكان «مِنْ بِعْدِ مَا جَاءَكَ» وقال قبل هذا: {بَعْدَ الذي جَآءَكَ} [البقرة: 120] وفي «الرعد» : {بَعْدَ مَا جَآءَكَ} [الرعد: 37] فلم يأت ب «من» الجارة إلا هنا، واختص موضعاً ب «الذين» ، وموضعين ب «ما» ، فما الحكمة في ذلك؟ والجواب: ما ذكره بعضهم وهو أن «الذي» أخص و «ما» أشد إبهاماً، فحيث أتي ب «الذي» أشير به إلى العلم بصحّة الدين الذي هو الإسلام المانع من ملّتي اليهود والنصارى، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه؛ لأنه علم بكل أصول الدين، وحيث أتي بلفظ «ما» أشير به إلى العلم [بركنين] من أركان الدين، أحدهما: القبلة، والأخر: بعض الكتاب؛ لأنه أشار إلى قوله: {وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد: 36] . قال: وأما دخول «: من» ففائدته ظاهرة، وهي بيان أول الوقت الذي وجب عليه - عليه السلام - أن يخالف أهل الكتاب في قبلتهم، والذي يقال في هذا: إنه من باب التنوع من البلاغة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 في «الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ» : ستة أوجه: ظهرها: أنه مرفوع بالابتداء، والخبر قوله: «يعرفونه» . الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين آتيناهم. الثالث: النصب بإضمار «أعني» . الرابع: الجر على البدل من «الظَّالمين» . الخامس: على الصفة للظالمين. السادس: النصب على البدل من «الَّذين أوتوا الكتاب» في الآية قبلها. قوله تعالى: «يَعْرِفُونَهُ» فيه وجهان: أحدهما: أنه خبر «الذين آتيناهم» كما تقدم في أحد الأوجه المذكورة في «الَّذِينَ آتيناهم» . الثاني: أنه نصب على الحال على بقية الأقوال المذكورة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 وفي صاحب الحال وجهان: أحدهما: المفعول الأول ل «آتيناهم» . والثاني: المفعول الثاني وهو الكتاب؛ لأن في «يعرفونه» ضميرين يعودان عليهما، والضمير في «يعرفونه» فيه أقوال: أحدها: أنه يعود على «الحق» الذي هو التحول، وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - وقتادة والربيع وابن زيد. الثاني: على النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم وبجل وعظّم؛ أي: يعرفونه معرفة جليّة كما يعرفون أبناءهم لا تشتبه أبناؤهم وأبناء غيرهم. روي عن عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أنه سأل عبد الله بن سلام - رضي الله تعالى عنه - عن رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: أنا أعلم به مني بابني، قال: ولم؟ قال: لأني لست أشك في محمد أنه نبي، وأما ولدي فلعل والدته خانت. فقبَّل عمر رأسه. وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر؛ لأن الكلام يدل عليه، ولا يلتبس على السامع، ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام. قالوا: وهذا القول أولى من وجوه: أحدها: أن الضمير إنام يرجع إلى مذكور سابق، وأقرب المذكورات العلم في قوله: {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} [البقرة: 145] . والمراد من ذلك العلم: النبوة، فكأنه تعالى قال: إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم، وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة. وثانيها: أن الله - تعالى - ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القِبْلة مذكور في التوراة والإنجيل، واخبر فيه ان نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم مذكورة في التوراة والإنجيل، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوّة أَوْلى. وثالثها: أن المعجزات لا تدلّ أوّل دلالتها إلا على صدق محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظّم، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى. وعلى هذا القول أسئلة. السؤال الأول: أنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله من امر القبلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 والجواب: أنه تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عن اتْباع اليهود والنصارى بقوله تعالى: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين} [البقرة: 145] أخبر المؤمنين بحاله - صلوات الله وسلامه عليه - في هذه الآية فقال: العلماء يا معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمداً، وما جاء به وصدقه ودعوته وقِبْلَتَه لا يشكّون فيه كما لا يشكون في أبنائهم. السؤال الثاني: هذه الآية نظيرها قوله تعالى: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157] وقال: {وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ} [الصف: 6] إلا أنّا نقول: من المستحيل أن يعرفوه كما يعرفون أبناءهم، وذلك لأنه وصفه في التوراة والإنجيل: إما أن يكون قد أتى مشتملاً على التفصيل التام، وذلك إنما يكون بتعيين الزمان والمكان والصفة والخِلْقة والنَّسَب والقبيلة، أو هذا الوصف ما أتى من هذا النوع من التفصيل، فإن كان الأول وجب أن يكون بمقدمه في الوقت المعين، من البلد المعين، من القبيلة المعينة على الصفة المعينة معلوماً لأهل المشرق والمغرب؛ لأن التوراة والإنجيل كانا مشهورين فيما بين أهل المشرق والمغرب، ولو كان الأمر كذلك لما تمكن أحد من النصارى واليهود من إنكار ذلك. وأما القسم الثاني: فإنه لا يفيد القطع بصدق نبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأنا نقول: هَبْ أن التوراة اشتملت على أن رجلاً من العرب سيكون نبيّاً إلا أن ذلك الوصف لما لم يكن منتهياً في التفصيل إلى حَدّ اليقين، لم يلزم من الاعتراف به الاعتراف بنبوّة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والجواب: أن هذا الإشكال إنما يتوجذه لو قلنا بأن العلم بنبوته إنما حصل من اشتمال التوراة والإنجيل على وصفه، ونحن لا نقول به، بل نقول: إنه ادّعى النبوة، وظهرت المعجزة على يده وكل من كان كذلك كان نبياً صادقاً، فهذا برهان، والبرهان يفيد اليقين، فلا جرم كان العلم بنبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أقوى وأظهر من العلم ببنوّة الأبناء، وأبوة الآباء. السؤال الثالث: فعلى هذا الوجه الذي قرّرتموه كان العلم بنبوة محمد - صلوات الله وسلامه عليه - علماً برهانياً، غير محتمل للغَلَطِ. أما العلم بأن هذا ابْني فذلك ليس علماً يقينياً، بل ظن ومحتمل للغلط، فلم شبه اليقين بالظن؟ والجواب: ليس المراد أن العلم بنبوة محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يشبه العلم ببنوّة الأبناء، بل المراد به تشبيه العلم بأشخاص الأبناء وذواتهم، فكما أن الأب يعرض شخص ابنه معرفة لا يشتبه هو عنده بغيره فكذا هاهنا، وعند هذا يستقيم التشبيه، لأن هذا العلم ضروري وذلك نظري، وتشبيه النظري بالضروري يفيد المبالغة وحسن الاستعارة. السؤال الرابع: لم خص الأبناء بالذكر دون البنات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 الجواب: لأن الذكور أعرف وأشهر، وهم بصحبة الآباء ألزم، وبقلوبهم ألصق. والضمير في «يَعْرِفُونَه» يعود على القرآن الكريم. وقيل: على العلم. وقيل: على البيت الحرام. [ويعود الضمير إلى النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم. وهو رأي الزمخشري، واختاره الزَّجاج وغيره، وقال أبو حيان: هذا من باب الالتفات من الخطاب في قوله: «فَوَلِّ وَجْهَكَ» إلى الغيبة] . قوله: «كَمَا يَعْرِفُونَ» «الكاف» في محل نصب إما على كونها نَعْتاً لمصدر محذوف أي: معرفة كائنة مثل معرفتهم أبناءهم، أو في موضع نصب على الحال من ضمير ذلك المصدر المعرفة المحذوف، التقدير: يعرفونه معرفة مُمَاثلة لعرفانهم، وهذا مذهب سيبويه وتقدم تحقيق هذا. و «ما» مصدرية لأنه ينسبك منها ومما بعدها مصدر كما تقدم تحقيقه. قوله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 146] . اعلم أن الذين أوتوا الكتاب وعرفوا الرسول، فمنهم من آمن به مثل عبد الله بن سلام وأتباعه، ومنهم من بقي على كفره، ومن آمن لا يوصف بكتمان الحق، وإنما يوصف بذلك من بقي على كفره، لا جرم قال الله تعالى: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} فوصف البعض بذلك، ودلّ بقوله] : «» على سبيل الذّم، على أنّ كتمان الحقّ في الدين محظور إذا أمكن إظهاره، واختلفوا في المَكْتُوم، فقيل: أمر محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وقيل: أمر القبلة كما تقدم. قوله تعالى: «وَهُمْ يَعْلَمُونَ» جملة اسمية في محلّ نصب على الحال من فاعل «يكتمون» ، والأقرب فيها أن تكون حالاً مؤكدة؛ لأن لفظ «يَكْتُمون الحَقّ» يدل على علمه، إذ الكتم إخفاء ما يعلم وقيل: متعلق العلم هو ما على الكاتم من العقاب، أي: وهم يعلمون العقاب المرتب على كاتم الحق، فتكون إذ ذاك حالاً مبينة، وهذا ظاهر في أن كفرهم كان عِنَاداً، ومثله: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] . قوله تعالى: «الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ» فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده، وفي الألف واللام حينئذ وجهان: أحدهما: أن تكون للعهد، والإشارة إلى الحق الذي عليه الرسول - عليه السلام - أو إلى الحق الذي في قوله: «يَكْتُمُونَ الْحَقَّ» أي: هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك، وأن تكون للجنس على معنى الحق من الله لا من غيره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الحق من ربك، والضمير يعود على الحق المكتوم أي: ما كتموه هو الحق. الثالث: أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره: الحق من ربك يعرفونه، والجار والمجرور على هَذَين القولين في محلّ نصب على الحال من «الحَقّ» ، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر في الوجه الثاني. وقرأ علي بن أبي طالب: «» نصباً، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه منصوب على البدل من الحق المكتوم، قاله الزمخشري. الثاني: أن يكون منصوباً بإضمار «الذم» ، ويدل عليه الخطاب بعده في قوله: «لَلاَ تَكُونَنَّ» . الثالث: أنه يكون منصوباً ب «يعلمون» قبله، وذكر هذين الوجهين ابن عطية، وعلى هذا الوجه الأخير يكون مما وقع فيه الظاهر موضع المضمر، أي: وهم يعلمونه كائناً من ربك، وذلك سائغ حسن في أماكن التفخيم والتهويل نحو: [الخفيف] 737 - لاَ أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيءٌ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . والنهي عن الكون على صفة أبلغ من النهي عن نفس الصفة، فلذلك جاء التنزيل عليه: نحو {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} [الأنعام: 35] دُونَ: لا تمتر ولا تجهل ونحوه وتقرير ذلك أن قوله: «لا تكن ظالماً» نهي عن الكون بهذه الصفة، والنهي عن الكون على صفة أبلغ من النهي عن تلك الصفة؛ إذ النهي عن الكون على صفة يدلّ على عموم الأكوان المستقبلة عن تلك الصفة، والمعنى لا تظلم في كل أكوانك، أي: في كل فرد فرد من أكوانك فلا يمرّ بك وقت يوجد منك فيه ظلم، فيصير كأن فيه نصاً على سائر الأكوان، بخلاف: لا تظلم، فإنه يستلزم الأكوان، وفرق بين ما يدلّ دلالة بالنص وبين ما يدل دلالة بالاستلزام و «الامتراء» : افتعال من المِرْيَة وهي الشك، ومنه المراء. قال: [الطويل] 838 - فَإِيَّاكَ إِيَّاكَ الْمِرَاءَ فَإِنَّهُ ... إِلَى الشَّرِّ دَعَّاءٌ وَلِلشَّرِّ جَالِبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 و «ماريته» : جادلته وشاكلته فيما يدعيه، و «افتعل» فيه بمعنى «تفاعل» ، يقال: تماروا في كذا، وامتروا فيه نحو: تجاوروا، واجتوروا. وقال الراغب: المِرْيَة: التردّد في الأمر، وهي أخَصُّ من الشَّك، والامتراء والمماراة المُحاجَّةُ فيما فيه مِرْية، وأصله من مَرَيْتُ النَّاقة إذا مَسحتَ ضَرْعَها للحَلْب. ففرق بين المِرْية والشَّك كما ترى، وهذا كما تقدم له الفرق بين الرّيب والشَّك، وانشد الطبري قول الأعشى: [الطويل] 839 - تَدُرُّ عَلى أَسْؤُقِ المُمْتَرِي ... نَ رَكَضاً إِذَا مَا السَّرَابُ ارْجَحَنْ شاهداً على أن الممترين الشاكون. قال: ووهم في ذلك؛ لأن أبا عبيدة وغيره قالوا: الممترون في البيت هم الذين يمرُّون الخيل بأرجلهم هَمْزاً لتجري كأنهم يَتَحلبون الجري منها. [فصل فيمن نزلت فيه الآية قوله: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} قال الحسن: من الذين علموا صحة نبوتك وإن بعضهم عاندوكم. وقيل: بل يرجع إلى أمر القبلة. وقيل: بل يرجع إلى صحة نبوته وشرعه، وهو أقرب؛ لأن أقرب مذكور إليه قوله: «من ربك» ؛ وظاهره يقتضي النبوة، فوجب أن يرجع إليه، ونهيه عن الامتراء لا يدلّ على أنه كان شاكاً فيه كما تقدم القول في هذه المسألة] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 جمهور القراء على تنوين «كلّ» ، وتنوينهُ للعوض من المضاف إيله، والجار خبر مقدم، و «وِجْهَة» مبتدأ مؤخر. واختلف في المضاف إليه «كل» المحذوف. فقيل: تقديره: ولكل طائفة من أهل الأديان [يعني: أن الله يفعل ما يعلمه صلاحاً، فالجهات من الله تعالى وهو الذي ولَّى وجوه عباده إليها فانقادوا لأمر الله تعالى، فإن انقيادكم خيرات لكم، ولا تلتفتوا إلى طعن هؤلاء، وقولهم: «ما ولاّهم عن قبلتهم أي التي كانوا عليها» فإن الله يجمعهم وإياكم في القيامة] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 وقيل: ولكل أهل موضع من المسلمين وِجْهَتُه إلى جهة الكعبة يميناً وشمالاً ووراء وقدّام [فهي كجهة واحدة، ولا يخفى على الله نيّاتهم؛ فهو يحشرهم جميعاً ويثيبهم على أعمالهم] . وفي «وجهة» قولان: أحدهما: ويعزى للمبرد، والفارسي، والمازني في أحد قوليه: أنها اسم المكان المتوجه إليه، وعلى هذا يكون إثبات «الواو» قياساً إذ هي غير مصدر. قال سيبويه ولو بنيت «فِعْلَة» من الوعد لقلت: وعدة، ولو بنيت مصدراً لقلت: عدة. والثاني: أنه مصدر، ويعزى للمازني، وهو ظاهر كلام سيبويه، فإنه قال بعد ذكر حذف «الواو» من المصادر: «وقد أثبتوا فقالوا: وجهة في الجهة» وعلى هذا يكون إثبات «الواو» شاذَاً مَنْبَهَةٌ على ذلك الأصل المتروك في «عدة» ونحوها، والظاهر أن الذي سوغ إثبات «الواو» وإن كانت مصدراً أنها مصدر جاءت على حذف الزوائد؛ إذ الفعل المسموع من هذه المادة تَوَجَّه واتَّجَهَ، ومصدرهما التوجه والاتجاه، ولم يسمع في فعله: «وَجَهَ يَجِهُ» ك «وعد يَعِدُ» ، وكان الموجب لحذف «الواو» من عدة وزنة الحمل على المضارع لوقوع الواو بين ياء وكسرة، وهنا لم يسمع فيه مضارع يحمل مصدره عليه، فلذلك قلت: إن «وِجْهَة» مصدر على حذف الزوائد ل «توجه» أو «اتجه» ، وقد ألم أبو البقاء بشيء من هذا. قال القرطبي: الوِجْهَة وزنها فِعْلَة من المُوَاجهة. والوجهة والجهة والوجه بمعنى واحد، والمراد القِبْلة، أي: أنهم لا يتبعون قبلتك، وأنت لا تتبع قبلتهم، ولك وجهة: إما بحق، وإما بهوى. فصل في لفظ الوجه قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ الوجه في القرآن الكريم على أربعة أضرب: الأول: بمعنى الملّة، قال تبارك وتعالى: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} أي: ملّة. الثاني: بمعنى الإخلاص في العمل، قال تعالى: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} [الأنعام: 79] أي: أخلصت عملي، ومثله: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 122] أي: أخلص عمله لله. الثالث: بمعنى الرِّضَا، قال تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52] أي: رضاه، ومثله: {واصبر نَفْسَكَ} [الكهف: 28] الآية الكريمة، ومثله: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُو عِندَ الله وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله} [الروم: 29] أي: رضاه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 الرابع: الوجه هو الله تعالى كقوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] ، ومثله: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله} [الإنسان: 9] ، وقوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] أي: إلاّ إياه. قوله تعالى: «هُوَ مُوَلِّيهَا» جملة مبتدأ وخبر في محلّ رفع؛ لأنها صفة ل «وجهة» [وهي قراءة الجمهور] واختلف في «هو» على قولين: أحدهما: أنه يعود على لفظ «كلّ» لا على معناها، ولذلك أفرد [قال القرطبي: ولو كان على المعنى لقال: هم مولوها وجوههم فالهاء والألف مفعول أول] . والمفعول الثاني محذوف لفهم المعنى تقديره: هو موليها وجهه أو نفسه، ويؤيد هذا قراءة ابن عامر: «مُوَلاَّها» على ما لم يسم فاعله. والثاني: أنه يعود على الله - تعالى - أي: الله مولّي القبلة إياه، أي ذلك الفريق. وقرأ الجمهور: «مُوَليها» على اسم فاعل، وقد تقدم أنه حذف أحد مفعوليه، وقرأ ابن عامر - ويعزى لابن عباس - «مُوَلاَّها» على اسم المفعول، وفيه ضمير مرفوع قائم مقام الفاعل والثاني: هو الضمير المتصل به وهو «ها» العائد على الوجهة. وقيل: على التولية ذكره أبو البقاء، وعلى هذه القراءة يتعيّن عود «هو» إلى الفريق؛ إذ يستحيل في المعنى عوده على الله تعالى. [ولقراءة ابن عامر معنيان: أحدهما: ما وليته فقد ولاّك؛ لأن معنى وليته أي: جعلته بحيث يليه، وإذا صار بحيث يلي ذاك، فذاك أيضاً يلي هذا، فإذاً قد يفيد كل واحد منهما الآخر. فهو كقوله تعالى: {فتلقى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ} [البقرة: 37] فهذا قول الفراء. الثاني: «هُوَ مُوَلِّيها» أي: قد زينت لك تلك الجهة أي صارت بحيث تتبعها وترضاها] . وقرأ بعضهم: «وَلَكُلِّ وجهة» بالإضافة، ويعزى لابن عامر، واختلفوا فيها على ثلاثة أقوال: أحدها، وهو قول الطبري: أنها خطأ، وهذا ليس بشيء؛ إذ الإقدام على تخطئة ما ثبت عن الأئمة لا يسهل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 [قال ابن عطية: وخطأها الطبري وهي متّجهة أي: فاستبقوا الخيرات لكل وجهة ولاكموها، ولا تعترضوا فيما أمركم من هذه وهذه أي: إنما عليكم الطاعة في الجميع وقدم قوله: «ولكلٍّ وجهةٌ» على الأمر في قوله: «فَاسْتَبقوا الخيرات» للاهتمام بالوجهة كما يقدم المفعول. وذكر أبو عمرو الدَّاني هذه القراءة عن ابن عَبَّاس] . والثاني: وهو قول الزمخشري وأبي البقاء أن «اللام» زائدة في الأصل. قال الزمخشري: المعنى وكلّ وجهة اللهُ مولّيها، فزيدت «اللام» لتقدم المفعول، كقولك: لزيد ضربت، ولزيد أبوه ضاربه. قال أبو حيان: وهذا فاسد؛ لأن العامل إذا تعدَّى لضمير الاسم لم يتعد إلى ظاهره المجرور ب «اللام» لا تقول: لزيد ضربته، ولا: لزيد أنا ضاربه، لئلا يلزم أحد محذورين، وهما: إما لأنه يكون العامل قوياً ضعيفاً. [وذلك أنه من حيث تعدّى للضمير بنفسه يكون قويّاً ومن حيثُ تعدى للظاهر ب «اللام» يكون ضعيفاً] ، وإما لأنه يصير المتعدي لواحد متعدياً لاثنين، ولذلك تأويل النحويون ما يوهم ذلك وهو قوله: [البسيط] . 840 - هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرآنِ يَدْرُسُهُ ... وَالْمَرْءُ عِنْدَ الرُّشَا إِنْ يَلْقَهَا ذِيْبُ على أن الضمير في «يدرسه» للمصدر أي: يدرس الدرس لا للقرآن؛ لأن الفعل قد تعدى غليه. وأام تمثيله بقوله: «لزيد ضربت» ، فليس نظير الآية؛ لأنه لم يتعدّ في هذا المثال إلى ضميرهن ولا يجوز أن تكون المسألة من باب الاشتغال، فتقدر عاملاً في: «لكل وجهة» يفسره «موليها» ؛ لأن الاسم المشتغل عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرف ينتصب ذلك الاسم بفعل يوافق العامل الظاهر في المعنى، ولا يجوز جر المشتغل عنه إذا كان ضميره مجروراً بحرف تقول: زيداً مررت به، أي: لابست زيداً مررت به، ولا يجوز: لزيد مررت به. قال تعالى: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ} [الإنسان: 31] ، وقال: 841 - أَثَعْلَبَةَ الْفَوارِسِ أَمْ رِيَاحاً ... عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ وَالْخِشَابَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 فأتى بالمشتغل عنه منصوباً، وأما تمثيله بقوله: لزيد أبوه ضاربه، فتركيب غير عربي. الثالث: أن «لكلّ وجهة» متعلق بقوله: {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} أي: فاستبقوا الخيرات لكل وجهة، وإنما قدم على العامل للاهتمام به، كما تقدم المفعول، كا ذكره ابن عطية. ولا يجوز أن توجه هذه القراءة على أن «لكل وجهة» في موضع المفعول الثاني ل «مولّيها» ، والمفعول الأول هو المضاف إليه اسم الفاعل الذي هو «مولّ» ، وهو «ها» ، وتكون عائدة على الطوائف، ويكون التقدير: وكلَّ وجهة اللهُ مولِّي الطوائف أصحاب القِبْلاَت، وزيدت «اللام» في المفعول لتقدمه، ويكون العامل فرعاً؛ لأن النحويين نصُّوا على أنه لا يجوز زيادة «اللام» للتقوية إلا في المتعدي لواحد فقط، و «مولّ» مما يتعدّى لاثنين، فامتنع ذلك فيه، وهذا المانع هو الذي منع من الجواب عن الزمخشري فيما اعترض به أبو حيان عليه من كون الفعل إذا تعدى للظاهر، فلا يتعدى لضميره، وهو أنه كان يمكن أن يجاب عنه بأن الضمير المتصل ب «مول» ليس بضمير المفعول، بل ضمير المصدر وهو التَّولية، يكون المفعول الأول محذوفاً والتقدير: الله مولي التولية كلَّ وجهةٍ أَصْحَابَها، فلما قدم المفعول على العامل قوي ب «اللام» لولا أنهم نصوا على المنع من زيادتها في المتعدي لاثنين وثلاثة. قوله تعالى: «فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ» «الخيرات» منصوبة على إسقطا حرف الجر، التقدير: إلى الخيرات، كقوله الراعي: [الطويل] 842 - ثَنَائِي عَلَيْكُمْ آلَ حَرْبٍ وَمَنْ يَمِلْ ... سِوَاكُمْ فَإِنِّي مُهْتَدٍ غَيرُ مَائلِ أي: إلى سواكم، وذلك لأن «استبق» : إما بمعنى سبق المجرد، أو بمعنى: تسابق [لا جائز أن يكون بمعنى: سبق؛ لأن المعنى ليس على اسبقوا الخيرات، فبقي أن يكون بمعنى: تسابق] ولا يتعدى بنفسه. و «الخيرات» جمع: خيرة، وفيها احتمالان. أحدهما: أن تكون مخففة من «خَيِّرة» بالتشديد بوزن «فَيْعِلة» نحو: مَيْت في مَيِّت. والثاني: أن تكون غير مخففة، بل تثبت على «فَعْلَة» بوزن «جفْنَة» ، يقال: رجل خير وامرأة خير، وعلى كلا التقديرين فليسا للتفضيل. والسبق: الوصول إلى الشيء أولاً، وأصله التقدم في السير، ثم تجوز به في كل ما تقدم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 فصل في المسابقة إلى الصلاة من قال: إنَّ الصلاة في أول الوقت أفضل استدل بقوله: «فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ» ؛ قال: لأن الصلاة خير لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «خَيْرُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلاَةُ» وظاهر الأمر بالسبق للوجوب، فإذا لم يتحقق فلا أقل من الندب. وأيضاً قوله تعالى: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [الحديد: 21] ومعناه: إلى ما يوجب المغفرة، والصلاة مما يوجب المغفرة، فوجب أن تكون المسابقة إليها مندوبة. وأيضاً قوله تعالى: {والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 10 - 11] . والمراد منه: السابقون في الطاعات، والصلاة من الطاعات، وأيضاً أنه مدح الأنبياء المقدمين بقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات} [الأنبياء: 90] ، والصلاة من الخيرات، كما بَيّنا. وأيضاً أنه تعالى ذم إبْليس في ترك المُسَارعة فقال: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12] . وأيضاً قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات} [البقرة: 238] والمحافظة لا تحصل إلا بالتَّعْجيل، ليأمن الفوت بالنسيان. وأيضاً قوله تعالى حكاية عن موسى عليه السلام: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} [طه: 84] فثبت أن الاستعجال أولى. وأيضاً قوله تعالى: {} [الحديد: 10] فبين أن المسابقة سبب لمزيد الفضيلة، وأيضاً ما روي عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «الصَّلاَةُ في أَوَّلِ الوَقْتِ رَضْوَانُ اللهِ وَفِي آخِرِهِ عَفْوُ اللهِ» . قال الصديق رَضِيَ اللهُ عَنْه: رضوان الله أحب إلينا من عَفْوه. قال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: رضوان الله إنما يكون للمحسنين، والعفو يوشك أن يكون عن المقصرين. فإن قيل: هذا الاحتجاج يقتضي أن يأثم بالتأخير، وأجمعنا على أنه لا يأثم، فلم يبق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 إلا أن يكون معناه: أن الفعل في آخر الوقت يوجب العفو عن السيئات السابقة، وما كان كذلك فلا شك أنه يوجب رضوان الله، فكان التأخير موجباً للعفو والرضوان، فكان التأخير أوْلى. فالجواب: أنه لو كان كذلك لوجب أن يكون تأخير المغرب أفضل، وذلك لم يقله أحد، وأيضاً عدم المُسَارعة إلى الامتثال يشبه عدم الالتفات، وذلك يقتضي العقاب، إلاّ أنه لما أتى بالفعل بعد ذلك سقط ذلك الاقتضاء، وأيضاً أن تفسير أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللهُ عَنْه - يبطل هذا التأويل، [وروي عن ابن مسعود - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أنه سأل رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - أي الأعمال أفضل؟ قال: «الصَّلاَةُ لِمِيقَاتِهَا الأَوَّلِ» وأيضاً قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصَّلاَةَ وَقَدْ فَاتَهُ مِنْ أَوَّلِ الوَقْتِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَهْلِهِ وَمَالِهِ» وأيضاً إنا توافقنا على أن أحد أسباب الفضيلة فيما بين الصَّحابه المسابقة إلى الإسلام حتى وقع الخلاف الشَّديد بين أهل السُّنة وغيرهم أن أبا بكر أسبق إسلاماً أم عليّاً رَضِيَ اللهُ عَنْهما، وما ذاك إلا لاتفاهم على ان المُسَابقة في الطاعة توجب مزيد الفضل. [وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في خطبة له: «بَادِرُوا بِالأعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ تَشْتَغِلُوا» والصَّلاة من الأعمال الصالحة] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 وأيضاً تعجيل حقوق الآدميين أفضل من تأخيرها، فوجب أن يكون [الحال في أداء] حقوق الله - تعالى - كذلك لرعاية التعظيم. وأيضاً المبادرة والمسارعة إلى الصلاة إظهار للحصر على الطاعة، والولوع بها، والرغبة فيها وفي التأخير كَسَلٌ عنها، فيكون الأول أَوْلى. [وأيضاً فإن المبادرة احتياط، لأنه إذا أدَّاها في أوّل الوقت تفرغت ذمته، وإذا أخّرها ربما حصل له شغل، فمنعه من أدائها، فالوجه الذي يحصل به الاحتياط أولى. فإن قيل: تنتقض هذه الدلائل بالظّهر في شدة الحر، وبما إذا حصل له إدْرَاك الجماعة، أو وجود الماء. قلنا: التأخير في هذه المواضع لأمور عارضة، والكلام إنما هو في مقتضى الأصل] . فصل في التغليس في صلاة الفجر قال الشافعي - رضي الله تعالى عنه - التَّغْليس في صلاة الفجر أفضل، وهو مذهب أبي بكر وعمر، وقول مالك وأحمد رَضِيَ اللهُ عَنْهم. وقال أبو محمد: يستحب أن يدخل فيها بالتّغليس. واحتج الأولون بما تقدم من الآية، وبما روت عائشة رَضِيَ اللهُ عَنْها قال: كان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم يصلي الصبح، فينصرف والنساء متلفّعات بِمُرُوطِهِنّ ما يعرفهنّ أحد من الغَلَس. فإن قيل: كان هذا في ابتداء الإسلام حين كان النساء يحضرون الجماعات، فكان النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصلي بالغَلًس كيلا يعرفن. وهكذا كان عمر رَضِيَ اللهُ عَنْه يصلي بالغَلَس، ثم لما نُهِين عن الحضور في الجماعات ترك ذلك. قلنا: الأصل عدم النسخ، وإن سلم النسخ فالمنسوخ إنما هو حضور النساء لا الصلاة. وروى أنس عن زيد بن ثابت قال: تسحَّرنا مع رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - ثم قمنا إلى الصلاة، قال أنس: قلت لزيد كم كان قدر ذلك؟ قال: قدر خمسين آية، وهذا يدلّ أيضاً لى التَّغْليس، وروي عن أبي مسعود الأنصاري أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غَلَّسَ بالصبح، ثم أسفر مرة، ثم لم يعد إلى الإسفار حتى قبضه الله تعالى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 وأيضاً فإن النوم في ذلك الوقت أَطْيب، فيكون تركه أشقّ، فوجب أن يكون ثوابه أكثر، لقوله عليه السلام: «أَفْضَلُ العِبَادَاتِ أَحْمَزُهَا» أي: أشقّها. واحتج أبو حنيفة بوجوه: أحدها: قوله عليه السلام: «أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ فَإِنَّهُ أَعْظَمُ لِلأَجْرِ» وروى عبد الله بن مسعود أنه صلى الفجر ب «المزدلفة» فغلس، ثم قال ابن مسعود: ما رأيت رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلاة إلا لميقاتها إلا صلاة الفجر. ويروى عن أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْه - أنه صلى الفجر، فقرأ «آل عمران» ، فقالوا: كادت الشمس أن تطلع، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين. وعن عمر أنه قرأ البقرة فاستشرقوا الشمس، فقال: لو طلعت لم تجدنا غافلين. وأيضاً فإن تأخير الصلاة يشتمل على فضيلة الانتظار. وقال عليه السلام: «المُنْتَظِرُ لِلصَّلاةِ كَمَنْ هُوَ في الصَّلاَةِ» ، فمن [أخر الصلاة عن أول وقتها فقد انتظر الصلاة أولاً، ثم بها ثانياً] ، ومن صلاّها في أول الوقت فقد فاته فضل الانتظار. وأيضاً: فإن التنوير يفضي إلى كثرة الجماعة فيكون أَوْلى. والجواب عن الأول أن الفجر اسم للنور الذي [يتفجر به ظلام] المشرق، فالفجر إنما يكون ضجْراً لوكانت الظلمة باقية في الهواء. فأما إذا زالت الظلمة بالكلية واستنار الهواء لم يكن ذلك فجراً. وأما الإسفار فهو عبارة عن الظهور، يقال: أسفرت المرأة عن وجهها إذا [كشفت عنه] ، إذا ثبت هذا فنقول: ظهر الفَجْر إنما يكون عند بقاء الظلام في الهواء، فإن الظالم كلما كان أشد كان النور الذي يظهر فيما بين ذلك الظلام أشد. فقوله: «أَسْفِرُوا بِالفَجْرِ» يجب أن يكون محمولاً على التَّغْليس، أي: كلما وقعت صلاتكم حين كان الفجر [أظهر كان] أكثر ثواباً. وقد بينا أن ذلك لا يكون إلا في أول الفجر، وهذا معنى قول الشافعي رَضِيَ اللهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 عَنْه عنه: إن الإسفار المذكور في الحديث مَحْمُول على تيقُّن طلوع الفجر، وزوال الشك عنه، والذي يدل على ما قلنا: أن الصلاة في ذلك الوقت أشق، فوجب أن يكون أكثر ثواباً. وأما تأخير الصلاة إلى وقت التنوير، فهو عادة أهل الكسل، وهذا جواب عن قول ابن مسعود أيضاً وأما باقي الوجوه فمعارض لبعض ما قدمناه. قوله: «أَيْنَمَا تَكُونُوا» «أين» اسم شرط تجزم فعلين ك «إن» ، و «ما» مزيدة عليها على سبيل الجواز، وهي ظرف مكان، وهي هنا في محلّ نصب خبراً ل «كان» ، وتقديمها واجب لتضمنها معنى ما له صدر الكلام. و «تكونوا» أيضاً مجزوم بها على الشرط، وهو الناصب لها، و «يأت» جوابها، وتكون أيضاً استفهاماً فلا تعمل شيئاً، وهي مبنية على الفتح لتضمن معنى حرف الشرط أو الاستفهام. [ودلت الآية على أنه قادر على جميع الممكنات، فوجب أن يكون قادراً على الإعادة؛ لأنها ممكنة، وهذا وَعْدٌ لأهل الطاعة، ووعيد] لأهل المعصية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 «مِنْ حَيْثُ» متعلق بقوله: «فولّ وَجْهَكَ» و «خرجت» في محلّ جر بإضافة «حيث» إليها، وقرأ عبد الله بالفتح، وقد تقدم أنها إحدى اللغات، ولا تكون هنا شرطية، لعدم زيادة «ما» ، والهاء في قوله: {وَإِنَّهُ للحَقُّ} الكلام فيها كالكلام عليها فيما تقدّم. فصل في الكلام على الآية أعلم أنه - تبارك وتعالى - قال أولاً: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] وذكر هاهنا ثانياً قوله تعالى: {} . ثم ذكر ثالثاً قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ثم ذكر ثالثاً قوله: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وحيث ما كنتم فولوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 وجوهكم شطره لئلا يكون للناس عليكم حجة} فما فائدة هذا التكرار؟ فيه أقوال: أحدها: أن الأحوال ثلاثة: أولها أن يكون الإنسان في المسجد الحرام. وثانيها: أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد. وثالثها: أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض. فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى، والثانية على الثانية، والثالثة على الثالثة؛ لأنه قد يتهّم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للبعد، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله - تعالى - هذه الآيات. والجواب: أنه علق بها كل مرة فائدة زائدة، ففي الأولى بين أن أهل الكتاي يعلمون أن أمر نبوة محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمر هذه القبلة حقّ؛ لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل. وفي الثانية بين أنه - تعالى - يشهد أن ذلك حقّ، وشهادة الله بكونه حقّاً مغايرة لعلم أهل الكتاب [حقّاً] . وفي الثالثة بين [فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجّة] ، فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة في المرات واحدة من هذه الفوائد، ونظيره قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ} [البقرة: 79] . وثالثها: لما قال في الأولى: {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] أي: إن التحويل ليس لمجرد رضان، بل لأجل أنه الحق الذي لا محيد عنه، فاستقبالها ليس لمجرد الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي يقيمون عليها بمجرّد الهوى والميل. ثم قال تعالى ثالثاً: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُمَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] والمراد منه الدوام على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات، وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخاً. ورابعها: أنه قرن كل آية بمعنى، فقرن الأولى وهي القبلة التي يرضاها ويحبّها بالقبلة التي كانوا يحبونها، وهي قبلة إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقرن الآية الثانية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 بقوله: {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148] أي: لكل صاحب ملّة قبلة يتوجّه غليها، فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله انها حقٌّ، وقرن الثالثة بقطع الله - تعالى - حجّة من خاض من اليهود في أمر القِبْلَةِ، فكانت هذه عللاً ثلاثاً قرن بكل واحدة منها أمراً بالتزام القبلة. نظيره أن يقال: الزم هذه القبلة كأنها القبلة التي كنت تهواها، ثم يقال: الزم هذه القبلة، فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى، وهو قوله: {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} ثم يقال: الزم هذه القبلة، فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى: {فَبِأَيِّ آلااء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 16] وكذلك ما كرر في قوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء: 8] . وخامسها: أن هذه الواقعة أوّل الوقائع التي ظهر النَّسخ فيها في شرعنا، فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير، وإزالة الشبهة، وإيضاح البينات. أما قوله سبحانه وتعالى: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} يعني: ما يعمله هؤلاء المعاندون الذين يكتمون الحق، وهم يعرفونه، ويدخلون الشبهة على العامة بقولهم: {مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142] وبأنه قد اشتاق إلى مولده، ودين آبائه، فإن الله عالم بهذا فأنزل ما أبطله. [وقد تقدم الكلام على نفي الغَفْلة وعدم ذكر العلم] . قوله تعالى: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ} هذه لام «كي» بعدها «أن» المصدرية الناصبة للمضارع، و «لا» نافية واقعة بين الناصب ومنصوبه، كما تقع بين الجازم ومجزومه نحو: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ} [الأنفال: 73] و «أن» هنا واجبة الإظهار، إذ لو أضمرت لثقل اللَّفظ بتوالي لامين، ولام الجر متعلقة بقوله سبحانه وتعالى: {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ} . وقال أبو البقاء: متعلّقة بمحذوف تقديره: فعلنا ذلك لئلا، ولا حاجة إلى ذلك، و «للناس» خبر ل «يكون» مقدّم على اسمها، وهو «حجّة» ، و «عليكم» في محل نصب على الحال؛ لأنه في الأصل صفة النكرة، فلما تقدم عليها انتصب حالاً، ولا يتعلق ب «حجة» لئلاّ يلزم تقديم معمول المصدر عليه، وهو ممتنع؛ لأنه في تأويل صلة وموصول، وقد قال بعضهم: يتعلّق ب «حجة» وهو ضعيف، ويجوز أن يكون «عليكم» خبراً ل «يكون» ويتعلق «للناس» ب «يكون» على رأي من يرى أن «كان» الناقصة تعمل في الظرف وشبهه، وذكر الفعل في قوله «يكون» ؛ لأن تأنيث الحجّة غير حقيقي، وحسن ذلك الفصل أيضاً. [وقال أبو روق: المراد ب «النَّاس» : أهل الكتاب. ونقل عن قتادة والربيع: أنهم وجدوا في كتابهم أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تحوّل إلى القبلة، فلما حوّلت بطلت حجّتهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 «إلا الذين ظلموا» ؛ بسبب أنهم كتموا ما عرفوا. وقيل: لام أوردوا تلك الشبهة معتقدين أنها حجّة سماها تعالى حجّة، بناءً على معتقدهم، أو لعله - تعالى - سمّاها حجّة تهكُّماً بهم. وقيل: أراد بالحجة المحاجّة، فقال: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} فإنهم يحاجونكم بالباطل] . قوله تعالى: «إلاَّ الَّذِينَ» قرأ الجمهور «إلاَّ» بكسر «الهمزة» وتشديد «اللام» . وقرأ ابن عباس، وزيد بن علي، وابن زيد بفتحها، وتخفيف «اللام» على أنها للاستفتاح. فأما قراءة الجمهور فاختلف النحويون في تأويلها على أربعة أقوال: أظهرها: وهو اختيار الطبري، وبدأ به ابن عطية، ولم يذكر الزمخشري غيره أنه استثناء متصل. قال الزمخشري: معناه لئلا يكون حجّة لأحد من اليهود إلا للمعاندين منهم القائلين: ما ترك قِبْلَتنا إلى الكعبة إلا ميلاً لدين قومه، وحبّاً لهم، وأطلق على قولهم: «حجّة» ؛ لأنهم ساقوه مساق الحجة. والحجّة كما أنها تكون صحيحة، فقد تكون أيضاً باطلة، قال الله تعالى: {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ} [الشوى: 16] . وقال تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} [آل عمران: 61] والمحاجّة هي أن يورد كل واحد من المحق والمبطل على صاحبه حجّة، وهذا يقتضي أن الذي يورده المبطل يسمى بالحجّة، ولأن الحجّة اشتقاقها من حَجَّه إذا علا عليه، فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجّة. وقال بعضهم: إنها مأخوذة من محجّة الطريق، فكل كلام يتّخذه الإنسان مسلكاً لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجّة. وقال ابن عطية: المعنى أنه لا حجّة لأحد عليكم إلا الحجة الداحضة للذين ظلموا من اليهود وغيرهم الذين تكلموا في النازلة، وسماها حجّة وحكم بفسادها حين كانت من ظالم. الثاني: أنه استثناء منقطع، فيقدر ب «لكن» عند البصريين، وب «بل» عند الكوفيين؛ لأنه استثناء من غير الأول، والتقدير: لكن الذين ظلموا، فإنهم يتعلقون عليكم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 بالشبهة يضعونها موضع الحجة [نظيره قوله: {إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون إَلاَّ مَن ظَلَمَ} النمل: 10 - 11] . وقال: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ} [هود: 43] . ويقال: ما له عليّ مِنْ حقَ إلاّ التعدي، أي: لكنه يتعدى] . ومثار الخلاف هو: هل الحجّة هي الدليل الصحيح، أن الاحتجاج صحيحاً كان أو فاسداً؟ فعلى الأولى يكون منقطعاً، وعلى الثاني يكون متصلاً. الثالث: وهو قول أبي عبيدة أن «إلا» بمعنى «الواو» العاطفة وجعل من ذلك قوله: [الوافر] 843 - وَكُلُّ أَخٍ مُفَارِقُهُ أَخْوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدانِ يَعْني: والفرقدان. وقول الآخر: [البسيط] 844 - مَا بِالمَدِينَةِ دَارٌ غَيرُ وَاحِدَةٍ ... دَارُ الخَلِيفَةِ إِلاَّ دَارُ مَرْوَانَا تقدير ذلك عنده: «ولا الذين ظلموا، والفرقدان، ودار مروان» وقد خطأه النحاة في ذلك كالزجاج وغيره. الرابع: أن «إلا بمعنى بعد، أي: بعد الذين ظلموا، وجعل منه قول الله تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] . وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] تقديره: بعد الموتة، وبعد ما قد سلف، هذا من أَفْسَد الأقوال، وأنكرها، وإنما ذكرته لغرض التنبيه على ضعفه. و» الذين «في محل نصب على الاستثناء على القولين اتّصالاً وانقطاعاً، وأجاز قطرب أن يكون في موضع جَرّ بدلاً من ضمير الخطاب في» عليكم «، والتقدير: لئلا تثبت حجّة للناس على غير الظالمين منهم، وهم أنتم أيها المخاطبون بتولية وجوهكم إلى القِبْلة. ونقل عنه أنه كان يقرأ:» إلاَّ على الذين «كأنه يكرر العامل في البدل على حَدْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 قوله: {لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] . وهذا عند جمهور البصريين ممتنع؛ لأنه يؤدي إلى بدل ظاهر من ضمير حاضر بدل كلّ من كل، ولم يجزه من البصريين إلا الأخفش، وتأول غيره ما ورد من ذلك. وأما قراءة ابن عباس ب» ألا «للاستفتاح، ففي محل» الذين «حينئذ ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه مبتدأ، وخبره قوله:» فَلاَ تَخْشَوْهُمْ «، وإنما دخلت» الفاء «في الخبر؛ لأن الموصول تضمن معنى الشرط، والماضي الواقع صلة مستقبل معنى كأنه قيل: من يظلم الناس فلا تخشوهمن ولولا دخول الفاء لترجّح النصب على الاشتغال، أي: لا تخشوا الذين ظلموا لا تخشوهم. الثاني: أن يكون منصوباً بإضمار فعل على الاشتغال، وذلك على قول الأخفش، فإنه يجيز زيادة الفاء. الثالث: نقله ابن عطية أن يكون منصوباً على الإغراء. ونقل عن ابن مجاهد أنه قرأ:» إلى الَّذِينَ ظَلَمُوا «وجعل» إلى «حرف جر متأولاً لذلك بأنها بمعنى» مع «، والتقدير: لئلا يكون للناس عليكم حجة مع الذين، والظاهر أن هذا الراوي وقع في سمعه» إلا الذين «بتخفيف» إلاَ «فاعتقد ذلك فيها، وله نظائر مذكورة عندهم. و» فم «في محل نصب على الحال فيتعلّق بمحذوف، ويحتمل أن تكون» من «للتبعيض، وأن تكون للبيان. فصل في الكلام على هذه الحجة اعلم ان هذا الكلام يوهم حِجَاجاً وكلاماً تقدم من قبل في باب القِبْلَةِ عن القوم فأراد الله تعالى أن يبين أن تلك الحجّة تزول الآن باستقبال الكعبة. وفي كيفية تلك الحجة روايات: إحداها: أن اليهود قالوا: تخالفنا في ديننا وتتبع قبلتنا. وثانيها: قالوا: ألم يدر محمد أين يتوجه في صلاته حتى هديناه؟ وثالثها: أن العرب قالوا: إنه كان يقول: أنا على دين إبراهيم، والآن ترك التوجه إلى الكعبة، ومن ترك التوجّه إلى الكعبة، فقد ترك دين إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فصارت هذه الوجوه وَسَائِلَ لهم إلى الطعن في شرعه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، إلاّ أن الله - تعالى - لما علم أن الصلاح في ذلك أوجب عليهم التوجه إلى بيت المقدس لما فيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 المصلحة في الدين؛ لأن قولهم لا يؤثر في المصالح، وقد بينا من قبل تلك المصلحة وهي تمييز من اتبعه ب» مكة «ممن أقام على تكذيبه فإن ذلك الامتياز ما كان يظهر إلا بهذا الجنس ولما انتقل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إلى المدينة تغيرت المصلحة، فاقتضت الحكمة تحويل القبلة إلى الكعبة، فلهذا قال الله تعالى:» لئلا يكون للناس عليكم حجة يعني أنّ تلك الشبهة التي ذكروها تزول بسبب هذا التحويل، ولما كان فيهم من المعلوم من حاله أن يتعلق عند هذا التحويل بشبهة أخرى، وهو قول بعض العرب: إن محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عاد إلى ديننا في الكَعْبة وسيعود إلى ديننا بالكلية، وكان التمسك بهذه الشبهة، والاستمرار عليها سبباً للبقاء على الجهل والكفر، وذلك ظلم [للنفس] على ما قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] فلا جرم، قال الله تعالى {فَلاَ تَخْشَوهُمْ وَاخْشَوْنِ} . أي: لا تخشوا من يتعنّت ويجادل، ولا تخافوا طعنهم في قبلتكم، فإنهم يضرونكم، واخشوني، واحذروا عقابي إن عدلتم عما ألزمتكم، وفرضت عليكم. و «الخَشْية» : أصلها: طمأنينة في القلب تبعث على التوقي والخوف و «الخوف» : فزع في القلب تخف له الأعضاء، ولخفّة الأعضاء به يسمى خوفاً، ومعه التحقير لك من سوى الله تعالى، والأمر باطّراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى. قال بعضهم: الخوف أوّل المراتب، وهو الفزع، ثم بعده الوَجَل، ثم الخَشْية، ثم الرَّهْبة] . قوله: «وَلأُتِمَّ» فيه أربعة أوجه: أظهرها: أنه معطوف على قوله: «لِئَلاَّ يَكُونَ» كأن المعنى: عرفناكم وجه الصواب في قبلتكم، والحجة لكم لانتفاء حجج الناس عليكم، ولإتمام النعمة، فيكون التعريف معلّلاً بهاتين العلّتين: [إحداهما: لانقطاع حجّتهم عنه. والثانية: لإتمام النعمة. وقد بَيَّن مسلم الأصفهاني ما في ذلك من النعمة، وهو القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما يفعلون، فلما حُوِّل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى «بيت المقدس» لحقهم ضعف قلب، ولذلك كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يحب التحوّل إلى الكعبة، لما فيها من شرف البُقْعة، فهذا موضع النعمة] ، والفصل بالاستثناء وما بعده كَلاَ فَصْلٍ إذ هو من متعلق العلة الأولى. الثاني: أنه معطوف على علّة محذوفة، وكلاهما [معلولها] الخشية السابقة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 فكأنه قيل: واخشوني [لأوفقكم] ولأتم نعمتي عليكم. الثالث: أنه متعلّق بفعل محذوف مقدر بعده تقديره: وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ عرفتكم أمر قبلتكم «. الرابع: وهو أضعفها أن تكون متعلقة بالفعل قبلها، و «الواو» زائدة، تقديره: واخشوني لأتم نعمتي. وهذه لام «كي» و «أن» مضمرة بعدها ناصبة للمضارع، فينسبك منهما مصر مجرور باللام وتقدم تحقيقه، و «عليكم» فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلق ب «أتمّ» . الثاني: أن يتعلق بمحذوف على أ، هـ حال من «نعمتي» ، أي: كائنة عليكم. فإن قيل: إنه - تعالى - أنزل عند قرب وفاة رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم، فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} ؟! فالجواب: أنا قلنا تمام النعمة اللاَّئقة في كل وقت هو الذي خص به. وعن عليّ رَضِيَ اللهُ عَنْه: تمام النعمة الموت على الإسلام. وقوله: «لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ» فيه سؤال، وهو أن لَفْظَه التَّرَجِّي، وهو في حق الله - تعالى - مُحَال؛ لأنه يعلم الأشياء على ما هي عليه. وأجيب عن ذلك بوجهين: الأول: أن الترجي في الآية الكريمة بالنسبة إلى المخاطبين أي: بإتمام النعمة ترجون الثَّواب والاهتداء إلى دلائل التوحيد. الثاني: قال بعض المفسرين: كل لفظ «لعلّ» في القرآن الكريم المراد به التحقيق كقول الملك لمن طلب منه حاجة وأراد ذلك قضاها، فنقول لطالب الحاجة: لعلّ حاجتك تقضى. والاهتداء يطلق، ويراد به بيان الأدلة كقوله تعالى: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] الآية، ويطلق ويراد به الاهتداء إلى الحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 قوله تعالى: «كَمَآ أَرْسَلْنَا» : الكاف من قوله: «كما» فيها قولان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 أظهرها: أنها للتشبيه. والثاني: أنها للتعليل، فعلى القول الأول تكون نعت مصدر محذوف. واختفوا في متعلقها حينئذ على خمسة أوجه: أحدها: أنها متعلقة بقوله: «ولأتم» تقديره: ولأتم نعمتي عليكم إتماماً مثل إتمام الرسول فيكم، ومتعلّق الإتمامين مختلف، فالأول بالثواب في الآخرة، والثاني بإرسال الرسول في الدنيا، أو الأول بإيجاب الدعوة الأولى لإبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في قوله: {وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أَمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ} [البقرة: 138] والثاني بإجابة الدعوى الثانية في قوله: {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 129] [قاله ابن جرير] ، ورجحه مكي؛ لأن سياق اللفظ يدلّ على أن المعنى: ولأتم نعمتي عليكم ببيانه ملة أبيكم إبراهيم، كما أجبنا دعوته فيكم، فأرسلنا إليكم رسولاً منكم. والثاني: أنها متعلّقة ب «تهتدون» ، تقديره: يهتدون اهتداء مثل إرسالنا فيكم رسولاً، ويكون تشبيه الهداية بالإرسال في التحقيق والثبوت أي: اهتداء متحققاً كتحقيق إرسالنا. الثالث: وهو قول أبي مسلم: أنها متعلقة بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] ، أي: جعلاً مثل إرسالنا. وهذا بعيد داً؛ لطول الفصل المؤذن بالانقطاع. الرابع: أنها متعلقة بما بعدها وهو «اذكروني» [قال مجاهد وعطاء والكلبي: وروي عن علي رَضِيَ اللهُ عَنْه، واختاره الزَّجاج: كما أرلنا فيكم رسولاً تعرفونه بالمصدق فاكروني بالتوحيد والتصديق به، وعلى هذا فالوقف على «تهتدون» جائز] . قال الزمخشري: كما ذكرتكم بإرسال الرسل، فاذكروني بالطاعة أذكركم بالثواب، فيكون على تقدير مصدر محذوف، وعلى تقدير مضاف أي: اذكروني ذكراً من ذكرنا لكم بالإرسال، ثم صار: مثل ذكر إرسالنا، ثم حذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهذا كما تقول: كما أتاك فلان فإنه يكرمك، و «الفاء» غير مانعة من ذلك. قال أبو البقاء: «كما» لم تمنع في باب الشرط يعني أن ما بعد فاء الجزاء يعمل فيما قبلها. وقد ردّ مكي هذا بأن الأمر إذا كان له جواب لم يتعلق به ما قبله لاشتغاله بجوابه و «اذكروني» قد أجيب بقوله: «أذكركم» فلا يتعلق به ما قبله. قال: ولا يجوز ذلك إلا في التشبيه بالشرط الذي يجاب بجوابين، نحو: إذا أتاك فلان فأكرمه تَرْضَهْ، فيكون «كما» ، و «فأذكركم» جوابين للأمر، والاول أفصح وأشهر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 وتقول: «كما أحسنت إليك فأكرمني» فيصح أن تجعل الكاف متعلقة ب «أكرمني» إذ لا جواب له. وهذا الشرط منعه مكّي قال أبو حيان: «لا نعلم خلافاً في جوازه» . وأما قوله: إلا أن يشبه بالشرط، وجعله «كما» جواباً للأمر، فليس بتشبيه صحيح، ولا يتعقل، وللاحتجاج عليه موضع غير هذا الكتاب. قال أبو حيان: وإنما يخدش هذا عندي وجود الفاء، فإنها لا يعمل ما بعدها فيما قبلها وتبعد زيادتها. انتهى. وقد تقدم [قول] أبي البقاء في أنها غير مانعة من ذلك. الخامس: أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال من «نعمتي» والتقدير: ولأتم نعمتي مُشبِهَةً إرسالنا فيكم رسولاً، أي: مشبهة نعمة الإرْسَال، فيكون على حذف مضاف. [وقال مكي: في «إعراب المشكل» : فإن شئت جعلت «الكاف» في موضع نصب على الحال من الكاف والميم في «عليكم» ] . وأما على القول بأنها للتعليل، فتتعلّق بما بعدها وهو قوله: «فاذكروني» أي: اذكروني لأجل إرسالنا فيكم رسولاً، وكون «الكاف» للتعليل واضح، وجعل بعضهم منه: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] ، وقول الآخر: [الراجز] 845 - لاَ تَشْتُمِ النَّاس كَمَا لاَ تُشْتَم ... أي: لا تَشتم لامتناع النَّاس من شَتمك. وفي «ما» المتّصلة بهذه «الكاف» ثلاثة أوجه: أظهرها: أنها مصدرية، وقد تقدم تحريره. والثاني: أنها بمعنى الذي، والعائد محذوف، و «رسولاً» بدل منه، والتقدير: كالذي أرسلناه رسولاً، وهذا بعيد جداً. وأيضاً فإن فيه قوع «ما» على آحاد العقلاء، وهو قول مرجوح. الثالث: أنها كافة «للكاف» كهي في قوله: [الوافر] 846 - لَعَمْرُكَ إِنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدِ ... كَمَا النَّشْوَانُ وَالرَّجُلُ الحَلِيمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 ولا حاجة إلى هذا، فإنه لا يُصَار إلى ذلك إلاّ حيث تعذّر أن ينسبك منها ومما بعدها مصدر، كما إذا اتصلت بجملة اسمية كالبيت المتقدم. و «منكم» في محلّ نصب؛ لأنه صفة ل «رسولاً» ، وكذلك ما بعده من الجمل، ويحتمل أن تكون الجمل بعده حالاً لتخصيص النكرة بوصفها بقوله: «منكم» ، وأتي بهذه الصفات بصيغة المضارع؛ لأنه يدل على التجدد والحدوث، وهو مقصود هاهنا، بخلاف كون «منهم» ، فإنه وصف ثابت له، [وقوله: «فيكم» و «منكم» ، أي: من العرب، وفي إرساله فيهم رسولاً، ومنهم نِعَمٌ عليهم عظيمة؛ لما لهم فيه من الشَّرَفِ، وأن المشهور من حال العرب الأَنَفَةُ الشديدة من الانقياد إلى الغير، فبعثه الله - تعالى - من واسطتهم ليقرب قبولهم. وقوله: «يَتْلُو عَلَيْكُمْ» فيه نِعَمٌ عليكم عظيمة؛ لأنه معجزة باقية تتأذى به العبادات ومستفاد منه مجامع الأخلاق الحميدة. واعلم أنه إن كان المراد بالآيات القرآن، فالتلاوة فيه ظاهرة. وإن كان المراد بالآيات المعجزات، فمعنى التلاوة لها تتابعها؛ لأنَّ الأصل في التلاوة التتابع، يقال: جاء القوم يتلو بعضهم بعضاً أي بعضهم إثْرَ بعض] ، وهنا قدم التزكية على التعليم، وفي دعاء إبراهيم بالعكس. والفرق أن المراد بالتزكية هنا التطهير من الكفر، وكذلك فسروه. وهناك المراد بها الشهادة بأنهم خيار أزكياء، وذلك متأخر عن تعلم الشرائع والعمل بها. [وقال الحسن: «يزكّيكم» يعلّمكم ما إذا تمسّكتم به صرتم أزكياء. وقال أبو مسلم: «التزكية» عبارة عن التَّنمية، كأنه قال: يكثركم؛ كقوله تعالى {إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} [الأعراف: 86] ، وذلك بأن يجمعهم على الحق فيتواصلوا ويكثروا] . وقوله: {يُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} بعد قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة} باب ذكر العام بعد الخاص، وهو قليل بخلاف عكسه. [وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب} بعد قوله: {يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} ليس بتكرار؛ لأن تلاوة القرآن عليهم غير تعليمه إياهم. وأما الحكمة فهي العلم بسائر الشرائع التي لم يشتمل القرآن على تفصيلها. وقال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: الحكمة هي سُنّة الرسول صلوات الله وسلامه عليه. وفي قوله تعالى: {وَيَعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} تَنْبِيهٌ على انه - تعالى - أرسله على حين فَتْرَةٍ من الرسل، وجهالة الأمم] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 اعلم أن الله - تعالى - كلفنا في هذه الآي بأمرين: الذكر، والشكر. أما الذكر فقد يكون باللسان، وقد يكون بالقلب، وقد يكون بالجوارح. فذكر اللسان الحمد، والتسبيح، والتمجيد، وقراءة كتابه. وذكر القلب التفكّر في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته، والتفكر في الجواب على الشبهة العارضة في تلك الدلائل، والتفكّر في الدلائل الدالة على كيفية تكاليفه من أوامره ونواهيه ووعده ووعيده، فإذا عرفوا كيفية التَّكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم، والتفكر في أسرار مخلوقاته. وأما الذكر بالجوارح، فهو عبارة عن كون الجوارح مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها، وعلى هذا سمى الله الصلاة ذكراً، بقوله تعالى: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} [الجمعة: 9] فقوله: «اذْكُرُوني» يتضمن الطاعات، ولهذا روي عن سيعد بن جبير أنه قال: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي فأجمله حتى يدخل الكل فيه. فصل في وروده الذكر في القرآن الذكر ورد على ثمانية أوجه: الأول: بمعنى الطاعة كهذه الآية أي: أطيعوني أغفر لكم. الثاني: العمل، قال تعالى: {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ} [البقرة: 63] أي: اعملوا بما فيه. الثالث: العِظَة، قال تعالى: {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين} [الذاريات: 55] أي العِظَة، ومثله {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} [الأنعام: 44] أي: ما وعظوا به. الرابع: الشَّرف قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44] ومثله: {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} [المؤمنين: 71] أي: بشرفهم، وقوله: {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي} [الأنبياء: 24] أي: شرف. الخامس: القرآن قال تعالى: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ص: 8] أي: القرآن، ومثله: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} [الأنبياء: 50] . السادس: التوراة قال تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر} [النحل: 43] أي: التوراة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 السابع: البيان، قال تعالى: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: 63] . الثامن: الصلاة، قال تعالى: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} [الجمعة: 9] . قوله: «أَذْكُرْكُمْ» هذا خطاب لأهل «مكة» والعرب. قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: اذكروني بطاعتي أذكركم بمعرفتي. وقيل: اذكروني في النعمة والرخاء أذكركم في الشدة والبلاء. بيانه قوله سبحانه وتعالى: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [الصافات: 143 - 144] . وقيل: اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة. قال تبارك وتعالى: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قاله أبو مسلم. وقيل: اذكروني في الدنيا أذكركم في الآخرة، وقيل: اذكروني بمَحَامدي أذكركم بهدَايتي. روى الحسن عن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: إني سمعت هذا الحديث من رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن الله - تَعَالَى - يقول: يَا ابْنَ آدَمَ إِنْ ذَكَرْتَنِي فِي نَفْسِكَ ذَكَرْتُكَ فِي نَفْسِي، وَإنْ ذَكَرْتَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُكَ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإنْ دَنَوْتَ مِنِّ شِبْراً دَنَوْتُ مِنْكَ ذِرَاعاً، وَإِنْ دَنَوْتَ مِنِّي ذِرَاعاً دَنَوْتُ مِنْكَ بَاعاً، وَإِنْ مَشَيْتَ إِلَيَّ هَرْوَلْتُ إِلَيْكَ، وإِنْ هَرْوَلْتَ إِلَيَّ سَعَيْتُ إِلَيْكَ، وإِنْ سَأَلْتَنِي أَعْطَيْتُكَ، وَإِنْ لَمْ تَسْأَلْنِي غَضِبْتُ عَلَيْكَ» وقال أبو عثمان النهدي: إني لأعلم الساعة التي يذكرون منها. قيل: ومن أين تعلمها؟ قال: اتقوا الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَاذْكُرُونِي أّذْكُرْكُمْ} . قوله: {واشكروا لِي} . تقدم أن «شَكَر» يتعدّى تارة بنفسه، وتارة بحرف جر على حد سواء على الصحيح. وقال بعضهم: إذا قلت: شكرت لزيد، فمعناه شكرت لزيد صَنِيْعَهُ، فجعلوه متعدياً لاثنين. أحدهما: بنفسه، والآخر بحرف الجر، ولذلك فسر الزمخشري هذا الموضع بقوله: «واشكروا لي ما أنعمت به عليكم» . وقال ابن عطية: «واشكروا لي، واشكروني بمعنى واحد» . و «لي» أفصح وأشهر مع الشّكر، ومعناه: نعمتي وَأَيَادِيَّ، وكذلك إذا قلت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 شكرتك. فالمعنى شكرت لك صنيعك وذكرته، فحذف المضاف؛ إذ معنى الشكر ذكر اليد، وذكر مُسْدِيها معاً، فما حذف من ذلك، فهو اختصار لدلالة ما بقي على ما حذف. وأصل الشكر في اللغة: الظهور، فشكر العبد لله - تعالى - ثناؤه عليه بذكر إحسانه، وشكر الله سبحانه للعبد ثناؤه عليه بطاعته له، إلا أن شكر العبد نُطق باللسان، وإقْرَار بالقلب بإنعام الرب. وقوله تعالى: {وَلاَ تَكْفُرُونِ} نهي ولذلك حذفتع منه نون الجماعة، وهذه نون المتكلم، وحذفت الياءح أنها رأس آية إثباتها أحسن في غير القرآن، أي: لا تكفروا نعمتي، فالكفر هنا سَتْر النعمة لا التكذيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 أعلم أنه - تعالى - لما أوجب بقوله «فاذكروني» جميع العبادات، وبقوله: {واشكروا لِي} ما يتصل بالشكر أردفه ببيان ما يعين عليهما، فقال: {استعينوا بالصبر والصلاة} وإنما خصّهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات. أما الصبر فهو قَهْر النفس على احتمال المَكَاره في ذات الله - تعالى - وتوطينها على تحمُّل المشاقّ، ومن كان كذلك سهل عليه فعل الطاعات، وتحمل مشاق العبادات، وتجنّب المحظورات. وأما الصلاة فلقوله تعالى: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [النعكبوت: 45] . ومن الناس من حمل الصبر على الصوم. ومنهم من حمله على الجهاد، لقوله تعالى بعده: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} [البقرة: 154] ولأنه - تعالى - أمره بالتثبت في الجهاد، فقال تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا} [الأنفال: 45] وبالتثبُّت في الصلاة وفي الدعاء، فقال تعالى: {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [آل عمران: 147] . فصل في أقسام الصبر وذكر الاستعانة والقول الأول أولى لعموم اللفظ وعدم تقيّده الاستعانة، ذكر الاستعانة بالصلاة ولم يذكر فيماذا يُسْتعان. فظاهره يدل على أن الاستعانة في كل الأمور، وذكر الصبر، وهو ينقسم إلى قسمين: أحدهما: الصبر على الطاعات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 والثاني: الصبر على الشدائد فهو يشملها وتقدم الكلام على المراد بالصلاة. قوله تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} . فالمعيّة على قسمين: أحدهما: معيّة عامة، وهي المعيذة بالعلم والقدرة، وهذه عامة في حق كل أحد. والثاني: معيّة خاصة وهي المعيّة بالعَوْن والنصر، وهذه خاصة بالمتقين والمحسنين والصابرين، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128] وقال هاهنا: {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} أي: بالعون والصبر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 قال ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: نزلت الآية في قَتْلِى «بدر» ، وقتل من المسلمين يومئذ أربعة شعر رجلاً: ستة من المهاجرين، وثمانية من الأنصار. فمن المهاجرين: عبيدة بن الحرث بن عبد المطلب، وعمر بن أبي وقاص، وذو الشمالين، وعمرو بن نفيلة، وعامر بن بكر، ومهجع بن عبد الله، ومن الأنصار: سعيد بن خيثمة، وقيس بن عبد المنذر، وزيد بن الحرث، وتميم بن الهمام، ورافع بن المعلى، وحارثة بن سراقة، ومعوذ بن عفراء، وعوف بن عفراء رضوان الله تعالى عليهم وكانوا يقولون: مات فلان ومات فلان، فنهى الله - تعالى - أن يقال فيهم: إنهم ماتوا. وقال بعضهم: إن الكفار والمنافقين قالوا: إنّ الناس يقتلون أنفسهم طلباً لمَرْضَاة محمد من غير فائدة فنزلت هذه الآية. فصل في المراد بحياء الشهداء اختلفوا في هذه الحياة. فقال أكثر المفسرين: إنهم في القبر أحياء كأن الله تعالى أحياهم لإيصال الثواب إليهم، وهذا دليل على أن المطيعين يصل ثوابهم إليهم وهو في القبور. فإن قيل: نحن نشاهد أجسادهم ميتة في القبور، فكيف يصح ما ذهبتم إليه؟ فالجواب: قال ابن الخطيب: أما عندما فالبنية ليست شرطاً في الحياة، ولا امتناع في أن يعيد الله الحياة إلى كلّ واحد من تلك الذّرات والأجزاء الصغيرة من غير حاجة إلى التركيب والتأليف. وأما عند المعتزلة فلا يبعد أن يعيد الله الحياة إلى الأجزاء التي لا بدّ منها في ماهية الحي، ولا يعتبر بالأطراف. ويحتمل أيضاً أن يحييهم إذا لم يشاهدوا. وقال الأصم: يعني لا تسمّوهم بالموتى، وقولوا لهم: الشهداء الأحياء، ويحتمل أن المشركين قالوا: هم أموات في الدين كما قال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 78 الأنعام: 122] فقال: ولا تقولوا للشهداء ما قاله المشركون، ولكن قولوا: هم أحياء في الدين، ولكن لا يشعرون [يعني المشركين لا يعلمون من قتل على دين محمد صلوات الله وسلامه عليه حيٌّ في الدين] وقال الكعبي وأبو مسلم الأصفهاني: إن المشركين كانوا يقولون: إن أصحاب محمد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقتلون أنفسهم، ويخسرون حياتهم، فيخرجون من الدنيا بلا فائدة، ويضيعون أعمارهم إلى غير شيء. وهؤلاء الذين قالوا ذلك، يحتمل أنهم كانوا دهرية ينكرون المعاد’، ويحتمل أنهم كانوا مؤمنين بالمعاد إلا أنهم منكرين لنبوة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فلذلك قالوا هذا الكلام، فقال الله تعالى ولا تقولوا كما قال المشركون: إنهم أموات لا ينشرون ولا ينتفعون بما تحملوا من الشدائد في الدّنيا، ولكن اعلموا أنهم أحياء، أي: سيحيون فيثابون وينعمون في الجنة، وتفسير قوله: «أحياء» بأنهم سيحيون غير بعيد، قال الله تعالى: {الأبرار لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ} [الانفطار: 13 - 14] ، وقال: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29] . وقال: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145] وقال {افَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [الحج: 56] . والقول الأول هو المشهور ويدل عليه وجوه: أحدها: الآيات الدالة على عذاب القبر كقوله تعالى: {قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} [غافر: 11] ، [والموتتان لا تحصلان إلا عند حصول الحياة في القبر] وقال الله تعالى: {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [نوح: 25] و «الفاء» للتعقيب. وقال: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46] وإذا ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضاً؛ لأن العذاب حقّ الله - تعالى - على العبد، والثواب حق للعبد على الله تعالى. وثانيها: أن المعنى لو كان على ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله: وَلَكِنْ لاَ يَشْعُرُونَ «معنى؛ لأن الخطاب للمؤمنين، وقد [كانوا يعلمون أنهم ماتوا على هدى وكون أنهم] كانوا لا يعلمون؛ أي أنهم سيحيون يوم القيامة. وثالثها: أن قوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} [آل عمران: 170] دليل على حصول الحياة في البَرْزَخِ قبل البعث. ورابعها: قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَاب القَبْرِ «وقوله:» القَبْرُ رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجَنَّةِ أَوْ حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النيران « الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 وخامسها: أنه لو كان المراد من قوله:» إنهم أحياء «أنهم سيحيون، فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا فائدة. قال القرطبي: والشهداء أحياء كما قال الله تعالى: وليس معناه أنهم سيحيون، إذ لو كان كذلك لم يكن بين الشهداء وبين غيرهم فرق إذ كل أحد سَيَحْيَا. ويدل على هذا قوله تبارك وتعالى: {وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ} والمؤمنون يشعرون أنهم سيحيون. وأجاب عنه أبو مسلم بأنه - تعالى - إنما خصهم بالذكر؛ لأن درجتهم في الجنة أرفع، ومنزلتهم أعلى وأشرف لقوله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَ ائِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَآءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69] فأرادهم بالذكر تعظيما. قال ابن الخطيب: هذا الجواب ضعيف؛ لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع أن الله - تعالى - ما خصهم بالذكر. وفي هذا الجواب نظر؛ لأن الآية الكريمة ليست في النبيين والصديقين، إنما هي في الشهداء. واحتج أبو مسلم بأنه - تعالى - ذكر هذه الآية في» آل عمران «فقال: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] وهذه العندية ليست بالمكان، بل بالكون في الجنة، ومعلوم أن أهل الثواب لا يدخلون الجنة إلا بعد القيامة. وقال ابن الخطيب: لا نسلم أن هذه العندية ليست إلا بالكون في الجنة، بل بإعلاء الدرجات، وإيصال البشارات إليه، وهو في القبر، أو في موضع آخر. وقال بعضهم: ثواب القبر وعذابه للروح لا للقالب، والكلام في هذه المسألة مذكور في غير هذا المكان. [قال الحسن: إن الشهداء هم أحياء عند الله - تعالى - تُعْرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الروح والفرج، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوة وعشية، فيصل إليهم الوَجَعُ] . قوله تعالى: «أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} خبر مبتدأ محذوف أي: لا تقولوا: هم أموات، وكذلك» أحياء «خبر مبتدأ محذوف أي: بل هم أحياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 [وقد راعى لفظ» من «مرة فأفرد في قوله:» يقتل «، ومعناها أخرى، فجمع في قوله:» أموات بل أحياء «] و» اللام «هنا للعلة، ولا تكون للتبليغ؛ لأنهم لم يُبَلِّغُوا الشهداء قوله هذا. والجملة من قوله:» هم أموات «في محلّ نصب بالقول؛ لأنها محكية به. وأما» بل هم أحياء «فيحتمل وجهين: أحدهما: ألا يكون له محل من الإعراب، بل هو إخبار من الله - تعالى - بأنهم أحياء، ويرجحه قوله: {وَلَكِنْ لاَ تَشْعُرُونَ} ؛ إذ المعنى لا شعور لكم بحياتهم. والثاني: أن يكون محلّه النصب بقول محذوف تقديره، بل قولوا: هم أحياء، ولا يجوز أن ينتصب بالقول الأول لفساد المعنى، وحذف مفعول» يشعرون «لفهم المعنى: أي بحياتهم، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 قال القفال [رَحِمَهُ اللهُ:] هذا متعلق بقوله تعالى: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] فإنما نبلوكم بالخَوْفِ وبكذا، وفيه مسائِلُ. فإن قيل: إنه تعالى قال: {واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] والشكرُ يوجب المزيدّ، لقوله: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] فكيف أردَفهُ بقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف} ؟ . [قال ابن الخطيب] : والجواب من وَجْهَيْنِ: الأولُ: أنه - تعالى - أخبر أَنَّ إكمَالَ الشرائعِ إتمامُ النعمةِ، فكأنه كذلك موجباً للشُّكْرِ، ثم أَخبر أن القيامَ بتلك الشرائع لا يُمْكِن إِلا بتحمّل المِحَن، فلا جَرَمَ أمر فيها بالصَّبْر. الثاني: أنه - تبارك وتعالى - أَنْعَم أولاً فأَمَر بالشكْر، ثم ابْتَلَى وأمر بالصَّبْرِ، لينال [الرجل] درجةَ الشاكرين وَالصَّابِرينَ مَعاً، فيكمل إيمانُهُ على ما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الإِيْمَانُ نِصْفَانِ نِصْفٌ صَبْرٌ، وَنِصْفٌ شُكْرٌ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 قال بعضَهم: الخطابُ لجميع أُمَّةِ محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال عَطاءٌ والرَّبِيعُ بنُ أَنس: المرادُ بهذه المخاطبةِ أصحاب النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعد الهِجْرة وهذا الابتلاءُ لإِظْهَارِ المطيع من العاصي لا ليعلم شيئاً، ولم يَكُنْ عَالِماً به، وقد يُطْلق الابتلاءُ على الأَمانةِ؛ كهذه الآية الكريمةِ، والمعنى: وليصيبنكُم اللهُ بشيْءٍ من الخوف، وقد تقدَّم الكلامُ فِيه، في قوله تعالى: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] . وفي حكمة هذا الابتلاء وجوه: أَحَدُهما: ليوطِّنُوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت، فيكُونُ ذلك أبعدَ لهم من الجَزَعِ، وأَسْهَل عليهم بعد الورُود. وثَانِيهَا: أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المِحَن، اشتَدَّ خَوْفُهم فيصير ذلك الخوفُ تَعْجِيلاً للابتلاءِن، فيستحِقُّون به مزيدّ الثَّوابِ. وثَالِثُهما: أن الكفارَ إذا شاهدوا محمداً وأصحَابَهُ مقِيمينَ على دينهم مُسْتقرّين عليه، مع ما كانوا عليه منْ نِهَاية الضر والمِحْنَةِ والجُوع، يَعْلَمُونَ أن القومَ إِنَّما اختاروا هذا الدِّينَ لقطْعِهم بصحّته، فيدعُوهم ذلك إِلى مَزِيد التأمَّل في دَلاَئِله. ومن المعلُوم الظَّاهِر أَنَّ التَّبَعَ إذا عَرَفُوا أن المتبوعَ في أَعْظَم المِحنَ بسبب المذهب الذي ينصرُه، ثم رأوه مع ذلك مُصِرّاً على ذلك المذهب كان ذلَك أَدْعَى لهم إلى اتَّباعِه مما إذا رأوه مُرَفّه الحَالِ، لا كُلْفة عليه في ذلك المذهب. ورَابِعُهَا: أنه تعالى أخبر بوقوُع ذلك الابتلاءِ قَبْل وقُوعِه، فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه، فكان ذلك إْباراً عن الغَيْب، فكان معجزاً. وخَامِسُها: أَنَّ من المُنَافِقِينَ مَنْ أَظْهَر متابعة الرسول صلوات الله وسلامه عليه طمعاً منه في المال، وسعة الرزق، فإذا اختبره تعالى بنزول هذه المحن فعند ذلك يتميز المنافق من الموافق؛ لأنَّ المنافِقَ إِذَا سَمِعَ ذلكن نَفَر منه، وتركَ دِينَه، فكانَ في هَذَا الاختبارِ هَذِهِ الفَائِدَةُ. وسَادِسُها: أن إخلاص الإنسان حالة [البلاء، ورجوعه إلى باب الله تعالى] أكثر من أخلاصه حال إقبال الدنيا عليه. قوله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» هذا جواب قسم محذوف، ومتى كان جوابه مضارعاً مثبتاً مستقبلاً، وجب تلقيه باللام وإحدى النونين خلافاً للكوفيين حيث يعاقبون بينهما، ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 يُجيز البصريون ذلك إلا في الضرورة، وفتح الفعل المضارع لاتصاله بالنون، وقد تقدم تحقق ذلك وما فيه من الخلاف. [قال القُرْطِبيُّ: وهذه «الوَاوُ» مفتوحَةٌ عِنْد سِيبَوَيْه؛ لالتِقَاءِ السّاكِنَين. وقال غيرُه: لَمَّا ضُمَّتَا إلى النُّونِ الثَّقِيلَةِ بُنِيَ الفِعْلُ مُضَارِعاً بمنزِلَةِ عَشَر، والبَلاَءُ يَكُون حَسَناً وَيَكُونُ سَيِّئاً، وأَصْلَهُ: المِحْنَةُ، وقدم تقدَّمَ] . قوله تعالى: «بِشَيء» متعلق بقوله: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ» و «الباء» معناها الإلصاق، وقراءة الجمهور على إفراد «شيء» ، ومعناها الدلالة على التقليل؛ إذ لوجمعه لاحتمل أن يكون ضرباً من كل واحد. وقرأ الضحاك بن مزاحم: «بأشياء» على الجمع. وقراءة الجمهول لا بد فيها من حذف تقديره: وبشيء من الجوع؛ وبشيء من النقص. وأما قراءة الضحاك فلا تحتاج إلى هذا. وقوله: «مِنَ الْخَوْفِ» في مَحَلّ جَرِّ صفة لشيء، فيتعلّق بمحذوف. فصل في أقسام ما يلاقيه الإنسان من المكاره أعْلَم أَنَّ كلّ ما يلاقي الإنسان من مكروه ومحبوب، فينقسم إلى موجود في الحال، وإلى ما كان موجوداً في الماضي، وإلى ما سَيُوجَدُ في المُسْتَقْبل. فإذا خَطَر بالبالِ [وجود شيء] فيما مضى سمي ذكراً وتذكراً، وإن كان مَوْجُوداً في الحَال يُسَمى ذوقاً ووجداً، وإنما سمي وَجْداً؛ لأنها حالةٌ تجدها مِنْ نَفْسِك. وإن خطر بالبالِ وُجُودُ شَيْءٍ في الاستقبال وغلب ذلك على القَلْبِ سُمِّيً انتظاراً وتوقّعاً. فإن كان المنتظر مكروهاً يحصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقاً، وإن كان محبوباً سمي ذلك ارتياحاً في القلب. فصل في الفرق بين الخوْف والجُوع والنَّقْص قال ابنُ عباسٍ رَضي الله عنهما: الخوفُ خوفُ العَدُوِّ والجُوع القَحْط، والنقصُ مِنَ الأَمْوَالِ بالخُسْرَانِ والهَلاَكِ والأنفس بمعنى القتل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 وقيل: بالمرض والسبي. وقال القفال رَحِمَهُ اللهُ: أما الخوف الشديد فقد حصل لهم عند مكاشفتهم العرب بسبب الدّين، فكانوا لا يؤمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم، وقد كان من الخوف وقعة «الأحزاب» ما كان، قال الله تعالى: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب: 11] . وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى «المدينة» لقلّة أموالهم، حتى أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ [كان يشدّ الحجر على بطنه. وروى أبو الهيثم من التّيهان أنه - عليه السلام]- لما خرج التقى بأبي بكر قال مَا أَخْرَجَكَ؟ قال: الجُوعُ، قال: أَخْرَجَنِي مَا أَخْرَجَكَ [وأما نَقْصُ الأَمْوَالِ والأَنْفُسِ، فقد يَحْصُلُ ذلك عند مُحَاربة العَدُوِّ، بأَنْ ينفق مَالَهُ في الاسْتِعْدادِ والجهَادِ، وقد يُقْتَلُ؛ فهناك يحصلُ النَّقْصُ في المال والنفس] وقال اللهُ تَعَالَى: {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} [التوبة: 41] وقد يحصلُ الجُوعُ في سفر الجِهَادِ عند فَنَاءِ الزَّادِ؛ قال الله تعالى: {ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله} [التوبة: 120] . وأما نقص الثمرات فقد يكون بالجَدْب، وقد يكون بترك عِمَارة الضِّيَاع للاشتغال بجهاد الأعداء، وقد يكون ذلك بالإنْفَاق على من كان يَرِدُ على رسول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الوفود. قال الشافعي رَضِيَ اللهُ عَنْه: الخوف: خوف الله عَزَّ وَجَلَّ، والجوع: صيام شهر رَمَضان، والنقص من الأموال: بالزكوات والصدقات، ومن الأنفس بالأمراض، ومن الثمرات، موت الأولاد. قولهُ تَعَالى: «وَنَقْصٍ» فِيه وَجْهان: أَحدُهُما: أَنْ يكُونَ معطوفاً على «شَيْءٍ» ، والمعنى: بشيءٍ من الخَوْفِ وبنقص. والثَّانِي: أن يكون مَعْطوفاً على الخَوْفِ، أَيْ: شيءٌ من نقص الأموال. والأول أَوْلَى؛ لاشتراكهما في التنكير. قَوْلَهُ: «مِنَ الأَمْوَالِ» فيه خَمْسة أَوْجُه: أَحدها: أَنْ يكونَ مُتعَلقاً ب «نقص» ؛ لأنه مصدر «نقص» ، وهو يتعدَّى إلى واحدٍ، وقد حُذِف، أَيْ: ونقص شيء مِنْ كَذا. الثَّانِي، أَنْ يَكُونَ في محلّ جَرٍّ صفة لذلك المحذوف، فيتعلّق بمحذوف، أي ونقص شيء كائن من كذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 الثَّالِثُ: أَنْ يكونَ في محلِّ نَصْبٍ صفَةً لمفعول مَحْذُوفٍ نصب بهذا المصدر المنون، والتقديرُ: ونقصُ شيء كَائِنٌ من كذا، ذكره أَبُوا الْبَقَاء. ويكونُ مَعنى «منْ» على هذين الوجهين التَّبْعِيضُ. الرَّابعُ: أَنْ يكون في محل جرِّ صِفَةً ل «نَقص» ، فيتعلق بمحذوف أيضاً، أَيْ: نقص كائن من كذا، وتكونُ «مِنْ» لابتداء الغَايَةِ. الخِامِسُ: أن تكون «مِنْ» زائدةً عن الأَخْفَشِ، وحينئذ لا تعلّق لها بِشَيْءٍ. قوله تعالى: «وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ» الخِطَابُ لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولمن أتَى بَعْدَهُ من أمته، أي: الصابرين على ابَلاَءِ والرَّزَايا، أي بشرهم بالثواب على الصبر، والصبر أصله الحبس وثوابه غير مقدر، ولكن لاَ يكُون ذلك إلا بالصَّبْر عند الصَّدْمَة الأولى [لقوله عليه الصلاةُ والسَّلامُ: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُوْلَى» ] أي الشاقة على النفس الذي يَعْظُمُ الثوابُ عليه، إنما هو عند هُجُوم المُصيبة ومَرَارتها. والصَّبْرُ صَبْرانِ؛ صَبْرٌ عن معصية الله تعالى فهذا مُجَاهِدٌ، والصبرُ عَلَى طَاعَةِ الله فهذا عَابِدٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 في قوله: «الَّذِينَ» أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ. أحدُها: أَنْ يكُونَ منصوباً على النَّعْتِ للصابرين، وهو الأَصُحّ. الثَّانِي: أن يكون مَنْصُوباً على المدْحِ. الثَّالِثُ: أن يكون مَرْفُوعاً على خبر مبتدأ محذوف، أَيْ هُمُ الذينَ، وحينئذٍ يحتمل أن يكون على القطع، وأَنْ يكونَ على الاستئنافِ. الرَّابُعُ: أَنْ يَكُون مُبْتَدأً، والْجُمْلَةُ الشرطية مِنْ «إِذا» وَجَوابِهَا صلةٌ، وخبرَهُ ما بعده مِنْ قولِه: {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 قولُه تعالى: {أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ} . والمصيبةُ: [كُلُّ ما يُذي المؤْمِنَ وَيصِيبُهُ] ، يقالُ: أَصابَهُ إِصَابَة ومُصَابة ومُصَاباً. والمصيبةُ: وَاحِدُ المَصَائب. والمَصُوبَةُ «بضم الصَّادِ» مِثْلُ المصيبَةِ. وأجمعتِ العربُ على هَمْزِ المَصَائب، وأَصْلُهُ «الواو» ، كَأَنَّهم شَبَّهوا الأَصْلي بالزائد ويُجْمَعُ على «مصاوب» ، وهو الأصْلُ، والمُصَابُ الإِصَابةُ، قال الشاعر: [الكامل] 847 - أَسُلَيْمُ إِنَّ مُصَابَكُمْ رَجُلاً ... أَهْدَى السَّلاَم تَحِيَّة طُلْمُ وصَابً السَّهْمُ القِرْطاسَ يُصيبه صَيْبًا لغةٌ في أَصَابَهُ. والمُصِيبَةُ: النَّكْبَةُ يُنْكَبُها الإنسانُ وإِنْ صَغُرَتْ، وتستعمل في الشر. قولهُ تعالى: «إِنَّا لِلَّهِ» إِنَّ وَاسْمَها وخَبَرَها في محلِّ نَصْبٍ بالقول، والأصلُ: إِنَّنَا بثلاث نوناتٍ، فحُذِفَتِ الأخيرةُ من «إِنَّ» لا الأُولَى، لأنه قد عُهِدَ حَذْفُها، ولأنها طرفٌ من الأطرافِ الأَوْلَى بالحذْفِ، لا يُقالُ: إنها لو حُذِفَتِ الثانيةُ لكانت مُخَفَّفةً، والمخففةُ لا تعمل على [الأَفْصَح] فكان يَنْبَغِي أَنْ تُلْغَى، فينفصل الضميرُ المرفوعُ حِينَئذٍ، إذْ لاَ عَمَلَ لهَا فيه، فدل عَدَمُ ذلك على أن المَحْذُوف النُّونُ الأُولَى لأن هذا الحذفَ حَذْفٌ لِتَوالِي الأَمْثَالِ لا ذلك الحذفُ المعْهُودُ في «إن» وأصابَتْهُمْ مُصيبةٌ من التَّجانُسِ المغاير؛ إذْ إِحْدَى كَلِمتِي المادَّةِ اسمٌ والأُخْرَى فِعْلٌ، ومثله: {أَزِفَتِ الآزفة} [النجم: 57] {وَقَعَتِ الواقعة} [الواقعة: 1] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 فصل في الكلام على الآية. قال بَعْضُهُم: «إِنَّا لِلَّهِ» إقرارٌ مِنَّا له بالمُلْكِ، «وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ» إِقْرارٌ على أنفُسنا بالهَلاَك، لا بمعنى الانتِقَال إلى مَكَانٍ أَوْ جِهَةٍ فإن ذلك على الله مُحَال، بل المرادُ أنه يَصيرُ إلى حَيثُ لا يَمْلِكُ الحُكْمَ سواه، وذلك هو الدَّارُ الآخرَةُ؛ لأَنَّ عند ذلك لا يَمْلكُ لهم أحدٌ نفعاً ولا ضرّاً، وما دَامُوا في الدنيا، قَدْ يَمْلِكُ غيرُ اللهِ نفعَهُمْ وضرهم بحسب الظاهِر، فجعل اللهُ - تعالى - هذا رُجُوعاً إليه تعالى، كما يُقالُ: إن المُلْكَ والدولة ترجعُ إليه لاَ بمعنى الانْتِقَالِ بل بمعنى القُدْرة، وترك المُنَازَعةِ. وقال بعضهم: {إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ} في الآخرة. [رُويَ عَنِ النَّبِيّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قَالَ: «مَنِ اسْتَرْجَعَ عِنْدَ المُصِيْبَةِ جَبَرَ اللهُ مُصِيبَتُهُ، وأَحْسَنَ عُقْبَاهُ، وَجَعَلَ اللهُ لَهُ خَلَفاً صَالِحاً يَرْضاه» وروي أنه طُفِئ سِرَاجُ رَسُولِ اللهِ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجُعونَ} . فقال: «إنا لله وإنّا إليه راجعون» ، فقيل: مُصِيبَةٌ هِيَ؟ قال: «نَعَمْ، كُلّ شَيْءٍ يُؤْذِي المُؤْمِنَ فَهُوَ مُصِيْبَةٌ» وقالت أُمُّ سَلَمَةَ: حدثني أَبُو سَلَمَةَ، أنه عليه الصلاةُ والسلام قال: «مَا مِنْ مُسْلِمِ يُصابُ مُصِيْبَةً فَيَفْزَعُ إِلَى مَا أَمَرَهُ اللهُ بِهِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، اللهُمَّ أُجْرْنِيّ فِي مُصِيْبَتي، وأخْلِفْ لِي خَيْراً مِنْها» قالت: فملا توفي أَبُو سَلَمَة ذكرت هذا الحِديثَ، وقلتُ هذا القولَ، فأخلف اللهُ لِيَ محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشرف، وكرم، ومجد وبجل، وعظم. وقال ابنُ عَبَّاس: أخبر اللهُ - تعالى - أن المُؤْمِنَ إِذَا أَسْلَمَ أَمْرَه لِلَّهِ، واسترجَعَ عند مُصَيبَتِهِ كتب اللهُ له ثَلاثَ خِصَالٍ: الصَّلاة من الله، والرحمة، وتحقيق سبيل الهدى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 وقال ابنُ مَسْعُودٍ: لأن أَخِرَّ من السماء أحبّ إليّ مِنْ أن أقول لشيءٍ قضاه اللهُ: لَيْتَهُ لَمْ يَكُن] . قال أَبُو بَكْرٍ الرازي: اشتملت الآيةُ الكرِيمَةُ على حُكْمين فَرْضٍ ونَفْل. أَمَّا الفَرْضُ فهو التَّسْلِيمُ لأمرِ الله تعالى، والرِّضَا بِقَضَائِهِ، والصبرُ على أداءِ فَرَائِضِه، لا يصرف عنها مصائب الدنيا. وأما النَّفْل فإظهاراً لقولِ: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} . [ذكَرُوا من قولِ هذه الكَلِمةِ فَوائِدَ. منها: الاشتغالُ بهذه الكلمةِ عن كَلاَم لا يليق. ومنها: أنها تُسلّي قلبَ المُصَابِ، وتقلّلُ حُزْنَه. ومنها: تقطَعُ طمع الشَّيْطَانِ في أَنْ يُوَافِقَهُ في كَلاَمٍ لا يَلِيقُ. ومنها أَنَّهُ إذا سمعه غيرُه اقْتَدَى به. ومنها: أنه إذا قال بلسَانِه في قَلْبِه الاعتقادَ الحَسَن، فإنَّ الحِسَابَ عند المُصِيبَةِ، فكان هذا القَوْل مذكراً له التَّسْليم لِقَضَاءِ الله وقدره] . فإن في إظهاره فوائد جزيلة: مناه أن غيره يقتدي به إذا سمعه. ومنها غبط الكفار، وعلمهم بجده واجتهاد في دين الله، والثبات عليه وعلى طاعته. وحكي عن بَعْضِهِم أنه قال: الزهدُ في الدنيا ألاّ يُحِبَّ البقاءَ فِيهَا، وأفضَلُ الأعمالِ الرضا عن الله، ولا ينبَغِي لِلْمُسلِم أن يحزن؛ لأنه يَعْلَمُ أَنَّ لكلِّ مصيبة ثواباً. قولهُ تعالى: «أُولَئِكَ» مبتدأٌ، و «صَلَوَاتٌ» مبتدأٌ ثان، و «عَلَيْهِمْ» خبرهُ مُقَدَّمٌ عليه، والجملةُ خبر قوله: «أُولَئِكَ» . ويجوز أن تكون «صلوات» فاعلاً بقوله: «عليهم» . قال أبو البقاء: لأنه قد قوي بوقوعه خبراً. والجملة من قوله «أولئك» وما بعده خبر «الذين» على أحد الأوجه المتقدمة، أو لا محلّ لها على غيره من الأوجه. و «قالوا» هو العامل في «إذا» ؛ لأنه جوابها وتقدم الكلام في ذلك وأنها هل تقتضي التكرار أم لا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 قولهُ تعالى: «وَرَحْمَةٌ» عطف على الصلاة، وإن كانت بمعناها، فإن الصلاة من الله رحمة؛ لاختلف اللفظين كقوله: [الوافر] 848 - وَقَدَّمَتِ الأَدِيمَ لِرَاهِشَيْهِ ... وَأَلْفَى قَوْلَها كَذِباً وَمَيْنَا وقوله: [الطويل] 849 - أَلاَ حَبَّذَا هِندُ وَأَرْضٌ بِهَا هِنْدٌ ... وَهِنْدٌ أَتَى مِنْ دُونِهَا النَّأْيُ وَالْبُعْدُ قولُه تعالى: «مِنْ رَبِّهِمْ» فيه وَجْهَانِ: أَحدُهما: أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه صَفةٌ ل «صلوات» و «من» للابتداءِ، فهو في مَحَلِّ رفع، أيْ: صلوات كائنة مِنْ رَبِّهم. والثَّانِي: أنه يتعلق بما تضمنه قولُه «عَلَيْهِمْ» من الفعل إذَا جعلناه رَافعاً ل «صلوات» رفع الفاعل، فعلى الأول، يكون قد حذف الصفة بعد «رَحْمة» أَيْ: ورحمة منه. وعلى الثَّانِي: لاَ يَحْتَاجُ إلى ذلك. وقولُه: «وأُولَئِكُ هُمْ الْمُهْتَدُونَ» نَظيرُ: {وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5] وفيه وجوهٌ: أَحَدُهَا: أ، هم هم المهتدون لهذه الطَّرِيقَةِ المُوصّلَةِ بصاحبها إلى كل خير. وثَانِيهَا: المُهْتدُونَ إلى الجنَّةِ الفائزون بالثواب. وثَالِثُها: المُهْتدُونَ لسائِر ما لزمهم. فَصْلٌ في الكلام في الآية قال أَبُوا الْبَقَاءِ: «هُمُ المُهْتَدُونَ» هُمْ: مُبْتَدأٌ أو توكيد أو فصل. فإن قِيلَ: لِمَ أَفْرَدَ الرحْمَةَ وجَمَعَ الصَّلَواتِ؟ فالجوابُ: قال بعضُهم: إن الرحمَةَ مصدرٌ بمعنى التعطُّف والتحنُّن، ولا يجمعُ و «التَّاءُ» فيها بمنزلتها في الملّة والمحبّةِ والرأْفَةِ، والرحمةُ ليست للتحذيرِ، بل مَنْزِلتُها في مرية وثمرة، فكما لا يُقالُ: رقات ولا خلات ولا رأفات، ولا يُقال: رَحَمات، ودخول الجمعُ يُشْعرُ بالتحذِيرِ والتقييد بعده، والإفْرَادُ مُطْلقاً مِنْ غَيْر تَحْدِيدٍ، فالإفْرَادُ - هنا - أَكْملُ وأكرُ مَعْنًى مع الجمع؛ لأنه زيد بمدلول المفرد أكثر مِنْ مدلولِ الجَمْعِ، ولهذا كان قولُه تَعَالى: {فَلِلَّهِ الحجة البالغة} [الأنعام: 149] أَعَمَّ وأَتَمَّ مَعْنًى مِنْ أَنْ يُقالَ: لِلَّهِ الحُجَجُ البَوالِغُ، وكذا قولُه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] أتمُّ مَعْنًى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 مِنْ أنْ يُقالَ: وإنْ تَعَدُّوا نِعَمَ الله لا تُحْصُوها، وقولُه سُبْحَانَهُ وتَعَالَى: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً} [البقرة: 201] أتمُّ مَعْنًى مِنْ قوله: حَسَناتٍ، وقولُه: {بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ} [آل عمران: 174] ، أتَمُّ معنى من قوله: بنعمٍ، ونظائِرهُ كَثِيرةٌ. وأما الصّلوات فالمراد بها درجات الثَّوَاب، وهي إنما تحصل شيئاً بَعْدَ شَيْءٍ، فكأنه دلّ على الصِّفَةِ المقصوُدَةِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 في تعلُّق هذه الآية بما قبلها وُجُوهٌ. أحدُهَا: أَنَّهُ سبحانَهُ وتعالَى بَيَّنّ أَنَّهُ إِنَّمَا حَوَّل القبْلةَ إلى الكعبة؛ ليتُمَّ إِنْعامَه علَى محمَّد [صلواتُ البَرِّ الرِّحيم وسلامُهُ علَيْه] وأمّتِهِ بإِحْيَاءِ شَرِيعَةِ إِبْرَاهيم - علَيه الصَّلاةُ والسلام - لقوله تعالى: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] ، وكان السَّعْيُ بَيْن الصَّفَا والمَرْوَة مِنْ شَرِيعَة إِبْرَاهِيمَ [علَيْه الصَّلاةُ والسَّلاَمُ] فذكَرَ هذا الحُكْمَ عَقبَ تلْكَ الآيَةِ. وقِيلَ: إنَّه تبارك وتَعالَى [لَمَّا] أَمَرَ بالذِّكْر مُطْلَقاً في قَوْله تعالى: «فَاذكرُونِي» بيّن الأَحوالَ الَّتي يذكر فيها وإحداها الذِّكْر مُطْلقاً. والثَّانية: الذكْرُ في حَال النِّعْمَةِ، وهو المرادُ بقوله تعالى: {واشكروا لِي} [البقرة: 152] . الثالثةُ: الذّكْر في حَال الضَّرَّاءِ، فقال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع} [البقرة: 155] إلى قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الصابرين} [البقرة: 155] ثم بَيَّنَ في هذه الآيةِ المَوَاضِع الَّتِي يُذْكَرُ فيها، ومِنْ جُمْلَتِها عنْد الصَّفَا والمَرْوَةِ، وبَقِيَّة المشَاعِر. وثانيها: أَنَّهُ لمّا قال سبْحَانه: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع} [الآية] إلى قوله سبحانَهُ: {وَبَشِّرِ الصابرين} ، ثم قَالَ [عَزَّ وَجَلَّ] : {إنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللهِ} ، وإنما جَعَلَهَا كذلك، لأنَّها مِن أثار «هَاجَرَ، وإسْمَاعِيل» ، وما جَرَى [عليْهمَا] من البَلْوَى ويُستَدَلُّ بِذلك عَلَى أَنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى البَلْوَى، لا بُدَّ وأَنْ يَصِلَ إِلَى أَعْظَمِ الدَّرَجَاتِ. وثالثها: أنَّ [أقسام] التَّكْليفِ ثَلاثَةٌ: أحدها: ما يَحْكُمُ العاقلُ [بِحُسْنِهِ] في أَوْلِ الأَمْرِ، فَذَكَرَهُ أَوَّلاً، وهو قوله تعالى: {فاذكرونيا أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة: 152] ؛ فَإنَّ كُلَّ عَاقِلٍ يَعْلَمُ أنَّ ذِكْرَ المُنْعِمِ بالمَدْحِ، والشُّكْرِ، أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ في العَقْلِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 وثانيها: ما يَحْكُمُ العَقْلُ [بقُبْحِهِ] في أوَّل الأَمْر، إلاَّ أنَّهُ لَمَّا وَرَدَ الشَّرْع به، وَبَيَّنَ الحِكْمَةَ فِيهِ، [وهي] الابْتِلاءُ، والامْتِحَانُ؛ عَلى ما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ} [البقرة: 155] ، فَحِينَئِذٍ يَعْتَقِدُ المسلمُ حُسْنَهُ، وكَوْنَهُ حِكْمَةً وَصَوَاباً. [وثالثها] : ما لا يَهْتَدِي العَقْلُ إلى حُسْنِهِ، وَلاَ إلى [قُبْحِه] ، بَل [يراها] كالعَبَثِ الخَالِي عن المنفَعَةِ والمَضَرَّةِ، وهُوَ مِثْلُ أَفْعالِ الحجِّ مِنَ السَّعِي بَيْنَ الصَّفَا والمَرْوَةِ، فذكر الله تعالى هذا القِسْمَ عَقِيبَ القِسْمَين الأَوَّلَيْنِ؛ ليكونَ قد نَبَّهَ على جميع أقْسَامِ التكاليفِ. قوله [تعالى] : «إنَّ الصَّفَا والمَرْوَةَ» : [الصَّفَا:] اسمُ «إنَّ» ، و «مِنْ شَعَائِر الله» خَبَرُهَا. قال أبُوا البَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: وفي الكَلاَم حَذْفُ مُضَافٍ، تقديره «طَوَافُ الصَّفَا، أَوْ سَعْيُ الصَّفَا» . وألفُ «الصَّفَا» [مُنْقَلِبَةٌ] عن وَاوٍ؛ بِدَلِيل قَلْبِهَا في التثنية وَاواً؛ قالوا: صَفَوَانِ؛ والاشْتِقَاقُ يَدُلُّ عليه أيضاً؛ لأنَّهُ مِنَ الصَّفْو، وهو الخُلُوصُ، [والصَّفَا: الحَجَرُ الأمْلَسُ] . وقال القُرْطُبِي: «والصَّفَا مقصورٌ» جمع صَفَاة، وهي الحِجَارة المُلْسُ. وقيل: الصَّفَا اسْمٌ مُفْرَدٌ؛ وجمعه «صُفِيٌّ» - بِضَمِّ الصاد -[وَأصْفَاء] ؛ على [وزن] أَرْجَاء. قال [الرَّاجِزُ] : [الرجز] 850 - كَأَنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ ... مَوَاقِعُ الطَّيْرِ عَلَى الصُّفِيِّ وقيل: مِنْ شُرُوط الصَّفَا: البَيَاضُ والصَّلاَبَةُ، واشتقاقُهُ مِنْ: «صَفَا يَصْفُو» ، أيْ: [أُخْلِصَ مِن] التُّرابِ والطِّينِ، والصَّفَا: الحَجَرُ الأَمْلَسُ. وفي كتاب الخَلِيل: الصَّفَا: الحَجَرُ الضَّخْمُ الصُّلْبُ الأَمْلَسُ، وإذا [نَعتُوا] الصَّخْرةَ، قالوا: صَفَاةٌ صَفْوَاءُ، وإذَا ذَكَّرُوا، قالوا: «صَفاً صَفْوَان» ، فجعلوا الصَّفَا [والصَّفَاة] كَأَنَّهما في معنى واحد. قال المُبَرِّدُ: «الصَّفَا» : كُلُّ حَجَرٍ أَمْلَسَ لا يُخالِطُهُ غَيْرُهُ؛ مِنْ طِين أو تُرَابٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 وَيَتَّصِلُ به، وَيُفَرِّقُ بَيْنَ وَاحِدِهِ وَجَمْعِهِ تَاءُ التأنيث؛ نحْوُ: صَفاً كَثِيرٌ، وَصَفَاةٌ وَاحِدَةٌ، وقد يُجْمَعُ الصَّفَا على: فُعُولٍ، وأَفْعَال؛ قالوا: صُفِيٌّن بِكَسْر الصاد، وضَمِّها؛ كُعِصيٍّ، [وأصْفَاء] ، والأصلُ صُفووٌ، وأضْفَاوٌ، وقُلِبَتِ الواوُ في «صُفُووٌ» يَاءَين، والواوُ في «أَصْفَاء» هَمْزةً؛ ك «كِسَاء» وبابه] . والمَرْوَةُ: الحجارةُ الصِّغَارُ، فقيل: اللَّيِّنَة. وقال الخَلِيلُ: البيضُ الصُّلْبَة، الشَّدِيدَةُ [الصَّلاَبة] . وقِيل: المُرْهَفةُ الأَطْرافِ. وقِيل: البيضُ. وَقِيلَ: السُّودُ. وهُمَا في الآية عَلَمَان لِجَبَلَينِ مَعْرُوفَيْنِ، والألِفُ واللاَّمُ فيهما لِلْغَلَبَةِ؛ كهما في البيت، والنَّجْم، وجَمْعُها مَرْوٌ؛ كقوله [في ذلك] : [الرمل] 851 - وَتَرَى المَرْوَ إذَا ما هَجَّرَتْ ... عَنْ يَدَيْهَا كَالْفَرَاشِ المُشْفَتِرْ وقال بعضهم: جَمْعُه في القَليلِ: مَرَواتٌ، وفي الكثير: مرو. قال أبو ذُؤَيْب: [الكامل] 852 - حَتَّى كَأَنِّي لِلْحَوِادِثِ مَرْوَةٌ ... [بِصَفَا المُشَقَّرِ كُلَّ يَوْمٍ تُقْرَع] فصل في حد الصفا والمروة قال الأَزْرَقِيّ: [ذَرْعُ] ما بَيْن الصَّفا والمَرْوَة: [سَبْعمائة ذراع وسِتَّةٌ وَسِتُّون ذِرَاعاً] وَنِصْفُ ذِرَاع. قال القُرْطُبِيُّ: وَذَكَرَ الصَّفَا؛ لأنَّ آدَمَ [المُصْطَفى -[صلواتُ الله، وسلامه عليه]- وَقَفَ عَلَيْهِ، فسُمِّيَ به؛ وَوَقَفَتْ حضوَّاءُ عَلَى المَرْوَةِ، فَسُمِّيَتْ بِاسم المَرْأة، فأنثت لذلك، والله أعلم] . قَالَ الشَّعْبِيُّ: كان عَلَى الصَّفَا صنمٌ يُدْعَى «إسَافاً» ، وعلى المَرْوَةِ صَنَمٌ يُدْعَى نَائِلَةَ، فاطّرد ذلك في [التذكير والتأنيث] ، وقُدّم المُذَكَّرُ، وما كان كَرَاهةُ مَنْ كَرِهَ الطَّوَافَ بينهما إلاَّ مِنْ أَجْلِ هذا، حتَّى رفع الله الحَرَجَ من ذلك، وزعَمَ أَهْلُ الكِتَابِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 أَنَّهما كانا آدميّين زنيا في الكَعْبَة، فمسَخَهُما اللهُ حَجَرَين، فوضَعَهُما على الصَّفَا، والمَرْوَة؛ ليُعتبر بهما؛ فلمَّا طالبت المُدَّةُ، عُبدا مِن دُون الله، والله - تعالى - أعلم. فصل في معنى «الشعائر» و «الشَّعَائرُ» : جَمْهُ شَعِيرَةٍ، وهي العلامة، فَكُلُّ شَيْءٍ جُعِلَ عَلَماً مِنْ أعلام طاعةِ الله، فهو من شَعَائِر الله تعالى. قال تبارك وتعالى: {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله} [الحج: 36] ، أي: عَلامَةً [للقُرْبَةٍ، ومنه: إشعارُ السَّنَام [وَهُو أن تُعْلَمَ بالمُدْيَة] وَمِنْهُ: الشِّعارُ في الحَرْب، [وهي العلامةُ الَّتي يتبيَّن بها إحدى الفئَتَين من الأخْرَى] ومنه قولُهُمْ: شَعَرْتُ بِكَذَا، أي: عَلِمْتُ به، وقيل: الشَّعَائِرُ جمع [شَعِيرَةٍ] ، والمرادُ بها في الآية الكريمة مَنَاسِكُ الحَجِّ، ونقل الجَوْهَرِيُّ أنَّ الشَّعَائِرَ هي العباداتُ، والمَشَاعِرَ أماكنُ العبَادَاتِ، فَفَرَّقَ بَيْنَ الشَّعَائِرِ وَالمَشَاعِرِ. وقال الهَرَوِيٌّ: الأجْوَدُ: لا فَرْقَ بينهما، والأَجْوَدُ شَعَائرُ بالهَمْز؛ لزيادة حَرْفِ المَدِّ، وهو عكسُ «مَعَايش» و «مصايب» . فصل في الشعائر هل تحمل على العبادات أو على موضع العبادات الشَّعَائِرُ: إمَّا أنْ نَحْمِلَهَا على العبادات، أو النُّسُك، أو نَحْمِلَهَا على مَوْضِع العبادات والنُّسُكِ؟! [فإن قُلْنَا بالأَوَّلِ، حَصَلَ في الكَلاَم حَذْفٌ؛ لأنَّ نَفْسَ الجَبَلين لا يَصِحُّ وَصْفُهُمَا بأنَّهُمَا دِينٌ وَنُسُكٌ؛ فالمرادُ بِهِ أنَّ الطَّوَافَ بَيْنَهُمَا أو السَّعْيَ مِنْ دِينِ اللهِ تَعَالَى. وإنْ قُلنا بالثاني: اسْتَقَامَ ظَاهِرُ الكلام؛ لأنَّ هَذَين الجَبَلَيْنِ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَا مَوْضِعَيْنِ لِلْعِبَادَةِ والنُّسُكِ] . وكيف كان؛ فالسَّعْيُ بينهما من شعائر الله، ومن أعلام دِينهِ، وقد شَرَعَهُ الله [تَعَالى] لأُمَّةِ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -[لإبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ] ، قبل ذلك، وهو من المَنَاسِكِ الَّتي عَلَّمها الله [تَعَالى] لإبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إجابةً لِدَعْوَتِهِ في [قولِهِ تَعَالى] : {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة: 128] . وَاعْلَمْ أنَّ [السَّعْيَ ليْسَ] عبادَةٌ تامَّةٌ في نَفْسِهِ، بل إنما يَصِيرُ عبادة إذا صار بعضهاً من أبْعاضِ الحجِّ والعُمْرَةِ، فلهذا بَيَّنَ الله تبارك وتعالى المَوْضِعَ الَّذِي يَصِيرُ فيه السَّعْيُ عبادةً، فقال [سبحانه] : {فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} . والحكمةُ في شَرْعِ هذا السّعي: ما حُكِيَ أن هَاجَرَ حينَ ضاق بها الأَمْرُ في عَطَشها، وعطشِ ابْنها إسْمَاعيلَ، سَعَتْ في هذا المكانِ إلى أن صَعِدَتِ الجَبَلَ، ودَعَتْ، فأَنْبَعَ الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 لَهَا زَمْزَمَ، وأجاب دُعَاءَها، وجعل فِعْلَها طاعةً لجميع المكلَّفين إلى يَوْم القيَامَة. قوله [تعالَى] : «فَمنْ حَجَّ البَيْتَ» . «مَنْ» : شَرْطِيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء و «حَجَّ» : في مَوْضِع جزمٍ بالشرط و [البيت «نصبٌ على المفعول به، لا على الظَّرْف، والجوابُ قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ} . و» الحَجُّ «: قال القَفَّال - رَحِمَهُ اللهُ - فِيه أَقْوَالٌ: أحدها: أنَّ الحَجَّ في اللغةِ كَثْرَةُ الاخْتِلافِ إلى الشَّيءِ والتردُّد إليه، فإنَّ الحاجَّ يأتيه أوّلاً؛ لِيَزُورَهُ، ثُمَّ يعودُ إلَيْه للطَّوَاف، ثم ينصرفُ إلى مِنَى، ثم يَعُودُ إليه؛ لطَوَافِ الزِّيارة، [ثم يَعُودُ لطَوافِ الصَّدر] . وثانيها: قال قُطْرُبٌ [الحَجُّ] الحَلْقُ، يقال: احْجُجْ شَجَّتَكَ، وذلك أن يقطع الشعر من نواحي الشَّجَّة؛ ليدخل القدحُ في الشَّجَّة. وقال الشاعر: [الطويل] 853 - وَأشْهَد مِنْ عوفٍ حُلُولاً كَثِيرَةً ... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُعَصْفَرَا » السِّبُّ «: لفظٌ مشتَرَكٌ، قال أبُو عُبَيْدَةَ: السِّبُ، بالكَسْرِ: السِّبَابُ، وَسِبُّكَ أيضاً: الذي يُسَابُّكَ؛ قال الشاعر: [الخفيف] 854 - لاَ تَسُبَّنَّني فَلَسْتَ بِسِبِّي ... [إنَّ سِبِّي] مِنَ الرِّجَالِ الكَرِيم والسِّبُّ أيضاً: الخِمَارُ والعِمَامَةُ. قال المُخَبَّلُ السَّعْدِيُّ: [الطويل] 855 - ... ... ... ... ... ... ..... يَحُجُّونَ سِبَّ الزِّبْرِقَانِ المُعَصْفَرَا والسِّبُّ أيضاً: الحَبْلُ في لغة هُذَيل؛ قال أبُو ذُؤَيْبٍ: [الطويل] 856 - تَدَلَّى عَلَيْهَا بَيْنَ سِبٍّ وَخَيْطَةٍ ... بِجَرْدَاءَ مِثْل الوكْفِ يَكْبُوا غُرابُهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 والسبوبُ: الحِبَالُ، والسِّبُّ: شُقّة كتان رقية والسُّبية مثله، والجَمْعُ: السُّبُوب والسَّبَائب، قال الجَوْهَرِيُّ؛ فيكون المَعنَى: حَجَّ فلانٌ، أي: حَلَّقَ. قال القَفَّالُ - رحِمَهُ الله تعالى -: وهذا مُحْتَملٌ؛ كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} [الفتح: 27] ، أي: حُجَّاجاً وعُمَّاراً؛ فَعَبَّرَ عَنْ ذلك بالحَلْق، فلا يَبْعُدُ أن يكون الحَجُّ مُسَمَّى بهذا الاسمِ لمعنى الحَلْقِ. وثالثها: الحَجُّ: القَصْدُ. ورابعها: الحَجُّ في اللغة: القَصْدُ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. قال الشاعر: [البسيط] 857 - يَحُجَّ مَأْمُومَةً في قَعْرِهَا لَجَفٌ ..... ... ... ... ... ... ... ... . . اللَّجَفُ: الخَسْفُ أسْفَلَ البئرِ، نقله القُرْطُبيُّ. يُقَالُ: رَجُلٌّ مَحْجُوجٌ، أي: مَقْصُودٌ، بمعنى: أنَّه يُخْتَلَفُ إِلَيْه مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى. قال الراغبُ: [الرجز] 858 - لِرَاهِبٍ يَحُجُّ بَيْتَ المَقْدِسِ ... في مِنْقَلٍ وَبُرْجُدٍ وَبُرْنُسِ وكذلك مَحَجَّةُ الطَّريقِ: وهي التي كَثُر فيها السَّيْرُ، وهذا شَبِيهٌ بالقَوْل الأوَّل. قال القَفَّالُ: «والأول أشْبَهُ بالصَّوَاب» . والاعْتِمَارُ: الزِّيَارَةُ. وقِيلَ: مُطْلَقُ القَصْدِ، ثم صارا عَلَمَين بالغَلَبَةِ في المعاني؛ كالَبْبيت [والنَّجْم] في الأعيان. وقال قُطْرُبٌ: العُمْرَةُ في لُغَةِ [عَبْد] القَيْسِ: المَسْجِدُ والبِيعَةَ والكَنِيسَةُ. قال القَفَّالُ: والأشْبَهُ بالعُمَرَةِ إذا أُضِيفَتْ إلى البيت أن تَكُون بمعنى الزِّيَارةِ؛ لأنَّ المُعْتَمِرَ يَطُوف بالبيت، وبالصفا، والمروة، ثم ينصرف كالزَّائر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 قوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ] الظاهرُ: أنَّ «عَلَيْه» خَبَرُ «لاَ» ن و «أن يَطَّوَّفَ» : أَصْلُهُ [ «في أنْ يَطَّوَّفَ» ] ، فحذف حَرْفَ الجَرِّ، فيَجيءُ في محلِّها القولان النصبُ، أو الجَرُّ، والوقْفُ في هذا الوجه على قوله «بهما» ، وأجازوا بَعْدَ ذلك أوجُهاً ضَعِيفةً. منها: انْ يَكُونُ الكلامُ قَدْ تَمَّ عند قوله: «فَلاَ جُنَاحَ» ؛ على أن يكون خبر «لا» محذوفاً، وقَدَّرَهُ أبُو البَقاءِ «فلا جناح في الحج» ، ويُبْتَدأُ بقوله «عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوفَ» فيكون «عَلَيْهِ» خبراً مقدماً وان يطوف في تأويل مصْدرٍ مَرْفُوعٍ بالابْتِدَاء؛ فإنَّ الطوافَ وَاجبٌ. قَالَ أبُو البَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ -: والجيدُ أَنْ يَكُونَ «عَلَيْهِ» في هذا الوجه خَبَراً، و «أَنْ يَطَّوَّفَ» مُبْتَدأ. وَمِنْهَا: «أَنْ يكُون» عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ «مِنْ بِابِ الإِغْرِاء؛ فيكونَ» أَنْ يَطَّوَّفَ «في محلْ النصْب؛ كقولك:» عَلَيْكَ زَيْداً «أي:» الْزَمْهُ «، إلاَّ أنَّ إغرار الغَائِب ضَعِيفٌ، حكى سيبَوَيْهِ:» عَلَيْهِ رَجُلاً لَيْسَنِي «قال: وهو شاذٌ. ومنها: أنَّ» أنْ يَطَّوَّفَ «في مَحَلَّ رفع خبراً ثانياً ل» لا «، [والتقديرُ: فَلاَ جُنَاحَ عليه في الطَّوَاف بِهِمَا. ومنها:» أنْ يَطَّوَّفَ «: في محلّ نصبٍ على الحال من الهَاءِ في» عَلَيْهِ «، والعامل في الحالِ العَامِلُ في الخَبَرِ] . والتقديرُ: {فلا جُنَاحَ عَلَيْهِ في حالِ طَوَافِهِ بهما} وهذان القولان ساقِطان ذَكَرْتُهُما تنبيهاً على غلطهما. وقراءةُ الجمهور: «أنَّ يَطَّوَّفَ» بغير «لا» وقرأ أنس، وابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - وابنُ سيرين، وشهر بن حوشب: «أنْ لاَ يَطَّوَّفَ» ، قَالُوا: وكذلك في مُصْحَفَيْ أَبَيٍّ، وعبد الله، وفي هذه القراءة احتمالان: أحدهما: أنها زائدةٌ؛ كهي في قوله: {أَلاَ تَسْجُدَ} أعراف: 12] ، وقوله [الرجز] 859 - وَمَا أُلُومُ البِيضَ أَلاَّ تَسْخَرَا ... لَمَّا رَأَيْنَ الشَّمَطَ القَفَنْدَرَا وحينئذٍ يتَّحِدُ معنى القراءتَينِ. والثَّاني: أنَّها غيرُ زائدةٍ: بمعنى: أنَّ رفع الجُنَاح في فعل الشيء، وهو رفعٌ في تركه؛ إذ هو تمييزٌ بَيْنَ الفعلِ والتَّرْك؛ نحو: «فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا» فتكون قراءة الجُمْهُور فيها رفعُ الجُنَاحِ في فِعْلِ الطَّوافِ نَصًّا، وفي هذِهِ رَفْعُ الجُنَاح في التَّرك نصًّا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 والجُنَاحُ: أصْلُه من المَيْل؛ من قولهم: جَنَحَ إلى كذا، أي: مال إليه؛ قال سبحانه وتعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} [الأنفال: 61] وجَنَحَتِ السَّفينةُ: إذَا لَزِمَت المَاءَ، فلم تَمْضِ. وقيل للأضْلاَعِ، «جَوَانِحُ» ؛ لاعوجَاجِها، وجَنَاحُ الطَّائِر مِن هذا؛ لأنَّه يَمِيلُ في أَحَدِ شِقَّيْهِ، ولا يطيرُ على مستوى خلقته. قال بعضهم: وكذلك أيضاً عُرْفُ القرآنِ الكَرِيمِ، فمعناه: لا جُنَاحَ عليه: أي: لا مَيْلَ لأَحدٍ عليه بمطالبَةِ شَيءٍ من الأشياء. ومنهم من قال: بَلْ هو مختصٌّ بالمَيْل إلى البَاطلِ، وإل ما يؤْلَمُ به. و «أنْ يَطَّوَّفَ» أي: «يَتَطَوَّفَ» ، فأُدْغِمَت التَّاءُ في الطاء؛ كقوله: {ياأيها المزمل} [المزمل: 1] ، {ياأيها المدثر} [المدثر: 1] ويقال: طَافَ، وأَطَافَ: بمعنىَ واحدس. وقرأ الجُمْهُور «يَطَّوَّفَ» بتشديد الطاء، والواو، والأصل «يَتَطَوَّفَ» ، وماضيه كان أًله «تَطَوَّفَ» ، فلما أرد الإدغام تخفيفاً، قُلِبَتِ التاء طاء، وأُدْغِمَتْ في الطاء، فاحتيجَ إلى هَمزةِ وصْلٍ؛ لِسُكُونِ أوَّله؛ لأجل الإدغامن فأتى بها فجاء مضارعُهُ عليه «يَطَّوَّفَ» ، فانحذفت همزة الوصل؛ لتحصُّنِ الحرفِ المُدْغَم بحرف المضارعة ومصْدَره على «التَّطَوُّف» ؛ رجوعاً إلى أصل «تَطَوَّفَ» . وقرأ أبو السَّمَّال: «يَطُوفَ» مخفَّفاً من: طَافَ يَطُوفُ، وهي سهل، وقرأ ابن عباس: «يَطَّافَ» بتشديد الطاء، [مع الألِفِ، وأصله «يَطتَوف» على وزن «يَفْتَعِل» ، وماضيه على «اطْتَوَف» افْتَعَلَ، تحرَّكَتِ الواوُ، وانفتح ما قبلها، فقلبت ألفاً، ووقعت تاء الافتعال بعد الطاء؛ فوجب قلبها طاء، وإدغام الطاء] فيها؛ كما قالوا: اطَّلَبَ يَطَّلِبُ، والأصل: «اطْتَلَبَ، يَطْتَلِبُ» ، فصار «اطَّافَ» ، وجاء مضارعُهُ عيله: «يَطَّافُ» هذا هو تصريفُ هذه اللفْظَة من كون تاء الافْتِعَالِ تُقَلَبُ طاءَ، وتُدْغَمُ فيها الطاءُ الأولى. وقال ابن عَطِيَّة: فجاء «يَطْتَافُ» أُدْغِمَتِ [التاءُ بعد الإسكان في الطاء على مَذْهَبِ مَنْ أجاز إدْغَام الثَّاني] في الأوَّل، كما جاء في «مُدَّكِرٍ» ومن لم يُجِزْ ذَلِكَ، قال: قُلِبَتِ التاءُ طاءً، ثم أدغمت الطاء في الظَّاء، وفي هذا نَظَرٌ، لأنَّ الأصْلِيَّ أُدْغِمَ في الزائدِ، وذلك ضعيفٌ. وقول ابنِ عَطيَّة فيه خطأٌ من وجهين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 أحدهما: كونُهُ يَدَّعِي إدْغَامَ الثَّاني في الأوَّل، وذلك لا نَظِيرَ له، إنَّمَا يُدْغَمْ الأَوَّل في الثَّاني. والثاني: قوله: كَمَا جَاءَ في «مُدَّكر» ؛ لأنَّه كان يَنْبَغِي على قوله: أن يُقَالَ: «مُذَّكر» بالذَّال المُعَجَمة، لا الدَّال المهملة [وهذه لغةَ رَدِيئةٌ، إنَّما اللُّغة الجيِّدة بالمهملة؛ لأنَّا قَلَبْنَا تَاءَ الافتعالِ بَعَدَ الذَّال المعجمةِ دَالاً مهملةً] ، فاجتمع متقاربَان، فقلَبْنَا أوَّلَهُما لجنْسِ الثَّاني، وأدغَمْنَا، وسيأتي تحقيقُ ذلك. ومصدر «أطَّافَ» على «الأطِّيَافِ» بوزن «الافْتِعَالِ» ، والأصلُ «اطِّوَافِ» فكسر ما قبل الواو، فقُلِبَتْ ياءً، وإنَّمَا عادَتِ الواوُ إلى أصْلها؛ لزوالِ مُوجِبِ قَلْبها ألفاً؛ ويوضِّح ذلك قولهم: اعْتَادَ اعْتِيَاداً والأصل: «اعْتِوَادٌ» ففُعِلَ به ما ذكرتُ [لك] : قوله تعالى: { «وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً» قرأ حَمْزَةُ والكِسَائيُّ «يَطَّوَّعْ» هنا وفي الآية الَّتي بعدها بالياء وجزم العين فعلاً مضارعاً. قال ابن الخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللهُ -: وهذا أحْسَنُ أيضاً؛ لأنَّ المعنى على الاسْتقْبَال والشرط، والجزاء، والأحْسَنُ فيهما الاستقبال، وإن كان يَجُوز أن يقال: «مَنْ أتَانِي أَكْرَمْتُهُ» . وقراها الباقُونَ بالتاء فعلاً ماضياً، فأما قراة حَمْزَة، فتكون «مَنْ» شرطيَّةً، فتعمل الجَزْمَ، وافق يَعْقُوبُ في الأُوْلَى، وأصل «يَطَّوَّعُ» «يَتَطَوَّعُ» فأدغمَ على ما تقدَّم في «تَطَوَّفَ» ، و «مَنْ» في محل رفع بالابتداء، والخَبَر فعْلُ الشَّرْطِ؛ على ما هو الصحيح كما تقدَّم تحقيقُهُ. وقوله: «فإنَّ الله» جملةٌ في محلِّ جَزْمٍ، لأنَّها جوابُ الشَّرط، ولا بُدَّ مِن عائِد مقدَّر، أي: فإنَّ الله شاكِرٌ له. فصل قال أبو البَقَاءِ: وإذا جُعِلَتْ «مَنْ» شَرْطاً، لم يَكُنْ في الكلام حَذْفُ ضمير؛ لأنَّ ضمير «مَنْ» في «تَطَوَّعَ» وهذا يخالفُ ما تقدَّم عن النُّحَاةِ؛ من أنَّ إذَا كَانَ أدَاةُ الشَّرطِ اسماً، لَزِمَ أن يكون في الجواب ضميرٌ يَعُودُ عليه، وتقدَّم تحقيقه. وأما قراءةُ الجُمْهُور، فتحملُ وجْهَيْن: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 أحدهما: أن تكون شرطيَّةً، والكلام فيها كما تَقَدَّمَ. والثاني: أن تكون موصولةً، و «تَطَوَّعَ» صلتها، فلا محَلَّ لها من الإعراب حينئذٍ، وتكون في مَحَلِّ رفْع بالابتداء أيضاً، و «فإِنَّ الله» خبَرُهُ، ودَخلَتِ الفاءُ؛ لما تضمَّن «مَنْ» مَعْنى الشَّرط، والعائدُ محذوفٌ كما تقدَّم، أي: شَاكِرٌ لَهُ. وانتصاب «خَيْراً» على أحَدِ أوْجُهٍ: أحدها: إمَّا على إسْقَاط حَرْفِ الجَرِّ، أي: تَطَوَّعَ بِخَيْرٍ، فلمَّا حذف الحَرْف، انتصب؛ نَحْو قوله: [الوافر] 860 - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تعُوجُوا ..... ... ... ... ... ... ... ... . وهو غير مقِيسٍ. والثاني: أن يكونهَ نعْتَك مصْدرٍ محذوفٍ، أي: «تَطَوُّعاً خَيْراً» . والثالث: أن يكونَ حالاً مِنْ ذلك المَصْدرَ المقدَّر معرفةً. وهذا مذهَبُ سِيبَوَيْهِ، وقد تقدَّم {غَيْرَ مرَّة] ، أو على تضمين «تَطَوَّعَ» فعلاً يتعدَّى، أي: من فَعَلَ خَيْراً مُتَطَوَّعاً به. وقد تَلَخَّصَ مما تقدَّم أنَّ في قولِهِ: {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} وجْهَين: أحدهما: الجزمُ على القَوْل بكَوْن «مَنْ» شرطيَّةً. والثاني: الرَّفْعُ؛ عَلَى القَوْلِ بِكَوْنها موصولةً. فصل في ظاهر قوله: «لا جُنَاحَ عَلَيْهِ» ظاهرُ قَوْله - تبارك وتعالى -: «لاَ جَنَاحَ عَلَيْهِ» : أنه لا إثْم عليهِ، [وأن الذي يَصْدُقُ عليه: أنَّه لا إثْمَ عليه] في فعله يَدْخُلُ تحته الواجبُ والمَنْدُوبُ، والمُبَاحُ، فلا يتميَّز أحدُهُما، إلاَّ بقِيْدٍ زائدٍ، فإذَنْ: ظاهرُ الآية لا يدلُّ على أنَّ السَّعْيَ بين الصَّفاء والمَرْوة واجبٌ، أو مسنونٌ؛ لأنَّ اللَّفظ الدَّالَّ على القَدْرِ المُشْتَرَكِ بين الأقسام لا دلالة فيه ألبتة على خصوصيَّة كلِّ واحدٍ من تلك الأقسام، فإذَنْ، لا بُدَّ من دليل خارجيٍّ، يدلُّ على وجوب السَّعْي، أو مسنونِيَّتِهِ، فذهب بعضهم إلى أنه ركْنٌ، ولاَ يقومُ الدَّمُ مَقَامه. وعند أبي حنيفَة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: أنه ليس بركنٍ، ويُجْبَرُ بالدم، وعن ابن الزُّبَيْرِ، ومجاهدٍ، وعَطَاءٍ: أنَّ مَنْ تركه، فلا شيء عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 احتجَّ الأَوَّلُون بقوله عليه [أفْضَلُ] الصَّلاة والسَّلام - «إنَّ اللهَ كَتَبَ عَلَيْكُمْ السَّعْيَ، فَاسْعَوا» فإن قيل: هذا متروك الظَّاهر، لأنَّه يقتضي وجُوبَ السَّعْي، وهو العدوُ، وذلك غير واجبٍ. قلنا: لا نسلِّم أنَّ السَّعْيَ عبارةٌ عن العدو؛ [بدليل قوله تعالى: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} [الجمعة: 39] والعَدْوُ فيه غَيْرُ واجبٍ] وقال - تبارك وتعالى -: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] وليس المراد منه العَدْوَ، بل الجِدَّ، والاجتهاد، سلَّمنا أنه العَدْوُ، ولكنَّ العدو مشتملٌ على صفة تُرك العملُ به في هذا الصِّفات، فيبقى أصل المشي واجباً: واحتجُّوا أيضاً: بأنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما دنا من الصَّفا، قال: «إنَّ الصَّفَا والمَروَةَ مِنْ شَعَائِر اللهِ، ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللهُ به» فبدأ بالصَّفَا فرقي عليه، ثم سعى، وقال صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ» ، وقال تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 158] وقال تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] وقالوا: إنه أشواطٌ شُرعت في بقعة من بِقَاعِ الحَرَمِ ويُؤْتَى به في إحرام كاملٍ، فكان جِنْسُهَا رُكناً؛ كطَوَافِ الزَّيَارة، ولا يلْزَمُ طَوَافُ الصَّدرِ، لأنَّ الكلامَ للجنسِ؛ لوجوبه مرة. واحتجَّ أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - بوجوهٍ: منها: قوله تعالى: {لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وهذا لا يقال في الواجبات، وأكَّد ذلك بقوله: «وَمَنْ تَطَوَّعَ» فبيَّن أنه تطوُّع ولَيْسَ بواجبٍ. ومنها: [قوله] : «الحَجُّ عَرَفَةُ فمن أدرك عرفة، فقد تمَّ حَجُّهُ» ، وهذا يقتضي التمام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 من [جميع] الوجوه؛ ترك العمل به في بعض الأشياء؛ فيبقى معمولاً به في السَّعْي. والجوابُ عن الأوَّل من وجوه: الأوَّل: ما بيَّنَّا [أن قوله] : «لاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ» [ليس فيه إلاَّ أنه لا إثم على فاعله] وهذا القدر مشتركٌ بين الواجب، وغيره؛ فلا يكون فيه دلالةٌ على نفي الوجوب، وتحقيق ذلك قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] والقصر عند أبي حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - واجبٌ، مع أنَّه قال فيه: «فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ» كذا ههنا. الثاني: انه رفع الجَنَاحُ عن الطَّوَاف [بهما لا عن الطَّوَاف بينهما] . والأوَّل عندنا غير واجب، والثاني هو الواجب. الثالث: قال ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - كان على الصَّفا صنمٌ، [وعلى المَرْوَة صنمٌ، وكان الذي على الصَّفَا] اسمُهُ: «إسَافٌ» ، والذي على المَرْوَة صنمٌ اسمه «نَائِلَة» وكان أهل الجاهليَّة يطوفون بهما، فلمَّا جاء الإسلام، كره المسلمون الطَّوَافِ بهما؛ لأجل الصنمي، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة. إذا عرفت هذا، فنقول: انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حالالطَّواف، لا إلى نفس الطَّوَاف؛ كما لو كان في الثَّوب نجاسةٌ يسيرٌ عندكم، أو دم البراغيث عندنا، فقيل: لا جُنَاحَ عليكم أن تصلوا فيه، فإنّ رفع الجُنَاحِ ينصرف إلى مكان النجاسة، لا إلى نفس الصلاة. الرابع: كما ان قوله: «لا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ» لا يطلق على الواجب، فكذلك لا يطلق على المندوب؛ ولا شكَّ في أنَّ السَّعْيَ مندوبٌ، فقد صارت الآية متروكة الظاهر، والعمل بظاهرها، وأما التمسُّك بقوله: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} [البقرة: 184] فضعيفٌ، وإنه لا يمكن أن يكون المراد من هذا التطوع من الطَّوَافَ المذكور، بل يجوز أن يكون المراد منه شيئاً آخر؛ كقوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة: 184] ثم قال: «فَمَن تَطَوَّعَ خيراً» فأوجب عليه الطَّعام، ثم ندبهم إلى التَّطوُّع بالخيرِ، فكان المعنى: فمن تَطَوَّعَ؛ فزاد على طعام مسكينٍ، كان خيراً له، فكذا ههنا يحتمل أن يكون هذا التطوُّع مصروفاً إلى شيء آخر؛ وهو من وجهين. أحدهما: أنه يزيد في الطَّوَاف، فيطُوفُ أكْثَرَ من الطَّوَافِ الواجبِ، مثلُ أن يطُوفَ ثمانية أو أكثر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 والثاني: أن يتطوَّع بعد فرض الحجِّ وعمرته بالحجِّ والعمرة مرةً أخرى؛ حتى طاف بالصَّفَا والمَرْوَة تطوُّعاً. وقال الحَسَنُ وغيره: أراد سائر الأعمال، يعني: فعل غير الفرض؛ من صلاةٍ، وزكاةٍ، وطواف، وغيرها من أنواع الطَّاعات. وأصل الطاعة الانقيادُ. وأما الحديث: فنقول فيه إنه عام، وحديثنا خاص، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ. قوله تعالى: {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} . قال ابنُ الخَطِيب: اعلَمْ أنَّ الشاكِرَ في اللُّغة هو المظهر للإنعام عليه، وذلك في حقِّ الله محالٌ، فالشاكر في حقِّه - تبارك وتعالى - مجازٌ، ومعناه المجازيُّ على الطاعة، وإنما سمى المجازاة على الطَّاعة، شكراً؛ لوجوه: الأول: أن اللفظ خرج مخرج التلطُّف للعبادة، ومبالغة في الإحسان إليهم؛ كما قال تعالى {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] وهو سبحانه وتعالى لا يستقرض من عوض، ولكنه تلطف في الاستدعاء؛ كأنه قيل: من ذا الذي يعمل عمل المقرض؛ بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدّم. الثاني: أنَّ الشُّكر لما كان مُقابلاً [للإنعام أو الجزاء] عليه، سُمِّي كلُّ ما كان جزاء شكراً؛ على سبيل التشبيه. الثالث: أن الشكر اسم لما يجازى به، والله تعالى هو المجازي، فسمِّي شاكراً، فعلاقة المجازاة. [وقال غيره:] بل هو حقيقةٌ؛ لأنَّ الشكر في اللُّغة: هو الإظهار؛ لأنَّ هه المادَّة، وهي الشين، والكاف، والراء تدلُّ على الظُّهور، ومنه: كَشَرَ البَعِيرُ عن نَابه، إذا أظهره؛ فإنَّ الله تعالى يظهر ما خَفِيَ من أعمال العبد من الطَّاعة، ويُجَازِي عليه. وقيل: الشُّكْرُ: الثناء، والله تعالى يُثْني على العبد، فلا يبخس المستحقَّ حقَّه، لأنَّه عالمٌ بقدره، ويحتمل أنه يريد أنَّه عليمٌ بما يأتي العَبْدُ، فيقوم بحقِّه من العبادة والإخلاص. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 في «الكاتِمِينَ» قولان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 أحدهما: أنه كلامٌ مستأنفٌ يتناولُ كلَّ من كتم شيئاً من الدين. الثاني: عن ابن عبَّاس، ومجاهد، والحسن، وقتادة والرَّبيع، والسُّدِّيِّ، والأصَمِّ: أنها نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنَّصارى. الثالث: نزلت في اليهود والَّذين كتموا ما في التَّوراة من صفة محمد - صلوات الله وسلامه عليه -. قال ابن الخَطِيبِ: والأوَّل أقرب إلى الصَّواب؛ لوجوه: الأوَّل: أن اللفظ عامٌّ، وثبت في «أُصُول الفقه» أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصص السَّبب. الثاني: ثبت أيضاً في «أُصُول الفقه» أن العبرة بعموم اللَّفظ، وأن ترتيب الحكم على الوصف المناسب [مُشْعِرٌ بالعِلِّيَّة] ، وكتمانُ الدِّين يُناسبُ استحقاق اللَّعن؛ فوجب عموم الحكم عند عموم الوصف. الثالث: أن جماعةً من الصحابة - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - حملوا هذا اللَّفظ على العموم؛ كما روي عن عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْها - أنها قالت: «مَنْ زَعَمَ أنَّ مُحَمَّداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَتَمَ شَيْئاً مِنَ الوَحْي، فَقَدْ أعْظَمَ الفِرْيَةَ على اللهِ تَعَالَى» ، واللهُ تَعَالَى يقول: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى} [البقرة: 159] «فحملت الآية على العموم. وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال [لَوْلاَ آية] من كتاب الله، ما حَدَّثْتُ حديثاً بعد أن قال النَّاس: أكْثَرَ أبو هُرَيْرَة، وتَلاَ: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات} . احتجَّ من خصَّ الآية بأهل الكتاب: أنَّ الكتمان لا يصحُّ إلاَّ منهم في شرع نبوَّة محمَّد - صلواتُ الله، وسلامه عليه - وأمَّا القرآن، فإنَّه متواترٌ، فلا يصحُّ كتمانُهُ. والجواب: أنَّ القرآن الكريم قبل صَيْرُورَتِهِ متواتراً يَصِحُّ كتمانُهُ، والكلامُ إنَّما هو فيما يحتاج المكلَّف إليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 فصل في تفسير» الكتمان « قال القاضي: الكتمانُ ترك إظهار الشَّيء مع الحاجة إليه وحصول الداعي إلى أظهار؛ للأأنَّه متى لم يكن كذلك، لا يُعَدُّ من الكتمان، فدلَّت الآية على أنَّ ما يتَّصلُ، بالدِّين، ويحتاج المكلَّف إليه، لا يجوز كتمانه. ونظيرُ هذه الآية قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 174] وقوله سبحانه وتعالى: {وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] فهذه كلُّها زواجرُ عن الكتمان. ونظيرها في باين العلم، وإن لم يكن فيه ذكر الوعيد لكاتمه، قوله سبحانه: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] . وروى أبو هريرة عن النبيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» مَنْ كَتَمَ عِلْماً يَعْلَمُهُ جِيءَ يَوْمَ القِيَامَةِ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ « الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 واعلم أن العالم، إذا قصد كتمان العلم، عصى، وإن لم يقصده، لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره، وأما من سئل، فقد وجب عليه التبليغ؛ لهذه الآية، وللحديث. واعلم أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن، ولا العلم؛ حتى يسلم، ولا يجوز تعليم المبتدع الجدال، والحجاج، ليجادل به أهل الحق، ولا يعلم الخصم على خصمه حجَّةً، ليقتطع بها ماله، ولا السُّلطان تأويلاً يتطرَّق به على مكاره الرَّعيَّة، ولا ينشر الرُّخص من السُّفهاء، فيجعلوا ذلك طريقاً إلى ارتكاب المحظورات، وترك الواجبات، ونحو ذلك. وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «لاَ تَمْنَعُوا الحِكْمَةَ أَهْلَهَا؛ فَتَظْلِمُوهُمْ، وَلاَ تَضَغُوهَا في غَيْرِ أَهْلِهَا، فَتَظْلِمُوهَا» وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «لاَ تُعَلِّقُوا الدُّرَّ في أَعْنَاقِ الخَنَازِيرِ» يريد تعليم الفقه من ليس من أهله. قوله تعالى: «مَا أَنْزَلْنَا» مفعول ب «يَكْتُمُونَ» ، و «أَنْزَلْنَا» صلته، وعائده محذوف، أي: أنزلناه، و «مِنَ البَيِّنَاتِ» [يجوز فيه ثلاثة أوجهٍ: أظهرها: أنها حالٌ من «ما» الموصولة، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: كائناً من البَيِّنَات. الثاني: أن يتعلَّق ب «أَنْزَلْنَا» فيكون مفعولاً به، قاله أَبُو البَقَاءِ، وفيه نظرٌ من حيث إنَّه إذا كان مفعولاً به، لم يتعد الفعل إلى ضمير، وإذا لم يتعدَّ] إلى ضمير الموصول، بقي الموصول بلا عائد. الثالث: أن يكون حالاً من الضمير العائد على الموصول، والعامل في «أَنْزَلْنَا» ؛ لأنه عامل في صاحبها. فصل في المراد من «البيِّنات» والمراد من «البَيِّنَاتِ» ما أنزلنا على الأنبياء من الكتاب والوحي، دون أدلَّة العقل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 وقوله «والهُدى» يدخل فيه الدَّلالة العقليَّة، والنَّقْليَّة؛ لما تقدَّم في دليل قوله {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 3] أنَّ الهدى عبارةٌ عن الدلائل، فيعمُ الكُلَّ. فإن قيل: فقد قال: {والهدى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ} فعاد إلى الوجه الأوَّل. قلنا: الأوَّل: هو التنزيل، والثاني: ما يقتضيه التنزيل من الفوائد. وهذه الآية الكريمة تدلّ على أن من أمكنه بيان أصول الدِّين بالدلائل العقليَّة لمن كان محتاجاً إليها، ثم تركها، أو كتم شيئاً من أحكام الشرع مع الحاجة إليه، فقد لحقه هذا الوعيد. قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ} متعلِّق ب «يَكْتُمُونَ» ، ولا يتعلَّق ب «أَنْزَلْنَا» لفساد المعنى؛ لأنَّ الإنزال لم يكن بعد التَّبيين، وأمَّا الكتمان فبعد التَّبيين، والضمير في [ «بَيَّنَّاهُ» يعودُ على «ما» الموصولة. وقرأ الجمهور «بَيَّنَّاهُ» ، وقرأ طلحة بنُ مُصَرِّف «بَيَّنَهُ» على ضمير الغائب، وهو التفاتٌ من التكلّم إلى الغيبة، و «للنَّاس» متعلِّق بالفعل قبله. وقوله: «في الكِتَابِ» يحتمل وجهين: أحدهما: أنه متعلِّق بقوله: «بَيَّنَّاهُ» . والثاني: أنه يتعلَّق بمحذوف؛ لأنَّه حالٌ من الضَّمير المنصوب في] «بَيَّنَّهُ» أي: بيَّنَّاهُ حال كونه مستقرّاً كائناً كائناً في الكتاب، والمراد بالكتاب جميع الكتب المنزلة. فصل في حكم هذا «البيان» قال بعضهم: هذا الإظهار فرضٌ على الكفاية، لأنَّه إذا أظهره البعض، صار بحيث يتمكنَّ كلُّ أحدٍ من الوصول إليه، فلم يبق مكتوماً، وإذا خرج عن حد الكتمان، لم يجب على البقاين إظهاره مرةً أخرى، والله أعلم. فصل في الاحتجاج بقبول خبر الواحد من الناس من يحتجُّ بهذه الآيات على قبول خبر الواحد، لأنَّ أظهار هذه الأحكام واجبٌ، [ولو لم يجب العمل] ، لم يكن إظهارها واجباً، وتمام التقرير فيه قوله تعالى في آخر الآية: {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} [البقرة: 160] فحكم بوقوع البيان بخبرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون كل واحد كان منهيّاً عن الكتمان، ومأموراً بالبيان؛ [ليكثر المخبرون] ؛ فيتواتر الخبر. فالجواب: هذا غلط؛ لأنَّهم ما نهوا عن الكتمان، إلاَّ وهم ممن يجوز عليهم الكتمان، ومن جاز منهم التَّواطؤ على الكتمان، جاز منهم التواطُؤُ على الوضع والافتراء، فلا يكو خبرهم موجباً للعلم، والمراد من [الكتاب] قيل: التَّوراة والإنجيل، وقيل: القرآن، وقيل: أراد بالمُنْزَل الأوَّل ما فيه كتب المتقدَّمين، والثَّاني ما في القرآن. قوله تعالى: «أولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ» يجوز في «أولَئِك» وجهان: أحدهما: أن يكون مبتدأ، و «يَلْعَنُهُم» الخبر؛ لان قوله تعالى: {وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ} يحتمل أن يكون معطوفاً على ما قبله، وهو {يَلْعَنُهُمْ اللهُ} وأن يكون مستأنفاً، وأتى بصلة «الَّذِينَ» فعلاً مضارعاً، وكذلك بفعل اللَّعنة؛ دلالةً على التجدُّد والحدوث، وأن هذا يتجدَّد وقتاً فوقتاً، وكُرِّرَت اللعنة؛ تأكيداً في ذمِّهم. وفي قوله «يَلْعَنُهُمْ اللهُ» التفاتٌ؛ إذ لو جرى على سنن الكلام، لقال: «نَلْعَنُهُمُ» ؛ لقوله: «أَنْزَلْنَا» ، ولكن في إظهار هذا الاسم الشريف ما ليس في الضمير. فصل في معنى اللعنة، والمراد باللاعنين اللَّعْنَةُ في أصْلِ اللُّغَة: هي الإبْعَادُ، وفي عُرْف الشَّرْع، الإبعادُ من الثَّوَاب، واختلَفُوا في الَّلاعِنِينَ، مَنْ هُمْ؟ فقيل: دوَابُّ الأرض وهوامُّها؛ فإنَّها تقول: مُنِعْنَا القَطْرَ بمعَاصِي بَنِي آدَمَ، قنله مجاهدٌ، عن عِكْرِمَة. وقال: «اللاَّعِنُونَ» ، ولم يقل «اللاعِنَات» ؛ لأنَّه تعالَى وصَفَها بصفةِ مَنْ يعقلُ، فجمعَها جَمْعَ مَنْ يعقلُ؛ كقوله تعالى: {والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] و {ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} [فصلت: 21] . و {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] وقيل: «كُلُّ شيْءٍ إِلاَّ الإنْسَ والجِنَّ» قاله ابنُ عَبَّاس. فإن قيل: كَيْفَ يصحُّ اللعْنُ من البهائِمِ، والجَمَادَاتِ؟ فالجواب مِنْ وجْهين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 الأول: على سبيلِ المُبَالغَةَ، وهي أنَّها لو كانت [عاقلةً] ، لكانَتْ تَلْعَنُهُمْ. الثاني: أنها في الآخِرَة، إذا أُعِيدَت، وجُعِلَتْ من العُقَلاء فإنَّها تَلْعَنُ مَنْ فَعَل ذلك في الدُّنْيا، ومَاتَ عَلَيْهِ. وقيل: إنَّ أهْلَ النَّار يَلْعَنُونَهُمْ وقيل يلْعَنُهُمُ الإنْسُ والجِنُّ. وقال ابنُ مَسْعُود - رضي الله تعالَى عَنْه -: ما تَلاَعنَ اثْنَانِ من المُسْلِمِينَ إلاَّ رجَعَتْ تلْكَ اللَّعْنَةُ على اليَهُود والنَّصَارَى الَّذين كَتَمُوا أَمْرَ محمَّد - صلواتُ الله وسلامهُ علَيْه - وصِفَتَهُ. وعن ابْنَ عَبَّاس: أنَّ لهم لعنتَيْنِ لعنة الله، ولَعْنَة الخَلاَئِقِ، قال: وذلك إذَا وُضِعَ الرَّجُلُ في قَبْرِهِ، فَيُسْأَلُ ما دِينُكَ؟ وما نَبِيُّكَ؟ وما رَبُّكَ؟ فيقول: لا أَدرِي فيُضْرَبُ ضربةً يسمعها كلُّ شَيْءٍ إلاَّ الثَّقَلَيْنِ، فلا يَسْمَعُ شيْء صَوْتَه إلاَّ لَعَنَهُ، ويقول المَلَكُ: لاَ دَرَيْتَ وَلاَ تَلَيْتَ، كذَلِكَ كُنْتَ فِي الدُّنْيَا. وقال أَبُوا مُسْلِمٍ: «اللاَّعِنُون هم الَّذِين آمَنُوا به، ومعْنَى اللَّعْنَة، مباعدةُ المَلْعُون، ومُشَاقَّتُه، ومخالَفَتُه مع السَّخَط عليه. وقيل: الملائكةُ، والأنبياءُ، والصالحُون؛ ويؤكِّده قولُهُ تعالَى: {إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملاائكة والناس أَجْمَعِينَ} [البقرة: 161] . وقال قتادة:» الملائكةُ «. قال الزَّجَّاجُ: والصوابُ قَوْلُ مَنْ قال:» اللاَّعِنُونَ الملائكة والمؤمنونَ «، فأمَّا أن يكون ذلك لدوَابِّ الأَرْضِ فلا يُوقَفُ على حقيقته إلاَّ بنَصٍّ أو خَبَرٍ لاَزِمٍ، ولم يوجَدْ شيءٌ من ذذلك. قال القرطبِيُّ: قد جَاءَ بذلك خَبَرٌ رَوَاهُ البَرَاء بن عَازِب، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ - صلّى الله عليه وعلى آلِهِ، وسَلَّم، وشَرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - في قوله تعالى:» يَلْعَنُهُمُ اللاَّعنُونَ «قال:» دوابُّ الأَرْض «أخْرَجَه ابْنُ ماجَةَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 وقال الحَسَن:» جميعُ عبَادِ الله «. قال القاضِي:» دلَّتِ الآيةُ على أنَّ هذا الكِتْمَان من الكَبَائر لأنَّه تعالَى أَوْجبَبَ فيه اللَّعْن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 في الاستثناءِ وَجْهَان: أحدهما: أن يكون متَّصِلاً، والمُسْتَثْنى منْه هو الضَّميرُ في «يلعنُهم» . والثاني: أن يكُونَ منقطعاً؛ لأنَّ الَّذين كَتَمُوا، لُعِنُوا قَبْل أَنْ يَتُوبُوا. وإنَّما جَاءَ الاستثناءُ؛ لبَيَانِ قَبْول التَّوْبَةِ؛ لأنَّ قَوْماً من الكاتِمِينَ لَمْ يُلْعَنُوا، نقل ذلك أبو البَقَاء. قال بعضُهُمْ: «ولَيْسَ بشَيْءٍ» . فَصْل اعلَمْ أنَّه تعالى لَمَّا بيَّن عظيمَ الوَعِيدِ، فكان يجوزُ أَنْ يُتَوَهَّمَ أَنَّ الوعيدَ يلحقُهُمْ على كُلِّ حالٍ، فبيَّن تعالَى أَنَّهُمْ إذا تابُوا، تغيَّر حُكْمُهم، ودَخَلُوا في أهْلِ الوعْدِ. والتَّوْبةُ عبارةٌ عن النَّدَم على فِعْلِ القبيح لقُبْحِهِ، لا لِغَرَضٍ سِوَاه؛ لأنَّ مَنْ لم يَرُدَّ الوديعَة، ثم ندمِ للَوْمِ الناس وذمِّهم، أو لإِنَّ الحاكم رَدَّ شهادتَهُ لم يكُنْ تائباً، وكَذَلِكَ، لو عَزَمَ على رَدِّ الودائعِ والقيام بالواجِبَاتِ؛ لكي تُقْبَلَ شهادتُهُ أو يُمْدَحَ بالثَّنَاءِ علَيْه، لم يكن تائِباً وهذا مَعْنَى الإِخْلاَّص في التوبة ثم بيَّن تعالى أنه لا بُدَّ له بَعْدَ التوبة مِنْ إصْلاح ما أفْسَدَهُ مثلاً، لو أفْسَد على رجُلِ دِينَهُ بإيرادِ شُبْهَةٍ عَلْيه، يلْزَمُه إزالَة تِلْكَ الشُّبْهَةِ، ثمَّ بيَّن بأنه يجبُ علَيْه بعْدَ ذلك أَنْ يَفْعَلَ ضِدَّ الكِتْمَانِ، وهُو البَيَانُ بقَوْله «وَبَيَّنُوا» فدلَّت الآيةُ على أنَّ التَّوْبة لا تَحْصُلُ إلاَّ بِتَرْكِ كُلِّ ما ينبغي. وقيلَ: بَيَّنوا تَوْبَتَهُمْ وصَلاَحَهُم. قال ابْنُ الْخَطِيبِ: قالَتِ المُعْتَزِلةُ: الآيةُ تَدُلُّ على أَنَّ التَّوْبة عن بَعْضٍ المعاصِي مع الإصْرَارا عَلى البَعْضِ لا تَصِحُّ؛ لأن قوله «وَأَصْلَحُوا» عامٌّ في الكلِّ. والجوابُ: أَنَّ اللفْظ المُطْلَق يكْفِي في صِدْقه حُصُولُ فَرْدٍ واحدٍ مِنْ أفْراده. وقولُه: «أَتُوبُ عَلَيْهِمْ» أَتَجَاوَرُ عنْهم، وأَقْبَلُ تَوْبتهمْ. «وَأَنَا التَّوَّابُ» الرَّجَّاع بقُلُوبِ عبَادِي المنْصَرفة عَنِّي إلَيَّ، القَابِلُ لِتَوْبة كلِّ ذي توبةٍ، الرحيمُ بِهِمْ بَعْدَ إقْبَالهم عَلَيَّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 اعلَمْ أنَّ ظاهِرَ الآيَة يَعْمُّ كُلَّ كافِرٍ ماتَ على كُفْره. وقال أَبُو مُسْلِم: يجبُ حَمْلُه على الَّذِينَ تقدَّم ذكْرُهُمء، وهُمُ الذينَ يكْتُمُون الآياتِ، واحتجَّ بأنَّهُ تعالى لَمَّا ذَكَر حالَ الَّذشين يكْتُمُون، ثُمَّ ذكَرَ حالَ التَّائِبِين منْهم، ذكَرَ أيْضاً حَالَ مَن يَمُوتُ منْهم منْ غَيْر تَوْبَةٍ، وأيضاً: فإِنه تعالى لمَّا ذَكر أنَّ أولئكَ الكاتِمِينَ مَلْعُونُونَ حالَ الحياةِ، بيَّن أَنَّهم ملْعُونُون بَعْد المَوْت. وجوابُهُ: إِنَّمَا يصحُّ هذا، لو كان الَّذين يمُوتُون منْهُمْ مِنْ غير تَوْبة دخلُوا تَحْت الآيَةِ، وإلاَّ لاسْتَغْنَى عن ذكْرِهم فوجَبَ حَمْلُ الكلامِ على أمْرٍ مستأْنفٍ. فإنْ قيل: كيْفَ يلْعَنُهُ النَّاس أَجْمَعُونَ، وأهْلُ [دينِهِ لا يلْعَنُونَه] . فجوابُهُ منْ وجُوهٍ: أحدها: أَنَّ أهل دينه يلْعَنُونه فِي الآخرة؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25] قال أبو العَالِيَةِ: «يُوقَفُ الكافِرُ يَوْمَ القيامةِ، فيلْعَنُهُ اللهُ، ثم تَلْعَنُهُ الملائكةُ، ثم تلْعَنُهُ النَّاسُ» . وثانيها: قال قَتَادَةُ، والرَّبِيع: أَرَادَ بالنَّاس أجْمَعِين المؤمِنِينَ؛ كأنه لَمْ يَعْتَدَّ بغَيْرهم، وحَكَم بأنَّ المؤمنين هُمُ النَّاس لا غَيْرُ. وثالثها: أنَّ كُلَّ أحَدٍ يَلْعَنُ الجاهلَ، الظَّال؛ لأنَّ قُبْحَ ذلك مُقَرَّرٌ في العُقُول فإذا كان في نَفسه [هو جاهلاً، أو ظالماً، وإنْ كَانَ لا يعلَمُ هو مِن نَفْسه كوْنَهُ كَذَلِكَ] كانَتْ لعنتُهُ على الجَاهِلِ والظَّالم تتناوَلُ نَفْسَهُ. ورابعها: أَنَّ يُحْمَل وُقُوعُ اللَّعْنَة عَلَى اسْتحْقَاق اللَّعْنِ، وحينئذ يَعُمُّ ذلك. فَصل فِي بَيضانِ جَوِازٍ لَعْنٍ مَنْ مَاتَ كَافِراً قال أبو بَكْرٍ الرَّازِيُّ - رَضِيَ الله عنه -: الآيَةُ الكريمة تدلُّ على أنَّ للمسلِمِين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 لعن مَنْ مات كَافِراً، وَأَنَّ زوالَ التكْليف عَنْه بالمَوْتِ لا يُسْقِطُ عَنْه اللَّعْنة؟ لأنَّ قوله تعالى: «وَالنَّاس أَجْمَعِينَ» أمرٌ لَنَا بلَعْنِهِ بَعْدَ مَوته؛ وَهَذَا يدلُّ على أنَّ الكافر، لَوْ جُنَّ، لم يَكُنْ زَوَالُ التَّكْلِيفِ عَنْه مُسْقِطاً اللَّعْنةَ والبَرَاءة منْهُ، وكذلك السَّبيلُ فيما يُوجِبُ المَدْحَ والموالاَةَ مِنَ الإِيمَان والصَّلاح، فَمَوْتُ مَنْ كان كذلك أو [جنونُهُ لا يغيِّر] حكْمَهُ عَمَّا كان علَيْه قَبْلَ حُدُوث الحَالِ به. قوله تعالى: «وَمَاتُوا» الواو هذه واو الحال، والجُمْلَة في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال، وإثباتُ الواو هُنَا أفْصَحُ؛ خلافاً للفَرَّاء، والزَّمَخْشَريِّ، حيثُ قالا: إنَّ حَذْفَها شاذٌ. وقوله {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله} : «أُولَئِكَ» : مبتدأٌ، [و {عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ} : مبتدأ وخَبَرُه، خَبَرٌ عَنْ «إِنَّ» ، ويجُوزُ في «لَعْنَةُ» الرفْعُ بالفاعليَّة بالجَار قَبْلَها؛ لاعتَمادهَا؛ فَإِنَّهُ وقع خَبَراً عن «أولئك» وتقدَّم تحريرُهُ في {عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ} [البقرة: 157] . فصل في هل يجوز لعن الكافر المعين قال ابْنُ الْعَرَبيِّ: قَالَ لِي كثيرُ مِنْ أشْيَاخِي: إنَّ الكافرَ المُعَيَّن لا يجوزُ لَعْنُهُ؛ لأنَّ حاله عنْد المُوَافَاةِ لا تُعْلَمُ، وقَدْ شَرَط الله تعالى في هذه الآية الكريمة في إطْلاَقِ اللَّعْنَةِ: المُوافَاةَ عَلَى الكُفْر. وأمَّا ما رُويَ عَنِ النبيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعَلَى آلِهِ وسلَّم، وشَرَّفَ وكَرَّمَ، ومَجَّدَ، وَبَجَّلَ وعَظَّم - أَنَّه لَعَنَ أَقْوَاماً بأعْيَانِهِمْ مِن الكُفَّار، فَإِنما كان ذَلِكَ؛ لِعِلْمِهِ بمآلِهِمْ. قال ابْنُ العَرَبِيِّ: والصحيحُ عنْدِي: جوازُ لَعْنِهِ؛ لظاهر حَالِهِ، ولجواز قَتْله وقتَالِهِ. وقد رُويَ عَنِ النبيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعَلَى آلِهِ وسلَّم، وشَرَّفَ وكَرَّمَ، ومَجَّدَ، وَبَجَّلَ وعَظَّم - أنه قال: «اللهُمَّ، إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ هَجَانِي، وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي لَسْتُ بشَاعِرٍ، فَألْعَنْهُ، وأَهْجُهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي» [فَلَعَنَهُ، وإن كان الإيمانُ والدِّينُ والإسْلاَمُ مَآلَهُ، وانتصف بقوله «عَدَدَ مَا هَجانِي» ] ولم يَزِدْ؛ لتعليم العَدْلِ والإنصافِ، وأضَافَ الهَجْوَ إلى الله تعالَى في باب الجَزَاءِ، دون الابتداءِ بالوَصْف بذلك؛ كما يضاف إليه المكْرُ والاسْتهْزَاءُ والخَديعةُ، تعالَى عَنْ ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 قال القُرْطُبِيُّ: أما لَعْنُ الكُفَّار جُمْلَةُ مِنْ غَيْر تَعْيين، فلا خِلاَفَ، فيه؛ لِمَا روَى مَالِكٌ، عن داوُدَ بْنِ الحُصيْنِ، أنَّه سَمِعَ الأَعْرَجَ يقُولُ: «مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الكَفَرَةَ فِي رَمَضانَ، وَسَواءٌ كَانَتْ لَهْم ذِمَّةٌ أَوْ لَمْ تَكْنْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ، وَلَكِنَّهُ مُبَاحٌ» . قوله تعالى: «وَالمَلاَئِكَة» الجمهورُ على جرِّ الملائكة؛ [نَسَفاً عَلَى اسم الله تعالى] ، وقرأ الحَسَنُ بالرَّفع، {والمَلاَئِكَهُ وَالنَّاسُ أَجمَعُونَ} وخرَّجَها النحاةُ عَلَى العَطْف على مَوْضع اسْم الله تعالَىن فإنه وِنْ كان مَجْرُوراً بإضافة المَصْدر، فموضعُهُ رَفْعٌ بالفاعلية؛ لأنَّ هذا المَصْدر يَنحَلُّ لحَرْفٍ مصدريٍّ، وفِعْلٍ، والتقديرُ: «أَنْ لَعَنَهُمْ» ، أوْ «أنْ يَلْعَنَهُمُ اللهُ» ، فعطف الملائِكَةَ على هذا التَّقْدير. قال أبو حيان: وهذا لَيْسَ بجائزٍ على ما تقرَّر مِنَ العَطْفِ على الموضِع، فإنَّ مِنْ شرْطِهِ: أن يكُونَ ثمَّ مُحْرِزٌ للموْضِعِ، وطَالبٌ، والطالبُ للرفع وجودُ التَّنْوِينِ في المَصْدَر، هذا إِذَا سَلَّمْنَا أن «لَعْنَة» تنحلُّ لِحَرْفٍ مصدريٍّ، وفعْلٍ؛ لأنَّ الانحلال لذلك شرطُهُ أنْ يُقْصَدَ به العلاجُ؛ ألا ترَى أنَّ قوله: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18] لَيْسَ المعنَى على تقْدير: أنْ يلْعَنَ اللهُ على الظالمين، بل المرادُ اللَّعْنَةُ المستقرَّة، وأضيفتْ للَّه على سَبِيلِ التَّخْصِيص، لا على سَبِيلِ الحُدُوث. ونقلَ عن سِيبَوَيْهِ: أنَّ قولك: هَذَا ضَارِبُ زَيْدٍ غَداً وَعَمْراً، بنَصْب «عَمْراً» : أنَّ نَصْبَه بفعْل محذوفٍ، وأبى أَنْ ينصبَهُ بالعَطْف على المَوْضِع، ثم بعد تَسْليمه ذلك كلَّه، قال: المَصْدرُ المُنَوَّن لم يُسْمَعْ بعده فاعِلٌ مرفعوعٌ، ومفعولٌ منصوبٌ، إِنَّمَا قاله البصريُّون قياساً على «أنْ والفِعْل» ومنَعَهُ الفَرَّاء، وهو الصحيحُ ثم إِنَّه خَرَّجَ هذه القراءة الشَّاذَّة على أحَدِ ثلاثةِ أوجُهٍ: الأول: أن تكونَ الملائكةُ مرفوعةً بفعلٍ محذُوفٍ، أي: «وتَلَعَنُهُمُ المَلاَئِكَةُ» ؛ كما نصَبَ سِيبَوَيْهِ «عَمْراً» في قولِكَ «ضَارِبُ زَيْداً وَعَمْراً» بفعْلٍ محذوفٍ. الثاني: أَنْ تكُونَ الملائكةُ عَطْفاً على «لَعْنَةُ» بتقدير حَذْف مضافٍ، أي: «وَلَعْنَةُ المَلاَئِكَةِ» فَلَمَّا حذَفَا المضافَ، أُقِيمَ المضافُ إلَيْه مُقَامَهُ. الثالث: أنْ يكُونَ مبتدأً قد حُذِفَ خبرهُ تقْديرُهُ {وَالمَلاَئِكَةُ وَالنَّاسُ أَجْمَعُونَ تَلْعَنُهُمْ} وهذه أوجُهٌ متكلَّفةٌ، وإِعْمَالُ المصدر المنوَّنِ ثابِتٌ؛ غايُةُ ما في الباب: أنه قد يُحْذَفُ فاعلُهُ؛ كقوله {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ} [البلد: 14 - 15] . وأيْضاً: فقد أَتْبَعَتِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 العَرَبُ المجرورَ المَصْدر عَلَى رَفْعاً؛ قال: [البسيط] . 861 - ... ... ... ... ... . ... مَشْيَ الهَلُوكِ عَلَيْهَا الخَيْعَلُ الْفَضُلُ برفع «الفُضُلُ» وهي ل «الهَلُوكِ» على المَوْضِع؛ وإذَا ثَبَتَ ذلكَ في النَّعْتِ، ثَبَتَ فِي العَطْفِ؛ لأنَّهما تابعانِ مِنَ التوابع الخمْسَةِ، و «أَجْمَعِينَ» : من ألْفَاظِ التأْكِيد المعنويِّ بمنزلةِ كُلٍّ. قال ابنُ الخَطِيبِ: والآيةُ تَدُلُّ على جواز التَّخْصْيصِ معَ التَّوْكِيد؛ لأنَّه تعالى قال: «والنَّاسِ أَجْمَعِينَ» مع أنَّه مخصوصٌ على مَذْهَب مَنْ قال: المراد بالنَّاس بَعْضُهُمْ. قوله تعالَى: «خِالِدِينَ» حالٌ من الضَّمير في «عَلَيْهِمْ» والعاملُ فيها الظرْفُ من قوله «عَلَيْهِمْ» ؛ لأنَّ فيه معنى الاسْتقْرَار لِلَّعْنة، والخلودُ: اللُّزومُ الطَّويل، ومنْه قوله تعالى: «أَخْلدَهُ» أي: لَزِمُهُ، ورَكَنَ إلَيْه. قال بعضُهُمْ: «خَالِدِينَ فِي اللَّعْنَة» . وقيلَ: في النَّار، أُضْمِرَتْ؛ تفخيماً وتهويلاً؛ كقوله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] . والأول أولى؛ لوجوه: الأول: أَنَّ ردَّ الضَّميرِ [إلى المَذْكُور السَّابق أَوْلَى مِنْ رَدِّة، إذَا لم يُذْكَر. الثاني: أَنَّ حَمْلَ هذا الضَّمِير على اللَّعْنَة] أَمكْثَرُ فائدةً؟ لأنَّ اللَّعْنَ هو الإبْعَادُ مِنَ الثَّوَاب بفِعْل العِقَاب في الآخِرَة، وإيجادِهِ في الدُّنيا، فيدخل في اللعن النَّار وزيادةٌ [فكان حَملُ اللَّفظ عليهم أولى] . [الثالث: أن حمل الضمير على اللَّعن يكون حاصلاً في الحال وبعده، وحمله على النَّار لا يكون حالاً حاصلاً في الحال، بل لا بدَّ من تأويلٍ] . قوله تعالى: «يُخَفَّفُ» فيه ثلاثةُ أوجه: أحدها: أن يكون مستأنفاً. الثاني: أن يكون حالاً من الضَّمير في «خَالِدِينَ» فيكون حالان متداخلان. الثالث: أن يكون حالاً ثانية من الضَّمير في «عَلَيْهِمْ» ، وكذلك عند من يجيز تعدُّد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 الحال. وقد منع أبو البقاء هذا الوجه، بناءً منه على مذهبه في ذلك. وقوله: «وَلاَ هُمْ يَنْظَرُونَ» . قال مَكِّيٌّ رَحِمَهُ اللهُ: هو ابتداءٌ وخبرٌ في موضع الحال من الضَّمير في «خالدين» أو من الضَّمير في «عَنْهُمْ» . فصل في وصف العذاب اعلم أنه تعالى وصف هذا العذاب بثلاثة أمورٍ: أحدها: الخلود، وهو المكث الطَّويل عِنْدنا، أو المكث الدَّائم عند المعتزلة. وثانيها: عدم التخفِيفِ، ومعناه أنّ العذابَ في الأوقاتِ كلِّها متشابهٌ؛ لا يكون بعضُه أقَلَّ من بَعْضٍ. فَإِن قيلّ: هذا التَّشْبيهُ مُمْتَنعٌ؛ لوجوهٍ: أحدها: أَنَّه إذا تصوَّر حال غيره من شدَّة العذب، كان ذلك كالتَّخفيف عنه. وثانيها: أنَّه تعالى يزيد علَيْهِمْ في أقوات، ثمَّ تنقطع تلْك الزِّيادةُ فيكونُ ذلك تَخفيفاً. وثالثها: أنه حين يخاطبهم بقوله تعالى: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] لا نشكُّ أنَّه يزادُ عنْهم في ذلك الوَقْت. فالجوابُ أَنَّ التفاوتُ في هذه الأمُورِ قليلٌ، فالمستَغرِقُ في العَذَاب الشّدِيد لا ينْتبه لهذا القدْر القليل منَ التَّفاوتُ، وهذه الآية تَدُلُّ على دوام العذاب، وأبديتِه، فإنَّ الواقعَ في [محْنَةٍ] عظيمةٍ [وشدةٍ] في الدُّنْيَا، إذا بُشِّرَ بالخَلاَص، وقيل له: إنَّك تَخلُصُ من هذه الشِّدَّة بعد أيَّامٍ، فإنَّه يَفْرَح ويسْهُلُ عليه موقع هذه المحنة. الصفة الثانية: قوله «وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ» والإنظارُ: هو التأْجيلُ والتأخيرُ؛ قال سُبحانه {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] والمعنى: أن عذابَهُمْ لا يُؤجَّل، بل يكون حاضراً متَّصِلاً بعذاب مثله؛ ووجه اتِّصال هذه الآية بها قبلها: أنَّه تعالى لمَّا حّذَّر من كتْمَان الحقِّ بين أن أوَّل ما يجبُ إظهارُهُ ولا يجوزُ كتمانُهُ أمْرُ التوحيدِ، ووَصَل ذلك بذكْر البُرْهان، وعلَّم طريقَ النَّظَر، وهو الفكْرُ في عجائِبِ الصُّنْع؛ ليعلم أنَّه لاَ بُدَّ منْ فاعل لا يشبهُه شَيْءٍ: ويحتمل أن يكون من النَّظَرِ؛ كقوله: {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة} [آل عمران: 77] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 قوله: «إلهٌ وَاحدٌ» خبر المبتدأ، و «وَاحِدٌ» صفةٌ، وهو الخبر في الحقيقة؛ لأنَّه مَحَطّ الفائدةَ، ألاَ ترى أنَّه لو اقتصر [على ما قَبْلَه، لم يُفد، وهذا يُشْبهُ الحالَ الموطِّئة؛ نحو: «مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَجُلاً صَالِحاً» ف «رَجُلاً» حالٌ] وليستْ مقصودة، إِنَّما المقصودُ وصْفُها. قال أبو عليٍّ: قولُهُمْ واحدٌ: اسمٌ جَرَى على وَجْهَيْن في كلامِهِم. أحدهما: أن يكونَ اسماً. والآخَرُ: أن يكونَ وَصْفاً، فالاسْمُ قولُهُمْ في العَدَد: واحد، اثْنَانِ، ثلاثةٌ، فهذا اسمٌ لَيْسَ بوصف، كما أنَّ سائر أسماء العَدد كذلك، وأَمَّا كونُهُ صفةً؛ فقولُكَ: مَرَرْتُ برَجُلٍ وَاحِدٍ، وهَذَا شَيءٌ وَاحِدٌ، فإذا جرى هذا الاسمُ على الحَقِّ سُبْحانه وتعالى، جاز أن يكون الذي هو الوصفُ كالعالِم والقادِرِ، وَجَازَ أن يكون الذي هو الاسْمُ كقولكِ شَيْء ويقوِّي الأوَّل قوله تعالى: «وَإِلهُكُمْ إِلَهٌ وَاحدٌ» . فصل في وجوه وصفه تعالى بأنه واحد قال الجُبَّائِيُّ: وُصَفَ الله بأنَّه واحدٌ منْ وجُوهٍ أربعة: لأنَّه ليس بذي أبْعَاضٍ، ولا بذِي أَجْزَاء؛ ولأنَّه منفردٌ [القِدَمِ؛ ولأنَّه مُنْفَردٌ] بالإلهيَّة؛ ولأنه منفردٌ بصفات ذاتِهِ؛ نَحُو كوْنِهِ [عَالِماً بنَفْسِه، قَادِراً بنَفْسِهِ. قوله تعالى: «إلا هُوَ» : رفع «هُوَ» على أنه] بدلٌ من اسْم «لا» على المَحَلِّ؛ إذ محلُّه الرفْعُ على الابتداء، أو هو بَدَلٌ من «لاَ» وما عملتْ فيه، لأنَّها وما بعْدَها في مَحلِّ رفْعٍ بالابتداء، وقد تَقدَّم تقريرُ ذلك، ولا يجُوزُ أنْ يَكُون «هو» خبر «لاَ» التَّبْرِئَةِ، لما تقرَّر من أنَّها لا تعملُ في المَعَارف، بَلِ الخَبر مَحْذُوفٌ، أي: «لاَ إِلهَ لَنَا» هذا إذا فَرَّعنا على أنَّ «لاَ» المبنيَّ معها اسْمُها عاملةٌ في الخَبَرِ، أمَّا إذا جعلْنَا الخَبَرَ مَرْفُوعا بما كان علَيْه قَبْل دخولِ «لاَ» ولَيْسَ لها فيه عَمَلٌ وهو مذهبُ سيبَوَيْهِ فكَان ينبغي أن يكون «هُوَ» خبراً إلاَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 أنَّه مَنَع منه كوْنُ المبتدأ نكرةً، والخبَر معرفةً، وهو ممنوعٌ إلاَّ في ضرائر الشِّعْر في بَعْض الأَبْوَاب. واستَشكَلَ الشَّيْخُ أبو حَيَّان كَونَهُ بَدَلاً منْ «إِلَهَ» . [قال: لأنَّه لَمْ يمكنْ تكريرُ العَامِلِ؛ لا نقولُ: «لاَ رَجُلَ إِلاَّ زَيْدٌ» والذي يظهر أنه لَيْسَ بدلاً من «إلَه» ] ولا مِنْ «رَجُل» في قولك: «لاَ رَجُلَ إِلاَّ زَيْدٌ» ، غنما هو بَدَلٌ من الضَّمير المستكنِّ في الخبر [المحْذُوفِ، فإذا قلنا: لا رجل إلاّ زيَدٌ، فالتقديرُ: «لاَ رَجُلَ كائنٌ، أو مَوْجُودٌ إِلاَّ زَيْدٌ» ، ف «زَيْدٌ» بدلٌ من الضمير المستكنِّ في الخبر] لا مِنْ «رَجُل» ، فليس بدلاً على مَوْضِع اسم «لا» ، وَإِنَّما هو بدلٌ مَرْفُوعٌ منْ ضمير مَرْفوعٍ، وذلك الضَّميرُ هو عائدٌ على اسم «لا» ، ولولا تصريح النَّحويِّين: أنَّه بَدَلٌ على الموضِعِ مِنِ اسم «لاَ» ، لتأوَّلنا كلامَهُمْ على ما تقدَّم تأويلُهُ. قال شهاب الدين: والَّذي قالُوهُ غَيْرُ مُشْكِلٍ؛ لأنهم لم يقولُوا: هو بدَلٌ من اسْم «لاَ» على اللَّفظِ؛ حتى يلزمَهُمْ تكريرُ العامِلِ، وإنَّما كان يشكلُ لو أجازُوا إبْدَالَهُ مِن اسْمِ «لاَ» على اللَّفظِ، وهم لم يجيزوا ذلك لعَدَم تكير العَامِلِ، ولذلك منعوا وجْهَ البَدَلِ في قولهمْ «لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ» وجعلُوهُ انتصاباً على الاستِثْناءِ، وأَجَازُوهُ في قولك: «لا رَجُلَ في الدَّارِ إلاَّ صاحِباً لك» لأنَّه يُمْكِن فيه تكريرُ العَامِلِ. قوله تعالى: «الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ» فيه أربعةُ أوْجُهٍ: أحدها: أن يكونَ بَدَلاً منْ «هُوَ» بدَلَ ظاهرٍ مِنْ مُضْمَرٍ، إلا أن هذا يُؤَدِّي إلى البَدَلِ بالمُشْتقَّاتِ وهو قليلٌ؛ ويُمْكِنُ أنْ يجاب بأنَّ هاتَين الصفتَيْن جَرَتا مَجْرَى الجوامِدِ ولا سِيَّمَا عنْدَ من يَجْعل [الرَّحْمن] علماً، وقد تقدَّم تحقيقُهُ في «البَسْمَلَةِ» . الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، أي: هُو الرَّحْمَنُ، وحسَّنَ حذْفَهُ توالي اللفْظِ ب «هُوَ» مرَّتَيْن. الثالث: أن يكوم خبراً ثالثاً لقوله: «وَإلَهُكُمْ» أخبر عنْهُ بقوله: «إِلَهٌ وَاحِدٌ» وبقوله: «لاَ إِلهَ إِلاَّ هُوَ» وبقوله: «الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ» ، وذلك عند مَنْ يَرَى تعدّدَ الخَبَرِ مُطْلقاً. الرابع: أن يكون صفةً لقولِهِ «هُوَ» ، و [ذلك] عند الكِسَائِيِّ؛ فإنَّه يجيزُ وَصف الضَّمير الغائب بصفة المَدح، فاشترط في وصف الضَّمير هذَين الشَّرْطَين: أن يكون غائباً، وأن تكون الصفَةُ صفةَ مَدْحٍ؛ وإن كان ابنُ مالكٍ أطْلَقَ عَنْه جوازَ وَصْفِ ضمير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 الغائِب، ولا يجوز أنْ يكُون خبراً ل «هُوَ» هذه المذكورةِ؛ لأنَّ المستثنى ليْسَ بجُملةٍ. فصل في سبب النُّزُول قال ابن عبَّاسِ: سَبَبُ نُزُول هذه الآية أَنَّ كُفَّار قُرَيش قالوا: يا مُحَمَّد، صِفْ وانسُبْ لَنَا رَبَّكَ فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى سُورَةَ الإخْلاَصِ، وهَذه الآيَة. قال أبو الضُّحَى: لمَّا نزلَّتْ هذه الآيةُ، قال المُشْرِكُون: إنَّ محمَّداً يقُولُ: إلَهكُم إِلَهٌ وَاحِدٌ، فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ، إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فَأَنْزل اللهُ - عَزَّ وَجَّل -: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} [والمرادُ بالخَلْق هنا المخلُوقُ. قال أبو مسلم: وأصْلُ الخَلْق التقديرُ؛ قالَ تعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 2] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 ذكر ابن جرير في سَبَب نُزُول هذه الآيةِ عن عطاءٍ أيضاً ما ذكرْنَاه آنفاً. وعن سعيد بن مَسْروق، قال: سألت قُرَيشٌ اليَهودَ، فقالوا: حدِّثُونَا عَمَّا جَاءَكُم به موسى - عليه السَّلام - من الآيَاتِ. فَحَدَّثوهُمْ بالعَصا وبالْيَدِ البَيْضاءِ، فقالت قُرَيش عَمَّا جاءَهُمْ به عيسى، فَحدَّثُوهُم بإبراءِ الأَكْمَه والأَبْرَصِ وإحياءِ المَوتَى؛ فقالت قُرَيش عِند ذلك للنَّبيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: ادْعُ اللهَ لَنَا أنْ يَجْعَلَ الصَّفا ذَهَباً، فَنَزدَادَ يقيناً، ونَتَقَوَّى على عدُوِّنَا [فَسَأل ربَّهُ ذلك] فأوحَى اللهُ تعالى إليه أنْ يعطيهم، ولكن إن كذَّبُوا بَعْدَهُ، عَذَّبْتُهُم عَذَاباً شدِيداً لا أعذِّبُهُ أحداً مِنَ العالمين فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام: - «ذَرْنِي وَقَوْمِي، أدعُوهُمْ يَوماً فَيَوْماً» ، فأنْزَلَ اللهُ تعالى هذه الآية مُبَيِّناً لهم أنهم إنْ كانوا يريدون أنْ أجْعَلَ لَهُمُ الصَّفَا ذَهَباً؛ ليزدادوا يقيناً؛ فَخَلقُ السَّموات والأَرْض وسائِرُ ما ذكر أعظمُ وأكْبرُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 وقيل: لمَّا نزل قوله: «وَإِلَهُكُمْ إِلهٌ وَاحِدٌ» ، قالوا: هل مِنْ دليلٍ على ذلك فأنزل الله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} ؛ فبيَّن لهم الدَّليل وقد تقدَّم في قوله تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء} [البقرة: 22] . قال البغويِ: ذكر «السموات» بلَفظ الجَمْع، لأنَّ كُلَّ سماء من جِنسٍ آخَرَ، وأفْرَد الأرْضَ؛ لأن الأرَضينَ كلَّها مِنْ جنْسٍ واحدٍ، وهو الترابُ، والآيةُ في السَّموات سُمْكُها وارتفاعُها مِنْ غير عَمدٍ، ولا عَلاقَةَ، وما يُرى فيها من الشَّمْس، والقَمَر، والنُّجوم، واختلافِ أحوالها مِنَ الطُّلُوع، والغُرُوبُ، وغير ذلك، والآيةُ من الأَرْضِ: مَدُّها، وبَسْطُها وسَعَتُها، وما يُرَى فيها من الأشجار، والاثمَار، والنْهَار، والجِبَالِ، والبِحَار، والجوةاهر، والنبات، وقد تقدّم طَرَفٌ من هذا. قوله تعالى: وَاخْتلاف اللَّيل والنَّهَار «ذكَرُوا للاخْتلاَف تفْسيرَينْ: أحدهما: أنَّه افْتِعَالٌ مِنْ قَولِهِمْ:» خَلَفَهُ يَخْلَفُهُ «إذا ذهبَ الأوَّل، وجاء الثَّاني، فاختلاف اللَّيْل والنَّهار تَعَاقُبُهُمَا في الذَّهاب والمجِيء؛ يقالُ: فلانٌ يَخْتلف إلى فلانٍ، إذا كان يَذْهب إلَيه ويجيء من عنده، فَذَاهَابُهُ يَخْلُفُ مجيئَهُ، ومجيئُهُ يخْلُفُ ذَهَابه، وكلُّ شيءٍ يجيء بعد شيءٍ آخَرَ، فهو خِلْفَةُ، وبهذا فَسَّرُوا قوله تعالى: {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً} [الفرقان: 62] ؛ ومنه قول زهير: [الطويل] 862 - بِهَا الْعِينُ والأَرْآمُ يَمْشِينَ خِلْفَةً ... َأَطْلاَؤُهَا يَنْهَضْنَ مِنْ كُلِّ مَجْثَمِ [المديد] 863 - وَلَهَا بِالمَاطِرُونِ إِذَا ... أَكَلَ النَّمْلُ الَّذِي صَنَعَا خِلْفَةٌ حَتَّى إِذَا ارْتَبَعَتْ ... سَكَنَتْ مِنْ جِلَّقٍ بِيَعَا الثاني: اختلاف الليل والنهار، في الطول والقِصَر، والنور والظلمة، والزيادة والنقصان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 قال الكسائي:» يقال لكُلِّ شيئَيْن اختَلفَا: هُمَا خلَفَان «. قال ابن الخطيبِ: وعندي فيه وجهٌ ثالثٌ، [وهو] أنَّ اللَّيْل والنهارَ كما يختلفان بالطُّول والقِصَرِ في الأزمِنَةِ، فهُمَا يختلفَانِ في الأمكنةِ فإنَّ مَنْ يقول: إِنَّ الأرض كُرَةٌ، فكلُّ ساعةٍ عنيتها، فتلْكَ الساعةُ في موضِع مِنَ الأرض صُبحٌ، وفي موضِعٍ آخَرَ ظُهْرٌ، وفي آخرَ عَصْرٌ وفي آخَرَ مَغْرِبٌ، وفي آخَرَ عِشَاءٌ، وهلُمَّ جرّاً، هذا إذا [اعتبرنا البلادَ المُخْتلفَةَ في الطُول، أما البلادُ المختلفَةُ] في العَرْضِ، فكُلُّ بَلَدٍ يكُونُ عَرْضُهُ الشماليُّ أكْثَرَ، كانَتْ أَيَّامُهُ الصيفيَّة أطْوَلَ وليالِيهِ الصَّيفيَّةُ أقْصَرَ، وأَيَّامُهُ الشتويَّة بالضِّدِّ مِنْ ذلك، فهذه الأحوالُ المختلفةُ في الأيَّام واللَّيالي بحَسَب اختلاف أَطْوالِ البلاَد وعُرُوضها أمْرٌ عجيبٌ مختلفٌ. وأيضاً: فإنَّ إقْبال الخَلق في أوَّل الليل على النَّوم يُشْبه مَوْتَ الخلائِق عند النَّفخةِ الأولى في الصُّور، ويقظتهم آخِرَ اللَّيْل يشبهُ عَوْدَة الحياة إليهم عند النَّفخة الثانية، هذا أيضاً من الآياتِ العَظِيمة. وأيضاً: انشقاقُ ظُلمة الليْلِ بظهورِ الصُّبْحِ المستطيل كأنَّهُ جَدولُ ماءٍ صافٍ يَسيلُ في بَحْرِ كَدِرٍ بحيث لا يتكدّر الصَّافي بالكَدِرِ، ولاَ الكَدرُ الصافي، وهو المرادُ بقوله: {فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً} [الأنعام: 96] . قال علماءُ الهَيْئَة: إنَّ الموضع الذي يكون القُطب فيه على سَمْتِ الرأسِ تكُونُ السَّنَةُ فيه [سِتَّةَ أشهرٍ نهاراً] وستَّةُ أشْهُرٍ ليلاً، وهناكَ لا يَتِمُّ النُّضج، ولا يصلحُ لِمَسْكنِ الحيوانِ ولا يتهيأُ فيه سبَبٌ من أسْبَاب المَعيشة. فصل في أصل الليل اختلفُوا؛ قيل: الليلُ: اسم جنس، فيفرق بَيْن واحد وجمعه بتاء التأنيث؛ فيقال: لَيْلَةٌ وَلَيْلٌ؛ كتَمْرَةٍ وَتَمْرٍ، واللَّيالي جمعُ الجَمْعِ، والصحيحُ: أنَّهُ مفْرَدٌ، ولا يحفظ له جَمعٌ؛ وكذلك خطَّأ الناسُ مَنْ زعَمْ أنَّ «الليالي» جَمْعُ «لَيْلٍ» ، بل الليالي جمعُ «لَيْلَة» وهو جمعٌ غريبٌ، ولذلك قالُوا: هو جمعُ «لَيْلاَةٍ» تقديراً، وقد صُرِّح بهذا المفْرَدِ في قول الشَّاعر: [السريع أو الرجز] 864 - في كُلِّ يَوْمٍ ما وَكُلِّ لَيْلاَهْ ... حَتَّى يَقُولَ كُلُّ رَاءٍ إِذَا رَآهْ ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 يَا وَيْحَهُ مِنْ جَمَلٍ مَا أَشْقَاهْ ... ويدلُّ على ذلك تصيغرُهُمْ لها على «ليُبْلَةٍ» ونظيرُ «لَيْلَةٍ» و «ولَيَالٍ» : «كَيْكَةٌ وكَيَاك» ؛ كأنَّهم توهَّموا أَنَّاها «كَيْكَاتٌ» في الأصْل، والكَيْكَةُ: البَيْضَةُ. وأمَّا النَّهار: فقال الرَّاغب: «هو في الشَّرْع: اسمٌ لما بين طُلُوع الفجر إلى غروب الشَّمس» . قال ابن فَارِس: «والنَّهارُ» : ضياءُ مَا بين طُلُوع الفَجْر إلى غُرُوب الشمس قال القرطبي: وهُوَ الصحيحُ؛ ويدلُّ عليه ما ثبت في «صحيح مُسْلِم» : عن عَدِيِّ بن حاتم، قال: لَمَّا نَزلَتْ: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر} [البقرة: 187] قال له عَدِيٌّ: يا رسول اللهِ، إنِّي جَعَلتُ تَحتَ وِسَادَتِي عِقَالَيْن؛ عِقَالاً أَبْيَضَ، وعِقَالاً أَسْوَدَ، أَعْرِفُ بهما اللَّيْلَ مِنَ النَّهَارِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صَلَواتُ اللهِ البَرِّ الرَّحِيم وسَلاَمُهُ عَلَيْهِ -: «إِنَّ وسَادَكَ لَعَرِيضٌ» يعني إنَّما هو سوادُ الليْلِ وبياضُ النهارِ، وبهذَا يقْضِي الفقهُ في الأيْمَان، وبه ترتبطُ الأحْكام. وظاهرُ اللُّغَة أنَّه مِنْ وَقْت الإسْفَار. وقال ثعلب والنَّضْرُ بن شُمَيلٍ: «هو مِنْ طُلُوع الشَّمْس» زاد النَّضْرُ: ولا يعدُّ ما قبل ذلك مِنَ النَّهَار. وقال الزَّجَّاج: «أوَّلُ النَّهار ذُرُورُ الشَّمْس» . ويُجْمَعُ على نُهُرٍ وأَنهِرَة؛ نحو: قَذالٍ، وقُذُلٍ، وأَقْذِلَة. وقيل: لا يُجْمَعُ؛ لأنه بمنزلة المَصْدَر، [والصحيحُ: جمعُهُ على ما تقدَّم] . قال: [الراجز] 865 - لَوْلاَ الثَّرِيدَان لَمُتْنَا بِالضُّمُرْ ... ثَرِيدُ لَيْلٍ، وَثَرِيدٌ بِالنُّهُرْ وقد تقدَّم اشتقاق هذه المادَّة، وأنَّها تدُلُّ على الاتِّسَاعِ، ومنه «النَّهَارُ» لا تِّسَاع ضَوْئه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 عِنْد قوله: {مِن تَحْتِهَا الأنهار} [البقرة: 25] قاله ابن عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: قال ابن فارس: ويقال: «إنَّ [النَّهارِ] فَرْخٌ الحَبَارَى» وقدم اللَّيْل على النَّهار لأنَّهُ سَابقُهُ؛ وقال تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وهذا أصحُّ القولَين. وقيل: النُّورُ سابِقُ الظلمةِ، وينبني على هذا الخلافِ فائدةٌ، وهي أنَّ الليلة، هَلْ هي تابعةُ لليوم [قبْلَهَا، أو لِلْيَومِ بَعْدها. فعلى الصَّحيح: يكونُ الليل للْيَوم بَعْدها، فيكونُ اليَوْم تابعاً لها، وعلى الثاني: تكونُ للْيَوْم قبْلَها، فتكون اللَّيلة تابعةً لها] فيَوْمُ عَرَفَةَ؛ على الأوَّل: مستثنىً من الأصْلِ؛ فإنَّه تابعٌ لِلَّيْلة الَّتي بَعْده، وعلى الثاني: جاء على الأصْلِ. قال القرطبي: وقسَّم ابن الأنباريّ الزَّمن ثلاثة أقسام: قِسْماً جعَلَه لَيْلاً مَحْضاً؛ وهو مِنْ غُرُوب الشَّمْس إلى طُلُوعِ الفجر، وقِسْماً جعَلَهُ نهاراً مَحضاً، وهو مِنْ طُلُوع الشَّمْس إلى غُرُوبها، وقِسْماً جعَلَهُ مُشْترِكاً بين النَّهارِ واللَّيْلِ؛ وهو مِنْ طُلُوع الفجْر إلى طُلُوع الشَّمْس؛ لبقايا ظلمة اللَّيْل، [ومَبَادِئ ضَوء النَّهار] . قوله تعالى: «وَالفُلْك» عَطْفٌ على «خَلْقٍ» المجرورة ب «فِي» لا على «السَّمَواتِ» المجرورة بالإضافة، و «الفُلْك» يكونُ واحداً؛ كقوله: {فِي الفلك المشحون} [يس: 41] ، وجَمْعاً كقَوْله: «في الفُلْكِ {فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] فإذا أُرِيدَ به الجَمْعُ، ففيه أقوالٌ: أصحُّها - وهو قولُ سيبويه -: أنَّهْ جَمع تَكْسيرٍ، وإنْ قيل: جمْعُ التكسيرِ لا بُدَّ فيه من تَغَيُّرٍ ما، فالجَوَابُ: أنَّ تغييره مقدَّرُ، فالضمة في حال كونِهِ جَمْعاً، كالضمة في» حُمُرٍ «و» نُدُبٍ «وفي حال كون مفرداً، كالضَّمَّة في» قُفْلٍ «، وإنَّما حمل سيبيوه على هذا، ولم يجعلهُ مشتركاً بين الواحد والجمع؛ نحو:» جُنُبٍ «و» شُلُلٍ « [فلَمَّا ثَنَّوْهُ، وقالوا: فُلْكَانٍ، علمْنا] أنَّهم لم يَقْصِدُوا الاشْتراك الَّذي قصَدُوه في» جُنُبٍ «و» شُلُل «ونظيرُه ناقَةٌ هِجَانٌ ونُوقٌ هِجَانٌ، ودرْعٌ دِلاَصٌ، ودُرُوعٌ دِلاَصٌ، فالكَسْرة في المفرد كالكسرة في» كِتَاب «وفي الجمع كالكسرة في» رِجَال «؛ لأنهم قالوا في التَّثْنيَة: هِجَانَانِ ودِلاَصَانِ. الثاني: مذهب الأخفش: أنَّه اسم جمع، كصحبٍ، وركبٍ. الثالث: أنَّه جمع «فَلَكٍ» بفتحتين، كأسدٍ وأُسدٍ، واختار أبو حيَّان أنه مشتركٌ بين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 الواحد والجمع، وهو محجوجٌ بما تقدَّم من التثنية، ولم يذكر لاختياره وجهاً، وإذا أفرد «فلك» ن فهو مذكَّر؛ قال تعالى: {فِي الفلك المشحون} [يس: 41] . وقال جماعةٌ، منهم أبو البقاء: يجوزُ تَأْنيثُهُ؛ مستدلِّين بقوله: {والفلك التي تَجْرِي فِي البحر} فوصفه بصفة التأنيث، ولا دليل في ذلك؛ لاحتمال أن يراد به الجمع؛ وحينئذٍ فيوصف بما يوصف به المؤنثة الواحد. قال الواحديُّ: وأصله من الدَّوَرَان، فكل مستدير فلك، ومنه «فَلَكُ السَّمَاءٍ» ؛ لدوران النُّجوم فيه، و «فَلْكَةُ المِغْزَلِ» [وفَلكَتِ الجَارِيَةُ: استدارَ نَهْدُها] ، وسُمِّيت السَّفينة فُلْكا لأنَّها تدور بالماء أسهل دورٍ. وجاء بصلة «الَّتِي» فعلاً مضارعاً؛ ليدلَّ على التجدُّد والحدوث، وإسناد الجري إليها مجازٌ، وقوله: «فِي البَحْرِ» توكيدٌ؛ إذ المعلوم أنَّها تجري في غيره؛ كقوله {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] . فصل في عدد البحور قال ابنُ الخَطِيبِ - رَحِمَهُ اللهُ - قيل: إنَّ البُحُورَ المَعْرُوفَةَ [خَمْسَةٌ] : بحرُ الهند: وهو بحرُ الصِّين، وبحرُ المغرب، وبحر الشَّام، وبحر الرُّوم [ومِصْر] وبحر نيطش وبحر جُرْجان. فالأوَّل يمتدُّ طوله [من المغرب إلى المَشْرقِ] ، من أقصى أرض الحبشة إلى أٌصى أرض الهند، ويخرج منه خليج عند أرض الحبشة يمتد إلى ناحية البربر، يسمَّى البربريُّ، وخليج بحر أيلة، وهو بحر القلزم، ينتهي إلى البحر الأخضر على شرقيّ أرض اليمن وعلى غربيّ أرض الحبشة، وخليج بحر فارس يسمى الفارسي وهو بحر البصرة على شرقي تيز ومكران، وعلى غربيه غمان وبين هذين الخليجين خليج أيلة، وخليج فارس الحجاز واليمن، وبلاد المغرب وخليج رابع إلى أٌصى الهند يسمَّى الأخضر، وفي بحر الهند ألف وثلثمائة وسبعون جزيرة منها سرنديب عند بلاد الصين يحيط بها لثلاثة الآف ميل فيها جبالٌ وأنهارٌ، ومنها يخرجُ الياقوتُ الأحمر. وأمَّا بحر المغرب، فهو المحيط ويسمِّيه اليونانيُّون: أوقيانوس، ويتًّل به بحر الهند، وطرفه في ناحية المغرب والشمال محاذياً لأرض الروم والصقالبة ويأخذ في الجنوب محاذياً لأرض السُّودان مارّاً على [حدود السّوس، وطنحة وتاهرت] ، ثم الأندلس والجلالقة والصَّقالبة، ثم يمتد من هناك وراء الجبال غير المسلوكة والأراضي غير المسكونة نحو بحر المشرق، وهذا البحر لا تجري فيه السُّفن إلا بقرب ساحله، وفيه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 ستُّ جزائر تسمى الخالدات، تقابل أرض الحبشة، ويخرج منه خليجٌ عظيمٌ يمتد إلى أرض بلغار. وأما بحر الرُّوم وإفريقية [ومصر والشَّام:] فيخرج منه إلى أرض البربر، وفي هذا البحر مائة واثنتان وستُّون جزيرةً. وأما بحر نيطش: فيمتدُّ من اللاذقيَّة إلى خلف قسطنطينيَّة، وأرض الرُّوم والصَّقالبة. وأمَّا بحر جرجان، ويعرف ب «بحر السُّكون» فيمتدُّ إلى طبرستان والدَّيلم، وباب الأبواب، وليس يتصل ببحر آخر، فهذه هي [البُحُور] العظامُ، وأما غيرها: فهي بَطَائح؛ كبحيرة خوارزم، وبحيرة طبريَّة. فصل في سبب تسمية البحر بالبحر قال اللَّيثُ: سمي البحر بحراً؛ لاستبحاره، وهو سعته وانبساطه، ويقال: استبحر فلانٌ [في العلم] ، إذا اتَّسَعَ فيه؛ وتَبَحَّر الرَّاعي في الرَّعي كَثُرَ، وتبحَّر فلانٌ في المال. وقال غيره: سُمِّيَ البحر بحراً؛ لأنَّه شقّ في الأرض، والبحر الشَّقُّ، ومنه البُحَيْرَة. قوله تعالى: «بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ» . [في «ما» قولان: أحدها: أنها موصولة اسميَّةٌ؛ وعلى هذا: الباء للحال، أي: تجري مصحوبةً بالأعيان الَّتي تنفعُ النَّاس. الثَّاني: أنها] حرفيَّةٌ، وعلى هذا تكونُ الباءُ للسَّببب، أي: تجري بسَبَبِ نفع النَّاس في التِّجارة وغيرها. فصل في الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصانع. فأما كيفيَّة الاستدلال بجريان الفلك في البحر على وجود الصَّانع تعالى وتقدَّس: فهو أنَّ السُّفُن، وإن كانت من تركيب النَّاس إلاَّ أنَّه تعالى [هو الَّذي] خلق الآلات الَّتي يمكن بها تركيب هذه السُّفُن، وتبحرُ بها الرياح، وقوَّى قلوبَ من ركِبَها، وخصَّ كُلَّ طَرَفٍ من أطراف العالم بشيءٍ معيَّن، وأحوج الكُلَّ إلى الكُلِّ؛ حتَّى صار ذلك داعِياً يدعوهم إلى اقتحامِ هذه الأخطار في هذه الأسفار، ويخَّر البحر لحمل الفلك، مع قوَّة سلطان البحر إذا هاج، وعظُم هوله، واضطربت أمواجه، مع ما فيه من الحيوانات العظيمة ثم إنه تبارك وتعالى يُخَلِّص السُّفُن عنها ويوصِّلاه إلى ساحل السَّلامة، وهذا أمرٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 لا بد له من مدَبِّر، ومقتدر يحفظه، وهذه الآية الكريمة تدلُّ على إباحة ركوب البحر وعلى إباحة الاكتساب، والتِّجارة؛ قوله: «بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ» . فصل في بيان الحالة المستثناة في ركوب البحر البحر إذا أرتج، لم يجز ركوبه لأحدٍ بوجه من الوجوه في حين ارتجاجه، ولا في الزَّمن الذي الأغلب فيه عدم السَّلامة؛ وإنما يجوز عندهم ركوبه في زمنٍ يكون الالب فيه السلامة -[نقله القُرْطُبيُّ] . قوله تعالى: {وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ} [البقرة: 164] [ «من» ] الأولى معناها ابتداءُ الغاية، أي: أنزل من جهة السماء، واما الثانيةُ فتحتمل ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون لبيان الجِنسِ فإنَّ المنزل من السَّماء ماءٌ وغيره. والثاني: أن تكون للتَّبعيض؛ فإنَّ المنزل منه بعضٌ لا كلٌّ. والثالث: أن تكون هي وما بعدها بدلاً من قوله: «من السماء» بدل اشتمالٍ بتكرير العامل، وكلاهما أعني «مِن» الأولى، و «مِن» الثانية متعلِّقان ب «أَنْزَلَ» . فالجوابُ: أنَّ الممنوع من ذلك أن يتَّحدا معنًى من غير عطف، ولا بدلٍ، لا تقول: أَخَذْتُ من الدَّرَاهِمِ مِنَ الدَّنَانِيرِ، وَأَمَّا الآية الكريمة: فإنَّ المحذورَ فيه مُنْتَفٍ، وذلك أنَّك إن جَعَلْتَ «مِنَ» الثانية للبيان، أو للتبعيض، فظاهرٌ؛ لاختلاف معناهما؛ فإنَّ الأولى للابتداء، وإن جعلناها لابتداء الغاية، فهي وما بعدها بدلٌ، والبدلُ يجوز ذلك فيه، كما تقدَّم، ويجوز أن تتعلَّق «مِن» الأولى بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ؛ إمَّا من الموصول نفسه، وهو «مَا» ، أو من ضميره المنصوب ب «أنْزَلَ» ، أي: وما أَنْزَلَ اللهُ حالَ كَوْنِهِ كائناً من السَّماء. فصل في أن إنزال الماء من السماء آية دالَّة على وجود الصانع قيل: أراد بالسَّماء السَّحَابَ؛ فإنَّ كلَّ ما علاك يُسَمَّى سماءً، ومنه قيل: سَقْفُ البيت سماؤُهُ، وقيل: أراد السَّماء المعرفة، وأنَّه ينزل من السَّماء إلى السَّحاب، ومن السحاب إلى الأرض، وفي دلالة إنزالِ الماء من السَّماء على وجود الصَّانع: أنَّ جسم الماء، وما قام به من صفات الرَّقَّة، والرُّطوبة، واللَّطَافة والعُذُوبة، وجعله سبباً لحياة الإنسان، ولأكثر [منافعه] ، وسبباً لرزقه، وكونه من السحاب معلَّقاً في جَوِّ السَّماء، وينزل عند التضرُّع، واحتياج الخلق إليه - مقدار المنفعة، وسوقه إلى بلد ميِّتئن فحيي به - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 من الآيات العظيمة الدَّالَّة على وجود الصانع المدبِّر القدير. قوله تعالى: «فَأَحْيَا بِهِ» عطف «أحْيَا» على «أَنْزَلَ» الَّذي هو صلة بفاء التَّعقيب، دلالة على سُرعة النبات، و «بِهِ» متعلِّق ب «أَحْيَا» والباءُ يجوزُ أن تكون للسَّبب، وأن تكون باء الإله، وكلُّ هذا مجازٌ؛ فإنَّه متعالٍ عن ذلك، والضميرُ في «به» يعود على الموصول. فصل في دلالة إحياء الأرض بعد موتها على وجود الصانع اعلم أنَّ «أحْيَا الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا» يدلُّ على وجود الصانع من وجوه: [فإنَّ نفس الزَّرع وخروجه على هذا الحدِّ ليس في مقدور أحدٍ. واختلاف ألوانه على وجه] [لا يُحَدُّ، ولا يُحْصَى] ، واختلاف الطُّعُوم والروائح، مع كونه يسقى بماء واحدٍ. واستمرار العادة بذلك في أوقات مخصوصةٍ، فإنَّ ظهور النَّبات من الكلأ، والعشب، وغيرهما، لولاه ما عاش دوابُّ الأرض، ولما حصلت أقوات العباد [وملابسهم] . وهذا لا بُدَّ له من [مُدَبِّر] ، حكيمٍ، قادرٍ. وووصف اأرض بالحاية بعد الموت مجازٌ؛ لأنَّ الحياة لا تصحُّ إلاَّ على من يدرك، ويصحُّ أن يعلم، وكذلك الموت؛ إلاَّ أنَّ الجسم، إذا صار حيّاً، حصل فيه أنواعٌ من الحسن، ونضرة، ونور، ورونق، وذلك لشبهه [بالحياة] ، وموتها [يبسها، وجدبها] ، وهذا مجاز أيضاً؛ لشبهة بالموت. قوله تعالى: «وَبَثَّ فِيهَا» يجوز في «بَثَّ» وجهان: أظهرهما: أنَّهما عطفٌ على «أَنْزَلَ» داخلٌ تحت حُكم الصِّلة؛ لأنَّ قوله «فَأَحْيَا» عطفٌ على «أَنْزَلَ» فاتصل به، وصارا جميعاً كالشَّيء الواحد، وكأنه قيل: «وَمَا أَنْزَلَ في الأَرْضِ مِنْ مَاءٍ، وبَثَّ فيها من كُلِّ دابِّة؛ لأنَّهم يَنْمُونَ بالخِصْبِ، ويَعِيشُون بالحَيَا» : قاله الزمخشريُّ. والثاني: أنه عطفٌ على «أَحْيَا» . واستشكل أبو حيَّان عطفه [عليها؛ لأنَّها صلةٌ للموصول، فلا بُدَّ من ضمير يرجع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 من هذه الجملة إليه، وليس ثمَّ ضميرٌ في اللَّفظ] ؛ لأن «فيها» يعود على الأَرْض، فبقي أن يكون محذوفاً، تقديره: وبَثَّ به فيها، ولكن لا يجوز حذف الضمير المجرورة بحرف إلا بشروطٍ: أن يكون الموصول مجروراً بمثل ذلك الحرف. وأن يتَّحِد متعلَّقهما. وألاَّ يُحْصَرَ الضَّميرُ. وأن يتعيَّن للرَّبط. وألا يكون الجارُ قائماً مقام مرفوعٍ. والموصول هنا غير مجرورٍ ألبتَّة، ولمَّا استشكل هذا بما ذكر، خرَّج الآية على حذف موصول اسميٍّ؛ قال: وهو جائزُ شائعٌ في كلامهم، وإن كان البصريُّون لا يجيزُونه؛ وأنشد شَاهِداً عليه: [الخفيف] 866 - مَا الَّذِي دَأْبَهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ ... وَهَوَاهُ أَطَاعَ يَسْتَوِيَانِ أي: والَّذي أَطَاعَ؛ وقوله: [الوافر] 867 - أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ ... وَيَمْدَحُهُ وَيَنْصُرُهُ سَوَاءُ أي: ومن [يَمْدَحُهُ] وَيَنْصُرُهُ. وقوله: [الطويل] 868 - فَوَاللهِ، مَا نِلْتُمْ وَمَا نِيلَ مِنْكُمُ ... بِمُعْتَدِلٍ وَفْقٍ وَلاَ مُتَقَارِبِ أي: «مَا الَّذِي نِلْتُمْ» ، وقوله تعالى: {وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46] ؛ ليطابق قوله: {والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ} [النساء: 136] ، ثم قال: وقد يتمشَّى التقدير الأوَّل - يعني: جواز الحذف - وإن لم يوجد شرطه. قال: وقد جاء ذلك في أشعارِهِم؛ وأنشد: [الطويل] 869 - وَإشنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا ... وَهُوَّ عَلَى مَْ صَبَّهُ اللهُ عَلْقَمُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 أي: عَلْقَمٌ عَلَيْهِ، وقوله: [الطويل] 870 - لَعَلَّ الًَّذِي أَصْعَدْتنِي أنْ يَرُدَّنِي ... إلى الأَرْضِ إشنْ لَمْ يَقْدِرِ الخَيْرَ قَادِرُهُ أي: أصْعَدتنِي بِهِ. [قوله تعالى: «مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» يجوز في «كُلِّ» ثلاثة أوجُهٍ: أحدها: أن يكون ي موضع المفعول به] ، وتكون «مِنْ» تبعيضيَّةً. الثاني: [أن تكون «مِنْ» زائدةً على مذهب الأخفش، و «كُلِّ دَابَّةٍ» مفعولٌ به ل «بَثَّ» أيضاً. والثالث] : أن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال من مفعول «بَثَّ» المحذوف، إذَا قلنا: إنَّ ثَمَّ موصولاً محذوفاً، تقديره: وما بَثَّ حال كونه كائناً من كُلِّ دابَّةٍ؛ وفي «مِنْ» حينئذٍ وجهان: أحدهما: {أن تكون للبيان. والثاني] : أن تكون للتبعيض. وقال أبو البَقَاءِ رَحِمَهُ اللهُ: ومفعول «بَثَّ» محذوفٌ، تقديره: {وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ} وظاهرُ هذا أنَّ «مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ» : صفةٌ لذلك المحذوف، {وهو تقديرٌ لا طائلَ تحته] . والبَثُّ: نَشْرٌ وتفريقٌ. قال: [الطويل] 871 - ... ... ... ... ... ... ... ... وَفِي الأضرْضِ مَبْثُوثاً شُجَاعٌ وَعَقْرَبُ ومضارِعُه: يَبُثُّ، بضم العين، وهو قياسُ المُضَاعف [المُتَعَدِّي] ، وقد جاء الكَسر في أُلَيْفَاظٍ؛ قالوا: «نَمَّ الحديثَ يَنُمُّهُ» بالوجهين. والدَّابَّةُ: اسمٌ لكلِّ حيوانٍ، وزَعَمَ بعضهم إخراج الطَّير منه، ورُدَّ [عليه] بقول عَلْقَمَةَ: [الطويل] 872 - كَأَنَّهُمْ صَابَتْ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ ... صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 وبقول الأعْشَى: [الطويل] 873 - ... ... ... ... ... ... ... . ... دَبِيبَ قَطَا البَطْحَاءِ في كُلِّ مَنْهِلِ وبقوله سبحانه: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ} [النور: 45] ثمَّ فَصَّل: بمن يمشي على رجلين، وهو الأإنسان والطَّير. فصل في أنَّ حدوث الدواب دليل على وجود الصانع اعلم أنَّ حدوث الحيوانات قد يكون بالتَّوليد، وقد يكون بالتَّوَالد: وعلى التقديرين: فلا بُدَّ فيهما من [الافتقار إلى] الصَّانع الحَكِيم؛ يُرْوَى أنَّ رَجُلاً قال عند عُمَرَ بن الخَطَّاب - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: إنِّي لاأَتَعَجَّبُ مِنْ أَمْرِ الشِّطْرَنْجِ، فإنَّ رُقْعَتَهُ ذِرَاعٌ في ذِرَاع، وإنَّه لَوْ لَعِبَ الإِنْسَانُ ألْفِ مَرَّةٍ، فَإِنَّه لا يَتَّفِقُ مَرَّتَان على وجه واحد، فقال عمر بن الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه وعن الصحابة أجمعين -: ههنا ما هو أَعجيب منه، وهو أنَّ مقدار الوجه شبرٌ [في شبرٍ] ، ثم إن موضع الأعضاء التي فيه؛ كالحاجبين، والعينين، والأنف، [والفم] ، لا يتغيَّر ألبَتَّة، ثم إنَّك لا ترى ضخصين في الشَّرق والغرب يشتبهان في الصُّورة، وكذا اللَّون، والألسنة، والطِّباع، والأمزجة، والصَّوت، والكثافة، واللَّطَافة، والرِّقَّة، والغلظ، والطُّول، والقصر، وبقيَّة الأعضاء، والبَلاَدة، وافِطنة، فما أعظم تلك المقدرة والحكمة التي أظهرت في هذه الرُّقعة الصَّغيرة هذه الاختلافات الَّتي لا حدَّ لها! ورُوِيَ عن عليِّ بن أبي طالب - رضي الله تعالى عنه -[أنه قال] : «سُبْحَانَ مَنْ أَبْصَرَ بِشَحْمٍ، وأَسْمَعَ بعَظْمٍ، وأنْطَقَ بلَحْمٍ» . واعلَمْ أنَّ أهل الطبائع؛ قالوا: أعلى العناصر يجبُ أن يكون هو النَّار؛ لأنّها حارَّةٌ يابسةٌ، ودونها في اللَّطافة: الهواء، وهو حارٌّ رطبٌ، ودونها: الماء؛ لأنَّه باردٌ رطبٌ، والأرض لا بدَّ أن تكون تحت الكُلِّ؛ لثقلها، وكثافتها، [ويُبْسها] ، ثُمَّ إنَّهم قلبوا هذه القضيَّة في [تركيب] بَدنِ الإنسان؛ لأنَّ أعلى الأعضاء منه عظم القحف، والعظم وهو باردٌ يابسٌ، فطبيعته على طبيعة الأرض، وتحته الدِّماغُ، وهو باردٌ رطبٌ على طبع الماء، وتحته النَّفَسُ، وهو حارٌّ رطبٌ على طبع الهواء، وتحت الكل: القلبُ، وهو حارٌّ يابسٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 على طبع النَّار، فسبحان من [بيده قلبُ] الطبائع، وترتيبها كيف يشاء، وتركيبها كيف أراد. ومن هذا الباب: أنَّ كُلَّ صانعٍ يأتي بنقشٍ لطيفٍ، فإنَّه يصونه عن التُّراب؛ لئلاَّ يكدِّره، وعن النار؛ لئلاَّ تحرقه، وعن الهواء؛ لئلاَّ يغيره، وعن الماءِ؛ لئلا تذهب به، ثم إنَّه سبحانه وتعالى وضع نقش خلقته على هذه الأشياء؛ فقال تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] ، وقال في النار {وَخَلَقَ الجآن مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ} [الرحمن: 15] وقال تعالى {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91] وقال تعالى في الماءِ: {وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ} [الأنبياء: 30] ؛ وهذا يدلُّ على أن صنعه بخلاف صنع كُلِّ أحدٍ؛ وأيضاً: انظر إلى الطِّفل بعد افنصاله من أُمّشه، لو وضعت على فمه وأنفه ثوباً [فانْقَطَع نَفَسُه] ، لمات في الحَال، ثمَّ إن بَقِيَ في الرَّحم المنطبق مدَّةً [مديدةً] ، مع تعذُّر النَّفس هناك، ولم يمُتْ، [ثم إنَّهُ] بعد الانفصال يكون من أضعف الأشياء، وأبعدها عن الفهم؛ بحيث لا يميز بين الماء والنَّار، وبين الأُم وغيرها، وبعد استكماله يصير أكل الحيوانات في الفهم والعقل والإدراك، ليعلم أنَّ ذلك من عظمة القادر الحكيم، هذا بعض ما في الإنسان. وأمَّا الكلام على بقيَّة الحيوان، فبَحْرٌ لا ساحل له. قوله تعالى: «وَتَصْرِيفِ الرَّيِاحِ» : «تَصْرِيفِ» : مصدرُ «صَرَّفَ» ، وهو الرَّدُّ والتَّقْلِيب، ويجوزُ أنْ يكون مضافاً للفاعل، والمفعول محذوف، تقديره: [وتصريف الرِّياح السَّحَابَح فإنَّها تسوق السَّحاب، وأن يكون مضافاً للمفعول، والفاعل محذوفٌ، أي:] وتصريفُ الله الرِّياح، والرِّياح: جمعُ «رِيح» ، جمع تكسير، وياء الرِّيح، والرِّياح عن واو، والأصلُ «روحٌ» ؛ لأنَّه من: رَاحَ يَرُوحُ، وإنَّما قُلِبَتْ في «ريح» ؛ لِسُكُونها، وانكسار ما قَبْلها، وفي «رِيِاح» ؛ لأنَّها عينٌ [في جمع] بعد كسرةٍ، وبعدها ألفٌ، وهي ساكنةٌ في المفرد، وهي إبدالٌ مطَّردٌ؛ ولذلك لمَّا زال موجب [قلبها، رجعت إلى أصلها] ؛ فقالوا: أرواحٌ؛ قال: [الطويل] 874 - أَرَبَّتْ بِهَا الأَرْوَاحُ كُلَّ عَشِيَّةِ ... فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ آلُ خَيْمٍ مُنَضَّدِ ومثله: [الوافر] 875 - لَبَيْتٌ تَخْفقُ الأَرْوَاحُ فِيهِ ... أَحَبُّ إليَّ مِنْ قَصْرٍ مُنِيفِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 فصل في لحن من قال: الأرياح وقد لَحَنَ عَمَارَةُ بْنُ بِلاَلٍ، فقال «الأرْيَاحَ» في شعره، فقال له أبو حَاتِم: «إنَّ الأرْيَاحَ لا تجُوزُ» فقال له عمارةُ: ألاَ تَسْمَعُ قولهم: رِيَاحٌ؟ فقال أبو حاتمِ: هذا خلاف ذلك، فقال: صَدَقْتَ، ورجع. قال أبُو حَيَّان: وفي محفوطي قديماً؛ أنَّ «الأَرْيَاح» جاء في شعر بعض فُصَحَاءِ العَرَب المستَشْهَد بكلامهم، كأنَّهم بنوه على المفرد، وإن كانت علّضة القلب مفقودةً في الجمع، كما قالوا: «عيدٌ وأعْيَادٌ» والأصلُ «أَعْوَاد» ؛ لأنَّه من: «عَادَ يَعُودُ» ، لكنه لما ترك البَدَل، جعل كالحرف الأصليِّ. قال شِهِابُ الدِّيِن: ويؤيد ما قاله الشَّيْخُ أن التزامَهُمُ «الياء» في «الأَرْيَاحِ» ؛ لأجل اللَّبس [بينه، وبين «أَرْوَاح» جمع «رُوح» ، كام قالوا: التُزمت الياء في «أعْيَاد؛ فَرْقاً] بينه وبين» أعْوَاد «جمع عود الحطب؛ كما قالوا في التصغير:» عُيَيْد «دون» عُوَيْد «؛ وعلَّلوه باللَّبْس المذكور. وقال أبو عليٍّ: [يجمع] في القليل» أرْوَاح «وفي الكثير» رِيَاح «. قال ابن الخطيب وابن عطِيَّة:» وجاءت في القرآن مجموعةً مع الرَّحمة، مفردةً مع العذابِ، إلاَّ في قوله تعالى: {وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ} [يونس: 22] وهذا أغلب وقوعها في الكلام، وفي الحديث: «اللهُمَّ اجْعَلْهَا رِيَاحاً، وَلاَ تَجْعَلْهَا رِيحاً» ؛ لأنَّ رِيحَ العذَابِ شديدةٌ ملتئمةُ الأجْزاءِ، كأنَّهَا جسْمٌ واحدٌ، وريح الرَّحْمَة ليِّنَةٌ متقطِّعَةٌ، وإنما أُفْرِدَتْ مع الفُلْكِ - يعني في يونس - لأنَّها لإجراء السُّفُن، وهي واحدةٌ متَّصِلَةٌ؛ ثمَّ وصفت بالطَّيِّبَةِ، فزال الاشتراك بينها، وبين ريح العذاب «. انتهى. وردَّ بعضهم هذا؛ باختلاف القُرَّاء في اثْنِي عَشَرَ موضعاً في القرآن، وهذا لا يَرُدُّه لأنَّ من جمع في الرَّحمة، فقد أتى بالأصل المُشِار إليه، ومن أفرد في الرّحمة، فقد أراد الجنس، [وأما الجمع في العذاب، فلم يأتِ أصلاً] ، وإما الإفراد فإن وصف، كما في يونس من قوله:» بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ «فإنَّه مزيلٌ للَّبس، وإن أطْلَقَ، كان للعذَابِ، كما في الحديث، وقد تختصُّ اللفظة في القرآن بشيءٍ، فيكون أمارةً له، فمن ذلك: ان عامَّة ما في القرآن من قوله: {يُدْرِيكَ} [الشورى: 17] مبهمٌ غير مبيَّن، قال تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17] وما كان من لفظ» أَدْرَاك «فإنَّه مفسَّر؛ كقوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ} [القارعة: 10 - 11] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 وقرأ حَمْزَةُ، والكسائيُّ هنا» الرِّيح «بالإفراد، والباقون بالجَمع، فالجمع لاختلاف أناوعها: جَنُوباً ودَبُوراً وصَباً وغير ذلك، وإفرادها على إرادة الجنس، وكلُّ ريح في القرآن ليس فيها ألفٌ ولامٌ، اتفق القرَّاء على توحيدها، وما فيها ألف ولام، اختلفوا في جمعها، وتوحيدها، إلاَّ الرِّيح العقيم في سورة الذَّاريات [41] ، اتفقوا على توحيدها، والحرف الأوَّل من سورة الروم {الرياح مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] اتفقوا على جمعها، والرِّياح: تذكَّر، تؤنَّث. فصل في بيان تصريف الرياح وأمَّا تصريفها: فإنها تُصرَّفُ إلى الشَّمال والجنوب والقبول والدَّبور، وما بين كلِّ واحدٍ من هذه المهابِّ، فهي نكباء، وقيل في تصريفها: إنها تارةً تكون ليِّنة، وتارةً تكون عاصفةٌ، [وتارةً حارَّةً] ، وتارة باردةً. قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما -: أعظم جنود الله تعالى الرِّيح، والماء، وسمِّيت الرِّيح ريحاً؛ لأنها تريح النفوس. قال القاضي شريح: ما هبَّت ريحٌ إلاَّ لشفاء سقيم، ولسقيم صحيحٍ. والبشارة في ثلاثة من الرِّياح، في الصَّبا، والشَّمال، والجنوب، وأمَّا الدَّبور، فهي: الرِّيح العقيم، لا بشارة فيها. وقيل: الرِّياح ثمانيةٌ: أربعةٌ للرَّحمة: المبشرات، والنَّاشرات، والذَّاريات، والمرسلات، وأربعة للعذاب: العقيم، والصَّرصر في البرِّ، والعاصف والقاصف في البحر. روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه -: فروح الله سبحانه وتعالى] تأتي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 بالرَّحمة، وتأتي بالعذاب، فإذا رأيتموها فلا تسبُّوها واسألوا الله من خيرها، واستعيذوا بالله من شرِّها. قال ابن الأعرابيِّ: النَّسيم أوَّل هبوب الريح. فصل في بيان دلالة الآية على الوحدانية فأما وجه الاستدلال بها على وحدانيَّة الله تعالى الصَّانع، فإنَّه صرَّفها على وجه النَّفع العظيم في الحيوان، فإنَّها مادَّة النَّفس الَّذي لو انقطع ساعةً في الحيوان، لمات. قيل: إنَّ كلَّ ما كانت الحاجة إليه أشدَّ، كان وجدانه أسهل، ولما كان احتياج الإنسان إلى الهواء أعظم الحاجات؛ حتى لو انقطع عنه لحظة، لمات؛ لا جرم كان وجدانه أسهل من وجدان كلِّ شيءٍ. وبعد الهواء الماء؛ لأنَّ الحاجة إلى الماء أيضاً شديدةٌ؛ فلا جرم أيضاً سهل وجدان الماء، ولكنَّ وجدان الهواء أسهل؛ لأنَّ الماء لا بُدَّ من تكلُّف الاغتراف، بخلاف الهواء؛ فإنَّ الآلات المهيئة لجذبه حاضرةٌ أبداً. ثم بعد الماء: الحاجة إلى الطَّعام شديدةٌ، ولكن دون الحاجة إلى الماء؛ فلا جرم كان تحصيل الطَّعام أصعب من تحصيل الماء؛ لأنَّه يحتاجُ إلى تكلُّفٍ أكثر، والمعاجين والأدوية تقلُّ الحاجة غليها؛ فلا جرم عسرت وقلَّت، ولمَّا عظمت الحاجة إلى رحمة الله تعالى، ننرجو أن يكون وجدانها أسهل من وجدان كلِّ شيءٍ، ولولا تحرُّك الرياح، لما جرت الفلك، وذلك ممَّا لا يقدر عليه أحدٌ إلاَّ الله تعالى، فلو أراد كلُّ من في العالم ان يقلب الرياح من الشَّمال إلى الجنوب، او إذا كان الهواء ساكناً، أن يحركه، لم يقدر على ذلك. قوله تعالى: «والسَّحَابِ» اسم جنس، واحدته «سَحَابَةٌ» [سُمِّي بذلك] ؛ لانسحابه في الهواء؛ كما قيل له «حَباً» لأنَّه يحبو، ذكره أبو عليٍّ. قال القرطبيُّ: ويقال: سَحَبْتُ ذَيْلِي سَحْباً، وتَسَحَّبَ فُلاَنٌ على فُلاَنٍ؛ والسَّحْبُ شدة الأكل والشُّرب؛ وباعتبار كونه اسم جنس، وصفه بوصف الواحد المنكِّر في قوله: «المُسَخَّرِ» كقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] ولما اعتبر معناه تارةً أخرى، وصفه بما يوصف به الجمع في قوله: «سَحَاباً ثِقَالاً» ويجوز أن يوصف به المؤنَّثة الواحدة؛ كقوله: {أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] وهكذا: كلُّ اسم جنسٍ فيه لغتان: التذكير باعتبار اللّفظ، والتأنيث باعتبار المعنى. والتَّسخير: التذليل، وجعل الشَّيء داخلاً تحت الطَّوْع، وقال الرَّاغب: هو القهر على الفعل، وهو أبلغ من الإكراه. قوله تعالى: «بَيْنَ السَّماءِ والأَرْضِ» في «بَيْنَ» قولان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 أحدهما: أنه منصوبٌ بقوله: «المُسَخَّرِ» فيكون ظرفاً للتَّسخير. ولاثاني: أن يكون حالاً من الضَّمير المستتر [في اسم المفعول] ؛ فيتعلَّق بمحذوف، أي: كائناً بين السَّماء والأرض، و «لآيَاتٍ» اسم «إنَّ» ، والجارُ خبرٌ مقدَّمٌ، ودخلت اللاَّم على الاسم؛ لتأخُّره عن الخبر، ولو كان موضعه، لما جاز ذلك فيه. وقوله: «لِقَوْمٍ» : في محلِّ نصبٍ، لأنَّه صفةٌ ل «آياتٍ» ، فيتعلَّق بمحذوفٍ، وقوله: «يَعْقِلُونَ» : الجملة في محلِّ جرٍّ؛ لأنها صفةٌ ل «قَوْمٍ» ، والله أعلم. فصل في تفسير «السَّحَاب» روى ابن عبَّاس عن كعب الأحبار - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال: «السَّحَابُ غِرْبَالُ المَطَرِ، لَوْلاَ السَّحَابُ حِينَ ينزل المَاء مِنَ السَّمَاءِ، لأَفْسَدَ مَا يَقَعْ عَلَيْهِ مِنَ الأَرْضِ» . وقال ابن عَبَاسِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: سَمِعْتُ كَعْباً، يَقُولُ: إنَّ الأرْضَ تُنْبِتُ العام نباتاً، وتُنْبِتُ نَبَاتاً عَاماً قَابِلاً غَيْرَهُ، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: إنَّ البَذْرَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ مَعَ المَطَرِ، فَيَخْرُجُ في الأَرْضِ. فصل في الاستدلال بتسخير السحاب على وحدانية الله في الاستدلال بتسخير السَّحاب على وحدانيَّة الصَّاع: أنَّ طبع الماء ثقيلٌ يقتضي النُّزول فكان بقاؤه في جوِّ الهواء على خلاف الطَّبع، فلا بُدَّ من قادرٍ قاهرٍ، يقهر على ذلك، فلذلك سمّضاه بالمسخَّر، وأيضاً: فإنَّه لو دام، لعظم ضرره من حيث إنَّه يستر ضوء الشَّمس، ويكثر [الأمطار، والابتلال] ، ولو انقطع، لعظم ضرره؛ لأنَّه يفضي إلى القحط وعدم العشب، والزراعة؛ فكان تقديره بالمقدار المعلوم الذي يأتي في وقت الحاجة، ويزول عند زوال الحاجة بتقدير مقدِّرٍ قاهرٍ أيضاً؛ فإنَّه لا يقف في موضع معيَّن، بل الله تعالى يسيّره بواسطة تحريك الرِّياح إلى حيث شاء وأراد، وذلك هو التَّسخير. روى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه قال: «بَيْنَمَا رَجُلٌ بِفَلاَةٍ مِنَ الأَرْضِ، فَسَمِعَ صَوْتاً مِنَ سَحَابَةٍ: اسْقِ حَدِيقَةَ فُلاَنٍ، فَتنَحَّى ذلك السَّحَابُ، فأفرغ ماءَهُ في جرَّةٍ، فإذا بشرجةٍ من تلك الشِّراج، وقد استوعتب ذلك الماء كلَّه، فتتبَّع الماء، فإذا رجلٌ قائمٌ في حديقته يحول الماء بمسحاته، فقال له: يا عبد الله، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 ما اسمك؟ قال: فلان؛ للاسم الذي سمع من السَّحاب، فقال له: يا عبد الله، لم تَسْأَلُني عن اسمي؟ فقال: إني سمعت صوتاً من السَّحاب الذي هذا ماؤه يقول: اسق حديقة فلان لاسمك، فماذا تصنع؟ قال: أمَّا إذا قلت هذا، فإنِّي أنظر إلى ما يخرج منها فأتصدَّق بثلثه، وآكل أنا وعيالي ثلثاً وأردُ فيها ثلثه.» وفي روايةٍ: «وأجعل ثلثه للمساكين، والسَّائلين، وابن السَّبيل» قوله: «يَعْقِلُونَ» ، أي: يعلمون لهذه الأشياء خالقاً وصانعاً. قال القاضي: دلت الآية على أنَّه لو كان الحقُّ يدرك بالتقليد، واتباع الآباء، الجري على الإلف والعادة، لما صَحَّ قوله: «لآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» ، وأيضاً: لو كانت المعارفُ ضروريَّةً، وحاصلةً بالإلهام، لما صَحَّ وصفُ هذه الأمُور بأنَّها آياتٌ؛ لأنَّ المعلومَ بالضَّرورة لا يحتاج في معرفته إلى الآيات. قال وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ: ثلاثة لا يدرى من أين يَجِيء: الرَّعد، والبرق، والسَّحاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 اعلم: أنه، سبحانه وتعالى، لمَّا قرَّر التوحيد بالدلائل العقلية القاطعة، أردفه بتقبيح ما يضاده؛ لأنَّ تقبيح ضد الشيء مما يوكِّد حسن الشَّيء. قال الشاعر: [الكامل] 876 - ... ... ... ... ... ... ... ... وَبِضِدِّهَا تَتَبَيِّنُ الأَشْيَاءُ وقالوا أرضاً: النِّعمة مجهولةٌ، فإذا فقدت عرفت، والنَّاس لا يعرفون قدر الصِّحَّة، فإذا مرضوا، ثم عادت الصحَّة إليهم، عرفوا قدرها، وكذا القول في جميع النِّعم، فلهذا السَّبب أردف الله تبارك وتعالى هذه الآية الدَّالَّة على التَّوحيد بهذه الآية الكريمة. قوله تعالى: «مَنْ يَتَّخِذُ» «مَنْ» : في محلِّ رفع بالابتداء، وخبره الجارُّ قبله، ويجوز فيها وجهان: أحدهما: أن تكون موصولةً. والثاني: أن تكون موصوفةً. فعلى الأوَّل: لا محلَّ للجملة بعدها. وعلى الثاني: محلُّها الرَّفع، أي: فريقٌ، أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 شخصٌ متَّخذٌ، وأفرد الضمير في «يَتَّخِذُ» ؛ حملاً على لفظ «مَنْ» و «يَتَّخِذُ» : يفتعل، من «الأَخْذ» ، وهي متعدِّية إلى واحد، وهو «أنداداً» . قوله تعالى: «مِنْ دُونِ اللهِ» : متعلِّق ب «يَتَّخِدُ» ، والمرابد ب «دُونِ» [هنا «غَيْرَ» ] . وأصلها إذا قلت: «اتَّخَذْتُ مِنْ دُونِكَ صَدِيقاً» ، أصله: اتخذت من جهةٍ ومكانٍ دون جهتك، ومكانك صديقاً، فهو ظرف مجازيٌّ، وأذا كان المكان المتَّخذ منه الصديق مكانك وجهتك منحطَّةً عنه، ودونه؟ لزم أن يكون غيراً، [لأنه ليس إيَّاه، ثم حُذِف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، مع كونه غيراً] ، فصارت دلالته على الغيريَّة بهذا الطريق، لا بطريق الوضع لغةً، وتقدَّم تقرير شيء من هذا أوَّل السُّورة. فصل في اختلافهم في المراد بالأنداد اختلفوا في «الأَنْدَاد» ، فقال أكثر المفسِّرين: هي الأوثان التي اتَّخذوها آلهةً، ورجعوا من عندها النف والضُّرَّ، وقصدوها بالمسائل، وقرَّبوا لها القرابين؛ فعلى هذا: الأصنام بعضها لبعضٍ أندادٌ أي أمثالٌ، والمعنى: أنَّها أندادٌ لله تعالى؛ بحسب ظنونهم الفاسدة. وقال السُّدِّيُّ: إنَّها السَّادة الَّذين كانوا يطيعونهم، فيحلون لمكان طاعتهم في أنَّهم يحلُّون ما حرّم الله، ويحرِّمون ما أحلَّ الله؛ ويدلُّ على هذا القول وجوه: الأوَّل: ضمير العقلاء في «يُحِبُّونَهُمْ» . والثاني: يبعد أنَّهم كانوا يحبُّون الأصنام كحبِّ الله تعالى، مع علمهم بأنها لا تضر، ولا تنفع. الثالث: قوله بعد هذه الآية: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا} [البقرة: 166] ؛ وذلك لا يليق إلاَّ بالعقلاء. وقال الصُّوفية: كلُّ شيءٍ شغلت قلبك به سوى الله تعالى، فقد جعلته في قلبك ندّاً لله تعالى؛ ويدلُّ عليه قوله تبارك وتعالى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الجاثية: 23] . قوله تعالى: «يُحِبُّونَهُمْ» في هذ الجلمة ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن تكون في محلِّ رفع؛ صفة ل «مِنْ» في أحد وجهيها، والضمير المرفوع يعود عليها؛ باعتبار المعنى، بعد باعتبار اللَّفظ في «يَتَّخِذُ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 والثاني: أن تكون في محلِّ نصبٍ؛ صفةً ل «أَنْدَاداً» ، والضمير المنصوب يعود عليهم، والمراد بهم الأصنام؛ وإنَّما جمعوا جمع العقلاء؛ [لمعاملتهم له معاملة العقلاء، أو يكون المراد بهم: من عبد من دون الله من العقلاء] وغيره، ثم غلب العقلاء على غيرهم. قال ابْنُ كَيْسَانَ، والزَّجَّاجُ: معناه: كَحُبِّ الله، أي: يسوُّون بين الأصنام وبين الله تبارك وتعالى في المحبَّة. قال أبو إسْحَاقَ: وهذا القول الصحيح؛ ويدلُّ عليه قوله: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} نقله القرطبيُّ. الثالث: أن تكون في محل نصب على الحال مِنَ الضَّمير في «يَتَّخِذُ» ، والضمير المرفُوع عائدٌ على ما عاد عليه الضَّمير في «يَتَّخِذُ» ، وجُمِعَ حملاً على المعنى؛ كما تقدَّم. قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللهُ تعالى: في الآية حَذْفٌ، أي: يُحبُّونَ عبادَتَهُمْ، والانقياد إليهم. قوله تعالى: «كَحُبِّ الله» الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: يحبُّونَهُمْ حُبّاً كَحُبِّ الله، وأمَّا عل الحال من المَصدر المعرَّف؛ كما تقرَّر غير مَرَّة، والحُبُّ: إرادة ما تَاهُ وتظنُّه خيراً، وأصله من: حَبَبْتُ فُلانَاً: أصبحتُ حَبَّةَ قَلْبِهِ؛ نحو: كَبِدتُهُ، وأَحْبَبْتُهُ: جعلت قَلْبِي مُعرَّضاً بأنْ يُحِبَّهُ، لكن أكثر الاستعمال أنْ يقال: أَحْبَبْتُهُ، فهو مَحْبُوبٌ، وَمُحَبٌّ قليلٌ؛ كقول القائل: [الكامل] 877 - وَلَقَدْ نَزَلْتِ فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بمَنزِلَةِ المُحَبِّ الْمُكْرَمِ والحُبُّ في الأصل: مصدرُ «حَبَّهُ» وكان قياسه فتح الحاء، ومضارعُهُ يَحُبُّ بالضم، وهو قياس فعل المضعَّف، وشَذَّ كسره، و «مَحْبُوب» أكثر مِنْ «مُحَبٍّ» ، و «مُحَبٌّ» أكثر من «حَابٍّ» وقد جمع الحُبُّ؛ لاختلاف أنواعه؛ قال: [الطويل] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 878 - ثَلاًثَةُ أَحْبَابٍ فَحُبٌّ عَلاَقَةٌ ... وَحُبٌّ تِمِلاَّقٌ وَحُبٌّ هُوَ الْقَتْلُ والحُبُّ مصدرٌ لمنصُوبِهِ، والفاعلُ محذوفٌ، تقديرُه، كحُبِّهِمْ الله أو كَحُبِّ المؤمنين اللهِ؛ بمعنى: أنَّهم سَوَّوا بين الحُبَّيْن: حبِّ الأنداد، وحُبِّ الله. وقال ابن عطيَّة: «حُبّ» : مصدرٌ مضافٌ للمفعول في اللَّفْظ، وهو في التقدير مضافٌ للفاعل المُضمرِ، يريدُ به: أنَّ ذلك تقديرُه: كَحُبِّكُمُ اللهَ أو كَحُبِّهِمُ اللهَ، حَسبما قدَّرَ كُلَّ وَجهٍ منهما فرقَةٌ انتهى. وقوله: «للفاعل المُضْمر» يريدُ به أنَّ ذلك الفاعل منْ جنس الضمائرِ، وهو «كمْ» أو «هُمْ» أو يُسَمَّى الحذف إضماراً وهو اصطلاحٌ شائعٌ ولا يريد أنَّ الفاعل مُضْمر في المصدرِ كما يُضْمَرُ في الأفعال؛ لأنَّ هذا قولٌ ضعيفٌ لبعضهم؛ مردُودٌ بأن المصدر اسم جنسٍ واسمُ الجنس لا يُضمرُ فيه لجمودِهِ. وقال الزمخشريُّ: «كَحُبِّ اللهِ» كتعظيم الله، والخُضُوع، أي: كا يُحَبُّ اللهُ؛ عليه أنه مصدرٌ مبنيٌّ من المفعول، وإنما استُغنِيَ عن ذكرِ من يُحِبُّهُ؛ لأنه غير مُلتبسٍ انتهى. أما جعلُهُ المصْدر من المبنيِّ للمفعول، فهو أحد ألأقوَالِ الثلاثة؛ أعني: الجوازَ مُطْلَقاً. والثاني: المَنْعُ مُطْلَقاً: وهو الصحيحُ. والثالث: [التفصيلُ بين الأفعال التي لم تُستَعْمل إلاَّ مَبْنِيَّةً للمفعول، فيجوز؛ نحو: عَجِبْتُ مِنْ جُنُونِ] زيد بالعلم، ومنه الآية الكريمةُ؛ فإنَّ الغالب من «حُبّ» أنْ يبنَى للمفعول وبيْنَ غيرها، فلا يجوزُ، واستدلَّ مَنْ أجازهُ مطْلقاً بقَول عائشة - رضي الله تعالى عنها - نَهَى رَسُول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل وَعَظَّم - عن قَتْل الأبتر، وَذُوا الطُّفيتين برفع «ذُو» ؛ عَطْفاً على محل «الأبتر» لأنَّه مفعولٌ لم يُسَمَّ فاعله تقديراً، أي أنْ يُقْتَلَ الأَبتَرُ، ولتَقرير هذه الأقوال موضعٌ غير هذا. وقد رد الزَّجَّاجُ تقدير مَنْ قدَّر فاعل المصدر «المُؤْمنِينَ» أو ضميرهم. وقال «لَيْسَ بشَيْءٍ» والدليلُ على نقضه قوله بَعْدُ: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} ورجَّح أن يكون فاعل المصدر ضمير المتَّخذين، أي: يحبُّون الأصنام، كما يُحبُّون الله؛ لأنَّهم اشركوها مع الله، فَسَوَّوْا بين الله تعالى، وبين أوثانهم في المَحَبَّة، وهذا الذي قاله الزَّجَّاجُ واضحٌ؛ لأن التسوية بين محبَّة الكفَّار لأَوثانهم، وبن محبَّة المؤمنين لله يُنَافِي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 قوله {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} فإنَّ فيه نَفْيَ المُسَاواة. وقرأ أبو رجاء: «يَحُبُّونَهُمْ» بفتح الياء من «حَبَّ» ثلاثيّاً، و «أَحَبَّ» أكثر، وفي المَثَل: «مَنْ حَبَّ طَبَّ» . فصل في المراد من قوله كحب الله في قوله: كَحُبِّ الله قولان: الأول: كَحُبِّهِم للَّهِ. والثاني: كَحُبِّ المؤمنين للَّهِ، وقد تقدَّم ردُّ هذا القَوْلِ. فإِن قيل: العاقل يستحيل أنْ يكون حبُّه للأوثان كحُبِّه لله؛ وذلك لأنه بضَرُورة العَقْل يَعْلَمُ أنَّ هذه الأوثانَ ينارٌ لا تسمع، ولا تعقلُ، وكانوا مُقرِّين بأنَّ لهذا العالَم صانعاً مدَبِّراً حَليماً؛ كما قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] فمع هذا الاعتقادِ، كيف يُعْقَلُ أنْ يكُونَ حبِّهُمْ لتلك الأوثان كحُبِّهم لله تعالى، وقال تعالى؛ حكايةً عنهم أنَّهُم قالوا {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] فكيف يعقل الاستواءُ في الحُبِّ؟ والجواب: كحُبِّ الله تعالى في الطَّاعة لها، والتَّعْظِيمِ، فالاستواءُ في هذه المحبَّة لا ينافي ما ذكرتُموه. قوله تعالى: «أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ» : المُفضَّلُ عليه محذوفٌ وهم المُتَّخِذُون [الأندادَ، أي: أشدُّ حُبّاً لله من المُتَّخِذِين] الأنْدادَ لأوثانهم؛ وقال أبو البقاء: ما يتعلَّق به «أَشَدُّ» محذوفٌ، تقديره: أشَدُّ حُبّاً للَّهِ مِنْ حُبِّ هؤلاء للأنداد، والمعنى: أنَّ المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر من محبَّة هؤلاء [أوثَانَهُمْ، ويحتمل أن يكون المعنى: أن المؤمنين يُحبُّون الله تعالى أكثر ممَّا يحبُّه هؤلاء] المتَّخذون الأنداد؛ لأنهم لم يُشْرِكُوا معه غيره، وأتى ب «أشَدُّ» موصِّلاً بها إلى أفعل التَّفضيل من مَادَّة «الحُبِّ» ؛ لأنَّ «حُبَّ» مبنيٌّ للمفعول، والمبنيُّ للمفعول لا يُتعجَّب منه، ولا يبنى منه «أَفْعَل» للتَّفضيلِ؛ فلذلك أتى بما يجوز فيه ذلك. [فأمَّا قوله: «مَا أَحَبَّهُ إِلَيَّ» فساذٌّ على خلافٍ في ذلك، و «حُبّاً» تمييزٌ منقولٌ من المبتدأ، تقديره: حُبُّهُمْ لِلَّهِ أشدٌّ] . فصل في معنى قوله أشد حبّاً لله معنى «أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ» ، أي: أثبتُ وأدْوَمُ على حُبِّهِ؛ لأنَّهم لا يختارون على الله ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 سواه، والمشركون إذا اتَّخذوا صَنَماً، ثم رأوا أحسن منه، طرحوا الأوَّل، واختاروا الثَّاني قاله ابن عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما. وقال قتادة: إن الكافِرَ يُعْرِضُ عن معبودِهِ في وقت البَلاء، ويُقبل على الله تعالى [كما أخبر الله تعالى عنهم، فقال: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ} [العنبكوت: 65] والمؤمن لا يُعْرِضُ عن الله] في السَّرَّاءِ والضَّرَّاء، والشِّدَّة والرَّخاء؛ وقال سعيد بن جُبير: إِنَّ الله - عزَّ وجلّ - يأمُر يَوْم القيامةِ من أحرق نفسه في الدُّنيا على رُؤية الأصنام: أنْ يَدْخُلُوا جهنَّمَ مع أصنامِهِم، فلا يَدْخُلُون؛ لعلمهم أن عذابَ جَهَنَّم على الدوام، ثم يقول للمؤمنين، وهم بين أَيدِي الكفَّار: إنْ كُنْتُم أحِبَّائي فادْخُلُوا جَهَنَّم فيقتحمون فيها، فيُنادي مُنادٍ منْ تحت العرش {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} . وقيل: وإنَّما قال: {والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} ؛ لأنَّ الله تبارك تعالى أحَبَّهم أوَّلاً، ثم أحبُّوه، ومَنْ شهد له المعبود بالمحبّة، كانت محبته أتمَّ؛ قال الله تعالى: «يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَه» . فإن قيل: كيف يمكن أن تكون محبَّةُ المؤمن لله أشَدَّ مع أنَّا نَرَى اليهود يأتُون بطاعاتٍ شاقَّة، لا يأتي بمثلها أحَدٌ من المُؤمنين، ولا يأتُون بها إلا الله تعالى، ثم يقتلون أنفُسهم حبّاً لله؟ والجوابُ من وجوه: أحدها: ما تَقَدَّم من قول ابن عَبَّاس، وقتادة، وسعيد بن جبير. وثانيها: أنَّ مَنْ أحب غيره رضي بقضائه، فلا يتصرف في مُلْكه، فأولئك الجُهَّال [قَتَلُوا أنْفُسَهُمْ بِغَيْرِ إذْنه، إنَّما المُؤمنون الذي يقتلُون أنْفُسَهم بإذْنِه، وذلك في الجهاد] . وثالثها: أنَّ الإنسَانَ، إذا ابتلي بالعَذَاب الشَّديد لا يمكنُهُ الاشتغال بمعرفة الرَّبِّ، فالذي فعلوه باطلٌ. ورابعها: أنَّ المؤمنين يوحِّدون ربَّهم، فمحبتهم مجتمعةٌ لواحدٍ، والكفَّارُ يعبدون مع الصنم أصناماً، فتنقص مبحَّة الواحد منهم، أما الأإله الواحد فتنضم محَّبة الجمع إليه. قوله تعالى: {وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا} جواب «لَوْ» محذوفٌ، واختلف في تقديره، ولا يظهر ذلك إلاَّ بعد ذكر القراءات الواردة في ألفاظ هذه الآية الكريمة. قرأ عامر ونافعٌ: «وَلَو تَرَى» بتاء الخطاب، «أنَّ القُوَّة» و «أَنَّ اللهَ» بفتحهما. وقرأ ابن عامر: «إِذْ يُرَوْنَ» بضم الياء، والباقون بفتحها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو والكوفيون: «وَلَوَ يَرَى» بياء الغَيْبَة، «أنَّ القُوَّة» ، «أَنَّ اللهَ» بفتحهما. وقرأ الحسن، وقتادة وشيبة، ويعقوب، وأبو جعفر: «وَلَوْ تَرَى» بتاء الخطاب، «أَنَّ القُوَّةَ» ، و «إِنَّ اللهِ» بكسرهما. وقرا طائفةٌ: «وَلَوْ يَرَى» بياء الغيبة «إِنَّ القُوَّة» و «إِنَّ اللهِ» بكسرهما. إذا تقرَّر ذلك، فقد اختلفوا في تقدير جواب «لَوْ» . فمنهم مَنْ قَدَّره قبل قوله: «أَنَّ القُوَّةَ» ومنهم مَنْ قَدَّره بعد قوله: {وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب} هو قول أبي الحسن الأخفش. [المُبرِّد. أمَّا مَنْ قدَّره قبل: «أَنَّ القوَّة» فيكون «أَنَّ الْقوةَ» معمولاً لذلك الجواب] وتقديره على قراءة «تَرَى» بالخطاب وفَتح «أنَّ» و «أنَّ» : «لَعَلِمْتَ، أَيها السَّامعُ، أنَّ القُوَّةَ للَّهِ جميعاً» والمراد بهذا الخطاب: إِمَّا النبيُّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - وإمَّا: كُلُّ سامع، فيكون معناه: ولو تَرَى يا محمَّدُ، أو يا أيُّها السَّامعُ، الَّذين ظَلَمُوا، يعني: أشركوا، في شدَّة العذاب لرأيت أمراً عظيماً [وقيل: معناه: قُلْ، يا محمَّد، أيُّها الظالم، لو تَرَى الَّذِين ظَلَمُوا من شدَّةِ العذابِ، لرأيتَ أمراً فظيعاً] . وعلى قراءة الكَسرَ في «إِنَّ» يَكُونُ التقديرُ: لَقُلْتَ إِنَّ القُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً، والخلافُ في المراد من الخطاب كما تقدَّم، أو يكون التقدير: «لاَسْتَعْظَمْتَ حَالَهُمْ» ، وإنما كُسِرَتُ «إِنَّ» ؛ لأنَّ فيها معنى التلعيل؛ نحو قولك: «لو قَدِمْتَ على زيدٍ، لأَحْسَن إلَيك؛ إنَّه مُكْرِمٌ لِلضِّيفَانِ» فقولُك: «إِنَّهُ مُكْرمُ لِلضِّيفَانِ» علَّةٌ لقولك: «أَحْسَنَ إِلَيْكَ» وقال ابن عطيَّة: تقديره: «وَلَوْ تَرَى الَّذِينَ في حَال رُؤيتِهِم العذابَ وفَزَعهمْ منْه، واسْتِعْظَامِهِمْ له، لأقَرُّوا أنَّ لِلَّهِ جمِيعاً» . وناقشه أبو حَيَّان، فقال: كانَ يَنْبغي أنْ يقول: «فِي وقْتِ رُؤْتهم العذابَ» فيأتي بمرادف «إِذْ» وهو الوَقْت لا الحَالُ وأيضاً: فتقديرُه لجَوابِ «لو» غيْر مُرتَّبٍ على ما يلي «لَوْ» ؛ لأن رؤية السَّامع أو النبيِّ - علَيْه الصَّلاة والسَّلام - الظَّالمين في وقت رُؤيتهِمْ [لا يترتَّب عليها إقْرَارُهُمْ بأنَّ القوَّة لله جميعاً؛ وهو نظيرُ قولك: يَا زيَدُ، لَوْ تَرَى عَمْراً فِي وَقْتِ] ضَرْبِهِ، لأَقرَّ أَنَّ الله - تعالى - قادِرٌ عَلَيْهِ. فإقرارُهُ بقُدْرة اله تعالى ليسَ مترتِّباً على رؤية زيدٍ. انتهى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 وتقديره على قراءة «يَرَى» بالغيبة: «لَعَلِمُوا أنَّ القُوَّة لِلَّهِ» [إن كان فاعلُ «يَرَى» : الَّذِينَ ظَلَمُوا، وإنء كان ضميراً يَعْودُ على السَّامع، فيقدَّر: «لَعَلِمَ أنَّ القُوَّة» ] وأمَّا مَنْ قدَّره بعد قوله «شَدِيد العَذَابِ» ، فتقديره على قراءة «تَرَى» بالخطاب: «لاَسْتَعْظَمْتَ مَا حَل بِهِمْ» ويكون فَتْح أَنَّ على أَنَّهُ مفعولٌ مِنْ أجله، أي: «لأَنَّ القوَّةَ للَّهِ جميعاً» وكسْرُها على معنى التلعيل؛ نحو: «أَكْرِمْ زيْداً؛ إنَّه عالمٌ، وأَهِنْ عَمْراً؛ إِنَّهُ جَاهِلٌ» أو تكون جملة فاعلُ «يَرَى» ضمير السَّامع: «لاَسْتَعْظَمَ ذَلِكَ» وإِنْ كان فاعلُهُ الَّذينَ، كان التقديرُ «لاَسْتَعْظَمُوا مَا حَلَّ بِهِمْ» ويكون فتح «أَنَّ على أَنَّها معمولةٌ ل» يَرَى «على أن يكون الفاعل» الَّذِينَ ظَلَمُوا «والرؤية هنا تحتملُ أنْ تكُونَ من رُؤية القَلْب، فتسُدَّ» أَنَّ «مَسَدَّ مفعوليها، وأنْ تكُون مِنْ رؤية البَصَر، فتكون في موضع مفعول واحدٍ. واَمَّا قراءة «يَرَى» [الَّذِينَ] بالغيبة، وكَسْر «إِنَّ» و «إِنَّ» فيكون الجواب قولاً محذوفاً، وكُسرَتَا لوقوعهما بعد القَوْل، فتقديرُه على كون الفاعل ضمير الرَّأي، لَقَالَ: «إِنَّ القُوَّةَ» وعلى كَونه «الَّذِينَ» : «لَقَالُوا» ويكون مفعول «يَرَى» محذوفاً، أي: «لَوْ يَرَى حَالَهُمْ» ويحتمل أنْ يكون الجواب: «لاَسْتَعْظَمَ، أو لاسْتَعْظَمُوا» على حسب القولين: وقدَّر بعضهم: {مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَاداً} وإنَّما كُسِرَتَا؛ استئنافاً، وحَذُفُ جواب «لَوْ» شائعٌ مستفيضٌ كثيرٌ في التنزيل، قال تبارك وتعالى: {وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت} [الأنعام: 93] {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] ويقولون: «لَوْ رَأَيْتَ فُلاَناً، والسِّيَاطُ تَأخُذُ مِنْهُ» قالوا: وهذا الحَذفُ أفخم وأشَدُ كلَّ مَذْهَب فيه؛ بخلاف ما لو ذكر فإنَّ السامع يقصُرُ همَّه عليه، وقد وَرَد في أَشْعَارِهمْ ونَثْرِهِمْ كثيراً؛ قال امرُؤُ القَيْسِ: [الطويل] 879 - وَجَدِّكَ لَوْ شَيْءٌ أَتَانَا رَسُولُهُ ... سِوَاكَ وَلَكِنْ لَمْ نَجِدْ لَكَ مَدْفَعَا وقال النَّابغة: [الطويل] 880 - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أَبُوا حُجُرٍ إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ ودخلت «إِذْ» ، وهي ظرفُ زمانٍ ماضٍ في أثناء هذه المستقبلات تقريباً للأمر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 وتصحيحاً لوقوعه؛ كما وقعت صيغة المُضِيِّ موضع المستقبلِ لذلك؛ كقوله: {ونادى أَصْحَابُ النار أَصْحَابَ الجنة} [الأعراف: 50] . وكما قال الأشتر: [الكامل] 881 - بَقَّيْتُ وَفْرِي وَانْحَرَفْتُ عَنْ العُلاَ ... وَلَقيْتُ أَضْيَافِي بِوَجْهِ عَبوسِ إِنْ لَمْ أَشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً ... لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نِهَابِ نُفُوسِ فأوقع «بَقَّيْتُ» و «انْحَرَفْتُ» - وهما بصيغة المضيِّ - موقع المستقبل، لتعليقهما على مستقبلٍ، وهو قوله: إنْ لم أشنَّ «. وجاء في التنزيل كثيرُ مِنْ هذا الباب قال تبارك وتعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} [الأنعام: 27] {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ} [سبأ: 51] ولما كان وقوعُ السَّاعةَ قريباً، أجْرَاه مجرَى ما حَصَل ووضع، مِنْ ذلك قولُ المُؤَذِّن: قَدْ قَامَتِ الصَّلاَة، يقوله قبل إيقَاعِ التَّحْريم بالصَّلاَة؛ لقرب ذلك. وقيل: أَوْقَعَ «إِذْ» موقع «إِذَا» ؛ [وقيل: زمن الآخر متصلٌ بزمن الدنيا، فقام أحدهما مقام الآخر؛ لأنَّ المجاور للشَّيء يقوم مَقَامه، وهكذا كُلُّ موضع وقع مثْلَ هذا، وهو في القرآن كثير] . وقرأ ابن عامر «يَرَوْنَ الْعَذَابَ» مبنيّاً للمفعول من «أَرَيْتُ» المنقولة مِنْ «رَأَيْتُ» بمعنى «أبْصَرْتُ» فتعدَّى لاثنين: أولهما: قام مقام الفاعِلِ، وهو الواو. والثاني: هو العذاب. وقراءُ الباقين واضحة. وقال الراغب: قوله: أَنْ القُوَّةَ «بدلٌ من» الَّذِينَ «قال:» وهو ضعيفٌ «. قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللهُ - ويَصيرُ المَعْنَى:» ولو تَرَى قُوَّة اللهِ وقُدْرَتَهُ على الَّذين ظَلَمُوا «وقال في المُنْتَخَب: قراءة الياء عند بعضهم أَوْلى من قراءة التَّاء؛ قال:» لأَنَّ النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - والمؤمِنِينَ قَدْ علِمُوا قدْرَ ما يُشَاهِدُه الكُفَّار، وأما الكُفَّار، فلم يعلَمُوه؛ فوجَبَ إسْنادُ الفِعل إِلَيْهِم «وهذا أمر مردودٌ؛ فإن القراءتَيْن متواترتَانِ. قوله تعالى:» جميعاً «حالٌ من الضَّمير المستكنِّ في الجارِّ والمجرور، والواقعِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 خَبَراً، لأنَّ تقديره:» أّنَّ القُوَّة كائنةٌ لله جميعاً «، ولا جائزٌ أنْ يكونَ حالاً منَ القُوَّة؛ فإن العامل في الحال، هو العامل في صاحبها، وأَنَّ لا تعمَلُ في الحال، وهذا مشكل؛ فإنهم أجازوا في» ليت «أن تعمل في الحال، وكذا» كأنَّ «؛ لِمَا فيها من معنى الفعل - وهو التمنِّي والتَّشْبيهُ - فكان ينبغي أن يجوز ذلك في» أَنَّ «لما فيها مَعْنَى التَأْكِيد. و» جَمِيعُ «في الأصل:» فَعِيلٌ «من الجمع، وكأنه اسم جمع؛ فلذلك يتبع تارةً بالمُفرد؛ قال تعالى: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44] وتارة بالجَمع؛ قال تعالى: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] وينتصب حالاً، ويؤكَّد به؛ بمعنى:» كُلّ «ويدلُّ على الشمول؛ كدلالة» كُلِّ «، ولا دلالة له على الاجتماع في الزَّمان، تقول:» جاءَ القَوْمُ جَمِيعُهُمْ «لا يلزمُ أنْ يكُونَ مجئيهم في زمن واحدٍ، وقد تقدَّم ذلك في الفَرْق بينهما وبين» جاءُوا معاً «. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 اعْلَم أنَّه لما بَيَّن حال مِنْ يَتَّخذُ مِنْ دُون الله أنْداداً بقوله: وَلَوْ يَرَى الَّذينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ على طَرِيقِ التهْدِيد زادَ في هَذَا الوَعِيد بهذه الآية الكريمة، وبَيَّنَ أنَّ الذين أفْنَوْا عُمْرهم في عِبَادَتِهِمْ، واعتقَدُوا أنَّهم سَبَبُ نجاتِهِمْ، فإنَّهم يتبَّرءُون منْهُمْ؛ ونظيره قوله تعالى: {يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت: 25] وقولُهُ - عزَّ وجلَّ سبحانَهُ - {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] وقوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] وقول إبليس لعنه الله {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} [إبراهيم: 22] . وهل هذا التبرُّؤ يقع منهم بالقَوْل، أو بظُهُور النَّدَم على ما فرَطَ منهم من الكُفْر والإِعْرَاض؟ قوْلاَن: أظهرها الأوَّل. واختلفوا في خؤلاء المَتْبُوعِينَ، فقال قتادَةُ، والرَّبيع وعَطَاءٌ: السَّادة والرُّؤساء مِنْ مشركي الإنس إلاَّ أنَّهم الذين يصحُّ منهم الأَمر؛ والنَّهْيُ؛ حتى يمكن أن يتبعوا وقال السُّدِّيُّ: هُمْ شَيَاطينُ الجِنِّ. وقيلَ: شَيَاطين الإنْسِ والجِنِّ. وقيلَ: الأوْثَان الَّتي كانُوا يسمُّونها بالآلهة؛ ويؤيد الأوَّل قولُهُ تعالى: {إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب: 67] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 قولُهُ تعالى: «إِذْ تَبَرَّأَ» في «إِذْ» ثلاثةُ أوجُهٍ: أحدُها: أنها بدل مِنْ «إِذْ يَرَوْنَ» . الثاني: أنها منصوبةٌ بقوله: «شَدِيدُ العَذَابِ» . الثالث - وهو أضْعَفُها - أنها معمولةٌ ل «اذكُرْ» مقدَّراً، و «تَبَرَّأَ» في محلِّ خفْضٍ بإضافةِ الظَّرْف إلَيْه، والتبرُّؤ: الخُلُوص والانفصالُ، ومنه: «بَرِئْتُ مِنَ الَّذِينَ» وتقدم تحقيقُ ذلك عند قوله: {إلى بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] والجمور على تقديم: «اتُّبِعُوا» مبنياً للمفعول على «اتَّبَعُوا» مبنياً للفاعل. وقرأ مجاهدٌ بالعَكْس، وهما واضحتَانِ، إلاَّ أن قراءة الجُمْهُور واردةٌ في القُرْآنِ أَكْثَرَ. قوله تعالى: «وَرَأَوا العَذَابَ» في هذه الجملة وجْهان: أظْهَرُهما: أنَّها عطْفٌ على ما قبْلَها؛ فتكُون داخلةٌ في خَبَر الظَّرْف، تقديرُهُ: «إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا» ، و «إِذْ رَأَوا» . والثانيك أنَّ الواو للحالِ، والجملة بعدها حاليَّةٌ، و «قَدْ» معها مُضْمَرَةٌ، والعاملُ في هذه الحالِ، «تَبَرَّأَ» أي: «تَبَرَّءُوا» في حال رُؤْيتهم العَذَابَ. قوله تعالى: «وتَقَطَّعَتْ» يجوزُ أنْ تكُون الواوُ للعَطْف، وأن تكون للحالِ، وإذا كانت للعطف، فهل عطفت «تَقَطَّعَتْ» على «تَبَرَّأَ» ويكون قوله: «وَرَأَوا» حالاً، وهو اختيارُ الزمخشري أو عطفت على «رَأَوْا» ؟ وإذا كانت للحال، فهل هي حالٌ ثانيةٌ ل «الَّذِينَ» أو حالٌ للضَّمير في «رَأَوا» وتكونُ حالاً متداخلةً، إذا جعْلنَا «ورَأوا» حالاً. والباءُ في «بهم» فيها أربعةُ أوْجُه: أحدها: أَنَّها للحالِ، أي: تقطَّعَتْ موصُولةً بهم الأسْبَاب؛ نحو: «خَرَجَ بِثِيَابِهِ» . الثَّانِي: أن تكُونَ للتعديَة، اي: قَطَّعَتْهُم الأَسْبَابُ؛ كما تقول: تَفَرَّقَتْ بهم الطُّرُقُ، أي: فَرَّقَتْهُمْ. الثالث: أن تكون للسببيّة، أي: تقطَّعت [بسبَب كُفْرهمُ الأَسْبَابُ الَّتي كانُوا يرْجُون بها النَّجَاةَ] . الرابع: أن تكون بمعنى «عَنْ» [أي: تقطَّعت عنْهُم، كقوله {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] ، أي: عنهُ] وكقول علْقَمَةَ في ذلك: [الطويل] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 882 - فَإِنَّ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فإِنَّنِي ... بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسِاءِ طَبيبُ أي: عن النِّسَاء. فصلٌ في المراد ب «الأسباب» والأَسْبَابُ: الوَصْلاَتُ التي كانت بينهم، قاله مجاهدٌ، وقتادةُ، والرَّبيعُ. وقال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عَنْهما - وابن جُرَيْجٍ: الأَرْحَام الَّتِي يتعاطَفُونَ بها؛ كقوله تعالى: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} [المؤمنون: 101] . وقال ابنُ زَيْدٍ، والسُّدِّيُّ: الأعمالُ الَّتي كانوا يلزَمُونَها. وقال ابنُ عَبَّاسٍ: العُهُودُ والحَلِفُ الَّتي كانوا يلزَمُونَها. وقال الضَّحَّاكُ، والرَّبيع بنُ أَنَسٍ: المنازلُ التي كانَتْ لهم في الدُّنيَا. وقال السُّدِّيُّ: الأعْمَالُ الَّتي كانوا يلزمونها في الدنيا؛ كقوله تبارك وتعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] . وقيل: أسبابُ النجاةِ تقطَعَّت عنهم. قال ابنُ الخَطِيبِ - رَضِيَ اللهُ عَنْه - والأظْهَرُ دخولُ الكُلِّ فيه ولأن ذلك كالنَّفي، فيعمّ الكلَّ؛ فكأنَّه قال: وزالَ كلُّ سببٍ يمكنُ أن يتعلَّق به، وأنهم لا ينتفعونُ بالأَسْباب على اختلافِهَا من منزلةٍ، وسببٍ ونسَبٍ، وعَهْدٍ، وعَقْدٍ وذلك نهاية اليأس. وهذه الأسبابُ مجازٌ فإِنَّ السَّبب في الأصْل: الحَبْل؛ قالوا: ولا يُدْعى الحَبْلُ سبباً؛ حتى يُنْزَلَ فيه ويُصْعَدَ به، ومنْه قوله تبارك وتعالى: {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء} [ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 الحج: 15] ثم أطلق على كلِّ ما يُتَوَصَّلُ به إلى شَيْءٍ، عَيْناً كان أو معنى، وقيل للطَّريق: سَبَبٌ؛ لأنَّك بسُلُوكِهِ تَصِلُ إلى المَوْضع الذي تريدُهُ؛ قال تعالى: {فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف: 85] أي: طريقاً، وأسبابُ السَّموات: أَبوابُها؛ قال تعالى مُخْبِراً عن فِرْعُونَ: {لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات} [غافر: 36 - 37] وقد تُطْلَقُ الأسبابُ على الحوادِثِ؛ قال زُهَيْرٌ: [الطويل] 883 - وَمَنْ هَابَ أَسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... وَلَوْ نَالَ أَسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ وقد يُطْلَق السَّبَب على العِلْمِ؛ قال سُبحَانهُ وتعالى: {مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} [الكهف: 84] أي؛ عِلماً، وقد وجد هنا نَوعٌ منْ أنواع البَدِيع، وهو التَّرْصِيع، وهو عبارةٌ عن تسجيع الكلامِ، وهو هنا في موضعين. أحدهما: {اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} ؛ ولذلك حذف عائد المَوْصُول الأوَّل، فلم يَقُلْ {منالذين اتبعوهم} ؛ لفواتِ ذلك. والثَّاني: {وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} ، وكقوله {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ} [البقرة: 276] . قوله تعالى: {وَقَالَ الذين اتبعوا} ، يعني: الأَتْبَاع: {لَوْ أَنْ لنَا كَرَّةً} أي: رجعةً إلى الدُّنيا، والكرَّةُ: العودَة، وفِعْلُها كَرَّ يَكُرُّ كَرّاً؛ قال القائل في ذلك: [الوافر] 884 - أَكُرُّ عَلَى الْكِتيبَةِ لاَ أُبَالِي ... أَفِيهَا كَانَ حَتْفِي أَمْ سَوَاهَا قوله تعالى: «فَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ» منصوبٌ بعد الفاءِ ب «أنْ» مضمرة في جواب التمنِّي الَّذي أُشْرِبَتْهُ «لَوْ» ولذلك أجيب بجواب «لَيْتَ» الذي في قوله: {ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} [النساء: 73] وإذا أُشْرِبَتْ معنى التمنِّي، فهلْ هي الامتناعيَّةُ المفتقرة إلى جوابٍ، أم لا تحتاجُ إلى جوابٍ. الصحيحُ: أنها تحتاجُ إلى جوابٍ، وهو مقدّر في الآية الكريمة تقديرُهُ تَبَرَّأْنَا ونحو ذلك، وأَمَّا مَنْ قال بأنَّ «لَو» الَّتي للتمنِّي لا جوابَ لها؛ فاستدَلَّ بقول الشَّاعر: [الوافر] 885 - وَلَوْ نُبِشَ المَقَابِرُ عَنْ كُلَيْبٍ ... فَيُخْبَرَ بالذَّنائِبِ أَيُّ زِيرِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 وهذا لا يدلُّ فإنَّ جوابها في البيتِ بعده، وهو قوله [الوافر] 886 - بِيَوْمِ الشَّعْثَمَين، لَقَرَّ عَيْناً ... وَكَيْفَ لِقَاءُ مَنْ تَحْتَ الْقُبُورِ واستدلَّ أيضاً بأنَّ «أَنْ» تُفْتَحُ بعْد «لَوْ» ؛ كما تفتحُ بَعْد لَيْتَ في قوله [الرجز] 887 - يَا لَيْتَ أَنَّا ضَمَّنَا سَفِينَهْ ... حَتَّى يَعُودُ الْبَحْرُ كَيَّنُونَهْ وها هنا فائدة ينبغي أنْ يُنْتَبَهَ لها، وهيَ: أَنَّ النُّحاة قالُوا: كلُّ موضعٍ نُصبَ فيه المضارعُ بإضمار «أنْ بعد الفَاءِ [إذا سقَطَتِ الفاءُ، جزم إلاَّ في النَّفسِ، ينبغي أن يزاد هذا الموضع أيضاً؛ فيقال: و» إلاَّ «في جواب التَّمَنِّي ب» لَوْ «؛ فإنَّه ينصب المضارع فيه بإضمار» أَنْ «بعد الفاء الواقعة جواباً له، ومع ذلك، لو سَقَطَتْ هذه الفاءُ] لم يُجزم. قال أَبُوا حَيَّانَ والسَّبب في ذلك: أَنَّها محمولةٌ على حَرْف التمنِّي، وهو» لَيْتَ «والجزمُ في جواب» لَيْتَ «إنما هو لتضمنها معنى الشَّرْط، أو لدلالَتها على كونه محذوفاً على اختلاف القولَيْن؛ فصارت» لَوْ «فَرَعَ الفَرْعِ، فضَعُفَ ذلك فيها. وقيلَ:» لَوْ «في هذه الآية الكريمة ونظَائِرِها لِما كانَ سيقعُ لِوُقُوع غيره، وليس فيها معنى التمنِّي، والفعلُ منصوب ب» أَنْ «مضمرَة؛ على تأويل عَطف اسْمٍ على اسمٍ، وهو» كَرَّة «والتقديرُ:» لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً، فنتبرَّأَ «فهو مِنْ باب قوله: [الوافر] 888 - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . ويكون جواب» لَوْ «محذوفاً أيضاً؛ كما تقدَّم. وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللهُ تعالى:» فَنَتَبَرَّأَ «منصوبٌ بإضمارِ» أَنْ «، تقديره: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ} فحلَّ» كرَّة «إلى قوله:» أَنْ نَرْجِعَ «؛ لأنَّه بمعناه، وهو قريبٌ، إلاَّ أنَّ النحاة يأوّلون الفعل المنصوب بمصدرٍ؛ ليعطفُوه على الاسم قَبْله، ويتركُون الاسم على حالِهِ؛ وذلك لأنه قد يكُون اسْماً صَرِيحاً غير مَصْدر؛ نحو» لَوْلاَ زَيْدٌ وَيَخْرُج، لأَكْرَمْتُكَ «فلا يتأتَّى تأويله بحرفٍ مصدريٍّ وفعلٍ. قولُهُ تعالى:» كَمَا «الكافُ في موضعها نصبٌ: إِمَّا على كونها نعت مصدرٍ محذوف، أي:» تَبَرُّؤاً «وإِمَّا على الحاف مِنْ ضمير المصدر المعرَّف المحذوف أي» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 نتبرّأهُ، أي: التَّبَرُّؤَ، مُشَابِهاً لِتَبَرُّئِهِمْ «؛ كما تقرَّر غير مرَّة. وقال ابن عطيَّة: الكاف في قوله: «كَمَا» في موضع نصب على النَّعت: إمّا لِمَصدرٍ: أو لحال، تقديره: مُتَبَرِّئِينَ، كما قال أبو حَيَّان. أمَّا قوله «لِحَالِ» تقديرُهُ: «مُتَبَرِّئِينَ كما» فغيرُ واضحٍ، لأنَّ «ما» مصدرية، فصارتِ الكافُ الداخلة عليها مِن صفات الأفَفعال و «مُتَبرِّئين» : من صفات الأَعْيَان، فكيف يُوصف بصفات الأَفعال. قال: وأَيضاً لا حاجة لتقدير هذه الحال، لأنَّها إذ ذاك تكون حالاً مؤكِّدة، وهي خلافٌ الأَصل، وأيضاً: فالمؤكَّد ينافِيهِ الحَذفُ؛ لأنَّ التوكيد يُقَوِّيه، فالحَذْفُ يناقضه. فصل في معنى التبرؤ قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ - قولهم: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا} ذلك تمنٍّ منهم للرجعة إلى الدُّنْيا، كما تبرءوا يَوْمَ القيامة منهم ومفهوم الكلام: أَنَّهُمْ تمنُّوا لهم في الدُّنيا ما يُقَاربُ العذابَ، فيتبرّءُونَ منهم، ولا يخلصونهم، كما فعلوا بهم يومَ القيامة، وتقديرُه: فلو أنَّ لنا كَرَّةً فنتبرَّأَ منهم، وقد دَهَمَهُمْ مثلُ هذا الخَطْب، كما تبرءوا منَّا، والحالُ هذه؛ لأنَّهم إِنْ تَمَنَّوا التبرُّؤ منهم، مع سلامةٍ، فأيُّ فائدة؟ . قال القُرطبي: التبرُّؤُ: الانفصال. قوله تعالى: {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله} في هذه «الكافِ» قولان: أحدهما: أنَّ موضعها نصبٌ: إِمَّا نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أو حالً من المَصدر المعرَّفِ، أي: يُريهمْ رؤية كذلك، أو يَحْشُرُهُمْ حَشْراً كَذَلِكَ، أوْ يَجزظِيهم جَزَاءً كذلك، أو يُريهم الإراءة مشبهةً كذلك ونحو هذا. الثاني: أن يكون في موضع فرع، على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك، أو حَشْرُهُمْ كذلك، قاله أبو البقاء. قال أبو حيَّان: وهو ضعيفٌ؛ لأنَّه يقتضي زيادة الكاف، وحذف مبتدأ، وكلاهما على خلاف الأَصل والإشارة بذلك إلى رأيهم تلك الأهوال والتقديرُ: مثل إراءتهم الأهوال، يريهمُ اللهُ أعمالَهُمْ حسَرَاتٍ. وقيل: الإشارةُ إلى تبرُّؤ بعضهم من بعض والتقديرُ: كَتَبَرُّؤ بعضهم من بعض، يريهمُ اللهُ أعمالهُم حسَراتٍ عليهمح وذلك لانقطاع الرَّجَاء منْ كُلِّ أحدٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 أحدهما: أن تكون بَصَريَّة، فتتعدّى لاثنين بنقل الهمزة أولهُما الضميرُ، والثاني «أَعْمَالَهُمْ» و «حَسَرَاتٍ» على هذا حالٌ مِنْ «أَعْمَالَهُمْ» . والثاني: أَنْ تكونُ قلبيَّةً؛ فتتعدَّى لثلاثةٍ؛ ثالثُهما «حَسَرَاتٍ» و «عَلَيْهِمْ» يجوزُ فيه وجْهَان: أن يتعلَّق ب «حَسَرَاتٍ» ؛ لأنَّ «يحْسَرُ» يُعدَّى ب «عَلَى» ويكونُ ثَمَّ مضافٌ محذوفٌ. أي: على تَفْرِيطهِمْ. والثاني: أنْ يتعلَّق بمحذوف؛ لأنّضها صفةٌ ل «حَسَرَاتٍ» ، فهي في محلّ نصْبٍ؛ لكونها صفةً لمنصوبٍ. فصل في المراد ب «الأعمال» في الآية اختلفوا في المراد بالأَعمال. فقال السُّدِّيُّ: الطاعاتُ، لِمَ ضَيَّعُوها؟ وقال الربيعُ وابنُ زَيْدٍ، المعاصي والأَعْمَال الخبيثَةُ يتحسَّرون لِمَ عَمِلُوها؟ وقال الأَصَمُّ: ثوابُ طاعاتهم الَّتي أتَوْا بها، فأحْبضطُوها بالكُفْرِ، قال السُّدِّيُّ: تُرفع لهم الجَنَّة، فينظرُون إليها وإلى بيوتهم فيها، لو أطاعُوا الله، فيقال لهم: تِلْكَ مساكنُكمْ، لو أطعتُمُ الله تعالى، ثمَّ تقسَّم بين المؤمِنين، فذلك حين يتحسَّرُونَ. وقيل: أعمالُهُمْ الَّتي تقرَّبوا بها إلى رؤسائهم والانقياد لأَمرهم، قال ابن كَيْسَان: إِنَّهُمْ أشركُوا بالله الأوثان، رجاءَ أن تقرِّبهم إلى الله تعالى، فلما عُذِّبوا على ما كانوا يَرْجُون ثوابه، تحسَّروا ونَدِمُوا. قال ابن الخطيب: والظاهرُ أنَّ الأعمال الَّتي اتَّبَعُوا فيها السَّادَة، وهو كُفْرُهُم. ومعاصِيهِمْ، وإنما تكون حَسْرةً بأن رأوها في صحيفَتهِمْ، وأيقنوا بالجزاءِ عليها، وكان يمكنُهُمْ تركُها، والعدولُ إلى الطَّاعات، وفي هذا الوجه الإضافة وفي الثاني: مجازٌ بمعنى لزومِهِم، فَلَمْ يَقُومُوا بها. و «الحَسْرَة» واحدةُ الحَسَرَاتِ؛ كَتَمْرَةٍ وَتَمَرَاتٍ، وَجَفْنَةٍ وَجَفَنَاتٍ وشَهَوَاتٍ. هذا إذا كان اسماً. [فإنْْ نَعتَّهُ سكَّنت؛ كقوله ضَخْمَة وضَخْمَات وعَبْلَة وعَبْلاَت نقله القرطبي رَحِمَهُ اللهُ تعالى قال الزَّجَّاج: هي شِدَّة الندامة، وهو تألُّم القَلب بانحسارِهِ عمّا تؤلمه واشتقاقها إِمَّا من قولهم: بعير حَسيرٌ أي منقطعُ القوَّة والحُسُور الإِعياء، وقال تبارك وتعالى: {لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ} [الأنبياء: 19] أو من الحسر وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 الكشف يقال: حسر عن ذراعيه، والحسرة: انشكافٌ عن حالة النَّدَامة؛ [والمحسرة] المنكسة؛ لأنها تكشف عن الأرض؛ والطير تنحسر لأنها تنكشف بذهاب الريش. قوله تعالى: {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} . احتجَّ به على أن أصحاب الكبائِرِ منْ منْ أهْل القبلة يخرجُون من النَّار، فقالوا: لأنَّ قوله: «وَمَا هُمْ» تخصيصٌ لهم بعَدَم الخروج على سبيل الحَصر؛ فوجب أن يكُون عدَمُ الخروج مخصًوصاً بهم، وهذه الآية الكريمة تكشف عن المراد بقوله: {وَإِنَّ الفجار لَفِي جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ} [الأنفطار: 14 - 16] فبيَّن أنَّ المراد بالفُجَّار ها هنا الكفَّار؛ لدلالة هذه الآية الكريمة عليه والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 لَمَا بيَّن التوحيد ودلائلهُ وما للموحِّدين مِنَ الثواب وأتبعه بذكر الشِّرك، أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وأنَّ معصية مَنْ عَصَاه، وكُفْر من كَفَر به، لم تُؤَثِّر في قطع نعمه وإحسَانه إِلَيهمْ. قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللهُ عَنْهما: هذه الآية نزلت في قومٍ من ثقيف، وبني عامر بن صَعْصعَة، وخُزَاعة، وبني مُدْلجٍ، حَرَّموا على أنفسُهم مِنَ الحَرثِ، والبحائِرِ، والسَّوائِب، والوَصَائِلَ والحَامِ. قوله تعالى « {مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً} حَلالاً فيه خَمْسَة أوجُهٍ: أحدها: أن يكون مفعولاً ب» كُلُوا «و» مِنْ «على هذا فيها وجهان: أحدهما: أنْ تتعلَّق ب» كُلُوا «ويكون معناها ابتداء الغاية. الثاني: أنْ تتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من» حلالاً « [وكانت في الأصلِ صفةً له، فَلَمَّا قُدَّمَتْ عليه، انتصَبَتْ حالاً] ويكون معنى» مِن «التَّبْعِيضَ. الثاني: أنْ يكون انتصابُ» حَلاَلاً «على أنَّه نعتُ لمفعولٍ محذوف، تقديرُهُ: شيئاً أو رِزْقاً حَلاَلاً، ذكَرَه مَكِّيٌّ واستعبده ابن عطيَّة ولم يبيِّن وجه بُعْده، والذي يظهرُ في بُعْده أَنَّ» حَلاَلاً «ليس صفةً خاصَّة بالمأْكُول بل يُوصَف به المأكُول وغيره وإذا لم تكُن الصفة خاصَّة، لا يجوز حذف الموصول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 الثالث: أن ينتصب» حلالاً «على أنَّه حالٌ من» مَا «بمعنى:» الَّذي «، أي: كُلُوا من الَّذي في الأرض حال كونه حلالاً. الرابع: أن ينتصب على أنه نعت لمصدر محذوف، [أي: أكلاً حلالاً، ويكون مفعول» كُلُوا «محذوفاً، و» ما في الأرض «صفةً لذلك المفعول المحذوف] ، ذكره أبو البقاء وفيه من الرَّدِّ ما تقدِّم على مَكِّيٍِّ، ويجوز على هذا الوجه الرابع ألا يكون المفعول محذوفاً، بل تكون» مِنْ «مزيدةً على مذهب الأخفش، تقديره،» كُلثوا مَا في الأَرْضِ أكْلاً حَلاَلاً «. الخامس: أن يكون حالاً من الضَّمير العائد على» ما «قاله ابن عطيَّة، يعني ب» الضَّمير «الضَّمير المستكنَّ في الجارِّ والمجرور، الواقع صلة. و» طَيِّباً «فيه ثلاثة أوجه. أحدها: أن تكون صفة ل» حَلاَل «أمَّا على القول بأنَّ» مِنْ «للابتداء، متعلِّقةٌ ب» كُلُوا «فهو واضحٌ؛ وأمَّا على القول بأن» مِمَّا في الأَرْضِ «حال من» حَلاَلاً «، فقال أبُوا البَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: ولكن موضعها بعد الجارِّ والمجرور، لئلاَّ يفصل الصِّفة بين الحال وذي الحال. وهذا القول ضعيفٌ، فإنَّ الفصل بالصفة بين الحال وصاحبها ليس بممنوعٍ؛ تقول» جَاءَنِي زَيْدٌ الطَّويلُ [راكِباً «، بل لو قدَّمت الحال على الصِّفة، فقلت:» جاءَنِي زَيْدٌ راكباً الطَّوِيلٌ «]- كان في جوازه نظر. الثاني: أن يكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالاً من المصدر المعرفة المحذوف: أي أكلاً طَيِّباً. الثالث: أن يكون حالاً من الضَّمير في «كُلُوا» تقديره: مستطيبين - قال ابن عطيَّة. قال أبُو حَيَّان: وهذا فاسدٌ في اللَّفظ أمَّا اللَّفظ؛ فلأنَّ «الطَّيِّبَ» اسم فاعل فكان ينبغي أن تُجمع؛ لتطابق صاحبها؛ فيقال: طيِّبين، وليس «طَيِّب» مصدراً؛ فيقال: إنَّما لم يجمع لذلك، وأمَّا المعنى؛ فلأنَّ «طَيِّباً» مغايرٌ لمعنى مستطيبين، لأنَّ «الطَّيِّب» من صفات المأكول، و «المستطيب» من صفات الآكلين، تقول: «طَابَ لِزَيْدٍ الطَّعَامُ» ولا تقول: «طَابَ زَيْدُ الطَّعَامَ» بمعنى استطابه. و «الحَلاَلُ» : المأذون فيه ضدُّ الحرام الممنوع منه، حلَّ يحلُّ، بكسر العين في المضارع، وهو القياس، لأنه مضاعفٌ غير متعدٍّ، يقال: حَلاَلٌ، وحِلٌّ؛ كَحَرَامٍ وحِرْمٍ وهو في الأصل مصدرٌن ويقال: «حِلٌّ بِلٌّ» على سبيل الإتباع؛ ك «حَسَنٌ بَسَنٌ» ، وحَلٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 بمكان كذا يَحُلُّ - بضم العين وكسرها - وقُرئ: {فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي} [طه: 81] بالوجهين، وأصله من «الحضلِّ» الذي هو: نقيض العقد، ومنه: حلَّ بالمكان، اذا نزل به؛ لأنَّه حلَّ شدَّ الرحال للنُزول، وحَلَّ الدَّين إذا نزل به، لانحلال العقد بانقضاء المُدَّة، وحَلَّ من إحرامه، لأنه حَلَّ عقد الإحرام، وحلَّت عليه العقوبة، أي: وجبت لانحلال العقدة [المانعة من العذاب] ومن هذا: «تَحِلَّةُ اليمين» : لأن عقد اليمين تنحلُّ به. والطَّيِّبُ [في اللغة: يكون بمعنى الطَّاهر، والحلال يوصف بأنَّه طيِّبٌح قال تعالى: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب} [المائدة: 100] والطَّيِّب في] الأصل: هو ما يستلدُّ به ويستطاب، ووصف به الطَّاهر، والحلال؛ على وجهة التشبيه؛ لأنَّ النَّجس تكرهه النَّفس؛ فلا تستلذُّه، والحرام غير مستلذٍّ، لأنَّ الشرع يزجر عنه. وفي المراد بالطَّيِّب في الآية وجهان: الأول: أنه المستلذُّ؛ لأنا لو حملناه على الحلال، لزم التكرار؛ فعلى هذا يكون إنما يكون طيِّباً، إذا كان من جنس ما يشتهى؛ لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه، عاد حراماً، وإن كان يبعد وقوع ذلك من العاقل إلاّ عند شبهة. والثاني: أن يكون المراد ما يكون جنسه حلالاً، وقوله: «طَيِّباً» المراد منه: ألاَّ يكون متعلِّقاً به حقُّ الغير؛ فإنَّ أكل الحرام، وإن استطابه الآكل، فمن حيث يؤدِّي إلى العقاب: يصير مضرَّةً، ولا يكون مستطاباً؛ كما قال تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} [النساء: 10] . قوله: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} : قرأ ابنُ عامِرٍ، والكسَائيُّ، وقُنْبُلٌ، وحَفْصٌ عن عاصِمٍ، ويَعْقُوبُ: «خُطُوَاتِ» بضم الخاء، اولطاء، وباقي السَّبْعة بسكون الطاء. أمّا من ضمَّ العين؛ فلأنَّ الواحدة «خُطْوَة» فإذا جمعت، حرِّكت العين؛ للجمع، كما فعلت في الأسماء التي على هذا الوزن؛ نحو: غُرْفَةٍ وغَرَفاتٍ، وتحريك العين على هذا الجمع؛ للفصل بين الاسم والصِّفة؛ لأن كلَّ ما كان اسماً، جمعته بتحريك العين؛ نحو: «تَمْرَة وتَمَرَات، وغَرْفَةٍ وغَرَفاتٍ، وشَهْوَةٍ وشَهَوَاتٍ» وما كان نعتاً، جمع بسكون العين؛ نحو: «ضَخْمَةٍ وَضَخْمَاتٍ، وعَبْلَةٍ وعَبْلاَتٍ» ، والخُطْوَة: من الأسماء، لا من الصفات، فتجمع بتحريك العين. وقرأ أبو السَّمَّال «خُطَوَات» بفتحها، ونقل ابن عطيَّة، وغيره عنه: أنه قرأ: « الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 خَطَوَات» ، بفتح الخاء، والطاء، وقرأ عليٌّ وقتادة، والأعمش بضمِّها، والهمز فأما قراءة الجمهور، والاولى من قراءتي أبي السَّمَّال، فلأن «فُعْلَة» الساكنة العين، السَّالِمَتَهَا، إذا كان اسماً، جاز في جمعها بالألف والتاء ثلاثة أوجهٍ، وهي لغاتٌ مسموعةً عن العرب: السُّكون، وهو الأصل، والإتباع، والفتح في العين، تخفيفاً. وأما قراءة أبي السَّمَّال التي نقلها ابنُ عطيَّة، فهي جمع «خَطْوَة» بفتح الخاء، والفرق بين الخطوة بالضَّمَّ، والفتح: أنَّ المفتوح: مصدر دالًّ على المرَّة، من: خَطَا يَخْطُوا، إذا مشى، والمضموم: اسمٌ لما بين القدمين؛ كأنَّه اسم للمسافة؛ كالغرفة اسم للشيء المغترف. وقيل: إنَّهما لغتان بمعنى واحدٍ ذكره أبُو البَقَاءِ. وأمَّا قراءةُ عليٍّ، ففيها تأويلان: أحدهما - وبه قال الأَخْفَشُ -: أنَّ الهمزة أصلٌ، وأنَّه من «الخَطَأ» ، و «خُطُؤَات» جمع «خِطْأَة» إن سمع، وإلاَّ فتقديراً، وتفسير مجاهد إياه ب «الخَطَايَا» يؤيِّد هذا، ولكن يحتملُ أن يكون مجاهد فسَّره بالمرادف. والثاني: أنه قلب الهمزة عن الواو؛ لأنَّها جاورة الضمّة قبلها؛ فكأنها عليها؛ لأنَّ حركة الحرف بين يديه على الصَّحيح، لا عليه. فصل قال ابن السَّكِّيتِ - فيما رواه عن اللِّحْيَانِيِّ - الخَطْوَة بمعنى واحدٍ، وحكى على الفرَّاء الخُطْوَة ما بين القدمين؛ كما يقال: حَثَوْتُ حُثْوَةً، والحُثْوَة: اسمٌ لما تَحَثَّيْتَ، وكذلك غَرَفْتُ غُرْفَةًن والغُرْفَة: هو الشيء المُغْتَرَفُ بالكَفِّ، فيكون المعنى: لا تتَّبعوا سبيله، ولا تسلكوا طريقه؛ لأنَّ الخُطْوَة اسم مكان. قال الزَّجَّاج وابن قُتَيْبَة: خُطُوَاتُ الشَّيْطان طُرُقُهُ، وإن جعلت الخطوة مصدراً، فالتقدير: لا تَأَتَمُّوا به، ولا تَتَّبِعُوا أَثَرَهُ، والمعنى: أن الله تعالى، زجر المكلَّف عن تخطِّي الحلال إلى الشُّبه؛ كما زجره عن تخطِّيه إلى الحرام، وبيَّن العلَّة في هذا التحذير، وهو كونه عدوّاً مبيناً، أي: متظاهراً بالعداوة؛ وذلك لأنَّ الشيطان التزم أموراً سبعةً في العداوة: أربعة منها في قوله تعالى: {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} [النساء: 119] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 وثلاثة منها في قوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 16 - 17] فلمَّا التزم هذه الأمور، كان عدواً متظاهراً بالعداوة، وقد أظهر عداوته بإبائه السُّجود لآدم، وغروره إيّاه؛ حتَّى أخرجه من الجنَّة. قوله: «إِنَّهُ لَكُمْ» قال أبُو البَقَاءِ: إنَّما كسر الهمزة؛ لأنَّه أراد الإعلام بحاله، وهو أبلغ من الفتح؛ لأنه إذا فتح الهمزة، صار التقدير: لا تتَّبعوه؛ لأنَّه عدوٌّ لكم، واتباعه ممنوعٌ، وإن لم يكن عدوّاً لنا، مثله: [منهوك الرجز] 889 - أ - لَبَّيكَ، إنَّ الحَمْدُ لَكْ ... كسر الهمزة أجود؛ لدلالة الكسر على استحقاقه الحمد في كلِّ حال، وكذلك التلبية. انتهى يعني أن الكسر استئنافٌ محض فهو إخبار بذلك، وهذا الذي قاله في وجه الكسر لا يتعيَّن؛ لأنَّه يجوز أن يراد التعليل مع كسرة الهمزة؛ فإنَّهم نصُّوا على أنَّ «إنَّ» المكسورة تفيد العلَّة أيضاً، وقد ذكر ذلك في هذه الآية بعينها؛ كما تقدم أنفاً، فينبغي أن يقال: قراءة الكسر أولى؛ لأنَّها محتملة للإخبار المحض بحاله، وللعلَّيِّة؛ وممَّا يدلُّ على أنَّ المكسورة تفيد العلَّيَّة قوله - عليه السلام - في الرَّوثة «إنَّها رجسٌ» وقوله في الهرَّة: «إنَّها لَيْسَتْ بِنَجِسٍ؛ إنَّها مِنَ الطَّوَّافِينَ عَلَيْكُمْ» وقوله: «لاَ تُنْكَحُ المَرأَةُ عَلَى عَمَّتِهَا، وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا؛ إِنَّكُمْ إضّا فَعَلْتُمْ ذلك، قَطَّعْتُمْ أرْحَامَكُمْ» وأما المفتوحة: فهي نصٌّ في العلِّيَّة، لأنَّ الكلام على تقدير لام العلَّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 قوله: {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فهذه كالتَّفصيل لجملة عداوته، وهو مشتمل على أمور ثلاثةٍ: أولها: السُّوء، وهو: متناول جميع المعاصي، سواءٌ كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح، أو من أفعال القلوب. وسُمِّي السُّوء سوءاً؛ لأنَّه يسوء صاحبه بسوء عواقبه، وهو مصدر: «سَاءَهُ يَسُوءُهُ سُوءاً ومَسَاءَةً» إذا أحزنه، و «سُؤْتُهُ، فَسِيءَ» إذا أحزنته، فحزن؛ قال تعالى: {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [الملك: 27] ؛ قال الشَّاعر: [السريع] 889 - ب - وإنْ يَكُ هَذَا الدَّهْرُ قَدْ سَاءَنِي ... فَطَالَمَا قَدْ سَرِّنِي الدَّهْرُ أَلأَمْرُ عِنْدِي فِيهِمَا وَاحِدٌ ... لِذَاكَ شُكْرٌ وَلِذَا صَبْرُ وثانيها: الفحشاء: وهو مصدر من الفحش؛ كالبأساء من البأس، والفحش: قبح المنظر. قال امْرُؤ القَيْسِ: [الطويل] 890 - وَجِيدٍ كَجِيدٍ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ ... إذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ وَلاَ بِمُعَطَّلِ وتوسِّع فيه، حتَّى صار يعبر به عن كلِّ مستقبحٍ معنى كان أو عيناً. والفَحْشَاءُ: نوعٌ من السُّوء، كأنَّها أقبح أنواعه، وهي: ما يستعظم، ويستفحش من المعاصي. وثالثها: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فكأنَّه أقبح الأشياء؛ لأنَّ وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر، فهذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} . فدلَّت الآية الكريمة على أنَّ الشيطان يدعو إلى الصَّغائر والكبائر، والكفر، والجهل بالله. وروي عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - أنَّه قال: «الفَحْشَاءُ» من المعاصي: ما فيه حَدٌّ، والسُّوء من الذُّنوب ما لا حَدَّ فيه. وقال السُّدِّيُّ: هي الزِّنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 وقيل: هي البخل، {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من تحريم الحرث والأنعام. وقال مُقَاتِلٌ: كلُّ ما في القرآن من ذكر الفحشاء، فإنَّه الزِّنا، إلاَّ قوله: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} [البقرة: 368] فإنه منع الزكاة. وقوله: «وَأَنْ تَقُولُوا» عطفٌ على قوله: «بالسُّوء» ، تقديره: «وبِأَنْ تَقُولُوا» فيحتمل موضعها الجرَّ والنصب؛ بحسب قول الخليل، وسيبويه. قال الطَّبَرِيُّ: يريد ما حرَّموا من البحيرة والسَّائبة ونحوهما، مما جعلوه شرعاً. فصل في بيان أن الشطان لا يأمر إلا بالقبائح. دلَّت الآية على أنَّ الشطان لا يأمر إلا بالقبائح؛ لأنَّ الله تعالى ذكره بكلمة «إنَّمَا» وهي للحصر. وقد قال بعضهم: إن الشيطان قد يدعو إلى الخير؛ لكن لغرض أن يجره منه إلى الشَّرِّ؛ وذلك على أنواع: إمَّا أن يجرَّه من الأفضل إلى الفاضل، ليتمكَّن من أن يجره من الفاضل الشَّرِّ، وإمَّا أن يجرَّه من الفاضل السهل إلى الأفضل الأشقِّح ليصير ازدياد المشقَّة سبباً لحصول النُّفرة عن الطَّاعات بالكلِّيَّة. وتناولت الآية الكريمة جمع المذاهب الفاسدة، بل تناولت مقلِّد الحقِّ؛ لأنَّ! هـ قال مالا يعلمه؛ فصار مستحقّاً للذَّمِّ؛ لاندراجاه تحتهذا الذَّمِّ. وتمسَّك بهذه الآية نُفَاةُ القياس، [وجوابهم: أنه متى قامت الدَّلالة على أنَّ العمل بالقياس واجبٌ، كان العمل بالقياس] قولاً على الله بما يعلم لا بما لا يعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 الضمير في «لَهُمْ» فيه أربعة أقوال: أحدها: أنه يعود على «مَنْ في قوله {مَن يَتَّخِذُ} [البقرة: 165] . الثاني: قال بعض المفسِّرين: نزلت في مشركي العرب، فعلى هذا: الآية متَّصلة بما قبلها، ويعود الضمير عليهم؛ لأنَّ هذا حالهم. الثالث: أنه يعود على اليهود؛ لأنَّهم أشدُّ الناس اتِّباعاً لأسلافهم. روي عن ابن عبَّاس قال: دعا رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اليهود إلى الإسلام، فقال رافع بن خارجة، ومالك بن عوفٍ:» بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ فهم كانوا خيراً منَّا، وأَعْلَمُ منَّا «فأنزل الله هذه الآية الكريمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 وقال بعضهم: هذه قصَّةٌ مستأنفةٌ، والهاء والميم في» لَهُمْ «كناية عن غير مذكور. الرابع: أنه يعود على» النَّاس «في قوله» يَأَيُّهَا النَّاسُ «قاله الطبريُّ، وهو ظاهرٌ إلاَّ أن ذلك من باب الالفتات من الخطاب إلى الغيبة، وحكمته: أنَّهم أبرزوا في صورة الغائب الذي يتعجَّب من فعله، حيث دعي إلى شريعة الله تعالى والنُّور والهدى، فأجاب باتِّباع شريعة أبيه. قوله:» بَلْ نَتَّبعُ «» بَلْ «ههنا: عاطفةٌ هذه الجملة على جملة محذوفةٍ قبلها، تقديره: » لا نَتَّبعُ ما أَنْزَلَ اللهُ، بل نَتَّبعُ كذا «ولا يجوز أن تكون معطوفةً على قوله:» اتَّبعوا «لفساده، وقال أبُو البَقَاءِ:» بل «هنا للإضراب [عن الأوَّل، أي:» لاَ نَتَّبعَ مَا أَنْزَلَ اللهُ «، وليس بخروج من قصَّة إلى قصَّة، يعني بذلك: أنه إضراب إبطال] ، لا إضراب النتقالٍ؛ وعلى هذا، فيقال: كلُّ إضرابٍ في القرآن الكريم، فالمراد به الانتقال من قصًّةٍ إلى قصَّةٍ إلاَّ في هذه الآية، وإلاَّ في قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه بَلْ هُوَ الحق} [السجدة: 3] ، كان إضراب انتقالٍ، وإذا اعتبرت» افْتَرَاهُ «وحده، كان إضراب إبطالٍ. والكسائيُّ يدغم لام» هُلْ «و» بَلْ «في ثمانية أحرفٍ: التاء؛ كقوله: {بَلْ تُؤْثِرُونَ} [الأعلى: 16] والنُّون:» بَلْ نَتَّبعُ «والثَّاء» {هَلْ ثُوِّبَ} [المطففين: 36] والسِّين: {بَلْ سَوَّلَتْ} [يوسف: 18] ، والزَّاي: {بَلْ زُيِّنَ} [الرعد: 33] ، والضَّاد: {بَلْ ضَلُّواْ} [الأحقاف: 28] والظَّاء: {بَلْ ظَنَنتُمْ} [الفتح: 12] والطَّاء: {بَلْ طَبَعَ الله} [النساء: 155] ، وأكثر القرَّاء على الإظهار، ووافقه حمزة في التاء والسين، والإظهار هوالأصل. قوله: «أَلْفَيْنَا» في «أَلْفَى» هنا قولان: أحدهما: أنَّها متعدِّية إلى مفعولٍ واحدٍ، لأنها بمعنى «وَجَدَ» التي بمعنى «أَصَابَ» ؛ بدليل قوله في آية أخرى: {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا} [لقمان: 21] وقوله: {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الباب} [يوسف: 35] وقولهم: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ} [الصافات: 69] ، فعلى هذا: يكون «عَلَيْهِ» متعلِّقاً بقوله: «أَلْفَيْنَا» . أولهما: «آبَاءَنَا» ، والثاني: «عَلَيهِ» ، فقُدِّم على الأول. وقال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللهُ -: [ «هي محتملةٌ للأمرين - أعني كونها متعدِّية لواحد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 أو لاثنين» -؛ قال أبو البقاء:] و «لامُ» أَلْفَيْنَا «واوٌ؛ لأن الأصل فيما جُهل من اللاَّمات أن تكون واواً، يعني: فإنه أوسع وأكثر؛ فالرَّدُّ إليه أولى. ومعنى الآية: أنَّ الله - تبارك وتعالى - أمرهم بأن يتَّبعوا ما أنزل الله في تحليل ما حرَّموا على أنفسهم من الحرث، والأنعام، اولبحيرة، والسَّائبة. أو ما أنزل الله من الدَّلائل الباهرة، قالوا: لا نتَّبع ذلك، وإنما نتبع آباءنا، وأسلافنا، فعارضوه بالتَّقليد، فأجابهم الله تعالى بقوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ} ، فالهمزة في» أَوَلَوْ «للإنكار، وأما الواو، [ففيها قولان: أحدهما - قاله الزمخشريُّ -: أنَّها واو الحال. والثاني - قال به أبو البقاء، وابن عطيَّة -: أنَّاه للعطف، وقد تقدَّم الخلاف في هذه الهمزة الواقعة قبل» الواو «و» الفاء «و» ثُمَّ «، هل] بعدها جملة مقدَّرةٌ، وهو رأي الزمخشري؛ ولذلك قدَّر ههنا:» أَيَتَّبِعُونَهُمْ، وَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً مِنَ الدِّينِ، وَلاَ يَهْتَدُونَ لِلصَّوَابِ؟ «أو النية بها التأخير عن حرف العطف؟ وقد جمع أبو حيَّان بين قول الزمخشريِّ، وقول ابْنِ عَطيَّة، فقال: والجمع بينهما: أنَّ هذه الجملة المصحوبة ب» لَوْ «في مثل هذا السِّياق جملةٌ شرطيةٌ، فإذا قال:» اضْرِبْ زَيْداً، وَلَوْ أَحْسَنَ إِلَيْكض «، فالمعنى:» وَإِنْ أَحْسَنَ إِلَيْكَ «وكذلك:» أَعْطُوا السَّائِلَ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَس «» رُدُّوا السَّائِلَ، وَلَوْ بِشِقَّ تَمْرَةٍ «، المعنى فيهما» وإِنْ «وتجيء» لَوْ «هنا؛ [تنبيهاً] على أنَّ ما بعدها لم يكن يناسب ما قبلها، لكنَّها جازت لاستقصاء الأَحوال التي يقع فيها الفعل، ولتدلَّ على أن المراد بذلك وجود الفعلفي كلِّ حالٍ؛ حتَّى في هذه الحال الَّتي لا تناسب الفعل؛ ولذلك لا يجوز:» اضْرِبْ زَيْداً، وَلَوْ أَسَاءَ إِلَيْكَ «، ولا» أَعْطُوا السَّائِلَ، وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجاً «فإذا تقرَّر هذا، فالواو في» وَلَوْ «في الأمثلة التي ذكرناها عاطفةٌ على حالٍ مقدَّرة، والمعطوف على الحال حالٌ؛ فصحَّ أن يقال: إنَّها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 للحال من حيث عطفها جملةً حاليَّةً على حالٍ مقدَّرةٍ، وَصَحَّ أن يقال: إنَّها للعطف من حيث ذلك العطف، فالمعنى - والله أعلم -: أنها إنكارُ اتِّبَاعِ آبائهم في كلِّ حالٍ؛ حتى في الحالة الَّتي لا تناسب أن يتبعوهم فيها، وهي تلبُّسهم بعدم العقل والهداية؛ ولذلك لا يجوز حذف هذه الواو الداخلة على» لَوْ «إذا كانت تنبيهاً على أنَّ ما بعدها لم يكن مناسباً ما قبلها، وإن كانت الجملة الحاليَّةُ فيها ضميرٌ عائدٌ على ذي الحال؛ لأنَّ مجيئها عاريةً من هذه الواو مؤذنٌ بتقييد الجملة السَّابقة بهذه الحال، فهو ينافي استغراق الأحوال؛ حتى هذه الحال، فهما معنيان مختلفان؛ ولذلك ظهر الفرق بين:» أَكْرِمْ زَيْداً، لَوْ جَفَاكَ «، وبين:» أَكْرِمْ زَيْداً، وَلَوْ جَفَاكَ «. انتهى. وهو كلامٌ حسنٌ. وجواب «لو» محذوفٌ، تقديره: «لاَتَبَعُوهُمْ» وقدره أبو البَقَاءِ: «أفكَانُوا يَتَّبِعُونَهُمْ؟» وهي تفسير معنًى لأن «لَوْ» لا تجاب بهمزة الاستفهام، قال بعضهم: ويقال لهذه الواو أيضاً واو التَّعَجُّب دخلت عليها ألأف الاستفهام للتوبيخ. فصل في بيان «معنى التقليد» قال القرطبيُّ: التقليد عند العلماء: «حقيقةُ قَبُولِ قَوْلٍ بلا حُجَّةٍ» ؛ وعلى هذا فمن قبل قول النبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من غير نظرٍ في معجزته، يكون مقلِّداً، وأمَّا من نظر فيها، فلا يكون مقلِّداً. وقيل: «هو اعتقادُ صٍحَّة فُتْيَا مَنْ لا يَعْلَم صحَّة قوله» ، وهو في اللُّغة مأخوذٌ من قلادة البعير، تقول العرب: قلَّدت البعير؛ إذا جعلت في عنقه حبلاً يقاد به؛ فكأنَّ المقلِّد يجعل أمره كلَّه لمن يقوده حيث شاء؛ ولذلك قال شاعرهم: [البسط] 891 - وَقَلِّدُوا أَمْرَكُمْ لِلَّهِ دَرُّكُمُ ... ثَبْتَ الجَنَانِ بَأَمْرِ الحَرْبِ مُضْطَلِعا فصل في المراد بالآية والمعنى: «أَيَتَّبِعُونَ آباءَهُمْ، وإن كانوا جُهَّالاً لا يَعْقِلُون شيئاً» ، لفظه عامٌّ، ومعناه الخصوص؛ لأنهم كانوا لا يعقلون كثيراً من أمور الدنيا؛ فدلَّ هذا على أنهم لا يعقلون شيئاً من الدِّين، ولا يهتدون إلى كيفيَّة اكتسابه. وقوله «شيئاً» فيه وجهان: أحدهما: أنه مفعول به؛ فيعمُّ جميع المعقولات؛ لأنَّها نكرةٌ في سياق النفي، ولا يجوز أن يكون المراد نفي الوحدة، فيكون المعنى: لا يعقلون شيئاً «بَلْ أَشْيَاءً من العَقْلِ» وقدَّم نفي العقل على نفي الهداية؛ لأنَّه يصدرعنه جميع التصرُّفات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 الثاني: أن ينتصب على المصدريَّة، أي: «لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً» . فصل في تقرير هذا الجواب في تقرير هذا الجواب وجوه: الأوَّل: أنه يقال للمقلِّد: هل تعترف بأنَّ شرط جواز تقليد الإنسان: أن يعلم كونه مُحِقَّا، أم لا؟ فإن اعترفت بذلك، لم تعلم جواز تقليده، إلاَّ بعد أن تعلم كونه محقّاً، فكيف عرفت أنه محقٌّ؛ فإن عرفته بتقليدٍ آخر، لزم التسلسل، وإن عرفته بالعقل، فذاك كافٍ، ولا حاجة إلى التَّقليد، وإن قلت: ليس من شرط جواز تقليده: أن يعلم كونه محقّاً، فإذن: قد جوَّزت تقليده، وإن كان مبطلاً، فإذن: انت على تقليدك لا تعلم أنَّك محقٌّ، أم مبطل. وثانيها: هب أن ذلك المتقدِّم كان عالماً بهذا إلاَّ أنَّا لو قدَّرنا أن ذلك المتقدِّم ما كان عالماً بذلك الشَّيء قطُّ، ولا اختار فيه ألبتة مذهباً، فأنت ماذا كنت تعمل؟ فعلى تقدير أنك لا تعلم ذلك المتقدِّم، [ولا مذهبه، كان لا بُدَ من العُدُول إلى النَّظَر فكذا ههنا. وثالثها: أنك إذا قلَّدت من قبلك، فذلك المتقدِّم] : إن كان عرفه بالتقليد، لزم إما الدَّور، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 وإمَّا التسلسل، وإن عرفه بالدليل، وجب أن تطلب اعلم بالدليل، لا بالتَّقليد، لأنَّك لو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 طلبته بالتقليد، لا بالدَّليل، مع أنَّ ذلك المتقدِّم طلبه بالدليل لا بالتقليد، كنت مخالفاً له، فثبت أن القول بالقليد يفضي ثبوته إلى نيه، فيكون باطلاً، وإنَّما ذكرت هذه الآية الكريمة عقيب الرجز عن اتباع خطوات الشَّيطان؛ تنبيهاً على أنه لا فرق بين متابعة وساوس الشيطان، وبين متابعة التَّقليد، وفيه أقوى دليلٍ على جوب النَّظَر، والاستدلال، وترك التَّعويل على ما يقع في الخاطر من غير دليلٍ، أو على ما يقوله الغير من غير دليل. فصل في بيان ما يستثنى من التَّقليد قال القرطبيُّ: ذمَّ الله تعالى الكفَّار؛ باتباعهم لآبائهم في [الباطل] واقتدائهم بهم في الكفر، والمعصية، وهذا الذَّمُّ في الباطل صحيحٌ، وأما التقليد في الحقِّ، فأصل من «أصول الدِّين» ، وعصمة من عصم المسلمين، يلجأ إليها الجاهل المقصِّر عن درك النَّظر، واختلف العلماء - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - في جوازه في مسائل الأصول، وأمَّا جوازه في مسائل الفروع، فصحيحٌ. فصل في وجوب التَّقليد على العامِّي قال القرطبيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: فرض العامِّيِّ الذي لا يستقلُّ باستنباط الأحكام من أصولها، لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه، ويحتاج إليه - أن يقصد أعلم من في زمانه ببلده؛ فيسأله عن نازلته، فيتمثَّل فيها فتواه؛ لقوله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل: 43] وعليه الاجتهاد في أعلم أهل زمانه بالبحث عنه؛ حتى يتفق أكثر الناس عليه، وعلى العالم أيضاً أن يقلِّد عالماً مثله في نازلةٍ خفي عليه وجه الدليل فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 لما حكى عن الكفَّار أنَّهم عند الدُّعاء إلى اتِّباع ما أنزل الله تعالى، تركوا النَّظر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وأخلدوا إلى التَّقليد، وقالوا: {بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَآ} [البقرة: 170]- ضَرَبَ لهم هذا المثل؛ تنبيهاً للسَّامعين لهم: أنهم إنما وقعوا فيه؛ بسبب ترك الإصغان وقلة الاهتمام بالدِّين، فصيرهم من هذا الوجه بمنزلة الأنعام، وضر بمثل هذا المثل يزيد السَّامع اجتهاداً في معرفة أحوال نفسه، ويحقِّر إلى الكافر نفسه، إذا سمع ذلك، فيكون كسراً لقلبه، وتضييقاً لصدره؛ حيث صيَّره كالبهيمة، فكان ذلك ي نهاية الرَّدع والزَّجر لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقة التقليد. وقد اختلف النَّاس في هذه الآية اختلافاً كثيراً، ولا سبيل إلى معرفة الإعراب إلاَّ بعد معرفتة المعنى المذكور في الآية الكريمة، وقد اختلفوا في ذلك: فمنهم من قال: معناها: أنَّ المثل مضروبٌ بتشبيه الكافر بالنَّاعق، ومنهم من قال: هو مضروبٌ بتَشْبيه الكافر بالمَنْعوق به، ومنهم مَنْ قال: هو مضْروبٌ بتشبيه داعي الكفر بالنَّاعق، ومنهم مَنْ قال: هو مضروب بتشبيه الدَّاعي والكافر بالنَّاعق، والمنعوق به، فهذه أربعة أقوالٍ. فعلى القول الأول: يكون التقدير: «وَمَثَلُ الَّذينَ كَفَرُوا في قِلَّة فَهْمِهِمْ، كَمَثَلِ الرُّعَاة يُكَلِّمُون البُهْمَ والبُهْمُ لا تَعْقِلُ شيئاً» . وقيل: يكون التقدير: «وَمَثَلُ الَّذين كَفَروا في دُعائهم آلِهَتَهُمْ التي لا تَفْقَهُ دُعَاءَهُم، كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِغَنَمِهِ؛ لا ينتفع من نَعِيقِهِ بشَيءٍ غير أنَّه في عناءٍ» ؛ وكذلك الكافرُ ليس له من دعائه آلهته إلاَّ العناء؛ كما قال تعالى: {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ} [فاطر: 14] . قال الزَّمَخْشَرِيُّ لمَّا ذكر هذا القول: «إلاَّ أنَّ قوله:» إلاَّ دُعاءً وَنِدَاءً «، لا يساعد عليه؛ لأنَّ الأصنام لا تَسْمَعُ شيئاً» . قال أبُو حَيَّان - رَحِمَهُ اللهُ -: «ولحظ الزمخشريُّ في هذا القول تمام التشبيه من كُلِّ جهة، فكما أنَّ المنعوق به لا يَسْمَعُ إلاَّ دعاءً ونداءً، فكذلك مدعُوُّ الكافِرِ مِنَ الصَّنم، والصَّنَم لا يَسْمَعُ، فضَعُف عنده هذا القوْلُ» قال: «ونحْنُ نقولُ: التشْبيهُ وقَعَ في مُطْلَق الدُّعاء في خُصوصيَّات المدعُوِّ، فتَشْبِيهُ الكَافِر في دعائِهِ الصَّنَمَ بِالنَّاعِقِ بالبهيمة، لا في خصوصيَّات المنعُوق به» ، وقال ابنُ زَيْدٍ في هذا القَوْلِ - أعني: قولَ مَنْ قال: التقديرُ: ومَثَلُ الذين كَفَرُوا في دُعَائِهِمْ آلهتَهُم -: إنَّ الناعق هنا ليس المراد به الناعق بالبهائم، وإنَّما المراد به الصائح في جوف الجبل، فيجيبه الصَّدى، فالمعنى: بما لا يسمع منه الناعقُ إلاَّ دعاء نفسه، ونداءها، فعلى هذا القول: يكون فاعل «يَسْمَعُ» ضميراً عائداً على «الَّذِي يَنْعِقُ» ويكون العائد على «مَا» الرابط للصِّلة بالموصُول محذوفاً؛ لفَهْم المعنى، تقديره: «بِمَا لاَ يَسْمَعُ مِنْهُ» وليس فيه شرط الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 جوازِ الحَذْف؛ فإنه جُرَّ بحرف غير ما جُرَّ به لموصول، وأيضاً: فقد اختلف متعلَّقاهما إلاَّ أنه قد ورد ذلك في كلامهم، وأمَّا على القولين الأوَّلين، فيكون فاعل «يَسْمَعُ» ضميراً يعود على «ما» الموصولة، وهو المنعوقُ به. وقيل: المراد ب «الَّذِين كَفَرُوا» المتبُوعُون، لا التابعون، المعنى: «مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في دعائِهِمْ اتباعَهُمْ، وكوْنِ أتباعِهِمْ لا يَحْصُل لهم منهم إلاَّ الخَيْبَة، كمثل النَّاعق بالغَنَم، فعلى هذه الأقوال كلِّها: يكون» مَثَل «مبتدأً و» كَمَثَلِ «خبره، وليس في الكلام حذفٌ إلاَّ جهة التَّشبيه. وعلى القول الثاني من الأقوال الأربعة المتقدِّمة: فقيل: معناه:» وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في دُعَائِهِمْ إلى الله تعالى، وعَدَمِ سماعِهِمْ إِيَّاه، كَمَثَلِ بَهَائم الَّذِي يَنْعِقُ «فهو على حذفِ قَيْدٍ في الأوَّل، وحَذْف مضافٍ في الثاني. وقيل: التقدير:» ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في عَدَم فَهْمهم عَنِ اللهِ ورسُولِهِ، كَمَثَلِ المنْعُوق بِهِ منَ البَهَائم الَّتي لا تَفْقَهُ من الأَمْر والنَّهْي غَيْر الصَّوْت «فيرادُ بالذي يَنْعِقُ: الذي يُنْعَقُ بِهِ، ويكون هذا من القَلْبِ، وقال قائلٌ:» هذا كما تقولون: «دَخَلَ الخَاتَمُ في يَدِي، والخُفُّ في رِجْلِي» وتقولون: «فُلاَنٌ يَخَافُكَ؛ كَخَوْفِ الأَسَدِ» ، أي: كَخَوْفِهِ الأَسَدَ، وقال تعالى: {مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة} [القصص: 76] وإنَّما العصبة تنوء بالمفاتح «. وإلى هذا ذهب الفرَّاء، وأبو عُبَيْدَة، وجماعةٌ إلاَّ أنَّ القلب لا يقع على الصَّحيح إلاَّ في ضرورة أو ندورٍ. وأمَّا على القول الثَّالث، وهو قولُ الأخفش، والزَّجَّاج، وابْنِ قُتَيْبَة، فتقديره:» ومَثَلُ داعي الَّذين كَمَثَلِ النَّاعق بغَنَمه؛ في كَوْن الكافِرِ لا يَفْهَمُ ممَّا يُخَاطِبُ به داعيَهُ إلاَّ دَوِيَّ الصَّوْت، دون إلقاءِ فكرٍ وذهنٍ؛ كما أنَّ البيهمةَ كذلك، فالكلامُ على حذف مضافٍ من الأوَّل. فصل في المراد ب «مَا لاَ يَسْمَعُ» قال الزَّمَخْشَرِيُّ: ويجوزُ أن يرادَ ب «مَا لاَ يَسْمَعُ» الأصمُّ الأصْلَج الذي لا يَسْمَعُ من كلام الرَّافِعِ صَوْتَهُ بِكَلاَمِهِ إلاَّ النِّداءَ والصَّوتَ، لا غير؛ من غير فهم للحرف، وهذا جنوح إلى جواز إطلاق «ما» على العقلاء، أو لما تنزَّل هذا امنزلة من لا يسمع من البهائم، أوقع عليه «مَا» . وأما على القول الرابع - وهو اختيار سيبويه في هذه الآية -: فتقديره عنده: «مَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ، ومَثَلُ الذين كَفَرُوا، كَمَثَل النَّاعق والمنْعُوقِ به» ، واختلف النَّاس في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 فهم كلام سيبويه، فقائل: هو تفسير معنى، وقيل: تفسير إعرابٍ، فيكون في الكلام حذفان: حذف من الأوَّل، وهو حذف «دَاعِيهم» ، وقد أثبت نظيره في الثاني، وحذفٌ من الثَّاني، وهو حذف المنعوق، وقد أثبت نظيره في الأول؛ فشبَّه داعِيَ الكُفَّار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه، وشبَّه الكفَّار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه، إلاَّ أصواتاً لا يعرفون ما وراءها، وفي هذا الوجه حذف كثير؛ إذ فيه حذف معطوفين؛ إذ التقدير الصناعيُّ: «وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ودَاعِيهِمْ كمثل الذي يَنْعِقُ بالمَنْعُوقِ به» . وقد ذهب إليه جماعةٌ، منهم: أبو بكر بن طاهر، وابن خروفٍ، والشَّلوبين؛ قالوا: العرب تستحسن هذا، وهو من بديع كلامها؛ ومثله قوله: [ {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} [النمل: 12]] تقديره: «وأَدْخِل يَدَكَ في جَيْبِكَ، تدْخُلْ، وأَخْرِجْها تَخْرُجْ» ؛ فحذف «تَدْخُل» ؛لدلالة «تَخْرُج» وحَذَف «وأَخْرجْهَا» ؛ لدلالة «وأَدْخِلْ» ، قالوا: ومثله قوله: 895 - وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ فَتْرَةٌ ... كَمَا انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ لم يرد أن يشبِّه فترته بانتفاض العصفور حين بلَّله القطر؛ لأنَّمها ضدَّان؛ إذ هما حركةٌ وسكونٌ، ولكنَّ تقديره: أنِّي إذا ذكرته، عراني انتفاضٌ، ثمَّ أفتر؛ كما أن العصفور إذا بلَّله القطر، عراه فترةٌ، ثم ينتفض، غير أنَّ وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة، وفترة العصفور قبل انتفاضه. وهذه الأقوال كلُّهَا، إنَّما هي على القول بتشبيه مفرد بمفرد، ومقابلة جزء من الكلام السَّابق بجزء من الكلام المشبَّه به. أمَّا إذا كان التشبيه من باب تشبيه جملةٍ بجملةٍ، فلا ينظر في ذلك إلى مقابلة الألفاظ المفردة، بل ينظر إلى المعنى، وإلى هذا نحا أبو القاسم الراغب؛ قال الرَّاغب: «فلمَّا شبَّه قصَّة الكافرين في إعراضهم عن الدَّاعي لهم إلى الحقِّ، بقصَّة النَّاعق قدَّم ذكر النَّاعق؛ لينبني عليه ما يكون منه، ومن المنعوق به» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 والكاف ليست بزائدةٍ، خلافاً لبعضهم؛ فإنَّ الصِّفة ليست عين الصِّفة الأخرى، فلا بُدَّ من الكاف؛ حتى أنه لو جاء الكلام دون الكاف، اعتقدنا وجودها تقديراً تصحيحاً للمعنى. وقد تلخَّص ممَّا تقدَّم: أنَّ «مَثَلُ الَّذِينَ» مبتأٌ، و «كَمَثَلِ الَّذِي» خبره: إمَّا من غير اعتقاد حذف، أو على حذف مضافٍ من الأوَّل، أي: «مثلُ:» داعي الَّذين «، أو من الثَّاني، أي:» كَمَثَلِ بَهَائِم الَّذِي «، أو على حذفين: حذف من الأوَّل ما أثبت نظيره في الثَّاني، ومن الثَّاني ما أثبتَ نظيره في الأوَّل؛ كما تقدَّم تحريره. والنعيق دعاء الرَّاعي، وتصويته بالغنم؛ قال الأخطل في ذلك: [الكامل] 896 - فَانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ فَإِنَّمَا ... مَنَّتْكَ نَفْسُكَ في الخَلاَءِ ضَلالاَ قال القتيبيُّ: لم يكن جرير راعي ضأنٍ، وإنَّما أراد أنَّ بني كُلَيبٍ يُعَيَّرُونَ برعْيِ الضأن، وجرير منهم؛ فهو من جَهَلتهم، والعرب تضرب المثل في الجهل براعي الضَّأن، ويقولون: أجْهَلُ من رَاعِي ضَأْنٍ. يقال: نَعَقَ، بفتح العَيْنِ، يَنْعِقُ، بكَسْرها، والمصدرُ النَّعيقُ والنُّعَاقُ، والنَّعْقُ، وأما «نَعَقَ الغُرَابُ» ، فبالمعجمة، وقيل: بالمهملة أيضاً في الغُرَاب، وهو غريبٌ. قال بعضهم: إنَّ الياء والنُّون من قوله: «يَنْعِقُ» من نصف هذه السُّورة الأوَّل، والعَيْنَ والقَافَ من النصف الثَّاني. «إلاَّ دعاء» : هذا استثناءٌ مفرَّغٌ؛ لأن قبله «يَسْمَعُ» ولم يأخذ مفعوله وزعم بعضهم أن «إلاَّ» زائدةٌ، فليس من الاستثناء في شيء، وهذا قولٌ مردودٌ، وإن كان الأصمعيُّ قد قال بزيادة «إلاَّ» في قوله: [الطويل] 897 - حَرَجِيجُ لا تَنْفَكُّ إلاَّ مُنَاخةً ... عَلَى الخَسْفِ أو نَرْمِي بِهَا بَلَداً قَفْراً فقد ردَّ النَّاسُ عليه، ولم يقْبَلُوا قوله، وفي البيت كلامٌ تقدَّم. وأورد بعضهم هنا سؤالاً معنويّاً، وهو أن قوله {لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً} [البقرة: 171] ليس المسموع إلا الدعاء والنداء، فكيف ذمَّهم بأنَّهم لا يسمعون إلا الدعاء؛ وكأنَّه قيل: لا يسمعون إلاَّ المسموع، وهذا لا يجوز؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 فالجواب: أن في الكلام إيجازاً، وإنَّما المعنى: لا تفهم معاني ما يقال لهم؛ كما لا تميِّز البهائم بين معاني الألفاظ التي يصوَّت بها، وإنَّما تفهم شيئاً يسيراً، قد أدركته بطول الممارسة، وكثرة المعاودة؛ فكأنه قيل لهم: إلاَّ سماع النِّداء دون إدراك المعاني، والأغراض. قال شِهَابُ الدِّين: وهذا السُّؤال من أصله ليس بشيءٍ، ولولا أنَّ الشَّيخ ذكره، لم أذكره. وهنا سؤالٌ ذكره عليُّ بن عيسى، وهو هل هذا من باب التَّكرار لمَّا اختلف اللَّفظ، فإنَّ الدعاء والنِّداء واحدٌ؟ والجواب: أنه ليس كذلك؛ فإن الدعاء طلب الفعل، والنداء إجابة الصَّوت. وقال القرطبيُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: النداء للبعيد، والدعاء للقريب، وكذلك قيل للأذان بالصلاة نداءٌ؛ لأنه للأباعد، وفي هذا نظر؛ لأنَّ النبيَّ - عليه السلام - قال: «الخِلافَةُ في قُرَيْشٍ، والحُكْمُ في الأَنْصَارِ، والدَّعْوَةُ في الحَبَشَةِ» قال ابنُ الأثِير في «النَّهَايَة» : أراد بالدَّعوة الأذان، وجعله في الحبشة؛ تفضيلاً لمؤذِّنه بِلالٍ، وقال شاعر الجاهليَّة: [الوافر] 898 - فَلَسْتُ بِصَائِمٍ رَمَضَانُ عُمْرِي ... وَلَسْتُ بِآكِلٍ لَحْمَ الأَضَاحِي وَلَسْتُ بِقَائِمٍ كالعِيرِ يَدْعُوا ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ أراد أذان الصُّبح، وقد تضمُّ النون في النِّداء، والأصل الكسر. قوله: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 171] لمَّا شبَّههم بالبهائم، زاد في تبكيتهم، فقال: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} ؛ لأنَّهم صارُوا بمنزلة الأصَمِّ؛ في أنَّ الذي سَمِعُوه، كأنَّهم لم يسمعوه، وبمنزلة البُكْم؛ في ألاَّ يستجيبوا لما دعوا إليه، ومن حيث العمي؛ من حيث إعراضهم عن الدَّلائل؛ فصاروا كأنَّهم لم يشاهدوها، قال النُّحاة: «صُمٌّ» ، أي: هم صمٌّ، وهو رَفْع على الذَّمِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 وقوله: «فَهُمْ لاَ يَعْقِلُون» فالمراد: العقْلُ المكتَسَبُ هو الاستعانة بهذه القُوَى الثَّلاثة، فلمَّا أعرضوا عنهان فقد فقدوا العقل الكسبيَّ، ولهذا قيل: من فقد حسّاً، فَقَدْ فَقَدَ علماً، والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 قال بعض المفسِّرين: إنَّ الله تبارك وتعالى ذكر من أوَّل السُّورة إلى هنا دلائل للتَّوحيد والنُّبُوَّة، واستقصى في الرَّدِّ على اليهود والنصارى، ومن هنا: شرع في بيان الأحكام، فقال: «كُلُوا» واعلم: أنَّ الأكل قد يكون واجباً، وذلك عند دفع الضرر عن النَّفس، وقد يكون مندوباً، وذلك عند امتناع الضيف من الأكل، غذا انفرد، وللبساطة في الأكل، غذا سوعد، فهذا الأكل مندوبٌ، وقد يكون مباحاً، إذا خلا عن هذه العوارض، فلا جرم كان مسمَّى الأكل مباحاً، وإذا كان كذلك، كان قوله في هذا الموضع «كُلُوا» لا يفيد الإيجاب، والنَّدب، [بل الإباحة، ومفعول «كُلُوا» محذوفٌ، أي: «كُلُوا رِزْقَكُمْ حَالَ كَوْنِهِ بَعْضَ طيِّباتِ ما رَزَقْنَاكُمْ» ويجوزُ في رأي الأخفش: أن تكون «مِنْ» زائدةً في المفعول به، أي: «كُلُوا طيِّبات ما رزَقْنَاكم» . فصل في بيان حقيقة الرِّزق استدلُّوا على أنَّ الرزق قيد يكون حراماً؛ بقوله تعالى: «مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ» ؛ فإِنَّ الطَّيِّب هو الحلال، فلو كان كلُّ رزقٍ حلالاً؛ لكان قوله: «كُلُوا مِن] طَيِّبَاتَ مَا رَزَقْنَاكُمْ» معناه: من محلَّلات ما أحللنا لكم، فيكون تكراراً، وهو خلاف الأصل، وأجابوا عنه؛ بأن الطَّيِّب في أصل اللُّغة: عبارةٌ عن المستلذِّ المستطاب، فلعلَّ أقواماً ظنُّوا أنَّ التوسُّع في المطاعم، والاستكثار من طيِّباتها ممنوعٌ منه، فأباح الله تبارك وتعالى ذلك؛ لقوله تعالى: «كُلُوا» من لذائذ ما أحللناه لكم، فكان تخصيصه بالذِّكر لهذا المعنى. فصل في الوجوه التي وردت عليها كلمة «الطَّيِّب» في القرآن قالوا: «والطَّيِّبُ» ورد في القرآن الكريم على أربعة أوجهٍ: أحدها: الطَّيِّبات بمعنى الحلال؛ قال الله تعالى: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} [النساء: 2] ، أي: لا تتبدَّلوا الحرام بالحلال. الثاني: الطيِّب بمعنى الطَّاهر؛ قال تبارك وتعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 43] ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 وقال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] . الثالث: الطَّيِّب: معناه الحسن، أي: الكلام الحسن للمؤمنين. وقوله: {واشكروا للَّهِ} أَمْرٌ، وليس بإباحةٍ، بمعنى أنه يجب اعتقاد مستحقّاً إلى التعظيم، وإظهار الشُّكْر باللِّسان، أو بالأفعال، إن وجدت هنا له تهمةٌ. [الرابع: ذكر الله وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10] . قوله: «إِنْ كُنْتُمْ» شرطٌ، وجوابه محذوف، أي: فاشكروا له، وقول من قال من الكوفيِّين: إنَّها بمعنى «إذ» ضعيفٌ، و «إيَّاه» : مفعولٌ مقدَّم؛ ليفيد الاختصاص، أو لكون عامله رأس آية، وانفصاله واجبٌ، ولأنه متى تأخَّر، وجب اتصاله إلاَّ في ضرورة؛ كقوله: [الرجز] 899 - إلَيْكَ حَتَّى بَلَغَتْ إِيَّاكَ ... وفي قوله: {واشكروا للَّهَ} التفاتٌ من ضمير المتكلِّم إلى الغيبة إذْ لو جرى على الأسلوب الأوَّل، لقال: «واشْكُرُونَا» . فصل في المراد من الآية في معنى الآية وجوه: أحدها: «واشْكُرُوا الله، إنْ كُنْتُمْ عارفِينَ بالله ونِعَمِهِ» فعبَّر عن معرفة الله تعالى بعبادته إطلاقاً لاسم الأثر على المؤثر. وثانيها: معناه: «إنْ كنتُمْ تريدون أن تَعْبُدوا الله، فاشكُرُوه فإنَّ الشُّكر رأسُ العبادات» . وثالثهما: «واشْكُرُوا الله الَّذي رَزَقَكُمْ هذه النِّعْمَة، إن كُنْتُمْ إيَّاه تعبُدُونَ» ، أي: إن صحَّ أنَّكم تخصُّونَهُ بالعبادة، وتقرُّون أنَّه هو إلهُكُمْ لا غيره، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن الله -: «إنِّي والجنُّ والإنْسُ في نَبَأ عَظِيمٍ، أخْلُقُ وَيُعْبَدُ غَيْري، وَأَرْزُقُ وَيُشْكَرُ غَيْري؟!» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 فصل في أن الشيء المعلق ب «إن» لا يكون عدماً عند عدم ذلك الشيء احتجَّ من قال بأنَّ المعلَّق بلفظ «إنْ» لا يكون عدماً عند عدم ذلك الشَّيء؛ بهذه الآية، فإنَّه تعالى علَّق الأمر بالشُّكْر بكلمة «إنْ» على فعل العبادة، مع أن من لا يفعل هذه العبادات يجب عليه الشكر أيضاً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 لما أمر في الآية المتقدِّمة بأكل الحال، فصَّل في هذه الآية [أنواع] الحرام. قوله: «إنَّمَا حَرَّمَ» : الجمهور قرءوا «حَرَّمَ» مشدَّداً مبنيّاً للفاعل «المَيْتَة» نصباً على أنَّ «مَا» كافَّةٌ مهيِّئة ل «إنَّ» في الدُّخول على هذه الجملة الفعليَّة، وفاعل «حَرَّمَ» ضمير الله تعالى، و «المَيْتَةَ» : مفعولٌ به، وابن أبي عَبْلَة برفع «المَيْتَةُ» ، وما بعدها، وتخريج هذه القراءة سهل وهو أن تكون «مَا» موصولةً، و «حَرَّمَ» صلتها، والفاعل ضمير الله تعالى والعائد محذوفٌ؛ لاستكمال الشُّروط، تقديره: «حَرَّمَهُ» ، والموصول وصلته في محلِّ نصب اسم «إنَّ» ، و «الميتة» : خبرها. وقرأ ابو جعفر، وحمزة مبنيّاً للمفعول، فتحتمل «ما» في هذه القراءة وجهين: أحدهما: أن تكون «ما» مهيةً، و «المَيْتَةُ» مفعول ما لم يسمَّ فاعل. والثاني: أن تكون موصولةً، فمفعول «حُرِّمَ» القائم مقام الفاعل ضميرٌ مستكنٌّ يعود على «ما» الموصولة، و «لميتة» خبر «إنَّ» . وقرأ أبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ، «حَرُمَ» ، بضمِّ الراء مخفَّفة، و «المَيْتَةُ» رفعاً و «مَّا تحتمل الوجهين أيضاً، فتكون مهيِّئة، و» المَيْتَةُ «؛ فاعلٌ ب» حَرُمَ «، أو موصولةً، والفاعل ضميرٌ يعود على» مَا «وهي اسمُ» إنَّ «، و» المَيْتَة «: خبرها، والجمهور على تخفيف» المَيْتَة «في جميع القرآن، وأبو جعفر بالتَّشديد، وهو الأصل، وهذا كما تقدَّم في أنَّ» الميْت «مخفَّفٌ من» المَيِّت «، وأن أصله» مَيْوتٌ «، وهما لغتان، وسيأتي تحقيقه في سورة آل عمران عند قوله: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} [آل عمران: 27] . ونقل عن قدماء النحاة، أنَّ» المَيْتَ «بالتَّخفيف: من فارقت روحه جسده، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 وبالتشديد: من عاين أسباب الموت، ولم يمت، [وحكى ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللهُ - عن أبي حاتم: أنَّ ما قد مات فيقال ان فيه، وما لم يَمُتْ] بعد، لا يقال فيه بالتخفيف، ثم قال: ولم يقرأ أحدٌ بتخفيف ما لم يمت إلا ما روى البزِّيُّ عن ابن كثير: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17] ، وأما قوله: [الوافر] 900 - إذَا مَا مَاتَ مَيْتٌ مِنْ تَمِيمٍ ... فَسَرَّكَ أنْ يَعِيشَ فَجِىءْ بِزَادِ فقد حمل على من شارف الموت، وحمله على الميِّت حقيقةً أبلغ في الهجاء. وأصل» مَيْتَةٍ «مَيْوِتَةٌ، فأُعلَّت بقلب الواو ياء، وإدغام الياء فيها، وقال الكوفيُّون: أصله» مَوِيتٌ «، ووزنه» فَعِيلٌ «. قال الواحديُّ: «المَيْتَة» : ما فارقته الرُّوح من غير ذكاةٍ ممَّا يُذْبَح. فصل في بيان أن الآية عامَّة مخصَّة بالسُّنَّة هذه الآية الكريمة عامَّة دخلها التخصيص؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ: السَّمَكُ والجَرَادُ، ودَمَانِ: الكَبِدُ والطِّحَالُ» وكذلك حديث جابر في العنبر، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «هُوَ الطَّهُورُ مَاؤُهُ، الحِلُّ مَيْتَتَهُ» وهذا يدلُّ على تخصيص الكتاب بالسُّنّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 وقال عبد الله بن أبي أوفى: «غَزَوْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سَبْعَ غَزَوَاتِ، نأْكُلُ الجَرَاد» وظاهره أكل الجراد كيف ما مات [بعلاجٍ، أو حَتْفَ أنفِهِ] ، والله أعلم. فصل في بيان حكم وقوع الطائر ونحوه في القدر إذا وقع طائرٌ ونحوه في قدرٍ، فمات، فقال مالكٌ: لا يُؤكل كل ما في القدر. وقال ابن القاسم: يغسل اللَّحم ويؤكل، ويراق المرق، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس رضي الله تعالى عنهما. فصل في بيان حكم الدَّم وأما الدَّم: فكانت العرب تجعل الدم في النَّار، وتشويها، ثم تأكلها، فحرَّم الله تعالى الدَّم، واتفق العلماء على أن الدم حرامٌ نجسٌ، لا يؤكل، ولا ينتفع به. قال بعضهم: يحرمن إذا لم تعم به البلوى، ويعفى عنه، إذا عمَّت به البلوى، كالذي في اللَّحم والعروق، ولايسير في الثَّوب والبدن يصلَّى فيهن وأطلق الدَّم هنا، وقيَّده بالمسفوح في «الأنعام» ، فيحمل المطلق على المقيَّد، وأمَّا لحم الخنزير، فاللَّحم معروف، وأراد الخنزير بجميع أجزائه، لكنه خصَّ اللحم؛ لأنه المقصود لذاته بالأكل، واللَّحم جمعه لحوم ولحمان، يقال: لحم الرَّجل، بالضم، لحامةً، فهو لحيمٌ، أي: غلظ، ولحم، بالكسر يلحم، بالفتح، فهو لحمٌ: اشتاق إلى اللَّحم، ولحم النَّاسَ، فهو لاحمٌ، أي: أطعمهم اللحم، وألحم: كثر عنده اللَّحم [والخنزير: حيوانٌ معروفٌ، وفي نونِهِ قولان: أصحهما: أنَّها أصليَّة، ووزنه: «فِعْلِيلٌ» ؛ كغربيبٍ. والثاني: أنها زائدةٌ، اشتقوه من خزر العين، أي: ضيقها؛ لأنه كذلك يَنْظُر، وقيل: الخَزَرُ: النَّظَرُ بمؤخِّر العين؛ يقالك هو أخزر، بيِّن الخزر] . فصل في بيان تحريم الخنزير أجمعت الأُمَّة على تحريم لحم الخنزير، قال مالك: إن حلف لا يأكل الشَّحم، فأكل لحماً لم يحنث بأكل اللحم، ولا يدخل اللحم في اسم الشَّحم؛ لأنَّ اللحم مع الشَّحم يسمَّى لحماً، فقد دخل الشَّحم في اسم اللَّحم، واختلفوا في إباحة خنزير الماء؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 قال القُرْطُبِيُّ: لا خلاف في أنَّ جملة الخنزير محرَّمةٌ، إلاَّ الشَّعر، فإنَّه يجوز الخرازة به. قوله: {وَمَا أُهِلَّ بِهِ] : «مَا» موصولةٌ بمعنى «الَّذِي» ، ومحلُّها: إمَّا النصبُ، وإمَّا الرفع؛ عطفاً على «المَيْتة» والرَّفع: إما خبر «إنّ» ، وإما على الفاعلية؛ على حسب ما تقدم من القراءات؛ و «أُهِلَّ» مبنيٌّ للمفعول، والقائم مقام الفاعل هو الجار والمجرور في «بِهِ» والضمير يعود على «ما» والباء بمعنى «في» ولا بد من حذف مضافٍ، أي: «في ذبحه» ؛ لأن المعنى: «وما صِيحَ في ذَبْحِهِ لغير الله» ، والإهلال: مصدر «أَهَلَّ» ، أي: صَرَخَ. قال الأصْمعِيُّ: أصله رفع لاصَّوت، وكلُّ رافعٍ صوته، فهو مهلٌّ. ومنه الهلالُ؛ لأنَّه يصرخ عند رؤيته، واستهلَّ الصبُّح قال ابن أحمر: [السريع] 901 - يُهِلُّ بِالغَرْقَدِ غَوَّاصُهَا ... كَمَا يُهِلُّ الرَّاكِبُ المُعْتَمِرْ وقال النَّابِغَةُ: [الكامل] 902 - أَوْ دُرَّةٍ صَدَفِيَّةٍ غَوَّاصُهَا ... بَهِجٌ مَتَى يَرَهَا يُهِلَّ وَيَسْجُدِ وقال القائل: [المديد] 903 - تَضْحَكُ الضَّبعُ لِقَتْلَى هُذَيْلٍ ... وَتَرَى الذِّئْبَ لَهَا يَسْتَهِلُّ وقيل للمحرم: مُهِلٌّ؛ لرفع الصوت باتَّلبية، و «الذَّبح» مهلٌّ؛ لأنَّ العرب كانوا يسمُّون الأوثان عند الذَّبح، ويرفعون أصواتهم بذكرها، فمعنى قوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} ، يعني: ما ذبح للأصنام، والطَّواغيت، قاله مجاهد، والضَّحَّاك وقتادة، وقال الرَّبيع ابن أنسٍ، وابن زيد: يعني: ما ذكر عليه غير اسم الله. قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللهُ -: وهذاالقول أولى؛ لأنَّه أشدُّ مطابقةً للَّفظ. قال العلماء: لو ذبح مسلم ذبيحةً، وقصد بذبحها التقرُّب إلى [غير] الله تعالى، صار مرتدّاً، وذبيحته ذبيحة مرتدٍّ، وهذا الحكم في ذبائح غير أهل الكتاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 أمَّا ذبائح أهل الكتاب، فتحلُّ لنا، لقوله تبارك وتعالى: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 5] . فصل في اختلافهم في اقتضاء تحريم الأعيان الإجمال اختلفوا في التَّحريم المضاف إلى الأعيان، [هل يقتضي الإجمال؟ فقال الكَرْخيُّ: إنَّه يقتضي الإجمال، لأنَّ الأعيان] لا يمكن وصفها بالحل والحرمة فلا بد من صرفها إلى فعل من الأفعال فيها، وهو غير محرَّم، فلا بُدَّ من صرف هذا التحريم إلى فعل خاصٍّ، وليس بعض الأفعال أولى من بعضٍ؛ فوجب صيرورة الآية الكريمة مجملةً. وأمَّا أكثر العلماء، فقالوا: إنَّها ليست بمجلةٍ، بل هذه اللفظة تفيد في العرف حرمة التصرُّف؛ قياساً على هذه الأجسام؛ كما أنَّ الذوات لا تملك، وإنَّما تُمْلَكُ التصرُّفات فيها، فإذا قيل: «فلانٌ يَمْلِكُ جاريةً» ، فهم كلُّ أحدٍ أنه يملك التصرُّف فيها؛ فكذا هاهنا. فإن قيل: لم لا يجوز تخصيص هذا التَّحريم بالأكل؛ لأنَّه المتعارف من تحريم الميتة، ولأنَّه ورد عقيب قوله: {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} [البقرة: 172] ، ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في خبر شاة ميمونة: «إِنَّمَا حُرِّمَ مِنَ المَيْتَةِ أَكْلُهُا» فالجواب عن الأوَّل: لا نسلِّم أن المتعارف من تحريم الميتة تحريم الأكل. وعن الثَّاني: بأنَّ هذه الآية الكريمة مسألةٌ بنفسها؛ فلا يجب قصرها على ما تقدَّم، بل يجب إجراؤها على ظاهرها. وعن الثَّالث: أنَّ ظاهر القرآن مقدَّم على خبر الواحد، هذا إذا لم نُجَوِّزْ تخصيص القرآن بخبر الواحد، فإن جوَّزناه، يمكن أن يجاب عنه؛ بأن المسلمين، إنَّما يرجعون في معرفة وجوه الحرمة إلى هذه الآية؛ فدلَّ انعقاد إجماعهم على أنَّها غير مختصَّة ببيان حرمة الأكل، وللسَّائل أن يمنع هذا الإجماع، والله تعالى أعلم. فإن قيل: كلمة «إنَّما» تفيد الحصر، فيقتصر على تحريم باقي الآية الكريمة، وقد ذكر في سورة المائدة هذه المحرمات، وزاد فيها: المنخنقة، والموقوذة، والمتردِّية، والنَّطيحة، وما أكل السَّبع، فما معنى هذا الحصر؟ فالجواب: أنَّ هذه الآية متروكة العمل بظاهرها، وإن قلنا: إنَّ كلمة «إنَّما لا تفيد الحصر، فالإشكال زائلٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 فصل في بيان مذاهب الفقهاء في الدباغ للفقهاء سبعة مذاهب في أمر الدباغ: فأولها: قول الزُّهريِّ: يجوز استعمال جلود الميتة بأسرها قبل الدِّباغ، ويليه داود، قال: تطهر كلُّها بالدِّباغ، ويليه مالكٌ؛ فإنه قال يطهر ظاهرها كلُّها دون باطنها، ويليه أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال: يطهر كلها بالدِّباغ غلا جلد الخنزير، ويليه قول الإمام الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْه - قال: تطهر كلُّها بالدِّباغ إلاَّ جلد الكلب والخنزير، ويليه الأوزاعي، وأبو ثور، قالا: يطهر جلد ما يؤكل لحمه فقط، ويليه أحمد بن حنبل، قال: لا يطهر منها شيء بالدباغ؛ واحتجَّ بالآية الكريمة، والخبر؛ أما الآية: فقوله تبارك وتعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] فأطلق التحريم، ولم يقيِّده بحالٍ دون حالٍ، وأمَّا الخبر: فقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في حديث عبد الله بن عُكَيم، لأنه قال:» أَتَانَا كِتَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَبْلَ وفَاتِهِ بِشَهْرٍ، أو شَهْرَيْنِ: أنِّي كَنْتُ رَخَّصْتُ لَكُمْ في جُلُودِ المَيْتَةِ، فَإذَا أَتَاكُمْ كِتَابي هَذَا، فَلاَ تَنْتَفِعُوا مِنَ المَيْتَةِ بإِهَابِ، وَلاَ عَصَبٍ «. واختلفوا في أنَّه، هل يجوز الانتفاع بالميتة بإطعام البازيِّ، والبهيمة؟ فمنهم: من منع منه؛ وقال: لأنَّه انتفاعٌ بالميتة، والآية الكريمة دالَّةٌ على تحريم الانتفاع بالميتة، فأمَّا إذا أقدم البازيُّ من عند نفسه على أكل الميتة، فهل يجب عليه منعه، أم لا؟ فيه احتمالٌ: فصل اختلافهم في حرمة الدِّماء غير المسفوحة حرَّم جمهور العلماء الدَّم، سواءٌ كان مسفوحاً، أو غير مسفوحٍ، وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: [دمٌ السَّمك ليس بمحرَّم. حجَّة الجمهور: ظاهر هذه الآية الكريمة، وتمسَّك أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -] بقوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145] فصرَّح بأنَّه لم يجد من المحرمَّات شيئاً، إلاّ ما ذكر، فالدَّم الذي لا يكون مسفوحاً، وجب ألاَّ يكون محرَّماً؛ لأنَّ هذه الآية الكريمة خاصَّة، وتلك عامَّةٌ، والخاصُّ مُقدَّمٌ على العامِّ. وأُجيب بأنَّ قوله «لا أجِدُ» ليس فيه دلالةُ على تحليل غير هذه الأشياء المذكورة في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 هذه الآية، بل على أنَّه تعالى ما بيَّن له إلاَّ تحريم هذه الأشياء، وهذا لا ينافي أن يبيِّن له بعد ذلك تحريم شيءٍ آخر، فلعلَّ قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] نزلت بعد ذلك، فكان ذلك بياناً لتحريم الدَّم مسفوحاً، أو غير مسفوح. وإذا ثبت هذا، وجب الحكم بحرمة جميع الدِّماء، ونجاستها، فيجب إزالة الدَّم عن اللَّحم ما أمكن، وكذا في السَّمك، وأيُّ دمٍ وقع في الماء، أو الثَّوب، فإنه ينجس ذلك المورد. واختلفوا في قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ وَدَمَانِ» ، هل تسمية الكبد والطِّحال دماً حقيقةٌ، أم تشببيه. فصل في شراء الخنزير، وأكل خنزير الماء أجمعت الأُمَّة على أنَّ الخنزير بجميع أجزائه محرم، وإنَّما ذكر الله تبارك وتعالى لحمه؛ لأن معظم الانتفاع متعلِّق به، واختلفوا في أنَّه هل يجوز أن يشترى؟ فقال أبو حنيفة، ومحمد: يجوز، وقال الشافعيُّ: لا يجوز، وكره أبو يوسف - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - الخزز به، وروي عنه الإباجة. واختلفوا في خنزير الماء، فقال ابن أبي ليلى، ومالك، والشافعي، والأوزاعيُّ: لا بأس بأكل شيءٍ يكون في البحر. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يؤكل. حجَّة الشافعيِّ قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ} [المائدة: 96] وحجَّة أبي حنيفة: أنَّ هذا خنزير، فيدخل في آية التَّحريم. قال الشَّافِعيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: إذا أطلق الخنزير، لم يتبادر إلى الفهم لحم السَّمك، بل غير السَّمك بالأتِّفاق، ولأنَّ خنزير الماء لا يسمَّى خنزيراً على الإطلاق، بل يسمَّى خنزير الماء. فصل من الناس: من زعم أنَّ المراد ب {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} ذبائحُ عَبَدَةِ الأوثان على النصب، قال ابن عطيَّة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: رأيتُ في أخبار الحسن بن أبي الحسن: أنه سئل عن امرأة مترفهة صنعت للعبها عرساً، فذبحت جزوراً، فقال الحسن - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: لا يحلُّ أكلها، فإنها نحرت لصنم، وأجازوا ذبيحة النَّصارى، إذا سمَّوا عليها باسم المسيح، وهو مذهب عطاء، ومحكول، والحسن، والشَّعبيِّ، وسعيد بن المسيِّب. وقال مالكٌ، الشافعيُّ وأحمد وأبو حنيفة لا يحل كل ذلك، لأنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فوجب أن يحرم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 قال عليُّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه -: إذا سمعتم اليهود والنصارى يلهُّون لغير الله، فلا تأكلوا، وإذا لم تسمعوهمن فكلوا، فإنَّ الله تبارك وتعالى، قد أحلَّ ذبائحهم، وهو يعلم ما يقولون؛ واحتحَّ المخالف بقوله تبارك وتعالى: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 5] وهذا عامٌّ، وبقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] فدلَّت هذه الآية الكريمة على أنَّ المراد بقوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} هو المراد ب {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} ، ولأن النَّصارى، إذا سمَّوا الله تعالى، فإنَّما يريدون به المسيح، فإذا كانت إرادتهم لذلك، لم تمنع حلَّ ذبيحتهم، مع أنَّه يهلُّ به لغير الله تعالى، فكذلك ينبغي أن يكون حكمه، إذا ظهر ما يضمره عند ذكر الله تعالى في إرادته المسيح. والجواب عن الأوَّل: أن قوله تعالى: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة: 5] عامٌ، وقوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} خاصٌّ، والخاصُّ مقدَّم على العامِّ. وعن الثاني أن قوله تعالى: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} لا يقتضي تخصيص قوله: {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} ؛ لأنهما آيتان متباينتان. وعن الثالث: إنَّما كُلِّفنا بالظَّاهر، لا بالباطن، فإذا ذبحه على اسم الله تعالى، وجب أن يحلَّ، ولا سبيل لنا إلى الباطن. قوله: «فَمَنِ اضْطُرَّ» في «مَنْ» وجدهان: أحدهما: أن تكون شرطيةً. والثاني: أن تكون موصُولةً بمعنى «الذي» . فعلى الأوَّل: يكون «اضطُرَّ» في محلِّ جزم بها، وقوله: {فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} جواب الشرط، والفاء فيه لازمةٌ. وعلى الثاني: لا محلَّ لقوله «اضْطُرَّ» من الإعراب، لوقوعه صلةً، ودخلت الفاء في الخبر؛ تشبيهاً للموصول بالشَّرط، ومحلُّ {فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} الجزم على الأوَّل، والرفع على الثاني. والجمهور على «اضْطُرَّ» بضمِّ الطاء، وهي أصلها، وقرأ أبو جعفر بكسرها؛ لأنَّ الأصل «اضْطُرِرَ» بكسر الراء الأولى، فلمَّا أدغمت الراء في الرَّاء، نقلت حركتها إلى الطَّاء بعد سلبها حركتها، وقرأ ابن مُحَيْصِن: «اطُّرَّ» بإدغام الضَّاد في الطَّاء، وقد تقدَّم الكلام في المسألة هذه عند قوله: {ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ} [البقرة: 126] . وقرأ أبو عَمْرٍو، وعاصمٌ، وحمزة بكسر نون «مَنِ» على أصل التقاء الساكنين، وضمَّها الباقون؛ إتباعاً لضمِّ الثالث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 وليس هذا الخلاف مقصور على هذه الكلمة، بل إذا التقى ساكنان من كلمتين؛ وضُمَّ الثالث ضمَّاً لازماً نحو: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ} [الأنعام: 10] {قُلِ ادعوا} [الإسراء: 110] ، {وَقَالَتِ اخرج} [يوسف: 31] ، جرى الخلاف المذكور، إلاَّ أنَّ أبا عمرو خرج عن أصله في {أَو} [المزمل: 3] و {قُلِ ادعوا} [الإسراء: 110] فضمَّهما، وابن ذكوان خرج عن أصله، فكسر التنوين خاصَّة؛ نحو {مَحْظُوراً انظر} [الإسراء: 20 - 21] واختلف عنه في {بِرَحْمَةٍ ادخلوا} [الأعراف: 49] {خَبِيثَةٍ اجتثت} [إبراهيم: 26] فمن كسر، فعلى أصل التقاء الساكنين، ومن ضمَّ، فلإتباع، وسيأتي بيان الحكمة في ذلك. عند0 ذكره، إن شاء الله - تعالى - والله أعلم. قوله: «غَيْرَ باغٍ» : «غَيْرَ» : نصب على الحال، واختلف في صاحبها: فالظاهر: أنه الضمير المستتر [في «اضْطُرَّ» ] ، وجعله القاضي، وأبو بكر الرازيُّ من فاعل فعل محذوف بعد قوله «اضْطُرَّ» ؛ قالا: تقديره: «فَمَنَ اضْطُرَّ فَأَكَلَ غَيْرَ بَاغٍ» ؛ كأنهما قصَدَا بذلك أن يجعلاه قيداً في الأكل لا في الاضطرار. قال أبو حيَّان: ولا يتعيَّن ما قالاه؛ إذ يحتمل أن يكون هذا المقدَّر بعد قوله {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} بل هو الظاهر والأولى؛ لأنَّ في تقديره قبل «غَيْرَ بَاغٍ» فضْلاً بين ما ظاهره الاتصال فيما بعده، وليس ذلك في تقديره بعد قوله: «غَيْرَ بِاغٍ» . و «عَادٍ» : اسم فاعل من: عَدَا يَعْدُو، إذا تجاوز حدَّه، والأصل: «عَادِوٌ» فقلب الواو ياءً؛ لانكسار ما قبلها؛ كغاز من الغزو، وهذا هو الصحيح؛ وقيل: إنَّه مقلوب من، عاد يعود، فهو عائدٌ، فقدِّمت اللام على العين، فصار اللَّفظ «عَادِوٌ» فأعلَّ بما تقدَّم، ووزنه «فَالِعٌ» ؛ كقولهم: «شَاكٍ» في «شَائِكٍ» من الشَّوكة، و «هارٍ» ، والأصل «هَائِر» ، لأنَّه من: هَارَ يَهُورُ. قال أبُو البَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ تعالى -: «ولو جاء في غير القرآن الكريم منصوباً، عطفاً على موضع» غَيْرَ «جاز» ، يعني: فكان يقال: «وَلاَ عَادِياً» . قوله: «اضْطُرَّ» أُحْوِجَ وأُلْجِىءَ، فهو: «افْتُعِلَ» من الضَّرورة، وأصله: من الضَّرر، وهو الضِّيق، وهذه الضَّرورة لها سببان: أحدهما: الجوع الشَّديد، وألاَّ يجد مأكولاً حلالاً يسدُ به الرَّمَق، فيكون عند ذلك مضطراً. والثاني: إذا أكره على تناوله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 واعلم أنَّ الاضطرار ليس من فعل المكلَّف؛ حتى يقال: إنَّه لا إثم عليه، فلا بدَّ من إضمارٍ، والتقدير: «فَمَن اضْطُرَّ، فأكَلَ، فلا إِثْمٍ عَلَيْه» ونظيره: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] ، فحذف «فأَفْطَرَ» ، وقوله تعالى {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ} [البقرة: 196] وإنما جاز الحذف؛ لعلم المخاطب به، ودلالة الخطاب عليه. والبغي: أصله في اللغة الفساد. قال الأصمعيُّ: يقال: بغى الجرح بغياً: إذا بدأ في الفساد، وبغت السماء، إذا كثر مطرها، والبغي: الظلم، والخروج عن الإنصاف؛ ومنه قوله تبارك وتعالى {والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ} [الشورى: 39] وأصل العدوان: الظُّلم، ومجاوزة الحد. فصل اختلفوا في معنى قوله «غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} فقال بعضهم:» غَيْرَ بَاغٍ «أي غير خارج على السُّلطان، و» لاَ عَادٍ «متعدٍّ بسفره، أعني: عاص بأن خرج لقطع الطَّريق، والفساد في الأرض، وهو قول ابن عباس، ومجاهدٍ، وسعيد بن جبير. وقالوا: لا يجوز للعاصي بسفره أن يأكل الميتة، إذا اضطر إليها، ولا أن يترخَّص في السَّفر بشيءٍ من الرُّخص؛ حتى يتوب، وذهب جماعة إلى أن البغي والعدوان راجعان إلى الأكل، واختلفوا في معناه. فقال الحسن، وقتادة، والرَّبيع، ومجاهد، وابن زيد: أي: يأكل من غير ضرورة أي: بغي في أكله» ولاَ عَادٍ «ن أي: ولا يعدو لشبعه. وقيل: «غَيْرَ بِاغٍ» أي: غير طالبها، وهو يجد غيرها، «وَلاَ عَادٍ» ، أي: غير متعدٍّ ما حد له، فيأكل حتَّى يشبع، ولكن يأكل ما يسدُّ رمقه. وقال مقاتل: «غَيْرَ بَاغٍ» أي: مستحلٌّ لها، «وَلاَ عَادٍ» أي: يتزوَّد منها، وقيل: «غَيْرَ بَاغٍ» ، أي: مجاوز للحدٍّ الذي أُحِلَّ له، «وَلاَ عَادٍ» أي: لا يقصِّر فيما أبيح له فيدعه. قال مسروقٌ: من اضطُرَّ إلى الميتة، والدم، ولحم الخنزيرن فلم يأكل، ولم يقرب، حتى مات، دخل النَّار. وقال سهل بن عبد الله: «غَيْرَ بَاغٍ» : مفارقٍ للجماعة، «ولاَ عَادٍ» ، أي: ولا مبتدعٍ مخالف السنة، ولم يرخِّص للمبتدع تناول المحرَّم عند الضرورة. فإن قيل: الأكل في تلك الحالة واجبٌ، وقوله: {فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} أيضاً يفيد الإباحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 وأيضاً: فإنَّ المضْطَرَّ كالمُلْجَأ إلى الفعل، والملجأ لا يوصف بأنَّه لا إثم عليه. فالجواب: أنَّا قد بينَّا عند قوله {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] : أنَّ نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب، والمندوب، والمباح، وأيضاً: قوله تبارك وتعالى: {فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} : معناه: رفع الحرج والضِّيق. واعلم: أنَّ هذا الجائع، إن حصلت فيه شهوة الميتة، ولم يحصل له فيه النُّفرة الشَّديدة، فإنَّه يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرَّمق، وكما يصير ملجأً إلى الهرب من السَّبع، إذا أمكنه ذلك، أمَّا إذا حصلت ألنُّفرة، فإنَّه بسبب تلك النُّفرة، يخرج عن أن يكون ملجأً، ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النِّفار. فإن قيل: قوله تبارك وتعالى: {فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} يناسب أن يقال بعده: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإنَّ الغفران، إنَّما يذكر عند حصول الإثم. فالجواب من وجوه: أحدها: أن المقتضي للحرمة قائم في الميتة والدَّم إلاَّ أنه زالت الحرمة؛ لقيام المعارض، فلمَّا كان تناوله تناولاً لما حصل فيه المقتضي للحرمة، عبَّر عنه بالمغفرة، ثم ذكر بعده أنَّه رحيم، يعني: لأجل الرحمة عليكم، أبحت لكم ذلك. وثانيها: لعل المضطرَّ يزيد على تناول قدر الحاجة. وثالثها: ان الله تعالى، لمَّا بيَّن هذه الأحكام، عقَّبها بقوله تعالى: «غَفُورٌ» للعصاة، إذا تابوا، «رَحِيمٌ» بالمطيعين المستمرِّين على منهج الحكمة فصل في معنى المضطر قال الشافعيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: قوله تعالى {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} معناه: أن كل من كان مضطرّاً لا يكون موصوفاً بصفة البغي، ولا بصفة العدوان ألبتَّة، فأكل؛ فلا إثم عليه. وقال أبو حنيفة: معناه: " فمن اضطر، فأكل غير باغ، ولا عاد في الأكل، فلا إثم عليه " فخصص صفة البغي والعدوان بالأكل، ويتفرع على هذا الخلاف هل يترخص العاصي بسفره، أم لا؟ فقال الشافعي: لا يترخص؛ لأنه يوصف بالعدوان؛ فلا يندرج تحت الآية الكريمة. وقال أبو حنيفة: يترخص؛ لأنه مضطر، وغير باغ، ولا عاد في الأكل، فيندرج تحت الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 احتجَّ الشافعي - رَضِيَ اللهُ عَنْه - بأنَّ الله تعالى حرم هذه الأشياء على الكُلِّ، ثم أباحها للمضطرِّ الموصوف بأنَّه غير باغٍ، ولا عادٍ، والعاصي بسفره غير موصوفٍ بهذه الصفة؛ لأنَّ قولنا: طفلانٌ ليس بمتعدً «نقيضٌ لقولنا:» فلانٌ متعدٍّ «، وقولنا:» فُلاَنٌ متعدٍّ «يكفي في صدقه كونه متعدِّياً لأمر من الأمور، سواء كان في سفرٍ، أو أكلٍ، أو غيرهما، وإذا صدق عليه اسم التعدِّي بكونه متعدِّياً في شيء من الأشياء فإن قولنا» غَيْرَ بِاغٍ، وَلاَ عَادٍ «لا يصدق إلاَّ إذا انتفى عنه صفة التعدِّي من جميع الوجوه، والعاصي بسفره متعدٍّ بسفره، فلا يصدق عليه كونه» غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ «، فيجب بقاؤه تحت التَّحريم. فإن قيلك يشكل بالمعاصي في سفره؛ فإنَّه يترخَّص مع أنَّه موصوف بالعدوان. والجواب: أنَّه عامٌّ دخله التخصيص في هذه الصُّورة، ثم الفرق بينهما: أنَّ الرخصة إعانة على السَّفر، فإذا كان السَّفر معصيةً، كانت الرخصة إعانةً على المعصية، وإذا لم يكن السَّفر معصيةً في نفسه، لم تكن الإعانة عليه إعانةتً على المعصية، فافترقا. فإن قيل: قوله تعالى «غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ» شرطٌ، والشرط بمنزلة الاستثناء؛ في أنه لا يستقلُّ بنفسه، فلا بدَّ من تعلُّقه بمذكورٍ، ولا مذكور إلاَّ الأكل؛ لأنَّ بيَّنَّا أنَّ قوله تعالى: «غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ» لا يصدق عليه إلاَّ إذا انتفى عنه البغي والعدوان في كل الأمور، فيدخل فيه نفي العدوان بالسَّفر ضمناً، ولا نقول: اللفظ يدلُّ على التعيين. وأمَّا تخصيصه بالأكل: فهو تخصيصٌ من غير ضرورةٍ، ثمَّ الذي يدلُّ على أنَّه لا يجوز صرفه إلى الأكل وجوهٌ: أحدها: أنَّ قول «غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ» حالٌ من الاضطرار؛ فلا بدَّ وأن يكون وصف الاضطرار باقياً، مع بقاء كون: «غَيْرَ بِاغٍ وَلاَ عَادٍ» حالاً من الاضطرار، فلو كان المرادُ بقوله: «غَيْرَ بَاغٍ، وَلاَ عَادٍ» كونه كذلك في الأكل - لاستحال أن يبقى وصف الاضطرار معه؛ لأنَّه حال الأكل، لا يبقى معه حال الاضطرار. ثانيها: ان الإنسان ينفر بطبعه عن تناول الميتة والدم، وإذا كان كذلك لم يكن هناك حاجة إلى النهي، فصرف هذا الشرط إلى التعدي في الأكل يخرج الكلام عن الفائدة. والثالثها: أن كونه غير باغ ولا عاد يفيد نفي ماهية البغي ونفي ماهية العدوان، وهذه الماهية إنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها، والعدوان في الأكل أحد أفراد هذه الماهية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 وكذلك العدوان بالسفر فرد آخر من أفرادها فإذن نفي العدوان يقتضي نفي العدوان من جميع هذه الجهات، فتخصيصه بالأكل غير جائز. وثالثها: قوله تبارك وتعالى: {فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [المائدة: 3] فبيَّن في هذه أن المضطرَّ إنما يترخَّص، إذا لم يكن متجانفاً لإثم، وهذا يؤيِّد ما قلناه من أن الآية الكريمة تقتضي ألاَّ يكون موصوفاً بالبغي والعدوان في أمر من الأمور. احتجَّ أبو حنيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -، بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ} [الأنعام: 119] . وهذا مضطرٌّ؛ فوجب أن يترخَّص. وثانيها: قوله تبارك وتعالى: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء: 29] {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] ، والامتناع من الأكل سبب في قتل النَّفس، وإلقاء بها إلى التهلكة؛ فوجب أن يحرَّم. وثالثها: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - رخَّص للمقيم يوماً وليلةً، وللمسافر ثلاثة أيَّامٍ ولياليهنَّ، ولم يفرق بين العاصي وغيره. رابعها: أنَّ العاصي بسفره، إذا كان نائماً، فأشرف على غرقٍ، أو حرقٍ، يجب على الحاضر الَّذي يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه، فلأن يجب عليه في هذه الصورة: أن يسعى في إنقاذ مهجته أولى. وخامسها: أن العاصي بسفره له أن يدفع عن نفسه أسباب الهلاك؛ من الحيوانات الصَّائلة عليه، والحيَّة، والعقرب، بل يجب عليه، فكذا ههنا. سادسها: أَنَّ العَاصِي بسَفَرهِ، إذا اضطُرَّ، فلو أباح له رجُلٌ شيئاً من ماله، فله أَخذُهُ، بل يجب دفع الضَّرر عن النَّفْس. [سابعها: أَنَّ التوبةَ أَعْظَمُ في الوُجُوب وما ذاكَ إِلا لدفع ضررِ النَّار عن النَّفس] ، وهي أعظمُ من كُلِّ ما يدفع المؤمنُ من المضارِّ عن نفسه؛ فلذلك دفع ضرر الهلاكِ عن نفسه لهذا الأكلِ، وإن كان عاصياً. وثامنها: أَنَّ الضرورة تبيحُ تناولَ طعامِ الغَيْر من دون رضَاهُ، بل على سَبيل القَهْر، وهذا التناوُلُ يَحْرُم لولا الاضطرارُ، فكذا ههنا. وأُجيبُ عن التمسُّك بالعُمُومات؛ بأَنَّ دليلنا النَّافي للترخّص أخصُّ دلائِلِهِمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 المرخِّصة والخاصُّ متقدَّم على العامِّ، وعن الوجوه القياسيَّة بأنه يمكنُه الوصُول إِلى استباحةِ هذه الرخص بالتَّوبة، فإذا لم يتُبْ، فهو الجانِي على نَفْسه، ثم تُعَارَضُ هذه الوجوهُ: بأنَّ الرخصة إِعَانَةٌ على السَّفَر، فإذا كان السَّفر معصيةً، كانت الرخصةُ إِعَانَةً على المعصية، والمعصية ممنوعٌ منها، والإعَانَةُ سعيٌ في تحصيلها؛ فالجمع بينهما مُتناقضٌ. فصل في اختلافهم في اختيار المضطرِّين المحرَّمات اختلفُوا في المضطرِّ، إذا وجد كلَّ ما يضطرُّ مِنَ المحرَّمات. فالأكثرون على أنَّه مخيَّر بين الكُلِّ، ومنهم من قال: يتناوَلُ الميتة، دون لَحْم الخنزير ويعد لحم الخنزير أَعظَمَ في التَّحريم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 قال ابن عبَّاس: نزلَت في رؤوس اليهود: كعبِ بنِ الأَشْرفِ وكعْبِ بن أسدٍ، ومالك بنِ الصيف، وحُييِّ بن أخطَبَ، وأبي ياسرِ بنِ أخطَبَ؛ كانوا يأخذون من أتباعهم الهَدَايا، وكانُوا يَرجُون أن يكُونَ النبيُّ المَبْعُوثُ منهم، فلما بُعِثَ محمَّدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام من غيرهم خافُوا انقطَاع تلك المنافِع؛ فكتموا أمر مُحَمَّد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنْ غيَّروا صِفَتَه، ثم أخرَجُوها إليهم، فإذا ظَهَرت السفلة على النَّعتِ المغيَّر، وجدوه مخالفاً لصفتِهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لا يتبعونَه، فأنزل الله تبارَكَ وتعالى هذه الآية. قال القرطبيُّ: ومعنى «أَنْزَلَ» : أظْهَرَ؛ كما قال تعالى: {وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله} [الأنعام: 93] أي: سأُظْهِر وقيل: هو على بابِهِ من النُّزول، أي: ما أَنْزَل به ملائكتَهُ على رُسُله. قوله: «مِنَ الْكِتَابِ» : في محلِّ نصْبٍ، على الحال، وفي صاحبها وجهان: أحدهما: أَنَّهُ العائِدُ على الموصول، تقديره: «أَنْزَلَهُ اللهُ» حال كونه «مِنَ الكِتَابِ» فالعاملُ فيه «أَنْزَلَ» . والثاني: أنه المُوصول نَفسُه، فالعامل في الحال «يَكْتُمونَ» . قوله: «وَيَشْترونَ بِهِ» : الضميرُ في «بِهِ» يُحْتَمَل أن يعود على «ما» الموصولة، وأن يعودَ على الكَتْم المفهومِ من قوله: «يَكْتُمُونَ» ، وأَنْ يعودَ على الكتابِ، والأَوَّلُ أَظهَرُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 ويكونُ ذلك على حَذْف مضافٍ، أي: «يَشْتَرونَ بِكَتْم ما أَنْزَلَ» . قال ابنُ عَبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْه - وقتادَةُ والسُّدِّيُّ، والأصَمُّ وأبو مُسْلِمٍ - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - كانوا يكتُمُونَ صفَةَ محمَّدٍ - عيله الصَّلاة والسَّلام - ونَعْتَهُ. وقال الحسَنُ: كَتَمُوا الأَحْكَام، وهو قولهُ تبارَكَ وتعالى: {إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [التوبة: 34] . فصل في حقيقة الكتمان اختلفوا في كيفيَّة الكتمان. فروي عن ابن عبَّاس أَنَّهُم كانُوا يحرِّفون ظاهِرَ التَّوراةِ، والإنجيلِ. قال المتكلِّمون: وهذا ممتنعٌ؛ لأنَّ التوراة والإنجيل كتابانِ، وقد بلغا من الشهرة إلى حدِّ التواتر؛ بحيث يتعذّر ذلك فيهما، وإِنَّما كانوا يكتُمُونَ التأويلَ، لأنَّه قَدْ كان منهم مَنْ يعرف الآياتِ الدالَّةَ على نبوة محمَّد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وكانوا يذكُرُون لها تأويلاتٍ باطلةً، ويحرِّفونها عن محامِلها الصحيحة، والدَّالَّةِ على نبوَّة محمَّد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فهذا هو المرادُ من الكتْمَان، فيصير المعنى: الذين يكْتُمُون معاني ما أنزَلَ الله منَ الكتاب. {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} كقوله تعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41] لأنَّه في نفسه قليلٌ ولأنَّه بالإضافة إلى ما فيه من القدر قليلٌ، ولما ذكر عنهم هذه الحكاية، ذكر الوعيدَ عليهم؛ فقال: {أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار} . قال بعضُهُم: ذكْرُ البطْنِ هنا زيادةُ بيانٍ؛ كقوله: {يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقال بعضهُم: بل فيه فائدةٌ؛ وقولُه «فِي بطُونِهِمْ» ، يقالُ: أَكَلَ فُلاَنٌ فِي بَطْنِهِ وَأَكَلَ فِي بَعْضِ بَطْنِهِ. فصل في أكلهم النَّار في الدنيا أم في الآخرة قال الحسن، والرَّبيع، وجماعةٌ مِنْ أهلِ العلم إنَّ أكلَهُم في الدنيا وإن كان طيِّباً في الحال، فعاقبتُه النَّار؛ لأنَّه أكلُ ما يوجب النار؛ فكأنه أكْلُ النَّار؛ كما روي في حديث الشَّارب مِن آنيةِ الذَّهَب والفضَّة: «إِنَّمَا يُجَرْجِرُ فِي بَطْنِهِ نَارَ جَهَنَّمَ» وقوله تبارَكَ وتَعَالى: {إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36] أي: عِنباً؛ فهذا كلُّ من تسمية الشيء بما يؤولُ إلَيْه. وقال الأصمُّ إِنَّهم في الآخرةِ يَأكلُون النَّار؛ لأكلهم في الدنيا الحرامَ. قوله: {إِلاَّ النَّارَ} استثناءٌ مفرَّغ؛ لأنَّ قبله عاملاً يطلبه، وهذا من مجازِ الكَلاَمِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 جعل ما هُوَ سَبَبٌ للنَّار ناراً؛ كقولهم: «أَكَلَ فُلاَنٌ الدَّمَ» ، يريدُون الدية الَّتي بِسَبَبها الدَّمُ؛ قال القائل في ذلك: [الطويل] 904 - فَلَوْ أَنَّ حَبّاً يَقْبَلُ المَالَ فِدْيَةً ... لَسُقْنَا إِلَيْهِ المَالَ كَالسَّيْلِ مُفْعَما وَلَكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصِيبَ أَخُوهُمُ ... رَضَا الْعَارَ وَاخْتَارُوا عَلَى اللَّبَنِ الدَّمَا وقال القائلُ: [الطويل] 905 - أَكَلْتُ دَماً إِنْ لَمْ أَرُعْكِ بِضَرَّةٍ ... بِعِيدَةِ مَهْوَى القُرْطِ طَيِّبَةِ النَّشْرِ وقال: [الرجز] 906 - يَأْكُلْنَ كُلَّ لَيْلَةٍ إِكَافَا ... يريد: ثَمَنَ إكافٍ. وقوله: «في بُطُونِهِم» يجوز فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أَن يتعلَّق بقوله «يَأْكُلُونَ» فهو ظرْفٌ له، قال أبو البقاء: وفيه حذفُ مضافٍ، أي «طَرِيقِ بُطُونِهِمْ» ولا حاجة غلى ما قاله من التَّقْدِير. والثاني: أنْ يتعلَّق بمحذوفٍ، على أنَّهُ حالٌ من النَّار. قال أبُو البقاء: والأجودُ: أن تكونُ الحال هُنّا مقدَّرة؛ لأنَّها وقت الأَكْلِ ليْسَتْ في بُطُونِهِمْ. وإنَّمَا تَؤول إلى ذلك، والتقديرُ: ثابتةٌ وكائنةٌ في بُطُونهم. قال: ويلْزَمُ منْ هذا تقديمُ الحال على حرف الاستثناء. وهو ضعيفٌ، إلاَّ أنْ يجعل المفعولَ محذوفاً و «فِي بُطُونِهِمْ» حالاً منه، أَو صفةً له، أي: في بطونِهِم شيئاً، يعني فيكون: «إلاَّ النَّارُ» منصوباً على الاستثناء التَّامِّ؛ لأنَّهُ مستثنىً من ذلك المحذوف إِلاَّ أَنَّه قال بَعْد ذلك: وهذا الكلامُ من المعنى على المجاز للإعْرَابِ حكْمُ اللفظ. والثالث: أنْ يكون صفةً أو حالاً من مفعُول «كُلُوا» محذوفاً؛ كما تقدم تقديرُه. قوله: في ذِكْرِ البُطُونِ تنبيهٌ على أَنَّهُم باعوا آخِرَتَهُم بدُنياهم، وهو حظُّهم من المَطْعَم الَّذي لا خَطَرَ له ومعنى «إلاَّ النَّار» ، أي: أنَّهُ حرامٌ يعذِّبهم الله علَيْه، فسمّى ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 أَكَلُوه من الرُّشَا ناراً؛ لأَنَّهُ يؤدِّيهم إلى النار، قاله أكثر المفسِّرين. وقيل: إِنَّهُ يعاقبهم على كتمانهم بأكل النَّار في جهنم حقيقةً فأَخْبَر عن المآل بالحالِ؛ كما قال تعالى {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10] ، أي عاقبتهم تئُولُ إلى ذلك، ومنْه قَوْلُ القائل: [الوافر] 907 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وَابْنُوا لِلْخَرَابِ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . وقال القائِل [المتقارب] 908 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... فَلِلْمَوْتِ مَا تَلِدُ الْوَالِدَهْ وقال آخر: [البسيط] 909 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَدُورُنَا لِخَرابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا يةُ تدُلُّ على تحريم الرَّشْوَة على الباطل. قوله: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} ظَاهِرهُ: أَنَّهُ لا يكلِّمهم أصلاً، لكنه لما أوردَهُ مَوْرِدَ الوعيد، فهم منه ما يجري مَجْرَى العقوبة وذكَروُوا فيه ثلاثة أَوْجِهٍ: الأوَّل: قد دَلَّ الدَّليلُ على أَنَّه سبحانَهُ وتعالى يكلِّمهم؛ وذلك قولُهُ {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] . وقوله {فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين} [الأعراف: 6] فعرفنا أَنَّهُ يسأل كلُّ واحدٍ من المكلَّفين، والسؤال لا يكونُ إِلاَّ بكَلاَم، فقالوا: وجب أنْ يكُون المرادُ من الآية الكريمة أنه تعالى لا يكلِّمهم بتحيَّةٍ وسلام وخَيْرٍ، وإنما يكلِّمهم بما يعظم عندهم من الحَسْرة والغَمِّ؛ من المناقشة والمُسَاءلة كقوله تعالى {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] . الثاني: أنَّه تبارك وتعالى لا يكلِّمهم أَصْلاً، وأَمَّا قوله تعالى: فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} إنما يكون السؤال من الملائكة بأمره تعالى، وإنَّما كان عدَمُ تكليمهم في مَعْرِضِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 التَّهْديد؛ لأَنَّ [يومَ القيامة هُو اليَوْمُ الذي يكلِّم الله تعالى فيه كلَّ الخلائق بلا واسطةٍ، فيظهر] عند كلامِهِ السُّرُورُ في أوليائه، وضده في أعدائِهِ ويتميَّز أهلُ الجَنَّة بذلك، من أهلِ النار. فلا جَرَم كان ذلك من أعظَمِ الوعيد. الثالث: أن قوله: «وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ» استعارةٌ عن الغَضَب؛ لأنَّ عادةَ المُلُوك أنَّهُم عند الغَضَب يعرضُون عن المَغْضُوب عليه، ولا يكلِّموه؛ كما أنَّهُم عند الرضَا يُقْبِلُون علَيْه بالوجه والحديث. وقوله «وَلاَ يُزكِّيهِم» فيه وجوه: الأوَّل: لا يسنبهم إلى التَّزكية، ولا يُثْنِي عليهم. الثاني: لا يقْبَل أعمالَهُمْ؛ كام يقبل أَعْمَال الأولياء. الثالث: لا ينزلُهم منازل الأولياء. وقيل: لا يُصْلِحُ عمالهم الخبيثة، فيطهرهم. قولُهُ {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، اعْلَمْ: أنَ الفعيل قد يكون بمعنى المفعول؛ كالجريح والقتيل، بمعنى المجروح والمَقْتُول، وقد يكُونُ بمعنى «المُفعل» ؛ كالبصير بمعنى المُبْصِر والأليم بمعنى المُؤلم. واعلم أَنَّ العبرةَ بعُمُوم اللَّفْظِ، لا بخُصُوص السَّبَب، فالآية الكريمة وإن نزلت في اليهود، لكنَّها عامَّة في حقِّ كلِّ مَنْ كَتَم شيئاً من باب الدِّين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 اعلم أنَّ أَحْسَنَ الأشياء في الدُّنيا الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضَّلال والجَهْل فَلَمَّا تركُوا الهُدَى في الدُّنيا، ورضُوا بالضَّلال والجهل، فلا شَكَّ أَنَّهُمْ في نهاية الخَسَارة في الدنيا، وَأَمَّا في الآخرة، فأحسن الأشياء المَغْفِرة، وأخْسَرُها العذَابُ، فَلَمَّا صرفوا المغفرة، ورضُوا بالعَذَاب، فلا جَرَم: أنهم في نهاية الخَسَارة، ومَنْ كانت هذه صفتَهُ، فهو أعْظَمُ النَّاس خسارةً في الدُّنيا والآخِرَة. قولُهُ {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} في «ما» هذه خمسةُ أقْوالٍ: أحدها: وهو قول سيبويه، والجُمهُور: أَنَّها نكرةُ تامَّةُ غير موصُولة، ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 موصوفةٍ، وَأَنَّ معناها التعجُّب، فإذَا قُلْتَ: «مَا أَحْسَنَ زَيْداً» ، فمعناهُ: شيءٌ صَيَّرَ زَيْداً حَسَناً. الثاني: قولُ الفراء - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - أَنَّهَا استفهاميَّةٌ صَحِبَها معنى التعجُّب؛ نحو «كَيْف تَكْفُرُونَ بِاللهِ» . قال عطَاءٌ، والسُّدِّيُّ: هو «ما» الاستفهام، معناه: ما الَّذي صَبَّرهم على النَّار؟ وأيُّ شيء صَبَّرهم على النَّار؛ حتى تَرَكثوا الحَقَّ، واتبعوا البَاطِلَ. قال الحَسَن، وقَتادة: «والله ما لهم عَلَيْها من صَبْر، ولكنْ ما أجرأهم على العمل الَّذي يقرِّبهم إلى النار» وهي لغة يَمَنية معروفةٌ. قال الفراء: أخبرني الكسائيُّ قال: أخبرني قاضي «اليَمَنِ» أَنَّ خَصْمَينِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فوجَبَتِ اليمينُ على أحدهِمَا، فحلَفَ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُك ما أصْبَرَكَ عَلَى اللهِ؟ أي: ما أجرأك عليه. وحكي الزَّجَّاجُّ: ما أبقاهُمْ على النَّار، من قولِهِم: «مَا أَصْبَرَ فُلاَناً على الحَبْس» ، أي: ما أبقاهُ فيه. والثالث: ويُعْزَى له أيضاً: أنها نكرةٌ موصوفةٌ وهي على الأقوال الأربعة في مَحَلِّ رفع بالابتداءِ، وخبرها على القَوْلين الأولَيْن: الجملةُ الفعليَّة بعدَها، وعلى قوْلي الأخْفَش] : يكون الخبر مَحذوفاً فإنَّ الجملة بعدها إما أن تكون صلةً، أو صفةً وكذلك اختلفُوا في أفْعَل الواقع بعدها، أهو اسمٌ؟ وهو قول الكوفيِّن، أم فعل؟ وهو الصحيحُ، ويترتَّب على هذا الخلاَفِ خلافٌ في نصْب الاسْمِ بعده، هَلْ هو مفعولٌ به، أو مشبَّهة بالمعفول به، ولكلٍّ مِنَ المذْهَبَين دلائلُ، واعتراضات وأجوبةٌ ليس هذا موضعها. ولمراد بالتعجُّب هنا، وفي سائر القُرْآن: الإعلامُ بحالهم؛ إنَّها ينبغي أنْ يتعجَّب منها، إلا فالتعجب مستحيلٌ في حقِّه تعالى، ومعنى عَلَى النَّارِ، أي: على عمل أهْل النار، قاله الكِسَائيُّ، وهذا من مجاز الكَلاَمِ. الخامس: أنَّها نافيةٌ، أَي: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} . نقله أَبُوا البقاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله} : اختلفُوا في مَحَلِّ: «ذَلِكَ» من الإعراب فقيل: رفعٌ، وقيل: نَسْبٌ والقائلُونَ بأنَّه رفْعٌ، اختلفوا على ثلاثة أقْوَال. أحدها: أَنَّهُ فاعلٌ بفعلٍ محذوف، أي: وجب لَهُمْ ذلك. الثاني: أن «ذَلِكَ» مبتدأٌ، و «بِأَنَّ اللهَ» خبره، أي: ذلك العذابُ مستحقٌّ بما أنزل الله في القرآن من استحقاق عَذَاب الكَافِرِ. والثالث: أنَّهُ خَبَرٌ، والمبتدأ محذوفٌ، أَي: الأمرُ ذلك، والإشارة إلى العَذَابِ، ومَنْ قال بأنَّه نصب، قدَّره: «فعلنا ذلك» [والباءُ متعلِّقة بذلك المَحْذُوف، ومَعْنَاها السببية. فصل في اختلافهم في الإشارة ب «ذلك» اختلفوا في الإشارة بقوله «ذلك» ] إلى ماذا؟ على قولين: الأوَّل: أنَّهُ إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الوعيد على الكِتْمان، أي: إِنَّما كان لأَنَّ الله أنْزَلَ الكتابَ بالحَقِّ في صفَةِ محمَّد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإنَّ هؤلاء اليَهُود والنصارى لأجْل مشاقَّة الرَّسُول عليه الصَّلاة والسَّلام يُخْفُونَه، ويوقِعُون التُّهمة فيه، فلا جَرَم، استحقُّو ذلك الوعيد الشديد، ثم تقدَّم في الوعيد أُمُورٌ: أقربُها: أنَّهم اشتروا العذابَ بالمَغْفرة. ثانيها: اشْتَرُوا الضَّلالة بالهُدى. ثالثها: أَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أليماً. رابعها: أَنَّ الله لا يزكِّيهم. خامسها: أَنَّ الله لا يكلِّمهم. فقوله: «ذَلِكَ» يصلُحُ أَنْ يكون إشارة إلى [كلِّ واحدٍ منها، وأن يكونَ إشارةً إلى المَجْمُوع. والقول الثاني: أَنَّ ذلك إشارةٌ إلى] ما يفعلونه من جراءتهم على الله في مخالفَتَهِم أَمْرَ الله، وكتمانِهِمْ ما أَنْزَل الله فبيَّن تبارك وتعالى أَنَّ ذلك إِنَّما هُوَا من أَجلِ الكتابَ بالحَقِّ وقد نزل فيه أَنَّ هؤلاء الكُفَّارَ لا يؤمِنُون، ولا يَنْقَادُونَ، ولا يَكُون منهم إلاَّ الإصْرَار على الكُفْرِ؛ كقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} [البقرة: 6 - 7] وقوله: «بالحَقِّ» ، أَي: بالصِّدق، وقيل: ببيان الحقِّ، والمرادُ من «الكتاب» : يحتمل أن يكُونَ التَّوراة، والإنجيل، ويحتمل أن يكُون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 القرآن، فإن كَانَ الأَوَّلَ، كان المعنى وإن الَّذين اخْتلَفُوا في تأويله، وتحريفه، لَفِي شِقَاقٍ بعيدٍ وإِنْ كان الثَّاني، كان المعنى: وإن الذين اختلَفُوا في كَونه حقّاً منزَّلاً من عند الله تعالى لَفِي شقَاقٍ بعيدٍ. فصل في المراد باختلافهم والمراد باختلافهم: إِنْ قلنا المراد ب «الكَتِابِ» هو القُرْآن، كان اختلافُهُم فيه: أَنَّ بعضَهُ قال: هو كَهَانَةٌ، وقال آخرون هو سِحْرٌ، وآخرونَ قالُوا: هو رجْزٌ، ورابعٌ قال أساطيرُ الأَوَّلين وخامسٌ قال: إِنَّه كلامٌ مختلف. وإنْ قلنا: المراد ب «الكتَابِ» هو التوراةُ والإِنْجيلُ، فالمراد باختلافهم يحتلم وجُوهاً. أحدها: اختلافُهُمْ في دَلاَلة التَّوراة على نُبُوَّة المسيح، فاليهود قالوا: إِنَّها دالَّةٌ على القَدْح في عيسى؛ والنصارَى قالوا: إِنَّها دالَّة على نبوَّته. وثانيها: اختلافهُم في الآياتِ الدالَّة على نُبُوَّة محمَّد - عليه السلام - فَذَكَرَ كلُّ واحدٍ منهم له تأويلاً فاسداً. وثالثها: قال أبو مُسْلِم: قوله: «اخْتَلَفُوا» من باب «افْتَعَلَ» الذي كون مكان «فَعَلَ» ، كما يقال كَسَبَ واكْتَّسَبَ، وعَمِلَ واعْتَمَلَ، وكَتَبَ واكْتَتَبَ، وفَعَلَ وافْتَعَلَ، ويكون معنى قوله: {إِنَّ الذين اختلفوا} أي: توارَثُوه وصارُوا خُلَفَاء فيه؛ كقوله تبارك وتعالى {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [الأعراف: 169] وقوله {إِنَّ فِي اختلاف الليل والنهار} [يونس: 6] أي: كل واحد منهما يأتِي خَلْف الآخر، [وقوله {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً} [الفرقان: 62] . أي كُلُّ واحدٍ منهما يخلفُ الآخر] ، وفي الآية الكريمة تأويلاتٌ ثلاثٌ أُخَرُ. أحدها: أن يكونَ المراد ب «الكِتَابِ» جنْسَ ما أنزل الله، والمراد ب {الذين اختلفوا فِي الكتاب} الذين اختلفَ قولهُمْ في الكتاب، فقلبوا بعضَ كُتُب الله، وهي التوراة والإنجيلُ؛ لأجل عداوتك، وهم فيما بينهم في شقاقٍ بعيدٍ، ومنازعة شديدةٍ، فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتَّفاقهم على العداوة؛ فإنه ليسَ بينهم مؤالَفَة وموافَقَةٌ. وثانيها: كأنه تعالى يقُولُ: هؤلاءِ، وإن اختلفُوا فيما بينهم، فإنَّهم كالمتفقين على عَدَاوتك، وغاية المشاقَّة لك، فلهذا خَصَّهم الله بذلك الوَعِيدِ. أن هؤلاء الذين اتفقوا على أصل التحريف، فإن كل واحد منهم يكذب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 صاحبه، ويشاقُّه، وينازعه، وإذا كان كذلك، فقد عرفت كذبَهُمْ، بقولهم، فلا يكُونُ قدحُهُمْ فيك قَدْحاً ألبَتَّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 قرأ الجُمْهُور برفع «البِرُّ» وحمزة، وحفصٌ عن عاصم بنصبه، فقراءةُ الجُمْهُور على أنَّه اسمُ «لَيْسَ» و «أَنْ تُولُّوا» خبرها في تأويل مصدّرٍ، أي: ليس البِرُّ تَوْلِيَتكُمْ، ورجِّحت هذه القراءةُ مِنْ حيث إنَّه ولي الفعل مرفوعة قَبْل منصوبه، وأَمَّا قراءة حمزة وحَفْصٍ ف «البرُّ» الخبرٌ مقدَّمٌ، و «أَنْ تُوَلُّوا» اسمُها في تأويل مصدرٍ، ورجِّحت هذه القراءة بأنَّ المصدر المؤَوَّل أعرفُ من المحلَّى بالألف واللام؛ لأنَّهُ يشبه الضَّمير، من حيث إِنَّهُ لا يوصَفُ؛ ولا يوصف به، والأعْرَفُ ينبغي أنْ يُجْعَل الاسْمَ وغيْر الأعْرَفِ الخَبَرِ؛ وتقديمُ خَبَر «لَيْسَ» على اسمها قليلٌ؛ حتى زَعَم منْعَهُ جماعةٌ [منْهم ابنُ دَرَسْتَوَيْهِ، قال: لأنَّها تشبه «مَا» المجازيَّة ولأَنَّها حرفٌ على قول جماعةٍ، لكنه] محجوج بهذه القراءة المتواترة، وبقول الشاعر [الطويل] 910 - سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمْ ... فَلَيْسَ سَوَاءَ عَاِمٌ وَجَهُولُ وقال آخر: [الطويل] 911 - أَلَيْسَ عَظِيماً أَنْ تُلِمُ مُلِمَّةٌ ... وَلَيْسَ عَلَيْنَا فِي الخُطُوبِ مُعَوَّلُ وفي مصحف أُبَيٍّ، وعبْد الله «بِأَنْ تُوَلُّوا» بزيادةِ الباء، وهي واضحة؛ فإن الباء تزادُ في خبر «لَيْسَ» كثيراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 فصل في الاختلاف في أصل ليس الجمهُور على أن «لَيْسَ» فعلٌ وقال بعضُهُمْ إنه حرفٌ حجَّة القائلين بأنَّها فعلٌ: اتصالُ الضمائر بها الَّتي لا تتصلُ إلاَّ بالأَفْعال؛ كقَولك، «لَسْتُ، ولَسْنَا، ولَسْتُمْ» ، و «القَوْمُ لَيْسُوا قَائِمِينَ» ، وهذا منقوضٌ بقوله: «إِنَّنِي، ولَيْتَنِي، ولَعَلَّني» . وحجَّة مَنْ قال بأنَّهَا حرفٌ أمور: الأوَّل: أنَّها لو كانت فعلاً، لكانت فعلاً ماضِياً ولا يجوزُ أن تكون فعلاً ماضياً؛ لاتفاق الجمهُور على أَنَّهُ لِنَفيِ الحالِ، والقائلُونَ بأَنَّه فعْلٌ قالوا: إنه فعْلٌ ماضٍ. وثانيها: أَنَّهُ يدخلُ على الفعْلِ، فنقول: «لَيْسَ يَخْرُجُ زَيْدٌ» ، والفعلُ لا يدخُلُ على الفعْل عَقْلاً ونقلاً. وقولُ مَنْ قال: «إن لَيْسَ» داخلٌ على ضمير القصَّة، والشأن، وكونُ هذه الجملةِ تفسيراً لذلك الضَّمير ضعيفٌ؛ فإنَّهُ لو جاز ذلك، جاز مثلُه في «مَا» . وثالثها: أَنَّ الحرف «مَا» يظهرُ في معنَاهُ في هذه الكَلِمَة، فإنك لَو قُلْتَ: «لَيْسَ زَيْدُ» لم يتمَّ الكلام، لا بُدَّ أن تقول: «لَيْسَ زَيْدٌ قَائِماً» . ورابعُها: أن «لَيْسَ» لو كان فعْلاً، لكان «ما» فعلاً، وهذا باطلٌ، فذاك باطلٌ، بيان الملازمةِ: ان «لَيْسَ» لو كان فعْلاً لكان ذلك لدلالَتِهِ على حُصُول معنى السَّلْب مقترناً بزمان مخْصُوصٍ، وهو الحالُ، وهذا المعْنَى قائمٌ في «مَا» فيجبُ أن تكونَ «مَا» فعْلاً، فلَمَّا لم يكُنْ هذا فعْلاً، فكذلك القَوْل في ذلك أو تكون في عبارةٍ أُخْرَى: «لَيْسَ» كلمةٌ جامدةٌ، وضعت لنَفْي الحالِ، فأشبهت «مَا» في نفْي الفعليَّة بذلك. وخامسُها: أنَّك تَصِلُ «مَا» بالأفْعَال الماضيةِ، فتقولُ: «مَا أَحْسَنَ زَيْداً» ، ولا يجوزُ أنْ تصلَ «مَا» ب «لَيْسَ» فلا تَقُولُ: «مَا لَيْسَ زَيْدٌ يَذْكُرُكَ» . وسادسها: أَنَّه على غير أوزَانِ الفِعْل. وأجابَ القَاضِي، والقائلُونَ بالفعليَّة عن الأَوَّل بأنَّ «لَيْسَ» قد يجيءُ لنفي المَاضِي بمعنَاه؛ كقولهم: «جَاءَنِي القَوْمُ لَيْسَ زَيْداً» . وعن الثَّاني أنه منقوضٌ بقولم: «أَخَذَ يَفْعَلُ كَذَا» . وعن الثَّالث: أنه منقوضٌ بسائر الأفعال النَّاقِصَة. وعن الرَّابع: أنَّ المماثَلَة مِنْ بعض الوجوه لا تَقتضي المماثلة من كُلِّ الوُجُوه. وعن الخَامِس: أَنَّ ذلك إِنَّمَا امتنع مِنْ قِبَلِ أَنَّ: «مَا» للحال و «لَيْسَ» للماضي، فلا يمكنُ الجَمْع بينهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 وعن السَّادس: أن تغير البناءِ وإن كان على خلافِ الأَصل، لكنَّه يجبُ المصيرُ إِلَيْه؛ لدلالةِ العَمَل بما ذكر، وذكَرُوا وجوهاً أُخَرَ مخالفةً للنَّحْوِ. قوله: «قِبَلَ» منصوبٌ على الظَّرْف المكانيِّ بقوله: «تُوَلُّوا» ، وحقيقةُ قولِكَ: «زَيْدٌ قِبَلَكَ» أي في المكان الَّذي يقابلُكَ فيه وقد يُتَّسَعُ فيه، فيكون بمعنى «عِنْدَ» ؛ نحو قولك: «قِبَلَ زَيْدٍ دَيْنٌ» ، أي «عِنْدَهُ ديْنٌ» . فصل في اختلافهم في عموم هذا الخطاب وخصوصه. اختلفوا: هَلْ هذا الخطاب عَامٌّ، أو خاصٌّ؟ فقال قتادةُ، ومقاتلُ بْنُ حَيَّان: لمَّا شددوا أهل الكتاب بالثبات على التوجُّه نحو بيْت المَقْدِس، قال تعالى: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} هذه الطريقة، {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله} . وقال مجاهدٌ وعطاءٌ والضَّحَّاك - رضِيَ الله عنهم -: المرادُ مخاطبةُ المؤمنين، لَمَّا ظنُّوا هذا الكلام. وقال بعضُهُم: هو خطابٌ للكلّ؛ لأنَّه لما حُوِّلت القبلةُ، حَصَلَ للمؤمنينَ الاغتباطُ بهذه القِبْلة، وحَصَلَ منْهم التشديدُ في هذه القِبْلَة؛ حتَّى ظنُّوا أنَّه الغرضُ الأكْبَر في الدِّين، فبعثهم الله تعالى بهذا الخِطَاب استيفاءَ جميع الطاعات والعبادات، ولَيْسَ البرَّ بأنْ تولُّوا وجوهَكُم شَرْقاً وغرباً، وإِنَّمَا البِرُّ كَيْتَ، وكَيْتَ، وكَيْتَ، فكأنَّه تبارك وتعالى قال: ليْس البرُّ المطلوبُ هو أمْرَ القِبْلة، بل البِرُّ المطلوبُ هذه الخصالُ الَّتي عدَّدتُّها. فصل في المشار إليه بالضمير قال القفَّال: والذي عندَنا أنَّه إشارةٌ إلى السُّفَهاء الذين طَعَنُوا في المُسْلِمين، وقالُوا: ما ولاَّهم عن قبلتهم الَّتي كانُوا علَيْها؟ مع أنَّ اليَهُود كانُوا يستَقْبلون المَغْرب، والنَّصَارَى كانُوا يستقْبِلُون المَشْرِق، فقال الله تعالى: إنَّ صَفَةَ البِرِّ لا تحصُلُ باستقبالِ المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، بل البرُّ يحصُلُ بأُمُر. منها: الإيمانُ بالله، وأهْلُ الكتابِ أخَلُّوا بذلك، فَأَمَّا اليهود، فلقولهم بالتَّجْسِيم، ولقَوْلِهِم بأنَّ عُزَيْراً ابْنُ اللهِ، وأَمَّا النصارَىح فلقولهم: المَسِيحُ ابْنُ الله، واليهودُ وصَفُوا الله تعالى بالبُخْل. وثانيها: الإيمانُ باليَوْم الآخِر، واليهود أخلُّوا بذلك، وقالوا: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] والنصارى أنْكَرُوا المعادَ الجِسْمانيَّ، وكلُّ ذلك تكذيبٌ باليوم الآخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 وثالثها: الإيمانُ بالمَلاَئكة، واليهودُ أخلُّوا بذلك؛ حيْثُ أظْهَرُوا عداوة جِبْرِيلَ. ورابعها: الإيمانُ بكُتُب الله تعالى، واليهودُ أخلُّوا بذلك، لأن مع قيام الدَّلائل على أنَّ القرآنَ كتابُ الله تعالى رَدُّوه ولم يقْبلُوه؛ قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة: 85] . وخامسها: الإيمانُ بِالنَّبيِّين، واليَهُود أخلُّوا بذلك؛ حيث قتلوا الأنْبياءَ؛ على ما قال تعالى: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق} [البقرة: 61] وطَعَنُوا في نبوَّة محمَّد - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وسادسها: بَذْلُ الأمْوَالِ علَى وَفْقِ أمْرِ الله تعالى، واليهود أخلُّوا بذلك؛ لأنَّهم يُلْقُون الشُّبُهات؛ لِطَلَب المَال القَليلِح قال تبارك وتعالى: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} . وسابعها: إقَامة الصَّلاة، وإيتاءُ الزَّكاة، واليهودُ كانوا يمنَعُون النَّاسَ منها. وثامنها: الوفَاءُ بالعَهْد، واليهودُ نَقَضُوا العَهْد؛ قال تبارك وتعالى: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] . وتاسعها: قوله: {فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس} والمرادُ بذلك المحافظةُ على الجهادِ، واليهودُ أخلُّوا بذلك؛ حيْثُ كانُوا في غاية الخَوْف، والجبْنِ؛ قال تعالى: {لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى} [الحشر: 14] . فإن قيل: نفى تبارك وتعالى أنْ يكُون التوجُّه إلى القْلَلةِ بِرّاً، ثم حَكَم بأنَّ البِرَّ بمجموع أمُر: أحدُها: الصَّلواتُ، ولا بُدَّ فيها من الاستقبال، فيلزَمُ التناقضُ. فالجوابُ: أنَّ المفسِّرين اختلفُوا على أقْوَال: منها: أنَّ قوله تعالى: «لَيْسَ البِرّ» نَفْيٌ لكمالِ البِرِّ ولَيْسَ نَفْياً لأصْله؛ كأنه قال: «لَيْسَ البِرُّ كلُّه هو هذا» ؛ فإنَّ البِرَّ اسمٌ من أسماء الخصالِ الحَمِيدة، واستقبال القبلة واحِدٌ منها، فلا يكونُ ذلك تمامَ البِرِّ. الثاني: أنْ يكُونَ هذا نفياً لأصْلِ كَوْنه بِرّاً؛ لأن استقبالَهُم للمشْرِق والمَغْرِب كان خَطَأً في وقُتِ النبيِّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وَحِينَمَا نَسَخ الله تباركَ وتعالى ذلك؛ بل كان ذلِكَ ممَّا لا يجُوز؛ لأَنَّهُ عمل بمَنْسُوخ قد نهى الله عَنءه، وَمَا كَانَ كذلك، فهو لا يُعَدُّ من البِرِّ. الثالث: أنَّ استقبالَ القِبْلة لا يكُون بِرّاً، إذ البِرُّ يتقدَّمه معرفةُ الله تعَالى، وإنَّما يكون بِرّاً، إذا أتَى بها مع الإيمانِ بِالله ورسُوله، فالإتيانُ بها دُونَ هذا الشَّرْط، لا يكونُ مِنْ أَفْعَال البِرِّ، إلاَّ إذا أتِيَ بها مع شَرْطه، كما أنَّ السَّجْدة لا تكُونُ مِنْ أفْعال البِرِّ، إلاَّ إذا أَتَى بها مع الإيمَانِ بالله ورسُوله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 ورُوِيَ أنَّه لَمَّا حُوِّلَت القبْلة، كَثُرَ الخَوْضُ في نَسْخِهَا، كأنه لا يُرَاعَى بطاعة الله تعالى إلاَّ الاستقبالُ؛ فأنْزَلَ الله تعالَى هذه الآيَةَ؛ كأنه تبارك وتعالى قال: «ما هذا الخَوضُ الشَّديدُ في أَمْر القِبْلَةِ مع الإعْرَاضِ عَنْ كُلِّ أَرْكَانِ الدِّين» . قوله {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله} في هذه الآية خَمْسَة أوجه: أحدها: أن «البِرَّ» اسم فاعل من: بَرَّ يَبَرُّ، فهو «برُّ» والأصل: «بَرِرٌ» بكسر الراء الأولى بزنة «فطِنٍ» فلمَّا أريد الإدغام، نقلت كسرة الرَّاء إلى الباء بعد سكبها حركتها؛ فعلى هذه القراءة: لا يحتاج الكلام إلى حذف وتأويلٍ؛ لأنَّ البِرَّ من صفات الأعيان؛ كأنه قيل: «وَلكِنَّ الشخْصَ البِرَّ مَنْ آمن» . الثاني: انَّ في الكلام حذف مضافٍ من الأوَّل، تقديره: «ولكنَّ ذا البِرِّ من آمن» ؛ كقوله تعالى: {والعاقبة للتقوى} [طه: 132] أي: لذي التقوى؛ وقوله {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله والله} [آل عمران: 163] أي: ذوو درجاتٍ، قاله الزَّجَّاج. الثالث: أن يكون الحذف من الثاني: أي: «وَلكِنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ» وهذا تخريجُ سيبويه، واختياره، وإنَّما اختاره؛ لأنَّ السابق، إنَّما هو نفي كون البِرِّ هو تولية الوجهِ قبل المشرق والمغرب، فالذي يستدركُ، إنَّما هو من جنس ما ينفى؛ ونظير ذلك: «لَيْسَ الكَرَمُ أنْ تَبْذُلَ دِرْهَماً، ولكَّن الكَرَمَ بذل الآلاَفِ» ولا يناسبُ: «ولكِنَّ الكَرِيمَ مَنْ يَبْذُلُ الآلاَفَ» وحذف المضاف كثيرٌ في الكلام، كقوله: {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} [البقرة: 93] ، أي: حُبَّ العجل، ويقولون: الجود حاتم، والشعير زهير، والشجاعة عنترة، [وقال الشاعر: [الطويل] 912 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فَإِنَّما هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ أي: ذات إقبالٍ، وذات إدبار. وقال النَّابغة: [المتقارب] 913 - وَكَيْفَ نُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ ... خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 أي: كخلالة أبي مرحب] ، وهذا اختيار الفرَّاء، والزَّجَّاج، وقطرب. وقال أبو عليٍّ: ومثل هذه الآية الكريمة قوله: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} [التوبة: 19] ، ثم قال: {كَمَنْ آمَنَ بالله} [التوبة: 19] ؛ ليقع التمثيل بين مصدرين، أو بين فاعلين؛ إذ لا يقع التمثيل بين مصدرٍ، وفاعلٍ. الرابع: أن يطلق المصدر على الشَّخص مبالغةً؛ نحو: رجل عدل. ويحكى عن المبرِّد: «لو كنت ممَّن يقرأ القرآن، لقرأت» وَلَكِنَّ البَرَّ «بفتح الباء» وإنَّما قال ذلك؛ لأن «البَرَّ» اسم فاعل، نقول بَرَّ يَبَرُّ، فهو بَارٌّ، فتارة تأتي به على فاعل، وتارة على فعل. الخامس: أن امصدر وقع موقع اسم الفاعل، نحو: رجل عدلٌ، أي: عادل، كما قد يقع اسم الفاعل موقعه، نحو: أقائماً، وقد قعد الناس؛ في قولٍ، هذا رأي الكوفيين، والأولى فيه ادِّعاء أنه محذوفٌ من فاعلٍ، وأن أصله: بارٌّ، فجعل «برّاً» ، وأصله ك «سِرٍّ» ، و «رَبٌّ» أصله «رابٌّ» ، وقد تقدم. وجعل الفراء «مَنْ آمَنَ» واقعاً موقع الإيمان، فأوقع اسم الشخص على المعنى كعكسه؛ كأنه قال: «وَلَكِنَّ البِرَّ الإيمانُ باللهِ» قال: والعَرَبُ تجعل الاسم خبراً للفعل، وأنشد في ذلك: [الطويل] 914 - لَعَمْرُكَ مَا الفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى ... وَلَكِنَّمَا الفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدِي جعل نبات اللحية خبراً للفتيان، والمعنى: لعمرك ما الفتوَّة أن تنبت اللِّحى. وقرأ نافعٌ، وابن عامر: «وَلَكِن البِرُّ» هنا وفيما بعد بتخفيف «لَكِنْ» وبرفع «البِرُّ» ، والباقون بالتَّشديد، والنَّصب، وهما واضحتان ممَّا في قوله: {ولكن الشياطين كَفَرُواْ} [البقرة: 102] . وقرئ: «وَلِكنَّ البَارَّ» بالألف، وهي تقوِّي أنَّ «البِرَّ» بالكسر المراد به اسم الفاعل، لا المصدر. قال أبو عُبَيْدَةَ: «البِرُ» هاهنا بمعنى البَارِّ، كقوله: {والعاقبة للتقوى} [طه: 132] أي: للمتَّقين، ومنه قوله تعالى: {إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً} [الملك: 30] أي: غائراً، وقالت الخنساء: [البسيط] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 915 - وَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ ... أي: مقبلة ومدبرة والعمل لكل خير هو بر، وقيل: البر: كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة، قال تعالى: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} [الإنسان: 13] . ووحَّد الكتاب لفظاً، والمراد به الجمع؛ وحسَّن ذلك كونه مصدراً في الأصل، أو أراد به الجنس، أو أراد به القرآن، فإنَّ من آمن به، فقد آمن بكل الكتب، فإنه شاهدٌ لها بالصِّحَّة. فصل فيما اعتبر الله تعالى في تحقيق البرِّ اعلم أنَّ الله تعالى اعتبر في تحقيق البِرِّ أموراً: أحدها: الإيمانُ بخمسة أشياء: أولهاك الإيمان بالله، ولا يحصل ذلك إلاَّ باعلم بذاته المخصوصة، وبما يجب، ويجوز، ويستحيل عليه، ولا يحصل العلم بهذه الأمور إلاَّ بالعلم بالدلائل الدالَّة عليها، فيدخل فيه العلم بحدوث العالم، والعلم بالأصول التي يتفرَّع عليها حدوث العالمن ويدخل فيه العالم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 بوجوده، وقدرته، وبقائه، وكونه عالماً بكلِّ المعلومات قادراً على كلِّ الممكنات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 وثانيها: الإيمان باليوم الآخر، وهذا متفرِّع على الأوَّل؛ لأنَّا إن لم نعلم قدرته على جميع الممكنات، لا يمكننا أن نعلم صحَّة الحشر والنَّشر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 وثالثها: الإيمان بالملائكة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 ورابعها: الإيمان بالكتب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 وخامسها: الإيمان بالرسل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 فإن قيل: لا طريق لنا غلى العلم بوجود الملائكة، ولا إلى العلم بصدق الكتب، إلاَّ بواسطة صدق الرُّسل، فإذا كان قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب، فلم قدَّم الملائكة والكتب في الذِّكر على الرُّسل؟ فالجواب: أنَّ الأمر، إن كان كذلك في عقولنا، إلاَّ انَّ الترتيب على العطس؛ لأنَّ الملك يوجد أوَّلاً، ثم صحل بواسطة تبليغه نزول الكتب إلى الرسل، فالمراعى في هذه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 الآية ترتيب الوجود الخارجيِّ، لا الترتيب الذهنيُّ؛ فدخل تحت الإيمان بالله معرفته، ودخل تحت الإيمان باليوم الآخر معرفة ما يلزم من أحكام العقاب، والثَّواب، والمعاد، ودخل تحت الإيمان بالملائكة ما يتَّصل بإتيانهم الرسالة إلى الأنبياء؛ ليؤدُّوها إلينا إلى غير ذلك ممَّا يجب أن يعلم من أحوال الملائكة، ودخل تحت الإيمان بالكتاب القرآن، وجميع ما أنزل الله على أنبيائه، ودخل تحت الإيمان بالنَّبِيِّين الإيمان بنبوِّتهم، وصحَّة شريعتهم، فلم يبق شيءٌ مما يجب الإيمان به، إلاَّ دخل تحت هذه الآية. وتقرير آخر: وهو أنَّ للمكلَّف مبتدأً ووسطاً، ونهايةً، ومعرفة المبدأ والنهاية؛ هو المراد من الإيمان بالله تعالى، واليوم الآخر. وأمَّا معرفة الوسط، فلا يتمُّ إلاَّ بالرِّسالة، وهي لا تتمُّ إلا بثلاثة أمور: الملك الآتي بالوحي، ونفس الوحي، وهو الكتاب، والموحى إليه، وهو الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. وفي تقديمه الإيمان على أفعال الجوارح؛ من إيتاء المال، والصلاة، والزَّكاة - تنبيهٌ على أن أعمال القلوب أشرف من أعمال الجوارح. الأمر الثاني من الأمور المعتبرة في تحقيق البرِّ قوله: {وَآتَى المال على حُبِّهِ} [البقرة: 177] ، فالجار والمجرور في محلِّ نصب على الحال اعامل في «آتي» أي: آتي المال حال محبَّته له، واختياره إيَّاه، والحُبُّ: مصدر «حَبَبْتُ» ، لغةً في «أَحْبَبْتُ» ؛ كما تقدَّم، ويجوز أن يكون مصدر الرُّباعيِّ على حذف الزوائد، ويجوز أن يكون اسم مصدر، وهو الإحباب؛ كقوله: {والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] والضمير المضاف إليه هذا المصدر فيه أربعة أقوال: أظهرها: أنه يعود على المال؛ لأنَّه أبلغ من غيره. قال ابن عبَّاس، وابن مسعود: «هو أن تُؤْتيَهُ، وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تَأْمُلُ الغِنَى، وتخشَى الفَقْر، وَلاَ تُهْمِلْ حتَّى إذَا بَلَغَتِ الحُلْقُومَ، قُلْتَ: لِفُلاَنِ كَذَا، ولِفُلاَنِ كذا» وهذا بعيدٌ من حيث اللفظ ومن حيث المعنى. أمَّا من حيث اللفظ: رواية أبي هريرة، قال: جاء رجل إلى النَّبيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يَا رَسُولَ الله، أيُّ الصَّدَقةِ أعْظَمُ أجراً؟ قال: «أَنْ تَصَّدَّقَ وَأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ» وذكره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 الثاني: أنه يعود على الإيتاء المفهوم من قوله تعالى: «آتى» ، أي: على حبِّ الإيتاء؛ كأنه قيل: يعطي، ويحبُّ الإعطاء؛ رغبةً في ثواب الله. قال شهاب الدِّين: وهذا بعيدٌ من حيث اللفظ، ومن حيث المعنى. أما من حيث اللفظ: فإنَّ عود الضمير على غير مذكور، بل مدلولٍ عليه بشيء - خلاف الأصل. وأمَّا من حيث المعنى: فإنَّ المدح لا يحسن على فعل شيء يحبه الإنسان، لأنَّ هواه يساعده على ذلك. قال زهير: [الطويل] 916 - تَرَاهُ إذَا مَا جِئْتَهُ مُتَهَلِّلاً ... كأَنَّكَ تُعْطِيهِ الَّذِي أَنْتَ سَائِلُهُ الثالث: ان يعود على الله تعالى، يعني: «يُعْطُون المَال على حُبِّ الله» ؛ وعلى هذه الأقوال الثَّلاثة يكون المصدر مضافاً للمفعول، وعلى هذا، فالظاهر أنَّ فاعل هذا المصدر هو ضمير المؤتي، وقيل: هو ضمير المؤتون، أي: «حبِّهم له» ، واحتياجهم إليه، وليس بذلك، و «ذَوِي القُرْبَى» على هذه الأقوال الثلاثة: منصوبٌ ب «أتى» فقط، لا بالمصدر؛ لأنَّه قد استوفى مفعوله. الرابع: أن يعود على «مَنْ آمَنَ» ، وهو المؤتي للمال، فيكون المصدر على هذا مضافاً للفاعل، وعلى هذا: فمفعول هذا المصدر يحتمل أن يكون محذوفاً، أي: «حُبِّه المَالَ» ، وأن يكون ذَوِي القُرْبَى، إلا أنه لا يكون فيه تلك المبالغة التي فيما قبله. قال ابْنُ عَطِيَّة: ويجيء قوله «عَلَى حُبِّهِ» اعتراضاً بليغاً في أثناء القول. قال أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللهُ -: فإن أراد بالاعتراض المصطلح عليه، فليس بجيِّد، فإنَّ ذلك من خصوصيَّات الجملة الَّتي لا محلَّ لها، وهذا مفردٌ، وله محلٌّ، وإن أراد به الفصل بالحال بين المفعولين، وهما «المال» ، و «ذَوِي» ، فيصحُّ، إلا انه فيه إلباسٌ. فصل في معنى الإيتاء اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء، فقال قومٌ: إنَّها الزكاة، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّه عطف الزكاة عليه، بقوله: {وَأَقَامَ الصلاة} [البقرة: 177] ومن حق المعطوف، والمعطوف عليه المغايرة، ثم لا يخلو: إمَّا أن يكون تطوُّعاً: أو واجباً، ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 جائز أن يكون تطوُّعاً؛ لأنه قال في آخر الآية الكريمة: {وأولئك هُمُ المتقون} [البقرة: 177] ، وقف التقوى عليه، ولو كانه تطوُّعاً، لما وقف التقوى عليه، وإذا ثبت أنَّه واجبٌ، وأنه غير الزكاة، ففيه أقوال: أحدها: أنه عبارة عن دفع الحاجات الضَّروريَّة؛ مثل: إطعام المضطرِّ؛ ويدل عليه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لاَ يُؤْمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ مَنْ بَاتَ شَبْعَاناً، وجَارُهُ طَاوٍ إلى جَنْبِهِ» ورُوِيَ عن فاطمة بنت قيس: «إنَّ في المال حقّاً سوى الزَّكاة» ثم تلت «وآتى المَالَ عَلَى حُبِّهِ» . وحكي عن الشَّعْبِيِّ أنَّه سئل عمَّن له مال، فأدى زكاته، فهل عليه سواه؟ فقال: نعم، يصل القرابة، ويعطي السائل، ثم تلا هذه الآية الكريمة. وأيضاً: فلا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضَّرورة، وجب على النَّاس أن يعطوه مقدار دفع الضَّرورة. فإن قيل: الزَّكاة نسخت الحقوق الماليَّة. فالجواب: أنَّه - عليه السَّلام - قال: «في المَالِ حٌقُوقٌ سِوَى الزَّكَاةِ» ؛ وقول الرسول أولى، وأجمعت الأمَّة على أنه يجب أن يدفع إلى المضطرِّ ما يدفع به الضَّرورة، وإن سلَّمنا أن الزكاة نسخت كلَّ حقٍّ، فالمراد أنَّها نسخت الحقوق المقدَّرة، أمَّا الذي لا يكون مقدَّراً، فغير منسوخ؛ بدليل أنه يلزم النفقة على الأقارب، والمماليك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 فإن قيل: إذا صحَّ هذا التأويل، فما الحكمة في هذا التَّرتيب؟! فالجواب من وجوه: أحدها: أنه تبارك وتعالى قدَّم الأولى فالأولى؛ لأنَّ الفقير القريب أولى بالصَّدقة من غيره، لأنَّ يجمع فيه بين الصلة، والصَّدقة، ولأن القرابة من أوكد الوجوه ف صرف المال إليه، ولذلك يستحقُّ بها الإرث، ويحجر على ذي المال بسببه في الوصيَّة، حتى لا يتمكَّن من الوصية، إلا في الثُّلث، ولذلك كانت الوصيَّة للأقارب من الواجبات؛ لقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين بالمعروف} [البقرة: 180] . وإن كانت نسخت عند بعضهم؛ فلهذه الوجوه، قدَّم ذوي القربى، ثم أتبعه باليتامى؛ لأنَّ الصغير الفقير الذي لا والد له، ولا كاسب، فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه، ثم أتبعهم بالمساكين؛ لأنَّ الحاجة قد تشتدُّ بهم، ثم ذكر السَّائلين، وفي الرقاب؛ لأن حاجتهما دون حاجة من تقدَّم. وثانيها: أن علم المرء بشدَّة حاجة قريبه أقوى، ثم بحاجة الأيتام، ثم بحاجة المساكين ثم على هذا الَّسق. وثالثها: أن ذا القربى مسكينٌ، وله صفةٌ زائدةٌ تخصُّه؛ لأن شدَّة حاجته تغمُّ صاحب المال، وتؤذيث قلبه، ودفع الضَّرر عن النَّفس مقدَّم على دفع الضرر عن الغير؛ فلذلك بدأ الله بذي القربى، ثم باليتامى؛ لأن الغمَّ الحاصل بسبب عجز الصِّغار عن الطَّعام والشَّراب أشدُّ من الغمٍّ الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما، ثم المساكين؛ لأنَّ الغمَّ الحاصل بسببهم أخفُّ من الغم الحاصل بسبب الصَّغار. وأمَّا ابن السَّبيل، فقد يكون غنيّاً، وقد تشتدُّ حاجته في الوقت، والسَّائل قد يكون غنيّاً، ويظهر شدَّة الحاجة، وأخَّر المكاتب؛ لأنَّ إزالة الرق ليست في محلِّ الحاجة الشَّديد’. القول الثاني: أنَّ المراد بإيتاء المال: ما روي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عند ذكره الإبل، قال: «إنَّ فِيهَا حَقّاً؛ وهو إطراق فحلها، وإعارة دَلْوها» ، وهذا بعيدٌ؛ لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختصُّ به ابن السَّبيل، والسائل والمكاتب. القول الثالث: أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجباً، ثم نسخ بالزَّكاة، وهذا أيضاً ضعيفٌ، لأنه تبارك وتعالى جمع في هذه الآية الكريمة بين هذا الإيتاء، وبين الزكاة. وقال بعضهم: المراد صدقة التطوُّع. فصل في الوجوه الإعرابية لقوله «ذَوِي» قوله «ذَوَي» فيه وجهان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 أحدهما - وهو الظاهر - أنه مفعول ب «آتى» وهل هو الأول، و «المَالَ» هو الثاني؛ كما هو قول الجمهور، وقدِّم للاهتمام، أو هو الثاني: فلا تقديم، ولا تأخير؛ كما هو قول السُّهَيلِيِّ؟ والثاني: أنه منصوب ب «حُبِّهِ» ؛ على أن الضمير يعود على «مَنْ آمَنَ» ؛ كما تقدَّم. فصل في المراد ب «ذَوِي القُرْبَى» من النَّاس من حمل ذَوِي القُرْبَى على المذكور في آية النفل والغنيمة، وأكثر المفسِّرين على ذَوِي القُرْبَى للمعطين، وهو الصحيح؛ لأنَّهم به أخصُّ، وهم الذين يقربون منه بولادة الأوبين، أو بولادة الجدَّين، أو أبي الجدَّين، ولا يقتصر على ذوي الرَّحم المحرم كما حكي عن قوم؛ لأنَّ امحرميَّة حكم شرعيٌّ، والقرابة لفظةٌ لغويةٌ موضوعةٌ للقرابة في النَّسب، وأن تفاوتوا في القرب والبعد. قوله «واليَتَامى» : ظاهره أنه مصوب، عطفاً على ذوي. وقال بعضهم: هو عطف على «القرْبَى» أي: «آتى ذَوي اليَتَامى» ، أي: أولياءهم؛ لأن الإيتاء إلى اليتامى لا يصحُّ؛ فإن دفع المال إلى اليتيم الذي لا يميِّز، ولا يعرف وجوه المنفعة يكون مخطئاً، ولا حاجة إلى هذا، فإنَّ الإيتاء يصدق، وإن لم لم يباشر من يؤتيه بالإيتاء، يقال: «آتيْتُ السُّلْطَانَ الخَرَاجَ» ، وإنَّما أعطيت أعوانه. وأيضاً: إذا كان اليتيم مراهقاً عارفاً بمواقع حظَّه، وتكون الصدقة من باب ما يؤكل، ويلبس، ولا يخفى على اليتيم وجه الانتفاع به، جاز دفعها إليه، هذا على قول من قال: إن اليتيم هو الذي لا أب له مع الصِّغر. وقال بعضهم: أن هذا الاسم قد يقع على الصَّغير، وعلى البالغ؛ لقوله تعالى: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] وهم لا يؤتون إلاَّ إذا بلغوا، وكان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسمَّى يتيم أبي طالب بعد بلوغه؛ فعلى هذا: إن كان اليتيم بالغاً، دفع إليه، وإلاَّ دفع إلى وليه، والمساكين أهل الحاجة، وهم ضربان: من يكفُّ عن السؤال، وهو المراد هاهنا، ومنهم من يسأل وينبسط، وهم السائلون، وإنما فرق يبنهما؛ من حيث يظهر على السماكين المسكنة ممَّا يظهر من حاله، وليس كذلك السائل لأنه يظهر حاله. وابن السبيل اسم جنسٍ أو واحد أريد به الجمع، وسمِّي «ابن السَّبيل» ، أي: الطريق، لملازمته إيَّاه في السَّفر، أو لأنَّ الطريق تبرزه، فكأنها ولدته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 فصل. من جعل الآية الكريمة في غير الزَّكاة، أدخل في هذه الآية المسلم والكافر، روى الحسن بن علي بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: «للسَّائِل حَقٌّ، وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ» ، وقال تعالى: {وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم} [الذاريات: 19] . الأمر الثالث في تحقيق مسمَّى البِرِّن قوله: {وَأَقَامَ الصلاة وَآتَى الزكاة} وقد تقدَّم: قوله {وَفِي الرقاب} متعلِّق ب «آتى» وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون ضمن «آتى» معنى فعل يتعدى لواحد؛ كأنه قال: وضع المال في الرِّقَاب. والثاني: أن يكون مفعول «آتى» الثاني محذوفاً، أي: آتى المال أصحاب الرِّقاب في فكِّها، أو تخليصها؛ فإنَّ المراد بهم المكاتبون، أو الأسارى، أو الأرقَّاء يشترون، فيعتقون، وكلٌّ قد قيل به. والرِّقَابُ: جمع «رَقَبَةٍ» ، وهي من مؤخَّر أصل العنق، واشتقاقها من «المراقبة» ؛ وذلك أن مكانها من البدن مكان الرَّقِيب المشرف على القوم؛ وبهذا المعنى: يقال: «أَعْتَقَ اللهُ رَقَبَتَهُ» ، ولا يقال: «أَعْتَقَ اللهُ عُنُقَهُ» ؛ لأنها لما سمِّيت رقبةً؛ كأنها تراقب العذاب، ومن هذا يقال للتي لا يعيش ولدها «رَقُوبٌ» ؛ لأجل مراقبة موت ولدها. قوله: {وَأَقَامَ الصلاة} عطف على صلة «مَنْ» ، وهي: «آمَن، وآتى» وإنما قدم الإيمان، لأنه رأس الأعمال الدينيَّة، وثنَّى بإيتاء المال؛ لأنه أجلُّ شيء عند العرب، وبه يمتدحون، ويفتخرون بفكِّ العاني: وقِرَى الضِّيفان، ينطق بذلك نظمهم ونثرهم. قوله {والموفون بِعَهْدِهِمْ ... } في رفعة ثلاثة أوجه: أحدها: ذكره الزمخشري: أنه عطف على «مَنْ آمَنَ» أي: ولكنَّ البرَّ المؤمنون والموفون. والثاني: أن يرتفع على خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الموفون، وعلى هذين الوجهين: فنصب الصابرين على المدح؛ بإضمار فعل، وهو في المعنى عطف على «مَنْ آمَنَ» ، ولكن لما تكرَّرت الصِّفات، خولف بين وجوه الإعراب. قال الفارِسيُّ: وهو أبلغ؛ لأن الكلام يصير مشتملاً على جملٍ متعددةٍ، بخلاف اتّفاق الإعراب؛ فإنه يكون جملةً واحدةً، وليس فيها من المبالغة ما الجمل المتعدِّدة. وقال أبو عبيدة: ومن شأن العرب، إذا طال الكلام: أن يغيِّروا الإعراب والنَّسق؛ كقوله تعالى في سورة النساء: {والمقيمين الصلاة} [النساء: 162] وفي المائدة: {والصابئون} [المائدة: 69] وقال الفرَّاء: إنما رفع «المُوفُونَ» ، ونصب «الصَّابِرِينَ» ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 لطول الكلام بالمدح، والعرب تنصب الكلام على المدح والذَّمِّ، إذا طال الكلام في الشَّيء الواحد، وقالوا فيمن قرأ {حَمَّالَةَ الحطب} [المسد: 3] بنصب «حَمَّالَةَ» : إنه نصب على الذَّمِّ. فإن قيل: لم لا يجوز على هذين الوجهين: أن يكون معطوفاً على ذوي القربى، أي: وآتى المال الصابرين: قيل: لئلاَّ يلزم من ذلك محذورٌ، وهو الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه الذي هو في حكم الصِّلة بأجنبيٍّ، وهو «المُوفُونَ» فإن قيل: أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة؛ كقوله: {وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30] ثم قال «أُوْلَئِكَ» ففصل بين المبتدأ والخبر. قلنا: لا يلزم من جواز الفصل بين المبتدأ والخبر جوازه بين الموصول والصِّلة. التأكيد بالضمير المرفوع المنفصل، لأنَّ طول الكلام أغنى عن ذلك؛ وعلى هذا الوجه: يجوز في «الصَّابِرِينَ» وجهان: أحدهما: النَّصيب؛ بإضمار فعْلٍ؛ لما تقدَّم، قال الخليل: المدح والذمُّ ينصبان على معنى «أَعْني الظريف» وأنكر الفراء ذلك لوجهين. أحدهما: أنَّ «أَعْنِي» إنما يقع تفسيراً للمجهول، والمدح يأتي بعد المعروف «أعني أخاك» ، وهذا مما لم تقله العرب أصلاً. والثاني: العطف على ذَوِي القُرْبَى، ولا يمنع من ذلك ما تقدَّم من الفصل بالأجنبيِّ، لأن «المُفُونَ» على هذا الوجه داخلٌ في الصِّلة، فهو بعضها لا أجنبيٌّ منها. قوله «إذَا عَاهَدُوا» إذا منصوبٌ ب «المُوفُونَ» ، أي: الموفون وقت العهد، من غير تأخير الوفاء عن وقته، وقرأ الجحدريُّ: «بِعُهُودِهِمْ» . فصل في معنى قوله «بِعَهْدِهِمْ» في هذا العهد قولان: أحدهما: هو ما أخذه الله على عباده على ألسنة رسله من الإيمان، والقيام بحدوده، والعمل بطاعته؛ لما أخبر الله تبارك وتعالى عن أهل الكتاب: أنَّهم نقضوا العهود والمواثيق، فجحدوا أنبياءه، وقتلوهم، وكذَّبوا بكتابه. واعترض القاضي على هذا القول، وقال: إنَّ قوله تبارك وتعالى: «المُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ» صريحٌ في إضافة العهد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 إليهم، ثم إنه تعالى أكَّد ذلك بقوله: «إذَا عَاهَدُوا» ، فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداءً من قبله تعالى. وأجيب: بأنه تعالى، وإن ألزمهم هذه الأشياءن لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام، والتزموه، فصحَّ إضافة العهد إليهم من هذا الوجه. القول الثاني: أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلَّف ابتداءً من عند نفسه. واعلم أنّ هذا العهد إمَّا أن يكون بين العبد وبين الله تعالى؛ كاليمين والنَّذر، وما أشبهه، أو بينه وين رسول الله؛ كالبيعة؛ من القيام بالنُّصرة والمجاهدة، والمظاهرة، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، او بينه وبين النَّاس، وقد يكون ذلك واجباً، مثل: ما يلتزمه في عقود المعاوضات من التَّسليم والتَّسلُّم، والشرائط التي يلتزمها في السَّلم، والرَّهن وغيره، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 وقد يكون مندوباً؛ مثل: الوفاء بالعهد في بذل الماء، والإخلاص في المناصرة. فقوله {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} يتناول كل هذه الأقسام؛ فلا تقتصر الآية على بعضها، وهذا هو الذي عبر عنه المفسِّرون، فقالوا: هم الذين إذا وعدوا، أنجزوا، وإذا حلفوا ونذروا، وفَّوا، وإذا قالوا، صدقوا، وإذا ائتمنوا، أدَّوا. فصل في بلاغة قوله «والمُوفُونَ» دون «وأَوْفَى» قال ارَّاغب: وإنَّما لم يقل «وأوْفَى» ؛ كما قال «وأَقَامَ» ؛ لأمرين: أحدهما: اللفظ، وهو أن الصِّلة، متى طالت، كان الأحسن أن يعطف على الموصول، دون الصلة؛ لئلاَّ يطول ويقبح. والثاني: أنَّه ذكر في الأول ما هو داخل في حيِّز الشريعة، وغير مستفاد إلا منها والحكمة العقليَّة تقتضي العدالة دون الجور، ولما ذكر وفاء العهد، وهو مما تقضي به العقول المجرَّدة، صارعطفه على الأوَّل أحسن، ولما كان الصَّبر من وجه مبدأ الفضائل، ومن وجه: جامعاً للفضائل؛ إذ لا فضيلة إلا وللصَّبر فيها أثر بليغ - غيَّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد؛ وهذا كلام حسن. وحكى الزَّمخشريُّ قراءة «والمُوفِينَ» ، «والصَّابِرِينَ» وقرأ الحسن، والأعمش، ويعقوب: «وَالمُوفُونَ» ، «والصَّابِرُونَ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 فصل في الأحكام المستافدة من الآية قال القرطبيُّ: تضمَّنت هذه الآية الكريمة ستَّ عشرة قاعدةً من أُمَّهات الأحكام: الإيمان بالله وبأسمائه، وصفاته، والحشر، والنشر، والصراط، والحوض، والشَّفاعة، والجنة، والنار، والملائكة، والرُّسل، والكتب المنزلة، وأنَّها حقٌّ من عند الله؛ كما تقدم، والنَّبيين، وإنفاق المال فيما يعنُّ له من الواجب، والمندوب، وإيصال القرابة، وترك قطعهم، وتفقُّد اليتيم، وعدم إهماله المساكين كذلك، ومراعاة ابن السبيل، وهو: المسافر المنقطع به، وقيلك الضعيف، والسُّؤَّال، وفكّ الرقاب، والمحافظة على الصَّلوات، وإيتاء الزَّكاة، والوفاء بالعهود، والصَّبر في الشَّدائد، وكلُّ قاعدةٍ من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب. وقوله {فِي البأسآء والضراء} : قال ابن عبَّاس: يريد الفقر بقوله: «البَأْسَاءِ» ، والمرَضَ بقوله: «وَالضَّرَّاءِ» ، وفيها قولان: أحدهما: وهو المشهور أنَّهما اسمان مشتقَّان من البؤس والضُّرَّ وألفهما للتأنيث، فهما اسمان على «فَعْلاَء» ولا «أفْعَل» لهما؛ لأنَّهما ليسا بنعتين. والثاني: أنهما وصفن قائمان مقام موصوف، والبؤس، والبأْساء: الفقر؛ يقال بئس يبأس، إذا افتقر؛ قال الشاعر: [الطويل] 917 - وَلَمْ يَكُ في بُؤْسٍ إذَا بَاتَ لَيْلَةً ... يُنَاغِي غَزَالاً سَاجِيَ الطَّرْفِ أَكْحَلاَ قوله: «وَحِينَ البَأْس» منصوب بالصَّابِرِينَ، [أي] : الذين صَبَرُوا وقْتَ الشِّدَّة، والبأْسُ: شدَّة القتال خاصَّة، بؤس الرَّجل، أي: شجع. قال ابن عباس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما -: يريد القتال في سبيل الله، وأصل البأس في اللغة: الشِّدَّة؛ يقال: لا بأس عليك في هذا، أي: لا شدَّة و {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] أي: شديد، ثم يسمَّى الحرب بأساً، لما فيه من الشِّدَّة، والعذاب يسمَّى بأساً؛ لشدَّته، قال تبارك وتعالى: {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 84] {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} [الأنبياء: 12] {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا} [غافر: 29] . قوله: {أولئك الذين صَدَقُوآ} مبتدأ وخبر، وأتى بخبر «أُولَئِكَ» الأولى موصولاً بصلةٍ، وهي فعلٌ ماضٍ؛ لتحقُّ اتصافهم به، وأن ذلك قد وقع منهم، واستقرَّ، وأتى بخبر الثانية بموصولٍ صلته اسم فاعلٍ، ليدَّ على الثبوت، وأنه ليس متجدِّداً، بل صار كالسَّجيَّة لهم، وأيضاً: فلو أتى به فعلاً ماضياً، لما حسن وقوه فاصلةً. قال الواحدي - رَحِمَهُ اللهُ -: إن الواوات في الأَوْصَاف في هذه الآية للجمع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 فمن شرائطِ البِرِّ، وتمام شَرْط البَارِّ: أن تجتمع فيه هذه الأوصاف، ومن قام بواحدٍ منها، لم يستحقَّ الوصف بالبِرِّ فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده أن يكون من جملة من قام بالبِرِّ، وكذا الصابر في البأساء، بل لا يكون قائماً بالبِرِّ إلاَّ عند استجماع هذه الخصال، ولذلك قال بعضهم: هذه الصفة خاصَّة للأنبياء؛ لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلُّها. وقال آخرون: هي عامَّة في جميع المؤمنين، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 قوله «في القَتْلَى» ، أي: بسبب القَتْلَى و «في تكون للسَّببية؛ كقوله - عليه السَّلام -» إنَّ امْرَأَةً َخَلَتِ النَّار في هِرَّةٍ «، أي: بسببها، و» فَعَلَى «يطَّردُ أن يكون جمعاً لفعيل، بمعنى مفعول، وقد تقدَّم شيءٌ من هذا عند قوله {وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى} [البقرة: 85] . فصل في بيان سبب النزول في سبب النزول وجوه: أحدها: إزالة الأحكام التي كانت ثابتة قبل البعثة، وذلك أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط، والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط، والعرب تارةً كاناو يوجبون القتل، وتارة يوجبون الدِّية، ولكنَّهم كاناو يظهرون التعدِّي، فأما القتل؛ فكانوا إذا وقع القتل بين قبيلتين: أحدهما أشرف من الأخرى، فكان الأشراف يقولون:» لنَقْتُلَنَّ بالعَبْدِ مِنَّا الحُرَّ مِنْهُمْ، وبالمَرْأَةِ مِنَّا الرَّجُلَ مِنْهُمْ، وَبِالرَّجُلِ مِنَّا الرَّجُلَيْنِ مِنْهُمْ «وربما زادوا على ذلك، وينكحون نساءهم بغير مهورٍ؛ قاله سعيد بن جُبَيْرٍ. يروى أن واحداً من الأشراف قتل له ولد، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول، فقالوا له: ما تُرِيدُ؟ فقال: إحدى ثلاثٍ، فقالوا: ما هي؟ قال: إما تُحْيُونَ لِي وَلَدِي، أو تَمْلَئُونَ دَارِي من نُجُومِ السَّمَاءِ، أو تَدْفَعُونَ إليَّ جُملَةَ قَوْمِكُمْ؛ حَتَّى أقْتُلَهُمْ، ثم لا أَرَى أَنِّي أخذت عوضاً. وأمَّا أمر الدِّية، فربمَّا جعلوا دية الشَّريف أضعاف دية الخسيس، فلما بعث الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 تعالى محمَّداً صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوجب رعاية العدل، وسوَّى بين عباده في حكم القصاص، وأنزل الله هذه الآية. الوجه الثاني: قال السُّدِّيّ: إن قريظة والنَّضير كانوا مع تديُّنهم بالكتاب، سلكوا طريقة العرب، فنزلت الآية. الوجه الثالث: نزلت في واقعة قتل حمزة - رَضِيَ اللهُ عَنْه -. الوجه الرابع: روى محمَّد بن جرير الطبريُّ، عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْه -، وعن الحسن البصريِّ: أن المقصود من هذه الآية الكريمة التسوية بين الحُرَّين والعبدين والأُنثيين في القصاص، فأما إذا كان القاتل للعبد حرّاً، أو للحرِّ عبداً، فإنه يجب مع القصاص التراجع، وأما قتل عبداً، فهو قوده، فإن شاء أولياء العبد أن يقتلوا الحرَّ، قتلوه بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحر ويردوا إلى أولياء الحر بقيَّة ديته، وإن قتل عبد حراً، فهو به قودٌ، فإن شاء أولياء الحرِّ، قتلوا العبد، وأسقطوا قيمة العبد من دية الحُرِّ، وأدَّوا بعد ذلك إلى أولياء الحُرِّ بقيَّة ديته، وإن شاءوا أخذوا كلَّ الدية، وتركوا كل العبد، وغن قتل رجلٌ امرأة، فهو بها قودٌ، فإن شاء أولياء المرأة، قتلوه، وأدَّوا نصف الدية، وإن شاءوا، أعطوا كلَّ الدية، وتركوها، فالآية الكريمة نزلت لبيان أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرَّين، [والعبدين والأنثيين، والذكرين، فأما عند اختلاف الجنس، فالاكتفاء غير مشروع فيه] . فصل في اشتقاق كلمة «القصاص» و «القِصَاصُ» : مصدر قَاصَّهُ يُقَاصُّهُ قِصَاصاَ، ومقَاصَّةً؛ نحو: قاتَلْتُهُ قِتَالاً، ومُقَاتَلَةً، وأصله من: قصصت الشيءن اتَّبعت أثره؛ لأنَّه اتباع دم المقتول. قال تعالى: {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] ، أي: اتبعي أثره، وسمِّيت القصَّة قصَّةً؛ لتتبُّع الخبر المحكيِّ، والقصص تتبُّع أخبار النَّاس، وسمِّي المقصُّ مقصّاً، لتعادل جانبيه، هذا أصل المادَّة. فمعنى القصاص: تتبُّع الدم بالقود، ومنه التقصيص، لما يتبع من الكلأ بعد رعيه، والقصُّ أيضاً: الجصُّ، ومنه «نهيه - عليه السلام - عن تقصيص القبور» أي: تجصيصها. فصل روى البخاريُّ، والنَّسائيُّ، والدَّارقطنيُّ، عن ابن عبَّاس، قال: كان في بني إسرائيل القصاص، ولم يكن فيهم الدِّية، فقال الله لهذه الأمَّة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف} [البقرة: 178] . والعفو: أن يقبل الدية في العبد: «فَاتبَاعٌ بِالمَعْرُوفٍ وأَداءٌ إلَيْهِ بِإحْسَانٍ» تتبع بالمعروف، وتؤدي بإِحْسَانٍ، «ذَلِكَ تخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ» مما كتب على من كان قبلكم، {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} فمن قتل بعد قبول الدِّية، هذا لفظ البخاريِّ. وقال الشَّعبيُّ في قوله تعالى: {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} قال: نزلت في قبيلتين من قبائل العرب اقْتَتَلا قتال عمية، فقالوا: نقتلُ بِعَبْدِنَا فُلاَنَ، ابنَ فُلاَنٍ، وَبِأَمَتِنَا فُلانَةَ بِنْتَ فُلاَنٍ، ونحوه عن قتادة. فصل في المراد بقوله «كتب عليكم» قوله: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ» : معناه: «فُرِضُ عَلَيْكُمْ» ، فهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين: أحدهما: أن قوله كتب في عرف الشرع يفيد الوجوب. قال تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] وقال: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية} [البقرة: 180] وقد كانت الوصية واجبة، ومنه الصوات المكتوبات أي: المفروضات قال عليه السلام: «ثَلاَثٌ كُتِبَتْ عَلَيَّ وَلَمْ تُكْتَبْ عَلَيْكُمْ» والثاني: لفظة «عَلَيْكُمْ» مشعرة بالوجوب؛ لقوله {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] . والقصاص: أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل، فهو عبارة عن التَّسوية، والمماثلة في الجراحاتن والدِّيات. وقيل «كُتِبَ» هنا أخبار عمَّا كتب في اللَّوح المحفوظ، وقوله {فِي القتلى} ، أي: بسبب القتلى، كما تقدَّم؛ فدلَّ ظاهر الآية على وجوب القصاص على جميع المؤمني بسبب قتل جميع القتلى، إلاَّ إنَّهم أجعوا على أنَّ غير القاتل خارجٌ عن هذا الفارق، أمَّا القاتل، فقد دخله التخصيص أيضاً في صورٍ كثيرةٍ؛ وهي ما إذا قتل اوالد ولده، والسَّيَّد عبده، وفيما إذا قتل مسلم مسلماً خطأً، إلاَّ أنَّ العامَّ إذا دخله التخصيص، يبقى حجَّةً فيما عداه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 فإن قيل: قولكم: هذا الآية تقتضي وجوب القصاص، فيه إشكالان: الإشكال الأول: لو وجب القصاص، لوجب إمَّا على القاتل، أو على وليِّ الدَّم، أو على ثالثٍ، والأقسام الثلاثة باطلةٌ؛ لأنَّ القاتل لا يجب عليه أن يقتل نفسه، بل يحرم عليه ذلك، وأمَّا وليُّ الدم، فلا يجب عليه؛ لأنَّ وليَّ الدم يخيَّر في الفعل، والتَّرك، بل هو مندوبٌ إلى التَّرك؛ كقوله {أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] وأمَّا الثالث: فإنه أجنبيٌّ عن القتيل والأجنبي عن الشيء لا تعلُّق له به. الثاني: أنَّا بيَّنا أن القصاص عبارة عن التَّسوية، وكان مفهوم الآية إيجاب التَّسوية؛ وعلى هذا التقدير: لا تكون الآية دالَّة على إيجاب القتل ألبتَّة، بل تدلُّ على وجوب رعاية التَّسوية في القتل الذي كون مشروعاً بسبب القتل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 والجواب عن الأول من وجهين: أحدهما: أن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام، ومن يجري مجراه؛ لأنَّ متى حصلت شرائط وجوب القود، فإنَّه لا يحلُّ للإمام أن يترك القود من المؤمنين، والتقدير: يا أيها الأئمَّة، كتب عليكم استيفاء القصاص، إن أراد وليُّ الدّمِ استفاءَه. والثاني: أنه خطاب مع القاتل، التقدير: يا أيها القاتلون، كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الويِّ بالقصاص؛ وذلك لأنَّ القاتل ليس له أن يمتنع؛ خلاف الزَّاني والسارق، فإنَّ لهما الهرب من الحدود، ولهما أيضاً أن يستترا بستر الله، لا يعرفان، والفرق بينهما: أن ذلك حقٌّ لآدميٍّ. والجواب عن الثاني: أن ظاهر الآية يقتضي التَّسوية في القتل، والتَّسوية في القتل صفة القتل، وإيجاب الصفة يقتضي إيحاب الذَّات، فكانت الآية تفيد إيجاب القتل من هذا الوجه. قوله «الحُرُّ بالحُرِّ» مبتدأٌ وخبرٌ، والتقدير: الحُرُّ مأخوذٌ بالحُرِّ، أو مقتول بالحُرِّ، فتقدِّر كوناً خاصّاً، حُذِف؛ لدلالة الكالم عليه؛ فإنَّ الباء فيه للسَّبب، ولا يجوز ان تقدِّر كوناً مطلقاً؛ إذ لا فائدة فيه، لو قلت: «الحُرُّ كائنٌ بالحُرِّ» إلاَّ أن تقدِّر مضافاً، أي: قتل الحرِّ كائن بالحُرِّ، وأجاز أبو حيان: أن يكون الحُرُّ مرفوعاً بفعل محذوف، تقديره: «يُقْتَلُ الحُرُّ بالحُرِّ» ؛ يدلُّ عليه قوله تعالى: {القصاص فِي القتلى} ؛ فإن القصاص يشعر بهذا الفعل المقدَّر، وفيه بعدٌ، والحر وصفٌ، و «فُعْلٌ» الوصف، جمعه على «أفْعَالٍ» لا يقاس، قالوا: حُرٌّ وأَحْرَارٌ، ومُرٌّ وأمرار، والمؤنَّثة حُرَّة، وجمعها على «حَرَائِر» محفوظٌ أيضاً، يقال: «حَرَّ الغُلاَمُ يَحَرُّ حُرِّيَّةً» . فصل في اختلافهم في اقتضاء الآية الحصر قوله {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى} فيه قولان: الأولى: أنَّها تقتضي ألاَّ يكون القصاص مشروعاً إلاَّ بين الحُرَّين، وبين العبدين، وبين الأُنثيين. واحتجَّ عليه بوجوه: الأول: ان الألف واللام في «الحُرِّ» تفيد العموم؛ فقوله: {الحر بِالْحُرِّ} يفيد أن يقتل كلُّ حرِّ بالحر، فلو كان قتل حرٍّ بعبد مشروعاً، لكان ذلك الحُرُّ مقتولاً بغير حُرٍّ، وذلك ينافي إيجاب أن يكون كلُّ حرٍّ مقتولاً بالحُرِّ. الثاني: أن «الباء» من حروف الجَرِّ، فتتعلَّق بفعلٍ، فيكون التقدير: يقتل بالحر والمبتدأ لا يكون أعمَّ من الخبر، بل إمَّا مساوياً له، أو أخص منه، وعلى هذا التقدير فهذا يقتضي أن يكون كلُّ حُرٍّ مقتولاً بالحُرِّ، وذلك ينافي كلَّ حُرٍّ مقتولاً بالعبد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 الثالث: أنه تبارك وتعالى أوجب في أول الآية الكريمة رعاية المماثلة، وهو قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى. .} ، فلما ذكر عقيبة قوله: {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد} دلَّ على أن رعاية التَّسوية في الحُرِّيَّة والعبوديَّة معتبرةٌ؛ لأن قوله: {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد} خرج مخرج التَّفسير لقوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى. .} ، فإيجاب القصاص على الحُرِّ بقتل العبد إهمال لرعاية التَّسوية؛ فوجب ألاَّ يكون مشروعاً؛ ويؤيِّد ما ذكرنا قوله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لاَ يُقْتَلُ حُرٌّ بِعَبْدٍ، وَلاَ مُؤْمِنٌ بِكَافِرٍ» ، فإن أخذ الخصم بقوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة: 45] ، فالجواب من وجهين: أحدهما: هذه الآية شَرْعُ مَنْ قبلنا وليسَ شَرْعاً لَنا، والآيةُ التي نَحْنُ فيها شرْعُنا، فهذا أقوَى في الدَّلالة. والثاني: أن هذه الآية الكريمة مشتملةٌ على أحْكَام النُّفُوس على التفصِيل والتَّخْصيص، وتلك عامَّةٌ، والخاصُّ متقدِّم على العامِّ، ثم قال أَصْحَابُ هذا القَوْل إِنَّ ظاهِر الآية يقتضِي ألاَّ يُقتل العبد بالحرّ ولا تقتل الأنثَى بالذَّكَر، إِلاَّ إِذَا خالَفْنا هذا الظاهر؛ للإجمَاع وللمعنى المستنبطِ من نَسقِ هذه الآية الكريمة، وذلك المعنَى غير موجُود في الحُرِّ بالعَبْد؛ فوجب أَنْ يبقَى هاهنا على ظاهر اللَّفظ، أَمَّا الإجمْمَاعُ فظاهرةٌ، وَأَمَّا المعنَى المستنبَطُ، فهو أنه لَمَّا قتل العبدُ بالعبدِ، فَلأَنَّ يقتَلَ بالحرِّ الذي هو فوقه أولى، بخلاف الحر، فإنَّ لمَّا قتل بالحرِّ، لا يلزم: أنْ يُقْتَل بالعبد الَّذي هو دونَهُ، وكذا القَوْل في قتل الأنثَى بالذَّكَر، وأَمَّا قتل الذَّكَر بالأُنْثَى، فليس فيه إِلاَّ الإجماعُ. القول الثاني: أَنَّ قوله تعالى: {الحر بِالْحُرِّ} لا يفيدُ الحَصْر، بل يفيد شَرْع القِصَاص بيْن الذُّكُور من غير أن يكُون فيه دَلالَةٌ على سائر الأقسامِ؛ واحتجُّوا عليه بوجهين: الأول: أنَّ قوله: {والأنثى بالأنثى} يقتضي قِصَاص المرأة الحُرَّة بالمرأة الرقيقَةِ، فلو كان قوله {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد. .} مانعاً من ذلك، لوقع التناقض. الثاني: أنَّ قولَهُ تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى. .} جملةٌ تامّضة مستقلَّةٌ بنَفْسها. وقوله: {الحر بِالْحُرِّ} تخصيصٌ لبعض الجزئيَّاتِ بالذِّكْرن وتخصيص بعض الجزئيَّات بالذِّكِر لا يمنع مِنْ ثُبُوت الحُكْم؛ كسَائِر الجزئيَّات، وذلك التخصيصُ يمكنُ أنْ يكُون لفائدةٍ سوى نَفْي الحُكْم عن سائِرِ الصُّور، ثم اختلَفُوا في تلك الفَائدة، فذكَرُوا فيها وجهين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 الأول: وعَليْه الأكْثَرُونَ: أَنَّ فائدته إِبطالُ ما كان علَيْه الجاهليَّةُ من أنهم كانوا يقتُلُون بِالَعَبْدِ منهم الحُرَّ من قبيل القَاتِل، ففائدةُ التخصيص زجْرُهُم عن ذلك، وللقائلين بالقَوْلِ الأَوَّل: أَنْ يقولُوا: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} يمنَعُ مِنْ جواز قَتْل الحرِّ بالعبد، لأَنَّ القِصَاص عبارةٌ عن المُساواة، وقتل الحُرِّ بالعبد لم يحصُلْ فيه رعايةُ المُسَاواة، لأَنَّهُ زائدةٌ علَيْه في الشَّرف، وفي أهليَّة القضاء، والإِمامة، والشهادَة؛ فوجب ألاَّ يُشْرعَ، أقْصَى ما في البَاب أنه ترك العَمَل بهذا النَّصِّ في قتْل العَالِمِ بالجاهِل، والشَّريف بالخَسِيس بالإجْماع إِلاَّ أَنَّهُ يبقَى في غير محلِّ الإجماع على الأَصلِ، ثم إِنْ سلَّمنا أنَّ قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} يوجِبُ قتْل الحر بالعَبْد، إِلاَّ أنَّا بَينَّا أنَّ قوله: {الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد} يمنَعُ مِنْ جواز قَتْل الحُرّ بالعبد؛ لأَنَّ هذا خاصٌّ، وما قبله عامٌّ، والخاصُ مقدَّم على العامِّ، ولا سيَّما إِذَا كان الخاصُّ متَّصلاً بالعامٌ في اللَّفْظِ، فإنه يكون بمنزلة الاستثناءِ، ولا شَكَّ في وُجُوب تقديمة على العامِّ. الوجه الثاني: من بيان فائدَة التَّخصيص: نَقَلهُ محمَّد بنُ جَرِيرٍ، عن عليِّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللهُ عَنْه - والحسَن البصرِّ: أنَّ هذه الصُّور هي التي يكْتَفي فيها بالقصاصِ، بل لا بُدَّ من التراجع، إلاَّ أَنَّ أَكْثَرَ المحقِّقين زعم أنَّ هذا النَّقل لم يصحَّ عن عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْه - وهو أيضاً ضعيفٌ عند النَّظَر لأَنَّه قد ثبت أَنَّ الجماعَةَ تُقْتَل بالواحِدِ، ولا تراجع، فكذلك يُقْتَل الذَّكَر بالأُنْثَى، ولا تَرَاجُع. قوله «فَمَنْ عُفِيَ» يجوز في «مَنْ» وجهان: أحدهما: أن تكون شرطيَّةً. والثاني: أن تكون موصولةً، وعلى كلا التقديرين، فموضعها رفعٌ بالابتداء؛ وعلى الأَوَّل: يكون «عُفِيَ» في محلِّ جزم بالشَّرط؛ وعلى الثَّاني: لا محلَّ له، وتكون الفاء واجبةً في قوله: «فَاتِّبَاعٌ» على الأوَّل، ومحلُّها وما بعدها الجَزم وجائزةٌ في الثَّاني، ومحلُّها وما بعدها الرفع على الخبر، والظاهر أَنَّ «مَنْ» هو القاتِلُ، والضمير في «لَهُ وأخيه» عائدٌ على «مَنْ» و «شيء» هو القائِمُ مقام الفاعل، والمرادُ به المصدر، وبني «عُفِيَ» للمفعول، وإِنْ كان قاصراً؛ لأن القاصر يتعدَّى للمصدر؛ كقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] ، والأخ هو المقتولُ، أو وليُّ الدم، وسمَّاه أخاً للقاتِل؛ استعطافاً علَيْه، وهذا المصدر القائمُ مقام الفاعل المرادُ به الدَّمُ المعفُوُّ عنه، و «عُفِيَ» يتعدّى إلى الجاني، وإلى الجناية ب «عَنْ» ؛ تقول: «عَفَوْتُ عَنْ زَيْدٍ، وعَفَوْتُ عَنْ ذَنْبِ زَيْدٍ» فإذا عدي إليهما معاً، تعدَّى إلى الجاني ب «اللام» ، وإلى الجناية ب «عَنْ» ؛ تقول «عَفَوْتُ لِزَيْدٍ عَنْ ذَنْبِهِ» ، والآية من هذا الباب، أي: «فمَنْ عُفِيَ له عَنْ جنايتِهِ» وقيل: «مَنْ» هو وليُّ أي مَنْ جُعِلَ له من دم أخيهِ بدلُ الدمِ، وهو القِصَاص، أو الدِّيَةُ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 والمرادُ ب «شَيْءٌ» حينئذٍ: ذلك المستَحَقُّ، والمرادُ ب «الأخ» المقتولُ، ويحتمل أنْ يرادَ علَى هذا القول أيضاً: القاتِلُ، ويراد بالشيءِ الديةُ، و «عُفِيَ» بمعنى: [ «يُسِّرَ» على هذين القولَيْن، وقيل: بمعنى «تُرِكَ» . وشَنَّعَ الزَّمْخَشرِيُّ على مَنْ فَسَّر «عُفِيَ» ] بمعنى «تُرِكَ» قال: فإنْ قُلْتَ: هَلاَّ فسَّرْتَ «عُفِيَ» بمعنى «تُرِكَ» ؛ حتى يكون شَيْءٌ في معنى المفعُول به. قلْتُ: لأنَّ: «عَفَا الشَّيْء» بمعنى تركَهُ، ليْس يثبُتُ، ولكنْ «أَعْفَاهُ» ، ومنه: «وَأَعْفُوا اللِّحَى» ، فإنْ قُلتَ: قد ثَبَتَ قولُهُمْ: «عَفَا أَثَرَه» إِذَا مَحَاهُ وأَزَالَهُ، فهلاَّ جَعْلتَ معْنَاه: «فَمَنْ مُحِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيء» قلْتُ: عبارةٌ قلقلةٌ في مكَانها، والعفُو في بابِ الجناياتِ عبارةٌ متداولَةٌ مشهُورة في الكتَاب والسُّنةِ، واستعمال النَّاس، فلا يُعْدَلُ عنها إلى أخرَى قلقةٍ نابيةٍ عنْ مكانها، وَتَرَى كثيراً ممن يتعاطَى هذا العلْمَ يجترىءُ إِذَا أعْضلَ علَيْه تخريجُ وجْهٍ للمشْكِلِ من كلام الله تعالى على اختراعٍ لُغةٍ، وإدِّعاءٍ عل العرب ما لَمْ تعرْفهُ، وهذا جُزأةٌ يستعاذ بالله منها. قال أَبُو حَيَّان: إذا ثَبَتَ أنَّ «عَفَا» بمعنى «مَحَا» فَلاَ يَبْعُدُ حَمْلُ الآية علَيْه، ويكون إسناد «عَفَا» لمرفوعِهِ [إسناداً حقيقياً؛ لأنَّهُ إِذْ ذاكَ مفعولٌ به صريح، وإذا كان لا يتعدَّى كان إسناده لمرفوعِهِ] مجازاً؛ لأنَّه مَصْدَرٌ مشبَّهٌ بالمفعول به، فقد يتعادَلُ الوجْهَان؛ أَعْنِي: كوْنَ «عَفَا» اللاَّزم لشهرته في الجنايات، و «عَفَا» المتعدِّي بمعنى «مَحَا» لتعلُّقه بمرفوعِهِ تعلُّقاً حقيقياً. فإن قيل: تضَمّن «عَفَا» معنى تَرَكَ. فالجوابُ: أنَّ التَّمين لا يَنْقَاسُ، وقد أَجَازَ ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللهُ - أن يكون «عَفَا» بمعنى «تَرَكَ» . وقيل إِنَّ «عُفِيَ» بمعنى فُضِلَ، والمعنَى: فَمَنْ فضل له من الطائفَتَيْن على الأُخْرَى شيءٌ من تِلْك الدِّيات؛ مِنْ قَوْلِهِمْ: عَفَاء الشَّيْءُ إِذَا كَثُرَ، وَأَظْهَرُ هَذه الأقْوَالِ أوَّلُهَا. فصل اعلم أَنَّ الذَّين قالُوا: يوجب العَهْد أحدا أمرَين: إِمَّا القِصَاص، وَإِمَّا الدِّيَة: تمسكوا بهذه الآية، فقالوا: الآيةُ تدُلُّ على أَنَّ فيها عافياً ومَعفوّاً عَنْه، وليسَ هاهنا إلاَّ وَلِيُّ الدمِ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 والقاتلُ، فيكون العافِي أحدَهُما، ولا يجوزُ أن يكونَ القاتلَ لأَنَّ ظاهر العْفو هو إسقاطُ الحقِّ، وذلك إنَّما يتأتَّى من الوليِّ الذي له الحقُّ على القاتل، فصار تقديرُ الآية: فإذا عَفَى وَلِيُّ الدَّم عن شيءٍ يتعلَّق بالقاتِلِ، فليتبع القاتلُ ذلك العفو بمَعْروف. وقوله «شيء» مبهمٌ، فلا بدَّ من حمله على المذكُور السَّابق، وهو وجوب القِصَاصِ؛ إزالةً للإبهام، فصار تقدير الآية: إِذَا حصَلَ العْفُو للقاتلِ عن شيءِ فلْيُتْبع القاتِلُ العَافِيَ بالمَعْروف، والأداء إِلَيْه بالإِحْسَان. وبالإجْماع لا يجبُ أداءُ غيْر الدِّية؛ فوجب أن يكُون ذلك الواجبُ، هو الدِّيةَ؛ وهذا يدلُّ على أنَّ موجِبَ العمد هو القَوَد، أو المال؛ إِذْ لو لم يكُنْ كذلك، لما كان واجباً عنْد العفو عن القَودِ، والله تعالى أعلَمُ. ومما يؤكِّد هذا قولُه تعالى: {ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} ، أي أثبَتَ الخيارَ لَكُمْ في أخْذ الدية، والقِصَاص؛ رحمةً عَلَيْكُم، لأَنَّ الحُكم في اليَهُود حتْمُ القِصَاصِ، والحُكمَ في النَّصَارَى حتمُ العفوِ؛ فخفّف عن هذه الأمَّة، وشَرَع لهم التخييرَ بين القِصَاص، والعَفْوِ، وذلك تخفيفٌ من الله ورحمةٌ في حقِّ هذه الأمَّة؛ لأنَّ وليَّ الدم قد تكون الديةُ عنْده آثَرَ مِن القَوَدِ، إذا كان محتاجاً، وقد يكون القَوَدُ عنده آثَرَ، إذا كان راغباً في التشفِّي، ودفْع شر القاتلِ عنْ نَفْسهِ، فجعل الخِيَرةَ فيما أحبَّهُ؛ رحمةً من الله في حقِّه. فَإِنْ قيل: لا نسلِّم أَنَّ العافِيَ هو وليُّ الدمِ، والعفو إسقاطُ الحقِّ، بل المراد من قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} أي فمَنْ سَهُلَ له مِنْ أخيه شيءٌ، يقال: أتَانِي هذا المالُ عَفْواً صَفْواً، أي: سهلاً، ويقال: خُذْ ما عُفِيَ، أي: ما سَهُلَ؛ قال تبارك وتعالى: {خُذِ العفو} [الأعراف: 199] ، فتقديرُ الآيةِ: فمَنْ كان من أولياءِ الدَّم، وسَهُلَ له مِنْ أخيه الَّذي هو القاتِلُ شيءٌ من المالِ، أو سَهُلَ له من جهة أخِيه المَقْتُولِ، أي: بسب أخِيهِ المَقْتُولِ، فإِمَّا أن يكون أخَاه حقيقةً، وإِمَّا أن تكون قرابَتُهُ غيْر الأخوَّة، فسمَّاه أخاً مجازاً؛ كما سمَّى المقتول أخاً للقاتل، والمراد: فمن كان من أولياء الدم وسَهَّلَ، فليتبعْ وليُّ الدم ذلك القاتِلَ في مطالَبَةِ ذلك المالِ، وليؤدِّ القاتلُ إلى وَلِيِّ الدَّم ذلك المال بالإحْسَان؛ منْ غَيْر مطل، ولا مدافعة، فيكون معنَى الآيَةِ؛ على هذا التقدير: «إنَّ الله تعالى حَثَّ الأَوْلِيَاءَ، إِذَا دُعُوا إلى الصُّلْحِ من الدَّمِ على ديتهِ كُلِّها، أو بَعْضها: أَنْ يرضَوْا بِهِ؛ ويعْفُوا عن القَوَد. سلَّمنا أن العَافِيَ هو وَلِيُّ الدم، لكن لا يجوز أن يقال: المرادُ هو أن يكون القِصَاصَ مشتركاً بين شريكَيْن؛ فيعفُو أحدهما فحينئذٍ ينقلب نصيبُ الآخَر إلى الدِّية، والله تعالى أَمَرَ الشريكَ السَّاكت باتِّباعَ القاتلِ بالمَعْروف، وأمر القاتل بالأداء إِلَيْه بإِحْسَان. سلَّمنا أن العافِيَ هو وليُّ الدم، سواءٌ كان له شريكٌ، أوْ لمَ لكُنْ لِمَ لا يَجُوز أن يُقَالَ إن هذا مَشْروطٌ بِرضا القاتِلِ إِلاَ أَنَّه تبارك وتعالى لم يذكُر رضا القاتِل؛ لأنه ثابتٌ معروفٌ لا محالة، لأَنَّ الظاهر مِنْ كلِّ عاقلٍ أنَّه يبذلُ كلَّ الدنيا لَغَرَضِ دَفْع القَتْل عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 نَفْسه؛ لأَنَّهُ إِذَا قتل لا يبقَى له نفْسٌ ولا مالٌ، وبذلك المال فيه إحياءُ النَّفْسِ، فَلَمَّا كان هذا الرضا حاصلاً في الأَعَمِّ الأغلَبِ، لا جَرَمَ ترك ذكْره، وإن كان معتبراً في نَفْس الأَمْر. فالجواب أَنَّ حمل لفظ «العفوِ» هنا على إسقاط القِصَاص أولىَ منْ حَمله على دَفع القاتل المالَ إلى وليِّ الدمِ؛ مِنْ وجهين: الأوَّل: أنَّ حقيقة العفوِ إِسْقاط الحِّ؛ فوجب ألاَّ يكونَ حقيقةً في غيره؛ دفعاً للاشتراك، وحَمْلُ اللفظ هنا على إِسْقاط الحقِّ أَولى من حمْله على ما ذكَرتمِ؛ لأَنَّه لَمَّا قال: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} ، كان حمل قولِهِ: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} على إسقاط حقِّ القصاص أَوْلَى؛ لأنَّ قوله «شَيْءٌ» لفظ مبهمٌ، وحمل هذا المبْهَم علَى ذلك المعيَّن المذكور السَّابقِ أَوْلَى. الثاني: لو كان المرادُ ب «العَفْو» ما ذكَرتم، لكان قوله {فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} عبثاً؛ لأنَّ بَعْد وُصُول المالِ إِلَيْه في السُّهولة واللِّين، لا حاجة به إلَيْه، ولا حاجَةَ بذلك المُعْكَى أنْ يؤمر بأداء ذلك المَالِ بالإِحْسَان. والجواب عن الثاني مِنْ وجهين: الأَول: أنَّ ذلك الكلام: إِنَّمَا يتمشَّى بفَرض صُورةٍ مخْصُوصة، وهي ما إذا كان حَقُّ القِصَاصِ مشتركاً بين اثنين، فعفا أحدهما وسكت الآخرُ، والآيَةُ دالَّة على شرعيَّة هذا الحُكْمِ على الإِطْلاقَ، فَحَمْلُ اللَّفْظ المطْلَقِ علَى صُورة خاصَّة مقيَّدة خلافُ الظاَّهر. الثاني: أن الهاء في قوله {وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} ضميرٌ عائدٌ إلى مذكور سابقٍ، وهو العافِي، فوجَبَ أداء هذا المال إلى العَافِي، وعلى قولكم: يكون أداؤه إلى غيْر العافي فيكون باطلاً. والجوابُ عن الثَّالث: أنَّ توقيفَ ثُبُوتِ أَخْذِ الدِّية وقبول ذلك لوليِّ الدم، على اعتبار رضا القاتلِ يُخَالِفُ الظَّاهر، وهو غَيْرُ جائزٍ. فصل قد تَقَدَّمَ أن تقدِيرَ الآية الكريمة يَقْتَضِي شَيْئاً من العَفو، وهذا يُشْكِلُ إِذَا كان الحقّ ليسَ إلا القَوَد فَقَط، فإنَّهُ يقال: القَوَدُ لا يتبعَّض، فما إذا كان مجموعُ حقِّه، إِمَّا القَودَ وَإِمَّا المَالَ؛ كان مجموعُ حقِّه متبعِّضاً؛ لأنَّ له أنْ يعفو عن القَود دون لمال وله أن يعفُو عن الكُلِّ.؟ وتنكير الشَّيء يفيد فائدةً عظيمةً؛ لأَنَّهُ كان يجوز أن يتوهم أنَّ العفو لا يؤثِّر في سَقُوط القَوَدِ، وعفو بعض الأولياءَ عَنْ حقِّه؛ كعَفْو جميعهم عَنْ حقِّهم، فلو عرَّف الحقَّ، كان لا يفهم منْه ذلك، فَلَمَّا نكَّره، صار هذا المعْنَى مفهوماً منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 فصل في دلالة الآية على كون الفاسق مؤمناً نقل أابن عبَّاس تمسَّك بهذه الآية كَوْ الفاسِق مؤمناً مِنْ ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّه تعالى سمَّاه مؤمناً، حال ما وجَبَ القِصَاص علَيْه: وإِنَّما وجب القِصَاصُ عليه إذا صدر القتل العمدُ العدوان، وهو بالإِجْماع من الكبائرِ؛ فدلَّ على أن صاحِبَ الكبيرةِ مؤمنٌ. وثانيها: أنَّه أثْبَتَ الأخوَّة بيْن القاتل، وبيْن وليِّ الدم، ولا شَكَ أنَّ هذه الأخوَّة تكُون بسَبَب الدِّينِ، قال تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] فلولا أَنَّ الإيمَانَ باقٍ مع الفسقِ، وإلاَّ لما بقِيت الأخوَّة الحاصلةُ بسبب الدين. وثالثها: أنه تبارك وتعالى نَدَبَ إلى العَفْو عن القاتِلِ، والندب إلى العَفْو، إِنَّما يليقُ بالمؤمن. أجابت المعتزلة عن الأَوَّل: فقالوا: إِنْ قلْنا: المخاطبُ بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} هم الأَئمَّةُ، فالسُّؤالُ زائلٌ: وإِنْ قلْنا: هُمُ القاتِلُون، فجوابُهُ مِنْ وجهين: أحدهما: أن القاتل قبل إقدامِهِ على القَتْل، كان مؤمناً فسمَّاه الله تعالى مؤْمنا بهذا التأويل. الثاني: أن القاتل قد يَتُوب، وعنْد ذلك يكُونُ مؤمناً، ثم إِنَّه تعالَى أَدْخَلَ فيه غير التائبِ تغليباً. وأجابُوا عن الثَّاني بوجوه: الأوَّل: أَنَّ الآية نزلَتْ قبل أن يقتل أحدٌ أحداً، ولا شكَّ أَنَّ المؤمنين إخوةٌ قبْل الإقدام على القَتْل. والثاني: الظاهر أنَّ الفاسق يتوبُ، أو نَقُولك المرادُ الأخُوَّة بيْن وليِّ المقتول والقتيل؛ كما تقدَّم. الثالث: يجوز أن يكون جعلُه أخاً له في الكتاب؛ كقوله: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [الأعراف: 65] . الرابع: أنَّه حصَلَ بيْن وليِّ الدمِ، وبيْن القاتل نوعٌ تعلّقُ واختصاصٍ، وهذا القَدْرُ يكْفي في إِطلاق اسْمِ الأُخُوَّة، كما نقول للرجُل: قلْ لصاحبك كذا، إِذَا كان بينهما أَدنَى تعلُّق. الخامس: ذكر لفْظ الأخُوَّة؛ ليعْطِف أحدَهُما على صاحبه بِذِكْره ما هو ثابتٌ بينهما من الجنسيَّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 وعن الثَّالث: أنَّه ندبه لما بينهما من أصل الإقرار والاعتقاد. والجوابُ: أنَّ هذه الوجوه كُلَّها تقتضِي تقْييدَ الأخُوَّة بزمانٍ دون زمانٍ، وبصفَةٍ دون صفةٍ، والله تعالى أَثْبَتَ الأخوَّةَ على الإطْلاق، وهذا الجوابُ لا يردُّ ما ذكَرُوه في الوَجْه الثاني مِنْ قولهم: المرادُ بالأخُوَّة الَّتي بيْن وليِّ الدم والمقتولِ؛ كأنه قيل: «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ بسبب أخِيه المَقتُول شَيْء والمراد: الدِّيَةُ: فَلْيَتَّبعْ وليُّ الدَّم القاتلَ بالمعروف، وَلأْيُؤَدِ القاتلُ الديةَ إلى وَلِيِّ الدَّمِ بإحسان؛ وحينئذ يحتاجُ هذا إلى جوابٍ. قوله: {فاتباع بالمعروف} في رفْع» اتِّبَاعٌ «ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، فقدره ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - والواجبُ الاتباعُ وقدَّره الزمخشريُّ:» فالأَمْر اتِّباعٌ «.؟ قال ابن عطيَّة: وهذا سبيلُ الواجباتِ، وأَمَّا المندوبات، فتجيء منصوبةً؛ كقوله {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] قال أبو حيَّان: ولا أدري ما الفَرٌْ بين النَّصْب والرفع، إلاَّ ما ذكروه من أَنَّ الجملة الاسمية أثبَتُ وآكد؛ فيمكن أن يكُونَ مستند ابن عطيَّة هذا، كما قالوا في قوله: {قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ} [هود: 69] . الثاني: أن يرتفع بإضمار فعل، وقدره الزمخشري:» فليكن اتباعٌ «قال أبو حيَّان: هو ضعيفٌ؛ إِذْ» كَانَ «لا تضمَرُ غالباً إلاَّ بعد» إِن «الشَّرطيَّة و» لَوْ «؛ لدليلٍ يَدُلُّ عليه. الثالث: أن يكُونَ مبتدأً محذوفَ الخبر، فمنهم: مَنْ قَدَّرَهُ متقدِّماً عليه، أي: «فعلَيْهِ اتباعٌ» ومنهم: مَنْ قدَّره متأخِّراً عنه، أي: «فَاتِّباعٌ بالمَعْرُوفِ علَيْه» . قولُهُ «بِالمَعْرُوفِ» فيه ثلاةُ أوجُهٍ: أحدها: أن يتعلَّق ب «اتِّبَاعٌ» فيكون منصوبَ المحلِّ. الثاني: أن يكونَ وصْفاً لقوله «اتِّبَاعٌ» فيتعلَّق بمحذوف ويكون محلُّه الرفْعَ. الثاللث: أَنْ يكون في محلِّ نصب على الحال مِنَ الهاء المحذُوفة، تقديرُهُ: «فعلَيْهِ اتِّباعُهُ عادلاً» والعاملُ في الحالِ معْنَى الاسْتِقْرار. قولُهُ «وَأدَاء إِلَيْهِ بإحْسَانٍ» في رفعه أربعةُ أوجُه، الثلاثة المقولةُ في قوله: فاتِّبَاعٌ؛ لأنَّه معطوف علَيْه. [والرابع: أنْ يكونَ مبتدأً خبره الجارُّ والمجرورُ بَعْده، وهو «بإِحْسَانٍ» ، وهو بعيدٌ، و «إِلَيْهِ» في محلِّ نصْبٍ؛ لتعلُّقِهِ ب «أداءٌ» ، ويجوز أن يكونَ في محلِّ رفْع؛ صفةً ل «أداءٌ» فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: و «أَدَاءٌ كَائِنٌ إلَيْهِ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 و «بِإِحْسَانٍ» فيه أربعةُ أوجهٍ: الثلاثة المقولة في «بِالمَعْرُوفِ» ] . والرابع: أَنْ يكون خبر الأداء، كما تقدَّم في الوجه الرابع من رفع «أَدَاءٌ» . والهاء في «إِلَيْهِ» ، تعود إلى العافي، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكٌْ، لأَنَّ «عَفَا» يستلزمُ عافياً، فهو من باب تَفْسِير الضمير بمصاحب بوجْهٍ ما، ومنه {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32] أي: الشمس؛ لأن في ذكر «العَشِيِّ» دلالةً عليها؛ ومثله: [الطويل] 918 - فَإِنَّكَ وَالتَّأْبِينَ عُرْوَةَ بَعْدَمَا ... دَعَاكَ وَأَيْدينَا إِلَيْهِ شَوَارعُ لَكَّالرَّجُلِ الْحَادِي وَقَدْ تَلَعَ الضُّحَى ... وَطَيْرُ المَنَايَا فَوْقَهُنَّ أَوَاقِعُ فالضميرُ في «فَوْقَهُنَّ» للإِبِلِ؛ لدلالة لَفْظ «الحَادِي» عليها؛ لإِنَّهَا تصاحبُهُ بوجه مَّا. فصل قال ابنُ عبَّاس، والحَسَنُ وقتادةُ، ومجاهد: على العَافِي الاتباعُ بالمَعْروف، وعلى المَعْفُوِّ الأَدَاء إِلَيْه بإحسان. وقيل هما على المَعْفُوِّ عنه، فإنَّه يُتْبع عفو العافِي بمعروفٍ، فهو أَداءٌ المعروفِ إليه بإحسان، والاتباعُ بالمعروف: ألاَّ يشتدَّ في المطالبة، بَلْ يجري فيها على العادَةِ المألُوفَة فإنْ كان مُعْسِراً، أنْظَرَه، وإن كان واجداً لغَيْر المالِن فلا يطالبه بزيادة على قدر الحَقِّ، وإن كان واحداً لغير المال الواجبِ، فيمهله إلى أن يبيع، وأن يستبدل وألاَّ يمنعه تقديم الأهمِّ من الواجبات، فأَمَّا الداء إلَيه بإحسان فالمراد به: ألاَّ يَدَّعِيَ الإِعدامَ في حال الإِمكانِ، ولا يؤخِّره مع الوجُود، ولا يقدِّم ما ليس بواجِبٍ عليه، وأن يؤدي المالَ ببشْرٍ، وطلاقةٍ، وقولٍ جميلٍ. ومذْهبُ أكثر العُلَمَاءِ، والصحابةِ، والتابعين: أّنَّ وليَّ الدم، إِذَا عَفَا عن القصاصِ على الدِّية، فله أَخْذُ الدية، وإِنْ لم يرْضَ القَاتِلُ. وقال الحَسَنُ، والنَّخَعِيُّ، وأصحاب الرأي: لا دِيَةَ له، إلاَّ برضى القاتل. حجَّة القول الأَوَّل: قوله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ قُتِلَ له قَتِيل، فَهُوَ بِخَيْرِ النَّظَرَيْنِ، إِمَّا أَنْ يَقْتُلَ وَإِمَّا أَنْ يفدِي» . قولُهُ: «ذَلِكَ تَخْفِيف» الإِشارةُ بذلك إلى ما شَرَعه من العَفْو، والدية؛ لأنَّ العَفْو، وأَخذَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 الدِّيَةِ محرَّمان عَلى أهْل التَّوْراة، وفي شَرْع النَّصَارَى العفْو فقَطْ، ولم يكُنْ لهم القصاص، فخير الله تعالى هذه الأمَّة بيْن القصاص، وبيْن العَفْو على الدِّيَة تخفيفاً منه ورحمةً. وقيل إِنَّ قولَهُ: «ذَلِكَ» راجعٌ إلى قوله {فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} و «مِنْ رَبِّكُم» في محلِّ رفْعٍ؛ لأَنَّهُ صفةٌ لما قبله، فيتعلَّق بمحذوف. ورَحْمَةٌ صفتُها محذوفةٌ أيضاً، أي: «رحْمَة مِنْ رَبِّكُمْ» . قوله «فَمَن اعْتَدَى» يجوز في «مَنِ» الوجهانِ الجائزانِ في قولِهِ «فَمَنْ عُفِيَ لَهُ» من كونِها شرطيَّةً وموصولَةً، وجميعُ ما ذكر ثَمَّةَ يعودُ هنا. فصل قال ابنُ عبَّاس: «اعْتَدَى» ، أي: داوز الحَدَّ غلى ما هو أكْثَرُ منْه، قال ابن عبَّاس، وقتادة، والحسن: هو أن يَقْتُلَ بَعْد العَفْوِ، وأخذ الدِّية، وذلك أنَّ الجاهليَّة كانوا إذا عَفَوْأ، وأَخَذُوا الدية، ثم ظَفِرُوا بالقاتل، قَتَلُوه، فنهى الله عن ذلك في قوله {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ، وفيه قولان: أشهرهُما: أنه نوعٌ من العذابِ شديدٌ الألمِ في الآخِرةِ. والثاني: روي عَنْ قتادَة، والحَسَن، وسعيد بن جبير: هو أن يقتل لا محالة، ولا يَعْفُو عَنْه، ولا يقبل منه الدِّية؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - «لاَ أُعَافِي أَحَداً قَتَلَ بَعْدَ أَخْذِ الدِّيَةِ» قال القرطبيُّ منْ قَتَلَ بَعْد أخْذ الدِّية؛ كَمَنْ قَتَلَ ابتداءً، إنْ شاء الوليُّ قَتَلَه وإِنْ شاءَ، عفا عنه، وعذابه في الآخر، وهذا قولُ مالكٍ، والشافعيِّ وجماعةٍ. وقال قتادةُ وعكْرمةُ، والسُّدِّيُّ، وغيره: عذابُه أن يقتل الْبَتَّةَ، ولا يمكن الحاكمُ الوليَّ من العَفْو. قال ابن الخَطِيب وهذا القَولُ ضعيفٌ؛ لأن المفهُوم من العذاب الأَليم عنْد الإطلاق هو عذابُ الآخرة، وأيْضاً: فإِنَّ القَوَدَ تارةً يكُونُ عذاباً؛ كما هو في حقِّ غير التائب، وتارةً يكُون امتحاناً؛ كما في حقِّ التائب، فلا يصحُّ إِطْلاٌقُ العذابِ علَيْه إلاَّ في وجه دُونَ وجْهٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 اعلم أن كيفية النظم أنه تعالى لما أوجب القصاص في الآية المتقدمة توجه أن يقال: كيف يليق برحمته إيلام العبد الضعيف، فذكر عقيبه حكمة شرع القصاص؛ دفعا لهذا السؤال. قوله " لكم ": يجوز أن يكون الخبر، و" في القصاص " متعلق بالاستقرار الذي تضمنه " لكم " ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من حياة، لأنه كان في الأصل صفة لها، فلما قدم عليها نصب حالا، ويجوز أن يكون " في القصاص " هو الخبر، و" لكم " متعلق بالاستقرار المتضمن له، وقد تقدم تحقيق ذلك في قوله {ولكم في الأرض مستقر} [البقرة: 36] وهناك أشياء لا تجيء هنا. فصل في معنى كَوْنِ القِصاصِ حياةً الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 في معنى كَوْنِ القِصاصِ حياةً وجوه: أحدها: أَنَّهُ ليس المرادُ أَنَّ نَفْس القصاص حياةً؛ لأَنَّ القصاصَ إِزالةٌ للحياةِ، وإزالةُ الشيءِ يمتنع أَنَّ تكُون نفْسَ ذلك الشَّيءِ، بل المراد أَنَّ شَرْع القِصَاص يُفْضِي إلى الحياة. أَمَّا في حقِّ منَ يريدٌ القَتَلَ فإنَّهُ إذا عَلِمَ أَنَّه إذا قَتِلَ تَرَكَ القَتْل؛ فلا يقتل، فيَبْقَى حَيّاً، وأمَّا في حقِّ المقتول: فإنَّ مَنْ أراد قتلَه، إذا خاف مِنَ القِصَاصِ؛ تَرَكَ قَتلهُ فيبقَى غير مقتول، وأمَّا في حِّ غيرهما: فَلأَنَّ في شرع القِصَاص بقاءَ من هَمَّ بالقَتْل ومن يهمّ به، وفي بقائهما بَقَاءُ مَنْ يتعصَّبُ لهما؛ لأَنَّ الفِتْنَة تعظُمُ بسبَب القَتْل فتؤدِّي إلى المُحاربة الَّتي تنتهي إلى قتل عالَمٍ من النَّاس، وفي شَرْعِ القِصَاص زوالٌ لِكُلِّ ذلك، فيصير حياةً للكُلِّ. وثانيها: أَنَّ نفسَ القصاص سببُ الحياة؛ لأنَّ سَافِك الدَّم، إِذَا أُقِيدَ منْه، ارتدع مَنْ كان يهُمَّ بالقتل، فلم يقتل، فكان القصاص نفسُه سبباً للحياة مِنْ هذا الوجه. وثالثها: معنى الحياة سلامتُهُ مِنْ قِصَاصِ الآخِرة، فإِنَّهُ إذا اقتصَّ منه في الدُّنْيا، حيي في الآخرة، وإذا لم يقتصّ منه في الدُّنيا اقْتُصَّ منه في الخرة وها الحُكْم غير مختصٍّ بالقِصَاصِ في النَّفْسِ، بل يدخل فيه القِصاص في الجِراح والشِّجَاج. ورابعها: قال السُّدَّيُّ: ت المرادُ من القِصَاصِ إيجابُ التَّوبَة. وقرأ أبو الجوزاء في القَصَصِ والمراد به القُرآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 قال ابنُ عطيَّة ويحتمل أن يكون مَصْدراً كالقِصاصِ، أي أَنَّهُ إذا قُصَّ أثَرُ القاتلِ قَصَصاً، قُتِل. ويحتمل أن يكون قوله: {فِي القصاص حَيَاةٌ} أي فيما أَقُصُّ عليكُمْ مِنْ حُكْم القَتْل والقِصَاصِ. فصل في الردِّ على احتجاج المعتزلة بالآية قالت المعتزلة: دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ القِصَاصِ سببٌ للحياة؛ لقوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ ياأولي الألباب} ، فدَلَّ ذلك على أَنَّهُ لو لم يُشْرع القِصَاصُ، لكان ذلك سبباً للموت قبل حلول وَقْتِهِ، وكذلك كلُّ ما نتج من الحيوان، فإنَّ هلاكه قَبْلَ أجلِهِ؛ بدليل أنَّهُ يجب على القاتِلِ الضَّمانُ والدِّية. وأجيب بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: 145] وقوله: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ} وح: 4] {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38] فمتى قتل العبد علمنا أَنَّ ذلك أجلُهُ، ولا يصحُّ أن يقال: إِنَّه لو لم يُقْتَلُ، لعاش؛ لما ذكرنا من الآيات. أمَّا وجوب الضمان والدِّية، فللإقدام على القَتْل وللزجر عن الفِعْل. فصل في كون الآية في أعلى درجات البلاغة اتفق علماءُ البَيَانِ على أَنَّ هذه الآية في الإيجازِ مع جميع المعاني باللّغةٌ بالغةٌ أعلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 الدَّرجَات؛ فإنَّه قولَ العَرَبِ في هذا المعنى «القَتْلُ أَوْقَى لِلْقَتْلِ» ، ويروى «أَنْفَى لِلْقَتْل» ، ويروَى «أَكَفُّ لِلْقَتْلِ» ، ويروى «قَتْلُ البَعْضِ أَحْيَا الجَمِيع» ، ويروى: «أَكْثِروا القَتْلَ ليقلَّ القَتْلُ» فهذا وإن كان بليغاً فقد أَبْدَتِ العُلماءُ بَيْنه وبيْنَ الآية الكريمةِ وجوهاً عديدةً في البلاغة، وُجدت في الآية الكريمة دونه: منْها: أَنَّ في قولِهِم تكرارَ الاسم في جُمْلةٍ واحدةٍ. ومنها: أَنَّهُ لا بدَّ مِنْ تقدير حَذْفٍ؛ لأنَّ «أَنْفَى» و «أَوقَى» و «أَكَفُّ» أفعل تفضيل فلا بدَّ من تقدير المفضَّل عليه، أي: أنفى لِلْقتلِ مِنْ تركِ القتل. ومنها: أنَّ القِصَاص أَعَمُّ؛ إِذ يوجد في النَّفْس وفي الطَّرف، والقتلُ لا يكون إلاَّ في النَّفسِ. ومنها: أَنَّ ظاهر قولهم كونُ وجود الشيء سَبَباً في انتفاءِ نفسه. ومنها: أَنَّ في الآية نَوعاً من البديع يُسمَّى الطبَاقَ، وهو مقابلةُ الشيءِ بضدِّه، فهو يُشبه قوله تعالى: {أَضْحَكَ وأبكى} {النجم: 43] . قوله: {ياأولي الألباب} منادًى مضافٌ وعلامة نصبه الياءُ، واعلم أنَّ «أُولِي» اسمُ جَمع؛ لأَنَّ واحده، وهو «ذُو» من غَير لفظه، ويجري مَجرى جمع المذكَّر السَّالم في رفعه بالواو ونصبه وجرِّه بالياء المكسور ما قبلها، وحُكمه في لُزُوم الإضافة إلى اسم جنس حكمُ مفردِهِ، وقد تقَدَّمَ في قوله تعالى: {ذَوِي القربى} [البقرة: 177] ويقابلُهُ في المؤنث «أُولاَت» وكتباً في المُصْحف بواوٍ بعد الهمزة؛ قالوا: ليفرِّقوا بين «أُولِي كَذَا» في النَّصْب والجَرِّ، وبن «إِلَى» الَّتي هي حرفُ جرٍّ، ثم حمل باقي البَابِ علَيْه، وهذا كما تقدَّمَ في الفَرق بين «أُولَئِكَ» اسْمَ إشارةٍ، و «إِلَيْكَ» جاراً ومجروراً وقد تقدَّم، وإذا سَمَّيْتَ ب «أولى» ، من «أُولِي كَذَا» قلت: «جَاءَ أُلُونَ، وَرَأَيْتَ أُلِينَ» بردِّ النُّون؛ لأَنَّها كالمقدَّرة حالة الإضافة، فهو نظيرُ «ضَارِبُوا زَيْجٍ وَضَارِبي زَيْدٍ» . والأَلبَابُ: جمع لُبٍّ، وهو العقلُ الخالي من الهوَى؛ سمِّي بذلك لأحَدِ وَجهين: إما لبنائِهِ مِنْ لَبَّ بالمَكَانٍ: أَقَامَ به وإِمَّا من اللُّبَابِ، وهو الخَالِص؛ يقال: لَبُيْتَّ بالمكان، ولَببْتُ بضمِّ العين، وكسرها، ومجيء المضاعف على «فَعْلٍ» بضم العَين شاذٌّ، استغنَوْا عنه ب «فَعَلَ» مفتوح العين؛ وذلك في أَلفاظ محصورةٍ؛ نحو عَزُزْتُ، وسَرُرْتُ، ولَبُبْبُ، ودَمُمْتُ، ومَلُلْتُ فهذه بالضمِّ وبالفَتْح، إلاَّ «لَبُبُبُ» فبالضمِّ والكَسْر؛ كما تقدَّم. قوله {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} : قال الحسن والأصمُّ: لعلَّكمْ تَتَّقُونَ نفْس القَتْل؛ بخَوف القِصَاصِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 وقيل: المرادُ هو التقْوَى من كُلِّ الوُجُوه. قال الجُبَّائِيُّ: هذا يَدُلُّ على أنَّهُ تعالى أراد التَّقْوى مِنَ الكُلِّ، سواءٌ كان في المعْلُوم أنهم يَتَّقُونَ أَوْ لاَ يَتَّقُون بخلاف قول المُجْبِرَةِ، وقد سَبَق جوابُه. فإِن قيل «لَعلَّ» للتَّرَجِّي، وهو في حقِّ اللهِ تعالى محالٌ، فجوابهُ مَا سَبَقَ في قوله تعالى: {والذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 قال القُرطبيُّ في الكلام تقدير واو العطف، أي: {وَكُتِبَ عَلَيْكُمْ} ، فلما طال الكلامُ، سقطَت الواو، ومثله في بعض الأَقوال: {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى الذي كَذَّبَ وتولى} [الليل: 15، 16] ، أي: والذي تَوَلَّى فحذف. قووله: «كُتِبَ» مبنيٌّ للمفعول، وحذف الفاعل للعلم به، وهو الله تعالى وللاختصار. وفي القائم مقام الفاعل ثلاثةُ أوجُه: أحدها: أن يكون الوصيَّة، أي: «كتِبَ عَلَيْكُمْ الوصِيَّة» وجاز تذكير الفعل لوجهين: أحدها: كونُ القائمِ مقامَ الفاعل مؤنَّثاً مجازياً. والثاني: الفصل بيْنه وبيْن مَرْفُوعه. والثاني: أنَّهُ الإيصاءُ المدلُول عليه بقوله: {الوصية لِلْوَالِدَيْنِ} أي: كُتِبَ هو أي: الإيصاءُ، وكذلك ذكرُ الضَّمير في قوله: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} [البقرة: 181] وأيضاً: أنَّه ذكر الفِعلْل، وفصل بيْن الفِعل والوصيَّة؛ لأَنَّ الكلام، لمَّا طال، كان الفَاصِلُ بين المؤنَّث والفعْل، كالمعوَّض من تاءِ التَّأنيث، والعَرَبُ تَقُولُ: حَضَرَ القاضِيَ امرأَةٌ فيذكرون؛ لأنَّ القَاضِي فصَل بيْن الفعل وبيْن المرأة. والثَّالِثُ: أنه الجارُّ والمجرُور، وهذا يتَّجِه على رأي الأخفش، والكوفيين، و «عَلَيْكُم» في محلِّ رفع على هذا القول، وفي محلِّ نَصبٍ على القولَين الأَوَّلين. قوله تعالى: «إذَا حَضَر» العامل في «إِذَا» كُتِبَ «على أَنَّها ظَرف مَحْض وليس متضمِّناً للشَّرط، كَأَنَّهُ قيل:» كُتِبَ عَلَيْكُمْ الوَصِيَّةُ وَقْتَ حُضُورِ المَوْتِ «ولا يجوز أنْ يكُون العامل فيه لفظ» الوَصيَّة «؛ لأنَّها مصدرٌ، ومعمولُ المصدر لا يتقدَّم عليه لانحلاله لموصولٍ وصلةٍ، إلاَّ على مَذِهب منَ يَرَى التَّوسُّع في الظَّرف وعديله، وهو أبو الحسن؛ فإنَّه لا يَمْنعُ ذلك، فيكُون التَّقْديِرُ:» كُتِبَ عَلَيْكمْ أنْ توصوا وقت حضور الموت «. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 وقال ابنُ عطيَّة ويتَّجِه في إعراب هذه الآية الكريمة: أن يكون» كُتِبَ «هو العامِلَ في» إِذَا «، والمعنى:» تَوَجَّه علَيْكم إيجابُ اللهِ، ومقتضى كتابِهِ، إذا حَضَر «فعبّر عن توجُّه الإيجاب ب» كُتِبَ «لينتظم إلى هذا المعنى: أَنَّهُ مكتوبٌ في الأَزَلِ، و» الوَصِيَّة «مفعولٌ لم يسمَّ فاعلُه ب» كُتِبَ «وجواب الشَّرطين» إِنْ «و» إِذْا «مقدَّر يدلُّ عليه ما تَقَدَّم مِنْ قوله» كُتِبَ «. قال أبو حيان وفي هذا تناقصٌح لأنَّهُ جعل العَامِل في» إِذَا «كُتِبَ» ، وذلك يستلزمُ أن يكُون إذا ظرفاً محضاً غيرَ متضمِّن للشَّرطِ، وهذا يناقضُ قوله: «وجواب» إذا و «إن» محذوف؛ لأنَّ إذا الشَّرشطية لا يعملُ فيها إلاّ جوابُها، أو فعلُها الشرطيُّ، و «كُتِبَ» : ليْسَ أحدهُما، فإن قيل: قومٌ يُجِيزُون تقدِيم جوابِ الشَّرط، فيكُونُ «كُتِبَ» هو الجوابَ، ولكنَّهُ تَقَدَّم، وهو عاملٌ في «إِذَا» ن فيكون ابنُ عطيَّة يقُول بهذا القَوْل. فالجواب: أَنَّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنَّه صرَّح بأَنَّ جوابها محذوفٌ مدلولٌ عليه ب «كُتِبَ» ، ولم يجعل «كُتِبَ» هو الجوابَ، ويجوزُ أن يكُونَ العَامِلُ في «إِذَا» الإيصاءَ المفهوم مِنْ لفظ «الوَصِيَّة» ، وهو القائمُ مقام الفاعِل في «كُتِب» ؛ كما تقدَّم. قال ابن عطيَّة في هذا الوجه: ويكُونُ هذا الإيصاءُ المُقدَّر الذي يَدُلُّ عليه ذكرُ الوصيَّة بعد هو العَاملَ في «إِذَا» ، وترتفع «الوَصِيَّةُ» بالابتداء، وفيه جوابُ الشَّرطيْن؛ على نحو ما أنشَدَه سيبويه: [البسيط] 919 - مَنْ يَفْعَلِ الصَّالِحَاتِ اللهُ يَحْفَظُهُ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ويكونُ رفْعُها بالابتداءِ، أي: فعليه الوصيَّة؛ بتقدير الفَاءِ فقط؛ كأنَّهُ قال: «فالوصِيَّةُ للوالدَيْنِ» ، وناقشه أَبو حيَّان مِنْ وجوه: أحدها: أَنَّهُ متناقض من حيثُ إنَّهُ إذا جعل «إِذَا» معمولةً للإيصاء المُقدر، تمحَّضت للظَّرْفية، فكيف يُقَدَّر لها جوابٌ؛ كما تقدَّم تحريره. والثاني: أنَّ هذا الإيصاءَ إما أن تقدِّر لفظه محذوفاً، أو تضمره، وعلى كلا التَّقديرين، فلا يعمل؛ لأَنَّ المصدر شرطُ إعماله ألاَّ يُحذَف، ولا يضمر عند البصريِّين، وأيضاً: فهو قائمٌ مقام الفاعل؛ فلا يحذف. الثَّالث: قوله «جَوَابُ الشَّرْطيْنِ» والشيء الواحد لا يكُون جواباً لاثَنَين، بل جواب كلِّ واحدٍ مستقلٌّ بقدره. الرابع: جعلهُ حذفَ الفاءِ جائزاً في القُرآن، وهذا نصُّ سيبويه على أَنَّهُ لا يجوزُ إلا ضرورةً، وأنشد: [البسيط] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 920 - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ سِيّانِ وإنشاده: «من يفعل الصالحات الله يحفظه» يجوز أَنْ يكون روايةً إلاَّ أنَّ سيبَويْه لم يُنْشِدْه كذا، بل كما تقدَّم، والمُبرِّد روى عنه: أنَّه لا يجيز حذف الفاء مطلقاً، لا في ضرورةٍ، ولا غيرها، ويرويه: «مَنْ يَفْعَلِ الخَيْرَ، فالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ» وردَّ النَّاس عليه بأنَّ هذه ليست حجّةً على رواية سيبَويْهِ. ويجوز أنَّ تكون «إِذَا» شرطيَّةً؛ فيكون جوابُها وجوابُ «إِنْ» محذوفَيْن، وتحقيقُه أَنَّ جوابَ «إِنْ» مقدرٌ، تقديرُه: «كُتِبَ الوصيَّةُ على أحدِكُمْ إذا حضره الموتُ، إنْ ترك خَيْراً، فَلْيُوصِ» ، فقوله: «فَلْيُوصِ» جواب ل «إِنْ» ؛ حُذِفَ لدلالة الكلام عليه، ويكون هذا الجوابُ المقدَّر دالاًّ على جواب «إِذَا» فيكون المحذُوف دالاًّ على محذوف مثله. وهذا أَوْلَى مِنْ قَوْل من يَقُولُ: إنَّ الشَّرط الثَّاني جواب الأَوَّل، وحُذِفَ جواب الثَّاني، وأولى أيضاً مِنْ تقدير مَنْ يقدِّره في معنى «كُتِبَ» ماضي المعنى، إلاَّ أن يؤوِّله بمعنَى: «يتوجَّه علَيْكُمْ الكَتْبُ، إن تَرَكَ خَيْراً» . قوله «الوَصِيّة» فيه ثلاثةُ أوجُهٍ: أحدها: أن يكُونَ مبتدأً، وخبره «لِلْوَالِدَيْنِ» . والثاني: أنَّهُ مفعول «كُتِبَ» ، وقد تقدَّم. والثالث: أنَّهُ مبتدأٌ، خبره محذوف، أي: «فعلَيْهِ الوصيَّةُ» ، وهذا عند مَنْ يجيزُ حذف فاء الجَوابِ، وهو الأخفشُ؛ وهو محجوجٌ بنقل سيبَوَيْهِ. فصل في المراد من حضور الموت. قوله {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} ليْس المرادُ منْه معاينةَ الموْتِ؛ لأَنَّ ذلك الوقْت يكُون عاجزاً عن الإيصاء، ثم ذكر في ذلك وجهَين: أحداهم: وهو المَشهور أنَّ المرادَ حُضُور أمارةِ المَوت؛ كالمَرَض المَخُوف؛ كما يقال فيمن يخافُ علَيه المَوْت حَضَرهُ المَوْتُ ويقالُ لِمَنْ قارب البَلَد: «وَصَلَ» ؛ قال عنترة: [الوافر] 921 - وَإِنَّ المَوْتَ طَوْعُ يَدِي إِذَا ما ... وَصَلْتُ بَنَانَها بِالْهِنْدُوَانِي وقال جَرِيرُ، يهْجُو الفَرَزدَق [الوافر] 922 - أَنَّا الْمَوْتُ الَّذِي حُدِّثْتَ عَنْهُ ... فَلَيْسَ لِهَارِبٍ مِنِّي نَجَاءٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 والثاني: قال الأصمُّ: إِنَّ المُرَادَ: فَرَضْنَا عَليْكُم الوصِيَّة في حَالِ الصَّحَّة بأن تقُولُوا: «إِذا حَضَرَنا المَوْتُ، فافْعَلُوا كذا» . فصل في المراد بالخير في الآية المرادُ بالخَير هنا المالُ؛ كقوله: {وَمَا تُنْفِقُونَ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 272] {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] {مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] قال أبو العبَّاس المُقرىءُ: وقد وَرَدَ لفظ «الخَيْر» في القرآن بإزاء ثمانية معان: الأَوَّل: الخَيْرُ: المالُ؛ كهذه الآية. الثاني: الإيمانُ، قال تعالى: {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} [الأنفال: 23] أي: إيماناً، وقوله {} [الأنفال: 70] ، يعني: إيماناً. الثالث: الخير الفضل؛ ومنه قوله: {خَيْرُ الرازقين} [المائدة: 14] [الحج: 58] [المؤمنون: 72] [سبأ: 39] [الجمعة: 11] {خَيْرُ الراحمين} [المؤمنون: 109، 118] {خَيْرُ الحاكمين} [الأعراف: 87] [يونس: 109] [يوسف: 80] . الرابع: الخير: العافية؛ قال تعالى: {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} [يونس: 107] ، أي: بعافية. الخامس: الثَّواب قال تعالى: {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] ، أي: ثواب وأجر. السادس: الخير: الطَّعام؛ قال: {إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] . السابع: الخير: الظَّفر والغنيمة؛ قال تعالى: {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} [الأحزاب: 25] . الثامن: الخير: الخيل؛ قال تعالى: {أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي} [ص: 32] ، يعني: الخيل. ثم اختلفوا هان على قولين: فقال الزهريُّ: لا فرق بين القليل، والكثير، فالوصيَّة واجبة في الكلِّ، لأن المال القليل خير؛ لقوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7 - 8] {إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] والخير: ما ينتفع به، والمال القليل كذلك، وأيضاً: قوله تعالى في المواريث: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} [النساء: 7] فتكون الوصية كذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 الثاني: أن الخير هو المال الكثير؛ لأن من ترك درهماً لا يقال ترك خيراً، ولا يقال: فلانٌ ذو مالٍ، إلاَّ أن يكون ماله مجاوزاً حدَّ الحاجة، ولو كان الوصيَّة واجبةً في كلِّ ما يترك، سواء كان قليلاً أو كثيراً، لما كان التقييد بقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} كلاماً مفيداً؛ لأنَّ كلَّ أحدٍ لا بُدَّ وأن يترك شيئاً، وأمَّا من يموت عرياناً، ولا يبقى منه كسرة خبزٍ فذلك في غاية النُّدرة، وإذا ثبت أن المراد بالخير هنا المال الكثير، فهل هو مقدَّر، أم لا؟ فيه قولان: الأول: أنه مقدَّر، واختلفوا في مقداره؛ فروي عن عليٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْه -: أنه دخل على مولى لهم في الموت، وله سبعمائة درهم، فقال أَوَلاً أوصي؟ فقال: لا؛ إنَّما قال الله: {إِنْ تَرَكَ خَيْراً} والخير: هو المال الكثير، وليس لك مالٌ. وعن عائشة: أنَّ رجلاً قال لها: إنِّي أريد أن أوصي، قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلافٍ، قالت: كم عيالك؟ قال أربعٌ، قالت: قال الله تعالى: {إِن تَرَكَ خَيْراً} وإن هذا يسير، فاتركه لعائلتك، فهو أفضل. وعن ابن عبَّاس: «إذا ترك سبعمائة درهم، فلا يوصي، فإن بلغ ثمانمائة درهمٍ، أوصى» وعن قتادة: ألف ردهمكٍ، وعن النَّعيِّ: من ألفٍ وخمسمائة درهم. وقال قوم: إنه غير مقدَّر بمقدار معيَّن بل يختلف باختلاف حال الرجال. فصل في تحرير معنى «الوصيَّة» . قال القُرْطُبيُّ: و «الوصيَّة» عبارةٌ عن كلِّ شيءٍ يؤمر بفعله، ويعهد به في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 الحياة، وبعد الموت، وخصَّصها العرف بما يعهد بفعله، وتنفيذه بعد الموت، والجمع وصايا، كالقضايا جمع قضيَّة، والوصيُّ يكون الموصي، والموصى إليه؛ وأصله من وصى مخفَّفاً وتواصى النَّبت تواصياً، إذا اتصل، وأرض واصية: متَّصلة النّبات، وأوصيت له بشيءٍ، وأوصيت إليه، إذا جعلته وصيَّك، والاسم الوِصاة، وتواصى القومُ أوصى بعضهم بعضاً، وفي الحديث «استوصوا بالنِّساء خيراً؛ فإنهنَّ عَوَانٍ عِنْدَكُمْ» ووصَّيتُ الشيء بكذا، إذا وصَّلته به. فصل في سبب كون الوصية للوالدين والأقربين اعلم: أن الله تعالى بيَّن أن الصوية الواجبة للوالدين والأقربين. قال الأصم: وذلك أنَّهم كانوا يوصون للأبعدين طلباً للفخر والشَّرف، ويتركون الأقارب في الفقر، والمسكنة؛ فأوجب الله تعالى في أول الإسلام الوصيَّة لهؤلاء. وقال ابن عبَّاس، وطاوسٌ، وقتادة، والحسن: إنَّ هذه الوصيَّة كانت واجبةٌ قبل آية المواريث للوالدين والأقربين من يرث منهم، ومن لا يرث، فلما نزلت آية المواريث، نسخت وجوبها في حِّ الوارث، وبقي وجوبها في حقِّ من لم يرث، قال رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ قَدْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ، فَلاَ وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ» وقال طاوس: من أوصى لقومٍ، وترك ذوي قرابة محتاجين، انتزعت منهم، وردت في ذوي قرابته. وذهب الأكثرون إلى أن الوجوب صار منسوخاً في حقِّ الكافَّة، وهي مستحبَّة في حقِّ الذين لا يرثون. روى مالك، عن نافع، عن ابن عمر: أن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ما حَقُّ امرِىءِ مُسْلِمٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 لَهُ شَيْءٌ يريد أن يُوصِيَ فيه، يَبِيتُ لَيْلَتَيْنِ إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» وقال بعضهم: إن الوصيَّة لم تكن واجبةً، وإنما كانت مندوبةً، وهي على حالها لم تنسخ، وسيأتي الكلام عليه قريبا - إن شاء الله تعالى -. قوله: «بالمعروف» : يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّق بنفس الوصيَّة. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الوصيَّة، أي: حال كونها ملتبسة بالمعروف، لا بالجور. فصل يحتمل أن يكون المراد منه قدر ما يوصى به، فيسوَّى بينهم في العطيَّة، ويحتمل ان يكون المراد من المعروف ألاَّ يعطي البعض، ويحرم البعض؛ كما إذا حرم الفقير، وأوصى للغنيِّ، لم يكن ذلك معروفاً، ولو سوَّى بين الوالدين مع عظم حقهما، وبين بني العمِّ، لم يكن معروفاً، فالله تعالى كلَّفه الوصيَّة؛ على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش، ونقل عن ابن مسعود: أنه جعل هذه الوصيَّة للأفقر فالأفقر من الأقربا. وقال الحسن البصريُّ: هم والأغنياء سواء. وروي عن الحسن أيضاً، وجابر بن زيدٍ، وعبد الملك بن يعلى: أنهم قالوا فيمن يوصى لغير قرابته، وله قرابةٌ لا ترثه، قالوا: نجعل ثُلثي الثُّلث لذوي قرابته، وثلث الثُّلث للموصى له، وتقدَّم النَّقل عند طاوس أنَّ الوصيَّة تنزع من الأجنبيِّ، وتعطى لذوي القرابة. وقال بعضهم: قوله: «بالمعروف» : هو ألاَّ يزيد على الثُّلث، روي عن سعد بن مالك، قال: جاءني النبيُّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعودني، فقلت: يا رسول الله، قد بلغ بي من الوجع ما ترى، وأنا ذو مالٍ، ولا يرثني إلاَّ ابنتي، فأوصي بثلثي مالي؟ وفي روايةٍ: «أُوصِي بِمَالِي كُلِّه» قال: «لا» ، قُلْتُ: بالشَّطْر؛ قال: «لا» ، قلت فالثُّلُث، قال: «الثُّلُثُ، والثُّلُثُ كثير؛ إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكفَّفون الناس» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 وقال [عليٌّ: لأن أوصي بالخمس أحبُّ إليَّ من أن أوصي بالربع، ولأن أوصي بالربع أحبُّ إليَّ من أن أوصي بالثُّلثن فلم أوصي بالثُّلث، فلم يترك «] . وقال الحسن: نوصي بالسُّدس، أو الخمس، أو الرُّبع. وقال الفارسيُّ: إنما كانوا يوصون بالخمس والرُّبع. وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز أن يوصي بأكثر من الثُّلث، إلاَّ أصحاب الرأي، فإنهم قالوا: إن لم يترك الوصيُّ ورثةً، جاز له أن يوصي بماله كله. وقالوا: إنَّما جاز الاقتصارعلى الثُّلث في الوصيَّة؛ لأجل أن يدع ورثته أغنياء. قوله» حَقّاً «في نصبه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، ذلك المصدر المحذوف: إما مصدر» كُتِبَ «، أو مصدر» أَوْصَى «، أي:» كَتْباً حَقّاً «أو» إيصاءً حَقّاً «. الثاني: أنه حالٌ من المصدر المعرَّف المحذوف، إما مصدر» كُتِبَ «، أو» أوصى «؛ كما تقدَّم. الثالث: ان ينتصب على أنَّه مؤكِّدٌ لمضمون الجملة؛ فيكون عاملة محذوفاً، أي: حُقَّ ذلك حَقّاً، قاله الزمَّخشرِيُّ، وابن عطيَّة، وأبو البَقَاء. قال أبو حَيَّان: وهذا تَأْبَاهُ القَوَاعِدُ النَّحْوِيَّة؛ لأن ظاهر قوله «على المُتَّقِينَ» أن يتعلَّق ب «حَقّاً، أو يكون في موضع الصفة له، وكلا التقديرين لا يجوز. أما الأول؛ فلأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل، وأما الثاني؛ فلأنَّ الوصف يخرجه عن التَّأكيد. قال شهاب الدِّين: وهذا لا يلزمهم؛ فإنهم، والحالة هذه، لا يقولون: إنَّ» عَلَى المُتَّقِينَ «متعلِّق به، وقد نصَّ على ذلك أو بالبَقَاءِ - رَحِمَهُ اللهُ -؛ فإنه قال: وقيل: هو متعلِّق بنفس المصدر، وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ المصدر المؤكِّد لا يعمل، وإنَّما يعمل المصدر المنتصب بالفعل المحذوف، إذا ناب عنه؛ كقولك» ضَرباً زيداً «، أي:» اضْرِبْ «إلاَّ أنه جعله صفة ل» حقّ «فهذا يرد عليه، وقال بعض المعربين: إنه مؤكد لما تضمَّنه معنى المتقين: كأنَّه قيل» عَلَى المُتَّقِينَ حَقّاً؛ كقوله: {أولئك هُمُ المؤمنون حَقّاً} [الأنفال: 74] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 وهذا ضعيف؛ لتقدمه على عاملة الموصول، ولأنه لا يتبادر إلى الذِّهن. قال أبو حيَّان: والأولى عندي: أن يكون مصدراً من معنى «كُتِبَ» ؛ لأن معنى «كُتِبَ الوَصِيَّةُ» ، أي: حقَّت ووجبت، فهو مصدر على غير الصدر، نحو: «قَعَدت جُلُوساً» . فإن قيل: ظاهر هذا لتَّكليف يقتضي تخصيص هذا التَّكليف بالمتَّقين، دون غيرهم؟ فالجواب أن المراد بقوله تعالى: {حَقّاً عَلَى المتقين} أنَّه لاَزِمٌ لمن آثر التقوى، وتحرَّاه، وجعله طريقةٌ له ومذهباً، فيدخل الكل فيه. وأيضاً: فإن الآية الكريمة وإن دلَّت على وجوب هذا المعنى على المتقين، فالإجماع دلَّ على أنَّ الواجبات والتَّكاليف عامَّةٌ في حقِّ المتَّقين وغيرهم، فبهذا الطَّريق يدخل الكلُّ تحت هذا التَّكليف. فصل في اختلافهم في تغيير المدبر وصيته قال القُرْطُبيُّ: أجمعوا على أن للإنسان أن يغيِّر وصيَّته، ويرجع فيما شاء منها إلاَّ أنهم اختلفوا في المدبر. فقال مالك: الأمر المجمع عليه عندنا: أن الموصي، إذا أوصى في صحَّته، أو مرضه بوصيَّةٍ، فيها عتق رقيق، فإنه يغيِّر من ذلك ما بدا له، ويصنع من ذلك ما يشاء حتى يموت، وإن أحبَّ أن يطرح تلك الوصيَّة، ويسقطها فَعَل، إلاَّ أن يدبِّر، فإن دبَّر مملوكاً، فلا سبيل له إلى تغيير ما دبَّر. قال أبو الفرج المالكيُّ: المدبِّر في القياس كالمعتق إلى شهر؛ لأنه أجلٌ آتٍ لا محالة، وأجمعوا على أنَّه لا يرجع في اليمين بالعتق، والعتق إلى أجلٍ؛ فكذلك المدبِّر، وبه قال أبو حنيفة، وقال الإمام الشافعيُّ وإسحاق وأحمد: هو وصيَّةٌ. فصل اختلفوا في الرَّجل، يقول لعبده: «أنْتَ حُرٌّ بَعْدَ موْتِي» ، وأراد الوصيَّة، فله الرُّجوع عند مالك، وإن قال: «فُلاَنٌ مُدَبَّرٌ بَعْدَ مَوْتِي» لم يكن له الرُّجُوع فيه، فإن أراد التدبير لقوله الأول، لم يرجع أيضاً عند أكثر أصحاب مالك، وأما الشَّافِعيُّ، وأحمد، وإسحاق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 وأبو ثور، فهذا كلُّه عندهم وصيَّةٌ؛ لأنَّه في الثُّلث، وكلُّ ما كان في الثُّلث، فهو وصيَّة، إلا أن الشافعيَّ قال: لا يكون له ارُّجوع في المدبَّر إلاّض بأن يخرجه عن ملكه ببيعٍ أو هبةٍ، وليس قوله: «فَقَدْ رَجَعْتُ» رجوعاً. فصل اختلفوا في رجوع المجيزين للوصيَّة للوارث في حياة الموصي، وبعد وفاته. فقالت طائفة: ذلك جائز عليهم، وليس لهم الرجوع، وهو قول عطاء بن أبي رباحٍ، وطاوسٍ، والحسن، وابن سيرين، وابن أبي لييلى، والزهريِّ، وربيعة، والأوزاعي، وقيل: لهم الرجوع، إن أحبُّوا، وهو قول ابن مسعود، وشريحٍ، ولاحكم، والثوريِّ، والحسن بن صالح، وأبي حنيفة، والشافعي، وأحمد وأبي ثورٍ وابن المنذر. وقال مالك: إن أذنوا في صحته، فلهم الرجوع، وإن أذنوا في مرضه، فذلك جائز عليهم، وهو قول إسحاق. فصل في الحجر على المريض في ماله وذهب الجمهور إلى أنَّه يحجر على المريض في ماله. وقال أهل الظاهر: لا يحجر عليه، وهو كالصَّحيح. فصل في توقُّف الوصيَّة على إجازة الورثة إذا أوصى لبعض ورثته بمالٍ، وقال في وصيَّته: إن أجازها الورثة، فهي لك، وإن لم يجيزوها، فهو في سبيل الله، فلم يجزها الورثة، فقال مالك: مرجع ذلك إليهم. وقال أبو حنيفة، ومعمر، والشافعي في أحد قوليه: يمضي في سبيل الله، والله أعلم. فصل من النَّاس من قال: إن الوصيَّة كانت واجبةً؛ واستدلَّ بقوله كتب وبقوله «عَلَيْكُمْ» وأكد الإيجاب بقوله: {عَلَى المتقين} ، وهؤلاء اختلفوا: فمنهم من قال صارت هذه الآية منسوخة. وقال أبو مسلم: إنها لم تنسخ من وجوه. أحدها: أن هذه الآية الكريمة ليست مخالفة لآية المواريث، ومعناه: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ ما وَصَّى به الله؛ من تواريث الوَالِدَيْن والأقْرَبِينَ، ومِنْ قوله: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: 11] أو كتب على المحتضر أن يوصي للوالدين والأقربين؛ بتوفير ما وصَّى به الله عليهم، وألاَّ ينقص من أنصبائهم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 وثانيها: أنه لا منافاة بين ثبوت الميراث بحكم الآيتين. وثالثها: لو قدرنا حصول المنافاة، لكان يمكن جعل آية المواريث لإخراج القريب الواريث، ويبقى القريب الذي لا يكون وارثاً داخلاً تحت هذه الآية؛ وذلك لأن من الوالدين من يرث، ومنهم من لا يرث بسبب اختلاف الدِّين أو الرِّقِّ، أو القتل، ومن الأقارب الذين لا يسقطون في فريضة: من لا يرث بهذه الأسباب الخارجية ومنهم: من يسقط في حال، ويثبت في حال، ومنهم: من يسقط في كل حالٍ. فمن كان من هؤلاء وارثاً، لم يتجز الوصيَّة له، ومن كان منهم غير وارث، صحَّت الوصيَّة له، وقد أكَّد الله تعالى ذلك بقوله: {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] ، وبقوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان وَإِيتَآءِ ذِي القربى} [النحل: 90] ، والقائلون بالنسخ: اختلفوا بأي دليل صارت منسوخة، فقال بعضهم: بإعطاء الله أهل المواريث كل ذي حقٍّ حقَّه. قال ابن الخطيب وهذا بعيد؛ لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوبُ قدر آخر بالوصيَّة، وأكثر ما يوجبه ذلك التَّخصيص، والنَّسخ. فإن قيل: لا بدَّ وأن تكون منسوخة في حقِّ من لم يخلف إلا الوالدين من حيث يصير كلُّ المال حقّاً لهم؛ بسبب الإرث، فلا يبقى للوصيَّة شيءٌ؟! فالجواب: أن هذا تخصيص، لا نسخ. وقال بعضهم أيضاً: إنها نسخت بقوله - عليه السَّلام -، «لا وَصِيَّةَ لَوَارِثٍ» ، وفيه إشكالٌ؛ من حيث إنَّه خبر واحد، فلا يجوز نسخ القرآن به، فإن قيل: بأنه، وإن كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 خبر واحد، إلاَّ أن الأمَّة تلقَّته بالقبول، فالتحق بالمتواتر. فالجواب: سلَّمنا أن الأمَّة تلقَّته بالقبول، لكن على وجه الظَّنِّ، أو على وجه القطع؟ فإن كان على وجه الظَّنِّ، فمسلَّم إلاَّ أن ذلك يكون إجماعاً منهم على انه خبر واحد، فلا يجوز نسخ القرآن به، وإن كان على وجه القطع فممنوع؛ لأنهم لو قطعوا بصحَّته، مع أنه من باب الآحاد، لكانوا قد أجمعوا على الخطأ، وإنه غير جائزٍ. وقال آخرون: إنها نسخت بالإجماع، والإجماع يجوز أن ينسخ به القرآن؛ لأن الإجماع يدلُّ على أن الدَّليل النَّاسخ كان موجوداً إلاَّ أنهم اكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدَّليل، ولقائل أن يقول: لمَّا ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ؛ فحينئذٍ: لم يثبت الإجماع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 وقال قوم: نسخت بدليلٍ قياسٍّ، وهو أن نقول: هذه الوصية، لو كانت واجبةً، لكانت، إذا لم توجد هذه الوصيَّة، يجب ألاَّ يسقط حقُّ هؤلاء الأقربين، وقد رأيناهم سقطوا لقوله تعالى في آية المواريث {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] فظاهره يقتضي أنه إذا لم يكن وصيَّةٌ أو دينٌ، فالمال أجمع للوارث. ولقائل أن يقول: نسخ القرآن بالقياس غير جائزٍ. قال القرطبيُّ: قوله تعالى «حَقًّا» أي: ثابتاً ثبوت نظرٍ، وتحصين، لا ثبوت فرضٍ ووجوبٍ؛ بدليل قوله: «عَلَى المتقين» وهذا يدل على كونه مندوباً؛ لأنه لوكان فرضاً، لكان على جميع المسلمين، فلما خصَّ الله تعالى المُتَّقِي، وهو من يخاف التَّقصير، دلَّ على أنه غير لازم لغيره. فصل «في حقِّ من نسخت الآية» قال أكثر المفسرين إنها نسخت في حقِّ من يرث ومن لا يرث. وقال بعض المفسِّرين من الفقهاء: إنَّها نسخت في حقِّ من يرث، وثابتة في حقِّ من لا يرث، وهو مذهب ابن عبَّاس والحسن، ومسروق، وطاوسٍ، والضَّحَّاك، ومسلم بن يسارٍ، والعلاء بن زياد. ؟ قال طاوس: إن من أوصى للأجانب، وترك الأقارب، نزع منهم، وردَّ إلى الأقارب؛ لوجوب الوصيَّة عند هؤلاء، والباقي للقريب الذي ليس بوارث. واستدلُّوا بأنَّ هذه الآية دالَّة على وجوب الوصيَّة للقريب، سواء كان وارثاً، أو غير وارث، ترك العمل به في حقِّ القري الوارث، إما بآية الماوريث، أو بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لاَ وَصِيَّةَ لَوَارِثٍ» ، وهاهنا الإجماع غير موجود، لأن الخالف فيه قديم وحديث؛ فوجب أن تبقى الآية دالَّةً على وجوب الوصيَّة للقريب الذي ليس بوارث. واستدلوا أيضاً بقوله - عليه السلام -: «مَا حَقُّ امْرِىءٍ مُسْلِم لَهُ مُلْكٌ يَبِيتُ لَيْلَتَيْن، إلاَّ وَوَصِيَّتُهُ مَكْتُوبَةٌ عِنْدَهُ» وقد أجمعنا على أن الوصيَّة غير واجبةً لغير الأقارب؛ فوجب أن تكون هذه الوصيَّة واجبةً للأقراب، فأمَّا الجمهور، فأجود ما استدلُّوا به على أنها منسوخة في حقِّ الكلِّ قوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 12] وقد ذكرنا تقريره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 يجوز في «مَنْ» أن تكون شرطيَّةً وموصولةً، والفاء: إمَّا واجبةٌ، إن كانت شرطاً، وإمَّا جائزةٌ، إن كانت موصولةً، والهاء في «بَدَّلَهُ» يجوز أن تعود على الوصيَّة، وإن كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 بلفظ المؤنَّث؛ لأنَّها في معنى المذكَّر، وهو الإيصاء؛ كقوله تعالى: {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةً} [البقرة: 275] أي وعظٌ، أو تعود على نفس الإيصاء المدلول عليه بالوصيَّة، إلاَّ أنَّ اعتبار المذكَّر في المؤنَّث قليلُ، وإن كان مجازيّاً؛ ألا ترى أنه لا فرق بين قولك: «هْنْدٌ خَرَجَتْ، والشَّمْسُ طَلَعَتْ» ، ولا يجوز: «الشّمْسُ طَلَعَ» كما لا يجوز: «هِنْدٌ خَرَجَ» إلا في ضرورة. وقيل: تعود على الأمر، اولفرض الذي أمر الله به وفرضه. وقيل: تعود إلى معنى الوصيَّة، وهو قولٌ، أو فعلٌ، وكذلك الضَّمير في «سَمِعَهُ» والضَّمير في «إثْمُهُ» يعود على الإيصاء المبدَّل، أو التَّبديل المفهوم من قوله: «بَدَّلَهُ» ، وقد راعى المعنى في قوله: {عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ} ؛ إذ لو جرى على نسق اللفظ الأول، لقال {ُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ} ، وقيل: الضَّمير في «بَدَّلَهُ» يعود على الكتب، أو الحَقِّ، أو المعروفِ، فهذه ستَّة أقوال، و «مَا» في قوله: «بَعْدَمَا سَمِعَهُ» يجوز أن تكون مصدريَّةً، أي: بعد سماعه، وأن تكون موصولةً بمعنى «الذي» ، فالهاء في «سَمِعَهُ» على الأول تعود على ما عاد عليه الهاء في «بَدَّلَهُ» ؛ وعلى الثاني: تعود على الموصول، أي «بَعْدَ الَّذي سَمِعَهُ مِنْ أَوَامِرِ اللهِ» . فصل في بيان المبدِّل في المبدِّل قولان: أحدهما: انه الوصيُّ، أو الشاهد، أو سائر النَّاس أما الوصيُّ: فبأن يغيِّر الموصى به: إمَّا في الكتابة، أو في قسمة الحقوق، وأمَّا الشاهد: فبأن يغيِّر شهادته، أو يكتمها، وأما غير الوصي والشاهد؛ فبأن يمنعوا من وصول ذلك المال إلى مستحقِّه، فهؤلاء كلُّهم داخلون تحت قوله: «فَمَنْ بَدَّلَهُ» . الثاني: أن المبدِّل هو الموصي، نهي عن تغيير الوصيَّة عن موضعها التي بيَّن الله تعالى الوصية إليها؛ وذلك أنا بيَّنَّا أنهم كانوا في الجاهليَّة يوصون للأجانب، ويتركون الأقارب في الجوع والضَّر، فأمرهم الله تعالى بالوصيَّة إلى الأقربين، ثم زجر بقوله: {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} أي: من أعرض عن هذا التَّكليف، وقوله: {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} ، أي سَمِيعٌ لما أوصى به النموصي، عليمٌ بنيَّتهن لا تخفى عليه خافيةٌ من التَّغيير الواقع فيها. فصل في تبديل الوصيَّة بما لا يجوز قال القرطبيُّ: لا خلاف أنه إذا أوصبى بما لا يجوز؛ مثل: أن يوصي بخمرٍ، أو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 خنزير، أو شيءٍ من المعاصي، فإنه لا يجوز إمضاؤه، ويجوز تبديله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 يجوز في «مَنْ» الوجهان الجائزان في «مَنْ» قبلها، والفاء في «فَلاَ إِثْمَ» هي جوابُ شرطٍ، أو الدَّاخلة في الخبر. و «مِنْ مُوصٍ» يجوز فيها ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن تكون متعلِّقة ب «خَافَ» على أنها لابتداء الغاية. الثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حال من «جَنَفاً» ، قدمت عليه؛ لأنها كانت في الأصل صفةً له، فلما تقدَّمت، نُصِبَتْ حالاً، ونظيره: «أَخَذْت مِنْ زَيْدٍ مَالاً» ، إنْ شئت، علَّقت «مِنْ زَيْدٍ» ب «أَخَذْتُ» ، وإن شئت، جعلته حالاً من «مالاً» ؛ لأنه صفته في الأصل. الثالث: أن تكون لبيان جنس الجانفين، وتتعلَّق أيضاً ب «خَافَ» فعلى القولين الأولين: لا يكون الجانف من الموصين، بل غيرهم، وعلى الثالث: يكون من الموصين، وقرأ أبو بكر، وحمزة والكسائي، ويعقوب «مُوصٍّ» بتشديد الصَّاد؛ كقوله: {مَا وصى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] و {وَوَصَّيْنَا الإنسان} [لقمان: 14] والباقون يتخفيفها، وهما لغتان؛ من «أَوْصَى» ، و «وَصَّى» ؛ كما قدَّمنا، إلا أن حمزة، والكسائيَّ، وأبا بكر من جملة من قرأ {ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ} [البقرة: 132] ونافعاً، وابن عامرٍ يقرءان «أَوْصَى» بالهمزة، فلو لم تكن القراءة سُنَّةً متبعة لا تجوز بالرَّأي، لكان قياس قراءة ابن كثير، وأبي عمرو، وحفص هناك: «وَوَصَّى» بالتضعيف - أن يقرءوا هنا «مُوَصٍّ» بالتَّعيف أيضاً، وأمَّا نافع، وابن عامر، فإنهما قراءا هنا: «مُوصٍ» مخفَّفاً؛ على قياس قِراءتهما هنا:، و «أَوْصَى» على «أَفْعَلَ» وكذلك حمزة، والكسائيُّ، وأبو بكر قراءوا: «وَوَصَّى» - هناك بالتضعيف؛ على القياس. و «الخَوْفُ» هنا بمعنى الخشية، وهو الأصل. فإن قيل: الخوف إنما يصحُّ في أمر سيصير، والوصيَّة وقعت، فكيف يمكن تعليقها بالخوف؟! والجواب من وجوهٍ: أحدها: أن المراد منه أن المصلح، إذا شاهد الموصي، يوصي، وظهر منه أمارة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 الحيف، عن طريق الحقِّ مع ضرب من الجهالة، أو مع التأويل، أو شاهد من التَّعمُّد في الميل، فعند ظهور الأمارة تحقيق الوصيَّة، يأخذ في الإصلاح؛ لأنَّ إصلاح الأمر عند ظهور أمارات فساده، وقبل تقرير فساده يكون أسهل؛ فلذلك علَّقه - تعالى - بالخوف دون العلم. الثاني: الموصي له الرجوع عن الوصيَّة، وفسخها، وتغييرها بالزِّيادة والنُّقصان، ما لم يمت، وإذا كان كذلك، لم يصر الجنف والإثم معلومين؛ فلذلك علَّقه بالخوف. الثالث: يجوز أن يصلح الورثة والموصى له بعد الموت على ترك الميل والجنف، وإذا كان ذلك منتظراً، لم يكن الجنف، والإثم مستقرّاً؛ فصحَّ تعليقه بالخوف. وقيل: [الخَوْفُ] بمعنى العلم، وهو مجازٌ، والعلاقة بينهما هو أنَّ الإنسان لا يخاف شيئاً؛ حتى يعلم أنه ممَّا يُخاف منه، فهو من باب التعبير عن السَّبب بالمسبِّب؛ ومن مجيء الخوف بمعنى العلم قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 229] ، وقول أبي محجن الثقفيَّ: [الطويل] 923 - إذَا مُتُّ فَادْفِنِّي إلى جَنْبِ كَرْمَةٍ ... تُرَوِّي عِظَامِي في المَمَاتِ عُرُوقَهُا وَلاَ تَدْفِنَنِّي في الفَلاَةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إذَا مَا مُتُّ أَنْ لاَ أَذُوقُهَا فعلى هذا يكون معنى الآية الكريمة أن الميِّت إذا أخطأ في وصيَّته، أو جنف فيها متعمِّداً، فلا حرج على من علم ذلك ان غيِّره، بعد موته، قاله ابن عباس، وقتادة، والرَّبيع، وأصل «خَافَ» «خَوَفَ» تحرَّكت الواو وانفتح ما قبلها؛ فقلبت ألفاً، وأهل الكوفة يميلون هذه الألف. و «الجَنَفُ» فيه قولان: أحدهما: الميل؛ قال الأعشى: [الطويل] 924 - تَجَانَفُ عَنْ حُجْرِ اليمَامَةِ نَاقِتِي ... وَمَا قَصَدَتْ مِنْ أَهْلِهَا لِسوَائِكَا وقال آخر: [الوافر] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 925 - هُمُ المَوْلَى وَإِنْ جَنَفُوا عَلَيْنَا ... وَإِنَّا مِننْ لِقَائِهِمْ لَزُورُ قال أبو عبيدة: المولى هاهنا في موضع الموالي، أي: ابن العمِّ؛ لقوله تعالى: {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر: 67] ، وقيل: هو الجسور. قال القائل: [الكامل] 926 - إنِّي امْرُؤٌ مَنَعَتْ أَرُومَةَ عَامِرٍ ... ضَيْمِي وَقَدْ جَنَفَتْ عَلَيَّ خُصُومُ يقال: جَنِفَ بِكَسْر النُّون، يَجْنَفُ، بفتحها، فهو جَنِفٌ، وجَانِفٌ، وأَجْنَفَ: جاء بالجَنَفِ، ك «أَلأَمَ» أي: أتى بما يلام عليه. والفرق بين الجنف والإثم: أن الجنف هو الميل مع الخطأ، والثم: هو العمد. فصل في سوء الخاتمة بالمضارة في الوصيَّة روي عن أبي هريرة، عن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إنَّ الرَّجُلَ، أو المَرْأَةَ، لَيَعْمَلُ بِطَاعَةِ اللهِ سَبْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يَحضُرُهُمَا المَوْتَ، فَيُضَّارَّانِ في الوَصِيَّةِ؛ فتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ» ، ثم قرأ أبو هريرة: «مِنْ بَعْدِ وَصِيَّة» إلى قوله: {غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّة} [النساء: 12] . فصل والضمير في «بَيْنَهُمْ» عائدٌ على الموصي، والورثة، أو على الموصى لهم، أو على الورثة والموصى لهم، والظاهر عوده على الموصى لهم، إذ يدلُّ على ذلك لفظ «الموصي» ، وهو نظير «وأَدَاءٌ إلَيْهِ» في أنَّ الضَّمير يعود للعافي؛ لاستلزام «عُفِيَ» له؛ ومثله ما أنشد الفراء: [الوافر] 927 - وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضاً ... أُرِيدُ الخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي فالضمير في «أيُّهما» يعود على الخير والشَّرِّ، وإن لم يجر ذلك الشَّرِّ، لدلالة ضده عليه، والضمير في «عَلَيْهِ» وفي «خَافَ» وفي «أَصْلَحَ» يعود على «مَنْ» . فصل في بيان المراد من المصلح هذا المصلح [من هو؟] الظاهر أنه الوصي، وقد يدل تحته الشاهد، وقد يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 المراد منه من يتولَّى ذلك بعد موته؛ من والٍ، أو وليٍّ، أو من يأمر بمعروف، فلا وجه للتخصيص، بل الوصيُّ أو الشهد أولى بالدُّخول؛ لأن تعلقهم أشدُّ، وكيفيَّة الإصلاح أن يزيل ما وقع فيه الجنف، ويردَّ كلَّ حَقٍّ إلى مستحقه. قال القُرْطُبِيُّ: الخطاب في قوله: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ} لجميع المسلمين، أي: إن خفتم من موص جنفاً، أي: ميلاً في الوصيَّة، وعدولاً عن الحقِّ، ووقوعاً في إثم، ولم يخرجها بالمعروف بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته، أو لولد ابنته؛ لينصرف المال إلى ابنته [أو إلى ابن ابنه، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنِهِ، أو أوصى لبعيدٍ] ، وترك القريب؛ فبادروا إلى السَّعي في الإصلاح بينهم، فإذا وقع الصُّلح، سقط الإثم عن المصلح، والإصلاح فرض على الكفاية، إذا قام أحدهم به، سقط عن الباقين، وإن لم يفعلوا، أثم الكل. فإن قيل: هذا الإصلاح طاعةٌ عظيمةٌ، ويستحقُّ الثَّواب عليه، فكيف عبَّر عنه بقوله: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ؟ فالجواب: من وجوه: أحدها: أنه تعالى، لما ذكر إثم المبدِّل في أوَّل الآية وهذا أيضاً من التَّبديل، بيَّن مخالفته للأوَّل، وأنه لا إثم عيه؛ لأنَّه ردَّ الوصيَّة إلى العدل. وثانيها: أنه إذا أنقص الوصايا، فذلك يصعب على الموصى لهم، ويوهم أن فيه إثماً، فأزال ذلك الوهم، فقال: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ} . وثالثها: أن مخالفة الموصي في وصيَّته، وصرفها عمن أحبَّ إلى من كره؛ فإن ذلك يوهم القبح فبيَّن تعالى أن ذلك حسنٌ؛ بقوله: {فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ} . ورابعها: أن الإصلاح بين جماعةٍ يحتاج إلى إكثارٍ من القول، ويخاف أن يتخلَّله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل؛ فبيَّن تعالى أنَّه لا ثم عليه في هذا الجنس، إذا كان قصده في الإصلاح جميلاً. فإن قيل: قوله تعالى: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} إنما يليق بمن فعل فعلاً لا يجوز، وهذا الإصلاح من جملة الطَّاعات، فكيف يليق به هذا الكلام؟ فالجواب من وجوه: أحدهما: ان هذا من باب التَّنبيه بالأدنى على الأعلى، فكأنه قال: انا الذي أغفر للذُّنوب، ثم أرحم المذنب؛ فبأن اوصل رحمتي وثوابي إليك، مع أنك تحمَّلت المحن الكثيرة في إصلاح هذا المهمِّ كان أولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 وثانيها: يحتمل أن يكون المراد: أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم، متى أصلحت وصيَّته؛ فإن الله غفور رحيم يغفر له، ويرحمه بفضله. وثالثها: أن المصلح، ربما احتاج في الإصلاح إلى أفعال وأقوال، كان الأولى تركها، فإذا علم الله تعالى منه أنَّه ليس غرضه إلا الإصلاح، فإنه لا يؤاخذه بها؛ لأنه غفور رحيم. فصل في أفضلية الصدقة حال الصحة قال القرطبيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: والصَّدقة في حال الصِّحَّة أفضل منها عند الموت؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقد سئل: أيُّ الصدقة أفضل؟ فقال: «أن تَصَّدَّقَ، وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ» ، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لأنْ يَتَصَدَّقَ المَرْءُ في حَيَاتِهِ بِدِرْهِم خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِمَائَةٍ» وقال - عليه السلام -: «مَثَلُ الَّذِي يُنْفِقُ، وَيَتَصَدَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ مَثَلُ الَّذِي يُهْدِي بَعْدَ مَا يَشْبَعُ» فصل ومن لم يضر في وصيته، كانت كفارة لما ترك من زكاته؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام -: " من حضرته الوفاة، فأوصى، فكانت وصيته على كتاب الله؛ كانت كفارة لما ترك من زكاته ". الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «الإِضْرَارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبَائِرِ» وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ أو المَرْأَةَ بِطَاعَةِ اللهِ سِتِّينَ سَنَةً، ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا المَوْتُ، فيُضارَّان في الوَصِيَّةِ، فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ» وروى عمران بن حصين، أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته، لم يكن له مال غيرهم، فبلغ ذلك النبي صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فغضب من ذلك، وقال: لقد هممت ألاَّ أصلي عليه [ثم دعى مملوكيه] ، فجَزَّأهم ثلاثاً، وأقرع بينهم، وأعتق اثنين، وأرقَّ أربعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 «الصِّيَام» : مفعولٌ لم يسمَّ فاعله، وقدَّم عليه هذه الفضلة، وإن كان الأصل تأخيرها عنه؛ لأن البداءة بذكر المكتوب عليه آكد من ذكر المكتوب لتعلُّق الكتب بمن يؤدي، والصِّيام مصدر صام يصوم صوماً، والأصل: «صِوَاماً» ، فأبدلت الواو ياء، والصَّوم مصدر أيضاً، وهذان البناءان - أعني: فعل وفعال - كثيران في كلِّ فعل واويِّ العين صحيح اللام، وقد جاء منه شيءٌ قليلٌ على فعولٌ؛ قالوا: «غَارَ غُوُوراً» ، وإنما استكرهوه؛ لاجتماع الواوين، ولذلك همزه بعضهم، فقال: «الغُئُور» . قال أبو العباس المقرئ: وقد ورد في القرآن «كَتَبَ» بإزاء أربعة معانٍ: الأول: بمعنى فرض؛ قال تعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} ، أي: فُرِضَ. الثاني: بمعنى قضى؛ قال تعالى: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] ، ومثله: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة: 51] . الثالثُ: بمعنى جَعَل؛ قال تعالى: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} [المائدة: 21] ، أي: جعَلَ لكم، ومثله: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22] أي: جعل. الرابع: بمعنى أمر؛ قال تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة: 45] ، أي: أمرناهم. والصيام لغةً: الإمساك عن الشيء مطلقاً، ومنه صامت الرَِّيح: أمسكت عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 الهبوب، والفرس: أمسكت عن العدو؛ قال: [البسيط] 928 - وخَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ العَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُكُ اللُّجُمَا وقال تعالى: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن} [مريم: 26] ، أي: سكوتاً؛ لقوله: {فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} [مريم: 26] وصام النهار، اشتدَّ حرُّه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل] 929 - فَدَعْهَا وَسَلِّ الهَمَّ عَنْهَا بِجَسْرَةٍ ... ذَمُولٍ إذَا صَامَ النَّهَارُ وَهَجَّرَا وقال: [الرجز] 930 - حَتَّى إذَا صَامَ النَّهَارُ وَاعْتَدَلْ ... وَمَالَ لِلشِّمْسِ لُعَابٌ فَنَزَلْ كأنهم توهَّموا ذلك الوقت إمساك الشمس عن المسير، ومصام النُّجوم: إمساكها عن السَّير؛ قال امرؤ القيس: [الطويل] 931 - كَأَنَّ الثُّرَيَّا عُلِّقَتْ في مَصَامِهَا ... بَأَمْرَاسِ كَتَّانٍ إلى صُمَّ جَنْدَلِ قال الراجز: [الرجز] 932 - وَالبَكَرَاتُ شَرُّهُنَّ الصَّائِمَهْ ... وفي الشَّريعة: هو الإمساك من طلوع الفجر إلى غروب الشمس عن المفطرات؛ حال العلم بكونه صائماً، [مع اقترانه بالنِّيَّة] . قوله: «كَمَا كُتِبَ» فيه خمسة أوجه: أحدها: أن محلّها النصب على نعت مصدر محذوف، أي: كتب كتباً؛ مثل ما كتب. الثاني: أنه في محل نصب حال من المصدر المعرفة، أي: كتب عليكم الصِّيام الكَتْبَ مشبهاً ما كتب، و «ما» على هذين الوجهين مصدريةٌ. الثالث: أن يكون نعتاً لمصدر من لفظ الصيام، أي: صوماً مثل ما كتب، ف «ما» على هذا الوجه بمعنى «الذي» ، أي: صوماً مماثلاً للصوم المكتوب على من قبلكم، و «صوماً» هنا مصدر مؤكِّد في المعنى؛ لأن الصِّيام بمعنى: «أنْ تَصُوموا صَوْماً» قال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللهُ -، وفيه أن المصدر المؤكِّد يوصف، وقد تقدَّم منعه عند قوله تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 {بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} [البقرة: 180] قال أبو حيَّان - بعد أن حكى هذا عن ابن عطية -: وهذا فيه بعدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالكتابة لا يصحُّ، [هذا إن كانت «ما» مصدريَّةً، وأمَّا إن كانت موصولةً، ففيه أيضاً بعدٌ؛ لأنَّ تشبيه الصَّوم بالصَّوم لا يصحُّ] ، لا على تأويلٍ بعيدٍ. الرابع: أن يكون في محل نصب على الحال من «الصِّيام» وتكون «ما» موصولةً، أي: مشبهاً الذي كتب، والعامل فيها «كُتِبَ» ؛ لأنَّه عاملٌ في صاحبها. الخامس: أن يكون في محلِّ رفع؛ لأنه صفة للصيام، وهذا مردودٌ بأن الجارَّ والمجرور من قبيل النَّكرات، والصِّيام معرفةٌ؛ فكيف توصف المعرفة بالنكَّرة؟ وأجاب أبو البقاء عن ذلك؛ بأن الصَّيام غير معين؛ كأنَّه يعني أن «ألْ» فيه للجنس، والمعرَّف بأل الجنسيَّة عندهم قريبٌ من النَّكرة؛ ولذلك جاز أن يعتبر لفظه مرَّةً، ومعناه أخرى؛ قالوا «أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الحُمْرُ والدِرْهَمُ البِيضُ» ، ومنه: 933 - وَلَقَدْ أَمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ: لاَ يَعْنِينِي {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وقد تقدّم الكلام على مثل قوله: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] كيف وصل الموصول بهذا؛ والجواب عنه في قوله: {خَلَقَكُمْ والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] فصل في المراد بالتشبيه في الآية في هذا التشبيه قولان: أحدهما: أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم، يعني: هذه العبادة كانت مكتوبةً على الأنبياء والأمم من ولد آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى عهدكم لم تخل أمَّةٌ من وجوبها عليهم. وفائدة هذا الكلام: أنَّ الشَّيء الشاقَّ إذا عمَّ، سهل عمله. القول الثاني: أنه عائد إلى وقت الصَّوم، وإلى قدره، وذكروا فيه وجوهاً: أحدها: قال سعيد بن جبير «كَانَ صَومُ مَنْ قَبْلَنَا مِنَ العَتَمَةِ إلى اللَّيْلة القَابِلَة؛ كما كان في ابتداءِ الإسْلاَمِ» . ثانيها: أن صوم رمضان كان واجباً على اليهود والنصارى، أما اليهود فإنها تركته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 وصامت يوماً في السَّنة، زعموا أنه يوم أن غرق فيه فرعون، وكذبوا ي ذلك أيضاً؛ لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وأما النصارى، فإنهم صاموا رمضان زماناً طويلاً، فصادفوا فيه الحرَّ الشديد، فكان يشقُّ عليهم في أسفارهم ومعايشهم، فاجتمع رأي علمائهم على أن يجعلوا صيامهم في فصل من السَّنة بين الشِّتاء والصِّيف، فجعلوه في الرَّبيع، وحوَّلوه إلى وقتٍ لا يتغيَّر، ثم قالوا عند التَّحويل: زيدوا فيه عشرة أيَّام كفَّارةً لما صنعوا؛ فصار أربعين يوماً، ثم إنَّ ملكاً منهم اشتكى، فجعل الله عليه، إن برىء من وجعه: أن يزيد في صومهم أسبوعاً، فبرىء، وهذا معنى قوله: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31] . قاله الحسن. وثالثها: قال مجاهدٌ: أصابهم موتان، فقالوا: زيدوا في صيامكم، فزاداو عشراً قبل وعشراً بعد. ورابعها: قال الشعبي: إنهم أخذوا بالوثيقة، وصاموا قبل الثلاثين يوماً، وبعدها يوماً، ثم لم يزل الأخير يستسن بالقرآن الذي قبله، حتى صاروا إلى خمسين يوماً، ولهذا كُرِّه صوم يوم الشَّكِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 قال الشعبي: لو صمت السَّنة كلَّها، لأفطرت اليوم الذي يشك فيه، فيقال: من شعبان، ويقال: من رمضان. وخامسها: أن وجه التَّشبيه أن يحرم الطَّعام والشَّراب والجماع بعد اليوم؛ كما كان قبل ذلك حراماً على سائر الأمم؛ لقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} [البقرة: 187] . فإن هذا يفيد نسخ هذا الحكم، ولا دليل يدلُّ عليه إلاَّ هذا التَّشبيه، وهو قوله: {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} ؛ فَوَجبَ أن يكُون هذا التَّشبيه دالاًّ على ثبوت هذا المعنى. قال أصحاب القول الأول: إن تشبيه شيء بشيء لا يدلُّ على مشابهتهما من كلِّ الوجوه، فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصّاً برمضان، وأن يكون صومهم قدَّراً بثلاثين يوماً، ثم إنَّ مثل هذه الرِّواية منا ينفِّر من قبول الإسلام، إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك. وقوله: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} يعني: بالصَّوم؛ لأنَّ الصَّوم وصلةٌ إلى التَّقوى؛ لما فيه من قهر النَّفسِ، وكسر الشَّهوات، وقيل: لعلَّكم تحذرون عن الشَّهوات من الأكل، والشُّرب، والجماع، وقيل: «لعلَّكم تتَّقون» إهمالها، وترك المحافظة عليها، بسبب عظم درجتها، وقيل: لعلَّكم تكونون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين، لأن الصوم شعارهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 في نصب أيَّاماً أربعة أوجه: أظهرها: أنَّهُ مَنصُوب بعاملٍ مقدَّرٍ يدُلُّ عليه سياقُ الكلام، تقديره صُومُوا أيَّاماً الخُرُوجَ يَوْمَ الجُمُعَةِ «، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأَنَّهُ يَلْزَمُ الفصل بيْن المصدر ومعمُوله بأجنبيٍّ، وهو قوله» كَمَا كُتبَ «؛ لأَنَّه ليس معمولاً للمصدر على أيِّ تقديره قدَّرته. فإن قيل: يُجعلَ» كَمَا كُتِبَ «صفةً للصّيام، وذلك على رأي من يجيزُ وصف المعرَّف» بأَل «الجنسيَّة بما يجرى مجرَى النَّكرة، فلا يكُونُ أجنبيّاً. قيل: يلزمُ مِنْ ذلك وصفُ المصدر قَبل ذكر معموله، وهو ممتنعٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 الثالث: أنه منصوبٌ بالصِّيامِ على أنْ تقدَّر الكافُ نعتاً لمصدر من الصِّيام؛ كما قد قال به بعضُهُمْ، وإن كان ضعيفاً؛ فيكون التَّقدير:» الصِّيَامُ صَوْمَاً؛ كَمَا كُتِبَ «؛ فجاز أن يعمل في» أَيَّاماً «» الصِّيَامُ «؛ لأنه إذْ ذاك عاملٌ في» صوماً «الذي هو موصوفٌ ب» كمَ كُتِبَ «، فلا يقع الفصلُ بينهما بأجنبيٍّ، بل بمعمول المصدر. الرابع: أن ينتصب ب» كُتِبَ «إِمَّا على الظَّرف، وإمَّا على المَفعُول به تَوَسُّعاً، وإليه نحا الفرَّاء، وتبعه على ذلك أبو البَقَاء. قال أبو حيَّان: وكلا القَولين خطأٌ: أَمَّا النَّصب على الظرفيَّة، فإِنَّهُ محلٌّ للفعلِ، والكِتابة لَيْسَت واقعةً في الأيَّام، لكنَّ متعلَّقها هو الواقع في الأَيّام، وأَمَّا [النَّصب على المفعول اتساعاً، فإِنَّ ذلك مبنيٌّ على كونه ظرفاً ل» كُتِبَ «، وقد تقدَّم أَنَّهُ خطأٌ، وقيل: نصبٌ على] التَّفسير. و» مَعْدُدَاتٍ «صفةٌ، وجمعُ صفةِ ما لا يعقل بالألف والتَّاء مطَّردٌ؛ نحو هذا، وقوله: {جِبَالٌ راسِيَاتٌ} ، و {أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] . فصل في اختلافهم في المراد بالأيَّام اختلفوا في هذه الأيام على قولين: أحدهما: أنها غير رمضان، قاله معاذ، وقتادة، وعطاء، ورواه عن ابن عبَّاس، ثم اختلفَ هؤلاءِ: فقيل ثلاثة أيَّامٍ من كلِّ شهر، وصوم يوم عاشُوراء، قاله قتادة، ثُمَّ اختلفوا أيضاً: هل كان تَطوعاً أو مَرضاً، واتفقُوا على أنَّه منسوخٌ برمضان. واحتجُّ القائلُونَ بأنَّ المراد بهذه الأيَّام غيرُ رمضانَ بوجوه: أحدها: قوله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» إِنَّ صَوْمَ رَمَضَان نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ «فدلّ هذا على أنَّ قبل رمضان كاصوماً آخر واجباً. وثانيها: أنَّه تعالى ذكر حُكم المريض والمُسافر في هذه الآية، ثم ذكر حكمها أيضاً في الآيَة الَّتي بعدها الدالَّة على صوم رمضان، فلو كان هذا الصَّوم هو صومَ رمضان، لكان ذلك تكريراً محضاً مِنْ غير فائدة، وهو لا يجوز. وثالثها: قوله تعالى هنا {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} [البقرة: 184] تدلُّ على أنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 هذا واجبٌ على التخيير، إن شاء صام، وَإِنْ شاء أعطى الفدية، وأَما صوم رمضان، فواجبٌ على العيين؛ فوجبَ أن يكون صَومُ هذه الأيام غير صوم رمضان. القول الثاني وهو اختيارُ المحقِّقين، وبه قال ابنُ عبَّاس، والحسن، وأبو مُسلم أن المراد بهذه الأيَّام المعدُواتِ هو صومُ رمضان، لأَنَّهُ قال في أوَّل الآية الكريمة: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وهذا محتملٌ ليوم ويومين، وأيَّام، ثم بينه بقوله: {أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ} فزال بعضً الاحتمال، ثم بَيَّنه بقوله: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] فعلى هذا التَّرتيب يمكنُ أَنْ نجعل الأيَّام المعدوداتٍ بعينها صومَ رمضان، وإذا أمكن ذلك، فلا وجه لحمله على غيره وإثبات النَّسخ فيه؛ لأنَّ كل ذلك زيادةٌ لا يدلُّ عليها اللَّفظُ، وأَمَّا تمسُّكهم بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - «صَوْمُ رَمَضَانَ نَسَخَ كُلَّ صَوْمٍ» ، فليس فيه أَنَّه نَسَخَ عنه، وعن أُمَّته كلَّ صوْمٍ، بل يجوز أَنَّه نَسَخَ كلَّ صوم وجَبَ في الشّرائع المتقدِّمة؛ فكما يصحُّ أن يكون بعض شرعه ناسخاً للبعض، فيجوز أن يكون شَرْعهُ ناسخاً لشَرع غيره. سلَّمنا أَنَّ صومَ رمضان نسخ صوماً ثبت في شرعه، فلِمَ لا يجوز أن يكونَ نسخ صوماً وجب غَيْرَ هذه الأيام. وأمَّا تمسُّكُهم بحكم المريضِ والمُسَافر وتكَرُّرِه فجوابُه: أَنَّ صوم رمضان كان في ابتداءِ الإسلام غير واجِبٍ، وكان التَّخيير فيه ثابتاً بين الصِّيام والفدية، لَّما رُخصَ للمسَافر الفطرُ، كان من الجائز أَنْ يصير الواجبُ عليه افدية، ويجوز أَنْ لا فديَة علَيْه، ولا قضاء؛ للمشقَّة. وإذا ان ذلك جائزاً، بيَّن تعالى أَنَّ إفطار المُسافِر والمريض في الحُكْم خلافُ [التخيير في المقيم؛ فإِنَّهُ يجبُ عليهما القَضَاء من عدَّةِ أيَّام أُخر، فلما نَسَخَ اللهُ تعالى ذلك التَّخييرَ عن] المقيم الصَّحيحِ، وأَلْزَمَهُ الصَّومَ حتماً، كان من الجائزِ أَنْ يظن أنَّ حكم الصَّوم، كمَّا انتقلَ عن التخيير إلى التَّضييق في حَقِّ المقيم الصَّحيح أن يتغيَّر حكمُ المريضِ والمسافر عن حكم الصَّحيح، كما كان قبل النَّسْخِ، فبيَّن تعالى في الآية الثَّانية: أنَّ حال المريض والمُسافر كحالها الأُولى لم يتغيَّر بالنَّسخ في حق المقيم الصَّحيح، فهذه هي الفائدةُ في الإعادة، وإنَّمَا تمسُّكُهم بأنَّ صَوْمَ هذه الأيَّام على التَّخير وصومَ رمضانَ واجِبٌ على التَّعيين، فتقدَّم جوابهُ من أَنَّ رمضان كان واجِباً مخيَّراً، ثم صَارَ مُعَّيناً، وعلى كِلا القَوْلَين، فلا بُدَّ من تَطَرُّق النسخ إلى الأيَّام أمَّا على القول الأوَّل فظاهر، وأما على الثاني: فلأَنَّ هذه الآية تقتضي أن يكون صَوم رمضان واجباً مخيَّراً، والآية الكريمة التي بعدها تدُلُّ على التَّضييق؛ فكانت ناسخة للأولى. فإن قيل: كَيْفَ يصحُّ أنْ يكونَ قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 ناسخاً للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ وذلك لا يصحُّ. والجواب: أنَّ الاتِّصال في التَّلاوة لا يوجب الاتِّصال في النُّزول؛ وهذا كما قيل في عدَّة المتوفَّى عنها زوجها؛ أنّ الْمقدَّم في التلاوة هو النَّاسخُ والمَنْسُخ متأَخِّر، وهذا عكسُ ما يجبُ أن يكُونَ عليه حالُ النَّاسخ والمَنْسوخ، فقالُوا: إنَّ ذلك في التِّلاوة، أمَّا في الإنزال، فكان الاعتِدادُ بالحَولِ هو المتقدِّمَ، والآية الدَّالَّةُ على أربعة أشْهرٍ وعَشْرٍ هي المُتأخِّرَة، وكذلك في القُرآن آيات كثيرةٌ مكِّيِّةٌ متأخِّرة في التَّلاوة عن الآياتِ المدنيَّة، والله أعْلَمْ. فصل في أول ما نسخ بعد الهجرة قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - أوَّلُ ما نُسخ بعد الهجرة أَمْرُ القِبلة والصَّوْم، ويقالُ نزل صَوْمُ شهر رمضان قَبْل بَدرٍ بشهرٍ وأيام، وعن عائشة - رَضِيَ اللهُ عَنْها - قالت: كان يَوْمُ عاشُورَاء تصومُهُ قُرَيش في الجاهلِيَّة، وكان رَسُول الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يَصُومُهُ في الجَاهِليَّة فلمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - المدِينَةَ، صَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيامِهِ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانَ كَانَ هُوَ الفريضة، وتُرِكَ يَوْمُ عاشُوراء، فَمنْ شَاءَ صاَمَهُ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ. فصل في المراد بقوله «مَعْدُودات» في قوله تعالى: «مَعْدودَاتٍ» وجهانِ: أحدهما: أنها مُقّدَّراتٌ بِعَدَدٍ مَعْلُومٍ. والثاني: قَلائِل؛ كقوله تعالى: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] . وقوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} . فالمرادُ أَنَّ فَرْضَ الصَّوم في الأَيَّامِ المعْدُودَاتِ، إنما يَلْزَمُ الأصِحَّاءَ المُقيمينَ، فأَمَّا مَنْ كَان مُسَافراً، أو مريضاً، فله تأخير الصَّومِ عنْ هذه الأيَّام إلى أيَّامٍ أُخَرَ. قال القفَّالُ رَحِمَهُ اللهُ: انْظُرُوا إلى عجيب ما نبَّهَ اللهُ تعالى مِنْ سعة فضلِهِ وَرَحمتِهِ في هذا التَّكليف، وأَنَّهُ تعالى بَيَّنَ فِي أوَّلِ الآيَةِ أن لهذه الأُمَّةِ في هذا التكليف أَسْوَةً بالأُمَمِ المُتقدِّمةِ، والغَرضُ منهُ ما ذكرناهُ مِنْ أَنَّ الأمر الشَّاقَّ، إذ عَمَّ خفَّ، ثم بَيَّن ثانياً وجه الحكمة في إيجابِ الصَّوم، وهو أَنَّهُ سببٌ لحُصُول التَّقوَى، ثُمَّ بَيَّنَ ثالثاً: أنَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 مُخْتصُّ بأيَّامٍ معدوداتٍ، فلو جعلهُ أبداً، أو في أكثر الأوقات، لَحَصَلتِ المشَقَّةُ العظيمة، ثُمَّ بيَّن رابعاً: أنه خَصَّهُ من الأوقات بالشَّهر الذي أُنزل فيه القرآن؛ لكونه أَشرَف الشُّهُور؛ بسبب هذه الفَضيلةِ؛ ثم بيَّ خامِساً: إزالة المشقَّة في إلزَامه، فَأَباح تأخيره لِمَنْ به مَرَضٌ، أو سَفَرٌ غلى أن يصيرَ إلى الرَّفاهية والسُّكُون، فراعى سبحانه وتعالى في إيجاب هذا الصَّوم هذه الوجوه من الرحمة، فله الحمدُ على نعمه. قوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً} : فيه معنَى الشَّرْط والجَزاءِ، أي: مَنْ يَكُنْ مرِيضاً، أو مُسَافراً، فَأَفْطَر، فَلْيَقْضِ، إذا قَدَّرْتَ فيه الشَّرط، كَانَ المرادُ بقوله: كَانَ الاسْتِقبَالُ لاَ الماضي؛ كما تقولُ: مَنْ أَتَانِي، أَتَيْتُهُ. قوله: {أَوْ على سَفَرٍ} في مَحَلِّ نَصبٍ؛ عطفاً على خبر كان، و «أوْ» هُنَا للتَّنويع، وعَدَل عن اسمِ الفاعِل، فَلَمْ يَقْل: أَوْ مُسَافِراً، إشعارً بالاسْتِعلاء على السَّفر، لِما فيه مِنَ الاختيار للسفر؛ بخلافِ المرض، فإنه قَهْرِيٌّ، فصل في المرض المبيح للفطر اختلفُوا في المَرَضِ المُبيح للفطر؛ فقال الحَسَنُ، وابنُ سيرين: أيُّ مَرَضٍ كان، وأيُّ سَفَرٍ كان؛ تنزيلاً لِلَّفظ المطلق على أقلِّ الأحوال، وروي أنَّهم دخَلُوا على ابن سيرين في رمَضَان، وهو يأْكُلُ فاعتلَّ بِوَجَعِ أُصْبعِهِ، وقال الأصمُّ - رَحِمَهُ اللهُ -: هذه الرخصةُ مختصَّةٌ بالمرضِ الَّذي لو صَامَ فيه، لَوقَع في مشقَّة، ونزَّل اللَّفظ المُطلق على أكْملِ أحوالِه. وقال أكثَرُ الفقهاءِ: المرضُ المبيحُ للفطر الَّذي يؤدِّي إلى ضررٍ في النفسِ، أو زيادةِ في العلَّة. قالوا: وكيفَ يمكنُ أنْ يقالَ: كُلُّ مرضٍ مرخِّصٌ، مع علمنا أنَّ في الأَمْرَاض ما ينقصه الصَّوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 فصل في أصل السَّفر واشتقاقه أصلُ السَّفر من الكَشف، وذلك أنه يَكشفُ عن أحوال الرِّجال وأخلاقهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 والمِسفرة: المِكْنَسَة؛ لأنَّها تكشِفُ التُّراب عن الأَرْض، والسَّفير: الدَّاخل بين اثْنَيْن للصلح؛ لأنَّه يكشِفُ الَّذي اتَّصل بهما، والمُسْفِر المُضِيء؛ لأنه قد انْكَشَف وظَهَر، ومنه: أَسْفَر الصُّبح، والسِّفر: الكتَابُ؛ لأنه يكشِف عن المعاني ببيانهِ. وسَفَرتِ المرأَةُ عن وجهها، إذا كشَفَت النقابِ. قال الأزهري: وسُمِّي المسافرُ مُسِافراً؛ لكشف قناع الكنِّ عن وجهه، وبُرُوزه إلى الأرضِ الفَضَاءِ، وسُمِّي السَّفَر سَفَراً أيضاً؛ لأنَّه يسفر عن وجُوه المُسَافرين، وأخْلاَقهم، ويظهر ما كان خافياً منهُم، والله أعْلَم. فصل في السفر المبيح للقصر والفطر اختلفُوا في السَّفر المُبيح للقَصر والفِطْر بعد إِجماعهم على سَفَر الطَّاعة؛ كالحَجِّ والجهاد، ويتصلُ بهذين سفرُ صلةِ الرَّحِمِ، وطَلَبِ المعاشِ الضروريِّ، وأمَّا سَفَر التجاراتِ والمُبَاحات، فمختلَفٌ فيه، والأرجح الجوازُ، وأمَّا سَفَر المعاصِي؛ فمختلفٌ فيه، والمنع فيه أرجحُ. فصل قال القرطبيُّ: اتَّفق العلماء على أنَّ المُسَافر في رَمَضان لا يجوزُ له أنْ يُبَيِّتَ الفِطْر؛ لأنَّ المُسَافِرَ لا يكُونُ مُسَافراً بالنِّيَةِ؛ بخلاف المقيم، وإِنما يكونُ مسافراً العَمَل، والنُّهُوض، والمقيمُ لا يفتقر إِلى عَمَل؛ لأنه إذا نوى الإقامة، كان مقيماً في الحين؛ لأن الإقامة لا تفتقر إلى عَمَلٍ، فافترقا. فصل في قدر السَّفر المبيح للرُّخص اختلفُوا في قَدر السَّفر المُبيح للرُّخص، فقال داود: كُلُّ سفر، ولو كان فَرْسَخاً، وتخصيص عمومِ القرآن بخَبَر الواحِدِ غيرُ جائزٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 وقال الأوزاعيُّ: السَّفر المبيحُ للفِطر هو مسافةٌ القصر، ومذهبُ الشافعيِّ ومالكٍ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 وأحمد، وإسحاق؛ أنه مقدَّرٌ بستة عَشَرَ فرسخاً، وهي أربعةُ بُرُدٍ كلُّ فرسخٍ ثلاثة أَمْيالٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 بأَمْيَال هاشم جَدِّ الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو الَّذي قدَّر أميال البادية كُلُّ ميلٍ اثْنَا عَشَر ألفَ قَدَمٍ، وهي أربعة آلافٍ خطوةٍ، كلُّ خَطوَةٍ ثلاثةُ أقدَام. وقال أبُو حَنِيفة - رَضِيَ اللهُ عَنْه - والثوريُّ: مَسَافَةُ القَصْرِ ثلاثة أيامٍ. قوله {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} الجمهور على رفع «عدَّةٌ» ، وفيه وجوهٌ: أحدها: أنَّه مبتدأٌ وخبره محذوفٌ، إما قبله، تقديره: «فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ» أو بعده، أي فعدَّةٌ أَمْثَالُ به. الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، اي: فالواجبُ عدَّةٌ. الثالث: ان يرتفع بفعل محذوفٍن أي: «تُجْزِئُهُ عِدَّةٌ» . وقرىء «فَعِدَّةٌ» ؛ نصباً محذوفاٍ، تقديره: «فَلْيَصُمْ عِدَّةً» ، وكأنَّ أبا البقاء - رَحِمَهُ اللهُ - لم يَطَّلِعْ على هذه القراءةِ؛ فإنَّه قال: لو قرىء بالنَّصب، لكان مُسْتقيماً، ولا بُدَّ مِنْ حذف مضافٍ، تقديره: «فَصَوْمَ عِدَّة» وَمِنْ حذف جملة بعد الفعلية؛ ليصحَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 الكلامُ، تقديره: «فَأَفْطَرَ، فَعِدَّةً» ؛ ونظيرهُ {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] وقوله {اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] ، أي: «فَضَرَبَ فَانْفَلَقَ» . و «عِدَّة» «فِعْلَةٌ» من العدد، بمعنى: مَعْدُودَة، كالطِّحْنِ والذِّبْح، ومنه يقال للجماعة المعدودة مِنَ النَّاس عِدَّة، وعِدَّة المرأة مِنْ هذا، ونَكَّر «عِدَّة» ، ولم يقل: «فعدّتها» ؛ اتّكالاً على المعنى؛ فإنَّا بيَّنَّا أنَّ العدَّة بمعنى المعدُودة، فأمر بأن يصوم أيَّاماً معدودةً والظَّاهر: أنَّه لا يأتي إلاَّ بمثل ذلك العَدَ، فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة. و «مِنْ أَيَّام» : في مَحلِّ رفع، أو نصبٍ على حَسَب القراءتين صفة ل «عِدَّة» . قوله «أُخَر» صفةٌ ل «أيَّام» ؛ فيكون في محلِّ خفضٍ، و «أُخَرَ» على ضربَيْن. أحدهما: جمع «أُخْرَى» تأنيث «أخَرَ» الَّذي هو أفعَلُ تَفضيل. والثاني: جمع «أُخْرَى» بمعنى «آخِرَةِ» تأنيث «آخِرٍ» المقابل لأوَّل؛ ومنه قوله تبارك وتعالى: {وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ} [الأعراف: 39] فالضربُ الأَوَّل لا ينصرفُ للوَصف والعَدْل، واختلفُوا في كيفيَّة العَدْل: فقال الجمهورُ: إنه عَدلٌ عن الألف واللاَّم؛ وذلك أنَّ «أُخَرَ» جمعُ «أُخْرَى» ، و «أُخْرَى» تأنيث «آخَرَ» و «آخَرُ» أفعلُ تفضيلٍ لا يخْلُو عن أحدِ ثلاثةِ استعمالاتٍ. إما مع «ألْ» وإمَّا مع «مَنْ» ، وإما مع «الإضَافَةِ» ، لكن مِنْ ممتنعةٌ؛ لأن معها يلزمُ الإفرادُ والتذكير والإضافة في اللفظِ؛ فقدَّرنا عدلَهُ عن الأَلِفِ واللاَّم، وهذا كما قالُوا في «سَحَرَ» إنَّه عدلٌ عن الألِفِ واللام، إِلاَّ أنَّ هذا مع العلميَّة، ومذهَبُ سيبويه: أنه عدل من صيغة إلى صيغةٍ؛ لأنه كان حقُّ الكلام في قولك: «مَرَرْتُ بِنِسْوَةِ أَخَرَ» على وزن «فُعَلَ» أنْ يكون «بنِسْوَةٍ آخَرَ» على وزن «أَفْعَلَ» ؛ لأن المعنى على تقدي «مِنْ» فعُدِل عن المفرد إلى الجمع. وأمَّا الضربُ الثَّاني: فهو منصرفٌ؛ لِفُقْدَانِ العلَّة المذكورة، والفرقُ بين «أُخْرَى» التي للتفضيلِ، و «أُخْرَى» التي بمعنى متأخِّرة - أنَّ معنى الَّتي للتفضيل معنى «غَيْرَ» ، ومعنى تِيكَ معنى «متأخِّرة» ؛ ولكونِ الأُولى بمعنى «غَيْر» لا يجوز أن يكونَ ما اتَّصلَ بها إلاَّ [منْ جنس ما قبلها؛ نحو: «مررتُ بِكَ، وبرَجُلٍ آخر» ولا يجوز «اشْتَرَيْتُ هَذَا الجَمَلَ وَفَرَساً آخَرَ» ؛ لأنه من] غير الجنْسِ، فأما قوله في ذلك البيت: [البسط] 934 - صَلَّى عَلَى عَزَّةَ الرَّحْمنُ وَابْنَتِهَا ... لَيْلَى وَصَلَّى عَلَى جَارَاتِها الأُخَرِ فإنَّه جعل ابنتها جارة لها، ولولا ذلك، لَمْ يَجُزْ، ومعنَى التفضيل في «آخر» و «أَوَّل» ، وما تصرَّف منها قلِقٌ مذكورٌ في كُتُب النَّحْو، وإنَّما وصفت الأيّام ب «أُخَرَ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 مِنْ حيثُ إنَّها جمعٌ ما لا يعقلُ، وجَمْعُ ما لا يعقلُ يجوز أنْ يُعَامَلُ معاملةً الواحدة المؤنَّثة، ومعاملةَ جمع الإنَاثِ، فمن الأول {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] وفي الثاني هذه الآية اكريمة، ونظائرها، فإنما أوثر هنا معاملتُهُ معاملةَ الجمع؛ لأنه لو جيء به مُفْرَداً، فقيل: {عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامُ أُخْرَى} لأهم أنَّه وصف فيفوت المقصُود. فصل ذهب بعضُ العلماء - رَضِيَ اللهُ عَنْهم - إلى أنَّه يجبُ على المريض والمُسَافر: أن يُفْطِرا أوْ يصُوما عدَّة أَيامٍ أَخَرَ وهو قولُ ابن عبَّاس - رَضِيَ اللهُ عَنْهما - وابن عمر، ونقل الخَطَّابيُّ في «أَعْلاَم التَّنزيل» عن ابنِ عمر، أنَّه قال: «إنْ صَامَ في السَّفِرِ، قَضَى في الحَضَرِ» وهذا اختيار داود بنِ عليٍّ الأصفهانيِّ، وأكثر الفقهاءِ على أنَّ هذا الإفطار رخصةٌ، فإنْ شاء أفْطَر، وإن شاء صام. حُجَّةُ الأوَّلين ما تقدَّم من القراءتين أنَّا إن قرأنا «عِدَّةً» ، فالتقديرُ: «فَلْيَصُمْ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» والأمر للوجوب، وأنا إن قرأنا بالرَّفع، فالتقديرُ: «فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ» وكلمة «عَلَى» للوجوب، وإذا كان ظاهرُ القُرآن الكريم يقتضي إيجابَ صَوْم أيامٍ أُخَرَ، فوجب أَنْ يكُونَ فطرُ هذه الأيامِ واجباً؛ ضرورةَ أنَّ لا قائل بالجمع. وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» ولا يقالُ: هذا الخَبَر ورد على سَبَبٍ خاصٍّ، وهو أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مَرَّ عَلَى رَجُلٍ، جَلسَ تحت مِظلَّةٍ، فَسَأَلَ عَنهُ، فقالُوا: هذا صائِمٌ أجْهَدَهُ العطَشُ، فَقال: «لَيْسَ مِنَ البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» ، فإنا نقولُ: العِبرة بعُمُوم اللَّفظ لا بخُصُوص السَّبَبِ، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «الصَّائِمُ في السَّفر كالمُفطِرِ في الحَضَرِ» وحجَّة الجمهور: أنَّ في هذه الآية إضماراً؛ لأنَّ التَّقدير: «فأَفْطَرَ فعدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» والإضمارُ في كلام الله تعالى جائزٌ؛ كما في قول الله تعالى: {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] ، أي: «فَضَرَبَ، فَانْفَجَرَتْ» ، وقوله {اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} [ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 الشعراء: 63] ، أي: «فَضَرَبَ فَانْفَلَقَتَ» ، وقوله: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ} [البقرة: 196] إلى قوله: {أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] ، أي: «فَحَلَقَ» . قال القفَّال - رَحِمَهُ اللهُ -: قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185] يدلُّ على وجُوُب الصَّوم. قال ابن الخطيب: ولقِائِلٍ أنْ يقَولَ: هذا ضعيفٌ من وجهين: الأول: أنَّا إنْ أجرينا ظاهر قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] على العُمُوم، لزمنا الإضمارُ في قوله: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، وإن أجرينا هذه الآيَةَ على ظاهرهان لَزمنا تخصيصُ عُمُوم قوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، وقد ثبت في أصُولِ الفقه أنَّه متى وقع التعارُضُ بيْن التخصيص، وبيْن الإضمار، كان الحملُ على التَّخصيص أَولى. الثَّاني: أنَّ ظاهر قَوله تعالى: «فَلْيَصُمْهُ» يقتضي الوُجوب عَيْناً، وهذا الوُجُوب منتفٍ في حقِّ المريضِ والمُسافر، فالآيةُ مخصوصةٌ في حقِّهما على كلِّ تقدير، سواءٌ أجرَينا قولَهُ تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} على ظاهره أَوْ لاَ، وإذا كان كذلك، وجب إجراء هذه الآية على ظاهِرِهَا مِنْ غير إضمارٍ. الوجه الثاني: ذكره الواحدي في «البَسِيطِ» قال: وقَال القاضي: إنَّما يجبُ القَضَاء بالإفْطَار، لا بالمَرَض والسَّفر، فلمَا أوجب اللهُ القَضَاءَ، والقَضَاءُ مسَبوقٌ بالفطْر، دَلَّ على أنَّه لا بُدَّ مِنْ إضمارِ الإفطار. قال ابنُ الخطيب وهذا ساقط؛ لأنه لم يَقُل: فعلَيَهِ قضاءُ ما مَضَى، بل قال: «فَعَلَيْهِ عِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ» ، وإيجابُ الصَّوم عليه في أيَّامٍ أُخَرَ لا يستَدعي أن يكون مَسبُوقاً بالإفطار. الوجه الثالث: رَوَى أبو داود عن هشام بن عُروة، عن أبيه، عن عائشة: أن حمزة الأسلميَّ سَأَلَ النَّبِيَّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَقَال: يا رَسُولَ اللهِ، هَل أَصُوم في السَّفر؟ قال «إِنْ شِئْتَ صُمْ، وإنْ شِئْتَ فَأفْطِرْ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 ولقائل أنْ يقول: هذا يقتضي نَسْخَ القُرآن بخبر الواحد؛ لأن ظاهر القُرآن يقتضي وجُوبَ الصَّوم، فرفعُ هذا الحُكم بهذا الخَبر غيرُ جائِز، وإذا ضُعِّفَتْ هذه الوجوه، فالاعتماد على قوله تعالى: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} ؛ وسيأتي إن شاء الله تعالى. فصل في هل صوم المسافر أفضل أم فطره اختلفُوا هَل الصَّوم للمُسافرِ أفْضَلُ أمِ الفِطر؟ فقال أنسُ بنُ مالك، وعثمان بنُ أبي أوفى: الصَّوم أفضلُ، وبه قال الشافعيُّ، وأبو حنيفة، ومالكٌ، والثوريُّ، وأبو يوسُفَ، ومحمَّد. وقال سعيدُ بنُ المُسيَّب، والشَّعبيُّ، والاوزاعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، الفطرُ أفضلُ. وقالت طائفةٌ: أفضل الأمرين أيسرهما على المرء. حجَّة الأوَّلين: قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقوله {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} . حجَّة الفرقة الثانية: قوله - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إنَّ الله يحبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخَصُهُ؛ كما تُؤْتَى عَزَائِمُهُ» وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - «لَيْسَ من البِرِّ الصِّيَامُ فِي السَّفَرِ» ، وأيضاً: فالقَصر أفضلُ؛ فيجب أنْ يكُون الفطرُ أفضل. وفرَّق بعضهم بين القَصر والفِطْر مِنْ وجهين: الأوَّل: أنَّ الصَّلاة المقصُورة تبرأ الذمَّة بها، والفِطر تبقى الذِّمَّة فيه مشغُولةٌ. الثاني: أنّ فضيلة الوقت تَفُوتُ بالفِطْرِ، ولا تَفُوت بالقَصر. حجَّةُ الفرقة الثالثة: قوله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] . فصل في حكم ما إذا أفطر كيف يقضي؟ مذهب عليٍّ، وابن عُمر، والشَّعبيِّ: أنَّه يقضيه متتابعاً؛ لوجهين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 الأوَّل: قراءة أُبي «فعدَّةٌ من أَيَّامٍ أُخَرَ مُتتابعاتٍ» فكذا القضاءُ. وقال بعضهم: التَّتابع مستحبٌّ، وإن فرق، جاز؛ فيكون أمراً بصَوم أيامٍ على عدد تِلْكَ الأيَّام مطلقاً، فالتقديرُ بالتتابع مخالفٌ لهذا التَّعميم، ويُروى عن أبي عُبيدة بن الجرَّاح أنه قال: «إِنَّ الله لَمْ يُرَخِّصْ لَكُمْ في فِطرهِ، وهو يريد أنْ يشُقَّ عليكم في قَضَائِهِ؛ إنْ شئْتَ فَواتِرْ، وإنْ شِئْتَ فَفَرِّقْ» ، ورُوِي أنَّ رجلاً قال للنبيَّ - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: عَلَيَّ أَيَّامٌ مِنْ رَمَضَانَ، أَفَيُجْزيني أَنْ أقضيها مُتفرقاً فقال لهُ: «لَوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ، فَقَضَيْتَهُ الدِّرْهَمَ وَالدِّرْهَمَيْن، أَمَا كَانَ يُجْزِيكَ؟» فقال: نَعَمَ، قَالَ «فَاللهُ أحقُّ أَنْ يَعفُو ويصفح» قوله «يُطِيقُونَهُ» الجمهور على «يُطِيقُونَهُ» من أطَاقَ يُطِيقُ، مثلُ أقَامَ يٌقِيمُ، وقرأ حُمَيدٌ «يُطْوِقُونَهُ» من «أَطْوَقَ» كقولِهم أَطْوَال في أطالَ، وأغْوَال في أغال، وهذا تصحيحٌ شاذٌ، ومثله في الشُّذُوذ من ضوات الواو أجودَ بمعنى أجادَ، ومن ضوات الياء أَغْيَمَتِ السَّماءُ، وأَجبَلَتْ، وأَغْيَلَت المَرْأَةُ وأَطْيَبَتْ، وقد جاء الإعلالُ في الكُلِّ، وهو القياس، ولم يقل بقياسِ نحو أَغيَمَتْ المَرْأَةُ وَأَطْيَبَتْ، وقد جاء الإعلالُ في الكُلِّ، وهو القياس، ولم يقل بقياسِ نحو أَغيَمَتْ وَأَطوَلَ إِلا أبو زَيدٍ. وقرأ ابن عبَّاسٍ وابن مَسعُودٍ، وسعيدُ بنُ جُبَيرٍ، ومجاهد، وعكرمةُ، وأيُّوب السَّختياني، وعطاءٌ «يُطوَّقونَهُ» مبنيّاً للمعفول من «طوَّقَ» مُضعَّفاً، على وزن «قَطَّعَ» ، وقرأ عائشةُ، وابن دينارٍ: «يَطَّوَّقُونَهُ» بتشديد الطاء والواو من «أَطْوَقَ» ، وأصله «تَطَوَّقَ» ، فلما أُرِيدَ إدغامُ التَّاء في الطاء، قُلِبت طاء واجتلبت همزةُ الوَصل؛ ليمكن الابتداءُ بالسَّاكن، وقد تقدَّم تقرير ذلك في قوله تعالى: {أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] وقرأ عكرمةُ وطائفة «يَطَّيَّقُونه» بفتح الياء، وتشديد الطَّاء، والياء، وتُروى عن مجاهد أيضاً، وقرىء أيضاً هكذا لكن ببناء الفعل للمفعُول. وقد ردَّ بعضهم هذه القراءة، وقال ابنُ عطيَّة تشديدُ الياءِ في هذه اللَّفظة ضعفٌ وإنَّما قالُوا ببُطْلان هذه؛ لأنَّها عندَهُم من ذوات الواو، وهو الطَّوق، فمِنْ أين تجيء الياء، وهذه القراءةُ لَيْسَت باطلةً، ولا ضعيفةً، ولها تخريجٌ حسنٌ، وهو أن هذه القراءة لَيستْ من «تَفَعَّلَ» ؛ حتى يلزم ما قالوه من الإشكال، وإنما هي من «تَفَيْعَل» ، والأصلُ «تَطَيْوَقَ» مِنَ «الطَّوْقِ» ك «تَدَيَّرَ» و «تَحَيَّرَ» من «الدَّوَرَانِ» و «الحَوْر» ، والأصل «تَدَيْوَرَ» ، و «تَحَيْورَ» فاجتمعت الواوُ والياءُ، وسبَقَتْ إحداهما بالسُّكُون، فقلبت الواو ياءً، وأُدغمت الياء في الياء، فكان الأصلُ «يَتَطَيْوَقُونَهُ» ، ثم أُدغم بعد القلبِ، فمن قرأ « الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 تَطَّيَّقُونَهُ» بفتح الياء بناه للفاعل، ومن ضمَّها بناه للمفعول، ويحتمل قراءة التشديد في الواو، أو الياء أن تكون للتكلُّف، أي: يَتَكَلَّفُونَ إطاقَتَهُ وذلك مجازٌ من الطَّوقِ الذي هو القلادةُ في أعْناقهم، وأبعد من زعم أنَّ «لاَ» محذوفةٌ قبل «ويطيقُونَهُ» ، وأنَّ التقديرَ، لاَ يُطِيقُونَهُ، ونَظَّرَهُ بقوله: [الطويل] 935 - فَخَالِفْ فَلاَ واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً ... من الأَرْضِ إِلاَّ أَنْتَ لِلذُلِّ عَارفُ وقوله: [الكامل] 936 - آلَيْتُ أَمْدَحُ مُغْرماً أَبَداً ... يَبْقَى الْمَدِيحُ ويَذْهَبُ الرِّفْدُ وقوله: [الطويل] 937 - فَقُلْتُ: يَمِينَ اللهِ أَبْرَحُ قَاعِداً ... وَلَوْ قَطَعُوا رَأْسِي لَدَيْكِ وَأَوْصَالي المعنى: لاَ تَهْبِطُ، ولاَ أَمْدَحُ، وَلاَ أَبْرَحُ، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ حذفها مُلتبسٌ، وأما الأبياتُ المذكورة؛ فلدلالة القسم على النَّفي. والهاء في «يَطِيقُونَهُ» للصَّومِ، وقيل: للفداء؛ قاله الفراء. و «فِدْيَة» مبتدأٌ خبره في الجَارِّ والمجرور قَبْله، والجُمْهُورُ على تَنْوين «فِدْيَةٌ» ورفع «طَعَام» وتوحيد «مسكين» وهشام كذلك إلاَّ أنه قرأ «مَسَاكينَ» جمعاً، ونافعٌ وابنُ ذكوان بإضافة «فِدْيَة» إلى «مَسَاكِين» جمعاً، فالقراءة الأولى يكون «طَعَاماً» بَدَلاً من «فِدْيَةٌ» بَيَّنَ بهذا البَدَل المراد بالفدْية، وأجاز أبو البقاء - رَحِمَهُ اللهُ تعالى - أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: «هي طعامٌ» ، وأما إضافة القدية للطَّعام، فمِن باب إضافة الشيء إلى جنْسِه، والمقصُود به البيانُ؛ كقولك: «خَاتَمُ حَدِيدٍ، وثَوبُ خَزٍّ، وبابُ ساجٍ» لأنَّ الفدية تكونُ طعاماً وغيره، وقال بعضهم: يجوز أنْ تكُون هذه الإضافة من باب إضافة الموصُوف إلى الصِّفة، قال: لأنَّ افِدْية لها ذاتٌ وصفَتُها أنَّها طعام، وهذا فاسِدٌ؛ لأنَّه إمَّا أن يريد ب «طَعَام» المصدرَ بمعنى لاإطعام؛ كالعطاء بمعنى الإعطاء، أو يُريدَ به المفعُول؛ وعلى كلا التَّقديرين، فلا يُوصفُ به؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ المفعُول؛ وعلى كلا التَّقديرين، فلا يُوصفُ به؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ المفعُول؛ وعلى كلا التَّقديرين، فلا يُوصفُ به؛ لأنَّ المصدر لا يُوصَف عند المُبالغة إلاَّ به وليست مُرادةً هنا، والذي بمعنى المفعولِ ليس جَارياً على فِعْلٍ، ولا ينقاسُ، لا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 تقُول: ضِرَاب بمعنى مَضْرُوبِ، ولا قِتَال بمعنى مَقْتُولٍ، ولكونها غير جاريةٍ على فِعْلِ، لم تَعَمْلْ عَمَله، ولا تَقُولُ: «مَرَرْتُ بِرَجُلٍ طَعَامٍ خُبْزُهُ» وإذا كانَ غيرَ صفةٍ، فكيفَ يقال: أُضِيفَ المَوْصُوفُ لصفَتِهِ؟ وإنِّما أُفْرِدَت «فِدْيَةٌ» ؛ لوجهين: أحدهما: أنَّها مصدرٌّ، والمصدرُ يُفْرَدُ، والتاء فيها ليست للمَرَّة، بل لِمُجَرَّدِ التأنيث. والثاني: انه لَمَّا أضافَها إلى مضافٍ إلى الجمع، أفَهْمَتِ الجَمْعَ، وهذا في قراءةِ «مَسَاكين» بالجمع، ومَنْ جمع «مَسَاكِين» ، فلمقابلةِ الجمع بالجمع، ومَنْ أَفْرَدَ، فعلى مراعاة إفراد العُمُوم، أي: وعلى كلِّ واحدٍ مِمَّن يُطيقُ الصَّوْم؛ لكُلِّ يوم يُفْطِرُهُ إطعامُ مسكين؛ ونظيرهُ: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] . وتَبَيَّن مِنْ إفراد «المِسْكِين» أنَّ الحُكم لِكلِّ يومٍ يُفْطر فيه مِسْكِينٌ، لوا يُفْهَمُ ذلك من الجَمع، والطَّعَام: المرادُ به الإِطْعَامُ، فهو مصدرٌ، ويَضْعُفُ أنْ يُراد به المفعولُ، قال أبو البقاء: «لأنَّه أضافه إلى المِسْكِين، وليْسَ الطعامُ للمسْكِين قَبْل تمليكِه إياه، فلو حُمِلَ على ذلك، لكان مجازاً؛ لأنه يصير تقديرُه: فعلَيهِ إخراجُ طعام يَصِيرُ للمَسَاكِين، فهو من باب تسمية الشيءِ بما يؤول إليه، وهو وإنْ كان جائزاً، إلا أنِّه مجازٌ، والحقيقة أَوْلى منه» . قوله: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً} قد تقدَّم نظيرهُ عنْد قوله تعالى: {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] فَلْيُلْتَفتْ إليه، والضميرُ في قوله: «فَهُوَ» ضميرُ المصدرِ المدْلُول عليه بقوله: «فَمَنْ تَطَوَّعَ» ، فالتَّطُّوعُ خيرٌ له، و «لَهُ» في مَحَلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةً ل «خَيْرٌ» ؛ فيتعلٌَُّ بمحذوف، أيْ: خَيْرٌ كَائِنٌ لَهُ. فصل في نسخ الآية. ذهب أكثَر العُلماء إلى أنَّ الآية منسُوخةٌ، وهو قَوْل ابن عُمَر، وسلمة بن الأكوع، وغيرهما؛ وذلك أنَّهم كانُوا في ابتداءِ الإٍلام مُخيَّرين بين أن يَصُوموا، وبين أن يُفْطِروا، ويفتدوا، خَيَّرهم الله تعالى؛ لئلاَّ يشقّ عليهم؛ لأنَّهم كانُوا لم يتعودُّوا لاصَّوم، ثم نُسِخ التَّخيير، ونزلت العزيمةُ بقوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقال قتادة هي خاصَّة بالشَّيخ الكبير الَّذي يُطيقُ الصَّوم، ولكن يشقُّ عليه، رُخِّص له أن يُفطِر ويفيد [ثُمَّ نسخ. وقال الحسن: هذا في المريض الَّذي به ما يقع عليه اسم المرضِ، وهو يَسْتطيع، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 خُيِّر بين أنْ يَصُوم وبيْن أن يُفطْر ويفدي] ثم نُسخ بقوله: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وتثبت الرُّخصة للَّذين لا يُطِيقونه، وذهب جماعةٌ إلى أنَّ الآية الكريمة محكمةٌ غير مَنسوخةٍ، معناه: وعلى الَّذين كانوا يُطيقُونه في حال الشَّباب، فَعَجِزُوا عنه بعد الكِبَرِ، فعليهم الفدية بَدَل الصَّوم، وقراءة ابن عباس «يَطَوَّقُونَهُ» بضم الياء، وفتح الطَّاء مخففةً، وتشديد الواو، أي: يُكَلَّفُون الصوم، فتأوَّله على الشَّيخ الكبير، والمرأة الكبيرة لا يستطيعان الصَّوم، والمريض الذي لا يرجى برؤه، فهم يكلَّفُون الصَّوم، ولا يُطيقونه، فلم أن يُفطروا، ويُطعموا مكان كُلِّ يومٍ مِسكيناً، وهو قول سعيد بن جبير، وجعل الآية محكمةً. فصل في المراد بالفدية ومقدارها «الفِدْيةُ» في معنى الجزاء، وهو عبارةٌ عن البَدَل القائم عن الشيءِ وهي عن دأبي حنيفة نصفُ صاعٍ من بُرٍّ، أو صاعاً من غيره وهو مُدَّانِ، وعن الشَّافعي «مُدٌ» بمُدِّ النبي - صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو رَطْلٌ وثُلُثٌ من غالب أقوات البَلَد، وهو قول فقهاء الحجاز. وقال بعضُ فقهاء العراق: نصف صاعٍ لكُلِّ يومٍ يُفطِر. وقال بعض الفقهاء: ما كان المُفْطِرُ يتقوَّته يَومَه الَّذي أفْطَره. وقال ابنُ عباسٍ: يُعطِي كلَّ مسكين عشاءَهُ وسَحُوره. فصل في احتجاج الجبائي بالآية احتجَّ الجُبَّائيُّ بقوله تعالى: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} على أن الاستطاعة قبل الفعل؛ فقال: الضميرُ في قوله: {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} عائدٌ إلى الصَّوم، فأثبت القُدرة على الصَّوم حال عدم الصَّومِ؛ لأنَّه أوجب عليه الفِدية، وإنَّما تجب عليه الفديةُ إذا لم يَصُمْ؛ فَدَلَّ هذا على أن القدرةَ على الصَّوم حاصلةٌ قبل حُصُول الصَّوم. فإنْ قيل: لمَ لا يجُوز أنْ يكُون الضميرُ عائداً إلى الفِدية؟ قُلنا: لا يَصحُّ لوجهين: أحدهما: أن الفدْيَةَ متأخِّرةٌ، فلا يَعُود الضَّمير إليها. والثاني: أنَّ الضَّمير مُذَكَّر، والفدية مؤنَّثة. فإنْ قيل: هذه الآية مسنوخةٌ، فكَيْفَ يجوز الاستدلالُ بها؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 قلنا: إنَّما كانت قبل أن صارتْ منسُوخةً دالَّة على أنَّ القُدرة حاصلةً قبل الفعل، والحقائقُ لا تتغيَّر. قوله: {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} فيه ثلاثة أوجُهٍ: أحدها: قال مجاهد وعطاء، وطاوس: أي: زاد على مسكين واحدٍ؛ فأطعم مكان كل يومٍ مسكينين، فأكثر. الثاني: أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب. الثالث: قاله الزُّهريُّ: من صام مع الفدية، فهو خير له. قوله: «وَأَنْ تَصُومُوا» في تأويل مصدر مرفوع بالابتداء، تقديره: «صَوْمُكُمْ» ، و «خَيْرٌ» خَبَرُهُ، ونظيره: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] . وقوله: «إنْ كُنْتُم تَعْلَمُونَ» شرطٌ حذف جوابه، تقديره: فالصَّوم خيرٌ لكم، وحذف مفعول العلم؛ إما اقتصاراً، أي: إن كنتم من ذوي العلم والتمييز، أو اختصاراً، أي: تعلمون ما شرعيته وتبيينه، أو فضل ما علمتم. من ذهب إلى النَّسخ، قال: معناه: الصَّوم خيرٌ له من الفدية، وقيل: هذا في الشَّيخ الكبير، لو تكلَّف الصَّوم، وإن شقَّ عليه، فهو خيرٌ له من أن يفطر ويفدي. وقيل: هذا خطابٌ مع كل من تقدَّم ذكره، أعني: المريض، والمسافر، والذين يطيقونه. قال ابن الخطيب: وهذا أولى؛ لأنَّ اللفظ عامٌّ، ولا يلزم من اتِّصاله بقوله {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} أن يكون حكمه مختصّاً بهم، لأنَّ اللفظ عامٌّ، ولا منافاة في رجوعه إلى الكُلِّ، فوجب الحكم بذلك، واعلم أنه لا رخصة لمؤمن مكلَّف في إفطار شهر رمضان، إلاَّ لثلاثةٍ: أحدهم - يجب عليه القضاء والكفَّارة: هو الحامل والمرضع، إذا خافتا على ولديهما يفطران، ويقضيان، وعليهما مع القضاء الفدية، وهو قول ابن عمر، وابن عبَّاس، وبه قال مجاهد، وإليه ذهب الشافعيُّ وأحمد. وقال قومٌ: لا فدية عليهما، وبه قال الحسن، وعطاء، والنَّخعيُّ، والزُّهريُّ، وإليه ذهب الأوزاعيُّ والثوريُّ وأصحاب الرَّأي. الثاني - عليه القضاء دون الكفَّارة: وهو المريض والمسافر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 الثالث - عليه الكفَّارة دون القضاء: الشَّيخ الكبير، والمريض الذي لا يرجى زوال مرضه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ} : فيه قراءتان: المشهور الرفع، وفيه أوجه: أحدها: أنه مبتدأ، وفي خبره حينئذ قولان: الأول: أنه قوله {الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} ويكون قد ذَكَرَ هذه الجملة مُنَبِّهَةً على فضله ومنزلته، يعني أن هذا الشهر الذي أنزل فيه القرآن هو الذي فرض عليكم صومه. قال أبو عليٍّ: والأشبه أن يكون «الَّذِي» وصفاً؛ ليكون لفظ القرآن نصّاً في الأمر بصوم شهر رمضان؛ لأنَّك إن جعلته خبراً، لم يكن شهر رمضان منصوصاً على صومه بهذا اللفظ، وإنما يكون مكبراً عنه بإنزال القرآن الكريم فيه، وإذا جعلنا «الَّذِي» وصفاً، كان حقُّ النظم أن يكني عن الشَّهر لا أن يظهر؛ كقولك: «شَهْرُ رَمَضَانَ المُبَارَكُ مَنْ شَهِدَهُ فَلْيَصُمْهُ» . والقول الثاني: أنه قوله {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وتكون الفاء زائدة على رأي الأخفش، وليست هذه الفاء التي تزاد في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط، وإن كان بعضهم زعم أنها مثل قوله: {قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} [الجمعة: 8] وليس كذلك؛ لأن قوله: {الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ} يُتَوَهَّمُ فيه عمومٌ؛ بخلاف شهر رمضان، فإن قيل: أين الرابط بين هذه الجملة وبين المبتدأ؟ قيل: تكرار المبتدأ بلفظه؛ كقوله: [الخفيف] 938 - لاَ أَرَى المضوْتَ يَسْبِقُ المَوْتَ شَيْء ..... ... ... ... ... ... ... ... . . وهذا الإعراب - أعني كون «شَهْرُ رَمَضَانَ» مبتدأً - على قولنا: إن الأيام المعدودات هي غير شهر رمضان، أمَّا إذا قلنا: إنها نفس رمضان، ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ. فقدَّره الفرَّاء: ذَلِكُمْ شَهْرُ رَمَضَانَ، وقدَّره الخفش: المكتوب شهر رمضان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 والثاني: أن يكون بدلاً من قوله «الصِّيَامُ» ، أي: كُتِبَ عَلَيْكُمْ شَهْرُ رمَضَانَ، وهذا الوجه، وإن كان ذهب إليه الكسائيٌّ بعيدٌ جدّاً؛ لوجهين: أحدهما: كثرة الفصل بين البدل والمبدل منه. والثاني: أنَّه لا يكون إذا ذاك إلاَّ من بدل الإشمال، وهو عكس بدل الاشتمال، لأنَّ بدل الاشتمال غالباً بالمصادر؛ كقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ} [البقرة: 217] ، وقول الأعشى: [الطويل] لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ ... تَقَضِّي لُبَانَاتٍ وَيَسْأمُ سَائِمُ وهذا قد أُبْدِلَ فيه الظرفُ من المصْدَرِ، ويمكن أن يُوَجَّهَ قوله بأنَّ الكلامَ على حذفِ مضافٍ، تقديره: صيامُ شَهْرِ رَمَضَانَ؛ وحينئذٍ: يكون من باب بَدَلِ الشَّيء من الشَّيْءِ، وهما لعين واحدة، ويجوزُ أن يكون الرَّفع على البدلِ من قوله «أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ» في قراءة من رَفَعَ «أيَّامً» ، وهي قراءة عبد الله، وفيه بُعْدٌ. والقراءة الثانية: النصْبُ، وفيه أوجهٌ: أجودها: النصبُ بإضمار فعلٍ، أي: صُوموا شَهْر رَمَضَانَ. الثاني - وذكره الأخفشُ والرُّمَّانِيُّ -: أن يكون بدلاً من قوله «أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ» ، وهذا يُقَوِّي كون الأيام المعدُودَاتِ هي رمضان، إلا أن فيه بُعْداً من حيث كثرةُ الفَصْلِ. الثالث: نَصْبُه على الإغراء؛ ذكره أبو عُبَيْدة والحُوفِيُّ. الرابع: أن ينتصبَ بقوله: «وأنْ تَصُومُوا» ؛ حكاه ابن عطية، وجوَّزه الزمخشريُّ، واعترض عليه؛ بأن قال: فَعَلى هذا التقدير يصير النَّظم: «ْ تَصُومُوا رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ خَيْرٌ لَكُمْ» فهذا يقتضي وقوعَ الفَصْل بين المبتدأ والخَبَر بهذا الكَلامَ الكثير، وهو غَيْرُ جائزٍ؛ لأنَّ المبتدأ والخَبَر جاريان مَجْرَى شيءٍ واحدٍ، وإيقاع الفضْلِ بين الشَّيءِ الواحد غيرُ جائزٍ. وغلَّطَهُما أبو حيان: بأنَّه يَلْزَمُ منه الفصلُ بين الموصول وصلته بأجنبيٍّ، لأنَّ الخبر، وهو «خَيْرٌ» أَجْنَبِيٌّ من الموصول، وقد تقدَّم أنه لا يُخْبَرُ عن الموصول، إلاَّ بعد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 تمام صلتِهِ، و «شَهْر رَمَضَانَ» على رأيهم من تمام صلة «أَنْ» ، فامتنع ما قالوه، وليس لقائل أن يقول: يتخرَّجُ ذلك على الخلاف في الظَّرف، وحرف الجَرِّ، فإنه يُغْتضفَرُ فيه ذلك عند بعضهم؛ لأنَّ الظاهر من نصبه هنا أنه مفعولٌ به لا ظرفٌ «. الخامس: أنه منصوبٌ ب» تَعْلَمُونَ «؛ على حذف مضافٍ، تقديره: تعلمونَ شرفَ شَهْرِ رَمَضَانَ، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ في الإعراب. وأدغم ابو عمرو رَاءَ» شَهْر «في راء» رَمَضَان «، ولا يُلْتَفَتُ إلى من استضعفها؛ من حيث إنَّه جمع بين ساكنين على غير حدَّيهما، وقول ابن عطيَّة:» وذلك لا تقتضيه الأصول «غير مقبولٍ منه؛ فإنَّه إذا صَحَّ النقل، لا يُعارضُ بالقِياس. والشهر لأهْلِ اللُّغة فيه قولان: أشهرهما: أنه اسمٌ لمُدَّة الزمان التي يكون مَبْدَأَها الهلالُ خافياً إلى أن يَسْتَسْرَّ؛ سُمِّيَ بذلك لشُهْرَتِهِ في حاجة الناس إليه من المعاملات، والصوم، والحجِّ، وقضاء الدُّيُون، وغيرها. والشَّهر مأخذوذٌ من الشُّهْرَة، يُقَالُ: شَهَر الشَّيْءَ يَشْهَرُهُ شَهْراً: إذا أظهره، ويسمَّى الشَّهْرُ: شَهْراً، لشُهْرَة أمره، والشُّهْرَة: ظهورُ الشيءِ، وسمي الهلال شهراً؛ لشُهْرته. والثاني - قاله الزَّجَّاج -: أنه اسمٌ للهلال نفسه؛ قال: [الكامل] 940 - ... ... ... ... ... ... . ... وَالشَّهْرُ مِثْلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ ذلك؛ لبيانه؛ قال ذو الرُّمَّةِ: [الطويل] 941 - ... ... ... ... ... ... ... يَرَى الشَّهْرَ قَبْلَ النَّاسِ وَهْوَ نَحِيلُ يقولون: رأيتُ الشهْرَ، أي هِلاَلَهُ، ثم أُطلِقَ على الزمان؛ لطلوعه فيه، ويقال: أشْهَرْنَا، أي: أتى علينا شَهْرٌ، قال الفَرَّاءُ:» لَمْ أَسْمَعْ فَعْلاً إلاَّ هذا «. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 فصل قال الثَّعلبي:» يُقَالُ: شَهَرَ الهِلاَلُ، إذَا طَلَعَ «، ويُجْمَعُ في القلَّة على أشهرٍ، وفي الكثرة على شُهُورٍ، وهما مقيسان. ورَمَضَانُ: عَلَمٌ لهذا الشَّهر المْصُوص، وهو علم جنسٍ، وفي تسميته برمضان أقوالٌ: أحدها: أنَّه وافق مجيئه في الرَّمضاء - وهي شِدَّةُ الحَرِّ - فَسُمِّيَ هذا الشَّهْرَ بهذا الاسم: إما لارتماضهم فيه من حَرِّ الجوع، أو مقاساة شدَّته؛ كما سمَّوه تابعاً؛ لأنه يتبعهم فيه إلى الصَّوم، أي: يزعجهم لشدَّته عليهم، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «صَلاَةُ الأَوَّابِينَ، إذَا رَمِضَتِ الفِصَالُ» أخرجه مسلم، ورَمَضَ الفِصَالُ، ذا حرَّق الرَّمْضَاء أحقافها، فتبْرُكُ من شدَّة الحَرِّ. يقال: إنَّهم لما نقلوا أسماء الشُّهُور عن اللُّغَةِ القديمةِ، سمَّوها بالأزمنة الَّتي وقعت فيها، فوافق هذا الشَّهْرُ أيَّام رَمَضِ الحَرِّ، [فسُمِّيَ به؛ كَرَبِيع؛ لموافقته الربيعَ، وجُمَادى؛ لموافقته جُمُودَ الماء، وقيل: لأنه يُرْمِضُ الذنوب، أي: يَحْرِقُها، بمعنى يَمْحُها] . روي عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه قال: «إنَّما سُمِّيَ رَمَضَانَ، لأنَّهُ يُرْمِضُ ذُنُوبَ عِبَادِ اللَّهِ» وقيل: لأنَّ القلوبَ تَحْتَرِقُ فيه من الموعظة، وقيل: من رَمَضْتُ النَّصْلَ أَرْمُضُهُ رمضان إذا دققته بين حجرين، ليرقَّ يقال: نَصْلٌ رَمِيضٌ ومَرْمُوضٌ. وسُمِّيَ هذا الشَّهْرُ رَمَضَانَ؛ لأنهم كانوا يَرْمُضُون فيه أسلحتَهُمْ؛ ليقضوا منها أوطارهم؛ قاله الأزهريُّ. قال الجوهريُّ: وَرَمَضَانُ: يُجمع على «رَمَضَانَات» و «أَرْمِضَاء» وكان اسمه في الجاهلية نَاتِقاً، أنشد المُفَضَّل: [الطويل] 942 - أ - وَفي نَاتِقٍ أَجْلَتْ لَدَى حَوْمَةِ الوَغَى ... وَوَلَّتْ عَلَى الأَدْبَارِ فُرْسَانُ خَثْعَمَا وقال الزمخشي: «الرَّمَضَانُ مَصْدَرُ رَمِضَ، إذَا احترَقَ من الرَّمْضَاءِ» قال أبو حيَّان: «وَيَحْتَاجُ في تحقيقِ أنَّه مصدرٌ إلى صِحَّةِ نَقْلٍ، فإن فَعَلاَناً ليس مصدر فَعِلَ اللازم، بل إن جاء منه شَيْءٌ كان شاذاً» ، وقيل: هو مشتقٌّ من الرَّمِض - بكسر الميم - وهو مَطَرٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 يأتي قبل الخريف يُطَهِّر الأرض من الغُبَار، فكذلك هذا الشهرُ يُطَهِّر القلوبَ من الذُّنُوب ويغسلها. وقال مجاهدٌ: إنه اسم الله تعالى، ومعنى قول لقائل: «شَهْرُ رَمَضَانَ» ، أي: شَهْرُ اللَّهِ، وروي عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه قال: «لا تَقُولُوا: جَاءَ رَمَضَانُ، وذَهَبَ رَمَضَانُ، ولَكِنْ قُولُوا: جَاءَ شَهْرُ رَمَضَانَ؛ وَذَهَبَ شَهْرُ رَمَضَانَ، فإنَّ رَمَضَانَ اسْمٌ مِنْ أسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى» قال القُرْطُبِيُّ: «قال أهْلُ التَّاريخِ: إنَّ أوَّلَ مَنْ صَامَ رمَضَانَ نُوحٌ - عَلَيْهِ السَّلام - لمَّا خَرَجَ من السَّفينة» ، وقد تقدَّم قوم مجاهدٍ: «كَتَبَ اللَّه رمَضَانَ عَلَى كُلِّ أمَّة» ومعلومٌ أنَّه كان قبل نوحٍ - عليه السَّلام - أُمَمٌ؛ فالله أعلم. والقرآن في الأًل مصدر «قَرَأْتُ» ، ثم صار علماً لما بين الدَّفَّتَيْنِ؛ ويُدلُّ على كونه مصدراً في الأصل قول حسَّانٍ في عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: [البسيط] 942 - ب - ضَحَّوْا بأَشْمَطَ عُنْوَانُ السُّجُودِ بِهِ ... يُقَطِّعُ اللَّيْلَ تَسْبِيحاً وقُرْآنا وقيل: القرآن من المصادر، مثل: الرُّجْحَان، والنُّقْصَان، والخُسْرَان، والغُفْرَان، وهو من قرأ بالهمزة، أي: جمع؛ لأنه يجمع السُّور، والآيات، والحكم، والمواعظ، والجمهورُ على همزه، وقرأ ابن كثيرٍ من غير همزٍ، واختلف في تخريج قراءته على وجهين: أظهرهما: أنه من باب النَّقل؛ كما يَنْقُل وَرْشٌ حركة الهمزة إلى السَّاكن قبلها، ثم يحذفها في نحو: {قَدْ أَفْلَحَ} [المؤمنون: 1] ، وهو وإن لم يكن أصله النَّقْلَ، إلا أنَّه نَقَلَ هنا لكثرة الدَّوْرِ، وجمعاً بين اللُّغَتَيْنِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 والثاني: أنه مشتقٌّ عنده من قَرَنْتُ بين الشيئين، فكون وزنه على هذا «فُعَالاً» وعلى الأول «فُعْلاَناً» وذلك أنه قد قُرِنَ فيه بين السُّوَر، والآياتِ، والحِكَمِ، والمواعِظِ. وقال الفَرَّاء: أَظُنَّ أنَّ القرآن سُمِّي من القرائن، وذلك أنَّ الآيات يُصَدِّقُ بعضها بعضاً على ما قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] . وأما قول من قال: إنَّه مشتقُّ من قَرَيْتُ الماء في الحوض، أي: جمعته، فغلطٌ؛ لأنَّهما مادَّتان متغايرتان. وروى الواحدُّ في «البسيط» عن محمَّد بن عبد الله بن الحكم، أنَّ الشافعيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان يقول القُرْآنُ اسْمٌ، ولَيْسَ بمهموزٍ، ولم يُؤْخَض من «قَرَأْتُ» ، وإنما هو اسمٌ لكتاب الله؛ مثل التوراة والإنجيل، قال: ويهمز قراءة، ولا يهمزة القرآن، كما يقول: {وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} [الإسرء: 45] قال الواحدُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقول الشافعيِّ - رضى الله عنه - أَّنه اسمٌ لكتاب الله تعالى، يشبه أنه ذهب إلى أنه غير مشتقٍّ، والذي قال بأنَّه مشتقٌّ من القرء، وهو الجمع، أي: جمعته، هو الزَّجَّاج وأبو عُبَيْدة، قالا: إنَّه مأخوذٌ من القُرْء وهو الجمع. قال عَمْرُ بْنُ كُلْثُومٍ: 943 - أ - ... ... ... ... ... ... ... . ... هِجَانِ اللَّوْن لَمْ تَقْرَأْ جَنِينا أي: لم تجمع في رحمها ولداً، ومن هذا الأصل: قُرْءُ المرأة، وهو أيَّام اجتماع الدَّم في رحمها، فسُمِّي القرآن قُرْآناً، لأنه يجمع السُّور وينظمها. وقال قُطْرُب: سُمِّيَ قرآناً؛ لأنَّ القارئ يكتبه، وعند القراءة كأنَّه يلقيه من فيه أخذاً من قول العرب: ما قرأ النَّاقة سلى قطُّ، أي: ما رَمَتْ بِوَلَدٍ، وما أسْقَطَتْ ولداً قَطُّ، وما طَرَحَتْ، وسُمَّيَ الحَيْضُ قراءاً بهذا التَّأويل، فالقرآن [يلفظه القارئ] من فيه، ويلقيه، فسُمِّيَ قُرْآناً. و «القُرآنُ» مفعول لم يُسَمَّ فاعله؛ ثم إنَّ المقروء يُسَمَّى قرآناً؛ لأن المفعول يسمَّى بالمصدر؛ كما قالوا للمَشْرُوبِ شَرَابٌ، وللمكْتُوب كِتَابٌ. واشتهر هذا الاسمُ في العُرْف؛ حتَّى جعلوه اسماً لكتاب الله تعالى على ما قاله الشَّافِعيُّ - رض الله عنه. ومعنى {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} ، أي: ظَرْفٌ لإنزاله. قيل: «نَزَلَتْ صُحُف غبراهيم في أوَّل يومٍ من رمَضَانَ، وأُنزلت التوراة لستٍّ مَضَيْنَ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 والإنجيل لثلاث عشرة، والقرآن لأربع وعشرين. فإن قيل: إنَّ القرآن نَزَلَ عَلَى محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مُدَّة ثلاثٍ وعشرين سَنَةً مُنَجَّماً مُبَعَّضاً، فما معنى تخصيص إنزاله برَمَضَان؟ فالجواب من وجهين: الأول: أنَّ القرآن أُنزل في ليلة القدر جملةً إلى سماء الدنيا، ثُمَّ نَزَل إلى الأرض نُجُوماً. روى مقسّم عن ابن عبَّاسٍ أنه سُئِلَ عن قوله عزَّ وجلَّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} وقوله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] ، وقوله {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] وقد نزل في سائر الشُّهُور، وقال عزَّ وجلَّ: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} [الإسراء: 106] فقال: أُنْزِلَ القرآن جملةً واحدةً من اللوح المحفوظ في ليلة القدر من شهر رمضان إلى بيت العزَّة في السماء الدُّنيا، ثم نزل به جبريل - عليه السَّلام - على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نجوماً في ثلاث وعشرين سنة، فذلك قوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75] وقال داود بن أبي هندٍ: قلت للشَّعبيِّ: {شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} أما كان ينزل في سائر السنَّة؟ قال: بلى، ولكن جبريل كان يعارض محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في رمضان ما أنزل الله إليه فيحكم الله ما يشاء، ويثبت ما يشاء، وينسيه ما يشاء. وروي عن أبي ذرٍّ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أُنْزِلَتْ صُحُفُ إبْرَاهيمَ في ثَلاَثِ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرَ رَمَضَانَ» ويُروى: «في أَوّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ» وأُنْزِلَتْ تَوْرَاةُ مُوسَى في سِتِّ لَيَالٍ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ إنْجِيلُ عِيسَى في ثَلاَثِ عَشَرَةَ ليلة مِنْ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ زَبُورُ دَاوُدَ في ثَمانِ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ رَمَضَانَ، وأُنْزِلَ الفُرْقَانُ عَلَى محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأرْبَع وعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ، ولستٍّ بَقِينَ بَعْدَهَا، وسنذكر الحكمة في إنزاله منجماً مفرَّقاً في سورة «الفُرْقَان» عند قوله: {لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان: 32] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 والجواب الثاني: أن المراد منه: أنَّ ابتداء نزوله ليلة القدر من شَهْر رمَضَانَ، وهو قول محمّضد بن إسحاق؛ وذلك لأنَّ مبادئ الملل والدُّول هي الَّتي يؤرَّخ بها؛ لكونها أشرف الأوقات، ولأنَّها أيضاً أوقاتٌ مضبوطةٌ. واعلم أن الجواب الأول حمل للكلام على الحقيقة، وفي الثاني: لا بُدَ من حمله على المجاز؛ لأنًّث حمل للقرآن على بعض أجزائه. روي أن [عبد الله بن] عمر بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - استدلَّ بهذه الآية الكريمة، وبقوله {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] على أن ليلة القدر لا تكون إلاَّ في رمضان، وذلك لأنَّ ليلة القدر، إذا كانت في رمضان، وكان إنزاله في ليلة القدر إنزالاً في رمضان، وهذا كمن يقول: «لَقِيتُ فُلاناً في هَذَا الشَّهْرِ» ، فيقال له: في أيِّ يوم منه؟ فيقول: في يوم كذا، فيكون ذلك تفسيراً لكلامه الأول وقال سفيان بن عُيَيْنَةَ: «أُنْزلَ فِيهِ القُرآنُ» ، معناه: أُنْزِلَ، في فضله القرآن، وهذا اختيار الحسين بن الفضل؛ قال: وهذا كما يقال: «أُنْزِلَ في الصِّدِّيق كَذَا آيةً» يُرِيدُونَ في فضله. قال ابن الأنباريِّ: أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن الكريم؛ كما يُقَالُ أنزل الله في الزَّكَاة آية كَذَا؛ يريدون في إيجابها وأنزل في الخمر، يريدون في تحريمها. فصل قد تقدَّم في قوله تعالى: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} [البقرة: 23] أنَّ التنزيل مختصٌّ بالنُّزُول على سبيل التَّدريح، والإنزال مختص بما يكون النزول فيه دفعة واحدة ولهذا قال تبارك وتعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل} [آل عمران: 3] ذا ثبت هذا، فنقول: لَمَّا كان المراد ها هنا من قوله «شَهْرُ رَمَضَان الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ القُرْآنُ» إنزاله من اللوح المحفوظ إلى سماء الدُّنيا - لا جرم ذكره بلفظ «الإنزال» دون «التَّنزيل» ، وهذا يدلُّ على أن هذا القول راححٌ على سائر الأقوال. قوله «هُدًى» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من القرآن، والعامل فيه «أُنزِلَ» وهُدىً مصدرٌ، فإمَّا أن يكون على حذفٍ مضافٍ، أي: ذا هدىص، أو على وقوعه موقع اسم الفاعِلِ، أي: هادِياً، أو على جعله نفس الهُدَى مبالغةً. قوله: «لِلنَّاسِ» يحوز فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلق ب «هُدىً» على قولنا بأنه وقى موقع «هَادٍ» ، أي: هادياً للناس. والثاني: أن يتلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ للنكرة قبله، ويكون محلُّه النصَّب على والثاني: أن يتعلَّ بمحذوفٍ؛ لأنه صفة للنكرة قبله، ويكون محلُّ النَّصب على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 الصفة، ولا يجوز أن يكون «هُدَى» خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: «هُوَ هَدىً» ؛ لأنه عطف عليه منصوبٌ صريحٌ، وهو: «بَيَّنَاتٍ» ؛ و «بَيِّنَاتٍ» عطفٌ على الحال، فهي حالٌ أيضاً وكلا الحالين لازمةٌ؛ فإنَّ القرآن لا يكون إلا هُدىً وبيناتٍ، وهذا من باب عطف الخاصِّ على العامِّ، لأنَّ الهدى يكون بالاشياء الخفيَّة والجليَّة، والبَيِّنَاتُ من الأشياء الجَليَّة. فإن قيل: ما معنى قوله {وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان} بعد قوله: «هُدىً» . فالجواب من وجوه: الأول: أنه تبارك وتعالى ذكر أولاَّ أنه هُدىً، ثمَّ الهُدَى على قسمين: تارةً: يكون هدىً للنَّاس بيِّناً جَليَّاً. وتارةً: لا يكون كذلك. والقسم الأول: لا شكَّ أنَّه أفضل؛ فكأنه قيل: هو هدىً؛ لأنه هو البيِّن من الهدى، والفارق بين الحقِّ والباطل، فهذا مِنْ باب ما يُذكَر الجنْسُ، ويعطف نوعه عليه؛ لكونه أشرف أنواعه، والتقدير: كأنه قيل: هذا هُدىً، وهذا بَيِّنٌ من الهدى، وهذا بيِّناتٌ من الهُدَى، وهذا غاية المبالغة. الثاني: أن يقالك القرآن هدىً في فنسه، ومع كونه كذلك، فهو أيضاً بيِّناتٌ من الهُدَى والفرقان، والمراد: ب «الهُدَى والفُرْقَانِ» التوراة والإنجيل؛ قال تعالى: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الفرقان} [آل عمران 3 - 4] وقال {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء: 48] فبيَّن تعالى أنَّ القرآن مع كونه هُدىً في نفسه، ففيه أيضاً هدىً من الكتب المتقدِّمة التي هي هدىً وفرقانٌ. الثالث: أن يحمل الأوَّل على أصول الدِّين، والهُدى الثاني على فروع الدِّين؛ حتَّى يزول التَّكْرَار. قوله: {مِّنَ الهدى والفرقان} هذا الجارُّ والمجرورُ صفة لقوله: «هُدىً وبَيِّناتٍ» فمحلُّه النصب، ويتعلَّق بمحذوفٍ، أي: إنَّ كون القرآن هُدىً وبيَّنات هو من جملة هُدَى الله وبَيِّنَاتِهِ؛ وعَبَّر عن البيِّنات بالفُرْقان، ولم يأت «مِنْ الهَدَى وَالبَيِّنَاتِ» فيطالب قالعجزُ الصَّدْرَح لأنّ فيه مزيد معنىً لازم للبيان، وهو كونه يُفَرِّقُ بين الحقِّ والباطل، ومتى كان الشيءُ جَلِيّاً واضحاً، حصل به الفرقُ، ولأنَّ في لفظ الفرقان تَوَاخِيَ الفواصل قبله؛ فلذلك عبَّر عن البينات بالفرقان، وقال بعضهم: «المرادُ بالهُدَى الأوَّلِ ما ذكرنا من أنَّ المراد به أصول الديانات وبالثاني فروعها» . وقال ابن عطية: «اللامُ في الهُدَى للعهد، والمرادُ الأوَّلُ، يعني أنه تقدَّم نكرةٌ، ثم أُعيد لفظها معرَّفاً ب» أَلْ «، وما كان كذلك كان الثاني فيه هو الأول؛ نحو قوله: {إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 المزمل: 15 - 16] ، ومن هنا قال ابن عبَّاس:» لَنْ يَغْلِبَ عُسْرٌ يُسْرَيْنِ «وضابطُ هذا أن يَحُلَّ محلَّ الثاني ضمير النكرة الأولى؛ ألا ترى أنه لو قيل: فعصاه، لكان كلاماً صحيحاً» ؟ قال أبو حيان: «وما قاله ابن عطية لا يتأتّضى هنا؛ لأنه ذكر هو والمعربون أن» هُدىً «منصوبٌ على الحال، والحال وصفٌ في ذي الحال، وعطف عليه» وبيّنات «، فلا يخلو قول» مِنَ الهُدَى «- المراد به الهدى الأول - من أن يكون صفةً لقوله» هُدَى «أو لقوله» وَبَيِّنَاتِ «أو لهما، أو متعلِّقاً بلفظ» بَيِّنَاتِ «، لا جايزٌ أن يكون صفةً ل» هُدىً «؛ لأنه من حيث هو وصفٌ، لزم أن يكون بعضاً، ومن حيث هو الأول، لزم أن يكون إياه، والشيء الواحد لا يكون بعضاً كُلاًّ بالنسبة لماهيَّته، ولا جائزٌ أن يكون صفة لبيناتٍ فقط؛ لأنَّ» وَبَيِّنَاتٍ «معطوفٌ على» هُدىً «و» هُدىً «حال، والمعطوف على الحال حالٌ، والحالان وصفٌ في ذي الحال، فمن حيث كونهما حالين تخصَّص بهما ذو الحال؛ إذ هما وصفان، ومن حيث وصفت» بَيِّنَات «بقوله:» مِنَ الهُدَى «خصصناها به، فتوقَّف تخصيص القرآن على قوله:» هُدىً وبَيِّنَاتٍ «معاً، ومن حيث جعلت» مِنَ الهُدَى «صفةً ل» بَيِّنَاتٍ «، وتوقَّف تخصيص» بَيِّنَاتٍ «على هُدَى، فلزم ن ذلك تخصيص الشيء بنفسه، وهو محالٌ، ولا جائزٌ أن يكون صفةً لهما؛ لأنه يفسد من الوجهين المذكورين من كونه وصف الهُدَى فقط، أو بينات فقط. ولا جائزٌ أن يتعلَّق بلفظ «بَيِّنَاتٍ» ؛ لأنَّ المتعلِّق قيدٌ في المتقلَّق به؛ فهو كالوصفِ؛ فيمتنع من حيث يمتنع الوصف، وأيضاً: فلو جعلت هنا مكان الهدى ضميراً، فقلت: منه - أي: من ذلك الهُدَى - لم يصحَّ؛ فلذلك اخترنا أن يكون الهدى والفرقان عامَّين، حتى يكون هُدى وبينات بعضهاً منهما «. قوله تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} إلى قوله: {تَشْكُرُونَ} نقل الواحدِيُّ في» البسيط «عن الأخفش والمازنيِّ أنما قالا: الفاء في قوله {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ} زائدةٌ قالا: وذلك لأنَّ الفاء قد تدخل للعطف، أو للجزاء، أو تكون زائدةً، وليس لكونها للعطف، ولا للجزاء هاهنا وجهٌ؛ ومن زيادة الفاء قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} [الجمعة: 8] . قال: وأقول: يمكن أن تكون» الفاء «هاهنا للجزاء؛ فإنه تعالى لما بيَّن رمضان مختصّاً بالفضيلة العظيمة التي لا يشاركه سار الشُّهور فيها، فبيَّن أنَّ اختصاصه بتلك الفضيلة يُنَاسِب اختصاصه بهذه العبادة، ولولا ذلك، لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة هاهنا وجه، كأنه قيل: لما علم الختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة، فأنتم أيضاً خصصتموه بهذه الفضيلة أي العبادة، وأما قوله تعالى: {فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ} [الجمعة: 8] الفاء فيه غير زائدة أيضاً، بل هذا من باب مقابلة الضِّدِّ بالضدِّ؛ كأنه قيل: لمَّا فرُّوا من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 الموت، فجزاؤهم أن يقرب الموت منهم؛ ليعلموا أنَّه لا يغني الحذر عن القدر. و» مَنْ «فيها الوجهان: أعني كونها موصولةً، أو شرطيةً، وهو الأظهر، و» مِنْكُم «في محلِّ نصب على الحال من الضمير المستكنِّ في» شَهِدَ «فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائِناً منكم، وقال أبو البقاء:» مِنْكُم «حالٌ من الفاعل، وهي متعلقةٌ ب» شَهِدَ «، قال أبو حيان:» فَنَاقَضَ؛ لأنَّ جَعْلَها حالاً يوجب أن يكون عاملها محذوفاً، وجعلها متعلِّقة ب «شَهِدَ» يوجب ألاَّ تكون حالاً «ويمكن أن يجاب عن اعتراض أبي حيَّان عليه بأنَّ مراده التعلُّ المعنويُّ، فإنَّ» كائناً «الذي هو عامل في قوله» مِنْكُم «هو متلِّقٌ ب» شَهِدَ «وهو الحالُ حقيقةً.؟ وفي نَصْبِ» الشَّهْرِ «قولان: أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرف، والمراد بشَهِدَ: حَضَر، ويكون مفعولُ» شَهِدَ «محذوفاً، تقديره: فمن شَهِدَ منكُم المِصْرَ أو البلد في الشَّهْرِ. والثاني: أنه منصوب على المفعول به، وهو على حذف مضافٍ، ثم اختلفوا في تقدير ذلك المضاف: فالصحيح أنَّ تقديره:» دُخُولَ الشَّهْرِ «، وقال بعضهم:» هِلاَلَ الشَّهْرِ «قال شهاب الدين: وهذا ضعيفٌ؛ لوجهين: أحدهما: أنك لا تقول: شَهِدْتُ الهِلاَلَ، إنما تقول: شاهَدْتُ الهِلاَلَ. ويمكن أن يجاب بأنَّ المراد من الشُّهود: الحضُور. والثاني: أنه كان يلزم الصوم كل من شَهِدَ الهِلاَلَ، وليس كذلك، قال: ويجاب بأن يقال: نعم، الآية تدلُّ على وجوب الصوم على عموم المكلَّفين، فإن خرج بعضهم بدليل، فيبقى الباقي على العموم. قال الزمخشريُّ: «الشَّهْرَ» منصوبٌ على الظرف، وكذلك الهاء في «فَلْيَصُمْهُ» ولا يكون مفعولاً به؛ كقولك: شَهِدْتُ الجُمُعَةَ؛ لأنَّ المقيم والمسافر كلاهما شاهدان للشَّهْرِ «وفي قوله:» الهاء منصوبةٌ على الظرف «نظرٌ لا يخفى؛ لأن الفعل لا يتعدَّى لضمير الظرف إلاَّ ب» فِي «، اللهم إلاَّ أن يتوسَّع فيه، فينصب نصب المفعول به، وهو قد نصَّ على أنَّ نصب الهاء أيضاً على الظرف. والفاء في قوله:» فَلْيَصَمْهُ «: إمَّا جواب الشَّرط، وإمَّا زائدةٌ في الخبر على حسب ما تقدَّم في» مَنْ «. واللام لام الأمر، وقرأ الجمهور بسكونها، وإن كان أصلها الكسر، وإنما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 سكَّنوها؛ تشبيهاً لها مع الواو والفاء ب» كَتِف «؛ إجراءً للمنفصل مجرى المتصل. وقرأ السُّلَمِيُّ وأبو حيوة وغيرهما بالأصل، أعني كسر لام الأمر في جميع القرآن. وفتح هذه اللام لغة سليمٍ فيما حكاه الفراء، وقيَّد بعضهم هذا عن الفراء، فقال:» مِنَ العَرَبِ مَنْ يَفتحُ اللام؛ لفتحةِ الياء بعدها «، قال:» فلا يكونُ على هذا الفتحُ إن انكسَرَ ما بعدها أو ضُمَّ: نحو: لِيُنْذِرْ، ولِتُكْرِمُ أنتَ خالداً «. والألف واللام في قوله: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ} للعهد، إذ لو أتى بدله بضميرٍ، فقال:» فَمَنْ شَهِدَه منْكُمْ «لصَحَّ غلا أنَّه أبرزه ظاهراً؛ تنويهاً به. فصل بي بناء القولين على مخالفة الظاهر قال ابن الخطيب واعلم أن كلا القولين أعني: كون مفعول» شَهِدَ «محذوفاً أو هو الشَّهر لا يتم إلاَّ بمخالفة الظاهر. أما الأوَّل: فإنَّما يتم بإضمار زائدٍ، وأمَّا الثاني: فيوجب دخول التخصيص في الآية الكريمة وذلك لأنَّ شهود الشَّهْر حاصلٌ في حقِّ الصبيِّ والمجنون والمسافر، مع أنَّ لم يجل على واحدٍ منهم الصَّوم إلاَّ أنا بيَّنا في» أُصُول الفِقْه «أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإضمار، فالتخصيص أولى، وأيضاً، فلأنَّا على القول الأول، لما التزمنا الإضمار لا بُدَّ أيضاً من التزام التَّخْصيص؛ لأنَّ الصبيَّ والمجنون والمريض كلُّ واحدٍ منهم شهد الشَّهْرَ مع أنه لا يجبُ عليهم الصَّوم. فالقول الأول: لا يتمشى إلاَّ مع التزام الإضمار والتَّخصيص. والقول الثاني: يتمشى بمجرَّد التخصيص؛ فكان القول الثاني أولى، هذا ما عندي فيه، مع أن أكثر المُحَقِّقين كالواحديّ وصاحب الكشَّاف ذهبوا إلى الأوَّل. فصل قال ابن الخطيب قوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} جملة مركِّبةٌ من شرطٍ وجزاءٍ، فالشَّرط هو {مَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ} ، والجوءا هو الأمر بالصَّوم وما لم يوجد الشرط بتمامه، لم يترتَّب عليه الجزاء، والشهر اسمٌ للزمان المخصوص من أوَّله إلى آخره، وشهودُ الشَّهر إنما يحصُلُ عند الجزء الأخير من الشَّهر، فظاهر الآية الكريمة يقتضي أنَّ عند شهود الجزء الأخير من الشَّهر يجب عليه صوم كل الشهر، وهذا محالٌ، لأنه يقتضي إيقاع الفعل في آخر الزَّمان المنقضي؛ وهو ممتنعٌ، وبهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها، وأنه لا بُدَّ من صرفها إلى التأويل، وطيرقه: أن يحمل لفظُ الشهر على جزء من أجزاء الشهر؛ فيصير تقديره: من شَهِدَ جزءاً من أجزاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 الشَّهر، فليصم كلَّ الشهر، فعلى هذا: من شَهِدَ هِلاَل رمَضَان، فقد شهد جُزءاً من أجزاء الشَّهر، وعلى هذا التقدير، يستقيم معنى الآية، وليس فيه إلاَّ حَمُْ لفظ الكل على الجزء، وهو مجازٌ مشهور. ولقائلٍ أن يقولك إنَّ الزجَّاج قال: إنَّ الشَّهْر اسمٌ للهلال نفسه؛ كما تقدَّم عنه، وإذا كان كذلك، فقد زال كُلُّ ما ذكره من ارتكاب المجاز وغيره. قال القرطبيُّ: وأعيد ذكر الشَّهر؛ تعظيماً له؛ كقوله {الحاقة مَا الحآقة} [الحاقة: 1 - 2] ؛ وأنشد على أنَّه اسمٌ للهلا قول الشاعر: [الكامل] 943 - ب - أَخَوَانِ مِنْ نَجْدٍ عَلَى ثِقَةٍ ... وَالشِّهْرُ مِثْلُ قُلاَمَةِ الظُّفْرِ حتَّى تكامل في اسْتِدَارَتِهِ ... في أرْبَعٍ زَادَتْ عَلَى عَشْر فصل روي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ من دخل عليه الشهر، وهو مقيمٌ ثم سافر فالواجب عليه الصَّوم، ولا يجوز له الفطر؛ لأنه شهد الشهر. وأما سائر الفُقَهَاء من الصَّحَابة وغيرهم، فقد ذهبوا إلى أنه إذا أنشأ السَّفَر في رمضان، جاز له الفطر، ويقولون: قوله {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ، وإن كان عامّاً يدخل فيه الحاضر والمسافر، إلاَّ أن قوله بعد ذلك: {فَمَنْ كَانَ مَرِيضاً، أوْ عَلَى سَفَرٍ، فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامُ أُخَرَ} خاصٌّ، والخاصُّ مقدَّم على العامِّ. ذهب أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إلى أنَّ المجنون، إذا أفاق في أثناء الشهر يلزمه قضاء ما مضى. قال: لأنَّا دللنا على أنَّ الآية دلَّت على أنَّ من أدرك جزءاً من رمضان، لزمه صوم رمضان؛ فيكون صوم ما تقدَّم منه واجباً؛ فيجب قضاؤه فصل في كيفية شهود الشَّهْر شهود الشَّهر: إما بالرُّؤية أو بالسَّماع. أما الرؤية: فنقول: إذا رأى إنسانٌ هلال رمضان وحده، فإما أن يرد الإما شهادته أولا؛ فإن ردَّت شهادته، وجب عليه الصَّوم؛ لأنَّه شهد الشَّهر، وإن قبل شهادته أو لم ينفرد بالرؤُية، فلا شك في وجوب الصَّوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 وأما السماع: فنقول: إذا شهد عدلا، على رسة الهلا، حكم به في الصَّوم والفطر جميعاً، وإذا شهد عدلٌ واحدٌ عللٌ واحدٌ على رؤية هلال شوَّال، لا يحكم به، وإذا شَهِدَ على رؤية هلال رمضان يحكم به؛ احتياطاً لأمر الصَّوم، والفرق بينه وبين هلال شوَّال: أنَّ هلال رمضان للدُّخول في العبادة، وهلال شوالٍ للخروج من العبادة، وقول الواحد في إثبات العبادة يقبل، أما في الخروج من العبادة لا يقبل إلا اثنان. قال ابن الخطيب وعندي: أنه لا فرق بينهما في الحقيقة، لأنا إنما قبلنا قول الواحد في هلال رمضان؛ لكي يصوموا، ولا يفطروا؛ احتياطاً؛ فكذلك يقبل قول الواحد في هلال شوَّال؛ لكي يفطروا ولا يصوموا احتياطاً. فصل في حدِّ الصوم الصَّوم: هو الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائماً من أوَّل الفجر الصَّادق إلى غروب الشَّمس مع النِّيَّة. فقولنا: «إمساك» هو الاحتراز عن شيئين: أحدهما: لو طارت ذبابةٌ إلى حلقه، أو وصل غبارُ الطريق إلى باطنه، لا يبطل صومه؛ لأنَّ الاحتراز عنه شاقٌّ، وقد قال الله تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} . والثاني: لو صُبَّ الطعام أو الشراب في حلقه كرهاً، أو حال النوم - لا يبطل صومه، والإكراه لا ينافي الإمساك. وقولنا «عَنِ المُفطرَاتِ» وهي ثلاثة: دخول داخلٍ، أو خروج خارجٍ، والجماعُ. وحدُّ الدخول: كلُّ عينٍ وصل من الظَّاهر إلى الباطن من مَنفَذٍ مفتوح إلى الباطن، إما إلى الدماغُ، وإما إلى البطن وما فيها من الأمعاء والمثانة، أما الدِّماغ فيحصل الفطر بالسّعُوط، وأما البطن، فيحصل الفطر بالحقنة؛ وأما الخروج، فالقيء [بالاختيار] ، والاستمناء [يُبْطلانَ الصوم] ، وأما الجماع فمبطلٌ للصَّوم بالإجماع. وقولنا «مَعَ العِلْمِ بِكَوْنِهِ صَائِماً» فلو أكل أو شرب ناسياً، لم يبطُل صومه عند أبي حنيفة، والشَّافعيِّ، وأحمد، وعند مالك يبطُلُ. وقولنا: «مِنْ أَوَّولِ طُلُوعِ الفَجْرِ الصَّادِقِ» ؛ لقوله تعالى: {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر} [البقرة: 187] وكلمة «حَتَّى» ؛ لانتهاء الغاية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 وكان الأعمش يقول: أول وقته إذا طلعت الشمس، وكان يبيحُ الأكل والشرب بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس؛ ويحتج بأنَّ انتهاء الصَّوم [من وقت] غروب الشمس، فكذا ابتداؤه يجب أن يكون بطلوعها، وهذا باطلٌ بالنضِّ الذي ذكرناه. وحكي أن أبا حنيفة دخل على الأعمش يعوده، فقال له الأعمش: إنَّك لثقيلٌ على قلبي، وأنت في بيتك، فيكيف إذا زرتني، فسكت عنه أبو حنيفة، فلمَّا خرج من عنده، قيل له: لم سكتَّ عنه؟ قال: فماذا أقول في رجلٍ ما صام ولا صَلَّى عمره، وذلك لأنه كان يأكل بعد الجر الثَّاني قبل طلوع الشمس، فلا صوم له، وكان لا يغتسل من الإنزال، فلا صلاة له. وقولنا: «إلى غُرُوبِ الشَّمْسِ» ؛ قوله عليه السلام: «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ من هَا هُنَا وَأَدَبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» ومن الناس من يقول: وقت الإفطار عند غروب ضوء الشَّمس، قَاسَ الطَّرَف الثاني على الطَّرف الأوَّل من النهار؛ فإن طلوع الفجر الثاني هو طلوع ضوء الشَّمس، كذلك غروبه يكون بغروب ضوئها، وهو مغيب الشمس. وقولنا «مَعَ النِّيِّةِ» ؛ لأنَّ الصوم عملٌ؛ لقوله عليه السَّلام: «الصَّوْمُ أَفْضَلُ الأَعْمَالِ، والعلم لا بُدَّ فيه من النيَّة» ، لقوله - عليه السَّلام -: «إنَّما الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ، ومن الناس من قال: لا حاجة لصوم رمضان إلى النيَّة؛ لأن الله تعالى امر بالصَّوم بقوله: «فَلْيَصُمْهُ» والصَّوم هو الإمساك، وقد وجد، فيخرج عن العهدة، وهذا مردودٌ بقوله - عليه السلام - «إنَّما الأَعْمَالُ بالنِّيَّاتِ» والصوم عملٌ. وقوله {وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} قد تقدَّم الكلامُ عليها، وبيانُ السبب في تكريرها. قوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} تقدَّم معنى الإرادة واشتقاقها عند قوله تعالى: {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا} [البقرة: 26] . و «أَرَادَ» يتعدَّى في الغالب إلى الأجرام بالباء وإلى المصادر بنفسه، وقد ينعكس الأمر؛ قال الشاعر: [الطويل] 944 - أَرَادَتْ عَرَاراً بِالهَوَانِ وَمَنْ يُرِدُ ... عَرَاراً لعَمْرِي بِالهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 والباء في «بِكُمْ» قال أبو البقاء: لِلإلْصَاقِ، أي: يُلْصِقُ بكم اليُسْرَ، وهو من مجاز الكلام، أي: يريد الله بفِطْرِكُمْ في حال العذر اليُسْرَ، وفي قوله: {وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} تأكيدٌ؛ لأنَّ قبله {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر} وهو كافٍ عنه. وقرأ أبو جعفر ويحيى بن وثَّاب وابن هُرْمُز: «اليُسُر، والعُسُر» بضمّ السين، والضمُّ للإتباع؟ والظهر الأول؛ لأنه المعهود في كلامهم. و «اليُسْرُ» في اللغة السُّهُولة، ومنه يقال للغنى والسَّعة: اليسار؛ لأنه يتسهل به الأمور واليد اليُسْرَى، قيل: تلي الفعال باليسر، وقيل إنه يتسهَّل الأمر بمعاونتها اليمنى. فصل في دحق شبهة للمعتزلة استدلُّوا بهذا الآية على أنَّ تكليف ما لا يطاق غير واقعٍ؛ لأنه تعالى لمَّا بيَّن أنه يريد بهم اليسر، ولا يريد بهم العسر، فكيف يكلِّفهم ما لا يقدرون عليه. وأُجيبوا: بأنَّ اللفظ المفرد، إذا دخل عليه الألف واللام لا يفيد العموم، ولو سلَّمناذلكح لكنَّه قد ينصرف إلى المعهود السَّابق في هذا الموضع. فصل في دحض شبهة أخرى للمعتزلة قالت المعتزلة: هذه الآية تدلُّ على أنَّه قد يقع من العبد ما لا يريده الله تعالى؛ وذلك لأنَّ المريض لو تحمَّل الصَّوم حتى أجهده، لكان يجب أن يكون قد فعل مالا يريده الله تعالى منه، إذْ كان لا يريد غيره. وأُجيبوا بحمل اللَّفظ على أنَّه تعالى لا يريدُ أنْ يأمر بما فيه عسر، وإن كان قد يريدُ منه العُسر؛ وذلك لأن الأمر قد يثبت بدون الإرادة. قالت المعتزلة: هذه الآيةُ دالَّة على أنه تعالى لا يريدُ بهم الكُفر فيصيرون إلى النَّار، فلو خلق فيهم ذلك الكُفر، لم يكن لائقاً به أنْ يقول {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} وجوابه: أنه معارضٌ بمسألة العلم. قوله: {وَلِتُكْمِلُوا العِدَّةَ} في هذه اللام ثلاثةُ أقوال: أحدها: أنها زائدةُ في المفعول به؛ كالتي في قولك: ضَرَبْتُ لِزَيْدٍ، و «أَنْ» مُقَدَّرةً بعدها، تقديرهُ: {وَيُرِيدُ أَنْ تُكْمِلُوا العِدَّةَ} ، أي: تكميل، فهو معطوفٌ على اليُسْر؛ ونحوهُ قولُ أبي صَخْرٍ: [الطويل] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 945 - أُرِيدَ لاأَنسَى ذِكرَهَا فَكَأَنَّمَا ... تَخَيَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ طَرِيقِ وهذا قولُ ابن عطية والزمخشري وأبي البقاء وإنَّما حَسُنَتْ زيادةُ هذه اللام في المَفعولِ - وإنْ كان ذلك إنَّما يكونُ إذا كان العاملُ فَرْعاً، أو تقدَّمَ المعمولُ - من حيث إنه لمَّا طال الفصلُ بين الفعلِ وبين ما عُطِفَ على مفعوله، ضَعُفَ بذلك تَعَدِّيه إليه، فَعُدِّيَ بزيادة اللام؛ قياساً لِضَعْفه بطولِ الفصلِ ضَعْفِه بالتقديم. الثاني: إنَّها لامُ التعليل، وليست بزائدةٍ، واختلف القائلون بذلك على ستةِ أوجه: أحدها: أن يكونَ بعد الواوِ فعلٌ محذوفٌ وهو المُعَلَّل، تقدير: «وَلِتُكْمِلُوا العِدّضةَ فَعَلَ هَذَا» ، وهو قولُ الفراء. الثاني - وقاله الزَّجَّاج - أن تكون معطوفةً على علَّة محذوفةٍ حُذِف معلولُها أيضاً تقديره: فَعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ؛ ليسهّل عليكم، ولِتُكْمِلُوا. الثالث: أن يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقَّراً بعد هذه العلةِ تقديرُه: «ولِتُكْمِلُوا العِدَّةَ رَخَّصَ لكُمْْ فِي ذَلِكَ» ونسبه ابن عطيَّة لبعض الكوفيين. الرابع: أنَّ الواو زائدةٌ، تقديرُه: يُرِيدُ اللَّه بِكُمْ كَذَا لِتُكْمِلُوا، وهذا ضَعِيفٌ جِداً. الخامس: أنْ يكونَ الفعلُ المُعَلَّلُ مقدَّراً بعد قوله: «وَلَعَلَّكُمْ تُشْكُرُونَ» ، تقديرُه: شَرَعَ ذلك، قاله الزمخشري، وهذا نصُّ كلامه قال: «شَرَعَ ذَلِكَ، يعني جُملة ما ذلك من أمر الشاهد بصَوم الشَّهر، وأمر المُرَخَّص لهُ بمراعاة عدَّة ما أفطر فيه، ومن الترخيص في إباحة الفطرِن فقولهُ:» وَلِتُكْمِلُوا «علَّةُ الأمر بمراعاة العدَّةن و» لِتُكَبِّرُوا «علةُ ما عُلِمَ من كيفية القضاءِ والخروج عن عُهْدةٍ الفِطْر و» لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ «علةُ الترخيص ولاتيسير، وهذا نوعٌ من اللَّفِّ لطيفُ المَسْلَكِ، لا يهتدي إلى تبيُّنه إلا النُقَّابُ من علماء البَيَانِ» . السادس: أن تكون الواوُ عاطفةً على علَّةٍ محذوفةٍ، التقديرُ: لتعملوا ما تعملو،، ولِتُكْمِلُوا، قاله الزمخشريُّ؛ وعلى هذا، فالمعلَّلُ هو إرادةُ التيسير واختصارُ هذه الأوجه: أنْ تكون هذه اللامُ علةً لمحذوفٍ: إمَّا قبلها، وإمَّا بعدها، أو تكونَ علةً للفعل المذكور قبلها، وهو «يُرِيدُ» . القول الثالث: أنهَّا لام الأمر وتكونُ الواوُ قد عطفت جملةً أمريةً على جملةٍ خبريَّةٍ؛ فعلى هذا يكونُ من بابِ عطفِ الجملِ؛ وعلى ما قبلَهك يكونُ من عطف المفردات؛ كما تقدَّم تقريرُه، وهذا قولُ ابن عطيَّة، وضَعَّفه أبو حيان بوجهين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 أحدهما: أَنَّ أمرَ المخاطبِ بالمضارع مع لامِهِ لغةٌ قليلةٌ، نحو: لِتَقُمْ يَا زَيْدُ، وقد قرئ شَاذَاً: {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} [يونس: 58] بتاء الخطاب. والثاني: أن القُرَّاء أجمعُوا على كسر هذه اللام، ولو كانت للأمر، لجاز فيها الوجهان: الكسرُ والإسكانُ كأخواتها. وقرأ الجمهورُ «وَلِتُكْمِلُوا» مخفَّفاً من «أكْمَلَ» ، والهمزةُ فيه للتعدية، وقرأ أبو بكرٍ بتشديدِ الميم، والتضعيفُ للتعدية أيضاً؛ لأنَّ الهمزة والتضعيف يتعاقبان في التعدية غالباً، والألفُ واللاَمُ في «العِدَّةِ» تَحْتَملُ وجهين: أحدهما أنها للعهدِ، فيكونُ ذلك راجعاً على قوله تعالى: {فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وهذا هو الظاهرُ. والثاني: أنْ تكونَ للجنس، ويكونُ ذلك راجعاً على شهرِ رمضانَ المأمورِ بصَومهِ، ولامعنى: أنكم تأتُون ببدلِ رمضان كاملاً في عِدَّته، سواءً كان ثلاثين أم تسعةً وعشرين. قال ابن الخطيب: إنما قال: «وَلِتُكْمِلُوا العِدّةَ» ولم يقل: «ولِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ» ؛ لأنه لما قال: «وَلِتُكْمِلُوا العِدَّة» دخل تحته عدة أيَّام الشهر، وأيام القضاء، لتقدُّم ذكرهما جميعاً؛ ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلاً لعدد المضي، ولو قال: «وَلِتُكْمِلُوا الشَّهْرَ» لدل على حكم الأداء فقط، ولم يدخل حكم القضاء. واللامُ في «وَلِتُكَبِّرُوا» كهي في «وَلِتُكْمِلُوا» فالكلامُ فيها كالكلام فيها، إلا أن القول الرابع لا يتأتَّى هنا. قوله: «عَلَى مَا هَدَاكُمْ» هذا الجارُّ متعلِّقٌ ب «تُكَبِّرُوا» وفي «عَلَى» قولان: أحدهما: أنها على بابها من الاستعلاءِ، وإنما تَعَدَّى فعلُ التكبير بها؛ لتضمُّنِهِ معنى الحمدِ. قال الزَّمخشري: «كأنَّه قيل: ولِتكَبِّروا اللَّهَ حَامِدِينَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ» قال أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهذا منه تفسيرُ معنىً، لا إعراب؛ إذ لو كان كذلك، لكان تعلُّقُ» عَلَى: «ب» حَامِدِينَ «التي قَدَّرها، لا ب» تُكَبِّرُوا «، وتقديرُ الإعراب في هذا هو:» وَلِتَحْمدُوا الله بالتكْبِيرِ على ما هَدَاكُم «؛ كما قدَّره الناسُ في قوله: [الراجز] 946 - قَدْ قَتَلَ اللَّهُ زِيَاداً عَنِّي ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 أي: صَرَفَه بالقتلِ عني، وفي قوله: [الطويل] 947 - وَيَرْكَبُ يَوْمَ الرَّوْعِ مِنَّا فَوَارِسٌ ... بَصِيرُونَ فِي طَعْنِ الكُلَى وَالأَبَاهِرِ أي: متحكِّمُونَ بالبصيرةٍ في طعنِ الكُلَى» . والثاني: أنهى بمعنى لام العلَّة والأوَّل أولى لأنَّ المجازَ في الحرفِ ضعيفٌ. و «ما» في قوله: «عَلَى مَا هَدَاكُمْ» فيها وجهان: أظهرهُما: أنها مصدرية، أي: على هدايته إيَّاكم. والثاني: أنَّها بمعنى «الذي» قال أبو حيان «وَفِيهِ بَعْدٌ مِنْ وَجْهَيْن: أحدهما: حذفُ العائد، تقديرُه، هَدَاكُمُوهُ، وقدَّره منصوباً، لا مجروراً باللام، ولا ب» إِلَى «لأنَّ حذفَ المنصوبِ أسهلُ. والثاني: حذفُ مضافٍ يصحُّ به معنى الكلامِ على إتْباعِ الذي هَدَاكُم أو ما أشبَهَهُ «.: وخُتِمَت هذه الآية الكريمة بترجِّي الشُّكر، لأنَّ قبلها تيسيراً وترخيصاً، فناسب خَتمَها بذلك، وخُتمت الآيتان قبلها بترجِّي التقوى، وهو قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ} [البقرة: 179] وقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 178] لأنَّ القصاصَ والصومَ من أشقِّ التكاليف، فناسب خَتْمَها بذلك، وهذا أسلوبٌ مطَّردٌ، حيث وَرَدَ ترخيصٌ عقَّبَ بترجِّي الشكر غالباً، وحيث جاء عَدَمُ ترخيصٍ عَقَّب بترجِّي التقوى وشبهها، وهذا من محاسن عِلْم البيان والله أعلم. فصل في المراد بالتكبير في الآية في المراد بهذا التكبير قولان: أحدهما: المراد منه التَّكبير لَيلَةَ الفطر. قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - حقٌّ على المسلمين، إذا رأوا هلالَ شَوَّالِ أنْ يكبِّروا. قال مالكٌ والشَّافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأحمد وإسحاقُ وأبو يُوسفُ ومحمَّد: سُنَّ التكبيرُ في لَيْلَتي العيدين. وقال أبو حنيفة: يكرَهُ في غداة الفِطر. واحتجَّ الأوَّلُون بقوله تعالى: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [قالوا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 معناه] ولتكملوا عدَّة صوم رمضان، ولتكبّروا الله على ما هداكم إلى أجر الطَّاعة. واختلفُوا في أي العيدين أوكدُ في التَّكبير؟ فقال الشَّافعيُّ في» القديم «: ليلة النَّحرِ أوكد؛ لإجماع السَّلف عليها، وقال في» الجديد «ليلةُ الفطر أوكَدُ؛ لورود النصِّ فيها، وقال مالكٌ: لا يكَبَّر في ليلة الفطرِ، ولكنه يكَبَّر في يومه، وهو مرويٌّ عن أحمد. وقال إسحاق: إذا غدا على المُصَلَّى. واستدَلَّ الشافعيُّ بقوله تعالى: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} تدلُّ على أن الأمر بهذا التَّكبير وقع معلَّلاً بحصول الهداية، وهي إنما حصلت بعد غُرُوب الشَّمس؛ فلزم التَّكبير من ذلك الوقت، واختلفُوا في انقضاء وقتِهِ، فقيل: يمتدُّ إلى تحريم الإحرام بالصَّلاة. وقيل: إلى خروج الإمام. وقيل: إلى انصراف الإمام، وقال أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - إذا أتى المصلَّى ترك التَّكبير. القول الثاني في المراد بهذا التَّكبير: هو العظيم للَّه تعالى؛ شكراً على توفيقه لهذا الطَّاعة. قال القرطبي:» عَلَى مَا هَدَاكُمْ «قيل: لما ضَلَّ فيه النصارَى من تبديل صيامهم. وقيل: بدلاً عمَّا كانت الجاهليَّة تفعله بالتَّفَاخُر بالآباء، والتَّظاهر بالأحساب، وتعديد المناقب. وقيل: لتعظّموه على ما أرشدكُم إليه من الشَّرَائع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 في اتصال هذه الآية بما قبلَها وجوه: أحدها: أنَّه لما قال بعد إيجاب شهر رمضان وتبيين أحكامه: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185] فأمر العبد بالتَّكبير الذي هو الذِّكر وبالشكر، أعلم العبد أنه سبحانه بلُطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشُكره، فيسمع نداءه ويجيبُ دعاءه. الثاني: أنه أمره بالتَّكبير أولاً، ثم رغبه في الدعاء ثانياً تنبيهاً على أن الدعاء لا بُدَّ وأن يكون مسبُوقاً بالثناء الجميل؛ ألا ترى أن الخليل - عليه السَّلام - لمَّا أراد الدعاء قَدَّم أولاً الثناء؛ فقال: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] إلى قوله: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] فلما فرغ من هذا الثناء، شرع في الدُّعاء، فقال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً} [الشعراء: 83] فكذا هاهنا. الثالث: أنَّه لما فرض عليهم الصِّيام، كما فُرض على الذين من قبلهم؛ وكانوا إذا ناموا، حرم عليهم ما حرم على الصَّائم، فشَقَّ ذلك على بعضهم؛ حتَّى عصوا في ذلك التكليف، ثم نَدِمُوا وسألوا النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن توبتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة مُخبراً لهم بقبول توبتهم، وبنسخ ذلك التَّشديد؛ بسب دعائهم وتضرُّعهم. فصل في بيان سبب النزول ذُكر في سبب نزول هذه الآية الكريمة وجوهٌ: أحدها: ما قدّمناه. الثاني: قال ابن عبَّاس: إنَّ يهُود المدينة قالوا: يا محمَّد، كيف يسمع ربُّك دعاءنا، وأنت تزعم أنَّ بيننا وبينَ السَّماء مسيرة خمسمائة عامٍ، وأنَّ غِلَظَ كلِّ سماءٍ مثلُ ذلك؟ فنزلت الآية الكريمة الثالث: قال الضَّحَّاك: إنَّ أعربيّاً سأل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: أرقيبٌ ربُّنا فنناجيه أم بعيدٌ فنناديه؟ فأنزل الله تعالى الآية. الرابع: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان في غزاة خيبر، وقد رفع أصحابُهُ أصواتهُم بالتكبير والتَّهليل والدُّعاء، فقال رسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اربعون على أنفسكم فإنَّما لا تدعون أصمّ ولا غائباً، إِنَّما تدعون سمعياً قريباً وهُو معكُم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 الخامس: قال قتادةُ وغيره: إنَّ الصحابة قالوا: كيف ندعُو ربنا، يا رَسُول الله، فنزلت الآية. السادس: قال عطاءٌ وغيره: إن الصحابة سألوا في أي ساعة ندعوا ربنا فأنزل الله الآية. السابع: قال الحسن: سأل أصحابُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالوا: أين رَبُّنا؟ فأنزل الله الآية. فصل واعلم أنَّ المراد من الآية الكريمة ليس هو القُرب بالجهة؛ لأنَّه تبارك وتعالى، لو كان في مكانٍ، لما كان قريباً من الكُلِّ، بل كان يكون قريباً من حملة العرش، وبعيداً غيرهم، ولكان إذا كان قريباً من زيدٍ الذي بالشَّرق، كان بعيداً من عمرو الذي بالمغرب، فلَمَّا دلَّت الآية الكريمة على كونه تعالى قريباً من الكُلِّ، علمنا أنَّ القرب المذكُور في الآية الكريمة ليس قرباً بجهة، فثبت أن المراد منه أنهقريبٌ بمعنى أنه يسمع دعاءهم. والمرادُ من هذا القُرب العلمُ والحفظُ؛ على ما قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 4] وقال {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] وقال تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] ونظيره: وهو بينكُمْ وبَيْنَ أعناق رواحلكم. قال ابن الخطيب: وإذا عرف هذا فنقُول: لا يبعدُ أن يقال: إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلاً بالتَّشبيه، فقد كان من مشركي العرب، وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته، فإذا سألوه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أين ربُّنا؟ صحَّ أن يكون الجوابُ: فإنِّي قريبٌ، فإنَّ القريبَ مِنَ المتكلَّم يسمعُ كلامَهُ، وإن سألوه كيف يدعُون؛ برفع الصَّوت أو بإخفائه؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله: «فإِنِّي قَرِيبٌ» ، وإن سألوه أنه هل يعطينا مطلوبنا بالدُّعاء؟ صحَّ هذا الجوابُ، وإن سألوه: إنا إذا أذنبنا ثم تُبنا، فهل يقبلُ الله توبتَنَا؟ صحَّ أن يجيبَ بقوله «فَإِنِّي قَرِيبٌ» أي: فأنا القريبُ بالنظر إليهم، والتجاوز عنهم، وقبُول التَّوبة منهم؛ فثبت أنَّ هذا الجواب مطابقٌ للسُّؤَالِ على كُلِّ تقدير. قوله تعالى: «أُجِيبُ» فيها وجهان: أحدهما: أنها جملةٌ في محلِّ رفع صفةً ل «قَريبٌ» . والثاني: أنها خبرٌ ثانٍ ل «إنِّي» ؛ لأنَّ «قَرِيبٌ» خبرٌ أوَّلُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 ولا بُدَّ من إضمارِ قولٍ بعد فاء الجزاء، تقديرُه: فَقُلْ لهم إِنِّ قريبٌ، وإنما احتَجْنَا إلى هذا التقدير؛ لأنَّ المرتِّب على الشَّرط الإخبارُ بالقُرب، وجاء قوله «أُجِيبُ» ؛ مراعاةً للضمير السابقِ على الخبر، ولم يُراعَ الخبرُ، فيقالُ: «يُجِيبُ» بالغَيْبَة؛ مراعاةً لقوله: «قَرِيبٌ» ؛ لأنَّ الأشْهَرَ من طريقتي العرب هو الأولُ؛ كقوله تعالى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] وفي أخرى {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47] ، وقول الشاعر: [الطويل] 948 - وَإِنَّا لَقَوْمٌ مَا نَرَى الْقَتْلَ سُبَّةً ... إِذَا مَا رَأَتْهُ عَامِرٌ وسَلُولُ ولو راعى الخبر، لقال: «مَا يَرَوْنَ القَتْلَ» . وفي قوله: «عَنِّي» و «إِنِّي» التفاتٌ من غيبة إلى تكلُّم؛ لأنَّ قبله: «وِلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ» والاسمُ الظاهرُ في ذلك كالضميرِ الغائبِ، والكافُ في «سَأَلَكَ» للنبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وإنْ لم يجر له ذكرٌ، إلاَّ أنَّ قوله: {أُنْزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة: 185] يَدُلُّ عليه؛ لأنَّ تقديره: «أُنْزِلَ فيه القرآنُ عَلَى الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» وفي قوله: فَإِنِّي قَريبٌ «مجازٌ عن سرعةِ أجابته لدعوةِ داعيه، وإلاَّ فهو متعالٍ عن القُرْبِ الحِسِّيِّ، لتعاليه عن المَكَان. قال أبو حَيَّان: والعامِل في» إِذَا «قوله:» أُجِيبُ «يعني» إِذَا «الثانية، فيكون التقديرُ: أُجِيبُ دعوَتهُ وقتَ دعائِه، فيُحْتَملُ أنْ تكونَ لمُجَرَّد الظرفية، وأَنْ تكونَ شرطيةً، وحذف جوابها؛ لدلالةِ» أُجِيبُ «عليه؛ وحينئذٍ لا يكونُ» أُجِيبُ «هذا الملفوظ به هو العامل فيها، بل ذلك المحذوفَ، أو يكونُ هو الجوابَ عند مَنْ يُجِيزُ تقديمهُ على الشَّرط، وأمَّا» إِذَا «الأولى، فإنَّ العاملَ فيها ذلك القولُ المقدَّرُ، والهاء في» دَعْوَة «ليست الدالَّة على المَرَّة، نحو: ضَرْبَةٍ وقَتْلَةٍ، بل التي بُنِيَ عليها المصدرُ، نحو: رحمة ونجدة؛ فلذلك لم تَدُلَّ على الوَحْدَة. والياءان من قوله: «الدَّاع - دَعَان» من الزوائد عند القُرَّاءِ، ومعنى ذلك أنَّ الصحابة لم تُثْبِت لها صورةً في المُصحَف، فمن القُرَّاءِ مَنْ أَسْقَطَها تَبَعاً للرسل وَقْفاً ووَصْلاً. ومنهم مَنْ يُثْبِتُها في الحالَين، ومنهم مَنْ يُثْبِتُها وَصْلاً ويحذِفُها وَقْفاً، وجملةُ هذه الزوائد اثنتان وستُّون ياءً، فأثبَتَ أبو عمرو وقَالُونُ هاتَينِ الياءَيْنِ وَصْلاً وحَذَفَاهَا وَقْفاً. فصل في بيان حقيقة الدُّعاء قال أبو سليمان الخطَّابيُّ: والدُّعاء مصدر من قولك: دعَوتُ الشَّيءَ أَدعوه دُعاءً، ثم أقامُوا المَصدرَ مقام الاسم؛ تقول: سمعتُ الدعاء؛ كما تقولُ: سمعتُ الصَّوتَ، وقد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 يوضعُ المصدر موضع الاسم؛ كقولك: رَجُلٌ عدلُ، وحقيقةُ الدعاء: استدعاءُ العبدِ ربَّهُ جلَّ جلالهُ العناية، واستمدادُهُ إيَّاه المعونَةَ. والإجابةُ في اللُّغة: الطاعةُ وإعطاءُ ما سُئِلَ، فالإجابةُ من الله العطاءُ، ومن العبدِ الطاعةُ. وقال ابنُ الأنبياريِّ «أُجِيبَ» ههنا بمعنى «أَسْمَعُ؛ لأنَّ بين السماع والإجابةِ نَوْعَ ملازمةٍ. فصل في الجواب على من ادَّعى أن لا فائدة في الدُّعاء قال بعضهم: الدعاء لا فائدة فيه لوجوهٍ: أحدها: أنَّ المطلوب بالدُّعاء، إنْ كان معلوم الوقُوع عند الله تعالى، كان وقوعهُ واجباً؛ فلا حاجة إلى الدُّعاء، وإن كان معلوم الانتفاءِ واجبَ العَدَمِ، فلا حاجة إلى الدُّعاء. وثانيها: أنَّ وقوع الحَوَادِث في هذا العالم إنْ كان لا بُدَّ لها منْ مُؤَثِّر قديم اقتضى وجودَها اقتضاءً قديماً، كانت واجبةً الوُقُوع، وكلُّ ما لم يقتض المؤثِّرُ القديمُّ وجودَهُ اقتضاءً أزليّاً، كان ممتنعَ الوقُوع، وإذا كانت هذه المقدِّمة ثابتةً في الأَزَلِ، لم يكُن للدعاءِ ألبتَّة أثر، وربَّما عبَّروا عن هذا الكلام بأنْ قالوا: الأقدَارُ سابقةٌ، والأقضيةُ متقدِّمةٌ، فالإِلحاح في الدُّعاء لا يزيد فيها وتركُه لاَ ينقُصُ منها شيئاً، فأيُّ فائدةٍ في الدعاء، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» أَرْبَعٌ قَدْ فُرِغَ منها: الخَلْقُ والخُلُقُ وَالرِّزْقُ وَالأَجَلُ « وثالثها: أنَّه سبحانه وتعالى قال: {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور} [غافر: 19] وإذا كان يعلمُ ما في الضمير، فأيُّ حاجةٍ إلى الدُّعاء. ورابعها: أنَّ المطلوب بالدعاء، إنْ كان من مصالح العَبْد، فالجواد المطلق لا يهملُهُ، وإن لم يكُنْ من مصالحه، لم يَجُزْ طلبه. وخامسها: أنَّه ثبت أنَّ أجلَّ مقامات الصِّدِّيقين وأعلاها الرِّضا بقضاء الله تعالى والدعاءُ ينافي ذلك؛ لأنه اشتغالٌ بالاتماس، وترجيحٌ لمراد النَّفسِ على مُرَاد الله. وسادسها: أنَّ الدعاء يُشبهُ الأمر والنَّهي، وذلك من العبد في حقِّ المولى الكريم سُوءُ أَدَب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 وسابعها: قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - عن الله تعالى: «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْأَلَتِي» وقال الجمهور: الدعاء أفضَلُ مقاماتِ العبُوديَّة، واحتجُّوا بأدلَّة: الأول: هذه الآية الكريمة. الثاني: قوله تعالى: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] الثالث: قوله {فلولاا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43] بين أنه تعالى، إِذَا لَمْ يُسْألْ يَغْضب، وقال - عليه السَّلام - «لاَ يَنْبَغِي لأَحَدِكُمْ أَنْ يَقُولَ: اللَّهُمَّ، اغْفِرْ لي إِنْ شِئْتَ، وَلَكِنْ يَجْزِمُ فَيَقُولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي» وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ» وقرأ «وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» ، فقوله «الدُّعَاءُ هُوَ العِبَادَةُ» معناه أنه مُعْظَم العبادة، وأفضل العبادة؛ كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «الحَجُّ عَرَفة» ، أي: الوقوف بِعَرَفَةَ هو الرُّكْن الأَعْظَم. الرابع: قوله: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] وقال: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ} [الفرقان: 77] والآياتُ في هذا الباب كثيرةٌ، فمن أبطل الدعاء، فقد أنكَرَ القرآن، وأمَّا الأحاديث فكثيرةٌ. والجوابُ عن شبهتهم الأولى بالمناقضة؛ فنقُول: إقدامُ الإنسان على الدعاء، إن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 كان معلوم الوقوع، فلا فائدة باشتغالكم بإبطال الدُّعاء، وإن كان معلوم العدم، لم يكُنْ إلى إنكاركُم حاجة. والجوابُ عن الثَّانية: علم الله تعالى وكيفيَّةُ قضائه وقدره غائبةٌ عن العُقُول والحكمة الإلهيَّة تقتضي أن يكُون العَبد معلَّقاً بين الرَّجاء والخَوف اللّذين بهما يتمُّ العبودية، ولهذا صَحَّحنا القَول بالتَّكاليف مع الاعرتاف بإحاطة علم الله تعالى بالكُلِّ وجريان قضائِهِ وقدره في الكُلِّ، ولهذا الإشكال سألت الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - رسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالوا: أرأيت أعمالنا هذه أشيء فرغَ منهُ، أم أمرٌ يستأنِفُهُ؟ فقال: «بَلْ أَمْرٌ فُرغَ مِنْهُ» فقالوا: فَفِيمَ العَمَلُ إذَنْ؟ قَالَ: «اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لما خُلِقَ لَهُ» فانظُر إلى لطائف هذا الحديث، فإنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - علَّقهم بين أمرين، فرهَّبهم سابقَ القَدَر المفروغ منه، ثم ألزمهم العمل لاذي هو مدرجةُ التعبُّد، فلم يبطل ظاهر العَمَل بما يفيد من القضاء والقدر، ولم يترك أحد الأمرين للآخر، وأبخر أنَّ فائدة العمل هو المقدَّر المفروغُ، فقال: «كُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ» يريد أنَّه ميسَّر في أيَّام حياته للعَمَل الذي سَبَقَ له القَدَر قَبْل وجوده وكذا القولُ في باب الكسب والرِّزق فإنه مفروغٌ منه في الأصل لا يزيده الطَّلَبُ، ولا ينقصه التَّرك. والجوابُ عن الثالث: أنه ليس المقصودُ من الدعاءُ الإعلام بالمطلوب، بل إظهار العُبُوديَّة والذلَّة والانكِسار والرُّجُوع إلى الله تعالى بالكُلِّيَّة. والجواب عن الرابعة: أنه يجوزُ أنْ يصير ما ليسَ بمصلحَةٍ بحسب سَبق الدعاء. والجواب عن الخامس: إذا كان مقصُوده من الدُّعاء إظهار الذلَّة والمسكنة، ثم بعده الرضا بما قدَّره الله تعالى وقاضه، فذلك من أعظم المقامات، وهذا الجوابُ أيضاً بقيَّة الشُّبَهِ. فإن قيل: إنَّه تعالى قال {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ، وقال هنا {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} ، وقال {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ} [النمل: 62] ثم إنا نرى الداعي يبالغ في الدَّعَواتِ والتضرُّع، فلا يجاب. فالجوابُ من وجوه: أحدها: أن هذه الآيات، وإن كانت مطلقةً إلاَّ أنه وردت في آية أخرى مقيَّدة، وهو قوله تعالى: {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ} [الأنعام: 41] والمطلق يحمل على المقيَّد. وثانيها: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «دَعْوَةُ المُسْلم لاَ تُرَدُّ إلاَّ لإحْدى ثَلاث: مَا لَمْ يَدْعُ بإثْمِ، أَوْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 قِطيعَة رَحِمٍ، أَوْ يَسْتَعْجلْ» ، قَالُوا: وَمَا الاسْتِعْجَالُ، يَا رَسُولَ الله؟ قَالَ: يَقُولُ: قَدْ دَعوْتُكَ يَا رَبِّن قَد دَعَوتُكَ يَا رَبِّ، قَدْ دَعَوْتُكَ يَا رَبِّن فَلاَ أَرَاكَ تستجيبُ لي، فيستَحْسِرُ عند ذلك فيدع الدُّعاء وثالثها: أنَّ قوله {أَسْتَجِبْ لَكُمْ} يقتضي أنَّ الداعي عارفٌ بربِّه، ومِنْ صفاتِ الربِّ سبحانه وتعالى أنه لا يَفْعَلُ إلاَّ ما وافَقَ قضاءه وقدره، وعلمه وحكمته، فإذا علم العبدُ أنَّ صفة ربِّه هكذا، استحَالَ منه أن يقول بقلبه أو بعقله يا ربِّ، أفعل الشَّيء الفُلانِيَّ، بل لا بدَّ وأن يقول: أفعل هذا الفعل، إن كان موافقاً لقضائك وقدرك؛ وعند هذا يصيرُ الدُّعاء المجابُ مشروطاً بهذه الشرائط، فزال السؤال. ورابها: أن لفظ الدعاء والإجابة يحتمل وجوهاً كثيرة: فقيل: الدعاء عبارةٌ عن: التوحيد والثَّناء على الله تعالى؛ لقول العبد يا الله الذي لا إله إلا أنتَ، فدعَوتَهن ثم وحَّدتَه وأثنيت عليه فهذا يسمَّ دعاءً بهذا التأويل، فسمي قبوله إجابةً للتجانس، ولهذا قال ابن الأنباريِّ: «أُجِيبُ» ههنا بمعنى «أًسْمَعُ» ؛ لأن بيهن السماع والإجابة نوع ملازمةٍ، فلهذا السبب يقام كلُّ واحدٍ منهما مُقام الآخر، فقولنا: «سَمِعَ اللَّهُ لِمَنْ حَمِدَهُ» ، أي: أجاب الله، فكذا هاهنا قوله: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع} ، أي: أَسْمَعُ تلكَ الدَّعوة، فإذا حَمَلنا قوله تعالى {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} على هذا الوجه، زال الإشكال. وقيل: المرادُ من الدعاءِ التَّوْبة مِنَ الذُّنُوب؛ وذلك لأنَّ التائب يدعُو الله تعالى بتوبته، فيقْبَلُ توبته، فإجابته قبول توبته إجابة الدُّعَاء، فعلى هذا الوجه أيضاً يزول الإشكال. وقيل: المرادُ من الدُّعاء العبادةُ، قال عليه الصَّلاة والسَّلام: الدعاءُ هو العبَادةُ ويدلُّ عليه قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60] فالدُّعاء هاهنا هو العبادة. وإذا ثَبَتَ ذلك، فإجابة الله للدُّعاء عبارةٌ عن الوفاءِ بالثَّواب للمُطيع؛ كما قال {وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ} [الشورى: 26] روى شهرُ بنُ حوشبٍ عن عبادة بن الصامت، قال: سمعتُ رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقولُ: «أعطيت أُمَّتي ثلاثاً، لم تُعطَ إِلاَّ للأنبياء: كان الله إِذَا بَعَثَ النَّبِيَّ، قَالَ:» ادْعُنِي أَسْتَجِبْ لَكَ «، وقال لهذه الأُمَّة:» ادعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ «وكان الله إذا بعث النَّبيَّ، قال له:» مَا جَعَلَ عَلَيْكَ في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 الدِّين مِنْ حَرَجٍ وقال لهذه الأُمَّة: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وكان الله تبارك وتعالى إذا بعث النَّبيِّ جعلهُ شهِيداً على قومه، وجعل هذه الأمَّة شُهَدَاءَ عَلَى النَّاس « وخامسها: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع} إنْ وافقَ القضاء وأُجيب إن كانت الإجابةُ خَيْراً لهُ، أو أجيبه إن لم يسأَلْ مُحَالاً. وسادسها: روى عُبادةُ بن الصَّامت؛ أنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» مَا عَلَى الأَرْضِ مِنْ رَجُلٍ مُسْلِمِ يَدْعُوا الله عَزَّ وَجَلَّ بِدَعْوَةٍ إِلاَّ آتاهُ اللَّهُ إِيَّاهَا أَوْ كَفَّ عَنْهُ مِنَ السُّوءِ مِثْلَهَا مَا لَمْ يَدْعُ بإِثْمٍ أَوْ قَطيعَةِ رَحِمٍ « وسابعها: إِنَّ الله يجيب دعاء المؤمِنِ في الوقت، ويؤخِّر إعطاءَ مَنْ يجيب مراده، ليدعوه فيسمع صوته، ويعجِّل إعطاء من لا يُحِبُّه؛ لأنه يبغض صوته. فصل قال سفيان بن عيينة: لا يمنعنَّ أحداً من الدُّعاء ما يعلمه من نفسه، فإنَّ الله تبارك وتعالى قد أجاب دعاء شرِّ الخلق إبليس، لَعَنَةُ اللَّهُ؛ قال: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} [الأعراف: 14 - 15] . وللدُّعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة، كالسَّحرِ، ووقت الفطِر، وما بين الأذانِ والإقامة، وما بين الظُّهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الإضرار وحالة السَّفر والمرض، وعند نزول المطر، والصَّفّ في سبيل الله تعالى كُلُّ هذا جاءت به الآثارُ. وروى شهرُ بن حوشب؛ أنَّ أُمَّ الدرداءِ قالت لهُ: يا شهرُ، ألا تجدُ القشعريرة؟ قلت: نعم قالت فادعُ الله فإنَّ الدُّعاء يُستجابُ عند ذلك. قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} في الاستفعالِ هنا قولان: أحدهما: أنَّه للطلب على بابه، والمعنى: فَلْيَطْلُبُوا إِجَابَتِي، قاله ثعلبٌ. الطَّاعة والعَمَل، كما قال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 والثاني: أنه بمعنى الإفعال، فيكون استفعل وأفعل بمعنى، وقد جاءَت منه ألفاظ، نحو: أقرَّ واستقرَّ؛ وأبلَّ المريضُ واستبلَّ وأحصدَ الزَّرع واستحْصَدَ، واسْتَثَارَ الشَّيْء وَأَثَارَهُ، وَاسْتَعْجَلَهُ وأَعْجَلَهُ، ومنه اسْتَجَابَةُ وَأَدَابَهُ، وإذا كان اسْتَفْعَلَ بمعنى أَفْعَلَ، فقد جاء متعدّياً بنفسه، وبحرف الجَرِّ، إلا أنه لم يَردْ في القرآن إلاَّ مُعَدّىً بحرف الجرِّ نحو: {فاستجبنا لَهُ} [الأنبياء: 84] {فاستجاب لَهُمْ} [آل عمران: 195] ومِنْ تَعدِّيه بنفسه قول كعب الغنوي: [الطويل] 949 - وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ ولقائل أنْ يقُول: يحتملُ هذا البيت: إنْ يكون مِمَّا حُذف منه حرفُ الجرِّ. واللامُ لامُ الأمر، وفرٌَّ الرُّمَّانيُّ بين أجاب واستَجَابَ: بأنَّ «اسْتَجَابَ» لا يكون إلا فيما فيه قَبُولٌ لما دُعي إليه؛ نحو: {فاستجبنا لَهُ} {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُم} ، وأمَّا «أَجَابَ» فأعمُّ، لأنه قد يُجيبُ بالمخالفة، فجعل بينهما عموماً وخصوصاً. والجمهورُ على «يَرشُدُونَ» بفتح الياءِ وضمِّ الشينِ، وماضيه: رَشَدَ بالفتح، وقرأ أبو حيوة وابن أبي عبلة بخلافٍ عنهما بكسر الشين، وقُرئ بفتحها، وماضيه رشِد بالكسر، وقرئ: «يُرْشَدُونَ» مبنيّاً للمفعول، وقرئ: «يُرْشِدُونَ» بضم الياء وكسر الشين من «أَرْشَدَ» ، والمفعولُ على هذا محذوفٌ، تقديرُه: يُرْشِدُونَ غيرهم «والرُّشْدُ» هو الاهتداء لمصالح الدِّين والدُّنيا؛ قال تبارك وتعالى: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] وقال {أولئك هُمُ الراشدون فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً} [الحجرات: 7 - 8] . قال القرطبي: و «الرُّشْدُ» خلاف الغيِّ، وقد رشد يرشُدُ رُشداً ورشِدَ - بالكَسْر - يَرْشَدُ رَشَداً لغةٌ فيه وأرشدهُ اللَّهُ والمراشِد: مقاصد الطُّرق والطريقُ الأرشَدُ نحو الأقصد وأُمُّ راشدٍ كُنية للفأرة، وبنو رشدان بطنٌ من العرب عن الجوهريِّ. وقال الهرويُّ: الرُّشْدُ والرَّشد والرَّشَادُ: الهدى والاستقامة؛ ومنه قوله تعالى: «يَرْشُدُونَ» . فإنْ قيل: إجابةُ العبد للَّه تعالى إنْ كانت إجابةً بالقَلْب واللِّسان، فذاك هو الإيمانُ، وعلى هذا، فيكونُ قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} تكراراً محضاً، وإن كانت إجابةُ العبد للَّه تعالى عبارةً عن الطاعات كان الإيمان مقدَّماً على الطاعات، وكان حقُ النَّظم أن يقول: «فَلْيُؤْمِنُوا بِي وَلْيَسْتَجيبُوا لِي» فلم جاء على العكس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 فالجواب: أن الإيمان عبارةُ عن صفة القلب، وهذا يدلُّ على أنَّ العبد لا يصلُ إلى نُور الإيمان، إلاَّ بتقديم الطَّاعات والعبادات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 قوله تعالى: {لَيْلَةَ الصيام} منصوبٌ على الظرف، وفي الناصب له ثلاثةُ أقوالٍ: أحدها - وهو المشهورُ عند المُعْربين -: «أُحِلَّ» ، وليس بشيءٍ؛ لأنَّ الإحلال ثابتٌ قبل ذلك الوقت. الثاني: أنه مقدرٌ مدلولٌ عليه بلفظ «الرَّفَث» ، تقديرُه: أُحِلَّ لكُمْ أن ترفُثُوا ليلة الصِّيام؛ كما خرَّجوا قول الشاعر: [الهزج] 950 - وَبَعْضُ الحِلْم عِنْدَ الْجَه ... لِ لِللذِّلَّةِ إِذْعَانُ أي: إِذْعانٌ لِلذِّلَّةِ إِذْعانٌ، وإنما لم يَجُزْ أَنْ ينتصب بالرَّفث؛ لأنه مصدرٌ مقدَّرٌ بموصولٍ، ومعمولُ الصلة لا يتقدَّمُ على المَوصُولِ، فلذلك احْتَجْنَا إلى إضمار عاملٍ منْ لفظ المذكُور. الثالث: أنه متلِّق بالرَّفثِ، وذلك على رأي منْ يرى الاتساع في الظروف والمجْرُوراتِ، وقد تقدَّم تحقيقه. وأضيفت اللِّيلةُ للصيام؛ اتِّساعاً، لأنَّ شرط صحته، وهو النيةُ، موجودةً فيها، والإضافة تحدُثُ بأدنى ملابسةٍ، وإلاَّ فمِنْ حقِّ الظَّرف المضاف إلى حدثٍ أن يُوجَدَ ذلك الحدث في جزءٍ من ذلك الظَّرف، والصومُ في اللَّيل غيرُ معتَبَرٍ، ولكنَّ المُسَوِّغ لذلك ما ذكرتُ لك أو تقول: الليلة: عبارةٌ عمَّا بين غروب الشَّمس إلى طلوعها، ولمَّا كان الصَّيام من طلوع الفجر، فكان بعضُهُ واقعاً في اللِّيل فساغ ذلك. والجمهورُ على «أُحِلَّ» مبنيّاً للمفعول للعلمِ به، وهو اللَّهُ تعالى، وقرئ مبنياً للفاعل، وفيه حينئذٍ احتمالان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 أحدهما: أن يكونّ من باب الإضمار؛ لفَهْمِ المعنى، أي أَحَلَّ اللَّهُ؛ لأنَّ من المعلومِ أنه هو المُحَلِّلُ والمحرِّم. والثاني: أن يكونَ الضميرُ عائداً على ما عاد عليه من قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي} وهو المتكلِّم، ويكونُ ذلك التفاتاً، وكذلك في قوله: «لَكُمْ» التفاتٌ من ضمير الغَيْبة في: «فَلْيَسْتَجِيبُوا، وَلْيُؤْمِنُوا» ، وعُدِّي «الرَّفث» ب «إِلَى» ، وإنما يتعدَّى بالباء؛ لما ضُمِّن مِنْ معنى الإفضاء مِنْ قوله {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] كأنه قيل: أُحِلَّ لَكُمْ الإفْضَاءُ إلى نسائِكُمْ بِالرَّفَثِ. قال الواحديّ: أراد بليلة الصِّيام ليالي الصِّيام، فأوقَعَ الواحد موقع الجماعة؛ ومنه قولُ العبَّاس بن مرداسٍ: [الوافر] 951 - فَقُلْنَا أَسْلِمُوا إِنَّا أَخُوكُمْ ... فَقَدْ بَرِئَتْ مِنَ الإِحَنِ الصُّدُورُ قال ابن الخطيب: وأقولُ: فيه وجهٌ آخرُ، وهو أنَّه ليس المراد من «لَيْلَةَ الصِّيَامِ» ليلةً واحدةً، بل المراد الإشارةُ إلى اللِّيلة المضافة إلى هذه الحقيقة. وقرأ عبد الله «الرَّفُوثُ» قال اللَّيْث وأصل الرَّفث قول الفحش، والرَّفثُ لغةً مصدرُ: رَفَثَ يَرْفِثُ بكسر الفاء وضمها، إذا تكلم بالفُحشِ، وأرْفَثَ أَتَى بالرَّفثِ؛ قال العجاج: [الرجز] 952 - وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عَنِ اللَّغَا وَرَفَثِ التَّكَلُّم وقال الزَّجَّاج: - ويُروى عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «إِنَّ الرَّفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجُلُ من المَرْأَةِ» ، وقيل: الرَّفث: الجِمَاعُ نفسُهُ، وأنشد: [الكامل] 953 - وَيُرَيْنَ مِنْ أَنَسِ الْحَدِيثِ زَوَانِياً ... وَلَهُنَّ عَنْ رَفَثِ الرِّجَالِ نِفَارُ وقول الآخر: [المتقارب] 954 - فَظِلْنَا هَنَالِكَ فِي نِعْمَةٍ ... وَكُلِّ اللَّذَاذَةِ غَيْرَ الرَّفَثْ ولا دليل؛ لاحتمالِ إرادة مقدِّمات الجماع؛ كالمداعَبَةِ والقُبْلَة، وأنشد ابنُ عبَّاسٍ، وهو مُحْرِمٌ: [الرجز] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 955 - وَهُنَّ يَمْشِينَ بِنَاهَمِيسَا ... إِنْ يَصْدُقِ الطَّيْرُ نَنِكْ لَمِيسَا فقيل له: رَفَثْتَن فقال: إنَّما الرَّفَثُ عند النساء. فثبت أنَّ الأصل في الرَّفَثِ هو قول الفحش، ثم جعل ذلك اسماً لما يتكلَّم به عند النِّسَاء من معاني الإفضاء، ثم جعل كنايةً عن الجماع، وعن توابعه. فإن قيل: لِمَ كَنَّى هاهنا عن الجماع بلفظ «الرَّفَث» الدَّالِّ على معنى القبح بخلاف قوله {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] وقوله تعالى: {فَلَماَّ تَغَشَّاهَا} [الأعراف: 189] ، وقوله عزَّ وجلَّ: {أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء} [النساء: 43] وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] ، وقوله عزَّ وجلَّ: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} [البقرة: 237] وقوله تعالى: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء: 24] {وَلاَ تَقْرَبُوهَنَّ} [البقرة: 222] . فالجواب: أنَّ السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإجابة؛ كما سمَّاه اختياناً لأنفسهم؛ قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - إنَّ الله سبحانه وتعالى حَيِيٌّ كريمٌ يُكَنِّي، كُلُّ ما ذكر في القرآن من المباشرة والملامسة والإفضاء والدُّخول والرَّفث، فإنما عنى به الجماع. فصل في بيان سبب النزول ذكروا في سبب نزول هذه الآية: أنه كان في أوَّل الشَّريعة يحلُّ الأكل والشُّرب والجِماع ليلة الصِّيامن ما لم يرقُدِ الرجل ويصلِّي العشاء الأخيرة، فإن فعل أحدهما: حرم عليه هذه الأشياء إلى اللَّيلة الآتية، فجاء رجُلٌ من الأنصار عشيَّةً، وقد أجهده الصَّوم، واختلفوا في اسمه؛ فقال معاذٌ: اسمه أبو صرمة بن قيس بن صرمة، وقال عكرمة: أبو قيس بن صرمة، وقيل صرمة بن أنس. فسأله النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم وبجَّل وعظَّم عن سبب ضَعْفِهِ، فقال: يا رسول الله، عملت في النَّخل نهاري أَجْمَعَ: حتَّى أَمْسَيْتُ، فَأَتَيْتُ أَهْلِي لتطعمني شَيْئاً، فَأَبْطَأتْ، فنمت فَأَيْقَظُونِي، وَقَدْ حَرُمَ الأَكْلُ؛ فَقَامَ عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال: يا رسول الله أنِّيأعتذر إلى الله وإليك من نفس هذه الخاطية؛ إنِّي رجعت إلى أهلي بعد ما صلِّيت العشاء، فوجدت رائحةً طيِّبةً فسوَّلت لي نفس، فجامعت أهلي، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 وكرَّم ومجَّد وبجَّل، وعظَّم: ما كنت جديراً بذلك يا عمر، فقام رجالٌ، فاعترفوا بمثله، فنزل قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} . فصل ذهب جمهور المفسِّرين أنَّه كان في أوَّل شرعنا، إذا أفطر الصَّائم، حلَّ له الأكل والشُّرب والجماع، ما لم ينم أو يُصَلِّ العشاء الآخرة، فإذا فعل أحدهما، حرم عليه هذه الأشياء، ثم إنَّ الله تعالى، نسخ ذلك بهذه الآية الكريمة. وقال أبو مسلم: هذه الحرمة ما كانت ثابتةً في شرعنا ألبتَّة، بل كانت ثابتةً في شرع النصارى، فنسخ الله تعالى بهذه الآية ما كان ثابتاً في شرعهم. واحتجَّ الجمهور بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 183] يقتضي تشبيه صومنا بصومهم، وقد كانت هذه الحرمة ثابتةً في صومهم؛ فوجب أن يكون التشبيه ثابتاً في صومنا، لقصد أن يكون منسوخاً بهذه الآية الكريمة. الثانيك قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} ولو كان هذا الحلُّ ثابتاً لهذه الأُمَّة من أول الأمر، لم يكن لقوله: «أُحِلَ لَكُمْ» فائدةٌ. الثالث: قوله سبحانه: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} ولو كان ذلك حلالاً لهم، لما احتاجوا إلى أن يختانوا أنفسهم. الرابع: قوله تعالى: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [وَلَوْلاَ أنَّ ذَلِكَ كَانَ مُحَرَّماً عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ أَقْدَمُوا على المعصِيَةِ؛ بِسَبَبِ الإقْدام على ذلك الفعل، لما صحَّ قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} ] . الخامس: قوله تعالى: «فالآنَ بَاشِرُهُنَّ» ولو كان الحلُّ ثابتاً قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله تعالى: «فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ» فائدةٌ. السادس: ما رويناه في سبب النُّزُول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 وأجاب أبو مُسْلمٍ عن الأوَّل: بأنَّ التشبيه يكفي في صدقه المشابهة في أصل الوجوب. وعن الثَّاني: بأنَّا لا نسلِّم أنَّ هذه الحرمة كانت ثابتةً في شرع من قبلنا، فقوله: «أُحِلَّ لَكُمْ» معناه: أُحِلَّ لَكُمْ ما كان مُحَرَّماً على غيركم. وعن الثالث: بأنَّ تلك الحرمة كانت ثابتةً في شرع عيسى - عليه السلام - ثم إن الله تعالى أوجب الصيام علينا، ولم ينقل زوال تلك الحرمة، فكان يخطر ببالهم أنَّ تلك الحرمة باقيةُ علينا، لأنَّه لم يوجد في شرعنا ما دلَّ على زوالها، وممَّا يزيد هذا الوهم قوله سبحانه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} وكان مما كتب على لاذين من قبلنا هذه الحرمة؛ فلهذا كانوا يعتقدون بقاء تلك الحرمة في شرعنا، فشدَّدوا وأمسكوا عن هذه الأمور، فقال تبارك وتعالى: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} فيكون المراد من الآية الكريمة أنه لو لم أُبَيِّنْ لكم إحلال الأكل والشُّرب والمباشرة طوال اللِّيل، لكنتم تنقصون أنفسكم شهواتها وتمنعونها لذَّاتها ومصلحتهاح بالإمساك عن ذلك بعد النَّوم؛ كسُنَّة النصارى، وأصل الخيانة: النَّقصُ. وعن الرابع: أن التوبة من العبد: الرُّجُوع إلى الله تعالى بالعبادة، ومن الله سبحانه: الرُّجُوع إلى العبد بالرحمة والإحسان، وأما العفو فهو التجاوز، فبيَّن الله تعالى إنعامه علينا بتخفيف ما كان ثقيلاً على من قبلنا، والعفو قد يستعمل في التوسعة والتخفيف؛ قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ وَالرَّقِيقِ» وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «فِي أَوَّلِ الوَقْتِ رِضْوَانُ اللَّهِ، وَفِي آخِرِهِ عَفْوُ اللَّهِ» والمراد منه التخفيف بتأخير الصَّلاة إلى آخر الوقت؛ ويقال أتاني هذا المال عفواً، أي: سهلاً. وعن الخامس: بأنَّهم كانوا بسبب تلك الشُّبهة ممتنعين عن المباشرة، فبيَّن الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 تعالى ذلك، وأزال الشُّبهة بقوله: «: فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ» . وعن السادس: بأنَّ في الآية الكريمة ما يدلُّ على ضعف هذه الرِّواية؛ لأن الرواية أنَّ القوم اعترفوا بما فعلوا عند الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وذلك خلاف قوله تعالى: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} ؛ لأنَّ ظاهره المباشرة، لأنَّه افتعالٌ من الخيانة. وقوله: «كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ» في محلِّ رفعٍ خبرٌ ل «أَنَّ» . و «تَخْتَانُونَ» في محلِّ نصبٍ خبرٌ ل «كَانَ» . قال أبو البقاء: و «كُنْتُمْ» هنا لفظها لفظ الماضي، ومعناها أيضاً، والمعنى: أنَّ الاخْتِيَانَ كان يقع منهم، فتاب عليهم منه، وقيل: إنَّهُ أرَاد الاختيان في الاستقبال، وذكر «كَانَ» ليحكي بها الحال؛ كما تقول: إن فعلت، كنت ظالماً «وفي هذا نظرٌ لا يخفى. و» تَخْتَانُونَ «تَفْتَعِلُونَ من الخيانة، وعينُ الخيانة واوٌ؛ لقولهم: خَانَ يَخُونُ، وفي الجمع: خَوَنَة، يقال: خَانَ يَخُونُ خَوْناً، وخِيَانَةَ، وهي ضدُّ الأمانة، وتَخَوَّنْتُ الشَّيْءَ تَنَقَّصْتُهُ؛ قال زُهَيْر في ذلك البيت: [الوافر] 956 - بِآرِزَةِ الفَقَارَةِ لَمْ يَخُنْهَا ... قِطَافٌ في الرِّكَابِ وَلاَ خِلاَءُ وخَانَ السَّيفُ إذا نَبَا عن الضَّرْبَةِ، وخَانَهُ الدَّهْرُ، إذا تغيَّر حاله إلى الشَّرِّ، وخَانَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ، إذا لَمْ يُؤَدِّ الأمانَةَ، ونَاقِضُ العَهْدِ خائِنٌ، إذا لم يف، ومنه قوله تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58] والمدين خائنٌ؛ لأنَّه لم يف بما يليقُ بدينه؛ ومنه قوله تعالى: {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] وقال تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} [الأنفال: 71] فسُمِّيت المعصية بالخيانة. وقال الزمخشريُّ:» والخْتِيَانُ: من الخيانة؛ كالاكْتِسَاب من الكَسْبِ، فيه زيادةٌ وشِدَّة «؛ يعني من حيث إنَّ الزيادة في اللفظ تُنْبِىءُ عن زيادةٍ في المعنى، كما قدَمَهُ في قوله تعالى: {الرحمن الرَّحِيمِ} وقيل هنا: تختانُونَ أَنْفُسَكُمْ، أي: تتعهَّدُونها بإتيان النِّسَاء، وهذا يكون بمعنى التَّخْويل، يقال: تَخَوَّنَهُ وتَخَوَّلَهُ بالنون واللامِ، بمعنى تَعَهَّدَهُ، إلا أنَّ النون بدلٌ من اللاَّم؛ لأنه باللام أِهر. و» عَلِمَ «إن كانت المتعدية لواحدٍ، تَكُونُ بمعنى عَرَفَ، فتكونُ» أَنَّ «وما في حيِّزها سادَّةً مَسَدَّ مفعولٍ واحدٍ، وإن كطانت المتعدية لاثنين، كانت سادةً مَسَدَّ المفعولين على رأي سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - ومَسَدَّ أحدهما، والآخر محذوفٌ على مذهب الأخفش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 وقوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} لا محلَّ له من الإعراب؛ لأنه بيانٌ للإحلال، فهو استئنافٌ وتفسيرٌ. يعني إذا حصلت بينكم وبينهنَّ مثل هذه المخالطة والملابسة، قلَّ صبركم عنهنَّ، وضعف عليكم اجتنابهنَّح فلذلك رخَّص لكم في مباشرتهنَّ. وقدَّم قوله: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} على {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} ؛ تنبيهاً على ظهور احتياج الرجل للمرأة وعدم صبره عنها؛ ولأنَّه هوالبادىءُ بطلب ذلك، وكنى باللباس عن شِدَّةِ المخالطة؛ كقوله - هو النابغة الجَعْدِيُّ -: [المتقارب] 957 - إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا ... تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاساَ وفيها أيضاً: [المتقارب] 958 - لَبِسْتُ أُنَاساً فَأَفْنَيْتُهُمْ ... وَأَفْنَيْتُ بَعْدَ أُنَاسِ أُنَاسَا قال القرطبيُّ: وشُدِّدتُ النُّون من «هُنَّ» لأنها بمنزلة الميم والواو ف المذكَّر. وورد لفظ «اللِّبَاسِ» على أربعة أوجهٍ: الأول: بمعنى السَّكَن؛ كهذه الآية. الثاني: الخلط؛ قال تبارك وتعالى: {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الأنعام: 82] ، أي: لم يخلطوا. الثالثك العمل الصالح؛ قال تعالى: {وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى} [الأعراف: 26] ، أي: عمل التقوى. الرابع: اللِّباس بعينه؛ قال تعالى: {يا بني آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً} [الأعراف: 26] . فصل في وجوه تشبيه الزوجين باللِّباس في تشبه الزَّوجين باللِّباس وجوه: أحدها: أنه لمَّا انضمَّ جسد كلِّ واحدٍ منهما إلى الآخر؛ كالثَّوب الذي لبس، سُمِّي كلُّ واحدٍ منهما لباساً. قال الرَّبيعُ: هُنَّ فراشٌ لكم، وأَنْتُمْ لِحَافٌ لهُنَّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 وقال ابن زَيْدٍ: إنَّ كلَّ واحِدٍ منها يَسْتُرُ صاحبَهُ عند الجماع عن أبْصَارِ النَّاسِ. وقال أبو عُبَيْدَةَ وغيره: يقال للمَرْأةِ: هِيَ لِبَاسُكَ وَفِرَاشُكَ وَإِزَارُكَ، وقيل: اللِّبَاسُ اسمٌ لما يُواري الشَّيء، فيجوز أن يَكُونَ كُلُّ واحد منهما سِتْراً لصاحبه عمَّا لا يَحِلُّ؛ كما ورد في الحديث: «مَنْ تَزَوَّجَ فَقَدْ سَتَرَ ثُلُثَيْ دِينِهِ» . الثاني: أن كلَّ واحدٍ منهما يخصُّ نفسه بالآخر؛ كما يخصُّ لباسه بنصيبه. قال الوَاحِديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنما وحَّد «اللِّباس» بعد قوله تعالى: «هُنَّ» ؛ لأنه يجري مجرى المصدر، و «فِعَالٌ» من مصادر «فَاعَلَ» ، وتأويله: وهُنَّ ملابساتٌ لكم. فصل في معنى «تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ» قال القرطبيُّ: معنى {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي: يستأمر بعضكم بعضاً في مواقعه المحظور من الجماع والأكل بعد النَّوم في ليالي الصَّوم؛ كقوله تعالى: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] أي: يقتل بعضكم بعضاً، ويحتمل أن يريد به كلَّ واحد منهم في نفسه؛ بأنه يخونها وسمَّاه خائناً لنفسه من حث كان ضرره عائداً عليه؛ كما تقدَّم. فصل قال ابن الخطيب: إنَّه تعالى ذكر هاهنا أنَّهم كانوا يختانون أنفسهم، ولم يبيِّن تلك الخيانة فيماذا، فلا بُدَّ من حملها على شيءٍ له تعلُّق بما تقدَّم وما تأخَّر، والذي تقدَّم هو ذكر الجماع، والذي تأخَّر هو قوله تعالى: «فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ» فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع وهاهنا قولان: الأول: عَلَمَ اللَّه أنَّكم كنتم تستَتِرُون بالمَعْصيَة بالجَماع بَعْد العتمة، والأكْل بَعْد النَّوم، وترتكبون المحرَّم من ذلك وكلُّ من عصى الله، فقد خانَ نفسه؛ وعلى هذا القول: يجب أن يقطع بأنَّ ذلك وقع من بعضهم؛ فدلَّ على تحريم سابقٍ، لأنَّه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم للعادة والإخبار، وإذا صحَّ وقوعه من بعضهم، دلَّ على تحريم سابقٍ، ولأبي مسلم أن يقول: قد بيَّنَّا أنَّ الخيانة عبارةٌ عن عدم الوفاء بما يجب عليهم، فأنتم حملتموه على عدم الوفاء بما هو أحقُّ بطاعة الله، ونحن حملناه على عدم الوفاء بما هو حقٌّ للنفس، وهذا أولى؛ لأنَّ الله تعالى لم يقُلْ: علمك [الله] أنَّكم كنْتُمْ تختانونَهُ [أنفُسكم] ، وإنما قال: تَخْتَانثونَ أنْفُسَكُمْ، وكان حمل اللفظ على ما ذكرنا، إن لم يكن أولى، فلا أقلَّ من التساوي، وبهذا التقدير: لا يثبت النَّسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 القول الثاني: أنَّ المراد {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} لو دامت تلك الحرمة، فمعناه: أنَّ الله يعلم أنَّه لو دام ذلك التكليف الشَّاقُّ، لوقعوا في الخيانة، وعلى هذا التقدير: ما وقعت الخيانة، فيمكن أن يقال: التفسير الأوَّل أولى؛ لأنَّ لا حاجة فيه إلى اضمار الشَّرط، وأن يقالك بل الثاني أولى؛ لأنَّه على الأوَّل يصير إقدامهم على المعصية سبباً لنسخ التكليف، وعلى الثاني: علم الله أنه لو دام ذلك التكليف، لحصلت الخيانة، فنسخ التكليف رحمةً من الله على عباده، حتى لا يقعوا في الخيانة. وأمَّا قوله تعالى «فَتَابَ عَلَيْكُمْ» فمعناه على قول أبي مُسلم: فرجع عليكم بالإذن في هذا الفعل والتَّوسعة عليكم، وعلى قول مثبتي النَّسخ لا بُدَّ فيه من إضمار، تقديره: تبتم، فتاب عليكم، وقوله «وَعَفَا عَنْكُمْ» على قول أبي مسلم: أَوْسَعَ عَلَيْكُمْ بإباحة الأكل والشُّرب والمباشرة في طول اللَّيل، ولفظ «العَفْ» يستعمل في التوسعة والتخفيف؛ كما قدَّمناه، وعلى قول مثبتي النَّسخ، لا بد وأن يكون تقديره: عَفَا عَنْ ذُنُوبكُمْ، وهذا مما يقَوِّي قول أبي مسلم؛ لأن تفسيره لا يحتاج إلى إضمارٍ، وتفسيرُ مثبتي النَّسخ يحتاج إلى إضمارٍ وتفسيرٍ. قوله: «فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ» قد تقدَّم الكلام على «الآنَ» وفي وقوعه ظرفاً للأمر تأويلٌ، وذلك أنه للزمن الحاضر، والأمر مستقبلٌ أبداً، وتأويله ما قاله أبو البقاء؛ قال: «وَالآنَ: حقيقته الوقت الذي أنت فيه، وقد يقع على الماضي القريب منك، وعلى المستقبل القريب، تنزيلاً للقريب منزلة الحاضر، وهو المراد هنا، لأنَّ قوله:» فَالآنَ بَاشِرُوهِنَّ «، أي: فالوقتُ الذي كان يُحَرَّمُ عليكُمْ فيه الجماع من اللَّيلِ» ، وقيل: هذا كلامٌ محمولٌ على معناه، والتقدير: فالآن قد أبَحْنَا لَكُمْ مُبَاشَرَتَهُنَّ، ودَلَّ على هذا المحذوف لفظ الأمر، فالآن على حَقِيقَتِهِ. وسمِّي الوِقَاعُ مباشرةً، لتلاصق البَشَرَتَيْنِ فيه: قال ابن العَرَبِيِّ: وهذا يدُلُّ على أنَّ سبب الآية جماعُ عمر، لا جوع قيس، لأنه لو كان السَّبب جوع قيسٍن لقال: «فَالآن كُلُوا» ابتداءً به؛ لأنه المهمُّ الذي نزلت الآية لأجله. وقرأ ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «وَاتَّبِعُوا» من «الاتّباع» وتروى عن معاوية بن قرة والحسن البصريِّ، وفسَّروا {مَا كَتَبَ الله} بليلةِ القدر، أي اتَّبِعوا ثوابها، قال الزمخشريُّ: «وهو قريبٌ مِنْ بِدَعِ التَّفَاسِيرِ» . وقرأ الأعمش «وَابْغُوا» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 فصل دلَّت الآية على أنَّ الأمر بعد الحظر يقتضي الإباحة، ومن قال بأنَّ مطلق الأمر للوجوب، قالوا: إنما تركنا الظَّاهر هنا للإجماع، وفي المباشرة قولان: أحدهما - وهو قول الجمهور: أنَّها الجماع، سمِّي بهذا الاسم؛ لتلاصق البَشَرَتَيْنِ. والثاني - قول الأصمِّ: أنه محمولٌ على المباشرات، ولم يقصره على الجماع، وهذا هو الأقرب إلى لفظ المباشرة، لأنها مشتقَّةٌ من تلاصق البَشَرَتَيْن، إلاَّ أنَّهم اتفقوا على أنَّ المراد بالمباشرة في هذه الآية الكريمة الجماع؛ لأنَّ السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم، وأمَّا اختلافهم في قوله تعالى: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد} فحمله بعضهم على كلِّ المباشرات؛ لأنَّ المعتكف، لمَّا مُنِعَ من الجماع، فلا بُدَّ وأن يمنع مما دونه. فصل في قوله تعالى: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} وجوهٌ: أحدها: الولد، أي: لا تباشِرُوا لقضاءِ الشَّهوة وحدها؛ ولكن لابتغاء ما وضع له النِّكاح من التَّناسل. قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلثوا؛ تَكْثُرُوا» والثاني: أنَّه نهيٌّ عن العزل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 الثالث: ابتغوا المحلَّ الذي كتبه الله لكم وحلَّله؛ ونظيره {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة: 222] . الرابع: أنه للتأكيد، تقديره: الآن بَاشرُوهُنَّ وابْتغوا هذه المباشرة التي كتبها الله لكم بعد أن كانت محرَّمةً عليكم. الخامس: قال أبو مُسْلَمٍ: فالآنَ باشرُوهُنَّ، وابتغوا هذه المباشرة التي ان كان الله كتبها لكم، وإن كنتم تظنونها محرَّمة عليكم. السادس: أن مباشرة الزوجة قد تحرم في بعض الأوقات؛ بسبب الحيض والنِّفاس والعِدَّة والرِّدَّة؛ فقوله: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله} يعني: لا تباشِرُوهنَّ إلاَّ في الأوقاتِ المأذونِ لكم فيها. السابع: «فَالآنَّ بَاشِرُوهُنَّ» إذن في المباشرة، وقوله: {وابتغوا مَا كَتَبَ الله} [يعني: لا تبتغوا هذه المباشرة إلاَّ من الزَّوجة والمملوكة] بقوله: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] . الثامن: قال معاذ بن جبلٍ، وابن عبَّاسٍ في رواية أبي الجوزاء: يعني اطلبوا ليلةَ القدر، وما كتب الله لكم من الثَّواب فيها إن وجدتُمُوها. وقال ابن عبَّاس: ما كتب الله لنا هو القرآن. قال الزَّجَّاج: أي: ابتغوا القرآ بما أبيح لكم فيه، وأمرتم به. وقيل: ابتغوا الرخصة والتوسعة. قال قتادة: وقيل: ابتغوا ما كتب الله لكم من الإماء والزَّوجات. فصل في معاني «كَتَبَ» في «كَتَبَ» وجوه: أحدها: أنَّها هنا بمعنى جَعَل؛ كقوله {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادلة: 22] أي: جَعَل، وقوله تعالى: {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [آل عمران: 53] ، وقوله سبحانه {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف: 156] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 الثاني: معناه قضى الله لكم؛ كقوله عزَّ وجلَّ: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة: 51] ، أي: قضاه. الثالث: ما كتب الله في اللَّوح المحفوظ ممَّا هو كائنٌ. الرابع: ما كتب الله في القرآن ما إباحة هذه الأفعال. قوله: {وَكُلُواْ واشربوا} الفائدةُ في ذكرهما: أنَّه لو اقتصر على قوله: «فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ» لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشُّرْب، فذكرهما لتتمَّ الدلالةُ على إباحتهما وهذا جوابُ نازلةِ قيسٍ، والأول جواب نازلةِ عمر، وبدأ بجواب نازلَةِ عُمر لأنه المُهِمُّ. قوله: «حَتَّى يَتَبَيَنَّ» «حَتَّى» هنا غايةٌ لقوله: {وَكُلُواْ واشربوا} بمعنى «إلى» ، ويقال: تَبَيَّنَ الشَّيْءُ، وَأَبَانَ، واسْتَبَانَ، وَبَانَ كُلُّه بمعنّى، وكلُّها تكون متعديةً ولازمةً، إلاَّ «بَانَ» فلازمٌ ليس إلاَّ، و «مِنَ الخَيْطِ» لابتداء الغاية، وهي ومجرورها في محلِّ نصبٍ ب «يَتَبَيَّنَ» ؛ لأنَّ المعنى: حتى يُبَايِنَ الخَيْطُ الأبيضُ الأسود. و {مِنَ الفجر} يجوزُ فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن تكون تبعيضيةً؛ فتتعلَّق أيضاً ب «يَتَبيَّنَ» ؛ لأنَّ الخيطَ الأبيضَ هو بعضُ الفجر وأوله، ولا يَضُرُّ تعلُّق حرفين بلفظٍ واحدٍ؛ لاختلاف معناهما. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنها حال من الضمير في الأبيض، أي: الخيط الذي هو أبيض كائناً من الفجر، وعلى هذا يجوز أن تكون «مِنْ» لبيان الجنس؛ كأنه قيل الخيطُ الأبيضُ الَّذي هو الفجرُ. والثالثك أن يكون تمييزاً، وهو ليس بشيء، وإنما بَيَّن قوله {الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ} بقوله: {مِنَ الفجر} ولم يُبَيِّنِ الخيطَ الأسود؛ فيقول: مِنَ اللَّيْلِ؛ اكتفاءً بذلك، وإنما ذَكَرَ هذا دونَ ذاكَ؛ لأنَّه هو المَنُوطُ به الأحكام المذكورة في المباشرة والأكْلِ والشُّرْبِ. وهذا من أحسن التَّشْبيهات، حيث شبَّه بياضَ النَّهار بخيطٍ أبيضَ، وسوادَ الليل بخيطٍ أسودَ، حتى إنه لما ذكر عَدِيُّ بن حاتم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه فهم من الآية الكريمة حقيقة الخيط، تعجَّب منه، وقال: «إِنَّ وِسَادَكَ لَعَرِيضٌ» ويُروى: «إنَّكَ لَعَرِيضُ القَفَا» وقد رُوِيَ أنَّ بعض الصحابة فَعَلَ كَفِعْلِ عَدِيٍّ، ويروى أن بين قوله {الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} وبين قوله: {مِنَ الفجر} عاماً كاملاً في النزول. روي عن سَهْل بْنِ سَعْدٍ، قال: أُنْزِلَتْ {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} ولم ينزل قوله: {مِنَ الفجر} وكان رجالٌ إذا أرادوا الصَّوم، ربط أحدهم في رجليه الخَيْطَ الأبْيَض، والخَيْط الأَسْود، ولا يزال يأكل حتى يتبيَّن له رؤيتهما، فأنزل الله تعالى {مِنَ الفجر} ، فعلموا أنَّه إنما عني اللَّيل والنَّهار، وسُمِّي الفجر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 خَيطاً؛ لأن ما يبدو من البياض يرى ممتدّاً؛ كالخيط. قال الشَّاعر: [البسيط] 959 - أَلْخَيْطُ الأَبْيَضُ ضَوْءُ الصُّبْحِ مُنْفَلِقٌ ... وَالخَيْطُ الأسْوَدُ جُنَحُ اللَّيْلِ مَكْتُومُ والخَيطُ في كلامهم عبارةٌ عن اللون، قاله القرطبيُّ، وأنشد لأبي دؤاد الإياديِّ في ذلك فقال: [المتقارب] 960 - فَلَمَّا أَضَاءَتْ لَهُ سُدْفَةٌ ... وَلاَحَ مِنَ الصُّبْحِ خَيْطٌ أَنَارَا وقد تُسمِّيه العرب أيضاً الصَّديع، ومنه قولهم: انْصَدَعَ الفجْرُ؛ قال بِشْرُ بْنْ أبي خازمٍ، أو عَمْرُوا بن مَعْدِيكرِبَ: [الوافر] 961 - تَرَى السِّرْحَانَ مُفْتَرِشاً ... يَدَيْهِ كَأَنَّ بَيَاضَ لَبَّتِهِ صَدِيعُ وهذا النوع من باب التشبيه لا من الاستعارة؛ لأنَّ الاستعارة هي أن يُطْوَى فيها ذكر المشبَّه، وهنا قد ذكر وهو قوله: {مِنَ الفجر} ، ونظيره قولك: «رَأَيْتُ أَسَداً مِنْ زَيْد» ، لو لم تَذْكُر: «مِنْ زَيْدٍ» لكان استعارةٌ، ولكنَّ التشبيه هنا أبلغُ؛ لأنَّ الاستعارة لا بُدَّ فيها من دلالةٍ حاليةٍ، وهنا ليس ثمَّ دلالةٌ، ولذلك مَكَثَ بعضُ الصحابة يَحْمِلَ ذلك على الحقيقة مدةً، حتَّى نزل «مِنَ الفَجْرِ» فتركت الاستعارة، وإن كانت أبلغ لما ذكرنا. فإن قيل: إنَّ بياضَ الصُّبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذبُ؛ لأنَّ مستطيلٌ كشبه الخيط، وأما الصُّبْحُ الصادق، فهو بياضٌ مستديرٌ مستطيلٌ في الأفق، فلزم على مقتضى الآية كون أوَّل النهار من طلوع الصُّبحِ الكاذب، وليس كذلك بالإجماع. فالجواب: أنَّ قوله {مِنَ الفجر} بيَّن أن المراد به الصُّبح الصادق، لا يكون منتشراً، بل يكون صغيراً دقيقاً، فالصادق أيضاً يبدو دقيقاً، ويرفع مستطيلاً. والفجر مصرد قولك فَجَرْتُ المَاءَ أَفْجُرُه فَجْراً وفجَّرْتُهُ تَفْجِيراً، قال الأزهريُّ: الفَجْرُ أصله الشَّقُّ، فعلى هذا هو انشقاقُ ظُلْمَة اللَّيل بنُورِ الصُّبح. فصل زعم أبو مسلم الأصفهاني: أنه لا شيء من المفطِّرات إلاَّ أحد هذه الثَّلاث، وما ذكره الفقهاء من تكلُّف القيءِ والحقنة والسَّعوط، فلا يفطر شيءٌ منها. قال: لأنَّ كلَّ هذه الأشياء كانت مباحةً ثم دلَّت هذه الآية الكريمة على حرمة هذه الثلاثة على الصَّائم بعد الفجر، وبقي ما سواها عل الإباحة الأصليَّة، والفقهاء قالوا: خصوا هؤلاء بالذِّكْر؛ لأنَّ النَّفس تميل إليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 فصل في صوم الجنب مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح؛ أنَّ الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال، لم يكن له صوم، وهذه الآية تبطل قولهم؛ لأنَّ المباشرة، إذا أبيحت إلى انفجار الصُّبح، لم يمكنه الاغتسال إلاَّ بعد الصُّبح. ويؤيِّده ما ورد عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أنه كان يدركه الفجر، وهو جنبٌ من أهله، ثم يغتسل ويصوم، والله أعلم. فصل زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشُّرب والجماع بعد الفجر، وقبل طلوع الشمس؛ قياساً لأوَّل النهار على آخره؛ فكما أن آخره بغروب الشَّمس، وجب أن يكون أوله بطلوع الشَّمس، قال: إن المراد بالخيط الأبيض، والخيط الأسود في الآية الكريمة هو اللَّيلُ والنَّهار، قال: ووجْه التشبيه ليس إلاَّ في البياض والسَّوَاد؛ لأن ظلمة الأفق حال طلوع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 الصُّبح لا يمكن تشبيهها الأسود في الشَّكل ألبتة؛ فثبت أنَّ المراد بالخيط الأسود في الآية هو اللَّيل والنهار. ثم لو بحثنا عن حقيقة اللَّيل في قوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} لوجدناها عبارةً عن زمن غيبة الشَّمس؛ بدليل أنَّ الله تعالى سمَّاها بعد المغرب ليلاً مع بقاء الضَّوء فيه؛ فثبت أنه يكون الأمر في الطَّرف الأوَّل من النهار كذلك؛ فيكون قبل طلوع الشمس أيضاً ليلاً، وألا يوجد النَّهار إلاَّ عند طلوع الشمس، وإلاَّ يلزم أن يكون آخر النَّهار على زعمهم غياب الشَّفق الأحمر؛ لأنَّه آخر آثر الشمس؛ كما أن طلوع الفجر هو أوَّل طلوع آثار الشَّمس، وإذا بطل هذا، بَطَل ذاك، ومن النَّاس من قال: آخر النهار غيابُ الشَّفَق، ولا يجوز الإفطار إلاَّ عند طلوع الكواكب، وكلُّها مذاهب باطلةٌ. قوله «إلى اللَّيلِ» في هذا الجارِّ وجهان: أحدهما: أنه متعلِّق بالإتما، فهو غايةٌ له. والثاني: أنه في محلِّ نصب على الحال من الصيام، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً إلى اللَّيل، و «إلَى» إذا كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها، لم يدخل فيه، والآية من هذا القبيل. فصل في اختلافهم في ماهيَّة اللِّيل اختلفوا في اللِّيل ما هو؟ فمنهم: من قاس آخر النهار على أوله، فاعتبروا في حصول الليل زوال آثار الشَّمس؛ كما حصل اعتبار زوال الليل عند ظهور النهار بظهور آثار الشَّمس. ثم هؤلاء منهم من اكتفى بزوال الحمرة، ومنهم من اعتبر ظهور الظَّلام التَّامْ وظهور الكواكب والحديث يبطل كلَّ ذلك، وهو قوله - عليه أفضل الصَّلاة والسَّلام -: «إذَا أَقْبَلَ اللَّيْلُ مِنْ هَا هُنَا، وَأَدْبَرَ النَّهَارُ مِنْ هَا هُنَا وَغَرَبَتِ الشَّمْسُ فَقَدْ أَفْطَرَ الصَّائِمُ» وهذا الحديث مع الآية يدلُّ على المنع من الوصال. فصل الحنفيَّة تمسَّكوا بهذه الآية الكريمة في أنَّ صوم النَّفل يجب إتمامه بقوله تعالى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 {أَتِمُّواْ الصِّيَامَ} والأمر للوجوب فيتناول كُلَّ صيام. وأجيبوا بأنَّ هذا إنما ورد في بيان أحكام صوم الفرض؛ بدليل أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال: «الصائم المتطوِّع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر» وعن أمِّ هانىء: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِشَرَابِ فَشَرِبَ، ثُمَّ نَاوَلَهَا، فَشَرِبَتْ، فقالت: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَمَا إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أن أرُدَّ سُؤْرَكَ، فقال: «إنْ كَانَ قَضَاءً مِنْ رَمَضَانَ، فاقْضي مَكَانَهَُ، وإنْ كَانَ تَطَوُّعاً، فإن شِئْتِ فاقْضي، وإنْ شِئْتِ فَلاَ تَقْضِي» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 قوله: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد} جملةٌ حاليةٌ من فاعل «تُبَاشِرُوهُنَّ» ، والمعنى: «لاَ تُبَاشِرُوهُنَّ» ، وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد، وليس المراد النهي عن مباشرتهنَّ في المسجد بقيد الاعتكاف؛ لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضاً. والعُكُوفُ: الإقامة والملازمة له وهو في الشَّرع: لزوم المَسْجِد لطَاعَةِ الله تعالى فيه، يقال: عَكَفَ بالفتح يَعْكِفُ بالضم والكسر، وقد قرئ: {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ} [الأعراف: 138] بالوجهين، وقال الفَرَزْدَقُ: [الطويل] 962 - تَرَى حَوْلَهُنَّ المُعْتَفِينَ كَأَنَّهُمْ ... عَلَى صَنَمٍ في الجَاهِلِيَّةِ عُكَّفُ وقال الطِّرمَّاحُ: [الطويل] 963 - فَبَاتَتْ بَنَاتُ اللَّيْلِ حَوْلِيَ عُكَّفاً ... عُكُوفُ البَوَاكِي بَيْنَهُنَّ صَرِيعُ ويقال: الافتعال منه في الخير، والانفعال في الشَّرِّ، وأمَّا الاعتكاف في الشرع. فهو إقامة مخصوصةٌ بشرائط، والكلام فيه بالنسبة إلى الحقيقة الشرعية كالكلام في الصلاة، وقرأ قتادة: «عَكِفُونَ» كأنه يقال: عَاكِفٌ وعَكِفٌ؛ نحو: «بَارٌّ وَبَرٌّ ورَابٌّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 وَرَبٌّ» ، وقرأ الأعمش: «في المَسْجِدِ» بالإفراد؛ كأنه يريد الجنس. فصل لما بين حكم تحريم المباشرة في الصيام، كان يجوز أن يظن بأنَّ الاعتكاف حاله كحال الصَّوم في أنَّ الجماع يحرم فيه نهاراً أو ليلاً. فصل لو لمس المعتكف المرأة بغير شهوة، جاز؛ لحديث عائشة، وإن لمسها بشهوة، أو قبَّلها أو باشرها فيما دون الفرج، فهو حرام، وهل يبطل به اعتكافه؛ فيه خلافٌ. فصل اتفقوا على أنَّ شرط الاعتكاف الجلوس في المسجد، ثم اختلفوا، فنقل عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه قال: لا يجوز إلاَّ في المسجد الحرام ومسجد المدينة. قال حُذَيْفَةُ: يجوز في هذين المسجدين، وفي مسجد بيت المقدس؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ إلى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ» وقال الزُّهْرِيُّ: لا يصحُّ إلاَّ في الجامِعِ. وقال أبو حنيفة: لا يصحُّ إلاَّ في مسجدٍ له إمامٌ راتبٌ، ومؤذِّن راتب. وقال الشفعيُّ وأحمد: يصحُّ في جميع المساجد إلاَّ أن المسجد الجامع أفضل؛ حتى لا يحتاج إلى الخروج إلى الجمعة، فإن اعتكف في مسجد غير الجامع، لاحتاج إلى الخروج إلى الجمعة، فيشهدها ويرجع مكانه، ويصحُّ اعتكافه؛ لأنه خرج إلى فرض، وهو من الشَّرائع القديمة. فصل في الاعتكاف بدون الصوم يجوز الاعتكاف بغير صومٍ، وبالصَّوم أفضل؛ وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لا يجوز إلاَّ بالصَّوم. واحتجَّ الأوَّلون: بأنَّ الاعتكاف لو أوجب الصَّوم، لما صحَّ في رمضان؛ لأنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 الصَّوم الذي أوجبه الاعتكاف، إمَّا صومٌ آخر غير صوم رمضان، وهو باطلٌ؛ لأن رمضان لا يصحُّ فيه غيره، وأيضاً ما روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: يا رسول الله، إنِّي نَذَرْتُ في الجاهِلِيَّةِ أن أَعْتَكِفَ لَيْلَةً، فَقَالَ - عليه الصَّلاَة والسَّلام -: «أَوْفِ بِنَذْرِكَ» والصَّوم لا يجوز في اللَّيل. فصل روى مسلم عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالت: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أراد أن يعتكف صلَّى الفجر ثم دخل معتكفه. وقال مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - إذا نذر اعتكاف شهرٍ دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم. فصل في أقل مدة الاعتكاف لا تقدير لزمان الاعتكاف فلو نذر اعتكاف ساعة، انعقد، ولو نذر الاعتكاف مطلقاً، لخرج من نذره باعتكاف ساعة؛ كما لو نذر أن يتصدَّق مطلقاً، فإنه يتصدق بما شاء من قليلٍ أو كثيرٍ، والأفضل أن يعتكف يوماً للخروج من الخلاف، فإنَّ أبا حنيفة لا يجوِّز اعتكاف أقلَّ من يومٍ، بشرط أن يدخل قبل طلوع الفجر، ويخرج بعد غروب الشمس. فصل قال القرطبيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: إذا أتى المعتكف كبيرةً، بطل اعتكافه؛ لأنَّ الكبيرة ضدَّ العبادة، كما أنَّ الحدث ضدَّ الطهارة والصَّلاة. قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} مبتدأٌ وخبرٌ، واسمُ الإشارة أخبر عنه بجمع، فلا جائز أن يشار به إلى ما نهي عنه في الاعتكاف، لأنه شيءٌ واحدٌ، بل هو إشارةٌ إلى ما تضمَّنته آية الصيام من أوَّلها إلى هنا، وآية الصيام قد تضمَّنت عدة أوامر، والأمر بالشَّيءِ نَهِيٌّ عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 ضدِّه، فبهذا الاعتبار كانت عدَّة مناهٍ، ثم جاء آخرها صريح النهي، وهو: «وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ» فأطلق على الكل «حُدُوداً» ؛ تغليباً للمنطوق به، واعتباراً بتلك المناهي الَّتي تضمَّنتها الأوامر، فقيل فيها حدودٌ، وإنما اضطررنا إلى هذا التأويل؛ لأنَّ المأمور به لا يقال فيه «فَلاَ تَقْرَبُوهَا» . وقال أبو مسلم الأصفهانيُّ: «لاَ تَقْرَبُوهَا» أي: لاَ تَتَعَرَّضُوا لها بالتغيير؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34] . قال أبو البقاء: دُخُولُ الفاء هنا عاطفةٌ على شيء محذوفٍ، تقديره: «تَنَبَّهُوا فَلاَ تَقْرَبُوهَا» ، ولا يجوز في هذه الفاء أن تكون زائدةً كالتي في قوله تعالى: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] على أحد القولين؛ لأنه كان ينبغي أن ينتصب «حُدُودُ اللَّهِ» على الاشتغال؛ لأنه الفصيح فيما وقع قبل أمر أو نهيٍ، نحو: «زَيْداً فَاضْرِبْهُ، وعَمْراً فَلاَ تُهنْهُ» فلمَّا أجمعت القرَّاء هنا على الرفع، علمنا أنَّ هذه الجملة التي هي «فَلاَ تَقْرَبُوهَا» منقطعةٌ عمَّا قبلها، وإلا يلزم وجود غير الفصيح في القرآن. والحُدُودُ: جمع حدٍّ، وهو المنع، ومنه قيل للبوَّابِ: حدَّاد، لأنَّه يمنع من العبور قال اللَّيثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: وحَدُّ الشَيْءِ منتهاه ومنقطعه، ولهذا يقال: الحَدُّ مانعٌ جامِعٌ، أي: يمنع غير المحدودِ الدُّخُول في المَحْدُودِ. وقال الأزهريُّ ومنه يقال للمحروم، محدودٌ؛ لأنَّه ممنوعٌ عن ارِّزق، وحدود الله ما يمنع مخالفتها، وسمِّي الحديد حديداً؛ لما فيه من المنع، وكذلك: إحداد المرأة؛ لأنَّها تمتنع من الزينة. والنَّهيُّ عن القُرْبَانِ أَبْلَغُ من النَّهْيِ عن الالتباس بالشيء؛ فلذلك جاءت الآية الكريمة. وقال هنا: «فَلاَ تَقْرَبُوهَا» وفي مواضع أُخر: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] ومثله {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} [البقرة: 229] {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} [النساء: 14] لأنه غلَّب هنا جهة النهي؛ إذ هو المعقَّب بقوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} وما كان منهيّاً عن فعله، كان النهيُّ عن قُرْبِانِهِ أبلغ، وأمَّا الآياتُ الأُخَرُ، فجاء «فَلاَ تَعْتَدُوهَا» عَقِيبَ بيان أحكام ذُكِرَتْ قبلُ؛ كالطلاق، والعدَّة، والإيلاء، والحيض، والمواريث؛ فناسب أن ينهى عن التعدِّي فيها، وهو مجاوزة الحدِّ الذي حدَّه الله تعالى فيها. قال السُّدِّيُّ: المراد بحدود الله شروط الله وقال شَهْرُ بن حَوْشَبٍ: فرائضُ الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 قوله: {كذلك يُبَيِّنُ الله} الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ: أي: بياناً مثل هذا البيان. فإنَّه لما بيَّن أحكام الصَّوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بياناً شافياً وافياً - قال بعده: {كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} أي مثل هذا البيان الوافي الواضح. أو حالاً من المصدر المحذوف؛ كما هو مذهب سيبويه. قال أبو مُسْلِم: أراد بالآيات الفرائض الَّتي بيَّنها؛ كما قال سبحانه {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} [النور: 1] ثم فسَّر الآيات بقوله: {الزانية والزاني} [النور: 2] إلى سائر ما بيَّنه من أحكام الزِّنا، فكأنه تعالى قال: كذلك يبيِّن اللَّهُ آياتِهِ للنَّاس ما شَرَعَه لَهُمْح ليتَّقُوه، فَيَنْجُوا مِنْ عَذَاب الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 قوله: {بَيْنَكُ} : في هذا الظرف وجهان: أحدهما: أن يتعلَّق ب «تَأْكُلُوا» بمعنى: لا تَتَنَاقَلُوهَا فيما بينكم بالأكل. والثاني: أنه متعلِّق بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من «أمْوَالِكُمْ» أي: لا تأْكُلُوهَا كائنةً بينكم، وقدَّره أبو البقاء أيضاً بكائنةٍ بينكم، أو دائرةً بينكم؛ وهو في المعنى كقوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ} [البقرة: 282] ، وفي تقدير «دَائِرَةً» - وهو كونٌ مقيَّدٌ - نظرٌ، إلاَّ أن يقال: دلَّت الحال عليه. قوله: «بالبَاطِلِ» فيه وجهان: أحدهما: تعلُّقه بالفعل، أي: لا تأخذوها بالسبب الباطل. الثاني: أن يكون حالاً؛ فيتعلَّق بمحذوفٍ، ولكن في صاحبها احتمالان. وأحدهما: أه المال؛ كأنَّ المعنى: لا تَأْكُلُوهَا ملتبسَةً بالباطِل. والثاني: أن يكون الضمير في «تَأْكُلُوا» كأنَّ المعنى: لا تَأْكُلُوها مُبْطِلِينَ، أي: مُلْتَبِسينَ بالبَاطِلِ. فصل في سبب نزول الآية قيل: نزلت هذه الآية في امرئ القيس بن عابس الكندي، ادعي عليه ربيعة بن عَبْدَان الحَضْرَميُّ عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرضاً، فقال: إنه غلبني عليها، فقال النَّبيُّ - صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً - للحضرميِّ: «أَلَكَ بَيِّنَةٌ» ؟ قال: لا؛ قال: «فَلَكَ يَمِينُهُ» فانطلق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 ليحلف، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أَمَا إنْ يَحْلِفْ عَلَى مَالِهِ، ليَأْكُلَهُ ظُلْماً، ليَلْقَيَنَّ اللَّهَ، وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ» فأنزل الله {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بالباطل، أي: من غير الوجه الذي أباحه الله، و «البَاطِلُ» في اللغة الذَّاهِبُ الزائل، يقال: بَطَل الشَّيْءُ بُطُولاً وبُطْلاناً، فهو باطلٌ، وجمع الباطل: بَوَاطِلُ، وأَبَاطِيلُ جمع أُبْطُولَة، يقال: بَطَل الأجير يَبْطُل بطالةً، إذا تعطَّل، وتَبَطَّل: اتَّبع اللَّهو، وأبْطَلَ فلانٌ، إذا جاء بالبَاطِل، وقوله تعالى: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن} [فصلت: 42] قال قتادة: هو إبليسُ؛ لا يزيد في القرآن، ولا ينقص، وقوله عزَّ وجلَّ {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] يعني: الشِّرك، والبَطَلَةُ، والبَطَلَةُ: السَّحَرةُ. قوله: «لاَ تَأْكُلُوا» ليس المراد منه الأكل خاصَّة؛ لأنَّ غير الأكل من التصرّفات؛ كالأكل في هذا الباب، لكنَّه لمَّا كان المقصود الأعظم من المال، إنَّما هو الأكل، وصار العرف فيمن أنفق ماله، أن يقالك أكله؛ فلهذا عبَّر عنه بالأكل. فصل فيما يحل ويحرم من الأموال قال الغزاليُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - في كتاب «الإحياء» : المال إنَّما يحرم إما لمعنًى في عينه، أو لخللٍ في جهة اكتسابه. فالقسم الأول: الحرام لمعنىً في عينه. اعلم أنَ الأموال: إمَّا أن تكون من المعادن، أو من النبات، أو من الحيوانات. أما المعادن وهي أجزاء الأرض فلا يحرم شيءٌ منها، إلاَّ من حيث يضر بالأكل وبعضها ما يجري مجرى السَّمِّ. وأما النباتُ: فلا يحرم منه إلاَّ ما يزيل الحياة، أو الصِّحَّة، أو العقل. فمزيل الحياة: كالسُّموم، ومزيل الصِّحَّة: الأدوية في غير وقتها، ومزيل العقل: الخمر، والبنج، وسائر المسكرات. وأما الحيوانات: فتقسم إلى ما يؤكل، وإلى ما لا يؤكل. وما يؤكل: إنَّما يحلُّ، إذا ذكِّي ذكاته الشَّرعيَّة، ثم إذا ذُكِّيت، فلا تحلُّ جميع أجزائها، بل يحرمُ منها الدَّم، والفَرْثُ. القسم الثاني: ما يحرم لخللٍ في جهة إثبات اليد عليه، فنقول: أخذ المال: إما أن يكون باختيار المالك أو بغير اختياره؛ كالإرث، والذي باخيتاره: إما أن يكون مأخوذاً بأمر مالكه، وإمَّا أن يكون قهراً، أو بالتَّراضي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 والمأخوذ قهراً: إما أن يكون لسقوط عصمة المالك؛ كالغنائم، أو باستحقاق الأخذ؛ كزكاة الممتنعين، والنفقات الواجبة عليهم. والمأخوذ تراضياً: إما أن يؤخذ بعوضٍن كالبيع، والصَّداق، والأُجرة، وإما أن يؤخذ بغير عوض؛ كالهبة، والوصيَّة. فحصل من هذا التَّقسيم أقسامٌ ستةٌ: الأول: ما يؤخذ من غير ملكٍ؛ كنيل المعادن، وإحياء الموات، والاصطياد، والاحتطاب، والاستقاء من الأنهار، والاحتشاش؛ فهذا حلالٌ، لا يكون المأخوذ مختصَّاً بذي حرمة من الآدميِّين. الثانيك المأخوذ قهراً ممَّن لا حرمة له، وهو الفيءُن والغنيمة وسائر أموال الكُفَّار والمحاربين، فذلك حلالٌ للمسلمين، إذا أخرجوا منه الخمس، وقسّموه بين المستحقِّين بالعدل، ولم يأخذوه ممَّن كان له حرمةٌ بأمانٍ، أو عهدٍ. الثالث: ما يؤخذ قهراً باستحقاق عند امتناع من هو عليه فيؤخذ دون عطائه؛ وذلك حلالٌ؛ إذا تَمَّ سبب الاستحقاق، وتَمَّ وصف المستحقِّ، واقتصر على قدر المستحقِّ. الرابع: ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة، فهو حلالٌ، إذا روعِيَ شرط العوضين، وشرط العاقدين، وشرط اللَّفظين، أعني: الإيجاب والقبول عند من يشترطهما، مع ما قيَّد الشَّرع به من اجتناب الشُّروط المفسدة. الخامس: ما يؤخذ بالرِّضَا من غير عوضٍ؛ كما في الهبة، والوصيَّة، والصَّدقة، إذا روعيَ شرط المعفود عليه، وشرط العاقدين، ولم يؤدِّ إلى ضرر. السادس: ما يحصل بغير اختياره؛ كالميراث، وهو حلالٌ، إذا كان المورِّث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه الحلال، ثم كان ذلك بعد قضاء الدِّين، وتنفيذ الوصايا، وتعديل القسمة من الورثة، وإخراج الزَّكاة، والحجِّ والكفَّارة الواجبة، فهذه مجامع مداخل الحلال، وكُلُّ ما كان بخلاف ذلك كان حراماً. إذا عرفت ذلك، فنقول: المال: إما أن يكون له، أو لغيره. فإن كان لغيره: كان حرمته لأجل الوجوه السِّتَّة المذكورة، وإن كان له، فأكله بالحرام: إما بأن يصرفه في شرب الخمر، أو الزِّنا، أو اللِّواط، أو القمار، أو الشُّرب المحرَّم؛ وكلُّ هذه الأقسام داخلةٌ تحت قوله {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل وَتُدْلُواْ بِهَا} . قوله: وَتُدْلُوا بِهَا «في» تُدْلُوا «ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مجزومٌ عطفاً على ما قبله؛ ويؤيِّدجه قراءة أُبيٍّ:» وَلاَ تُدْلُوا «بإعادة لا الناهية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 والثاني: أنه منصوبٌ على الصَّرف، وقد تقدَّم معنى ذلك، وأنه مذهب الكوفِيِّين، وأنه لم يثبت بدليل. والثالث: أنه منصوبٌ بإضمار «أنْ» في جواب النهي، وهذا مذهب الأخفش، وجوَّزه ابن عطيَّة والزَّمخشريُّ، ومَكِّيٌّ، وأبو البقاء، قال أبو حيَّان: «وأمَّا إعراب الأَخْفَشِ، وتجويزُ الزمخشريِّ ذلك هنا، فتلك مسألة:» لاَ تَأْكُلِ السَّمَكَ، وتَشْرَب اللَّبَنَ «قال النحويُّون: إذا نصب، كان الكلام نهياً عن الجمع بينهما، وهذا المعنى: لا يصحُّ في الآية لوجهين: أحدهما: أنَّ النهي عن الجمع لا يستلزم النَّهي عن كلِّ واحدٍ منهما على انفراده، والنَّهي عن كلِّ واحدٍ منهما يستلزم النَّهي عن الجمع بينهما؛ لأن الجمع بينهما حصول كلِّ واحدٍ منهما، وكلُّ واحدٍ منهما منهيٌّ عنه ضرورةً؛ إلا ترى أنَّ أكل المال بالباطل حرامٌ سواءٌ أفرد أم جمع مغ غيره من المحرَّمات؟ والثاني - وهو أقوى -: أنَّ قوله» لِتَأْكُلُوا «علَّةٌ لما قبلها، فلو كان النهيُ عن الجمع، لم تيصحَّ العلّةُ له؛ لأنَّه مركَّبٌ من شيئين، لا تصحُّ العلَّة أن تترتَّب على وجودهما، بل إنما تترتَّب على وجود أحدهما: وهو الإدلالء بالأموال إلى الحكام» . والإدلاء مأخوذٌ من إدلاء الدَّلو، وهو إرساله إلى البئر؛ للاستقاء؛ يقال: «أدْلَى دَلْوَهُ» إذا أرسلها، ودَلاَهَا: إذا أخْرَجَها، ثم جُعِلَ كُلُّ إلقاء قول أو فعل إدلاء؛ ومنه يقال للمحتجِّ أدْلَى بِحُجَّتِهِ، كأنه يرسلها، ليصل إلى مراده؛ كإدلاء المستقي الدلو؛ ليصل إلى مطلوبه من الماء، وفلانٌ يدلي إلى الميِّت بقرابة، أو رحم؛ إذا كان منتسباً، فيطلب الميراث بتلك النِّسبة. و «بِهَا» متعلِّقٌ ب «تُدْلُوا» وفي الباء قولان: أحدهما: أنها للتعدية، أي لترسلوا بها إلى الحكَّام. والثاني: أنَّها للسبب؛ بمعنى أن المراد بالإدلاء الإسراع بالخصومة في الأموال؛ إمَّ لعدم بيِّنةٍ عليها، أو بكونها أمانةً؛ كمال الأيتام، والضمير في «بِهَا» : الظاهر أنه للأموال: وقيل: إنه لشهادة الزُّور؛ لدلالة السِّياق عليها، وليس بشيء. و «مِنْ أَمْوَال» في محلّ نصبٍ صفةً ل «فَرِيقاً» أي: فريقاً كائناً من أمْوَالِ النَّاس. قوله: «بالإِثْم» تحتمل هذه الباء: أن تكون للسَّبب، فتتعلَّق بقوله: «لِتَأْكُلُوا» وأن تكون للمصاحبة، فتكون حالاً من الفاعل في «لتَأْكُلُوا وتتعلق بمحذوفٍ أي: لِتَأْكُلُوا ملتبسين بالإثم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 فصل في سبب تسمية الرشوة بالإدلاء في تسمية الرَّشوة بالإدلاء وجهان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 أحدهما: أن الرَّشوة تقرِّب البعيد من الحاجة؛ كما أنَّ الدَّلو المملوء يصل من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 البعيد إلى القريب بواسطة الرِّشاء، فالمقصود البعيد يصير قريباً، بسبب الرَّشوة. والثاني: أن الحاكم بسبب أخذ الرّشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبُّت؛ كمضيِّ الدَّلو في الرِّشاء، ثم المفسِّرون ذكروا وجوهاً؟ أحدها: قال ابن عبَّاس، والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وقتادة: المراد منه الودائعُ، وما لا يقوم عليه البيِّنة. وثانيها: أن المراد هو مال اليتيم في يد الأوصياء يدفعون بعضه إلى الحاكم، ليبقى لهم بعضه. وثالثها: قال الكلبيُّ: المراد بالإدلاء إلى الحكَّام: هو شهادة الزُّور ورابعها: قال الحسن: هو أن يحلف؛ ليذهب حقَّه؛ كما تقدَّم في سبب النُّزول. وخامسها: وهو أن يدفع إلى الحاكم رشوة، وهذا أقرب إلى الظاهر، ولا يبعد حمل اللفظ على الكُلِّ؛ لأنها بأسرها أكلٌ للمال بالباطل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 وقوله «فَريقاً» أي: طائفةً من أموال النَّاس، والمراد «بالإثْمِ» الظلمُ، وقال ابن عبَّاس - رضي الله عهنما - «الإثْمُ» هنا هو اليمين الكاذبة فصل في الفسق بأخذ ما يطلق عليه اسم مال قال الرقطبيُّ: اتَّفق أهل السُّنَّة على أنَّ من أخذ ما وقع عليه اسم مالٍ، قلَّ أو كثر، فإنَّه يفسَّق بذلك، وأنه يحرم عليه أخذه؛ خلافاً لبشر من المعتمر، ومن تابعه من المعتزلة؛ حيث قالوا: إنَّ المكلَّف لا يفسَّق إلاَّ بأخذ مائتي درهمٍ، ولا يفسَّق بدون ذلك. وقال ابن الجُبَّائيِّ: لا يفسَّق إلاَّ بأخذ عشرة دراهم، ولا يفسَّق بما دونهم. وقال أبو الهُذَيْلِ: يفسَّق بأخذ خمسة دراهم، فما فوقه، ولا يفسَّق بما دونها، وهذا كلّه مردودٌ بالقرآن، اولسُّنَّة، وباتفاق علماء الأمَّة بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «إنَّ دمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» وقوله تعالى: «وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ» جملةٌ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «لِتَأْكُلُوا» وذلك على رأي من يجيز تعدُّد الحال، وأمَّا من لا يجيز ذلك، فيجعل «بالإثْمِ» غير حالٍ. والمعنى: وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّكُمْ مُبْطِلُون، ولا شكَّ أن الإقدامَ على القبيح، مع العلم بقبحه أقبح، وصاحبه بالتَّوبيخ أحقُّ، وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: اختصَمَ رَجُلاَن إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، عالمٌ بالخُصُومة، وجاهلٌ بها، فقضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للعالم، فقال مَنْ قَضِيَ عليه: يَا رَسُولَ اللَّهِ، والَّذِي لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ، إنِّي مُحِقٌّ بحَقٍّ فقال: إن شِئْتَ أُعَاوِدُهُ، فَعَاوَدَهُ، فَقَضَى لِلعَالِم، فقال المَقْضِيُّ عَلَيْهِ مِثْلَ مَا قَالَ أَوَّلاً، ثُمَ عَاوَدَهُ ثَالِثاً، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنِ اقْتَطَعَ حَقَّ امرئ مُسْلِم بخصومته، فإنَّما اقتطع قطعةً من النَّارِ» فقال العالمُ المقضِيُّ له: يا رَسُولَ الله، إنَّ الحقَّ حقُّه، فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَنِ اقْتَطَعَ بِخُصُومَتِهِ وجَدَلِهِ حَقَّ غَيْرِهِ، فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنَ النَّارِ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 وعن أمِّ سلمة زوج النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وشرَّف، وكرَّم، وبجَّل، ومجَّد، وعظَّم: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّما أنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إليَّ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ، فَأَقْضِيَ لَهُ عَلَى نَحْو مَا أَسْمَع مِنْهُ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِشَيْءٍ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ، فَلاَ يَأْخُذَنَّهُ؛ فإنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 نقل عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: مَا كَانَ قَوْمٌ أَقَلَّ سُؤَالاً مِنْ أُمَّةِ محمَّدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - دائماً وأبداً - سأَلُوهُ عَنْ أَرْبَعةَ عَشَرَ حَرْفاً، فَأْجِيبُوا. قال ابن الخَطِيبِ: ثمانيةٌ منها في سورة البقرة أولُها: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة: 186] . وثانيها: هذه الآية، ثم الباقية بعد في سورة البقرة. فالمجموع ثمانية في هذه السُّورة، والتَّاسع: في المائدة، قوله تبارك وتعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] والعاشر: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} [الأنفال: 1] والحادي عشر: في بني إسرائيل {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} [الإسراء: 85] والثاني عشر في الكهف {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} [الكهف: 83] والثالث عشر في طه {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} [طه: 105] والرابع عشر في النَّازعات {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة} [النازعات: 42] . ولهذه الأسئلة ترتيبٌ عجيبٌ: آيتان: الأول: منها في شرح المبدأ، وهو قول تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} وهذا سؤالٌ عن الذَّاتِ. والثاني: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} وهذا سؤالٌ عن حقيقة الخلاَّقيَّة، والحكمة في جعل الهلال على هذا الوجه. والآيتان الأخيرتان في شرح المعاد، وهو قوله {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} [طه: 105] و {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة} [النازعات: 42] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 ونظير هذا أنَّه ورد في القرآن الكريم سورتان: أوّلهما «يَا أَيَهَا النَّاسُ» فالأولى: هي السُّورة الرابعة من النِّصْف الأوَّل؛ فإن الأولى هي «الفَاتِحَةُ» ثم «البَقَرَةُ» ثم «آلُ عِمْرَانَ» ثم «النِّسَاءُ» وهي مشتملةٌ على شرح المبدأ {اأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] والسُّورة الثَّانية: هي الرابعة أيضاً من النِّصف الثاني: فإن أوله «مَرْيَم» ثم «طَه» ثم «الأَنْبيَاء» ثم «الحَجُّ» وهذه مشتملةٌ على شرح الميعاد {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1] فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفيَّةٌ، وحِكَمٌ مطويَّة [لا يَعْرِفُها إلاَّ الخواصُّ مِن عَبِيدِه] . فصل في اختلافهم في السائل عن الأهلَّة روي عن معاذ بن جبلٍ، وثعلبة بن غنمٍ الأنصاريين قالا: يا رسول الله، ما بالُ الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيطِ، ثُمَّ يزيد؛ حتَّى يمتلىءَ ويَسْتَوِي، ثُمَّ لا يَزَالُ يَنْقُصُ حَتَّى يَعُودَ كَمَا بَدَأَ، لاَ يَكُونُ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ؛ كالشَّمْسِ، فَنَزِلَتْ هذه الآية. وروي أنَّ معاذ بن جبلٍ قال: إنَّ اليَهُودَ سَأَلُوهُ عَنِ الأهَلَّةِ. واعلم أنَّ قوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} ليْسَ فيه بيان أنَّهم عن أيِّ شيءٍ سأَلُوا، إلاَّ أنَّ الجواب كالدَّالِّ على موضع السُّؤال؛ لأنَّه قوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} يدلُّ على أنَّ سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغيُّر حال الأهلَّة في الزيادة والنُّقصان. قوله تعالى: {عَنِ الأهلة} : متعلِّقٌ بالسؤال قبله، يقال: «سَأَلَ بِهِ وَعَنْهُ» بمعنّى، والضمير في «يَسْأَلُونَكَ» ضمير جماعة. فإن كانت القصَّة كما روي عن معاذٍ: أنَّ اليهودَ سألُوهُ، فلا كلام، وإن كانت القصَّة أنَّ السائل اثنان؛ كما روي أن معاذ بن جبل، وثعلبة بن غنمٍ، سألوا، فيحتمل ذلك وجهين: أحدهما: أن يقال: إن أقلّ الجمع اثنان. والثاني: من نسبة الشيء إلى جمعٍ، وإن لم يصدر إلاَّ من واحدٍ منهم أو اثنين، وهو كثيرٌ في كلامهم. فصل قال الزَّجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «هلال» يُجمع في أقلِّ العدد على «أَفْعِلَةٍ» نحو: مثالٍ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 وأَمْثِلَةٍ، وحِمَارِ وأَحْمِرَةٍ، وفي أكثر العدد يجمع على «فُعُلٍ» نحو حُمُرٍ، لأنهم كرهوا في التضعيف «فُعُلٍ» ، نحو هُلُل وخُلُل، فاتصروا على جمع أدنى العدد. والجمهور على إظهار نون «عَنْ» قبل لام «الأَهِلَّة» وورشٌ على أصله من نقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وقرئ شاذَاً: «عَلَّ هِلَّةِ» ؛ وتوجيهها: أنه نقل حركة همزة «أَهِلَّة» إلى لام التَّعريف، وأدغم نون «عَنْ» في لام التعريف؛ لسقوط همزة الوصل في الدَّرج، وفي ذلك اعتدادٌ بحركة الهمزة المنقولة، وهي لغة من يقول: «لَحْمَرُ» من غير همزة وصلٍ. وإنما جُمِعَ الهلالُ، وإن كان مفرداً؛ اعتباراً باختلاف أَزمانه؛ قالوا من حيث كونه هلالاً في شهر غير كونه هلالً في آخر، والهل: هذا الكوكبُ المعروف. واختلف اللُّغَوِيُّون: إلى متى يُسَمَّى هِلاَلاً؟ فقال الجمهور: يُقَالُ له «هِلاَلٌ» لِلَيْلَتَيْنِ، وقيل: لِثَلاَثٍ، ثم يكون «قَمَراً» وقال أبو الهيثم: يُقال له: «هِلاَلٌ» لِلَيْلَتَيْن من أوَّل الشهر، ولَيْلَتَيْنِ من آخره، وما بينهما «قَمَرٌ» . وقال الأصمعيُّ: يُقَالُ له «هِلاَلٌ» إلى أن يُحَجِّرُ، وتحجيره: أن يستدير له؛ كالخيط الرقيق «، ويقال له:» بَدْرٌ «من الثانية عشرة إلى الرابعة عشرة، وقيل: يُسَمَّى» هِلالاً «إلى أن يَبْهَرَ ضَوءُهُ سَوادَ اللَّيْلِ، وذلك إنما يكونُ في سَبْعِ لَيَالٍ» . واعلم أنَّ الشَّهر ينقسم عشرة أقسامٍ، كلُّ قسمٍ: ثلاثُ ليالٍ، ولكلِّ ثلاثِ ليالٍ اسمٌ، فالثلاثة الأولى: تسمَّى غرر، والثانية نقل، والثالثة تسع، والرابعة عشر، والخامسة بيض والسادسة درع، والسابعة ظلم، والثامنة مسادس والتاسعة فرادى والعاشر محاق. والهلا: يكون اسماً لهذا الكوكب، ويكون مصدراً؛ يقال: هلَّ الشَّهر هلالاً، ويقال: أُهِلَّ الهلالُ، واسْتُهِلَّ مبنيّاً للمفعول وأهْلَلْنَاه اسْتَهْلَلْنَاهُ، وقيل: يقال: أَهَلَّ واسْتَهَلَّ للفاعل؛ وأنْشَدَ: [الوافر] 964 - وَشَهْرٌ مُسْتَهِلٌّ بَعْدَ شَهْرٍ ... وَحَوْلٌ بَعْدَةُ حَوْلٌ جَدِيدٌ وسُمِّي هذا الكوكب هلالاً؛ لارتفاع الأصوات عن رؤيته، وقيل: لأنه من البيان، والظهور، أي: لظهوره وقت رؤيته بعد خفائه، ولذلك يقال: تهلَّل وجهه: ظهر فيه بشرٌ وسُرُورٌ، وأنْ لم يكُنْ رفع صَوْتَهُ، ومنه قول تَأَبَّطَ شَرّاً: [الكامل] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 965 - وَإِذَا نَظَرْتَ إلى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ ... بَرَقَتْ كَبَرْقِ العَارِضِ المُتَهَلِّلِ وقد تقدم أنَّ الإهْلاَلَ: الصُّرَاخُ عند قوله {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} [البقرة: 172] . «وفِعَالٌ» المضعَّف يطَّرد في تكسيره «أَفْعِلَة» كأَهِلَّةٍ، وشذَّ فيه فِعَلٌّ؛ كقوله: عِنَنٌ، وحِجَجٌ، في عِنَان، وحِجَاج. وقدَّر بعضهم مضافاً قبل «الأَهِلَّة» أي: عن حكم اختلاف الأهلَّة، لأنَّ السؤال عن ذاتها غير مفيدٍ؛ ولذلك أُجيبوا بقوله: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} وقيلك إنهم لمَّا سألُوا عن شيء قليل الجدوى، أُجيبوا بما فيه فائدةٌ، وعدل عن سؤالهم، إذ لا فائدة فيه، وعلى هذا، فلا يحتاج إلى تقدير مضافٍ. و «لِلنَّاسِ» متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل «مَوَاقِيتُ» أي: مواقيتُ كائنةٌ للنَّاسِ. ولا يجوزُ تعلُّقُه بنَفْس المواقيتِ؛ لما فيها من معنى النقل؛ إذ لا معنى لذلك. والمَوَاقِيتُ: جمع ميقَاتٍ؛ رَجَعَتِ الواوُ إلى أصلها؛ إذ الأصل: موقاتٌ من الوَقْتِ، وإنَّما قلبت ياءً؛ لكسر ما قبلها، فلمَّا زال موجبه في الجمع، رُدَّت واواً، ولا ينصرف؛ لأنه بزنة منتهى الجموع. فإن قيل: لم صرفت قوارير؟ قيل لأنَّها فاصلةٌ وقعت في رأس الآية الكريمة فنوِّن، ليجري على طريقة الآيات كام تنوَّن القوافي في مثل قوله: [الوافر] 966 - أَقِلِّي اللَّوْمَ، عَاذِلَ، والعتَابَنْ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . و «المِيقَات» : منتهى الوقت؛ قال تبارك وتعالى: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ} [الأعراف: 142] والهلال: ميقات الشَّهر؛ أي: منتهاه، ومواضع الإحرام: مواقيت الحجِّ؛ لأنَّها مواضع ينتهى إليها، وقيل: الميقات: الوقت؛ كالميعاد بمعنى الوعد. فصل في تخصيص المواقيت بالهلال دون الشمس فإن قيل: لم خصَّ المواقيت بالأهلَّة وأشهرها دون الشمس وأشهرها؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 فالجواب: أنَّ الأهلَّة وأشهرها، إنَّما جعلت مواقيت للنَّاس، دون الشمس وأشهرها؛ لأنَّ الأشهر الهلاليَّة يعرفها كُلُّ أحدٍ من الخاصِّ والعامِّ برؤية الهلال ومحاقه؛ ولذلك عُلِّقت الأحكام الشَّرعيَّة بالشُّهور العربيَّة، كصوم رمضان، وأشهر الحجِّ، وهي شوَّال، وذُو القعدة وذو الحجَّة. والأشهر المنذورة، والكفَّارات، وحول الزَّكاة وأشهر الإجارات والمداينات والسل، وأشهر الإيلاء، وأشهر العدد، ومدَّة الرَّضاع وما تتحمَّله العاقلة في ثلاث سنين، وغير ذلك؛ بخلاف الشَّمس، وأشهرها؛ فإن الشَّمس لا يتغيَّر شكلها بزيادةٍٍ، ولا نقصٍ، ولا يعرف أوَّله وآخره، ولا تختلِفُ رؤيتها، وكذلك أشهرها لا يعرف أوَّلها وآخرها، إلاَّ الخواصُّ من الحُسَّاب، وليس لها مواقيت غير الفصول الأربعة؛ وهي الصَّيف، والشِّتاء، والرَّبيع، والخريف؛ ولذلك لا يتعلَّق به حكم شرعيٌّ؛ فلذلك جعلت الأهلَّة وأشهرها مواقيت للنَّاس، دون الشَّمس. فصل اعلم أنَّ الله سبحانه ذكر وجه الحكمة في خلق الأهلَّة؛ فقال تعالى: {قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} وذكر هذا المعنى في آية أخرى، وهي قوله تعالى: {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5] واعلم أنَّ تقدير الزمان بالشُّهور فيه منافع دينيةٌ، ودنيويةٌ. فالدينية: كالصَّوم، والحَجِّ، وعدَّة المتوفَّى عنها زوجها، والنذور المتعلِّقة بالأوقات، وقضاء الصَّوم في أيامٍ لا تُعْلَمُ إلاَّ بالأهلَّة. والدنيويَّة: كالمداينات، والإجارات، والمواعيد، ولمدَّة الحمل والرَّضاع. قوله: «والحَجِّ» عطفٌ على «النَّاس» قوالوا: تقديره: ومواقيتُ الحَجِّ، فحذف الثاني؛ اكتفاءً بالأوَّل. وقيل: فيه إضمارٌ، تقديره: وللحَجَّ كقوله {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ} [البقرة: 233] أي: لأولادكم. ولمَّا كان الحجُّ من أعظم ما تُطْلَبُ مواقيته وأشهره بالأهلَّة، أُفْرِدَ بالذِّكْرِ. قال تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] . فإن قيل: الصَّوم أيضاً يطلب هلاله؛ قال عليه الصَّلاة والسَّلام -: «صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ، وأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 قلنا: نعم، ولكنَّ الصوم قد يسقط فعله عن الحائض، والنُّفَسَاء، والمُسَافر، ويوقعون قضاءه في غيره من الأشهر؛ بخلاف الحجِّح فإنَّه إذا لم يصحَّ فعله في وقته، لا يقضى في غيره من الأشهر. واحتجَّ مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وأبو حنيفة بهذا الآية على أنَّ الإحرام بالحجِّ في غير أشهر يصحُّ، فإن الله تعالى جعل الأهلَّة كلها ظرفاً لذلك. قال القَفَّال: إفراد الحجِّ بالذِّكر إنَّما كان لبيان أن الحجَّ مقصورٌ على الأشهر التي عيَّنها الله تعالى لفرضه؛ وأنه لا يجوز نقل الحجِّ من تلك الأشهر إلى شهر آخر؛ كما كانت العربُ تفعلُ ذلك في النسيء؛ فأفرد بالذِّكر، وكأنه تخصيص بعد تعميم؛ إذ قوله تعالى: مَوَاقِيتُ لِلنَّاس «ليس المعنى لذوات الناس، بل لا بُدَّ من مضافٍ، أي: مواقيتُ لمقاصد النَّاس المحتاج فيها للتأقيت، ففي الحقيقة ليس معطوفاً على الناس، بل على المضاف المحذوف الذي ناب» النَّاسِ «منابه في الإعراب. وقرأ الجمهور» الحَج «بالفتح في جميع القرآن الكريم إلا حمزة والكسائيَّ وحفصاً عن عاصم، فقرءوا {حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] بالكسر، وقرأ الحسن، وابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وهل هما بمعنىً واحدٍ، أو مختلفان؟ قال سيبويه:» هما مَصْدَرَانِ «؛ فالمفتوح كالرَّدِّ والشَّدِّ، والمكسورُ كالذِّكر، وقيل: بالفتح: مصدرٌ، وبالكسر: اسمٌ. فصل في الرد على أهل الظَّاهر قال القرطبيُّ: هذه الآية الكريمة تَرُدُّ على أهل الظَّاهر، ومن وافقهم في أنَّ المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غيرِ معلومة؛ واحتجُّوا بأنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم، عَامَلَ أَهْلُ خَيْبَرَ عَلَى شَطْرِ الزَّرْعِ والنَّخْل بما بَدَا لرسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وشرَّف، وكَرَّم، ومجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - من غير توقيت، وقال: وهذا لا دليل فيه؛ لأنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال لليهود:» أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ « الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 وهذا يدلُّ على أنَّ ذلك مخصوصٌ به، وأنَّه كان في ذلك ينتظر القضاء من رِّبه، وليس كذلك غيره. قوله: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ} كقوله: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ} [البقرة: 177] وقد تقدم؛ إلا أنه لم يختلف هنا في رفع» البِ {ِّ «؛ لأنَّ زيادة الباء في الثاني عيَّنت كونه خبراً، وقد تقدَّم لان أنَّها قد تزاد في الاسم. وقرأ أبو عمرو، وحفصٌ، وورشٌ «البُيُوت» و «بَيُوت» و «الغُيُوب» و «شُيَوخاً» بضمِّ أوَّلها؛ وهو الأصل، وقرأ الباقون بالكسر؛ لأجل الياء، وكذلك في تصغيره، ولا يبالى بالخروج من كسر إلى ضم؛ لأنَّ الضمة في الياء، والياء بمنزلة كسرتين؛ فكانت الكسرة التي في الباء كأنها وليت كسرةً، قاله أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -. و «مِنْ» قوله: «مِنْ ظُهُورِهَا» و «مِنْ أَبْوَابِهَا» متعلقةٌ بالإتيان، ومعناها ابتداءُ الغاية، والضميرُ في «ظُهُورِهَا» و «أَبْوَابِهَا» للبُيُوت، وجيء به كضمير المؤنثة الواحدة؛ لأنه يجوز فيه ذلك. وقوله: {ولكن البر مَنِ اتقى} كقوله - تبارك وتعالى -: {ولكن البر مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177] يعني: تقديره: بِرُّ مَنْ آمَنَ كَمَا مَضَى؛ ولمَّا تقدَّم جملتان خبريتان، وهما: «وَلَيْسَ البِرُّ» «وَلَكِنَّ البِرَّ مَنِ اتَّقَى» عطف عليهما جملتان أمريتان، الأولى للأولى، والثانية للثانية، وهما: «وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» «واتَّقُوا اللَّهَ» وفي التصريح بالمفعول في قوله: «وَاتَّقُوا اللَّهَ» دلالةٌ على أنه محذوفٌ من اتَّقَى، أي اتَّقَى الله. فصل في سبب نزول الآية قال الحسن، والصمُّ: كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة، إذا همَّ بشيءٍ، فتعسَّر عليه مطلوبه، لم يدخل بيته من بابه، بل يأتيه من خلفه، ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً فنهاهم الله؛ لأنَّهم كانوا يفعلونه تطيُّراً، وعلى هذا: تأويل الآية الكريمة {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} على وجه التطيُّر ولَكِنَّ البِرَّ من يتَّقِي اللَّهَ، ولَمْ يَتَّقِ غيْرَهُ، ولم يَخَفْ شَيْئاً مِمَّا كان يتطيَّر به، بل توكَّل على الله تعالى، واتَّقَاه «ثمَّ قال: {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي: لِتَفُوزُوا بالخَيْر في الدِّين والدُّنيا؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 2 - 3] {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق: 4] وتحقيقه: أن من رجع خائباً يقال: ما أفلح، فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أنَّ الواجب عليكم أن تتَّقوا الله؛ حتَّى تصيروا مفلحين، وقد وردت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 الأخبار بالنَّهي عن التَّطَيُّر، قال:» لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ «وقال:» مَنْ رَدَّهُ عَنْ سَفَرٍ تَطَيُّرٌ، فَقَدَ أَشْرَكَ «و» كَانَ يَكْرَهُ الطِّيَرَةَ، ويُحِبُّ الفَأْلَ الحَسَنَ «وقَدْ عَابَ الله قوماً تطيَّروا بموسى ومن معه، فقالوا: {قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله} [النمل: 47] . وقال المفسِّرون: سَبَبُ نُزُول الآية الكريمة: كان الناس في أوَّل الإسلام، إذا أحرم الرَّجُلُ منهم، فإن كان من أهل المدن، نقب نقباً في ظهر بيته يدخل منه، ويخرج، أو يتَّخِذ سُلَّماً يصعد منه إلى سطح داره، ثم ينحدر، وإن كان من أهل الوبر، خرج من خلف الخيمة والفسطاط، ولا يخرج ولا يدخل من الباب؛ حتى يحلَّ من إحرامه، ويرون ذلك برّاً إلا أن يكون من الحمس، وهم قريشٌ، وكنانة، وخزاعة، وخيثمٌ، وبنوا عامر بْنِ صَعْصَعَةَ، وبنو نَصْر بنِ معاويةَ، وهؤلاء سُمُّوا حمساً؛ لتشديدهم في دينهم، والحماسة الشِّدَّة. قال العجَّاجُ: [الرجز] 967 - وَكَمْ قَطَعْنَا مِنْ قِفَافٍ حُمْسِ ... وهؤلاء متى أحرموا، لم يدخلوا بيوتهم ألأبتَّة، ولا يستظلُّون الوبر، ولا يأكلون السمن، والأقط، ثم إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم، دخل، وهو محرمٌ، بيتاً لبعض الأنصار، فاتَّبَعَهُ رَجلٌ مُحْرِمٌ مِنَ الأَنْصَارِ، يقال له رفاعةُ ابن تابُوتَ، فدخل على أثره من الباب، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ دائماً وابداً -: «تَنَحَّ عَنَّي» فقال: ولمَ، يا رسول الله؟ قال: «دخلت الباب، وأنت مُحْرِمٌ» ، فقال: رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ، فدَخَلْتُ على أُثَرِكَ، فقال رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، شرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 وعظَّم: «إنِّي أحْمَسُ» فقال الرَّجُلُ: «إن كنت أحمسياً، فإني أحمسي، رضيت بهديك، وسمتك، ودينك» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية الكريمة. قال الزُّهريُّ: كان ناسٌ من الأنصار، فإذا أهلُّوا بالعمرةِ، لم يحل بينهم وبين السَّمَاء شيءٌ، وكان الرَّجُل يخرجُ مُهِلاًّ بالعمرة، فتبدوا له الحاجة بعد ام يخرج من بيته؛ فيرجع، ولا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السَّماء، فيفتح الجدار من ورائه، ثُمَّ يقوم في حجرته فيأمر بحاجته؛ حتى بلغنا أنَّ رسول الله صلى الله علنه وسلم، وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم، أهلَّ زمن الحديبية بالعمرة، فدخل حجرة، فدخل رجل على أثره من الأنصار من بني سلمة، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّلأ، وعظَّم: «لِمَ فَعلْتَ ذَلِكَ؟» قال: «لأنِّي رَأَيْتُكَ دَخَلْتَ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وشرَّف، وكرَّم، ومجَّد، وبجَّل، وعظَّم:» إني أحمسي «فقال الأنصاريُّ: وأنا أحمسي، وأنا على دينك، فأنزل الله تعالى الآية الكريمة. فصل في اخلافهم في تفسير الآية ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه: أحدها: - وهو قول أكثر المفسرين - وهو حمل الآية الكريمة على ما قدَّمناه في سبب النُّزول، ويصعب نظم الآية الكريمة عليه؛ فإنَّ القوم سألوا عن الحكمة في تغيير لون القمر، فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك، وهي قوله: {مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} فأيُّ تعلُّق بي بيان الحكمة في اختلاف نور القمر، وبين هذه القصَّة، فذكروا وجوهاً: أحدها: أنَّ الله - تبارك وتعالى - لمَّا ذكر أنَّ الحكمة في اختلاف أحوال الأهلَّة جَعْلُها مواقِيتَ للنَّاسِ والحَجِّ، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبرها في الحجِّ، لا جَرَمَ ذكرها الله تعالى. وثانيها: أنه تعالى إنَّما وصل قوله: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} بقوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} ؛ لأنَّه إنما اتَّفَقَ وقوع القصَّتين في وقت واحدٍ، فنزلت الآية الكريمة فيهما معاً في وقت واحدٍ، ووصل أحد الأمرين بالآخر. وثالثها: كأنَّهم لمَّا سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلَّة، فقيل لهم: اتركوا السُّؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم، وارجعوا إلى البحث، عمَّا هو أهمُّ لكم، فإنَّكم تظنُّون أنَّ إتيان البيوت من ظُهُورها بِرٌّ؛ وليس الأمر كذلك. الوجه الثاني من تفسير الآية: أنَّ قوله تعالى: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 ظُهُورِهَا} مثل ضربه الله تعالى، ولَيْسَ المرادُ ظاهره وتفسيرُ أنّ الطريقَ المستقيم هو الطريق المعلومُ، وهو أنْ يُستدلَّ بالمعلوم على المظنون، ولا ينعكس. وإذا عرف هذا، فنقولُ: ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً، مختاراً، حكيماً، وثبت أنَّ الحكيمَ لا يفعلُ إلاَّ الصَّواب البريء عن البعث والسَّفه. وإذا عرفنا ذلك، وعرفنا أنَّ اختلاف أحوال القَمَر في النُّور مِنْ فعله علمنا أنَّ فيه حكمةً ومصلحةً، لأنَّا علمنا أنَّ الحكيم لا يفعلُ إلاَّ الحكمة، واستدلَّلْنَا بالمَعلُوم على المجهول، فأمَّا أن يُستدلَّ بعدم علمنا بالحكمة فيه على أنَّ فاعلهُ ليس بحكيم، فهو استدلالٌ باطلٌ؛ لأنَّه استدلالٌ بِالمجهول على القدح في المعلوم، وإذا عُرف هذا، فالمرادُ من قوله تعالى: {لَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} يعني: أنَّكم لَمَّا لم تعلمُوا الحكمةَ في اختلاف نُورِ القمرِ، صِرْتُم شاكِّينَ في حِكمة الخالِقِ، وقدأَتَيْتُمُ الشيءَ مِنْ غير طريقه «إنَّما البرُّ بأنْ تأتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا» وتستدلُّوا بالمعلوم المتيقَّن، لا تعلمونَها، فجعل إتيانَ البُيُوت من ظُهُورها كنايةً عن العُدُول عن الطَّريق الصحيح؛ وإتيانَها من أبوابِها كنايةً عن التَّمَسُّك بالطَّريق المُستقيم، وهذا طريقٌ مشهورٌ في الكناية؛ فإنَّ مَنْ أرشد غيرهُ إلى الصَّواب، يقولُ له: ينبغِي أنْ تأتي الأمر مِنْ بابه، وفي ضِدَّه قالُوا: ذهبإل لاشيءِ من غير بابه، قال تعالى: {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمراان: 187] وقال عزَّ مِنْ قَائل: {واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً} [هود: 92] وهذا تأويل المتكلِّمين. قال ابن الخطيب: ولا يصحُّ تفسير هذه الآية؛ لأنَّ الوجه الأوَّلَ يغيِّر نسقَ الترتيب، وكلام الله تعالى منزَّهٌ عن ذلك. الوجه الثالث: قال أبو مسلم: إن المراد مِنْ هذه الآية ما كَانُوا يعملونه من النسيء؛ فإنهم كانُوا يخرجون الحجَّ عن وقته الَّذي عينه الله تعالى لهم، فيحرِّمون الحلال، ويحلُّون الحرام، فذَكَرَ إتيانَ البُيُوت من ظُهُورها مثلاً لمخالفة الواجب في الحجِّ وشهوره. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 قوله تعالى: {فِي سَبِيلِ الله} متعلَّقٌ ب «قاتلوا» على أحد معنيين: إمَّا أن تقدِّر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 مضافاً، أي: في نصرةِ سبيلِ الله تعالى، والمرادُ بالسبيلِ: دينُ الله، لأنَّ السبيلَ في الأصل هو الطريقُ، فُتُجوِّزَ به عن الدِّين، لمَّا كان طريقاً إلى الله تعالى روى أبو موسى: أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، ومجَّد، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم - سُئِلَ عمَّن يُقاتِلُ في سبيل الله تعالى، فقال: «مَنْ قاتل؛ لتكون كلمةُ الله هي العُليا، ولا يُقاتل رياءً ولا سمعةً؛ وهو في سبيل الله» وإمَّا أن تُضَمِّن «قَاتِلُوا» معنى بالِغوا في القتالِ في نصرةِ دِينِ اللِه تعالى، «والَّذِيِنَ يُقَاتِلُونَكُم» مفعول «قاتلوا» . فصل في سياق الآيات اعلم، أنَّه لمَّا أمر بالتقوى في الآية المتقدِّمة أمر في هذه الآية الكريمة بأشدِّ أقسامِ التقوى، وأشقها على النَّفس، وهو قتلُ أعداء الله تعالى. قال الربيع بن أنس: هذه أوَّل آية نزلت في القتال، وكان رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وشرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعظَّم - يُقاتلُ مَنْ قاتلهُ، ويَكُفُّ عن قتال منْ لمْ يقاتله إلى أن نزل قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] قاتلوا، أو لم يقاتلوا فصارت الآية منسوخةً بها. وقيل: نُسخَ بقوله: {اقتلوا المشركين} قريبٌ من سبعين آيةً، وعلى هذا، فقوله: «وَلاَ تَعْتَدُوا» أي: لا تَبْدُءوهم بالقتال، وروي عن أبي بكر الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ أوَّل آيةٍ نزلت في القتال قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ} الحج: 39] والأوَّل أكثر. وقال ابن عبَّاس وعمر بن عبد العزيز، ومجاهدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - هذه الآية محكمةٌ غير منسوخة؛ أُمِر النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، ومَجَّد، وعَظَّم - بقتال المُقاتلين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 ومعنى قوله: «وَلاَ تَعْتَدُوا» أي: لا تقتُلُوا النِّسَاء والصِّبيانَ، والشيخَ الكبير والرُّهبان، ولا من ألقى إليكم السَّلَمَ؛ قاله ابن عبَّاس ومجاهد وقال الكلبي عن أبي صالح عن ابن عبَّاس: نزلت هذه الآية في صلح الحديبية؛ وذلك أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - خرج مع أصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - إلى العُمرة وكانوا ألفاً وأربعمائة، فنزَلُوا الحُديبة، وهو موضعٌ كثيرُ الشَّجر، والماء، فصدَّهم المُشركون عن دخول البيت الحرام، فأقامَ شهراً، لا يقدرعلى ذلك، ثم صالَحُوهُ على أنْ يَرجع ذلك العام، ويرجع إليهم في العام الثَّاني، ويَتْرُكون له مكَّة ثلاثَ أيامٍ، حتَّى يَطوفَ، وَيْحَرَ الهَدْي، ويَفْعَل مَا يَشَاءُ، فرضي الرَّسُولُ - صلواتُ الله وسلامُهُ عليه دائماً أبداً - بذلك، فلمَّا كان العامُ المقبل، تجهَّز رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، ومَجَّد، وعَظَّم - وأصحابه لُعْمرة القضاء وخافوا ألاَّ تَفِي قريشٌ بما قالوا، وأن يَصُدُّوهم عن البيت، وكره أصحابُ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قتالَهُمْ في الشهر الحرام، وفي الحرَم، فأنزل الله تعالى: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} يعنى محرمين {الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} يعني قُرَيْشاً «وَلاَ تَعْتَدُوا» فتَبْدَءوا بالقتالِ في الحَرَمِ محرمين. فصل في اختلافهم في المراد من قوله {الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} اختلفُوا في المراد بقوله: {الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} : إمَّا على وجه الدَّفع عن الحجِّ، أو على وجه المقاتلة ابتداءً. وقيل: قاتلوا كُلَّ مَنْ فيه أهليةٌ للقتالِ سوى جُنحٍ للسَّلم؛ قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} [الأنفال: 61] . فإن قيل: هب أنه لا نسخ في الآية؛ فما السَّبب في أنَّ الله تبارك وتعالى أمر أوَّلاً بقتال من يقاتل، ثُمَّ في آخر الأمر، أذن في قتالهم، سواءٌ قاتلوا، أو لم يقاتلوا؟ فالجواب: أنَّ في أوَّل الأمر كان المسلمون قليلين، وكانت المصحلة تقتضي استعمال الرِّفق، والمجاملة، فلمَّا قوي الإسلام، وكَثُر الجمع، وأقام مَنْ أقام منهم على الشِّرك بعد ظهور المعجزات، وتكرُّرها عليهم، وحصل اليأس من إسلامهم، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق. قوله تعالى: {حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} [البقرة: 191] «حيث» منصوبٌ بقوله: «اقْتُلُوهُم» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 و «ثِقِفْتُمُوهُم» في محلِّ خفضٍ بالظرف، و «ثَقِفْتُمُوهُمْ» أي: ظَفِرْتُمْ بهم، ومنه: «رَجُلٌ ثَقِيفٌ» : أي سريعُ الأخذ لأقرانه، قال [الوافر] 968 - فَإِمَّا تَثْقَفُونِي فَاقْتُلُونِي ... فَمَنْ أَثْقَفْ فَلَيْسَ إِلَى خُلُودِ وثَقِفَ الشَّيْء ثقافةً، إذا حذقهُ، ومنه الثَّقافةُ بالسَّيف، وثَقِفْتُ الشَّيْء قومَّتُه، ومنه الرماحُ المثقَّفة؛ قال القائلُ: [الطويل] 969 - ذَكَرْتُكِ وَالْخَطِّيُّ يَخْطِرُ بَيْنَنَا ... وَقَدْ نَهِلَتْ مِنَّا الْمُثَقَّفَةُ السُّمْرُ ويقالُ: ثَقِف يَثْقَفُ ثَقْفاً وثَقَفاً ورجلٌ ثَقِف لَقفٌ، إذا كان محكِماً لما يتناوله من الأمور. قال القرطبي: وفي هذا دليلٌ على قتل الأسير. قوله: «مِنْ حَيْثُ» متعلِّقٌ بما قبله، وقد تُصُرِّفَ في «حَيْثُ» بجَرِّها ب «مِنْ» كما جُرَّت ب «اليَاءِ» و «في» وبإضافة «لَدَى» إليها، و «أَخْرَجُوكُمْ» في محلِّ جرٍّ بإضافتها إليه، ولم يذكر «لِلْفِتْنَة» ولا «لِلْقَتْلِ» - وهُما مصدران - فاعلاً ولا مفعولاً؛ إذ المرادُ إذا وُجِدَ هذان، من أيِّ شخص كان بأَيِّ شخصٍ كان، وقد تقدَّم أنه يجوز حذف الفاعل مع المصدر. فصل فيما قيل في النسخ بهذه الآية هذا الخطابُ للنَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - وأصحابه يعني اقتلوهم، حيثُ أبصَرْتُم مقاتِلَتَهُمْ وتمكَّنْتُم منْ قتلهم، حيث كانوا في الحلِّ، أو الحرم، وفي الشَّهر الحرام {وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} وذلك أنَّهم أخرجوا المسلمين من مكّة؛ فقال: أخروجهم مِنْ ديارهم كما أخرجوكم من دياركم، ويحتمل أنَّه أراد كما أخرجوكم مِنْ مَنَازِلكُم، ففي الآية الأولى: أمرٌ بقتالهم؛ بشرط إقادامهم على المقاتلة، وفي هذه الآية. زاد في التكليف، وأَمَرَ بقتالهم، سواءٌ قاتَلُوا، أو لم يُقَاتِلُوا، واستثنى [عنه] المقاتلة عند المَسْجد الحَرَام، ونقل عن مقاتل أنه قال: إنَّ قولهُ {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} منسوخ بقوله {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة: 193] قال ابن الخطيب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 وهذا ضعيفٌ، فإنَّ الآية الأولى دالَّةٌ على الأمر بقتال مَنْ يقاتلنا، وهذا الحُكمُ لم ينسخ، وأمَّا أنَّها دالَّةٌ على المَنْع من قتال مَنْ لم يقاتل، فهذا غير مسلَّم، مع ما نقل عن الرَّبيع بن أنس. وأما قوله: إنَّ هذه الآية، هي قوله تبارك وتعالى {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام} منسوخة بقوله تعالى {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} فهو خطأ أيضاً؛ لأنَّه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم، وهذا الحكمُ غير منسوخ. قوله {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} فيه وجوه: أحدها: نقل ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنّ الفتنة هي الكُفر. وروي أنَّ بعض الصحابة قتل رجُلاً من الكُفَّار في الشَّهر الحَرَام، فعابه المؤمِنُون على ذكل، فنزلت هذه الآية الكريمة، والمعنى: أنَّ كفرهم أشدُّ من قتلهم في الحرم والإحرام. وثانيها: أن الفتنة أصلها عرض الذَّهب على النَّار؛ لاستخلاصه من الغِشِّ، ثُمَّ صار اسماً لكُلِّ ما كان سبَباً للامتحان؛ تشبيهاً بهذا الأصل، والمعنى: أنَّ إقْدَامَ الكُفَّار على الكُفْر، وعلى تخويف المؤمنين، وإلجائهم إلى ترك الأهلِ، والوَطن؛ هرباً من إضلال الكُفَّار، فإنَّ هذه الفتنة الَّتي جُعِلت للمؤمنين أشَدُّ من القتل الذي يقتضي التَّخليص من غموم الدُّنيا وآفاتها. وثالثها: أنَّ الفتنة هي العذاب الدَّائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم، فكأنه قيل: اقتُلُوهُم حيثُ ثَقِفْتُمُوهم، واعلَمُوا أن وراءَ ذلك مِنَ العذابِ ما هو أشدُّ منه وإطلاقُ اسم الفتنة على العذاب جائزٌ؛ وذلك من باب إطلاق اسم السَّبب على المُسَبَّب، قال تبارك وتعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] ثم قال عقبيه {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 14] أي عذابكم {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10] أي عذّبوهم وقال {فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت: 10] أي: عذابهم كعذابه. ورابعها: أنَّ المراد: «فتنتهم إيَّاكُمْ بَصدِّكُمْ عن المسجد الحرام أشدُّ من قتلِكُمْ إيَّاهُمْ في الحرم» . وخامسها: أن الردَّة أشدُ من يُقْتَلُوا بحقٍّ، والمعنى: أخروجهم منْ حيثُ أخرجوكُمْ، ولَو قُتِلْتُمْ، فإنَّكم إن قُتِلْتُم، وأنتم على الحقِّ، كان ذلك أسهل عليكُم من أنْ ترتدُّوا عن دِينكُمْ، أو تتكاسلوا عن طاعة ربِّكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 قوله: «وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ» قرأ الجمهورُ الأفعالَ الثلاثة: «ولا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ، فإنْ قَاتَلُوكُمْ» بالألف من القتال، وقرأها حمزة، والكسائيُّ من غير ألف من القَتل وهو المُصحف بغير ألف، وإنما كُتِبَت كذلك؛ للإيجاز؛ كما كَتَبُوا الرَّحمن بغير ألف، وما أشبه ذلك مِنْ حروف المَدِّ واللِّين. فأما قراءة الجمْهُور فواضحةٌ؛ لأنها نَهْيٌ عن مقدِّمات القتل؛ فدلالتها على النَّهي عن القَتْل بطريقِ الأَولى، وأمَّا قراءةُ الأخوين، ففيها تأويلان: أحدهما: أن يكون المجازُ في الفعل، أي: ولا تَقْتلُوا بَعْضَهُمْ؛ حَتَّى يَقْتُلُوا بَعْضَكُمْ؛ ومن {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ} [آل عمران: 146] ثم قال «فَمَا وَهَنُوا» أي ما وَهَن مَنْ بَقِيَ منْهُمْ، وقال الشاعر: [المتقارب] 970 - فَإِنْ تَقْتُلُونَا نُقَتِّلْكُمُ ... وإن تَقْصِدُوا لِدَمٍ نَقْصِدِ أي: فإنْ تَقْتُلُوا بعضنا. يروى أن الأعمش قال لحمزة، أرأيت قراءتك، إذا صار الرجُلُ مَقْتُولاً، فبعد ذلك كيف يصير قاتلاً لغيره؟! قال حمزة: إنَّ العَرَبَ، إذا قُتِلَ منهُم رجلٌ قالوا: قتلنا، وإذا ضَرِبَ منهُم رجلٌ، قالُوا ضُرِبنا وأجمعوا على «فَاقْتُلُوهُمْ» أنَّه من القتل، وفيه بشارةٌ بأنَّهم، إذا فعلوا ذلك، فإنهم مُتَمَكِّنون منهُمْ بحيثُ إنكم أُمِرْتُم بقتلهم، لا بقتالهم؛ لنُصْرتِكُمْ عليهم، وخذْلانِهِمْ؛ وهي تؤيِّدُ قراءةَ الأخوينِ، ويؤيِّدُ قراءة الجمهور: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله} . و «عِنْدَ» منصوبٌ بالفعل قبله، و «حَتَّى» متعلقةٌ به أيضاً غايةٌ له، بمعنى «إلى» والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار «أَنْ» والضميرُ في «فِيهِ» يعودُ على «عِنْدَ» إذ ضميرُ الظرفِ لا يتعدَّى غليه الفعلُ إلاَّ ب «فِي» ؛ لأنَّ الضميرَ يَرُدُّ الأشياءَ إلى أصولها، وأصلُ الظرفِ على إضمار «في» اللهم إلا أَنْ يُتَوَسَّعُ في الظرفِ، فيتعدَّى الفعلُ غلى ضميره مِنْ غير «في» ولا يُقالُ: «الظَّرْف غيْرُ المُتَصرِّف لا يتوسَّع فيه» ، فيتعدَّى إليه الفعلُ، فضميرُهُ بطريق الأولى؛ لأنَّ ضمير الظَّرف ليس حكمه حكمَ ظاهره؛ ألا ترى أنَّ ضميره يُجَرُّ ب «في» وإن كان ظاهرُه لا يجوزُ ذلك فيه، ولا بدَّ مِنْ حذفٍ في قوله: {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم} أي: فإنْ قاتلُوكُم فيه، فاقتلوهم فيه، فَحَذَفَ لدلالةِ السِّيَاق عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 فصل وهذا بيان بشرط كيفيَّة قتالهم في هذه البقعة خاصَّة، وكان مِنْ قبلُ شرطاً في كلِّ قتالٍ وفي الأشهر الحرم؛ وقد تمسَّك به الحنفيَّةُ في قتل الملتجيئ إلى الحرم، وقالوا: لمَّا لم يجز القتل عند المسجد الحرام؛ بسبب جناية الكفر فبأن لا يجوز القتلُ في المسجد الحرام بسبب الذَّنب الذي هو دون الكُفر أولى. قوله: «كَذَلِكَ جَزَاءُ» فيه وجهان: أحدهما: أنَّ الكافر في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، و «جَزَاءُ الكَافِرِينَ» خبرُه، أي: مِثْلُ ذَلِكَ الجَزَاءِ جَزَاؤُهُمْ، وهذا عند مَنْ يرى أن الكاف اسمٌ مطلقاً، وهو مذهبُ الأخفش. والثاني: أن يكونَ «كَذَلَكَ» خبراً مقدَّماً، و «جَزَاءٌ» مبتدأً مؤخَّراً، والمعنى: جزاءُ الكافرين مثلُ ذلك الجَزَاءِ، وهو القتلُ، و «جَزَاءُ» مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، أي: جزاءُ اللَّهِ الكافرين، وأجاز أبو البقاء أان يكونَ «الكَافِرِينَ» مرفوع المحلِّ على أن المصدر مقدَّرٌ من فِعْل مبنيٍّ للمفعول، تقديرُه: كذلك يُجْزَى الكافِرُون، وقد تقدَّم لنا الخلافُ في ذلك. قوله تعالى: {فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي: لهم. ومتعلق الانتهاء محذوفٌ أي: عن القتال، و «انْتَهَى» «افْتَعَلَ» من النَّهي، وأصلُ «انْتَهَوا» «انْتَهَيُوا» فاسْتُثْقَلَت الضَّمةُ على الياء؛ فحُذِفَتْ فالتقى ساكنان؛ فَحُذِفت الياءُ؛ لالتقاء الساكنين، أو تقول: تَحَرَّكَتِ الياء، وانفتحَ ما قبلها؛ فَقُلِبَتْ ألفاً؛ فالتقى ساكنان؛ فَحُذِفَتِ الألفُ، وبقِيت الفتحة تَدُلُّ عليها. فصل في اختلافهم في متعلِّق الانتهاء هذا البيانُ لبقاء هذا الشَّرط في قتالهم قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فإن انتهوا عن القتال؛ لأنَّ المقصُود من الإذان في القتال منعُ الكُفّار عن المُقاتلة. وقال الحسنُ: فإن انتهوا عن الشِّرك؛ لأنَّ الكَافِرَ لا يَنَالُ المغفرة والرِّحمة بترك القتال، بل بترك الكُفرِ. فصل في دلالة الآية على قبول التَّوبة من كلِّ ذنب دلَّت الآية على أنَّ التوبة مِنْ كُلِّ ذنبٍ مقبولةٌ ومَنْ قال: إنَّ التوبة عن قتل العَمْد غيرُ مقبولةٍ، فقد أخطأ؛ لأنَّ الشرك أشدُّ من القتل، فإذا قَبِلَ الله تبوة الكافِرِ، فقبُولُ توبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 القاتل أولى، وأيضاً فقد يكُونُ الكافِرُ قاتلاً، فقد انضمَّ إلى كُفره قَتْلُ العَمْد والآيَةُ دلَّت على قبُول توبة كلِّ كافِرِ، فدلَّ على أنَّ توبتَهُ، إذا كان قاتِلاً مقبولةٌ؛ قال تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} يجوزُ في «حَتَّى» أن تكونَ بمعنى «كَيْ» وهو الظاهرُ، وأن تكونَ بمعنى «إِلَى» و «أَنْ» مضمرةٌ بعدَها في الحالين، و «تَكُونَ» هنا تامةٌ، و «فِتْنَةٌ» فاعلٌ بها، وأمَّا {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} فيجوزُ أن تكون تامَّةً أيضاً، وهو الظاهرُ، ويتعلَّقُ «اللَّهِ» بها، وأن تكونَ ناقصةً و «لِلَّهِ» الخبَر؛ فيتعلَّق بمحذوف أي: كائناً لله تعالى فصل في المراد بالفتنة قيل: المراد بالتفنة الشِّرك والكُفر؛ قالوا: كانت فتنتهُم أنَّهُم كانوا يُرهِبُون أصحاب النبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - بمكة، حتى ذهبوا إلى الحبشة، ثم واظبوا على ذلك الإيذاء؛ حتى ذهبوا إلى المدينة، وكان غرضَهُمُ من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهُم، ويرجِعُوا كُفَّاراً، فإنزل الله - تبارك وتعالى - هذه الآية، والمعنى: قاتِلُوهُم حتَّى تَظهروا عليهم؛ فلا يفتِنُوكُم عن دِينِكُمْ، ولا تَقَعوا في الشِّركَ {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} أي: الطَّاعة، والعبادةُ للَّه وحده؛ لا يُعبدُ شيءٌ دونه ونظيره قوله تعالى: {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح: 16] قال نافع: جاء رجلٌ إلى ابن عُمَرَ في فتنةِ ابن الزُّبير فقال ما يمنعُكَ أنْ تخرج؟ فقال: يَمنعُني أنَّ اللَّهَ حرَّمَ دم أخِي؛ ألاَّ تَسْمَعُ ما ذكر اللَّهُ تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] قال: يا ابن أخي ولأن أعتبر بهذه الآية، ولا أقاتل أحبُّ لي من أن أعتبر بالآية الأخرى الَّتي يقُولُ الله - عزَّ وجلَّ - فيها {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً} [النساء: 93] قال ألم يقُل الله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} ؟ قال: قَدْ فعلنا على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، ومَجَّد، وعَظَّم - إذْ كان الإسلامُ قليلاً، وكان الرَّجُلُ يُفْتَنُ عن دينه، إما يقتُلُونه، أو يُعَذِّبونه، حى كثُر الإسلام، فلن تكُن فتنة وكان الدِّينُ للَّه، وأنُتُم تُرِيدُون أنْ تُقَاتِلُوهم، حتَّى تكُون فتنَة، ويَكُونُ الدِّين لغيْرِ الله. وعن سعيد بن جبير، قال: قال رجلٌ لابن عمر كيف ترى في قتال الفتنة؟ فقال: هل تدري ما الفتنة؟! كان محمَّدٌ صلواتُ الله وسلامُهُ عَلْيهِ يُقاتل المُشرِكين، وكانَ الدُّخُولُ عليهم فِتْنَةً، وليس قتالكُم كقتالهم على المُلكِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 فصل في معاني الفتنة في القرآن قال أبو العبَّاس المُقِري: ورد لفظ الفتنَة في القرآن بإزاء سبعة معانٍ: الأول: الفتنة: الكُفر؛ قال تعالى: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة} [آل عمران: 7] يعني: طلب الكُفْر. الثاني: الفتنة الصرف قال تعالى: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} [المائدة: 49] . الثالث: الفتنة: البلاء؛ قال تعالى {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ} [العنكبوت: 3] . الرابع: الفتنةُ: الإحْرَاقُ؛ قال تعالى {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين} [البروج: 10] ، أي: حَرَّقُوهم؛ ومثله {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] . الخامس: الفتنة الاعتذارُ قال تعالى: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الأنعام: 23] . السادس: الفتنة: القَتل، قال تعالى: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} [النساء: 101] ، أي: يَقْتُلُوكم. السابع: الفتنَة: العذَابُ؛ قال تعالى: {جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت: 10] . قوله «فَإِن انْتَهوا» ، أي: عن الكُفر وأسلَمُوا، «فَلاَ عُدوَانَ» أي: فلا سبيل {إِلاَّ عَلَى الظالمين} قاله ابن عبَّاس، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28] ، أي: فلا سبيل عليَّ، وقال أهلُ المعاني العدوان: الظُّلم، أي: فإنْ أسْلَمُوا، فلا نهب، ولا أسر، ولا قتْل إلاَّ على الظالمين الَّذين بَقُوا على الشِّرك؛ قال تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] وسَمَّى قتل الكُفَّار عُدواناً، وهو في نفسه حقٌّ، لأنَّه جزاءٌ عن العُدْوان؛ على طريق المجاز، والمقابلة؛ لقوله {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] ، و {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ} [التوبة: 79] . وقيل: معنى الآية الكريمة إن تَعَرَّضْتم لهُمْ بعد انتهائهم عن الشِّرك والقتال، كنتم أنْتُم ظالمينَ، فنسلِّط عليكم مَنْ يَعتِدي عليْكُم. قوله: {إِلاَّ عَلَى الظالمين} في محلِّ رفع خبر «لا» التبرئة، ويجوزُ أن يكون خبرُها محذوفاً، تقديرُه: لا عُدْوَانَ على أحد؛ فيكونُ {إِلاَّ عَلَى الظالمين} بدلاً على إعادةِ العامل، وهذا الجملةُ، وإنْ كانَت بصورة النَّفي، فهي في معنى النَّهي؛ لئلا يلزَم الخُلْفَ في خبره تعالى والعربُ إذا بالَغَتْ في النهي عن الشيء، أبْرَزَتْهُ في صورةٍ النفي المَحْضِ؛ كأنه ينبغي ألاَّ يوجدَ البتة؛ فَدَلُّوا على هذا المعنى بما ذكرْتُ لك، وعكسُه في الإِثبات، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 إذا بَالَغُوا في الأمرِ بالشَّيْء، أبرزُوهُ في صُورة الخَبَر؛ نحو: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} [البقرة: 233] على ما سيأتي - إن شاء الله تعالى -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 قوله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} مبتدأ، خبرُه الجارُّ بعده، ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ، تقديرُه: انتهاكُ حُرْمة الشَّهْر الحرامِ بانتهاكِ حرمةِ الشهرِ، والألفُ واللامُ في الشَّهْر الأوَّل والثَّاني لِلْعهَد؛ أنَّهما معلومان عند المخاطبين؛ فإنَّ الأولَ ذُو القَعْدَةِ من سنة سَبْع، والثاني من سنة سَتٍّ. وقرئ. «والحُرْمَات» بسكون الراء، ويُعْزَى للحسن وقد تقدَّم عند قوله {فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17] أنَّ جمعَ «فُعْلَةٍ» بشروطِها يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجه: هذان الاثنانِ، وفَتْحُ العين. فصل في بيان سبب النُّزول في سبب نزول الآية ثلاثة أوجه: أحدها: قال ابنُ عبَّاس ومجاهدٌ، والضَّحَّاك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أنَّ رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وشَرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - خرج عام الحُديبية لِلْعُمرة، وذلك في ذي القعدة سنة ستٍّ مِنَ الهجرة، فصدَّه أهلُ مكة عَنْ ذلك ثُمَّ صالحُوه أنْ ينصرف، ويعودَ في العام القابل؛ ويتركُوا له «مكَّةَ» ثلاثة أيَّام؛ حتَّى يقضي عُمْرَتَهُ فانصرَفَ رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، ومَجَّد، وبَجَّل، وعَظَّم - عامهُ ذلك، ورجع في العام القابل في ذي القعدة سنَة سبعٍ، ودَخَل مَكَّة، واعتَمر؛ فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية الكريمة يعني إنَّك دخلت مكَّة في الشهر الحرام، والقومُ كانُوا صَدُّوكَ في السنةِ الماضية في هذا الشَّهر؛ فهذا الشهر الحرامُ؛ بذلك الشهرِ الحرامِ. وثانيها: قال الحسن: إنَّ الكُفَّار سَمِعُوا أنَّ الله تعلاى نهى الرسُولَ - عليه الصَّلاة والسَّلأم - عن المقاتلة في الأشهر الحُرُم؛ وهو قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله} [البقرة: 217] فأرادوا مقاتلته، وظنُّوا أنَّهُ لا يُقاتلهم في الأشهر الحُرُم؛ فأنزل اللَّهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 348 تعالى في هذه الآية؛ لبيان الحُكم في هذه الواقعة فقال: {الشهر الحرام بالشهر الحرام} أي من استحلَّ قتالكم من المشركين من الشَّهر الحرام، فاستحلّوه أنتم فيه. وثالثها: قال بعضُ المتكلِّمين: هو أنَّ الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله، فكيف يمنعنا عن قتالكم؟ فالشهر الحرام من جانبنا مقابل الشهر الحرام جانبكم؛ والحاصل في هذه الوجوه: أنَّ رحمة الشَّهر الحرام لما لم تمنعهُم عن الكفر، والأفعالِ القبيحة، فكيف جعلوه سبباً في منع القتالِ على الكفر والفساد؟! قوله: «والحرمات قصاصٌ» الحرماتُ: جمع حرمة؛ كظلمات جمع ظلمة، وحجرات جمع حجرة، الحرمة ما منع من انتهاكه، وجمعها؛ لأنَّه أراد حُرمة الشَّهر الحرامِ والبلد الحرام، وحرمة الإحرام. و «القصاص» : المُساوَاةُ والمُمَاثلة. والمعنى على الوجه الأوَّل في النُّزول لمَّا أضاعوا هذه الحُرمات في سنة ستٍّ، فقد قضيتموها على زعمكم في سنة سبع. وأما على الثَّاني: فالمراد إن أقدمُوا على مقاتلتكم في الشَّهر الحرام، فقاتلوهم أنتم أيضاً فيه. قال الزَّجَاج: وعلم الله بهذه الآية: أنه ليس على المسلمين: أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الابتداء، بل على سبيل القصاص والمماثلة، وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية الكريمة، وهو قوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} [البقرة: 191] وبما بعدها؛ وهو قوله تعالى: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ} . وأما على القول الثالث: فقوله «والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ» يعني: حُرمَةُ كلِّ واحدٍ من الشهرين كحرْمة الآخر، وهما مثلان، والقِصاصُ هو المثلُ، ولَمَّا لم يمنعكُم حرمةُ الشَّهر من الكُفْر، والفِتنة، والقِتال، فكيف يمنعُنا عن القتال؛ فعلى هذا، فقوله: «والحُرُمَاتُ قِصَاصٌ» متَّصلٌ بما قبله. وقيل: هو مقطوعٌ منه، وهو ابتداء أمرٍ كان في أوَّل الإسلام: أن من انتهك حُرمتك، نِلتَ منه بمثل ما اعتدى عليك، ثم نُسِخً ذلك بالقتال. وقالت طائفةٌ: ما تناولت الآية الكريمة من التعدِّي بين أمة محمَّد - عليه الصَّلاة والسَّلام - والجنايات ونحوها - لم يُنسَخْ، وجاز لمن تُعُدِّيَ عليه من مال، أو جرح أن يتعدَّى بمثل ما تُعُدِّي به عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 وقوله {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ} يجوزُ في «مَنْ» وجهان: أحدهما: أن تكون شرطيةً، وهو الظاهرُ؛ فتكونَ الفاء جواباً. والثاني: أن تكونَ موصولةً؛ فتكونَ الفاءُ زائدةً في الخبر، وقد تقدَّم نظيره. قوله: {بِمِثْلِ مَا اعتدى} في الباء قولان: أحدهما: أن تكون غير زائدةٍ، بل تكون معلِّقةً ب «اعْتَدُوا» والمعنى: بعقوبةٍ مثْل جنايةٍ اعتدائه. والثاني: أنها زائدةٌ، أي: مثل ما اعَْدى به؛ فتكون: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوف، أي: اعتداءً مماثلاً لاعتدائه، وإمَّا حالاً من المصدر المحذوف، كما هو مذهبُ سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - أي: فاعتدوا الاعتداء مُشبِهاً اعتداءُه، و «مَا» يجوزُ أن تكوَ مصدريةً، فلا تفتقر إلى عائدٍ، وأن تكون موصولةً؛ فيكون العائدُ محذوفاً، أي: بمثل ما اعتدى عليكُم به، وجاز حذفه؛ لأنَّ المُضاف إلى الموصول قد جُرَّ بحرفٍ قد جرَّ به العائدُ، واتَّحد المتعلِّقان وقد تقدَّم معنى تسمية المجازاة بالاعتداء. فصل في اختلافهم في تسيمة المكافأة عدواناً قال القرطبيُّ: اختلف النَّاس في المكافأة، هل تُسمَّى عدواناً، أم لا؟ فمن قال: ليس في القرآن مجازٌ، قال: المقابلة عدوانٌ، وهو عدوانٌ مباحٌ، كما أنَّ المجاز في كلام العرب كذبٌ مباحٌ؛ لأن قوله: [الطويل] 719 - فَقَالَتْ لَهُ الْعَيْنَانِ سَمْعاً وَطَاعَةً ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . وقولَهُ: [الرجز] 972 - إِمْتَلأَ الحَوْضُ وَقَالَ قَطْنِي ... وقوله: [الرجز] 973 - شَكَا إِلَيَّ جَمَلِي طُولَ السُّرَى ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 ومعلوم أنَّ هذه الأشياء لا تنطق، وحدُ الكَذِب الإخبارُ عن الشَّيء بخلاف ما هو به. ومن قال: في القُرآن مجازٌ: سمَّى هذا عُدواناً مجازاً على طريق المُقابلة كقوله عمرو بن كلثومٍ: [الوافر] 974 - أَلاَ لاَ يَجْهَلَنْ أَحدٌ عَلَيْنَا ... فَنَجْهَلَ فَوْقَ جَهْلِ الجَاهِلِينَا وقول الآخر: [الطويل] 975 - ولِي فَرَسٌ لِلْحِلْمِ بِالْحِلْمِ مُلْجَمٌ ... وَلِي فَرَسٌ لِلْجَهْلِ بِالجَهْلِ مُسْرَجُ وَمَنْ رَامَ تَقْوِيمي فَإِنِّي مُقَوَّمٌ وَمَنْ رَامَ تَعْوِيجي فَإِنِّي مُعَوَّجُ يريد أُكافىءُ الجاهل والمُعوجَّ لا أنَّه امتدح بالجهل والاعوجاج. قولُهُ «وَاتَّقُوا» قد تقدَّم معنى «التَّقْوَى» . وقولُهُ: {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} ، أي: بالمعونَةِ، والنُّصرة، والحِفظ، وهذا من أقوى الدَّلائل على أنَّه ليس بجسمٍ، ولا في مكانٍ، إذ لو كان جسماً، لكان في مكانٍ معيَّن؛ فكان إمَّا أن يكون مع أحدٍ منهم، ولم يكن مع الآخر، أو يكون مع كُلِّ واحدٍ من المُتَّقين جزءُ من أجزائهِ، تعالى الله عن ذلك عُلُوّاً كبيراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 اعلم أنَّ تعلُّق هذه الآية الكريمة بما قبلها من وجهين: الأول: أنَّه تعالى، لمَّا أمرهُ بالقتالِ وهو لا يتيسَّر إلاَّ بآلاتٍ وأدواتٍ يحتاجُ فيها إلى المال، وربَّما كان ذو المالِ عاجزاً عن القتال، وكان الشُّجاع القادرُ على القتال عديم المال فقيراً، فلهذا أمر اللَّهُ تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفُقراء الَّذين يقدرون على القتال. والثاني: يروى أنَّه لمَّا نزَلَ قولُهُ تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات} [البقرة: 194] قال رجلٌ من الحاضرين: واللَّهِ، يا رسول الله ما لَنَا زادٌ، وليس أحدُ يُطْعمنَا؛ فأمر رسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم - أن ينفقوا في سبيل الله، وأن يتصدَّقوا وألاَّ يكفُّوا أيديهم عن الصَّدقة، ولو بشقِّ تمرةٍ تُحملُ في سبيل الله فيهلكوا، فنزلت الآية الكريمة على وفق رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم -. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 والعلم: أنَّ الإنفاقَ هو صرفُ المالِ إلى وجوه المصالح؛ فلذلك لا يُقالُ في المُضَيِّع: إنَّه مُنفقٌ، وإذا قُيِّد الإنفاقُ بذكر «سَبِيلِ اللَّهِ» ، فالمرادُ به في طريق الدِّين؛ لأنَّ السَّبيل هو الطريقُ، وسبيلُ الله هو دينُهُ، فكلُّ ما أمر الله تعالى به من الإنفاق في دينِهِ، فهُوَ داخِلٌ في الآية الكريمة، سواءٌ كان في حجٍّ، أو عُمرةٍ، أو كان جهاداً بالنَّفس أو تجهيزاً للغير أو كان إنفاقاً في صلة الرَّحم، أو في الصَّدقات، أو على القتالِ، أو في الزَّكاةِ، أو الكَفَّارة، أو في عمارة السَّبيل، وغير ذلك، إلاَّ أنَّ الأقربَ في هذه الآية الكريمة ذكرُ الجهاد، فالمرادُ هاهنا الإنفاقُ في الجهاد؛ لأنَّ هذه الآية الكريمة، إنَّما نزلت وقت ذهاب رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف، وكَرَّم، وبَجَّل، وعَظَّم - لعُمرة القضاء، وكانت تلك العُمرةُ لا بُدَّ مِنْ أن تُفضي إلى القتالِ، إنْ منَعَهم المُشركُونَ، فكانَتْ عمرةً وجهاداً، فاجتمعَ فيها المعنيانِ؛ فلا جَرَم، قال تعالى {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} . قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} . في هذه الباء ثلاثة أوجه: أحدها: أنها زائدةٌ في المفعول به؛ لأن «أَلْقَى» يتعدَّى بنفسه؛ قال تبارك وتعالى {فألقى موسى عَصَاهُ} [الشعراء: 45] ، وقال القائل: [الكامل] 976 - حَتَّى إِذَا أَلْقَتْ يَداً فِي كَافِرٍ ... وَأَجَنَّ عَوْرَاتٍ الثُّغُورِ ظَلاَمُهَا فزيدت الباءُ في المفعول، كما زيدَت في قوله: [الطويل] 977 - وَأَلْقَى بِكَفَّيْهِ الْفَتَى اسْتِكَانَةً ... مِنَ الْجُوعِ وَهْنَاً مَا يُمِرُّ وَمَا يَحْلُو وهذا قولُ أبي عبيدة، وإليه ميلُ الزمخشري، قال: «والمعنى: ولا تُقْبِضُوا التهلُكَةَ أيدِيكُمْ، أي لا تَجْعَلُوها آخِذَةً بأيديكُمْ مالكةً لكُمْ» ، إلا أنه مردودٌ بأنَّ زيادة الباء في المفعول به لا تَنقاسُ، إنما جاءت في الضَّرورة؛ كقوله: [البسيط] 978 - ... ... ... ... ... ..... سُودُ المَحَجِرِ لا يَقْرأْنَ بالسُّوَرِ الثاني: أنها متعلقةٌ بالفعل غيرُ زائدةٍ، والفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: ولا تُلْقُوا أنْفُسَكُمْ بأيديكُم، ويكُونُ معناها السَّبَبَ؛ كقولك: لا تُفْسِد حالك برأيك. الثالث: أن يُضمَّن «أَلْقَى» معنى ما يتعدَّى بالباء؛ فيُعدَّى تعديته، فيكون المفعولُ به الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 في الحقيقة هو المجرور بالباء، تقديره: ولا تُفْضُوا بأيديكُم إلى التَّهْلُكة؛ كقولك: أَفْضَيْتُ بِجَنْبِي إلى الأرض، أي: طرحتُهُ على الأرض، ويكونُ قد عَبَّرَ بالأيدي عن الأنفس كقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] لأنَّ بها البَطشَ والحركة، وظاهرُ كلام أبي البقاء فيما حكاهُ عن المُبرِّد: أن «ألْقَى» يتعدَّى بالباء أصلاً ك «مَرَرْتُ بزيدٍ» ، والأولى حملُهُ على ما ذكرناه. والهمزة في «أَلْقَى» لِلْجعل على صفةٍ، نحو: أطْرَدْتُهُ، أي: جعلتُهُ طريداً، الهمزة فيه: ليست للتعدية؛ لأنَّ الفعل متعدٍّ قبلها، فمعنى «ألقَيْتُ الشيْءَ» : جَعَلْتُه لُقى، فهو «فُعَلٌ» بمعنى «مَفْعُول» ؛ كما أن الطريد «فَعِيلٌ» بمعنى «مَفْعُول» ؛ كأنه قيل: لا تَجْعَلُوا أنفسَكُم لُقى إلى التَّهْلُكَة. والتَّهْلُكَةُ: مصدرٌ بمعنى «الهلاكِ، يُقَالُ: هَلَكَ يَهْلِكُ هُلْكاً، وهَلاكاً، وهَلْكَاءَ، على وزن فعلاء، ومَهْلِكاً ومَهْلُكَةً، مثلَّث العين، وتَهْلُكَةً، وقال الزمخشري:» ويجوزُ أن يقال: أصلُها التَّهْلِكَةُ؛ بكسر اللام، كالتَّجْرِبة؛ على أنه مصدرٌ من هلَّك - يعني بتشديد اللامِ - فَأُبْدلتِ الكسرةُ ضَمَّةً؛ كالجِوار والجُوار «، وردَّ أبو حيَّان بأنَّ فيه حَمْلاً على شاذٍّ ودَعوى إبدال، لا دليلَ عليها؛ وذلك أنه انه جعلَهُ تَفعلةً بالكسر، مصدرَ» فَعَّلَ «بالتشديد، ومصدرُه، إذا كان صحيحاً غيرَ مهموزٍ على» تَفْعِيل «و» تَفْعِلَةٌ «فيه شاذٌّ، وأمَّا تنظيره له بالجِوَار والجُوَار، فليس بشيء، لأنَّ الضمَّ فيه شاذٌّ، فالأولى أنْ يُقال: إنَّ الضَّمَّ أصلٌ غيرُ مبدلٍ من كسرٍ، وقد حكى سيبويه ممَّا جاء من المصادر على ذلك التَّضُرَّة والتَّسُرَّة. قال ابن عطيَّة:» وقرأ الخليلُ التَّهْلِكَةَ، بكسر اللام، وهي تَفْعِلَةٌ، من هَلَّكَ بتشديد اللام «وهذا يُقَوِّي قول الزمشخري. وزعم ثعلبٌ والجارزنجي أنَّ» تَهْلُكَةً «لا نظير لها، وليس كثيراً من تكلُّفات هؤلاء النُّحاة في أمثال هذه المواضع، وذلك أنَّهُم وجدوا نَقلاً عن أعرابيٍّ مجهولٍ يكونُ حجتَّهُم فيه، ففرحثوا به، واتّخَذُوه حجَّةً قويَّةً، ودليلاً قاطِعاً، وقالُوا: قد نُقِلَ هذا عن العرب؛ فكيف، وقد وَرَدَ هذا في كَلاَمِ الله تعالى المشهُور له مِنْ كُلِّ واحدٍ من المُوافِق والمُخَالف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 بالفصاحة، وأعجز البُلَغَاء والفُصَحاء، وتحدَّاهم» بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ «و» بِعَشْرِ سُوَرٍ «و» بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ « [فقال تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] وقال: {قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] وقال في موضع آخر: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] كيف لا يدلُّ ذلك على صحَّة هذه اللَّفظة، وفصاحتها، واستقامتها. والمشهور: أنه لا فرق بين التَّهْلُكَة، والهلاك، وقال قومٌ: التَّهْلُكَةُ: ما أمكن التحرُّز منه، والهلاكُ: ما لا يمكن التحرُّز منه، وقيل: هي نفسُ الشَّيْءِ المُهْلِكِ، وقيل: هي ما تضضُرُّ عاقبته. فصل في اختلافهم في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التهلكة اختلفوا في تفسير الإلقاء بالأيدي إلى التَّهلكة. فقال قومٌ: إنَّه راجعٌ إلى نفس النَّفقة. وقال آخرون: إنَّه راجعٌ إلى غيرها، فالأوَّلون ذكروا وجوهاً: أحدها: قال ابن عبَّاس، وحذيفة، وعطاءٌ، وعكرمةٌ، ومجاهدٌ، والجمهور، وإليه ذهب البُخَارِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ولم يذْكُروا غيره: ألاَّ ينفقوا في مهمَّات الجهاد أموالهم؛ فستولي العَدُوُّ عليهم، ويهلكهم؛ فكأنَّه قيل: إن كنت من رجال الدِّين فأنفق مالك في سبيل الله، وفي طلب مرضاته، وإن كانت من رجالِ الدُّنيا، فأنفق مالك في دفع الهلاكِ، والضَّرَر عن نفسِكَ. وثانيها: أنه تبارك وتعالى لمَّا أمر بالإنفاق نهى عن نفقة جمع المال؛ لأنَّ إنفاق الجميع يفضي إلى التَّهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول، والمشروب، والملبوسِ، فيكون المراد منه ما ذكره في قوله سبحانه: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] ، وقوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] . وقيل: الإلقاءُ في التَّهْلُكَة: هو السَّفر إلى الجهاد بغَيْر زادٍ، نقله القُرْطُبيُّ عن زَيْد ابْنِ أَسْلَمَ، وقد فعل ذلك قومٌ، فانقطعوا في الطَّريق. وأما القائلون: بأنَّ المراد منه غير النَّفقة، فذكروا وجوهاً: أحدها: أن يخلُّوا بالجهاد، فيتعرَّضوا للهَلاَكِ الذي هو عذابُ النار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 ثانيها: لا تقتحموا في الحَرْبِ بحَيْثُ لا تَرْجُونَ إلاَّ قَتْلَ أنْفُسِكُمْ، فإنَّ قَتْلَ الإنْسانِ نَفْسَه لا يَحِلُّ، وإنما يجب الاقتحام إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل، فأمَّا إذا كان آيساً من النِّكاية، وكان الأغلب أنَّه مقتولٌ، فليس له الإقدام عليه، وهذا منقولٌ عن البَرَاءِ ابن عازب، ونقل عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه قال في هذا: هو رجُلٌ ينتقّل بين الصفينِ. وطعن بعضهم في هذا التَّأوِيل؛ وقال: هذا القتلُ غير محرمٍ، واحتجَّ بأَحَادِيثَ. الول: روي أنَّ رجلاً من المهاجرين حمل على صَفِّ العدوِّ؛ فصاح به الناس؛ فألقى بيده إلى التَّهلكة؛ فقال أبو أيُّوبٍ الأنصاريّ: نحنُ أعلم بهذه الآية الكريمة، وإنما نزلت فينا: صحبنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنصرناه وشهدنا المشاهد، فلما قويَ الإسلام؛ وكثر أهله؛ رجعنا إلى إهالينا، وأموالنا، ومصالحنا؛ فنزلت الآية، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل، والمال، وترك الجهاد. فما زال أبو أيوبٍ مجاهداً في سبيل الله؛ حتَّى كان آخر غزاة غزاها بقسطنطينيّة في زمن معاوية، فتوفِّي هناك، ودُفن في أصل سور القسطنطينية، وهم يُسْتَسْقَوْنَ به. ورُوِيَ أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك الجنَّة؛ فقال له رجل من الأنصار: أرأيت يا رسول الله، إن قتلت صابراً محتسباً؟ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - «لك الجنة» ؛ فانغمس في العدوِّ؛ فقتلوه بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وأنَّ رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كان عليه، حين ذكر رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه دائماً أبداً - الجنة. ورُوِيَ أنَّ رجلاً من الأنصار تخلَّف عن بني معاوية، فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه؛ فقال لبعض من معه: سأتقدم إلى العدوِّح فيقتلونني، ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي، ففعل ذلك؛ فذكروا ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال فيه قولاً حسناً. وروي أنَّ قوماً حاصروا حصناً؛ فقاتل رجلٌ حتى قتل؛ فقيل: ألقى بيده إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 التَّهلكة، فبلغ عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ذلك؛ فقال: كذبوا قال الله تعالى: {مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله} [البقرة: 207] . ولقائلٍ أن يجيب عن هذه الآية؛ فيقول: إنَّما حرمنا إلقاء النفس في صفِّ العدوِّ، إذا لم يتوقع إيقاع النكاية فيهم، فأما إذا توقع، فنحن نجوز ذلك، فلم قلتم إنَّه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع؟ الوجه الثالث من تأويل الآية: أن يكون هذا متَّصلاً بقوله سبحانه: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ} [البقرة: 194] أي: فلا تحملنَّكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم، فتهلكوا بترككم القتال، فإنَّكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة. الوجه الرابع: أنَّ المعنى: أنفقوا في سبيل الله، ولا تقولوا: إنَّا نخاف الفقر، فنهلك إن أنفقنا، ولا يبقى معنا شيءٌ، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق، والمراد من هذا الفعل والإلقاء الحكم بذلك؛ كما يقال جعل فلانٌ فلاناً هلاكاً، وألقاه في الهلاك؛ إذا حكم عليه بذلك. الوجه الخامس: قال محمد بن سيرين، وعبيدة السَّلمانيُّ: هو أنَّ الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل؛ فيستهلك في المعاصي، فذلك هو إلقاء النفس إلى التهلكة؛ فحاصله أنَّ معناه النَّهيُ عن القنوط من رحمة الله تعالى؛ لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية، والإصرار على الذنب. الوجه السادس: يحتمل أن يكون المراد {وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة، والإحباط؛ وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلاً يحبط ثوابه، إما بذكر المنَّة، أو بذكر وجوه الرياء، والسُّمعة؛ ونظيره قوله تعالى: {وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33] . وروي عن عكرمة: الإلقاء في التهلكة، قال تبارك وتعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] . وقال الطَّبَرِيُّ: هو عامٌّ في جميع ما ذُكر، لأن اللفظ يحتمله. قوله «وَأَحْسِنُوا» اختلفوا في اشتقاق «المحْسِنِ» ، فقيل: مشتقٍّ من فعل الحسن، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 وإنما كثر استعماله في من نفع غيره بنفع حسنٍ، من حيث إنَّ الإحسان حسنٍ في نفسه، وعلى هذا [التَّقْدِير] فالضربُ، والقتلُ إذاً حَسُنَا، كان فاعلهما محسناً. وقيلك مشتقٌّ من الإحسان؛ ففاعل الحسن لا يوصف بكونه محسناً؛ إلاَّ إذا كان فعله حسناً، وإحساناً معاً؛ فهذا الاشتقاق إنَّما يحصل من مجموع الأمرين. قال الأصَمُّ: أَحْسِنُوا في فَرَائضِ اللَّهِ. وقيل: أسحنوا في الإنفاق على من يلزمكم نفقته، والمقصود منه أن يكن، ذلك الإنفاق وسطاً من غير إسراف، ولا تقتير، وهذا أقرب لاتصاله بما قبله، ويمكن حمل الآية على الجميع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 الحجُّ: في اللغة عبارةُ عن القصد، وإنما يقال حجَّ فلانٌ الشيء، إذا قصده مرَّةً بعد أخرى، وأدام الاختلاف إليه، و «الحِجَّةُ» بكسر الحاء: السَّنة، وإنما قيل لها حِجَّةٌ؛ لأن الناس يحجُّون في كل سنةٍ، وفي الشرع: هو اسمٌ لأفعال مخصوصة يشتمل على أركانٍ، وواجباتٍ، وسُننٍ. فالركن: ما لا يحصل التحلُّل إلاَّ بالإتيان به، والواجب هو الذي إذا تركه يجبر بالدم، والسُّنن: ما لا يجب بتركها شيءٌ، وكذلك أفعال العمرة. وقرأ نافعٌ، وأبو عَمْرٍو، وابنُ كثير، وأبو بكر، عن عاصمٍ رحمة الله تعالى عليهم: «الحَجُّ» بفتحِ الحاءِ في كلِّ القرآن الكريم، وهي لغة أهل الحجاز، وقرأ حمزة، والكسائيُّ، وحفصٌ، عن عاصمٍ: بالكسر في كلِّ القرآن. قال الكسائيُّ: وهما لغتان بمعنى واحدٍ؛ كرِطلٍ ورَطلٍ، وكِسر البيت، وكَسره، وقيل: بالفتح المصدر، وبالكسر الاسم. وقرأ علقمة، وإبراهيم النَّخعيُّ: «وأقِيمُوا الحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ» وفي مصحف ابن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 مسعودٍ: «وَأَتِمُّوا الحَجَّ وَالعُمْرَةَ إلى البَيت» وروي عنه: وأقيموا الحج والعمرة إلى البيت، وفائدة التخصيص بقوله: «لِلَّهِ» - هنا - أنَّ العرب كانت تقصد الحج للاجتماع، والتظاهر، وحضور الأسواق؛ وكلُّ ذلك ليس لِلَه فيه طاعةٌ، ولا قربةٌ؛ فأمر الله تعالى بالقصد إليه لأداء فرضه، وقضاء حقِّه. والجمهور على نصب «العُمْرَةَ» على العطف على ما قبلها، و «لِلَّهِ» متعلقٌ بأتِمُّوا، واللام لام المفعول من أجله. ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من الحجِّ والعمرة، تقديره: أتمُّوها كائنين لله. وقرأ عليٌّ وابن مسعودٍ، وزيد بن ثابت، والشعبيّ: «والعُمْرَةُ» بالرفع عل الابتداء. و «لله» الخبر، على أنها جملة مستأنفةٌ. قال ابن عباسٍ، وعلقمة، وإبراهيم، والنخعي: إتمام الحجِّ والعمرة: أن يتمَّهما بمناسكهما وحدودهما وسننهما. وقال سعيدُ بن جبيرٍ، وطاوس: تمام الحجِّ والعمرة: أن تحرم بهما مفردين مستأنفين من دويرية أهلك. ويروى عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه مرفوعاً. وقال عليُّ بن أبي طالبٍ، وابن مسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: تمام الحجِّ والعمرة: أن تحرم بهما من دويرية أهلك. فإن فعلها في أشهر الحج، ثم أقام حتى حجَّ؛ فهي متعة، وعليه فيها الهدي إن وجده، أو الصيام إن لم يجد الهدي، وتمام الحج أن يأتي بمناسكه كلِّها بحيث لا يلزمه دمٌ، بسبب قرنٍ، ولا متعةٍ. وقال الضحاك: إتمامها: أن تكون النفقة حلالاً، وينتهي عما نهى الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 وقال سفيان الثوري: إتمامها: أن تخرج من أهلك لهما؛ لا لتجارةٍ، ولا لحاجةٍ أخرى. قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - الوفد كثيرٌ، والحاجُ قليلٌ. فصل في اختلافهم في وجوب العمرة اتَّفقت الأُمَّة على وجوب الحج، على من استطاع إليه سبيلاً، واختلفوا في وجوب العمرة؛ فذهب أكثر العلماء إلى وجوبها؛ وهو قول عمر، وعليّ، وابن عمر، ورواه عكرمة عن ابن عباسٍ، قال: والله إنَّ العمرة لقرينة الحجِّ في كتاب الله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} وبه قال عطاءٌ، وطاوس، ومجاهد، والحسن، وقتادة وسعيد بن جبير، وإليه ذهب الثوريُّ، وأحمد، والشافعيُّ، في أصحِّ قوليه. وذهب قومٌ إلى أنها سُنَّةٌ، وهو قول جابرٍن وبه قال الشعبيُّ، وإليه ذهب مالكٌ، وأبو حنيفة، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجميعن. حجةُ القولٍ الأوَّلِ أدلةٌ منها: قوله تعالى: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} والإتمام قد يراد به فعل الشيء كاملً تاماً؛ بدليل قوله سبحانه وتعالى: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة: 124] أي: فعلهنَّ على التمام، والكمال، وقوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] ، أي: فافعلوا لاصيام تاماً إلى الليل. فإن قيل يحتمل أن يكون المراد أنكم إذا شرعتم فيهما، فأتموهما؛ لأنَّها تدلُّ على أصل الوجوب؛ لأنَّا إنما استفدنا الوجوب من قوله تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] ، لا من هذه الآية، وكذا قوله: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] إنَّما استفدنا وجوب الصوم من قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] لا من قوله: ثُمَّ أتِمُّوا الصِّيَامَ إلى اللَّيْلِ «والحجُّ والعمرةُ يجب إتمامهما بالشروع فيهما، سواءٌ أكانا فرضاً، أو تطوُّعاً، وتقول: الصوم خرج بدليلٍ، أو تقول: وجب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 إتمامه بالشروع، فيكون الأمر بالإتمام، مشروطاً بالشروع فيهما. فالجواب: أنَّ ما ذكرناه أولى؛ لأن على تقديركم يحتاج إلى إضمارٍ، وعلى ما قلناه لا يحتاج إلى إضمار؛ فكان الاحتمال الذي ذكرناه أولى، ويدلُّ عليه: أنَّ أهل التفسير ذكروا أنَّ هذه الآية أول آيةٍ نزلت في الحجِّ، فحملها على إيجاب الحجِّ، أولى من حملها على وجوب الإتمام بشرط الشُّروع. وأيضاً يؤيّده ما ذكرناه من قراءة من قرأ» وأقِيمُوا الحَجَّ والْعُمْرَةَ لِلَّهِ «وإن كانت شاذَّةً، لكنَّها تجري مجرى خبر الواحد. فإن قيل: قراءة عليٍّ، وابن مسعودٍ، والشَّعبي:» والعُمْرَةُ لِلَّهِ «بالرفع يدلُ على أنهم قصدوا إفراد العمرة عن حكم الحجِّ، في الوجوب؛ فالجواب من وجوه: أحدها: أنها شاذَّةٌح فلا تعارض المتواترة. فإن قيل: قد استدللتم أنتم بالشاذَّة أيضاً؟ قلنا: استدللنا بها حيث هي موافقةٌ؛ فتكون تقويةً للاستدلال، لا أنها نفس الدَّلِيل، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 واستدلالكم بالشاذَّة؛ نفس الدليل، وهو معارضٌ بها؛ فتساقط الاستدلالان، وسلمت المتواترة عن المعارض. وثانيها: أن قوله:» وَالعُمْرَةَ لِلَّهِ «معناها: أنَّ العمرة عبادةٌ الله، وذلك لا ينافي وجوبها. وثالثها: أنَّ في هذه القراءة ضعفاً في العربية؛ لأنَّها تقتضي عطف الجملة الاسمية على الجملة الفعلية. الدليل الثاني: قوله تعالى: {يَوْمَ الحج الأكبر} [التوبة: 3] ، يدلُّ على وجود حجٌّ أصغر، وهو العمرة بالاتفاق. وإذا ثبت أن العمرة حجٌّ، فتكون واجبةٌ؛ لقوله تعالى: {عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] . الدليل الثالث: ما ورد في الصَّحيح: أنَّ جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - سأل النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - عن الإسلام، فقال: «أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وأَنَّ مُحمداً رَسُولُ اللَّهِ، وأَنْ تٌقِيمَ الصَّلاَةَ، وتُؤْتِي الزكاةَن وتَصُومَ رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ وَتَعْتَمِرَ» وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجلَّ وعظَّم - لأبي رزين، لمَّا سأله، فقال: إنَّ أبي شيخٌ كبيرٌ أدرك الإسلام، ولا يستطيع الحجَّ والعمرة، ولا الظَّعْنَة، فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «حُجَّ عن أبِيكَ وَاعْتَمْرْ» وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - «إنَّ الحجَّ والعُمْرَةَ فَرِيضَتَانِ، لا يَضُرُّكَ بأيهما بَدَأْت» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 وعن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالت: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ عَلَى النِّسَاءِ جِهَادٌ؟ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - «عَلَيْهِنَّ جِهَادٌ لاَ قِتَالَ فِيهِ: الحَجُّ وَالعُمْرَةُ» وقال ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ليس أحد من خلق الله إلاَّ وعليه حجةٌ وعمرة واجبتان إن استطاع إلى ذلك سبيلاً. وقال الشافعيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: اعتمر النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجَّل وعظَّم قبل الحجِّ، ولو لم تكن العمرة واجبةً، لكان الأشبه أن يبادر إلى الحجِّ الواجب. القول الثالث: في قصة الأعرابِّي حين سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أركان الإسلام، فعلَّمه الصلاة، والزكاة، والصوم، والحجَّ، فقال الأعرابيُّ: هل عليَّ غيرها؟ قال: «لا إلاَّ أن تطَّوع» ، فقال: والله لا أزيد على هذا، ولا أنقض، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أفلح إن صدق» وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رَمَضَانَ، وحَجِّ الْبَيْتِ» وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «صَلُّوا خَمْسَكُمْ، وزَكُّوا أَمْوَالَكُمْ، وَحُجُّا بَيْنَكُمْ تَدْخُلُوا جَنَّة رَبِّكُمْ» وعن محمد المنكدر، عن جابر بن عبد الله، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه سئل عن العمرة، واجبةٌ هي أم لا؟ فقال: «لاَ، وَأَنْ تَعْتَمِرَ خَيْرٌ لَكَ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 وعن معاوية الضَّرير، عن أبي صالحٍ الحنفي عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم ومجَّد وبجَّل وعظَّم - قال: «الحَجُّ جِهَادٌ، وَالعُمْرَةُ تَطَوَّعٌ» والجوابُ من وجوهٍ: أحدها: أن هذه أخبارُ آحادٍ؛ فلا تعارض القرآن. وثانيها: أنَّ هذه الآية الكريمة نزلت في السَّنة السابعة من الهجرة، فيحتمل أنَّ هذه الأحاديث حيث وردت، لم تكن العمرة واجبةً، ثم نزل بعدها: {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ} ، وهذا هو الأقرب لما ذكرناه. وثالثها: أن قصة الأعرابي، والحديثين اللذين بعده، ذكر فيهم الحجَّ، وليس فيها بيان تفصيل الحج، وقد بينَّا أن العمرة حجٌّ، فلا تنافي وجوب العمرة، وأمَّا حديث ابن المنكدر، فرواه الحجاج بن أرطاة؛ وهو ضعيفٌ. فصل واتفقت الأمة على أنَّه يجوز أداء الحجِّ والعمرة على ثلاثة أوجهٍ: الإفراد، والتمتع، والقران. فالإفراد: أن يُحرم بالحجِّ منفرداً، ثم بعد الفراغ منه، يعتمر من أدنى الحلِّ. والتمتع: أن يعتمر في أشهر الحجِّ، فإذا فرغ من العمرة، يحرم بالحجِّ من مكة المشرقة في عامه. والقران: أن يحرم بالحج والمرة معاً، أو يحرم بالعمرة، ثم يدخل عليها الحجَّ قبل أن يفتتح الطواف؛ فيصير قارناً، ولو أحرم بالحج، ثم أدخل عليه العمرة، لم ينعقد غحرامه بالعمرة. واختلفوا في أيِّ هذه الثَّلاثة أفضل؟ وتفاصيل هذه الأقوال مذكورةٌ في كتب الفقه. قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} [البقرة: 196] قال أحمد بن يحيى: أصل الحصر، والإحصار: المنع والحبس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 ومنه قيل للملك: الحصير؛ لأنه ممنوع من الناس. قال لبيدٌ: [الكامل] 979 - ... ... ... ... ... ... ... ... جِنٌّ لَدَى بَابِ الْحَصِيرِ قِيَامُ وهل حُصِر وأُحْصِر بمعنى، أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ. فقال الفراء، والزجاج، والشيباني؛ إنهما بمعنى، يقالان في المرض، والعدوِّ جميعاً؛ وأنشدوا على ذلك [الطويل] 980 - وَمَا هَجْرُ لَيْلَى أَنْ تَكُونَ تَبَاعَدَتْ ... عَلَيْكَ وَلاَ أَنْ أَحْصَرَتْكَ شُغُولُ وهو قولٌ أبي عُبَيْدَة، وابن السِّكِّيتِ، وابن قتيبة. وفرقَّ بعضهم، فقال الزمخشري، وثعلبٌ: في فصيح الكلام: يقال: أُحْصِر فلانٌ: إذا منعه أمرٌ من خوفٍ، أو مرض، أو عجز؛ قال تعالى: {الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 273] ، وحُصِر: إذا حبسه عدوٌّ، أو سجنٌّ، هذا هو الأكثر في كلامهم، وهما بمعنى في كل شيءٍ، مثل: صدَّه وأصدَّه، وكذلك الفراء والشيباني، ووافقه ابن عطية أيضاً؛ فإنه قال: والمشهورُ مِنَ اللُّغَةِ: أُحْصِر بالمرضِ، وحُصِر بالعَدُوِّ. وعكس أبن فارسٍ في «مُجْمَلِه» ، فقال: «حُصِر بالمرضِ، وأُحْصِر بالعَدُوّ» وقال ثعلب: «حُصِر في الحَبْسِ، أَقْوى مِنْ أُحْصِر» ، ويقال: حَصِرَ صَدْرُه، أي: ضاق؛ ورجلٌ حَصِرٌ: لاَ يُبُوحُ بسرِّه، قال جرير في ذلك المعنى [الطويل] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 981 - وَلَقَدْ تَكَنَّفَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِراً بِسِرِّكِ يَا أُمَيْمَ حَصُوراً والحَصِيرُ: معروفٌ؛ لامتناعِ بعضه ببعض، وانضمامُ بعضه غلى بعضٍ، تشبيهاً باحتباس الشَّيء مع غيره، والحصر: احتباس البول، والغائط. وقيل: إنَّ الحَصْرَ مختصٌّ بالمنع الحال من جهة العدوِّ؛ وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس، وابن عمر، وابن الزُّبير، قالوا: لا حصر إلاَّ حصر العدوِّ، وهو قول سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيِّب، وإليه ذهب إسحاق، وأحمد، والشافعيُّ - رحمهم الله تعالى؛ وأكثر أهل اللغة يردُّون هذا القول. وفائدة هذا الخلاف في أنَّه: هل يثبت للمحصر بالمرض ويغره من الموانع حكم المحصر بالعدوِّ؟ فقال الشافعيُّ: لا يثبت، وقال غيره: يثبت، والقائلون بأنه يثبت، قال بعضهم: أنَّه ثابتٌ بالنصِّ، وقال آخرون: بالقياس الجلي. حجَّة القائلين بالثبوت: مذهب أهل اللغة؛ لأن أهل اللغة قائلان: أحدهما: القائلون بأن الإحصار مختصٌّ بالحبس الحاصل بسبب المرض، فتكون الآية الكريمة نصاً صريحاً فيه. والثاني: القائلون بأن الإحصار المطلق الحبس، سواءٌ كان مرضٌ أو عدوٌّ؛ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كُسِرَ أَوْ عَرجَ، فَقَدْ حَلَّ، وعليه الحَجُّ مِنْ قَابِل» قال عكرمة: فسألتُ ابن عباسٍ، وأبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن ذلك؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 فقالا: صَدَق. فدلَّ ظاهر الآية، والحديث عليه أيضاً. وعلى القول الثَّالث: فهو أنَّ الإحصار اسمٌ لمنع العدوِّ، فنقول: هذا باطلٌ باتفاق أهل اللغة، وبتقدير ثبوته، يقيس المرض على العدوِّ بجامع دفع الحرج، وهو قياسٌ جَلِيٌّ ظاهرٌ. وأمّا بتقدير مذهب ابن عباس، وابن عمر، وابن الزبير، فلا شكَّ أنَّ قولهم أقوى؛ لتقدمهم على هؤلاء الأدباء، في معرفة اللغة، ومعرفة تفسير القرآن. والحديث ضعيف، ويمكن تأويله بأنَّه إنّما يحل بالكسر، والعرج، إذا كان مشروطاً في عقد الإحرام. كما روي: أنَّ ضباعة بنت الزبير كانت وجعةً؛ فقال لها النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف، وكرَّم، وبجَّل، وعظَّم: «حِجّي واشْتَرِطي، وَقُولي اللَّهُمَّ مَحَلِّي حَيْثُ حَبَسْتَني» ويؤكد هذا القول وجوهٌ: أحدها: أنَّ الإحصار: إفعالٌ من الحصر، والإفعال تارةً يجيء بمعنى التعدية، نحو: ذهب زَيْدٌ، وأذْهَبْتُه انا، ويجيءُ بمعنى: صار ذا كذا؛ نحو: أَغَدَّ البعيرُ، أي: صار ذا غُدَّةٍ، وأجبر الرجل، إذا صار ذا إبل جربى، ويجيء بمعنى: وجدته بصفة كذا؛ نوحو: أَحْمدْتُ الرجل، أي وجدته محموداً. والغحصار لا يمكن أن يكون للتعدية؛ فوجب إمَّا حمله على الصيرورة، أو على الوجدان، والمعنى أنَّهم صاروا محصورين ووجدوا محصورين. واتفق أهل اللُّغة على أنَّ المحصور هو الممنوع بالعدو، لا بالمرض، فوجب أن يكون معنى الإحصار: هو أنهم صاروا ممنوعين بالعدوِّ، وذلك يؤكِّد ما قاله الشافعيُّ. وثانيها: أنَّ الحصر عبارة عن المنع، وإنما يقال للإنسان: أنَّه ممنوعٌ من فعله، ومحبوسٌ عن مراده؛ غذا كان الغي هو فاعل ذلك المنع والحبس. فالحصر: عبارة عن الكيفية الحاصلة عند اعتدال المزاج، وسلامة الأعضاء، وذلك مفقودٌ في حقّ المريض؛ لأنَّه غير قادر على الفعل ألبتة؛ فلا يحكم عليه بأنه ممنوع، لأن إحالة الحكم على المانع تستدعي حصول المقتضي. أمَّا إذا كان ممنوعاً بالعدو، - فها هنا - القدرة حاصلة إلاَّ أنه تعذْر الفعل؛ لأجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 مدافعة العدوِّ فصح ها هنا أن يقال: إنه ممنوعٌ من الفعل؛ فوجب أن يكون الإحصار حقيقة في العدو، لا في المرض. وثالثها: أن قوله: «أُحْصِرْتُمْ» أي: حبستم ومنعتم، والحبس لا بدَّ له من حابسٍ، والمنع لا بدَّ له من مانعٍ؛ لأنَّ الحبس، والمنع فعلٌ، وإضافة الفعل إلى المرض محالٌ عقلاً، لأن المرض عرضٌ لا يبقى زمانين، فكيف يكون فاعلاً، وحابساً، ومانعاً. وأمَّا وصف العدوِّ بأنه حابسٌ، ومانعٌ؛ فهو وصفٌ حقيقيٌّ، وحمل الكلام على الحقيقة، أولى من حمله على المجاز. ورابعها: أنَّ الإحصار مشتقٌ من الحصر، ولفظ الحصر لا إشعار فيه بالمرض؛ فوجب أن يكون خالياً عن المرض قياساً على جميع الألفاظ المشتقة. وخامسها: أنَّه تعالى قال بعده: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ} فعطل عليه المرض، فلو كان المحصر، هو المرض، أو من يكون المرض داخلاً فيه، لكان عطفاً للشيء على نفسه. فإن قيل: إنما خصَّ المريض بالذكر؛ لأنَّ له حكماً خاصاً، وهو حلق الرأس، فصار تقدير الآية الكريمة: إن منعتم بمرض، تحللتم بدمٍ، وإن تأذَّى رأسكم بمرض، حلقتم، وكفَّرتم. قلنا: هذا وإن كان حسناً لهذا الغرض، إلاَّ أنه مع ذلك يلزم منه عطف الشيء على نفسه، وحمل المحصر على غير المريض يوجب خلوَّ الكلام عن هذا الاستدلال، فكان أولى. وسادسها: قوله تعالى: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج} ولفظ الأمن إنما يستعمل في الخوف من العدوِّ، لا في المرض، فإنَّه يقال في المرض: شُفِي، وعُفِيَ ولا يقال أمِنَ. فإن قيل: لا نسلِّم أنَّ لفظ الأمن لا يستعمل إلاَّ في الخوف، فإنه يقال: أمن المرض من الهلاك، وأيضاً خصوص آخر الآية لا يقدح في عموم أوَّلها. قلنا: لفظ الأمن إذا كان مطلقاً غير مقيَّد، فإنَّه لا يفيد إلاَّ الأمن من العدوِّ. وقوله: خصوص آخر الآية الكريمة لا يقدح في عموم أوَّلها. قلنا: بل يوجب؛ لأن قوله: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} ليس فيه بيان أنَّه حصل الأمن عن ماذا، فلا بدَّ وأن يكون المراد حصول الأمن عن شيءٍ تقدَّم ذكره، وليس إلاَّ الإحصار، فكان التقدير: فإذا أمنتم من ذلك الإحصار. وإذا ثبت أنَّ لفظ الأمن لا يطلق إلاَّ في العدوّ، وجب أن يكون المراد من هذا الإحصار، منع العدوِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 وسابعها: إجماع المفسرين على أن سبب نزول هذه الآية الكريمة، أن الكفَّار أحصروا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالحديبية، واختلف العلماء في الآية النازلة في سببه؛ هل تتناول غير ذلك السبب؟ إلاّ أنهم اتفقوا على أنَّه لا يجوز أن يكون ذلك السبب خارجاً عنه، فكان الإحصار في هذه الآية الكريمة عبارة عن العدوِّ، وأمّا قياس منع المرض عليه، فلا يمكن لوجهين: الاول: أنَّ كلمة «إِنْ» شرطٌ، وحكم الشرط انتفاء المشروط عند انتفائه ظاهراً، فيقتضي ألاَّ يثبت الحكم إلاَّ في الإحصار الذي دلَّت الآية عليه، فلو أثبتنا هذا الحكم في غيره قياساً، كان ذلك نسخاً للنصِّ بالقياس، وهو غير جائز. الثاني: أنَّ الإحرام شرعٌ الزمٌن لا يحتمل النسخ قصداً؛ ألا ترى أنَّه لو جامع، فسد حجُّه ولم يخرج من الإحرام؛ وكذا لو فاته الحجُّ حتى لزمه القضاء، والمريض ليس كالعدوّ؛ لأن المريض لا يستفيد بتحلّله ورجوعه أمناً من مرضه، وأمَّا المحصر بالعدو، فإنّه خائفٌ من القتل إذا أقام، فإذا رجع، فقد أمن، وتخلص من خوف القتل، والله أعلم. فصل قال القرطبيُّ: «الحَاصِرُ لاَ يَخْلُوا مِنْ أَنْ يكونَ كَافِراً أَوْ مُسْلِمَاً، فإن كان كافراً، لم يَجُزْ قِتَالُه، ولو وثق بالظهور عليه، ويتحلل بموْضِعه؛ قوله تعالى: {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام} [البقرة: 191] ولو سأل الكافر جعلاً، لم يجز؛ لأن ذلك وهن في الإسلام، وإن كان مسلماً لم يجز قتاله بحال، ووجب التحلل، فإن طلب جعلاً ويتخلّى عن الطريق، جاز دفعه، ولم يجز القتال؛ لما فيه من إتلاف المهج، وذلك لا يلزم في أداء العبادات، فإنّ الدِّين أسمح، وأمّا بذل الجعل، فلما فيه من دفع أعظم الضَّررين بالأسهل منهما: ولأن الحجَّ ممَّا ينفق فيه المال، فيعدُّ هذا من النَّفقة» . فصل العدوُّ الحاصر: لا يخلو إمّا أن يتيقَّن بقاؤه، واستيطانه، لقوته وكثرته، أولا، فإن كان الأول، حلَّ المحصر مكانه من ساعته، وإن كان الثاني، فهو مما يرجى زواله، فهذا لا يكون محصوراً؛ حتى يبقى بينه وبين الحج مقدار ما يعلم أنَّه إن زال العدو، لا يدرك الحج؛ فيحلّ حينئذٍ. وقال أشهب: من حصر عن الحج بعدو، فلا يقطع التَّلبية، حتى يروح الناس إلى عرفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 فصل في الإحصار الإحصار: إنما يكون عن البيت، أو عن عرفة. فأمَّا عن الواجبات التي تجبر بالدم كالرَّمي والمبيت بمزدلفة،، ونحوها، فلا إحصار فيها؛ لأن المحرم يتمكن من إتمام حجَّه بجبرها بالدَّم، وإذا إحصر عن طريق، وله طريق غيرها، يتمكَّن في الوصل إلى مكَّة، ويدرك الحجَّ من غير زيادةٍ في النفقة، أو ميرة لا تجحف بهن فليس بمحصر، إذا كانت تلك الطُّرق أمناً، [فإن لم تكن أمناً] ، أو كانت زيادة النَّفقة تجحف بماله. فهو محصر فصل في قضاء المحصر إذا أُحصر، فلا قضاء عليه بالإحصار؛ لأنه إن كان محرماً بحجّ الفرض، أو النَّذر، وكان ذلك في العام الذي وجب عليه الحجُّ فيه، لم يجب القضاء؛ لأن شروط وجوب الحجِّ لم تكمل؛ لوجود الإحصار، وإن كان ذلك في العام الثاني: وجب عليه الحجُّ للوجوب السَّابق، لا للإحصار؛ وإن كان الحجُّ تطوُّعا، فلا قضاء؛ لأنَّه لم يجب عليه ابتداءً. قوله: {فَمَا استيسر} ، «مَا» موصولة، بمعنى: الذي، ويضعف جعلها نكرة موصوفة، وفيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنَّها في محل نصب، أي: فليُهدِ، أو فلينحر، وهذا مذهب ثعلب. والثاني: ويعزى للأخفش: أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره: فعليه ما استيسر. والثالث: أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالواجب ما استيسر، واستيسر هنا بمعنى يسر المجرّد كصعب، واستصعب، وغني واستغنى، ويجوز أن يكون بمعنى: تفعَّل نحو: تَكَبَّر واسْتَكْبَرَ، وتعظَّم واسْتَعْظَمَ، وقد تقدَّم ذلك. قوله: «مِنَ الهَدْي» فيه وجهان: أحدهما: أن تكون «مِنْ» تبعيضية، ويكون محلها النَّصب على الحال من الضَّمير المستتر في «اسْتَيْسَر» العائد على «مَا» ، أي: حال كونه بعض الهدي. والثاني: أن تكون «مِنْ» لبيان الجنس، فتتعلق بمحذوف أيضا. وَفي الهَدْي قولان: أحدهما: أنه. جَمْعَ هَدْيَةَ كَجَدْي جمع جَدْيَةِ السَّرْج. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 والثاني: أن يكُون مصدراً واقعاً موقع المَفْعُول، أي: المُهْدَى، ولذلك يقعُ للأفرادِ والجَمْعِ. قال أبو عَمْر بنُ العلاء: لا أعْرف لهذه اللَّفْظَةِ نَظِيراً. وقرأ مُجاهد والزُّهريُّ: «الهَديُّ» بتشديد اليَاء، وفيها وجهان: أحدهما: أن يَكُون جمع هَدِيَّة كمطيَّة ومطايا وركيَّة ورَكايا. قال أحمدُ بنُ يحيى: أهلُ الحِجَاز يُخَفِفُون «الهَدْي» ، وتميم يثقِّلُونَهُ؛ قال الشَّاعر: [الوافر] 982 - حَلَفْتُ بِرَبِّ مَكَّةَ وَالْمُصَلَّى ... وَأَعْنَاقِ الهَدِيِّ مُقَلَّدَاتِ وَيُقالُ في جمع الهَدْي: «أَهْدَاءُ» . والثاني: أنْ يكون فعيلاً بمعنى مَفْعُولٍ، نحو: قتيلٍ بمعنى: مَقْتُول. فصل قال القَفَّال: في الآية الكريمة إِضْمَارٌ، والتَّقدير: فَتَحَلَّلْتُم فما استيسر، وهو كقوله {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة: 184] أي: فَأَفْطَرَ فِعِدَّة، وفيها إضمارٌ آخر، هو ما تَقَدَّم، أي: فَلْيَهْدِ أو فلينحر ما اسْتَيْسَرَ، فالواجِبُ ما استيسر، ومعنى الهَدي: ما يهدى إلى بيت الله، عزَّ وجلَّ، تقرباً إليه بمنزلة الهَديَّة. قال عليٌّ وابنُ عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - والحسنُ وقتادة: أعلاه بدنه، وأوسطه بقرةٌ، وأخسه شاةٌ، فعليه ما تيسر من هذه الأجناس. فصل إذا عدم المُحْصَرَ الهَدْي، هل ينتقل إلى البَدَل؟ فيه خلافٌ قال أبو حنيفة: لا بَدَلَ لَهُ، ويكونُ الهَدْيُ في ذمِته أبداً؛ لأنه تعالى أوجَبَ على المحصرِ الهَدْيَ على التَّعْيين، ولم يثبت له بَدَلاً. وقال أحمدُ: له بدلٌ؛ فعلى الأوَّل: هل له أنْ يَتَحلَّلَ في الحالِ، أو يقيم على إحرامه؟ فقال أبو حنيفة: يقيمُ على إحرامه؛ حتى يجدهُ للآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 وقال غيرهُ: له أَنْ يَتَحلَّل في الحال للمشقَّة، وهؤلاء قالُوا يقوِّم الهدي بالدَّرَاهِمِ، ويشتري بها طعاماً، ويُؤدِّي؛ لأنَّهُ أقربُ إلى الهَدْي، وفيه اختلافاتٌ كثيرةٌ، ثم المُحْصَرُ إِنْ كانَ إجرامه بفرضٍ، قد استقرَّ عليه، فذلك الفَرْضُ في ذِمَّتِه، وإن كان حَجّ تَطَوُّعٍ، هل عليه القَضَاءُ؟! فيه خلاف: فذهب جماعةٌ إلى أَّنَّه لا قَضَاء عليه، وهو قَوْلُ مالكٍ، والشَّافعي، وقال مجاهدٌ والشَّعبي والنَّخعيُّ، وأصحابُ الرَّأي: عليه القَضَاءُ. قال القُرطبيُّ: قال مالكٌ وأصحابُهُ: لا يَمْنَعُ المُحرم الاشتراطُ في الحَجِّ، إذا خاف الحَصْر بمرضٍ، أو عَدُوٍّ، وهو قول الثَّورِيِّ، وأبي حنيفة، وأصحابه - رَحِمَهُ اللَّهُ - والاشتراط أنْ يَقُولَ في إحرامه، إنْ حَبَسَنِي حابِسٌ فمحَلِّي حيثُ حَبَسَني. وقال أَحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور لا بأس أنْ يَشْتَرِطَ، وله شَرْطُهُ، وهو قولُ جماعةً من الصَّحَابة والتابعين، واحتجُّوا بقوله عليه السَّلام لِضُباعَة حين سألتهُ عن كيفيَّة الإحرام فقال: «قُولِي: محلِّي حَيْث حَبَسْتَنِي» فصل اختلَفُوا في العُمْرة، فأكثر الفُقَهاءِ قالوا: حُكْمُهَا في الإحْصار كَحُكُم الحَجِّ، وعن ابن سيرين أَنَّهُ لا إحصار فيها؛ لأَنَّهَا غير مؤقّتة، ويرده قوله تعالى: {فإِنْ أُحْصِرْتُمْ} عَقِيبَ ذكر الحَجِّ والعُمْرَةِ، فيكونُ عَائِداً إليهما. فصل إذا أراد المحصر التحلّل وذبح، وجب أن يَنْوِيَ التَّحلل عند الذَّبْحِ، ولا يَتَحَلَّل أَلْبَتَّةَ قبل الذَّبْحِ. قوله: {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} في الآية حَذْفٌ؛ لأنَّ الرَّجُلَ لا يَتَحَلَّلُ ببلوغ الهَدْي مَحِلَّه، حتى يَنْحَر؛ فتقدير الآية الكريمة: حتَّى يَبْلُغَ الهَدْي مَحِلَّه، فينحر فإذا نَحَرض فاحلقوا و «مَحِلَّه» يجوز أَنْ يكونَ ظرفَ مَكَانٍ، أو زمانٍ، ولم يُقْرأ إلاَّ بِكَسر الحاءِ فيما علمنا إلاَّ أّنَّهُ يَجُوزُ لغةً فتحُ حائِه، إذا كانَ مكاناً. وفَرَّق الكسائيّ بينهما، فقال: «المَكْسُورُ هو الإحْلاَلُ من الإحْرَامِ، والمفتوحُ هو مَكَانُ الحُلُولِ من الإِحصار» . فصل قال أبو حنيفة: لا يَجُوزُ إِراقَهُ دم الإحصار إلاَّ في الحرم وقال أحمدُ والشَّافعيُّ - رحمهما اللَّهُ - حيث حبس والخلافُ مبنيٌّ على البَحْثِ في المَحَلِّ؛ فقال أبو حنيفة: هو اسمٌ للمكان. وقال غيره: هو اسمٌ للزَّمانِ الذي حصل فيه الحل. وحجّتهم وجوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 منها: أنَّه - عليه السَّلامُ - أحصر بالحُديبيةِ ونحر فيها، وليست من الحَرَمِ. قال أصحابُ أبى حنيفة: إِنَّما أحصر فى طرف الحثدَيبية، الّذى أسفل مَكَّةَ، وهو من الحَرَمِ. قال الوَاقِدِيُّ: الحديبيةُ على طرف مكَّةَ على تِسْعَةِ أَمْيِالِ من مكَّةَ. قال القَفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الدَّليل على [أنَّ نحر ذلك الهدي ما وقع فى الحرم قوله تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] . ومنها: أَّنَّ المحصَر سواء كان فى المحلّ، أو الحرم، فهو مأمورٌ بنحر الهدي بقوله: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي} ، فأوجب على المُحْصَرِ، سواء كان فى الحلّ أو الحرمِ، وإذا ثَبَتَ ذلك؛ وَجَبَ أن يجوز له الذَّبحُ، حيث كَانَ قادراً على إراقة الدَّمِ. ومنها: أنَّه تعالى إنَّما مكن المحصر من التَّحلل بالذَّبح؛ ليتمكن من تخليص نفسه فى الحال عند خَوْفِ العدوِّ، فلم يَجُزِ النَّحْرُ إلاَّ فى الحرم وَمَا لم يحصلُ النَّحر لا يحصل له التَّحلل فى الحالِ، وذلك يُنَاقِضُ المَقْصُودَ من مشروعيّة هذا الحكم؛ لأن الموصل، للنَّحر إلى الحرم، إن كان هو فالْخَوْفُ، باقٍ، وكيفَ يؤمر بهذا الفعل مع قيام الخَوْفِ، وإن كَانَ غيره، فقد لا يَجِدُ ذلك الغَيْرَ، فماذا يفعل؟ حجَّةُ أبى حنيفة وجوه: الأَوَّل: أَنَّ المحِلَّ - بكسر الحاء - عبارة عن المكان كالمسجدِ والمَجْلِس، فقوله {حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} يَدُلُّ على أَنَّهُ غير بالغٍ فى الحَالِ إلى مكان الحِلِّ، وهو عندكم بَالِغٌ مَحَلَّهُ فى الحال. وجوابه: أنَّ المحلَّ عبارة عن الزَّمان كمحل الدّين. الثَّاني: أن لفظ «المَحِلّ» يحتمل الزَّمانَ والمَكَانَ إلاَّ أن الله - تعالى - أَزَلَ هذا الاحتمال بقوله: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 23] . وجوابه بأَنَّ كُلَّ ما وجب على المحرم فى ماله من بَدنَةٍ، وجزاء هَدْي، فَلاَ يُجْزِي إلاَّ فى الحَرَمِ لمساكين أهْلِهِ إلاَّ فى مَوْضعَين: أحدهما: مَنْ سَاقَ هَدْياً، فعطب فى طريقه ذبحه، وخلَّى بين المَسَاكِين وَبَيْنَه. والثَّاني: دم المُحْصَرِ بالعَدُوِّ فينحر حيثُ حبس، فالأَدِلَّةُ المذكورةُ فى باقي الدّماءِ فلم قلتم إِنَّها تَتَنَاوَلُ هذه الصَّورَةَ؟ الثَّالث: قالوا إِنَّما سُمِّيَ هَدْياً؛ لأنه جارٍ مَجْرَى الهَدِيَّةِ التى يَبْعَثُهَا العَبْدُ إلى رَبِّهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 والهديّةُ لا تكونُ هَدِيَّةً إلاَّ إذا بَعَثَها المهَدي إلى دَارِ المهدى إليه، وهذا المعنى لا يُتَصَّورُ إلاَّ بجعلِ موضعِ الهَدْي هو الحَرَمُ. وجوابه: هذا تَمَسُّكٌ بالاسم، ثم هُوَ مَحْمُولٌ على الأصلِ عند القُدْرَة. الرابع: أَنَّ سَائِر دماء الحَجّ سواء كانت قربة، أو كَفَّارة، لا تَصِحُ إلاَّ فى الحرم، فكذا هذا. وجوابُهُ أنَّ هذا الدَّم إِنَّما وَجَبَ لإزالة الخَوْفِ، وزوال الخوف إِنْما يَحْصُلُ إذا قدر عليه حَيْثُ أُحصر، فلو وَجَبَ إِرْسَالَه إلى الحرم، لم يحصل هذا المَقْصُود، وهذا المَعْنَى غير موجود فى سائِرِ الدِّمَاءِ، فَظَهَر الفَرْقُ. والقَائِلُونَ بأَنَّ مَحلَّه الحَرَم قالوا: إن كان المُحْصَر حَاجّاً، فمحله يوم النَّحْرِ، وإِنْ كَانَ معتمراً، فمحله يَوم يبلغ هديه الحرم. قوله {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً} [البقرة: 196] . فى «مِنْكُمْ» وجهان: أحدهُما: أن يَكُونَ فى مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال من «مَرِيضاً» ؛ لأنه فى الأصل صفةٌ لهن فلمَّا قُدِّم عليه انتَصَبَ حالاً. وتَكُونَ «مِنْ» تبعيضيةٌ، أي: فَمَنْ كانَ مريضاً منكم. والثَّاني: أجازه أبو البقاء أن يكونَ متعلِّقاً بمريضاً. قال أبو حيان: «وهو لا يَكَادُ يُعْقَلُ» . و «مَنْ» يَجُوزُ أنْ تكونَ شرطيةً، وأَنْ تكونَ موصولةً. قوله: {أَوْ بِهِ أَذًى} يجوزُ أَنْ يكُونَ هذا مِنْ بابِ عَطْفِ المُفْرَدَاتِ، وأن يَكُونَ من باب عَطْفِ الجُمَلِ. أما الأولُ، فيكونُ الجَارُّ وَالمجرورُ فى قوله: «به» معطوفاً على «مريضاً» الّذي هو خبرُ كانَن فَيَكُونُ فى مَحَلِّ نَصْبٍ. ويكونُ «أذىً» مرفوعاً به على سبيل الفَاعِلِيِّة؛ لأَنَّ إِذَا اعْتمد رَفَع الفاعل عند الكُلَ فيصيرُ التقديرُ: فَمَنْ كان كائناً به أَذىً من رَأْسِهِ. وأما الثاَّاني فَيَكُونُ «به» خبراً مقدَّماً، ومحلُّه على هذا رَفْعٌ، وفى الوجهِ الأَوَّلِ كان نصباً، و «أذىً» مبتدأٌ مؤخَّر، وَتَكُونُ هذه فى مَحَلِّ نَصْبٍ؛ لأنَّها عَطفٌ على «مَريضاً» الواقع خبراً لكَان، فهى وإنْ كانَتْ جُمْلَةً لفظاً، فهي فى مَحَلِّ مُفْرَدٍ؛ إذ المَعْطُوفُ على المَفْرَدِ مفردٌ، لا يُقَالُ: إنه عَادَ إلى عَطْفٍ المُفْرَدَاتِ، فيتَّحِدُ الوجهانِ لوضوحِ الفَرق. وأجازوا أن يَكُونَ «أَذىً» مَعْطُوفاً على إِضْمارِ «كان» لدلالةِ «كانَ» الأولى عليها، وفى اسْمِ «كَانَ» المَحْذُوفَةِ حينئذٍ احْتِمَالانَ. أحدهما: أن يَكُونَ ضميرَ «مَنْ» المتقدِّمَةِ، فيَكُونُ «به» خبراً مقدماً، و «أذى» مبتدأ مؤخراً، والجُمْلَةُ فى مَحَلِّ نَصْبٍ خبراً لكان المضمرةِ. والثَّاني: أن يكونَ «أَذىً» اسمها و «به» خبرَها، قُدِّم على اسمها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 وأجَازَ أَبُو البَقَاءِ أن يَكُونَ «أَوْ بِهِ أَذَىً» معطوفاً على «كَانَ» ، وأَعْرَب «به» خبراً مقدّماً متعلِّقاً بالاستقرار، و «أَذىً» مبتدأ مُوَخَراً، والهاءُ فى «بِهِ» عائدةٌ على «مَنْ» . وخَطَّأَهُ أبو حيان فيه، قال: لأَنَّهُ كَانَ قد قَدَّمَ أن «مَنْ» شَرْطيةٌ، وعلى هذا التَّقْدِيرِ يَكُونُ خطأن لأَنَّ المَعْطُوف على جُمْلةِ الشَّرْطِ شَرْطٌ، والجُمْلَةُ الشَّرْطيةُ لا تَكُونُ إلا فِعْلِيَّةً، وهذه كما ترى جملةٌ اسْميّةٌ على ما قَرَّرَهُ. فَكَيْفَ تَكُونُ معطوفة على جملةٍ الشَّرطِ التِي يَجِبُ أن تكونَ فعليةً؟ فإنْ قيل: فإذا جَعَلْنَا «مَنْ» موصولةٌ، فهل يَصِحُّ ما قاله من كَوْنِ «بِهِ أَذىً» معطوفاً على «كَانَ» ؟ فالجَوَابُ أنه لا يَصِحُّ أيضاً؛ لأنَّ «مَنْ» الموصولةَ إذا ضُمِّنَتْ معنى اسْم الشَّرْطِ لزِمَ أن تكونَ صلتُها جُمْلَةً فِعْليةً، أو ما هي فى قُوَّتِهَا، وَالبَاءُ فى «به» يجوزُ فيها وجهَان. أحدُهما: أن تَكُونَ للإلصاق. والثاني: ان تكونَ ظرفيةً. والأذى مَصدر بمعنى الإيذاءِ، وهو الأَلَمُ يُقالُ آذاه يُؤْذِيه إيذَاءً وأذى، فكان الأَذَى مصدر على حذف الزَّوائد، أو اسم مصدر كالعَطَاءِ اسم للإِعْطاءِ، والنَّبَاتِ للإِنْبَاتِ. قال ابنُ عَبَّاسِ - رضي اللَّهُ عنهما «فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رأْسِهِ» أي برأسه قروح، {أَوْ بِهِ أَذًى} ، أي: قَمْلٌ «. قولُهُ:» مِنْ رَأْسِهِ «فى وجهان. أحدهما: أنَّه فى مَحَلِّ رَفْع؛ لأنَّهُ صِفَةٌ لأَذَى، أي: أذى كَائنٌ من رَأْسِهِ. واثَّاني: أَنْ يَتَعَلَّق بما يَتَعلَّقُ» بِهِ «من الاستقرارِ، وعلى كلا التَّقْدِيرَين تكُونُ» مِنْ «لابتداءِ الغَايَةِ. قوله:» فَفِدْيَةٌ «فى رفعها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أن تكُونُ مُبْتَدَأً والخبرُ مَحْذُوفٌ، أي: فعليه فِدْيَةٌ. والثَّاني: أن تَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدأ محذوف، أي: فالواجبُ عليه فِدْيَةٌ. والثَّالث: أن تكُونَ فاعل فعلٍ مقدَّر، أي فَتَجِبُ عليه فديةٌ. وقُرئ شَاذَاً:» فَفِدْيَةً «نصباً، وهي على إضْمَار فعل، أي: فَلْيَفْدِ فديةً. و» مِنْ صِيَام «فى مَحَلِّ رفعٍ، أو نَصْبٍ على حسب القِرَاءَتَيْن صفةً ل» فِدْيَة «، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و» أو «للتَّخيير، ولا بُدَّ مِنْ حَذْفِ فعلٍ قبلَ الفَاءِ تقديرهُ: فَحَلَقَ فَفِدْيَة. وقرأ الحَسَنُ والزُّهريُّ «نُسْك» بسكون السِّينِ، وهو تخفيفُ المضموم. وفى النَّسُك قولان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 أحدهما: أَنَّهُ مَصْدَرٌ يُقَالُ: نَسَكَ ينسُك نُسْكاً ونُسُكاً بالضَّمِّ والإِسكان، كما قرأهُ الحَسَنُ. والثَّاني: أنه جَمْعُ نَسِيكة، قال ابنُ الأَعْرَابيّ: «النَّسيكَةُ فى الأَصْلِ سَبيكة الفِضَّةِ، وتُسَمَى العبادةُ بها؛ لأَنَّ العِبَادَة مُشْبهةٌ سبيكة الفِضَّة فى صَفَائِهَا وخُلوصِها من الآثام ويُقَالُ للمتعبد» نَاسِكٌ «، لأَنَّهُ يُخلص نفسه من الآثام وصغارِها كالسَّبِيكةِ المخلَصة من الخَبَثِ وقيل للذَّبيحة» نَسيكة «لذلك لأنها أشرف العبادات التى يُتَقرَّبُ بها إلى اللَّهِ تعالى. فصل في سبب نزول الآية قال ابنُ عبَّاس: نزلت هذه الآية الكريمة فى كَعْب بنِ عجزة،» قال كعبٌ: مَرّبي رَسُولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - زمن الحُدَيْبَةِ، وكان شعر رأسي كثير القَمْلِ والصَّئبان، وهو يتناثرُ وَأنَا أطيح، فرآني فَقَال - عليه السَّلامُ -: «أَتُؤْذِيك هَوَامٌّ رَأْسِكَ» قُلْتُ: نعم يا رَسُول اللَّهِ، قال: «احْلِقْ رَأْسَكَ» ، فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية الكريمة. والمقصود منها أَنَّ المحرم إِذَا تَأَذَّى بالمرض، أو بهوامّ رأسه؛ أُبيح له المُدَاوَةُ في الحَلْقِ بِشَرْطِ الفِدْيَةِ، وهو على التَّخْيير بينَ أن يذبح، أو يَصُومَ، أو يَتَصَدَّق، فَأَقَلّ النُّسُكِ شَاةٌ، وَأَوْسَطُهُ بَقَرَةٌ، وأعلاه بَدَنَةٌ. وأمَّا الصِّيامُ، فليس فى الآية كمِّيته، وفيه قولان: أحدهما: أنَّه ثَلاَثَةُ أَيَّام؛ لما رَوَى أَبو دَاودَ أنَّه - عليه السَّلامُ - «لمّا مرَّ بكعب بنِ عجْرة، وَرَأَى كثرةَ هَوَامّ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: احْلِقْ، ثُمَّ اذْبَحْ شَاةٌ نُسُكاً، أَو صُم ثَلاَثَةَ أَيَّامِ أَوِ أَطْعِم ثَلاَثَة آصعِ مِنْ تَمْرٍ على سِتَّة مساكِينَ» والثَّاني: قال ابنُ عبّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - والحَسَنُ: الصِّيام كصيام المتمع عَشْرَة أَيَّامٍ، والإطعام مِثْلُ ذلك فى العَدَدِ؛ لأَنَّ الصِّيَامَ والإطعام لمّا كان مُجْمَلَيْنِ فى هَذَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 المَوْضِعِ؛ وَجب حَمْلُهُ على المبيَّنِ فيما جاء بعد ذلك، وهو الَّذي يلزمُ المتمتِّعَ إذا لم يجد الهدي. فصل اختلفوا: هَلْ يقدّم الفدية ثمّ يترخّص، أو يُؤَخِّر الفدِية عن الترخّص، والّضي يقتضيه ظاهر الآية الكريمة؛ أنَّهُ يؤخر الفِدْيَةَ عن الترخص، لأن الإقْدَامَ على التّرخص كالعِلَّة فى وُجُوبِ الفِدْيَة، فكان مُقَدَّماً عليه، وأيضاً فقد بينَّا أنَّ تقدير الآية الكريمة: فَحَلَقَ فعليه فِدْيةٌ. فصل قال بَعْضُهُم هذه الآية الكريمة مختصّة بالحَصْرِ؛ وذلك إِنْ قيل أي بلوغ الهَدْي محلَّه، ربما لحقه مرض، وأذى فى رأْسِهِ، فأذن الله تعالى له فى إِزَالَة ذلك المُؤْذِي بشرط أن يَفْدِي. وقال آخرون: بل الكَلاَمُ مستأنفٌ فى كُلِّ محرم لحقه مرض، أو أذى فى رَأْسِهِ، فاحْتَاج إلى العلاج والحلق، فبيَّن اللَّهُ تعالى أّنَّ لهُ ذلك، وبين ما يجبُ عليه من الفِدْية، وقد يَكُونُ المَرَضُ محوجاً إلى اللِّبَاسِ، من شدَّة البَرْدِ أو غيره، وقد يحتاج فى الأَمْرَاضِ إلى استِعْمَالِ الطّيب كثيراً، وبالجملة فهذا الحُكمُ عامٌّ فى جميع مَحظورات الإِحْرامِ. فصل فَأَمّا من حق رأسه عامِداً من غير عُذْرٍ، فقال أبو حنيفة والشَّافعيُّ يجب عليه الدَّمُ. وقال مالكٌ: حكمه حكم من فعل ذلك بعذر؛ لأَنَّ وجوبه على المَعْذُور تنبيه على وجوبه على غير المَعْذُورِ. وقال ابنُ الخطيب: هذا ضَعيفٌ؛ لأَنَّ قوله: «فَمَنْ كَانَ منْكُمْ مَريضاً أَوْ بِهِ أَذَى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ» يدل على اشْتِراط هذا الحُكْم بهذه الأَعذارِ، والمَشْرُوط بالشيء عدم عند عدم الشَّرْط. قوله: «» الفاءُ عَاطفةٌ على ما تَقَدَّم، و «إِذَا» مَنْصُوبَةٌ بالاستقرار المحذوفِ؛ لأنَّ التَّقْدِير: فعليه ما اسْتَيْسَرَ، أي: فاستقرَّ عليه ما اسْتَيْسَرَ «. وقوله:» فَمَنْ تَمَتَّعَ «الفاءُ جوابُ الشَّرْطِ بإذا، والفَاءُ فى قوله: {فَمَا استيسر} جوابُ الشَّرط والثاني. ولا نَعْلَمُ خلافاً أَنَّهُ يَقَعُ الشَّرْطكُ وجوابُهُ جواباً لشرطٍ آخرَ مع الفاءِ. وقد تَقَدَّم الكَلاَمُ على {فَمَا اسْتَيْسَرَ} . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 فصل تقدير الكَلاَمِ، فإذا أمنتم الإحصار الخَوْفِ أو المرض، {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج} واختلفوا فى هذه المُتْعَةِ: فقال عَبدُ اللَّهِ بنُ الزُّبير: معناه فمن أُحْصِرَ حَتّى فَاتَهُ الحَجُّ، ولم يَتَحَلَّل، فَقَدِمَّ مَكَّةَ، فخرج من إِحرامهِ بعَمَلِ عُمرة، أَو اسْتَمْتَعَ بإِحْلاَلِهِ ذلك بتلك العمرة إلى السَّنَةِ المقبلة، ثم حَجَّ فيَكُونُ متمتعاً بذلك الإحلال إلى إِحْرَامِهِ الثَّانِي فى العَام القَابِلِ، وقيل معناه: فإذا أمنتم، وقد حَلَلْتُم من إحرامِكُم بعد الإحصارِ، ولم تقضوا عمرتكم، وأخرتم العُمرَةَ إلى السَّنَةِ القَابِلة، فاعْتَمَرتُم فى ما اسْتَيْسَرَ من الهَدْي، وهو قول علْقَمَة، وإبراهيم النَّخعيِّ، وسعيد بن جبير. ومعنى التَّمَتُّع: التَّلَذُّذ، يقالُ تمتَّعَ بالشَّيءِ، أي: تَلَذَّذَ به، والمتاع: كُلُّ شَيءٍ يُتمتع به، وأصلُهُ من قولهم:» حَبْلٌ ماتِعٌ «أي: طويلٌ، وكل ما طالت صحبته بالشَّيء، فهو مُتَمتِّعٌ به، والتمتع بالعمرة إلى الحَجّ هو أن يَقدُم مكَّة مُعْتمِراً فى أشهرِ الحجِّ وينزع منها، ثم يقيمُ بمكَّةَ حلالاً، حتَّى يُنشىء منها الحَجَّ من عَامِهِ ذلك، وإنَّما سُمِّي متمتعاً لأنَّهُ يكُونُ مستمتعاً بمحظورات الحج فيما بين تحلله من العمرة إلى إحرامِهِ بالحَجِّ، وهذا التمتع الَّذي ليس بمكروهٍ، بل هو الأفضلُ عند أحمد، وإتمامِ التَّمتُّع المكروه، وهو الَّذي خطب به عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقال:» مُتْعَتَانِ كَانَتَا على عهد رَسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأنا أنهى عنهما، وأُعاقِبُ عليهما، مُتْعَةُ النِّسَاءِ، ومتعة الحَجِّ «، والمراد بهذه المتعة أن يجمع بين الإحرامين، ثُمَّ يفسخ الحجَّ إلى العمرة، ويتمتَّعُ بها إلى الحَجِّ، روي أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَذن لأصحابه فى ذلك ثُمَّ نسخ. روي عن أبي ذَرِّ أنَّه قال: ما كانت متعة الحج إلاّ لي خاصة، وكان السَّبَبُ فيه أنَّهم كانُوا لا يَرَونَ العُمرةَ فى أشهر الحَجِّ، ويعدُّونَهَا مِنْ أَفْجَرِ الفجُور، فلما أراد - عليه السَّلام - إبطال ذلك الاعتقاد عليهم بالغ فيه، بأنْ نقلهم فى أشهرِ الحَجِّ من الحَجِّ إلى العُمرَةِ، وهذا سَبَبٌ لا يشاركهم فيه غيرهم، فلهذا المعنى كان فسخ الحَجِّ خاصّاً بهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 قال القُرطبيُّ: وزعَمَ مَنْ صَحَّحَ نَهي عُمر عن التَّمَتُّعِ: أنّما نهى لينتجع إلى البيت مرَّتَيْنِ أو أكثر فى العام حتى يُكْثر عمارته بكثرة الزِّيارة فى غير المَوْسِمِ، وأراد إدخال الرّفق على أهل الحَرَمِ بدخول النَّاس، تحقيقاً لِدَعوة إبراهيم - عليه السَّلامُ - {فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] . وقيل: إنَّما نهى عنهما؛ لأَنَّهُ رأى النَّاسَ مالوا إلى التَّمتُّع ليسارته، وخفِّتِهِ؛ فخشي أن يضيع الإفراد والقران، وهما مسنُونانِ. فصل التَّمتُّع لا يحصُلُ إلاَّ بمحظورات الإحرامِ لكِنَّهُ لما كان بسبب إتيانِهِ بالعُمْرَة سَمَّاهُ تمتعاً بالعُمرة إلى الحَجِّ.؟ فصل في شروط وجوب دم التَمتُّع يشترط لوجوب دم التَّمَتُّع خمسة شروطٍ: أحدها: أن يُقَدم العُمرة على الحَجِّ. والثاني: أن يُحرم بالعُمرة في أشهر الحَجِّ، فلو أحرمَ لها قبل أشهر الحَجِّ، وأتى بشيء من الطَّوَافِ، ولو شوطاً واحِداً، ثم أكمل بقيه في أشهر الحَجِّ فى هذه السَّنة، لم يلزمه الدَّمُ؛ لأنَّهُ لم يجمع بينَ النُّسُكَيْنِ فى أشهر الحَجِّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 وقال أبو حنيفة: إذا أتى بأكثر الطَّوَافِ فى أشهر الحَجِّ، فهو مُتَمَتِّعٌ، وإذا أتى بالأكثر قبل أشهر الحَجِّ فلا. الثالث: أن يَحِجُّ فى هذه السَّنَة، فإن حَجَّ فى سَنَةٍ أخرى لم يَلْزَمْهُ دَمٌ؛ لأَنَّه لم يوجد مُزَاحمة الحَجُّ والعمرة فى عامٍ واحدٍ، ولم يحصل الترفُّه بترك أحد السّفرين، إلاَّ على قول ابن الزُّبير فيما قَدَّمناه. الرابع: ألا يكُون من حاضري المسجد الحرام لقوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} ، وهومَنْ كان أهلُهُ على أقلّ منمسافة القَصْرِ، وهل تُعْتَبَرُ هذه المَسَافَةُ من مَكَّة، أو من الحرمِ فيه وجهان. الخامس: أن يُحْرِم بالحَجِّ من مَكَّةَ بعد الفَرَاغ من العُمرة، فلو رجع إلى الميقاتِ، وأحرمَ بالحَجِّ منه، لا يلزمُهُ دَمُ التَّمَتُّعِ. فصل قال القُرطبيُّ: التَّمَتُّع بالعمرة إلى الحَجِّ على أربعةِ أوجهٍ: أحدها مجمع عليه، والثَّلاثةُ مختلفٌ فيها فالمجمعُ عليه هو المراد بقوله تبارك وتعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي} ، وذلك أَنْ يُحْرَمُ بالعُمْرَةِ في أشهر الحَجِّ، ويكون آفاقيّاً، ويفرغ منها، ويقيم حلالاً بمكَّة إلى أن يحرم بالحجِّ من عامِهِ قبل رجوعه إلى بلدِهِ. ولها ثَمَانيةٌ شروطٍ: الأول: أن يجمع بين الحجّ والعمرة. الثاني: فى عامٍ واحدٍ. الثالث: فى سفر واحد. الرابع: فى أشهر الحَجِّ. الخامس: مقدِّماً الحج. السادس: غير مخلط لها بالحَجِّ. السابع: وأن تكُونَ العُمرةُ والحج عن شخصٍ واحدٍ. الثامن: ويكون آفاقيّاً. الوجه الثَّاني من وجوه التَّمتُّع بالعُمْرَة: هو القِرَانُ، وهو أنْ يَجْمَعَ بينهما فى إحرامٍ واحدٍ، قيُهِلّ بهما جميعاً فى أشهر الحَجِّ، يتمتع القارن بترك السّفر إلى العُمْرَةِ، مرَّة، وإلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 الحَجِّ أخرى، ولا يحرم لكلِّ واحد من ميقاتِهِ، فيدخل تحت قوله تعالى: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج} . الوجه الثالث الَّذي نهى عنه عمر - رضي اللَّهُ عنه -: وهو أنْ يُحْرِمَ بالحَجِّ فإذا دخل مَكَّةَ فسخ حجّه إلى عمرة، ثم يحلّ إلى أن يُهِلَّ بالحج يَوْم التَّرْوية، فاختلف فى ذلك، فالجمْهُورُ على تَرْكِ العَمَل بها. قال أبو ذرِّ كانت المتعة لنا فى الحَجِّ خاصّة. الوجهُ الرَّابع من التمتع: متعة المُحصر، ومن صُدَّ عن البيت. فصل دم التمتع دم جبران، فلا يجوزُ له الأكل منه. وقال أبو حنيفة دم نسك، ويأكُلُ منه. حُجَّةُ الأَوَّلِ وجوهٌ: أحدهما: أنَّ التمتع حصل فيه خَلَلٌ فيكون دم جبران. وبيان الخَلَلِ أنَّ عُمَرَ كان ينهى عن المتعةِ، فقال له عثمانُ - رضي اللَّهُ عنهما - عَمَدْتُ إلى رُخْصَةٍ بسبب الحاجة؛ فَدلّ على حُصُولِ نقص فيها. وأيضاً سمَّاها تَمَتُّعاً، والتمتع التَّلَذُّذ، وبمنى العبادة على المَشَقَّةِ. وأيضاً ففي التَّمَتُّع صار السَّفَرُ للعمرة، وكان من حَقِّه أن يكُون للحج؛ لأَنَّهُ الحج الأكبر، وأيضاً حصل التَّرفه بالإحلال بينهما، وأيضاً كان من حَقّه جعل الميقات للحجِّ، فإنَّه الأَكبَرُ، وكل هذه أنواع خَلَلٍ، فوجب أن يَكُونَ الدَّم دم جبران. وثانيها: أنَّ الدّم ليس بنسك أصلي من مناسك الحَجّ، أو العمرة، كما لو أفردها وكما في حقّ المَكِّي، والجمعُ بين العبادَتين لا يوجب الدَّم، بدليل أنَّ من جمع الصَّلاة، والصّوم، والاعتكاف لا يَلْزَمُهُ دم، وإذا ثبت ذلك فليس الدَّم دم نسك، بل دم جبران. وثالثهما: أنَّ هدي التمتع ليس مُؤَقّتاً، والمناسِكُ كلّها مؤقتة، فيكُونُ دم جُبرانٍ. ورابعها: أنَّه يُبَدَّلُ بالصَّوم، ودم النُّسك لا النُّسُك لا يُبَدَّلُ بالصَّوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 فصل والمجزي فيها جذعة من الضأن، أو ثنية من المَعْزِ، أو شركُ ستَّةٍ فى بدنةٍ، أو بقرةٍ، ووقت وجوبه بعد الإحرام بالحجِّ؛ لأنَّ قوله: {فَمَا استيسر مِنَ الهدي} يدلُّ على أنَّه عقيب التَّمَتع، ويستحب ذبحه يوم النَّحرِ فلو ذبح بعد الإحرام بالحجِّ جاز؛ لأَنَّ التمتع قد تَحَقَّقَ. وعن أبى حنيفة لا يجوز إلاَّ يوم النَّحر؛ لأَنَّهُ نسك عنده. قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ} ؛ يعنى: أنَّ المتمتع إذا لم يجد الهَدْيَ، فعليه أنْ يصُومَ، وهل الهدي أفضلُ أم الصِّيَامُ؟ قال ابنُ الخطيب: الظَّاهِرُ أنَّ المبدل أفْضَلُ من البدل؛ لكنَّهُ تعالى بيَّن فى هذا البدل أنَّه فى الكمال والثَّوابِ كالهَدْي وهو كقوله «تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ» . قوله: «فَصِيَامُ» فى رفعه الأَوجه الثَّلاَثَة المّذكُورةُ فى قولِهِ: «فَفِدْيَةٌ» وقرئ نصباً، على تقدير فَلْيَصُمْ، وأُضيف المَصْدَرُ إلى ظَرْفِهِ معنىً، وهو فى اللَّفظِ مَفْعُولٌ به على السَّعَةِ. و «فِي الحَجِّ» مُتَعَلّقٌ بِصِيَامٍ وقَدَّر بعضهم مُضافاً، أي: في وقتِ الحَجِّ، ومنهم مَنْ قَدَّر مُضَافَيْن، أي: وقتَ أفعالِ الحَجِّ، ومنهم مَنْ قَدَّره ظَرْفَ مكانٍ، أي: صَوْمُهُ، بعد إحرام العُمرة، وقبل إحرام الحَجِّ. وقال أبو حنيفة: يصحُّ. حجَّةُ الأَوَّل وجوه: أحدها: أنَّه صيامٌ قبل وقته؛ فلا يجُوزُ كمن صَامَ رَمَضانَ قبلهُ، وكما لو صام السَّبعة قبل الرُّجوع، وذلك لأَنَّ الله تعالى قال: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج} ، والمراد إحرام الحج، لأنَّ سَائِرَ أفعال الحجِّ لا تصلح ظرفاً للصَّومِ، والإحرامُ يَصلُحُ، فوجب حمله عليه. وثانيها: أنَّ ما قبل الإحرام بالحجِّ ليس بوقت لِلْهَدي الذى هو أصلٌ، ولا يكُونُ وقتاً لبدله، كسائر الأُصُول فى الأبدال. وإذا ثبتَ ذلك، فَنَقُولُ: اتَّفَقُوا على أَنَّه يجُوز بعد الشُّرُوع فى الحَجِّ إلى يوم النَّحْرِ، وثبت أنَّهُ لا يجوز يوم النحر ولا أيّام التَّشريق لقوله عليه السَّلام: «لا تَصُوْمُوْا فى هَذِهِ الأَيَّامِ» ، والمستحبُّ أنْ يَصُومَ فى أيّام الحج حيثُ يكُونُ يوم عرفة مفطراً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 وقال بعضهم: يصوم ثَلاَثة أيّام آخرها يومُ عرَفَةَ والثَّامِن، والتَّاسع، ولو صَامَ ثَلاَثَة أيَّامٍ آخرها يومُ التَّرْوِية، ويكُونُ قد أحرمَ بالحجِّ قبله جاز، ولا يجُوزُ يوم النحر، ولا أيام التَّشْريق. وهو قول مالكٍ والأوزاعيّ، وأحمد، وإسحاق. فصل اختلفوا فيمن اعْتَمرَ فى أشهر الحَجِّ، ثُمَّ رجع إلى بَلَدِه، ثمَّ رجَعَ في عامه فقال الجمهورُ: ليس بمتمتع، ولا هدي عليه، ولا صِيَام. وقال الحسن: هو مُتَمَتِّعٌ. وأحمعوا على أَنَّ الآفاقي إذا قدم معتمراً فى أشهر الحج عازِماً على الإقامة، ثم أنشأ الحج من عامه فحج، آنّه متمتع عليه ما على المُتَمَتِّع. قوله: «وَسَبْعَةٍ» الجمهورُ على جَرِّ «سَبْعَةٍ» عطفاً على ثلاثة. وقرأ زيدُ بنُ عَليٍّ، وابن أبي عَبْلَة: «وَسَبْعَةً» بالنَّصب. وفيها تخريجان: أحدهما: قاله الزَّمخشَرِيُّ، وهو: أن يكُونَ عطفاً على مَحَلِّ «ثَلاَثَة» كأنه قيل: فصيامُ ثلاثةٍ، كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14، 15] ، يعني: أنَّ المُضاف إليه المصدرُ مَنْصُوب معنى بدليل ظُهُورِ النَّصب فى «يَتيماً» . والثاني: أنْ يَنْتَصِبَ بفعلٍ محذوفٍ تقديرُه: «فَلْيَصُومُوا» ، قال أبو حيان «وهذا مُتَعَيِّنٌ؛ لأنَّ العَطْفَ على المَوضع يُشْتَرَطُ فيه وجُودُ المُحْرِزِ» يني: على مذهب سيبويه. قوله: «إِذَا رَجَعْتُمْ» : مَنْصُوبٌ بِصيام أيضاً، وهي هُنَا لِمَحضِ الظَّرفِ، وليس فيها مَعْنَى الشَّرْط. لا يُقَالُ: يَلْزَمُ أن يَعْمَلَ عامِلٌ واحدٌ فى ظَرْفَي زَمان، لأنَّ ذلك جائزٌ مع العطف والبَدلِ، وهنا يكُونُ عَطَفَ شيئين على شيئين، فَعَطَفَ «سَبْعَةٍ» على «ثَلاَثَةٍ» ، وعطف «إذ رَجَعْتُم» على «فِي الحَجّ» . وفي قوله: «رَجَعْتُمْ» شيئان: أحدهما التفاتٌ، والآخَرُ الحَمْلُ على المعنى، أمَّا الالتفاتُ: فإنَّ قبله {فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ} ، فجاء بضمير الغَيْبَة عائداً على «مَنْ» ، فلو سيق هذا على نَظْمِ الأَوَّل لقيل: «إِذَا رَجَعَ» بضمير الغَيْبَةِ. وأمَّا الحَمْلُ فلأَنَّهُ أتى بضمير جمعٍ؛ اعتباراً بمعنى «منْ» ، ولو رَاعى اللَّفظ لأفردَ، فقال: «رَجَعَ» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 فصل اختلفوا فى المراد من الرُّجوع، فقيل: هو الرُّجوع إلى الأهلِ والوَطَنِ وقال أبو حينفة المرادُ من الرُّجوع: هو الفراغُ من أعمال الحَجّ، والأخذ فى الرُّجوع، ويتفرّعُ عليه أنَّهُ لو صام السَّبْعَةَ بعدَ الفراغ من الحَجِّ، وقبل الوصول إلى بيته، لا تُجزيه على الأوَّل. وعن أبى حنيفة: تجزيه. حجّةُ الأَوَّل: أَنَّهُ تعالى جعل الرُّجُوعُ إلى الوَطَنِ شَرْطاً، وما لم يُوجَدِ الشَّرْطُ لم يوجد المَشْرُوط، ويُؤَكِّدُ ذلك أَنَّه لو ماتَ قَبْلَ وصُوله إلى الوَطَنِ، لم يلزمه شيءٌ. وروَى ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: «لَمّا قَدِمْنَا مَكَّةَ المشرفة قال النَّبيُّ - عليه السَّلام - اجْعَلُوا إِهْلاَلَكم بِالحَجِّ عُمْرَةً إِلاَّ مَنْ قَلَّدَ الهَدْي. فطُفْنَا بالبَيْتِ، وبالصَّفَا، والمروة، وأَتَيْنَا النِّسَاءَ، ولبسنا الثِّيَابَ، ثُمّ أمرنا عشية التَّرْوية أنْ نُهِلّ بالحجّ فإذا فرغنا قال - عليه الصلاة والسَّلام - عَلَيْكُمْ الْهَديَ، فإِنْ لَمْ تَجِدُوا؛ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فى الحَجِّ، وسَبْعَة إِذَا رَجْعَتُم إِلَى أَمْصَارِكُمْ» ، وأيضاً فإنَّ الله - تعالى - أسقطَ صَوْمَ رَمَضَانَ عَن المُسَافِرِ، فصوم التَّمَتُّع أخفّ شأناً منه. وقوله: «تِلْكَ عَشَرَةٌ» مبتدأ وخبرٌ، والمشار إليه هي السَّبعة والثَّلاثة، ومُمَيِّزُ السَّبعة والعشرة محذوف للعلم به. وقد أثبت تاء التأنيث فى العدد مع حذف التَّميز، وهو أحسن الاستعمالين، ويجوز إسقاط التَّاء حينئذٍ، وفي الحديث: «وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ» ، وحكى الكسائيُّ: «ثُمْنَا من الشَّهْرِ خَمْساً» . وفي قوله: «تِلْكَ عَشَرَةٌ» - مع أنَّ المعلوم أنَّ الثَّلاثة والسَّبعة عشرة - أقوال كثيرة لأهل المعاني، منها قول ابن عرفة: «إن العَرَبَ إذا ذكرت عددين، فمذهبهم أن يُجْمِلُوهُمَا» ، وحسَّن هذا القول الزَّمخشري بأن قال: «فائدةُ الفَذْلَكَةِ فى كُلِّ حساب: أن يُعْلَمَ العَدَدُ جُمْلَةً كما يُعْلَمُ تَفْصِيلاً، لِيُحْتَاط به من جِهَتَيْنِ، فيتأكَّد العِلمُ» ، وفي أمثالهم « الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 عَلَمَانِ خَيْرٌ مِنْ عَلَمِ» . قال ابن عرفة: «وإنما تَفْعَلُ العَرَبُ ذلك؛ لأنَّها قليلةُ المَعْرِفَةِ بِالحِسَابِ» ، وقد جاء: «لا نَحْسُب، وَلاَ نَكْتُب» ، وورد ذلك في أشعارهم، قال النَّابغة: [الطويل] 983 - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أَيَّامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ وقال الفرزدق: [الوافر] 984 - ثَلاَثٌ واثْنَتَانِ فَهُنَّ خَمْسٌ ... وَسَادِسَةٌ تَمِيلُ إِلَى شَمَامِ وقال الأعشى: [الوافر] 985 - ثَلاَثٌ بِالْغَدَاةِ فَهُنَّ حَسْبِي ... وَسِتٌّ حِينَ يُدْرِكُنِي العِشَاءُ فَذَلِكَ تِسْعَةٌ فِي الْيَوْمِ رِيِّي ... وَشُرْبُ الْمَرْءِ فَوْقَ الرِّيِّ دَاءُ وقال آخرك [الوافر] 968 - فَسِرْتُ إِلَيْهِمُ عِشْرِينَ شَهْراً ... وَأَرْبَعَةً فَذَلِكَ حِجَّتَانِ وقال عليه السَّلام: «الشهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وهَكَذَا» ، ثمَّ أَشَارَ بِيَديه ثَلاَثاً، وأمسك إبهامه فى الثالثة، منبهاً بالإشارة الأولى على الثلاثين، وبالأخرى على تسعة وعشرين. ومنها قال المبرد: طفتلك عشَرَةٌ: ثلاثةٌ فى الحَجّ وسبعةٌ إذا رَجَعْتُمْ فَقَدَّمَ وأخَّر «، ومنها قال ابن الباذش: جيء بعشرة توطئةً للخبرِ بعدها، لا أنَّها هي الخَبَرُ المستقلُّ بفائدةِ الإسناد كما تقول: زيدٌ رَجُلٌ صَالِحٌ» يعني أن المقصود الإخبار بالصَّلاح، وجيء برجلٍ توطئةً، إذ معلومٌ أنه رجلٌ. ومنها قال الزَّجاج: «جَمَعَ العدَدَيْنِ لجوازٍ أن يُظَنَّ أنَّ عليه ثَلاَثَةً أو سبعةً» ؛ لأنَّ الواو قد تقوم مقام أو، ومنه: {مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3] فأزال احتمال التَّخيير، وهذا إنَّما يتمشَّى عند الكوفيِّين؛ فإنَّهم يقيمون الواو مقام أو. وقال الزمخشريُّ: «الواو قد تجيءُ للإباحة فى قولك:» جَالِسِ الحَسَنَ وابْنَ سِيرينَ «ألا ترى أنَّه لو جالسهما معاً، أو أحدهما كان ممتثلاُ فجمع نفياً لتوهُّمِ الإبَاحَة» قال أبو حيان: «وفيه نَظَرٌ، لأنَّهُ لا تُتَوَهَّمُ الإِبَاحَة؛ فإنَّ السِّيَاقَ سياقُ إيجَاب، فهو يُنَافِي الإبَاحَةَ، ولا يُنَافي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 التَّخْيِيرَ، فإنَّ التَّخيِيرَ يَكُونُ فى الوَاجِبَاتِ، وقد ذكر النَّحْوِيُّونَ الفَرْقَ بينَ التَّخْيِير، والإباحَةِ» . وقد ذكر ابن الخطيب قول الزَّمخشري هذا المقتدّم، وذكر وجوهاً أخُر: منها: أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالاً من المبدّل، فبيَّن الله تعالى أنَّ هذا البدل ليس كذلك، بل هو كامل فى كونه قائماً مقام المبدّل، فيكون الصائم ساكن النَّفس إلى حصول الأجر الكامل من عند الله، وذكر العشرة ليتوصل به إلى قوله «كَامِلَة» ؛ لأنَّه لو قال: «تِلْكَ كَامِلَةٌ» ؛ لجاز أن يراد به الثَّلاثة المفردة عن السَّبعة والسّبعة المفردة عن الثَّلاثة، فلا بدّ من ذكر العشرة. وقوله: «كَامِلَةٌ» يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجهٍ: إمَّا أن تكون كاملة فى البدل عن الهدي قائمة مقامه لا تنقص عنه، أو أنَّ ثوابها مثل ثواب القادر على الهدي، أو أنّ حجّ المتمتع الصّائم كاملاً كحج من لم يتمتَّع. ومنها أنّ الله تبارك وتعالى لو قال أوجب عليكم صيام عشرة أيّام، لم يبعد أن يكون دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيّام، فإنّ تخصيص العام كثير في الشَّرع، فلما قال «تِلْكَ عشرة» كانَ ذلك تنصيصاً على أنَّ المخصص لم يوجد البتَّة، فيكون أقوى دلالة، وأبعد من احتمال التَّخصيص والنَّسخ. ومنها أنَّ التَّوكيد طريقة مشهورة فى كلام العرب كقوله {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] ، وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وفائدة التوكيد أنَّ الكلام المعبَّر عنه بالعبارات الكثيرة الشّريفة وبالصِّفات الكثيرة، أبعد عن السَّهو والنّسيان من الكلام المعبَّر عنه بعبارة واحدة، وكونه معبراً عنه بعبارات كثيرة يدلُّ على كونه مشتملاً على مصالح عظيمة، لا يجوز الإخلال بها، فإذا كان التّوكيد مشتملاً على هذه الحكمة كان ذكره هنا دالاًّ على رعاية هذا العدد فى هذا الصَّوم، فإنَّه من المهمّات التي لا يجوز إهمالها ألبتَّة. ومنها أنَّ هذا الكلام يزيل الإبهام الذي في تصحيف الخطّ، فإنَّ سبعة، وتسعة متشابهان فى الخطِّ، فلمَّا قال بعده: «تِلْكَ عِشَرَةٌ كَامِلَةٌ» ؛ أزال هذا الاشتباه. ومنها: أنَّ قوله {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} يحتمل أن يكون المراد، أن يكون الواجب بعد الرُّجوع أن يكمل صيام سبعة أيّام، على أنَّه يحسب الثَّلاثة المتقدِّمة منها، ويكمل عيلها أربعةً، فلما قال «تِلْكَ عَشَرَة» ؛ أزال هذا الاحتمال. ومنها: أن هذا خبر، ومعناه الأمر، أي: تلك عشرة فأكملوها ولا تنقصوها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 ومنها: أنَّه تعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيَّام فى الحجِّ وسبعة بعد الرُّجوع، فليس فيه بيان أنَّه طاعةٌ عظيمة كاملة، فلمَّا قال بعده: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} دلَّ ذلك على أنَّ هذه الطَّاعة فى غاية الكمال؛ وذلك لأنَّ الصَّوم مضافٌ إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال: «الصَّوْمُ لي» ، والحجُّ أيضاً مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص كما قال «الصَّوْمُ لي» ، فَكَمَا دَلَّ النَّصُّ على مَزِيدِ اختصاص هاتين العبادتين بالله - سبحانه وتعالى -، فالفعل دلَّ أيضاً على ذلك. أمّا فى الصَّوم فلأنَّه عبادة لا يطّلع العقل على وجه الحكمة فيها ألبتَّة، وهو مع ذلك شاقٌّ على النَّفس جدّاً، فلا جرم لا يؤتى به إلاَّ لمحص مرضاة الله - تعالى - ثمَّ إنَّ صوم هذه تعني الانقياد له. وكذا الحجّ عبادة لا يطَّلع العقل على وجه الحكمة في ألبتَّة، وهو مع ذلك شاقٌ جداً؛ لأنَّه يوجب مفارقة الأهل، والولد والتَّباعد عن أكثر اللَّذَّات، فلا جرم لا يؤتى به إلاّ لمحض مرضاة الله تعالى، ثمَّ إنَّ صوم هذه الأيّام العشرة بعضه واقعٌ في زمن الحج، فيكون جمعاً بين شيئين شاقَّين جدّاً، وبعضه واقعٌ بعد الفراغ من الحجِّ، وهو انتقالٌ من شاقِّ إلى شاقٍّ، ومعلوم أنَّ ذلك سبب لكثرة الثَّواب، وعلوِّ الدَّرجة، فلا جرم لمَّا أوجب الله - تعالى - صيام هذه الأيَّام العشرة، شهد سبحانه على أنَّها عبادة كاملة فى غاية الكمال والعلوّ، فقال تعالى: {تِلْكَ عَشَرةٌ كَامِلَةٌ} ، أي: وإنها كاملة. قوله: «ذَلِكَ لِمَنْ» «ذَلِكَ» مبتدأ، والجارُّ بعده الخبر. وفي اللاَّم قولان: أحدهما: أنَّها على بابها، أي: ذلك لازمٌ لمن. والثاني: أنها بمعنى على، كقوله: {أولئك لَهُمُ اللعنة} [الرعد: 25] ، وقال عليه السَّلام: «اشْتَرِطِي لَهُمُ الوَلاَءَ» ، أي: عليهم، وقوله: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أي: فعلهيا، وذلك إشارة إلى التَّمتُّع، والقران للغريب [ولا حاجة إلى هذا. و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولة، وموصوفة. و «حَاضِرِي» خبر «يَكُن» ، وحذفت نونه للإضافة] . فصل قوله: «ذلك» إشارة إلى أمرٍ تقدَّم، وأقرب الأمور المذكورة، ذكر ما يلزم المتمتع من الهدي وبدله. وقال بعض العلماء: لزوم الهدي وبدله للمتمتّع مشروطٌ بألاّ يكون من حاضري المسجد الحرام، فإن كان من أهل الحرم، فلا يلزمه هدي المتمتّع، وإنَّما لزم الآفاقي، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 لأنه كان يجب عيله أن يحرم بالحجِّ من الميقات، فلمّا أحرم بالعمرة من الميقات، ثم أحرم بالحجِّ من غير الميقات، فقد حصل هناك خللٌ، فجبر بالدَّم، بدليل أنّه لو رجع، فأحرم بالحجِّ أيضاً من الميقات؛ لما يلزمه دمٌ، والمكيُّ ميقاته موضعه، فلا يقع فى حجِّه خللٌ من جهة الإحرام، فلا هدي عليه. وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قوله «ذَلِكَ» إشارةٌ إلى الأبعد وهو ذكر التّمتع، وعنده لا متعة ولا قران لحاضري المسجد الحرام، ومن تمتع أو قرن، كان عليه دم جنايةٍ لا يأكل منه. حجَّة القول الأوَّل وجوه: أحدها: قوله تعالى {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج} عامٌّ يدخل فيه الحرمي، وغيره. وثانيهما: أنَّ الإشارة يجب عودها إلى أقرب مذكور، وهو جوب الهدي، فإذا خصَّ وجوب الهدي بالمتمتع الآفاقي؛ لزم القطع بأن غير الآفاقي قد يكون أيضاً متمتعاً. وثالثها: أنَّ الله تعالى شرع القران والمتعة تبييناً لنسخ ما كان عليه أهل الجاهلية في تحريمهم العمرة في أشهر الحجِّ، والنسخ ثبت فى حقّ النَّاس كافَّةً. حجَّة أبي حنيفة: أنَّ قوله: «ذَلِكَ» كنايةٌ؛ فوجب عودها إلى كلِّ ما تقدم، لأنَّه ليس البعض أولى من البعض. والجواب أنَّ عوده إلى الأقرب أولى، لأنَّ القرب سببٌ للرُّجحان، ومذهبكم أن الاستثناء المذكور عقيب الجمل مختصٌّ بالجملة الأخيرة، وإنَّما تميزت تلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 الجملة عن سائر الجمل بسبب القرب، فكذا ها هنا. فصل اختلفوا فى حاضري المسجد الحرام، فذهب قوم إلى أنَّهم أهل مكَّة، وهو قول مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ -. وقال ابن جريج: أهل عرفة والرجيع وضجنان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 وقال الشَّافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كلُّ من كان وطنه من مكَّة على أقلّ من مسافة القصر، فهو من حاضري المسجد الحرام. وقال عكرمة: من كان دون الميقات. وقيل هم أهل الميقات فما دونه، وهو قول أصحاب الرَّأي. وقال طاوسٌ: الحرم كلُّه، وهو قول الشَّافعيِّ، وأحمد لقوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] وإنما أسرى به من الحرم من بيت أمِّ هانئ لا من المسجد، وقال {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 33] ، والمراد الحرم؛ لأن الدماء لا تراق في البيت، والمسجد الحرام إنَّما وصف بهذا؛ لأن أصل الحرام المنع، والمحرم: ممنوعٌ من المكاسب، والمسجد الحرام ممنوعٌ أن يفعل فيه ما منع من فعله. قال الفرَّاء: يقال حرامٌ، وحرمٌ مثل: زمانٍ وزمنٍ، وذكر حضور الأهل، والمراد حضور المحرم، لا حضور الأهل، لأنَّ الغالب على الرَّجل أنّه يسكن حيث أهله ساكنون فلو خرج المكيٌّ إلى الآفاق، وأهله بمكَّة، ثمَّ عاد متمتعاً؛ لزمه هدي التمتع، ولا أثر لحضور أهل فى المسجد الحرام. وقيل المراد بقوله: {لمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ} ، أي يكون أهلاً لهذه العبادة. فصل ودم القرآن كدم التَّمتُّع، فالمكيُّ إذا قرن، أو تمتع، فلا هدي عليه. قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قوله: يريد فيما فرضه عليكم، {واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} لمن تهاون بحدوده. وقال أبو مسلمٍ: العقاب والمعاقبة سيَّان، وهو مجازاة المسيء على إساءته، وهو مشتقٌّ من العاقبة، كأنّه يراد عاقبة فعل المسيء، كقول القائل: لتذوقن ما ذوّقت، و «شَدِيدُ العِقَابِ» من باب إضافة الصِّفة المشبَّهة إلى مرفوعها، وقد تقدَّم أنَّ الإضافة لا تكون إلا من نصب، والنَّصب والإضافة أبلغ من الرَّفع؛ لأنَّ فيها إسناد الصِّفة للموصوف، ثم ذكر من هي له حقيقة، والرَّفع إنَّما فيه إسنادها، دون إسناد إلى موصوف لمن هي له حقيقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 «الحَجُّ» مبتدأ، و «أشْهُرٌ» خبره، والمبتدأ والخبر لا بدّ أن يصدقا على ذاتٍ واحدٍ، و «الحَجُّ» فعلٌ من الإفعال، و «أشْهُرٌ» زمانٌ، فيهما غيران، فلا بدَّ من تأويل، وفيه ثلاثة احتمالات: أحدها: أنَّه على حذف مضافٍ من الأوَّل، تقديره: أشهر الحج أشهر معلوماتٌ. أي: لا حجَّ إلاَّ في هذه الأشهر ولا يجوز في غيرها، كما كان يفعله أهل الجاهيلَّة في غيرها، كقوله البرد شهران، وقت البرد شهران. الثاني: الحذف من الثاني تقديره: الحجّ حجّ أشهرٍ، فيكون حذف من كل واحدٍ ما أثبت نظيره. الثالث: أن تجعل الحدث نفس الزَّمان مبالغةً، ووجه المجاز كونه حالاًّ فيه، فلما اتُّسع في الظَّرف جعل نفس الحدث، ونظيره: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وإذا كان ظرف الزمان نكرةً مخبراً به عن حدثٍ، جاز فيه الرفع والنَّصب مطلقاً، أي: سواءً كان الحدث مستوعباً للظَّرف، أم لا، هذا مذهب البصريين. وأمَّا الكوفيُّون فقالوا: إن كان الحدث مستوعباً، فالرَّفع فقط نحو: «الصَّوْمُ يومٌ» وإن لم يكن مستوعباً، فهشامٌ يلتزم رفعه أيضاً نحو: «مِيَعَادُكَ يَوْمٌ» والفرَّاء يجيز نصبه مثل البصريّين، وقد نقل عنه أنَّه منع نصب «أشْهُر» ، يعني: في الآية الكريمة، لأنها نكرةٌ، فيكون له في المسألة قولان، وهذه مسألةٌ طويلةٌ. قال ابن عطيَّ: «ومنْ قَدَّر الكَلاَم: الحج في أشهر، فيلزَمُهُ مع سقوطِ حَرْفِ الجَرّ نصبُ الأَشْهُر، ولم يَقْرَأْ بِهِ أَحَدٌ» قال أبَو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ: ولا يَلْزَمُ ذلك؛ لأنَّ الرَّفْع على جِهة الاتِّساع، وإن كان أصلُهُ الجرَّ ب «في» . فصل أجمع المفسِّرون على أنَّ شوَّالاً، وذا القعدة، من أشهر الحج، واختلفوا فى ذي الحَّجة فقال عروة بن الزُّبير: إنها بكليتها من أشهر الحج وهو قول مالك، وداود. وقال أبو حنيفة: العشر الأول من ذي الحجَّة من أشهر الحجِّ؛ وهو قول ابن عبَّاسٍ، وابن عمر، والنخعي، والشعبي، ومجاهد، والحسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 وقال الشافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التسعة الأول، مع ليلة النَّحر من أشهر الحج. حجَّة الأوَّل: أن الأشهر جمعٌ، وأقلُّه ثلاثةٌ، وأيضاً فإنَّ أيَّام النَّحر يفعل فيها بعض ما يتَّصل بالحج: من رمي الجمار، والذَّبح، والحلق، وطواف الزِّيارة، والبيتوتة يعني ليالي منى، وإذا حاضت المرأة، فقد تؤخِّر الطَّواف الذي لا بدَّ منه إلى انقضاء أيَّامٍ بعد العشرة. ومذهب عروة تأخير طواف الزيارة إلى آخر الشهر. والجواب أنَّ لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد؛ بدليل قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] . وقال - عليه السَّلام: «الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» وأيضاً فإنَّه نزَّل بعض الشَّهر منزلة كلِّه، فإنّ العرب تسميِّ الوقت تامّاً بقليله، وكثيره، يقال زرتك سنة كذا، وأتيتك يوم الخميس، وإنما زاره، وأتاه في بعضه، وأيضاً فإنَّ الجمع ضمُّ شيءٍ إلى شيءٍ، فإذا جاز أن يسمَّى الاثنان جماعةً، جاز أن يسمَّى الاثنان، وبعض الثَّالث جماعةً، وأمَّا رمي الجمار، فإنما يفعله الإنسان، وقد حلّ بالحلق والطَّواف، والنَّحر، فكأنه ليس من أعمال الحجِّ، والحائضُ إذا طافت بعده، فكأنه في حكم القضاء، لا في حكم الأداء. حجَّة الثاني: أنَّ المفسرين قالوا: أنّ يوم الحجِّ الأكبر، هو يوم النَّحر، لأنَّ معظم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 أفعال الحج يفعل فيه: من طواف الزيارة؛ الذي هو ركنٌ في الحج، والرَّمي، والذَّبح، والحلق، فدخوله في أيام الحج أولى. حجَّة الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: أنَّ الحجَّ يفوت بطلوع الفجر يوم النَّحر، والعبادة لا تفوت مع بقاء وقتها. فصل قال بعض العلماء: لا يجوز أن يُهِلَّ بالحج قيل أشهر الحج، وهو قول ابن عباس، وجابر، وبه قال عطاء، وطاوس، ومجاهد، إليه ذهب الأوزاعي، والشافعيُّ، وأحمد فى رواية، وإسحاقٌ. وقال مالكٌ، والثوريُّ وأبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يجوز. حجَّة الأول: قوله: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} . جمع الأشهر جمع تقليلٍ، على سبيل التَّنكير؛ لا يتناول الكلَّ، وأكثر الجمع إلى عشرةٍ، وأدناه إلى ثلاثةٍ، وعند التنكير ينصرف إلى الأدنى، واتفق المفسِّرون على أنّ تلك الثَّلاثة، شوَّال وذو القعدة، وبعض ذي الحجَّة. وإذا تقرَّر، وجب ألاَّ يجوز الإحرام بالحجِّ قبل الوقت؛ لأنَّ الإحرام بالعبادة قبل وقت أدائها لا يصحّ؛ كالصَّلاة، وخطبة الجمعة قبل الوقت. حجَّة الثاني: قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} [البقرة: 189] ، فجعل الأهلَّة كلَّها مواقيت الحجِّ، وليس مواقيتاً للأداء، فثبت أنها مواقيت لصحَّة الإحرام، ويجوز أن يسمَّى الإحرام حجّاً؛ مجازاً، كما سمّيَ الوقت حجّاً في قوله: «الحَجُّ أَشْهُرٌ» بل هنا أولى؛ لأن الإحرام أقرب إلى الحج من الوقت. وقد اشتهر بين أكابر الصّحابة أنَّهم قالوا: إتمام الحجِّ والعمرة أن يحرم بهما من دويرة أهله، ومن يكن منزله بعيداً يجب أن يكون في المشرق أو في المغرب، فلا بدَّ وأن يحرم بالحج قبل أشهرٍ، وأيضاً فإنَّ الإحرام التزامٌ بالحجِّ، فجاز تقديمه على الوقت؛ كالنَّذر. وأجاب الأوَّلون عن قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة} بأنَّ قوله «الحجُّ أَشْهُرٌ» أخصُّ منها، وفرَّقوا بين النَّذر، والإحرام: بأنَّ الوقت معتبرٌ للأداء، ولا اتِّصال للنذر بالأداء، بدليل أنّ الأداء لا يتصور إلاَّ بعقد مبتدأ، والإحرام مع كونه التزاماً، فهو شروعٌ في الأداء، وعقدٌ عليه؛ فلا جرم افتقر إلى الوقت. فصل قوله: «مَعْلُومَاتٌ» أي: معلومات عندهم، مقررة لبيان الشرع، بخلاف مرادهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 بها. أو معلوماتٌ ببيان الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلام وأنها مؤقتةٌ في أوقات معينة، لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها، كما فعلوه في النَّسيء. قوله: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} . يجوز في «مَنْ» أن تكون شرطيةً، وأن تكون موصولةً، كما تقدَّم في نظايرها، و «فِيهنَّ» متعلِّقٌ ب «فَرَضَ» . والضَّمير في «فِيهِنَّ» يعود على «أَشْهُر» وجيء به كضمير الإناث، لما تقدم من أنَّ جمع غير العاقل في القلَّة يعامل معاملة جمع الإناث على الأفصح؛ فلذلك جاء «فِيهِنَّ» دون «فِيهَا» ، وهذا بخلاف قوله: {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] لأنه هناك جمع كثرة. وفرض في اللُّغة: ألزم وأوجب، يقال فرضت عليك كذا، أي: أوجبته، وأصل الفرض في اللغة: التَأثير والحزُّ والقطع. قال ابن الأعرابي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: الفرض الحزُّ في القدح، [وفي الوتد، وفي غيره] ، وفرضة القوس: الحزُّ الذي فيه الوتر، وفرضه الوتد الحزُّ الذي فيه، ومنه فرض الصلاة؛ لأنها لازمةٌ للعبد كلزوم الحزّ لقدح، ففرض ها هنا - بمعنى: أوجب، وقد جاء في القرآن «فَرَضَ» بمعنى أبان؛ قال تعالى: {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] بالتخفيف، وقوله: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] . راجع إلى معنى القطع؛ لأنَّ من قطع شيئاً، فقد أبانه من غيره، والله تعالى إذا فرض شيئاً، أبانه عن غيره، ففرض بمعنى: أوجب: وفرض: بمعنى أبان؛ كلاهما راجعٌ إلى أصل واحدٍ؛ ومن ها هنا فرَّق بعضهم بين الفرض والواجب، فقالوا: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 الفرضُ ما ثبت بدليل قطعيّ؛ لأن أصله القطع، وسمَّاه بالركن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 والواجب ما ثبت بدليل ظنِّي، وجعل الفرض لا يسامح به، عمداً ولا سهواً، وليس له جابر، والواجب ما يجبر ويسامح فيه العباد لسهوة، قال أبو العباس المقرىء: ورد لفظ «فَرَضَ» في القرآن خمسة معان: الأول: فرض بمعنى أوجب، كهذه الآية الكريمة، ومثله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] أي أوجبتم. الثاني: فرض بمعنى بيَّن، قال تعالى: {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} [التحريم: 2] ومثله {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا} [النور: 1] . الثالث: فرض: بمعنى أنزل؛ قال تعالى: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ} [القصص: 85] أي: أنزل. امس: الفرض: الفريضة في قسمة المواريث؛ كما قال تبارك وتعالى: {فَرِيضَةً مِّنَ الله} [النساء: 11] . فصل قوله: {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} يدلُّ على أنّه لا بدَّ للمحرم من فعل يفعله؛ يصير به محرماً وحاجاً، واختلفوا في ذلك الفعل. فقال الشَّافعيُّ، وأحمد: ينعقد الإحرام بمجرد النِّية، من غير حاجةٍ إلى التَّلبية. وقال أبو حنيفة: لا يصحُّ الشُّروع في الإحرام بمجرد النية؛ حتى يضمَّ إليه التَّلبية أو سوق الهدي. وقال القفَّال في تفسيره: ويروى عن جماعةٍ من العلماء؛ أنّ من أشعر هديه أو قلَّده، فقد أحرم، وروى نافع عن ابن عمر أنّه قال: إذا قلَّد أو أشعر، فقد أحرم، وعن ابن عباسٍ: إذا قلَّد الهدي وصاحبه يريد العمرة أو الحجَّ، فقد أحرم. قوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} إمَّا جواب الشَّرط، وإمَّا زائدةٌ في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 الخبر على حسب القولين المتقدِّمين. وقرأ أبو عمرٍ وابن كثير: بتنوين «رَفَثَ» و «فُسُوقَ» ، ورفعهما، وفتح «جِدَالَ» . والباقون: بفتح الثَّلاثة. وأبو جعفر - ويروى عن عاصم - برفع الثلاثة والتنوين. فأمَّا قراءة الرفع ففيها وجهان: أظهرهما: أنَّ «لا» ملغاةٌ، وما بعدها رفع بالابتداء، وسوَّغ الابتداء بالنكرة؛ تقدُّم النفي عليها، و «في الحج» خبر الأول، وحُذِفَ خبرُ الثاني، والثالث؛ لدلالةِ خبرِ الأولِ عليهما، ويجوزُ أنْ يكونَ «في الحج» خبرَ الثلاثة، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ «في الحجِّ» خبرَ الثاني، وحُذِفَ خبرُ الأولِ، والثالث؛ لقبح مثل هذا التركيب، ولتأديته إلى الفصل. والثاني: أن تكون «لاَ» عاملةً عمل ليس، ولعملها عمل ليس شروطٌ: تنكير الاسم، وألاَّ يتقدَّم الخبر، ولا ينتقض النفيُّ؛ فيكونُ «رَفَثَ» اسمَها، وما بعده عطْفٌ عليه، و «في الحجِّ» الخبرُ على حسب ما تقدَّم من التقادير فيما قبله. وخرَّجه ابن عطية بهذا الوجه، وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ إعمال «لا» عمل ليس لم يقم عليه دليل صريحٌ، وإنما أنشدوا أشياء محتملةً، أنشد سيبويه: [مجزوء الكامل] 987 - مَنْ صَدَّ عَنْ نِيرَانِهَا ... فَأَنَّا ابْنُ قَيْسٍ لاَ بَرَاحُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 وأنشد غيره: [الطويل] 988 - تَعَزَّ فَلاَ عَلَى الأَرْضِ باقيَا ... وَلاَ وَزَرٌ مِمَّا قَضَى اللَّهُ وَاقِيَا وقول الآخر: [البسيط] 989 - أَنْكَرْتُها بَعْدَ أَعْوَامِ مَضيْنَ لَهَا ... لاَ الدَّارُ دَاراً وَلاَ الجِيرَانُ جَيرَانَا وأنشد ابن الشَّجري: [الطويل] 990 - وحَلَّتْ سَوادَ القَلْبِ لاَ أَنَا بِاغِياً ... سِوَاهَا وَلاَ فِي حُبِّها مُتَرَاخِيَا وللكلام على الأبيات موضعٌ غير هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 وأمَّا من نصب الثلاثة منونةً فتخريجها على أن تكون منصوبةً على المصدر بأفعال مقدرةٍ من لفظها، تقديره: فلا يَرْفُثُ رَفَثاً، ولا يَفُسُقُ فُسُوقاً ولا يُجَادِلُ جِدَالاً، وحينئذٍ فلا عمل ل «لا» فيما بعدها، وإنَّما هي نافيةٌ للجمل المقدرة، و «في الحجِّ» متعِّلقٌ بأيِّ المصادر الثَّلاثة شئت، على أنَّ المسألة من التنازع، ويكون هذا دليلاً على تنازع أكثر من عاملين، وقد يمكن أن يقال: إنَّ «لا» هذه هي التي للتَّبرئة على مذهب من يرى أنَّ اسمها معربٌ منصوب، وإنما حذف تنوينه؛ تخفيفاً، فرجع الأصل في هذه القراءة الشاذة كما رجع في قوله: [الوافر] 991 - أَلاَ رَجُلاً جَزَاهُ اللَّهُ خَيْراً ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . وقد تقدَّم تحريره. وأمَّا قراءة الفتح فى الثَّلاثة فهي «لا» التي للتَّبرئة. وهل فتحة الاسم فتحة إعراب أم بناءٍ؟ فيه قولان، الجمهور على أنَّها فتحة بناءٍ، وإذا بني معها، فهل المجموع منها، ومن اسمها في موضع رفع بالابتداء، وإن كانت عاملة فى الاسم النصب على الموضع وما بعدها، ولا خبر لها؟ أو ليس المجموع فى موضع مبتدأ، بل «لاَ» عاملةٌ في الاسم النَّصب على الموضع، وما بعدها خبرٌ ل «لاَ» ؛ لأنَّها اجريت مجرى «أنَّ» فى نصب الاسم، ورفع الخبر؛ قولان: الأول: قول سيبويه. والثاني: قول الأخفش. وعلى هذين المذهبين، يترتَّب الخلاف فى قوله: «فِي الحَجِّ» ، فعلى مذهب سيبويه: يكون فى موضع خبر المبتدأ، وعلى رأي الأخفش: يكون فى موضع خبر «لا» ، وقد تقدَّم شيء من هذا أول الكتاب. وأمَّا من رفع الأولين، وفتح الثالث: فالرفع على ما تقدَّم، وكذلك الفتح، إلا أنه ينبغي أن ينبَّه على شيءٍ: وهو أنَّا قلنا بمذهب سيبويه من كون «لا» وما بني معها في موضع المبتدأ، على مذهب الأخفش، فلا يجوز أن يكون «في الحجِّ» إلا خبراً للمبتدأين، أو خبراً ل «لاَ» . لا يجوز أن يكون خبراً للكلِّ؛ لاختلاف الطالب؛ لأنَّ المبتدأ يطلبه خبراً له، ولا يطلبه خبراً لها. وإنَّما قرئ كذلك، قال الزمخشري: «لأنَّهما حَمَلا الأوَّلَيْنِ على معنى النَّهي، كأنه قيلَ: فلا يكوننَّ رَفَثٌ ولا فُسُوقٌ، والثالثُ على معنى الإخبارِ بانتفاء الجِدالِ، كأنه قِيلَ: ولا شكَّ ولا خلاف فى الحجِّ» ، واستدلَّ على أنّ المنهيَّ عنه هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 الرفث والفسوق دون الجدال، بقوله عليه السلام: «مَنْ حَجَّ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ ... » وأنه لم يذكر الجدال. وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ سبقه إليه صاحب هذه القراءة؛ إلاَّ أنه أفصح عن مراده، قال أبو عمرو بن العلاء - أحد قارئيها -: الرفع بمعنى فَلاَ يَكُونُ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ، أي شيء يخرج من الحجِّ، ثم ابتدأ النفي فقال: «ولا جدال» ، فأبوا عمرو لم يجعل النفيين الأوَّلين نهياً، بل تركهما على النَّفي الحقيقي. فمن ثم، كان فى قوله هذا نظيرٌ؛ فإنَّ جملة النفي بلا التبرئة، قد يراد بها النهي أيضاً، وقيل ذلك فى قوله تعالى: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] . والذي يظهر فى الجواب عن ذلك، ما نقله أبو عبد الله الفاسي عن بعضهم فقال: «وقيل: الحُجَّةُ لِمَنْ رَفَعَهُمَا أنَّ النفيَ فيهما ليس بعامٍّ؛ إذ قد يقعُ الرفَثُ، والفُسُوقُ فى الحَجِّ من بعض الناسِ، بخِلاَفِ نفي الجِدَالِ في أَمْرِ الحجِّ؛ فإنه عامٌّ؛ لاسْتِقْرَارِ قَوَاعِدِهِ» . قال شهاب الدِّين. وهذا يتمشَّى على عُرف النَّحويين، فإنهم يقولون: «لا» العاملة عمل «لَيْسَ» لنفي الوحدة، والعاملة عمل «إنَّ» لنفي الجنس، قالوا: ولذلك يقال: لا رجل فيها، بل رجلان، أو رجالٌ؛ إذا رفعت، ولا يحسن ذلك إذا بنيت اسمها أو نصبت بها. وتوسَّط بعضهم فقال: التي للتبرئة نصٌّ في العموم، وتلك ليس نصَّاً. والظاهر أنَّ النكرة في سياق النفي مطلقاً للعموم، وقد تقدَّم معنى الرَّفث فى قوله: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} [البقرة: 187] قال ابن مسعود، وابن عباس، وابن عمر: هو الجماع، وهو قول الحسن، ومجاهد، وعمرو بن دينار، وقتادة، وعكرمة، والنخعي، والربيع. وروي عن علي بن أبي طلحة، عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: الرَّفث: غشيان النساء، والتَّقبيل، والغمز، وأن يعرض لها بالفحش من الكلام. وقال طاوسٌ: هو التَّعريض للنساء الجماع، وذكره بين أيديهنَّ. وقال عطاءٌ: الرَّفث: هو قول الرجل للمرأة فى حال الإحرام: إذا حللت، أَصَبْتُكِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 وقيل الرَّفث: الفحش، والفسق وقد تقدم فى قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] . وقرأ عبد الله «الرَّفُوث» وهو مصدر بمعنى الرَّفث. وقوله: «فَلاَ رَفَثَ» وما في حيِّزه فى محلِّ جزمٍ، إن كانت «مَنْ» شرطيةً، ورفع، إن كانت موصولةً، وعلى كلا التقديرين، فلا بدَّ من رابطٍ يرجع إلى «مَنْ» ؛ لأنها إن كانت شرطيةً، فقد تقدَّم أنه لا بدَّ من ضمير يعود على اسم الشرط، وإن كانت موصولة، فهي مبتدأ والجملة خبرها، ولا رابط فى اللَّفظ، فلا بدَّ من تقديره، وفيه احتمالان: أحدهما: أن تقديره: ولا جدال منه، ويكون «منه» صفَّة ل «جِدَال» ، فيتعلَّق بمحذوف، فيصير نظيره قولهم: «السَّمْنُ مَنَوانِ بِدِرْهَمٍ» تقديره: منوان منه. والثانيك أن يقدَّر بعد «الحج» تقديره: ولا جدال في الحجِّ منه، أو: له. ويكون هذا الجارُّ في محلِّ نصب على الحال من «الحج» . وللكوفيِّين في هذا تأويل آخر: وهو أنَّ الألف واللام نابت مناب الضمير، والأصل: في حجِّه، كقوله: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 40] ثم قال: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] أي: مأواه. وكرَّر الحجَّ؛ وضعاً للظاهر موضع المضمر تفخيماً، كقوله: [الخفيف] 992 - لاَ أَرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... وكأنَّ نظم الكلام يقتضي: «فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الحجَّ فَلاَ رَفَث فيه» ، وحسَّن ذلك في الآية الكريمة الفصل بخلاف البيت. والجدال مصدر «جَادَل» . والجدال: أشدُّ الخصام، مشتقٌّ من الجدالة، وهي الأرض؛ كأن كلَّ واحد من المتجادلين يرمي صاحبه بالجدالة. قال القائل: [الراجز] 993 - قَدْ أَرْكَبُ الآلَةَ بَعْدَ الآلهْ ... واتْرُكُ العَاجِزَ بالْجَدَالَهْ ومنه «الأَجْدَالُ» للصَّقر؛ لشدَّته. وقال القائل: [الكامل] 994 - ... ... ... ... ... ... ... ..... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 يَهْوِي مُحَارِبُهَا هُوِيَّ الأجْدَلِ والجدل: فَتْلُ الحبل، ومنه زمامٌ مجدولٌ، أي: محكم الفتل. فصل قد تقدَّم أنّ الفسق: هو الخروج عن الطَّاعة، واختلف المفسرون فيه، فحمله أكثر المحقِّقين على كلِّ المعاصي، وهذا قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -، وطاوس، والحسن، وسعيد بن جبير، وقتادة، والزهري، والربيع، والقرظي، قالوا: لأنَّ اللفظ صالحٌ للكلِّ، والنَّهي عن الشَّيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه؛ ويؤكده قوله تعالى {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] ، وقوله: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات: 7] . وذهب بعضهم إلى أنَّ المراد منه بعض أنواعه، ثم ذكروا وجوهاً. أحدها: قال الضحّاك: المراد التنابز بالألقاب؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} [الحجرات: 11] . والثاني: قال عطاء، ومجاهد، وإبراهيم النخعي: المراد السّباب، لقوله - عليه السلام - «سِبَابُ المؤْمِن فُسُوقٌ، وقِتَالُه كُفْرٌ» الثالث: أنَّ المراد منه الإيذاء، والإفحاش؛ قال تعالى: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة: 282] . الرابع: قال ابن زيد: هو الذَّبح للأصنام؛ فإنّهم كانوا فى حجِّهم يذبحون لأجل الأصنام قال تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 121] ، وقوله: {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [الأنعام: 145] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 الخامس: قال ابن عمر: هو قتل الصَّيد، وسائر محظورات الإحرام. وأمّا الجدال: فهو «فِعَالٌ» من المجادلة، الذي هو الفَتْلُ، يقال: زمامٌ مجدولٌ وجديلٌ، أي: مفتولٌ، والجديل: اسم للزِّمان؛ لأنه لا يكون إلاَّ مفتولاً، وسميت المخاصمة مجادلة لأنّ كلَّ واحدٍ من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه. وذكر المفسرون فيه وجوهاً: أحدها: قال ابن مسعود، وابنُ عباس، والحسنُ: هو الجدالُ الذي يخافُ معه الخروجُ إلى السِّباب، والتكذيب، والتجهيل. وهو قولُ عمرو بن دينار، وسعيد بن جُبَيرٍ، وعِكْرمة، والزهريِّ، وعطاءٍ، وقتادة. الثاني: قال محمد بن كعب القُرظيُّ: إِنَّ قُريشاً كانوا إذا اجتمعوا بِمنَى قال بعضهُم: حجُّنا أَتَمُّ. وقال آخرون: بل حَجُّنَا أَتَم، فَنَهَاهُمَّ اللَّهُ عن ذلك. الثالثك قال القاسِمُ بن محمد: هو أنْ يقولَ بعضهُم: الحَجُّ اليَوْمَ، ويقول بعضُهم: الحج غداً، وذلك بأنهم أُمِرُوا بأن يَجْعَلُوا حِسَابَ الشهور على الأهِلَّةِ، فكان بعضُهم يجعلُ الشهورَ على الأَهِلّةِ، وآخرون يجعلونها بالعدد فلهذا السبب؛ كانوا يختلفون. الرابع: قال مقاتِلٌ، والقفّال: هو ما جادلُوا فيه النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين أمرهُم بنسخ الحج إلى العُمْرَة، إلاَّ مَنْ قَلّدَ الهَدْيَ، قالُوا: كيف نجعلُها عُمْرَةً، وقد سمينا الحج؟! فهذا جِدَالُهم. الخامس: قال مَالِكٌ في «الموطأ» : الجدالُ في الحج أنَّ قريشاً كانوا يقفون عن المشعَرِ الحَرَامِ في المُزْدَلِفة بقزح وغيرها يقفُ بعرفاتٍ، وكُلٌّ منهم يزعَمُ أنّ موقفهُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 موقف إبراهيم، ويقولُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ نحن أصْوَبُ؛ فقال الله تعالى: {لِّكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر وادع إلى رَبِّكَ إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحج: 67 - 68] قال مالكٌ: هذا هو الجِدالُ فيما يُروى والله أعلم. السَّادس: قال ابنُ زيْدٍ: كانوا يَقِفُون مَواقِف مختلقة، فبعضهم يقفُ بعرفة، وبعضهم بالزدلفة، وبعضُهم حجَّ في ذي القَعْدة، وبعضُهم في ذي الحَجَّةِ، وكُلٌّ يقول: ما فعلتُه هو الصَّوَابُ؛ فقال تعالى: {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} ، أَي: اسْتَقَرَّ أَمرُ الحج على ما فعلهُ الرسولُ - عليه السلام - فلا اختلاف فيه مِنْ بعدِ ذلك، وذلك معنى قول النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «أَلاَ إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوات والأَرْضَ» . قال مجاهدٌ: معناه: لا شَكَّ في الحجِّ أنّه في ذي الحجةِ، فأَبْطَلَ اللَّهُ النَّسِيءَ. قال أهلُ المعاني: ظَاهِرُ الآية الكريمة نفيٌ ومعناه نَهْيٌ، أي لا ترفُثُوا، ولا تَفسقوا ولا تُجَادِلُوا؛ كقوله تعالى {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 3] أي: لا ترتابُوا. قال القاضي: قوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} يحتملُ أن يكونَ خبراً، وأنْ يكونَ نَهْياً، كقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} ، أي: لا تَرْتَابُوا فيه، وظاهرُ اللفظِ للخبر، فإذا حَمَلناهُ على الخبر كان معناه: أنّ الحجة لا تثبتُ مع واحدةٍ من هذه الخِلالِ، بل تَفْسُدُ؛ كالضدِّ لها وهي مانعةٌ من صحَّته، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى؛ إلاَّ أَنْ يُراد بالرفَثِ، الجماعُ [المفسِدُ للحج، ويُحْملُ الفسوقُ على الزِّنا؛ لأنه يُفسِدُ الحجَّ، ويُحملُ الجِدالُ على الشَّكِّ في وجوب الحجِّ] ؛ لأن ذلك يكون كُفْراً، فلا يَصِحَّ معه الحج، وإنَّما حَمَلْنَا هذه الألفاظ على هذه المعاني؛ حتَّى يصحَّ خبرُ اللَّهِ بأنَّ هذه الأشياء لا تُوجَدُ مع الحج. فصل قال ابنُ العَرَبيِّ: المرادُ بقوله: «فَلاَ رَفَثَ» نَفْيُهُ مَشْرُوعاً لا مَوجُوداً، فإِنَّا نَجِدُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 الرفثَ فيه حِسَاً، وخبرُ اللَّهِ تعالى لا يجُوزُ أَنْ يَقَعَ بخلاف مخبره، وإنما يرجعُ النفيُ إلى وجوده مَشْرُوعاً لا إلى وجوده مَحْسُوساً؛ كقوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] أي: مشروعاً لا حسّاً، فإنَّ نجدُ المطلقاتِ لا يتربصْنَ؛ فعاد النَّفْيُ إلى الحكم الشَّرعيِّ لا إلى الوجود الحِسّيّ؛ وهو كقوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 79] إذا قلنا: إنّه واردٌ فى الآدَمِيِّينٍ؛ وهو الصَّحيحُ، فإنَّ معناه لا يَمَسُّه أَحَدٌ منهم شَرْعاً، فإن وجد المَسُّ، فعلى خلاف حُكْم الشرع، وهذه الدَّقِيقةً فاتت العُلماء فقالوا: إِنّ الخبرَ يكونُ بمعنى النَّهْي، وما وجِدَ ذَلك قَطُّ، ولا يصح أَنْ يُوجَدَ؛ فإنهما مُخْتَلِفَان حقيقةً، ومُتَضَادان وَصْفاً. فصل قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - فإن قيل أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحجُّ فَاسِداً ويجبُ على صاحبه المضيّ فيه، وإذا كان الحجُّ باقِياً معها، لم يصدق الخبرُ لأَنَّ هذه الأشياء لا توجدُ مع الحجة؟ قلنا المرادُ من الآية الكريمة حصولُ المضادةِ بين هذه الأشياء، وبَيْن الحجة المأمُورِ بها ابتداءً، وتلك الحجةُ الصحيحةُ لا تَبْقَى مع هذه الأشياء؛ بدليل أنّه يجبُ قضاؤُهَا، والحجةُ الفاسِدَةُ التي يجبُ عليه المضِيُّ فيها شيءٌ آخر سوى تلك الحجةِ المأمُورِ بها ابتداءً، وأَمَّا الجِدَالُ الحَاصِلُ بسبب الشَّكِّ في وجوب الحج، فظاهره أنَّه لا يبْقَى معه عملُ الحج؛ لأنَّ ذلك كُفْرٌ وعملُ الحج مشروطٌ بالإسلام، فثبت أَنَّا إِذَا حملنا اللفظ على الخبر، وجب حَمْلُ الرَّفث والفُسُوق والجِدَالِ على ما ذكرنا، وأمَّا إِذَا حملناه على النَّهي، وهو في الحقيقة عُدُولٌ عن الظَّاهِر، فقد يَصِحُّ أنْ يرادَ بالرفثِ الجماعُ ومقدماتُه، وقولُ الفُحْشِ، وأَنْ يرُادَ بالفِسْقِ جميعُ أنْواعه، وبالجدالِ جميعُ أَنواعه؛، لأَنَّ اللفْظَ مُطْلَقٌ ومتناولٌ لكل هذه الأقسامِ، فيكون النهي عنها نَهْياً عن جميع أقسامها. فإن قيل: ما الحكمةُ في أنّ الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة: وهي الرَّفث، والفُسُوق، والجدَال في الحج، مِنْ غير زِيَادَةٍ ولا نَقْصٍ؟ فالجواب: لأنه ثَبَتَ في العلوم العقلية أنّ للإنسان أربَعَ قُوىً: قوّة شَهْوَانيةٌ بهيميَّةٌ، وقُوَّةٌ غَضَبيَّةٌ سبعيَّةٌ، وقُوَّةٌ وهمِيَّةٌ شيطانيَّةٌ، وقُوة عقليةٌ مَلكيَّةٌ، والمقصود من جميع العبادات قَهْرُ القُوَى الثلاث، أعْنِي: الشهوانية والغضبية والوهْمية. فقوله: «فَلاَ رَفَثَ» إشارةٌ إلى قَهْرِ الشهوانية. وقوله: «ولا فُسُوقَ» إشارةٌ إلى قَهْرِ القُوةِ الغضبيةِ التي توجِبُ المعصية والتمردَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 وقوله: {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} إشارةٌ إلى قَهْرِ القوةِ الوهْمية، التي تحملُ الإنسانَ على الجدال في ذاتِ الله، وصفاتِهِ، وأفعاله، وأحكامه، وأسمائِهِ، وهي البَاعِثَةُ على مُنَازعِةِ الناسِ، ومُمَاراتِهِم، والمخاصَمَةِ مَعَهُم في كل شَيْءٍ، فلمّا كان سَبَبُ الشَّرِّ مَحْصُوراً في هذه الأمور الثلاثة؛ لا جرم لا يَذْكُرْ معَها غيرَها. فصل من الناس مَنْ عاب الاستدلالَ، والبَحْثَ، والنَّظر، والجِدال؛ واحْتَجَّ بقوله تعالى: {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} ، وهذا يَقْتَضِي نَفْيَ جميع أنواعِ الجدال، ولو كان الجِدَالُ في الدين طَاعَةٌ، لما نُهِيَ عَنْهُ في الحج، بل على ذلك التقدير، يكونُ الاشتغالُ بالجِدَالِ ضَمَّ طاعَةٍ إلى طَاعَةٍ، فيكون أَوْلَى بالترغيب فيه. وأيضاً قال تبارك وتعالى: {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف: 58] ، عابهم بكونِهم مِنْ أَهْل الجَدَلِ، فدلّ على الجدل مَذْمُومٌ، وقال تبارك وتعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] فنهى عن المنازعة. وأمّا جمهور المتكلِّمين فقالوا: الجدَالُ في الدين طاعةٌ عظيمةٌ؛ لقوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، وحكى قول الكفَّار لنوح - عليه السلام - {قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود: 32] ، ومعلومٌ أَنَّ ذلك الجِدال، إنما كان لتقريرِ أُصُولِ الدين، فيُحملُ الجدالُ المذمومُ على الجدل في تقرير الباطل، وطلب المالِ، والجَاهِ، والجدالُ الممدوحُ على الجَدَلِ في تقرير الحقِّ، ودعوةِ الخَلْقِ إلى سبيل اللِّهِ، والذَّبِّ عن دين الله. قولُه: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} تقدَّمَ الكلامُ على نَظِيرتِهَا، وهي: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] فَكُلُّ ما قيلَ ثَمَّ، يُقالُ هُنَا. قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ «وَنَزِيدُ هنا وَجْهاً آخرَ: وهو أَنْ يَكُونَ» مِنْ خَيْر «في مَحلِّ نصبٍ نَعْتاً لمَصْدرٍ مَحْذُوفٍ، تقديرُه: وَمَا تَفْعَلُوا فِعْلاً كَائِناً مِنْ خَيْرٍ» . و «يَعْلَمْه» جَزْمٌ على جوابِ الشَّرط، ولاَ بُدَّ مِنْ مَجَازٍ فِي الكَلامَ: فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ عَبَّر بالعِلْم عن المُجازاة على فعل الخَيْر، كأنّهُ قِيل: يُجازِيكم، وإِمَّا أَنْ تُقَدَّر المُجازاة بعد العِلم، أي: فيثيبُه عَلَيْه. وفي قوله: «وَمَا تَفْعَلُوا» التفَاتٌ؛ إذْ هو خُرُوج مِنْ غَيْبَةٍ في قوله: فَمَنْ فَرَضَ «وحُمِلَ على َمَعْنَى» مَنْ «إذ جَمَعَ الضميرَ ولم يُفْرده. وقد خَبَطَ بعضُ المُعْربين، فقال:» مِنْ خَيْر «مُتعَلِّق بتَفْعلوا، وهو في مَوضع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 نصب؛ لمصدّر محذوفٍ، تقديرُه:» وَمَا تَفْعَلُوا فِعْلاً مِنْ خَيْر «والهاءُ في» يَعْلَمْه «تَعُودُ إلى خير. قال شهابُ الدِّين: وهذا غَلَطٌ فاحِشٌ؛ لأَنَّه مِنْ حَيْثُ عَلَّقه بالفعلِ قبله كيف يَجْعَلُه نَعْتَ مصدرٍ مَحذوفٍ؟ ولأنَّ جَعْلَه الهاءَ تعودُ إلى» خَيْر «يلزمُ منه خلوُّ جملة الجواب مِنْ ضمير يَعُودُ اسم الشَّرْطِ، وذلك لا يجوزُ، أَمَّا لَوْ كانَتْ أَداةُ الشَّرْطِ حَرْفاً، فلا يُشْترطُ فيه ذلك، فالصَوابُ ما تقدَّم. وإنما ذكرت لك هذا لِئَّلا تراه فَتَتَوهَّمَ صِحَّتَه. والهاءُ عائِدةٌ على» ما «الَّتي هي اسمُ الشَّرْطِ. فصل اعلم أنَّ اللَّهَ تعالى يعلمُ كُلَّ شَيْءٍ وإذا خَصَّ هُنا الخير بأنه يعلمُه لفوائِد. أحدها: إذا علمتُ منك الخير، ذكرتُه وشَهَرْتُه، وإذا علمتُ مِنْك الشرَّ، سترتُه وأخفَيْتُه؛ لِتَعلم أنّه إذا كانت رَحْمَتي بك في الدنيا هكذا فكيف في العُقْبَى؟ وثانيها: قال بعضُ المفسرين في قوله: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] معناه: لَو أمكَنَنِي أن أُخْفيها عن نفسي، لَفَعلتُ، فكذا - هاهنا - كأنَّه قيل لِلْعَبْدِ: ما تَفْعَلْه مِن الشَّرِّ، فَلَوْ أَمْكنِني أَنْ أُخْفيهُ عن نَفْسي لَفَعلتُ ذلك. وثالثها: أنّ السُّلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع: كُلّ ما تتحمله من المشقَّة والخِدْمة في حَقِّي، فأنا عالِمٌ به، ومُطَّلِعٌ عليه، كان هذا وَعْداً له بالثَّواب العظيم، ولَو قال ذلك لعبده المذنِبِ، كان تَوَعُّداً له بالعِقابِ الشَّديد، ولَمَّا كان سبحانه أكرمَ الأَكرَمِينَ؛ لا جرمَ ذَكرَ ما يَدُلُّ على الثَّوابِ، ولم يذكرْ ما يدلُّ على العِقَابِ. ورابعها: أَنَّ جبريل - عليه السلام - لمَّا قال:» ما الإحسان «؟ فقال:» الإحْسَانُ: أَنْ تَعْبُد اللَّهُ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ، فَإِنَّهُ يَرَاكَ «، فهاهنا بيَّن للعبدِ أنَّه يَرَاهُ، ويعلمُ ما يفعلهُ من الخيراتِ لتكون طاعةُ العَبْدِ للربِّ من الإحسانِ، الذي هُو أَعْلَى دَرَجاتِ العِبَادِةِ، فإن الخادِمَ مَتَى علم أَنَّ مخدومه مُطَّلِعٌ عليه، ليس بغافلٍ عن أَحوالِهِ - كان أَحْرصَ على العَمَلِ. فصل قال القُرطبيُّ: هذا شرط وجوابه، والمعنى أنَّ اللَّهَ يُجَازيكُم على أعمالكُم؛ لأنَّ المجازاة إنما تقعُ من العَالِمِ بالشَّيءِ. وقيل: هو تحريضٌ وحَثٌّ على حُسنِ الكَلاَمِ مَكَانَ الفُحشِ، وعلى البِرِّ والتَّقْوَى في الأخلاقِ مكان الفُسُوقِ والجِدَالِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 وقيل: جعل الخير عبارةً عن ضبط أَنفُسِهم؛ حتى لا يوجد ما نهُوا عنه. قوله: {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} فيه قولان: أحدهما: أن المراد تزوّدوا من التَّقْوَى؛ لقولهِ {فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} فتحقيقٌ [الكلام فيه: أَنَّ] الإنسان له سَفَرانِ، سفرٌ فى الدنيا، وسَفَرٌ مِنَ الدُّنيا. فالسَّفَرُ في الدنيا، لا بُدَّ له مِنْ زَادٍ، وهو الطَّعامُ، والشَّرَابُ، والمركبُ، والمالُ والإعراضُ عمّا سِوَاهُ، وهذا الزادُ خيرٌ مِنَ الزَّادِ الأوَّلِ لوجوه: أحدها: أنّ زادَ الدُّنيا [يخلصُكَ مِنْ عَذَابِ مُنْقَطِعٍ، وزادَ الآخرة يُخَلِّصُك مِنْ عذاب دائمٍ، وزادُ الدُّنيا] يوصلك إلى لذَّةٍ مَمزُوجةٍ بالآلامِ، والبلايَا، وزادَ الآخرةِ يُوصِلكّ إلى لذَّاتِ باقيةٍ خالصةٍ عن شوائب المضَرَّةِ، وزادُ الدنيَا يُوصِلُك إلى دُنيا مُنقضيةٍ، وزادُ الآخرة يُوصِلُكَ إلى الآخرة، وهي كل ساعةٍ من الإِقبالِ، والقُرْبِ، والوُصُول غير منقضية وزادُ الدنيا يُوصِلُكُ إلى منصة الشَّهوة والنَّفْس وزادُ الآخرة يُوصِلُكَ إلى حضرة الجلالِ والقُدُس؛ فلهذا قال: {خَيْرَ الزاد التقوى} فَاشْتغلوا بتقواي يا أولي الألباب، يعني: إِن كُنتُم من أُولي الألباب الَّذين يعلمون حقائق الأمور فاشتغلوا بتحصيل هذا الزادِ؛ لما فيه من كثرةِ المَنافع؛ وفي هذا المعنى قال الأعشى: [الطويل] 995 - إِذَا أَنْتَ لَمْ تَرْحَلْ بِزادٍ مِنَ التُّقَى ... وَلاَقَيْتَ بَعْدَ المَوْتِ مَنْ قَدْ تَزَوَّدَا نَدْمِتَ عَلَى أَلاَّ تَكُونَ كَمِثْلِهِ ... وَأَنَّكَ لَمْ تَرْصْدْ كَمَا كَانَ أَرْصَدَا والقولُ الثَّانِي: أنّ هذه الآية الكريمة نزلت في أُناسٍ مِنْ أهل اليمن، كانوا يحجُّونَ بغير زادٍ، ويقُولُونَ إِنّا مُتَوكِّلُونَ وكانوا يَسْأَلُونَ وربما ظَلَمُوا الناس وغصبُوهُم، فأمرهم اللَّهُ تعالى أَنْ يَتَزوَّدُوا ما يَبْلُغُون به، فإنّ خير الزادِ ما تكفون به وجوهكم عن السُّؤال، وأنْفُسَكُم عن الظلم. وعن ابن زيدٍ، أنّ بعض قبائِلِ العربِ كانوا يحرّمُون الزادَ على الحج، والعمرة؛ فنزلت الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 قال ابنُ الجَوزيّ: قد لَبَسَ إِبْلِيسُ على قومٍ يَدعُون التوكُّل؛ فخرجوا بِلاَ زادٍ، وظنُّوا أن هذا هو التوكُّلُ وهُم على غاية الخطأَ، قال رَجلٌ لأحمد بن حَنْبلٍ: أُرِيد أَنْ أَخْرُجَ إلى مكَّةَ المشرفة على التوكُّلِ بِغَير زادٍ، فقال له أَحْمَدُ: اخرج في غير القَافِلَةِ. فقال: لا إِلاَّ معهُم، فقال: على جُرُب النَّاسِ تَوكلت. وروى محمد بنُ جرير الطبري عن ابن عمر قال: كانوا إذا أَحْرَموا، ومعهم أزودةٌ رَمَوْا به؛ فنهوا عن ذلك بهذه الآية الكريمة. قال القاضي: فإن أرادنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان: الأوَّل: أنّ القادر على أنْ يستصحِبَ المالَ في السفر إذا لم يستصحبه، عَصَى اللَّهُ تعالى في ذلك، فبهذا الطَّرِيق يصحُ دُخُولُه تحتَ الآية الكريمة. والثاني: أَنْ يكونَ في الكلام حَذْفٌ، والمرادُ تَزَوَّدوا لعاجل سفركم، ولآجِلِ، فإِنَّ خير الزادِ التقوَى. وقيل: المعنى فإنّ خَيْرَ الزادِ ما اتقى به المسافر من الهَلَكة، والحاجة إلى السؤال، والتكفُّفِ، وأَلِفُ «الزَّادِ» مُنقلبَةٌ عَنْ «واوٍ» لقولهم تَزَوَّدَ. قولهُ: «واتَقُونِي» أَثبتَ أبو عمر «الياءَ» في قوله: «وَاتَّقُونِي» على الأصل، وحذف الآخرون؛ للتخفيف، ودلالة الكسرةِ عليه، وفيه تَنْبيهٌ على كمالِ عظمةِ اللَّهِ وجلالِهِ؛ وهو كقول الشَّاعر: [الرجز] 996 - أَنَا أَبُوا النَّجْمِ وَشْعْرِي شِعْرِي ... قولُه {واتقون ياأولي الألباب} اعلم أَنَّ لُبَّ الشيءٍ ولُبَابَهُ هو الخَالِصُ منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 قال النَّحاسُ: سمعت أبا إسحاق يقول: قال لي أحمدُ بن يحيى ثعلبٌ: أتعرف في كَلام العرب شيْئاً من المُضاعَفِ جاء على فَعُلَ؟ قلت: نعم، حكى سيبويه عن يونس: لَيُبْتَ تَلُبّ؛ فاسْتَحْسَنُه، وقال: ما أَعْرفُ له نظيراً. واختلفوا فيه فقال بعضهم: إنّه للعقلِ؛ لأنه أشرفُ ما في الإنسان، وبه تميز عن البهائِمِ، وقَرُبَ مِنْ درجةِ الملائكة. وقال آخرون: إنّه في الأَصْلِ اسمٌ للقَلْبِ الذي هو محل للعقلِ، والقَلْبُ قد يُجعل كنايةً عن العَقلِ، فقوله: {ياأولي الألباب} أي: يا أُولِي العُقُولِ، وإطلاق اسم المحلِّ على الحال مجازٌ مشهُورٌ. فإن قيل: إذا كان لا يصِحُّ إِلاَّ خِطَابٌ العقل؛ فما فائدة قوله: {ياأولي الألباب} ؟! فالجواب: معناهُ أنّكم لمّا كنتُم مِنْ أُولِي الألباب، تمكنتُم مِنْ معرفة هذه الأشياء، والعَمَلِ بها، فَكَانَ وجوبها عليكم أَثبت، وإعراضُكم عنها أقبحَ؛ ولهذا قال الشاعر: [الوافر] 997 - وَلَمْ أَرَ في عُيُوب النَّاسِ شَيْئاً ... كَنَقْص الْقَادِرِيْن عَلَى التَّمَامِ وقال تبَاركَ وتعالى: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] يعني: أَنَّ الأنعامَ مَعْذُورةٌ بسبب العَجزِ، وأَمَّا هؤلاء فقادِرُون فكان إعراضهم أفحش، فلا جرم كانُوا أَضَلَّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 قوله {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} «أَنْ» في محلِّ نَصْبٍ في مَوْضعين عند سيبويه والفراء، وجَرٍّ عند شَيْخَيْهما والأَخْفِشِ؛ لأنَّها على إضمارِ حَرْفِ الجَرِّ، أي: في أَنْ، وهذا الجارُّ متعلِّقٌ: إمَّا بجُناح؛ لما فيه مِنْ مَعْنَى الفِعْلِ وهو الميلُ والإِثمُ، وما كانَ في معناهُمَا، وإمَّا بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل «جُناح» فيكونُ مرفوعَ المحلِّ، أي: جناحٌ كائنٌ في كذا. ونقل أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى عن بعضهم، أنه متعلقٌ ب «ليس» ، واسْتضْغَفُه. قال شهاب الدِّين: بل يُحْكَمُ بتخطئته ألبتة. قوله: «مِنْ رَبِّكُمْ» يجوزُ أَنْ يتعلَّق بتبتغوا فيكون مفعولاً له، وأَنْ يكون صِفَةٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 ل «فضلاً» ، فيكون منصوب المَحَلِّن مُتَعَلِّقاً، بمحذوفٍ. و «منْ» في الوجهين لابْتِدَاء الغاية، لكن فى الوجهِ الثاني تحتاجُ إلى حَذْفِ مُضافٍ أي: كَائناً مِنْ فُضولِ ربكم. فصل قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ} يدلُّ على أنّ شُبْهَةً قَامَتْ عندهم في تحريم التجارة من وجوهٍ: أحدها: أنَّه تبارك وتعالى منع الجِدَال في الحجِّ، والتِّجَارةُ كثيرةُ الإفضاءِ إلى المُنازعَةِ في قلَّة القِيمَةِ وكثرتِهَا؛ فوجَبَ أَنْ تكونَ التجارة مُحَرَّمةً. ثانيها: أنّ التجارة كانت مُحرمةً في وقت الحج في الجاهليةِ، وذلك شيءٌ، حسَنٌ؛ لأن المشتغل بالحج مشتغلٌ بخدمةِ الله تعالى، فوجب ألاَّ يَشُوبَ هذا العملَ بالأطماعِ الدُّنيويَّةِ. وثالثها: أنّ المسلمين عَلِمُوا أنّ كثيراً من المباحاتِ صارت مُحرمةً عليهم في الحج: كاللّبسِ، والاصْطِيَادِ، والطِّيبِ، والمباشرة، فغلب على ظنِّهم أنَّ الحجَّ لمَّا صار سبباً لحرمةِ اللبسِ مع الحاجَةِ إليه، فأَوْلَى منه تحريمُ التجارةِ؛ لقلة الاحتياج إليها. ورابعها: عند الاشتغال بالصلاةِ يَحْرُمُ الاشتغالُ بالتجارةِ؛ قال تعالى: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} [الجمعة: 9] فلهذا السبب، بيّن اللَّهُ تعالى - هاهنا - أنَّ التجارةَ جائزةٌ غير مُحَرَّمةٍ. فإذا عُرِفَ هذا، فذكر المفَسِّرُونَ في قوله: {أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} وجهين: الأوَّل: أَنَّ المراد هو التجارة؛ نظيره قوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله} [المزمل: 2] وقوله: {جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} [القصص: 73] ويدُلُّ عليه ما رَوَى عَطاءٌ عن ابن مسعودٍ وابن عباسٍ وابن الزُّبير أنّهم قرأوا: «أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فِي مَواسِمِ الحَجِّ» . وقال ابن عباسٍ: كان ناسٌ من العرب يَحْتَرِزُونَ مِنَ التجارةِ في أيَّامِ الحَجِّ، وإذا دَخَلَ العَشْرُ، بالغوا في تَرْك البيع والشِّراء بالكية، وكانوا يُسَمّون التاجر في الحج الدَّاجَّ، ويقُولون: هؤلاء الدَّاجُّ، وليسوا بالحاجِّ. ومعنى الدَّاجّ: المُكتسب الملْتَقِط، وهو مشتقٌّ من الدَّجاجة وبلغُوا في الاحتراز عن الأعمال إلى أن امتَنَعُوا من إِغاثةِ الملهُوفِ والضعيفِ وإِطعام الجائع؛ فأزال اللَّهُ هذا الوَهْمُ وبيّن أنّه لا جُناح في التجارة، ولما كان ما قَبْل هذه الآية في أحكامِ الحج، وما بعدها في الحج، وهو قوله تعالى: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 دَلّ ذلك على أَنَّ هذا الحكمَ واقِعٌ في زمان الحجِّ؛ فلهذا السبب استغني عن ذكره. وروي عن ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنّ رجلاً قال له: إنَّا قَوْمٌ نكري، وإنَّ قَوماً يَزْعُمونَ أنّه لا حَجَّ لنا، فقال: أَلَسْتُم تُحْرِمُونَ كما يُحْرِمون، وتَطُوفُونَ كما يَطُوفُونَ، وتَرْمُونَ كما يَرْمُونَ؟ قلتُ: بَلَى، قال: أنْتُم حُجَّاجٌ؛ وجاء رجلٌ إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يسأله عمَّا سَأَلتني، فلم يَرُدُّ عليه؛ حَتَّى نزل قوله تعالى {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} فَدَعَاهُ، وقال: أَنْتُم حُجَّاجٌ. وبالجملة فهذه الآية الكريمة نزلت رَدّاً على مَنْ يقول: لا حجَّ لِلتَّاجِرِ، والأَجِيرِ، والجَمَّالِ. ورَوَى عمرو بن دِينارٍ، عن ابن عباسٍ: أنَّ عُكَاظَ ومِجَنَّةَ، وذا المجاز كانت أسواقاً في الجاهليِّة، يتَّجرون فيها في أيَّام الموسِم، وكانت مَعَايشُهم مِنْهَا، فلمّا جاء الإسلامُ، كرهوا أنْ يَتّجروا في الحج بغير إذنٍ، فسألَوا رسولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنزلت الآيةُ. وقال مجاهدٌ: إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بِعَرفة، ولا مِنَى، فنزلت هذه الآيةُ، فلهذا حمل أكثرُ المفسرين الآية على التجارةِ في أيام الحجِّ، وحَمَلَ أبُو مُسْلم الآية على ما بعد الحج، قال: والتقديرُ: واتقوني في كل أفعالِ الحج، وبعد ذلك {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} ونظيره قوله تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة: 10] . قال ابن الخطيب: وهذا القولُ ضعيفٌ من وجوه، لأَنَّ قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِن عَرَفَاتٍ} يدلُّ على أنّ هذه الإفاضة حَصَلَتْ بعد ابتغاء الفَضْلِ؛ لأن الفاءَ للتَّعْقيب، وذلك يَدُلُّ على وُقُوع التجارة فيى زَمَانِ الحج. وأيضاً فَحَملُ الآية على موضع الشُبْهَة، أَوْلَى مِنْ حَمْلِها على مَوْضع لا شُبْهَةَ فيه، ومَحلُّ الشبهةِ، هو التجارةُ في زمان الحجِّ، وأَمَّا بعدَ فراغ الحجِّ، فكُلُّ أَحَدٍ يعلمُ حلَّ التجارة. فإن قيل: وكذلك أيضاً كل أَحَدٍ يعلمُ أَنَّ الصلاةَ إذا قُضِيت، يُبَاحُ البيعُ والشِّرَاء؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 فلماذا قال: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} . قلنا لأنه أمَر قبله بالسَّعي، ونهى عن البيع، فقال: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع} فَنَهى عن البيع بعد النِّدَاءِ، فلمَّا قال بعده: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} ، كأنّه قال: إِنَّ المانعَ الذي مَنَعَكُمْ من البَيْعِ قد زال؛ فانْتَشِرُوا في الأرض، وابتغُوا من فضل الله. وأمَّا قِياسُ الحجِّ على الصلاةِ، فالفرقُ بينهما: أنّ الصلاة أعمالُها مُتَّصِلَةٌ، فلا يَحِلُّ في أثنائِهَا التشاغلُ بغيرها، وأَمّا أعمال الحج، فهي مُتَفرِّقَةٌ بعضها عن بعضٍ، ففي خلالها لا يبقى المرءُ على الحكم الأول، فتصيرُ الصلاةُ عملاً واحداً من أعمالِ الحج، لا مَجْمُوعَ الأَعْمَالِ، وأيضاً فقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} تَصريحٌ بأَنّ الابتغاء بعد انقضاء الحج. فإن قيل: حُكمْ باقٍ في كل تلك الأَوقاتِ؛ بدليل حُرْمَةِ التطيب واللَّبسِ. فالجوابُ: هذا قياسٌ في مقابلة النص. القولُ الثاني: قال أبو جعفرٍ محمد بن علي الباقر: المرادُ بقوله تعالى: {أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} هو أَنْ يبتغي الإنسانُ حال كونه حاجّاً أعمالاً أخَرَ، تكونُ مُوجِبةً لاستحقاقِ فضْلِ الله ورحمته مِثْلَ إِعانَةِ الضَّعيف، وإغَاثَةِ الملهوف، وإطعام الجَائِعِ، واعترضَ عليه القاضي: بأَنّ هذا واجبٌ، أو مَنْدُوبٌ، ولا يُقالُ في مِثله: لا جَنَاحَ عَليكُم فيه، إِنَّما يُذكر هذا اللفظ في المُبَاحَاتِ. والجوابُ: لا نُسَلِّمُ أَنَّ هذا اللفظَ لا يُذكرُ إلاّ في المُبَاحَاتِ لقوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} [النساء: 101] والقصْرُ مندوبٌ وكما قال تعالى: {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة: 158] والطوافُ ركنٌ في الحج، وإنّما أهلُ الجاهلية كانوا يعتقدون أنّ ضَمَّ سَائِرِ الطاعَاتِ إلى الحجِّ، يُوقِعُ خَلَلاً في الحج، ونَقْصاً؛ فبيَّن اللَّهُ تعالى بقوله: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جَنَاحٌ} أنّ الأمر ليس كذلك. فصل اتفقُوا على أنّ التجارة إنْ أوْقعت نَقْصاً في الطاعة، لم تَكُنْ مباحةً، وإِنْ لم تُوقِعْ نقصاً في الطاعةِ، كانت مُبَاحةً، وتركها أَوْلَى؛ بقوله تعالى: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5] ، والإخلاصُ هو ألاَّ يكونَ له حَامِلٌ على الفِعْل سِوى كونهِ عبادةً، والحاصِلُ أنّ الإِذْنَ في هذه التجارة جَار مَجْرَى الرُّخَصِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 قوله: {فَإِذَا أَفَضْتُمْ} العامُ فيها جَوَابُها، وهو «فَاذْكُرُوا» قال أبُوا البقاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ «ولا تمنَعُ الفاءُ مِنْ عَمَل ما بعدَها، فيما قَبْلَها؛ لأنه شَرْطٌ» . ومَنَعَ أبُو حَيَّان مِنْ ذلك بما معناه: أنَّ مكانَ إنشاءِ الإِفَاضَةِ غيرُ مكانِ الذكْرِ؛ لأنَّ ذلك عَرَفَاتٌ، وهذا المَشْعَرِ الحَرَامِ وَاقِعاً عند إِنْشاء الإِفَاضَة. قوله: «مِنْ عَرَفَاتٍ» مُتَعلِّقٌ ب «أَفَضْتُم» والإِفَاضَةُ في الأَصْلِ: الصبُّ، يُقالُ، فَاضَ الإِناءُ، إذا امْتَلأَ حَتَّى ينصبَّ عن نواحيه. ورجلٌ فيَّاضٌ، أي: مندفقٌ بالعطاءِ؛ قال زُهيرٌ: [الطويل] 998 - وَأَبْيَضَ فَيَّاضٍ يَدَاهُ غَمَامَةٌ ... عَلَى مُعْتَفِيهِ مَا تُغِبُّ فَوَاضِلُهُ وحديثٌ مستقيضٌ، أي شائِعٌ. ويقالُ: فاضَ الماءُ وأَفَضْتُه، ثم يُستعملُ في الإِحْرامِ مَجَازاً. والهَمْزَةُ في «أَفَضْتُم» فيها وجهان: أحدُهما: أنها للتعدية، فيكون مفعولُه مَحْذُوفاً، تقديره: أَفَضْتُم أنفسكم، وهذا مَذْهب الزجاج، وتبعَهُ الزَّمَخْشَريُّ، وقَدَّره الزجاجُ فقال: معناه: دَفَعَ بعضُكم بَعْضاً والإِفَاضَةُ: الاندفاعُ في السَّيْرِ بكثيرةٍ، ومنه يُقالُ: أَفَاضَ البَعِيرُ بجرِته، إذا وقع بها فألقاها منبثة، وكذلك أَفَاضَ القِداحَ في المَيْسِر، ومعناه: جمعها، ثم أَلقاها مُتَفَرِّقَةً، وإِفَاضَة الماءِ من هذا؛ لأنه إذا صُبَّ، تَفَرَّق، والإِفَاضَةُ في الحديث، إِنَّما هو الاندفاعُ فيه بإكثارٍ، وتصرُّفٍ في وُجُوهِهِ؛ قال تعالى: {إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} [يونس: 61] ، قال بعضُهم: ولَيْسَ كذلك؛ لما يأتي، ومنه يُقال للناس: فَوْض، ومثلهم فَوْضَى، ويُقال: أَفَاضَت العينُ دَمْعَها، فأصلُ هذه الكلمة: الدفعُ للشيءِ حتى يتفرقَ، فقوله تعالى: «أَفَضْتُم» ، أي: دَفَعْتُم بكثرة، وأصلُه: أَفَضْتُم أَنْفُسَكُم، فتُرِك ذِكْرُ المفعول كما تُركَ في قولهم: دَفَعُوا مِنْ مَوضِعِ كَذَا، وَصَبُّوا. والوجه الثاني: أَنّ أَفْعَل هنا، بمعنى «فَعَلَ» المجردِ فلا مفعول له. قال أبو حيَّان: لأنه لا يحفّظُ: أَفَضْتُ زيداً بهذا المعنى الذي شرحناه آنفاً وأَصلُ أَفَضْتُم: أفْيَضْتُم فأُعلَِّ؛ كنظائره، بأَنْ نُقِلَتْ حَركَةُ حَرفِ العِلَّةِ على السَّاكِن قبلهُ فتحرَّك حرفُ العِلَّة في الأصل، وانْفَتَحَ ما قبله؛ فَقُلِب ألفاً، وهو مِنْ ذواتِ الياءِ من الفَيْض، كما تقدَّمَ، وليس مِنْ ذواتِ الواوِ من قولهم: فَوْضَى الناسِ، وهم أخلاطُ الناسِ بلا سائِسٍِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 وعَرَفات اسمُ مكانٍ مَخْصُوصٍ، وهل هو مشقٌّ أو مُرْتَجَلٌ؟ قولان: أحدهما: أنه مرتجلٌ، وإليه ذهب الزمخشريُّ، قال: «لأنَّ العَرَفَةَ لا تُعْرَفُ في أسماءِ الأجناس؛ إلا أنْ تكونَ جمعَ عارفٍ» . والثَّاني: أنه مُشتقٌّ، واختُلِف في اشتقاقه، فقيل: مِنَ المَعْرِفة؛ لأنَّ إبراهيم - عليه السلام - لَمَّا عرَّفه جبريلُ هذه البقعة بالنَّعْتِ، والصِّفَةِ؛ فَسُمِّيَتْ «عَرَفَاتٍ» قاله عليٌ، وابنُ عبَّاسٍ وعطاءٌ والسُّدّيُّ. قال السُّدِّيُّ: لمّا أَذَّنَ إبراهيم في الناس بالحجِّ، فأجابوه: بالتَّلبية، وأتاهُ مَنْ أَتَاهُ - أمَرَهُ اللَّهُ أنْ يَخْرُجَ إلى عَرَفاتٍ، ونعتها له، فخرج، فلمَّا بَلَغَ الشجرة عند العقبةِ، استقبلَهُ الشيطانُ؛ يَرُدُّهُ؛ فرماه بسبع حَصَيَاتٍ، يُكَبّرُ مع كُلِّ حَصَاة، فَطَار، فَوقَعَ على الجمرة الثَّانية؛ فرمَاهُ وكبِّر [فطار، فَوقع على الجَمْرة الثالثة؛ فرماه وكبّر] ، فلمّا رأى الشَّيطانُ أنَّه لا يُطيعُهُ؛ ذهب، فانطلق إبراهيم حتَّى أتى ذا المجازِ، فلمّا نظر إليه، لم يَعْرِفه، فجاز فسُمِّي ذا المجاز، ثمَّ انطلق حتَّى وقَفَ بعرفاتٍ فعرفها بالنَّعْت؛ فسُمِّي الموقف «عَرَفَة» والموضعُ «عَرَفَاتٍ» ، حتى إذا أَمْسَى ازْدَلَف أي قَرُبَ إلى جَمع فسُمِّي المُزْدَلَفَة. وقال عطاء: إنّ جبريل - عليه السلام - علّم إبراهيم - عليه السّلام - المَنَاسِك، وأوْصَلَه إلى عَرَفاتٍ، وقال له: أعَرَفْتَ كيف تَطُوفُ، وفي أي مَوْضعٍ تَقِف؟ قال: نعم. وقيل: إن إبراهيم - عليه السلام - وضَعَ ابنهُ إسماعيل وأمَّه هاجر بمكَّة، ورجع إلى الشَّام ولم يَلْتَقِيا سِنين، ثم الْتَقَيَا يوم عَرَفَة بِعَرَفَات. وقال الضَّحَّاكِ: إنّ آدم وحَوَّاء - عليهما السلام - التَقَيَا بعرَفة، فعرَفَ كلُّ وَاحِدٍ مِنْهُما صاحِبُه؛ فسُمِّي اليوم عَرَفَة والمَوْضِع بعَرَفَاتٍ؛ وذلك أنَّهما لمّا أُهْبِطا من الجَنَّة، وقع آدم بسَرَنْدِيب، وحوّاء بجَدَّة، وإبليس ببيسان والحية ب «أصْفهان» فلمّا أَمَر الله - تعالى - آدم - عليه السّلام - بالحجِّ، لقي حواء بعَرَفَاتٍ فتعارفا، قاله ابن عبَّاس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 وقيل: إنّ آدم - عليه السّلام - علّمهُ جبريل مَنَاسِك الحَجِّ، فلمّا وقَفَ بعَرَفَاتٍ قال له: أَعَرفتَ؟ قال: نعم، فسُمِّي عَرَفَاتٍ. وقيل: إن الحجاج يتعارَفُون بعَرَفَاتٍ إذا وَقَفُوا. وقيل: إنّه - تبارك وتعالى - يتعرّف فيه إلى الحُجَّاجِ بالمَغْفِرة والرَّحْمة. وروى أبو صالحٍ عن ابن عبَّاسٍ؛ أنّ إبراهيم - عليه السّلام - رأى ليلة التَّروية في منامه، أنَّه يؤمر بذبح ولده، فلما أصبح روَّى يومه أجمع، أي: فكّر أمنَ الله هذه الرُّؤيا أم من الشَّيطان؟ فسمِّي اليوم يوم التَّروية. ثم رأى ذلك ليلة عرفة ثانياً، فلمّا أصبح عرف أنّ ذلك من الله، فسمي اليوم عرفة. [وقيل: مشتقَّة من العرف، وهو الرائحة الطيبة] . قال تعالى: {وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: 6] أي طيَّبها لهم، فيكون المعنى: أن المذنبين لمّا تابوا في عرفات، فقد تخلَّصوا من نجاسات الذُّنوب، واكتسبوا عند الله رائحةً طيِّبة. وقيل: أصله من الصَّبر: يقال: رجل عارفٌ؛ إذا كان صابراً خاشعاً؛ قال ذو الرُّمَّة في ذلك: [الطويل] 999 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... عَرُوفٌ لَمَا خَطَّتْ عَلَيْهِ عَلَيْهِ المَقَادِرُ أي: صبورٌ على قضاء الله - تعالى - فسمِّي بهذا الاسم؛ لخضوع الحاجِّ وتذللِّهم وصبرهم على الدُّعاء، واحتمال الشَّدائد لإقامة هذه العبادة. وقيل: مشتقَّة من الاعتراف؛ لأن الحاجَّ إذا وقف اعترف للحقِّ بالربوبيَّة والجلال والاستغناء، ولنفسه بالفقر والذِّلَّة والمسْكَنَة والحاجة. وقيل: إنّ آدم وحوّاء - عليهما السّلام - لمّا وقفا بعرفاتٍ، قالا: {رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] قال الله - سبحانه وتعالى -: «الآن عَرَفْتُمَا أَنْفُسَكُما» وقيل: من العرف، وهو الارتفاع، ومنه عرف الدّيك، وعرفات جمع عرفة في الأصل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 ثم سمّي به بقعة واحدة كقولهم: ثوبٌ أخلاقٌ، وبرمةٌ أعشار، وأرضٌ سباسب، والتَّقدير، كان كلُّ قطعة من تلك الأرض عرفة، فسمِّي مجموع تلك القطع بعرفاتٍ. والمشهورُ: أنَّ عرفات وعرفة واحدٌ، وقيل: عرفة اسم اليوم، وعرفات اسم مكان، وعرفة هي نعمان الأراك؛ قال الشَّاعر: [الطويل] 1000 - تَزَوَّدْتُ مِنْ نَعْمَانَ عُودِ أَرَاكَةٍ ... لِهِنْدٍ وَلَكِنْ مَنْ يُبْلِّغُهُ هِنْدَا والتنوين في عرفاتٍ وبابه فيه ثلاثة أقوال: أظهرها: أنه تنوين مقابلةٍ، يعنون بهذا أنَّ تنوين هذا الجمع مقابلٌ لنون جمع الذكور، فتنوين مسلماتٍ مقابلٌ لنون مسلمين، ثم جعل كلُّ تنوين في جمع الإناث - وإن لم يكن لهنّ جمعٌ مذكرٌ - طرداً للباب. والثاني: أنه تنوين صرف، وهو ظاهر قول الزمخشريِّ؛ فإنه قال: «فإن قلتَ: فَهَلاَّ مُنِعَتِ الصَّرْفَ، وفيها السببان: التعريف والتأنيث؛ قلت: لا يخلو التأنيث: إما أن يكون بالتاء التي في لفظها، وإما بتاء مقدَّرة؛ كما هي في» سُعاد «، فالتي في لفظها ليست للتأنيث، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع المؤنَّث، ولا يصحُّ تقدير التاء فيها؛ لأنَّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعةٌ من تقديرها، كما لا تقدَّر تاء التأنيث في» بِنْتٍ «؛ لأنَّ التاء التي هي بدلٌ من الواو؛ سبباً فيها، فصار التنوين عنده للصَّرف. وأجاب غيره من عدم امتناع صرفها: فأنَّ هذه اللَّفظة في الأصل اسمٌ لقطع كثيرة من الأرض، كلُّ واحدة منها تسمى بعرفة، وعلى هذا التَّقدير لم يكن علماً، ثم جعلت علماً لمجموع تلك القطع فتركوها بعد ذلك على أصلها في عدم الصرف. والثالثك أنَّ جمع المؤنث، إن كان مذكرٌ؛ كمسلمات ومسلمين، فلتنوين للمقابلة، وإلاَّ فللصَّرف؛ كعرفاتٍ. والمشهور - حال التسمية به - إن يُنوَّن ويعرب بالحركتين: الضمة والكسرة؛ كما لو كان جمعاً، وفيه لغةٌ ثانيةٌ: وهو حذف التنوين تخفيفاً، وإعرابه بالكسرة نصباً، والثالثة: أعرابه غير منصرف بالفتحة جرّاً، وحكاها الكوفيُّون والأخفش، وأنشد قول امرئ القيس: [الطويل] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 1001 - تَنَوَّرْتُهَا مِنْ أَذْرَعَاتَ وَأَهْلَهَا ... بِيَثْرِبَ أَدْنَى دَارِهَا نَظَرٌ عَالِي بالفتح. فصل اعلم أنَّ اليوم الثَّامن من ذي الحجَّة يسمَّى يوم التَّروية، والتَّاسع: يوم عرفة، وقد تقدَّم تعليل يوم عرفة، وأمَّا التَّريوة ففيه قولان: أحدهما: ما تقدَّم من تروِّي إبراهيم - عليه السَّلام - في منامه، من روَّى يروِّي تروية؛ إذا تفكَّر وأعمل فكره ورؤيَّته. وقيل: إن آدم - عليه السلام - أمر ببناء البيت، فلمَّا بناه تفكَّر فقال: رب، إنَّ لكلِّ عاملٍ أجراً، فما أجري على هذا العلم؟ قال: إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك. قال: رب زدني، قال: لأغفرنّ لأولادك إذا طافوا به، قال: رب زدني، قال: أغفر لكلِّ من استغفر له الطَّائفون من موحدي أولادك. قال: حسبي يا ربِّ حسبي. وقيل: إنَّ أهل مَّة يخرجون يوم التَّروية إلى منى فيروُّون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في الغد بعرفات. الثاني: من رواه بالماء يرويه؛ إذا سقاه من عطشٍ، فقيل: إن أهل مكَّة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق، وكان الحاجُّ يستريحون في هذا اليوم من مشاقِّ السَّفر، ويتسعون في الماء، ويروون بهائمهم بعد قلَّة الماء في الطَّريق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 وقيل: إنهم يتزوَّدون الماء إلى عرفة. وقيل: إنَّ المذنبين كالعطاش الَّذين وردوا بحار رحمة الله - تعالى -، فشربوا منها حتى رووا. فصل في فضل هذين اليومين دلّ عليه قوله تعالى: {والشفع والوتر} [الفجر: 3] ، قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «الشَّفْعُ» ؛ يوم التَّروية وعرفة، والوتر يوم النَّحر. وعن عبادة؛ أنه - عليه السّلام - قال: «صِيَامُ عَشْر الأضْحَى كُلُّ يومٍ مِنْها كالشَّهْرِ، ولِمَن يَصُوم يَوْم التَّروية سَنَة، وبصَوْم يوم عَرَفَة سَنَتَانِ» وروى أنس عنه - عليه السلام -؛ قال: «مَنْ صَامَ يَوْمَ التَّرويَةِ أَعْطَاهُ اللَّهُ مَثْلَ ثَوَابِ عِيسَى ابْنِ مَريمَ» ، وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء خمسة منها مختصَّة به، وخمسة يشترك فيها مع غيره، فالخمسة الأول: أحدها: عرفة وتقدَّم اشتقاقه. الثاني: يوم إياس الكفَّار من دين الإسلام؛ قال - تبارك وتعالى -: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} [المائدة: 3] . قال عمر، وابن عبَّاس: نزلت هذه الآية الكريمة عشيَّة عرفة، والنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واقف بعرفة في موقف إبراهيم - عليه السلام -:، وذلك في حجَّة الوداع وقد اضمحلَّ الكفر وهدم شأن الجاهليَّة، فقال النبيُّ - عليه السلام -: «لو يَعْلَمُ النَّاسُ ما لَهُم في هذه الآية، لقَّرَّت أَعْيُنُهُم» فقال يهوديُّ لعمر: لو أنَّ هذه الآية نَزَلَت عَلَيْنَا لاتَّخَذْنَا ذَلِكَ اليَوْم عِيداً، فقال عُمَر: أمَّا نَحْنُ فَجَعَلْنَاهُ عيدين «؛ كان يوم عَرَفَة ويَوم الجُمَعَة، ومعنى إياس المشركين بأنَّهم يئسوا من قوم محمَّد - عليه السَّلام - أن يرتَدّوا [راجعين] إلى دينهم. الثالث: يوم إكمال الدِّين؛ نزل فيه قول تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فلم يأمرهم بعد ذلك بشيءٍ من الشَّرائع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 الرابع: يوم إتمام النِّعمة؛ لقوله فيه: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] وأعظم النِّعم نعمة الدِّين. الخامس: يوم الرِّضوان؛ لقوله تعالى في ذلك اليوم: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} [المائدة: 3] . أما الخمسة الأُخر. فأحدها: يوم الحجِّ الأكبر؛ قال تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ} [التوبة: 3] وهذا الاسم مشترك بينه وبين يوم النَّحر، واختلف فيه الصَّحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - والتابعون. فمنهم من قالك إنَّه عرفة؛ لأنَّ فيه الوقوف بعرفة» والحَجُّ عَرَفَة «فإنَّه لو أدركه وفاته سائر مناسك الحجِّ، أجزاء عنها الدَّم، فلهذا سمِّي بالحَجِّ الأكبر. وقال الحَسَن: سمِّي به؛ لأنه اجتمع فيه الكفَّار والمسلمون، ونودي فيه على ألاَّ يحجَّ بعده مشرك. وقال ابن سيرين: إنما سمِّي به؛ لأنَّه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلِّها؛ من اليهود والنَّصارى وحجِّ المسلمين، ولم يجتمع قبله ولا بعده. ومنهم من قالك إِنَّه يوم النَّحر؛ لأن فيه أكثر مناسك الحجِّ، فأمَّا الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزئ باللَّيل. وثانيها: الشَّفع. وثالثهما: الوتر. ورابعها: الشَّاهد. وخامسها: المشهود في قوله تعالى: {وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} [البروج: 3] . فصل» في ترتيب أعمال الحج « من دخل مكَّة محرماً في ذي الحجَّة أو قبله، فإن كان مفرداً أو قارناً طاف طواف القدوم، وأقام على إحرامه حتى يخرج إلى عرفات وإن كان متمتِّعاً طاف وسعي وحلق، وتحلَّل من عمرته، وأقام إلى وقت خروجه إلى عرفاتٍ، وحينئذٍ يحرم من مكَّة بالحجِّ ويخرج، وكذلك من أراد الحجَّ من أهل مكَّة، والسُّنَّة أن يخطب الإمام بمكَّة يوم السَّابع من ذي الحجَّة، بعد أن يصلِّي الظُّهر خطبة واحدة، يأمرهم فيها بالذِّهاب غداً بعد صلاة الصُّبح إلى منى، ويعلمهم تلك الأعمال، ثم يذهبون يوم التَّروية وهو اليوم الثَّامن من ذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 الحجَّة إلى منى، بحيث يوافون الظُّهر بها، ويصلُّون بها الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء والصُّبح من يوم عرفة، فإذا طلعت الشَّمس على ثبيرٍ يتوجَّهون إلى عرفات، فإذا دنوا منها فالسُّنَّة ألاَّ يدخلوها، بل يضرب فيه الإمام بنمرة، وهي قريبة من عرفة، فينزلون هناك حتَّى نزول الشَّمس، فيخطب الإمام خطبتين، يبيِّن لهم مناسك الحجِّ، ويُحرِّضهم على كثرة الدُّعاء والتَّهليل بالموقف، فإذا فرغ من الخطبة الاولى، جلس ثم قال، وافتتح الخطبة الثَّانية والمؤذِّنون يأخذون في الأذان معه، ويخفِّف بحيث يكون فراغه من الخطبة، مع فراغ المؤذِّنين من الأذان، ثم ينزل فيقيم المؤذِّنون فيصلِّي بهم الظُّهر، ثم يقيمون في الحال ويصلِّي بهم العصر، وهذا الجمع متفقٌ عليه، فإذا فرغوا في الصَّلاة توجَّهوا إلى عرفاتٍ، فيقفون عند الصَّخرات موقف النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويستقبلون القبلة ويذكرون الله - تعالى - ويدعونه إلى غروب الشَّمس. وهنا الوقوف ركنٌ لا يدرك الحجُّ إلاّ به، فمن فاته في وقته وموضعه، فقد فاته الحجُّ، ووقت الوقوف يدخل بزوال الشَّمس من يوم عرفة، ويمتدُّ إلى طلوع الفجر من ليوم النَّحر، وذلك نصف يوم وليلة كاملة، فإذا حضر الحاجُّ هناك في هذا الموقف لحظة واحدة من ليل أو نهار، كفاه. قال القرطبيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: أجمع أهل العلم على أنَّ من وقف بعرفة يوم عرفة قبل الزَّوال، ثم أفاض منها قبل الزَّوال أنّه لا يعتدّ بوقوفه ذلك، وأجمعوا على تمام حجِّ من وقف بعرفة بعد الزَّوال، وأفاض نهاراً قبل اللِّيل إلاَّ مالك؛ فإنَّه قال: لا بدَّ أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 يأخذ من اللَّيل شيئاً، وأمَّا من وقف بعرفة باللَّيل، فإنّه لا خلاف بين الأئمَّة في تمام حجِّه، [فإذا غربت الشَّمس، دفع الإمام من عرفات وأخّر صلاة المغرب] وعند أحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقت الوقوف من طلوع فجر يوم عرفة إلى طلوع فجر يوم النحر. فصل قال القرطبيّ: لا خلاف بين العلماء أنَّ الوقوف بعرفة راكباً لمن قدر عليه أفضل؛ لفعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك، وعرفة كلها موقف إلاّ بطن عُرنَة. قال: ولا بأس بالتَّعريف في المساجد يوم عرفة؛ تشبيهاً بأهل عرفة. فصل فإذا غربت الشَّمس دفع الإمام من عرفات، وأخَّر صلاة المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء بالمزدلفة. وفي تسميتها بالمزدلفة أقوال: أحدها: أنّهم يقربون فيها من منى، والأزدلاف: القرب. والثاني: أنّ النَّاس يجتمعون فيها، والاجتماع الازدلاف. والثالث: يزدلفون إلى الله - تعالى -، أي: يتقربَّبون بالوقوف، ويقال للمزدلفة: جمع؛ لأنَّه يجمع فيها بين المغرب والعشاء؛ قاله قتادة. وقيل: إنّ آدم - عليه السلام - اجتمع فيها مع حوَّاء، وازدلف إليها، أي: دنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 منها، فإذا أتى الإمام المزدلفة، جمع المغرب والعشاء بإقامتين، ثم يبيتون بها، فإن لم يبت بها فعليه دم [شاة] ، فإذا طلع الفجر، صلُّوا الصُّبح بغلس، والتَّغليس هنا أشدُّ استحباباً منه في غيره بالاتَّفاق، فإذا صلُّوا الصبح، أخذوا منها حصى الرَّمي، كُلُّ إنسانِ سبعين حصاة، ثم يذهبون إلى المشعر الحرام، وهو جبل يقال له: «قزح» ، وسُمِّي مشعراًً؛ لأنَّه من الشِّعار وهو العلامة؛ لأنه معلم الحجِّ، والصَّلاة والمبيت به، والدعاء عنده من شعائر الحجِّ، وسمِّي بالحرام لحرمته وهو أقصى المزدلفة مما يلي منى، فيرقى عليه إن أمكنه، أو يقف قريباً منه إن لم يمكنه، وبحمده الله - تعالى - ويهلِّله ويكبّره إلى أن يسفر جداً، ثم يدفع قبل طلوع الشَّمس، ويكفي المرور كام في عرفة، ثم يذهبون منه إلى وادي محسر، فإذا بلغوا بطن محسر فمن كان راكباً، حَرَّك دابته، ومن كان ماشياً، أسرع قدر رمية بحجر، فإذا أتوا منى رموا جمرة العقبة في بطن الوادي بسبع حصيات، يقطع التَّلبية مع ابتداء الرَّمي، فإذا ذبح حلق رأسه، أو قصَّر شعره بأن يقطع طرفه، ثم يأتي إلى مكَّة بعد الحلق، فيطوف بالبيت طواف الإفاضة، ويسمّى طواف الزِّيارة، ويصلي ركعتي الطَّواف، ويسعى بين الصَّفا والمروة، ثم يعود إلى منى في بقيَّة يوم النَّحر، وعليه المبيت بمنى ليالي التَّشريق لأجل الرَّمي، وسمِّيت «منى» لأنه يمنى فيه الدَّم، أي: يراق، فذا حصل الرَّمي والحلق والطَّواف، فقد حلّ. فصل اعلم أنّ أهل الجاهليَّة كانوا قد غيَّروا مناسك الحجِّ عن سنَّة إبراهيم - عليه السلام - وذلك أنّ قريشاً وقوماً آخرين سمُّوا أنفسهم بالحمس، وهم أهل الشَّدَّة في دينهم، والحماسة الشِّدَّة، يقال: رجل أحمس وقوم حمسٌ، ثم إن هؤلاء كانوا لا يقفون في عرفاتٍ، ويقولون: لا نخرج من الحرم، ولا نتركه وقت الطَّاعة، وكان غيرهم يقفون بعرفاتٍ والَّذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل غروب الشِّمس، والذين يقفون بالزدلفة يفيضون إذا طلعت الشَّمس، ويقولون: أشرق ثبير كيما نغير، ومعناه: أشرق يا ثبير بالشَّمس، كيما نندفع من مزدلفة، فيدخلون في غور من الأرض، فأمر الله - تعالى - محمَّداً - عيله السَّلام - بمخالفة القوم في الدُّفعتين، فأمره بأن يفيض من عرفة بعد المغرب، وبأن يفيض من مزدلفة قبل طلوع الشَّمس، فالسُّنَّة بيَّنت المراد من الآية الكريمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 فصل الآية دلَّت على وجوب ذكر الله عند المشعر الحرام، عند الإفاضة من عرفات، والإفاضة من عرفة مشروطة بالحصول في عرفة، ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به وكان مقدوراً للمكلَّف، فهو واجبٌ، فدلَّت الآية الكريمة على أنَّ الحصول في عرفاتٍ واجبٌ في الحجِّ، فإذا لم يأت به لم يكن آتياً بالحجِّ المأمور؛ فوجب ألاَّ يخرج عن العهدة، وهذا يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة شرطاً. أقصى ما في الباب: أنّ الحجَّ يحصل عند ترك بعض المأمورات بدليل منفصل، إلاّ أنّ الأصل ما ذكرنا، وذهب كثير من العلماء إلى أنّ الآية لا دلالة فيها على أنّ الوقوف شرطٌ، ونقل عن الحسن أن الوقوف بعرفة واجبٌ، إلاَّ أنه إن فاته ذلك، قام الوقوف بجميع الحرم مقامه، واتَّفق الفقهاء على أنّ الحجَّ لا يحصل إلاّ بالوقوف بعرفة. قوله: {عِندَ المشعر الحرام} فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّق ب «اذْكُرُوا» . والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حالٌ من فاعل «اذْكُرُوا» أي: اذكروه كائنين عند المشعر. والمشعر: المعلم من الشِّعار وهو العلامة؛ لأنّه من معالم الحجِّ، وأصله قولك: شعرت بالشَّيء إذا علمته، وليت شعري ما فعل فلانٌ، أي: ليت بلغه وأحاط به، وشعار الشَّيء علامته، واختلفوا: فقال بعضهم: هو المزدلفة، لأن الصَّلاة والمقام والمبيت بها، والدُّعاء عنده، قال الواحدي في البسيط. وقال الزَّمخشري: الأصحُّ أنه قزح وهو آخر المزدلفة. وقال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: والأول أقرب؛ لأنَّ الفاء في قوله: {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} تدلُّ على أنّ الذِّكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات، وما ذاك إلاّ البيتوتة بالمزدلفة. فصل قوله: {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} يدلُّ على أن الحصول عند المشعر الحرام واجبٌ، ويكفي فيه المرور به، كما في عرفة، فأمَّا الوقوف هناك فمسنون. وروي عن علقمة والنَّخعي؛ أنّهما قالا: الوقوف بالمزدلفة ركنٌ بمنزلة الوقوف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 بعرفة، لقوله تعالى: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} ، فإذا قلنا: بأن الوقوف بعرفة ركن وليس ذكره صريحاً في الكتاب، وإنَّما وجب بإشارة الآية الكريمة أو بالسُّنَّة - فالمشعر الحرام فيه أمر جزمٌ. وقال جمهور الفقهاء: ليس برِكن؛ لقوله - عليه السلام -: «الحَجُّ عَرَفَةُ، فمن وقف بعرفة، فقد تم حجُّه» وقوله «مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَة فَقَدْ أَدْرَك الحَجَّ، ومن فاتَهُ عَرَفَةُ فَقَدْ فَاتَهُ الحَجُّ» ، وأيضاً فقوله تعالى: {فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} أمر بالذِّكر لا بالوقوف فالوقوف بالمشعر الحرام يقع للذِّكر، وليس بأصلٍ، وأمّا الوقوفَ بعرفة فهو أصلٌ؛ لأنه قال: {فإِذَآ أَفَضْتُمْ مِّنْ عَرَفَاتٍ} ولم يقل عند الذكر بعرفاتٍ. فصل اختلفوا في الذِّكر المأمور به عند المشعر الحرام. فقال بعضهم: هو الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء، والصَّلاة تسمَّى ذكراً؛ قال تعالى: {وَأَقِمِ الصلاة لذكريا} [طه: 14] ، وأيضاً فإنه أمر بالذِّكر هناك، والأمر للوجوب، ولا ذكر هناك يجب إلاَّ هذا. وقال الجمهور: هو ذكر الله بالتَّسبيح والتَّحميد والتَّهليل. قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كان النّاس إذا أدركوا هذه اللَّيلة لا ينامون. قوله: «كَمَا هَدَاكُمْ» فيه خمسة أقوال: أحدها: أن تكون «الكَافُ» في محلّ نصبٍ نعتاً لمصدر محذوفٍ. والثاني: أن تكون في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المقدَّر، وهو مذهب سيبويه. والثالثك أن يكون في محلِّ نصب على الحال من فاعل «اذْكُرثوا» تقديره: مشبهين لكم حين هداكم، قال أبو البقاء: «ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ؛ لأنَّ الجُثَّة لا تشبه الحدث» . ومثله: «كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ» الكاف نعت لمصدر محذوف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 قال القرطبيّ: والمعنى: «اذْكُرُوه ذكْراً حسناً كما هَدَاكُمْ هَدَاية حَسنَة» . الثالث: أن يكون حالاً، تقديره: فاذكروا الله مبالغين. والرابع: للتعليل بمعنى اللام، أي: اذكروه لأجل هدايته إيَّاكم، حكى سيبويه رَحِمَهُ اللَّهُ: «كَمَا أنَّهُ لاَ يَعْلَمُ، فتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ» . وممَّن قال بكونها للعلِّيَّة الأخفش وجماعةٌ. و «مَا» في «كَمَا» يجوز فيها وجهان: أحدهما: أن تكون مصدريةً، فتكون مع ما بعدها في محلِّ جر بالكاف، أي: كهدايته. والثاني - وبه قال الزمخشريُّ وابن عطية - أن تكون كافَّةً للكاف عن العمل، فلا يكون للجملة التي بعدها محلٌّ من الإعراب، بل إن وقع بعدها اسم، رفع على الابتداء كقول القائل: [الطويل] 1002 - وَنَنْصًرُ مَوْلاَنَا ونَعْلَمُ أَنَّهُ ... كَمَا النَّاسُ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ وقال آخر: [الوافر] 1003 - لَعَمْرُكَش إنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ ... كَمَا النَّشْوَانُ والرَّجُلُ الْحَلِيمُ أُرِيدُ هِجَاءَهُ وَأَخَافُ رَبِّي ... وَأَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ لَئِيمٌ وقد منع صاحب «المُسْتَوْفى» كون «مَا» كافةً للكاف، وهو محجوجٌ بما تقدّم. والخامس: أن تكون الكاف بمعنى «عَلَى» ؛ كقوله: {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] . فإن قيل: قوله تعالى: {واذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} ثم قال: «وَاذْكُرُوهُ» فما فائدة هذا التَّكرار؟ فالجواب من وجوهٍ: أحدها: أنّ أسماء الله - تعالى - توقيفيَّة؛ فقوله أولاً: {واذكروا الله} أمر بالذِّكر، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 وقوله تعالى: {واذكروه كَمَا هَدَاكُم} أمر بأن نذكره بالأسماء والصِّفات التي بيَّنها لنا وهدانا إليها، لا بأسماء تذكر بحسب الرَّأي والقياس. وقيل: أمر بالذِّكر أولاً، ثم قال: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} ، أي: وافعلوا ما أمركم به من الذِّكر كما هداكم لدين الإسلام، كأنّه قال: إنَّما أمرتكم بهذا الذِّكر؛ لتكونوا شاكرين لتلك النِّعمة، ونظيره ما أمرهم به من التكبير عند فراغ رمضان، فقال: {وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 185] ، وقال في الأضاحي: {كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [الحج: 37] . وقيل: أمر أولاً بالذِّكر باللِّسان، وثانياً بالذِّكر بالقلب، فإن الذكر في كلام العرب ضربان: أحدهما: الذِّكر ضد النِّسيان. والثاني: الذِّكر بالقول. فالأول: كقوله: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] . والثاني: كقوله: {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} [البقرة: 200] ، و {واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] فالأول محمول على الذِّكر باللِّسان، والثاني على الذكر بالقلب. وقال ابن الأنباري: معنى قوله: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} أي: اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته. وقيل: المراد مواصلة الذكر بالذِّكر؛ كأنه قيل لهم: اذكروا الله واذكروه، أي: اذكروه ذكراً بعد ذكر؛ كما هداكم هداية بعد هداية، نظيره قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب: 41] . وقيل: المراد بالذكر الأول: ذكر الله بأسمائه وصفاته الحسنى، والمراد بالثاني: الاشتغال بشكر نعمائه والشُّكر مشتمل أيضاً على الذِّكر. فصل قال بعضهم: إن هذه الهداية خاصَّة، والمراد: كما هداكم في مناسك حجِّكم إلى سنَّة إبراهيم - عليه السلام -. وقال بعضهم: بل هي عامَّة متناولة لكل أنواع الهدايات. قوله: {وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين} : «إنْ» هذه هي المخفَّفة من الثقيلة، واللام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 بعدها للفرق بينهما وبين النافية، وجاز دخول «إنْ» على الفعل؛ لأنه ناسخٌ، وهل هذه اللام لام الابتداء التي كانت تصحب «إنَّ» ، أو لامٌ أخرى غيرها؛ اجتلبت للفرق؟ قولان هذا رأيُ البصريِّين. وأمَّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف: فزعم الفرّاء أنها بمعنى «إنْ» النافية، واللام بمعنى «لاَّ» ، أي: ما كنتم من قبله إلاَّ من الضالِّين، ومذهب الكسائيِّ التفصيل: بين أن تدخل على جملةٍ فعليَّة، فتكون «إنْ» بمعنى «قَدْ» ، واللاَّم زائدةً للتوكيد؛ كقوله: {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين} [الشعراء: 186] ، وبين أن تدخل على جملةٍ، كقوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] ؛ فتكون كقول الفرَّاء. و «مِنْ قَبْلِهِ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ يدلُّ عليه «لَمِنَ الضَّالِّينَ» ، تقديره: كنتم من قبله ضالِّين لمن الضَّالِّين، ولا يتعلَّق بالضالِّينَ بعده؛ لأنَّ ما بعد «أَلِ» الموصولةِ، لا يعمل فيما قبلها، إلا على رأي من يتوسَّع في الظرف، والهاء في «قَبْلِهِ» عائدةٌ على «الهُدَى» المفهوم من قوله «كَمَا هَدَاكُمْ» . وقيل: تعود إلى القرآن، والتقدير: واذكروه كما هداكم، بكتابه الذي بيَّن لكم معالم دينه، وإن كنتم من قبل إنزاله عليكم من الضَّالِّين. وقيل: إلى الرَّسول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 استشكل الناس مجي «ثُمَّ» هنا؛ من حيث إنَّ الإفاضة الثانية هي الإفاضة الأولى؛ لأنَّ قريشاً كانت تقف بمزدلفة، وسائر الناس بعرفة، فأمروا أن يفيضوا من عرفة كسائر الناس، فكيف يجاء ب «ثُمَّ» التي تقتضي الترتيب والتراخي؟ والجواب من وجوهٍ: أحدها: أنَّ الترتيب في الذِّكر، لا في الزمان الواقع فيه الأفعال، وحسَّن ذلك؛ أن الإفاضة الأولى غير مأمور بها، إنما المأمور به ذكر الله، إذا فعلت الإفاضة. ثانيها: أن تكون هذه الجملة معطوفةً على قوله: {واتقون ياأولي الألباب} ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وهو بعيدٌ. ثالثها: أن تكون «ثُمَّ» بمعنى الواو، قال بعض النُّحَاةِ: فهي لعطف كلامٍ منقطع من الأول. قال بعضهم: وهي نظير قوله تعالى: {وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد: 12، 13] إلى قوله: {ثُّمَّ كّانَ} [البلد: 17] ، أي: كان مع هذا من المؤمنين، وفائدة «ثُمَّ» ههنا: تأخُّر أحد الخبرين عن الآخر، لا تأخّر المخبر عنه [عن ذلك المخبر عنه] . رابعها: أن الإفاضة الثانية هي من جمع إلى منى، والمخاطبون بها جميع الناس، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 قاله الضَّحَّاك، ورجَّحه الطبريُّ، وهو الذي يقتضيه ظاهر القرآن، فتكون «ثُمَّ» على بابها، قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: كيف موقعُ» ثُمَّ «؟ قلتُ: نحو موقِعها في قولك: أَحْسِنْ إلَى النَّاسِ، ثُمَّ لاَ تُحْسِنْ إلَى غَيْرِ كَريمٍ» تأتي ب «ثُمَّ» ؛ لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم، والإحسان إلى غيره، وبُعد ما بينهما، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات، قال: {ثُمَّ أَفِيضُواْ} لتفاوت ما بين الإفاضتين، وأنَّ إحداهما صواب والثانية خطأ «قال أبو حيَّان:» وليستِ الآية نظيرَ المثال الذي مَثَّلَهُ، وخاصل ما ذكر أن «ثُمَّ» تسلب الترتيب، وأنَّ لها معنى غيره سمَّاه بالتفاوت، والبعد لما بعدها عمَّا قبلها، ولم يذكر في الآية إفاضة الخطأ حتَّى تجيء «ثُمَّ» لتفاوت ما بينهما، ولا نعلم أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى ل «ثُمَّ» قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: وهذا الذي ناقش الزمخشريَّ به تحاملٌ عليه، فإنه يعني بالتفاوت والبعد التراخي الواقع بين الرتبتين، وسيأتي له نظائر، وبمثل هذه الأشياء لا يردُّ بها على مثل هذا الرجل. و «مِنْ حَيْثُ» متعلِّقٌ ب «أَفِيضُوا» ، و «مِنْ» لابتداء الغاية، و «حَيْثُ» هنا على بابها من كونها ظرف مكانٍ، وقال القفَّال: «هي هنا لزمان الإفاضة» وقد تقدَّم أن هذا قول الأخفش، وتقدَّم دليله، وكأن القفال رام بذلك التغاير بين الإفاضتين؛ ليقع الجواب عن مجيء «ثُم» هنا، ولا يفيد ذلك؛ لأن الزَّمان يستلزم مكان الفعل الواقع فيه. و {أَفَاضَ الناس} في محلِّ جرِّ بإضافة «حَيْثُ» إليها، والجمهور على رفع السِّين من «النَّاسُ» . وقرأ سعيد بن جبيرٍ: «النَّاسِي» وفيها تأويلان: أحدهما: أنه يراد به آدم - عليه السَّلام - بقوله: «فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً» . والثاني: أنيراد به التارك للوقوف بمزدلفة، وهم جمع النَّاس، فيكون المراد ب «النَّاسِي» جنس الناسين، قال ابن عطيَّة: «ويجوز عند بعضهم حذف الياء، فيقول:» النَّاسِ «بكسر السِّين، فاكتفى بالكسرة عن الياء، وبها قرأ الزُّهريُّ؛ كالقاص والهاد؛ قال: أمّا جوازه في العربية، فذكره سيبويه وأمّا جوازه قراءةً، فلا أحفظه. قال أَبو حيان: لم يجز سيبويه ذلك إلا في الشِّعر، وأجازه الفرَّاء في اكلام، وأمَّا قوله:» لَمْ أَحْفَظْهُ «، فقد حفظه غيره، حكاها المهدويُّ قراءةً عن سعيد بن جبير أيضاً. فصل في المراد بالإفاضة في الآية الكريمة قولان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 الأول: أنّ المراد بهذه الإفاضة من عرفات. قال المفسِّرون: كانت قريش وحلفاؤها وهم الحمس يقفون بالمزدلفة، ويقولون: نحن أهل الله وقطَّان حرمه، فلا نخرج من الحرم، ويستعظمون أن يقفوا مع النَّاس بعرفاتٍ، وسائر العرب كانوا يقفون بعرفاتٍ، فإذا أفاض النَّاس من عرفات، أفاض الحمس من المزدلفة، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية الكريمة، وأمرهم أن يقفوا بعرفات وأن يفيضوا منها كما يفعله سائر النَّاس، والمراد بالنَّاس: العرب كلُّهم غير الحمس. وقال الكلبي: هم أهل اليمن وربيعة، وروي أنَّه - عليه السلام - لمّا جعل أبا بكرٍ أميراً في الحجِّ، أمره بإخراج النَّاس إلى عرفتٍ، فلمّا ذهب مرّ على الحمس وتركهم، فقالوا له: إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب، فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر رسول الله إلى عرافتٍ، ووقف بها وأمر سائر النَّاس بالوقوف بها، وقال بعضهم:» أفِيضُوا «أمر عامٌّ لكلِّ النَّاس. وقوله: {حَيْثُ أَفَاضَ الناس} المراد: إبراهيم وإسماعيل - عليهما السلام - كان يقف في الجاهليَّة بعرفة كسائر النَّاس ويخالف الحمس. وقال الضَّحَّاك: النَّاس ههنا إبراهيم وحده، وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً يقتدى به، وهو كقوله - تبارك وتعالى -: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] يعني به: نعيم ابن مسعود، {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173] يعني أبا سفيان، وهو مجاز مشهور؛ ومنه قوله: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] . وقال القفَّال: قوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} [عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفاتٍ، وأنَّه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث؛ كما يقال: هذا ممَّا فعله النَّاس قديماً. وقال الزَّهريّ: إنّ المراد من النَّاس في هذه الآية: آدم - عليه السلام -؛ واحتج بقراءة سعيد بن جبير المتقدِّمة. القول الثاني - وهو اختيار الضحَّاك ورجَّحه الطَّبري -: أنّ المراد بهذه الإفاضة، هي الإفاضة من مزدلفة إلى منى يوم النَّحر، قبل طلوع الشمس للرَّمي والنَّحر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 وقوله: {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} ] المراد: إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما. قوله: {واستغفروا الله} اسْتَغْفَرَ «يتعدَّى لاثنين، ولهما بنفسه، والثاني ب» مِنْ «؛ نحو: استغفرت الله من ذنبي، وقد يحذف حرف الجر؛ كقول القائل: [البسيط] 1004 - أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ العِبَادِ إِلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ هذا مذهب سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - وجمهور النَّاس. وقال ابن الطَّراوة: إنه يتعدَّى إليهما بنفسه أصالة، وإنما يتعدَّى ب» مِنْ «؛ لتضمنه معنى ما يتعدَّى بها، فعنده» اسْتَغْفَرْتُ اللَّهُ مِنْ كَذَا «بمعنى تبت إليه من كذا، ولم يجىء:» اسْتَغْفَرَ «في القرآن الكريم متعدِّياً إلاَّ للأول فقط، فأمَّا قوله تعالى: {واستغفر لِذَنبِكَ} [غافر: 55] {واستغفر لِذَنبِكَ} [يوسف: 29] {فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135] فالظاهر أنَّ هذه اللام لام العلَّة، لا لام التعدية، ومجرورها مفعول من أجله، لا مفعول به. وأمَّا» غَفَر «فذكر مفعوله في القرآن تارةً: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} [آل عمران: 135] ، وحذف أخرى: {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} [المائدة: 40] . والسين في» اسْتَغْفَرَ «للطلب على بابها، والمفعول الثاني هنا محذوف للعلم به، أي: من ذنوبكم التي فرطت منكم. فإن قيل: أمرٌ بالاستْغفارِ مطلقاً، وربما كان فيهم من لم يُذِنبْ، فحينذٍ لا يحتاجُ إلى الاسْتِغْفار. فالجواب: أنّه غن كان مُذْنِباً، فالاستِغْفار واجِب، وإم لم يُذْنِب، فيجوز من نفْسِه صدور التَّقْصِير في أداء الواجِبات، والحتِراز عن المَحْظُوراتِ؛ فيجب عليه الاسْتِغْفار تَدَارُكاً لذلك لخَلَلِ المُجَوَّز، وهذا كالمُمْتَنِنِع في حَقِّ البَشَر. فصل واختلف العلماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُم - في هذه المَغْفرة الموعُودة. فقال بعضهم: إنّها عند الدَّفع من عَرَفَاتِ إلى جمع. وقال آخرون: إنها عند الدَّفْع من جَمْع إلى مِنىً، وهذا مَبْنِيٌّ على الخِلاَف المُتَقَدِّم في قوله:» ثُمَّ أَفِيضُوا «على أيّ الأَمْرَين يحمل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 قال القفّال - رحمه اللَّهُ - ويتأكَّد الثَّانِي بما رَوَى نَافِعٌ عن ابن عُمَر؛ قال:» خَطَبنا رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عشِيَّة عَرَفَة؛ فقال: «يا أيُّها النَّاسُ إن يَطَّلعُ الله عَلَيْكُم في مَقَامِكُم هذا، فَقَبِل من مُحْسِنِكُم، ووهب مُسِيئَكُم لمُحْسِنِكُم، والتَّبِعَاتُ عوَّضهَا من عنده، أفيضُوا على اسْم الله تعالى» قال أصحابُه: يا رسُول الله، أَفَضْتَ بنا بالأَمْسِ كَئِيباً حزِيناً، وأَفضتَ بنا اليَوْمَ فَرِحاً مَسْرُوراً، فقال عليه السَّلام - «إنّي سَأَلْت ربِّي - عزَّ وجل - بالأمْس شَيئاً لم يَجُدْ لي به: سأَلْتُه التَّبِعَات فَأَبَى عَلَيَّ، فلمّا كَانَ اليَوْم أَتَى جِبْرِيلُ - عليه السّلام - فقال: إنَّ رَبَّكَ يُقْرِئُكَ السَّلام ويقول: التبِعَات ضَمِنْتُ عِوَضَهَا من عِنْدِي» والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 اعلم أن «قَضَى» إذا عُلِّق بفعل النَّفْس، فالمرادُ منه الإِتْمَام والفَرَاغ؛ كقوله تعالى: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 12] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} [الجمعة: 10] ، وقوله - عليه السلام -: «وَمَا فَاتَكُمْ فَاقْضُوا» ، ويقال للحَاكِم عند فصل الخُصُومَةِ، قَضَى بينهما. وإذا عُلِّق على فِعْل الغَيْر، فالمراد به الإِلْزَام، كقوله: {وقضى رَبُّكَ} [الإسراء: 23] وإذا اسْتُعْمِل في الإعلامِ، فالمراد أيضاً كذلك؛ كقوله: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4] ، أي: أعْلَمْنَاهُم، وهذه الآية الكريمة من القِسم الأوَّل. وقال بعضهم: يحتمل أن يكون المُرَادُ: اذكُرُوا الله عِنْد المَنَاسِك، ويكون المُرَادُ من هذا الذَّكرِ: ما أُمروا به من الدُّعَاءِ بعَرَفاتٍ والمشعر الحَرَام والطَّواف والسَّعي؛ كقول القائل: إذا حَجَجْتَ فَطُف وقف بعرَفَة، ولا يُريد الفراغ من الحَجِّ، بل الدُّخُول فيه، وحَمَلهُم التَّأْويل صيغة الأَمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 والمَنَاسِكُ، جمعُ «مَنْسِكٍ» بفتح السين وكسرِها، وسيأتي تحقيقُها، وقد تقدَّم اشتقاقها قريباً، والقُرَّاء على إظهار هذا، ورُوِي عن أبي عمرو الإِدغامُ، قالوا: شَبَّه حركة الإِعرابِ بحركةٍ البناءِ فَحَذَفَها للإِدغام، وأدغم أيضاً «مَنَاسِككمْ» ولم يُدْغِمْ ما يُشْبِهُهُ من نحو: {جِبَاهُهُمْ} [التوبة: 35] و {وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] . قال بعض المُفسِّرين: إن جعلها جمع «مَنْسَك» الذي هو المَصْدَر بمنزلة النُّسُك، فالمراد: إذا قضيتم عبادتكُم الَّتِي أُمِرْتُمْ بها في الحَجِّ، وإن جَعَلْتَها جمع «مَنْسَك» الذي هو مَوْضع العِبادة، فالتَّقدير: فإذا قَضَيْتُم أعمال مناسِكِكُم، فيكون من باب حَذْفِ المُضَاف. إذا عُرِفَ هذا؛ فنقول: قال بعضهم: المراد بالمَنَاسِكِ ما أَمَر الله - تعالى - به في الحَجِّ من العِبَادَاتِ، وقال مُجاهد: قضاء المَنَاسِكِ: إراقَةُ الدِّمَاء، يقال: أنسَك الرجل يَنْسُك نُسْكاً، إذا ذبح نسِيكته بعد رَمْي جمرة العقبة والاستقرار بمِنىً، والفَاءُ في قوله: {اذكروا الله} تدلُّ على أنَّ الذَّكْر يجب عقيب الفراغ من المَنَاسِك؛ فلذلك اخْتَلَفُوا. فمنهم من حمله على التكبير بعد الصَّلاَة يَوْم النَّحْر وأَيَّام التَّشْريق - على حسبِ اختِلاَفهم في وقته - أن بعد الفراغ من الحَجَّ لا ذِكْر مَخْصُوص إلاَّ التكبِير. ومنهم من قال: بل المُراد تحويلُ القَوْم عمّا اعتَادُوهُ بعد الحَجِّ من التَّفَاخُر بالآباء؛ لأنه تعالى لم يم يَنءه عنه بهذه الآية الكريمة، لم يَعْدلُوا عن هذه الطَّرِيقة. ومنهم من قال: بل المُراد منه أنّ الفَراغَ من الحَجِّ يوجِبُ الإِقبَال على الدَّعاء والاستغفار؛ كما أن الإِنْسَان بعد الفَراغ من الصَّلاة يُسَنُّ أن يشتغل بالذِّكر والدُّعاء. قوله: {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} الكافُ كالكاف في قوله {كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] إلاَّ في كونها بمعنى «عَلَى» أو بمعنى اللام، فَلْيُلتفتْ إليه، والجمهورُ على نصب «آبَاءَكُمْ» مفعولاً به، والمصدرُ مضافٌ لفاعِلِه على الأصل، وقرأ محمدُ بنُ كعبٍ: «آبَاؤكُمْ» رفعاً، على أنَّ المصدرّ مضافٌ للمفعولِ، والمعنى: كما يَلْهَجُ الابنُ بذكر أبيه، ورُوِيَ عنه أيضاً: «أَبَاكُمْ» بالإِفراد على إرادة الجنسِ، وهي توافِقُ قراةَ الجماعة في كونِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 المصدر مضافاً لفاعله، ويَبْعُدُ أن يقال: هو مرفوعٌ على لغةِ مَنء يُجْرِي «أَبَاكَ» ونحوَهُ مُجْرَى المقْصورِ. فصل قال جمهور المُفسِّرين: إن القوم كانوا بعد الفراغ من الحَجِّ يبالِغُوا في الثَّنَاءِ على آبَائِهِم وفي ذكر مَناقِبهم، فقال تعالى: {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ} ، أي: فاجهَدُوا في الثَّنَاء على الله وشرح الآية، كما بذلتم جَهْدَكم في الثَّناء على آبَائِكم. وقال الضَّحَّاك والرَّبيع: اذكُرُوا الله كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُم وأمَّهَاتكم، واكتفى بذكر الآباءِ، كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] قالوا: وهو قول الصَّبيِّ أول ما يُفصح للكلام أَبَه أَبَه أُمَّه أُمَّه، أي: كونوا مُوَاظِبين على ذِكْرِ الله؛ كمواظَبَة الصَّغير على ذِكْر أ [يه وأمِّه. وقال أبو ملسم: أجرى ذِكر الآباء مثلاً لدوام الذكْرِ، أي: كما أنّ الرَّجُل لا يَنْسَى ذكر أبيه، فكذلك يَجِبُ ألاّ يَغْفَل عن ذِكْر الله - تعالى -. وقال ابن الأَنْباري: كانت العرب في الجَاهِليَّة تكثِر من القَسَم بالآباءِ والأَجْدَادِ؛ فقال تعالى: عَظِّمُوا الله كَتَعْظِيم آبَائكُم. وقيل: كما أنّ الطِّفْل يرجع إلى أبِيه في طَلَبِ جميع مُهِمَّاتِه، ويكون ذَاكِراً له بالتَّعظِيم فكُونُوا أنتم في ذِكْر الله كذلك. وقيل: يُحْتَمل أنّهم كَانُوا يّذْكُرون آباءَهُم؛ ليتَوسَّلُوا بذكرهم إلى إجابة الدُّعَاء، فعرَّفَهُم الله - تعالى - أنّ آباءَهُمْ لَيْسَوا في هذه الدَّرَجَة؛ إذ أَفْعَالُهم الحَسَنة مُحْبَطة بشِرْكِهِم. وسُئِل ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن قوله تعالى: {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} ، فقيل: يأتي على الرَّجُل اليَوْم لا يذكُر فيه أَبَاهُ. قال ابن عبَّاس: ليس كذلك؛ ولكن هو أن تَغْضَب لله إذا عُصِيَ، أَشَدَّ من غَضَبِك لوَالِدَيْك إذا ذُكِرا بِسوءٍ. قوله: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} يجوزُ في «أَشَدَّ» أن يكونَ مجروراً، وأَنْ يكونَ منصوباً: فأمّا جَرُّه، فذكروا فيه وجهين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 أحدهما: أن يكونَ مجروراً عطفاً على «ذِكْركم» المجرورِ بكافِ التشبيه، تقديرُهُ: أو كَذِكْر أَشَدَّ ذِكْراً، فتجعلُ للذكر ذِكْراً مجازاً، وإليه ذهب الزَّجَّاج، وتبعه أبو البقاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وابن عَطيَّة. والثَّاني: أنه مجرورٌ عطفاً على المخْفُوض بإضافة المَصْدر إليه، وهو ضميرُ المخاطبين، قال الزمخشريُّ: أَوْ أَشَدَّ ذكِراً في موضِع جرٍّ عَطْفاً على ما أُضيفَ إليه الذكْرُ في قوله: {كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} ؛ كما تقول: «كَذِكْرِ قُرَيْش آباءَهُمْ أو قَوْم أَشَدَّ منْهُمْ ذِكْراً» وهو حَسَنٌ، وليس فيه تَجَوُّزٌ بأَنْ يُجْعَلَ لِلذكرِ ذِكْرٌ؛ لأنه جَعَلَ «أَشَدٌّ» من صفات الذَّاكرِينَ، إلا أن فيه العَطْفَ على الضَّميرِ المجْرُورِ من غير إعادة الجارِّ، وهو ممنوعٌ عند البَصْريين، ومَحَلُّ ضرورة. وأمَّا نصبُه فمن أوجهٍ: أحدُها: أن يكونَ معطوفاً على «آباءَكُمْ» قال الزمخشريُّ، فإنه قال: «بمعنى أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً مِنْ آبَائِكُم» ؛ إلى أنَّ «ذِكْراً» من فِعْلِ المذكور هو كلامٌ يَحْتاجُ إلى تفسير، فقولُه: «هو معطُوفً على آبَاءَكُمْ» : معناه أنك إذا عَطَفْتَ «أَشَدَّ» على «آبَاءَكُمْ» ، كان التقديرُ: أو قوماً أشدَّ ذِكْراً من آبائِكُمْ، فكان القومُ مذكورِينَ، والذكرُ الذي هو تمييزٌ بعد «أَشَدَّ» هو من فِعْلهم، أي: من فعلِ القوم المذكُرِين؛ لأنه جاء بعد «أَفْعَلَ» الذي هو صفةٌ للقوم، ومعنى «مِنْ آبَائِكُمْ» أي من ذكرِكم لآبائِكُمْ، وهذا أيضاً ليس فيه تجوزٌّ بأنْ جُعِل الذِّكْرُ ذَاكِراً. الثاني: أن يكونَ مَعْطُوفاً على محلِّ الكاف في «كَذِكْرِكُم» ؛ لأنها عندهم نعتٌ لمصدر محذوف، تقديرُه: «ذِكْراً كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ» وجَعَلُوا الذِّكْرَ ذاكراً مجازاً؛ كقولهم: شِعْرٌ شَاعِرٌ، وهذا تخريج أبي عَلِيٍّ وابن جنِّي. الثالث: قاله مَكّيٌّ: أن يكونَ منصوباً بإضمار فِعْلٍ، قال: تقديرُه: «فاذْكرُوهُ ذِكْراً أَشَدَّ من ذِكرِكُمْ لآبائكم» ؛ فيكونَ نعتاً لمصدر في موضع الحالِ، أي: اذكُرُوهُ بَالِغِينَ في الذِكْرِ. الرابع: أن يكونَ مَنْصُوباً بإضمار فعْلِ الكَوْن، قال أبو البقاء: «وعِنْدِي أنَّ الكلاَمَ محمولٌ على المَعْنى، والتقدير: أو كُونُوا أَشَدَّ لِلَّهِ ذِكْراً منكم لآبائِكُمْ، ودلَّ على هذا المعنى قولُه: {فاذكروا الله} أي: كونوا ذَاكِريهِ، وهذا أسهلُ مِنْ حَمْلِه على المَجَاز» يعنى المجازَ الذي تقدَّم ذِكْرُهُ عن الفارسيِّ وتلميذه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 الخامس: أن يكون «أَشَدَّ» نَصْباً على الحال مِنْ «ذِكْراً» ؛ لأنه لو تأخَّرَ عنه، لكان صفةٌ له؛ كقوله: [مجزوء الوافر] 1005 - لِمَيَّةَ مُوحِشاً طَلَلُ ... يَلُوحُ كَأَنَّهُ خِلَلُ «مُوحِشاً» حالٌ من «طَلَل» ؛ لأنَّه في الأصل صفةٌ، فلما قُدِّم تعذَّر بقاؤه صفةً، فَجُعِلَ حالاً، قاله أبو حيَّانّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -، فإنه قال بعد ذكْره ثلاثةَ أوجه لنصبه، ووجهين لجَرِّه: «فهذه خمسةُ أوجه كلُّها ضعيفةٌ، والذي يتبادر إلى الذِّهْنِ في الآية أنهم أُمِرُوا بأَنْ يَذْكُروا الله ذِكْراً يُمَاثِلُ ذِكْرَ آبائِهِم، أَوْ أَشَدَّ، وقد ساغ لنا حَمْلُ هذه الآية الكريمة لعيه بوجهٍ ذُهِلُوا عنه» ، فَذَكَر ما تقدَّم، ثم جَوَّز في «ذِكْراً» - والحالةُ هذه - وجْهَين: أحدهما: أن يكونَ معطوفاً على مَحَلِّ الكاف في «كِذِكْرِكُمْ» ، ثم اعترضَ على نفسِه في هذا الوجه؛ بأنه يلزم منه الفصلُ بين حرفِ العطف، وهو «أَوْ» وبين المعطوف وهو «ذِكْراً» بالحال، وهو «أَشَدَّ» ، وقد نصَّ النحويون على أن الفصْلَ بينهما لا يجوز إلا بشرطَيْن: أحدهما: أن يكون حرفُ العطفِ أكثرَ من حرفٍ واحد. والثاني: أن يكونَ الفاصلُ قَسَماً، أو ظَرْفاً أو جَارّاً، وأحدُ الشرطَيْنِ موجودٌ، وهو الزيادةٌ على حرِفٍ، والآخرُ مفقودٌ، وهو كونُ الفاصل ليس أحدَ الثلاثةِ المتقدِّمة، ثم أجابَ بأن الحالَ مقدَّرةٌ بحرفِ الحر وشَبَّهه بالظرفِ، فَأُجْرِيَت مُجْرَاهُمَا. والثاني: من الوجْهَيْن في «ذِكْراً» أن يكونَ مصدراً لقوله: «فَاذْكُرُوا» ، ويكون قوله: «كَذِكْرِكُمْ» في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ «ذِكْراً» ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قُدِّمتْ، كانَتْ في محلِّ حالٍ، ويكون «أَشَدَّ» عطفاً على هذه الحال، وتقديرُ الكلامَ «» فاذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَذِكْرِكُمْ، أي: مُشْبِهاً ذِكْرَكُمْ أَو أَشَدَّ «؛ فيصيرُ نظيرَ:» اضْرِبْ مِثْلَ ضَرْبِ فُلاَنِ أَوْ أَشَد «الأصل: اضْرِبْ ضَرْباً مِثْلَ ضَرْبِ فُلاَنِ أَوْ أَشَدَّ. و» ذِكْراً «تمييزٌ عند غير الشَّيح كما تقدَّم، واستشْكَلُوا كونَه تمييزاً منصوباً؛ وذلك أن أفعلَ التفضيل يجب أن تُضَاف إلى ما بعدها، إذا كان مِنْ جنسِ ما قبلها؛ نحو:» وَجْهُ زَيْدٍ أَحْسَنُ وَجْهٍ «،» وعِلْمُهُ أَكْثَرُ عِلْم «وإنْ لم يكن مِنْ جنسِ ما قبلها، وجَبَ نصبُه؛ نحو:» زَيْدٌ أَحْسَنُ وَجْهاً، وخَالِدٌ أَكْثَرُ عِلْماً «، إذا تقرَّر ذلك، فقوله:» ذِكْراً «هو من جنس ما قبلها، فعلَى ما قُرِّر، كان يقتضي جَرَّه، فإنه نظيرُ:» اضْرِبْ بَكْراً كَضَرْبِ عَمْرٍو زَيْداً أَوْ أَشَدَّ ضَرْبٍ «بالجرِّ فقط. والجوابُ عن هذا الإِشكالِ مأَخوذٌ من الأوجه المتقدِّمة في النصب والجر المذكورَيْن في» أَشَدَّ «؛ من حيث أن يُجْعَلَ الذِّكْرُ ذاكراً مجازاً؛ كقولهم:» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 شِعْرٌ شَاعِرٌ «؛ كما قال به الفارسيُّ وصاحبُه، أو يُجْعَلَ» أَشَدَّ «من صفاتِ الأعيان، لا من صفاتِ الإِذكار؛ كما قال به الزمخشريُّ، أو يُجْعَلَ» أَشَدَّ «حالاً من» ذكْراً «أو ننصبّه بفعْلٍ و» أو «هنا قيل للإِباحةِ، وقيل للتخيير، وقيل: بمعنى بَلْ، وهو قول أكثر المفسِّرين. قوله: {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا} » مَنْ «مبتدأٌ، وخبرُه في الجارِّ قبله، ويجوز أن تكونَ فاعلةً عند الأخفش، وأن تكونَ نكرةً موصوفةً، وفي هذا الكلام التفاتٌ؛ إذ لو جَرَى على النسقِ الأولِ، لقيل:» فَمِنْكُمْ «، وحَمِل على معنى» مَنْ «؛ إذ جاء جَمْعاً في قوله:» رَبِّنَا آتِنَا «، ولو حُمِل على لفظِها، لقال» رَبِّ آتِني «. وفي المفعول الثاني ل» آتِنَا «- لأنه يتعدَّى لاثْنَيْنِ ثانيهما غيرُ الأَوَّل - ثلاثةُ أقوال: أظهرها: أنه محذوفٌ؛ اختصاراً أو اقتصاراً؛ لأنه من باب» أَعْطَى «، أي: آتِنا ما نُريدُ، أو مطلوبَنَا. والثاني: أن «فِي» بمعنى «مِنْ» أي: من الدنيا. والثالث: أنها زائدٌ، أي: آتِنا الدنيا، ولَيْسَا بشيء. فصل واعلم أنَّه بيَّن أولاً منَاسِكَ الحَجِّ، ثم أمر بَعْدَها بالذِّكْرِ، ثم بيّن بعد الذِّكْرِ كيفيَّة الدَّعَاء، وهذا من أحسن التَّرْتيب؛ فإنّ تقديم العِبَادة يكسر النَّفْسَ، وبعد العِبَادة لا بُدَّ من الاشْتِغال بذكْرِ الله، فإن به يَكْمُل الدُّعَاء؛ كما حُكِيَ عن إبراهيم - عليه السَّلام -؛ أنّه قدَّم الذِّكْر على الدُّعاء، فقال: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] ثم قال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} [الشعراء: 83] ثم بيَّن - تبارك وتعالى - أنّ الَّذِين يَدْعُون فَريقان: أحدهما يطلب الدُّنْيَا، والثَّاني يطلب الدُّنْيَا والآخِرة، وقد بقي قِسْمٌ ثالثٌ وهو طلب الآخِرَةِ؛ واخْتَلَفُوا في هذا القِسْم: هل هو مَشْرُوعٌ أم لا؟ والأكثرونَ على أنّه غير مشورع؛ لأن الإنسان ضعيف لا طاقة له بآلام الدُّنيا؛ فالأولى أن يستعيذ بربِّه من كل شرِّ في الدُّنيَا والآخِرة. روى القفَّال في «تَفْسيرِه» عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «أن النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - دَخَلَ على رَجُلٍ يعُودُ، قد أنهَكُه المَرَضُ حتَّى صَارَ كالفَرْخ، فقال: ما كُنتُ تدعُوا الله به قَبْلَ هذا؟ قال: كُنْتُ أقُولُ: اللَّهُمَّ ما كُنتَ تُعاقِبني به في الآخِرة فَعَجِّل بِهِ في الدُّنْيا، فقال النبيُّ - عليه السلام -: سبحان الله!! إنّك لا تُطِيقُ ذلك؛ هلا قُلْتَ:» ربنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة وفي الآخِرَةِ حَسَنَة وقِنَا عَذَابَ النَّارَ «قال: فدَعَا له رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَشُوفِي» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 436 فصل اختلفوا في الَّذِين يَقتَصِرُون في الدُّعاء على طلب الدُّنْيَا على قَوْلَيْن. فقال قوم: هم الكُفَّار؛ رُوِي عن ابن عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ أنّ المُشْركين كانوا إذا وقَفُوا للدُّعاء، يقولون: اللَّهُمَّ أعطِنا غنماً وإبلاً وبقراً، وعبيداً، وإماءً، وكان الرَّجُل يقوم ويقُول: اللَّهُم إنّ أبي كان عظيم القُبَّة، كبير الجَفْنَة، كثير المال؛ فأعطني مثلما أعطيْتَه، ولم يَطْلُبُوا التَّوْبة والمغفِرة؛ لأنهم كانوا مُنْكِرين البعثَ والمَعَاد. وعن أنسٍ؛ كانوا يقولون: اسْقِنا المطر، وأَعْطِنا على عَدُوِّنا الظَّفَر، فأخبر الله - تعالى - أنَّ من كان هكذا، فلا خلاق لهُ في الآخِرَة، أي: لا نَصِيبَ لهُ. قال القرطبي: فنهُوا عن ذلك الدُّعاء المَخْصُوص بأمرِ الدُّنْيَا، وجاء النَّهْي بصيغة الخَبَر عَنْهُم. وقال آخرون: قد يكُونُوا مؤمِنِين، ويسألون الله - تعالى - لِدُنياهُم لا لآخِرَتِهِم، ويكون سُؤَالُهم هذا ذَنباً؛ لأنهم سأَلُوا الله في أعظم المواقف حُطام الدُّنْيَا الفَانِي، وأعْرَضُوا عن سُؤَال نعيم الآخِرة، ويقال لِمَن فَعَل ذَلِك: أنّه لا خَلاَقَ لَهُ في الآخِرةِ، وإن كان مُسْلِماً؛ كما رُوِي في قوله - تعالى - {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة} [آل عمران: 77] أنها نزلت فيمن أخذ مالاً بيمينٍ فاجرةٍ. ورُوِي عن النَّبيّ - عليه السَّلام -: إنّ الله يُؤَيِّد هذا الدِّين بأقْوَامٍ لا خَلاَق لَهُم، ومعنى ذلك على وجوهٍ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 أحدها: أنّه لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَتُوب. الثاني: لا خلاق له في الآخرة إلاّ أن يَعْفُوا الله عنهُ. والثالث: لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأَلَ الله - تعالى - لآخرته، وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالاً بيمِينٍ فاجرةٍ، كَخلاق من تورَّع عن ذلك؛ ونظير هذه الآيةِ قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ} [الشورى: 20] . قوله تعالى: {فِي الآخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201] يجوز في الجارِّ وجهان. أحدهما: أن يتعلَّق ب «آتنا» كالذي قبله. والثاني: أجازه أبو البقاء أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حالٌ من «حَسَنَةٌ» ؛ لأنه كان في الأصل صفةً لها، فلما قُدِّم عليها، انتصَبَ حالاً. قوله: {وَفِي الآخرة حَسَنَةً} هذه الواوُ عاطفةٌ شيئَيْن على شيئَيْن متقدِّمَيْن ف «في الآخِرةِ» عطفٌ على «في الدُّنْيَا» بإعادةِ العاملِ، و «حَسَنَةٌ» عطفٌ على «حَسَنَةً» ، والواو تَعْطِفُ شيئين فأكثرَ، على شيئين فأكثرَ؛ تقول: «أَعْلَمَ اللَّهُ زَيْداً عَمْراً فَاضِلاً، وَبَكْراً خَالِداً صَالِحاً» ، اللهم إلا أن تنوبَ عن عاملين، ففيها خلافٌ وتفصيلٌ يأتي في موضعِه - إنْ شاء الله -، وليس هذا كما زعم بعضُهُم: أنه من بابِ الفصْلِ بين حرفِ العطفِ وهو على حرفٍ واحد، وبين المعطوفِ بالجارِّ والمجرور، وجعله دليلاً على أبي عليٍّ الفارسيِّ؛ حيثُ منع ذلك إلا في ضَرَورةٍ؛ لأن هذا من باب عَطْفِ شيئين على شيئين؛ كما ذكرتُ لك، لا من باب الفصلِ، ومحلُّ الخلافِ إنما هو نحو: «أَكْرَمْتُ زَيْداً وَعِنْدَك عَمْراً» ، وإنما يُرَدُّ على أبي عَليٍّ بقولِه: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} [النساء: 58] وقوله تعالى: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] . فصل ذكر المفسِّرُون في الحُسْنَيين وجوهاً: قال عليٌّ بن أبي طالب: في الدُّنيا امرأة صالحة، وفي الآخِرَة الجنَّة؛ رُوِي عن رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ أنه قال: الدُّنْيَا كُلُّهَا مَتَاعٌ وَخَيْرُ مَتَاعِهَا المَرْأَةُ الصَّالِحَةُ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 وقال الحسن: في الدُّنيا حَسَنَة العلم والعِبَادةً، وفي الآخِرَة: الجَنَّة والنظر. روى الضحّاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ «أنّ رجلاً دَعَا ربَّه فقال:» رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَاَ النَّارِ «فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» ما أَعْلَمُ أنّ هذا الرَّجُل سأَلَ الله شَيْئاً من أمر الدُّنْيَا «، فقال بَعْضُ الصحابة: بَلَى يا رسُول الله إنّه قال:» ربَّنّا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَة «، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» إنّه يَقُول ربَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا عملاً صَالِحاً « وقال السُّدِّيُّ وابن حيان: في الدُّنْيَا رِزْقاً حَلاَلاً وعَمَلاً صَالِحاً، وفي الآخرة المَغْفِرة والثَّوَاب. وقال عوف: من آتاهُ الله الإِسْلام والقُرْآن وأَهْلاً ومالاً، فقد أُوتِي في الدُّنْيا حَسَنَة وفي الآخِرة حسَنَة. وقيل: الحَسَنة في الدُّنْيا الصِّحَة والأَمن، والكفاية، والولد الصَّالِح، والزَّوجَة الصَّالحة، والنُّصْرة على الأَعْداء؛ لأن اللَّهَ تعالى سمَّى الخَصْب والسَّعَة في الرِّزق حسَنة؛ فقال: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [التوبة: 50] . وقيل في قوله تعالى: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} [التوبة: 52] أنهما الظَّفَر والنُّصْرة، وأمّا الحَسَنةُ في الآخِرة فهي الفوز بالثَّواب والخلاص من العِقاب. وقال قتادة: هو طَلَبُ العافية في الدَّارَيْن. وبالجُمْلة فهذا الدُّعاء جامِعٌ لجميع مطالب الدُّنْيَا والآخرة؛ روى ثابتٌ؛ أنَّهم قالوا لأَنس: ادع لنا، فقال: «اللَّهُ آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخِرَة حَسَنَة وقِنا عَذَاب النَّار» قالوا: زدنا، فأعادها، قالوا: دزنا، قال: ما تُرِيدون؛ قد سأَلتُ لك خير الدُّنيا والآخرة. وعن أنس؛ قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يُكْثِر أن يَقُول: «رَبَّنا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنة وفي الآخرة حَسَنةً وقِنا عذاب النَّارِ» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 وعن عبد الله بن السَّائِب؛ أنّه سمع النبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقُول فيما بين رُكْن بني جمح والرُّكن الأَسود «رَبِنا آتِنَا في الدُّنْيا حَسَنَة وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ» فصل قال ابن الخطيب: اعلم أن مَنْشأ البَحث في الآية الكريمة أنّه لو قِيلَ: آتِنا في الدنيا الحَسَنَة وفي الآخِرة الحَسَنة، لكان ذلك مُتَنَاوِلاً لكل الحَسَناتِ، ولكنه قال: «آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةً وفي الآخِرَة حَسَنَةً» ، وهذا نَكِرَة في محلِّ الإثبَاتِ، فلا يتنَاول إلاّ حَسَنةً واحِدَة؛ فلذلك اخْتَلف المُفَسِّرون، فكل واحد منهم حَمَل اللَّفظ على ما رآه أَحْسَن أَنْوَاع الحَسَنة، وهذا بناء منه على أنّ الفَرْد المُعَرَّف بالأَلف واللاَّم يَعمُّ، وقد اختار في «المَحْصُول» خلافه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 ثم قال: فإن قيل: أليس أنّه لو قيل: آتِنَا الحَسَنة في الدُّنيا والحَسَنة في الآخِرَة، لكان مُتَنَاوِلا لكلِّ الأقْسَام، فلم تَرَك ذلك وذكره مُنكِّراً؟ وأجاب بأن قال: إنّ بَيَّنَّا أنّه ليس للدَّاعِي أن يَقُول: اللهم أَعْطِني كَذَا وكَذَا، بل يجب أن يقول: اللَّهُم إن كان كّذَا مَصْلَحَةً لي، وموافِقاً لقَضَائِك وقَدَرِك، فأَعْطِني الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 ذَلِك، فلو قال: اللهم أَعْطِني الحَسَنَة في الدُّنْيَا، لكان ذلك جَزْماً، وقد بَيَّنَّا أنّه غير جَائِز، فلمّا ذكَرَه على سبيل التَّنْكِير، كان المراد منه حَسَنَة واحدة، وهي التي تُوَافِقُ قَضَاءَه وقدَرضه، وكان ذلك أحسن وأقْرَب إلى رعايته الأَدَب. وقوله: «فِنَا» : ممَّا حُذِفَ منه فأؤُه ولامُه من وَقَى يقي وِقَايةً، أمَّا حذفُ فائه، فبالحَمْلِ على المضارع؛ لوقوع الواوِ بين ياءٍ وكسرةٍ كما حُذِفَت يقي ويَشي مثل بعد، هذا قول البصريِّين، وقال الكُوفِيُّون: حُذِفت فرقاً اللازم والمُتَعدِّي. قال محمَّد بن زيد: وهذا خطأ؛ لأن العرب تقول: وَرِمَ يَرِمُ، فيحذفون الواو وأمَّا حذفُ لامِهِ؛ فلأنَّ الأمر جارٍ مَجْرَى المضارع المجزوم، وجزمِه بحذفِ حرفِ العلةِ؛ فكذلك الأمرُ منه، فوزن «قِنَا» حينئذ: عِنَا، والأصل: اوْقِنَا، فلمَّا حُذِفَت الفاءُ اسْتُغُنِي عن همزةِ الوصل، فَحُذِفَتْ، و «عَذَابَ» مفعولٌ ثانٍ. قوله تعالى: «أُولَئِكَ» مبتدأ و «لَهُمْ» خبرٌ مقدم، و «نَصِيب» مبتدأ، وهذه الجملةُ خَبرُ الأولِ، ويجوز أن يكونَ «لَهُمْ» خبرَ «أولئك» ، و «نَصِيب» فاعلٌ به؛ لما تضمنَّه من معنى الفعلِ لاعتمادِه، والمشارُ إليه ب «أُولئكَ» فيه قولان: أظهرهُما: أنهما الفريقان: طالبُ الدنيا وحدَها وطالبُ الدنيا والآخرة، وقيل: بَلْ لِطَالب الدنيا والآخرة؛ لأنه - تعالى - ذكر حكم الفريق الأَوَّل؛ حيث قال: {وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ} . قوله: {مِّمَّا كَسَبُواْ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل «نَصِيب» ، فهو في محلِّ رفعٍ، وفي «مِنْ» ثلاثةُ أقوال: أحدُها: أنها للتبعيض، أي: نصيب من جِنْس ما كسبوا. والثاني: أنها للسببيةِ، أي: مِنْ أَجْلِ ما كَسَبُوا. والثالث: أنها للبيان. فصل قال ابن عَبَّاس في قوله: {أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ} : هو الرَّجُل يأخُذُ مالاً يَحُجُّ به مِنْ غيره؛ فيكون له ثَوَابٌ. و «ما» يجوزُ فيها وجهان: أن تكونَ مصدريةً، أي: مِنْ كَسْبِهِمْ؛ فلا تحتاجُ إلى عائدٍ. والثاني: أنها بمعنى «الَّذِي» ، فالعائدُ محذوفٌ؛ لاستكمال الشروط، أي: مِنض الذي كَسَبُوه. و «الكَسْبُ» : يُطلق على ما يَنَالهُ العَبْد بعمله، بشرط أن يكُونَ لجرِّ مَنْفَعةٍ، أو دفع مضرَّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 قوله: {واللهُ سَرِيعُ الحساب} السَّريع فاعل من السُّرْعة قال ابن السِّكِّيت: سَرُعَ يَسْرُع سَرْعاً وسُرْعَة، فهو سَرِيعٌ؛ مثل عَظُم يَعْظُم. و «الحِسَاب» مصدر كالمُحَاسَبَة، ومَعْنى الحساب في اللُّغةِ: العدُّ؛ قال حَسَب يَحْسُبُ حِساباً وحسبَة وحَسْباً إذا عَدّ ذكره الليث وابن السِّكِّيت، والحَسْب ما عُدَّ؛ ومنه حَسَبُ الرَّجُل: وهو ما يُعَدُّ من مآثِرِه ومَفَاخِرِه، والمعنى أنّ الله سريع الحساب، لا يَحْتَاج إلى عَدٍّ ولا إلى عَقدٍ كما يَفْعَلُه الحسَّابُ، والاحْتِسَاب: الاعتِدَاد بالشَّيْء. وقال الزّجَّاج: الحِسَاب في اللُّغة مأخوذٌ من قَوْلهم: «حَسْبُك كذا» ، أي: كَفَاك، فسُمِّي الحِسَابُ في المُعَامَلات حِسَاباً؛ لأنّه يُعلم به ما فيه كِفَايَة، وليس فيه زِيَادة على المِقْدَار ولا نُقْصَان. وقيل: {والله سَرِيعُ الحساب} قال الحَسَن: أسْرَع مِنْ لَمْحِ البَصَر. وقيل: إتْيَان القِيَامة قريبٌ؛ لأن ما هو أتٍ لا مَحَالَة قَرِيب؛ قال - تعالى - {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17] . وقيل: سريع الحساب، أي: سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم؛ لأنّه - تعالى - في الوقت الواحد يسأله السَّائلون، كلُّ واحدٍ منهم أشياء مختلفة من أمور الدُّنيا والآخرة، فيعطي كلَّ واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك. فصل في أن الله هو المحاسب اختلف الناس في معنى كونه - تعالى - محاسباً للخلق على وجوه: أحدها: أنّ معنى الحساب: أنّه - تعالى - يعلِّمهم ما لهم و [ما] عليهم، بمعنى أنّه يخلق علوماً ضروريّة في قلوبهم، بمقادير أعمالهم وكمِّيَّاتها وكيفيَّاتها، ومقادير ما لهم من الثَّواب والعقاب. قالوا: ووجه المجاز فيه أنّ الحساب سبب لحصول علم الإنسان بمال له و [ما] عليه، فإطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون من باب إطلاق اسم السَّبب على المسبِّب، وهو مجاز مشهورٌ. ونقل عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنّه قال: لا حساب على الخلق، بل يقفون بين يدي الله - تعالى -، يعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم، فيقال لهم: هذه سيِّئاتكم قد تجاوزت عنها، ثم يعطون حسناتهم، ويقال لهم: هذه حسناتكم قد ضاعفتها لكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 الثاني: لأنّ المحاسبة عبارة عن المجازاة؛ قال - تبارك وتعالى - {وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً} [الطلاق: 8] ، ووجه المجاز: أنَّ الحساب سبب للأخذ والعطاء، وإطلاق اسم السَّبب على المسبّب جائزٌ؛ فحسن إطلاق لفظ الحساب على المجازاة. الثالث: أنّه تتعالى يكلِّم العباد في أحوال أعمالهم، وكيفيَّة ما لها من الثّضواب والعقاب، فمن قال: إن كلامه ليس بحرف ولا صوتٍ، قال: إنّه تعالى يخلق في أذن المكلَّف سمعاً يسمع به كلامه القديم؛ كما أنّه يخلق في عينيه رؤية يرى بها ذاته القديمة، ومن قال: إنه صوت، قال: إنّه - تعالى - يخلق كلاماً يسمعه كلُّ مكلَّف، إمّا بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كلِّ واحدٍ منهم، أو في جسم يقرب من أذنه، بحيث لا تبلغ قوَّة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلِّف به، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 قوله: {مَعْدُودَاتٍ «: صفة لأيام، وقد تقدَّم أن صفة ما لا يعقل يطَّرد جمعها بالألف والتاء، وقد ذكر أبو البقاء هنا سؤالاً؛ فقال: إن قيل» الأيَّام «واحدها» يَوْم «و» المَعْدُودَات «واحدتها» مَعْدُودَةٌ «، واليوم لا يوصف بمعدودة، لأنَّ الصفة هنا مؤنثة، والموصوف مذكَّر، وإنما الوجه أن يقال:» أَيَامٌ مَعْدُودَةٌ «فتصف الجمع بالمؤنث، فالجواب أنه أجرى» مَعْدُودَاتٍ «، على لفظ» أَيَّام «، وقابل الجمع بالجمع مجازاص، والأصل» مَعْدُودَة «؛ كما قال: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] ، ولو قيل: إن الإيام تشتمل على السَّاعات، والساعة مؤنَّثة، فجاء الجمع على معنى ساعات الأيَّام، وفيه تنبيه على الأمر بالذِّكر في كلِّ ساعات هذه الأيام، أو في معظمها، لكان جواباً سديداً، ونظير ذلك الشهر والصَّيف والشتاء؛ فإنها يجاب بها عن» كَمْ «، و» كَمْ «إنما يجاب عنها بالعدد، وألفاظ هذه الأشياء ليست عدداً، وإنما هي أسماء المعدودات، فكانت جواباً من هذا الوجه. قال شهاب الدين وهذا تطويل من غير فائدةٍ، وقوله» مفرد معدوداتٍ معودةٌ بالتأنيث «ممنوعٌ، بل مفردها» مَعْدُود «بالتذكير، ولا يضرُّ جمعه بالألف والتاء، إذ الجمع بالألف والتاء لا يستدعي تأنيث المفرد؛ ألا ترى إلى قولهم: حمَّمات وسجلاَّات وسرادقات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 قال الكوفيُّون: الألف والتَّاء في» مَعْدُودَاتٍ «لأقلِّ العدد. وقال البصريُّون: هما للقليل والكثير؛ بدليل قوله تعالى: {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} [سبأ: 37] والغرفات كثيرة. فصل اعلم أنّ الله - تعالى - لمّا ذكر المشعر الحرام، لم يذكر الرَّمي لوجهين: أحدهما: أنّ ذلك كان أمراً مشهوراً عندهم، وكانوا منكرين لذلك إلاّ أنّه - تعالى - ذكر ما فيه من ذكر الله - تعالى -؛ لأنهم كانوا لا يفعلونه. الثاني: لعلَّه إنما لم يذكر الرَّمي؛ لأن في الأمر بذكر الله في هذه الأيَّام دليلاً عليه؛ إذ كان من سنَّته التكبير على كلِّ حصاةٍ. فصل قال هنا: ي أيَّام معدوداتٍ، وفي سورة الحجِّ: {وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ} [الحج: 28] ، فقال أكثر أهل العلم، الأيَّام المعلومات: عشر ذي الحجَّة، آخرهن يوم النَّحر. والمعدودات: هي أيَّام التَّشريق؛ وهي أيَّام منى، ورمي الجمار، وسمِّيت معدودات لقلَّتهن؛ كقوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] ولقوله تعالى بعده: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ، وأجمعت الأمَّة على أنّ هذا الحكم إنّما يثبت في أيَّام منى؛ وهي أيَّام التَّشريق. قال الواحديّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أيَّام التَّشريق ثلاثة أيَّام بعد يوم النَّحر: أولها: يوم النَّفر؛ وهو الحادي عشر من ذي الحجَّة، يستقرُّ النَّاس فيه بمنًى. والثاني: يوم النَّفر الأول؛ لأن بعض النَّاس ينفرون في هذا اليوم من منًى. والثَّالث: يوم النَّفر الثَّاني: وهي الأيّام الثّلاثة مع يوم النَّحر كلُّها أيَّام النَّحر، وعند أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: عند آخر وقت النَّحر إلى يومين من أيَّام التَّشريق، وأيّام التَّشريق مع يوم النَّحر أيام رمي الجمار؛ وأيّام التكبير أدبار الصَّلوات. واستدلَّ القفَّال على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق بما روى عبد الرَّحمن بن يعمر الدئلي؛ أنّ رسول الله صلى الله عيله وسلم أمر منادياً فنادى، «الحَجُّ عَرَفَةُ، من جَاء لَيْلَة جمْعٍ قبل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 طُلُوعِ الفَجْرِ، فقد أدرك الحجَّ، وأيّام منىً ثلاثَة أيّام، فمن تَعَجَّل في يَوْمَيْن فلا إثْمَ عَلَيْه، ومن تَأَخَّر فلا إثْمَ عَلَيْه، وهذا يدلُّ على أنّ الأيَّام المعدودات هي أيَّام التَّشريق. وروي عن ابن عبَّاس:» المَعْلُومَات «يوم النَّحر ويومان بعده، و» المَعْدُودَات «أيام التَّشريق. وعن عليه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال:» المَعْلُومَات يوم النَّحْرِ وثَلاَثَةَ بَعْدَه «. وروى عطاء عن ابن عباس:» المَعْلُمات يوم عَرَفَة والنَّحْر وأيّام التَّشْرِيق «. وقال محمد بن كعب: هما شيء واحد، وهي أيَّام التَّشريق، وروي عن نبيشة الهذلي؛ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أيَّام التَّشْرِيق أيّام أَكْلِ وشُرْبٍ وذِكْرِ اللَّهِ، ومن الذِّكْر في أيَّام التَّشْرِيقِ التكْبِير « فصل اعلم أنّ المراد بالذكر في هذه الأيَّام: التكبير عند رمي الجمرات، وأدبار الصلوات. وروي عن عمر، وعبد الله بن عمر؛ أنّهما كانا يكبِّران بمنًى تلك الأيّام خلف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 الصَّلوات، وفي المجلس، وعلى الفراش والفسطاط، وفي الطَّريق، ويكبِّر النَّاس بتكبيرهما، ويتلوان هذه الآية. وذهب الجمهور إلى أنّ التكبير عقيب الصَّلوات مختصٌّ بعيد الأضحى، [في حق الحاجِّ وغيره. وذهب أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ - إلى أنّه يستحبُّ التكبير ليلة العيدين] . واختلفوا في ابتدائه وانتهائه. فقال مالك الشَّافعي: يكبِّر المحرم وغيره عقيب الصَّلوات، من صلاة الظُّهر من يوم النَّحر، إلى بعد صلاة الصُّبح من آخر أيَّام التَّشريق، وهو قول ابن عبَّاس، وابن عمر؛ لأن التكبير إنَّما ورد في حقِّ الحاجِّ والنَّاس تبعٌ لهم، وذكر الحاجِّ قبل هذا الوقت هو التَّلبية، وهي تنقطع مع ابتداء الرَّمي. وقال أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يكبّر المحرم من صلاة الظُّهر يوم النَّحر إلى آخر أيَّام التَّشريق، روي ذلك عن علي وبه قال مكحول وأبو يوسفٌ، وروي هذا القول عن بعضهم في حقّ المحرم أيضاً، روي عن علي وعمر وابن مسعود وابن عبَّاس. وقال أبو حنيفة: يكبر المحرم وغيره من صلاة الصُّبح يوم عرفة، إلى بعد العصر يوم النَّحر، روى ذلك عن ابن مسعود وعلقمة والأسود والنَّخعي. وللشافعي قول آخر: أنّه يبتدئ من صلاة المغرب ليلة النَّحر، إلى صلاة الصُّبح من آخر أيام التَّشريق، وله قول ثالث: أنّه يبتدئ من صلاة الصُّبح يوم عرفة إلى العصر من يوم النَّحر؛ وهو كقول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. فإن قيل: التكبير مضاف إلى الأيَّام المعدودات وهي أيّام التَّشريق، فينبغي ألاَّ تكون مشروعةً يوم عرفة. فالجواب: أنّ هذا يقتضي ألاَّ يكون يوم النَّحر داخلاً فيها وهو خلاف الإجماع. وصفة التكبير عند أهل العراق شفعاً: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد، روي ذلك عن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وهو قول أحمد. وقال أهل المدينة: صفة التكبير: الله أكبر الله أكبر الله أكبر ثلاثاً نسقاً، وهو قول سعيد بن جبير والحسن، وبه قال مالك والشَّافعي وأبو حنيفة، ويقول بعده: لا إله إلا الله، والله أكبر الله أكبر ولله الحمد. قوله تعالى: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} «مَنْ» يجوز فيها وجهان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 أحدهما: أن تكون شرطيةٌ، ف «تَعَجَّلَ» في محلِّ جزمٍ، والفاء في قوله: «فَلاَ» جواب الشرط والفاء وما في حَيِّزها في محلِّ جزم أيضاً على الجواب. والثاني: أنها موصولة ب «تَعَجَّلَ» فلا محلَّ ل «تَعَجَّلَ» ؛ لوقوعه صلةً، ولفظه ماضٍ، ومعناه يحتمل المضيَّ والاستقبال؛ لأنَّ كلَّ ما وقع صلةً، فهذا حكمه؛ والفاء في «فَلاَ» زائدة في الخبر، وهي وما بعدها في محلِّ رفع خبراً للمبتدأ. قال القرطبي: «مَنْ» في قوله: «فَمَنْ تَعَجَّلَ» رفع بالابتداء، والخبر «فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» ، ويجوز في غير القرآن، فلا إثْمَ عَلَيْهِم؛ لأن معنى «مَنْ» جماعة؛ كقوله - تبارك وتعالى -: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] ، وكذلك «مَنْ تأَخَّرَ» . و «في يَوْمَيْنٍ» متعلِّق ب «تَعَجَّلَ» ولا بدَّ من ارتكاب مجازٍ؛ لأن الفعل الواقع في الظرف المعدود يستلزم أن يكون واقعاً في كلٍّ من معدوداته، تقول: «سِرْتُ يَوْمَيْنِ» لا بد وأن يكون السير وقع في الأول والثاني وبعض الثاني، وهنا لا يقع التعجيل في اليوم الأول من هذين اليومين بوجهٍ، ووجه المجاز: إمَّا من حيث إنَّه نسب الواقع في أحدهما واقعاً فيها؛ كقوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] و {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] ، والنَّاسي أحدهما: وكذلك المخرج من أحدهما، وإمَّا من حيث حذف مضاف، أي: في تمام يومين أو كمالهما. و «تَعَجَّلَ» يجوز أن يكون بمعنى «اسْتَعْجَلَ» ك «تَكَبَّرَ، واسْتَكْبَرَ» ، أو مطاوعاً ل «عَجَّل» نحو «كَسَّرْتُه فَتَكَسَّرَ» ، أو بمعنى المجرَّد، وهو «عِجِلَ» ، قال الزمخشريُّ: «والمطاوعة أوفَقُ» ؛ لقوله: «ومَنْ تَأَخَّرَ» ؛ كما هي في قوله: [البسيط] 1006 - قَدْ يُدْرِكُ الْمَتَأَنِّي بَعْضَ حَاجَتِهِ ... وَقَدْ يَكُونُ مَعَ المُسْتَعْجِلِ الزَّلَلُ لأجل قوله «المُتَأَنِّي» . و «تَعَجَّلَ واسْتَعْجَلَ» يكونان لازمين ومتعدِّييثن، ومتعلِّق التعجيل محذوف، فيجوز أن تقدِّره مفعولاً صريحاً، أي: من تعجَّل النَّفر، وأن تقدِّره مجروراً أي: بالنَّفر، حسب استعماله لازماً ومتعدِّياً. وفي هذه الآيات من علم البديع: الطباق، وهو ذكر الشيء وضده في «تَعَجَّل وتَأَخَّرَ» ، فهو كقوله: {أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] و {أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 44] ، وهذا طباقٌ غريب، من حيث جعل ضدَّ «تَعَجَّلَ» : «تَأَخَّرَ» ، وإنما ضدُّ «تَعَجَّلَ» : «تَأَنَّى» ، وضدُّ «تَأَخَّرَ» : «تقدَّم» ، ولكنه في «تَعَجَّلَ» عبرَّ بالملزوم عن اللازم، وفي «تَأَخَّرَ» باللازم عن الملزوم، وفيها من علم البيان: المقابلة اللفظيَّة، وذلك أن المتأخِّر بالنَّفرات آتٍ بزيادة في العبادة، فله زيادة في الأجر على المتعجِّل، فقال في حقه أيضاً: «فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» ؛ ليقابل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 قوله أولاً: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ، فهو كقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] . وذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً؛ فقال: قوله: «وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» فيه إشكالٌ؛ لأنه إذا كان قد استوفى كلَّ ما يلزمه في تمام الحجِّ، فما معنى قوله: «فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» فهذا اللَّفظ إنما يقال في حقِّ المقصِّر، وأجاب بوجوه: أحدها: ما تقدَّم من المقابلة، ونقله عن الواحدي. وثانيها: أنّه - تعالى - لما أذن في التَّعجيل على سبيل الرُّخصة، احتمل أن يخطر بالبال أنَّ من لم يترخَّص فإنه يأثم. كما قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: القصر عزيمة والإتمام غير واجب، ومذهب أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: القصر والفطر في السَّفر أفضل، فأزال الله - تعالى - هذه الشُّبهة، وبيَّن أنه لا إثم عليه في الأمرين، فإن شاء تعجَّل وإن شاء تأخَّر. وثالثها: قال بعض المفسِّرين: إن منهم من كان يتعجَّل، ومنهم من كان يتأخَّر، وكل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله، ويقول: هو مخالفٌ لسنَّة الحجِّ، فبيَّن الله - تعالى - أنّه لا عيب على كلِّ واحد من الفريقين. ورابعها: أنّ المعنى في إزالة الإثم عند المتأخِّر؛ إنما هو لمن زاد على مقام الثَّلاث؛ فكأنّه قيل: أيَّام منى التي ينبغي المقام فيها هي ثلاث، فمن نقَّص منها وتعجَّل في يومين، فلا إثم عليه، ومن زاد عليها فتأخَّر عن الثَّالث إلى الرَّابع؛ فلم ينفر مع النَّاس، فلا شيء عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 وخامسها: أنّه ذكر هذا الكلام؛ مبالغة في أن الحجَّ يكفِّر الذُّوب والآثام؛ كما إذا تناول الإنسان التّرياق فيقول له الطَّبيب: إن تناولت السُّمَّ فلا ضرر وإن لم تتناوله فلا ضرر، ومقصوده بيان أن التّرياق دواء كامل في دفع المضارِّن لا بيان أن تناول السُّمِّ وعدم تناوله يجريان مجرَى واحداً؛ فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحجِّ مكفرِّراً لكلِّ الذُّنوب؛ لأن التَّعجيل وتركه سيَّان؛ ومما يدلُّ على أن الحجَّ سبب قويٌّ في تكفير الذُّنوب قوله - عليه السّلام - «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَومِ وَلَدَتْهُ أُمّهُ» ، وهنا قول عليٍّ وابن مسعود. فصل وقرأ الجمهور «فَلاَ إِثْمَ» بقطع الهمزة على الأصل، وقرأ سالم بن عبد الله: «فَلاَ اثْمَ» بوصلها وحذلف ألف لا، ووجهه أنه خفَّف الهمزة بين بين فقربت من الساكن، فحذفها؛ تشبيهاً بالألف، فالتقى ساكنان: ألف «لاَ» وثاء «إِثْم» ، فحذفت ألف «لاَ» ، لالتقاء الساكنين، وقال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «ووجهُها أنَّه لمَّا خَلَطَ الاسْمَ ب» لاَ «حَذَفَ الهمزة؛ تشبيهاً بالألف» يعني أنه لمَّا ركِّبت «لاَ» ن مع اسمها، صارا كالشيء الواحد، والهمزة شبيهة الألف، فكأنه اجتمع ألفان، فحذفت الثانية لذلك، ثم حذفت الألف لسكونها وسكون الثَّاء. فصل قال القرطبي: روى الثِّقات؛ أن النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر أمَّ سلمة أن تصبح بمكَّة يوم النَّحر، وكان يؤمُّها، وهذا يدلُّ على أنّها رمت الجمرة بمنًى قبل الفجر؛ لأن هذا لا يكون إلاّ وقد رمت الجمرة بمنى ليلاً قبل الفجر. وروى أبو داود عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة؛ أنّها قالت: «أرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأمِّ سلمة ليلة يوم النَّحر، فرمت الجمرة قبل الفجر، ثم مضت فأفاضت، وكان ذلك اليوم الذي يكون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عندها» . فإذا ثبت ذلك فالرَّمي باللَّيل جائز لمن فعله، والاختيار من طلوع الشَّمس إلى زوالها، وأجمعوا على أن من رماها قبل غروب الشَّمس من يوم النَّحر، فقد أجزأ ولا شيء عليه، إلا مالكاً؛ فإنه قال: يستحب له أن يهرقَ دماً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 واختلفوا فيمن لم يرمها حتى غابت الشَّمس، ورماها من اللَّيل أو من الغد، هل يلزمه دم أم لا؟ فصل المبيت بمنى ليلالي منى واجبٌ؛ لرمي الجمار في كلِّ يوم بعد الزَّوال إحدى وعشرين حصاةً، عند كل جمرة سبع حصيات، ويرخَّص في ترك المبيت لرعاء الإبل وأهل سقاية الحاجِّ، ثم من رمى اليوم الثاني من أيام التَّشريق، وأراد أن ينفر ويدع المبيت في اللَّيلة الثَّالية، ورمى يومها، فله ذلك؛ بشرط أن ينفر قبل غروب الشمس، فإن غربت الشمس وهو بمنى، لزمه المبيت بها والرَّمي من غد، هذا مذهب الشَّافعي وأحمدن وهو قول أكثر التَّابعين. وقال أبو حنيفة: يجوز أن ينفر ما لم يطلع النحر؛ لن وقت الرَّمي لم يدخل. فصل إذا ترك الرَّمي، فذكره بعدما صدر وهو بمكَّة، بعدما خرج منها، فعليه الهدي، وسواء ترك الجمار كلَّها، أو جمرة منها، أو حصاةً من جمرة، حتى خرجت أيَّام منى فعليه دمٌ، وإن ترك جمرة واحدة، كان عليه بكل حصاة من الجمرة إطعام مسكين نصف صاعٍ، إلى أن يبلغ دماً، إلاَّ جمرة العقبة فعليه دمٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 وقال الأوزاعي: يتصدّق إن ترك حصاةً، وقال الثَّوري: يطعم في الحصاة والحصاتين والثلاث، فإن ترك أربعاً فعليه دمٌ، وقال اللَّيث: في الحصاة الواحدة دم، نقله القرطبي. فصل قال القرطبي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: من بقي في يده حصاة لا يدري من أيِّ الجمار هي، جعلها في الأولى ورمى بعدها الوسطى والآخرة، فإن طال، استأنف جميعاً. قوله: «لِمَن اتَّقَى» هذا الجارُّ خبر مبتدأ محذوفٍ، واختلفوا في ذلك المبتدأ حسب اختلافهم في تعلُّق هذا الجار من جهة المعنى، لا الصناعة، فقيل: يتعلَّق من جهة المعنى بقوله: «فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» فتقدِّر له ما يليق به، أي: انتفاء الإثم لمن اتَّقى، وقيل: متعلِّقٌ بقوله: «وَاذْكُرُوا» أي: الذكر لمن اتقى، وقيل: متعلِّقٌ بقوله: «غَفُورٌ رَحِيمٌ» ، أي المغفرة لمن اتَّقى، وقيل: التقدير: السلامة لمن اتَّقى، وقيل: التقدير: ذلك التخيير ونفي الإثم عن المستعجل والمتأخِّر؛ لأجل الحاجِّ المتَّقي؛ لئلاّ يتخالج في قلبه شيءٌ منها، فيحسب أنَّ أحدهما يرهق صاحبه إثماً في الإقدام عليه؛ لأنَّ ذا التقوى حذر متحرزٌ من كل ما يربيه، قيل: التقدير: ذلك الذي مرَّ ذكره من أحكام الحج وغيره لمن اتقى؛ لأنه هو المنتفع به دون غيره، كقوله: {يُرِيدُونَ وَجْهَ الله} [الروم: 38] ، قال هذين التقديرين الزمخشريُّ، وقال أبو البقاء: «تقديره: جواز التعجيل والتأخير لمن اتقى» ، وكلُّها متقاربةٌ، ويجوز أن يكون «لِمَن اتَّقَى» في محلِّ نصب على أن اللام لام التعليل، ويتعلَّق بقوله «فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ» أي: انتفى الإثم؛ لأجل المتَّقي، ومفعول: «اتَّقى» محذوف، أي: اتَّقى الله، وقد جاء مصرَّحاً به في مصحف عبد الله، وقيل: اتَّقى الصَّيد. فصل في هذه التَّقوى وجوه: أحدهما: قال أبو العالية: ذهب أئمةٌ أن «اتَّقى» فيما بقي من عمره، ولا يتَّكل على ما سلف من أعمال الحجِّ. وثانيها: أنّ هذه المغفرة لا تحصل إلاّ لمن كان متَّقياً قبل حجِّح؛ كقوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] ؛ لأن المصرَّ على الذَّنب لا ينفعه حجُّه، وإن كان قد أدَّى الفرض في الظَّاهر. وثالثها: أنّه المتَّقي عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحجِّ؛ لقوله عليه السّلام: «مَنْ حَجَّ فَلَم يَرْفثْ وَلَمْ يَفْسُقْ ... » الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 ورابعها: روى الكلبي عن ابن عباس: «لِمَن اتَّقَى الصَّيْد ما يلزَمُهُ اجتِنَابُه من محْظُورَاتِ الإِحْرَامِ» . قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ من وجهين: أحدهما: أنَّه تقييد للَّفظ المطلق بغير دليل. والثاني: أنّ هذا لا يصحُّ إلاّ إذا حمل على ما قبل هذه الأيَّام؛ لأنه في يوم النَّحر إذا رمى وطاف وحلق، فقد تحلَّل قبل الجمار، فلا يلزمه اتِّقاء الصَّيد في هذه الأيَّام. قوله: «واتَّقُوا الله» فهو أمر في المستقبل، وهو مخالف لقوله: «لِمَنْ اتَّقَى» الذي أ {يد به الماضين فلا يكون تكراراً، وقد تقدم أن التَّقوى عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات. وقوله: {واعلموآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} . فهو توكيد للأمر بالتَّقوى؛ لأن مَنْ تصور الحشر والمحاسبة والمساءلة، وأنّ بعد الموت لا دار إلاّ الجنَّة أو النَّار، صار ذلك من أقوى الدَّواعي إلى التَّقوى، وأمَّا الحشر: فهو اسمٌ يقع على ابتداء أوَّل خروجهم من الأجْداث، يوم لا مالك سواه ولا ملجأ إلاّ إيَّاه. قوله: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} . لمّا ذكر الذين قصرت همَّتهم على الدُّنيا في قوله: «ومِنَ النَّاسِ من يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَة» ، والمؤمنين الذين سألوا خير الدَّارين، ذكر المنافقين؛ لأنَّهم أظهروا الإيمان وأسرُّوا الكفر. قوله تعالى: «مَنْ يُعْجِبُكَ» : يجوز في «مَنْ» أن تكون موصولة، وأن تكون نكرةً موصوفةً، وقد تقدَّم نظيرها، والإعجاب: استحسان الشيء، والميل إليه، والتعظيم له، والهمزة فيه للتعدِّي. وقال الراغب: «العَجَبُ حَيْرَةٌ تَعْرَضُ للإنسان عند الجهل بسبب الشَّيء، وليس هو شيئاً له في ذاته حالةً، بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السَّبب ومن لا يعرفه، وحقيقة: أعجبني كذا: ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه» ، ويقال: عجبت من كذا، قال القائل: [الرجز] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 1007 - عَجِبْتُ وَالدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُهْ ... مِنْ عَنَزِيَّ سَبَّنِي لَمْ أَضْرِبُهْ قال بعض المفسِّرين: يقال في الاستحسان: أعجبني كذا، وفي الإنكار والكراهة: عجبت من كذا. قوله: «في الحَيَاةِ» فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلق ب «قَوْلُهُ» ، أي: يعجبك ما يقوله في معنى الدنيا، أنَّ ادِّعاءه المحبة بالباطل يطلب حظّاً من الدنيا. والثاني: أن يتعلَّق ب «يُعْجِبُكَ» ، أي: قوله حلوٌ فصيحٌ في الدُّنيا، فهو يعجبك ولا يعجبك في الآخرة، لما يرهقه في الموقف من الاحتباس واللُّكنة، أو لأنه لا يؤذن لهم في الكلام، قال أبو حيان: «والذي يظهر أنه متعلِّق ب» يُعْجِبُكَ «، لا على المعنى الذي قاله الزمخشري، بل على معنى أنك تستحسن مقالته دائماً في مدَّة حياته؛ إذ لا يصدر منه من القول إلا ما هو معجبٌ رائقٌ لطيفٌن فمقالته في الظاهر معجبة دائماً، لا تراه يعدل عن تلك المقالة الحسنة الرائعة إلى مقالةٍ منافيةٍط. قوله: «وَيُشْهِدُ اللَّهَ» في هذه الجملة وجهان: أظهرهما: أنها عطف على «يُعْجِبُكَ» ، فهي صلة لا محلَّ لها من الإعراب، أو صفةٌ، فتكون في محلِّ رفع على حسب القولين في «مَنْ» . والثاني: أن تكون حاليةً، وفي صاحبها حينئذً وجهان: أحدهما: أنه الضمير المرفوع المستكن في «يُعْجِبُكَ» . والثاني: أنه الضمير المجرور في «قَوْلُهُ» ، تقديره: يعجبك أن يقول في أمر الدنيا، مقسماً على ذلك. وفي جعلها حالاً نظر وجهين: أحدهما: من جهة المعنى، فإنه يلزم منه أن يكون الإعجاب والقول مقيدين بحالٍ، والظاهر خلافه. والثاني: من جهة الصِّناعة وهو أنَّه مثبتٌ، فلا يقع حالاً إلا في شذوذٍ؛ نحو: «قُمْتُ وَأَصُكُّ عَيْنَهُ» أو ضرورةً؛ نحو: [المتقارب] 1008 - ... ... ... ... ... ... ... ... نَجَوْتُ وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا وتقديره مبتدأً قبله على خلاف الأصل، أي: وهو يشهد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 والجمهور على ضمِّ حرف المضارعة وكسر الهاء، مأخوذاً من «أَشْهَدَ» ونصب الجلالة مفعولاً به، وقرأ أبو حيوة وابن محيصنٍ بفتحهما ورفع الجلالة فاعلاً. قال القرطبيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - ويؤيِّده قراءة ابن عباسٍ «واللَّهُ يَشْهَدُ عَلَى مَا في قَلْبِهِ» . وقرأ أُبَيٌّ: «يَسْتَشْهِدُ اللَّهَ» . فأمَّا قراءة الجمهور وتفسيرهم، فإن المعنى: يحلف بالله ويشهده أنّه صادقٌ، وقد جاءت الشهادة بمعنى القسم في آية اللِّعان، وقيل: فيكون اسم الله منتصباً على حذف حرف الجر، أي: يقسم بالله، قال شهاب الدين: وهذا سهوٌ من قائله؛ لأنَّ المستعمل بمعنى القسم «شَهِدَ» الثلاثيٌّ، لا «أَشْهَدَ» الرباعيُّ، لا تقول: أُشْهِدُ بالله، بل: أَشْهَدُ بالله، فمعنى قراءة الجمهور: يطَّلع الله على ما في قلبه، ولا يعلم به أحدٌ، لشدة تكتُّمه. وأمَّا تفسير الجمهور: فيحتاج إلى حذف ما يصحُّ به المعنى، تقديره: ويحلف بالله على خلاف ما في قلبه؛ لأن الذي في قلبه هو الكفر، وهو لا يحلف عليه، إنما يحلف على ضدِّه، وهو الذي يعجب سامعه، ويقوِّي هذا التأويل قراءة أبي حيوة؛ إذ معناها: ويطَّلع الله على ما قلبه من الكفر. وأمَّا قراءة أُبيًّ: فيحتمل «استَفْعَلَ» وجهين: أحدهما: أن يكون بمعنى «أَفْعَلَ» ؛ فيوافق قراءة الجمهور. والثاني: أنه بمعنى المجرَّد وهو «شَهِدَ» ، وتكون الجلالة منصوبةً على إسقاط الخافض. قوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} الكلام في هذه الجملة كالتي قبلها، وهنا وجهٌ آخر، وهو أن تكون حالاً من الضمير في «يُشْهِدُ» ، والألد: الشديد؛ من اللَّدد، وهو شدة الخصوة؛ قال: [الخفيف] 1009 - إنَّ تَحْتَ التُّرَابِ عَزْماً وحَزْماً ... وَخَصِيماً أَلَدَّ ذَا مِغْلاَقِ ويقال: لَدِدت بكسر العين ألَدُّ بفتحها، ولدَدته بفتح العين ألُدُّه بضمها أي: غلبته في ذلك، فيكون متعدياً، قال الشاعر: [الرجز] 1010 - تَلُدُّ أَقْرَانَ الرِّجَالِ اللُّدِّ ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 تلدُّ أقران الرِّجال، معناه أنّه في أي وجه أخذ خصمه من اليمين أو الشمال في أبواب الخصومة غلبه. ورجل ألدُّ وألنددٌ ويلنددٌ، وامرأةٌ لدَّاء، والجمع «لُدٌّ» ك «حُمْرٍ» . وفي اشتقاقه أقوالٌ: قال الزجَّاج: من لُديدَي العنق، وهما صفحتاه. وقيل: من لديدي الوادي، وهما جانباه، سمِّيا بذلك؛ لاعوجاجهما. وقيل: هو من لدَّه إذا حبسه، فكأنه يحبس خصمه عن مفاوضته. و «الخِصَامِ» فيه قولان: أحدهما: قال الزجَّاج: وهو جمع خصمٍ بالفتح؛ نحو: كعبٍ وكعابٍ، وكلبٍ وكلابٍ، وبحرٍ وبحارٍ، وعلى هذا فلا تحتاج غلى تأويل. والثاني: قال الخليل وأبو عبيد إنه مصدر، يقال: خاصمَ خصاماً، نحو قاتلَ قتالاً، وعلى هذا فلا بد من مصحِّح لوقوعه خبراً عن الجثَّة، فقيل: في الكلام حذف من الأول، أي وخصامه أشدُّ الخصام، وجعل أبو البقاء «هو» ضمير المصدر الذي هو «قوله» فإنه قال: ويجوز أن يكون «هُوَ» ضمير المصدر الذي هو «قَوْلُهُ» وهو خصام، والتقدير: خصامه ألدُّ الخصام. وقيل: من الثاني: أي: وهو أشدُّ ذوي الخصام، وقيل: أريد بالمصدر اسم الفاعل؛ كما يوصف به في قولهم: رجل عدلٌ وخصمٌ، وقيل: «أَفْعَلُ» هنا ليست للتفضيل، بل هي بمعني لديد الخصام، فهو من باب ضافة الصفة المشبهة، وقال الزمخشريُّ: والخِصَامُ المُخَاصَمَةُ، وإضافةُ الألدِّ بمعنى «في» ؛ كقولهم: «ثَبْتُ الغَدْرِ» يعني أن «أَفْعَلَ» ليس من باب ما أضيف إلى ما هو بعضه، بل هي ضافة على معنى «في» ؛ قال أبو حيان: وهذا مخالفٌ لما يَزْعُمُهُ النحاة من أنَّ «أَفْعَلَ» لا تضاف إلا إلى ما هي بعضه، وفيه إثبات الإضافة بمعنى «في» ، وهو قولٌ مرجوحٌ، وقيل: «هُوَ» ليس ضمير «مَنْ» بل ضمير الخصومة يفسِّره سياق الكلام، أي: وخصامه أشدُّ الخصام. فصل في بيان عموم هذه الآية قال بعض المفسِّ {ين: هذه الآية الكريمة مختصَّة بأقوام معيَّنين، وقال بعضهم: إنّها عامة في كلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفة، والأولون اختلفوا على وجوهٍ: أحدها: أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، واسمه: أُبي، وسمِّي الأخنس؛ لأنه خنس يوم بدر بثلاثمائة من بني زهرة عن قتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 وكان رجلاً حلو المنظر، حلو الكلام، وكان يأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيجالسه ويظهر الإسلام، ويقول: إنيّ أحبُّك، ويحلف بالله على ذلك، وكان منافقاً، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدنيه في مجلسه، وكان حسن العلانية خبيث الباطن، فخرج من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمرَّ بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزَّرعن وقيل: المواشي، وقيل: بيَّت قوماً من ثقيف فلبسهم، وأهلك مواشيهم، وأحرق زرعهم. وقال مُقاتِلٌ: خرج إلى الطَّائف مُقْتَضِياً مالاً لَهُ على غرِيم فَأَحْرَقَ له كدساً، وعَقَرَ لَهُ أَتاناً، والنّسلُ: نَسْل كُلّ حيوان من ناطقٍ، وغيره؛ فنزلت الآية الكريمة. الثَّاني: أنَّ الأَخْنَس أَشَار على بني زهرة بالرُّجُوع يوم بدرٍ وقال لهُم: إِنَّ مُحَمَّد ابن أخيكم، فإِنْ يَكُ كَاذِباً كفاكموه سائر النَّاس، وإن يَكُ صَادِقاً كنتم أَسعَدَ النَّاسِ به، قالُوا نِعْمَ الرَّأيُ ما رَأَيَتَ قال: فإذا نودي في النَّاس بالرحيل فإنّي أخنس بكم، فاتَّبِعُوني، ثمَّ انخنَسَ بثلاثِمائة من بني زُهْرَة عن قِتَال رسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وسُمِّيَ بهذا السَّبب الأَخنس، فبلغ ذلك رسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فأعجبه. قال ابنُ الخطيب: وعندي أَنَّ هذا القول ضعيفٌ، لأَنَّهُ لا يَسْتَوجِبُ الذَّمَّ بهذا العمل، والآية مذكورة في معرض الذَّمِّ، فلا يمكن حَمْلُها عليه. الثالث: روي عن ابن عبَّاس والضحَّاك أنَّ كُفَّار قريش بعثوا إلى النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «أَنَّا قد أَسلمنا، فابعثْ إِلَيْنَا نفراً مِنْ عُلَمَاءِ أَصْحَابك، فبعثَ إليهم جماعَة، فنزلوا ببطن الرجي، ووصل الخَبَرُ إلى الكُفَّارِ، فَرَكِبَ منهم سبعون راكباً، وأَحَاطُوا بهم، وَقَتَلُوهم، وصَلَبُوهُم، فَنَزَلَتْ هذه الآية الكريمة، ولذلك عقَّبَهُ بقول» مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتَغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ «فَنَبَّه بذلك على حال هؤُلآءِ الشَّهداء. القولُ الثَّاني: وهو اختيارُ أكثر المحقِّقين من المُفسِّرين، أنَّها عامَّة في كُلِّ من اتَّصف بهذه الصِّفَةِ المَذْكُورة، نقل عن محمَّد بن كعب القُرظِي أنَّه جرَى بَيْنَهُ وبَيْنَ غيره كلام في الآية فقال: إِنَّها وإن نزلت فيمن ذكرتهم، فلا يَمْتنعُ أن تنزل الآية الكريمة في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 الرَّجُلِ، ثم تَكُونُ عامَّة في كُلِّ مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات. وَرَوَتْ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: -» إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَى اللَّهِ الأَلَدُّ الخَصِمُ « قال ابن الخطيب: نُزُول الآية الكريمة على سبب لا يمنعُ من العُمُومِ، بل في الآية الكريمة ما يَدُلُّ على العُمومِ مِنْ وجوه: الأول: أَنَّ ترتيب الحُكم على الوصف المُنَاسِبِ مشعراً بالعلِّيَّة. الثاني: أَنَّ الحَمْلَ على العُموم أكثر فائدة، لأَنَّهُ زجرٌ لكلِّ مكلَّف عن تِلك الطَّريقةِ المَذْمُومَةِ. الثالث: أَنَّهُ أَقربٌ إلى الاحتياطِ. قال قتادةُ ومُجاهدٌ وجماعة من العلماء: نزلت في كُلِّ مُبْطنٍ كُفراً، أو نِفاقاً، أو كذباً أو إضراراً، وهو يظهر بلسانِهِ خلاف ذلك، فهي عامة. قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: وهي تشبه ما ورد في التِّرمذيّ أَنّ في بعض الكُتُب أَنَّ اللَّهَ تعالى يقُولُ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي قوماً ألسِنَتُهُمْ أَحْلَى من العسَلِ، وقلوبهم أَمَرّ مِنَ الصَّبْرِ، يَلْبسون للنَّاس جُلُودَ الضَّأْنِ مِنَ اللِّين، يشترُون الدُّنيا بالَّدين، يقُولُ الله - تبارك وتعالى - إِنَّهُم لمُغترُّون، وعلى اللَّهِ يجترئُونَ فبي حلفت لأُسَلِّطَنَّ عليهم فِتنَةً تدَعُ الحليم منهم حيران. ومعنى:» وَيُشْهِدُ الله «، أي: يقول: اللَّهُ يعلم أَنَّي أقُولُ حَقّاً. فصل اختلفُوا في المَوْصُوف بالصِّفاتِ المذكورة في الآية، هل هو مُنَافقٌ أمْ لا؟ قال ابنُ الخطيب: إنَّها لا تدلُّ على ذلك، فإِنَّ قوله: {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 الدنيا} لا دلالة فيه على صِفةٍ مَذْمُومةٍ، إِلاَّ من جهة الإِيماء الحاصل بقوله {فِي الحياة الدنيا} ، فإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: فُلاَن حُلْوُ الكَلاَمِ فيما يَتَعَلَّقَ بالدُّنيا أَوْهَم نوعاً من المَذمَّةِ. وقوله: {وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ} لا دلالة فيه على حالَةٍ مُنْكرةٍ، وإِن أَضمرنا فيه أَنَّهُ يُشْهِدُ اللَّهَ على ما في قلبه، مع أنَّ قلبه بخلاف ذلك لأَنَّهُ ليس في الآية أَنَّ القَوْلَ الَّذي أَظْهرهُ هو الإِسلامُ والتَّوحِيدُ حتى يكُون خلافه نِفَاقاً، بل يَحْتَمِلُ أن يُضْمِر الفساد، ويظهر ضِدَّهُ، فَيَكُونُ مُرائِياً وقوله: {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} أيضاً لا يُوجِبُ النِّفَاقَ. وقوله: {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا} فالمفسد قد يكون مُسْلِماً. وقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} أيضاً لا يَقْتَضِي النِّفَاق، إِلاَّ أنَّ المُنَافِقَ داخل في هذه الصِّفَاتِ الخَمْس، والمرائي أيضاً. فصل في ما أثر عن السلف في بيان» ألد الخصام « قال مُجاهدٌ: أَلَدُّ الخِصَام: معناهُ: ظَالِمٌ لا يستقيمُ وقال السُّدُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - أعوجُ الخِصَامِ. وقال قتادةُ: شديدُ القَسْوة في المعَصية، جدلٌ بالباطل، عالم اللِّسان، جاهل العمل، يتقلد بالحكمة، ويعملُ بالخطيئة. فصل في بيان أمر الاحتياط في الدِّين قال القُرطبيُّ: قال عُلماؤُنَا: في الآية الكريمة دليلٌ على أَنَّ الاحتياط فيما يتعلق بأُمُور الدِّين والدُّنيا، واستبراء أحوال الشهود والقضاة، وأَنَّ الحاكم لا يعملُ على ظاهر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 أَحوالِ النَّاسِ وما يبدو من إيمانهم، وصلاحهم؛ حتى يَبْحث عن باطنهم؛ لأَنَّ الله تعالى بَيَّنَ أَحوال النَّاسِ، وأَنَّ منهم من يظهرُ قولاً جميلاً، وهو يَنْوي قَبِيحاً. فإِنْ قِيلَ: هذا يَعارضُ قوله عليه السَّلام:» أُمِرتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا: لا إِله إِلاَّ اللَّهُ «وقوله:» فَأَقْضِيَ لَهُ بِنَحو ما أَسْمَعُ « فالجوابُ: هذا كان في صدر الِسلامِ، حيثُ كان إِسْلاَمُهُم سلامتهم، وأمَّا الآن، وقد عَمَّ الفسادُ، فلا، قاله ابنُ العَرَبيّ. والصَّحيحُ: أَنَّ الظَّاهِرَ يَعملُ عليه، حَتّى يبين خلافه. قوله تعالى: {وَإِذَا تولى سعى} » سَعَى «جوابُ إذا الشَّرطيَّة، وهذه الجُملةُ الشَّرطيةُ تحتملُ وجْهَيْنِ. أحدهما: أن تكُونَ عطفاً على ما قبلها، وهو «يُعْجِبُكَ» ، فتكون: إمَّا صلةً، أو صفةً حسب ما تقدَّم في «مَنْ» . والثاني: أن تكُون مُستأَنفةً لمُجرَّدِ الإخبارِ بحالِهِن وقد تَمَّ الكلامُ عند قوله: «ألدُّ الخصام» . والتّولِّي والسَّعْيُ يحْتَمِلان الحقيقة، أي: تولَّى ببدنِهِ عنك وسعَى بِقَدَمَيْهِ، والمُجازَ بأن يريدُ بالتولِّي الرُّجُوع عن القَوْلِ الأَوَّل، وبالسَّعي العمَل والكَسْبَ من السَّعاية، وهو مجازٌ شائعٌ؛ ومنه: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] ، وقال امرؤُ القَيسِ: [الطويل] 1011 - لَلَوْ أَنَّ مَا أَسْعَى لأَدْنَى مَعِيشَةٍ ... كَفَانِي - وَلَمْ أَطْلُبْ - قليلٌ مِنَ المَالِ وَلكِنَّمَا أَسْعَى لِمَجْدٍ مُؤَثَّلٍ وَقَدْ يُدْرِكُ المَجْدَ المُؤَثَّلَ أَمْثَالِي وقال آخرُ: [السريع] 1012 - أَسْعَى عَلَى حَيِّ بَنِي مَالِكٍ ... كُلُّ امْرِىءٍ فِي شَأْنِهِ سَاعِي والسَّاعيةُ بالقولِ ما يقْتَضِي التَّفْرِيق بينَ الأَخِلاَّءِ؛ قال القائل: [السريع] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 1013 - مَا قُلْتُ مَا قَالَ وُشَاةٌ سَعَوْا ... سَعْيَ عَدْوٍّ بَيْنَنَا يَرْجُفُ وقال الضَّحَّاكُ: وإذا تَوَلَّى، أي: مَلَكَ الأَمْرَ، وصارَ والياً سَعَى في الأَرض. وقال مُجاهدٌ: إيضا وُلِّي، وعمل بالعُدوان، والظُّلم، أَمْسَكَ اللَّهُ المطر، وأهلك الحرث والنَّسل. قوله: «فِي الأَرْضِ» مُتَعَلِّقٌ ب «سَعَى» ، فإنْ قيل: مَعْلُومٌ أنَّ السَّعْيَ لا يكُونُ إلاَّ فِي الأَرْضِ قيل: لأنَّهُ يُفيدُ العُمُومَ، كأنه قيل: أيَّ مكانٍ حَلَّ فيه من الأرض أفسدَ فيه، فَيَدُلَّ لفظُ الأَرْضِ على كَثرةٍ فسادِهِ، إذ يلزَمُ مِنْ عمومِ الظَّرفِ عمومُ المَظْرُوفِ، و «ليُفْسِدَ» مُتَعَلّقٌ ب «سَعَى» علَّةً له. قوله: «وَيُهْلِكَ الحَرْثَ» الجُمْهُورُ على: «يُهْلِكَ» بضمِّ اليَاءِ، وكسر اللام ونصب الكافِ. «الحَرْثَ» مفعول به، وهي قراءةٌ واضِحَةٌ من: أَهْلَكَ يُهْلك، والنَّصبُ عطَفٌ على الفعل قبلُهُ، وهذا شبيهٌ بقوله تعالى: {وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98] فإنَّ قوله: «ليفْسِدَ» يَشْتَمِلُ على أَنَّهُ يُهْلَكُ الحَرْثَ والنَّسْلَ، فخصَّهُما بالذّكر لذلك. وقرأ أُبيّ: «وليُهْلِكَ» بإظهارِ لام العِلَّةِ، وهي معنى قراءة الجَمهور، وقرأ أبو حَيوة - ورُويت عن ابن كثيرٍ وابن عمرو - «وَيَهْلِك الحَرْثُ والنَّسْلُ» بفتح الياءِ، وكسر اللام من هلك الثَّلاثي، و «الحَرْث» فاعلٌ، و «النَّسلُ» عطفٌ عليه. وقرأ قومٌ: «ويُهْلِكُ الحَرْثَ» من أَهْلَكَ، و «الحَرْث» مفعولٌ به إلا أَنَّهُم رفعُوا الكاف. وخُرِّجت على أربعةِ أوجهٍ: أن تكُونَ عَطْفاً على «يُعْجِبُك» أو على «سَعَى» ؛ لأَنَّهُ في معنى المُستقبل، أو على خبر مُبْتَدأ للمفعول، «الْحَرْثُ» رفعاً، وَقَرَأَ أيضاً: «ويَهَلكُ» بفتح الياءِ واللام ورفعِِ الكَافِ، «الحَرْثُ» رفعا على الفاعلية، وفتحُ عين المُضارع هنا شاذٌّ لفَتْحٍ عين ماضِيهِ، وَليس عينُهُ ولا لامُهُ حرفَ حَلْق، فهو مثلُ رَكَنَ يَرْكَنُ بالفتح فيهما. و «الحرث» في اللُّغة: الشَّقُّ، ومنه المِحراثُ لام يُشقّ به الأرض، والحرث: كسب المالِ وجمعه، والحَرْثُ: الزَّرعُ، والحرَّاث الزرَّاع، وقد حرث، واحترثَ مثل: زَرَعَ وازْدَرَعَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 ويقالُ: احرثِ القرآن؛ أي: ادرسه، وحَرَثتُ النَّاقة وأحرثْتُها، أي: سِرْتُ عليها حتَّى هزلت، وحرثت النَّارَ حرّكتها والمِحراث ما يحرك به نار التَّنور نقله الجوهري. وقد تَقَدَّمَ. والنَّسْلُ: مصدرُ نَسَلَ ينسُل، أي: خرج بِسُرعة، ومنه: نَسَلَ وَبَرُ البَعِير، ونَسَلَ ريشُ الطَّائر، أي: خَرَجَ وتطايَرَ وقال القُرطبيُّ: النَّسْلُ ما خرج من كُلِّ أنثى من ولدٍ وأصله الخروج، والسُّقُوط. وقيل: النَّسلُ الخروج مُتتابعاً، ومنه: «نُسَالُ الطَّائِر» ما تتابع سقُوطه من ريشه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل] 1014 - وَإِنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّ خَلِيقَةٌ ... فَسلِّي ثِيَابي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ وقوله: {مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} [الأنبياء: 96] يحتملُ المعنيين. و «الحَرْثَ وَالنَّسْلَ» وإن كانا في الأصلِ مصدَرَيْنِ فإنهما هنا واقعان موقَعَ المفعولِ به. فصل في المراد ب «التولي» ذكرُوا في هذا التوَلِّي قولين: أحدهما: معناه: إذا انْصَرَفَ من عندك سَعَى بالفسَادِ، وهذا الفَسَادُ يَحتمِلُ وجهَينِ: أحدهما: إِتْلافُ الأموالِ بالتَّخريب، والتَّحريق، والنَّهب كما تقدَّم. والوجه الثاني: أَنَّهُ كان بعد الانصرافِ من حَضْرَةِ النَّبِيِّ - عليه السَّلام - يلقي الشّبه في قلوب المؤمنين ويستخرج الحيل في تقوية الكُفْرِ، قال تعالى حكاية عن فرعون {إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد} [غافر: 26] وسمي هذا المعنى فساداً، لأَنَّهُ يوقع اختلافاً بين النَّاس، ويفرّق كلمتهم، ويتبَّرأُ بعضهم من بعض، فتنقطعُ الأَرْحام وتُسفَكُ الدماءُ. القول الثَّاني في التَّوَلِّي والسَّعي؛ أي: رجع عن قوله واجتهد في إيقاع الفساد، وأصل السَّعي المشي بسرعةٍ، ولكنَّهُ يستعارُ لإِيقاع الفِتنة بيْنَ النَّاسِ، ومنه يُقالُ: فلان يَسْعَى بالنَّميمة، والمراد ب «الحَرْث» الزَّرْعُ وب «النَّسل» : تلك الحمر على التَّفْسِير الأَوَّل، وهو يَقَعُ على ما يُحْرَثُ ويُزْرَعُ. وقيل: إِنَّ الحَرثَ هو شَقُّ الأرض، ويقالُ لما يُشقّ به: محرث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 والنَّسلُ في اللُّغة الوَلَدُ، ومن قال: إِنَّ الأَخنس بيَّت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعاً، فالمراد بالحرث: الرجال والنساء. أمَّا النساء فلقوله تعالى: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} [البقرة: 223] . وأَمَّا الرجال: فهم الذين يشقون أرض التوليد، وأَمَّا النسلُ فالمراد منه الصبيان. قوله: {والله لاَ يُحِبُّ الفساد} . قال العباس بن الفضل: الفسادُ هو الخرابُ. وقال سعيد بن المسيب: قطع الدراهم من الفساد في الأرض. وقال عطاء: كان رجل يقال له عطاء بن منبه أحرم في جُبَّةٍ، فأمره النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أن ينزعها. قال قتادة: قلت لعطاء: إِنَّا كنا نسمع أن يشقها، فقال عطاء: إِنَّ اللَّهَ لا يحب الفساد. قال القطربي: والآية تَعُمُّ كُلَّ فساد كان في الأرض، أو مالٍ أو دين، وهو الصحيح. وقيل: معناه لا يجب الفساد من أهل الصلاح، أو لا يحبه ديناً، أو المعنى لا يأمر به. فصل في بيان فساد قول المعتزلة في معنى المحبة استدلت المعتزلة به على أَنَّهُ تبارك وتعالى لا يريد القبائح، قالوا: المحبة عبارة عن الإرادة لقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ} [النور: 19] والمرادُ أنهم يُرِيدونَ. وأيضاً: نُقِل عن النبيِّ - عليه السلامُ - أَنَّهُ قال: «إِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ لَكُمْ ثَلاَثاً، وكره لكُم ثلاثاً: أَحَبَّ لَكُمْ أَنْ تَعْبُدُوه وَلاَ تُشْرِكُوا به شَيْئاً، وأَنْ تتَنَاصحُوا منْ وَلاّهُ أَمْرَكُم، ويَكْرَهُ لَكُمْ القيل والقَالَ، وإضاعَة المال، وكثرةَ السُّؤالِ» فجعل الكراهةَ ضِدَّ المحبةِ، وإذا ثبتَ أَنَّ الإرادة نفسُ المحبةِ، فقوله: {والله لاَ يُحِبُّ الفساد} ، كقوله: لا يُريدُ الفساد، وكقوله {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ} [غافر: 31] ، وإذا كان لا يريدُ الفساد، لا يكون خالقاً له؛ لأنَّ الخلقَ لا يمكن إلاَّ مع الإرادة، وأُجيبُوا بوجهين: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 أحدهما: أَنَّ المحبة غيرُ الإِرادة، بل المحبَّةُ عبارةٌ عن مَدح الشيء. والثاني: سَلَّمنا أَنَّ المحبةَ نفسُ الارادة، لكن قوله تعالى {والله لاَ يُحِبُّ الفساد} [البقرة: 205] لا يُفيد العُموم؛ لأنَّ الألف واللاَّم الداخلتين في اللفظ لا يُفيدان العمومَ، ثم يهدم كلامهم وجهان: الأول: أَنَّ قُدرة العبد صالحةٌ للإصلاح، والفساد؛ فترجُّحُ الفساد على الصلاح إِنْ وقع لا لمُرجح، لزم نفيُ الصانعِ، وإنْ وقع لمرجح، فذلك المرجّح لا بُدَّ وأنْ يكونَ من اللَّهِ؛ وإِلاَّ لَزِمَ التسلسلُ، فثبت أَنَّ اللَّهَ سُبحانه هو المرجح لجانب الفساد، فكيف يعقِلُ أَنْ يُقالِ إِنَّهُ لا يريده؟ والثاني: أَنَّهُ عالِمٌ بوقوع الفسادِ، فإن أراد أَلاَّ يقع الفسادُ، لزم أَنْ يُقال: إِنَّه أَراد أَنْ يقلب علم نفسه جهلاً، وذلك مُحَالٌ. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله} : هذه الجملةُ الشرطيةُ تحتملُ الوجهين المتقدِّمين في نظيرتها، أَعْني: كونها مستأنفةً، أو معطوفة على «يُعجِبُك» ، وقد تقدَّم الخلافُ في الذي قام مقام الفاعل عند قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ} [البقرة: 11] . قوله: «أخذَتْهُ العزَّةُ» ، أي حملتُه العِزَّةُ وحَمِيَّةُ الجاهلية على الفعل. قوله: «بالإثم» أي: بالظلم وفي هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنْ تكونَ للتعديةِ، وهو قول الزمخشري فإنه قال: «أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَمَلْتهُ عليه، وأَلْزَمْتهُ إياه، أي: حَمَلتهُ العِزَّةُ على الإِثْم، وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه» قال أبو حيان: «وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازمُ، نحو: {ذَهَبَ الله} [البقرة: 17] ، {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20] ، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو:» صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ «أي: جَعَلْتُ أَحدهما يَصُكُّ الآخرَ» . الثاني: أَنْ تكونَ للسببيةِ، بمعنى أنَّ إثمّه كان سبباً لأخذِ العِزَّة له؛ كما في قوله: [الرمل] 1015 - أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ... فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ فتكونُ الباءُ بمعنى اللام، فتقول: فعلت هذا بسببك، ولسببك، وعاقَبْتُه لجِنَايتهِ، وبجنايَتهِ. الثالث: أن تكونَ للمصاحبة؛ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِن وفيها حينئذٍ وجهان: أحدهما: أَنْ تكون حالاً مِنَ «العِزَّة» أي: مُلْتبسةً بالإِثمِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 والثاني: أن تكونَ حالاً من المفعولِ، أي: أَخَذَتْهُ مُلْتبساً بالإِثمِ. قال القُرطبيُّ: وقيل: «الباءُ» بمعنى «مَعَ» أي: أخذته العِزَّةُ مع الإثم. وفي قوله: «العِزَّةُ بالإِثْم» من عِلْمِ البديع التتميم وهو عبارةٌ عن إِرْداف الكلمةِ بأُخْرى، تَرْفَعُ عنها اللَّبسَ، وتقَرِّبُها مِنَ الفَهْم، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمُومةً. فَمِنْ مَجِيئها محمودةً: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] فلو أُطلِقَت لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمُودة؛ فقيل: «بالإِثْمِ» تَتْمِيماً للمرادِ، فرُفِعَ اللَّبْسُ بها. فصل اعلم أَنَّ اللَّهَ سُبحانه وتعالى حكى عن هذا المنافق أفعالاً مَذْمُومةً وهي اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدُّنيا، واستشهادة باللَّهِ كذباً ولجاجةً في أبطالِ الحقِّ وإثبات الباطلِ، وسعيُه في الأَرْض بالفَسَادِ، وإهلاكُ الحربِ والنَّسْلِ، وكُلُّها أفعالٌ قَبِيحةٌ، فالظاهِرُ مِنْ قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله} أَنْ يُصْرفَ إلى الكلّ؛ لأنَّ صَرْفَهُ إلى البعض ليس أولى من البعض، فكأَنَّهُ قيل له: اتَّقِ اللَّهِ في إِهْلاك الحرثِ والنَّسْل، وفي السَّعي بالفَسَادِ، وفي الَّجاجِ في إِبطَالِ الحقِّ ونُصْرة الباطلِ، وفي الاستشهاد باللَّهِ كذباً، وفي الحرص على طَلَبِ الدُّنْيا. وقيل: قوله: {أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} راجِعٌ إلى أنه قيل له: اتَّقِ اللَّهَ فقط؛ على ما سيأتي، فيكُون معنى الآية الكريمة أنَّ الموصوف بهذه الصِّفات هو الَّذي إِذَا قيل له: اتَّقِ الله، أَخَذَتْهُ العِزةُ بالإثم؛ فحَسْبُهُ جَهَنَّم. و «العِزَّةُ» القوَّةُ والغلبةُ مِنْ: عَزَّهُ يَعُزُّه، إِذا غلبهُ، ومنه {وَعَزَّنِي فِي الخطاب} [ص: 23] . وقيل: العزَّةُ هُنا: الحمِيَّة؛ قال الشَّاعرُ: [الرَّمل] 1016 - أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ ... فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ وقيل: العِزَّةُ هنا: المَنَعةُ وشِدَّةُ النَّفسِ، أي: اعتَزَّ في نفسه، فأَوقعَتْهُ تِلْك العزَّةُ في الإِثمِ، وألزمتْهُ إيَّاه. قوله: {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} ، «حَسْبُهُ» مبتدأٌ، و «جهنَّمُ» خبرُه أي: كافيهم جهنَّمُ، وقيل: «جَهَنَّمُ» فاعلٌ ب «حَسْبَ» ، ثُمَّ اختلف القائِلُ بذلك في «حَسْب» فَقِيل: هو بمعنى اسم الفاعلِ، أي: الكافي، وهو في الأَصْلِ مصدرٌ أُريد به اسمُ الفاعِل، والفاعِلُ - وهو جهنَّمُ - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 سَدَّ مَسَدَّ الخبر، وقَويَ «حَسْبُ» لاعتمادِهِ على الفاءِ الرابطةِ للجملةِ بما قبلَها، وهذا كلُّه مَعْنَى كلام أبي البقاء. وقيل: بل «حَسْبُ» اسمُ فِعْلٍ، والقائِلُ بذلك اختلَفَ؛ فقيل: اسمُ [فِعْلٍ] ماضٍ، أي: كَفَاهُمْ وقِيل: فعلُ أمرٍ، أي: لِيَكفِيهم، إلاَّ أن إعرابَه ودخولَ حُرُوفِ الجَرِّ عليه يَمْنع كونه اسم فعل. وقد تلخَّصَ أَنَّ «حَسْبِ» هل هو بمعنى اسم الفاعل وأَصْلُه مصدرٌ، أو اسمُ فعلٍ مَاضٍ، أو فِعْلُ أَمْر؟ وهو مِنَ الأَسماءِ اللازمةِ للإِضَافةِ، ولا يَتَعَرَّفُ بإضافته إلى معرفةٍ؛ تقولُ: مَرَرْتُ برجلٍ حَسْبِك، ويُنْصَبُ عنه التمييزُ، ويكونُ مبتدأً؛ فيُجَرُّ بباءٍ زائدةٍ، وخبراً؛ فلا يُجَرُّ بها، ولا يُثّنَّى ولا يُجْمَعُ، ولا يؤَنَّثُ، وإنْ وَقَعَ صفةً لهذه الأشياءِ. و «جهنَّمُ» اخَتَلَفَ الناسُ فيها فقال يونس وأكثر النُّحاة: هي اسمٌ للنَّار التي يعذَّب بها في الآخِرةِ وهي أعجميةٌ وعُرِّبَتْ، وأَصْلُها كِهِنَّام، فمنعُها من الصرَّف لِلعلمية والعُجمةِ. وقيل: بل هي عربيةُ الأَصْلِ، والقائلون، بذلك اختلَفوا في نُونِها: هل هي زائدةٌ، أمْ أصليةٌ؟ فالصحيحُ أنها زائدةٌ، ووزنُها «فَعَنَّلُ» مُشتقةٌ من «رَكِيَّةٌ جِهِنَّامٌ» ، أي: بعيدةُ القَعْر، وهي من الجَهْم، وهو الكراهةُ، وقيل: بل نُونُها أصليَّةٌ، ووزنُها فَعَلَّل؛ ك «عَدَبَّسٍ» ؛ قال: لأن «فَعَنَّلاً» مفقودٌ في كلامِهِم، وجعل «زَوَنَّكاً» فَعَلَّلاً أيضاً؛ لأنَّ الواوَ أصلٌ في بنات الأربعةِ؛ ك «وَرَنْتَلٍ» ، لكنَّ الصحيحَ إثباتُ هذا البناءِ، وجاءَتْ منه ألفاظٌ، قالوا: «ضَغَنَّطٌ» من الضَّغاطةِ، وهي الضَّخامةُ، و «سَفَنَّجٌ» و «هَجَنَّفٌ» لِلظّلِيم، والزَّوَنَّكُ: القصيرُ سُمِّيَ بذلك؛ لأنه يزوكُ في مِشْيَتِهِ، أي: يَتَبَخْتَرُ؛ قال حَسَّان: [الكامل] 1017 - أَجْمَعْتُ أَنَّكَ أَنْتَ أَلأَمُ مَنْ مَشَى ... فِي فُحْشِ زَانِيَةٍ وَزَوْكِ غُرَابِ وهذا كلُّه يدُلُّ على أنَّ النُونَ زائدةٌ في «زَوَنَّكٍ» وعلى هذا فامتِناعُها للتأنيثِ والعلَميةِ. قوله: {وَلَبِئْسَ المهاد} المخصُوص بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ «المِهَادِ» وقعَ فاصِلةً. وتقدَّمَ الكلامُ على «بِئْسَ» وحُذِفَ هذا المخصُوصُ بذلك على أنه مبتدأٌ، والجملةُ مِنْ نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ، سواءٌ تقدَّمَ أو تأخَّرَ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاهُ خبرَ مبتدأ مَحْذُوفٍ، أو مُبتَدأٌ محذوفَ الخبرِ، ثم حذَفْنَاهُ، كُنَّا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأَسْرها من غَيْرَ أنْ يَنُوبَ عنها شَيْءٌ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ مِنْ ذلك أَنْ تكونَ الجملةُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها؛ إِذْ ليس لها مَوْضِعٌ من الإِعْرابِ، وليست مُعْترضةً، ولا مفسِّرةً، ولا صلةً. والمِهَادُ فيه قولان: أحدهما: أَنَّهُ جَمْعُ «مَهْدٍ» ، وهو ما يُوطَّأُ للنوم قال تعالى: {فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الماهدون} [الذاريات: 48] . والثاني: أنه اسمٌ مُفْردٌ، سُمِّيَ به الفِرَاشُ المُوَطَّأُ للنَّوم وقِيل: «المُسْتَقِر» كقوله تعالى: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار} [إبراهيم: 29] وهذا مِنْ باب التَّهَكم والاستهزاءِ، أي: جُعِلَتْ جَهَنَّمُ لهم بَدَلَ مِهادٍ يَفْترشُونَهُ؛ وهو كقوله: [الوافر] 1018 - وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهَا بِخَيْلٍ ... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ أي: القائمُ لهم مقامَ التحيةِ، الضربُ الوَجِيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 لمَّا وصفَ في الآية المتقدِّمة حال مَنْ يبذلُ دِينَهُ لطلب الدُّنْيَا ذكر في هذه الآيةِ حالَ من يبذلُ دِينَه ونفسَهُ لطلب الدين، وفي سبب النزول رِوايات. إحداها: عن ابن عبَّاسٍ، والضَّحَّاكِ: أَنَّها نزلَتْ فِي سريَّة الرَّجيع، وذلك أَنَّ كُفّار قريشٍ بعصوا إلى رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو بالمدينةِ، أَنَّا قد أَسلمنَا، فابعَثْ إلينا نَفَراً من علماءِ أَصْحابك؛ يُعَلِّمُوننَا دِينك، وكان ذلك مَكْراً مِنْهم فبعث إليهم خُبَبْبِ بن عديٍّ الأَنْصَارِيُّ وَمَرثد بن أبي مَرْثدٍ الغَنَويَّ، وخالد بن بُكَيرٍ، وعبد اللَّهِ بن طارِق بن شهابٍ البَلويَّ، وزيدَ بنَ الدَّثِنَّةِ، وأَمَّرَ عليهم عاصِم بن ثابِت بن أبي الأَقلَحِ الأَنْصَارِيّ. قال أبو هريرة: بعثَ رسولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عشرةٌ عَيْناً، وأَمَّرَ عليهم عاصِم بن ثابِتِ بنِ أَبي الأَقْلح الأَنصَاريَّ فسَرُوا، فَنَزلُوا بَطْنَ «الرَّجِيعِ» بين مَكَّةَ والمَدِينةِ، ومعهم تَمْرُ عَجْوَةٍ، فأكلوا فمرَّتْ عجوزٌ، فأبصرت النَّوَى، فرجعت إلى قومها بمكة، وقالت: قد سَلَكَ هذا الطريقَ أهلُ يثرِبَ مِنْ أَصْحابِ مُحمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فركِبَ سبعُونَ رَجُلاً منهم معهم الرِّماحُ، حتى أَحَاطُوا بهم. وقال أبو هريرة: ذكروا الحيَّ من هُذَيل يقالُ لهم بنو لحيان، فنَفَرُوا لهم بقريب مِنْ مائة راجلٍ رامٍ، فَاقتَفوا آثارَهُم، حتَّى وجدوا مآكلهم التمر في منزلٍ نزلُوه؛ فقالوا: تَمْرُ يَثْرِبَ، فاتَّبعُوا آثارَهم، فلمَّا أَحَسَّ بهم عاصِمٌ وأصحابُه لجأوا إلى فَدْفَد، فأحاط بهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 القومُ، فقتلوا مَرْثَداً وخَالِداً وعبد اللَّهِ بن طارقٍ، ونثر عاصِمُ بنُ ثابتٍ كنانَتَهُ، وفيها سبعة أَسهُمٍ، فقتل بكُلِّ سَهْمٍ رَجُلاً مِنْ عُظَماءِ المُشْرِكينَ، ثُمَّ قال: اللَّهُمَّ، إِنِّي قد حميتُ دِينك صدْرَ النهارِ فاحْمِ لَحْمِي آخر النهارِ، ثُمَّ أَحاطَ به المشركُونَ فقتلُوه، فَلَمَّا قتلوه أَرَادُوا جَزَّ رَأْسِهِ؛ ليبيعُوه من سُلاَفة بنت سعد بن شهيد، وكانت قد نَذَرتْ حين أصاب ابنها يومَ أُحُد لَئِنْ قدرتْ على رأسِ عاصم لتشربنَّ في قِحْفه الخمرَ، فأرسل الله رجلاً من الدَّبْرِ، وهي الزَّنابِيرُ، فحمتْ عاصِماً، فلم يقدِرُوا عليه، فسُمِّي حميَّ الدَّبْرِ، فقالوا: دعوه حتى نُمْسِيَ، فتذهب عنه، فنأْخُذَه، فجاءت سَحَابَةٌ سوداُ، وأمطرتْ مطراً كالغزالِ فبعث اللَّهُ الوادي غديراً فاحتمَل عاصِماً به فذهب به إلى الجَنَّة، وحَمَل خَمسِين من المشركينَ إلى النار. وكان عاصِمٌ قد أَعْطى اللَّهَ عَهْداً ألاَّ يمسَّهُ مُشْركٌ ولا يَمَسَّ مُشْركاً أبداً، فمنعه اللَّهُ، وكان عُمَر بنُ الخطَّاب يقولُ حين بلغه أَنَّ الدَّبْرَ منعتهُ: عجباً لحِفظ اللَّهِ العَبْدَ المؤمِنَ، كان عاصِمٌ نَذَرَ ألاَّ يَمَسَّهُ مشركٌ، ولا يسَّ مُشرِكاً أبداً، فمنعه اللَّهُ بعد وفاتِه، كما امتنع عاصم في حياته، وأسر المشركون خُبَيْب بن عديٍّ، وزيد بنَ الدَّثِنَّةٍ، فذهبوا بهما إلى مكةَ، فأمَّا خُبَيْتبٌ فابتاعه بنو الحارث بن عامرٍ بن نَوفل بن عبدَ مُنافٍ؛ ليقتلُوه بأبيهم، وكان خُبيب هو الذي قتل الحارِثَ يومَ بدرسن فلبث خُبَيبٌ عندهم أسيراً، حتَّى أجمعوا على قتلِه، فاستعار مِنْ بعض بنات الحارثِ مُوسى ليستحِدَّ بِهَا، فأعارتهُ، فدرج بُنيٌّ لها، وهي غافِلةٌ، فما راعَ المرأةَ إلاَّ خبيبٌ قد أَجْلَسَ الصَّبِيَّ على فَخذِهِن والمُوسى بيده، فصاحت المرأةُ، فقال خبيبٌ: أَتَخْشِينَ أن أَقْتُلَهُ؟ ما كنت لأفعل ذلك، إنّ الغدر ليس مِنْ شَأنِنا، فقالت المرأةُ: واللَّهِ ما رأيْتُ أسيراً خيراً من خُبَيْبٍ؛ واللَّهِ لقد وجدتُه يوماً يأكُلُ قطفاً من عِنَبٍ في يَدِهِ، وإنه لموثقٌ بالحديدِ، وما بمكة من ثَمرةٍ، إن كان إلاَّ رِزْقاً رزقه اللَّهُ خُبَيْباًن ثم إِنَّهم خرجوا به من الحرم ليقتُلُوه في الحِلِّ، وأَرَادثوا أَنْ يصلبُوهُ، فقال لهم خبَيبٌ: دعوني أُصَلِّي ركعتَينِ؛ فتركوه، فكان خُبَيْبٌ هو الذي سَنَّ لكل مُسْلم قُتِلَ صَبْراً الصلاةَ، فركع ركعتين، ثُمَّ قال خَبَيْبٌ: لولا أَنْ يَحْسَبُوا أنَّ ما بي من جزعٍ لزّدتُ، اللهمَّ أَحْصِهم عَدَداً؛ وَاقْتُلهم بَدَداً، ولا تُبْقِ منهم أَحَداً وأنشأ يقولُ: [الطويل] 1019 - وَلَسْتُ أُبَالِي حِينَ أُقْتَلُ مُسْلِماً ... عَلَى أَيِّ شِقٍّ كَانَ فِي اللَّهِ مَصْرَعِي وَذلِكَ فِي ذَاتِ الإلهِ وإِنْ يَشَأْ ... يُبَارِكْ عَلَى أَوْصَالِ شِلْوٍ مُمَزَّع فصَلبُوه حَيَّاً؛ اللَّهُمَّ إشنَّك تعلمُ أَنَّهُ ليس أَحَدٌ حَوْلِي يبلّغ سَلامِي رسولَك فأبلغهُ سَلامِين ثم قام أبُو سَروعةَ عُتبَةُ بنُ الحارِثِ فَقَتَله، ويُقَال: كان رجلاً من المشركين يُقالُ له سَلاَمانَ أَبُوا مَيْسَرة، معه رُمْح فوضعه بي ثَدْيي خُبيبٍ، فقال له خُبَيْبٌ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 اتَّقِ اللَّهَ، فما زاده ذلك إِلاَّ عُتُوّاً، فطعنه فأَنفذه، وذلك قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله} [البقرة: 206] يعني سَلاَمَانَ. وأَمَّا زيدُ بنُ الدثنة، فابتاعه صفوانُ بنُ أُميَّة؛ ليقلته بأبيه، أُمية بن خلفٍ، فبعثه مع مَوْلى له يُسَمَّى نسطاس إلى التنعيم، ليقتُلهُ، واجتمع رهطٌ مِنْ قُريشٍ فيهم أبو سُفيان بن حربٍ، فقال له أبو سفيان حين قُدِّمَ ليُقْتَل: أَنْشدك اللَّهَ يا زيدُ، أَتُحِبُّ أَنَّ محمداً عندنا الآن بمكانك، وتُضْرُب عنقُه وإِنَّك في أَهلك؟ فقال: واللَّهِ ما أحبُّ أَنَّ محمداً الآنَ في مكانِه الذي هو فيه تُصيبُه شوكَةٌ تُؤذيه، وأَنا جالِسٌ في أَهْلِي، فقال أَبُو سُفيانَ: ما رأيتُ أحداً من الناس يُحِبُّ أحداً كَحُبِّ أصحاب مُحَمَّدٍ، ثم قتله نِسْطَاسُ. فلمَّا بلغ النبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هذا الخبرُ، قال لأَصحابهِ: «أَيُّكُمْ ينزل خُبَيْباً عن خَشَبته وله الجنةُ» فقال الزُّبَيْرُ أنا يا رَسُول اللَّهِ، وَصَاحِبي المقدادُ بنُ الأَسُودِ، فخرجا يمشيان في الليلِ، ويكمُنانِ بالنهار، حتَّى أََتَيَا التنعيم ليلاً، وإذا حولَ الخَشَبةِ أربعون رجُلاً من المشركين نائمون نشاوى، فَأَنْزَلاَهُ، فإذا هو رَطْبٌ يَنْثَنِي، لم يتغيّرْ بعد أربعين يوماً، ويده على جراحتِه، وهي تَبصُّ دَماً اللونُ لَوْنُ الدّمِ، والريحُ ريحُ المسْكِ، فحمله الزبيرُ على فرسِه، وساروا؛ فانتبه الكفارُ وقد فقدوا خُبَيْباً، فأخبروا قُرَيْشاً، فركب منهم سبعُون رجلاً، فلمَّا لحقوهما قذَفَ الزبيرُ خُبَيْباً؛ فابتلعته الأرضُ فَسُمِّيَ بليعَ الأَرضِ، وقال الزبيرُ: ما جَرَّأكُمْ علينا يا مَعشَر قريشٍ؛ ثم رفع العمامةً عن رأْسِه، وقال: أَنَا الزُّبير بنُ العَوَّام، وأُمِّي صفِيَّةُ بنتُ عبد المطلبِ، وصاحبي المِقدادُ بنُ الأَسُوَدِ، أَسَدَانِ رَابضانِ يَدْفعانِ عن شِبْلهما، فإن شئْتم نازلْتُكم، وإن شِئْتُم انصَرفْتُم. فانصرفا إلى مَكَّة، وقدِما على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وجبريلُ عِنْده، فقال: يا محمدُ، إِنَّ الملائكة لَتُبَاهِي بهذين من أصحابك « ، فنزل في الزُّبَيْر والمِقْداد {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله} [البقرة: 207] حين شرِيا أنفسَهُمَا لإِنْزَالِ خُبَيْبٍ عن خَشَبَته. وقال أكثرُ المفسِّرين: نزلت في صُهَيب بن سِنان، مَوْلى عبد اللَّهِ بنِ جُدْعانَ الرُّومِيِّ، وفي عمَّارِ بن ياسِرٍ، وفي سُمَيَّة أُمَّه، وفي ياسِرٍ أَبيه، وفي بلالٍ مَوْلَى أبي بَكرٍ، وفي خَبَّاب بن الأَرَتّ وفي عابس مَوْلَى حُوَيْطِب؛ أخذَهُم المشرِكُون فَعَذَّبوهم؛ فقال لهم صُهَيبٌ: إِنِّي شيخٌ كَبيرٌ لا يَضُرُّكُمْ أَمِنْكُمْ كُنْتُ أم مِن عَدوِّكم فهل لكم أَنْ تَأْخُذُوا مَالِي، وتذَرُوني؟ ففعلوا، وكان شرط عليهم راحلةً ونَفَقَةً، فأقام بمكةَ ما شاء اللَّهُ، ثم خرج إلى المدينَةِ، فتَلَقَّاهُ أَبُو بكرٍ وعُمرُ في رجال فقال له أَبُو بَكْرٍ: رَبَحَ بَيْعُكَ يا أَبَا يَحيى؛ فقال: وبيعُكَ فلا تخسر ما ذاك؟ فقال: أنزل اللَّهُ فيك كذا وقرأ عليه الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 وأمَّا خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ وأَبُو ذَرٍّ ففرَّا إلى المدينة، وأَمَّا سُمَيَّةُ فَرُبطَتْ بين بعيرين ثم قُتلت، وقُتل ياسِرٌ. وَأَمَّا البَاقُونَ: فأَعْطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركُون، فتُرِكُوا، وفيهم نزل قوله تعالى: {والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} [النحل: 41] بتعذيب أهل مكة {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً} [النحل: 41] بالنَّصر والغنيمة، {وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ} ، وفيهم أُنْزِلَ {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً} [النحل: 106] . وقال سعيدُ بن المُسَيِّب، وعَطَاء: أقبل صُهَيبٌ مهاجراً نحو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فاتَّبعُه نفرٌ من مُشركِي قريش، فنزل عن راحِلَته، ونَثَلَ ما في كِنانته، ثُمَّ قال: يا معشَرَ قريشٍ، لقد علمتُمْ أَنِّي لَمِنْ أَرْماكُم رَجُلاً، واللَّهِ لا أضع سَهْماً من كِنَانتي إِلاَّ في قَلْبِ رجلٍ منكم وَأَيْمُ اللَّهِ، لا تَصِلُون إِليَّ حتى أَرْمِي بكل سَهْمٍ في كِنَانتي، ثم أَضْربُ بسيفي ما بَقِيَ في يَدِي، ثم افعلُوا ما شِئْتم، وإن شئتم دَلَلْتُكُمْ على مالِي بمكة وخلَّيْتُم سَبِيلي. قالُوا: نَعَمْ، ففعل ذلك، فنزلت الآيةُ وقال الحسنُ: أَتَدْرُونَ فِيمن نزلت هذه الآية؟ نزلَت في المُسْلِم يلْقَى الكافِر فيقولُ له: قُلْ لا إِله إلاَّ اللَّهُ، فيَأْبَى أَنْ يقولَهَا، فيقولُ المسلِم: واللَّهِ لأشترينَّ من نفسي لِلَّهِ، فيتقدَّم فيقاتِلُ حَتَّى يقتل. ورُوِيَ عن عُمر، وعَلِيٍّ، وابنِ عبَّاسِ: أَنَّها نزلت في الأَمر بالمعرُوفِ، والنَّهي عن المُنْكَرِ. قال ابنُ عبَّاسٍ: أرى مَنْ يَشْري نفسهُ ابتغاءَ مرضاة الله يقومُ فيأْمُر هذا بتقوى اللَّهِ، فإذا لم يقبْل، وأخذته العزَّةُ بالإِثْم، قال هذا: وأنا أَشْرِي نَفْسي فيقاتله، وكان إذا قرأ هذه الآيةَ يقولُ: اقتتلا وربِّ الكَعْبةِ، وسَمِعَ عمرُ بنُ الخطَّابِ إِنساناً يقرأ هذه الآية؛ فقال عُمَرُ: إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إليه راجعون، قام رجلٌ يأمرُ بالمعرُوفِ وينهى عن المُنْكَرِ فَقُتِلَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 وقيل: نزلت في عليِّ بن أبي طالبٍ - رضي اللَّهُ عنه - باتَ على فِراشِ رسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلةً خُروجهِ لى الغار. قوله تعالى: «مَنْ يَشْرِي» : في «مَنْ» الوجهانِ المتقدِّمان في «مَن» الأُولَى، ومعنى يَشْرى: يَبيعُ؛ قال تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] ، إِنْ أَعَدْنَا الضميرَ المرفوعَ على الآخِرة، وقال [مجزوء الكامل] 1020 - وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ قال القُرْطبيُّ: بُرْدٌ هنا اسم غلامٍ. فالمعنى: يَبُذُل نفسَه في اللَّهِ، وقيل: بل هو على أصلِهِ من الشِّراء. قوله: «ابتغاءَ» منصوبٌ على أنه مفعولٌ مِنْ أجله، والشروطُ المقتضيةُ للنصب موجودةٌ، والصَّحِيحُ أنَّ إضافَة المفعولِ له مَحْضَةٌ، خلافاً للجرْمِي، والمُبْرِّد، والرِّيَاشي، وجماعةٍ مِنَ المتأخِّرينَ. و «مَرْضَاةً» مصدرٌ منيٌّ على تَاءِ التأنيثِ كَمَدْعَاة، والقياسُ تجريدُهُ عنها؛ نحو: مَغْزى، ومَرْمى. قال القُرطبِيُّ: والمَرْضَاةُ، الرِّضَا، تقولُ: رَضِيَ يَرْضى رِضاً وَمَرْضَاة ووقَفَ حمزةُ عليها بالتاءِ، وذلك لِوَجْهَين: أحدهما: أَنَّ بعضَ العربِ يقِفُ على تاء التأنيثِ بالتاءِ قال القائل في ذلك: [الرجز] 1021 - دَارٌ لسَلْمَى بَعْدَ حَوْلٍ قَدْ عَفَتْ ... بَلْ جَوْزِ تَيْهَاءَ كَظَهْرِ الجَحَفتْ وقد حكى هذه اللُّغة عن سيبويه. والثاني: أَنْ يكونَ وَقَفَ على نِيَّة الإِضَافة، كأَنَّه نوى لفظَ المضافِ إليه؛ لشدةِ اتِّصال المُتَضَايفيْنِ، فأَقَرَّ التاءَ على حالِها؛ مَنْبَهَةً على ذلك، وهذا كما أَشمُّوا الحرفَ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 المضْمُوم؛ ليُعْلِمُوا أنَّ الضَّمَّة كالمنطوق بها، وقَدْ أَمالَ الكِسَائيُّ ووَرْشٌ «مَرْضَات» . وفي قوله: «بِالْعِبَادِ» خُرُوجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إِلَى الاسْم الظَّاهِرِ؛ إذ كان الأَصْلُ «رَؤوفٌ بِهِ» أَوْ «بِهِمْ» وفائدةُ هذا الخُروجِ أنَّ لفظَ «العِبَادِ» يُؤْذِنُ بالتشرِيف، أو لأنه فاصلةٌ فاختير لذلك. فصل إِذَا قُلأنا بأنَّ المراد من هذا الشراءِ البيعُ، فتحقيقُه أَنَّ المكلَّفَ باعَ نَفسَه بثوابِ الآخرَةِ، وهذا البيعُ هو أنَّهُ بَذلَها في طاعةِ اللَّهِ تعالى من الصلاةِ، والصيام، والحج والجهاد، ثم يتوصل بذلك إلى وجدان ثَوَابِ الله تعالى فكان ما يبذلُه مِنْ نفْسِه كالسِّلْعةِ، فكأَنَّهُ كالبائِع، واللَّهُ كالمشتري؛ كما قال: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} [التوبة: 111] وقد سَمَّى اللَّهُ تعالى ذلك تِجَارةً، فقال: {ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 10، 11} وإِنْ أَجْرَينا الآيةَ على ظاهِرهَا، وقُلنا: إِنَّ المرادَ هو الشراءُن فإن مَنْ أَقْدَم على الكُفْرِ، والتوسُّعِ في مَلاذِّ الدنيا، والإِعْراض عن الآخرة، وقَعَ في العذاب الدَّائِمِ، فصار كَأَنَّ نَفْسَهُ كانت له، فبسبب الكُفْرِ والفِسْقِ خَرجَتْ عن مِلْكه، وصارت حَقّاً للنار، فإذا ترك الكفر والفِسْق، وأقبل على الإِيمان والطاعةِ صار كأنه اشْترى نَفْسَهُ من النار والعذاب. فإن قيلَ: إن الله تعالى جعل نَفْسَهُ مُشْترياً بقوله: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} وهذا يمنع كَونَ المؤمنِ مُشْتَرِياً. فالجوابُ: أنه لا مُنَافَاةَ بين الأَمْرين؛ فهو كمن اشترى ثوْباً بعبدٍ، فكل واحد منهما بائع ومُشْتَرٍ فكذا هَا هُنَا. فصل يدخُلُ تحتَ هذا كُلُّ مَشَقَّةٍ يتحملها الإنسانُ في طلَبِ الدِّين؛ كالجهادِ والصابر على القَتْلِ، كَقَتْلِ والد عَمَّار وأُمِّه، والآبق مِنَ الكُفَّارِ إلى المسلمين، والمُشْترِي نفسَهُ من الكفار بِمَالِه، كفعل صُهَيبٍ، وَمَنْ يُظْهِرُ الدين والحقَّ عِنْدَ السلطان الجائِر. رُوِيَ أَنَّ عُمَر - رضي اللَّهُ عنه - بعثَ جَيْشاً، فحاصَرُوا قَصْراً، فتقدَّم منهم وَاحِدٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 فقاتل حتى قُتِلَ، فقال بعضُ القَوْمِ: أَلْقَى بيده إلى التَّهْلكةِ فقال عمرُ: كَذَبْتُم، يرحمُ اللَّهُ أَبَا فُلانٍ. وقرأ {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله} واعلَمْ أَنَّ المشقَّةَ التي يتحملَّلُها الإنسان لا بُدَّ وأَنْ تكونَ على وَفْقِ الشَّرع حتى يدخل بسببه تحت الآية، أَمَّا لو كانَ على خِلاَفِ الشرع فلا يَدْخُلُ فيها، بل يَعَدُّ ذلك مِنْ إِلْقَاء النَّفْس إلى التَّهْلَكَة؛ كما لو خاف التَّلَفَ عند الاغتسال مِنَ الجنَابة ففعل. قوله: {والله رَؤُوفٌ بالعباد} فمن رَأْفَتِهِ أنه جعل النَّعِيمَ الدَّائِمَ جزاءً على العَمَلِ القَلِيلِ المُنْقَطِع، ومن رَأْفته جَوَّز لهم كلمة الكفرِ إبْقَاء على النفس، وَمِنْ رَأْفَتِهِ أَنَّهُ لا يكلف نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها، ومِنْ رأْفَتِه ورحمته أن المُصِرَّ على الكُفْرِ مائة سَنَةٍ، إذا تاب - وَلَوْ في لَحْظةٍ - أسقط عنه عِقَابَ تِلْك السنين، وأعطاه الثوابَ الدائم. وَمِنْ أْفتِه أَنَّ النفسَ لَهُ والمَال، ثم إِنَّهُ يَشْتَرِي ملكه بمكلِه؛ فَضْلاً منه ورحمة وإحْسَاناً وامْتِنَاناً. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 قوله: «السِّلْم» قرأ هنا «السَّلْم» بالفتح نافعٌ، والكِسائيُّ، وابنُ كثيرٍ، والبَاقُونَ بالكَسْر، وأمَّا التي في الأَنْفال [آية 61] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ أَبُو بكرٍ وحدَه، عَنْ عاصِمٍ، والتي في القِتال [آية: 35] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ حمزةُ وأَبُو بكرٍ أيضاً، وسيأتي. فقِيل: هَما بمعنىً، وهو الصلحُ مثل رَطْل ورِطْل وجَسْر وجِسْر وهو يُذَكَّر ويُؤَنَّث، قال تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} ، وحَكَوْا: «بَنُوا فُلانٍ سِلْمٌ، وسَلْمٌ» ، وأصلُه من الاسْتِسْلاَمِ، وهو الانقيادُ، قال تعالى: {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 131] الإسلامُ: إسلامٌ الهدي، والسِّلْم على الصُّلْح، وترك الحرب راجع إلى هذا المعنى؛ لأَنَّ كُلَّ واحدٍ كَصَاحِبهِ، ويُطْلَقُ على الإِسلاَم قاله الكِسَائي وجماعةٌ؛ وأنشدوا: [الوافر] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 1022 - دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا ... رَأيْتُهُمُ تَوَلَّوا مُدْبِرينَا يُنْشَدُ بالكَسْرِ، وقال آخرُ في المفتُوحِ: [البسيط] 1023 - شَرَائِعُ السَّلْمِ قَدْ بَانَتْ مَعَلِمُهَا ... فَما يَرَى الكُفْرَ إِلاَّ مَنْ بِه خَبَلُ فالسِّلْمُ والسَّلْمُ في هذين البيتَيْنِ بمعنى الإِسْلاَم، إلاَّ أنَّ الفَتْحَ فيما هو بمعنى الإِسلام قليل، وقرأ الأَعْمشُ بفتح السِّين واللامِ «السَّلَم» . وقيل: بل هما مختلفا المعنى: فبالكَسْرِ الإِسلامُ، وبالفتحِ الصلحُ. قال أبُو عُبَيدة: وفيه ثلاثُ لُغَاتٍ: السَّلْم والسِّلْم والسُّلْم بالفَتْح والكَسْر والضمِّ. «كافةً» مَنْصُوبٌ على الحالِ، وفي صَاحِبهَا ثلاثةُ أقوالٍ. أظهرها: أنه الفاعلُ في «ادْخُلُوا» ، والمعنَى: ادخُلُوا السِّلْم جميعاً، وهذه حالٌ تُؤَكِّدُ معنى العمومِ، فإنَّ قولَكَ: «قام القومُ كافةً» بمنزلةِ: قَامُوا كلُّهم. والثاني: أنه «السِّلْمُ» قالهُ الزَّمخشريُّ، وأَبُوا البقاءِ، قال الزمخشريُّ: ويَجُوزُ أن تكونَ «كافةً» حالاً من «السِّلْمِ» ؛ لأنها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحَرْبُ؛ قال الشاعر: [البسيط] 1024 - السِّلْمُ تَأْخُذُ مِنْهَا مَا رَضِيتَ بِهِ ... والحَرْبُ يَكْفِيكَ مِنْ أَنْفَاسِها جُرَعُ على أنَّ المؤمنينَ أُمِرُوا أَنْ يدْخُلُوا في الطاعاتِ كُلِّها، ولا يَدْخُلوا في طَاعةٍ دونَ طاعةٍ، قال أَبُوا حيَّان تَعْلِيلُه كونُ «كافةً» حالاً مِنَ «السِّلْم» بقولِه: «لأَنَّها تُؤَنَّثُ كما تُؤَنَّثُ الحرب» ليس بشيءٍ؛ لأنَّ التاءَ في «كَافَّة» ليست للتأنيثِ، وإن كان أَصْلُها أَنْ تَدُلَّ عليه، بل صار هذا نقلاً مَحْضاً إِلى مَعْنَى جميعٍ وكُلٍّ، كما صار قاطبةً وعامَّة، إذا كانَ حالاً نَقْلاً مَحْضاً. فإذا قلت: «قامَ الناسُ كَافةً، وقَاطِبةً» لم يَدُلَّ شيءٌ من ذلك على التأْنِيثِ، كما لا يَدُلُّ عليه «كُلّ» و «جميع» . والثالث: أَنْ يكونَ صاحبُ الحالِ هما جَمِيعاً: أضعْنِي فاعلَ «ادْخُلُوا» و «السِّلْم» فتكونُ حالاً مِنْ شَيْئَين. وهذا ما أجازه ابنُ عطيةَ فإنه قال: وتَسْتَغْرقُ «كافة» حنيئذٍ المؤمِنين، وجميعَ أجزاءِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 الشَّرْع، فتكونُ الحالُ مِنْ شَيْئَيْن وذلك جائِزٌ نحو قولِهِ: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} [مريم: 37] . ثم قال بعد كلامٍ: وكافةً معناه جميعاً، فالمراد بالكافّةِ الجماعةُ التي تَكُفُّ مخالِفيها. وقوله: «نحو قوله فَأَتَّتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُه» يعني أنَّ «تَحْمِلُهُ» حالٌ مِنْ فاعِل «أَتَتْ» ومِنَ الهاء في «بِهِ» قال أبو حيَّان: «هذا المِثَالُ ليس مُطَابِقاً لِلْحَالِ من شَيئينِ لأنَّ لفظَ» تَحْمِلُهُ «لا يحتمل شيئَيْن، ولا تقع الحالُ مِنْ شيئينِ إِلاَّ إِذَا كان اللفظُ يحتملهما، واعتبارُ ذلك بجَعْلِ ذَوِي الحالِ مُبْتدأَيْنِ، وجعل تلك الحالَ خبراً عنهما، فمتى صَحَّ ذلك صَحَّتِ الحالُ؛ نحو قوله [الطويل] 1025 - وَعُلِّقُتُ سَلْمَى وَهْيَ ذَاتُ مُوَصَّدٍ ... وَلَمْ يَبْدُ للأَتْرَابِ مِنْ ثَدْيِهَا حَجْمُ صَغِيرَيْنِ تَرْعَى البَهْمَ يَا لَيْتَ أَنَّنَا ... إِلَى اليَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ ولَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ فصغيرَين حالٌ من فاعل» عُلِّقْتُ «ومِنْ» سَلْمَى «لأنك لو قُلْت: أنا وسَلْمى صَغِيرانِ لَصَحَّ ومثلُه قولُ امرِئ القَيس: [الطويل] 1026 - خَرَجْتُ بِهَا نَمْشِي تَجُرُّ وَرَاءَنَا ... عَلَى أَثَرَيْنَا ذَيْلَ مِرْطٍ مُرَحَّلِ فنْمشِي حالُ من فاعل» خَرَجْتُ «، ومِنْ» هَا «في» بِهَا «؛ لأنَّك لو قلتَ:» أنا وهي نمشي «لصَحَّ، ولذلك أَعْرَب المُعْرِبُونَ» نَمْشِي «حَالاً مِنْهُما، كما تَقَدَّم، و» تَجُرُّ «حالاً مِنْ» هَا «في» بِهَا «، فقط؛ لأنه لا يصلُحُ أن تجعل» تَجُرُّ «خبراً عنهما، لو قلتَ:» أنا وهي تَجرُّ «لم يَصِحَّ؛ فكذلك يتقدَّر بمفردٍ وهو» جارَّة «وأنت لو أَخْبَرْتَ به عن اثْنين، لم يَصِحَّ؛ فكذلك» تَحْمِلُهُ «لا يَصْلُح أَنْ يكون خَبَراً عن اثنين، فلا يَصِحُّ أَنْ يكونَ حالاً منهما، وأمَّا» كَافّة «فإنها بمعنى» جَمِيع «، و» جمِيع «يَصِحُّ فيها ذلك، لا يُقالُ:» كَافَّة «لا يَصحُّ وقوعُها خَبَراً، لو قلتَ:» الزَّيْدُونَ وَالْعَمْرُونَ كَافَّةً «لم يجزْ، فلذلك لا تقعُ حالاً؛ لا مِنْ مانع معنوي، بدليلِ أنَّ مرادِفَها وهو» جَمِيع «و» كُلّ «يُخْبَرُ به، فالعارِضُ المانِعُ ل» كافَّة «من التصرُّفِ لا يَضُرُّ، وقولُه:» الجماعةُ الَّتِي تَكُفُّ مخالِيفها «يعني: أَنَّها في الأصْلِ كذلك، ثم صار اسْتِعْمالُها بمعنى جَمِيع وكُلّ» . واعْلَمْ أنَّ أَصْلَ «كافة» اسمُ فاعلٍ مِنْ كَفَّ يَكُفُّ، أي: مَنَع، ومنه «كَفُّ الإِنسان» ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 لأنها تَمْنَعُ ما يقتضيه، و «كِفّة المِيزَانِ» لجمعها الموزون، ويقالُ: كَفَفْتُ فُلاَناً عن السُّوء، أي: منعتُه، ورجل مَكْفُوفٌ، أي: كُفَّ بَصَرُهُ مِنْ أَنْيبصر، وَالكُفَّةُ - بالضَّمِّ - لكل مستطيلٍ، وبالكَسْرِ، لكلِّ مُسْتدِير. وقيل: «كافة» مصدرٌ كالعاقبة والعافية. وكافة وقاطبة مِمَّا لَزم نصبُها على الحالِ، فإخراجُهما عن ذلك لَحْنٌ. فصل لمَّا بيَّن الله - تعالى - أقسامَ النَّاسِن وأنهم يَنْقَسِمون إلى مُؤْمنٍ، وكافِرٍ، ومُنَافِق قال هاهنا: كُونَوا على مِلَّة واحدة، على الإسلام، واثْبتُوا عليه. قال ابنُ الخطيب: حمل أكثرُ المفسرِين السِّلْمَ على الإسلامِ، وفيه إِشكالٌ؛ لأنه يَصِيرُ التقدِيرُ: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنثوا ادخُلُوا في الإِسْلام، والإِيمانُ هو الإسلامُ، ومعلومٌ أَنَّ ذلك لا يَجوزُ، فلهذا ذكر المفسرون وُجُوهاً. أحدها: أَنَّ المرادَ بالآيةِ المنافقُونَ، والتقديرُ: يا أَيُّهَا الذي آمنوا بأَلْسنتِهم ادخلُوا بكُلِّيتِكُمْ في الإسلام، ولا تَتَّبعُوا خطواتِ الشيطانِ، أي آثار تَزيينه، وغروره في الإِقامةِ على النِّفاقِ، واحتجوا على هذه بالآيةِ، فهذا التأويلُ على أَنَّ هذه الآيةَ إِنَّما وردت عَقِيبُ مَا مَضَى من ذكر المنافقين وهو قولُه: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} [البقرة: 204] «الآية» فلمَّا وصفهم بما ذكر، دعاهم في هذه الآيةِ إلى الإيمان بالقلب، وترك النفاق. وثانيها: رُوِيَ أَنَّ هذه الآية نزلتُ في طائفةٍ من مُسْلِمي أهل الكتاب: «عَبْد اللَّهِ ابن سَلامٍ» وأصحابِهِ، وذلك لأنهم كانوا يُعظِّمون السَّبْتَ، ويكرهون لُحْمَان الإِبِل، بعدما أَسْلَموا وقالوا: يَا رسُولَ اللَّهِ: إِنَّ التوراةَ كتابُ اللَّهِ، فدعْنَا فلنقم بها في صَلاتِنا باللَّيْلِ، فأمرهم اللَّهُ بهذه الآيةِ أَنْ يدخُلُوا في السِّلْم كافَّةً [أي: في شَرَائِعِ الإِسَلام كافة] ولا يتمسَّكُوا بشَيْءٍ من أَحْكامِ التوراة، اعتقاداً له وعملاً به، ولا تتبعوا خُطُواتِ الشيطانِ في التمسُّكِ بأْحْكامِ التوراة بَعْدَ أَنْ عرفْتُم أنها صارت مَنْسُوخةً، وقائِلُ هذا القولِ جعل «كَافَّةً» من وصف «السِّلْم» ، كأنه قِيلَ: ادخُلُوا في جميع شَعائِر الإسلام اعتقاداً وعملاً. وثالثها: أَنَّ هذا الخطابَ لأَهْلِ الكتابِ الَّذِينَ لم يؤمنوا بالنبي - عليه السلام - يَعْنِي: {يَا أَيُّهَا الذين آمنوا} . أي: بالكتاب المتقدم {ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} ، أي: آمنوا بجميع أنبيائه وكُتُبهم، وبمحمَّد، وكتابهِ على التمامِ، ولا تتبعوا خُطُواتِ الشيطان في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 تحسينه الاقتصارَ على التوراةِ بسبب أَنَّهُ دِينٌ اتفق الكُلُّ على أنه حَقٌّ، بسبب أَنَّهُ جاء في التوارةِ: وتمسَّكُوا بالسبت ما دامتِ السمَواتُ والأَرْضُ، فيكون المرادُ من خُطُواتِ الشيطانِ الشبهات التي يتمسَّكُونَ بها في بَقَاءِ تلك الشريعة. قال ابنُ عبَّاسٍ: نزلت الآيةُ في أهل الكتابِ، والمعنى: {ياأيها الذين آمَنُواْ} بِمُوسَى وعِيسَى «ادْخُلُوا» فِي الإِسْلاَمِ بمحمدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كَافَّةً «. وَروى» مُسْلِمٌ «عن أبي هريرة، عَنْ رَسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» والَّذِي نفسُ مُحَمَّدٍ بِيَدهِ، لا يَسْمَعُ بي أَحَدٌ مِنْ هذه الأمَّةِ يَهُوديٌّ ولا نَصْرَانيٌّ، ثُمَّ لَمْ يؤمِنْ بالَّذِي أُرْسِلْتُ به إلاَّ كان مِنْ أَصحابِ النَّارِ « ورابعها: أَنَّ المرادَ بهذا الخطابِ المسلِمُونَ، والمعنى: {ياأيها الذين آمَنُواْ} دُومُوا على الإسلام فيما بَقِيَ من العُمُرِ ولا تَخْرُجوا عنه {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} أي: ولا تلتفتوا إلى الشُّبُهاتِ التي يُلْقيها إليكم أصحابُ الضلالةِ والغوايةِ. قال حُذَيفةُ بنُ اليمانِ في هذه الآيةِ: الإِسْلاَمُ ثمانيةُ أَسْهم: الصلاةُ سهمٌ، والزكاة سَهْمٌ، والصدقةُ سَهْمٌ، والحجُّ سَهْمٌ، والعمرةُ سَهْمٌ، والجهادُ سَهْم، والأمرُ بالمعروفِ سهمٌ، والنَّهْيُ عن المُنْكر سَهْمٌ، وقد خاب مَنْ لا سهم له. فإنْ قيل: المؤمنُ الموصوفُ بالشيء يقُالُ له: دُمْ عَلَيْه، ولا يقالُ لهُ: ادخُلْ فيه، والمذكُور في الآيةِ هو قوله: «ادخلُوا» . فالجوابُ: الكائن في الدار إذا علم أَنَّ له في المستقبل خروجاً عنها، فلا يمتنع أن يُؤْمَرَ بدخولها في المستقبل، وإن كان في الحال كائناً فيها؛ لأن حالَ كونهِ فيها غيرُ الحالةِ التي أُمِر أن يدخل فيها، فإذا كان في الوقْتِ الثاني قد يخرج عنها، صَحَّ أن يؤمر بدخُلولِها. وقال آخرُونَ: المراد ب «السِّلْم» في الآية الصُّلح، وتركُ المحاربةِ والمُنَازَعةِ، والتقديرُ: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا ادْخُلُوا في السِّلْم كَافَّةً» أي: كُونُوا مُجْتَمِعينَ في نُصْرة الدين واحتمال البَلوَى فيه {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} بأَنْ يحملَكُم على طلب الدُّنْيَا، والمنازعةِ مع الناس، فهو كقوله: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46] ، وقوله: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 قوله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} أي: لاَ تُطِعُوهُ فيما يدعُوكُمْ إليه، وتقدَّم الكلامُ على خطواته. وقوله: {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} . قال أبو مسلمٍ: مُبِين مِنْ صفاتِ البليغ الذي يُعرِبُ عن ضميره. قال ابنُ الخطِيب: ويدلُّ على صحةِ هذا المعنى قوله {حموالكتاب المبين} [الدخان: 1 - 2] ولا يعنى بقوله «مُبين» إلاَّ ذلك. فإن قيلَ: كيف وصفُ الشيطانِ بأَنَّهُ مُبِينٌ مع أَنَّا لا نَرى ذاتَهُ، ولا نسمعُ كَلامَهُ؟ فالجوابُ أنه تعالى لَمَّا بَيَّنَ عداوتَهُ لآدمَ ونسلِه، فلذلك الأمرِ صَحَّ أَنْ يُوصَفَ بأَنَّهُ عدوٌّ مبين، وإِنْ لم يشاهد؛ مثالُه: مَنْ يُظْهر عداوتهُ لرجلٍ في بلد بعيدٍ فقد يصح أن يُقال: إِنَّ فلاناً عدوٌّ مبينٌ لك وإن لم يشاهده في الحال. قال ابنُ الخطيبِ: وعندي فيه وجهٌ آخرُ، وهو: أن الأصلَ في الإِبانَةِ القطع، والبيانُ إِنَّما سُمِّيَ بياناً لهذا المعنى فَإِنَّه يقطع بعضَ الاحتمالاتِ عن بعض، فوصْفُ الشيطانِ بأنه مبينٌ بيانُه: أنه يقطع الملكف بوسْوسَتِه عن طاعة الله وثوابِه. فإن قيلَ: كون الشيطان عَدُوّاً لنا، إِمَّا أَنْ يكونَ بسببِ أنه يقصد إيصالَ الآلمِ والمكارِه إلَيْنَا في الحالِ، أو بسببِ أَنَّه بوسوستِه يمنعنا عن الدين والثواب، والأَوَّلُ بَاطِلٌ إِذْ لو كان كذلك لوقعنا في الأَمْراض والآلمِ وليس كذلك. والثَّانِي - أيضاً - باطِلٌ؛ لأَنَّ مَنء قَبلِ منه تلك الوسْوَسَةَ فإنه أتي من قبل نفسه؛ لقولهِ: {وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ} [إبراهيم: 11] وإذا كان الحالُ على ما ذكرناهُ، فكيف يُقالُ إنه عدوٌّ لَنَا؟ فالجوابُ: أَنَّهُ عَدُوٌّ من الوجهَينِ معاً أَمَّا من حيثُ أَنَّهُ يحاولُ إيصالَ البلاءِ إلينا، فهو كذلك إِلاَّ أَنَّ اللَّهَ تعالى منعَهُ عن ذلك، ولا يلْزَمُ مِنْ كونه مُريداً لإيصال الضرِرِ إلينا أَنْ يكونَ قادِراً عليه، وأَمَّا من حيثُ إنه يقدم على الوسْوسَةِ، فمعلومٌ أَنَّ تزيينَ المعاصي وإلقاءَ الشبهاتِ، كُلُّ ذلك لوقوعِ الإنسانِ في الباطل وبه يصيرُ محروماً عن الثَّوابِ. قوله تعالى: «فَإِنْ زَلَلْتُمْ» الجمهور على «زَلَلْتُمْ» : بفتح العين، وأبو السَّمَّال قرأها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 بالكسر، فهما لغتان؛ كضلَلت، وضلِلت. و «ما» في «مِنْ بعدِما» مصدريَّةٌ، «مِنْ» بالبتداء الغاية، وهي متعلِّقةٌ ب «زَلَلْتُمْ» . معنى «زَلَلْتُمْ» أي: ضللتم، وقيل: ملتم، يقال: زلَّت قدمه تزلُّ زلاًّ وزللاً، إذا دحضت، وأصل الزلل في القدم، واستعماله في الاعتقادات. فصل يروى عن ابن عباس: فإن زللتم في تحريم السَّبت، ولحم الإبل، {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات} يعني محمَّداً وشرائعه، {فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} في كلِّ أفعاله، فعند هذا قالوا: لئن شئت يا رسول الله، لنتركنَّ كلَّ كتابٍ غير كتابك، فأنزل الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} [النساء: 136] ومن قال: إن الآية الأولى في المنافقين قال في هذه الآية كذلك. فإن قيل: إنَّ الحكم المشروط إنما يحسن في حقِّ من لا يكون عالماً بعواقب الأمور، وأجاب قتادة عن ذلك فقال: قد علم أنَّهم سيزلون، ولكنه تعالى قدَّم ذلك، وأوعد فيه؛ ليكون له الحجَّة عليهم. فصل قوله: {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات} يتناول جمع الدلائل العقليَّة والسمعيَّة. أمَّا العقليَّة، فالعلم بحدوث العالم، وافتقاره إلى صانع يكون عالماً بكلِّ المعلومات، قادراً على كل الممكنات، غنيّاً عن كل الحاجات. وأمَّا السمعيَّة: فهي البيان الحاصل بالقرآن والسُّنَّة. فصل قال القرطبي: دلت الآية على أنَّ عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافراً بترك الشَّرائع. فصل قال القاضي: دلَّت الآية على أنَّ المؤاخذة بالذنب لا تحصل إلاَّ بعد البيان، وإزاحة العلَّة، ودلت الية على أنَّ المتبر حصول البيِّنات، لا حوصل اليقين من المكلف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 وقوله: «عَزِيزٌ» يدلُّ على الزَّجر، والتهديد، والوعيد؛ لأن العزيز هو الذي لا يمنع عن مراده، وذلك إنام يحصل بكمال القدرة، وهو تعالى قادر على كل الممكنات، فكأنَّه تعالى قال: «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتُكُمْ البيّنات» فاعموا أنَّ الله قادرٌ عليكم، لا يمنعه عنكم مانع، وهذا نهاية في الوعيد، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب؛ كقول السيِّد لعبده: إن عصيتني فأنت عارف بي، وتعلم قدرتي عليك، والآية كما أنها تدلُّ على نهاية الوعد بقوله: «حَكِيمٌ» فإنَّ اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء، فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن، بل هذا أليق بالحكمة، وأقرب للرحمة، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه لا وجوب لشيءٍ قبل الشَّرع؛ لأنه تعالى أثبت التهديد بشرط مجيء البينات، وقبل الشرع لم تحصل كلُّ البيِّنات. فصل قال الجبَّائيُّ: المجبرة تقول: إن الله تعالى يريد الكفر من الكفَّار، والسَّفاهة من السُّفهاء، والله تعالى وصف نفسه بأنه حكيم، ومن فعل السَّفه وأراده لا يكون حكيماً، وأجيب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمول، فمعنى كونه تعالى حكيماً أنَّه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقاً لكل الأشياء، ومريداً لها. فصل يحكى أنَّ قارئاً قرأ «فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ» فسمعه أعرابيٌّ، فأنكره؛ وقال: إنَّ هذا كلام الله تعالى فلا يقول كذا؛ الحكيم لا يذكر الغفران عند الزَّلل؛ [أنه إغراءٌ عليه] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 «هَلْ» لفظه استفهامٌ والمراد به النفي؛ كقوله: [الطويل] 1027 - وَهَلْ أَنَا إِلاَّ مِنْ غَزِيَّةَ إنْ غَوَتْ ... غَوَيْتُ، وَإِنْ تَرْشُدْ غَزِيَّةُ أَرْشُدِ أي: ما ينظرون، وما أنا، ولذلك وقع بعدها «إلاَّ» كما تقع بعد «ما» . و «هَلْ» تأتي على أربعة أوجهٍ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 الأأول: بمعنى «مَا» كهذه الآية، وقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] . الثاني: بمعنى «قَدْ» كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [الإنسان: 1] أي: قد أتى، وقوله: {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم} [ص: 21] و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} [الغاشية: 1] ، أي: قد أتاك. والثالث: بمعنى «أَلاَ» قال تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ} [طه: 40] أي: أَلاَ أدلكم، ومثله {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين} [الشعراء: 22] أي: ألا أنبئكم. الرابع: بمعنى الاستفهام، قال تعالى: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ} [الروم: 40] . و «يَنْظُرون» هنا بمعنى ينتظرون، وهو معدًّى بنفسه، قال امرؤ القيس: [الطويل] 1028 - فَإِنَّكُمَا إِنْ تَنْظُرَانِيَ سَاعَةً ... مِنَ الدَّهْرِ يَنْفَعْنِي لَدَى أُمِّ جُنْدَبِ وليس المراد هنا بالنظر تردد العين؛ لأنَّ المعنى ليس عليه؛ واستدلَّ بعضهم على ذلك بأن النظر بمعنى البصر يتعدَّى ب «لى» ، ويضاف إلى الوجه، وفي الآية الكريمة متعدٍّ بنفسه، وليس مضافاً إلى الوجه، ويعني بإضافته إلى الوجه قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] فيكون بمعنى الانتظار، وهذا ليس بشيء، أما قوله: إن الذي بمعنى البصر يتعدَّى ب «إلى» فمسلم، وقوله: «وهو هنا متعدٍّ بنفسه» ممنوعٌ، إذ يحتمل أن يكون حرف الجر وهو «إلَى» محذوفاً؛ لأنه يطَّرد حذفه مع «أَنْ» و «أَنَّ» ، إذا لم يكن لبسٌ، وأمَّا قوله: «يُضَافُ إلى الوَجْهِ» ، فممنوعٌ أيضاً، إذ قد جاء مضافاً للذات؛ قال تعالى: {أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل} [الغاشية: 17] . والضمير في «يَنْظُرُونَ» عائدٌ على المخاطبين بقوله: «زَلَلْتُمْ» فهو التفاتٌ. قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ} هذا مفعول «يَنْظُرُونَ» وهو استثناءٌ مفرَّغٌ، أي: ما ينظرون إلا إتيان الله. والمعنى ما ينظرون، يعني التاركون الدخُّول في السِّلم. قوله تعالى: «في ظُلَلٍ» فيه أربعة أوجهٍ: أحدها: أن يتعلَّق بيأتيهم، والمعنى: يأتيهم أمره أو قدرته أو عقابه أو نحو ذلك، أو يكون كنايةً عن الانتقام، إذ الإتيان يمتنع إسناده إلى الله تعالى حقيقةً. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوف على أنه حال، وفي صاحبها وجهان: أحدهما: هو مفعول يتيهم، أي: في حال كونهم مستقرين في ظلل، وهذا حقيقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 والثاني: أنه الله تعالى بالمجاز المتقدِّم، أي: أمر الله في حال كونه مستقراً في ظلل. الثالث: أن تكون «في» بمعنى الباء، وهو متعلقٌ بالإتيان، أي: إلاَّ أن يأتيهم بظلل؛ ومن مجيء «في» بمعنى الباء قوله: [الطويل] 1029 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... خَبِيرُونَ في طَعْنِ الكُلَى وَالأَبَاهِرِ لأنَّ «خَبِيرِينَ» إنَّما يتعدَّى بالباء؛ كقوله: [الطويل] 1030 - ... ... ... ... ... . . فَإنَّني ... خَبِيرٌ بأَدْوَاءِ النِّسَاءِ طَبِيبُ الرابع: أن يكون حالاً من «المَلاَئِكَةِ» مقدَّماً عليها ويحكى عن أبيّ، والأصل: إلاَّ أن يأتيهم الله والملائكة في ظللٍ، ويؤيِّد هذا قراءة عبد الله إياه كذلك، وبهذا - أيضاً - يقلُّ المجاز، فإنه - والحالة هذه - لم يسند إلى الله تعالى إلاَّ الإتيان فقط بالمجاز المتقدم. وقرأ أُبيّ وقتادة والضَّحاك: في ظلالٍ، وفيها وجهان: أحدهما: أنها جمع ظلّ؛ نحو: صلّ وصلال. والثاني: أنها جمع ظلَّة؛ كقلَّة وقلال، وخلَّة وخلال، إلاَّ أنَّ فعالاً لا ينقاس في فُعلة. قوله تعالى: «مِنَ الغَمَامِ» فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ ل «ظُلَل» التقدير: ظُلَلٍ كائنةٍ من الغمام. و «مِنْ على هذا للتعبيض. والثاني: أنه متعلق ب» يَأْتِيهم «، وهي على هذا لابتداء الغاية، أي: من ناحية الغمام. والجمهور على رفع» المَلاَئِكَةُ «؛ عطفاً على اسم» الله «. وقرأ الحسن وأبو جعفر: بجرِّ» الملائكةِ «وفيه وجهان: أحدهما: العطف على» ظُلِلٍ «، أي: إلاَّ أن يأتيهم في ظللٍ، وفي الملائكة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 والثاني: العطف على» الغمامِ «أي: من الغمام ومن الملائكة، فتوصِف الملائكة بكونها ظللاً على التشبيه، وعلى الحقيقة، فيكون المعنى يأتيهم أمر الله وآياته، والملائكة يأتون ليقومون بما أمروا به من الآيات والتعذيب، أو غيرهما من أحكام يوم القيامة. قوله:» وقُضِيَ الأمرُ «الجمهور على» قُضِيَ «فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون معطوفاً على» يَأْتيهم «وهو داخل في حيِّز الانتظار، ويكون ذلك من وضع الماضي موضع المستقبل، والأصل: ويقضى الأمر وإنما جيء به كذلك؛ لأنه محققٌّ كقوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] وقوله: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني} [المائدة: 116] والسبب في اختيار هذا المجاز، إمَّا التنبيه على قرب الآخرة، وكأنها قد أتت، أو المبالغة في تأكيد وقوعها، كأنها قد وقعت. والثاني: أن يكون جملة مستأنفة برأسها، أخبر الله تعالى بأنه قد فرغ من أمرهم، فهو من عطف الجمل، وليس داخلاً في حيّز الانتظار. وقرأ معاذ بن جبل:» وَقَضَاء الأَمْرِ «قال الزمخشريُّ:» عَلَى المصْدَرِ المرفوع؛ عطفاً على الملائكة «. وقال غيره: بالمدِّ والخفض؛ عطفاً على» الملائكة «. قيل: وتكون على هذا» فِي «بمعنى» البَاءِ «أي: بظُللٍ، وبالملائكة، وبقضاء الأمر، فيكون عن معاذ قراءتان ي الملائكة، الرفع والخفض، فنشأ عنهما قراءتان له في قوله:» وقُضِيَ الأمر «. ومعنى قضي الأمر؛ هو فصل القضاء ببين الخلق يوم القيامة، وإنزال كلِّ واحد منزلته من جنَّةٍ، أو نارٍ؛ قال تعالى: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} [إبراهيم: 22] . قوله: {وإلى الله تُرْجَعُ الأمور} هذا الجار متعلق بما بعده، وإنما قدِّم للاختصاص، أي: لا ترجع إلاَّ إليه دون غيره. وقرأ الجمهور: «تُرْجَعُ» بالتأنيث لجريان جمع التكسير مجرى المؤنث، إلاَّ أنَّ حمزِة والكسائي ونافعاً قرؤوا ببنائه للفاعل، والباقون ببنائه للمفعول، و «رَجَعَ» يستعمل متعدياً تارةً، ولازماً أخرى، وقال تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} [التوبة: 83] فجاءت القراءتان على ذلك، وقد سمع في المتعدي «أرجع» رباعياً، وهي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 لغة ضعيفة، ولذلك أبت العلماء أن تجعل قراءة من بناه للمفعول مأخوذةً منها. وقرأ خارجة عن نافع: «يُرْجَعُ» بالتذكير، وببنائه للمفعول؛ لأن تأنيثه مجازي، والفاعل المحذوف في قراءة من بناه للمفعول: إمَّا الله تعالى، أي: يرجعها إلى نفسه بإفناء هذه الدار، وإمَّا ذوو الأمور؛ لأنه لمَّا كانت ذواتهم وأحوالهم شاهدةً عليهم بأنهم مربوبون مجزيُّون بأعمالهم كانوا رادِّين أمورهم إلى خالقها. قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في قوله «تُرْجَعُ الأُمُورُ» بضم التاء ثلاثة معانٍ. أحدها: ما ذكرناه، وهو أنه جلَّ جلاله يرجعها إلى نفسه. والثاني: أنه على مذهب العرب، من قولهم «فلانٌ يُعْجَبُ بنفسه» ويقول الرجلُ لغيره: «إلى أَيْنَ يُذْهَبُ بِكَ» ، وإن لم يكن أَحَدٌ يَذْهَبُ به. والثالث: أن ذوات الخلق لما كانت شاهدةً عليهم، بأنهم مخلوقون محاسبون، كانوا رادّين أمرهم إلى خالقهم، فقوله «تُرْجَعُ الأُمُورُ» أي: يردّها العباد إليه، وإلى حكمه بشهادة أنفسهم، وهو كقوله {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الجمعة: 1] فإن هذا التسبيح بحسب الحال، لا بحسب النطق، وقوله: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} [الرعد: 15] قيل: المعنى يسجد له المؤمنون طوعاً، ويسجد له الكفَّار كرهاً بشهادة أنفسهم بأنَّهم عبيد الله. فصل في تفسير «الظلل» «الظُّلَلُ» جمع ظُلَّةٍ، وهو ما أظَلَّكَ الله به «والغَمَامُ» هو السَّحاب الأبيض الرَّقيق، سمِّي غماماً؛ لأنه يغمُّ، أي: يستر. وقال مجاهدٌ: هو غير السحاب، ولم يكن إلاَّ لبني إسرائيل في تيههم. وقال مقاتلٌ: كهيئة الضَّبابة أبيض. قال الحسن: في سترةٍ من الغمام. والأولى في هذه الآية وما شاكلها أن يؤمن الإنسان بظاهرها، ويكل علمها إلى الله تعالى؛ على ذلك مضت أئمة السَّلف، وعلماء السُّنَّة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 قال ابن عباس، في رواية أبي صالح، والكلبي: هذا من المكتوم الذي لا يفسَّر، وكان مكحولٌ، والزُّهريُّ، والأوزاعيُّ، ومالكٌ، وابن المبارك، وسفيان الثَّوريُّ، واللَّيث بن سعد، وأحمد، وإسحاق يقولون فيه وفي أمثاله: أَمِرَّها كما جاءت بلا كيف. قال سفيان بن عيينة: كلّ ما وصف الله به نفسه في كتابه، فتفسيره: قراءته، والسكوت عنه؛ ليس لأحدٍ أن يفسِّره إلاَّ الله ورسوله. وروي عن ابن عبَّاسِ أنه قال: نزل القرآن على أربعة أوجهٍ: وجه لا يعرفه أحد لجهالته، ووجه يعرفه العلماء، ووجه نعرفه من قبل العربيَّة فقط، ووجه لا يعلمه إلاَّ الله. وقال جمهور المتكلِّمين: لا بدَّ من التَّأويل، وفيه وجوهٌ: أحدها: أنَّ المراد {يَأْتِيَهُمُ الله} آياتُ الله. فجعل مجيء الآيات مجيئاً له؛ على التفخيم لشأن الآيات؛ لأنه قال قبله: «فَإشنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ البَيِّنَاتُ» ثم ذكر هذه الآية في معرض التهديد، ومعلومٌ أنه بتقدير أن يصح المجيء على الله تعالى لم يكن مجرد حضوره سبباً للتهديد والزَّجر، وإذا ثبت أنَّ المقصود من الآية إنَّما هو الوعيد والتهديد والزجر، وجب أن يضمن في الآية مجيء الآيات والقهر والتَّهديد، ومتى أضمرنا ذلك، زالت الشُّبهة بالكلية. الثاني: أن يأتيهم أمر الله، كقوله: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله} [المائدة: 33] والمراد: يحاربون أولياءه. وقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] والمراد: أهل القرية، فكذا قوله: «يَأتِيهِم اللَّهُ» المراد: يأتيهم أمر الله، كقوله: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] ، وليس فيه إلاَّ حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، وهو مجازٌ مشهورٌ كثيرٌ في كلامهم، تقول: «ضرب الأمير فلاناً، وصلبه، وأعطاه» وهو إنَّما أمر بذلك، لأنه تولَّى ذلك بنفسه، ويؤكد هذا قوله في سورة النحل: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} [النحل: 33] فصارت هذه الآية مفسرة لتلك الآية، لأنَّ هذه الآيات لمَّا وردت في واقعةٍ واحدةٍ، لم يبعد حمل بعضها على البعض، ويؤيِّده - أيضاً - قوله بعده: «وَقُضِيَ الأَمْرُ» والألف واللام للمعهود السَّابق، وهو الأمر الذي أمضرمناه. فإن قيل: أمر الله صفة قديمة، فالإتيان عيلها محالٌ. وعند المعتزلة: أنه أصواتٌ، فتكون أعراضاً، فالإتيان عليها - أيضاً - محال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 والجواب: أن الأمر في اللغة له معنيان: أحدهما: الفعل والشَّأْن والطَّريق؛ قال تعالى: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} [القمر: 50] ، {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] ، وفي المثل: «لأَمْرِ مَا جَدَعَ قَصِيرٌ أَنْفَهُ» ، و «لأَمْرِ مَا يُسَوَّدُ مَنْ يُسَوَّدُ» ، فيجعل الأمر عبارة عن الفعل، وهو ما يليق بتلك المواقف من الأهوال، وهذا هو التَّأويل الأول، وإن حملنا الأمر على ضدِّ النهي، ففيه وجهان: أحدهما: أن منادياً ينادي يوم القيامة ألا أن الله يأمركم بكذا، وكذا، فذاك هو إتيان الأمر. وقوله: «في ظُلَلٍ» ، أي: مع ظللٍ، والتقدير: أن سماع ذلك النداء ووصول تلك الظلل يكون في زمان واحد. الثاني: أن يكون المراد من إتيان أمر الله في ظلل حصول أصوات مقطَّعة مخصوصة في تلك الغمامات، تدلُّ على حكم الله تعالى على كلِّ ما يليق به؛ من السَّعادة، والشقاوة، وتكون فائدة الظُّلل من الغمام أنه تعالى جعله مارة لما يريد إنزاله بالقوم، فعنده يعلمون أنَّ الأمر قد حضر وقرب. الوجه الثالث: أن يأتيهم الله بما وعد من الحساب، والعذاب، فحذف ما يأتي به، تهويلاً عليهم؛ إذ لو ذكر كان أسهل عليهم في باب الوعيد، وإذا لم يذكر كان أبلغ؛ لانقسام خواطرهم، وذهاب فكرهم في كل وجهٍ، كقوله تعالى: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} [النحل: 26] وقوله: {فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ} [الحشر: 2] أو قوله: {فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] وآتاهم العذاب، كالتفسير لقوله: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ} [النحل: 26] . الوجه الرابع: أن تكون «فِي» بمعنى «البَاءِ» ، وتقديره: هل ينظرون إلاَّ أن يأتيهم الله بظللٍ من الغمام، وحروف الجرِّ يقام بعضها مقام بعضٍ. الوجه الخامس: قال ابن الخطيب: وهو أوضح عندي من كلِّ ما سلف، وهو أنَّا ذكرنا أنَّ قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} نزلت في اليهود، فعلى هذا قوله: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} يكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 خطاباً مع اليهود، [وحينئذٍ يكون قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملاائكة} حكاية عن اليهود] ، والمعنى: أنهم لا يقبلون دينك حتى يأتيهم الله في ظلل من الغمام، وذلك لأنهم فعلوا مع موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مثل ذلك، فقالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55] . وإذا كان هذا كايةً عن اليهود، لم يمتنع إجراء الآية على ظاهرها؛ لأن اليهود كانوا مشبِّهةً، وكانوا يجوِّزون على الله تعالى المجيء والذَّهاب، وكانوا يقولون: إنَّه تعالى تجلَّى لموسى - عليه السلام - على الطُّور في ظلل من الغمام، وطلبوا مثل ذلك في زمن محمد - عليه السلام - وعلى هذا فيكون الكلام حكايةً عن معتقد اليهود القائلين بالتشبيه، فلا يحتاج حينئذٍ إلى تأويلٍ، ولا إلى حمل اللفظ على المجاز. وبالجملة فالآية الكريمة تدلُّ على أنَّ قوماً ينتظرون أن يأتيهم الله، وليس في الآية دلالةٌ على أنهم محقُّون في ذلك الانتظار، أو مبطلون؛ فزال ذلك الإشكال. فإن قيل: فعلى هذا التَّأويلن كيف يتعلق قوله تعالى: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور} ؟ قلنا: الوجه فيه أنَّه تعالى لمَّا حكى عنادهم، وتوقفهم في قبول الدِّين على هذا الشرط الفاسد، ذكر بعده ما يجري مجرى التهديد، فقال: {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الامور} . قال ابن تيميَّة: وهذا من أعظم الافتراء على الله، وعلى كتابه؛ حيث جعل خطاب الله مع المؤمنين خطاباً مع اليهود وهو قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم} أنَّ الله مع المؤمنين خطاباً مع اليهود، مع أنَّ الله تعالى دائماً يفصل في كتابه بين الخطابين، فيقول للمؤمنين: {ياأيها الذين آمَنُواْ} ، ويقول لأولئك: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} ، و {ياأهل الكتاب} ، فكيف يجعل خطاب المؤمنين الصريح خطاباً لليهود فقط؟ وهذا من أعظم تدبديل للقرآن. وأيضاً فقوله بعد ذلك: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات} لا يقال: إن زللتم لمن هم مقيمون على الكفر والضلال. وأما قوله في قوله تعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} أنه من اعتقاد اليهود الفاسد، لا من كلام الله تعالى الذي توعَّد به عباده، فهذا افتراءٌ على الله، وكذب على اليهود، وأيضاً فإنه لم ينقل أحد عنهم أنهم كانوا ينتظرون في زمن محمد - عليه السلام - أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام. وقد ذكر المفسرون وأهل السِّير والمغازي في مخاطبات اليهود الذين كانوا بالحجاز للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع كثرة من كان من اليهود بالحجاز، وكثرة ما نزل بسببهم من القرآن، وكذلك ما نقل عنهم أنَّهم كانوا يقولون: إنَّ الله تجلَّى ل «مُوسى» على الطُّور في ظللٍ من الغمام وهو أمر لم يذكره الله تعالى عنهم على هذا الوجه، فإن كان هذا حقّاً عنهم، وكانوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 ينتظرون مثل ذلك، فيكونون قد جوَّزوا أن يكون الله تجلَّى لرسول الله كما تجلَّى لموسى، ومعلوم أنَّ اليهود لم يقولوا ذلك، وما ذكره الله تعالى عنهم من طلبهم رؤية الله جهرةً، فهذا حقٌّ، ولكن أخبر أنَّهم طلبوا الرؤية ولم يخبر أنَّهم انتظروها، والمطلب للشيء معتقدٌ؛ لأنه يكون لا طالب من غير أن يكون، وهذا كقوله تعالى: {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ} [البقرة: 108] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 قرأ الجمهور: «سَلْ» وهي تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون من لغة: سال يسال، مثل: خَافَ يَخَافُ، وهل هذه الألف مبدلة من همزة، أو واو، أو ياء؟ خلاف تقدَّم في قوله: {فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] فحينئذٍ يكون الأمر منها: «سَلْ» مثل «خَفْ» لمَّا سكنت اللام حملاً للأمر على المجزوم، التقى ساكنان فحذفت العين لذلك، فوزنه على هذا فَلْ، وبهذا التقدير قرأ نافعٌ، وابن عامر «سَالَ سَائِلٌ» على وزن «قال» ، «وكان» . والثاني: أن تكون من سأل بالهمز. قال قطربٌ: سأَلَ يَسْأَلُ مثل زَأر الأسد يَزْأَرُ، والأصل: اسأل ثم ألقيت حركة الهمزة على السِّين، تخفيفاً، واعتددنا بحركة النقل، فاستغنينا عن همزة الوصل فحذفناها، ووزنه أيضاً فَلْ بحذف العين، وإن اختلف المأخذ. وروى عباس عن أبي عمرو: «اسْأَلْ» على الأصل من غير نقلٍ. وقرأ قوم: «اسَلْ» بالنقل وهمزة الوصل، كأنَّهم لم يعتدُّوا بالحركة المنقولة كقولهم: «الَحْمر» بالهمز. وقرأ بعضهم «سَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ» بغير همزٍ، وقرأوا {وَاسْأَلِ الْقَرْيَة} [يوسف: 82] {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب} [يونس: 94] {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32] بالهمزة، وقرأ الكسائيُّ الكلَّ بغير همزٍ اتِّباعاً للمصحف، فإنَّ الألف ساقطةٌ فيها أجمع، و «بني» مفعولٌ أول عند الجمهور. وقوله: «كم آتيناهم» في «كَمْ» وجهان: أحدهما: أنها في محل نصب. واختلف في ذلك فقيل: نصبها على أنها مفعولٌ ثانٍ ل «آتياناهم» على مذهب الجمهور، وأول على مذهب السُّهيلي، كما تقدَّم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 وقيل: يجوز أن ينتصب بفعل مقدَّر يفسِّره الفعل بعدها تقديره: كم آتينا آتيناهم، وإنما قدرنا ناصبها بعدها؛ لأنَّ الاستفهام له صدر الكلام، ولا يعمل فيه ما قبله، قاله ابن عطيَّة، يعني أنه عنده من باب الاشتغال، قال أبو حيَّان: وهذا غير جائزٍ إنْ كان «مِنْ آيةٍ» تمييزاً؛ لأن الفعل المفسِّر لم يعمل في ضمير «كَمْ» ولا في سبيها، وإذا لم يكن كذلك، امتنع أن يكون من ابا سببيِّه. ونظير ما أجازه أن تقول: «زَيْداً ضربْتُ» ويكون من باب الاشتغال، وهذا ما لم يجيزه أحد. فإن قلنا أنَّ تمييزها محذوف، وأطلقت «كَمْ» على القوم، جاز ذلك؛ لأنَّ في جملة الاشتغال ضمير الأول؛ لأنَّ التقدير: «كَمْ مِنْ قَوْم آتيناهُمْ» قال شهاب الدِّين: وهذا الذي قاله الشيخ من كونه لا يتمشَّى على كون «مِنْ آية» تمييزاً قد صرَّح به ابن عطيَّة فإنه قال «وقوله:» مِنْ آيةٍ «هو على التقدير الأول، مفعول ثان لآتيناهم، وعلى الثاني في موضع التمييز» يعني بالأول نصبها على الاشتغال، وبالثاني نصبها بما بعدها. الوجه الثاني: أن تكون «كَمْ» في محلِّ رفع بالابتداء، والجملة بعدها في محلِّ رفع خبراً لها، والعائد محذوفٌ تقديره: كم آتيناهموها، أو آتيناهم إيَّاها، أجازه ابن عطيَّة وأبو البقاء، واستضعفه أبو حيَّان من حيث إن حذف عائد المبتدأ المنصوب لا يجوز إلاَّ في ضرورةٍ، كقوله: [السريع] 1031 - وَخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنَا ... بِالْحَقُ لاَ يُحْمَدُ بالْبَاطِلِ أي: وخالدٌ يحمده. وهذا نقل بعضهم، ونقل ابن مالكٍ، أنَّ المبتدأ إذا كان لفظ «كُلٍّ» ، أو ما أشبهها في الافتقار والعموم جاز حذف عائده المنصوب اتفاقاً من البصريِّين والكوفيِّين، ومنه: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95] في قراءة نافعٍ، وإذا كان المبتدأ غير ذلك، فالكوفيُّون يمنعون ذلك لا في السِّعة، والبصريُّون يجيزونه بضعفٍ، ومنه: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة: 50] برفع «حُكْم» . فقد حصل أنَّ الذي أجازه ابن عطية ممنوعٌ عند الكوفيين، ضعيف عند البصريين. وهل «كَمْ» هذه استفهامية، أو خبرية؟ الظاهر الأول، وأجاز الزمخشريُّ فيها الوجهين، ومنعه أبو حيَّان من حيث إن «كَمْ» الخبرية مستقلة بنفسها، غير متعلقةٍ بالسؤال، فتكون مفلتةً ممّا قبلها، والمعنى يؤدي إلى انصباب السؤال عليها، وأيضاً فيحتاج إلى حذف المفعول الثاني للسؤال، تقديره: سل بني إسرائيل عن الآيات التي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 آتيناهم، ثم قال: كثيراً من الآيات التي آتيناهم، والاستفهامية لا تحتاج إلى ذلك. و «مِنْ آيةٍ» فيه وجهان: أحدهما: أنها مفعول ثان على القول بأنَّ «كَمْ» منصوبةٌ على الاشتغال؛ كما تقدَّم، ويكون ممِّيز «كَمْ» محذوفاً، و «مِن» زائدةٌ في المفعول؛ لأنَّ الكلام غير موجب، إذ هو استفهامٌ، وهذا إذا قلنا إنَّ «كَمْ» استفهامية لا خبريةٌ؛ إذ الكلام مع الخبرية إيجابٌ، و «مِنْ» لا تزاد في الواجب إلاَّ على رأي الأخفش، والكوفيِّين، بخلاف ما إذا كانت استفهامية. قال أبو حيَّان: فيمكن أن يجوز ذلك فيه لانسحاب الاستفهام على ما بعده وفيه بعدٌ، لأنَّ متعلَّق الاستفهام هو المفعول الأول لا الثاني، فلو قلت: «كَمْ مِنْ دِرْهمٍ أعطيته مِنْ رَجلٍ» على زيادة «مِنْ» في «رَجُلٍ» لكان فيه نظرٌ «انتهى. والثاني: أنها تمييز، ويجوز دخول» مِنْ «على مميِّز» كَمْ «استفهامية كانت أو خبرية مطلقاً، أي: سواء وليها ممِّزها، أم فصل بينهما بجملةٍ، أو ظرفٍ أو جارٍّ ومجرورٍ، على ما قرَّره النحاة، و» كَمْ «وما في حيِّزها في محلِّ نصب أو خفض، لأنها في محل المفعول الثاني للسؤال فإنَّه يتعدَّى لاثنين: إلى الأوَّل بنفسه وإلى الثَّاني بحرف جرٍّ: إمَا عن، وإمَّا الباء؛ نحو: سألته عن كذا وبكذا؛ قال تعالى: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 59] ، وقد جمع بينهما في قوله: [الطويل] 1032 - ... فَأَصْبَحْنَ لاَ يَسْأَلْنَنِي عَنْ بِمَا بِهِ ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وقد يحذف حرف الجرِّ، فمن ثمَّ جاز في محلِّ «كَمْ» النصب، والخفض بحسب التقديرين، و «كَمْ» هنامعلقة للسؤال، والسؤال لا يعلَّق إلا بالاستفهام؛ كهذه الآية، وقوله تعالى: {} [القلم: 40] ، وقوله: [الطويل] 1033 - يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ المُزْجِي مَطِيَّتَهُ ... سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ وقال آخر: [السبيط] 1034 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 وَاسْأَلْ بِمَصْقَلَةَ البَكْرِيِّ مَا فَعَلا وإنما علَّق السؤال، وإن لم يكن من أفعال القلوب؛ قالوا: لأنه سببٌ للعلم، والعلم يعلَّق، فكذلك سببه، وإذا كانوا قد أجروا نقيضه في التعليق مجراه في قوله: [الطويل] 1034 - وَمَنْ أَنْتُمُ إِنَّا نَسِينَا مَنَ أَنْتُمُ ... وَرِيحُكُمْ مِنْ أَيِّ رِيحِ الأَعَاصِرِ فإجراؤهم سببه مجراه أولى. واختلف النحاة في «كَمْ» : هل بسيطةٌ، أو مركبة من كاف التَّشبيه وما الاستفهامية، حذفت ألفها؛ لانجرارها، ثم سكنت ميمها، كما سكّنت ميم «لِمْ» من «لِمْ فَعَلْتَ كَذَا» في بعض اللغات، فركِّبتا تركيباً لازماً؟ والصحيح الأول. وأكثر ما تجيء في القرآن خبريَّةً مراداً بها التكثير، ولم يأت ممِّزها في القرآن إلا مجروراً بمن. قال أبو مسلمٍ: في الآية حذفٌ، والتَّقدير: كم آتيناهم من آية بيِّنةٍ، وكفروا بها، ويدلُّ على هذا الإضمار قوله: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله} . فصل اعلم أنَّه ليس المقصود اسأل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات لتعلمها؛ لأنه - عليه السلام - كان علاماً بها بإعلام الله له، وإنما المقصود المبالغة في الزَّجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى، فهو سؤالٌ على جهة التَّقريع والتَّوبيخِ؛ لأنه أمر بالإسلام، ونهى عن الكفر بقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} [البقرة: 208] ثم قال: {فَإِن زَلَلْتُمْ} [البقرة: 209] أي: أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد، بقوله: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 209] ، ثم هدَّدهم بقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملاائكة} [البقرة: 210] ، ثم ثلَّث التهديد بقوله: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ} يعني هؤلاء الحاضرين كم آتينا أسلافهم آيات بيناتٍ فأنكروها، فلا جرم استوجبوا العقاب، وهذا تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلُّوا عن آيات الله، لوقعوا في العذاب. وفي المراد ب «الآية البيِّنة» قولان: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 أحدهما: معجزات موسى - عليه السلام - كما تقدَّم نحو: فلق البحر، وتظليل الغمام، وإنزال المن والسلوى، ونتق الجبل، وتكليم الله تعالى موسى - عليه السلام - والعصا، واليد البيضاء، وإنزال التوراة، وبيّن لهم الهدى من الكفر. وقيل: المراد بالآية الحجَّة، والدلالة التي آتاهم، التوراة، والإنجيل على نبوة محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصدقه، وصحَّة شريعته. قوله: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله} «مَنْ» شرطية في محلِّ رفع بالابتداء، وقد تقدَّم الخلاف في خبر اسم الشرط ما هو؟ ولا بدَّ للتبديل من مفعولين: مبدَّل وبدل، ولم يذكر هنا إلاَّ أحدهما وهو المبدِّل، وحذف البدل، وهو المفعول الثاني؛ لفهم المعنى، وقد صرَّح به في قوله: {بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} [إبراهيم: 28] فكفراً هو المحذوف هنا. وقد تقدَّم عند قوله تعالى: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 59] أن «بَدَّل» يتعدَّى لاثنين: أحدهما بنفسه، وهو البدل، وهو الذي يكون موجوداً، وغلى الآخر بحرف الجر، وهو المبدَّل، وهو الذي يكون متروكا، وقد يحذف حرف الجرِّ لفهم المعنى، فالتقدير هنا: «وَمَنْ يُبَدِّلْ بنعمتِهِ كُفْراً» ، فحذف حرف الجر والبدل لفهم المعنى. ولا جائز أن تقدِّر حرف الجر داخلاً على «كُفْراً» فيكون التقدير: «وَمَنْ يُبَدِّلْ بِالكُفْرِ نِعْمَةَ اللَّهِ» ؛ لأنه لا يترتَّب عليه الوعيد في قوله: {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} . وكذلك قوله تعالى: {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] تقديره: بسيئاتهم حسناتٍ، ولا يجوز تقديره: «سَيِّئاتِهِم بحسناتٍ» ؛ لأنه لا يترتَّب على قوله: «إلا مَنْ تَابَ» . وقرئ: «يُبْدِلُ» مخففاً، و «مِنْ» لابتداء الغاية و «مَا» مصدرية، والعائد من جملة الجزاء على اسم الشرط محذوف؛ لفهم المعنى، أي: شديد العقاب له، أو لأنَّ «أَلْ» نابت منابه عند الكوفيين. قال القرطبيُّ: وهذا اللفظ عامٌّ لجميع المكلَّفين، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل لكونهم بدَّلوا ما في كتبهم، وجحدوا أمر محمد - عليه السلام -، فاللَّفظ مستحب على كلِّ مبدِّل نعمة الله تعالى. فصل فالنِّعمة هاهنا إيتاء الآيات والدلائل؛ لأنها أعظم نعم الله، لإإنها أسباب الهدى والنَّجاة من الضَّلالة، وعلى هذا ففي تبديلهم إيَّاها وجهان: فمن قال: المراد بالآيات ما في التوراة والإنجيل من دلائل معجزات موسى - عَلَيْهِ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: تبديلها أنَّ الله تعالى لمَّا أظهرها لتكون أسباباً لضلالهم، فجعلوها أسباباً لضلالهم، كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] . ومن قال: المراد بالآيات ما في التَّوراة والإنجيل من دلائل نبوَّة محمَّد - عليه السلام - قال: تبديلها تحريفها، وإدخالها الشُّبهة فيها. والقول الثاني: أنَّ النعمة هي ما أتاهم الله من الصِّحَّة، والأمن، والكفاية، فتركوا القيام بما وجب عليهم من العلم بتلك الآيات. وقوله: {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ} ، أي: من بعد التمكُّن من معرفتها، أو من بعدما عرفها؛ كقوله: {ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [البقرة: 75] إن فسرنا النعمة بالقول الأول، وإن فرسنا النعمة بالصحة والأمن، فلا شك أن عند حصولها يجب الشكر، ويقبح الكفر، فلهذا قال: {} . وقال الطَّبريُّ: النعمة هنا الإسلام. وقال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وفيه إضمارٌ والمعنى شديد العقاب له. قالعبد القاهر النَّحويُّ في كتاب «دَلاَئِل الإعْجَازِ» : إنّ ترك هذا الإضمار أولى؛ لأنَّ المقصود من الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفاً بأنه شديد العقاب لهذا أو لذاك، ثم قال الواحديُّ: والعقاب عذابٌ يعقب الجرم. قال القرطبيُّ: مأخوذٌ من العقب، كأنَّ المعاقب يمشي بالمجازاة له في آثار عقبه، ومنه عقبة الراكب [وعُقْبَة القِدْر] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 قوله تعالى: «زُيِّنَ» : إنَّما لم تلحق الفعل علامة تأنيثٍ لوجوهٍ: أحدها: قال الفرَّاء: لأنَّ الحياة والإحياء واحدٌ، فإن أُنِّثَ، فعلى اللَّفظ، وبها قرأ ابن أبي عبلة، وإن ذُكِّر، فعلى المعنى؛ كقوله: {مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ} [البقرة: 275] {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} هود: 67] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 وثانيها: قال الزَّجَّاج: إنَّ تأنيث الحياة ليس بحقيقي؛ لأنَّ معنى الحياة والعيشِ والبقاء واحدٌ، فكأنه قال: «زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا البَقَاءُ» . وثالثها: قال ابن الأنباري: إنما لم يقل زيِّنت؛ لأنه فصل بين «زُيِّنَ» وبين الحياة الدنيا بقوله: «للذين كَفَرُوا» ، وإذا فصل بين فعل المؤنث، وبين الاسم بفاصلٍ حَسُنَ تذكير الفعل؛ لأنَّ الفاصل يغني عن تاء التأنيث، وقرأ مجاهد وأبو حيوة: «زَيَّنَ» مبنياً للفاعل، و «الحياةَ» مفعول، والفاعل هو الله تعالى عند الأكثرين، وعند الزجاج والمعتزلة يقولون: إنه الشيطان. وقوله: «يَسْخَرُون» يحتمل أن يكون من باب عطف الجلمة الفعلية على الجملة الفعلية، لا من باب عطف الفعل وحده على فعل آخر، فيكون من عطف المفردات؛ لعدم اتِّحاد الزمان. ويحتمل أن يكون «يَسْخَرُون» خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: وهم يسخرون، فيكون مستأنفاً، وهو من عطف الجملة الاسمية على الفعلية. وجيء بقوله: «زُيِّن» ماضياً؛ دلالةً على أنَّ ذلك قد وقع، وفرغ منه، وبقوله: «وَيَسْخَرُونَ» مضارعاً؛ دلالة على التَّجَدُّد، والحدوث. قوله: {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ} مبتدأ وخبر، و «فَوْقَ» هنا تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون ظرف مكانٍ على حقيقتها؛ لأنَّ المتقين في أعلى علِّيِّين، والكافرين في أسفل السَّافلين. والثاني: أن تكون الفوقية مجازاً: إمَّا بالسنبة إلى نعيم المؤمنين في الآخرة، ونعيم الكافرين في الدنيا. وإمّا أنّ حجة المؤمنين في القيامة فوق حجَّة الكافرين، وإمَّا أن سخرية الؤمنين لهم في الآخرة، فوق سخرية الكفار لهم في الدنيا. و «يوم» منصوبٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به «فَوْفَهُمْ» وقوله: {مِنَ الذين آمَنُواْ} ثم قال: {والذين اتقوا} لتبيين أنَّ السعادة الكبرى لا تحصل إلاَّ للمؤمن التَّقيّ. فصل قال ابن عبَّاسِ: نزلت في كفَّار قريشٍ، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين كعبد الله بن مسعودٍ، وعمَّارٍ، وخبَّابٍ، وسالمٍ مولى أبي حذيفة، وعامر بن فهيرة، وأبي عبيدة بن الجرَّاح، وصهيبٍ، وبلالٍ، بسب ما كانوا فيه من الفقر، والصَّبر على أنواع البلاء، مع ما كان الكُفَّار فيه من النَّعيم، والرَّاحة، وبسط الرِّزق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 وقال عطاءٌ: نزلت في رؤساء اليهود، وعلمائهم، من بني قريظة، والنَّضير، وبني قينقاع؛ سخروا من فقر المسلمين المهاجرين حيث أُخرجوا من ديارهم، وأموالهم، فوعدهم الله أن يعطيهم أموال بني قريظة والنَّضير بغير قتالٍ. وقال مقاتلٌ: نزلت في المنافقين كعبد الله بن أُبيٍّ، وأصحابه؛ كانوا يتنعّمون في الدّنيا، ويسخرون من ضعفاء المسلمين، وفقراء المهاجرين، ويقولون: انظروا إلى هؤلاء الذين يزعم محمد أنه يغلب بهم. قال ابن الخطيب: ولا مانع من نزلها في جميعهم. روى أسامة بن زيد قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَقَفْتُ عَلَى بَابِ الْجَنَّةِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا المَسَاكِينَ، وَوَقَفْتُ عَلَى بَابِ النَّارِ، فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، وَإنَّ أَهْلَ الجَدِّ مَحْبُوسُونُ إِلاَّ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَقَدْ أُمِرَ بِهِ إِلَى النَّارِ» وروى سهل بن سعدٍ السَّاعديّ، قال: «مرَّ رجلٌ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لرجل عنده جالسٍ:» مَا رَأَيُكَ في هَذَا «فقال هذا رجل من أشراف النَّاس، هذا والله حريٌّ إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفَّع، قال: فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم مرَّ رجُلٌ، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَا رَأْيُكَ في هَذَا «؟ فقال: يَا رسولَ الله، هذا من فقراء المسلمين، هذا حَرِيٌّ إن خطب ألاّ ينكح وإن شفع ألا يشفَّع، وإن قال لا يسمع لقوله. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هذا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْل هَذَا « وروي عن عليٍّ؛ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» مَنِ اسْتَدَلَّ مَؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً، أَوْ حَقَّرَهُ لِفَقْرِهِ وَقِلَّةِ ذَات يَدِهِ، شَهَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، ثُم فَضَحَهُ، وَمَنْ بَهَت مُؤْمِناً أَوْ مُؤْمِنَةً، أَوْ قَالَ فِيهِ مَا لَيْسَ فِيهِ أَقَامَهُ اللَّهُ تَعَالَى في تَلٍّ مِنْ نَارٍ يَوْمَ القِيَامَةِ؛ حَتَّى يَخْرُجَ مِمَّا قَالَ فِيه ... « فصل قال الجُبَّائيُّك المزيِّن هم غواة الجن، والإنس؛ زينوا للكفار الحرص على الدُّنيا، وقبَّحوا أمر الآخرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 قال: وأمَّا قول المجبّرة: إنَّ الله تعالى زيَّن ذلك فهو باطلٌ، لأنَّ المزيِّن للشيء كالمخبر على حسنه، فإن كان صادقاً، فيكون ما زينه حسناً، ويكون فاعله مصيباً، وذلك يوجب أنَّ الكافر مصيبٌ في كفره، وهذا القول كفرٌ، وإن كان كاذباً في ذلك التزيين، فيدي إلى أن لا يوثق بخبره، وهذا - أيضاً - كفرٌ، فثبت أنَّ المزيِّن هو الشيطان. قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ، لأنَّ قوله: {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} يتناول جميع الكُفَّار، وهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مُزَيِّن، فلا بدَّ وأن يكون ذلك المزيِّن مغايراً لهم؛ لأنَّ غواة الجنِّ والإنس داخلون في الكفار أيضاً، إلاَّ أن يقال: إن كلَّ واحدٍ يزيِّن للآخرة فيصير دوراً، فثبت ضعف هذا التأويل. وأمَّا قوله:» المُزَيِّنُ للشَّيْءِ كالمخبر عن حُسْنِه «فهذا ممنوع، بل المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالزينة، ثم لئن سلَّمنا أنَّ المزين للشيء هو المبخر عن حسنه بمعنى أنه أخبر عمَّا فيها من اللَّذَّات والراحات، وذلك الإخبار ليس بكذبٍ، وتصديقه ليس بكفرٍ. وقال أبو مسلمٍ: يحتمل أنهم زيَّنوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم: أين يذهب بك؟ لا يريدون أنَّ ذابهاً ذهب به، وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة: {أنى يُؤْفَكُونَ} [المائدة: 75] ، {أنى يُصْرَفُونَ} [غافر: 69] إلى غير ذلك، وأكّده بقوله: {لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ} [المنافقون: 9] وأضاف ذلك إليهما؛ لمَّا كان كالسبب ولمَّا كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً، فالإنسان في الحقيقة هو الذي زيَّن لنفسه. قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله: «زُيِّنَ للنَّاس» يقتضي أنَّ مزيِّناً زينه، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن. التأويل الثالث: أنَّ المزيِّن هو الله تعالى، ويدلُّ عليه وجهان: أحدهما: قراءة من قرأ «زَيَّنَ» مبنيّاً للفاعل. والثاني: قوله تعالى: {جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7] والقائلون بهذا ذكروا وجوهاً: الأول: أنَّ هذا التزيين بما أظهره لهم في الدنيا من الزَّهرة والنضارة، والطِّيب، واللَّذَّة؛ ابتلاءً لعباده؛ كقوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} [آل عمران: 14] إلى قوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} [آل عمران: 15] . وقال: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} [الكهف: 46] ثم قال: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46] فهذه الآيات متوافقة، والمعنى: أنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 الله تعالى جعل الدُّنيا دار بلاءٍ وامتحانٍ، وركَّب في الطِّباع الميل إلى اللذات، وحبّ الشهوات، لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردِّها عنه؛ ليتمَّ بذلك الامتحان، وليجاهد المؤمن هواه، فيقبض نفسه عن المباح، ويكفّها عن الحرام. الثاني: أنَّ المراد ب «التَّزَيِينِ» أنه أمهلهم في الدنيا، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها، والحرص في طلبها، فهذا الإمهال هو المسمى ب «التزيين» . الثالث: أنَّه زيَّن لهم المباحات دون المحظورات، وعلى هذا سقط الإشكال، إلاّ أنَّ هذا ضعيفٌ؛ لأن الله تعالى خصَّ الكفَّار، وأيضاً فإنَّ المؤمن إذا تمتع بالمباحات، وكثرة ماله، يكون متعته مع الخوف من الحساب في الآخرة فعيشه مكدَّرٌ منغَّصٌ وأكبر غرضه أجر الآخرة، إنما يعدُّ الدنيا كالوسيلة إليها، ولا كذلك الكافر، فإنَّه وإن قلَّت ذات يده، فسروه، بها يغلب على قلبه لاعتقاده أنها المقصود دون غيرها. وأيضاً، فإنَّه تعالى أتبع الآية بقوله: {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ} وذلك يشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في ترك اللَّذات المحظورة، وتحملهم المشاقَّ الواجبة، فدلَّ ذلك على أنَّ التزيين لم يكن في المباحات. قال ابن الخطيب: ويتوجَّه على المعتزلة سؤال، وهو أنَّ حصول هذه الزينة في قلوب الكفَّار لا بدَّ له من محدث، وإلا فقد وقع المحدث، لا عن مؤثر فهذا محال، ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار إمَّا أن يكون قد رجَّح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة، فقد زال الاختيار، لأنَّ حال الاستواء لمَّا امتنع حصول الرُّجحان، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحاً أولى بامتناع الوقوع، وإذا صار المرجوح ممتنع الوقوع، صار الراجح واجب الوقوع ضرورة أنَّه لا خروج عن النقيضين، فهذا توجيه السؤال، وهو لا يدفع بالوجوه التي ذكرها المعتزلة، فأمّا أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنَّ الله تعالى خلق في قلبه إرادة تلك الأشياء، بل خلق تلك الأفعال، والأقوال. قوله تعالى: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} مفعول «يَشَاءُ» محذوف، أي: من يشاء أن يزرقه، و «بِغيرِ حِسَابٍ» هذا الجارُّ فيه وجهان: أحدهما: أنه زائدٌ. والثاني: أنه غير زائدٍ، فعلى الأول لا تعلُّق له بشيءٍ، وعلى الثاني هو متعلِّق بمحذوفٍ، فأما وجه الزيادة: فهو أنه تقدَّمه ثلاثة أشياء في قوله: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ} الفعل والفاعل والمفعول، وهو صالحٌ لأن يتعلَّق من جهة المعنى بكلِّ واحدٍ منها، فإذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 تعلَّق بالفعل كان من صفات الأفعال، تقديره: والله يرزق رزقاً غير حساب، أي: غير ذي حساب، أي: أنه لا يحسب ولا يحصى لكثرته، فيكون في محلِّ نصبٍ على أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، والباء زائدةٌ. وإذا تعلَّق بالفاعل، كان من صفات الفاعلين، والتقدير: والله يرزق غير محاسب بل متفضلاً، أو غير حاسبٍ، أي: عادٍّ. ف «حساب» واقعٌ موقع اسم فاعل من حاسب، أو من حَسَبَن ويجوز أن يكون المصدر [واقعاً موقع اسم مفعولٍ من حاسب، أي: الله يرزق غير محاسبٍ] أي: لا يحاسبه أحدٌ على ما يعطي، فيكون المصدر في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل، والباء فيه مزيدةً. وإذا تعلَّق بالمفعول، كان من صفاته أيضاً، والتقدير: والله يرزق من يشاء غير محاسب، أو غير محسوب عليه، أي: لا يعدُّ. فيكون المصدر أيضاً واقعاً موقع اسم مفعول من حاسب أو حسب، أو يكون على حذف مضاف، أي: غير ذي حساب، أي: محاسبة، فالمصدر واقع موقع الحال والباء - أيضاً - زائدة فيه، ويحتمل في هذا الوجه أن يكون المعنى أنه يرزق من حيث لا يحتسب، أي: من حيث لا يظنُّ أن يأتيه الرزق، والتقدير: يرزقه غير محتسب ذلك، أي: غير ظانٍّ له، فهو حال أيضاً، ومثله في المعنى {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق: 3] . وكون الباء تزاد في الحال ذكروا لذلك شرطاً - على خلافٍ في جواز ذلك في الأصل - وهو أن تكون الحال منفيَّةٌ، كقوله: [الوافر] 1036 - فَمَا رَجَعَتْ بِخَائِبَةٍ رَكَابٌ ... حَكِيمٌ بْنُ المُسَيِّبِ مُنْتَهَاهَا وهذه الحال - كما رأيت - غير منفيةٍ، فالمنع من الزيادة فيها أولى. وأمَّا وجه عدم الزيادة، فهو أن تجعل الباء للحال والمصاحبة، وصلاحية وصف الأشياء الثلاثة - إني الفعل، والفاعل، والمفعول - بقوله: «بغير حساب» باقية أيضاً، كما تقدَّم في القول بزيادتها. والمراد بالمصدر المحاسبة، أو العدُّ والإحصاء، أي: يرزق من يشاء، ولا حساب على لارزق، أو ولا حساب للرازق، أو ولا حساب على المرزوق، وهذا أولى؛ لما فيه من عدم الزيادة، التي الأصل عدمها، ولما فيه من تبعيةَّة المصدر على حاله، غير واقعٍ موقع اسم فاعل، أو اسم مفعولٍ، ولما فيه من عدم تقدير مضافٍ بعد «غير» أي: غير ذي حساب. فإذاً هذا الجارُّ، والمجرور متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لوقوعه حالاً من أيِّ الثلاثة المتقدِّمة شئت؛ كَما تقدَّم تقريره، أي: ملتبساً بغير حساب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 فصل يحتمل أن يكون المراد منه: ما يعطي في الدنيا لعبيده المؤمنين والكافرين، ويحتمل أن يكون المراد منه: رزق الآخرة، فإن حملناه على رزق الآخرة، كان مختصاً بالمؤمنين، وهو من وجوه: أحدها: أنَّ الله يرزقهم بغير حسابٍ، أي: رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له؛ لأنَّ كلَّ ما دخل تحت الحساب، فهو متناهٍ. وثانيها: أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب، وبعضها تفضل؛ كام قال: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ} [النساء: 173] فالفضل منه بلا حساب. وثالثها: أنه لا يخاف نفادها عنده؛ فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه؛ لأن المعطي إنَّما يحاسب، ليعلم مقدار ما يعطى وما يبقى كي لا يتجاوز في عطاياه إلى ما لا يجحف به، والله عالم غني، لا نهاية لمقدوراته. ورابعها: «بِغَيْرِ حِسَاب» ، أي: بغير استحقاقٍ؛ يقال: لفلان على فلانٍ حسابٌ؛ إذا كان له عليه حق، وهذا يدلُّ على أنَّه لا يستحق أحدٌ عليه شيئاً، وليس لأحدٍ معه حساب، بل كلُّ ما أعطاه، فهو مجرّد فضل وإحسانٍ، لا بسبب استحقاق. وخامسها: «بِغَيرِ حِسَابٍ» ، أي: يعطي زائداً على الكفاية؛ يقال: فلان ينفق بغير حساب، أي: يعطي كثيراً؛ لأن ما دخله الحساب فهو قليل. وهذه الوجوه كلُّها محتملة، وعطايها الله بها منتظمة، فيجوز أن يكون الكلُّ مراداً والله أعلم. فإن قيل: قد قال الله - تعالى - في صفة المتقين، وما يصل إليهم: {عَطَآءً حِسَاباً} [النبأ: 36] على المستحقِّ بحسب الوعد؛ كما هو قولنا، وبحسب الاستحقاق، كما هو قول المعتزلة، فالسؤال: وهذا كالمناقض لهذه الآية. فالجواب: من حمل قوله: «بِغَيْرِ حِسَابٍ» على التفضُّل، وحمل قوله: «عَطَاءً حِسَاباً» على المستحق بحسب الوعد، كماهو قولنا، وبحسب الاستحقاق، كما هو قول المعتمزلة، فالسؤال زائل، وَمَنْ حَمَلَ قَوْلَهُ: «بغير حساب» على سائرِ الوجوه، فله أنْ يقول: إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقاتِ، فَصَحَّ من هذا الوجه أَنْ يُوصَف بكونه: «عَطَاءً حِسَاباً» فلا تناقض، وإن حملناه على أرزاق الدنيا، ففيه وجوه: أحدها، وهو أَلْيَقُ بِنَظم الآية، أنَّ الكفارَ كان يَسْخرونَ من فقراء المسلمين؛ لأنهم كانوا يستدلُّون بحصولِ السعاداتِ الدنيوية، على أنهم على الحقِّ، وبحرمان فقراء المسلمين على أنهم على الباطل؛ فأَبطل تعالى استدلالهُم بقوله: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يعني: يُعْطِي في الدنيا مَنْ يشاءُ من غير أَنْ يكونَ ذلك مُنْبئاً عن كون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 المُعْطى مُحِقّاً أَوْ مُبْطِلاً، بل بِمَحْضِ المَشِيئَةِ؛ كَمَا وَسَّعَ على قَارون وضيَّق على أَيُّوب - عليه السلام - فقد يُوسِّع على الكافر، ويضيقُ على لامؤمن؛ ابتلاءً وامتحاناً؛ كما قال {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ} [الزخرف: 33] . وثانيها: أَنَّ اللَّهَ يرزقُ مَنْ يشاءُ في الدنيا: مِنْ كافرٍ، ومُؤْمنٍ بغير حسابٍ يكون لأحدٍ عليه ولا مُطَالبة، ولا تبعةٍ، ولا سؤال سائل. والمقصود منه: أَلاَّ يقولَ الكافِر: إِنَّ المؤمن على الحق فَلِمَ لَمْ يُوَسَّع عليه في الدنيا؟ وألاَّ يقولَ المؤمُن: لو كانَ الكافرُ مُبطلاً، فلِمَ يُوَسَّعُ عليه في الدنيا؟ بل الاعْتِراضُ ساقطٌ؛ و {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] . وثالثها: بغير حساب أي: مِنْ حيثُ لا يحتسِب؛ كما يقولُ مَنْ جاءه مَا لَمْ يكنْ في قلبه: لَمْ يَكُن هذا حسابي. قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَقَدْ فعل ذلك بهم، فَأَغْنَاهُم بما أَفَاءَ عليهم مِنْ أَمْوالِ صَنَادِيدِ قُرَيش ورُؤَساءِ اليهود، وبما فتح على رسوله، بعد وفاته على أَيْدِي أصحابه، حتى ملكوا كُنوز كِسرَى، وقَيصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 وجه النظْمِ أنه لما بيَّن أن سبب إصرار الكُفَّار على كُفرهم، هو حُبُّ الدنيا بين في هذه الآية أَن هذا المعنى غير مُختص بهذا الزمان، بل كان حاصلاً في الأَزْمِنة المُتَقادِمة، فَإِنَّهم كانوا أُمةً واحدة على الحق، ثم اختلفُوا، وما كان اختلافُهم إِلاَّ بسبب البغي، والتحاسُد، والتَّنَازُع في طلب الدنيا. قال القفَّال: «الأُمَّةُ» هم المجتمعون على الشَّيء الواحد، يَقتدي بعضُهم ببعض؛ مأخوذٌ من الائتمام. ودَلَّتِ الآيةُ على أَنَّ الناس كانت أُمَّةً واحدةً، ولم تدلَّ على أَنَّهُم كانوا أُمَّةً وَاحدةً: في الحقِّ، أم في الباطل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 فصل في معاني كلمة «أمة» قد جاءت الأمة على خمسة أَوْجُهٍ: الأوَّل: «الأُمَّةُ» المِلَّة، كهذه الآية، أي: مِلَّة واحدة، ومثله: {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52] أي: مِلتكُم. الثاني: الأُمَّةُ الجماعة؛ قال تعالى: {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق} [الأعراف: 181] أي: جماعةٌ.: الثالث: الأُمَّةُ السنين؛ قال تعالى: {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8] ، أي: إلى سنين معدودةٍ، ومثله «وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ» أي: بعد سنين. الرابع: بمعنى إمامٍ يُعلِّمُ الخير؛ قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} [النحل: 120] . الخامس: الأُمَّةُ: إحدى الأُمم؛ قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ، وباقي الكلام على ذلك يأتي في آخرِ «النحل» عند قوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] . فصل في المراد بالأمة، وهل كانوا على الحق؟ ومتى اختلفوا؟ واختلف المفسِّرثون على خمسة أقوالٍ: القول الأول: أنهم كانوا على الحقِّ، وهو قول أكثر المحققين؛ قال القفَّالُ: لأَنَّهُ تعالى قال بعده: {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ} ف «الفاء» في قوله: «فَبَعَثَ اللَّهُ» تَقْتَضِي أنْ يكونَ بعثهم بعد الاختلافِ، فلو كانوا قبل ذلك أمة واحدة في الكفر لكانت بعثة الرسل قبل الاختلاف أولى؛ لأَنَّهُم لما بعثوا، وبعضُ الأُمَّة محقٌّ وبعضهم مُبطلٌ فلأَنْ يبعثوا عند كون الجميعِ على الكفر أولى. وأيضاً فإن آدم - عليه السَّلام - لما بُعِث إلى أولاده، كانوا مُسلمين مطيعين، ولم يحدث بينهم اختلافٌ في الدِّين، إلى أَنْ قتلَ قَابيلُ هابيل؛ بسبب الحسدِ والبَغِي، وهذا ثابتٌ بالتواتر، فإِنَّ الناس - وهم: آدَمَ وَحَوَّاء، وأولادهما - كانوا أُمَّةً واحدةٌ على الحق، ثُم اختلفُوا؛ بسبب البغي، والحسد، كما حكى الله تعالى عن ابني آدم بالحق {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} [المائدة: 27] وأيضاً قوله - عليه السلام -: «كُلُّ مَوْلُودٍ يولَدُ على الفِطْرة؛ فأَبواهُ يُهَوِّدَانِهِ أَو يُنصرانه أو يُمَجِّسانه» فدلَّ ذلك على أَنَّ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 المولود لو تُرِك مع فِطْرته الأَصلية، لما كان على شَيْءٍ من الأَدْيان الباطلة، وأَنَّه إِنَّما يُقدمُ على الدين الباطل، لأسبابٍ خارجية. وقال الكلبيُّ: هُم أهلُ سفينةِ نُوح، لما غرقت الأرض بالطوفانِ، لم يَبْقَ إلاَّ أَهْلُ السفينة على الحق، والدِّين الصَّحيحن ثم اختلفُوا بعد ذلك؛ وهذا مما ثَبَتَ بالتَّواتر. وقال مُجاهدٌ: أراد آدَمَ وحده، وكان أُمَّةً واحدة، وسَمَّى الواحد بلفظ الجمع؛ لأَنَّهُ أَصلُ النّسل، وأبُو البشر، وخلق اللَّهُ منه حَوَّاءَ، ونشر منها الناس. قال قتادةُ وعكرمةُ: كان الناسُ مِنْ وقت آدمَ إلى مبعث نُوح، وكان بينهما عشرةُ قرون كُلُّهم على شريعةٍ واحدةٍ من الحق، والهُدَى، ثم اختلفُوا في زمن نوح - عليه السلام - فبعث اللَّهُ إليهم نُوحاً، وكان أَوَّل بني بُعثَ. وحَكَى القرطبيُّ: قال ابنُ أبي خيثمة: منذ خلق اللَّهُ آدم - عليه السلام - إلى أن بعث اللَّه محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خمسةُ آلافِ سنة وثمانمائة سنة، وقيل: أكثر من ذلك، وكان بينه وبين نُوحٍ ألفُ سنة ومائتا سنة، وعاش آدم تسعمائة وستين سنة، وكان الناس في زمانه أمةً واحدة، على مِلَّةٍ واحدة متمسكين بالدِّين، تُصافحُهم الملائكة، ودَامُوا على ذلك إلى أَن رُفِعَ إدريس - عليه السلام - فاختلفُوا. قال: وهذا فيه نظر؛ لأَنَّ إدريس بعد نُوحٍ على الصحيح. وقيل: كان العربُ على دين إبراهيم إلى أَنْ غيّره عمرو بن لُحَيٍّ. وروى أبو العالية، عن أُبِيٍّ بن كعبٍ قال: «كان النَّاسُ حين عُرِضُوا وأُخرِجُوا مِنْ ظَهْرِ آدَمَ، وأَقرُّوا أُمَّةً واحدة مُسْلِمين كلهم، ولم يكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً قَطّ غيرَ ذلك اليومِ، ثم اختَلَفُوا آدَمَ. القول الثاني: أَنَّهُم كانُوا أُمَّةً واحدة في الكُفر، وهو قولُ ابنِ عَبَّاسٍ، وعطاء، والحسن. وقال الحسن وعطاء: كان الناس من وَقْتِ وَفَاةِ آدمَ إلى مبعثِ نُوحٍ أُمَّةً واحدة على مِلَّةِ الكُفرِ؛ أَمثَال البَهَائِم، فَبَعثَ اللَّه إبراهيم - عليه السَّلام - وغيرُ من النبيين، واستدلُّوا بقوله: {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} وهو لاَ يَليقُ إلا بذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 وجوابه ما بينا: أَنَّ هذا لا يليقُ بضده، ثم اختلف القائلُون بهذا القول: مَتَى كانوا مُتّفقين على الكُفر على ما قَدَّمنا ثُمَّ سأَلُوا أَنفسهم سُؤالاً وقالوا: أليس فيهم مَنْ كان مُسْلماً كهابيل، وشيث، وإدريس. وأجابوا: بِأنَّ الغالب كان هو الكُفْر، والحُكْمُ للغالب، ولا يعتدُّ بالقليل في الكثير كما لا يعتدُّ بالشعير القليل في البر الكثير، فقد يقال: دار الإسلام، وإِنْ كان فيها غيرُ المسلمين، ودارُ الحرب وإن كان فيها مُسلمون. الثالث: قال أبو مُسلمٍ: كانوا أُمَّةً واحدة في التمسُّك بالشرائع العقلية، وهي الاعترافُ بوجود الصانع، وصِفاتِهِ، والاشتغالُ بخدمته، وشُكْرِ نعمه، والاجتناب عن القبائح العقليَّة كالظُّلم، والكذب، والجهل، والعبث، وأمثالها. واحتجَّ القاضي على صِحَّةِ قوله: بِأَنَّ لفظ النَّبيين يفيدُ العُمُومَ والاستغراقَ، وحرف» الفاء «يُفيدُ التَّراخي، فقوله {فَبَعَثَ الله النبيين} يفيد أنَّ بعثةَ الأنبياء كانت مُتأخرة عن كون الناس أُمَّةً واحدة، فتلك الواحدةُ المتقدمةُ على بعثة جميع الشرائع، لا بُدَّ وأَنْ تكون واحدة في شرعة غير مُسْتفَادٍ من الأَنبياء فواجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما بَيَّنَّاهُ، وأيضاً فالعلم بحسن شُكر المُنْعِم، وطاعة الخالق، والإحسان إلى الخَلْقِ، العَدلُ؛ مُشْتَركٌ فيه بين الكُلّ، والعِلْمُ يُقبح الكذب، والظِّلم، والجهْل، والعبث، وأمثالها مشترك فيه بين الكل، فالأظهر أَنَّ الناس كانُوا في أَوَّل الأمر على ذلك، ثم اختلفُوا بعد ذلك؛ لأَسباب منفصلة، ثم قال: فإنْ قيل: أليس أوَّل الإسلام آدَم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مع أولاده كانوا مُجتمعين على التَّمسك بالشرائع العقلية أَوَّلاً، ثم إِنَّ اللَّهَ تعالى بعثهُ بعد ذلك إلى أولاده، ويُحْتَملُ أَنْ صار شرعُهُ مندرِساً، بعد ذلك، ثم رجع الناسُ إلى الشرائعِ العقلية؟ قال ابنُ الخطيب: وهذا القولُ لا يصحُّ إلاَّ بعد تحسين العقل، وتقبيحه، والكلام فيه مشهور. القول الرابع: أنَّ الآية دلَّت على أَنَّ الناس كانوا أُمَّةً واحدة، وليس فيها أَنَّهم كانوا على الإيمان، أو على الكُفر، فهو موقوفٌ على الدَّليل. القول الخامس: أَنَّ المراد ب «النَّاسِ» هنا أهْلُ الكتاب مِمَّن آمَنَ بِمُوسَى - عليه السلام - وذلك لأَنَّا بينا أَنَّ هذه الآية متعلقةٌ بما تقدم من قوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً} [البقرة: 208] وذكرنا أَنَّ كثيراً من المفسرين زعمُوا أَنْ تلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 الآية نزلت في اليهودِ؛ فقوله تعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: كان الذين آمنوا بموسى أُمَّةً واحدة على دين واحدٍ، ثم اختلفُوا بسبب البغي، والحسد؛ فبعثَ الله النبيِّين، وهم الذين جاءُوا بعد موسى - عليه السلام - وأنزل معهم الكتاب كما بُعِث الزبور إلى دواد، والإنجيل إلى عيسى، والفرقانُ إلى محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لتكون تلك الكتب حاكمةً عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها، وهذا القولُ مطابقٌ لنظم الآية، وموافقٌ لما قبلها وما بعدها، وليس فيه إشكالٌ إلاَّ أَنَّ تخصيص لفظ الناس بقومٍ معينين خلاف الظَّاهر، ويُعتذَرُ عنه بأن األفَ واللاَّمَ كما تكون للاستغراق، فقد تكونُ أيضاً لِلْعَهد. فصل في بيان لفظة «كان» قال القرطبيُّ: لفظة «كَانَ» على هذه الأقوال على بابها من المُضِيّ المنقضي، وكل من قدّر الناسَ في الآية مُؤمنين قدّر في الكلام: فاختلفُوا، فبعث اللَّه، ويدُلُّ على هذا الحذف قوله: {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ} وكل مَنْ قَدَّرهم كُفَّاراً كانت بعثهُ النبيين إليهم، ويحتملُ أن تكونَ «كان» لِلثّبُوت، والمرادُ الإخبارُ عن الناس الذين هم الجِنْس كله: أنهم أمةٌ واحدةٌ من خُلُوِّهم عن الشرائع، وجهلهم بالحقائق لولا أَنَّ اللَّهَ تعالى مَنَّ عليهم بالرسُل؛ تفضلاً منه؛ فعلَى هذا لا تختصُّ «كان» بالمُضِيِّ فقط، بل يكونُ مَعناها كقوله تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 96] وقوله: {فَبَعَثَ الله النبيين} قال بعضُ المفسرين: وجملتهم مائةٌ وأربعةُ وعشرون ألفاً، والرسل منهم ثلاثمائةٍ وثلاثة عشر، والمَذكُور في القرآنِ بأسمائِهم: ثمانيةَ عشر نَبِيّاً. قوله تعالى: «مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرينَ» حالان من «النَّبِيِّنَ» . قيل: وهي حالٌ مُقارنةٌ؛ لأنَّ بعثَهُم كان وقت البشارةِ والنِّذار وفيه نظرٌ؛ لأنَّ البِشَارةَ والنِّذَارةَ [بعدَ البعث. والظاهرُ أنها حالٌ مُقَدِّرَةٌ، وقد تقدَّمَ معنى البشارة والنذارةِ] في قوله: {أَنذِرِ الناس وَبَشِّرِ الذين آمنوا} [يونس: 2] . وقوله: «وَأَنْزَلَ مَعهُمُ» هذا الظرفُ فيه وجهان: أحدهما: أنه مُتعلِّقٌ بأنزل. وهذا لا بُدَّ فيه مِنْ تأويل؛ وذلك أَنَّه يلزمُ مِنْ تعلُّقِه بأنزل أَنْ يكون النبيون مصاحبين للكتاب في الإِنزال، وهم لا يُوصَفُون بذلك؛ لعدمه فيهم. وتأويلُهُ: أنَّ المراد بالإِنزال الإِرسالُ، لأَنَّهُ مُسَبَّبٌ عنه، كأنَّهُ قيل: وأرسل معهم الكتاب فتصحُّ مشاركتهم له في الإِنزالِ بهذا التَّأويل. والثاني: أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من الكتاب، وتكونُ حالاً مُقدرةً، أي: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 وأنزل مقدِّراً مصاحبته غياهم، وقدَّره أبو البقاء بقوله: «شَاهِداً لَهُمْ وَمُؤيِّداً» ، وهذا تفسيرُ معنىً لا إعرابٍ. والألِفٌ واللامُ في «الكِتَابِ» يَجُوزُ أَنْ تكونَ للعهدِ، بمعنى أَنَّه كتابٌ معينٌ؛ كالتوراة مثلاً، فإنها أنزلِت على مُوسى، وعلى النَّبيِّين بعده؛ بمعنى أنَّهَم حَكَموا بها، واستدامُوا على ذلك، وأَنْ تكونَ للجنس، أي: أنزل مع كلِّ واحدٍ منهم من هذا الجنس. قال القاضي: ظاهرُ الآيةِ يدلُّ على أَنَّه لا نَبيَّ إِلاَّ ومعه كتابٌ، أنزل فيه بيانُ الحق: طال ذلك الكتابُ، أم قصُرَ، ودُوِّنَ، أَو لَمْ يُدَوَّن، وكان ذلك الكتابُ مُعجزاً، أَمْ لم يكن. وقيل: هو مفردٌ وُضِعَ موضع الجمع: أي وأَنزلَ معهم الكُتُبَ، وهو ضعيفٌ. وهذا الجُملة معطوفةٌ على قوله: «فَبَعَثَ» ولا يُقالُ: البشارةُ والنِّذارةُ ناشئةٌ عن الإِنزال فكيف قُدِّما عليه؟ لأَنَّا لا نُسَلِّم أنَّهما إنما يَكُونان بإنزال كتابٍ، بل قد يكونان بوحي من اللَّهِ تعالى غير مَتلُوٍّ ولا مكتُوبٍ. ولئن سَلَّمنا ذلك، فإنَّما قُدِّما، لأنهما حالان من «النَّبيِّينَ» فالأَوْلَى اتِّصالهم بهم. قوله: «بالحقِّ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أن يكون متعلِّقاً بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الكتاب - أيضاً - عند مَنْ يُجَوِّزُ تعدُّدَ الحال، وهو الصحيحُ. والثاني: أَنْ يتعلَّق بنفس الكتاب؛ لما فيه من معنى الفعلِ، إذ المرادُ به المكتوبُ. والثالث: أَنْ يتعلَّقَ بأنزلَ، وهذا أول؛ لأنَّ جعله حالاً لا يَسْتَقِيم إِلاَّ أَنْ يكونَ حالاً مُؤكدةً، إِذْ كُتُبُ اللَّهِ تعالى لا تكون ملتبسةً بالحقِّ، الأصلُ فيها أَنْ تكونَ مْستقلَّةً ولا ضرورة بنا إلى الخروج عن الأصل، ولأنَّ الكتاب جارٍ مَجرى الجوامد. قوله: «لِيَحْكُمَ» هذا القول متعلقٌ بقوله: «أَنْزَلَ» : واللامُ لِلْعله، وفي الفاعل المضمر في «لِيَحْكُمْ» ثلاثةُ أقوال: أحدها: وهو أظهرها، أنه يعودُ على اللَّهِ تعالى: لتقدُّمه في قوله: «فَبَعَثَ اللَّهُ» ولأنَّ نسبة الحُكْم إليه حقيقةٌ، ويؤيِّده قراءةُ الجحدري فيما نقله عنه مكّي «لِنَحْكُمَ» بنون العظمة، وفيه التفاتٌ من الغيبة إلى التكلُّم. وقد ظَنَّ ابنُ عطية أن مكياً غلط في نقل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 هذه القراءة عنه، وقال: إنَّ الناسَ رَوَوْا عن الجَحْدَري: «لِيُحْكَمَ» على بناءِ الفعل للمفعول وفي «النُّورِ» موضعين هنا، وفي «آل عمران» ولا ينبغي أن يُغَلِّطه؛ لاحتمال أَنْ يكون عنه قراءتان. والثاني: أنه يعودُ على «الكِتاب» أي: ليحْكُم الكتابُ، ونسبةُ الحُكْم إليه مجازٌ؛ كنسبةِ النُّطق إليه في قوله تعالى: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} [الجاثية: 29] . وقوله: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المؤمنين} [الإسراء: 9] . ونسبةُ القضاءِ إليه في قوله: [الكامل] 1037 - ضَرَبَتْ عَلَيْكَ العَنْكَبُوتُ بِنَسْجِهَا ... وَقَضَى عَلَيْكَ بِهِ الْكِتَابُ المُنْزَلُ ووجهُ المجاز: أنَّ الحُكم فيه؛ فنُسب إليه، وقيل: إنه يعود على النَّبيِّ، واستضعفه أبو حيَّان من حيثُ إفرادُ الضمير، إذ كان ينبغي على هذا أن يجمع؛ ليطابق «النَّبيِّنَ» . ثُمَّ قال: وَمَا قاله جائِزٌ عَلَى أن يَعُودَ الضميرُ على إفراد الجمع، على معنى: لِيَحْكُمَ كُلُّ نَبِيٍّ بكتابه. و «بَيْنَ» مُتَعلِّقٌ ب «يَحْكُمْ» . والظَّرفيةُ هنا مجازٌ. وكذلك «فِيما اخْتَلَفُوا» مُتعلقٌ به أيضاً. و «مَا» موصولةٌ، والمرادُ بها الدِّينُ، أي: ليحكم اللَّهُ بين الناسِ في الدِّين، بعد أَنْ كانُوا مُتفقين عيه. ويضعُفُ أَنْ يْرَادَ ب «ما» النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لأنها لغير العقلاء غالباً. و «فِيهِ» متعلِّقٌ ب «اخْتَلَفُوا» ، والضميرُ عائدٌ على «ما» الموصولة. قوله: {وَمَا اختلف فِيهِ} الضميرُ في «فِيهِ» أوجهٌ. أظهرها: أنه عائدٌ على «ما» الموصولةِ أيضاً، وكذلك الضميرُ في «أُوتُوهُ» وقيل: يعودان على الكتاب، أي: وما اختلف في الكتابِ إِلاَّ الَّذين أُوتُوا الكتاب. وقيل: يعودان على النبيِّ، قال الزَّجَّاجُ: أي: وما اختلف في النبيّ إِلاَّ الذين أُوتُوا عِلْمَ نبوَّته. وقيل: يعودُ على عيسى؛ للدلالة عليه. وقيل: الهاءُ في «فِيهِ» تعود على «الحقِّ» وفي «أوتُوه» تعود على «الكتاب» أي: وما اختلف في الحقِّ إِلاَّ الذين أُوتُوا الكتاب. فصل والمراد باختلافهم يحتملُ معنيين: أحدهما: تكفير بعضهم بعضاً؛ كقول اليهود: {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ} [البقرة: 113] أو قولهم {نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ} [النساء: 150] والآخر: تحريفهم وتبديلهم، وهذا يدُلُّ على أَنَّ الاختلاف في الحقِّ لم يُوجد إِلاَّ بعد بعثة الأنبياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 وإنزالِ الكتابِ، وذلك يُوجِبُ أَنَّ قبل البعثة لم يكن الاختلاف في الحقِّ حاصلاً، بل كان الاتفاق في الحق حاصلاً وهو يدل على أَنَّ قوله تعالى: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} معناه أمه واجدة في دِينِ الحَقِّ. وقوله: «مِنْ بعدِ» فيه وجهان: أحدهما وهو الصحيحُ: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ تقديره: اختلفوا فيه من بعد. والثاني: أن يتعلّق ب «اخْتَلَفَ» الملفوظ به، وقال أبو البقاء: ولا تمنعُ «إلاَّ» من ذلك، كما تقول: «ما قام إلاَّ زيدٌ يومَ الجُمُعَةِ» . وهذا الذي أَجازه أبُوا البقاء، فيه كَلاَمٌ كثيرٌ للنُّحاة، وملخَّصُه: أَنَّ «إِلاَّ» لا يُستَثْنَى بها شيئان دُونَ عطفٍ أَوْ بدليةٍ؛ وذلك أنَّ «إلاَّ» معدِّيةٌ للفعل، ولذلك جاز تعلُّقُ ما بعدها بما قبلها، فهي كواو مَعَ وهمزة التعدية، البدليةِ كذلك «إِلاَّ» وهذا هو الصَّحِيحُ، وإنْ كان بعضهم خالف. فإن وَرَدَ من لسانهم ما يوهم جواز ذلك يُؤَوَّل، فمنه قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} [يوسف: 109] . ثم قال «بِالْبَيِّناتِ» فظاهر هذا أَنَّ «بالبيناتِ» مُتَعلِّقٌ بأرسلنا، فقد استُثْنِي ب «إلاَّ» شيئان، أحدهما «رِجَالا» والآخرُ «بالبينات» . وتأويلهُ أنَّ «بالبَيِّناتَ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لئلا يلزم منه ذلك المحذورُ. وقد منع أبو الحسن، وأبو عليّ: «مَا أخَذَ أَحَدٌ إِلاَّ زيدٌ دِرْهماً» و «ما ضربَ القومُ إلا بعضُهم بَعْضاً» واختلفا في تصحيحها، فقال أبو الحسن: طريقُ تَصْحيحِها بأَنْ تُقَدِّم المرفوع الذي بعد «إِلاَّ» عليها، فيقال: ما أخذَ أحدٌ زيدٌ إلا دِرْهَماً، فيكونُ «زيدٌ» بدلاً من «أَحَدٌ» و «دِرْهَماً» مستثنى مفرغٌ من ذلك المحذوف، تقديره: «ما أخذ أَحَدٌ زيدٌ شيئاً إلا دِرْهماً» . وقال أبو عليٍّ: طريقُ ذلك زيادةُ منصوبةٍ في اللَّفظ فيظهرُ ذلك المقدَّرُ المستثنى منه، فيقال: «ما أَخَذَ أحدٌ شيئاً إلا زيدٌ درهماً» فيكونُ المرفوع بدلاً من المرفوع، والمنصوبُ بدلاً من المنصُوب، وكذلك: ما ضَرَبَ القومُ أحداً إِلاَّ بعضُهم بعضاً. وقال أبو بكر بن السَّرَّاج: تقولُ «أَعْطَيْتُ الناسَ دِرْهماً إلا عَمْراً» [جائِزٌ. ولو قُلْتَ: «أعطيتُ الناسَ دِرْهَماً إلا عَمْراً] الدنانير لم يَجُزْ، لأنَّ الحرف لا يُسْتثنى به إِلاَّ واحِدٌ. فإنْ قُلْتَ:» ما أَعْطَيْتَ الناسَ دِرْهَماً إِلاَّ عَمْراً دَانِقاً « [على الاستثناء لم يَجُزْ، أَوْ على البدلِ جاز فَتُبدل» عمراً «من النَّاسِ، و» دانِقاً «من» دِرْهماً «. كأنك قُلتَ:» ما أعطيتُ إلاَّ عَمْراً دانقاً] يعني أنَّ الحصرَ واقعٌ في المفعولين. قال بعض المُحقِّقين: «وما أجازه ابن السراج من البدل في هذه المسألة، ضعيفٌ؛ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 وذلك أنَّ البدلَ في الاستثناء لا بُدَّ مِنْ مُقارنتِهِ ب» إلاَّ «، فَأَشْبَهَ العطف، فكما أَنَّهُ لا يقعُ بعد حرف العطف معطوفانِ، لا يقعُ بعد إلاَّ بَدَلاَنِ» . فإذا عُرِفَ هذا الأصلُ، وما قال الناسُ فيه، كان إعرابُ أَبِي البقاء في هذه الآيةِ الكريمة، مِنْ هذا الباب؛ وذلك أنه استثناءٌ مفرَّغٌ، وقد وقع بعدَ «إلاَّ» الفاعلُ، وهو «الَّذِينَ» ، والجارُّ والمَجرُور، وهو «مِنْ بعد» ، والمفعولُ مِنْ أَجلِهِ، وهو «بَغياً» فيكونُ كلٌّ منهما محصوراً. والمعنى: وما اختلفَ فيه إلا الذين أُوتوه إلاَّ منْ بعد ما جَاءَتْهُم البيناتُ إلا بَغياً. وإذا كان التقديرُ كذلك، فقد استُثْنِي ب «إلاَّ» شيئان دُونَ الأولِ الذي هو فاعلٌ مِنْ غير عطف ولا بدليةٍ وهي مسألةٌ يكثر دورها؟ قوله: «بَغْياً» في نصبه وجهان: أظهرهما: أنه مفعولٌ من أجله، لاستكمال الشُّرُوط، وهو علةٌ باعثةٌ، والعامِلُ فيه مُضمرٌ على ما اخترناه، وهو الذي تُعلِّقُ به «فِيهِ» ، و «اخْتَلَفَ» الملفوظُ به عند من يرى أنَّ «إلاَّ» يُستثنى بها شيئان. والثاني: أنه مصدرٌ في محلِّ حالٍ، أي: باغين، والعامِلُ فيها ما تقدَّمَ. و «بينهم» متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صِفَةٌ ل «بَغْياً» أي: بَغْياً كائناً بينهم. فصل قوله: {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات} يقتضي أَن يكون إيتاءُ اللَّهِ تعالى إيَّاهم الكتاب كان بعد مجيء الآيات البَيِّنات، فتكونُ هذه البينات مُغايرةً - لا محالة - لإِيتاءِ الكتاب؛ وهذه البيناتُ لا يمكن حملها على شيءٍ سوى الدلائل العقليَّة التي نصبها اللَّهُ - تعالى - على إثبات الأُصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلاَّ بعد ثُبوتها؛ وذلك لأَنَّ المتكلِّمين يقولون: كلُّ ما لا يصحُّ إثباتُ النبة إلاَّ بثبوته، فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السَّمعيَّة، وإلاَّ وقع الدور. وقال بعض المفسرين: المراد «بالبيناتِ» صفة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في كتبهم. قول فهدى اللَّهُ الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق «لِما» متعلِّقٌ ب «هَدَى» و «ما» موصولةً ومعنى هذا أي: أرشد إلى ما اختلفوا فيه؛ كقوله تعالى: {يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ} [المجادلة: 3] ، أي: إلى ما قالوا. ويقال: هديته الطريق وللطريق وإلى الطريق والضمير في «اخْتلفُوا» عائدٌ على «الذين أُوتُوه» وفي «فِيهِ» عائدٌ على «ما» ، وهو متعلِّقٌ ب «اخْتَلَفَ» . و «مِن الحَقِّ» مُتَعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه في موضعِ الحالِ من «ما» في «لمِا» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 و «مِنْ» يجوزُ أَنْ تكونَ للتبعيض، وأَنْ تكونَ للبيانِ عند مَنْ يرى ذلك، تقديره: الذي هو الحقّ. وأجاز أبو البقاء أَنْ يكونَ «مِنَ الحقِّ» حالاً من الضمير في «فيه» ، والعامِلُ فيها «اختلفوا» فإن قيل لم قال هداهم فيما اختلفُوا فيه، وعساهُ أن يكون غير حقٍّ في نفسه قال: «والقَلْبُ في كتابِ اللَّهِ دُونَ ضرُورةٍ تدفعُ إليه عَجْزٌ وسُوءُ فَهْمٍ» انتهى. قال شهاب الدِّين: وهذا الاحتمالُ الذي جعله ابنُ عطية حاملاً للفرَّاءِ على ادِّعاء القلب، لا يُتوهَّمُ أصلاً. قوله «بإذنِهِ» فيه وجهان: أحدهما: أَن يتعلَّقَ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ من «الَّذِينَ آمَنُوا» ، أي: مأذوناً لهم. والثاني: أَنْ يكون متعلِّقاً بهدى مفعولاً به، أي: هداهم بأمره. قال الزَّجَّاج: المراد من الإذن - هنا - العلم، أي: بعلمه، وإرادته فيهم، وقيل بأمره، أي: حصلت الهداية بسبب الأمر؛ كما يقال: قطعت بالسِّكِّين. وقيل: لا بُدَّ فيه مِنْ إضمار، تقديره: هداهم فاهتدوا بإذنه. فصل فيما اختلف فيه أهل الكتاب وهدانا الله إليه قال ابن زيدٍ: هذه الآية في أهل الكتاب، اختلفوا في القبلة فصلّت اليهود إلى بيت المقدس، والنصارى إلى المشرق؛ فهدانا اللَّهُ للكعبة، واختلفوا في الصيام؛ فهدانا الله لشهر رمضان واختلفوا في الأَيام، فأخذت اليهودُ السَّبت، والنَّصارى الأحد؛ فهدانا اللَّهُ للجمعة، واختلفوا في إبراهيم، فقال اليهود: كان يهوديّاً، وقالت النصارى: كان نصرانيّاً. فقلنا: إِنَّه كان حنيفاً مسلماً، واختلفوا في عيسى: فاليهود فرَّطُوا، والنَّصارى أفرطوا؛ فهدانا اللَّهُ للحقِّ فيه. فصل في احتاج بعضهم بالآية على أن الإيمان مخلوق والرد عليه. تمسَّك بعضهم بهذه الآية على أَنَّ الإيمان مخلوقٌ لله تعالى، وهو ضعيفٌ؛ لأن الهداية غير الاهتداء كما أَنَّ الهداية إلى الإيمان غير الإيمان، وأيضاً فإنه قال في آخر الآية: «بِإِذْنِهِ» ولا يمكن صرف هذا الإذن إلى قوله: «فَهَدَى اللَّهُ» إذ لا جائز أن يأذن لنفسه، فلا بُدَّ من إضمار لصرف الإذن إليه، والتقدير: «فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 لمَا اخْتَلَفُوا فيه مِنَ الحَقِّ - فاهتدوا - بِإِذْنِهِ» وإذا كان كذلك، كانت الهداية مغايرةً للإِهتداء. فصل اجحتج الفقهاء بهذه الآية على أَنَّ الله - تعالى - قد يخصُّ المؤمن بهداياتٍ لا يفعلها في حقِّ الكافر. وأجاب عنه المعتزلة بوجوه: أحدها: أنهم اختصُّوا بالاهتداء، فهو كقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ثم قال {هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 185] . وثانيها: أن المراد الهداية إلى الثواب وطريق الجنَّة. وثالثها: هداهم إلى الحقِّ بالأَلطافِ. قوله: {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} والكلام فيها مع المعتزلة كالتي في قبلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 «أَمْ» هذه فيها أربعة أقوالٍ: الأول: أنْ تكون منقطعةً فتتقدَّر ب «بل» والهمزة. ف «بل» لإضراب انتقالٍ من إِخْبَارٍ إلى إِخْبَارٍٍ، والهمزةُ للتقري. والتقدير بل حسبتم. والثاني: أنها لمجرد الإضراب مِنْ غير تقدير همزة بعدها، وهو قول الزَّجَّاج وأنشد: [الطويل] 1038 - بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشِّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى ... وَصُوَرتِهَا أَمْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ أي: بل أنت. والثالث: وهو قول الفرَّاء وبعض الكُوفيِّين، أنها بمعنى الهمزة. فعلى هذا يُبتدأُ بها في أوَّل الكلام، ولا تحتاجُ إلى الجملة قبلها يضرب عنها. الرابع: أنها مُتَّصلةٌ، ولا يستقيم ذلك إلا بتقدير جملةٍ محذوفةٍ قبلها. قال القفَّال: «أمْ» هنا استفهامٌ متوسطٌ؛ كما أَنَّ «هَلْ» استفهامٌ سابقٌ، فيجوز أَنْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 يقال: هل عندك رجلٌ، أَمْ عندك امرأَةٌ؟ ولا يجوز أَنْ يقال ابتداءً أَمْ عندك رجل، فأَمَّا إذا كان متوسطاً، جاز سواءٌ كان مسبُوقاً باستفهامٍ آخر، أو لا يكون، أَمَّا إذا كان مسبوقاً باستفهام آخر فهو كقولك: أنت رجلٌ لا تنصف، أفعن جهل تفعلُ هذا، أم لك سلطانٌ؟ وأَمَّا الذي لا يكون مسبوقاً بالاستفهام؛ فكقوله: {الم تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين أَمْ يَقُولُونَ افتراه} [السجدة: 1 - 3] فكذا تقدير هذا الآية: فهدى اللَّهُ الذين آمنوا فصبروا على استهزَاءِ قومهم، أفتسلكُون سبيلهم أم تحسبون أَنْ تدخُلُوا الجنَّةَ مِنْ غيرِ سلوكِ سبيلهم. «حَسب» هنا من أَخواتِ «ظنَّ» ، تنصبُ مفعولين عند سيبويه، ومسدَّ الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش، كما تقدَّم، ومضارعها فيه الوجهان: الفتحُ - وهو القياسُ - والكسرُ. ولها نظائرُ من الأفعالِ تأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في آخرِ السورةِ، ومعنها الظَّنُّ، وقد تستعملُ في اليقين؛ قال: [الطويل] 1039 - حَسِبْتُ التُّقَى وَالجُودَ خَيْرَ تِجَارَةٍ ... رَبَاحاً إِذَا مَا المَرْءُ أَصْبَحَ ثَاقِلاَ ومصدرُها: الحُسْبان. وتكون غير متعديةٍ، إذا كان معناها الشقرة، تقول: زيدٌ، أي: اشْقَرَّ، فهو أَحْسَبُ، أي: أَشْقَرُ. قوله: «وَلَمَّا يَأْتِكمْ» الواو للحال، والجملة بعدها في محلِّ نصبٍ عليها، أي: غير آتيكم مثلهم. و «لمَّا» حرف جزمٍ، معناه النفي؛ ك «لم» ، وهو أبلغ من النفي ب «لم» ؛ لأنَّها لا تنفي إلاَّ الزمان المتصل بزمان الحال. والفرق بينها وبين «لم» من وجوهٍ: أحدها: أنه قد يحذف الفعل بعدها في فصيح الكلام، إذ دلَّ عليه دليلٌ. وهو أحسن ما تخرَّج عليه قراءة «وإِنْ كُلاًّ لَمَّا» كقوله: [الوافر] 1040 - فَجئْتُ قُبُرَهُمْ بَدْءاً وَلَمَّا ... فَنَادَيْتُ الْقُبُورَ فَلَمْ تَجِبْنَهْ أي: ولمَّا أكن بدءاً، أي: مبتدئاً؛ بخلاف «لَمْ» فإنه لا يجوز ذلك فيها إلا ضرورة؛ كقوله: [الكامل] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 1041 - وَاحْفَظْ وَدِيعَتَكَ الَّتِي أُودِعْتَهَا ... يَوْمَ الأَعَازِب إِنْ وَصَلْتَ وَإِنْ لَمِ ومنها: أنَّها لنفي الماضي المتصل بزمان الحال، و «لم» لنفيه مطلقاً أو منقطعاً على ما مرَّ. ومنها: أنَّ «لَمَّا» لا تدخل على فعل شرطٍ، ولا جزاءٍ بخلاف «لم» . ومنها أنّ «لَمْ» قد تلغى بخلاف «لَمَّا، فإنها لم يأتِ فيها ذلك، وباقي الكلام على ما يأتي إن شاء الله تعالى في سورة» الحُجُرَاتِ «عند قوله تعالى: {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان} [الحجرات: 14] . واختلف في» لَمَّا «فقيل: مركبة من لم و» ما «زيدت عليها. وقال سيبويه: بسيطة وليست» ما «زائدة؛ لأنَّ» لما «تقع في مواضع لا تقع فيها» لم «؛ يقول الرجل لصاحبه: أقدِّم فلاناً، فيقول» لَمَّا «، ولا يقال:» لَمْ «مفردةً. قال المبرّد: إذا قال القائل: لم يأتني زيدٌ، فهو نفيٌ لقولك أتاك زيدٌ، وإذا قال لَمَّا يأتني، فمعناه: أنَّه لم يأتني بعد، وأنا أتوقَّعه؛ قال النابغة: [الكامل] 1042 - أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أنَّ رَكَابَنَا ... لَمَّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ وفي قوله» مَثَلُ الَّذِينَ «حذف مضافٍ، وحذفُ موصوفٍ، تقديره: ولمَّا يأتكم مثل محنة المؤمنين الذين خلوا. و» مِنْ قَبْلِكُمْ «متعلِّقٌ ب» خَلَوا «وهو كالتأكيد، فإنَّ الصلة مفهومةٌ من قوله:» خَلَوْا «. فصل في سبب نزول» أم حسبتم «الآية. قال ابن عبَّاس، وعطاء: لمَّا دخل أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة اشتدَّ عليهم الضرر؛ لأنَّهم خرجوا بلا مالٍ، وتركوا ديارهم، وأموالهم بيدي المشركين، وآثروا رضا الله ورسوله، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأسرَّ قوم النفاق، فأنزل الله تعالى؛ تطيباً لطيوبهم:» أَمْ حَسِبْتُمْ «. وقال قتادة والسُّديُّ: نزلت في» غَزْوَةِ الخنْدَقِ «أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد، والحزن، وشدَّة الخوف، والبرد، وضيق العيش، وأنواع الأذى؛ كما قال تعالى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} [الأحزاب: 10] وقيل: نزلت في» غَزْوَةِ أُحُد «لما قال عبد الله بن أُبيٍّ لأصحاب النبي عليه السلام إلى متى تقتلون أنفسكم، وترجون الباطل، ولو كان محمد نبياً، لمَّا سلَّط الله عليكم الأسر والقتل، فأنزل الله تعالى هذه الآية» أَمْ حَسِبْتُمْ «، أي: المؤمنون أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بمجرد الإيمان بي، وتصديق رسولي، دون أن تعدبوا الله بكل ما تعبَّدكم به، وابتلاكم بالصبر عليه، وأن ينالكم من أذى الكفار، ومن احتمال الفقر ومكابدة الضر والبؤس، ومقاساة الأهوال في مجاهدة العدوِّ؛ كما كان ذلك غريبةٍ، أو قصَّة عجيبةٍ لها شأنٌ؛ ومنه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} [النحل: 60] أي: الصفة التي لها شأن عظيم. قوله: «مَسَّتْهم البأْسَاءُ» في هذه الجملة وجهان: أحدهما: أن تكون لا محلّ لها من الإعراب؛ لأنها تفسيريةٌ، أي: فسَّرَتِ المثل وشرحته، كأنه قيل: ما كان مثلهم؟ فقيل: مسَّتهم البأساء. والثاني: ان تكون حالاً على إضمار «قَدْ» جوَّز ذلك أبو البقاء، وهي حالٌ من فاعلٍ «خَلَوا» . وفي جعلها حالاً بَعْدٌ. و «البَأْسَاءُ» : اسمٌ من البؤْسِ بمعنى الشِّدِّة، وهو البلاء والفقر. و «الضَّرَّاءُ» : الأمراض، والآلام، وضروب الخوف. قال أبو العبَّاس المقريُّ: ورد لفظ «الضُّرِّ» في القرآن على أربعة أوجهٍ: الأول: الضُّرُّ: الفقر؛ كهذه الآية، ومثله: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ} [يونس: 12] ، وقوله تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر} [النحل: 53] أي: الفقر. الثاني: الضّرّ: القحط؛ قال تعالى: {إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء} [الأعراف: 94] أي: قحطوا. أو قوله تعالى: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ} [يونس: 21] أي: قحط. الثالث: الضُّرُّ: المرض؛ قال تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ} [يونس: 207] أي: بمرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 الرابع: الضر: الأهوال؛ قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر} [الإسراء: 67] . قوله: «وَزُلْزِلُوا» أي: حرِّكوا بأنواع البلايا والرَّزايا. قال الزَّجَّاج: أصل الزَّلزلة في اللغة من زلَّ الشيء عن مكانه، فإذا قلت: زلزلته فتأويله: أنَّك كررت تلك الإزالة فضوعف لفظه بمضاعفة معناه؛ لأن ما فيه تكريرٌ يكرّرُ فيه الفعل نحو: صَرَّ وصَرْصَرَ، وصَلَّ وصَلْصَلَ؛ وَكَفَّ وَكَفْكَفَ، وفسر بعضهم «زُلْزِلُوا» أي: خُوِّفُوا؛ وذلك لأنَّ الخائف لا يستقر بل يضطرب قلبه. قول تعالى: «حَتَّى يَقُولَ» قرأ الجمهور: «يقولَ» نصباً، وله وجهان: أحدهما: أنَّ «حَتَّى» بمعنى «إِلَى» ، أي: إلى أن يقول، فهو غايةٌ لما تقدَّم من المسِّ والزلزال، و «حَتَّى» إنما ينصب بعدها المضارع المستقبل، وهذا قد وقع ومضى. فالجواب: أنه على حكاية الحال، [حكى تلك الحال] . والثاني: أنَّ «حَتَّى» بمعنى «كَيْ» ، فتفيد العلَّة كقوله: أطعتُ الله حَتَّى أدْخَلنِي الجنةَ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قول الرسول والمؤمنين ليس علَّة للمسِّ والزلزال، وإن كان ظاهر كلام أبي البقاء على ذلك، فإنه قال: «بالرفعِ على أَنْ يكونَ التقديرُ: زُلْزِلُوا فقالوا، فالزَّلْزَلَةُ سَبَبُ القولِط، و» أَنْ «بعد» حَتَّى «مُضْمَرةٌ على كِلا التقديرين. وقرأ نافع برفعه على أنَّه حالٌ، والحال لا ينصب بعد» حَتَّى «ولا غيرها؛ لأنَّ الناصب يخلِّص للاستقبال؛ فتنافيا. واعلم أنَّ» حَتَّى «إذا وقع بعدها فعلٌ: فإمَّا أن يكون حالاً أو مستقبلاً أو ماضياً، إن كان حالً، رفع؛ نحو:» مَرِضَ حَتَّى لاَ يَرْجُونَهُ «أي: في الحال. وإن كان مُسْتَقْبلاً نصب، تقول: سِرْتُ حتَّى أدخل البلد، وأنت لم تدخل بعد. وإن كان ماضياً فتحكيه، ثُمَّ حكايتك له: إمَّا أن تكون بحسب كونه مستقبلاً، فتنصبه على حكاية هذه الحال، وإمَّا أن يكون بحسب كونه حالاً، فترفعه على حكاية هذه الحال، فيصدق أن تقول في قراءة الجماعة: حكاية حالٍ، وفي قراءة نافعٍ أيضاً: حكاية حال. قال شهاب الدِّين: إنَّما نبَّهتُ على ذلك؛ لأنَّ عبارة بعضهم تخُصُّ حكاية الحال بقراءة الجمهور، وعبارةآخرين تخصُّها بقراءة نافع. قال أبو البقاء في قراءة الجمهور: «والفعلُ هنا مستقبلٌ، حُكِيت به حَالُهُمْ، والمعنى على المُضِيِّ» وكان قد تقدَّم أنه وجَّه الرفع بأنَّ «حتى» للتعليل. قوله: «معه» هذا الظرف يجوز أن يكون منصوباً بيقول، أي: إنهم صاحبوه في هذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 القول وجامعوه فيه، وأن يكون منصوباً بآمنوا، أي: صاحبوه في الإيمان. قوله: {متى نَصْرُ الله} «مَتَى» منصوبٌ على الظرف، فموضعه رفعٌ؛ خبراً مقدَّماً، و «نصرٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ. وقال أبو البقاء: «وعلى قولِ الأَخْفَشِ: موضعه نصب على الظرف، و» نصرُ «مرفوعٌ به» . و «مَتَى» ظرفُ زمانٍ لا يتصرَّف إلا بجرِّه بحرفٍ. وهو مبنيٌّ؛ لتضمُّنه: إما لمعنىهمزة الاستفهام، وإمَّا معنى «مَنْ» الشرطية، فإنه يكون اسم استفهام، ويكون اسم شرطٍ فيجزم فعلين شرطاً وجزاءً. قال القرطبي: «نَصْرُ اللَّهِ» رفع بالابتداء على قول سيبويه، وعلى قول أبي العباس؛ رفع بفعلٍ، أي: متى يقع نصر الله. و «قَرِيبٌ» خبر «إنَّ» قال النَّحَّاس: ويجوز في غير القرآن «قَرِيباً» أي: مكاناً قريباً و «قَرِيبٌ» لا تثيِّيه العرب، ولا تجمعه، ولا تؤنّثه في هذا المعنى؛ قال تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ} [الأعراف: 56] ؛ وقال الشَّاعر: [الطويل] 1043 - لَهُ الْوَيْلُ إِنْ أَمْسَى وَلاَ أُمُّ هَاشِمٍ ... قَرِيبٌ وَلاَ بَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا فإن قلت: فلانٌ قريبٌ لي ثنيت وجمعت فقلت: قَرِيبُونَ، وأقْرِباءُ، وقُرَبَاءُ. فصل والظاهر أنَّ جملة {متى نَصْرُ الله} من قول المؤمنين، وجملة {ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} من قول الرسول، فنسب القول إلى الجميع؛ إجمالاً، ودلالة الحال مبيِّنة للتفضيل المذكور. وهذا أولى من قول من زعم أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والتقدير: حتَّى يقول الذين آمنوا: «مَتَى نَصْرُ اللَّهِ» ؟ فيقول الرسول «أَلاَ إِنَّ» فقدِّم الرسول؛ لماكنته، وقدِّم المؤمنون؛ لتقدُّمهم في الزمان. قالوا: لأنه أخبر عن الرسول، والذين آمنوا بكلامين: أحدهما: أنهم قالوا: مَتَى نَصْرُ اللَّهِ؟ والثاني: «ألاَّ إنَّ نصرَ اللَّهِ قَرِيبٌ» فوجب إسناد كلِّ واحدٍ من هذين الكلامين إلى ما يليق به من ذينك المذكورين، قال: الذين آمناو قالوا: «مَتَى نَصْرُ اللَّهِ» والرسلُ قالوا: {ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} قالوا: ولهذا نظيرٌ في القرآن والشِّعر: أمَّا القرآن: فقوله: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 القصص: 73] ، والمعنى؛ لتسكنوا في اللَّيل، ولتبتغوا من فضله في النهار. وأمَّا الشعر: فقول امرئ القيس: [الطويل] 1044 - كَأَنَّ قُلُوبَ الطَّيْرِ رَطْباً ويَابِساً ... لَدَى وَكْرِهَا العُنَّابُ وَالْحَشَفُ البَالِي فشبه العنَّاب بالرطب، والحشف بالبالي باليابس. قال ابن عطيَّة: «هذا تَحَكُّمٌ وحَمْلٌ لِلْكلامِ على غَيْرِ وَجْهِهِ» . وقيل: الجملتان من قول الرسول والمؤمنين معاً، يعني أن الرسول قالهما معاً، وكذلك أتباعه. فإن قيل: كيف يليق بالرسول القاطع بصحَّةِ وعد الله ووعيده أن يقول مستبعداً: مَتَى نصر الله؟ والجواب من وجوه: أحدها: التأويل المتقدِّم. والثاني: أن قول الرسول {متى نَصْرُ الله} ليس على سبيل الشِّكِّ بل على سبيل الدعاء باستعجال النصر. الثالث: أن كونه رسولاً لا يمنع من أن يتأذَّى من كيد الأعداء؛ قال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} [الحجر: 97] وقال تعالى: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] وقال تعالى: {حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَآءَهُمْ نَصْرُنَا} [يوسف: 110] ، وعلى هذا فإذا ضاق قلبه، وقلَّت حيلته، وكان قد تقدم وعبد الله بنصره، إلاَّ أنه لم يعيِّن له الوقت؛ قال عند ضيق قبله: {متى نَصْرُ الله} حَتَّى إنَّه إذا علم قرب الوقت، زال غمه وطاب قبله؛ ويؤيد ذلك قوله في الجواب {إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} فلما كان الجواب بذكر القرب؛ دلَّ على أنَّ السؤال كان واقعاً عن القرب، ولو كان السؤال وقع عن أنَّه هل يوجد النصر، أم لا؛ لما كان هذا الجواب مطابقاً لذلك السؤال، هذا على قول من قال إن قوله: {ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} مِن كلام الله تعالى جواباً للرسول، ومن قال إنه من كلام المؤمنين. قال: إنَّهم لما علموا أنَّ الله تعالى لا يُعلي عدوه عليهم، قالوا: {ألاا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} ، فنحن على ثقة بوعدك. وقيل: إنَّ الجملة الأولى من كلام [الرسول وأتباعه، والجملة ألخيرة من كلام] الله تعالى، على ما تقدم. فالحاصل أنَّ الجملتين في محلِّ نصب بالقول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 فإن قيل: قوله: {إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} يوجب في حق كل من لحقه شدَّةٌ أن يعلم أنه سيظفر بزوالها، وذلك غير ثابتٍ. فالجواب: لا يمتنع أن يكون هذا من خواصِّ الأنبياء - عليهم السّلام - وأيضاً فإن كان عامّاً في حق الكل إذ كلُّ من كان في بلاءٍ، فلا بدَّ له من أحد أمرين: إمَّ أن يتخلص منه أو يموت، فإن مات، فقد وصل إلى من لا يهمل أمره، ولا يضيع حقه، وذلك من أعظم النصر، وإنما جعله قريباً؛ لأن الموت آتٍ؛ وكلَّ آتٍ قريبٌ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 قد تقدَّم أنَّ «ماذا» له استعمالات ستَّةٌ عند قوله: {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} [البقرة: 26] . وهنا يجوز أن تكون «ماذا» بمنزلة اسمٍ واحدٍ، بمعنى الاستفهام؛ فتكون مفعولاً مقدَّماً ل «يُنْفِقُونَ» ؛ لأنَّ العرب يقولون: «عماذا تَسْأَلُ» بإثبات الألف، وحذفوها من قولهم: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} [النبأ: 1] وقوله {فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا} [النازعات: 43] فلما لم يحذفون الألف من آخر «مَا» ، علمت أنه مع «ذا» بمنزلة اسم واحدٍ، ولم يحذفون الألف منه، لمَّا لم يكن آخر الاسم، والحذف يلحقها إذا كان آخراً، إلاَّ أن يكون في شعر؛ كقوله: [الوافر] 1045 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتَمُنِي لَئِيمٌ ... كَخنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رمَادِ قال القرطبي: إن خفَّفت الهمزة، قلت: يسلونك، ومنه: ما «يُنْفِقُون» ويجوز أن تكون «ما» مبتدأ و «ذا» خبره، وهو موصولٌ. و «ينفقون» صلته، والعائد محذوفٌ، و «ماذا» معلِّق للسؤال، فهو في موضع المفعول الثاني، وقد تقدَّم تحقيقه في قوله: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُم} [البقرة: 211] . قال القرطبي: متى كانت اسماً مركابً، فهي في موضع نصب إلاَّ ما جاء في قول الشاعر: [الطويل] 1046 - وَمَاذَا عَسَى الوَاشُونَ أَنْ يَتَحَدَّثُوا ... سِوَى أَنْ يَقُولُوا: إِنَّنِي لَكِ عَاشِقُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 فإِنَّ «عَسَى» لا تعمل فيه، ف «ماذا» في موضع رفعٍ، وهو مركَّبٌ؛ إذ لا صلة ل «ذا» . وجاء «ينفقون» بلفظ الغيبة؛ لأنَّ فاعل الفعل قبله ضمير غيبةٍ في «يَسْألونَكَ» ، ويجوز في الكلام «ماذا نُنْفِقُ» كما يجوز: أقسم زيدٌ ليَضْرِبَنَّ ولأضْرِبَنَّ، وسيأتي لهذا مزيد ببيانٍ في قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] في المائدة إن شاء الله تعالى. قوله: {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} يجوز في «ما» وجهان: أظهرهما: أن تكون شرطيّةً؛ لتوافق ما بعدها، ف «ما» في محلِّ نصبٍ، مفعولٌ مقدَّمٌ، واجبُ التقديم؛ لأنَّ له صدر الكلام. و «أَنْفَقْتُمْ» في محلّش جزمٍ بالشرط، و «مِنْ خَيْرٍ» تقدَّم إعرابه في قوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] . وقوله: فللوالدين «جواب الشرط، وهذا الجارُّ خبر لمبتدأ محذوف، أي: فمصرفه للوالدين، فيتعلَّق بمحذوفٍ، إمَّا مفردٌ، وإمَّا جملةٌ على حسب ما ذكر من الخلاف فيما مضى. وتكون الجملة في محلِّ جزمٍ بجواب الشرط. والثاني: أن تكون» مَا «موصولة، و» أَنْفَقْتُمْ «صلتها، والعائد محذوف، لاستكمال الشروط، أي: الذي أنفقتموه. والفاء زائدة في الخبر الذي هو الجارُّ والمجرور. قال أبو البقاءِ في هذا الوجه:» ومِنْ خيرٍ يكون حالاً من العائد المحذوفٍ «. فصل ف سبب النزول اعلم نَّه تعالى لمَّا بيَّن الوجوب على كل مكلّفٍ، بأن يكون معرضاً عن طلب العاجل مشتغلاً بطلب الآجل، شرع في بيان الأحكام من هذه الآية إلى قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} [البقرة: 243] . قال عطاء، عن ابن عباسٍ: نزلت الآية في رجل أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «إِن لي دِيناراً، فقال: أَنْفِقْهُ عَلَى نَفْسِكَ، قال: إنّ لِي آخَرَ، قال: أَنْفِقْهُ عَلَى أَهْلِكَ، فَقَالَ: إنَّ لِي آخَر، قال: أَنْفِقْهُ على خَادمِكَ، قال: إنّ لي آخر، قال: أَنْفِقْهُ عَلَى وَالِدَيْكَ قال: إنَّ لِي آخَرَ، قال: أَنْفِقْهُ عَلَى قرابتكِ، قال: إنَّ لي آخَرَ قال: أَنْفِقْهُ في سَبِيل الله، وهو أَحْسَنُها» وروى الكلبيُّ، عن ابن عباسٍ أنَّ الآية نزلت في عمرو بن الجموح، وهو الذي قتل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 يوم أُحُدٍ، وكان شيخاً كبيراً هرماً، وعنده مالٌ عظيمٌ، فقال ماذا ننفق من أموالنا؟ وأين نضعها؟ فنزلت الآيةُ. فإن قيل إنَّ القوم سألوا عما ينفقون كيف أُجيبوا ببيان المصرف؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّ في الآية حذفاً، تقديره: ماذا ينفقون ولمن يعطونه، كما ذكرنا في رواية الكليِّ في سبب النزول، فجاء الجواب عنهما، فأجاب عن المنفق بقوله: «مِنْ خَيْرٍ» وعن المنفق عليه بقوله: فَلِلْوَالِدَيْنِ «وما بعده. ثانيها: أن يكون» ماذا «سؤالاً عن المصرف على حذف مضافٍ، تقديره: مصرف ماذا ينفقون؟ ثالثها: أن يكون حذف من الأوَّل ذكر المصرف، ومن الثاني ذكر المنفق، وكلاهما مرادٌ، وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك في قوله تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ} [البقرة: 171] . رابعها: قال الزمخشريُّ: قد تضمَّن قوله: {مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ} بيان ما ينفقونه، وهو كلُّ خيرٍ؛ وبُني الكلام على ما هو أهمُّ وهو بيان المصرف؛ لأنَّ النفقة لا يعتدُّ بها إلاَّ أن تقع موقعها. قال: [الكامل] 1047 - إنَّ الصَّنِيعَةَ لاَ تَكُونُ صَنِيعَةً ... حَتَّى يُصَابَ بِهَا طَرِيقُ الْمَصْنَعِ خامسها: قال القفَّال: إنه وإن كان السؤال وارداً بلفظ» ما نُنْفِقُ: إلاَّ أن المقصود السؤال عن الكيفية؛ لأنهم كانوا علامين بأن الإنفاق يكون على وجه القربة، وإذا كان هذا معلوماً عندهم، لم ينصرف الوهم إلى ذلك، فتعيَّن أنَّ المراد بالسؤال إنَّما هو طريق المصرف، وعلى هذا يكون الجواب مطابقاً للسؤال، ونظيره قوله تعالى: {قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ} [البقرة: 70، 71] وإنَّما كان هذا الجواب موافقاً للسؤال، لأنه كان من المعلوم أنها البقرة التي شأنها وصفتها كذا، فقوله: «مَا هِيَ» لا يمكن حمله على طلب الماهيَّة؛ فتعين أن يكون المراد منه طلب الصِّفة التي بها تتميز هذه البقرة عن غيرها، فكذا ها هنا. وسادسها: يحتمل أنَّهم لما سألوا عن هذا السؤال، فقيل لهم: هذا سؤالٌ فاسدٌ، أي: أنفقوا ما أردتم بشرط أن يكون مصروفاً إلى المصرف وهذا كقول الطبيب لمن سأله ماذا يأكل، فقال الطبيب: كل في اليومين مرَّتين، ومعناه، كل ما شئت، ولكن بهذا الشرط. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 فصل اعلم أنَّه تعالى رتَّب الإِنفاق، فقدَّم الوالدين، لأنَّهما كالمخرج للمكلَّف من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 العدم إلى الوجود، وذلك لأنَّ الله - تعالى - هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود؛ قال تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] فأشار إلى أنه ليس بعد رعاية حقِّ الله - تعالى - من شيءٍ أوجب من رعاية حقِّ الوالدين؛ فلذلك قدمهما، ثم الأقربين؛ لأنَّ الإنسان أعلم بحال الفقير القريب من غيره؛ ولأنَّه إذا لم يراع قريبه الفقير لاحتاج الفقير إلى الرجوع إلى غيره، وذلك عار في حقِّ قريبه الغنيّ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 فإن قيل: إنَّه تعالى ذكر «الْوَالِدَيْنِ» ثمَّ عطف عليه «الأَقْرَبِينَ» والعاطف يقتضي المغايرة، وذلك يدلُّ على أن الوالدين لا يدخلون في مسمَّى الأقربين، فهو خلاف الإجماع؛ لأنَّه لو وقف على «الأَقْربين» حمل فيه الوالدين بغير خلافٍ. فالجواب: أنَّ هذا من عطف العامِّ على الخاصِّ؛ كقوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني والقرآن العظيم} [الحجر: 87] فعطف القرآن على السبع المثاني، وهي من القرآن، وقال - عليه السّلام - «أفضل ما قتل أنا والنبيُّون من قبلي ... » فعطف «النَّبِيِّين» على قوله: «أَنَا» وهو من النبيين، وذلك شائعٌ في لسان العرب، ثمَّ ذكر بعدهم اليتامى؛ لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب، وليس لهم أحدٌ يكتسب لهم، فالطفل اليتيم: قد عدم الكسب، والمكاسب، وأشرف على الضياع، ثم ذكر بعدهم المساكين؛ لأنَّ حاجتهم أقلُّ من حاجة اليتامى؛ لأنَّ قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى، ثم ذكر ابن السبيل بعدهم؛ لأنه بسبب انقطاعه عن بلده، قد يحتاج، ويفتقر، فهذا أصحُّ تركيبٍ، وأحسن ترتيبٍ في كيفيَّة الإنفاق، ثم لمَّا فصَّل هذا التَّفصيل الحسن الكامل، أردفه بالاجمال، فقال: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} والعليم مبالغةٌ في كونه عالماً لا يعزب عن علمه مثقال ذرَّةٍ في الأرض، ولا في السَّماء. و «ما» هذه شرطيةٌ فقطح لظهور عملها الجزم بخلاف الأولى. وقرأ عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «وما يفعلوا» بالياء على الغيبة، فيحتمل أن يكون من باب الالتفات من الخطاب، وأن يكون من الإضمار لدلالة السياق عليه، أي: وما يفعل الناس و" ما " هذه شرطيةٌ فقطح لظهور عملها الجزم بخلاف الأولى. وقرأ عليٌّ رضي الله عنه: " وما يفعلوا " بالياء على الغيبة , فيحتمل أن يكون من باب الالتفات من الخطاب , وأن يكون من الإضمار لدلالة السياق عليه , أي: وما يفعل الناس.. فصل في المراد بالخير قال أكثر العلماء: المراد ب «الخَيْر» هو المال؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] ، وقال: {إِن تَرَكَ خَيْراً الوصية} [البقرة: 18] . وقيل: المراد بالخير هذا الإنفاق، وسائر وجوه البرِّ، والطاعة. فصل هل الآية منسوخة أم لا؟ قال بعضهم: هذه الآية منسوخة بآية المواريث. وقال أهل التفسير: إنها منسوخة بالزكاة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 قال بعضهم: وكلاهما ضعيفٌ؛ لأنَّه يمكن حمل الآية على وجوهٍ لا يتطرق النَّسخ إليها. أحدها: قال أبو مسلم الأصفهاني: الغنفاق على الوالدين، واجبٌ عند قصورهما عن الكسب والملك، والمراد ب «الأَقْرَبِينَ» الولد، وولد الولد، وقد تلزم نفقتهم عند فقد الملك، وعلى هذا فلا وجه للقول بالنَّسخ؛ لأنَّ هذه النفقة تلزم في حال الحياة، والميارث يصل بعد الموت، وما وصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقةٌ. وثانيها: أن يكون المراد من أحبَّ التقرب إلى الله تعالى بالنفقة، فالولى أن ينفقه في هذه الجهات، فيكون المراد التطوع. ثالثها: أن يكون المراد االوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية، وفيما يتصل بالتيامى والمساكين مما يكون زكاةً. ورابعهما: يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثاً على صلة الرَّحم، وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة، فظاهر الآية محتملٌ لكل هذه الوجوه من غير نسخ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 قرئ: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال} : ببناء «كَتَب» للفاعل؛ وهو ضمير الله تعالى، ونصبِ «القِتَالِ» . قال القرطبي: وقرأ قومٌ: «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقَتْلُ» ؛ قال الشاعر: [الخفيف] 048 - أ - كُتِبَ الْقَتْلُ وَالْقَتَالُ عَلَيْنَا ... وَعَلَى الغَانِيَاتِ جَرُّ الذُيُولِ قوله تعالى: «وَهُوَ كُرْهٌ» هذه واو الحال، والجملة بعدها في محلِّ نصبٍ عليها، والظاهر أنَّ «هو» عائدٌ على القتال. وقيل: يعود على [المصدر] المفهوم من كتب، أي: وكتبه وفرضه. وقرأ الجمهور «كُرْهٌ» بضمِّ الكاف، وهو الكراهية بدليل قوله: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} ثم فيه وجهان: أحدهما: أنَّ وضع المصدر موضع الوصف سائغٌ كقول الخنساء: [البسيط] 1048 - ب - ... ... ... ... ... ... ... ... فَإِنَّمَا هِيَ إِقْبَالٌ وَادْبَارُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 والثاني: أن يكون فعلاً بمعنى مفعولٍ، كالخبر بمعنى الخبور وهو مكروهٌ لكم. وقرأ السُّلميُّ بفتحها. فقيل: هما بمعنًى واحدٍ، أي: مصدران كالضَّعف والضُّعف، قاله الزَّجاج وتبعه الزمخشري. وقيل: المضمومُ اسمُ مفعولٍ، والمفتوح المصدر. وقيل: المفتوح بمعنى الإكراه، قاله الزممخشري في توجيه قراءة السُّلميِّ، إلاَّ أنَّ هذا من باب مجيء المصدر على حذف الزوائد، وهو لا ينقاس. وقيل: المفتوح ما أُكره عليه المرء، والمضموم ما كرهه هو. فإن كان «الكَرْهُ» ، و «الكُرْهُ» مصدراً، فلا بدَّ من تأويل يجوز معه الإخبار به عن «هو» ، وذلك التأويل: إمَّا على حذف مضافٍ، أي: والقتال ذو كرهٍ، أو على المبالغة، أو على وقوعه موقع اسم المفعول. وإن قلنا: إنَّ «كُرْهاً» بالضَّمِّ اسم مفعولٍ، فلا يحتاج إلى شيء من ذلك. و «لَكُمْ» في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفة لكره، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي: كرهٌ كائنٌ. فصل في بيان الإذن في القتال اعلم أنه - عليه الصّلاة والسّلام - كان غير مأذونٍ له في القتال مدة إقامته بمكة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 فلمَّا هاجر أُذن له في قتال من يقاتله من المشركين، ثمَّ أُذن له في قتال المشركين عامَّةً، ثم فرض الله الجهاد. واختلف العلماء في حكم هذه الآية، فقال عطاء: الجهاد تطوعٌ والمراد بهذه الآية أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ذلك الوقت دون غيرهم، وإليه ذهب الثَّوْرِيُّ، واحتجوا بقوله تعالى: {فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95] ولو كان القاعد تاركاً للفرض، لم يكن يعده الحسنى. قالوا: وقوله: «كُتِبَ» يقتضي الإيجاب، ويكفي في العمل به مرَّةً واحداةً. وقوله: «عَلَيْكُمْ» يقتضي تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت، وإنما قلنا إنَّ قوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} [البقرة: 178] {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] حال الموجودين فيه كحال من سيوجد بعد ذلك؛ بدليلٍ منفصلٍ، وهو الإجماع، وذلك غير معقولٍ ها هنا؛ فوجب أن يبقى على الأصل، ويدل على صحة هذا القول قوله تعالى: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122] والقول بالنسخ غير جائز على ما بيناه، والإجماع اليوم منعقدٌ على أنه من فروض الكفايات، إلاَّ أن يدخل المشركون ديار المسلمين؛ فيتعيّن الجهاد حينئذٍ على الكلِّ. وقال آخرون: هو فرض عينٍ؛ واحتجُّوا بقوله: «كُتِبَ» وهو يقتضي الوجوب، وقوله «عَلَيْكُمْ» يقتضيه أيضاً، والخطاب بالكاف في قوله «عَلَيْكُمْ» لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد؛ كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] . وقال الجمهور: هو فرضٌ على الكفاية. فإن قيل هذا الخطاب للمؤمنين، فكيف قال: {وَهُوَ كُرهٌ لَكُم} ، وهذا يشعر بكون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 المؤمنين كارهين لحكم الله، وتكليفه، وذلك غير جائزٍ؛ لأن المؤمن لا يكون ساخطاً لأوامر الله وتكليفه، بل يرضى بذلك، ويحبُّه، ويعلم أنه صلاحه، وتركه فساده؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أن المراد من «الكُرْهِ» كونه شَاقّاً على النفس، لأن التكليف عبارةٌ عن إلزام ما فيه كلفةٌ، ومشقةٌ، ومن المعلوم: أن الحياة من أعظم ما يميل الطبع إليها، فلذلك كان القتال من أشقِّ الأشياء على النفس، لأنَّ فيه إخراج المال، والجراحات، وقطع الأطراف، وذهاب الأنفس، وذلك أمرٌ يشق على الأنفس. والثاني: أن يكون المراد منه كراهتهم للقتال قبل أن يفرض؛ لما فيه من الخوف، ولكثرة الأعداء فبيَّن تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خيرٌ لكم من تركه، لئلاَّ تكرهونه بعد أن فرض عليكم. قال عكرمة: نسخها قوله تعالى: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [النساء: 46] يعني أنهم كرهوه ثم أحبوه. قوله {وعسى أَن تَكْرَهُوا} ، «عَسَى» فعلٌ ماضٍ، نُقِل إلى إنشاءِ الترجِّي والإشفاق، وهو يرفعُ الاسمَ ويَنْصِبُ الخَبر، ولا يكون خبرُها إلا فِعلاً مضارعاً مقروناً ب «أَنْ» ، وقد يجيءُ اسماً صريحاً؛ كقوله [الرجز] 1049 - أَكْثَرْتَ فِي العَذْلِ مُلِحّاً دَائِمَا ... لاَ تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا وقالت الزَّبَّاءُ: «عَسَى الغُوَيْرُ أَبُؤُسَا» وقد يَتَجَرَّد خبرها مِنْ «أَنْ» ؛ كقوله: [الطويل] 1050 - عَسَى فَرَجٌ يأْتِي بهِ اللَّهُ إِنَّهُ ... لَهُ كُلَّ يَوْمٍ في خَلِيقَتِهِ أَمْرُ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 وقال آخر: [الوافر] 1051 - عَسَى الكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ ... يَكُونُ وَرَاءَه فَرَجٌ قَرِيبٌ وقال آخر: [الوافر] 1052 - فَأَمَّا كَيِّسٌ فَنَجَا ولَكِن ... عَسَى يغْتَرُّ بي حَمِقٌ لَئِيمُ وتكونُ تامّة، إذا أُسندَتْ إلى «أَنْ» أَوْ «أنَّ» ؛ لأنهما يَسدَّان مَسَدَّ اسمها وخبرها، والأصحُّ أنها فِعْلٌ، لا حرفٌ، لاتصالِ الضمائر البارزةٍ المرفوعةِ بها. قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ} [محمد: 22] ويرتفع الاسم بعده فقوله: «عَسَى زَيْدٌ» معناه: قرب ووزنُها «فَعَل» بفتح العين، ويجوز كسر عينها، إذا أسندت لضمير متكلم، أو مخاطبٍ أو نون إناثٍ وهي قراءةُ نافعٍ، وستأتي إن شاء الله تعالى ولا تتصرَّفُ بل تلزمُ المضيَّ. والفرقُ بين الإشفاق والترجِّي بها في المعنى: أنَّ الترجِّي في المحبوبات، والإشفاقَ في المَكروهات. و «عَسَى» من الله تعالى واجبةٌ؛ لأنَّ الترجِّي والإشفاق محالانِ في حقَّه. وقيل: كلُّ «عَسَى» في القرآن للتحقيق، يعنُون الوقوعَ، إِلاَّ قوله تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} [التحريم: 5] وهي في هذه الآية ليسَت ناقصة؛ فتحتاج إلى خبرٍ، بل تامةٌ، لأنها أُسْندت إلى «أَنْ» ، وقد تقدَّم أنها تَسُدُّ مَسدَّ الخبرين بعدها. وزعم الحُوفيُّ أَنَّ: «أَنْ تَكْرَهُوا» في محلِّ نصبٍ، ولا يمكن ذلك إلا بتكلُّفٍ بعيد. قوله: {وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} في هذه الجملة وجهان: أظهرهما: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، وإنْ كانَتْ من النكرة بغيرِ شرطٍ من الشروط المعروفة قليلةً. والثاني: أَنْ تكونَ في محلِّ نصبٍ على أنها صفةٌ ل «شَيْئاً» وإنما دخلت الواو على الجملة الواقعة صفة؛ لأنَّ صورتها صورة الحالِ، فكما تدخل الواو عليها حاليةً، تدخلُ عليها صفةً، قاله أبو البقاء ومثلُ ذلك ما أجازه الزمخشريّ في قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] فجعل «وَلَهَا كِتَابٌ» صفةً لقريةٍ، وقل: وكانَ القياسُ ألاَّ تتوسَّطَ هذا الواو بينهما؛ كقوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208] وإنما توسَّطَت؛ لتأكيد لصوقِ الصفةِ بالموصوفِ، كما يُقالُ في الحالِ: «جاءني زيدٌ عليه ثوبٌ، وعليه ثوبٌ» . وهذا الذي أجازه أبو البقاء هنا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 والزمخشريُّ هناك، هو رأيُ ابن جِنّي، وسائرُ النحاة يُخالفونه. فصل في بيان الخيرية في الغزو قوله: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنّ في الغزو إحدى الحسنيين: إمَّا الظفرُ والغنيمةُ، وإِمَّا الشهادة والجنةُ {وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً} يعني القُعُود عن الغزو، وهو شرٌّ لكم؛ لما فيه من فواتِ الغنيمة، والأَجرِ، ومخالفةِ أَمر اللَّهِ تعالى. قال القُرطبي: قِيْلَ «عَسَى» بمعنى «قَدْ» وقال الأَصمُّ: و «عَسَى» مِنَ اللَّهِ واجبةٌ في جميع القرآن إِلاَّ قولُه تعالى: {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً} [التحريم: 5] وقال أبو عبيدة: عَسَى من اللَّهِ إيجابٌ، والمعنى: عسى أنْ تكرهُوا ما في الجهادِ من المشقَّةِ؛ وهو خيرٌ لكم، من أَنَّكُمْ تغلبون، وتظفرون وتغنمون، وتُؤجرون، ومَنْ مات، مات شهيداً. و «الشَّرُّ» هو السُّوء أصله: من شَرَرْتُ الشيء إذا بسطتهُ يقال: شَرَرْتُ اللحم، والثوب: إذا بسطته، ليجف؛ ومنه قوله: [الوافر] 1053 - وَحَتَّى أُشُرَّتْ بِالأَكُفِّ المَصَاحِفُ ... والشَّررُ: هو اللَّهب لانبساطه. فعلى هذا «الشَّرُّ» انبساطُ الاشياء الضارةِ، وقوله {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فالمقصود الترغيبُ العظيمُ في الجهادِ، وكأنه تعالى قال يا أيها العبد، اعلمْ أَنَّ علمي أكملُ من علمك، فكُنْ مشتغلاً بطاعتي، ولا تلتفتْ إلى مُقتضى طبعك، فهي كقوله في جواب الملائكة: {إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 قرأ الجمهور: «قِتَالٍ» بالجّرِّ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنه خفضٌ على البدلش من «الشَّهْرِ» بدلِ الاشتمالِ؛ إذ القتالُ واقعٌ ف يه، فهو مشتملٌ عليه. والثاني: أنه خفضٌ على التَّكرير، قال أبو البقاء: «يريدُ أنَّ التقديرَ: عَنْ قِتَالٍ فيه» . وهو معنى قول الفراء إِلاَّ أَنَّهُ قال: هُوَ مَخْفُوضٌ ب «عَنْ» مُضْمرَةً. وهذا ضعيفٌ جدّاً؛ لأنَّ حرف الجرَّ لا يبقى عملهُ بعد حذفه في الاختيار. وهذا لا ينبغي أن يُعَدَّ خلافاً بين البصريين، والكسائي، والفراءِ؛ لأنَّ البدل عند جمهور البصريين على نيَّة تكرار العامل، وهذا هو بعينه قولُ الكسائي. وقوله: لأنَّ حرف الجرِّ لا يبقى عمله بعد حذفه إِنْ أراد في غير البدل، فمُسَلَّمٌ، وإن أراد في البدلِ، فممنوعٌ، وهذا هو الذي عناه الكسائي. الثالث: قال أبو عبيدة: «إِنه خفضٌ على الجِوَارِ» . قال أبو البقاء: «وهو أَبْعَدُ مِنْ قولهما - يعني الكسائيَّ والفراء - لأنَّ الجوار من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 3 مواضع الضَّرورة أو الشذوذِ، فلا يُحْمَلُ عليه ما وجدت عنه مَندُوحةٌ» وقال ابن عطية: «هُوَ خَطَأٌ» . قال أبو حيَّان إن كان أبو عبيدة عَنَى بالجوار المصطلح عليه فهو خَطَأٌ. وجهةث الخطأِ أنَّ الخفض على الجوار عبارةٌ عن أَنْ يكون الشيءُ تابعاً لمرفوع، أو منصوب، من حيثُ اللفظُ والمعنى، فيُعدل به عن تَبَعيَّته لمتبوعه لفظاً، ويُخْفَضَ لمجاورته لمخفوض؛ كقولهم: «هذا حُجْرُ ضَبِّ خَرِبٍ» ، وكان مِنْ حقِّه الرفع؛ لأنه مِنْ صفاتِ الجُحْر، لا من صفاتِ الضبِّ، ولهذه المسألةِ مزيدُ بيانٍ يأتي في موضعه إِنْ شاءس اللهُ تعالى، و «قِتَالٍ» هنا ليس تابعاً لمرفوعٍ، أو منصوبٍ، وجاوز مَخفوضاً فخُفِض. وإن كان عنى أنه تابعٌ لمخفوضٍ فخفضُه بكونه جاور مخفوضاً، أي: فصار تابعاً له، لم يكنْ خطأً، إِلاَّ أنه أغمضَ في عبارته؛ فالتبس بالمصطلح عليه. وقرأ ابن عباس والأَعمش: «عَنْ قِتَالٍ» بإظهارِ «عَنْ» وهي في مُصْحَف عبد الله كذلك. وقرأ عكرمة: «قتْلٍ فِيهِ، قُلْ قَتْلٌ فِيهِ» بغير ألف. وقُرئ شاذّاً: «قِتَالٌ فيه» بالرفع وفيه وجهان: أحدهما: أنه مبتدأٌ، والجارُّ والمجرورُ بعده خبرٌ، وسَوَّغ الابتداءُ به وهو نكرةٌ؛ أنه على نيةِ همزةِ الاستفهام، تقديره: أَقِتَالٌ فيه. والثاني: أنه مرفوعٌ باسم فاعلٍ تقديرُه: أجائزٌ قتالٌ فيه، فهو فاعلٌ به. وعَبَّر أبو البقاء في هذا الوجه بأن يكونَ خبرَ محذوفٍ، فجاءَ رفعُه من ثلاثةِ أوجهٍ: إِمَّا مبتدأٌ، وإِمَّا فاعلٌ، وإمَّا خبرُ مبتدأ. قالوا: ويظهرُ هذا مِنْ حَيثُ إِنَّ سؤالهم لم يكن عن كينونةِ القتالِ في الشهرِ أم لا، وإنَّما كان سؤالهم: هل يجوزُ القتالُ فيه أم لا؟ وعلى كِلا هذين الوجهين، فهذه الجملةُ المُستفهمُ عنها في محلِّ جرٍّ؛ بدلاً من الشهرِ الحرامِ، لأنَّ «سَأَلَ» قد أخذ مفعوليه فلا تكونُ هي المفعول، وإن كانت محَطَّ السؤال. وقوله: «فِيهِ» على قراءةِ خفضِ «قِتَالٍ» فيه وجهان: أحدهما: أنه في محلِّ خفضٍ؛ لأنه صفةٌ ل «قِتَالٍ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 4 والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ؛ لتعلُّقه بقتال، لكونه مصدراً. وقال أبو البقاء: كما يتعلَّقُ ب «قِتَالٍ» ولا حاجة إلى هذا التشبيهِ، فإنَّ المصدر عاملٌ بالحَمْلِ على الفعل. فصل والضميرُ في «يَسْأَلُونك» قيل للمؤمنين لما يأتي في سبب النزول، ولأن أكثر الحاضرين عند رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كانُوا مسلمين، فما قبل هذه الآية {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} [البقرة: 214] {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215] حكاية عن المؤمنين، وما بعدها كذلك وهو قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} [البقرة: 219] ، {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى} [البقرة: 220] فوجب أن تكون هذه كذلك. وروى سعيد بن جبير عن ابن عبَّاسٍ أنه قال: ما رأيتُ قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما سألوه إلاَّ عن ثلاث عشرة مسألةً حتى قُبض، كلهن في القُرآنِ، ومنه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} ولكن الصدّ عن سبيل اللهِ، وعن المسجدِ الحرام، والكُفرِ به، أكبرُ من هذا القتالِ. {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} فبيَّن تعالى أَنَّ غرضهم من هذا السؤال، أَنْ يقاتِلُوا المسلمين، ثم أنزل الله تعالى: {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] فصرَّح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائزٌ والألف واللامُ في «الشَّهْرِ الحرام» قيل: للعهد، وهو رجبٌ، وقيل: للجنسِ، فيعمُّ جميع الأشهرِ الُحُرُمِ. قوله: «قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ» جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، محلُّها النصبُ بقُلْ والمعنى: القتال في الشهر الحرام وجازَ الابتداءُ بالنكرةِ لأحدِ وجهينِ: إمَّا الوصفُ، إذا جعلنا قوله: «فيه» صفةً له. وإمَّ التخصيصُ بالعمل، إذا جعلناه متعلقاً بقتال، كما تقدَّم في نظيره. فإِنْ قيل: قد تقدَّم لفظُ نكرة، وأُعيدت من غير دخول ألفٍ ولام عليها، وكان حقُّها ذلك، كقوله تعالى: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15 - 16] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 5 لإِنَّه لو لم يكن كذلك، كان المذكور الثاني غير الأول، وهذا غيرث واضحٍ؛ لإِنَّ الألف كقوله: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} [الشرح: 5 - 6] . فقال أبو البقاء: «ليسَ المرادُ تعظيم القتالِ المذكور المسؤولِ عنه، حتى يُعادَ بالألف واللامِ، بل المراد تعظيمُ أيِّ قتالٍ كان، فعلى هذا» قِتَالٌ «الثاني غيرُ الأولِ، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألف واللامَ في الاسمِ السَّابق المُعادِ أولاً لا تفيدُ تعظيماً، بل إنما تفيدُ العهدَ في الاسمِ السابقِ. وأَحسنُ منه قولُ بعضهم: إنَّ الثَّاني غير الأولِ، وذلك أنَّ سؤالهم عن قتالِ عبد الله جحش، وكان لنُصرة الإِسلامِ وخُذلان الكفرِ؛ فليس من الكبائرِ، بل الذي من الكبائرِ قتالٌ غير هذا، وهو ما كانَ فيه إذلالُ الإِسلامِ، ونصرةُ الكُفْرِ، فاختير التنكير في هذين اللفظين؛ لهذه الدقيقة، ولو جِيءَ بهما معرفتين، أو بأحدهما مُعرَّفاً، لَبَطَلَتْ هذه الفائدةُ. فصل روى أكثرُ المفسرين عن ابن عباسٍ: سبب نزولِ هذه الآية أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعث عبد الله بن جحش الأَسديّ، وهو ابن عمَّته قبل قتال بدرٍ بشهرين على رأس سبعة شهراً من الهجرة وبعث معه ثمانية رهطٍ، من المهاجرين؛ سعد بن أبي وقَّاص الزهري وعُكاشة بن محصن الأسدي، وعتبة بن غزوان السَّلَمي، وأبا حذيفة بن عتبة بن ربيعة، وسهيل ابن بيضاء، وعامر بن ربيعة، وواقد بن عبد الله الحنظليّ، وخالد بن بُكَير، وكتب معهم لأميرهم عبد الله بن جحش كتاباً وعهداً، ودفعه إليه، وقال: سِر على اسم الله، ولا تنظر في الكتاب حتى تسير يومين، فإذا نزلتَ، فافتح الكتاب واقرأه على أصحابك، ثُمَّ امْضِ إلى ما أمرتُك، ولا تستكرِهنَّ أَحَداً مِنْ أصحابك على السَّير معك، فسار عبد الله يومين، ثم نزل وفتح الكتاب، وإذا فيه «بسم اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيم» أمَّا بعد: فسر على بركة اللهِ بمنْ معك مِنْ أصحابك؛ حتَّى تنزل بطن نخلة، فترصُد بها عير قريش؛ لعلك تأتينا منهم بخبرٍ، فلمَّا نظر في الكتاب، قال سَمْعاً وطاعة، ثم قال لأَصحابه ذلك، وقال: إنَّهُ نَهَاني أَن أَستكره أحداً منكم؛ فمن كان يريد الشهادة، فلينطلق معي، ومنْ كرِه، فليَرْجِع، ثم مَضَى، ومَضَى معه أصحابه، لم يتخلّف عنه منهم أحدٌ، حتى كان بمعدن فوق الفُرع يقال له نجران، أضلَّ سعد بن أبي وقَّاصٍ، وعتبة بن غزوان بعيراً لهما، كانا يعتقبانه؛ فتخلفا عليه في طلبه ومضى ببقيةِ أصحابِه، حتى نزل «ببطنِ نَخْلَةَ» بين «مَكَّةَ» و «الطائف» فبينما هم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 6 كذلك، مرت عيرُ لقريشٍ تحملُ زبيباً، وأدماً، وتجارة مِنْ تجارات الطائف فيهم عمرو بن الحضرمي والحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله بن المغيرة، ونوفلُ بن عبد الله المخزوميَّان، فلما رأوْا أصحاب رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هابوهم، فقال عبد الله بن جحش إنَّ القومَ قد ذُعِروا منكم، فاحلققُوا رأس رجُلٍ منكم؛ وليتعرض لهم، فحلقُوا رأس عُكَاشة، ثم أَشرفوا عليهم؛ فقالوا: قومٌ عمَّارٌ، لا بأس عليكم فأمنوهم وكان ذلك في آخر يوم من جمادى الآخرة. فكانوا يرون أنَّه من جمادى، وهو مِنْ رجبٍ فتشاور القومُ، وقالوا: لئن تركتموهم الليلة؛ ليدخُلنَّ الحرمَ، فليمنعُنّ به منكم، فأجمعوا أمرهم في مواقفة القومِ، فَرَمَى وقادُ بن عبد الله السَّهمي عمرو بن الحضرميّ بسهمٍ، فقتله، فكان أوَّلَ قتيلٍ من المشركين، واستأْسَرَ الحكم وعثمان، فكانا أَوَّلَ أَسيرين في الإسلام، وأفلت نوفلٌ فأعجزهم، واستاقَ المؤمنين العير والأَسيرين، حتَّى قَدِمُوا على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في المدينةِ، فقالت قريشٌ: لقد استَحَلَّ محمدٌ الشهرَ الحرامَ؛ فسفك فيه الدِّماءَ، وأخذ الأموال فما شَهْر يأْمَنُ فيه الخَائِنُ، وغير ذلك، فقال أهلُ «مكَّةَ» مَنْ كان بها من المسلمين وقالوا: يا معشرَ الصَّبَأة، استحللتُم الشهر الحرام، وقاتلتم فيه، فقال عبد الله بن جحش: يا رسول اللهِ: إنَّا قتلنا ابن الحضرمين، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري: أفي رجبٍ أصبناه، أم في جمادى. فوقَّف رسول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العير، والأسَارى؛ وأبى أن يأخُذ شيئاً من ذلك، فعظم ذلك على أصحاب السريَّة، وظنُّوا أن قد هلكُوا، وسُقِط في أيديهم، وأكثر الناس في ذلك، فأنزل اللهُ هذه الآية، فأخذ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - العير، فعزل منه الخمس، فكان أولَ خُمُسٍ في الإسلام، وقسَّمَ الباقي بين أصحاب السَّريَّةِ، وكان أول غنيمةٍ في الإسلام وبعث أهل مكة في فداء أسيرهما فقال: بل نبقيهما حتَّى يقدم سعدٌ وعتبة، وإنْ لم يَقْدُمَا، قتلناهُما بهما، فلمَّا قدما؛ فاداهما، فأمَّا الحكم بن كيسان، فأسلَمَ، وأقام مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بالمدينةِ، فقُتِل يوم بئر معونة شهيداً، وأَمَّا عثمان بن عبد الله، فرجع إلى مكة؛ فمات بها كافِراً، وأَمَّا نوفل فضرب بطن فرسه يوم الأحزابِ؛ ليدخل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 7 الخندقَ، فوقع في الخندقِ مع فرسه فتحطّما جميعاً فقتله اللهُ، فطلب المشركون جيفتهُ بالثمن؛ فقال رسُول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - خذوه فإِنَّهُ خبيثُ الجيفةِ، خبيثُ الدِّيَةِ. فصل اتفق الجمهورُ: على أَنَّ هذه الآية تدلُّ على حُرمَةِ القتال في الشهر الحرام، ثُمَّ اختلفُوا: هل ذلك الحكمُ باقٍ أو نُسِخ؟ فقال ابن جريج: حلف لي عَطَاءٌ باللهِ أَنَّهُ لا يحلُّ للناس الغزو في الحرم، ولا في الشَّهرِ الحرامِ، إِلاَّ على سبيل الدَّفع وروى جابر قال: لم يكن رسول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يغزو في الشهر الحرام إِلاَّ أن يُغْزَى. وسُئِلَ سعيد بن المسيب: هل يجوزُ للمسلمين أن يقاتلوا الكُفَّار في الشهر الحرام؟ قال: نعم. قال أبو عبيد: والناس بالثغُور اليومَ جميعاً يرون الغزو على هذا القول مُبَاحاً في الشهور كُلِّها ولم أر أحداً من علماء «الشام» ، و «العراق» ينكرُه عليهم، وكذلك أحسب قول أهْلِ الحجاز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 8 وحجته قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] وهذا ناسخةٌ لتحريم القتال في الشهور الحرام. قال ابن الخطيب: والذي عندي أن قوله تعالى: {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} نكرة في سياق الإِثبات، فيتناول فرداً واحداً، ولا يتناول كُلَّ الأَفراد فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مُطلقاً في الشهر الحرام، ولا حاجة إلى النسخ فيه. قوله: «وَصَدٌّ» فيه وجهان: أحدهما: أنه مبتدأ وما بعده عطفٌ عليه، و «أكبرُ» خبرُ عن الجميع، قاله الزَّجَّاج، ويكون المعنى أَنَّ القتال الذي سألتُم عنه، وإن كان كبيراً، إلاَّ أن هذه الأشياء أكبرُ منه فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أنَّ عذره ظاهرٌ؛ لأَنَّهُ كان يجوزُ أَنْ يكون ذلك القتل واقعاً في جمادى الآخرة، ونظيره في المعنى قوله تعالى لبني إسرائيل {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] وقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] . وجاز الابتداءُ ب «صَدّ» لأحد ثلاثة أوجهٍ: إِمَّا لتخصيصه بالوصفِ بقوله: «عَنْ سَبِيلِ الله» . وإِمَّا لتعلُّقِه به. وإمَّا لكونه معطوفاً والعطفُ من المسوِّغات. والثاني: أنه عطفٌ على «كبيرٌ» أي: قتالٌ فيه كبيرٌ وصَدٌّ، قاله الفراء. قال ابن عطية: وهو خطأٌ؛ لأنَّ المعنى يسوقُ إلى أنَّ قوله: «وكفرٌ به» عطفٌ أيضاً على «كبيرٌ» ويجيءُ من ذلك أنَّ إخراج أهل المسجد منه أكبرُ من الكفرِ، وهو بَيِّنٌ فسادُه. وهذا الذي رَدَّ به قول الفراء، غير لازم له؛ إذ له أَنْ يقولَ: إِنَّ قولَه «وكفرٌ به» مُبْتَدَأٌ، وما بعده عَطْفٌ عليه، و «أكبرُ» خبرٌ عنهما، أي: مجموعُ الأَمرين أكبرُ من القتال والصدِّ، ولا يلزَمُ من ذلك أن يكونَ إخراجُ أهلِ المسجدِ أكبرَ من الكفر، بل يلزمُ منه أنه أكبرُ من القتالِ في الشهرِ الحرامِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 9 وهو مصدرٌ حُذِفَ فاعلُه ومفعوله؛ إذ التقدير: وصَدُّكم - يا كفارُ - المسلمين عن سبيلِ الله وهو الإِسلامُ. و «كفرٌ» فيه وجهان: أحدهما: أنه عطفٌ [على «صَدّ» على قولنا بأن «صَدًّا» مُبتدأ لا على] قولنا: بأنه خبرٌ ثانٍ عن «قِتالٍ» ، لأنه يلزَمُ منه أن يكون القتالُ في الشهرِ الحرامِ كُفْراً، وليس كذلك، إِلاَّ أَنْ يرادَ بقتال الثاني ما فيه هَدمُ الإِسلامِ، وتقويةث الكفرِ؛ كما تقَدَّم ذلك عن بعضهم، فيكونُ كفراً، فيصِحُّ عطفه عليه مُطلقاً، وهو أيضاً مصدرٌ لكنه لازمٌ، فيكونُ قد حُذِفَ فاعلُه فقط، أي: وكُفْرُكم. والثاني: أن يكون مبتدأٌ، كما يأتي تفصيلُ القولِ فيه. والضميرُ في «به» فيه وجهان: أحدهما: أنه يعودُ على «سبيل» لأنه المحدَّثُ عنه. والثاني: أنه يعودُ على اللهِ، والأولُ أظهرُ. و «به» فيه وجهان، أعني كونه صفةً لكفر، أو متعلقاً به، كما تقدَّم في «فيه» . قوله: «والمسجدِ» مجروراً، وقرئ شاذاً مرفوعاً. فأمَّا جرُّه فاختلف فيه النحويون على أربعةِ أوجهٍ. أحدها: وهو قولُ المبرد وتبعه الزمخشري - وقال ابن عطية «وهو الصحيح» - أنه عطفٌ على «سبيلِ الله» أَي: وصَدٌّ عن سبيلِ الله وعن المسجدِ. وَرُدَّ هذا بأنَّه يؤدِّي إلى الفصل بين أبعاض الصِّلةِ بأجنبيّ تقريرُه أنَّ «صَدّاً» مصدرٌ مقدَّرٌ بأَنْ، والفعل، و «أَنْ» موصولة، وقد جَعَلْتُم «وَالْمَسْجِدِ» عطفاً على «سَبِيلِ» ، فهو من تمام صلته، وفُصِل بينهما بأجنبيّ، وهو «وَكُفْرٌ بِهِ» . ومعنى كونه أجنبياً أنَّهُ لا تعلُّق له بالصِّلةِ. فإنْ قيل: يُتَوَسَّعُ في الظَّرفِ وحرفِ الجّرّ ما لم يتوسع في غيرهما. قيل: إنَّمَا قيل بذلك في التَّقديم، لا في الفَصْل. الثاني: أَنَّه عطفٌ على الهاءِ في «بِهِ» ، أي: وكفرٌ به، وبالمسجد، وهذا يتخرَّجُ على قولِ الكُوفيّين. وأمَّا البصريُّون؛ فيشترطُون في العطفِ على الضَّمير المجرور إعادة الخافض إِلاَّ في ضرورة، فهذا التَّخريجُ عندهم فاسِدٌ ولا بدَّ من التّعرُّض لهذه المسألة، وما هو الصَّحيحُ فيها؟ فنقول وبالله التوفيق: اختلف النُّحاةُ في العطفِ على الضَّمير المجرورِ على ثلاثةِ مذاهب: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 10 أحدها - وهو مذهبُ البصريِّين -: وجوبُ إعادة الجارِّ إِلاَّ في ضرورةٍ. الثاني: أَنَّهُ يجوزُ ذلك في السَّعَةِ مُطْلِقاً، وهو مذهبُ الكُوفيين، وتبعهم أبو الحسن ويونس والشَّلوبين. والثالث: التَّفصيلُ، وهو إِنْ أُكِّد الضَّميرُ؛ جاز العطفُ من غير إعادةِ الخافض نحو: «مَرَرْتُ بِكَ نفسِك، وزيدٍ» ، وَإِلاّ فلا يجوز إلا ضرورةً، وهو قول الجَرميّ، والَّذي ينبغي جوازه مُطلقاً لكثرةِ السَّماع الوارد به، وضعفِ دليل المانعين واعتضاده بالقياس. أَمَّا السَّماعُ: ففي النَّثْرِ كقولهم: «مَا فِيهَا غَيْرُه، وفرسِهِ» بجرِّ «فَرَسِهِ» عطفاً على الهاءِ في «غَيْره» . وقوله: {تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] في قراءة جماعةٍ كثيرة، منهم حمزةُ كما سيأتي إن شاءَ اللهُ، ولولا أَنَّ هؤلاء القرَّاء، رووا هذه اللغة، لكان مقبولاً بالاتِّفاق، فإذا قرءُوا بها في كتاب اللهِ تعالى كان أَولَى بالقبُول. ومنه: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} [الحجر: 20] ف «مَنْ» عطف على «لَكْم» في قوله تعالى: {لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} [الحجر: 20] . وقوله: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ} [النساء: 127] عطف على: «فيهنّ» ، وفيما يُتلى عَلَيْكُم. أما النَّظم فكثيرٌ جدّاً، فمنه قولُ العبَّاس بن مرداس: [الوافر] 1054 - أَكُرُّ عَلَى الكَتِيبَةِ لاَ أُبَالِي ... أَفِيهَا كَانَ حَتْفي أَمْ سِوَاهَا فَ «سِوَاهَا» عطفٌ على «فِيهَا» ؛ وقولُ الآخر: [الطويل] 1055 - تُعَلَّقُ فِي مِثْلِ السَّوَارِي سُيُوفُنَا ... ومَا بَيْنَهَا وَالأَرْضِ غَوْطٌ نَفَانِفُ وقول الآخر: [الكامل] 1056 - هَلاَّ سَأَلْتَ بِذِي الجَمَاجِمِ عَنْهُمُ ... وَأَبِي نُعَيْمٍ ذِي اللِّوَاءِ الْمُحْرِقِ وقول الآخر: [الطويل] 1057 - بِنَا أَبَداً لاَ غَيْرِنَا تُدْرَكُ المُنَى ... وتُكْشَفُ غَمَّاءُ الخُطُوبِ الفَوَادِحِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 11 وقول الآخر: [البسيط] 1058 - لَوْ كَانَ لِي وَزُهَيْرٍ ثَالِثٌ وَرَدَتْ ... مِنَ الحِمَامِ عِدَانَا شَرَّ مَوْرودِ وقال الآخر: [الطويل] 1059 - إِذَا أَوْقَدُوا نَاراً لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ ... فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلَى بِهَا وَسَعِيرِهَا وقول الآخر: [البسيط] 1060 - إِذَا بِنَا بَلْ أُنَيْسَانَ اتَّقَتْ فِئَةٌ ... ظَلَّتْ مُؤَمَّنَةٌ مِمَّنْ يُعَادِيهَا وقول الآخر: [الرجز] 1061 - آبَكَ أَيِّهْ بِيَ أَوْ مُصَدَّرِ ... مِنْ حُمُرِ الْجِلَّةِ جَأْبٍ حَشْوَرِ وأنشد سيبويه: [البسيط] 1062 - فَاليَوْم قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وَتشْتِمُنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ فكثرةُ ورودِ هذا، وتصرُّفُهم في حروفِ العطفِ، فجاءوا تارةً بالواو، وأخرى ب «لا» ، وأخرى ب «أَمْ» ، وأخرى ب «بَلْ» دليلٌ على جوازِه، وأمَّا ضعفُ الدَّليل: فهو أَنَّهم منعُوا ذلك؛ لأنَّ الضَّمير كالتَّنوين، فكما لا يُعطف على التَّنوين لا يعطفُ عليه إلاَّ بإعادة الجارّ. ووجه ضعفه أَنَّهُ كان بمقتضى هذه العِلَّةِ ألاَّ يُعْطَفَ على الضَّمير مطلقاً، أعْنِي سواءٌ كان مرفوع الموضعِ، أو منصوبه، أو مجروره، وسواءً أُعيدَ معه الخافِضُ، أم لا كالتَّنوين. وأَمَّا القياسُ، فلأنه تابعٌ من التَّوابع الخمسة، فكما يُؤكَّدُ الضَّميرُ المجرورث، ويُبْدَلُ منه، فكذلك يُعطفُ عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 12 الثالث: أَنْ يكون معطوفاً على {الشهر الحرام} ثم بعد هذا طريقان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 13 أحدهما: أنّ قوله: {قِتَالٌ فِيهِ} مبتدأ، وقوله {كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 14 خبر بعد خبر، والتَّقدير: إن قتالاً فيه محكُوم عليه بأنه كبيرٌ، وبأنه صدٌّ عن سبيل اللهِ، وبأنَّهُ كُفرٌ بالله. والطريق الثانِي: أَنْ يكون قوله: {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} جملة مبتدأ وخبر وقوله: {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} ، فهو مرفوع بالابتداء. وكذا قوله {وكُفْرٌ بِهِ} والخبر محذوفٌ لدلالة ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 15 تقدَّم عليه، والتَّقدير: قل: قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيلِ اللهِ كبير وكُفرٌ به كبير ونظيره: زَيْدٌ منطلِقٌ وعمرو، وتقديره: وعمرو منطلق. وطعن البصريُّون في هذا فقالوا: أَمَّا قولكم تقدير الآية: يسألونك عن قتالٍ في الشَّهر الحرام وفي المسجد الحرام؛ فهو ضعيف؛ لأَنَّ السُّؤال كان واقعاً عن القتال في الشَّهر الحرام، لا عن القِتَال في المسجدِ الحرامِ، وطعنوا في الوجه الأوَّل بأنَّه يقتضي أَنْ يكون القتال في الشَّهر الحرام كفراً بالله، وهو خطأ بالإجماع. الثاني: بأنَّه قال بعد ذلك {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} أي: أكبر مِنْ كُلّ ما تقدَّم، فيلزم أَنْ يكون إخراجُ أهل المسجد الحرام أكبر عند اللهِ من الكُفر، وهو خطأٌ بالإجماع. قال ابن الخطيب: وللفرَّاءِ أن يجيب عن الأَوَّل بأنَّهُ: من الذي أخبركم بأَنَّه ما وقع السُّؤالُ عن القتال في المسجد الحرام، بل الظَّاهر أَنَّهُ وقع؛ لأَنَّ القوم كانُوا مستعظمين للقتال في الشَّهر الحرام في البلد الحرام، وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم، فالظَّاهر أَنَّهم جمعوهما في السُّؤال، وقولهم: على الوجه الأوَّل يلزم أَنْ يكون قتال في الشَّهر الحرام وكُفر، فنحن نقول به لأَنَّ النَّكرة في سياق الإِثبات لا تفيد العموم. وعندنا أَنَّ قتالاً واحداً في الشهر الحرام كُفرٌ. وقولهم على الثَّاني: يلزم أَن يكون إخراجُ أهلِ المسجدِ منه أكبر من الكفر. قلنا: المُراد أهل المسجد: وهم الرَّسُولُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ وأصحابه، وإخراج الرَّسُول من المسجد على سبيل الإذلال لا شكّ أنه كُفرٌ، وهو مع كونه كُفراً فهو ظُلْمٌ لأَنَّهُ إيذاء للإنسان مِنْ غير جرمِ سابقٍ، ولا شكّ أن الشيء الَّذشي يكون ظُلماً وكُفراً أكبر، وأقبح عند اللهِ ممَّا يكون كفراً، وحده، ولما ذكر أبو البقاء هذا القول - وهو أن يكون معطوفاً على الشَّهر الحرام - أي يسألُونك عن الشَّهرِ الحرامِ وعن المسجدِ الحرام. قال أبو البقاء: وضعف هذا بأنَّ القومَ لم يسألوا عن المسجد الحرام إذ لم يشُكُّوا في تعظيمه، وإنَّما سألوا عن القتال في الشَّهر الحرام. والثاني: القتال في المسجد الحرام؛ لأَنَّهُم لم يَسْأَلوا عن ذات الشَّهر ولا عن ذات المسجد، إِنما سألوا عن القتالِ فيهما؛ فأُجيبوا بأنَّ القتال في الشَّهر الحرامِ كبيرٌ، وصَدٌّ عن سبيلِ الله تعالى، فيكون [قتال] أَخْبر عنه بأنه كبيرٌ، وبأنه صَدٌّ عن سبيل الله، وأُجيبوا بأنَّ القتال في المسجد الحرامِ وإِخراجَ أهله أكبرُ من القتالِ فيه. وفي الجملةِ، فعطفُه على الشَّهر الحَرام متكلَّفٌ جدّاً يبعُدُ عنه نظمُ القُرآنِ، والتركِيبُ الفصيحُ. الرابع: أَنْ يتعلَّق بفعلٍ محذوفٍ دَلَّ عليه المصدرُ تقديره: ويصُدُّون عن المسجد، كما قال تعالى: {هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} [الفتح: 25] قاله أبو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 16 البقاء، وجعله جيّداً، وهذا غيرُ جيّد؛ لأنه يلزمُ منه حذفُ حرفِ الجَرّ وإبقاءُ عملهِ، ولا يجوزُ ذلك إلا في صورٍ ليس هذا منها، على خلافٍ في بعضها، ونصَّ النَّحويُّون على أنَّه ضرورةٌ؛ كقوله: [الطويل:] 1063 - إِذَا قِيلَ: أَيُّ النَّاسِ شَرُّ قَبِيلَةٍ ... أَشَارَتْ كُلَيْبٍ بِالأَكُفِّ الأَصَابِعُ أي: إلى كُليبٍ فهذه أربعةُ أَوجه، أجودها الثاني. ونقل بعضهم أَنَّ الواو في المسجد هي واو القسم فيكون مجروراً. وأمَّا رفعه فوجهُه أَنَّهُ عطفٌ على «وَكُفْرٌ» على حذف مُضافٍ تقديره «وَكُفْرٌ بالمَسْجِدِ» فحُذِفَت الباءُ، وأُضِيفَ «كُفْرٌ» إلى المسجد، ثمَّ حُذِفَ المضافُ وأُقيم المُضَافُ إليه مُقَامَهُ، ولا يَخْفَى ما فيه من التَّكَلُّفِ. فصل وفي الصَّدِّ عن سبيل اللهِ وجوهٌ: أحدها: أَنَّهُ صدٌّ عن الإِيمان باللهِ ورسوله. وثانيها: صدُّ المسلمين عن الهجرة للرَّسُول عليه السَّلام. وثالثها: صدُّ المسلمين عام الحُدَيبية عن العُمرَة. ولقائل أن يقول: دلّت الرَّوايات على أَنَّ هذه الآية، نزلت قبل غزوة بدرٍ باعثاً للرَّسُول مستحقّاً للعبادة قادراً على البعث، وأما «المَسْجِد الحَرَامِ» فإِنْ عطفناه على الضَّمير في «بِهِ» ؛ كان المعنى: وكفر بالمسجد الحرام ومعنى الكفر بالمسجد الحرام هو منعُ النَّاسِ عن الصَّلاَةِ، والطَّواف به، فقد كفروا بما هو السَّبَبُ في فضيلته الَّتي بها يتميَّزُ سائر البقاع. وإن عطفناه على «سَبِيلِ اللهِ» كان المعنى: وصدّ عن المسجد الحرام، وذلك لأَنَّهم صَدُّوا الطَّائفين، والعاكِفِين، والرُّكَّعِ السُّجُود عن المَسْجِدِ الحَرَامِ. قوله: {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} عطفٌ على «كُفرٌ» ، أو «صَدٌّ» على حسب الخلافِ المتقدِّم، وهو مصدرٌ حُذِف فاعله، وأُضيفَ إلى مفعوله، تقديرُه: «وَإِخْرَاجُكم أَهْلَهُ» . والضَّميرُ في «أَهله» و «مِنْهُ» عائدٌ على المَسْجِد وقيل: الضَّمير في «مِنْهُ» عائِدٌ على سبيل الله، والأَوَّل أظهرُ و «منه» متعلِّقٌ بالمصدر. قوله: «أَكْبَرُ» فيه وجهان: أحدهما: أنه خبرٌ عن الثلاثة، أعني: صَدّاً وكفراً، وإخراجاً كما تقدَّم، وفيه حينئذٍ احتمالان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 17 أحدهما: أن يكون خبراً عن المجموع، والاحتمالُ الآخرُ أن يكونض خبراً عنها باعتبار كلِّ واحدٍ، كما تقول: «زيدٌ وبكرٌ وعمرو أفضلُ من خالدٍ» ، أي: كلُّ واحِدٍ منهم على انفراده أفضلُ من خالدٍ. وهذا هو الظَّاهِرُ. وإِنّما أُفْرِدَ الخبر؛ لأنه أفضلُ من تقديرِه: أكبر من القتال في الشَّهر الحرامِ. وإنَّما حُذِفَ لدلالةِ المعنى. الثاني من الوجهين في «أَكْبر» : أن يكونَ خبراً عن الأَخير، ويكونُ خبر «وَصَدّ» و «كُفْر» محذوفاً لدلالة خبر الثَّالث عليه تقديره: وصدّ وكُفر أكبر. قال أبو البقاء في هذا الوجه: ويجب أَنْ يكون المحذوفُ على هذا أَكْبَر لا «كبير» كما قدَّره بعضهم؛ لأَنَّ ذلك يوجب أن يكُون إخراج أهل المسجد منه أكبرَ من الكُفر، وليس كذلك. وفيما قاله أبو البقاء نظر؛ لأَنَّ هذا القائل يقولُ: حُذِف خبر «وَصَدّ» و «كُفْر» لدلالة خبر «قِتَالٍ» عليه، أي: القتالُ في الشَّهرِ الحرام كبيرٌ، والصَّدّ والكفر كبيران أيضاً، وإخراجُ أهل المسجد أكبرُ من القتالِ في الشَّهْرِ الحرام. ولا يلزمُ من ذلك أَن يكون أكبرَ من مجموعِ ما تقدَّم حتّى يلزمَ ما قاله من المحذور. و «عِنْدَ اللهِ» متعلِّق ب «أَكْبر» ، والعِنْديةُ هنا مَجَازٌ لِما عُرف. فصل في المراد بهذا الإخراج والمرد بهذا الإخراج أنَّهم أخرجوا المسلمين من المسجد، بل من مكة وإنما جعلهم أهلاً له؛ لأنَّهم القائمون بحقوق البيت كقوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} [الفتح: 26] وقال تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون} [الأنفال: 34] فأخبر تعالى: أنَّ المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد ثم إنه تعالى ذكر هذه الأشياء، وحكم عليها بأنها أكبر، أي: كلُّ واحد منها أكبر من قتال في الشَّهر الحرام، وهذا تفريعٌ على قول الزَّجَّاج؛ لأن كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتالٍ في الشهر الحرام، فالكفر أعظم من القتل، أو نقول: كلّ واحدٍ من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشَّهر الحرام، وهو القتال الَّذي صدر عن عبد الله بن جحش؛ لأنه ما كان قاطعاً بوقوع ذلك القتال في الشَّهر الحرام، وهؤلاء الكفَّار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشَّهر الحرام؛ فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر حجماً. قوله: {والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل} ذكروا في الفتنة قولين: أحدهما - وعليه أكثر المفسِّرين -: أنَّها الكفر، أي: الشّرك الَّذي أنتم عليه أكبر من قتل ابن الحضرميّ في الشَّهر الحرام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 18 قال ابن الخطيب: وهذا يستقيم على قول الفرَّاء، وضعيف على قول الزَّجَّاج؛ لأنَّهُ قد تقدَّم ذكر ذلك، فإنَّه تعالى قال: «وَكُفْر بِهِ أَكْبَرُ» فحمل الفتنة على الكفر يكون تكراراً. والقول الثاني: أن الفتنة ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم تارة بإلقاء الشُّبهات في قلوبهم، وتارةً بالتَّعذيب كفعلهم ببلال، وعمَّار، وصهيب. قال: محمَّد بن إسحاق: لأن الفتنة عبارة عن الامتحان، يقال: فتنت الذَّهب بالنَّار: إذا أدخلته فيها لتزيل غشَّه قال تعالى: {إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} [التغابن: 15] ، أي: امتحان؛ لأنَّهُ إذا ألزمه إنفاق المال في سبيل الله، تفكّر في ولده؛ فصار ذلك مانعاً عن الإنفاق وقال تعالى: {الم أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 1 - 2] ، أي: لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء، وقال: {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} [طه: 40] وقال: {فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت: 10] وقال: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} [البروج: 10] والمراد أنهم آذوهم، وعذبوهم لبقائهم على دينهم. وقال: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} [النساء: 101] ، وقال: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} [الصافات: 162] وقال: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة} [آل عمران: 7] أي: ابتغاء المحبَّة في الدِّين. وقال: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ} [المائدة: 49] وقال: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً} [يونس: 85] والمعنى: أن يفتنوا بها عن دينهم، فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر؛ وقال: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيِّكُمُ المفتون} [القلم: 5 - 6] قيل: المفتون المجنون؛ لأنَّ المجنون والجنون فتنة إذ هو محنةٌ وعدولٌ عن سبيل العقلاء، وإذا ثبت أنَّ الفتنة هي المحنة، فالفتنة أكبر من القتل؛ لأنَّ الفتنة عن الدِّين تفضي إلى القتل الكبير في الدُّنيا وإلى استحقاق العذاب الدَّائم في الآخرة، فصحَّ أنَّ الفتنة أكبر من القتل فضلاً عن ذلك القتل الَّذي وقع السُّؤال عنه، وهو قتل ابن الحضرميّ. روي أنَّه لما نزلت هذه الآية كتب عبد الله بن جحش إلى مؤمني مكَّة: إذا عيَّركم المشركون بالقتال في الشَّهر الحرام؛ فعيروهم بالكفر، وإخراج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقتال من مكَّة ومنع المؤمنين عن البيت الحرام. وصرح هنا بالمفضول في قوله: {والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل} ؛ لأنه لا دلالة عليه لو حذف بخلاف الذي قبله حيث حذف. قوله: {وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ} هذا فعل لا مصدر له، قال الواحديّ: ما زال يفصل ولا يقال منه: فاعل، ولا مفعول، ومثاله في الأفعال كثير نحو «عَسَى» ليس له مصدرٌ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 19 ولا مضارع، وكذلك ذو، وما فتِىءَ، وهلمّ، وهاكَ وهات وتعال وتعالوا. ومعنى {وَلاَ يَزَالُونَ} : نفي: فإذا دخلت عليه «مَا» كان ذلك نفياً للنَّفي، فيكون دليلاً على الثُّبوت الدَّائم. قوله تعالى: {حتى يَرُدُّوكُمْ} حتى حرف جرِّ، ومعناها يحتمل وجهين: أحدهما: الغاية. والثاني: التَّعليل بمعنى كي، والتَّعليل أحسن؛ لأن فيه ذكر الحامل لهم على الفعل، والغاية ليس فيها ذلك ولذلك لم يذكر الزَّمخشريُّ غير كونها للتَّعليل قال: «وَحَتّى» معناها التَّعليل كقولك: «فُلاَنٌ يُعْبُدُ اللهَ، حَتَّى يَدْخُلَ الجَنَّة» ، أي يُقَاتِلُونَكُم كي يردُّوكم «. ولم يذكر ابن عطيَّة غير كونها غاية قال:» وَ «يَرُدُّوكُم» نصب ب «حَتّى» ؛ لأنَّها غاية محرّدة. وظاهر قوله: «مَنْصُوبٌ بِحَتّى» أنه لا يضمر «أنْ» لكنَّه لا يريد ذلك، وإن كان بعضهم يقول بذلك. والفعل بعدها منصوب بإضمار أن وجوباً. و «يَزَالُونَ» مضارع زال النَّاقصة التي ترفع الاسم، وتنصب الخبر، ولا تعمل إلا بشرط أن يتقدَّمها نفيٌ، أو نهي، أو دعاء، وقد يحذف النَّافي باطِّراد إذا كان الفعل مضارعاً في جواب قسم، وإلاَّ فسماعاً، وأحكامها في كتب النَّحو، ووزنها فعل بكسر العين، وهي من ذوات الياء بدليل ما حكى الكسائيُّ في مضارعها: يزيل، وإن كان الأكثر يزال، فأمَّا زال التَّامَّة، فوزنها فعل بالفتح، وهي من ذوات الواو لقولهم في مضارعها يزول، ومعناها التَّحوُّل. و «عَنْ دِينكُمْ» متعلق ب «يردُّوكُم» وقوله: «إِن اسْتَطَاعُوا» شرط جوابه محذوف للدلالة عليه، أي: إن استطاعوا ذلك، فلا يزالوا يقاتلونكم، ومن رأى جواز تقديم الجواب، جعل «لاَ يَزَالُونَ» جواباً مقدّماً، وقد تقدَّم الرَّدُّ عليه بأنَّه كان ينبغي أن تجب الفاء في قولهم: «أَنْ ظَالِمٌ إِن فَعَلْتَ» . قوله: {وَمَن يَرْتَدِدْ} «مَنْ» شرطيّة في محلِّ رفع بالابتداء، ولم يقرأ أحدٌ هنا بالإدغام، وفي المائدة [آية54] اختلفوا فيه، فنؤخِّر الكلام على هذه المسألة إلى هناك إن شاء الله تعالى. ويرْتَدِدث يَفْتَعِلُ من الرَّدِّ وهو الرُّجوع كقوله: {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] . قال أبو حيَّان: «وقد عَدَّها بعضُهم فيما يَتَعَدَّى إلى اثْنَيْنِ إذْ كانت عنده بمعنى صَيَّر، وجَعَلَ من ذلك قوله: {فارتد بَصِيراً} [يوسف: 96] أي: رجَع» وهذا منه سهوٌ؛ لأنَّ الخلاف إنَّما هو بالنِّسبة إلى كونها بمعنى صار، أم لا، ولذلك مثلوا بقوله: «فَارْتدَّ بَصِيراً» فمنهم من جعلها بمعنى: «صَارَ» ، ومنهم من جعل المنصوب بعدها حالاً، وإلاّ فأين المفعولان هنا؟ وأمَّا الذي عدُّوه يتعدَّى لاثنين بمعنى: «صَيَّر» ، فهو ردَّ لا ارْتَدَّ، فاشتبه عليه ردَّ ب «ارْتَدَّ» وصيَّر ب «صَارَ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 20 وقال الواحديُّ: وأظهر التَّضعيف مع الجزم، ولسكون الحرف الثاني، وهو أكثر في اللُّغة من الإدغام. و «منكم» متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من الضَّمير المستكن في «يَرْتَدِدْ» و «من» للتَّبعيض، تقديره: ومن يَرْتَدِدْ في حال كونه كائناً منكم، أي: بعضكم. و «عَنْ دِينِهِ» متعلِّقٌ ب «يَرْتَدد» ، و «فَيَمُتْ» عطفٌ على الشَّرط، والفاء مؤذنةٌ بالتَّعقيق. {وَهُوَ كَافِرٌ} جملةٌ حاليةٌ من ضمير: «يَمُتْ» ، وكأنَّها حالٌ مؤكِّدَةٌ؛ لأنَّها لو حذفت لفهم معناها، لأنَّ ما قبلها يشعر بالتَّعقيب للارتداد، وجيءَ بالحال هنا جملةً، مبالغة في التأكيد من حيث تكرُّر الضَّمير بخلاف ما لو جيء بها اسماً مفرداً. وقوله: {فأولاائك} جواب الشَّرط. قال أبو البقاء: و «مَنْ» في موضع مبتدأ، والخبر هو الجملة التي هي قوله: {فأولاائك حَبِطَتْ} ، وكان قد سلف له عند قوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] أن خبر اسم الشَّرط هو فعل الشَّرط لا جوابه، وردَّ على من يدَّعي ذلك بما حكيته عنه ثمَّة، ويبعد منه توهُّمُ كونها موصولةً لظهور الجزم في الفعل بعدها، ومثله لا يقع في ذلك. و «حَبِطَ» فيه لغتان: كسر العين وهي المشهورة وفتحها، وبها قرأ أبو السَّمَّال في جميع القرآن، ورويت عن الحسن أيضاً. والحبوط: أصله الفساد. قال أهل اللُّغة: أصل الحبط أن تأكل الإبل شيئاً يضرّها، فتعظم بطونها، فتهلك. وفي الحديث: «وَإِنَّ مِمَّا يُنْبِتُ الرَّبِيعُ مَا يَقْتُلُ حَبَطاً» ، وذلك أنَّ الإبل تأكل من المرعى إلى أن تنتفخ بطنها؛ فتمون البطن. ومنه: «حَبِطَ بَطْنُه» ، أي: انتفخ، ومنه «رَجلٌ حَبَنْطَى» ، أي: منتفخ البطن. وحمل أوّلاً على لفظ «مَنْ» فأفرد في قوله: «يَرٍْتَدِدْ، فيمت، وهو كَافِرٌ» وعلى معناها ثانياً في قوله: «فَأُولَئِكَ» إلى آخره، فجمع، وقد تقدَّم أنَّ مثل هذا التَّركيب أحسن الاستعمالين: أعني الحمل أوّلاً على اللَّفظ، ثمَّ على المعنى. وقوله «في الدُّنْيَا» متعلِّقٌ ب «حَبِطَتْ» . وقوله: {وأولاائك أَصْحَابُ النار} إلى آخره تقدَّم إعراب نظيرتها. واختلفوا في هذه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 21 الجملة: هل هي استئنافيّةٌ، أي: لمجرَّد الإخبار بأنَّهم أصحاب النَّار، فلا تكون داخلةً في جزاء الشَّرط، بل تكون معطوفةً على جملة الشَّرط، أو هي معطوفة على الجواب؛ فيكون محلُّها الجزم؟ قولان، رجِّح الأوَّل بالاستقلال وعدم التّقييد، والثَّاني بأنَّ عطفها على الجزاء أقرب من عطفها على جملة الشَّرط، والقرب مرجِّحٌ. فصل فيمن خرج من كفر إلى كفر قال القرطبيُّ: اختلفوا فيمن خرج من كفر إلى كفر؛ فقال جمهور الفقهاء: لا يتعرَّض له؛ لأنَّه انتقل ما لو كان عليه في الابتداء لأقر عليه وعن الشَّافعيّ: أنَّه يقتل؛ بقوله عليه السَّلام: «مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ» وقال مالكٌ: معناه: من خرج من الإسلام إلى الكفر، فأمَّا من خرج من كفر إلى كفر، فلم يعنه الحديث. فصل في اقتضاء الآية شرط الوفاة ظاهر الآية يقتضي أنَّ الوفاة شرطٌ لثبوت الأحكام المذكورة. ويتفرَّع عليه بحثان: بحثٌ أصولي، وبحثٌ فروعي. فالأصوليُّ: أنَّ جماعةً من المتكلِّمين قالوا: شرط صحَّة الإيمان والكفر حصول الوفاة، فلا يكون الإيمان إيماناً، إلاَّ إذا مات المؤمن، ولا يكون الكفر كفراً، إلاَّ إذا مات الكافر عليه. وأما البحث الفروعيُّ: فهو أنَّ المسلم إذا صلَّى، ثم ارتدّ، ثمَّ أسلم في الوقت؛ قال الشافعيُّ: لا إعادة عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 22 وقال أبو حنيفة: يلزمه قضاء ما أدى وكذلك الحج، حجة الشَّافعي قوله تعالى: {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولاائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} شرطٌ في إحباط العمل أن يموت وهو كافرٌ، وهذا الشَّخص لم يوجد في حقِّه هذا الشَّرط؛ فوجب ألاَّ يصير عمله محبطاً. فإن قيل: هذا معارض بقوله تعالى: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] وقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ} [المائدة: 5] . ولا يقال: حمل المطلق على المقيَّد واجبٌ؛ لأنَّا نقول: ليس هذا من باب المطلق والمقيَّد؛ فإنَّهم أجمعوا على أنَّ من علَّق حكماً بشرطين، وعلقه بشرط، أنَّ الحكم ينزل عند أيِّهما وجد كمن قال لعبده: أنت حرٌّ؛ إذا جاء يوم الخميس، ولم يكن في ملكه، ثم اشتراه، ثم جاء يوم الخميس؛ عتق ولو كان باعه، فجاء يوم الخميس وهو في ملكه عتق بالتعليق الأوَّل. فصل في محل إحباط العمل ليس المراد من إحباط العمل نفس العمل؛ لأنَّ العمل شيء كما وجد، فَنِيَ وزَال، وإعدم المعدوم محال. ثمَّ اختلف المتكلِّمون فيه؛ فقال المثبتون للإحباط والتَّكفير: المراد منه أنَّ عقاب الرِّدَّةِ الحادثة يزيل ثواب الإيمان السَّابق، إمَّا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة، أو لا بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي. وقال المنكرون للإِحباط: هذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله، هو أنَّ المرتدَّ إذا أتى بالرِّدَّة فتلك الرِّدة عمل محبط؛ لأنَّ الآتي بالرِّدَّة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثواباً، فإذا لم يأت بذلك العمل الجيِّد، وأى بدله بهذا العمل الرَّدِيءِ، لا يستفيد منه نفعاً، بل يستفيد منه أعظم المضارّ، يقال: إنَّه حبط عمله، أي: بعملٍ باطلٍ، ليس فيه فائدة، بل فيه مضرَّةٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 23 فصل في الإحباط في الدنيا أمَّا إحباط الأعمال في الدُّنيا، فهو أنَّه يقتل عند الظَّفر به، ويقاتل إلى أن يظفر به، ولا يستحقُّ من المؤمنين موالاةً ولا نصراً، ولا ثناءً حسناً، وتبين زوجته منه، ولا يستحقُّ الميراث من المسلمين. ويجوز أن يكون المعنى في إحباط أعمالهم في الدُّنيا، هو أنَّ ما يريدونه بعد الرِّدَّة من الإضرار بالمسلمين، ومكايدتهم بالانتقال عن دينهم يبطل كله، فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره؛ فتكون الأعمال على هذا التَّأويل ما يعملونه بعد الرِّدَّة، وأمَّا إحباط أعمالهم في الآخرة، فعند القائلين بالإحباط معناه: إنَّ هذه الرَّدَّة تبطل استحقاقهم للثَّواب الذي استحقُّوه بأعمالهم السَّالفة. وعند المنكرين لذلك معناه: أنَّهم لا يستفيدون من تلك الرِّدَّة ثواباً، ونفعاً في الآخرة، بل يستفيدون منه أعظم المضارِّ، ثمَّ بين كيفيَّة تلك المضرَّة فقال: {وأولاائك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . فصل قال القرطبيُّ: قالت طائفةٌ: يستتاب المرتدُّ؛ فإن تاب وإلاَّ قتل. وقال بعضهم: يُسْتَتَابث ساعةً واحدةً. وقال آخرون: يُسْتَتَابُ شهراً. وقال آخرون: يُسْتَتَابُ ثلاثاً، على ما روي عن عمر وعثمان، وهو قول مالك في رواية ابن القاسم. وقال الحسن: يُسْتَتَابث مائة مرَّةٍ، وروي عنه أنَّه يقتل دون استتابةٍ، وهو أحد قولي الشَّافعيّ. واحتجّ من قال بأنّه يقتلُ ولا يستتاب، بحديث معاذٍ، وأبي موسى: أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما بعث أبا موسى إلى اليمن أتبعه معاذ بن جبل، فلمَّا قدم عليه قال: انزل، وألقى له وسَادَةٌ، وإذا رجُلٌ عنده موثقٌ، قال: مَا هَذَا؟ قال: كَانَ يُهُودِياً، فأسلم، ثم راجع دينه، فتهوَّد، قال: لا أجلس حتّى يُقتل، قضاء الله ورسوله ثلاث مرَّات، وأمر به فقتل. أخرجه «مُسْلِمٌ» وغيره. وقال مالك: يُقْتَلُ الزِّنْدِيقُ، ولا يُسْتَتَابُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 24 قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} . إنَّ واسمها و «أُولَئِكَ» مبتدأ، و «يَرْجُونَ» خبره، والجملة خبر «إِنَّ» ، وهو أحسنُ من كون «أُولَئشكَ» بدلاً من «الّذِين» ، و «يَرْجُون» خبر «إنَّ» . وجيء بهذ الأوصاف الثَّلاثة مترتِّبةٌ على حسب الواقع، إذ الإيمان أولُ، ثم المهاجرة، ثم الجهاد. وأفرد الإيمان بموصولٍ وحده؛ لأنَّه أصل الهجرة والجهاد، وجمع الهجرة، والجهاد في موصولٍ واحدٍ، لأنَّهما فرعان عنه، وأتى بخر «إنَّ» اسم إشارة؛ لأنَّه متضمِّنٌ للأوصاف السَّابقة. وتكرير الموصول بالنِّسبة إلى الصِّفات، لا الذَّوات، فإنَّ الذَّوات متَّحدةٌ موصوفةٌ بالأوصاف الثَّلاثة، فهو من باب عطف بعض الصِّفات على بعض، والموصوف واحد. ولا نقول: إنَّ تكرير الموصوف يدلُّ على تغير الذَّوات الموصوفة؛ لأنَّ الواقع كان كذلك. وأتى ب «يَرءجُونَ» ؛ ليدَّ على التَّجدُّد وأنهم في كلِّ وقتٍ يحدثون رجاءً. والمهاجرة: مفاعلةٌ من الهجر، وهي الانتقال من أرض إلى أرضٍ، وأصل الهجر التّرك. والمجاهدة مفاعلةٌ من الجهد، وهو استخراج الوسع وبذل المجهود، والإجهاد: بذلُ المجهود في طلب المقصود، والرَّجاء: الطمع. وقال الرّاغب: هو ظنٌّ يقتضي حصول ما فيه مسرَّةٌ، وقد يطلقُ على الخوف؛ وأنشد: [الطويل] : 1064 - إذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا ... وَخَالَفَهَا في بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ أي: لم يَخَفْ، وقال تعالى: {لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} [يونس: 7] أي: لا يخافون، وهل إطلاقه عليه بطريق الحقيقة، أو المجاز؟ فزعم قومٌ أنه حقيقةٌ، ويكون من الاشتراك اللَّفظي، وزعم قومٌ أنه من الأضداد، فهو اشتراكٌ لفظيّ أيضاً. قال ابن عطيَّة: «ولَيْسَ هَذَا بِجيّدٍ» ، يعني: أنَّ الرَّجاء والخوف ليسا بضدَّين إذ يمكن اجتماعهما، ولذلك قال الرَّاغِبُ بعد إنشاده البيت المتقدّم «ووجْهُ [ذلك] : أنَّ الرَّجَاءَ والخوفَ يَتَلاَزَمَانِ» ، وقال ابن عطيَّة: «والرَّجَاءُ أبداً معه خوفٌ، كما أنَّ الخوف معه رَجَاءٌ» . وزعم قومٌ أنه مجازٌ للتلازم الّذي ذكرناه عن الرَّاغب وابن عطيَّة. وأجاب الجاحظ عن البيت بأنَّ معناه لم يرج برء لسعها وزواله فالرَّجاء على بابه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 25 وأمَّا قوله: {لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} [يونس: 7] أي لا يرجون ثواب لقائنا، فالرَّجاء أيضاً على بابه، قاله ابن عطيَّة. وقال الأصمعيُّ: «إذا اقترن الرَّجَاء بحرفِ النَّفي، كان بمعنى الخَوْفِ» كهذا البيت والآية. وفيه نظرٌ إذ النَّفي لا يغيِّر مدلولات الألفاظ. والرَّجاء مقصود ناحية البئر، وحافَّاته من كل ناحيةٍ، وجاؤوا بقوام من النَّاس يخطُّون في قولهم بأعظم الرَّجَاء، فيقصرون، ولا يمدُّون، وكتبت «رَحْمَة» هنا بالتَّاء: إمَّا جرياً على لغة مَنْ يَقِفُ على تَاءِ التَّأْنِيث بالتَّاء، وإما اعتباراً بحالها في الوصل، وهي في القرآن في سبعة مواضع، كتبتُ في الجميع تاءً، هنا وفي الأعراف: {إِنَّ رَحْمَةَ الله} [آية: 56] ، وفي هود: {رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ} [آية: 73] ، وفي مريم: {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ} [آية: 2] ، وفي الرُّوم: {فانظر إلى آثَارِ رَحْمَةِ الله} [آية: 50] ، وفي الزخرف: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ} [آية: 32] . فصل في تعلّق هذه الآية بما قبلها، وجهان: الأول: أنَّ عبد الله بن جحش قال: يَا رَسُولَ الله، هَبْ أنَّهُ لاَ عِقَابَ عَلَيْنَا فِيمَا فَعَلْنَا، فَهَلْ نَطْمَعُ مِنْهَ أُجْراً، وَثَوَاباً، فَنَطمع أن يكون سفرُنا هذا غزواً؛ فأنزل الله هذه الآية؛ لأنَّ عبد الله كان مؤمناً، ومهاجراً، وسبب هذه المقاتلة، كان مجاهداً. الثاني: أنَّه تعالى أوجب الجهاد من قبل بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] وبين أن تركه سبب الوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} ولا يكاد يوجد وعيدٌ إلاَّ ويعقبه وعد. فصل في المراد بالرجاء وفي هذا الرجاء قولان: الأوَّل: عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها وأراد تعالى هنا: أنَّهم يظنُّونَ في ثَوَابِ اللهِ؛ لأن عبد الله بن جحشٍ ما كان قاطعاً بالفوز والثَّواب في عمله، بل كان يتوقَّعه، ويرجوه. فإن قيل: لم جعل الوعد مطلقاً بالرَّجاء، ولم يقطع به، كما في سائر الآيات؟ فالجواب من وجوهٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 26 أحدها: أنَّ الثَّوابَ على الإيمان، والعمل غير واجبٍ عقلاً، بل بحكم الوعد فلذلك علَّقه بالرَّجاء. وثانيها: هب أنَّه واجبٌ عقلاً، ولكنَّه تعلّق بأنه لا يكفر، وهذا الشَّرط مشكوكٌ لا متيقِّن، فلا جرم الرَّجاء، لا القطع. وثالثها: أنَّ المذكور ها هنا هو الإيمان، والهجرة، والجهاد، ولا بدَّ للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها، كما وفَّقه لهذه الثَّلاثة، فلا جرم علقه على الرَّجاء. ورابعها: ليس المراد من الآية أنَّ الله تعالى شكَّك العبد في هذه المغفرة، بل المراد وصفهم بأنَّهم يفارقون الدُّنيا مع الهجرة والجهاد، ومستقصرين أنفسهم في حقّ الله تعالى يرون أنّهم يعبدونه حقّ عبادته، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه، فيقدمون على الله مع الخوف والرَّجاء، كما قال: {والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} [المؤمنون: 60] . وأجاب القرطبيُّ عن هذا السُّؤال بوجهين آخرين: الأول: أنَّ الإنسان لو بلغ في طاعة الله كلَّ مبلغٍ، لا يدري بماذا يختم له. الثاني: لئلاّ يتّكل على عمله. القول الثاني: أنَّ المراد من الرَّجاء القطع في أصل الثَّواب، والظَّن إنَّما دخل في كميّته وفي وقته، وفيه وجوه تقدَّمت في قوله تعالى: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] . وقوله: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، أي: إنَّ الله تعالى يحقِّق لهم رجاءهم، إذا ماتوا على الإيمان، والعمل الصَّالح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 قوله: {عَنِ الخمر والميسر} لا بدّ فيه من حذف مضاف إذ السُّؤال عن ذاتي الخمر والميسر غير مرادٍ، والتَّقدير: عن حكم الخمر والميسر. الخمر: هو المعتصر من العِنَبِ إذا غلى، وقذف بالزَّبد، ويطلق على ما غلى، وقذف بالزَّبد من غير ماء العنب مجازاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 27 وفي تسميتها «خَمْراً» أربعة أقوال: أشهرها: أنَّها سمِّيت بذلك؛ لأنها تخمر العقل، أي: تستره، ومنه: خمار المرأة لستره وجهها، والخمر: ما واراك من شجر، وغيره من وهدةٍ، وأكمة، والخامر هو الذي يكتم شهادته؛ [و: خَامِري حضَاجِرُ، أتاك ما تُحَاذِرُ «يُضْرَبُ للأحمق، وحَضَاجِرُ: علمٌ للضبع، أي: استتر عن النَّاس، ودخل في خمار النَّاس، وغمارهم] . قال: [الوافر] 1065 - أَلاَ يَا زَيْدُ وَالضَّحَّاكَ سِيرا ... فَقَدْ جَاوَزْتُمَا خَمَرَ الطَّرِيقِ أي: ما يستركما من شجرٍ وغيره، وقال العجَّاج يصف مسير جيش طاهر بن أبان: [الرجز] 1066 - في لاَمِعِ العِقْبَانِ لاَ يَمْشِي الخَمَرْ ... والثاني: لأنَّها تغطَّى حتّى تدرك وتشتدَّ، فهو من التَّغطية ومنه» خَمَّروا آنيتكم «. والثالث: - قال ابن الأنباري من المخالطة - لأنَّها تخامر العقل، أي: تخالطه، يقال: خامره الدَّاء، أي: خالطه. وأنشد لكثير: [الطويل] 1067 - هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخَامِرٍ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . ويقال: خَامَرَ السّقام كبده. فهذه الاشتقاقات دالَّة على أن الخمر ما يكون ساتراً للعقل، كما سمِّيت مسكراً؛ لأنَّها تسكر العقل أي: تحجزه. والرابع: لأنَّها تترك حتى تدرك، ومنه:» اخْتَمَرَ العَجِينُ «أي: بلغ إدراكه، وخمر الرَّأي، أي: تركه، حتَّى ظهر له فيه وجه الصَّواب، وهي أقوال متقاربةٌ. وعلى هذه الأقوال تكون الخمر في الأصل مصدراً مرارداً به اسم الفاعل واسم المفعول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 28 فصل قال أبو حنيفة: الخمرُ: هو ما كان من عصير العنب وغيره. حجّة أبي حنيفة: قوله تعالى: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] فمنَّ الله تعالى علينا باتخاذ السَّكر، والرِّزق الحسن؛ فوجب أن يكون مباحاً؛ لأنَّ المنَّة لا تكون إلاَّ بالمباح. وروى ابن عبَّاس أنَّه - عليه السَّلام - أتى السِّقاية عام حجَّة الوداع، فاستند إليها وقال: اسقوني، فقال العبَّاس: لنسقينَّك ممَّا ننبذُهُ في بيوتنا؟ فقال:» مِمّا يُسْقَى النَّاسُ «فجاءه بقدح من نبيذ؛ فشمَّه فقطب وجهه وردَّه، فقال العبَّاس: يا رسول الله أفسدت على أهل مكَّة شرابهم. فقال:» رَدُّوا عَلَيَّ القَدَحَ «فردُّوه عليه؛ فدعا بماء زمزم؛ فصبّ عليه وشَرِبَ وقال:» إِذَا اغْتَلَمَتْ عَلَيْكُمْ هَذِهِ الأَشْرِبَة فَاقْطَعُوا نتنها بالمَاءِ «. وجه الاستدلال به: أن التقطيب لا يكون إلاَّ من الشَّديد، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدَّة بالنَّصِّ، ولأنَّ اغتلام الشَّراب شدَّته، كاغتلام البعير سكره. وأيضاً وردت عند الصَّحابة فيه آثارٌ؛ روي أنَّ عمر بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كتب إلى بعض عماله أن أرزاق المسلمين من الطِّلاء ما ذهب ثلثاه، وبقي ثلثه، ورأى أبو عبيدة، ومعاذٌ: شرب الطِّلاء على الثُّلث. وحجَّة القائلين بأنَّ الخمر من عصير العنب وغيره ما روى أبو داود عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «نَزَلَ تحريمُ الخَمْرِ يَوْمَ نَزَلَ وهي من خمسة من العِنَبِ، والتَّمْرِ، والحِنْطَةِ، والشَّعِيرِ، والذُّرَةِ» . والخمر ما خامر العقل. وفي «الصَّحيحين» عن عمر أنَّه قال على منبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ألا إنّ الخرم قد حرِّمت، وهي من خمسة: من العنب، والتَّمر، والعسل، والحنطة، والشعير والخمر ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 29 خامر العقل. وروى أبو داود عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ» وفي «الصَّحِيحَيْنِ» أنه عليه السَّلام سُئِلَ عن البِتع، فقال: «كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ، فَهُوَ حَرَامٌ» والبِتع شراب يتخذ من العسل. قال الخطابيُّ: والدَّلالة من وجهين: أحدهما: أنَّ الآية لما دلَّت على تحريم الخمر، وكان مسمَّى الخمر مجهولاً من القوم، حسن من الشَّارع أن يقال: مراد الله تعالى من هذه اللَّفظة هذا، ويكون على سبيل إحداث لغةٍ، كما في الصَّلاة والصَّومِ وغيرهما. والوجه الآخر: أن يكون معناه: أنَّه كالخمر في الحرمة؛ لأن قوله هذا خمر، فإن كان حقيقةً؛ فحصل المدّعي، وإن كان مجازاً؛ فيكون حكمه كحكمه؛ لأنَّا بيَّنا أنَّ الشَّارع ليس مقصوده تعليم اللُّغات على تعليم الأحكام، وحديث البتع يبطل كلَّ تأويلٍ ذكره أصحاب تحليل الأنبذة، وإفساد قول من قال: إنَّ القليل من المسكر من الأنبذة مباحٌ؛ لأنَّه - عليه السَّلام - سُئِلَ عن نوع واحدٍ من الأنبذة، وأجاب بتحريم الجنس، فدخل فيه القليل والكثير، ولو كان ثمَّ تفصيلٌ في شيءٍ من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله، وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ» ، وقال: «مَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 30 أَسْكَرَ الفرق منه فتمسك الكف منه حرام» . قال الخطابي: «الفَرقُ» : مِكْيَالٌ يَسَعُ ستَّة عشَرَ رطلاً وروى أبو داود عن أُمِّ سلمة قالت: نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن كلِّ مسكرٍ ومفترٍ. قال الخطَّابيُّ: «المفترُ» كلّ شرابٍ يورث الفتور، والخدر في الأعضاء. واستدلُّوا أيضاً بالاشتقاق المتقدّم وأيضاً بقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} [المائدة: 91] . وهذه العلَّة موجودة في الأنبذة؛ لأنَّها مظنّته. وأيضاً فإنّ عمر، ومعاذ قالا: يا رسول الله، إنَّ الخمر مسلبةٌ للعقل مذهبة للمال؛ وهذه العلَّة موجودة في الأنبذة. والجواب عن دلائل أبي حنيفة: أنَّ قوله {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً} [النحل: 67] نكرة في سياق الإثبات، فلم قلتم إنّ ذلك السُّكر هو هذا النَّبيذ. ثمَّ أجمع المفسِّرون على أنَّ هذه الآية قبل الآيات الدَّالَّة على تحريم الخمر، فتكون ناسخةً، أو مخصّصة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 31 وأمَّا حديث النَّبيذ فلعلَّه كان ماءًا نبذت فيه تمراتٌ؛ لتذهب ملوحته فتغيَّر طعم الماء قليلاً إلى الحموضة، وطبعه - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان في غاية اللَّطافة، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطَّعم؛ فلذلك قطَّب وجهه، وإنما صبَّ الماء فيه؛ إزالة لتلك الحموضة، أو الرائحة. وأمَّا آثارُ الصَّحابة، فمتدافعة متعارضة. فصل في عدد الآيات التي نزلت بمكة في تحريم الخمر قالوا: نزل في الخمر آربع آيات بمكَّة: قوله: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً} [النحل: 67] وكان المسلمون يشربونها، وهي لهم حلالٌ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصَّحابة قالوا: يا رسول الله، أفتنا في الخمر، فإنَّها مذهبةٌ للعقل مسلبةٌ للمال، فنزل قول تعالى: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] ولما نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ تَقَدَّمَ في الخَمْر» فتركها قومٌ لقوله (إثْمٌ كبيرٌ) وشربها قوم لقوله (ومنافع للناس) . إلى أن صنع عبد الرحمن بن عوف طعاماًن فدعا ناساً من أصحاب النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأتاهم بخمرٍ، فشربوا، وسكروا، وحضرت صلاة المغرب؛ فتقدَّم بعضهم ليصلِّي بهم فقرأ: «قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ» هكذا إلى آخر السورة بحذف «لا» ، فأنزل الله تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43] فحرَّم السُّكر في أوقات الصلاة، فلما نزلت هذه الآية، تركها قومٌ، وقالوا: لا خير في شيءٍ يحول بيننا وبين الصَّلاة وتركها قوم في أوقات الصَّلاة، وشربوها في غير وقت الصَّلاة، حتَّى كان الرَّجل يشرب بعد صلاة العِشاء، فيصبح، وقد زال عنه السُّكر، ويشرب بعد صلاة الصُّبح، فيصحو إذا جاء وقت الظُّهر، واتخذ عُتبان بن مالك صِبْغاً ودعا رجالاً من المسلمين، فيهم سعد بن أبي وقاص وكان قد شوى لهم رأس بعيرٍ، فأكلوا منه، وشربوا الخمر، حتى أخذت منهم، ثمَّ إنّهم افتخروا عند ذلك، وانتسبوا، وتناشدوا، فأنشد سعد قصيدةً فيها هجاءٌ للأنصار، وفخر لقومه، فأخذ رجلٌ من الأنصار لحي بعيرٍ، فضرب به رأس سعدٍ؛ فشجَّه موضّحةٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 32 فانطلق سعد إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشكى إليه الأنصاريَّ، فقال عمر: اللَّهُمَّ بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً؛ فأنزل الله تعالى: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ} [المائدة: 90] إلى قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] وذلك بعد غزوة الأحزاب بأَيَّام، فقال عمر: انتهينا يا ربّ. قال ابن الخطيب: والحكمة في وقوع التَّحريم على هذا التَّرتيب أنَّ الله تعالى علم أنَّ القوم كانوا قد أَلِفُوا شرب الخمر، وكان انتفاعهم بذلك كثيراً، فعلم أنَّه لو منعهم دفعةً واحدةً لشقّ ذلك عليهم، فلا جرم درَّجهم في التَّحريم رفقاً بهم، ومن الناس من قال: إن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية، ثم نزل قوله: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43] فاقتضى ذلك تحريم شربها؛ لأنَّ شارب الخمر لا يمكنه أن يصلِّي مع السُّكر، فكان المنع من ذلك منعاً من الشّرب ضمناً، ثم نزلت آية المائدة، فكانت في غاية القوَّة في التَّحريم. وعن الرَّبيع بن أنس أنَّ هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر. فصل قال أنسٌ: حُرمت عليهم الخمر، ولم يكن يومئذ للعرب عيشٌ أعجب منها، وما حرِّم عليهم شيءٌ أشدّ من الخمر. وقال أنس بن مالك: ما كان لنا خمر غير فضيخكم فإنّي لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً، وفلاناً، إذ جاء رجلٌ فقال: حرمت الخمر. قالوا: أهرق هذه القلال يا أنس؛ قال: فما سألوا عنها، ولا راجعوها بعد خبر الرَّجل. واختلف الفقهاء في الخمر على ما تقدَّم؛ فقال قومٌ: هو عصير العنب والرُّطب الَّذي اشتدّ وغلا من غير عمل النَّار فيه، واتَّفقت الأُمَّة على أنَّ هذا الخمر نجس يحدُّ شاربها، ويُفَسَّقُ، ويكفر مستحلها، وذهب سفيان الثَّوريُّ، وأبو حنيفة، وجماعة إلى أنَّ التَّحريم لا يتعدّى هذا ولا يحرم ما يتّخذ من غيرها، كالحنطة، والشَّعير، والذُّرة، والعسل، والفانيذِ إلاَّ أن يسكر منه فيحرم، وقال: إذا طبخ عَصِيرُ العِنَبِ والرُّطب، حتّى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 33 ذهب نصفه، فهو حلالٌ، ولكنه يكره، وإن طبخ، حتَّى يذهب ثلثاه قالوا: هو حلالٌ مباحٌ شربه إلاَّ أنَّ السُّكر منه حرامٌ. وقال قومٌ: إذا طُبخَ صار العَصِيرُ أدْنَى طبخ، صار حَلاَلاً، وهو قول إسماعيل بن عليه، وذهب أكثر أهل العلم إلى أنَّ كل شراب أسكر كثيره، فهو خمر قليله حرام يحدّ شاربه، وقد تقدَّم ما أجابوا به. والمَيْسِرُ: القِمَارُ، مفعل من اليُسْرِ، يقال: يَسَرَ يَيْسِرُ؛ قال علقمة: [البسيط] 1068 - لَو يَيْسِرُونَ بِخَيْلٍ قَدْ يَسَرْتُ بِهَا ... وَكُلُّ مَا يَسَرَ الأَقْوَامُ مَغْرُومُ وقال آخر: [الطويل] 1069 - أَقُولُ لَهُمْ بِالشِّعْبِ إذْ يَيْسِرُونَنِي ... أَلَمْ تَيْئَسُوا أَنِّي ابْنُ فَارِس زَهْدَمِ وفي اشتقاقه أربعة أقوال: أحدها: من اليُسْر وهو السُّهولة؛ لأنَّ أخذه سهل من غير كدر ولا تعب قاله مقاتل. والثاني: من اليَسَار، وهو الغنى؛ لأنَّه يسلبه يساره. قال ابن عباسٌ: كان الرَّجُلُ في الجاهليَّة يخاطرُ الرَّجُلَ على أهله وماله فأيهما قَمَر صاحبه؛ ذهب بأهله، وماله، فنزلت الآية. الثالث: قال الواحديُّ: إنه من قولهم: يَسُرَ لي هذا الشَّيء يَيْسِرُ يُسْراً وميسراً، إذا وجب، واليَاسِرُ الوَاجِبُ بسبب القِدَاحِ. وحكاه الطبريُّ عن مجاهدس، ورد ابن عطيَّة عليه. الرابع: من يسر إذا جزر، واليَاسِرُ الجَازِرُ، وهو الذي يجزّئ الجَزُور أجزاءً. قال ابن عطيَّة: وسُمِّيت الجَزُور التي يُسْتَهَمُ عليها مَيْسِراً؛ لأنَّها موضع اليُسْرِ، ثمَّ سُمِّيت السِّهَامُ مَيْسراً للمُجَاوَرَةِ «واليَسَرُ: الذي يدخل في الضَّرْبِ بالقِدَاح، ويجمع على أيسار، وقيل: بل» يُسَّر «مع يَاسِر كَحَارِس وحُرَّسٍ وأَحْرَاسٍ. وللميسر كيفيَّةٌ، وتُسمّى سِهَامُهُ القِدَاحَ والأزلامَ والأقلامَ. وقيل: هي عَشَرَةُ أقْدَاح، وقيل: أَحَدَ عَشَرَ، لسبعةٍ منها حُظُوظٌ، وعلى كُلِّ منها خُطُوطٌ، فالخطُّ يقدِّر الحَظَّ، وتلك القِدَاحُ هي: الفَذُّ وله سهمٌ واحدٌ، والتَّوءَمُ وله اثنان، والرَّقيبُ وله ثلاثةٌ، والحِلْسُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 34 وله أربعةٌ، والنَّافسُ وله خمسةٌ، والمُسْبلُ وله ستّةٌ، والمُعَلَّى وله سبعةٌ، وثلاثةٌ أغفالٌ لا خُطُوطَ عليها، وهي المنيحُ، والسَّفيحُ، والوغْدُ. وأنشد فيها بعضهم: [الرمل] 1070 - لِيَ في الدُّنْيَا سِهَامٌ ... لَيْسَ فِيهِنَّ رَبِيحُ وَأَسَامِيهِنَّ وَغْدٌ ... وَسَفِيحٌ وَمَنِيحُ ومن زاد رابعاً سمَّاه المضعَّف، وإنَّما كثروا بهذه الأغفال ليختلط على الحرضة، وهو الضَّارب، فلا يميل مع أحد، وهو رجلٌ عدلٌ عندهم، فيجثو، ويلتحف بثوبٍ، ويخرج رأسه، فيجعل تلك القداح في خريطة وتسمى الرِّبابة بكسر الرَّاء مشبَّهة بالكتابة فيها سهامُ المَيْسِرِ، وربَّما يسمُّون جميع السِّهام ربابة، ثمَّ يخلخلها ويدخل يده فيها، ويخرج باسم رجُلٍ رجلٍ قِدحاً فمن خرج على اسمه قدحٌ: فإن كان من ذوات السِّهام؛ فاز بذلك النَّصيب، وأخذه، وإن كان من الأغفال غرِّم من الجزور؛ ولا يأخذ شيئاً. وقال بعضهم: لا يأخذ شيئاً، ولا يغرم، ويكون ذلك القدح لغزاً. وكانوا يفعلون هذا في الشَّتوة، وضيق العيش، ويقسِّمونه على الفقراء ولا يأكلون منه شيئاً، ويفتخرون بذلك، ويسمُّون من لم يدخل معهم فيه: البَرم ويذمونه، والجَزورُ تقسم عند الجمهور على عدد القداح، فتقسم على عشرة أجزاء، وعند الأصمعي على عدد خطوط القداح، فتقسّم على ثمانية وعشرين جزءاً. وخطَّأ ابن عطية الأصمعيَّ في ذلك، وهذا عجيبٌ منه؛ لأنَّه يحتمل أنَّ العرب كانت تقسِّمها مرَّةً على عشرةٍ، ومرَّةً على ثمانية وعشرينَ. فهذا أصل القمار التي كانت تفعله العرب. واختلفوا في الميسر؛ هل هو اسم لذلك القمار المعيَّن أو اسم الجميع أنواع القمار، فقال بعض العلماء: المراد من الآية جميع أنواع القمار قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إيَّاكُم وَهَاتَيْنِ الكَعْبَتَيْنِ المُوسومتين فَإِنَّها مِنَ مَيْسِرِ العَجَمِ» . وعن ابن سِيرِينَ: ومجاهد، وعطاءٍ، وطاوسٍ، كلُّ شيءٍ فيه قمارٌ فهو الميسر، حتَّى لعب الصِّبيان بالجوز، والكعاب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 35 وروي عن عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في النرد، والشِّطرنج: أنَّه من المَيْسر. وقال الشَّافعيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إذا خلا الشِّطرنجُ عن الرهان واللِّسان عن الطُّغيان، والصَّلاة عن النِّسيان؛ لم يكن حراماً، وهو خارج عن الميسر؛ لأنَّ الميسر ما يوجب دفع مال، أو أخذ مالٍ، وهذا ليس كذلك، فلا يكون قماراً ولا ميسراً. وأمّا السَّبقُ في الخفِّ، والحافر، والنُّشابِ، فخصّ بدليلٍ. قوله: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} الجَارُّ خبر مقدّم، و «إثْمٌ» مبتدأ مؤخَّرٌ، وتقديم الخبر هنا ليس بواجبٍ، وإن كان المبتدأ نكرةً، لأنَّ هنا مسوغاً آخر، وهو الوصف، أو العطف، ولا بدّ من حذف مضافٍ أيضاً، أي: في تعاطيهما إثمٌ؛ لأنَّ الإثم ليس في ذاتها. وقرأ حمزة والكسائيُّ: «كثيرٌ» بالثَّاء المثَّلثة، والباقون بالباء ثانية الحروف. ووجه قراءة الجمهور واضحٌ، وهو أنَّ الإثم يوصف بالكبر مبالغة في تعظيم الذَّنب، ومنه آية {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2] . وسمِّيت الموبقات: «الكبَائِر» ، ومنه قوله تعالى: {والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم} [الشورى: 37] ، و {كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] وشرب الخمر، والقمار من الكبائر، فناسب وصف إثمهما بالكبر، وقد أجمعت السَّبعة على قوله: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} بالباء الموَّحدة، وهذه توافقها لفظاً. وأمَّا وجه قراءة الأخوين: فإمَّا باعتبار الآثمين من الشَّاربين، والمقامرين، فلكلِّ واحد إثمٌ، وإمّا باعتبار ما يترتّب [على تعاطيهما من توالي العقاب، وتضعيفه، وإمّا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 36 باعتبار ما يترتَّب] على شربهما ممَّا يصدر من شربها من الأقوال السَّيئة والأفعال القبيحة. وإمّا باعتبار ما يترتَّب على تعاطيهما من توالي العقاب، وتضعيفه. وإمَّا باعتبار من يزاولها من لدن كانت عنباً إلى أن شربت، فقد لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الخمر، ولعن معها عشرةً: بائعها، ومبتاعها وغيرهما، فناسب ذلك أن يوصف إثمها بالكثرة. وأيضاً فإن قوله: «إثْم» ، مقابلٌ ل «مَنَافِع» ، و «منافع» جمعٌ، فناسب أن توصف مقابلةً بمعنى الجمعيَّة، وهو الكثرة. وهذا الذي ينبغي أن يفعله الإنسان في القرآن، وهو أن يذكر لكلِّ قراءةٍ توجيهاً من غير تعرُّضٍ لتضعيف القراءة الأخرى كما فعل بعضهم، وقد تقدَّم فصلٌ صالحٌ من ذلك في قراءتي: «مَلِك» ، و {مالك} [الفاتحة: 3] . وقال أبو البقاء: الأَحْسَنُ القِرَاءَةُ بالبَاء، لأنه يقال: إثمٌ كبيرٌ وصغيرٌ، ويقال في الفواحش العظام: «الكَبَائِرُ» ، وفيما دون ذلك «الصَّغَائِرُ» وقد قرئ بالثَّاء وهو جيدٌ في المعنى؛ لأنَّ الكثرة كبرٌ، والكثير كبيرٌ، كما أنَّ الصَّغير حقيرٌ ويسيرٌ. وقرأ عبد الله - وكذلك هي في مصحفه -: «وإثمهما أَكْثَرُ» بالمثلَّثة، وكذلك الأولى في قراءته، ومصحفه. فصل دلَّ قوله تعالى: {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} على تحريم الخمر كقوله تعالى: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ} [الأعراف: 33] والإثم يستحق به؛ فدلَّ مجموع الآيتين على التَّحريم، وأيضاً فإنَّ الإثم قد يراد به العقاب وقد يراد به: ما يستحق به العقاب من الذُّنوب، وأيُّهما كان، فلا يصحُّ أن يوصف به إلاَّ المحرّم. وأيضاً قد قال تعالى: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} فَصَرَّحَ بِرُجْحَانِ الإِثْمِ، وذلك يوجب التَّحْرِيمَ. فإن قيل: لا تدلُّ الآية على أنَّ شرب الخمر حرامٌ، بل تدلُّ على أنَّ فيه إثماً، فهَبْ أنَّ ذلك الإثم حرامٌ، فلم قلتم إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم؛ وجب أن يكون حراماً؟ فالجواب أنَّ السُّؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر، فلمَّا بين تعالى أنَّ فيه إثماً، كان المراد أنَّ ذلك الإثم لازمٌ له على جميع التَّقديرات، فكان شرب الخمر مستلزماً لهذه الملازمة المحرَّمة، ومستلزم المحرَّم محرَّمٌ؛ فوجب أن يكون الشُّرب محرّماً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 37 فإن قيل هذه الآية لا تدلُّ على حرمة الخمر لوجوهٍ: أحدها: أنَّه تعالى أثبت فيها منافع للنَّاس والمحرّم لا يكون فيه منفعةٌ. الثاني: لو دلَّت الآية على حرمتها، فلم لم يقنعوا بها حتّى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصّلاة؟ الثالث: أنَّه أخبر أنَّ فيها إثمٌ كبيرٌ، فمقتضاه أنَّ ذلك الكبير ملازماً لها ما دامت موجودة، ولو كان ذلك سبباً لحرمتها؛ لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشَّرائع. فالجواب عن الأوَّل: أنَّ حصول النَّفع فيها ليس مانعاً من حرمتها؛ لأن صدق الخاصّ يوجب صدق العامّ. وعلى الثاني: أنّا روينا عن ابن عباس أنَّها نزلت في تحريم الخمر والتّوقف الذي ذكروه، غير مرويٍّ عنهم، وقد يجوز بطلب الكبار من الصَّحابة نزول ما هو أكبر من هذه الآية في التَّحريم كما التَمَسَ إبراهيم - صلوات الله عليه - مشاهدة إحياء الموتى، ليزداد سكوناً، وطمأنينة. وعن الثالث: أنَّ قوله {فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} إخبار عن الحال لا عن الماضي فعلم تعالى أنَّ شُرْبَ الخَمْرِ مفسدةٌ لهم، وليس مَفْسَدَةٌ للَّذِينَ من قبلهم. فصل في بيان الإثم الكبير في الآية الإثم الكبير في الخمر أمورٌ: أحدها: أنَّه مزيلٌ للعقل الذي هو أشرف صفات الإنسان، وإذا كان الخمر عَدُوّاً، لا شرفاً؛ فيلزم أن يكون أخسَّ الأمور؛ وذلك لأن العقل إنَّما سمِّي عقلاً أخذاً من عقال النَّاقة، فإنَّ الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح، كان عقله مانعاً من الإقدام عليه، فإذا شرب الخمر بقي طبعه الدَّاعي إلى فعل القبائح خالياً عن العقل له عن فعل القبيح. ذكر ابن أبي الدنيا: أنَّه مرَّ على سكران، وهو يبول في يده، ويمسح به وجهه كهيئة المتوضِّئ، ويقول: الحمد لله، الذي جعل الإسلام نوراً، والماء طهوراً. وعن العبَّاس بن مرداس أنَّه قيل له في الجاهليَّة: لم لا تشرب الخمر؛ فإنها تزيد في جراءتك؟ فقال: ما أنا بآخذ جهلي بيدي، فأدخله في جوفي، ولا أرضى أن أصبح سيِّد قوم، وأمسي سفيههم. وثانيها: ما ذكره الله - تعالى - من إيقاع العداوة، والبغضاء، والصَّدّ عن ذكر الله، وعن الصَّلاة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 38 وثالثها: أنَّ هذه المعصية من خواصّها أنَّ الإنسان إذا اشتغل بها وواظب عليها، كان ميله ونفسه عليها أقوى، بخلاف سائر المعاصي، فإنَّ الزَّاني مثلاً إذ فعل مرَّةً واحدةً فترت رغبته، وكلمَّا زاد فعله؛ كان فتوره أكثر؛ بخلاف الشّرب فإنَّه كلَّما كان إقدامه عليه أكثر كان نشاطه إليها ورغبته فيه أكثر، فإذا واظب عليه؛ صار غارقاً في اللَّذَّات البدنيَّة معرضاً عن تذكر الآخرة، حتّى يدخل في الّذشين نسوا الله، فأنساهم أنفسهم. وبالجملة إذا زال العقل؛ حصلت القبائح بأسرها، وكذلك قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «اجْتَنِبُوا الخَمْرَ فَإِنَّها أُمُّ الخَبَائِثِ» . ويصدر عن الشَّارب المخاصمة، والمشاتمة وقول الفحش والزُّور. وأما الإثم الكبير في الميسر، فإنَّه يفضي إلى العداوة أيضاً لما يجري بينهم من الشَّتم، والمنازعة؛ لأنَّه أكل مال بالباطل، وذلك يورث العداوة؛ لأنَّ صاحبه إذا أخذ ماله مجَّاناً؛ أبغضه جدّاً، وهو يشغل عن ذكر الله، وعن الصَّلاة أيضاً. وأمَّا المنافع المذكورة فيهما، فمنافع الخمر أنَّهم كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النَّواحي، وكان المشتري، إذا ترك المماكسة في الثَّمن؛ كانوا يعدُّون ذلك فضيلةً، ومكرمةً، وكانت تكثر أرباحهم بذلك السَّبب، ومنها أنَّها تقوِّي الضَّعيف، وتهضم الطَّعام، وتعين على الباءة وتسلي المحزون، وتشجِّع الجبان، وتُسخي البخيل، وتصفي اللَّون وتُنعش الحرارة الغريزيَّة، وتزيد من الهمَّة، والاستعلاء. ومن منافع الميسر: التَّوسعة على ذوي الحاجات؛ لأنَّ من قمر لم يأكل من الجزور شيئاً وإنما يفرّقه في المحتاجين؛ وذكر الواقديُّ أنَّ الواحد كان ربَّما يحصل له في المجلس الواحد مائة بعيرٍ، فيحصل له مالٌ من غير كدٍّ، ولا تعبٍ، ثم يصرفه إلى المحتاجين، فيكتسب فيه الثَّناء، والمدح، وكانوا يشترون الجزور، ويضربون سهامهم، فمن خرج سهمه؛ أخذ نصيبه من اللَّحم، ولا يكون عليه شيء من الثَّمن، ومن بقي سهمه آخراً، كان عليه ثمن الجزور كلِّه، ولا يكون له من اللَّحم شيءٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 39 قوله تعالى: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} قرأ أُبَيّ: «أقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِمَا» . وإثمهما ونفعهما مصدران مضافان إلى الفاعل، لأنَّ الخمر والميسر سببان فيهما، فهما فاعلان، ويجوز أن تكون الإضافة باعتبار أنهما محلُّهما. وقوله: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ} [البقرة: 215] قد تقدَّم الكلام عليه. وقرأ أبو عمرو: «قُلِ العَفْوُ» رفعاً والباقون نصباً. فالرَّفع على أنَّ «مَا» استفهاميةٌ، و «ذَا» موصولةٌ، فوقع جوابها مرفوعاً خبراً لمبتدأ محذوفٍ، مناسبةً بين الجواب والسُّؤال والتَّقدير: إنفاقكم العفو. والنَّصيب على أنَّهما بمنزلةٍ واحدةٍ، فيكون مفعولاً مقدّماً، تقديره: أيَّ شيءٍ ينفقون؟ فوقع جوابها منصوباً بفعل مقدَّرٍ للمناسبة أيضاً، والتَّقدير: أنفقوا العفو. وهذا هو الأحسن، أعني أن يعتقد في حال الرَّفع كون «ذا» موصولةً، وفي حال النَّصب كونها ملغاةٌ. وفي غير الأحسن يجوز أن يقال بكونها ملغاةً مع رفع جوابها، وموصولةً مع نصبه. وقد تقدم الكلام على مستوفى وإنما اختصرت القول هنا؛ لأني قد استوفيت الكلام عليها عند قوله تعالى: {مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً} [البقرة: 26] . فصل اعلم أنَّ هذا السُّؤال، قد تقدَّم، وأجيب بذكر المصرف، وهنا أجيب بذكر الكميَّة. قال الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: أصل العفو في اللُّغة الزِّيادة، قال الله تعالى: {خُذِ العفو} [الأعراف: 199] ، أي: الزِّيادة وقال: {حتى عَفَوْاْ} [الأعراف: 95] . وقال القفَّال: العفو ما سهل وتيسّر ممَّا فضل عن الكفاية، وهو قول قتادة، وعطاء، والسُّدِّي، وكانت الصَّحابة يكتسبون المال، ويمسكون قدر النَّفقة، ويتصدَّقون بالفضل. قال القرطبيُّ: فالجواب خرج على وفق السُّؤال، فإنَّ السُّؤال الثَّاني في هذه الآية على قدر الإنفاق، وهو في شأن عمرو بن الجموح فإنَّه لما نزل: {قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ} [البقرة: 215] قال: كم أنفق؛ فنزل «قُل العَفْوَ» . والعَفْوُ: ما سهل، وتيسَّر وفضل، ولم يشقَّ على القلب إخراجه؛ قال الشَّاعر: [الطويل] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 40 1071 - خُذِي العَفْوَ مِنِّي تَسْتَدِيمِي مَوَدَّتِي ... وَلاَ تَنْطقِي في سَوْرَتي حِينَ أَغْضَبُ وقال طاوس: ما يَسُر، والعفو اليسر من كل شيءٍ، ومنه قول تعالى: {خُذِ العفو} [الأعراف: 199] أي الميسور من أخلاق النَّاس. قال ابن الخطيب: ويشبه أن يكون العفو عن الذَّنب راجع إلى التَّيسير، والتَّسهيل، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الخَيْلِ، والرَّقِيقِ، فَهَاتوا عشْرَ أَمْوَالِكُمْ» معناه: التَّخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرَّقيق، ويُقال: أعفى فلانٌ فلاناً بحقِّه: إذا أوصله إليه من غير إلحالح في المطالبة، ويقال: أعطاه كذا عفواً صفواً: إذا لم يكدِّره عليه بالأذى، ويقال: خذ من النَّاس ما عُفِيَ لك، أي: ما تيسَّر، ومنه قوله تعالى: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف} [الأعراف: 199] وجملة التأويل: أنَّ الله - تعالى - أدَّب النَّاس في الإنفاق، فقال: {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} [الإسراء: 26، 27] وقال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] وقال: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [الفرقان: 67] وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «خَيْرُ الصَّدَقَةِ مَا أَنْفَقْتَ عَن غِنى، وَلا تُلاَمُ عَلَى كَفَافٍ» . وعن جابر بن عبد الله قال: بينما نحن عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذ جاءه رجلٌ بمثل البيضة من ذهب فقال: يا رسول الله؛ خذها صدقةً، فوالله ما أملك غيرها، فأعرض عنه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم أتاه من بين يديه، فقال: هاتها مغضباً؛ فأخذها منه، ثمَّ حذفه بها، لو أصابته لأوجعته ثم قال: «يَأْتِينِي أَحَدُكُم بِمالِهِ لاَ يَمْلِكُ غَيْرَهُ، ثُمَّ يَتَكَفَّفُ النَّاسَ، إِنَّمَا الصَّدَقَةُ عن ظَهْرِ غِنَى، خُذْهَا، فَلاَ حَاجَةَ لَنَا فِيها» . وكان عليه الصَّلاة والسَّلام يحبس لأهله قُوتَ سَنَةٍ. وقال الحكماء الفضيلةُ بين طرفي الإفراط والتَّفريط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 41 وقال عمرو بن دينار: الوسط من غير إسراف ولا إقتار. فصل في ورد العفو في القرآن قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ «العَفْوِ» في القرآن بإزاء ثلاثة معانٍ: الأول: العفو: الفضل من الأموال قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} يعني الفضل من المال. الثاني: «العفو» الترك؛ قال تعالى: {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} [البقرة: 237] أي يتركوا، ومثله: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ} [الشورى: 40] ، أي: ترك مظلمته. الثالث: العفو بعينه، قال تعالى: {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] . فصل واختلفوا في هذا الإنفاق؛ هل المراد به الواجب، أو التطوُّع على قولين: الأول: قال أبو مسلم: يجوز أن يكون العفو هو الزَّكوات وذكرها ها هنا على سبيل الإجمال في السَّنة الأولى؛ لأنَّ هذه الآية قبل نزول آية الصَّدقات، وأنزل تفاصيلها في السَّنة الثَّانية فالنَّاس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم، ما يكفيهم في عامهم، ثمَّ ينفقون الباقي، ثمَّ صار هذا منسوخاً بآية الزَّكاة. القول الثاني: أنَّ المراد به صدقة التَّطوُّع. قالوا: لأنَّه لو كان مفروضاً لبين الله مقداره، فلمَّا لم يبيِّنه، وفوَّضه إلى رأي المخاطب؛ علمنا أنَّه ليس بفرضٍ. وأجيب، بأنه لا يبعد أن يوجب الله - تعالى - شيئاً على سبيل الإجمال، ثمَّ يذكر تفصيله وبيانه. قوله تعالى: {كذلك يُبيِّنُ} الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: تبييناً مثل ذلك التَّبيين يبيِّن لكم، وإمَّا حالاً من المصدر المعرفة، أي: يبيِّن التبيين مماثلاً ذلك التَّبيين. والمشار إليه يبيِّن حال المنفق، أو يبيِّن حكم الخمر، والميسر، والمنفق المذكور بعدهما. وأبعد من خصَّ اسم الإشارة ببيان حكم الخمر، والميسر، وأبعد منه من جعله إشارةً إلى جميع ما سبق في السُّورة من الأحكام. و «لَكُمْ» متعلِّق ب «يُبَيِّن» . وفي اللاَّم وجهان، أظهرهما أنَّها للتبليغ كالتي في: قلت لك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 42 والثاني: أنها للتَّعليل وهو بعيدٌ. والكاف في «كَذَلِكَ» تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو للسامع، فتكون على أصلها من مخاطبة المفرد. والثاني: أن تكون خطاباً للجماعة، فيكون ذلك ممَّا خوطب به الجمع بخطاب المفرد، ويؤيِّده قوله «لَكُمْ، و» لَعَلَّكُمْ «، وهي لغةٌ للعرب، يخاطبون في اسم الإشارة بالكفا مطلقاً، وبعضهم يستغني عن الميم بضمَّةِ الكاف؛ قال: [الرجز] 1072 - وَإِنَّمَا الهَالِكُ ثُمَّ التَّالِكُ ... ذُو حَيْرَةٍ ضَاقَتْ بِهِ المَسَالِكُ كَيْفَ يَكُونُ النَّوْكُ إِلاَّ ذَلِكُ ... فصل قوله تعالى: {فِي الدنيا} : فيه خسمة أوجهٍ: أظهرها: أن يتعلَّق بيتفكّرون على معنى: يتفكَّرون في أمرهما، فيأخذون ما هو الأصلح، ويؤثرون ما هو أبقى نفعاً. والثاني: أن يتعلَّق ب» يبيِّن «، ويروى معناه عن الحسن، وحينئذٍ يحتمل أن يقدَّر مضاف، أي: في أمر الدُّنيا والآخرة، ويحتمل ألاَّ يقدَّر، لأنَّ بيان الآيات، وهي العلامات يظهر فيها. وجعل بعضهم قول الحسن من التَّقديم، والتأخير، أي: ليس لذلك يبيِّن الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا وزوالها وفنائها، فتزهدون فيها، وفي إقبال الآخرة، ووقوعها، فترغبون فيها. ثم قال: ولا حَاجَةَ لِذَلِكَ، لحَمْلِ الكَلاَمِ على ظاهره، يعني من تعلُّق في الدُّنيا ب» تَتَفَكَّرُونَ «. وهذا ليس من التَّقديم والتَّأخير في شيء؛ لأنَّ جملة التَّرجِّي جاريةٌ مجرى العلَّة فهي متعلِّقةٌ بالفعل معنى، وتقديم أحد المعمولات على الآخر، لا يقال فيه تقديم وتأخير ويحتمل أن تكون اعتراضيةً، فلا تقديم، ولا تأخير. والثالث: أن تتعلَّق بنفس «الآيَاتِ» لما فيها من معنى الفعل، وهو ظاهر قول مكي فيما فهمه عنه ابن عطيَّة. قال مكِّيٌّ: «معنى الآية أنه يبيِّن للمؤمنين آياتٍ في الدُّنيا، والآخرة يدلُّ عليها، وعلى منزلتها لعلَّهم يتفكَّرون في تلك الآياتِ» قال ابن عطيَّة: «فقوله: في الدنيا: يتعلَّق على هذا التَّأويل بالآيات» وما قاله عنه ليس بظاهر؛ لأنَّ شرحه الآية لا يقتضي تعلُّق الجار بالآيات. ثمَّ إنْ عَنَى ابن عطية بالتعلّق التعلُّق الاصطلاحي، فقال أبو حيان «فو فَاسِدٌ، لأنَّ» الآيَاتِ «لا تَعْمَلُ شيئاً ألْبَتَّةَ، ولا يَتَعَلَّقُ بها ظَرْفٌ، ولا مَجْرُورٌ» وقال شِهَابُ الدِّين: وهذا من الشَّيخ فيه نظرٌ، فإنَّ الظُّروف تتعلَّق بروائح الأفعال، ولا شكّ أنَّ معنى الآيات العلامات الظَّاهرة، فيتعلَّق بها الظَّرف على هذا. وإن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 43 عنى التَّعلُّق المعنويَّ، وهو كون الجارِّ من تمام معنى: «الآيَاتِ» ، فذلك لا يكون إلاّ إذا جعلنا الجارَّ حالاً من «الآيَات» ، ولذلك قدَّرها مكِّيٌّ نكرة فقال: «يبيِّن لهم آياتٍ في الدُّنْيَا» ليعلم أنَّها واقعةٌ موقع الصِّفة لآيات، ولا فرق في المعنى بين الصِّفة والحال، فيما نحن بصدده، فعلى هذا تتعلَّق بمحذوفٍ لوقوعها صفةٌ. الرابع: أن تكون حالاً من «الآيَاتِ» كما تقدَّم تقريره الآن. الخامس: أن تكون صلةً للآيات، فتتعلَّق بمحذوفٍ أيضاً، وذلك مذهب الكوفيين، فإنَّهم يجعلون من الموصولات الاسم المعرَّف بأل؛ وأنشدوا: [الطويل] 1073 - لَعَمْرِي لأَنْتَ البَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وَأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ ف «البيت» عندهم موصولٌ. وجوابهم مذكور في غير هذا الكتاب. والتَّفكُّر: تفعل من الفكر، والفكر: الذِّهن، فمعنى تفكَّر في كذا: أجال ذهنه فيه وردَّده. قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} . قال ابن عبَّاس: إنَّ أهل الجاهليَّة كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى، وربَّما تزوَّجوا باليتيمة طمعاً في مالها أو يزوجها من ابن له لئلاَّ يخرج مالها عن يده، فلمَّا نزل قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10] وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الأنعام: 152 والإسراء: 34] ، وقوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ والمستضعفين مِنَ الولدان وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً} [النساء: 127] فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى، تحرُّجاً شديداً، وعزلوا أموال اليتامى عن أموالهم، حتَّى كان يصنع لليتيم طعاماً، فيفضل منه شيءٌ، فيتركونه، ولا يأكلونه حتَّى يفسد، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلاً، وطعاماً، وشراباً، فعظم ذلك على ضعفة المسلمين، فقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله ما كلُّنا يجد منازل يسكنها الأيتام، ولا كلُّنا يجد طعاماً، وشراباً، يفردهما لليتيم فنزلت هذه الآية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 44 قوله: {إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} ، «إصْلاَحٌ» مبتدأ، وسوَّغ الابتداء به أحد شيئين: إمَّا وصفه بقوله: «لَهُم» ، وإمَّا تخصيصه بعمله فيه، و «خيرٌ» خبره. و «إصْلاَحٌ» مصدرٌ حذف فاعله، تقديره: إصلاحكم لهم، فالخبريَّة للجانبين أعني جانب المصلح، والمصلح له، وهذا أولى من تخصيص أحد الجانبين بالإصلاح كما فعل بعضهم. قال أبو البقاء: «فَيَجُوزُ أن يَكُونَ التَّقْدِيرُ: خيرٌ لكم، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ: خَيْرٌ لَهُم» ، أي: إصلاحهم نافع لكم. قال بعض العلماء: هذه الكلمة تجمع النَّظر في إصلاح اليتيم بالتَّقويم والتَّأديب وغيرهما لكي ينشأ على علمٍ وأدبٍ وفضلٍ، والنَّظر في إصلاح حاله، وتجمع أيضاً النَّظر في حال الولي، أي: هذا العمل خير له من أن يكون مقصّراً في حقّ اليتيم. وقال بعضهم: الخير عائد إلى الولي، يعني إصلاح مالهم من غير عوض، ولا أجرة، خير للولي، وأعظم أجراً. وقال آخرون: الخير عائدٌ إلى اليتيم، والمعنى: أنَّ مخالطتهم بالإصلاح خيرٌ لهم من التَّفرُّد عنهم، والإعراض عن مخالطتهم. فصل في هل يتصرف في مال اليتيم قال القرطبيُّ لما أذن الله عزَّ وجلَّ في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنَّظر إليهم وفيهم، كان ذلك دليلاً على جواز التَّصرف في مال اليتيم تصرف الوصيّ في البيع، والقسمة، وغير ذلك على الإطلاق لهذه الآية، فإذا كفل الرَّجل اليتيم، وحازه، وكان في نظره، جاز عليه فعله وإن لم يقدّمه والٍ عليه؛ لأنَّ الآية مطلقة والكفالة ولاية عامَّة، ولم يؤثر عن أحدٍ من الخلفاء أنَّه قدّم أحداً على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم، وإنَّما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم. قوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} المخالطة: الممازجة، وقيل: جمع يتعذر فيه التّمييز ومنه يقال للجماع: الخلاط، ويقال: خولط الرجل إذا جُنَّ، والخلاط: الجنون؛ لاختلاط الأمر على صاحبه بزوال عقله. قوله: «فَإِخْوَانُكُمْ» الفاء جواب الشّرط، و «إِخْوَانُكم» خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم إخوانكم. والجملة في محلِّ جزم جواب الشَّرط، والجمهور على الرَّفع، وقرأ أبو مجلز: «فَإِخْوَانُكُمْ» نصباً بفعل مقدَّر، أي: فقد خالطتهم إخوانكم، والجملة الفعليَّة أيضاً في محلِّ جزمٍ، وكأن هذه القراءة لم يطَّلع عليها الفراء وأبو البقاء فإن الفراء [قال] ولو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 45 نصب كان صواباً، وقال أبو البقاء: «وَيَجُوزُ النَّصْبُ في الكَلاَم، أي: فقد خالطتُهم إخوانَكم» . فصل في بيان وجوه المخالطة في هذه المخالطة وجوه: أحدها: المراد بالمخالطة في الطَّعام، والشَّراب، والسُّكنى، والخدم؛ لأن القوم ميَّزوا طعامهم، وشرابهم، ومسكنهم عن طعام اليتيم، وشرابه، وسكنه فأمرهم الله تعالى بخلط الطَّعامين والشَّرابين، والاجتماع في السَّكن الواحد كما يفعله المرء بمال ولده، فإنَّ هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة. الثاني: المراد بهذه المخالطة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجرة المثل في ذلك العمل. والقائلون بهذا القول، منهم من جوَّز ذلك سواء كان القيم غنيّاً، أو فقيراً، ومنهم من قال إن كان القيم غنياً لم يأكل من ماله؛ لأن ذلك فرض عليك وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز، واحتجوا بقوله: {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} [النساء: 6] وإن كان القيِّم فقيراً قالوا: يأكل بقدر الحاجة، ويرده إذا أيسر فإن لم يوسر تحلله من اليتيم. وروي عن عمر أنَّه قال: أنزلت نفسي من مال الله بمنزلة وليّ اليتيم إن استغنيت استعففت، وإن افتقرت أكلت قرضاً بالمعروف ثمَّ قضيت. وعن مجاهد: إذا كان فقيراً، وأكل بالمعروف، فلا قضاء عليه. الثالث: أنَّ المراد بهذه «المُخَالَطَةِ» المصاهرة بالنِّكاح، وهو اختيار أبي مسلم قال: لقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] وقوله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء} [النساء: 127] وهذا القول راجحٌ على غيره من وجوه: أحدها: أنَّ هذا خلط لليتيم نفسه، والشّركة خلط لماله. وثانيها: أنَّ الشَّركة داخلةٌ في قوله: {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} ، والخلط من جهة النّكاح، وتزويج البَنَات منهم لم يدخل في ذلك فحمل الكلام على هذا الخلط أقرب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 46 وثالثها: أن قوله تعالى «فَإِخْوَانُكُم» يدلُّ على أنَّ المراد هو هذا النَّوع؛ لأنَّ اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى إصلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلماً؛ فوجب أن تكون الإشارة بقوله: «فَإِخْوَانُكُم» إلى نوع آخر من المخالطة. ورابعها: أنَّ المخالطة المندوب إيها هي في اليتامى الذين هم إخوان لكم بالإسلام، فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم، ليتأكد الاختلاط فإن كان اليتيم من المشركين، فلا تفعلوا ذلك. قال القرطبيُّ: ما ينفقه الوصيُّ والكفيل له حالتان: حالة لا يمكنه الإشهاد عليها، فقوله مقبولٌ بغير بيِّنة. وحالة يمكنه الإشهاد عليها، فمهما اشترى من العقار، وما جرت العادة بالتَّوثق فيه، لم يقبل قوله بغير بيّنة. وفرّق أصحابنا بين أن يكون اليتيم في دار الوصيّ، وينفق عليه فلا يكلف الإشهاد على نفقته، وكسوته، لأنَّه يتعذر عليه الإشهاد على ما يأكله، ويلبسه في كلِّ وقت، ولكن إذا قال: انفقت نفقةً لسنةٍ، قبل منه، وبين أن يكون عند أُمّه، أو حاضنته فيدعي الوصي أنَّه كان ينفق عليه، أو كان يعطي الأمَّ أو الحاضنة فلا يقبل منه إلاَّ بيِّنَةٍ أنَّها كانت تقبض ذلك له مشاهرة أو مساناة. فصل قال أبو عبيد: هذه الآية عندي أصل لما يفعله الرُّفقاء في الأسفار، فإنَّهم يتقاسمون النَّفقات بينهم بالسَّويَّة، وقد يتفاوتون في قلَّة المطعم، وكثرته، وليس كلّ من قلَّ مطعمه تطيب نفسه بالتَّفضُّل على رفيقه، فلمَّا كان هذا في أموال اليتامى واسعاً؛ كان في غيرهم أوسع، ولولا ذلك لخفت أن يضيَّق فيه الأمر على النَّاس. قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} ؛ أي: المفسد لأموالهم من المصلح لها، يعني: الذي يقصد بالمخالطة الخيانة، وإفساد مال اليتيم، وأكله بغير حقّ من الذي يقصد الإصلاح. وقيل: «يَعْلَمُ» ضمير من أراد الإفساد، والطَّمع في مالهم بالنِّكاح من المصلح، يعني: إنَّكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح، فإذا لم تريدوا ذلك بقلوبكم، بل كان المراد منه عرضاً آخر [فالله مطَّلع] على ضمائركم عالمٌ بما في قلوبكم، وهذا تهديدٌ عظيمٌ؛ وذلك لأنّض اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه، وليس له أحدٌ يراعيها، فكأنَّه تعالى قال: لما لم يَكُنْ أَحَدٌ يَتَكَفَّلُ بمصالحه، فَأَنَا مُتَكَفِّلٌ به، وأنا المُطَالِبُ لوليّه بذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 47 تقدم الكلام في قوله: {يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} في قوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ} [البقرة: 143] ، والمفسد والمصلح جنسان هنا، وليس الألف واللام لتعريف المعهود، وهذا هو الظَّاهر. وقد يجوز أن تكون للعهد أيضاً. وفي قوله: {تُخَالِطُوهُمْ} التفاتٌ من ضمير الغيبة في قوله: «وَيَسْأَلُونَكَ» إلى الخطاب لينبِّه السَّامع إلى ما يلقى إليه. ووقع جواب السُّؤال بجملتين. إحداهما من مبتدأ، وخبر، وأبرزت ثبوتية منكِّرة المبتدإ لتدلَّ على تناوله كلَّ إصلاح على طريق البدليَّة، ولو أُضيفت لعمَّ، أو لكان معهوداً في إصلاح خاص، وكلاهما غير مرادٍ، أمَّا العموم، فلا يمكن، وأمَّا المعهود فلا يتناول غيره؛ فلذلك أُوثر التَّنكير الدَّالُّ على عموم البدل، وأُخبر عنه ب «خَيْر» الدَّالِّ على تحصيل الثَّواب، ليتبادر المسلم إليه. والآخر من شرطٍ، وجزاءٍ، دالّ على جواز الوقوع لا على طلبه وندبيَّته. قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله} مفعول «شَاءَ» محذوف، أي: إعناتكم. وجواب لو: «لأعنَتَكم» . [والمشهور قطع همزة «لأَعْنَتَكُم» ] ؛ لأنَّها همزة قطعٍ. وقرأ البزيُّ عن ابن كثير في المشهور بتخفيفها بين بين، وليس من أصله ذلك، وروي سقوطها ألبتَّة، وهي كقراءة: {فلاا إِثْمَ عَلَيْهِ} [البقرة: 173] شذوذاً وتوجيهاً. ونسب بعضهم هذه القراءة إلى وهم الرَّاوي، باعتبار أنه اعتقد في سماعه التَّخفيف إسقاطاً، لكنَّ الصَّحيح ثبوتها شاذةً. و «العنت» : المشَقَّة و «الإعْنَات» الحمل على مشقَّةٍ لا تطاق، يقال: أعْنَتَ فلانٌ فلاناً، إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه، وتعنُّته تعنُّتاً: إذا لبَّس عليه في سؤاله، وعنت العظم المجبور: إذا انكسر بعد الجبر، وأكمةٌ عنوتٌ: إذا كانت شاقَّةً كدوداً، وعنت الدَّابَّة تَعَنَّت عَنَتاً: إذا حدث في قوائمها كسرٌ بعد جبرٍ، لا يمكنها معه الجري. قال ابن الأنباريّ: أصل العنت الشِّدَّةُ؛ تقول العرب: فلان يتعنت فلاناً، ويعنته إذا شدّد عليه، وألزمه ما يصعب عليه أداؤه. وقال تعالى: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [التوبة: 128] ، أي: شديدٌ عليه ما شقّ عليكم. ويقال: أعنتني في السُّؤال، أي: شدّد علي وطلب عنتي وهو الإضرارُ. قال ابن عباس: لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً لكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 48 وقال عطاءٌ: ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقَّة كما أدخلتم على أنفسكم، ولضيَّق الأمر عليكم في مخالطتهم. وقال الزَّجَّاج: ولو شاء الله لكلفكم ما شقَّ عليكم. والعزيز الذي يأمر بعزة سهل على العبد، أو شقَّ. والحكيم الذي يتصرّف في ملكه بما يريده لا حجَّة عليه، أو يضيع الأشياء في مواضعها. فضل في بيان التكليف بما لا يطاق احتجَّ الجبَّائيُّ بهذه الآية على أنَّه تعالى لم يكلِّف العبد ما لا يقدر عليه؛ لأنَّ قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} يدلُّ على أنَّه لم يفعل الإعنات، ولا ضيق في التَّكليف، ولو كلَّف العبد ما لا يقدر عليه؛ لكان قد تجاوز حدّ الإعنات، والتَّضييق؛ لأنَّ كلمة «لَوْ» تفيد امتناع الشَّيء لامتناع غيره. فإن قيل: الآية وردت في حقّ اليتيم. قلنا: الاعتبار بعموم اللَّفظ، لا بخصوص السَّبب. واحتجَّ الكعبي بهذه الآية على أنَّه تعالى قادرٌ على خلاف العدل؛ لأنه لو امتنع وصفه بالقدرة على الإعنات، لم يجز أن يقول: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} ، وللنِّظَّام أن يجيب بأنَّ هذا معلَّق على مشيئة الإعناتِ، فلم قلتم بأنَّ هذه المشيئة ممكنةٌ الثُّبوت في حقِّه تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 الجمهور على فتح تاء المضارعة، وقرأ الأعمش بضمِّها من: أنكح الرباعي، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 49 فالهمزة فيه للتَّعدية، وعلى هذا فأحد المفعولين محذوفٌ، وهو المفعول الأوَّل؛ لأنه فاعلٌ معنّى تقديره: ولا تنكحوا أنفسكم المشركات. والنِّكاح في الأصل عند العرب: لزوم الشَّيء، والإكباب عليه؛ ومنه: «نَكَحَ المَطَرُ الأَرْضَ» ، حكاه ثعلبٌ عن أبي زيد، وابن الأعرابي. قال الزَّجَّاجيُّ: «النّكاح في الكلام بمعنى الوطء، والعقد جميعاً، موضوع (ن. ك. ح) على هذا التَّرتيب في كلامهم للفرد والشَّيء راكباً عليه هذا كلام العرب الصَّحيح» . أصله المداخلة؛ ومنه: تناكحت الشَّجر: أي: تداخلت أغصانها؛ ويطلق النِّكاح على العقد؛ كقول الأعشى: [الطويل] 1074 - وَلاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةً إِنَّ سِرَّهَا ... حَرَامٌ عَلَيْكَ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا أي: فاعْقِدْ، أو توحَّش، وتجنَّب النِّساء، ويطلق أيضاً على الوطء؛ كقوله: [البسيط] 1075 - البَارِكِينَ عَلَى ظُهُورِ نِسْوَتِهِمْ ... والنَّاكِحِينَ بِشَطِّ دَجْلَةَ الْبَقَرَا وحكى الفرَّاء «نُكُح المَرْأَةِ» بضمِّ النُّون على بناء «القُبُل» ، و «الدُّبُر» ، وهو بضعها، فمعنى قولهم: «نَكَحَها» أي أصاب ذلك الموضع، نحو: كَبَدَهُ، أي أصاب كبده، وقلَّما يقال: ناكحها، كما يقال باضعها. وقال أبو علي: فَرَّقَتِ العَرَبُ بين العَقْدِ والوَطْءِ بِفَرْقِ لَطِيفٍ، فإذا قالوا: «نَكَحَ فُلاَنٌ فُلاَنَةٌ، أو ابنةَ فلانٍ» ، أرادوا عقد عليها، وإذا قالوا: نَكَحَ امرأته، أو زوجته، فلا يريدون غير المجامعة، وهل إطلاقه عليهما بطريق الحقيقة فيكون من باب الاشتراك، أو بطريق الحقيقة والمجاز؟ الظَّاهر: الثاني: فإنَّ المجاز خيرٌ من الاشتراك، وإذا قيل بالحقيقة، والمجاز فأيهما حقيقة؟ ذهب قوم إلى أنَّه حقيقةٌ في العقد واحتجوا بوجوهٍ: منها: قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «لاَ نِكَاحَ إلاَّ بِوَلِيٍّ وَشُهُودٍ» ، وقَّف النِّكاح الجزء: 4 ¦ الصفحة: 50 على الوليّ، والشُّهود، والمراد به العقد، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «وُلِدْتُ مِنْ نِكَاحٍ، وَلَمْ أَولَدْ مِنْ سِفَاحٍ» فجعل النّكاح، كالمقابل للسِّفاح. ومعلومٌ أنَّ السِّفاح مشتملٌ على الوطء، فلو كان النِّكاح اسماً للوطء، لا متنع كون النِّكاح مقابلاً للسِّفاح، وقال تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} [النور: 32] ولا يمكن حمله إلاَّ على العقد. وأيضاً قول الأعشى في البيت المتقدِّم لا يحتمل إلاَّ الأمر بالعقد؛ لأنه قال: «ولاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةً» يعني مقاربتها على الطَّريق الَّذي يحرُمُ فاعقدْ وتزوَّج، وإلاَّ فتأيَّم، وتجنَّبِ النِّساء. وقال الرَّاغب: أصْلُ النِّكَاحِ للعقدِ، ثم اسْتُعِيرَ للجِمَاعِ، ومُحَالٌ أن يَكُونَ في الأَصْلِ للجِمَاعِ، ثم استُعِير لِلْعَقْدِ، لأنَّ أَسْمَاءَ الجِمَاعِ كلَّها كِنَايَاتٌ لاستقباحِهم ذِكْرَه؛ كاستقباحهم تَعاطِيَهُ، ومُحالٌ أن يستعيرَ مَنْ لا يَقْصِدُ فُحْشاً اسمَ مَا لاَ يَسْتَفْظِعُونَهُ لِمَا يَسْتَحْسِنُونَهُ؛ قال تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] . وقال آخرون: هو حقيقةٌ في الوطء، واحتجوا بوجوه: منها قوله تعالى: {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] نفي الحل ممتدٌّ إلى غاية النِّكاح، وليس هو العقد؛ ومنها قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، ويَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» ؛ فوجب أن يكون هو الوطء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 51 وأجيب بأن امرأة رفاعة، لم تفهم عند الإطلاق إلاَّ مجرَّد العقد؛ حتى قال لها عليه الصَّلاة والسَّلام: «لاَ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ» . ومنه: قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «نَاكِحُ اليَدِ مَلْعُونٌ، وَنَاكِحُ البَهِيمَةِ مَلْعُونٌ» أثبت النِّكاح [مع عدم العقدِ. والنِّكاحُ] في اللُّغة عبارة عن الضمّ، والمداخلة كما تقدَّم في المطر، والأرض، وتناكح الشَّجر، ونكح النُّعاس عينه، وفي المثل: «نَكَحْنَا الفَرى فَسَتَرَى» والبيت المتقدم، وقوله: [البسيط] 1076 - أنكحْتُ صُمَّ حَصَاهَا خُفَّ يَعْمَلةٍ ... تَغَشْمَرَتْ بي إِلَيْكَ السَّهْلَ والجَبَلاَ والضَّمُّ والوطء في المباشرة أتَمُّ منه في العقد. وأجيب بأنَّ هذه قرائن صارفةٌ له عن حقيقته. فصل في هل يتناول المشرك أهل الكتاب؟ لفظ «المُشْرِك» ؛ هل يتناول أهل الكتاب؟ فالأكثرون على أنَّ الكتابة تشمل لفظ المشرك، ويدلُّ عليه وجوه: أحدها: قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30] ، ثم قال بعد ذلك: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] وهذا تصريحٌ بأن اليهوديَّ، والنَّصرانيّ مشركٌ. وثانيها: قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] ، فدلت هذه الآية على أنَّ ما سوى الشّرك فقد يغفره الله تعالى في الجملة، فلو كان كفر اليهوديِّ والنَّصرانيّ ليس بشرك، لوجب أن يغفره الله تعالى في الجملة، وذلك باطلٌ، فعلمنا أنَّ كفرهما شركٌ. وثالثها: قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 52 فهذا التَّثليث إمَّا أن يكون لاعتقادهم وجود صفاتٍ ثلاثة أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة. والأول باطلٌ؛ لأن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من كونه قادراً، ومن كونه حيّاً، وإذا كانت هذه المفهومات الثَّلاثة لا بدّ من الاعتراف بها كان القول بإثبات صفاتٍ ثلاثة من ضرورات دين الإسلام، فكيف يمكن تكفير النَّصارى بسبب ذلك؛ ولمَّا بطل ذلك علمنا أنَّه تعالى إنَّما كفَّرهم؛ لأنَّهم أثبتوا ذواتاً ثلاثةً قديمةً مستقلَّةً؛ وذلك لأنهم جوَّزوا في أُقنُوم الكلمة أن يحلّ في عيسى، والأُقْنُومُ عندهم عبارةٌ عن حقيقة الشَّيءِ، وجوَّزوا في أُقْنُومِ الحَيَاةِ أن يحلّ في مريم، ولولا أنَّ هذه الأشياء المسمَّاة عندهم بالأقانيم ذوات قامة بأنفسَها؛ لمّا جوَّزوا عليه الانتقال من ذوات إلى ذاتٍ، فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنَّفْس قديمة أزليَّة، وهذا شركٌ. وإذا ثبت دخولهم تحت اسم الشِّرك، فاليهود كذلك إذ لا قائل بالفرق. ورابعها: أنّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - أمَّر أميراً، وقال: «إذا لقيت عدوّاً مِنَ المُشْرِكِينَ؛ فَادْعُهُم إلى الإِسْلاَمِ، فإنْ أَجَابُوكَ، فَاقْبَلْ مِنْهُم وَكُفَّ عَنْهُم، وَإِنْ أَبوا، فادْعُهُم إِلى الجِزْيَةِ، وَعَقْدِ الذِّمَّةِ» . وخامسها: قال أبو بكر الأصمُّ: كلُّ من جحد الرِّسالة، والمعجزة، فهو مشركٌ؛ لأن تلك المعجزات إنَّما ظهرت عن الله تعالى، وكانوا يضيفونها إلى الجنِّ والشَّياطين، ويقولون: إنَّها سحرٌ، فقد أثبتوا لله شريكاً في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر. وقال أبو الحسن بن فارس: هم المشركون؛ لأنَّهم يقولون: القرآن كلام غير الله، فقد أشركوا مع الله غير الله. فإن قيل: إنَّه تعالى فصل بين القسمين، وعطف أحدهما على الآخر في قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين} [البقرة: 62] وقال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا} [الحج: 17] وقال: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين} [البقرة: 105] وذلك يوجب التَّغاير. والجواب أنَّ هذا كقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] وكقوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فإن قالوا: إنَّما خصَّ بالذِّكر تنبيهاً على كمال الدَّرجة في ذلك الوصف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 53 قلنا: وها هنا أيضاً كذلك إنَّما خصَّ عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الاسم تنبيهاً على كمال درجتهم في الكفر. فصل في سبب النزول سبب نزول هذه الآية: أنَّ أبا مرثد بن أبي مرثد بعثه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى «مَكَّة» ، ليخرج منها ناساً من المسلمين سرّاً فلما قدمها سمعت به امرأة مشركةٌ يقال لها: «عنَاق» ؛ وكانت خليلته في الجاهليَّة فأتته وقالت: يا أبا مرثد ألا تخلو؟ فقال لها: ويحك يا عَنَاق إنَّ الإسلام قد حال بَيْنَنَا وبَيْنَ ذلك. قالت: هل لك أن تتزوَّج بي؟ قال: نعم، ولكن أرجع إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأستأمره. فقالت: أبي تتبرم؟ ثم استغاثت؛ فضربوه ضرباً شديداً، ثمَّ خلَّوا سبيله، فلمَّا قضى حاجته بمكَّة، وانصرف إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعلمه الذي كان من أمره، وأمر عناق، وقال: يا رسول الله؛ أيحلُّ لي أن أتزوَّجها؛ فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} [البقرة: 221] . فصل في الآية هل هي ابتداء حكم أو تقرير سابق واختلف المفسِّرون في هذه الآية: هل هي ابتداء حكم وشرع، أو هو متعلّقٌ بما تقدَّم؛ فالأكثرون على أنَّه ابتداء شرعٍ في بيان ما يحلُّ، ويحرم. وقال أبو مسلم: بل هو متعلِّق بقصَّة اليتامى، فإنَّ الله تعالى لما قال: {وإنْ تُخَالِطُوهم فَإِخْوَانُكُمْ} وأراد مخالطة النِّكاح عطف عليه بما يبعث على الرَّغبة في اليتامى، وأنَّ ذلك أولى ممَّا كانوا يتعاطونه من الرَّغبة في المشركات، وبيَّن أنَّ أمةً مؤمنةً خيرٌ من مشركة، فإنها بلغت النِّهاية فيما يُفْضي إلى الرَّغبة فيها ليدلَّ بذلك على ما يبعث على التَّزوُّج بالتيامى، وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعيةً لما أمر به من النَّظر في صلاحهم وصلاح أموالهم. وعلى الوجهين، فحكم الآية لا يختلف. فصل في بيان جواز نكاح الكتابيَّة الأكثرون من الأُمَّة قالوا: يجوز للرَّجل أن يتزوَّج بالكتابيَّة. وقال ابن عمر، ومحمَّد بن الحنفيَّة، والهادي - وهو أحد أئمَّة الزَّيديَّة - إنَّ ذلك حرامٌ، واستدلَّ الجمهور بقوله تعالى في سورة المائدة: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [المائدة: 5] وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء أصلاً. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من آمن منهنّ بعد الكفر، ومن كان على الإيمان من أول الأمر؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 54 قلنا: قوله: {مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} [آل عمران: 186 والمائدة: 5 والمائدة: 57] يفيد حصلو هذا الوصف في حال الإباحة، ويدلُّ على ذلك فعلُ الصحابة، فإنهم كانوا يتزَّجون الكتابيَّات، ولم يظهر من أحد منهم إنكار ذلك وكان إِجماعاً على الجواز، كما نقل أنَّ حذيفة تزوَّج يهوديَّةٌ، أو نصرانية، فكتب إليه: أَتَزْعُمُ أَنَّهَا حَرَامٌ؟ فقال: لا، ولكني أخاف أن تعاطوا المومسات منهنَّ. وتزوج عثمان نائلة بنت فرافصة، وكانت نصرانيَّة؛ فأسلمت تحته، وتزوَّج طلحة بن عبيد الله يهوديَّة. وعن جابر بن عبد الله أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «نَتَزَوَّجُ نِسَاءَ أَهْلِ الكِتَابِ، وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ نِسَاءَنَا» . وروى عبد الرَّحمن بن عوفٍ أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام قال في المجوس: «سِنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الكِتَابِ غَيْرَ نَاكِحِي نِسَائهم، وَلاَ آكلي ذَبَائِحِهِمْ» ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً، لكان هذا الاستثناء عبثاً. وقال قتادة وسعيد بن جبير: أراد ب «المُشْرِكَاتِ» في الآية الوَثَنِيَّاتِ. واحتجَّ القائلون بعدم الجواز بوجوه: أحدها: أنَّ لفظ «المُشْرِك» يتناول الكتابيَّة على ما بيَّنَّاه، والتَّخصيص والنَّسخ خلافُ الظَّاهر. قالوا: ويؤيِّد ذلك قوله في آخر الآية: {أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار} والوصف المناسب إذا ذكر عقيب الحكم أشعر بالعِلِّيَّة، وكأنه تعالى قال: حَرَّمْتُ عليكم نِكَاح المُشْرِكَاتِ؛ لأنَّهم يدعُونَ إِلَى النَّارِ وهذه العِلَّةُ قَائِمَةٌ في الكِتَابِيَّةِ، فوجب القطع بتحريمها. وثانيها: أنَّ ابن عمر لما سئل عن هذه المسألة تلا آية التَّحريم وآية التَّحليل، ووجه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 55 الاستدلال: أنَّ الأصل في الأبضاع الحرمة فلما تعارض دليلُ الحلِّ، ودليل الحرمة تساقطا؛ فوجب بقاء حكم الأصل، وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين قال: أحلَّتهما آيةٌ، وحرَّمتهما آية، فحكم عند ذلك بالتَّحريم للسَّبب الذي ذكرناه، فكذا ها هنا. وثالثها: حكى ابن جرير الطَّبريُّ في «تَفْسِيرِهِ» عن ابن عبَّاسٍ تحريم أصناف النِّساء إلاَّ المؤمنات، واحتجَّ بقوله: {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [المائدة: 5] ، وإذا كان كذلك فالكتابيَّة كالمرتدَّة في أنه لا يجوز العقد عليها. ورابعها: أنَّ طلحة نكح يهوديَّة، وحذيفة نصرانيَّة، فغضب عمر عليهما غضباً شديداً، فقالا: نطلق يا أمير المؤمنين، فلا تغضب. فقال: إنَّ من أحلَّ طلاقهنَّ، فقد أحلَّ نكاحهنَّ، ولكن أنتزعهنَّ منكما. وأجيب عن الأوَّل بأنَّ من قال: الكتابيُّ لا يدخل تحت اسم المشرك، فالإشكال عنه ساقطٌ، ومن سلَّم ذلك، قال إنَّ قوله تعالى: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] أخص من هذه الآية، فإذا كانت هذه الحرمة ثاتبةً، ثم زالت كان قوله: «والمُحْصَنَاتُ» ناسخاً، وإن لم تثبت الحرمة كانت مخصَّصة، وإن كان النَّسخ والتَّخصيص خلاف الأصل إلاَّ أنَّه إنما لما كان لا سبيل إلى التَّوفيق بين الآيتين إلاَّ بهذا الطَّريق؛ وجب المصير إليه. وقولهم: إنَّ نكاح الوثنيَّة إنَّما حرِّم؛ لأنَّها تدعو إلى النَّار، وهذا المعنى موجودٌ في الكتابيَّة. قلنا: الفرق بينهما أنَّ المشركة متظاهرةٌ بالمخالفة، فلعلَّ الزَّوجَ يحبُّها، ثم إنَّها تحمله على مقاتلة المسلمين، وهذا المعنى غير موجود في الذِّمِّيَّة؛ لأنها مقهورةٌ راضيةٌ بالذِّلَّة، والمسكنة، فلا يتضمن نكاحها المقاتلة. وقولهم: تعارضت آية التَّحريم، وآية التَّحليل. قلنا: آية التَّحليل خاصَّة، ومتأخِّرةٌ بالإجماع؛ فوجب تقديمها على آية التَّحريم، بخلاف الآيتين، بالجمع بين الأختين في ملك اليمين، لأنَّ كلَّ واحدةٍ منهما أخصُّ من الأُخرى من وجهٍ، وأعمُّ من وجهٍ آخر، فلم يحصل فيه سبب التَّرجيح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 56 وأمَّا التَّمسُّكُ بقوله: «فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُه» فجوابه: أنَّا لما فرَّقنا بين الكتابيَّة وبين المرتدَّة في أحكامٍ كثيرةٍ، فلم لا يجوز الفرق بينهما أيضاً في هذا الحكم؟ أمَّا تمسُّكهم بأثر عمر، فقد نقلنا عنه أنَّه قال: ليس بحرامٍ، وإذا حصل التَّعارض بينهما؛ سقط الاستدلال بهما، وسلم باقي الأدلَّة. فصل في نكاح الكتابيَّات قال القرطبيُّ: وأمَّا نكاحُ أهل الكتاب إذا كانوا حرباً، فلا يحلُّ. وسئل ابن عباس عن ذلك، فقال: لا تحلُّ، وتلا قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] قال الرَّاوي: تحدَّث بذلك إبراهيم النَّخعيُّ، فأعجبه. فصل نقل عن الحسن أنَّه قال: هذه الآية ناسخةٌ لما كانوا عليه من تزويج المشركات. قال بعض العلماء: إن كان إقدامهم على نكاح المشركات من قبل العادة، لا من قبل الشَّرع؛ امتنع كون هذه الآية ناسخةً؛ لأنَّه ثبت في الأصول أنَّ النَّاسخَ والمنسوخَ يجب أن يكونا حكمين شرعيين، وإن كان جواز نكاح المشركات ثابتاً من جهة الشَّرع، كانت هذه الآية ناسخةٌ. قوله: {حتى يُؤْمِنَّ} «حَتَّى» بمعنى: «إلى» فقط، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أَنْ» ، أي: إلى أن يؤمنَّ، وهو مبنيٌّ على المشهور لاتصاله بنون الإناث، والأصل: يؤمنن، فأدغمت لام الفعل في نون الإناث. فصل في بيان قوله تعالى {حتى يُؤْمِنَّ} اتَّفق الكلُّ على المراد من قوله {حتى يُؤْمِنَّ} الإقرار بالشَّهادة والتزام أحكام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 57 الإسلام، وإذا كان كذلك احتجّت الكرَّاميَّة بهذه الآية على أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجرَّد الإقرار؛ لأنَّه غيّاً التحريم إلى الإيمان، وهو هنا الإقرار؛ فثبت أنَّ الإيمان في عرف الشَّرع عبارة عن الإقرار، وأُجيبوا بوجوهً: منها: قوله تعالى: {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] . ومنها: قوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] ؛ ولو كان الإيمان عبارة عن مجرَّد الإقرار، لكان قوله «قُلْ لم تُؤْمِنُوا» كذباً. وأُجيبوا عن التَّمسُّك بهذه الآية بأنَّ التَّصديق الذي في القلب لا يمكن الاطِّلاع عليه، فأقيم الإقرار باللِّسان مقام التَّصديق بالقلب. قوله: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ} . قال أبو مسلمٍ: اللام في قوله: «وَلأَمَةٌ» تشبه لام القسم في إفادة التَّوكيد. سوَّغ الابتداء ب «أَمَة» شيئان: لام الابتداء والوصف. وَأصْل «أمة» : أمَوٌ، فحذفت لامها على غير قياسٍ، وعوَّض منها تاء التَّأنيث ك «قُلَة» ، و «ثُبَة» يدلُّ على أنَّ لامها واوٌ رجوعها في الجمع؛ قال الكلابيُّ: [البسيط] 1077 - أمَّا الإِمَاءُ فَلاَ يَدْعُونَنِي وَلَداً ... إِذَا تَدَاعَى بَنُو الإِمْوَانِ بالعَارِ ولظُهُورها في المصدرِ أيضاً، قالوا: أَمَةٌ بيّنة الأُمُوَّة وأَقَرَّت له بالأُمُوَّة. وهل وزنها «فَعَلة» بتحريكِ العين، أو «فَعْلة» بسكونها؟ قولان، أظهرهما الأَوَّلُ، وكان قياسُها على هذا أن تُقلَبَ لامُها ألفاً لتحرُّكها وانفتاحِ ما قبلَها كفتاة وقَناة، ولكن حُذِفت على غير قياس. والثاني: قال به أبو الهيثم، فإنَّهُ زعم أنَّ جمع الأمة أَمْوٌ، وأنَّ وزنها فعلة بسكون العين، فيكون مثل نخلٍ، ونخلةٍ، فأصلها أَمْوَة، فحذفوا لامها إذْ كانت حرف لين، فلمَّا جمعوها على مثل: نخلةٍ ونَخْلٍ لزمهم أن يقولوا: أَمَة، وأَم، فكرهوا أن يجعلُوها حرفين، وكَرِهُوا أن يَرُدُّوا الواو المحذوفة لمَّا كانت آخر الاسم، فقدَّموا الواو وجعلُوه ألفاً بين الهمزة والميم، فقالوا: أام. وما زعمه ليس بشيء إذ كان يلزمُ أن يكون الإعرابُ على الميم، كما كان على لامِ «نَخْلٍ» ، وراء «تَمْر» ، ولكنه على التَّاءِ المحذوفةِ مقدَّرٌ كما سيأتي بيانُهُ. وجُمِعت على «إِمْوان» كما تقدَّم، وعلى إماء، والأصلُ: إمَاؤٌ، نحو رقبةٍ، ورِقاب، فقُلِبَت الواو همزةً لوقوعها طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ ككساء. وفي الحديث: «لاَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 58 تَمْتَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» وعلى آمٍ، قال الشَّاعر: [مجزوء الكامل] 1078 - تَمْشِي بِهَا رُبْدُ النَّعَا ... مِ تَمَاشِيَ الآمِ الزَّوَافِرْ والأَصْلُ «أَأْمُوٌ» بهمزتين، الأُولى مفتوحةٌ زائدةٌ، والثَّانيةُ ساكِنَةٌ هي فاءُ الكلمة نحو: أكمة، وأَأْكُم، فوقعت الواو طرفاً مضموماً ما قبلها في اسمٍ مُعربٍ ولا نظيرَ لهُ، فقُلبت الواو ياءً والضَّمَّة كَسْرةً لتصِحَّ الياءُ، فصار الاسمُ من قبيلِ المنقوصِ نحو: غازٍ وقاضٍ، ثمَّ قُلِبَت الهمزةُ الثَّانيةُ ألِفاً، لسكونها بعد أُخرى مفتوحةٍ، فتقولُ: جاءَ آمٌ، ومررت بآمٍ، ورأيت آمياً، تقدِّرُ الضَّمَّة والكسرة وتُظْهِرُ الفتحة، ونظيرُهُ في هذا القلبِ مجموعاً: «أَدْلٍ» و «أَجْرٍ» جمعُ «دَلْوٍ» و «جَرْوٍ» وهذا التَّصريف الذي ذكرناهُ يرُدُّ على أبي الهيثم قوله المتقدّم، أعني كونه زعمَ أن آمياً جمع أَمْوَة بسكونِ العينِ، وأَنَّهُ قلب، إِذ لو كان كذلك لكانَ ينبغي أَنْ يُقالَ جاء آمٌ، ومررت بآمٍ، ورأيت آماً، وجاء الآم ومررتُ بالآم، فتُعْربَ بالحركات الظاهرة. والتَّفضيلُ في قوله: {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} : إمَّا على سبيل الاعتقاد، لا على سبيل الوجود، وإمَّا لأنَّ نكاحَ المؤمنةِ يشتملُ على منافع أُخرويَّة، ونكاحَ المشركةِ الحُرَّة يشتملُ على منافِعَ دنْيَويّةٍ، هذا إذا التزَمنا بِأَنَّ «أَفْعَلَ» لا بدّ أن يدُلَّ على زيادةٍ ما، وإلاَّ فلا حاجة إلى هذا التأويل، كما هو مذهبُ الفرَّاءِ وجماعةٌ. وقوله: {مِّن مُّشْرِكَةٍ} يحتمِلُ أن يكُونَ «مُشْرِكَةٍ» صفةً لمحذوفٍ مدلولٍ عليه بمقابِلِهِ، أي: مِنْ حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ، أو مدلولٌ عليه بلفظِهِن أي: مِنْ أَمَةٍ مشركةٍ، على حسب الخلاف في قوله: «وَلأَمَةٌ» هل المُراد المَمْلُوكةُ للآدميين، أو مطلقُ النِّسَاء، لأنهنَّ مِلكٌ لله تعالى؛ كما قال - عليه السَّلام - «لاَ تَمْنَعُوا إِمَاء اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» وكذلك الخلافُ في قوله: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} . وقال بعضهم وَلأَمَةٌ مؤمنةٌ خيرٌ من حُرَّةٍ مُشْرِكَةٍ ولا حاجة إلى هذا التقدير، لأن اللَّفظ مطلق. وأيضاً فقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} يدُلُّ على صفة الحُرِّيَّة؛ لأَنَّ التَّقدير: ولو أعجبتكم بحسنها، أو مالها، أو حرّيتها، أو نسبها، فكُلُّ ذلك داخِلٌ تحت قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 59 فصل في سبب النُّزُول نزلت هذه الآية في خنساء، وهي وليدةٌ سوداءُ، كانت لحذيفة بن اليمان، قال حذيفة: يا خنساء قد ذكرت في المَلأ الأَعلى على سوادك ودمامتك؛ فأعتقها وتزوجها. وقال السُّدِّيُّ: نزلت في عبد اللهِ بن رواحة كانت له أَمَةٌ سَوداءُ، فغضب عليها، ولطمها، ثم أتى النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وأخبره بذلك، فقال له - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «وَمَا هي» ؟ فقال: تشهدُ ألاَّ إله إلا الله، وأنَّك رسُولُ اللهِ، وتُحسن الوضُوء وتُصَلّي فقال: «إنّ هذه مؤمنة» قال عبد اللهِ: فوالَّذي بعثك بالحق نبيّاً، لأعتقها ولأتزوجها، ففعل، فطعن عليه ناسٌ من المُسلمين، وقالوا: تنكح أمة؟! وعرضُوا عليه حُرَّةٌ مشركة. فأَنزلَ اللهُ هذه الآية. فصل في بيان الخيريَّة في الآية والخير ها هنا النفع الحسن، والمعنى: أَنَّ المشركة - وإِنْ كانت ثابتة في المال، والجمال، والنَّسَب - فالأَمَةُ المُؤْمِنة خيرٌ منها إِلاَّ أن الإيمان يتعلَّق بالدِّين، والمال، والجمال، والنَّسب متعلّق بالدِّين والدُّنيا، ولا شكَّ أَنَّ الدِّين خيرٌ مِنَ الدنيا؛ لأنه أشرف الأشياء عند كل أحد، فإذا اتفق الدين كملت المحبة فتكمل منافع الدنيا من الصحة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد، وعند اختلاف الدين لا يحصل شيء من ذلك. فصل في تقرير مذهب أبي حنيفة في القادر على التزوّج بأمة مع وجود الحرة قال الجبائي: دلت الآية على أن القادرعلى طول الحرة يجوز له التزوج بالأمة كمذهب أبي حنيفة؛ لأن الآية دلت على أن الواجد لطول الحرة المشركة يكون - لا محالة - واجداً لطول الحرة المسلمة لأن سبب التفاوت في الإيمان والكفر لا يتفاوت في قدر المال المحتاج إليه في أهبة النكاح فيلزم - قطعاً - أن يكون الواجد لطول الحرة المسلمة يجوز له نكاح الأَمَةِ، وهو استدلالٌ لطيف. قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} ، وقوله: {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} هذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نصب على الحالِ، وقد تقدَّم أنَّ «لَوْ» هذه في مثل هذا التَّركيب شرطيّةٌ بمعنى: «إِنْ» نحو: «رُدُّوا السَّائل، ولو بظَلْفٍ مُحْرَقٍ» ، وأنَّ الواوَ لِلْعَطفِ على حالٍ محذوفةٍ، التَّقديرُ: خيرٌ من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 60 مشركةٍ على كُلِّ حالٍ، ولو في هذه الحال، وأنَّ هذا يكون لاستقصاءِ الأَحوالِ، وأنَّ ما بعد «لَوْ» هذه إِنَّمَا يأتِي وهو مُنافٍ لِمَا قبلَه بوجهٍ ما، فالإِعجابُ مُنافٍ لحُكْم الخَيْريَّة، ومُقْتَضٍ جوازِ النِّكَاحِ لرغبةِ النَّاكِح فيها. وقال أبو البقاء: «لَوْ» هنا بمعنى «إِنْ» وكذا كُلُّ موضع وقع بعد «لَوْ» الفعلُ الماضِي، وكان جوابُها مُتقدِّماً عليها، وكونها بمعنى «إِنْ» لا يشترط فيه تقدُّمُ جوابها؛ ألا تَرَى أنَّهم قالوا في قوله تعالى: {لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ} [النساء: 9] إنَّها بمعنى: «إنْ» مع أَنَّ جوابها وهو: «خَافُوا» مُتأخِّرٌ عنها، وَقَدْ نَصَّ هو على ذلك في آيةِ النِّسَاءِ قال في خافُوا: وهو جوابُ «لَوْ» ومعناها «إنْ» . فصل في نكاح الأَمَةِ الكتابيَّة قال القُرطبيُّ: اختلفوا في نكاح الأَمَةِ الكتابيَّة؛ فقال مالِكٌ: مَنْ أسلم وتحته أَمَةٌ كتابيَّةٌ أَنَّه لا يُفرَّق بينهما. وقال أبو حنيفة وأصحابه: يجوزُ نكاحُ إِماءِ أَهلِ الكِتَابِ. قال ابن العربيّ: احتجّ أصحابُ أبي حنيفة على جواز نكاح الأَمَةِ بقوله تعالى: {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} ووجهُ الدلالة: أَنَّهُ تعالى خاير بين نكاح الأَمَة المؤْمِنة والمُشركة، فلولا أَنَّ نكاح الأَمة المشركة جائِزٌ لما خاير بينهما؛ لأَنَّ المخايرة إِنَّما هي بينَ الجائزين، لا بين جائِزٍ وممتنع، ولا بينَ متضادين. والجوابُ: أَنَّ المخايرة بين الضدَّين تجوزث لغةً وقُرْآناً، قال تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 42] . وقال عمر في رسالته لأبي موسى الأشعري: الرّجوع إلى الحقّ خيرٌ مِنَ التَّمَادِي في الباطل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 61 وجوابٌ آخرُ: أنَّ قوله: «وَلأَمَةٌ» لم يُرد به الرّقَّ المَمْلُوك وإِنَّما أراد به الآدمِيَّات والآدَميين كقوله عليه الصّلاة والسَّلام: «لاَ تَمْنَعُوا إِمَاءَ اللهِ مَسَاجِدَ اللهِ» وكذا قوله: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} وقوله: {وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} هذا بالإِجماع المراد منه الكُلّ، وأَنَّ المُؤْمِنة لا يحلُّ تزويجها بكافرٍ البَتَّة على اختلاف أنواع الكُفر، والكلام في قوله: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} على نحو ما تقدَّمَ. فصل في نكاح المجوسيَّة قال القرطبيُّ: اختلفوا في نكاح المجوسية؛ فمنع منه مالكٌ والشَّافعيُّ، وأبو حنيفة، والأوزاعيُّ وإسحاقُ. وقال أحمد: لا يعجبني. وروي أَنَّ حُذيفة بن اليمان تزوَّجَ مجوسية، وأَنَّ عمر بن الخطَّاب قال له: طلِّقها. قال ابن القصَّار: من قال كان لهم كتاب جَوَّزَ نكاحهنَّ. قوله: {أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار} وهي نظير قوله تعالى: {مَا لي أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وتدعونني إِلَى النار} [غافر: 41] ، وفي تأويلها وجوهٌ: الأوَّل: أَنَّهم يدعون إلى ما يُؤَدِّي إلى النَّارِ. فإن قيل: كيف يدعون إلى النَّارِ، ورُبَّما لم يُؤمِنُوا بالنَّارِ أصلاً، فكيف يدعون إليها؟! والجواب: أنَّهم يدعون إلى ما يؤدِّي إلى النَّارِ، فإنَّ الظَّاهر أن الزَّوجيّة مظنة الأُلفة والمحبة والمَودَّة، وكُلُّ ذلك يُؤَدِّي إلى انتقال المسلم عن الإِسلام بسبب موافقة حبيبه. فإن قيل: احتمالُ المحبَّة حاصِلٌ من الجانين، فكما يحتملُ أَنْ يصير المسلمُ كافراً بسبب الأُلفةِ والمحَبَّةِ يحتمل أيضاً أنْ يصير الكافِرُ مُسْلِماً بسبب الأُلفةِ والمَحبَّة، وإذا تعارض الاحتمالان، تساقطا، وبقي أصل الجوازِ. فالجواب: أَنَّ العمل إذا دار بين أن يلحقه نفع، أو بين أن يلحقه ضررٌ؛ وجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 62 الاحترازُ عن الضَّرَرِ، فلهذا السَّبب رجَّح اللهُ جانب المنعِ. التَّأويل الثَّاني: أنَّهُم يدعون إلى ترك المحاربة والقتال، وفي تركهما وجوب استحقاق النَّار والعقاب، والغَرَضُ منه أَنْ يجعل هذا فرقاً بين الذِّمِّيَّة، وغيرها، فإنَّ الذِّمِّيَّة لا تحمل زوجها على المقاتلة. التَّأويل الثالث: أَنَّ الولد الَّذِي يحدث، ربَّما دعاهُ الكافِرُ إلى الكُفْرِ، فيصير الكافر والولد من أهلِ النَّارِ، فهذا هو الدَّعوة إلى النَّارِ، {والله يدعوا إِلَى الجنة} حيثُ أمر بالتَّزْويج بالمسلمة، حتى يكون الولد مسلماً من أهل الجَنَّة. قوله: {والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ} فيه قولان: الأول: أَنَّ المعنى: وأولياء اللهِ يدعون إلى الجَنَّة، والمغفرة، فلا جرم أنه ينبغي للعاقل ألاَّ يقرب من مشركة، فإِنَّها من أعداء اللهِ، وأن ينكح المُؤْمنة؛ لأَنَّها تدعُو إلى الجَنَّةِ والمغفرة. الثاني: أنَّهُ سبحانه وتعالى لمَّا بيَّنَ هذه الأَحكام، وأباح بعضها، وحرَّم بعضها قال {والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة} ؛ لأنَّ من تمسَّكَ بهما اسْتَحَقّ الجنَّةَ. و {والمغفرة} الجمهورث على جَرِّ {والمغفرة} عطفاً على «الجَنَّةِ» و «بِإِذْنِهِ» مُتعلِّقٌ ب «يَدْعُو» أي: بتسهيلهِ، وتيسيره، وتوفيقه، وقيل بقضائه وإرادته. وفي غير هذه الآيةِ تقدَّمَت «المَغْفِرَة» على الجنة: {سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [الحديد: 21] و {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ} [آل عمران: 133] ، وهذا هو الأصل؛ لأنَّ المغفرة سببٌ في دُخُولِ الجَنَّةِ، وإنما أُخِّرَت هنا للمقابلة، فإنَّ قبلَها «يَدْعُو إِلى النَّارِ» ، فقدَّم الجَنَّةَ ليقابِلَ بها النَّارَ لفظاً، ولتشوُّقِ النُّفوس إليها حين ذكر دعاءَ اللهِ إليها، فأتى بالأَشْرَفِ. وقرأ الحسن {والمغفرة بِإِذْنِهِ} على الابتداءِ والخبرِ، أي: حاصِلةٌ بإذنِهِ. ويبين آياته للناس لعلَّهم يتذكَّرُون، أي: أوامره، ونواهيه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 {المحيض} فعل من الحيضِ، ويُرادُ به المصدرُ، والزمانُ، والمكانُ، تقولُ: حاضِت المرأَةُ تحيضُ، حَيضاً ومَحِيضاً، ومَحاضاً، فَبَنَوْه على مَفْعلٍ ومَفْعَل بالكَسرِ والفتحِ. واعلم أنَّ في المَفْعَل مِنْ يَفْعِل بكسر العينِ ثلاثة مذاهب: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 63 أحدها: أَنَّهُ كالصَّحيح، فتُفْتَحُ عينهُ مراداً به المصدرُ، وتُكسَرُ مراداً به الزَّمانُ والمكانُ. والثَّاني: أَنْ يُتَخَيَّر بين الفتح والكسر في المصدرِ خاصَّةً، كما جاء هنا: المَحيضُ والمحَاضُ، ووجهُ هذا القول: أنَّهُ كثُر هذان الوجهان: أعني، الكسر، والفتح فاقْتَاسا. والثالث: أَنْ يُقْتَصَرَ على السَّماعِ، فيما سُمِع فيه الكَسرُ، أو الفتحُ، لا يَتَعَدَّى. فالمحيضُ المُرادُ به المَصْدَرُ ليس بمقيسِ على المذهبين الأول والثالث، مقيسٌ على الثاني. ويقال: امرأَةٌ حائِضٌ ولا يقال: «حائِضَةٌ» إلا قليلاً، أنشد الفرَّاء: [الطويل] 1079 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... كَحَائِضَةٍ يُزْنَى بِهَا غَيْر طَاهِرِ وَالمَعْرُوفُ أَنَّ النَّحويين فَرَّقوا بين حائضٍ، وحائضةٍ: فالمُجرَّدُ من تاء التَّأنيث بمعنى النَّسَب، أي: ذاتُ حيضٍ، وإِنْ لم يكن عليها حَيْضٌ، والملتبسُ بالتَّاءِ لِمَنْ عليها الحَيْضُ في الحال، فيُحتمل أن يكونَ مرادُ الشاعر ذلك، وهكذا كُلُّ صفةٍ مختصةٍ بالمُؤَنّثِ نحو: طَامِث ومُرْضِ وشبههما. قال القرطبيُّ: ويقال: نساءٌ حيض، وحوائض، والحَيضةُ: المرأَةُ الواحدة. والحِيضةُ بالكَسْر، الاسم والجمع الحيض، والحيضة أيضاً: الخرقةُ التي تَسْتَثْفِرُ بها المَرْأَةُ، قالت عَائِشَةُ: لَيْتَنِي كُنُتُ حِيْضَةٌ مُلْقَاةٌ «وكذلك المَحِيضَةُ، والجمع: المَحائص. وأصلُ الحَيض السَّيَلانُ، والانفجِارُ، يُقالُ: حَاضَ السَّيلُ وَفَاضَ، قال الفَرَّاءُ:» حَاضَتِ الشَّجَرَةُ، أي: سال صَمْغُها «، قال الأَزهرِيُّ:» وَمِنْ هَذَا قيل لِلْحَوضِ: حَيْضٌ؛ لأَنَّ المَاءَ يسيلُ إليه «والعربُ تُدْخِلُ الواو على اليَاءِ، وَالياءَ على الواوِ؛ لأَنَّهُما من حَيِّز واحدٍ، وهو الهواءُ. ويقالُ: حاضت المرأةُ وتحيَّضَتْ، ودَرَسَتْ، وعَرَكت، وطَمِثت فهي حائضٌ، ودارِسٌ، وعارِكٌ، وَطَامِثٌ، وطَامِسٌ، وكَابِرٌ، وَضَاحِكٌ. قال تعالى: {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [يوسف: 31] أي: حضن، وقال تعالى: {فَضَحِكَتْ} [هود: 71] . قال مجاهد: أي: حاضَتْ ونافس أيضاً، والظَّاهر أن المحيض مصدرٌ كالحيضِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 64 ومثله:» المَقِيلُ «مِنْ قال يقِيلُ؛ قال الرَّاعِي: [الكامل] 1080 - بُنِيَتْ مَرَافِقُهُنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ ... لاَ يَسْتَطِيعُ بِهَا القُرَادُ مَقِيلاَ وكذلك قال الطَّبريُّ:» إِنَّ المَحِيضَ اسْم كالمَعِيشِ: اسمُ العَيْشِ «؛ وأنشد لرؤبة: [الرجز] 1081 - إِلَيْكَ أَشْكُو شِدَّةَ المَعِيشِ ... وَمَرَّ أَعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي وقيل: المَحيضُ في الآية المُرادُ به: اسمُ موضعِ الدَّم، وعلى هذا فهو مقيسٌ اتِّفاقاً، ويؤيِّد الأَوَّل قوله: {قُلْ هُوَ أَذًى} . وقد يُجَابُ عنه بأنَّ ثَمَّ حذف مضافٍ، أي: هو ذُو أَذى، ويؤيِّدُ الثَّاني قوله: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} . ومن حَمَلَه على المَصْدَرِ قَدَّر هنا حَذْفَ مُضَافٍ، أي: فاعْتَزِلُوا وَطْءَ النِّسَاءِ في زَمَانِ الحَيْضِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المَحِيضُ الأَوَّلُ مَصْدَراً والثَّاني مكاناً. حكى الواحديُّ في» البَسيط «عن ابن السَّكِّيت: إذا كان الفعلُ من ذوات الثلاثة نحو: كَالَ يكيلُ، وحاضَ يحيض وأشباهه، فإِنَّ الاسم منه مكسور والمصدر مفتوح، مِنْ ذلك مالَ ممالاً، وهذا مميله يذهب بالكسر إلى الاسم، وبالفتح إلى المصدر، ولو فتحهما جميعاً، أو كسرهما جميعاً في المصدرِ والاسمِ لجازَ، تقول: المَعَاشُ، والمَعِيشُ، والمَغَابُ، والمَغِيبُ، والمَسَارُ والمَسِيرُ فثبت أَنَّ لفظ المحيض حقيقةٌ في موضع الحيض، وأيضاً هو اسمٌ لنفس الحيضِ. قال ابن الخطيب: وعندي أَنَّهُ ليس كذلك؛ إذ لو كان المُرادُ بالمحيض هنا الحيض، لكان قوله تعالى {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} معناه: فاعتزلوا النِّساء في الحيض، ويكونُ المُرادُ: فاعتزلوا النساء في زمن الحيض، يكون ظاهره مانعاً من الاستمتاع بهنَّ فيما فوق السُّرَّة، ودون الرّكبة، ولما كان هذا المنعُ غير ثابت لزم القول بتطرُّق النَّسخ، والتَّخصيص إلى الآية، وهو خلاف الأصل، أما إذا حملنا المحيض على موضع الحيض؛ كان معنى الآية: فاعتزلوا النِّسَاءَ في موضع الحيض من النِّسَاء، وعلى هذا التَّقدير لا يتطرَّقُ إلى الآية نسخٌ، ولا تخصِيصٌ. ومن المعلوم أَنَّ اللَّفْظ إذا كان مشتركاً بين معنيين وكان حمله على أحدهما يوجب محذوراً، وعلى الآخر لا يوجب ذلك المحذور، فإِنَّ حمل اللَّفظ على المعنى الَّذِي لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 65 يُوجِبُ المحذورَ، أولى إذا سلَّمنا أَنَّ لفظ المحيض مشتركٌ بين الموضع، وبين المصَدرِ. فإن قيل: الدَّليلُ على أَنَّ المُراد من المحيض الحيضُ قوله: {قُلْ هُوَ أَذًى} ، ولو كانَ المُرَادُ الموضع لما صَحَّ هذا الوَصْفُ. قلنا: بتقدير أَنْ يكون المحيض عبارة عن الحَيض، فالحيض نفسُهُ ليس بِأَذى لأن «الحَيْضَ» عبارةٌ عن الدَّمِ المخصوص، و «الأَذَى» كيفيَّةٌ مخصوصَةٌ وهو عرض، والجسم لا يكُونُ نفس العرض فَلا بُدَّ أَنْ يقُولُوا: المرادُ منه أَنَّ الحيض موصوف بكونه أذى، وإذا جاز ذلك فيجُوزُ لنا أيضاً أن نقول: إِنَّ المراد منه أنَّ ذلك المَوْضع ذو أذًى، وأيضاً لم لا يجوزُ أَنْ يكون المراد بالمحيض الأَوَّل الحيض، وبالمحيض الثَّاني موضع الحيضِ كَمَا تقدَّمَ وعلى هذا فيزولُ الإِشكالُ. فصل في بيان مغالاة اليهود وغيرهم في أمر الحيض عن أنس بن مالك أَنَّ اليهُود، والمَجُوس كانُوا يبالغون في التَّباعد عن المرأَةِ حال حيضها، والنَّصارَى كانوا يجامعوهنّ ولا يبالون بالحيض، وأَنَّ أَهْلَ الجاهِليَّةِ كانُوا يقولُونَ مثل قولِ اليَهُودِ، والمَجُوسِ، وكانوا إذا حَاضَتِ المرأَةُ؛ لم يُؤَاكِلُوها، ولم يُشارِبُوها، ولم يُجَالِسُوها على فراشٍ، ولم يساكنوها في بيتٍ كفعل اليهود والمجوس، فسئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن ذلك، فأنزل الله هذه الآية، فأخذ المُسْلِمُون بظاهر الآية، فأخرجوهنّ من بيوتهن، فقال ناسٌ من الأَعْراب: يا رسُول اللهِ البردُ شديدٌ، والثِّيابُ قَلِيلةٌ، فإِنْ آثرناهن بالثِّيابِ، هلك سائِرُ أهل البيت، وإن اسْتَأْثَرْنَاهَا هلكت الحيض، فقال عليه الصّلاة والسّلام: «إِنَّمَا أَمَرْتُكُم أَنْ تَعْتَزِلُوا مُجَامَعَتهنَّ إِذَا حِضْن ولَمْ آمُرُكُم بإِخْرَاجِهِنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ كَفِعْلِ الأَعاجِمِ» فلمَّا سمع اليهُودُ ذلك قالوا: هذا الرَّجُلُ يُرِيدُ أَلاَّ يدع شيئاً من أمرنا، إلاَّ خالفنا فيه. فَجاء أُسيِّد بن حُضيرٍ وعباد بن بشر إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالا: يا رسُول اللهِ إِنَّ اليهُود تقول كذا وكذا، أفلا ننكحهنّ في المحيض، فتغير وجه رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حتَّى ظننا أَنَّه غضب عليهما، فخرجا؛ فَجَاءَتْهُ هديَّةٌ مِنْ لَبَنِ، فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إليهما فسقاهما فعلمنا أنه لم يغضب عليهما. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 66 فصل في مجيء «يسألونك» بحرف الواو وجاء: {وَيَسْأَلُونَكَ} ثلاثَ مرَّاتٍ بحرفِ العطفِ بعد قوله: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر» وهي: «وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ» ، «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى» «وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض» وجاء «وَيَسْأَلُونَكَ» أربع مراتٍ من غيرِ عطفٍ: «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة» «يَسْأَلُونَكَ مَذاَا يُنْفِقُونَ» «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ» «يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ» . فما الفرقُ؟ والجوابُ: أَنَّ السُّؤالات الأَواخر وقعَتْ في وقتٍ واحدٍ، فجُمِع بينها بحرفِ الجمعِ، وهو الواوُ، أَمَّا السّؤالاتُ الأُوَلُ فوقعَتْ في أوقاتٍ متفرقةٍ، فلذلك استؤْنِفَتْ كلُّ جملةٍ، وجيء بها وحدها. وقوله: {هُوَ أَذًى} فيه وجهان: أحدهما: قاله أبو البقاء: «أَنْ يكُونَ ضمير الوطءِ الممنوع» وكأنه يقول: إِنَّ السِّياق يدلُّ عليه، وإِنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ. الثَّاني: أَنْ يعود على المحيض، قال أبو البقاء: «ويكون التَّقدير: هو سببُ أَذًى» وفيه نظرٌ؛ فإنَّهم فَسَّروا الأَذَى هنا بالشَّيء القَذِر، فإذا أَرَدْنا بالمَحِيضِ نَفْسَ الدَّمِ، كان شيئاً مُسْتَقْذَراً، فلا حاجة إلى تقديرِ حَذْفِ مضافٍ. فصل في المراد من «الأذى» قال عطاءٌ، وقتادةٌ، والسُّدِّيُّ: هو أَذًى، أي: قذر واعلم أَنَّ الأَذَى في اللُّغة ما يكره مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، ويحتمل أن يَكُونَ قوله: {هُوَ أَذًى} ، أي: سببُ الأَذَى قالوا: لأَنَّ من جَامَعَ في الحَيْض، قد يحصُلُ له في ذكره وأنثييه تفتيح وقروح. وقوله: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} . الاعتزالُ: التَّنَحِّي عن الشَّيْءِ، وأَرَاد به ها هنا: تَرْكَ الوَطءِ، وقدَّم ذكر العِلَّة، وهي الأذى، ثم رَتَّبَ الحُكْم، وهو وجوب الاعتزال. فإن قيل: المرادُ ب «الأذى» هو الدَّمُ، وهو حاصِلٌ في وقت الاستحاضة مع أن اعتزال المرأة وقت الاستحاضة، غير واجب، فانتقضت هذه العِلَّةُ. والجواب: أَنَّ دم الحيض دَمٌ فاسِدٌ يتولّد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من عمق الرَّحم، ولو احْتَبَسَتْ تلك الفضلةُ لمرضت المرأةُ، فذلك الدَّمُ جارٍ مجرى البَوْلِ، والغائط، فكان أَذًى وقذراً، وأَمَّا دمُ الاستحاضة، فليس كذلك، بل هو دَمٌ صالحٌ يسير من عروق تنفجر من عمق الرَّحِمِ، فلا يكونُ أذى، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما سئل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 67 عن الاستحاضة فقال: «إِنَّ ذَلكَ دَمُ عِرْق، ولَيْسَ بِالحَيْضَةِ» . قال ابن الخطيب: وهذا جوابٌ طبّيٌّ مُخَلِّصٌ ظاهر القرآن مِنَ الطَّعن. فصل في بيان صفات دم الحيض اعلم أَنَّ الحيضِ موصوفٌ بصفاتٍ حقيقيةٍ، ويتفرَّعُ عليه أحكام شرعيّة فالصِّفاتُ نوعان: الأول: المنبعُ؛ فدم الحيض يخرجُ من الرَّحم، قال تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] قيل في تفسيره إنَّ المراد منه الحيض والحمل، وأَمَّا دم الاستحاضة، فإِنَّهُ لا يخرجُ من الرَّحم، لكن من عروق تنقطع من فم الرَّحم، قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في صفة دم الاستحاضة: «إِنَّهُ دَمُ عِرْقٍ انْفَجَرَ» ، وهذا يؤيّدُ ما تقدَّمَ في الجواب. النوع الثاني: من صفات دم الحيضِ التي وصفه بها رسول اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهي سِتّ: أحدها: إنه أسود. الثاني: أنه ثخين. الثالث: محتدم وهو المحترقُ من شدَّةِ حرارته. الرَّابع: أنه يخرُجُ برفق لا يسيلُ سيلاناً. الخامس: أنَّ له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء؛ وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة. والسادس: أنه بحراني وهو الشَّدِيدُ الحمرة، وقيل ما تحصُلُ فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر. فهذه صفاته الحقيقيّة، ثم مِنَ النَّاسِ من قال: إِنَّ دَمَ الحَيْضِ يتميَّزُ عن دمِ الاستحاضة، فكلُّ دم موصوف بهذه الصِّفَات، فهو دَمْ حَيْضِ وما لا فلا، وما اشتبه الأمرُ فيه فالأَصْلُ بقاء التَّكليف، ولا يزول إلا بعارض الحيض، فإذا لم يُعلمْ وجوده؛ بقيت التَّكَاليفُ على ما كانت وقال آخرون: هذه الصِّفَاتُ قد تشتَبِهُ على المُكَلّف، فإيجاب التأمل من تلك الدِّمَاء يقتضي عسراً ومشقة فقدر الشاعر وقتاً مضبوطاً، متى حصلت فيه الدِّمَاءُ كان حُكمُها حُكم الحَيْضَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 68 كيفما كانت صفةُ تلك الدِّماء قَصْداً إلى إسقاط العُسْرِ والمَشَقَّةِ. فصل اختلف العُلَماءُ في مُدَّةِ الحيضِ، فقال عليُّ بن أبي طالب - رضي الهُ عنه -: أقلُّه يوم ولَيْلَة، وأكثرُهُ خمسة عشر يوماً، وهو قولُ عطاء بن أَبي رباحٍ، والأوزاعيِّ، والشَّافِعِيّ، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة، والثَّورِيّ: أقلّه ثلاثة أيَّام ولياليهن، فإِنْ نقص عنه، فهو دمٌ فاسد؛ وأكثره عشرةُ أيَّامِ. قال أبو بكر الرَّازِيُّ في «أحكام القُرْآن» : وقد كان أبُو حنيفة يقولُ بقول عطاءِ، ثم تركه. وقال مَالِكٌ: لا تقديرَ له في القِلَّةِ، والكثرة، فإن وُجِدَ ساعةً، فهو حيض، وإن وجد أيّاماً، فكذلك. واحتجَّ أبُو بكر الرازيُّ في «أَحْكَامِ القُرْآنِ» على فساد قول مالكٍ بأنه: لو كان التَّقْدير ساقطاً في القليل، والكثِير، لوجب أَنْ يكُونَ الحيض هو الدّم الموجود من المرا’ فيلزم ألاَّ يوجد في الدنيا مستحاضة لأن كل ذلك الدم يكون حيضاً على المذهب، وذلك باطِلٌ بالإجماع ولأنه روي أَنّ فاطمة بنت أبي حبيش قالت للنّبيّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إِنِّي أُسْتَحَاضُ فَلا أَطْهُرُ» وروي أَنّ منه ما هو حيضٌ، ومنه ما هو استحاضةٌ، فبطل هذا القول ويمكن الجواب عنه بأن نقُولَ: إِنَّما يتميَّزُ دم الحيض عن دم الاستحاضة بالصِّفات التي قدّمناها لدم الحيضِ، فإذا عدمت؛ حكمنا بدم الحيض، وإِنْ تَرَدَّدْنا فيهما، كان طريانُ الحيض مجهولاً، وبقاء التّكليف الَّذِي هو الأَصلُ معلوم، والمشكوك لا يارض المعلوم، فلا جَرَمَ قلنا ببقاء التَّكاليف، فبهذا الطّريق يميز الحيض عن الاستحاضة وإن لم يجعل للحيض زماناً معيّناً. واحتجَّ مالكٌ - رضي اللهُ عنه - بوجهين: الأول: أَنَّ النَّبيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بيَّنَ علامة دم الحيض، وصفته كما قدمنا في قوله: «دَمُ الحَيْضِ هُوَ الأَسْوَدُ المُحْتَدمُ» وإذا كان الدَّمُ موصوفاً بهذه الصِّفَةِ، كان الحيضُ حاصِلاً، فيدخلُ تحت قوله: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 69 الثاني: قوله في دم الحيض «هُو أَذى» ، ذكر كونهُ أَذًى في معرض العِلَّة، لوجوب الاعتزال، وإِنَّما كان «أَذًى» للرَّائِحَة المنكرة التي فيه، واللون الفاسد وللحدةِ القوية الَّتي فيه، وإذا كان وجُوبُ الاعتزال معللاً بهذه المعاني، وجب الاحتراز عملاً بالعِلَّةِ المذكورة في كِتابِ الله. واحتجّ الشَّافعيُّ على أبي حنيفة بوجهين: الأول: أنه وجد دم الحيض في اليوم بليلته، وفي الزَّائد عن العشرة لأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - وصف دم الحيض بأنه أسود محتدم، فإذا وجد ذلك، فقد حصل الحيض فيدخل تحت قوله: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} تركنا العمل بهذا الدّليل في الأقلّ من يوم وليلة وفي الأكثر من خمسة عشر يوماً باتِّفاق بيني وبينك يا أبا حنيفة؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في هذه المدَّة. الثاني: أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - بيّن نقصان دينها: بأنها تمكث شطر عمرها لا تصلّي، وهذا يدلُّ على أنَّ الحيضة قد تكون خمسة عشر يوماً؛ لأن على هذا التقدير يكون الطهر خمسة عشر يوماً؛ فيكون الحيض نصف عمرها، ولو كان أقلّ من ذلك لم تكن تاركة للصَّلاة نصف عمرها. أجاب أبو بكر الرَّازيُّ عنه بوجهين: الأوَّل: أن الشَّطر ليس هو النِّصف، بل هو البعض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 70 والثاني: أنه لا يوجد في الدُّنيا امرأة تكون حائضاً نصف عمرها، لأن ما مضى من عمرها قبل البلوغ هو من عمرها. والجواب عن الأول: أنَّ الشَّطر هو النِّصف، يقال: شطرت الشَّيء أي جعلته نصفين، ويقال في المثل: «احْلُبْ حَلْباً لَكَ شَطْرُهُ» أي نصفه. وعن الثاني: أن قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «تَمْكُثُ إِحْدَاكُنَّ شَطْرَ عُمْرِهَا لاَ تُصَلِّي» إنّما يتناول زماناً هي تصلّي فيه، وذلك لا يتناول إلا زمان البلوغ. واحتجَّ أبو بكر الرازي على قول أبي حنيفة بوجوه: الأول: ما روى أبو أمامة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «أَقَلّ الحَيْضِ ثَلاثَة أَيَّامٍ، وَأَكْثَرُهُ عَشْرَةُ أَيَّام» فإن صحَّ هذا الحديث، فلا معدل عنه لأحد. الثاني: روي عن أنس بن مالك، وعثمان بن أبي العاص الثَّقفيّ أنهما قالا: «الحيضُ ثلاثةُ أيَّامٍ، وأربعة أيَّامٍ إلى عَشَرَةِ أيَّام، وما زاد فهو اسْتِحَاضَة» وهذا قول صحابي لم يخالفه أحدٌ، فكان إجماعاً، ولأنَّه إذا ورد قول عن صحابي فيما لا سبيل للعقل إليه، فالظَّاهر أنَّه سمع من النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الثالث: قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - لحمنه بنت جحش: «تحيضي في علم الله ستّاً، أو سَبْعاً، كما تَحِيضُ النِّسَاء في كُلِّ شَهْرٍ» فقوله: «كَمَا تَحِيضُ النِّسَاءُ في كُلِّ شَهْرٍ» مقتضاه أن يكون حيض النِّسَاء في كلِّ شهر هذا القدر، خالفنا هذا الظَّاهر في الثَّلاثة إلى العشرة، فيبقى ما عداه على الأصل. الرابع: قول عليه الصَّلاة والسَّلام: «مَا رَأَيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أَغْلَبَ لِعُقُولِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 71 ذَوِي الأَلْبَابِ مِنْهُنَّ» فقيل: ما نقصان دينهن؟ قال: «تَمْكُثُ إِحْدَاهُنَّ الأَيَّامَ واللَّيَالِي لاَ تُصَلِّي» . فهذا يدلُّ على أنَّ مدَّة الحيض ما يقع عليه اسم الأيّام، واللَّيالي، وأقلّها ثلاثة أيَّام وأكثرها عشرة؛ لأنَّه لا يقال في الواحد، والاثنين لفظ الأيَّام، ولا يقال في الزَّائد على العشرة أيَّام؛ بل يقال أحد عشر يوماً، أما الثَّلاثة إلى العشرة، فيقال فيها أيَّامٌ. وأيضاً قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - لفاطمة بنت أبي حبيش: «دَعِي الصَّلاةَ أيَّامَ أَقْرَائِك» فلفظ الأيَّام مختصّ بالثَّلاثة إلى العشرة. وفي حديث أُمِّ سلمة في المرأة التي سألته أنَّها تهرق الدَّم فقال: «لِتَنْظُر عَدَدَ الأَيَّامِ، واللَّيَالِي الَّتِي كَانَتْ تَحِيضُ مِنَ الشَّهْرِ، ثُمَّ لِتَغْتَسِل ولتصلِّ» . فإن قيل: لعلَّ حيض تلك المرأة كان مقدّراً بذلك المقدار قلنا: إنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما سألها عن قدر حيضها، بل حكم عليه بذلك الحكم مطلقاً، فدلّ هذا على أنَّ الحيض مطلقاً مقدّر بما ينطلق عليه لفظ الأيَّام. وأيضاً قال في حديث عديِّ بن ثابتٍ: «المُسْتَحَاضَةُ تَدَعُ الصَّلاَةَ أَيَّامَ حَيْضِهَا» وذلك عامٌّ في جميع النِّساء. الخامس: قال الجبَّائي في «تَفْسِيرِهِ» إنّ فرض الصِّيام والصَّلاة لازم لعموم الأدلَّة، فعلى الوجوب ترك العمل بها في الثَّلاثَةَ إلى العشرة بالإجماع، وما دون الثَّلاثة وفوق العشرة حصل فيه اختلاف العلماء، فأورث شبهة، فلم نجعله حيضاً، فوجب بقاء التَّكليف على أصله. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 72 فصل في حرمة جماع الحائض اتَّفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض، واختلفوا في وجوب الكفَّارة على من جامع فيه، فذهب أكثرهم إلى أنَّه لا كفَّارة عليه فليستغفر الله ويتوب، وذهب قومٌ إلى وجوب الكفَّارة عليه؛ منهم: قتادة والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق، لما روى ابن عبَّاس أن النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال في رجلٍ جامع امرأته وهي حائضٌ «إنْ كَانَ الدَّمُ عَبِيطاً؛ فَلْيَتَصَدّق بِدينَار، وإِنْ كَانَ صُفْرَةٌ، فَنِصْفُ دِينَارٍ» وروي موقوفاً على ابن عبَّاس. واتَّفقوا على أنَّ جلّ الاستمتاع فيما فوق السُّرَّة، ودون الرُّكبة [واختلفوا بأنّه هل يجوز الاستمتاع بها فيما دون السُّرة، وفوق الرُّكبة؟] قال ابن الخطيب: إن فسَّرنا المحيض بموضع الحيض، كانت الآية دالّة على تحريم الجماع فقط، فلا يكون فيها دلالة على تحريم غيره، بل نقول: إنّ تخصيص الشَّيءِ بالذّكر يدلُّ على أنَّ الحُكْمَ فيما عداه بخلافه، وإن فسَّرنا المحيض بالمحيض، كان تقدير الآية فاعتزلوا النِّساء في زمان المحيض، وترك العمل بها فيما فوق السُّرَّة ودون الرُّكبة؛ فوجب أن يبقى الباقي على الحرمة. قوله: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} ، أي: لا تجامعوهنّ. قال ابن العربيّ: سمعت الشّاشيَّ يقول: إذا قيل «لا تَقْرَب» - بفتح الرَّاء - كان معناه: لا تَتَلَبَّسْ بالفعل، وإذا كان بضمّ الرَّاء كان معناه: لا تَدْنُ منه، وهذا كالتأكيد لقوله تعالى: {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} فهذا نهيٌ عن المباشرة في موضع الدَّم، وقوله: « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 73 وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ» نهي عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع. «حتّى» هنا بمعنى «إلى» والفعل بعدها منصوب بإضمار أنْ، وهو مبنيٌّ لاتصاله بنون الإناث. وقرأ حمزة والكسائيُّ، وأبو بكرٍ بتشديد الطَّاء والهاء، والأصل: يتطهَّرن، فأُدغم. والباقون: «يَطْهُرْنَ» مضارع طَهُرَ، قالوا: وقراءة التَّشديد معناها يغتسلن، وقراءة التَّخفيف معناها ينقطع دمهنَّ. ورجَّح الطَّبري قراءة التَّشديد وقال: «هي بِمَعْنَى يَغْتَسِلْنَ لإجماع الجميع على تَحْرِيم قُرْبَان الرَّجُل امرأته بعد انقطاع الدَّم حتَّى تطهر، وإ، ما الخلاف في الطهر ما هو؟ هل هو الغسل أو الوضوء، أو غسل الفرج فقط؟» . قال ابن عطيَّة: «وكلُّ واحدة من القراءتين تحتمل أن يراد بها الاغتسال بالماء، وأن يراد بها انقطاع الدَّم وزوال أذاه» . قال: «وَمَا ذَهَبَ إليه الطَّبريُّ مِنْ أنَّ قِرَاءَةَ التَّشْدِيد مُضَمَّنُها الاغتسال، وقراءة التَّخفيف مُضَمَّنُها انْقِطَاعُ الدَّمِ أمرٌ غيرُ لاَزِم، وكذلك ادِّعَاؤهُ الإجماع» وفي رد ابن عطيَّة عليه نظرٌ؛ إذ لو حملنا القراءتين على معنى واحدٍ لزم التِّكرار. ورجَّح الفارسيُّ قراءة التَّخفيف؛ لأنها من الثلاثي المضادِّ لطمث وهو ثلاثي. فصل في ورود لفظ الطهور في القرآن قال أبو العبَّاس المقري: ورد لفظ «الطُّهُورِ» في القرآن بإزاء تسعة معانٍ: الأول: انقطاع الدَّم، قال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222] ، أي: حتى ينقطع الدَّم. الثاني: الاستنجاء بالماء؛ قال تعالى: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} [التوبة: 108] ، أي: يستنجون بالماء. الثالث: الاغتسال، قال تعالى: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [البقرة: 222] أي: اغْتَسَلْنَ. الرابع: التَّنظيف من الأدناس، قال تعالى: {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} [البقرة: 25] . الخامس: التَّطهُّر من الذُّنوب؛ قال تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [الواقعة: 79] ، ومثله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 74 السادس: التَّطهير من الشّرك، قال تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ} [الحج: 26] ، أي: طهره من الشرك. السابع: الطهور الطيب، قال تعالى: {ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [الأحزاب: 53] أي أطيب. الثامن: الطهور الحلّ، قال تعالى: {هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [هود: 78] ، أي: أحل. التاسع: التطهر من الرّجس، قال تعالى: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] ، أي: من الآثام والرِّجس. فصل في بيان النَّهي عن الإتيان هل بعد انقطاع الدم أو الاغتسال. استدلّ أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} بأنه نهيٌ عن قربانهن إلى غاية، وهي أن يطهرن، أي ينقطع حيضهنّ، وإذا كان انقطاع الحيض غايةً للنَّهي؛ وجب أن يزول النَّهي عند انقطاع الحيض. وأجيب بأنَّه لو اقتصر على قوله «حتى يَطْهُرْنَ» ، لكان ما ذكرتم لازماً أما إذا انضم إليه قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} صار المجموع هو الغاية، وذلك بمنزلة أن يقول الرَّجل: لا تكلِّم زيداً حتى يدخل الدَّار، فإذا طابت نفسه بعد الدُّخول، فكلّمه، فإنّه يجب أن يتعلّق إباحة كلامه بالأمرين جميعاً. فإن قيل: يحمل قوله: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» على غسل الموضع، فإنَّه يجب غسله بإجماع، فالجواب أنَّ ظاهر قوله: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» حكم عائد إلى ذات المرأة، فوجب أن يكون هذا التَّطهير في كلّ بدنها لا في بعض بدنها، وأيضاً فنحمله على التَّطهير الثَّابت في المستحاضة لثبوته في الحيض، والمراد به الاغتسال، إذا أمكن وجود الماء. فصل في هل تجبر الكتابيَّة على الاغتسال من الحيض اختلفوا في الكتابيَّة؛ هل تجبر على الغسل؟ فقيل تجبر لقوله تعالى: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» يعني بالماء، ولم يخص مسلمة من غيرها. وقيل: لا تجبر؛ لأنها لا تعتقد ذلك، وقال تعالى: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 228] وهو الحيض والحمل، وهذا خطاب للمؤمنات. وقال: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} [البقرة: 256] . قوله: «فَإِذَا تَطَهَّرْنَ» يعني اغتسلن، «فَأْتُوهُنَّ» أي: فجامعوهنّ. قوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} في «مِنْ» قولان: أحدهما: أنَّها لابتداء الغاية، أي: من الجهة الَّتي تنتهي إلى موضع الحيض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 75 والثاني: أن تكون بمعنى «في» ، أي: في المكان الذي نهيتم عنه في الحيض. قال ابن عبَّاس، ومجاهد وإبراهيم، وقتادة وعكرمة: فأتوهنّ في المأْتى؛ فإنَّه هو الذي أمر الله به ولا تأتوهنّ في غير المأْتى؛ لقوله: {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} أي: في حيث أمركم الله؛ كقوله: {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة} [الجمعة: 9] ، أي: في يوم الجمعة، وقوله: {مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض} [فاطر: 40] ، أي: في الأرض. ورجَّح هذا بعضهم، وفي الكلام حذفٌ، تقديره: «أَمَرَكُم اللهُ بالإِتيَان منه» يعني: أنَّ المفعول الثَّاني حذف للدلالة عليه. قال الأصمُّ والزَّجَّاج: فأتوهنَّ بحيث يحلُّ لكم غشيانهنَّ، وذلك بأن لا يكنَّ صائماتٍ، ولا معتكفاتٍ، ولا محرماتٍ. وقال محمَّد بن الحنفيَّة: فأتوهنّ من قبل الحلال دون الفُجُور. والأقرب: قول ابن عباس، ومن تابعة؛ لأن لفظة «حَيْثُ» حقيقة في الكلِّ، مجاز في غيرها. فصل قال أبو العبَّاس المقري: ترد «مِنْ» بمعنى «في» كهذه الآية، وتكون زائدة؛ كقوله تعالى: {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 4] ، وقوله: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين} [الشورى: 13] أي: الدِّين، وقوله: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك} [يوسف: 101] ، أي الملك. وبمعنى «البَاءِ» ؛ قال تعالى: {يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ} [غافر: 15] أي: بأمره، وقوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11] ، أي: بأمر الله، وقوله: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات} [النبأ: 14] ، أي: بالمعصرات، وبمعنى «عَلَى» ؛ قال تعالى: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} [الأنبياء: 77] ، أي: على القوم. قال القرطبيُّ: عبَّر عن الوطء هنا بالإتيان. قوله: {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين} التَّوَّاب: هو المكثر من فعل ما يسمَّى توبةً، وقد يقال: هذا في حقِّ الله تعالى -؛ من حيث إنه يكثر من قبول التَّوبة. فإن قيل: ظاهر الآية يدلُّ على أنَّه يحبُّ تكثير التَّوبة مطلقاً، والعقل يدلُّ على أن التَّوبة لا تليق إلاَّ بالمذنب، فمن لم يكن مذنباً، لا تجب منه التَّوبة. فالجواب من وجهين: الأول: أن المكلَّف لا يأمن البتَّة من التَّقصير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 76 والثاني: قال أبو مسلمٍ: التَّوبة في اللُّغة عبارة عن الرُّجوع، ورجوع العبد إلى الله في كلِّ الأحوال محمودٌ. واعترضه القاضي: بأن التَّوبة - وإن كانت في أصل اللغة الرُّجوع - إلا أنها في عرف الشَّرع عبارةٌ عن النَّدَم على الفعل الماضي، والتَّرك في الحاضر، والعزم على ألاَّ يفعل مثله في المستقبل؛ فوجب حمله على المعنى الشَّرعيِّ دون اللُّغويّ. ولأبي مسلم أن يجيب: بأنّ مرادي من هذا الجواب، أنّه إن أمكن حمل اللَّفظ على التَّوبة الشَّرعيَّة، فقد صحَّ اللَّفظ، وإن تعذَّر ذلك، حملناه على التَّوبة بحسب اللُّغة الأصليَّة. قوله: {وَيُحِبُّ المتطهرين} فيه وجوه: أحدها: المراد منه التَّنزُّه عن الذُّنوب والمعاصي، قاله مجاهد. فإن قيل: كيف قدَّم ذكر المذنب على من لم يُذنب؟ فالجواب: قدَّمه لئلا يقنط التَّائب من الرَّحمة، ولا يعجب المتطهِّر بنفسه؛ كقوله في آيةٍ أخرى: {ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات} [فاطر: 32] ، قاله القرطبي. الثاني: قال عطاء ومقاتل بن سليمان والكلبيّ: «يُحِبُّ التَّوَّابِينَ من الذُّنُوبِ، والمتَطَهِّرِين بالمَاءِ من الأَحْدَاثِ والنَّجَاسَاتِ» . الثالث: قال مقاتل بن حيَّان: يحب التَّوَّابين من الذُّنُوب، والمتطهِّرين من الشِّرك. الرابع: قال سعيد بن جبير: التَّوَّابين من الشِّرك، والمتطهِّرين من الذُّنوب. الخامس: أن المراد ألا يأتيها في زمان الحيض، وألاَّ يأتيها في غير المأتى على ما قال: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} . قال بعضهم: وهذا أولى؛ لأنه أليق بنظم الآية، ولأنَّه - تعالى - قال حكاية عن قوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 77 لوطٍ: {أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [الأعراف: 82] ، فكان قوله: {وَيُحِبُّ المتطهرين} ترك الإتيان في الأدبار. السادس: أنَّه - تعالى - لمَّا أمرهنّ بالتَّطهير في قوله: {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} ، فلا حرم مدح التَّطهير، فقال: {وَيُحِبُّ المتطهرين} والمراد منه التَّطهير بالماء؛ قال - تعالى -: {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين} [التوبة: 108] ، قيل في التَّفسير: إنهم كانوا يستنجون بالماء، وكرَّر قوله «يُحِبُّ» ؛ دلالةً على اختلاف المقتضي للمحبَّة، فتختلف المحبَّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} : مبتدأٌ وخبرٌ، ولا بدَّ من تأويلٍ، ليصحَّ الإخبار عن الجثة بالمصدر، فقيل: على المبالغة، جُعلوا نفس الفعل، وقيل: أراد بالمصدر، اسم المفعول، وقيل: على حذف مضافٍ من الأوَّل، أي: وطء نسائكم حرثٌ، أي: كحَرْثٍ، وقيل: من الثاني، أي: نساؤُكُم ذواتُ حَرْثٍ، و «لَكُمْ» في موضع رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل «حَرْث» ، فيتعلَّق بمحذوفٍ، وإنما أفرد الخبر، والمبتدأ جمعٌ؛ لأنه مصدرٌ والأفصح فيه الإفراد. قوله: {أنى شِئْتُمْ} ، ظرف مكانٍ، ويستعمل شرطاً واستفهاماً بمعنى «مَتَى» ، فيكون ظرف زمانٍ، ويكون بمعنى «كَيْفَ» ، وبمعنى «مِنْ أَيْنَ» ، وقد فسِّرت الآية الكريمة بكلِّ من هذه الوجوهِ، وقال النحويون: «أَنَّى» لتعميم الأحوال، وقال بعضهم: إنما تجيءُ سؤالاً وإخباراً عن أمْرٍ له جهاتٌ، فَهِيَ على هذا أعمُّ مِنْ «كَيْفَ» ، ومِنْ «أَيْنَ» ، ومِنْ «مَتَى» ، وقالوا: إذا كانت شرطيةً، فهي ظرف مكانٍ فقط، واعمل أنها مبنيةٌ؛ لتضمُّنها: إمَّا معنى حرف الشرط، والاستفهام، وهي لازمة النصبِ على الظرفية، والعامل فيها هنا قالوا: الفعل قبلها وهو: «فَأْتُوا» قال أبو حيان: وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّها إمَّا شرطية أو استفهاميةٌ، لا جائزٌ أن تكون شرطيةً؛ لوجهين: أحدهما: من جهة المعنى، وهو أنَّها إذا كانت شرطاً، كانت ظرف مكانٍ، كما تقدَّم؛ وحينئذٍ: يقتضي الكلام الإباحة في غير القبل، وقد ثبت تحريم ذلك. والثاني: من جهة الصناعة، وهو أنَّ اسم الشرط لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام، بل يعمل فيه فعل الشرط؛ كما أنه عاملٌ في فعل الشرط الجزم، ولا جائزٌ أن تكون استفهاماً؛ لأنَّ الاستفهام لا يعمل فيه ما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام، ولأنَّ «أَنَّى» إذا كانت استفهاميةً، اكتفت بما بعدها من فعلٍ واسم، نحو: {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ} [الأنعام: 101] {أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 27] وهذه في هذه الآية مفتقرة لما قبلها كما ترى، وهذا موضع مشكل يحتاج إلى تأملٍ ونظر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 78 ثم الذي يظهر: أنها هنا شرطيةٌ، ويكون قد حذف جوابها؛ لدلالة ما قبله عليه، تقديره: أنَّى شئتم، فأتوه، ويكون قد جعلت الأحوال فيها جَعْلَ الظروف، وأُجريت مجراها، تشبيهاً للحال بظرف المكان؛ ولذلك تقدَّر ب «في» ، كما أُجريت «كَيْفَ» الاستفهامية مجرى الشرط في قوله: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} [المائدة: 64] وقالوا: كيف تصنع أصنع، فالمعنى هنا ليس استفهاماً بل شرطاً؛ فيكون ثمَّ حذفٌ في قوله: «يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ» ، أي: كيف يشاء يُنْفِق، وهكذا كل موضعٍ يشبهه، وسيأتي له مزيد بيانٍ، فإن قلت: قد أخرجت «أنَّى» عن الظرفية الحقيقية، وجعلتها لتعميم الأحوال مثل «كَيْفَ» وقلت: إنها مقتضيةٌ لجملةٍ أخرى كالشرط، فهل الفعل بعدها في محلِّ جزم، اعتباراً بكونها شرطيةً، أو في محلِّ رفع، كما تكون كذلك بعد «كَيْفَ» التي تسعمل شرطية؟ قلت: تحتمل الأمرين، والأرجح الأول؛ لثبوت عمل الجزم؛ لأنَّ غاية ما في الباب تشبيه الأحوال بالظروف، للعلاقة المذكورة، وهو تقدير «في» في كلٍّ منهما. ولم يجزم ب «كَيْفَ» إلا بعضهم قياساً لا سماعاً، ومعفول «شِئْتُمْ» محذوفٌ، أي: شِئْتُمْ إتيانه بعد أن يكون في المحلِّ المباح. فصل في بيان سبب النزول روى ابن عبَّاسٍ في سبب النزول؛ قال: جاء عمر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله، هلكت. قال: «وَمَا الَّذِي أَهْلَكَكَ؟» قال: حَوَّلْتُ رَحْلِي البَارِحَةَ، فلم يَرُدَّ عليه شيئاً، فَأُوحي إليه: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} ، يقول: أقبل، وأدبر، واتَّقِ الحَيْضَة والدُّبُرَ. وروى جابر بن عبد الله؛ قال: كانت اليهود تقول في الذي يأتي امرأته من دبرها في قبلها: إن الولد يكون أحولاً، فنزلت هذه الآية. وروى مجاهد عن ابن عبَّاسٍ؛ قال: كان من شأن أهل الكتاب ألاَّ يأتوا النِّساء إلاَّ على حرفٍ، وذلك أستر ما تكون المرأة، وكان هذا الحيُّ من الأنصار قد أخذوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 79 بذلك من فعلهم، وكان هذا الحيُّ من قريشٍ يتلذَّذُون منهنَّ مقبلات، ومدبراتٍ، ومستلقياتٍ، فلما قدم المهاجرون المدينة، تزوَّج رَجُلٌ منهم امرأَةً من الأنصار، وذهب يصنعُ لها ذلك فَأَنْكَرَت ذلك عليه، وقالت: إنما كُنَّا نُؤْتَى عَلَى حَرْفٍ، فَإن شِئْتَ فَاصْنَع ذَلِك وإلا فاجْتَنِبْنِي، حتى سَرَى أَمْرهَا إلى رَسُولِ الله صلى الله عيه وسلم، فَأنزلَ الله - عزَّ وجلَّ -: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} يعني: موضع الولد، {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} مُقْبِلاتٍ، ومُدْبِرَاتٍ ومُستلقياتٍ. فصل قال عكرمة والحسن: «أنى شِئْتُمْ» إنما هو الفَرْجُ. وقوله: «حَرْثٌ لَكُم» أي: مَزْرَعٌ لكم، ومنبتٌ للولد بمنزلة الأرض، وهذا دليلٌ على تحريم الأدبار؛ لأن محلَّ الحرث والزَّرع هو القبل لا الدُّبر،؛ وأنشد ثعلبٌ: [الرمل] 1082 - إِنَّمَا الأَرْحَامَ أَرْضُو ... نَ لَنَا مُحْتَرَثَاتُ فَعَلَيْنَا الزَّرْعُ فِيهَا ... وَعَلَى اللهِ النَّبَاتُ وقال سعيد بن المسيَّب: هذا في العزل، يعني: إن شئتم فاعزلوا، وإن شئتم فلا تعزلوا، سئل ابن عبَّاس عن العزل؛ فقال: حرثُكَ، فإن شئتَ فعطِّش، وإن شئت فَارْوِ. ورُوي عنه؛ أنَّه قال: تُسْتَأْمَر الحرَّة في العزل، ولا تُسْتَأْمَرُ الجارية، وكره جماعة العزل، وقالوا: هو الوَأْدُ الخفيّ. وروى مالك عن نافع؛ قال: كُنْتُ أَمْسِكُ على ابن عمر المُصْحَفَ، فقرأْتُ هذه الآية: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} فقال: تدْري فيما نزلت؛ في رجلٍ أتى امْرَأَتَهُ في دبرها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 80 فشقَّ ذلك عليه، فنزلت هذه الآية. ويُحكَى عن مالكٍ إباحة ذلك، وأنكر ذلك أصحابه. وروي عن عبد الله بن الحسن؛ أنه لقي سالم بن عبد الله، فقال له: يا أبا عمر؛ ما حُدِّثتُ بحديث نافع عن عبد الله؛ أنه لم يكن يرى بأساً بإتيان النِّساء في أدبارهنَّ، قال: كذب العبدُ وأخْطَأَ، إنما قال عبد الله: يُؤْتُونَ في فُرُوجِهِنَّ من أَدْبَارِهِنَّ، والدَّليل على تحريمِ الأدبارِ: ما روى خُزيمة بن ثابتٍ؛ أن رجلاً سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن إِتيان النِّساء في أَدْبَارِهِنَّ، فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «حَلاَلٌ» فلما ولَّى الرَّجل دعاه، فقال: «كَيْفَ قُلْتَ في أَيِّ الخَرْبتين أَوْ فِي الخَرزَتَين أوْ فِي أيِّ الخَصْفَتَين، أَمِنْ قُبُلِهَا في قُبُلِهَا؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 81 فَنَعَمْ، أمْ مِنْ دُبُرِهَا فِي قُبُلِهَا؛ فَنَعَمْ أَمْ مِنْ دُبُرِها فِي دُبُرِهَا، فَلاَ، فإنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحيِي مِنَ الحَقِّ، لاَ تَأْتُوا النِّسَاءَ في أَدْبَارِهِنَّ» . وأراد بخربتها مسلكها، وأصل الخربة: عروة المزادة. شبِّه بالثّقب بها، والخرزة هي: الثقبة التي يثقبها الخرَّاز وكنَّى به عن المأْتى، وكذلك الخصفة من قولهم: خصفت الجلد إذا خرزته. وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَةً في دُبُرِهَا» وقال - تعالى - في آيةِ المحيض: {قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} [البقرة: 222] جعل الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى، ولا معنى للأذى إلاَّ ما يتأذَّى الإنسان مه بنتن ريحِ الدَّم، وهذه العلَّة هنا أظهر؛ فوجب القول بتحريمه. وروي عن أبي هريرة، عن النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ قال: «مَنْ أَتَى امْرَأَةً في دُبُرِهَا لَمْ يَنْظُرِ اللهُ إِلَيْه يَوْمَ القِيَامَةِ» . وروى أبو داود الطَّيالسي، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «تِلْكَ اللوطِيَّةُ الصُّغْرَى بإِتْيَانِ المَرْأَةِ في دُبُرِهَا» . وعن طاوس؛ قال: إنه كَانَ عَمَلَ قَوْمِ لُوطٍ إِتْيَانُ النِّسَاء في أَدْبَارِها. واحتج من جوَّزَهُ بوجوه: الأول: التَّمسُّك بهذه الآية من وجهين: أحدهما: أنه جعل الحرث اسماً للمرأة لا للموضع المعيَّن، فلمَّا قال بعده: {فَأْتُواْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 82 حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} كان المراد: فأتوا نساءكم أنى شئتم، فيكون إطلاقاً في إتيانهن على جميع الوجوه. وثانيهما: كلمة «أَنَّى» معناها: أين؛ قال - تعالى - {أنى لَكِ هذا} [أل عمران: 37] ، معناه: من أين لك هذا، فصار تقدير الآية: فأْتُوا حَرْثَكُم أَيْنَ شِئْتُم، وكلمة «أَيْنَ» تدلُّ على تعدُّد الأمكنة؛ تقول: اجلِس أيْن شِئْتَ، فيكون تخييراً بين الأمكنة. وإذا ثبت هذا، فلا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها، أو من دبرها في قُبُلِها؛ لأنه على هذا التَّقدير، يكون المكان واحداً، والتَّعدُّد إنَّما وقع في طريقِ الإتيان، فاللاَّئق به أن نقول: اذهبوا إليه كيف شئتم، فلمَّا لم يذكر كيف، بل ذكر لفظة «أَنَّى» وهي مشعرةٌ بالتَّخيير بين الأمكنة كما بيَّنَّا، ثبت أنَّ المراد ما ذكرنا. الحجة الثانية: تمسَّكوا بعموم قوله - تعالى -: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] ، ترك العمل به في حقِّ الذُّكور بالإجماع، فيبقى فيما عداه على العموم. الحجة الثالثة: لو قال للمرأة: دُبُرِكِ عليَّ حَرَامٌ، ونوى الطَّلاق، أنه يكون طلاقاً فيقتضي كون دبرها حلالاً له. والجواب عن الأوَّل: أن «الحَرْثَ» اسمٌ لموضع الحراثة، والمرأة بجميع أجزائها ليست محلاً للحراثة، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة كما تقدَّم، فلما أطلق لفظ «الحَرْثِ» على ذات المرأَة، حملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية الشَّيء باسم جزئِه، وهذه الضَّرورة مفقودةٌ في قوله: «فَأْتُوا حَرْثَكُمْ» فوجب حَمْلُ الحرث ههنا على موضع الحراثة على التَّعيين؛ فثبت أن هذه الآية لا دلالة فيها إلاَّ على إتيان النِّساء في محلِّ الحرث، وقد قدَّمنا أن «الحَرْثَ» إنَّما يراد للزَّرع وهو الولد، وذلك لا يكون إلاَّ في المأتى. وعن الثَّاني: أنه لما ثبت أن المراد ب «الحَرْثِ» ذلك الموضع المعيَّن لم يمكن حمل «أَنَّى شِئْتُمْ» على التَّخْيير في الأمكنة. وأما قوله: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] فإنه عامٌّ، ودلائلنا خاصَّةٌ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العام. وقولهم: دُبُرُكِ عَلَيَّ حَرَامٌ، إنما صلح أن يكون كنايةٌ عن الطَّلاق، وإنَّه لَمَحَلُّ الملامسة والمضاجعة، وهو جزؤها، فصار ذلك كقوله: يدك طالقٌ. هذا الجواب من حيث التَّفصيل أمّا من حيث الجملة: فقد بينَّا أنَّ قوله: «قُلْ هُوَ أَذًى» يدلُّ على التَّحريم؛ لوجود العلَّة المقتضية له، فلو جوَّزنا ذلك، لكان جمعاً بين دليل التَّحريم، ودليل التَّحليل في موضع واحدٍ، والأصل أنَّه لا يجوز، وأيضاً فالرِّوايات الجزء: 4 ¦ الصفحة: 83 المشهورة في كون سبب النُّزول، هو اختلافهم في أنَّهُ: هل يجوز إتيانهنّ من دُبُرِهِنّ في قبولِهِن؛ وسبب النُّزول لا يكون خارجاً عن الآية، ومتى حملنا الآية على هذه الصُّورة لم تكن الآية نزلت على ذلك السَّبب. ويمكن الجواب عن هذا: بأن الاعتبار بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّبب، فإن السُّؤال قد يكون خاصّاً والجواب عامّاً، وهو كثير. قوله: {وَقَدِّمُواْ} مفعوله محذوفٌ، أي: نيَّةَ الولدِ، أو نيةَ الإعفاف، وذِكْرَ اللهِ أو الخير؛ كقوله: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ} [البقرة: 110] . وقال عطاء عن ابن عبَّاس: هي التَّسمية عند الجماع. قال ابن الخطيب: وهذا في غاية البُعدِ: والَّذِي عندي فيه: أن قوله: {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} جار مجرى التَّنبيه على إباحة الوطءِ؛ كأنه قيل: هؤلاء النِّسوان إِنَّمَا حكم الشَّرع بإباحة وطئهنَّ لكم؛ لأجل أنَّهُن حرث لكم، أي بسبب أن يتولَّد الولدُ منهن، ثم قال بعده: {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} دليلاً على الإِذن في ذلك الموضع، والمنْع من غير ذلك المَوضع، فلمَّا اشْتَمَلت الآيةُ على الإِذن في أحدِ الموضعين، والمنع من الموضع الآخِر، لا جرم قال: {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} أي: لا تكُونُوا في قيد قضاء الشَّهوةِ، بل كونوا في قيد تقديم الطَّاعةِ، ثم إنه - تعالى - أكَّدَ ذلك بقوله: {واتقوا الله} ، ثم أكَّدَهُ ثالثاً بقوله: {واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ} ، وهذه التَّهديدات الثَّلاثة المُتَوالية، لا يليقُ ذكرها إلاَّ إذا كانت مسبوقة بالنَّهْي عن شيءٍ لذيذ مُشْتَهى، فثبت أن ما قَبْل هذه الآية دالٌّ على تحريم هذا العملِ، وما بعدها أيضاً دالٌّ على تحريمه؛ فثبتَ أَنَّ الصَّحِيح في تفسير هذه الآيةِ، ما ذهب إليه الجمهور. قوله: «لأَنْفُسِكُمْ» مُتعلِّقٌ ب «قَدِّمُوا» ، واللامُ تحتملُ التعليل والتعديّ، والهاءُ في «مُلاَقُوهُ» يجوزُ أَنْ تعودَ على اللهِ تعالى، ولا بُد مِنْ حذفِ مضافٍ، أي: ملاقو جزائِهِ، وأَنْ تعودَ على مفعولِ «قَدِّمُوا» المحذوف. وتَقَدَّم الكلام في التَّقوَى، وتَقَدَّم أيضاً تفسير لقاء الله في قوله: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] . والضميرُ في «وَبَشِّرِ» للرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لتقدُّم ذِكرِه في قوله: «يَسْأَلُونَكَ» قاله أبو البقاء، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ ضميرَ الخطابِ والتكلُّم لا يحتاج أَنْ يُقالَ فيهما: تَقدَّمَ ذِكْرُ ما يَدُلُّ عليهما، ويجوزُ أن يكونَ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ منه البِشارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 84 اللامُ في قوله {لأَيْمَانِكُمْ} تحتملُ وجهين: أحدهما: أن تكونَ مقويةً لتعديةِ «عُرْضَةً» ، تقديره: ولا تجعلوا اللهَ معدَّى ومَرْصَداً لحَلْفِكُمْ. والثاني: أن تكونَ للتعيلِ، فتتعلَّقَ بفعلِ النهيِ، أي: لا تَجْعَلُوهُ عُرْضَةً لأجْلِ أَيْمَانِكُمْ. قوله: {أَن تَبَرُّواْ} فيه ستةُ أوجهٍ: أحدها: - وهو قول الزجاج، والتُبريزي، وغيرهما -: أنها في محلِّ رفع بالابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ، تقديرُه: أَنْ تَبَرُّوا وتتقُوا وتُصْلِحُوا خَيْرٌ لكُمْ مِنْ أَن تجعلُوه عُرْضَةً لأَيْمانكم، أو بِرُّكُمْ أولى وأمثَلُ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى انقطاعِ هذه الجملةِ عمَّا قبلها، والظاهرُ تعلُّقُها به. الثاني: أنَّها في محلِّ نصب على أنها مفعولٌ من أجله، وهذا قولُ الجمهورِ، ثم اختلفوا في تقديرِه: فقيل: إرادةَ أنْ تَبَرُّوا وقيلَ: كراهةَ أن تَبَرُّوا، قاله المهدويُّ، وقيل: لِتَرْكِ أَنْ تَبَرُّوا، قاله المبرِّدُ، وقيل: لئَلاَّ تَبَرُّوا، قاله أبو عبيدة والطَّبريُّ؛ وأنشدا: [الطويل] 1083 - ... فَلاَ واللهِ تَهْبِطُ تَلْعَةً ..... ... ... ... ... ... ... ... . أي: لا تَهْبِطُ، فحذف «لاَ» ومثلُه: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] ، أي: لئلا تضِلُّوا، وتقديرُ الإِرادة هو الوجهُ، وذلك أن التقاديرَ التي ذكرناها بعد تقدير الإِرادة لا يظهرُ معناها؛ لمَا فيه من تعليل امتناعِ الحَلْفِ بانتفاء البِرِّ، بل وقوع الحَلْفِ مُعَلَّلٌ بانتفاء البِرِّ، ولا ينعقد منهما شرطٌ وجزاءٌ، لو قلتَ في معنى هذا النهي وعلَّتِه، «إِنْ حَلَفْتَ بالله، بَرَرْتَ» لم يصحَّ، بخلافِ تقديرِ الإِرادة؛ فإنه يُعَلَّل امتناع الحَلْفِ بإرادة وجودِ البِرِّ، وينعقدُ منهما شرطٌ وجزاءٌ تقول: إِنْ حَلَفْتَ، لم تَبَرَّ، وإنْ لم تَحْلِفْ، بَرَرْتَ. الثالث: أنَّها على إسقاط حرف الجرِّ، أي: في أَنْ تَبَرُّوا؛ وحينئذٍ: يَجِيء فيها القولان: قولُ سيبويه والفراء فتكون في محلِّ نصبٍ، وقولُ الخليل والكسائيَ، فتكونُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 85 في محلِّ جرٍّ، وقال الزمخشري: ويتعلَّقُ «أَنْ تَبَرُّوا» بالفعل أو بالعُرْضَةِ، أي: «ولا تَجْعَلُوا اللهَ لأَجْلِ أَيْمَانِكُمْ عُرْضَةً لأنْ تَبَرُّوا» . قال أبو حيان: وهذا التقديرُ لا يصحُّ للفصل بين العامل ومعمولهِ بأجنبيٍّ، وذلك أنَّ «لأَيْمَانِكُمْ» عنده متعلقٌ ب «تَجْعَلُوا» ، فوقع فاصلاً بين «عُرْضَةً» التي هي العاملُ وبين «أَنْ تَبَرُّوا» الذي هو معموله وهو أجنبيٌّ منهما، ونظيرُ ما أجازه أن تقولَ: «امْرُرْ وَاضْرِبْ بِزَيْدَ هِنْداً» ، وهو غيرُ جائزٍ، ونَصُّوا على أنه لا يجوزُ: «جَاءَني رَجُلٌ ذُو فَرَسٍ رَاكِبٌ أَبْلَقَ» أي رجلٌ ذُو فَرَسٍ أَبْلَقَ راكِبٌ لِما فيه من الفصلِ بالأجنبيِّ. الرابع: أنها في محلِّ جَرٍّ؛ عطفَ بيانٍ ل «أَيْمَانِكُمْ» ، أي: للأمورِ المَحْلُوفِ عليها التي هي البِرُّ والتقوَى والإِصلاح كما في الحديث. قال أبو حيان: «وهو ضعيفٌ لما فيه من جَعْلِ الأيمانِ بمعنى المَحْلُوفِ عليه» ، والظاهرُ أنها هي الأقسام التي يُقْسَمُ بها، ولا حاجةَ إلى تأويلها بما ذُكِرَ من كَوْنها بمعنى المَحْلُوفِ عليه؛ إذ لم تَدْعُ إليه ضرورةٌ، وهذا بخلافِ الحديثِ، وهو قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا» فإنه لا بد من تأويله فيه بالمحلوف عليه، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك في الآية الكريمة. الخامسُ: أَنْ تكونَ في محلِّ جرٍّ على البدلِ من «لأَيْمَانِكُمْ» ؛ بالتأويل الذي ذكره الزمخشريُّ، وهذا أَوْلَى من وجهِ عطفِ البيانِ؛ فإنَّ عَطْفَ البيانِ أكثرُ ما يكونُ في الأعلام. السادس - وهو الظاهرُ -: أنَّها على إسقاطِ حرفِ الجر، لا على ذلك الوجه المتقدِّم، بل الحرفُ غيرُ الحرفِ، والمتعلِّقُ غيرُ المتعلِّقِ، والتقديرُ: «لإِقْسَامِكُمْ عَلَى أَنْ تَبَرُّوا» ف «عَلَى» متعلقٌ بإِقْسَامِكُمْ، والمعنى: وَلاَ تَجْعَلوا الله مُعَرَّضاً ومُتَبَدَّلاً لإِقْسَامكُمْ على البِرِّ والتقْوَى والإِصْلاَح الَّتي هي أوصافٌ جميلةٌ؛ خَوْفاً من الحِنْثِ، فكيف بالإِقسامِ علَى ما ليس فيه بِرٌّ ولا تَقْوَى!!! والعُرْضَةُ في اشتقاقها ثلاثةُ أقوال: أحدها: أنها «فُعْلَة» بمعنى «مَفْعُول» ؛ من العَرضِ؛ كالقُطْبَةِ والغُرْفَة، ومعنى الآية على هذا: لاَ تَجْعَلُوهُ مُعَرَّضاً للحَلْفِ من قولهم: فُلاَنٌ عُرْضَةٌ لكَذَا، أي: مُعَرَّضٌ، قال كعبٌ: [البسيط] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 86 1084 - مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأَعْلاَمِ مَجْهُولُ وقال حبيبٌ: [الطويل] 1085 - مَتَى كَانَ سَمْعِي عُرْضَةً لِلَّوائِمِ ... وَكِيْفَ صَفَتْ لِلْعَاذِلِينَ عَزَائِمِي وقال حسَّانُ: [الوافر] 1086 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... هُمُ الأَنصَارُ عُرْضَتُهَا اللِّقَاءُ وقال أوسٌ: [الطويل] 1087 - وأَدْمَاءَ مِثْلَ الفَحْلِ يَوْماً عَرَضْتُهَا ... لِرَحْلِي وَفِيهَا هِزَّةٌ وَتَقَاذُفُ فهذا كلُّه بمعنى مُعَرَّضٌ لكذا. والثاني: أنها اسمُ ما تَعْرِضُه على الشيءِ، فيكونُ من: عَرَضَ العُودَ على الإِناءِ، فيعترضُ دونَه، ويصيرُ حاجزاً ومانعاً، ومعنى الآية علَى هذا النَّهيُ عن أَنْ يَحْلِفُوا باللهِ علَى أنَّهم لا يَبَرُّونَ ولاَ يَتَّقُونَ، ويقُولُون: لا نَقْدِرُ أَنْ نَفْعَلَ ذلك لأَجْلِ حَلْفِنَا. والثالث: أنَّها من العُرْضَة، وهي القوة، يقال: «جَمَلٌ عُرْضَةٌ للسَّفَرِ» ، أي: قويٌّ عليه؛ وقال ابن الزَّبير: [الطويل] 1088 - فَهَذِي لأَيَّامِ الحُرُوبِ وَهَذِهِ ... لِلَهْوِي وَهَذِي عُرْضَةٌ لارْتحَالِنَا أي قوةٌ وعُدَّةٌ. ثم قيل لكُلِّ ما صَلُح لِشَيء فهو عُرْضَة له، حتى قالوا للمرأَةِ: هي عُرْضَةٌ للنِّكاح إذا صَلُحَتْ له ومعنى الآية على هذا: لا تَجْعَلُوا اليمينَ بالله تعالى قوةً لأنفسكم في الامتناعِ عن البرِّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 87 والأَيْمَانُ: جمعُ يَمِينٍ: وأصلُها العُضْوُ، واستُعْمِلَتْ في الحَلْفِ مجازاً لما جَرَتْ عادةُ المتعاقِدِينَ بتصافُح أَيْمانهم، واشتقاقُها من اليُمْن، واليمينُ أيضاً: اسمٌ للجهةِ التي تكونُ من ناحيةِ هذا العُضْو، فينتصبُ على الظرف، وكذلك اليسارُ، تقول: زَيْدٌ يَمِينُ عَمْروٍ، وبَكرٌ يَسَارهُ، وتُجْمَعُ اليمينُ على «أَيْمُنٍ وأَيْمَانٍ» وهل المرادُ بالأَيْمان في الآية القَسَمُ نفسُه، أو المُقْسَمُ عليه؟ قولان، الأولُ أَوْلَى. وقد تقدَّمَ تجويزُ الزمخشريِّ أن يكونَ المرادُ به المحلوفَ عليه واستدلالُه بالحديث والجوابُ عنه. فصل ذكر المُفسِّرون في هذه الآية أقوالاً كثيرة، وأجودها وجهان: أحدهما: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني، وهو أنَّ قوله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} نهي عن الجُرأَة على اللهِ بكثَرةِ الحَلْفِ به؛ وذلك لأنه من أَكْثَرَ ذِكْر شيءٍ في معنًى من المعاني، فقد جعلهُ عُرْضَة له، فيقُول الرَّجُل: قد جَعَلْتَنِي عُرْضَة للَوْمك؛ قال الشَّاعر: [الطويل] 1089 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَلاَ تَجْعَلُوني عُرْضَةَ للَّوَائِمِ وقد ذَمَّ الله تعالى مِنْ أكثر من الحَلْفِ بقوله: {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} [القلم: 10] ، وقال تعالى: {واحفظوا أَيْمَانَكُمْ} [المائدة: 89] والعرب كانوا يَمْدَحُون الإنسان بالإقلال من الحلف؛ كما قال كثير: [الطويل] 1090 - قَلِيلُ الأَلاَيَا حافِظٌ لِيَمِينِهِ ... وَإِنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ والحِكْمَة في الأَمْرِ بتقليل الأَيمانِ؛ أن من حَلَف في كُلِّ قَلِيلٍ وكثِيرٍ باللهِ، انْطَلق لِسَانهُ بذلك، ولا يبقَى لليمِين في قَلْبِهِ وقْعٌ، فلا يُؤْمَنُ إقْدَامه على الأَيْمَانِ الكَاذِبَةِ، فيخْتَلُّ ما هو الغَرَضُ من اليمين، وأيضاً كُلَّمَا كان الإنسان أَكْثَرَ تعظِيماً لله - تعالى -، كان أكمل في العُبُوديَّة، ومن كمال التَّعظيم أن يكُون ذِكْر الله - تعالى - أَجَلَّ وأَعْلَى عِنْدَه، من أَنْ يَسْتشْهِد به في غرضٍ من الأَغراض الدُّنْيَويَّة. فإن قيل: كيف يَلْزَم من تَرْك الحَلْفِ حُصُول البِرِّ والتٌّقْوى، والإصْلاَح بين النَّاسِ؟ فالجواب: أَنَّ من تَرَك الحَلْف؛ لاعْتِقَادِه أَنّ الله أَعْظَم وأَجَلَّ من أَنْ يُسْتَشْهَد باسمِه المُعَظَّم في طَلَب الدُّنْيَا، وخَسَائِس مطالب الحَلْفِ، ولا شك أن هذا من أَعْظَمِ أَبْوَابِ البِرّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 88 فصل في سبب النزول نزلت هذه الآيةُ في عبد الله بن رواحة؛ كان بينه وبَيْنَ خَتَنِهِ على أَخِيه بشير بن النُّعْمان شيء، فحلف عبد الله ألاّ يَدْخُلَ عليه، ولا يُكَلِّمَهُ، ولا يُصْلِح بَيْنَه وبين خصمهِ، وإذا قيل لهُ فيه، قال: قد حَلَفْتُ بالله ألاَّ أفْعَل، فلا يَحِلُّ لي إلاَّ أنْ تَبَرَّ يميني فأنْزَل الله هذه الآية. وقال ابن جريج: نزلت في أبي بكر الصِّدِّيق، حين حلف ألاَّ ينفق على مسطح حين خاض في حديث الإفْك، ومعنى الآية: لا تجعلوا الحلف باللهِ شيئاً مانعاً لكم من البرِّ والتَّقوَى، يُدعى أَحدكم إلى صلة الرَّحمن أو بِرِّ، فيقول: حلفتُ بالله ألاّ أفعله، فيعتل بيمينه في ترك البِرّ. قوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} خَتَم بهاتَيْن الصفتَيْن؛ لتقدُّم مناسبتهما؛ فإنَّ الحَلْفَ متعلِّقٌ بالسَّمْع، وإرادة البِرِّ من فِعْلِ القلْبِ متعلقةٌ بالعِلْم، وقَدَّم السميع؛ لتقدُّم متعلِّقِه، وهو الحَلْفُ. قوله تعالى: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ} . واللَّغْوُ: مصدرُ لَغَا يَلْغُو، يقال: لَغَا يَلْغُو لَغْواً، مثل غَزَا يَغْزُو غَزْواً، ولغِيَ يَلْغَى لَغًى مثل لَقِيَ يَلْقَى لقًى إذا أتى بما لا يُحْتاجُ إليه من الكلام، أو بما لا خير فيه، أو بِما يلغى إثمه؛ كقوله - عليه الصّلاة والسّلام - «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الْجُمعَةِ: أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ» . ومن الثاني قوله تعالى: {والغوا فِيهِ} [فصلت: 26] . قال الفرَّاء: اللَّغا مصدر للغَيت. قال أبو العبَّاس المقري: ورد لفظ «اللَّغو» في القرآن على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى اليمين بغير عقديَّةٍ كهذه الآية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 89 الثاني: بمعنى الشَّتيمة؛ قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] ، أي: لم يجيبوهم؛ ومثله: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] . الثالث: بمعنى الحلف عند شُرْب الخمر؛ قال تعالى: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا} [الطور: 23] ، أي: لا يحلف بعضهم على بعض. فصل والباء في «بِاللَّغْوِ» متعلِّق ب «يؤاخذكم» والباء معناها السَّببيّة، كقوله: {فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 40] ، {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} [النحل: 61] . واختلف في اللَّغْوِ: فقيل: ما سبق به اللسانُ مِنْ غيرِ قصدٍ، قاله الفرَّاء، ومنه قول الفرزدق: [الطويل] 1091 - وَلَسْتَ بِمَأْخُوذٍ بِلَغْوٍ تَقُولُهُ ... إِذَا لَمْ تُعَمِّدْ عَاقِدَاتِ العَزَائِمِ ويُحْكَى أن الحسن سُئِلَ عن اللَّغو وعن المَسبيَّة ذات زوجٍ، فنهض الفرزدق، وقال: أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قُلْتُ، وأَنْشَد البيت: [الطويل] وَلَسْتَ بمَأْخُوذٍ ... ... ... ... ... ... ... . ..... ... ... ... ... ... ... ... وقوله: [الطويل] 1092 - وَذَاتِ حَلِيلٍ أَنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... حَلاَلٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطَلِّقِ فقال الحسن: «ما أَذْكَاكَ لَوْلاَ حِنْثُك» ، وقد يُطْلَقُ على كلِّ كلامٍ قبيحٍ «لَغْوٌ» . قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ} [الفرقان: 72] ، {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} [مريم: 62] ؛ وقال العجاج: [الرجز] 1093 - وَرَبِّ أَسْرَابِ حَجِيجٍ كُظَّمِ ... عِنِ اللَّغَا وَرَفَثَ التَّكَلُّمِ وقيل: ما يُطرحُ من الكلام؛ استغناءً عنه، مأخوذٌ من قولهم لِما لا يُعْتَدُّ به من أولاد الإِبل في الدِّيَة «لَغْوٌ» ؛ قال جريرٌ: [الوافر] 1094 - وَيَهْلكُ وَسْطَهَا المَرْئيُّ لَغْواً ... كَمَا أَلْغَيْتَ فِي الدِّيَةِ الحُوَرَا وقيل: «اللَّغو» السَّاقط الذي لا يُعتدُّ به سواء كان كلاماً أو غيره، فأَمَّا وروده في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 90 الكلام؛ فكقوله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] وقوله: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} [الواقعة: 25] ، وقوله: {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} [فصلت: 26، {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} [الغاشية: 11] وقال عليه الصّلاة والسّلام: «إِذَا قُلْتَ لِصَاحِبِكَ يَوْمَ الجُمعَةِ والإِمَامُ يَخْطُبُ: أَنْصِتْ فَقَدْ لَغَوْتَ» وأما قوله: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ} [الفرقان: 72] فيحتمل أن يكون المُرادُ وإذا مَرُّوا بالكلام الَّذي يكون لغواً، وأن يكون المُرادُ: وإذا مَرُّوا بالفعل الَّذِي يكون لغواً، وأَمَّا ورود هذه اللَّفظة في غير الكلام، فكما ورد فيما لا يعتدُّ به من الدِّية في أولاد الإِبل. وقيل: هو ما لا يُفهم، من قولهم: «لَغَا الطَّائِرُ» ، أي: صوَّتَ، واللَّغو، ما لَهجَ به الإنسانُ، واللغةُ مأخوذةٌ من هذا. وقال الراغب: ولَغِيَ بكذا: أي لَهِجَ به لَهَجَ العُصْفُورِ بِلَغَاهُ، ومنه قيل للكلام الذي تَلْهَجُ به فرقةٌ «لُغَة» ؛ لجعلها مشتقةً من لَغِيَ بكذا، أي: أُولِعَ به، قوال ابن عيسى - وقد ذكر أن اللَّغوَ ما لا يفيدُ -: «ومنه اللغةُ؛ لأنَّها عند غيرِ أهلِها لَغْوٌ» ، وقد غَلَّطوه في ذلك. قوله : {في أَيْمَانِكُمْ } فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن يتعلَّق بالفعلِ قبله. الثاني: أَنْ يتعلَّقَ بنفسِ المصدرِ قبله؛ كقولك: «لَغَا فِي يمينه» . الثالث: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حال من اللَّغْوِ، وتعرفه من حيث المعنى؛ أنك لو جعلتَه صلةً لموصولٍ، ووصفْتَ به اللغو، لصحَّ المعنى، أي: اللغو الذي في أَيْمَانِكُمْ. وسُمِّي الحَلفُ يَميناً؛ لأن العرب كانوا إذا تَحَالَفُوا وضع أحدهم يمينه في يمين الآخر. وقيل: لأَنَّه يحفظ الشَّيء كما تحفظ اليد اليمنى الشَّيء. فصل في تفسير اللغو ذكر المفسِّرون في «اللَّغو» وجوهاً: أحدها: قال الشَّافعيُّ وغيره: هو قول الرَّجل في عرض حديثه: «لاَ واللهِ» و «بَلَى واللهِ» من غير قصدٍ إليهما، وهو قول عائشة، وإليه ذهب الشَّعبي وعكرمة، لِمَا رَوَت عائشة؛ قالت: سَبَبُ نُزُولِ هَذِه الآية: قول الرَّجُل فِي عُرْضِ حديثه: (لاَ واللهِ) و (بَلَى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 91 واللهِ) أخرجه البُخاري، ويروى عن عائشة: أيمان اللَّغو ما كان في الهزل والمراء والخُصُومة، والحديث الَّذي لا ينعقِدُ عليه القلبُ. وقال آخرون: هو أن يحلف على شيءٍ يرى أنَّه صادِقٌ، ثم تَبَيَّن أنه خلاف ذلك، وهو قول ابن عبَّاس والحسن، ومجاهد، وسليمان بن يسار، والزُّهري، والسُّدِّيّ، وإبراهيم النَّخعي، وقتادة: ومكحول، وبه قال أبو حنيفة. وفائدة الخلاف: أَنَّ الشَّافعيُّ لا يوجب الكفَّارة في قول الرجل: «لاَ واللهِ» و «بَلَى واللهِ» ، ويوجبها، فيما إذا حلف على شيءٍ يعتقد أَنَّهُ كان، ثم بان أَنَّه لم يكن، وأَبو حنيفة يحكم بالضِّدِّ من ذلك. وقال سعيد بن جبير: هو اليمين في المعصية، لا يؤاخذه الله بالحَنْثِ فيها، بل يحنث ويُكَفِّر. وقال مسروق: ليس عليه كفَّارة، أنُكفِّرُ خطوات الشَّيطان؟ وقال الشَّعبيُّ: الرَّجل يحلف على المعصية كفَّارته أن يتوب منها، وكُلُّ يمين لا يحلُّ لك أن تَفِي بها، فليس فيها كفَّارة، ولو أَمرته بالكفَّارة، لأمرته أَنْ يُتمَّ على قوله. هذا هو اللَّغو؛ لأن اللَّغو هو المعصية؛ قال تعالى: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] . وقال عليٌّ: هو اليمين في الغضب، وبه قال طاوس. وقال الضَّحَّاك: اللَّغو هو اليمين المُكفِّرة، سُمِّيت لغواً، لأن الكَفَّارة أسقطتِ الإثم؛ كأنه قيل: لا يُؤاخذكُم اللهُ بِاللَّغْوِ في أيمانِكُم، إِذْ كَفَّرْتُم. وقال زيد بن أسلم: هو دُعاء الرَّجُل على نفسه؛ كقوله: «أَعْمَى الله بَصَرِي إن لَمْ أَفْعَلْ كَذَا، أَخْرَجَنِي اللهُ من مَالِي إِنْ لَمْ آتِكَ غداً» أو يقول: هُوَ كَافِرٌ إن فَعَلَ كَذَا، فهذا كُلُّه لَغْوٌ لا يُؤَاخذُه الله به، ولو آخَذَ اللهُ به، لعَجَّلَ لهم العُقُوبة؛ قال تعالى: {وَيَدْعُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 92 الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير} [الإسراء: 11] ، {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير} [يونس: 11] . وقال القاضي: هو كُلُّ ما يقع سهواً من غير قصدٍ؛ لقوله تعالى بعد ذلك: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ، أي: يؤاخذكم إذا تعمَّدتم، ومعلوم أنَّ المقابل للعمد هو السَّهو، حُجَّة الشَّافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ما روت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -؛ أَنَّ النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «لَغْوُ اليَمِينِ قَوْلُ الرَّجُلِ فِي قَلْبِهِ: كَلاَّ واللهِ، بَلَى واللهِ، لاَ وَاللهِ» . وروي أنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مرَّ بقوم ينتضلون، ومعه رجلٌ من أصحابه، فرمى رجلٌ من القوم، فقال: أصبت واللهِ، ثم أخطأ فقال الَّذي مع النَّبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: حَنَثَ الرَّجُل يا رَسُولَ اللهِ، فقال النَّبيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «كُلُّ أَيْمَان الرُّمَاةِ لَغْوٌ لاَ كَفَّارَةَ فِيهَا، وَلاَ عُقُوبَةَ» . وأيضاً فقوله: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} هو الَّذي يقصد الإنسانُ على سبيل الجِدِّ، ويربط قلبه به، وإذا كان كذلك، وجب أَنْ يكُونَ اللَّغْو كالمقابل له، ويكُون معناه: ما لا يقصدُ الإنسان بالجِدِّ، ولا يربط قلبه به، وذلك هو قول القائل في عرض حديثه: لا والله، وبلى والله مِنْ غير قصدٍ على سبيل العادة. وأيضاً: فَإِنَّه قال قبل هذه الآية: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} وتقدَّم أنَّ معناه: النَّهي عن كثرة الحلفِ، والَّذِين يقولُون على سبيل العادة لاَ والله، وبلى والله، لا شك أنَّهم يكثرون الحَلْفَ واليمين، فلمَّا ذكرهم اللهُ - عقيب قوله: {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ} ، وبين أنَّه لا مؤاخذة عليهم، ولا كفارة، فإيجاب مؤاخذتهم يقتضي إِمَّا أَنْ يمتنعوا عن الكلام، أو يلزمهم فِي كُلِّ لحظَةٍ كفَّارة، وكلاهُما حرجٌ في الدِّين. واحتجَّ أبو حنيفة بوجوه: الأول: قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَلْيُكَفِّرُ عَنْ يَمِينِهِ» ، فأوجب الكفَّارة على الحانِثِ مُطْلقاً، ولم يفصل بين الجَدِّ والهزل. الثاني: أَنَّ اليمين معنى لا يلحقه الفسخ، فلا يعتبر فيه القصد كالطَّلاق والعتاق، وهاتان الحُجَّتان توجبان الكَفَّارة في قول النَّاس لا واللهِ، وبَلَى والله، إذا حصل الحَنثُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 93 ويؤيِّد ما قلناه: أَنَّ اليمين في اللغة عبارةٌ عن القُوَّة؛ قال الشَّاعر: [الوافر] 1095 - إِذَا مَا رَيَةٌ رُفِعَتْ لِمَجْدٍ ... تَلَقَّاهَا عَرَابَةُ بِالْيَمِينِ أي: بالقوَّة، والمقصود من اليمين: تقوية جانب البِرِّ على جانب الحنث بسب اليمين، وإنَّما يفعل هذا في الموضع الَّذي يكون قابلاً للتَّقوية، وهذا إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل، فأمَّا إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التَّقوية ألبتَّة فعلى هذا فاليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة فأمَّا اليمين على المستقبل، فإنه قابلٌ للتَّقوية. قوله: {ولكن يُؤَاخِذُكُم} وقعت هنا «َلَكِنْ» بين نقيضين؛ باعتبار وجود اليمين؛ لأنَّها لا تَخْلُو: إمَّا ألاَّ يقصدها القلبُ: بل جرتْ على اللسانِ، وهي اللَّغْوُ، وإمَّا أن يقصِدَها، وهي المنعقدةُ. قوله تعالى: {بِمَا كَسَبَتْ} متعلِّقٌ بالفعلِ قبله، والباءُ للسببية كما تقدَّم، و «مَا» يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه: أظهرها: أنها مصدريةٌ لتُقابل المصدر، وهو اللَّغو، أي: لا يؤاخذكم باللغوِ، ولكن بالكسب. والثاني: أنها بمعنى «الذي» ، ولا بُدَّ من عائدٍ محذوفٍ، أي: كَسَبَتْهُ؛ ويرجِّحُ هذا أنها بمعنى «الَّذِي» أكثرُ منها مصدريةً. والثالثُ: أن تكونَ نكرةً موصوفةً، والعائدُ أيضاً محذوفٌ، وهو ضعيفٌ، وفي هذا الكلام حَذْفٌ، تقديره: ولكنْ يُؤاخِذكُمْ في أَيْمَانِكُمْ بما كَسَبَتْ قلوبُكُمْ؛ فحذف لدلالةِ ما قبله عليه. فصل قوله: {يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} ، أي: عزمتُم وقصدتُم إلى اليمين، وكَسبُ القَلْب: العقدُ والنِّيَّة. وقال زيد بن أسلم في قوله: «وَلكِم يُؤَاخِذُكم بما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ» هو في الرَّجل يقول: هو مشركٌ إن فعل أي: هذا اللَّغو إلاَّ أن يعقد الشِّرك بقلبه ويكسبه. واعلم أنَّ اليمين لا تنعقد إلاَّ باللهِ تعالى أو اسم من أسمائِهِ، أو صفةٍ من صفاته، فاليمين باللهِ أَنْ يقول: والَّذي أعبده، والَّذِي أصلِّي له؛ والَّذِي نفسي بيده، ونحو ذلك. واليمين بأسمائه؛ كقوله: واللهِ؛ والرَّحْمنِ ونحوه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 94 واليمين بصفاته؛ كقوله: وعزَّة اللهِ؛ وعظمةِ اللهِ؛ وجلال اللهِ؛ وقدرة اللهِ، ونحوها. فإذا حلف بشيءٍ منها على أمرٍ في المستقبل فحنث، وجبت عليه الكفَّارة، وإذا حلف على أمرٍ ماضٍ أَنه كان ولم يكُن وقد كان، إِنْ كان عالِماً به حال اليمين، فهو اليمين الغموس وهو من الكبائر، وتجبُ فيه الكفَّارة عند الشَّافعيِّ، عالماً كان أو جاهلاً. وقال أصحاب الرَّأي: إِنْ كان عالِماً، فهو كبيرةٌ، ولا كفَّارة لها كسائر الكبائر، وإِنْ كان جاهلاً، فهو يمين اللَّغو عندهم. واحتجَّ الشَّافعيُّ بهذه الآية على وجوب الكفَّارة في اليمين الغموس؛ قال: «لأَنَّه - تعالى - ذكر ههنا المؤاخذة بكسب القلب، وقال في آيةِ المائدة: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} [المائدة: 89] ، وعقد اليمين محتمل لأن يكون المراد به العقد الَّذي مضادُّه الحِلّ، فلما ذكر ههنا قوله: {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} علمنا أن المراد من ذلك العقد هو عقد القلب، وأيضاً ذكر المُؤاخذة، ولم يبيِّن تلك المُؤاخذة ما هِيَ، وَبيَّنَها في آية المائِدَة بقوله: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ} [المائدة: 89] ، فتبيَّن أن المُؤَاخَذَة هي الكَفَّارَة، فكل مُؤَاخَذَةٍ من هاتين الآيتين مجملةٌ من وجهٍ، مبيَّنَةٌ من وجهٍ آخر، فصارت كل واحدةٍ منهما مُفسَّرة للأُخرى من وجهٍ، وحصل من كُلِّ واحدةٍ منهما أَنَّ كُلَّ يمينٍ ذكر على سبيل الجِدِّ وربط القلب به، فالكفَّارة واجبةٌ فيها، ويمين الغموس كذلك، فكانت الكفَّارة واجبةٌ فيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 95 فصل في كراهية الحلف بغير الله ومن حلف بغير اللهِ مثل أن قال: والكعبة، وبيت اللهِ، ونبيِّ الله؛ أو حلف بأبيه ونحو ذلك، فلا يكون يميناً، ولا تجب فيه الكفَّارة إذا حنث، وهو يمين مكروهٌ؛ قال الشَّافعيُّ: وأخشى أن تكون معصية. روى مالكٌ عن نافعٍ، عن ابن عمر؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أدرك عمر بن الخطَّاب، وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه؛ فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُم أَنْ تَحْلفُوا بآبَائِكُم، فَمَنْ كَانَ حَالِفاً فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ أَوْ لِيَصْمُتْ» . قوله تعالى: {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} قد تقدَّم أن «الغَفُور» مبالغةٌ في ستر الذُّنوب، وفي إسقاط عقوبتها. وأمَّا «الحليم» فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة، والسُّكون مع القُدرة والقُوَّة، ويقال ضع الهودج على أحلم الجمال، أي: على أشدِّها قوَّةً في السَّير، ومنه الحِلْم، لأَنَّه يرى في حال السُّكُون، وحلمة الثَّدي؛ والحليمُ مِنْ حَلُم - بالضم - يَحْلُمُ إذا عَفَا مع قُدْرَة، وأمَّا حَلِمَ الأديمُ فبالكسر يَحْلَمُ بالفتح، فسد وتثقَّب؛ وقال [الوافر] 1096 - فَإِنَّكَ وَالْكِتَابَ إِلَى عَلِيٍّ ... كَدَابِغَةٍ وَقَدْ حَلِمَ الأَدِيمُ وأمَّا «حَلَمَ» ، أي: رأى في نومِه، فبالفتح، ومصدرُ الأولِ «الحِلْم» بالكسر؛ قال الجعديُّ: [الطويل] 1097 - وَلاَ خَيْرَ فِي حِلْمٍ إِذَا لَمْ تَكُن لَهُ ... بَوَادِرُ تَحْمِي صَفْوَهُ أَنْ يُكَدَّرَا ومصدرُ الثاني «الحَلِّمُ» بفتح اللام ومصدرُ الثالث: «الحُلُم» و «الحُلْم» بضم الحاءِ مع ضمِّ اللام وسكونها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 96 قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ} : هذه جملةٌ من مبتدأ وخبرٍ، وعلى رأي الأخفش من باب الفعلِ والفاعلِ؛ لأنه لا يشترطُ الاعتماد، و «مِن نِّسَآئِهِمْ» في هذا الجارِّ ثمانيةُ أوجهٍ: أحدها: أنْ يتعَلَّقَ ب «يُؤْلُونَ» . قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: كيف عُدِّي ب» مِنْ «وهو مُعَدى ب» عَلَى «؟ قلتُ: قد ضُمِّنَ في هذا القَسَم المخصوصِ معنى البُعْد، فكأنه قيل: يُبْعُدُونَ من نسائِهم مُؤْلِينَ، أو مُقْسِمِين» . الثاني: أنَّ «آلَى» يتَعَدَّى ب «عَلَى» وب «مِنْ» ؛ قاله أبو البقاء نقلاً عن غيره؛ أنه يقال: آلَى من امرأته، وعلى امرأته. الثالث: أنَّ «مِنْ» قائمةٌ مقامَ «عَلَى» على رأي الكوفيِّين. والرابع: أنها قائمةٌ مقامَ «فِي» ، ويكونُ ثم مضافٌ محذوفٌ، أي: على تَرْكِ وَطْءِ نسائهم، أو في ترك وطء نسائهم. والخامس: أنَّ «مِنْ» زائدةٌ، والتقدير: يُؤْلُون أَنْ يَعْتَزلوا نِسَاءَهُم. والسادس: أَنْ تتعلَّقَ بمحذوف، والتقديرُ: والذين يُؤُلون لهم من نسائهم تربُّصُ أربعة أشهرٍ؛ فتتعلَّق بما يتعلق به «لَهُم» المحذوفُ، هكذا قَدَّره أبو حيَّان وعزاه للزمخشريِّ قال شهاب الدين وفيه نظرٌ؛ فإنَّ الزمخشريَّ قال: ويجوزُ أن يُرَادَ: لهم من نسائهم تَرَبُّصُ؛ كقولك: «لِي مِنْكَ كَذَا» فقوله «لَهُمْ» لم يُرد به أن ثَمَّ شيئاً محذوفاً، وهو لفظُ «لَهُمْ» ، إنما أرادَ أَنْ يعلِّق «مِنْ» بالاستقرار الذي تعلَّق به «لِلَّذِينَ» ، غايةُ ما فيه: أنه أتى بضمير «الَّذِينَ» تبييناً للمعنى، وإِلَى هذا المنحَى نحا أبو البقاء؛ فإنه قال: وقيل: الأصلُ «عَلَى» ، ولا يَجُوزُ أن تقومَ «مِنْ» مقامَ «عَلَى» فَعَلَى ذلك تتعلَّقُ «مِنْ» بمعنى الاستقرار، يريدُ الاستقرارَ الذي تعلَّقَ به قوله «لِلَّذِينَ» ، وعلى تقدير تسليم أنَّ لفظة «لَهُمْ» مقدرةٌ، وهي مُرادةٌ، فحينئذٍ: إنما تكونُ بدلاً من «لِلَّذِينَ» بإِعادةِ العاملِ، وإلاَّ يبقى قوله «لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ» مُفْلَتاً، وبالجملةِ فتعلُّقه بالاستقرار غيرُ ظاهرٍ، وأمَّا تقديرُ الشيخ: «والذين يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ» ، فليس كذلك؛ لأنَّ «الَّذِينَ» لو جاء كذلك غيرَ مجرور باللام، سَهُلَ الأمرُ الذي ادَّعاه، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام، سهُلَ الأمرُ الذي ادَّعاه، ولكن إنما جاءَ كما تراه مجروراً باللام، ثم قال أبو حيَّان: وهذا كلُّه ضعيفٌ يُنَزَّه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 97 القرآن عنه، وإنما يتعلَّق ب «يُؤْلُونَ» على أحد وجهين: إمَّا أنْ تكونَ «مِنْ» للسَّبَبِ، أي يَحْلِفُون بسبب نسائِهم، وإمَّا أَنْ يُضَمَّن معنى الامتناع، فيتعدَّى ب «مِنْ» فكأنه قيل «لِلَّذِينَ يمتنعُونَ من نسائِهِم بالإِيلاَءِ» فهذان وَجْهان مع السنة المتقدِّمة؛ فتكونُ ثمانةٌ، وإن اعتبرت مطلقَ التضمينِ فتجيءُ سبعةٌ. والإِيلاءُ: الحَلفُ. مصدرُ آلَى يُؤْلي، نحو: أَكْرَمَ يُكْرِم إِكْرَاماً، والأصل: «إئْلاءٌ» فأُبدِلت الهمزةُ الثانيةُ ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها؛ نحو: «إِيمَان» . ويقال: تَأَلَّى وايتَلَى على افتَعَلَ، والأصلُ: ائْتَلَى، فقُلِبَت الثانيةُ ياءً؛ لِما تقدَّم. والحَلْفَةُ: يقال لها: الأَلِيَّةُ والألُوَّةُ والأَلْوَةُ والإِلْوَةُ، وتُجْمَعُ الأَليَّةُ على «أَلايَا» ؛ كعَشيَّة وعَشَايَا، ويجوزُ أن تُجْمَعَ الأَلُوَّة أيضاً على «أَلاَيَا» ؛ كرَكُوبَة ورَكَائِب؛ قال كُثَيِّر عزَّة: [الطويل] 1098 - قَلِيلُ الألاَيَا حَافِظٌ ليَمِينِهِ ... إِذَا صَدَرَتْ مِنْهُ الأَلِيَّةُ بَرَّتِ وقد تقدَّم كيف تصريفُ أَلِيَّة وَأَلاَيَا عند قوله: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] جمع خطيئة والإيلاء من عرف الشَّرع: هو اليمين على ترك الوطء؛ كقوله: لا أُجامعك، أولا أُباضعك، أو لا أُقاربك. ومن المفسرين من قال في الآية حذف تقديره: للَّذين يؤلون من نسائهم ألاَّ يطئوهم، إلاَّ أنَّه حذف لدلالة الباقي عليه. قال ابن الخطيب: هذا إذا حملنا لفظ «الإِيلاَءِ» على المفهوم اللُّغَوِيّ، أَمَّا إذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 98 حملناه على المفهوم الشَّرعي، لم يحتج إلى هذا الإضمار. وقرأ أُبيٌّ وابن عباس: «للَّذِينَ يُقْسِمُونَ» ، نقله القرطبي. وقرأ عبد الله: «آلَوْا مِنْ نِسَائِهِم» . والتَّربصُ: الانتظارُ، وهو مقلوبُ التَّصبُّرِ؛ قال: [الطويل] 1099 - تَرَبَّصْ بِهَا رَيْبَ المَنُونِ لَعَلَّهَا ... تُطَلَّقُ يَوْماً أَوْ يَمُوتَ حَلِيلُهَا وإضافةُ التربُّص إلى الأشهرِ فيها قولان: أحدهما: أنَّه من باب إضافة المصدر لمفعوله؛ على الاتساع في الظرف؛ حتَّى صارَ مفعولاً به، فأُضيفَ إليه، والحالةُ هذه كقوله: «بَيْنَهُمَا مَسِيرة يَوْمٍ» أي: مَسِيرة في يَوْم. والثاني: أنه أُضِيف الحَدَثُ إلى الظرف من غير اتِّساع، فتكونُ الإِضافةُ بمعنى «فِي» وهو مذهبٌ كوفيٌّ، والفاعلُ محذوفٌ، تقديره: تربُّصُهُمْ أربعةُ أشهرٍ. فصل قال قتادة: كان الإيلاء طلاقاً لأهل الجاهلية وقال سعيد بن المُسيَّب: كان ذلك من ضرار أهل الجاهليَّة، وكان الرَّجُلُ لا يُحِبُّ امرأته، ولا يريد أن يتزوَّجها غيره، فيحلف ألاَّ يقربها أبداً، فيتركها لا أَيماً ولا ذات بعلٍ، وكانوا في ابتداء الإِسلام يفعلون ذلك أيضاً؛ فأزال الله تعالى ذلك، وضرب للزَّوْج مُدَّة يَتَرَوَّى فيها ويتأمَّل، فإِنْ رأى المصلحة في تركِ هذه المضارَّة، فعلها، وإن رأى المصلحة في المفارقة، فارقها. وقال القُرطبيّ: وقد آلَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وطَلَّق، وسببُ إيلائه: سُؤال نسائه إِيَّاه من النَّفقةِ ما ليس عندهُ؛ كذا في «صَحِيح مُسْلِم» ، وقيل: لأن زينب ردَّت عليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 99 هديَّتهُ، فغضب - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فآلَى منهُنَّ، ذكره ابن ماجه. فصل فذهب أكثرهم إلى أَنَّهُ إِن حلف لا يَقْرَبُ زوجته أبداً، أَو سَمَّى مُدَّة أكثر من أربعة أشهر يكون مؤْلياً، فلا يتعرَّض لها قبل مضي أربعة أشهرن وبعد مُضيِّها يُوقفُ ويُؤمرُ بالفيئة أو الطَّلاقِ بعد مُطالبةِ المرأة، والفَيْئَة: هي الرُّجُوع عمَّا قال بالوطء إن قَدَر عليه، وإن لم يَقْدِر فبالقَوْل، فإن لم يَفِ ولم يُطَلِّق، طَلَّق عليه الحاكم واحدة. وذهب إلى الوَقْفِ بعد مُضِيِّ المُدَّةِ: عمرن وعثمان، وعليٌّ، وأبو الدرداء، وابن عمر. قال سُليمان بن يسار: أدْرَكْتُ بضعة عشر من أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كُلُّهم يقول بوقف المُؤْلي، وإليه ذهب سعيد بن جُبير، وسُلَيْمان بن يسار، ومجاهد، وبه قال مالك والشَّافعي وأحمد وإِسحاق. وقال بعض أهل العلم: إذا مضتْ عليها أربعةُ أشهر، يقع عليها طَلْقَةً بائنة، وهو قول ابن عبَّاس وابن مسعود، وبه قال سُفيانُ الثَّورِيُّ وأصحاب الرَّأي. وقال سعيد بن المُسيَّب والزُّهري: تقع طلقة رجعيَّةً، ولو حلف ألاَّ يطأَها أَقَلَّ من أربعة أشهر، لا يكون مُؤْلياً، بل هو حانثٌ إذا وطئها قبل مُضِيِّ تلك المُدَّة، وتجب عليه كفَّارة يمين على الصَّحيح، ولو حلف ألاَّ يطَأَهَا أربعة أشهرٍ، لا يكون مُؤلياً عند من يقول بالوقف بعد مُضِيِّ المُدَّة، لأن بقاء المُدَّة شرط للوقف، وثبوت المُطَالبة بالفيئة أو الطَّلاق، وقد مضتِ المُدَّة، وعند من لا يقول بالوقف لا يكون مؤلياً ويقعُ الطَّلاَق بمُضِيِّ المُدَّة. وقال ابن عبَّاس لا يكون مُؤْلياً حتى يحلف لا يَطأَها أبداً. وقال الحسن البصريِّ وإسحاق: أي مُدَّة حَلَف عَلَيها، كان مُؤلياً وإن كان يَوْماً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 100 فصل قال القرطبيُّ: إذا حلف أَلاَّ يطأ امرأتهُ أكثر من أربعة أشهرٍ؛ فانقضت الأربعة أشهرٍ ولم تُطالبه، ولم ترفعهُ إلى الحاكم، لم يلزمه شيء عند مالكٍ وأكثر أهل المدينة. وقال بعض أصحابنا: يلزمه بانقضاء الأَربعَة أَشهر طلقة رجعيَّة، وقال بعضهم: طلقة بائِنَة. والصَّحِيح: ما ذهب إليه مالِكٌ، وأكثر أَهْلِ المدينة وأصحابه. فصل هل ينعقد الإيلاء في الغضب؟! قال ابن عبَّاس: لا يكون إيلاءً إلاَّ في حالِ الغَضَبِ، وهو المشهور عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وهو قول اللَّيث، والشَّعبي، والحسن، وعطاء قالوا: لا يكون الإيلاءُ إلاَّ على وجه مغاضبةٍ ومشادَّة. وقال ابن سيرين: يكون في غضبٍ، وغير غضبٍ، وهو قول ابن مسعود، والثوري ومالك وأهل العراق والشَّافعيِّ وأحمد. فصل والمدخول بها وغير المدخول بها سواءٌ في صِحَّة الإيلاء منها. قال القرطبي: والذِّمِّيُّ لا يصحُّ إيلاؤه كما لا يصحُّ طلاقهُ، ولا ظِهَارُهُ؛ لأن نكاح أهل الشِّرْكِ عندنا ليس بنكاحٍ صحيحٍ. فصل ومُدَّة الإيلاء أربعة أشهر في حق الحُرِّ والعبدِ لأنَّها ضُرِبت لمعنى يرجع إلى الطَّبع، وهو قِلَّةُ صبر المرأَة عن الزَّوج، فيستوي فيه الحُرُّ والعبدُ؛ كمُدَّة الفَيْئَةِ ومُدَّة الرِّضاع. وعند مالكٍ وأبي حنيفة: ينتصف بالرِّقِّ، إلاَّ عند أبي حنيفة: ينتصف بِرِقِّ المرأة، وعند مالكٍ: برِقِّ الرَّجُل؛ كقولهما في الطَّلاَق. ولنا: ظاهر قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} فتناول الكُلَّ من غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 101 تخصيصٍ، والتَّخصيص خلاف الظَّاهر، والمعنى المُتَقَدِّم يمنع التَّخْصِيص. قال القرطبيُّ: وأَجَلُ المُؤلي من يوم حلف، لا مِنْ يوم المرافعة إلى الحاكم. فصل فيمن يصح منه الإيلاء ومن لا يصح كُلُّ زَوْج يتصوَّر منه الوَقَاع، وكان تصرُّفه مُعْتبراً في الشَّرْع، صَحَّ منه الإيلاءُ. وقال مالكٌ: لا يَصِحُّ الإيلاءُ إلاَّ في حال الغضب، وقال غيره: يصحُّ الإيلاءُ في حال الرِّضَى والغضب، ويصحُّ الإيلاءُ من الرَّجعيَّة؛ لأنها زوجة؛ بدليل أَنَّه لو قال: نسائي طوالِقٌ، وقع عليها الطَّلاَقُ. وإيلاء الخَصِيِّ صحيحٌ، لأنه يُجَامع كالفحلِ، وإنما فُقِد في حَقِّهِ الإِنْزَالُ، والمجبوب إن بقي منه ما يمكنه أن يُجَامع به، صَحَّ إِيلاؤه، وإن لم يَبْقَ، فيه خلافٌ. قال أبو حنيفة: لا يَصِحُّ إيلاؤه. وقال غيره: يَصِحُّ لعموم الآية، ولا يصحُّ الإيلاء [من أَجْنَبيَّة] ، فلو آلَى منها ثم تَزَوَّجها، لم يكن مُؤْلِياً. فصل فإن امتنع من وطئها بغير يمين إضراراً بها، أُمر بوطئها، فإن امتنع إضراراً بها، فرَّق الحاكم بينه وبينها، من غير ضرب مُدَّة. وقيل: يُضربُ له أجلُ الإيلاءِ، فإذا حلف لا يطؤها حتى يفطم ولدها؛ لئلا يُمْغَلَ بولدها، ولم يرد إضراراً بها حتى يَنْقَضِي أَمَدُ الرِّضاع، لم يكُن لها مُطَالبته. فصل المُوْلِي لا يخلُو إمّا أن يحلف تَرْك الوَطْءِ بالله - تعالى - أو بغيره، فإِن حَلَف بالله تعالى كان مُؤلياً، ثم إن جامعها في مُدَّة الإيلاءِ، خَرَجَ عن الإيلاءِ، وهل تجب عليه كَفَّارة؟ فيه قَوْلاَن: أصحّهما: أن عليه الكَفَّارة كما قَدَّمناه؛ لعموم الدَّلائِل الموجبةِ للكَفَّارةِ عند الحِنْثِ باليمين بالله - تعالى - لأنه لا فَرْقَ بين قوله: «والله لا أَقْرَبُكِ» ثم يَقْرَبُهَا، وبين قَوله: «والله لا أُكَلِّمُكِ» ثم يُكَلِّمُهَا. والقول الثاني: لا كَفَّارة عليه؛ لقول تعالى: {فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . ولو كانت الكَفَّارة واجبةٌ لذكرها، والحاجة مناسبةٌ إلى معرفتها، ولا يجوزُ تأخِير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 102 البيان عن وقتِ الحاجة، والغُفران يوجبُ ترك المُؤَاخَذةِ. وللأَوَّلِين أن يجيبوا: بأنه إنما ترك الكَفَّارة ههُنا لأنه - تعالى - بيَّنها على لسان رسوله - عليه الصَّلاة والسلام - في سَائِر المواضع، وتَرْكُ المُؤَاخذة بقوله: «غَفُورٌ رَّحِيمٌ» يدل على عدم العقاب، وهو لا يُنافي وجُوب الفِعْل، كما أن التَّائِب عن الزِّنا والقَتْلِ لا عِقاب عليه، ومع ذلك يجِبُ عليه الحَدُّ والقِصَاصُ. وأما إن كان الحالف في الإيلاء بغير اللهِ؛ كما إذا قال: إن وَطَأْتُكِ فعبدي حُرٌّ، أَوْ أَنْت طالِقٌ، أو ضرتك طَالِق، أو التزم أمراً في الذِّمَّة، فقال: إن وَطَأْتُكِ فَلِلَّه عليَّ عِتْق رَقبة، أو صدقة، أو صَوْم، أو حَجّ، أو صلاة، فقال الشَّافعي في «القدِيمِ» ، وَأَحمدُ في ظاهر الرِّواية عنه: لا يكون مُؤْلِياً؛ لأن الإِيلاَء المعهُود هو الحلفُ باللهِ؛ ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ حَلَفَ فَلْيَحْلِفْ بِاللهِ» . وقال الشَّافعيّ في «الجَدِيدِ» - وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة - إنه يكُون مُؤْلِياً؛ لأن لفظ الإيلاءِ يَتَناوَلُ الكُلَّ، وعلى القولين فيمينُهُ منعقدة، فإن كان قد عَلَّق به طلاقاً أو عِتْقاً، وقع بِوَطْئِه ذلك المُعَلَّق، وإن كان المُعَلَّق التزام قُرْبة في الذِّمَّة، فعليه ما في نذرِ اللَّجاج، إِمَّا كَفَّارة يمين، وإِمَّا الوَفَاء بما سَمَّى. وفائدة هذين القولين: أنا إن قلنا: يكون مُؤْلياً، فبعد أَرْبَعَة أشهر يضيق الأَمْر عليه، حَتَّى يَفيء أو يُعَلِّق، وَإِنْ قلنا: لا يكون مُؤْلياً، لا يضيقُ عليه الأَمر. قال القرطبي: فإن حلف بالنَّبِيّ أو الملائِكَة، أو الكَعبة ألا يَطَأَها أو قال: هو يَهُوديٌّ، أو نصرانيٌّ، أو زانٍ إن وطِئَها، فليس بِمُؤْلٍ، قال: وإن حلف ألا يَطَأَها، واستثنى فقال: إن شاء الله، فإنَّه يكون مُؤلياً، فإن وَطِئَهَا، فلا كَفَّارة عليه. وقال ابن الماجشون في «المَبْسُوطِ» : ليس بِمؤلٍ، وهو الصَّحيحُ. قوله: {فَإِنْ فَآءُوا} ألفُ «فَاءَ» منقلبةٌ عن ياء؛ لقولهم: فَاءَ يَفِيءُ فَيْئَةً: رَجَعَ والفَيْءُ: الظلُّ؛ لرجوعه من بعد الزوال، وقال عَلْقَمَةُ: [الطويل] 1100 - فَقُلْتُ لَهَا فِيئِي فَمَا تَستَفِزُّنِي ... ذَوَاتُ العُيُون وَالبَنَانِ المُخَضَّبِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 103 وفرّقوا بين الفَيْءِ والظِّل: فقالوا: الفَيء ما كان بالعَشِيِّ؛ لأنه الذي نسختهُ الشَّمسُ، والظَّلُّ ما كان بالغداة؛ لأنه لم تنسخه الشَّمس، وفي الجنة ظِلٌّ وليس فيها فَيْءٌ؛ لأنه لا شَمْسَ فيها؛ قال تعالى: {وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ} [الواقعة: 30] ؛ وأنشد: [الطويل] 1101 - فَلاَ الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ ... وَلاَ الفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ وقيل: فُلاَن سريعُ الفيئة، أي: سريعُ الرُّجوع عن الغَضَبِ إلى الحَالَةِ المتقدِّمة، حكاه الفَرَّاء عن العرب. وقيل لما رَدَّه الله على المُسلمين من مال المُشْرِكين: فَيْء؛ كأنه كان لهم فرجع إِلَيهم، فقوله: «فَاءُوا» معناه: رَجَعُوا عَمَّا حَلَفُوا عليه من تَرْك الجِمَاع، فإنه غَفُورٌ رَحِيمٌ. فصل في وجوب الكفَّارة قال القُرطبيّ: جمهور العُلماء أَوْجَبُوا الكَفَّارة على المُؤْلي إذا فاء بجماع امرأته. وقال الحسن: لا كَفَّارة عليه. قال القرطبي: إِذَا كَفَّر عن يمينه، سقط عنه الإيلاءَ. قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} في نصب «الطَلاَقَ» وجهان: أحدهما: أنه على إسقاط الخافضِ؛ لأنَّ «عَزَمَ» يتعدَّى ب «عَلَى» ، قال: [الوافر] 1102 - عَزَمْتُ عَلَى إِقَامَةِ ذِي صَبَاحٍ ... لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ والثاني: أن تُضَمَّن «عَزَمَ» معنى «نَوَى» ؛ فينتصب مفعولاً به. والعَزْمُ: عَقْدُ القلبِ وتصميمُه: عَزَم يَعْزِمُ عَزْماً وعُزْماً بالفتحة والضمة، وعَزِيمَةً وعِزَاماً بالكَسْر، ويستعمل بمعنى القَسَم: عَزَمْتُ عَلَيْكَ لَتَفْعَلَنَّ؛ والعزمُ والعَزِيمةُ: توطينُ النَّفْسِ على المُرادِ المَطْلُوب، والأَمر المَقْصُود. والطلاقُ: انحلالُ العقدِ، وأصلُه الانطلاق. وقال القرطبي: والطَّلاق: التَّخليةُ، يقال: نعجةٌ طالِقٌ، وناقةٌ طالِق أي: مهملة؛ قد تُرِكت في المرعى، لا قيدَ عليها ولا رَاعِيَ وبعير طُلُق: بضم الطَّاء واللام، والجمع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 104 أَطلاقٌ ويقال: طَلَقَتْ بفتح اللام تَطْلُقٌ فهي طالِقٌ وطَالِقَةٌ؛ قال الأعشى: [الطويل] 1103 - أَيَا جَارَتَا بَينِي فَإِنَّكِ طَالِقَهْ ..... ... ... ... ... ... ... وحكى ثعلب: «طَلُقَتْ» بالضم، وأنكره الأخفش. والطلاقُ يجوز أَنْ يكون مصدراً، أو اسمَ مصدرٍ، وهو التطليقُ. قوله: {فَإِنَّ الله} ظاهرُه أنَّه جوابُ الشرطِ، وقال أبو حيان: ويَظْهَرُ أنَّه محذوفٌ، أي: فَلْيُوقِعُوهُ، وقرأ عبد اللهِ: «فَإِنْ فَاءُوا فيهنَّ» وقرأ أُبيُّ «فِيهَا» والضميرُ للأَشْهُرِ. وقراءةُ الجمهورِ ظاهرُها أنَّ الفَيْئَة والطَّلاق إنما تكونُ بعد مُضِيِّ الأربعة الأشهر، إلاَّ أنَّ الزمخشريَّ لمَّا كان يرَى بمذهبِ أبي حنيفة: وهو أنَّ الفَيْئَة في مُدَّة الأربعةِ الأشهرِ، ويؤيِّدُه القراءةُ المتقدِّمَةُ، احتاجَ إلى تأويل الآيةِ بما نصُّه: «فإِنْ قلتَ: كيف موقعُ الفاءِ، إذا كانت الفيئةُ قبل انتهاءِ مدةِ التربُّصِ؟ قلت: موقعٌ صحيحٌ؛ لأنَّ قوله:» فَإِنْ فَاءَوُا. وَإِنْ عَزَمُوا «تفصيلٌ لقوله: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} ، والتفصيلُ يَعْقُب المُفَصَّلَ، كما تقول: أنَّا نزيلُكُمْ هذا الشَّهْرَ، فإِنْ أَحْمَدْتُكُمْ، أَقَمْتُ عندَكُمْ إلى آخره، وإلاَّ لم أقُم إلاَّ رَيْثما أَتَحَوَّلُ» ، قال أبو حيان: «وليس بصحيحٍ؛ لأ، َّ ما مثل به ليس نظيرَ الآيةِ؛ ألا ترَى أنَّ المثالَ فيه إخبارٌ عن المُفَصَّل حاله، وهو قوله:» أَنَا نَزِيلُكُمْ هذا الشَّهْر «، وما بعد الشرطينِ مُصَرَّحٌ فيه بالجواب الدالِّ على اختلاف متعلَّقِ فعل الجزاء، والآيةُ ليسَتْ كذلك؛ لأنَّ الذين يُؤلُونَ ليس مُخْبَراً عنهم، ولا مُسْنَداً إليهم حُكْمٌ، وإنما المحكُومُ عليه تربُّصُهُمْ، والمعنى: تربُّصُ المُؤلين أربعةَ أَشْهُرٍ مشروعٌ لهم بعد إيلائهم، ثم قال:» فَإِنْ فَاءُوا وَإِنْ عَزَمُوا «فالظاهرُ أَنَّهُ يَعْقُبُ تربُّصَ المدةِ المشروعةِ بأَسْرِهَا، لأنَّ الفيئةَ تكونُ فيها، والعَزْمَ على الطلاقِ بعدَها؛ لأنَّ التقييد المغاير لا يَدُلُّ عليه اللفظُ، وإنما يُطابقُ الآيةَ أَنْ تقول:» للضَّيْفِ إكرامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، فإنْ أقامَ، فنحنُ كرماءُ مُؤثِرُونَ، وإنْ عَزَمَ على الرحيلِ، فله أن يَرْحَلَ «، فالمتبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّ الشرطين مُقَدَّرَانِ بعد إكرامهِ» . قلوه: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال أبو حنيفة: سَمِيعٌ لإِيلائِه، عليم بعزمِه. قال القرطبي: دلَّت هذه الآية على أَنَّ الأَمة الموطوءة بملك اليمين لا يكون فيها إيلاءٌ، إذ لا يقع عليها طلاقٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 105 فصل قال أبو حنيفة والثَّوري: إنه لا يكون مُؤْلِياً حتى يحلف ألاَّ يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد. وقال الشَّافعيّ وأحمد ومالك: لا يكون مُؤلياً حتَّى تزيد المُدَّة على أربعة أشهر. وفائدة الخلاف: أنه إذا آلَى منها أكثر من أربعة أهشرٍ أجل أربعة أشهرن وهذا المُدَّة تكون حَقّاً للزَّوج، فإذا مضت تطالب المرأة الزَّوج بالفيئة أو بالطَّلاق فإن امتنع الزَّوجُ منهما، طلَّقها الحاكمُ عليه، وعند أبي حنيفة: إذا مضت أربعةُ أشهر، يقعُ الطَّلاق. حجة الشَّافعي وجوهٌ. الأول: أنَّ «الفاء» في قوله {فَإِنْ فَآءُوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يقتضي كون هذين الحُكمين مشروعين متراخياً على انقضاء الأَرْبَعة أشهُر. قال ابن الخطيب لما ذكر قول الزَّمخشريِّ المتقدِّم على سبيل الإيراد: وهذا ضعيفٌ، لأن قوله: {لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} إشارةٌ إلى حُكمين: أحدهما: صدور الإيلاء عنهم. والثاني: وجوب تَرَبُّص هذه المُدَّة على النِّسَاء. والفاء في قوله: «فَإِن فَآءُوا» ورد عقيب ذكرهما معاً، فلا بُدَّ وأن يكون هذا الحُكمُ مشروعاً عقيب الأَمرين: عقيب الإيلاءِ، وعقيب حُصُولِ التَّرَبُّص في هذه المُدَّة، بخلاف المثال الَّذِي ذكرهُ، وهو قوله: «أَنَا أَنْزِلُ عِنْدَكُم؛ فإن أكرمتموني بقيتُ وإلا تَرَحَّلتُ» ؛ لأن هناك «الفاء» صارت مذكُورة عقيب شيء واحدٍ، وهو النُّزول، وهي هُنا مذكورة عقيب ذكر الإيلاء، وذكر التَّربُّص، فلا بُدَّ وأن يكُون ما دخلت «الفَاءُ» عليه واقعاً بين هذين الأمرين. الحجة الثَّانية: قوله: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} صريحٌ في أنّ وقوع الطَّلاَق، إنَّما يكون بإيقاع الزَّوج. وعند أبي حنيفة: يقع الطَّلاَق بِمُضِيِّ المُدَّة، لا بإيقاع الزَّوج. فإن قيل: الإيلاءُ طلاقٌ في نفسه؛ فالمراد من قوله: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} الإيلاء المتقدِّم. فالجواب: هذا بعيد؛ لأن قوله: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} لا بُدَّ وأن يكون معناه: «وإن عَزَمُوا الَّذِين يُؤلُونَ مِنْ نِسَائِهُمُ الطَّلاق» فجعل المُؤلي عازماً، وهذا يقتضي أن يكون الجزء: 4 ¦ الصفحة: 106 الإيلاءُ والعزم قد اجتمعا، وأما الطَّلاق فهو مُتعلَّقُ العزم، ومُتعلِّق العزم مُتأخرٌ عن لعزم؛ فإذن الطَّلاَق مُتأَخِّر عن العَزْمِ لا محالة، والإِيلاءُ إمَّا أن يَكُون مقارناً للعزم أو متقدِّماً عليه، وهذا يُفيد أن الطَّلاق مُغَاير لذلك الإِيلاءِ. الحجة الثَّالثة: قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يقتضي أن يصدرَ من الزَّوج شيءٌ يكون مسموعاً وما ذاك إلاَّ أن نقول تقديره: «وإِن عَزَمُوا الطَّلاَق وطلّقوا فاللهُ سمِيعٌ لكَلاَمِهِم، عَلِيمٌ بما في قُلُوبِهِم» . فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ أن يَكُون المُرادُ إن الله سَمِبعٌ لِذَلِك الإيلاءِ. فالجواب: أنّ هذا التهديد لم يحصُل على نفس الإيلاء، بل إنَّمَا حصل عن شيءٍ حصل بعد الإيلاء، فلا بُدَّ وأن يَصْدُر عن الزَّوج بعد ذلك الإيلاء، وهو كلام غيره؛ حتى يكون قوله: {فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} تهديداً عليه. الحجة الرَّابعة: قوله: «فَإِنْ فَاءُوا» ، «وَإِنْ عَزَمُوا» ظاهره التَّخيير بين الأَمرين؛ وذلك يقتضي أن يكون ثبوتهما واحداً، وعلى قول أبي حنيفة ليس الأمر كذلك. الحجة الخامسة: أَنَّ الإيلاء في نفسه ليس بطلاقٍ، بل هو حلفٌ على الامتناع عن الجماع مُدَّة مخصوصة، إلاَّ أنّ الشَّرعَ ضرب لذلك مقداراً معلوماً من الزَّمان؛ وذكل لأَنَّ الرَّجُل قد يترُك جماع المرأة مُدَّة من الزَّمان لا بسبب المضارّة، وهذا إنّما يكُون إذا كان الزَّمَانُ قصيراً، فَأَمَّا ترك الجماعِ زماناً طويلاً، فلا يَكُون إلاَّ عند قصد المضَارَّة، ولما كان الطُّول والقِصرُ في هذا الباب أَمراً غير مضبوطٍ، قَدَّر له الشَّارع حدّاً فاصِلاً بين القَصِير والطَّويل، وذلك لا يُوجبُ وقُوعَ الطَّلاق، بل اللائِقُ بحكم الشَّرع عند ظهور قصد المضارَّة، أن يَأْمُر بتركِ المَضَارَّة، أو بتخليصها من قَيْد الإيلاءِ، وهذا المعنى مُعْتَبرٌ في الشَّرع؛ كضرب الأَجل في مُدَّة العنينِ وغيره. حجة أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قراءة عبد الله بن مسعود: «فَإِنْ فَاءُوا فِيهِنَّ» . والجواب: أنّ القراءة الشَّاذَّة مردودة؛ لأن القرآن لا يَثْبُتُ كونه قُرآناً إلاَّ بالتَّواتُر؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 107 فحيث فلم يثبُت بالتَّواتر، قطعنا بأنَّه ليس بقُرآن وأَوْلى النَّاس بهذا أبو حنيفة؛ فإنّه تَمَسَّك بهذا الحرف في أَنَّ التَّسمية ليست من القُرْآن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 لما ذكر - عزَّ وجلَّ - الإيلاء، وأن الطّلاق قد يقعُ بيَّن تعالى حُكم المرأة بعد التَّطْلِيق. قوله: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} : مبتدأٌ وخبرٌ، وهل هذه الجملةُ من بابِ الخبرِ الواقعِ موقعَ الأمر، أي: لِيتَرَبَّصْنَ، أو عَلَى بابها؟ قولان، وقال الكوفيون: إنَّ لفظها أمرٌ؛ على تقدير لام الأمرِ، ومَنْ جعلها على بابها، قدَّر: وحُكْمُ المطلَّقَاتِ أَنْ يتربَّصْنَ، فحذف «حُكْمُ» مِن الأول، و «أن» المصدرية من الثاني، وهو بعيدٌ جدّاً. و «تَرَبَّصَ» يتعدَّى بنفسَه؛ لأنه بمعنى انْتَظَرَن وهذه الآيةُ تحتمِلُ وجهين: أحدهما: أن يكون مفعول التربُّص محذوفاً، وهو الظاهرُ، تقديرُه: يتربَّصْنَ التزويجَ أو الأزواجَ، ويكونُ «ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ» على هذا منصوباً على الظرف؛ لأنَّ اسمُ عددٍ مضافٍ إلى ظرفٍ. والثاني: أن يكون المفعولُ هو نفسَ «ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ» أي: ينتظرونَ مُضِيَّ ثلاثةِ قُرُوءٍ. وأمَّا قوله: {بِأَنْفُسِهِنَّ} [فيحتمل وجهين، أحدهما، وهو الظاهرُ: أَنْ يتعلَّق المنفصلِ في مثلِ هذا التركيب واجبٌ، ولا يجوزُ أَنْ يُؤتَى بالضميرِ المتصل، لو قيل في نظيرِه: «الهِنْدَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِهِنَّ» لم يجُز؛ لئلاَّ يَتَعَدَّى فِعْلُ المضمر المنفصلِ إلى ضميرِه المتصل في غير الأبواب الجائز فيها ذلك. والثاني: أن يكونَ «بَأَنْفُسِهِنَّ» تأكيداً للمضمرِ المرفوع المتصلِ، وهو النونُ، والباءُ زائدة في التوكيد؛ لأَنَّه يجوزُ زيادتها في النفسِ والعينِ مُؤكَّداً بهما؛ تقولُ: «جَاءَ زَيْدٌ نَفْسُهُ وِبِنَفْسِهِ وَعَيْنُهُ وَبِعَيْنِهِ» ؛ وعلى هذا: فلا تتعلَّقُ بشيء لزيادتها، لا يقالُ: لا جائزٌ أن تكونَ تأكيداً للضمير؛ لأنَّه كانَ يجبُ أن تُؤَكَّدَ بضميرِ رفعٍ منفصلٍ؛ لأنه لا يُؤكَّدُ الضميرُ المرفوعُ المتصلُ بالنَّفسِ والعَيْنِ، إلاَّ بعد تأكيده بالضميرِ المرفوع المنفصلِ؛ فيقال: زَيْدٌ جَاءَ هُوَ نَفْسُهُ عَيْنُهُ «؛ لأنَّ هذا المؤكَّد خرجَ عن الأصلِ، لمَّا جُرَّ بالباءِ الزائدةِ أَشْبَهَ الفَضَلاَتِ، فخرج بذكل عن حكم التوابع، فلم يُلْتَزَمْ فيه ما التزِمَ في غيره، ويُؤيِّد ذلك قولهم:» أَحْسِنْ بِزَيْدٍ، وَأَجْمِلْ «، أي: به، وهذا المجرورُ فاعلٌ عند البصريِّين، والفاعلُ عندهم لا يُحْذَفُ، لكنه لَمَّا جَرَى مَجْرَى الفَضَلاتِ؛ بسبب جَرِّه بالحرفِ، أو خَرَجَ عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 108 أصل باب الفاعل؛ فلذلك جازَ حَذْفُه، وعن الأَخْفَش ذَكَر في» المَسَائِلِ «أنهم قالوا:» قَامُوا أَنْفُسُهُمْ «من غير تأكيدٍ، وفائدةُ التوكيدِ هنا أن يباشِرن التربُّصَ هُنَّ، لا أنَّ عيرَهُنَّ يباشِرْنَهُنَّ التَّربُّصَ؛ ليكونَ ذلك أَبلغَ في المرادِ. فإن قيل: القُرُوءُ: جمع كثرةٍ، ومن ثلاثةٍ إلى عشرة يُمَيَّزُ بجموع القلة ولا يُعْدَلُ عن القلةِ إلى ذلك، إلا عند عدم استعمالِ جمع قلَّةٍ غالباً، وههنا فلفظُ جمع القلَّةِ موجودٌ، وهو» أَقْرَاء «، فما الحكمةُ بالإِتيانِ بجمع الكثرةِ مع وجودِ جمعِ القلَّةِ؟ . فيه أربعةُ أوجهٍ: أوّلها: أنه لّمَّا جمع المطلَّقات جمع القُرُوء، لأنَّ كلَّ مطلقةٍ تترَّبصُ ثلاثة أقراءٍ؛ فصارَتْ كثيرةً بهذا الاعتبار. والثاني: أنه من باب الاتساعِ، ووضعِ أحدِ الجمعين موضعَ الآخر. والثالث: أنَّ «قروءاً» جمعُ «قَرْءٍ» بفتح القافِ، فلو جاء على «أَقْرَاء» لجاء على غير القياس؛ لأنَّ أفعالاً لا يطَّردُ في فَعْلٍ بفتح الفَاء. والرابع - وهو مذهب المُبَرِّد -: أنَّ التقدير «ثَلاثَةً مِنْ قُرُوءٍ» ، فحذف «مِنْ» ، وأجاز: ثَلاثَة حَمِيرٍ وثَلاثَةَ كِلاَبٍ، أي: مِنْ حِمِيرٍ، ومِنْ كِلاَبٍ، وقال أبو البقاء: وقيل: التقديرُ «ثَلاثَةَ أقْرَاءٍ مِنْ قُرُوءٍ» وهذا هو مذهبُ المبرِّد بعينِه، وإنما فسَّر معناه وأَوضحه. فصل اعلم أن المُطلَّقة هي المرأةُ الَّتي وقع عليها الطَّلاق، وهي إمَّا أن تكون أجنبيةً أو منكوحةً. فإن كان أجنبيةً، فإذا وقع الطّلاق عليها فهي مطلَّقةٌ بحسب اللُّغة، لكنَّها غير مطلَّقةٍ بحسب عُرْف الشَّرع، والعِدَّةُ غير واجبةٍ عليها بالإجماع. وأما المَنْكُوحة: فإن لم يكن مدخولاً بها، لم تجب عليها العِدَّة؛ لقوله تعالى: {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] ، وإن كانت مدخولاً بها: فإن كانت حاملاً، فعدَّتها بوضع الحمل؛ لقوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] ، وإن كانت حائلاً؛ فإن امتنع الحيض في حقِّها لصغر مفرط أو كبر مُفرطٍ، فعِدَّتها بالأشهرِ؛ لقوله تعالى: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] . وإن لم يمتنع الحيض في حقِّها؛ فإذا كانت رقيقة، فَعِدَّتها قَرْءان، وإن كان حُرَّة، فعدَّتها ثلاثة قُرُوءٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 109 فظهر من هذا أن العامَّ إِنَّما يحسن تخصيصه، إذا كان الباقي بعد التَّخصيص أكثر؛ لأن العادة جاريةٌ بإطلاق لفظ الكُلِّ على الغالب؛ لأنَّه يُقَالُ في الثَّوبِ: إنه أَسود إذا كان الغَالِبُ فيه السَّوَاد وإن حصل فيه بياضٌ قليل، فأمَّا إذا كان الغالبُ عليه البياض وكان السَّوادُ قليلاً، كان إطلاق لفظ السَّواد عليه كذباً؛ فثبت شرط تخصيص العامِّ؛ أن يكون الباقي بعد التَّخصيص أكثر، وهذه الآية ليست كذلك، فإنه خرج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 110 من عمومها خمسة أقسامٍ، فأطلق لفظ «المُطَلَّقَات» على قسم واحدٍ. والجواب: أما الأجنبيَّة فخارجةٌ عن اللَّفظ، فإنَّ الأَجنبيَّة لا يقال فيها: إنَّها مطلَّقة، وأما غيرُ المدخولِ بها فالقرينة تخرجها؛ لأن أصل العِدَّة شُرِعت لبراءة الرَّحم، والحاجةُ إلى البراءة لا تحصلُ إلاَّ عند سبق الشُّغل، وأمَّا الحامل والآيسةِ فهما خارجتان عن اللَّفظ؛ لأن إيجاب الاعتداد بالأقراء، يكون لم يجبُ الأقراء في حَقِّه. وأمَّا الرقيق فتزويجهن كالنَّادِر، فثبت أن الأَعمَّ الأَغلب باقٍ تحت العُمُومِ. فإن قيل: «يَتَرَبَّصْنَ» خبر والمراد منه الأمر، فما الفائدةُ في التَّعبير عن الأَمر بلفظ الخبر؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 111 فالجواب من وجهين: الأول: أنه - تعالى - لو ذكره بلفظ الأَمر، لكان ذلك يُوهم أَنَّه لا يحصل المقصود، إلاَّ إذا شرعت فيها بالقَصْد والاختيار، وعلى هذا التَّقدير: فلو مات الزَّوج، ولم تَعْلَم المرأَةُ حتى انقضت العِدَّةُ، وجب ألاَّ يكون ذلك كافياً في المقصود؛ لأنَّها إذا أُمِرَت بذلك لَمْ تخرج عن العُهْدَة إلا إذا قصدت أداء التَّكليف، فلما ذكره بلفظ الخبر، زال ذلك الوهم، وعُرِف أَنَّه متى انقضت هذه القُرُوءُ، حصل المقصُود سَوَاء علمت بذلك أو لَمْ تعلم، وسواءٌ شرعت في العِدَّة بالرِّضا أو بالغضب. الثاني: قال الزَّمخشري: التَّعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر، والإشعار بأنَّه ممَّا يجب أن يتعلٌَّ بالمُسارعة إلى امتثاله، فكأنَّهُنَّ امتثلن الأمر بالتَّربُّص، فهو يُخْبِرُ عنه موجوداً؛ ونظيره قولهم في الدُّعاء رحمك اللهُ؛ أُخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة، كأنَّها وجدت الرَّحمة فهو يُخْبر عنها. فإن قيل: لو قال: «يَتَرَبَّصُ المُطلَّقات» لكان ذلك جملة من فعلٍ وفاعلٍ، فما الحكمة من ترك ذلك، وعدولِهِ عن الجملة الفعليَّة إلى الجملة الاسميَّة، وجعل المُطلَّقات مبتدأ، ثم قوله: «يتربّصن» إسنادٌ للفِعل إلى ضمير المُطَلَّقات، ثم جعل هذه الجملة خبراً عن ذلك المُبتدأ. قال الشَّيخ عبد القاهر الجرجانيُّ في كتاب «دَلاَئِل الإِعْجَازِ» : إنَّك إذا قَدَّمت الاسم، فقلت: زيدٌ فعل، فهذا يفيد من التَّأكيد والقُوَّة ما لا يُفيد قولك: «فَعَلَ زَيْدٌ» ؛ وذلك لأنَّ قولك: «زَيْدٌ فَعَل» قد يُستعمل في أمرين: أحدهما: أن يكون لتخصيص ذلك الفعل بذلك الفاعل؛ كقولك: أنا أكتب في المُهِمِّ الفُلانيّ إلى السُّلطان، والمراد دعوى الإنسان الانفراد. والثاني: ألاَّ يكون المقصود الحصر، بل إنَّ تقديم ذكر المُحَدّث عنه بحديث كذا لإثبات ذلك الفعل له؛ كقولهم: «هُوَ يُعْطِي الجَزِيلَ» ولا يريد الحصر، بل أن يُحَقِّق عند السَّامع أَنَّ إِعطَاء الجزيل دأبه؛ وذلك مثل قوله تعالى: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20] ، وليس المراد تخصيص المخلوقيَّة بهم، وقوله تعالى: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} [المائدة: 61] ؛ وقول الشَّاعر: [الطويل] 1104 - هُمَا يَلْبِسَانِ المَجْدَ أَحْسَنَ لِبْسَةٍ ... شَجِيعَانِ مَا اسْطَاعَا عَلَيْهِ كَلاَهُمَا والسَّببُ في حُصُولِ هذا المعنى عند تقديم ذكر المبتدأ: أنَّكَ إذا قلت: «عَبْدُ اللهِ» فقد أشعرت بأَنَّك تريد الإِخبار عنه، فيحصل في النَّفسِ شوق إلى معرفةِ ذلك، فإذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 112 ذكرت ذلك الخبر، قبله العقل بتشوُّق، فيكون ذلك أبلغ في التَّحقيق، ونفي الشُّبهة. فإن قيل: هلا قيل: يَتَرَبَّصْن ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ، وما الفائدة في ذكر الأنفُسِ؟ فالجواب: إن في ذكر الأنفس بعث على التَّربُّص وتهييجُ عليه؛ لأن فيه ما يستنكفن منه، فيحملهنَّ على أن يتربَّصن، وذلك لأنذَ أنفس النِّساء طوامحٌ إلى الرِّجال، فأراد أن يقعن على أنفسهن، ويغلبنها على الطُّموح، ويحرِّضنها على التَّربُّص. فإن قيل: لم لم يقل: ثلاث قروء؛ كما يقال: ثَلاَث حِيَضٍ؟ والجواب: أنه أتبع تذكير اللَّفظ، ولفظ «قَرْء» مذكَّر. والقرء في اللغة: أصله الوقت المعتاد تردده، ومنه: قرء النَّجم لوقت طلوعه وأفوله، يقال: «أَقْرَأَ النَّجْمُ» ، أي: طلع أو أفل، ومنه قيل لوقت هبوب الرِّ] ح: قرؤها وقارئها؛ قال الشاعر: [الوافر] 1105 - شَنِئْتُ العَقْرَ عَقْرَ بَنِي شُلَيْلٍ ... إِذَا هَبَّتْ لِقَارِيهَا الرِّيَاحُ أي: لوقتها، وقيل: أصله الخروج من طهر إلى حيضٍ، أو عكسه، وقيل: هو من قولهم: قَرَيْتُ المَاءَ في الحَوْضِ؛ أي: جمعته، ومنه: قرأ القرآن. وقولهم: ما قرأت هذه الناقة في بطنها سَلاً قطٌّ، أي لم تجمع فيه جنيناً؛ ومنه قول عمرو بن كلثوم: [الوافر] 1106 - ذِرَاعَيْ عَيْطَلٍ أَدْمَاءَ بَكْرٍ ... هِجَانِ اللَّوْنِ لَمْ تَقْرَأْ جِنِينَا فعلى هذا: إذا أريد به الحيض، فلاجتماع الدَّم في الرَّحم، وإن أريد به الطهر، فلاجتماع الدَّم في البدن، وهذا قول الأصمعي، والفرَّاء، والكسائيّ. قال شهاب الدِّين: وهو غلطٌ؛ لأنَّ هذا من ذوات الياء، والقرء مهموزٌ. وإذا تقرَّر ذلك فاختلف العلماء في إطلاقه على الحيض والطهر: هل هو من باب الاشتراك اللفظيِّ، ويكون ذلك من الأضداد أو من الاشتراك المعنويِّ، فيكون من المتواطئ؛ كما إذا أخذنا القدر المشترك: إمَّا الاجتماع، وإمَّا الوقت، وإمَّا الخروج، ونحو ذلك. وقرء المرأة لوقت حيضها وطهرها، ويقال فيهما: أَقْرَأَتِ المَرْأَةُ، أي: حاضت أو طهرت، وقال الأخفش: أَقْرَأَتْ أي: صارت ذات حيضٍ، وقرأت بغير ألفٍ أي: حاضت، وقيل: القرء، الحيض، مع الطهر، وقيل: ما بين الحيضتين. والقائل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 113 بالاشتراك اللفظيِّ وجعلهما من الأضداد هم جمهور أهل اللِّسان؛ كأبي عمرو ويونس وأبي عبيدة. ومن مجيء القرء والمراد به الطهر قول الأعشى: [الطويل] 1170 - أَفِي كُلِّ عَامٍ أَنْتَ جَاشِمٌ غَزْوَةٍ تَشُدُّ لأَقْصَاهَا عَظِيمَ عَزَائِكَا مُوَرِّثَةً عِزًّا وَفِي الحَيِّ رِفْعَةً لِمَا ضَاعَ فِيهَا مِنْ قُرُوءِ نِسَائِكَا ... أراد: أنَّه كان يخرج من الغزو ولم يغش نساءه، فيضيع أقراءهنّ، وإنما كان يضيع بالسَّفر زمانَ الطُّهر لا زمان الحيض. ومن مجيئه للحيض قوله: [الرجز] 1108 - يَا رُبَّ ذِي ضِغْنٍ عَلَيَّ فَارِضِ لَهُ قُرُوءٌ كَقُرُوءِ الْحَائِضِ ... أي: طعنته فسال دمه كدم الحائض، ويقال «قُرْء» بالضمِّ نقله الأصمعيُّ، و «قَرْء» بالفتح نقله أبو زيدٍ، وهما بمعنى واحد. وقرأ الحسن: «ثَلاَثَةَ قَرْوٍ» بفتح القاف وسكون الراء وتخفيف الواو من غير همزٍ؛ ووجهها: أنه أضاف العدد لاسم الجنس، والقرو لغةٌ في القرء، وقرأ الزُّهريُّ - ويروى عن نافع -: «قُرُوِّ» بتشديد الواو، وهي كقراءة الجمهور، إلا أنه خفَّف، فأبدل الهمزة واواً، وأدغم فيها الواو قبلها. فصل مذهب الشَّافعيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنها الأظهار؛ وهو مرويٌّ عن ابن عمرو، وزيد، وعائشة، والفقهاء السَّبعة، ومالك وربيعة، وأحمد في رواية. وقال عليٌّ، وعمر، وابن مسعود: هي الحيض؛ وهو قول أبي حنيفة والثَّوريِّ والأوزاعيّ، وابن أبي ليلى، وابن شبرمة، وإسحاق، وأحمد في رواية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -. وفائدة الخلاف: أن مدَّة العدَّة عند الشَّافعيّ أقصر، وعندهم أطول حتَّى لو طلَّقها في حال الطُّهر، يحسب بقيَّة الطُّهر قرءاً، وإن حاضت عقيبه في الحال، فإذا شرعت في الحيضة الثَّالثة، انقضت عدَّتها، وإن طلَّقها في حال الحيض فإذا شرعت في الحيضة الرَّابعة، انقضت عدَّتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 114 وعند أبي حنيفة: ما لم تطهر من الحيضة الثَّالثة، إن كان الطَّلاق في حال الطُّهر ومن الحيضة الرَّابعة إن كان الطلاق في حال الحيض، لا يحكم بانقضاء عدَّتها، ثم قال: إذا طهرت لأكثر الحيض، تنقضي عدَّتها قبل الغسل، وإن طهرت لأقلِّ الحيض، لم تنقض عدَّتها. وحجَّة الشَّافعي من وجوه: أولها: قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] أي: في وقت عدَّتهن؛ كقوله تعالى: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 47] ، أي: في يوم القيامة، والطَّلاق في زمن الحيض منهيٌّ عنه؛ فوجب أن يكون زمان العدَّة غير زمان الحيض. أجاب صاحب «الكَشَّاف» بأن معنى الآية: مستقبلات لعدَّتهن كما يقال: لثلاث بقين من الشَّهر، يريد: مستقبلاً لثلاث. قال ابن الخطيب: وهذا يقوِّي استدلال الشَّافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لأن قوله: «لِثَلاَثٍ بَقِين من الشَّهْرِ» معناه: لزمانٍ يقع الشُّروع في الثَّلاثِ عقيبه، وإذا كان الإذن حاصلاً بالتَّطليق في جَميع زَمَانِ الطُّهر، وجَبَ أن يكُون الطُّهْرُ الحاصِل عَقِيب زمان التَّطليق من العدَّة، وهو المطلوب. وثانيها: روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -؛ أنها قالت: «هل تَدْرُونَ ما الأَقْرَاءُ؟ الأَقْرَاءُ الأَطْهَارُ» . قال الشَّافعي: والنساء بهذا أعلم؛ لأن هذا إنما يبتلى به النِّساء. وثالثها: وهو ما تقدَّم من أن «القرْءَ» عبارةٌ عن الجمع، واجتماع الدَّم إنَّما هو زمان الطُّهر؛ لأن الدَّم يجتمع في ذلك الزَّمان في البدن. فإن قيل: بل زمان الحيض أولى بهذا الاسم؛ لأنَّ الدَّم يجتمع في هذا الزَّمان في الرَّحم. قلنا: لا يجتمع أَلْبَتَّةَ في زمان الحيض في الرَّحم، بل ينفصل قطرةً قطرةً، وأمَّا وقت الطُّهر، فالكلُّ مجتمعٌ في البدن لم ينفصل منه شيءٌ، وكان معنى الاجتماع وقت الطُّهر أتم؛ لأن الدَّم من أوَّل الطُّهر يأخذ في الاجتماع والازدياد إلى آخره، فكان آخر الطُّهر هو القرء في الحقيقة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 115 ورابعها: أن الأصل ألاّ يكون لأحدٍ على أحدٍ من المكلَّفين حقّ الحبس والمنع من التّصرُّفات، وإنما تركنا العمل بهذا عند قيام الدَّليل عليه، وهو أقلُّ ما يسمَّى بالأقراء الثَّلاثة وهي الأطهار؛ لأن الاعتداد بالأطهار أقلّ زماناً من الاعتداد بالحيض، وإذا كان كذلك، أثبتنا الأقلّ ضرورة العمل بهذه الآية، واطرحنا الأكثر؛ للدَّلائل الدَّالَّة على أنَّ الأصل ألاَّ يكون لأحدٍ على غيره حقّ الحبس والمنع. حجة أبي حنيفة وجوه: أحدها: أنَّ الأقراء في اللُّغة، وإن كانت مشتركةً بين الأطهار والحيض؛ إلا أن الشَّرع غلَّب استعمالها في الحيض؛ لما روي أن النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «دَعِي الصَّلاَةَ أَيَّامَ أَقْرَائِك» والمراد أيَّام الحَيْضِ. وثانيها: ما تقدَّم من وروده بمعنى الحيض. وثالثها: أنا إذا قلنا: بأن الأقراء هي الحيض، أمكن معه استيفاء ثلاثة أقراءٍ بكمالها؛ لأنّا نقول إنّ المطلَّقة يلزمها تربُّص ثلاث حيضٍ، وإنَّما تخرج عن العهدة بزوال الحيضة الثَّالثة، ومن قال: إنَّه الطُّهر يجعلها خارجة من العهدة بقَرْءين وبعض الثَّالث؛ لأن عنده إذا طلَّقها في آخر الطُّهر تعتدُّ بذلك قرءاً، فإذا كان في أحد القولين تكمل حقيقة اللَّفظ بالثَّلاثة. أجاب الشَّافعي بأنق ال: قال الله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] والأشهر جمع، وأقلُّه ثلاثة، وقد حملناه على شهرين وبعض الثَّالث، وذلك شوَّال، وذو القعدة، وبعض ذي الحجَّة، هكذا ههنا يجوز أن نحمل هذه الثَّلاثة على طهرين وبعض الثَّالث. أجاب الجبَّائي عن هذا بوجهين. الأول: أنَّا تركنا الظَّاهر في هذه الآية بدليل، ولا يلزمنا أن نترك الظَّاهر هنا من غير دليلٍ. والثاني: أن في العدَّة تربُّصاً متَّصلاً، فلا بدَّ من استعمال الثَّلاثة، ولا كذلك أشهر الحجِّ؛ لأنه ليس فيها فعل متصلٌ، فكأنَّه قيل: هذه الأشهر وقت الحجِّ لا على سبيل الاستغراق، ثم إن الثَّلاثة نصٌّ في إفرادها لا تحتمل التَّنقيص، ولا كذلك قوله: «أَشْهُر» ؛ لأنَّه ليس بنصٍّ في الثلاثة؛ لأن العلماء اختلفوا في أقلِّ الجمع، ولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 116 يقاس ما فيه نصٌّ على ما لا نصَّ فيه بل العكس. وأجيب الجبَّائي بوجهين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 117 الأول: كما أن حمل الأقراء على الأطهار يوجب الزّيادة؛ لأنه إذا طلَّقها في أثناء الطُّهر، لم يحسب ما بقي من ذلك الطُّهر في العدَّة فتحصل الزِّيادة. واعتذروا عنه: بأن الزِّيادة لا بدَّ من تحمُّلها لأجل الضَّرورة، لأنه لو جاز الطَّلاق في الحيض، لأمرناه بالطَّلاق في آخر الحيض حتى يُعْتَدَّ بأطهارٍ كاملةٍ، وإذا اختص الطَّلاق بالطُّهر، صارت تلك الزِّيادة محتملة للضَّرورة. ونحن نقول: لمَّا صارت الأقراء مفسَّرة بالأطهار، والله تعالى أمرنا بالطَّلاق في الطُّهر صار تقدير الآية: يتربَّصن بأنفسهن ثلاثة أطهارٍ؛ طهر الطَّلاق وطهران آخران، ثم لزم من كون الطُّهر الأوَّل طهر الطَّلاق، أن يكون ذلك الطَّهر ناقصاً، ليعتدّ بوقوع الطَّلاق فيه. الوجه الثاني في الجواب: أنّا بيَّنَّا أن القَرْء اسمٌ للاجتماع وكمال الاجتماع إنَّما يحصل في آخر الطُّهر، فكان في الحقيقة الجزء الأخير من الطُّهر قرءاً تاماً، وعلى هذا التَّقدير؛ لم يلزم دخول النُّقصان في شيءٍ من الأقراء. ورابعها: أنه - تعالى - نقل إلى الشُّهور عند عدم الحيض؛ قال: {واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللاتي لَمْ يَحِضْنَ} [الطلاق: 4] فأقام الأشهر مقام الحيض دون الأطهار. وأيضاً: لما شرعت الأشهر بدلاً عن الأقراء، والبدل يعتبر بتمامها؛ لأن الأشهر لا بدَّ من إتمامها، فوجب أيضاً أن يكون الكمال معتبراً في المبدل، فوجب أن تكون الأقراء كاملة وهي الحيض، وأما الأطهار فيجب فيها قرءان وبعض قرءٍ. وخامسها: قوله - عليه الصَّلاة والسلام -: «طَلاَق الأَمَةِ تَطْلِيقَتَانِ وعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ» وأجمعوا على أنَّ عدَّة الأمة نصف عدَّة الحرَّة، فوجب أن تكون عدَّة الحرَّة هي الحيض. وسادسها: أجمعنا على وجوب الاستبراء في الجواري بالحيض، فكذا العدَّة؛ لأن المقصود من الاستبراء والعدَّة شيءٌ واحدٌ؛ لأن أصل العدَّة إنَّما شرع لاستبراء الرَّحم، وإنما تستبرأ الرَّحم بالحيض والعدَّة شيءٌ واحدٌ؛ لأن أصل العدَّة إنَّما شرع لاستبراء الرَّحم، وإنما تستبرأ الرَّحم بالحيض لا بالطُّهر؛ فوجب أن يكون هو المعتبر. وسابعها: إن القول بأن القرء هو الحيض احتياطٌ، وتغليبٌ لجانب الحرمة؛ لأن المطلَّقة إذا مرَّ عليها بقية الطَّهر، وطعنت في الحيضة الثَّالثة، فإن جعلنا القرء هو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 118 الحيض، فحينئذ يحرم للغير التَّزويج بها، وإن جعلنا القرء هو الطُّهر، فحينئذٍ يجوز تزويجها، وجانب التَّحريم أولى بالرِّعاية؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «ما اجْتَمَعَ الحَلاَلُ والحَرَامُ إلاَّ غَلَبَ الحَرَامُ الحلالَ» ولأن الأصل في الأبضاع الحرمة، وهذا أقرب إلى الاحتياط، فكان أولى؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «دَعْ مَا يرِيبُك إلَى مَا لاَ يرِيبُكَ» . قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ} الجارُّ متعلَّقٌ ب «يَحِلُّ» واللام للتبليغ، كهي في «قُلْتث لَكَ» . قوله: {مَا خَلَقَ الله} في «مَا» وجهان: أظهرهما: أنَّها موصولة بمعنى «الَّذِي» . والثاني: أنها نكرةٌ موصوفةٌ، وعلى كلا التقديرين، فالعائد محذوفٌ لاستكمال الشروط، والتقدير: ما خلقه، و «مَا» يجوز أن يراد بها الجنين، وهو في حكم غير العاقل، فلذلك أوقعت عليه «مَا» وأن يراد بها دم الحيض. قوله: {في أَرْحَامِهِنَّ} فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّق ب «خَلَقَ» . والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنه حالٌ من عائد «مَا» المحذوف، التقدير: ما خلقه الله كائناً في أرحامهنَّ، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرةٌ؛ قال أبو البقاء: «لأَنَّ وقتَ خَلْقِه لَيْسَ بشيءٍ، حتَّى يَتِمَّ خَلْقُهُ» ، وقرأ مُبَشِّر بن عبيدٍ: «في أَرْحَامِهُنَّ» و «بِرَدِّهُنَّ» بضمِّ هاء الكناية، وقد تقدَّم أنه الأصل، وأنه لغة الحجاز، وأنَّ الكسر لأجل تجانس الياء والكسرة. قوله: {إِن كُنَّ} هذا شرطٌ، وفي جوابه المذهبان المشهوران: إمَّا محذوفٌ، وتقديره من لفظ ما تقدَّم؛ لتقوى الدلالة عليه، أي: إنْ كُنَّ يؤمنَّ بالله واليَوم الآخر، فلا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 119 يحلُّ أن يكتمن، وإمَّا أنه متقدِّمٌ؛ كما هو مذهب الكوفيين وأبي زيدٍ، وقيل: «إنْ» بمعنى «إِذْ» ، وهو ضعيفٌ. فصل في بيان تصديق قول المرأة في انقضاء عدتها اعلم أن انقضاء العدَّة لما كان مبنياً على انقضاء الأقراء في حقِّ ذوات الأقراء، وكان علم ذلك متعذِّرٌ على الرِّجال، جعلت المرأة أمينة على العدَّة، وجعل القول قولها إذا ادَّعت انقضاء أقرائها في مدَّة يمكن ذلك فيها، وهو على مذهب الشَّافعيّ اثنان وثلاثون يوماً وساعة؛ لأن أمرها يحمل على أنَّها طلِّقت طاهرة، فحاضت بعد ساعةٍ يوماً وليلة، وهو أقلُّ الحيض، ثم طهرت خَمْسَةنَ عَشَر يوماً، وهو أقَلُّ الطُّهْر، ثم حاضَت يوماً وليلةً، ثم طَهُرَت خَمْسَة عَشَر يَوْماً، ثم رَأَتِ الدَّمَ، فقد انْقَضَت عِدَّتُها؛ لحصول ثلاثة أطهارٍ فمتى ادَّعت هذا أو أكثر منه، قبل قولها، وكذلك إن كانت حاملاً فادَّعت أنها أسقطت فالقول قولها؛ لأنها أمينة عليه. فصل في المراد بالكتمان قال القرطبي: ومعنى النَّهي عن الكتمان: النَّهي عن الإضرار بالزَّوجِ وإذهاب حقِّه، فإذا قالت المطلَّقة: حضتُ وهي لم تحِض، ذهبت بحقِّه في الارتجاع، وإذا قالت: لم أَحِضْ وهي قد حَاضَتْ، ألْزَمَتْهُ من النَّفَقَةِ ما لم يَلْزَمه، فأضرَّت به، أو تقصد بكذبها في نفس الحيض ألاَّ ترجع حتى تنقضي العدَّة ويقطع الشَّرع حقَّه، وكذلك الحاملُ تكتم الحمل؛ لتقطع حقَّه في الارتجاع. قال قتادة: كانت عادتهن في الجاهليَّة أن يكتمن الحمل ليلحقن الولد بالزَّوج الجديد؛ ففي ذلك نزلت الآية. فصل اختلف المفسِّرون في قوله: {مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} : فقيل: هو الحَبَلُ والحَيْضُ معاً، وذلك لأنَّ المَرْأة لَهَا أغْرَاض كَثِيرة في كتمانها؛ أمّا الحبل؛ فإنه يكون غرضها فيه أنَّ انقضاء عدَّتها بالقروء؛ لأنه يكون أقلَّ زماناً من انقضاء عدَّتها يوضع الحمل، فإذا كتمت الحمل، قصرت مدّة عدَّتها فتتزوَّج بسرعة وربما كرهت مراجعة الزَّوج، وربما أحبَّت التَّزويج بزوج آخر، أو أحبَّت أن تلحق ولدها بالزَّوج الثَّاني، فلهذه الأغراض تكتم الحمل، وأما كتمان الحيض، فقد يكون غرضها إذا كانت الجزء: 4 ¦ الصفحة: 120 من ذوات الأقراء أن تطول عدَّتها لكي يراجعها الزَّوج، وقد تحبُّ تقصير عدَّتها لتبطل رجعته ولا يتمُّ لها ذلك إلاَّ بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات، فوجب حمل النَّهي على مجموع الأمرين. وقال ابن عبَّاسٍ وقتادة: هو الحيض فقط؛ لقوله تعالى: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام} [آل عمران: 6] ، ولأن الحيض خارجٌ عن الرَّحم لا مخلوقٌ فيه، وحمل قوله - تعالى -: {مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ} على الولد الذي هو شريف، أولى من حمله على شيءٍ قَذِرٍ خسيسٍ. وأجيب بأن المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال الَّتي لا اطِّلاع لغيرها عليها، وبسببها يختلف الحلُّ والحرمة في النِّكاح، فوجب حمل اللَّفظ على الكلِّ، وقيل: هو الحيض؛ لأن هذا الكلام إنَّما ورد عقيب ذكر «الأَقْرَاءِ» ، ولم يتقدَّم ذكر الحمل. وأجيب: بأنَّ هذا كلامٌ مُسْتَأْنَفٌ مستَقِلٌّ بِنَفْسِه، من غير أن يُرَدَّ إلى ما تقدَّم، فوجب حمله على كلِّ ما يخلق في الرَّحم. وقوله: {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر} ليس المراد: أن ذلك النَّهي مشروطاً بكونها مؤمنة، بل هذا كقول المظلوم للظَّالم: «إن كُنْتَ مُؤْمِناً فَيَنْبَغِي أن يَمْنَعَكَ إيمَانُك عن ظُلْمِي» ، وهذا تهديدٌ شديد في حقِّ النّساء؛ فهو كقوله في الشَّهادة: {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] ، وقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} [البقرة: 283] . قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ} الجمهور على رفع تاء «بُعُولَتُهُنَّ» وسكَّنها مسلمة بن محاربٍ، وذلك لتوالي الحركات، فخُفِّف، ونظيره قراءة: {وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] بسكون اللام حكاها أبو زيد، وحكى أبو عمرو: أنَّ لغة تميم تسكين المرفوع من «يُعَلِّمُهُمُ» ونحوه، وقيل: أجرى ذلك مجرى «عَضُدٍ، وعَجُزٍ» ؛ تشبيهاً للمنفصل بالمتصل، وقد تقدَّم ذلك. و {أَحَقُّ} خبرٌ عن «بُعُولَتُهُنَّ» وهو بمعنى حقيقون؛ إذ لا معنى للتفضيل هنا؛ فإنَّ غير الأزواج لا حقَّ لهم فيهنَّ البتَّة، ولا حقَّ أيضاً للنِّساء في ذلك، حتى لو أبت هي الرَّجعة، لم يعتدَّ بذلك. وقال بعضهم: هي على بابها؛ لأنه تعالى قال: {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 121 الله في أَرْحَامِهِنَّ} فكان تقدير الآية: فإنَّهن إن كتمن لأجل أن يتزوَّج بهنَّ زوجٌ آخر، فإنَّ الزَّوج الأوَّل أحقُّ بردِّها؛ لأنه ثبت للزَّوج الثَّاني حقٌّ في الظَّاهر؛ لادِّعائها انقضاء عدَّتها. وأيضاً: فإنَّها إذا كانت معتدَّة، فلها في انقضاء العدَّة حقُّ انقطاع النِّكاح، فلما كان لهنَّ هذا الحقُّ الذي يتضمَّن إبطال حقِّ الزَّوج، جاز أن يقول: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ} حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرَّجعة ما هنَّ عليه من العدَّة. و «البُعُولة» فيها قولان: أحدهما: إنه جمع «بَعْل» كالفحولة والذُّكورة والجدودة والعمومة، والهاء زائدة مؤكِّدة لتأنيث الجماعة ولا ينقاس، بل إنَّما يجوز إدخالها في جمع رواة أهل اللُّغة عن العرب، فلا يقال في كعب: كُعُوبة، ولا في كَلْب: كلابة. والبعل زوجُ المَرْأةِ؛ قالوا: وسُمِّي بذلك على المستعلي، فلما علا من الأرض فَشَرِبَ بعروقه. ويقال: بَعَلَ الرَّجُلُ يبعلُ؛ كمنع يمنعُ. ويشترك فيه الزَّوجان؛ فيقال للمرأة: بعلة؛ كما يقال لها: زَوْجَةٌ في كَثِير من اللُّغَاتِ، وزَوْجٌ في أَفْصَح الكَلاَم، فهما بَعْلاَن كما أنَّهما زوجان، وأصل البعل: السَّيِّد المالِك فيما نقل، يقال: من بعلُ هذه النَّاقة؟ كما يقال من ربِّها؟ وبعل: اسم صنم، كانوا يتَّخونه ربّاً؛ قال - تعالى -: {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين} [الصافات: 125] ، وقد كان النِّساء يدعون أزواجهن بالسودد. الثاني: أنّ البعولة مصدر، يقال: بعل الرَّجُل يَبْعَل بُعُولَةً وبِعَالاً، إذا صَارَ بَعْلاً، وبَاعَل الرَّجُل امْرَأَتَهُ: إذا جَامَعَهَا؛ ومنه الحديث: أن النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال في أيَّام التَّشريق: «إِنَّهَا أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ وَبِعَالٍ» ، وامرأة حَسَنَةُ التَّبَعّل إذا كَانَت تُحْسِن عِشْرَةَ زَوْجِها، ومنه الحديث: «إِذَا أَحْسَنْتُنَّ تبعُّلَ أزواجكن» . قوله: {بِرَدِّهِنَّ} متعلِّقٌ ب «أَحَقّ» . وقوله «فِي ذَلِكَ» فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلّقٌ أيضاً ب «أَحَقّ» ، ويكون المشار إليه بذلك على هذا وقت العدَّة، أي تستحقّ رجعتها ما دامت في العدَّة، وليس المعنى: أنه أحقُ أن يردَّها في العدَّة، وإنما يردُّها في النكاح، أو إلى النكاح. والثاني: أن يتعلَّق بالردِّ، ويكون المشار إليه بذلك على هذا النِّكاح، قاله أبو البقاء. والضمير في «بُعُولَتِهِنَّ» عائدٌ على بعض المطلَّقات، وهنَّ الرَّجعيَّات خاصَّةً، وقال أبو حيَّان: «والاولَى عندي: أن يكونَ على حَذْفِ مضافٍ دَلَّ عليه الحكم، أي: وبُعُولَةُ رَجْعِيَّاتِهِنَّ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 122 ومعنى الردّ هنا: الرُّجوع؛ قال - تعالى -: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي} [الكهف: 36] ، وقال في موضع آخر: {وَلَئِن رُّجِّعْتُ} [فصلت: 50] . فإن قيل: ما معنى الرَّدّ في الرَّجعيَّة وهي زوجة، ما دامت في العِدَّة؟ فالجواب: أنّ الردّ والرَّجعة يتضمَّن إبطال التَّربُّص والتَّحرِّي في العدَّة، فإنَّها ما دامت في العدَّة، كأنَّها جارية إلى إبْطال حقِّ الزَّوج، وبالرَّجعة بطل ذلك فسمِّيت الرَّجعة ردّاً، لا سيَّما ومذهب الشَّافعيِّ أنه يحرم الاستمتاع بها إلاّ بعد الرَّجعة، فالردُّ على مذهبه فيه معنيان: أحدهما: ردّها من التَّربُّص إلى خلافه. والثاني: ردُّها من الحرمة إلى الحلِّ. قوله: {إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً} فالمعنى: أن الأزواج أحقُّ بالمراجعة، إن أرادوا الإصلاح ولم يريدا المضارَّة؛ ونظيره قوله - تعالى -: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 231] . والسَّبب في ذلك: أنَّ الرَّجل كان في الجاهليَّة يطلِّق امرأته، فإذا قرب انقضاء عدَّتها، راجعها ثم تركها مدَّة ثمَّ طلَّقها، فإذا قرب انقضاء عدَّتها، راجعها ثمَّ طلَّقها ثم بَعْدَ مدَّة طلقها يقصد بذلك تطويل عدَّتها، فنهوا عن ذلك، وجعل إرادة الإصلاح شرطاً في المراجعة. فإن قيل: الشَّرط يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه، فيلزم إذا لم توجد إرادة الإصلاح ألاّ تصحّ الرَّجعة؟ فالجواب: أنّ الإرادة صفةٌ باطنةٌ لا اطِّلاع لنا عليها، والشَّرع لم يوقف صحَّة المراجعة عليها؛ بل جوازها فيما بينه وبين الله - تعالى - موقوف على هذه الإرادة، فإن راجعها لقصد المضارَّة، استحقَّ الإثم. فصل نقل القرطبي عن مالك، قال: إذا وطئ المعتدَّة الرَّجعيَّة في عدَّتها، وهو يريد الرَّجعة وجهل أن يُشهد، فهي رجعةٌ، وينبغي للمرأة أن تمنعه الوطء حتى يشهد؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «إنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وإنَّمَا لكُلِّ امْرِىءٍ مَا نَوَى» فإن وطئَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 123 في العدَّة، لا ينوي به الرَّجعة؛ فقال مالكٌ: يراحع في العدَّة، ولا يطأ حتى يستبرئها من مائه الفاسد. قال سعيد بن المسيَّب، والحسن البصري، وابن سيرين، والزُّهري، وعطاء، والثَّوري: إذا جامعها فقد راجعها. فصل من قبّل أو باشر ولم ينو بذلك الرَّجعة، كان آثماً وليس بمراجعٍ. وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن وطئها، أو لمسها بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوةٍ، فهي رجعة، وينبغي أن يُشهد وهو قول الثَّوريّ. فصل قال أحمد: ولها التَّزيُّن لزوجها، والتَّشرُّف، وله الخلوة والسَّفر بها. وقال مالك: لا يخلو معها ولا يدخل عليها إلاَّ بالإذن، ولا ينظر إليها إلاَّ وعليها ثيابها، ولا ينظر إلى شعرها. وقال ابن القاسم: رجع مالك عن ذلك. قوله: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ} خبرٌ مقدَّمٌ، فهو متعلِّق بمحذوف، وعلى مذهب الأخفشِ من باب الفعل والفاعل، وهذا من بديع الكلام، وذلك أنه قد حذف من أوَّله شيءٌ ثم أثبت في آخره نظيره، وحذف من آخره شيءٌ أثبت نظيره في الأول، وأصل التركيب: «وَلَهُنَّ على أزواجِهِنَّ مِثْلَ الذي لأَزْوَاجِهِنَّ عَلَيْهِنَّ» ، فحذف «عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ» لإثباتِ نظيره، وهو «عَلَيْهِنَّ» ، وحذفت «لأَزْوَاجِهِنَّ» لإثبات نظيره، وهو «لَهُنَّ» . قوله: {بالمعروف} فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّق بما تعلَّق به «لَهُنَّ» من الاستقرار، أي: استقرَّ لهُنَّ بالمعروف. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل «مِثْل» ؛ لأنَّ «مِثْل» لا يتعرَّفُ بالإضافة؛ فعلى الأوَّل: هو في محلِّ نصبٍ؛ وعلى الثاني: هو في محلِّ رفعٍ. قوله: {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} فيه وجهان: أظهرهما: أنَّ «لِلرِّجَالِ» خبرٌ مقدَّمٌ، و «دَرَجَةٌ» مبتدأٌ مؤخرٌ، و «عَلَيهِنَّ» فيه وجهان على هذا التقدير: مَّا التعلُّقُ بما تعلَّق به «لِلرِّجَالِ» ، وإمَّا التعلقُ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «دَرَجَةٌ» مقدَّماً عليها؛ لأنه كان صفةً في الأصل، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً. والثاني: أن يكون «عَلَيْهِنَّ» هو الخبر، و «للرجال» حال من «دَرَجَةٌ» ؛ لأنه يجوز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 124 أن يكون صفةٌ لها في الأصل، ولكنَّ هذا ضعيفٌ؛ من حيث إنه يلزم تقديم الحال على عاملها المعنويِّ؛ لأ، َّ «عَلَيْهِنَّ» حينئذٍ هو العالم فيها؛ لوقوعه خبراً. على أنَّ بعضهم قال: متى كانت الحال نفسها ظرفاً أو جارّاً ومجروراً، قوي تقديمها على عاملها المعنويِّ، وهذا من ذاك، هذا معنى قول أبي البقاء. وردَّه أبو حيان بأنَّ هذه الحال قد تقدَّمت على جزأي الجملة، فهي نظير: «قَائِماً في الدَّارِ زَيْدٌ» ، قال: وهذا ممنوعٌ، لا ضَعِيفٌ؛ كما زعم بعضهم، وجعل محلَّ الخلاف فيما إذا لم تتقدَّم الحالُ - العامل فيها المعنى - على جزأي الجملة، بل تتوسَّط؛ نحو: «زَيْدٌ قَائِماً في الدَّارِ» ، قال: «فأبو الحسن يُجيزُهَا، وغيره يمنعها» . و «الرَّجُلُ» مأخوذ من الرُّجلة، أي: القوَّة، وهو أرجل الرَّجلين، أي: أقواهما وفرس رَجِيلٌ: قويٌّ على المَشي، والرَّجل معروفٌ لقوَّته على المشي، وارتجل الكلام، أي: قوي عليه من غير حاجةٍ فيه إلى فكرةٍ ورويَّة، وترجَّل النَّهار: قوي ضياؤه. و «الدَّرَجَة» هي المنزلة، وأصلها: من درجتُ الشَّيء أدْرُجُه دَرْجاً، وأدْرَجْتُه إدْرَاجاً إذا طويته، ودَرَجَ القومُ قَرْناً بعد قرن، أي: فنوا، ومعناه: أنَّهم طووا عمرهم شيئاً فشيئاً، والمدْرَجة: قَارِعَةُ الطَّريق؛ لأنَّها تطوي منزلاً بعد منزل، والدَّرجة: المنزلة من منازل الجنَّة، ومنه الدَّرجة التي يرتقي فيها، والدَّرجُ: ما يرتقي عليها، والدَّرك ما يهوى فيها. فصل لما بيَّن أن المقصود من المراجعة إصلاح حالها، لا إيصال الضَّرر إليها، بيَّن أن لكلِّ واحدٍ من الزَّوجين حقّاً على الآخر. روي عن ابن عبَّاس، قال: إني لأَتَزَيَّن لامْرَأَتِي كما تَتَزَيَّن لي؛ لقوله تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف} . وقال بعضهم: يجب أن يقوم بحقِّها ومصالحها، ويجب عليها الانقياد والطَّاعة له. وقيل: لهنَّ على الزَّوج إرادةُ الإصلاح عند المراجعة، وعليهنّ ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن، وهذا أوفق لصدر الآية. وأما درجة الرجل على المرأة فيحتمل وجهين: الأول: أن الرَّجل أزيدُ في الفضيلة من النِّساء لأمور: في كمال العقل، وفي الدِّية، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 125 وفي الميراث، وفي القيمة، وفي صلاحية الإمامة، والقضاء، والشَّهادة، وللزَّوج أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 126 يتزوَّج عليها ويتسرَّى، وليس لها ذلك مع الزَّوج، والزوج قادر على طلاقها وعلى رجعتها شاءت أو أبت، وليس لها ذلك. الوجه الثاني: أن الزَّوج اختصَّ بأنواعٍ من الحقوق وهي التزام المهر والنَّفقة والذَّبُّ عنها، والقيام بمصالحها، ومنعها من مواقع الآفات، فكان قيام المرأة بخمة الرَّجل آكد وجوباً لهذه الحقوق الزَّائدة؛ كما قال - تعالى -: {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [النساء: 34] ، قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «لَوْ أَمَرْتُ أَحْداً بالسُّجُودِ لِغَيْرِ الله، لأَمَرْتُ المَرْأَةَ بالسُّجُودِ لِزَوْجِهَا» وإذا كان كذلك، فالمرأة كالأسير العاجز في يد الرَّجُلِ، ولهذا قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «اسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْراً فَإِنَّهُنَّ عِنْدَكُم عَوَانٌ» ، وفي خبرٍ آخر: «اتَّقُوا الله في الضَّعِيفَيْن: اليتيمِ والمَرْأَةِ» . ثم قال: {والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ} أي: غالبٌ لا يمنع، مصيبٌ في أحكامه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 127 قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ} : مبتدأٌ وخبرٌ، و «الطلاق» يجوز أن يكون مصدر «طَلَقَتِ المَرْأَةُ طَلاَقاً» ، وأن يكون اسم مصدر، وهو التطليقُ؛ كالسَّلام بمعنى التَّسليم، ولا بد من حذف مضافٍ قبل المبتدأ؛ ليكون المبتدأُ عين الخبر، والتقدير: عددُ الطَّلاق المشروع فيه الرَّجعة مرَّتان. والتثنية في «مَرَّتَانِ» حقيقةٌ يراد بها شفعُ الواحد، وقال الزمخشريُّ: «إنها من باب التثنية الَّتي يراد بها التكرير» وجعلَهَا مثْلَ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ وَهَذَا ذَيْكَ. وردَّ عليه أبو حيَّان بأنَّ ذلك مناقضٌ في الظاهر لما قاله أولاً، وبأنه مخالفٌ للحكم في نفس الأمر، أمَّا المناقضة، فإنه قال: الطَّلاق مَرَّتَان، أي: الطلاقُ الشرعيُّ تطليقةٌ بعد تطليقةٍ على التفريق دون الإرسال دفعةً واحدةً، فقوله هذا ظاهرٌ في التثنية الحقيقيّة، وأمَّا المخالفة، فلأنه لا يراد أن الطلاق المشروع بقع ثلاثَ مراتٍ فأكثر، بل مرتين فقط؛ ويدلُّ عليه قوله بعد ذلك: {فَإِمْسَاكٌ} ، أي: بالرَّجْعَةِ من الطَّلْقَةِ الثانية، {أَوْ تَسْرِيحٌ} أي: بالطلقة الثالثة؛ ولذلك جاء بعده «فَإِنْ طَلَّقَهَا» . انتهى ما ردَّ به عليه، قال شهاب الدين: والزَّمخشريُّ إنما قال ذلك لأجل معنًى ذكره، فينظر كلامه في «الكَشَّاف» ؛ فإنه صحيحٌ. والألف واللام في «الطَّلاَق» قيل: هي للعهد المدلول عليه بقوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] وقيل: هي للاستغراق، وهذا على قولنا: إن هذه الجملة متقطعةٌ ممَّا قبلها، ولا تعلُّق لها بها. قوله: {فَإِمْسَاكٌ} في الفاء وجهان: أحدهما: أنها للتعقيب، أي: بعد أن عرَّف حكم الطلاق الشرعيِّ؛ أنه مرَّتان، فيترتَّب عليه أحد هذين الشيئين. والثاني: أن تكون جواب شرطٍ مقدَّرٍ، تقديره: فإن أوقع الطَّلقتين، وردَّ الزَّوجة فإمساكٌ. وارتفاعُ «إِمْسَاكٌ» على أحد ثلاثة أوجهٍ: إمَّا مبتدأ وخبره محذوفٌ متقدِّماً، تقديره عند بعضهم: فَعَلَيْكُمْ إِمْسَاكٌ، وقَدَّرهُ ابن عطية متأخِّراً، تقديره: فإِمْسَاكٌ أَمْثَلُ أَوْ أَحْسَنُ. والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: فالواجب إمساكٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 128 والثالث: أن يكون فاعل فعلٍ محذوفٍ، أي: فليكن إمساك بمعروفٍ قوله: «بِمَعْرُوفٍ» و «بِإِحْسَانٍ» في هذه الباء قولان: أحدهما: أنها متعلِّقة بنفس المصدر الذي يليه، ويكون معناها الإلصاق. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفة لما قبلها، فتكون في محلِّ رفعٍ، أي: فإسماك كائنٌ بمعروفٍ، أو تسريح كائنٌ بإحسان. قالوا: ويجوز في العربيَّة نصب «فَإِمْسَاكٌ» ، و «تَسْرِيحٌ» على المصدر، أي: فأمسكوهنَّ إمساكاً بمعروف، أو سرِّحُوهُنَّ تسريحاً بإحسان، إلاَّ أنَّه لم يقرأ به أحدٌ. والتَّسريح: الإرسال والإطلاق، ومنه قيل للماشية: سَرْحٌ، وناقَةٌ سُرُحٌ، أي: سهلة السَّير؛ لاسترسالها فيه. وتسريح الشَّعر: تخليص بعضه من بعض، والإمساك خلاف الإطلاق، والمساك والمسكة اسمان منه؛ يقال: إِنَّه لذو مُسكةٍ ومساكة إذا كان بخيلاً. قال الفرَّاء: يقال: إنه ليس بمساك غلمانه، وفيه مساكة من جبر، أي: قُوَّة. قال القرطبي: وصريح الطَّلاق ثلاثة ألفاظٍ ورد القرآن بها: وهي الطَّلاق والسَّراح والفِراق، وهو قول الشَّافعي. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 129 فصل روى عُروة بن الزُّبير، قال: كان النَّاسُ في الابتداء يُطلِّقون من غير حصرٍ ولا عددٍ، وكان الرَّجُل يُطلق امرأَته، فإذا قاربت انقضاء عدَّتها، راجعها ثم طلَّقها كذلك، ثم راجعها يقصد مضارَّتها، فنزلت هذه الآية: {الطلاق مَرَّتَانِ} . ورُوِي: أن الرَّجُل كان في الجاهليَّة يُطَلِّق امرأَتهُ، ثم يُراجعها قبل أن تنقضي عِدَّتها، ولو طَلَّقها ألف مَرَّة، كانت القُدرة على المُراجعة ثابتةٌ، فجاءت امرأةٌ إلى عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -، فشكت أَنَّ زَوْجهها يُطَلِّقُها ويُراجِعها، يُضارّها بذلك، فذكرت عائشة ذلك لرسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنزل قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ} يعني: الطلاق الَّذِي يملك الرَّجعة عقيبهُ مرتان، فإذا طَلَّق ثَلاَثاً، فلا تحلُّ له إلاَّ بعد نكاح زوجٍ آخر. فصل اختلف المُفَسِّرون في هذه الآية: فقال بعضهم: هذا حُكم مُبتدأ، ومعناه: أن التَّطليق الشَّرعيّ يجب ن يكون تطليقةً بعد أُخرى، على التَّفريق دون الجمع والإِرسال دفعةً واحدة، وهذا قول من قال: الجمع بين الثَّلاث حرامٌ. قال أبو زيد الدَّبوسيّ: هذا قول عمر وعثمان وعبد الله بن عبَّاس، وعبد الله بن عمر، وعمران بن حصين، وأبي موسى الأشعري وأَبي الدَّرداء، وحذيفة. وقال آخرون: ليس بابتداء كلام، وإنَّما هو متعلِّق بما قبله والمعنى: أن الطَّلاقَ الرَّجعيَّ مَرَّتان، ولا رجعة بعد الثَّلاث، وهو وقل من جوَّز الجمع بين الثَّلاث، وهو مذهب الشَّافعي. حُجَّة القول الأَوَّل: أن الأَلف واللام في «الطَّلاَقِ» إذا لم يكونا للمعهود، أفادا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 130 الاستغراق، فصار تقدير الآية: كُلُّ الطَّلاق مرَّتان ومَرَّة ثالثة، ولو قال هكذا، لأفاد أن الطَّلاق المشروع مُتَفَرِّق؛ لأن المرَّات لا تكُون إلاَّ بعد تفريق الاجتماع. فإن قيل: هذه الآية وردت لبيان الطَّلاق المَسْنُون. فالجواب: ليس في الآية بيان صفة السُّنَّة، بل مُفسَّرة لأَصل الطَّلاق، وهذا الكلام - وإن كان لفظه الخبر - إلاَّ أن معناهُ الأمر، أي: طَلِّقُوا مَرَّتَين، يعني: دَفْعتين، وإنما عدل عن لفظ الخبر؛ لما تَقَدَّم من أن التَّعبير عن الأَمر بلفظ الخبر يُفيد تأكيد معنى الأَمر، فثبت أن هذه الآية دالَّة على الأَمر بتفريق الطَّلقاتِ، وعلى التَّشديد في ذلك الأَمر والمُبالغة فيه. واختلف القائِلُون بهذا على قولين: الأول - وهو اختيار كثيرٍ من علماء أهل البيت -: أنَّه لو طَلَّقها اثنتين أو ثلاثاً، لا يقع إلاَّ واحدة. قال ابن الخطيب: وهذا القولُ هو الأَقيس، لأن النَّهْيَ يدلُّ على اشتمالِ المنهيِّ عنه على مفسدة راجحة، والقول بالوقوع سعيٌ في غدخال تلك المفسدة في الوجود، وهو غير جائزٍ، فوجب أن يكون الحُكم بعدم الوقوع. والثاني: قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن الجمع - وإن كان مُحرَّماً - إلا أَنَّه يقعُ، وهذا منه بناءً على أَنَّ النَّهيَ لا يَدُلُّ على الفَسَادِ. حجَّة القول الثَّاني: هو أنَّ الآية مُتعلِّقَة بما قبلها؛ لأنه - تعالى - بيَّن في الآية الأُولى أن حقَّ المُراجعة ثابتٌ للزَّوج، ولم يُبيِّن أنَّ ذلك الحَقَّ ثابِتٌ دائماً، أو إلى غاية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 131 مُعيَّنة، فكان كالمجمل المُفتقر إلى المُبيِّن، أو العامِّ المفتقرِ إلى المُخصص، فبيَّن في هذه الآيةِ أن ذلك الطَّلاق الَّذِي ثبت فيه للزَّوج حَقّ الرَّجْعَة، هو أن يُوجد طلقتانِ، فأمّا بعد الطَّلْقَتين، فلا يثبِتُ أَلْبَتَّةَ حق الرَّجعة فالألف واللام في «الطَّلاقِ» المعهُود السَّابق، فهذا تفسيرٌ مطابِقٌ لنظم الآية، فيكُون أولى لوجوهٍ: الأول: أن قوله: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} [البقرة: 228] إن كان عَامّاً في كُلِّ الأَحوال؛ فهو مُفْتَقِرٌ إلى المُخَصّص، وإن لم يكُن عامّاً فهو مُجملٌ؛ لأنه ليس فيه بيان الشَّرط الَّذِي عنده يثبت حقُّ الرَّجعة، فافتقر إلى البيان، فإذا جعلنا الآية مُتَعَلِّقة بما قبلها، كان المُخَصص حاصلاً مع العامِّ المخصوص، أو كان البيانُ حاصِلاً مع المُجْمَلِ، وذلك أَولى من ألاَّ يكون كذلك؛ لأن تأخير البيان عن وقت الخِطابِ - وإذا كان جَائِزاً -، إلا أن الأَرجح ألاَّ يَتَأَخَّر. الثاني: أنَّا إذا جعلنا هذا الكلام مُبتدأ، كان قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ} يقتضي ذكر الطَّلقة الثَّانية، وهي قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فصار تقدير الآية: الطَّلاق مَرَّتان ومَرَّة؛ لأنا نقول: إن قوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} متعلِّق بقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} لا بقوله: {الطلاق مَرَّتَانِ} ، ولأن لفظ التَّسريح بالإِحسانِ لا إِشعار فيه بالطَّلاق، ولأنَّا لو جعلنا التَّسريح هو الطَّلقة الثَّالثة، لكان قوله: «فَإِنْ طَلَّقَهَا» طلقة رابعة، وهو غير جائِزٍ. الثالث: ما روينا في سبب النُّزول: من شكوى المرأة إلى عائشة كثرة تطليقها ومراجعتها قصداً للمضارَّة، وقد أَجْمَعُوا على أَنَّ سبب النُّزول لا يجوز أن يكون خارجاً عن عُمُوم الآيةِ، فكان تنزيل الآيةِ على هذا المعنى، أولى من تنزيلها على حُكْمٍ أَجنبيٍّ عنها. فصل اعلم أن معنى الآية: أن الطَّلاق التي يَثْبُت فيه الرَّجعة هو أَنْ يوجد مرَّتان، ثم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 132 الواجب بعد ذلك: إمَّا إمساكٌ بمعروفٍ، وهو أن يُراجعها لا على قصد المضارَّة، بل على قصدِ الإصلاح، وإما تسريحٌ بإِحسانٍ، وفيه وجهان: أحدهما: أن يُوقِعَ عليها الطَّلقة الثَّالثة، روي أَنَّه لمَّا نَزلَ قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ} ، قيل له - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: فأَين الثَّالثة؟ قال عليه الصَّلاة والسَّلام -: «هُو قَوْلُه تَسْرِيحٍ بِإِحْسَانٍ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 133 الثاني: أن التَّسريح بالإحسان: أن يَتْرُكَ مُراجَعَتها حتى تَبين بانقضاءِ العِدَّة، وهو مَروِيٌّ عن الضَّحَّاك والسُّدِّيّ. قال ابن الخطيب: وهو أَقْرَبُ لوجوه: أحدها: أن «الفَاء» في قوله: «فَإِنْ طَلَّقَها» تَقْتَضِي وقوع هذه الطَّلقة مُتَأَخِّرة عن ذلك التَّسريح، فلو كان المُرادُ بالتَّسريح هو الطَّلقَة الثَّالثة، لكان قوله: فإن طَلَّقها طَلْقَةً رَابِعَة؛ وهو لا يجُوزُ. وثانيها: أنَّا إذا حَمَلْنَا التَّسريح على تَرْكِ المُراجعة، كانت الآيةُ مُتَنَاولة لجميع الأَحوالِ؛ لأَنَّه بعد الطَّلْقَة الثَّانية إمَّا أن يُراجعها وهو المراد بقوله: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أو لا يُراجعها، بل يتركها حتى تنقضي عِدَّتُها وتبين، وهو المرادُ بقوله: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أو يُطَلِّقها وهو المراد بقوله «فَإِنْ طَلَّقَها» ، فكانت الآيَةُ مُشْتَمِلَةً على بَيَانِ كُلِّ الأقسام، وإذا جعلنا التَّسريح بالإِحسان طَلاَقاً آخر لزم تركُ أحد الأقسامِ الثَّلاثة، ولزِم التكرير في ذكر الطَّلاقِ، وهو غيرُ جَائِزٍ. وثالثها: أنَّ ظاهر التَّسرِيح هو الإرسالُ والإِهمالُ، فحمله على تركِ المُراجعة أَوْلَى من حملِهِ على التَّطليق. ورابعها: أنَّه قال بعد ذلك التَّسريح: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} والمُراد به الخُلع، ومعلومٌ أنه لا يصحُّ الخلعُ بعد التَّطليقة الثَّالثة، فهذه الوجوه ظاهرة، لو لم يثبت الخبر الَّذِي رويناه، فإن صحَّ ذلك الخبر، فلا مزيد عليه. فصل في الحكمة في الرَّجعة والحِكْمة في إثبات حقِّ الرَّجعة: أن الإِنسان إذا كان مع صاحبه، لا يدري هل تَشُقُّ عليه مُفارقتُه أَمْ لا؟ فإذا فارقهُ بعد ذلك يظهر، فلو جَعَلَ الله الطَّلقة الواحدة مانِعةٌ من الرُّجوع، لعظمت المَشَقَّة على الإِنسان بتقدير أَنْ تظهر المَحَبَّة بعد المُفارقة مَرَّتين، وعند ذلك تحصل التَّجربة، فإن كان الأَصلحُ الإِمْسَاكَ، راجعها وأَمسكها بالمعروفِ، وإن كان الأَصلح التَّسريح، سرَّحها بإِحسان. فصل واختلف العُلَمَاءُ إذا كان أَحد الزَّوْجَينِ رقيقاً: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 134 فذهب أكثرهم إلى أَنَّه يُعتبر عدد الطَّلاق بالزَّوج؛ فالحُرُّ يملك على زوجته الأَمة ثلاث تطليقاتٍ، والعبد لا يملك على زوجته الحُرَّة ِلاَّ طَلْقَتَيْن. قال عبد الله بن مسعود: الطَّلاق بالرِّجال والعِدَّة بالنِّساءِ، يعني: يُعْتَبر في الطَّلاق حالُ الرَّجالِ، وفي قدر العِدَّة حالُ المرأة، وهو قول عُثمان، وزيد بن ثابت، وابن عبَّاس، وبه قال عطاء وسعيد بن المُسَيَّب، وإليه ذهب مالِكٌ، والشَّافِعِي، وأَحمد، وإسحاق. وذهب قَوْمٌ إلى أن الاعتبار بالمرأة في عدد الطَّلاق، فيملُكِ العَبْدُ على زوجته الحُرَّة ثلاث طلقاتٍ، ولا يَمْلِكُ الحُرَّ على زوجته الأَمة إلاَّ طلْقَتَين، وهو قول سُفْيان الثَّوريّ وأصحاب الرَّأي. فصل إذا طلَّقها ثلاثاً بكلمةٍ واحدةٍ، لزِمه الطَّلاَق بالإِجماع. وقال عليّ بن أبي طالبٍ، وابن مسعود: يلزمه طلقةٌ واحِدةٌ. وقال ابن عبَّاس: وقوله: ثلاثاً لا معنى له؛ لأَنَّه لم يُطلِّق ثلاث مرَّات وإنَّما يجوز قوله: في ثَلاَث إذا كان مُخبراً عمّا مضى، فيقول: طلَّقت ثلاثاً، فيكون مُخبراً عن ثلاثة أفعالٍ كانت منهُ في ثلاثة أوقاتٍ؛ فهو كقول الرَّجُل: قرأت سُورَة كذا ثلاث؛ فإن كان قرأها ثلاث مرَّاتٍ، كان صادِقاً، وإن كان قرأها مرَّة واحِدَةً، كان كاذِباً، وكذا لو قال: أحْلِفُ بالله ثَلاَثاً يردد الحَلْف كانت ثَلاَثة أيمانٍ، ولو قال: أَحْلِف بالله ثلاَثاً، لم يَكُن حلف إلا يميناً واحدة والطَّلاق مِثْله. وقاله الزُّبير بن العوَّام، وعبد الرَّحمن بن عوف، قاله القرطبي. قوله: «أَنْ تَأْخُذُوا» : «أَنْ» وما في حَيِّزها في محلِّ رفعٍ على أنه فاعل «يَحِلُّ» ، أي: ولا يَحِلُّ لكُم أَخْذُ شَيءٍ مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ. و «مِمَّا» فيه وجهان «. أحدهما: أن يتعلَّقَ بنفسِ» تَأْخُذُوا «، و» مِنْ «على هذا لابتداءِ الغاية. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه حالٌ من» شَيْئاً «قُدِّمت عليه؛ لأنها لو تأَخَّرَتْ عنه لكانَتْ وصفاً، و» مِنْ «على هذا للتبعيض، و» مَا «موصولةٌ، والعائدُ محذوفٌ، تقديره: مِنَ الذي آتيتموهنَّ إِيَّاهُ، وقد تقدَّم الإِشكالُ والجوابُ في حذفِ العائدِ المنصوب المنفصلِ عند قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] وهذا مثلُه، فَلْيُلْتَفَتْ إليه. و» آتَى «يتعدَّى لاثنين، أولهُما» هُنَّ «والثاني هو العائدُ المحذوفُ، و» شَيْئاً « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 135 مفعولٌ به ناصبُه» تَأْخُذُوا «. ويجوزُ أن يكونَ مصدراً، أي: شيئاً مِنَ الأَخْذِ. والوجهانِ منقولانِ في قوله: {لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} [يس: 54] . قوله: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ} هذا استثناءٌ مُفَرَّغٌ، وفي» أَنْ يَخَافَا «وجهان: أحدهما: أنه في محلِّ نصبٍ على أنه مفعولٌ من أجلِهِ، فيكونُ مستثنىً من ذلك العامِّ المحذوفِ، والتقديرُ: وَلاَ يَحِلُّ لكُمْ أن تَأْخُذُوا بِسَبَب من الأسباب، إلا بسببِ خوفِ عدم إقامة حُدُودِ الله، وحُذِفَ حرفُ العلةِ؛ لاستكمالِ شروط النصب، لا سيما مع» أَنْ «ولا يجيءُ هنا خلافُ الخليلِ وسيبويه: أهيَ في موضع نصبٍ، أو جرٍّ بعد حَذْفِ اللامِ، بل هي في محلِّ نصبٍ فقط، لأنَّ هذا المصدرَ لو صُرِّحَ به، لنُصِبَ، وهذا قد نصَّ عليه النحويُّون، أعنِي كونَ» أَنْ «وما بعدها في محلِّ نصبٍ، بلا خلافٍ، إذا وقعَتْ موقعَ المفعولِ له. والثاني: أنه في محلِّ نصبٍ على الحالِ، فيكونُ مستثنى من العامِ أيضاً، تقديره: ولاَ يَحِلُّ لكُمْ في كلِّ حالٍ من الأحوالِ إلاَّ في حالِ خوفِ أَلاَّ يقيما حدودَ اللهِ، قال أبو البقاء: والتقديرُ: إلاَّ خائفينَ، وفيه حَذْفُ مضافٍ، تقديره: وَلاَ يَحِلُّ لكُمْ أَنْ تأخُذُوا على كلِّ حال، أو في كلِّ حال إلا في حالِ الخوفِ، والوجهُ الأولُ أحسنُ، وذلك أَنَّ» أَنْ «وما في حَيِّزها مُؤَوَّلةٌ بمصدرٍ، وذلك المصدرُ واقعٌ موقعَ اسم الفاعلِ المنصُوبِ على الحَال، والمصدرُ لا يطَّرِدُ وقوعُه حالاً، فكيف بما هو في تأْويله!! وأيضاً فقد نَصَّ سيبويه على أنَّ» أَنِ «المصدرية لا تقَعُ موقعَ الحالِ. والألفُ في قوله «يَخَافَا» و «يُقِيمَا» عائدةٌ على صنفَي الزوجين، وهذا الكلامُ فيه التفاتٌ، إذ لو جَرَى على نَسَقِ الكلام، لقيل: «إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا أَلاَّ تُقِيمُوا» بِتَاءِ الخِطَابِ لِلْجَمَاعَةِ، وقد قَرأَها كذلك عبد الله، ورُوِي عنه أيضاً بياءِ الغَيْبَة، وهو التفاتٌ أيضاً. والقراءةُ في «يَخَافَا» بفتحِ الياءِ واضحةٌ، وقرأها حمزة وأبو جعفر ويعقوب بضمِّها على البناء للمفعول، وقَد استشكلها جماعةٌ، وطعن فيها آخرون لعدم معرفتهم بلسان العرب، وقد ذكروا فيها توجيهاتٍ كثيرةً، أحسنُها أَنْ يكونَ «أَنْ يُقِيمَا» بدلاً من الضمير في «يَخَافَا» ؛ لأنه يَحُلُّ مَحَلَّه، تقديره: إِلاَّ أَنْ يُخَافَ عَدَمُ إقامَتِهما حُدُودَ اللهِ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 136 وهذا من بدل الاشتمال؛ كقولك: «الزَّيْدَانِ أَعْجَبَانِي عِلْمُهُمَا» ، وكان الأصلُ: «إِلا أن يخافَ الوُلاَةُ الزوجَيْنِ أَلاَّ يقيمَا حُدُودَ اللهِ» ، فَحُذِفَ الفاعلُ الذي هو «الوُلاَةُ» ؛ للدلالة عليه، وقامَ ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ، وبقيتْ «أَنْ» وما بعدها في محلِّ رفعٍ بَدَلاً؛ كما تقدَّم تقديرُه. وقد خرَّجه ابن عطيَّة على أنَّ «خَافَ» يتعدَّى إلى مفعولين ك «اسْتَغْفَرَ» ، يعنيك إلى أحدِهما بنفسِه، وإلى الآخرِ بحرفِ الجَرِّ، وجَعَلَ الألِفَ هي المفعولَ الأولَ قامَتْ مقامَ الفاعلِ، و «أَنْ» وما في حَيِّزها هي الثاني، وجَعَل «أَنْ» في محلِّ جرٍّ عند سيبويه والكِسائيِّ، وقد رَدَّ عليه أبو حيان هذا التخريجَ؛ بأنَّ «خَافَ» لا يتعدَّى لاثنين، ولم يَعُدَّهُ النحويون حين عَدُّوا ما يَتَعَدَّى لاثنين؛ ولأنَّ المنصوبَ الثاني بعده في قولك: «خِفْتُ زَيْداً ضَرْبَهُ» ، إنما هو بدلٌ لا مفعولٌ به، فليس هو كالثاني في «اسْتَغْفَرْتُ اللهَ ذَنْباً» ، وبأن نسبة كَوْنِ «أَنْ» في محلِّ جر عند سيبويه ليس بصحيحٍ، بل مذهبُه أنها في محلِّ نصبٍ، وتبعه الفراء، ومذهبُ الخليل: أنها في محلِّ جَرٍّ، وتبعه الكسائيُّ، وهذا قد تقدَّم غيرَ مرةٍ. وقال غيره كقوله؛ إلاَّ أنَّه قدَّر حرفَ الجرِّ «عَلَى» ، والتقدير: إلاَّ أنْ يَخَافَ الوُلاَةُ الزَّوْجَيْنِ عَلَى أَلاَّ يُقِيمَا، فَبُنِيَ للمفعولِ، فقام ضميرُ الزوجين مقامَ الفاعلِ، وحُذِفَ حرفُ الجر مِنْ «أَنْ» فجاء فيه الخلافُ المتقدِّمُ بين سيبويه والخليل. وهذا الذي قاله ابنُ عطيةَ سَبَقَه إليه أبو عليٍّ، إلاَّ أنه لم يُنَظِّرْهُ ب «اسْتَغْفَرَ» . وقد استشكل هذه القراءةَ قومٌ وطعَنَ عليها آخَرُونَ، لا عِلمَ لهم بذلك، فقال النحَّاسُ: لا أعْلَمُ في اختيارِ حمزة أبعدَ من هذا الحَرْفِ؛ لأنه لا يُوجِبُهُ الإِعرابُ، ولا اللفظُ، ولا المعنى. أمَّا الإِعرابُ: فلأنَّ ابنَ مسعود قرأ «إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا أَلاَّ يُقِيمُوا» ، فهذا إذا رُدَّ في العربيةِ لما لم يُسَمَّ فاعلُه، كان ينبغي أَنْ يُقال: «إِلاَّ أَنْ يُخَافَ» . وأمَّا اللفظُ: فإِنْ كان على لفظِ «يُخَافَا» ، وَجَبَ أن يقال: فَإِن خِيفَ، وإن كان على لفظ «خِفْتُمْ» ، وَجَب أن يقال: إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا. وأمَّا المعنى: فَأَسْتَبْعِدُ أن يُقَالَ: «وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافَ غَيْرُكُمْ» ، ولم يَقُلْ تعالى: «ولا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا لَهُ منْهَا فدْيَةً» ، فيكون الخُلْعُ إلى السلطان، والفَرْضُ أَنَّ الخُلْعَ لا يحتاجُ إلى السلطانِ. وقد رَدَّ الناسُ على النحَّاس: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 137 أمَّا ما ذكره من حيث الإِعرابُ: فلا يَلْزَمُ حمزةَ ما قرأ به عبد الله. وأمَّا مِنْ حيثُ اللفظُ، فإنه من باب الالتفاتِ؛ كما قَدَّمْتُه أولاً، ويَلْزَمُ النَّحَّاسَ أنه كان ينبغي على قراءةِ غيرِ حمزةَ أن يقرأَ: «فَإِنْ خَافَا» ، وإِنَّما هو في القراءتَين من الالتفاتِ المستحْسَنِ في العربيةِ. وأمَّا من حيثُ المعنى: فلأنَّ الولاةَ والحكامَ هُمُ الأصلُ في رَفْعِ التظالُمِ بين الناسوهم الآمرون بالأخْذِ والإِيتاء. ووجَّه الفراء قراءةَ حمزةَ، بأنه اعتبرَ قراءةَ عبدِ الله «إِلاَّ أَنْ تَخَافُوا» . وخَطَّأَهُ الفارسيُّ وقال: «لَمْ يُصِبْ؛ لأنَّ الخوفَ في قراءةِ عبدِ الله واقعٌ على» أَنْ «، وفي قراءة حمزة واقعٌ على الرجُلِ والمَرْأَةِ» . وهذا الذي خَطَّأَ به الفراء ليس بشيءٍ؛ لأنَّ معنى قراءةِ عبد الله: إِلاَّ أَنْ تَخَافُوهُمَا، أي: الأولياءُ، الزوجين ألاَّ يُقيمَا، فالخوفُ واقعٌ على «أَنْ» وكذلك هي في قراءةِ حمزة الخوفُ واقعٌ عليها أيضاً بأحدِ الطريقينِ المتقدِّمينِ: إمَّا على كونها بدلاً من ضميرِ الزوجين؛ كما تقدَّم تقريره، وإمَّا على حذف حرف الجرّ، وهو «على» . والخوفُ هنا فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنه على بابِه من الحَذَرِ والخَشْيَةِ، فتكونُ «أَنْ» في قراءةِ «غير حمزةَ في محلِّ جَرٍّ، أو نصبٍ؛ على حَسَبِ الخلافِ فيها بعدَ حذفِ حرفِ الجرِّ؛ إذ الأصلُ: مِنْ أَلاَّ يُقِيمَا، أو في محلِّ نصبٍ فقط؛ على تعديةِ الفعلِ إليها بنفسِهِ؛ كأنه قيل: إِلاَّ أَنْ يَحْذَرَ عَدَمَ إِقَامَةِ حُذُودِ اللهِ. والثاني: أنه بمعنى العِلْم، وهو قَوْلُ أبي عُبَيْدَة. وأنشد [الطويل] 1109 - فَقُلْتُ لَهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ المُسَرَّدِ ومنه أيضاً: [الطويل] 1110 - وَلاَ تَدْفِنَنِّي فِي الفَلاَةِ فَإِنَّنِي ... أَخَافُ إِذَا مَا مِتُّ أَنْ لاَ أَذُوقُهَا ولذلك رُفِعَ الفعلُ بعد» أَنْ «، وهذا لا يصحُّ في الآيةِ، لظهورِ النَّصْب، وأما البيتُ، فالمشهورُ في روايتِهِ» فَقُلْتُ لَهُمْ ظُنُّوا بأَلْفَيْ «. والثالث: الظَّنّ، قاله الفراء؛ ويؤيِّدُهُ قراءةٌ أُبَيٍّ:» إِلاَّ أَنْ يَظُنَّا «؛ وأنشد: [الطويل] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 138 1111 - أَتَانِي كَلاَمٌ مِنْ نُصَيْبٍ يَقُولُهُ ... وَمَا خِفْتُ يَا سَلاَّمُ أَنَّكَ عَائِبِي وعلى هذين الوجهين، فتكونُ «أَنْ» وما في حَيِّزها سَادَّةً مَسَدَّ المفعولَيْن عند سيبويه ومَسَدَّ الأول والثاني محذوفٌ عند الأخفش؛ كما تقدَّم مراراً والأولُ هو الصحيحُ وذلك أَنَّ «خَافَ» مِنْ أفعالِ التوقُّع، وقد يميل فيه الظنُّ إلى أحدِ الجائِزَين، ولذلك قال الراغب: «الخَوْفُ يُقال لِمَا فيه رجاءٌ مَّا؛ ولذلك لا يُقال: خِفْتُ أَلاَّ أَقْدِرَ على طلوعِ السماءِ، أو نَسْفِ الجبالِ» . وأصلُ «يُقيمَا» : يُقْوِمَا، فَنُقِلَتْ كسرةُ الواوِ إلى الساكن قبلَها، ثم قُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لسكونها؛ بعد كسرةٍ، وقد تقدَّم تقريرُه في قوله: {الصراط المستقيم} [الفاتحة: 5] . وزعم بعضهم أنَّ قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ} معترضٌ بين قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ} ، وبين قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ} [البقرة: 230] ، وفيه بَعْدٌ. قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} «لاَ» واسمُها وخبرُها، وقوله: {فِيمَا افتدت بِهِ} متعلِّقٌ بالاستقرارِ الذي تضمَّنَهُ الخبرُ، وهو «عَلَيْهِمَا» ، ولا جائزٌ أن يكونَ «عَلَيْهِمَا» متعلِّقاً ب «جُنَاحَ» و «فِيمَا افتدت» الخبرَ؛ لأنه حينئذٍ يكونُ مُطَوَّلاً، والمُطَوَّلُ مُعْرَبٌ، وهذا - كما رأيتَ - مبنيٌّ. والضميرُ في «عَلَيْهِمَا» عائدٌ على الزوجَيْن، أي: لا جُنَاحَ على الزوجِ فِيمَا أَخَذَ، ولا على المَرْأَةِ فيما أَعْطَتْ، وقال الفراء: إنَّما يَعُودُ على الزوجِ فقط، وإنما أعادَهُ مُثَنى، والمرادُ واحِدٌ؛ كقوله تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] {نَسِيَا حُوتَهُمَا} [الكهف: 61] ؛ وقوله: [الطويل] 1112 - فَإِنْ تَزْجُرَانِي يَا بْنَ عَفَّانَ أَنْزَجِرْ ... وَإِنْ تَدَعَانِي أَحْمِ عِرْضاً مُمَنَّعَا وإنما يخرجُ من المِلْحِ، والنَّاسي «يُوشَعُ» وحدَهُ، والمنادَى واحدٌ في قوله: «يَا بْنَ عَفَّانَ» . و «مَا» بمعنى «الذي» ، أو نكرةٌ موصوفة، ولا جائزٌ أن تكونَ مصدريةً؛ لعَوْدِ الضميرِ مِنْ «بِهِ» عليها، إلا على رَأْي مَنْ يجعلُ المصدريةَ اسماً؛ كالأخفش وابنِ السَّرَّاج ومَنْ تابَعَهُما. فصل اعلم أنه - تعالى - لمَّا أَمر بأن يكون التَّسريح بإحسانٍ بين هنا أنَّ من جُملة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 139 الإحسان أَنَّه إذا طلَّقها لا يأخُذُ منها شيئاً، ويدخُل في هذا النَّهي ألا يُضَيِّقَ عليها ليلجئها إلى الافتداءِ؛ كما قال في سورة النساء: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ} [النساء: 19] وقوله هنا: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} هو كقوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [النساء: 19] وقال أيضاً: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 20 - 21] . فإن قيل: قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ} هذا الخِطاب كان للأَزواج، فكيف يطابقه قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} وإن كان للأَئِمَّة والحُكَّام فهؤلاء لاَ يأخذون منهنّ شيئاً؟ قلنا: الأمران جائزان: فيجُوز أن يكون أوَّلُ الآيةِ خِطَاباً للأَزْوَاجِ، وآخِرُها خِطاباً للأَئِمَّة والحُكَّامِ، وليس ذلك بغريبٍ من القُرْآن. ويجوزُ أن يكون الخِطَابُ كُلُّه للأَئِمَّة والحُكَّام؛ لأنهم هُمُ الَّذِين يَأْمُرُون بالأَخْذِ والإِيتَاءِ عند التَّرافُع إليهم فَكَأَنَّهم هم الآخِذُون والمُؤتون، ويَدُلُّ له قراءةُ حمزة المتقدِّمة: «يُخَافَا» بضم الياءِ، أي: يعلم ذلك منهما، يعني: يعلَم القاضي والوالي ذلك من الزَّوجين، ويطابقه قوله: «فَإِنْ خِفْتُمْ» فجعل الخوف لغير الزَّوجين، ولم يقل: «فإن خافا» . واعلم أنَّه لما منع الرجُل أن يأخذ من امرأَتِه شيئاً عند الطَّلاَق، استثنى هذه الصُّورة، وهي مسألة الخُلع، واختلفُوا في هذا الاستثناء؛ هل هو مُتَّصِلٌ أو مُنقطع؟ وفائدة الخلاف تظهر في مسألة فقهيَّة؛ وهي أن أكْثَر المجتهدين جوَّز الخُلْع في غيرِ حالة الخوفِ والغَضَبِ. وقال الزُّهري والنَّخعي وداود: لا يباح الخُلعُ إلاَّ عند الغضب والخوف من ألاَّ يُقِيما حدود الله، فإن وقع الخُلْعُ في غيرِ هذه الحالةِ، الخُلْعُ فاسِدٌ، واحْتَجُّوا بهذه الآيةِ؛ فإنها صريحةٌ في تحريم الأخذ من الزَّوجةِ عند طلاقها، واستثني هذه الصُّورة. وأما جمهور المجتهدين فقالوا: الخُلعُ جائزٌ في حالة الخوف وغيره؛ لقوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4] وإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصِّل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذلت، كان الخُلع الَّذِي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى، ويكون الاستثناء منقطعاً؛ كقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} [ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 140 النساء: 92] ، أي: لكن إن كان خطأً {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ} [النساء: 92] . فصل ظاهر الآية يدل على اشتراط حصول الخوف للرَّجل والمرأة، فنقول: الأقسام الممكنة فيه أربعة: إمَّا أن يكون الخوفُ من قبل المرأة فقط، أو من قبل الزوج فقط، أو لا يحصل الخوفُ من قبل واحدٍ منهما، أو يكون الخوف من قبلهما معاً، فإن حصل الخوفُ من قبل المرأةَ؛ بأن تَكُون المرأَةُ ناشزاً مُبْغِضةً للرَّجُلِ، ففهنا يَحلُّ للزَّوج أخذُ المال منها؛ ويدُلُّ عليه ما رُوي في سبب نُزُول الآية: أن جميلة بنت عبد الله بن أبي أَوفَى تَزَوَّجها ثابت بن قيسٍ بن شماس، وكانت تبعضُهُ أشدَّ البُغض، وهو يحُبُّها أشدَّ الحُبِّ، فأتت رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، وقالت: فَرِّق بيني وبينه فإِنِّي أبغضه، ولقد رفعت طرف الخباء فرأَيْتُه يجيءُ في أقوامٍ، فكان أقصرهم قامةً وأقبحهم وجهاً وأشدَّهم سواداً، وأنا أكره الكُفْر بعد الإِسلام. فقال ثابت: يا رسُول الله، فلترُدَّ عليَّ الحديقة الَّتي أعطيتها؛ فقال لها: «مَا تَقُولِين؟» قالت: نعم وأزيده فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا، حديقته فقط» ثم قال لثابتٍ: «خذ مِنْها ما أَعْطَيْتَها وخلِّ سَبِيلَهَا» ففعل، فكان أَوَّل خُلْعٍ في الإِسلام. وفي «سُنَنِ أَبِي دَاوُد» : أنّ المرأة كانت حفصة بنت سهلٍ الأنصاري. فإن قيل: قد شرط في هذه الآيةِ خوفهُما معاً، فكيف قُلْتُم: إنَّه يكفِي حُصُولُ الخوف منها فقط. فالجواب: أنّ هذا الخوف - وإن كان أوّله من جهة المرأة - فقد يترَتَّب عليه الخوفُ الحاصلُ من جهة الزَّوج، فإنها إذا كانت مبغض للزَّوج إذا لم تعطه، فربَّما ضربها وشتمها، وربَّمَا زاد على قدر الواجب، فحصل الخَوْف لهما جميعاً؛ أمّا من جهتها فخوفها على نفسها من عصيان اللهِ، وأمَّا من جهته، فقد يزيد على قدرِ الواجب. فأما أن يحصل الخوف من قبل الزَّوج فقط؛ بأن يضربها أو يُؤذِيها حتى تلتزم الفِدية، فهذا المال حرامٌ؛ للآية المتقدِّمة. وأما القِسْم الثالث: ألا يحصل الخوف من أحدٍ منهما، فقد ذكرنا أنَّ أكثر المجتهدين قال بجواز الخلع، والمالُ المأخوذ حلالٌ، وقال قوم إنه حرامٌ. وأما إن كان الخوفُ حاصلاً منهما، فالمال حرامٌ أيضاً؛ لأن الآياتِ المتقدِّمة تدُلُّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 141 على حُرمة أخذِ ذلك المَالِ، إذا كان السَّبَبُ حاصِلاً من قِبَل الزَّوج، وليس فيه تقييدٌ بأن يكون من جانب المرأة سبب أم لا؛ لأن الله - تعالى - أفرد بهذا القِسْم آية أخرى؛ وهي قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ} [النساء: 35] ، ولم يذكر فيه أخذ المال، وهذا التقسيم إنما هو فيما بين المكلَّفين وبين الله - تعالى - فأمَّا في الظَّاهر، فهو جائزٌ. فصل في قدر ما يجوز الخلع به اختلفوا في قدر ما يجوز الخلع به: فقال الشَّعبي والزُّهري والحسن البصري وعطاء وطاوس: لا يجوز أن يأخذ فوق ما أعطاها؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لامرأة ثاتبٍ حين قالت له: نعم، وأزيده، قال: «لا، حديقَتَهُ فَقَط» ، وهو قول عليٍّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. قال سعيد بن المُسيَّب: بل دون ما أَعطاها حتّى يكون الفضل. وأما سائر الفقهاء فإنَّهُم جوَّزوا المخالغة بالأَزيد والأَقَلِّ والمُساوي. فصل قال قومٌ: الخُلع تطليقةٌ، وهو قول علي، وعثمان، وابن مسعود، والحسن والشَّعبي، والنَّخعي، وعطاء، وابن السَّائب، وشُريح، ومجاهد، ومكحول، والزُّهري وهو قول أبي حنيفة وسُفيان وأحد قولي الشَّافعي وأحد الرِّوايتين عن أحمد. والقول الثاني للشَّافعي، وبه قال محمَّد وإسحاق وأبو ثور. حجَّة القول الأَوَّل: أنه لو كان فسخاً، لما صَحَّ الزِّيادة على المهر المُسَمَّى كالإِقالة في البيع، ولأَنَّه لو كان فَسْخاً فإذا خالعها ولم يذكُر المهر، وجب أن يجب عليها المهر؛ كالإقالةِ في البيع، فإن الثَّمَن يجب رَدُّه وََإِنْ لم يَذْكُرْه. ولما لم يكن كذلك، ثبت أن الخُلْعَ ليس بفسخٍ، وإذا بطل ذلك، ثبت أَنَّهُ طلاقٌ. حجة القول الثَّاني: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ولو كان الخُلْعُ طلاقاً، لكان الطَّلاَق أربعاً، وهذا الاستدلال نقله الخطَّابي في «مَعَالم السُّنَن» عن ابن عبَّاسٍ، وأيضاً أن النَّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أذن لثابت بن قيس في مُخالعة امرأته، ولم يستكشف هل هي حائِضٌ أو في طُهْر جامعها فيه، مع أنَّ الطَّلاق في هاتين الحالتين حرامٌ منهيٌّ عنه، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 142 يجب أن يستكشف عنه، فلما لم يستكشف بل أمره بالخلع مطلقاً، دلَّ على أن الخُلْع ليس بطلاقٍ. وأيضاً روى أبو داود في «سُنَنِ» عن عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ: أن امرأة ثابت بن قيس لما اخْتَلَعَت، جعل النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عِدَّتها حيضَة. قال الخطَّابي: وهذا أدلُّ شيء على أن الخُلع فسخٌ وليس بطلاقٍ؛ لأن الله - تعالى - قال: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] فلو كانت هذه طلقة، لم يقتصر على قرءٍ واحدٍ. قوله: {تِلْكَ حُدُودُ الله} مبتدأٌ وخبرٌ، والمشارُ إليه جميعُ الآياتِ من قوله: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} [البقرة: 221] إلى هنا. وقوله: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} أصلُه: تَعْتَدِيُوهَا، فاسْتُثْقِلَت الضمَّةُ على الياءِ؛ فحُذِفت، فسكنَتِ الياءُ وبعدَها واوُ الضميرِ ساكنةً، فحُذِفت الياءُ؛ لالتقاءِ الساكنَينِ، وضُمَّ ما قبلَ الواو؛ لتصِحَّ، ووزنُ الكَلِمَة تَفْتَعُوها. قال أبو العبَّاس المُقْرِي: ورد لفظ: «الاعْتِدَاء» في القُرآن بإزاء ثلاثة معانٍ: الأول: الاعتِداء: تعدِّي المأمُورات والمنهيَّات؛ قال - تعالى -: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة: 229] . والثاني: «الاعتِدَاء» القتل؛ قال تعالى: {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 178] أي: من قتل بعد قبُول التَّوْبة. الثالث: «الاعْتِداء» الجزاء؛ قال - تعالى -: {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} [البقرة: 194] أي: جاوزهُ. فصل قال القرطبي: إذا اختلعت منه بِرِضاع ابنها منه حولين جاز، وفي الخُلْعِ بنفقتها على الابن بعد الحَوْلَيْن مُدَّة مَعْلُومة قولان: أحدهما: يجوزُ؛ قاله سحنون. والثاني: لا يجوزُ؛ رواه ابن القاسم عن مالك. ولو اشترط على امرأته في الخُلْع نفقة حملِها، وهي لا شيء لها، فعليه النفقة إذا لم يَكُن لها مالٌ تنفق منه، فإن أيسَرت بعد ذلك رجع عَلَيْها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 143 قال مالك: ومن الحقِّ أن يكلِّف الرَّجل نفقة ولده وإن اشترط على أمِّه نفقته إذا لم يكن لها ما تنفق عليه. قوله: {وَمَن يَتَعَدَّ} «مَنْ» شرطيةٌ في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وفي خبرها الخلاف المتقدِّم. وقوله: {فأولئك} جوابها، ولا جائزٌ أن تكون موصولةٌ، والفاء زائدة في الخبر لظهور عملها الجزم فيما بعدها، و «هُمُ» من قوله: {فأولئك هُمُ} يحتمل ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن يكون فصلاً. والثاني: أن يكون بدلاً. و {الظالمون} على هذين خبر «أُولَئِكَ» والإخبار بمفردٍ. والثالث: أن يكون مبتدأً ثانياً، و «الظالمون» خبره، والجملة خبر «أُولَئِكَ» ، والإخبار على هذا بجملةٍ. ولا يخفى ما في هذه الجملة من التأكيد؛ من حيث الإتيان باسم الإشارة للبعيد، وتوسُّط الفصل والتعريف بالألف واللام في «الظالمون» أي: المبالغون في الظلم. وحمل أولاً على لفظ «مَنْ» ، فأفرد في قوله «يَتَعَدَّ» ، وعلى معناها ثانياً، فجمع في قوله: {فأولئك هُمُ الظالمون} . فصل و {حُدُودُ الله} : أوامره ونواهيه، وهي: ما منع الشرع من المجاوزة عنه، وفي المراد من «الظُّلْمِ» هنا ثلاثة أوجهٍ: أحدها: اللَّعن لقوله تعالى: {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [هود: 18] . وثانيها: أنَّ إطلاق الظلم] هنا تنبيهٌ على أن الإنسان ظلم نفسه؛ حيث أقدم على المعصية، وظلم المرأة: بتقدير ألا تتمَّ عدَّة الرجل، أو كتمت شيئاً، ممَّا خلق الله في رحمها، أو ترك الرجل الإمساك بالمعروف، والتَّسريح بالإحسان، أو أخذ شيئاً مما أتاها بغيرِ سببٍ من نشوزٍ، فكل هذه المواضع تكون ظُلماً للغيرِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 أي: من بعد الطلاق الثالث، فلمَّا قطعت «بعدُ» عن الإضافة بنيت على الضَّمِّ؛ لما تقدَّم تقريره. و «له» و «مِنْ بعد» ، و «حتى» ثلاثتها متعلقةٌ ب «يَحِلُّ» . ومعنى «مِنْ» : الجزء: 4 ¦ الصفحة: 144 ابتداء الغاية، واللام للتَّبليغ، وحتَّى للتعليل، كذا قال أبو حيَّان، قال شهاب الدِّين: والظَّاهر أنها للغاية؛ لأنَّ المعنى على ذلك، أي: يمتدُّ عدم التحليل له إلى أن تنكح زوجاً غيره، فإذا طلَّقها وانقضت عدَّتها منه حلَّت للأول المطلِّق ثلاثاً، ويدلُّ على هذا الحذف فحوى الكلام. و «غيرَه» صفةٌ ل «زوجاً» ، وإن كان نكرةً، لأنَّ «غَيْرَ» وأخواتِها لا تتعرَّف بالإضافة؛ لكونها في قوَّة اسم الفاعل العامل. و «زَوْجاً» هل هو للتقييد أو للتوطئة؟ وينبني على ذلك فائدةٌ، وهي أنه إن كان للتقييد: فلو كانت المرأة أمةً، وطلَّقها زوجها، ووطئها سيِّدها، لم تحلَّ للأول؛ لأنه ليس بزوجٍ، وإن كانت للتوطئة حلَّت؛ لأنَّ ذكر الزوج كالملغى، كأنه قيل: حتى تنكح غيره، وإنَّما أتى بلفظ «زَوْج» ؛ لأنه الغالبُ. فإن قيل: ما الحكمة في إسناد النِّكاح إلى المرأة دون الرجل فقال {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً} ؟ فالجواب: فيه فائدتان: إحداهما: ليفيد أنَّ المقصود من هذا النكاح الوطء، لا مجرَّد العقد؛ لأن المرأة لا تعقد عقد النكاح، بخلاف الرجل؛ فإنه يطلِّق عند العقد. الثانية: لأنَّه أفصح، لكونه أوجز. فإن قيل: فقد أُسند النِّكاح إلى المرأة في قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ» وإنما أراد العقد. فالجواب: أن هذا يدلُّ لنا؛ لأنَّ جَعْلَ إسناد النكاح إلى المرأة، والمراد به العقد، يكون باطلاً، وكلامنا في إسناد النِّكاح الصَّحيح. قال أهل اللُّغة: النكاح في اللغة: هو الضَّمُّ والجمع، يقال: تَنَاكَحَتِ الأشْجَارُ، إذا انضم بعضها إلى بعضٍ. فصل الذين قالوا: بأن التسريح بالإحسان هو الطَّلقة الثالثة، قالوا: إنَّ قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} تفسيرٌ للتسريح بالإحسان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 145 واعلم أن للزَّوج مع المرأة بعد الطلقة الثانية ثلاثة أحوالٍ: إمَّا أن يراجعها، وهو المراد بقوله: «فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ» . أو يتركها؛ حتى تنقضي عدَّتها وتبين، وهو المراد بقوله: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ» . والثالث: أنه إذا راجعها، وطلَّقها ثالثةً؛ وهو المراد بقوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} . فهذه الأقسام الثلاثة؛ يجب تنزيل الألفاظ الثلاثة عليها؛ ليطابق كلُّ لفظٍ معناه، فأمَّا إن جعلنا التَّسريح بالإحسان، عبارةٌ عن الطَّلقة الثَّالثة، كنَّا قد صرفنا لفظتين إلى معنى واحدٍ؛ على سبيل التِّكرار، وأهملنا القسم الثالث، ومعلومٌ أنَّ الأوَّل أولى، ووقوع الخلع بين هاتين الآيتين، كالأجنبي، ونظم الآية: «الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ، فإن طلَّقها فلا تحل له من بعد حتَّى تنكح زوجاً غيره» . فإن قيل: إذا كان النَّظم الصَّحيح هو هذا، فما السبب في إيقاع الخلع فيما بين هاتين الآيتين؟ فالجواب: أنَّ الرجعة والخلع لا يصحَّان؛ إلاَّ قبل الطَّلقة الثالثة، وأمَّا بعدها، فلا يصحُّ شيءٌ من ذلك، فلهذا السَّبب ذكر الله حكم الرجعة، ثم أتبعه بذكر الخلع، ثم ذكر بعد الكلِّ حكم الطَّلقة الثالثة؛ لأنها كالخاتمة. فصل في شروط حل المطلقة ثلاثاً لزوجها مذهب الجمهور: أنَّ المطلقة ثلاثاً لا تحلُّ لزوجها؛ إلاَّ بشرُوطٍ وهي: أن تعتدَّ منه، وتتزوَّج بغيره، ويطأها ثم يطلِّقها، وتعتدَّ من الآخر. وقال سعيد بن جبيرٍ، وسعيد بن المسيِّب: تحلُّ بمجرد العقد. واختلف العلماء في ثبوت اشتراط الوطء؛ هل ثبت بالكتاب، أو بالسنة؟ قال أبو مسلمٍ الأصفهانيُّ: الأمران معلومان بالكتاب. قال ابن جنّي: سألت أبا عليٍّ عن قولهم: نكح المرأة، فقال: فرَّقت العرب بالاستعمال، فإذا قالوا: نكح امرأته، أو زوجته، أراد المجامعة، وعلى هذا فالزَّوجية مقدَّمةٌ على النكاح، الذي هو الوطء، وإذا كان كذلك فقوله: {تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ، أي: تتزوَّج بزوجٍ، وينكحها، أي: يجامعها. وروي في سبب النزول أنَّ الآية نزلت في تميمة، وقيل: عائشة بنت عبد الرحمن بن عتيك النضري كانت تحت ابن عمِّها، رفاعة بن وهب بن عتيك القرظيّ، فطلقها ثلاثاً، قالت عائشة: جاءت امرأة رفاعة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: إني كنت عند رفاعة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 146 فطلقني فبت طلاقي، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير، وإنَّما معه مثل هدبة الثوب، وإنه طلَّقني قبل أن يمسَّني؛ أفأرجع إلى ابن عمِّي؟ فتبسم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «أَتُرِيدِينَ أَنْ تَرْجِعِي إلى رِفَاعَةَ؟ لاَ؛ حَتَّى تَذُوقِي عُسَيْلَتَهُ، وَيَذُوقَ عُسَيْلَتَكِ» والمراد ب «العُسَيْلَة» : الجماع، فروي أنها لبثت ما شاء الله، ثم رجعت إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالت: إن زَوْجِي قد مَسَّنِي، فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «كَذَبْتِ فِي قَوْلِكِ الأَوَّلِ، فَلَنْ أُصَدِّقَكِ في الآخرِ» ، فلبثت حتى قبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأتت أبا بكرٍ، فقالت: يا خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرجع إلى زوجيَ الأول؛ فإن زوجي الآخر قد مسني؟ فقال لها أبو بكر: قد شهدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين أتيته، وقال لك ما قال؛ فلا ترجعي إليه، فلما قبض أبو بكرٍ، أتت عمر، وقالت له مثل ذلك، فقال: «لئن رجعت إليه لأَرْجُمنَّكِ» . ولأن المقصود من توقيف الحل على اشتراط الوطء هو زجر الزوج، وإنَّما يحصل بتوقيف الحل على اشتراط الوطء، فأما مجرد العقد، فليس فيه نفرةٌ، فلا يصلح جعله زاجراً. فصل قال بعض العلماء: إذا طلق زوجته، واحدةً أو اثنتين ثم نكحت زوجاً آخر، فأصابها، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديد، عادت على ما بقي من طلاقها. وقال أبو حنيفة: بل يملك عليها ثلاثاً، كما لو نكحت زوجاً بعد الثلاث. فصل هل يلحق المختلعة الطلاق قال القرطبيُّ: استدلَّ بعض الحنفية بهذه الآية، على أنَّ المختلعة يحلقها الطلاق؛ لأنَّ الله شرع صريح الطلاق بعد المفاداة، لأن «الفَاءَ» حرف تعقيبٍ، فيبعد أن يرجع إلى قوله: «الطَّلاقُ مرَّتَانِ» ؛ لأنَّ الأقرب عوده إلى ما يليه، كالاستثناء. فصل لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المُحَلِّلَ والمُحَلَّلَ لَهُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 147 قال القرطبيُّ: ومدار التحليل على الزوج سواء شرط التحليل، أو نواه، فمتى كان ذلك فسد نكاحه. فصل قال القرطبيُّ: وطءُ السيِّد لأمته التي طلقها زوجها، لا يحلّها؛ إذ ليس بزوجٍ وكذلك النكاح الفاسد. فصل قال القرطبيُّ: سئل سعيد بن المسيَّب، وسليمان بن يسار، عن رجل زوَّج عبداً له، جاريةً له، فطلَّقها العبد البتَّة، ثم وهبها سيِّدها له، هل تحل له بملك اليمين؟ فقالا: لا تَحِلُّ له، حتى تَنْكِحَ زوجاً غيره. فصل سئل ابن شهاب، عن رجلٍ كانت تحته أَمةٌ مملوكةٌ فاشتراها، وقد كان طلقها واحدةً؛ فقال: تحل له بملك يمينه، ما لم يبت طلاقها، فإن بتَّ طلاقها، فقال: لا تحلُّ له، حتى تنكح زوجاً غيره. فإن قيل: إذا طلَّق المسلم الذمية ثلاثاً؛ فتزوجت بعده ذمياً، ودخل بها، حلت للأول؛ لأن الذِّمي زوجٌ. قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} الضمير المرفوع عائدٌ على «زوجاً» النكرة، أي: فإن طلَّقها ذلك الزوج الثاني، وأتى بلفظ «إِنْ» الشرطية دون «إذا» ؛ تنبيهاً على أنَّ طلاقه يجب أن يكون باختياره، من غير أن يشترط عليه ذلك؛ لأنَّ «إذا» للمحقق وقوعه و «إِنْ» للمبهم وقوعه، أو المتحقِّق وقوعه المبهم زمان وقوعه؛ نحو قوله تعالى: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] . قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ} الضمير في «عليهما» يجوز أن يعود على المرأة، والزوج الجزء: 4 ¦ الصفحة: 148 الأول المطلَّق ثلاثاً، أي: فإن طلَّقها الثاني، وانقضت عدَّتها منه، فلا جناح على الزوج المطلِّق ثلاثاً، ولا عليها؛ أن يتراجعا. وهذا يؤيد قول من قال: إن الرجل إذا طلق زوجته طلقةً أو طلقتين، فتزوجت غيره، وأصابها، ثم عادت إلى الأول بنكاح جديدٍ، أنَّها تعود على ما بقي من طلاقها؛ لأنه سمَّى هذا العود بعد الطلاق الثلاث رجعةً، فبعد طلقةٍ وطلقتين أولى بهذا الاسم، وإذا ثبت هذا الاسم، كان رجعةً، والرجعية تعود على ما بقي من طلاقها. ويجوز أن يعود عليها، وعلى الزوج الثاني، أي: فلا جناح على المرأة ولا على الزوج الثاني، أن يتراجعا ما دامت عدَّتها باقيةً، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف تلك الجملة المقدَّرة، وهي «وانْقَضَتْ عِدَّتُها» ، وتكون الآية قد أفادت حكمين، أحدهما: أنها لا تحلُّ للأول؛ إلاَّ بعد أن تتزوج بغيره، والثاني: أنه يجوز أن يراجعها الثاني، ما دامت عدَّتها منه باقيةً، ويكون ذلك دفعاً لوهم من يتوهَّمُ أنها إذا نكحت غير الأول حلَّت للأول فقط، ولم يكن للثاني عيها رجعةٌ. وهو الذي عوَّل عليه سعيد بن المسيَّب في أنَّ التحليل يحصل بمجرد العقد؛ لأن الوطء لو كان معتبراً، لكانت العدة واجبةً، وهذه الآية تدل على سقوط العدَّة؛ لأن «الفَاءَ» في قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ} يدلُّ على أنَّ حل المراجعة حاصل عقيب طلاق الزوج الثاني، إلاَّ أنه يجاب بأنَّ هذا المخصوص بقوله تعالى: {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] . قوله: {أَن يَتَرَاجَعَآ} ، أي: «في أَنْ» ، ففي محلِّها القولان المشهوران: قال الفراء: موضعهما نصبٌ بنزع الخافض، وقال الكسائي، والخليل: موضعهما خفضٌ بإضمار، و «عليهما» خبر «لا» ، و «في أن» متعلِّقٌ بالاستقرار، وقد تقدَّم أنه لا يجوز أن يكون «عليهما» متعلقاً ب «جُناح» ، والجارُّ الخبر، لما يلزم من تنوين اسم «لا» ؛ لأنه حينئذٍ يكون مطوَّلاً. قوله: {إِن ظَنَّآ} شرطٌ جوابه محذوفٌ عند سيبويه لدلالة ما قبله عليه، ومتقدِّم عند الكوفيين وأبي زيد. والظَّنُّ هنا على بابه من ترجيح أحد الجانبين، وهو مقوِّ أن الخوف المتقدِّم بمعنى الظَّنِّ. وزعم أبو عبيدة وغيره أنه بمعنى اليقين، وضعَّف هذا القول الزمخشري لوجهين، أحدهما من جهة اللفظ وهو أنَّ «أَنْ» الناصبة لا يعمل فيها يقينٌ، وإنما ذلك للمشدَّدة والمخففة منها، لا تقول: علمت أنَّ يقوم زيدٌ، إنما تقول: علمت أنْ يقوم زيدٌ. والثاني من جهة المعنى: فإنَّ الإنسان لا يتيقَّن ما في الغد وإنما يظنُّه ظناً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 149 قال أبو حيان: أمَّا ما ذكره من أنه لا يقال: «علمت أنَّ يقومَ زيد» فقد ذكره غيره مثل الفارسي وغيره، إلاَّ أن سيبويه أجاز: «ما علْتُ إلا أن يقومَ زيدٌ» فظاهرُ هذا الردُّ على الفارسي. قال بعضهم الجمع بينهما أنَّ «عَلِمَ» قد يراد بها الظَّنُّ القويُّ كقوله: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] ، وقوله: [الوافر] 1113 - وَأَعْلَمُ عِلْمَ حَقٍّ غَيْرَ ظَنِّ ... وتَقْوَى اللهِ مِنْ خَيْرِ العَتَادِ فقوله: «علمَ حق» يفهم منه أنه قد يكون علم غير حق، وكذا قوله «غيرِ ظَنٍّ» يفهم منه أنه قد يكون علمٌ بمعنى الظن. وممَّا يدلُّ على أنَّ «عَلِمَ» التي بمعنى «ظَنَّ» تعمل في «أَنْ» الناصبة، فليس بوهم من طريق اللفظ كما ذكره الزمخشري. وأمَّا قوله: «لأنَّ الإنسانَ لا يعلمُ ما في الغدِ» فليسَ كما ذكر، بل الإنسان يعلم أشياء كثيرةً واقعةً في الغد ويجزم بها «قال شهاب الدين: وهذا الردُّ من الشيخ عجيبٌ جداً، كيف يقال في الآية: إنَّ الظن بمعنى اليقين، ثم يجعل اليقين بمعنى الظن المسوغ لعلمه في» أَنْ «الناصبة. وقوله:» لأنَّ الإنسانَ قد يَجْزِمُ بأشياءَ في الغد «مُسَلَّمٌ، لكن ليس هذا منها. وقوله: {أَن يُقِيمَا} إمَّا سادٌّ مسدَّ المفعولين، أو الأول والثاني محذوفٌ، على حسب المذهبين المتقدمين. فصل كلمة» إن «في اللغة للشرط، والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط؛ فظاهر الآية يقتضي: أنه متى لم يحصل هذا الظن لم يحصل جواز المراجعة وليس الأمر كذلك؛ فإنَّ جواز المراجعة ثابتٌ، سواءٌ حصل هذا الظنُّ، أو لم يحصل، إلاَّ أنا نقول: ليس المراد أنَّ هذا شرطٌ لصحة المراجعة؛ بل المراد منه أنه يلزمهم عند المراجعة بالنِّكاح الجديد رعاية حقوق الله تعالى، وقصد الإقامة لحدود الله. قال طاوسٌ: إن ظنَّ كلٌّ واحدٍ منهما، أنه يحسن عشرة صاحبه. وقيل: حدود الله: فرائضه، أي إذا علما أنه يكون منهما الصلاح بالنكاح الثاني. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 150 فمتى علم الزوج أنه يعجز بنفقة زوجته، أو صداقها، أو شيءٍ من حقوقها الواجبة عليه؛ فلا يحلُّ له أن يتزوجها؛ حتى يبيِّن لها. وكذلك لو كانت تعلم أنها تمنعه من الاستمتاع، كان عليها أن تبين. وكذلك لا يجوز له أن يغرَّها بنسبٍ يدعيه، ولا مال له، ولا صناعة يذكرها، وهو كاذبٌ، وكذلك لو كان بها علةٌ، تمنع من الاستمتاع من جنونٍ، أو جذامٍ، أو بَرَصٍ، أو داءٍ في الفرج؛ لم يجز لها أن تغرَّه، وعليها أن تبيِّن له ما بها، كما يجب على بائع السِّلعة. وكان النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - تزوج امرأة، فوجد بكشحها برصاً؛ فردَّها، وقال:» دَلَّسْتُمْ عَلَيَّ «. فصل هل على الزوجة خدمة الزوج؟ نقل القرطبيُّ عن ابن خويزمنداد قال: اختلف أصحابنا: هل على الزوجة خدمة الزوج؟ فقال بعضهم: ليس عليها خدمته؛ لأن العقد إنما يتناول الاستمتاع، لا الخدمة؛ قال تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً} [النساء: 34] . وقال بعضهم: عليها خدمة مثلها؛ فإن كانت شريفة المحلِّ، فعليها التدبير للمنزل، وإن كانت متوسطة الحال، فعليها أن تفرش الفراش، ونحو ذلك، وإن كانت دون ذلك، فعليها أن تَقُمَّ البيت، وتطبخ، وتغسل، وإن كانت من نساء الكرد، والدّيلم والجبل في بلدهن كلِّفت ما تكلف نساؤهم المسلمين من ذلك؛ قال تعالى: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف} [البقرة: 228] . قوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} » تلكَ «إشارةٌ إلى ما بينهما من التَّكاليف. «يُبَيِّنُهَا» في هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنها في محلِّ رفعٍ، خبراً بعد خبرٍ، عند من يرى ذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال، وصاحبها «حدود الله» والعامل فيها اسم الإشارة. وقرئ: «نبيِّنها» بالنون، ويروى عن عاصمٍ، على الالتفات من الغيبة إلى التكلم؛ للتعظيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 151 فإن قيل: «تلك» إشارةٌ إلى ما بيَّنه من التكاليف؛ وقوله: «نُبَيِّنُهَا» إشارة إلى الاستقبال، والجمع بينهما متناقضَ! فالجواب: أنَّ هذه النصوص التي تقدمت أكثرها عامةٌ، لا يتطرق إليها تخصيصاتٌ كثيرة، وأكثر تلك المخصِّصات إنَّما عرفت بالسُّنَّة، فكأنه قال: إن هذه الأحكام التي تقدمت، هي حدود الله، وسيبينها الله تعالى كمال البنيان، على لسان النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو كقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] . وقيل: {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} يعني: ما تقدَّم ذكره من الأحكام يبيِّنها الله لمن يعلم أن الله أنزل الكتاب، وبعث الرسل؛ ليعلموا بأوامره، وينتهوا عن نواهيه. و «لقوم» متعلِّقٌ ب «يُبَيِّنُهَا» ، و «يعلمون» في محل خَفْض صفةً ل «قوم» ، وخص العلماء بالذكر؛ لأنَّهم هم المنتفعون بالبيان دون غيرهم، وقيل: خصَّهم بالذّكر لقوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [البقرة: 98] وقيل: عنى به العرب؛ لعلمهم باللسان. وقيل: أراد من له علمٌ، وعقلٌ؛ كقوله: {وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون} [العنكبوت: 43] والمقصود أنه لا يكلف إلاَّ عاقلاً، عالماً بما يكلِّف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 قوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ} : شرطٌ، جوابه {فَأَمْسِكُوهُنَّ} ، وقوله: {فَبَلَغْنَ} عطفٌ على فعل الشرط، والبلوغ: الوصول إلى الشيء: بلغه يبلغه بلوغاً؛ قال امرؤ القيس: [الطويل] 1115 - وَمَجْرٍ كَغُلاَّنِ الأُنَيْعِمِ بالِغٍ ... دِيَارَ العَدُوِّ ذِي زُهَاءٍ وَأَرْكَانِ ومنه: البلغة، والبلاغ: اسم لما يتبلَّغ به. قوله تعالى: «بمعروفٍ» في محلِّ نصبٍ على الحال، وصاحبها: إمَّا الفاعل أي: مصاحبين للمعروف، أو المفعول، أي: مصاحباتٍ للمعروف. قوله: {ضِرَاراً} فيه وجهان: أظهرهما: أنه مفعول من أجله، أي: لأجل الضِّرار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 152 والثاني: أنه مصدرٌ في موضع الحال، أي: حال كونكم مضارِّين لهنَّ. قوله: {لِّتَعْتَدُواْ} هذه لام العلّة، أي: لا تضارُّوهنَّ على قصد الاعتداء عليهن، فحينئذٍ تصيرون عصاةً لله تعالى، وتكونوا معتدين؛ لقصدكم تلك المعصية. وأجاز أبو البقاء: أن تكون لام العاقبة، أي: الصيرورة، كقوله: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] ، وفي متعلقها وجهان: أحدهما: أنه {لاَ تُمْسِكُوهُنَّ} . والثاني: أنه المصدرُ، إنْ قلنا: إنه حالٌ، وإنْ قُلْنَا: إنه مفعولٌ من أجله، تعلَّقت به فقط؛ وتكون علةً للعلة؛ كما تقول: «ضربتُ ابني؛ تأديباً؛ لينتفع» ، فالتأديب علةٌ للضرب، والانتفاع علةٌ للتأديب، ولا يجوز أن تتعلَّق - والحالة هذه - ب «لا تُمْسِكُوهُنَّ» . و «تَعْتَدُوا» منصوبٌ بإضمار «أنْ» وهي وما بعدها في محلِّ جر بهذه اللام، كما تقدَّم تقريره، وأصل «تَعْتَدُوا» : تَعْتَدِيُوا، فأُعِلَّ كنظائره. قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ} أدغم أبو الحارث، عن الكسائي، اللام في الذال، إذا كان الفعل مجزوماً كهذه الآية، وهي في سبعة مواضع في القرآن: {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} [البقرة: 331] في موضعين، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} [آل عمران: 28] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً} [النساء: 30] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله} [النساء: 114] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68] ، {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون} [المنافقون: 9] . وجاز لتقارب مخرجيهما، واشتراكهما في: الانفتاح، والاستفال، والجهر. وتحرَّز من غير المجزوم نحو: يفعل ذلك. وقد طعن قومٌ على هذه الرواية، فقالوا: لا تصحُّ عن الكسائي؛ لأنها تخالف أصوله، وهذا غير صواب. فصل في سبب النزول هذه الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار يدعى: ثابت بن يسارٍ، طلّق امرأته، حتى إذا قارب انقضاء عدّتها، راجعها، ثمَّ طلَّقها؛ يقصد مضارَّتها. فإن قيل: ذكر هذه الآية بعد قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] تكريرٌ لكلامٍ واحدٍ، في موضوعٍ واحدٍ، من غير زيادة فائدةٍ، وهو لا يجوز؟! الجزء: 4 ¦ الصفحة: 153 فالجواب: أمَّا على قول أصحاب أبي حنيفة، فالسؤال ساقطٌ عنهم؛ لأنهم حملوا قوله تعالى: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] على أن الجمع بين الطلقات غير مشروعٍ، وإنَّما المشروع هو التفريق، فإن تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق، وهذه في بيان كيفية المراجعة. وأمَّا على قول أصحاب الشافعي، الذين حملوا تلك الآية على كيفية المراجعة، فلهم أن يقولوا: إنَّ من ذكر حكماً يتناول صوراً كثيرة وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهمَّ، أن يعيد بعد ذلك الحكم العامِّ تلك الصورة الخاصَّة مرَّةً أخرى؛ ليدلَّ ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام، ما ليس في غيرها، وها هنا كذلك؛ لأن قوله: {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 229] فيه بيان أنه لا بدَّ في مدّضة العدَّة من أحد هذين الأمرين، ومن المعلوم أنَّ رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة، أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبله؛ لأن أعظم أنواع الإيذاء، أن يطلقها، ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل؛ حتى تبقى في العدة تسعة أشهرٍ، فلمَّا كان هذا أعظم أنواع المضارة، حسن إعادة حكم هذه الصورة، تنبيهاً على أنّض هذه الصورة أعظم اشتمالاً على المضارة، وأولى بأن يحترز المكلف عنها. فصل في معنى الإمساك بالمعروف قال القرطبيُّ: الإمساك بالمعروف، هو القيام بما يجب لها من حقٍّ على زوجها؛ وكذلك قال جماعةٌ من العلماء: إنَّ من الإمساك بالمعروف أنَّ الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة، أن يطلقها، فإن لم يفعل خرج عن حدِّ المعروف، فيطلِّق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاَّحق بها؛ لأن في بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، ضرراً، والجوع لا يصبر أحدٌ عليه، وبهذا قال مالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق، وأبو عبيدة، وأبو ثور، وعبد الرحمن بن مهدي، وهو قول عمر، وعلي، وأبي هريرة. وقال سعيد بن المسيَّب: إنَّ ذلك سنةٌ، ورواه أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقالت طائفةٌ: لا يفرٌَّ بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلّق النفقة بذمَّته، بحكم الحاكم؛ لقوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . وحجّة الأوَّلين الآية، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «تقول المرأة إمَّا أَنْ تُطْعِمني وَإِمَّا أَنْ تُطَلِّقَنِي» رواه البخاري في «صحيحه» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 154 فصل قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} إشارةٌ إلى المراجعة، واختلف العلماء في كيفيتها؛ فقال الشَّافعيُّ: لما لم يكن النكاح والطلاق إلاَّ بكلامٍ، لم تكن الرجعة - أيضاً - إلاَّ بكلامٍ. وقال أبو حنيفة، والثوري، وأحمد: تصحُّ بالوطء. حجة الشافعي: أنَّ ابن عمر طلَّق زوجته، وهي حائض؛ فسأل عمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك، فقال: «مُرْهُ فَلْيُرَاجِعْهَا» فأمره - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالمراجعة في تلك الحال. والوطء في زمن الحيض لا يجوز. وقد يجاب عن هذا؛ بأنَّنا لم نخصَّ الرجعة في الوطء، بل قد يكون في صورةٍ بالوطءِ، وفي صورة بالقول. وحجَّة أبي حنيفة، قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أمرٌ بمجرد الإمساك، والوطء إمساكٌ، فوجب أن يكون كافياً. فإن قيل: إنه تعالى أثبت حقَّ المراجعة عند بلوغ الأجل، وبلوغ الأجل وهو عبارةٌ عن انقضاء العدَّة، لا يثبت حقَّ المراجعة. فالجواب من وجهين: الأول: أنَّ المراد مشارفة البلوغ لا نفس البلوغ؛ كقول الرجل إذا قارب البلد: «قد بلغنا» ، وقول الرجل لصاحبه: «إذا بلغتَ مكَّةَ، فاغْتَسلْ بِذِي طُوى» يريد مشارفة البلوغ، لا نفس البلوغ، وهو من باب مجاز إطلاق اسم الكلِّ على الأَكْثر. الثاني: الأَجَل اسمٌ للزمان، فنحمله على الزمان الذي هو آخر زمانٍ يمكن إيقاع الرجعة فيه، بحيث إذا مات، لا يبقى بعده إمكان الرجعة على هذا، فلا حاجة إلى المجاز فإن قيل: لا فرق بين قوله: «أَمسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ» ، وبين قوله: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} ؛ لأن الأمر بالشيء نهيٌ عن ضدِّه، فما فائدة التكرار؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 155 فالجواب: الأمر لا يفيد إلاَّ مرةً واحدةً؛ فلا يتناول كلَّ الأوقات؛ أمَّا النهيُ فإنه يتناول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 156 كلَّ الأوقات، فلعلَّه يمسكها بالمعروف في الحال، ولكن في قلبه أن يضارَّها في الزمان المستقبل، فلما قال: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} انْدَفَعَتْ الشبهات، وزالت الاحتمالات. فصل في بيان معنى الضرار و «الضرار» : هو المضارَّةُ؛ قال تعالى: {والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً} [التوبة: 107] ، ومعناه راجعٌ إلى إثارة العداوة، وإزالة الألفة، وإيقاع الوحشة؛ وذكر المفسرون فيه وجوهاً: أحدها: ما تقدَّم في سَببِ نُزولِ الآيةِ من تطويلِ العِدَّةِ تسعة أشْهُرٍ، فأكثر. ثانيها: «الضرارُ» سوء العشرة. وثالثها: تضييق النفقة، وكانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأعمال؛ لكي تختلع المرأة عنه بمالها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 157 قوله تعالى: {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} فيه وجوه: أحدها: ظلم نفسه؛ بتعريضها للعذاب. وثانيها: ظلم نفسه؛ بأن فوَّت عليها منافع الدنيا والدِّين: أمَّا منافع الدنيا: فإنَّه إذا اشتهر بين الناس بهذه المعاملة القبيحة فلا يرغب أحدٌ في تزويجه، ولا معاملته. وأما منافع الدِّين فتضييعه للثواب الحاصل على حسن عشرة الأهل، والثواب على الانقياد لأحكام الله تعالى. قوله: {وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً} فيه وجوه: أحدها: أنَّ من أمر بشيء، فلم يفعله بعد أن نصَّب نفسه منصب الطائعين، يقال: إنه استهزأ بذلك الأمر ولعب به؛ فعلى هذا يكون المراد أنَّ من وصلت إليه هذه التكاليف المتقدمة من العدَّة، والرَّجعة، والخلع، وترك المضارَّة، ويسأم لأدائها يكون كالمستهزئ بها، وهذا تهديدٌ عظيمٌ للعصاة من أهل الصلاة، وغيرهم. وثانيها: ولا تتسامحوا في تكاليف الله تعالى، ولا تتهاونوا بها. وثالثها: قال أبو الدَّرداء: كان الرجل يطلِّق في الجاهلية، ويقول: «طَلَّقْتُ، وَأَنَا لاَعِبٌ» ويعتق، وينكح، ويقول مثل ذلك؛ فنزلت هذه الآية، فقرأها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال: «مَنْ طَلَّقَ، أَوْ حَرَّرَ، أَوْ نَكَحَ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لاَعِبٌ فَهو جدٌّ» . وروى أبو هريرة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «ثَلاَثٌ جَدُّهُنَّ جدٌّ وَهَزْلُهُنَّ جدٌّ؛ الطَّلاَقُ وَالنِّكَاحُ وَالعتَاقُ» . ورابعها: قال عطاءٌ: معناه أنَّ المستغفِر من الذنبِ إذا كان مُصرّاً عليه، أو على غيره، كان مُسْتهزئاً بآيات الله تعالى. وقال مالكٌ في «الموطأ» : بلغنا أَنَّ رجُلاً قال لابن عبَّاسٍ: إني طلقتُ امرأَتي مائةَ مَرَّةٍ، فماذا ترى؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ: طُلِّقَتْ منك بثلاثٍ؛ وسَبْعٌ وتسعون اخذت آياتِ الله هُزُواً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 158 والأَقربُ هو الأَوَّلُ؛ لأنه تهديد بعد ذكرِ تكاليفَ، فيكون تهدِيداً عليها، لا على غيرها. ولمَّا رَغَّبهم في أداءِ التكاليف بالتهديد، رغبهم - أيضاً - بذكر نعمِهِ عليهم في الدنيا والدين، فقال: «واذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُم» أي: بالإسلام، وبيان الأَحكام. ويجوز في «عليكم» وجهان: أحدهما: أن يتعلَّق بنفسِ «المنعة» ، إن أريدَ بها الإِنعامُ؛ لأنها اسمُ مصدرٍ؛ كنباتٍ من أَنْبَتَ، ولا تمنع تاءُ التأنيث من عملِ هذا المصدرِ؛ لأنه مبنيٌّ عليها كقوله: [الطويل] 1116 - فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ فأعملَ «رهبةٌ» في «عِقَابَكَ» ، وإنما المحذُورُ أن يعمل المصدرُ الذي لاَ يُبنَى عليها، نحو: ضربٌ وضَرْبَةٌ، ولذلك اعتذر الناس عن قوله: [الطويل] 1117 - يُحايي بِهِ الْجَلْدُ الَّذِي هُوَ حَازِمٌ ... بِضَربَةِ كَفَّيْهِ الْمَلاَ وَهْوَ رَاكِبُ بأنَّ المَلاَ، وهو السرابُ، منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ لا بضربةٍ. والثاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من «نِعْمَة» إنْ أريد بها المُنْعَمُ به، فعلى الأول تكون الجلالةُ في محلِّ رفعٍ، لأنَّ المصدرَ رافعٌ لها تقديراً؛ إذ هي فاعلةٌ به، وعلى الثاني في محلِّ جرٍّ لفظاً وتقديراً. قوله: {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ} يجوزُ في «ما» وجهان: أحدهما: أن تكونَ في محلِّ نصب؛ عطفاً على «نعمة» ، أي: اذكروا نعمتَه والمُنَزَّل عليكم، فعلى هذا يكون في قوله: «يَعِظُكُم» حالاً، وفي صاحبها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنه الفاعلُ: في «أنزل» وهو اسمُ الله تعالى، أي: أنزله واعظاً به لكم. والثاني: أنه «ما» الموصولةُ، والعاملُ في الحالِ: اذكروا. والثالث: أنه العائد على «ما» المحذوفُ، أي: وما أنزلهُ موعوظاً به، فالعاملُ في الحالِ على هذا القولِ وعلى القولِ الأولِ «أَنْزَلَ» . والثاني: من وَجْهي «ما» : أَنْ تكونَ في محلِّ رفع بالابتداء، ويكونَ «يَعِظُكُم» على هذا في محل رفعٍ؛ خبراً لهذا المبتدإِ، أي: والمُنَزَّلُ عليكم موعوظٌ به. وأولُ الوَجْهَيْنِ أقوى وأحسنُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 159 قوله: {عَلَيْكُمْ} متعلِّقٌ ب «أَنْزَلَ» و «من الكتابِ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لأنه حالٌ، وفي صاحبِهِ وجهان: أحدهما: أنه «ما» الموصولةُ. والثاني: أنه عائدُها المحذوفُ، إذ التقديرُ: أنزله في حالِ كونِهِ من الكتابِ. و «مِنْ» يجوز أن تكونَ تَبْعِيضِيةٌ، وأَنْ تكونَ لبيانِ الجنسِ عند مَنْ يرى ذلك. والضمير في «به» يعودُ على «ما» الموصولةِ «. والمرادُ من» الكِتابِ «: القرآنُ، ومن» الحِكْمَةِ «:» السُّنَّةُ «. يَعظُكُمْ بِهِ أي: يخوفكم به، ثم قال: {واتقوا الله} أي: في أَوَامرِه، ولا تُخالِفُوه في نواهيه، {واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 الكلامُ في صدرِ هذه الآية كالتي قبلها، إلاَّ أنَّ الخِطابَ في: «طَلَّقتم» للأزواجِ، وفي: «فَلاَ تعضُلُوهُنَّ» للأولياء؛ لأنه يروَى في سبب نُزُولِ هذه الآيةِ وجهان: الأول: أَنَّ معقل بن يسار زوَّج أخته جميل بن عبد الله بن عاصمٍ، وقيل: كانت تحت أبي الدَّحْدَاحِ عاصم بن عدي بن عجلان فطلقها، ثم تركها حتى انقضَتْ عدَّتها، ثم ندم؛ فجاء يخطبُها، فقال: زوجتُك، وفرشتُك، وأكرمتُك؛ فطلقتها ثم جئت تخطِبُها؟! لا والله، لا تعود إليك أبداً، وكانت المرأةُ تُرِيدُ أَنْ ترجع إليه، فقال لها معقل: إنه طلَّقكِ ثُمَّ تريدين مراجعته؟ وجهي مِنْ وَجْهِك حرامٌ، إنْ راجعته؛ فأنزل اللهُ هذه الآيةَ، فدعا رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - معقل بن يسار، وتلا عليه الآيةَ، فقال: رغم أنْفِي لأَمْرِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 160 رِبِّي، اللَّهُمّ رضيتُ، وسلّمْتُ لأَمْرك، وأَنكح أُخْتَه زوْجَها. الثاني: روَى مجاهد، والسدي: أَنَّ جابر بن عبد الله، كانت له ابنةُ عَمٍّ فطلقها زَوْجُها، وأراد رجعتها بعد العِدّة؛ فأَبَى جابر؛ فأنزل اللهُ - تعالى - هذه الآيةَ، وكان جابرٌ يقولَ: فِيَّ نزلت هذه الآيةُ. وقيل: الخطابُ فيهما للأزواج، ونُسِبَ العَضْلُ إليهم؛ لأنهم كذلك كانوا يفعلون، يُطَلِّقُونَ، ويأْبَونَ أن تتزوج المرأَةُ بعدَهم؛ ظلماً وقهراً. قوله: {أَزْوَاجَهُنَّ} مجازٌ؛ لأنه إذا أُريد به المطلَّقون، فتسميتُهم بذلك اعتباراً بما كانوا عليه، وإن أُريد بهم غيرُهم مِمَّن يُرِدْنَ تزويجهم فباعتبار ما يؤولون إليه. قال ابن الخطيب: وهذا هو المختارُ؛ لأن قوله: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} شرطٌ، والجزاءُ قوله: «فلا تَعْضُلُوهُنَّ» والشرطُ خطابٌ مع الأزواجِ، فيكون الجزاءُ خِطَاباً معهم أيضاً؛ لأنه لو لم يكن كذلك، لصار تقديرُ الآيةِ: إذا طلقتم النساء أَيُّها الأزواج، فلا تعضُلُوهُنَّ أيها الأولياءُ، وحينئذٍ لا يكونُ بين الشرطِ والجزاءِ مناسبةٌ أصلاً، وذلك يُوجِبُ تفكيك نظم الآيةِ، وتنزيه كلام اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - عن مثل هذا، واجبٌ. ثم يتأكدُ بوجهين آخرين: الأول: أَنَّه من أَوَّل آية الطَّلاق إلى هذا الموضع، خطابٌ مع الأزواجِ، ولم يجرِ للأولياءِ ذِكْرٌ أَلْبَتَّة، وصرفُ الخِطَابِ إلى الأَولياءِ خِلاَفُ النَّظْمِ. الثاني: أَنَّ ما قبل هذه الآيةِ خطابٌ مع الأَزواجِ في كيفيةِ مُعاملتهم مع النساءِ بعد انقضاءِ العِدَّة، فكان صَرْفُ الخِطابِ إلى الأزواجِ، أولى؛ لأنه تَرتيبٌ حَسَنٌ لَطِيفٌ. واستدلَّ الأولُونَ بما تقدَّمَ مِنْ سَبب النزولِ. ويمكِنُ الجوابُ عنه من وجهين: الأول: أَنَّ المحافظة على نظمِ كَلاَمِ الله - تعالى -، أَوْلى من المحافظة على خبر الواحِدِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 161 الثاني: أَنَّ الرَّوايتين في سبب النزولِ تَعَارَضَتَا؛ فَرُوِيَ أَنَّ معقل كان يقولُ: فِيّ نزلت هذه الآية، وجابرٌ كان يقولُ فيّ نزلت، وإذا تعارضت الروايتان تساقطتا فبقي ما ذكرناه من التَّمَسك بنظم كَلاَمِ الله - تعالى - سليماً عن المعارِضِ، وفي هذه الاستدلالِ نظرٌ، ولا تعارُضَ بين الخبرين؛ لأن مدلولَهُمَا واحدٌ. واحتجوا أيضاً بأن هذه الآيةَ لو كانت خطاباً مع الأزواج، فلا تخْلُوا إِمَّا أَنْ تكونَ خِطَاباً معهم قبل انقضاءِ العِدَّةِ، أو بعد انقضائِها. والأولُ باطل؛ لأنَّ ذلك مستفادٌ من الآيةِ الأُولَى، فلما حملنا هذه الآيةَ على هذا المعنى، كان تكراراً من غير فائدةٍن وأيضاً فقد قال تعالى: {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف} فنهى عن العضل حال حُصُولِ التراضي، ولا يحصلُ التراضِي بالنكاح، إلاَّ بعد التصريح بالخطبة ولا يجوزُ التصريح بالخطبة إلاَّ بعد انقضاء العِدَّة، وقال تعالى: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} [البقرة: 235] . والثاني - أيضاً - باطلٌ؛ لأنَّ بعد انقضاءِ العدَّةِ، ليس للزوج قدرةٌ على عضلِ المرأة، فكيف يُصْرفُ هذا النهي إليه؟! ويمكنُ أن يُجابَ: بأن الرجل يمكن أَنْ يَكُونَ بحيثُ يشتد نَدَمُه على مفارقَةِ المرأة، بعد انقضاءِ عدَّتها، وتلحقُه الغيرة، إذا رأى مَنْ يخطبُها، وحينئذٍ يعضلها عن من يَنْكِحها، إِمَّا بأن يجحد الطلاق، أو يَدَّعي أنه كان راجعها في العدَّة، أو يدس إلى مَنْ يخطبها بالتهديد والوعيد، أو يسيء القول فيها: بأنْ ينسبها إلى أمورٍ تُنَفِّر الرجال عنها، فَنَهَى اللهُ تعالى الأزواج عن هذه الأَفعالِ، وعرَّفَهم أن تركها أزكَى، وأطهر، من دنسِ الآثام. واحتجوا - أيضاً - بقوله تعالى: {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} قالوا: معناه: ولا يَمْنَعُوهن أَنْ يَنْكِحْنَ الذين كانوا أزواجاً لهُنَّ قبل ذلك، وهذا الكلامُ لا ينتظِمُ إلاَّ إذا جعلنا الآيةَ خطاباً للأولياءِ. ويمكن الجوابُ: بأنَّ معنى قوله: {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} أن يَنكحنَ مَنْ يُرِدْنَ أن يتزوَّجنَه، فيكونون أزواجاً لهن والعربُ تسمي الشَّيْءَ بما يَؤُول إليه. [وقيل: الخِطَابُ فيهما للأَولياء، وفيهِ بُعْدٌ؛ من حيثُ إنَّ الطلاقٌ لا يُنْسَبُ إليهم إلا بمجازٍ بعيدٍ، وهو أنْ جَعَلَ تَسَبُّبَهُمْ في الطَّلاقِ طَلاَقاً] والفاءُ في {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} جوابث «إذا» . والعَضْلُ: قيل: المَنْعُ، ومنه: «عَضَلَ أَمَتَهُ» ، مَنَعَها من التزوُّجِ، يَعْضلُها بكسر العينِ وضَمِّها؛ قال ابن هرمزٍ: [الوافر] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 162 1118 - وَإِنَّ قَصَائِدِي لَكَ فَاصْطَنِعْنِي ... كَرَائِمُ قَدْ عُضِلْنَ عَنِ النِّكَاحِ وقال: [الطويل] 1119 - وَنَحْنُ عَضَلْنَا بِالرِّمَاحِ نِسَاءَنَا ... وَمَا فِيكُمُ عَنْ حُرْمَةِ اللهِ عَاضِلُ ومنه: «دَجَاجَةٌ مُعْضِلٌ» ، أي: احتبسَ بَيْضُها، وقيل: أَصلهُ الضِّيقُ؛ قال أوس: [الطويل] 1120 - تَرَى الأَرْضَ مِنَّا بِالْقَضَاءِ مَرِيضَةٌ ... مُعَضَّلَةٌ مِنَّا بِجَيْشٍ عَرَمْرَمِ أي: ضَيِّقة بِهم، وعَضَلَتِ المَرْأَة، أي: نَشَبَ وَلَدُها في بَطْنِهَا، وكذلك عضلت الشَّاةُ، وأَعْضَلَ الدَّاءُ الأَطِبَّاء: إِذَا أَعياهُمْ، ويُقَالُ: دَاءٌ عُضَالٌ، أي: ضَيِّقُ العِلاج؛ وقالت ليلى الأخيلية: [الطويل] 1121 - شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ العُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلاَمٌ إِذَا هَزَّ القَنَاةَ شَفَاهَا والمُعْضِلاتُ: المُشْكِلاَتُ؛ لضِيق فَهْمِها؛ قال الشافعيُّ: [المتقارب] 1122 - إِذَا المُعْضِلاَتُ تَصَدَّيْنَنِي ... كَشَفْتُ حَقَائِقَهَا بِالنَّظَرْ قوله تعالى: {أَن يَنكِحْنَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه بدلٌ من الضميرِ المنصوبِ في «تَعْضُلُوهُنَّ» بدلُ اشْتِمالٍ، فيكون في محلِّ نصب، أي: فلا تَمْنَعُوا نكاحَهُنَّ. والثاني: أَنْ يَكُونَ على إسقاط الخافِضِ، وهو إمَّا «مِنْ» ، أو «عَنْ» فيكونُ في محلِّ «أَنْ» الوجهان المشهُورانِ: أعني مذهب سيبويه، ومذهب الخليل. و «يَنْكِحْنَ» مضارعُ «نَكَحَ» الثّلاثيّ، وكانَ قياسُه أنْ تُفْتَحَ عينُه؛ لأنَّ لامَه حرف حَلقٍ. قوله: {إِذَا تَرَاضَوْاْ} في ناصبِ هذا الظَّرْفِ وجهان: أحدهما: «ينكِحْنَ» أي: أَنْ ينكِحْنَ وقتَ التَّراضِي. والثاني: أَنْ يكونَ «تَعْضُلُوهنَّ» أي: لا تعضُلوهنَّ وقتَ التَّراضِي، والأولُ أظهرُ. و «إذا» هنا مُتَمحِّضَة للظرفيةِ. والضميرُ في «تراضَوا» يجوزُ أَنْ يَعُودَ إلى الأوْلياءِ وللأزواج، وأَنْ يَعُودَ على الأَزْوَاجِ والزوجاتِ، ويكونُ مِنْ تَغْلِيبِ المذكرِ على المؤنثِ. قوله: {بَيْنَهُمْ} ظرفُ مكانِ مجازيّ، وناصبُه «تراضَوا» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 163 قوله: {بالمعروف} فيه أربعةُ أوجهٍ: أحدها: أنه متعلقٌ بتراضَوا، أي: تَرَاضَوا بما يَحْسُن مِنَ الدِّينِ والمروءَةِ. والثاني: أن يتعلَّق ب «يَنْكِحْنَ» فيكون «ينكِحْنَ» ناصباً للظرفِ، وهو «إِذا» ؛ ولهذا الجارِّ أيضاً. والثالث: أَن يتعلَّق بمحذوفٍ على أَنَّه حالٌ من فاعل تَرَاضَوا. والرابع: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، دلَّ عليه الفعلُ، أي: تراضياً كائناً بالمعروف. فصل تمسّكَ بهذه الآيةِ مَنْ يشترط الوَلِيَّ في النكَاحِ؛ بناءَ على أَنَّ الخطاب في هذه الآية للأولياء، قال: لأَنَّ المرأة لو كانت تُزوِّج نفسها، أَوْ تُوكِّلُ مَنْ يُزوِّجها، ما كان الوليُّ قادراً على عضلها من النِّكاح، ولو لم يكن قادراً على العضلِ لما نهاهُ اللهُ عن العضل وقد تقدم ما فيه من البحث، وإِنْ سلم، فلم لا يجوزُ أَنْ يكون المرادُ بالنَّهي عنِ العضلِ أَنْ يخليها ورأيها في ذلك؛ لأَنَّ الغالب في الأَيَامَى أَن يرجعن إلى رأي الأَولياء، في بَابِ النكاحِ، وإِنْ كان الاستئذان الشرعي حاصِلاً لهن، وأَنْ يكُنَّ تحت رأيهم، وتدبيرهم، وحينئذٍ يكُونون مُتمكِّنين مِنْ منعهنَّ؛ لتمكنهم مِنْ تخليتهن، فيكون النَّهي محمولاً على هذا الوجه، وهذا منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، في تفسير هذه الآيةِ. وأيضاً فثبوتُ العضلِ في حَقِّ الولي مُمْتَنِعٌ؛ لأنه متى عضل القريبُ فلا يبقى لعضله أثرٌ. وتمسَّك أبو حنيفة بقوله تعالى: {أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} على أَنَّ النكاح بغير وَليٍّ جائزٌ، قال: لأنه أَضَافَ النكاح إليها إضافة الفعْل إلى فاعله، ونهى الوليَّ عَنْ منعها منه، قال: ويتأكَّدُ هذا بقوله تعالى: {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، وبقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} [البقرة: 234] ، وتزويجها نفسها مِنَ الكُفءِ، فعلٌ بالمعروفِ؛ فوجب أَنْ يَصِحَّ. وقوله تعالى: {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} [الأحزاب: 50] دليلٌ واضِحٌ مع أَنَّهُ لم يحضر هناك ولي البتَّةَ. وأجاب الأولون: بأن الفِعْل كما يُضافُ إلى المباشر، قد يُضافُ إلى المتسبّب، يقال: بنى الأمِيرُ داراً، وضرب ديناراً، وإنْ كان مجازاً، إلاَّ أنَّهُ يجب المصيرُ إليه؛ لدلالةِ الأَحاديث على بُطْلان هذا النِّكَاح. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 164 فصل في اختلاف البلوغين قال الشَّافعيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ ُ - دلَّ سياقُ الكلامينِ - أي في الآيتين - على افتراق البُلُوغين، ومعناه أَنَّه تعالى قال في الآية الأولى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 231] ولو كانت عِدَّتها قد انقضت، لما قال: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} لأن إمساكها بعد العدّة لا يجوزُ وتكون مُسَرَّحَةٌ، فلا حاجة إلى تسريحها، وأما هذه الآية، فإنه نهى عن عضلهن عن التَّزويج، وهذا النَّهْي إِنَّما يحسن في الوقت الذي يمكنها أَنْ تتزوَّج فيه، وذلك إِنَّما يكونُ بعد انقضاءِ العِدَّة، فهذا هو المرادُ مِنْ قول الشافعي «دَلَّ سياقُ الكَلاَمينِ على افْتِراق البلوغين» . فصل في معنى التراضي بالمعروف في التَّراضي بالمعرُوف، وجهان: أحدهما: ما وافَقَ الشَّرعَ مِنْ عقدٍ حلالٍ، ومهرٍ جائِزٍ، وشُهُودٍ عُدُول. الثاني: هو ما يُضادُّ قوله: {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ} [البقرة: 231] فيكون معناه: أَنْ يرضى كُلُّ واحدٍ منهما بما لزمه بحق هذا العقد لصاحبه؛ حتى تحصل الصُّحبةُ الجميلةُ، وتدوم الأُلفَةُ. قال بعضهم: التراضِي بالمعرُوف، هو مهرُ المِثْلِ، وفَرَّعُوا عليه مسأَلةً فقهيةً، وهي أنَّها إِذا زوَّجت نفسها بأَنْقص مِنْ مَهْرِ مِثْلِها، نقصاناً فاحشاً، فالنكاحُ صحيحٌ عند أَبِي حنيفة، وللوَلِي أَنْ يَعْتَرِض عليها بسبب ذلك النُّقْصَانِ. وقال أَبُو يوسُف ومحمَّد ليس للوَلِيِّ ذلك. قوله: {ذلك} مبتدأٌ و {يُوعَظُ} وما بعده خبرهُ. والمُخَاطبُ قيل: إمَّا الرسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أو كلُّ سامع، ولذلك جيءَ بالكافِ الدالَّةِ على الواحد، وقيل: للجماعةِ، وهو الظَّاهِرُ، فيكونُ «ذلك» بمعنى: «ذلكم» ، ولذلك قال بعده: {مِنكُمْ} وهو جائِزٌ في اللُّغة، والتَّثْنِية والجمع أيضاً جائِزٌ، قال تعالى: {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِي ربي} [يوسف: 37] وقال: {فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ} [يوسف: 32] وقال: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} [الطلاق: 2] وقال: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة} [الأعراف: 22] وإِنَّما وحَّدَ الخطاب وهو للأَولياء؛ لأن الأَصل في مخاطبة الجمع «لَكُمْ» ثم كثر حتَّى توهَّموا أن «الكَافَ» مِنْ نفسِ الحرفِ، وليست بكافِ خِطابٍ؛ فقالوا ذلك، فإِذَا قالوا هذا، كانتِ الكافُ مُوَحَّدَةً منصوبةً في الاثنين، والجمع، والمؤَنَّثِ، و «مَنْ كان» في محلِّ رفعٍ؛ لقيامه مقامَ الفاعل. وفي «كان» اسمُها، يعودُ على «مَنْ» و «يؤمِنُ» في محلِّ نصبٍ، خبراً ل «كان» و «مِنْكُمْ» : إمَّا متعلِّقٌ بكانَ عندَ مَنْ يرى أنها تعمَلُ في الظَّرفِ وشبهِهِ، وإمَّا بمَحْذُوفٍ على أنه حالٌ من فاعل يُؤمِنُ. فإن قيل: لِمَ أتى باسمِ الإشارة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 165 البعيدِ والمشارُ إليه قريب وهو الحكم المذكورُ في العَضْل؟ والجواب: أَنَّ ذلك دليلٌ على تعظيم المُشارِ إليه. وخَصَّصَ هذا الوعظِ بالمؤمنينَ دون غيرهم؛ لأنَّهُم المنتفِعُون به فلذلك حسنَ تخصيصهم؛ كقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وهو هدى لِلْكُلِّ، كما قال: {هُدًى لِّلنَّاسِ} [البقرة: 185] ، وقال: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} [يس: 11] ، مع أَنَّهُ كان منذراً لِلْكُلِّ؛ كما قال: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] . فصل في خطاب الكفار بفروع الشريعة احتجُّوا بهذه الآيةِ على أَنَّ الكفار ليسُوا بمخاطبين بفروع الإِسلام؛ لأن تَخْصِيصهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 166 المؤمنين بالأَحكام المُشَار إليها، دليلٌ على أَنَّ التكليف مختصٌّ بِمَنْ يؤمنُ باللهِ واليوم الآخر. وأُجيبوا بأَنَّ التكليف قد ورد عامّاً؛ قال تعالى {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] وبيانُ الأَحكام وإن كان عامّاً في حق كل المكلَّفين، إلاَّ أَنَّه قد يكونُ ذلك البيانُ وعظاً للمؤمنين؛ لأن هذه التكاليف إِنَّما تتوجه على الكُفَّار على سبيل إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز، وأَمَّا المؤمنُ المقرُّ فإِنَّما تدكرُ له وتُشْرَحُ على سبيل العظةِ، والتحذير. قوله تعالى: {أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} [البقرة: 232] زكا الزرعُ إذا نما وأَلِفُ أزكى منتقلةٌ عن واو، وقوله: «أزكى» إشارةٌ إلى استحقاقِ الثَّوابِ، وقوله: {وَأَطْهَرُ} إشارة إلى إزالة الذنُوبِ. قال المفَسِّرون: أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ مِنَ الرِّيبةِ. و «لكم» متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ ل «أزكى» فهو في محلِّ رفع وقوله: «وَأَطْهَرُ» أي: لَكُمْ، والمُفَضَّلُ عليه محذوفٍ؛ لِلْعِلْم به، أي: مِنَ العَضْل. قوله: {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} معناه: أَنَّ المكلَّف وَإِنْ كان يعلمُ وجه الصَّلاح في هذه التكاليف على الجملة، إلاَّ أَنَّ التفصيل غير معلومٍ، واللهُ تعالى عالِمٌ في كل ما أَمَر ونهى، بالكمية والكَيْفية بحسب الواقِع وبِحسب التقدير؛ لأنَّه تعالى عالِمٌ بما لا نهايةَ له من المعلُوماتِ. قال بعض المفسِّرين: معناه أَنَّ لكُل واحدٍ من الزوجين، قَدْ يكونُ في نفسه من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 167 الآخر علاقةُ حُبٍّ لم يُؤمن أَنْ يتجاوزَ ذلك إلى غير ما أَحَلَّ اللهُ لهما، ولم يُؤمن من الأَولياء أنْ يسبق إلى قُلُوبهم منهما ما لعلهما أَنْ يكُونا بريئين من ذلك، فَيَأثمون واللهُ يعلم من حُبِّ كُلّش واحدٍ منهما لصاحبه، ما لا تعلمون أَنْتم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 قوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ} كقوله {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] فليُلْتفتْ إليه. قال القرطبي: لما ذكر اللهُ تعالى النِّكاح والطَّلاق ذكر الولد؛ لأن الزَّوجين قد يفترِقانِ وثمَّ وَلَدٌ فالآية إِذن في المطلَّقاتِ اللاتي لهُنَّ أولادٌ من أزواجهنَّ، قاله السُّدِّيُّ، وغيره. قال: {والوالدات} ولم يقل والزَّوجاتُ، لأن أُمَّ الطِّفل قد تكُونُ مَطَلَّقَةً والوالدُ والوالدةُ صفتان غالبتانِ، جاريتانِ مَجْرى الجوامد؛ ولذلك لم يُذْكر موصوفهما. وقوله: {حَوْلَيْنِ} منصُوبٌ على ظرفِ الزمانِ، ووصفهما بكاملين دفعاً للتجوُّز، إِذْ قَد يُطْلَقُ «الحَوْلاَنِ» على الناقصين شهراً وشهرين، من قولهم أَقَامَ فلانٌ بمكان كذا حَوْلَين أو شهرين وإِنَّما أقامَ حَوْلاً وبعض الآخر، ومثله: {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} [البقرة: 203] ومعلومٌ أنه يتعجَّل في يومٍ، وبعض اليوم الثَّاني، والحَولُ مِنْ حال الشَّيءُ يحولُ إذا انقلب، فالحَوْلُ مُنقلب من الوقْتِ الأَول إلى الثاني. وسُمِّيت السنةُ حولاً؛ لتحوُّلها، والحَوْلُ أيضاً: الحَيْلُ، ويُقالُ: لا حول ولا قوةَ، ولا حَيْلَ وَلاَ قُوَّةَ. فصل في تفسير «الوالدات» في «الوَالِدَات» ثلاثةُ أقوال: أحدها: أَنَّ المراد منهُ جميعُ الوَالِدَاتِ سواءٌ كُنَّ مطلقاتٍ، أو متزوِّجاتٍ لعُمُومِ اللَّفظِ. الثاني: المرادُ مِنْهُ المطلقاتُ؛ لأَنَّه ذكر هذه الآية عقيب آية الطَّلاقِ، ومناسبتهُ من وجهين: الأول: أنه إذا طُلِّقَت المرأةُ، فيحصلُ التباغض، فقد تُؤذِي المرأةُ الطفلَ لأَمرين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 168 إِمَّا لأنَّ إيذاءَهُ يتضمَّنُ إيذاءَ الأَبِ، وإِمَّا لرغبتها في زوجٍ آخر فيفضي إلى إِهْمالِ أَمْرِ الطِّفْلِ. الثاني: قال السُّدِّيُّ: ومما يدلُّ على أَنَّ المراد منه المطلقاتُ، قوله بعد ذلك: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} . ولو كانت زوجةً، لوجب على الزَّوج ذلك مِنْ غير إرضاعٍ. ويمكن الجوابُ عن الأَوَّل: أَنَّ هذه الآية مشتملةٌ على حُكم مستقلٍّ بنفسه، فلم يجب تعلُّقُها بما قبلها، وعن قول السديّ: أَنَّه لا يبعُدُ أَنْ تستحِقَّ المرأةُ قدراص مِنَ المالِ، لمكانِ الزوجيَّة، وقَدْراً آخر للإرضاع، ولا مُنافاة بين الأَمرينِ. القول الثالث: قال الواحديُّ في «البَسيط» الأَولى أَنْ يحمل على الزوجاتِ في حالِ بقاء النكاحِ؛ لأن المُطلَّقة لا تستحقُّ إلاَّ الأجرة. فإِنْ قيل: إذا كانت الزوجيةُ باقيةً، فهي مستحقةٌ للنفقة، والكُسْوةِ؛ بسبب النكاحِ سَوَاءٌ أَرْضَعت الولد، أَوْ لَمْ تُرضِعهُ، فما وجهُ تعليق هذا الاستِحقاق بالإِرضاع؟ قلنا: النفقةُ والكسوةُ يجبانِ في مُقابلةِ التمكين، فإذا اشتغلت بالحضانة والإرضاع ولم تتفرغْ لِخدمة الزوج، رُبَّما توهَّمَ مُتوهِّمٌ أَنَّ نفقتها وكسوتها تسقطُ بالخلل الواقع في خدمة الزوجِ؛ فقطعَ اللهُ ذلك الوَهْمَ بإيجاب الرِّزقِ إذا اشتغلت المرأَةُ بالرضاعِ. فصل هذا الكلامُ، وإِنْ كان خبراً فمعناه الأَمْرُ؛ وتقديره: يرضِعْنَ أَوْلادهنّ في حُكْمِ الله الذي أَوجبه؛ إِلاَّ أنه حذف ذلك للتصرف في الكَلامِ مع زوالٍ الإِيهامِن وهو أَمرُ استحباب، لا إيجابٍ؛ لأنها لو وجب عليها الرضاعُ لما استحقتِ الأُجرة، وقد قال: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق: 6] وقال: {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} [الطلاق: 6] وإذا ثبت الاستحبابُ، فهو من حيث إِنَّ تربيةَ الطفلِ بلبنِ الأُمِّ أَصْلَحُ له من سائِرِ الأَلبان، ومن حيثُ إِنَّ شفقةَ الأُم أَتَمُّ مِنْ شفقةِ غيرها. فصل قال القُرطبي: اختلف الناسُ في الرضاع: هَلْ هو حَقٌّ عليها أو هو حق عليه؟ واللفظُ محتملٌ؛ لأنه لو أراد التَّصريح بوجوبه لقال: وعلى الوَالِدَاتِ رضاعُ أَولادهُنَّ؛ كما قال: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} ولكن هو حقٌّ عليها في حَقّ الزَّوجيَّة؛ لأنه يلزمُ في العُرْفِ إذْ قد صار كالشَّرط، إلاَّ أنْ تكونَ شريفةً ذات ترفُّهٍ، فعُرفها ألاَّ تُرْضِعَ وذلك كالشرط؛ ويجب عليها إن لم يقبل غيرها، وهو عليها إذا كان الأبُ مُعدماً؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 169 لاختصاصها به، فإِن ماتَ الأَبُ ولا مال لِلصَّبِيِّ، فذهب مالكٌ في «المُدَوَّنَةِ» غلى أَنَّ الرضاعَ لازمٌ للأُمِّ بخلاف النَّفقةِ، وفي كتاب «ابن الجلاب» : رضاعه في بيتِ المالِ، فأَمَّا المطلَّقةِ طلاقاً بائِناً، فلا رضاع عليها، والرَّضَاعُ على الزَّوج إلاَّ أَنْ تشاء الأُمُّ، فهي أَحَقُّ بأجرةِ المثل، إذا كان الزوجُ مُوسِراً، فإِن كان معدماً، لم يلزمها الرضاعُ إلاَّ أَنْ يكون المولود لا يقبلُ غيرها فتجبر على الرَّضاع وكل من لزمها الإرضاعُ، فأَصابها عُذْرٌ يمنعها منه، عاد الإِرضاع على الأَبِ، وعن مالكٍ: أَنَّ الأَبَ إذا كان مُعدماً، ولا مال للصبي أَنَّ الرضاعَ على الأم لَمْ يكن لها لبنٌ؛ ولها مالٌ، فَإِنَّ الإِرضاع عليها في مالها. وقال الشَّافعيُّ: لا يلزم الرضاعُ إلاَّ والداً أو جَدّاً وإن عَلاَ. فصل في تحديد الحولين اختلف العلماءُ في تحديد الحولينِ فقال بعضهم: هو حَدٌّ لبعضِ المولُودين. روى عكرمة عن ابن عبَّاس: أَنَّها إذا وضعت لستَّةِ أشهرٍ، فإِنَّها تُرْضِعه حولين كاملين، وإن وضعتْ لسبعةِ أشهُر، ترضعُه ثلاثةً وعشرينَ شهراً، وإنْ وضعت لتسعةِ أشهر، تُرضِعه إحدى وعشرين شهراً؛ كل ذلك تمامُ ثلاثين شهراً؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] . وقال آخرون: هو حَدٌّ لكُلِّ مولُودٍ، لا يُنقصُ رضاعُهُ عن حولين، إلاَّ باتِّفاق الأَبوين فأَيُّهما أراد الفِطَامَ قبل تمام الحولينِ، ليس له ذلك إلاَّ أَنْ يجتمعا عليه؛ لقوله تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا} وهذا قولُ ابن جريجٍ، والثوري، ورواية الوالبي، عن ابن عباس. وقيل: المرادُ من الآية: بيانُ الرضاع الذي يثبتُ به الحرمةُ، أن يكون في الحولينِ، ولا يحرم ما يكون بعدَ الحولين. قال قتادة: فرض اللهُ على الوالداتِ إِرضاعُ حولينِ كاملين ثم أنزل التخفيف؛ فقال {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} ، أي: هذا منتهى الرضاع، ليس فيما دُونَ ذلك حَدٌّ محدودٌ، إِنَّمَا هو على قَدْرِ صلاحِ الصَّبي، وما يعيشُ به، وهذا قولُ عليّ، وابن مسعود، وابن عباسٍ، وابن عمر، وعلقَمة، والشَّعبيِّ، والزهريّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -. وقال أبو حنيفة: مدةُ الرَّضاعِ ثلاثُون شهراً، واحتج الأَولون بقوله تعالى: {وَفِصَالُهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 170 فِي عَامَيْنِ} [لقمان: 14] وقال - عليه السلام والصلاة - «لا رضاع بعد فصال» وروى ابن عباس قال: قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «لاَ يَحْرُمُ مِنَ الرَّضَاعِ إِلاَّ مَا كَانَ فِي الحَوْلَيْنِ» . فصل رُوِيَ أَنَّ رجلاً جاء إلى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال: تزوجتُ جاريةً بكراً، وما رأيتُ بها ريبةٌ، ثم وَلَدت لستَّةِ أشهرٍ، فقال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وقال تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} فالحملُ ستَّةُ أشهرٍ؛ الولدُ ولدكَ. وعن عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه جِيء بامرأةٍ، وضعت لستةِ أشهر، فشاور في رجمِها، فقال ابنُ عباسٍ: إِنْ خاصَمْتكُم بكتابِ اللهِ - تعالى - خَصَمْتُكُمْ، ثم ذكر هاتين الآيتين واستخرج منهما أَنَّ أَقَلَّ الحملِ ستةُ أشهرٍ، قال: فكأنما أَيْقَظَهُمْ. قوله: {لِمَنْ أَرَادَ} في هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنه متعلقٌ بيُرْضِعْنَ، وتكونُ اللامُ للتعليل، و «مَنْ» وَاقِعَةٌ على الآباء، أي: الوالداتُ يُرْضِعْنَ لأجْلِ مَنْ أَرَادَ إِتْمام الرَّضاعةِ مِنَ الآباءِ، وهذا نظيرُ قولك: «أَرْضَعَتْ فلانةٌ لفلانٍ ولدَه» . والثانيك أنها للتَّبيين؛ فتتعلَّق بمحذوفٍ، وتكونُ هذه اللامُ كاللامِ في قوله تعالى: {هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] ، وفي قولهم: «سُقْياً لك» . فاللامُ بيانٌ للمدعوِّ له بالسَّقْي وللمُهَيَّت به، وذلك أَنَّه لمّا ذكر أنَّ الوالداتِ يُرْضِعْنَ أولاَدَهُنَّ حولين كاملين، بيَّنَ أنَّ ذلك الحُكم إنما هو لمَنْ أرادَ أن يتُمَّ الرَّضاعة؛ و «مَنْ» تحتمِلُ حينئذٍ أَنْ يُرادَ بها الوَالِدَاتُ فقط، أَوْ هُنَّ والوالدون معاً، كلُّ ذلك محتملٌ. والثالث: أنَّ هذه اللامَ خبرٌ لمبتدإ محذوفٍ، فتتعلَّقُ بمحذوفٍ، والتقديرُ: ذلك الحُكمُ لِمَن أرادَ. و «مَنْ» على هذا تكون للوالداتِ والوالدَيْنِ معاً. قوله: {أَن يُتِمَّ الرضاعة} «أَنْ» وما في حَيَِّزها في محلِّ نصبٍ؛ مفعولاً بأراد، أي: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 171 لِمَنْ أَرادَ إِتْمَامَها. والجمهورُ على «يُتمَّ الرَّضَاعَةَ» بالياء المضمومة من «أَتَمَّ» وإِعْمَالُ أنْ الناصبَة، ونصبِ «الرَّضَاعةَ» مفعولاً به، وفتح رائها. وقرأ مجاهدٌ، والحسنُ، وابنُ محيصن، وأَبُو رجاء: «تَتِمَّ» بفتح التاءِ من تَمَّ، و «الرضَاعَةُ» بالرفعِ فاعلاً، وقرأ أبو حيوة، وابنُ أَبِي عبلة كذلك، إلا أنهما كَسَرا راءَ «الرَّضَاعَة» ، وهي لغةٌ كالحَضارةِ، والحِضارة، والبَصْرِيُّونَ يقولون: فتحُ الرَّاءِ مع هاءِ التأنيث، وكسرُها مع عدمِ الهاء، والكُوفيُّون يزعمُونَ العكسَ. وقرأ مجاهدٌ - ويُرْوى عن ابن عبَّاسٍ -: «أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ» برفعِ «يُتِمُّ» وفيها قولان: أحدهما: قولُ البصريِّين: أنها «أَنْ» الناصبةُ، أُهْمِلت؛ حَمْلاً عَلَى «مَا» أُخْتِها؛ لاشتراكِهمَا في المَصْدرية، وأَنشدوا على ذلك قوله: [مجزوء الكامل] 1123 - إِنِّي زَعِيمٌ يَا نُوَيْ ... قَةُ إِنْ أَمِنْتِ مِنَ الرَّزَاحِ أَنْ تَهْبِطِينَ بِلاَدَ قَوْ ... مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطِّلاَحِ وقول الآخر: [البسيط] 1124 - يَا صَاحِبَيَّ فَدَتْ نُفُوسَكُمَا ... وَحَيْثُمَا كُنْتُمَا لَقِّيتُمَا رَشَدَا أَنْ تَقْرَآنِ عَلَى أَسْمَاءَ وَيْحَكُمَا ... مِنِّي السَّلاَمَ وَأَلاَّ تُشْعِرَا أَحَدَا فَأَهْمَلَها، ولذلك ثَبَتَ نونُ الرفع، وأَبَوْا أَنْ يَجعلُوها المخفَّفة مِنَ الثقيلةِ لوجهين: أحدهما: أنه لم يُفْصَل بينها وبين الجملة الفعلية بعدها. والثاني: أَنَّ ما قبلها ليس بفعلِ علمٍ ويقينٍ. القول الثاني: وهو قول الكوفيِّين أنها المخفَّفة من الثَّقيلة، وشذَّ وقوعها موقع الناصبة، كما شذَّ وقوع «أنْ» الناصبة موقعها في قوله: [البسيط] 1125 - ... ... ... ... ... . قَدْ عَلِمُوا ... أَلاَّ يَدَانِيَنَا فِي خَلْقِهِ أَحَدٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 172 وقرأ مجاهدٌ: «الرَّضْعَة» بوزن القصعة. وعن ابن عباس أنّه قرأ أن يكمل الرضاعة. فصل قال القرطبيُّ: قوله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} يدل على أنَّ إرضاع الحولين ليس حتماً؛ لأنه يجوز الفطام قبل الحولين ولكنه تحديد لقطع التَّنازع بين الزَّوجين في مدَّة الرضاع، ولا يجب على الأب إعطاء الأجرة، لأكثر من حولين، وإن أراد الأب الفطام قبل هذه المدة، ولم ترض الأمُّ، لم يكن له ذلك. والرَّضْعُ: مصُّ الثدي، ويقال للَّئيم: راضعٌ، وذلك أنه يخاف أن يحلب الشاة؛ فيسمع منه الحلب؛ فيطلب منه اللبن، فيرتضع ثدي الشاة بفمه. قوله: {وَعلَى المولود لَهُ} هذا الجارُّ خبرٌ مقدَّمٌ، والمبتدأ قوله: «رِزْقُهُنَّ» ، و «أَلْ» في المولود موصولةٌ، و «لَهُ» قَائِمٌ مقام الفاعل للمولود، وهو عائد الموصول، تقديره: وعلى الذي ولد له رزقهنَّ، فحذف الفاعل، وهو الوالدات، والمفعول، وهو الأولاد، وأقيم هذا الجارُّ والمجرور مقام الفاعل. وذكر بعض النَّاس أنه لا خلاف في إقامة الجارِّ والمجرور مقام الفاعل، إلاَّ السُّهيليَّ، فإنَّه منع من ذلك؛ وليس كما ذكر هذا القائل، فإنَّ البصريِّين أجازوا هذه المسألة مطلقاً، والكوفيُّون قالوا: إن كان حرف الجرِّ زائداً جاز نحو: ما ضربَ من أحدٍ، وإن كان غير زائدٍ، لم يجز، ولا يجوز عندهم أن يكون الاسم المجرور في موضع رفعٍ باتفاقٍ بينهم. ثم اختلفوا بعد هذا الاتفاق في القائم مقام الفاعل. فذهب الفرَّاء: إلى أنَّ حرف الجرِّ وحده في موضع رفعٍ، كما أنَّ «يَقُومُ» من «زَيْدٌ يَقُومُ» في موضع رفع. وذهب الكسائيُّ، وهشام: إلى أنَّ مفعول الفعل ضميرٌ مستترٌ فيه، وهو ضميرٌ مبهمٌ من حيث أن يراد به ما يدلُّ عليه الفعل من مصدرٍ، وزمانٍ، ومكانٍ، ولم يدلَّ دليلٌ على أحدها. وذهب بعضهم إلى أنَّ القائم مقام الفاعل ضمير المصدر، فإذا قلت: «سِيرَ بزيدٍ» فالتقدير: سِير هو، أي: السَّيْرُ؛ لأنَّ دلالة الفعل على مصدره قويةٌ، ووافقهم في هذا بعض البصريين. قوله : {بالمعروف } يجوز أن يتعلَّق بكلِّ من قوله: «رزقُهنَّ» و «كِسْوَتُهنَّ» على أنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 173 المسألة من باب الإعمالن وهو على إعمال الثاني، إذ لو أعمل الأول، لأُضمر في الثاني، فكان يقال: وكسوتهنَّ به بالمعروف. هذا إن أُريد بالرزق والكسوة، المصدران، وقد تقدَّم أنَّ الرزق يكون مصدراً، وإن كان ابن الطَّراوة قد رَّد على الفارسيّ ذلك؛ في قوله: {مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً} [النحل: 73] كما سيأتي تحقيقه في النَّحل، إن شاء الله تعالى. وإن أُريد بهما اسم المرزوق، والمكسوِّ كالطِّحن، والرِّعي، فلا بدَّ من حذف مضافٍ، تقديره: اتِّصال، أو دفع، أو ما أشبه ذلك، ممَّا يصحُّ به المعنى، ويكون «بالمعروف» متعلِّقاً بمحذوفٍ، على أنه حالٌ منهما. وجعل أبو البقاء العامل في هذه الحال الاستقرار الذي تضمَّنه «على» . والجمهور على «كِسْوَتهنَّ» بكسر الكاف، وقرأ طلحة بضمِّها، وهما لغتان في المصدر، واسم المكسوِّ وفعلها يتعدَّى لاثنين، وهما كمفعولي «أَعْطَى» في جواز حذفهما، أو حذف أحدهما؛ اختصاراً أو اقتصاراً، قيل: وقد يتعدَّى إلى واحدٍ؛ وأنشدوا: [المتقارب] 1126 - وَأَرْكَبُ في الرَّوْعِ خَيْفَانَةٌ ... كَسَا وَجْهَهَا سَعَفٌ مُنْتَشِرْ ضمَّنه معنى غطَّى، وفيه نظرٌ؛ لاحتمال أنَّه حذف أحد المفعولين؛ للدلالة عليه، أي: كَسَا وجهها غبار أو نحوه. فصل و {المولود لَهُ} هو الوالد، وإنَّما عبَّر عنه بهذا الاسم لوجوه: أحدها: قال الزَّمخشريُّ: والسَّبب فيه أن يعلم أنَّ الوالدات إنما ولدت الأولاد للآباء ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمَّهات؛ وأنشدوا للمأمون: [البسيط] 1127 - وَإِنَّمَا أُمَّهَاتُ النَّاسِ أَوْعِيَةٌ ... مُسْتَوْدَعَاتٌ وَلِلآبَاءِ أَبْنَاءُ وثانيها: أنّه تنبيهٌ على أَنَّ الولد إنما يلتحق بالوالد؛ لكونه مولوداً على فراشه، على ما قاله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «الوَلَدُ لِلْفِرَاشِ» فكأنّه قال: إذا ولدت المرأة الولد الجزء: 4 ¦ الصفحة: 174 لأجل الرَّجل وعلى فراشه، وجب عليه رعاية مصالحه، [فنبه على أنَّ سبب النَّسب، والالتحاق محدودٌ بهذا القدر. وثالثها: ذكر الوالد بلفظ «المَوْلُودِ [لَهُ] » تنبيهاً على أنَّ نفقته عائدةٌ إليه، فيلزمه رعاية مصالحه] كما قيل: كلُّه لك، وكلُّه عليك. فإن قيل: فما الحكمة في قول موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لأخيه: {قَالَ ياابنأم} [طه: 94] ولم يذكر أباه. فالجواب: أنّه أراد بذكر الأم [أنْ] يذكر الشفقة فإنَّ شفقة الأمِّ أعظم من شفقة الأب. فصل اعلم أنَّ الله تعالى كما وصَّى الأمَّ برعاية جانب الطِّفل، في قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} - وصَّى برعاية جانب الأمِّ، حتَّى تقوى على رعاية مصلحة الطفل، فأمره برزقها، وكسوتها بالمعروف، وهذا المعروف قد يكون محدوداً بشرطٍ وعقدٍ، وقد يكون غير محدودٍ إلاَّ من جهة العرف لأنّه إذا قام بما يكفيها من طعام وكسوتها، فقد استغنى عن تقدير الأجرة فإنه إن لم يقم بما يكفيها من ذلكن تضرَّرت وضررها يتعدى إلى الود، ولمّا وصَّى الأمَّ برعاية الطفل أوّلاً ثم وصَّى الأب برعايته ثانياً، دلَّ على أنَّ احتياج الطفل إلى رعاية الأمِّ أشدُّ من احتياجه إلى رعاية الأب؛ لأنَّه ليس بين الطفل وبين رعاية الأمّ واسطةٌ أَلْبَتَّةَ؛ ورعاية الأب إنَّما تصل إلى الطفل بواسطة، فإنّه يستأجر المرأة على رضاعته، وحضانته بالنفقة، والكسوة، وذلك يدلُّ على أنَّ حقَّ الأمِّ أكثر من حقِّ الأب، والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرةٌ مشهورةٌ. قوله: {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ} الجمهور على «تُكَلَّفُ» مبنياً للمفعول، «نفسٌ» قائم مقام الفاعل، وهو الله تعالى، {وُسْعَهَا} مفعول ثانٍ، وهو استثناءٌ مفرغٌ؛ لأنَّ «كَلَّفَ» يتعدَّى لاثنين. قال أبو البقاء: «ولو رُفِعَ الوُسْعُ هنا، لم يَجُزْ؛ لأنه ليس ببدَلٍ» . وقرأ أبو جراء: «لاَ تَكَلَّفُ نَفْسٌ» بفتح التَّاء، والأصل: «تَتَكَلَّفُ» فحذفت إحدى التاءين؛ تخفيفاً: إمَّا الأولى، أو الثانية على خلافٍ في ذلك تقدَّم، فتكون «نَفْسٌ» فاعلاً، و «وُسْعَها» مفعولٌ به، استثناء مفرَّغاً أيضاً. وروى أبو الأشهب عن أبي رجاء أيضاً: «لا يُكَلِّفُ نَفْساً» بإسناد الفعل إلى ضمير الله تعالى، فتكون «نَفْساً» و «وُسْعَها» مفعولين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 175 والتكليفُ: الإلزام، وأصله من الكلف، وهو الأثر من السَّواد في الوجه؛ قال: [البسيط] 1128 - يَهْدِي بِهَا أَكْلَفُ الخَدَّيْنِ مُخْتَبَرٌ ... مِنَ الْجِمَالِ كَثِيرُ اللَّحْمِ عَيْثُومُ فمعنى «تَكَلَّفَ الأَمْرَ» ، أي: اجتهد في إظهار أثره. وفلانٌ كَلِفٌ بكذا: أي مُغْرًى به. و «الوُسْعُ» هنا ما يسع الإنسان فيطيق أخذه من سعة الملك أي الغرض، ولو ضاق لعجز عنه، فالسَّعة بمنزلة القدرة، ولهذا قيل: الوسع فوق الطَّاقة، والمراد منه: أنَّ أبا الصّبي لا يتكلّف الإنفاق عليه، وعلى أُمِّه، إلاَّ ما تتسع له قدرته، لأنَّ الوسع ما تتَّسع له القدرة، ولا يبلغ استغراق القدرة؛ وهو نظير قوله تعالى: {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا} [الطلاق: 7] . فصل في احتجاج المعتزلة بالآية تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في أنَّ الله - تعالى - لا يكلّف العبد ما لا يقدر عليه. وقوله: {لاَ تُضَآرَّ} ابن كثير، وأبو عمرو: «لا تُضَارُّ» برفع الراء مشددةً، وتوجيهها واضح، لأنه فعلٌ مضارعٌ لم يدخل عليه ناصبٌ ولا جازمٌ فرفع، وهذه القراءة مناسبةٌ لما قبلها، من حيث إنه عطف جملة خبريّةٌ على خبرية مثلها من حيث اللفظ وإلاَّ فالأولى خبريةٌ لفظاً ومعنًى، وهذه خبريةٌ لفظاً نهييَّةٌ معنًى ويدل عليه قراءة الباقين كما سيأتي. قال الكسائيُّ والفراء: هو نسقٌ على قوله: «لاَ يُكَلِّفُ» . قال عليبن عيسى: هذا غلطٌ؛ لأنَّ النَّسق ب «لا» إنَّما هو إخراج على إخراج الثَّاني مما دخل فيه الأوَّل نحو: «ضربتُ زيداً لا عمراً» فأمّا أن يقال: يقوم زيدٌ لا يقعد عمرو، فهو غير جائزٍ على النِّسق، بل الصواب أنَّه مرفوعٌ على الاستئناف في النَّهي كما يقال: لا تضرب زيداً لا تقتل عمراً. وقرأ باقي السَّبعة: بفتح الراء مشدّدةً، وتوجيهها أنَّ «لا» ناهيةٌ، فهي جازمةٌ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 176 فسكنت الراء الأخيرة للجزم، وقبلها راء ساكنةٌ مدغمةٌ فيها، فالتقى ساكنان؛ فحرَّكنا الثانية لا الأولى، وإن كان الأصل الإدغام، وكانت الحركة فتحةًن وإن كان أصل التقاء الساكنين الكسر؛ لأجل الألف؛ إذ هي أُخت الفتحة، ولذلك لمَّا رخَّمت العرب «إِسْحَارّ» وهو اسم نباتٍ، قالوا: «إِسحارَ» بفتح الراء خفيفةً، لأنهم لمَّا حذفوا الراء الأخيرة، بقيت الراء الأولى ساكنةً، والألف قبلها ساكنةٌ؛ فالتقى ساكنان، والألف لا تقبل الحركة؛ فحرَّكوا الثاني وهو الراء، وكانت الحركة فتحةً؛ لأجل الألف قبلها ساكنة، ولم يكسروا وإن كان الأصل، لما ذكرنا من مراعاة الألف. وقرأ الحسن بكسرها مشدَّدةً، على أصل التقاء السَّاكنين، ولم يراع الألف. وقرأ أبو جعفرٍ بسكونها مشدَّدةً، كأنه أجرى الوصل مجرى الوقف، فسكَّن، وروي عنه وعن ابن هرمز: بسكونها مخففة، وتحتمل هذه وجهين: أحدهما: أن يكون من «ضارَ» «يَضِيرُ» ، ويكون السكون لإجراء الوصل مجرى الوقف. والثاني: أن يكون من ضارَّ يُضَارُّ بتشديد الراء، وإنما استثقل تكرير حرف هو مكرر في نفسه؛ فحذف الثاني منهما، وجمع بين الساكنين - أعني الألف والراء - إمَّا إجراءً للوصل مجرى الوقف، وإمَّا لأنَّ الألف قائمةٌ مقام الحركة، لكونها حرف مدٍّ. وزعم الزمخشريُّ «أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ إنما اخْتَلَسَ الضَّمة، فتَوَهَّم الراوي أنه سَكَّنَ، وليس كذلك» انتهى. وقد تقدَّم شيءٌ من ذلك عند {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] ونحوه. ثم قراءة تسكين الرَّاء: تحتمل أن تكون من رفعٍ، فتكون كقراءة ابن كثير، وأبي عمرو، ويحتمل أن تكون من فتح، فتكون كقراءة الباقين، والأول أولى؛ إذ التسكين من الضمة أكثر من التسكين من الفتحة؛ لخفَّتها. وقرأ ابن عبَّاس: بكسر الراء الأولى، والفكِّ، وروي عن عمر بن الخطاب: «لا تُضَارَرْ» بفتح الرَّاء الأولى، والفكِّ؛ وهذه لغة الحجاز، أعني: [فكَّ] المثلين فيما سكن ثانيهما للجزم أو للوقف، نحو: لم نمرر، وامرُرْ، وبنو تميم يدغمون، والتنزيل جاء باللغتين نحو: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} [المائدة: 54] في المائدة، قرئ في السَّبع بالوجهين، وسيأتي بيانه واضحاً. ثمَّ قراءة من شدَّد الراء: مضمومةً أو مفتوحةً، أو مكسورةً، أو مسكَّنةً، أو خفَّفها تحتمل أن تكون الراء الأولى مفتوحة، فيكون الفعل مبنياً للمفعول، وتكون «وَالِدَة» مفعولاً لم يسمَّ فاعله، وحذف الفاعل؛ للعلم به، ويؤيده قراءة عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 177 ويكون معنى الآية {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} فينزع الولد منها إلى غيرها بعد أن رضيت بإرضاعه {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} أي: لا تلقيه المرأة إلى أبيه بعدما ألفها؛ تُضَارُّهُ بذلك. وقيل: معناه لا تضارُّ والدةٌ؛ فتكره على إرضاعه، إذا كرهت إرضاعه، وقبل الصّبيُّ من غيرها؛ لأنَّ ذلك ليس بواجبٍ عليها، ولا مولودٌ له بولده فيحتمل أن يعطي الأمَّ أكثر مما يجب لها، إذا لم يرتضع الولد من غيرها. وأن تكون مكسورةٌ، فيكون الفعل مبنياً للفاعل، وتكون «والدة» حينئذٍ فاعلاً به، ويؤيده قراءة ابن عباسٍ. وفي المفعول على هذا الاحتمال ثلاثة أوجه: أحدها - وهو الظاهر - أنه محذوف تقديره: لا تُضَارِرْ والدةٌ زوجَها، بسبب ولدها بما لا يَقْدِرُ عليه مِنْ رِزْقٍ وكُسْوةٍ ونحو ذلك، ولا يُضَارِرْ مَوْلُود له زوجته بسبب ولده بما وجب لها من رزق وكسوةٍ، فالباء للسببية. والثاني: - قاله الزمخشريُّ - أن يكون «تُضارَّ» بمعنى تضرُّ، وأن تكون الباء من صلته أي: لا تضرُّ والدةٌ بولدها، فلا تسيءُ غداءه، وتعهُّده، ولا يضرُّ الوالد به بأن ينزعه منها بدما ألفها انتهى. ويعني بقوله «الباءُ مِنْ صِلتِه» ، أي: تكون متعلقةً به، ومعدِّيةً له إلى المفعول، كهي في «ذَهَبْتُ بزيدٍ» ويكون ضارَّ بمعنى أضرَّ، فاعل بمعنى أفعل، ومثله: ضاعفتُ الحسابَ وأضعفته، وباعدته وأبعدته، فعلى هذا، نفس المجرور بهذه الباء، هو المفعول به في المعنى، والباء على هذا للتَّعدية، كما نظَّرنا بِ «ذَهَبْتُ بزيدٍ» ، فإنه بمعنى أذهبته. والثالث: أنَّ الباء مزيدةٌ، وأنَّ «ضَارَّ» بمعنى ضرَّ، فيكون «فَاعَلَ» بمعنى «فَعَل» المجرّد، والتقدير: لا تضرُّ والدةٌ ولدها بسوء غذائه وعدم تعهُّده، ولا يضرُّ والدٌ ولده بانتزاعه من أمه بعدما ألفها، ونحو ذلك. وقد جاء «فاعل» بمعنى فعل المجرَّد نحو: واعدته، ووعدته، وجاوزته وجزته، إلاَّ أنَّ الكثير في فاعل الدَّلالة على المشاركة بين مرفوعه ومنصوبه، ولذلك كان مرفوعه منصوباً في التَّقدير، ومنصوبه مرفوعاً في التقدير، فمن ثمَّ كان التوجيه الأول أرجح من توجيه الزمخشريُّ، وما بعده، وتوجيه الزمخشريِّ أوجه ممَّا بعده. فإن قيل: لم قال «تُضَارّ» والفعل واحد؟ قلنا: معناه لا يضار الأمُّ والأب بألاَّ ترضع الأم، أو يمنعها الأب وينزعه منها، أو يكون معناه أنّ كلَّ واحدٍ يقصد بإضرار الولد إضرار الآخر؛ فيكون في الحقيقة مضارَّة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 178 فصل في أحكام الحضانة قال القرطبي: في هذه الآية دليلٌ لمالك على أنَّ الحضانة للأم، وهي في الغلام إلى البلوغ، وفي الجارية إلى النِّكاح، وذلك حقٌّ لها. وقال الشَّافعيُّ: إذ بلغ الولد ثماني سنين، وهو سنُّ التَّمييز، خيَّر بين أبويه، فإنه في تلك الحالة تتحرّك همّته لتعلُّم القرآن، والأدب، والعبادات، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية. وروى أبو هريرة: «أنَّ امرأَةً جاءت إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت له: إنَّ زَوْجِي يُرِيدُ أَنْ يذْهَبَ بابني، وقد سَقَانِي من بئرِ أبي عنبة وقد نفعني، فقال النَّبيُّ لله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» اسْتَهِما عليه «فقال زوجها: من يحاقُّني في ولدي؟ فقال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هذا أبُوكَ، وهذه أُمُّكَ، فَخُذْ بِيد أيِّهمَا شِئْتَ «فأخذ بيد أُمه فانطلقت به» . ودليلنا ما روى أبو داود، عن عبد الله بن عمرو: أَنَّ امرأةً قَالَتْ: يا رَسُولَ اللهِ إِنَّ ابني هذا كَانَتْ بَطْنِي له وِعَاء، وَثَدْيِي لَهُ سِقَاء، وحِجْرِي لَهُ حِوَاء، وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقني، وأراد أن ينزعه مني، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَنْتِ أَحَقُّ به ما لم تُنْكَحِي» . فصل من أحق بالحضانة إذا تزوجت الأم؟ قال ابن المنذر: أجمع كلُّ من نحفظ عنه من أهل العلم على ألاَّ حقَّ للأمّ في الولد إذا تزوَّجت. وقال مالك، والشَّافعيُّ، والنُّعمان، وأبو ثور: إنَّ الجدَّة أُمَّ الأُمِّ أحقُّ بحضانة الولد، واختلفوا إذا لم يكن له أُمٌّ، وكانت له جدَّةٌ أمُّ أبٍ، فقال مالكٌ: أمُّ الأب أحقُّ إذا لم يكن للصَّبي خالةٌ. وقال الشَّافعيُّ: أمُّ الأب أحقُّ من الخالة. فصل الحضانة للقادر على حقوق الولد ولا حضانة لفاجرةٍ، ولا لضعيفة عاجزةٍ عن القيام بحقِّ الولد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 179 وروي عن مالك: أنَّ الحضانة للأُمّ، ثم الجدَة للأمّ، ثم الخالة، ثمّ الجدة للأب، ثم أخت الصَّبيِّ، ثم عمَّته. فصل قال القرطبيُّ: إذا تزوّجت الأمُّ لم ينزع منها ولدها حتى يدخل بها زوجها في المشهور عندنا. وقال ابن المنذر: إذا خرجت الأمُّ عن بلد ولدها، ثمَّ رجعت إليه، فهي أحقُّ بولدها: في قول الشَّافعيِّ، وأبي ثور، وأصحاب الرّأي وكذلك لو تزوَّجت ثمَّ طلِّقت، أو توفِّي عنها زوجها، رجعت إلى حقّها في الولد، فإن تركت حقَّها من الحضانة، ولم ترد أخذه، وهي فارغةٌ غير مشغولةٍ، بزوجٍ، ثم أرادت بعد ذلك أخذه كان لها ذلك. وقال القرطبيُّ: إن كان تركها له من عذر، كان لها ذلك، وإن تركته رفضاً له، ومقتاً، لم يكن لها بعد ذلك أخذه. فصل فإن طلَّقها الزَّوج، وكانت الزَّوجة ذِمّيةٌ، فلا حضانة لها. وقال أبو ثورٍ، وأصحاب الرَّأي، وابن القاسم: لا فرق بين الذِّميَّة والمسلمة. وكذلك اختلفوا في الزَّوجين؛ يفترقان أحدهما [حرٌّ] والآخر مملوكٌ. قوله: «له» في محلِّ رفعٍ لقيامه مقام الفاعل. قوله: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} فيه دلالةٌ على ما يقوله النَّحويُّون، وهو أنَّه إذا اجتمع مذكَّرٌ ومؤنَّثٌ، معطوفاً أحدهما على الآخر، كان حكم الفعل السابق عليهما للسابق منهما، تقول: قام زيدٌ وهندٌ، فلا تلحق علامة تأنيثٍ، وقامت هندٌ وزيدٌ، فتُلحق العلامة، والآية الكريمة من هذا القبيل، ولا يستثنى من ذلك إلاَّ أن يكون المؤنث مجازيّاً، فيحسن ألاَّ يراعى المؤنَّث، وإن تقدَّم؛ كقوله تعالى: {وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9] . وفي هذه الجمل من علم البيان: الفصل، والوصل. أما الفصل: وهو عدم العطف بين قوله: «لا تُكَلَّفُ نفسٌ» على ما قبلها؛ لأنها مع ما بعدها تفسيرٌ لقوله «بالمعروف» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 180 وأمَّا الوصل: وهو العطف بين قوله: {والوالدات يُرْضِعْنَ} ، وبين قوله: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} ؛ فلأنَّهما جملتان متغايرتان في كلٍّ منهما حكمٌ ليس في الأخرى. ومنه أيضاً إبراز الجملة الأولى مبتدأً وخبراً، وجعل الخبر فعلاً؛ لأنَّ الإرضاع مما يتجدَّدُ دائماً. وأُضيفت الوالداتُ للأولاد؛ تنبيهاً على شفقتهنَّ، وحثاً لهنَّ على الإرضاع. وجيء بالوالدات بلفظ العموم، وإن كان جمع قلَّة؛ لأنَّ جمع القلَّة متى حلِّي بأل، عمَّ، وكذلك «أَوْلاَدَهُنَّ» عامٌّ؛ لإضافته إلى ضمير العامِّ، وإن كان - أيضاً - جمع قلَّةٍ. وفيها أيضاً إبراز الجملة الثانية مبتدأً وخبراً، والخبر جارٌّ ومجرورٌ بحرف «على» الدالِّ على الاستعلاء المجازيّ في الوجوب، وقدِّم الخبر؛ اعتناءً به. وقدِّم الرزقُ على الكسوة؛ لأنه الأهمُّ في بقاء الحياة، ولتكرره كل يومٍ. وأبرزت الثالثة فعلاً، ومرفوعه، وجعل مرفوعه نكرةً في سياق النفي؛ ليعمَّ، ويتناول ما سبق لأجله من حكم الوالدات في الإرضاع، والمولود له في الرزق، والكسوة الواجبتين عليه للوالدة. وأبرزت الرابعة كذلك؛ لأنَّها كالإيضاح لما قبلها؛ والتفصيل بعد الإجمال؛ ولذلك لم يعطف عليها كما ذكرته لك. ولمَّا كان تكليف النفس فوق الطاقة، ومضارَّةُ أحد الزوجين للآخر ممَّا يتكرَّر ويتجدَّد، أتى بهاتين الجملتين فعليتين، وأدخل عليهما حرف النَّفي وهو «لا» ؛ لأنه موضوعٌ للاستقبال غالباً. وأمَّا في قراءة من جزم، فإنَّها ناهيةٌ، للاستقبال فقط، وأضاف الولد إلى الوالدة والمولود له؛ تنبيهاً على الشفقة والاستعطاف، وقدَّم ذكر عدم مضارَّة الوالدة على ذكر عدم مضارة الوالد؛ مراعاةً لما تقدَّم من الجملتين، إذ قد بدأ بحكم الوالدات وثنَّى بحكم الوالد. قوله: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} هذه جملةٌ من مبتدأ وخبر، قدَّم الخبر؛ اهتماماً، ولا يخفى ما فيها، وهي معطوفة على قوله: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ} وما بينهما اعتراضٌ؛ لأنه كالتَّفسير لقوله: «بِالْمَعْرُوفِ» كما تقدَّم التنبيه عليه. والألف واللاَّم في «الوَارِثِ» بدلٌ من الضَّمير عند من يرى ذلك، ثم اختلفوا في ذلك الضَّمير هل يعود على المولود له، وهو الأب، فكأنه قيل: وعلى وارثه، أي: وارث المولود له، أو يعود على الولد نفسه، أي: وارث الولد؟ وهذا على حسب اختلافهم في الوارث. وقرأ يحيى بن يعمر: «الوَرَثَةِ» بلفظ الجمع، والمشار إليه بقوله: «مثلُ ذلك» إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 181 الواجب من الرزق والكسوة، وهذا أحسن من قول من يقول: أشير به إلى الرزق والكسوة. وأشير بما للواحد للاثنين؛ كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . وإنما كان أحسن؛ لأنه لا يحوج إلى تأويلٍ، وقيل: المشار إليه هو عدم المضارَّة، قاله الشعبيُّ، والزهري، والضحاك، وقيل: منهما وهو قول الجمهور. وقيل: أجرة المثل. فصل في المراد ب «الوارث» في المراد ب «الوارث» أربعة أقوالٍ: أحدها: قال ابن عباس: المراد وارث الأب؛ لأنَّ قوله: {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} معطوفٌ على قوله: {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} وما بينهما اعتراضٌ لبيان المعروف، والمعنى أنَّ المولود له إن مات، فعلى وارثه مثل ما وجب عليه، أي: يقوم وارثه مقامه في رزقها وكسوتها بالمعروف وتجنُّب الإضرار. قال أبو مسلم الأصبهانيُّ: وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ الولد أيضاً يرثه فيؤدِّي ذلك إلى وجوب نفقته على غيره حال ما له مال ينفق منه، وهذا غير جائزٍ. قال ابن الخطيب: ويمكن أن يجاب بأنَّ الصبيَّ إذا ورث من أبيه مالاً، فإنَّه يحتاج إلى من يقوم بتعهُّده والنَّفقة عليه بالمعروف، ويدفع الضَّرر عنه، وهذه الأشياء يمكن إيجابها على وارث الأب. القول الثاني: أنَّ المراد وارث الصبيِّ، فيجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب، هذا قول الحسن، وقتادة، وأبي مسلم، والقاضي، ثم اختلفوا في أنه أيُّ وارثٍ هو؟ فقيل: العصبات من الرِّجال، وهو قول عمر بن الخطَّاب، والحسن، ومجاهد، وعطاء، وسفيان، وإبراهيم. وقيل: هو وارث الصبيِّ من الرِّجال والنساء على قدر مواريثهم منه، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى، ومذهب أحمد وإسحاق. وقيل: المراد من كان ذا رحمٍ محرمٍ دون غيرهم؛ كابن العمِّ والمولى، وهو قول أبي حنيفة. وظاهر الآية يقتضي أَلاَّ فرق بين وارثٍ ووارثٍ، ولولا أن الأمَّ خرجت من حيث إنَّه أوجب الحقَّ لها، لصحَّ دخولها تحت الكلام؛ لأنَّها قد تكون وارثةً للصبيِّ كغيرها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 182 القول الثالث: المراد من الوارث الباقي من الأبوين، كا جاء في الدعاء: «واجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا» أي: الباقي، وهو قول سفيان وجماعة. القول الرابع: المراد الصبيُّ نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفَّى، فإن كان له مالٌ، وجب أجرة رضاعه في ماله، وإن لم يكن له مال، فعلى الأمِّ، ولا يجبر على نفقة الصبيِّ إلاَّ الوالدان، وهو قول مالكٍ والشافعيِّ. قوله: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً} . في الفصال قولان: أحدهما: أنَّه الفطام؛ لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف: 15] وإنَّما سمي الفطام بالفصال؛ لأنَّ الولد ينفصل عن الاغتذاء بثدي أمِّه إلى غيره من الأقوات. والثاني: قال أبو مسلم: ويحتمل أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الولد والأمِّ، إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك، ولم يرجع بسبب ذلك ضررٌ إلى الولد. قال المبرِّد: والفصال، يقال: فصل الولد عن الأمِّ فصلاً وفصالاً، والفصال أحسن؛ لأنَّه إذا انفصل عن أمِّه، فقد انفصلت منه، فبينهما فصالٌ، نحو القتال والضِّراب، وسمِّي الفصيل فصيلاً؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمِّه؛ ويقال: فصل من البلد، إذا خرج عنها وفارقها؛ قال تعالى: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود} [البقرة: 249] ، وحمل الفصال على الفطام هو قول أكثر المفسرين. اعلم أنَّه لمَّا بيَّن تمام مدَّة الرضاع بقوله: {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وجب حمل هذه الآية على غير ذلك، حتى لا يلزم التَّكرار، واختلفوا في ذلك: فمنهم من قال: إنَّها تدلُّ على جواز الفطام قبل الحولين وبعدهما، وهو مرويٌّ عن ابن عبَّاس. قوله تعالى: {عَن تَرَاضٍ} فيه وجهان: أظهرهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ إذ هو صفةٌ ل «فِصَالاً» فهو في محلِّ نصبٍ، أي: فصالاً كائناً عن تَرَاضٍ، وقدَّره الزمخشريُّ: صادراً عن تَرَاضٍ، وفيه نظرٌ من حيث كونه كوناً مقيَّداً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 183 والثاني: أنه متعلقٌ ب «أَرَادَا» ، قاله أبو البقاء، ولا معنى له إلاَّ بتكلّف. والفصال، والفصل: الفطام، وأصله التفريق، فهو تفريقٌ بين الصبيِّ والثَّدي، ومنه سمِّي الفصيل؛ لأنَّه مفصولٌ عن أمه. و «عَنْ» للمجاوزة مجازاً؛ لأنَّ التَّراضي معنًى، لا عينٌ. و «تَرَاضٍ» مصدر تفاعل، فعينه مضمومةٌ، وأصله: تفاعلٌ تراضوٌ، ففعل فيه ما فعل ب «أدْلٍ» جمع دلوٍ، من قلب الوالو ياءً، والضمة قلبها كسرةً، إذ لا يوجد في الأسماء المعربة واوٌ قبلها ضمةٌ لغير الجمع إلا ويفعل بها ذلك تخفيفاً. قوله تعالى: {مِّنْهُمَا} في محلِّ جرٍّ صفةً ل «تَرَاضٍ» ، فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: تَرَاضٍ كائنٍ أو صادرٍ منهما، و «مِنْ» لابتداء الغاية. وقوله: {وَتَشَاوُرٍ} [حذفت «مِنْهُمَا» لدلالة ما قبلها عليها، والتقدير: وتشاور منهما] ، ويحتمل أن يكون التَّشاور من أحدهما، مع غير الآخر؛ لتتفق الآراء منهما، ومن غيرهما على المصلحة. قوله: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} الفاء جواب الشَّرط، وقد تقدَّم نظير هذه الجملة، ولا بُدَّ قبل هذا الجواب من جملةٍ قد حذفت؛ ليصحَّ المعنى بذلك، تقديره: ففصلاه أو فعلا ما تراضيا عليه، فلا جناح عليهما في الفصال، أو في الفصل. فصل في التشاور التشاور في اللُّغة: استخراج الرَّأْي، وكذلك المشورة كالمعونة، وشرت العسل، إذا استخرجته. وقال أبو زيدٍ: شُرت الدَّابَّةَ، وشَوَّرْتُهَا، أجريتها لاستخراج جريها في الموضع الذي تعرض فيه الدوابُّ، يقال له: الشّوار، والشَّوار بالفتح متاع البيت؛ لأنَّه يظهر للنَّاظر، ويقال: شوَّرته فتشوَّر، أي: خجلته، والشَّارة: هيئة الرَّجل؛ لأنَّه ما يظهر من زينته ويبدو منها، والإشارة: إخراج ما في نفسك وإظهاره للمخاطب بالنُّطق وغيره. فصل في مدة الفطام دلَّت الآية على أن الفطام في أقلَّ من حولين لا يجوز إلاَّ عند رضا الوالدين، وعند المشاورة مع أرباب التَّجارب، وذلك لأنَّ الأمَّ قد تملُّ من الرَّضاع فتحاول الفطام؛ والأب أيضاً قد يملُّ من عطاء الأجرة على الإِرْضَاع، فيحاول الفِطَام؛ دَفْعاً لذلك، لكنهما قلَّما يتوافقان على الإضرار بالولد؛ لغرض النَّفس، ثم بتقدير توافقهما: اعتبر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 184 المشاورة مع غيرهما، وعند ذلك يبعد حصول موافقة الكلِّ على ما يكون فيه ضرر الولد، فعند اتِّفاق الكلِّ على أنَّ الفطام قبل الحولين لا يضرُّ الولد ألبتَّة يجوز الفطام. فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير، كم شرط في جواز فطامه من الشروط؛ دفعاً للمضارِّ عنه، ثم عند اجتماع هذه الشَّرائط لم يصرِّح بالإذن، بل قال: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} . قوله: {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ} . «أن» وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ، مفعولاً ب «أَرَاد» وفي «اسْتَرْضَعَ» قولان للنَّحويين: أحدهما: أنه يتعدَّى لاثنين، ثانيهما بحرف الجرِّ، والتقدير: أن تسترضعوا المراضع لأولادكم، فحذف المفعول الأوَّل وحرف الجر من الثاني، فهو نظير «أَمَرْتُ الخَيْرَ» ، ذكرت المأمور به، ولم تذكر المأمور؛ لأنَّ الثاني منهما غير الأوَّل، وكلُّ مفعولين كانا كذلك، فأنت فيهما بالخيار بين ذكرهما وحذفهما، وذكر الأوَّل، دون الثاني والعكس. قال الواحديُّ: «أن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ» ، أي: لأَوْلاَدِكُمْ وحذف اللام، اجتزاءً بدلالة الاسترضاع؛ لأنَّه لا يكون إلاَّ للأولاد، ولا يجوز: «دَعَوْتُ زَيْداً» وأنت تريد لزيد؛ لأنَّه لا يلتبس ها هنا خلاف ما قلنا في الاسترضاع، ونظير حذف «اللاَّم» قوله تعالى: {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 3] أي: كالو لهم، أو وزنوا لهم. والثاني: أنه متعدٍّ إليهما بنفسه، ولكنه حذف المفعول الأول، وهذا رأي الزمخشريِّ، ونظَّر الآية الكريمة بقولك: «أَنَجَحَ الحَاجَةَ» «وَاسْتَنْجَحَتْهُ الحَاجَةُ» وهذا يكون نقلاً بعد نقلٍ؛ لأنَّ الأصل «رَضِعَ الوَلَدُ» ، ثم تقول: «أَرْضَعَت المَرْأَةُ الوَلَدَ» ، ثم تقول: «اسْتَرْضَعْتُهَا الوَلَدَ» ؛ هكذا قال أبو حيَّان. قال شهاب الدين: وفيه نظر؛ لأنَّ قوله «رضِعَ الوَلَدُ» يشعر أنَّ هذا لازمٌ، ثم عدَّيته بهمزة النقل، ثم عدَّيته ثانياً بسين الاستفعال، وليس كذلك، لأنَّ «رَضِعَ الوَلَدُ» متعدٍّ، غاية ما فيه أنَّ مفعوله غير مذكورٍ، وتقديره: رَضِعَ الوَلَدُ أُمَّهُ؛ لأنَّ المادَّة تقتضي مفعولاً به؛ كضرب، وأيضاً فالتعدية بالسين قول مرغوبٌ عنه، والسين للطلب على بابها؛ نحو: اسْتَسْقَيْتُ زَيْداً مَاءً، واسْتَطْعَمْتُهُ خُبْزاً؛ فكما أنَّ ماءً وخبزاً منصوبان، لا على إسقاط الخافض كذلك «أَوْلاَدَكُمْ» ، وقد جاء [استفعل] للطَّلب، وهو معدًّى إلى الثاني بحرف جرٍّ، وإن كان «أَفْعَلَ» الذي هو أصله متعدِّياً لاثنين، نحو: «أَفْهَمَنِي زَيْد المَسْأَلَةَ» واستفهمته عنها، ويجوز حذف «عَنْ» ، فلم يجيء مجيءَ «اسْتَسْقَيْتُ» و «اسْتَطْعَمْتُ» من كون ثانيهما منصوباً، لا على إسقاط الخافض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 185 وفي هذا الكلام التفاتٌ وتلوينٌ، أمَّا الالتفات: فإنه خروجٌ من ضمير الغيبة في قوله: «فَإِنْ أَرَادُوا» إلى الخطاب في قوله: «وَإِنْ أَرَدتُّمْ» ؛ إذ المخاطب الآباء والأمهات، وأمَّا التلوين في الضمائر، فإنَّ الأول ضمير تثنيةٍ، وهذا ضمير جمعٍ، والمراد بهما الآباء والأمهات أيضاً؛ وكأنه رجع بهذا الضمير المجموع إلى الوالدات والمولُودِ له، ولكنه غَلَّبَ المُذَكَّرَ، وهو المولودُ له، وإنْ كان مفرداً لفظاً، و «فَلاَ جُنَاحَ» جوابُ الشرطِ. قوله: {إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم} «إِذَا» شرطٌ حذف جوابه؛ لدلالة الشرط الأول وجوابه عليه، قال أبو البقاء: وذلك المعنى هو العاملُ في «إذا» وهو متعلِّق بما تعلَّق به «عَلَيْكُم» ، وهذا خطأٌ في الظاهر؛ لأنه جعل العامل فيها أولاً ذلك المعنى المدلول عليه بالشَّرط الأوَّل وجوابه، فقوله ثانياً «وهو متعلِّق بما تعلَّق به عَلَيْكُم» تناقضٌ، اللهم إلا أن يقال: قد يكون سقطت من الكاتب ألفٌ، وكان الأصل «أَوْ هُوَ مُتَعَلِّقٌ» فيصحُّ، إلاَّ أنه إذا كان كذلك، تمحَّضت «إِذَا» للظرفية، ولم تكن للشرط، وكلام هذا القائل يشعر بأنها شرطيةٌ في الوجهين على تقدير الاعتذار عنه. وليس التَّسليم شرطاً للجواز والصحَّة، وإنَّما هو ندب إلى الأولى، والمقصود منه أن يسلِّم الأجرة إلى المرضعة يداً بيدٍ، حتى تطيب نفسها، ويصير ذلك سبباً لصلاح حال الطِّفل، والاحتياط في مصالحه. وقرأ الجمهور: «آتَيْتُمْ» بالمدِّ هنا وفي الرُّوم: {وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً} [الروم: 39] وقصرهما ابن كثير. وروى شيبان عن عاصم «أُوتِيتُمْ» مبنيّاً للمفعول، أي: ما أقدركم الله عليه، فأمَّا قراءة الجمهور، فواضحةٌ؛ لأنَّ «آتَى» بمعنى «أَعْطَى» ، فهي تتعدَّى لاثنين، أحدهما ضمير يعود على «مَا» الموصولة، والآخر ضميرٌ يعود على المراضع، والتقدير: ما آتيتموهنَّ إيَّاه، ف «هُنَّ» هو المفعول الأوَّل؛ لأنه الفاعل في المعنى، والعائد هو الثاني؛ لأنه هو المفعول في المعنى، والكلام على حذف هذا الضمير، وهو منفصلٌ قد تقدَّم ما عليه من الإشكال، والجواب عند قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] . وأمَّا قراءة القصر، فمعناها جئتم وفعلتم يقال: أَتَيْتُ جميلاً، إذا فعلته؛ قال زهيرٌ: [الطويل] 1129 - وَمَا كَانَ مِنْ خَيْرٍ أَتَوْهُ فَإِنَّمَا ... تَوَارَثَهُ آبَاءُ آبَائِهِمْ قَبْلُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 186 أي: فعلوه، والمعنى: إذا سلَّمتم ما جئتم وفعلتم. فعلى هذه القراءة يكون التَّسليم بمعنى الطَّاعة، والانقياد، لا بمعنى تسليم الأجرة، يعني: إذا سلَّمتم لأمره وانقدتم لحكمه. وقال أبو عليٍّ: ما أتيتم نقده أو إعطاءه، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه، وهو عائد الموصول، فصار: آتيتموه، أي: جئتموه. وأما قراءة عاصم، فمعناها: ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، وهو في معنى قوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] . ثم حذف عائد الموصول، وأجاز أبو البقاء أن يكون التقدير: ما جئتم به، فحذف، يعني: حذف على التَّدريج بأن حذف حرف الجرِّ أولاً؛ فاتَّصل الضمير منصوباً بفعلٍ، فحذف. و «ما» فيها وجهان: أظهرهما: أنها بمعنى «الَّذِي» وأجاز أبو عليٍّ فيها أن تكون موصولةً حرفيَّةً، ولكن ذكر ذلك مع قراءة القصر خاصَّةً، والتقدير: إذا سلَّمتم الإتيان، وحينئذٍ يستغنى عن ذلك الضَّمير المحذوف، ولا يختصّ ذلك بقراءة القصر، بل يجوز أن تكون مصدريَّةً مع المدِّ أيضاً؛ على أن المصدر واقعٌ موقع المفعول، تقديره: إذا سلَّمتم الإعطاء، أي: المعطى. والظاهر في «مَا» أن يكون المراد بها الأُجرة التي تتعاطاها المرضع، والخطاب على هذا في قوله: «سَلَّمْتُمْ» و «آتَيْتُمْ» لآباء خاصَّة، وأجازوا أن يكون المراد بها الأولاد، قاله قتادة والزهري، وفيه نظرٌ؛ من حيث وقوعها على العقلاء؛ وعلى هذا فالخطاب في «سَلَّمْتُمْ» للآباء والأمَّهات. قوله تعالى: {بالمعروف} فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن يتعلَّق ب «سَلَّمْتُمْ» أي: بالقول الجميل. والثاني: أن يتعلَّق ب «آتَيْتُمْ» . والثالث: أن يكون حالاً من فاعل «سَلَّمْتُمْ» ، أو «آتَيتُمْ» ، فالعامل فيه حينئذٍ محذوفٌ، أي: مُلْتَبِسِينَ بالمعروف. فصل قد تقدَّم أنَّ الأمَّ أحقُّ بالرَّضاع، فإن حصل ثمَّ مانعٌ عن ذلك، جاز العدول عنها إلى غيرها، مثل أن تتزوَّج بزوجٍ آخر، فإنَّ قيامها بحقِّ ذلك الزوج يمنعها من الرَّضاع. ومنها: إذا طلَّقها الزوج الأوَّل، فقد تكره الرَّضاع؛ حتى يتزوَّج بها زوجٌ آخر. ومنها: أن تأبى المرأة إرضاع الولد؛ إيذاءً للزَّوج المطلِّق وإيحاشاً له. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 187 ومنها: أن تمرض، أو ينقطع لبنها. فعند أحد هذه الوجوه، إذا وجدنا مرضعةً أخرى، وقبل الطفل لبنها، جاز العدول عن الأمِّ إلى غيرها. فأمَّا إذا لم نجد مرضعةً أخرى أو وجدناها، لكنَّ الطفل لا يقبل لبنها، فهاهنا الإرضاع واجبٌ على الأمِّ. ثم إنَّه تعالى ختم الآية بالتَّحذير، فقال: {واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 في «الَّذِينَ» أوجهٌ: أحدها: أنَّها مبتدأٌ لا خبر له، بل أخبر عن الزوجات المتصل ذكرهنَّ به؛ لأنَّ الحديث معهنَّ في الاعتداد، فجاء الخبر عن المقصود، إذ المعنى: من مات عنها زوجها، تربَّصت، وإليه ذهب الكسائيُّ والفراء؛ وأنشد الفراء: [الطويل] 1130 - لَعَلِّيَ إِنْ مَالَتْ بِيَ الرِّيحُ مَيْلَةً ... عَلَى ابْنِ أَبِي ذِبَّانَ أَنْ يَتَنَدَّمَا فقال: لَعَلِّيَ «ثم قال:» أَنْ يَتَنَدَّمَ «فأخبر عن ابن أبي ذِبَّانَ، فترك المتكلم؛ إذ التقدير: لعلَّ ابن أبي ذبَّان أن يتندَّم إن مالت بي الرِّيح ميلةً. وقال آخر: [الطويل] 1131 - بَنِي أَسَدٍ إِنَّ ابْنَ قَيْسٍ وَقَتْلَهُ ... بِغَيْرِ دَمٍ دَارُ المَذَلَّةِ حُلَّتِ فأخبر عن قتله بأنه دار مذلَّةٍ، وترك الإخبار عن ابن قيسٍ. وتحرير مذهب الكسائيِّ والفرَّاء: أنه إذا ذكر اسمٌ، وذكر اسم مضافٌ إليه فيه معنى الإخبار ترك عن الأول، وأخبر عن الثاني؛ نحو:» إنَّ زَيْداً وَأُخْتهُ مُنْطَلِقَةٌ «، المعنى: إن أخت زيدٍ منطلقةٌ، لكنَّ الآية الكريمة والبيت الأول ليسا من هذا الضَّرب، وإنما الذي أورده شبيهاً بهذا الضرب. قوله: [الوافر] 1132 - فَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنِّي فَإِنِّي ... وَجِرْوَةَ لاَ تَرُودُ وَلاَ تُعَارُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 188 وأنكر المبرد والزجاج ذلك؛ قالا: لأن مجيء المبتدأ بدون الخبر محال، وليس هذا موضع البحث في هذا المذهب ودلائله. الثاني: أنَّ له خبراً اختلفوا فيه على وجوه: أحدها: أنه» يَتَرَبَّصْنَ «، ولا بدَّ من حذفٍ يصحِّحُ وقوع هذه الجملة خبراً عن الأول؛ لخلوِّها من الرابط، والتقدير: وأزواجُ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ يَتَرَبَّصْنَ؛ ويدلُّ على هذا المحذوف قوله: {وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لتلك الدلالة عليه. والتقدير: يتربَّصن بعدهم، أو بعد موتهم، قاله الأخفش. وثالثها: أنَّ» يَتَرَبَّصْنَ «خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، التقدير: أزواجهم يتربَّصْنَ، وهذه الجملة خبرٌ عن الأوَّل، قاله المبرِّد. ورابعها: أنَّ الخبر محذوفٌ بجملته قبل المبتدأ، تقديره: فيما يتلى عليكم حكم الذين يتوفَّون، ويكون قوله» يَتَرَبَّصْنَ «جملةً مبيِّنَةً للحكم، ومفسِّرة له، فلا موضع لها من الإعراب، ويعزى هذا لسيبويه. قال ابن عطيَّة: وَحَكَى المَهْدَوِيُّ عن سيبويه أنَّ المعنى:» وَفِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُم الذين يُتَوَفَّونَ «، ولا أعرفُ هذا الذي حكاه؛ لأنَّ ذلك إنما يتَّجه إذا كان في الكلام لفظ أمرٍ بعد المبتدأ، نحو قوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا} [المائدة: 38] {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] وهذه الآية فيها معنى الأمر، لا لفظه، فتحتاج مع هذا التقدير إلى تقدير آخر يستغنى عنه إذا حضر لفظ الأمر. وخامسها: أن بعض الجملة قام مقام شيء مضافٍ إلى عائدِ المبتدأ، والتقدير:» وَالَّذِينَ يُتَوفَّوْنَ مِنْكُمْ ويَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ أَزْوَاجُهُمْ «فحذف» أَزْوَاجُهُمْ «بجملته، وقامت النون التي هي ضمير الأزواج مقامهنَّ بقيد إضافتهنَّ إلى ضمير المبتدأ. وقال القرطبيُّ: المعنى: والرِّجَالُ الَّذِينَ يَمُوتُونَ مِنْكُمْ «» وَيَذَرُونَ «- أي: يتركون -» أَزْوَاجاً «- أي: ولهم زوجاتٌ - فالزَّوجات» يَتَرَبَّصْنَ «قال معناه الزَّجَّاج واختاره النَّحاس، وحذف المبتدأ في القرآن كثيرٌ؛ قال تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار} [الحج: 72] أي هو النَّار. وقرأ الجمهور» يُتَوَفَّوْنَ «مبنيّاً لما لم يسمَّ فاعله، ومعناه: يموتون ويقبضون؛ قال تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] ، وأصل التوفي أخذ الشيء وافياً كاملاً، فمن مات، فقد وجد عمره وافياً كاملاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 189 وقرأ علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ورواها المفضَّل عن عاصم - بفتح الياء على بنائه للفاعلن ومعناه: يَسْتَوْفُونَ آجَالَهُمْ، قاله الزمخشريُّ. ويُحكى أن أبا الأسود كان خلف جنازةٍ، فقال له رجلٌ: من المتوفِّي؟ بكسر الفاء، فقال: الله، وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - على أن أمره بوضع كتابٍ في النَّحو. وقد تقدَّم البحث في قوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] وهل» بِأَنْفُسِهِنَّ «تأكيدٌ أو لا؟ وهل نصبُ» قُرُوء «على الظرف، أو المفعوليَّة؟ وهو جارٍ ها هنا. قوله: {مِنكُمْ} في محلِّ نصبٍ على الحال من مرفوع» يتَوَفَّوْنَ «والعامل فيه محذوفٌ، تقديره: حال كونهم منكم، و» مِنْ «تحتمل التبعيض وبيان الجنس والأزواج ها هنا. فصل في معنى» التربص « و» التَّرَبُّصُ «: التأنِّي والتصبُّر عن النِّكاح، وترك الخروج عن مسكن النكاح بألاَّ تفارقه ليلاً، ولم يذكر الله تعالى السُّكنى للمتوفَّى عنها في كتابه كما ذكرها للمطلَّقة بقوله: {أَسْكِنُوهُنَّ} [الطلاق: 6] ، وليس في لفظ العدَّة في القرآن ما يدلُّ على الإحداد وإنما قال:» يَتَرَبَّصْنَ «فبينت السُّنَّة جميع ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 190 قوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} إنما قال» عَشْراً «من غير تاء تأنيثٍ في العدد والمراد عشرة أيام؛ لوجوه: الأول: أنَّ المراد» عَشْرَ لَيَالٍ «مع أيامها، وإنما أوثرت الليالي على الأَيام في التاريخ لسبقها؛ قال الزمخشريُّ:» وقيل «عَشْراً» ذهاباً إلى الليالي، والأيام داخلةٌ فيها، ولا تراهم قطُّ يستعملون التذكير ذاهبين فيه إلى الأيام، تقولك «صُمْتُ عَشْراً» ، ولو ذكَّرْت خرجت من كلامهم، ومن البيِّن قوله تعالى: {إِلاَّ عَشْراً} [طه: 103] ، {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً} [طه: 104] . الثاني: قال المبرِّد: إنَّ حذف التاء؛ لأجل أنَّ التقدير عشر مددٍ كلُّ مدة منها يومٌ وليلةٌ، تقول العرب: «سِرْنَا خَمْساً» أي: بين يوم وليلة؛ قال: [الطويل] 1133 - فَطَافَتْ ثَلاَثاً بَيْنَ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... وَكَانَ النَّكِيرُ أَنْ تُضِيفَ وَتَجْأَرَا والثالث: أنَّ المعدود مذكَّرٌ وهو الأيام، وإنما حذفت التاء؛ لأنَّ المعدود المذكر، إذا ذكر وجب لحاق التاء في عدده؛ قالوا «صُمْنَا خَمْسَةَ أَيَّام» ، وإذا حذف لفظاً، جاز في العدد الوجهان: ذكر التاء وعدمها، حكى الكسائيُّ: «صُمْنَا مِنَ الشَّهْرِ خَمْساً» ، ومنه الحديث: «وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ» ، وقال الشاعر: [الطويل] 1134 - وَإِلاَّ فَسِيرِي مِثْلَ مَا سَارَ رَاكِبٌ ... تَيَمَّمَ خَمْساً لَيْسَ فِي سَيْرِهِ أَمَمْ نصَّ النحويون على ذلك. قال أبو حيَّان: «فَلا يُحْتَاجُ إلى تأويلها بالليالي ولا بالمدد؛ كما قدَّره الزَّمخشريُّ والمُبَرِّد على هذا» ، قال: «وإذا تقرر هذا، فجاء قوله:» وَعَشْراً «على أحد الجازئين، وإنما حسن حذف التاء هنا؛ لأنه مقطع كلام، فهو شبيهُ بالفواصل؛ كما حسَّن قوله: {إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً} [طه: 103] كونه فاصلةً، فقوله:» ولو ذَكَّرْتَ لَخَرجْتَ من كَلاَمِهِمْ «ليس كما ذكر، بل هو الأفصح، وفائدة ذكره» إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً «بعد قوله» إِلاَّ عَشْراً «أنه على زعمه أراد الليالي، والأيام داخلةٌ معها، فقوله:» إِلاَّ يَوْماً «دليلٌ على إرادةِ الأيَّام» . قال أبو حيان: «وهذا عندنا يدلُّ على أنَّ المراد بالعشر الأيَّام؛ لأنهم اختلفوا في مدَّة اللَّبث، فقال بعضهم:» عَشْراً «وقال بعضهم:» يَوْماً «فدلَّ على أنَّ المقابل باليوم إنما هو أيام؛ إذ لا يحسن في المقابلة أن يقول بعضهم: عَشْرُ لَيَالٍ، فيقول البعضُ: يَوْمٌ» . الرابع: أنَّ هذه الأيَّام [أيَّام حزن ومكروه، ومثل هذه الأيَّام] تسمَّى بالليالي على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 191 سبيل الاستعارة؛ كقولهم: «خَرَجْنَا لَيَالِيَ الفِتْنَةِ، وجئنا لياليَ إِمَارَة الحَجَّاج» . الخامس: أنَّ المراد بها الليالي، وإليه ذهب الأوزاعيُّ وأبو بكر الأصمُّ، وبعض الفقهاء قالوا: إذا انقضى لها أربعة أشهرٍ وعشر ليالٍ، حلَّت للأزواج. فصل لما ذكر الله تعالى عدَّة الطلاق، واتصل بذكرها ذكر الرَّضاع، ذكر عدَّة الوفاة أيضاً؛ لئلاَّ يتوهَّم أن عدة الوفاة مثل عدَّة الطلاق. فصل فيمن تستثنى من هذه العدَّة هذه العدَّة واجبةٌ على كلِّ امرأةٍ مات عنها زوجها، إلاَّ في صورتين: الأولى: أن تكون أمَةً، فإنَّها تعتدُّ عند أكثر الفقهاء نصف عدة الحرَّة. وقال أبو بكر الأصمُّ: عدتها عدَّة الحرَّة؛ لظاهر هذه الآية، ولأن الله تعالى جعل وضع الحمل في حقِّ الحامل بدلاً عن هذه المُدَّة؛ فوجب أن يشتركا فيه. وأجاب الفقهاء بأنَّ التنصيف في هذه المدة ممكنٌ، وفي وضع الحمل غير ممكن، فظهر الفرق. الصُّورة الثانية: أن تكون حاملاً، فعدَّتها بوضع الحمل، ولو كان بعد وفاة الزَّوج بلحظة. وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أن تتربّصن بأبعد الأجلين. واستدلَّ الجمهور بقوله تعالى: {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 4] . فإن قيل: هذه الآية إنما وردت عقيب ذر المطلَّقات؛ [فيكون للمطلَّقات] لا للمتوفَّى عنها زوجها. فالجواب: أنَّ دلالة الاقتران ضعيفةٌ، والاعتبار إنَّما هو بعموم اللفظ. وأيضاً: قال عبد الله بن مسعود: «أُنْزِلَتْ سورةُ النِّساء القُصْرَى بعد الطُّولى» أراد بالقصرى «سُورَة الطَّلاَقِ» ، وبالطُّولى «سُورَة البَقَرَةِ» ، وأراد به قوله تعالى في سورة الطلاق: {وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} نزلت بعد قوله: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} فحمله على الفسخ، وعامَّة الفقهاء خصُّوا الآية بحديث سبيعة، وهو ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 192 روي في «الصَّحِيحَينِ» : أنَّ سُبَيْعَة الأسلميَّة كانت تحت سعد بن خولة، فتوفِّي عنها في حجَّة الوداع، وهي حاملٌ، فولدت بعد وفات زوجها بنصف شهرٍ، فلمَّا طهرت من دمها تجمَّلت للخطَّاب، فدخل عليها أبو السَّنابل بن بعكك، رجلٌ من بني عبد الدَّار، فقال لها: ما لي أراك متجمِّلةً، لعلَّك تريدين النِّكاح، والله ما أنت بناكح حتَّى تمرَّ عليك أربعة أشهرٍ وعشرٌ، قالت سبيعة: فسألت النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك، قالت: فأفتاني بأنِّي قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتَّزويج، إن بدا لي. ولا فرق في عدَّة الوفاة بين الصَّغيرة والكبيرة، وقال ابن عبَّاس: لا عدَّة عليها قبل الدُّخول. فصل في عدة أم الولد المتوفى عنها سيدها اختلفوا في عدَّة أمِّ الولد، إذا توفِّي عنها سيِّدها، فقال سعيد بن المسيَّب، والزُّهريُّ، والحسن البصريُّ، وجماعةٌ: عدَّتها أربعة أشهرٍ وعشرٌ، وبه قال الأوزاعيُّ، وإسحاق. وروي عن عليٍّ، وابن مسعود: أن عدَّتها ثلاث حيضٍ، وهو قول عطاء وإبراهيم النَّخعيِّ وسفيان الثوريِّ وأصحاب الرَّأي. قال مالكٌ: لا تنقضي عدَّتها في هذه المدَّة حتى ترى عادتها من الحيض في تلك المدَّة، مثل إن كانت عادتها أن تحيض في كلِّ شهر فعليها حيضتان، وإن كانت عادتها أن تحيض في كلِّ أربعة أشهر مرَّة، فهاهنا يكفيها الشُّهور، وهذا خلاف ظاهر الآية، فإن ارتابت، استبرأت نفسها من الرِّيبة؛ كما أنَّ ذات الأقراء، لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط. فصل إذا مات الزوج، وقد بقي من شهر الوفاة أكثر من عشرة أيَّامٍ، فالشَّهر الثاني والثالث والرابع يؤخذ بالأهلَّة، سواءٌ خرجت ناقصةً أو كاملةً، ثم تكمل الشهر الأوَّل من الخامس ثلاثين يوماً، ثم تضمُّ إليها عشرة أيَّامٍ. وإن مات، وقد بقي من الشَّهر أقلُّ من عشرة أيامٍ، اعتبر أربعة أشهر بعد ذلك بالأهلَّة، وكمل العشرين من الشَّهر السادس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 193 فصل في كون الآية ناسخة أجمع الفقهاء على أنَّ هذه الآية ناسخة لما بعدها من الاعتداد بالحول، وإن كانت متقدِّمة في التِّلاوة غير أبي مسلم الأصفهاني، فإنّه أبى نسخها، وسيأتي كلامه إن شاء الله تعالى. والتقدُّم في التلاوة لاّ يمنع التأخُّر في النزول. فصل في ابتداء هذه المدَّة، فقال بعضهم: ابتداؤها من حين العلم بالوفاة؛ لقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} والتربص بأنفسهن لا يحصل إلاَّ بقصد التربُّص، والقصد لا يكون إلا مع العلم. وقال الأكثرون: ابتداؤها من حيث الموت؛ لأنَّه سببها، فلو انقضت المدَّة أو أكثرها، ثم بلغها خبر الوفاة، اعتدَّت بما انقضى من المدَّة، ويدلُّ على ذلك أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا علم لها يكفي في انقضاء عدَّتها مضيُّ هذه المدة. فصل في وجوب نفقة الحامل قال القرطبيُّ: أجمع العلماء على أنَّ نفقة المطلَّقة إذا كانت حاملاً واجبة؛ لقوله تعالى: {وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، واختلفوا في وجوب نفقة الحامل المتوفّى عنها زوجها، فقال ابن عبّاس، وسعيد بن المسيَّب، وعطاء، والحسن، وعكرمة، ويحيى الأنصاريُّ، وربيعة، ومالك، وأحمد، وإسحاق: ليس لها نفقةٌ، وحكاه أبو عبيد عن أصحاب الرأي. وروي عن عليّ، وعبد الله: أنَّ لها النفقة من جميع المال، وبه قال ابن عمر، وشريحٌ، وابن سيرين، والشَّعبيُّ، وأبو العالية، والنَّخعيُّ، وحماد بن أبي سلمان، وأيُّوب السَّختيانيُّ وسفيان الثوريُّ، وأبو عبيدٍ. فصل روي عن أبي العالية وسعيد بن المسيَّب؛ أن الله تعالى حدَّ العدة بهذا القدر؛ لأنَّ الولد ينفخ فيه الرُّوح في العشر بعد الأربعة، وهو منقولٌ عن الحسن البصريِّ. فصل احتجَّ من قال إنَّ الكفَّار ليسوا مخاطبين بفروع الإسلام؛ بقوله تعالى: {والذين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 194 يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} قالوا: هذا خطابٌ مع المؤمنين، فاختصَّ بهم، وجوابه أنَّ المؤمنين، لمَّا كانوا هم العالمين بذلك، خصَّهم بالذِّكر؛ كقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] مع أنَّه كان منذراً للكلِّ؛ لقوله تعالى: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} [الفرقان: 1] . قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي: مِن اختيار الأَزواج دون العقد، فإن العقد إلى الوَلِيِّ. وقيل: فيما فَعَلْنَ من التَّزَيُّن للرجالِ زينةً لا يشكرها الشَّرْع. فصل في وجوب الإحداد في عدَّة الوفاةِ يجب عليها الإحدادُ في عدَّة الوفاة، وهو الامتناع من الزِّينة والطّ] ب، فلا يجُوز لها تدهينُ رأسها بأيِّ دُهْن كان، سواء كان فيه طِيبٌ أو [لم يكن] ، [ولها تدهِينُ جسدها بدُهن لا طيب فيه، فإن كان فيه طيبٌ، فلا يجوز] ، ولا يجُوزُ لها أن تكتحل بكُحلٍ فيه طيبٌ وفيه زينةٌ، كالكُحْل الأسود، ولا بأس بالكُحل الفارسيِّ الذي لا زينة فيه، فإن اضطرت إلى كُحل فيه زينةٌ فرخص فيه كثيرٌ من أهْل العلم منهم سالم بنُ عبد الله، وسليمان بنُ يسارٍ، وعطاءٌ والنخعيُّ، وبه قال مالكٌ وأصحاب الراي. وقال الشَّافعيُّ: تكتحلُ به ليلاً وتمسحهُ نهاراً. قالت أمُّ سلمة: دخل عليَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حين تُوُفِّي أبو سلمة، وقد جعلت عليَّ صبراً، فقال: إنَّه يَشُبُّ الوجه، فلا تجعليه إلاَّ باللَّيل وتنزعيه بالنَّهار. ولا يجوز لها الخضابُ، ولا لُبسُ الوشي والدِّيباج والحُليِّ، ويجوزُ لها لُبْس البيض من الثِّياب، ولُبْسُ الصوف والوبر، ولا تلبسُ الثَّوب المصبوغ؛ كالأَحمر، والأصفر، والأَخضر النَّاضر، ويجوزُ ما صُبغ لغير زينةٍ؛ كالسَّواد والكُحْليِّ. وقال سفيان: لا تلْبَسُ المصبُوغ بحالٍ. فصل في العدة في بيت الزوج قال القرطبيُّ: إذا كان الزوج يملكُ رقبة المَسكن، فإنَّ للزوجة العدَّة فيه، وعليه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 195 أكثرُ الفقهاءِ، وإِن كان للزَّوج السكنى دون الرَّقبة، فلها السكنى في مدَّة العدَّة؛ خلافاً لأبي حنيفة والشَّافعيِّ؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - للفُريعة - وقد علم أن زوجها يملك رقبة المسكن -: «أمْكُثي في بيتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ» . وهذا إذا كان قد أدَّى الكراء، فإِن كان لم يُؤَدِ الكراء، فالذي في «المُدَوَّنَة» أنَّه لا سكْنَى لها في مالِ المَيِّت، وإن كان مُوسِراً؛ لأنَّ حقَّها إنما يتعلق بما يمكله مِنَ السُّكْنَى ملكاً تامّاً، وما لَمْ ينقد عوضه لم يملكه مِلكاً تامّاً، وإنَّما ملك العوضَ الذي بيده، ولا حقَّ في ذلك للزَّوجة إلاَّ بالميراثِ، دون السُّكْنَى؛ لأنَّ ذلك مالٌ، وليس بسكْنَى. ورُوي عن مالكٍ: أن الكِراء لازمٌ للميِّت في ماله. فصل ولها أن تخْرج في حوائجها نهاراً إلى بعد العتمة، ولا تبينُ إِلاَّ في منزلها، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - «لا يحلُّ لامْرَأَةٍ تؤمِنُ بالله واليَوْمِ الآخِر» يدلُّ على أنَّ الكتابيَّة لا إحداد عليها، وبه قال أبو حنيفة، ورُوِيَ عن مالك أَنَّ عليها الإحداد؛ كالمسلمة، وبه قال الشافعيُّ. فصل والإحدادُ واجبٌ على جميع الزَّوجات الحرائِر والإِماء والصغار والكبار، وذهب أبو حنيفة أنَّه لا إحدادَ على أمة، ولا على صغيرة، وقال الحسن: الإحْدَادُ ليس بواحبٍ. قوله: {بالمعروف} فيه أربعةُ أوجهٍ: أحدها: أن يكونَ حالاً من فاعل «فَعَلْنَ» ، أي: فَعَلْنَ مُلْتَبسَاتٍ بالمعروف ومُصَاحِباتٍ له. والثاني: أنه مفعولٌ به، أي: تكونُ الباءُ باءَ التعدية. الثالث: أن يكونَ نعتَ مصدر محذوفٍ، أي: فَعَلْنَ فِعْلاً بالمعروف، أي: كائناً، ويجيءُ فيه مذهب سيبويه: أنه حالٌ من ضميرِ المصدرِ المعرفةِ، أي: فَعَلْنَهُ - أي الفعلَ - ملتبساً بالمعروف، وهو الوجهُ الرابعُ. قوله: {بِمَا تَعْمَلُونَ} متعلق ب «خَبِيرٌ» ، وَقُدِّمَ لأجلِ الفاصلةِ، و «مَا» يجوزُ أن تكونَ مصدريةً، وأن تكونَ بمعنى «الذي» أو نكرةً موصوفة، وهو ضعيفٌ، وعلى هذين القولين، فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ، وعلى الأَوَّل لا يُحتاجُ إليه، إلا على رأي ضعيفٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 196 فصل تَمَسَّكَ أصحابُ أبي حنيفة في جواز النِّكاح بغير وليِّ بقوله تعالى: {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} قالوا: وإضافةُ الفعل إلى الفاعل محمولٌ على المباشرة؛ لأنَّ هذا هو الحقيقة في اللفظ. والجوابُ أنَّ هذا الخطابَ مع الأَولياء، أو الحُكَّام؛ كما تقدَّم، وتقدير الآية: لا جُنَاحَ على النِّسَاء وعلَيْكُم، ثم قال: {فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف} أي: ما يحسُنُ عقلاً وشرعاً؛ لأَنَّ المعروف ضدُّ المنْكَر الذي لا يحْسُن، وذلك هو الحلالُ من التزويج إذا كان مستجمعاً لِشرائط الصِّحَّة، والله أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 قال القرطبيُّ: لا جناح، أي: لا إِثْمَ والجناحُ: الإثمُ، وهو أصح في الشَّرع. وقيل: بل هو الأَمر الشاقُّ، وهو أصحُّ في اللغة؛ قال الشَّمَّاخ: [الوافر] 1135 - إِذَا تَعْلُو بِرَاكِبِهَا خَلِيجاً ... تَذَكَّرُ مَا لَدَيْهِ مِنَ الجُنَاحِ و «التَّعْريضُ» في اللغة: ضدُّ التصريح، ومعناه: أن يضمِّن كلامَهُ ما يصلحُ للدَّلالة على مقصُوده، ويصلُحُ للدَّلالة على غير مقصُوده، إلا أن إشعَاره بجانب المقصُود أتَمُّ وأرجحُ. وأصلُهُ مِنْ عُرض الشيء، وهو جانبُهُ؛ كأنَّه يحوم حولَهُ؛ ولا يظهر، ونظيره أن يقول المُحتاج للمحتاج إليه: جئتُكَ لأُسلمَ عَلَيك، ولأنْظر إلى وجهك الكريم؛ ولذلك قال: [الطويل] 1136 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَحَسْبُكَ بِالتَّسْلِيمِ مِنِّي تَقَاضِيَا والتعريض قد يُسمَّى تلويحاً؛ لأنَّه يَلُوحُ منه ما يريدُه، والفرقُ بين الكناية والتعريض: أنَّ الكناية ذكرُ الشَّيء بذكر لوازمه؛ كقولك فلانٌ طويلُ النجادِ، كثيرُ الرماد؛ لأنَّ النجاد عبارةٌ عن حَمِيلَةِ السَّيفِ، إذا كانت حميلةُ سيفهِ طويلةً، لزم منه أن يكونَ الرَّجُل طويلاً، وكذلك إذا كان كثير الرمَادِ، لزم منه أن يكون كثير الطَّبخ للأَضياف، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 197 وغيرهم، والتعريضُ أنْ يذكر كلاماً يحتمل المقصُود وغيره، إلاَّ أنَّ قرينة الحال تؤكِّد حمله على المقصُود. وقال الفراء: الخِطْبَةُ مصدرٌ بمعنى الخَطْب، وهي مثل قولك: إِنَّه لَحَسَنُ القِعْدةِ والجِلْسَةِ تريد: القُعُود والجُلُوس والخطبَةُ مصدرٌ في الأصل بمعنى الخَطْبِ، والخَطْب: الحاجة، ثم خُصَّت بالتماس النكاح؛ لأنه بعضُ الحاجات، يقال: ما خَطْبُكَ؟ أي: ما حاجتُك. وفي اشتقاقه وجهان: الأول: الأمر والشأن يقال ما خطبُكَ؟ أي: ما شأنُكَ؟ فقولهم: خَطَبَ فلانٌ فُلانَةً، أي: سَأَلَهَا أَمراً وشأناً في نفسِها. والثاني: أصلُ الخِطْبة من الخطابة الَّذي هو الكلامُ، يقال: خَطَبَ المرأة، أي: خاطبها في أمر النِّكاح، والخطب: الأمر العظيم؛ لأ، َّه يحتاجُ لخطاب كثيرٍ. والخطبة بالضَّم، الكلامُ المشتملُ على الوعظِ والزَّجرِ، وكلاهما من الخَطْبِ الذي هو الكلامُ، وكانت سَجاح يُقال لها خِطْبٌ فتقول: نِكْحٌ. قوله تعالى: {مِنْ خِطْبَةِ النسآء} في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفي صاحبها وجهان: أحدهما: الهاءُ المجرورةُ في «بِهِ» . والثاني: «مَا» المجرورة ب «فِي» ، والعاملُ على كِلا التقديرين محذوفٌ، وقال أبو البقاء: حالٌ من الهاءِ المجرورةِ، فيكونُ العاملُ فيه «عَرَّضْتُمْ» ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من «مَا» فيكونُ العاملُ فيه الاستقرارَ. قال شهاب الدين: وهذا على ظاهره ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ العاملَ فيه محذوفٌ؛ على ما تقرَّر، إلا أَنْ يريدَ من حيث المعنى لا الصناعةُ، فقد يجوزُ له ذلك. والخِطبة بكسر الخاء - فعلُ الخاطِب -: من كلام وقصدٍ، واستلطافٍ، بفعل أَو قولٍ. يقال: خطبها يخطبها خطباً، أو خطبةً، ورجل خَطّاب كثيرُ التصرفِ في الخطبةِ، والخطيبُ: الخاطِبُ، والخِطِّيبَى: الخِطْبة، والخطبة فعلهُ: كجلسةٍ، وقعدةٍ، وخُطبة - بضمِّ الخاءِ - هي الكلامُ الذي يقال في النكاح، وغيره. قال النحاس: «والخُطبة» ما كان لها أَوَّل وآخر، وكذلك ما كان على فعله، نحو الأَكلة، والضَّغطَة. فصل في جواز التعريض بالخطبة في عدة الوفاة التعريضُ بالخطبة مباحٌ في عدَّة الوفاة، وهو أَنْ يقول: رُبَّ راغبٍ فيك، ومَنْ يجدُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 198 مثلك، إنَّك لجميلة إنَّك لصالِحَةٌ، إنّك عليّ كريمةٌ، إنِّي فيك لراغِبٌ، وإن مِنْ غرضي أَنْ أَتزوَّج، وإِنْ جمع اللهُ بيني وبينك بالحلالِ أعجبتني، وإِنْ تزوَّجتُك لأُحسن إليك، ونو ذلك من الكلامِ، من غير أَنْ يقول: أَنْحكيني. والمرأةُ تجيبه بمثله، إِنْ رغبتْ فيه. وقال إبراهيم: لا بأس أَنْ يُهدي لها ويقوم بشغلها في العدة، إذا كانت غير شابةٍ. روي أَنَّ سُكَيْنةَ بنت حنظلة؛ بانت من زوجها، فدخل عليها أَبُو جعفرٍ محمَّد بن علي الباقر في عِدّتها، وقال: يا ابنة حنظلة، أنا مَنْ قد عَلِمْت قرابتي مِنْ رسولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحقَّ جَدِّي عليِّ، وقدَمي في الإسلام، فقالت له سُكينة: أَتخطبني وأنا في العدَّة، وأَنْتَ يؤخذُ عنك؟ فقال أو قد فعلت؟ إِنَّما أخبرتُك بقرابتي مِنْ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وقد دخل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على أُمِّ سلمة، وهي في عِدَّةٍ من زوجها، أبي سلمة، فذكر لها منزلتهُ مِنَ الله - عَزَّ وَجَلَّ َّ - وهو متحامِلٌ على يده؛ حتَّى أثَّر الحصيرُ في يده من شدَّة تحامله على يده. فصل والنٍّساء في حكم الخِطبة على ثلاثة أقسامٍ: الأول: التي يجوز خِطْبتُها تعريضاً، وتصريحاً، وهي الخاليةُ عن الأَزْوَاجِ والعدد إلاَّ أَنْ يكونَ خطبها غيره؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا يَخْطِبَنَّ أَحَدُكُمْ عَلَى خِطْبَةِ أَخِيْهِ» ، وهذا الحديثُ وإِنْ كان مطلقاً ففيه ثلاثةُ أجوالٍ: الحالة الأولى: أَنْ يخطب الرجلُ، فيجاب صريحاً؛ فهاهنا لا يَحِلُّ لغيره أَنْ يخطبها. الحالة الثانية: أَنْ يُجابَ بالردِّ صريحاً؛ فها هنا يَحِلُّ لغيره أَنْ يخطبها. الحالة الثالثة: ألاَّ يوجد صريحُ الإجابة، ولا صريحُ الرَّدِّ؛ فهاهنا فيه خلافٌ. فقال بعضهم تجوزُ خطبتها؛ لأَن السكوتَ لَمْ يدُلَّ على الرِّضا وهو الجديدُ عن الشَّافعيَّ. وقال مالكٌ: لا يجوزث، وهو القديمُ؛ لأنَّ السكوت وإِنْ لم يدُلَّ على الرضا، لكنه لا يدلُّ أيضاً على الكراهة، فربَّمَا حصلت الرغبةُ مِنْ بعضِ الوجوه؛ فتصيرُ هذه الخِطبةُ الثانية مزيلة لذلك القدر من الرغبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 199 القسم الثاني: التي لا تجوز خِطْبتُها؛ لا تصريحاً، ولا تعريضاً، وهي زوجة الغير؛ لأَنَّ خطبتها ربما صارت سبباً لتشويش الأَمر على زوجها، مِنْ حيثُ إنها إذا علمت رغبة الخاطب، فربما حملها ذلك على الامتناع مِنْ تأدية حُقُوق الزوج، والتسبب إلى هذا حرامٌ، والرجعية كذلك؛ لأنها في حكم الزوجة؛ لصحة طلاقها، وظهارها، ولعانها، وعِدَّتُها منه عِدَّة الوفاة إذا مات عنها ويتوارثان. القسم الثالث: أَنْ يفصل في حقِّها بين التعريض، والتَّصريح، وهي المعتدة غير الرجعيَّة، وهي ثلاثة أقسامٍ: الأول: المعتدة عِدَّة الوفاةِ، يجوز خطبتها تعريضاً؛ لقوله تعالى: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء} فظاهره أنها المتوفَّى عنها زوجها؛ لأنها مذكورةٌ عقب تلك الآية، ولمّا خُصِّصَ التعريضُ بعدم الجناح، دلّ على أنّ التصريحَ بخلافشهِ، والمعنى يُؤكِّدُه؛ لأن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فربما حملها الحِرص على النكاح، على الإِخبار بانقضاء العِدَّة قبل أَوانها بخلافِ التعريضِ، فإنَّه يحتمل غير ذلك، فلا يدعوها إلى الكذب. الثاني: المعتدةُ عن الطلاق الثلاث، والبائن باللِّعان والرَّضاع ففي جواز التعريض بخطبتها خلافٌ. فقيل: يجوز التعريض بخطبتها، لأنّها ليست في نكاحٍ، فأشبهت المتوفى عنها. وقيل: لا يجوزُ لأنّ عدتها بالأَقراءِ، فلا يُؤمن عليها الكَذِب في الإخبارِ بانقضاء عدَّتها؛ لرغبتها في الخُطَّاب. الثالث: البائِنُ لطلاقٍ أَوْ فسخٍ، وهي التي يجوزُ لزوجها نكاحُها في عدَّتها كالمختلعة، والتي انفسخ نكاحُها بعيبٍ أو عُنَّةٍ، أَو إعسار نفقةٍ، فهذه يجوزُ لزوجها التصريحُ، والتعريضُ؛ وأَمَّا غيرُ الزوج، فلا يحلُّ له التصريحُ، وفي التعريض خلافٌ، والصحيحُ: أنّه لا يحِلُّ لأنها مُعتدةٌ، تحلُّ للزوجِ أَنْ يستنكحها في عِدَّتها، فلم يحلَّ التعريض لها كالرجعية. وقيل: هي كالمتوفَّى عنها زوجها، والمطلقة ثلاثاً. قوله تعالى: {وْ أَكْنَنتُمْ} «أَوْ» هنا للإباحةِ، أو التخيير، أو التفصيلِ، أو الإِبهامِ على المخاطبِ، «وأَكَنَّ» في نفسِهِ شيئاً، أي: أَخْفَاهُ، وكَنَّ الشيء بثوبٍ ونحوه: أي سَتَرَهُ به، فالهمزةُ في «أَكَنَّ» للتفرقة بين الاستعمالَيْنِ ك «أَشْرَقَتْ، وشَرَقَتْ» . وقال الفراءُ: للعرب في «أَكْنَنْتُ الشَيْءَ» أي: سترتهُ، لغتان: كنَنْتُه، وأَكْنَنْتُه في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 200 الكِنِّ، وفي النَّفْس؛ بمعنى، ومنه {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [القصص: 69] ، و {بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} [الصافات: 49] وفرَّق قومٌ بينهما، فقالوا: كننتُ الشيء، إذا صُنته حتَّى لا تُصيبه آفةٌ، وإن لم يكن مستُوراً يقال: دُرٌّ مكنونٌ وجاريةٌ مكنونةٌ، وبيضٌ مكنونٌ مصونٌ عن التدحرج؛ وأمَّا «أَكْنَنْتُ» فمعناه: أضمرت ويستعمل ذلك في الشيء الذي يُخفيه الإنسانُ، ويستره عن غيره، وهو ضِدُّ أَعْلنتُ وأظهرت، ومفعول «أكنَّ» محذوفٌ يعودُ على «ما» الموصولة في قوله: {فِيمَا عَرَّضْتُمْ} أي: أو أكْنَنْتُمُوهُ، ف {في أَنْفُسِكُمْ} متعلِّقٌ ب {أَكْنَنتُمْ} ، ويضعُفُ جعلُهُ حالاً من المفعولِ المقدَّرِ. فصل في عدوم وجوب الحد بالتعريض استدلَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّه لا يجب الحدُّ بالتعريض بالقذف [لأن الله تعالى لمَّا دفع الجَرَج في التعريض بالنِّكاح، دلَّ على أنَّ التعريض بالقذف] لا يوجب الحد. وأُجيب بأنّ الله - تعالى - لم يحلَّ التصريح بالخطبة في النكاح للمعتدَّة، وأَذِن في التعريض الذي يُفهم منه النكاحُ، فهذه يدلُّ على أَنَّ التعريض يُفهم منه القذف والأعراضِ يجب صيانتها، وذلك يوجب الحدَّ على المعرِّض؛ لئلا يتعرض الفسقةُ إلى أخذ الأَعراضِ بالتعريض الذي يُفهم منه ما يُفهم بالتصريح. فصل في المقصود من الآية والمقصودُ من الآية أَنّه لا حرج في التعريض للمرأة في عِدَّة الوفاة، ولا فيما يُضمره الرجلُ من الرغبة فيها. فإن قيل: إنَّ التعريضَ بالخطبة أعظم حالاً مِنْ أَنْ يميل بقلبه إليها، ولا يذكر باللِّسان شيئاً، فلمّا قدّم جواز التعريض بالخطبة، كان قوله بعد ذلك {أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ} جارٍ مجرى إيضاح الواضحات. فالجواب: ليس المرادُ ما ذكرتم، بل المرادُ أنّه أباح التعريض، وحرّم التصريح في الحالِ، ثم قال: {أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ} والمرادُ: أَنْ يعقد قلبه على أنه سيصرحُ بذلك في المستقبلِ، ففي أوَّل الآيةِ أباح التعريض في الحالِ، وحرَّم التصريح في الحالِ، وها هنا أباح له أن يعقد عليه على أنَّه سيصرِّحُ بذلك بعد انقضاء العدّة، ثم إنّه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك، فقال: «عَلِمَ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ» لأنَّ شهوةَ النفس إذا حصلت للنكاح، لا يكاد يخلُو ذلك المشتهي من العزم، والتَّمَنِّي، فلمّا كان دفع هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 201 الخَاطر، كالشيء الشَّاقِّ أَسقط عنه هذا الحرج، وأباحَ له ذلك، ثُمَّ قال: {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} وهذا الاستدراك فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنه استدراكٌ من الجملةِ قبله، وهي قوله: {سَتَذْكُرُونَهُنَّ} ؛ فإنَّ الذِّكر يقع على أنحاء كثيرةٍ، ووجوهٍ متعددةٍ، فاسْتُدْرِكَ منه وجهُ نُهِيَ فيه عن ذِكْرٍ مخصُوص، ولو لم يُسْتَدْرَكْ، لكانَ من الجائز؛ لاندراجِهِ تحت مطلقِ الذِّكْرِ، وهو نظيرٌ: «زَيْدٌ سَيَلْقَى خَالِداً، ولَكِنْ [لاَ] يواجهُهُ بِشَرٍّ» ، لمَّا كانت أَحوالُ اللقاءِ كثيرةً، من جملتها مواجته بالشَّرِّ، استُدْرِكَتْ هذه الحالةُ من بينها. والثاني: - قاله أبو البقاء -: أنه مستدرَكٌ من قوله: {فِيمَا عَرَّضْتُمْ} وليس بواضحٍ. والثالث: - قاله الزمخشريٌّ - أنَّ المُسْتَدْرَكَ منه جملةٌ محذوفةٌ قبل «لَكِنْ» تقديرُهُ: «فَاذْكُرُوهُنَّ، وَلَكِنْ لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً» وقد تقدَّم أنَّ المعنى على الاستدرَاكِ من الجملةِ قبلَه، فلا حاجة إلى حذف؛ وإنما الذي يحتاجُهُ ما بعدَ «لَكِنْ» وقوعُ ما قبلها من حيث المعنى، لا من حيثُ اللفظُ؛ لأنَّ نَفْيَ المواجهةِ بالشَّرّ يستدعي وقوعَ اللقاءِ. قوله: {سِرّاً} فيه خمسةُ أوجهٍ: أحدها: أن يكونَ مفعولاً ثانياً. والثاني: أنه حالٌ من فاعلِ «تُوَاعِدُوهُنَّ» ، أي: لا تُوَاعِدُوهُنَّ مُسْتَخِفين بذلك. والثالث: أنه نعت مصدرٍ محذوفٍ، أي: مواعدةً سِرّاً. والرابع: أنه حالٌ من ذلك المصدر المُعَرَّف، أي: المواعدةَ مستخفيةً. والخامس: أَنْ ينتصِبَ على الظرف مجازاً، أي: في سِرٍّ. وعلى الأقوالِ الأربعةِ: فلا بُدَّ من حذفِ مفعولٍ، تقديرهُ: لا تُوَاعِدُوهُنَّ نِكَاحاً. والسِّرُّ: ضدُّ الجهرِ: وقيل: يُطْلَقُ على الوَطْءِ، وعلى الزِّننا بخُصُوصيَّةٍ؛ وأنشدوا للحُطَيْئة: [الوافر] 1137 - وَيَحْرُمُ سِرُّ جَارَتِهِمْ عَلَيْهمْ ... وَيَأْكُلُ جَارُهُمْ أُنُفَ القِصَاعِ وقول الآخر - هو الأعشى -: [الطويل] 1138 - وَلاَ تَقْرَبَنَّ جَارَةَ إِنَّ سِرَّهَا ... حَرَامٌ عَلَيْكَ فَانْكِحَنْ أَوْ تَأَبَّدَا وقال الفرزدق: [الطويل] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 202 1139 - مَوَانِعُ لِلأَسْرَارِ إِلاَّ مِنَ أهْلِهَا ... وَيُخْلِفْنَ مَا ظَنَّ الغَيُورُ الْمُشَفْشِفُ أي: الذي شَغفه بهن، يعني: أنهنَّ عفائفُ يمنعن الجماعَ إلاَّ من أَزواجِهِنَّ؛ وقال امرؤ القيس: [الطويل] 1140 - أَلاَ زَعَمَتْ بَسْبَاسَةُ اليَوْمَ أَنَّني ... كَبِرتُ وَأَلاَّ يُحْسِنُ السَّرَّ أَمْثَالِي فصل في بيان السر في الآية اختلفوا في السِّرِّ هنا، فقال قومٌ: هو الزِّنا، كان الرجلُ يدخل على المرأةِ مِنْ أجلِ الزِّنْيَة وهو يُعرِّضُ بالنِّكاح، ويقول لها: دعيني أُجامِعْكِ، فإذا وَفَيْتِ عشدَّتك، أظهرتُ نكاحك قاله الحسن، وقتادة، وإبراهيم، وعطاءٌ، ورواه عطيةٌ عن ابن عباس. وقال زيد بن أسلم: أي: لا يُنْكِحها سرّاً فيمسكها فإذا حلّت، أظهرت ذلك. وقال مجاهدٌ: هو قول الرجل لا تفوِّتيني بنفسك، فإنِّي ناكِحُك. وقال الشعبيُّ، والسدِّيُّ: لا يؤخَذُ ميثاقها، ألاَّ ينكح غيرها. وقال عكرمة: لا يخطبها في العِدَّة. وقال الكلبيُّ ورُوِيَ عن ابن عباس: أي تصفُوا أنفُسكم لهُنَّ بكثرةِ الجماع، فيقول آتيتك الأَربعة والخَمْسة، وأشباه ذلك، وإنما قيل للزِّنا والجماع سِرّاً؛ لأنه يكون في خفاءٍ بين الرجل والمرأةِ. فصل في كراهة المواعدة في العدّة حكى القرطبيُّ، عن ابن عطيَّة، قال: أجمعتِ الأُمَّةُ على كراهة المواعدة في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 203 العدة للمرأة في نفسها، وللأَبِ في ابنته البِكْر، والسيّد في أمتِه. قال ابن المواز: وأمّا الوليّ الذي لا يملكُ الجبر، فأكرهُهُ. وقال مالكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ ُ - فيمَنْ يواعد في العدَّة، ثم يتزوج بعدها: فراقها أَحَبُّ إليّ، دخل بها، أو لم يدخل، وتكون تطليقةً واحدةً هذه رواية ابن وهبٍ، وروى أشهب عن مالكٍ، أنّه يفرِّق بينهما إيجاباً، وقاله ابنُ القاسِمِ، وحكى ابن الحارِث مثلهُ عن ابن الماجشون، ورأى ما يقتضي أَنَّ التحريم يتأبدُّ، وقال الشافعيُّ إِنْ صرَّح بالخطبة، وصرَّحت له بالإجابة، ولم ينعقد النكاح [حتى] تنقضي العِدَّة، فالنكاح ثابت [والتصريح لهما مكروهٌ] قوله: {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ} في هذا الاستثناءِ قولان: أحدهما: أنه استثناءٌ منقطع؛ لأنه لا يندرج تحت «سِرّ» على أيِّ تفسيرٍ فَسَّرْتَه به، كأنه قال لكنْ قولُوا قولاً معروفاً. والثاني: أنه متصلٌ، وفيه تأويلان ذكرهما الزمخشري فإنه قال: فَإِنْ قلتَ: بِمَ يَتَعَلَّقُ حرفُ الاستثناء؟ [قلتُ] : ب {لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ} ، أي: لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً قطٌّ إلا مواعدةً معروفةً غيرَ مُنْكَرَةٍ، أو لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إلا بأَنْ تقولوا، أي: لا تواعِدُوهُنَّ إلاَّ بالتعريضِ، ولا يكونُ استثناءً منقطعاً من «سِرّاً» ؛ لأدائِهِ إلى قولك: «لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إلاَّ التعرِيضَ» انتهى، فجعلَهُ استثناءً متصلاً مُفَرَّغاً على أحدِ تأويلين: الأول: أنه مستثنىً من المصدرِ؛ ولذلك قدَّره: لا تواعِدُوهُنَّ مواعدةً إلاَّ مواعدةً معروفةً. والثاني: أنه من مجرور محذوفٍ؛ ولذلك قَدَّره ب «إِلاَّ بَأَنْ تَقُولُوا» ؛ [لأنَّ التقدير عنده: لا تُوَاعِدُوهُنَّ بشيءٍ، إلا بَأَنْ تقولُوا، ثم أَوْضَحَ قوله بأنْ تَقُولُوا] بالتعريض، فلمَّا حُذِفَت الباءُ من «أَنْ» ، وهي باءُ السببيةِ بقي في «أَن» الخلافُ المشهورُ بعد حذفِ حرفِ الجرِّ، هل هي في محلِّ نصبٍ أم جَرٍّ؟ وقوله: «لأدائِهِ إلى قولك ... إلى آخره» يعني أنه لا يصِحُّ تسلُّط العامِل عليه، فإنَّ القولَ المعروفَ عندَهُ المرادُ به التعريضُ، وأنت لو قلْتَ: «لاَ تُوَاعِدُوهُنَّ إِلاَّ التَّعْرِيض ليس مواعداً. وردَّ عليه أبو حيان: بأنَّ الاستثناء المنقطع ليس مِنْ شرطِهِ صحَّةُ تسلُّطِ العامِل عليه، بل هو على قسمين: قسم يَصِحُّ فيه ذلك، وفيه لغتان: لغةُ الحجازِ وجوبُ النصب مطلقاً، نحو:» مَا جَاءَ أَحَدٌ إِلاَّ حِمَاراً «ولغةُ تميم إجراؤه مجرى المتصل، فيجرونَ فيه النصبَ والبدلية بشرطه. وقِسْم لا يصحُّ فيه ذلك، نحو:» مَا زَادَ إِلاَّ مَا نَقَصَ «، و» مَا نَفَعَ إِلاَّ مَا ضَرَّ «، وحكمُ هذا النّصبُ عند العرب قاطبةً، فالقسمان يشتركان في التقديرِ ب» لَكِنْ «عند البصريين، إلاَّ أنَّ أحدهما يصحُّ تسلُّط العامِل عليه في قولك:» مَا جَاءَ أَحَدٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 204 إِلاَّ حِمَار «لو قلت:» مَا جَاءَ إِلاَّ حِمَارٌ «، صَحَّ؛ بخلافِ القسمِ الثاني؛ فإنَّه لا يتوجَّه عليه العامل وقد تقدم البحثُ في مثل هذا كثيراً. فصل في القول المعروف ما هو؟ قال بعضُ المفسرين: هو التعريض بالخطبة. وقال آخرون: لمّا أُذِن في أوّل الآيةِ بالتعريض، ثم نهي عن المسارَّة معها؛ دفعاً للريبةِ، استثني منه المسارَّة بالقولِ بالمعروفِ، وهو أَنْ يعدها في السرِّ بالإحسان إليها، والاهتمام بشأنها، والتكفُّل بمصالحها؛ حتى يصير ذِكرُ هذه الأَشياء الجميلة، مُؤكَّداً لذلك التعريض. قوله: {وَلاَ تعزموا} في لفظ» العَزْمِ «وجوه: الأول: أنّه عبارةٌ عن عقدِ القلب على فعلٍ من الأَفعالِ، قال تعالى: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [آل عمران: 159] فلا بُدَّ في الآيةِ من إضمار فعلٍ، وهذا اللفظ إنما يُعَدَّى للفعل بحرفِ» عَلَى «فيقال: فلان عزم على كذا، فيكونُ تقدير الآيةِ:» ولا تَعْزمُوا على عُقدة النكاح حتى يبلُغَ الكِتَابث أَجَلَهُ «والمقصودُ منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العِدَّة، فإنّ العزم متقدمٌ على المعزوم عليه، فإذا ورد النهي عن الإِقدام على المعزوم عليه كان أولى. الثاني: أنَّ العزم عبارةٌ عن الإِيجاب، يقال: عزمتُ عليكم، أي: أَوجبتُ، ويقال هذا من باب العزائم، لا من باب الرُّخَصِ؛ وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -» عَزْمَةٌ مِنْ عَزَائِمِ رَبِّنَا «وقال:» إِنَّ اللهَ تَعالى يُحِبُّ أَنْ تُؤْتَى رُخْصُهُ كَمَا تُؤْتَى عَزَائِمُهُ « ، فالعزمُ بهذا المعنى جائزٌ على الله تعالى، وبالوجه الأول لا يجوز. وإذا ثبتَ هذا فنقولُ: الإيجابُ سببُ الوجود ظاهراً، فلا يبعد أَنْ يُستفاد لفظ العزمِ من الوجودِ، وعلى هذا فقوله: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح} ، أي: لا تحقِّقُوا، ولا تُنْشئَوا، ولا تُفرِّعوا منه فعلاً؛ حتى يبلغ الكتابُ أَجَلَهُ وهذا اختيارُ أَكْثَر المحققين. الثالث: قال القفَّال: إنما لم يقُلْ: ولا تعزِمُوا على عقدةِ النكاح؛ لأن معناهُ: ولا تعقدوا عُقْدة. قال القرطبيُّ: عزم الشيء عليه قال تعالى: {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق} [البقرة: 227] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 205 وقال هنا: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح} . وحكى سيبويه: ضُرِبَ فلانٌ الظهر والبطنَ أي: «عَلَى» . قال سيبويه: والحذفُ في هذه الأَشياء لا يقاسُ عليه. وقال النحاسُ: ويجوز أَنْ يكون ولا تعقِدُوا عُقدة النكاح؛ لأَنَّ معنى «تَعْزِمُوا» و «تَعْقِدُوا» واحدٌ. ويقال: تعزُمُوا، بضم الزاي. فصل اعلم أنَّ الإِنسان إذا فعل فعلاً فلا بُدَّ أَنْ يتقدَم ذلك الفعلَ ستُّ مُقَدِّماتٍ. الأولى: أن يسنح له ذلك الفعل، ومعنى «يَسْنَحْ له» : أن يَجْنح إلى فعله، ويعرضُ له فعله. وثانيها: أَنْ يفكِّر في فعله، بمعنى أن يفعله، أم لا. وثالثها: أن يخطِرَ بباله فعله، بمعنى أنه يترجَّحُ فعله على تركه. ورابعها: أن يريدُ فِعْلَهُ. وخامسها: أَنْ يَهمّ بفعله، وهو عزمٌ غيرَ جازِمٍ. وسادسها: أَنْ يعزِم عَزْماً جازِماً فيفعله. فصل في أصل العقد وأَصل العقد: الشدُّ، والمعهود، والأنكحةُ تُسمَّى عُقُوداً لأنها تعقد كعقود الحبل في التوثيق. قوله: «عُقْدَةَ» في نصبه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مفعولٌ به على أنه ضمَّن «عَزَمَ» معنى ما يتعدَّى بنفسه، وهو: تَنْوُوا أو تُبَاشِرُوا، ونحو ذلك. والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر، وهو «عَلَى» ؛ فإنَّ «عَزَمَ» يتعدَّى بها، قال: [الوافر] 1141 - عَزَمْتُ عَلَى إقَامةِ ذِي صَبَاحٍ ... لأَمْرٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ وحذفها جائز، كقول عنترة، [الكامل] 1142 - وَلَقَدْ أَبِيتُ عَلَى الطَّوَى وَأظَلُّهُ ... حَتَّى أَنَالَ بِهِ كَرِيمَ المَطْعِمِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 206 أي: وَأَظَلُّ عليه. والثالث: أنه منصوبٌ على المصدر؛ فإنَّ المعنى: ولا تعقدوا عقدة؛ فكأنه مصدرٌ على غير الصَّدر؛ نحو: قعدت جلوساً، والعقدة مصدرٌ مضاف للمفعول، والفاعل محذوفٌ، أى: عُقْدتكم النِّكاح. قوله تعالى: {حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} فى «الكتاب» وجهان: أحدهما: أن المراد به المكتوب، والمعنى: حتى تبلغ العدَّة المفروضة آخرها. الثانى: أن يكون المراد «الكتابَ» نفسه، لأنه فى معنى الفرض؛ كقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة: 183] فيكون المعنى: حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته، وقال تعالى: {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103] أى: مفروضة. قال القرطبى: وقيل: فى الكلام حذف، أى: حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، فالكتاب على هذا المعنى بمعنى القرآن. ثم قال تعالى: {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ} وهذا تنبيه على أنّه تعالى لمّا كان عالماً بالسرّ، والعلانية؛ وجب الحذر منه فى السرِّ، والعلانية، فالهاء فى «فاحذروه» تعود على الله تعالى، ولا بدَّ من حذف مضاف، أى: فاحذروا عقابه. ويحتمل أن تعود على «مَا» فى قوله «مَا فِى أَنْفُسِكُمْ» بمعنى ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز، قاله الزمخشريُّ. ثم قال: {واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي: لا يعجِّل بالعقوبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 قوله: «مَا لَمْ» فى «مَا» ثلاثة أقوالٍ: أظهرها: أن تكون مصدريةً ظرفيةً، تقديره: مدَّة عدم المسيس، كقوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} [هود: 107] وقوله: {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] . وقول الآخر: [الكامل] 1143 - إِنِّي بِحَبْلِكَ وَاصِلٌ حَبْلِي ... وَبِرِيشِ نَبْلِكَ رَائِشٌ نَبْلِي مَا لَمْ أَجِدْكَ عَلَى هُدَى أَثَرٍ ... يَقْرُو مَقَصَّكَ قَائِفٌ قَبْلِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 207 والثاني: أن تكون شرطيةً، بمعنى «إِنْ» نقله أبو البقاء. وليس بظاهرٍ؛ لأنه يكون حينئذٍ من باب اعتراض الشرط على الشرط، فيكون الثانى قيداً فى الأول؛ نحو: «إِنْ تَأْتِ إِنْ تُحْسِنْ إِلَيَّ أُكْرِمْكَ» أي: إن أتيت محسناً، وكذا فى الآية الكريمة: إن طلَّقتموهنَّ غير ماسِّين لهنَّ، بل الظاهر: أنَّ هذا القائل إنما أراد تفسير المعنى؛ لأنَّ «مَا» الظرفية مشبَّهة بالشرطيَّة، ولذلك تقتضي التعميم. والثالث: أن تكون موصولة بمعنى «الَّذِي» ، وتكون للنساء؛ كأنه قيل: إن طلَّقتم النِّساء اللاَّئى لم تمسُّوهنَّ، وهو ضعيفٌ، لأنَّ «مَا» الموصولة لا يوصف بها، وإن كان يوصف ب «الَّذِي» ، و «الَّتي» ، وفروعهما. وقرأ الجمهور: «تَمَسُّوهُنَّ» ثلاثيّاً وهى واضحةٌ؛ لأن الغشيان من فعل الرجل؛ قال تعالى حكاية عن مريم {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20] . وقرأ حمزة والكسائيُّ فى الأحزاب «تُمَاسُّوهُنَّ» من المفاعلة، فيحتمل أن يكون «فَاعَلَ» بمعنى «فَعَلَ» ك «سَافَرَ» ، فتوافق الأولى، ويحتمل أن تكون على بابها من المشاركة؛ كما قال تعالى: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3] ، وأيضاً: فإنَّ الفعل من الرجل والتمكين من المرأة، ولذلك قيل لها زانيةٌ، ورجَّح الفارسيّ قراءة الجمهور؛ بأنَّ أفعال هذا الباب كلَّها ثلاثيّةٌ؛ نحو: نَكَحَ، فَرَعَ، سَفَدَ، وضَرَبَ الفَحْلُ. قال تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} [الرحمن: 74] ، وقال: {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [النساء: 25] ، وأمّا قوله فى الظّهار: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3] فالمراد به المماسَّة التى هي غير الجماع، وهي حرام فى الظهار. قوله: {أَوْ تَفْرِضُواْ} فيه أربعة أوجهٍ: أحدها: أنه مجزوم عطفاً على «تَمَسُّوهُنَّ» ، و «أَوْ» على بابها من كونها لأحد الشيئين، قاله ابن عطيَّة. والثاني: أنه منصوب بإضمار «أَنْ» عطفاً على مصدر متوهِّم، و «أَوْ» بمعنى «إِلاَّ» ، التقدير: ما لم تَمَسُّوهُنَّ إلا أن تفرضوا؛ كقولهم: «لأَلْزَمَنَّكَ أَوْ تَقْضِيَني حَقِّي» قاله الزمخشريُّ. والثالث: أنه معطوف على جملةٍ محذوفةٍ، تقديره: «فَرَضْتُمْ أَوْ لَم تَفْرِضُوا» ، فيكون هذا من باب حذف الجزم وإبقاء عمله، وهو ضعيفٌ جدًّا، وكأنَّ الذي حسَّن هذا كون لفظ «لَمْ» موجوداً قبل ذلك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 208 والرابع: أن تكون «أَوْ» بمعنى الواو. قال تعالى: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] أي: وهم قائلون {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] أي: ويزيدون، وقوله: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] وقوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى} [النساء: 43] معناه وجاء أحدٌ منكم من الغائط، وأنتم مرضى أو مسافرون. قال ابن الخطيب: فإذا تأمَّلت هذا القول، علمت أنّه متكلفٌ، بل خطأٌ قطعاً، والفرض في اللغة: التقدير، أي: تقدِّروا لهن شيئاً. قوله: «فَرِيضَةً» فيه وجهان: أظهرهما: أنه مفعولٌ به، وهو بمعنى مفعولة، أي: إلاَّ أن تفرضوا لهنَّ شيئاً مفروضاً. والثاني: أن تكون منصوبةٌ على المصدر بمعنى فرضاً، واستجود أبو البقاء الوجه الأول؛ قال: «وأَنْ يكونَ مفعولاً به، وهو الجَيِّدُ» والموصوف محذوفٌ، تقديره: متعةً مفروضةً. فصل في سبب النزول هذه الآية نزلت في رجلٍ من الأنصار تزوج امرأة من بنى حنيفة ولم يسمِّ لها مهراً، ثم طلَّقها قبل أن يمسَّها؛ فنزلت هذه الآية؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَتِّعْهَا وَلَوْ بِقَلَنْسُوَتِك» . قوله: «وَمَتِّعُوهُنَّ» : قال أبو البقاء: «وَمَتِّعُوهِنَّ» معطوف على فعل محذوفٍ، تقديره: «فَطلِّقوهنَّ ومتِّعوهنَّ» ، وهذا لا حاجة إليه؛ فإنَّ الضمير المنصوب في «مَتِّعُوهُنَّ» عائدٌ على المطلَّقات قبل المسيس، وقبل الفرض، المذكورين في قوله: {إِن طَلَّقْتُمُ النسآء ... } إلى آخرها. فإن قيل: ظاهر الآية مشعرٌ بأن نفي الجناح عن المطلق مشروطٌ بعدم المسيس، وليس كذلك، فإنّه لا جناح عليه - أيضاً - بعد المسيس. فالجواب من وجوه: الأول: أنّ الآية دالةٌ على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقاً في زمان الحيض، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 209 وغيره؛ فكان عدم المسيس شرطاً في إباحة الطلاق مطلقاً. الثاني: ما قدمناه من أنَّ «مَا» بمعنى «الذي» ، والتقدير: إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسُّوهنَّ؛ إلاَّ أنَّ «ما» اسمٌ جامدٌ لا ينصرف، ولا يبين فيه الإعراب، وعلى هذا فلا تكون «مَا» شرطاً فزال السؤال. الثالث: قال القفال: إن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر، وتقديره: لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسُّوهنَّ أو تفرضوا لهنَّ فريضة، يعني: لا يجب المهر إلاّ بأحد هذين الأمرين، فإذا فقدا جميعاً لم يجب المهر. قال ابن الخطيب: وهذا ظاهر، وبيان أنّه قوله: «لاَ جُنَاحَ» معناه: لاَ مَهْرَ؛ لأنَّ إطلاق لفظ «الجنَاحِ» على المهر محتملٌ؛ لأن أصل الجناح في اللغة: الثقل، يقال: جَنَحتِ السفينة، إذا مالت بثقلها، والذنب يسمَّى جناحاً؛ لما فيه من الثِّقل، قال تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] ، وإذا ثبت أن الجناح هو الثقل، ولزوم أداء المال ثقل، فكان جُنَاحاً، ويدلُّ على أنَّ هذا هو المراد وجهان: الأول: أنه تعالى قال: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} نفى الجناح محدوداً إلى غاية، وهي إمَّا المسيس، أو الفرض والتقدير، فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين، ثم إنَّ الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين، هو لزوم المهر. الوجه الثاني: أنَّ تطليق النساء قبل المسيس، وبعد تقدير المهر، وهو المذكور في الآية التي بعدها، هو تقدير المهر، وقد أوجب فيه نصف المهر وهذا كالمقابل له، فوجب أن يكون الجناح المنفي عنه هناك، هو المثبت ها هنا، فلما كان المثبت في الآية التي بعدها، هو لزوم المهر، وجب أن يقال: الجناح المنفي في هذه الآية هو لزوم المهر. قوله: {لَى الموسع قَدَرُهُ} جملةٌ من مبتدأ وخبر، وفيها قولان: أحدهما: أنها لا محلَّ لها من الإعراب، بل هي استئنافيةٌ بيَّنت حال المطلِّق بالنسبة إلى إيساره وإقتاره. والثاني: أنها في موضع نصب على الحال، وذو الحال فاعل «مَتِّعُوهُنَّ» . قال أبو البقاء: «تقديره: بقَدر الوُسْعِ» ، وهذا تفسير معنًى، وعلى جعلها حاليةً: فلا بدَّ من رابطٍ بينها وبين صاحبها، وهو محذوفٌ، تقديره: على المُوسِع مِنْكُمْ، ويجوز على مذهب الكوفيين ومن تابعهم: أن تكون الألف واللام قامت مقام الضمير المضاف إليه، تقديره: «عَلَى مُوسِعِكُمْ قَدَرُهُ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 210 وقرأ الجمهور: «المُوسِعِ» بسكون الواو وكسر السين، اسم فاعل من أوسَعَ يُوسِعُ، وقرأ أبو حيوة بفتح الواو وتشديد السين، اسم مفعولٍ من «وَسَّعَ» . وقرأ حمزة والكسائيُّ وابن ذكوان وحفصً: «قَدَرهُ» بفتح الدال في الموضعين، والباقون بسكونها. واختلفوا: هل هما بمعنًى واحدٍ، أو مختلفان؟ فذهب أبو زيد والأخفش، وأكثر أئمة العربية إلى أنهما بمعنًى واحدٍ، حكى أبو زيدٍ: «خُذْ قَدَرَ [كَذَا] وقَدْرَ كَذَا» ، بمعنًى واحدٍ، قال: «ويُقْرَأُ في كتاب الله: {فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17] ، و» قَدْرِهَا «، وقال: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] ولو حركت الدال، لكان جائزاً. وذهب جماعةٌ إلى أنهما مختلفان، فالساكن مصدرٌ والمتحرك اسمٌ؛ كالعدِّ والعدد، والمدِّ والمدد، وكأنَّ القدر بالتسكين الوسع، يقال:» هُوَ يُنْفِقُ عَلَى قَدْرِهِ «أي وسعه، وقيل: بالتَّسكين الطاقة، وبالتحريك المقدار، قال أبو جعفر:» وَأَكثرُ ما يُسْتَعْمَل بالتحْرِيكِ، إذا كان مساوياً للشيء، يقال: هَذَا عَلَى قَدَرِ هَذَا «. وقرأ بعضهم بفتح الراء، وفي نصبه وجهان: أحدهما: أن يكون منصوباً على المعنى. قال أبو البقاء: وهو مفعولٌ على المعنى؛ لأنَّ معنى» مَتِّعُوهُنَّ « [لِيُؤَدِّ كُلٍّ مِنْكُمْ قَدَرَ وُسْعِهِ» وشرح ما قاله: أن يكون من باب التضمين، ضمَّن «مَتِّعُوهُنَّ» ] معنى «أَدُّوا» . والثاني: أن يكون منصوباً بإضمار فعلٍ، تقديره: فأوجبوا على الموسع قدره، وجعله أبو البقاء أجود من الأول، وفي السَّجاونديِّ: «وقال ابن أبي عبلة: قَدَرَهُ، أي: قَدَرَهُ اللهُ» انتهى. وظاهر هذا: أنه قرأ بفتح الدال والراء، فيكون «قَدَرَهُ» فعلاً ماضياً، وجعل فيه ضميراً فاعلاً يعود على الله تعالى، والضمير المنصوب يعود على المصدر المفهوم من «مَتِّعُوهُنَّ» ، والمعنى: أنَّ الله قدر وكتب الإمتاع على الموسع وعلى المقتر. قوله: «مَتَاعاً» في نصبه وجهان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 211 أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدر، وتحريره أنه اسم مصدرٍ؛ لأنَّ المصدر الجاري على صدره إنَّما هو التمتيع، فهو من باب: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] . وقال أبو حيَّان: قالوا: انتصَبَ على المصدرِ؛ وتحريرُهُ: أن المتاع هو ما يمتع به، فهو اسمٌ له، ثم أطلق على المصدر؛ على سبيل المجاز، والعامل فيه: «وَمَتِّعُوهُنَّ» قال شهاب الدين: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ المعهود أن يطلق المصدر على أسماء الأعيان؛ كضربٍ بمعنى مضروبٍ، وأمَّا إطلاق الأعيان على المصدر، فلا يجوز، وإن كان بعضهم جوَّزه على قلَّةٍ؛ نحو قولهم: «تِرْباً وَجَنْدَلاً» و «أَقَائِماً، وَقَدْ قَعَدَ النَّاسُ» ، والصحيح أن «تِرْباً» ونحوه مفعولٌ به، و «قائماً نصبٌ على الحال. [والثاني من وجهي» مَتَاعاً «أن ينتصب على الحال] ، والعامل فيه ما تضمَّنه الجارُّ والمجرور من معنى الفعل، وصاحب الحال ذلك الضمير المستكنُّ في ذلك العامل، والتقدير: قدر الموسع يستقرُّ عليه في حال كونه متاعاً. قوله:» بالمعروف «فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّق ب» مَتِّعُوهُنَّ «، فتكون الباء للتعدية. والثاني: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفةٌ ل» مَتَاعاً «؛ فيكون في محلِّ نصبٍ، والباء للمصاحبة، أي: متاعاً ملتبساً بالمعروف. قوله:» حَقّاً «في نصبه أربعة أوجه: أحدها: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمعنى الجملة قبله؛ كقولك:» هَذَا ابْنِي حَقّاً «وهذا المصدر يجب إضمار عامله، تقديره: حَقَّ ذلك حقّاً، ولا يجوز تقديم هذا المصدر على الجملة قبله. والثاني: أن يكون صفةً ل» مَتَاعاً «، أي: متاعاً واجباً على المحسنين. والثالث: أنه حالٌ ممَّا كان حالاً منه» مَتَاعاً «وهذا على رأي من يجيز تعدُّد الحال. والرابع: أن يكون حالاً من» المَعْرُوفِ «، أي: بالذي عرف في حال وجوبه على المحسنين، و» عَلَى المُحْسِنِينَ «يجوز أن يتعلَّق ب» حَقًّا «؛ الواجب، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ له. فصل اعلم أن المطلقات أربعة أقسام: القسم الأول: وهو ألاَّ يؤخذ منهم على الفراق شيءٌ ظلماً، وأخبر أن لهن كمال المهر، وعليهن العدَّة. القسم الثاني: المطلقة قبل الدُّخول، وقد فرض لها - وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه - وبيَّن أنَّ لها نصف المفروض لها، وبيّن في سورة الأحزاب أنَّ لا عدَّة على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 212 غير المدخول بها؛ فقال: {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] . القسم الرابع: المطلقة بعد الدُّخول، ولم يكن فرض لها، وحكم هذا القسم، مذكورٌ في قوله تعالى: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [النساء: 24] . والقياس أيضاً يدلّ عليه، فإنّ الأمَّة مجمعةً على أن الموطوءة بشبهةٍ لها مهر المثل، والموطوءة بنكاحٍ صحيحٍ، أولى بهذا الحكم. فصل تمسك بعضهم بهذه الآية على أنَّ جمع الثلاثة ليس بحرامٍ، قالوا: لأن قوله: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء} يتناول جيميع أنواع التطليق بدليل أنّه يصحُّ استثناء الثلاث منها، فيقال: لا جناح عليكم إن طلَّقتم النساء إلاّ إذا طلَّقتموهنَّ بثلاث تطليقاتٍ فإنّ عليكم الجناح، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، وعلى هذا فتتناول هذه الآية جميع أنواع التطليق مفرداً أو مجموعاً. قال ابن الخطيب: وهذا الاستدلال ضعيفا؛ لأن الآية دالَّةٌ على تحصيل هذه الماهيَّة في الوجود، ويكفي في العمل بها إدخاله في الوجود مرَّةً واحدةً، ولهذا قلنا: إنَّ الأمر المطلق لا يفيد التكرار، كما إذا قال لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالقٌ، فإن اليمين انعقدت على المرّة الواحدة فقط، فثبت أنَّ هذا اللفظ لا يتناول حالة الجمع، وأمَّا الاستثناء فإنَّه يشكل بالأمر، لأنّه لا يفيد التكرار بالاتفاق من المحقّقين، مع أنَّه يصحُّ أن يقال: صلِّ إلاَّ في الوقت الفلانيّ. فصل في جواز عقد النكاح بغير مهر قال بعض العلماء: دلَّت هذه الآية على أنَّ عقد النكاح بغير المهر جائزٌ. وقال القاضي: لا تدلُّ على الجواز، لكنها تدلُّ على الصِّحة، فإنّه لو لم يكن صحيحاً، لم يكن الطلاق مشروعاً، ولم تلزم المتعة، ولا يلزم من الصِّحة الجواز، بدليل أنّ الطلاق في زمن الحيض حرامٌ وإذا أوقعه صحَّ. فصل بيَّن في هذه الآية أن المطلقة قبل الدخول والفرض، لها المتعة، وقد تقدّم تفسير « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 213 المُتْعَةِ» في قوله: {فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة} [البقرة: 196] . واعلم أنَّ المطلَّقة قبل الدخول، إن كان قد فرض لها، فلا متعة لها في قول الأكثرين؛ لأن الله تعالى أوجب في حقِّها نصف المهر، ولم يذكر المتعة، ولو كانت واجبةً، لذكرها. وإن لم يكن فرض لها فلها المتعة؛ لهذه الآية. قال القرطبي: من جهل المتعة حتَّى مضت أعوامٌ، فليدفع ذلك إليها، وإن تزوَّجت، وإلى ورثتها إن ماتت، رواه ابن المواز، عن ابن القاسم. وقال أصبغ: لا شيء عليه، إن ماتت؛ لأنها تسليةٌ للزوجة عن الطَّلاق، وقد فات ذلك. ووجه الأول: أنه حقٌّ ثبت عليه، فينتقل إلى ورثتها، كسائر الحقوق. واختلفوا في المطلَّقة بعد الدُّخول، فذهب جماعةٌ: إلى أنه لا متعة لها؛ لأنها تستحق المهر، وهو قول أصحاب الرأي. وذهب جماعةٌ: إلى أنَّ لها المتعة؛ لقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف} [البقرة: 241] ، وهو قول عبد الله بن عمر، وبه قال عطاء، ومجاهد، والقاسم بن محمد، وإليه ذهب الشافعيُّ قال: لأنها تستحقُّ المهر بمقابلة إتلاف منفعة البضع، ولها المتعة على وحشة الفراق. وقال الزُّهريُّ: متعتان يقضي بإحداهما السلطان، وهي المطلقة قبل الفرض، والمسيس، وهي قوله: {حَقّاً عَلَى المحسنين} ومتعةٌ تلزمه فيما بينه وبين الله تعالى لا يقضي بها السلطان وهي المطلقة بعد الفرض والمسيس وهي قوله: «حَقّاً عَلَى المتَّقين» . وذهب الحسن، وسعيد بن جبير: إلى أنَّ لكل مطلقةٍ متعةٌ، سواء كان قبل الفرض، والمسيس، أو بعده؛ كقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف} [البقرة: 241] ؛ ولقوله في سورة الأحزاب: {فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] وقال الآخر: المتعة غير واجبةٍ، والأمر بها أو ندبٍ، واستحباب. روي أنَّ رجلاً طلّق امرأته، وقد دخل بها؛ فخاصمته إلى شريح في المتعة؛ فقال شريحٌ: لا تأب أن تكون من المحسنين، ولا تأب أن تكون من المتَّقين، ولم يجبره على ذلك. فصل في بيان مقدار المتعة اختلفوا في قدر المتعة، فروي عن ابن عباس: أعلاها خادمٌ، وأوسطها ثلاثة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 214 أثواب: درع، وخمار، وإزار، ودون ذلك وقاية، أو شيء من الورق. وبه قال الشَّعبيُّ، والزُّهريُّ، وهو مذهب الشافعي، وأحمد. قال الشافعي: أعلاها على الموسع: خادم، وأوسطها: ثوبٌ، وأقلُّها: أقل ماله ثمن حسنٌ ثلاثون درهماً، «وَعَلَى المقتر» مقنعة. وروي عن ابن عباس أنّه قال: أكثر المتعة خادمٌ، وأقلها مقنعة، وأيُّ قدر أدَّى، جاز في جانبي الكثرة، والقلة. وطلَّق عبد الرحمن بن عوف امرأته وجمعها جاريةً سوداء، أي: متَّعها. ومتَّع الحسن بن عليٍّ امراته بعشرة آلاف درهم، فقالت: متاعٌ قليلٌ من حبيبٍ مفارق. وقال أبو حنيفة: المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل، قال: لأن حال المرأة التي يسمَّى لها المهر، أحسن من حال التي لم يسمَّ لها، فإذا لم يجب لها زيادةٌ على نصف المسمَّى، إذا طلَّقت قبل الدُّخول، فلأن لا يجب زيادةٌ على نصف مهر المثل أولى. فصل في دلالة الآية على حال الزوج من الغنى والفقر. دلَّت الآية على أنَّه يعتبر حال الزوج: في الغنى، والفقر؛ لقوله: {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} . وقال بعض العلماء: يعتبر حالهما وهو قول القاضي. وقال أبو بكرٍ الرَّازي: يعتبر في المتعة حال الرجل؛ للآية، وفي مهر المثل حالها، وكذلك في النفقة، واحتج القاضي بقوله: «بالمعروف» فإنّ ذلك يدلُّ على حالهما؛ لأنه ليس من المعروف أن يسوِّي بين الشريفة، الوضيعة. فصل إذا مات أحدهما قبل الدُّخول، والفرض؛ اختلف أهل العلم في أنها هل تستحقُّ المهر، أم لا؟ فذهب عليٌّ، وزيد بن ثابتٍ، وعبد الله بن عمرن وعبد الله بن عباسٍ: إلى أنَّه لا مهر لها، كما لو طلَّقها قبل الفرض، والدخول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 215 وذهب قومٌ إلى أنَّ لها المهر، لأن الموت كالدخول في تقدير المسمَّى، فكذلك في إيجاب مهر المثل، إذا لم يكن في العقد مسمى، وهو قول الثَّوريَّ، وأحمد، وأصحاب الرَّأي. واحتجَّوا بما روى علقمة، عن ابن مسعود: أنَّه سئل عن رجل تزوَّج امرأةً، ولم يفرض لها صداقاً، ولم يدخل بها حتى مات. قال ابن مسعود: لها صداق نسائها؛ لا وكس، ولا شطط؛ وعليها العدَّة، ولها الميراث؛ فقام معقل بن يسار الأشجعيِّ، فقال: «قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بَروعَ بنت واشقٍ - امْرَأَةٍ مِنَّا - مِثْلَ مَا قَضَيْتَ» ، ففرح بها ابن مسعود. وقال الشَّافعيُّ: فإن ثبت حديث بروع بنت واشق، فلا حجَّة في قول أحد دون النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وإن لم يثبت، فلا مهر لها؛ ولها الميراث. وكان عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يقول في حديث بروع: لا تقبل قول أعربيٌّ من أشجع، على كتاب الله، وسنَّة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فصل في اختلافهم في الخلوة إنَّما خصَّ المحسنين؛ لأنهم المنتفعون بهذا البيان، كقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] . وقال أبو مسلم: من أراد أن يكون من المحسنين، فهذا شأنه، وطريقه، والمحسن: هو المؤمن؛ فيكون المعنى: أنَّ العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين، وقيل: «حَقّاً عَلَى المحسنين» إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 هذه الآية في المطلَّقة قبل المسيس المفروض لها؛ فبيَّن أنَّ لها نصف ما فرض لها. واختلف أهل العلم في الخلوة، فقال الشَّافعيُّ: إنها تقرر نصف المهر. وقال أبو حنيفة: الخلوة الصَّحيحة: أن يخلو بها، وليس هناك مانعٌ حسي، ولا شرعيٍّ، فالحسِّي: كالرَّتق، والقرن والمرض أو معهما ثالثٌ. والشرعي: كالحيض، والنُّفاس، وصوم الفرض، وصلاة الفرض، والإحرام المطلق؛ فرضاً كان، أو نفلاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 216 واحتجَّ الشَّافعيُّ: بأن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر؛ لأن قوله تعالى: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ليس كلاماً تاماً، بل لا بدَّ من إضمار، [شيءٍ، ليتم] الكلام، فإمَّا أن يضمر: «فنصفُ مَا فَرضْتُمْ سَاقِطٌ» ، أو يضمر: «فنصفُ مَا فَرَضْتُمْ ثَابِتٌ» ، والإضمار الأوّل هو المقصود؛ لوجوه: أحدها: أنّ المعلّق على الشَّيء بكلمة «إِنْ» عدمٌ عند عدم ذلك الشيء ظاهراً؛ فلو حملناه على الوجوب، تركنا العلم بمقتضى التعليق، لأنّه غير منفي قبله، وإذا حملناه على السقوط، عملنا بمقتضى التَّعليق؛ لأنه منفيٌّ قبله. وثانيها: أنَّ قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} يقتضي وجوب كلِّ المهر عليه، لأنه لمّا التزم كلَّ المهر، لزمه الكلُّ بقوله تعالى: {أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] فلا حاجة إلى بيان ثبوت النصف، وإنَّما المحتاج إليه بيان سقوط النصف؛ لأن المقتضي لوجوب الكل قائمٌ، فكان سقوط البعض ها هنا، هو المحتاج إلى البيان، فكان حمل الآية على بيان السقوط، أولى من حملها على بيان الوجوب. وثالثها: أن الآية الدَّالة على وجوب إيتاء المهر، قد تقدمت في قوله: {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} [البقرة: 229] فحمل الآية على سقوط النِّصف أولى. ورابعها: أن المذكور في هذه الآية، هو الطلاق قبل المسيس، وهو يناسب سقوط نصف المهر، ولا يناسب وجوب شيءٍ، فلمّا كان إضمار السقوط أولى، لا جرم استقصينا هذه الوجوه؛ لأن منهم من قال: معنى الآية: فنصف ما فرضتم واجبٌ، وتخصيص النصف بالوجوب، لا يدلُّ على سقوط الآخر، إلاّ من حيث دليل الخطاب، وهو عند أبي حنيفة ليس بحجَّة. وقد ذكرنا هذه الوجوه؛ دفعاً لهذا السؤال. واستدلَّ أبو حنيفة بقوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] إلى قوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] فنهى تعالى عن أخذ المهر، ولم يفرّق بين الطلاق، وعدم الطَّلاق، إلاَّ إن توافقنا على تخصيص الطلاق قبل الخلوة فمن ادّعى التخصيص - ها هنا - فعليه البيان، وأيضاً فإنّه تعالى نهى عن أخذ المهر، وعلَّل بعلَّة الإفضاء، وهي الخلوة، لأنَّ الإفضاء: مشتقٌّ من الفضاء، وهو المكان الخالي فعلمنا أنَّ الخلوة تقرَّر المهر. والجواب عن ذلك: بأن دليلهم عامٌّ، ودليلنا خاصٌّ، والخاصُّ مقدَّمٌ على العامِّ. قوله تعالى: {وَقَدْ فَرَضْتُمْ} : هذه الجملة في موضع نصب على الحال، وذو الحال يجوز أن يكون ضمير الفاعل، وأن يكون ضمير المفعول؛ لأنَّ الرباط موجودٌ فيهما، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 217 والتقدير: وإن طلقتموهن فارضين لهن، أو مفروضاً لهنَّ، و «فَرِيضَة» فيها الوجهان المتقدمان. والفاء في «فَنِصْفُ» جواب الشرط، فالجملة في محلِّ جزمٍ؛ جواباً للشرط، وارتفاع «نِصْفُ» على أحد وجهين: إمَّا الابتداء، والخبر حينئذٍ محذوفٌ، وإن شئت قدَّرته قبله، أي: فعليكم أو فلهنَّ نصف، وإن شئت بعده، أي: فنصف ما فرضتم عليكم - أو لهنَّ - وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف، تقديره: فالواجب نصف. وقرأت فرقةٌ: فَنِصْفَ «بالنصب على تقدير:» فَادْفَعُوا، أَوْ أَدُّوا «، وقال أبو البقاء:» ولو قُرِئَ بالنصبِ، لكان وجهه فَأَدَّوا [نِصْفَ] «فكأنه لم يطَّلع عليها قراءة مرويَّةً. والجمهور على كسر نون» نِصْف «، وقرأ زيدٌ وعليٌّ، ورواها الأصمعيُّ قراءة عن أبي عمرو:» فَنُصْف «بضمِّ النون هنا، وفي جميع القرآن، وهما لغتان، وفيه لغةٌ ثالثة:» نَصِيف «بزيادة ياءٍ، ومنه الحديث:» مَا بَلَغَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلاَ نَصِيفَهُ «. والنَّصيف - أيضاً -: القناع، قاله القرطبي، والنِّصف: الجزء من اثنين، يقال: نصف الماء القدح، أي: بَلَغَ نِصْفَهُ، ونَصَفَ الإزار السّاق، وكلُّ شيءٍ بلغ نصف غيره، فقد نصفه. و» مَا «في» مَا فَرَضْتُمْ «بمعنى» الَّذِي «، والعائدُ محذوف لاستكمالِ الشروطِ، ويضعفُ جعلُها نكرةً موصوفةً. قوله تعالى: {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ} في هذا الاستثناء وجهان: أحدهما: أن يكونَ استثناءً منقطعاً، قال ابن عطيَّة وغيره: لأنَّ عَفْوَهُنَّ عَنِ النِّصْفِ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ أَخْذِهِنَّ» . والثاني: أنه متصلٌ، لكنه من الأحوال؛ لأَنَّ قوله: «فنصفُ ما فَرَضْتُمْ» معناه: فالواجبُ عليكم نصفُ ما فَرَضْتُمْ في كلِّ حال، إلا في حال عَفْوِهِنَّ، فإنه لا يجب، وإليه نَحَا أبو البقاء، وهذا ظاهرٌ، ونظيرُه: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] وقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 218 أبو حيان «إِلاَّ أَنَّ مَنْ مَنَعَ أَنْ تَقعَ» أَنْ «وصلتُها حالاً، كسيبويه؛ فإنه يمنعُ ذلك، ويكونُ حينئذٍ منقطعاً» . وقرأ الحسن «يَعْفُونَهُ» بهاء مضمومةٍ وفيها وجهان: أحدهما: أنها ضميرٌ يعودُ على النِّصف، والأصلُ: إِلاّض أَنْ يَعْفُونَ عَنْهُ، فحُذِف حرفُ الجَرِّ، فاتصل الضميرُ بالفعلِ. والثاني: أنها هاءُ السكتِ والاستراحةِ، وإنما ضَمَّها؛ تشبيهاً بهاءِ الضميرِ، كقول الآخر [الطويل] 1144 - هُمُ الفَاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... على أحدِ التأويلين في البَيت أيضاً. وقرأ ابن أبي إسحاق: «تَعْفُونَ» بتاءِ الخطابِ، ووجهها الالتفاتُ من ضميرِ الغَيبة إلى الخطابِ، وفائدةُ هذا الالتفاتِ التحضيضُ على عَفْوِهنَّ، وأنه مندوبٌ. و «يَعْفُونَ» منصوبٌ ب «أَنْ» تقديراً؛ فإنَّه مبنيٌّ؛ لاتصاله بنونِ الإِناثِ، هذا رأيُ الجمهور، وأمَّا ابن درستويه، والسُّهَيْليُّ: فإنه عندهما معربٌ، وقد فَرَّق الزمخشريُّ وأبو البقاء بين قولك: «الرِّجَالُ يَعْفُونَ» و «النِّسَاءُ يَعْفُونَ» وإنْ كان [هذا] من الواضحاتِ بأنَّ قولك «الرِّجَالُ يَعْفُونَ» الواو فيه ضميرُ جماعة الذكور، وحُذف قبلها واوٌ أخرى هي لام الكلمة، فإن الأصل: «يَعْفُوونَ» ، فاسْتُقْقلت الضمةُ على الواوِ الأولى، فحُذِفت، فبقيت ساكنةً، وبعدها واو الضمير أيضاً ساكنةٌ، فحُذِفت الواو الأولى؛ لئلاَّ يلتقي ساكنان، فوزنهُ «يَعْفُونَ» ، والنونُ علامة الرفع؛ فإنه من الأمثلةِ الخمسةِ - وأَنَّ قولك: «النِّسَاءُ يَعْفُونَ» ، الواوُ لامُ الفعل، والنون ضميرُ جماعةِ الإِناثِ، والفعل معها مبنيٌّ، لا يظهرُ للعامِل فيه أَثَرٌ قال شهاب الدين: وقد ناقش الشيخ الزمخشريُّ بأنَّ هذا من الواضحات التي بأدنى قراءة في هذا العلم تُعْرَفُ، وبأنه لم يبيِّنْ حذف الواو من قولك: «الرِّجَالُ يَعْفُونَ» ، وأنه لم يذكُرْ خلافاً في بناء المضارع المتَّصلِ بنون الإناث، وكُلُّ هذا سهلٌ لا ينبغي أن يُناقَشَ بمثله. وقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَاْ الذي} «أَوْ» هنا فيها وجهان: أحدهما: هي للتنويع. والثاني: أنها للتخيير، والمشهورُ فتحُ الواو؛ عطفاً على المنصوبِ قبله، وقرأ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 219 الحسن بسكونها واستثقل الفتحة على الواو، فقدَّرها كما يقدِّرها في الألف، وسائرُ العرب على استخفافها، ولا يجوز تقديرها إلا في ضرورةٍ؛ كقوله - هو عامر بن الطُّفَيل -[الطويل] 1145 - فَمَا سَوَّدَتْني عَامِرٌ عَنْ وِرَاثَةٍ ... أَبَى اللهُ أَنْ أَسْمُوْ بَأُمِّ وَلاَ أَبِ ولمَّا سكَّن الواوَ، حُذِفَت للساكن بعدها، وهو اللامُ من «الَّذِي» ، وقال ابنُ عطية «والذي عندي أنه استثقل الفتحةَ على واو متطرِّفةٍ قبلها متحرِّكٌ؛ لقلِّةِ مجيئها في كلامهم» وقال الخليل: «لم يجئ في الكلام واوٌ مفتوحةٌ متطرفةٌ قبلها فتحةٌ إلا قولهم» عَفْوَة «جمع عَفْو» ، وهو ولدُ الحِمَارِ، وكذلك الحركة - ما كانت - قبل الواو المفتوحةِ فإنَّها ثقيلةٌ «انتهى. قال أبو حيَّان: فقوله:» لقلَّةِ مجيئها «، يعني مفتوحةً، مفتوحاً ما قبلَها، وهذا الذي ذكره فيه تفصيلٌ، وذلك أنَّ الحركةَ قبلها: إمَّا أَنْ تكونَ ضمةً، أو كسرةً، أو فتحةً، فإنْ كانَتْ ضمَّةً: فإمَّا أَنْ يكونَ ذلك في اسم أو فعلٍ، فإنْ كان في فعلٍ، فهو كثيرٌ، وذلك جميعُ أمثلةِ المضارع الداخلِ عليها حرف نصبٍ؛ نحو:» لَنْ يَغْزُوَ «، والذي لحِقَه نونُ التوكيد منها؛ نحو» هلَ يَغْزُوَنَّ «، وكذلك الأمر؛ نحو:» اغْزُوَنَّ «، وكذا الماضي على» فَعُلَ «في التعجب؛ نحو: سَرُوَ الرَّجُل؛ حتى إن ذوات الياء تُرَدُّ إلى الواو في التعجُّب، فيقولون:» لَقَضُوَ الرَّجُلُ «، على ما قُرِّرَ في بابِ التصريف، وإنْ كان ذلك في اسم: فإمَّا أن يكونَ مبنيّاً على هاءِ التأنيث، فيكثر أيضاً؛ نحو: عَرْقُوة وتَرْقُوة وقمحدوة، وإنْ كان قبلها فتحة، فهو قليل؛ كما ذكر الخليل، وإن كان قبلها كسرةٌ، قُلِبت الواوُ ياءً؛ نحو: الغازي والغازية، وشَذَّ من ذلك» أَفْرِوَة «جمع» فَرِوَة «، وهي مَيْلَغَةُ الكَلْب، و» سَوَاسِوَة «وهم: المستوون في الشَّرِّ، و» مَقَاتِوَة «جمع مُقْتَو، وهو السائسُ الخادِمُ، وتَلَخَّصَ من هذا أنَّ المراد بالقليل واوٌ مفتوحةٌ متطرِّفة مفْتُوحٌ ما قبلها [في] اسمٍ غير ملتبسٍ بتاءِ التأنيثِ، فليس قولُ ابن عطية» والَّذي عندي إلَى آخره «بظاهر. والمرادُ بقوله: {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} قيل: الزوجُ، وقيلَ: الولِيُّ و «أل» في النكاح للعهدِ، وقيل بدلٌ من الإِضافةِ، أي: نكاحُه؛ كقوله: [الطويل] 1146 - لَهُمْ شِيمَةٌ لَمْ يُعْطِهَا اللهُ غَيْرَهُمْ ... مِنَ الجُودِ، وَالأَحْلاُمُ غَيْرُ عَوَازِبِ أي: أحلامُهم، وهذا رأيُ الكوفيِّين. وقال بعضهم: في الكلامِ حذفٌ، تقديره: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 220 بيده حِلُّ عُقْدَةِ النِّكَاحِ؛ كما قيل ذلك في قوله: {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح} [البقرة: 235] ، أي عَقْدَ عُقْدَةِ النكاح، وهذا يؤيِّد أنَّ المرادَ الزَّوْجُ. فصل فيمن بيده عقدة النكاح المراد بقوله: «يَعفُونَ» أي: المطلقاتُ يعفُون عن أزواجهنَّ، فلا يطالبنهم بنصفِ المهرِ. واختلفوا في {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} فقال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وسعيدُ بن جُبير، والشعبي، وشُرَيحٌ، ومجاهدٌ، وقتادة: هو الزَّوج، وبه قال أبو حنيفة. وقال علقمةُ، وعطاءُ، والحسنُ، والزهريُّ، وربيعةُ: هو الولي، وبه قال أصحابُ الشَّافعيِّ. واحتج الأَوَّلون بوجوهٍ: الأول: أنَّه ليس للولِيّ أَنْ يهب مهرَ وليَّته، صغيرةً كانت، أو كبيرةً. الثاني: أنَّ الَّذي بيد الولِيّ هو عقدُ النكاحِ، فإذا عقد، فقد حصل النكاحُ، والعقدةُ الحاصلةُ بعد العقدِ في يدِ الزَّوج، لا في يدِ الولي. الثالث: روي عن جُبير بن مطعم: أَنَّهُ تزوج امرأةً وطلَّقها قبل أن يدخل بها، فأكمل الصداق، وقال: أنا أحَقُّ بالعفوِ، وهذا يدل على أنّ الصحابةَ فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج. واحتج القائِلون بأنّه الوَلِيُّ بوجوهٍ. أحدها: أن عفو الزوج هو أن يعطيها المهرَ كُلَّهُ، وذلك يكون هبةً، والهبةُ لا تُسمَّى عفواً. وأُجيبوا بأنه كان الغالب عندهم، أَنْ يسوق المهرَ كُلَّه إليها، عند التزوج، فإذا طلّق، فقد استحقَّ المُطَالبة بنصفِ ما ساقَهُ إليها، فإذا ترك المطالبة، فقد عفا عنها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 221 وأيضاً، فالعفو قد يُراد به التسهيلُ، يقال: فلانٌ وجد المالَ عفواً صَفْواً، وقد تقدَّم وجهه في تفسير قوله تعالى: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة: 178] فعلى هذا عفو الرجل: أَنْ يبعث إليها كُلَّ الصداقِ على وجهِ السهُولةِ. الثاني: أَنَّ ذكر الزَّوج، قد تقدَّم في قوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} فلو كان المرادُ ب {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} هو الزوج، لقال: أَوْ تَعْفُو على سبيل المخاطبةِ فلمَّا عبّر عنه بلفظ الغائب، علِمْنا الغائب، علِمْنا أَنَّ المرادَ منه غيرُ الأَزواج. وأجيبوا بأَنَّ سبب العُدُولِ عن الخطاب إلى الغيبة؛ التنبيه على المعنى الذي لأجله رغب الزوج في العقد، والمعنى: أَوْ يَعْفُو الزوج الذي حبسها مالك عقد نكاحها عن الأزواج، ولم يكن منها سبب في الفراق وَإِنَّما فارقها الزوج، فلا جرم كان حقيقاً بأَلاَّ ينقصها من مهرِها شيئاً. الثالث: أَنَّ الزوج ليس بيده عَقْدُ عُقْدة النكاح أَلْبَةَّةَ؛ لأنه قبل النكاح كان أَجْنبيّاً عن المرأة، ولا قُدْرة له على التصرف فيها بوجهٍ من الوجوهِ، وأمَّا بعد النكاح، فقد حصل النكاحُ، ولا قُدْرة له على إيجاد الموجودِ، بل له قدرةٌ على إِزالة النكاح، والله - تعالى - أثبت العفو لمن في يدِه، وفي قُدرته عقد النكاح. قوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ} : «أَنْ تَعْفُوا» في محلِّ رفع بالابتداء؛ لأنه في تأويل «عَفْوُكُمْ» ، و «أَقْرَبُ» خبره، وقرأ الجمهور «تَعْفُوا» بالخطاب، والمرادُ الرجالُ والنساءُ، فغلَّبَ المذكَّر لأنه الأصلُ، والتأنيث، قلتَ: «قَائِمَة» فاللفظ الدالُّ على المذكر هو الأَصل، والدالُّ على المؤنَّثِ فرعٌ عليه، وأمَّا المعنى: فلأَنَّ الكمال للذُّكور، والنُّقصانَ للإِناثِ؛ فلهذا متى اجتمع المذكرُ، والمؤنثُ - غُلِّب التذْكير، والظاهِرُ أنه للأزواج خاصَّةً؛ لأنهم المخاطبون في صدر الآيةِ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً من غائبٍ، وهو قوله: {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} - على قولنا إنَّ المرادَ به الزوجُ -[وهو المختارُ]- إلى الخطابِ الأولِ في صدرِ الآية، وقرأ الشَّعبيُّ وأبو نهيك «يَعْفُوا» بياء من تحت، قال أبو حيَّان جعله غائباً، وجُمِع على معنى: {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} ؛ لأنه للجنس لا يُراد به واحدق يعني أنَّ قوله: «وَأْنْ يَعْفُوا» أصله «يَعْفُوُونَ» ، فلمَّا دخل الناصبُ، حُذِفت نونُ الرفعِ، ثم حُذِفَت الواوُ التي هي لامُ الكلمةِ، وهذه الباقية هي ضميرُ الجماعةِ، جُمِعَ على معنى الموصُول؛ لأنه وإِنْ كان مفرداً لفظاً، فهو مجموعٌ في المعنى؛ لأنه جنسٌ، ويظهر فيه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 222 وجهٌ آخرُ، وهو أن تكونَ الواوُ لامَ الكلمةِ، وفي هذا الفعل ضميرٌ مفردٌ يعودُ على الذي بيده عُقدةُ النِّكَاح، إلا أنه قَدَّر الفتحةَ في الواوِ استثقالاً؛ كما تقدَّم في قراءةِ الحسن، تقديره: وأَنْ يَعْفُو الذي بيده عقدةُ النِّكاح. قوله: {للتقوى} متعلِّقٌ ب «أَقْرَبُ» وهي هنا للتعديةِ، وقيلَ: بل هي للتعليل، و «أَقْرَبُ» تتعدَّى تارةً باللام، كهذه الآيةِ، وتارةً ب «إِلَى» ؛ كقوله تعالى: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] ، وليست «إِلَى» بمعنى «اللام» ، وقيل: بل هي بمعناها، وهذا مذهبُ الكوفيين، أعنى التجوُّزَ في الحروفِ، ومعنى اللامِ و «إِلَى» في هذا الموضع يتقارَبُ. وقال أبو البقاء: يجوزُ في غير القرآن: «أَقْرَبُ مِنَ التقوَى، وإِلَى التقْوَى» ، إلاَّ أَنَّ اللامَ هنا تَدُلُّ على [معنًى] غير معنى «إِلَى» ، وغير معنى «مِنْ» ، فمعنى اللامِ: العفو أَقربُ مِنْ أَجْلِ التقوى، واللام تدلُّ على علَّة قُرب العفو، وإذا قلتَ: أقربُ إلى التقوى، كان المعنى: يقاربُ التقوى؛ كما تقول: «أَنْتَ أَقْرَبُ إِلَيَّ» ، و «أَقْرَبُ مِنَ التَّقْوَى» يقتضي أن يكون العفو والتقوَى قريبَيْن، ولكنَّ العفوَ أشدُّ قُرباً من التقوَى، وليس معنى الآية على هذا. انتهى. فجعل اللام للعلة، لا للتعدية، و «إِلَى» للتعدية. واعلم أَنَّ فِعْلَ التعجُّب، وأفعلَ التفضيلِ يتعدَّيان بالحرفِ الذي يتعدَّى به فعلهما قبل أن يكونَ تعجُّباً وتفضيلاً؛ نحو: «مَا أَزْهَدَنِي فِيهِ وَهُوَ أَزْهَدُ فِيهِ» ، وإِنْ كان من متعدٍّ في الأصلِ: فإِنْ كان الفعلُ يُفهم علماً أو جَهْلاً، تعدَّيا بالباءِ؛ نحو: «هُوَ أَعْلَمُ بالفِقْهِ» ، وإِنْ كان لا يفهم ذلك، تعدَّيا باللامِ، نحو: «مَا أَضْرَبَكَ لِزَيْدٍ» و «أَنْتَ أَضْرَبُ لِعَمرو» إِلاَّ في باب الحُبِّ والبُغْضِ، فإنهما يتعَدَّيان إلى المفعول ب «في» ، نحو: «مَا أَحَبَّ زَيْداً فِي عَمرو، وَأَبْغَضَهُ فِي خَالِدٍ، وهو أَحَبُّ في بكرٍ، وأَبْغَضُ في خَالِدٍ» وإلى الفاعل المعنويِّ ب «إِلَى» ، نحو «زَيْدٌ أَحَبُّ إِلَى عمرو من خالِدٍ، ومَا أَحَبَّ زَيْداً إِلَى عَمْرو» ، أي: إِنَّ عَمْراً يُحِبُّ زَيْداً، وهذه قاعدةٌ جليلةٌ. والمفضَّلُ عليه في الآيةِ الكريمةِ محذوفٌ، تقديرُه: أقربُ للتقوَى من تَرْكِ العَفْوِ، والياءُ في التقوَى بدلٌ من واو، وواوها بدلٌ من ياءٍ؛ لأنها من وَقَيْتُ أَقِي وِقَايَةً، وقد تقدَّم ذلك أوَّلَ السورة. فصل وإنَّما كان العفو أقرب إلى حُصُول التقوى؛ لأن مَنْ سمح بترك حَقِّه، فهو محسنٌ، ومَنْ كان مُحْسِناً، استحقَّ الثواب، وإذا استحق الثواب، فقد اتقى بذلك الثواب ما هو دونه مِنَ العقاب، وأيضاً فإن هذا الصنع يدعوه إلى ترك الظُّلم، وترك الظلم تقوى في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 223 الحقيقة؛ لأن مَنْ سمح بحقِّه تقرُّباً إلى ربه، كان أبعد مِنْ أَنْ يظلم غيره. قوله: {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} قرأ الجمهور بضمِّ الواو مِنْ «تَنْسَوا» ؛ لأنها واوٌ ضمير، وقرأ ابن يعمر بكسرها تشبيهاً بواو «لَوْ» كما ضَمّوا الواو من «لَو» ؛ تشبيهاً بواو الضمير، وقال أبو البقاء في واوِ «تَنْسَوا» من القراءات ووجوهها ما ذكرناه في {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16] ، وكان قد قَدَّم فيها خمسَ قراءاتٍ، فظاهرُ كلامه عودُها كلِّها إلى هنا، إلاَّ أنه لم يُنْقَل هنا إلا الوجهان اللذان ذَكَرْتُهما. وقرأ علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «وَلاَ تَنَاسَوا» قال ابن عطيَّة: «وهي قراءة متمكِّنةٌ في المعنى؛ لأنه موضعُ تَنَاسٍ، لا نِسْيَانٍ، إلاَّ على التشبيه» ، وقال أبو البقاء: «على باب المفاعلةِ، وهي بمعنى المتاركةِ، لا بمعنى السهو، وهو قريبٌ من قولِ ابن عطيَّة. قوله تعالى:» بَيْنَكُمْ «فيه وجهان. أحدهما: أنه منصوبٌ ب» تَنْسَوا «. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الفضل، أي كائناً بينَكثمْ، والأولُ أَوْلَى؛ لأنَّ النهيَ عن فِعْلٍ يكونُ بينَهم أبلغ من فعلٍ لا يكونُ بينَهُم والمرادُ بالفضلِ، أي: إفضال بعضكم لى بعض بإعطاء الرجل تمامَ الصداقِ، أو تركِ المرأَةِ نصيبها، حثَّهما جميعاً على الإحسان، ثم ختم الآية بما يجري مجرى التهديد، فقال: {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . قال القرطبي: هذا خبرٌ في ضمنه الوعد للمحسنين، والحِرمانُ لغير المحسنين، أي: لا يخفى عليه عفوكم، واستقضاؤكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 قوله تعالى: {حَافِظُواْ} : في «فَاعَلَ» هنا قولان: أحدهما: أنه بمعنى «فَعِلَ» ، كطارَقْتُ النَّعْلَ، وعاقَبْتُ اللصَّ، ولمَّا ضمَّن المحافظة معنى المواظبةِ، عدَّاها ب «عَلَى» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 224 الثاني: أنَّ «فَاعَلَ» على بابها من كونها بين اثنين، فقيلَ: بين العبدِ وربِّه، كأنه قيل: احفَظْ هذه الصلاةَ يحفظْكَ اللهُ، وقيل: بين العبدِ والصلاةِ، أي: احفَظْها تَحْفَظْك. وحفظُ الصَّلاة للمُصلِّي على ثلاثة أوجهٍ: الأول: أنها تحفظه مِنَ المعاصي؛ كقوله: {إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر} [العنكبوت: 45] . الثاني: تحفظه من البَلايا، والمِحَن؛ لقوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة} [البقرة: 45] ، وقال الله: {إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمْ الزكاة} [المائدة: 12] أي: معكم بالصَّبر، والحفظ. الثالث: تحفظُه: بمعنى تشفعُ له؛ لأن الصلاة فيها القرآنُ؛ والقرآن يشفع لقارئه، وهو شافِعٌ مُشَفَّعٌ. وقال أبو البقاء: ويكون وجوبُ تكرير الحِفْظ جارياً مجرى الفاعلين؛ إذْ كان الوجوبُ حاثّاً على الفعلِ، وكأنه شريكُ الفاعلِ للحفظ؛ كما قالوا في {وَاعَدْنَا موسى} [البقرة: 51] فالوعدُ من اللهِ، والقَبُولُ من موسى بمنزلةِ الوعد؛ وفي «حَافِظُوا» معنى لا يُوجَدُ في «احْفَظُوا» وهو تكريرُ الحفْظِ وفيه نظرٌ؛ إذ المفاعلةُ لا تدُلُّ على تكريرِ الفعلِ ألبتةَ. قوله تعالى: {والصلاة الوسطى} ذكر الخاصَّ بعد العامِّ، وقد تقدَّم فائدته عند قوله تعالى: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ} [البقرة: 98] والوُسطى: فعلى معناها التفضيلُ، فإنها مؤنثةٌ للأوسطِ؛ كقوله - يمدح الرسول عليه والصلاة والسلام -: [البسيط] 1147 - يَا أَوْسَطَ النَّاسِ طُرّاً فِي مَفَاخِرِهِمْ ... وَأَكْرَمَ النَّاسِ أُمًّا بَرَّةً وَأَبَا وهي [من] الوسط الذي هو الخيارُ، وليست من الوسطِ الذي معناه: متوسِّطٌ بين شيئين؛ لأنَّ فُعْلى معناها التفضيلُ؛ ولا يُبْنى للتفضيل، إلا ما يَقْبَلُ الزيادةَ والنقصَ، والوَسَطُ بمعنى العَدْل والخيارِ يقبلُهما بخلافِ المتوسِّطِ بين الشيئين؛ فإنه لا يَقْبَلُهما، فلا ينبني منه أفعلُ التفضيل. وقرأ علي: «وَعَلَى الصَّلاَةِ» بإعادة حرفِ الجرِّ توكيداً، وقرأَتْ عائشةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «وَالصَّلاَةَ» بالنصبِ، وفيها وجهان: أحدهما: على الاختصاصِ، ذكرَه الزمخشريُّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 225 والثاني: على موضع المجرورِ قَبْلَهُ؛ نحو: مَرَرْتُ بزيدٍ وَعَمْراً، وسيأتي بيانُه في المائدة - إن شاء الله تعالى -. قال القرطبي: وقرأ أبو جعفر الواسطي «والصَّلاَةَ الوُسْطَى» بالنصب على الإِغراء أي: والْزَمُوا الصَّلاة الوُسْطَى وكذلك قرأ الحلواني، وقرأ قالُونُ، عن نافع «الوُصْطَى» بالصَّادِ؛ لمجاورَة الطاءِ؛ لأنهما مِنْ واحدٍ، وهما لغتان؛ كالصراط ونحوه. فصل لمّا ذكر الأحكام المتعلّقة بمصالح الدُّنيا مِنْ بيان: النكاح، والطلاقِ، والعُقُودِ، أتبعه بذكر الأَحكامِ المتعلِّقة بمصالح الآخرة. وأَجمع المسلمون على وجوب الصلوات الخمس، وهذه الآيةُ تدلُّ على كونها خَمْساً؛ لأن قوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات} تدل على الثَّلاثة مِنْ حيثُ إِنَّ أَقلَّ الجمع ثلاثةٌ، ثم قال: {والصلاة الوسطى} يدلُّ على شيءٍ زائدٍ عن الثلاثة؛ وإلاَّ لزم التكرارُ، والأصلُ عدمهُ، ثم إنَّ الزَّائد يمتنع أَنْ يكون أربعةً، لأنها لا يبقى لها وسطى فلا بُدَّ وأَنْ ينضمَّ إلى تلك الثلاثة عددٌ آخرٌ؛ حتى يحصلَ به للجموع واسطةٌ، وأقلُّ ذلك خمسةٌ، فدلَّت هذه الآيةُ على أن الصلوات المفروضات خمسٌ بهذا الطَّريق، وهذا الاستبدال إنما يتم، إذا قُلنا: إنَّ المراد من الوُسْطَى ما يكونُ وسطاً في العدد، لا ما يكون وسطاً بسبب الفضيلة. فصل هذه الآيةُ وإِنْ دلّت على وجوب الصلوات الخمس لكنَّها لا تدلُّ على أوقاتها. قالوا: والآياتُ الدالةُ على تفصيل الأَوقاتِ أَربعٌ: أحدها: قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] . فقوله: «سُبْحَانَ اللهِ» أي: فسبِّحوا اللهَ، معناه: صلُّوا للهِ حين تمسون، أراد به صلاة المغربِ، والعِشَاءِ، «وَحِينَ تُصْبِحُونَ» أراد صلاة الصُّبح، و «عَشيّاً» أراد به [صلاة] العصر، و «حِينَ تُظْهِرُونَ» ، صلاة الظهر. الثانية: قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل} [الإسراء: 78] أراد ب «الدلوك» زوالها، فدخل في الآية: صلاةُ الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ثم قال: {وَقُرْآنَ الفجر} [الإسراء: 78] أراد صلاة الصُّبح. الثالثة: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار} [طه: 130] قالوا: لأَنَّ الزمان إِمَّا أَنْ يكون قبل طُلُوعِ الشَّمسِ، أو قبل غروبها، فالليل والنهارُ داخلان في هاتين اللفظتين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 226 الرابعة: قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ الليل} [هود: 114] فالمراد ب «طَرَفَي النَّهَارِ» الصُّبحُ والعَصْر، وبقوله «وزُلْفاً من الليل» المغرب، والعشاء. فصل في الصلاة الوسطى اختلفوا في الوسطى على سبعة مذاهب: الأول: أنَّ الله - تعالى - لمّا لم يبينها بل خصَّها بمزيد التوكيد، جاز في كُلِّ صلاةٍ أَنْ تكون هي الوسطَى، فيصير ذلك داعياً إلى أداء الكل بصفةِ الكمالِ، والتمام؛ كما أنّه أخفى ليلة القَدْرِ في رمضان، وأخفى ساعةَ الإجابةَ في يوم الجُمُعةِ، وأَخْفَى اسمه الأَعظم في جميع الأَسماءِ، وأخفى وقتَ الموتِ في الأوقات؛ ليكون المكلَّف خائِفاً من الموتِ في كل الأوقات، وهذا قولُ جماعةٍ من العُلَماءِ. قال محمَّد بن سيرين: سأل رجلٌ زيد بن ثابتٍ، عن الصلاة الوسطى، فقال: حافِظ على الصلوات كُلِّها تصبها. وعن الربيع بن خيثم أنّه سأله واحدٌ عنها، فقال: قال ابن عمر: الوُسطى واحدة منهن، فحافِظ على الكُلِّ تكُنْ محافظاً على الوسطى، ثم قال الربيع: فإنْ حافظتَ عليهن، فقد حافظت على الوسْطى. الثاني: أَنَّ الوسطى هي مجموعُ الصلوات الخَمْس؛ لأَن هذه الصلوات الخمس: هي الوسطى من الطاعات، وتقريره: أنَّ الإِيمان بضعٌ وسبعون درجة: أعلاها شهادةث أَنْ لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى، فهي واسطة بين الطرفين. وقيل: الوسطى صلاةُ الجمعة؛ لأن وقتها وسطُ النهارِ، ولها شروط ليست لبقيَّة الفرائض: من أشتراط الخُطبة، والأَربعين، ولا تصلي في المِصْر أكثر مِنْ جمعةٍ واحدةٍ، إِلاَّ أَنْ تدعُو الحاجة إلى أكثر منها؛ وتفوتُ بفواتِ وقتها ولا تقضى؛ لأن العطف يقتضي المغايرة. الثالث: أنها صلاةُ الصبح، وهو قول علي وعمر وابن عباس، وابن عمرو وجابر بن عبد الله، ومعاذ وأبي أمامة الباهِليّ، وهو قول عطاء، وطاوسٍ، وعكرمة ومجاهد، وإليه ذهب مالكٌ، والشافعي. واستدلُّوا بوجوه: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 227 أحدها: أنَّ هذه الصلاة تُؤدَّى بعد طُلُوع الفجر، وقبل طلوع الشمس، وهذا الزمان ليس فيه ظُلمة باقية، ولا ضوء تام فكأنّه ليس بليلٍ ولا نهارٍ، فكان مُتوسِّطاً بينهما. وثانيها: أَنََّ النهار حصل فيه صلاتان: الظهر، والعصر؛ وفي الليل صلاتان: المغرب، والعشاء؛ وصلاةُ الصبح كالمتوسطة بين صلاتي الليل، وصلاتي النهار. فإنْ قيل: هذه المعاني حاصِلةٌ في صلاة المغرب. فالجوابُ: أنَّا نرجِّح صلاة الصُّبح على صلاة المغرب؛ بكثرة الفضائلِ، على ما سيأتي إِنْ شاء الله تعالى. وثالثها: أَنَّ الظهر، والعصر صلاتا جمعٍ، وكذلك: المغربُ والعِشاءُ، وصلاة الصبح منفردةٌ بوقتِ واحدٍ؛ فكانت وسطاً بينهما. ورابعها: قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} [الإسراء: 78] وقد ثبت أَنَّ المراد منه صلاةُ الفجر، يعنى تشهدُه ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار، فلا تجتمعُ ملائِكةُ الليل وملائكةُ النهار في وقتٍ واحد، إِلاّ في صلاةِ الفجر؛ فثبت أَنَّ صلاةَ الفجرِ قد أخذت بطرفي الليل والنهار من هذا الوجه؛ فكانت كالشيءِ المتوسِّط. وخامسها: قوله تعالى: {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} وصلاة الصبح مخصوصةٌ بطول القيام، والقنوت، وهذا ضعيف، لأنه يقال لا نُسلِّمُ أَنَّ المراد بالقنوت طولُ القيام، كما سيأتي في تفسير هذه الكلمة، ولا نُسَلّم أَنَّ القنوت مخصوص بالفجر؛ بل يقنت في سائر الصَّلوات إِذَا نزل بالمسلمين، إِلاَّ فلا قنوت في شيءٍ من الفرائض. وسادسها: أَنَّهُ تعالى إنَّما أفردها بالذكر؛ لأَجل التأكيد؛ لأنها أحوجُ الصلوات إلى التَّأكيد، إِذْ ليس في الصلواتِ أشقّ منها؛ لأنها تجب على الناس في ألذ أوقاتِ النَّوم؛ فيترك النومَ اللذيذ إلى استعمال الماء البارِدِ، والخُروج إلى المسجد والتَّأهب للصلاة، ولا شَكَّ أن هذا شاق صعبٌ على النفس. وسابعها: أنها أفضلٌ الصلواتِ، فوجب أَنْ تكونَ هي الوسطى، ويدل على فضيلتها وجوه: الأول: قوله تعالى: {والمستغفرين بالأسحار} [آل عمران: 17] فختم طاعاتهم بكونهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 228 مُسْتغفرين بالأَسحارِ، وأَعظمُ أَنواع الاستغفار الفرائضُ؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حاكياً عن رَبّه: «لن يتقرّب المتقرّبون إليّ بمِثْل أَدَاءِ ما افترضتُ عَلَيْهِمْ» . الثاني: رُوِيَ أَنَّ التكبيرة الأُولى فيها في الجماعة خيرٌ مِنَ الدُّنْيا وما فيها. الثالث: أنه ثبتَ أَنَّ صلاة الصبح مخصوصة بالأَذانِ مرَّتين: مرَّة قبل طُلُوع الفجر، ومرةً بعده. فالأول: لإيقاظِ الناس من نومِهم، وتأهبهم. والثاني: الإِعلامُ بدخول الوقت. الرابع: أَنَّ الله سمّاها بأسماء، فقال في بني إسرائيل {وَقُرْآنَ الفجر} وقال في النور {مِّن قَبْلِ صلاة الفجر} [النور: 58] وقال في الروم {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن المراد من قوله {وَإِدْبَارَ النجوم} [الطور: 49] صلاة الفجر. الخامس: أن الله تعالى أقسَمَ بها، فقال: {والفجر وَلَيالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 1 - 2] . فإن قيل: قد أقسم الله تعالى - أيضاً - بالعصر فقال: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 1 - 2] قلنا: سلمنا أن المراد منه القسم بصلاة العصر، لكن في صلاة الفجرمزيدُ تأكيدٍ وهو قوله: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} [هود: 14] فكما أنّ أحدَ الطرفين، وهو الصبحُ، وهو واقعٌ قبل الطلُوع والطرف الآخرُ هو المغرب؛ لأنه واقعٌ قبل الغُرُوب، فقد اجتمع في الفجر القسمُ به، مع التأكيد بقوله: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} [هود: 14] هذا التأكيدُ لم يوجد في العصر. السادس: أن التثويب في أذان الصُّبح معتبرٌ، وهو قولُ المؤذن: الصلاةُ خيرٌ من النَّومِ، وهذا غيرُ حاصل في سائر الصلواتِ. السابع: أَنَّ الإنسان إذا قام مِنْ نومِه فكأنه كان معدُوماً، ثم صار موجوداً أو كان مَيْتاً، ثم صار حياً، فإذا شاهد العَبْدُ هذا الأمر العظيم، فلا شكَّ أنَّ هذا الوقت أليقُ الأَوقاتِ، بأَن يظهر العبدُ الخضوع، والذلة والمسكنة في هذه العبادة. وثامنها: رُوي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه سُئِل عن الصلاةِ الوسطى، فقال: كنا نرى أنَّها الفجرُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 229 وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه صلى الصبح، ثم قال: هذه هي الصلاةُ الوسْطى. القول الرابع: أَنَّهُ صلاةُ الظهرِ، وهو قول عمر، وزيدٍ بن ثابت، وأبي سعيد الخدري، وأُسامة بن زيدٍ، وهو قول أبي حنيفة، وأصحابه، واحتجُّوا بوجوه: الأول: أن الظهرَ كان شاقّاً عليهم؛ لوقوعه في وقتِ القَيْلُولة، وشدَّةِ الحرِّ، فصرفُ المبالغة فيه أولى. الثاني: روى زيد بن ثابت أَنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يصلي بالهاجرة، وكان أثقلَ الصلواتِ على أصحابه، وربما لم يكُن وراءه إلاّ الصَّفُّ، والصَّفَّاِ، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُحْرِّقَ عَلَى قَوْمٍ لاَ يَشْهَدُونَ الصَّلاَة في بُيُوتهم» فنزلت هذه الآيةُ. الثالث: أن صلاة الظُّهر تقع في وسط النهار، وليس في المكتوباتِ صلاة تقع في وسطِ النهارِ، وهي أَوسطُ صلاةِ النَّهارِ في الطول. الرابع: قال أبو العالية: صليتُ مع أصحابِ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الظهرَ، فلمّا فرغُوا سأَلتُهم عن الصلاةِ الوسطى فقالوا: التي صلَّيتَها. الخامس: روي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنها كانت تقرأ «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَة الوُسْطَى وَصَلاَةَ العَصْرِ» ، وكانت تقولُ سمعتُ ذلك من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 230 وجهُ الاستدلالِ أنها عطفت صلاةَ العَصْرِ على الصلاةِ الوُسْطى، والمعطوفُ عليه قبل المعطُوفِ، والذي قبل العصر هي صلاةُ الظهر. السادس: رُوي أنَّ قوماً كانوا عند زيد بن ثابتٍ، فأرسلوا إلى أُسامة بن زيدٍ، وسأَلُوه عن الصَّلاةِ الوُسطى، فقال: هي صلاةُ الظهرِ كانت تقامُ في الهَاجِرة. السابع: روي في الحديث أن أوَل إِمامة جبريل - عليه السلام - كانت في صلاةِ الظهر، فَدَلَّ على أنّها أشرف، فكان صرفُ التَّأكيد إليها أولى. الثامن: أَنَّ صلاةَ الجمعة هي أشرفُ الصَّلواتِ، وهي صلاةُ الظهرِ فصرف المبالغة إليها أولى روى الإمامُ أحمدُ، وصحَّحَه: أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِل عن الصلاة الوسطى [فقال] العصرُ. ورَوى أحمدُ، والترمذيُّ، وصحَّحه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سُئِل عن صلاةِ الوسطى فقال: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلوَاتِ والصَّلاةِ والوُسْطَى وَصَلاةَ العَصْرِ» ثم نُسِخَت هذه الكلمةُ، وبقي قولُه: «وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ» . فإن قيل قد روي أنَّ عائشة أمرت أن يكتب لها مصحف، وقالت للكاتب: إذا بلغت قوله تعالى: {والصلاة الوسطى} فآذِنِّي، فلما وصل الكاتب إلى قوله تعالى: {والصلاة الوسطى} آذنها فأمرته أن يكتب: «وَصَلاَةَ العَصْرِ» وقالت: هكذا سمعته من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 231 فالجواب أن هذا لم يروه غير واحدٍ تفرَّد به. وقد روى جماعةٌ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنها صلاة العصر، كما سيأتي، وكثرة الأدلة، والرُّواة يرجّح بها. القول الخامس: أنها صلاة العصر، وهو مرويٌّ عن عليّ، وابن مسعودٍ، وابن عبَّاسٍ، وأبي هريرة، وأبي أيُّوب، وعائشة، وبه قال إبراهيم النخعي، وقتادة، والحسن، والضحاك، ويروى عن أبي حنيفة. واحتجوا بوجوه: الأول: روي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال يوم الخندق: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى صَلاَة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً» وروى زرُّ بن حبيش، قال: قلنا لعبيدة: سل علياً عن الصلاة الوسطى، فسأله فقال: كنَّا نرى أنها صلاة الفجر، حتى سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول يوم الخندق: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى صَلاَة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً» وعن عبد الله بن مسعودٍ، قال: حَبَسَ المشركون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن صَلاة العصر، حتَّى احمرَّت الشمس، أو اصفرَّت؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «شَغَلُونَا عَنِ الصَّلاَةِ الوُسْطَى صَلاَة العَصْرِ ملأ اللهُ أَجْوَافَهُم وَقُبُورهُم نَاراً، أو حَشَا اللهُ أَجْوَافَهُمْ وَقُبُورَهُمْ نَاراً» . الثاني: أنَّ العصر أولى بالتأكيد من غيرها؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَى صَلاَةِ العَصْرِ فَقَدْ وُتِرَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ» ، وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَنْ لَمْ يُحَافِظْ عَلَى صَلاَةِ العَصْرِ أو مَنْ تَرَكَ صَلاَةَ العَصْرِ فَقَدْ حَبَطَ عَمَلُهُ» وقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «مَنْ حَافَظَ عَلَى صَلاَةِ العَصْرِ آتَاهُ اللهُ أَجْرَهُ مَرَّتَيْنِ» ولأن المحافظة على سائر الصلوات، أخفُّ وأسهل من المحافظة على وقت العصر أخفى الأوقات. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 232 وذلك لأن الصُّبح يدخل وقتها بطلوع الفجر المستطير ضوؤه، ودخول الظهر بزوال الشَّمس، والمغرب بغروب القرص، ودخول العشاء بمغيب الشَّفق الأحمر، لا جرم كانت الفضيلة فيها أكثر. الثالث: أنَّ الناس عند العصر يكونون مشغولين بمهماتهم، فكان الإقبال عليها أشقُّ. الرابع: أنَّها متوسطةٌ بين صلاةٍ نهاريَّة، وهي الظهر، وصلاةٍ ليليَّةٍ، وهي المغرب، وأيضاً، فهي متوسِّطة بين صلاتين بالليل وصلاتين بالنهار. فإن قيل: قد ثبت عن عائشة أنها قرأت: «وَصَلاَةَ العَصْرِ» . فالجواب أن يقال: إن هذه قراءة شاذَّة، ولأنه ثبت عن خلق كثير في أحاديث صحيحةٍ أنها العصر ورووها بغير واوٍ؛ فدل على أنّ الواو زائدةٌ، ولأنَّ الراوي لا يجوز له أن يسقط من الحديث حرفاً واحداً يتعلق به حكمٌ شرعي. أو يقال: هذا من باب عطف الخاصِّ على العامِّ، أو من عطف الصفات؛ لقولك: زيدٌ الكريم والعالم. والقول السادس: أنها صلاة المغرب، وهو قول عبيدة السلماني وقبيصة بن ذؤيب، واحتجُّوا بوجهين: أحدهما: أنه بين بياض النَّهار، وسواد اللَّيل، وهذا المعنى وإن كان حاصلاً في الصُّبح، إلاّ أن الغرب ترجَّح بوجوهٍ أُخر: وهي أنها أزيدُ من الرَّكعتين؛ كما في الصبح، وأقلُّ من الأربع؛ كما في الظهر، والعصر، والعشاء، فهي وسطٌ في الطُّول، والقصر. الوجه الثاني: أنَّ صلاة الظهر تسمَّى بالصلاة الأولى، ولذلك ابتدأ جبريل بالإمامة فيها، وإذا كان الظهر أوَّل الصلوات، كانت المغرب، هي الوسطى، لا محالة، ولأنَّ قبلها صلاة سرٍّ، وبعدها صلاة جهرٍ. القول السابع: أنها العشاء، قالوا: لأنها متوسِّطة بين صلاتين لا تقصران: المغرب، والصبح. وعن عثمان بن عفَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنّه قال: «مَنْ صَلَّى صَلاَةَ العِشَاءِ الآخِرَةِ في جَمَاعَةٍ، كَانَ كَقِيَامِ نِصْفِ لَيْلَة» . قال القرطبي: وقال أبو بكر الأبهري: إن الوسطى صلاة الصُّبح، وصلاة العصر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 233 تبعاً؛ لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «إن اسْتَطَعْتُمْ أَلاََّ تُغْلَبُوا عَلَى صَلاَةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا» يعنى: العصر، والفجر، ثم قرأ جرير: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [طه: 130] . وروى عمَّار بن رؤيبة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «لنْ يَلِجَ النَّارَ أَحَدٌ صَلَّى قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وقَبْلَ غُرُوبِهَا» يعني الفجر والعصر، وقيل: العشاء والصبح؛ لأن أبا الدَّرداء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال في مرضه الذي مات فيه: اسمعوا، وبلِّغوا من خلفكم: حافظوا على هاتين الصَّلاتين، يعني في جماعة - العشاء والصُّبح، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حبواً على مرافقكم. قوله: {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} قال ابن عباس: القنوت: الدعاء، والذكر، بدليل قوله تعالى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً} [الزمر: 9] . ومنه الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قنت يدعو على رعل، وذكوان، وعصيّة، وأحياء من سليم. وقيل: مُصلِّين؛ لقوله: «أَمْ هُوَ قَانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ» . وقال الشعبيُّ، وعطاء، وسعيد بن جبير، والحسن، وطاوسٌ، وقتادة، والضحاك، ومقاتلٌ: القنوت: الطاعة، ويدلُّ عليه وجهان: الأول: ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنّه قال: «كُلُّ قُنُوتٍ في القُرْآنِ فَهُوَ طَاعَةٌ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 234 والثاني: قوله تعالى: {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ} [الأحزاب: 31] وقال: {فالصالحات قَانِتَاتٌ} [النساء: 34] فالقنوت عبارةٌ عن كمال الطَّاعة، وإتمامها والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها. قال الكلبيُّ، ومقاتلٌ: لكلِّ أهل دينٍ صلاةٌ يقومون فيها عاصين فقوموا أنتم لله في صلاتكم مطيعين. وقيل: القنوت: السكوت، وهو قول ابن مسعود، وزيد بن أرقم، قال زيد بن أرقم: كنَّا نتكلّم في الصلاة، فيسلِّم الرجل؛ فيردون عليه ويسألهم كيف صليتم؟ كفعل أهل الكتاب. فنزل قوله تعالى: {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} فأمرنا بالسكوت، ونهينا عن الكلام. وقال مجاهد: القنوت: عبارةٌ عن الخشوع، وخفض الجناح، وسكون الأطراف، وترك الالتفات من هيبة الله، وكان العلماء إذا قام أحدهم يصلي، يهاب الرحمن، فلا يلتفت أو يقلب الحصى، أو يعبث، أو يحدّث نفسه بشيءٍ من أمر الدنيا ناسياً حتى ينصرف. وقيل: القنوت: عبارة عن طول القيام. قال جابر: سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيُّ الصَّلاة أفضل؟ قال: طول القنوت، يريد طول القيام. قال ابن الخطيب: وهذا القول ضعيفٌ؛ وإلاَّ صار تقدير الآية: وقوموا لله قائمين؛ اللَّهم إلاَّ أن يقال: وقوموا لله مديمين لذلك القيام؛ فيصير القنوت مفسَّراً بالإدامة، لا بالقيام. وقيل: القنوت في اللغة: عبارةٌ عن الدوام على الشيء، والصَّبر عليه والملازمة له. وفي الشريعة مختصٌّ بالمداومة على طاعة الله تعالى؛ وهو اختيار عليٍّ بن عيسى، وعلى هذا يدخل فيه جميع ما قاله المفسِّرون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 235 قوله: «قَانِتِينَ» حالٌ من فاعل «قُومُوا» و «لِلَّهِ» يجوز أن تتعلَّق اللام ب «قُومُوا» ، ويجوز أن تتعلَّق ب «قَانِتِينَ» ، ويدلُّ للثاني قوله تعالى: {كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ} [البقرة: 116] . ومعنى اللام التعليل. فصل قال أبو عمرو: أجمع المسلمون على أنّ الكلام، عامداً في الصلاة، إذا كان المسلم يعلم أنّه في صلاةٍ، ولم يكن ذلك في إصلاح صلاته أنّه يفسد الصلاة، إلاّ ما روي عن الأوزاعي أنّه قال إن تكلم في الصَّلاة لإحياء نفسٍ، ونحوه من الأمور الجسام، لم يفسد ذلك صلاته. واختلفوا في كلام السَّاهي، فقيل: لا يفسد الصلاة. وقيل: يفسدها. وقال مالكٌ: إذا تكلم عامداً لمصلحة الصَّلاة، لم تفسد، وهو مذهب أحمد. قوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ} . قال الواحديُّ: معنى الآية: فإن خفتم عدوّاً، فحذف المفعول لإحاطة العلم به. وقال الزمخشريُّ: «فإن كان لكم خوفٌ من عَدُوٍّ، أو غيرِه» فهو أصحُّ؛ لأن هذا الحكم ثابتٌ عند حصول الخوف، سواءٌ كان الخوف من عدوٍّ، أو غيره. وقيل: المعنى: فإن خفتم فوات الوقت، إذا أَخَّرْتُمُ الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم، فصلُّوا رِجالاً، أو ركْبَاناً، وعلى هذا التقدير الآية تدلُّ على تأكيد فرض الوقت؛ حتى يترخَّص لأجل المحافظة عليه في ترك القيام، والركوع، والسجود. قوله تعالى: {فَرِجَالاً} : منصوبٌ على الحال، والعامل فيه محذوفٌ، تقديره: «فَصَلُّوا رِجَالاً، أو فحَافِظُوا عَلَيْهَا رِجَالاً» وهذا أولى؛ لأنه من لفظ الأول. و «رِجَال» جمع راجلٍ؛ مثل قيامٍ وقائم، وتجارٍ وتاجرٍ، وصِحَابٍ وصاحب، يقال منه: رَجِلَ يَرْجَلُ رَجْلاً، فهو رَاجِلٌ، ورَجُل بوزن عضدٍ، وهي لغة الحجاز. يقولون: رَجِلَ فُلاَنٌ، فهو رَجُلٌ، ويقال: رَجْلاَن ورَجِيلٌ؛ قال الشاعر: [الطويل] 1148 - عَلَيَّ إِذَا لاَقَيْتُ لَيْلَى بِخُفْيَةٍ ... أَنَ ازْدَارَ بَيْتَ اللهِ رَجْلاَنَ حَافِيَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 236 كلُّ هذا بمعنى مشى على قدميه؛ لعدم المركوب. وقيل: الراجل الكائن على رجله، ماشياً كان أو واقفاً، ولهذا اللفظ جموعٌ كثيرة: رجالٌ؛ كما تقدَّم؛ وقال تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ} [الحج: 27] وقال [الكامل] 1149 - وَبَنُو غُدَانَةَ شَاخِصٌ أَبْصَارُهُمْ ... يَمْشُونَ تَحْتَ بُطُونِهِنَّ رِجَالاً ورَجِيلٌ، ورُجَالَى، وتروى قراءةً عن عكرمة، ورَجَالَى، ورَجَّالَة، ورُجَّال، وبها قرأ عكرمة وابن مخلدٍ، ورُجَّالَى، ورُجْلاَن، ورِجْلَة، ورَجْلَة بسكون الجيم وفتحها، وأرجِلَة، وأرَاجِلٍ، وأرَاجِيل، ورجَّلاً بضم الراء وتشديد الجيم من غير ألفٍ، وبها قرئ شاذّاً. وقال القفَّال: يجوز أن يكون «رِجَالٌ» جمع الجمع؛ لأن رجلاً يجمع على «رَاجِلٍ» ، ثمَّ يجمع راجلٌ على رِجالٍ. والرُّكبان جمع راكب مثل فُرْسَان وفَارس، قال القفَّال: قيل: ولا يقال إلاَّ لمن ركب جملاً، فأمَّا راكب الفرس، ففارسٌ، وراكب [الحمار] والبغل حمَّار وبغَّال، والأجود صاحب حمار وبغلٍ، و «أو» هنا للتقسيم، وقيل: للإباحة، وقيل: للتخيير. فصل قال القرطبيُّ: لمّا أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة، بحال القنوت، وهو الوقار، والسكينة، وهدوء الجوارح، وهذه هي الحالة الغالبة من الأمن، والطُّمأنينة، ذكر حالة الخوف الطارئة أحياناً، وبيَّن أن هذه العبادة لا تسقط عن العبد في حالٍ، ورخَّص لعبيده في الصلاة رجالاً على الأقدام، أو ركباناً على الخيل والإبل، ونحوه إيماءً، وإشارةً بالرأس حيث ما توجهوا. فصل في صلاة الخوف صلاة الخوف قسمان: أحدهما: حال القتال مع العدو، وهي أقسام: أحدها: حال التحام الحرب، وهو المذكور في هذه الآية، وباقيها مذكورٌ في سورة النِّساء [102] والقتال إمَّا واجبٌ، أو مباحٌ، أو محظورٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 237 فالواجب: كالقتال مع الكفار، وهو الأصل في صلاة الخوف، وفيه نزلت الآية، ويلحق به قتال أهل البغي، بقوله تعالى: {فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفيء إلى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] . والمباح: كدفع الصائل بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه؛ فإنه يجب الدفع، وفي الدفع عن كل حيوانٍ محترم، فإنَّه يجوز فيه صلاة الخوف. وأمَّا المحظور فلا يجوز فيه صلاة الخوف؛ لأن هذا رخصةٌ، والرخصة إعانة؛ والعاصي لا يستحقّ الإعانة. القسم الثاني: في الخوف الحاصل في غير القتال، كالهارب من الحرق، أو الغرب، أو السَّبع، أو المطالبة بدينٍ، وهو معسر خائفٌ من الحبس عاجزٌ عن بيِّنة الإعسار فلهم أن يصلُّوا صلاة الخوف؛ لأن قوله تعالى: {فَإنْ خِفْتُمْ} مطلقٌ يتناول الكلَّ، فإن قيل: المراد منه الخوف من العدوِّ حال المقاتلة. قلنا: سلمنا ذلك، ولكن علمنا أنّه إنّما ثبت هناك، لدفع الضَّرر، وهذا المعنى قائمٌ هنا، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعاً هنا. فصل في عدد ركعات صلاة الحضر والسفر والخوف ولا ينتقص عدد الركعات بالخوف عند أكثر أهل العلم. وروى مجاهد، عن ابن عباسٍ قال: فرض الله الصلاة على لسان نبيكم في الحضر أربعاً، وفي السَّفر ركعتين، وفي الخوف ركعة. وقال سعيد بن جبير: إذا كنت في القتال، وضرب الناس بعضهم بعضاً، فقل سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، واذكر الله فتلك صلاتك. فصل قال القرطبي: والمقصود من هذه الآية، أن تفعل الصلاة كيفما أمكن، ولا تسقط بحالٍ، حتى لو لم يتفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها، وبهذا تميزت عن باقي العبادات؛ لأنها تسقط بالأعذار. قال ابن العربيّ: ولهذا قال علماؤنا: إن تارك الصلاة يقتل لأنها أشبهت الإيمان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 238 الذي لا يسقط بحالٍ، ولا تحوز النيابة فيها ببدنٍ، ولا مالٍ، فيقتل تاركها كالشهادتين. قوله: {فَإِذَآ أَمِنتُمْ} يعني بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة {فاذكروا الله} أي: فصلُّوا الصلوات الخمس. والصلاة قد تسمَّى ذكراً، قال تعالى: {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} [الجمعة: 9] . وقيل: {فاذكروا الله} أي: فاشكروه؛ لأجل إنعامه عليكم بالأمن. وطعن القاضي في هذا القول؛ بأن الشُّكر يلزم مع الخوف، كما يلزم مع الأمن؛ لأن نعم الله تعالى متصلة في الحالين. وقيل: إنَّ قوله تعالى: {فاذكروا الله} يدخل تحته الصلاة، والشكر جميعاً. قوله: {كَمَا عَلَّمَكُم} الكاف في محلِّ نصبٍ: إمَّا نعتاً لمصدر محذوفٍ، أو حالاً من ضمير المصدر المحذوف، وهو الظاهر، ويجوز فيها أن تكون للتعليل، أي: فاذكروه لأجل تعليمه إيَّاكُمْ، و «مَا» يجوز أن تكون مصدريةً، وهو الظاهر، ويجوز أن تكون بمعنى «الَّّذِي» ، والمعنى: فصلُّوا الصَّلاة كالصَّلاة التي عَلَّمَكُمْ، وعبَّر بالذكر عن الصلاة، ويكون التشبيه بين هيئتي الصلاتين الواقعة قبل الخوف وبعده في حالة الأمن. قال ابن عطيَّة: «وعَلَى هذا التأويلِ يكون قوله:» مَا لَمْ تَكُونُوا «بدلاً من» مَا «في» كَمَا «وإلاَّ لم يتَّسق لفظ الآية» قال أبو حيان: «وهو تخريجٌ مُمْكِنٌ، وأحسن منه أن يكون» مَا لَمْ تَكُونُوا «بدلاً من الضمير المحذوف في» عَلَّمَكُم «العائد إلى الموصول؛ إذ التقدير: عَلَّمَكُمُوهُ، ونصَّ النحويون على أنه يجوز: ضَرَبْتُ الذي رَأَيْتُ أَخَاكَ» [أي: رَأَيْتُهُ أَخَاكَ] ، ف «أَخَاكَ» بدلٌ من العائد المحذوف «. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 قرأ ابن كثير، ونافع، والكسائي، وأبو بكرٍ، عن عاصم: «وَصِيَّةٌ» بالرفع والباقون: بالنصب. وفي رفع {الذين يُتَوَفَّوْنَ} ثمانية أوجهٍ، خمسةٌ منها على قراءة من رفع «وَصِيَّةً» ، وثلاثةٌ على قراءة من نصب «وصيةٌ» ؛ فأوّل الخمسة، أنه مبتدأ، و «وَصِيَّةٌ» مبتدأ ثانٍ، وسوَّغ الابتداء بها كونها موصوفة تقديراً؛ إذ التقدير: «وَصِيَّةٌ مِنَ اللهِ» أو «مِنْهُمْ» ؛ على حسب الخلاف فيها: أهي واجبةٌ من الله تعالى، أو مندوبةٌ للأزواج؟ و «لأَزْوَاجِهِمْ» خبر المبتدأ الثاني، فيتعلَّق بمحذوفٍ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول، وفي هذه الجملة ضمير الأول، وهذه نظير قولهم: «السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ» تقديره: «مَنَوَانِ مِنْهُ» ، وجعل ابن عطية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 239 المسوِّغ للابتداء بها كونها في موضع تخصيص؛ قال: «كما حَسُنَ أَنْ يرتفع:» سَلاَمٌ عَلَيْكَ «و» خَيْرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ «؛ لأنها موضع دعاءٍ» قال شهاب الدين: وفيه نظرٌ. الثاني: أن تكون «وَصِيَّةٌ» مبتدأ، و «لأَزْوَاجِهِمْ» صفتها، والخبر محذوفٌ، تقديره: فعليهم وصيةٌ لأزواجهم، والجملة خبر الأوَّل. الثالث: أنها مرفوعة بفعل محذوفٍ، تقديره: كتب عليهم وصيَّةٌ و «لأَزْوَاجِهِمْ» صفةٌ، والجملة خبر الأول أيضاً؛ ويؤيِّد هذا قراءة عبد الله: «كُتِبَ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ» وهذا من تفسير المعنى، لا الإعراب؛ إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل. الرابع: أن «الَّذِينَ» مبتدأٌ، على حذف مضافٍ من الأول، تقديره: ووصيَّةُ الذين. الخامس: أنه كذلك إلا أنه على حذف مضافٍ من الثاني، تقديره: «وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أَهْلُ وَصيَّةٍ» ذكر هذين الوجهين الزمخشريُّ، قال أبو حيان: «ولا ضرورة تدعونا إلى ذلك» . فهذه الخمسة الأولى التي على رفع «وَصِيَّةٌ» . وأمَّا الثلاثة التي على قراءة النصب في «وَصِيَّةٌ» : فأحدها: أنه فاعل فعل محذوفٍ، تقديره: وليوص الذين، ويكون نصب «وَصِيَّةٌ» على المصدر. الثاني: أنه مرفوع بفعل مبني للمفعول يتعدَّى لاثنين، تقديره: «وأُلْزِمَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ» ويكون نصب «وَصِيَّةً» على أنها مفعولٌ ثانٍ ل «أُلْزِمَ» ، ذكره الزمخشريُّ، وهو والذي قبله ضعيفان؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل. الثالث: أنه مبتدأٌ، وخبره محذوف، وهو الناصب لوصية، تقديره: والذين يتوفون يوصون وصيَّة، وقدره ابن عطية: «لِيُوصُوا» و «وَصِيَّةً» منصوبةٌ على المصدر أيضاً، وفي حرف عبد الله: «الوَصِيَّةُ» رفعاً بالابتداء، والخبر الجارُّ بعدها، أو مضمرٌ أي: فعليهم الوصية، والجارُّ بعدها حالٌ، أو خبرٌ ثانٍ، أو بيانٌ. قوله تعالى: {مَّتَاعاً} في نصبه سبعة أوجهٍ: أحدها: أنَّه منصوبٌ بلفظ «وَصِيَّة» لأنها مصدرٌ منونٌ، ولا يضرُّ تأنيثها بالتاء؛ لبنائها عليها؛ فهي كقوله: [الطويل] 1150 - فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّضْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ والأصل: وصية بمتاع، ثم حذف حرف الجرِّ، اتساعاً، فنصب ما بعده، وهذا إذا لم تجعل «الوصيَّة» منصوبةٌ على المصدر؛ لأن المصدر المؤكَّد لا يعمل، وإنما يجيء الجزء: 4 ¦ الصفحة: 240 ذلك حال رفعها، أو نصبها على المفعول؛ كما تقدَّم تفصيله. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ، إمَّا من لفظه، أي: متِّعوهنَّ متاعاً، أي: تمتيعاً، أو من غير لفظه، أي: جعل الله لهنَّ متاعاً. الثالث: أنه صفةٌ لوصية. الرابع: أنه بدل منها. الخامس: أنه منصوبٌ بما نصبها، أي: يوصون متاعاً، فهو مصدر أيضاً على غير الصدر؛ ك «قَعَدْتُ جُلُوساًَ» ، هذا فيمن نصب «وَصِيَّةٌ» . السادس: أنه حالٌ من الموصين: أي ممتَّعين أو ذوي متاعٍ. السابع: أنه حالٌ من أزواجهم، [أي] : ممتَّعاتٍ أو ذوات متاعٍ، وهي حالٌ مقدَّرة إن كانت الوصية من الأزواج. وقرأ أُبيٌّ: «مَتَاعٌ لأَزْوَاجِهِمْ» بدل «وَصِيَّةٌ» ، وروي عنه «فَمَتَاعٌ» ، ودخول الفاء في خبر الموصول؛ لشبهه بالشرط، وينتصب «مَتَاعاً» في هاتين الروايتين على المصدر بهذا المصدر، فإنه بمعنى التمتيع؛ نحو: «يُعْجِبُنِي ضَرْبٌ لَكَ ضَرْباً شَدِيداً» ، ونظيره: {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} [الإسراء: 63] ، و «إِلَى الحَوْلِ» متعلِّقٌ ب «مَتَاع» أو بمحذوفٍ؛ على أنه صفة له. قوله تعالى: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} في نصبه ستة أوجهٍ: أحدها: أنه نعتٌ ل «مَتَاعاً» . الثاني: أنه بدلٌ منه. الثالث: أنه حالٌ من الزوجات، أي: غير مخرجات. الرابع: أنه حالٌ من الموصين، أي: غير مخرجين. الخامس: أنه منصوب على المصدر، تقديره: لا إخراجاً، قاله الأخش. السادس: أنه على حذف حرف الجرِّ، تقديره: من غير إخراجٍ، قاله أبو البقاء، قال شهاب الدين: وفيه نظر. فصل في المراد بقوله «غير إخراج» معنى قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} أي: ليس لأولياء الميِّت ووارثي المنزل؛ إخراجها، «فَإِنْ خَرَجْنَ» أي: باختيارهن قبل الحول «فلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُم» ، أي: لا حرج على وليِّ أحدٍ وُلِّيَ، أو حاكم، أو غيره؛ لأنه لا يجب عليها المقام في بيت زوجها حولاً. وقيل: لا جناح في قطع النّفقة عنهن، أو لا جناح عليهنَّ في التشرُّف إلى الأزواج، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 241 إذ قد انقطعت عنهنَّ مراقبتكم أيُّها الورثة، ثم عليها أنها لا تتزوج قبل انقضاء العدَّة بالحول أو لا جناح في تزويجهنَّ بعد انقضاء العدّة، لأنه قال: «بالمَعْرُوفِ» ، وهو ما يوافق الشرع. و {والله عَزِيزٌ} صفةٌ تقتضي الوعيد بالنسبة لمن خالف الحدَّ في هذه النازلة، في إخراج المرأة، وهي لا تريد الخروج {حَكِيمٌ} ، أي مُحْكِمٌ لما يريد من أمور عباده والله أعلم. قوله: {فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ} هذان الجارَّان يتعلَّقان بما تعلَّق به خبر «لا» وه «عَلَيْكُمْ» من الاستقرار، والتقدير: لا جناح مستقرٌّ عليكم فيما فعلن في أنفسهنَّ، و «مَا» موصولةٌ اسميةٌ، والعائد محذوف، تقديره: فعلنه، و «مِنْ مَعْرُوفٍ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من ذلك العائد المحذوف، وتقديره: فيما فعلنه كائناً من معروفٍ. وجاء في هذه الآية {مِن مَّعْرُوفٍ} نكرةً مجرورةً ب «مِنْ» ، وفي الآية قبلها «بِالمَعْرُوفِ» معرَّفاً مجروراً بالباء؛ لأنَّ هذه لام العهد؛ كقولك: «رَأَيْتُ رَجُلاً فَأَكْرَمْتُ الرَّجُلَ» إلاَّ أنَّ هذه، وإن كانت متأخِّرةً في اللفظ، فهي متقدِّمة في التنزيل، ولذلك جعلها العلماء منسوخةً بها، إلا عند شذوذٍ، وتقدَّم نظائر هذه الجمل، فلا حاجة إلى إعادة الكلام فيها. فصل في سبب النزول في هذه الآية ثلاثة أقوالٍ: الأول: وهو اختيار جمهور المفسرين أنها منسوخةٌ، قالوا: نزلت الآية في رجل من أهل الطائف، يقال له: حكيم بن الحرث، هاجر إلى المدينة، وله أولاد، ومعه أبواه وامرأته، فمات، فأنزل الله هذه الآية؛ فأعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والديه، وأولاده ميراثه، ولم يعط امرأته شيئاً، وأمرهم أن ينفقوا عليها من تركة زوجها حولاً كاملاً، وكانت عدَّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً، كاملاً، وكانت عدَّة الوفاة في ابتداء الإسلام حولاً، وكان يحرم على الوارث إخراجها من البيت قبل تمام الحول، وكان نفقتها وسكناها واجبةً في مال زوجها تلك السَّنة، ما لم يخرج، ولم يكن لها الميراث، فإن خرجت من بيت زوجها، سقطت نفقتها، وكان على الرجل أن يوصي بها، فكان كذلك حتى نزلت آية الميراث، فنسخ الله تعالى نفقة الحول بالرُّبع، والثُّمن، ونسخ عدَّة الحول ب «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً» . قال ابن الخطيب: دلَّت هذه الآية على وجوب أمرين: أحدهما: وجوب النفقة، والسُّكنى من مال الزَّوج، سواءٌ قراءة «وَصِيَّةٌ ووصِيَّةً» بالرفع، أو بالنصب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 242 والثاني: وجوب الاعتداد، ثم نسخ الله تعالى هذين الحكمين، أمّا الوصية بالنفقة، والسكنى، فلثبوت ميراثها بالقرآن، والسنة، دلَّت على أنَّه لا وصيَّة لوارثٍ، فصار مجموع القرآن والسنَّة ناسخاً لوجوب الوصيَّة لها بالنفقة والسكنى في الحول. أمَّا وجوب العدة في الحول، فنسخ بقوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة: 234] . القول الثاني: وهو قول مجاهد: أنَّ الله تعالى أنزل في عدَّة المتوفى عنها زوجها آيتين: إحداهما: قوله {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [آية: 234] ، والأخرى هذه الآية؛ فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين، فنقول: إنَّها إن لم تختر السُّكنى في دار زوجها، والأخذ من ماله، وتركته؛ فعدَّتها هي الحول، قال ابن الخطيب: وتنزيل الآيتين على هذين التَّقديرين أولى؛ حتى يكون كل منهما معمولاً به، والجمع بين الدَّليلين، والعمل بهما أولى من اطراح أحدهما، والعمل بالآخر. القول الثالث: قال أبو مسلم الأصفهاني: معنى الآية: أنَّ من يتوفَّى منكم، ويذرون أزواجاً، وقد وصّوا وصيَّة لأزواجهم، بنفقة الحول، وسكنى الحول، فإن خرجن قبل ذلك، وخالفن وصيَّة أزواجهنَّ، بعد أن يقمن أربعة أشهرٍ وعشراً؛ فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروفٍ، أي: نكاحٌ صحيحٌ؛ لأن إقامتهنَّ بهذه الوصيَّة غير لازمة. قال: والسَّبب: أنَّهم كانوا في الجاهليَّة يوصون بالنَّفقة، والسُّكنى حولاً كاملاً، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أنَّ ذلك غير واجبٍ، وعلى هذا التَّقدير، فالنَّسخ زائلٌ، واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ: أحدها: أنَّ النَّسخ خلاف الأصل؛ فوجب المصير إلى عدمه، بقدر الإمكان. الثاني: أنَّ النَّاسخ يكون متأخِّراً عن المنسوخ في النُّزول، وإذا كان متأخِّراً عنه في النُّزول، يجب أن يكون متأخِّراً عنه في التِّلاوة، وهو إن كان جائزاً في الجملة إلاَّ أنَّ قولنا يعدّ من سوء التَّرتيب، وتنزيه كلام الله واجبٌ بقدر الإمكان، ولمَّا كانت هذه الآية متأخِّرةً عن تلك في التِّلاوة؛ كان الأولى ألاّ يحكم بكوها منسوخةً بتلك. الثالث: أنَّه ثبت عند الأصوليِّين متى وقع التَّعارض بين التَّخصيص، والنَّسخ، كان النَّسخ أولى، وها هنا إن خصَّصنا هاتين الآيتين بحالتين على ما هو قول مجاهد؛ اندفع النَّسخ، فكان قول مجاهد أولى من التزام النَّسخ من غير دليلٍ، وأمَّا على قول أبي مسلم، فيكون أظهر؛ لأنكم تقولون: تقدير الآية: فعليهم وصيَّةٌ لأزواجهم، أو تقديرها: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 243 فليوصوا وصيَّةً، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى، وأبو مسلم يقول: بل تقدير الآية: والذين يتوفون منكم، ولهم وصيَّةٌ لأزواجهم، أو تقديرها: وقد أوصوا وصيَّةً لأزواجهم فهو يضيف هذا الكلام إلى الزَّوج، وإذا كان لا بدَّ من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضمارنا ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكره أبو مسلمٍ؛ لم يلزم تطرُّق النَّسخ إلى الآية، فيكون أولى. وإذا ثبت هذا فنقول: الآية من أولها إلى آخرها، تكون جملةً واحدةً شرطيَّةً، فالشَّرط هو قوله: {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فهذا كلُّه شرطٌ والجزاء هو قوله: {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ} فهذا تقرير قول أبي مسلمٍ. قال ابن الخطيب: وهو ف ي غاية الصِّحَّة، وعلى تقدير باقي المفسِّرين، فالمعنى: والذين يتوفَّون منك أيُّها الرِّجال، ويذرون زوجاتٍ فليوصوا وصيَّةٌ، وكتب عليكم الوصيَّة بأن تمتِّعوهنَّ متاعاً، أي: نفقة سنةٍ لطعامها، وكسوتها، وسكناها، غير مخرجين لهن، فإن خرجن من قبل أنفسهنّ قبل الحول من غير إخراج الورثة، فلا جناح عليكم يا أولياء الميِّت، فيما فعلن في أنفسهنّ من معروف، يعني: التَّزين للنِّكاح، ولرفع الجناح عن الرِّجال، وجهان: أحدهما: لا جناح عليكم في ترك منعهنّ من الخروج؛ لأنَّ مقامها في بيت زوجها حولاً، غير واجبٍ عليها، فخيَّرها الله تعالى بين: أن تقيم حولاً، ولها النَّفقة والسُّكنى، وبين أن تخرج إلى أن نسخت بأربعة أشهر وعشراً. فإن قيل: إن الله تعالى ذكر الوفاة، ثم أمرنا بالوصيَّة، فكيف يوصي المتوفى؟! فالجواب أنَّ معناه: والذين يقارون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا، فجعل المقاربة للوفاة عبارة عنها. وقيل: إنّ هذه الوصيّة يجوز أن تكون مضافةً إلى الله تعالى، بمعنى: «أمره، وتكليفه» ، كأنَّه قيل: وصيّة من الله لأزواجهم، كقوله: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: 11] . فصل المعتدَّة من فرقة الوفاة، لا نفقة لها، ولا كسوة حاملاً كانت، أو حائلاً. وروي عن عليٍّ، وابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّ لها النَّفقة إذا كانت حاملاً، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 244 وعن جابر، وابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنهما قالا: لا نفقة لها، حسبها الميراث، وهل تستحقُّ السُّكنى؟ قال عليٌّ، وابن عباس، وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: لا تستحقُّ السُّكنى، وهذا مذهب أبي حنيفة والمزنيّ. وقال عمر، وابن عمر، وعثمان، وابن مسعود، وأمُّ سلمة: إنها تستحقُّ السُّكنى، وبه قال مالك، والثَّوريُّ، وأحمد. واحتجَّ كلٌّ من الطائفتين بخبر فريعة بنت مالك، أخت أبي سعيدٍ الخدريِّ، قتل زوجها؛ فسألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: إنّي أرجع إلى أهلي، فإنَّ زوجي ما تركني في منزل يملكه؛ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «نَعَمْ» ، فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد، أو في الحجرة دعاني فقال: «امْكُثِي في بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ» ، فاختلفوا في تنزيل هذا الحديث. فقيل: لم يوجب في الابتداء، ثمَّ أوجب؛ فصار الأوَّل منسوخاً. وقيل: أمرها بالمكث في بيتها أجراً على سبيل الاستحباب، لا على سبيل الوجوب. واحتجَّ المزنيُّ على أنَّه لا سكنى لها فقال: أجمعنا على أنَّه لا نفقة لها؛ لأنَّ الملك انقطع بالموت، فكذلك السُّكنى بدليل: أنهم أجمعوا على أنَّ من وجب له نفقةً، وسكنى عن ولد ووالد على رجلٍ؛ فمات؛ انقطعت نفقتهم، وسكناهم؛ لأنّ ماله صار ملكاً للوارث، فكذا ها هنا. وأجيب بأنَّه لا يمكن قياس السُّكنى على النفقة؛ لأنَّ المطلقة ثلاثاً تستحقُّ السُّكنى بكلِّ حالٍ، ولا تستحقُّ النَّفقة لنفسها عند المزنيّ. ولأن النَّفقة وجبت في مقابلة التَّمكين من الاستمتاع، ولا يمكن ها هنا، وأمَّا السُّكنى وجبت لتحصين النساء، وهو موجودٌ ها هنا فافترقا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 إنَّما أعاد ذكر المتعة ها هنا؛ لزيادة معنًى؛ وذلك أنَّ في غيرها بيان حكم غير الممسوسة، وفي هذه الآية: بيان حكم جميع المطلّقات في المتعة. وقيل: لأنَّه لما نزل قوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ} [البقرة: 236] ، إلى قوله: {حَقّاً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 245 عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 236] قال رجلٌ من المسلمين: إن أردت؛ فعلت، وإن لم أرد ذلك لم أفعل فقال الله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف} جعل المتعة لهن بلام الملك، وقال: {حَقّاً عَلَى المتقين} يعنى المؤمنين المتَّقين الشِّرك. وقيل: المراد بهذه المتعة: النَّفقة، والنَّفقة قد تسمَّى متاعاً، فاندفع التَّكرار. واعلم أنَّ القائل بوجوب المتعة لكلِّ المطلقات: هو سعيد بن جبير، وأبو العالية والزُّهريّ. وقال الشَّافعيُّ: لكلّ مطلقة إلاّ المطلقة التي فرض لها المهر، ولم يوجد في حقّها المسيس. قال أبو حنيفة: لا تجب المتعة إلاَّ للمطلَّقة التي لم يفرض لها، ولم يوجد المسيس. وقول الله تعالى في زوجات النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] محمولٌ على أنَّه تطوُّع من النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا على سبيل الوجوب. وقوله: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [الأحزاب: 49] محمولٌ على غير المفروض لها أيضاً. قال القرطبيُّ: وأوجب الشَّافعيُّ المتعة للمختلعة، والمبارئة، وقال أصحاب مالك: كيف يكون للمفتدية متعة وهي تعطى، فكيف تأخذ متاعاً، لا متعة لمختارة الفراق من مختلعة، أو مفتدية، أو مبارئة، أو مصالحة، أو ملاعنة، أو معتقة تختار الفراق، دخل بها أم لا، سمى لها صداقاً أم لا؛ وقد تقدَّم ذلك، ثم قال: {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 اعلم أنَّ عادته تعالى: أن يذكر القصص بعد بيان الأحكام ليفيد الاعتبار للسَّامع. قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين} : هذه همزة الاستفهام دخلت على حرف النَّفي، فصيَّرت النَّفي تقريراً، وكذا كلُّ استفهام دخل على نفي نحو: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] {أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ} [الزمر: 36] فيمكن أن يكون المخاطب علم هذه القصّة قبل نزول هذه الآية، فيكون التَّقرير ظاهراً، أي: قد رأيت حال هؤلاء، كقول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 246 الرَّجل لغيره يريد تعريفه ابتداء: «ألم تر إلى ما جرى على فلان؟» . قال القرطبيُّ: والمعنى عند سيبويه: تنبُّه إلى أمر الذين، ولا تحتاج هذه الرواية إلى مفعولين والمخاطب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو كل سامع، إلاَّ أنَّه قد وقع الخطاب معه ابتداءً كقوله: {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} [الطلاق: 1] ويجوز أن يكون المراد بهذا الاستفهام: التعجب من حال هؤلاء، وأكثر ما يرد كذلك: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً} [المجادلة: 14] {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} [الفرقان: 45] ؛ وقال الشاعر: [الطويل] 1151 - أَلَمْ تَرَ أَنِّي كُلَّمَا جِئْتُ طَارِقاً ... وَجَدْتُ بِهَا طِيباً وإنْ لَمْ تَطَيَّبِ والرُّؤية هنا علميَّة، فكان من حقِّها أن تتعدَّى لاثنين، ولكنَّها ضمِّنت معنى ما يتعدَّى بإلى. والمعنى: ألم ينته علمك إلى كذا. وقال الرَّاغب: «رأيت: يتعدَّى بنفسه دون الجارِّ، لكن لما استعير قولهم:» ألم تَرَ «بمعنى ألم تنظر؛ عدِّي تعديته، وقلَّما يستعمل ذلك في غير التقدير، لا يقال: رأيت إلى كذا» . وقرأ السُّلمي: «تَرْ» بسكون الرَّاء، وفيها وجهان: أحدهما: أنه توهَّم أنَّ الراء لام الكلمة، فسكَّنها للجزم؛ كقوله: [الرجز] 1152 - قَالَتْ سُلَيْمَى اشْتَرْ لَنَا سَوِيقَا ... وَاشْتَرْ فَعَجِّلْ خَادِماً لَبِيقَا وقيل: هي لغة قومٍ، لم يكتفوا في الجزم بحذف حرف العلَّة. والثاني: أنه أجرى الوصل مجرى الوقف، وهذا أولى، فإنَّه كثيرٌ في القرآن؛ نحو: «الظُّنُونَا» ، و «الرَّسُولاَ» ، و «السَّبِيلاَ» ، و «لَمْ يَتَسَنَّهُ» ، و «بِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ» وقوله: «وَنُصْلِهِ» ، و «نُؤْتِهِ» ، و «يُؤَدِّه» ، وسيأتي ذلك، إن شاء الله تعالى. قوله: {وَهُمْ أُلُوفٌ} مبتدأٌ وخبرٌ، وهذه الجملة في [موضع] نصب على الحال، وهذا أحسن مجيئها، إذ قد جمع فيها بين الواو والضمير، و «أُلوفٌ» فيه قولان: أظهرهما: أنه جمع «ألْف» لهذا العدد الخاصِّ، وهو جمع الكثرة، وجمع القلّة: آلاف كحمول، وأحمال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 247 والثاني: أنه جمع «آلِف» على فاعل كشاهدٍ وشهود، وقاعدٍ وقُعودٍ، أي: خرجوا وهم مؤتلفون، قال الزَّمخشريُّ: «وهذا من بِدَع التَّفاسير» . قوله تعالى: {حَذَرَ الموت} أي من خوف الموت وهو مفعولٌ من أجله، وفيه شروط النَّصب، أعني المصدرية، واتحاد الفاعل، والزمان. قوله: {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أنه معطوفٌ على معنى: فقال لهم الله: موتوا، لأنَّه أمرٌ في معنى الخبر تقديره: فأماتهم الله ثم أحياهم. والثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ، تقديره: فماتوا ثم أحياهم بعد موتهم، و «ثم» تقتضي تراخي الإحياء عن الإماتة. وألف «أَحْيَا» عن ياء؛ لأنَّه من «حَيِيَ» ، وقد تقدَّم تصريف هذه المادّة عند قوله: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً} [البقرة: 26] . فصل قال السُّدِّيُّ وأكثر المفسرين: «كانت قرية يقال لها:» دَاوْردَان «قيل واسط، وقع بها الطَّاعون، فخرج عامَّة أهلها، وبقيت طائفةٌ، فهلك أكثر الباقين وبقي منهم بقيَّةٌ في المرض والبلاء، فلما ارتفع الطَّاعون؛ رجع الَّذين هربوا سالمين فقال من بَقِيَ من المرضى: هؤلاء أحزم منّا، لو صنعنا كما صنعوا لنجونا، ولئن وقع الطَّاعون ثانيةً لنخرجنّ إلى أرض لا وباء فيها، فوقع الطاعون من قابِلٍ؛ فهرب عامَّة أهلها، وهم بضعةٌ وثلاثون ألفاً؛ حتى نزلوا وادياً أفيح فلمّا نزلوا المكان الذين يبتغون فيه النَّجاة، ناداهم ملك من أسفل الوادي، وآخر من أعلاه:» أنْ مُوتُوا «فماتوا جميعاً وبليت أجسامهم، فمرَّ بهم نبيٌّ يقال له:» حِزْقِيل بن يوذي «: ثالث خلفاء بني إسرائيل، بعد موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وذلك أن القيم بعد موسى بأمر بني إسرائيل يُوشَعُ بْنُ نُون ثم كالب بن يوفنا، ثم حزقيل، وكان يقال له: ابن العجوز؛ لأنَّه أمَّه كانت عجوزاً، فسألت الله الولد بعدما كبرت، وعقمت، فوهبه الله لها» . قال الحسن، ومقاتل: هو ذو الكفل، وسمِّي: ذا الكفل؛ لأنَّه تكفَّل بسبعين نبيّاً، وأنجاهم من القتل، فلمَّا مرَّ حزقيل على أولئك الموتى، وقف متفكّراً فيهم متعجِّباً، فأوحى الله إليه أتريد أن أُريك آيةً؟ قال: نعم، فقيل له: نادِ! يَا أَيُّهَا العِظَامُ إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكِ أن تَجْتَمِعِي، فجعلتِ العِظَامُ يَطِيرُ بعضها إلى بعض، حتى تمّت العِظَامُ، ثم أوحى اللهُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 248 إليه ثانياً أن ينادي: يا أيَّتُها العِظَامُ؛ إنَّ اللهَ يأمرك أنَّ تَكْتَسِي لحماً ودماً، ثم نادي: إنَّ اللهَ يأمرك أن تَقُومي؛ فقامت، فلمَّا صاروا أحياءً قاموا، وكانوا يقولون: «سُبْحَانَكَ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ، لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ» ثم رجعوا إلى قريتهم، بعد حياتهم، وكانت أمارات موتهم ظاهرةً في وجوههم، ثمَّ بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم. روى عبد الله بن عامر بن ربيعة أنَّ عمر بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: خرج إلى الشَّام، فلمَّا جاء «سَرْغَ» بلغه أنَّ الوباء قد وقع بالشَّام؛ فأخبره عبد الرحمن بن عوف: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضِ فَلاَ تَقْدُمُوا عَلَيْهِ، وإذا وَقَعَ بِأَرْضٍ وأَنْتُمْ بِهَا؛ فَلاَ تَخْرُجُوا فِرَاراً» ؛ فرجع عمر من «سرغ» . وقال ابن عبَّاس، والكلبيُّ ومقاتل والضَّحَّاك: إنَّ ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال؛ فخافوا القتال، وجبنوا، وكرهوا الموت، فاعتلُّوا، وقالوا لملكهم: إنَّ الأرض التي تذهب إليها بها الوباء، فلا نأتيها حتى يزول ذلك الوباء منها؛ فأرسل الله عليهم الموت؛ فخرجوا من ديارهم فراراً من الموت، فلما رأى الملك ذلك قال: اللَّهمّ ربّ يعقوب، وإله موسى، وهارون قد ترى معصية عبادك، فأرهم آيةً في أنفسهم، حتى يعلموا أنَّهم لا يستطيعون الفرار منك، فلمَّا خرجوا قال لهم الله «مُوتُوا» ، فماتوا جميعاً، وماتت دوابهم كموت رجل واحدٍ، وبقوا ثمانية أيَّام، حتَّى انتفخوا وأروحت أجسادهم، وبلغ بني إسرائيل موتهم، فخرجوا لدفنهم؛ فعجزوا لكثرتهم، فحظروا عليهم حظائر دون السِّباع، فأحياهم الله بعد الثمانية أيَّام، وبقي فيهم شيءٌ من ذلك النتن، وفي أولادهم إلى هذا اليوم. واحتجُّوا على هذه الرِّواية بقوله عقيب ذلك: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 244] وقال مقاتل والكلبي كانوا قوم حزقيل، أحياهم الله تعالى بعد ثمانية أيَّام، وذلك أنه لمَّا أصابهم ذلك، خرج حزقيل في طلبهم، فوجدهم موتى؛ فبكى وقال: «يا ربِّ؛ كُنْتُ من قومٍ يحمدونَكَ ويسبِّحُونَكَ ويقدِّسُونَكَ، ويكبِّرُونَكَ، ويهللونَكَ؛ فبقيت واحداً لا قوم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 249 لي» ؛ فأوحى الله إليه: إنِّي جعلت حياتهم إليك، فقال حزقيل: احيوا بإذن الله تعالى؛ فعاشوا. قال مجاهدٌ: إنهم قالوا حين أُحيوا: سبحانك ربنا، وبحمدك لا إله إلاّ أنت، فرجعوا إلى قومهم، وعاشوا دهراً طويلاً وسحنة الموت على وجوههم، لا يلبسون ثوباً إلاَّ عاد دنساً مثل الكفن، حتى ماتوا لآجالهم التي كتب لهم. قال ابن عباس: إنَّها لتوجد اليوم في ذلك السِّبط من اليهود تلك الرِّيح. قال الحسن: أماتهم الله قبل آجالهم عُقُوبَةً لهم، ثم بعثهم إلى بقيَّة آجالهم. قال ابن العربيّ: أماتهم الله عقوبة لهم، ثم أحياهم، وميتة العقوبة بعدها حياةٌ، وميتة الأجل لا حياة بعدها. قوله تعالى: {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ} . قال ابن الخطيب: قيل: هو من قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] والمراد سرعة وقوع المراد، ولا قول هناك. وقيل: أمر الرَّسول أن يقول لهم: «مُوتُوا» أو الملك، والأوَّل أقرب. قوله تعالى: {ثُمَّ أَحْيَاهُمْ} يقتضي أنهم أُحيوا بعد موتهم، وذلك ممكنٌ، وقد أخبر الصَّادق به؛ فوجب القطع. وقالت المعتزلة: إحياء الميِّت فعلٌ خارق للعَادَةِ، ولا يجوز إظهاره إلا معجزة للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال ابن الخطيب: وأصحابنا يجوّزون خرق العادة كرامةً للأولياء، ولغير ذلك. قالت المعتزلة: وهذا الإحياء، وقع في زمن حزقيل ببركة دعائه. وها هنا بحثٌ وهو أنَّه قد ثبت بالدَّليل أن المعارف تصير ضروريّة عند القرب من الموت ومعاينة الأهوال والشدائد، فهؤلاء إن كانوا عاينوا تلك الأهوال الموجبة للعلم الضَّروريِّ؛ وجب الجزء: 4 ¦ الصفحة: 250 إذا عاشوا أن يبقوا ذاكرين لذلك؛ لأن الأشياء العظيمة لا تنسى مع كمال العقل؛ لتبقى لهم تلك العلوم، ومع بقائها يمتنع التَّكليف كما في الآخرة، ولا مانع يمنع من بقائهم غير مكلَّفين وإن كان جاءهم الموت بغتةً، كالنَّوم ولم يعاينوا شدَّةَ، ولا هولاً، فذلك أيضاً ممكن. وقال قتادة: إنَّما أحيوا ليستوفوا بقيَّة آجالهم. فصل واختلفوا في عدّتهم. قال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يكنوا دون ثلاثة آلاف، ولا فوق سبعين ألفاً. والوجه من حيث اللَّفظ: أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف؛ لأنَّ الألوف جمع الكثرة، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف، وقيل: إنَّ الألوف جمع ألفٍ، كقعودٍ وقاعدٍ، وجلوسٍ، وجالسٍ، والمعنى: أنَّهم كانوا مؤتلفي القلوب. قال القاضي: والوجه الأوَّل أولى؛ لأنَّ ورود الموت عليهم دفعةً واحدةً، وهم كثرةٌ عظيمةٌ، تفيد مزيد اعتبار بحالهم؛ لأنَّ موت الجمع العظيم دفعةً واحدةً لا يتَّفق وقوعه، وأمَّا ورود الموت على قوم تآلفوا حب الحياة، وبينهم ائتلافٌ ومحبةٌ كوروده وبينهم اختلاف، فوجه الاعتبار لا يتغيَّر. قال ابن الخطيب: ويمكن أن يجاب بأنَّ المراد كون كلّ واحد منهم آلفاً لحياته، محباً لهذه الدُّنيا، فرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ} [البقرة: 96] ، ثم إنهم مع غاية حبِّهم للحياة وألُفهم بها أماتهم الله تعالى، وأهلكهم ليعلم أنّ حرص الإنسان على الحياة، لا يعصمه من الموت، فهذا القول ليس ببعيدٍ. فصل قال القرطبيُّ: الطَّاعون وزنه فاعول من الطَّعن، غير أنَّه لما عدل به عن أصله؛ وضع دالاً على الموت العام بالوباء. قاله الجوهريُّ. وردت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ» قالت: الطَّعن قد عرفناه فما الطَّاعون، قال: «غُدَّةٌ كَغُدَّةِ البَعِيرِ تَخْرُجُ في المراقِّ والآبَاطِ» قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 251 العلماء: وهذا الوباء يرسله الله نقمة، وعقوبة على من يشاء من عصاة عبيده، وكفرتهم، وقد يرسله الله شهادة، ورحمة للصَّالحين، كقول معاذٍ في طاعون عمواس: إنَّه شهادةٌ ورحمةٌ لكم، ودعوة نبيكم، وهي قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «اللَّهُمَّ أَعْطِ مُعَاذاً وَأَهْلَهُ نَصِيبَهُم مِنْ رَحْمَتِكَ» ، فَطُعِنَ في كَفِّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. فصل وروى البخاريُّ: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال حين ذكره الوباء: «إنَّه رجزٌ، أو عذابٌ عذِّب به بعض الأمم، ثمَّ بقي منه بقيَّةٌ، فيذهب المرَّة، ويأتي الأخرى، فمن سمع به بأرضٍ، فلا يقدمنَّ عليه، ومن كان بأرضٍ وقع بها، فلا يخرج فراراً منه» وعمل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بمقتضى هذا الحديث لمَّا رجعوا من «سَرْغ» حين أخبرهم ابن عوف بهذا الحديث. وقالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - «الفَارُّ مِنَ الوَبَاءِ كالفَارِّ مَنَ الزَّحْفِ» . قال الطَّبريُّ: يجب على المرء توقّي المكاره قيل نزولها، وتجنُّب الأشياء المخيفة قبل هجومها، وكذلك كلّ متَّقًى من غوائل الأمور، سبيله إلى ذلك سبيل الطَّاعون، ونظيره قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «لاَ تَتَمَنَّوا لِقَاءَ العَدُوِّ وَاسْأَلُوا اللهَ العَفْوَ وَالعَافِيَةَ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاصْبِرُوا» ، ولما خرج عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - مع أبي عبيدة إلى الشَّام فسمع عمر أنَّ الوباء بها فرجع، فقال له أبو عبيدة: أفراراً من قدر الله، فقال عمر: لو غيرك قالها يا أبا عبيدة؟! نعم نفرُّ من قدر الله إلى قدر الله، والمعنى لا محيص للإنسان عمَّا قدَّره الله عليه، لكن أمرنا الله من التَّتحرُّز من المخاوف، والمهلكات، وباستفراغ الوسع في التَّوقِّي من المكروهات، ثمَّ قال له: أرأيت لو كانت لك إبل، فهبطت وادياً له عدوتان، إحداهما خصبةٌ والأخرى جدبة، أليس إن رعيت الخصبة، رعيتها بقدر الله، وإن رعيت الجدبة رعيتها بقدر الله؟ فرجع عمر من موضعه ذلك إلى المدينة. قوله: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 252 أَتَى بهذه الجملة مؤكَّدة ب «إِنْ» واللام، وأتى بخبرٍ «إِنَّ» : «ذو» الدَّالة على الشَّرفِ بخلافِ «صاحبِ» ، و «عَلَى النَّاسِ» متعلقٌ بفَضْل تقول: تَفَضَّل فلان عليَّ، أو بمحذوفٍ؛ لأنه صفةٌ له فَهُوَ في محلّ جرٍّ، أي: فضلٍ كائنٍ على النَّاسِ. وأل في النَّاسِ لِلْعمُوم. والمعنى أَنَّ هذه القِصَّة تشجع الإِنسان على الإِقدام على طاعة الله تعالى، وتزيل على قَلبه الخَوفَ، فكان ذِكْرُ هذه القِصَّة سبباً لبعد العبد عن المعصية، وقربه من الطَّاعةِ، فكان ذِكرُ هذه القصَّةِ فضلاً وإحساناً من اللهِ على عبدهِ وقيل للعهدِ والمُرادُ بهم: الَّذشين أَمَاتَهُم لأنهم خرجُوا من الدُّنيا على المعصيةِ، ثم أعادهُم إلى الدُّنيا؛ حتى تَابُوا. وقيل: المُرادُ بالعَهدِ أَنَّ العرب الذين كانُوا منكرين للمعاد؛ كانوا مُتمسكين بقول اليهُود في كثير من الأُمور إذا سمِعُوا بهذه الواقعة، فالظَّاهِرُ أَنَّهُم يرجعون من الدين الباطل الَّذِي هو الإِنكارُ إلى الدِّين الحَقّ، وهو الإِقرار بالبعث، فيتخلَّصُون مِنَ العقاب، وكان ذكر هذه القصَّة؛ فضلاً من الله في حقّ هؤلاء. قوله: {ولكن أَكْثَرَ الناس} هذا استدراكٌ مِمَّا تَضَمَّنَهُ قوله {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} ؛ لأنَّ تقديره: فيجب عليهم أَنْ يَشْكُروه لتفضُّلِهِ عليهم بالإِيجادِ، والرَّزْق، ولكنَّ أكثرَهم غيرُ شاكرٍ. وهو كقوله: {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} [الإسراء: 89] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 قوله تعالى: {وَقَاتِلُوا} هذه الجملة فيها أقوالٌ: أحدها: أنه عطفٌ على قوله: «مُوتُوا» وهو أمرٌ لِمَنْ أَحياهُم اللهُ بعد الإِماتةِ بالجهاد، [أي] فقال لهم: مُوتوا وقاتِلوا، رُوي ذلك عن ابن عبَّاسٍ، والضَّحاك. قال الطَّبريِّ: «ولا وجهَ لهذا القَوْلِ» . والثاني: [أنها معطوفةٌ على قوله: «حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ» وما بينهما اعتراضٌ. والثالث] : أَنَّها معطوفةٌ على محذوفٍ تقديره: «فَأَطِيعُوا وَقَاتلوا، أو فلا تَحْذَروا الموتَ كما حَذِرَهُ الذين مِنْ قَبْلكُم، فلم يَنْفَعهم الحذرُ، قاله أبو البقاء. والظَّاهر أنَّ هذا أمرٌ لهذه الأمةِ بالجهاد، بعد ذكره قوماً لم ينفعهم الحذرُ من المَوتِ، فهو تشجيعٌ لهم، فيكونُ من عطفِ الجملِ؛ فلا يُشْتَرَطُ التوافقُ في أمرٍ ولا غيره. قوله: {فِي سَبِيلِ اللَّهِ} فالسَّبيلُ: هو الطَّريق، وسمِّيتُ العباداتُ سبيلاً إلى اللهِ مِن حيثُ إِنَّ الإنسان بسلوكها يتوصَّلُ إلى ثوابِ اللهِ. قال القرطبي: وهذا قول الجمهور: وهو الَّذِي ينوى به أن تكون كلمة الله هي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 253 العُليا، وسُبُلُ الله كثيرةٌ، فهي عامَّةٌ فِي كُلِّ سبيل. قال تعالى: {قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] قال مالكٌ: سبل الله كثيرة، وما مِنْ سبيلٍ إِلاَّ يقاتل عليها أو فيها أو لها، وأعظمها دينُ الإسلامِ، فلا جرم كان المُجاهِدُ مُقاتِلاً في سبيلِ اللهِ. ثُمَّ قال: {واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أَي: يسمعُ كلامكم في ترغيب الغير في الجهاد، أو في ترعيب الغيرِ عنه، و» عليمٌ «بما في ضمائركُم من البواعثِ، والأَعراضِ: أَنَّ ذلك الجهاد لغرض الدِّينِ، أو لغرض الدُّنيَا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 «مَّن» للاستفهام ومحلُّها الرَّفع على الابتداءِ، و «ذا» اسمُ إشارةٍ خبرُهُ، و «الذي» وصلتُهُ نعتٌ لاسم الإِشارةِ، أو بدلٌ منه، ويجوزُ أن يكونَ «مَنْ ذا» كلُّه بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ تركَّبا كقولك: «مَاذَا صَنَعْتَ» كما تقدَّمَ في قوله: {مَاذَآ أَرَادَ الله} [البقرة: 26] . ومَنَع أبو البقاء هذا الوجه وفرَّق بينه وبين قولِكَ: «ماذا» حيثُ يُجْعَلان اسماً واحداً بأنَّ «ما» أشدُّ إيهاماً مِنْ «مَنْ» ؛ لأنَّ «مَنْ» لمَنْ يعقِلُ. ولا معنى لهذا المنعِ بهذه العلةِ، والنحويون نَصُّوا على أنَّ حكمَ «مَنْ ذا» حكمُ «ماذا» . ويجوز أن يكونَ «ذا» بمعنى الّذي، وفيه حينئذٍ تأويلان: أحدهما: أنَّ «الَّذِي» الثاني تأكيدٌ له؛ لأنَّه بمعناه، كأَنَّهُ قيل: مَنِ الَّذِي يُقرِضُ الله قرضاً. والثاني: أَنْ يكونَ «الذي» خبرَ مبتدأ محذوفٍ، والجملةُ صلةُ ذا، تقديرُه: «مَنْ الذي [هو الّذي] يُقْرِضُ، وذا وصلتهُ خبرُ» مَنِ «الاستفهاميّة. أجاز هذين الوجهين ابن مالك، قال شهاب الدين وهما ضعيفان، والوجهُ ما قدَّمتُهُ. وانتصَبَ» قَرْضاً «على المصدر على حذفِ الزَّوائِد، إِذ المعنى: إقراضاً كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ، وعلى هذا فالمفعولُ الثاني محذوفٌ تقديرُهُ:» يُقْرِضُ اللهَ مالاً وصدقةً «، ولا بدَّ من حذفِ مُضَافٍ تقديرهُ: يقرضُ عِبادَ اللهِ المحاويجَ، لتعاليه عن ذلك، أو يكونُ على سبيل التَّجُّوزِ، ويجوزُ أَنْ يكونَ بمعنى المفعول نحو: الخَلْق بمعنى المخلُوق، وانتصابُهُ حينئذٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ ل» يُقْرِض «. قال الواحديُّ: والقَرْضُ في هذه الآيةِ اسمٌ لا مصدر، ولو كان مصدراً؛ لكان إقراضاً. و» حَسَناً «يجوزث أَن يكونَ صفةً لقرضاً بالمعنيينِ المذكورين، ويجوزُ أن يكونَ نعتَ مصدرٍ محذوفٍ، إذا جعلنا» قَرْضاً «بمعنى مفعول أي: إقراضاً حسناً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 254 قوله:» فَيُضَاعِفَهُ «قرأ عاصمٌ وابن عامر هنا، وفي الحديد بنصب الفاء، إلاَّ أنَّ ابنَ عامر وعاصماً ويعقوب يشدِّدون العينَ من غير ألفٍ وبابه التشديد وقرأ أبو عمرو في الأحزاب والباقون برفعِها، إلاَّ أنَّ ابن كثير يشدِّد العينَ من غير ألفٍ؛ فحصَلَ فيها أربعُ قراءتٍ. أحدها: قرأ أبو عمرو ونافع، وحمزة، والكسائيُّ فيضاعفُهُ بالألف ورفع الفاء. والثانية: قراءة عاصم» فيضاعفه «بالألف ونصب الفاء. والثالثة: قرأ ابن كثير:» فَيُضَعِّفُهُ «بالتَّشديد، ورفع الفاءِ. والرابعة: قرأ ابن عامرٍ فيضعِّفَه بالتَّشْديد، ونصب الفاء. فالرَّفْعُ من وجهين: أحدهما: أنَّهُ عطفٌ على» يقرض «الصِّلةِ. والثاني: أَنَّهُ رفعٌ على الاستئناف أي: فهو يُضاعِفُهُ، والأولُ أحسنُ لعدَمِ الإِضمارِ. والنصبُ من وجهين: أحدهما: أنَّهُ منصوبٌ بإضمارٍ «أَنْ» عطفاً على المصدر المفهوم من «يقرضُ» في المعنى، فيكونُ مصدراً معطوفاً على مصدرٍ تقديرُهُ: مَنْ ذا الذي يكونُ منه إقراضٌ فمضاعفةٌ مِنَ اللهِ تعالى كقوله: [الوافر] 1153 - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وَتَقَرَّ عَيْنِي ... أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ والثاني: أنه نصبٌ على جوابِ الاستفهام في المعنى؛ لأَنَّ الاستفهام وإِنْ وَقَعَ عن المُقْرِضِ لفظاً، فهو عن الإِقراضِ معنى كأنه قال: أيقرضُ اللهَ أَحَدٌ فيضاعفَه. قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكونَ جوابَ الاستفهام على اللفظ؛ لأنَّ المُسْتَفْهَمَ عنه في اللَّفْظِ المُقرِضُ أي الفاعلُ للقَرْضِ، لا عن القَرْضِ، أي: الذي هو الفِعْلُ» وقد مَنَع بعضُ النَّحويّين النَّصبَ بعد الفاء في جواب الاستفهام الواقع عن المسندِ إليه الحكمُ لا عن الحُكم، وهو مَحْجوجٌ بهذه الآيةِ وغيرها، كقوله: «مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي؛ فأغفرَ له، مَنْ يَدْعُونِي؛ فأَسْتَجِيبَ له» بالنصبِ فيهما. قال أبو البقاء: فإنْ قيلَ: لِمَ لاَ يُعْطَفُ [الفعل على] المصدرِ الذي هو «قرضاً» كما يُعْطَفُ الفعلُ على المصدرِ بإضمار «أَنْ» كقولِ الشاعر [الوافر] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 255 1154 - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . قيل: هذا لا يصحُّ لوجهين: أحدهما: أنَّ «قرضاً» هنا مصدرٌ مؤكِّدٌ، والمصدرُ المُؤكِّدِ لا يُقَدَّرُ ب «أَنْ» والفعلِ. والثاني: أنَّ عطفَهُ عليه يُوجبُ أن يكونَ معمولاً ليقرضُ، ولا يصِحُّ هذا في المعنى؛ لأَنَّ المضاعفةَ ليستُ مُقْرِضَةً، وإِنَّما هي فعلُ اللهِ تعالى، وتعليله في الوجهِ الأولِ يُؤذِنُ بأنه يُشترط في النصبِ أنْ يُعْطَفَ على مصدرس يتقدَّر ب «أَنْ» والفعلِ، وهذا ليس بشرطٍ؛ بل يجوزُ ذلك وإن كان الاسمُ المعطوفُ عليه غيرَ مصدرٍ؛ كقوله: [الطويل] 1155 - وَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أَعِزَّةٍ ... وآلُ سُبَيْعٍ أَوْ أَسُوءَكَ عَلْقَمَا ف «أَسُوءَكَ» منصوبٌ ب «أَنْ» ؛ عطفاً على «رِجَالٌ» ، فالوجهُ في مَنْعِ ذلك أنْ يُقال: لو عُطفَ على «قرضاً» ؛ لشاركه في عامِلِه، وهو «يُقْرض» فيصيرُ التَّقْدِيرُ: مَنْ ذا الذي يَقْرِضُ مضاعفةً، وهذا ليسَ صحيحاً معنى. وقد تقدَّم أَنَّه قرئ «يُضاعِفُ» ، و «يُضَعِّفُ» فقيل: هما بمعنى، وتكونُ المفاعلَةُ بمعنى فَعَل المجرد، نحو عاقَبْت، وقيل: بل هما مختلفان، فقيل: إنَّ المضعَّفَ للتكثير. وقيل: إنَّ «يُضَعِّف» لِما جُعِلَ مثلين، و «ضاعَفَه» لِما زيد عليه أكثرُ من ذلك. والقَرْضُ: القَطْعُ، ومنه: «المِقْرَاضُ» لِمَا يُقْطَع به وانقطع القوم هلكوا وانقطع أثرهم وقيل للقَرْض «قرض» ؛ لأنه قَطْعُ شيءٍ من المالِ، وهذا أصلُ الاشتقاقِ، ثم اختلف أهل العِلْمِ في «القَرْض» فقيل: هو اسمٌ لكلِّ ما يُلْتَمَسُ الجزاءُ حَسَناً كان أو سيئاً «، تقول العرب: لك عندي قرضٌ حسنٌ وسيّئ، والمرادُ منه الفعل الذي يجازى عليه. قال أَميَّة بن الصَّلت: [البسيط] 1156 - كُلُّ امْرِىءٍ سَوْفَ يُجْزَى قَرْضَهُ حَسَناً ... أَوْ سَيِّئاً وَمَدِيناً مِثْلٌ ما دَانَا واختلفوا في أَنَّ إِطلاق لفظ القَرْضِ على هذا، هل هو حقيقة أو مجازٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 256 قال الزَّجَّاج: هو حقيقةٌ، واستدلَّ بما ذكرناه، وقيل: مجازٌ، لأَنَّ القَرْضَ: هو أَنْ يعطي الإنسان ليرجع إليه مثله وهنا إِنَّما ينفق ليرجع إِلَيه بدله، و «القِرض» بالكَسْرِ - لغةٌ فيه حكاها الكِسَائِيُّ، نقله القرطبي. قوله: «أَضْعَافاً» فيه ثلاثة أوجهٍ: أظهرها: أَنَّهُ حالٌ من الهاءِ في «فيضاعِفُ» ، وهل هذه حالٌ مؤكِّدَةٌ أو مبيِّنة، الظَّاهِرُ أنها مُبَيِّنَةٌ؛ لأنَّها وإنْ كانَتْ من لفظِ العامِلِ، إلاَّ أنَّها اختصَّتْ بوصفِها بشيءٍ آخَر، ففُهِم منها ما لم يُفْهَمُ من عامِلها، وهذا شأنُ المبيِّنة. والثاني: أنه مفعولٌ به على تضمين «يضاعفُ» معنى يُصَيِّر، [أي: يُصَيِّره] بالمضاعَفَةِ أضْعافاً. الثالث: أنه منصوبٌ على المصدر. قال أبو حيان: [قيل] ويجوزُ أَنْ يَنْتَصِبَ على المصدرِ باعتبار أَنْ يُطْلَقَ الضِّعْفُ - وهو المضَاعفُ، أو المضعِّفُ - بمعنى المضاعفة، أو التضعيف، كما أُطلِقَ العطاء، وهو اسمُ المُعْطَى بمعنى الإِعطاء. وجُمِعَ لاختلافِ جهاتِ التضعيفِ باعتبارِ اختلاف الأشخاص، واختلاف المُقْرِضِ واختلافِ أنواعِ الجَزَاءِ. وسبقه إلى هذا أبُو البقاءِ، وهذه عبارتُهُ، وأنشد: [الوافر] 1157 - أَكُفْراً بَعْدَ رَدِّ المَوْتِ عَنِّي ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ المِائَةَ الرِّتَاعَا والأَضْافُ جمعُ «ضِعْف» ، والضِّعْفُ مثل قَدْرَيْنِ مُتَسَاوييْن. وقيل: مثلُ الشَّيء في المِقْدَارِ. ويقالُ: ضِعْفُ الشَّيء: مثلُهُ ثلاثَ مرات، إلاَّ أنه إذا قيل «ضعفان» ، فقد يُطْلَقُ على الاثنين المِثْلَيْنِ في القَدْرِ من حيثُ إِنَّ كلَّ واحدٍ يُضعِّفُ الآخرَ، كما يُقالُ زَوْجان، من حيث إنَّ كلاً منهما زوجٌ للآخر. فصل لما أمر اللهُ تعالى بالجهادِ، والقتال على الحَقّ؛ إذ ليس شيءٌ من الشَّريعة، إِلاَّ ويجوز القِتَالُ عليه وعنه، وأعظمها دينُ الإِسلام، حرَّض تعالى على الإِنفاقِ في ذلك؛ فَدَخل في ذلك: المُقَاتِلُ في سبيلِ اللهِ، فإِنَّهُ يَقْرضُ رجاء الثَّوابِ، كما فعلَ عثمانُ - رضي اللهُ عنه - في جيشِ العُسْرَةِ. فصل اختلف المُفَسِّرُون في هذه الآية على قولين: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 257 أحدهما: أنَّ هذه الآية متعلِّقةٌ بما قبلها، والمرادُ منها القرض في الجهادِ خاصَّةً، فندب العاجز عن الجهاد أَنْ ينفق على الفقير القادر عليه، وأمر القادر على الجهاد: أن ينفق على نفسه في طريق الجهاد، ثمَّ أكد ذلك بقوله تعالى: {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} . القول الثاني: أَنَّ هذا الكلام مبتدأٌ لا تعلُّق له بما قبله، ثم اختلفوا هؤلاء، فمنهم من قال: المراد من القرض إنفاق المال، ومنهم من قال: إِنَّه غيره والقائلون بأَنَّه إنفاق المال، اختلفوا على ثلاثة أقوال: الأول: أَنَّه الصَّدقةُ غير الواجبة، وهو قول الأَصم، واحتجَّ بوجهين: أحدهما: أَنَّهُ تعالى سمَّاه قرضاً والقَرْضُ لا يكون إِلاَّ تبرعاً. الوجه الثاني: قال ابن عبَّاسٍ: إِنَّ هذه الآية «نزلت في أبي الدَّحداح، قال: يا رسول اللهِ! إِنَّ لي حديقتين، فإِنْ تصدّقت بأحدهما، فهل لي مثلها في الجنَّة. قال:» نَعَمْ «، قال: وأمّ الدَّحداح معي؟ قال:» نعم «. فتصدق بأفضل حديقته، وكانت تُسَمَّى» الحنيبة «قال: فرجع أبُو الدَّحداح إلى أهله، وكانوا في الحديقة التي تصدّق بها، فقام على باب الحديقة وذكر ذلك لامرأته فقالت أم الدَّحداح: بارك اللهُ لك فيما اشتريتَ، ثمَّ خرجوا منه وسلموها؛ فكان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: كم مِنْ نخلةٍ رداحٍ تُدلي عروقها في الجنَّة لأَبي الدَّحداح .» القول الثاني: أَنَّ المراد من هذا القرض: الإنفاقُ الواجب في سبيل اللهِ. قالوا: لأَنَّه تعالى ذكر في آخر الآية قوله: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} ، وذلك كالزَّجر وهو إِنَّما يليقُ بالواجب. القول الثالث: أَنَّه يشتمل قسمين كقوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] وأمَّا من قال: إِنَّ المُراد: إِنفاقُ شيء سوء المال. قالوا: رُوِيَ عن بعضِ أصحاب ابن مسعودٍ أنه قول الرَّجل سبحان اللهِ، والحمد للهِ، ولا إله إلاَّ الله، واللهُ أكْبَرُ. قال ابنُ الخطيب [قال القاضي] وهذا بعيدٌ؛ لأَنَّ لفظ الإِقراض لا يقعُ في عرف اللُّغة عليه، ولا يمكن حمل هذا القولِ على الصِّحَّة إِلاَّ أَنْ نقول: إذا كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 258 الفقيرُ لا يملك شيئاً، وكان في قلبه أنه لو قدر على الإِنفاق لأنفق، وأعطى، فحينئذٍ تكون نيته قائمةً مقام الإِنفاق، فقد روي أَنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام قال: «مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ؛ فَلْيَلْعَنِ اليهُود، فإنَّه لهُ صَدَقَة» . فصل قال القرطبي: وذكر القَرْضِ ها هنا إِنَّما هو تأنيسٌ، وتقريبٌ للنَّاسِ بما يفهمونه، واللهُ هو الغنيُّ الحميدُ، لكنَّهُ تعالى شبَّه عطاء المؤمنين في الدُّنيا، بما يرجون به ثوابه في الآخرةِ بالقرض كما شبَّه إِعطاء النُّفوسِ، والأموال في أَخذِ الجنَّةِ، بالبيع والشراء. قوله تعالى: «حَسَناً» قال الواقديُّ: محتسب طيبة به نفسه. وقال عمرو بن عثمان الصَّدفيُّ: «لا يتبعه مَنّاً، ولا أَذى» . وقال سهلُ بن عبد اللهِ: لا يعتقِدث في قرضه عوضاً. واعلم: أَنَّ هذا الإِقراض إِذَا قلنا: المرادُ به الإِنفاقُ في سبيل الله، فهو يخالف القرضَ من وجوهٍ: الأول: أَنَّ القرض إِنَّما يأخذه من يحتاج ُ إليه لفقره، وذلك في حقّ اللهِ تعالى مُحالٌ. الثاني: أَنَّ البدل في القرضِ المعتاد لا يكون إِلاّ المثل، وفي هذا الإنفاق هو الضِّعفُ. الثالث: أَنَّ المالَ الذي يأخُذُه المستقرضُ، لا يكون ملكاً له، وها هنا المالُ المأخُوذ ملك له، ومع هذه الفُروق سمَّاه الله تعالى قرضاً، والحكمةُ فيه التَّنبيهُ على أَنَّ ذلك لا يضيعُ عند اللهِ كما أَنَّ القرض يجبُ أداؤه، ولا يجوزُ الإخلالُ به، فكذا الثَّوَابُ الواجبُ على هذا الإنفاقِ واصلٌ إلى المكلف لا محالة. فصل قال القرطبيُّ: القرضُ: قد يكون بالمالِ، وقد بَيَّنَّا حُكْمَهُ، كما قال عليه الصّلاة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 259 والسَّلام «أَيَعْجَزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ كأَبِي ضَمْضَم، كان إِذَا خَرَجَ مِنْ بَيْتِهِ قال: اللَّهُمَّ إِنِّي تَصَدَّقْتُ بِعِرْضِي عَلَى عِبَادِكَ» . وقال ابن عمر: «أَقْرِضْ من عِرْضِكَ ليوم فَقْرِكَ» يعني مَنْ سبَّك فلا تأخذ منه حقّاً، ولا تقم عليه حَدّاً، حتى تأتي يوم القيامة موفر الأجر. وقال أبو حنيفة: لا يجوز التَّصَدُّق بالعرض؛ لأَنَّه حقُّ اللهِ تعالى وهو مروي عن مالكٍ. قال ابن العربيّ: وهذا فاسِدٌ لقوله عليه الصَّلاة والسّلام: «إِنَّ دِمَاءَكم وَأَمْوَالَكُمْ وَأَعْرَاضَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ» هذا يقتضي أَنْ تكون هذه المحرمات الثَّلاث تجري مجرًى واحداً، في كونها باحترامها حقاً للآدمي فصل وكون القرض حسناً يحتملُ وجوهاً: أحدها: أنه أراد به أن يكون حلالاً خالصاً من الحرام. الثاني: ألاَّ يتبع ذلك منّاً ولا أذى. الثالث: أن يفعله بنية التَّقرُّب إلى اللهِ تعالى. والمراد من التَّضعيف، والإضعاف، والمضاعفة واحد، وهو: الزِّيَادَةُ على أصل الشَّيء حتَّى يصير مثليه، أو أكثر، وفي الآية حذفٌ والتقدير: فيضاعف ثوابه. فصل والمراد بالأضعاف الكثيرة: قال السُّدِّيُّ: هذا التَّضعيفُ لا يعلمه إلاَّ الله - عزَّ وجلَّ - وإِنَّما أبهم ذلك؛ لأَنَّ ذكر المبهم في باب التَّرغيب، أقوى من المحدود وقال غيره: هو المذكورُ في قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] ، فيحمل المجمل على المُفسَّرِ؛ لأَنَّ كلتا الآيتين وردتا في الإنفاق. قوله تعالى: {والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ} قرأ أبو عمر، وحمزة، وحفص، وقنبلٌ « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 260 وَيَبْسُطُ» ها هنا وفي الأعراف بالسِّين على الأصل، والباقُون بالصَّادِ لأجل الطاء. وقد تقدَّم تحقيقه في {الصراط} [الفاتحة: 6] . فصل قوله: «يقبض» بإمساك الرّزق والنفس، والتقتير، و «يَبْسُطُ» بالتَّوسيع، وقيل: يقبضُ بقبول التوبة الصَّادقة، ويبسط بالخلف، والثَّواب. وقيل: هو الإِحياءُ والإماتة، فمن أَمَاتهُ فقد قبضه ومن مَدَّ له في عمره فقد بسط له. وقيل: يقبضُ بعض القلوب، حتَّى لا تقدم على هذه الطَّاعة. والمعنى: أَنَّهُ كما أمرهم بالصَّدقةِ أخبر أَنَّهُ لا يمكنهم ذلك إلا بتوفيقه، وإعانته، وقيل: ذكر ذلك ليعلمَ الإِنسان أَنَّ القبض والبسط بيد اللهِ، فإذا علم ذلك؛ انقطع نظره عن مال الدُّنيا، وبقي اعتمادُهُ على اللهِ، فحينئذٍ يَسْهُلُ عليه الإنفاق ثمَّ قال: {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجزيكم بأعمالكم، حيث لا حاكم ولا مُدَبِّرَ سواه. وقال قتادة: الهاء في «إليه» راجعة إلى التّراب كنايةً عن غير مذكور، أي من التُّراب خلقتم، وإليه تُرْجعون، وتعودون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 الملأُ من القَوْمِ وجوههم، وأشرافهم، وهو اسم للجماعة من النَّاس لا واحد لهُ من لفظه كالرَّهْطِ والقومِ، والجيشِ، والمَلأُ: الأَشرافُ سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يملئون العيونَ هيبةً، أو المجالسَ إذا حضروا؛ أو لأنهم مليئون بما يُحْتاج إليهم فيه، وقال الفرَّاءُ: «المَلأُ» الرجالُ في كلِّ القرآن، وكذلك القومُ والرَّهطُ والنَّفَرُ، ويُجْمع على أَمْلاء؛ قال: [الطويل] 1158 - وَقَالَ لَهَا الأَمْلاَءُ مِنْ كُلِّ مَعْشَرٍ ... وَخَيْرُ أَقَاوِيلِ الرِّجَالِ سَدِيدُهَا قال القرطبي: والملأ أيضاً حسن الخلق، ومنه الحديث: «أَحْسنُوا الملأَ فكلُّكُمْ سيروى» أخرجه مسلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 261 قوله تعالى: {مِن بنيا} فيه وجهان: أحدهما: أَنَّهُ صلةٌ للملأ على مذهب الكُوفيين؛ لأنهم يجعلون المُعَرَّفَ بأل موصولاً؛ ويُنْشِدُون: [الطويل] 1159 - لَعَمْرِي لأَنْتَ الَيْتُ أُكْرِمُ أَهْلَهُ ... وأَقْعُدُ في أَفْيَائِهِ بالأصائِلِ و {مِن بَعْدِ موسى} متعلِّقٌ بما تعلَّقَ [به] الجارُّ الأولُ، وهو الاستقرار، ولا يضُرُّ اتحادُ الحرفين لفظاً لاختلافِهما معنًى، فإِنَّ الأولى للتبعيض والثانية لابتداءِ الغاية. وقال أبو البقاء: «مِنْ بعدِ» متعلِّقٌ بالجار الأول، أو بما تعلَّق به الأول يعني بالأولِ: «من بني» ، وجعله عاملاً في «مِنْ بعد» لِما تضمنَّه من الاستقرار، فلذلك نَسَبَ العملَ إليه، وهذا على رأي بعضِهم، يَنْسِبُ العمل للظرف والجارِّ الواقِعَيْن خبراً أو صفةً أو حالاً أو صلةً، فتقول في نحو: «زيدٌ في الدار أبوه» أبوه: فاعلٌ بالجارِّ، والتحقيقُ أنه فاعلٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الجارُّ، وهو الوجهُ الثاني. وقدَّر أبو البقاء مضافاً محذوفاً. تقديرُه: من بعدِ موسى، ليصِحَّ المعنى بذلك. قوله: {إِذْ قَالُواْ} العاملُ في هذا الظرفِ أجازوا فيه وجهين: أحدهما: أنه العاملُ في «مِنْ بعد» لأنَّه بدلٌ منه، إذ هما زمانان، قاله أبو البقاء: والثاني: أنه «ألم تر» قال شهاب الدين وكلاهما غيرُ صحيحٍ. أمَّا الأول فلوجهين: أحدهما من جهة اللفظِ والآخرُ من جهة المعنى. فأمّا الذي من جهة اللفظِ فإنه على تقدير إعادة «مِنْ» و «إذ» لا تُجَرُّ ب «مِنْ» . الثاني: أنه ولو كانَتْ «إذ» من الظروف التي تُجَرُّ ب «مِنْ» كوقت وحين لم يصِحَّ [ذلك أيضا لأنَّ العاملَ في «مِنْ بعد» محذوفٌ فإنه حالٌ تقديره: كائنين من بعد، ولو قلت: كائن من حين قالوا لنبيٍّ لهم ابعثْ لنا ملكاً لم يصِحَّ] هذا المعنى. وأمَّا الثاني فلأنه تقدَّم أن معنى «ألم تر» تقريرٌ للنفي، والمعنى: ألم ينته علمُك، أو قد نَظَرْتَ إلى الملأ وليس انتهاءُ علمِه إليهم ولا نظرُه إليهم كان في وقتِ قولهم ذلك، وإذا لم تكنْ ظرفاً للانتهاءِ ولا للنظر فكيف تكونُ معمولاً لهما أو لأحدِهما؟ وإذ قد بَطَلَ هذان الوجهان فلا بُدَّ له من عاملٍ يصِحُّ به المعنى وهو محذوفٌ، تقديره: ألم تَر إلى قصة الملأ أو حديث الملأ ما في معناه؛ وذلك لأنَّ الذواتِ لا يُتَعَجَّبُ منها، إنما يُتَعَجَّبُ من أحداثها، فصار المعنى: ألم تَرَ إلى ما جرى للملأ من بني إسرائيل إلى آخرها، فالعاملُ هو ذلك المجرورُ، ولا يصحُّ المعنى إلا به لِما تقدَّم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 262 قوله تعالى: {لِنَبِيٍّ} متعلِّقٌ ب «قالوا» واللامُ فيه للتبليغ، و «لهم» متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لنبي، ومحلُّه الجرُّ، و «ابعَثْ» وما في حيَّزه في محلِّ نصبٍ بالقولِ. و «لنا» الظاهرُ أنه متعلِّقٌ بابعَثْ، واللامُ للتعليلِ أي: لأجلِنا. قوله: {نُّقَاتِلْ} الجمهورُ بالنونِ والجزم على جواب الأمر. وقرئ بالياء والجزم على ما تقدَّم، وابن أبي عبلة بالياءِ ورفعِ اللام على الصفةِ لملكاً، فمحلُّها النصبٌ أيضاً. [وقرئ بالنونِ ورفع اللام على أنها حالٌ من «لنا» فمحلُّها النصبُ أيضاً] أي: ابعَثْه لنا مقدِّرين القتال، أو على أنها استئنافُ جوابٍ لسؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قال لهم: ما يَصْنعون بالملكِ؟ فقالوا نقاتِلْ. قوله: {هَلْ عَسَيْتُمْ} عسى واسمها، وخبرها «أَنْ لا تقاتِلوا» والشرطُ معترضٌ بينهما، وجوابهُ محذوفٌ للدلالة عليه، وهذا كما توسَّط في قوله: {وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] ، وهذا على رأي مَنْ يَجْعَلُ «عسى» داخلةً على المبتدأ والخبر، ويقولُ إنَّ «أَنْ» زائدةٌ لئلا يُخْبَرَ بالمعنى عن العين. وأمّا مَنْ يرى أنّها تُضَمَّنُ معنى فعل متعدٍّ فيقول: «عَسَيْتم» فعلٌ وفاعلٌ، و «أَنْ» وما بعدها مفعولٌ به تقديره: هل قارَبْتُم عدم القتالِ، فهي عنده ليسَتْ من النواسخِ، والأولُ هو المشهورُ. وقرأ نافع «عَسِيْتُم» هنا وفي القتال: بكسر السينِ، وهي لغةٌ مع تاءِ الفاعلِ مطلقاً ومع ن [ومع] نونِ الإناثِ نحو: عَسِينا وعَسِين، وهي لغةُ الحجاز، ولهذا غَلِطَ مَنْ قال: «عسى تُكْسَرُ مع المضمر» وأَطْلَقَ، بل كان ينبغي له أن يُقَيِّدَ الضمير بما ذكرنا، إذ لا يقال: الزيدان عَسِيا والزيدون عَسِيوا بالكسرِ البتة. وقال الفارسي: «ووجهُ الكسرِ قولُ العربِ:» هو عَس بكذا «مثل: حَرٍ وشَج، وقد جاء فَعَل وفَعِل في نحو: نَقَم ونَقِم، فكذلك عَسَيْتُ وعَسِيْتُ، فإِنْ أُسْنِدَ الفعلُ إلى ظاهرٍ فقياسُ عَسِيتم - أي بالكسر - أن يقال:» عَسِيَ زيدٌ «مثل:» رَضِي زيدٌ «. فإن قيل: فهو القياسُ، وإِنْ لم يُقَلْ فسائِغٌ أن يُؤْخَذَ باللغتين، فتُسْتَعملَ إحداهما موضعَ الأخرى كما فُعِل ذلك في غيره» فظاهرُ هذه العبارة أنه يجوز كسرُ سينِها مع الظاهِر بطريق القياسِ على المضمرِ، وغيرهُ من النحويين يمنعُ ذلك حتى مع المضمر مطلقاً، ولكن لا يُلتفت إليه لورودِه متواتراً، وظاهرُ قوله «قولُ العرب: عَسٍ» أنه مسموعٌ منهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 263 اسمُ فاعلها، وكذلك حكاه أبو البقاء أيضاً عن ابن الأعرابي، وقد نَصَّ النحاة على أن «عسى» لا تتصرَّف «. واعلم أنَّ مدلولَ «عسى» إنشاءٌ لأنها للترجي أو للإِشفاق، فعلى هذا: فكيف دَخَلت عليها «هل» التي تقتضي الاستفهامَ؟ فالجوابُ أن الكلامَ محمولٌ على المعنى، قال الزمخشري: «والمعنى: هل قارَبْتم ألاَّ تقاتلوا، يعني: هل الأمرُ كما أتوقّعه أنكم لا تقاتلون، أراد أن يقول: عَسَيْتُم ألا تقاتلوا، بمعنى أتوقَّعُ جبنَكم عن القتالِ، فأدخلَ» هل «مستفهِماً عما هو متوقعٌ عنده ومَظْنونٌ، وأرادَ بالاستفهام التقريرَ، وثَبَتَ أنَّ المتوقَّع كائنٌ وأنه صائبٌ في توقعه؛ كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [الإنسان: 1] معناه التقريرُ» وهذا من أَحسنِ الكلامِ، وأحسنُ مِنْ قول مَنْ زعم أنها خبرٌ لا إنشاءٌ؛ مُسْتَدِلاً بدخولِ الاستفهام عليها؛ وبوقوعها خبراً ل «إنَّ» في قوله: [الرجز] 1160 - لاَ تُكْثِرَنْ إِنِّي عَسَيْتُ صَائِمَا ... وهذا لا دليلَ فيه؛ لأنه على إضمار القول؛ كقوله: [البسيط] 1161 - إِنَّ الَّذِينَ قَتَلْتُمْ أَمْسِ سَيِّدَهُمْ ... لاَ تَحْسَبُوا لَيْلَهُمْ عَنْ لَيْلِكُمْ نَامَا ولذلك لا توصلُ بها الموصولات؛ خلافاً لهشامٍ. قوله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ} هذه الواوُ رابطةٌ لهذا الكلام بما قبلَه، ولو حُذِفَتْ لجازَ أن يكونَ منقطعاً مِمَّا قبله. و «ما» في محلِّ رفعٍ بالابتداءِ، ومعناها الاستفهامُ، وهو استفهامُ إنكارٍ. و «لنا» في محلِّ رفع خبر ل «ما» . و «أَلاَّ نُقَاتِلَ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ. أظهرها: أنَّها على حذفِ حرفِ الجرِّ وهو قول الكسائي والتقديرُ: وما لنا في ألاَّ نقاتل، أي: في تركِ القتالِ، ثم حُذِفَتْ «في» مع «أَنْ» فجرى فيها الخلافُ المشهورُ بين الخليل وسيبويه: أهي في محلِّ جر أم نصبٍ؟ وهذا الجارَّ يتعلَّقُ بنفسِ الجارِّ الذي هو «لنا» أو بما يتعلَّق هو به على حسبِ ما تقدَّم في «مِنْ بعد موسى» . قال البغوي: فإن قيل: فما وجه دخول «أن» في هذا الموضع، والعرب لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 264 تقول ما لك ألاَّ تفعل، وإنما يقال: ما لك لا تفعل؟ قيل: دخول «أن» وحذفها لغتان صحيحتان، فالإثبات كقوله تعالى: {مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} [الحجر: 32] ، والحذف كقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله} [الحديد: 8] وقال الفراء: الكلام ها هنا محمول على المعنى؛ لأن قولك: ما لك لا تقاتل؟ معناه: ما يمنعك أن تقاتل، فلما كان معناه المنع حسن إدخال «أن» فيه كقوله {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ} [ص: 75] وقوله: {أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين} [الحجر: 32] ورجح الفارسي قول الكسائي على قول الفراء. قال: لأن على قول الفراء لا بد من إضمار حرف الجر تقديره ما يمنعنا من أن نقاتل فإذا كان لا بد من إضمار حرف الجر على القولين، فعلى قول الكسائي يبقى الإضمار على ظاهره وعلى قول الفراء لا يبقى، فكان قول الكسائي أولى. الثاني: مذهب الأخفش أنَّ «أَنْ» زائدةٌ، ولا يضرُّ عملها مع زيادتها، كما لا يضرُّ ذلك في حروف الجر الزائدة، وعلى هذا فالجملة المنفيَّة بعدها في محلِّ نصبٍ على الحال، كأنه قيل: ما لنا غير مقاتلين، كقوله: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ} [المائدة: 84] وقول العرب: «ما لك قائماً» ، وقول الله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] وهذا المذهب ضعيفٌ لأنَّ الأصل عدم الزيادة، فلا يصار إليها دون ضرورةٍ. الثالث: - وهو أضعفها - وهو مذهب الطبري أنَّ ثمَّ واواً محذوفةً قبل قوله: «أن لا نقاتلَ» . قال: «تقديره: وما لنا ولأن لا نقاتل، كقولك: إياك أن تتكلَّم، أي: إياك وأن تتكلم، فحذفت الواو» وهذا كما ترى ضعيفٌ جداً. وأمَّا قوله: إنَّ قولهم إياك أن تتكلم على حذف الواو؛ فليس كما زعم، بل «إياك» ضمِّنت معنى الفعل المراد به التحذير، و «أَنْ تتكلمَ» في محلِّ نصبٍ به تقديره: احذر التكلم. قوله: {وَقَدْ أُخْرِجْنَا} هذه الجملة في محلِّ نصبٍ على الحال، والعامل فيها: «نقاتلْ» ، أنكروا ترك القتال وقد التبسوا بهذه الحال. وهذه قراءة الجمهور، أعني بناء الفعل للمفعول. وقرأ عمرو بن عبيد: «أَخْرَجَنا» على النباء للفاعل. وفيه وجهان: أحدهما: أنه ضمير الله تعالى، أي: وقد أخرجنا الله بذنوبنا. والثاني: أنه ضمير العدوّ. {وَأَبْنَآئِنَا} عطفٌ على «ديارنا» أي: ومن أبنائنا، فلا بدَّ من حذف مضافٍ تقديره: « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 265 ومن بين أبنائنا» كذا قدره أبو البقاء. وقيل: إنَّ هذا على القلب، والأصل: وقد أُخرج أبناؤنا منا، ولا حاجة إلى هذا. قوله تعالى: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ} ، فاعلم أن في الكلام محذوفاً تقديره: فسألوا الله تعالى ذلك فبعث لهم ملكاً وكتب عليهم القتال فتولوا. قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} نصبٌ على الاستثناء المتصل من فاعل «تَوَلَّوا» فإن قيل المستثنى لا يكون مبهماً، لو قلت: «قام القومُ لا رجالاً» لم يصحَّ، فالجواب إنما صحَّ هذا لأنَّ «قليلاً» في الحقيقة صفةٌ لمحذوفٍ، ولأنه قد تخصَّص بوصفه بقوله: «منهم» ، فقرب من الاختصاص بذلك. وقرأ أُبي: «إلاَّ أن يكون قليلٌ منهم» وهو استثناءٌ منقطعٌ، لأنَّ الكون معنًى من المعاني والمستثنى منه جثثٌ. ولا بدّ من بيان هذه المسألة لكثرة فائدتها. وذلك أنّ العرب تقول: «قام القوم إلا أنْ يكونَ زيدٌ وزيداً» بالرفع والنصب، فالرفع على جعل «كان» تامةً، و «زيدٌ» فاعلٌ، والنصب على جعلها ناقصةً، و «زيداً» خبرها، واسمها ضميرٌ عائدق على البعض المفهوم من قوة الكلام، والتقدير: قام القوم إلا أن يكون هو - أي بعضهم - زيداً، والمعنى: قام القوم إلا كون زيدٍ في القائمين، وإذا انتفى كونه قائماً انتفى قيامه، فلا فرق من حيث المعنى بين العبارتين، أعني «قام القوم إلا زيداً» و «قاموا إلا أن يكون زيداً» ، إلا أن الأول استثناءٌ متصلٌ، والثاني منقطعٌ لما قررناه. فصل وجه تعلُّق هذه الآية بما قبلها أنَّه تعالى لما فرض القتال بقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 244] ، ثمَّ أمر بالإنفاق فيه بقوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله} [البقرة: 245] ذكر بعد ذلك هذه القصة تحريضاً على عدم تركهم مخالفة الأمر بالقتال، فإنَّهم لما أُمروا تولَّوا، وخالفوا؛ فذمهم الله تعالى ونسبهم إلى الظُّلم بقوله: {والله عَلِيمٌ بالظالمين} والمراد التَّرغيب في الجهاد. فصل فيمن هو النبي الذي نادى بالبعث في الآية اختلفوا في ذلك النبيِّ الذي قالوا له {ابعث لَنَا مَلِكاً} من هو فقال قتادة: هو يوشع ابن نون بن أفرائيم بن يوسف لقوله تعالى: {مِن بَعْدِ موسى} وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله {مِن بَعْدِ موسى} كما لا يحتمل الاتصال بالتَّعاقب يحتمل البعديَّة بغير تعاقب، وإن كان الجزء: 4 ¦ الصفحة: 266 بينهما غير يوشع؛ لأنَّ البعديّة حاصلة، وذكر ابن عطيَّة في تضعيف هذا القول أنَّ مدَّة داود بعد موسى بقرون من النَّاس، ويوشع هو فتى موسى عليهما الصَّلاة والسَّلام. وقال السُّدِّيُّ: اسمه شمعون سمَّته أُمُّه بذلك؛ لأنَّها دعت الله أن يرزقها غلاماً، فاستجاب الله دعاءها، فسمته سمعون، أي: سمع الله دعائي، والسِّين تصير شيناً بالعبرانية وهو شمعون ابن صفيَّة بنت علقمة، من ولد لاوي بن يعقوب. وقال سائر المفسِّرين: هو اشمويل بن هلقايا. فصل كان سبب مسألتهم إيّاه ذلك؛ لأنَّه لمَّا مات موسى خلف بعده في بني إسرائيل يوشع بن نون يقيم فيهم التَّوراة، وأمر الله، حتى قبضه الله، ثمَّ خلف فيهم «كالِب بْنَ يُوفَنَا» ؛ حتى قبضه الله، ثمَّ حزقيل حتى قبضه الله، ثم عظمت الأحداث في بني إسرائيل ونسوا عهد الله؛ حتى عبدوا الأوثان، فبعث الله إليهم «إِلْياسَ» نبياً، فدعاهم إلى الله، وكانت الأنبياء من بني إسرائيل بعد موسى، يبعثون إليهم بتجديد ما نسوا من التَّوراة، ثم خلف بعد «إِلْيَاسَ» «اَلْيَسَع» ، وكان فيهم ما شاء الله؛ حتَّى قبضه الله، وخلف فيهم الخلوف، وعظمت الخطايا وظهر لهم عدوٌّ يقال له البلثاثا، وهم قوم «جَالُوتَ» ، كانوا يسكنون ساحل بحر الرُّوم، بين مصر، وفلسطين، وهم العمالقة، فظهروا على بني إسرائيل، وغلبوا على كثير من أرضهم، وسبوا كثيراً من ذراريهم، وأسروا من أبناء ملوكهم أربعين وأربعمائة غلام، وضربوا عليهم الجزية، وأخذوا توراتهم، ولقي بنو إسرائيل منهم بلاءً شديداً، ولم يكن لهم نبيٌّ يدبِّر أمرهم، وكان سبط النُّبوَّة قد هلكوا، فلم يبق منهم إلاَّ امرأة حبلى؛ فحبسوها في بيت رهبة أن تلد جاريةً، فتبدلها بغلام لما ترى من رغبة بني إسرائيل في ولدها، وجعلت المرأة تدعو الله أن يرزقها غلاماً؛ فولدت غلاماً فسمته شمويل تقول: سمع الله دعائي، فكبر الغلام فأسلموه ليتعلم التَّوراة في بيت المقدس، وكفله شيخٌ من علمائهم وتبنَّاه، فلمَّا بلغ الغلام أتاه جبريل، وهو نائم إلى جنب الشَّيخ، وكان لا يأتمن عليه أحداً، فدعاه جبريل بلحن الشيخ: يا أُشمويل، فقام الغلام فزعاً إلى الشَّيخ قوال: يا أبتاه دعوتني؟ فكره الشَّيخ أن يقول: لا فيفزع الغلام، فقال: يا بنيّ ارجع فنم، فرجع الغلام، فَنَامَ، ثمَّ دعاه الثَّانية، فقال الغلام: يا أَبَتِ دَعَوْتَنِي!؟ فقال: ارجع فنم فإنْ دعوتُكَ الثَّالثة؛ فلا تجبني، فلمَّا كانت الثَّالثة ظهر له جبريل فقال له: اذهب إلى قومك؛ فبلغهم رسالة ربِّك، فإن الله قد بعثك فيهم نبيّاً، فلمَّا أتاهم كذَّبوه، وقالوا له: استعجلت بالنُّبوَّة، ول تَنَلْكَ، وقالوا: إن كنت صادقاً فابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله آيةً من نبوَّتك، وإنما كان قوام أمر بني إسرائيل بالاجتماع على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 267 الملوك، وطاعة الملوك لأنبيائهم، فكان الملك هو الذي يسير بالجموع، والنَّبيُّ يقوم له بأمره، ويشير عليه برشده، ويأتيه بالخبر من عند ربِّه. قال وهبٌ: بعث الله أُشمويل نبيّاً، فلبثوا أربعين سنةً بأحسن حال، ثمَّ كان من أمر جالوت، والعمالقة ما كان فقالوا لأُشمويل: «ابْعَثْ لَنَا مَلِكاً نُقَاتِل» ، فقال: «هَلْ عَسَيْتُم» ؟! استفهام شكٍّ، أي: لعلكم «إِنْ كُتِبَ» أي: فرض «عَلَيْكُمُ القِتَالُ» مع ذلك الملك ألا تفوا بما تقولون، ولا تقاتلوا معه «قَالُوا: وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا» ، فجعلوا ذلك علَّةً قويَّة توجب التَّشديد في أمر الجهاد؛ لأنَّ من بلغ منه العدوُّ هذا المبلغ، فالظَّاهر من أمره الاجتهاد في قمع عدوِّه ومقاتلته، وظاهر الكلام العموم، والمراد الخصوص؛ لأنَّ الذين قالوا لنبيِّهم: ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله؛ كانوا في ديارهم وأوطانهم، وإنَّما أخرج من أسر منهم، ومعنى الآية أنهم قالوا مجيبين لنبيِّهم: إنما كنا نزهد في الجهاد إذ كنا ممنوعين في بلادنا، لا يظهر علينا عدوٌّ، فأمَّا إذْ بلغ ذلك منَّا، فنطيع ربَّنا في الجهاد، ونمنع نساءنا، وأولادنا، {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ} : أعرضوا عن الجهاد، وضيَّعوا أمر الله {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} - وهم الذين عبروا النَّهر مع طالوت، واقتصروا على الغرفة كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قيل: كان عدد هذا القليل ثلاثمائة وثلاثة عشر على عدد أهل بدرٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 قوله تعالى: {طَالُوتَ مَلِكاً} : «مَلِكاً» حال من «طالوت» فالعامل في الحال «بَعَثَ» . و «طالوتُ» فيه قولان: أظهرهما: أنه اسمٌ أعجميٌّ فلذلك لم ينصرف للعلتين، أعني: العلمية والعجمة الشَّخصية. والثاني: أنه مشتقٌّ من الطول، ووزنه فعلوت كرهبوت ورحموت، وأصله طولوت، فقلبت الواو ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، وكأن الحامل لهذا القائل بهذا القول ما روي في القصَّة أنه كان أطول رجلٍ في زمانه وبقوله «وزاده بسطة في العلم والجسم» إلا أنَّ هذا القول مردودٌ بأن لو كان مشتقاً من الطُّول، لكان ينبغي أن ينصرف، إذ ليس فيه إلاَّ العلمية. وقد أجابوا عن هذا بأنه وإن لم يكن أعجمياً لكنَّه شبيه بالأعجمي، من حيث إنَّه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 268 ليس في أبينة العرب ما هو على هذه الصِّيغة، وهذا كما قالوا في حمدون، وسراويل، ويعقوب، وإسحاق عند من جعلهما من سحق وعقب وقد تقدم. وأجاب آخرون: بأنه اسمٌ عبراني وافق عربيّاً مثل حطة وحنطة، وعلى هذا يكون أحد سببيه العجمة؛ لكونه عبرانياً. قوله: {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا} في «أَنَّى» وجهان: أحدهما: أنَّها بمعنى كيف، وهذا هو الصَّحيح. والثاني: أنها بمعنى من أين، اختاره أبو البقاء، وليس المعنى عليه. ومحلُّها النّصب على الحال، وسيأتي الكلام في عاملها ما هو. و «يَكُونُ» فيها وجهان: أحدهما: أنها تامَّةٌ، و «المُلْكُ» فاعلٌ بها و «له» متعلّقٌ [بها، و «عَلَيْنَا» متعلقٌ] بالملك، تقول: «فلان مَلَك على بني فلان أمرهم» ، فتتعدى هذه المادة ب «على» ، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «المُلْك» ، و «يَكُونُ» هي العاملة في «أنَّى» ، ولا يجوز أن يعمل فيها أحد الظَّرفين، أعني «له» ، و «علينا» ؛ لأنه عاملٌ معنوي والعامل المعنويُّ لا تتقدَّم عليه الحال على المشهور. والثاني: أنها ناقصةٌ، و «له» الخبر، و «علينا» متعلِّقٌ: إمَّا بما تعلَّق به هذا الخبر، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من «المُلك» كما تقدَّم، والعامل في هذه الحال «يكون» عند من يجيز في «كَانَ» الناقصة أن تعمل في الظرف وشبهه، وإمَّا بنفس الملك كما تقدَّم تقريره، والعامل في «أنَّى» ما تعلَّق به الخبر أيضاً، ويجوز أن يكون «عَلَيْنَا» هو الخبر، و «لَهُ» نصبٌ على الحال، والعامل فيه الاستقرار المتعلِّق به الخبر، كما تقدَّم تقريره، أو «يَكُونُ» عند من يجيز ذلك في الناقصة، ولم أر من جوَّز أن تكون «أنى» في محلِّ نصب خبراً ل «يَكُونُ» بمعنى «كَيْفَ يَكُونُ المُلْكُ عَلَيْنَا لَهُ» ولو قيل به لم يمتنع معنًى ولا صناعةً. قوله: {وَنَحْنُ أَحَقُّ} : جملةٌ حاليَّةٌ، و «بالمُلْكُ» و «مِنْهُ» كلاهما متعلّقٌ ب «أَحَقُّ» . «ولم يُؤْتَ سَعَةً» هذه الجملة الفعلية عطفٌ على الاسميَّة قبلها، فهي في محلِّ نصب على الحال، ودخلت الواو على المضارع؛ لكونه منفياً و «سعةً» مفعول ثانٍ ليؤت، والأول قام مقام الفاعل. و «سَعَةً» وزنها «عَلَة» بحذف الفاء، وأصلها «وُسْعَة» ، وإنما حذفت الفاء في المصدر حملاً له على المضارع، وإنما حذفت في المضارع لوقوعها بين ياء - وهي حرف المضارعة - وكسرة مقدَّرة، وذلك أنَّ «وَسِع» مثل «وَثِق» فحقٌّ مضارع أن يجيء على الجزء: 4 ¦ الصفحة: 269 يفعل بكسر العين، وإنما منع ذلك في «يَسَع» كون لامه حرف حلقٍ، ففتح عين مضارعه لذلك، وإن كان أصلها الكسر، فمن ثم قلنا: بين ياء وكسرة [مقدرةٍ، والدَّليل على ذلك أنَّهم قالوا: وَجِلَ يَوْجَل فلم يحذفوها لمَّا كانت الفتحة أصلية غير عارضةً، بخلاف فتحة «يَسَع» و «يَهَب» وبابهما. فإن قيل: قد رأيناهم يحذفون هذه الواو، وإن لم تقع بين ياءٍ وكسرةٍ] ، وذلك إذا كان حرف المضارعة همزة نحو: «أَعِدُ» ، أو تاءً نحو: «تَعِد» أو نوناً نحو: «نَعِد» ، وكذلك في الأمر والمصدر نحو:: عِدْ عِدَةَ حَسَنَةً «. فالجواب أنَّ ذلك بالحمل على المضارع مع الياء طراً للباب، كما تقدَّم لنا في حذف همزة أفعل، إذا صار مضارعاً لأجل همزة المتكلِّم، ثم حمل باقي الباب عليه. وفتحت سين» السَّعة «لمَّا فتحت في المضارع لأجل حرف الحلق، كما كسرت عين» عِدة «لمَّا كسرت في» يَعِد «إلا أنَّه يشكل على هذا: وَهَبَ يَهَبُ هِبة، فإنهم كسروا الهاء في المصدر، وإن كانت مفتوحة في المضارع لأجل أنَّ العين حرف حلقٍ، فلا فرق بين» يَهَبُ «، و» يَسَع «في كون الفتحة عارضةً والكسرة مقدرةً، ومع ذلك فالهاء مكسورةٌ في» هِبة «، وكان من حقِّها الفتح لفتحها في المضارع ك» سَعَة «. و» من المال «فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلقٌ بيؤت. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ لأنه صفةٌ لسعة، أي: سَعَةً كائنةً من المال. فصل اعلم أنَّه تعالى لما بيَّن في الآية أنَّه لمَّا أجابهم إلى سؤالهم تولَّوا، بيَّن في هذه الآية أنَّ أوّل تولِّيهم إنكارهم إِمْرَة طالوت، وذلك أنَّهم لمَّا طلبوا من نبيِّهم أن يطلب من الله أن يعيِّن لهم ملكاً؛ فأجابهم بأنَّ الله قد بعث لكم طالوت ملكاً، أظهروا التَّولي عن طاعة الله، وأعرضوا عن حكمه، وقالوا:» أَنَّى يَكُونُ لَهُ المُلْكُ عَلَيْنَا «، واستبعدوا ذلك. قال المفسِّرون: وسبب هذا الاستبعاد: أنَّ النبوَّة كانت مخصوصةً بسبط معيَّن من أسباط بني إسرائيل، وهم سبط لاوي بن يعقوب، ومنه «مُوسَى وهارون» وسبط المملكة سبط «يَهُوذا» ، ومنه «دَاوُدُ، وسُلَيْمَانُ» و «طَالُوت» لم يكن من أحد هذين السِّبطين، بل كان من ولد «بِنْيَامِين» فلذها السَّبب؛ أنكروا كونه ملكاً عليهم، وزعموا أنَّهم أحقُّ بالملك منه، ثمَّ أكدوا هذه الشُّبهة بشبهة أخرى وهي قولهم: «وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ المَالِ» ، أي: فقير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 270 قال وهبٌ: كان دبَّاغاً. وقال السدِّيُّ: مكارياً. وقال آخرون: كان سقَّاء، واسمه بالعبرانية ساول بن قيس، وكان من سبط بنيامين ابن يعقوب، وكانوا عملوا ذنباً عظيماً، كانوا ينكحون النِّساء على ظهر الطَّريق نهاراً، فغضب الله عليهم ونزع الملك والنبوة عنهم وكانوا يسمون سبط الإثم، ثمَّ إنَّ الله تعالى أجابهم عن شُبْهتهم بقوله: {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} . والاصطفاء: أخذ الملك من غيره صافياً، واصطفاه واستصفاه، بمعنى: الاستخلاص، وهو أخذ الشَّيء خالصاً. وقال الزَّجَّاج: مأخوذٌ من الصَّفوة، فأصله اصتفى بالتاء، فأبدل التَّاء بالطَّاء ليسهل النُّطق بها بعد الصَّاد. فصل اعلم أنَّهم لمَّا طعنوا في استحقاقه للملك بأمرين: أحدهما: كونه ليس من بيت المملكة. والثاني: القدرة، وهذان الوصفان أشدُّ مناسبة لاستحقاق الملك من الوصفين الأوَّلن لوجوه: أحدها: أنَّ العلم، والقدرة من باب الكمالات الحقيقيَّة، والمال والجاه ليسا كذلك. الثاني: أنَّ العلم، والقدرة يمكن التَّوصُّل بهما إلى المال والجاه، ولا ينعكس. الثالث: أنَّ المال والجاه، يمكن سلبهما عن الإنسان، والعلم والقدرة، لا يمكن سلبهما عنه. الرابع: أنَّ العالم بأمر الحرب، والقويّ الشَّديد على المحاربة، ينتفع به في حفظ مصلحة الملك، ودفع شرِّ الأعداء، أكثر من الانتفاع بالرجل النَّسيب الغنيِّ الذي لا قدرة له على دفع الأعداء، ولا يحفظ مصلحة الملك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 271 فصل دلَّت هذه الآية على بطلان قول من يقول: إنَّ الإمامة موروثةٌ، وذلك؛ لأنَّ بني إسرائيل لمَّا أنكروا أن يكون الملك من غير بيت المملكة؛ أسقط الله هذا الشَّرْط، وبيَّن أنَّ المستحقَّ للملك من خصَّه الله به فقال: {والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ} ، وهذه الآية نظير قوله: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} [آل عمران: 26] . فصل والمراد بالبسطة في الجسم: الجمال، وقيل: المراد: طول القامة. قيل: كان أطول من كل أحدٍ برأسه، وبمنكبه. وقيل: المراد القوَّة. قال ابن الخطيب: وهذا القول عندي أصحُّ؛ لأنَّ المنتفع به في دفع الأعداء هو القوَّة، والشِّدة، لا الطُّول، والجمال. قوله: {فِي العلم} فيه وجهان: أحدهما: أنَّه متعلِّقٌ ب «بَسْطَة» كقولك: «بَسَطْتُ لَهُ في كَذَا» . والثاني: أنه متعلّقٌ بمحذوفً؛ لأنه صفةٌ ل «بَسْطَة» ، أي: بَسْطَة مستقرةً أو كائنة. قوله: {والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ} . قال بعض المفسِّرين: هذا من كلام الله تعالى لمحمّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام -، والمشهور: أنَّه من قول أشمويل، قال لهم ذلك، لمَّا علم من تعنتهم وجدالهم في الحجج، فأراد أن يتمِّم كلامه بالقطعي، الذي لا اعتراض عليه فقال: {والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ} ، وأضاف ملك الدُّنيا إلى الله إضافة مملوكٍ إلى ملكٍ. قوله: {والله وَاسِعٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه على النسب، أي: ذو سعة رحمة، كقولهم: لابنٌ، وتامرٌ، أي: صاحب تمرٍ ولبنٍ. والثاني: أنَّه جاء على حذف الزوائد من أوسع، وأصله مُوسِعٌ. وهذه العبارة إنَّما يتداولها النَّحويون في المصادر فيقولون: مصدرٌ على حذف الزوائد. والثالث: أنه اسمُ فاعلٍ من «وَسِع» ثلاثياً؛ قال أبو البقاء: «فالتَّقدير على هذا: واسع الحِلم؛ لأنَّك تقول وسع حلمه» . فصل في تفسير قوله {وَاسِعٌ عَلِيمٌ} في قوله: {وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ثلاثة أقوال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 272 أحدها: أنَّه واسع الفضل، والرَّزق، والرَّحمة، وسعت رحمته كلَّ شيءٍ، والتَّقدير: أنتم طعنتم في طالوت، لكونه فقيراً، فالله تعالى واسع الفضل، يفتح عليه أبواب الرِّزق، والسَّعة، كما في المال؛ لأنه فوّض إليه الملك، والملك لا يتمشَّى إلاَّ بالمال. والثاني، والثالث: ما تقدَّم في الإعراب آنفاً من كونه بمعنى: «مُوسِعٌ» وذو سعة، والعليم العالم وقيل: العالم بما كان، والعليم بما يكون. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 اعلم أنَّه لما أخبرهم نبيهم: بأنَّ الله تعالى، بعث لهم طالوت ملكاً، وأبطل حجَّتهم قالوا: «فَمَا آيَةُ مُلْكِهِ؟ قال: {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} . قوله تعالى: {أَن يَأْتِيَكُمُ التابوت} :» أَنْ «، وما في حيِّزها في محلِّ رفع خبرٍ ل» إِنَّ «تقديره: إنَّ علامة ملكه إيتاؤكم التَّابوت. وفي» التَّابوتِ «، قولان: أحدهما: أنه فاعولٌ، ولا يعرف له اشتقاقٌ، ومنع قائل هذا أن يكون وزنه فعلوتاً مشتقاً من تاب يتوب كملكوت من الملك ورهبوت من الرُّهب، قال: لأنَّ المعنى لا يساعد على ذلك. الثاني: أن وزنه فعلوت كملكوت، وجعله مشتقاً من التَّوب وهو الرُّجوع، وجعل معناه صحيحاً فيه، لأنَّ التَّابوت هو الصُّندوق الذي توضع فيه الأشياء، فيرجع إليه صاحبه عند احتياجه إليه، فقد جعلنا فيه معنى الرجوع. والمشهور أن يوقف على تائه بتاءٍ من غير إبدالها هاءً؛ لأنَّها إمَّا أصلٌ إن كان وزنه فاعولاً، وإمَّا زائدةٌ لغير التَّأنيث كملكوت، ومنهم من يقلبها هاءً، وقد قرئ بها شاذّاً، قرأها أُبيّ، وزيد بن ثابت، وهي لغة الأنصار، ويحكى أنهم لمَّا كتبوا المصاحف زمن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - احتلفوا فيه فقال زيد:» بالهَاءِ «، وقال: [أُبَيّ:] » بالتَّاءِ «، فجاءوا عثمان فقال:» اكْتبوه على لغة قريش «يعني بالتَّاءِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 273 وهذه الهاء هل هي أصل بنفسها، فيكون فيه لغتان، ووزنه على هذا فاعول ليس إلاَّ، أو بدلٌ من التَّاء؛ لأنها قريبةٌ منها لاجتماعهما في الهمس، أو إجراءٌ لها مجرى تاء التَّأنيث؟ قال الزَّمخشريُّ:» فإنْ قلت: ما وزنُ التابوت؟ قلت: لا يَخْلو أن يَكُونَ فَعَلوتاً، أو فاعُولاً، فلا يَكُونُ فاعُولاً لقلته نحو سَلِسٌ وقَلِقٌ «يعني: في الأوزان العربيَّة، ولا يجوز ترك المعروف [إليه] فهو إذاً فعلوت من التَّوب وهو الرُّجوع؛ لأنَّه ظرفٌ تودع فيه الأشياء، فيرجع إليه كلَّ وقتٍ. وأمَّا من قرأ بالهاء فهو فاعول عنده، إلاَّ من يجعل هاءه بدلاً من التَّاء لاجتماعهما في الهمس، ولأنَّهما من حروف الزِّيادة، ولذلك أُبدلت من تاء التَّأنيث. قوله: {فِيهِ سَكِينَةٌ} يجوز أن يكون» فيه «وحده حالاً من التَّابوت، فيتعلَّق بمحذوفٍ، ويرتفع» سَكِينَة «بالفاعليَّة، والعامل فيه الاستقرار، والحال هنا من قبيل المفردات، ويجوز أن يكون» فيه «خبراً مقدّماً، و» سكينةٌ «مبتدأ مؤخراً، والجملة في محلِّ نصب على الحال، والحال هنا من قبيل الجمل، و» سكينةٌ «فعيلة من السكون، وهو الوقار. أي هو سبب سكون قلوبكم، فيما اختلفتم فيه من أمر طالوت، ونظيره {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40] قيل: كان التَّابوت سبب سكون قلوبهم، فأينما كانوا سكنوا إليه، ولم يفرّوا عن التَّابوت، إذا كان معهم في الحرب. وقرأ أبو السَّمَّال بتشديد الكاف، قال الزَّمخشريُّ: «وَهُوَ غريبٌ» . قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} يجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه صفةٌ ل «سَكِينَة» ، ومحلُّه الرَّفع. ويجوز أن يتعلَّق بما تعلَّق به «فيه» من الاستقرار. و «مِنْ» يجوز أن تكون لابتداء الغاية، وأن تكون للتبعيض. وثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: من سكينات ربكم. فصل اعلم أنَّ مجيء التَّابوت لا بدَّ وأن يكون على وجهٍ خارقٍ للعادة؛ حتى يصح كونه آية من عند الله دالَّة على صدق تلك الدَّعوة، وذلك يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون المعجز نفس التَّابوت. قال أصحاب الأخبار: إنَّ الله تعالى، أنزل على آدم تابوتاً فيه صور الأنبياء من أولاده، وكان من عود من الشمشار نحواً من ثلاثة أذرع في ذراعين، فكان عند آدم إلى أن مات فتوارثه أولاده إلى أن وصل إلى يعقوب، ثم بقي في أيدي بني إسرائيل إلى أن وصل إلى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -، فكان موسى يضع فيه التوراة ومتاعاً من متاعه، وكان عنده إلى أن مات، ثمَّ تداولته أنبياء بني إسرائيل، وكانوا إذا اختلفوا في شيء تكلَّم، وحكم بينهم، وإذا حضروا القتال قدَّموه بين أيديهم، ليستفتحوا على عدوِّهم، وكانت الملائكة تحمله فوق العسكر، ثمَّ يقاتلون العدوَّ، فإذا سمعوا من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 274 التَّابوت صيحةً؛ استيقنوا النَّصر، فلمَّا عصوا، وفسدوا سلَّط الله عليهم العمالقة، فغلبوهم على التَّابوت وسلبوه، فلمَّا سألوا نبيَّهم على ملك طالوت؛ قال لهم النَّبيُّ: «إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ» أنكم تجدون التَّابوت في داره، ثمَّ إنَّ الكفَّار حين سلبوا التَّابوت؛ جعلوه في موضع البول والغائط، فدعا نبيُّ ذلك الوقت عليهم، فسلَّط الله عليهم البلاء حتى كل من بال، أو تغوّط ابتلاه الله بالبواسير، فعلم الكفَّار أن ذلك سبب استخفافهم بالتَّابوت، فأخرجوه ووضعوه على ثورين، فأقبل الثَّوران يسيران، ووكل الله بهما أربعة من الملائكة يسوقونهما، حتى أتوا منزل طالوت، ثمَّ إنَّ قوم ذلك النَّبيّ رأوا التَّابوت عند طالوت، فعلموا أنَّ ذلك دليل على كونه ملكاً لهم. وقيل: إنَّ التَّابوت صندوقٌ كان موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - يضع التوراة فيه، وكان من خشب يعرفونه، ثم إنَّ الله - تعالى - رفعه لمّا قبض موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لسخطه على بني إسرائيل، ثمَّ قال نبيُّ أولئك القوم: إنّ آية ملك طالوت أن يأتيكم التَّابوت من السَّماء، والملائكة يحفظونه، والقوم كانوا ينظرون إليه؛ حتَّى نزل عند طالوت، وهذا قول ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وأضيف الحمل إلى الملائكة في القولين، لأنَّ من حفظ شيئاً في «الطَّريق؛ جاز أن يوصف بأنه حمل ذلك الشيء، وإن لم يحمله، كقول القائل: حملت الأمتعة إلى زيدٍ، إذا حفظها في الطَّريق، وإن كان الحامل غيره. الثاني: ألا يكون التَّابوت معجزاً، بل يكون المعجز فيه بأن يشاهدوا التَّابوت خالياً، ثمَّ إنَّ ذلك النَّبيّ يضعه بمحضرٍ من القوم في بيتٍ، ويغلقون البيت عليه، ثمَّ يدعي ذلك النَّبي أنَّ الله تعالى يخلق فيه ما يدلُّ على ما وصفنا، فإن فتحوا باب البيت، ونظروا في التَّابوت؛ رأوا فيه كتاباً يدلُّ على أنَّ ملكهم هو طالوت، وأنَّ الله ينصرهم على عدوِّهم، فهذا يكون معجزاً قاطعاً دالاً على أنَّه من عند الله، ولفظ القرآن محتملٌ للوجهين. فصل في المراد بالسكينة اختلفوا في السَّكينة: قال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هي ريحٌ تخرج، أي: شديدة هفَّافةٌ لها رأسان، ووجه كوجه الإنسان. وقال ابن عبَّاسٍ، ومجاهدٌ: هي صورةٌ من زبرجدٍ وياقوت لها رأسٌ كرأس الهِرّ وذنبٌ كذنبه، ولها جناحان، وقيل: لها عينان لهما شعاعٌ، وكانوا إذا سمعوا صوتها تيقنوا بالنَّصر، وكانوا إذا خرجوا، وضعوا التَّابوت قدَّامهم، فإذا سار ساروا، وإذا وقف وقفوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 275 وعن ابن عبَّاس: هي طستٌ من ذهب من الجنَّة؛ كان يغسل فيها قلوب الأنبياء. وقال أبو مسلم: كان في التَّابوت بشارات من كتب الله المنزَّلة على موسى وهارون - عليهما الصَّلاة والسَّلام - ومن بعدهما من الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام بأن الله تعالى ينصر طالوت، وجنوده، ويزيد خوف العدوّ عنهم. وعن وهب بن منبّه قال: هي روحٌ من الله تتكلَّم إذا اختلفوا إلى شيءٍ من أمورهم تخبرهم ببيان ما يريدون. وقال أبو بكر الأصمٌّ: معنى السَّكينة؛ أي: تسكنون عند مجيئه وتقرون له بالملك، وتزول نفرتكم عنه؛ لأنه متى جاءهم التَّابوت من السَّماء، وشاهدوا تلك الحالة، فلا بد وأن تسكن قلوبهم إليه وتزول نفرتهم. وقال قتادة، والكلبيُّ: السَّكينة فعيلة من السّكون، أي: طمأنينة من ربكم، ففي أي مكان كان التَّابوت اطمأنوا إليه وسكنوا. قوله: {وَبَقِيَّةٌ} وزنها فعيلة والأصل: بَقِيْبَة بياءين، الأولى زائدة، والثانية لام الكلمة، ثم أُدغم، ولا يستدلُّ على أنَّ لام «بَقِيَّة» ياء بقولهم: «بَقِيَ» في الماضي، لأنَّ الواو إذا انكسر ما قبلها قلبت ياء، ألا ترى أنَّ «رَضِي» و «شَقِيَ» أصلهما من الواو: الشِّقْوَة والرِّضوان. و «مِمَّا تَرَكَ» في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل «بَقِيَّة» فيتعلَّق بمحذوفٍ، أي: بقيةٌ كائنةٌ. و «مِنْ» للتَّبعيض، أي: من بقيَّات ربِّكم، و «مَا» موصولةٌ اسميَّةٌ، ولا تكون نكرةً ولا مصدريةً. و «آل» تقدم الكلام فيه، وقي: هو هنا زائدٌ؛ كقوله: [الطويل] 1162 - بُثَيْنَةُ مِنْ آلِ النِّسَاءِ وَإِنَّمَا ... يَكُنَّ لِوَصْلٍ لاَ وِصَالَ لِغَائِبِ يريد «بُثَيْنَةُ» من النساء. قال الزَّمخشريُّ: وَيَجُوزُ أن يريد: ممَّا تَرَكَ موسى وهارون، والآلُ مقحمٌ لتفخيم شأنهما، أي زائدٌ للتعظيم، واستشكل أبو حيان كيفيَّة إفادة التَّفخيم بزيادة الآل. و «هَارُون» أعجميٌّ. قيل: لم يرد في شيءٍ من لغة العرب، قاله الراغب، أي: لم ترد مادته في لغتهم. فصل في المقصود بالبقية اختلفوا في البقية، فقيل: {مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ} من الدِّين، والشَّريعة، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 276 والمعنى: أنَّ بسبب هذا التَّابُوت ينتظمُ ما بَقِيَ من دينهما، وشريعتهما. وقيل: كان فيه لوحان من التَّوراة، ورضاض الألواح الَّتي تكسَّرت، وعصا موسى ونعلاهُ، وثيابه، وعمامة هارون وعصاه، وقفيزٌ من المنّ الذي كان ينزلُ على بني إسرائيل، واختلفوا في الآلِ على قولين: أحدهما: المراد موسى، وهارون نفسهما كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لأبي موسى الأَشعريّ: «لَقَدْ أُوتِيَ هذا مِزْماراً مِنْ مَزَامِير آل داوُدَ» وأراد به داود نفسه؛ لأنه لم يكُن لأحد من آلِ داوُدَ من الصَّوتِ الحسن مثل ما كان لداود. الثاني: قال القفَّال: إنَّما أضيف ذلك إلى آل موسى وآل هارون؛ لأَنَّ ذلك التَّابوت تداولته القُرُونُ بعدهما إلى وقتِ طالُوت، وما في التَّابُوت توارثه العلماء عن أتباع موسى وهارون، فيكون الآل: هم الأتباع قال تعالى: {أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46] . قوله: {تَحْمِلُهُ الملاائكة} هذه الجملةُ تحتمِلُ أن يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ على أنها حالٌ من التَّابُوت أي: محمولاً للملائكةِ وألاَّ يكونَ لها محلٌّ لأنها مستأنفةٌ، إِذْ هي جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ كأنه قيل: كيف يأتي؟ فقيل: تحمِلُهُ الملائكةُ. وقرأ مجاهد «يَحْمِلُه» بالياءِ من أسفلِ؛ لأنَّ الفِعْل مُسْنَدٌ لجمعِ تكسيرٍ، فيجوزُ في فعله الوجهان. و «ذلك» مشارٌ به قيل: إلى التَّابوت. وقيل: إلى إتيانه، وهو الأَحسنُ ليناسِبَ آخرُ الآيةِ أولها [و «إِنْ» ] الأظْهَرُ فيها [أنها] على بابها من كونِها شرطيةً وجوابُها محذوفٌ. وقيل: هي بمعنى «إذ» فإنّ هذه الآية معجزة باهِرَة للمؤمنين. قال ابن عبَّاسٍ: إِنَّا التَّابُوت، وعصا موسى في بحيرة طبرية وإنهما يخرجان قبل يوم القيامة. مِنَ النَّاسِ من قال: إن طالُوتَ كان نبيّاً؛ لأن اللهَ تعالى أظهر المعجزة على يديه، ومن كان كذلك كان نبيّاً. فإن قيل: هذه من باب الكرامات، قلنا: الفَرْقٌ بين الكرامةِ والمُعجزة: أنَّ الكرامة لا تكون على سبب التَّحَدِّي؛ فتكون معجزةً، وقد يُجابُ بأن ذلك معجزةٌ لنبيّ ذلك الزّمان وأنه آية قاطِعَةٌ في ثبوت ملك طَالُوتَ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 277 [قوله تعالى: «فَصَلَ» : أي: انْفَصَلَ، فلذلك كان قاصِراً. وقيل إِنَّ أصلَه التَّعدِّي إلى مفعولٍ ولكن حُذِفَ، والتقديرُ: فَصَلَ نفسه ثم إن هذا المفعول حذف حتى صار الفعلُ كالقاصِرِ. و {بالجنود} متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من «طَالُوت» أي مصاحباً لهم] . وبين جملةِ قوله: «فلمَّا فَصَلَ» وبين ما قبلَها من الجملِ جُمل محذوفةٌ يَدُلُّ عليها فحوى الكلامِ وقوتُه، تقديرُهُ: فلما أتاهم بالتَّابُوت أذعنوا له وأجابوا فَمَلَّكُوا طالوتَ، وتأهَّبوا للخروجِ، وهي كقوله: {فَأَرْسِلُونِ يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} [يوسف: 45، 46] . ومعنى الفصل: القَطْعُ. يقال: فصلت اللَّحْمَ عن العَظم فَصْلاً، وفاصل الرَّجُل شريكهُ وامرأته فصالاً. ويُقالُ للفطام فِصالٌ؛ لأَنَّه يقطعُ عن الرَّضاع وفصل عن المكان قطعه بالمجاوزة عنه، قال تعالى: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} [يوسف: 94] والجنود جمع جُنْدٍ، وكل صنف من الخلق جُنْدٌ على حدةٍ، يقال للجراد الكثيرة: إنَّها جنود اللهِ، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «الأَرْوَاح جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ» . فصل روي أنَّ طَالُوت خرج من بيت المقدس بالجنود، وهم يومئذٍ سبعون ألفاً، وقيل: ثمانُون ألف مُقاتل، وذلك أَنَّهُم لمَّا رأَوا التَّابُوت لم يشكوا في النَّصْر، فساروا إلى الجهاد، فقال طالُوتُ: لا حاجة لي في كُلِّ ما أَرى، لا يخرجُ معي رجُلٌ بنى بيتاً لم يفرغ منه، ولا تاجِرٌ مشتغلٌ بالتِّجارة، ولا مَنْ تزوّج امرأة لم يبنِ بها، ولا يتبعني إلا الشاب النّشيط الفارغ، فاجتمع إليه مما اختار ثَمَانُون ألفاً، وكان في حَرٍّ شديد، فشكوا قلَّة الماءِ بينهم، وبين عدوِّهم وقالوا: إِنَّ المياه قليلة لا تحملنا، فادعُ اللهَ أن يجري لنا نهراً فقال: {إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ} ، واختلفوا في هذا القائل، فقال الأكثرون هو طالوت؛ لأنَّهُ المذكور السَّابِقُ، وعلى هذا، فإِنَّه لم يقلهُ عن نفسه، فلا بُدَّ وأن يكُون عن وحي أَتَاهُ عن رَبِّهِ وذلك يقتضي أَنَّه كان مع الملك نبيٌّ، وقيل: القائِلُ هو النَّبِيُّ المذكور في أول الجزء: 4 ¦ الصفحة: 278 القِصَّةِ، وهو أشمويل عليه الصَّلاة والسَّلام، وعلى هذا التَّقدير إن قلنا: هذا الكلامُ من طالُوت، فيكون تحمَّلَهُ عن ذلك النَّبي، وحينئذٍ لا يكون طالُوت نبيّاً، وإن قلنا: الكلام من النَّبيّ فتقديره: فَلَمَّا فصل طالُوت بالجنود قال لهم نبيهم: إن اللهَ مبتليكم بنهرٍ، وفي هذا الابتلاء وجهان: الأول: قال القاضي: كان المشهورُ من أمر بني إسرائيل مخالفة الأنبياء، والملوك مع ظهور الآيات، والمعجزات، فأراد اللهُ تعالى إظهار علامة قبل لقاء العدوّ يتميز بها الصَّابِرُ على الحرب من غيره. الثاني: أَنَّهُ تعالى ابتلاهم ليتعوَّدُوا الصَّبر على الشَّدائد والابتلاء الامتحان وفيه لغتان من «بَلاَ يَبْلُو» و «ابْتَلَى يَبْتَلِي» ؛ قال: [الكامل] 1163 - وَلَقَدْ بَلَوْتُكَ وَابْتَلَيْتُ خَلِيفَتِي ... وَلَقَدْ كَفَاكَ مَوَدَّتِي بِتَأَدُّبِ فجاء باللُّغتين، وأصلُ الياءِ في مبتليكم واوٌ لأَنَّهُ من بلا يبلُو؛ وابتلى يَبْتَلِي، أي: اختبر، وإِنَّما قلبت لانكِسَارِ ما قبلها. قوله {بِنَهَرٍ} الجمهورُ على قراءتَه بفتح الهاء وهي اللَّغة الفصيحةُ، وفيه لغةٌ أخرى: تسكينُ الهاءِ، وبها قرأ مجاهد وأبو السَّمَّال في جميع القرآن وكلُّ ثلاثي حشوه حرف حلق، فإِنّهُ يجيء على هذين الوجهين؛ كقوله: صَخَرَ وَصَخْر وشَعَر وشَعْر وَبَحَر وَبَحْر؛ قال: [البسيط] 1164 - كَأَنَّمَا خُلِقَتْ كَفَّاهُ مِن حَجَرٍ ... فَلَيْسَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَالنِّى عَمَلُ يَرَى التَّيَمُّمَ فِي بَرٍّ وفي بَحَرٍ ... مَخَافَةَ أَنْ يُرَى فِي كَفِّهِ بَلَلُ وتقدم اشتقاقُ هذه اللَّفظة عند قوله تعالى: {مِن تَحْتِهَا الأنهار} [البقرة: 25] . قوله: {فَلَيْسَ مِنِّي} ، أي: من أَشياعي وأصحابي، و «مِنْ» للتَّبعيض؛ كأنه يجعلُ أصحابَه بعضه؛ ومثله قول النَّابغة: [الوافر] 1165 - إِذَا حَاوَلْتَ فِي أَسَدٍ فُجُوراً ... فَإِنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِنِّي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 279 ومعنى يَطْعَمْهُ: يَذُقْهُ؛ تقولُ العربُ: «طَمِعْتُ الشَّيْءَ» أي: ذُقْتُ طَعْمَهُ؛ قال: [الطويل] 1166 - فَإِنْ شِئْتَ حَرَّمْتُ النِّسَاءَ سِوَاكُمُ ... وَإِنْ شِئْتَ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً وَلاَ بَرْدَا والنقاخ: الماءُ العذبُ المروِي، والبردُ: هو النَّومُ. فصل قال أهلُ اللُّغة: وإِنَّما اختير هذا اللَّفظُ لوجهين: أحدهما: أَنَّ الإِنسانَ إذا عطش جدّاً، ثم شربَ الماء، وأراد وصف ذلك الماء، فإِنَّهُ يصفُهُ بالطُّعُومِ اللَّذِيذة، فقوله: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} ، أي: وَإِنْ بلغ به العطشُ إلى حيث يكون الماءُ في فَمِهِ موصوفاً بالطُّعوم الطَّيِّبة؛ فإنه يجب عليه الاحتراز عنه، وألا يشرب. الثاني: أَنَّ مَنْ جعل الماءَ في فمه، وتمضمض به، ثم أخرجه فإنّه يصدق عليه أَنَّهُ ذاقه وطعمه، ولا يصدُق عليه أَنَّه شربه، فلو قال: ومن لم يشربه فإِنَّهُ مني، كان المنعُ مقصوراً على الشّرب. فلما قال: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ} حصل المنعُ في الشُّربِ، والمضمضة، ومعلومٌ أَنَّ هذا التَّكليف أَشَقُّ، فإِنَّ الممنُوع من الشُّربِ، إِذَا تَمَضْمضَ بالماءِ وجد نوع خِفَّةٍ وراحةٍ. فإن قيل: هَلاَّ قيل: «وَمَنْ لَمْ يَطْْعَمْ مِنْهُ» ليكون آخر الآية مُطابقاً لأَوَّلها؟ فالجواب: إِنَّما اختير ذلك لفائدة وهي أَنَّ الفُقهاء اختلفوا في أَنَّ مَنْ حَلَفَ ألاَّ يشرب مِنَ هذا النَّهرِ. قال أبو حنيفة: لا يحنثُ إلا إِذَا كرع منهُ؛ حتى لو اغترف بكوزٍ من النَّهرِ، وشرب لا يحنث؛ لأَنَّ الشُّرب من الشَّيء هو: أَنْ يكُونَ ابتداء شُربِهِ مُتَّصلاً بذلك الشَّيء، وهذا لا يحصل إِلاَّ بالشُّرب مِنَ النَّهر. وقال الباقون: يحنثُ بالشُّرب مِنَ الكُوزِ، إذا اغترف به مِنَ النَّهر؛ لأَنَّ هذا وَإِنْ كان مجازاً، فهو مجازٌ معروفٌ، وإذا تقرَّر هذا فقوله: {مَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} ظاهره: أَنَّ النَّهْيَ مقصورٌ على الشُّرب من النَّهْرِ، حتّى لو اغترف بكُوزٍ، وشرب، لا يكُونُ داخلاً تحت النَّهي فلما كان هذا الاحتمالُ قائِماً في اللَّفظ الأَوَّل ذكر في اللَّفظ الثَّاني ما يزيلُ هذا الاحتمال، فقال: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} أضاف الطَّعم والشّرب إلى الماء لا إلى النهر إزالة لذلك الاحتمال. فصل قال ابنُ عبَّاس، والسُّدِّيُّ: إِنَّه نهر فلسطين، وقال قتادة والرَّبيع: هو نهرٌ بين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 280 الأُردن وفلسطين قال القاضي: والتوفيقُ بين القولين: أَنَّ النَّهر المُمتد من بلدٍ إلى بلدٍ قد يُضافُ إلى أحد البلدين. وروى الزَّمخشريُّ أَنَّ الوقت كان قيظاً، فسلكوا مفازةً فسألوا أَنْ يجري اللهُ لهم نهراً، فقال: إِنَّ اللهَ مبتليكم بما اقترحتُمُوهُ مِنَ النَّهرِ. قوله: {إِلاَّ مَنِ اغترف} منصوبٌ على الاستثناء، وفي المُستَثنى منه وجهان: الصَّحيح أَنَّهُ الجملةُ الأولى، وهي: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} ، والجملةُ الثانيةُ معترِضةٌ بين المُستَثنى والمُستَثنى مِنْهُ وأصلُها التَّأخيرِ، وإِنَّما قُدِّمَتْ، لأنها تَدلُّ عليها الأولى بطريقِ المفهوم، فإنَّه لمَّا قال تعالى: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} ، فُهِمَ منه أَنَّ من لم يشرب فإنَّه منه، فَلَمَّا كانت مدلولاً عليها بالمفهوم، صارَ الفصلُ بها كلا فصلٍ. وقال الزمخشريُّ: والجُمْلَةُ الثَّانيةُ في حُكم المُتَأَخِّرة، إلاَّ أَنَّها قُدِّمَتْ للعناية، كما قُدِّمَتْ للعناية، كما قُدِّمَ «والصَّابِئُونَ» في قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون} [المائدة: 69] . والثاني: أَنَّهُ مستثنى من الجملة الثَّانية، وإليه ذهب أبو البقاء. قال شهاب الدين: وهذا غيرُ سديدٍ لأنه يؤدِّي إلى أَنَّ المعنى: ومَنْ لم يطعمْه فإِنَّهُ مِنِّي، إلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرفة بيده؛ فإنه ليس مني، لأَنَّ الاسْتثناء من النَّفْي إثباتٌ، ومن الإِثبات نفيٌ، كما هو الصَّحيحُ، ولكن هذا فاسدٌ في المعنى؛ لأنهم مفسوحٌ لهم في الاغترافِ غرفةً واحدةً. والاستثناءُ إذا تعقَّبَ الجُمَلَ، وصلح عَوْدُهُ على كلٍّ منها هل يختصُّ بالأخيرة، أم لا؟ خلافٌ مشهورٌ، فإنْ دلَّ دليلٌ على اختصاصِهِ بإحدى الجُمَلِ عمِلَ به، والآيةُ من هذا القبيل، فإنَّ المعنى يعودُ إلى عودِهِ إلى الجُملة الأولى، لا الثَّانية لِمَا قَرَّرْنَاهُ. وقرأ الحرمِيَّان وأبو عمرو: «غَرْفَة» بفتح الغين وكذلك يعقوب وخلفٌ. والباقون بضمها. فقيل: هما بمعنى المصدر، إلاَّ أنهما جاءا على غير الصَّدر كنبات من أَنْبَتَ، وَلَوْ جاءَ على الصَّدر لقيل: اغترافاً. وقيل: هما بمعنى المُغْتَرف كالأَكل بمعنى المأكولِ. وقيل: المَفْتُوح مصدرٌ قُصِدَ به الدَّلالة على الوحدةِ، فإنَّ «فَعْلَة» يدُلُّ على المَرَّة الواحدة، ومثله الأكلة يقال فلان يأكل بالنهار أكلة واحدة والمضمُومُ بمعنى المفعول، فحيثُ جعلتهما مَصْدراً فالمفعولُ [محذوفٌ، تقديره: إلاَّ مَن اغترف ماءً، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول] كانا مفعولاً به، فَلا يُحتاج إلى تقديرِ مَفْعُولٍ. ويدل على الشَّيء الَّذي يحصُلُ بالكَفِّ كاللُّقمة والحُسْوة والخُطوةِ بالضم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 281 والحُزَّة القطعة اليسيرة من اللحم. قال القرطبيُّ: وقال بعضهم: الغرقة بالكَفّ الواحد، والغُرفة بالكفين. وقال المبرِّدُ «غَرْفَةً» بالفتح مصدر يقعُ على قليل ما في يده وكثيره وبالضَّمِّ اسم ملء الكف، أو ما اغترف به، فحيثُ جعلتهما مصدراً، فالمفعولُ محذوفٌ تقديره: إِلاَّ من اغترف ماءً، وحيثُ جعلتهما بمعنى المفعول كان مفعولاً به، فلا يحتاجُ إلى تقديره مفعولٍ ونُقِلَ عن أبي علي أَنَّهُ كان يُرَجِّح قراءة الضَّمِّ؛ لأَنَّه في قراءةِ الفتح يجعلها مصدراً، والمصدرُ لا يوافق الفعل في بنائِهِ، إِنَّما جاءَ على حذفِ الزوائد وجعلُها بمعنى المفعول لا يحوج إلى ذلك فكان أرجح. قوله: {بِيَدِهِ} يجوزُ أن يتعلَّق ب «اغْتَرَفَ» وهو الظَّاهر. ويجوزُ أَنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أنه نعتٌ ل «غُرْفَة» ، وهذا على قولنا: بأن «غُرْفَة» ، بمعنى المفعول أَظْهر منه على قولنا: بأنها مَصْدَرٌ، فإنَّ الظَّاهِرَ من الباء على هذا أن تكون ظرفيَّةٌ، أي: غُرفةً كائِنَةً في يده. فصل قال ابن عباس: كانت الغرْفَةَ تَشْرَبُ منها هو، ودوابُّهُ، وخدمه، ويحمل منها. قال ابن الخطيب: وهذا يحتملُ وجهين: أحدهما: أَنَّهُ كان مَأْذوناً له أَنْ يأخذ من الماء ما شاء مرَّةً واحِدَةً بغرفةٍ واحدةٍ بحيثُ كان المأْخُوذُ من المرَّةِ الواحدة يكفيه، ودوابُّهُ، وخدمه، ويحمل باقيه. والثاني: أَنَّهُ كان يأخذُ القليل فيجعل اللهُ فيه البركة حتَّى يكفِي كُلَّ هؤلاء؛ فتكون معجزة لنبيّ ذلك الزَّمان كما أَنَّهُ تعالى كان يَروِي الخلق العظيم من الماءِ القليل في زمن محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام -. فصل قال القرطبي: قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} يدلُّ على أَنَّ الماء طعامٌ، فإذا كان طعاماً، كان قُوتاً للأَبدان به، فوجب أن يجري فيه الرِّبا. قال ابن العربيّ وهو الصَّحيح من المذهب، ورَوَى أبو عمر عن مالكٍ قال: لا بأس ببيع الماء بالماءِ متفاضلاً، وإلى أجلٍ، وهو قول أَبي حنيفة، وأبي يوسف وقال محمَّد بن الحسن: هو مِمَّا يُكال ويوزن فعلى هذا لا يجُوزُ عندهُ التفاضل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 282 فصل قال ابن العربيِّ: قال أبو حنيفة: إذا قال الرَّجُلُ إذا شرب عبدي من الفراتِ فهو حرّ، فلا يُعتق إِلاَّ أَنْ يكرع فيه، والكرعُ: أَنْ يشرب الرَّجُلُ بفيه مِنَ النَّهر، فَإِنْ شرب بيده، أو اغترف منه بإِناءٍ، لم يعتق، لأنَّ اللهَ - تعالى - فرَّق بين الكرع في النَّهر، وبين الشّرب باليدِ. قال: وهذا فاسِدٌ لأَنَّ شُرب الماء يُطلق على كُلِّ هيئةٍ وصفةٍ في لسان العرب من غرف باليد، أو كرع بالفم انطلاقاً واحداً. قال القرطبي: وقول أبي حنيفة أصحّ؛ لأَنَّ أهل اللُّغة فرَّقوا بينهما، كما فرَّق الكتابُ والسُّنَّةُ. قال الجوهريُّ وغيره: كرع من الماء كروعاً: إذا تناوله بفيه من موضعه، من غير أَنْ يشرب بكفيه، أو بإناءٍ، وفيه لغة أخرى «كرعَ» بكسر الرَّاء كَرَعاً. وَأَمَّا السُّنَّة، فما رُويَ عن ابن عمر قال: مررنا على بِرْكةٍ، فجعلنا نكرعُ فيها فقال رسولُ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لاَ تَكْرَعُوا وَلَكِن اغْسِلُوا أَيْدِيكُمْ ثُمَّ اشْرَبُوا فيها، فَإِنَّها ليس إِناءٌ بأَطيب مِنَ اليَدِ» وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ شَرِبَ بيَدِهِ وَهُوَ يَقْدِرُ على إِناءٍ يُريدُ بِهِ التَّواضُع كَتَبَ اللهُ بِعَدَدِ أَصَابِعِهِ حَسَنَاتٍ وهو إِناء عيسى ابن مريم - عليه الصلاة والسّلام - إذا اطَّرَح القدح فقال أَفّ هذا مع الدّنيا» أخرجه ابن ماجه من حديث ابن عمر. قوله: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً} هذه القراءةُ المشهورةُ، وقرأ عبد الله، وأُبَيّ والأعمش «إِلاَّ قَليلٌ» وتأويله أنّ هذا الكلام وإِنْ كان موجباً لفظاً فهو منفيّ معنى، فإنه في قُوَّة: لم يُطيعوه إلا قليلٌ منهم، فلذلك جعلهُ تابعاً لِمَا قبلهُ في الإِعْرابِ. قال الزَّمخشريُّ: وهذا مِنْ مَيْلِهم مع المعنى والإِعراضِ عن اللَّفظ جانباً، وهو بابٌ جليلٌ من عِلْم العربيةِ، فلمَّا كان معنى «فَشَرِبُوا مِنْهُ» في معنى «فلم يُطِيعوه» حمل عليه، ونحوه قول الفرزدق: «لم يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أو مُجَلَّفُ» يشير إلى قوله: [الطويل] 1167 - وَعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً أَوْ مُجَلَّفُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 283 فإنَّ معنى «لَمْ يَدَعْ مِنَ المَالِ إِلاَّ مُسْحَتاً» لم يبقَ من المالِ إِلاَّ مُسْحَتٌ، فلذلك عطف عليه «مُجَلَّفُ» بالرَّفع مُراعاة للمعنى المذكور. وفي البيت وجهان آخران، أحدهما. . ولا بُدَّ من ذكر هذه المسألة لعموم فائدتها فأقول: إذا وقع في كلامهم استثناءٌ موجبٌ نحو: «قَامَ القَوْمُ إِلاَّ زَيْداً» فالمشهورُ وجوبُ النَّصب على الاستثناءِ. وقال بعضهم: يجوزُ أن يَتْبَعَ ما بعدَ «إِلا» ما قبلها في الإِعراب فتقول: «مَرَرْتُ بالقوم إلا زيدٍ» بجرّ «زَيْدٍ» واختلفوا في تابعيَّة هذا، فعبارةُ بعضهم أَنَّهُ نعتٌ لما قبلَه، ويقولُ: إنه يُنْعَتُ بإِلاَّ، وما بعدها مُطْلقاً سواءً كان متبوعُها معرفةً، أم نكرةً مضمراً، أم ظاهراً، وهذا خارجٌ عن قياس باب النَّعتِ لما قد عرَفْتَ فيما تقدَّم. ومنهم مَنْ قال: لا يُنْعَتُ بها إِلاَّ نكرةً، أو معرفةً بأل الجنسيّةِ لقربها من النّكرة. ومنهم مَنْ قال: قَولُ النَّحويين هنا نعتٌ: إِنَّما يعنُون به عطفَ البيانِ؛ ومن مَجِيء الإتباع بما بعد «إِلاَّ» قوله: [الوافر] 1168 - وَكُلُّ أَخٍ مُفارِقُهُ أَخُوهُ ... لَعَمْرُ أَبِيكَ إِلاَّ الفَرْقَدَانِ فصل لما ذكر تعالى أَنّ هذا الابتلاء ليتميز المُطِيعُ مِنَ المخالف، أخبر بعد ذلك بأَنَّهُم لما هجموا على النَّهرِ شرب أَكثرهم، وأطاع قليلٌ، فلم يشربوا، فأَمَّا الَّذين شربُوا فَرُوي أَنَّهم اسودَّت شفاههم وغلبهم العطش، ولم يرووا، وبقوا على شَطّ النَّهر وجبنوا عن لقاءِ العدُوّ، وأَمَّ الَّذين أطاعوا، فقوي قلبهم، وصحَّ إِيمانهُمُ. قال السُّدِّيُّ: كانوا أربعة آلاف، وقال الحسن، وهو الصَّحيح: أنهم كانُوا على عَدَدِ أهل بدرِ ثلاثمائة، وبضعة عشر، ويدُلُّ عليه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام لأصحابه يوم بدر: «أَنَّتُمُ اليَوْمَ عَلَى عَدَدِ أَصْحَابِ طَالُوت حين عَبَرُوا النَّهَر، وَمَا جَازَ مَعَهُ إِلاَّ مُؤمنٌ» . قال البراء بن عازب: وكنا يومئذٍ ثلاثمائة، وثلاثة عشر رجلا ولا خلاف بين الجزء: 4 ¦ الصفحة: 284 المُفسِّرين أَنَّ الذين عصوا رجعوا إلى بلدهم، وإنما اختلفوا هل كان رجوعهم بعد مجاوزة النهر أو قبله؟ والصَّحيح: أنَّهُم لم يجاوزوا النَّهر، وإِنَّما رجعوا قبل المجاوزة لقوله تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ} . قال ابن عبَّاس والسُّدِّيُّ: كان المُخالِفون أهل شكٍّ، ونِفاقٍ، فقالوا: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} فانحرفوا، ولم يجاوزُوا النَّهرَ. وقال آخرون: بل جاوزُونا النَّهرَ، وإنما كان رجوعهم بعد المجاوزة، ومعرفتهم بجالوت، وجنوده؛ لقولهم {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} . قوله: {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً} وهذا يدلُّ على أَنَّهُم حين لا قوا العدوّ، وعاينوا كثرتهم انقسموا فرقتين إحداهما: رجعت وهي المخالفة، وبقيت المطيعة. قوله: {جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ} «هو» ضميرٌ مرفوعٌ منفصِلٌ مؤكِّدٌ للضّمير المستكنِّ في «جَاوَزَ» . قوله: «والَّذِين» يحتملُ وجهين: أظهرهما: أنه عطفٌ على الضَّمير المستكنِّ في «جَاوَزَ» لوجود الشَّرط، وهو توكيدُ المعطوفِ عليه بالضَّمير المنفصلِ. والثاني: أَنْ تكُون الواوُ للحالِ، قالوا: ويلزَمُ من الحالِ أن يكونُوا جاوزوا معه، وهذا القائلُ يجعلُ «الَّذِينَ» مبتدأ، والخبرَ قالوا: «لاَ طَاقَةَ» ؛ فصار المعنى: «َفَمَّا جَاوَزَهُ، والحالُ أنَّ الَّذِين آمنوا قالوا هذه المقالة» ، والمعنى ليس عليه. ويجوزُ إدغامُ هاء «جَاوَزَهُ» في هاء «هُو» ، ولا يُعْتدُّ بفصلِ صلةِ الهاءِ؛ لأنها ضعيفةٌ، وإِنْ كان بعضهم استضعف الإِدغام، قال: «إِلاَّ أَنْ تُخْتَلَسَ الهاءُ» ، يعني: فلا يبقى فاصلٌ. وهي قراءة أبي عمرو، وأدغم أيضاً واوَ «هُوَ» في واو العطف بخلاف عنه، فوه الإِدغام ظاهرٌ لالتقاءِ مثلين بشروطِهما. ومَنْ أظهر وهو ابن مجاهدٍ، وأصحابُهُ قال: «لأَنَّ الواو إِذا أُدْغِمَت سَكَنَتْ، وإذا سكنت صَدَقَ عليها أنها واوٌ ساكنة قبلها ضمَّةٌ، فصارَت نظير: {آمَنُواْ وَكَانُواْ} [يونس: 63] فكما لا يُدغم ذاك لا يدغم هذا. وهذه العِلَّةُ فاسدةٌ لوجهين: أحدهما: أنها ما صارَتْ مثلَ» آمنوا، وكانوا «إلا بعد الإِدغام، فكيف يُقال ذلك؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 285 وأيضاً فإِنَّهُم أدغموا: {يَأْتِيَ يَوْمٌ} [البقرة: 254] وهو نظيرُ: {فِي يَوْمٍ} [إبراهيم: 18] و {الذى يُوَسْوِسُ} [الناس: 4] بعين ما عَلَّلوا به. وشرطُ هذا الإِدغام في هذا الحرف عند أبي عمرو ضمُّ الهاءِ، كهذه الآية، ومثله: {هُوَ والملائكة} [آل عمران: 18] {هُوَ وَجُنُودُهُ} [القصص: 39] ، فلو سكنت الهاءُ؛ امتنع الإِدغامُ نحو {وَهُوَ وَلِيُّهُمْ} [الأنعام: 127] ولو جرى فيه الخلافُ أيضاً لم يكن بعيداً، فله أُسوة بقوله: {خُذِ العفو وَأْمُرْ} [الأعراف: 199] بل أولى لأَنَّ سكون هذا عارضٌ بخلافِ:» الْعفوَ وأمر «. قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ مَعَهُ} . ليس المراد منه المعيّة في الإِيمان، لأنَّ إيمانهم لم يكُن مع إِيمان طَالُوت، بل المراد: أَنَّهم جاوزا النَّهر معه لأَنَّ لفظ «مع» لا تقتضي المعيَّة لقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} [الشرح: 5] واليسر لا يكون مع العسر. قوله: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم} [لنَا] هو: خبر «لا» ، فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بطاقة، وكذلك ما بعده من قوله «اليَومَ» و «بِجَالُوتَ» ؛ لأنه حينئذٍ يصير مُطَوَّلاً والمُطَوَّلُ ينصبُ منوناً، وهذا كما تراهُ مبنياً على الفتح، بل «اليَوْمَ» و «بِجَالُوتَ» متعلِّقان بالاستقرار الَّذي تعلَّق به «لنَا» . وأجاز أبو البقاء: أن يكون «بِجَالُوتَ» هو خبرَ «لا» ، و «لنَا» حينئذٍ: إِمَّا تبيينٌ أو متعلِّقٌ بمحذوف على أَنَّه صفةٌ لطاقة. والطَّاقةُ: القُدرةُ وعينُها واو؛ لأَنَّها مِنَ الطَّوقِ وهو القُدرةُ، وهي مصدرٌ على حذفِ الزَّوائدِ، فإِنَّها من «أَطَاقَ» ونظيرها: أجَابَ جابةً، وأَغَارَ غارةً، وَأَطَاعَ طَاعةً. و «جالوت» اسمٌ أعجميٌّ ممنوعُ الصرفِ، لا اشتقاقَ له، وليس هو فَعَلوتاً من جال يَجُول، كما تقدَّم في طَالُوت، ومثلهما داود. قوله: {كَم مِّن فِئَةٍ} «كَمْ» خبريةٌ، فإنَّ معناها التَّكثيرُ، ويدلُّ على ذلك قراءة أبي: «وكَائِن» ، وهي للتكثير، ومحلُّها الرَّفعُ بالابتداء، و «مِنْ فِئَةٍ» تمييزُها، و «مِنْ» زائدةٌ فيه. وأكثرُ ما يجيءُ مميِّزها، ومميِّز «كَائِن» مجروراً بمِنْ، ولهذا جاء التنزيلُ على ذلك، وقد تُحْذفُ «مِنْ» فيُجَرُّ مميِّزها بالإِضافة لا بمِنْ مقدرةً على الصَّحيح، وقد يُنصَبُ حَمْلاً على مُميِّز «كَم» الاستفهامية، كما أَنَّهُ قد يُجَرُّ مميِّز الاستفهاميّةِ حَمْلاً عليها، وذلك بشروطٍ ذكرها النُّحاةُ. قال الفرَّاء: لو ألغيت «مِنْ» ها هنا جاز فيه الرَّفع والنَّصبُ والخفضُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 286 أَمَّا النَّصبُ فلأنّ «كم» بمنزلة عددٍ، فينصب ما بعدهُ نحو: عشرونَ رجلاً. وَأَمَّا الخَفْضُ، فبتقدير دخول حرف «من» عليه. وأَمَّا الرَّفعُ، فعلى نيَّة الفِعْل تقديره «كم غلبت فئةٌ» ومِنْ مجيءِ «كَائِن» منصوباً قولُ الشاعر: [الخفيف] 1169 - أُطْرُدِ اليَأْسَ بالرَّجَاءِ فَكَائِنْ ... آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ وَأَجازُوا أَنُ يكونَ «مِنْ فِئَةٍ» في محلِّ رفع صفةً ل «كم» فيتعلَّق بمحذوفٍ. و «غَلَبَت» هذه الجملةُ هي خبرُ «كم» والتقديرُ: كثيرٌ من الفئاتِ القليلةِ غالبٌ الفئاتِ الكثيرةَ. وفي اشتقاق «فئة» قولان: أحدهما: أنها من فاء يَفِيء، أي: رجع فَحُذِفَتْ عينُها ووزنُها فِلَة. والثاني: أَنَّها مِنْ فَأَوْتُ رأسَه أي: كسرتُه، فحُذِفت لامُها ووزنُها فِعَة كمئة، إِلاَّ أَنَّ لامَ مئة ياءٌ، ولامَ هذه واوٌ، والفِئَةُ: الجماعةُ من النَّاسِ قلَّت، أو كثرت، وهي جمعٌ لا واحد له من لفظه، وجمعها: فئات وفئون في الرَّفع، وفئين في النَّصب والجرِّ، ومعناها على كلٍّ من الاشتقاقين صحيحٌ، فإنَّ الجماعَةَ من النَّاسِ يَرْجِعُ بعضهم إلى بعضٍ، وهم أيضاً قطعةٌ من النَّاسِ كقطَعِ الرَّأْسِ المكسَّرة. قوله: {بِإِذْنِ الله} فيه وجهان. أَظهرهُمَا: أنَّه حالٌ فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، والتَّقدير: ملتبسين بتيسير الله لهم. والثاني: أَنَّ الباءَ للتَّعْدية، ومجرورها مفعولٌ به في المعنى، ولهذا قال أبو البقاء: «وإِنْ شِئْتَ جَعَلْتَها مَفْعُولاً به» . وقوله: {والله مَعَ الصابرين} مبتدأٌ وخبرٌ، وتحتمِل وجهين: أحدهما: أن يكون محلُّها النَّصْبَ على أنها من مقولهم. والثاني: أنَّها لا محلَّ لها من الإِعراب، على أَنّها استئنافٌ أَخْبَرَ اللهُ تعالى بها. فصل في المقصود بالظن في الآية اختلفوا في الظن المذكور في قوله تعالى: {قَالَ الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُواْ الله} . وذكروا فيه وجوهاً: أحدها: قال قتادة: المراد من لقاء الله الموت. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 287 أَحَبَّ لِقَاءَ اللهِ أَحَبَّ اللهُ لقاءَه وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللهِ كَرِهَ اللهُ لِقَاءَهُ» وهؤلاء المؤمنون، لما وطَّنُوا أنفسهم على القتل، وغلب على ظنهم أَنَّهُم يموتون وصفهم بأنهم يظنون أنهم ملاقوا ثواب الله. وثانيها: قال أبو مسلم: معناه يظنون أَنَّهُم ملاقو ثواب الله بسبب هذه الطاعة، وذلك لأَنَّ أحداً لا يعلمُ بما فيه عاقبة أمره وَإِنَّما يكون ظاناً راجياً وإِن بلغ في طاعة الله ما بلغ. وثالثها: أَنَّهم ذكروا في تفسير السَّكينة قول بعض المفسِّرين: إِنَّ التَّابوت كان فيه كُتُبٌ إِلَهيَّةٌ، نزلت على الأَنبياء المُتَقَدِّمين دالَّةٌ على حُصًولِ النَّصر، والظّفر لِطَالُوتَ، وجنوده ولكنه لم يكن في تلك الكُتُبِ أَنَّ النَّصْر والظّفر يحصلُ في المرةِ الأولى، أو بعدها، فهم وإِنْ كانوا قاطعين بالنصر ولكنهم ظَنُّوا: هل هُوَ في تلك المَرَّةِ، أو بعدَها؟! رابعها: قال كثير من المفسرين: يظنون: أي يعلمون، فأطلق الظن وأراد به العلم كقوله تعالى: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 46] ووجه المجاز ما بين الظن واليقين من المشابهة في تأكيد الاعتقاد. والمراد من قولهم: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} تَقْويةُ قلوب الَّذِينَ قالوا: {لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ} ، والمعنى: لا عِبرة بكثرةِ العددِ، وإِنَّما العبرةُ بالتَّأْييد الإِلهي، ثم قال: {والله مَعَ الصابرين} . وهذا من تَمامِ قولهم، ويحتمل أَنْ يكُونَ قولاً من اللهِ تعالى، والأَوَّلُ أَظهرُ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 قوله تعالى: {بَرَزُواْ لِجَالُوتَ} في هذه اللام وجهان: أحدهما: أنَّها تتعلَّق ب «برزوا» . والثاني: أنها تتعلَّقُ بمحذُوفٍ على أَنَّها ومجرورها حالٌ من فاعل: «بَرَزوا» قال أبو البقاء: «وَيَجُوزُ أن تكُونَ حالاً أي: برزوا قاصِدِين لِجَالُوتَ» . ومعنى برزوا: صاروا إلى بَراز من الأرض، وهو ما انْكَشَفَ منها وَاسْتَوَى، وسميت المبارزة لظهور كُلّ قرنٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 288 لصاحبه، واعلم أَنَّ عسكر طالُوت لما برزوا عسكر جالوت، ورأوا قِلَّة جانبهم، وكثرة عدوهم، لا جرم اشتغلوا بالدُّعاء، والتَّضرع، فقالوا: {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً} . وفي ندائِهِم بقولهم: «رَبَّنَا» : اعترافٌ منهم بالعُبُوديَّة، وطلبٌ لإِصلاحهم؛ لأَنَّ لفط «الرَّبَّ» يُشْعر بذلك دونَ غيرها، وأَتوا بلفظِ «عَلَى» في قولهم «أَفْرغ عَلَيْنَا» طلباً؛ لأنْ يكونَ الصَّبْرُ مُسْتعلِياً عليهم، وشاملاً لهم كالظرفِ. ونظيره ما حكى اللهُ عن قوم آخرين أَنَّهُم قالوا حين لاقوا عدوَّهم: ومَا كَانوا قَوْلَهُم إِلاَّ أَنْ قالُوا: {ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} [آل عمران: 147] {وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [آل عمران: 147] وكذلك كان عليه الصَّلاة والسَّلام يفعل في المواطن كما رُوِيَ عنه في قصّة بدرٍ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام لم يَزَلْ يُصَلِّي، ويستنجز من الله وعده، وكان إِذَا لقي عدُوّاً قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِم وَاجْعَلْ كَيْدَهُم فِي نُحُورِهِمْ» وكان يقول: «اللَّهُمَّ بِكَ أَصُولُ وَأَجُولُ» . والإفراغ: الصَّبُّ، يقال: أفرغت الإِناءَ: إذا صببت ما فيه، أصله: من الفراغ يقال: فلان فارغٌ معناه: خالٍ ممَّا يشغله، والإفراغ: إخلاءُ الإناء من كلِّ ما فيه. واعلم أنَّ الأمور المطلوبة عند لقاء العدو ثلاثة: الأول: الصَّبر على مشاهدة المخاوف وهو المراد بقولهم: {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا} . الثاني: أن يكون قد وجد من الآلات والأدوات ما يمكنه أن يقف ويثبت، ولا يصير ملجأ إلى الفرار. الثالث: زيادة القوَّة على العدوِّ؛ حتى يقهره، وهو المراد من قولهم «وانْصُرْنَا عَلَى القَوْمِ الكَافِرِينَ» . فصل في دفع شبه المعتزلة في خلق الأفعال احتجَّ أهل السُّنَّة بقوله: {رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً ... } الآية على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنه لا معنى للصَّبر إلاّ: القصد على الثبات ولا معنى للثبات إلاّ السُّكون والاستقرار، وهذه الآية دالَّة على أنَّ ذلك القصد بالصَّبر من الله تعالى. أجاب القاضي: بأنَّ المراد من الصبر، وتثبيت الأقدام: تحصيل أسباب الصّبر، وأسباب ثبات القدم: إمَّا بأن يلقي في قلوب أعدائهم الاختلاف، فيعتقد بعضهم أنَّ البعض الآخر على الباطل، أو يحدث في ديارهم وأهليهم البلاء، كالموت، والوباء، أو يبتليهم بالموت، والمرض الذي يعمهم، أو يموت رئيسهم، ومن يدبّر أمرهم، فيكون ذلك سبباً لجرأة المسلمين عليهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 289 والجواب عما قاله القاضي من وجهين: الأول: أنَّا بيَّنَّا أنَّ الصَّبر عبارة عن القصد إلى السكون والثبات عبارة عن السكون وهو الذي أراده العبد من الله - تعالى -، وأنتم تصرفون الكلام عن ظاهره، وتحملونه على أسباب الصَّبر، وترك الظَّاهر لغير دليل لا يجوز. الثاني: أنَّ هذه الأسباب التي سلمتم أنَّها بفعل الله تعالى إذا حصلت ووجدت فهل لها أثر في التَّرجيح الدَّاعي، أو ليس لها أثرٌ في التَّرجيح؛ فعند صدور هذه الأسباب المرجحة يحصل الرجحان، وعند حصول الرُّجحان، يمتنع الطَّرف المرجوح، فيجب حصول الطَّرف الرَّاجح، لأنه لا خروج عن طرفي النقيض وهو المطلوب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 «الهَزَمُ» : أصله الكسر، يقال «سِقَاءٌ مَتَهزِّم» إذا انشق و «قَصَبٌ مُتَهَزِّمٌ» ، أي متكسِّر. والهزمة: نقرة في الجبل، أو في الصَّخرة. قال سفيان بن عيينة في زمزم: وهي هزمة جبريل، يريد هزمها برجله فخرج الماء. ويقال: سمعت هزيمة الرعد كأنَّه صوت تشقُّقٍ. ويقال للسَّحاب هزيم؛ لأنَّه ينشق بالمطر. قوله: {بِإِذْنِ الله} فيه الوجهان المتقدِّمات أعني كونه حالاً، أو مفعولاً به. فصل أخبر تعالى أنَّ تلك الهزيمة كانت بإذن الله تعالى وإعانته وتيسيره، ثم قال: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ} . قال القرطبيُّ: وكان جالوت رأس العمالقة وملكهم، ظلُّه ميل ويقال: إنَّ البربر من نسله. قال ابن عبَّاس: إنَّ داود - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان راعياً، له سبعة إخوة مع طالوت، فلما أبطأ خبر إخوته على أبيهم «إِيشَا» ؛ أرسل إليهم داود ليأتيه بخبرهم، فأتاهم وهم في المصاف وبدر جالوت الجياد إلى البراز، وكان من قوم عاد، فقال داود لإخوته: أما فيكم من يخرج إلى هذا الأقلف؟ فسكتوا فذهب إلى ناحية أخرى من الصف ليس فيها إخوته فمر به طالوت، وهو يحرض الناس. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 290 فقال له داود: ما تصنعون بمن يقتل هذا الأقلف؟ فقال طالوت: أنكحه ابنتي، وأعطيه نصف ملكي، فقال داود: فأنا أخرج إليه؛ وكانت عادته أنه يقاتل الأسد والذِّيب بالمقلاع في المرعى، وكان طالوت عارفاً بجلادته، فلما همَّ داود بالخروج إلى جالوت، مرّ بثلاثة أحجار فقلن: يا داود، خذنا معك ففينا منيَّة جالوت، ثمَّ لما خرج إلى جالوت، رماه، فأصابه في صدره ونفذ الحجر فيه، وقتل بعده ناساً كثيرة، فهزم الله جنود جالوت، وقتل داود جالوت وهو داود بن إيشى بكسر الهمزة. وقيل داود بن زكريَّا بن مرشوى من سبط يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وكان من أهل بيت المقدس، فحسده طالوت، وأخرجه من مملكته، ولم يف له بوعده، ثم ندم على صنعه، فذهب يطلبه إلى أن قتل، وملك داود، وحصلت له النُّبوَّة، وهو المراد من قوله: {وَآتَاهُ الله الملك والحكمة} هو العلم مع العمل والحكمة: هي وضع الأمور موضعها على الصَّواب، والصَّلاح. قوله: {وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ ... } . قال الكلبيُّ وغيره: «صنعة الدُّرُوعِ» . قال تعالى: {وَأَلَنَّا لَهُ الحديد أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السرد} [سبأ: 10 - 11] وقيل: منطق الطَّير والنّمل، وقيل الزّبور، وعلم الدّين، وكيفية الحكم، والفصل. قال تعالى: {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 79] . وقيل: الألحان الطَّيِّبة. قيل كان إذا قرأ الزَّبور؛ تدنو الوحوش حتى يؤخذ بأعناقها، وتظله الطّير مصغية له، ويركد الماء الجاري، وتسكن الرّيح. وروى الضَّحَّاك عن ابن عباس: هو أنَّ الله تعالى أعطاه سلسلةً موصولة بالمجرّة، ورأسها عند صومعته، وقوّتها اللُّؤلؤ قوّة الحديد، ولونها لون النّار وحلقها مستديرة مفصلة بالجواهر، مدسَّرة بقضبان اللُّؤلؤ الرطب، فلا يحدث في الهواء حدث إلاّ صلصلت السلسلة، فيعلم داود ذلك الحدث، ولا يمسُّها ذو عاهة إلاَّ برأ، فكانوا يتحاكمون إليها بعد داود إلى أن رفعت فمن تعدَّى على صاحبه، وأنكر حقه أتى إلى السِّلسلة، فمن كان صادقاً مدّ يده إلى السِّلسلة، فنالها، ومن كان كاذباً، لم ينلها، وكانت كذلك إلى أن ظهر فيهم المكر والخديعة، فبلغنا أن بعض ملوكهم أودع رجلاً جوهرة ثمينة، فلما استردَّها أنكرها فتحاكما إلى السلسلة فعمد الذي عنده الجوهرة إلى عكَّازه، فنقرها وضمنها الجوهرة، واعتمد عليها حتى حضروا السلسلة، فقال صاحب الجوهرة: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 291 ردَّ عليَّ الوديعة. فقال له صاحبه: ما أعرف لك عندي من وديعة، فإن كنت صادقاً فتناول السلسلة، فقام صاحب الجوهرة، فتناولها بيده. فقيل للمنكر قم أنت، فتناولها. فقال لصاحب الجوهرة: خذ عكَّازي هذا، فاحفظها حتى أتناول السِّلسلة، فأخذها فقال الرجل: «اللَّهم إِن كنت تَعْلم أنَّ هذه الوديعة التي يدّعيها، قد وصلت إليه فقرب مني السّلسلة، فمد يده فتناولها، فتعجب القوم، وشكُّوا فيها، فأصبحوا وقد رفع الله السِّلسلة. قوله {مِمَّا يَشَآءُ} : فاعلٌ،» يشاء «ضمير الله تعالى. وقيل: ضمير داود، والأول أظهر. قوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ} ؛ قرأ نافعٌ هنا، وفي الحج:» دِفَاع «، والباقون:» دَفْع «. فأمَّا» دَفْع «، فمصدر» دَفَعَ «» يَدْفَعُ «ثلاثياً، وأمَّا» دِفَاع «فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مصدر» دَفَعَ «الثلاثيِّ أيضاً، نحو: كَتَب كتاباً، وأن يكون مصدر» دَافَعَ «؛ نحو: قاتل قتالاً؛ قال أبو ذؤيبٍ: [الكامل] 1170 - وَلَقَدْ حَرِصْتُ بَأَنْ أُدَافِعُ عَنْهُمُ ... فَإِذَا المَنِيَّةُ أَقْبَلَتْ لاَ تُدْفَعُ قالوا وفعال كثيراً يجيء مصدراً للثلاثي من فَعَلَ وفَعِلَ، تقول: جمح جماحاً وطمح طماحاً وتقول لقيته لقاءً، وقمت قياماً، وأن يكون مصدر لدفع تقول: دفعته، دفعاً، ودفاعاً نحو: قتل قتلاً وقتالاً. و» فاعل «هنا بمعنى فَعَلَ المجرد، فتتَّحد القراءتان في المعنى ويحتمل أن يكون من المفاعلة، والمعنى أنه سبحانه إنَّما يكفّ الظَّلمة، والعصاة عن ظلم المؤمنين على أيدي أنبيائه، ورسله، وأئمة دينه، وكان يقع بين أولئك المحقين، وأولئك المبطلين مدافعات ومكافحات، فحسن الإخبار عنه بلفظ المدافعة كقوله تعالى: {يُحَارِبُونَ الله} [المائدة: 33] و {شَآقُّواْ الله} [الأنفال: 13] ونظائره كثيرة. ومن قرأ» دِفَاع «، وقرأ في الحجّ {يُدَافِعُ عَنِ الذين آمنوا} [الحج: 38] أو قرأ» دَفْع «، وقرأ» يَدْفَع «- وهما أبو عمرو وابن كثير - فقد وافق أصله، فجاء بالمصدر على وفق الفعل، وأمَّا من قرأ هنا:» دَفْع «، وفي الحجّ» يُدافِع «، وهم الباقون، فقد جمع بين اللُّغتين، فاستعمل الفعل من الرُّباعي والمصدر من الثلاثي. والمصدر هنا مضافٌ لفاعله وهو الله تعالى، و «النَّاس» مفعول أول، و «بعضهم» بدلٌُ من «الناسِ» بدل بعضٍ من كلٍّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 292 و «ببعضٍ» متعلِّقٌ بالمصدر، والباء للتعدية، فمجرورها المفعول الثاني في المعنى، والباء إنَّما تكون للتعدية في اللاَّزم، نحو: «ذَهَبَ بِهِ» فأمَّا المتعدِّي لواحدٍ فإنَّما يتعدَّى بالهمزة، تقول: «طَعِمَ زيدٌ اللَّحْمَ، وأَطْعَمْتُه اللَّحْم، ولا تقول:» طَعِمْته باللَّحْم «، فتعدِّيه إلى الثاني بالباء، إلاَّ فيما شذَّ قياساً، وهو» دَفَعَ «، و» صَكَّ «، نحو: صككت الحجر بالحجر، أي: جعلت أحدهما يصكُّ الآخر، ولذلك قالوا: صككت الحجرين أحدهما بالآخر. فصل في المدفوع والمدفوع به اعلم أنَّه تعالى ذكر في هذه الآية المدفوع، والمدفوع به، وأمَّا المدفوع عنه، فغير مذكورٍ، وهو يحتمل وجوهاً: الأول: أن يكون المعنى: ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر بسبب البعض، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام والأئمة الذين يمنعون النَّاس عن الكفر بسبب البعض بإظهار الدَّلائل. قال تعالى: {أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] . الثاني: دفع بعض الناس عن المعاصي، والمنكرات بسبب البعض، فيكون الدافعون هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر؛ لقوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [آل عمران: 110] . الثالث: ولولا دفع الله بعض الناس عن الهرج، والمرج، وإثارة الفتن في الدُّنيا بسبب البعض، فيكون الدَّافعون هم الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - ثم الأئمة والملائكة والدّابّون عن شرائعهم، وذلك أنَّ الإنسان الواحد لا يمكنه أن يعيش وحده، ما لم يخبز هذا لذاك، ويطحن ذاك لهذا، ويبني هذا لذاك، وينسج ذاك لهذا، ولا تتمّ مصلحة الإنسان. فالظَّاهر أن مصلحته لا تتمُّ إلاّ باجتماع جمع في موضع واحد، ولهذا قيل إن الإنسان مدنيٌّ بالطبع، ثم إنَّ الاجتماع سبب للمنازعة المفضية إلى المخاصمة، ثم إلى المقاتلة، فلا بدّ في الحكمة الإلهيَّة من وضع شريعةٍ بين الخلق ليقطع بها الخصومات، والمنازعات، فبعث الله الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بالشَّرائع؛ ليدفع بهم، وبشرائعهم الآفات، والفساد عن الخلق فإنَّ الخلق ما داموا متمسكين بالشَّرائع لا يقع بينهم خصامٌ ولا نزاعٌ، والملوك والأئمة متى كانوا متمسكين بالشرائع كانت الفتن زائلة والمصالح حاصلة، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام:» الإِسْلاَمُ والسُّلْطَانُ أَخَوَان «وقال أيضاً:» الإِسْلاَمُ أميرٌ، والسُّلْطَانُ حَارِسٌ، فمن لا أمير له فهو مُنْهَزِمٌ، ومن لا حَارِسَ له فَهُو ضَائِعٌ «. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 293 وعلى هذا الوجه فيكون تفسير قوله: {لَفَسَدَتِ الأرض} ، أي: لغلب على أهل الأرض القتل والمعاصي، وذلك يسمّى فساداً. قال تعالى: {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد} [البقرة: 205] وقال: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض وَمَا تُرِيدُ أَن تَكُونَ مِنَ المصلحين} [القصص: 19] . الرابع: ولولا دفع الله بالمؤمنين، والأبرار عن الكفّار، والفجّار، لفسدت الأرض ولهلكت بمن فيها. قال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «إِنَّ اللهَ لَيَدْفَعُ بِالمُسْلِم الصَّالِح عَنْ مائَةِ أَهْلِ بَيٍْتٍ مِنْ جِيرَانِهِ» وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «إِنَّ اللهَ يَدْفَعُ بمن يُصَلِّي مِنْ أُمَّتِي عمَّن لا يصلِّي، وبمن يزكّي عمن لا يُزكِّي، وبمن يصوم عمَّن لا يصوم وبمن يحجّ عمَّن لا يحجّ، وبمن يجاهد عمَّن لا يجاهد، ولو اجتمعوا على ترك هذه الأشياء لما أنظرهم الله طرفة عين» ثم تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية. ويدلُّ على صحَّة هذا القول قوله تعالى: {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً} [الكهف: 82] . وقال تعالى: {وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الفتح: 25] وقال: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] . وعلى هذا التأويل يكون معنى قوله: {لَفَسَدَتِ الأرض} ، أي: لأهلك الله أكثر أهلها الكفّار والعصاة. قال القرطبيُّ: وقيل: هم الأبدال، وهم أربعون رجلاً، كلّما مات واحدٌ أبدل آخر، فإذا كان عند القيامة ماتوا كلهم اثنان وعشرون بالشَّام، وثمانية عشر بالعراق. وروي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إِنَّ الأَبْدَالَ يَكُونُونَ بالشَّام وَهُمْ أَرْبعُونَ رَجُلاً كُلَّمَا مَاتَ مِنْهُم رَجُلٌ أبدل اللهُ مكانه رَجُلاً يُسْتَقَى بِهِمُ الغَيْث وَيَنْصُرُهُمْ عَلَى الأَعْدَاءِ وَيُصْرَفُ بِهِمْ عَنْ أَهْلِ الأَرْضِ البَلاَء» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 294 ذكره الترمذي الحكيم في نوادر الأصول، وخرج أيضاً عن أبي الدرداء قال: إن الأنبياء كانوا أوتاد الأرض، فلما انقطعت النبوة أبدل الله مكانهم قوماً من أمة محمد يقال لهم الأبدال، لم يفضلوا النَّاس بكثرة صوم، ولا صلاة، ولكن بحسن خلق، وصدق الورع، وحسن النِّية، وسلامة القلوب لجميع المسلمين والنَّصيحة لهم ابتغاء مرضاة الله، بصبر، وحلم، ولبٍّ، وتواضع في غير مذلَّةٍ فهم خلفاء الأنبياء قوم اصطفاهم الله سبحانه لنفسه، واستخلصهم بعلمه لنفسه، وهم أربعون صدِّيقاً ثلاثون رجلاً على مثل يقين إبراهيم خليل الرحمن بهم يرفع الله المكاره، والبلايا عن النَّاس، وبهم يمطرون، ويرزقون، لا يموت الرَّجل منهم، حتى يكون الله قد أنشأ من يخلفه. وقال سفيان الثَّوري: «هم الشُّهود الذين تستخرج بهم الحقوق» . الخامس: قال ابن عبَّاس ومجاهد: ولولا دفع الله بجنود المسلمين؛ لغلب المشركون على الأرض، فقتلوا المؤمنين، وخربوا المساجد، والبلاد. السادس: أن يحمل اللفظ على الكل؛ لأن بين هذه الأقسام قدراً مشتركاً، وهو دفع المفسدة، فإذا حملنا اللَّفظ عليه، دخلت الأقسام بأسرها فيه. فصل في بطلان مذهب الجبر قال القاضي: هذه الآية من أقوى الدَّلائل على بطلان الجبر؛ لأنه إذا كان الفساد من خلقه لم يكن لقوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} تأثير في زوال الفساد؛ لأن على قولهم إنَّما لا يقع الفساد بسبب ألا يفعله الله تعالى ولا يخلقه لا لأمر يرجع إلى النَّاس، والجواب: أنَّ الله تعالى لمّا كان عالماً بوقوع الفساد، فإذا صح مع ذلك العلم ألاَّ يقع الفساد كان المعنى أنه لا يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد، فيلزم أن يكون العبد قادراً على الجمع بين النَّفي والإثبات، وهو محال ويؤيد ذلك قوله تعالى مستدركاً {ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين} بين أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم فلو كان دفع الفساد بهذا الطريق فعل العبد لكان الفضل للعبد؛ لأنه الدَّافع على قولهم، ولم يكن لله تعالى على العالمين فضل سبب ذلك الدَّفع. فإن قالوا: نحمل هذا على البيان، والإرشاد. قلنا: كلُّ ذلك قائم في حقّ الكفَّار، والفجَّار، ولم يحصل منهم دفاع. قوله: {ولكن الله} وجه الاستدراك أنه لمَّا قسَّم النَّاس إلى مدفوع ومدفوع به، وأنَّه بهذا الدَّفع امتنع فساد الأرض، فقد يهجس في نفس من غُلب عمّا يريد من الفساد أنَّ الله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 295 غير متفضِّلٍ عليه، حيث لم يبلغه مقاصده وطلبه، فاستدرك عليه [أنّه] وإن لم يبلغ مقاصده أنَّ الله متفضّلٌ عليه، ومحسن إليه؛ لأنه مندرجٌ تحت العالمين، وما من أحدٍ إلاّ ولله عليه فضلٌ، وله فضل الاختراع [والإيجاد] . و «عَلَى» يتعلَّق ب «فَضْل» ؛ لأنَّ فعله يتعدَّى بها، وربَّما حذفت مع تخفيف الفعل؛ وقد جمع [بين] الحذف والإثبات في قوله: [الوافر] 1171 - وَجَدْنَا نَهْشَلاً فَضَلَتْ فُقِيْماً ... كَفَضْل ابْنِ المَخَاضِ عَلَى الفَصِيلِ أمَّا إِذا ضُعِّف، فإنه لا تحذف «على» أصلاً كقوله: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [البقرة: 253] ، ويجوز أن تتعلَّق «عَلَى» بمحذوفٍ لوقوعها صفةً لفضل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 قوله تعالى: {تِلْكَ آيَاتُ الله} : مبتدأٌ وخبرٌ، و «نَتْلُوهَا» فيه قولان: أحدهما: أن تكون حالاً، والعامل فيها معنى الإشارة. والثاني: أن تكون مستأنفةً فلا محلَّ لها. ويجوز غير ذلك، وهو يؤخذ مما تقدم. قال القرطبيُّ: وإن شِئْتَ كان «آيَاتُ الله» بدلاً، والخبر نتلوها عليك بالحقّ وأشير إليها إشارة البعيد لما بينا في قوله: {ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 2] أن «تلك» و «ذَلِكَ» يرجع إلى معنى هذه، وهذا، وأيضاً فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشَّيء الذى انقضى، ومضى، فكانت في حكم الغائب، فلذها التأويل قال: «تِلْكَ» وأشير إليها إشارة البعيد لما تقدَّم في قوله: {ذَلِكَ الكتاب} . قوله: «بالحق» يجوز فيه أن يكون حالاً من مفعول «نَتْلُوها» ، أي: ملتبسةً بالحقّ، أو من فاعله؛ أي: نتلوها ومعنا الحقُّ، أو من مجرور «عَلَيْكَ» ، أي: ملتبساً بالحقّ. قوله: {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} . قال القرطبيُّ: خبر إن أي: وإنك لمرسل. فصل اعلم أنَّه أشار بقوله: «تِلْكَ» إلى القضيَّة المذكورة من نزول التَّابوت، وغلب الجبابرة على يد داود، وهو صبيٌّ فقير. ولا شكّ أنَّ هذه الأحوال آياتٌ باهرةٌ دالّة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته، وفي معنى قوله: «بالحق» وجوه: أحدها: أنَّ المراد: أن تعتبر بها يا محمَّد أنت، وأمتك في احتمال الشَّدائد في الجهاد، كما احتملها المؤمنون، فيما مضى، وقال «نَتْلُوهَا» ، أي: يتلوها جبريل، وأضاف ذلك إليه تشريفاً له كقوله: {إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 296 وثانيها: «بالحق» أي باليقين الذي لا يشك فيه أهل الكتاب؛ لأنه في كتبهم كذلك من غير تفاوت أصلاً. وثالثها: أنَّا أنزلنا هذه الآيات على وجه تكون دالَّة على نبوتك بسبب ما فيها من الفصاحة والبلاغة. ورابعها: «بالحق» ، أي: يجب عليك أن تعلم: أنَّ نزول هذه الآيات من قبل الله تعالى، وليس من قبل الشياطين، ولا تحريف الكهنة والسحرة، وقوله عقيب ذلك: {وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} . يحتمل وجهين: الأول: أن إخبارك عن هذه القصص من غير تعلُّم، ولا دراسة دليل على أنَّك رسول وإنما ذكرها وعرفها بسبب الوحي من الله تعالى. الثاني: أن يكون المراد منه تسلية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والمعنى أنك إذا عرفت بهذه الآيات ما جرى على الأنبياء من الخلاف والرد لقولهم، فلا يعظمن عليك كفر من كفر بك، وخلاف من خالفك، لأنَّ لك بهم أسوة وإنَّما بعثوا لتأدية الرِّسالة على سبيل الاختبار، فلا عتب عليك في خلافهم وكفرهم والوبال في ذلك إنَّما يرجع عليهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 قال القرطبيُّ: قال «تِلْكَ» ، ولم يقل «ذَلِكَ» مراعاةً لتأنيث لفظ الجماعة، وهي رفع بالابتداء، و «الرُّسُلُ» نعته، وخبر الابتداء الجملة وقيل: «الرسل» عطف بيان، و «فضَّلنا» الخبر. فصل في مناسبة الآية لما قبلها قال أبو مسلمٍ: وجه تعلق هذه الآية بما قبلها، ما ذكر في الآية التي قبلها من تسلية الرَّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو أنَّه أخبر النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأخبار الأنبياء المتقدّمين، وأقوال أُممهم لهم، كسؤال قوم موسى: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] ، وقولهم: {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] . وكقوم عيسى بعد مشاهدة إحياء الموتى، وإبراء الأكمه والأبرص بإذن الله، فكذبوه، وراموا قلته، ثم أقام فريقٌ منهم على الكفر به، وهم اليهود، وزعم فريقٌ منهم أنَّهم أولياؤه، وكالملأ من بني إسرائيل الذين حسدوا طالوت، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 297 ودفعوا ملكه بعد المسألة، وكذلك ما جرى من أمر النهر، فذكر ذلك كلَّه تسلية للرَّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عمّا رأى من قومه من التّكذيب والحسد، فقال: هؤلاء الرُّسل الذين كلَّم الله بعضهم، ورفع الباقين درجات، وأيّد عيسى بروح القدس، قد نالهم من قومهم ما ذكرناه لك من مشاهدة المعجزات، فلا يحزنك ما ترى من قومك، فلو شاء الله لم يختلف أمم أولئك، ولكن ما قضى الله فهو كائن، وما قدَّره، فهو واقع. فصل في المراد من تلك الرُّسل أقوال: أحدها: أنَّ المراد من تقدم ذكرهم من الأنبياء في القرآن كإبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، وموسى وغيرهم - صلوات الله عليهم -. الثاني: أنَّ المراد من تقدّم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل، وداود، وطالوت على قول من يجعله نبيّاً. الثالث: قال الأصمُّ: المراد منه الرُّسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد، وأشار إليهم بقوله: {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض} قوله تعالى: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ} : يجوز أن يكون حالاً من المشار إليه، والعامل معنى الإشارة كما تقدَّم، وقال «تلك» ولم يقل أولئك الرُّسل؛ لأنه ذهب إلى معنى الجماعة كأنه قيل: تلك الجماعة، ويجوز أن يكون مستأنفاً، ويجوز أن يكون خبر «تِلْكَ» على أن يكون «الرُّسل» نعتاً ل «تِلْكَ» ، أو عطف بيان أو بدلاً. فصل في تفاضل الأنبياء أجمع الأمَّة على أنَّ الأنبياء بعضهم أفضل من بعضٍ، وأنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل من الكلِّ، ويدلُّ على ذلك وجوه: الأول: قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فلما كان رحمة للعالمين، لزم أن يكون أفضل من كلِّ العالمين. الثاني: قوله: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] قيل فيه لأنه قَرَنَ ذكره بذكره في الشَّهادتين والأذان، والتّشهد، ولم يكن ذلك لسائر الأنبياء. الثالث: أنه تعالى قرن طاعته بطاعته فقال: {مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله} [النساء: 80] وبيعته ببيعته فقال: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] وعزته بعزته فقال: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ} [المنافقون: 8] ورضاه برضاه فقال: {أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، وإجابته بإجابته فقال: {استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم} [الأنفال: 24] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 298 الرابع: أنَّ معجزات سائر الأنبياء قد ذهبت، ومن بعض معجزاته - عليه الصَّلاة والسَّلام - القرآن، وهو باقٍ إلى آخر الدَّهر. الخامس: قوله تعالى بعد ذكر الأنبياء: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] فأمر محمداً بالاقتداء بهم، وليس هو الاقتداء في أصول الدين؛ لأن شرعه نسخ سائر الشّرائع، فلم يبق إلا أن يكون الاقتداء في محاسن الأخلاق، فكأنه تعالى قال: إنّي أطلعتك على أحوالهم وسيرهم، فاختر أنت أجودها، وأحسنها. فمقتضى ذلك أنه اجتمع فيه من الخصال ما كان متفرقاً فيهم، فوجب أن يكون أفضل منهم. السادس: أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - بعث إلى الخلق كلهم، فوجب أن يكون مشقته أكثر من بعث إلى بعضهم، فإذا كانت مشقته أكثر كان أجره أكثر، فوجب أن يكون أفضل. السابع: أن دين محمَّد أفضل الأديان؛ فيلزم أن يكون محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل الأنبياء. بيان الأول: أنَّ الله تعالى جعل دينه ناسخاً لسائر الأديان، والنَّاسخ أفضل من المنسوخ، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] . وإنَّما نالت الأمة هذه الفضيلة لمتابعة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفضيلة التابع توجب فضيلة المتبوع. الثامن: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لِوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ» وذلك يدل على أنه أفضل من آدم، ومن كل أولاده، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أَنَّا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلاَ فَخْرَ» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَحَدٌ النَّبيِّين حَتَّى أَدْخُلَهَا أَنَا، ولا يَدْخُلَهَا أَحَدٌ مِنَ الأُمَمِ حَتَّى تَدْخُلَهَا أُمَّتي» وروى أنس أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أَنَا أَوَّل النَّاسِ خُرُوجاً إِذَا بُعِثُوا، وَأَنا خَطِيبُهُم إِذَا وَفَدُوا، وَأَنَّا مُبَشِّرُهُمْ إِذَا أيسُوا، وَأَنَا أَكْرَمُ وَلَدِ آدَمَ عَلى رَبِّي وَلاَ فَخْرَ» . وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: جلس ناسٌ من الصَّحابة يتذاكرون فسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حديثهم فقال بعضهم: عجبأ إنَّ الله اتخذ إبراهيم خليلاً، وقال آخر: ماذا بأعجب من كلام موسى كلمه تكليماً، وقال آخر: فعيسى كلمة الله وروحه. وقال آخر: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 299 آدم اصطفاه الله، فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «سَمِعْتُ كَلاَمَكُم، وحُجَّتُكُمْ أَنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلُ اللهِ وهُوَ كَذَلِك، ومُوسَى نَجِيُّ الله، وَهُوَ كَذلِكَ، أَلاَ وَأَنَا حَبِيبُ اللهِ، وَلاَ فَخْرَ، وَأَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الحَمْدِ يَوْمَ القِيَامَةِ ولا فَخْرَ، وَأَنَا أوّل مَنْ يُحَرِّكُ حَلَقَة الجَنَّة فَيُفْتَحُ لي، فَأَدْخُلها، ومَعِي فُقَرَاءُ المُؤْمِنِينَ، وَأَنَا أَكْرَمُ الأَوَّلِينَ والآخِرِينَ وَلاَ فَخْرَ» . التاسع: روى البيهقي في «فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ» - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - «أنه ظهر علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - من بعيد؛ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هَذَا سَيِّدُ العَرَبِ «فقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: ألَسْتَ أَنْتَ سَيِّدَ العَرَبِ؟ فقال:» أَنَا سَيِّدُ العَالَمِينَ وهو سيِّدُ العرب «. العاشر: جاء في الصحيحين أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» أُعْطِيتُ خَمْساً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ من الأَنْبِيَاءِ قَبْلِي، وَلاَ فَخْرَ، بُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ، والأَسْوَدِ، وكان النَّبي قبل يُبْعَثُ إلى قَوْمِهِ، وجُعِلَتْ لِي الأرْضُ مَسْجِداً وطَهُوراً وَنُصِرْتُ بالرُّعْبِ أَمَامِي مَسِيرَةَ شَهْرٍ، وأُحِلَّتْ لِي الغَنَائِمُ ولَمْ تُحَلَّ لأحَدٍ قَبْلِي، وأُعْطِيتِ الشَّفَاعَةَ، فادَّخَرْتُهَا لأُمَّتِي، فهِيَ نائلة إن شاء الله تعالى مَنْ لاَ يُشْرِكُ بِاللهِ شَيئاً «. الحادي عشر: عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال:» إِنَّ الله تعالى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً ومُوسَى نَجِيّاً وَاتَّخَذَنِي حَبيباً. قال: وعزَّتي لأوثرنّ حبيبي على خليلي «. الثاني عشر: أنَّ الله تعالى كلما نادى نبيّاً في القرآن ناداه باسمه قال: {يَاآدَمُ اسكن} [البقرة: 35] {ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر} [المائدة: 116] {يانوح اهبط} [هود: 48] {ياداوود} [ص: 26] {وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم} [الصافات: 104] {ياموسى إني أَنَاْ رَبُّكَ} [طه: 11 - 12] وأما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فناداه بقوله: {ياأيها النبي} [الأنفال: 64] {ياأيها الرسول} [المائدة: 41] وذلك يفيد التفضيل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 300 قال القرطبي رحمة الله عليه: فإن قيل: قد روى الثِّقات أنَّ النَّبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» لاَ تُخَيِّرُوا بَيْنَ الأَنْبِيَاءِ وَلاَ تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللهِ «، فأجاب بعض العلماء عن ذلك، فقال: كان هذا قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وقبل أن يعلم أنه سيّد ولد آدم، وأن القرآن ناسخٌ للمنع من التَّفضيل. وقال قوم: إنَّ المنع من التَّفضيل إنما هو من جهة النُّبوة، التي هي خصلة واحدة، لا تفاضل فيها، وإنَّما التَّفاضل في زيادة الأحوال، والكرامات، والألطاف، والمعجزات المتباينة. وأما النُّبوَّة في نفسها، فلا تفاضل فيها، وإنما التَّفاضل في أمورٍ أخر زائدةٍ عليها؛ ولذلك منهم» أُولُو العَزْمِ «، ومنهم من اتُّخِذَ خَليلاً، ومنهم مَنْ كَلَّم اللهُ، ورفع بعضهم درجات. قال القرطبي: وهذا أحسن الأقوال، فإنَّه جمع بين الآي، والأحاديث من غير نسخ، وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى اشتركوا في الصُّحبة، ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب، والوسائل، مع أنَّ الكلَّ شملتهم الصُّحبة والعدالة. قال ابن الخطيب: فإن قيل إنَّ معجزات سائر الأنبياء، كانت أعظم من معجزاته، فإن آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - جعل مسجود الملائكة، وإبراهيم ألقي في النَّار العظيمة؛ فانقلبت برداً وسلاماً عليه، وموسى أوتي تلك المعجزات العظيمة من قلب العصا حية تسعى، وتلقفها ما صنعوا، وإخراج اليد البيضاء من غير سوء، وفلق البحر، وفلق الحجر، ومكالمة ربه، وداود ألان له الحديد، وسخّر الجبال يسبحن معه والطّير، وسخر لسليمان الجن، والإنس، والطير والوحوش والرِّياح، وعيسى أنطقه في المهد، وأقدره على إحياء الموتى، ونفخ فيه من روحه، وجعله يبرئ الأكمه، والأبرص، ولم يكن ذلك حاصلاً لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «لاَ تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» وقال: «لاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ أَنْ يَكُونَ خَيْراً مِنْ يَحْيى بين زَكَرِيَّا» ، وذكر أنه لم يعمل سيئة قط. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 301 فالجواب: أن كون آدم - عليه الصّلاة والسّلام - مسجوداً للملائكة؛ لا يوجب أَنْ يكون أفضل من محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بدليل قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «آدَمُ وَمَنْ دُونَهُ تَحْتَ لوَائِي يَوْمَ القِيَامَةِ» وقال: «كُنْتُ نَبِيّاً وَآدَمُ بَيْنَ المَاءِ والطِّينِ» ، وروي أَنَّ جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - أخذ بركاب محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلة المعراج، وهذا أعظم من السُّجُود. وقال تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56]- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فصلّى بنفسه على محمَّد، وأمر الملائكة، والمؤمنين بالصَّلاة عليه، وذلك أفضل من سُجُود الملائكة، وأيضاً، فإِنَّ سُجُودَ الملائكة لآدم كان تأديباً، وأمرهم بالصَّلاة على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - تقريباً، وأيضاً فالصَّلاة على محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -[دائمة إلى يوم القيامة وسجود الملائكة لآدم عليه السَّلام] لم يكن إلا مرَّةً واحدة، وأيضاً فإِنَّ الملائكة، إِنَّما أمروا بالسُّجود لآدم لأجل أَنَّ نور محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في جبهة آدم. قال القرطبي: وقال ابن قتيبة: إِنَّما أراد بقوله: «أَنا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ» يوم القيامة؛ لأَنَّه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض، وأراد بقوله: «لاَ تُخَيِّرُونِي عَلَى يُونسَ بن مَتَّى» على طريق التواضع، لأنَّ قوله تعالى: {وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت} [القلم: 48] يدل على أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أفضل منه. فإن قيل: إنه تعالى خصّ آدم بالعلم فقال: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا} [البقرة: 31] وقال في حقّ محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] وأيضاً فمعلم آدم هو الله تعالى ومحمد معلمه جبريل كما قال: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} [النجم: 5] . فالجواب: أن الله تعالى قال في علم محمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} [النساء: 113] ، وقال: {الرحمن عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 1 - 2] وقال: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] ، وأما قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} ، فذلك بحسب التلقين والمعلم هو الله كقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] وقال: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] . فإن قيل: قال نوحٌ - عليه الصَّلاة والسَّلام - {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا} [هود: 29] وذلك خلق منه. وقيل لمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] . فالجواب: قد قيل لنوح: {أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [نوح: 1] فكان أوَّل أمره العذاب. وقيل لنبينا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، وعاقبة نوح أن قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] وعاقبة النّبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الشّفاعة. قال تعالى: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} [الإسراء: 79] فما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 302 أوتي نبي آية إلا أُوتي نبينا مثل تلك الآية، وفضل على غيره بآيات مثل انشِقاق القمر بإشارته، وحنين الجذع على مفارقته، وتسليم الحجر والشّجر عليه، وكلام البهائم، والشَّهادة برسالته، ونبع المَاءِ من بين أصابعه وغير ذلك من المُعجزات، والآيات الَّتي لا تحصى وأظهرها القرآن الذي عجز أهل السَّماء والأَرض عن الإتيان بمثله. قوله: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} هذه الجملة تحتملُ وجهين: أحدهما: أَنْ تكونَ لا مَحَلَّ لها من الإِعرابِ لاستئنافها. والثاني: أنها بدلٌ من جملةِ قوله «فَضَّلْنا» . والجمهورُ على رفع الجلالة على أنه فاعلٌ، والمفعولُ محذوفٌ وهو عائدُ الموصولِ أي: مَنْ كَلَّمه الله كقوله: {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} [الزخرف: 71] . وقُرئ بالنصبِ على أنَّ الفاعل ضميرٌ مُستترٌ وهو عائدُ الموصولِ أيضاً، والجلالةُ نَصْبٌ على التَّعظيم. وقرأ أبو المتوكل وابن السَّميفع: «كالَمَ اللهَ» على وزن فاعَلَ، ونصبِ الجلالةِ، و «كَليم» على هذا معنى مُكَالِم نحو: جَلِيس بمعنى مُجالِس، وخليط بمعنى مخالطٍ. وفي هذا الكلامِ التفاتٌ؛ لأنه خروجٌ من ضَمِيرِ المتكلّمِ المعظِّم نفسَه في قوله: «فَضَّلْنا» إلى الاسمِ الظَّاهِر الَّذشي هو في حُكْمِ الغائِبِ. فضل في كلام اللهِ المسموع اختلفوا في ذلك الكلامِ، فقال الأشعري وأتباعه هو الكلامُ القديم الأزليُّ الذي ليس بحرف، ولا صوت قالوا: كما أَنَّه لم يمتنع رُؤية ما ليس بمكيف، فهكذا لا يستبعد سماع ما ليس بمكيف. وقال الماتريديُّ: سماع ذلك الكلام محالٌ إِنَّما المَسْموع هو الحرف والصَّوت. فصل في المراد بالمُكلَّم اختلفوا هل المُرادُ بقوله: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} هل هو موسى وحده أم هو وغيره فقيل: موسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وحده، وقيل: بل هو وغيره. قالوا: وقد سمع من قوم موسى السّبعون المختارون، وسمع محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ليلة المِعراج بدليل قوله: {فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى} [النجم: 10] فإن قيل: قوله تعالى: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} إِنَّما ذكره في بيان غاية المنقبة والشّرف لأولئك الأَنبياء الذين كلّمهم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 303 الله تعالى، وقد جاء في القرآن، مكالمة بين الله، وبين إبليس، حيث قال: {فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} إلى آخر الآيات [الحجر: 36 - 38] وظاهرها يدلُّ على مكالمة كثيرة بين اللهِ، وبين إبليس، فإن كان ذلك يوجب غاية الشَّرف، فكيف حصل لإبليس؟ فإن لم يوجب شَرَفاً، فكيف ذكره في معرض التَّشريف لموسى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حيث قال: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] . فالجواب: من وجهين: أحدهما: أَنَّهُ ليس في قِصَّة إبليس ما يدلُّ على أَنَّ الله تعالى قال في تلك الأجوبة معه من غير واسطة، فلعلَّ الواسطة كانت موجودة. الثاني: هَبْ أَنَّهُ كان من غير واسطةٍ، ولكن مكالمة بالطَّرد واللَّعن فإِنَّ الله يكلِّم خاصَّتَهُ بما يحبُّونَ من التَّقرُّب والإكرام، ويكلّم من يَهينُهُ بالطَّرْدِ واللَّعْنِ والكلام الموحش فإنه وإِن كان منهما مكالمة لكن إحداهما توجب التَّقرُّبَ والتَّشريف والإكرام، والأخرى تُوجِبُ البُعدَ، والإِهانة والطَّرد. قوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} . في نصبه ستَّةُ أوجهٍ: أحدها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال. الثاني: أَنَّهُ حالٌ على حذفِ مُضَافٍ، أي: ذوي درجاتٍ. الثالث: أَنَّهُ مفعولٌ ثانٍ ل «رفع» على أَنَّهُ ضُمِّنَ معنى بلَّغ بعضهم درجات. الرابع: أنه بدلُ اشتمالٍ، أي: رفع درجاتٍ بعضهم، والمعنى: على درجاتِ بعض. الخامس: أنه مصدرٌ على معنى الفعل لا لفظه؛ لأَنَّ الدّرجة بمعنى الرَّفعة، فكأنه قيل: ورَفَع بعضهم رَفعاتٍ. السادس: أنه على إِسْقاط الخافضِ، وذلك الخافضُ يَحْتمل أن يَكُون «عَلَى» أو «فِي» ، أو «إلى» تقديره: على درجاتٍ أو في درجاتٍ أو إلى درجات، فلمَّا حُذِفَ حرفُ الجر انتصَبَ ما بعده. فصل في المراد بالدَّرجات في تلك الدَّرجات وجوهٌ: أحدها: أَنَّ المُراد منه بيان أَنَّ مراتِب الرُّسل، ومناصبهم متفاوتة؛ وذلك لأَنَّه تعالى اتَّخَذ إبراهيم خَلِيلاً، ولم تكن هذه الفضيلة لغيره وجمع لِدَاوُد بين المُلْكِ، والنُّبوَّةِ، ولم يحصل هذا لغيره، وسخَّر لِسُليمان الجِنّ والإنس، والطير، والريح، ولم يحصل هذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 304 لأبيه داود، وخصّ محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بأَنَّه مبعوث إِلى الجن والإنس، وبِأَنَّ شرعه نسخ سائِرَ الشَّرائع. الثاني: أَنَّ المراد منه المعجزات، فَإِنَّ كل واحد من الأَنبياء أوتي نوعاً آخر من المعجزات على ما يَليقُ بزمانه، فمعجزات موسى هي قلب العصا حيّة، واليد البيضاء، وفلق البحر كان كالشّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدّمين فيه، وهو السّحر. ومعجزات عيسى، وهي إِبراءُ الأَكمه، والأَبْرَص، وإِحياء الموتى كالشَّبيه بما كان أهل ذلك العصر مُتقدِّمين فيه، وهو الطِّبُّ. ومعجزة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهي القرآن كانت من جنس الفصاحة، والبلاغة والخطَب، والأَشعارِ، وبالجملة فالمعجزاتُ متفاوتةٌ بالقلَّةِ والكثرة وعدم البقاء، وبالقوة وعدم القُوَّةِ. الثالث: أن المراد بتفاوت الدّرجات ما يتعلّق بالدُّنيا من كثرة الأَتباع والأصحاب وقوَّة الدَّولة، وإذا تَأَمَّلْتَ هذه الوجوه؛ علمت أَنَّ محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان جامعاً لِلْكُلِّ، فمنصبه أعلى ومعجزاته أبقى، وأقوى، وقومه أكثر، ودولتُهُ أعظمُ وأوفر. الرابع: أَنَّ المراد بقوله: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} هو محمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ لأنَّه هو المفضل على الكُلّ، وإنما قال «وَرَفَعَ بَعْضَهُم» على سبيل الرَّمْزِ، لمن فعل فعلاً عظيماً فيقال له: من فعل هذا الفعل؛ فيقول: أحدكم، أو بعضكم، ويرِيدُ به نفسهُ وذلك أفخمُ من التَّصريح به، وقد سُئِل الحُطَيئَةُ عن أَشعرِ النَّاسِ، فذكر زهيراً، والنَّابغة، ثم قال: «ولو شئت لذكرت الثَّالِث» أراد ن فسه. وقيل: المراد إدريس عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقوله تعالى: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} [مريم: 57] ومراتب الأنبياء في السَّمواتِ. فإن قيل: المفهومُ من قوله {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} هو المفهوم من قوله: «تلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ» ، فما فائدة التكرير؟ فالجواب: أَنَّ قوله: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [يدل على إثبات تفضيل البعض على البعض، ولكنّه لا يدلُّ على أَنَّ ذلك التّفضيل، حصل بدرجة، أو بدرجات، فبيَّن بالثَّاني أَنَّ التَّفضِيل بدرجات. فإن قيل: قوله: {تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} ] كلام كلي، وقوله بعد ذلك {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} شروع في تفصيل تلك الجملة وقوله بعد ذلك: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} ، إعادة لذلك الكلام الكُلّي، ومعلومٌ أَنَّ إعادَة الكَلاَمِ الكليّ بعد الشُّرُوعِ في تفصيل جُزْئِيَّاتِهِ، يكون تكراراً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 305 فالجواب: أَنَّ فيه زيادة على الأَوَّل بقوله: «دَرَجَات» إذ التفصيل أَعَمُّ درجة ودرجات، فلا تكرار في شيءٍ من ذلك. قوله: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات} . فيه سؤالان: السُّؤال الأَوَّل: قال في أوَّل الآية: {فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [ثمَّ عَدَل عن هذا النَّوع من الكلام إلى المغايبة فقال: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} ] ، ثم عدل من المغايبة إلى النَّوع الأَوَّل فقال: {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات} فما الفائدة في العدول عن المُخاطبة إلى المغايبة، ثم عوده إلى المُخاطبة مرَّة أخرى. والجوابُ: أَنَّ قوله: {مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله} أهيب وأكثر وَقْعاً من أن يُقال: منهم من كلمنا، ولذلك قال: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيما} فلهذا اختَارَ لفظ الغيبة. وأَمَّا قوله {وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات} فإِنَّما اختار لفظ المخاطبة؛ لأن الضَّمير في قوله «وآتَيْنَا» ضمير التَّعظيم، وضمير تعظيم إحياء الموتى يدلُّ على عظمة الإيتاء. السُّؤال الثاني: لم خصَّ موسى، وعيسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - بذكر معجزاتهما؟ والجواب: سبب التَّخصيص: أنَّ معجزاتهما أبهر، وأقوى من معجزات غيرهما، وأيضاً، فأمتهما موجودون حاضرون في هذا الزَّمان، وأمم سائر الأنبياء ليسوا موجودين، فتخصيصهما بالذكر تنبيه على الطَّعن في أمتهما، كأنه قيل هذان الرسولان مع علو درجتهما، وكثرة معجزاتهما لم يحصل الانقياد من أمتهما لهما، بل نازعوهما وخالفوهما وأعرضوا عن طاعتهما. السُّؤال الثالث: تخصيص عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - بإيتاء البيِّنات يوهم أنه مخصوص بالبيِّنات دون غيره، وليس الأمر كذلك، فإن موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوتي أقوى منها، أو مساوٍ. والجواب: أنَّ المقصود من هذا الكلام: التَّنبيه على قبحِ أفعال اليهود، حيث شاهدوا هذه البيِّنات الواضحة الباهرة، وأعرضوا عنها. السُّؤال الرابع: «البيِّنات» جمع قلَّة، وذلك لا يليق بهذا المقام! والجواب: لا نسلِّم أنه جمع قلَّة، لأنَّ جمع السّلامة إنما يكون جمع قلَّة إذا لم يعرَّف بالألف واللام، فأما إذا عرف بهما؛ فإنه يصير للاستغراق، ولا يدلُّ على القلَّة. قوله: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} «القُدُس» تثقله أهل الحجاز، وتخففه تميم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 306 واختلفوا في تفسيره، فقال الحسن: القُدُسُ، هو الله - تعالى - وروحه جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - والإضافة للتَّشريف. والمعنى أعناه بجبريل في أوَّل أمره، ووسطه، وآخره. أمَّا أوله؛ فلقوله تعالى: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 12] . وأما الوسط، فلأن جبريل علَّمه العلوم، وحفظه من الأعداء. وأما آخر أمره، فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام - ورفعه إلى السَّماء، ويدلُّ على أنَّ روح القدس جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} [النحل: 102] . ونقل عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّ روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي عيسى عليه السلام به الموتى. وقال أبو مسلم: روح القدس الذي أيَّده به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه وميزه بها عن غيره من المخلوقات ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى. قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله} مفعوله محذوف، فقيل: تقديره: ألاّ تختلفوا وقيل: ألاَّ تقتتلوا. وقيل: ألاَّ تؤمروا بالقتال. وقيل: أن يضطرَّهم إلى الإيمان، وكلُّها متقاربة. و «مِنْ بَعْدِهِمْ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ، لأنه صلةٌ، والضَّمير يعود على الرُّسل. وقيل يعود على موسى، وعيسى، والاثنان جمع. قال القرطبيُّ: والأوَّل ظاهر اللَّفظ، وأنَّ القتال إنَّما وقع ممَّن جاءوا بعدهم وليس كذلك، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كلِّ نبي، وهذا كما تقول: «اشتريت خيلاً، ثمَّ بِعْتُهَا» . وهذه عبارة جائزة، وأنت إنَّما اشتريت فرساً وبعته ثم آخر وبعته، ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النَّوازل، إنما اختلف النَّاس بعد كلِّ نبي، فمنهم من آمن، ومنهم من كفر بغياً وحسداً. و {مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ} فيه قولان: أحدهما: أنه بدلٌ من قوله: «مِنْ بَعْدِهِم» بإعادة العامل. والثاني: أنه متعلِّقٌ باقتتل، إذ في البيِّنات - وهي الدلالات الواضحة - ما يغني عن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 307 التَّقاتل والاختلاف. والضَّمير في «جَاءَتْهم» يعود على الَّذشين من بعدهم، وهم أمم الأنبياء. فصل تعلق هذه الآية بما قبلها: أنَّ الرسل - عليهم الصَّلاة والسَّلام - لما جاءوا بالبيِّنات، وأوضحوا الدَّلائل، والبراهين، اختلف أقوامهم فمنهم من آمن، ومنهم من كفر وبسبب ذلك الاختلاف تقاتلوا، وتحاربوا، ولو شاء الله ألاَّ يقتتلوا لم يقتتلوا. واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الحوادث إنَّما تحدث بقضاء الله وقدره. ثم قال: {ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ} وإذا اختلفوا، فلا جرم اقتتلوا. وهذه الآية دالَّةٌ على أنَّ الفعل لا يقع إلاَّ بعد حصول الدَّاعي؛ لأنَّه بيَّن أن الاختلاف مستلزم للتقاتل، والمعنى: أنَّ اختلافهم في الدِّين يدعو إلى المقاتلة، وذلك يدلُّ على أنَّ المقاتلة لا تقع إلا لهذا الدَّاعي، ومتى ثبت ذلك ظهر أن الكلَّ بقضاء الله وقدره؛ لأنَّ الدَّواعي تستند لا محالة إلى داعية خلق الله تبارك وتعالى في العبد دفعا للتَّسلسل، فكانت هذه الآية دالة من هذا الوجه أيضاً على صحَّة هذا المذهب. قوله: {ولكن اختلفوا} وجه الاستدراك واضحٌ، فإنَّ «لَكِنْ» واقعةٌ بين ضدّين، إذ المعنى: ولو شاء الله الاتِّفاق لاتَّفقوا؛ ولكن شاء الاختلاف فاختلفوا. وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «لكنْ» استدراك لما دلَّ الكلام عليه، لأنَّ اقتتالهم كان لاختلافهم، ثم بيَّن الاختلاف بقوله: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ} ، فلا محلَّ حينئذٍ لقوله: {فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ} . وكسرت النُّون من {ولكن اختلفوا} لالتقاء السَّاكنين ويجوز حذفها في غير القرآن الكريم، وأنشد سيبويه: [الطويل] 1172 - فَلَسْتُ بِآتِيهِ، وَلاَ أَسْتَطِيعُهُ ... وَلاَكِ اسْقِنِي إِنْ كَانَ مَاؤُكَ ذَا فَضْلِ قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا} فيه قولان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 308 أحدهما: أنها الجملة الأولى كرِّرت تأكيداً قاله الزمخشري. وقال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنما كرَّر ذلك تأكيداً للكلام، وتكذيباً لمن زعم أنهم فعلوا ذلك من عند أنفسهم ولم يجر به قضاء من الله، ولا قدر. الثاني: أنها ليست لتأكيد الأولى، بل أفادت فائدة جديدة، والمغايرة حصلت بتغاير متعلَّقهما، فإنَّ متعلَّق الأولى مغايرٌ لمتعلَّق المشيئة الثانية، والتقدير في الأولى: وَلَوْ شَاءَ اللهُ أن يحول بينهم وبين القتال بأن يسلبهم القوى والعقول، وفي الثانية: ولو شاء لم يأمر المؤمنين بالقتال، ولكن شاء أمرهم بذلك. قوله: {ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} من اختلافهم، فيوفق من يشاء، ويخذل من يشاء لا اعتراض عليه في فعله، وهذه الآية دالَّةٌ على أنَّه تعالى هو الخالق لإيمان المؤمنين، والخصم يساعد على أنه تعالى يريد الإيمان من المؤمن. ودلت الآية على أنه يفعل كل ما يريد، فوجب أن يكون الفاعل لإيمان المؤمن هو الله تعالى، ولما دلَّت على أنه يفعل ما يريد، فلو كان يريد الإيمان من الكفَّار لفعل فيهم الإِيمان، ولكانوا مؤمنين، ولما لم يكن كذلك، دلَّ على أنَّه تعالى لا يريد الإيمان منهم فدلَّت الآية على مسألة خلق الأعمال وعلى مسألة إرادة الكائنات. وقالت المعتزلة: يفعل كل ما يريد من أفعال نفسه، وهذا ضعيفٌ لوجهين: أحدهما: أنه تقييدٌ للمطلق. والثاني: أنَّه على هذا التّقييد تصير الآية من باب إيضاح الواضحات؛ لأنه يصير معنى الآية: أنَّه يفعل ما يفعله. سأل رجل عليَّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: يا أمير المؤمنين؛ أخبرني عن القدرِ! فقال: طريقٌ مظلمٌ فلا تسلكه. فأعاد السُّؤال فقال: بحرٌ عميقٌ لا تلِجْه، فأعاد السُّؤال، فقال: «سِرُّ الله في الأَرْضِ، قَد خَفِي عَلَيْكَ، فَلاَ تَفْتِشْهُ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 اعلم أنه تعالى لما أمر بالقتال بقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} [البقرة: 244] أعقبه بالحض على النفقة في الجهاد فقال: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] والمقصود منه الإنفاق في الجهاد، ثمَّ إنَّه أكد الأمر بالقتال بذكر قصَّة طالوت، ثم أعقبه بالأمر بالإنفاق في الجهاد في هذه الآية الكريمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 309 قوله: {أَنْفِقُواْ} : مفعوله محذوفٌ، تقديره: شيئاً ممَّا رزقناكم، فعلى هذا {مِمَّا رَزَقْنَاكُم} متعلّقٌ بمحذوفٍ في الأصل لوقوعه صفةً لذلك المفعول، وإن لم تقدِّر مفعولاً محذوفاً، فتكون متعلِّقة بنفس الفعل. و «مَا» يجوز أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوفٌ، أي: رزقناكموه، وأن تكون مصدريَّةً، فلا حاجة إلى عائدٍ، ولكن الرّزق المراد به المصدر لا ينفق، فالمراد به اسم المفعول، وأن تكون نكرةً موصوفةً وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله تعالى: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] . قوله: {مِّن قَبْلِ} متعلِّقٌ أيضاً بأنفقوا، وجاز تعلُّقُ حرفين بلفظٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ لاختلافهما معنًى؛ فإنَّ الأولى للتَّبعيض والثانية لابتداء الغاية، و «أَنْ يَأْتي» في محلِّ جرٍّ بإضافة «قبل» إليه، أي: من قبل إتيانه. وقوله: {لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ} إلى آخره: الجملة المنفيَّة صفةٌ ل «يَوم» فمحلُّها الرَّفع. وقرأ «بَيْعٌ» وما بعده مرفوعاً منوناً نافع والكوفيون وابن عامر، وبالفتح أبو عمرو وابن كثير، وتوجيه ذلك تقدم في قوله تبارك وتعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة: 197] . والخلَّة: الصَّداقة، كأنها تتخلَّل الأعضاء، أي: تدخل خلالها، أي وسطها. والخلَّة: الصديق نفسه؛ قال: [الطويل] 1173 - وَكَانَ لَهَا في سَالِفِ الدَّهْرِ خُلَّةٌ ... يُسَارِقُ بِالطَّرْفِ الخِبَاءَ المُسَتَّرَا وكأنه من إطلاق المصدر على العين مبالغةً، أو على حذف مضافٍ، أي: كان لها ذو خلَّة، والخليل: الصَّديق لمداخلته إيَّاك، ويصلح أن يكون بمعنى فاعل، أو مفعول، وجمعه «خُلاَّن» ، وفعلان جمع فعيل يقل في الصّفات، وإنما يكثر في الجوامد نحو: «رُغْفَانٍ» . قال القرطبيُّ: والخُلَّة: خالص المودَّة [مأخوذة من تخلل الأسرار بين الصديقين والخِلالة والخَلالة، والخُلالة: الصداقة، والمودة] ؛ قال الشاعر: [المتقارب] 1174 - وَكَيْفَ تُواصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ ... خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ وأبو مرحب كنية الظِّلّ، ويقال: هو كنية عرقوب الذي قيل فيه: «مواعيد عرقوب» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 310 والخَلَّة - بالضَّمِّ - أيضاً - ما خالل من النبت يقال: الخلة خبز الإبل، والحمض فاكهتها. والخَلَّة: - بالفتح - الحاجة والفقر، يقال: سدَّ خلته، أي: فقره. والخِلَّة بالكسر ابن مَخَاض، عن الأصمعي: يقال أتاهم بقرص كأنَّه فِرْسِنُ خلة. والأنثى خلَّة أيضاً، والخلّة: الخمرة الحامضة. والخِلَّة - بالكسر - واحدة خلل السُّيوف، وهي بطائن كانت تغشى بها أجفان السُّيوف منقوشة بالذَّهب وغيره، وهي أيضاً سُيُور تلبس ظهور سيتي القوس، والخلّة أيضاً ما يبقى بين الأسنان. و «هم» يجوز أن تكون فصلاً أو مبتدأ ثانياً، و {الظالمون} خبره والجملة خبر الأوَّل. فصل قالت المعتزلة: لما أمر بالإنفاق من كلِّ ما كان رزقاً، وبالإجماع لا يجوز الإنفاق من الحرام وجب القطع بأنَّ الرّزق لا يكون إلاّ حلالاً. وأجاب ابن الخطيب: بأنَّ الأصحاب مخصَّصة بالأمر بالإنفاق ما كان رزقاً حلالاً أو حراماً. واختلفوا في هذه النَّفقة، فقال الحسن: هذا الأمر مختص بالزكاة قال: لأنَّ قوله {مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ} كالوعد والوعيد، ولا يتوجه الوعيد إلاَّ على الواجب، وهو قول السُّدي. وقال الأكثرون: هذا الأمر يتناول الواجب، والمندوب وليس في الآية وعيد، فكأنه قال: حصلوا منافع الآخرة حين تكونون في الدُّنيا، فإنكم في الآخرة لا يمكنكم تحصيلها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 311 وقال الأصمُّ: المراد منه الإنفاق في الجهاد. وفي المراد من البيع هنا وجهان: أحدهما: أنَّه بمعنى الفدية كما قال: {فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} [الحديد: 15] وقال: {وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 123] ، وقال: {وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ} [الأنعام: 70] فكأنه قيل من قبل أن يأتي يوم لا تجارة فيه، فتكسب ما تفتدي به من العذاب. الثاني: أن يكون المعنى: قدِّموا لأنفسكم من المال الذي هو ملككم قبل أن يأتي اليوم الذي لا يكون فيه تجارة ولا مبايعة يكتسب بسببها شيء من المال. {وَلاَ خُلَّةٌ} ولا صداقة، ونظيره قوله تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] وقال {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب} [البقرة: 166] . وقوله: {وَلاَ شَفَاعَةٌ} يقتضي نفي كلّ الشَّفَاعَاتِ، فقوله: {وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ} عام في الكل إلاَّ أنَّ سائر الدَّلائل دلَّت على ثبوت المودة والمحبة بين المؤمنين، وعلى ثبوت الشفاعة بين المؤمنين والسبب في عدم الخلة والشفاعة أمور: أحدها: أنَّ كل واحد يكون مشغولاً بنفسه. قال تبارك وتعالى: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] . الثاني: أنَّ الخوف الشَّديد يغلب على كلِّ أحدٍ] {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ} [الحج: 2] . الثالث: أنَّه إذا نزل العذاب بسبب الكفر، أو الفسق صار مبغضاً لهذين الأمرين وإذا صار مبغضاً لهما؛ صار مبغضاً لمن اتَّصف بهما. وقوله: {والكافرون هُمُ الظالمون} ، ولم يقل «والظَّالِمُونَ هم الكافرون» . وذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً: أحدها: أنَّ نفي الخلَّة، والشَّفاعة مختص بالكافرين، لأنّه أطلقه ثم عقبه بقوله {والكافرون هُمُ الظالمون} وعلى هذا تصير الآية دالَّةً على إثبات الشَّفاعة في حقّ الفسَّاق. قال القاضي: هذا التأويل غير صحيحٍ؛ لأن قوله: {والكافرون هُمُ الظالمون} كلام مبتدأ، فلم يجب تعليقه بما تقدَّم. والجواب: أنَّا لو جعلناه كلاماً مبتدأً تطرق الخُلْفُ إلى كلام الله تعالى؛ لأنَّ غير الجزء: 4 ¦ الصفحة: 312 الكافرين قد يكون ظالماً، وإذا علَّقناه بما تقدَّم زال الإشكال. الثاني: أنَّ معناه أنَّ الله لم يظلم الكافر بإدخاله النَّار، وإنَّما الكافر هو الذي ظلم نفسه، حيث اختار الكفر والفسق، ونظيره قوله تعالى: {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} [الكهف: 49] . الثالث: معناه: أنَّكم أيُّها الحاضرون لا تقتدوا بالكفَّار حيث تركوا تقديم الخيرات ليوم فاقتهم، وحاجتهم، ولكن قدّموا لأنفسكم ما يفديها يوم القيامة. الرابع: {الكافرون هُمُ الظالمون} حيث وضعوا أنفسهم في غير مواضعها لتوقعهم الشَّفاعة بمن لا يشفع لهم عند الله، لأنهم كانوا يقولون عن الأوثان {هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} [يونس: 18] وقالوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] . الخامس: المراد من الظلم ترك الإنفاق قال تعالى: {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً} [الكهف: 33] أي أعطت فلم تمنع فيكون معنى الآية الكريمة والكافرون هم التاركون للإنفاق في سبيل الله، وأمَّ المسلم فلا بدَّ أن ينفق شيئاً قلَّ أو كثر. السادس: {والكافرون هُمُ الظالمون} أي هم الكاملون في الظلم البالغون الأمر العظيم فيه. ذكر هذه الوجوه القفال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 اعلم أنَّ عادته سبحانه وتعالى في هذا الكتاب الكريم أن يذكر علم التَّوحيد، وعلم الأحكام، وعلم القصص، فإنَّ الإنسان إذا بقي في النَّوع الواحد، كان يوجب بعض الملال فإذا انتقل من نوع إلى نوع آخر، كان كأنَّه انشرح صدره، وفرح قلبه، فكأنه سافر من بلدٍ إلى بلدٍ آخر، وانتقل من بستان إلى بستان آخر، أو من تناول طعام لذيذ إلى تناول طعام آخر، ولا شكّ أنه يكون ألذَّ، وأشهى، فلمَّا تقدَّم من علم الأحكام وعلم القصص ما رآه مصلحة، ذكر الآن ما يتعلَّق بالتَّوحيد. قوله تعالى: {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي} : مبتدأٌ وخبرٌ وهو مرفوعٌ محمولٌ على المعنى، أي: ما إله إلاَّ هو، ويجوز في غير القرآن لا إله إلاَّ إيَّاه، نصب على الاستثناء. وقيل: {الله} مبتدأٌ، و {لاَ إله} مبتدأ ثان، وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود. و {الحي} فيه سبعة أوجه: أحدها: أن يكون خبراً ثانياً للجلالة. الثاني: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، أي: هو الحيُّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 313 الثالث: بدل من موضع: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} فيكون في المعنى خبراً للجلالة، وهذا في المعنى كالأول، إلا أنَّه هنا لم يخبر عن الجلالة إلاَّ بخبرٍ واحدٍ بخلاف الأول. الرابع: أن يكون بدلاً من «هُوَ» وحده، وهذا يبقى من باب إقامة الظاهر مقام المضمر، لأنَّ جملة النَّفي خبرٌ عن الجلالة، وإذا جعلته بدلاً حلَّ محلَّ الأول، فيصير التقدير: الله لا إله إلا الله. الخامس: أن يكون مبتدأٌ وخبره {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} . السادس: أنه بدلٌ من «اللهِ» . السابع: أنه صفة لله، وهو أجودها، لأنه قرئ بنصب «الحيَّ القَيُّومَ» على القطع، والقطع إنَّما هو في باب النَّعت، ولا يقال في هذا الوجه الفصل بين الصِّفة والموصوف بالخبر، لأنَّ ذلك جائزٌ حسن [تقول: قائمٌ العاقلُ] . و {الحي} فيه قولان: أحدهما: أن أصله حييٌ بياءين من حيي يحيا فهو حيٌّ، وإليه ذهب أبو البقاء. والثاني: أنَّ أصله حيوٌ فلامه واو فقلبت الواو ياء لانكسار ما قبلها متطرِّفة، وهذا لا حاجة إليه، وكأنَّ الذي أحوج هذا القائل إلى ادِّعاء ذلك أنَّ كون العين، واللام من واد واحدٍ هو قليل في كلامهم بالنسبة إلى عدم ذلك فيه، ولذلك كتبوا «الحَيَاةَ» بواوٍ في رسم المصحف العزيز تنبيهاً على هذا الأصل، ويؤيده «الحَيَوَانُ» لظهور الواو فيه. ولناصر القول الأول أن يقول: قلبت الياء الثانية واواً تخفيفاً؛ لأنَّه لمَّا زيد في آخره ألفٌ ونونٌ استثقل المثلان. وفي وزنه أيضاً قولان: أحدهما: أنه فعل. والثاني: أنَّه فيعل فخُفِّف، كما قالوا ميْت، وهيْن، والأصل: هيّن وميّت. قال السُّدِّيُّ المراد ب «الحَيّ» الباقي؛ قال لبيدٌ: [الطويل] 1175 - فَإِمَّا تَرَيْنِي اليَوْمَ أَصْبَحْتُ سَالِماً ... فَلَسْتُ بِأَحْيَا مِنْ كِلاَبٍ وَجَعْفَرِ وقال قتادة: والحيُّ الذي لا يموتُ والحيُّ اسمٌ من أسمائه الحسنى، ويقال إنه اسم الله الأعظم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 314 وقيل إنَّ عيسى ابن مريم - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان إذا أراد أن يحيي الموتى يدعو بهذا الدعاء «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ» . ويقال: إنَّ آصف بن برخيا، لمَّا أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان - عليه الصَّلاة والسَّلام - دعا بقوله: «يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ» . ويقال إن بني إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم «أيا هيا شراهيا» يعني «يا حي يا قيوم» ، ويقال هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يا حي يا قيوم وعن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لما كان يوم بدر جئت أنظر ما يصنع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإذا هو ساجدٌ يقول «يَا حَيُّ يَا قيُّومُ» ، فترددت مرات، وهو على حاله لا يزيدعلى ذلك إلى أن فتح الله له. وهذا يدلُّ على عظمة هذا الاسم. والقيُّوم: فيعولٌ من: قام بالأمر يقوم به، إذا دبَّره؛ قال أميَّة: [الرجز] 1176 - لَمْ تُخْلَقِ السَّمَاءُ والنُّجُومُ ... وَالشَّمْسُ مَعْهَا قَمَرٌ يَعُومُ قَدَّرَهُ مُهَيْمِنٌ قَيُّومُ ... وَالحَشْرُ وَالجَنَّةُ والنَّعِيمُ إلاَّ لأَمْرٍ شَأْنُهُ عَظِيمُ ... وأصله «قَيْوُومٌ» ، فاجتمعت الياء والواو وسبقت إحداهما بالسكون فقلبت الواو ياء وأدغمت فيها الياء فصار قيُّوماً. وقرأ ابن مسعود والأعمش ويروى عن عمر: «الحَيُّ القَيَّام» ، وقرأ علقمة: «القَيِّم» وهذا كما يقولون: ديُّور، وديار، وديِّر. ولا يجوز أن يكون وزنه فعُّولاً ك «سَفُّود» إذ لو كان كذلك؛ لكان لفظه قوُّوماً؛ لأنَّ العين المضاعفة أبداً من جنس الأصليَّة كسُبُّوح، وقُدُّوس، وضرَّاب، وقتَّال، فالزَّائد من جنس العين، فلمَّا جاء بالياء دون الواو؛ علمنا أنَّ أصله فيعول، لا فعُّول، وعدَّ بعضهم فيعولاً من صيغ المبالغة كضروبٍ، وضرَّاب. قال بعضهم: هذه اللَّفظة عبريَّة؛ لأنَّهم يقولون «حياً قياماً» ، وليس الأمر كذلك؛ لأنا قد بيَّنا أن له وجهاً صحيحاً في اللُّغة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 315 فصل اعلم أنَّ تفسير الجلالة قد تقدَّم في أوَّل الكتاب، والإله؛ قال بعضهم: هو المعبود، وهو خطأ من وجهين: الأول: أنه تبارك وتعالى كان إلهاً في الأزل، وما كان معبوداً. الثاني: أنَّه تعالى أثبت معبوداً سواه في قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [الأنبياء: 98] . قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ: وإنما «الإله» هو القادر على ما إذا فعله كان مستحقاً للعبادة، وأما «الحيُّ» قال المتكلِّمون: هو كلُّ ذاتٍ يصحُّ أن يعلم، ويقدر، واختلفوا في أنَّ هذا المفهوم صفةٌ وجوديَّةٌ أم لا، فقال بعضهم: إنَّه عبارةٌ عن كون الشَّيء بحيث لا يمتنع أنَّه يعلمُ ويقدرُ، وعدم الامتناع صفةٌ موجودة، أم لا؟ قال المحقِّقون: لما كانت الحياة عبارةٌ عن عدم الامتناع، وقد ثبت أنَّ الامتناع أمر عدمي، إذ لو كان وصفاً موجوداً؛ لكان الموصوف به موجوداً، فيكون ممتنع الوجود موجوداً، وهو محالٌ، وإذا ثبت أنَّ الامتناع عدمٌ وثبت أن الحياة عدم هذا الامتناع، وثبت أنَّ عدم العدم: وجودٌ، لزم أن يكون المفهوم من الحياة صفة موجودة، وهو المطلوب. قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ولقائل أن يقول لمّا كان الحيّ أنَّه الذي يصحّ أن يعلم، ويقدر، وهذا القدر حاصلٌ لجميع الحيوانات فكيف يحسن أن يمدح الله نفسه بصفة يشاركه فيها أخس الحيوانات. والذي عندي في هذا الباب: أنَّ الحيَّ عبارةٌ عن الكامل في نفسه، ولما لم يكن كذلك مقيداً بأنه كاملٌ في هذا دون ذاك دلّ على أنه كاملٌ على الإطلاق. وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّه كان يقول: أعظم أسماء الله - تعالى - «الحيّ القيوم» . روي أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يزيد على ذكره في السجود يَومَ بَدْرٍ. والقيوم؛ قال مجاهدٌ: القائم على كلِّ شيءٍ وتأويله قائمٌ بتدبير الخلائق في إيجادهم وأرزاقهم. وقال الكلبيُّ: القائم على كلّ نفس بما كسبت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 316 وقال الضحاك: القيُّوم الدَّائم الوجود الذي يمتنع عليه التغيير. وقيل: القيُّوم الذي لا ينام، وهذا القول بعيد؛ لأنه يصير قوله - تعالى - {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} تكراراً. وقال أبو عبيدة: القيُّوم الذي لا يزول. قوله: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} في هذه الجملة خمسة أوجه: أحدها: أنها في محلِّ رفع خبراً للحيّ كما تقدَّم في أحد أوجه رفع الحيّ. الثاني: أنَّها خبرٌ عن الله تعالى عند من يجيز تعدُّد الخبر. الثالث: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضَّمير المستكنِّ في «القَيُّومِ» كأنَّه قيل: يقوم بأمر الخلق غير غافل، قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى. الرابع: أنها استئناف إخبارٍ، أخبر - تبارك وتعالى - عن ذاته القديمة بذلك. الخامس: أنها تأكيد للقيُّوم؛ لأن من جاز عليه ذلك استحال أن يكون قيُّوماً، قاله الزَّمخشريُّ، فعلى قوله إنَّها تأكيدٌ يجوز أن يكون محلُّها النصب على الحال المؤكَّدة، ويجوز أن تكون استئنافاً، وفيها معنى التأكيد، فتصير الأوجه أربعةً. والسِّنة: النُّعاس، وهو ما يتقدَّم النَّوم من الفتور؛ قال عديّ بن الرقاع: [الكامل] 1177 - وَسْنَانُ أَقْصَدَهُ النُّعَاسُ فَرَنَّقَتْ ... في عَيْنِهِ سِنَةٌ وَلَيْسَ بِنَائِمِ وهي مصدر وسن يَسِنُ؛ مثل: وَعَد، يَعِد، وقد تقدَّم علة الحذف عند قوله {سَعَةً مِّنَ المال} [البقرة: 247] . فإن قيل: إذا كانت السِّنة عبارةٌ عن مقدِّمة النَّوم، فقوله تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ} يدلُّ على أنَّه لا يأخذه نومٌ بطريق الأولى، فيكون ذكر النَّوم تكراراً. فالجواب: تقدير الآية: لا تأخذه سنة، فضلاً عن أن يأخذه نومٌ. وقيل هذا من باب التكميل. وقال ابن زيد: «الوَسْنَانُ: الَّذِي يَقُومُ مِنَ النَّومِ وهو لا يَعْقِلُ؛ حَتَّى إنَّه رُبَّمَا جَرَّدَ السَّيْفَ على أهْلِهِ» ، وهذا القول ليس بشيء، لأنَّه لاَ يفهم من لغة العرب ذلك، وقال المفضَّل: «السِّنَةُ: ثِقَلٌ في الرَّأْسِ، والنُّعَاسُ في العَيْنَيْنِ، والنَّوْمُ في القَلْبِ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 317 وكُرّرت «لاَ» في قوله تعالى: {وَلاَ نَوْمٌ} تأكيداً، وفائدتها انتفاء كلِّ واحدٍ منهما، ولو لم تذكر لاحتمل نفيهما بقيد الاجتماع، ولا يلزم منه نفيُ كلِّ واحدٍ منهما على حدته، ولذلك تقول: «مَا قَامَ زيدٌ، وعمرو، بل أحدهما» ، [ولو قلت: «مَا قَامَ زيدٌ وَلاَ عمْرو، بل أحدهما» ] لم يصحَّ. فصل في تفسير «الوَسْنَانِ» والوسنان: بين النَّائم، واليقظان، والنَّوم: هو الثَّقيل المزيل للقوَّة والعقل. وقيل السِّنة: أوَّل النَّوم، وهو النُّعاس، والنَّوم: غشيةُ ثقيلةٌ تقع على القلب تمنع المعرفة بالأشياء. قيل: إنَّ النَّوم عبارةٌ عن ريح تخرج من أعصاب الدِّماغ فإذا وصلت العينين، حصل النُّعاس، وإذا وصلت إلى القلب، حصل النوم. فصل والمعنى: لا يغفل عن شيءٍ دقيقٍ، ولا جليلٍ، فعبَّر بذلك عن الغفلة، لأنه سببها، فأطلق اسم السَّبب على مسببه. نفى الله - تعالى - عن نفسه النَّوم، لأنَّه آفةٌ وهو منزَّهٌ عن الآفات؛ ولأنَّهُ تغيُّرٌ، ولا يجوز عليه التَّغيُّر. عن أبي موسى قال: قام فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بخمس كلمات، فقال: «إنَّ اللهَ لاَ يَنَامُ، وَلاَ يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ، وَلَكِنَّهُ يَخْفِضُ بَالْقِسْطِ، ويَرْفَعُهُ وَيُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ حِجابُهُ النُّورُ، لَوْ كَشَفَهُ لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وجهه مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ» . يروى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه حكى عن موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّه وقع في نفسه هل ينام الله تعالى! فأرسل إليه ملكاً فأرَّقه ثلاثاً، ثمَّ أعطاه قارورتين في كلِّ يدٍ واحدة، وأمره بالاحتفاظ بهما وكان يتحرَّز بجهده ألا ينام، فنام في آخر الأمر، فاطفقت يداه وانكسرت القارورتان فضرب الله - تعالى - ذلك مثلاً له في بيان أنَّه لو كان ينام؛ لم يقدر على حفظ السَّموات والأرض. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 318 واعلم أنَّ مثل هذا لا يمكن نسبته إلى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فإن كلَّ من جوَّز النَّوم على الله - تعالى - أو كان شاكاً في جوازه كفر، فكيف يجوز نسبة هذا إلى موسى - عليه السَّلام - فإن صحَّت هذه الرواية فالواجب نسبة هذا السُّؤال إلى جهال قومه. قوله: {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} هي كالتي قبلها إلاَّ في كونها تأكيداً، و «ما» للشُّمول، واللاّم في «لَهُ» للملك، وكرَّر «مَا» تأكيداً، وذكرها هنا المظروف دون الظرف؛ لأنَّ المقصود نفي الإلهيَّة عن غير الله تعالى، وأنه لا ينبغي أن يعبد إلاّ هو، لأنَّ ما عبد من دونه في السَّماء كالشَّمس، والقمر، والنجوم أو في الأرض كالأصنام وبعض بني آدم، فكلُّهم ملكه تعالى تحت قهره، واستغنى عن ذكر أنَّ السَّموات، والأرض ملكٌ له بذكره قبل ذلك أنه خالق السَّموات والأرض. فصل لما كان المراد من هذه الإضافة الخلق، والملك، احتجوا بهذه الآية الكريمة على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى. قالوا: لأنَّ قوله تعالى {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} يتناول كل ما في السموات والأرض، وأفعال العباد من جملة ما في السَّموات والأرض، فوجب أن تكون منتسبة إلى الله تعالى انتساب الملك والخلق. فإن قيل: لم قال «لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض» ولم يقل من في السموات. فالجواب: لما كان المراد إضافة كلِّ ما سواه إليه بالمخلوقيّة، وكان الغالب عليه ما لا يعقل، أجرى الغالب مجرى الكلِّ، فعبر عنه بلفظة «مَا» ، وأيضاً فهذه الأشياء إنَّما أسندت إليه من حيث إنَّها مخلوقة، وهي غير عاقلةٍ، فعبر عنه بلفظ «مَا» للتنبيه على أنَّ المراد من هذه الإضافة إليه الإضافة من هذه الجهة. قوله: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} كقوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله} [البقرة: 245] . قال القرطبيُّ: «مَنْ» رفع بالابتداء، و «ذَا» خبره، و «الَّذِي» نعتٌ ل «ذَا» ، أو بدل ولا يجوز أن تكون «ذا» زائدة كما زيدت مع «مَا» ؛ لأنَّ «ما» مبهمة، فزيدت «ذا» معها لشبهها بها. و «مَنْ» ، وإن كان لفظها استفهاماً فمعناه النَّفي، ولذلك دخلت «إلاَّ» في قوله: {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} . و «عِنْدَهُ» فيه وجهان: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 319 أحدهما: أنَّه متعلِّق بيشفع. والثاني: أنه متعلِّق بمحذوف لكونه [حالاً] من الضَّمير في «يَشْفَعُ» ، أي: يشفع مستقراً عنده، وقوي هذا الوجه بأنه إذا لم يشفع عنده من هو عنده وقريبٌ منه فشفاعة غيره أبعد وضعَّف بعضهم الحاليَّة بأنَّ المعنى: يشفع إليه. و {إِلاَّ بِإِذْنِهِ} متعلِّققٌ بمحذوف، لأنَّه حال من فاعل، «يَشْفَع» فهو استثناءٌ مفرَّغ، والباء للمصاحبة، والمعنى: لا أحد يشفع عنده إلاَّ مأذوناً له منه، ويجوز أن يكون مفعولاً به، أي: بإذنه يشفعون كما تقول: «ضَرَب بِسَيْفِهِ» ، أي: هو آلةٌ للضَّرب، والباء للتعدية. و «يَعْلَمُ» هذه الجملة يجوز أن تكون خبراً لأحد المبتدأين المتقدمين، أو استئنافاً، أو حالاً. والضَّمير فِي «أيْدِيهم» و «خَلْفَهُم» يعود على «مَا» في قوله تعالى: {لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إلا أنَّه غلَّب من يعقل على غيره. وقيل: يعود على العقلاء ممَّن تضمَّنه لفظ «ما» دون غيرهم. وقيل: يعود على ما دلَّ عليه «مَنْ ذَا» من الملائكة والأنبياء. وقيل: من الملائكة خاصّةً. فصل قال مجاهدٌ وعطاءٌ والسديُّ: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» ما كان قبلهم من أمور الدُّنيا «وَمَا خَلْفَهُم» ما يكون خلفهم من أمور الآخرة بعدهم. وقال الضَّحَّاك والكلبي: «يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» يعني الآخرة؛ لأنَّهم يقدمون عليها. «وَمَا خَلفَهُمْ» يعني الدُّنيا؛ لأنهم يخلفونها وراء ظهورهم. وقال عطاءٌ عن ابن عبَّاس: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِم» من السماء إلى الأرض «وَمَا خَلْفَهُم» يريد ما في السَّموات. وقال ابن جريج: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» : مضيّ آجالهم «وما خَلْفَهُم» : ما يكون بعدهم. وقال مقاتل: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ» ما كان قبل الملائكة. «وَمَا خَلْفَهُم» أي: ما كان بعد خلقهم. وقيل: «مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ» ما قدموا من خير وشر «وَمَا خَلْفَهُمْ» ما هم فاعلوه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 320 والمقصود من هذا الكلام: أنَّه عالم بأحوال الشَّافع، والمشفوع له، فيما يتعلَّق باستحقاق الثَّواب والعقاب؛ لأنَّه عالمٌ بجميع المعلومات لا يخفى عليه شيءٌ والشُّفعاء لا يعلمون من أنفسهم أنَّ لهم من الطَّاعة ما يستحقُّون به هذه المنزلة العظيمة عند الله، ولا يعلمون أنَّ الله هل أذن لهم في تلك الشَّفاعة، أم لا. قوله: {بِشَيْءٍ} متعلِّقٌ ب «يحيطون» . والعلم عنا بمعنى المعلوم؛ لأنَّ علمه تعالى الذي هو صفةٌ قائمةٌ بذاته المقدَّسة لا يتبعَّض، ومن وقوع العلم موقع المعلوم قولهم: «اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَنَا عِلْمَكَ فِينَا» وحديث موسى، والخَضِر - عليهما الصَّلاة والسَّلام - «مَا نَقَص علمي وعلمُك من علمه إلاَّ كَمَا نقص العُصْفُورُ من هذا البَحْر» ولكون العلم بمعنى المعلوم، صحَّ دخول التَّبعيض، والاستثناء عليه. و «مِنْ عِلْمِهِ» يجوز أن يتعلَّق ب «يحيطون» ، وأن يتعلَّق بمحذوف لأنه صفة لشيء، فيكون في محلِّ جر. و «بمَا شَاءَ» متعلِّقٌ ب «يحيطون» أيضاً، ولا يضرُّ تعلُّق هذين الحرفين المتَّحدين لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ؛ لأنَّ الثاني ومجروره بدلان من الأول، بإعادة العامل بطرق الاستثناء، كقولك: «مَا مَرَرْتُ بأحدٍ إلاَّ بِزَيْدٍ» ، ومفعول «شَاءَ» محذوفٌ تقديره: إلا بما شَاءَ أن يحيطوا به، وإنما قدَّرته كذلك لدلالة قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} . فصل هؤلاء المذكورون في هذه الآية يحتمل أن يكونوا هم الملائكة، ويحتمل أن يكونوا الملائكة وسائر من يشفع يوم القيامة من النَّبيين، والصِّديقين والشهداء والصالحين. وفي معنى الاستثناء قولان: أحدهما: أنَّهم لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا ما أراد هو أن يعلمهم كما قالوا: {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ} [البقرة: 32] . الثاني: أنَّهم لا يعلمون الغيب إلاَّ بما شاء أن يطلع بعض أنبيائه على بعض الغيب كقوله تعالى {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ} [الجن: 26 - 27] . قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} : الجمهور على «وَسِعَ» بفتح الواو وكسر السِّين وفتح العين فعلاً ماضياً. و «كُرْسِيُّه» بالرَّفع على أنَّه فاعله، وقرئ «وَسْعَ» سكَّن عين الفعل تخفيفاً نحو: عَلْمَ في عَلِمَ. وقرئ أيضاً: «وَسْعُ كُرْسِيِّه» بفتح الواو وسكون السين ورفع العين على الابتداء، و «كُرْسِيِّه» خفضٌ بالإضافة «السَّمَوَاتُ» رفعاً على أنه خبر للمبتدأ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 321 واعلم أنه يقال: وَسِعَ فلاناً الشَّيء يَسعهُ سَعَةً إذا احتمله وأطاقه وأمكنه القيام به، ولا يسعك هذا أي: لا تطيقه ولا تحتمله، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَوْ كَانَ مُوسَى حَيّاً مَا وَسِعَهُ إِلاَّ اتِّبَاعِي» أي: لا يحتمل غير ذلك. والكُرْسِيُّ: الياء فيه لغير النَّسب، واشتقاقه من الكِرْسٍ، وهو الجمع؛ ومنه الكُرَّاسة للصَّحائف الجامعة للعلم؛ ومنه قول العجَّاج: [الرجز] 1178 - يَا صَاحِ، هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسا؟ ... قَالَ: نَعَمْ، أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا وقيل: أصله من تراكب الشَّيء بعضه على بعض، ومنه الكرس أبوال الدَّوابِّ وأبعارها يتلبد بعضها فوق بعض. [وأكرست الدَّار: إذا كثرت الأبعار والأبوال فيها، وتلبَّد بعضها فوق بعض] ، وتكارس الشَّيء: إذا تركب ومنه الكرَّاسة، لتركب بعض الأوراق على بعضٍ. و «الكُرْسِيُّ» هو هذا الشَّيء المعروف لتركب خشباته بعضها فوق بعضٍ. وجمعه كراسيّ كبُخْتِيّ وبَخَاتِيّ، وفيه لغتان: أشهرهما ضمُّ كافه، والثانية كسرها، وقد يعبَّر به عن الملك؛ لجلوسه عليه، تسميةً للحالِّ باسم المحلِّ؛ ومنه: [الرجز] 1179 - قَدْ عَلِمَ القُدُّوسُ مَوْلَى القُدْسِ ... أَنَّ أَبَا العَبَّاسِ أَوْلَى نَفْسِ في مَعْدِنِ المَلْكِ القَدِيمِ الكُرْسِي ... وعن العلم؛ تسميةً للصفة باسم مكان صاحبها؛ ومنه قيل للعلماء: «الكَرَاسِيّ» ؛ قال القاتل: [الطويل] 1180 - يَحُفُّ بِهِمْ بِيضُ الوُجُوهِ وَعُصْبَةٌ ... كَرَاسِيُّ بِالأَحْدَاثِ حِينَ تَنُوبُ وصفهم بأنهم عالمون بحوادث الأمور، ونوازلها؛ ويعبَّر به عن السَّرِّ، قال: [البسيط] 1181 - مَا لِي بِأَمْرِكَ كُرْسِيٌّ أُكَاتِمُهُ ... وَلاَ بِكُرْسِيِّ - عَلْمَ اللهُ - مَخْلُوقِ وقيل: الكرسيُّ لكلِّ شيء: أصله. فصل في حقيقة «الكُرْسِيّ» واختلفوا فيه على أربعة أقوال: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 322 أحدها: أنَّه جسم عظيم يسع السَّموات، والأرض قال الحسن: هو العرش نفسه. وقال أبو هريرة: الكرسيُّ: موضوعٌ أمام العرش ومعنى قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} أي: سعته مثل سعة السَّموات والأرض. وقال السُّدِّيُّ: إنَّه دون العرش، وفوق السَّماء السَّابعة، وفي الأخبار أن السموات والأرض في جنب الكرسيّ كحلقة في فلاةٍ، والكرسي في جنب العرش كحلقة في فلاةٍ. وأمّا ما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال: الكرسيُّ: موضع القدمين فمن البعيد أن يقول ابن عباس هو موضع القدمين لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن الجوارح. وثانيها: أنَّ «الكرسي» هو السُّلطان، والقدرة، والملك. ثالثها: هو العلم، لأنَّ العلم هو الأمر المعتمد عليه «والكُرْسِيُّ» هو الشَّيء الذي يعتمد عليه، وقد تقدَّم هذا. ورابعها: ما ختاره القفَّال وهو: أنَّ المقصود من هذا الكلام تصوير عظمة الله وكبريائه؛ لأنَّه خاطب الخلق في تعريف ذاته، وصفاته بما اعتادوه في ملوكهم، وعظمائهم كما جعل الكعبة بيتاً له يطوف النَّاس به كما يطوفون ببيوت ملوكهم، وأمر النَّاس بزيارته، كما يزورون بيوت ملوكهم. وذكر في الحجر الأسود: «أنَّهُ يمين اللهِ في أَرْضِهِ» وجعله موضوعاً للتقبيل كما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 323 يقبل الناس أيضاً أيدي ملوكهم، وكذلك ما ذكر في محاسبة العباد يوم القيامة من حضور الملائكة والنبيين والشُّهداء، ووضع الميزان، فعلى هذا القياس أثبت لنفسه العرش في قوله: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] ووصف العرش بقوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} [هود: 7] ثم قال: {وَتَرَى الملائكة حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} [الزمر: 75] ثم قال: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] وقال: {الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ} [غافر: 7] ، وكذلك إثبات الكرسيّ. وقال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا جوابٌ مبيّن إلاَّ أنَّ المعتمد هو الأوَّل، وأنَّ ترك الظَّاهر بغير دليل لا يجوز. قوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} يقال: آده كذا، أي: أثقله، ولحقه منه مشقَّةٌ؛ قال القائل: [الطويل] 1182 - أَلاَ مَا لِسَلْمَى اليَوْمَ بَتَّ جَدِيدُهَا ... وَضَنَّتْ وَمَا كَانَ النَّوَالُ يُؤُودُها أي: يثقلها، ومنه الموءودة للبنت تدفن حيّة، لأنَّهم يثقلونها بالتُّراب. وقرئ: «يَوْدُهُ» بحذف الهمزة، كما تحذف همزة «أُنَاسٍ» ، وقرئ «يُوُودُهُ» بإبدال الهمزة واواً. و «حِفْظ» : مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، أي: لا يَئُودُهُ أن يحفظهما. و «العَلِيُّ» أصله: «عَلْيِوٌ» ، فأُدْغِمَ؛ نحو: مَيِّتٍ؛ لأنَّه من علا يعلو؛ قال القائل في ذلك البيت: [الطويل] 1183 - فَلَمَّا عَلَوْنَا وَاسْتَوَيْنَا عَلَيْهِمُ ... تَرَكْنَاهُمُ صَرْعَى لِنَسْرٍ وَكَاسِرِ فصل في المراد بالعلو والمراد بالعلو علو القدر والمنزلة لا علو المكان لأن الله سبحانه وتعالى منزه عن التحيز والعلي والعالي القاهر الغالب للأشياء تقول العرب: علا فلان فلاناً أي غلبه وقهره؛ قال الشاعر: [الطويل] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 324 1184 - فَلَمَّا عَلَوْنَا ... ... ... ... ... ... ... . ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . البيت المتقدِّم، وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض} [القصص: 4] . قال ابن الخطيب: لو كان علوُّه بالمكان لكان متناهياً؛ فإنَّ الجزء المفروض فوقه، أعلى منه، فلا يكون عليّاً مطلقاً، وإن كان غير متناه، وقد دلَّت البراهين اليقينيَّة على استحالة بعدٍ غير متناهٍ. وأيضاً فلو فرضنا في ذلك نقطاً غير متناهية، فإن لم يحصل فوق تلك النّقط نقطة، أخرى، وكانت تلك النُّقطة طرفاً، لذلك البعد، فيكون متناهياً، وإن لم يوجد في ذلك البعد سفلاً فلا يكون فيها ما هو فوق على الإطلاق، وذلك ينفي حصول العلوّ المطلق، ولأنَّ العالم كرة، فكل علوّ بالنسبة إلى أحد وجهي الأرض هو سفل بالنسبة للوجه الثاني، فينقلب العلوُّ سفلاً، ولأن لو كان علُّوه بالمكان، لكان حصول العلوّ للمكان بالذَّات، والله تعالى بالعرض، وما بالذات أشرف منها بالعرض، فيكون علوُّ المكان أشرف من علوِّه سبحانه، وذلك باطلٌ. و {العظيم} تقدَّم معناه، وقيل: هو هنا بمعنى المعظَّم؛ كما قالوا: «عَتِيقٌ» بمعنى: مُعَتَّق؛ قال القائل: [الخفيف] 1185 - فَكَأَنَّ الخَمْرَ العَتِيقَ مِنَ الإِسْ ... فَنْطِ مَمْزُوجَةً بِمَاءٍ زُلاَلِ قيل: وَأُنكر ذلك لانتفاء هذا الوصف. وقيل في الجواب عنه: إنَّه صفة فعلٍ، كالخلق، والرِّزق، والأوَّل أصحُّ. قال الزَّمخشريُّ: «فإنْ قلت: كَيْفَ تَرَتَّبَتِ الجُملُ في آية الكرسيّ من غير حَرْفِ عطفٍ؟ قلت: ما منها جملةٌ إلاَّ وهي واردةٌ على البيان لما ترتَّبت عليه، والبيان متَّحدٌ بالمبيَّن، فلو توسَّط بينهما عاطفٌ لكان كما تقول العرب:» بَيْنَ العَصَا وَلِحَائِهَا «فالأولى بيانٌ لقيامه بتدبير الخلق وكونه مهيمناً عليه غير ساهٍ عنه، والثانية لكونه مالكاً لما يدبِّره، والثالثة لكبرياء شأنه، والرابعة لإحاطته بأحوال الخلق وعلمه بالمرتضى منهم، المستوجب للشَّفاعة وغير المرتضى، والخامسة لسعة علمه، وتعلُّقه بالمعلومات كلِّها، أو لجلاله وعظم قدرته» انتهى. يعني غالب الجمل وإلاَّ فبعض الجمل فيها معطوفة وهي قوله: {وَلاَ يُحِيطُونَ} ، وقوله: {وَلاَ يَؤُودُهُ} وقوله {وَهُوَ العلي العظيم} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 325 فصل في فضل هذه الآية في فضل هذه الآية الكريمة روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «ما قُرِئَت هذه الآية في دَارٍ إلاَّ اهْتَجَرَهَا الشَّيْطَانُ ثَلاَثِينَ يَوْماً، ولاَ يَدْخُلُهَا سَاحِرٌ وَلاَ سَاحِرَةٌ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً» . وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: سمعت نبيَّكم على أعواد المنبر وهو يقول: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِيِّ في دُبُرِ كُلِّ صَلاَةٍ مَكْتُوبَةٍ، لم يَمْنَعْهُ مِنْ دُخُولِ الجَنَّة إِلاَّ المَوْتُ، ولا يواظب عليها إلاَّ صدّيق، أو عابدٌ، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه؛ أمَّنه الله على نفسه وجاره، وجار جاره، والأبيات التي حوله» . وتذاكر الصَّحابة أفضل ما في القرآن، فقال لهم عليٌّ: أين أنتم من آية الكرسيّ قال قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يَا عَلِيُّ سَيِّدُ البَشَرِ آدَمُ، وسَيِّدُ العَرَبِ مُحَمَّدٌ، وَلاَ فَخْرَ، وَسَيِّدُ الكَلاَمِ القُرْآنُ، وسَيِّد القُرْآنِ البَقَرَةُ وسَيِّدُ البَقَرَةِ آيةُ الكُرْسِيّ» وعن أبيّ بن كعبٍ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يَا أبا المنذر؛ أيُّ آيةٍ في كِتَابش اللهِ أعْظَم» ؟ قلت: اللهُ لا إله إلاَّ هو الحيُّ القَيُّومُ، قال: فضرب صدري ثم قال: «ليَهْنِكَ العِلْمُ يَا أَبَا المُنْذِرِ» ثم قال: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ إِنَّ لهذه الآية لِسَاناً وَشَفَتَيْنِ تُقَدِّسُ المَلِكَ عِنْدَ سَاقِ العَرْشِ» . وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «وكلني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بحفظ زَكَاةِ رمضان فأتاني آت، فجعل يحثو من الطَّعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: [إنّي محتاج، ولي عيالٌ، ولي حاجة شديدةٌ قال: فخلّيت عنه، فأصبحت فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] » يا أبا هريرة مَا فَعَلَ أَسِيرُكَ البَارِحَةَ «؛ قلت يا رسول الله؛ شَكَا حَاجَةً شديدة، وعيالاً؛ فرحمته، فخلَّيت سبيله. قال:» أَمَا إِنَّهُ قَدُ كَذَبَكَ وَسَيَعُودُ «فعرفت أنه سيعود، بقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرصدته، فجاء يحثو من الطَّعام، فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: دعني فإنِّي محتاج ولي عيال ولا أعود فرحمته فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة «قلت: يا رسول الله شكا حاجةً، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 326 وعيالاً فرحمته وخلَّيت سبيله قال:» أمَا إنَّهُ قَدْ كَذَبَكَ، وسيعود «فعرفت أنه سيعود؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنه سيعود فرصدته الثالثة: فجاء يحثو من الطَّعام؛ فأخذته، فقلت لأرفعنَّك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا آخر ثلاث مرات أنَّك تزعم ألاَّ تعود، ثم تعود قال: دعني أُعلّمك كلمات، ينفعك الله بها، قلت: ما هي قال: إذا أَوَيْتَ إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسيّ {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم} حتى تختم الآية، فإنَّك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطانٌ، حتّى تصبح، فخلَّيت سبيله فأصبحت، فقال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مَا فَعَلْتَ بِأَسِيركَ البَارِحَةَ؟ قلت: يا رسول الله - عليك الصَّلاة والسَّلام - زَعَمَ أنَّه يعلمني كلمات ينفعني الله بها، فخلّيت سبيله - قال: ما هي قلت: قال لي إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسيّ من أولها، حتى تتمّ الآية، وقال لي لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان، حتى تصبح، وكانوا أحرص شيءٍ على الخير، فقال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أَمَا إِنَّهُ قَدْ صَدَقَكَ، وهو كَذُوبٌ، تَعْلَمُ مَنْ تُخَاطِب منذ ثَلاَث لَيَالٍ يا أبا هُرَيْرَةَ؟ «قلت: لا، قال:» ذَلِكَ شَيْطَانٌ «. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 قوله تعالى: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} : كقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] وقد تقدَّم. وأل في «الدِّين» للعهد، وقيل: عوضٌ من الإضافة أي «في دِينِ اللهِ» لقوله تعالى: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] ، أي: تأوي. والجمهور على إدغام دال «قَد» في تاء «تَبَيَّن» ؛ لأنها من مخرجها. والرُّشد: مصدر رشد بفتح العين يرشد بضمِّها، ومعناه في اللُّغة، إصابة الخير. وقرأ الحسنُ «الرُّشُد» بضمتين كالعنق، فيجوز أن يكون هذا أصله، ويجوز أن يكون إتباعاً، وهي مسألة خلاف أعني ضمَّ عين الفعل. وقرأ أبو عبد الرحمن الرَّشد بفتح الفاء والعين، وهو مصدر رشد بكسر العين يرشد بفتحها، وروي عن أبي عبد الرَّحمن أيضاً: «الرَّشَادُ» بالألف. ومعنى الإكراه نسبتهم إلى كراهة الإسلام. قال الزَّجَّاج: «لاَ تَنْسُبوا إلى الكَرَاهَةِ مَنْ أَسْلَمَ مُكْرِهاً» ، يقال: «أَكْفَرَهُ» نسبه إلى الكفر؛ قال: [الطويل] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 327 1186 - وَطَائِفَةٌ قَدْ أَكْفَرُوني بِحُبِّهِمْ ... وَطَائِفَةٌ قَالُوا مُسِيٌ وَمُذنِبُ قوله: {مِنَ الغي} متعلِّقٌ بتبيَّن، و «مِنْ» للفصل، والتمييز كقولك: ميَّزت هذا من ذاك. وقال أبو البقاء: «في موضع على أنَّه مفعولٌ» وليس بظاهرٍ؛ لأنَّ معنى كونه مفعولاً به غير لائقٍ بهذا المحلِّ. ولا محلِّ لهذه الجملة من الإعراب؛ لأنَّها استئنافٌ جارٍ مجرى التّعليل لعدم الإكراه في الدين. والتّبيين: الظهور والوضوح، بان الشَّيء، واستبان، وتبيَّين: إذا ظهر ووضح ومنه المثل: تَبَيَّنَ الصُّبح لذي عينين. قال ابن الخطيب: وعندي أنَّ الإيضاح، والتعريف، إنَّما سمِّي بياناً؛ لأنَّه يوقع الفصلة، والبينونة بين المقصود وغيره. والغيُّ: مصدر غوى بفتح العين قال: {فغوى} [طه: 121] ، ويقال: «غَوَى الفَصِيلُ» إذا بَشِمَ، وإذا جاع أيضاً، فهو من الأضداد. وأصل الغيّ: «غَوْيٌ» فاجتمعت الياء والواو، فأُدغمت نحو: ميّت وبابه. والغيُّ: نقيض الرُّشد: يقال: غَوَى يَغْوِي، غيّاً، وغَوَايَةٌ إذا سلك خلاف طريق الرُّشد. فصل في معنى «الدِّين» في الآية قال القرطبيُّ: المراد «بالدِّينِ» في هذه الآية الكريمة المعتقد، والملة بدليل قوله {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} . قال سعيد بن جبير عن ابن عبَّاس: كانت المرأة من الأنصار تكون مقلاة، لا يعيش لها ولد، فكانت تنذر لئن عاش لها ولد لتهودنَّه فإذا عاش ولدها جعلته في اليهوديَّة. فلمَّا جاء الإسلام، وفيهم منهم، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم عددٌ من أولاد الأنصار، فأرادت الأنصار استردادهم، وقالوا: أبناؤنا وإخواننا، فنزلت: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قَدْ خَيَّرَ اللهُ أَصْحَابَكُمْ، فإن اخْتَارُوكم فهم منكم، وإن اخْتَارُوهم، فأجلوهم مَعَهمْ» . وقال مجاهد: كان ناسٌ مسترضعين في اليهود من الأوس، فلما أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإجلاء بني النّضير قال الذين كانوا مسترضعين فيهم: لنذهبنّ معهم ولندينن بدينهم، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 328 فمنهم أهلوهم وأكرهوهم على الإسلام فنزلت {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين ... } . وقال مسروقٌ: كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان متنصّران قبل مبعث النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قدما المدينة في نفر من النَّصارى يحملون الطَّعام فلزمهما أبوهما، وقال لا أدعكما حتى تسلما فأبيا أن يسلما فاختصموا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «يَا رَسُولَ الله أَيَدْخُلُ بعضي النَّار وأنا أَنْظُرُ، فأنزل الله تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} ، فخلى سبيلهما. وقال قتادة وعطاء: نزلت في أهل الكتاب إذا قبلوا الجزية، وذلك أنَّ العرب كانت أُمَّة أمّية لم يكن لهم كتاب، فلم يقبل منهم إلاَّ الإسلام، فلما أسلموا طوعاً، أو كرهاً؛ أنزل الله تعالى {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} ؛ فأمر بقتال أهل الكتاب إلى أن يسلموا، أو يقرُّوا بالجزية، فمن أعطى منهم الجزية، لم يكره على الإسلام. وقال ابن مسعود كان هذا في ابتداء الإسلام، قبل أن يؤمر بالقتال، فصارت منسوخة بآية السَّيف. ومعنى {تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} ، أي: تميَّز الحقّ من الباطل، والإيمان من الكفر، والهدى من الضّلالة بالحجج والآيات الظَّاهرة. قوله: {بالطاغوت} متعلِّقٌ ب» يَكْفر «، والطاغوت بناء مبالغةٍ كالجبروت والملكوت. واختلف فيه، فقيل: هو مصدرٌ في الأصل، ولذلك يوحَّد ويذكَّر، كسائر المصادر الواقعة على الأعيان، وهذا مذهب الفارسيّ، وقيل: هو اسم جنس مفردٍ، فلذلك لزم الإفراد والتَّذكير، وهذا مذهب سيبويه رَحِمَهُ اللَّهُ. وقيل هو جمعٌ، وهذا مذهب المبرّد، وهو مؤنّث لقوله تعالى {والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} [البقرة: 257] قال أبو علي الفارسي: وليس الأمر كذلك، لأن» الطَّاغُوتَ «مصدر كالرّغبوت، والرَّهبوت، والملكوت، فكما أنَّ هذه الأسماء آحاد، كذلك هذا الاسم مفردٌ، وليس بجمع ومما يدلّ على أنَّه مصدر مفرد وليس بجمع قوله تبارك وتعالى: {أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} ، فأفرد في موضع الجمع، كما يقال هم رضاً، وهم عدل انتهى. وهو مؤنَّث لقوله تعالى {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 329 وأجاب من ادَّعى التّذكير عن هذا الاستدلال بأنَّه إنما أنَّث هنا؛ لإرادة الآلهة وقال آخرون: ويكون مذكراً، ومؤنثاً، وواحداً وجمعاً قال تعالى في المذكر والواحد: {يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} [النساء: 60] قوال في المؤنث: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] وقال في الجمع: {يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات} [البقرة: 257] . واشتقاقه من طغَى يَطْغَى، أو من طَغَا يَطْغُو، على حسب ما تقدَّم أول السورة، هل هو من ذوات الواو أو من ذوات الياء؟ وعلى كلا التّقديرين، فأصله طَغَيُوت، أو طَغَوُوت لقولهم:» طُغْيان «في معناه، فقلبت الكلمة بأن قدِّمت اللاّم وأُخِّرت العين، فتحرَّك حرف العلَّة، وانفتح ما قبله فقلب ألفاً، فوزنه الآن فلعوت، وقيل: تاؤه ليست زائدةً، وإنَّما هي بدلٌ من لام الكلمة، ووزنه فاعول من الطُّغيان كقولهم» حانوت «، و» تابوت «، والتاء فيهما مبدلة من» هَا «التأنيث. قال مكي «وقد يجُوز أن يكون أصلُ لامه واواً، فيكون أصله طغووتاً؛ لأنه يقال: طَغَى يَطْغى ويَطْغو، وطَغَيْتُ وطَغَوْتُ، ومثله في القلب والاعتلال، والوزن: حانوت؛ لأَنَّه من حَنا يحنو وأصله حَنَووت، ثم قُلِب وأُعِلَّ، ولا يجوزُ أن يكونَ من: حانَ يَحِين لقولهم في الجمعِ حَوانيت» انتهى قال شهاب الدين: كأنَّه لمَّا رأى أنَّ الواوَ قد تُبْدَل تاءً كما في تُجاه، وتُخَمَة، وتُراث، وتُكَأة، ادَّعى قَلْبَ الواوِ التي هي لامٌ تاءً، وهذا ليس بشيءٍ. وقدَّم ذِكْرَ الكفر بالطَّاغوت على ذِكْرِ الإِيمان باللهِ - تعالى - اهتماماً بوجوبِ الكفرِ بالطَّاغوتِ، وناسبَهَ اتصالُهُ بلفظ «الغَيّ» . فصل في المراد بالطاغوت واختلف في الطَّاغوت فقال عمر، ومجاهدٌ، وقتادة: هو الشَّيطان. وقال سعيد بن جبير: هو الكاهن. وقال أبو العالية: هو الساحر. وقال بعضهم: الأَصنام. وقيل مردة الجنّ والإنس، وكلُّ ما يطغى الإِنسان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 330 وقيل: الطَّاغُوتُ هو كلّ ما عُبِدَ مِنْ دون الله، وكان راضياً بكونه معبُوداً، فعلى هذا يكُونُ الشَّيطان والكهنة، والسَّحرة، وفرعون والنمروذ كلُّ واحد منهم طاغوتاً؛ لأنهم راضون بكونهم معبودين وتكونُ الملائكة، وعزير، وعيسى ليسوا بطواغيت، لأنهم لم يرضوا بأن يكونوا معبودين. قوله: {وَيْؤْمِن بالله} عطف على الشَّرط وقوله {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} جواب الشَّرط، وفيه دليل على أنَّهُ لا بدّ للكافر من أن يتوب عن الكفر، ثم يؤمنُ بعد ذلك. وفيه دليل على أَنَّ درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المصالح؛ لأنَّهُ قدّم الكُفر بالطَّاغوت [على الإيمان باللهِ اهتماماً به فإن قيل الإيمان باللهِ مستلزم لِلْكُفر بالطَّاغُوت. قلنا: لا نسلم، قد يكفر بالطَّاغوت] ولا يؤمن بالله واستمسك أي: استمسك واعتصم {بالعروة الوثقى} أي العقد الوثيق المحكم في الدِّين. و «العُرْوَة» : موضعُ شَدِّ الأَيدي، وأصلُ المادّةِ يَدُلُّ على التَّعلُّق، ومنه: عَرَوْتُه: أَلْمَمْتُ به متعلِّقاً، وَاعتراه الهَمُّ: تعلَّق به، و «الوُثْقى» : فُعْلى للتفضيل تأنيث الأوثق، كفُضْلى تأنيث الأفضل، وجمعُها على وُثَق نحو: كُبْرى وكُبَر، فأمَّا «وُثُق» بضمّتين فجمع وَثيق. وهذا استعارة المحسُوس للمعقول؛ لأَنَّ من أراد إمساك هذا الدِّين تعلّق بالدلائل وأوضحها الدّالة عليه، ولما كانت دلائِلُ الإِسلام أقوى الدَّلائل وأوضحها وصفها الله تبارك وتعالى بأَنَّها العروة الوثقى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 331 قال مجاهِدٌ: «العُرْوَةُ الوثقى» الإيمان. وقال السُّدِّي: الإِسلام. وقال ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير والضحاك: لا إِله إلاَّ الله. قوله: {لاَ انفصام لَهَا} كقوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] والجملةُ فيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أن تكونَ استئنافاً، فلا مَحَلَّ لها حينئذٍ. والثاني: أنها حالٌ من العُرْوة، والعاملُ فيها «اسْتَمْسَكَ» . والثالث: أنها حالٌ من الضميرِ المستتر في «الوُثْقَى» . و «لها» في موضعِ الخبرِ فتتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائنٌ لها. والانفصامُ - بالفَاءِ - القَطْعُ من غير بَيْنُونة، والقصمُ بالقافِ قَطْعُ بينونةٍ، وقد يُستعمل ما بالفاءِ مكانَ ما بالقافِ. والمقصودُ من هذا اللَّفظ المُبالغةُ؛ لأَنَّهُ إذا لم يكن لها انفِصَام، فأن لا يكون لها انقطاع أولى، ومعنى الآية: بالعُرْوَة الوثقى التي لا انفصام لها، والعرب تُضْمِرُ «الَّتي» و «الذي» و «مَن» وتكتفي بصلاتها منها. قال سلامة بن جندل: [البسيط] 1187 - وَالعَادِيَاتُ أَسَالِيُّ الدِّمَاءِ بِهَا ... كَأَنَّ أَعْنَاقَهَا أَنْصَابُ تَرْجِيبِ يريد والعاديات التي قال تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي من له. قوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فيه قولان: أحدهما: أنَّهُ تعالى يسمع قول من يتكلم بالشَّهادتين، وقول من يتكلَّم بالكُفْر، ويعلمُ ما في قلب المؤمِنِ من الاعتقاد الطاهر، وما في قلب الكافر من الاعتقاد الخبيث. الثاني: روى عطاء عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: كان رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يحب إسلام أهل الكِتاب من اليهود الذين كانوا حول المدينة، وكان يَسْأَلُ الله ذلك سِرّاً، وعلانية، فمعنى قوله {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يريدُ لدعائك يا محمَّد عليم بحرصك واجتهادك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 332 «الوليّ» فعيل بمعنى: فاعل من قولهم: ولي فلان الشَّيء يليه ولاية، فهو وَال وولى، وأصله من الوَلْي الَّذي هو القُرْبُ؛ قال الهُذليُّ: [الكامل] 1188 - ... ... ... ... ... ... ... ..... وَعَدَتْ عَوَادٍ دُونَ وَلْيِكَ تَشْعَبُ ومنه يقال داري تلي دارها، أي: تقرب منها ومنه يُقالُ للمحبّ المقارب ولي؛ لأَنَّهُ يقرب منك بالمحبَّةِ والنُّصرة، ولا يفارقك، ومنه الوالي؛ لأَنَّه يلي القوم بالتَّدبير والأمر والنّهي، ومنه المولى، ومن ثمّ قالوا في خلاف الولاية: العداوة من عدا الشَّيء: إذا جاوزه، فلأجل هذا كانت العَدَاوةُ خلاف الوِلاَية ومعنى قوله تبارك وتعالى: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ} ، أي: ناصرهم ومعينهم، وقيل: مُحبهم. وقيل: متولي أمورهم لا يكلهم إلى غيره. وقال الحسنُ: ولي هدايتهم. قوله: {يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} ، أي: من الكُفْرِ إلى الإيمان. قال الواقدي: كلّ ما في القرآن من الظُلُماتِ، والنور فالمرادُ منه: الكفر والإيمان غير التي في سورة الأنعام {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] فالمراد منه اللَّيل والنَّهار، سُمي الكفر ظُلمة لالتباس طريقه، وسُمي الإسلام نُوراً، لوضوح طريقه. وقال أَبو العبَّاس المُقْرىءُ «الظُّلُمَات» على خمسة أوجه: الأول: «الظُّلُمَاتُ» الكفر كهذه الآية الكريمة. الثاني: ظُلمة اللَّيلِ قال تعالى: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} يعني اللَّيل والنهار. الثالث: الظُّلُمَات ظلمات البر والبحر والأهوال قال تعالى: {قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر} [الأنعام: 63] أي من أهوالهما. الرابع: «الظُّلُمَات» بطون الأُمَّهات، قال تعالى: {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ} [الزمر: 6] يعني المشيمة والرحم والبطن. الخامس: بطنُ الحُوتِ قال تعالى: {فنادى فِي الظلمات} [الأنبياء: 87] أي في بطنِ الحوت. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 333 فصل في سبب النُّزولِ ظاهر الآية يقتضي أنهم كانُوا في الكفر، ثم أخرجهم اللهُ تعالى من ذلك الكُفْرِ إلى الإِيمان، وها هنا قولان: الأول: أَنَّ هذه الآية مختصَّةٌ بمن كان كافراً، ثم أَسلم، وذكر في سبب النُّزول روايات: أحدها: قال مجاهدٌ: نزلت هذه الآية في قوم آمنوا بعيسى، وقوم كفروا به، فلما بعث اللهُ سبحانه وتعالى محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - آمن به من كفر بعيسى وكفر به من آمن بعيسى. وثانيتهما: أنها نزلت في قوم آمنوا بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - على طريقة النَّصَارى، ثم آمنوا بعده بمحمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فقد كان إِيمانهم بعيسى حين آمنوا به كفراً، وظلمةً، لأَنَّ القول بالاتِّحاد كفرٌ باللهِ تعالى، أخرجهم من تِلْكَ الظُّلمات إلى نور الإِسلامِ. وثالثتها: أنها نزلت في كُلِّ كافر أسلم وآمن بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. القول الثاني: أَنْ يحمل اللَّفظ على كُلِّ مَنْ آمن بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سواء كان ذلك الإيمان بعد كُفْرٍ، أو لم يكن؛ لأنه إخراج من ظُلُمات الكفر إلى نور الإِسلامِ؛ لقوله تعالى: {وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النار فَأَنقَذَكُمْ مِّنْهَا} [آل عمران: 103] ومعلومٌ أَنهم ما كانوا في النار أَلْبَتَّةَ، وقال في قِصَّة يُوسُف عليه الصَّلاة والسَّلام {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 37] ولم يكن فيها قطّ، وسمي النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إنساناً يقولُ: أشهد ألا إله إِلا الله، فقال: «عَلَى الفِطْرَةِ» ، فلما قال: أشهَدُ أَنَّ محمداً رسول اللهِ قال: «خَرَجَ مِنَ النَّارِ» ، ومعلوم أنه ما كان فيها. روي أنه عليه السَّلامُ أقبل على أَصحابه، فقال «تَتَهَافَتُونَ فِي النَّارِ تَهَافُتَ الجَرَادِ، وَهَا أَنَا آخِذٌ بِحُجزِكُم» ومعلوم أَنَّهم ما كانوا متهافتين في النَّارِ. فصل استدلَّ بعضُ العُلماء بهذه الآية على أَنَّ الغاية تدخل في المُغيَّا. لقوله تعالى على لسانه - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 334 عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «يُخْرِجُهُم مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ» فلو لم يدخلون في النُّور لم يخرجهم من الظُّلمات إِلى النُّور، ولو لم تدخل الغايةُ في المُغيّا، لما أدخلوهم في النُّور. فصل فإن قيل: هذه الآية صريحة في أَنَّ الله سبحانه وتعالى هو الَّذي أخرج الإِنسان من الكُفْر، وأدخله في الإيمان، فيلزمُ أن يكون الإِيمانُ بخلق الله تعالى؛ لأَنَّهُ لو حصل بخلق العبد، لكان العبدُ هو الذي أخرجَ نفسهُ من الكُفر إلى الإِيمان وذلك يناقض صريح الآية. أَجَاب المعتزلةُ بأَنَّ هذا محمولٌ على نصبِ الأَدلَّةِ وإِرسال الأنبياء، وإِنزالِ الكُتُبِ، والتَّرغيب في الإِيمانِ، والتَّحذير عن الكُفْرِ بأقصى الوجوه: قال القاضي: وقد نَسَبَ اللهُ الإِضلال إِلى الصَّنَم بقوله تعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس} [إبراهيم: 36] ، لأجل أَنَّ الأَصْنَامَ سبب بوجه ما لضلالهم، فبأن يضاف الإِخراج من الظُّلمات إلى النُّور إلى الله تعالى مع قوَّةِ الأسبابِ التي فعلها بمن يؤمن أولى. والجواب: من وجهين: أحدهما: أَنَّ هذا حمل للَّفظ على خلاف حقيقته. الثاني: أَن هذه التَّرغيبات إِنْ كانت مؤثرة في ترجيح الدَّاعية، صار الرَّاجح واجباً والمرجوح ممتنعاً، وحينئذٍ يبطلُ قولهم، وإن لم تؤثر في التَّرجيح لم يصحّ تسميتها بالإِخراج. قوله تعالى: {والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت} : «الذين» مبتدأ أولُ، وَأَوْلياؤهم مبتدأ ثانٍ، وَالطَّاغُوتُ: خبرهُ، والجملةُ خبرُ الأَوَّلِ. وقرأ الحسنُ «الطَّوَاغيت» بالجمع، وإن كان أصلُه مصدراً؛ لأنه لمَّا أطلق على المعبود مِنْ دُونِ الله اختلفَت أنواعهُ، ويؤيِّد ذلك عَوْدُ الضميرِ مَجْمُوعاً من قوله: «يُخْرِجونهم» . قوله: «يُخْرِجونهم» هذه الجُملة وما قبلها من قوله: «يُخْرِجُهم» الأحسنُ ألاَّ يكونَ لها محلٌّ من الإِعرابِ، لأَنَّهُمَا خَرَجا مخرجَ التفسير للولاية، ويجوزُ أن يكونَ «يُخْرِجُهم» خبراً ثانياً لقوله: «الله» وَأَنْ يكونَ حالاً من الضَّمير في «وليُّ» ، وكذلك «يُخْرِجُونَهُم» والعاملُ في الحالِ ما في معنى الطَّاغُوتِ، وهذا نظيرُ ما قاله الفارسيُّ في قوله تعالى: {نَزَّاعَةً للشوى} [المعارج: 16] إنها حالٌ العاملُ فيها «لَظَى» وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى و «مَنْ» [و] «إِلى» مُتعلِّقان بفعلي الإِخراج. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 335 فإن قيل كيف قال «يُخْرِجُونَهُم مِنَ النُّورِ إِلى الظُّلماتِ» وهم كفارٌ لم يكونوا في نور قطّ. فالجواب هم اليهود كانوا مؤْمنين بمحمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قبل أنْ يُبعث لما يجدون في كتبهم من نعته، فلما بُعث كَفَرُوا به. وقال مُقاتلٌ: يعني كعب بن الأَشرف وحيي بن أخطب، وسائر رؤوس الضلالة؛ «يُخْرِجُونَهُم» يدعونهم. وقيل هو على العُموم في حقِّ جميع الكُفَّار، وقالوا: منعهم إياهم من الدخول فيه إخراج، كما يَقُولُ الرَّجُل لأبيه أخرجتني من مالك، ولم يكن فيه، ولما قدَّمنا في التي قبلها. فصل في دفع شبهة للمعتزلة احتجت المعتزلةُ بهذه الآية الكريمة على أَنَّ الكُفْر ليس من الله تعالى، قالوا: لأنه تعالى أضافه إلى الطَّاغوت لا إلى نفسه. وأُجيبوا بأَنَّ إسناد هذا إلى الطَّاغُوت مجاز بالاتفاق بيننا وبينكم؛ لأن المراد ب «الطَّاغُوت» على أظهر الأقوال هو الصَّنَمُ، وإذا كانت هذه الإضافة مجازية بالاتفاق، خرجت عن أن تكُون حجة لكم. قوله: {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} يحتمل أَنْ يرجع ذلك إلى الكُفَّار فقط ويحتمل أَنْ يرجع إلى الكُفَّار والطَّواغيت معاً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 تقدَّم الكلامُ في {أَلَمْ تَرَ إِلَى} في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} [البقرة: 243] قال القرطبيّ: وهذه ألف التوقيف، وفي الكلام معنى التَّعجب، أي: أعجبوا له قال الفرَّاء: «أَلَمْ تَرَ» ، بمعنى: هل رأيتَ الَّذي حاجَّ إبراهيم، وهل رأَيْتَ الَّذي مرَّ على قرية؟ وقرأ عليٌّ رضي اللهُ عنه: بِسُكون الرَّاء وتقدَّم أيضاً توجيهها. والهاءُ في «رَبِّهِ» فيها قولان: أظهرهما: أنها تعود على «إبراهيم» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 336 والثاني: على «الَّذِي» ، ومعنى حاجَّه: أظهرَ المغالبة في حجته. فصل أعلم أَنَّه تعالى ذكر ها هنا قصصاً ثلاثاً. الأولى: في بيان إِثبات العالم بالصَّانع، والثانية والثالثة: في إثبات الحشرِ والنَّشرِ والبعث. فالأولى مناظرة إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع ملك زمانِهِ، وهي هذه. قال مجاهِدٌ هو النُّمروذُ بن كنعانَ بن سام بن نُوح، هو أول من وضع التَّاجَ على رأسه، وتجبر وادَّعى الرُّبوبية؛ حاجَّ إبراهيم أي: خاصمَهُ وجادله، واختلفوا في وقتِ هذه المحاجَّةِ. فقال مقاتل: لمّا كسَّرَ الأَصنامَ سجنه النمروذ، ثم أخرجه ليحرقهُ فقال [له] : من رَبُّكَ الذي تَدعُونا إليه؛ فقال: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} . وقال آخرون: كان هذا بعد إلقائه في النَّار. وقال قتادةُ: هو أَوَّلُ من تَجَبَّرَ، وهو صاحب الصَّرح ببابل. وقيل هو نُمروذُ بن فالج بن عابر بن شالخ بن أَرفخشذ بن سام، وحكى السُّهيليُّ أنه النُّمروذُ بن كوش بن كنعان بن حام بن نوح، وكان ملكاً على السَّواد، وكان ملكه الضحاك الَّذي يُعْرَفُ بالأزدهاق وذلك أن النَّاس قحطوا على عهد نمروذ، وكان النَّاسُ يمتارون من عنده الطَّعام، وكان إذا أتاه الرَّجلُ في طلب الطَّعام سأَلَ: مَنْ رَبُّكَ فإن قال: أَنْت؛ نال من الطعام فأتاه إبراهيم فيمن أتاه، فقال له نمروذُ: من رَبُّكَ؛ فقال له إبراهيم: ربيّ الّذِي يُحْيي وَيُمِيتُ. فاشتغل بالمحاجَّة، ولم يعطه شيئاً، فرجع إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فمر على كثيبٍ من رَمْلٍ أعفرٍ، فأخذ منه تطييباً لقلوبِ أهْلِه إذا دخل عليهم؛ فلما أَتى أَهلهُ، ووضع متاعه نام فقامت امرأته إلى متاعه، ففتحته فإذا هو بأجود طعام رأَتهُ؛ فصنعت له منه فقربته إليه، فقال من أين هذا؟ قالت مِنَ الطَّعَامِ الَّذِي جئت به، فعرف أن الله - تعالى - رزقه فَحَمَدَ اللهَ تعالى. قوله: {أَنْ آتَاهُ الله} فيه وجهان: أظهرهما: أَنَّهُ مفعولٌ من أجله على حذفِ العِلّة، أي: لأَنْ آتاه، فحينئذٍ في محلِّ «أَنْ» الوجهان المشهوران، أعني النَّصب، أو الجرِّ، ولا بُدَّ من تقديرِ حرفِ الجرِّ قبل « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 337 أَنْ» ؛ لأَنَّ المفعول مِنْ أجلهِ هنا نَقَّص شرطاً، وهو عدمُ اتِّحادِ الفاعلِ، وإنما حُذفت اللامُ، لأَنَّ حرف الجرِّ يطَّرد حذفُهُ معها، ومع أنَّ، كما تقدَّم. وفي كونِهِ مفعولاً من أجلِهِ وجهان: أحدهما: أَنَّهُ من باب العكسِ في الكلام بمعنى: أنه وضعَ المُحاجَّة موضع الشُّكْر، إذ كان مِنْ حقِّه أن يشكرَ في مقابلة إتيانِ المُلْكِ، ولكنَّهُ عَمِلَ على عكس القضية، كقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] ، وتقول: «عَادَاني فُلانٌ؛ لأني أَحسنت إليه» وهو باب بليغٌ. والثاني: أَنَّ إيتاءَ المُلْكِ حَمَلَه على ذلك؛ لأَنَّهُ أورثه الكِبْرَ وَالبَطَرَ، فَنَشَأَ عنهما المُحاجَّةُ. الوجه الثاني: أنَّ «أَنْ» ، وما في حيِّزها واقعةٌ موقعَ ظرفِ الزَّمانِ، قال الزَّمخشريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ «وَيَجُوزُ أن يكونَ التَّقديرُ: حاجَّ وقتَ أَنْ آتاهُ اللهُ» . وهذا الذي أجازه الزمخشريُّ فيه نظر؛ لأَنَّهُ إِنْ عنى أَنَّ ذلكَ على حذفِ مُضافٍ ففيه بُعْدٌ من جهةِ أَنَّ المحاجَّة لم تقع وقتَ إِيتاءِ اللهِ له المُلْك، إِلاَّ أَنْ يُتَجَوَّز في الوقتِ، فلا يُحْمَل على الظَّاهر، وهو أنَّ المُحاجَّة وَقَعَت ابتداء إيتاءِ المُلْك، بل يُحْمَلُ على أنَّ المُحاجَّة وقعت وقتَ وجود المُلْك، وإن عنى أَنَّ «أَنْ» وما حيِّزها واقعةٌ موقع الظَّرف، فقد نصَّ النَّحويون على منع ذلك وقالوا: لا يَنُوب عن الظَّرف الزَّماني إلا المصدرُ الصَّريحُ، نحو: «أَتيتُكَ صِيَاحَ الدِّيكِ» ولو قلت: «أَنْ يصيحَ الدِّيكُ» لم يَجز. كذا قاله أبو حيَّان قال شهاب الدين وفيه نظرٌ، لأنه قال: «لا ينوبٌ عن الظَّرفِ إلا المصدرُ الصّريح» ، وهذا معارضٌ بأنهم نَصُّوا على أنَّ «ما» المصدريةَ تنوبُ عن الزَّمانِ، وليست بمصدرٍ صريحٍ. والضمير في «آتاه» فيه وجهان: أظهرهما: أَنْ يعودَ على «الَّذِي» ، وهو قول جمهور المفسرين وأَجاز المهدويُّ أن يعودَ على «إِبْرَاهِيم» ، أي: ملك النُّبُوَّة. قال ابن عطيَّة: «هذا تَحاملٌ من التَّأْوِيل» ، وقال أبو حيان: هذا قولُ المعتزلة، قالوا: لأنَّ الله تعالى قال: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] والمُلْك عهدٌ، ولقوله تبارك وتعالى: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} [النساء: 54] . وعودُ الضَّمير إِلى أقرب مذكور واجب، وأقرب مذكورٍ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأجيب عن الأَوَّل بأَنَّ الملك حصل لآل إبراهيم، وليس فيها دلالةٌ على حصوله لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -. وعن الثاني: بأن الذي حاج إبراهيم كان هو المَلِكُ، فعود الضَّمير إليه أَوْلَى. قوله: «إِذْ قَالَ» فيه أربعةُ أوجهٍ: أظهرها: أَنَّهُ معمولٌ لحاجَّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 338 والثاني: أن يكون معمولاً لآتاه، ذكرهُ أبو البقاء. وفيه نظرٌ من حيثُ إنَّ وقت إيتاءِ المُلْكِ ليس وقتَ قولِ إبراهيم، {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، إِلاَّ أَنْ يُتَجَوَّز في الظَّرفِ كما تقدَّم. والثالث: أن يكون بدلاً من {أَنْ آتَاهُ الله الملك} إذا جُعِلَ بمعنى الوقت، أجازه الزَّمخشريّ بناءً منه على أَنَّ «أَنْ» واقعةٌ موقعَ الظَّرف، وقد تقدَّم ضعفُهُ، وأيضاً فإِنَّ الظّرفين مختلفان، كما تقدَّم إلا بالتَّجوز المذكورِ. وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ «وَذَكَرَ بَعْضُهم أنه بَدَلٌ من» أَنْ آتَاهُ الملك «وليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الظرفَ غيرُ المصدرِ، فلو كان بدلاً لكان غلطاً إلا أَنْ تُجْعَل» إذ «بمعنى» أَنْ «المصدرية، وقد جاء ذلك» انتهى. وهذا بناءً منه على أنَّ «أَنْ» مفعولٌ من أجله، وليست واقعةً موقع الظَّرفِ، أمَّا إِذَا كانت «أَنْ» واقعةٌ موقع الظرف فلا تكون بدل غلط، بل بدلُ كلِّ من كُلِّ، كما هو قول الزمخشري وفيه ما تقدَّم بجوابه، مع أَنَّه يجوزُ أَنْ تكون بدلاً مِنْ «أَنْ آتاهُ» ، و «أَنْ آتَاهُ» مصدرٌ مفعولٌ من أجلِهِ بدلَ اشتمالٍ؛ لأَنَّ وقتَ القولِ لاتِّسَاعِهِ مُشتملٌ عليه وعلى غيره. الرابع: أَنَّ العامِلَ فيه «تَرَ» منق وله: «أَلَمْ تَرَ» ذكره مكيٌّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأَنَّ الرُّؤية على كِلاَ المذكورين في نظيرها لم تكن في وقتِ قوله: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} . قوله: {الذي يُحْيِي} مبتدأٌ في محلِّ نصب بالقول. فصل الظَّاهر أن هذا جواب سؤالٍ سابق غير مذكورٍ؛ لأَنَّ الأَنبياء بعثوا للدَّعوة ومتى ادَّعى الرسالة والدَّعوة، فلا بدَّ وأن يطالبه المنكر بإثبات أَنَّ للعالم إلهاً؛ ألا ترى لما قال موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين} [الشعراء: 23] فاحتجَّ موسى على إثبات الإِله بقوله {رَبُّ السماوات والأرض} [الشعراء: 24] فكذا ها هنا لما ادَّعى إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - الرِّسالة قال النُّمروذ من ربك؟ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت. وقرأ حمزة: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} بإسكان الياء، وكذلك {حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش} [الأعراف: 33] {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض} [الأعراف: 146] ، و {قُل لِّعِبَادِيَ الذين} [إبراهيم: 31] ، و {آتَانِيَ الكتاب} [مريم: 30] و {مَسَّنِيَ الضر} [الأنبياء: 83] و {مَسَّنِيَ الشيطان} [ص: 41] و {عِبَادِيَ الصالحون} [الأنبياء: 105] ، و {عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] و {إِنْ أَرَادَنِيَ الله} [الزمر: 38] ، و {إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله} [ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 339 تبارك: 28] أسكن الياء فيهن حمزة؛ وافق ابن عامر والكسائي في «لعبادي الذين آمنوا» وابن عامر في «آيَاتِي الَّذِين» ، وفتحها الآخرون. فصل استدلَّ إبراهيم عليه الصَّلاة والسَّلام على إثبات الإله بالإحياء والإماتة، وهو دليلٌ في غاية القُوَّة لأَنَّهُ لا سبيل إلى معرفةِ اللهِ تعالى إِلاَّ بواسطة أفعاله التي لا يُشاركُهُ فيها أحدٌ من القادرين، والإحياء والإماتة كذلك؛ لأَنَّ الخلق عاجزون عنهما والعلم بعد الاختيار ضروري، وهذا الدَّليل ذكره اللهُ تعالى في مواضع من كتابه كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] إلى آخرها وقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين: 4، 5] وقال: {الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] . فإن قيل: لِمَ قدَّم هنا ذِكر الحياةِ على الموتِ في قوله {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} ، وقدَّمَ الموتَ على الحياةِ في آياتٍ كقوله {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] وقال {الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] ، وحكى عن إِبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قوله في ثنائِهِ على الله تعالى {والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81] . فالجواب: أَنَّ الدَّليل إذا كان المقصود منه الدَّعوة إلى اللهِ - تعالى - يجب أَنْ يكون في غاية الوضُوح، ولا شكّ أَنَّ عجائب الخلقة حال الحياة أكثر، واطلاع الإِنسان عليها أتم، فلا جرم قَدَّم ذكر الحياة هُنا. {قَالَ أَنَا أُحْيِي} مبتدأٌ، وخبرٌ منصوب المحلِّ بالقول أيضاً. وأخبر عن «أَنَا» بالجملة الفعلية، وعن «رَبّي» بالموصولِ بها؛ لأَنَّه في الإِخبار بالموصولِ يُفيد الاختصاص بالمُخبَرِ عنه بخلافِ الثاني، فإِنَّهُ لم يدَّعِ لنفسه الخسيسة الخصوصية بذلك. و «أَنَا» : ضميرٌ مرفوعٌ مُنفصلٌ، والاسمُ منه «أَنَ» والألفُ زائدةٌ؛ لبيان الحركةِ في الوقفِ، ولذلك حُذِفت وصلاً، ومن العربِ مَنْ يثبتها مطلقاً، فقيل: أُجريَ الوصلُ مجرى الوقف؛ قال القائل في ذلك: [المتقارب] 1189 - وَكَيْفَ أَنَا وَانْتِحَالي القَوَا ... فِي بَعْدَ المَشِيبِ كَفَى ذَاكَ عَارا وقال آخر: [الوافر] 1190 - أَنَا سَيْفُ فَاعْرِفُونِي ... حُمَيْداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَاما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 340 والصحيح أنه فيه لغتان، إحداهما: لغةُ تميم، وهي إثباتُ ألفه وصلاً ووقفاً، وعليها تُحْمَلُ قراءةُ نافع فإِنَّه قرأ بثبوت الألف وصلاً قبل همزةٍ مضمومة نحو: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} ، أو مفتوحةٍ نحو: {وَأَنَاْ أَوَّلُ} [الأعراف: 143] ، واختلف عنه في المكسروة نحو: {إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ} [الشعراء: 115] ، وقرأ ابن عامرٍ: {لَّكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} [الكهف: 38] على ما سيأتي إن شاء الله تعالى وهذا أحسنُ من توجيه مَنْ يَقُولُ «أُجْري الوصلُ مجرى الوَقْفِ» . واللُّغة الثانية: إثباتُها وَقْفاً وحَذفُها وَصْلاً، ولا يجوزُ إثباتُها وصلاً إِلاَّ ضرورةً كالبيتين المتقدِّمين. وقيل: بل «أَنَا» كلُّه ضمير. وفيه لغاتٌ: «أَنا وأَنْ» - كلفظ أَنِ النَّاصبةِ - و «آن» ؛ وكأنه قَدَّم الألف على النون، فصار «أانَ» ، قيل: إنَّ المراد به الزَّمان، وقالوا: أَنَهْ، وهي هاءُ السَّكْتِ، لا بدلٌ من الألف؛ قال: «هكذا فَرْدِي أَنَهْ» ؛ وقال آخر: [الرجز] 1191 - إِنْ كُنْتُ أَدْرِي فَعَلَيَّ بَدَنَهْ ... مِنْ كَثْرَةِ التَّخْلِيطِ أَنِّي مَنْ أَنَهْ وإنما أثبت نافعٌ ألفَه قبل الهمز جمعاً بين اللُّغتين، أو لأَنَّ النُّطقَ بالهمزِ عسرٌ فاستراح له بالألف لأنها حرفُ مدٍّ. فصل قال أكثرُ المفسِّرين: لما احتج إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - على إثبات الإله بالإحياء، والإماتة؛ دعا النُّمروذ برجلين، فقتل أحدهما، واستبقى الآخر، وقال: أَنَا أيضاً أحيي وأُميت، فجعل تَرْكَ القتلِ إِحياءً. قال ابن الخطيب: وعندي أَنَّه بعيد؛ لأَنَّ الظَّاهر من حال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه شرح حقيقة الإحياء وحقيقة الإماتة ومتى شرحه امتنع أَن يشتبه على العاقل الإِماتة والإحياء على ذلك الوجه بالإماتة والإحياء بمعنى القتل وتركه ويبعد في الجمع العظيم أَنْ يكونُوا في الحماقة بحيث لا يعرفون هذا القدر من الفرق، والمرادُ من الآية - واللهُ أعْلَمُ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 341 أن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما احتجّ بالإحياء، والإِماتة قال المنكر: أتدعي الإِحياء والإِماتة مِن اللهِ ابتداء من غير واسطة الأَسباب الأرضيَّة والسَّماويَّة، أو بواسطتها. أَمَّا الأَوَّل: فلا سبيل إليه، وأَمَّا الثَّاني، فلا يدلُّ على المقصود، لأَنَّ الواحد منا يقدر على الإِحياء والإِماتة بواسطة سائر الأسباب فإِنَّ الجماع قد يُفْضي إلى الولد الحيّ بواسطة الأَسباب الأرضيَّة والسَّماويَّة، وتناول السّم قد يفضي إلى الموت، فلما ذكر النُّمروذ هذا السُّؤَال على هذا الوجه؛ أجاب إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فقال: [هب أَنَّ الإِحياء، والإماتة] حصلا من الله تعالى بواسطة الاتِّصالات الفلكية إلاَّ أنه لا بُدَّ لتلك الاتصالات والحركات الفلكية من فاعل مُدَبّر، فإذا كان المُدبِّر لتلك الحركات الفلكيّة هو اللهُ تعالى؛ كان الإِحياءُ والإماتةُ الصَّادران من البشر بواسطة الأسباب الفلكية والعنصرية ليست كذلك؛ لأنه لا قدرة للبشر على الاتِّصالات الفلكية؛ فظهر الفرقُ. إذا عرف هذا فقوله تعالى: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق} ليس دليلاً آخر، بل من تمام الدَّليل الأَوَّل؛ ومعناه: أَنَّهُ وإن كان الإحياء والإماتة [من اللهِ] بواسطة حركات الأَفلاك إِلاَّ أن حركات الأفلاك من اللهِ تعالى فكان الإِحياء والإماتة أيضاً من الله تعالى، وأما البشر فإنه وإن صدر منه الإحياء والإماتة بواسطة الاستعانة بالأَسباب السَّماويَّة والأَرضيَّة إلاَّ أن تلك الأَسباب ليس واقعة بقدرته؛ فثبت أَنَّ الإِحياء والإِماتة الصَّادرين عن البشر ليسا على ذلك الوجه، فلا يصلح نقضاً عليه، فهذا هو الَّذي اعتقده في كيفيَّة جريان هذه المناظرة، لا ما هو المشهورُ عند الكلِّ واللهُ أَعلمُ بحقيقة الحال. قوله: {فَإِنَّ الله} هذه الفاءُ جواب شرطٍ مقدَّر تقديره: قال إبراهيم - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - إِنْ زعمتَ، أو موَّهْتَ بذلك فإِنَّ اللهَ. ولو كانت الجملةُ محكيَّةً بالقول، لما دخلت هذه الفاءُ، بل كان تركيب الكلام: قال إبراهيم: إِنَّ اللهَ يَأْتِي، وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «دَخَلَتِ الفاءُ؛ إيذاناً بتعلُّق هذه الكلام بما قبلَه، والمعنى: إذا ادَّعيت الإِحياءَ والإِماتة، ولم تفهم، فالحُجَّة أَنَّ الله تعالى يأتي، هذا هو» المعنى «والباءُ في» بالشَّمْسِ «للتعديةِ، تقول: أَتَتِ الشَّمْسُ، وأَتَى اللهُ بها، أي: أجاءها، و» مِنَ المَشْرِقِ «و» مِنَ المَغْرِبِ «متعلِّقان بالفعلين قبلهما، وأجاز أبو البقاء فيهما بعد أَنْ مَنع ذلك أن يكونا حالين، وجعل التقدير: مُسخَّرةً أو منقادةً قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وليته استمر على منعه ذلك. فصل للناس ها هنا طريقان: أحدهما: طريقة أكثر المفسِّرين: وهو أنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 342 رأى من النُّمروذ إِلقاءَ تلك الشُّبهة، عدل إلى دليل آخَرَ أوضح من الأَوَّل، فقال: {فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق، فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب} فزعم هؤلاء أن الانتقال مِنْ دليل إلى دليلٍ أوضح منه جائزٌ للمستدلِّ. فإن قيل: هلاَّ قال النمروذُ فليأتِ بها ربُّك من المغربِ. قلنا: الجوابُ من وجهين: أحدهما: أن هذه المُحاجَّة كانت بعد إلقاء إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في النَّار وخروجه منها سالماً، فعلم أَنَّ من قدر على حفظ إبراهيم في تلك النار العظيمة من الاحتراق، يقدر على أن يأتي بالشَّمس من المغرب. والثاني: أن الله تعالى خذله وأنساه إيرادَ هذه الشُّبهة؛ نصرةً لنبيِّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. والطريقُ الثاني: قاله المحقِّقون: إن هذا ليس بانتقالٍ من دليل إلى دليلٍ، بل الدليلُ واحدٌ في الموضعين، وهو أنا نرى حدوث الأشياء لا يقدر الخلق على إحداثها، فلا بُدَّ من قادر آخر يتولَّى إحداثها، وهو سبحانه وتعالى، ثم إنَّ قولنا: نرى حدوث أشياء لا يقدر الخلق على إحداثها، أمثلةٌ؛ منها: الإِحياء والإِماتة، ومنها: السحاب، والرعد، والبرق، ومنها: حركات الأفلاك، والكواكب، والمستدلُّ لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليلٍ، ولكن إذا ذكر لإيضاح كلام مثالاً، فله أن ينتقل مِنْ ذلك المثال إلى مثالٍ آخر، فيكون ما فعله إبراهيم - عليه السَّلامُ - من باب ما يكونُ الدليلُ فيه واحداً، إلاَّ أنه يقع الانتقال عند إيضاحه مِنْ مثالٍ إلى مثالٍ آخر، وليس ما يقع [من باب الانتقال من دليل إلى دليل آخر] . قال ابن الخطيب: وهذا الوجه أحسن من الأوَّل وأليقُ بكلام أهل التحقيق، وعليه إشكالات من وجوه: الإشكال الأول: أن صاحب الشُّبهة، إذا ذكرها وقعت في الأسماع، وجب على المحقِّ القادر على الجواب أن يجيب في الحال؛ إزالةً لذلك التلبيس والجهل عن العقول، فلما طعن الملك الكافر في الدَّليل الأوَّل أو في المثال الأول بتلك الشبهة، كان الاشتغال بإبطال تلك الشبهة واجباً مضيِّقاً، فكيف يليق بالمعصوم أن يترك ذلك الواجب. الإشكال الثاني: أن المبطل لمَّا أورد تلك الشُّبهة، فإذا ترك المحق الجواب عنها، وانتقل إلى كلام آخر، أوهم أن كلامه الأوَّل، كان ضعيفاً ساقطاً، وأنه ما كان عالماً بضعفه، وأن ذلك المبطل، علم وجه ضعفه، ونبَّه عليه، وهذا ربما يوجب سقوط شأن المحقِّ، وهو لا يجوز. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 343 الإشكال الثالث: أنَّه وإن كان يحسن الانتقال من دليلٍ إلى دليلٍ آخر، أو من مثالٍ إلى مثالٍ آخر، لكنه يجب أن يكون المنتقل إليه أوضح وأقرب، وها هنا ليس كذلك؛ لأنَّ جنس الإحياء والإماتة لا قدرة للخلق عليهما، وأما جنس تحريك الأجسام، فللخلق قدرةق عليه ولا يبعد في العقل وجود ملكٍ عظيم في الجثة أعظم من السموات، وأنه هو الذي يحرِّك السموات، وعلى هذا التقدير فالاستدلال بالإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من الاستدلال بطلوع الشَّمس على وجود الصانع، فكيف يليق بالمعصوم أن ينتقل من الدَّليل الأوضح الأظهر إلى الدليل الخفيِّ. الإشكال الرابع: أن دلالة الإحياء والإماتة على وجود الصَّانع أقوى وأظهر من دلالة طلوع الشَّمس عليه؛ لأنَّا نرى في ذات الإنسان وصفاته تبدّلات واختلافات، والتبدُّل قويّ الدلالة على الحاجة إلى المؤثِّر القادر، وأمَّا الشمس فلا نرى في ذاتها تبدُّلاً، ولا في صفاتها، ولا في منهج حركاتها ألبتَّة، فكانت دلالة الإحياء والإماتة على الصانع أقوى، فكان العدول منه إلى طلوع الشمس انتقالاً من الأجلى لأقوى للأضعف الأخفى، وإنه لا يجوز. الإشكال الخامس: أنَّ النمروذ، لما لم يستح من معارضة الإحياء والإماتة الصادرين عن الله تبارك وتعالى بالقتل والتخلية، فكيف يؤمن منه عند استدلال إبراهيم بطلوع الشَّمس أن يقول: طلوع الشمس من المشرق مني، فإن كان لك إلهٌ، فقل له يطلعها من المغرب؛ وعند ذلك التزم المحقِّقون من المفسِّرين ذلك، فقالوا: إنه لو أورد هذا السُّؤال، لكان من الواجب أن تطلع الشَّمس من المغرب، ومن المعلوم: أن إفساد سؤاله في الإحياء والإماتة أسهل بكثيرٍ من إلزامه بطلوع الشَّمس من المغرب، ولا يكون طلوع الشَّمس من المشرق دليلاً على وجود الصَّانع، وحينئذٍ يصير دليله الثَّاني ضائعاً؛ كما صار دليله الأوَّل ضائعاً، فالذي حمل سيدنا إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - على أن يترك الجواب عن ذلك السؤال الرَّكيك، والتزام الانقطاع، واعترف بالحاجة إلى الانتقال والتمسُّك بدليلٍ لا يمكنه تمشيته، إلا بالتزام طلوع الشَّمس من المغرب، وبتقدير أن يأتي بإطلاع الشمس من المغرب، فإنه يضيع دليله الثَّاني أيضاً كما ضاع الأوَّل، والتزام هذه المحذورات لا يليق بأقلِّ الناس علماً؛ فضلاً عن أفضل العقلاء، وأعلم العلماءس، فظهر بهذا أنَّ الذي أجمع جمهور المفسِّرين عليه ضعيفٌ. قال ابن الخطيب: وأما الوجه الذي ذكرناه، فلا يتوجَّه عليه شيءٌ من هذه الإشكالات، لأنَّا نقول: لما احتجَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالإحياء والإماتة، أورد الخصم عليه سؤالاً لا يليق بالعقلاء، وهو أنَّك إذا ادعيت الإحياء والإماتة لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 344 بواسطةٍ، فلا تجد إلى إثبات ذلك سبيلاً، وإن ادعيت حصولها بواسطة حركات الأفلاك، [فنظيره أو ما يقرب منه حاصلٌ للبشر؛ فأجاب إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بأن الإحياء والإماتة، وإن حصلا بواسطة حركات الأفلاك] ، لكن تلك الحركات حصلت من الله تعالى، وذلك لا يقدح في كون الإحياء والإماتة من الله تعالى؛ بخلاف الخلق، فإنهم لا قدرة لهم على تحريك الأفلاك، فلا يكون الإحياء والإماتة صادرين منهم، وعلى هذا تزول الإشكالات المذكورة، والله سبحانه وتعالى أعلم. [قال القرطبيُّ: وروي في الخبر أن الله تعالى قال: «وَعِزَّتِي وَجَلاَلِي لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى آتِيَ بِالشَّمْسِ مِنَ المَغْرِبِ لِيُعْلَمَ أَنِّي أَنَا القَادِرُ عَلَى ذَلِكَ. » ] «قوله: {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} الجمهور:» بُهِتَ «مبنيّاً للمفعول، والموصول مرفوعٌ به، والفاعل في الأصل هو إبراهيم، لأنه المناظر له، ويحتمل أن يكون الفالع في الأصل ضمير المصدر المفهوم من» قَالَ «، أي: فبهته قول إبراهيم، وقرأ ابن السَّميفع:» فَبَهَتَ «بفتح الباء والهاء مبنيّاً للفاعل، وهذا يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الفعل متعديّاً، وفاعله ضمير يعود على إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -، و» الَّذِي «هو المفعول، أي: فبهت إبراهيم الكافر، أي: غلبه في الحجَّة، أو يكون الفاعل الموصول، والمفعول محذوفٌ، وهو إبراهيم، أي: بهت الكافر إبراهيم، أي: لمَّا انقطع عن الحجَّة بهته، أي: سبَّه وقذفه حين انقطع، ولم تكن له حيلةٌ. والثاني: أن يكون لازماً، والموصول فاعلٌ، والمعنى معنى بهت، فتتَّحد القراءتان، أو بمعنى أتى بالبهتان، وقرأ أبو حيوة:» فَبَهُتَ «بفتح الباء، وضمِّ الهاء، كظرف، والفاعل الموصول، وحكى الأخفش: فَبَهِتَ بكسر الهاء، وهو قاصر أيضاً، فيحصل فيه ثلاث لغاتٍ: بَهَت بفتحهما، بَهُتَ بضم العين، بَهِتَ بكسرها. قال عروة العدويُّ: [الطويل] 1192 - فَمَا هُوَ إِلاَّ أَنْ أَرَاهَا فُجَاءَةً ... فَأُبْهَتَ حَتَّى مَا أَكَادُ أُجِيبُ فالمفتوح يكون لازماً ومتعدياً، قال تعالى: {فَتَبْهَتُهُمْ} [الأنبياء: 40] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 345 والبَهْتُ: التحيُّر، والدَّهش، وبَاهَتَهُ وَبَهَتَهُ واجهه بالكذب، ومنه الحديث:» إنَّ اليَهُودَ قَوْمٌ بُهُتٌ «، وذلك أن الكذب يحيِّر المكذوب عليه. ومعنى الآية: أنَّه: بقي مغلوباً لا يجد مقالاً، ولا للمسألة جواباً. قوله: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} . وتأويله على قول أهل السُّنة ظاهر، وأما المعتزلة، فقال القاضي: يحتمل وجوهاً: منها: أنه لا يهديهم؛ لظلمهم وكفرهم للحجاج وللحق، كما يهدي المؤمن، فإنه لا بد في الكافر من أن يعجز وينقطع. ومنها: لا يهديهم بزيادة الهدى والألطاف. ومنها: لا يهديهم إلى الثواب أو لا يهديهم إلى الجنَّة. والجواب عن الأول: أنَّ قوله:» لاَ يَهْدِيهِمْ «إلى الحجاج إنما يصحُّ إذا كان الحجاج موجوداً؛ إذ لا حجاج على الكفر. وعن الثاني: أن تلك الزيادة، إذا كانت ممتنعةً في حقِّهم عقلاً، لم يصحَّ أن يقال: إنه تبارك وتعالى لا يهديهم كما لا يقال إنه تبارك وتعالى لا يجمع بين الضِّدَّين، فلا يجمع بين الوجود والعدم. وعن الثالث: أنه لم يهدهم للثواب ولم يجز للجنة ذكر فيبعد صرف اللَّفظ إليهما، بل اللائق بسياق الآية الكريمة أن يقال: إنه تعالى لما أخبر أن الدليل، لمَّا بلغ في الظهور والحجَّة إلى حيث صار المبطل كالمبهوت عن سماعه، إلاَّ أن الله تعالى لم يقدِّر له الاهتداء، لم ينفعه ذلك الدليل الظَّاهر، ونظير هذا التفسير قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الأنعام: 111] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 هذه القصة الثانية والجمهور على سكون واو «أَوْ» وهي هنا للتفضيل، وقيل: للتخيير بين التعجُّب من شأنهما، وقرأ سفيان بن حسين «أَوَ» بفتحها، على أنها واو العطف، والهمزة قبلها للاستفهام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 346 وفي قوله: «كَالَّذِي» أربعة أوجهٍ: أحدها: أنه عطفٌ على المعنى وهو قولٌ عند الكسائي والفرَّاء وأبي علي الفارسيِّ وأكثر النحويّين، قالوا: ونظيره من القرآن قوله تعالى: {قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 84 - 85] ثم قال: {مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} [المؤمنون: 86 - 87] . فهذا عطف على المعنى؛ لأنَّ معناه: لمن السَّموات؟! فقيل لله؛ وقال الشَّاعر: [الوافر] 1193 - مُعَاوِيَ، إِنَّنَا بَشَرٌ فَأَسْجِحْ ... فَلَسْنَا بِالجِبَالِ وَلاَ الحَدِيدَا فحمل على المعنى، وترك اللفظ، وتقدير الآية: هل رأيت كالذي حاجَّ إبراهيم، أو كالذي مرَّ على قريةٍ، هكذا قال مكيٌّ، أمَّا العطف على المعنى، فهو وإن كان موجوداً في لسانهم؛ كقوله: [الطويل] 1194 - تَقِيٌّ نَقِيٌّ لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةٌ ... بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ وقول الأخر في هذين البيتين: [الوافر] 1195 - أَجِدَّكَ لَنْ تَرَى بِثُعَيْلِبَاتٍ ... وَلاَ بَيْدَانَ نَاجِيَةً ذَمُولاَ وَلاَ مُتَدَارِكٍ وَاللَّيْلُ طَفْلٌ ... بِبَعْضِ نَوَاشِغِ الوَادِي حُمُولاَ فإنَّ معنى الأول: ليس بمكثِّر، ولذلك عطف عليه «وَلاَ بِحَقَلَّد» ، ومعنى الثاني: أجِدَّك لست بِرَاءٍ، ولذلك عطف عليه «وَلاَ مُتَدَارِكٍ» ، إلا أنهم نصُّوا على عدم اقتياسه. الثاني: أنه منصوبٌ على إضمار فعل، وإليه نحا الزمخشريُّ، وأبو البقاء، قال الزمخشريُّ: «أو كالَّذِي: معناه أوَ رَأَيْتَ مَثَلَ الَّذِي» ، فحذف لدلالة «أَلَمْ تَرَ» عليه؛ لأنَّ كلتيهما كلمتا تعجُّبٍ، وهو حسنٌ؛ لأنَّ الحذف ثابتٌ كثيرٌ، بخلاف العطف على المعنى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 347 الثالث: أنَّ الكاف زائدةٌ؛ كهي في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، وقول الآخر: [السريع أو الرجز] 1196 - فَصُيِّرُوا مِثْلَ كَعَصْفٍ مَأْكُولْ ... والتقدير: ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى الذي مرَّ على قريةٍ. وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ الاصل عدم الزيادة. والرابع: أنَّ الكاف اسم بمعنى مثل، لا حرفٌ؛ وهو مذهب الأخفش. قال شهاب الدِّين: وهو الصحيح من جهة الدليل، وإن كان جمهور البصريين على خلافه، فالتقدير: ألم تر إلى الذي حاجَّ، أو إلى مثل الذي مرَّ، وهو معنى حسنٌ. وللقول باسمية الكاف دلائل مذكورةٌ في كتب القوم، ذكرنا أحسنها في هذا الكتاب. منها: معادلتها في الفاعلية ب «مِثْل» في قوله: [الطويل] 1197 - وَإِنَّكَ لَمْ يَفْخَرْ عَلَيْكَ كَفَاخِرٍ ... ضَعِيفٍ وَلَمْ يَغْلِبْكَ مِثْلُ مُغَلَّبِ ومنها دخول حروف الجر، والإسناد إليها. وتقدَّم [الكلام] في اشتقاق القرية. قوله: «وهي خَاوِيَةٌ» هذه الجملة فيها خمسة أوجهٍ: أحدها: أن تكون حالاً من فاعل «مَرَّ» والواو هنا رابطةٌ بين الجملة الحالية وصاحبها، والإتيان بها واجبٌ؛ لخلوِّ الجملة من ضمير يعود إليه. الثاني: أنها حالٌ من «قرية» : إمَّا على جعل «عَلَى عُرُوشِهَا» صفةٌ لقرية على أحد الأوجه الآتية في هذا الجارِّ، أو على رأي من يجيز الإتيان بالحال من النكرة مطلقاً؛ وهو ضعيف عند سيبويه. الثالث: أنها حالٌ من «عُرُوشِهَا» مقدَّمةٌ عليه، تقديره: مرَّ على قرية على عروشها خاويةٌ. الرابع: أن تكون حالاً من «هَا» المضاف إليها «عُرُوش» قال أبو البقاء: «والعَامِلُ مَعْنَى الإِضَافَةِ، وهو ضَعِيفٌ مع جوازه» انتهى. والذي سهَّل مجيء الحال من المضاف إليه، كونه بعض المضاف؛ لأنَّ «العُرُوشَ» بعض القرية، فهو قريب من قوله تعالى: {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: 47] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 348 الخامس: أن تكون الجملة صفةً لقرية، وهذا ليس بمرتضى عندهم؛ لأنَّ الواو لا تدخل بين الصفة والموصوف، وإن كان الزمخشريُّ قد أجاز ذلك في قوله تعالى: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] [فجعل: «وَلَهَا كِتَابٌ» ] صفةً، قال: «وتَوَسَّطَتِ الواوُ؛ إيذاناً بإلصاق الصفة بالموصوف» وهذا مذهب سبقه إليه أبو الفتح ابن جنِّي في بعض تصانيفه، وفي ما تقدَّم، وكأنَّ الذي سهَّل ذلك تشبيه الجملة الواقعة صفةً، بالواقعة حالاً، لأنَّ الحال صفةٌ في المعنى، ورتَّب أبو البقاء جعل هذه الجملة صفةً لقرية، على جواز جعل «عَلَى عُرُوشِهَا» بدلاً من «قَرْيَةٍ» على إعادة حرف الجرِّ، ورتَّب جعل «وَهِي خَاوِيَةٌ» حالاً من العروش، أو من القرية، أو من «ها» المضاف إليها، على جعل «عَلَى عُرُوشِهَا» صفةٌ للقرية، وهذا نصُّه، قد ذكرته؛ ليتضح لك، فإنه قال: وقد قيل: هو بدلٌ من القرية تقديره: مرَّ على قريةٍ على عروشها، أي: مَرَّ على عروش القرية، وأعاد حرف الجرِّ مع البدل، ويجوز أن يكون «عَلَى عُرُوشِهَا» على هذا القول صفةً للقرية، لا بدلاً، تقديره: على قرية ساقطةٍ على عروشها، فعلى هذا لا يجوز أن تكون «وَهِيَ خَاوِيَةٌ» حالاً من العروش وأن تكون حالاً من القرية؛ لأنها قد وصفت، وأن تكون حالاً من «هَا» المضاف إليه، وفي هذا البناء نظرٌ لا يخفى. قوله: {على عُرُوشِهَا} فيه أربعة أوجهٍ: أحدها: أن يكون بدلاً من «قرية» بإعادة العامل. الثاني: أن يكون صفةً ل «قَرْيَةٍ» كما تقدَّم فعلى الأول: يتعلَّق ب «مَرَّ» ؛ لأنَّ العامل في البدل العامل في المبدل منه، وعلى الثاني: يتعلَّق بمحذوفٍ، أي: ساقطةٍ على عروشها. الثالث: أن يتعلَّق بنفس خاوية، إذا فسَّرنا «خَاوِيَةٌ» بمعنى متهدِّمة ساقطة. الرابع: أن يتعلَّق بمحذوفٍ يدلُّ عليه المعنى، وذلك المحذوف قالوا: هو لفظ «ثَابِتَةٌ» ؛ لأنهم فسَّروا «خَاوِيَةٌ» بمعنى: خاليةٌ من أهلها ثابتةٌ على عروشها، وبيوتها قائمة لم تتهدَّم، وهذا حذفٌ من غير دليلٍ، ولا يتبادر إليه الذهن، وقيل: «عَلَى» بمعنى «مَعَ» ، أي: مع عروشها، قالوا: وعلى هذا فالمراد بالعروش الأبنية. وقيل: «عَلَى» بمعنى «عَنْ» أي: خاويةٌ عن عروشها، جعل «عَلَى» بمعنى «عَنْ» كقوله: {إِذَا اكتالوا عَلَى الناس} [المطففين: 2] أي: عنهم. والخاوي: الخالي. يقال: خوت الدار تخوي خواءً بالمد، وخويّاً، وخويت - أيضاً - بكسر العين تَخْوَى خَوّى بالقصر، وخَوْياً، والخَوَى: الجوع؛ لخلوِّ البطن من الزَّاد. والخويُّ على فعيل: البطن السَّهل من الأرض، وخوَّى البعير: جَافَى جنبه عن الأرض؛ قال القائل في ذلك: [الرجز] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 349 1198 - خَوَّى عَلَى مُسْتَوِيَاتٍ خَمْسِ ... كِرْكِرَةٍ وَثَفِنَاتٍ مُلْسِ ومنه الحديث: «كان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِذَا سَجَدَ خَوَّى» أي: خلا عن عضده، وجنبيه، وبطنه، وفخذيه، وخوَّى الفرس ما بين قوائمه، ويقال للبيت إذا انهدم خوى؛ لأنه بتهدمه يخلو من أهله، وكذلك خوت النجوم وأخوت إذا سقطت. والعُرُوشُ: جمع عرش، وهو سقف البيت، وكذلك كلُّ ما هُيِّىءَ ليستظلَّ به، وقيل: هو البنيان نفسه؛ قال القائل في ذلك: [الكامل] 1199 - إِنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ ... بِعُتَيْبَةَ بْنِ الحَارِثِ بِنْ شِهَابِ اختلفوا في الذي مرَّ بالقرية فقال مجاهد، وأكثر المفسرين من المعتزلة: كان رجلاً كافراً شاكّاً في البعث. وقال قتادة، وعكرمة، والضحاك، والسديُّ: هو عُزَيرُ بن شرخيا. وقال وهب بن منبه، ورواه عطاء، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هو إرمياء بن خلقيا، ثم اختلف هؤلاء فقال بعضهم: إنَّ إرمياء هو الخضر - عليه السَّلام -، وهو من سبط هارون بن عمران - عليه الصَّلاة والسَّلام - وهو قول محمد بن إسحاق. وقال وهب بن منبِّه: إنَّ إرمياء، هو النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الذي بعثه الله عندما خرَّب بخت نصَّر بيت المقدس، وأحرق التوراة. واحتجَّ من قال إنه كان كافراً بوجوه: الأول: استبعاده الإحياء بعد الإماتة من الله وذلك كفرٌ. فإن قيل: يجوز وقوع ذلك منه قبل البلوغ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 350 قلنا: لو كان كذلك، لم يجز أن يعجب الله رسوله منه إذ الصَّبيُّ لا يتعجَّب من شكِّه في مثل ذلك، وضعَّفوا هذه الحجة؛ بأن ذلك الاستبعاد ما كان بسبب الشَّكِّ في قدرة الله تعالى، بل يحتمل أن يكون بسبب اطِّراد العادات في أنَّ مثل ذلك الموضع الخراب قلَّما يصيِّره الله معموراً، كما أنَّ الواحد إذا رأى جبلاً، فيقول: متى يقلب الله هذا ذهباً، أو ياقوتاً؟ لا أن مراده الشَّكُّ في قدرة الله، بل إنَّ ذلك لا يقع في مطرد العادات، فكذا ها هنا. الحجة الثانية: قوله تعالى في حقه: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} وهذا يدلُّ على أنه قبل ذلك لم يحصل له التبين، وضعِّف ذلك بأن تبيُّن الإحياء على سبيل المشاهدة، ما كان حاصلاً له قبل ذلك، وأمَّا التبين على سبيل الاستدلال فلا يسمل أنه لم يكن حاصلاً له. الحجة الثالثة: قوله: {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهذا يدلُّ على أنَّ هذا العلم إنما حصل له في ذلك الوقت، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن تلك المشاهدة أفادت نوع توكيد، وطمأنينة، وذلك إنما حصل في ذلك الوقت، وهذا يدلُّ على أنَّ أصل العلم ما كان موجوداً قبل ذلك. الحجة الرابعة: انتظامه مع النمروذ في سلكٍ واحدٍ، وهذا - أيضاً - ضعيفٌ؛ لأنه وإن كان قبله قصَّة النمروذ، ولكن بعده قصة سؤال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - فوجب أن يكون نبياً من جنس إبراهيم. واحتج من قال إنه كان مؤمناً بوجوه: منها قوله تعالى: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} وهذا يدلُّ على أنَّه كان عالماً بعد موتها بالله تعالى وبأنَّه يصحُّ منه الإحياء في الجملة، لأن تخصيص هذا الشيء باستبعاد الإحياء، إنما يصحُّ إذا حصل الاعتراف بالقدرة على الإحياء في الجملة، فأما من يعتقد أنَّ القدرة على الإحياء ممتنعةٌ لم يبق لهذا التخصيص فائدة. ومنها مخاطبة الله تعالى له بقوله: {كَمْ لَبِثْتَ} وبقوله: {بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ} ، وبقوله: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر إلى حِمَارِكَ} ، وبقوله: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ} ، وبقوله {وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً} وهذه المخاطبات لا تليق بالكافر، قال تعالى: {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] ، فجعله آية للناسن دليلٌ على مزيد التشريف. ومنها ما روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: إن بختنصر غزا بني إسرائيل فسبى منهم الكثير، ومنهم العزير وكان من علمائهم، فجاء بهم إلى «بابل» فدخل عُزَيرٌ يوماً تلك القرية ونزل تحت ظلِّ شجرةٍ، وهو على حمارٍ، فربط حماره، وطاف في القرية فلم ير فيها أحداً، فعجب من ذلك، وقال {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} لا على سبيل الشَّكِّ في القدرة، بل على سبيل الاستبعاد بحسب العادة، وكانت الأشجار مثمرة، فتناول من الفاكهة التين والعنب، وشرب من عصير العنب، ونام فأماته الله في منامه مائة عام الجزء: 4 ¦ الصفحة: 351 وهو شابٌّ ثم أعمى عنه عيون الإنس والسِّباع والطَّير، ثمَّ أحياه الله بعد المائة، ونودي من السَّماء يا عزير «كَمْ لَبِثْتَ» بعد الموت، فقال: «يَوْماً» وذلك أن الله أماته ضحًى في أول النهار، وأحياه بعد مائة عامٍ آخر النَّهار قبل غيبوبة الشَّمس، فلما أبصر من الشَّمس بقيةً قال: «أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» فقال الله تبارك وتعالى: {بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ} من التِّين، والعنب «وَشَرَابِكَ» من العصير لم يتغير طعمه، فنظر فإذا التين والعنب كما شاهدهما قال: «وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ» فنظر فإذا هو عظامٌ بيض تلوح وقد تفرَّقت أوصاله، وسمع صوتاً: أيَّتها العظام البالية، إنِّي جاعلٌ فيك روحاً، فانضم أجزاء العظام بعضها إلى بعضٍ، ثم التصق كلُّ عضو بما يليق به الضلع إلى الضلع، والذِّراع إلى مكانه، ثم جاء الرأس إلى مكانه، ثم العصب والعروق، ثم أنبت طراء اللحم عليه ثم انبسط الجلد عليه ثم خرجت الشعور من الجلد، ثمَّ نفخ فيه الروح، فإذا هو قائم ينهق، فخرَّ عزير ساجداً، وقال: {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ثم إنَّه دخل بيت المقدس. فقال القوم: حدَّثنا آباؤنا: أنَّ عزير بن شرخيا مات ببابل، وقد كان بختنصر قد قتل ببيت المقدس أربعين ألفاً من قراء التوراة، وكان فيهم عزير، والقوم ما عرفوا أنَّه يقرأ التوراة، فلمَّا أتاهم بعد مائة عام جدَّد لهم التوراة، وأملاها عليهم عن ظهر قلبه، فلم يخرم منها حرفاً، وكانت التوراة قد دفنت في موضع فأخرجت وعورض بما أملاها فما اختلفا في حرفٍ واحدٍ، فعند ذلك قالوا: عزير ابن الله، وهذه الرواية مشهورة. ويروى أنه أرميا - عليه الصَّلاة والسَّلام - فدلَّ على أنَّ المارَّ كان نبيّاً؛ واختلفوا في تلك القرية: فقال وهبٌ، وقتادة، وعكرمة، والربيع هي: إيلياء، وهي بيت المقدس، وقال ابن زيد هي القرية التي خرج منها الألوف حذر الموت، وعن ابن زيد أيضاً أن القوم الذين خرجوا من ديارهم، وهم ألوفٌ حذر الموت فقال الله لهم: موتوا، مرَّ عليهم رجلٌ، وهم عظامٌ تلوح فوقف ينظر؛ فقال: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ} . قال ابن عطية: وهذا القول من ابن زيد مناقض لألفاظ الآية، إذا الآية إنما تضمَّنت قريةً خاويةً، لا أنيس فيها، والإشارة ب «هذه» إنَّما هي إلى القرية، وإحياؤها إنما هو بالعمارة، ووجود البناء والسكان. قال القرطبي: روي في قصص هذه الآية: أنَّ الله تعالى بعث لها ملكاً من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 352 الملوك، فعمرها وجدَّ في ذلك، حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل. وقيل: إنه لمَّا مضى لمدته سبعون سنةً، أرسل الله ملكاً من ملوك فارس عظيماً يقال له «كُوشَك» فعمَّرها في ثلاثين سنةً. وقال الضحاك: هي الأرض المقدَّسة. وقال الكلبيُّ: هي دير سابر أباد وقال السديُّ مسلم أباد، وقيل: دير هرقل. وقوله: {أنى يُحْيِي هذه الله} في «أَنَّى» وجهان: أحدهما: أن تكون بمعنى «متى» . قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «فَعَلى هذا تكون ظرفاً» . والثاني: أنَّها بمعنى كيف. قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: فيكون مَوْضِعُها حالاً من «هذه» ، وتقدَّم لما فيه من الاستفهام، والظاهرُ أنها بمعنى كيف، وعلى كلا القولين: فالعاملُ فيها «يُحْيِي» ، و «بعد» أيضاً معمول له. والإحياء، والإماتة: مجازٌ؛ إن أريد بهما العمران والخراب، أو حقيقةٌ إن قدَّرنا مضافاً، أي: أنَّى يحيي أهل هذه القرية بعد موت أهلها، ويجوز أن تكون هذه إشارة إلى عظام أهل القرية البالية، وجثثهم المتمزقة، دلَّ على ذلك السياق. قوله: {مِئَةَ عَامٍ} قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «مائَة عامٍ» : ظرفٌ لأماته على المعنى؛ لأنَّ المعنى ألبثه مئة عام، ولا يجوز أن يكون ظرفاً على ظاهر اللفظ، لأنَّ الإماتة تقع في أدنى زمانٍ، ويجوز أن يكون ظرفاً لفعل محذوف، تقديره: «فأَمَاتَه اللهُ فلبِثَ مائة عام» ويدلُّ على ذلك قوله: «كَمْ لَبِثْتَ» ، ولا حاجة إلى هذين التأويلين، بل المعنى جعله ميِّتاً مائة عام. و «مِئة» عقدٌ من العدد معروفٌ، ولامها محذوفة، وهي ياء، يدلُّ على ذلك قولهم: «أَمْأَيْتُ الدَّرَاهِمَ» ، أي: صيَّرتها مئة، فوزنها فعة ويجمع على «مِئَات» ، وشذَّ فيها مئون؛ قال القائل: [الطويل] 1200 - ثَلاَثُ مِئِينٍ لِلْمُلُوكِ وَفَى بِهَا ... رِدَائِي وَجَلَّتْ عَنْ وُجُوهِ الأَهَاتِمِ كأنَّهم جروها بهذا الجمع لما حذف منها؛ كما قالوا: سنون: في سنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 353 والعام: مدَّة من الزمان معلومةٌ، وعينه واوٌ؛ لقولهم في التصغير: عويم، وفي التكسير: «أَعْوَام» . وقال النقَّاش: «هو في الأصل مصدرٌ وسمِّي به الزمان؛ لأنه عومةٌ من الشمس في الفلك، والعوم: هو السبح؛ وقال تعالى: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 40] فعلى هذا يكون العوم والعام كالقول والقال» . فإن قيل: ما الحكمة في أنْ أماته الله مائة عامٍ، مع أنَّ الاستدلال بالإحياء بعد يومٍ، أو بعض يومٍ حاصل. فالجواب: أنَّ الإحياء بعد تراخي المدَّة أبعد في العقول من الإحياء بعد قرب المدَّة، وبعد تراخي المدَّة يشاهد منه، ويشاهد هو من غيره، ما هو عجبٌ. قوله: «ثُمَ بَعَثَهُ» ، أي: أحياه، ويوم القيامة يسمَّى يوم البعث؛ لأنهم يبعثون من قبورهم، وأصله: من بعثت الناقة، إذا أقمتها من مكانها. فإن قيل: ما الحكمة في قوله - تبارك وتعالى - «ثُمَّ بَعَثَهُ» ولم يقل: ثمَّ أحياه؟ فالجواب: أن قوله: «بَعَثَهُ» يدلُّ على أنه عاد كما كان أوَّلاً: حيّاً، عاقلاً، فاهماً، مستعداً للنظر، والاستدلال، ولو قال: ثمَّ أحياه، لم تحصل هذه الفوائد. قوله: «كَمْ» منصوبٌ على الظرف، ومميِّزها محذوفٌ تقديره: كم يوماً، أو وقتاً. والناصب له «لَبِثْتَ» ، والجملة في محلِّ نصب بالقول، والظاهر أنَّ «أَوْ» في قوله: «يوماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» بمعنى «بَلْ» للإضراب، وهو قول ثابت، وقيل: هي للشك. فصل قال ابن الخطيب: من الخوارق ما يمكن في حالة، ومن الناس من يقول في قصة أهل الكهف، والعزير: إنه كذب على معنى وجود حقيقة الكذب فيه، ولكنه لا مؤاخذة به، وإلاَّ فالكذب: الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، وذلك لا يختلف بالعمل، والجهل؛ فعلى هذا يجوز أن يقال: إنَّ الأنبياء لا يعصمون عن السَّهو والنِّسيان، والقول الأوَّل أصحُّ. قوله: «قَالَ بَلْ لَبِثْتَ» عطفت «بل» هذه الجملة على جملةٍ محذوفةٍ، تقديره: ما لبثتَ يوماً أو بعض يوم، بل لبثت مئة عام. وقرأ نافع، وعاصم، وابن كثير: بإظهار الثَّاء في جميع القرآن الكريم، والباقون: بالإدغام. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 354 فصل فيمن قال: كم لبثت أجمعوا على أن ذلك القائل هو الله تعالى؛ لأنَّ ذلك الخطاب كان مقروناً بالمعجز، ولأنه بعد الإحياء شاهد من أحوال حماره، وظهور البلى في عظامه، ما عرف به أنَّ تلك الخوارق لم تصدر إلاَّ من الله تعالى. وقيل: سمع هاتفاً من السماء، يقول له ذلك. وقيل: خاطبه جبريل، وقيل: نبيٌّ. وقيل: مؤمنٌ شاهده من قومه عند موته، وعمِّر إلى حين إحيائه. قال القرطبي: والأظهر أنَّ القائل هو الله - عَزَّ وَجَلَّ -، لقوله تعالى: {وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً} . فإن قيل: إنه تعالى كان عالماً بأنه كان مَيْتاً، والميِّت لا يمكنه بعد أن صار حيّاً أن يعلم مدَّة موته طويلةً كانت أم قصيرةً؛ فلأيِّ حكمةٍ سأله عن مقدار المدة؟ فالجواب: أنَّ المقصود منه التنبيه على حدوث ما حدث من الخوارق، بقوله: {لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} على حسب ظنِّه؛ كما روي في القصة: أنه أماته ضحًى، وأحياه بعد المائة قبل غروب الشمس؛ فظن أنَّ اليوم لم يكمل، كما حكي عن أصحاب الكهف: {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] على ما توهَّموه، ووقع في ظنِّهم. وقول إخوة يوسف {ياأبانا إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] وإنما قالوا ذلك؛ بناءً على إخراج الصُّواع من رحله. قوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال، وزعم بعضهم: أنَّ المضارع المنفيَّ ب «لَمْ» إذا وقع حالاً، فالمختار دخول واو الحال؛ وأنشد: [الطويل] 1201 - بِأَيْدِي رِجَالٍ لَمْ يَشِيْمُوا سُيُوفَهُمْ ... وَلَمْ تَكْثُرِ القَتْلَى بِهَا حِينَ سُلَّتِ وزعم آخرون: أنَّ الأولى نفي المضارع الواقع حالاً بما، ولمَّا. وهذان الزَّعمان غير صحيحين؛ لأنَّ الاستعمالين واردان في القرآن، قال تعالى: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} [آل عمران: 174] ، وقال تعالى: {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93] فجاء النفي ب «لم» مع الواو ودونها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 355 فإن قيل: قد تقدَّم شيئان، وهما «طَعَامِكَ وشَرَابِكَ» ولم يعد الضَّمير إلاَّ مفرفاً، قلنا فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدهما: أنها لمَّا كانا متلازمين، بمعنى أنَّ أحدهما لا يكتفى به بدون الآخر، صارا بمنزلة شيء واحد؛ حتى كأنه [قال:] فانظر إلى غذائك. الثاني: أنَّ الضمير يعود إلى الشَّراب فقط؛ لأنه أقرب مذكور، وثمَّ جملة أخرى حذفت لدلالة هذه عليها. والتقدير: وانظر إلى طعامك لم يتسنَّه، وإلى شرابك لم يتسنَّه، وقرأ ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «فانْظُرْ إِلى طَعَامِكَ وهذا شَرابُك لم يتسنه» ، أو يكون سكت عن تغيُّر الطعام؛ تنبيهاً بالأدنى على الأعلى، وذلك أنه إذا لم يتغيَّر الشراب مع نزعة النَّفس إليه، فعدم تغيُّر الطعام أولى، قال معناه أبو البقاء. الثالث: أنه أفرد في موضع التثنية، قاله - أيضاً - أبو البقاء؛ وأنشد: [الكامل] 1202 - فَكَأَنَّ في الْعَيْنَيْنِ حَبَّ قَرَنْفُلٍ ... أَوْ سُنْبَلٍ كُحِلَتْ بِهِ فَانْهَلَّتِ وليس بشيءٍ. وقرأ حمزة، والكسائي: «لَمْ يَتَسَنَّهْ» بالهاءِ وقفاً، وبحذفها وصلاً، والباقون: بإثباتها في الحالين. فأمَّا قراءتهما، فالهاءُ فيها للسكتِ. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ: فالهاءُ تحتملُ وجهين: أحدهما: أن تكون - أيضاً - للسكت، وإنما أُثبتت وصلاً إِجراءً للوصل مجرى الوقف، وهو في القرآن كثيرٌ، [سيمرُّ بك منه مواضع] فعلى هذا يكون أصل الكلمة: إِمَّا مشتقاً من لفظ «السَّنَةِ» على قولنا إِنَّ لامَها المحذوفة واوٌ، ولذلك تُرَدُّ في التصغير والجمع؛ قالوا: «سُنَيَّة وَسَنَوات» ؛ وعلى هذه اللغة قالوا: «سَانَيْتُ» أُبْدِلَتِ الواو ياءً؛ لوقوعها رابعةً، وقالوا: أَسْنَتَ القومُ إذا أصابتهُمُ السَّنَةُ؛ قال الشاعر: [الكامل] 1203 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وَرِجَالُ مَكَّةَ مُسْنِتُونَ عِجَافُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 356 ويقولون في جمعها: سنوات فقلبوا الواو تاءً، والأصلُ: أَسْنُووا، فأَبْدلوها كما أَبْدلُوها في تُجاه وتُخمة؛ كما تقدَّم، فأصله: يَتَسَنَّى فحُذِفت الألف جزماً. وإما من لفظ «مَسْنُون» وهو المتغيرُ، ومنه {حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 28] ، والأصلُ: يتَسَنَّنُ، بثلاثٍ نونات، فاسْتُثْقل توالي الأَمثال، فأَبدلنا الأخيرة ياءً؛ كما قالوا في تظنَّن: تظنَّى، وفي قصَّصت أظفاري: قصَّيتُ، ثم أبدلنا الياء ألفاً؛ لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها، ثم حُذِفت جزماً، قاله أبو عمرو، وخطَّأَه الزجاج، قال: «لأنَّ المسنونَ: المصبوبُ على سنن الطريق» . وحُكِيَ عن النقَّاش أنه قال: «هو مأخوذٌ من أَسِن الماءُ» أي: تغيَّر، وهذا وإِنْ كان صحيحاً معنًى، فقد رَدَّ عليه النحاةُ قوله؛ لأنه فاسِدٌ اشتقاقاً، إذ لو كان مشتقاً من «أَسِنَ الماءُ» لكان ينبغي حين منه تفعَّل، أَنْ يقال تأسَّنَ. ويمكن أَنْ يُجاب عنه: أنه يمكنُ أن يكون قد قُلبت الكلمةُ بأن أُخِّرت فاؤها - وهي الهمزة - إلى موضع لامها، فبقي: يَتَسَنَّأ، بالهمزة آخراً، ثمَّ أُبدلت الهمزةُ ألفاً، كقولهم في قرأ: «قَرَا» ، وفي استهزأ: «اسْتَهْزا» ثم حُذفت جزماً. والوجه الثاني: أن تكون الهاءُ أصلاً بنفسها، ويكونُ مشتقاً من لفظ «سَنَة» أيضاً، ولكن في لغةِ من يجعلُ لامها المحذوفة هاءً، وهم الحجازيون، والأصلُ: سُنَيْهة، يدلُّ على ذلك التصغير والتكسير، قالوا: سُنَيْهةٌ، وسُنَيْهَاتٌ، وسَانَهْتُ؛ قال شاعرهم: 1204 - وَلَيْسَتْ بِسَهْنَاءٍ وَلاَ رُجَبِيَّةٍ ... وَلَكِنْ عَرَايَا فِي السِّنِينَ الجَوَائِحِ ومعنى «لم يَتَسَنَّهْ» على قولنا: إِنَّهُ من لفظ السَّنَة، أي: لم يتغيَّر بمَرِّ السنين عليه، بل بقي على حالِهِ، وهذا أَوْلَى من قول أَبي البقاء في أثناء كلامه: «مِنْ قولك: أَسْنَى يُسْنِي، إذا مَضَتْ عليه سِنُون» ؛ لأنه يصير المعنى: لم تمضِ عليه سِنُون، وهذا يخالفه الحِسُّ، والواقع. وقرأ أُبَيّ؛ «لَمْ يَسَّنَّهْ» بإِدْغَام التَّاءِ في السِّينِ، والأَصْلُ: «لم يَتَسَنَّهْ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 357 كما قُرِئ: {لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ} [الصافات: 8] ، والأصل: يَتَسَمَّعُونَ؛ فأُدغم، وقرأ طلحة بن مصرفٍ: «لِمِئَةِ سَنَةٍ» . فإن قيل: لما قال تعالى: {بَلْ لبثت مائة عام} كان مِنْ حقِّه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} لا يدلُّ على أنه لبث مائة عامٍ، بل يدلُّ ظاهراً على قول المسؤول إنه لبث يوماً أو بعض يوماً. فالجواب أنه ذكر ذلك ليعظم اشتياقه إلى طلب الدَّليل الذي يكشف هذه الشبهة، فلما قال تعالى: {وانظر إلى حِمَارِكَ} فرأى الحمار صار رميماً وعظاماً نخرة، فعظُم تعجبه من قُدرة الله تعالى؛ فإنَّ الطعامَ، والشراب يسرع التغير إليهما، والحمارُ ربما بقي دهراً طويلاً عظيماً، فرأى ما لا يبقى باقياً، وهو الطعامُ، والشَّرابُ، وما يبقى غير باقٍ، وهو العظامُ فعظُم تعجبه من قدرة الله تعالى، وتمكّنت الحجةُ في قلبه، وعقله. قوله: {وانظر إلى حِمَارِكَ} معناه أَنَّه عرَّفه طُول مدة موته، بأن شاهد انقلاب العِظام النخرة حيّاً في الحال، فإنه إذْ شاهد ذلك، علِمَ أن القادر على ذلك قادِرٌ على أَنْ يُميته مائة عام، ثم يُحْييه. فإن قيل: إنَّ القادِرَ على إحياء العِظام النخرة، قادِرٌ على أَنْ يجعل الحمار عظاماً نخرة في الحال، وحينئذٍ لا يمكن الاستدلال بعظام الحمار على طُول مدة الموت. فالجواب: أَنَّ انقلاب العِظام إلى الحياة معجزةٌ دالَّةٌ على صدق قوله: «بَلْ لَبِثْتَ مائةَ عامٍ» . قال الضحاك: إنَّهُ تعالى بعثهُ شابّاً أسود الرأس، وبنو بنيه شيوخٌ بيض اللِّحى، والرُّؤوس. قوله: «وَلِنَجْعَلَكَ» فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه متعلقٌ بفعلٍ محذوفٍ مقدَّرٍ بعده، تقديره: ولنجعلك فعلنا ذلك. الثاني: أنه معطوفٌ على محذوفٍ تقديره: فعلنا ذلك، لتعلَمَ قُدْرتنا ولنجعلك. الثالث: أن الواو زائدة واللامُ متعلقةٌ بالفعلِ قبلها، أي: وانظر إلى حِمارِك، لنجعلَكَ. قال الفرَّاء: وهذا المعنى غير مطلوبٍ من الكلامِ؛ لأنه لو قال فانظر إلى حِمارك لنجعلك آيةً للناسِ، كان النظرُ إلى الحمار شرطاً، وجعله آية جزاءً أَمَّا لمَّا قال: «وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً» [كان المعنى: ولنجعلك آيةً فعلنا ما فعلنا، من الإماتة، والإحياء. وليس في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ، كما زعم بعضهم؛ فقال: إن قوله: «وَلِنَجْعَلَكَ» مؤخر بعد قوله الجزء: 4 ¦ الصفحة: 358 تعالى: {وانظر إِلَى العظام} ، وأَنَّ الأَنظارَ الثلاثةَ منسوقةٌ بعضها على بعضٍ، فُصِل بينها بهذا الجارّ؛ لأنَّ الثالث مِنْ تمامِ الثاني، فلذلك لم تجعل هذه العلةُ فاصلةً معترضةً. وهذه اللامُ لامُ كي، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار «أَنْ» وهي وما بعدها من الفعلِ في محلِّ جرٍّ على ما سبق بيانُهُ غير مرةٍ. و «آية» مفولٌ ثانٍ؛ لأنَّ الجَعْلَ هنا بمعنى: التصيير. و «لِلنَّاسِ» صفةٌ لآيةٍ، و «أَلْ» في الناس، قيل: للعهدِ، إِنْ عَنَى بهم بقيةَ قومِهِ، وقيل: للجنس، إِنْ عَنَى بهم جميع بني آدم] . قوله: {وانظر إِلَى العظام} . أكثر المفسرين على أن المراد بالعظام حمارُه، وقال آخرون: أراد بها عظام الرجلِ نفسه، قالوا: إِنَّ الله أَحْيَا رأسهُ وعينيه، وكانت بقيةُ بدنه، عظاماً نخرةً، فكان ينظرُ إلى أَجزاء عظام نفسه فرآها تجتمعُ، وينضمُّ بعضها إلى بعضٍ وكان يرى حمارَه واقفاً كما ربطه حين كان حيّاً لم يأكل، ولم يشرب مائة عام، وتقدير الكلام على هذا الوجه وانظر إلى عظامك؛ وهو قولُ قتادة، والرَّبيع، وابن زيدٍ، وضُعِّف ذلك بوجوه: منها: أَنَّ قوله «لَبِثْتُ يَوْمَا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ» إنما يليقُ بمن لا يرى أثر التغير في نفسه، فيظن أنه كان نائِماً في بعض يومٍ، وأَمَّا من شاهد بعض أجزاءِ بدنه متفرقةً، وعظامُه رميمة نخرةً، فلا يليقُ به ذلك. ومنها أنه خاطبُه، وأَجاب، والمجيب، هو الذي أَماتهُ اللهُ، فإذا كانت الإِماتةُ راجعةً إلى كله، فالمجيب - أيضاً - الذي بعثه اللهُ، يجب أن يكون جملة الشَّخص. ومنها أَنَّ قوله - تعالى - {فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} يدلُّ على أَنَّ تلك الجملة أَحياها، وبعثها. قوله: «كَيْفَ» منصوبٌ نصبَ الأَحوال، والعاملُ فيها «نُنْشِزُها» وصاحبُ الحالِ الضميرُ المنصوبُ في «نُنْشِزُها» ، ولا يعملُ في هذا الحالِ «انظُرْ» إذ الاستفهامُ له صدرُ الكلام، فلا يعملُ فيه ما قبله، هذا هو القولُ في هذه المسألة، ونظائرها. وقال أبو البقاء: «كيف نُنْشِزُها» في موضِعِ الحالِ من «العِظَامِ» ، والعاملُ في «كيف» نُنْشِزُها، ولا يجوز أن يعمل فيها «انظُرْ» لأنَّ هذه جملة استفهام، والاستفهامُ لا يقعُ حالاً، وإنما الذي يقعُ حالاً «كَيْفَ» ، ولذلك تُبْدَلُ منه الحالُ بإعادة حرفِ الاستفهامِ، نحو: «كيف ضَرَبْتَ زيداً؛ أقائماً أم قاعداً» ؟ والذي يَقْتَضِيه النظرُ الصحيحُ في هذه المسألة، وأمثالها: أَنْ تكونَ جملةُ «كَيْفَ نُنْشِزُها» بدلاً مِنَ «العِظَامِ» فيكونَ في محلِّ جَرٍّ أو محلِّ نصبِ، وذلك أنَّ «نظر» البصرية الجزء: 4 ¦ الصفحة: 359 تتعدَّى ب «إِلَى» ، ويجوزُ فيها التعليقُ، كقوله تعالى: {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ} [الإسراء: 21] فتكونُ الجملةُ في محلِّ نصبٍ؛ لأنَّ ما يتعدى بحرف الجرِّ يكونُ ما بعده في محلِّ نصبٍ به. ولا بُدَّ مِنْ حذف مضافٍ؛ لتصِحَّ البدليَّة، والتقدير: إلى حال العظام، ونظيرُهُ قولهم: عَرفْتُ زيداً: أبو مَنْ هُوَ؟ ف «أَبُو مَنْ» هو بدلٌ من «زَيْداً» ، على حذفٍ تقديرُهُ: «عَرَفْتُ قِصَّةَ زَيْدٍ» . والاستفهامُ في بابِ التعليقِ، لا يُراد به معناه؛ بل جرى في لسانِهم مُعلَّقاً عليه، حكُم اللفظِ دونَ المعنى، و [هو] نظيرُ «أي» في الاختصاص، نحو: «اللهُمَّ اغفِرْ لنا أَيَّتُها العِصَابَةُ» فاللفظُ كالنداء في جميعِ أَحكامه، وليس معناه عليه. وقرأ أبو عمروٍ، والحرميَّان: «نُنْشِزُهَا» بضم النون، وكسر الشِّين، والراءِ المُهملةِ، والباقُون: كذلك؛ إلاَّ أَنَّها بالزاي المُعْجمة. وابن عباسٍ: بفتح النونِ، وضمِّ الشِّين، والراءِ المهملةِ أيضاً والنخعيّ: كذلك؛ إلا أنها بالزاي المعجمةِ، ونُقِل عنه أيضاً ضمُّ الياءِ، وفتحِها مع الراءِ، والزاي. فأَمَّا قراءة الحرميّين: فمن «أَنشَرَ اللهُ الموتى» بمعنى: أَحْيَاهم، وأمَّا قراءةُ ابن عباس: فَمِنْ «نَشَر» ثُلاَثيّاً، وفيه حينئذٍ وجهان: أحدهما: أَنْ يكون بمعنى أَفعلَ، فتتحدَ القراءتان. والثاني: أَنْ يكونَ مِنْ «نَشَرَ» ضِدَّ: طَوى، أي: يَبسُطها بالإِحياء، ويكونُ «نَشَرَ» أيضاً مطاوِع أَنْشَرَ، نحو: أَنْشَرَ الله الميتَ، فَنَشَرَ، فيكونُ المتعدي، واللازمُ بلفظٍ واحدٍ؛ إلاَّ أنَّ كونه مطاوعاً لا يُتَصَوَّر في هذه الآيةِ الكريمة؛ لتعدِّي الفعل فيها، وإنْ كان في عبارة أبي البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ في هذا الموضع بعضُ إبهامٍ؛ ومِنْ مجيء «نَشَر» لاَزِماً قوله: [السريع] 1205 - حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأَوْا ... يَا عَجَباً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ فناشِر: مِنْ نَشَر؛ بمعنى: حَيِيَ. والمراد بقوله ننشرها، أي: نُحْييها، يقال أنشر الله الميتَ ونشرَهُ، قال تعالى: {ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 22] وقد وصف اللهُ العِظِام بالإِحياءِ في قوله: {مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ} [يس: 78، 79] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 360 وأَمَّا قراءةُ الزَّاي فمن «النَّشْزِ» وهو الارتفاعُ، ومنه: «نَشْزُ الأَرْضِ» وهو المرتفع، ونشوزُ المرأةِ، وهو ارتفاعها عن حالها إلى حالةٍ أُخرى، فالمعنى: يُحرِّك العِظام، ويرفعُ بعضها إلى بعضٍ للإِحياء. قال ابن عطية: «وَيَقْلَقُ عندي أَنْ يكونَ النشوزُ رفعَ العِظَامِ بعضها إلى بعضٍ، وإنما النشوزث الارتفاعُ قليلاً قليلاً» ، قال: «وانظر استعمال العربِ، تَجده كذلك؛ ومنه:» نَشَزَ نَابُ البَعِير «و» أَنْشَزُوا، فَأَنْشَزوا «، فالمعنى هنا على التدرُّج في الفعلِ» فجعل ابنُ عطية النشوزَ ارتفاعاً خاصّاً. ومَنْ ضَمَّ النونَ جعلهُ مِنْ «أَنْشَزَ» ، ومَنْ فَتَحها، فَمِنْ «نَشَزَ» ، يقال: «نَشَزه» و «أَنْشَزَه» بمعنى. ومَنْ قرأَ بالياءِ، فالضميرُ لله تعالى. وقرأ أُبيّ «نُنْشِئُها» من النَّشْأَةِ. ورجَّح بعضهم قراءة الزاي على الراء، بِأَنْ قال: العِظامُ لا تُحْيَا على الانفرادِ؛ بل بانضمام بعضِها إلى بعضٍ، والزايُ أَوْلى بهذا المعنى؛ إذ هو بمعنى الانضمام دونَ الإِحياءِ، فالموصُوفُ بالإِحياءِ الرجلُ دونَ العظامِ، ولا يقال: هذا عظمٌ حيٌّ. وهذا ليس بشيءٍ؛ لقوله: {مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] . ولا بُدَّ من ضميرِ محذوفٍ من قوله: «العِظام» أي؛ العظامِ منه، أي: من الحمارِ، أو تكونُ «أَلْ» قائمةً مقامَ الإِضافة، أي: عظامِ حمارِك. قوله: «لَحْماً» مفعولٌ ثانٍ لِ «نَكْسُوها» وهو من باب أَعْطَى، وهذا من الاستعارة، ومثله قول لبيدٍ: [البسيط] 1206 - الحَمْدُ لِلَّهِ إِذْ لَمْ يَأْتِيني أَجَلِي ... حَتَّى اكْتَسَيْتُ مِنَ الإِسْلاَمِ سِرْبَالا قوله: «فَلَمَّا تَبَيَّنَ» في فاعل «تَبيَّن» قولان: أحدهما: مُضمرٌ يُفَسِّره سياقُ الكلامِ، تقديرُهُ: فلمَّا تبيَّن له كيفيةُ الإِحياءِ التي استقر بها، وقدَّره الزمخشريُّ: «فلمَّا تبيَّن له ما أَشْكَل عليه» يعني مِنْ أَمْرِ إِحياءِ الموتى، والأَوَّلُ أَوْلَى؛ لأنَّ قوةَ الكلامِ تدِلُّ عليه بخلافِ الثاني. والثاني: - وبه بدأ الزمخشري -: أن تكون المسألةُ من بابِ الإِعمالِ، يعني أن «تَبَيَّن» يطلُبُ فاعلاً، و «أَعْلَمُ» يطلبُ مفعولاً، و «أَنَّ اللهَ على كُلِّ شَيءٍ قَدِيرٌ» يصلُح أَنْ يكونَ فاعلاً لتبيَّن، ومفعولاً لأعلَمُ، فصارَتِ المسألةُ من التنازع، وهذا نصُّه، قال: وفَاعِلُ «تبيَّن» مضمرٌ تقديره: فلمَّا تبيَّن له أَنَّ الله على كل شيءٍ قدير قال: أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 361 على كل شيء قديرٌ، فحُذف الأَوَّل؛ لدلالةِ الثاني عليه، كما في قولهم: «ضَرَبَنِي، وضَرَبْتُ زَيْداً» فجعله مِنْ باب التنازع وجعله من إعمال الثاني، وهو المختارُ عند البصريين، فلمَّا أعملَ الثاني، أَضْمَرَ في الأَولِ فاعلاً، ولا يجوزُ أَنْ يكونَ من إعمال الأَولِ؛ لأنه كان يلزَمُ الإِضمارُ في الثاني بضميرِ المفعول، فكأنه قال: فلمَّا تبيَّن له، قال أعلمه أن الله. ومثله في إعمال الثاني: {آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف: 96] {هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] لما ذكرت. إِلاَّ أَنَّ أبا حيَّان ردَّ عليه بأنَّ شرط الإِعمالِ على ما نصَّ عليه النحويون اشتراكُ العاملَينِ، وأَدْنى ذلك بحرفِ العطفِ - حتى لا يكون الفصلُ معتبراً - أو يكونُ العاملُ الثاني معمولاً للأول، نحو: «جاءني يَضْحَكُ زيدٌ» فإنَّ «يَضْحَكُ» حالٌ عاملها «جاءني» فيجعل في: «جاءني» ، أو في: «يضحك» ضميراً؛ حتَّى لا يكونَ الفعلُ فاصلاً، ولا يَردُ على هذا جعلُهُم «آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً» {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} [النساء: 176] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله} [المنافقون: 5] و {هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] من باب الإِعمال؛ لأنَّ هذه العوامل مشتركةٌ بوجهٍ ما من وجوهِ الاشتراكِ، ولم يُحْصَرِ الاشتراكُ في العطفِ ولا العَمَلِ، فإذا كان على ما نصُّوا، فليس العاملُ الثاني مُشْتركاً مع الأولِ بحرفِ العطفِ، ولا بغيره، ولا هو معمولٌ للأول؛ بل هو معمولٌ لقال، و «قال» جوابُ «لَمَّا» إِنْ قلنا: إنَّها حرفٌ، وعاملةٌ في «لَمَّا» إن قلنا: إنها ظرفٌ، و «تبيَّن» على هذا القول مخفوضٌ بالظرف، ولم يذكر النحاةُ التنازع في نحو: «لَوْ جَاءَ قَتَلْتُ زيداً» ، ولا «لَمَّا جاء ضربت زيداً» ، ولا «حِينَ جاء قتلْتُ زيداً» ، ولا «إذا جاء قتلتُ زيداً» ، ولذلك حكى النحاةُ أَنَّ العربَ لا تقول: «أَكْرَمْتُ أَهْنتُ زيداً» - يعني لعدم الاشتراكِ بين العاملين - وقد ناقضَ قوله؛ حيثُ جعل الفاعل محذوفاً، كما تقدَّم في عبارتِهِ، والحذفُ ينافي الإِضمارَ، فإنْ كان أرادَ بالإِضمار في قوله: «وفاعِلُ تبيَّن مُضْمَرٌ» الحذفَ فهو قول الكسائيِّ؛ لأنه لا يُجيزُ إضمارَ المرفوع قبل الذكر فيدَّعي فيه الحذف، ويُنشد: [الطويل] 1207 - تَعَفَّقَ بِالأَرْطَى لَهَا وَأَرَادَهَا ... رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُمْ وَكَلِيبُ ولهذا تأويل مذكورٌ؛ ورُدَّ عليه بالسماع قال القائِلُ: [البسيط] 1208 - هَوَيْنَنِي وَهَوَيْتُ الخُرَّدَ الْعُرُبَا ... أَزْمَانَ كُنْتُ مَنُوطاً بِي هَوًى وَصِبَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 362 فقال: «هَوَيْنَنِي» فجاءَ في الأَوَّل بضمير الإِناث، من غير حذفٍ. انتهى ما رُدَّ به عليه، قال شهاب الدِّين - رَحِمَهُ اللَّهُ - وفيه نظرٌ لا يخفى. وقرأ ابن عبَّاس: «تُبُيِّن» مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامَ الفاعلِ، الجارُّ والمجرورُ بعدَه. وابنُ السَّمَيْفع «يُبَيِّن» من غير تاء مبنياً للمفعولِ، والقائمُ مقامه ضميرُ كيفية الإِحياء أو الجارُّ والمجرورُ. قوله: {قَالَ أَعْلَمُ} الجمهورُ على: «قال» مبنيّاً للفاعلِ. وفي فاعله على قراءة حمزة والكسائي: «اعْلَمْ» أمراً من «عَلِمَ» قولان: أظهرهما: أنه ضميرٌ يعودُ على اللهِ تعالى أو على المَلِك، أي: قال اللهُ تعالى أو الملكُ لذلك المارِّ اعْلَمْ. الثاني: أنه ضميرٌ يعودُ على المارِّ نفسه، نزَّل نفسه منزلة الأجنبي، فخاطبها؛ ومنه: [البسيط] 1209 - وَدِّعْ أُمَامَة إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ ..... ... ... ... ... ... ... ... . وقوله: [المتقارب] 1210 - تَطَاوَلَ لَيْلُكَ ... ... ... ... ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ... . . يعني نفسه، قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «كما تقول لنفسك: اعلم يا عبد الله، ويُسَمَّى هذا التجريدَ» يعني: كأنه جَرَّد من نفسه مُخَاطباً يخاطِبُه. وأمَّا على قراءةِ «أَعْلَمُ» مضارعاً [للمتكلم] وهي قراة الجمهور ففاعل «قال» ضميرُ المارِّ، أي: قال المارُّ: أعلمُ أنا. وقرأ الأَعمشُ: «قِيل» مبنيّاً للمفعولِ. والقائمُ مقام الفاعل: إمَّا ضميرُ المصدرِ من الفعلِ، وإمَّا الجملةُ التي بعده، على حسبِ ما تقدَّم أول السورة. [وقرأ حمزةُ، والكسائيُّ: «اعلمْ» على الأَمر، والباقون: «أَعْلَمُ» مضارعاً] وقرأ الجعفيّ عن أبي بكر: «أَعْلِمْ» أَمْراً من «أَعْلَمَ» ، والكلامُ فيها كالكلامِ في قراءةِ حمزة والكسائي بالنسبةِ إلى فاعل «قال» ما هو؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 363 فصلٌ في معنى قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ} قال الطبريُّ: معنى قوله: «فلمَّا تبيَّنَ لهُ» أي: لما اتضح له عياناً ما كان مستنكراً في قدرة الله عنده قبل عيانه، قال: أَعلمُ. قال ابن عطيَّة: وهذا خطأٌ؛ لأنه ألزم ما لا يقتضيه اللفظ، وفسر على القول الشاذِّ، وهذا عندي ليس بإِقرارٍ بما كان قبل ينكره، كما زعم الطبريُّ، بل هو قولٌ بعثه الاعتبارُ؛ كما يقول المؤمنُ إذا رأى شيئاً غريباً من قدرة الله تعالى: لاَ إِلَه إِلاَّ اللهُ، ونحو هذا. وقال أبو عليّ: معناه أعلم هذا الضرب من العلمِ الذي لم أكُن أَعْلَمه. و «أَنَّ الله» في محلّ نصب، سادَّةً مسد المفعولين، أو الأَوَّل والثاني محذوفٌ على ما تقدّم من الخلاف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 هذه القصة الثالثة الدالَّةُ على صحَّة البعث. في العامل في «إذْ» ثلاثةُ أوجه: أظهرها: أنه قال: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} ، أي: قال له ربَّه وقتَ قوله ذلك. والثاني: أنه «أَلَمْ تَرَ» أي: ألم تر إذ قال إبراهيم. والثالث: أنه مضمرٌ تقديره: واذكر قاله الزجاح ف «إِذْ» على هذين القولين مفعولٌ به، لا ظرفٌ. و «ربِّ» منادى مضافٌ لياءِ المتكلم، حُذفَتْ؛ استغناءً عنها بالكسرةِ قبلَها، وهي اللغةُ الفصيحةُ، وحُذِف حرفُ النداءِ. وقوله: «أَرِنِي» تقدَّم ما فيه من القراءات، والتوجيه في قوله: {وَأَرِنَا} [البقرة: 128] والرؤية - هنا - بصرية تتعدَّى لواحدٍ، ولمَّا دخلَتْ همزةُ النقل، أكسبته مفعولاً ثانياً، والأولُ ياءُ المتكلم، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي معلقة للرؤية و «رأى» البصرية تُعَلَّق، كما تعلق «نَظر» البصرية، ومن كلامهم: «أَمَا تَرَى أَيُّ بَرْقٍ هَهُنَا» . و «كَيْفَ» في محلِّ نصب: إمَّا على التشبيه بالظرف، وإمَّا على التشبيه بالحال، كما تقدَّم في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] . والعاملُ فيها «تُحيي» وقدَّره مكي: بأي حالٍ تُحْيي الموتى، وهو تفسيرُ معنًى، لا إعرابٍ. قال القرطبيُّ: الاستفهامُ بكيف، إنما هو سؤالٌ عن حالةِ شيءٍ موجودٍ متقرر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 364 الوجوه عند السائل، والمسؤول؛ نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا: ومتى قلت: كيف ثوبُكَ؟ وكيف زيدٌ؟ فإِنَّما للسؤال عن حالٍ من أحواله، وقد تكون «كَيْفَ» خبراً عن شيءٍ شأنه أَنْ يُسْتفهم عنه بكيف، نحو قولك: كيف شِئتَ فكُنْ، ونحو قول البخاريّ: «كَيْفَ كان بَدْءُ الوَحْي» ، و «كَيْفَ» في هذه الآية إِنَّما هي استفهامٌ عن هيئة الإِحياء، والإحياءُ متقرِّرٌ، ولكن لمَّا وجدنا بعض المنكرين لوجود شيءٍ، قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة ذلك الشيء، يعلم أنها لا تصح؛ فيلزم من ذلك أَنَّ الشيء في نفسه لا يصحُّ؛ مثاله أَنٍْ يقول مُدَّعٍ أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذِّب له: أَرِني كيف ترفعه فهذه طريقةُ مجاز في العبارة، ومعناها تسلِيمٌ جدلي، كأنه يقول: افرِض أَنَّكَ ترفعه، فأرني كيف ترفعه فلما كان في عبارة الخليل - عليه الصَّلاة والسَّلام - هذا الاشتراك المجازي، خلص اللهُ له ذلك، وحمله على أَنْ بيَّن له الحقيقة، فقال لله: «أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قال: بَلَى» فكمل الأَمر، وتخلص من كُلِّ شكٍّ. فإِن قيل: ما الحكمة في أنه تعالى لم يُسَمِّ عزيراً، بل قال: {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ} [البقرة: 259] ، وها هُنَا سمَّى إبراهيم، مع أَنَّ المقصُودَ في كِلتا القصَّتين شيءٌ واحِدٌ؟! فالجواب: قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والسببُ فيه: أَنَّ عزيراً لم يحفظِ الأَدَبَ، بل قال {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 259] ولذلك جعل الإِحياء، والإِماتة في نفسه، وإبراهيم - عليه وعلى نبينا أفضل الصَّلاة والسَّلام - حفظ الأَدب، ورَاعاهُ؛ فقال أَوَّلاً «رَبِّ» ثُمَّ دعا فقال: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} ولذلك جعل الإِحياء، والإِماتة في الطيور. قوله: {قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن} في هذه الواوِ وجهان: أظهرهما: أنها للعطفِ قُدِّمت عليها همزةُ الاستفهامِ، لأنها لها صدرُ الكلامِ والهمزةُ هنا للتقريرِ؛ لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على النفي، قَرَّره؛ كقول القائل: [الوافر] 1211 - أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا ... وَأَنْدَى العَالَمِينَ بُطُونَ رَاحِ و {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} [الشرح: 1] ، المعنى: أنتم خيرُ، وقد شرحنا. والثاني: أنها واوُ الحالِ، دخلت عليها ألفُ التقرير، قال ابن عطية؛ وفيه نظرٌ من حيث إنها إذا كانَتْ للحالِ، كانت الجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ، وإذا كانت كذلك، استدعَتْ ناصباً، وليس ثمَّ ناصبٌ في اللفظِ، فلا بُدَّ من تقديره؛ والتقديرُ «أَسأَلْتَ وَلَمْ تُؤْمِنْ» ، فالهمزةُ في الحقيقة، إِنما دخَلَتْ على العامل في الحالِ. وهذا ليس بظاهر، بل الظاهرُ الأَوَّلُ، ولذلك أُجيبت ببلى، وعلى ما قال ابنُ عطية يَعْسُر هذا المعنى. وقوله: {بلى} جوابٌ للجملة المنفيَّة، وإنْ صار معناه الإِثبات اعتباراً باللفظ لا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 365 بالمعنى، وهذا من قسم ما اعتبر فيه جانبُ اللفظِ دون المعنى، نحو: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] وقد تقدَّم تحقيقه واللهُ أَعْلَمُ. قوله: {لِّيَطْمَئِنَّ} اللامُ لامُ كَيْ، فالفعلُ منصوبٌ بعدها، بإضمار «أَنْ» ، وهو مبنيٌّ لاتِّصاله بنون التوكيد واللامُ متعلِّقة بمحذوفٍ بعد «لكنْ» تقديرُه «ولكن سألتُكَ كيفية الإِحياء للاطمئنان، ولا بُدَّ من تقدير حذفٍ آخر، قبل» لكنْ «؛ حتَّى يصحَّ معه الاستدراكُ، والتقديرُ: بلى آمنْتُ، وما سألتُ غير مؤمنٍ، ولكنْ سألتُ ليطمئِنَّ قَلْبي ليحصل الفرقُ بين المعلوم بالبرهان وبين المعلوم عياناً. قال السُّدِّيُّ، وابن جبير: {أَوَلَمْ تُؤْمِن} بأَنَّكَ خليلي {قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} بالخُلَّةِ. والطُّمأنينةُ: السكونُ، وهي مصدرُ» اطمأنَّ «بوزن: اقْشَعَرَّ، وهي على غير قياس المصادر، إذ قياسُ» اطْمَأنَّ «أَن يكون مصدرُه على الاطمئنان. واختلف في» اطْمَأَنَّ «هل هو مقلوبٌ؛ أم لا؟ فمذهب سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه مقلوبٌ من» طَأْمَنَ «، فالفاءُ طاءٌ، والعينُ همزةٌ، واللامُ ميمٌ، فقُدِّمت اللامُ على العينِ فوزنه: افْلَعَلَّ بدليل قولهم: طامنتُه، فتطامَنَ. ومذهبُ الجرمي: أنه غيرُ مقلوب، وكأَنَّه يقول: إِنَّ اطمَأَنَّ وطَأْمَنَ مادَّتانِ مُسْتَقلَّتانِ، وهو ظاهرُ كلام أبي البقاء فإنه قال: والهَمزةُ في» لِيَطْمَئِنَّ «أصلٌ، ووزنه يفعَلِلُّ، ولذلك جاء {فَإِذَا اطمأننتم} [النساء: 103] مثل:» اقْشَعْرَرْتُمْ «. انتهى. فوزنه على الأصل دونَ القلب، وهذا غيرُ بعيدٍ؛ ألا ترى أَنَّهم في» جَبَذَ، وجَذَبَ، قالوا: ليس أحدهما مقلُوباً من الآخر لاستواءِ المادَّتين في الاستعمال. ولترجيح كلٍّ من المذهبين موضعٌ غير هذا. فصلٌ في الداعي على السؤال ذكروا في سبب سؤال إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وجوهاً: أحدها: قال الحسنُ، والضحاكُ، وقتادةُ، وعطاءٌ، وابن جريج: أَنَّهُ رأى جيفةً مطروحةً على شطّ البحر، قال ابن جريج: جيفة حمارٍ، بساحل البحر وقال عطاءٌ: بحيرة طبريَّة؛ فإذا مَدَّ البحر أكل منها دوابُّ البحر، وإذا جزر البحر، جاءت السِّباعُ وأَكلت، وإذا ذهب السابع، جاءت الطيورُ، فأكلت وطارت، فقال إبراهيم: ربِّ أَرِنِي كيف تجمعُ أجزاءَ الحيوانِ من بطون السباع، والطيور، ودوابِّ البحر؟ فقيل: أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ؟ قال: بلى، ولكن المطلُوبُ من السؤال أن يصير العلمُ الاستدلاليُّ ضروريًّا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 366 الثاني: قال محمد بن إسحاق، والقاضي إِنَّ سببهُ أَنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في مناظرته مع النُّمروذ، لما قال: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] قال الملعون {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] فأطلق محبوساً، وقتل رجلاً، فقال إبراهيم ليس هذا بإحياءٍ وإماتة، وإنما الإِحياءُ، أن [الله] يقصد إلى جسد ميِّت فيُحْييه. فقال له نمروذ: أَنتَ عانيته؟ فلم يقدر أن يقول: نعم، فقال له نمروذ: قُل لربّك حتَّى يحيي، وإِلاَّ قتلتك، فسأل اللهَ - تعالى - ذلك. وقوله: {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} يعني: بنجاتي من القتل، أو ليطمئِنَّ قلبي بقوة حُجَّتي، وإذا قيل لي: أنت عانيته؟ فأقول: نعم، وأَنَّ عدولي منها إلى غيرها، ما كان بسبب ضعفِ تلك الحُجَّة، بل بسبب جهل [المستمع] . الثالث: قال ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير، والسديُّ: إِنَّ الله تعالى أوحى إليه إِنِّي متَّخذٌ بشراً خليلاً، فاستعظم إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذلك، وقال: إِلهي، ما علامةُ ذلك؟ فقال تعالى: علامتُه: أَنْ يُحْيي الميِّت بدعائه فلمَّا عظُم مقام إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - في مقام العُبُودية وأداءِ الرسالة خطر بباله إنّي لعلِّي أكون ذلك الخليل فسأل إحياء الميت، فقال الله: أَوَ لَمْ تُؤْمِنُ؟ قال: بَلَى وَلَكِن لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي بأَنِّي خليلٌ لك. الرابع: أنه - عليه السلام - إِنَّما سأل ذلك لقومه؛ لأَنَّ أَتْبَاع الأَنبياءِ كانوا يُطالبونهم بأشياء: تارةً باطلةٌ وتارةً حقة، كقولهم لموسى {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] فسأل إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذلك. والمقصودُ أَنْ يُشاهِدَه قومه فيزول الإنكارُ عنهم. الخامس: قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إِنَّ الأمَّة لا يحتاجون إلى العلم بأَنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - صادق في ادِّعاء الرسالة إلى معجزة تظهر عليه، فكذلك الرسولُ، عن وصول الملك إليه، وإِخباره بأَنَّ اللهَ بعثه رسولاً يحتاج إلى معجزة تظهرُ على يد ذلك الملك؛ ليعلم الرسولُ أَنَّ ذلك الواصل ملكٌ لا شيطانٌ، فلا يبعد أَن يقال: إنه لمَّا جاء الملك إلى إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأخبره بأن اللهَ بعثك رسولاً إلى الخلق طلب المعجزة، فقال {رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} على أَنَّ الآتي ملكٌ كريمٌ لا شيطانٌ رجيمٌ. [قال ابن الخطيب: وعلى قول المتكلمين طلب العلم الضروريِّ، لأَنَّ الاستدلاليَّ مما يتطرقُ إليه الشكوكُ، والشُّبهاتُ، ولعلَّه طالع في الصُّحف المتقدمة أَنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 367 عيسى يُحيي الموْتَى بدعائه، ومعنى {لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} على أَني لستُ أَقَلَّ منزلةً من عيسى، أو أَنَّهُ سارع في الطَّاعة بذبح ولده، كأنه قال أمرتني أن أجعل ذا روح بلا روح، ففعلتُ، فأنا أسألُك أن تجعل غير ذي روح رُوحانيّاً؛ ليطمئن قلبي بإجابتك، أو أَنَّ المعنى أَرِني كيف يكونُ الحشرُ يوم القيامة؟ أَي: ليطمئِنَّ قلبي بهذا التشريف أو يكون قصَّة سماع الكلام، لا نفس الإِحياء] . قال ابن الخطيب: وها هنا سؤالٌ صعبٌ، وهو أنَّ الإنسان حال حصول العلم له إمَّا يكون مجوِّزاً لنقيضه أو لا. فإن جوَّز نقيضه بوجهٍ من الوجوه، فذلك ظنٌّ قويٌّ لا اعتقاد جازم، وإن لم يجوّز نقيضه بوجه من الوجوه، امتنع وقوع التفاوت في المعلوم. وهذا الإشكال إنما يتوجَّه إذا قلنا: المطلوب هو حصول الطمأنينة في اعتقاد قدرة الله تعالى على الإحياء، أمَّا إذا قلنا: المقصود شيءٌ آخرن فالسؤال زائلٌ. روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «نَحْنُ أَوْلَى بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ، إِذْ قال: رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ورحم اللهُ لوطاً، لَقَد كَانَ يَأْوِي إلى ركْن شَدِيدٍ، وَلَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ مَا لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي» وأخرج مسلم بن الحجَّاج هذا الحديث عن حرملة بن يحيى عن ابن وهب مثله. وقال: نَحْنُ أحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ رَبِّ أَرِني كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى «. حكى محمد بن إسحاق بن خزيمة عن أبي إبراهيم بن إسماعيل بن يحيى المزني أنه قال على هذا الحديث: لم يشكَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولا إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّ الله قادرٌ على أن يحيي الموتى، وإنَّما شكَّا أنه: هل يجيبهما إلى ما سألاه؟ وقال أبو سليمان الخطَّابي لي في قوله» نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ إِبْرَاهِيمَ «اعترافٌ بالشكِّ على نفسه، ولا على إبراهيم، ولكن فيه نفي الشَّكِّ عنهما يقول: إذا لم أشُكُّ أنا في قدرة الله، على إحياء الموتى، فإبراهيم أولى ألا يشكَّ، وقال ذلك على سبيل التَّواضع، وهضم النَّفس، فكذلك قوله:» لَوْ لَبِثْتُ في السِّجْنِ طُولَ ما لَبِثَ يُوسُفَ لأَجَبْتُ الدَّاعِي «وفيه إعلامٌ بأنَّ المسألة من إبراهيم لم تعرض من جهة الشك، لكن من قبل زيادة العلم بالعيان؛ فإن العيان يفيد من المعرفة والطمأنينة ما لا يفيده الاستدلال. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 368 وقيل: لما نزلت هذه الآية الكريمة قال قوم: شكَّ إبراهيم، ولم يشك نبيُّنا، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - هذا القول تواضعاً منه؛ وتقديماً لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -. [قال القرطبيُّ: اختلف النَّاس في هذا السؤال: هل صدر من إبراهيم - عليه الصلاة والسَّلام - عن شكٍّ، أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - شاكّاً في إحياء الله الموتى قطُّ، وإنَّما طلب المعاينة؛ وذلك أنَّ النفوس مستشرفة إلى رؤية ما أخبرت به؛ ولهذا قال - عليه السلام -: «لَيْسَ الخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ» رواه ابن عباس قال أبو عمر: لم يروه غيره] . قوله: {مِّنَ الطير} في متعلِّقه قولان: أحدهما: أنه محذوفٌ لوقوع الجارِّ صفةً لأربعة، تقديره: أربعةً كائنةً من الطير. والثاني: أنه متعلقٌ بخذ، أي: خذ من الطير. و «الطير» اسم جمع، كركبٍ وسفر، وقيل: بل هو جمع طائرٍ، نحو: تاجر وتجر، وهذا مذهب أبي الحسن. وقيل: بل هو مخفَّف من «طَيَّر» بتشديد [الياء] ، كقولهم: «هَيْن ومَيْت» في «هَيِّن ومَيِّت. قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ:» هو في الأصل مصدر طارَ يطِير، ثم سمِّي به هذا الجنسُ «. فتحصَّل فيه أربعة أقوال. وجاء جرُّه ب» مِنْ «بعد العدد على أفصح الاستعمال، إذ الأفصح في اسم الجمع في باب العدد أن يفصل بمن كهذه الآية الكريمة، ويجوز الإضافة كقوله تعالى: {تِسْعَةُ رَهْطٍ} [النمل: 48] ؛ وقال ذلك القائل: [الوافر] 1212 - ثَلاثَةَ أَنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ ... لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 369 وزعم بعضهم: إن إضافته نادرةٌ، لا يقاس عليها، وبعضهم: أنَّ اسم الجمع لما يعقل مؤنث، وكلا الزعمين ليس بصوابٍ؛ لما تقدَّم من الآية الكريمة، واسم الجمع لما لا يعقل يذكَّر، ويؤنَّث؛ وهنا جاء مذكراً لثبوت التاء في عدده. قوله: {فَصُرْهُنَّ} قرأ حمزة، والكسائي: بكسر الصَّاد، والباقون: بضمِّها، وتخفيف الراء. واختلف في ذلك، فقيل: القراءتان يحتمل أن تكونا بمعنًى واحدٍ، وذلك أنه يقال: صاره يصوره ويَصِيرُهُ، بمعنى قطعه، أو أماله، فاللغتان لفظٌ مشتركٌ بين هذين المعنيين، والقراءتان تحتملهما معاً، وهذا مذهب أبي عليّ. وقال الفراء:» الضمُّ مشتركٌ بين المعنيين، وأمَّا الكسر: فمعناه القطع فقط «. وقال غيره:» الكَسْرُ بمعنى القطع، والضمُّ بمعنى الإمالة «. يقال رجل أصور، أي: مائلُ العنق، ويقال: صار فلان إلى كذا، إذا قال به، ومال إليه، وعلى هذا يصير في الكلام محذوفٌ، كأنه قيل أملهنَّ إليك، وقطِّعهنَّ. وقال ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد: صرهنَّ بالضم: بمعنى قطِّعهنَّ، يقال صار الشَّيء يصوره صوراً، إذا قطعه، قال رؤبة يصف خصماً ألد: [الرجز] 1213 - صُرْنَاهُ بِالحُكْمِ وَيَبْغِي الحَكَمَا ... أي: قطعناهُ، وعلى هذا القول لا يحتاج إلى الإضمار، وقال عطاء: معناه اجمعهنَّ، واضممهنَّ إليك، يقال: صار يصور صوراً، إذا اجتمع، ومنه قيل لجماعة النَّحل: صورٌ. فصل في لفظ «الصِّرِّ» في القرآن قال أبو العبَّاس المقرئ: ورد لفظ الصِّرِّ في القرآن على ثلاثة أوجهٍ: الأول: بمعنى القطع؛ كهذه الآية، أي: قطِّعهنَّ إليك صوراً. الثاني: بمعنى الريح الباردة، قال تعالى: {رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ} [آل عمران: 117] أي: بردٌ. الثالث: يعني الإقامة على الشيء؛ قال تعالى {وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ} [آل عمران: 135] ، أي: لم يقيموا، ومثله: {وَكَانُواْ يُصِرُّونَ عَلَى الحنث العظيم} [الواقعة: 46] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 370 ونقل عن الفرَّاء أيضاً: أنه قال: «صَارَه» مقلوبٌ من قولهم: «صَرَاهُ عَنْ كَذَا» ، أي: قطعه عنه، ويقال: صُرْتُ الشيء، فانصار، أي: انقطع؛ قالت الخنساء: [البسيط] 1214 - فَلَوْ يُلاَقِي الَّذي لاَقَيْتُهُ حَضِنٌ ... لَظَلَّتِ الشُّمُّ مِنْهُ وَهْيَ تَنْصَارُ أي: تنقطع. قال المبرد: وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ كلَّ واحد من اللفظين أصل بنفسه فرع على الآخر. واختلف في هذه اللفظة: هل هي عربيةٌ، أو معرَّبة؟ فعن ابن عباس: أنها معرَّبة من النَّبطية، وعن أبي الأسود، أنَّها من السُّريانية، والجمهور على أنها عربيةٌ، لا معرَّبةٌ. و «إِلَيْكَ» إن قلنا: إِنَّ «صُرْهُنَّ» بمعنى أملهنَّ: تعلَّق به، وإن قلنا: إنه بمعنى: قطِّعهنَّ، تعلَّق ب «خُذْ» . ولمَّا فسَّر أبو البقاء «فَصُرْهُنَّ» بمعنى: أَمْلْهُنَّ «قدَّر محذوفاً بعده تقديره: فأملهنَّ إليك، ثم قطِّعهنَّ، ولمَّا فسَّره بقطِّعهن - كما تقدم - قدَّر محذوفاً يتعلَّق به» إِلَى «تقديره: قطِّعهنَّ بعد أن تميلهنَّ إليك. ثم قال:» والأجودُ عندي أن يكون «إليك» حالاً من المفعول المضمر تقديره: فقطِّعهنَّ مقرَّبةً إليك، أو ممالةً، أو نحو ذلك «. وقرأ ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -:» فَصُرْهُنَّ «بتشديد الراء، مع ضم الصاد وكسرها، مِنْ: صرَّه يَصُرّه، إذا جمعه؛ إلاَّ أنَّ مجيء المضعَّف المتعدِّي على يفعل - بكسر العين في المضارع - قليلٌ. ونقل أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى عمَّن شدَّد الراء: أنَّ منهم من يضمُّها، ومنهم من يفتحها، ومنهم من يكسرها، مثل:» مُدَّهُنَّ «فالضمُّ على الإتباع، والفتح للتخفيف، والكسر على أصل التقاء الساكنين. قال القرطبي: قرئ» صَرِّهِنَّ «بفتح الصاد، وتشديد الراء مكسورة؛ حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة؛ بمعنى فاحبسهنَّ، من قولهم:» صرَّى يُصَرِّي «: إذا حبس، ومنه الشاة المصرَّاة، قال القرطبي: وها هنا اعتراضٌ ذكره الماوردي، وهو أن يقال: كيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى - عليه السلام - في قوله: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} [الأعراف: 143] ؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 371 فعنه جوابان: أحدهما: أن ما سأله موسى لا يصحُّ مع بقاء التكليف، وما سأله إبراهيم خاصٌّ يصحُّ معه بقاء التكليف. الثاني: أن الأحوال تختلف، فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفي قوتٍ آخر المنع، فيما لا يتقدَّم فيه إذنٌ. قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أمر الله تعالى إبراهيم بهذا، قبل أن يولد، وقبل أن ينزل عليه الصُّحف. فصل في الطير المأخوذة قال مجاهدٌ، وعطاءٌ، وابن جريج: أخذ طاووساً، وديكاً، وحمامةً، وغراباً. ونقل عن ابن عباس: ونسراً بدل الحمامة. وقال عطاء الخراساني: بطَّة خضراء، وغراباً أسود، وحمامةً بيضاء، وديكاً أحمر «فَصُرْهُنَّ» أي: قطِّعهنَّ، ومزقهن، وقيل أملهُنَّ على ما تقدَّم. فصل في الحكمة في نوع الطير وعدده وها هنا سؤالات: الأول: ما الحكمة في كونه أمره بأخذ أربعةٍ من الطير، ولم يأمره بأكثر، ولا بأقل؟ { الثاني: ما الحكمة في كونها من الطير، دون غيرها من الحيوان؟} الثالث: هل كان من حيوان البحر، ثم الوحش، والطير وبهم الأنعام؟ الرابع: هل كان الأربعة كلُّ واحدٍ مخلوقٌ من غالب عنصرٍ من العناصر الأربعة، كالطير، مخلوق من غالب عنصر الهواء، والسمك مخلوق من غالب عنصر الماء، وحيوان البرّ مخلوقٌ من غالب عنصر التراب، وسراج البحر، والدرّاج التي هي تطيرُ بالليل كلُّها نارٌ، والسَّمندل الذي يعيش في النار فإنهم مخلوقون من غالب عنصر النار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 372 فإن قيل: ما الفائدة في أمره بضمِّها إلى نفسه بعد أخذها؟ فالجواب: فائدته أن يتأمل فيها، ويعرف أشكالها، وهيئاتها؛ لئلا تلتبس عليه بعد الإحياء، ولا يتوهَّم أنَّها غير تلك، وأجمع المفسِّرون على أن المراد من الآية الكريمة قطعهن، وأنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - قطع أعضاءها، ولحومها، وريشها، ودماءها، وخطل بعضها ببعضٍ؛ غير أبي مسلم؛ فإنه أنكر ذلك، وقال: إنَّ إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما طلب إحياء الميت من الله تعالى، أراه مثالاً قرب به الأمر عليه. والمراد ب {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} الإمالةُ والتمرين على الإجابة، وتعلمها، أي: فعوَّد الطير الأربعة، بحيث تصير إذا دعوتها، أجابتك. والغرض منه ذكر مثالٍ محسوسٍ في عود الأرواح إلى الأجساد على سبيل السهولة وأنكر القول بأن المراد منه: فقطعهن. واحتجَّ على ذلك بوجوهٍ: أحدها: أنَّ المشهور في قوله: «فَصُرْهُنَّ» أي: أملهنَّ، وأمَّا التقطيع والذبح، فليس في الآية ما يدل عليه، فكان إدراجه في الآية الكريمة زيادة بغير دليل، وهو لا يجوز. وثانيها: لو كان المراد قطِّعهنَّ، لم يقل إليك؛ فإنَّ ذلك لا يتعدى بإلى. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال في الكلام تقديمٌ، وتأخيرٌ، تقديره: فخذ إليك أربعةً من الطير، فصرهن؟ قلنا: التزام التقديم والتَّأخير من غير ضرورة خلاف الظاهر. وثالثها: أن الضمير في قوله: {ثُمَّ ادعهن} عائدٌ إليها لا إلى أجزائها، وإذا كانت الأجزاء متفرقةً، وكان الموضوع على كلِّ جبلٍ بعض تلك الأجزاء يلزم أن يكون الضمير عائداً إلى تلك الأجزاء لا إليها، وهو خلاف الظاهر، وأيضاً في قوله: {يَأْتِينَكَ سَعْياً} عائد إليها، لا إلى أجزائها، وعلى قولكم إذا سعى بعض الأجزاء إلى بعض، كان الضمير في «يَأْتِينَكَ» عائداً إلى أجزائها لا إليها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 373 واحتجَّ الجمهور بوجوهٍ: الأول: أنَّ المفسِّرين قبل أبي مسلم أجمعوا على أنه ذبح تلك الطيور، وقطَّعها أجزاءً، فيكون إنكار ذلك إنكاراً للإجماع. الثاني: أنَّ ما ذكره غير مختصٍّ بإبراهيم؛ فلا يكون له فيه مزية على الغير. الثالث: أن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - إنما أراد أن يريه الله كيف يحيي الموتى، وظاهر الآية، يدلُّ على أنه أجيب إلى ذلك، وعلى قول أبي مسلمٍ لم تحصل الإجابة في الحقيقة. الرابع: أنَّ قوله {ثُمَّ اجعل على كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا} يدلُّ على أنَّ تلك الطيور جعلت أجزاءً. قال أبو مسلم في الجواب عن هذا الوجه: إنَّه أضاف الجزء إلى الأربعة، فيجب أن يكون المراد بالجزء، هو الواحد من تلك الأربعة. وأُجيب بأنَّ ما ذكرتم، وإن كان محتملاً إلاَّ أنَّ ما ذكرناه أظهر، والتقدير: فاجعل على كل جبلٍ من كلِّ واحدٍ منهن جزءاً أو بعضاً. قوله: {ثُمَّ اجعل} «جَعَلَ» يحتمل أن يكون بمعنى الإلقاء، فيتعدَّى لواحدٍ، وهو «جُزْءاً» ، فعلى هذا يتعلَّق «عَلَى كُلِّ» و «مِنْهُنَّ» ب «اجعل» ، وأن يكون بمعنى «صَيَّر» ، فيتعدَّى لاثنين، فيكون «جُزءاً» الأول، و «عَلَى كُلِّ» هو الثاني، فيتعلَّق بمحذوفٍ. و «منهنَّ» يجوز أن يتعلَّق على هذا بمحذوفً على أنَّه حالٌ من «جُزْءاً» ، لأنه في الأصل صفة نكرة، فلمَّا قُدِّم عليها، نصب حالاً. وأجاز أبو البقاء أن يكون مفعولاً ل «اجْعَلْ» يعني: إذا كانت «اجْعَلْ» بمعنى «صَيَّر» ، فيكون «جُزْءاً» مفعولاً أول، و «منهنَّ» مفعولاً ثانياً قدِّم على الأول، ويتعلَّق حينئذٍ بمحذوف. [ولا بد من حذف صفةٍ مخصِّصة بعد] قوله: «كُلِّ جَبَلٍ» تقديره: «عَلَى كُلِّ جبلٍ بحضرتك، أو يليك» حتى يصحَّ المعنى. وقرأ الجمهور: «جُزْءاً» بسكون الزاي والهمز، وأبو بكر ضمَّ الزاي، وأبو جعفر شدَّد الزاي، من غير همزٍ؛ ووجهها: أنَّه لمَّا حذف الهمزة، وقف على الزاي، ثم ضعَّفها، كما قالوا: «هذا فَرَجّ» ، ثم أُجري الوصل مجرى الوقف. وقد تقدم تقرير ذلك عند قوله: {هُزُواً} [البقرة: 67] . وفيه لغةٌ أخرى وهي: كسر الجيم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 374 قال أبو البقاء: «وَلاَ أَعْلَمُ أَحَداً قرأ بها» . والجزء: القطعة من الشيء، وأصل المادَّة يدلُّ على القطع، والتفرق، ومنه: التجزئة والأجزاء. فصل في المعنيِّ بالجبل في الآية ظاهر قوله: {على كُلِّ جَبَلٍ} جميع جبال الدنيا، فذهب مجاهد، والضحاك إلى العموم بحسب الإمكان، كأنه قيل: فرقها على كلِّ جبلٍ يمكنك التفرقة عليه. وقال ابن عبَّاس، والحسن، وقتادة، والربيع: أُمر أن يجعل كلَّ طائرٍ أربعة أجزاءٍ، ويجعلها على أربعة أجبلٍ، على كل جبلٍ ربعاً من كل طائرٍ. وقيل: على حسب الجهات الأربع: أعني المشرق، والمغرب، والشمال، والجنوب. وقال السديُّ، وابن جريج: سبعةٌ من الجبال؛ لأنَّ المراد على كل جبل يشاهده إبراهيم حتى يصح منه دعاء الطائر، وكانت الجبال التي يشاهدها - عليه الصَّلاة والسَّلام - سبعةٌ. قوله: {يَأْتِينَكَ} جواب الأمر، فهو في محلِّ جزمٍ، ولكنه بُني لاتصاله بنون الإناث. قوله: {سَعْياً} فيه أوجه: أحدها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال من ضمير الطير، أي: يَأتينك ساعياتٍ، أو ذوات سعي. والثاني: أن يكون حالاً من المخاطب، ونقل عن الخليل ما يقوِّي هذا، فإنه روي عنه: «أن المعنى: يأتينك وأنت تسعى سعياً» فعلى هذا يكون «سعياً» منصوباً على المصدر، وذلك الناصب لهذا المصدر في محلِّ نصب على الحال من الكاف في «يَأْتِينَكَ» . قال شهاب الدين: والذي حمل الخليل - رَحِمَهُ اللَّهُ - على هذا التقدير؛ أنه لا يقال عنده: «سَعَى الطائرُ» فلذلك جعل السَّعي من صفات الخليل - عليه السلام - لا من صفة الطيور. الثالث: أن يكون «سَعْياً» منصوباً على نوع المصدر؛ لأنه نوعٌ من الإتيان، إذ هو إتيانٌ بسرعةٍ، فكأنه قيل: يأتينك إتياناً سريعاً. وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكون مصدراً مؤكِّداً؛ لأنَّ السعي، والإتيان يتقاربان» ، وهذا فيه نظرٌ؛ لأن المصدر المؤكِّد لا يزيد على معنى عامله، إلاَّ أنه تساهل في العبارة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 375 فصل في معنى «سَعْياً» قيل: معنى «سَعْياً» عدواً ومشياً على أرجلهنَّ؛ لأن ذلك أبلغ في الحجة. وقيل: «طَيَراناً» . ولا يصحُّ؛ لأنه لا يقال للطائر إذا طار: سعى، ومنهم من أجاب عنه: بأن «السَّعْي» هو الاشتداد في الحركة، فإن كانت الحركة طيراناً، فالسَّعيُ فيها هو الاشتداد في تلك الحركة. روي أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذبحها، ونتف ريشها، وقطَّعها أجزاءً، وخلط لحمها، وريشها، ودمها، ووضع على كلِّ جبلٍ جزءاً من ذلك المجموع، وأمسك رؤوسهن، ثم دعاهنَّ فقال: تَعَالَيْن بإذن الله تعالى، فجعلت كلُّ قطرةٍ من دم طائرٍ تطير إلى القطرة الأخرى، وكل عظم يصير إلى الآخر من جثَّته، وكل بضعةٍ تصير إلى الأخرى، وإبراهيم - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - ينظر؛ حتى لقيت كل جثَّة بعضها بعضاً في الهواء بغير رأسٍ، ثم أقبلن إلى رؤوسهنَّ سعياً: كلّث جثَّةٍ إلى رأسها، فانضمَّ كلَّ رأسٍ إلى جثَّته، وصار الكلُّ أحياءً بإذن الله. {واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ} غالبٌ على جميع الممكنات {حَكِيمٌ} عالمٌ بعواقب الأمور، وغاياتها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 لمَّا بين تعالى أصل العلم بالمبدأ، والمعاد، وبيَّن دلائل صحَّتها، أتبع ذلك ببيان الشرائع، والأحكام، فبدأ ببيان التكليف، بالإنفاق. قال القاضي في كيفية النَّظم: إنه تعالى لمَّا أجمل قوله تعالى {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] فصل بهذه الآية الكريمة تلك الأضعاف، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلَّة على قدرته بالإحياء والإماتة، من حيث: لولا ذلك لم يحسن التكليف بالإنفاق، لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب، لكان الإنفاق، وسائر الطاعات عبثاً فكأنه تعالى قال لمن رغبه في الإنفاق: قد عرفت أنِّي خلقتك، وأكملت نعمتي عليك، بالإحياء، والإقدار، وقد علمت قدرتي على المجازاة، فليكن علمك بهذه الأحوال داعياً إلى إنفاق المال؛ فإنه يجازي القليل بالكثير، ثمَّ ضرب لذلك الكثير مثلاً. وقال الأصم: إنه تعالى ضرب هذا المثل بعد أن احتجّ على الكلِّ بما يوجب تصديق النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ ليرغبوا بالمجاهدة بالنفس، والمال، في نصرته، وإعلاء شريعته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 376 وقيل: لما بيَّن تعالى أنَّه وليُّ المؤمنين، وأن الكفَّار أولياؤهم الطاغوت، بيَّن مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله، وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت. فصل في سبب نزول الآية [روي أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفَّان، وعبد الرحمن بن عوف]- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ «وذلك أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لما حثَّ الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة» تَبُوك «، جاءه عبد الرحمن بأربعة آلاف درهم، فقال: يا رسول الله، كان عندي ثمانية آلافٍ، فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلافٍ، وأربعة آلافٍ أقرضتها لربِّي، فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ وَفِيمَا أَعْطَيْتَ «وقال عثمان: يا رسول الله، عليَّ جهاز من لا جهاز له؛ فنزلت هذه فيهما. وروى البستي عن ابن عمر، قال:» لما نزلت هذه الآية قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «رَبِّ، زِدْ أُمَّتِي» ؛ فنزلت: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رَبِّ، زِدْ أُمَّتِي» ، فنزلت {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] . قوله «مَثَلُ» مبتدأُ، و «كَمَثَلِ حَبَّةٍ» خبره. ولا بدَّ من حذفٍ، حتى يصحَّ التشبيه؛ لأنَّ الذين ينفقون لا يشبَّهون بنفس الحبة. واختلف في المحذوف، فقيل: من الأول، تقديره: ومثل منفق الذين، أو نفقة الذين. وقيل: من الثاني، تقديره: ومثل الذين ينفقون كزارع حبةٍ؛ أو من الأول، والثاني باختلاف التقدير، أي: مثل الذين ينفقون، ونفقتهم كمثل حبَّةٍ وزارعها. وهذه الأوجه قد تقدَّم تقريرها محررةً عند قوله تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ} [البقرة: 171] . والقول بزيادة الكاف، أو «مِثْلَ» بعيدٌ جدّاً، فلا يلتفت إليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 377 والحبَّة: واحدة الحبِّ، وهو ما يزرع للاقتيات، وأكثر إطلاقه على البر، قال المتلمِّس: [البسيط] 1215 - آلَيْتُ حَبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُهُ ... وَالحَبُّ يَأْكُلُهُ فِي الْقَرْيَةِ السُّوسُ و «الحِبَّة» بالكسر: بذور البقل ممَّا لا يقتات به، و «الحُبَّة» بالضَّمِّ: الحُبُّ. والحُبُّ: المحبة، وكذلك «الحِبّ» بالكسر، والحِبُّ أيضاً: الحبيب، وحبة القلب سويداؤه، ويقال ثمرته، وهو ذاك. قوله: {أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ} أي: أخرجت وهذه الجملة في محلِّ جرٍّ؛ لأنها صفةٌ لحبة، كأن قيل: كمثل حبَّةٍ منبتةٍ. وأدغم تاء التأنيث في سين «سَبْع» أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، وهشامٌ. وأظهر الباقون، والتاء تقارب السين، ولذلك أُبدلت منها؛ قالوا: ناسٌ، وناتُ، وأكياسٌ، وأكياتٌ؛ قال: [الرجز] 1216 - عَمْرو بْنَ يَرْبُوعٍ شِرَارَ النَّاتِ ... لَيْسُوا بَأَجْيَادٍ وَلاَ أَكْيَاتِ أي: شرار الناس، ولا أكياسِ. وجاء التَّمييز هنا على مثال مفاعل، وفي سورة يوسف مجموعاً بالألف والتَّاء، فقال الزمخشريُّ: «فإنْ قلتَ: هلاَّ قيل:» سَبْعَ سُنْبُلاَتٍ «على حقِّه من التمييز بجمع القلَّة، كما قال: {وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ} [يوسف: 43 و46] . قلت: هذا لما قدَّمت عند قوله: {ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة: 228] من وقوع أمثلة الجمع [متعاورةً] مواقعها» . يعني: أنه من باب الاتساع، ووقوع أحد الجمعين موقع الآخر، وهذا الذي قاله ليس بمخلِّص، [ولا محَصِّلٍ] ، فلا بدَّ من ذكر قاعدةٍ مفيدة في ذلك: قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: اعلم أن جمعي السَّلامة لا يميَّز بهما عددٌ إلا في موضعين: أحدهما: ألا يكون لذلك المفرد جمعٌ سواه، نحو: سبع سموات، وسبع بقرات، وسبع سنبلات، وتسع آيات، وخمس صلوات، لأنَّ هذه الأشياء لم تجمع إلا جمع السلامة، فأمَّا قوله: [الطويل] 1217 - ... ... ... ... ... ... ... . ..... ... ... ... ... الجزء: 4 ¦ الصفحة: 378 فَوْقَ سَبْعِ سَمَائِيَا فشاذٌ، منصوصٌ على قلَّته، فلا يلتفت إليه. والثاني: أن يعدل إليه لمجاوزة غيره، كقوله: {وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ} [يوسف: 43 و46] عدل من «سَنَابِلَ» إِلى «سُنْبُلاَتٍ» ؛ لأجل مجاورته «سَبْعَ بَقَرات» ، ولذلك إذا لم توجد المجاورة، ميِّز بجمع التكسير دون جمع السلامة، وإن كان موجوداً نحو: «سَبْعَ طَرَائِق، وسَبْعِ لَيَالٍ» مع جواز: طريقات، وليلات. والحاصل أنَّ الاسم إذا كان له جمعان: جمع تصحيح، وجمع تكسيرٍ، فالتكسير إمَّا للقلة، أو للكثرة، فإن كان للكثرة: فإمَّا من باب مفاعل، أو من غيره، فإن كان من باب مفاعل، أُوثر على التصحيح، تقول: ثلاثة أحَامِدَ، وثَلاَثُ زَيَانِبَ، ويجوز قليلاً: أَحْمَدِينَ وَزَيْنَبَات. وإن كان من غير باب مفاعل: فإمَّا أن يكثر فيه من غير التصحيح، وغير جمع الكثرة، أو يقلَّ. فإن كان الأول: فلا يجوز التصحيح، ولا جمع الكثرة إلا قليلاً؛ نحو: ثَلاثَةُ زُيُودٍ، وَثَلاثُ هُنُودٍ، وثَلاَثَةُ أَفْلُسٍ، ولا يجوز: ثلاثةُ زيْدِينَ، ولا ثَلاَثُ هِنْدَات، ولا ثَلاَثةُ فُلُوسٍ، إلاَّ قليلاً. وإن كان الثاني: أُوثر التصحيح وجمع الكثرة، نحو: ثلاثُ سُعَادَات، وثلاثة شُسُوع، وعلى قلّة يجوز: ثَلاثُ سَعَائد، وثلاثةُ أشْسُع. فإذا تقرَّر هذا، فقوله: «سَبْعَ سَنَابِلَ» جاء على المختار، وأمَّا قوله «سَبْعِ سُنْبُلاَتٍ» ؛ فلأجل المجاورة كما تقدَّم. وقيل: لمَّا كان الكلام - ها هنا - في تضعيف الأجر، ناسبها جمع الكثرة، وفي سورة يوسف ذكرت في سياق الكلام في سني الجدب؛ فناسبها التقليل؛ فجمعت جمع القلة. والسُّنْبُلَةُ فيها قولان: أحدهما: أنَّ نونها أصليةٌ؛ لقولهم: «سَنْبَلَ الزرعُ» أي: أخرج سنبله. والثاني: أنها زائدةٌ، وهذا هو المشهور؛ لقولهم: «أَسْبَلَ الزرعُ» ، فوزنها على الأول: فُعلُلَةٌ، وعلى الثاني: فُنْعُلَة، فعلى ما ثبت من حكاية اللُّغتين: سَنْبَلَ الزرعُ، وأسْبَلَ تكون من باب سَبِط وسِبَطْر. قال القرطبي: من أسْبَلَ الزرعُ: إذا صار فيه السُّنبل، كما يسترسل الستر بالإسبال وقيل: معناه: صار فيه حبٌّ مستورٌ، كما يستر الشيء بإسبال السَّتر عليه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 379 قوله: {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ} هذا الجارُّ في محلِّ جر؛ صفةً لسنابل، أو نصبٍ؛ صفةً لسبع، نحو: رأيت سبع إماءٍ أحرارٍ، وأحراراً، وعلى كلا التقديرين فيتعلَّق بمحذوفٍ. وفي رفع «مئة» وجهان: أحدهما: بالفاعلية بالجارِّ؛ لأنه قد اعتمد إذ قد وقع صفةً. والثاني: أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره، والجملة صفةٌ، إمَّا في محلِّ جرٍّ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم، إلاَّ أنَّ الوجه [الأول] أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات، دون الجمل. ولا بدَّ من تقدير حذف ضميرٍ، أي: في كلِّ سنبلة منها، أي: من السنابل. والجمهور على رفع: «مِئَة» على ما تقدَّم، وقرئ: بنصبها. وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين: أحدهما: بإضمار فعلٍ، أي: أَنْبَتَتْ، أو أَخْرَجَتْ. والثاني: أنها مبتدأٌ والجارُّ قبله خبره، والجملة صفةٌ، إمَّا في محلِّ جرٍّ، أو نصبٍ على حسب ما تقدَّم، إلاَّ أنَّ الوجه [الأول] أولى؛ لأنَّ الأصل الوصف بالمفردات، دون الجمل. ولا بدَّ من تقدير حذف ضميرٍ، أي: في كلِّ سنبلة منها، أي: من السنابل. والجمهور على رفع: «مِئَة» على ما تقدَّم، وقرئ: بنصبها. وجوَّز أبو البقاء في نصبها وجهين: أحدهما: بإضمار فعلٍ، أي: أَنْبَتَتْ، أو أَخْرَجَتْ. والثاني: أنها بدلٌ من «سَبْعِ» ، وردَّ بأنَّه لا يخلو: إمَّا أن يكون بدل [كلِّ] من كلٍّ، أو بدل بعضٍ من كلٍّ، أو بدل اشتمالٍ. فالأول: لا يصحُّ؛ لأنَّ المائة ليست كلَّ السبع سنابل. والثاني: لا يصحُّ - أيضاً؛ لعدم الضمير الراجع على المبدل منه، ولو سلِّم عدم اشتراط الضمير، فالمئة ليست بعض السبع؛ لأنَّ المظروف ليس بعضاً للظرف، والسنبلة ظرفٌ للحبة، ألا ترى قوله: {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} فجعل السُّنْبُلَة وعاءٌ للحَبِّ. والثالث - أيضاً - لا يصحُّ؛ لعدم الضَّمير، وإن سُلِّم، فالمشتمل على «مِئَةِ حَبَّةٍ» هو سنبلة من سبع سنابل، إلا أن يقال إنَّ المشتمل على المشتمل على الشيء، هو مشتملٌ على ذلك الشيء، فالسنبلة مشتملةٌ على مائة والسنبلة مشتمل عليها سبع سنابل، فلزم أنَّ السبع مشتملةٌ على «مائة حبة» . وأسهل من هذا كلِّه أن يكون ثمَّ مضافٌ محذوفٌ، أي: حبَّ سَبْع سَنَابِلَ، فعلى هذا يكون «مِئَةُ حَبَّةٍ» بدل بعضٍ من كل. فصل في المقصود بسبيل الله معنى {يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله} يعني: دينه، قيل: أراد النفقة في الجهاد خاصَّةً، وقيل: جمع أبواب الخير من الواجب والنَّفل. قال القرطبيُّ: شبَّه المتصدِّق بالزَّارع، وشبَّه البذر بالصدقة، فيعطيه بكل صدقةٍ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 380 له سبعمائة حسنة، ثمَّ قال {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} يعني على سبعمائة، فيكون مثل المتصدق مثل الزَّارع، إن كان حاذقاً في عمله فيكون البذر جيّداً، وتكون الأرض عامرةً يكون الزرع أكثر، فكذلك المتصدق إذا كان صالحاً، والمال طيِّباً، ويضعه موضعه، فيصير الثواب أكثر. فإن قيل: لم نر سُنبُلَةً فيها مائة حبَّةٍ، فكيف ضرب المثل بها؟ فالجواب: قال القفَّال: المقصود أنه لو علم طالب الزيادة والرِّبح أنَّه إذا بذر حبَّةً واحدةً، أخرجت له سبعمائة حبةٍ ما كان ينبغي له ترك ذلك، فكذلك ينبغي لطالب الآخرة والأجر عند الله ألاَّ يتركه إذا علم أنه يحصل له على الواحدة عشرة ومائة وسبعمائة، وإذا كان المراد منه هذا المعنى فسواء وجدت هذه السنبلة، أو لم توجد، فإنَّ المعنى حاصل مستقيم. وقيل: وجد ذلك في الدُّخن. {والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} . قيل: معناه يضاعف هذه المضاعفة لمن يشاء. وقيل يضاعف على هذا، ويزيد لمن يشاء، ما بين سبع إلى سبعين، إلى سبعمائة، إلى ما شاء الله من الأضعاف، مما لا يعلمه إلا الله تعالى. {والله وَاسِعٌ} أي: القدرة على سبيل المجازاة على الجود، والإفضال عليهم بنية من ينفق ماله. فصل في الاستدلال بالآية على فضل الزراعة قال القرطبيُّ: دلَّت هذه الآية على أنَّ حرفة الزَّرع من أعلى الحرف، التي يتخذها الناس، والمكاسب التي يشتغل بها العمَّال، ولذلك ضرب الله به المثل وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَغْرِسُ غَرْساً، أو يَزْرَعُ زَرْعاً فَتأَكْلُ مِنْهُ الطَّيْرُ، أو إِنْسَانٌ، أوْ بَهِيمَةٌ، إِلاَّ كَانَ لَهُ صَدَقَة» رواه مسلم. وروى الترمذي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالت -: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «الْتَمِسُوا الرِّزْقَ في خَبَايَا الأَرْضِ» ، يعني: الزَّرع، والزِّراعة من فروض الكفايات، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 381 يجب على الإمام أن يجبر النَّاس عليها، وما كان في معناها من غرس الأشجار. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 {الذين يُنْفِقُونَ} فيه وجهان: أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداء، وخبره الجملة من قوله تعالى: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ} ، ولم يضمَّن المبتدأ هنا معنى الشَّرط، فلذلك لم تدخل الفاء في خبره، لأنَّ القصد بهذه الجملة تفسير الجملة التي قبلها؛ لأنَّ الجملة قبلها أخرجت مخرج الشَّيء الثَّابت المفروغ منه، وهو تشبيه نفقتهم بالحبَّة المذكورة، فجاءت هذه الجملة كذلك، والخبر فيها أُخرج مخرج الثَّابت المستقرِّ غير المحتاج إلى تعليق استحقاق بوقوع [غيره] ما قبله. والثاني: أنَّ {الذين} خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: هم الذين ينفقون، وفي قوله: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ} على هذا وجهان: أحدهما: أنَّها في محل نصبٍ على الحال. والثاني: - وهو الأولى - أن تكون مستأنفةٌ، لا محلَّ لها من الإعراب، كأنها جواب سائل قال: هل لهم أجرٌ؟ وعطف ب «ثمّ» جَرْياً على الأغلب؛ لأنَّ المتصدِّق لغير وجه الله لا يحصل منه المنُّ عقيب صدقته، ولا يؤذي على الفور، فجرى هذا على الغالب، وإن كان حكم المنِّ والأذى الواقعين عقيب الصّدقة كذلك. قال الزَّمخشريُّ: ومعنى «ثُمَّ» : إظهار التَّفاوت بين الإنفاق، وترك المنِّ والأذى، وأنَّ تركهما خبرٌ من نفس الإنفاق كما جعل الاستقامة على الإيمان خيراً من الدُّخول فيه بقوله: {ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30] ، فجعلها للتَّراخي في الرُّتبة، لا في الزَّمان، وقد تكرَّر له ذلك غير مرَّةٍ. و «مَا» في قوله تعالى: {مَآ أَنْفَقُواُ} يجوز أن تكون موصولةً اسميّةً، فالعائد محذوفٌ، أي: ما أنفقوه، وأن تكون مصدريةً، فلا تحتاج إلى عائدٍ، أي: لا يتبعون إنفاقهم. ولا بدَّ من حذفٍ بعد «مَناً» ، أي: مناً على المنفق عليه، ولا أذى له، فحذف للدّلالة عليه. والمنُّ: الاعتداد بالإحسان، وهو في الأصل: القطع، ولذلك يطلق على النِّعمة؛ لأنَّ المنعم يقطع من ماله قطعةً للمنعم عليه. يقال: قد منَّ الله على فلان، إذا أنعم عليه، ولفلان عليَّ منَّةٌ، أي: نعمة؛ وأنشد ابن الأنباريّ: [الطويل] 1218 - فَمُنِّي عَلَيْنَا بالسَّلاَمِ فَإِنَّمَا ... كَلاَمُكِ يَاقُوتٌ وَدُرٌّ مُنَظَّمٌ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 382 ومنه قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «ما مِنْ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَمَنَّ عَلَيْنَا في صُحْبَتِهِ، وَلاَ ذَات يَدِهِ مِنْ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ» يريد أكثر إنعاماً بماله، وأيضاً فالله تعالى يوصف بأنَّه منَّانٌ، أي: منعمٌ، و «المنّ» أيضاً النَّقص من الحقّ. قال تبارك وتعالى: {وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3] أي: غير مقطوع وغير ممنوع؛ ومنه سمي الموت منوناص؛ لأنه ينقص الحياة، ويقطعها، ومن هذا الباب: المنَّةُ المذمومة؛ لأنَّها تنقص النّعمة، وتكدّرها، والعرب يمتدحون بترك المنّ بالنِّعمة قال قائلهم: [الرمل] 1219 - زَادَ مَعْرُوفُكَ عِنْدِي عِظَماً ... أَنَّهُ عِنْدَكَ مَسْتُورٌ حَقِيرْ تَتَنَاسَاهُ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ ... وَهْوَ في العَالَمِ مَشْهُودٌ كَثِيرْ والمنُّ: الذي يوزن به، ويقال في هذا: «مَنَا» مثل: عَصَا. وتقدَّم اشتقاق الأذى. و «مَنّاً» مفعولٌ ثانٍ، و «لاَ أَذًى عطفٌ عليه، وأبعد من جعل» وَلاَ أَذًى «مستأنفاً، فجعله من صفات المتصدِّق، كأنَّ قال: الذين ينفقون، ولا يتأذَّون بالإِنفاق، فيكون» أَذى «اسم لا، وخبرها محذوفٌ، أي: ولا أذًى حاصل لهم، فهي جملةٌ منفيةٌ في معنى النَّهي. قال شهاب الدِّين: وهذا تكلُّفٌ، وحقُّ هذا القائل أن يقرأ» وَلاَ أَذَى «بالألف غير منوَّنٍ؛ لأنَّه مبنيٌّ على الفتح على مشهور مذهب النُّحاة. فصل في سبب النزول قال الكلبيُّ: نزلت في عثمان بن عفَّان، وعبد الرَّحمن بن عوف. أمَّا عثمان فجهّز جيش العسرة في غزوة» تبوك «، بألف بعيرٍ بأقتابها، وأحلاسها، وألف دينارٍ. » قال عبد الرَّحمن بن سمرة: جاء عثمان بألف دينارٍ في جيش العسرة، فصبّها في حجر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فرأيت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يدخل فيها يده الكريمة ويقلبها، ويقول: «مَا ضَرَّ ابْنَ عَفَّانَ مَا عَمِلَ بَعْدَ اليَوْم» وقال «يَا رَبِّ؛ عُثْمَانُ رَضِيتُ عَنْهُ فَارْضَ عَنْهُ» فنزلت هذه الآية الكريمة. «وأمَّا عبد الرحمن بن عوفٍ، فإنَّه جاء بأربعة آلاف درهم صدقة إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 383 فقال: كانت عندي ثمانية آلاف، فأمسكت منها لنفسي وعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلافٍ أقرضتها ربّي، فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أَمْسَكْتَ، وفِيمَا أَعْطَيْتَ «فنزلت الآية. وقال بعض المفسِّرين: إن الآية المتقدمة مختصّة فيمن أنفق على نفسه وهذه الآية الكريمة فيمن أنفق على غيره، فبين تعالى أنَّ الإنفاق على الغير، يوجب الثَّواب المذكور في الآية المتقدِّمة، إذا لم يتبعه» مَنّ «،» ولا أَذًى «قال القفَّال: وقد يحتمل أن يكون هذا الشَّرط معتبراً أيضاً فيمن أنفق على نفسه كمن ينفق على نفسه في الجهاد مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - والمؤمنين، ولا يؤذي أحداً من المؤمنين، مثل أن يقول: لو لم أحضر لما تمَّ هذا الأمر، ويقول لغيره: أنت ضعيفٌ لا منفعة بك في الجهاد. وقال بعضهم:» فِي سبيلِ «، أي: طاعة الله - تعالى -؛ ولا يمنّ بعطائه، ولا يعدّ عليه نعمه، فيكدرها عليه ولا يؤذيه بأن يعيره، فيقول: إلى كم تسأل، وكم تؤذيني؟ وقيل: الأذى أن يذكر إنفاقه عليه عند من لا يحب وقوفه عليه. وقال سفيان:» مَنّاً وَلاَ أَذًى «: هو أن قول: قد أعطيتك، فما شكرت. قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان أبي يقول: إذا أعطيت رجلاً شيئاً، ورأيت أنَّ سلامك يثقل عليه، فكف سلامك عنه، فحظر الله على عباده المنَّ بالصَّنيعة، واختصّ به صفةً لنفسه؛ لأنَّه من العباد تعييرٌ وتكديرٌ، ومن الله إفضال، وتذكير، وإنَّما كان المنُّ، والأذى مذموماً، لأنَّ الفقير الآخذ للصَّدقة منكسر القلب، لأجل حاجته إلى صدقة غيره معترف باليد العليا للمعطي، فإذا أضاف المعطي إلى ذلك: إظهار ذلك الإنعام، زاد ذلك في انكسار قلبه، فيكون في حكم المضرَّة بعد المنفعة، وينفّر أهل الحاجة عن الرَّغبة في صدقته إذا اشتهر بتلك الطَّريقة، وأمَّا» الأذَى «، فمنهم من حمله على الإطلاق في أذى المؤمنين، وليس بظاهرٍ، بل اختصاصه بما تقدَّم من أذى الفقير أولى. فإن قيل: ظاهر اللَّفظ: أنَّ مجموع المنّ، والأذى يبطلان الأجر، فيلزم منه أنَّه لو وجد أحدهما دون الآخر، لا يبطل الأجر. قلنا: بل الشَّرط ألاَّ يوجد واحدٌ منهما؛ لأن قوله: {لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى} يقتضي ألاَّ يقع منه، لا هذا، ولا ذاك. فصل في دفع شبهة للمعتزلة قالت المعتزلة: الآية الكريمة دلَّت على أنَّ الكبائر تحبط ثواب فاعلها؛ وذلك لأنَّ الله - تعالى - بين أنَّ هذا الثَّواب إنَّما يبقى إذا لم يوجد المنّ والأذى؛ لأنَّه لو ثبت مع الجزء: 4 ¦ الصفحة: 384 فقدهما، ومع وجودهما؛ لم يكن لهذا الاشتراط فائدة. وأُجيبوا بأنَّ المراد منها أنَّ حصول المنّ والأذى يخرجان الإنفاق عن أن يكون فيه أجر وثواب أصلاً من حيث يدلاَّن على أنَّه إنَّما أنفق لكي يمنّ، ولم ينفق، لطلب رضوان الله، ولا على وجه القربة والعبادة، فلا جرم، بطل الأجر. فصل في دفع شبهة للمعتزلة احتجَّت المعتزلة بقوله تعالى: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} على أنَّ العمل موجبٌ للأجر على الله - تعالى -. وأجيبوا بأنَّ حصول الأجر بسبب الوعد، لا بسبب نفس العمل؛ لأن العمل واجبٌ على العبد، وأداء الواجب لا يوجب الأجر. فصل وأجمعت الأمَّة على أنَّ قوله: {لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ} مشروطٌ بعدم الكفر، وذلك يدلُّ على جواز التَّكلُّم بالعام لإرادة الخاصّ، ومتى جاز ذلك في الجملة لم تكن دلالة اللَّفظ العام على الاستغراق دلالة قطعية، وذلك يوجب سقوط دلائل المعتزلة في التَّمسُّك بالعمومات على القطع بالوعيد. قوله: {وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} فيه قولان: أحدهما: أنَّ إنفاقهم في سبيل الله، لا يضيع، بل يجدونه يوم القيامة، فلا يخافون فقده «وَلاَ يَحْزَنُونَ» بسبب ألاَّ يوجد، ونظيره {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً} [طه: 112] . الثاني: أنهم يوم القيامة، لا يخافون العذاب ألبتة، ونظير {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] وقال {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 في قوله: {مَّعْرُوفٌ} ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنه مبتدأٌ، وساغ الابتداء بالنَّكرة لوصفها، وللعطف عليها. و «مَغْفِرةٌ» عطفٌ عليه، وسوَّغ الابتداء بها العطف، أو الصِّفة المقدَّرة، إذ التَّقدير: ومغفرةٌ من السَّائل، أو من الله. و «خَيْرٌ» خبرٌ عنهما. وقال أبو البقاء في هذا الوجه: «والتَّقدير: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 385 وسبب مغفرة، لأنَّ المغفرة من الله تعالى، فلا تفاضل بينهما، وبين فعل العبد، ويجوز أن تكون المغفرة: مجاوزة المتصدّق، واحتماله للفقير، فلا يكون فيه حذف مضافٍ» . الثاني: أنَّ {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} مبتدأٌ وخبره محذوفٌ، أي: أمثل، أو أولى بكم، و «مَغْفِرَةٌ» مبتدأق، و «خَيْرٌ» خبرها، فهما جملتان، ذكره المهدوي وغيره. قال ابن عطيَّة: «وهذا ذهابٌ برونق المعنى» . والثالث: أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ تقديره: المأمور به قولٌ معروفٌ. وقوله: {يَتْبَعُهَآ أَذًى} في محلِّ جرِّ صفةً لصدقةٍ، فإن قيل لم يعد ذكر المنِّ فيقول: يتبعها منٌّ، وأذى. فالجواب؛ لأنَّ الأذى يشمل المنَّ، وغيره، وإنَّما نصَّ عليه في قوله: {لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى} [البقرة: 262] لكثرة وقوعه من المتصدِّقين، وعسر تحفُّظهم منه، ولذلك قدِّم على الأذى. فصل القول المعروف: هو القول الذي تقبله القلوب، والمراد منه هنا: ردُّ السَّائل بطريقٍ حسنٍ. وقال عطاءٌ: عِدَةٌ حسنة. وقال القرطبيُّ: وروي من حديث عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إِذَا سأَلَ السَّائِلُ فَلاَ تَقْطَعُوا عَلَيْهِ مَسْأَلَتَهُ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْهَا، ثُمَّ رُدّوا عليه بِوَقَارٍ، وَلِينٍ، أو ببذل يَسِيرٍ، أوْ رَدٍّ جميلٍ، فقد يأْتِيكُم مَنْ لَيْسَ بإِنْسٍ ولا جَانّ يَنْظُرُونَ صَنِيعَكُم فيما خَوَّلَكُمُ اللهُ تعالى» . وأمَّا المغفرة فقيل: هي العفو عن بذاءة الفقير، والصَّفح عن إساءته فإنه إذا ردَّ بغير مقصوده؛ شقَّ عليه ذلك، فربَّما حمله ذلك على بذاءة اللِّسان. وقيل المراد ونيل مغفرةٍ من الله بسبب الردّ الجميل. وقال الضَّحَّاك: نزلت في إصلاح ذات البين. وقيل المراد: أن يستر حاجة الفقير، فلا يهتك ستره، ولا يذكر حاله عند من يكره الفقير وقوفه على حاله. وقيل: إن قوله {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ} خطابٌ مع المسؤول بأن يردّ السَّائل بأحسن الطُّرق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 386 وقوله «مَغْفِرَةٌ» : خطابٌ مع السَّائل بأن يعذر المسؤول في ذلك الرَّدِّ، فإنَّه ربَّما لم يقدر على ذلك المطلوب في تلك الحالة، ثمَّ بيَّن تعالى أنَّ فعل الرَّجل لهذين الأمرين خير له من صدقةٍ يتبعها أذى؛ لأنَّه إذا أعطى، وأَتْبع الإعطاء بالأذى، فقد جمع بين النفقة والإضرار. وأمَّا القول المعروف، فقيه نفعٌ بلا ضررٍ؛ لأنَّه يتضمَّن إيصال السُّرور إلى قلب المسلم، فكان خيراً من الأوَّل. قال بعضهم: الآية الكريمة واردة في التَّطوُّع؛ لأنَّ الواجب لا يحلُّ منعه ولا ردّ السّائل منه، ويحتمل أن يراد به الواجب، فإنَّه قد يعدِل به عن سائلٍ إلى سائلٍ، وعن فقيرٍ إلى فقيرٍ. ثم قال: {والله غَنِيٌّ} عن صدقة العباد، وإنما أمركم بها ليثيبكم عليها {حَلِيمٌ} لم يتعجَّل بالعُقُوبة على من يمنّ، ويؤذي بصدقته. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 اعلم أنَّه تعالى، لم ذكر هذين النَّوعين من الإنفاق ضرب واحداً منهما مثلاً. قوله: {كالذي} الكاف في محلِّ نصبٍ، فقيل: نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: لا تبطلوها إبطالاً كإبطال الذي ينفق رئاء النَّاس. وقي: في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المصدر المقدَّر كما هو رأي سيبويه، وقيل: حالٌ من فاعل «تُبْطِلُوا» ، أي: لا تبطلوها مشبهين الذي ينفق ماله رياء النَّاس. و {رِئَآءَ} فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنه نعتٌ لمصدر محذوفٍ تقديره: إنفاقاً رئاء النَّاس، كذا ذكره مكي. والثاني: أنه مفعول من أجله، أي: لأجل رئاء النَّاس، واستكمل شروط النَّصب. الثالث: أنه في محلِّ حالٍ، أي: ينفق مرائياً. والمصدر هنا مضافٌ للمفعول، وهو «النَّاس» ، ورئاء مصدر راءى كقاتل قتالاً، والأصل: «رِئايا» فالهمزة الأولى عين الكلمة، والثانية بدلٌ من ياءٍ هي لام الكلمة، لأنها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 387 وقعت طرفاً بعد ألفٍ زائدةٍ. والمفاعلة في «راءَى» على بابها، لأنَّ المرائي يري النَّاس أعمال؛ حتى يروه الثَّناء عليه، والتَّعظيم له. وقرأ طلحة - ويروى عن عاصم -: «رِيَاء» بإبدال الهمزة الأولى ياء، وهو قياس الهمزة تخفيفاً؛ لأنَّها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ. قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ} مبتدأٌ وخبرٌ، ودخلت الفاء، قال أبو البقاء: «لتربط الجُمْلَة بِمَا قَبْلَهَا» كما تقدَّم، والهاء في «فَمَثَلُهُ» فيها قولان: أظهرهما: أنها تعود على «الَّذي يُنْفِقُ رِئَاءَ النَّاسِ» ؛ لأنَّه أقرب مذكورٍ فيكون المعنى أنَّ الله شبّه المانَّ المؤذي بالمنافق، ثم شبَّه المنافق بالحجر. والثاني: أنها تعود على المانِّ المؤذي، كأنه تعالى شبَّهه بشيئين: بالذي ينفق رئاء وبصفوان عليه ترابٌ، فيكون قد عدل من خطاب إلى غيبة، ومن جمع إلى إفراد. والصَّفوان: حجرٌ كبيرٌ أملس، وفيه لغتان: أشهرهما سكون الفاء، والثانية فتحها، وبها قرأ ابن المسيّب والزُّهريُّ، وهي شاذَّةٌ؛ لأنَّ «فَعَلان» إنَّما يكون في المصادر نحو: النَّزوان، والغليان، والصفات نحو: رجلٌ طغيان وتيس عدوان، وأمَّا في الأسماء فقليلٌ جداً. واختلف في «صَفْوَان» فقيل: هو جمعٌ مفرده: صفا، قال أبو البقاء: «وجَمْعُ» فَعَلَ «على» فَعْلاَن «قليلٌ» . وقيل: هو اسم جنس. قال أبو البقاء: «وهو الأجود، ولذلك عاد الضَّمير عليه مفرداً في قوله: عَلَيْه» . وقيل: هو مفردٌ، واحده «صُفيٌّ» قاله الكسائي، وأنكره المبرَّد. قال: «لأنَّ صُفيّاً جمع صفا نحو: عصيّ في عصا، وقُفِيّ في قَفَا» . ونقل عن الكسائي أيضاً أنه قال: «صَفْوان مفردٌ، ويجمع على صِفوان بالكسر» . قال النَّحاس: «ويجوز أن يكون المكسور الصَّاد واحداً أيضاً، وما قاله الكسائيُّ غير صحيح، بل صفوان - يعني بالكسر - جمعٌ لصفا ك» وَرَل «وَوِرْلان، وأخ وإخوان وكرى وكروان» . وحكى أبو عبيدٍ عن الأصمعي أن الصَّلإوان، والصَّفا، والصَّفو واحد والكلُّ مقصورٌ. وقال بعضهم: الصَّفوان: جمع صفوانة، كمرجانٍ ومرجانةٍ وسعدان، وسعدانة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 388 وقال بعضهم: الصَّفوان: هو الحجر الأملس، وهو واحدٌ وجمعٌ. و {عَلَيْهِ تُرَابٌ} : يجوز أن يكون جملةً من مبتدأ، وخبرٍ، وقعت صفةً لصفوان، ويجوز أن يكون «عَلَيْه» وحده صفةً له، و «تُرَابٌ» فاعلٌ به، وهو أولى لما تقدَّم عند قوله {فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ} [البقرة: 261] . والتُّراب معروفٌ وهو اسم جنسٍ، لا يثنَّى، ولا يجمع. وقال المبرِّد: وهو جمع واحدته «ترابة» . وذكر النَّحَّاس له خمسة عشر اسماً: ترابٌ وتَوْرَبٌ، وتَوْرَابٌ، وتَيْرَابٌ وإِثْلَب وأَثْلَب وَكَثْكَثٌ وَكِثْكِثٌ ودَقْعَمٌ وَدَقْعَاءُ ورَغام بفتح الراء، ومنه: أرغم الله أنفه أي: ألصقه بالرَّغام وبَرى، وقرى بالفتح مقصوراً [كالعصا وكملح وعثير] وزاد غيره تربة وصعيد. ويقال: ترب الرَّجل: افتقر. ومنه: {أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} [البلد: 16] كأنَّ جلده لصق به لفقره، وأترب، أي: استغنى، كأنَّ الهمزة للسَّلب، أو صار ماله كالتُّراب. قوله: {فَأَصَابَهُ} عطفٌ على الفعل الذي تعلَّق به قوله: «عَلَيْهِ» ، أي: استقرَّ عليه ترابٌ، فأصابه. والضَّمير يعود على الصَّفوان، وقيل: على التُّراب. وأمَّا الضَّمير في «فَتَرَكَهُ» فعلى الصفوان فقط. وألف «أصَابَه» من واوٍ؛ لأنه من صاب يصوب. والوابل: المطر الشَّديد، وبلت السَّماء تبل، والأرض موبولة، ويقال أيضاً: أوبل، فهو موبل، فيكون ممَّا اتفق فيه فعل، وأفعل، وهو من الصِّفات الغالبة كالأبطح، فلا يحتاج معه إلى ذكر موصوفٍ. قال النَّضر بن شيملٍ: أولُ ما يَكُونُ المَطَرُ رَشاً، ثم طشاً، ثم طَلاًّ، ورَذاذاً، ثم نضحاً، وهو قطرٌ بين قطرين، ثم هطلاً وتهتاناً، ثم وابلاً وجوداً. والوبيل: الوخيم، والوبيلة: حزمة الحطب، ومنه قيل للغليظة: وبيلةٌ على التَّشبيه بالحزمة. قوله: {فَتَرَكَهُ صَلْداً} كقوله تعالى: {وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17] . والصَّلد: الأجرد الأملس، ومنه: «صَلَدَ جبينُ الأصْلَعِ» : أي برق، والصَّلد أيضاً صفة، يقال: صلد بكسر اللام يصلد بفتحها، فهو صلد. قال النَّقَّاش: «الصَّلْدُ بلغة هُذَيل» . وقال أبان بن تغلب: «الصَّلْد: اللَّيِّن من الحجارة» وقال علي بن عيسى: «هو من الحجارة ما لا خير فيه، وكذلك من الأرضين وغيرها، ومنه:» قِدْرٌ صَلُود «أي: بطيئة الغَلَيان» ، وصلد الزّند: إذا لم يورد ناراً. قوله: {لاَّ يَقْدِرُونَ} في هذه الجملة قولان: أحدهما: أنها استئنافية فلا موضع لها من الإعراب. والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من «الَّذِي» في قوله: {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ} ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 389 وإنما جمع الضَّمير حملاً على المعنى، لأنَّ المراد بالذي الجنس، فلذلك جاز الحمل على لفظه مرَّةً في قوله: «مَالَهُ» و «لاَ يُؤْمِنُ» ، «فمثلُه» وعلى معناه أخرى. وصار هذا نظير قوله: {كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} [البقرة: 17] ثم قال: {بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ} [البقرة: 17] ، وقد تقدَّم. وزعم ابن عطيَّة أنَّ مهيع كلام العرب الحمل على اللَّفظ أولاً، ثم المعنى ثانياً، وأنَّ العكس قبيحٌ، وتقدَّم الكلام معه في ذلك. وقيل: الضَّمير في «يَقْدِرُونَ» عائدٌ على المخاطبين بقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم} ويكون من باب الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وفيه بعدٌ. وقيل: يعود على ما يفهم من السِّياق، أي: لا يقدر المانُّون، ولا المؤذون على شيءٍ من نفع صدقاتهم. وسمَّى الصّدقة كسباً. قال أبو البقاء: «وَلا يَجُوزُ أن يَكُونَ» لاَ يَقْدِرُونَ «حالاً من» الَّذِي «؛ لأنه قد فصل بينهما بقوله:» فَمَثَلُه «وما بعده» . ولا يلزم ذلك؛ لأنَّ هذا الفصل فيه تأكيدٌ، وهو كالاعتراض «. فصل قال القاضي: إنه تبارك وتعالى أكَّد النَّهي عن إبطال الصَّدقة بالمنّ، والأذى، وأزال كلّ شبهة للمرجئة، وبيَّن أنَّ المنَّ والأذى يبطلان الصَّدقة، ومعلومٌ أنَّ الصَّدقة قد وقعت، فلا يصحُّ أن تبطل، فالمراد إبطال أجرها، لأنَّ الأجر لم يحصل بعد، وهو مستقبل، فيصحُّ إبطاله بما يأتيه من المنّ والأذى. واعلم أنَّه تعالى ضرب لكيفية إبطال الصَّدقة بالمنّ والأذى مثلين، فمثله أوَّلاً: بمن ينفق ماله رئاء النَّاس، وهو مع ذلك لا يؤمن بالله، واليوم الآخر، لأنَّ بطلان أجر نفقة هذا المرائي الكافر، أظهر من بطلان أجر صدقة من يُتْبعها بالمنّ، والأذى. ثم مثَّله ثانياً: ب» الصَّفْوَانِ «الذي وقع عليه تُرابٌ، وغبارٌ، ثم أصابه المطر القويُّ، فيزيل ذلك الغبار عنه حتّى يصير كأنه لم يكن عليه غبار أصلاً، فالكافر كالصَّفوان، والتُّراب مثل ذلك الإنفاق، والوابل كالكفر الذي يحبط عمل الكافر، وكالمنّ والأذى اللَّذين يحبطان عمل هذا المنفق. قال: فكما أنَّ الوابل أزال التُّراب الذي وقع على الصَّفوان، فكذلك المنّ والأذى، وجب أن يكونا مبطلين لأجر الإنفاق بعد حصوله، وذلك صريحٌ في القول بالإحباط. قال الجبَّائيُّ: وكما دلّ هذا النَّص على صحَّة قولنا فالعقل دلَّ عليه عليه أيضاً؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 390 لأن من أطاع، فلو استحقّ ثواب طاعته، وعقاب معصيته لوجب أن يستحقّ النّقيضين؛ لأنَّ شرط الثَّواب أن يكون منفعة خالصةً دائمةً مقرونةً بالإجلال، وشرط العقاب أن يكون مضرةً خالصةً دائمةً مقرونةً بالإهانة فلو لم تقع المحابطة، لحصل استحقاق النّقيضين وذلك محال، ولأنَّه حين يعاقبه، فقد منعه الإثابة، ومنع الإثابة ظلمٌ، وهذا العقاب عدل، فيلزم أن يكون هذا العقاب عدلاً من حيث إنَّه حقّه، وأن يكون ظلماً من حيث إنَّه منع الإثابة، فيكون ظلماً بنفس الفعل الذي هو عادلٌ فيه؛ وذلك محال، فصحّ بهذا النَّصّ ودلالة العقل صحّة قولنا في الإحباط والتَّكفير. وأجيبوا بأنه ليس المراد بقوله «لاَ تُبْطِلُوا» النَّهي عن إزالة هذا الثَّواب بعد ثبوته، بل المراد به ألاَّ يأتي بهذا العمل باطلاً؛ لأنَّه إذا قصد به غير وجه الله تعالى، فقد أتى به من الابتداء موصوفاً بالبطلان. قال ابن الخطيب: ويدلّ على بطلان قول المعتزلة وجوه: أولها: أنَّ الباقي والطّارئ إن لم يكن بينهما منافاة، لم يلزم من طَرَيَانِ الطَّارئ زوال الباقي، وإن حصلت بينهما منافاة لم يكن زوال الباقي أولى من اندفاع الطَّارئ، بل ربَّما كان اندفاع الطَّارئ، أولى؛ لأن الدفع أسهل من الرفع. وثانيها: أن الطارئ لو أبطل لكان إما أن يبطل ما دخل منه في الوجود في الماضي، وهو محال؛ لأنَّ الماضي قد انقضى، ولم يبق في الحال، وإعدام المعدوم محالٌ، وإما أن يبطل ما هو موجود في الحال وهو أيضاً محال؛ لأنَّ الموجود في الحال، لو أعدمه في الحال لزم الجمع بين العدم والوجود وهو محالٌ، وإما أن يبطل ما سيوجد في المستقبل وهو محالٌ، لأنَّ الذي سيوجد في المستقبل معدوم في الحال، وإعدام ما لم يوجد بعد محال. وثالثها: أنَّ شرط طريان الطَّارئ، زوال الباقي، فلو جعلنا زوال النافي معلّلاً بطريان الطَّارئ، لزم الدَّور، وهو محالٌ. ورابعها: أنَّ الطَّارئ إذا طرأ وأعدم الثَّواب السَّابق، فالثَّواب السَّابق إمَّا أن يعدم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 391 من هذا الطَّارئ شيئاً، أو لا يعدم منه شيئاً، والأول هو الموازنة، وهو قول أبي هاشم، وهو باطلٌ، وذلك لأنَّ الموجب لعدم كل واحد منهما وجود الآخر، فلو حصل العدمان معاً اللَّذان هما معلومان، لزم حصول الموجودين اللَّذين هما علَّتان، فيلزم أن يكون كلّ واحد منهما موجوداً حال كون كلّ واحد منهما معدوماً وهو محالٌ. والثاني، وهو قول أبي علي الجبَّائي: هو أيضاً باطل؛ لأنَّ العقاب الطَّارئ لما أزال الثَّواب السَّابق، وذلك الثَّواب السَّابق ليس له أثر ألبتة في إزالة الشَّيء من هذا العقاب الطَّارئ؛ فحينئذ لا يحصل له من العلم الذي أوجب الثَّواب السَّابق فائدة أصلاً، لا في جلب ثواب ولا في دفع عقاب، وذلك على مضادة النَّصّ الصّريح في قوله تبارك وتعالى {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ، لأنه خلاف العدل حيث يحمل العبد مشقّة الطَّاعة، ولم يظهر له منها أثر، لا في جلب منفعةٍ، ولا في دفع مضرةٍ. خامسها: أنكم تقولون الصَّغيرة تحبط بعض أجزاء الثَّواب دون البعض وذلك محالٌ؛ لأن أجزاء الاستحقاقات متساوية في الماهيَّة، فالصَّغيرة الطَّارئة إذا انصرف تأثيرها إلى بعض تلك الاستحقاقات دون البعض مع استواء الكلّ في الماهيَّة كان ذلك ترجيحاً للممكن من غير مرجّح، وهو محالٌ فلم يبق إلاَّ أن يقال بأنَّ الصَّغيرة الطَّارئة تزيل كلَّ تلك الاستحقاقات، وهو باطلٌ بالاتّفاق، أو لا تزيل شيئاً منها، وهو المطلوب. سادسها: أنَّ عقاب الكبيرة، إذا كان أكثر من ثواب العَمَل المتقدّم، فإمَّا أن يقال: بأنَّ المؤثر في إبطال الثَّواب بعض أجزاء العقاب الطَّارئ، أو كلها، والأوَّل باطل؛ لأنَّ اختصاص بعض تلك الأجزاء بالمؤثريّة دون البعض مع استواء كلِّها في الماهيَّة ترجيح للمكن من غير مرجّح، وهو محالٌ. الثاني باطلٌ، لأنَّه حينئذ يجتمع على إبطال الجزء الواحد من الثَّواب جزآن من العقاب مع أنَّ كلَّ واحد من ذينك الجزأين مستقلٌّ بإبطال ذلك الثَّواب، فقد اجتمع على الأثر الواحد مؤثران كلّ واحدٍ منهما مستقلٌّ وذلك محالٌ؛ لأنَّه يستغني بكلِّ واحدٍ منهما عن كلّ واحد منهما فيكون غنيّاً عنهما معاً، حال كونه محتاجاً إليهما معاً، وهو محالٌ. سابعها: أنَّه لا منافاة بين هذين الاستحقاقين؛ لأنَّ السَّيِّد إذا قال لعبده: احفظ هذا المتاع لئلاّ يسرقه السَّارق، ثم في ذلك الوقت جاء العدوّ، وقصد قتل السّيِّد، فاشتغل العبد بمحاربة ذلك العدوِّ، وقتله، فذلك الفعل من العبد يستوجب استحقاقه للمدح، والتعظيم حيث دفع القتل عن سيِّده، ويوجب استحقاقه للذَّمِّ، حيث عرض ماله للسّرقة، وكلّ واحدٍ من الاستحقاقين ثابت، والعقلاء يرجعون في مثل هذه الواقعة إلى التَّرجيح أو إلى المهايأة، فأمَّا أن يحكموا بانتفاء الاستحقاقين وزواله فذلك مدفوعٌ في بداية العقول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 392 ثامنها: أَنَّ الموجب لحصول هذا الاستحقاق هو الفعل المُتقدِّم، فهذا الطَّارئ إِمَّا أن يكون له أثر في جهة اقتضاء ذلك الفعل لذلك الاستحقاق، أو لا يكون. والأوَّل محالٌ؛ لأَنَّ ذلك العل إنَّما يكون موجوداً في الزَّمان الماضي، فلو كان لهذا الطَّارئ أَثَرٌ في ذلك الفعل لكان هذا إيقاعاً للتَّأثير في الزَّمان الماضي، وهو محالٌ، وإن لم يكن لهذا الطَّارئ [أثر] في اقتضاءِ ذلك الفعل السَّابق لذلك الاستحقاق، وجب أَن يبقى ذلك الاقتضاء كما كان وألاَّ يزول. وتاسعها: أَنَّ المعتزلة يقولون: إِنَّ شُرب جرعةٍ من الخمرِ، يحبطُ ثواب الإِيمان وطاعة سبعين سنةٍ على سبيل الإِخلاص، وذلك محالٌ؛ لأنَّا نعلم بالضَّرورة أَنَّ ثواب هذه الطَّاعات أكثر مِنْ عقاب هذه المعصية الواحدة، والأعظم بالأَقلّ. قال الجبَّائي: لا يمتنع أَنْ تكون الكبيرة الواحدة أعظم من كُلِّ طاعةٍ، لأن معصية الله تعالى تعظم على قدر كثرة نعمه، وإحسانه، كما أَنَّ استحقاق قيام الرَّبَّانيَّة، وقد ربَّاهُ وملكه، وبلغه إلى النِّهاية [العظيمة أعظم] من قيامه بحقِّه لكثرة نعمه، فإِذا كانت نعم الله على عباده، بحيث لا تُضبط عظماً، وكثرةً لم يمتنع أَنْ يستحقَّ على المعصية الواحدة العقاب العظيم الَّذي يعلو على ثواب جملة الطَّاعات. قال ابن الخطيب: وهذا العُذْرُ ضعيفٌ؛ لأَنَّ المَلِك الَّذِي عظمت نعمُهُ على عبده، ثمّ إِنَّ ذلك العبدَ قام بحقِّ عبوديَّته خمسين سنةً، ثم إنّه كسر رأس قلم ذلك الملك قصداً، فلو أحبط المَلك جميع طاعاته بسبب ذلك القدر من الجرم فكُلُّ أحدٍ يذمُّهُ، وينسبه إلى ترك الإِنصاف والقسوة، ومعلومٌ أَنَّ جميع المعاصي بالنِّسبة إلى جلال الله تعالى أقلُّ من كسر رأس القلم، فظهر أَنَّ قولهم على [خلاف] قياس العقول. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 عاشرها: أَنَّ إِيمان ساعةٍ يهدم كُفْر سبعين سنة فالإيمان سبعين سنةً كيف يهدمُ بفسق ساعةٍ، وهذا مِمَّا لا يقبلُهُ العقلُ، والله أعلمُ. قوله {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} يحتمل أمرين: أحدهما: لا تأْتُوا به باطِلاً، وذلك أَنْ يَنْوي بالصَّدقة الرِّياء والسُّمعة. [قال القرطبيُّ: إِنَّ اللهَ تعالى عبَّر عن عدم القبول، وحرمان الثوب] بالإبطال، والمراد الصَّدقة الَّتي يمُنُّ بها، ويُؤذي لا غيرها، فالمَنُّ والأَذى في صدقة؛ لا يُبطلُ صدقةً غيرها. قال جمهور العلماء في هذه الآية: إنَّ الصَّدقة التي يعلم الله من صاحبها أنه يمنّ، أو يُؤذي بها، فإِنَّها لا تقبل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 393 وقيل: إِنَّ اللهَ جعل للملك عليها أمارة، فهو لا يكتبها. قال القرطبيُّ: وهذا حسنٌ. والثاني: أن يأتوا بها على وجهٍ يوجب الثَّواب، ثُمَّ يتبعوها بالمَنِّ والأذى، فيزيلوا ثوابها، وضرب لذلك مثلين: أحدهما: يطابقُ الأَوَّل وهو قوله: {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس وَلاَ يُؤْمِنُ بالله} ، إِذْ من المعلوم [أَنَّ المراد من كونه عمل] هذا باطلاً أَنَّه دخل في الوجود باطلاً، لا أَنَّهُ دخل صحيحاً، ثم يزول؛ لأَنَّ الكُفر مقارنٌ له فيمتنع دخوله صحيحاً في الوجود. والمثال الثاني: وهو الصَّفوان الَّذي وقع عليه تراب، ثمَّ أصابهُ وابلٌ فهذا يشهدُ لتأَويل المعتزلة؛ لأنَّه جعل الوابلَ مُزِيلاً لذلك التُّراب بعد وقُوع التُّراب على الصَّفوان، فكذا ها هنا: يجب أن يكون المنُّ والأَذى مزيلين للأجر والثَّواب بعد حصول استحقاق الأَجر. ويمكن أَنْ يجاب عنه: بأَنَّا نُسلِّم أَنَّ المشبه بوقوع التُّراب على الصَّفوان حُصُولُ الأَجر للكافر؛ بل المشبَّه بذلك صُدُورُ هذا العمل الَّذي لولا كونه مقروناً بالنِّيَّة الفاسدة، لكان موجباً لحصول الأَجر والثواب؛ لأَنَّ التُّراب إذا وقع على الصَّفوان، لم يكن ملتصقاً به، ولا غائصاً فيه أَلْبَتَّة، بل يكون لك الاتِّصال كالانفِصال، فهو في مرأَى العين متَّصلٌ، وفي الحقيقة منفصلٌ، فكذا الإِنفاقُ المقرون بالمَنّ والأَذى، يُرَى في الظَّاهر أَنَّه عَمَلٌ مِنْ أَعمال البِرّ، وفي الحقيقة ليس كذلك، فظهر أَنَّ استدلالهم بهذه ضعف. فصلٌ قال ابن عبَّاس قوله: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن} على الله بسب صدقتِكُم، وبالأذى لذلك السَّائل. وقال الباقون: بالمَنّ على الفقير وبالأذى للفقير {كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس} ؛ لأنَّ المُنافق، والمُرائي يأتيان بالصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - ومن يَقْرُنُ الصَّدقة بالمنّ والأَذى، فقد أتى بتلك الصَّدقة لا لوجه اللهِ - تعالى - أيضاً، إذ لو كان غرضه من تلك الصَّدقة طلب مرضاة الله تعالى لما مَنَّ على الفقير، ولا آذاه، فثبت اشتراكُ الصُّورتين في كون الصَّدقة لم يأت بها لوجه اللهِ - تعالى - وتقدَّم الكلامُ على الإِلقاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 394 (فصل في " هل تعطى الصدقة للأقارب) قال القرطبي: كره مالك لهذه الآية أن يعطي الرجل صدقته الواجبة أقاربه؛ لئلا يعتاض منهم الحمد، والثناء، ويظهر منته عليهم، ويكافئوه عليها، فلا تخلص لوجه الله - تعالى - واستحب أن يعطيها الأجانب، واستحب أيضا أن يولي غيره تفريقها، إذا لم يكن الإمام عدلا؛ لئلا تحبط بالمن والأذى، والشكر، والثناء، والمكافأة بالخدمة من المعطى بخلاف صدقة التطوع السر؛ لأن ثوابها إذا حبط سلم من الوعيد. (فصل في كيفية التشبيه في الآية) في كيفية هذا التشبيه وجهان: الأول: ما تقدم أن العمل الظاهر كالتراب والمان والمؤذي والمنافق كالصفوان يوم القيامة كالوابل، هذا على قولنا، وما على قول المعتزلة فالمن والأذى كالوابل. الوجه الثاني: قال القفال رحمه الله: إن أعمال العباد يجازون بها يوم القيامة، فمن عمل بالإخلاص، فكأنه طرح بذرا في الأرض، فهو ينمو، ويتضاعف له، حتى يحصده في وقته، ويجده وقت حاجته، والصفوان محل بذر المنافق، ومعلوم أنه لا ينمو فيه شيء، ولا يكون فيه قبول للبذر، والمعنى أن عمل المان، والمؤذي، والمنافق كالبذر المطروح في تراب قليل على صفوان، فإذا أصابه مطر بقي مستودع بذره خاليا، لا شيء فيه؛ ألا ترى أنه تعالى: ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة؟ والجنة ما يكون فيها أشجار ونخيل، فمن أخلص لله، كان كمن غرس بستانا في ربوة من الأرض، فهو يجني ثمر غراسه في أوقات حاجته " وهي تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها " متضاعفة زائدة. ثم قال تعالى " لا يقدرون على شيء مما كسبوا ". وفيه قولان مبنيان على ما تقدم في الإعراب، فعلى الأول لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي كان على ذلك الصفوان، لزوال التراب، وما فيه من البذر بالمطر، فلم يقدر أحد على الانتفاع به، وهذا يقوي تشبيه القفال، وإن عاد الضمير إلى الذي ينفق، فإنما أشير به إلى الجنس والجنس في حكم العام، ثم قال " والله لا يهدي القوم الكافرين ". (فصل في التحذير من الرياء) قال رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر " قالوا يا رسول الله: وما الشرك الأصغر؟ قال: " الرياء، يقول الله لهم يوم يجازي العباد بأعمالهم اذهبوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 395 إلى الذي كنتم تراءون في الدنيا، [فانظروا] هل تجدون عندهم جزاء ". وروى أبو هريرة - رضي الله عنه -: أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حدثه " أن الله تبارك وتعالى إذا كان يوم القيامة ينزل إلى العباد ليقضى بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعون رجلا جمع القرآن، ورجلا قتل في سبيل الله ورجلا كثير المال، فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب، قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله - تبارك وتعالى - بل أردت أن يقال: فلان قارئ، وقد قيل ذلك ويؤتى بصاحب المال فيقول الله تعالى له: ألم أوسع عليك حتى [لم] أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب قال: فماذا عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق، فيقول الله له: كذبت، وتقول الملائكة: كذبت، ويقول الله - تعالى - بل أردت أن يقال: فلان جواد، وقد قيل ذلك، ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله فيقول له: في ماذا قتلت؟ فيقول: يا رب أمرت بالجهاد في سبيلك، فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله: كذبت وتقول الملائكة: كذبت: ويقول الله تعالى بل أدرت أن يقال فلان جريء، وقد قيل ذلك ثم ضرب رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ركبتي، ثم قال يا أبا هريرة أولئك الثلاثة أول خلق الله تعالى تسعر بهم النار يوم القيامة. قوله " ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله ". قوله " ومثل الذين ينفقون " كقوله " مثل الذين ينفقون كمثل حبة أنبتت سبع " في جميع التقادير فليراجع. وقرأ الجحدري " كمثل حبة " بالحاء المهملة والباء. في قوله: " ابتغاء " وجهان: أحدهما: أنه مفعول من أجله، وشروط النصب متوفرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 396 والثاني: أنه حال، و" تثبيتا " عطف عليه بالاعتبارين، أي: لأجل الابتغاء والتثبيت، أو مبتغين متثبتين. ومنع ابن عطية أن يكون " ابتغاء " مفعولا من أجله، قال: لأنه عطف عليه تثبيتا، وتثبيتا لا يصح أن يكون مفعولا من أجله، [لأن الإنفاق لا يكون لأجل التثبيت ". وحكى عن مكي كونه مفعولا من أجله] قال: " وهو مردود بما بيناه ". وهذا الذي رده لا بد فيه من تفصيل، وذلك أن قوله تبارك وتعالى: " وتثبيتا " إما أن يجعل مصدرا متعديا، أو قاصرا، فإن كان قاصرا، أو متعديا، وقدرنا المفعول هكذا: " وتثبيتا من أنفسهم الثواب على تلك النفقة "، فيكون تثبيت الثواب وتحصيله من الله حاملا لهم على النفقة، وحينئذ يصح أن يكون " تثبيتا " مفعولا من أجله. وإن قدرنا المفول غير ذلك، أي: وتثبيتا من أنفسهم أعمالهم بإخلاص النية، أو جعلنا " من أنفسهم هو المفعول في المعنى، وأن " من " بمعنى اللام، أي: لأنفسهم، كما تقول: " فعلته كسرا من شهوتي " فلا يتضح فيه أن يكون مفعولا لأجله. وأبو البقاء قد قدر المفعول المحذوف " أعمالهم بإخلاص النية "، وجوز أيضا أن يكون " من أنفسهم " مفعولا، وأن تكون " من " بمعنى اللام، وقد كان قدم أولا أنه يجوز فيهما المفعول من أجله، والحالية؛ وهو غير واضح كما تقدم. وتلخص أن في " من أنفسهم " قولين: أحدهما: أنه مفعول بالتجوز في الحرف. والثاني: أنه صفة ل " تثبيتا "، فهو متعلق بمحذوف، وتلخص أيضا أن التثبيت يجوز أن يكون متعديا، وكيف يقدر مفعوله، وأن يكون قاصرا. فإن قيل: " تثبيت " مصدر ثبت؛ وثبت متعد، فكيف يكون مصدره لازما؟ فالجواب: أن التثبيت مصدر تثبت، فهو واقع موقع التثبت، والمصادر تنوب عن بعضها؛ قال تعالى: {وتبتل إليه تبتيلا} [المزمل: 8] والأصل: " تبتلا " ويؤيد ذلك قراءة مجاهد " وتثبتا "، وإلى هذا نحا أبو البقاء. قال أبو حيان: " ورد هذا القول؛ بأن ذلك لا يكون إلا مع الإفصاح بالفعل المتقدم على المصدر، نحو الآية، وأما أن يؤتى بالمصدر من غير نيابة على فعل مذكور، فلا يحمل على غير فعله الذي هو له في الأصل "، ثم قا: " والذي نقول: إن ثبت - يعني الجزء: 4 ¦ الصفحة: 397 مخففا - فعل لازم، معناه تمكن ورسخ، وثبت معدى بالتضعيف، ومعناه مكن وحقق؛ قال ابن رواحة: [البسيط] 1220 - (فثبت الله ما أتاك من حسن ... تثبيت عيسى ونصرا كالذي نصروا) فإذا كان التثبيت مسندا إليهم، كانت " من " في موضع نصب متعلقة بنفس المصدر، وتكون للتبعيض، مثلها في: " هز من عطفه "، و" حرك من نشاطه " وإن كان مسندا في المعنى إلى أنفسهم، كانت " من " أيضا في موضع نصب؛ صفته لتثبيتا ". قال الزمخشري: " فإن قلت: فما معنى التبعيض؟ قلت: معناه أن من بذل ماله لوجه الله تعالى، فقد ثبت بعض نفسه، ومن بذل روحه، وماله معا، فقد ثبت نفسه كلها ". قال أبو حيان: " والظاهر أن نفسه هي التي تثبته، وتحمله على الإنفاق في سبيل الله، ليس له محرك إلا هي؛ لما اعتقدته من الإيمان والثواب " يعني: فيترجح أن التثبيت مسند في المعنى إلى أنفسهم. والابتغاء: افتعال من بغيت، أي: طلبت، وسواء قولك: بغيت، وابتغيت. (فصل) معنى قوله: " ابتغاء مرضات الله "، أي: طلب رضي الله " وتثبيتا من أنفسهم " قال قتادة: احتسابا. وقال الشعبي، والكلبي: تصديقا من أنفسهم، أي: يخرجون الزكاة طيبة بها أنفسهم، على يقين الثواب، وتصديق بوعد الله، ويعلمون أن ما أخرجوا خير لهم مما تركوا، وقيل: على يقين بإخلاف الله عليهم. وقال عطاء، ومجاهد: يتثبتون، أي: يضعون أموالهم. قال الحسن: كان الرجل إذا هم بصدقة يتثبت، فإن كان لله، أمضى، وإن كان يخالطه شك، أمسك، ثم إنه تعالى لما بين أن غرضهم من الإنفاق هذان الأمران، ضرب الإنفاق مثلا، فقال: " كمثل جنة بربوة ". الجزء: 4 ¦ الصفحة: 398 قال القرطبي: الجنة هي البستان، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار، حتى تغطيها، مأخوذة من لفظ الجن والجنين، لاستتارهم. قوله: " بربوة " في محل جر؛ لأنه صفة لجنة. والباء ظرفية بمعنى " في "، أي: جنة كائنة في ربوة. والربوة: أرض مرتفعة طيبة، قاله الخليل. وهي مشتقة من: ربا يربو، أي: ارتفع، وتفسير السدي لها بما انخفض من الأرض ليس بشيء. ويقال ربوة ورباوة، بتثليث الراء فيهما، ويقال - أيضا - رابية، قال القائل: [الطويل] 1221 - (وغيث من الوسمي حو تلاعه ... أجابت روابيه النجاء هواطله) وقرأ ابن عامر، وعاصم: " ربوة " بالفتح، والباقون: بالضم، قال الأخفش: " ونختار الضم؛ لأنه لا يكاد يسمع في الجمع إلا الربا " يعني فدل ذلك على أن المفرد مضموم الفاء، نحو برمة، وبرم، وصورة، وصور. وقرأ ابن عباس: " ربوة " بالكسر، [والأشهب] العقيلي: " رباوة "، مثل رسالة، وأبو جعفر: " رباوة " مثل كراهة، وقد تقدم أن هذه لغات. (فصل) تقدم أن الربوة: هي المرتفع من الأرض، ومنه الرابية، لأن أجزاءها ارتفعت ومنه الربو إذا أصابه نفس في جوفه زائد، ومنه الربا؛ لأنه الزيادة قال المفسرون: إن البستان إذا كان في ربوة من الأرض، كان أحسن، وأكثر ريعا. قال ابن الخطيب: وفيه إشكال: وهو أن البستان إذا كان في موضع مرتفع من الأرض، فلا ترتفع إليه الأنهار، وتضر به الرياح كثيرا؛ فلا يحسن ريعه وإذا كان في وهدة من الأرض، انصبت إليه مياه الأنهار، ولا يصل إليه إثارة الرياح، فلا يحسن أيضا ريعه فإذن البستان إنما يحسن ريعه إذا كان على الأرض المستوية التي لا تكون ربوة، ولا وهدة فإذن ليس المراد من هذه الربوة، ما ذكروه، بل المراد منه كون الأرض طينا حرا بحيث إذا نزل المطر عليها، انتفخ وربا ونما، فإن الأرض متى كانت بهذه الصفة يكثر ريعها، وتكمل أشجارها، ويؤيد هذا التأويل قوله تبارك وتعالى {وترى الأرض هامدة فإذا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 399 أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت} [الحج: 5] والمراد من ربوها ما ذكرنا، فكذا ها هنا. وأيضا فإنه تبارك وتعالى ذكر هذا المثل في مقابلة المثل الأول، وهو الصفوان الذي لا يؤثر فيه المطر، ولا يربو، ولا ينمو؛ بسبب نزول المطر عليه، فكان المراد بالربوة في هذا المثل كون الأرض بحيث تربو، وتنمو والله أعلم. قال ابن عطية: ورياض الحزن لست من هذا، كما زعم الطبري؛ بل تلك هي الرياض المنسوبة إلى نجد؛ لأنها خير من رياض تهامة ونبات نجد أعطر، ونسيمه أبرد وأرق، ونجد يقال لها حزن وقلما يصلح هواء تهامة إلا بالليل، ولذلك قالت الأعرابية: " زوجي كليل تهامة ". قوله: " أصابها وابل " هذه الجملة فيها أربعة أوجه: أحدها: أنها صفة ثانية لجنة، وبدئ هنا بالوصف بالجار والمجرور، ثم بالجملة؛ لأنه الأكثر في لسانهم؛ لقربه من المفرد، وبدئ بالوصف الثابت المستقر وهو كونها بربوة، ثم بالعارض، وهو إصابة الوابل. وجاء قوله في وصف الصفوان بقوله: " عليه تراب " ثم عطف على الصفة " فأصابه وابل " وهنا لم يعطف بل أخرج صفة. والثاني: أن تكون صفة ل " ربوة ". قال أبو البقاء: " لأن الجنة بعض الربوة " كأنه يعني أنه يلزم من وصف الربوة بالإصابة، وصف الجنة به. الثالث: أن تكون حالا من الضمير المستكن في الجار؛ لوقوعه صفة. الرابع: أن تكون حالا من " جنة "، وجاز ذلك؛ لأن النكرة قد تخصصت بالوصف. قوله: " فآتت أكلها " أي أعطت و" أكلها " فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وهو الأصح أن " آتت " تتعدى لاثنين، حذف أولهما وهو " صاحبها "، أو " أهلها ". والذي حسن حذفه، أن القصد الإخبار عما تثمر، لا عمن تثمر له؛ ولأنه مقدر في قوله: " كمثل جنة " أي: غارس جنة، أو صاحب جنة؛ كما تقدم. و" أكلها " هو المفعول الثاني. و" ضعفين " نصب على الحال من " أكلها ". والثاني: أن " ضعفين " هو المفعول الثاني، وهذا غلط. والثالث: أن " آتت " هنا بمعنى أخرجت، فهو متعد لمفعول واحد. قال أبو البقاء: " لأن معنى " آتت ": أخرجت، وهو من الإتاء، وهو الريع ". قال أبو حيان: " الجزء: 4 ¦ الصفحة: 400 لا نعلم ذلك في لسان العرب ". ونسبة الإتاء إليها مجاز. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو " أكلها " بضم الهمزة، وسكون الكاف، وهكذا كل ما أضيف من هذا إلى مؤنث، إلا أبا عمرو، فإنه يثقل ما أضيف إلى غير ضمير، أو إلى ضمير المذكر، والباقون: بالتثقيل مطلقا، وسيأتي إيضاح هذا كله. والأكل بالضم: الشيء المأكول والأكلة في المعنى مثل الطعمة؛ وأنشد الأخفش: [الطويل] 1222 - (فما أكلة إن نلتها بغنيمة ... ولا جوعة إن جعتها بغرام) وقال أبو زيد: يقال: إنه لذو أكل، إذا كان له حظ من الدنيا. وبالفتح مصدر، وأضيف إلى الجنة؛ لأنها محله أو سببه ومعنى " ضعفين " أي: ضعفت في الحمل؛ لأن ضعف الشيء مثله زائدا عليه، وقيل: ضعف الشيء مثلاه. قال عطاء: حملت في سنة من الريع ما يحمل غيرها في سنتين. وقال عكرمة: حملت في السنة مرتين. وقال الأصم: ضعف ما يكون في غيرها. قوله: " فإن لم يصبها وابل فطل ". الفاء: جواب الشرط، ولا بد من حذف بعدها؛ لتكمل جملة الجواب. واختلف في ذلك على ثلاثة أوجه: فذهب المبرد إلى أن المحذوف خبر، وقوله: " فطل " مبتدأ، والتقدير: " فطل يصيبها ". وجاز الابتداء هنا بالنكرة؛ لأنها في جواب الشرط، وهو من جملة المسوغات للابتداء بالنكرة، ومن كلامهم: " إن ذهب عير، فعير في الرباط ". والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: فالذي يصيبها طل. والثالث: أنه فاعل بفعل مضمر؛ تقديره: فيصيبها طل، وهذا أبينها. إلا أن أبا حيان قال - بعد ذكر الثلاثة الأوجه - " والأخير يحتاج فيه إلى حذف الجملة الواقعة جوابا، وإبقاء معمول لبعضها؛ لأنه متى دخلت الفاء على المضارع، فإنما هو على إضمار مبتدأ؛ كقوله: {ومن عاد فينتقم الله منه} [المائدة: 95] [أي: فهو ينتقم] ، فكذلك يحتاج إلى هذا التقدير هنا، أي: فهي، أي: الجنة يصيبها طل، وأما في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 401 التقديرين السابقين، فلا يحتاج إلا إلى حذف أحد جزئي الجملة ". قال شهاب الدين: وفيما قاله نظر؛ لأنا لا نسلم أن المضارع بعد الفاء الواقعة جوابا يحتاج إلى إضمار مبتدأ. ونظير الآية قول امرئ القيس: [الوافر] 1223 - (ألا إن لا تكن إبل فمعزى ... كأن قرون جلتها العصي) فقوله " فمعزى " فيه التقادير الثلاثة. وادعى بعضهم أن في هذه الآية الكريمة تقديما وتأخيرا، والأصل: " أصابها وابل، فإن لم يصبها وابل فطل فآتت أكلها ضعفين " حتى يجعل إيتاؤها الأكل ضعفين على الحالين: من الوابل، والطل، وهذا لا حاجة إليه؛ لاستقامة المعنى بدونه، والأصل عدم التقديم والتأخير، حتى يخصه بعضهم بالضرورة. والطل: المستدق من القطر الخفيف وقال مجاهد: " هو الندى " وهذا تجوز منه؛ ويقال: " طله الندى وأطله أيضا؛ قال: [الطويل] 1224 - (ولما نزلنا منزلا طله الندى ... ... ... ... ... ... ... ... ) ويجمع " طل " على طلال؛ نقول: طلت الأرض، وأطلها الندى فهي مطلولة قال الماوردي: وزرع الطل أضعف من زرع المطر، وأقل ريعا. (فصل) هذا مثل ضربه الله تعالى؛ لعمل المؤمن المخلص، فيقول: كما أن هذه الجنة تريع في كل حال، ولا تخلف سواء قل المطر أو كثر؛ كذلك يضعف الله صدقة المؤمن المخلص الذي لا يمن، ولا يؤذي سواء قلت نفقته أو كثرت، وذلك أن الطل إذا كان يدوم، يعمل عمل الوابل الشديد. وقيل: معناه إن لم يصبها وابل حتى تضاعف ثمرتها، فلا بد وأن يصيبها طل يعطي ثمرا دون ثمر الوابل، فهي على كل حال لا تخلو من ثمرة، فكذلك من أخرج صدقة لوجه الله تعالى، لا يضيع كسبه؛ قليلا كان، أو كثيرا. قوله: " والله بما تعملون بصير " هذا وعد، ووعيد. قرأ الجمهور: تعملون خطابا وهو واضح، فإنه من الالتفات من الغيبة إلى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 402 الخطاب الباعث على فعل الإنفاق الخالص لوجه الله تعالى، والزاجر عن الرياء والسمعة. وقرأ الزهري: بالياء على الغيبية، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يعود على المنفقين. والثاني: أن يكون عاما فلا يخص المنفقين، بل يعود على الناس أجمعين؛ ليندرج فيهم المنفقون اندراجا أوليا. والمراد من البصير: العليم، أي: هو تبارك وتعالى عالم بكمية النفقات وكيفيتها والأمور الباعثة عيلها، وأنه تعالى يجازي بها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 هذا مثالٌ آخر ذكره اللهُ تعالى في حقِّ من يُتبعُ إنفاقه بالمَنِّ والأَذَى، «الودُّ» : هو المحبةُ الكامِلةُ، والهمزةُ في «أَيَودُّ» للاستفهام، وهو بمعنى الإِنكارِ، وإنما قال: «أَيَوَدُّ» ، ولم يقل أَيُرِيد؛ لأنا ذكرنا أن المودة هي المحبةُ التامةُ، ومعلومٌ أن محبةَ كُلِّ أحدٍ لعدم هذه الحالة محبةً كاملة، فلهذا ذكر هذا اللفظ في جانب الثبوت؛ تنبيهاً على الإِنكار التَّام، والنفرةِ البالغةِ إلى الحد الذي لا مزيد فوقه. قوله تعالى: {مِّن نَّخِيلٍ} في محلِّ رفعٍ؛ صفةً لجنة، أي: كائنة من نخيل. و «نَخِيلٍ» فيه قولان: أحدهما: أنه اسم جمع. والثاني: أنه جمع «نَخْل» الذي هو اسم الجنسِ، ونحوه: كلب وكَلِيب، قال الراغب: «سُمِّي بذلك؛ لأنه منخولُ الأشجارِ، وصَفِيُّها؛ لأنه أكرمُ ما يَنْبُتُ» وذكر له منافع وشبهاً من الآدميين. والأعنابُ: جمع عِنَبَة، ويقال: «عِنَباء» مثل «سِيرَاء» بالمدِّ، فلا ينصرفُ. وحيثُ جاء في القرآن ذكرُ هذين، فإنما يَنصُّ على النخلِ دون ثمرتها، وعلى ثمرةِ الكَرْم دون الكَرْم؛ لأنَّ النخلَ كلَّه منافعُ، وأعظمُ منافِع الكَرْم ثَمرَتهُ دونَ باقيه. قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا} هذه الجملة في محلِّها وجهان: أحدهما: أنَّها في محلِّ رفعٍ؛ صفةً لجنة. والثاني: أنها في محلِّ نصب، وفيه أيضاً وجهان، فقيل: على الحال من «جنَّة» ؛ لأنها قد وُصِفَتْ. وقيل: على أنها خبرُ [تكون] نقله مكيّ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 403 قوله: {لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} جملة من مبتدإٍ، وخبرٍ، فالخبر قوله: «لَهُ» و «مِنْ» كُلِّ الثَّمَراتِ «هو المبتدأُ، وذلك لا يستقيمُ على الظاهر، إذ المبتدأُ لا يكونُ جارّاً ومجروراً؛ فلا بُدَّ من تأويله. واختلف في ذلك: فقيل: المبتدأ في الحقيقة محذوفٌ، وهذا الجارُّ والمجرورُ صفةٌ قائمةٌ مقامه، تقديره:» له فيها رِزقٌ من كلِّ الثمراتِ، أو فاكهةٌ مِنْ كلِّ الثمرات «فحُذف الموصوفُ، وبقيت صفتُه؛ ومثله قول النَّابغة: [الوافر] 1225 - كَأَنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أُقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنِّ أي: جملٌ من جمالِ بني أُقَيْشٍ، وقوله تعالى: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] أي: وما مِنَّا أحدٌ إِلاَّ له مقامٌ. وقيل:» مِنْ «زائدةٌ تقديره: له فيها كلُّ الثمرات، وذلك عند الأخفش؛ لأنه لا يَشْتَرِطُ في زيادتها شيئاً. وأمَّا الكُوفيُّون: فيشترطون التنكير، والبصريون يَشْتَرطونه وعدم الإِيجاب، وإذا قُلنا بالزيادة، فالمرادُ بقوله:» كُلِّ الثَّمَرَاتِ «التكثيرُ لا العموم، لأنَّ العُمومَ مُتعذِّرٌ. قال أبو البقاء: ولا يجوزُ أَنْ تكونَ» مِنْ «زائدةً، لا على قولِ سيبويه ولا قولِ الأخفشِ؛ لأنَّ المعنى يصيرُ: له فيها كُل الثمراتِ، وليسَ الأمرُ على هذا، إلاَّ أَنْ يُرادَ به هنا الكثرة لا الاستيعاب، فيجوزُ عند الأخفش؛ لأنه يُجَوِّزُ زيادةَ» مِنْ «في الواجب. فإن قيل: كيف عطف «وأَصَابَهُ» على «أيودُّ» ؟ وكيف يجوزُ عطفُ الماضي على المستقبل؟ فالجواب: من وجوه: أحدها: أَنَّ الواو للحالِ، والجملةُ بعدها في محلِّ نصبٍ عليها، و «قد» مقدَّرةٌ أي: وقد أصابه، وصاحبُ الحال هو «أَحَدُكُمْ» ، والعاملُ فيها «يَودُّ» ، ونظيرُها: {وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] ، وقوله تعالى: {وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا} [آل عمران: 168] أي: وقد كُنتم، وقد قَعَدوا. والثاني: أَن يكون قد وضع الماضي موضع المضارع، والتقديرُ «ويُصيبَه الكِبَر» كقوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ} [هود: 98] أي: يوردهُم. قال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 404 الفراء: يجوزُ ذلك في «يَوَدُّ» ؛ لأنه يُتَلَقَّى مرةً ب «أَنْ» ومرةً ب «لو» فجاز أن يُقَدَّر أحدُهما مكان الآخر. الثالث: أنه حُمِل في العطفِ على المعنى؛ لأنَّ المعنى: أَيَودُّ أحدُكم أَنْ لو كانَتْ، فأصابه الكِبَرُ، وهذا الوجهُ فيه تأويلُ المضارع بالماضي؛ ليصِحَّ عطفُ الماضي عليه، عكسُ الوجه الذي قبله، فإنَّ فيه تأويلَ الماضي بالمضارع. واستضعف أبو البقاء هذا الوجه؛ بأنه يُؤدّي إلى تغيير اللفظ مع صحّة المعنى. والزمخشريُّ نَحَا إلى هذا الوجه - أيضاً - فإنه قال «وقيل: يُقالُ: وَدِدْتُ لو كان كذا؛ فحُمِل العطفُ على المعنى، كأنه قيل: أَيَودُّ أحدُكم لو كانت له جَنَّةٌ، وأصابَه الكِبَرُ» . قال أبو حيان: «وظاهرُ كلامه أَنْ يكونَ» أَصَابَهُ «معطوفاً على متعلِّق» أَيَودُّ «وهو» أَنْ تَكُونَ «؛ لأنه في معنى» لَوْ كانَتْ «، إذ يقال: أيودُّ أحدكم لو كانت، وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه يمتنع من حيثُ المعنى أَنْ يكونَ معطوفاً على» كانت «التي قبلها» لو «؛ لأنه متعلَّق الوُدِّ، وأمَّا» أَصابَه الكِبَرُ «فلا يمكنُ أن يكون متعلَّق الودِّ؛ لأنَّ» أصَابه الكِبَرُ «لا يودُّه أَحَدٌ ولا يتمنَّاه، لكن يُحْمل قول الزمخشريُّ على أنه لمّا كان» أَيَوَدُّ «استفهاماً معناه الإِنكارُ جُعِلَ متعلَّقُ الودادةِ الجمع بين الشيئين، وهما: كونُ جنةٍ له، وإصابةُ الكِبَر إياه، لا أنَّ كلَّ واحد منهما يكونُ مَوْدُوداً على انفراده، وإنما أَنكروا ودادة الجمع بينهما» . قوله تعالى: {وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ} هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من الهاءِ في «وأَصابَه» ، وقد تقدَّم اشتقاقُ الذريَّة. وقُرئ «ضِعافٌ» ، وضُعفاءُ، وضعاف، منقاسان في ضعيف، نحو: ظريف، وظُرَفَاء، وظِراف، وشَريف، وشُرَفاء وشِراف. قوله: {فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ} هذه الجملة عطفٌ على صفةِ الجنة قبلها، قاله أبو البقاء. يعني على قوله تعالى: {مِّن نَّخِيلٍ} وما بعده. وأتى في هذه الآياتِ كلِّها بلفظ الإِصابة نحو فأصابه وَابِلٌ، وأَصابَه الكِبَر، فأصابها إعصارٌ؛ لأنه أبلغُ، وأَدَلُّ على التأثير بوقوعِ الفعلِ على ذلك الشيء، من أنه لم يُذكر بلفظ الإِصابة، حتى لو قيل: «وَبَل» ، و «كَبِر» ، و «أَعْصَرَتْ» لم يكن فيه ما في لفظِ الإِصابة من المبالغةِ. والإِعصارُ: الريحُ الشديدةُ المُرتفعةُ، وتُسَمِّيها العامَّةُ: الزَّوبعة. وقيل: هي الريحُ السَّموم، سُمِّيت بذلك؛ لأنها تَلُفُّ كما يُلَفُّ الثوبُ المعصورُ، حكاه المهدوي. وقيل: لأَنها تَعْصِر السَّحابَ، وتُجمع على أَعَاصير، قال: [البسيط] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 405 1226 - أ - وَبَيْنَما المَرْءُ فِي الأَحْيَاءِ مُغْتَبِطٌ ... إِذْ هُوَ فِي الرَّمْسِ تَعْفُوهُ الأَعَاصِيرُ والإعصارُ من بين سائر أسماءِ الريحِ، مذكرٌ، ولهذا رجع إليه الضمير مذكَّراً في قوله: «فيه نارٌ» . و «نَارٌ» يجوز فيه الوجهان: أعني الفاعلية، والجارُّ قبلها صفةٌ ل «إِعْصار» والابتدائية، والجارُّ قبلها خبرها، والجملة صفةُ «إِعْصارٌ» ، والأول أَولى؛ لما تقدَّم من أنَّ الوصف بالمفرد أَولى، والجارُّ أقربُ إليه من الجملة. قوله: {فاحترقت} أي: أحرقها، فاحترَقَتْ، فهو مطاوعٌ لأَحْرق الرباعي، وأمَّا «حَرَقَ» من قولهم: «حَرَقَ نابُ الرجُلِ» إذا اشتدَّ غيظهُ، فيُستعمل لازِماً، ومتعدِّياً، قال: [الطويل] 1226 - ب - أَبَى الضَّيْمَ وَالنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نَابُهُ ... عَلَيْه فَأَفْضَى وَالسُّيُوفُ مَعَاقِلُهْ رُوي برفع «نَابهُ» ونصبه، وقوله {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات} إلى آخره قد تقدَّم نظيرُه. فصل قال عبيد بن عمير: قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لأصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فيمن ترون هذه الآية نزلت {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ} ؟ قالوا: الله أعلم، فغضب عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال: قولوا: نعلم، أو لا نعلم، فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين، فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يا ابن أخي، قل ولا تحقر نفسك، فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ضُرِبَت مثلاً لعمل فقال عمر: أيُّ عملٍ؟ فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لعمل منافقٍ، ومراءٍ، قال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لأي رجل؟ قال لرجل غني يعمل بطاعة الله، بعث الله له الشيطان؛ فعمل بالمعاصي؛ حتى أحرق أعماله. وقال المفسّرون: هذا مثلٌ ضربه الله تعالى لعمل المنافق، والمرائي، يقول: عمله في حسنه كحسن الجنَّة، كما ينتفع صاحب الجنَّة بالجنة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 406 {مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} وإنما خصهما بالذكر؛ لأنهما أشرف الفواكه وأحسنها منظراً حيث تكون باقيةً على الأشجار، ووصف تلك الجنَّة بأن الأنهار تجري من تحتها، وذلك زيادةٌ في الحسن، وأنَّ فيها من كلِّ الثمرات، وهذا سبب لكمال حال هذه الجنَّة من الرؤية، والمنظر، وكثرة النَّفع، والرَّيع، ولا يمكن الزيادة على ذلك، فإذا كبر أو ضعف وصار له أولادٌ ضعافٌ، أي: بسبب الصِّغر، والطفوليَّة، فإنه إذا صار كبيراً؛ عجز عن الاكتساب، وكثرت جهات حاجاته في مطعمه، وملبسه، ومسكنه، ومن يقوم بخدمته، وتحصيل مصالحه، فإذا تزايدت حاجاته، وتناقصت جهات مكسبه، أصاب جنَّته إعصار فيه نارٌ فاحترقت، وهو أحوج ما يكون إليها، وضعف عن إصلاحها؛ لكبره، وضعف أولاده عن إصلاحها؛ لصغرهم، فلم يجد هو ما يعود به على أولاده، ولا أولاده ما يعودون به عليه، فبقوا جميعاً متحيرين عجزةً لا حيلة بأيديهم، كذلك يبطل الله عمل هذا المنافق، والمرائي حيث لا مغيث لهما، ولا توبة، ولا إقالة، ونظير هذه الآية الكريمة {وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] وقوله تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 اعلم أنه تعالى لما ذكر الانفاق على قسمين، وبين كل قسم وضرب له مثلاً، ذكر في هذه الآية كيفية الإِنفاق. قوله تعالى: {أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ} : في مفعول «أَنْفِقُوا» قولان: أحدهما: أنه المجرور ب «مِنْ» ، و «مِنْ» للتبعيض، أي: أنفقوا بعض ما رزقناكم. والثاني: أنه محذوفٌ قامت صفته مقامه، أي: شيئاً ممَّا رزقناكم، وتقدَّم له نظائر. و «ما» يجوز أن تكون موصولةً اسمية، والعائد محذوفٌ؛ لاستكمال الشروط، أي: كسبتموه، وأن تكون مصدريةً أي: من طيِّبات كسبكم، وحينئذٍ لا بدَّ من تأويل هذا المصدر باسم المفعول، أي: مكسوبكم، ولهذا كان الوجه الأول أولى. و {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا} عطفٌ على المجرور ب «مِنْ» بإعادة الجار، لأحد معنيين: إمَّا التأكيد، وإمَّا للدلالة على عاملٍ آخر مقدرٍ، أي: وأنفقوا ممَّا أخرجنا. ولا بدَّ من حذف مضافٍ، أي: ومن طيبات ما أخرجنا. و «لكم» متعلِّقٌ ب «أخرجنا» ، واللام للتعليل. و «مِنَ الأرض» متعلِّقٌ ب «أخرجنا» ، و «مِنْ» لابتداء الغاية. قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} الجمهور على «تَيَمَّموا» ، والأصل: تتيمموا بتاءين، فحذفت إحداهما تخفيفاً: إمَّا الأولى، وإمَّا الثانية، وقد تقدّم تحريره عند قوله: {تَظَاهَرُونَ} [البقرة: 85] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 407 وقرأ البزِّيُّ هنا وفي مواضع أُخر بتشديد التاء، على أنه أدغم التاء الأولى في الثانية، وجاز ذلك هنا وفي نظائره؛ لأنَّ الساكن الأول حرف لين، وهذا بخلاف قراءته {نَاراً تلظى} [الليل: 14] {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ} [النور: 15] فإنه فيه جمع بين ساكنين، والأول حرفٌ صحيحٌ، وفيه كلامٌ لأهل العربية، يأتي ذكره إن شاء الله تعالى. قال أبو علي: هذا الإدغام غير جائزٍ؛ لأنَّ المدغم يسكَّن، وإذا سكِّن، وجب أن تجلب همزة الوصل عند الابتداء به كما جلبت في أمثلة الماضي، نحو {فادارأتم} [البقرة: 72] و {ارتبتم} [المائدة: 106] و {اطيرنا} [النمل: 47] . لكن أجمعوا على أنَّ همزة الوصل لا تدخل على المضارع. وقرأ ابن عباس، والزُّهريُّ «تُيَمِّمُوا» بضم التاء، وكسر الميم الأولى، وماضيه: يمَّم، فوزن «تُيَمَّمُوا» على هذه القراءة: تفعِّلوا من غير حذفٍ، وروي عن عبد الله «تُؤَمِّموا» من أمَّمت، أي: قصدت. والتيمم: القصد، يقال: أمَّ ك «رَدَّ» ، وأمَّم ك «أخَّر» ، ويمَّم، وتيمَّم بالتاء، والياء معاً، وتأمَّم بالتاء والهمزة. وكلُّها بمعنى قصد. وفرَّق الخليل - رَحِمَهُ اللَّهُ - بينها بفروقٍ لطيفةٍ، فقال: «امَّمْتُه أي قصدت أمامه، ويمَّمْتُه: قصدته من أيِّ جهةٍ كان» . والخبيث والطيب: صفتان غالبتان، لا يذكر موصوفهما؛ قال تعالى: {والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ والطيبات لِلطَّيِّبِينَ والطيبون لِلْطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] ، {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} [الأعراف: 157] ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مِنَ الخُبْثِ، والخَبائث» . قوله: {مِنْهُ تُنْفِقُونَ} «منه» متعلِّقٌ بتنفقون، وتنفقون فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الفاعل في «تَيَمَّموا» أي: لا تقصدوا الخبيث منفقين منه، قالوا: وهي حالٌ مقدَّرة، لأن الإنفاق منه يعق بعد القصد إليه، قاله أبو البقاء وغيره. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 408 والثاني: أنها حالٌ من الخبيث؛ لأن في الجملة ضميراً يعود إليه، أي: لا تقصدوا منفقاً منه. والثالث: أنه مستأنف منه ابتداء إخبار بذلك، وتمَّ الكلام عند قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} ثم ابتدأ خبراً آخر، فقال: تنفقون منه، وأنتم لا تأخذونه إلا إذا أغمضتم، كأن هذا عتابٌ للناس، وتقريعٌ. والتقدير: تنفقون مع أنكم لستم بآخذيه إلا مع الإغماض، فهو استفهامٌ على سبيل الإنكار. قال شهاب الدِّين: وهذا يردُّه المعنى. فصل في بيان المراد من النفقة اختلفوا في المراد بهذه النفقة: فقال الحسن: المراد بها الزكاة المفروضة؛ لأن هذا أمرٌ، والأمر للواجب. وقال قومٌ: صدقة التطوع؛ لما روي عن علي، والحسن، ومجاهد: أنهم قالوا: كانوا يتصدَّقون بشرار ثمارهم، ورديء أموالهم؛ فنزلت هذه الآية. «وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال جاء رجلٌ ذات يوم بعذق خشف فوضعه في الصَّدقة. فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» بِئْسَ مَا صَنَعَ صاحبُ هذا «فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال آخرون: المراد الفرض، والنفل؛ لأن المفهوم من الأمر ترجيح جانب الفعل على جانب الترك من غير أن يكون فيه بيان أنه يجوز الترك أو لا يجوز وهذا المفهوم قدرٌ مشتركٌ بين الفرض والنَّفل؛ فوجب أن يدخلا فيه، فعلى القول بأنَّه الزكاة فنقول: ظاهر الآية يدلُّ على وجوب الزكاة في كل مال يكتسبه الإنسان، من الذَّهب، والفضَّة، والتجارة، وزكاة الإبل، والغنم، والبقر؛ لأن ذلك مما يوصف بأنه مكتسبٌ. قال القرطبيُّ: والكسب يكون بتعب بدنٍ، وهي الإجارة، أو مقاولة في تجارةٍ، وهو البيع، والميراث داخلٌ في هذا؛ لأن غير الوارث قد كسبه. وقال ابن خويزمنداد: ولهذه الآية جاز للوالد أن يأكل من كسب ولده؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أَوْلاَدُكُمْ مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ فَكُلُوا مِنْ أَمْوَالِ أَوْلاَدِكُمْ هَنِيئاً «. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 409 قوله: {وَمِمَّآ أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض} يدلُّ على وجوب الزَّكاة في كل ما تنبته الأرض، على ما هو قول أبي حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وخصَّ مخالفوه هذا العموم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» لَيْسَ في الخُضْرَوَاتِ صَدَقَةٌ «وأستدل أبو حنيفة - رَحِمَهُ اللَّهُ - أيضاً بهذه الآية الكريمة على وجوب إخراج الزكاة من كلِّ ما أنبتته الأرض، قليلاً كان، أو كثيراً؛ لظاهر الآية وخصَّ مخالفوه هذا العموم بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَة أَوْسُق صَدَقَةٌ» . أما المعدن والرِّكازُ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «العَجْمَاءُ جَرْحُها جُبَارٌ، والبِئْرُ جُبَارٌ، والمعْدنُ جُبَارٌ، وفي الرِّكاز الخمسُ» الجبار: الهدر الذي لا شيء فيه، والعجماء: الدَّابَّة، والرِّكاز: هو ما دفنه أهل الجاهلية وعليه علامتهم. فصل اختلفوا في الطِّيب: فقيل: هو الجيد، فعلى هذا يكون الخبيث هو الرديء. وقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 410 ابن مسعودٍ، ومجاهدٌ، والسدّي: الطيب هو الحلال، وعلى هذا، فالخبيث هو الحرام. حجة الأول ما ذكرنا في سبب النزول، ولأن المحرم لا يجوز أخذه؛ لا بإغماضٍ ولا غيره، والآية تدلُّ على جواز أخذه بالإغماض. قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويمكن أن يجاب عن هذا بأن الإغماض: المسامحة، وترك الاستقصاء، فيكون المعنى: ولستم بآخذيه، وأنتم تعلمون أنه محرَّم؛ إلاَّ أن ترخصوا لأنفسكم أخذ الحرام، ولا تبالون من أيِّ وجهٍ أخذتم المال أمن حلالٍ، أم حرام. واحتجُّوا - أيضاً - بقوله تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] وذلك يؤكد أنَّ المراد بالطيب هو النَّفيس الذي يستطاب تملكه، لا الخسيس الذي يرفضه كل أحد واحتجَّ القاضي للقول الثاني: بأنَّا أجمعنا على أن الطِّيب في هذه الآية؛ إمَّا الجيد؛ وإما الحلال، فإذا بطل الأول، تعيَّن الثاني. وإنما قلنا: بطل الأول؛ لأن المراد لو كان هو الجيد، لكان ذلك أمراً بإنفاق مطلق الجيِّد سواءٌ كان حلالاً أو حراماً، وذلك غير جائزٍ، والتزام التخصيص خلاف الأصل؛ فتعين الحلال. قال ابن الخطيب: ويمكن أن يذكر فيه قولٌ ثالثٌ، وهو: أن المراد من «الطِّيِّب» - هاهنا - ما يكون طيِّباً من كلِّ الوجوه، فيكون طيّباً بمعنى: الحلال، ويكون طيِّباً بمعنى: الجودة، وليس لقائلٍ أن يقول إنَّ حمل اللفظ المشترك على مفهوميه، لا يجوز؛ لأنا نقول: الحلال إنما يسمى طيِّباً؛ لأنه يستطيبه العقل، والدِّين، والجيد: إنما يسمَّى طيباً؛ لأنه يستطيبه الميل، والشهوة. فمعنى الاستطابة مفهومٌ واحدٌ مشترك بين القسمين، فكان اللفظ محمولاً عليه. إذا ثبت أنَّ المراد منه الجيد الحلال؛ فنقول: الأموال الزكاتيَّة إما أن تكون كلُّها شريفةً، أو كلها خسيسةٌ، أو تكون متوسطة أو مختلطة، فإن كان الكل شريفاً، كان المأخوذ بحساب الزكاة كذلك، وإن كان الكل خسيساً، كانت الزكاة كذلك، أيضاً، ولا يكون ذلك خلافاً للآية؛ لأن المأخوذ في هذه الحالة لا يكون خسيساً من ذلك المال بل إذا كان في المال جيد ورديء، فحينئذٍ يقال للإنسان: لا تجعل الزكاة من رديء مالك، وأمَّا إن كان المال مختلطاً، فالواجب هو الوسط، «قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لمعاذٍ حين بعثه إلى اليمن:» إِيَّاكَ وكَرَائِمَ أَمْوَالهمْ «وأما إن قلنا: المراد صدقة التطوع أو كلاهما، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 411 فنقول: إنَّ الله تعالى ندبهم إلى التقرُّب إليه بأفضل ما يملكونه، كمن يتقرب إلى السُّلطان بتحفة، وهدية، فلا بدّ وأن تكون تلك التحفة أفضل ما في ملكه، فكذا - هاهنا -. قوله: {وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ} هذه الجملة فيها قولان: أحدهما: أنها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب، وإليه ذهب أبو البقاء. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال، ويظهر هذا ظهوراً قوياً عند من يرى أن الكلام قد تمَّ عند قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} وما بعده استئنافٌ، كما تقدَّم. والهاء في {بِآخِذِيهِ} تعود على «الخَبِيث» وفيها، وفي نحوها من الضمائر المتصل باسم الفاعل؛ قولان مشهوران: أحدهما: أنها في محلِّ جر، وإن كان محلُّها منصوباً؛ لأنها مفعولٌ في المعنى. والثاني: - وهو رأي الأخفش - أنها في محلِّ نصبٍ، وإنما حذف التنوين، والنون في نحو: «ضَارِبُنْكَ» بثبوت التنوين، وقد يستدلُّ لمذهبه بقوله: [الطويل] 1227 - هُمُ الفَاعِلُونَ الخَيْرَ والآمِرُونَهُ ..... ... ... ... ... ... ... ... وقوله الآخر: [الطويل] 1228 - وَلَمْ يَرْتَفِقْ وَالنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ ..... ... ... ... ... ... ... ... . فقد جمع بين النون النائبة عن التنوين، وبين الضمير. قوله: {إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ} الأصل: إلاَّ بأن، فحذف حرف الجرِّ مع «أنْ» فيجيء فيها القولان: أهي في محلِّ جرٍّ، أم نصب؟ وهذه الباء تتعلَّق بقوله: {بِآخذيه} . وأجاز أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن تكون «أنْ» وما في حيِّزها في محلِّ نصب على الحال، والعامل فيها «آخِذيه» . والمعنى: لَسْتُم بآخذِيه في حالٍ من الأحوال إلا في حال الإغماض، وقد تقدَّم أنَّ سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا يجيز أن تقع «أَنْ» ، وما في حيِّزها موقع الحال. وقال الجزء: 4 ¦ الصفحة: 412 الفراء: المعنى على الشرط والجزاء؛ لأنَّ معناه: إن أغمضتم أخذتم، ولكن لمَّا وقعت «إلاَّ» على «أَنْ» ، فتحها، ومثله، {إِلاَّ أَن يَخَافَآ} [البقرة: 229] {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ} [البقرة: 237] . وهذا قول مردودٌ. والجمهور على: «تُغْمِضُوا» بضمِّ التاء، وكسر الميم مخففةً؛ من «أَغْمَض» ، وفيه وجهان: أحدهما: أنه على حذف مفعوله، تقديره: تغمضوا أبصاركم، أو بصائركم. والثاني: في معنى ما لا يتعدَّى، والمعنى إلاَّ أن تغضوا، من قولهم: «أَغْضَى عنه» . وقرأ الزهريُّ: «تُغَمِّضُوا» بضم التاء، وفتح الغين، وكسر الميم مشددةً؛ ومعناها كالأولى. وروي عنه أيضاً: «تَغْمَضُوا» بفتح التاء، وسكون الغين، وفتح الميم؛ مضارع «غَمِضَ» بكسر الميم، وهي لغةٌ في «أَغْمض» الرباعي، فيكون ممَّا اتفق فيه فعل وأفعل. وروي عن اليزيديّ: «تَغْمُضُوا» بفتح التاء، وسكون الغين، وضمِّ الميم. قال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهو مِنْ: يَغْمُضُ، كظرفُ يظرُفُ، أي: خَفِيَ عليكم رأيُكم فيه» . وروي عن الحسن: «تُغَمَّضُوا» بضمِّ التاء، وفتح الغين، وفتح الميم مشددةً على ما لم يسمَّ فاعله. وقتادة كذلك، إلا أنه خفَّف الميم، والمعنى: إلاَّ أن تحملوا على التغافل عنه، والمسامحة فيه. وقال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قراءة قتادة: «ويجوزُ أن يكون مِنْ أغْمَضَ، أي: صودف على تلك الحال؛ كقولك: أَحْمَدْتُ الرجُلَ، أي: وجدته مَحْمُوداً» وبه قال أبو الفتح. وقيل فيها أيضاً: إنَّ معناها إلاَّ أن تدخلوا فيه وتجذبوا إليه. والإغماض: في اللغة غضُّ البصر، وإطباق الجفن، وأصله من الغموض، وهو الخفاء، يقال: هذا كلامٌ غامضٌ أي خفي الإدراك. قال القرطبيُّ: من قول العرب: أغمض الرجل؛ إذا أتى غامضاً من الأمر؛ كما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 413 تقول: أعمن الرجل: إذا أتى عمان، وأعرق: إذا أتى العراق، وأنجد: إذا أتى نجداً، وأغار: إذا أتى الغور الذي هو تهامة. أو من أغمض الرجل في أمر كذا: إذا تساهل فيه، والغمض: المتطامن الخفيُّ من الأرض، فقيل المراد به في الآية المساهلة؛ لأن الإنسان إذا رأى ما يكره أغمض عينيه؛ لئلا يرى ذلك، ثم كثر ذلك؛ حتى جُعِل كل تجاوزٍ، ومساهلةٍ في البيع، وغيره إغماضاً، فتقديره في الآية: لو أُهْدِي إليكم مثل هذه الأشياء، لما أخذتموها إلاَّ على استحياءٍ، وإغماضٍ، فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟! قاله البراء. وقيل معناه: لو كان لأحدكم على رجل حقٌّ، فجاءه بهذا لم يأخذه إلاَّ وهو يرى أنه قد أغمض له عن حقِّه، وتركه. وقال الحسن، وقتادة: لو وجدتموه يباع في السوق، ما أخذتموه بسعر الجيد؛ إلاَّ إذا أغمضتم بصر البائع، يعني أمرتموه بالإغماض، والحطِّ من الثمن. ثم قال: {واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ} والمعنى أنَّه غنيٌّ عن صدقاتكم، و «الحميد» أي: محمودٌ على ما أنعم بالبيان. وقيل: قوله: «غَنِيٌّ» كالتَّهديد على إعطاء الرديء في الصدقات، و «حَمِيدٌ» : بمعنى حامدٍ، أي: أنا أحمدكم على ما تفعلونه من الخيرات، وهو كقوله تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} [الإسراء: 19] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 قوله تعالى: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء ... } الآية: مبتدأٌ وخبرٌ، وتقدَّم اشتقاق الشيطان، وما فيه عند الاستعاذة. ووزن يعدكم: يعلكم بحذف الفاء، وهي الواو؛ لوقوعها بين ياءٍ، وكسرةٍ، وقرأ الجمهور: «الفَقْر» بفتح الفاء، وسكون القاف، وروى أبو حيوة، عن بعضهم: «الفُقْر» بضم الفاء وهي لغةٌ، وقرئ «الفَقَر» بفتحتين. والوعد: يستعمل في الخير، والشَّرِّ؛ قال تعالى في الخبر: {وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً} [الفتح: 20] وقال في الشَّرِّ: {النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} [الحج: 72] ويمكن أن يحمل هذا على التهكم به كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] فإذا لم يذكر الخير والشر، قلت في الخير: وعدته، وفي الشر أوعدته؛ قال: [الطويل] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 414 1229 - وَإِنِّيَ إِنْ أَوْعَدتُهُ أَوْ وَعَدتُهُ ... لَمُخْلِفُ إِيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي والفَقْر والفُقْر لغتان؛ وهو الضعيف بسبب قلَّة المال، وأصله في اللغة: كسر الفقار، يقال: رجلٌ فقيرٌ وفَقِرٌ، إذا كان مكسور الفقار؛ قال طرفة: [الرمل] 1230 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... إِنَّنِي لَسْتُ بِمَوْهُونٍ فَقِرْ وسيأتي له مزيد بيان في قوله: «لِلْفُقَراءِ» . فصل في المراد من الآية معنى الآية الكريمة أن الشيطان يخوّفكم الفقر، ويقول للرجل: أمسك عليك مالك؛ فإنك إذا تصدقت به افتقرت. وهذه أوجه اتصال هذه الآية بما قبلها. قيل المراد ب «الشيطان» : إبليس، وقيل: شياطين الجن، والإنس. وقيل: النَّفس الأمَّارة بالسُّوء. {وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} أي: بالبخل، ومنع الزكاة. قال الكلبي: كلُّ فحشاء في القرآن فهو الزنا إلاَّ هذا، والفاحش عند العرب: البخيل، قال طرفة: [الطويل] 1231 - أَرَى المَوْتَ يَعْتَامُ الكِرَامَ وَيَصْطَفِي ... عَقِيلَةَ مَالِ الفَاحِشِ المُتَشَددِ «يعتامُ» : منقولٌ من عام فلانٌ إلى اللبن، إذا اشتهاه، وقد نبَّه الله تعالى في هذه الآية الكريمة على لطيفةٍ، وهي أنَّ الشيطان يخوفه أولاً بالفقر، ثم يتوصل بهذا التخويف إلى أن يأمره بالفحشاء، ويغريه على البخل؛ وذلك لأن البخل صفةٌ مذمومةٌ عند كل أحد فالشيطان لا يمكنه تحسين البخل في عينه إلاَّ بتقديم تلك المقدمة، وهي التخويف من الفقر، وقيل «الفَحْشَاءُ» : هو أن يقول: لا تنفق الجيد من مالك في طاعة الله تعالى؛ لئلا تصير فقيراً؛ فإذا أطاع الرجل الشيطان في ذلك، زاد الشيطان فيمنعه من الإنفاق بالكلية؛ حتى لا يعطي الجيد، ولا الرديء، وحتى يمنع الحقوق الواجبة، فلا يؤدِّي الزكاة، ولا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 415 يصل الرحم، ولا يردُّ الوديعة، فإذا صار هكذا، سقط وقع الذنوب عن قلبه، ويصير غير مبالٍ بارتكابها، وهناك يتَّسع الخرق، ويصير مقداماً على كلِّ الذنوب، وذلك هو الفحشاء، وتحقيقه: أنَّ لكل خلقٍ طرفين، ووسطاً، فالطرف الكامل: هو أن يكون بحيث يبذل كلَّ ما يملكه في سبيل الله: الجيِّد، والرديء، والطرف الفاحش النَّاقص لا ينفق شيئاً في سبيل الله: لا الجيد، ولا الرديء، والمتوسط بأن يبخل بالجيد، وينفق الرديء، فالشيطان إذا أراد نقله من الطرف الفاضل إلى الطرف الفاحش، لا يمكنه إلاَّ بأن يجره إلى الوسط، فإن عصى الإنسان الشيطان في هذا المقام، انقطع طمع الشيطان عنه، وإن أطاعه فيه، طمع في أن يجرَّه من الوسط إلى الطرف الفاحش، فالوسط: هو قوله تعالى: {يَعِدُكُمُ الفقر} والطرف الفاحش قوله تعالى: {وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} . وقال القرطبيُّ: «الفَحْشَاءُ» : المعاصي، قال: ويجوز في غير القرآن: ويأمركم الفحشاء بحذف الباء، وأنشد سيبويه: [البسيط] 1232 - أ - أَمَرْتُكَ الخَيْرَ فَافْعَلْ مَا أُمِرْتَ بِهِ ... فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وَذَا نَشَبٍ فصل في بيان هل الفقر أفضل من الغنى؟! تمسك بعضهم بهذه الآية في أنَّ الفقر أفضل من الغنى، لأن الشيطان إنما يبعد العبد من الخير، وهو بتخويفه الفقر يبعد منه. قال ابن عطية: وليس في الآية حجَّةٌ؛ لقوله تعالى: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين} [سبأ: 39] ثم قال: {والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ} لذنوبكم، كقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] . وفي الآية لفظان يدلان على كمال هذه المغفرة: أحدهما: التنكير في لفظ «المغْفِرَةِ» ، والمعنى: مغفرةٌ وأيُّ مغفرة. والثاني: قوله: «مَغْفِرَةً مِنْه» يدل على كمال حال هذه المغفرة؛ لأن كمال كرمه ونهاية جوده، معلومٌ لجميع العقلاء، فلما خص هذه المغفرة بكونها منه، علم أنَّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 416 المقصود تعظيم حال هذه المغفرة؛ لأنَّ عظم المعطي يدلُّ على عظم العطيَّة. قوله: {مِّنْهُ} فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنه نعتٌ لمغفرة. والثاني: أن يكون مفعولاً متعلقاً بيعد، أي: يعدكم من تلقاء نفسه. و {وَفَضْلاً} صفته محذوفةٌ، أي: وفضلاً منه، وهذا على الوجه الأول، وأمَّا الثاني، فلا حذف فيه. فصل يحتمل أن يكون المراد من كمال هذه المغفرة ما قاله في آيةٍ أخرى: {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ، ويحتمل أن يجعل شفيعاً في غفران ذنوب سائر المذنبين، ويحتمل أن يكون المقصود أمراً لا يصل إليه عقلنا ما دمنا في دار الدنيا، فإن تفاصيل أحوال الآخرة أكثرها محجوبة عنا، ما دمنا في الدنيا. وأمَّا معنى الفضل، فهو الرزق، والخلف المعجَّل في الدنيا. ثم قال تعالى: {والله وَاسِعٌ} ، أي: واسع المغفرة والقدرة على إغنائكم، وإخلاف ما تنفقونه {عَلِيمٌ} لا يخفى عليه ما تنفقون؛ فهو يخلفه عليكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 قال السَّدِّي: هي النبوة. وقال ابن عباس، وقتادة: علم القرآن: ناسخه، ومنسوخه، ومحكمه، ومتشابهه، ومقدّمه، ومؤخره، وحلاله، وحرامه، وأمثاله. قال الضحاك: في القرآن مائةٌ وتسع آياتٍ، ناسخةٌ ومنسوخةٌ، وألف آية حلالٌ وحرامٌ، لا يسع المؤمنين تركهن، حتى يتعلموهنَّ، ولا يكونوا كأهل النهروان فإنهم تأوَّلوا آيات من القرآن في أهل القبلة، وإنما أنزلت في أهل الكتاب، جهلوا علمها، فسفكوا بها الدماء، وانتهبوا الأموال، وشهدوا علينا بالضلال، فعليكم تعلم القرآن؛ فإنه من علم فيما أُنزل؛ لم يختلف في شيء منه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 417 وقال مجاهد: هي القرآن، والعلم، والفقه، وروى ابن أبي نجيح عنه هي الإصابة في القول، والفعل. وقال إبراهيم النخعيُّ: هي معرفة معاني الأشياء، وفهمها. وروي عن مقاتل، قال: تفسير الحكمة في القرآن على أربعة أوجه: أحدها: مواعظ القرآن. قال: {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] وفي النساء {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} [النساء: 113] يعني المواعظ ومثلها في آل عمران. وثانيها: الحكمة بمعنى: الفهم، والعلم قال {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} [مريم: 12] وفي لقمان: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة} [لقمان: 12] يعني الفهم، والعلم، وفي الأنعام {أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب والحكم والنبوة} [الأنعام: 89] وفي «ص» {وَآتَيْنَاهُ الحكمة} [ص: 20] . وثالثها: النبوة. ورابعها: القرآن بما فيه من عجائب الأسرار، قال في النحل: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة} [النحل: 125] وفي هذه الآية {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} وعند التحقيق ترجع هذه الوجوه إلى العلم. قال أبو مسلم: الحكمة: فعلةٌ من الحكم، وهي كالنَّحلة: من النَّحل، ورجلٌ حكيمٌ إذا كان ذا حِجًى، ولُبَّ، وإصابة رأي وهو في هذا الموضع في معنى الفاعل، ويقال: أمر حكيمٌ، أي: محكمٌ. قوله تعالى: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ} : الجمهور على «يُؤْتِي» «وَمَنْ يُؤْتَ» بالياء فيهما، وقرأ الريع بن خيثم: بالتاء على الخطاب فيهما. وهو خطابٌ للباري؛ على الالتفات. وقرأ الجمهور: «وَمَنْ يُؤْتَ» مبنياً للمفعول، والقائم مقام الفاعل ضمير «مَنْ» الشرطية، وهو المفعول الأول فتكون في محل رفع، و «الحكمة» مفعول ثانٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 418 وقرأ يعقوب: «يُؤْتِ» مبنياً للفاعل، والفاعلُ ضميرُ الله تعالى، و «مَنْ» مفعولٌ مقدمٌ، و «الحكمة» مفعولٌ ثانٍ؛ كقولك: «أَيّاً يُعْطِ زيداً دِرْهماً أُعْطِه درهماً» ويدل لهذه القراءة قراءة الأعمش. وقال الزمخشريُّ: بمعنى «وَمْن يُؤْتِهِ اللهُ» . قال أبو حيان: «إِن أرادَ تفسير المعنى، فهو صحيحٌ، وإن أراد الإعراب، فليس كذلك؛ إذ ليس ثمَّ ضمير نصب محذوفٌ، بل مفعول» يُؤْتِ «من الشرطية المتقدمة» . قال شهاب الدين: ويؤيِّد تقدير الزمخشري قراءة الأعمش. قوله: {فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} جواب الشرط، والماضي المقترن بقد، الواقع جواباً للشرط، تارةً يكون ماضي اللفظ مستقبل المعنى، كهذه الآية الكريمة، فهو الجواب حقيقةً، وتارةً يكون ماضي اللفظ، والمعنى نحو: {وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ} [فاطر: 4] فهذا ليس جواباً، بل الجواب محذوفٌ، أي: فتسلَّ، فقد كذِّبت رسلٌ، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى. والتنكير في «خَيْراً» قال الزمخشريُّ: يفيد التعظيم، كأنه قال: فقد أُوتي [أيَّ] خير كَثيرٍ «. قال أبو حيَّان: وتقديره هكذا، يؤدي إلى حذف الموصوف ب» أَيَّ «وإقامة الصفة مقامه، فإنَّ التقدير: فقد أُوتِيَ خيراً أي خيرٍ كثيرٍ، وحذف» أيَّ «الواقعة صفةً، وإقامة المضاف إليها مقامها، وكذلك وصف ما يضاف إليه» أيَّ «الواقعة صفةً، نحو: مررت برجلٍ أيِّ رجلٍ كريم، وكلُّ هذا يحتاج في إثباته إلى دليلٍ، والمحفوظ عن العرب: أنَّ» أيّاً «الواقعة صفةً تضاف إلى ما يماثل الموصوف نحو: 1232 - ب - دَعَوْتُ امْرَأً أَيَّ امْرِئٍ فَأَجَابَنِي ... وَكُنْتُ وَإِيَّاهُ مَلاَذاً وَمَوْئِلاً وقد يحذف المصوف ب» أي «؛ كقوله: [الطويل] 1233 - أ - إِذَا حَارَبَ الحَجَّاجُ أَيَّ مُنَافِقٍ ... عَلاَهُ بِسَيْفٍ كُلَّما هُزَّ يَقْطَعُ تقديره: منافقاً أيَّ منافقٍ، وهذا نادرٌ، وقد تقدم أنَّ تقدير الزمخشريِّ كذلك، أعني كونه حذف موصوف» أيّ «كقراءة الأعمش بإثبات» ها «الضمير و» مَنْ «في قراءته مبتدأٌ، لاشتغال الفعل بمعموله، وعند من يجوِّز الاشتغال في أسماء الشَّرط، والاستفهام، يجوز في» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 419 مَنْ «النصب بإضمار فعلٍ، وتقديره متأخراً والرفع على الابتداء، وقد تقدم نظائر هذا. فصل في دفع شبهة للمعتزلة احتجُّوا بهذه الآية الكريمة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى؛ لأن الحكمة إن فسرناها بالعلم، لم تكن مفسرة بالعلوم الضرورية؛ لأنها حاصلة للبهائم، والمجانين، والأطفال، وهذه الأشياء لا توصف بأنها حكمة، فهي مفسرة بالعلوم النظرية، وإن فسرناها بالأفعال الحسية فالأمر ظاهرٌ، وعلى التقديرين: فيلزم أن يكون حصول العلوم النظرية، والحسية ثابتاً من غيرهم، وبتقدير مقدِّرٍ من غيرهم، وذلك الغير ليس إلا الله تعالى بالاتفاق. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكون المراد من الحكمة النبوة أو القرآن، أو قوة الفهم أو الخشية، على ما قال الرَّبيع بن أنسٍ؟ فالجواب: إنَّ الدليل الذي ثبت بالتواتر أنه يستعمل لفظ الحكيم في غير الأنبياء فتكون الحكمة مغايرة للنبوة والقرآن، بل هي مفسرة: إمَّا بمعرفة حقائق الأشياء، أو بالإقدام على الأفعال الحسنة الصائبة، وعلى التقديرين، فالمقصود حاصلٌ فإن حاولت حمل الإيتاء على التوفيق، والإعانة، والألطاف، قلنا: كل ما فعله من هذا الجنس في حق المؤمنين، فقد فعل مثله في حق الكفَّار، مع أن هذا المدح العظيم لا يتناولهم، فعلمنا أن الحكمة المذكورة في هذه الآية شيءٌ آخر سوى فعل الألطاف. قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} وأصل» يَذَّكَّرُ «: يتذكر، فأدغم. » وأُولُوا الأَلْبَابِ «ذوو العقول، ومعناه: أن الإنسان إذا تأمَّل، وتدبر هذه الأشياء، وعرف أنها لم تصل إلاَّ بإيتاء الله تعالى، وتيسيره، كان من أولي الألباب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 قوله تعالى: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ} كقوله: {مَا نَنسَخْ} [البقرة: 106] {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة: 197] وقد تقدَّم. وأيضاً تقدَّم الكلام في مادة «نَذَرَ» في قوله: {أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] ، إلاَّ أنَّ النَّذر له خصوصيَّة: وهو عقد الإنسان ضميره على شيءٍ، يقال: نذر ناذرٌ؛ قال عنترة: [الكامل] 1233 - ب - الشَّاتِمَيْ عِرْضِي وَلَمْ أَشْتِمْهُمَا ... والنَّاذِرَيْنِ إِذَا لَم الْقَهُمَا دَمِي الجزء: 4 ¦ الصفحة: 420 وأصله من التَّخويف تقول أنذرت القوم إنذاراً بالتخويف، وفي الشرع على ضربين: مفسر: كقوله للهِ عليَّ عَتْق رَقَبةٍ، ولِلَّهِ عليَّ حجٌّ فهاهنا يلزم الوفاء، ولا يجزيه غيره، وغير مفسَّر كقوله: نذرت لله تعالى ألاَّ أفعل كذا، ثم يفعله، أو يقول: لله عليَّ نذرٌ، ولم يسمِّه، فيلزمه كفارة يمينٍ؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «َمَنْ نَذَرَ نَذْراً، وسَمَّى فَعَلْيهِ ما سمَّى، ومَنْ نَذَرَ نَذْراً، ولَمْ يُسَمِّ فَعَلَيْهِ كَفَّارةُ يَمِينٍ» . قوله: {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} جواب الشرط؛ إن كانت «ما» شرطيةً، أو زائدة في الخبر، إن كانت موصولة. فإن قيل: لم وحَّد الضمير في «يَعْلَمُه» وقد تقدم شيئان النفقة، والنذر؟ فالجواب أن العطف هنا ب «أو» ، وهي لأحد الشيئين، تقول: «إنْ جاء زيدٌ، أو عمروٌ أكرمتُه» ، ولا يجوز: أكرمتها، بل يجوز أن تراعي الأول نحو: زيدٌ أو هندٌ منطلقٌ، أو الثاني، نحو: زيدٌ أو هندٌ منطلقة، والآية من هذا، ولا يجوز أن يقال: منطلقان. ولهذا أوَّل النحاة: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ومن مراعاة الأول قوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] ، على هذا لا يحتاج إلى تأويلات ذكرها المفسرون. وروي عن النَّحاس أنه قال: التقدير: وما أنفقتم من نفقةٍ، فإنَّ الله يعلمها، أو نذرتم من نذر، فإنَّ الله يعلمه، فحذف، ونظَّره بقوله تعالى: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا} [التوبة: 34] وقوله: [المنسرح] 1234 - نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأَنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأْيُ مُخْتَلِفُ وقول الآخر في هذا البيت: [الطويل] 1235 - رَمَانِي بأَمْرٍ كُنْتُ مِنْه وَوَالِدِي ... بَرِيئاً وَمِنْ أَجْلِ الطَوِيِّ رَمَانِي وهذا لا يحتاج إليه؛ لأنَّ ذلك إنما هو في الواو المقتضية للجمع بين الشيئين، وأمَّا « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 421 أَوْ» المقتضية لأحد الشيئين، فلا. وقال الأخفش: الضمير عائدٌ إلى الأخير كقوله: {وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} [النساء: 112] وقيل: يعود إلى «ما» في قوله: «وَمَا أَنْفَقْتُمْ» لأنها اسمٌ كقوله: {وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُمْ بِهِ} [البقرة: 231] ، ولا حاجة إلى هذا أيضاً؛ لما عرفت من حكم «أو» . قوله: {فَإِنَّ الله يَعْلَمُهُ} أفاد: الوعد العظيم للمطيعين، والوعيد الشديد للمتمردين، لأنه يعلم ما في قلب المتصدق من الإخلاص فيتقبل منه تلك الطاعة؛ كما قال: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] ، وقوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] . قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} اعلم أنَّ الظالم قسمان: الأول: من ظلم نفسه وهو يشتمل على كل المعاصي. الثاني: من ظلم غيره بأن لا ينفق أو لا يصرف الإنفاق عن المستحق إلى غ يره، أو ينفق على المستحقِّ رياءً وسمعةً، أو يفسدها بالمعاصي وهذان القسمان الأخيران ليسا من باب الظُّلم على الغير، بل من باب الظلم على النَّفس. فصل في دحض شبهة للمعتزلة في إنكار الشفاعة تمسَّك المعتزلة بهذه الآية، في نفي الشَّفاعة عن أهل الكبائر، قالوا: لأنَّ ناصر الإنسان من يدفع الضرر عنه، فلو اندفعت العقوبة عنهم بالشفاعة، لكان أولئك الشفعاء أنصاراً لهم، وذلك يضاد الآية. وأجيبوا بوجوه: الأول: أن الشفيع لا يسمَّى في العرف ناصراً، بدليل قوله: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} [البقرة: 123] ففرَّق تعالى بين الشفيع، والناصر؛ فلا يلزم من نفي الناصر نفي الشفيع. الثاني: أن الشفيع إنما يشفع عن المشفوع عنده على سبيل استعطافه، والناصر ينصره عليه، والفرق ظاهرٌ. وأجاب آخرون: بأنه ليس لمجموع الظالمين من أنصارٍ. فإن قيل: لفظ «الظَّالِمِينَ» ، ولفظ «الأَنْصَارِ» جمعٌ، والجمع إذا قوبل بالجمع، توزع الفرد على الفرد، فكان المعنى: ليس لأحدٍ من الظالمين، أحدٌ من الأنصار. قلنا لا نسلّم أن مقابلة الجمع بالجمع توجب توزع الفرد على الفرد؛ لاحتمال أن يكون المراد مقابلة الجمع بالجمع فقط لا مقابلة الفرد بالفرد. الوجه الثالث: أن هذا الدليل للشفاعة عامٌّ في حقِّ الكلِّ في الأشخاص، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 422 والأوقات، ودليل إثبات الشفاعة خاصٌّ في بعض الأوقات، والخاصُّ مقدمٌ على العامِّ. الوجه الرابع: ما بينا أن اللفظ العامَّ لا يكون قاطعاً في الاستغراق؛ بل ظاهرٌ على سبيل الظن القويِّ، فصار الدليل ظنياً، والمسألة ليست ظنيَّة، فسقط التمسُّك بها. و «الأَنْصَارُ» جمع نصير؛ كأشرافٍ، وشريف، وأحبابٍ، وحبيب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 قوله: {إِن تُبْدُواْ الصدقات} أي تُظهرونها {فَنِعِمَّا هِيَ} . الفاء جواب الشرط، و «نِعْمَط فعلٌ ماضٍ للمدح، نقيض بئس، وحكمها في عدم التصرف، والفاعل، واللغات حكم بئس، كما تقدَّم. و» مَا «في محلِّ الرفع. و» هِيَ «في محل النصب، كما تقول: نِعْمَ الرجل رجلاً، فإذا عرَّفت، رفعت فقلت: نِعْمَ الرجلُ زَيْدٌ. قال الزجاج:» ما «في تأويل الشيء، أي: نعم الشيء هو. قال أبو علي: الجيد في تمثيل هذا أن يقال:» ما «في تأويل شيءٍ؛ لأن» مَا «ها هنا نكرةٌ فتمثيله بالنكرة أبين، والدليل على أن» ما «ها هنا نكرةٌ أنها لو كانت معرفةً، فلا بد لها من صلة، وليس ها هنا ما يوصل به؛ لأن الموجود بعد» ما «هو» هي «وكلمة» هِيَ «مفردةٌ، والمفرد لا يكون صلةً ل» مَا «وإذا بطل هذا، فنقول» مَا «نصبٌ على التمييز، والتقدير: نِعْمَ شيئاً هي إبداء الصدقات، فحذف المضاف؛ لدلالة الكلام عليه. وقرأ ابن عامرٍ، وحمزة، والكسائيُّ، هنا وفي النساء:» فَنَعِما «بفتح النون، وكسر العين، وهذه على الأصل؛ لأنَّ الأصل على» فَعِلط كعلم، وقرى ابن كثير، وورش، وحفص: بكسر النون والعين، وإنما كسر النون إتباعاً لكسرة العين، وهي لغة هذيل. قيل: وتحتمل قراءة كسر العين أن يكون أصل العين السكون، فلمّا وقعت بعدها «ما» وأدغم ميم «نِعْم» فيها، كسرت العين؛ لالتقاء الساكنين، وهو محتملٌ. وقرأ أبو عمرو، وقالون، وأبو بكر: بكسر النون، وإخفاء حركة العين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 423 وروي عنهم الإسكان أيضاً، واختاره أبو عبيد، وحكاه لغةً للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في [نحو] قوله: «نِعْمَّا المالُ الصالح مع الرجلِ الصالحِ» . والجمهور على اختيار الاختلاس على الإِسكان، بل بعضهم يجعله من وهم الرواة عن أبي عمرو، وممَّن أنكره المبرد، والزجاج والفارسي، قالوا: لأنَّ فيه جمعاً بين ساكنين على غير حدِّهما. قال المبرد: «لا يَقْدِرُ أحدٌ أن يَنْطِقَ به، وإنما يَرُومُ الجمعَ بين ساكنين فيحرِّك، ولا يَشْعُر» وقال الفارشي: «لعل أبا عمرو أخفى فظنَّه الراوي سُكُوناً» . وقد تقدَّم الكلام على «مَا» اللاحقة لنعم، وبئس. و «هي» مبتدأٌ ضميرٌ عائدٌ على الصدقات على حذف مضاف، أي: فنعم إبداؤها، ويجوز ألاَّ يقدَّر مضافٌ، بل يعود الضمير على «الصَّدَقَاتِ» بقصد صفة الإبداء، تقديره: فنعمَّا هي، أي: الصدقات المبداة. وجملة المدح خبرٌ عن «هي» ، والرابط العموم، وهذا أولى الوجوه، وقد تقدَّم تحقيقها. والضمير في {وَإِن تُخْفُوهَا} يعود على الصدقات. قيل: يعود عليها لفظاً ومعنًى، وقيل: يعود عليها لفظاً لا معنًى؛ لأنَّ المراد بالصدقات المبداة: الواجبة، وبالمخفاة: المتطوَّع بها، فيكون من باب «عِنْدِي دِرْهمٌ، ونصفُه» ، أي: ونصف درهمٍ آخر؛ وكقول القائل: [الوافر] 1236 - كَأَنَّ ثِيَابَ رَاكِبِهِ بِرِيحٍ ... خَرِيقٌ وَهْيَ سَاكِنَةُ الهُبُوبِ أي: وريحٌ أخرى ساكنة الهبوب، ولا حاجة إلى هذا في الآية. والفاء في قوله: «فهو» جواب الشرط، والضمير يعود على المصدر المفهوم من «تُخْفُوهَا» أي: فالإخفاء، كقوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] و «لكم» صفةٌ لخير، فيتعلَّق بمحذوفٍ. و «خَيْر» يجوز أن يكون للتفضيل، فالمفضَّل عليه محذوف، أي: خيرٌ من إبدائها، ويجوز أن يراد به الوصف بالخيريَّة، أي: خيرٌ لكم من الخيور. وفي قوله: «إِن تُبْدُواْ، وَإِن تُخْفُوهَا» نوعٌ من البديع، وهو الطِّباق اللَّفظيّ. وفي قوله: {وَتُؤْتُوهَا الفقرآء} طباق معنوي؛ لأنه لا يؤتي الصدقات إلا الأغنياء، فكأنه قيل: إن يبد الأغنياء الصدقات، وإن يخف الأغنياء الصدقات، ويؤتوها الفقراء، فقابل الإبداء بالإخفاء لفظاً، والأغنياء بالفقراء معنًى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 424 والصَّدقة: قال أهل اللغة: موضوع: «صَ دَ قَ» على هذا الترتيب للصحة، والكمال ومنه قولهم: رجلٌ صدقُ النَّظر، وصدقُ اللقاء، وصدقُوهم القتال، وفلانٌ صادق المودَّة، وهذا خلٌّ صادق الحموضة، وشيءٌ صادق الحلاوة، وصدق فلانٌ في خبره، إذا أخبر به على وجه الصِّحة كاملاً، والصَّديق يسمى صديقاً؛ لصدقه في المودَّة، وسمِّي [الصَّداق صداقاً لأن] مقصود العقد يتمُّ به ويكمل، وسميت الزكاة صدقةً؛ لأن المال بها يصحُّ ويكمل، فهي إمَّا سببٌ لكمال المال، وبقائه، وإما أنها يستدلُّ بها على صدق إيمان العبد، وكماله فيه. فصل في بيان فضيلة صدقة السِّر سئل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: صدقة السرِّ أفضل أم صدقة العلانية؟ فنزلت هذه الآية. «وقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» سَبْعَةٌ يُظْلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ ... «إلى أن قال:» ... ورَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لا تَعلم شِمَالُه ما تُنْفِقُ يَمِينُه «. وقيل: الآية في صدقة التطوُّع؛ أما الزكاة المفروضة، فالإظهار فيها أفضل؛ حتى يقتدي الناس به؛ كالصلاة المكتوبة في الجماعة، والنافلة في البيت أفضل. وقيل: الزكاة المفروضة كان الإخفاء فيها خيراً على عهد رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمَّا في زماننا، فالإظهار فيها أفضل؛ حتى لا يساء به الظن. واعلم أنَّ الصدقة تطلق على الفرض والنَّفل؛ قال تعالى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التوبة: 103] وقال: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} [التوبة: 60] ،» وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «نَفَقَةُ المرْءِ عَلَى عِيَالِهِ صَدَقَةٌ» والزكاة لا تطلق إلاَّ على الفرض. قوله: {وَيُكَفِّرُ} بالواو، والأعمش: بإسقاطها، والياء، وجزم الراء؛ وفيها تخريجان: أحدهما: أنه بدلٌ من موضع قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ؛ لأنه جواب الشرط، كأنَّ التقدير: وإن تخفوها، يكن خيراً لكم، ويُكَفِّرْ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 425 والثاني: أنه حذف حرف العطف، فتكون كالقراءة المشهورة، والتقدير: «ويُكَفِّرُ» وهذا ضعيفٌ جداً. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو بكر: بالنون ورفع الراء، وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي: بالنون وجزم الراء، وابن عامرٍ، وحفصٌ عن عاصم: بالياء ورفع الراء، والحسن: بالياء وجزم الراء، وروي عن الأعمش أيضاً: بالياء ونصب الراء، وابن عباس: «وتُكَفِّرْ» بتاء التأنيث وجزم الراء، وعكرمة: كذلك؛ إلا أنه فتح الفاء؛ على ما لم يسمَّ فاعله، وابن هرمز: بالتاء ورفع الراء، وشهر بن حوشب - ورويت عن عكرمة أيضاً -: بالتاء ونصب الراء، وعن الأعمش إحدى عشرة قراءةً، والمشهور منها ثلاثٌ. فمن قرأ بالياء، ففيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه أضمر في الفعل ضمير الله تعالى؛ لأنه هو المكفِّر حقيقةً، وتعضده قراءة النون؛ فإنها متعيِّنةٌ له. والثاني: أنه يعود على الصَّرف المدلول عليه بقوة الكلام، أي: ويكفِّر صرف الصدقات. والثالث: أنه يعود على الإخفاء المفهوم من قوله: {وَإِن تُخْفُوهَا} ، ونسب التكفير للصَّرف، والإخفاء مجازاً؛ لأنَّهما سببٌ للتكفير، وكما يجوز إسناد الفعل إلى فاعله، يجوز إسناده إلى سببه. ومن قرأ بالتاء ففي الفعل ضميرُ الصَّدقات، ونُسب التكفير إليها مجازاً كما تقدَّم، ومن بناه للمفعول؛ فالفاعل هو الله تعالى، أو ما تقدَّم. ومن قرأ بالنون، فهي نون المتكلِّم المعظِّم نفسه. ومن جزم الراء؛ فللعطف على محلِّ الجملة الواقعة جواباً للشرط؛ ونظيره قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186] في قراءة من جزم «وَيَذَرُهُمْ» . ومن رفع، فعلى ثلاثة أوجهٍ:. أحدها: أن يكون مستأنفاً لا موضع له من الإعراب، وتكون الواو عاطفةً جملة كلام على جملة كلام آخر. والثاني: أنه خبرُ مبتدأ مضمر، وذلك المبتدأ: إمَّا ضمير الله تعالى، أو الإخفاء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 426 أي: وهو يُكفِّر؛ فيمن قرأ بالياء، ونحن نكفِّر؛ فيمن قرأ بالنون، أو وهي تُكَفِّر؛ فيمن قرأ بتاء التأنيث. والثالث: أنه عطفٌ على محلِّ ما بعد الفاء، إذ لو وقع مضارعٌ بعدها، لكان مرفوعاً؛ كقوله تبارك وتعالى: {ومعناه وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] ، ونظيره {وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأعراف: 186] في قراءة من رفع. ومن نصب، فعلى إضمار «أَنْ» ؛ عطفاً على مصدر متوهَّم، مأخوذ من قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} ، والتقدير: وإن تخفوها يكن، أو يوجد خيرٌ لكم وتكفيرٌ. ونظيرها قراءة من نصب: «فيغفر» بعد قوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} [البقرة: 284] ، إلاَّ أنَّ تقدير المصدر في قوله: «يُحَاسِبْكُمْ» ثَمَّ أسهل منه هنا؛ لأنَّ ثمَّة فعلاً مصرَّحاً به، وهو «يُحَاسِبْكُمْ» ، والتقدير: يقع محاسبةً فغفرانٌ، بخلاف هنا، إذ لا فعل ملفوظٌ به، وإنما قدَّرنا المصدر من مجموع قوله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} . وقال الزمخشريُّ: «ومعناه: وإِنْ تُخْفُوها، يكُنْ خَيْراً لكم، وأَنْ يُكَفِّرَ» قال أبو حيَّان: «وظاهِرُ كَلاَمِهِ هذا أنَّ تقديره:» وأَنْ يُكَفِّرَ «يكون مقدَّراً بمصدر، ويكون معطوفاً على» خَيْراً «الذي هو خبر» يَكُنْ «التي قدَّرها، كأن قال: يكنِ الإخفاء خيراً لكم وتكفيراً، فيكون» أَنْ يُكَفِّرَ «في موضع نصبٍ، والذي تقرَّر عند البصريِّين: أنَّ هذا المصدر المنسبك من:» أنْ «المضمرة مع الفعل المنصوب بها، هو معطوفٌ على مصدر متوهَّم مرفوع، تقديره من المعنى. فإذا قلت:» مَا تَأْتِينَا فتحدثنا «فالتقدير: ما يكون منك إتيانٌ فحديثٌ، وكذلك:» إِنْ تَجِىءْ وتُحْسِنَ إليَّ، أُحْسِنْ إليك «التقدير: إن يكن منك مجيءٌ، وإحسانٌ أُحْسن إليك، فعلى هذا يكون التقدير: وإن تخفوها، وتؤتوها الفقراء، فيكون زيادة خير للإخفاء على خير الإبداء وتكفيرٌ» . انتهى. قال شهاب الدين: ولم أدر ما حمل الشيخ على العدول عن تقدير أبي القاسم، إلى تقديره وتطويل الكلام في ذلك؛ مع ظهور ما بين التقديرين؟ وقال المهدويُّ: «هو مُشَبَّهٌ بالنصب في جواب الاستفهام، إذ الجزاء يجب به الشيء، لوجوب غيره كالاستفهام» . وقال ابن عطيَّة: «الجزمُ في الراء أفصحُ هذه القراءات؛ لأنها تُؤْذِنُ بِدُخُولِ التكفير في الجزاء، وكونه مَشْرُوطاً إن وقع الإخفاء، وأمَّا رفع الراء، فليس فيه هذا المَعْنَى» قال أبو حيان: «ونقولُ إنَّ الرفع أبلغُ وأعمُّ؛ لأنَّ الجزم يكون على أنَّه معطوفٌ على جواب الشرط الثاني، والرفع يدلُّ على أنَّ التكفير مترتِّبٌ من جهة المعنى على بذل الصدقات أُبْدِيَتْ، أو أُخْفيت، لأنَّا نعلم أنَّ هذا التكفير متعلِّقٌ بما قبله، ولا يختصُّ التكفير بالإخفاء فقط، والجزم يخصِّصه به، ولا يمكن أن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 427 يقال إن الذي يبدي الصدقات، لا يُكَفِّرْ مِنْ سيئاتِهِن فقد صار التكفيرُ شاملاً للنوعَيْن: من إبداء الصدقاتِ، وإخفائها؛ وإن كان الإخفاء خيراً» . قوله تعالى: {مِّن سَيِّئَاتِكُمْ} في «مِنْ» ثلاثة أقوالٍ: أحدها: أنها للتَّبعيض، أي: بعض سيئاتكم، لأن الصدقات لا تكفر جميع السيئات، وعلى هذا فالمفعول في الحقيقة [محذوفٌ] ، أي: شيئاً من سيئاتكم، كذا قدَّره أبو البقاء. والثاني: أنها زائدة وهو جارٍ على مذهب الأخفش، وحكاه ابن عطية عن الطبري عن جماعةٍ، وجعله خطأً؛ يعني من حيث المعنى. والثالث: أنها للسببية، أي: من أجل ذنوبكم؛ وهذا ضعيفٌ. والسيئات: جمع سيِّئة، ووزنها: فيعلة، وعينها واوٌ، والأصل: سيوءة، ففعل بها ما فعل بميِّت، كما تقدَّم. قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} إشارةٌ إلى تفضيل صدقة السرِّ على العلانية؛ كأنه يقول: أنتم إنما تريدون بالصدقة طلب مرضاة الله، وقد حصل مقصودكم في السر؛ فما معنى الإبداء؛ فكأَنَّهم ندبوا بهذا الكلام إلى الإخفاء؛ ليكون أبعد من الرياء، وكسر قلب الفقير. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 هذا الكلام متصلٌ بما قبله من ذكر الصدقات، كأنه بيَّن فيه جواز الصدقة على المشركين. قوله: «هُداهُمْ» : اسم ليس، وخبرها الجارُّ والمجرور. و «الهُدَى» مصدرٌ مضافٌ إلى المفعول، أي: ليس عليك أن تهديهم، ويجوز أن يكون مضافاً لفاعله، أي: ليس عليك أن يهتدوا، يعني: ليس عليك أن تلجئهم إلى الاهتداء. وفيه طباقٌ معنويٌّ، إذ التقدير: هَدْيُ الضَّالِّين، وفي قوله: {ولكن الله يَهْدِي} مع قوله تعالى: {هُدَاهُمْ} جناسٌ مغاير؛ لأنَّ إحدى الكلمتين اسمٌ، والأخرى فعلٌ، ومفعول {يَشَآءُ} محذوفٌ، أي: هدايته. فصل في بيان سبب النزول روي في سبب النزول وجوه: أحدها: أن قُتَيْلَةَ أمَّ أسماء بنت أبي بكر، أتت إليها؛ تسألها شيئاً، وكذلك جدَّتها، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 428 وهما مشركتان؛ فقالت: لا أُعطيكما حتى أستأمر رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فإنَّكما لستما على ديني، فاستأمرته في ذلك؛ فنزلت هذه الآية؛ فأمرها رسول الله - صلى الله لعيه وسلم - أن تتصدق عليهما. الثاني: كان أُناسٌ من الأنصار، لهم قرابةٌ من قريظة والنَّضير، وكانوا لا يتصدقون عليهم، ويقولون ما لم تسلموا لا نعطيكم شيئاً؛ فنزلت هذه الآية الكريمة. الثالث: قال سعيد بن جبير: كانوا يتصدقون على فقراء أهل الذمة، فلما كثر فقراء المسلمين، نهى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن التصدق على المشركين؛ كي تحملهم الحاجة على الدخول في الإسلام؛ فنزلت الآية الكريمة فتصدق عليهم والمعنى على جميع الروايات: ليس عليك هدى من خالفك؛ حتى تمنعهم الصدقة؛ لأجل أن يدخلوا في الإسلام، فتصدقْ عليهم، لوجه الله، ولا توقف ذلك على إسلامهم، والمراد بهذه الهداية هداية التوفيق، وأما هداية البيان، والدعوة، فكان على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. وظاهر هذه الآية أنها خطابٌ مع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ولكن المراد به هو، وأُمَّته؛ ألا تراه قال: {إِن تُبْدُواْ الصدقات} [البقرة: 271] وهذا عامٌّ، ثم قال: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} وظاهره خاصٌّ، ثم قال بعده {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} وهذا عامٌّ، فيفهم من عموم ما قبل الآية الكريمة، وعموم ما بعدها: عمومها أيضاً. فَصْلٌ في بَيان هدايةِ اللهِ لِلْمُؤْمِنِينَ دلَّت هذه الآية الكريمة على أن هداية الله تبارك وتعالى غير عامَّةٍ، بل هي مخصوصة بالمؤمنين، لأن قوله تعالى: {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} إثباتٌ للهداية المنفيَّة بقوله: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} ولكنَّ المنفي بقوله تعالى: {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ} هو حصول الاهتداء، على سبيل الاختيار، فكان قوله: {ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ} عبارةٌ عن حصول الاهتداء على سبيل الاختيار، وهذا يقتضي أن يكون الاهتداء الحاصل بالاختيار واقعاً بتقدير الله تعالى، وتخليقه وتكوينه؛ وهو المطلوب. وحمله المعتزلة على أنه يهدي بالإثابة، والألطاف، وزيادة الهدى؛ وهو مردودٌ بما قررناه. قوله: {فَلأَنْفُسِكُمْ} خبرٌ لمبتدأ محذوف، أي: فهو لأنفسكم شرط وجوابه، «والخَيْرُ» في هذه الآية المال؛ لأنه اقترن بذكر الإنفاق، فهذه القرينة تدل على أنه المال، ومتى لم يقترن بما يدلُّ على أنه المال، فلا يلزم أن يكون بمعنى المال؛ نحو قوله: {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] وقوله: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ونحوه. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 429 وقوله: {إِلاَّ ابتغآء} فيه وجهان: أحدهما: أنه مفعولٌ من أجله، أي: لأجل ابتغاء وجه الله، والشروط هنا موجودةٌ. والثاني: أنه مصدرٌ في محلّ الحال، أي: إلاَّ مبتغين، وهو في الحالين استثناءٌ مفرَّغٌ، والمعنى: وما تنفقون نفقة معتداً بقبولها؛ إلاَّ ابتغاء وجه [الله] ، أو يكون المخاطبون بهذا ناساً مخصوصين، وهم الصحابة، لأنهم كانوا كذلك، وإنما احتجنا إلى هذين التأويلين؛ لأنَّ كثيراً ينفق لابتغاء غير وجه الله. قال بعض المفسرين: هذا جحدٌ لفظه نفيٌ، ومعناه نفيٌ، أي: لا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه. قوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} تأكيدٌ وبيان؛ كقوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ} . وقوله: {يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} جواب الشرط، وقد تقدَّم أنه يقال: «وَفَّى» بالتشديد و «وَفَى» بالتخفيف و «أَوْفَى» رباعياً. وإنما حسن قوله: «إِلَيْكُمْ» مع التوفيه؛ لأنها تضمَّنت معنى التَّأدية، ومعناه يوفّ لكم جزاؤه في الآخرة. وقوله: {وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} جملةٌ من مبتدأ، وخبرٍ: في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في «إِلَيْكُمْ» ، والعامل فيها «يُوَفَّ» ، وهي تشبه الحال المؤكَّدة؛ لأنَّ معناها مفهومٌ من قوله: «يُوَفَّ إِلَيْكُم» ؛ لأنهم إذا وفُّوا حقوقهم، لم يظلموا. ويجوز أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب، أخبرهم فيها أنه لا يقع عليهم ظلمٌ، فيندرج فيه توفية أجورهم؛ بسبب إنفاقهم في طاعة الله تعالى، اندراجاً أوَّلياً. فصل في المراد من الآية في معنى الآية وجوه: الأول: أن معناه: ولستم في صدقتكم على أقاربكم من المشركين لا تقصدون إلاَّ وجه الله تعالى، وقد علم الله هذا من قلوبكم، فأنفقوا عليهم إذا كنتم إنما تبتغون بذلك وجه الله تعالى في صلة رحم، وسدِّ خلَّة مضطر، وليس عليكم اهتداؤهم، حتى يمنعكم ذلك من الإنفاق عليهم. الثاني: أن هذا وإن كان ظاهره خبراً، إلاَّ أن معناه النهي، أي: ولا تنفقوا إلاَّ ابتغاء وجه الله وورود الخبر بمعنى الأمر، والنهي كثير؛ قال تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} [البقرة: 233] {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 430 الثالث: معناه لا تكونوا منفقين مستحقين لهذا الاسم الذي يفيد المدح؛ حتى تبتغوا بذلك وجه الله. فصل في ذكر الوجه في قوله {إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله} إذا قلت: فعلته: لوجه زيدٍ، فهو أشرف في الذكر من قولك: فعلته له؛ لأن وجه الشيء أشرف ما فيه، وإذا قلت: فعلت هذا الفعل له، فيحتمل أن يقال فعلته له ولغيره، أما إذا قلت: فعلت هذا الفعل لوجهه، فهذا يدل على أنَّك فعلت هذا الفعل له فقط وليس لغيره فيه شركةٌ. فصل في بيان عدم صرف الزكاة لغير المسلم أجمعوا على أنه لا يجوز صرف الزكاة إلى غير مسلم؛ فتكون هذه الآية مختصةً بصدقة التطوع، وجوّز أبو حنيفة صرف صدقة الفطر إلى أهل الذمة، وأباه غيره؛ وعن بعض العلماء: لو كان شر خلق الله، لكان لك ثواب نفقتك. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ} الآية: في تعلُّق هذا الجارِّ خمسة أوجهٍ: أحدها: - وهو الظاهر - أنه متعلِّق بفعل مقدرٍ، يدلُّ عليه سياق الكلام، واختلفت عبارات المعربين فيه، فقال مكي - ولم يذكر غيره -: «أَعْطُوا لِلْفقراءِ» ، وفي هذا نظرٌ؛ لأنه يلزم زيادة اللام في أحد مفعولي أعطى، ولا تزاد اللام إلا لضعف العامل: إمَّا بتقدُّم معموله كقوله تعالى: {لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] ، وإمَّا لكونه فرعاً؛ نحو قوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ويبعد أن يقال: لمَّا أُضمر العاملن ضعف؛ فقوي باللام، على أنَّ بعضهم يجيز ذلك، وإن لم يضعف العامل، وجعل منه {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] ، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقدَّره أبو البقاء: «اعْجَبُوا لِلْفُقَرَاءِ» وفيه نظرٌ، لأنه لا دلالة من سياق الكلام على العجب. وقدَّره الزمخشريُّ: «اعْمدُوا، أو اجعلوا ما تُنْفقون للفقراء» والأحسن من ذلك ما قدَّره مكي، لكن فيه ما تقدَّم. الثاني: أنَّ هذا الجارَّ خبر مبتدأ محذوف، تقديره: الصدقات أو النفقات التي تنفقونها للفقراء، وهو في المعنى جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأنهم لما حثُّوا على الصدقات، قالوا: فلمن هي؟ فأجيبوا بأنها لهؤلاء، وفيها بيان مصرف الصَّدقات. وهذا اختيار ابن الأنباري. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 431 قال ابن الخطيب: لما تقدمت الآيات الكثيرة في الحث على الإنفاق، قال بعدها «لِلْفُقَرَاءِ» أي: ذلك الإنفاق المحثوث عليه للفقراء وهذا كما إذا تقدم ذكر رجل، فتقول: عاقلٌ لبيبٌ، والمعنى: أن ذلك الذي مرَّ وصفه عاقلٌ لبيبٌ، وكذلك الناس يكتبون على الكيس يجعلون فيه الذهب، والفضَّة: ألفان، أو مائتان، أي: ذلك الذي في الكيس ألفان، أو مائتان. وأنشد ابن الأنباري: [الرجز] 1237 - تَسْأَلُنِي عَنْ زَوْجِهَا أَيُّ فَتَى ... خبٌّ جَرُوزٌ وَإِذَا جَاعَ بَكَى يريد: هو خبٌّ. الثالث: أنَّ اللام تتعلَّق بقوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصدقات} [البقرة: 271] وهو مذهب القفَّال، واستبعده الناس؛ لكثرة الفواصل. الرابع: أنه متعلِّقٌ بقوله تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} وفي هذا نظرٌ؛ من حيث إنه يلزم فيه الفصل بين فعل الشرط وبين معموله بجملة الجواب، فيصير نظير قولك: مَنْ يُكْرِمْ أُحْسِنْ إليه زيداً. وقد صرَّح الواحديُّ بالمنع من ذلك، معلِّلاً بما ذكرناه، فقال: وَلاَ يجوزُ أن يكون العاملُ في هذه اللام «تنفقوا» الأخير في الآية المتقدمة الكريمة؛ لأنه لا يفصل بين العامل، والمعمول بما ليس منه، كما لا يجوز: «كانَتْ زَيْداً الحُمَّى تأخُذُ» . الخامس: أنَّ «للفقراء» بدلٌ من قوله: «فلأَنْفُسِكُمْ» ، وهذا مردودٌ؛ قال الواحدي، وغيره: «لأنَّ الإنفاق من حيث هو واصلٌ إليهم، وليس من باب {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] ؛ لأنَّ الأمر لازمٌ للمستطيع خاصةً» قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: يعني أنَّ الفقراء ليست هي الأنفس، ولا جزاءً منها، ولا مشتملةً عليها، وكأن القائل بذلك توهَّم أنه من باب قوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] في أحد التأويلين. والفقير: قيل: أصله من «فَقَرَتْه الفَاقِرَةُ» ، أي: كسرت فقارات ظهره الداهية. قال الراغب: وأصل الفقير: هو المكسُورُ الفقار، يقال: «فَقَرَتْه الفاقرةُ» أي: الداهية تكسر الفقار، و «أَفْقَرَكَ الصَّيْدُ [فَارْمِهِ» ] أي أمكنك من فقاره، وقيل: هو من الفُقرة، أي: الحفرة، ومنه قيل لكلِّ حفرةٍ يجتمع فيها الماء، فقيرٌ: وفقرت للفسيل: حفرت له حفرة؛ غرسته فيها؛ قال: [السريع أو الرجز] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 432 1238 - مَا لَيْلَةُ الفَقِيرِ إِلاَّ شَيْطَانْ ... قيل: هو اسم بئر، وفقرت الخرز: ثقبته. وقال الهروي: يقال «فَقَره» إذا أصاب فقار ظهره، نحو: رَأَسَه، أي: أصاب رأسه، وبَطَنَهُ، أي: أصاب بطنه. وقال الأصمعي: «الفقر: أن يحزَّ أنف البعير، حتى يخلص الحزُّ إلى العظم، ثم يلوي عليه جريراً يذلَّل به الصَّعب من الإبل، ومنه قيل: عمل به الفاقرة» . والفقرات - بكسر الفاء، وفتح القاف -: جمع فقرة: الأمور العظام، ومنه حديث السَّعي: «فِقَراتُ ابن آدَم ثلاثٌ: يَوْمَ وُلِد، ويومَ يَمُوتُ، ويومَ يُبْعَثُ» . والفقر - بضم الفاء، وفتح القاف -: جمع فقرة؛ وهي الحزُّ، وخرم الخطم، ومنه قول أبي زيادٍ: «يُفْقَرُ الصَّعْبُ ثلاثَ فُقَرٍ في خطْمِه» ومنه حديث سعدٍ: «فَأَشَارَ إلى فُقَرٍ في أنْفِهِ» ، أي: شقٍّ، وحزِّ. وقد تقدَّم الكلام في الإحصار عندق وله: «فإن أحصرتم» . قوله: {فِي سَبِيلِ} في هذا الجار وجهان: أحدهما: أن يتعلَّق بالفعل قبله؛ فيكون ظرفاً له. والثاني: أن يكون متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من مرفوع «أُحصروا» ، أي: مستقرين في سبيل الله. وقدَّره أبو البقاء بمجاهدين في سبيل الله، فهو تفسير معنًى لا إعراب؛ لأنَّ الجارَّ لا يتعلَّق إلا بالكون المطلق. فصل في بيان سبب النزول نزلت في فقراء المهاجرين، وكانوا نحو أربعمائةٍ، وهم أصحاب الصُّفَّة، لم يكن لهم مساكن ولا عشائر بالمدينة، وكانوا ملازمين المسجد؛ يتعلمون القرآن الكريم، ويرضخون النوى بالنهار ويخرجون في كل سريَّةٍ يبعثها رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فحث الله عليهم الناس؛ فكان من عنده فضلٌ أتاهم به، إذا أمسى. «عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: وقف رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يوماً على أصحاب الصفة، فرأى فقرهم، وجهدهم؛ فطيَّب قلوبهم، فقال:» أَبْشِرُوا يَا أَصْحَابَ الصُّفَّةِ فإنَّهُ مَنْ لَقِيَ اللهَ مِنْ أُمَّتِي عَلَى النَّعْتِ الَّذِي أَنْتُمْ عَلَيْهِ رَاضِياً بِمَا فِيهِ فَإِنَّهُ مِنْ رُفَقَائِي «واعلم أنه تعالى وصف هؤلاء الفقراء بخمس صفاتٍ: الأولى: قوله: {الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} والإحصار: أن يعرض للرجل ما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 433 يحول بينه وبين سفره من مرضٍ، أو كسرٍ، أو عدوٍّ، أو ذهاب نفقةٍ، أو ما يجري مجرى هذه الأشياء، يقال: أحصر الرجل: فهو محصرٌ، وفي معنى هذا الإحصار، وجوه: الأول: أنَّهم حصروا أنفسهم، ووقفوها على الجهاد؛ لأن قوله: {فِي سَبِيلِ الله} مختصٌّ بالجهاد في عرف القرآن. الثاني: قال قتادة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وابن زيد: منعو أنفسهم من التصرفات في التجارة للمعاش؛ خوف العدوِّ؛ لأن الكفار كانوا مجتمعين حول المدينة، وكانوا متى وجدوهم، قتلوهم. الثالث: قال سعيد بن جبير؛ وهو اختيار الكسائي: إنَّ هؤلاء القوم أصابتهم جراحاتٌ مع رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وصاروا زمنى، فأحصرهم المرض، والزمانة عن الضَّرب في الأرض. الرابع: قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هؤلاء القوم من المهجرين حبسهم الفقر عن الجهاد في سبيل الله، فعذرهم الله. الصفة الثانية: قوله تعالى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض} في هذه الجملة احتمالان: أظهرهما: أنها حالٌ، وفي صاحبها وجهان: أحدهما: أنه «الفقراء» ، وثانيهما: أنه مرفوع «أُحْصِرُوا» . والاحتمال الثاني: أن تكون مستأنفة لا محلَّ لها من الإعراب؛ و «ضَرْباً» مفعولٌ به، وهو هنا السفر للتجارة؛ قال: [الوافر] 1239 - لَحِفْظُ المَالِ أَيْسَرُ مِنْ بَقَاهُ ... وَضَرْبٌ في البِلاَدِ بِغَيْرِ زَادِ ويقال: ضَرَبْتُ في الأَرْضِ ضَرْباً، ومَضْرِباً، أي: سرتُ. فصل في بيان عدم الاستطاعة في الآية عدم استطاعتهم: إمَّا أن يكون لاشتغالهم بصلاح الدِّين، بأمر الجهاد؛ فيمنعهم من الاشتغال بالكسب والتجارة، وإمَّا لخوفهم من الأعداء، وإمَّا لمرضهم، وعجزهم؛ وعلى جميع الوجوه فلا شكَّ في احتياجهم إلى من يعينهم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 434 الصفة الثالثة: قوله: {يَحْسَبُهُمُ} يجوز في هذه الجملة ما جاز فيما قبلها من الحالية والاستئناف، وكذلك ما بعدها. «يَحْسَبُهُمْ» هو الظَّنُّ، أي: إنّهم من الانقباض، وترك المسألة، والتوكل على الله، بحيث يظنهم الجاهل أغنياء. وقرأ ابن عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزة: «يَحْسَبُ» - حيث ورد - بفتح السين، والباقون: بكسرها. فأمَّا القراءة الأولى؛ فجاءت على القياس؛ لأنَّ قياس فعل - بكسر العين - يفعل بفتحها لتتخالف الحركتان فيخفَّ اللفظ، وهي لغة تميم، والكسر لغة الحجاز، وبها قرأ رسول الله - صلى الله عيه وسلم -، وقد شذَّت ألفاظٌ أخر؛ جاءت في الماضي، والمضارع بكسر العين منها: نَعِم يَنْعِم، وبَئِس يَبْئِسُ، ويَئِسَ يَيْئِس، ويَبِس يَيْبِس من اليُبوسة، وعَمِد يَعْمِد، وقياسها كلُّها الفتح، واللغتان فصيحتان في الاستعمال، والقارئ بلغة الكسر اثنان من كبار النحاة: أبو عمرٍو - وكفى به -، والكسائي، وقارئا الحرمين: نافع، وابن كثير. والجاهل هنا: اسم جنس لا يراد به واحدٌ بعينه. ولم يرد - هنا - به الجهل الذي هو ضدّ العلم، وإنما أراد الجهل الذي هو ضدُّ الاختيار، يقول: يحسبهم من لم يختبر أمرهم أغنياء، و «أغنياءَ» هو المفعول الثاني. قوله: {مِنَ التعفف} في «مِنْ» هذه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها سببيةٌ، أيك سَبَبُ حُسْبَانِهم أغنياء تعفُّفهم، فهو مفعولٌ من أجله، وجرُّه بحرف السبب هنا واجبٌ، لفقد شرطٍ من شروط النصب، وهو اتحاد الفاعل، وذلك أنَّ فاعل الحسبان الجاهل، وفاعل التعفُّف هم الفقراء، ولو كان هذا المفعول له مستكملاً لشروط النصب، لكان الأحسن جرَّه بالحرف؛ لأنه معرَّفٌ بأل، وقد تقدَّم أنَّ جرَّ هذا النوع أحسن من نصبه؛ نحو: جئت للإكرام، وقد جاء نصبه؛ قال القائل: [الرجز] 1240 - لاَ أَقْعُدُ الجُبْنَ عَنِ الهَيْجَاءِ ... وَلَوْ تَوَالَتْ زُمَرَ الأَعْدَاءِ والثاني: أنها لابتداء الغاية، والمعنى أنَّ محسبة الجاهل غناهم، نشأت من تعفُّفهم؛ لأنه لا يحسب غناهم غنى تعففٍ، إنما يحسبه غنى مالٍ، فقد نشأت محسبته من تفُّفهم، وهذا على أنَّ تعفُّفهم تعففٌ تام. والثالث: أنها لبيان الجنس، وإليه نحا ابن عطية، قال: يكون التعففُ داخلاً في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 435 المحسبة، أي: إنه لا يظهر لهم سؤالٌ، بل هو قليلٌ، فالجاهل بهم مع علمه بفقرهم يحسبهم أغنياء عنه، ف «مِنْ» لبيان الجنس على هذا التأويل. قال أبو حيَّان: «وليس ما قالَه مِنْ أنَّ» مِنْ «هذه في هذا المعنى وهو أن تتقدَّر» مِنْ بموصولٍ، وما دخلت عليه يجعل خبر مبتدأ محذوف؛ كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] يصح أن يقال: الذي هو الأوثان، ولو قلت هنا: «يَحْسَبُهُم الجَاهِلُ أغنياء الَّذِي هُوَ التَّعفف» لم يصحَّ هذا التقدير؛ وكأنه سمَّى الجهة التي هم أغنياء بها بيان الجنس، أي: بيَّنت بأيِّ جنسٍ وقع غناهم، أي: غناهم بالتعفف لا غنى بالمال، فسمَّى «مِنْ» الداخلة على ما يبيِّن جهة الغنى ببيان الجنس، وليس المصطلح عليه كما قدَّمناه، وهذا المعنى يؤول إلى أنَّ «مِنْ» سببية، لكنها تتعلق بأغنياء، لا بيحسبهم «. انتهى. وتتعلَّق» مِنْ «على الوجهين الأولين بيحسبهم. قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ:» ولا يجوزُ أن تتعلَّق بمعنى «أغْنِياء» ؛ لأنَّ المعنى يصير إلى ضد المقصود، وذلك أنَّ معنى الآية: أنَّ حالهم يخفى على الجاهل بهم؛ فيظنُّهم أغنياء، ولو علِّقت بأغنياء، صار المعنى، أنَّ الجاهل يظنُّ أنهم أغنياء، ولكن بالتعفف، والغنيُّ بالتعفف فقيرٌ من المال «. انتهى، وما قاله أبو البقاء يحتمل بحثاً. وأما على الوجه الثالث - وهو كونه لبيان الجنس - فقد صرَّح أبو حيان بتعلُّقها بأغنياء؛ لأن المعنى يعود إليه، ولا يجوز تعلُّقها في هذا الوجه بالحسبان، وعلى الجملة: فكونها لبيان [الجنس، قلق المعنى] . والتعفُّف: تفعُّل من العفَّة: وهو ترك الشيء، والإعراض عنه، مع القدرة على تعاطيه؛ قال رؤبة: [الرجز] 1241 - فعَفَّ عَنْ أَسْرَارِهَا بَعْدَ الغَسَقْ ... وَلَمْ يَدَعْهَا بَعْدَ فَرْكٍ وَعَشَقْ وقال عنترة: [الكامل] 1242 - يُخْبِرْكِ مَنْ شَهِدَ الوَقِيعَةَ أَنَّنِي ... أَغْشَى الوَغَى وَأَعِفُّ عِنْدَ المَغْنَمِ ومنه: «عَفِيفُ الإِزَارِ» كنايةٌ على حصانته، وعرَّف التعفف، لأنه سبق منهم مراراً فصار كالمعهود، ومتعلَّق التعفف، محذوفٌ؛ اختصاراً، أي: عن السؤال، والأحسن ألاَّ يقدَّر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 436 الصفة الرابعة: قوله: {تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ} السِّيما: العلامة بالقصر ويجوز مدُّها، وإذا مدَّت، فالهمزة فيها منقلبةٌ عن حرف زائدٍ، للإلحاق: إمَّا واوٌ، وإمَّا ياء، فهي كعلباء ملحقة بسرداح، فالهمزة فيه للإلحاق، لا للتأنيث؛ وهي منصرفةٌ لذلك. و «سيما» مقلوبة، قدِّمت عينها على فائها؛ لأنها مشتقةٌ من الوسم فهي بمعنى السِّمة، أي: العلامة، فلما وقعت الواو بعد كسرةٍ قلبت ياءً، فوزن سيما: عِفْلا، كما يقال اضمحلَّ، وامضحلَّ، [و] «وَخِيمَة» ، و «خامة» وله جاهٌ، ووجه، أي: وجاهَةٌ. وفي الآية الكريمة طباقٌ في موضعين: أحدهما: «أُحْصِروا» مع قوله: {ضَرْباً فِي الأرض} . والثاني: قوله تعالى: {أَغْنِيَآءَ} ، مع قوله: {لِلْفُقَرَآءِ} نحو: {أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] و {أَمَاتَ وَأَحْيَا} [النجم: 44] . ويقال «سِيمِيَا» بياء بعد الميم، وتمدُّ كالكيمياء؛ وأنشد: [الطويل] 1243 - غُلاَمٌ رَمَاهُ اللهُ بِالْحُسْنِ يَافِعاً ... لَهُ سِيمِيَاءُ لاَ تَشُقُّ عَلَى الْبَصَرْ والباء تتعلَّق ب «تَعْرِفُهُمْ» ومعناها السببية، أي: إنَّ سبب معرفتك إياهم هي سيماهم. والسِّيما: العلامة، وقال قومٌ: السِّيما: الارتفاع، لأنَّها علامةٌ وضعت للظُّهور. فصل قال القرطبيُّ: هذه الآية تدلُّ على أن للسِّيما أثرٌ في اعتبار من يظهر عليه ذلك، حتى إذا رأينا ميتاً في دار الإسلام، وعليه زنَّارٌ، وهو غير مختونٍ؛ لا يدفن في مقابر المسلمين، ويقدَّم ذلك على حكم الدار؛ في قول أكثر العلماء، ومنه قوله تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} [محمد: 30] فدلَّت هذه الآية على جواز صرف الصدقة إلى من له ثيابٌ، وكسوة وزيٌّ في التجمل. فصل في تفسير «السِّيما» قال مجاهد: هو التخشع، والتواضع. وقال الربيع، والسديُّ: أثر الجهد من الفقر، والحاجة. وقال الضحاك: صفرة ألوانهم من الجوع، والضر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 437 وقال ابن زيدٍ: رثاثة ثيابهم. قال ابن الخطيب: وعندي أنَّ الكلَّ فيه نظرٌ؛ لأن كل ما ذكروه علاماتٌ دالَّةق على حصول الفقر، وذلك يناقض قوله: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} بل المراد شيء آخر، وهو أن لعباد الله المخلصين هيبة ووقعاً في قلوب الخلق، كل من رآهم تأثر منهم، وتواضع لهم؛ وذلك إدراكاتٌ روحانيةٌ، لا علاتٌ جسمانيةٌ؛ ألا ترى أنَّ الأسد إذا مرَّ هابته جميع السباع بطباعها، لا بالتجربة؛ لأن الظاهر أن تلك التجربة ما وقعت، وكذلك البازي، إذا طار فرّت منه الطيور الضَّعيفة، وكل ذلك إدراكاتٌ روحانية، لا جسمانية فكذا ها هنا، روي أنهم كانوا يقومون الليل، للتهجّد، ويحتطبون بالنهار؛ للتعفف. الصفة الخامسة: قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} في نصبه «إلحافاً» ثلاثة أوجه: أحدها: نصبه على المصدر بفعلٍ مقدَّر، أي: يلحفون إلحافاً، والجملة المقدرة حالٌ من فاعل «يَسْألون» . والثاني: أن يكون مفعولاً من أجله، أي: لا يسألون؛ [لأجل الإلحاف. والثالث: أن يكون مصدراً في موضع الحال، تقديره: لا يسألون] ملحفين. فصل في تفسير الإلحاف الإلحاف: هو الإلحاح؛ قال عطاءٌ: إذا كان عنده غداءٌ لا يسأل عشاءً، وإذا كان عنده عشاءٌ لا يسأ غداءً. وعن ابن مسعودٍ إن الله يحب العفيف المتعفف، ويبغض الفاحش البذيء السَّائل الملحف، الذي إن أعطي كثيراً، أفرط في المدح، وإن أعطي قليلاً أفرط في الذَّمِّ. وعن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لاَ يَفْتَحُ أَحَدٌ بَابَ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ فَتح الله عليه بَابَ فَقْرٍ، ومَنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 438 يَسْتَغْنِ، يُغْنِه اللهُ، ومَنْ يَسْتَعْفِفْ، يُعِفَّهُ الله، لأنْ يَأْخُذَ أَحَدُكُمْ حَبْلاً يَحْتِطِبُ فِيهِ فَيَبِيعَهُ بمُدٍّ مِنْ تَمْرٍ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَسْأَل النَّاسَ» . فصل اعلم: أنَّ العرب إذا نفت الحكم عن محكوم عليه، فالأكثر في لسانهم نفي ذلك القيد؛ نحو: «مَا رَأَيْتُ رَجُلاً صَالِحاً» ، الأكثر على أنك رأيت رجلاً، ولكن ليس بصالح، ويجوز أنَّك لم تر رجلاً ألبتة؛ لا صالحاً ولا طالحاً، فقوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} المفهوم أنهم يسألون، لكن لا بإلحاف، ويجوز أن يكون المعنى: أنهم لا يسألون، ولا يلحفون؛ والمعنيان منقولان في التفسير، والأرجح الأول عندهم، ومثله في المعنى: «مَا تَأْتِينَا فَتُحَدِّثَنَا» يجوز أنه يأتيهم، ولا يحدِّثهم، ويجوز أنه لا يأتيهم ولا يحدِّثهم، انتفى السبب، وهو الإتيان، فانتفى المسبِّب، وهو الحديث. وقد شبَّه الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - معنى هذه الآية الكريمة بمعنى بيت امرئ القيس؛ وهو قوله: [الطويل] 1244 - عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ ... إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا قال أبو حيَّان: «تَشْبيهُ الزجاج إنما هو في مطلق انتفاء الشيئين، أي: لا سؤال ولا إلحاف، وكذلك هذا: لا منار ولا هداية، لا أنه مثله في خصوصيَّة النفي، إذ كان يلزم أن يكون المعنى: لا إلحاف، فلا سؤال، وليس تركيب الآية على هذا المعنى، ولا يصحُّ: لا إلحاف، فلا سؤال؛ لأنه لا يلزم من نفي الخاص نفي العام، كما لزم من نفي المنار، نفي الهداية التي هي من بعض لوازمه، وإنما يؤدِّي معنى النفي على طريقة النَّفي في البيت أن لو كان التركيب:» لا يُلْحِفُونَ الناسَ سُؤالاً «لأنه يلزم من نفي السؤال نفي الإلحاف، إذ نفي العامِّ يدلُّ على نفي الخاص؛ فتلخَّص من هذا: أنَّ نفي الشيئين: تارة يدخل حرف النفي على شيءٍ، فتنتفي جميع عوارضه، وينبِّه على بعضها بالذكر لغرض ما، وتارةً يدخل حرف النفي على عارضٍ من عوارضه، والمقصود نفيه، فتنتفي لنفيه عوارضه» . قال شهاب الدين: قد سبق الشيخ إلى هذا ابن عطية فقال: «تَشْبيهه ليس مثله في خصوصية النفي؛ لأنَّ انتفاء المنار في البيت يدلُّ على نفي الهداية، وليس انتفاء الإلحاح، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 439 يدلُّ على انتفاء السؤال في الآية» . وأطال ابن عطية في تقرير هذا، وجوابه ما تقدم: من أنَّ المراد نفي الشيئين، لا بالطريق المذكور في البيت، وكان الشيخ قد قال قبل ما حكيته عنه آنفاً: «ونظير هذا: ما تَأْتِينَا فتحدِّثَنا» فعلى الوجه الأول: يعني نفي القيد وحده: ما تأتينا محدِّثاً، إنما تأتي ولا تحدِّث. وعلى الوجه الثاني: يعني نفي الحكم بقيده ب «ما يكُونُ مِنْكَ إتيانٌ، فلا يكونُ حديثٌ» ، وكذلك هذا: لا يقع منهم سؤالٌ ألبتَّة، فلا يقع إلحاحٌ، ونبَّه على نفي الإلحاح دون غير الإلحاح؛ لقبح هذا الوصف، ولا يراد به نفي هذا الوصف وحده، ووجود غيره؛ لأنه كان يصير المعنى الأول، وإنما يراد بنفي هذا الوصف، نفي المترتبات على المنفيِّ الأول؛ لأنه نفى الأولى على سبيل العموم، فتنتفي مترتِّباته، كما أنك إذا نفيت الإتيان، فانتفى الحديث، انتفى جميع مترتِّبات الإِتيان: من المجالسة، والمشاهدة، والكينونة في محلٍّ واحد، ولكن نبَّه بذكر مترتِّب واحدٍ؛ لغرضٍ ما على ذكر سائر المترتِّبات «وهذا يقرر ما تقدَّم. وأمَّا الزمخشريُّ: فكأنه لم يرتض تشبيه الزجاج، فإنه قال:» وقيل: هو نفيٌ للسؤال والإلحاف جميعاً؛ كقوله: [الطويل] 1245 - عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَى بِمنَارِهِ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . يريد نفي المنار والاهتداء به «. قال شهاب الدين: وطريق أبي إسحاق الزجاج هذه، قد قبلها الناس، ونصروها، واستحسنوا تنظيرها بالبيت؛ كالفارسيِّ، وأبي بكر بن الأنباريِّ، قال أبو عليٍّ: لم يُثْبِتْ في قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} مسألةً فيهم؛ لأن المعنى: ليس منهم مسألةٌ، فيكون منهم إلحافٌ، ومثل ذلك قول الشاعر: [السريع] 1246 - لاَ يَفْزَعُ الأَرْنَبُ أَهْوَالَهَا ... وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ أي: ليس فيها أرنبٌ؛ فيفزع لهولها، ولا ضبٌّ فينجحر، وليس المعنى: أنه ينفي الفزع عن الأرنب، والانجحار عن الضب. وقال أبو بكرٍ: تأويل الآية: لاَ يَسْأَلُونَ أَلْبَتةَ، فيخرجهم السؤال في بعض الأوقات إلى الإلحاف؛ فجرى هذا مجرى قولك: فلانٌ لا يُرْجى خيره، أي: لا خير عنده ألبتة فيرجى؛ وأنشد قول امرئ القيس: [الطويل] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 440 1247 - وَصُمٌّ صِلاَبٌ مَا يَقِينَ مِنَ الوَجَى ... كَأَنَّ مَكَانَ الرَّدْفِ مِنْهُ عَلَى رَالِ أي: ليس بهن وجًى، فيشتكين من أجله؛ وقال الأعشى: [البسيط] 1248 - لاَ يَغْمِزُ السَّاقَ مِنْ أَيْنٍ وَلاَ وَصَبٍ ... وَلاَ يَعَضُّ عَلَى شُرْسُوفِهِ الصَّفَرُ معناه: ليس بساقه أينٌ، ولا وصبٌ؛ فيغمزها. وقال الفراء قريباً منه، فإنه قال:» نفى الإلحاف عنهم، وهو يريد جميع وجوه السؤال؛ كما تقول في الكلام: «قَلَّ ما رَأَيْتُ مِثْلَ هذا الرجل» ولعلك لم تر قليلاً، ولا كثيراً من أشباهه «. وجعل أبو بكر الآية الكريمة عند بعضهم من باب حذف المعطوف، وأن التقدير: لاَ يَسْأَلُونَ الناسَ إلحافاً، ولا غير إلحاف، كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ، أي: والبرد. وقال بعضهم: إنَّ السائل الملحف الملح، هو الذي يستخرج المال بكثرة تَلَطُّفِهِ، فقوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} أي: لا يسألون الناس بالرِّفق، والتَّلطُّف، وإذا لم يوجد السؤال على هذا الوجه، فبأن لا يوجد على وجه العنف أولى. وذكر ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - فيها ثلاثة أوجه أخر: أحدها: أنه ليس المقصود منق لوه: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} وصفهم بأنهم لا يسألون الناس إلحافاً؛ لأنه تعالى وصفهم قبل ذلك بالتعفُّف، وإذا علم أنهم لا يسألون ألبتة، قد علم - أيضاً - أنهم لا يسألون الناس إلحافاً، بل المراد التَّنبيه على سوء طريقة من يسأل الناس إلحافاً، مثاله: إذا حضر عندك رجلان: أحدهما عاقلٌ، وقورٌ ثابتٌ، والآخر طيَّاش مهذارٌ سفيهٌ، فإذا أردت أن تمدح أحدهما، وتعرض بالآخر، قلت: فلانٌ، رجل عاقلٌ وقُورٌ قليل الكلام، لا يخوض في الترّهات، ولا يشرع في السفاهات، ولم يكن غرضك من قولك: لا يخوض في التّرّهات، والسفاهات، وصفه بذلك؛ لأن ما تقدم من الأوصاف الحسنة يغني عن ذلك؛ بل غرضك التنبيه على مذمَّة الثاني؛ فكذا هاهنا قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} بعد قوله: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} الغرض منه التنبيه على مذمَّة من يسأل الناس إلحافاً. وثانيها: أنه تعالى بيَّن فيما تقدَّم شدَّة حاجة هؤلاء الفقراء ومن اشتدت حاجته، فإنه لا يمكنه ترك السؤال؛ إلاَّ بإلحاحٍ شديد منه على نفسه، فقوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} الجزء: 4 ¦ الصفحة: 441 أي: لا يسألون الناس، وإنَّما أمكنهم ترك السؤال عندما ألحُّوا على النفس، ومنعوها بالتكليف الشَّديد عن ذلك السؤال، ومنه قول عمر بن الخطَّاب: [الوافر] 1249 - وَلِي نَفْسٌ أَقُولُ لَهَا إِذَا مَا ... تُنَازِعُنِي: لَعَلِّي أَوْ عَسَانِي وثالثها: أنَّ من أظهر من نفسه آثار الفقر، والمذلَّة، والمسكنة؛ ثم سكت عن السؤال، فكأنَّه أتى بالسؤال الملحِّ الملحف؛ لأن ظهور أمارات الحاجة، تدلُّ على الحاجة، وسكوته يدل على أنه ليس عنده ما يدفع تلك الحاجة، ومتى تصوَّر الإنسان من غيره ذلك، رقَّ له قلبه جدّاً، وصار حاملاً له على أن يدفع إليه شيئاً، فكان إظهار هذه الحالة هو السؤال على سبيل الإلحاف، فقوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} معناه: أنهم سكتوا عن السؤال، لكنَّهم لا يضمُّون إلى ذلك السكوت من رثاثة الحال، وإظهار الانكسار ما يقوم مقام السؤال على سبيل الإلحاف، بل يزيّنون أنفسهم عند الناس، ويتجملون عند الخلق، ويجعلون فقرهم وحاجتهم بحيث لا يطلع عليها إلاَّ الخالق. فصل قال ابن عبد البرِّ: من أحسن ما روي من أجوبة الفقهاء في معاني السُّؤال وكراهيته ومذهب أهل الورع فيه. ما حكاه الأثرم عن أحمد بن حنبل، وقد سئل عن المسألة، متى تحل؟ قال: إذا لم يكن عنده ما يغدِّيه ويعشيه، قيل لأبي عبد الله: فإن اضطرَّ إلى المسألة؟ قال: هي مباحةٌ إذا اضطر. قيل له: فإن تعفَّف؟ قال: ذلك خيرٌ له، وقال: ما أظن أنَّ أحداً يموت من الجوع؛ الله يأتيه برزقه، ثم ذكر حديث أبي سعيد الخدريّ: «مَنْ اسْتَعْفَفَ أَعَفَّهُ الله» . قال أبو بكر: وسمعته يسأل عن الرجل الذي لا يجد شيئاً؛ أيسأل الناس، أم يأكل الميتة؟ فقال: أيأكل الميتة، وهو يجد من يسأله؟ هذا شنيعٌ. قال القرطبيُّ: فإن جاءه شيءٌ من غير سؤالٍ، فله أن يقبله ولا يرده؛ إذ هو رزقٌ رزقه الله، لما روي «أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أرسل إلى عمر بن الخطَّاب بعطاءٍ، فردَّه؛ فقال له رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» لِمَ رَدَدْتَه؟ «فقال: يا رسول الله، أليس أخبرتنا أنَّ خيراً لأحدنا ألاَّ يأخذ شيئاً؟ فقال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» إنَّما ذَاكَ عَنِ المَسْأَلَةِ، فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 442 فَإِنَّمَا هو رزقٌ رَزَقَكَهُ الله «فقال عُمَر بن الخطَّاب:» والَّذي نَفْسِي بِيَدِهِ، لاَ أَسْأَلُ شَيْئاً، وَلاَ يَأْتِيني شَيْءٌ مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ إِلاَّ أَخَذتُه «. والإلحاف، والإلحاح، واللُّجاج، والإحفاء، كلُّه بمعنًى، يقال: أَلحف، وألحَّ في المسألة: إذا لجَّ فيها. وفي الحديث:» مَنْ سَألَ وَلَهُ أَرْبَعُونَ، فَقَدْ أَلْحَفَ «، واشتقاقه من اللِّحاف؛ لأنه يشتمل الناس بمسألته، ويعمُّهم؛ كما يشتمل اللِّحاف من تحته ويغطِّيه؛ ومنه قول ابن أحمر يصف ذكر نعامٍ، يحضن بيضه بجناحيه، ويجعل جناحه لها كاللِّحاف: [الوافر] 1250 - يَظَلُّ يُحُفُّهُنَّ بِقَقْقَفَيْهِ ... وَيَلْحَفُهُنَّ هَفْهَافاً ثَخِينَا وقال آخر في المعنى: [الرمل] 1251 - ثُمَّ رَاحُوا عَبَقُ المِسْكِ بِهِمْ ... يُلْحِفُونَ الأَرْضَ هُدَّابَ الأُزُرْ أي: يلبسونها الأرض، كإلباس اللِّحاف للشيء. وقيل: بل اشتقاق اللفظة من» لَحْفِ الجَبَلِ «وهو المكان الخشن، ومجازه أنَّ السائل لكثرة سؤاله كأنه استعمل الخشونة في مسألته، وقيل: بل هي من» لَحَفني فُلاَنٌ «، أي: أعطاني فضل ما عنده، وهو قريبٌ من معنى الأوَّل. قوله: {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} هو نظير قوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 272] ، وليس بتكرارٍ؛ لأنه لمَّا قال في الآية الأولى: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 443 خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} فهم منه التوفية من غير بخسٍ؛ ولا نقصان، وذلك لا يمكن إلاَّ بالعلم بمقدار العمل، وكيفية جهاته المؤثرة في استحقاق الثواب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 قوله: {الذين يُنْفِقُونَ} : مبتدأٌ، وخبره الجملة من قوله: {فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} ودخلت الفاء؛ لما تضمَّنه الموصول من معنى الشرط. وقال ابن عطية رَحِمَهُ اللَّهُ: «وإنما يوجد الشَّبه - يعني بين الموصول، واسم الشرط - إذا كان الموصول موصولاً بفعل، وإذا لم يدخل على الموصول عاملٌ يغيِّر معناه» . قال أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «فَحَصر الشَّبه فيما إذا كان» الَّذِي «موصولاً بفعل، وهذا كلامٌ غير محرَّرٍ، أمَّا قوله:» الَّذِي «فلا يختصُّ ذلك ب» الذي «، بل كلُّ ما كان موصولاً غير الألف واللام، حكمه حكم الذي» بلا خلافٍ، وفي الألف واللام خلاف، ومذهب سيبويه المنع من دخول الفاء. الثاني: قوله «مَوْصولاً بفعل» فأطلق الفعل واقتصر عليه، وليس كذلك، بل شرط الفعل أن يصلح لمباشرة أداة الشرط، فلو قلت: الذي سَيَأْتِيني، أو لمَّا يأتيني، أو ما يأتيني، أو ليس يأتيني - فله درهمٌ لم يجز شيءٌ من ذلك؛ لأنَّ أداة الشرط لا يصلح أن تدخل على شيءٍ من ذلك، وأمَّا الاقتصار على الفعل، فليس كذلك؛ بل الظرف والجارُّ والمجرور في الوصل كذلك، متى كان شيءٌ منهما صلةً لموصول، جاز دخول الفاء. وقوله: «وَإِذَا لَمْ يَدْخُلْ على» الَّذي «عاملٌ يغيِّر معناه» عبارةٌ غير ملخَّصةٍ؛ لأن العامل لا يغيِّر معنى الموصول، إنما يغيِّر معنى الابتداء، بأن يصيِّره تمنِّياً، أو ترجِّياً، أو ظناً، نحو: لعل الذي يأتضيني، أو ليت الذي يأتيني، أو ظننت الذي يأتيني - فله درهمٌ، لا يجوز دخول الفاء لتغيُّر معنى الابتداء. وكان ينبغي له - أيضاً - أن يقول: «بِشَرْطِ أَنْ يكونَ الخبرُ مستحِقاً بالصلةِ؛ كالآية الكريمة؛ لأنَّ ترتُّبَ الأجرِ إنما هو على الإِنْفاقِ» . وقول الشيخ أيضاً: «بل كلُّ مَوْصُولٍ» ليس الحكم - أيضاً - مقتصراً على كلِّ موصولٍ، بل كلُّ نكرةٍ موصوفةٍ بما يجوز أن يكون صلةً مجوِّزةً لدخول الفاء، أو ما أُضيف إلى تلك النكرة، أو إلى ذلك الموصول، أو الموصوف بالموصول - حكمه كذلك. وقد تقدمت المسألة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 444 فصل في بيان سبب النُّزول في سبب النزول وجوه: الأول: لما نزل قوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 273] ، بعث عبد الرَّحمن بن عوف بدنانير كثيرةٍ إلى أصحاب الصُّفة، وبعث عليٌّ - كرم الله وجهه - بوسق تمرٍ ليلاً؛ فكان أحبَّ الصَّدقتين إلى الله تعالى، صدقه عليٍّ؛ فنزلت الآية. وقدَّم الله تعالى ذكر الليل؛ ليعرف أنَّ صدقة اللَّيل كانت أكمل، رواه الضَّحَّاك، عن ابن عبَّاسٍ. الثاني: روى مجاهدٌ عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: «نزلت هذه الآية في عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان عنده أربعة دراهم، لا يملك غيرها، فتصدق بدرهم ليلاً وبدرهم نهاراً، وبدرهم سرّاً وبدرهم علانيةً؛ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -:» مَا حَمَلَكَ عَلَى هَذَا؟ «فقال: أن أستوجب ما وعدني ربِّي، فقال:» لَكَ ذَلِكَ «. الثالث: قال الزَّمخشريُّ نزلن في أبي بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حين تصدَّق بأربعين ألف دينار: عشرةٌ باللَّيل، وعشرةٌ بالنهار، وعشرةٌ في السِّرِّ، وعشرة في العلانية. الرابع: قال أبو أمامة، وأبو الدَّرداء، ومكحولٌ، والأوزاعي: نزلت هذه الآية الكريمة في الذين يربطون الخيل للجهاد؛ فإنها تعتلف ليلاً ونهاراً، وسراً وعلانية، فكان أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إذا مرَّ بفرسٍ سمين، قرأ هذه الآية. وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» مَنِ احْتَبَسَ فَرَساً فِي سَبِيلِ اللهِ إيمَاناً، وتَصْدِيقاً بوعدِهِ، فإنَّ شِبَعَهُ وريَّه ورَوْثَهُ، وبَوْلَهُ في ميزانِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ «. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 445 الخامس: أن الآية الكريمة عامةٌ في الذين يعمون الأوقات، والأحوال بالصدقة، تحريضاً لهم على الخير. وفي الآية إشارة إلى أن صدقة السِّرِّ أفضل؛ لأنه قدم اللَّيل على النهار، والسر على العلانية في الذكر، وتقدم نظير هذه الآية؛ ومدلولها، وهو مشروطٌ عند الكل بألاَّ يحصل عقيبه الكفر، وعند المعتزلة ألاَّ يحصل عقيبه كبيرةٌ محبطةٌ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 «الرِّبَا» في اللُّغة: عبارةٌ عن الزِّيادة؛ يقال ربا الشيء يربو ربواً، ومنه قوله {اهتزت وَرَبَتْ} [الحج: 5] ، أي زادت، وأربى الرَّجل: إذا عامل في الربا، ومنه الحديث «مَنْ أَجْبَى فَقَدْ أَرْبَى» ، أي: عامل بالرِّبا، والإجباء: بيع الزرع قبل أن يبدو صلاحه. والمادة تدلُّ على الزيادة والارتفاع، ومنه الرَّبوة. وقال حاتم الطائيُّ يصف رمحاً: [الطويل] 1252 - وَأَسْمَرَ خَطِّيًّا كَأَنَّ كُعُوبَهُ ... نَوَى القَسْبِ قَدْ أَرْبَى ذِرَاعاً عَلَى العُشْرِ والرِّبا: لامه واوٌ؛ لقولهم: ربا يربو؛ فلذلك يثنَّى بالواو، ويكتب بالألف. وجوَّز الكوفيُّون تثنيته بالياء، وكذلك كتابته، قالوا: لكسر أوَّله، ولذلك أمالوه، وليس هذا مختصّاً بمكسور الأول، بل الثُّلاثيُّ من ذوات الواو، المكسور الأول، أو المضمومه؛ نحو: «رِبا» ، و «عُلا» حكمه ما ذكرته عنهم، فأمَّا المفتوح الأول نحو: عصا، وقفا، فلم يخالفوا البصريين، وكتب في القرآن بخطِّ الصحابة بواوٍ بعدها ألفٌ. وقيل: إنما بالواو؛ لأنَّ أهل الحجاز تعلَّموا الخطَّ من أهل الحيرة، وأهل الحيرة يقولون: «الرِّبَوا» بالواو، فكتبوها كذلك، ونقلها أهل الحجاز كذلك؛ خطّاً لا لفظاً. قرأ العدويُّ: «الرِّبَو» كذلك بواوٍ خالصةٍ بعد فتحة الباء. فقيل: هذا القارئ أَجرى الوصل مجرى الوقف، وذلك أنَّ من العرب من يقلب ألف المقصور واواً؛ فيقول: هذه أفعو، وهذا من ذاك، إلاَّ أنه أجْرَى الوصل مُجْرى الوقف. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 446 وقد حكى أبو زيدٍ ما هو أغرب من ذلك، فقال: «قرأ بعضهم بكسر الراء، وضمِّ الباء، وواو بعدها» ، ونسب هذه للغلط؛ وذلك لأنَّ العرب لا يبقى واواً بعد ضمة في الأسماء المعربة، بل إذا وجد ذلك، لم يقرَّ على حاله، بل تقلب الضَّمَّة كسرةً، والواو ياءٌ، نحو: دلوٍ وأدلٍ، وجروٍ؛ وأنشد أبو عليّ: [البسيط] 1253 - لَيْثٌ هِزَبْرٌ مُدِلٌّ عِنْدَ خِيسَتِهِ ... بِالرَّقْمَتَيْنِ لَهُ أَجْرٍ وأَعْرَاسُ ونهاية ما قبل فيها: أنَّ قارئها قلب الألف واواً؛ كقولهم في الوقف: أَفْعَو، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك، قيل: ولم يضبط الرَّاوي عنه ما سمع؛ فظنَّه بضمِّ الباء؛ لأجل الواو؛ فنقلها كذلك، وليت الناس أخلو تصانيفهم من مثل هذه القراءات التي لو سمعها العامة لمجُّوها، ومن تعاليلها، ولكن صار التارك لها، يعده بعضهم جاهلاً بالاطِّلاع عليها. ويقال: رِبا ورِما، بإبدال بائه ميماً؛ كما قالوا: كثم في كثب. والألف واللام في «الرِّبا» : يجوز أن تكون للعهد، إذ المراد الرِّبا الشرعيُّ، ويجوز أن تكون لتعريف الجنس. فصل في وجه تعلق هذه الآية بالتي قبلها اعلم أنَّ بين الصدقة، والرِّبا مناسبةٌ من جهة التضادِّ؛ لأن الصدقة عبارةٌ عن تنقيص المال بسبب أمر الله تبارك وتعالى بذلك؛ والرِّبا عبارةٌ عن طلب الزيادة على المال مع نهي الله - سبحانه وتعالى - عنه، فكانا كالمتضادَّين، ولهذا قال تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات} [البقرة: 276] فلما حصلت المناسبة بينهما من هذا النوع، ذكر حكم الربا عقيب حكم الصدقات، وخصَّ الأكل؛ لأنه معظم الأمر؛ كقوله: {الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] فنبَّه بالأَكل على ما سواه من وجوه الإتلافات، ولأنَّ نفس الرِّبا الذي هو الزيادة لا يؤكل، وإنما يصرف في المأكول، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لَعَنَ اللهُ آكِلَ الرِّبَا، ومُوكِلَه وشاهده وكَاتِبَهُ، والمحلِّلَ لَهُ» فعلمنا أنَّ الحرمة غير مختصة بالأكل. فصل في تقسيم الرِّبا الرِّبا قسمان: ربا النَّسيئة، وربا الفضل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 447 أمَّا ربا النسيئة، فهو الذي كان مشهوراً متعارفاً في الجاهليَّة، وذلك أنهم كانوا يدفعون المال على أن يأخذوا كلَّ شهرٍ قدراً معيناً، ويكون رأس المال باقياً، ثم إذا حلَّ الدَّين طالبوا المدينون برأس المال فإن تعذر عليه الأداء زادوا في الحقِّ والأجل، فهذا هو الرِّبا الذي كانوا يتعاملون به في الجاهلية. وأمَّا «ربا الفضل» فهو أن يباع منٌّ من الحنطة بمنوين منها، أو ما أشبه ذلك. وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه كان لا يحرِّم إلاَّ القسم الأول، فكان يقول لا ربا إلاَّ في النَّسيئة، وكان يجوِّز ربا الفضل؛ فقال له أبو سعيدٍ الخدريِّ: أشهدت ما لم تشهد، أو سمعت من رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما لم نسمع! ثمَّ روى له الحديث المشهور في هذا الباب، ثم قال أبو سعيدٍ: لا أواني وإيَّاك ظلُّ بيتٍ، ما دمت على هذا. ثمَّ روي أنه رجع عنه. قال محمد بن سيرين: كنَّا في بيتٍ، ومعنا عكرمة، فقال رجلٌ: يا عكرمة، أما تذكر ونحن في بيت فلانٍ، ومعنا ابن عباس فقال: إنما كنت استحللت الصرف برأيي، ثم بلغني أنَّ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - حرَّمه، فاشهدوا أنِّي حرمته، وبرئت منه إلى الله. وحجَّة ابن عباس أنَّ قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} يتناول بيع الدرهم بالدِّرهمين نقداً؛ وقوله: {وَحَرَّمَ الربا} ] إنما يتناول العقد المخصوص المسمَّى فيما بينهم رباً، وذلك هو ربا النَّسيئة، فكان ذلك مخصوصاً بالنَّسيئة؛ فثبت أنَّ قوله {وَأَحَلَّ الله البيع} يتناول ربا الفضل، وقوله: {وَحَرَّمَ الربا} لا يتناوله؛ فوجب أن يبقى على الحلِّ ولا يمكنه أن يقال إنما يحرمه بالحديث؛ لأنه يقتضي تخصيص ظاهر القرآن بخبر الواحد، وهو غير جائزٍ وهذا هو عرف ابن عباسٍ، وحقيقته راجعةٌ إلى أنَّ تخصيص القرآن بخبر الواحد: هل يجوز أم لا؟ وأمَّا جمهور العلماء، فقد اتفقوا على تحريم الربا في القسمين، أمَّا القسم الأوَّل، ربا النَّسيئة فبالقرآن، وأمَّا ربا الفضل، فبالخبر، ثم إن الخبر دلَّ على حرمة ربا الفضل في الأشياء الستة، ثم اختلفوا. فقال جمهور الفقهاء: حرمة ربا الفضل غير مقصورةٍ على هذه النسيئة؛ بل ثابتةٌ في غيرها بالعلَّة الجامعة وقال نفاةُ القياس: بل الحرمة مقصورة عليها. فصل في سبب تحريم الربا ذكروا في سبب تحريم الرِّبا وجوهاً: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 448 أحدها: أنه يُفضي إلى أخد الإنسان مال غيره من غير عوضٍ؛ لأنه إذا باع الدِّرهم بالدرهمين نقداً أو نسيئةً، فقد حصل له زيادة درهم من غير عوض ومال الإنسان له حرمةٌ عظيمةٌ، قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «حُرْمَةُ مَالِ المسلمِ كَحُرْمَةِ دَمِهِ» ؛ فكان أخذ ماله بغير عوض محرَّماً. فإن قيل: لم لا يجوز أن يكونَ لبقاء رأس المال في يده مدَّةٌ مديدةٌ عوضاً عن الدِّرهم الزَّائد؟ لأنَّ رأس المال لو بقي في يد مالكه، لتمكَّن من التجارة به، والربح، فلمَّا تركه في يد المديون، وانتفع المديون به، لم يبعد أن يدفع إلى ربِّ المال ذلك الدرهم الزَّائد؛ عوضاً عن انتفاعه بماله. فالجواب أنَّ هذا الانتفاع المذكور أمرٌ موهومٌ قد يحصل له منه كسبٌ، وقد لا يحصل، وأخذ الدرهم الزائد أمرٌ متيقنٌ فتفويت المتيقن لأجل أمر موهوم، لا ينفكُّ عن نوع ضرر. وثانيها: أنَّ الرِّبا يمنع النَّاس عن الاشتغال بالمكاسب؛ لأنه إذا حصَّل الدرهم بالربا، فلا يكاد يحتمل مشقَّة التَّكسُّب بالتجارة، والصناعة، فيفضي إلى انقطاع منافع الخلق، ومن المعلوم أنَّ [مصالح العالم] لا تنتظم إلاَّ بالتجارات، والعمارات، والحرف، والصِّناعات. وثالثها: أنَّ الربا يفضي إلى انقطاع المعروف بين الناس من القرض؛ لأن الرِّبا إذا حرم، طابت النفوس بقرض الدرهم، واسترجاع مثله، ولو حلَّ الربا، لكانت حاجة المحتاج تحمله حاجته على أخذ الدرهم بالدرهمين، فيفضي ذلك إلى قطع المواساة، والمعروف، والإحسان. ورابعها: أنَّ الغالب أنَّ المقرض يكون غنيّاً، والمستقرض يكون فقيراً، فالقول بتجويز الرِّبا تمكينٌ للغني من أن يأخذ من الفقير الضَّعيف مالاً زائداً، وهو غير جائزٍ برحمة الرَّحيم. وخامسها: أنَّه غير معقولٍ المعنى. قوله: {لاَ يَقُومُونَ} الظَّاهر أنَّها خبر الموصول المتقدِّم، وقال بعضهم: إنها حالٌ، وهو سهوٌ، وقد يتكلَّف تصحيحه بأن يضمر الخبر؛ كقراءة من قرأ {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} [يوسف: 8] ؛ وقوله: [الطويل] 1254 - ... ... ... ... ... . . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 449 لاَ أَنَا بَاغِيَا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... في أحد الوجهين. والمراد القيام يوم القيامة أو من القبور. قوله: {إِلاَّ كَمَا يَقُومُ} فيه الوجهان المشهوران وهما: النصب على النعب؛ لمصدر محذوف، أي: لا يقومون إلا قياماً مثل قيام الذي يتخبطه الشيطان، وهو المشهور عند المعربين. أو النصب على الحال من ضمير ذلك المصدر المقدَّر، أي: لا يقومونه، أي: القيام إلاَّ مبشهاً قيام الذي يتخطبه الشيطان، وهو رأي سيبويه، وقد قدَّمت تحقيقهما. و «ما» الظاهر أنها مصدريةٌ، أي: كقيام. وجوَّز بعضهم أن تكون بمعنى الذي، والعائد محذوفٌ، والتقدير: إلا كالقيام الذي يقومه الذي يتخبَّطه الشيطان، وهو بعيدٌ. و «يتخبَّطه» يتفعَّله، وهو بمعنى المجرد أي يخبطه؛ فهو مثل: تعدَّى الشيء وعداه فهو تفعَّل بمعنى فعل، نحو تقسَّمه: بمعنى قسمه، وتقطَّعه: بمعنى قطعه. ومعنى ذلك مأخوذٌ من خبط البعير بأخفافه: إذا ضرب بها الأرض. ويقال: فلانٌ يخبط خبط عشواء؛ قال علقمة: [الطويل] 1255 - وَفِي كُلِّ حَيٍّ قَدْ خَبَطْتَ بِنِعْمَةٍ ... فَحُقَّ لِشَأْسٍ مِنْ نَدَاكَ ذَنُوبُ وقال زهير: [الطويل] 1256 - رَأَيْتُ المَنَايَا خَبْطَ عَشْوَاءَ مَنْ تُصِبْ ... تُمِتْهُ وَمَنْ تُخْطِئ يُعَمَّرْ فَيَهْرَمِ والتخبط معناه: الضَّرب على غير استواء، ويقال للرجل الذي يتصرف في أمر ولا يهتدي فيه، إنه يخبط خبط عشواء، وخبط البعير الأرض بأخفافه، وتخبطه الشيطان، إذا مسَّه بخبلٍ، أو جنونٍ؛ لأنه كالضَّرب على غير استواء في الإدهاش. قوله: {مِنَ المس} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه متعلقٌ بيتخبَّطه من جهة الجنون، فيكون في موضع نصبٍ، قاله أبو البقاء. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 450 الثاني: أنه يتعلَّق بقوله تبارك وتعالى: {لاَ يَقُومُونَ} ، أي: لا يقومون من المسِّ الذي بهم، إلا كما يقوم المصروع. الثالث: أنه يتعلَّق بقوله: «يَقومُ» ، أي: كما يقوم المصروع من جنونه؛ ذكر هذين الوجهين الأخيرين الزمخشريُّ. قال أبو حيَّان: وكان قدَّم في شرح المسِّ أنه الجنون، وهذا الذي ذهب إليه في تعلُّق «مِنَ المَسِّ» بقوله: «لاَ يَقُومُونَ» ضعيفٌ؛ لوجهين: أحدهما: أنه قد شرح المسَّ بالجنون، قلت: وهو بابٌ في البلاغة مشهورٌ، وهو أعلى رتب التشبيه؛ ومنه قوله: [الطويل] 1257 - وَرَمْلٍ كَأَوْرَاكِ العَذَارَى قَطَعْتُهُ ..... ... ... ... ... ... ... . . فصل في دفع شبهة في تحليل الرِّبا القوم كانوا في تحليل الرِّبا على هذه الشُّبهة، وهي أنَّ من اشترى ثوباً بعشرة، ثمَّ باعه بأحد عشر، فهذا حلالٌ؛ فكذا إذا باع العشرة بأحد عشر، يجب أن يكون حلالاً؛ لأنه لا فرق في العقل بين الصُّورتين، فهذا في ربا الفضل، وكذلك - أيضاً - في ربا النَّسيئة؛ لأنه لو باع الثوب الذي يساوي عشرة في الحال بأحد عشر إلى شهرٍ، جاز، فكذا إذا أعطى العشرة بأحد عشر إلى شهرٍ، وجب أن يجوز؛ لأنه لا فرق في العقل بينهما، وإنما جاز ذلك، لحصول التراضي من الجانبين، فكذا هاهنا، لما حصل التراضي من الجانبين، وجب أن يجوز أيضاً، والبياعات إنَّما شرعت لدفع الحاجة، ولعل الإنسان أن يكون صفر اليد في الحال، شديد الحاجة، ويكون له في المستقبل من الزمان أموالٌ كثيرةٌ، فإذا لم يجز الرِّبا، لم يعطه ربُّ المال مجاناً، فيبقى الإنسان في الشدة، والحاجة، وبتقدير جواز الربا فيعطيه ربُّ المال؛ طمعاً في الزيادة، والمديون يردُّه عند وجدان المال، وإعطاء تلك الزيادة عند وجدان المال، أسهل عليه من البقاء في الحاجة قبل وجدان المال، فهذا يقتضي حلَّ الرِّبا، كما قلنا في سائر البياعات أنَّها إنما شرعت؛ لدفع الحاجة، فهذه شبهة القوم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 451 فأجابهم الله تعالى بقوله: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} ، وتوجيه هذا الجواب أنَّ ما ذكرتم معارضةٌ للنَّصِّ بالقياس؛ وهو لا يجوز. فصل في دفع شبهة لنفاة القياس تمسَّك نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: لو كان الدِّين بالقياس، لكانت هذه الشبهة لازمةً، فلمَّا بطلت، علمنا أن الدين بالنَّصّ لا بالقياس. وفرَّق القفَّال بينهما، فقال: من باع ثوباً يساوي عشرةً بعشرين، فقد جعل ذات الثَّوب مقابلةً بالعشرين، فلمَّا حصل التراضي على هذا التقابل، صار كلُّ واحدٍ منهما مقابلاً للآخر في المالية عندهما، فلم يكن أخذ من صاحبه شيئاً بغير عوض. أمَّا إذا باع العشرة بالعشرة، فقد أخذ العشرة الزائدة من غير عوضٍ، ولا يمكن أن يقال: إنَّ غرضه هو الإمهال في الأجل؛ لأن الإمهال ليس إلاَّ مالاً أو شيئاً يشار إليه، حتى يجعله عوضاً عن العشرة الزائدة؛ فافترقا. فإن قيل: ما الحكمة في قلب هذه القضية؟ ومن حقّ القياس أن يشبه محل الخلاف بمحل الوفاق؛ لأن حلَّ البيع متفقٌ عليه، وهم أرادوا قياس الربا عليه؛ فكان نظم الكلام أن يقال: إنما الرِّبا مثل البيع، فقلبه، وقال: {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} ؟ فالجواب أنّه لم يكن مقصود القوم أن يتمسَّكوا بنظم القياس، بل كان غرضهم أنَّ البيع والرِّبا متماثلان في جميع الوجوه المطلوبة، فكيف يجوز تخصيص أحد المثلين بالحلِّ، والآخر بالحرمة، وعلى هذا التقدير: فأيُّهما قدِّم، أو أخِّر جاز. قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} الظاهر أنه من كلام الله تعالى، أخبر بأنه أحلَّ هذا، وحرَّم ذاك، وعلى هذا؛ فلا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب. وقال بعضهم: «هذه الجملة من تَتِمَّة قول الذين يأكلون الربا، فتكون في محلِّ نصبٍ بالقول؛ عطفاً على المَقُولِ» وهو بعيدٌ جداً، لأنَّ القائل بأنَّ هذا من كلام الكفَّار، لا يتمُّ إلاَّ بإضمار زيادةٍ، إمَّا بأن يحمل ذلك على الاستفهام؛ على سبيل الإنكار، أو يحمل ذلك على الرِّواية من قول المسلمين، والإضمار خلاف الأصل، وعلى الأول لا يحتاج إلى الإضمار، فكان أولى أيضاً فإنَّ المسلمين - أبداً - يتمسَّكون في جميع مسائل البيع بهذه الآية، ولو كان ذلك من كلام الكفَّار، لما جاز لهم الاستدلال به. وأيضاً، فقوله بعده: {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ ... } إلى قوله: { ... خَالِدُونَ} يقتضي أنَّهم لما تمسَّكوا بقولهم: {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} فالله تعالى قد كشَفَ عن فساد تلك الشُّبهة، وبيَّن ضعفها، فلو لم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 452 يكن قوله {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} من كلام الله تعالى، لم يكن أجاب عن تلك الشبهة، فلم يكن قوله {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ} - لائقاً بهذا الموضع. فصل ذهب بعض العلماء إلى أنَّ قوله تعالى: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} من المجملات التي لا يجوز التمسك بها. قال ابن الخطيب: وهو المختار عندي لوجوه: الأول: أنه ثبت في «أصول الفِقْهِ» أنَّ الاسم المفرد المحلَّى ب «لام» التَّعريف، لا يفيد العموم ألبتَّة، بل ليس فيه إلاَّ تعريف الماهيَّة، ومتى كان كذلك، كفى في العمل ثبوت حكمه في الصورة الواحدة. الثاني: سلَّمنا أنه يفيد العموم، ولكنا لا نشكُّ في أنَّ إفادته أضعف من إفادة ألفاظ الجمع للعموم، مثلاً قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع} وإن أفاد الاستغراق إلاَّ أن قوله: «وأحل الله البيعات» أقوى في إفادة الاستغراق فثبت أن قوله: «وأحل الله البيع» لا يفيد الاستغراق إلاَّ إفادة ضعيفة، ثم بتقدير العموم لا بدَّ أن يتطرق إليها تخصيصاتٌ كثيرةٌ خارجةٌ عن الحصر والضبط، ومثل هذا العموم لا يليق بكلام الله تعالى، وكلام رسوله؛ لأنه كذبٌ، والكذب على الله محالٌ. فأما العامُّ الذي يكون موضع التخصيص منه قليلاً جدّاً، فذلك جائزٌ؛ لأن إطلاق لفظ الاستغراق على الأغلب عرفٌ مشهورٌ في كلام العرب. الثالث: روي عن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: خرج رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من الدنيا، وما سألناه عن الربا. ولو كان هذا اللفظ مفيداً للعموم، لما قال ذلك؛ فعلمنا أنَّ هذه الآية من المجملات. الرابع: أن قوله: {وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا} يقتضي أن يكون كل بيع حلالاً، وكل ربا حراماً؛ والرِّبا: هو الزيادة، فأول الآية أباح جميع البيوع، وآخرها حرَّم الجميع؛ فلا يعرف الحلال من الحلال بهذه الآية؛ فكانت مجملةً، ووجب الرجوع في معرفة الحلال، والحرام إلى بيان الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -. قوله: {فَمَن جَآءَهُ} يحتمل أن تكون شرطيةً وهو الظاهر، وأن تكون موصولةً، وعلى كلا التقديرين فهي في محلِّ رفعٍ بالابتداء. وقوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} هو الخبر، فإن كانت شرطيةً، فالفاء واجبةٌ، وإن كانت موصولةٌ، فهي جائزةٌ، وسبب زيادتها ما تقدَّم من شبه الموصول لاسم الشرط. ويجوز الجزء: 4 ¦ الصفحة: 453 حال كونها شرطيةً وجهٌ آخر، وهو أن تكون منصوبةً بفعلٍ مضمرٍ يفسِّره ما بعده، وتكون المسألة من باب الاشتغال، ويقدَّر الفعل بعدها؛ لأنَّ لها صدر الكلام، والتقدير: فأيُّ شخصٍ جاءت الموعظة جاءته، ولا يجوز ذلك فيها موصولةً؛ لأنَّ الصلة لا تفسِّر عاملاً؛ إذ لا يصحُّ تسلُّطها على ما قبلها، وشرط التفسير صحة التسلُّط. وسقطت علامة التأنيث من فعل الموعظة لأن ثانيها غير حقيقي ولأنها في معنى الوعظ وأيضاً للفصل بين الفعل، وفاعله بالمفعول. وقرأ أبيّ والحسن: «جاءَتْه» على الأصل. قوله: {مِّنْ رَّبِّهِ} يجوز أن تكون متعلقةً بجاءته، وتكون لابتداء الغاية؛ مجازاً، وأن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ لموعظةٍ، أي: موعظةٌ من موعظات ربه، أي: بعض مواعظه. وقوله : {فانتهى } نسقٌ على «جاءَتْه» عطفه بفاء التعقيب، أي: لم يتراخ انتهاؤه عن مجيء الموعظة. وقوله: {وَمَنْ عَادَ} الكلام على «مَنْ» هذه في احتمال الشرط، والموصول، كالكلام على التي قبلها. «عاد» أي: رجع، يقال: عاد يعود عوداً، ومعاداً، وعن بعضهم: أنها تكون بمعنى «صار» ؛ وأنشد [الطويل] 1258 - وَبِالمَحْضِ حَتَّى عَادَ عَنَطْنَطاً ... إِذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ وأنشد: [الطويل] 1259 - تُعِدُّ لَكُمْ جَزْرَ الجَزُورِ رِمَاحُنَا ... وَيَرْجِعْنَ بالأَسْيَافِ مُنْكَسِرَاتِ والضمير في قوله «فَأمْرُه» يعود على «مَا سَلَف» ، أي: وأمر ما سلف إلى الله، أي: في العفو عنه وإسقاط التِّبعة منه. وقيل: يعود على المنتهي المدلول عليه بانتهى، أي: فأمر المنتهي عن الربا إلى الله؛ في العفو؛ والعقوبة. وقيل: يعود على ذي الرِّبا في أن ينتبه على الانتهاء، أو يعيده إلى المعصية. وقيل: يعود على الرِّبا، أي: في عفو الله عمَّا شاء منه، أو في استمرار تحريمه. قال الواحديُّ «السُّلُوفُ» : التقدم، وكلُّ شيءٍ قدمته أمامك فهو سلفٌ، ومنه الأمم السَّالفة، وسالف الذكر، وله سلفٌ صالحٌ: آباءٌ متقدِّمون، ومنه {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً} [ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 454 الزخرف: 56] أي: أمةً متقدمةً تعتبر بهم من بعدهم، وتجمع السَّلف على: أسلافٍ وسلوفٍ، والسالفة والسُّلاف: المتقدِّمون في حرب أو سفرٍ، والسالفة من الوجه؛ لتقدُّمها؛ قال: [الوافر] 1260 - وَمَيَّةُ أَحْسَنُ الثَّقَلَيْنِ جِيداً ... وَسَالِفَةٌ وأَحْسَنُهُ قَذَالاَ والسُّلفة: ما يقدَّم من الطعام للضَّيف. يقال: «سَلِّفُوا ضَيْفَكُمْ، ولَهِّنُوهُ» أي: بادروه بشيءٍ مَّا، ومنه: السَّلف في الدَّين؛ لأنه تقدَّمه مالٌ. والسَّالفة: العنق؛ لتقدُّمه في جهة العلو، والسلفة: ما قدم قبل الطعام، وسلافة الخمر: صفوتها؛ لأنه أوَّل ما يخرج من عصيرها. فصل في تأويل ما سلف قال الزجاج: أي صفح له عمَّا مضى من ذنبه، قبل نزول الآية؛ كقوله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، وضعِّف؛ بأن قبل نزول الآية في التحريم، لم يكن ذلك حراماً، ولا ذنباً؛ فكيف يقال المراد من الآية الصفح عن ذلك الذنب مع أنه ما كان هناك ذنبٌ؟ والنهي المتأخر لا يؤثر في الفعل المتقدم! ولأنه تعالى أضاف ذلك إليه بلام التمليك، وهو قوله: {فَلَهُ مَا سَلَفَ} أي: كلُّ ما أكل من الرِّبا، وليس عليه ردُّه، فأمَّا ما لم يقضَ بعد، فلا يجوز له أخذه، وإنما له رأس ماله فقط؛ كما بيَّنه تعالى في قوله تعالى: {وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ} [البقرة: 279] . فصل قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: في قوله تعالى: {وَأَمْرُهُ إِلَى الله} وجوهٌ للمفسرين، والذي أقوله: إنَّ هذه الآية مختصةٌ بمن ترك استحلال الرِّبا من غير بيان أنه ترك أكل الربا، أو لم يترك؛ ويدلُّ عليه مقدمة الآية ومؤخِّرتها. أمَّا مقدمة الآية؛ فلأن قوله {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى} ليس فيه بيان أنه انتهى عماذا، فلا بدَّ وأن يصرف ذلك إلى المدلول السابق، وأقرب المذكورات إلى هذه الكلمة قولهم: {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} فكان قوله: {فانتهى} عائداً إليه فيكون المعنى: فانتهى عن هذا القول. وأما مؤخرة الآية فقوله: {وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} معناه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 455 عاد إلى الكلام المتقدم، وهو استحلال الربا «فَأَمْرهُ إلى اللهِ» ثم هذا الإنسان إمَّا أن يقال: إنه كما انتهى عن استحلال الربا، انتهى - أيضاً - عن أكل الربا، وليس كذلك؛ فإن كان الأول كان هذا الشخص مقراً بدين الله عالماً بتكليف الله تعالى؛ فحينئذٍ يستحق المدح والتعظيم، لكنَّ قوله «فَأَمْرُهُ إِلى اللهِ» ليس كذلك؛ لأنه يدلُّ على أنه تعالى إن شاء عذَّبه، وإن شاء غفر له، فثبت أن هذه الآية لا تليق بالكافر، ولا بالمؤمن المطيع، فلم يبق إلاَّ أنها تختصُّ بمن أقرَّ بحرمة الرِّبا، ثم أكل الربا؛ فهذا أمره إلى الله إن شاء عذبه، وإن شاء غفر له، فهو كقوله {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] . ثم قال: {وَمَنْ عَادَ فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي ومن عاد إلى استحلال الربا، حتى يصير كافراً، وفيها دليلٌ على أنَّ الخلود لا يكون إلاَّ للكافر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 قوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي} : الجمهور على التخفيف في الفعلين من: مَحَقَ، وأربى. وقرأ ابن الزبير: ورويت عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «يُمْحِّقُ، ويُرَبِّي» بالتشديد فيهما. والمحق: النقص، يقال: محقته فانمحق، وامتحق؛ ومنه المحاق في القمر؛ قال: [البسيط] 1261 - يَزْدَادُ حَتَّى إِذَا مَا تَمَّ أَعْقَبَهُ ... كَرُّ الجَدِيدَيْنِ نَقْصاً ثُمَّ يَنْمَحِقُ وأنشد ابن السِّكِّيتِ: [الطويل] 1262 - وَأَمْصَلْتُ مَالِي كُلَّهُ بِحَيَاتِهِ ... وَمَا سُسْتَ مِنْ شَيْءٍ فَرَبُّكَ مَاحِقُهْ ويقال: هجيرٌ ماحقٌ: إذا نقص كلُّ شيءٍ بحرِّه. وقد اشتملت هذه الآية على نوعين من البديع: أحدهما: الطِّباق في قوله: «يَمْحَقُ، ويُرْبِي» فإنهما ضدَّان، نحو: {أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] . والثاني: تجنيس التغاير في قوله: «الرِّبا، ويُرْبي» إذ أحدهما اسم والآخر فعل. فصل في بيان وجه النَّظم لما كان الداعي إلى فعل الرِّبا، تحصيل الزيادة، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقص الخيرات - بيَّن تعالى - ها هنا - أنَّ الربا وإن كان زيادةً، فهو نقصانٌ في الحقيقة، وأن الصدقة وإن كانت نقصاً في الصورة، فهي زيادةٌ في المعنى، فلا يليق الجزء: 4 ¦ الصفحة: 456 بالعاقل أن يلتفت إلى ما يقضي به الطبع، والحسُّ من الدواعي والصَّوارف؛ بل يعوِّل على ما ندبه الشرع إليه؛ فهذا وجه النظم. فصل اعلم أن محق الربا، وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة. أما محق الربا في الدنيا فمن وجوه: أحدها: أنَّ الغالب في المربي - وإن كثر ماله - أن تؤول عاقبته إلى الفقر وتزول البركة عن مالح؛ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «الرِّبا وَإِنْ كَثُرَ فإنَّ عَاقِبتَهُ تَصِيرُ إِلى قلٍّ» . وثانيها: أنه وإن لم ينتقص ماله، فإن عاقبته الذَّمُّ والنقص، وسقوط العدالة، وزوال الأمانة، وحصول اسم الفسق، والقسوة، والغلظة. ثالثها: أنَّ الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا، يلعنونه، ويبغضونه، ويدعون عليه؛ وذلك يكون سبباً لزوال الخير، والبركة عنه في نفسه وماله. الرابع: أنه متى اشتهر بين الناس بأنه إنما جمع ماله من الرِّبا، توجهت إليه الأطماع، وقصده كلُّ ظالمٍ، ومارقٍ وطمَّاعٍ، ويقولون: إنَّ ذلك المال ليس له في الحقيقة، فلا يترك في يده. وأمَّ أن الربا سبب للمحق في الآخرة فمن وجوهٍ: أحدها: قال ابن عباس: معنى هذا المحق: أن الله تعالى لا يقبل منه صدقةً، ولا جهاداً ولا حجّاً، ولا صلة رحم. ثانيها: أن مال الدنيا لا يبقى عند الموت، ويبقى عليه التبعة، والعقوبة، وذلك هو الخسار الأكبر. وثالثها: ثبت في الحديث: أنَّ الأغنياء يدخلون الجنَّة بعد الفقراء بخمسمائة عامٍ، فإذا كان الغِنَى من الحلال كذلك، فما ظنُّك بالغنى من الحرام المقطوع به فذلك هو المحق والنقصان! وأمَّا «إِرْبَاءُ الصدقاتِ» فيحتمل - أيضاً - أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 457 أما في الدنيا: فمن وجوهٍ: أحدها: أن من كان لله كان الله له، فإذا كان الإنسان يحسن إلى عبيد الله، فالله تعالى لا يتركه ضائعاً، ولا جائعاً في الدنيا، وقد ورد في الحديث أنَّ ملكاً ينادي كلَّ يومٍ: «اللَّهُمَّ يَسِّرْ لِكُلِّ مُنْفِقٍ خَلَفاً، ولكل مُمْسِكٍ تَلَفاً» . وثانيها: أنه يزداد كلَّ يومٍ في جاهه، وذكره الجميل، وميل القلوب إليه. وثالثها: أن الفقراء يعينونه بالدعاء الخالص من قلوبهم. ورابعها: أنَّ الأطماع تنقطع عنه، فإنه متى اشتهر بإصلاح مهمَّات الفقراء، والضعفاء؛ فكلُّ أحدٍ يحترز عن منازعته، وكلُّ ظالم، وطمَّاع يتخوف من التعرض إليه، اللهم إلاَّ نادراً، فهذا هو المراد بإرباء الصدقات في الدنيا. وأما إرباؤها في الآخرة، فروى أبو هريرة قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقبلُ الصَّدَقَاتِ وَلاَ يَقْبَلُ مِنْهَا إِلاَّ الطَّيِّبَ ويَأْخُذُهَا بِيَمِينِهِ فَيُربِّيها كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ مَهرَةُ أَوْ فَلُوَّهُ حتى إنَّ اللقمةَ تَصِيرُ مِثْلَ أُحُدٍ» وتصديق ذلك بيِّنٌ في كتاب الله تعالى {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات} [التوبة: 104] . وقال ابن الخطيب: ونظير قوله: {يَمْحَقُ الله الربا} المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوانٍ عليه ترابٌ فأصابه وابلٌ فتركه صلداً ونظير قوله: {وَيُرْبِي الصدقات} المثل الذي ضربه الله بحبةٍ أنبتت سبع سنابل في كلِّ سنبلةٍ مائة حبَّةٍ. قوله: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} اعلم أن الكفَّار فعَّالٌ من الكفر، ومعناه: أن ذلك عادته، والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا فتقول: فلان فعَّالٌ للخير أمَّارٌ به و «الأَثِيم» فعيل بمعنى فاعلٍ، وهو الآثم، وهو - أيضاً - مبالغةٌ في الاستمرار على اكتساب الإثم والتمادي فيه، وذلك لا يليق إلاَّ بمن ينكر تحريم الربا، فيكون جاحداً. وفيه وجه آخر وهو أن يكون «الكَفَّارُ» راجعاً إلى المستحلّ «والأَثيم» يكون راجعاً إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم؛ فتكون الآية الكريمة جامعةً للفريقين. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 458 اعلم أنَّ من عادته تعالى في القرآن الكريم مهما ذكر وعيداً، ذكر بعده وعداً فلما بلغ ها هنا في وعيد المرابي، أتبعه بهذا الوعد، وقد تقدم تفسير مثل هذه الآية. واحتجّ من قال بأن العمل الصالح خارجٌ عن مسمى الإيمان بهذه الآية، فإنه عطف عمل الصالحات على الإيمان؛ والمعطوف يغاير المعطوف عليه. وأجيب عنه بأنه قال: {وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة} ولا نزاع في أن إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، داخلان تحت عمل الصالحات، فكذا ما ذكرتُم، وأيضاً قال تبارك وتعالى: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} [النحل: 88] وقال: {والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} [البقرة: 39] ويمكن أن يجاب بأن الأصل حمل كل لفظةٍ على فائدةٍ جديدة، تُرِكَ العملُ به عند التَّعذُّر، فيبقى في غير موضع التعذر على الأصل. فإن قيل إنَّ الإنسان إذا بلغ عارفاً بالله تعالى وقبل وجوب الصلاة والزكاة عليه، ثم مات، فهو من أهل الثواب بالاتفاق، فدلَّ على أن استحقاق الثواب لا يتوقَّف على حصول العمل. وأيضاً فقد يثيب الله تعالى المؤمن الفاسق الخالي عن جميع الأعمال، وإذا كان كذلك فكيف وقف الله ها هنا حصول الأجر على حصول العمل؟ فالجواب: أنه تبارك وتعالى إنما ذكر هذه الخصال؛ لا لأجل أنَّ استحقاق الثواب مشروطٌ بهذا، بل لأجل أنَّ لكل واحد منهما أثراً في جلب الثواب، كما قال في ضدِّ هذا {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الفرقان: 68] ثم قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً} [الفرقان: 68] ومعلومٌ أنَّ من ادعى مع الله إلهاً آخر لا يحتاج في استحقاقه العذاب إلى عمل آخر، وإنما جمع اللهُ الزِّنا، وقتل النَّفس، مع دعاء غير الله إلهاً، لبيان أنَّ كل واحد من هذه الخصال يوجب العقوبة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 اعلم أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية المتقدمة أنَّ من انتهى عن الربا، فله ما سلف؛ فقد يظنُّ أنه لا فرق بين المقبوض منه، وبين الباقي في ذمَّة الغريم، فبين في هذه الآية الكريمة بقوله: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} أي: الذي لم يقبض فالزيادة حرامٌ، وليس لهم أن يأخذوا إلاَّ رؤوس أموالهم، فقال: {اتقوا الله} والاتقاء إنما يكون باتقاء ما نهى عنه، {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} يعني: إن كنتم قد قبضتم منه شيئاً، فيعفو عنه، وإن لم تقبضوه أو لم تقبضوا بعضه، فالذي لم يقبض حرامٌ قبضه، وهذه الآية دليلٌ على أحكام الكفَّار إذا أسلموا؛ لأن ما مضى في زمن الكفر، فإنه لا ينقض، ولا يفسخ، وما لم يوجد منه الجزء: 4 ¦ الصفحة: 459 شيء في حال الكفر، فحكمه الإسلام، فإذا تناكحوا على ما يجوز عندهم، ولا يجوز في الإسلام فمعفوٌّ عنه، وإن وقع على مهرٍ حرامٍ، وقبضته المرأة، فقد مضى، وليس لها شيءٌ، وإن لم تقبضه فلها مهر مثلها دون المسمى. قوله تعالى: {وَذَرُواْ} : فتحت العين من «ذَرْ» حملاً على «دَعْ» ، إذ هو بمعناه، وفتحت في «دَعْ» ؛ لأنه أمرٌ من «يَدَعُ» ، وفتحت من «يَدَعُ» ، وإن كان قياسها الكسر؛ لكون الفاء واواً؛ [كيَعِدُ] لكون لامه حرف حلقٍ. ووزن «ذَرُوا» : علوا؛ لأنَّ المحذوف الفاء لا يستعمل منه ماضٍ إلاَّ في لغيَّة، وكذلك «دَعْ» . وقرأ الحسن: «مَا بَقَى» بقلب الكسر فتحةً، والياء ألفاً، وهي لغةٌ لطَيِّىءٍ، ولغيرهم؛ ومنه قول علقمة: [الطويل] 1263 - زَهَا الشَّوْقُ حَتَّى ظَلَّ إِنْسَانُ عَيْنِهِ ... يَفِيضُ بِمَغْمُورٍ مِنَ الدَّمْعِ مُتْأَقِ وقال آخر: [الوافرٍ] . 1264 - وَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةس عَلَيْنَا ... وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ ويقولون في الناصية: ناصاةٌ. وقرأ الحسن أيضاً: «بَقِيْ» بتسكين الياء، قال المبرد: «تسكين ياء المنقوص في النصب من أحسن الضرورة، هذا مع أنَّه معربٌ، فهو في الفعل الماضي أحسنُ» قال شهاب الدين: وإذا كانوا قد حذفوها من الماضي صحيح الآخرن فأولى من حرف العلة، قال: [مجزوء الرمل] 1265 - إِنَّمَا شِعْرِيَ قَيْدٌ ... قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلانِ وقال جرير في تسكين الياء: [البسيط] 1266 - هُوَ الخَلِيفَةُ فَارْضُوا مَا رَضِيْ لَكُمُ ... مَاضِي العَزِيمَةِ مَا فِي حُكْمِهِ جَنَفُ وقال آخر: [الطويل] 1267 - لَعَمْرُكَ لاَ أَخْشَى التَّصَعْلُكَ مَا بَقِيْ ... عَلَى الأَرْضِ قَيْسِيٌّ يَسُوقُ الأَبَاعِرَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 460 قوله: {مِنَ الربا} متعلِّقٌ ببقي، كقولهم: «بَقِيَتْ منه بقيةٌ» ، والذي يظهر أنه متعلقٌ بمحذوفٍ؛ على أنه حال من فاعل «بقَى» ، أي: الذي بقي حال كونه بعض الربا، فهي تبعيضيةٌ. ونقل ابن عطية هنا أنَّ العدويَّ - وهو أبو السَّمَّال - قرأ «مِنَ الرِّبُو» بتشديد الراء مكسورة، وضمِّ الباء بعدها واوٌ. قال شهاب الدين: قد تقدم أنَّ أبا السَّمَّال إنما قرأ «الرِّبَا» في أول الآية الكريمة بواوٍ بعد فتحة الباء، وأنَّ أبا زيدٍ حكى عن بعضهم: أنه ضمَّ الباء، وقدَّمت تخريجهما على ضعفه. وقال ابن جنِّي: «شَذَّ هَذَا الحَرْفُ في أمرين: أحدهما: الخروج من الكسر إلى الضم بناءَ لازماً. والآخر: وقوع الواو بعد الضمة في آخر الاسم، وهذا شيء لم يأت إلاَّ في الفعل؛ نحو: يغزو ويدعو، وأمَّا» ذو «الطائية بمعنى الذي فشاذةٌ جداً، ومنهم من يغيِّر واوها، إذا فارق الرفع، فيقول:» رأيتُ ذَا قَامَ «. ووجه القراءة أنه لمَّا فخَّم الألف انتحى بها الواو التي الألف بدل منها، على حدِّ قولهم: الصَّلاة والزكاة، وهي بالجملة قراءة شاذةٌ» . قال شهاب الدين: غيره يقيِّد هذه العبارة، فيقول: «ليس في الأسماء المعربة واو قبلها ضمة» حتى يخرج عنه «ذُو» بمعنى الذي، و «هو» من الضمائر، وابن جنِّي لم يذكر القيد استثناء «ذو الطائية» ويرد عليه نحو «هو» ، ويرد على العبارة «ذُو» بمعنى صاحب؛ فإنَّها معربةٌ في آخرها واوٌ بعد ضمةٍ. وقد أجيب عنه بأنها تتغيَّر إلى الألف والياء فلم يبال بها، وأيضاً فإنَّ ضمة الدَّال عارضةٌ، إذ أصلها الفتح، وإنما ضمَّت؛ إتباعاً على ما تقرر في إعراب الأسماء الستة في كتب النحو. وقله: «بناءً لازماً» تحرُّزٌ من وجود الخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ، بطريق العرض؛ نحو: الحِبُك؛ فإنه من التداخل، ونحو: الرِّدُءْ «موقوفاً عليه، فالخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ في هاتين الكلمتين، ليس بلازمٍ. وقوله:» مِنْهُمْ مَنْ يغيِّرُ واوَها «المشهور بناؤها على الواو مطلقاً، وقد تعرب؛ كالتي بمعنى صاحب؛ وأنشدوا: [الطويل] 1268 - فَإِمَّا كِرَامٌ مُوسِرُونَ لَقِيتُهُمْ ... فَحَسْبِيَ مِنْ ذِي عِنْدَهُمْ مَا كَفَانِيَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 461 ويروى:» مِنْ ذُو «على الأصل. فصل قوله: {إِن كُنْتُمْ} شرطٌ، وجوابه محذوفٌ عند الجمهور، أي: فاتَّقوا، وذروا، ومتقدِّم عند جماعةٍ، وقيل:» إِنْ «هنا بمعنى إذ؛ وهذا مردودٌ. فإن قيل: كيف قال {ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله} ثم قال {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} فالجواب من وجوهٍ: الأول: أن هذا كما يقال إن كنت أخي فأكرمني، معناه: إِنَّ من كان أخاً، أكرم أخاه. الثاني: أنَّ معناه إن كنتم مؤمنين قبله، أي: معترفين بتحريم الرِّبا. الثالث: إن كنتم تريدون استدامة حكم الإيمان. الرابع: يا أيُّها الذين آمنوا، بلسانهم، ذروا ما بقي من الرِّبا إن كنتم مؤمنين بقلوبكم. الخامس: ما تقدم أنَّ» إن «بمعنى» إذْ «. فصل في سبب النزول في سبب النزول رواياتٌ: الأولى: أن أهل مكة كانوا يرابون، فلما أسلموا عند فتح مكة، أمرهم الله تعالى بهذه الآية، أن يأخذوا رؤوس أموالهم دون الزيادة. الثانية: قال مقاتلٌ: نزلت في أربعة إخوةٍ من ثقيف: مسعودٍ، وعبد [ياليل] ، وحبيبٍ، وربيعة، وهم بنو عمرو بن عمير بن عوف الثقفي، كانوا يداينون بنى المغيرة بن عبد الله بن عمير بن مخزوم وكانوا يرابون. فلما ظهر النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - على لاطائف، أسلم هؤلاء الإخوة، فطلبوا رباهم من بنى المغيرة. فقال بنو المغيرة: والله ما نعطي الرِّبا في الإسلام، وقد وضعه الله تعالى عن المؤمنين، فاختصموا إلى عتَّاب بن أسيد، فكتب عتَّابٌ - وكان عامل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقصة الفريقين، وكان ذلك مالاً عظيماً؛ فنزلت الآية. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 462 الثالثة: قال عطاء، وعكرمة: نزلت في العباس بن عبد المطَّلب، وعثمان بن عفَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وكانا قد أسلفا في التمر، فلما حضر الجذاذ، قال لهما صاحب التمر: إن أنتما أخذتما حقكما، لا يبقى لي ما يكفي عيالي! فهل لكما أن تأخذا النصف، وتؤخِّرا النّصف؛ وأضعف لكما؟ ففعلا، فلما جاء الأجل، طلبا الزيادة، فبلغ ذلك رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فنهاهما فأنزل الله هذه الآية؛ فسمعا وأطاعا وأخذا رؤوس أموالهما. الرابعة: قال السُّدِّيُّ: نزلت في العباس، وخالد بن الوليد، وكانا شريكين في الجاهلية، يسلفان في الربا إلى بني عمرو بن عميرٍ، وناسٍ من ثقيف، فجاء الإسلام ولهما أموالٌ عظيمةٌ في الربا؛ فأنزل الله هذه الآية. فقال النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في «حجةِ الوَدَاعِ» في خطبته يوم عرفة «أَلاَ كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمِي مَوْضُوعٌ، ودِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وإنَّ أَوَّلَ دَم أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابنِ رَبِيعَةَ بن الحَارِثِ، كان مُسْتَرْضِعاً في بني سعدٍ؛ فقَتَلَه هُذيْلٌ، وَرِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وأَوَلُّ رِباً أَضَعُ رِبَا العباسِ بنِ عَبْد المطلبِ؛ فإنه مَوْضُوعٌ كُلُّه» . فصل القاضي قوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} يدلُّ على أنَّ الإيمان لا يتكامل إذا أصرَّ الإنسان على الكبائر، ولا يصير الإنسان مؤمناً على الإطلاق، إلاَّ إذا اجتنب كل الكبائر. والجواب: لمَّا دلَّت الدلائل الكثيرة المذكورة في قوله تعالى: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3] على أنَّ العمل خارج عن مسمَّى الإيمان، كانت هذه الآية محمولةً على كمال الإِيمان وشرائعه، فكان التقدير: إن كنتم عاملين بمقتضى شرائع الإيمان، وهذا وإن كان تركاً للظاهر لكنا ذهبنا إليه؛ لتلك الدلائل. فإن قيل: كيف أمر بالمحاربة مع المسلمين؟ قلنا: هذه اللفظة قد تطلق على من عصى الله غير مستحل كما جاء في الخبر «مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيّاً، فَقَدْ بَارَزَنِي بالمُحَارَبَةِ» ، وعن جابر، عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ لم يَدَع المخابرة، فليأذَن بحرب من اللهِ ورسُوله» وقد جعل كثيرٌ من المفسرين والفقهاء قوله: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] أصلاً في قطع الطريق من المسلمين، فثبت أن ذكر هذا النوع من التهديد مع المسلمين وارد في كتاب وسنة رسوله. وفي الجواب عن السؤال وجهان: الأول: أن المراد المبالغة في التهديد دون نفس الحرب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 463 الثاني: أن المراد منه نفس الحرب، وفيه تفضيلٌ؛ فنقول: إنّ المصرَّ على فعل الربا، إذا كان من شخص، وقدر الإمام عليه قبض عليه وأجرى فيه حكم الله من التَّعزير، والحبس إلى أن تظهر منه التوبة، وإن كان المصر ممن له عسكرٌ وشوكة، حاربه الإمام، كما يحارب الفئة الباغية، وكما حارب أبو بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - مانعي الزكاة، وكذا القول لو اجتمعوا على ترك الأذان، وترك دفن الموتى، فإنه يفعل بهم ما ذكرناه. وقال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - من عامل بالربا، يستتاب، فإن تاب، وإلاّض ضرب عنقه. والقول الثاني: أنه خطابٌ للكفار، وأن معنى قوله: {إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي: معترفين بتحريم الربا {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} أي: فإن لم تكونوا معترفين بتحريمه {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} ومن ذهب إلى هذا القول، قال: إنَّ فيه دليلاً على أنّض من كفر بشريعة واحدةٍ من شرائع الإسلام، فهو خارجٌ من ملة الإسلام، كافرٌ كما لو كفر بجميع شرائعه. قوله: {وَإِنْ تُبْتُمْ} فالمعنى على القول الأول: وإن تبتم عن معاملة الربا، وعلى الثاني: من استحلال الربا {فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} أي: لا تظلمون الغريم بطلب الزيادة على رأس المال {وَلاَ تُظْلَمُونَ} أي: بنقصان رأس المال. قوله: {لاَ تَظْلِمُونَ} فيها وجهان: أظهرهما: أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، أخبرهم تعالى بذلك، أي: لا تظلمون غيركم بأخذكم الزيادة منه، ولا تظلمون أنتم - أيضاً - بضياع رؤوس أموالكم. والثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في «لَكُمْ» والعامل ما تضمَّنه الجارُّ من الاستقرار؛ لوقوعه خبراً وهو رأي الأخفش. وقرأ الجمهور الأول مبنيّاً للفاعل، والثاني مبنياً للمفعول. وروى أبانٌ، والمفضَّل، عن عاصم بالعكس. ورجَّح الفارسي قراءة العامة؛ بأنها تناسب قوله: «وإن تُبْتُمْ» في إسناد الفعلين إلى الفاعل، فتظلمون مبنياً للفاعل أشكل بما قبله. وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: يُقْرَأُ بتسميةِ الفَاعِلِ في الأوَّلِ، وترْكِ التسمية في الثاني؛ ووجهه: أنَّ منعهم من الظلم أهمُّ؛ فبدئ به، ويقرأ بالعكس، والوجه فيه: أنه قدَّم ما تطمئن به نفوسهم من نفي الظلم عنهم، ثم منعهم من الظلم، ويجوز أن تكون القراءتان بمعنى واحدٍ؛ لأنَّ الواو لا ترتِّب. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 464 قوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} : في «كان» هذه وجهان: أحدهما: - وهو الأظهر - أنها تامةٌ بمعنى حدث، ووجد، أي: وإن حدث ذو عسرةٍ، فتكتفي بفاعلها كسائر الأفعال، قيل: وأكثر ما تكون كذلك إذا كان مرفوعها نكرةٌ، نحو: «قد كان مِنْ مَطَرٍ» . والثاني: أنها الناقصة والخبر محذوفٌ. قال أبو البقاء: «تقديره: وإن كان ذو عسرة لكم عليه حقٌّ، أو نحو ذلك» وهذا مذهب بعض الكوفيين في الآية، وقدَّر الخبر: وإن كان من غرمائكم ذو عسرةٍ. وقدَّره بعضهم: وإن كان ذو عسرةٍ غريماً. قال أبو حيَّان: «وَحَذْفُ خبرِ كَانَ لا يجيزه أصحابنا؛ لا اختصاراً؛ ولا اقتصاراً، لعلَّةٍ ذكروها في كتبهم. وهي أنَّ الخبر تأكّد طلبه من وجهين: أحدهما: كونه خبراً عن مخبر عنه. والثاني: كونه معمولاً للفعل قبله، فلما تأكدت مطلوبيته، امتنع حذفه. فإن قيل: أليس أن البصريين لمَّا استدلَّ عليهم الكوفيون في أنَّ» ليس «تكون عاطفةً بقوله: [الرمل] 1269 - ... ... ... ... ... ... ... ..... إِنَّمَا يَجْزِي الفَتَى لَيْسَ الجَمَلْ تأوَّلُوهَا على حَذْفِ الخَبَرِ؛ وأَنْشدوا شَاهِداً على حَذْفِ الخبرِ قولَه: [الكامل] 1270 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... يَبْغِي جِوَارَكِ حِينَ لَيْسَ مُجِيرُ وإذا ثبت هذا، ثبت في سائر الباب. فالجواب أن هذا مختصٌّ بليس؛ لأنها تشبه لا النافية، و» لا «يجوز حذف خبرها، فكذا ما أشبهها» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 465 وتقوَّى الكوفيُّون بقراءة عبد الله، وأُبيّ؛ وعثمان: «وَإِنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ» أي: وإن كان الغريم ذا عُسْرَةٍ. قال أبو عليّ: في «كان» اسمها ضميراً تقديره: هو، أي: الغريم، يدلُّ على إضماره ما تقدَّم من الكلام؛ لأنَّ المرابي لا بدَّ له ممَّن يرابيه. وقرأ الأعمش: «وإِنْ كان مُعْسِراً» قال الدَّاني، عن أحمد بن موسى: «إنها في مُصْحَفِ عبد الله كذلك» . ولكنَّ الجمهور على ترجيح قراءة العامة وتخريجهم القراءة المشهورة. قال مكي: وَإِنْ وقع ذُو عُسْرَةٍ، وهو سائغٌ في كلِّ الناس، ولو نصبت «ذا» على خبر «كان» ، لصار مخصوصاً في ناس بأعيانهم؛ فلهذه العلة أجمع القرَّاء المشهورون على رفع «ذو» . وقد أوضح الواحديُّ هذا، فقال: «أي: وإنْ وقع ذو عسرةٍ، والمعنى على هذا يصحُّ، وذلك أنه لو نصب، فقيل: وإن كان ذا عسرة، لكان المعنى: وإن كان المشتري ذا عُسْرةٍ، فنظرةٌ؛ فتكون النظرة مقصورةً عليه، وليس الأمر كذلك؛ لأن المشتري، وغيره إذا كان ذا عسرةٍ، فله النظرة إلى الميسرة» . وقال أبو حيَّان: مَنْ نصب «ذَا عُسْرَةٍ» ، أو قرأ «مُعْسِراً» فقيل: يختصُّ بأهل الرِّبا، ومن رفع، فهو عامٌّ في جميع من عليه دينٌ، قال: «وليس بلازمٍ، لأنَّ الآية إنما سِيقَتْ في أهل الربا، وفيهم نزلت» قال شهاب الدين: وهذا الجواب لا يجدي؛ لأنه وإن كان السياق كذا، فالحكم ليس خاصاً بهم. وقرئ «وَمَنْ كَانَ ذَا عُسْرَةٍ» ، وقرأ أبو جعفرٍ «عُسْرَةٍ» بضم السين. فصل قال ابن الخطيب: لما كنتُ ب «خَوَارِزْم» ، وكان هناك جمعٌ من أكابر الأدباء، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 466 فأوردت عليهم إشكالاً في هذا الباب؛ فقلت: إنكم تقولون: إنَّ «كان» إذا كانت ناقصةً، أنها تكون فعلاً؛ وهذا محالٌ؛ لأن الفعل ما دلَّ على اقتران حدثٍ بزمان، فقولك «كان» يدل على حصول معنى الكون في الزمان الماضي، وإذا أفاد هذا المعنى، كانت تامةً، لا ناقصةً، فهذا الدليل يقتضي أنها إن كانت فعلاً، كانت تامةً لا ناقصة، وإن لم تكن تامةً لم تكن فعلاً ألبتة؛ بل كانت حرفاً، وأنتم تنكرون ذلك؛ فبقوا في هذا الإشكال زماناً طويلاً، وصنَّفوا في الجواب عنه كتباً، وما أفلحوا فيه، ثم انكشف لي فيه سرٌّ أذكره - ها هنا - وهو: أنَّ «كانَ» لا معنى له إلاَّ أنه حدث، ووقع، ووجد إلاَّ أن قولك وجد، وحدث على قسمين: أحدهما: أن يكون المعنى وجد، وحدث الشيء؛ كقولك: وجد الجوهر، وحدث العرض. والثاني: أن يكون المعنى وجد، وحدث موصوفية الشيء بالشيء، فإذا قلت: كان زيدٌ عالماً، فمعناه: حدث في الزمان الماضي موصوفية زيد بالعلم. والقسم الأول هو المسمَّى ب «كان» التامة. والقسم الثاني: هو المسمَّى ب «الناقصة» وفي الحقيقة: فالمفهوم من «كان» في الموضعين هو الحدوث، والوقوع إلاَّ أنه في القسم الأول المراد حدوث الشيء في نفسه فلا جرم كان الاسم الواحد كافياً والمراد في القسم الثاني حدوث موصوفية أحد الأمرين بالآخر، فلا جرم لم يكن الاسم الواحد كافياً، بل لا بدَّ فيه من ذكر الاسمين حتى يمكنه أن يشير إلى موصوفية أحدهما بالآخر، وهذا من لطائف الأبحاث. فأما إن قلنا إنه فعل، كان دالاًّ على وقوع المصدر في الزمان الماضي فحينئذٍ تكون تامةً لا ناقصةً، وإن قلنا إنه ليس بفعل بل حرفٌ، فكيف يدخل فيه الماضي والمستقبل، والأمر، وجميع خواصِّ الأفعال؟ وإذا حمل الأمر على ما قلناه، تبيَّن أنه فعلٌ وزال الإشكال بالكلية. المفهوم الثالث ل «كان» أن تكون بمعنى «صَارَ» ؛ وأنشدوا: [الطويل] 1271 - بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالمَطِيُّ كَأَنَّهَا ... قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا وعندي أنَّ هذا اللفظ - ها هنا - محمولٌ على ما ذكرناه، فإنَّ معنى «صار» أنَّها حدثت موصوفية الذات بهذه الصفة، بعد أنها ما كانت موصوفة بذلك؛ فتكون «كان» هنا أيضاً بمعنى حدث، ووقع؛ إلاَّ أنه حدوثٌ مخصوصٌ وهو أنه حدث موصوفية الذات بهذه الصفة، بعد أن كان الحاصل موصوفية الذات بصفة أخرى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 467 المفهوم الرابع: أن تكون زائدة؛ وأنشدوا: [الوافر] 1272 - سَرَاةُ بَنِي أبي بَكْرٍ تَسَامَى ... عَلَى كَانَ المُسَوَّمَةِ الجِيَادِ و «العُسْرَةِ» اسم من الإعسار، ومن العسر، وهو تعذُّر الموجود من المال؛ يقال: أعسر الرجل، إذا صار إلى حالة العسرة، وهي الحالة التي يتعسَّر فيها وجود المال. قوله: {فَنَظِرَةٌ} الفاء جواب الشرط، و «نَظِرَةٌ» خبر مبتدأ محذوف، أي: فالأمر أو فالواجب، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ، أي: فعليكم نظرةٌ. وقرأ العامَّة: «نَظِرَةٌ» بزنة «نَبَقَة» . وقرأ الحسن، ومجاهدٌ، وأبو رجاء: «فَنَظِرةٌ» بتسكين العين، وهي لغةٌ تميمةٌ يقولون: «كَبْد» في «كَبِد» و «كَتْف» في «كَتِف» . وقرأ عطاء «فَنَاظِرَةٌ» على فاعلة، وقد خرَّجها أبو إسحاق على أنها مصدر نحو: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] {يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين} [غافر: 19] {أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 25] . وقال الزمخشري: «فناظِرُهُ، أي: فصاحب الحقّ ناظره، أي: منتظره، أو صاحب نظرته على طريقة النسب؛ كقولهم: مَكَانٌ عَاشِبٌ، وبَاقِلٌ؛ بمعنى ذو عشبٍ، وذو بقلٍ، وعنه:» فناظِرْهُ «على الأمر بمعنى: فسامحه بالنظرة، وباشره بها» فنقله عنه القراءة الأولى يقتضي أن تكون قراءته «ناظِر» اسم فاعل مضافاً لضمير ذي العسرة، بخلاف القراءة التي قدمها عن عطاء، فإنها «نَاظِرَةٌ» بتاء التأنيث، ولذلك خرَّجها الزَّجَّاج على المصدر. وقرأ عبد الله: «فناظِرُوه» أمراً للجماعة بالنظرة، فهذه ستُّ قراءات مشهورها واحدةٌ. وهذه الجملة لفظها خبرٌ، ومعناها الأمر؛ كقوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} [البقرة: 233] وقد تقدَّم. والنظرة: من الانتظار، وهو الصبر والإمهال. تقول: بعته الشيء بنظرة، وبإنظار. قال: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} [الأعراف: 14 - 15] {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 38] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 468 قوله: {إلى مَيْسَرَةٍ} قرأ نافع وحده: «مَيْسَرَة» بضمِّ السِّين، والباقون بفتحها. والفتح هو المشهور؛ إذ مفعل، ومفعلة بالفتح كثيرٌ، ومفعُلٌ بالضم، معدومٌ؛ إلا عند الكسائي، فإنه أورد منه ألفاظاً، وأمَّا مفعلةٌ، فقالوا: قليلٌ جدّاً وهي لغة الحجاز، وقد جاءت منها ألفاظٌ، نحو: المسرُقة، والمقبرة، والمشربة، والمسربة، والمقدرة، والمأدبة، والمفخرة، والمزرعة، ومعربة، ومكرمة، ومألكة. وقد ردَّ النحاس الضمَّ؛ تجرؤاً منه، وقال: «لم تَأْتِ مَفْعُلَةٌ إِلاَّ في حُرُوفٍ معدودةٍ ليس هذه منها، وأيضاً فإنَّ الهاء زائدةٌ، ولم يَأْتِ في كلامِهِم مَفْعُل أَلْبتةَ» انتهى. وقال سيبويه: «لَيْسَ في الكَلاَمِ مَفْعُل» قال أبو عليّ: «يَعْنِي في الآحاد» . وقد حكى سيبويه «مَهْلك» مثلَّث اللاَّم، وقال الكسائيُّ: «مَفْعُل» في الآحاد، وأورد منه مكرُماً في قول الشاعر: [الرجز] 1273 - لِيَوْمِ رَوْعٍ أَوْ فَعَالِ مَكْرُمِ ... ومَعْوُن في قول الآخر - هو جميلٌ -: [الطويل] 1274 - بُثَيْنُ، ألْزَمِي «لاَ» ؛ إنَّ «لاَ» إِنْ لَزِمْتِهِ ... عَلَى كَثْرَةِ الوَاشِينَ أَيُّ مَعْوُنِ ومألكاً في قول عديّ: [الرمل] 1275 - أَبْلِغِ النُّعْمَانَ عَنِّي مَأْلُكاً ... أَنَّهُ قَدْ طَالَ حَبْسِي وَانْتِظَارِي وهذا لا يرد على سيبويه لوجهين: أحدهما: أنَّ هذا جمعٌ لمكرمةٍ، ومعونة، مألكة، وإليه ذهب البصريون، والكوفيون خلا الكسائي، ونقل عن الفراء أيضاً. والثاني: أن سيبويه لا يعتدُّ بالقليل، فيقول: «لم يَرِدْ كذا» وإن كان قد ورد منه الحرف والحرفان، لعدم اعتداده بالنادر القليل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 469 وإذا تقرَّر هذا، فقد خطَّأ النحويون مجاهداً، وعطاءً في قراءتهما: «إلى مَيْسُرِهِ» بإضافة «مَيْسُر» مضموم السين إلى ضمير الغريم؛ لأنهم بنوه على أنه ليس في الآحاد مفعل، ولا ينبغي أن يكون هذا خطأً؛ لأنه على تقدير تسليم أنَّ مفعلاً ليس في الآحاد، فميسر هنا ليس واحداً، إنما هو جمع ميسرة، كما قلتم أنتم: إنَّ مكرماً جمع مكرمةٍ، ونحوه، أو يكون قد حذف تاء التأنيث للإضافة؛ كقوله: [البسيط] 1276 - إِنَّ الخَلِيطَ أَجَدُّوا البَيْنَ فَانْجَرَدُوا ... وأَخْلَفُوكَ عِدَ الأَمْرِ الَّذِي وَعَدُوا أي: عدة الأمر؛ ويدلُّ على ذلك أنهم نقلوا عنهما، أنهما قرآ أيضاً: «إِلَى مَيْسَرِهِ» بفتح السين، مضافاً لضمير الغريم، وهذه القراءة نصٌّ فيما ذكرته لك من حذف تاء التأنيث للإضافة؛ لتوافق قراءة العامَّة: «إلى مَيْسَرَةٍ» بتاء التأنيث. وقد خرَّجها أبو البقاء على وجهٍ آخر، وهو أن يكون الأصل: «مَيْسُورِه» فخفِّف بحذف الواو؛ اكتفاءً بدلالة الضمة عليها، وقد يتأيَّد ما ذكره على ضعفه، بقراءة عبد الله، فإنه قرأ: إلى «مَيْسُورِه» بإضافة «مَيْسورٍ» للضمير، وهو مصدرٌ على مفعول؛ كالمجلود والمعقول، وهذا إنما يتمشَّى على رأي الأخفش؛ إذ أثبت من المصادر زنة مفعول، ولم يثبته سيبويه. «والمَيْسَرَةُ» : مفعلةٌ من اليسر، واليسار الذي هو ضدُّ الإعسار، وهو تيسر الموجود من المال ومنه يقال أيسر الرجل، فهو موسرٌ، أي: صار إلى حالة وجود المال فالميسرة، واليسر، والميسور: الغنى. فصل في سبب نزول «وإن كان ذو عسرة» لما نزل قوله: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ} [البقرة: 279] قال بنو عمرو الثَّقفي: بل نتوب إلى الله، فإنه لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله، فرضوا برأس المال، فشكى بنو المغيرة العسرة، وقالوا: أخِّرونا إلى أن تدرك الغلاَّت، فأبوا أن يؤخروا؛ فأنزل الله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} يعني وإن كان الذي عليه الدَّين معسراً، {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} ، يعن: أَنْظِرُوه إلى اليسار، والسَّعة. فصل في بيان حكم الإنظار اختلفوا في حكم الإنظار: هل هو مختصٌّ بالربا، أو عامٌّ في كل دين؟ فقال ابن عباس، وشريح، والضحاك، والسدي، وإبراهيم: الآية في الربا، وذكر عن شريح أنَّه أمر الجزء: 4 ¦ الصفحة: 470 بحبس الخصم، فقيل له: إنه معسرٌ، فقال شريح إنما ذلك في الربا، والله تعالى قال في كتابه العزيز {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . وقال جماعة منهم مجاهد: إنها عامَّة في كل دين؛ لعموم قوله تعالى: {ذُو عُسْرَةٍ} ولم يقل ذا عسرة. فصل والإعسار: هو ألاَّ يجد في ملكه ما يؤدِّيه بعينه، ولا يكون له ما لو باعه، لأمكنه أداء الدَّين من ثمنه خارجاً عن مسكنه وثيابه، ولا يجوز أن يحبس من لم يجد إلاَّ قوت يوم لنفسه وعياله، وما لا بدَّ لهم من كسوةٍ لصلاتهم ودفع البرد والحرِّ عنهم. واختلفوا: إذا كان قويّاً، هل يلزمه أن يؤاجر نفسه من صاحب الدَّين، أو غيره؟ فقال بعضهم: يلزمه ذلك، كما يلزمه إذا احتاج لنفسه، أو لعياله. وقال بعضهم: لا يلزمه ذلك، واختلفوا أيضاً إذا بذل للمعسر ما يؤدِّي به الدَّين، هل يلزمه قبوله والأداء، أو لا يلزمه؟ فأما من له بضاعة كسدت عليه فواجبٌ عليه أن يبيعها بالنقصان إن لم يكن إلاَّ ذلك، ويؤدِّيه في الدَّين. فصل في تحريم حبس المعسر إذا علم الإنسان أنَّ غريمة معسرٌ - حرم عليه حبسه، وأن يطالبه بما له عليه ووجب عليه إنظاره إلى يساره، فإن ارتاب في إعساره، جاز له حبسه إلى أن يظهر إعساره، فإذا ادَّعى الإعسار وكذَّبه الغريم، فإن كان الدَّين عن عوضٍ، كالبيع، والقرض، فلا بدَّ له من إقامة البيِّنة على أنَّ ذلك العوض قد هلك، وإن كان الدَّين عن غير عوض كالإتلاف، والصَّداق، والضَّمان؛ فالقول قول المعسر؛ لأن الأصل الفقر وعلى الغريم إقامة البينة. فصل قال المهدويُّ: قال بعض العلماء: هذه الآية ناسخةٌ لما كان في الجاهلية من بيع من أعسر. قال القرطبيُّ: وحكى مكيٌّ: أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أمر به في صدر الإسلام. قال ابنُ عطية: فإن ثبت فِعْلُ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فهو نسخٌ، وإلاَّ فليس بنسخ. قال الطَّحاوي: كان الحرُّ يباع في الدَّين أول الإسلام، إذا لم يكن له مالٌ يقضيه عن نفسه؛ حتى نسخ الله ذلك بقوله: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 471 واحتجُّوا بما رواه الدَّارقطنيُّ من حديث مسلم بن خالد الزَّنجي، قال: حدثنا زيد ابن أسلم عن ابن البيلمانيّ، عن سرَّقٍ، قال: كان لرجلٍ عليّ مالٌ - أو قال - دينٌ فذهب إلى رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فلم يصب لي مالاً، فباعني منه، أو باعني له؛ أخرجه البزَّار بإسناد طويل، ومسلم بن خالد الزنجي، وعبد الرحمن البيلماني لا يحتجُّ بهما. قوله: {وَأَن تَصَدَّقُواْ} مبتدأ وخبره «خير» وقرأ عاصم: بتخفيف الصاد، والباقون: بتثقيلها. وأصل القراءتين واحدٌ؛ إذ الأصل: تتصدَّقوا، فحذف عاصمٌ إحدى التاءين: إمَّا الأولى، وإمَّا الثانية، وتقدَّم تحقيق الخلاف فيه، وغيره أدغم التاء في الصاد، وبهذا الأصل قرأ عبد الله: «تَتَصَدَّقوا» . وحذف مفعول التصدُّق للعلم به، أي: بالإنظار؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «لاَ يَحِلُّ دَيْنُ رَجلٍ مُسْلم، فيؤخره؛ إلاَّ كان له بِكُلِّ يَوْمٍ صدقةٌ» وهذا ضعيفٌ؛ لأن الإنظار ثبت وجوبه بالآية، فلا بد من حمل هذه الآية على فائدةٍ جديدةٍ، ولأن قوله «خَيْرٌ لكُمْ» إنما يليق بالمندوب، لا بالواجب. وقيل: برأس المال على الغريم، إذ لا يصحُّ التصدق به على غيره؛ كقوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] . قوله: {إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جوابه محذوفٌ، و «اَنْ تَصَدَّقُوا» بتأويل مصدرٍ مبتدأ، و «خيرٌ لكم» خبره. فصل في تقدير مفعول «تعلمون» ونصب «يوماً» وتقدير مفعول «تَعْلَمُونَ» فيه وجوه: أحدها: إن كنتم تعلمون أنَّ هذا التصدُّق خير لكم إن عملتموه. الثاني: إن كنتم تعلمون فضل التصدُّق على الإنظار والقبض. الثالث: إن كنتم تعلمون أنَّ ما يأمركم به ربُّكم أصلح لكم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 قوله: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} الآية انتصب قوله «يَوْماً» على المفعول به، لا على الظرف؛ لأنه ليس المعنى واتَّقوا في هذا اليوم، لكن المعنى تأهَّبوا للقائه، بما تقدِّمون من العمل الصالح، ومثله: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 472 المزمل: 17] أي: كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه، مع الكفر بالله تعالى. فصل في آخر ما نزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من القرآن قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هذه آخر آيةٍ نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وذلك لأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما حجَّ نزلت {وَيَسْتَفْتُونَكَ} [النساء: 172] وهي آية الكلالة ثم نزلت، وهو واقفٌ بعرفة {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] ثم نزل {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} فقال جبريل - عليه السلام - يا محمد ضعها على رأس مائتين وثمانين آية من سورة البقرة، وعاش رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بعدها أحداً وثمانين يوماً، وقيل أحداً وعشرين يوماً. وقال ابن جريجٍ: تسع ليالٍ. وقال سعيد بن جبير: سبع ليالٍ، وقيل: ثلاث ساعاتٍ، ومات يوم الاثنين، لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول، حين زاغت الشمس، سنة إحدى عشرة من الهجرة. وقال الشعبي، عن ابن عباس: آخر آيةٍ نزلت على رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أية الرِّبا. قوله تعالى: {تُرْجَعُونَ فِيهِ} : هذه الجملة في محلِّ نصبٍ؛ صفةً للظرف. وقرأ أبو عمرو: «تَرْجِعُونَ» بفتح التاء؛ مبنياً للفاعل، والباقون بضَمِّ التَّاءِ مبنياً للمفعُولِ. وقرأ الحسنُ: «يَرْجِعُون» بياء الغيبة؛ على الالتفات. قال ابن جنِّي: «كأنَّ اللهَ تعالى رَفَقَ بالمؤمنينَ عن أنْ يواجِهَهُم بذكر الرَّجْعَة، إذ هي ممَّا تتفطَّر لها القلوب، فقال لهم:» واتَّقُوا «ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة، فقال: يَرْجِعُون» . واعلم أنَّ الرجوع لازمٌ ومتعدٍّ، وعليه خرِّجت القراءتان. فصل في المراد باليوم قال القاضي: اليوم: عبارةٌ عن زمانٍ مخصوصٍ، وذلك لا يتَّقى؛ إنَّما يتقى ما يحدث الجزء: 4 ¦ الصفحة: 473 فيه من الشِّدة، والأهوال، واتقاء تلك الأهوال لا يمكن إلاَّ في دار الدُّنيا بمجانبة المعاصي، وفعل الواجبات؛ فصار قوله: {واتقوا يَوْماً} يتضمن الأمر بجميع أنواع التكليف. قال جمهور العلماء: المراد بهذا اليوم المحذَّر منه هو يوم القيامة. وقيل يوم الموت، قال ابن عطية: والأول أصحُّ. فصل اعلم أنَّ الرجوع إلى الله ليس المراد منه، ما يتعلق بالمكان والجهة؛ فإن ذلك محالٌ على الله تعالى، وليس المراد الرجوع إلى علمه، وحفظه؛ فإنه معهم أينما كانوا، لكن كل ما في القرآن من الرجوع إلى الله، فله معنيان: الأول: أن الإنسان له ثلاثة أحوالٍ مرتَّبين، فالأولى: كونهم في بطون أمَّهاتهم لا يملكون نفعهم، ولا ضرَّهم؛ بل المتصرف فيهم ليس إلاَّ الله تعالى. والثانية: بعد خروجهم من البطون، فالمتكفل بإصلاح أحوالهم في أوَّل الأمر الأبوان، ثم بعد ذلك، يتصرف بعضهم في بعض، في حكم الظاهر. الثالثة: بعد الموت وهناك لا يتصرف فيهم إلاَّ الله تعالى، فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا، فهذا معنى الرجوع إلى الله. المعنى الثاني: أن المراد يرجعون إلى ما أعدَّ الله لهم من ثوابٍ، وعقابٍ. قوله: {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} معناه: أنَّ المكلف يصل إليه جزاء عمله بالتمام، كما قال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] ، وقال: {وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47] . وفي تأويل قوله: {مَّا كَسَبَتْ} وجهان: أحدهما: فيه حذفٌ تقديره: جزاء ما كسبت. والثاني: أنَّ المكتسب إنَّما هو الجزاء في الأصل، فقوله {مَّا كَسَبَتْ} معناه: ذلك الجزاء وهذا أولى؛ لأنه لا يحتاج إلى الإضمار. قوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} جملة حالية من «كلِّ نَفْسٍ» وجمع اعتباراً بالمعنى، وأعاد الضمير عليها أولاً مفرداً في «كَسَبَتْ» اعتباراً باللفظ، وقدِّم اعتبار اللفظ؛ لأنه الأصل، ولأنَّ اعتبار المعنى وقع رأس فاصلة؛ فكان تأخيره أحسن. قال أبو البقاء: وَيَجُوزُ أن يكون حالاً من الضمير في: «يُرْجَعُون» على القراءة بالياء، ويجوز أن يكون حالاً منه - أيضاً - على القراءة بالتاء، على أنَّه خروج من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 474 الخطاب إلى الغيبة؛ كقوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] ، قال شهاب الدين: ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. فإن قيل: لما قال {توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} فهم منه عدم الظلم، فيكون قوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} من باب التكرير. فالجواب: أنه تعالى لما قال {توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} دلَّ على إيصال العذاب إلى الكفار والفسَّاق، فكان لقائلٍ أن يقول: كيف يليق بأكرم الأكرمين تعذيب عبيده؟ فأجاب بقوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} والمعنى: أن العبد هو الذي ورط نفسه؛ لأن الله تعالى مكَّنه، وأزاح عذره، فهو الذي أساء إلى نفسه. وهذا الجواب إنَّما يستقيم على أصول المعتزلة، وأمَّا على أصولنا، فالله سبحانه مالك الخلق، يتصرف في ملكه كيف شاء، وأراد؛ فلا يكون ظلماً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 في كيفية النظم وجهان: الأول: أنَّ تعالى لمَّا ذكر الإنفاق في سبيل الله، وهو يوجب تنقيص المال، وذكر الرِّبا، وهو - أيضاً - سبب تنقيص المال، وختم هذين الحكمين بالتهديد بقوله {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] والتقوى تسدُّ على الإنسان أكثر أبواب المكاسب، والمنافع - أتبع ذلك بأن ندبه إلى كيفية حفظ المال الحلال، وصونه عن الفساد، فإن القدرة على الإنفاق في سبيل الله، وعلى ترك الرِّبا، وعلى ملازمة التقوى، لا يتم إلاَّ عند حصول المال؛ فلأجل هذا بالغ في الوصيَّة بحفظ المال، ونظيره {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] فحثَّ على الاحتياط في أمر الأموال؛ لكونها سبباً لمصالح المعاش والمعاد. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 475 قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - ويدلُّ على ذلك: أنَّ ألفاظ القرآن جارية في الأكثر على الاختصار، وفي هذه الآية بسطٌ شديدٌ؛ ألاَّ ترى أنَّه قال تعالى {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} ، ثم قال ثانياً: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} ، ثم قال ثالثاً: {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله} ، فكان هذا كالتِّكرار لقوله: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} ؛ لأنَّ العدل هو ما علَّمه الله، ثم قال رابعاً: {فَلْيَكْتُبْ} وهذا إعادةٌ للأمر الأول؛ ثم قال خامساً: {وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق} وفي قوله: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} كفاية عن قوله: {وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق} ؛ لأنَّ الكاتب بالعدل إنَّما يكتب ما يملُّ عليه، ثم قال سادساً: {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} ، وهذا تأكيدٌ، ثم قال سابعاً: {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} ، وهذا كالمستفاد من قوله: {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} ، ثم قال ثامناً: {وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ} ، وهو أيضاً تأكيد لما مضى، ثم قال تاسعاً: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا} ، فذكر هذه الفوائد الثلاثة لتلك التَّأكيدات السَّالفة، وكلُّ ذلك يدلُّ على المبالغة في التَّوصية بحفظ المال الحلال، وصونه عن الهلاك؛ ليتمكن الإنسان بواسطته من الإنفاق في سبيل الله، والإعراض عن مساخط الله: من الرِّبا، وغيره، والمواظبة على تقوى الله. الوجه الثاني: قال بعض المفسرين: إنَّ المراد بهذه المداينة «السَّلَمُ» فإن الله تبارك وتعالى لما منع من الرِّبا في الآية المتقدِّمة؛ أذن في السَّلم في هذه الآية، مع أنَّ جميع المنافع المطلوبة من الرِّبا حاصلة في السَّلم، وبهذا قال بعض العلماء: لا لذَّة، ولا منفعة يوصل إيها بالطَّريق الحرام، إلا والله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سبحانه وتعالى - وضع لتحصيل تلك اللَّذَّة طريقاً حلالاً، وسبيلاً مشروعاً. فصل قال سعيد بن المسيَّب: بلغني أنَّ أحدث القرآن بالعرش آية الدَّين. التداين تفاعل من الدَّين كتبايع من البيع، ومعناه: داين بعضكم بعضاً، وتداينتم: تبايعتم بدين. يقال: داينت الرجل أي: عاملته بدينٍ، وسواء كنت معطياً، أم آخذاً؛ قال رؤبة: [الرجز] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 476 1277 - دَايَنْتُ أَرْوَى وَالدُّيُونُ تُقْضَى ... فَمَطلَتْ بَعْضاً وَأَدَّتْ بَعْضَا ويقال: دنت الرجل: إذا بعته بدينٍ، وأدنته أنا: أخذت منه بدين ففرَّقوا بين فعل وأفعل. قال ابن الخطيب: قال أهل اللغة القرض غير الدين؛ لأنَّ القرض أن يقرض الرجل الإنسان دراهم أو دنانير أو حباً أو تمراً وما أشبه ذلك، ولا يجوز فيه الأجل، والدَّين يجوز فيه الأجل ويقال من الدّين: أدَّان إذا باع سلعته بثمن إلى أجلٍ، ودان يدين إذا أقرض ودان إذا استقرض؛ وأنشد الأحمر: [الطويل] 1278 - نَدِينُ وَيَقْضِي اللهُ عنَّا وَقَدْ نَرَى ... مَصَارعَ قَوْمٍ لاَ يَدِينُونَ ضُيَّعِ فصل في بيان إباحة السلف قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لما حرم الله تعالى الرِّبا؛ أباح السَّلف، وقال: أشهد أن السَّلف المضمون إلى أجل مسمّى، قد أحلَّه الله في كتابه، وأذن فيه ثمَّ قال: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه} . قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: نزلت في السَّلف؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قدم المدينة وهم يسلفون الثِّمار السَّنتين، والثَّلاث؛ فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «مَنْ أَسْلَفَ؛ فَلْيُسْلِفْ فِي كَيْلٍ مَعْلُومٍ، وَوَزْنٍ مَعْلُومٍ، إلى أَجَلٍ مَعْلُومٍ» . وقال آخرون: المراد القرض، وهو ضعيف؛ لأن القرض لا يشترط فيه الأجل والآية فيها اشتراط الأجل، وقال أكثر المفسِّرين البياعات على أربعة أوجه: أحدها: بيع العين بالعين، وذلك ليس بمداينة ألبتة. والثاني: بيع الدَّين بالدَّين، وهو باطلٌ، فلا يدخل تحت الآية. بقي قسمان، وهما بيع العين بالدَّين، وهو بيع الشَّيء بثمن مؤجَّل، وبيع الدَّين بالعين، وهو المسمَّى ب «السّلم» وكلاهما داخلان تحت هذه الآية الكريمة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 477 فإن قيل: المداينة: مفاعلة، وحقيقتها أن يحصل من كلّ واحدٍ منهما دين، وذلك هو بيع الدَّين بالدَّين، وهو باطلٌ بالاتفاق. فالجواب: أنَّ المراد من «تَدَايَنْتُمْ» : تعاملتم، والتَّقدير تعاملتم بما فيه دين. فإن قيل: قوله «تَدَايَنْتُمْ» يدلُّ على الدّين، فما الفائد في قوله: «بِدَيْنٍ» . فالجواب من وجوه: أحدها: قال ابن الأنباريّ: التَّداين يكون لمعنيين: أحدهما: التَّداين بالمال؛ والتَّداين بمعنى المجازاة من قولهم: «كَمَا تَدِينُ تُدَانُ» فذكر الدين لتخصيص أحد المعنيين. الثاني: قال الزَّمخشريُّ: وإنَّما ذكر الدَّين؛ ليرجع الضمير إليه في قوله تبارك وتعالى {فاكتبوه} إذ لو لم يذكر، لوجب أن يقال: فاكتبوا الدُّين. الثالث: ذكره ليدلّ به على العموم، أي: أي دين كان من قليلٍ، أو كثيرٍ من قرضٍ، أو سلمٍ، أو بيع دين إلى أجل. الرابع: أنَّه تبارك وتعالى ذكره للتَّأكيد كقوله تبارك وتعالى {فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] . الخامس: قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: إنَّ المداينة مفاعلة، وهي تتناول بيع الدَّين بالدَّين وهو باطلٌ، فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطلٌ، فلو قال إذا تداينتم لبقي النص مقصوراً على بيع الدين بالدين وهو باطل فلما قال: {إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ} كان المعنى: إذا تداينتم تدايناً يحصل فيه دين واحد وحينئذٍ يخرج عن بيع الدّين بالدين، ويبقى بيع العين بالدّين أو بيع الدّين بالعين، فإن الحاصل في كلِّ واحدٍ منهما دين واحد لا غير. فإن قيل: إن كلمة «إذَا» لا تفيد العموم، والمراد من الآية العموم؛ لأن المعنى كلَّما تداينتم بدين فاكتبوه فلم عدل عن كلما وقال: {إِذَا تَدَايَنتُم} . فالجواب: أنَّ كلمة «إِذَا» ، وإن كانت لا تقتضي العموم إلا أنَّها لا تمنع من الجزء: 4 ¦ الصفحة: 478 العموم، وها هنا قام الدَّليل على أنَّ المراد هو العموم؛ لأنه تعالى بين العلَّة في الأمر بالكتابة في آخر الآية، وهي قوله تعالى: {ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا} والمعنى إذا وقعت المعاملة بالدّين، ولم يكتب فالظَّاهر أنه تنسى الكيفيَّة فربَّما توهم الزِّيادة، فطلب الزِّيادة ظلماً، وربَّما توهم النُّقصان، فترك حقَّه من غير حمد ولا أجر، فأمَّا إذا كتب كيفيَّة الواقعة أمن من هذه المحذورات، فلمَّا دلَّ النَّصُّ على أن هذا هو العلَّة، وهي قائمةٌ في الكلّ كان الحكم أيضاً حاصلاً في الكلِّ. قوله تعالى: {إلى أَجَلٍ} : متعلِّق بتداينتم، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه صفة لدين، و {مُّسَمًّى} صفة لدين، فيكون قد قدَّم الصفة المؤولة على الصَّريحة، وهو ضعيفٌ، فكان الوجه الأول أوجه. والأجل: في اللغة هو الوقت المضروب لانقضاء الأمد، وأجل الإنسان هو الوقت لانقضاء عمره، وأجل الدّين لوقت معيَّن في المستقبل، وأصله من التَّأخير يقال: أجل الشَّيء بأجل أجولاً إذا تأخَّر، والآجل: نقيض العاجل. فإن قيل: المداينة لا تكون إلا مؤجلة، فما فائدة ذكر الأجل المداينة؟ فالجواب: إنَّما ذكر الأجل ليمكنه أن يصفه بقوله {مُّسَمًّى} والفائدة ف يقوله {مُّسَمًّى} ليعلم أنَّ من حقّ الأجل أن يكون [معلوماً] كالتَّوقيت بالسَّنة، والأشهر، والأيَّام، فلو قال إلى الحصاد، أو إلى الدياس، أو إلى رجوع قدوم الحاج؛ لم يجز لعدم التَّسمية. وألف «مُسَمًّى» منقلبةٌ عن ياءٍ، تلك الياء منقلبةٌ عن واو؛ لأنه من التَّسمية، وقد تقدَّم أنَّ المادَّة من سما يسمو. فصل والأجل يلزم في الثَّمن في البيع، وفي السّلم بحيث لا يكون لصاحب الحقّ الطلب قبل محله، وفي القرض، لا يلزم الأجل عن أكثر أهل العلم. قال القرطبي: شروط السّلم تسعة، ستّة في المسلم فيه، وثلاثة في رأس مال السّلم. أمَّا السِّتَّة التي في المسلم فيه فأن يكون في الذِّمَّة، وأن يكون موصوفاً، وأن يكون الأجل معلوماً، وأن يكون الأجل معلوماً، وأن يكون مؤجّلاً، وأن يكون عام الوجود عند الأجل، وأمَّا الثلاثة الجزء: 4 ¦ الصفحة: 479 التي في رأس مال السلم، فأن يكون معلوم الجنس، معلوم المقدار، وأن يكون نقداً. قوله: {فاكتبوه} الضَّمير يعود على «بِدَيْنٍ» . فصل أمر الله تعالى في المداينة بأمرين: أحدهما: الكتابة بقوله: {فاكتبوه} . الثاني: الإشهاد. بقوله: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ} ، وفائدة الكتابة والإشهاد أنَّ دخول الأجل تتأخّر فيه المطالبة، ويتخلَّله النِّسيان ويدخله الجحد، فالكتابة سبب لحفظ المال من الجانبين، لأنَّ صاحب الدّين إذا علم أنَّ حقّه مقيّد بالكتابة، والإشهاد تحذر من طلب زيادة، ومن تقديم المطالبة قبل حلول الأجل، والمديون يحذر من الجحد، ويأخذ قبل حلول الدّين في تحصيل المال ليتمكن من أدائه وقت الحلول. فصل القائلون بأن ظاهر الأمر النَّدب، لا إشكال عليهم، واختلف القائلون بأن ظاهر الأمر الوجوب، فقال عطاء، وابن جريج والنَّخعي بوجوب الكتابة، وهو اختيار محمد بن جرير الطَّبري، قال النَّخعي: يشهد، ولو على دُسْتَجةِ بَقْلٍ. وقال جمهور الفقهاء: هذا أمر ندب؛ لأنّا نرى جمهور المسلمين في جميع ديار المسلمين يبيعون بالأثمان المؤجَّلة من غير كتابة، ولا إشهاد، وذلك إجماعٌ على عدم وجوبها، ولأنَّ في إيجابها حرجٌ شديدٌ، ومشقَّة عظيمةٌ. وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بُعِثْتُ بالحنِيفِيَّةِ السَّهْلَةِ السَّمْحَةِ» . وقال الحسن، والشَّعبيُّ، والحكم بن عتيبة: كانا واجبين ثمّ نسخا بقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] . وقال التيمي: سألت الحسن عنها فقال: إن شاء أشهد، وإن شاء لم يشهد، ألا تسمع قوله تعالى: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً} [البقرة: 283] . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 480 فصل لما أمر الله تعالى بكتابة هذه المداينة؛ اعتبر في الكتابة شرطين: الأولَّل: أن يكون الكاتب عدلاً لقوله: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} وذلك أنَّ قوله تعالى: {فاكتبوه} ظاهره يقتضي أنَّه يجب على كلِّ أحدٍ أن يكتب، لكن ذلك غير ممكنٍ، فقد يكون ذلك الإنسان غير كاتب، فصار معنى قوله: {فاكتبوه} ، أي: لا بدَّ من حصول هذه الكتابة وهو كقوله تعالى: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] فإن ظاهره، وإن كان يقتضي خطاب الكلّ بهذا الفعل، إلاَّ أنَّا علمنا أنَّ المقصود منه أنَّه لا بدَّ من حصول قطع اليد من إنسان واحد، إمَّا الإمام، أو نائبه أو المولى، فكذا ها هنا. ويؤكِّد هذا قوله تعالى: {وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل} فإنَّه يدلُّ على أنَّ المقصود حصول الكتابة من أيّ سخصٍ كان. قوله: {بالعدل} فيه أوجهٌ: أحدها: أن يكون الجارُّ متعلّقاً بالفعل قبله. قال أبو البقاء: «بالعَدْلِ متعلِّق بقوله: فليكتب، أي: ليكتب بالحقِّ، فيجوز أن يكون حالاً، أي: ليكتب عادلاً، ويجوز أن يكون مفعولاً به أي: بسبب العدل» . قوله أولاً: «بالعدلِ مُتَعَلِّقٌ بقوله فَلْيَكْتُب» يريد التعلق المعنوي؛ لأنَّه قد جوَّز فيه بعد ذلك أن يكون حالاً، وإذا كان حالاً تعلَّق بمحذوف لا بنفس الفعل. وقوله: «ويجوزُ أن يكون مفعولاً» يعني فتتعلق الباء حينئذٍ بنفس الفعل. والثاني: أن يتعلَّق ب «كَاتِب» . قال الزَّمخشريُّ: «مُتَعَلِّقٌ بكاتب صفةً له، أي: كاتبٌ مأمونٌ على ما يَكْتُب» ، وهو كما تقدَّم في تأويل قول أبي البقاء. وقال ابن عطيَّة: «والبَاءُ متعلِّقةٌ بقوله:» ولْيَكْتُبْ «، وليست متعلِّقة بقوله» كَاتِبٌ «؛ لأنه كان يلزم ألاَّ يكتب وثيقةً إلا العدل في نفسه، وقد يكتبها الصّبيُّ والعبد» . الثالث: أن تكون الباء زائدةٌ، تقديره: فليكتب بينكم كاتب بالعدل. فصل في معنى العدل في تفسير العدل وجوه: أحدها: أن يكتب بحيث لا يزيد، ولا ينقص عنه، ويكتب بحيث يصلح أن يكون حجَّة له عن الحاجة إليه. وثانيها: لا يخصّ أحدهما بالاحتياط له دون الآخر، بل يكتبه بحيث يكون كل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 481 واحد من الخصمين آمناً من تمكن الآخر من إبطال حقّه. ثالثها: قال بعض الفقهاء: العدل أن يكون ما يكتبه متّفقاً عليه بين أهل العلم، بحيث لا يجد قاضٍ من قضاة المسلمين سبيلاً إلى إبطاله على قول بعض المجتهدين. ورابعها: أن يحترز عن الألفاظ المجملة المتنازع في المراد بها، فهذه الأمور لا يمكن رعايتها إلاَّ إذا كان الكاتب فقيهاً عارفاً بمذاهب المجتهدين، أديباً مميّزاً بين الألفاظ المتشابهة. قوله: {وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ} وهذا ظاهره نهي الكاتب عن الامتناع عن الكتابة وإيجاب الكتابة على كل من كان كاتباً، وهذا على سبيل الإرشاد، والمعنى: أنَّ الله تعالى لمَّا علمه الكتابة وشرفه بمعرفة أحكام الشَّريعة، فالأولى أن يكتب تحصيلاً لمهمّ أخيه المسلم شكراً لتلك النِّعمة، فهو كقوله تعالى: {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} [القصص: 77] . وقال الشعبي: هو فرض كفاية، فإن لم يوجد من يكتب غيره وجب عليه الكتابة، وإن وجد غيره؛ وجبت الكتابة على واحد منهم. وقيل: كانت الكتابة واجبة على الكاتب، ثمَّ نسخت بقوله تعالى: {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ} . وقيل: متعلِّق الإيجاب، هو أن يكتب كما علمه الله، يعني: أنَّه بتقدير أنه يكتب، فالواجب أن يكتب كما علَّمه الله، ولا يخلّ بشرط من الشّرائط، ولا يدرج فيه قيداً يُخلّ بمقصود الإنسان. قوله: {أَنْ يَكْتُبَ} مفعولٌ به، أي: لا يأب الكتابة. قوله: {كَمَا عَلَّمَهُ الله} يجوز أن يتعلَّق بقوله: {أَنْ يَكْتُبَ} على أنه نعتٌ لمصدر محذوف، أو حالٌ من ضمير المصدر على رأي سيبويه، والتقدير: أن يكتب كتابةً مثل ما علَّمه الله، أو أن يكتبه أي: الكتب مثل ما علَّمه الله. ويجوز أن يتعلَّق بقوله: «فَلْيَكْتُبْ» . قال أبو حيَّان: «والظّاهر تعلُّق الكاف بقوله: فَلْيَكْتُبْ» قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وهو قلق لأجل الفاء، ولأجل أنه لو كان متعلِّقاً بقوله: «فَلْيَكْتُبْ» ، لكان النَّظم: فليكتب كما علمه الله، ولا يحتاج إلى تقديم ما هو متأخرٌ في المعنى. وقال الزَّمخشريُّ - بعد أن ذكر تعلُّقه بأن يكتب، وب «فَلْيَكْتُبْ» - «فإِنْ قلت: أيُّ فرقٍ بين الوجهين؟ قلت: إن علَّقته بأن يكتب فقد نهى عن الامتناع من الكتابة المقيَّدة، ثم قيل [له] : فليكتب تلك الكتابة لا يعدل عنها، وإن علَّقته بقوله:» فَلْيَكْتُبْ «فقد نهى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 482 عن الامتناع من الكتابة على سبيل الإطلاق، ثم أمر بها مقيّدةً» . فيكون التقدير: فلا يأب كاتبٌ أن يكتب، وها هنا تمَّ الكلام، ثم قال بعده: {كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ} ، فيكون الأول أمراً بالكتابة مطلقاً، ثم أردفه بالأمر بالكتابة التي علمه الله إيَّاها. ويجوز أن تكون متعلقةً بقوله: لا يأب، وتكون الكاف حينئذٍ للتعليل. قال ابن عطيّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «ويحتمل أن يكون» كما «متعلّقاً بما في قوله» ولا يأْبَ «من المعنى، أي: كما أنعم الله عليه بعلم الكتابة، فلا يأب هو، وليفضل كما أفضل عليه» . قال أبو حيَّان: «وهو خلاف الظاهر، وتكون الكاف في هذا القول للتعليل» قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ: وعلى القول بكونها متعلقةً بقوله: «فليكتب» يجوز أن تكون للتعليل أيضاً، أي: فلأجل ما علَّمه الله فليكتب. وقرأ العامة: «فَلْيَكْتُبْ» بتسكين اللام كقوله: «كَتْف» في كتِف، إجراءً للمنفصل مجرى المتّصل. وقد قرأ الحسن بكسرها وهو الأصل. قوله: «ولْيُمْلِل» أمرٌ من أملَّ يملُّ، فلمَّا سكن الثاني جزماً جرى فيه لغتان: الفكُّ وهو لغة الحجاز وبني أسد، والإدغام وهو لغة تميم، وقيس، ونزل القرآن باللُّغتين. قال تعالى في اللغة الثانية: {فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] وكذا إذا سكن وقفاً نحو: أملل عليه وأملَّ، وهذا مطَّرد في كل مضاعفٍ، وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله تعالى عند قراءتَيْ: «مَنْ يَرْتَدِدْ، ويرتدَّ» . وقرئ هنا شاذّاً: «وَلْيُمِلَّ» بالإدغام، ويقال: أملَّ يملُّ إملالاً، وأملى، يملي إملاءً؛ ومن الأولى قوله: [الطويل] 1279 - أَلاَ يَا دِيَارَ الحَيِّ بِالسَّبُعَانِ ... أَمَلَّ عَلَيْهَا بِالبِلَى المَلَوانِ ويقال: أمللت وأمليت، فقيل: هما لغتان، وقيل: الياء بدلٌ من أحد المثلين، وأصل المادتين: الإعادة مرة بعد أخرى. و «الحَقُّ» يجوز أن يكون مبتدأٌ، و «عَلَيْهِ» خبر مقدمٌ، ويجوز أن يكون فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على الموصول، والموصول هو فاعل «يُمْلِل» ومفعوله محذوف، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 483 أي: وليملل الديَّان الكاتب ما عليه من الحقِّ، فحذف المفعولين للعلم بهما. ويتعدَّى ب «عَلَى» إلى أحدهما فيقال: أمللت عليه كذا، ومنه الآية الكريمة. فصل اعلم أنَّ الكتابة، وإن وجب أن يختار لها العالم بكيفية كتب الشُّروط والسِّجلات، لكن ذلك لا يتمّ إلاَّ بإملاء من عليه الحق؛ فيدخل في جملة إملائه اعترافه بالحقّ في قدره، وجنسه وصفته، وأجله، وغير ذلك. ثم قال: {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} بأن يقرّ بمبلغ المال، {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} ، أي: لا ينقص منه شيئاً. قوله: {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} يجوز في «منه» وجهان: أحدهما: أن يكون متعلقاً بيبخس، و «مِنْ» لابتداء الغاية، والضمير في «منه» للحقِّ. والثاني: أنَّها متعلقة بمحذوف؛ لأنها في الأصل صفةٌ للنكرة، فلمَّا قُدِّمت على النكرة نصبت حالاً. و «شَيئاً» : إمَّا مفعول به، وإمَّا مصدرٌ. والبخس: النَّقص، يقال منه، بخس زيدٌ عمراً حقَّه يبخسه بخساً، وأصله من: بخست عينه، فاستعير منه بَخْسُ الحق، كما قالوا: «عَوَرْتُ حَقَّه» استعارة من عور العين. ويقال: بخصه بالصَّاد. والتباخس في البيع: التناقص، لأنَّ كلَّ واحدٍ من المتبايعين ينقص الآخر حقَّه. قوله: {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ} إدخال حرف «أو» بين هذه الألفاظ الثلاثة يقتضي تغايرها؛ لأنَّ معناه: أنَّ الذي عليه الحقّ كان متَّصفاً بإحدى هذه الصِّفات الثلاثة {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل} وإذا ثبت تغايرها وجب حمل السَّفيه على الضعيف الرَّأي النَّاقص العقل من البالغين الذين لا يحسنون الأخذ لأنفسهم، ولا الإعطاء منها أخذاً من الثَّوب السَّفيه وهو خفيف النَّسج، والبذيء اللسان يسمى سفيهاً، لأنَّه لا يكاد أن تتفق البذاءة إلاَّ في جهَّال النَّاس، وأصحاب العقول الخفيفة، والعرب تسمي الضعيف العقل سفيهاً؛ قال الشاعر: [السريع] 1280 - نَخَافُ أَنْ تَسْفَهَ أَحْلاَمُنَا ... وَيَجْهَل الدَّهْرُ مَعَ الحَالِمِ والضَّعيف على الصَّغير، والمجنون، والشَّيخ الخرف وهو الذين فقدوا العقل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 484 بالكلية، «والَّذِي لا يَسْتَطِيعُ أنْ يُملّ» من يضعف لسانه عن الإملاء لخرسٍ، أو لجهله بما عليه، وله. فهؤلاء لا يصحُّ منهم الإملاء، ولا الإقراء، فلا بدَّ ممَّن يقوم مقامهم. فقال تعالى: {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل} . قيل: الضُّعف بضم الضَّاد في البدن، وبفتحها في الرأي. وقيل: هما لغتان. قال القرطبيُّ: والأول أصحُّ. قوله: {أَن يُمِلَّ هُوَ} أن، وما في حيِّزها في محل نصب مفعولاً به، أي: لا يستطيع الإملال، و «هو» تأكيدٌ للضمير المستتر. وفائدة التوكيد به رفع المجاز الذي كان يحتمله إسناد الفعل إلى الضمير، والتَّنصيص على أنه غير مستطيع بنفسه، قاله أبو حيان. وقرئ بإسكان هاء: «هو» وهي قراءة ضعيفة؛ لأنَّ هذا الضمير كلمةٌ مستقلةٌ منفصلة عما قبلها. ومن سكَّنها أجرى المنفصل مجرى المتصل، وقد تقدَّم هذا في أول هذه السورة، قال أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهذا أشذُّ من قراءة من قرأ: {ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة} [القصص: 61] . قال شهاب الدين: فجعل هذه القراءة شاذةً وهذه أشذُّ منها، وليس بجيد، فإنَّها قراءة متواترة قرأ بها نافع بن أبي نعيم قارىء أهل المدينة فيما رواه عنه قالون، وهو أضبط رواته لحرفه، وقرأ بها الكسائي أيضاً وهو رئيس النحاة. والهاء في» وليُّه «للذي عليه الحقُّ، إذا كان متصفاً بإحدى الصِّفات الثلاث؛ لأن وليَّه هو الَّذي يُقر عليه بالدَّين كما يقرُّ بسائر أُموره، وقال ابن عبَّاس، ومقاتلٌ والرَّبيعُ: المراد بوليِّه: وَلِيُّ الدَّين وهذا بعيدٌ؛ لأَنَّ قول المُدّعي لا يقبل، فإِن اعتبرنا قوله، فأيُّ حاجة إلى الكتابة، والإشهاد؟ وقوله:» بالعدْلِ «تقدَّم نظيره. فصلٌ واعلم أَنَّ المقصود من الكتابة: هو الاستشهادُ؛ لكي يتمكَّن صاحب الحقّ بالشُّهود إلى تحصيل حقّه عند الجحود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 485 وقوله:» فاسْتَشْهِدُوا «يجوز أن تكون السِّين على بابها من الطَّلبِ، أي: اطلبُوا شهيدَين، ويجوزُ أن يكونَ استفعل بمعنى أفعل، نحو: اسْتَعْجضلَ بمعنى أَعجَل، واستيقن بمعن أَيقَنَ فيكون» اسْتَشْهِدُوا «بمعنى شهدوا، يقال أشهدت الرَّجُل واشتشهدته بمعنى واحدٍ، والشَّهيدان: هما الشَّاهدانِ، فعيلٌ بمعنى فاعلٍ. وفي قوله:» شَهِيدَيْن «تنبيهٌ على أَنَّهُ ينبغي أن يكون الشَّاهد ممَّن تتكرَّرُ منه الشَّهادةُ، حيث أَتَى بصيغة المبالغة. قوله:» مِنْ رِجَالِكُمْ «يجوزُ أن يتعلَّق باستشهدوا، وتكونُ» مِنْ «لابتداء الغاية، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ، على أَنَّهُ صفةٌ لشهيدين، و» مِنْ «تبعيضيةٌ. فصلٌ في المراد بقوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} ثلاثة أقوال: أحدها: قال أكثر العلماء: المراد الأَحرارُ المسلمون. الثاني: قال شريحٌ، وابن سيرين: المراد المسلمون؛ فيدخل العبيد. الثالث: من رجالكم الَّذين تعدونهم للشَّهادة، بسبب العدالة. حجَّةُ شريح، وابن سرين: عمومُ الآية؛ ولأَنَّ العدالة لا تختلف بالحريَّة والرِّقِّ، واحتَجَّ الآخرونَ بقوله تعالى: {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ} ، وهذا يقتضي: أَنَّ الشَّاهد؛ يجب عليه الذَّهاب إلى موضع أدَاءِ الشَّهادة، ويحرمُ عليه الامتناعُ والإِجماعُ على أَنَّ العبد لا يجبُ عليه الذَّهابُ، فلا يكونُ شاهداً، وهذا مذهبُ الشَّافعي، وأبي حنيفة. والجواب عن قوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} ، أي: الذين تعدُّونهم لأداء الشَّهادة، كما قدَّمناهُ. قوله: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ} ، جوَّزوا في» كَانَ «هذه أَنْ تكون النَّاقصة، وأَنْ تكون التامة، وبالإِعرابين يختلفُ المعنى: فإنْ كانت ناقصةً فالألفُ اسمها، وهي عائدةٌ على الشَّهيدين أي: فإن لم يكنِ الشّاهدان رجُلَين، والمعنى على هذا: إن أغفَل ذلك صاحبُ الحقّ، أو قصد أَنْ لا يُشهد رجلين لغرض له، وإن كانت تامّةً فيكون» رجلين «نصباً على الحالِ المؤكِّدة كقوله: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} [النساء: 176] ، ويكون المعنى على هذا أنه لا يعدل إلى ما ذكر إلا عند عدمِ الرِّجال. والألفُ في «يَكُونَا» عائدةٌ على «شَهِيدَيْنِ» ، تفيدُ الرجولية. فصلٌ قال القرافيُّ: العلماءُ يقولون: إِذَا ورد النَّصُّ بصيغة «أو» فهو للتَّخيير، كقوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة: 89] ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 486 وإن ورد النَّصُّ بصيغة الشَّرط كقوله: {فَمَنْ لَمْ يَجدْ} [البقرة: 196] الآية فهو على التَّرتيب، وهذا غير صحيح لهذه الآية؛ لأَنَّ قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان} يقتضي على قولهم أَلاَّ يجوز استشهادُ رجُلٍ وامرأتين إِلاَّ عند عدم الرَّجلين، وقد أَجمعت الأُمَّة على جواز ذلك، عند وجود الرَّجلين، وأَنَّ عدمهما ليس بشرطٍ، واستفدنا من هذه الآية سؤالين عظيمين. الأول: أَنَّ الصِّيغة لا تقتضي التَّرتيب. الثاني: أَنَّهُ لا يلزمُ من عدم الشَّرط عدم المشروط، وهو خلافُ الإِجماع، وهو هناك كذلك. قولنا: إذا لم يكن العدد زوجاً، فهو فردٌ، وإِنْ لم يكن فرداً، فهو زوج مع أَنَّهُ لا تتوقَّف زوجيَّته على عدم الفرديَّة، ولا فرديته على عدمِ الزَّوجيَّة. بل هو واجبُ الثُّبوت في نفسه، وجد الآخر أم لا، وإذا تقرَّر هذا، فالمُرادُ من الآية: انحصارُ الحُجَّة التَّامَّة من الشَّهادة، بعد الرَّجلين في الرَّجل، والمرأتين، فإِنَّه لا حُجَّة تامَّةٌ من الشَّهادة في الشَّريعة، إِلاَّ الرَّجُلين، والرَّجُلَ، والمرأتين، هذا هو المجمع عليه من البيِّنة الكامِلة، في الأَموال، فإذا فرض عدم إحداهما، قبل الحصر في الأُخرى، وقد وضح أَنَّ الشَّرط كما يستعملُ في الترتيب؛ كذلك يُسْتعملُ في الحصر، والكل حقيقة لغوية، فضابطُ ما يتوقَّف فيه المشروطُ على الشَّرطِ، هو الَّذي لا يراد به الحصرُ، فمتى أُريد به الحصرُ فلا يدلُّ على التَّرتيب، بل لا بُدَّ من قرينة. قوله: {فَرَجُلٌ وامرأتان} يجوزُ أن يرتفع ما بعد الفاءِ على الابتداءِ، والخبرُ محذوفٌ تقديره: فرجلٌ، وامرأتان، يكفُون في الشَّهادة، أو مُجزِئون، ونحوه. وقيل: هو خبرٌ والمبتدأُ محذوفٌ تقديره: فالشَّاهدُ رجلٌ، وامرأتان وقيل: مرفوعٌ بفعلٍ مقدَّرٍ تقديره: فيكفي رجُلٌ، أي: شهادةُ رجلٍ، فحُذِف المضافُ للعلم به، وأُقيم المضافُ إليه مقامه. وقيل: تقدير الفعلِ فَلْيَشْهَدْ رجلٌ، وهو أحسنُ، إذ لا يُحوج إلى حذفِ مُضافٍ، وهو تقديرُ الزَّمخشريُّ. وقيل: هو مرفوعٌ بكان النَّاقصة، والتَّقدير: فليكن مِمَّن يشهدون رجلٌ وامرأتان، وقيل: بل بالتَّامَّةِ وهو أَولى؛ لأنَّ فيه حذف فعلٍ فقط بقي فاعلُهُ، وفي تقدير النَّاقصة حذفُها مع خبرها، وقد عُرِفَ ما فيه، وقيل: هو مرفوعٌ على ما لم يسمَّ فاعلُهُ، تقديرُهُ: فليُسْتَشْهَد رجلٌ. قال أبو البقاء: «وَلَوْ كَانَ قَدْ قُرئ بالنَّصب لكان التَّقديرُ: فَاسْتَشْهِدُوا» وهو كلامٌ حسنٌ. وقرئ: «وَامْرَأَتَانِ» بسكون الهمزة التي هي لامُ الكلمة، وفيها تخريجان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 487 أحدهما: أنه أَبْدَل الهمزة ألفاً، وليس قياسُ تخفيفها ذلك، بل بَيْنَ بين، ولمَّا أبدلها ألفاً همزها كما هَمزتِ العربُ نحوك العأْلَمِ، والخَأْتَمِ؛ وقوله: [الرجز] 1281 - وَخِنْدفٌ هَامَةُ هَذَا العَأْلَمِ ... وقد تقدَّم تحقيقه في سورة الفاتحة، وسيأتي له مزيدُ بيانٍ إِنْ شاء اللهُ - تعالى - في قراءة ابن ذكوان: «مِنْسَأْتَه» في سبأ. وقال أبو البقاء في تقرير هذا الوجهِ، ونحا إلى القياس فقال: ووجهُهُ أنه خفَّفَ الهمزة - يعني بينَ بينَ - فقَرُبَتْ من الألف، والمُقَرَّبة من الألفِ في حكمها؛ ولذلك لا يُبْتَدأُ بها، فلمَّا صارت كالألف، قَلَبها همزةً ساكنةً كما قالوا: خَأْتم وعَأْلم. والثاني: أن يكُونَ قد استثقَلَ تواليَ الحركاتِ، والهمزةُ حرفٌ يُشبِهُ حرف العلة فتُستثقل عليها الحركة فسُكِّنت لذلك. قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: ويمكنُ أنه سكَّنها تخفيفاً لتوالي كثرةِ الحركاتِ؛ وقد جاء تخفيفُ نظيرِ هذه الهمزةِ في قول الشَّاعر: [الطويل] 1282 - يَقُولُونَ جَهْلاً لَيْسَ لِلشَّيْخِ عَيِّلٌ ... لَعَمْرِي لَقَدْ أَعْيَلْتُ وَأْنَ رَقُوبُ يريدُ: وَأَنَا رَقوب، فسكِّنَ همزةَ «أَنَا» بعد الواوِ، وحذف ألف «أنا» وصلاً على القاعدة. قال شهاب الدين: قد نصَّ ابنُ جني على أن هذا الوجهَ لا يجوزُ فقال: «ولا يَجُوزُ أن يكونَ سَكَّنَ الهمزة؛ لأنَّ المفتوح لا يُسَكَّنُ لخفةِ الفَتْحَةِ» وهذا من أبى الفتح محمولٌ على الغالب، وإلا فقد تقدَّم لنا في قراءة الحسنِ «مَا بَقِي مِنَ الرِّبَا» ، وقبل ذلك أيضاً الكلامُ على هذه المسألةِ، وورودُ ذلك في ألفاظٍ نظماً ونثراً، حتَّى في الحروفِ الصَّحيحة السَّهلةِ، فكيف بحرفٍ ثقيلٍ يُشْبِه السُّفلَة؟ قوله: {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء} فيه أوجهٌ: أحدها: أنه في محلِّ رفعٍ نعتاً لرجُلٍ وامرأتين. والثاني: أنه في محلِّ نصب؛ لأنه نعتٌ لشهيدين. واستضعف أبو حيّان هذين الوجهين قال: «لأنَّ الوصفَ يُشْعِر اختصاصَه بالموصوفِ، فيكون قد انتفى هذا الوصفُ عن شَهِيدَيْنِ» ، واستضعفَ الثَّاني أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى قال: للوصف الواقعِ بينهما. الوجه الثالث: أنه بدلٌ من قوله: {مِّن رِّجَالِكُمْ} بتكريرِ العاملِ، والتقدير: « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 488 وَاستَشْهِدوا شَهِيدَيْن مِمَّن تَرْضَوْن» ، ولم يذكر أبو البقاء تضعيفه. وكان ينبغي أن يُضعِّفَه بما ضَعَّف وجهَ الصّفة، وهو للفصلِ بينهما، وضعَّفه أبو حيّان بأنَّ البدلَ يُؤْذِنُ أيضاً بالاختصاص بالشَّهيدين الرَّجلين فَيَعْرَى عنه رجلٌ وامرأتان قال شهاب الدين: وفيه نظرٌ؛ لأنَّ هذا من بَدَلِ البَعْض إن أخذنا «رِجَالكُمْ» على العموم، أو الكلِّ من الكلِّ إن أخذناهم على الخصوصِ، وعلى كلا التّقديرين، فلا ينفي ذلك عمَّا عداه، وأمّا في الوصف فمسلَّمٌ؛ لأنَّ مفهوماً على المختارِ. الرابع: أن يتعلَّقَ باستشهِدوا، أي: استشهدوا مِمَّنْ ترضَوْن. قال أبو حيان: «ويكون قيداً في الجميعِ، ولذلك جاء مُتَأخّراً بعد الجميعِ» . قوله: {مِنَ الشهدآء} يجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ على أَنَّهُ حالٌ من العائدِ المحذوفِ، والتَّقديرُ: مِمَّن تَرْضَونَه حال كونه بعض الشُّهداءِ. ويجوزُ أن يكونَ بدلاً مِنْ «مِنْ» بإعادةِ العامل، كما تقدَّم في نفسِ {مِمَّن تَرْضَوْنَ} ، فيكونُ هذا بدلاً مِنْ بدلٍ على أحدِ القَوْلينِ في كلِّ منهما. فصلٌ قوله {مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء} كقوله تعالى في الطلاق: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2] وهذه الآية تدلُّ على أَنَّهُ ليس كلُّ أحدٍ يكونُ شاهداً، والفقهاءُ شرطوا في الشَّاهد الَّذي تقبلُ شهادته عشرة شروطٍ: أَنْ يكونَ حُرّاً بالغاً، مسلماً عدلاً، عالماً بما شهد به؛ ولا يجر بتلك الشَّهادة منفعة إلى نفسه، ولا يدفع بها مضرَّة عن نفسه، ولا يكون معروفاً بكثرة الغلطِ، ولا بترك المُروءةِ، ولا يكُونُ بينه وبين من يشهد عليه عداوة. وقيل: سبعة: الإِسلامُ، والحريَّةُ، والعقلُ، والبُلُوغُ، والعدالةُ، والمروءةُ وانتفاء التُّهمة. قوله: {أَنْ تَضِلَّ} قرأ حمزة بكسر «إِنْ» على أنَّها شرطيَّةٌ والباقون بفتحها، على أنَّها المصدريةُ النَّاصبةُ، فأمَّا القراءة الأولى، فجوابُ الشَّرط فيها قوله «فتذكِّرُ» ، وذلك أَنَّ حمزة رَحِمَهُ اللَّهُ يقرأ: «فَتُذَكِّرُ» بتشديدِ الكافِ ورفعِ الراءِ؛ فصَحَّ أن تكونَ الفاءُ، وما في حيِّزها جواباً للشَّرط، ورَفَعَ الفعل؛ لأَنَّهُ على إضمارِ مبتدأ، أي: فهي تُذَكِّر، وعلى هذه القراءة فجملة الشَّرطِ والجزاءِ هل لها محلٌّ من الإِعراب أم لا؟ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 489 فقال ابن عطيَّة: إِنَّ محلَّها الرَّفْعُ صفةً «لامْرَأَتَيْن» ، وكان قد تقدَّم أنَّ قوله: «مِمَّنْ تَرْضَوْنَ» صفةٌ لقوله «فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَان» قال أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «فَصَارَ نظيرَ جَاءَني رجُلٌ، وامرأتان عُقَلاَءُ حُبْلَيَان» وفي جواز مثل هذا التّركيب نظرٌ، بل الَّذي تقتضيه الأَقيسة تقديمُ «حُبْلَيَان» على «عُقَلاَء» ؛ وأمَّا إذا قيل بأنَّ «ممَّنْ تَرْضَوْن» بدلٌ من رِجَالِكُم، أو مُتعلِّقٌ باستشهِدُوا، فيتعذَّر جعلُه صفةً لامرأتين للزومِ الفصل بين الصِّفة، والموصوفِ بأجنبيّ. قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وابن عطيَّة لم يَبْتَدِعْ هذا الإِعرابَ، بل سبقه إليه الواحديُّ فإنه قال: وموضعُ الشَّرط وجوابُه رفعٌ بكونهما، وصفاً للمذكورين وهما «امْرَأَتَانِ» في قوله: «فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ» لأنَّ الشَّرطَ والجزاءَ يُوصَفُ بهما، كما يُوصَف بهما في قوله: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة} [الحج: 41] . والظاهرُ أنَّ هذه الجملةَ الشَّرطية مستأنفةٌ للإِخبار بهذا الحُكْم، وهي جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأَنَّ قائلاً قال: ما بالُ امرأتين جُعِلَتا بمنزلةِ رجل؟ فأُجيب بهذه الجملة. وأمَّا القراءةُ الثَّانيةُ؛ ف «أَنْ» فيها مصدريَّة ناصبة للفعل بعدها، والفتحةُ فيه حركةُ إعرابٍ، بخلافها في قراءةِ حمزة، فإنها فتحةُ التقاءِ ساكنين، إذ اللامُ الأولى ساكنةٌ للإِدغام في الثَّانية، مُسَكَّنةٌ للجزم، ولا يُمكنُ إدغامٌ في ساكنٍ، فحرَّكنا الثَّانية بالفتحة هرباً من التقائِهما، وكانتِ الحركةُ فتحةٌ؛ لأَنَّها أَخَفُّ الحركاتِ، وأَنْ وما في حيِّزها في محلِّ نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذفِ حرفِ الجَرّ، وهي لامُ العِلَّة، والتَّقديرُ: لأن تَضِلَّ، أو إرادة أَنْ تَضِلَّ. وفي متعلَّقِ هذا الجارِّ ثلاثةُ أوجه: أحدها: أَنَّهُ فِعلٌ مضمرٌ دلَّ عليه الكلامُ السَّابق، إذا التَّقديرُ: فاسْتَشْهِدُوا رَجُلاً وامرأتين لئلا تَضِلَّ إِحداهما، ودلَّ على هذا الفعلِ قوله: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان} ، قاله الواحديُّ ولا حاجة إليه؛ لأَنَّ الرَّافع لرجُلٍ وامرأتين مُغنٍ عن تقدير شيءٍ آخر، وكذلك الخبرُ المقدَّرُ لقولك: «فَرَجُلٌ وامرأتان» إذ تقديرُ الأول: فَلْيَشهد رجلٌ، وتقديرُ الثاني: فرجلٌ وامرأتان يشهدُون؛ لأَنْ تَضِلَّ، وهذان التَّقديران هما الوجهُ الثَّاني والثَّالث من الثَّلاثةِ المذكورة. فإن قيل هل جُعِل ضلالُ إِحداهما علَّةً لتطلُّب الإِشهاد أو مراداً لله تعالى، على حسبِ التقديرين المذكورين أولاً؟ وقد أَجابَ سيبويه رَحِمَهُ اللَّهُ وغيرُه بأن الضلالَ لمَّا كان سبباً للإِذكار، والإِذكارُ مُسبِّباً عنه، وهم يُنَزِّلون كلَّ واحدٍ من السببِ والمُسَبَّب منزلةَ الآخرِ لالتباسهما، واتِّصالهما كانت إرادةُ الضَّلال المُسَبَّب عنه الإِذكارُ إرادةً للإِذكار. فكأنه قيل: إرادة أَنْ تُذَكِّر إِحداهما الأخرى إِنْ ضَلَّتْ، ونظيرُه قولُهم: «أَعْدَدْتُ الخشبةَ أَنْ يميلَ الحائِطُ فأدعمَه، وأعدْدتُ السَّلاح أن يجيء عدوٌّ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 490 فأدفعَه» فليس إعدادُك الخشبة؛ لأَنء يميلَ الحائطُ، ولا إعدادُك السلاح لأن يجيء العدو وإنما للإدغام إذا مال، وللدفع إذا جاء العدو، وهذا مِمَّا يعودُ إليه المعنى ويُهجَرُ فيه جانبُ اللفظ. وقد ذهب الجرجانيُّ في هذه الآيةِ الكريمة إلى أَنَّ التقدير: مخافةَ أَنْ تَضِلَّ؛ وأنشد قول عمروٍ: [الوافر] 1283 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... فَعَجَّلْنَا القِرَى أَنْ تَشْتِمُونَا أي: «مخافَةَ أَنْ تَشْتِمُونَا» وهذا صحيحٌ لو اقتصر عليه مِنْ غير أَنْ يُعْطَفَ عليه قوله «فَتُذَكِّرَ» ؛ لأنه كان التَّقديرُ: فاستشهدوا رجلاً وامرأتين، مخافةَ أَنْ تضلَّ إحداهما، ولكنَّ عطفَ قوله: «فَتُذَكِّر» يُفسده، إذا يصيرُ التقديرُ: مخافةَ أَنْ تُذكِّرَ إحداهما الأخرى، [وإذكارُ إحداهما الأخرى] ليس مخوفاً منه، بَلْ هو المقصودُ، وقال أبو جعفرٍ: «سمعتُ عليّ بن سليمان يحكي عن أبي العباس أَنَّ التقديرَ كراهةَ أَنْ تَضِلَّ» قال أبو جعفر رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: «وهو غلطٌ إذ يصير المعنى: كراهةَ أَنْ تُذَكِّرَ إحداهما الأخرى» . وذهب الفرَّاء إلى أَن تقدير الآيةِ الكريمة: «كي تذكِّر إِحْدَاهُمَا الأخرى إِنْ ضَلَّت» ، فلمَّا قُدِّم الجزاءُ اتَّصَل بما قبلَه ففُتِحَتْ «أَنْ» ، قال: ومثلُه من الكلام: «إنه ليعجبُني أَنْ يسأل السَّائلُ فيُعْطى» معناه: إنه ليعجبني أَنْ يُعْطَى السَّائلُ إن سَأَلَ؛ لأَنَّه إنما يُعجِبُ الإِعطاءُ لا السؤالُ، فلمَّا قدَّموا السُّؤالَ على العطيَّة أصحبوه أن المفتوحة لينكشِفَ المعنى، فعنده «أنْ» في «أَنْ تَضِلَّ» للجزاءِ، إِلاَّ أَنَّهُ قُدِّم وفُتِح، وأصله التأخير. وردَّ البصريُّون هذا القول أبلغَ ردٍّ. قال الزّجَّاج: «لَسْتُ أدري لِمَ صارَ الجَزَاءُ [إذا تقدَّم] وهو في مكانهِ وغير مكانه يوجب فتح أن» . وقال الفارسيُّ: ما ذكره الفرَّاءُ دَعوى لا دلالةَ عليها، والقياسُ يُفْسِدها، أَلاَ ترى أنَّا نَجِدُ الحرفَ العامل، إذا تغيَّرت حركته؛ لم يُوْجِبْ ذلك تغيُّراً في عملِهِ ولا معناه، كما روى أبو الحسن من فتح اللام الجارَّةِ مع المُظْهر عن يونس، وأبي عُبيدة، وخلف الأَحمرِ، فكما أنَّ هذه اللامَ لمَّا فُتِحَتْ لم يتغيَّر من عملها ومعناها شيءٌ، كذلك «إنْ» الجزائيّة ينبغي، إذا فُتِحت أَلاَّ يتغيَّر عملُها ولا معناها، ومِمَّا يُبْعِدُه أيضاً أنَّا نجدُ الحرفَ العاملَ لا يتغيَّر عملُه بالتقديم و [لا] بالتأخيرِ، تقول «مَرَرْتُ بِزَيْدٍ» وتقول: «بزيدٍ مَرَرْتُ» فلم يتغيَّر عملُ الباءِ بتقديمها الجزء: 4 ¦ الصفحة: 491 من تأخيرٍ. وأجاب ابن الخطيب فقال هاهنا غرضان: أحدهما: حُصُولُ الإِشهاد وهذا لا يتأَتَّى إِلاَّ بتذكير إحدى المرأتين. والثاني: بيانُ تفضيل الرَّجُل على المرأة حتّى يبين أَنَّ إقامة المرأتين مقامَ الرَّجُل الواحد هو العدلُ في القضيَّة، وذلك لا يتأتى إِلاَّ بضلالِ إحدى المرأتين، وإذا كان كُلّ واحد من هذين أعني الإِشهاد، وبيان فضل الرَّجُل على المرأةِ مقصود، فلا سبيلَ إلى ذلك إِلاَّ بإِضلال أَحدهما وتذكر الأخرى، لا جرم صار هذان الأمران مطلُوبين. فصل لَمَّا كان النّسيان غالباً على طباع النِّساءِ لِكثرةِ البَرْدِ والرُّطوبة في أمزجتهنَّ؛ أقيمت المرأتان مقام الرَّجل الواحد؛ لأن اجتماع المرأَتين على النِّسيان أبعد في العقل من صُدُورِ النّسيان عن المرأة الواحدة؛ لأَنَّ إحداهما إذا نسيت؛ ذكَّرتها الأخرى، والمراد بالضَّلال هنا النِّسيان قال أبو عُبيدةَ: الضلال عن الشَّهادة إِنَّما هو نسيانها. قوله: «فَتُذَكِّرَ» وقرأ ابن كثيرٍ وأبو عمرو: «فَتُذَكِرَ» بتخفيفِ الكافِ، ونصب الرَّاءِ من أَذْكَرْتهُ أي: جَعلُه ذاكراً للشَّيءِ بعد نسيانه، فإِنَّ المراد بالضَّلالِ هنا النسيانُ كقوله تعالى: {قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً وَأَنَاْ مِنَ الضالين} [الشعراء: 20] وقال في ذلك الفرزدق: [الكامل] 1284 - وَلَقَدْ ضَلَلْتَ أَبَاكَ يَدْعُو دَارِماً ... كَضَلاَلِ مُلْتَمِسٍ طَريقَ وَبَارِ فالهمزةُ في «أَذْكَرْتُهُ» للنقلِ والتَّعدية، والفِعلُ قبلها متعدٍّ لواحدٍ؛ فلا بُدَّ من آخر، وليس في الآية مفعولٌ واحدٌ، فلا بُدَّ من اعتقادِ حذفِ الثَّاني، والتقديرُ فتُذْكر إحداهما الأُخرى الشَّهادة بعد نِسيانها إن نَسِيَتْهَا هذا مشهورٌ قول المفسِّرين. وقد شَذَّ بعضهم قال: مَعْنَى فَتُذَكِّرَ إحداهما الأُخرى أي: فتجعلها ذكراً، أي: تُصَيِّرُ حكمها حكم الذَّكر في قبولِ الشَّهادة وروى الأَصميعُّ عن أبي عمرو بن العلاء قال: «فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى بالتَّشديد فهو من طريقِ التَّذكير بعد النِّسيان، تقولُ لها: هَلْ تَذْكُرين إذ شهدنا كذا يومَ كذا في مكان كذا على فلانٍ، أو فلانة، ومَنْ قرأ» فَتُذكِرَ «بالتَّخفيف فقال: إذا شهدت المرأةُ، ثم جاءَتِ الأخرى؛ فشهِدَت معها، فقد أَذْكَرَتْها لقيامِها مقامَ ذَكَر» ولم يَرْتَضِ المفسِّرون وأهلُ اللِّسان هذا من أبي عمرو، بل لم يُصحِّحوا رواية ذلك عنه لمعرفتهم بمكانتهِ في العلمِ، ورَدُّوه على قائِلِه من وجوهٍ: الجزء: 4 ¦ الصفحة: 492 منها: أنَّ الفصاحةَ تقتضي مقابلة الضَّلالِ المرادِ به النّسيانُ بالإِذكار والتَّذكير، ولا تناسُبَ في المقابلة بما نقل عنه. ومنها: أنَّ النِّساء لو بَلَغْنَ ما بلغْنَ من العددِ لا بدَّ معهنَّ مِنْ رجلٍ، هكذا ذكروا، وينبغي أن يكونَ ذلك فيما يُقْبَلُ فيه الرجلُ مع المرأَتين، وإلاَّ فقد نجدُ النِّساء يَتَمَحَّضْنَ في شهاداتٍ من غيرِ انْضِمام رجلٍ إِليهنَّ. ومنها: أَنَّها لَوْ صَيَّرتها ذكراً؛ لكان ينبغي أن يكونَ ذلك في سائرِ الأحكامِ، ولا يُقتصَرُ به على ما فيه ماليّةٌ وفيه نظرٌ أيضاً، إذ هو مشتركُ الإِلزامِ لأنه يقال: وكذا إذا فسَّرتموه بالتَّذكير بعد النِّسيان لم يَعُمَّ الأحكامَ كلَّها، فما أُجيبَ به فهو جوابُهم أيضاً. وقال الزمخشريُّ: «ومِنْ بِدَع التَّفَاسِير: [فَتُذَكِّرَ] فتجعلَ إحداهما الأخرى ذكَراً، يعني أنهما إذا اجتمعتا كانتا بمنزلةِ الذَّكَر» انتهى. ولم يجعل هذا القول مختصاً بقراءةٍ دونَ أُخرى. وأمَّا نصبُ الرَّاء؛ فنسقٌ على «أَنْ تَضِلَّ» ؛ لأَنَّهما يَقْرآن: «أَنْ تَضِلَّ» بأن النَّاصبةِ، وقرأ الباقون بتشديد الكافِ من «ذَكَّرْتُه» بمعنى جعلتُه ذاكِراً أيضاً، وقد تقدَّم أَنَّ حمزة وحده هو الَّذي يرفع الرَّاءَ. وخرج من مجموع الكلمتين أنَّ القُرَّاءَ على ثلاثِ مراتبَ: فحمزةُ وحدَه: بكسرِ «إِنْ» ويشدد الكافِ ويرفع الرَّاء، وابن كثير: بفتح «أنْ» ويخفف الكاف وينصب الرَّاء، والباقون كذلك، إِلاّ أنهم يُشَدِّدون الكافَ. والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ أيضاً في هذه القراءة كما في قراءة ابن كثير وأبي عمرو، وفَعَّل وأَفْعَل هنا بمعنى: أَكْرَمْتُه وكَرَّمته، وفرَّحته وأَفْرَحته. قالوا: والتَّشديد في هذا اللَّفظ أكثرُ استعمالاً مِنَ التَّخفيف، وعليه قوله: [المتقارب] 1285 - عَلَى أَنَّنِي بَعْدَ مَا قَدْ مَضَى ... ثَلاَثُونَ لِلْهَجْرِ حَوْلاً كمِيلاَ يُذَكِّرُنِيك حَنِينُ العَجُولِ ... ونَوْحُ الحَمَامَةِ تَدْعُو هَدِيلاَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 493 وقرأ عيسى بن عمرو والجحدريُّ: «تُضَلَّ» مبنيّاً للمفعول، وعن الجحدريّ أيضاً: «تُضِلَّ» بضمِّ التَّاء، وكسر الضَّاد من أضلَّ كذا، أي: أضاعهُ، فالمفعول محذوفٌ أي: تُضِلَّ الشَّهادة. وقرأ حميد بن عبد الرحمن ومجاهدٌ: «فَتَذْكُر» برفع الرَّاءِ، وتخفيف الكافِ، وزيدُ بن أسلمَ «فتُذاكِرُ» من المذاكرة. وقوله: إحداهما «فاعل،» والأخرى «مفعولٌ، وهذا مِمَّا يجبُ تقديمُ الفاعلِ فيه لخفاءِ الإِعراب، والمعنى نحو: ضَرَب مُوسَى عِيسَى. قال أبو البقاء: ف» إحداهما «فاعلٌ، و» الأخرى «مفعول، ويصحُّ العكسُ، إلا أنه يمتنع على ظاهرِ قول النَّحويّين في الإِعراب، لأَنَّهُ إذا لم يظهر الإعرابُ في الفاعلِ والمفعولِ، وجَبَ تقديمُ الفاعل فيما يُخاف فيه اللَّبسُ، فعلى هذا إذا أُمِنَ اللَّبْسُ جاز تقديم المفعولِ كقولك:» كَسَرَ العَصَا مُوسَى «، وهذه الآيةُ من هذا القبيلِ، لأنَّ النِّسيان، والإِذكارَ لا يتعيَّنُ في واحدةٍ منهما، بل ذلك على الإِبهامِ، وقد عُلِم بقوله:» فَتُذَكِّرَ «أنَّ الَّتي تُذَكِّر هي الذَّاكرةُ، والتي تُذَكَّر هي النَّاسية، كما علم من لفظ» كَسَر «مَنْ يصحُّ منه الكَسْرُ، فعلى هذا يجوز أن يُجْعل» إِحْدَاهُما «فاعلاً، و» الأُخْرَى «مفعولاً وبالعكس انتهى. ولمَّا أبهم الفاعل في قوله: «أَنْ تَضِلَّ إحداهما» أَبْهَمَ أيضاً في قوله: «فَتُذَكِّرَ إحداهما» ؛ لأنَّ كلاًّ من المَرْأَتين يجوزُ [عليها ما يجوزُ] على صاحبتها من الإِضلالِ، والإِذكارِ، والمعنى: إن ضلَّت هذه أَذْكَرَتْها هذه، فَدَخَلَ الكلامَ معنى العموم. قال أبو البقاء: فإنْ قيل: لِمَ يَقُلْ: «فَتُذَكِّرَها الأُخرَى» ؟ قيل فيه وجهان: أحدهما: أَنَّهُ أَعاد الظَّاهر، ليدلَّ على الإِبهام في الذِّكر والنّسيان، ولو أَضمرَ لتعَيَّن عودُه على المذكور. والثاني: أنه وضع الظَّاهر موضع المضمرِ، تقديره: «فَتُذَكِّرهَا» وهذا يَدُلُّ على أن «إحداهما» الثانية مفعولٌ مقدمٌ، ولا يجوزُ أن يكونَ فاعلاً في هذا الوجه؛ لأنَّ المُضَمرَ هو المُظْهَرُ بعينه، والمُظْهَرُ الأول فاعل «تضِلَّ» ، فلو جعل الضَّمير لذلك المظهر؛ لكانت النَّاسيةُ حقاً هي المُذَكِّرَة، وهو مُحالٌ قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: وقد يتبادرُ إلى الذهن أنَّ الوجهين راجعان لوجهٍ واحدٍ قبل التأمُّل؛ لأنَّ قوله: «أَعادَ الظَّاهِرُ» قريبٌ من قوله: «وَضَعَ الظاهرَ مَوْضِعَ المضمر» . و «إِحْدَى» تأنيثُ «الواحِد» قال الفارسيُّ: أَنَّثُوه على غيره بنائِه، وفي هذا نظرٌ، بل الجزء: 4 ¦ الصفحة: 494 هو تأنيثُ «أحَد» يقابُلونها به في: أحد عشرَ وإحدى عشرة وأحدٍ وعشرين وإحدى وعشرين، وتُجْمَعُ «إِحْدَى» على «إِحَد» نحو: كِسْرَة وكِسَر. قال أبو العباس: «جَعَلُوا الألفَ في الإِحْدَى بمنزلةِ التاء في» الكِسْرَة «، فقالوا في جمعها:» إِحَد «؛ كما قالُوا: كِسْرَة وكِسَر؛ كما جعلوا مثلها في الكُبْرَى والكُبَر، والعُلْيا والعُلَى، فكما جعلوا هذه كظُلمة، وظُلَم جعلوا الأولَ كسِدْرَة وسِدَر» قال: «وكَمَا جعلوا الألف المقصُورة بمنزلةِ التَّاءِ فيما ذُكِر؛ وجعلوا الممدودةَ أيضاً بمنزلتها في قولهم» قَاصِعَاء وقَوَاصع «و» دَامَّاء ودَوَامّ «، يعني: أنَّ فاعلة نحو: ضارِبَة تُجمع على ضَوارِب، كذا فاعِلاَء؛ نحو: قاصِعَاء، ورَاهِطَاء تُجْمَعُ على فَوَاعِل؛ وأنشد ابن الأعرابيّ على إحدى وإِحَد قول الشاعر: [الرجز] 1286 - حَتَّى اسْتَثَارُوا بِيَ إِحْدَى الإِحَدِ ... لَيْثاً هِزَبْراً ذَا سِلاَحٍ مُعْتدِي قال: يقال: هو إحدى الإِحَدِ، وأَحَدُ الأَحَدَيْنِ، وواحدُ الآحادِ، كما يقال: واحدٌ لا مثل له، وأنشد البيت. واعلَم أنَّ «إِحْدَى» لا تُستعمل إلا مُضَافَةً إلى غيرها؛ فيقال: إِحْدَى الإِحَدِ وإِحْدَاهُما، ولا يقال: جاءَتْني إِحْدى، ولا رأيتُ إِحْدَى، وهذا بخلافِ مذكَّرها. و «الأُخرى» تأنيث «آخرَ» الذي هو: أَفْعَلُ التَّفضيل، وتكونُ بمعنى آخِرة؛ كقوله تعالى: {قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ} [الأعراف: 38] ، ويُجْمَعُ كلٌّ منهما على «أُخَر» ، ولكنَّ جمع الأُولَى ممتنعٌ من الصَّرفِ، وفي علَّته خلافٌ، وجمعُ الثانية منصرفٌ، وبينهما فرقٌ يأتي إيضاحه إن شاء اللهُ تعالى في الأَعراف. فصلٌ أجمع الفقهاءُ على أنَّ شهادة النِّساء جائزةٌ مع الرِّجال في الأموال، حتى يثبت برجُل وامرأتين، واختلفوا في غير الأموال، فقال سُفيانُ الثَّوريُّ وأصحابُ الرَّأي: تجوز شهادتُهُنَّ مع الرِّجال في غير العُقُوباتِ. وذهب جماعةٌ إلى أَنّ غير المال، لا يثبُتُ إِلاَّ برجلين عدلين وذهب الشَّافعيُّ، وأحمدُ إلى: أنّ ما يطلع عليه النِّساءُ غالباً كالولادة والرّضاع، والثُّيوبة والبكارةِ ونحوها يَثْبُتُ بشهادة رجلٌ وامرأتين، وبشهادة أربع نسوةٍ. وعن أحمد: يثبت بشهادةِ امرأة عدلٍ، واتَّفَقُوا على أن شهادة النّساء لا تجوز في العُقُوباتِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 495 فصلٌ قال القُرطبيُّ: لما جعل اللهُ تعالى شهادة امرأتين بَدَلَ شهادة رجل؛ وجب أن يكون حكمهما حُكْمُه، فكما له أن يخلف مع الشَّاهد عندنا، وعند الشَّافعي، كذلك يجبُ أن يحلف مع شهادةِ امرأتين بمُطْلق هذه العِوضيَّة، وخالف في هذا أبُو حنيفة، وأصحابُهُ، فلم يروا اليمين مع الشَّاهد. قالوا: لأَنَّ اللهَ تعالى قسم الشَّهادة، وعددها، ولم يذكر الشَّاهد مع اليمين، فلا يجوزُ القضاءُ به؛ لأَنَّهُ يكُونُ قسماً ثالثاً على ما قسَّمه الله، وهذه زيادةٌ على النَّصِّ، فيكون نسخاً، وهذا قولُ الثَّوري، والأوزاعي والحكم بن عُتَيْبَة وطائفة. قال بعضهم: الحكم باليمين مع الشَّاهد منسوخٌ بالقرآن، وزعم عطاءٌ أنَّ أوَّل من قضى به عبد الملك بن مروان. وقال الحكم: القضاء باليمين والشَّاهد بدعةٌ، وهو كلُّه غلط، وليس في قوله تعالى: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ} الآية ما يرد به قضاء رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - باليمين، والشاهد؛ ولا أنَّه لا يتوصل إلى الحقوق إلاَّ بما ذكر فيها لا غير، فإنَّ ذلك يبطل بنكول المطلوب ويمين الطَّالب، فإن ذلك يستحقّ به المال إجماعاً، وليس هو في الآية، مع أنَّ الخلفاء الأربعة: قضوا بالشَّاهد واليمين، وقضى به أُبيُّ بن كعبٍ، ومعاوية وشريحٌ وعمر بن عبد العزيز، وكتب به إلى عمَّاله، وإياس بن معاوية، وأبو سلمة بن عبد الرحمن وأبو الزّناد وربيعة. قال مالك: أترى هؤلاء تنقض أحكامهم، ويحكم ببدعتهم مع ما روى ابن عباس أنَّ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: قضى بالشَّاهد مع اليمين. قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء} مفعوله محذوفٌ لفهم المعنى، أي: لا يأبون إقامة الشهادة، وقيل: المحذوف مجرور لأن «أبى» بمعنى امتنع، فيتعدَّى تعديته أي من إقامة الشهادة. قوله: {إِذَا مَا دُعُواْ} ظرفٌ ل «يَأْبَ» أي: لا يمتنعون في وقت [دَعْوَتهم] لأدائها، أو لإقامتها، ويجوز أن تكون [متمحضةً للظرف، ويجوز أن تكون] شرطيةً والجواب محذوفٌ أي: إذا دُعُوا فلا يأبوا. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 496 فصل في الآية وجوه: أحدها: أنَّ هذا نهيٌ للشَّاهد عن الامتناع عن أداء الشَّهادة عند احتياج صاحب الحقّ إليها. الثاني: أراد إذا دُعُوا لتحمل الشَّهادة على الإطلاق، وهو قول قتادة، واختيار القفَّال، قال كما أمر الكاتب ألاَّ يأب الكتابة، كذلك أمر الشَّاهد ألاَّ يأب من تحمل الشَّهادة، لأنَّ كلَّ واحدٍ منهما يتعلَّق بالآخر وفي عدمها ضياع الحقوق، وسمَّاهم شهداء على معنى أنهم يكونون شهداء، وهو أمر إيجابٍ عند بعضهم. الثالث: المراد تحمّل الشَّهادة إذا لم يوجد غيره، فهو مخير، وهو قول الحسن. الرابع: قال الزَّجَّاج، وهو مروي عن الحسن أيضاً، وهو قول مجاهد، وعطاء، وعكرمة، وسعيد بن جبيرٍ: المراد مجموع الأمرين التحمُّل أولاً، والأداء ثانياً. قال الشعبي: الشَّاهد بالخيار ما لم يشهد وقال قومٌ: هو أمر ندب، وهو مخيّر في جميع الأحوال. قال القرطبيُّ: قد يؤخذ من هذه الآية دليلٌ على أنَّه يجوز للإمام أن يقيم للنَّاس شهوداً، ويجعل لهم من بيت المال كفايتهم، فلا يكون لهم شغلٌ إلاَّ تحمل حفظ حقوق النَّاس، وإن لم يكن ذلك؛ ضاعت الحقوق وبطلت. فصل قال القرطبيُّ: دلَّت هذه الآية على أنَّ الشَّاهد يمشي إلى الحكم، وهذا أمر بُني الشَّرع عليه، وعمل به في كلّ مكان وزمان، وفهمته كلُّ أمَّةٍ. وإذا ثبت هذا فالعبد خارجٌ عن جملة الشُّهداء، فيخص عموم قوله: «مِنْ رِجَالِكُمْ» لأنَّه لا يمكنه أن يجيب؛ لأنَّه لا استقلال له بنفسه، فلا يصحُّ له أن يأتي فانحطّ عن منصب الشَّهادة، كما انحطَّ عن منصب الولاية، وكما انحطَّ عن فرض الجمعة وعن الجهاد والحجّ. قوله: {وَلاَ تسأموا} والسَّأم والسآمة: الملل من الشَّيء والضَّجر منه. قوله: {أَن تَكْتُبُوهُ} مفعولٌ به إن شئت جعلته مع الفعل مصدراً تقديره: «ولا تَسْأَمُوا كِتَابَتَه» ، وإن شئت بنزع الخافض والنَّاصب له «تَسْأَموا» ؛ لأنه يتعدَّى بنفسه قال: [الطويل] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 497 1287 - سَئِمْتُ تَكَالِيف الحَيَاةِ ومَنْ يَعِشْ ... ثَمَانِينَ حَوْلاً لاَ أَبَا لَكَ يَسْأَمِ وقيل: بل يتعدَّى بحرف الجرّ، والأصل: من أن تكتبوه، فحذف حرف الجرِّ للعلم به، فيجري الخلاف المشهور في «أَنْ» بعد حذفه، ويدلُّ على تعدِّيه ب «مِنْ» قوله: [الكامل] 1288 - وَلَقَدْ سَئِمْتُ مِنَ الحَيَاةِ وَطُولِهَا ... وَسُؤَالِ هَذَا النَّاسِ كَيْفَ لَبِيدُ والهاء: في «تَكْتبوه» يجوز أن تكون للدَّين في أوَّل الآية، وأن تكون للحقّ في قوله: {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق} ، وهو أقرب مذكورٍ، والمراد به «الدَّيْن» وقيل: يعود على الكتاب المفهوم من «تَكْتبوه» قاله الزَّمخشريُّ. و {صَغِيراً أَو كَبِيرا} حالٌ، أي: على أيّ حالٍ كان الدَّين قليلاً أو كثيراً، وعلى أيِّ حالٍ كان الكتاب مختصراً، أو مشبعاً، وجوَّز السَّجاونديُّ انتصابه على خبر «كان» مضمرةٌ، وهذا لا حاجة تدعو إليه، وليس من مواضع إضمارها. وقرأ السُّلميُّ: «وَلاَ يَسْأَمُوا أَنْ يَكْتبُوهُ» بالياء من تحت فيهما. والفاعل على هذه القراءة ضمير الشُّهداء، ويجوز أن يكون من باب الالتفات، فيعود: إمَّا على المتعاملين وإمَّا على الكتَّاب. فصل والمقصود من الآية الكريمة الحثُّ على الكتابة قلَّ المال، أو كثر، فإنَّ النِّزاع في المال القليل ربَّما أدَّى إلى فسادٍ عظيم، ولجاج شديد. فإن قيل: هل تدخل الحبة والقيراط في هذا الأمر؟ فالجواب: لا، لعدم جريان العادة به. قوله: {إلى أَجَلِهِ} فيه ثلاثة أوجهٍ: أظهرها: أنه متعلِّقٌ بمحذوفٍ، أي: أن تكتبوه مستقرّاً في الذّمَّة إلى أجل حلوله. والثاني: أنه متعلِّقٌ بتكتبوه، قاله أبو البقاء. وردَّه أبو حيان فقال: «متعلقٌ بمحذوفٍ لا ب» تَكْتُبُوهُ «لعدم استمرار الكتابة إلى أجل الدَّين، إذ ينقضي في زمن يسير، فليس نظير: سِرْتُ إلى الكُوفَةِ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 498 والثالث: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنه حالٌ من الهاء، قاله أبو البقاء. قوله: «ذَلِكم» مشارٌ به لأقرب مذكورٍ وهو الكتب. وقال القفَّال: إليه وإلى الإشهاد. وقيل: إلى جميع ما ذكر وهو أحسن. و «أَقْسَطُ» قيل: هو من أقسط إذا عدل، ولا يكون من قسط، [لأن قسط] بمعنى جار، وأقسط بمعنى عدل، فتكون الهمزة للسَّلب، إلا أنه يلزم بناء أفعل من الرباعي، وهو شاذٌّ. قال الزَّمخشريُّ: «فإن قلتَ ممَّ بني أفعلا التّفضيل - أعني أقسط وأقوم؟ - قلت: يجوز على مذهب سيبويه أن يكونا مبنيّين من» أَقْسَطَ «، و» أَقَامَ «وأن يكون» أَقْسَط «من قاسط على طريقة النَّسب بمعنى: ذي قسطٍ؛ و» أَقْوَم «من قويم» . قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: لم ينصَّ سيبويه على أنَّ أفعل التّفضيل يبنى من «أَفْعل» ، إنَّما يؤخذ ذلك بالاستدلال، فإنَّه نصَّ في أوائل كتابه على أنَّ «أَفْعَل» للتعجب يكون من فَعَلَ وفَعِلَ وفَعُلَ وأَفْعَلَ، فظاهر هذا أن «أَفْعَل» للتعجب يبنى منه أفعل للتَّفضيل، فما جاز في التَّعجُّب، وأفعل التَّفضيل من أفعل على ثلاثة مذاهب: الجواز مطلقاً، والمنع مطلقاً، والتفضيل بين أن تكون الهمزة للنَّقل، فيمتنع، أو لا فيجوز، وعليه يؤوَّل الكلام، أي: كلام سيبويه، حيث قال: «إنه يبنى من أفعل» ، أي: الذي همزته لغير التَّعدية. ومن منع مطلقاً قال: «لم يَقُلْ سيبويه، وأفعل بصيغة الماضي» إنَّما قالها أفعل بصيغة الأمر، فالتبس على السَّامع، يعني: أنه يكون فعل التّعجب على أفعل، بناؤه من فَعَلَ، وفَعِل، وفَعُل، وعلى أَفْعِلْ. ولهذه المذاهب موضع هو أليق بالكلام عليها. ونقل ابن عطيَّة أنه مأخوذٌ من «قَسُطَ» بضمِّ السِّين نحو: «أَكْرَمَ» من «كَرُم» . وقيل: هو من القسط بالكسر وهو العدل، وهو مصدر لم يشتقَّ منه فعلٌ، وليس من الإقساط؛ لأنَّ أفعل لا يبنى من «الإِفْعَالِ» . وهذا كله بناء منهم على أنَّ الثلاثيَّ بمعنى الجوز والرُّباعيَّ بمعنى العدل. ويحكى أنَّ سعيد بن جبيرٍ لمَّا سأله الظَّالم [الحجَّاج] بن يوسف: ما تقول فيَّ؟ فقال: «أقولُ إنّك قَاسِطٌ عَادِلٌ» ، فلم يفطن له إلا هو، فقال: إنه جعلني جائراً كافراً، وتلا قوله تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] . وأمَّا إذا جعلناه مشتركاً بين عدل، وبين جار فالأمر واضحٌ قال ابن القطَّاع: «قَسَط، قُسُوطاً، وقِسْطاً: جار وعَدَل ضِدٌّ» . وحكى ابن السِّيد في كتاب: «الاقْتِضَابِ» له عن ابن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 499 السَّكِّيت في كتاب: «الأَضْدَادِ» عن أبي عبيدة: «قَسَطَ: جارَ، وقَسَط، [عَدَل] ، وأقْسطَ بالألفِ عَدَلَ لا غير» . وقال أبو القاسم الرَّاغب الأصبهاني: «القِسْطُ أَنْ يأخذ قسط غيره، وذلك جورٌ، والإقساط أن يعطي قسطَ غيره، وذلك إنصافٌ، ولذلك يقول: قَسَط إذا جَارَ، وأقْسَط إذا عَدَل» . والقسط: اسم، والإقساط مصدر يقال: أقسط فلانٌ في الحكم يقسط إقساطاً، إذا عدل، فهو مقسطٌ. قال تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [المائدة: 42] ويقال: هو قاسط إذا جار فقال تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] ، وأمَّا إذا جعلنان مشتركاً بين عدل وبين جار فالأمر واضحٌ. قال ابن القطَّاع: قَسَطَ قُسُوطاً، وقسطاً: جَارَ، وعَدَلَ ضدٌّ، وسيأتي لهذا مزيد بيانٍ في سورة النساء إن شاء الله تعالى. قوله: {عِندَ الله} ظرفٌ منصوبٌ ب «أَقْسَط» ، أي في حكمه. وقوله: «وَأَقْوَمُ» إنَّما صحَّت الواو فيه؛ لأنه أفعل تفضيل، وأفعل التَّفضيل يصحُّ حملاً على فعل التَّعجُّب، وصحَّ فعل التَّعجُّب لجريانه مجرى الأسماء لجموده وعدم تصرُّفه. و {وَأَقْومُ} يجوز أن يكون من «أَقَامَ» الرُّباعي المتعدِّي؛ لكنَّه حذف الهمزة الزَّائدة، ثمَّ أتى بهمزة [أفعل] كقوله تعالى: {أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى} [الكهف: 12] فيكون المعنى: أثبت لإقامتكم الشهادة، ويجوز أن يكون من «قام» اللازم ويكون المعنى: ذلك أثبت لقيام الشَّهادة، وقامت الشهادة: ثبتت، قاله أبو البقاء. قوله: {لِلشَّهَادَةِ} متعلِّقٌ ب «أَقْوَم» ، وهو مفعولٌ في المعنى، واللاَّم زائدةٌ ولا يجوز حذفها ونصب مجرورها بعد أفعل التَّفضيل إلاَّ لضرورة؛ كقوله: [الطويل] 1289 - ... ... ... ... ... ... ... ..... وَأَضْرَبَ مِنَّا بِالسُّيُوفِ القَوَانِسَا وقد قيل: «إشن» القَوانسَ «منصوبٌ بمضمر يدلُّ عليه أفعل التَّفضيل، هذا معنى كلام أبي حيّان، وهو ماشٍ على أنّ» أَقْوَم «من أقام المتعدّي، وأمَّا إذا جعلته من» قَام «بمعنى ثبت فاللاَّم غير زائدة. قوله: {أدنى أَلاَّ ترتابوا} ، أي: أقرب، وحرف الجرّ محذوفٌ، فقيل: هو اللاَّم أي: أدنى لئلاَّ ترتابوا، وقيل هو» إلَى «وقيل: هو» من «، أي: أدنى إلى ألاّ ترتابوا، وأدنى من ألا ترتابوا. وفي تقديرهم:» مِنْ «نظرٌ، إذ المعنى لا يساعد عليه. و» تَرْتَابُوا «: تفتعلوا من الرِّيبة، والأصل:» تَرْتَيِبُوا «، فقلبت الياء ألفاً لتحرُّكها وانفتاح ما قبلها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 500 والمفضَّل عليه محذوفٌ لفهم المعنى، أي: أقسط وأقوم، وأدنى لكذا من عدم الكتب، وحسَّن الحذف كون أفعل خبراً للمبتدأ بخلاف كونه صفةً، أو حالاً. وقرأ السُّلمي:» ألاّ يَرْتَابُوا «بياء الغيبة كقراءة:» وَلاَ يَسْأَمُوا أَنْ يكتبُوهُ «وتقدَّم توجيهه. فصل في فوائد الإشهاد والكتابة اعلم أنَّ الكتابة، والاستشهاد تشتمل على ثلاث فوائد: الأولى: قوله: {أَقْسَطُ عِندَ الله} ، أي: أعدل عند الله وأقرب إلى الحقّ. والثانية: قوله: {أَقْومُ لِلشَّهَادَةِ} ، أي: أبلغ في استقامته التي هي ذد الاعوجاج؛ لأنَّ المنتصب القائم ضدّ المنحني المعوج، وإنَّما كانت أقوم للشَّهادة؛ لأنها سبب للحفظ والذكر، فكانت أقرب إلى الاستقامة. والفرق بين الفائدة الأولى والثانية أن الأولى تتعلّق بتحصيل مرضاة الله، والثانية تتعلّق بتحصيل مصلحة الدُّنيا، ولهذا قدمت الأولى عليها؛ لأن تقديم مصلحة الدّين على مصلحة الدُّنيا واجب. الفائدة الثالثة: قوله: {وأدنى أَلاَّ ترتابوا} يعني أقرب إلى زوال الشَّكِّ والارتياب عن قلوب المتداينين، فالفائدة الأولى إشارة إلى تحصيل مصلحة الدِّين. والثَّانية: إشارة إلى تحصيل مصلحة الدُّنيا. والثالثة: إشارة إلى دفع الضَّرر عن النَّفس وعن الغير، أمَّا عن النَّفس فلأنه يبقى في الفكران، أنَّ هذا الأمر كيف كان، وهذا الذي قلت: هل كان صدقاً، أو كذباً، أمَّا عن الغير، فلأنّ ذلك الغير ربَّما نسبه إلى الكذب، فيقع في عقاب الغيبة. قوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} في هذا الاستثناء قولان: أحدهما: أنه متَّصل قال أبو البقاء:» والجُمْلَةُ المستثناة في موضع نصبٍ؛ لأنَّه استثناءٌ [من الجنس] لأنه أمرٌ بالاستشهاد في كلِّ معاملةٍ، فالمستثنى منها التجارة الحاضرة، والتَّقدير: إلاَّ في حال حضور التِّجارة «. والثاني: أنَّه منقطع، قال مكي بن أبي طالبٍ: و» أَنْ «في موضع نصبٍ على الاستثناء المنقطع» وهذا هو الظَّاهر، كأنه قيل: لكنّ التّجارة الحاضرة، فإنَّه يجوز عدم الاستشهاد والكتب فيها. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 501 وقرأ عاصم هنا «تِجَارَةً» بالنَّصب، وكذلك «حَاضِرَةً» ؛ لأنها صفتها، ووافقه الأخوان، والباقون قرءوا بالرَّفع فيهما. فالرَّفع فيه وجهان: أحدهما: أنها التامة، أي: إلا أن تحدث، أو تقع تجارة، وعلى هذا فتكون «تُدِيرونها» في محلِّ رفع صفةً لتجارة أيضاً، وجاء هنا على الفصيح، حيث قدَّم الوصف الصريح على المؤول. والثاني: أن تكون النَّاقصة، واسمها «تِجَارَةٌ» والخبر هو الجملة من قوله: «تُدِيرُونَهَا» كأنه قيل: إلا أنَّ تكون تجارةٌ حاضرةٌ مدارةٌ، وسوَّغ مجيء اسم كان نكرةً وَصْفُه، وهذا مذهب الفراء و [تابعه] آخرون. وأمَّا قراءة عاصم، فاسمها مضمرٌ فيها، فقيل: تقديره: إلا أن تكون المعاملة، أو المبايعة، أو التجارة. وقدَّره الزَّجاج إلاَّ أن تكون المداينة، وهو أحسن. وقال الفارسيُّ: «ولا يجوز أن يكون [التَّداينُ] اسم كان؛ لأنَّ التَّداين معنًى، والتّجارة الحاضرة يراد بها العين، وحكم الاسم أن يكون الخبر في المعنى، والتَّداين حقٌّ في ذمة المستدين، للمدين المطالبة به، وإذا كان كذلك لم يجز أن يكون اسم كان لاختلاف التَّداين، والتّجارة الحاضرة» وهذا الرد لا يظهر على الزجاج، لأنَّ التِّجارة أيضاً مصدرٌ، فهي معنًى من المعاني لا عينٌ من الأعيان، وأيضاً فإنَّ من باع ثوباً بدرهم في الذِّمَّة بشرط أن يؤدى الدّرهم في هذه السَّاعة، كان مداينة، وتجارةً حاضرة. وقال الفارسيُّ أيضاً: ولا يَجُوزُ أيضاً أن يكون اسمها «الحَقُّ» الذي في قوله: {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق} للمعنى الذي ذكرنا في التَّداين، لأنَّ ذلك الحقَّ دينٌ، وإذا لم يجز هذا لم يخل اسم كان من أحد شيئين: أحدهما: أنَّ هذه الأشياء التي اقتضت من الإشهاد، والارتهان قد علم من فحواها التبايُع، فأضمر التَّبايع لدلالة الحال عليه كما أضمر لدلالة الحال فيما حكى سيبويه رَحِمَهُ اللَّهُ: «إذا كَانَ غَداً فَأتني» ؛ وينشد على هذا: [الطويل] 1290 - أَعَيْنَيَّ هَلاَّ تَبْكِيَانِ عِفَاقَا ... إِذَا كَانَ طَعْناً بَيْنَهُمْ وَعِنَاقَا أي: إذا كان الأمر. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 502 والثاني: أن يكون أضمر التِّجارة؛ كأنه قيل: إلاَّ أن تكون التِّجارة تجارةً؛ ومثله ما أنشده الفرَّاء رَحِمَهُ اللَّهُ: [الطويل] 1291 - فدًى لِبَنِي ذُهْلِ بنِ شَيْبَانَ نَاقَتِي ... إِذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْهَبَا وأنشد الزمخشريُّ: [الطويل] 1292 - بَنِي أَسَدٍ هَلْ تَعْلَمُونَ بَلاَءَنَا ... إِذَا كَانَ يَوْماً ذَا كَوَاكِبَ أَشْنَعَا أي: إذا كان اليوم يوماً، و «بَيْنَكُم» ظرفٌ لتديرونها. قوله: «فَلَيْسَ» قال أبو البقاء: «دَخَلَتِ الفَاءُ في» فَلَيْسَ «إيذاناً بتعلُّق ما بعدها بما قبلها» قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: هي عاطفةٌ هذه الجملة على الجملة من قوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} إلى آخرها، والسَّببيَّة فيها واضحةٌ أي: بسببٍ عن ذلك رفع الجناح في عدم الكتابة. وقوله: {أَلاَّ تَكْتُبُوهَا} أي: «في أن لا» ، فحذف حرف الجر فبقي في موضع «أَنْ» الوجهان. فصل التِّجارة عبارةٌ عن التَّصرُّف في المال سواء كان حاضراً أو في الذِّمَّة لطلب الرِّبح، يقال: تجر الرَّجل يتجر تجارةً، فهو تاجرٌ. قال النَّوويُّ في «التَّهْذِيبِ» : «ويقال: اتَّجر يتَّجر تجراً، وتجارةً فهو تاجرٌ، والجمع تجار كصاحب، وصحاب، ويقال أيضاً: تجَّار بتشديد الجيم كفاجرٍ، وفجَّارٍ» . وقال في «المُهَذَّبِ» في آخر «بَابِ زَكَاةِ الزَّرْعِ» يجب العشر والخراج، ولا يمنع أحدهما الآخر كأجرة المتجر، وزكاة التجارة، فالمتجر بفتح الميم، وإسكان التَّاء، وفتح الجيم، والمراد به المخزون وصرَّح به صاحب «المُهَذَّبِ» في كتابه «الخِلاَفُ» فقال: كأجرة المخزون، وكذا ذكره غيره من أصحابنا. فصل وسواء كانت المبايعة بدينٍ، أو بعينٍ، فالتِّجارة تجارةٌ حاضرةٌ فقوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 503 تِجَارَةً حَاضِرَةً} لا يمكن حمله على ظاهره، بل المراد من التِّجارة ما يتجر فيه من الأبدال، ومعنى إدارتها بينهم معاملتهم فيها يداً بيدٍ، ومعنى نفي الجناح، أي: لا مضرّة عليكم في ترك الكتابة، ولم يرد نفي الإثم، لأنَّه لو أراد الإثم؛ لكانت الكتابة المذكورة واجبة عليهم، ويأثم صاحب الحقّ بتركها، وقد ثبت خلافه، وبيان أنَّه لا مضرَّة عليهم في تركها؛ لأنَّ التِّجارة الحاضرة تقع كثيراً، فلو تكلَّفوا فيها الكتابة، والإشهاد؛ يشقُّ عليهم، وأيضاً فإنَّ كلَّ واحدٍ من المتعاملين إذا أخذ حقَّه من صاحبه في المجلس؛ لم يكن هناك خوف التَّجاحد، فلا حاجة إلى الكتابة، والإشهاد. قوله: {وأشهدوا} : هذا أمر إرشاد إلى طريق الاحتياط. قال أكثر المفسِّرين: إنَّ الكتابة، وإن رفعت عنهم في التِّجارة الحاضرة؛ فلا يرفع الإشهاد؛ لأن الإشهاد بلا كتابة تخف مؤنته. قوله: {إِذَا تَبَايَعْتُمْ} يجوز أن تكون شرطيةً، وجوابها: إمَّا متقدّم عند قومٍ، وإمَّا محذوف لدلالة ما تقدَّم عليه تقديره: إذا تبايعتم فأشهدوا، ويجوز أن تكون ظرفاً محضاً، أي: افعلوا الشَّهادة وقت التبايع. قوله: {وَلاَ يُضَآرَّ} العامَّة على فتح الرَّاء جزماً، ولا ناهيةٌ، وفتح الفعل لما تقدَّم في قراءة حمزة: «إِن تَضِلَّ» . ثمَّ هذا الفعل يحتمل أن يكون مبنيّاً للفاعل، والأصل: «يُضَارِرْ» بكسر الرَّاء الأولى، فيكون «كَاتِب» ، و «شَهِيد» فاعلين نهيا عن مضارَّة المكتوب له، والمشهود له، نهي الكاتب عن زيادة حرف يبطل به حقّاً أو نقصانه، ونهي الشَّاهد عن كتم الشَّهادة، واختاره الزجاج، ورجَّحه بأنَّ الله تعالى قال: {فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} ، ولا شكَّ أنَّ هذا من الكاتب والشَّاهد فسقٌ، ولا يحسن أن يكون إبرام الكاتب والشهيد والإلحاح عليهما فسقاً. لأنَّ اسم الفسق بمن يحرف الكتابة، وبمن يمتنع عن الشَّهادة؛ حتّى يبطل الحقّ بالكليّة أولى منه بمن أضرّ الكاتب والشَّهيد؛ ولأنه تبارك وتعالى قال فيمن يمتنع عن أداء الشَّهادة « {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283] والإثم والفسق متقاربان وهذا في التَّفسير منقول عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ومجاهد وطاوس، والحسن وقتادة. ونقل الدَّاني عن ابن عمر، وابن عبَّاس، ومجاهد، وابن أبي إسحاق أنهم قرءوا الرَّاء الأولى بالكسر، حين فكُّوا. ويحتمل أن يكون الفعل فيها مبنيّاً للمفعول، والمعنى: أنَّ أحداً لا يُضَارِرُ الكاتب ولا الشَّاهد، ورجَّح هذا بأنه لو كان النَّهي متوجِّهاً للكاتب والشّهيد لقال: «وإِنْ تفعلا فإنه فسوقٌ بكما» ، ولأنَّ السياق من أول الآيات إنما هو للمكتوب له والمشهود له بأن يودّهما الجزء: 4 ¦ الصفحة: 504 ويمنعهما من مهمَّاتها، وإذا كان خطاباً للذين يقدمون على المداينة، فالمنهيُّون عن الضِّرار هم، وهذا قول ابن عباس وعطاء ومجاهد وابن مسعود. ونقل الداني أياضً عن ابن عمر وابن عباس ومجاهد أنهم قرءوا الراء الأولى بالفتح. فالآية عندهم محتملةٌ للوجهين ففسروا وقرءوا بهذا المعنى تارةً وبالآخر أخرى. وقرأ أبو جعفر، وعمرو بن عبيدٍ: «ولا يُضارَ» بتشديد الرّاء ساكنةً وصلاً، وفيها ضعفٌ من حيث الجمع بين ثلاث سواكن، لكنَّه لمَّا كانت الألف حرف مدٍّ؛ قام مدُّها مقام حركةٍ، والتقاء السَّاكنين مغتفرٌ في الوقف، ثم أجري الوصل مجرى الوقف في ذلك. وقرأ عكرمة: «ولا يُضَارِرْ كَاتِباً وَلاَ شَهِيداً» بالفكِّ، وكسرِ الراءِ الأولى، والفاعلُ ضميرُ صاحب الحق، ونَصْب «كاتباً» ، و «شهيداً» على المَفْعُول به، أي: لا يضارِرْ صَاحِبُ حقٍّ كاتباً ولا شهيداً بأن يُجبِرَهُ ويُبْرِمَه بالكِتَابَة والشهادةِ؛ أو بأَنْ يحمِلَه على ما لا يَجُوز. وقرأ ابن محيصن: «ولا يُضارُّ» برفع الرَّاء، وهو نفيٌ فيكون الخبر بمعنى النهي كقوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة: 197] . وقرأ عكرمة في رواية مقسم: «ولا يُضارِّ» بكسر الرَّاء مشدَّدةً على أصل التقاء الساكنين. وقد تقدَّم تحقيقُ هذه عند قوله: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا} [البقرة: 233] . قوله: {وَإِن تَفْعَلُواْ} ، أي: تفعلوا شيئاً ممَّا نهى الله عنه، فحذف المفعول به للعلم به. والضّمير في «فإنَّهُ» يعود على الامتناع، أو الإضرار. و «بِكُمْ» متعلّقٌ بمحذوفٍ، فقدَّره أبو البقاء: «لاحِقٌ بِكُم» ، وينبغي أن يقدَّر كوناً مطلقاً؛ لأنه صفةٌ ل «فُسُوق» ، أي: فسوق مستقرٌّ بكم، أي: ملتبسٌ بكم ولاحق بكم. قوله: {واتقوا الله} ، يعني: فيما حذَّر منه هاهنا، وهو المضارة، أو يكون عاماً، أي: اتَّقوا الله في جميع أوامره، ونواهيه. قوله: {وَيُعَلِّمُكُمُ الله} يجوز في هذه الجملة الاستئناف - وهو الظَّاهر - ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل في «اتَّقوا» قال أبو البقاء: «تقديره: واتقوا الله مضموناً لكم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 505 التَّعليم، أو الهداية، ويجوز أن تكون حالاً مقدَّرة» . قال شهاب الدين: وفي هذين الوجهين نظرٌ، لأنَّ المضارع المثبت لا تباشره واو الحال، فإن ورد ما ظاهره ذلك يؤوَّل، لكن لا ضرورة تدعو إليه ههنا. فصل المعنى: يعلمكم ما يكون إرشاداً، أو احتياطاً في أمر الدُّنيا، كما يعلِّمكم ما يكون إرشاداً في أمر الدِّين، {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} ، أي: عالم بجميع مصالح الدُّنيا، والآخرة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 قوله: {وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ} . قال أهل اللُّغة (س ف ر) تركيب هذه الحروف للظُّهور، والكشف، والسفر هو الكتاب؛ لأنه يبيِّن الشيء ويوضحه، وسمي السِّفر سفراً؛ لأنَّه يسفر عن أخلاق الرِّجال، أي: يكشف، أو لأنه لمّا خرج من الكن إلى الصَّحراء فقد انكشف للنَّاس؛ أو لأنه لمَّا خرج إلى الصَّحراء فقد صارت أرض البيت منكشفةً خاليةً، وأسفر الصُّبح: إذا ظهر، وأسفرت المرأة عن وجهها: إذا كشفته، وسفرت عن القوم أسفر سفارة، أي: كشفت ما في قلوبهم، وسفرت أُسفر، أي: كنست، والسَّفر: الكنس، وذلك لأنك إذا كنست، فقد أظهرت ما كان تحت الغبار، والسّفر من الورق ما سفر به الرِّيح، ويقال لبقية بياض النَّهار بعد مغيب الشَّمس سفر لوضوحه. فصل في بيان وجه النَّظم اعلم أنَّه تعالى جعل البياعات في هذه الآية على ثلاثة أقسام: بيع بكتاب وشهود، وبيع برهن مقبوضة، وبيع بالأمانة، ولما أمر في آخر الآية المتقدّمة بالكتاب، والإشهاد، وأعلم أنَّه ربما تعذَّر ذلك في السَّفر إمَّا ألاَّ يوجد الكاتب، أو إن وجد لكنَّه لا توجد آلات الكتابة، ذكر نوعاً آخر من الاستيثاق وهو أخذ الرَّهن، فهذا وجه النَّظم، وهذا أبلغ في الاحتياط من الكتابة والإشهاد. قوله: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً} في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنَّها عطفٌ على فعل الشَّرط، أي: «وَإِنْ كُنْتُم» ، {وَلَمْ تَجِدُواْ} فتكون في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 506 محلِّ جزمٍ لعطفها على المجزوم تقديراً. والثاني: أن تكون معطوفةً على خبر «كان» ، أي: وإن كنتم لم تجدوا كاتباً. والثالث: أن تكون الواو للحال، والجملة بعدها نصب على الحال، فهي على هذين الوجهين الأخيرين في محلّ نصبٍ. والعامة على «كاتباً» اسم فاعل. وقرأ أُبي ومجاهدٌ، وأبو العالية: «كِتاباً» ، وفيه وجهان: أحدهما: أنَّه مصدرٌ أي ذا كتابة. والثاني: أنه جمع كاتبٍ، كصاحبٍ وصحاب. ونقل الزمخشريُّ هذه القراءة عن أُبيّ وابن عبَّاسٍ فقط، وقال: «وَقَالَ ابْنُ عباس: أرأيت إن وَجَدْتَ الكاتب، ولم تجد الصَّحيفة والدَّواة» . وقرأ ابن عباس والضَّحَّاك: «كُتَّاباً» على الجمع [اعتباراً] بأنَّ كلَّ نازلةٍ لها كاتبٌ. وقرأ أبو العالية: «كُتُباً» جمع كتاب، اعتباراً بالنَّوازل، قال شهاب الدين: قول ابن عباس: «أَرَأَيْتَ إِنْ وَجَدْتَ الكَاتِبَ ... إلخ» ترجيحٌ للقراءة المرويَّة عنه واستبعادٌ لقراءة غيره «كاتباً» ، يعني أن المراد الكتاب لا الكاتب. قوله: {فَرِهَانٌ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مرفوعٌ بفعلٍ محذوفٍ، أي: فيكفي عن ذلك رهنٌ مقبوضةٌ. الثاني: أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ، أي: فرهن مقبوضة تكفي. الثالث: أنَّه خبر مبتدأ محذوف تقديره: فالوثيقة، أو فالقائم مقام ذلك رهن مقبوضةٌ. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرٍو: «فَرُهُنٌ» بضم الرَّاء، والهاء، والباقون «فَرِهَانٌ» بكسر الرَّاء وألف بعد الهاء، روي عن ابن كثير، وأبي عمرو تسكين الهاء في رواية. فأمَّا قراءة ابن كثير، فجمع رهن، وفَعْلٌ يجمع على فُعُلٍ نحو: سَقْف وسُقُف. ووقع في أبي البقاء بعد قوله: «وسَقْف وسُقُف. وأسَد وأُسُد، وهو وهمٌ» ولكنَّهم قالوا: إنَّ فعلاً جمع فعل قليل، وقد أورد منه الأخفش ألفاظاً منها: رَهْن ورُهُن، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 507 ولَحْد القبر، ولُحُد، وقَلْب النَّخلة، وقُلُب، ورجلٌ ثَطٌّ وقومٌ ثُطٌّ، وفرس وَرْدٌ، وخيلٌ وُرُدٌّ، وسَهمٌ حَشْرٌ وَسِهَامٌ حُشُرٌ. وأنشد أبو عمرو حجةً لقراءته قول قعنب: [البسيط] 1293 - بَانَتُ سُعَادُ وأَمْسَى دُونَها عَدَنُ ... وَغَلِقَتْ عِنْدَهَا مِنْ قَبْلِكَ الرُّهُنُ وقال أبو عمرو: «وإنما قرأت فرُهُن للفصل بين الرهان في الخيل وبين جمع» رَهْن «في غيرها» ومعنى هذا الكلام أنما اخترت هذه القراءة على قراءة «رهَان» ؛ لأنه لا يجوز له أن يفعل ذلك كما ذكر دون اتِّباع روايةٍ. واختار الزَّجَّاج قراءته هذه قال: «وَهَذِه القِرَاءَة وافَقَت المصحف، وما وافق المصحف وصحَّ معناه، وقرأ به القرَّاء فهو المختار» . قال شهاب الدين: إن الرسم الكريم «فرهن» دون ألفٍ بعد الهاء، مع أنَّ الزَّجَّاج يقول: «إنَّ فُعُلاً جمع فَعْلٍ قليلٌ» ، وحكي عن أبي عمرو أنه قال: «لا أَعْرِفُ الرَّهان أكثر، والرِّهان في الخيل أكثر» وأنشدوا أيضاً على رَهْنٍ ورُهُن قوله: [الكامل] 1294 - آلَيْتُ لاَ نُعْطِيهِ مِنْ أَبْنَائِنَا ... رُهُناً فيُفْسِدُهُمْ كَمَنْ قَدُ أَفْسَدَا وقيل: إنَّ رُهُناً جمع رهان، ورهان جمع رَهْن، فهو جمع الجمع، كما قالوا في ثمار جمع ثمر، وثُمر جمع ثمار، وإليه ذهب الفراء وشيخه، ولكنَّ جمع الجمع غير مطرَّدٍ عند سيبويه وجماهير أتباعه. وأمَّا قراءة الباقين «رِهان» ، فرهان جمع «رَهْن» وفعل وفعال مطردٌ كثير نحو: كَعْب، وكِعَاب، وكَلْب وكِلاَب، ومَنْ سَكَّن ضمة الهاء في «رُهُن» فللتخفيف وهي لغةٌ، يقولون: سُقْفٌ في سُقُف جمع سَقْفٍ. والرَّهنُ في الأصل مصدر رهنت، يقال: رهنت زيداً ثوباً أرهنه رهناً أي: دفعته إليه رهناً عنده، قال: [الوافر] 1295 - يُرَاهِنُنِي فَيَرْهَنُنِي بَنِيهِ ... وأَرْهَنُهُ بَنِيَّ بِمَا أَقُولُ وأرهنت زيداً ثوباً، أي: دفته إليه ليرهنه، ففرَّقوا بين فعل وأفعل. وعند الفرَّاء رهنته وأرهنت بمعنى، واحتجَّ بقول همَّامٍ السَّلوليِّ: [المتقارب] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 508 1296 - فَلَمَّا خَشِيتُ أَظَافِيرَهُمْ ... نَجَوْتُ وَأَرْهَنْتُهُمْ مَالِكاً وأنكر الأصمعيُّ هذه الرِّواية، وقال إِنَّما الرَّواية: «وَأَرْهَنُهُمْ مَالِكَا» والواو للحال؛ كقولهم: «قَمْتُ وأَصُكُّ عَيْنَهُ» وهو على إضمار مبتدأ. وقيل: أرْهَنَ في السِّلعة إذا غالى فيها حتّى أخذها بكثير الثَّمن، ومنه قوله: [البسيط] 1297 - يَطْوِي ابنُ سَلْمَى بِهَا مِنْ رَاكِبٍ بُعْداً ... عِيديَّةً أُرْهِنَتْ فِيهَا الدَّنَايِيرُ ويقال: رَهنتُ لساني بكذا، ولا يُقال فيه «أَرْهَنْتُ» ثم أُطْلق الرَّهنُ على المرهون من باب إطلاق المصدرِ على اسم المفعول كقوله تعالى: {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] ، و «درهَمٌ ضَرْبُ الأَمِير» ، فإذا قلت: «رَهَنْتُ زيداً ثوباً رَهْناً» فرهناً هنا مصدرٌ فقط، وإذا قلت «رهنْتُ زيداً رَهْناً» فهو هنا مفعولٌ به؛ لأن المراد به المرهونُ، ويُحتملُ أن يكونَ هنا «رَهْناً» مصدراً مؤكداً أيضاً، ولم يذكرِ المفعول الثَّاني اقتصاراً كقوله: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} [الضحى: 4] . و «رَهْن» مِمَّا استغني فيه بجمعِ كثرته عن جمع قلَّته، وذلك أنَّ قياسه في القلةِ أفعل كفلس، وأفلسُ، فاستُغنيَ برَهن ورِهان عن أرَهنُ. وأصل الرَّهن: الثُّبوت والاستقرارُ يقال: رهن الشَّيءُ، فهو راهنٌ إذا دام واستقر، ونعمةٌ راهنةٌ، أي: دائمة ثابتة، وأنشد ابن السَِّكِّيت: [البسيط] 1298 - لاَ يَسَفِيقُونَ مِنْهَا وَهْيَ رَاهِنَةٌ ... إِلاَّ بهَاتِ وَإِنْ نَهِلُوا ويقال: «طَعَامٌ رَاهِنٌ» أي: مُقيمٌ دائمٌ؛ قال: [البسيط] 1299 - الخُبْزُ واللَّحْمُ لَهُمْ رَاهِنٌ ..... ... ... ... ... ... ... ... أي: دائمٌ مستقرٌّ، ومنه سُمِّي المرهونُ «رَهْناً» لدوامِه واستقراره عند المُرتهِن. فصل في إثبات الرهن في الحضر والسفر جمهورُ الفُقهاء على أَنَّ الرهن في الحضرِ، والسَّفر سواءٌ، وفي حال وجود الكاتب، وعدمهِ، وذهب مجاهِدٌ: إلى أَنَّ الرهنَ لا يجوزُ إِلاَّ في السقر؛ لظاهر الآية، ولا عمل عليه، وإِنَّما قيدت الآيةُ بالسفر؛ لأَنَّ الغالبَ في السفرِ عدمُ الكاتِب؛ فهو الجزء: 4 ¦ الصفحة: 509 كقوله: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] وليس الخوفُ من شرط جواز القصرِ؛ ويدلُّ عليه ما رُوِيَ عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أَنَّهُ رهن دِرْعَهُ عند أَبِي الشَّحم اليهوديِّ ولم يكن ذلك في سفرٍ. قوله: {فَإِنْ أَمِنَ} قرأ أُبي فيما نقله عنه الزَّمخشريُّ «أُومِنَط مبنيّاً للمفعول، قال الزَّمخشريُّ: أي:» أَمِنَه الناسُ وَوَصَفُوا المَدْيُونَ بالأمانةِ والوفاءِ «قلت: وعلامَ تنتصبُ بَعْضاً؟ والظاهرُ نصبه بإسقاطِ الخافض على حذف مضافٍ، أي: فإن أُومِنَ بعضُكم على متاعٍ بعضٍ، أو على دينِ بعضٍ. وفي حرف أُبيّ:» فَإِن اؤْتُمِنَ «يعني: وإن كان الذي عليه الحقُّ أَمِيناً عند صاحب الحقِّ؛ فلم يرتهن منه شيئاً؛ لحسن ظنه به. قوله: {فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} إذا وُقِفَ على الَّذِي، وابتُدىءَ بما بعدها قيل:» اوتُمِنَ «بهمزةٍ مضمومةٍ، بعدها واوٌ ساكنةٌ، وذلك لأنَّ أصله اؤْتُمِنَ؛ مثل اقتُدر بهمزتين: الأُولى للوصل، والثَّانية فاءُ الكلمة، ووقعت الثانيةُ ساكنةً بعد أُخرى مثلها مضمومةً؛ فوجب قَلْبُ الثانية لمُجانس حركة الأُولى، فقلت: اوتُمِنَ؛ فأمَّا في الدَّرج، فتذهبُ همزةُ الوصل؛ فتعودُ الهمزةُ إلى حالها؛ لزوالِ موجب قلبها واواً، بل تُقلبُ ياءً صريحةً في الوصلِ؛ في رواية ورشٍ. ورُوي عن عاصم:» الَّذِي اؤْتُمِنَ «برفع الأَلف ويُشير بالضَّمَّةِ إلى الهمزةِ، قال ابن مجاهدٍ:» وهذه الترجمةُ غلطٌ «ورَوَى سليم عن حمزة إشمامَ الهمزةِ الضَّمَّ، وفي الإِشارة، والإِشمام المذكُورَين نظرٌ. وقرأ عاصمٌ أيضاً في شاذِّه: «الَّذِي اتُّمِنَ» بإِدغام الياء المبدلة من الهمزة في تاءِ الافتعال، قال الزمخشريُّ: قياساً على: «اتَّسَرَ» في الافتعال من اليُسْر، وليس بصحيح؛ لأَنَّ الياءَ منقلبةٌ عن الهمزةِ، فهي في حُكمِ الهمزةِ، واتَّزر عامِّيٌّ، وكذلك «رُيَّا» في «رُؤْيَا» . قال أبو حيَّان: وَمَا ذَكَرهُ الزمخشريُّ فيه: أَنَّهُ ليس بصحيح، وأَنَّ «اتَّزَرَ» عامِّيٌّ - يعني أنه مِنْ إِحداث العامَّةِ لا أصلَ له في اللغة - قد ذكره غيره أنَّ بعضهم أَبدلَ، وأدْغَمَ: «اتَّمَنَ واتَّزَرَ» وأنَّ لغةٌ رديئةٌ، وكذلك «رُيَّا» في رُؤْيَا، فهذا التشبيهُ إمَّا أَنْ يعودَ على قوله: «واتَّزَرَ عَامِّيٌّ» ، فيكون إدغام «رُيَّا» عَامِّيًّا، وإمَّا أن يعود إلى قوله «فَلَيْسَ بِصَحِيح» الجزء: 4 ¦ الصفحة: 510 أي: وكذلك إدغامُ «رُيَّا» ليس بصحيحٍ، وقد حكى الكِسائيُّ الإدغام في «رُيَّا» . وقوله: {أَمَانَتَهُ} يجوزُ أن تكونَ الأمانةُ بمعنى الشَّيءِ المُؤْتَمَنِ عليه؛ فينتصبَ انتصابَ المفعولِ به بقوله: «فَلْيُؤَدِّ» ويجوزُ أَنْ تكونَ مصدراً على أصلها، وتكونَ على حذفِ مضافٍ، أي: فليؤدِّ دين أَمانتهِ، ولا جائزٌ أن تكونَ منصوبة على مصدرِ اؤْتمنَ، والضَّمير في «أَمَانَتَهُ» يُحْتَمَلُ أَنْ يعودَ على صاحب الحقِّ، وأَنْ يعودَ على {الذي اؤتمن} . فصلٌ هذا هو القِسْمُ الثّالث مِنَ البياعاتِ المذكورة في الآية، وهو بيعُ الأمانة، أعني: ما لا يكون فيه كتابةٌ، ولا شهودٌ، ولا يكونَ فيه رهنٌ. يقال: «أَمِنَ فُلاَنٌ غَيْرَهُ» إذا لم يخف منه. قال تعالى: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ} [يوسف: 64] فقوله: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً} أي: لم يخف خيانتهُ وجحودَه للحقِّ {فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} أي: فليؤدِّ المديونُ الذي كان أميناً، ومؤتمناً في ظنِّ الدَّائن - أمانتَهُ، أي: حقَّهُ، كأنه يقولُ: أَيّها المديُونُ، أنتَ أمينٌ، ومُؤْتمن في ظنِّ الدَّائِن، فلا تخلف ظنَّه، وأدِّ إليه أمانتَهُ، وحقه، يقالك أَمِنتُه، أو ائْتَمَنْتُه، فهو مأمونٌ، ومُؤْتَمَنٌ، {وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} أي: يتق اللهَ، ولا يجحدُ، لأن الدَّائن لمَّا عامله المعاملة الحسنة؛ حينئذٍ عَوَّل على أَمانته، ولم يُطَالبه بالوثائق من الكتابة، والإِشهاد، والرهنِ؛ فينبغي لهذا المديُون أنْ يتَّقِي الله، ويعامله أَحسنَ معاملة، بأن لا يُنكر الحقَّ، ويؤديه إليه عند حلول الأَجل. وقيل: إنه خطابٌ للمرتَهِن بأن يُؤَدِّي الرهنَ عند استيفاءِ المالِ، فإنه أمانةٌ في يده. فصلٌ قال بعضهم: هذه الآيةُ ناسخةٌ للآياتِ المتقدمةِ الدالَّةِ على وجوب الكتابة، والإِشهادِ، وأخذ الرهن. واعلم أَنَّ التزام وقُوع النسخِ من غير دليلٍ يُلجئُ إليه خطأٌ. [بل] تلك الأَوامِرُ محمولةٌ على الإِرشاد، ورعاية الاحتياط، وهذه الآيةُ محمولةٌ على الرخصة. وعن ابن عباسٍ، أنه قال: ليس في آية المداينة نسخٌ. قوله: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة} وفيه وجوهٌ: الأول: قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ ُ -: إنه تعالى لما أباحَ تركَ الكتابةِ والإِشهادِ، والرهنِ عند اعتقادِ أمانة المديونِ، ثم كان من الجائز أَنْ يكون المديونُ خائِناً جاحداً الجزء: 4 ¦ الصفحة: 511 للحقِّ، وكان من الجائزِ أيضاً أن يكون بعضُ الناسِ مُطّلعاً على أحوالهم، فهاهنا ندب اللهُ ذلك المطلع إلى أن يسعى في إحياء ذلك الحق، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه، ومنعه من كتمانِ الشَّهادةِ سواء عرف ذلك الحق، وأن يشهد لصاحب الحق بحقه، ومنعه من كتمانِ الشَّهادةِ سواء عرف صاحبُ الحق تلك الشهادة، أم لا، وشدَّد فيه بأن جعله آثِمَ القلبِ بكتمانها. وقد قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «خَيْرُ الشُّهُودِ مَنْ شَهِدَ قَبْلَ أَنْ يُسْتَشْهَدَ» . الثاني: أَنَّ المراد من كتمان الشهادة أن ينكر العلم بتلك الواقعة، ونظيره قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله} [البقرة: 140] والمرادُ الجُحودُ وإنكارُ العِلْمِ. الثالث: كِتمانُ الشهادة: هو الامتناع مِنْ أدَائها عند الحاجة إلى إقامتها، كما تقدَّمَ في قوله: {وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ} [البقرة: 282] ؛ لأنه متى امتنع عن إقامة الشهادة صار كالمبطل لحقه، وحُرمة مال المسلم كحُرمةِ دمه، فلهذا بالغَ في وعيده. وقرأ أَبُو عَبدِ الرحْمَن «وَلاَ يَكْتُمُوا» بياءِ الغيبةِ؛ لأن قَبْلَهُ غَيْباً وهم مَنْ ذُكر في قوله: «كَاتِبٌ ولا شهيد» . قوله: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} في هذا الضمير وجهان: أحدهما: أنه ضميرُ الشأنِ، والجملةُ بعدَه مفسِّرٌ له. والثاني: أنه ضميرُ «مَنْ» في قوله: «ومَنْ يَكْتُمْهَا» وهذا هو الظاهرُ. وأمَّا «آثِمٌ قَلْبُهُ» ففيه أوجهٌ: أظهرها: أنَّ الضميرَ في «إِنَّهُ» ضميرُ «مَنْ» و «آثِمٌ» خبرُ «إِنَّ» ، و «قَلْبُهُ» فاعلٌ ب «آثِمٌ» ، نحو قولك: «زَيْدٌ إِنَّهُ قَائِمٌ أَبُوهُ» ، وعَمَلُ اسم الفاعل هنا واضحٌ؛ لوجودِ شروطِ الإِعمال، ولا يجيءُ هذا الوجهُ على القولِ بأنَّ الضميرَ ضميرُ الشأنِ؛ لأنَّ ضميرَ الشأن لا يُفَسَّر إلا بجملةٍ، واسمُ الفاعلِ مع فاعله عند البصريِّين مفردٌ، والكوفيُّون يُجيزون ذلك. الثاني: أن يكون «آثِمٌ» خبراً مقدَّماً، و «قَلْبُهُ» مبتدأٌ مؤخراً، والجملةُ خبرَ «إِنَّ» ، ذكره الزمخشريُّ وأبو البقاء وغيرهما وهذا لا يجوزُ على أصول الكوفيِّين؛ لأنه لا يعودُ عندهم الضَّميرُ المرفوعُ على متأخِّرٍ لفظاً، و «آثِمٌ» قد تحمَّل ضميراً، لأنه وقع خبراً؛ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 512 وعلى هذا الوجه: فيجوزُ أن تكونَ الهاءَ ضميرَ الشأ، وأَنْ تكونَ ضميرَ «مَنْ» . والثالث: أن يكونَ «آثِمٌ» خبرَ «إِنَّ» ، وفيه ضميرٌ يعودُ على ما تعودُ عليه الهاء في «إِنَّهُ» ، و «قَلْبُهُ» بدلٌ من ذلك الضمير المستترِ بدلُ بعضٍ من كُلٍّ. الرابع: [أن يكونَ] «آثمٌ» مبتدأً، و «قَلْبُهُ» فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر، والجملةُ خبرُ «إِنَّ» ، قاله ابن عطية، وهو لا يجوزُ عند البصريِّين؛ لأنَّه لا يعملُ عندهم اسمُ الفاعل، إلا إذا اعتمد على نفي، أو استفهام؛ نحو: ما قائِمٌ أَبَوَاكَ، وهَلْ قائِمٌ أَخَوَاكَ؟ وَمَا قَائِمٌ قَوْمُكَ، وَهَلْ ضَارِبٌ إِخْوَتُكَ؟ وإنما يجوزُ هذا عند الفراءِ من الكوفيين، والأخفشِ من البصريِّين؛ إذ يجيزانِ: قائمٌ الزَّيدانِ، وقائِمٌ الزَّيدُونَ، فكذلك في الآية الكريمة. وقرأ ابن عبلة: «قَلْبَهُ» بالنصب، نسبها إليه ابن عطيَّة. وفي نصبه ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنه بدلٌ من اسم «إِنَّ» بدلُ بعض من كلٍّ، ولا محذورَ في الفصلِ [بالخبر - وهو آثِمٌ - بين البدلِ والمبدلِ منه، كما لا محذورَ في الفصل] به بين النعتِ والمنعوتِ، نحو: زَيْدٌ مُنْطَلِقٌ العَاقِلُ مع أنَّ العاملَ في النعت والمنعوت واحدٌ؛ بخلافِ البدلِ والمبدلِ منه؛ فإنَّ الصحيحَ أنَّ العاملَ في البدلِ غيرُ العاملِ في المُبدلِ منه. الثاني: أنه منصوبٌ على التشبيه بالمفعولِ به؛ كقولك: «مَرَرْتُ بِرَجُلٍ حَسَنٍ وَجْهَهُ» ، وفي هذا الوجه خلافٌ مشهورٌ: فمذهب الكوفيين: الجواز مُطْلَقاً، أعني نظماً ونَثْراً. ومذهبُ المبرد المنع مطلقاً، ومذهب سيبويه: منع في النثر، وجوازه في الشعرِ، وأنشد الكسائي على ذلك: [الرجز] 1300 - أَنْعَتُهَا إِنِّيَ مِنْ نُعَّاتِهَا ... مُدَارَةَ الأَخْفَافِ مُجْمَرَّاتِهَا غُلْبَ الرِّقَابِ وَعَفْرْنِيَّاتِهَا ... كُومَ الذُّرَى وَادِقَةَ سُرَّاتِهَا ووجه ضعفه عند سيبويه في النثر تكرار الضمير. الثالث: أنه منصوبٌ على التمييز حكاه مكيٌّ وغيره؛ وضعَّفوه بأنَّ التمييز لا يكونُ إلا نكرةً، وهذا عند البصريِّين، وأمَّا الكوفيون فلا يَشْتَرطون تنكيرَه، ومنه عندهم: {إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] و {بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] ؛ وأنشدوا قوله: [الوافر] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 513 1301 - إِلَى رُدُحٍ مِنَ الشِّيزَى مِلاَءٍ ... لُبَابَ البُرِّ يُلْبَكُ بِالشِّهَادِ وقرأ ابن أبي عيلة - فيما نقل عنه الزمخشريُّ - «أَثَّمَ قَلْبَهُ» جعل «أَثَمَّ» فعلاً ماضياً مشدَّد العين، وفاعله مستترٌ فيه، و «قَلْبَهُ» مفعول به، أي: جعل قلبه آثِماً، أي: أَثِمَ هو؛ لأنه عَبَّر بالقلبِ عن ذاتِه كلِّها؛ لأنه أشرفُ عضوٍ فيها. وهو، وإِنْ كان بلفظِ الإِفراد، فالمرادُ به الجمعُ، ولذلك اعتبر معناه في قراءة أبي عبد الرحمن، فجمع في قوله: «وَلاَ يَكْتُمُوا» . وقد اشتملَتْ هذه الآياتُ على أنواع من البديع: منها: التجنيسُ المغايرُ في «تَدَايَنْتُم بِدَيْنٍ» ، ونظائره، والمماثلُ في قوله: {وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا} ، والطباقُ في «تَضِلَّ» و «تُذَكِّرَ» و «صَغِيراً وكَبِيراً» ، وقرأ السُّلمِيُّ أيضاً: «واللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ» بالغَيبَة؛ جرياً على قراءته بالغَيْبَة. و «الآثم» : الفاجرُ رُوِيَ أَنَّ عمر كان يُعلِّمُ أَعرابيّاً {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم طَعَامُ الأثيم} [الدخان: 43، 44] فكان يقول: «طَعَامُ اليَتِيم» فقال له عُمرُ: طعام الفاجِرِ، وهذا يدلُّ على أَنَّ الإِثم يكون بمعنى الفجورِ. قيل: ما وعد اللهُ على شيءٍ كإيعاده على كتمان الشهادة؛ قال: {فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} وأراد به مسخ القلب؛ نعوذُ بالله من ذلك. وقوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} تحذيرٌ من الإِقدامِ على الكِتمانِ؛ لأنَّ المكلَّفَ إذا علم أَنَّ الله تعالى لا يعزُبُ عن عِلْمِه ضميرُ قلبه، كان خائِفاً حذراً من مُخالفة أَمرِ اللهِ تعالى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 514 في كيفية النَّظم وجوه: الأول: قال الأَصمّ: إنه تعالى لمَّا جمع في هذه السُّورة أشياءَ كثيرةً مِنْ علم الأُصُول: من دلائل التَّوحيدِ، والنُّبوةِ، والمعادِ، وبيان الشَّرائِع، والتكاليف؛ كالصلاةِ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 514 والزكاةِ، والصومِ، والحجِّ، والقِصَاصِ، والجهادِ، والحيضِ، والطَّلاَقِ، والعِدَّةِ، والصَّدَاقِ، والخُلعِ، والإِيلاءِ، والرَّضَاعةِ، والبيع، والرِّبَا، وكيفيَّةِ المُداينةِ - ختم هذه السورة بهذه الآية على سبيل التَّهديد. قال ابن الخطيب: لمَّا كان أكملُ الصفاتِ هو العلم والقدرة عبَّرَ عن كمالِ قُدْرته بقول {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} مِلكاً ومُلْكاً، وعبَّرَ عن كمال علمه، وإِحاطته بالكُلِّيَّاتِ، والجُزْئِيَّاتِ بقوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} ، وإذا اختصَّ بكمال العلم، والقُدرة، فكل من في السموات والأرض عبيدٌ مربوبون له، وجدوا بتخليقه، وتكوينه، وهذا غاية الوعدِ للمطيعين، ونهايةُ الوعيد للمذنبين، ولهذا ختم السورة بهذه. الثاني: قال أبو مسلم: إنه تعالى لمَّا نزَّل في آخر الآية المتقدِّمة: «إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عليمٌ» ، ذكر عقيبهُ ما يجرِي مجرى الدليل العقلي فقال: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ومعنى هذا الملك أَنَّ هذه الأشياء لمَّا كانت محدثةً، فقد وجدت بتكوينه؛ وإبداعه، ومن أتقن هذه الأفعال العجيبة الغريبة المشتملةِ على الحِكم المُتكاثرة؛ والمنافع العظيمة، فلا شَكَّ أَنَّ ذلك مِنْ أعظم الأَدِلَّة على كونه عالماً مُحيطاً بأجزائها. الثالث: قال القاضي: إنه تعالى لمَّا أمر بهذه الوثائِق - أعني الكتابة، والإِشهادَ، والرهنَ، وكان المقصودُ من الأَمر بها صيانة الأَموالِ، والاحتياط في حفظها - بيَّن تعالى أن المقصودَ من ذلك إنما يرجع لمنفعة الخلقِ، لا لمنفعةٍ تعُودُ إليه سبحانه، فإنَّ له مُلْكَ السَّموات، والأَرضِ. الرابع: قال الشعبيُّ، وعكرمةُ، ومجاهدٌ: إنه تعالى لما نهى عن كِتمان الشهادة، وأَوعد عليه، بيَّن أَنَّ له مُلك السمواتِ، والأَرضِ؛ فيجازِي على الكِتْمانِن والإِظهارِ. فصلٌ في بيان سبب النُّزُول قال مقاتلٌ: نزلت فيمن يتولَّى الكافرين من المؤمنين، يعني: وإن تُعْلِنُوا ما في أَنفُسِكُم من ولاية الكُفَّار، أو تُسِّروه، يُحَاسِبكُم به الله، كما ذكر في سورة آل عمران الجزء: 4 ¦ الصفحة: 515 {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ} [آل عمران: 28] ، إلى أن قال: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله} [آل عمران: 29] . وذهب الأَكثرُون إلى أنَّها عامَّةٌ. فصلٌ رُوِي عن ابن عبَّاسٍ؛ أنه قال: لمَّا نزلت هذه الآية، «جاء أبو بكرٍ وعمرُ، وعبدُ الرَّحمن بن عوف، ومعاذ، وناسٌ إلى النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم بركُوا على الرَّكبِ، فقالوا: يا رسُول اللهِ، كُلِّفنا من الأَعمالِ ما نُطيقُ؛ الصلاةُ، والصِّيامُ، والجِهَادُ، والصَّدَقَةُ، وقد أُنزِلت عليك هذه الآيةُ ولا نُطِيقُهَا، إنَّ أَحدنا ليُحدِّثُ نفسهُ بما لا يحبّ أن يثبتَ في قلبهِ وإنَّ له الدُّنيا، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْل الكِتابينِ مِنْ قَبْلِكُمْ: سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا؟ بل قولوا: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ» فَلمَّا قرأها القومُ، ذلَّتْ بهم أَنفُسُهُم، فأنزل الله في إثرها {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} [البقرة: 285] فمكَثُوا في ذلك حولاً، واشتدَّ ذلك عليهم، فأَنزل اللهُ - تعالى - {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] فَنَسَخَتْ هذه الآية، فقال النَّبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثُوا بِهِ أَنْفُسَهُم مَا لَمْ يَعْمَلُوا أَوْ يَتَكَلَّمُوا بِهِ» . قال ابن مسعود، وابن عبَّاسٍ، وابن عمر: هذه الآية منسوخةٌ، وإليه ذهب محمَّد بن كعبٍ القرظيّ؛ ويدُلُّ عليه ما رَوَى أَبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قال: «إِنَّ اللهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا وَسْوَسَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَتكَلَّمْ أَوْ تَعْمَلْ بِهِ» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 516 وقال آخرون: الآية من باب الخبر، والنَّسخُ لا يتطرَّق إلى الأخبارِ، إنما يرِدُ على الأمرِ والنَّهي، وقوله: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} خبر، وهؤلاء ذكرُوا في الآيةِ وجُوهاً: الأول: أن الخواطر الواردة على النَّفس قسمان: منها: ما يعزمُ على فعله وإيجاده، فيكون مؤاخذاً به؛ لقوله - تعالى -: {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] ، وقال بعد هذه الآية: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] ، وقال: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 19] . ومنها: ما يخطر بالبالِ مع أَنَّ الإنسان يكرهُهَا ولا يمكنه دفعها، فهذا لا يُؤاخذُ به. الثاني: أن كُلَّ ما كان في القلب ممَّا لا يدخُل في العملِ؛ فإنه في محلِّ العفوِ. وقوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} فالمرادُ منه أن يوجد ذلك العمل، إمَّا ظاهراً وإمَّا خُفيَةً، وأمَّا ما يُوجدُ في القلبِ من العزائم والإراداتِ، ولم تتَّصِل بعمل، فذلك في محلِّ العفو. قال ابن الخطيب: وهذا ضعيفٌ؛ لأن أكثر المُؤاخذاتِ إنَّما تكون بأفعالِ القُلُوبِ؛ ألا ترى أنَّ اعتقادَ الكُفْرِ والبدَع إِلاَّ مِنْ أَعمال القُلُوبِ، وأعظم أَنواع العِقَابِ مُتَرتِّبٌ عليه. وأيضاً: فأفعالُ الجوارح إذا خلت عن أفعال القُلُوبِ، لا يترتَّب عليها عقابٌ؛ كأفعال النَّائِمِ والسَّاهي. الثالث: قال الحسن: كُلُّ من أسرَّ عملاً أو أَعْلَنهُ من حركةٍ من جوارحه، أو همَّةٍ في قلبه، إِلاَّ يُخْبرُه الله به ويُحاسبُه عليه، ثم يغفِر ما يشاءُ ويُعذِّب من يشاء؛ لأن الله - تعالى - أَثبت للقلبِ كسباً؛ فقال: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} [البقرة: 225] . الرابع: أن الله - تعالى - يُحاسِبُ خلقهُ بجميع ما أَبدوا من أعمالهم أو أخفوهُ، ويُعاقِبُهُم عليه، غير أنَّ معاقبَتَهُ على ما أَخفوهُ ممَّا يعملُوه هو ما يحدث لهم في الدُّنيا من الهَمِّ والغَمِّ والمصائِبِ، والأُمُور التي يحزنزن عليها. روى الضَّحَّاك عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: قالت: سألت رَسُولَ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ما حدَّث العبد به نفسهُ من شرٍّ كانت مُحاسبةُ الله - تعالى - عليه، فقال: «يا عائشة، هذه مُعاتَبةُ الله - عزّ وجلّ - العبد بما يُصيبُهُ من الحُمَّى والنّكبة، حتَّى الشَّوكة والبضاعة يضعُهَا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 517 في كُمِّهِ فيفقدها فيرُوعُ لها فيجِدُها في ضِبْنه حتَّى إنَّ المؤمن ليخرُجُ من ذُنُوبه؛ كما يخرج التَّبرُ الأحمرُ من الكِبر.» وعن أنس بن مالكٍ، عن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أنه قال: «إِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ العُقُوبَةَ في الدُّنْيَا، وَإِذَا أَرَادَ اللهُ بِعَبْدِه الشَّرَّ أَمْسَك عَلَيْهِ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوافِيَهُ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ» . فإن قيل: كيف تحصل المُؤَاخذةُ في الدُّنيا مع قوله: {اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [غافر: 17] . قلنا: هذا خاصٌّ، فيُقدَّمُ على ذلك العامِّ. الخامس: أنه - تعالى - قال: «يُحَاسِبْكُم» ولم يَقُل «يُؤَاخِذْكُم» وقد ذكرنا في معنى كونه حسيباً ومُحَاسباً وجوهاً كثيرة، ومن جملتها كونه عالماً بها، فيرجعُ معنى الآية إلى كونه عالماً بكُلِّ ما في الضَّمائر والسَّرائر. والمرادُ من المُحاسبة: الإِخبار والتَّعريفُ. ومعنى الآية: وَإِنْ تُبْدُوا مَافِي أَنْفُسِكُمْ فتعملُوا به أَوْ تُخْفُوهُ ممَّا أضمرتم ونويتم، يحاسبكم به الله، ويُخبركم به، ويُعرفكم إيَّاه ثم يغفر للمؤمنين إظهاراً لفضله، ويعذِّب الكافرين إظهاراً لعدلِهِ. وهذا معنى قول الضَّحَّاك، ويُروَى عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ يدلُّ عليه أَنَّهُ قال: {يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} ولم يَقُلْ: «يُؤَاخِذْكُمْ» ، والمُحاسبةُ غير المُؤَاخذة. ورُوِي عن ابن عبَّاسٍ أنه - تعالى - إذا جمع الخلائق يُخْبَرهم بما كان في نفوسهم، فالمُؤْمِنُ يُخبِرهُ ويعفو عنه، وأهل الذُّنُوب يُخبرهم بما أَخفوا من التَّكذِيب والذَّنب روى صفوان بن محرز قال: كُنتُ آخِذاً بيد عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فأتاهُ رجلٌ، فقال: كيف سمعتَ رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقول في النَّجوى؟ قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: « الجزء: 4 ¦ الصفحة: 518 إِنَّ اللهَ يُدْنِي المُؤْمِنَ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ يَسْتُرُه من النَّاسِ، فيقُولُ: أي عَبْدِي، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا وَكَذَا؟ فيقولُ: نَعَمْ أي ربِّ، ثم يقُول: أي رَبِّ، حتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى في نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ، قال: فَإِنِّي قد سترتُها عليك في الدُّنيا وقد غَفَرْتُهَا اليَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ [بِيَمِينِهِ] ، وأَمَّا الكافِرُ والمُنَافِقُ فَيقُولُ الأَشهادُ هؤلاءِ الَّذِين كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ» . السادس: أنه - تعالى - قال: {فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} فيكون الغُفرانُ لمن كان كارِهاً لورُودِ تلك الخواطِرِ، والعَذَابُ إن كان مُصِرّاً على تِلك الخواطِرِ مستحسِناً لها. السابع: المراد كتمان الشَّهادة؛ وهذا ضعيفٌ، لعُموم اللَّفظ. قوله تعالى: {فَيَغْفِرُ} : قرأ ابن عامر وعاصمٌ برفع «يَغْفِرُ» و «يُعَذِّبُ» ، والباقون من السبعةِ بالجزم، وقرأ ابن عباس والأعرجُ وأبو حيوة: «فَيَغْفِرَ» بالنصب. فأمَّا الرفعُ: فيجوزُ أَنْ يكونَ رفعُه على الاستئنافِ، وفيه احتمالان: أحدهما: أن يكونَ خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: فهو يَغْفِرُ. والثاني: أنَّ هذه جملةٌ فعليةٌ من فعلٍ وفاعلٍ، عُطِفت على ما قبلها. وأمَّا الجزمُ فللعطفِ على الجزاءِ المجزوم. وأمَّا النصبُ: فبإضمار «أَنْ» ، وتكونُ هي وما في حَيِّزها بتأويلِ مصدرٍ معطوف على المصدر المتوهِّم من الفعلِ قبل ذلك، تقديره: تكنْ محاسبةُ، فغفرانٌ، وعذابٌ. وقد رُوي قولُ النابغة بالأوجه الثلاثة، وهو: [الوافر] 1302 - فَإِنْ يَهْلِكْ أَبُو قَابُوسَ يَهْلِكْ ... رَبيعُ النَّاسِ وَالبَلَدُ الحَرَامُ ونَأْخُذْ بَعْدَهُ بِذِنَابِ عَيْشٍ ... أَجَبَّ الظَّهْر لَيْسَ لَهُ سَنَامُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 519 بجزم: «نَأْخُذْ» عطفاً على «يَهْلِكْ رَبِيعُ» ونصبه ورفعِه، على ما ذُكِرَ في «فَيَغْفِرْ» وهذه [قاعدة مطَّرِدة، وهي أنه إذا وقع بعد جزاء الشرط فعلٌ بعد فاءٍ أو واوٍ جاز فيه هذه] الأوجُهُ الثلاثةُ، وإن توسَّطَ بين الشرطِ والجزاءِ، جاز جزمه ونصبه وامتنع رفعه، نحو: إِنْ تَأْتِنِي فَتَزُرْنِي أَوُ فَتَزُورَنِي، أَوْ وَتَزُرْني أَوْ تَزُورَنِي. وقرأ الجعفي وطلحة بن مصرِّف وخلاَّد: «يَغْفِرْ» بإسقاط الفاء، وهي كذلك في مصحف عبد الله، وهي بدلٌ من الجواب؛ كقوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب} [الفرقان: 68 - 69] . وقال أبو الفتح: «وهي على البدلِ من» يُحاسِبْكُمْ «، فهي تفسيرٌ للمحَاسَبَة» قال أبو حيان: «وليس بتفسيرٍ، بل هما مترتِّبان على المُحَاسَبَةِ» . وقال الزمخشريُّ: «ومعنى هذا البدلِ التفصيلُ لجملة، الحساب؛ لأنَّ التفصيلَ أوضحُ من المفصَّل، فهو جارٍ مجرى بدل البعض من الكلِّ أو بدل الاشتمال؛ كقولك:» ضَرَبْتُ زَيْداً رَأْسَهُ «و» أَحْيَيْتُ زَيْداً عَقْلَهُ «، وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ؛ لحاجةِ القبلتينِ إلى البيان» . قال أبو حيان: وفيه بعضُ مناقشةٍ: أمَّا الأولُ؛ فقوله: «معنَى هذا البدلِ التفصيلُ لجملةِ الحسابِ» ، ولس العذابُ والغفرانُ تفصيلاً لجملةِ الحسابِ؛ لأنَّ الحِسَابَ إنما هو تعدادُ حسناتِه وسيئاتِه وحصرُها، بحيث لا يَشُذُّ شيءٌ منها، والغفرانُ والعذابُ مترتِّبان على المُحاسَبَة، فليست المحاسبةُ مفصَّلةٌ بالغفرانِ والعذابِ. وأمَّا ثانياً؛ فلقوله بعد أَنْ ذكر بدل البعض من الكل وبدل الاشتمال: «وهذا البدلُ واقعٌ في الأفعالِ وقوعَه في الأسماءِ لحاجةِ القبيلَين إلى البيان» ، أمَّا بدلُ الاشتمال، فهو يمكن، وقد جاءَ؛ لأنَّ الفعلَ يدُلُّ على الجنسِ، وتحته أنواعٌ يشتملُ عليها، ولذلك إذا وقع عليه النفيُ، انتفَتْ جميعُ أنواعه، وأمَّا بدلُ البعضِ من الكلِّ، فلا يمكنُ في الفعل إذ الفعلُ لا يقبلُ التجزُّؤَ؛ فلا يقال في الفعلِ له كلٌّ وبعضٌ، إلا بمجازٍ بعيدٍ، فليس كالاسم في ذلك، ولذلك يستحِيلُ وجودُ [بدل] البعضِ من الكلِّ في حق الله تعالى؛ إذ الباري لا يتقسَّم ولا يتبعَّض. قال شهاب الدين: ولا أدري ما المانعُ من كونِ المغفرة والعذابِ تفسيراً، أو تفصيلاً للحساب، والحسابُ نتيجتُه ذلك، وعبارةُ الزمخشريِّ هي بمعنى عبارة ابن جنِّي، وأمَّا قوله: «إِنَّ بدلَ البعضِ من الكلِّ في الفعْلِ متعذِّرٌ، إذ لا يتحقَّق فيه تجزُّؤٌ» ، فليس بظاهرٍ؛ لأنََّ الكليةَ والبعضيةَ صادقتان على الجنس ونوعه، فإنَّ الجنسَ كلٌّ، والنوعَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 520 بعضٌ، وأمَّا قياسُه على الباري تعالى، فلا أدري ما الجامع بينهما؟ وكان في كلام الزمخشريُّ ما هو أولى بالاعتراض عليه. فإنه قال: وقرأ الأعمش: «يَغْفِر» بغير فاءٍ مجزوماً على البدلِ من «يُحَاسِبْكُمْ» ؛ كقوله: [الطويل] 1303 - مَتَى تَأْتِنَا تُلْمِمْ بِنَا فِي دِيَارِنَا ... تَجِدْ حَطَباً جَزْلاً وَنَاراً تَأَجَّجَا وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه لا يطابق ما ذكره بعد ذلك؛ كما تقدَّم حكايتُه عنه؛ لأن البيت قد أُبدِلَ فيه من فعلِ الشرط، لا من جوابِه، والآية الكريمة قد أُبْدِلَ فيها من نفسِ الجواب، ولكنَّ الجامعَ بينهما كونُ الثاني بدلاً مِمَّا قبلَه وبياناً له. وقرأ أبو عمرو بإدغام الراء في اللام، والباقون بإظهارها، وأظهر الباء قبل الميم هنا ابن كثير بخلافٍ [عنه] ، وورشٌ عن نافع، والباقون بالإِدغام، وقد طَعَن قومٌ على قراءةِ أبي عمرٍو؛ لأنَّ إدغام الراءِ في اللام عندهم ضعيفٌ. قال الزمخشريُّ: «فإن قلت:» كيف يَقْرأ الجَازِمُ «؟ قلت: يُظْهِر الراءَ، ويُدْغِم الباء، ومُدْغِمُ الراءِ في اللام لاحِنٌ مخطىءٌ خطأً فاحِشاً، وراويه عن أبي عمرٍو مخطىءٌ مرتين؛ لأنه يَلْحَنُ وينسُبُ إلى أعلمِ الناس بالعربية ما يُؤذِنُ بجهلٍ عظيم، والسببُ في هذه الروايات قِلَّةُ ضبطِ الرواة، وسبب قلةِ الضبطِ قلةُ الدراية، ولا يَضْبطُ نحو هذا إلا أهلُ النَّحو» قال شهاب الدين. وهذا من أبي القاسم غيرُ مرضيٍّ؛ إذ القُرَّاء معتنُونَ بهذا الشأن؛ لأنهم تَلقَّوا عن شيوخهم الحرفَ [بعد الحَرْفِ] ، فكيف يقلُّ ضبطُهُم؟ وهو أمرٌ يُدْرَكُ بالحسِّ السمعيِّ، والمانعُ من إدغام الراءِ في اللام والنونِ هو تكريرُ الراءِ وقوتُها، والأقوى لا يدغم في الأضعَف، وهذا مَذهبُ البصريِّين: الخليل وسيبويه ومَنْ تبعهما، وأجاز ذلك الفراءُ والكسائيُّ والرُّؤاسيُّ ويعقوبُ الحضرميُّ ورأسُ البصريِّين أبو عمرو، وليس قوله: «إن هذه الرواية غلطٌ علَيْه» بمُسَلَّم، ثم ذكر أبو حيان نقولاً عن القراء كثيرةٌ، وهي منصوصة في كتبهم، فلم أرَ لذكرها هنا فائدةً؛ فإنَّ مجموعها مُلَخَّصٌ فيما ذكرته، [وكيف] يقال: إنَّ الراوي ذلك عن أبي عمرو مخطىءٌ مرتين، ومن جملة رُواتِهِ اليزيديُّ إمامُ النَّحو واللغةِ، وكان يُنازعُ الكسائيُّ رئاسته، ومحلُّهُ مشهُور بين أهلِ هذا الشَّأْن. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 521 روى طاوُس عن ابنِ عبَّاس: «فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ» الذَّنب العَظِيم «ويُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ على الذَّنْبِ الصَّغِير، لا يُسْأَلَ عمَّا يَفْعَل وهُمْ يُسْأَلُون، واللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير» . قوله: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} قد بيَّن بقوله تعالى: {للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أنه كامل الملك والمَلَكُوتِ، وبيَّن بقوله: {إِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} أنه كامل العِلْمِ والإحاطةِ، ثم بيَّن بقوله: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أنه كامِل القُدْرة، مُسْتَولٍ على كل المُمكِنَات بالقَهرِ والقُدرة والتَّكوين والإِعدام، ومن كان موصوفاً بهذه الصِّفات، يجبُ على كُلِّ عاقِلٍ أن يكون عَبْداً له مُنْقَاداً خاضِعاً لأوامرهِ ونواهِيهِ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 522 في كيفية النَّظم وجوهٌ: الأول: لما بيَّن في الآيةِ المتقدِّمة كمال المُلْكِ والعلم والقُدرةِ له - تعالى -، وأنَّ ذلك يوجب كمال صفة الرُّبُوبيَّة، أَتْبَع ذلك ببيان كون المؤمن في نهاية الانقياد والطَّاعة والخُضُوع لله - تعالى -، وذلك هو كمالُ العُبُوديَّة. الثاني: أنه - تعالى - لَمَّا قال: {إِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} [البقرة: 284] وبيَّن أنه لا يخفى عليه من سِرِّنا وجهرنا شيءٌ أَلبتَّة، ذكر عقيب ذلك ما يَجْرِي مُجْرَى المَدْحِ لنا؛ فقال: {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون} كأنَّهُ بفضله يقول: عبدي، أنا وإن كُنْتُ أعلم جميع أحوالِك، فلا أَذكُرُ مِنها إِلاَّ ما يكون مدحاً لك، حتى تَعْلَمَ أَنِّي الكامِلُ في العِلم والقُدْرَة، فأنا كامِلٌ في الجُودِ والرَّحْمَةِ، وفي إِظهارِ الحسناتِ، وفي السَّتْرِ على السَّيِّئَاتِ. الثالث: أنه بَدَأَ السُّورة بمدح المُتَّقين {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] بيَّن في آخر السُّورة أنَّ الَّذِين مدحهُم في أوَّل السُّورة هم أُمَّةُ محمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال: {والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملاائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} وهذا هو المراد بقوله في أَوَّل السُّورة: {يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3] ، ثم قال هَهُنا {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} وهو المراد بقوله أَوَّل السُّورة: {وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] ثم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 522 حكى عنهم هَهُنَا كيفيَّة تضرُّعِهِمِ في قولهم: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ ... } [البقرة: 286] إلى آخر السُّورَة، وهو المراد بقوله أَوَّل السورة: {أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ وأولئك هُمُ المفلحون} [البقرة: 5] . فصلٌ في بيان سبب النُّزُول قال القرطبيُّ: سبب نزول هذه الآية: الآيةُ الَّتِي قبلها، وهو قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله} [البقرة: 284] فإنه لمَّا نزل هذا على النَّبيِّ صلى الله عليه سولم اشتدَّ ذلك على أصحابِ رسُولِ الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فَأَتَوا رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثم بَرَكُوا على الرُّكب، فقالوا: أي رسولَ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذْ كُلِّفْنَا من الأَعمالِ ما نُطِيق؛ الصَّلاة والصِّيام والجِهَادُ، وقد أُنزِل عليكَ هذه الآيُ ولا نُطِيقُهَا، فقال رسُول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «أَتُرِيدُونَ أَنْ تَقُولُوا كَمَا قَالَ أَهْلُ الكِتَابَيْنِ من قَبْلِكُمْ: سَمِعنَا وعَصَيْنَا، بل قولُوا: سَمِعْنَا وأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ» فلما قَرَأَها القومُ وذَلَّت بها أنْفُسُهْم، أَنزَل اللهُ في إِثرها {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} إلى قوله: {غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير} فلما فعلُوا ذلك، نسخَها اللهُ، فأنزلَ اللهُ {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] قال: نعم، {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} قال: نعم {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} قال: نعم {واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين} قال: نعم أخرجهُ مسلمٌ، عن أبي هُرَيرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فصلٌ معنى قوله: {آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} : أنه عَرَفَ بالدَّلائل القاهرة؛ أن هذا القُرْآن وجُملة ما فيه من الشَّرائع والأَحكامِ مُنزَّلٌ من عِندِ الله - تعالى -، وليس من إلقاء الشَّيَاطين ولا السِّحر والكهانة، بل بما ظَهر من المُعجزات على يد جبريل - عليه الصَّلاة والسَّلام -. وقوله: {والمؤمنون} فيه احتمالان: أحدهما: أَنَّهُ يَتِمُّ الكلامُ عند قوله - تعالى - {والمؤمنون} ، فيكُونُ المعنى: آمَن الرَّسُولُ والمُؤْمِنُونَ بما أُنزِل إِلَيهم من ربِّهم، ثم ابتدأ [بعد] ذلك بقوله: {كُلٌّ آمَنَ بالله} والمعنى: كُلُّ أحَدٍ من المذكُورين وهم الرَّسُول والمُؤْمِنُون آمَنَ بالله. والاحتمال الثَّاني: أن يتمَّ الكلامُ عند قوله: {بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ} ثم يَبْتَدِىءُ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 523 {المؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله} ويكون المعنى: أن الرَّسول آمَنَ بكُلِّ ما أُنزلَ إليه من ربِّه، وأمَّا المُؤْمِنُونَ فإِنَّهم آمَنُوا بالله ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ. فالوجه الأول يشعر بأنه - عليه السَّلام - ما كان مؤمناً بِرَبِّه، ثم صار مُؤْمِناً به، ويَحْتمِلُ عدم الإِيمان إلى وقت الاستدلالِ. وعلى الوجه الثاني يُشْعِر اللَّفظُ بأنَّ الَّذِي حدث هو إيمانُهُ بالشَّرائع التي نَزَلَتْ عليه؛ كما قال - تعالى - {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] فأمَّا الإِيمانُ بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ على الإِجمال، فقد كان حاصلاً منذُ خُلِقَ من أَوَّل الأَمْرِ، وكيف يُسْتَبْعَدُ ذلك مع أَنَّ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - حين انفصَلَ عن أُمِّهِ، قال {إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب} [مريم: 30] فإذا لم يَبْعُد أن يكُونَ عيسى رسولاً من عند اللهِ حين كان طِفْلاً، فكيف يُستبعد أن يقال: إن محمَّداً كان عارفاً بربِّه من أَوَّل [مَا] خُلِقَ كامل العقلِ. فصلٌ دلَّت الآية على أنَّ الرَّسُول آمَنَ بما أُنزِل إليه من رَبِّه، والمؤْمِنُون آمَنُوا بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ، وإنما خُصَّ الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - بذلك؛ لأنَّ الذي أُنزِل إليه من رَبِّه قد يكُونُ كلاماً مَتْلُوّاً يسمعهُ الغير ويعرِفُه، فيمكنُه أن يؤمن به، وقد يكون وحياً لا يعلمُه فيكونُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - مُختصّاً بالإيمان به، ولا يتمكَّنُ غيره من الإِيمان به، فلهذا السَّبب كان الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - مختصّاً في باب الإيمان بما لا يمكن حصوله في غيره. قوله تعالى: {والمؤمنون} : يجوزُ فيه وجهان: أحدهما: أنه مرفوعٌ بالفاعلية عطفاً على «الرَّسُول» - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيكونُ الوقفُ هنا، ويدُلُّ على صحَّةِ هذه قراءةُ عليّ بن أبي طالب - كرم الله وجهه -: «وَآمَنَ المُؤْمِنُونَ» ، فأَظْهَرَ الفعلَ، ويكون قوله: «كُلٌّ آمَنَ» جملةً من مبتدأ وخبر يدُلُّ على أنَّ جميع مَنْ تقدَّم ذكره آمَنَ بما ذكر. والثاني: أن يكون «المُؤْمِنُونَ» مبتدأٌ، و «كلٌّ» مبتدأ ثانٍ، و «آمَنَ» خبرٌ عن «كُلّ» وهذا المبتدأ وخبرُه خبرُ الأوَّل؛ وعلى هذا فلا بُدَّ من رابطٍ بين هذه الجملةِ وبين ما أخبر بها عنه، وهو محذوفٌ، تقديرُه: «كُلٌّ مِنْهُمْ» وهو كقولهم: «السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَم» ، تقديرُه: مَنَوَانِ مِنْهُ، قال الزمخشريُّ: «والمؤمنُونَ إن عُطِفَ على الرسول، كان الضّميرُ الذي التنوينُ نائبٌ عنه في» كُلّ «راجعاً إلى» الرَّسُول «- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - و» المُؤْمِنُونَ «أي: كلُّهم آمَنَ بالله ومَلاَئِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ من المذكورين. ووُقِفَ عليه، وإن كان مبتدأً كان الضميرُ للمؤمنين» . الجزء: 4 ¦ الصفحة: 524 فإن قيل: هل يجوزُ أَنْ يكون «المُؤْمِنُونَ» مبتدأ، و «كُلٌّ» تأكيد له، و «آمَنَ» [خبر هذا] المبتدأ؟ فالجوابُ: أنَّ ذلك لا يجوزُ؛ لأنهم نَصُّوا على أَنَّ «كُلاًّ» وأخواتها لا تقعُ تأكيداً للمعارف، إلا مضافةٌ لفظاً لضميرِ الأولِ، ولذلك ردُّوا قولَ مَنْ قال: إِنَّ كُلاًّ في قراءة مَنْ قَرَأَ: {إِنَّا كُلاًّ فِيهَآ} [غافر: 48] تأكيدٌ لاسم «إِنَّ» وقرأ الأَخَوان هنا «وَكِتَابِهِ» بالإِفراد، والباقون بالجمعِ، وفي سورة التحريم [آية12] قرأ أبو عمرو وحفصٌ عن عاصم بالجَمْع، والباقون بالإفراد، فتلخّصَ من ذلك أنَّ الأخوين يَقْرَآن بالإِفراد في الموضعين، [وأنَّ أبا عمرو وحفصاً يقْرآن بالجمعِ في الموضعَيْن] ، وأنَّ نافعاً وابن كثير وابن عامر وأبا بكر عن عاصمٍ قَرَءُوا بالجمع هنا، وبالإِفرادِ في التحريم. فأمَّا الإِفرادُ، فإنه يُراد به الجنسُ، لا كتابٌ واحدٌ بعينه، وعن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «الكتَابُ أكثرُ من الكُتُب» قال الزمخشريُّ: فإنْ قلت: كيف يكون الواحدُ أكثرَ من الجمعِ؟ قلت: لأنه إذا أُريد بالواحدِ الجنسُ، والجنسيةُ قائمةٌ في وحداتِ الجنس كُلِّها، لَمْ يَخْرُج منه شيءٌ، وأمَّا الجمعُ، فلا يَدْخُل تحته إلاَّ ما فيه الجنسية من الجُمُوع. قال أبو حيان: «وليس كما ذكر؛ لأنَّ الجمعَ متى أُضيفَ، أو دَخَلَتْه الألفُ واللامُ [الجنسية] ، صارَ عامّاً، ودلالةُ العامِّ دلالةٌ على كلِّ فردٍ فردٍ، فلو قال:» أَعْتَقْتُ عَبِيدِي «، لشمل ذلك كلَّ عَبْدٍ له، ودلالةُ الجمعِ أظهرُ في العموم من الواحدِ، إلاَّ بقرينةٍ لفظيَّةٍ، كأَنْ يُسْتَثْنَى منه أو يوصفَ بالجمع؛ نحو: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ} [العصر: 2 - 3] «أَهْلَكَ النَّاسَ الدِّينَارُ الصُّفْرُ والدِّرْهَمُ البِيضُ» أو قرينةٍ معنويةٍ؛ نحو: «نِيَّة المُؤْمِنِ أَبْلَغُ مِنْ عَمَلِهِ» وأقصى حالِهِ: أن يكونَ مثل الجمعِ العامِّ، إذا أريد به العموم «. قال شهاب الدِّين: للناس خلافٌ في الجمع المحلَّى بأَلْ أو الضمافِ: هل عمومُه بالنسبةِ إلى مراتبِ الجموعِ، أم إلى أعمَّ من ذلك، وتحقيقُه في علم الأُصُول. وقال الفارسيُّ: هذا الإِفرادُ ليس كإفراد المصادر، وإن أريدَ بها الكثيرُ؛ كقوله تعالى: {وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} [الفرقان: 14] ولكنه كما تُفْرَدُ الأسماءُ التي يُرَاد بها الكثرةُ، نحو: كَثُرَ الدِّينَارُ والدِّرهمُ، ومجيئها بالألف واللام أكثرُ من مجيئها مضافةً، ومن الإِضافةِ: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وفي الحديث:» مَنَعَتِ العِرَاقُ دِرْهَمَهَا وَقَفِيزَهَا «يُراد به الكثيرُ، كما يُراد بما فيه لامُ التعريف. قال أبو حيان:» انتهى الجزء: 4 ¦ الصفحة: 525 ملخصاً، ومعناه أنَّ المفرد المحلَّى بالألفِ واللام يعُمُّ أكثر من المفرد المُضافِ «. قال شهاب الدين: وليس في كلامه ما يدُلُّ على ذلك ألبتةَ، إنما فيه أنَّ مجيئها في الكلامِ معرَّفةً بأَلْ أكثرُ من مجيئها مضافةً، وليس فيه تَعَرُّضٌ لكثرةِ عمومٍ ولا قِلَّتِهِ. وقيل: المرادُ بالكتابِ هنا القرآن؛ فيكونُ المرادُ الإِفراد الحقيقيَّ. وأمَّا الجمعُ، فلإِرادةِ كلِّ كتابٍ؛ إذْ لا فرق بين كتابٍ وكتابٍ، وأيضاً؛ فإنَّ فيه مناسبةً لَما قبلَه وما بعدَه من الجمعِ. ومَنْ قرأ بالتَّوحيد في التحريم، فإنما أراد به الإِنجيل؛ كإرادة القرآن هنا، ويجوزُ أن يُرادَ به أيضاً الجِنْسُ، وقد حَمَلَ على لفظ» كُلّ «في قوله:» آمَنَ «فَأَفْرد الضمير، وعلى معناه، فجمع في قوله:» وَقَالُوا سَمِعْنَا «، قال الزمخشريّ: ووحَّد ضمير» كُلّ «في» آمَنَ «على معنى: كُلُّ واحدٍ منهم آمَنَ، وكان يجوزُ أن يُجْمَعَ؛ كقوله تعالى: {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] . وقرأ يحيى بن يعمر - ورُويت عن نافع -» وكُتْبِهِ وَرُسْلِهِ «بإسكان العين فيهما، ورُوي عن الحسن وأبي عمرو تسكين سين» رُسْلِهِ «. فصلٌ دلَّت هذه الآية الكريمة على أنَّ معرفة هذه المراتب الأربع من ضرورات الإيمان: فالمرتبة الأولى: هي الإيمانُ بالله - سبحانه - بأنَّهُ الصَّانع القادِرُ العالِمُ بجميع المعلومات، الغنيُّ عن كُلِّ الحاجات. والمرتبة الثانية: الإِيمانُ بالملائكة؛ لأَنَّه - سبحانه - إنَّما يُوحِي إلى الأَنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بواسطة الملائكة، قال: {يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] ، وقال: {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ} [الشورى: 51] وقال: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193 - 194] ، وقال: {شَدِيدُ القوى} [النجم: 5] ، وإذا ثبت أنَّ وحي اللهِ إنَّما يصلُ إلى البشر بواسطة الملائكة، فالملائكة واسطةٌ بين اللهِ وبيْن البشرِ؛ فلهذا السَّبب ذكر الملائكة في المرتبة الثانية، ولهذا قال: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط} [آل عمران: 18] . والمرتبة الثالثة: الكُتُب؛ وهو الوَحْي الذي يتلقَّاهُ الملك من اللهِ - تعالى -، ويُوصِلُه إلى البشر، فلمَّا كان الوَحْيُ هو الَّذِي يتلقَّاهُ المَلَكُ من اللهِ؛ فلهذا السَّبَب جُعِلَ في المرتبة الثالثة. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 526 المرتبة الرابعة: الرسُلُ؛ وهم الَّذِين يأخذُون الوَحْيَ من الملائكة، فيكونون متأخِّرين عن الكتب؛ فلهذا جعلُوا في المرتبة الرابعة. قوله: {لاَ نُفَرِّقُ} هذه الجملة منصوبةٌ بقولٍ محذوف، تقديره: «يقولون: لا نُفَرِّقُ» ، ويجوز أن يكون التقدير: «يَقُولُ» يعني يجوز أن يراعى لفظ «كُلّ» تارةً، ومعناها أخرى في ذلك القول المقدَّر، فمن قدَّر «يَقُولُونَ» ، راعى معناها ومن قدَّر «يَقُولُ» ، راعى لفظها، وهذا القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحال، ويجوز أن يكون في محلِّ رفعٍ؛ لأنه خبر بعد خبر، قاله الحوفيُّ. والعامَّة على «لاَ نُفَرِّقُ» بنون الجمع. وقرأ ابن جبير وابن يعمر وأبو زرعة ويعقوب - ورويت عن أبي عمرو أيضاً - «لا يُفَرِّقُ» بياء الغيبة؛ حملاً على لفظ «كُلّ» ، وروى هارون أنَّ في مصحف عبد الله «لا يُفَرِّقُونَ» بالجمع؛ حملاً على معنى «كُلّ» ؛ وعلى هاتين القراءتين، فلا حاجة إلى إضمار قولٍ، بل الجملة المنفية بنفسها: إمَّا في محلِّ نصب على الحال، وإمَّا في محلّ رفعٍ خبراً ثانياً؛ كما تقدَّم في ذلك القول المضمر. قوله: {بَيْنَ أَحِدٍ} متعلِّقٌ بالتفريق، وأضيف «بَيْنَ» إلى أحد، وهو مفرد، وإن كان يقتضي إضافته إلى متعدد؛ نحو: «بَيْنَ الزَّيْدَيْنِ» أو «بَيْنَ زَيْدٍ وَعَمْرٍو» ، ولا يجوز «بَيْنَ زَيْدٍ» ، ويسكت - إمَّا لأنَّ «أَحَداً» في معنى العموم، وهو «أَحَد» الذي لا يستعمل إلا في الجحد، ويراد به العموم؛ فكأَنَّه قيل: لا نفرِّق بين الجميع من الرسل، قال الزمخشريُّ: كقوله: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] ، ولذلك دخل عليه «بَيْنَ» وقال الواحدي: و «بَيْنَ» تقتضي شيئين فصاعداً، وإنما جاز ذلك مع «أَحَدٍ» ، وهو واحدٌ في اللفظ؛ لأنَّّ «أَحَداً» يجوز أن يؤدِّي عن الجميعِ؛ قال الله تعالى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47] وفي الحديث: «مَا أُحِلَّت الغَنَائِمُ لأَحَدٍ سُودِ الرُّءُوسِ غَيْركُمْ» ، يعني: فوصفه بالجمع؛ لأنَّ المراد به جمعٌ، قال: وإنَّما جاز ذلك؛ لأنَّ «أَحَداً» ليس كرجل يجوز أن يثنَّى ويجمع، وقولك: «مَا يَفْعَلُ هَذَا أَحَدٌ» ، تريد ما يفعله الناس كلُّهم، فلما كان «أَحَد» يؤدَّى عن الجميع، جاز أن يستعمل معه لفظ «بَيْنَ» ، وإن كان لا يجوز أن تقول: «لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ رَجُلٍ مِنْهُمْ» . قال شهاب الدين: وقد ردَّ بعضهم هذا التأويل؛ فقال: وقِيلَ إنَّ «أَحَداً» بمعنى «جميع» ، والتقدير: «بَيْنَ جَمِيعِ رُسُلِهِ» ويبعد عندي هذا التقدير، لأنه لا ينافي كونهم مفرِّقين بين بعض الرسل، والمقصود بالنفي هو هذا؛ لأن اليهود والنصارى ما كانوا الجزء: 4 ¦ الصفحة: 527 يفرّقون بين كلِّ الرسل، بل البعض، وهو محمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ فثبت أنَّ التأويل الذي ذكروه باطلٌ، بل معنى الآية: لا نُفَرِّقُ بين أحدٍ من رسله، وبين غيره في النبوَّة. فصل قال شهاب الدين: وهذا وإن كان في نفسه صحيحاً، إلا أنَّ القائلين بكون «أَحَد» بمعنى «جميع» ، وإنما يريدون في العموم المصحِّح لإضافة «بَيْنَ» إليه؛ ولذلك ينظِّرونه بقوله تعالى: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} [الحاقة: 47] ، وبقوله: [الرجز] 1304 - إِذَا أُمُورُ النَّاسِ دِيكَتْ دَوْكَا ... لاَ يَرْهَبُونَ أَحَداً رَأَوْكَا فقال: «رَأَوْكَ» ؛ اعتباراً بمعنى الجميع المفهوم من «أَحَد» . وإمَّا لأن ثمَّ معطوفاً محذوفاً؛ لدلالة المعنى عليه، والتقدير: «لاَ نُفَرِّقُ بين أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ، وبَيْنَ أَحَدٍ» وعلى هذا: فأحد هنا ليس الملازم للجحد، ولا همزته أصليةٌ، بل هو «أَحَد» الذي بمعنى واحد، وهمزته بدلٌ من الواو، وحذف المعطوف كثيرٌ جدّاً، نحو: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبرد، وقوله: [الطويل] 1305 - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أَبُو حُجُرٍ إِلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ أي: بين الخير وبيني. و «مِنْ رُسُلِهِ» في محلِّ جرٍّ؛ لأنه صفةٌ ل «أَحَد» ، و «قَالُوا» عطفٌ على «آمَنَ» ، وقد تقدَّم أنه حمل على معنى «كُلّ» . فصل قال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» أي: سمعنا قوله، وأطعنا أمره، إلاَّ أنه حذف المفعول. قال ابن الخطيب: وحذف المفعول في هذا الباب ظاهراً وتقديراً، أولى؛ لأنَّك إذا جعلت التَّقدير: سمعنا قوله وأطعنا أمره، أفاد أن ههنا قول آخر غير قوله، وأمر آخر يطاع سوى أمره، فأمَّا إذا لم يقدَّر فيه ذلك المفعول، أفاد أنَّه ليس في الوجود قول يجب سمعه إلاَّ قوله، وليس في الوجود أمر يقال في مقابلته أطعنا إلاَّ أمره، فكان حذف المفعول صورةً ومعنًى في هذا الموضع أولى. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 528 فصل لما وصفهم بقوله: «سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا» ، علمنا أنه ليس المراد منه السَّماع الظَّاهر؛ لأن ذلك لا يفيد المدح، بل المراد: عقلناه وعلمنا صحَّته، وتيقَّنا أنَّ كل تكليف ورد على لسان الملائكة والأنبياء - عليهم السلام - إلينا، فهو حقٌّ صحيحٌ واجبٌ قبوله وسمعه، والسَّمع بمعنى القبول والفهم واردٌ في القرآن؛ قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] ، والمعنى: لمن سمع الذِّكرى بفهم حاضرٍ، وعكسه قوله تعالى: {كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً} [لقمان: 7] ، وقولهم بعد ذلك: «وَأَطَعْنَا» فدلَّ على أنَّهم ما أَخلُّوا بشيءٍ من التَّكاليف، فجمع تعالى بهذين اللَّفظين كلَّ ما يتعلَّق بأحوال التَّكاليف علماً وعملاً. قوله: «غُفْرَانَكَ» منصوبٌ: إمَّا على المصدرية، قال الزمخشريُّ: «منصوبٌ بإضمار فعله، يقال:» غُفْرَانَكَ، لاَ كُفْرَانَكَ «أي: نستغفرك ولا نكفرك، فقدَّره جملةً خبريةً، وهذا ليس مذهب سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ -، إنما مذهبه تقدير ذلك بجملةٍ طلبية؛ كأنه قيل:» اغْفِرْ غُفْرَانَكَ «ويستغنى بالمصدر عن الفعل نحو:» سقياً ورعياً «ونقل ابن عطيَّة هذا قولاً عن الزَّجَّاج، والظاهر أنَّ هذا من المصادر اللازم إضمار عاملها؛ لنيابتها عنه، وقد اضطرب فيها كلام ابن عصفور، فعدَّها تارةً مع ما يلزم فيه إضمار الناصب؛ نحو:» سُبْحَانَ اللهِ، [ورَيْحَانَهُ «] ، و» غُفْرَانَكَ لاَ كُفْرَانَكَ «، وتارةً مع ما يجوز إظهار عامله، والطلب في هذا الباب أكثر، وقد تقدَّم في أول الفاتحة نحو من هذا. وقال الفرَّاء: هو مصدرٌ وقع موقع الأمر، فنصب وهو أولى من قول من يقول:» نَسْأَلك غُفْرَانَكَ «لأن هذه الصِّيغة لما كانت موضوعة لهذا المعنى، فقد كانت أدلَّ عليه؛ ونظيره: حمداً وشكراً، أي: أحْمَدُ حَمْداً وأشْكُر شُكْراً. فإن قيل: إن القوم لما قبلوا التَّكاليف، وعملوا بها، فأيُّ حاجةٍ لهم إلى طلب المغفرة؟ فالجواب من وجهين: الأول: أنَّهم وإن بذلوا جهدهم في أداء التَّكاليف، فهم خائفون من صدور تقصيرٍ، فلمَّا جوَّزوا ذلك، طلبوا المغفرة للخوف من التَّقصير. الثاني: قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -» [إِنَّهُ لَيُغَانُ] عَلَى قَلْبِي، حَتّى أَنِّي أَسْتَغْفِرُ اللهَ في اليَوْمِ واللَّيْلَةِ سَبْعِينَ مَرَّة «، وذكروا لهذا الحديث تأويلات؛ من جملتها: أنَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - كان يترَقَّى في الجزء: 4 ¦ الصفحة: 529 جملة العبوديَّة، فكان كلما ترقَّى عن مقام إلى مقام أعلى من الأوَّل، رأى الأوَّل حقيراً، فيستغفر الله منه؛ فكذلك طَلَبُ الغفران في هذه الآية. والمصير: اسم مصدر من صار يصير: أي: رجع، وقد تقدَّم في قوله: {المحيض} [البقرة: 222] أنَّ في المفعل من الفعل المتعلِّ [العين] بالياء ثلاثة مذاهب، وهي: جريانه مجرى الصحيح، فيبنى اسم المصدر منه على مفعل بالفتح، والزمانُ والمكان بالكسر، نحو: ضَرَبَ يَضْرِب مَضْرِباً، أو يُكْسَرُ مطلقاً، أو يُقْتَصَرُ فيه على السَّماع، فلا يتعدَّى، وهو أعدلها، ويطلق المصير على المِعَى، ويجمع على مصران، كرغيفَ ورغفان، ويجمع مصران على مصارين. فصل في قوله - تبارك وتعالى -: {وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} فائدتان: إحداهما: أنَّهم كما أقرُّوا بالمبدإ؛ فكذلك أقرُّوا بالمعاد؛ لأن الإيمان بالمبدإ أصل الإيمان بالمعاد. والثانية: أن العبد متى علم أنَّه لا بدَّ من المصير إليه، والذهاب إلى حيث لا حكم إلاَّ حكم الله - تعالى -، ولا يستطيع أحدٌ [أن] يشفع إلاَّ بإذن الله، كان إخلاصه في الطَّاعات أتمَّ، واحترازه عن السَّيِّئات أكمل. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 530 قوله تعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين} قوله تعالى: " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} : «وُسْعَهَا» مفعولٌ ثانٍ، وقال ابن عطية: «يُكَلِّفُ يتعدَّى إلى مفعولين، أحدهما محذوفٌ، تقديره: عبادةً أو شيئاً» . قال أبو حيان: «إن غَنَى أنَّ أصله كذا، فهو صحيحٌ؛ لأنَّ قوله:» إِلاَّ وُسْعَهَا «استثناءٌ مفرَّغٌ من المفعول الثاني، وإن عَنَى أنَّ أصله كذا، فهو صحيحٌ؛ لأنَّ قوله:» إِلاَّ وُسْعَهَا «استثناءٌ مفرَّغٌ من المفعول الثاني، وإن عَنَى أنَّه محذوفٌ في الصنعة، فليس كذلك، بل الثاني هو» وُسْعَهَا «؛ نحو:» مَا أَعْطَيْتُ زَيْداً إِلاَّ دِرْهَماً «، و» مَا ضَرَبْتُ إِلاَّ زَيْداً «هذا في الصناعة هو المفعول، وإن كان أصله: ما أعْطَيْتُ زَيْداً شَيْئاً إِلاَّ دِرْهَماً» ، والوسع: ما يسع الإنسان، ولا يضيق عليه، ولا يخرج منه. قال الفرَّاء: هو اسم كالوجد والجهد. وقال بعضهم: الوسع هو هدون المجهود في المشقَّة، وهو ما يتَّسع له قدرة الإنسان. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 530 وقرأ ابن أبي عبلة: «إِلا وَسِعَهَا» جعله فعلاً ماضياً، وخرَّجوا هذه القراءة على أنَّ الفعل فيها صلةٌ لموصول محذوفٍ تقديره: «إِلاَّ ما وَسِعَهَا» وهذا الموصول هو المفعول الثاني، كما كان «وُسْعَهَا» كذلك في قراءة العامَّة، وهذا لا يجوز عند البصريِّين، بل عند الكوفيِّين، على أنَّ إضمار مثل هذا الموصول ضعيفٌ جدّاً؛ إذ لا دلالة عليه؛ وهذا بخلاف قول الآخر حيث قال: [الخفيف] 1306 - مَا الَّذِي دَأْبُهُ احْتِيَاطٌ وَحَزْمٌ ... وَهَوَاهُ أَطَاعَ يَسْتَوِيَانِ وقال حسَّان أيضاً -[الوافر] 1307 - أَمَنْ يَهْجُو رَسُولَ اللهِ مِنْكُمْ ... وَيَنْصُرُهُ وَيَمْدَحُهُ سَواءُ وقد تقدَّم تحقيق هذا، وهل لهذه الجملة محلٌّ من الإعراب، أم لا؟ الظاهر الثاني؛ لأنها سيقت للإخبار بذلك، وقيل: بل محلُّها نصبٌ؛ عطفاً على «سَمِعْنَا» و «أَطَعْنَا» ، أي: وقالوا أيضاً: لا يكلِّف الله نفساً، وقد خرِّجت هذه القراءة على وجه آخر؛ وهو أن تجعل المفعول الثاني محذوفاً لفهم المعنى، وتجعل هذه الجملة الفعليَّة في محلِّ نصبٍ لهذا المفعول، والتقدير: لا يكلِّف الله نفساً شيئاً إلا وسعها. قال ابن عطية: وفي قراءة ابن أبي عبلة تجوُّزٌ؛ لأنه مقلوبٌ، وكان يجوز وجه اللفظ: إلا وسعته؛ كما قال: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} [البقرة: 255] {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} [طه: 98] ، ولكن يجيء هذا من باب «أَدْخَلْتُ القَلَنْسُوَةَ في رَأْسِي» . فصل في كيفيَّة النَّظم إن قلنا إِنَّه من كلام المؤمنين، فإنَّهم لمَّا قالوا: «سَمِعْنَا وأَطَعْنَا» فكأنَّهم قالوا: كيف نسمع ولا نطيع، وهو لا يكلِّفنا إلاَّ ما في وسعنا وطاقتنا بحكم الرَّحمة الإلهيَّة. وإن قلنا: إنه من كلام الله - تبارك وتعالى -، فإنَّهم لمَّا قالوا: «سَمِعْنَا وَأَطْعْنَا» ثم قالوا بعده: «غُفْرَانَكَ رَبَّنَا» ، طلبوا المغفرة فيما يصدر عنهم من وجوه التَّقصير على سبيل الغفلة [والسَّهو؛ لأنَّهم لمَّا سمعوا وأطاعوا، لم يتعمّدوا التَّقصير، فطلبوا المغفرة لما يقع منهم على سبيل الغفلة] ، فلا جرم خفَّف الله عنهم، وقال: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} والتَّكليف: هو إلزام ما فيه كلفة ومشقَّة، يقال: كلَّفته فتكلَّف. فصل في بيان مسألة تكليف ما لا يطاق استدلَّ المعتزلة بهذه الآية الكريمة ونظائرها؛ كقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 531 حَرَجٍ} [الحج: 78] ، {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] ، {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] على أنه لا يجوز تكليف ما لا يطاق، وإذا ثبت هذا فههنا أصلان: الأول: أن العبد موجدٌ لأفعال نفسه؛ لأنه لو كان موجدها هو الله تعالى، لكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق، فإن الله تعالى إذا خلق الفعل وقع لا محالة، ولا قدرة للعبد ألبتَّة على فعله ولا تركه؛ أمَّا أنَّه لا قدرة له على الفعل؛ فلأنَّ ذلك الفعل وجد بقدرة الله تعالى، والموجود لا يوجد ثانياً، وأمَّا أنَّه لا قدرة للعبد على الدَّفع، فلأنَّ قدرته أضعف من قدرة الله تعالى، فكيف تقوى قدرته على دفع قدرة الله تعالى، وإذا لم يخلق الله الفعل، استحال أن يكون للعبد قدرة على تحصيل الفعل؛ فثبت أنَّه لو كان موجد فعل العبد هو الله، فكان تكليف العبد بالفعل تكليفاً بما لا يطاق. الثاني: أن الاستطاعة قبل الفعل، وإلاَّ لكان الكافر المأمور بالإيمان لم يكن قادراً على الإيمان، فكان ذلك تكليفاً بما لا يطاق. وأجيبوا: بأنَّ الدَّلائل العقليَّة دلَّت على وقوع هذا التَّكليف، فوجب المصير إلى تأويل هذه الآية، وذلك من وجوهٍ: أحدها: أنَّ من مات على الكفر، تبيَّنَّا بموته على الكفر أنَّ الله تعالى كان في الأزل عالماً بأنَّه يموت على الكفر، ولا يؤمن أصلاً، فكان العلم بعدم الإيمان موجوداً، والعلم بعدم الإيمان ينافي وجود الإيمان، فكان تكليفه بالإيمان مع حصول العلم بعدم الإيمان تكليفاً بالجمع بين النَّقيضين، وهذه الحجَّة كما جرت في العلم، فتجري أيضاً في الجر. وثانيها أيضاً: أن صدور الفعل عند العبد يتوقَّف على الدَّاعي، وتلك الدَّاعية مخلوقةٌ لله تعالى، ومتى كان الأمر كذلك، لزم تكليف ما لا يطاق؛ لأنَّ قدرة العبد لمَّا كانت صالحةً للفعل والترك، فلو ترجَّح أحد الجانبين على الآخر من غير مرجِّح، لزم وقوع الممكن من غير مرجِّح، وذلك نفيٌ للصَّانع. وإنما قلنا: إن تلك الدَّاعية من الله تعالى؛ لأنَّها لو كانت من العبد، لافتقر إيجادها إلى داعيةٍ أخرى ولزم التَّسلسل، وإنما قلنا: إنه متى كان الأمر كذلك، لزم الجبر، لأنَّ عند حصول الدَّاعية المرجِّحة لأحد الطَّرفين، صار الطَّرف الآخر مرجوحاً، والمرجوح ممتنع الوقوع، وإذا كان المرجوح ممتنعاً، كان الرَّاجح واجباً ضرورة أنَّه لا خروج عن النَّقيضين؛ فإذن صدور الإيمان من الكافر يكون ممتنعاً وهو مكلّف به، فلزم تكليف ما لا يطاق. وثالثها: أنه تعالى كلَّف «أبَا لَهَب» بالإيمان، والإيمان تصديق الله في كلِّ ما أخبر عنه، ومن جملة ما أخبر عنه أنه لا يؤمن، فقد صار «أبُو لَهَب» مكلَّفاً بأن يؤمن بأنَّه لا يؤمن، وذلك تكليف ما لا يطاق. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 532 ورابعها: أن العبد غير عالم بتفاصيل فعله؛ لأن من حرَّك أصبعه، لم يعرف عدد الأحيان التي حرَّك أصبعه فيها، ولم يخطر بباله أنه حرَّك أصبعه في بعض الأوقات، وسكن في بعضها وأنَّه أين تحرَّك وأين سكن، وإذا لم يكن عالماً بتفاصيل فعله، لم يكن موجداً لها، وإذا لم يكن موجداً، لزم تكليف ما لا يطاق. فصل في تأويل هذه الآية اختلفوا في تأويل هذه الآية: فقال ابن عباس وعطاء وأكثر المفسِّرين: أراد به حديث النَّفس المذكور في قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ} [البقرة: 284] . وروي عن ابن عباس؛ أنه قال: هم المؤمنون خاصَّة، وسَّع الله عليهم أمر دينهم، ولم يكلِّفهم فيه إلاَّ ما يطيقونه؛ كقوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] ، وقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] . قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} هذه الجملة لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، وهي كالتفسير لما قبلها؛ لأنَّ عدم مؤاخذتها بكسب غيرها، واحتمالها ما حصَّلته هي فقط من جملة عدم تكليفها بما [لا] تسعه، وهل يظهر بين اختلاف لفظي فعل الكسب معنًى، أم لا؟ فقال بعضهم: نعم، وفرَّق بأنَّ الكسب أعمُّ، إذ يقال: «كَسَبَ» لنفسه ولغيره، و «اكْتَسَبَ» أخصُّ؛ إذ لا يقال: «اكْتَسَبَ لِغَيْرِهِ» ؛ وأنشد قول الحطيئة: [البسيط] 1308 - أَلْقَيْتُ كَاسِبَهُمْ في قَعْرِ مُظْلِمَةٍ ..... ... ... ... ... ... ... ... . . ويقال: هو كاسب أهله، ولا يقال: مكتسب أهله. وقال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: لم خصَّ الخير بالكسب، والشرَّ بالاكتساب؟ قلت: في الاكتساب اعتمالٌ، ولمَّا كان الشرُّ ممَّا تشتهيه النفس، وهي منجذبةٌ إليه وأمَّارةٌ به، كانت في تحصيله أعمل وآجد، فجعلت لذلك مكتسبةً فيه، ولمَّا لم تكن كذلك في باب الخير، وصفت بما لا دلالة فيه على الاعتمال» . وقال ابن عطيَّة: وكَرَّر فعلَ الكسب، فخَالَفَ بين التصريف حُسناً لنمط الكلام؛ كقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ} [الطارق: 17] ، قال شهاب الدين: «والذي يظهر لي في هذا: أن الحسنات هي مما يكسب دون تكلُّفٍ؛ إذ كاسبها على جادَّة أمر الله تعالى، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 533 ورسم شرعه، والسيئات تكتسب ببناء المبالغة؛ إذ كاسبها يتكلَّف في أمرها خرق حجاب نهي الله تعالى، ويتجاوز إليها؛ فحسن في الآية مجيء التصريفين؛ إحرزاً لهذا المعنى» . وقال آخرون: «افْتَعَل» يدلُّ على شدَّة الكلفة، وفعل السَّيِّئة شديدٌ لما يئول إليه. وقال الواحديُّ: «الصَّحيح عند أهل اللغة: أنَّ الكسب والاكتساب واحدٌن لا فرق بينهما. وقد جاء القرآن بالكسب والاكتساب في موردٍ واحدٍ؛ قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} [المدثر: 38] . وقال تعالى: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] وقال تعالى: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة: 81] ، وقال تعالى: {بِغَيْرِ مَا اكتسبوا} [الأحزاب: 58] فقد استعمل الكسب والاكتساب في الشرِّ» . قال ذو الرُّمَّة: [البسيط] 1309 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... أَلْفَى أَبَاهُ بِذَاكَ الكَسْبِ يَكْتَسِبُ وإنما أَتَى في الكسب باللام، وفي الاكتساب ب «عَلَى» ؛ لأنَّ اللام تقتضي الملك، والخير يحبُّ ويسر به، فجيء معه بما يقتضي الملك، ولمَّا كان الشرُّ يحذر، وهو ثقلٌ ووزرٌ على صاحبه جيء معه ب «عَلَى» المقتضية لاستعلائه عليه. وقال بعضهم: «فيه إيذانٌ أنَّ أدنى فعلٍ من أفعال الخير يكون للإنسان تكرُّماً من الله على عبده؛ حتَّى يصل إليه ما يفعله معه ابنه من غير علمه به؛ لأنه من كسبه في الجملة، بخلاف العقوبة؛ فإنه لا يؤاخذ بها إلا من جدَّ فيها واجتهد» ، وهذا مبنيٌّ على القول بالفرق بين البنائين، وهو الأظهر. فصل في دفع شبهة للمعتزلة احتجت المعتزلة بهذه الآية على أنَّ فعل العبد بإيجاده؛ قالوا: لأنَّ الآية صريحةٌ في إضافة خيره وشرِّه إليه، ولو كان ذلك بتخليق الله تعالى، لبطلت هذه الإضافة، ويجري صدور أفعاله مجرى لونه، وطولهن وشكله، وسائر الأمور التي لا قدرة له عليها ألبتَّة. قال القاضي: لو كان تعالى خالقاً أفعالهم، فما فائدة التَّكليف، والكلام فيه معلوم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 534 فصل احتجوا بهذه الآية على فساد القول بالمحابطة؛ لأنَّه - تعالى - أثبت كلا الأمرين على سبيل الجمع، فبيَّن أن لها ثواب ما كسبت، وعليها عقاب ما اكتسبت، وهذا صريحٌ في اجتماع هذين الاستحقاقين، وأنه لا يلزم من طريان أحدهما زوال الآخر. قال الجبَّائي: ظاهر الآية وإن دلَّ على الإطلاق، إلاَّ أنَّه مشروطٌ، والتَّقدير: لَهَا مَا كَسَبَتْ مِنْ ثَوَابِ العَمَلِ الصَّالِح إذا لم يبطله، وعليها ما اكتَسَبَتْ مِن العَقَاب إذا لَمْ يُكَفِّرْه بالتَّوبة، وإنَّمَا صِرْنَا إلى إضْمَارِ هذا الشَّرط، لمَّا ثبت أن الثَّواب يجب أن يكون منفعةً خالصةً دائمةً، والجمع بينهما محالٌ في العقول، فكان الجمع بين استحقاقيهما أيضا محالٌ. فصل تمسَّك الفقهاء بهذه الآية في أنَّ الأصل في الأملاك البقاء والاستمرار؛ لأن اللام في قوله: {مَا كَسَبَتْ} تدلُّ على ثبوت الاختصاص، ويؤكِّد ذلك قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «كُلُّ امْرِىءٍ أَحَقُّ بِكَسْبِهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وسَائِر النَّاسِ أَجْمَعِينَ» ، وينبني على هذا الأصل فروع كثيرة: منها: أن المضمونات لا تملك إلاَّ بأداء الضَّمان؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائمٌ. ومنها: إذا غصب ساجةً فأدرجها في بنائه، أو حنطةً فطحنها، لا يزول الملك. ومنها: أن القطع في السَّرقة لا يمنع وجوب الضَّمان؛ لأن المقتضي لبقاء الملك قائمٌ، وهو قوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ} ويجب ردُّ المسروق إن كان باقياً. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 535 قوله: {لاَ تُؤَاخِذْنَا} يقرأ بالهمزة، وهو من الأخذ بالذَّنب، ويقرأ بالواو، ويحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من الأخذ أيضاً، وإنما أُبدلت الهمزة واواً؛ لفتحها وانضمام ما قبلها، وهو تخفيفٌ قياسيٌّ، ويحتمل أن يكون من: واخذه بالواو، قاله أبو البقاء. وجاء هنا بلفظ المفاعلة، وهو فعل واحدٍ؛ لأنَّ المسيء قد أمكن من نفسه، وطرق السبيل إليها بفعله؛ فكأنه أعان من يعاقبه بذنبه، ويأخذ به على نفسه. قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجهٌ آخر، وهو أنَّ الله تعالى يأخذ المذنب بالعقوبة، فالمذنب كأنَّه يأخذ ربَّه بالمطالبة بالعفو والكرم، فإنَّه لا يجد من يخلِّصه من عذابه إلاَّ هو، فلهذا يتمسَّك العبد عند الخوف منه به، فلمَّا كان كلُّ واحدٍ منهما يأخذ الآخر، عبَّر عنه بلفظ المؤاخذة، ويجوز أن يكون من باب سافرت وعاقبت وطارقت. قوله: {إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا} . في النِّسيان وجهان: الأول: أنَّ المراد النِّسيان الذي هو ضدُّ الذِّكر. فإن قيل: أليس فعل النَّاسي في محلِّ العفو بحكم دليلِ العقل؛ حيث لا يجوز تكليف ما لا يطاق، وبدليل السَّمع؛ وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَطَأُ والنِّسْيَانُ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ» وإن كان كذلك، فما معنى طلب العفو عنه؟ فالجواب من وجوهٍ: الأول: أن النِّسيان منه ما يعذر فيه صاحبه، ومنه ما لا يعذر؛ ألا ترى أنَّ من رأى في ثوبه نجاسة، فأخَّر إزالتها عنه إلى أن نسي فصلَّى وهي على ثوبه، عدَّ مقصِّراً؛ إذ كان يلزمه المبادرة إلى إزالتها، وأمَّا إذا لم ير في ثوبه نجاسة، فإنه يعذر فيه، ومن رمى صيداً فأصاب إنساناً، فقد يكون بحيث لا يعلم الرَّامي أنه يصيب ذلك الصَّيد أو غيره، فإذا رمى ولم يحترز، كان ملوماً، وأمَّا إذا لم تكن أمارات الغلط ظاهرةٌ، ثم رمى فأصاب إنساناً؛ كان ههنا معذوراً، وكذلك الإنسان إذا تغافل عن الدَّرس والتِّكرار، حتى نسي القرآن يكون ملوماً، وأمَّا إذا واظب على القراءة ونسي القرآن، فههنا يكون معذوراً؛ فثبت أن النِّسيان على قسمين: منه ما يعذر فيه، ومنه ما لا يعذر فيه، وهو ما إذا ترك التَّحفُّظ، الجزء: 4 ¦ الصفحة: 536 وأعرض عن أسباب التذكُّر، فهذا يصحُّ طلب غفرانه بالدُّعاء. الثاني: أن هذا دعاء على سبيل التَّقدير؛ لأنَّ هؤلاء الَّذِين ذكروا هذا الدُّعاء كانوا متَّقين لله حقَّ تقاته، فلم يكن يصدر عنهم ما لا ينبغي إلاَّ على وجه النِّسيان والخطأ، فكان وصفهم بذلك إشعاراً ببراءة ساحتهم عمَّا يؤاخذون به؛ كأنه قيل: إذا كان النِّسيان ممَّا تجوز المؤاخذة به، فلا تؤاخذنا به. الثالث: أنَّ المقصود من هذا الدُّعاء إظهار التَّضرُّع إلى الله تعالى لا طلب الفعل؛ لأن الدَّاعي كثيراً ما يدعو بما يقطع بأنَّ الله تعالى يفعله، سواءٌ دعا أو لم يدع؛ قال: {رَبِّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112] ، وقال: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194] ، وقالت الملائكة: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم} [غافر: 7] فكذا ههنا. الرابع: أن مؤاخذة النَّاسي ممتنعةٌ عقلاً، لأنَّ الإنسان إذا علم أنه بعد النِّسيان يكون مؤاخذاً، فإنه بخوف المؤاخذة يستديم الذكر، فحينئذٍ لا يصدر عنه، إلاَّ أنَّ استدامة ذلك الذِّكر يشقُّ على النَّفس، فلمَّا جاز ذلك في العقول، حسن طلب المغفرة منه. الخامس: أن الَّذين جوَّزوا تكليف ما لا يُطاق بهذه الآية، فقالوا: النَّاسي غير قادرٍ على الاحتراز عن الفعل، فلولا أنَّه جائزٌ عقلاً أن يعاقبه الله عليه، لما طلب بالدُّعاء ترك المؤاخذة به. القول الثاني: أن المراد بالنِّسيان: التَّرك؛ قال الله تعالى: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] ، أي: تركوا العمل لله فترك أن يثيبهم، ويقول الرَّجل لصاحبه «لاَ تَنْسِني من عَطِيَّتِكَ» ، أي: لا تتركني، فالمراد بهذا النِّسيان أن يترك الفعل لتأويل فاسدٍ، والمراد بالخطأ: أن يفعل الفعل لتأويل فاسدٍ. قوله: {رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً} . الإصر: في الأصل: الثِّقل والشِّدَّة؛ قال النابغة: [البسيط] 1310 - يَا مَانِعَ الضَّيْمِ أَنْ يَغْشَى سَرَاتَهُمُ ... وَالحَامِلَ الإِصْرِ عَنْهُمْ بَعْدَمَا غَرِقُوا وأُطلق على العهد والميثاق لثقلهما؛ كقوله تعالى: {وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي} [آل عمران: 81] أي: عهدي، {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157] أي: التكاليف الشاقة ثم يطلق على كلِّ ما يثقل، حتى يروى عن بعضهم أنه فسَّر الإصر هنا بشماتة الأعداء؛ وأنشد: [الكامل] الجزء: 4 ¦ الصفحة: 537 1311 - أَشْمَتَّ بِيَ الأَعْدَاءَ حِينَ هَجَرْتَنِي ... وَالمَوْتُ دُونَ شَمَاتَةِ الأَعْدَاءِ ويقال: الإصر أيضاً: العطف والقرابة، يقال: « [مَا] يَأْصِرُني عليه آصِرَةٌ» أي: ما يعطفني عليه قرابةٌ ولا رحمٌ؛ وأنشد للحطيئة: [مجزوء الكامل] 1312 - عَطَفُوا عَلَيَّ بِغَيْرِ آ ... صِرَةٍ فَقَدْ عَظُمَ الأَوَاصِرْ ويقال: ما يأصرني عليه آصرةٌ أي: رحمٌ وقرابة، وإنما سمِّي العطف إصراً؛ لأن من عطفت عليه، ثقل على قلبك كلُّ ما يصل إليه من المكاره. وقيل: الإصر: الأمر الذي تربط به الأشياء؛ ومنه «الإصَارُ» للحبل الشديد الذي تشدُّ به الأحمال، يقال: أصَرَ يَأْصِرُ أَصْراً بفتح الهمزة، فأما بكسرها، فهو اسمٌ، ويقال بضمِّها أيضاً، وقد قرىء به شاذًّا. وقرأ أُبيّ: «رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْ عَلَيْنَا» بتشديد الميم. قال الزَّمخشريُّ: «فإن قلت: أيُّ فرقٍ بين هذه التَّشديدة والتي في» وَلاَ تُحَمِّلْنَا «؟ قلت: هذه للمبالغة في حمله عليه، وتلك لنقل حمله من مفعولٍ واحدٍ إلى مفعولين» انتهى. يعني: أن التَّضعيف في الأوَّل للمبالغة، ولذلك لم يتعدَّ إلاَّ لمفعولٍ واحدٍ، وفي الثانية للتَّعدية، ولذلك تعدَّى إلى اثنين: أوَّلهما: «نَا» ، والثاني: ما لا طاقة لنا به. فصل قال مجاهدٌ وعطاء وقتادةٌ والسُّدِّيُّ والكلبيُّ وجماعة: المراد عهداً ثقيلاً ومشاقَّ لا نستطيع القيام به، فتعذِّبنا بنقضه وتركه {كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا} ، يعني: اليهود. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 538 وقال عثمان بن عفَّان، ومالك بن أنس، وأبو عبيدة، وجماعة: معناه: لا تُشتدِّد علينا في التَّكاليف ما لا نستطيع المقام معه، فتعذِّبنا بنقضه وتركه؛ كما شدَّدت على الذين من قبلنا، يعني: اليهود، فلم يقوموا به فيعذِّبهم. قال المفسِّرون: إن الله تعالى فرض عليهم خمسين صلاةً، وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزَّكاة، ومن أصاب ثوبه نجاسةً أمر بقطعها، ومن أصاب ذنباً، أصبح وذنبه مكتوب على بابه، وكانوا إذا نسوا شيئاً عجِّلت لهم العقوبة في الدُّنيا، وكانوا إذا أتوا بخطيئةٍ، حرم عليهم من الطَّعام بعض ما كان حلالاً لهم؛ قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ} [النساء: 160] ، ونحو ذلك؛ كتحريمه على قوم طالوت الشُّرب من النَّهر، وتعجيل تعذيبهم في الدُّنيا بكونهم مسخوا قردةً وخنازير. قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ومن نظر في السِّفر الخامس من التَّوراة التي تدَّعيها هؤلاء اليهود، وقف على ما أخذ عليه من غلظ العهود والمواثيق، ورأى الأعاجيب الكثيرة، فالمؤمنون سألوا ربَّهم أن يصونهم عن أمثال هذه التَّغليظات، وهو بفضله ورحمته قد أزال عنهم ذلك. قال تعالى في صفة هذه الأمة: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157] . وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: «دُفِعَ عَنْ أُمَّتِي الخَسْفُ والمَسْخُ والغَرَقُ» . وقال تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] . وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّة السَّمْحَة» والمؤمنون إنَّما طلبوا هذا التَّخفيف؛ لأن التِّشديد مظنَّة التَّقصير، والتَّقصير موجبٌ للعقوبة، ولا طاقة لهم بعذاب الله، فلا جرم طلبوا تخفيف التَّكاليف. وقيل: الإصر ذنبٌ لا توبة له، معناه: اعصمنا من مثله، قالوا: والأصل فيه العقد والإحكام. قوله: {رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} . الطَّاقة: القدرة على الشيء، وهي في الأصل، مصدرٌ، جاءت على حذف الزوائد، وكان من حقِّها «إطَاقَة» ؛ لأنها من أطاق، ولكن شذَّت كما شذَّت أُلَيْفَاظٌ؛ نحو: أَغَارَ الجزء: 4 ¦ الصفحة: 539 غَارةً، وأجَاب جَابةً، وقالوا: «سَاءَ سَمعاً؛ فَسَاءَ جَابَةً» ؛ ولا ينقاس؛ فلا يقال: طَال طَالَةً، ونظير أجاب جَابَةً: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] وأعطى عطاء في قوله: [الوافر] 1313 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرَّتَاعَا فصل في المراد بالآية معناه: لا تكلِّفنا من العمل ما لا نطيق. وقيل: هو حديث النَّفس والوسوسة المتقدِّم في الآية الأولى، وحكي عن مكحول: أنَّه الغلمة. وعن إبراهيم: هو الحبُّ، وعن محمَّد بن عبد الوهَّاب: هو العشق. وقال ابن جريج: هو مسخ القردة والخنازير، وقيل: هو شماتة الأعداء. وقيل: هو الفرقة والقطيعة. فإن قيل: لم خصَّ الآية الأولى بالحمل، فقال «لا تَحْمِلْ عَلَيْنا» وهذه الآية بالتَّحميل؟ فالجواب: أن الشَّاقَّ يمكن حمله، أمَّا ما لا يكون مقدوراً، فلا يمكن حمله، فالحاصل فيما لا يطاق هو التَّحميل فقط، فإن التَّحمُّل غير ممكنٍ. وأمَّا الشاقُّ: فالحمل، والتَّحميل فيه ممكنان، فلهذا السَّبب خصَّ الآية الأخيرة بالتَّحميل. فإن قيل: ما الفائدة في حكاية هذه الأدعية بلفظ الجمع في قوله: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ، ولفظ الإفراد أكثر تذلُّلاً وخضوعاً من التَّلفُّظ بنون الجمع. فالجواب: أن قبول الدُّعاء عند الاجتماع أكثر، وذلك لأن للهمم تأثيراتٍ، فإذا اجتمعت الأرواح والدَّواعي على شيء واحدٍ، كان حصوله أكمل. فصل استدلُّوا بهذه الآية الكريمة على جواز التَّكليف بما لا يطاق، قالوا: إذ لو لم يكن الجزء: 4 ¦ الصفحة: 540 جائزاً، لما حسن طلب دَفْعِهِ بالدُّعاء من الله تعالى، وأجاب المعتزلة بوجوهٍ: الأول: المراد بالآية ما يشقُّ فعله مشقَّةً عظيمةً؛ كما يقول الرجل: لا أستطيع أن أنظر إلى فلانٍ؛ إذا كان مستثقلاً له؛ قال الشاعر: [الرجز] 1314 - إِنَّكَ إِنْ كَلَّفْتَنِي مَا لَمْ أُطِقْ ... سَاءَكَ مَا سَرَّكَ مِنِّي مِنْ خُلُقْ وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في المملوك: «لَهُ طَعَامُهُ وَكِسْوَتُهُ، ولاَ يُكَلَّفُ مِنَ العَمَلِ مَا لاَ يُطِيقُ» أي: ما يشقُّ عليه، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في المريض «يصلِّي وهو جالسٌ، فإن لم يَسْتَطِعْ، فَعَلَى جَنْبٍ» ، فقوله: «فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ» ليس المراد به: عدم القوَّة على الجلوس، بل كلُّ الفقهاء يقولون: المراد منه: إذا كان يلحقه في الجلوس مشقَّةٌ شديدةٌ؛ وقال تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} [هود: 20] ، أي: كان يشقُّ عليهم ذلك. الثاني: أنه تعالى لم يقل: «لاَ تُكَلِّفْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ» بل قال: {لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} والتَّحميل: هو أن يضع عليه ما لا طاقة له بتحمُّله، فيكون المراد منه العذاب، والمعنى: لا تحملنا عذابك الذي لا نطيق احتماله، فلو حملنا الآية على ذلك، كان قوله: «لاَ تُحَمِّلْنَا» حقيقةً فيه، ولو حملناه على التكليف، كان قوله: «لاَ تُحَمِّلْنَا» مجازاً فيه، فكان الأوَّل أولى. الثالث: هب أنَّهم سألوا الله تعالى ألاَّ يكلِّفهم ما لا قدرة لهم عليه، لكن ذلك لا يدلُّ على جواز أن يفعل خلافه؛ لأنَّه لو دلَّ على ذلك، لدلَّ قوله: {رَبِّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112] على جواز أن يحكم بالباطل، وكذلك قول إبراهيم - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] على جواز خزي الأنبياء. وقوله تعالى: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] ، وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وذلك لا يدلُّ على جواز أن يطيع الكافرين والمنافقين، ولا على جواز الشِّرك. وأجاب مخالفوهم: بأن الوجه الأول مدفوعٌ من وجهين: الأول: أنه لو كان المراد من ألا يشدِّد عليهم التَّكاليف، لكان معناه ومعنى الآية الأولى واحداً، فتكون تكراراً محضاً، وهو غير جائزٍ. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 541 والثاني: أنَّا بيَّنا أنَّ الطَّاقة هي الإطاقة والقدرة، فقوله: {وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ظاهره لا تحمِّلنا ما لا طاقة لنا عليه، أقصى ما في الباب أنَّه جاء هذا اللَّفظ بمعنى الاستقبال في بعض الوجوه على سبيل المجاز، إلاَّ أنَّ الأصل حمل اللَّفظ على الحقيقة. وأمَّا الوجه الثاني: فإن التَّحميل مخصوصٌ في عرف القرآن بالتَّكليف، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات} [الأحزاب: 72] إلى قوله: {وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 72] ، ثم هب أنَّه لم يوجد هذا العرف، إِلاَّ أنَّ قوله: {لاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} عامٌّ في العذاب والتَّكليف، فوجب إجراؤه على ظاهره، فأَمَّا تخصيصُهُ بغير حُجَّةٍ، فلا يجوز. وأَمَّا الوجه الثالث: فإن فعل الشيء إذا كان ممتنعاً، لم يجز طلب امتناعه بالدُّعاء؛ لأنه يجري مجرى قوله في دعائه ربَّنا لا تجمع بين الضِّدَّين. وإذا كان هذا هو الأصل، فإذا صار ذلك متروكاً في بعض الصُّور لدليلٍ مفصَّلٍ، لم يجب تركهُ في سائر الصُّور بغير دليلٍ. قوله: {واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ} قال ابن الخطيب: لما كانت الأدعية الثَّلاثةُ المُتقدِّمةُ، المطلوب بها الترك، قُرِنت بلفظ «رَبَّنَا» ، وأَمَّا هذا الدُّعاء فحذف فيه لفظ «رَبَّنَا» وظاهره يدلُّ على طلب الفعل. فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر هنا لفظ «رَبَّنَا» . فالجواب: أن النِّداء إنما يحتاجُ إليه عند البعد أمَّا عند القرب فلا؛ وإنَّما حذف النِّداء إشعاراً بأنَّ العبد إذا واظب على التَّضرُّع نال القرب من اللهِ - تعالى -. فإن قيل: ما الفرقُ بين العفو والمغفرة والرّحمة. الجواب أن العفو أن يسقط عنه العقاب، والمغفرة أن يستر عليه جرمه صوناً له من عذاب التَّخجيل والفضيحة؛ كأن العبد يقول: أطلُبُ منك العفو، وإذا عفوت عنِّي فاسترهُ عليَّ فإِنَّ الخلاص من عذاب النَّار إنَّما يطيبُ، إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة، فلما تخلَّص من هذين العذابين، أقبل على طلب الثَّواب، فقال: {وارحمنآ} فإنَّنا لا نقدر على فعل الطَّاعة وترك المعصية إِلاَّ برحمتك. قوله تعالى: {أَنتَ مَوْلاَنَا} المَولى مفعلٌ من وَلِي يلي، وهو هنا مصدر يُرادُ به الفاعلُ، فيجوز أن يكون على حذف مضافٍ، أي: صاحبُ تَولِّينا، أي: نُصرتنا، ولذلك قال: {فانصرنا} ، والمَوْلأى يجوزُ أن يكونَ اسم مكانٍ أيضاً، واسم زمانٍ. في قوله: {أَنتَ مَوْلاَنَا} فائدةٌ؛ وهي أَنَّها تدلُّ على نهاية التَّذلُّل، والخُضوع، فلا جرم الجزء: 4 ¦ الصفحة: 542 ذكرها عند الدُّعاء متكلين على فضله وإحسانه بمنزلة الطِّفل، لا تتمُّ مصلحته إِلاَّ بتدبير قيمه، والعبد الَّذِي ينتظم شمل مهمَّاته إلا بإصلاح مولاهُ، وهو المولى في الحقيقة لِلكُلِّ على ما قال {نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير} [الأنفال: 40] ونظير هذه الآية الكريمة {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ} [البقرة: 257] أي: ناصرهم، وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ} [التحريم: 4] أي: ناصره، وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} [محمد: 11] . قوله تعالى: {فانصرنا} أتى بالفاء هنا؛ إعلاماً بالسببية؛ لأنَّ اللهَ تعالى لمَّا كان مولاهم ومالك أمورهم، وهو مُدَبِّرِهم تسبَّبَ عنه أن دعَوْهُ أن ينصرهم على أعدائهم؛ كقولك: «أَنْتَ الجَوَادُ فَتَكرَّمْ» ، و «أَنت المُعطي فرجاً فضلاً منك» . قوله: {عَلَى القوم الكافرين} أي: انصرنا في محاربتنا معهم، وفي مناظرتنا بالحجَّة معهم، وفي إعلاء دولة الإسلام على دولتهم على ما قال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] . فصلٌ روى الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ عن مقاتل بن سليمان؛ أنه لما أُسري بالنَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أُعطي خواتيم سورة البقرة، فقالت الملائكةُ: إنَّ الله - تعالى - قد أكرمك بحسن الثَّناء عليك بقوله - تعالى -: «آمَن الرَّسُول» فسلهُ وارغب إليه، فعلَّمهُ - جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كيف يدعو، فقال محمَّد - عليه الصَّلاة والسَّلام - «غُفْرَانَكَ رَبَّنَا» وقال الله: قد غفرتُ لكم، فقال: «لاَ تُؤَاخِذْنَا» فقال الله: لاَ أؤاخذكم، فقال: «ولاَ تَحْمل عَلَينا إصراً» فقال: لا أُشدّد عليكم، فقال محمَّد: «لاَ تُحمِّلنا ما لاَ طاقةَ لنَا به» فقال: لا أُحملكم ذلك، فقال محمد: «واعْفُ عنا واغْفِرْ لَنا وارْحَمْنَا» فقال الله: قد عَفَوتُ عنكم، وغَفَرتُ لكم، ورحمتكم، وأنصركم على القوم الكافرين. وروى سعيد بن جبير، عن ابن عبَّاس، وسمعناه في بعض الرِّوايات؛ أن محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان يذكر هذه الدَّعوات والملائكة كانوا يقولون: آمين. وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلةٍ كفتاه» وعن النُّعمان بن بشير؛ أن رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الجزء: 4 ¦ الصفحة: 543 قال: «إنَّ اللهَ تعالى كتب كتاباً قبل أن يخلق السَّمواتِ والأَرض بأَلفي عام، فأَنزل آيتين خَتَم بهما سورة البقرة، فلا تُقْرآن في دار ثلاث ليالٍ فيقربها شيطانٌ» والله - سبحانه وتعالى - أعلم. الجزء: 4 ¦ الصفحة: 544 بسم الله الرحمن الرحيم سورة آل عمران حكى النقاش: أن هذه السورة اسمها في التوراة " طيبة " مدنية بالإتفاق، وهي مائتا آية، وثلاثة آلاف وأربعمائة وثمان كلمات، وأربعة عشر ألفا وخمسمائة وعشرون حرفا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 قوله: {الم} قد تقدكم الكلامُ على هذا مُشْبَعًا، ونقل الجرجانيُّ - هنا - أن «الم» إشارة، إلى حروف المعجم، كأنه يقول: هذه الحروفُ كتابك - أو نحو هذا - ويدل {لاا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} على ما ترك ذكره من خبر هذه الحروف، وذلك في نظمه مثل قوله تعالى: {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ} ؟ [الزمر: 22] وترك الجواب لدلالة قوله: {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله} [الزمر: 22] عليه؛ تقديره: كمن قسا قلبه. ومنه قول الشاعر: [الطويل] 1315 - ... - فَلاَ تَدفِنُونِي إنَّ دَفْنِي مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ وَلَكِنْ خَامِرِي أمَّ عَامِرِ ... أي: ولكن اتركوني للتي يقال لها خامري أم عامر «انتهى» . قال ابنُ عطيةَ: يحسن في هذا القول - يعني قول الجُرْجَانيِّ - أن يكون «نَزَّلَ» خبر، قوله: «اللهُ» حتى يرتبط الكلام إلى هذا المعنى. قال أبو حيَّان: وهذا الذي ذكره الجرجاني فيه نظر؛ لأن مثليته ليست صحيحة الشبع بالمعنى الذي نحا إليه، وما قاله في الآية محتمل، ولكن الأبرع في [نظم] الآية أن يكون «الم» لا يُضَمُّ ما بعدها إلى نفسها في المعنى، وأن يكون قوله {الله لا إله إِلاَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 3 هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} كلاماً مبتدأ جملة رادة على نصارى نجران. قال شهاب الدينِ: وهذا الذي ردَّه الشيخُ على الجرجانيِّ هو الذي اختاره الجرجانيُّ وجعله أحسنَ الأقوالِ التي حكاها في كتابه «نَظْم الْقُرْآنِ» . قوله: {لاا إله إِلاَّ هُوَ} يجور أن تكون هذه الجملة خَبَرَ الجَلاَلَة، و «نَزَّلَ عَلَيْكَ» خَبْرٌ آخَرُ، ويجوز أن يَكُونَ {لاا إله إِلاَّ هُوَ} مُعْتَرِضَة بين المبتدأ والخَبَرِ، ويجوز أن يكون حَالاً، وفي صاحبه احتمالان: أحدهما: أن يكون لَفْظَ الجلالة. والثاني: أن يكون الضمير في «نَزَّلَ» تقديره: نَزَّل عليك الكتاب متوحِّداً بالربوبية. ذكره مَكِّيٌّ، والأَوَّلُ أولَى. وةقرأ الجمهور {الم الله} بفتح الميم، وإسقاط همزة الجلالة، واختلفوا في فتحة هذه الميم على ستة أوْجُهٍ: أحدها: أنها حركة التقاء الساكنين، وهو مذهب سيبويه، وجمهورِ الناس. فإن قيل: أصل التقاء الساكنين الكَسْرُ، فلِمَ عُدِلَ عنهُ؟ فالجوابُ: أنهم لو كَسَروا لكان ذلك مُفْضِياً إلى ترقيق الميم لام الجلالة، والمقصود تفخيمها للتعظيم، فأوثر الفتح لذلك، وأيضاً: فقبل هذه ياء [وهي أخت الكسرة وأيضاً فصل هذه الياء كسرة] ، فلو كسرنا الميم الأخيرة لالتقاء الساكنين لتوالى ثلاث متجانسات، فحركوها بالفتح كما حركوا في نحو: مِنَ اللهِ، وأما سقوط الهمزة فواضحٌ، وبسقوطها التقى الساكنان. الثاني: أن الفتحة لالتقاء الساكنين [أيضاً ولكن الساكنين] هما الياء التي قبل الميم، والميم الأخيرة، فحُرِّكت بالفتح لئلا يلتقي ساكنان، ومثله: أيْنَ وكَيْف [وكيت، وذيت] ، وما أشبهها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 4 وهذا على قولنا: إنَّه لم يُنْوَ الوقفُ على هذه الحروف المقطَّعة، وهذا خلاف القول الأول: فإنه ينوى فيه الوقف على الحروف المقطعة، فسكنت أواخرها، وبعدها ساكن آخر، وهو لام الجلالة، وعلى هذا القول الثاني ليس لإسقاط الهمزة تأثير في التقاء الساكنين، بخلاف الأول، فإن التقاء الساكنين إنما نشأ من حذفها دَرْجاً. الثالث: أن هذه الفتحة ليست لالتقاء الساكنين، بل هي حركة نقل، أي: نُقِلَتْ حركة الهمزة التي قبل لام التعريف على الميم الساكنة نحو {قَدْ أَفْلَحَ} [طه: 64] وهي قراءة ورش وحمزة - في بعض طرقه - في الوقف، وهو مذهب الفراء، واحتج على ذلك بأن هذه الحروف النيِّةُ بها الوقف، وإذا كان النيةُ بها الوقْفَ، فسكن أواخرها، والنية بما بعدها الابتداء والاستئناف، فكأن همزة الوصل جرت مجرى همزة القطع؛ إذ النية بها الابتداء، وهي تثبت ابتداءً ليس إلاَّ، فلما كانت الهمزةُ في حُكْم الثَّبِتَةِ، وما قبلها ساكن صحيح قابل لحركتها خففوها بأن ألقَوْا حركتها على الساكن قبلها فقد وصلتَ الكلمةَ التي هي فيها بما قبلها وإن كان ما قبلها موضوعاً على الوقف، فقولك: ألقيت حركته عليه بمنزلة قولك: وصلته، ألا ترى أنك إذا خففت: مَنْ أبوك؟ قلتَ: من أبُوكَ، فوصلت، ولو وقفت لم تلق الحركة عليها، وإذا وصلتها بما قبلها لزم إسقاطها، وكان إثباتها مخالفاً لأحكامها في سائر متصرفاتها. قال شهاب الدينِ: «وهذا الرد مردود بأن ذلك مُعامل معاملةَ الموقوف عليه والابتداء بما بعده لا أنه موقوف عليه، ومبتدأ بما بعده حقيقة، حتى يردّ عليه بما ذكره» ، وقد قَوَّي جماعةٌ قولَ الفراء بما حكاه سيبويه من قولهم: ثَلاثَهَ رْبَعَة، والأصل: ثلاثةٌ أربعةٌ، فلما وقف على ثلاثة أبدل التاء هاء كما هو اللغة المشهورة، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، فترك الهاء على حالها في الوصل، ثم نقل حركة الهمزة إلى الهاء فكذلك هذا. ورد بعضهم هذا الدليل وقال: الهمزة في «أربعة» همزة قطع، فهي ثابتة ابتداءً ودَرْجًا فلذلك نُقِلت حركتها، بخلاف همزة الجلالة، فإنها واجبة السقوط، فلا تستحق نقل حركتها إلى ما قبلها، فليس وزان ما نحن فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 5 قال شهاب الدين: «وهذا من هذه الحيثية - صحيح، والفرق لائح، إلا أن لفظ الفرّاء فيه أنه أجرى فيه الوصل مُجْرى الوقف من حيث بقيت الهاء المنقلبة عن التاء وصلاً لا وقفاً واعتد بذلك، ونقل إليها حركة الهمزة، وإن كانت همزة قطع» . وقد اختار الزمخشري مذهب الفراءِ، وسأل وأجاب فقال: «ميم» حقها أن يُوقَفَ عليها كما يوقف على الف ولام، وأن يُبْتَدَأ بما بعدها، كما تقول: واحد. اثنان، وهي قراءة عاصم، وأما فتحتها فهي حركة الهمزة أُلْقِيت عليها حين أسْقِطت للتخفيف. فإن قلت: كيف جاز إلقاء حركتها عليها، وهي همزة وصل لا تثبت في درْج الكلامِ، فلا تثبت حركتها؛ لأن ثبات حركتها كثباتها؟ قلتُ: هذا ليس بدرْج، لأن «ميم» في حكم الوقف والسكون، والهمزة في حكم الثابت، وإنما حُذفت تخفيفاً وألقِيَت حركتها على الساكن قبلها؛ ليدل عليها، ونظيره: وَاحِدِ اثْنَانِ بإلقائهم حركة الهمزة على الدال. قال أبو حيّان: «وجوابه ليس بشيء؛ لأنه ادَّعَى أن الميم - حين حُرِّكَتْ - موقوف عليها، وأن ذلك ليس بدرْج، بل هو وقف، وهذا خلاف ما أجمعت عليه العرب، والنحاة من أنه لا يُوقف على متحرك ألبتة سواء ك انت حركته إعرابية، أم بنائية، أن نقلية، أم لالتقاء الساكنين، أم للإتباع، أم للحكاية، فلا يجوز في {قَدْ أَفْلَحَ} إذا حذفت الهمزة، ونقلت حركتها إلى دال» قَدْ «أن تقف على دال» قد «بالفتحة، بل تسكنها - قولاً واحداً. وأما قوله: ونظير ذلك وَاحِدِ اثْنَانِ - بإلقاء حركة الهمزة على الدال - فإن سيبويه ذكر أنهم يُشِمُّون آخر» واحد «لتمكنه، ولم يَحْكِ الكسرَ لغةً، فإن صَحَّ الكسر فليس ولكنه موصول بقولهم: اثنان، فالتقى ساكنان دال» واحد «وثاء» اثنين «، فكسرت الدال؛ لالتقاء الساكنين، وحُذِفَتْ همزة الوصل؛ لأنها لا تثبت ي الوصل» . قال شهاب الدينِ: «ومتى ادَّعى الزمخشري أنه يوقف على» مِيمْ «من» الم «- وهي متحركة - حتى يُلْزِمَهُ بمخالفة إجماع العرب والنحاة؟ إنما ادعى أن هذا في نية الموقوف عليه قبل تحريكه بحركة النقل، لا أنه نُقِل إليه، ثم وقف عليه، هذا لم يقله ألبتة، ولم يَخْطُرْ له» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 6 ثم قال الزمخشريُّ: «فإن قلْتَ: هَلاَّ زعمتَ أنها حركة التقاء الساكنين؟ قلت: لأن التقاء الساكنين لا يُبَالَى به في باب الوقف، وذلك قولك: هذا إبْراهيمْ، ودَاوُدْ، وإسْحَاقُ، ولو كان التقاء الساكنين - في حال الوقف - يوجب التحريك لحُرِّك الميمَان في ألف لام ميم؛ لالتقاء الساكنين، ولما انتظر ساكن أخر» . قال أبو حيَّان: «وهو سؤال صحيح وجواب صحيح لكن الذي قال: إن الحركة هي لالتقاء الساكنين لا يتوهم أنه أراد التقاء الياء والميم من» الم «- في الوقف - وإنما عنى التقا ءالساكنين اللذين هما ميم» ميم «الأخري’، ولام التعريف كالتقاء نون» من «ولام» الرجل «إذا قلت مِنَ الرَّجُلِ» . وهذا الوجه هو الذي تقدَّم عن مكي وغيره. ثم قال الزمخشريُّ: «فإن قلْتَ: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين في» ميم «لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين، فإذا جاء ساكن ثالث لم يمكن إلا التحريك فحركوا. قلت: الدليل على أن الحركة ليست لملاقاة الساكن، أنه كان يمكنهم أن يقولوا: وَاحدْ. اثْنَانِ - بسكون الدال مع طرح الهمزة - فيجمعوا بين ساكنين؛ كما قالوا: اصَيْمٌّ ومُديْقٌّ، فلما حركوا الدال علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير، وأنها ليست لالتقاء الساكنين «. [قال أبو حيّان:» وفي سؤاله تعمية في قوله: فإن قلت: إنما لم يحركوا لالتقاء الساكنين]- ويعني بالساكنين الياء والميم في «ميم» - وحينئذٍ يجيء التعليل بقوله: لأنهم أرادوا الوقف وأمكنهم النطق بساكنين - يعني الياء والميم - فحركوا - يعني الميم -؛ لالتقائها ساكنةٌ مع لام التعريف؛ إذ لو لم يحركوا لاجتمع ثلاث سواكن، وهو لا يمكن، هذا شرح السؤال، وأما جواب الزمخشري فلا يطابق؛ لأنه استدل على أن الحركة ليست لملاقاة ساكن بإمكانية الجمع بين ساكنين في قولهم: وَاحِدْ، اثْنَانِ - بأن يُسكنوا الدالَ والثاءُ ساكنةٌ، وتسقط الهمزة، فعدلوا عن هذا الإسكان إلى نقل حركة الهمزة إلى الدال - وهذه مكابرة ف يالمحسوس؛ إذ لا يمكن ذلك أصلاً، ولا هو في قدرة البشر أن يجمعوا في النطق بين سكون الدال وسكن الثاء وطرح الهمزة، وأما قوله فجمعوا بين ساكنين، فلا يمكن الجمع؛ لما قلناه، وأما قوله: كما قالوا: أُصَيْمٌّ وَمُدَيْقٌّ فهذا ممكن كما هو في رادّ وضالّ؛ لأن في ذلك التقاء الساكنين على حدهما المشروط الجزء: 5 ¦ الصفحة: 7 في النحو، فأمكن ذلك، وليس مثل ذلك «واحد» «اثنان» ؛ لأن الساكن الأول ليس حرفَ مدٍّ، ولا الثاني مُدْغماً، فلا يمكن الجمع بينهما، وأما قوله: فلما حركوا الدال، علم أن حركتها هي حركة الهمزة الساقطة لا غير وأنها ليست لالتقاء الساكنين [ويعني بالساكنين الياء والميم] ؛ لما بنى على أن الجمع بين الساكنين في «واحد» «اثنان» ممكن، وحركة التقاء الساكنين إنما هي فميا لا يمكن أن يجتمعا في اللفظ ادعى أن حركة الدال هي حركة الهمزة الساقطة «. قال شهاب الدينِ:» وهذا الذي رَدَّ به عليه صحيح، وهو معلوم بالضرورة؛ إذ لا يمكن النطق بما ذكر «. ونصر بعضهم رأي الفرّاء واختيار الزمخشري بأن هذه الحروف جيء بها لمعنى في غيرها، فأواخرها موقوفة، والنية بما بعدها الاستئناف، فالهمزة في حكم الثابت كما في أنصاف الأبيات، كقول حسان: [البسيط] 1316 - ... - لَتَسْمَعُنَّ وَشِيكاً فِي ديارِكُمُ اللهُ أكْبَرُ يَا ثَارَاتِ عُثْمَانَا ... ورجحه بعضهم أيضاً بما حكي عن المبرد: أنه يجيز: اللهُ أكْبَرَ اللهُ أكْبَر - بفتح الراء الأولى - قال: لأه في نية الوقف على» أكبر «والابتداء مبا يعده، فلما وصلوا مع قصدهم التنبيه على الوقف على آخر كل كلمة من كلمات التكبير نقلوا حركة الهمزة الداخلة على لام التعريف إلى الساكن قبلها؛ التفاتاً ملا ذكر من قصدهم، وإذا كانوا قد فعلوا ذلك في حركات الإعراب وأتَوا بغيرها - مع احتياجهم إلى الحركة من حيث هي فلأنْ يفعلوا ذلك فيما كان موقوفَ [الأخير] من باب أولى. الرابع: أن تكون الفتحةُ فتحةَ إعراب على أنه مفعول بفعل مقدَّر، أي اقرءوا {الم} وإنما منعه من الصرف العلمية والتأنيث المعنويّ إذْ أريد به اسم السورة، نحو قرأت هودَ، وقد قالوا هذا الوجه بعينه في قراءة مَنْ قرأ {ص والقرآن ذِي الذكر} [ص: 1] بفتح الدال من صاد، فهذا يجوز أن يكون مثله. الخامس: أن الفتحة علامة الجر، والمراد بألف لام ميم أيضاً السورة، وأنها مُقْسَمٌ بها، فحُذِفَ حرفُ القسم، وبقي عمله، وامتنع من الصرف لما تقدم، وهذا الوجه - أيضاً - مقول في قراءة من قرأ صَادَ - بفتح الدال -، إلا أن القراءة هناك شاذَّةٌ، وهنا متواترةٌ. والظاهر أنها حركة التقاء الساكنين - كما هو مذهب سيبويه وأتباعه -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 8 السادس: قال ابن كَيْسَانَ: «ألف» اله «وكل ألف مع لام التعريف [ألف] قطع بمنزلة» قَدْ «وحكمها حكم ألف القطع؛ [لأنهما حرفان جاء لمعنى] ، وإنما وُصِلَت لكثرة الاستعمال، فمن حرك الميم ألقى عليها حركة الهمزة التي بمنزلة القاف من» قَدْ «ففتحها بفتح الهمزة» ، نقله عنه مَكِّي. فعلى هذا هذه حركة نقل من همزة قطع، وهذا المذهب مشهور عن الخليل بن أحمد، حيث يعتقد أن التعريف حصل بمجموع «أل» ، كالاستفهام يحصل بمجموع «هَلْ» ، وأن الهمزة ليست مزيدة، لكنه مع اعتقاده ذلك يوافق على سقوطها في الدَّرْج؛ إجراءً لها مُجْرَى همزة الوصل، لكثرة الاستعمال، لذلك قد تثبت ضرورةً؛ لأن الضرورة ترد الأشياء إلى أصولها. ولما نقل أبو البقاء هذا القول ولم يَعْزُه، قال: «وهذا يصح على قول من جعل أداة التعريف» أل «- يعني الخليل؛ لأنه المشهور بهذه المقالة» . وقد تقدم النقل عن عاصم أنه يقرأ بالوقف على «ميم» ويبتدئ ب {الله لاا إله إِلاَّ هُوَ} كما هو ظاهر عبارة الزمخشري عنه، وغيره يحكي عنه أنه يسكن الميم ويقطع الهمزة - من غير وقف منه على الميم - كأنه يجري الوصل مجرى الوقف، وهذا هو الموافق لغالب نقل القرّاءِ عنه. وقرأ عمرو بن عُبَيْدٍ - فيما نقل الزمخشري - وأبو حيوة والرُّواسي فيما نقل ابن عطية «المِ اللهُ» - بكسر الميم -. قال الزمخشريُّ: «وما هي بمقبولة عنه» ، والعجب منه كيف تجرأ على عمرو بن عُبَيْدٍ وهو عنده معروف المنزلة، وكأنه يريد: وما هي بمقبولة عنه، أي: لم تصحَّ عنه. وكأن الأخفش لم يطلع على أنها قراءة فقال: «لو كُسِرَتِ الميمُ؛ لالتقاء الساكنين - فقيل:» المِ اللهُ «- لجاز» . قال الزّجّاج: وهذا غلط من أبي الحسن، لأن قبل الميم ياءٌ مكسوراً ما قبلها فحقها الفتح، لالتقاء الساكنين، وذلك لثقل الكسر مع الياء. وهذا - وإن كان كما قال - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 9 إلا أن الفارسيَّ انتصر لأبي الحَسَن، ورَدَّ على أبي إسحاق رَدَّة فقال: «كَسْر الميم لو ورد بذلك سماع لم يدفعه قياس، بل كان يُثْبِتُهُ ويُقَوِّيه -؛ لأن الأصل في التحريك - لالتقاء الساكنين - الكسر، وإنما يُبْدَل إلى غير ذلك لما يعرض من علَّة وكراهة، فإذا جاء الشيء على بابه فلا وَجْهَ لردِّه، ولا مساغ لدَفْعِه، وقول أبي إسحاق؛ إن ما قبل الميم ياءً مكسوراً ما قبلها، فحقها الفتح منقوض بقولهم: جَيْرِ، حيث حَرَّك الساكن - بعد الياء - بالكسر، كما حُرك بعدها بالفتح في أيْنَ، ويدل على جواز التحريك لالتقاء الساكنين بالكسر - فيما كان قبله ياء، - جواز تحريكه بالضم نحو قولهم: حَيْثُ، وإذا جاز الضم كان الكسر أجْوَزَ وأسْهَلَ» . فصل في بيان سبب النزول في سبب نزول هذه الآية قولان: الأول: أنها نزلت في اليهود، وقد ذكرناه في تفسير قوله تعالى: {الم ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 1، 2] . الثاني: أنها من أولها إلى آية المباهلة في نصارى نجران. قال الكلبي، والربيعُ بنُ أنس - وهو قول محمد بن إسحاقَ -: قدم على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفد نجران - ستون راكباً - فيهم أربة عشر رجلاً من أشرافهم، وثلاثة منهم كانوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 10 أكابر القوم، أحدهم أميرهم، وصاحب مشورتهم، يقال له: العاقب، واسمه عبد المسيح، والثاني مشيرهم ووزيرهم، وكانوا يقولون له: السيد، واسمه الأيهم، والثالث حبرهم وأسقفهم، وصاحب مِدْراسهم، يقال له: أبو حارثة بن علقمة - أحد بني بكر بن وائل - وكان ملوك الروم قد أكرموه وشرَّفوه، وموَّلوه؛ لِما بلغهم عنه من علمه واجتهاده في دينهم، فلما قدموا من «نجران» ركب أبو حارثةَ بغلتَه، وكان إلى جنبه أخوه كُرْزُ بنُ علقمةَ، فبينما بغلة ابي حارثةَ تسير إذ عَثَرَتْ، فقال كُرز: تَعْساً للأبعد - يريد رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقال أبو حارثة: بل تَعِسَتْ أمُّك، فقال: ولِمَ يا أخي؟ فقال: إنه - واللهِ - النبيُّ الذي كنا ننتظره، فقال له أخوه كرز: فما يمنعك عنه وأنت تعلم هذا؟ قال: لأن هؤلاء الملوك أعطَوْنَا أموالاً كثيرةً، وأكرمونا، فلو آمنَّا بمحمد لأخذوا مِنَّ كُلَّ هذه الأشياءِ، فوقع ذلك في قَلْبِ أخيه كُرْز، وكان يُضْمِره إلى أن أسْلم؛ فكان يُحَدِّثُ بذلك، ثم دخلوا مسجدَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين صلى العصر - عليهم ثياب الحِبراتِ جبب وأرْدِيَةٌ -، وقد حانت صلاتهم، فقاموا للصلاة [العاقب والسيد والحبر] في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال رسول الله: دعوهم، فصلوا إلى المشرق، ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 11 تكلم أولئك الثلاثة مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على اختلاف من أديانهم - فتارة يقولون: عيسى هو الله، وتارةً يقولون: هو ابنُ الله، وتارة يقولون: ثالث ثلاثة، ويحتجون على قولهم: هو الله بأنه كان يُحْيي الموتَى، ويُبْرئ الأسقامَ ويُخْبِر بالغيوب، ويخلق من الطين كهيئة الطير، فينفخ فيه، فيطير، ويحتجون على قولهم بأنه ابن الله بأنه لم يكن له أبٌ يُعْلَم، ويحتجون على قولهم: ثالث ثلاثة بقوله تعالى: {فَعَلْنَا} ، قلنا، ولو كان واحداص لقال: فعلتُ، قلتُ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أسلموا» ، قالوا: قد أسلمنا، قال عليه السلام: «كذبتم؛ يمنعكم من الإسلام دعاؤُكم لله ولداً، وعبادتكم الصليب، وأكلُكُم الخنزيرَ» ، قالوا: إن لم يكن ولدَ الله فمن أبوه؟ فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل اللهُ تعالى أولّ سورةِ آل عمرانَ إلى بضع وثمانين آية، منها أخذ رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بناظرهم، فقال: «ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّه لاَ يَكُونُ وَلَدٌ إلا ويشبه أبَاهُ؟ قالوا: بَلَى، قال: ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَبَّنَا حَيٌّ لا يَمُوتُ، وأنَّ عِيسَى يأتي عليه الفناءُ؟ قالوا: بَلَى، قال: ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ رَبَّنَا قَيِّمٌ عَلى كُلِّ شَيءٍ، يَحْفَظُهُ ويَرْزُقُهُ؟ قالوا: بَلَى، قال: فَهَلْ يَمْلِكُ عِيسَى مِنْ ذَلِكَ شيئاً؟ قالوا: لا، قال: ألَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ تَعَالى لا يخفى عليه شيءٌ في الأرض، ولا في السَّماءِ؟ قالوا: بلى، قال: فهل يعلم عيسَى شيئاً من ذلك إلا ما عُلِّمَ؟ قالوا: لا، قال: فإن ربَّنا صوَّر عيسى في الرحم كيف شاء، قال: ألستم تعلمون أنَّ ربَّنا لا يأكل، ولا يشربُ ولا يُحْدِثُ؟ قالوا: بلى، قال: ألستم تعلمون أن عيسى حملته أمُّه كما تحمل المرأةُ، ووضعته كما تضع المرأةُ ولدَها، ثم غُذِّي كما يُغَذَّى الصبيُّ، ثم كان يَطْعَم الطعامَ، ويَشْرَب الشراب ويُحدِث الحدثَ؟ قالوا: بلى، قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم» ؟ فسكتوا، وأبَوْا إلا جُحُوداً، ثم قالوا: يا محمد، ألستَ تزعم أنه كلمةُ الله ورُوحٌ منه؟ قال: «بلَى» ، قالوا: فحسبنا، فأنزل الله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ} [آل عمران: 7] ، ثم أمر الله محمداً بملاعنتهم _ إن ردوا عليه - فدعاهم إلى الملاعنة، فقالوا: يا أبا القاسم، دَعْنَا نَنْظُرْ في أمرنا، ثم نأتيك بما تريد أن تفعل، فانصرفوا، ثم قال بعضُ أولئك الثلاثةِ لبعضهم: ما ترى؟ فقال: والله يا معشرَ النصارى لقد عرفتم أن محمداً نبيٌّ مُرْسَل، ولقد جاءكم بفَضلٍ من خَبَرِ صاحبكم، ولقد علمتم مَا لاَعَنَ [قط] قومٌ نبيًّا إلا وفنِيَ كبيرُهم وصغيرُهم، وإنه الاستئصالُ منكم - إن فعلتم - وأنتم قد أبيتم إلا دينَكم، والإقامة على ما أنتم عليه فوادِعُوا الرجلَ، وانصرِفوا إلى بلادِكم، فأتَوْا رسولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا [ابا القاسم] قد رأينا أن لا نُلاعنك، وأن نتركَك على دينك، وأن نرجعَ نحن على ديننا، فابعثْ رجلاً من أصحابك [معنا] يحكم بيننا في أشياءَ قد اختلَفْنا فيها من أموالِنا؛ فإنَّك عندنا رِضّى، فقال عليه السلامُ: [ائتوني] في العشيةِ أبعثْ معكم القويَّ لأمينَ، فكان عمرُ يقول: ما أحببت الإمارة قَطّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 12 إلا يومئذٍ؛ رجاءَ أن أكونَ صاحبَها، قال: صلينا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم نظر عن يمينه، وعن يساره، وجعلت أتَطَاولُ له؛ ليراني، فمل يزَلْ يُرَدِّدُ بصره، حتى رأى أبا عبيدةَ بنَ الجَرَّاحِ، فدعاه، فقال: اخرج معهم واقض بينهم بالحقِّ فيما اختلفُوا فيه، قال عُمرُ: فذهبَ بها أبو عبيدة. وهذه الرواية تدل على أن المناظرة في تقرير الدين حرفة الأنبياء - عليهم السلام - وأن مذهب الحَشْوية - في إنكار البحث والنظر - باطل قطعاً. فصل في بيان الرد على النصارى «في وَجْه الرد على النصارى في هذه الآية» : وهو أن الحيَّ القيومَ يمتنع أن يكون له ولد؛ لأنه واجب الوجود لذاته، وكلُّ ما سواه فإنه ممكن لذاته، مُحْدَث، حصل بتكوينه وإيجاده، وإذا كان الكُلُّ مُحْدَثًا مخلوقاً امتنع كونُ شيء منها ولداً له، ولما ثبت أن الإله يجب أن يكون حَيًّا قيوماً، وثبت أن عيسى ما كان حيًّا قيُّومًا، لأنه وُلِدَ، وكان يأكل، ويشرب، ويُحْدِث. والنصارى زعموا أنه قُتِل، ولم يقدر على دفع القتل عن نفسه، وهذا يقتضي القطع بأنه ليس بإله. قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} العامة على التشديد في «نَزَّل» وَنَصْب «الْكِتَاب» ، وقرأ الأعمشُ، والنَّخَعِيُّ، وابنُ أبي عبلة {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب} بتخفيف الزاي ورفع الكتاب. فأما القراءةُ الأولى فقد تقدم أن هذه الجملةَ تحتمل أن تكون خبراً، وأن تكون مستأنفةً. وأما القراءةُ الثانيةُ، فالظاهر أن الجملةَ فيها مستأنفةٌ، ويجوز أن تكون خبراً، والعائد محذوف، وحينئذ تقديره: نَزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابُ مِنْ عِنْدِهِ. قوله: {بِالْحَقِّ} فيه وجهان: أحدهما: أن تتعلق الباء بالفعل قبلها، والباء - حينئذ - للسببية، أي: نزله بسبب الحق. ثانيهما: أن يتعلق بمحذوف؛ على أنه حال، إما من الفاعل - أي: نزَّله مُحِقًّا - أو من المفعول - أي: نزله ملتبساً بالحق - نحو: جاء بكر بثيابه، أي: ملتبساً بها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 13 وقال مَكيّ: «ولا تتعلق الباء ب» نَزَّل «؛ لأنه قد تعدى إلى مفعولين - أحدهما بحرف فلا يتعدى إلى ثالث» . وهذا - الذي ذكره مكيٌّ - غيرُ ظاهر؛ فإن الفعل يتعدى إلى متعلقاته بحروف مختلفة على حسب ما يكون، وقد تقدم أن معنى الباء السببية، فأيُّ مانع يمنع من ذلك؟ قوله: {مُصَدِّقًا} فيه أوجهٌ: أحدها: أن ينتصبَ على الحال من «الْكِتَاب» . فإن قيل بأن قوله: «بِالْحَقِّ» حال، كانت هذه حالاً ثانيةً عند مَنْ يُجِيز تعدد الحال، وإن لم يُقَلْ بذلك كانت حالاً أولى. الثاني: أن ينتصب على الحال على سبيل البدلية من محل «بِالْحَقِّ» ، وذلك عند مَنْ يمنع تعدد الحال في غير عَطْفٍ، ولا بدليَّةٍ. الثالث: أن ينتصب على الحال من الضمير المستكن في «بِالْحَقِّ» - إذا جعلناه حالاً - لأنه حينئذٍ يتحمل ضميراً؛ لقيامه مقام الحال التي تتحمله، وعلى هذه الأقوال كلِّها فهي حال مؤكِّدة؛ لأن الانتقالَ فيها غير مُتَصَوَّر، وذلك نظير قول الشاعر: [البسيط] 1317 - أنَا ابْنُ دَارَةَ مَعْرُوفًا بِهَا نَسَبِي ... وَهَلْ بِدَارَةَ - يَا لَلنَّاسِ - مِنْ عَارِ قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} مفعول ل «مصَدِّقاً» وزِيدَت اللامُ في المفعول: [تقويةٌ] للعامل؛ لأنه فرع له؛ إذْ هو اسمُ فاعل، كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] ، وإنما ادَّعَيْنَا ذلك؛ لأنَّ هذه المادةَ متعديةٌ بنفسها. فصل في تفسير «الحي» و «القيوم» الحيُّ: هو الفعَّال الدرَّاك، والقيُّومُ: هو القائمُ بذاته، والقائم بتدبير الخلق، وقرأ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - الحي القيَّام، والمراد ب «الكتاب» - هنا - هو القرآن. قال الزمخشري: «وخص القرآن بالتنزيل، والتوراة والإنجيل بالإنزال؛ لأن التنزيل للتكثير والله تعالى نَزَّل القرآن مُنَجَّماً، فكان معنى التكثير حاصلاً فيه، وأنزل التوراةَ والإنجيل دفعَةً واحدةً، فلهذا خصَّهما بالإنزال» . فإن قيل: يُشْكِل هذا بقوله: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [الكهف: 1] ، وبقوله: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} [الإسراء: 105] . فالجواب: أن المرادَ به كُلُّ نَجْمٍ وَحْدَه. [وسمي الكل باسم البعض مجازاً، أو نقول: «إن أنزل تشتمل على أمرين والتضعيف لا يشتمل إلاّ الإنزال مرة واحدةٌ» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 14 قال أبو حيَّان: وقد تقدم الرّدّ على هذا القول في البقرة، وأن التعدية بالتضعيف لا تدل على التكثير، ولا على التنجيم، وقد جاء في القرآن أنزل، ونزَّل قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] ويدل على أنهما بمعنًى واحدٍ قراءة من قرأ ما كان من نزل مشدّداً بالتخفيف إلاَّ ما استثني، ولو كان أحدهما يدلّ على التنجيم والآخر يدل على النزول دفعةً واحدةً لتناقضت الأخبار، وهو محال، وقد سبق الزمخشريَّ في هذا القول بعينه الواحديُّ] . قوله: {بِالْحَقِّ} قال أبو مسلم: يحتمل وجوهاً. أحدها: أنه صدق فيما تضمنه من الأخبار عن الأمم السابقة. الثاني: أن ما فيه من الوعد والوعيد يحملُ المكلَّف على اتباع الحقِّ في الْعِلم والعملِ. ثالثها: أنه حَقٌّ؛ بمعنى أنه قول فَصْل وليس بالهَزْل. رابعها: قال الأصَمُّ: أنْزَلُه بالحق الذي يجبُ له على خلقه من العبوديةِ، وشُكْرِ النعمةِ وما يجب لبعضهم على بعض من العدلِ، والإنصافِ. خامسها: أنه أنزله بالحق لا بالمعاني المتناقضةِ الفاسدةِ، كما قال: {أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا} [الكهف: 1] ، وقال: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] . وقوله: {مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} معناه: مصدقاً لكُتُبِ الأنبياء، ولِما أخبروا به عن اللهِ، وهذا دليل على صحة القرآن من وجهين: أحدهما: أنه موافق لسائر الكتب، ولو كان من عند غير الله لم يوافقها، وهو - عليه السلام - لم يختلط بالعلماء، ولا تتلمذ لأحد، ولا قرأ على أحد شيئاً [والمفتري]- إذا كان هكذا - يمتنع أن يَسْلم من الكذب والتحريف، فلما لم يكن كذلك ثبت أنه إنما عرف هذه القصصَ من الله تعالى. الثاني: قال أبو مسلم: إن الله تعالى لم يبعث نبيًّا قط إلا بالدعاء إلى التوحيد والإيمان وتنزيه الإله عما لا يليق به، والأمر بالعدل والإحسان وبالشرائع التي هي صلاح أهل كل زمان. والقرآن مصدق لكل الكتب في ذلك. فإن قيل: كيف سمَّي ما مَضَى بأنه بَيْنَ يديه؟ فالجوابُ: أن تلك الأخبارَ - لغاية ظهورها، وكونها موجودة - سماها بهذا الاسم. فإن قيل: كيف يكون مصدقاً لما تقدمه من الكتب مع أن القرآن ناسخ لأكثر تلك الأحكام؟ فالجوابُ: إذا كانت الكتب مشهورة بالرسل، وأحكامها ثابتة إلى حين نزول القرآن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 15 فإنها تصير منسوخةً بنزول القرآن، كان القرآن مصدقاً لها، وأيضاً فدلائل المباحث الإلهية، وأصول العقائد لا تختلف، فلهذا كان مصدِّقاً لها. قوله: {وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل} اختلف الناس في هذين اللفظين، هل يدخلهما الاشتقاق والتصريف، أم لا يدخلانهما؛ [لكونهما أعجميَّيْن؟] . فذهب الزمخشريُّ وغيرهُ إلى الثاني، قالوا: لأن هذين اللفظين اسمان عبرانيان لهذين الكتابين الشريفين، قال الزمخشريُّ: «وتكلف اشتقاقهما من الوَرْي والنَّجْل، ووزنهما بتفعلة وإفعيل إنما يثبت بعد كونهما [عربيين] » . قال أبو حيّان: «وكلامه صحيح، إلا أن فيه استدراكاً، وهو قوله» تَفْعِلَة «ولم يذكر مذهبَ البصريين وهو أن وزنها فَوْعَلَة، ولم ينبه على» تفعلة «هل هي بكسر العين أو فتحها» ؟ قال شهاب الدينِ: «لم يحتج إلى التنبيه على الشيئين لشهرتهما، وإنما ذكر المستغرب» ، ويؤيد ما قاله الزمخشريُّ من كونها أعجمية ما نقله الواحديُّ، وهو أن التوراة، والإنجيل، والزبور سريانية فعرَّبوها، ثم القائلون باشتقاقهما اختلفوا: فقال بعضهم: التوراة مشتقة من قولهم: وَرِيَ الزَّنْدُ إذا قدح، فظهر منه نار، يقال: وَرِيَ الزند وأوريته أنا، قال تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ} [الواقعة: 71] ؟ ، فُثلاثيُّه قاصر، ورباعيه مُتَعَدٍّ، وقال تعالى: {فالموريات قَدْحاً} [العاديات: 2] ، ويقال أيضاً: وَرَيْتُ بِكَ زِنَادِي، فاستعمل الثلاثي متعدياً، إلا أن المازني زعم أنه لا يُتَجَاوز به هذا الفظ، يعني فلا يُقاس عليه، فيقال: وريت النار مثلاً، إذا تقرر ذلك، فلما كانت التوراة فيها ضياء ونور، يخرج به من الضلال إلى الهدى كما يخرج بالنور من الظلام إلى النور، سُمِّي هذا الكتابُ بالتوراة، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً} [الأنبياء: 48] وهذا قولُ الفراء و [مذهب] جمهور الناسِ. وقال آخرون: بل هي مشتقة من ورَّيتُ في كلامي، من التورية، وهي التعريض، وفي الحديث: «كَانَ إذَا أرادَ سَفَراً وَرَّى بِغَيْرِهِ» ، وسميت التوراة بذلك: لأن أكثرها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 16 تلويحاتٌ ومعاريضُ، وإلى هذا ذهب المؤرج السَّدُّوسي وجماعة، وفي وزنها ثلاثةُ أقوال: أحدها - وهو قول الخليل وسيبويه - أن وزنها فَوْعَلَة، وهذا الوزن قد وردت منه ألفاظ نحو الدَّوْخَلَة والقَوْصرة والدَّوْسَرة والصَّوْمَعة، والأصل: وَوْرَيَة - بواوين؛ لأنها إما من وَرِيَ الزَّنْدُ، وإما من وَرَّيْتُ في كلامي، فأبدلت الواو الأولى تاءٌ، وتحرك حرف العلة وانفتح ما قبله فقلب ألفاً فصار اللفظ «توراة» - كما ترى - وكُتِبَت بالياء، تنبيهاً على الأصل، كما أميلت لذلك، وقد أبدلت العرب التاء من الواو في ألفاظ نحو تَوْلَج، وتَيْقُور، وتُخَمَة، وتُراث وتُكأة وتُجَاه وتُكْلاَن، من الوُلُوج والوَقَار والوَخَامة والوِرَاثة والوكَاء والوَجْه والوكَالة، ونظير إبدال الواو تاء في التوراة إبدالها أيضاً من قولهم - لما تراه المرأة في الطُّهْرِ بعد الحيض -: التَّرِيَّة، هي فعيلة من لفظ الوراء؛ لأنها تُرَى بعد الصُّفرة والكُدْرة. الثاني: وهو قول الفراء: أن وزنها تَفْعِلَة - بكسر العين - فأبدلت الكسرة فتحة، وهي لغة طائية، يقولون في الناصية: نَاصَاة، وفي جارية: جَارَاة، وفي نَاجِيَة: نَاجَاة، قال الشاعِرُ: [الطويل] 1318 - ... ... ... ... ... ... ..... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 17 فَخَرَّتْ كَنَاصَاةِ الْحُصَانِ الْمُشَهَّرِ وقال آخر: [المنسرح] 1319 - ... ... ... ... ... ... . ... نُفُوساً بُنَتْ عَلَى الْكَرَمِ وأنشد الفرَّاءُ: [الوافر] 1320 - فَمَا الدُّنْيَا بِبَاقَاةٍ لِحَيٍّ ... وَمَا حَيٌّ عَلَى الدُّنْيَا بِبَاقِ وقد رد البصريون ذلك بوجهَيْن: أحدهما: أن هذا البناء قليل جدًّا - أعني بناء تفعلة - بخلاف فَوْعَلَة، فإنه كثير، فالحمل على الأكثر أولى. الثاني: أنه يلزم منه زيادة التاء أولاً، والتاء لم تُزَد - أوَّلاً - إلا في مواضع ليس هذا منها، بخلاف قلبها في أول الكلمة، فإنه ثابت، وذلك أن الواو إذا وقعت أولاً قُلبت إما همزة نحو أجُوه وأُقِّتَتْ وإشَاح - في: وجوه ووُقِّتَتْ ووِشَاح - وإما تاء نحو: تُجَاه وتُخْمَة، فاتباع ما عُهِد أولى من اتباع ما لم يُعْهَد. الثالث: أن وزنها «تَفْعَلة» [بفتح العين]- وهو مذهب الكوفيين - كما يقولون في تَفْعُلَة - بالضم - تَفْعَلَة - بالفتح - وهذا لا حاجة إليه، وهو أيضاً دعوى لا دليل عليها. وأَمَالَ «التوراة» - حيث ورد في القرآن - إمالة محضة أبو عمرو والكسائي وابن عامر في رواية ابن ذكوان وأمالها بين بين حمزة وورش [عن نافع] ، واختلف عن قالون، فروي عنه بين بين والفتح، وقرأها الباقون بالفتح فقط، ووجه الإمالة إن قلنا إن ألفها [منقلبة عن ياء ظاهر، وإن قلنا: إنها أعجمية لا اشتقاق لها، فوجه الإمالة شبه ألفها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 18 لألف] التأنيث من حيث وقوعها رابعة، فسبب إمالتها، إما الانقلاب، وإما شبه ألف التأنيث. والإنجيل؛ قيل: إفعيل كإجفيل، وفي وزنه أقوال: أحدها: أنه مشتق من النَّجْل، وهو الماء الذي ينز من الأرض ويخرج منها، ومنه النجْل للولد، وسمي الإنجيل؛ لأنه مستخرج من اللوح المحفوظ. وقيل: من النجل وهو الأصل، ومنه النجل للوالد، فهو من الأضداد؛ إذ يُطْلَق على الولد والوالد، قال الأعشى: [المنسرح] 1321 - أنْجَبَ أيَّامَ وَالِدَاهُ بِهِ ... إذْ نَجَلاَهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلاَ وقيل: من النجل - وهو التوسعة - ومنه العين النجلاء، لسعتها، ومنه طعنة نجلاء وسمي الإنجيل بذلك؛ لأن فيه توسعةً لم تكن في التوراة؛ إذْ حلل فيه أشياء كانت محرمة. وقيل: هو مشتق من التناجل وهو: التنازع، يقال: تناجل الناسُ أي: تنازعوا وسُمِّي الإنجيل بذلك لاختلاف الناس فيه، قاله أبو عمرو الشيباني. والعامة على كسر الهمزة من «إنجيل» ، وقرأ الحسن بفتحها. قال الزمخشري: وهذا يدل على أنه أعجمي؛ لأن أفعيلاً - بفتح الهمزة - قليل عديم في أوزان العرب. قلت: بخلاف إفعيل - بكسرها - فإنه موجود نحو: إجفيل وإخريط وإصليت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 19 قال ابن الخطيبِ: «وأمر هؤلاء الأدباء عجيبٌ؛ لأنهم أوجبوا في كل لفظ أن يكون مأخوذاً من شيء آخرَ، ولو كان كذلك لزم إما التسلسل، وإما الدور، ولما كانا باطلَيْنِ وجب الاعتراف بأنه لا بد من ألفاظ موضوعة وَضْعًا أوَّلاً، حتى يُجْعَل سائرُ الألفاظ مشتقةً منها، وإذا كان الأمر كذلك فلم لا يجوز في هذا اللفظ الذي جعلوه مشتقاً من ذلك الآخر أن يكون الأصل هو هذا، والفرع هو ذاك الآخر، ومن الذي أخبرهم بأن هذا فرع وذاك أصل؟ وربما كان هذا الذي يجعلونه فرعاً ومشتقاً في غاية الشهرة، وذاك الذي يجعلونه أصلاً في غاية الخفاء، وأيضاً فلو كانت التوراة إنما سميت بذلك لظهورها، والإنجيل إنما سمي إنجيلاً لكونه أصلاً وجب في كل ما ظهر أن يُسَمَّى بالتوراة، فوجب تسمية كل الحوادث بالتوراة، ووجب في كل ما كان أصلاً لشيء آخر أن يُسَمَّى بالإنجيل، فالطين أصل الكوز فوجب أن يكون الطين إنجيلاً، والذهب أصل الخاتم، والغزل أصل الثوب، فوجب تسمية هذه الأشياء بالإنجيل، ومعلوم أنه ليس كذلك، ثم إنهم عند إيراد هذه الإلزامات عليهم لا بد وأن يتمسكوا بالوضع، ويقولوا: العرب خصصوا هذين اللفظين بهذين الشيئين على سبيل الوضع، وإذا كان لا يتم المقصود في آخر الأمر إلا بالرجوع إلى وضع اللغة، فلِمَ لا نتمسك به في أول الأمر، ونُرِيح أنفسنا من الخوض في هذه الكلمات، وأيضاً فالتوراة والإنجيل اسمان أعجميان، أحدهما بالعبرية، والآخر بالسريانية [فقيل: التوراة بالعبرانية نور، ومعناه الشريفة، والإنجيل بالسريانية» إنكليون «، ومعناه الإكليل] [فكيف يليق بالعاقل أن يشتغل بتطبيقها على أوزان لغة العرب؟ فظهر أنَّ الأوْلَى بالعاقل أن لا يلتفتَ إلى هذه المباحث» ] . قوله: «مِن قَبْلُ» متعلق ب «أنْزَلَ» والمضاف إليه الظرف محذوف؛ لفَهْم المعنى، تقديره: من قبلك، أو من قبل الكتاب، و «الْكِتَاب» غلب على القرآن، وهو - في الأصل - مصدر واقع موقع المفعول به، [أي] المكتوب. وذكر المنزل عليه في قوله: {نَزَّلَ عَلَيْكَ} ، ولم يذكره في قوله: {وَأَنْزَلَ التوراة والإنجيل} تشريفاً لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله: «هُدًى» فيه وجهان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 20 أحدهما: أنه منصوب على المفعول من أجله، والعامل فيه «أنْزَلَ» أي: أنزل هذين الكتابين لأجل هدايته. وعلى هذا التقدير يكون قد وصف القرآن بأنه حق، ووصف التوراة والإنجيل بأنهما هُدًى، والوصفان متقاربان. فإن قيل: لم وصف القرآن - في أول سورة البقرة - بأنه {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ، ولم يصفه هنا بذلك؟ قيل: إنما وصفه - هناك - بذلك؛ [لأن] المتقين هم المنتفعون به، فهو هدى لهم لا لغيرهم وها هنا فالمناظرة كانت مع النصارى، وهم لا يَهْتَدُونَ بالقرآن، فلا جرم لم يقل هنا في القرآن إنه هدًى، بل قال: إنه حق في نفسه - سواء قبلوه أو ردوه - وأما التوراة والإنجيل فهم يعتقدون صحتهما، ويدعون أنهم إنما يعولون في دينهم عليهما، فلا جرم، وصفهما بكونهما هدى. ويجوز أن يكون متعلقاً - من حيث المعنى - ب «نَزَّلَ» و «أنْزَلَ» معاً، وتكون المسألة من باب التنازع على إعمال الثاني والحذف من الأول، تقديره: نزل عليك الكتاب له أي: للهدى، فحذفه. ويجوز أن يتعلق بالفعلين - معاً - تعلقاً صناعياً، لا على وجه التنازع، بل بمعنى أنه علة للفعلين معاً، كما تقول: أكرمت زيداً وضربت عمراً إكراماً لك، يعني أن الإكرام علة الإكرام والضرب. والثاني: أن ينتصب على الحال من التوراة والإنجيل. ولم يُثَنَّ؛ لأنه مصدر، وفيه الأوجه المشهورة من حذف المضاف - أي ذَوَي هُدًى - أو على المبالغة - بأن جُعِلا نَفْسَ الهُدَى - أو على جعلهما بمعنى هاديَيْنِ. وقيل: إنه حال من الكتاب والتوراة والإنجيل. وقيل: حال من الإنجيل فقط، وحذف مما قبله؛ لدلالة هذا عليه. وقال بعضهم: تَمَّ الكلام عند قوله تعالى: {مِنْ قَبْلُ} فيوقف عليه، ويُبْتَدَأ بقوله: {هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الفرقان} أي: وأنزل الفرقان هدًى للناس. وهذا التقدير غير صحيح؛ لأنه يُؤدي إلى تقديم المعمول على حرف النسق، وهو ممتنع؛ إذ لو قلت: قام زيدٌ مكتوفةٌ وضربتُ هِنْداً - تعني وضربت هنداً مكتوفةً - لم يصح، فكذلك هذا. قوله: «لِلناسِ» يحتمل أن يتعلق بنفس «هُدًى» لأن هذه المادة تتعدى باللام، كقوله تعالى: {يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9] وأن يتعلق بمحذوف؛ لأنه صفة ل «هُدًى» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 21 قوله: {وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ} يحتمل أن يراد به جميع الكتب السماوية، ولم يُجْمَع لأنه مصدر بمعنى الفرق كالغفران والكفران، وهو يحتمل أن يكون مصدراً واقعاً موقع الفاعل، أو المفعول، والأول أظهر. قال الزمخشريُّ: «وكرر ذكر القرآن بما هو نعت له. ومدح من كونه فارقاً بين الحق والباطل بعد ما ذكره باسم الجنس؛ تعظيماً لشأنه، وإظهاراً لفضله» . قال شهاب الدينِ: «قد يعتقد معتقد أن في كلامه هذا رَدًّا لقوله الأول؛ حيث قال: إن» نَزَّل «يقتضي التنجيم، و» أنْزَلَ «يقتضي الإنزال الدفعي؛ لأنه جوز أن يراد بالفرقان القرآن، وقد ذكره ب» أنْزَلَ «، ولكن لا ينبغي أن يُعْتَقَدَ ذلك؛ لأنه لم يَقُل: إن أنزل للانزال الدفعيِّ فقط، بل يقول: إن» نَزَّل «- بالتشديد - يقتضي التفريق، و» أنْزِلَ «يحتمل التفريق، ويحتمل الإنزال الدفعي» . فصل في المراد ب «الفرقان» قيل: المراد بالفرقان هو الزبور؛ لقوله: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [الإسراء: 55] . وقيل القرآن، وإنما أعاده تعظيماً لشأنه، ومدحاً له بكونه فارقاً بين الحق والباطل. أو يقال: إنه تعالى أعاد ذكرَه ليبين أنه أنزله بعد التوراة والإنجيل، ليجعله فارقاً بين ما اختلف فيه اليهود والنصارى من الحق والباطل، وعلى هذا التقدير، فلا تكرار. وقال الأكثرون: إن المراد أنه تعالى - كما جعل هذه الكتب الثلاثة هدًى ودلالة - قد جعلها مفرقة بين الحلال والحرام وسائر الشرائع. قال ابن الخطيبِ: «وهذه الأقوال - عندي - مُشْكِلةٌ. فأما حمله على الزبور فبعيد؛ لأن الزبور ليس فيه شيء من الشرائع والأحكام، وإنما هو مواعظ ووصف التوراة والإنجيل - مع اشتمالهما على الدلائل والأحكام - بالفرقان أولى من وصف الزبور بذلك. وأما حمله على [القرآن] فبعيد من حيث إنه عطف على ما قبله، والمعطوف يغاير المعطوف عليه، والقرآن مذكور قبل ذلك فيقتضي أن يكون الفرقان مغايراً للقرآن، وبهذا الوجه يظهر ضعف القول الثالث لأن كون هذه [الكتب] فارقةً بين الحق والباطل صفة لهذه الكتب، وعطف الصفة على الموصوف - وإن كان قد ورد فيه بعض الأشعار النادرة [إلا أنه] ضعيف، بعيد عن وجه الفصاحة اللائقة بكلام اللهِ تعالى. والمختار عندي هو أن المراد بالفرقان - هنا - المعجزات المقرونة بإنزال هذه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 22 الكتب؛ لأنهم لما أتوا بهذه الكتب، وادعوا أنها نزلت عليهم من عند الله تعالى افتقروا إلى إثبات هذه الدعوى إلى دليل حتى يحصل الفرق بين دعواهم ودعوى الكاذبين، فلما أظهر الله تلك المعجزات على وفق دعواهم حصلت المفارقة بين دعوى الصادق، ودعوى الكاذب، فالمعجزة هي الفرقان، فلما ذكر الله تعالى أنه نزل الكتاب بالحق، وأنزل التوراة والإنجيل من قبل ذلك بين أنه تعالى أنزل معها ما هو الفرقان الحق، وهو المعجز القاهر الذي يدل على صحتها، ويفيد الفرق بينها وبين سائر الكتب المختلفة، فهذا ما عندي «. ويمكن أن يجاب بأنه إذا قلنا: المراد به جميع الكتب السماوية، فيزول الإشكال الذي ذكره، ويكون هذا من باب ذكر العام بعد الخاص كقوله تعالى: {فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَآئِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} [عبس: 27 - 31] . قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ} يحتمل أن يرتفعَ» عَذَابٌ «بالفاعلية بالجار قبله، لوقوعه خبراً عن» إنَّ «ويحتمل أن يرتفعَ على الابتداء، والجملة خبر» إنَّ «والأول أولى؛ لأنه من قبيل الإخبار بما يقرب من المفردات و» انتقام «افتعال، من النقمة وهي السطوة والتسلط، ولذلك عبر بعضهم عنها بالمعاقبة، يقال: نَقَمَ - بالفتح - وهو الأفصح، ونَقِم - بالكسر - وقد قُرِئ بهما ويقال: انتقم من انتم، أي: عاقبه وقال الليث: ويقال لم أرض عنه، حتى نقمت، وانتقمت إذا كافأه عقوبة بما صنع. وسيأتي له مزيد بيان في المائدة إن شاء الله تعالى. فصل اعلم أنه تعالى لما قرر جميع ما يتعلق بمعرفة الإله أتبع ذلك بالوعيد؛ زَجْراً للمعرضين عن هذه الدلائل الباهرةِ، فقال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} فخصَّ بعضُ المفسّرين ذلك بالنصارى؛ قَصْراً للفظ العام على سبب نزوله. وقال المحقِّقون: الاعتبار بعموم اللفظ، فهو يتناول كل من أعرض عن دلائل الله {والله عَزِيزٌ} ، أي: غالب لا يُغْلَب، وهذا إشارة إلى القدرة التامة على العقاب، و {ذُو انتقام} إشارة إلى كونه فاعلاً للعقاب، فالأول صفة الذات، والثاني صفة الفعل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 هذا الكلام يحتمل وجهَيْنِ: الأول: أن يُنَزَّلَ على سبب النزول؛ وذلك لأن النصارى ادَّعَوُا الإلهيةَ لعيسَى؛ لأمور: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 23 أحدها: العلم، فإنه كان يُخْبِر ن الغيوب، ويقول لهذا: إنك أكلت في دارك كذا، ويقول لذلك: إنك صنعت في دارك كذا. الثاني: القدرة، وهي أن عيسى كان يُحْيي الموتَى، ويُبرئ الأكمه والأبرص، ويخلق من الطين كهيئة الطير، ثم ينفخ فيه فيكون طيراً. الثالث: من جهة الإلزام المعنويّ، وهو أنه لم يكن له أبٌ من البشر. الرابع: من جهة الإلزام اللفظي، وهو قولهم لنا: أنتم تقولون: إنه روح الله، وكلمته. فالله تعالى استدل على بطلان قولهم بإلهية عيس، والتثليث بقوله: {الحي القيوم} ، فالإله يجب أن يكون حيًّا قَيُّوماً، فلزم القطعُ بأنه لم يكن إلهاً، وأجاب عن شبهتهم بعلم الغيوب بقوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} ، وكون عيسى عالماً ببعض المغيِّبات، لا يدل على كونه إلهاً؛ لاحتمال أنه عَلِم ذلك بوحي من الله تعالى، فعدم إحاطته بكل المغيَّبات يدل قطعاً على أنه ليس بإله؛ لأن الإله هو الذي لا يَخْفَى عليه شيء في الأرض، ولا في السماء؛ لأنه خالقهما، والخالق لا بد وأن يكون عالماً بمخلوقه، ومن المعلوم بالضرورة أن عيسى ما كان عالماً بجميع المغيَّبات، وكيف والنصارى يقولون: إنه قُتِل، فلو كان يعلم الغيب، لعلمَ بأن القوم يريدون قتله، فكان يفر منهم قبل وصولهم إليه، وأما تعلقهم بقدرته على إحياء الموتى، فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} وتقديره: أن حصول الإحياء لعيسى في بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً؛ لاحتمال أنَّ الله تعالى أكرمه بذلك إظهاراً لمعجزته، وعجزه عن الإحياء في بعض الصور يوجب قطعاً عدم إلهيته، لأن الإله هو القادر على أن يُصَوِّرَ في الأرحام من قطرة صغيرة من النطفة هذا التركيب العجيب، فلو كان عيسى قادراً على الإحياء، والإماتة، لأمات أولئك الذين أخذوه وقتلوه - على زعمهم - فثبت أن الإحياء والإماتة في بعض الصور لا تدل على كونه إلهاً، وكذلك عدم حصول الإحياء والإماتة له في كل الصور دليل على أنه ما كان إلهاً. وأما الشبهة الثالثة وهي الإلزام المعنويّ بأنه لم يكن له أب من البشر، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} فإن شاء صوره من نطفة [الأب] ، وإن شاء صوره ابتداء من غير الأب، كما خلق آدم من غير ابٍ أيضاً ولا أمّ. وأما قولهم لنا: أنتم تقولون: إنه روح الله وكلمته، فهذا الإلزام لفظي، وهو محتمل للحقيقة والمجاز، فإذا ورد لفظ يكون ظاهره مخالفاً للدليل العقلي كان من باب المتشابهات، فوجب ردُّه إلى التأويل، وذلك هو المراد بقوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 24 مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران: 7] ، فظهر بما ذكرنا أن قوله: {الحي القيوم} يدل على أن المسيح ليس بإله، ولا ابن الإله. وقوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} جواب عن تعلُّقهم بالعلم، وقوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} جواب عن تمسُّكهم بقدرته على الإحياء والإماته، وعن تمسُّكهم بأنه ما كان له أب من البشر، وقوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} جوابٌ عن تمسُّكهم بما ورد في القرآنِ من أن عيسى روحُ الله وكلمته. الحتمال الثاني: أنه تعالى لما ذكر أنه قيوم، والقيوم هو القائم بإصلاح مصالح [الخلق] ، وذلك لا يتم إلا بأمرين: الأول: أن يكون عالماً بجميع حاجاتهم بالكمية والكيفية. الثاني: أن يكون قادراً على دَفْع حاجاتهم، فالأول لا يتم إلا إذا كان عالماً بجميع المعلومات، والثاني لا يتم إلا إذا كان قادراُ على جميع الممكنات، ثم إنه استدل على كونه عالماً بجميع المعلومات بقوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} وذلك يدل على كمال علمه، وإثبات كونه عالماً لا يجوز أن يكون بالسمع؛ لأن معرفة صحة السمع موقوفة على العلم بكونه تعالى عالماً ما بجميع المعلومات، وإنما الطريق إليه بالدليل العقلي، وذلك بأن نقول: إن أفعال الله محكمة متقنة والفعل المُحْكَم المتقَن يدل على كون فاعله عالماً، وإذَا كان دليل كونه تعالى عالماً ما ذكرنا، فحين ادعى كونه عالماً بجميع المعلومات بقوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} [أتبعه] بالدليل العقلي، وهو أنه يُصَوِّرُ في ظلمات الأرحام هذه البنيةَ العجيبةَ ويركبها تركيباً غريباً من أعضاء مختلفة في الشكل والطبع والصفة، فبعضها أعصاب، وبعضها أوردة، وبعضها شرايين، وبعضها عضلات، ثم إنه ضَمَّ بعضها إلى بعض على أحسن تركيب وأكمل تأليف، وذلك يدل على كمال قدرته، حيث قدر أن يخلق من قطرة من نطفةٍ هذه الاعضاءَ المختلفةَ في الطبع والشكل واللون، فدلَّ هذا الفعلُ المُحْكَم المتقَن على كمال علمه وقدرته. قوله: {فِي الأرض} يجوز أن يتعلق ب «يخفى» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «شيء» . فصل المراد بقوله: {إِنَّ الله لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء} أي: لا يخفى عليه شيء. فإن قيل: ما فائدة قوله: «فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء» مع أنه لو أطلق لكان أبلغ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 25 فالجواب: أن الغرض منه إفهام العباد كمال علمه، وفهمهم هذا المعنى عند ذكر السموات والأرض أقوى؛ لأن الحس يرى عظمة السموات والأرض، فيُعين العقل على معرفة عظمة علم الله تعالى، والحس متى أعان العقل على المطلوب كان الفهم أتم، والإدراك أكمل، ولذلك فإن المعانيَ الدقيقةَ إذا أريد إيضاحُها ذُكِر لها مثال؛ فإن المثال يُعِين على الفهم. قوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام} تحتمل هذه الجملة أن تكون مستأنفةً سيقت لمجرد الإخبار بذلك، وأن تكون في محل رفع خبراً ثانياً لإنَّ. قوله: {فِي الأرحام} يجوز أن يتعلق ب «يُصَوِّرُكُمْ» وهو الظاهر، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من مفعول «يُصَرِّرُكُمْ» أي: يصوركم وأنتم في الأرحام مُضَغٌ. وقرأ طاوسُ: تَصَوَّرَكُمْ - فعلاً ماضياً - ومعناه: صوركم لنفسه، ولتعبدوه، وتَفَعَّل يأتي بمعنى فَعَّل، كقولهم: تأثلث مالاً، وأثَّلته، أي: جعلته أثلة أي: أصلاً، والتصوير: تفعيل من صاره، يصوره، أي: أماله وثناه، ومعنى صوره: جعل له صورة مائلة إلى شكل أبويه. والصورة: الهيئة يكون عليها الشيء من تأليف خاص، وتركيب منضبط، قاله الواحدي وغيره. والأرحام: جمع رحم، وأصلها الرحمة، وذلك لأن الاشتراك في الرحم يوجب الرحمة، والعطف، فلهذا سُمِّيَ العُضْوُ رَحِماً. قوله: {كَيْفَ يَشَآءُ} في أوجه: أظهرُها: أنَّ «كَيْفَ» للجزاء، وقد جُوزِيَ بها في لسانهم في قولهم: كيف تَصْنَعُ أصنع، وكيف تكونُ أكونُ، إلا أنه لا يُجْزَمُ بهما، وجوابها محذوف؛ لدلالة ما قبلها عليه، وكذلك مفعول «يشاء» لما تقدم أنه لا يُذْكَر إلا لغرابة والتقدير: كيف يشاء تصويركم يصوركم، فحذف تصويركم؛ لأنه مفعول «يَشَاءُ» ويصوركم؛ لدلالة «يُصَوِّرُكُمْ» الأول عليه، ونظيره قولهم: أنت ظكالم إن فعلتَ، تقديره: أنت ظالم إن فعلتَ فأنتَ ظالمٌ. وعند مَنْ يُجيز تقديمَ الجزاء في الشرط الصريح يجعل «يُصَوِّرُكُمْ» المتقدم هو الجزاء، و «كَيْفَ» منصوب على الحال بالفعل بعده، والمعنى: على أي حالٍ شاء أن يصوركم صوركم، وتقدم الكلام على ذلك في قوله «كيف تكفرون» ولا جائز أن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 26 يكون «كَيْفَ» معمولة «يُصَوِّرُكُمْ» ؛ لأن لها صدرَ الكلام، وما له صدر الكلام لا يعمل فيه إلا أحدُ شيئين: إما حرف الجر نحو بمن تمر؟ وإما المضاف نحو غلامُ مَنْ عندَك؟ الثاني: أن يكون «كَيْفَ» ظرفاً ل «يَشَاءُ» والجملة في محل نصب على الحال من ضمير اسم الله تعالى، تقديره: يصوركم على مشيئته، أي: مُريداً. الثالث: كذلك إلا أنه حال من مفعول «يُصَوِّرُكُمْ» تقديره: يصوركم متقلبين على مشيئته. ذكر الوجهين أبو البقاء، ولما ذكر غيره كونها حالاً من ضمير اسم الله تعالى قدرها بقوله: يصوركم في الأرحام قادراً على تصويركم مالكاً ذلك. الرابع: أن تكون الجملة في موضع المصدر، المعنى: يصوركم في الأرحام تصوير المشيئة كما يشاء قاله الحوفي، وفي قوله: الجملة في موضع المصدر تسامح؛ لأن الجمل لا تقوم مقام المصادر، ومراده أن «كَيْفَ» دالة على ذلك، ولكن لما كانت في ضِمْن الجملة نسب ذلك إلى الجملة. فصل في معنى الآية معنى: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} ذكراً أو أنثى، أبيضَ أو أسودَ، حسناً أو قبيحاً، تاماً أو ناقصاً، وقد ذكرنا أن هذا رَدٌّ على وفد نجران؛ حيث قالوا: عيسى ولد الله وكان يقول: كيف يكون ولده وقد صوره في الرحم؟ ثم إنه لما أجاب عن شبهتهم أعاد كلمة التوحيد؛ زَجْراً للنصارى عن قولهم بالتثليث فقال: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} و «الْعَزِيزُ» إشارة إلى كمال القدرةِ، يعني أن قدرته أكمل من قدرة عيسى على الإماتة والإحياء، و «الْحَكِيمُ» إشارة إلى كمالِ العلم، يعني: أن علمه أكملُ من علم عيسى بالغيوبِ؛ فإن علمَ عيسى ببعض الصُّوَرِ، وقَدرته على بعض الصور لا يدل على كونه إلهاً، وإنما الإله هو الذي يكون قادراً على كل الممكناتِ، عالماً بجميع الجزئيات والكليات. قال عبد الله بن مسعود: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو الصادقُ المصدوقُ - «إنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَ عُ خَلْقُهُ في بطن أمه أرْبَعِينَ يَوْماً نُطْفَةً، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةٌ مثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةٌ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَل إلَيْهِ المَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيه الرُّوحَ، وَيُؤمَرُ بأرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَعَمَلِهِ، وَأجَلِهِ، وَشَقِيّ أوْ سَعِيد، فَوَالَّذِي لاَ إلَه غَيْرَهُ إنَّ أحدَكُم لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ حَتَى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ فَيَسْبقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 27 فَيَدْخُلَهَا، وَإنَّ أحَدَكُمُ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسبقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ فَيَدْخُلَهَا» . وعن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَ مَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحم بِأرْبَعِينَ أوْ خَمْسَةٍ وَأرْبَعِينَ يَوْماً، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ أشَقِيٌّ أوْ سَعِيدٌ؟ فَيُكْتَبَانِ، فَيَقُول: أيْ رَبِّ أذَكَرٌ أوْ أنْثَى؟ فَيُكْتَبَان، وَيُكْتِبُ عَمَلُهُ، وَأثَرهُ، وَأجَلُهُ، ورِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلاَ يُزَادُ فِيهَا وَلاَ يُنْقَصُ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 وَجه النَّظْمِ على الاحتمال الأول في الآية المتقدمة أن النصارى تمسكوا - في بعض شُبَهِهِمْ - بما جاء في القرآن من صفة عيسى عليه السلام أنه روحُ اللهِ وكلمتُه، فبَيَّن الله تعالى بهذه الآيةِ أن القرآن مشتمل على مُحْكَم ومتشابه، والتمسّك بالمتشابهاتِ غيرُ جائزٍ - هذا على الاحتمال الأول في الآيةِ المتقدمةِ، وعلى الثاني - أنه تعالى لما بين أنه قيوم، وهو القائم بمصالح الخلق، والمصالح قسمان: جسمانية، وروحانية، فالجسمانية أشرفها تعدليل البنية على أحسن شكل، وهو المراد بقوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام} [آل عمران: 6] وأما الروحانية فِأشرفُها العِلْمُ، وهو المراد بقوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} قوله: {مِنْهُ آيَاتٌ} يجوز أن تكون «آيَاتٌ» رَفْعاً بالابتداء، والجار خبره، وفي الجملة على هذا وجهانِ: أحدهما: أنها مستأنفة. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من «الْكِتَابِ» أي: هو الذي أنزل الكتاب في هذه الحال، أي: منقسماً إلى محكم ومتشابهٍ. ويجوز أن يكون «منه» هو الحال - وحده - وآيات: رفع [به]- على الفاعلية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 28 و {هُنَّ أُمُّ الكتاب} يجوز أن تكون الجملةُ صفةٌ للنَّكِرَةِ قَبْلَهَا، ويجوز أن تكونَ مستأنفةً. وأخْبَرَ بلفظ الواحد «أمُّ» عن جمع «هُنَّ» إمَّا لأن المرادَ أن كل واحدةٍ منه أمٌّ، وإمَّا لأن المجموعَ بمنزلة آية واحدةٍ، كقوله: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ، وإما لأنه مفرد واقع موقع الجمع، كقوله: {وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] . وقوله: [الوافر] 1322 - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . وقوله: [الطويل] 1323 - بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى فَأمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وَأمّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ وقال الأخفش: وَحَّد «أمُّ الْكِتَابِ» بالحكاية على تقدير الجواب، كأنه قيل: ما أمُّ الكتاب؟ فقال: هن أم الكتاب، كما يقال: مَن نظيرُ زَيْدٍ؟ فيقول قوم: نحن نظيره، كأنهم حكوا ذلك اللفظ، وهذا على قولهم: دعني من تمرتان، أي: مما يُقَال له: تمرتان. قال ابنُ الأنباري: «وهذا بعيد من الصواب في الآية؛ لأن الإضمار لم يقم عليه دليل، ولم تدع إليه حاجةٌ» . وقيل: لأنه بمعنى أصْل الكتاب، والأصْل يُوَحَّد. قوله: «وأُخَر» نسق على «آيات» و «متشابهات» نعت ل «أخر» ، وفي الحقيقة «أخر» نعت لمحذوف تقديره: وآيات أخر متشابهات. قال أبو البقاء: فإن قيل: واحدة [متشابهات: متشابهة، وواحدة أخر: أخرى، والواحد هنا - لا يصح أن يُوصَف بهذا الواحد -، فلا يقال: أخرى متشابهة] ، إلا أن يكون بعض الواحدة يشبه بعضاً، وليس المعنى على ذلك، إنما المعنى أن كل آية تشبه آيةٌ أخرى، فكيف صح وصف هذا الجمع بهذا الجمع ولم يصح وصْف مفردِه بمفردِه؟ قيل: التشابهُ لا يكون إلا بين اثنين فصاعداً، فإذا اجتمعت الأشياء المتشابهة كان كل واحدٍ منها مشابهاً للآخر، فلما لم يصح التشابه إلا في حالةِ الاجتماعِ وُصِفَ الجمعُ بالجمعِ؛ لأن كل واحد منها يشابه باقيها، فأما الواحد فلا يصح فيه هذا المعنى، ونظيره قوله: {فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ} [القصص: 15] فثنَّى الضمير، وإن كان الواحد لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 29 يقتتل، يعني أنه ليس من شرط صحة الوصف في التثنية أو الجمع صحة انبساط مفردات الأوصاف على مفردات الموصوفات، وإن كان الأصل ذلك كما أنه لا يُشترط في إسناد الفعل إلى المثنى والمجموع صحة إسناده إلى كل واحد على حدته، وقريب من ذلك قوله: {حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ العرش} [الزمر: 75] ، وقيل: ليس لِ «حَافينَ» مفرد؛ لأنه ولو قيل: حافّ لم يَصِحّ؛ إذ لا يتحقق الحفوف في واحد فقط، إنما يتحقق بجمع يُحيطون بذلك الشيءِ المحفوفِ [وسيأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله تعالى] . فصل اعلم أن القرآن الكريمَ كلَّه مُحْكَمٌ من دجهة الإحكام والإتقان والفصاحة وصحة المعاني، وكونه كلاماً حقًّا؛ لقوله تعالى: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} [هود: 1] ، وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} [يونس: 1] فهو أفضل من كل كلام يُوجَد في هذه المعاني، ولا يمكن أحد أن يأتي بكلام يساويه فيها، والعرب تقول في البناء الوثيق، والعقد الوثيق الذي لا يمكن حَلُّه: مُحْكَم، وكلُّه متشابه من حيث إنه يشبه بعضهُ بعضاً في الحُسن، ويصدِّقُ بعضُهُ بعضاً؛ لقوله تعالى: {كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ} [الزمر: 23] . وذكر في هذه الآيةِ أن بعضه مُحْكَمٌ، وبعضه متشابه. واختلف المفسّرون في المحكم - هنا - والمتشابه، فقال ابنُ عباس: المحكمات هي الآيات الثلاث في سورة الانعام، {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 151] الآيات، ونظيرها في بني إسرائيل {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] . وعنه أنه قال: المتشابهات: حروف التهجي في أوائل السور. وقال مجاهد وعكرمة: المحكم: ما فيه الحلال والحرام، وما سوى ذلك متشابه، يشبه بعضه بعضاً في الحق، ويصدق بعضه بعضاً، كقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] ، وقوله: {وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} [يونس: 100] . وقال قتادة والضحاك والسُّديُّ: المحكم: الناسخ الذي يُعْمَل به، والمتشابه: المنسوخ الذي لا يُعْمَل به ويؤمن به، ورَوَى علي بن أبي طلحةَ عن ابن عباس قال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 30 محكمات القرآن: ناسخه، وحلالُه، وحرامُه، وحدودُه، وفرائضُه، وما يؤمن به ولا يُعْمَل به. وقيل المحكمات: ما أوقف الله الخلقَ على معناها، والمتشابه: ما استأثر الله بعلمه، ولا سبيل لأحد إلى علمه نحو الخبر عن أشراط الساعة من خروج الدجالِ، ونزول عيسى عليه السلام وطلوع الشمس من مغربها وقيام الساعة، وفناء الدنيا. وقال محمد بن جعفر بن الزبير: المُحْكَم ما لا يَحْتَمل من التأويل غير وجه، والمتشابه ما احتمل أوجهاً. وقيل: المحكم: ما يعرف معناه، وتكون حُجَجُه واضحةً، ولا تشتبه دلائله، والمتشابه: هو الذي يُدرك علمه بالنظر، ولا يَعْرِفُ العوامُّ تفصيلَ الحق فيه من الباطل، وقيل المحكم: ما يستقل بنفسه في المعنى، والمتشابه: ما لا يستقل بنفسه بل يُرَدّ إلى غيره. فصل «في تفسير المحكم في أصل اللغةِ» : العرب تقول: أحكمتُ وحكمتُ بمعنى رددتُ، ومنعت، والحاكم يمنع الظالمَ عن الظلم، وحَكَمَةُ اللجامِ هي التي تمنعُ الفرسَ عن الاضطرابِ، وفي حديث النَّخَعِيِّ: أحْكم اليتيم كما تُحْكِمُ وَلدَك، أي: امنعه من الفساد. وقال جَرير: [الطويل] 1324 - أبَنِي حَنِيفَةَ أحْكِمُوا سُفَهَاءَكُم ..... ... ... ... ... ... ... ... . أي: امنعوهم. وبناءٌ مُحْكَم: أي: وثيق، يمنع مَنْ تعرَّض له، وسُمِّيت الحكمةُ حكمةً؛ لأنها تمنعُ عما لا ينبغي. والمتشابه: هو أن يكون أحد الشيئين مشابهاً للآخر، بحيث يعجز الذهن عن التمييز [ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 31 بينهما] ، قال تعالى: {إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] ، وقال في وصف ثمارِ الجنةِ: {وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِها} [البقرة: 25] أي: مُتَّفِق المنظر، وقال تعالى: {تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُم} [البقرة: 118] ، ويقال: أشبه عليَّ الأمر إذا لم يَظْهَر له الفرق ويقال لأصحاب المخاريق: أصحاب الشبه، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الْحَلاَلُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا أمُورٌ مُتَشابِهَاتٌ» وفي رواية مشتبهات، ثم لما كان من شأن المتشابهَيْن عَجْزُ الإنسانِ عن التمييز بينهما، سمِّي كلُّ ما لا يَهْتَدِي إليه الإنسان بالمتشابه؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبَّب، ونظيره المشكل، سُمِّي بذلك؛ لأنه أشكل أي: دخل في شكل غيره، فأشبهه وشَاكَله، ثُمَّ يقال لكل ما غَمُضَ - وإن لم يكن غموضُه من هذه الجهةِ - مشكلاً، ولهذا يُحْتَمَل أن يقال للذي لا يُعْرَف ثبوتُه أو عدمُه، وكان الحكم بثبوته مساوياً للحكم بعدمه في العقل والذهن ومشابهاً [له] ، ولم يتميز أحدُهما عن الآخر بمزيد رُجْحَان، فلا جرم يُسَمَّى غير المعلوم بأنه متشابه. قال ابن الخطيبِ: «فهذا تحقيق القول في المحكم والمتشابه بحسب أصل اللغةِ، والناس قد أكثروا في تفسير المحكَم والمتشابه، ونحن نذكر الوجهَ الملخص الذي عليه أكثر المحققين ثم نذكر عقيبه أقوال الناس فيه فنقول: إذا وُضِعَ اللفظ لمعنى فإما أن يحتمل غيره أو لا، فإن كان لا يحتمل غيره فهو النص، وإن احتمل غيرَه فإما أن يكونَ احتماله لأحدهما راجحاً على الآخر، فيكون بالنسبة إلى الراجح ظاهراً، وبالنسبة إلى المرجوح مؤولاً، وإن كان احتماله لهما على السوية، فيكون اللفظ بالنسبة إليهما معاً مشتركاً، وبالنسبة إلى كل واحد منهما على التعيين مجملاً، فحصل من هذا التقسيم أن اللفظ، إما أن يكون نصاً، أو ظاهراً، أو مؤولاً، أو مشتركاً، والنص والظاهر يشتركان في حصول الترجيح، إلا أن النص راجح مانع من الغير، فهذا القدر المشترك هو المسمَّى بالمحكَم، أما المجمل والمؤول، فهما يشتركان في أن دلالة اللفظ عليه غير راجحة [وإن لم يكن راجحاً، أو غير مرجوح، والمؤوَّل - مع أنه غير راجح - فهو مرجوح، لا بحسب الدليل المنفرد] ، فهذا القدر المشترك هو المسمَّى المتشابه؛ لأن عدم الفهم حاصل في القسمين جميعاً، وقد بينَّا أن ذلك يسمى متشابهاً، إما لأن الذي لا يُعْلَمُ يكون النفي فيه مشابهاً للإثبات في الذهن، وإما لأجل أن الذي [يحصل] فيه التشابه يصير غير معلوم، فيطلق لفظ» المتشابه «على ما لا يُعْلَم؛ إطلاقاً لاسم السبب على المسبب فهذا هو الكلام المحصَّل في المحكَم والمتشابه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 32 فصل روى البخاري عن سعيد بن جبيرٍ قال: قال رجلٌ لابن عباس: إني أجد في القرآن أشياء تختلف عليّ، قال: ما هي؟ قال: قوله: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [المؤمنون: 101] وقال: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 50] ، وقوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42] مع قولهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فقد كتموا في هذه الآية وفي «النازعات» قال: {أَمِ السمآء بَنَاهَا} [النازعات: 27] إلى قوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 27 - 30] فذكر خلق السماء قبل الأرض، وقال {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9 - 11] إلى: «طَآئِعِينَ» فذكر خلق الأرض قبل السماء وقال: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 100] {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} [النساء: 158] {وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} [النساء: 134] فكأنه كان ثم مضى. فقال ابن عباس: معنى قوله: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُم} النفخة الأولى ثم يُنْفَخُ في الصور فيُصْعَق مَن في السموات ومن في الأرض إلا مَنْ شَاءَ الله، فلا أنساب بينهم عند ذلك، وفي النفخة الأخيرة أقبل بعضهم على بعض يتساءلون. أما قولهم: {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} أي: أن الله يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم، فيقول المشركون: تعالوا نقول: ما كنا مشركين، فيختم الله على أفواههم، وتنطق جوارحُهم بأعمالهم، فعند ذلك لا يكتمون الله حديثاً، وعنده {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ} [الحجر: 2] ، وخلق الأرض في يومين ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دَحا الأرض، بسطها فأخرج منها الماء والمرعى، وخلق فيها الأشجار والجبال [والآكام] وما بينهما في يومين آخرين، وذلك قوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} فخلق الأرض وما فيها في أربعة ايام وخلق السماء في يومين. وقوله: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} يعني نفسه، أي: لم يزل، ولا يزال كذلك، وأن الله لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراده ويحك، فلا يختلف عليك القرآنُ، فإن كُلاًّ من عند الله. فصل في الفوائد التي لأجلها جُعِل بَعْضُ القرآن محْكَماً، وبعضهُ متشابهاً. قال ابن الخطيبِ: «طعن بعضُ الملحدة في القرآن؛ لأجل اشتماله على المتشابهات، وقالوا: إنكم تقولون: إن تكاليف الخلق مرتبطة بهذا القرآن إلى يوم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 33 القيامة، ثم إنا نراه بحيث يتمسك به كل صاحب مذهب على مذهبه، فالجبري يتمسك بآيات الجبر كقوله: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْرا} [الأنعام: 25] ، والقدَريُّ يقول: بل هذا مذهب الكفار؛ بدليل أنه تعالى حكى ذلك عن الكفار في معرض الذم لهم في قوله: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْف} [البقرة: 88] ، وأيضاً مثبت الرؤية يتمسك بقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 232 - 23] ، والنافي يتمسك بقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103] ، ومثبت الجهة يتمسك بقوله: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِم} [النحل: 50] وقوله: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] والنافي يتمسك بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْء} [الشورى: 11] ثم إن كل واحد يسمي الآيات الموافقة لمذهبه محكمة، والآيات المخالفة لمذهبه متشابهة، وإنما يُرْجَع في ترجيح بعضها على البعض إلى ترجيحات خفية، ووجوه ضعيفة، فكيف يليق بالحكيم أن يجعل الكتاب الذي هو المرجوع إليه في كل الدين إلى قيام القيامة هكذا أليس أنه لو جعله ظاهراً جلياً خالياً عن هذه المتشابهات كان أقرب إلى حصول الغرض؟ فذكر العلماء في فوائد المتشابهات وجوهاً: الأول: أنه متى ك انت المتشابهات موجودة كان الوصول إلى الحق أصعب وأشق، وزيادة المشقة توجب مزيد الثواب. الثاني: أن القرآن إذا كان مشتملاً على المحكَم والمتشابه افتقر الناظر إلى الاستعانة بدليل العقل، وحينئذ يتخلص عن ظلمة التقليد، ويصل إلى ضياء الاستدلال، ولو كان كله محكماً لم يفتقر إلى التمسك بالدلائل العقلية، وكان يبقى - حينئذٍ - في الجهل والتقليد. الثالث: أن القرآن لما كان مشتملاً على المحكم والمتشابه افتقر إلى تعلم طرق التأويلات، وترجيح بعضها على بعض، وافتقر في تعلم ذلك إلى تحصيل علوم كثيرة من علوم اللغة، والنحو، وأصول الفقه، ولو لم يكن الأمر كذلك لما كان الإنسان يحتاج إلى تحصيل هذه العلوم الكثيرة، فكان في إيراد هذه المتشابهات هذه الفوائد. الرابع: أن القرآن يشتمل على دعوة الخواص، والعوامّ بالكلية، وطباع العوام تنبو - في أكثر الأمر - عن إدراك الحقائق، فمن سمع من العوام - في أول الأمر - إثبات موجود ليس بجسم ولا متحرك ولا يشار إليه ظَنَّ بأن هذا عَدَم ونَفْي، فوقع في العطيل، فكان الأصلح أن يخاطَبوا بألفاظ دالة على بعض ما يناسب ما توهموه، وتخيلوه، ويكون ذلك مخلوطاً بما يدل على الحق الصريح فالمخاطبة في أولِ الأمرِ تكون من أبواب المتشابهات، والثاني وهو الذي انكشف لهم في آخر الأمر هو المحكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 34 الخامس: [لو ك ان القرآن محكماً بالكلية لما كان مطابقاً إلا لمذهب واحد، وكان تصريحه مبطلاً لكل ما سوى ذلك المذهب، وذلك مما يُنَفِّر أربابَ المذاهب عن قبوله، وعن النظر فيه، فالانتفاع به إنما حصل لما كان مشتملاً على المحكَم والمتشابه، فحينئذ يطمع صاحب كلِّ مذهب أن يجدَ فيه ما يقوي له حكمه ويُؤثِرُ مقالته، فحينئذ ينظر فيه جميعً أرباب المذاهب، ويجتهد في التأمل فيه كلُّ صاحب مذهب، فإذا بالغوا في ذلك صارت المحكمات مفسرة للمتشابهات، فبهذا الطريق يتخلص المبطل عن باطله، ويصل إلى الحق، والله أعلم] . قوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} يجوز أن يرتفع «زيغ» بالفاعلية؛ لأن الجار قبله صلة لموصول، ويجوز أن يكون مبتدأ، وخبره الجار قبله. قوله «الزيغ» قيل: المَيْل [مطلقاً] ، وقال بعضهم: هو أخَصُّ من مطلق الميل؛ فإن الزيع لا يقال إلا لما كان من حق إلى باطل. قال الراغب: «الزيغُ: الميلُ عن الاستقامة إلى أحد الجانبين، وزاغَ وزالَ ومالَمتقاربٌ، لكن زاغ لا يقال إلا فيما كان من حق إلى باطل» انتهى. يقال: زاغ يَزيغُ زَيْغاً، وزَيْغُوغَةً وزَيغَاناً، وزُيوغاً. قال الفراء: والعرب تقول في عامة ذواتِ الياء - فيما يُشْبه زِغْت - مثل: سِرْتُ، وصِرْتُ، وطِرْتُ: سَيْرورة، وصَيْرورة، وطَيْرُورة، وحِدت حَيْدودة، ومِلت ميلولة. . لا أحصي ذلك، فأما ذواتُ الواوِ مثل قُلْت، ورُضْت، فإنهم لم يقولوا ذلك إلا في أربعة ألفاظٍ: الكَيْنُونة والدَّيْمومة - من دام والهَيْعُوعَة - من الهُوَاع، والسَّيْدودَة - من سُدت -، ثم ذكر كلاماً كثيراً غير متعلق بما نحن فيه. وقد تقدم الكلام على هذا المصدر، وأنه قد سمع في هذا المصدرِ الأصل - وهو كَينُونة - في قول الشاعر: [الرجز] 1325 - يَا لَيْتَنَا قَدْ ضَمَّنَا سَفِينَهْ ... حَتَّى يَعُودَ الوَصل كَيَّنُنَهْ قوله: «ما تشابه» مفعول الاتباع، وهي موصولة، أو موصوفة، ولا تكون مصدريةً؛ لعَوْد الضمير من «تشابه» عليها، إلا على رأيٍ ضعيفٍ، و «مِنه» حال من فاعل «تَشَابه» أي تشابه حال كونه بعضه. قوله: «ابْتِغَاءَ» منصوب على المفعول له، أي: لأجل الابتغاء، وهو مصدر مضاف لمفعوله. والتأويل: مصدر أوَّل يُؤوِّلُ، وفي اشتقاقه قولان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 35 أحدهما: أنه من آل يَئُولُ أوْلاً، ومآلاً، أي: عَادَ، ورجع، وآلُ الرجلِ من هذا - عند بعضهم إلا أنهم يرجعون إليه في مُهِمَّاتِهِم ويقولون: أولتُ الشيء: أَي: صرفته لوجهٍ لائقٍ به فانصرف، قال الشاعر: [السريع] 1326 - أؤَوِّلُ الْحُكْمَ عَلَى وَجْهِهِ ... لَيْسَ قَضَائِي بِالْهَوَى الْجَائِرِ وقال بعضهم: أوَّلت الشيء، فتأول، فجعل مطاوعه تفعل، وعلى الأول مطاوعه فعل، وأنشد الأعشى: [الطويل] 1327 - عَلَى أنَّهَا كَانَتْ تَأوَّلُ حُبَّهَا ... تَأوُّلَ رِبْعِيِّ السِّقَابِ فأصْحَبَا أي: يعني أن حبها كان صغيراً، قليلاً، فآل إلى العِظَم كما يَئُول السَّقْبُ إلى الكِبر، ثم قد يُطْلَق على العاقبة، والمردِّ؛ لأنَّ الأمر يصير إليهما. الثاني: أنه مشتق من الإيَالَةِ، وهي السياسةُ، تقول العر: قَدْ ألْنَا وَإيلَ عَلَيْنَا، أي: سُسْنَا وساسَنا غيرُنا، وكأن المؤوِّلَ للكلام سايسهُ، والقادر عليه، وواضِعه موضعَه، نُقِل ذلك عن النضر بن شميل. وفرق الناس بين التفسير والتأويل في الاصطلاح بأن التفسير مقتصر به على ما لا يُعْلَم إلاَّ بالتوقيف كأسباب النزول، ومدلولات الألفاظ، وليس للرأي فيه مَدْخَل، والتأويل يجوز لمن حصلت عنده صفة أهلِ العلمِ، وأدواتٌ يقدر أن يتكلم بها إذا رجع بها إلى أصولٍ وقواعدَ. فصل روى ابنُ عباسٍ: أن رَهْطاً من اليهود منهم حُيَيّ بنُ أخْطَبَ، وكعبُ بنُ الأشرف ونظراؤهما أتوا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له حُيَيّ: بلغنا أنه نزلَ عليك الم، فننشدك الله، أنزل عليك؟ قال: نَعَمْ، قال: فإن كان ذلك حقاً فأنا أعلم مدّة مُلْك أمتك، هي إحْدى وسبعون سنة فهل أنزل غيرُها؟ قال: نعم، المص، قال: هذه أكثر، هي مائة وإحدى وثلاثون سنة، فهل أنزل غيرها؟ قال: نعم، المر، قال: هذه أكثر، هي مائتان وإحدى وسبعون سنة، وقد خَلَّطتَ علينا، فلا ندري ابكثيره نأخذ، أم بقليله ونحن ممن لا يُؤمن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 36 بهذا؟ فأنزلَ الله {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} . وقال الربيع: هم وَفْدُ نجرانَ، خاصموا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في عيسى، وقالوا: ألست تزعم أنه كلمةُ الله وروح منه؟ قال: بلى، قالوا: حَسْبُنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، ثم أنزل: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] . قال ابن جريج: هم المنافقون. وقال الحسن: هم الخوارج، وكان قتادة إذا قرأ هذه الآية {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} قال: إن لم يكونوا الحرورية والسبئية فلا أدري مَنْ هُمْ، وقال المحققون: إن هذا يَعُم جميعَ المبطلين، قالت عائشة: تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآيةَ منه آيات محكمة هي أم الكتاب وأخر متشابهات إلى قوله: أولي الألباب {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} فقال رسول الله: «فَإذَا رَأيْتَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأولَئِكَ الذين سمى الله فاحذرهم» وعن أبي غالب قال: «كنت أمشي مع أبي أمامة، وهو على حمار حتى إذا انتهى إلى درج مسجد دمشق، فإذا رؤوسٌ منصوبة، فقال: ما هذه الرؤوس؟ قيل: هذه رؤوس يُجاء بهم من العراق، فقال أبو أمامة: كلابُ النار، كلابُ النار، [كلابُ النار] أو قتلى تحت ظل السماء، طوبى لمن قَتَلهم وقتلوه - يقولها ثلاثاً - ثم بكى، فقلت: ما يُبْكيك يا أبا أمامة؟ قال: رحمةً لهم؛ إنهم كانوا من أهل الإسلام، فخرجوا منه، ثم قرأ: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب} الآية، ثم قرأ: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات} [آل عمران: 105] ، فقلت: يا أبا أمامة، هم هؤلاء؟ قال: نعم، قلت: أشيء تقوله برأيك، أم شيء سمعته من رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقال: إني إذَنْ لَجرِيء، إني إذاً لَجَريءٌ، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه سولم غيرَ مرةٍ ولا مرتين، ولا ثلاث، ولا أربع، ولا خمس، ولا ست، ولا سبع، ووضع أصبعيه في أذنيه، قال: وإلا فَصُمَّتَا، قالها ثلاثاً - ثم قال: سمعتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول «تَفرَّقَتْ بَنو إسرائيلَ على أحْدَى وسبعينَ فرقةً، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 37 واحدةٌ في الجَنَّةِ، وَسَائِرَهُم في النَّارِ، ولتزيدَنَّ عليهم هَذِهِ الأمةُ واحدةً، واحدةٌ في الجنَّة وسائرُهم في النّار» . فصل لما بيَّنَ الله تعالى أن الزائغِين يتَّبعون المتشابهِ بيَّن أنّ لهم فيه غرضَيْنِ: الأول: ابتغاء الفتنة. والثاني: ابتغاء التأويل. أما الفتنة فقا لالربيع والسدي: الفتنة: طلب الشرك. وقال مجاهد: ابتغاء الشبهات واللَّبْس، ليضلوا بها جُهَّالهم. وقال الأصم: متى وقعوا في المتشابهات، صَارَ بعضهم مخالفاً للبعض في الدين، وذلك يفضِي إلى التقاتل، والهَرْج والمَرْج. وقيل: المتمسك بالمتشابه يُقَرِّر البِدَع والأباطيل في قلبه، فيصير مفتوناً بذلك الباطلِ، عاكفاً عليه، لا يقلع عنه بحيلة ألبتة لأن الفتنة في اللغة: التوغُّل في محبة الشيء، يقال: فلان مفتون بطلب الدنيا، أي: مُوغِل في طلبها. وقيل: الفتنة في الدين هي الضلال عنه، [ومعلوم أنه لا فتنة، ولا فساد أعظم من الفتنة في الدين والفساد فيه] . وأما التأويل فقد ذكرنا تفسيره في اللغة، والفرق بينه وبين التفسيرز قد يسمى التفسيرُ تأويلاً قال تعالى: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} [الكهف: 78] ، وقال: {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [الإسراء: 35] ، وذلك لأنه إخبار عما يرجع إليه اللفظ من المعنى، والمراد منه: أنهم يطلبون التأويل الذي ليس عليه دليل من كتاب الله تعالى ولا بيان، كطلبهم أن الساعة متى تقوم؟ وأن مقادير الثواب والعقاب للمطيع والعاصي كم تكون؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 38 وقيل: ابتغاء التأويل: طلب عاقبته، وطَلَبُ أجَل هذه الأمة من حساب الجُمل؛ لقوله تعالى: {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [الإسراء: 35] أي: عاقبةً. وقول: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} اختلف الناسُ في هذا الموضع: فقال قوم: الواو في قوله: «وَالرَّاسِخُونَ» عاطفة على الجلالة، فيكونون داخلين في عِلْم التأويل وعلى هذا يجوز في الجملة القولية وجهان: أحدهما: أنها حال: أي: يعلمون تأويله حال كونهم قائلين ذلك. والثاني: أن تكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هم يقولون - وهذا قول مجاهد والربيع وهذا لقوله تعالى: {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى} [الحشر: 7] ثم قال {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ} [الحشر: 8] إلى أن قال: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] ثم قال: {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} ولهذا عطف على ما سبق ثم قال: {يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا} [الحشر: 10] يعني هم مع استحقاقهم الفيء الجزء: 5 ¦ الصفحة: 39 يقولون: {رَبَّنَا اغفر لَنَ} أي: قائلين على حال. وروي عن ابن عباس: أنه كان يقول في هذه الآية: أنا من الراسخين في العلم، وعن مجاهد: أنا ممن يعلم تأويله. وذهب الأكثرون إلى أن الواو في وقله: «والرَّاسِخُونَ» واو الاستئناف، فيكون مستدأ، وتم الكلام عند قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} والجملة من قوله: «يَقُولُونَ» خبر المبتدأ، وهذا قول أبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وعائشةَ، وعروة بن الزبير، ورواية طاوس عن ابن عباس وبه قال الحسنُ، وأكثر التابعين، واختاره الكسائي، والفرّاء، والأخفش، وقالوا: لا يعلم تأويلَ المتشابه إلا اللهُ، ويجوز أن يكون للقرآن تأويلٌ استأثر الله بعلمه لم يُطْلِع عليه أحداً من خلقه، كما استأثر بعلم السَّاعة، ووقت طلوع الشمس من مغربها، وخروج الدَّجَّالِ ونزول عيسى - عليه السلام - ونحوها، والخلق متعبدون بالمتشابه، والإيمان به، وفي المحكم في الإيمان به والعمل، ومما يُصَدّق ذلك قراءةُ عبد الله: «إنْ تأويلُه إلا عندَ الله والرَّاسِخُونَ في الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ. .» ، وفي حرف أبي: ويقول الراسخون في العلم آمنا به. قال عمر بن عبد العزيز - في هذه الآية -: انتهَى عِلْمُ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ بتأويل القرآن إلى أن قالوا: آمنا به، كل من عند ربنا. وهذا القول أقيسُ في العربية وأشبه بظاهر الآية، ويدل لهذا القول وجوه: أحدها: أنه ذم طالب المتشابه بقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ} . الثاني: أنه مدح الراسخين في العلم بأنهم {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ، وقال [في أول البقرة] : {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِم} [البقرة: 26] فهؤلاء الراسخون لو كانوا عالمين بتأويل المتشابه على التفصيل كان لهم في الإيمان به مدحٌ؛ لأن كل من عرف شَيئاً على سبيل التفصيلِ، فلا بد وأن يُؤمن به. الثالث: لو كان قوله: «وَالرَّاسِخًونَ» معطوفاً لصار قوله: {يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ} ابتداء، وهو بعيد عن الفصاحة، وكان الأولى أن يُقَالَ: وهم يقولون، أو يقال: ويقولون. فإن قيل: في تصحيحه وجهان: الأول: أن «يَقُولُونَ» خبر مبتدأ، والتقديرُ: هؤلاء العالمون بالتأويل يقولون آمنا. الثاني: أن يكون «يَقُولُونَ» حالاً من الراسخين. فالجواب: أن الأول مدفوع بأن تفسير كلام الله تعالى بما لا يحتاج معه إلى الإضمار أولى، والثاني أن ذا الحال هو الذي تقدم ذكره - وهو الراسخون - فوجب أن يكون قوله: «آمنا به» حالاً من الراسخينَ لا من «الله» وذلك ترك للظاهر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 40 رابعاً: قوله: {كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا} معناه أنهم آمنوا بما عرفوا تفصيله، وبما لا يعرفون تفصيله، ولو كانوا عالمين بالتفصيل في الكل، لم يبق لهذا الكلامِ فائدة. وخامسها: نُقل عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه قال: تفسير القرآن على اربعة أوجه: «تفسير لا يسمع أحداً جهلُه، وتفسير تعرفه العربُ بألسنتها، وتفسيرٌ تعرفه العلماء، وتفسيرٌ لا يعلمه إلا اللهُ تعالى» . وسئل مالك بن أنس عن قوله: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] فقال: «الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة» . والرسوخ: الثبوت والاستقرار ثبوتاً متمكّناً، فهو أخص من مطلق الثَّبَاتِ. قال الشاعر: [الطويل] 1328 - لَقَد ْ رَسَخَتْ فِي الْقَلْبِ مِنِّي مَوَدَّةٌ ... لِلَيْلَى أبَتْ آيَاتُهَا أن تُغَيَّرا «آمَنَّا بِهِ» في محل نصب بالقول، و «كُلٌّ» مبتدأ، أي: كله، والجار بعده خبره، والجملة نصب بالقول أيضاً. فإن قيل: ما الفائدة في لفظ «عِنْدِ» ولو قال: كل من ربنا لحصل المقصود؟ فالجوابُ: أن الإيمان بالمتشابه يحتاج فيه إلى مزيد من التأكيد. فإن قيل: لِمَ حُذِفَ المضاف إليه من «كُلٌّ» ؟ فالجوابُ: لأن دلالته على المضاف قوية، فالأمْنُ من اللَّبْسِ بعدَ الحذفِ حاصلٌ. قوله: {وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} مَدْحٌ للذين قالوا: آمنا، قال ابنُ عباسٍ ومجاهدٌ والسُّدِّيُّ: بقولهم آمنَّا سماهم الله راسخينَ في العلم، فرسوخهم في العلم قولهم: آمنا به - أي المتشابه - كلٌّ من عند ربنا - المحكم والمتشابه، وما علمناه، وما لم نعلم -. وقيل: الراسخونَ: علماء أهل الكتاب - كعبد الله بن سلام وأصحابه - لقوله تعالى: {لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُم} [النساء: 162] يعني الدارسين علم التوراة، وسُئِل مالك بن أنس عن الراسخينَ في العلمِ فقال: العالمُ العاملُ بما عَلِم، المتَّبع له. وقيل: الراسخ ي العلم من وُجِدَ في علمه أربعة أشياءٍ: التقوى بينه وبين الله، والتواضع بينه وبين الخلق، والزهد بينه وبين الدنيا، والمجاهدة بينه وبين نفسه. «وَمَا يذكَّرُ» يتَّعظ بما في القرآن {إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب} ذوو العقول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 اعلم أنه تعالى لمَّا حكى عن الراسخين أنهم يقولون: «آمنا به» ، حكى أنهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 41 يقولون: ربنا لا تزغ قلوبنا وحذف يقولون؛ لدلالة الأول عليه، كما في قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلا} [آل عمران: 191] . قال القرطبيُّ: ويجوز أن يكون المعنى: قل يا محمدُ. قوله: «لا تُزغْ» العمة على ضَمِّ حَرْف المضارعةِ، من أزاغ يزيغ، و «قُلُوبَنَا» مفعول به، وقرأ أبو بكر بن فايد وأبو واقد الجراح: «لا تَزغْ قُلُوبُنَا» - بفتح التاء، ورفع «قُلُوبُنَا» ، وقرأ بعضهم كذلك إلا أنه بالياء من تحت، وعلى القراءتين، فالقلوب فاعل بالفعل المنهي عنه، والتذكير وأتأنيث باعتبار تأنيثِ الجمع وتذكيره، والنهي في اللفظ للقلوب، وفي المعنى دعاء لله تعالى - أي: لا تزغ قلوبنا فتزيغ، فهو من باب «لا أرَينَّكَ ههُنَا» . وقول النابغة: [البسيط] 1329 - لا أعرِفَن رَبْرَباً حُوراً مَدَامِعُهَا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... قوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ، «بَعْدَ» منصوب ب «لا تُزِغْ» ، و «إذْ» هنا خرجت عن الظرفية؛ للإضافة إليها وقد تقدم أن تصرفها قليل، وإذا خرجت عن الظرفيةِ، فلا يتغير حكمها من لزوم إضافتها إلى الجملة بعدها، كما لم يتغير غيرها من الظروف في هذا الحكمِ، ألا ترى إلى قوله {هذا يَوْمُ يَنفَعُ} [المائدة: 119] و {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ} [الانفطار: 19]- قراءة من رفع «يومُ» في الموضعين -. وقول الآخر: [الطويل] 1330 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... عَلَى حِينِ الكِرَامُ قَلِيلُ وقوله: [الطويل] 1331 - عَلى حِينِ مَنْ تَلْبَثْ عَلَيْهِ ذُنُوبهُ ..... ... ... ... ... ... ... . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 42 وقوله: [الطويل] 1332 - عَلَى حِينِ عَاتَبْتُ الْمَشِيْبَ عَلَى الصِّبَا ..... ... ... ... ... ... . وقوله: [الطويل] 1333 - أَلا لَيْتَ أَيَّامَ الصَّفَاء جَدِيدُ ..... ... ... ... ... ... ... ... كيف خرجت هذه الظروف عن النصب إلى الرفع والجر والنصب ب «لَيْت» ، ومع ذلك هي مضافةٌ للجمل التي بعدها. فصل هذه الآية تدل على أن الزيغَ والهداية خلق الله تعالى، قال أهل السنة: ذلك لأن القلب صالح لأن يميلَ إلى الكفر، ويمتنع أن يميل إلى أحد الجانبين، إلا عند حدوث داعية وإرادة أحدثها الله تعالى. فإن كانت تلك الداعية [داعية] الكفر، فهي الخذلان، والإزاغة، والصد، والختم، والرَّيْن، والقسوة والوقر والكنان، وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن. وإن كانت تلك الداعيةُ داعيةَ الإيمان، فهي التوفيق، والإرشاد، والهداية، والتسديد، والتثبيت، والعصمة وغيرها من الألفاظ الواردة في القرآن، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «قَلْبُ المؤمن بَيْنَ أصبعينِ مِنْ أصابعِ الرَّحْمَنِ، إنْ شَاءَ أقامه، وإن شاء أزاغَهُ» ، والمرادُ من هذين الأصبعين الداعيتان، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «اللَّهُمَّ مُقَلِّبَ القلوب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 43 والأبصار ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلَى دينك» ومعناه ما ذكرنا، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَثَلُ الْقلبِ كَرِيشَةٍ بأرْضٍ فَلاَةٍ تُقلبُهَا الرِّياحُ ظَهْراً لِبَطْنٍ» . وقالت المعتزلةُ: الزيغُ لا يجوز أن يكون بفعل الله؛ لقوله تعالى: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] ، وهذا صريح في أن ابتداء الزيغ منهم. والجوابُ: أن مذهبهم أن كل ما صح في قدرة الله تعالى أن يفعل في حقهم لُطْفاً، وجب عليه ذلك وجوباً لو تركه لبطلت إلاهيته، ولصار محتاجاً، والشيء الذي يكون كذلك فأي حاجةٍ إلى طلبه بالدعاء؟ فإن قيل: فما الجواب عن قوله: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} ؟ قلنا: لا يبعد أن الله تعالى يُزيغهم ابتداء، فعند ذلك يزيغون، ثم يترتب على الزيغ إزاغة أخرى سوى الأولى من الله تعالى، ولا منافاةَ فيه. وقوله: {بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} ، أي: جعلتنا مهتدين، وهذا صريحٌ أيضاً في أن حصولَ الاهتداءِ في القلب بتخليق اللهِ تعالى. قوله: {وَهَبْ لَنَا} الهِبَة: العَطِيَّة، حذفت فاؤها، وكان حق عين المضارع منها كسر العين منه، إلا أن ذلك منعه كونُ العين حرفَ حَلْقٍ، فالكسرة مقدَّرة، فلذلك اعتبِرَت تلك الكسرةُ المقدرةُ فحذفت لها الواو وهذا نحو: «يضع» و «يسع» ، لكون اللام حرف حلقٍ، ويكون «هَبْ» فعل أمر بمعنى اعتقد، فيتعدى لمفعولين. كقوله: [المتقارب] 1334 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَإلاَّ فَهَبْنِي أمْرَأ هالِكا وحينئذ لا يتصرف. ويقال أيضاً: وَهَبني الله فِداك، أي: جعلني، ولا يتصرف أيضاً عن الماضي بهذا المعنى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 44 قوله: «مِنْ لَدُنْكَ» متعلق ب «هَبْ» ، و «لَدُنْ» ظرف، وهي لأول غاية زمان أو مكان، أو غيرها من الذوات نحو: من لدن زيد، فليست مرادفة لِ «عِنْد» ، بل قد تكون بمعناها، وبعضهم يقيدها بظرف المكانِ، وتضاف لصريح الزمانِ. قال: [الراجز] 1335 - تنتَهِضُ الرِّعْدَةُ فِي ظُهَيْرِي ... مِن لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى الْعُصَيْرِ ولا يُقْطع عن الإضافة بحال، وأكثر ما تضاف إلى المفردات، وقد تُضاف إلى «أنْ» وَصِلَتها؛ لأنهما بتأويل مفردٍ. قال: [الطويل] 1336 - وُلِيتَ فَلَمْ تَقْطَعْ لَدُنْ أنْ وَلِيتَنَا ... قَرَابَةَ ذِي قُرْبَى وَلاَ حَقَّ مُسْلِمِ أي: لدن ولايتك إيانا، وقد تضاف إلى الجملة الاسمية. كقوله: [الطويل] 1337 - وَتَذْكُرُ نُعْمَاهُ لَدُنْ أنْتَ يَافِعٌ ... إلَى أنْتَ ذُو فَؤْديْنِ أبيضَ كَالنَّسْرِ وقد تُضَافُ للفعلية. كقوله: [الطويل] 1338 - لزمْنَا لَدُنْ سَالَمْتُمُونَا وِفَاقَكُمْ ... فَلاَ يَكُ مِنْكُمْ لِلْخِلاَفِ جُنُوحُ وقال آخرُ: [الطويل] 1339 - صَرِيعُ غَوانٍ رَاقَهُنَّ وَرُقْنَهُ ... لَدُنْ شَبَّ حَتَّى شَابَ سُودُ الذَّوَائِبِ وفيها لغتان: الإعراب، وهي لغة قَيْس، وبها قَرَأ أبو بكر عن عاصم {مِنْ لَدُنْهُ} [النساء: 40]- بجر النون -، وقوله: [الرجز] 1340 - ... ... ... ... ... ... ... ..... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 45 مَنْ لَدُنِ الظُّهْرِ إلَى العُصَيْرِ ولا تخلو من «من» غالباً، قاله ابنُ جني، ومن غير الغالب ما تقدم من قوله: 1341 - ... ... ... ... . لَدُنْ أنت يافع ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . وإن وقع بعدها لفظ «غدوة» خاصة - جاز نصبها، ورفعها، فالنصب على خبر «كان» أو التمييز والرفع على إضمار «كَانَ» التامة، ولولا هذا التقدير لزم إفراد «لَدُن» عن الإضافة، وقد تقدم أنه لا يجوز، فمن نَصْب «غدوة» قوله: [الطويل] 1342 - فَمَا زَالَ مُهْرِي مَزْجَرَ الْكَلْبِ مِنْهُمُ ... لَدُنْ غُدْوَةً حَتَّى دَنَتْ لِغُرُوبِ واللغةُ المشهورةُ بناؤها؛ لشبهها بالحرف في لزوم استعمالٍ واحدٍ، وامتناع الإخبار بها، بخلاف «عند» ، و «لدن» فإنهما لا يلزمان استعمالاً واحداً؛ إذ يكون فضلةً، وعُمدةً، وغايةً وغير غاية، بخلاف «لَدُن» . وقال بعضهم: «علة بنائِها كونها دالة على الملاصقة، ومختصةً بها، بخلاف» عند «فإنها لا تدل على الملاصقة، فصار فيها معنى لا يدل عليه الظرف، بل هو من قبيل ما يدل عليه الحرف، فكأنها مضمنة معنى حرف كان من حقه أن يوضَع لذلك، فلم يُوضَع، كما قالوا في اسم الإشارةِ، واللغتان المذكورتان من الإعراب والبناء مختصتان ب» لَدُنْ «المفتوحة اللام، المضمومة الدال، الواقع آخرُها نونٌ، وأما بقية لغاتها فهي - فيها - مبنية عند جميع العرب، وفيها عشر لغاتٍ: أشهرها الأولى، ولدَن، ولدِن - بفتح الدال وكسرها - ولَدْنِ، ولُدنِ - بفتح اللام وضمها، مع سكون الدالِ وكسر النونِ - ولُدْنَ - بالضم والسكون وفتح النون -، ولَدْ، ولُدْ - بفتح اللام وضمها مع سكون الدالِ، ولَدُ - بفتح اللام وضم الدال ولت - بإبدال الدال تاءً ساكنةً، ومتى أضيفت المحذوفة النون إلى ضمير وجب رَدُّ النون. قوله: {أَنْتَ الوهاب} » أنت «يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون ضميرَ الفصل، وأن يكون تأكيداً لاسم» إنَّ «. فصل اعلم أن هؤلاء المؤمنين سألوا ربهم ألا يَجْعَل قلوبَهُم مائلةً إلى العقائد الفاسدة ثم أتبعوا ذلك بطلب تنوير قلوبهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 46 وقال» رحمة «؛ ليشمل جميع أنواع الرحمةِ، ولما ثبت بالبرهان القاطع أنه لا رحيمَ إلا هو أكد ذلك بقوله: {مِن لَّدُنْكَ} تنبيهاً للعقل على أن المقصود لا يحصل إلا منه. وقوله: {أَنْتَ الوهاب} كأن العبد يقول: إلهي هذا الذي طلبته منك بهذا الدعاء بالنسبة إليّ - حقير - بالنسبة إلى كمال كرمك، وغاية جودِك ورحمتك؛ فإنك أنت الوهاب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 قرأ أبو حاتم {جَامِعُ الناس} بالتنوين والنصب - و «لِيَوْمٍ» اللام للعلة، أي: لجزاءِ يوم، وقيل: هي بمعنى «في» ، ولم يذكر المجموع لأجله، و «لا رَيْبَ» صفة ل «يَوْم» ، أي: لا شك فيه، فالضمير في «فِيهِ» عائد عليه، وأبْعَد مَن جَعَلَه عائداً على الجمع المدلول عليه ب «جَامِعُ» ، أو على الجزاء المدلول عليه بالمعنى، أو على العَرْض. قوله: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} يجوز أن يكون من تمام حكايةِ قولِ الراسخين، فيكون التفاتاً من خطابهم للباري تعالى بضمير الخطاب إلى الإتيَان بالاسم الظاهر؛ دلالةً على تعظيمه، ويجوز أن يكون مستأنفاً من كلام الله تعالى، فلا التفاتَ حينئذٍ. و «الميعاد» مصدر، وياؤه منقلبة عن واو، لانكسار ما قبلها كميقات. فإن قيل: لم قالوا - في هذه الآية -: إن اللهَ لا يخلف الميعادَ، وقالوا - في تلك الآية - إنك لا تخلف الميعاد؟ فالجوابُ: أن هذه الآيةَ في مقام الهيبةِ، يعني أن الآية تقتضي الحشر والنشر؛ ليُنْتَصَف للمظلومين من الظالمين، فكان ذكره باسمه الأعظم أوْلَى في هذا المقامِ، وفي تلك الآية مقام طلب العبدِ من ربه أن ينعم عليه بفضله، ويتجاوز عن سيئاته، فليسَ مقام الهيبةِ، فلا جرم قال: {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} [آل عمران: 194] . فصل اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا؛ فإنها منقضية، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالأخرة؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ووعدك حق، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد. فصل اعلم أن الراسخين لما طلبوا من ربهم الصَّوْنَ عن الزيغ، وأن يخصَّهم بالهداية والرحمة، فكأنهم قالوا: ليس الغرض من هذا السؤال ما يتعلق بمصالح الدنيا؛ فإنها منقضية، وإنما الغرض الأعظم منه ما يتعلق بالآخرة؛ فإنا نعلم أنك جامع الناس للجزاء في يوم القيامة، ووعدك حق، فمن زاغ قلبه بقي هناك في العذاب أبَدَ الآبادِ، ومن وفقتَه وهديتَه ورحمتَه بقي هناك في السعادة والكرامة أبد الآباد. فصل احتج الجبائيُّ - بهذه الآية - على القطع بوعيد الفساق، قال: لأن الوعيدَ داخل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 47 تحت لفظ الوعد؛ لقوله تعالى: {قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [الأعراف: 44] ، والموعد والميعاد واحد، وقد أخبر - في هذه الآيةِ - أنه لا يُخْلف الميعاد. والجواب: لا نسلم القول بوعيد الفساق مطلقاً، بل ذلك مشروط بعدم العفو، كما هو مشروط بعدم التوبة بالاتفاقِ، فكما أنكم أثبتم ذلك الشرط بدليل منفصل فكذا نحن أثبتنا شرط عدم العفو بدليل منفصل، سلمنا أنه توعدهم، ولكن لا نسلم أن الوعيد داخل تحت لفظ الوعد، ويكون قوله: {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} كقوله: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] ، فيكون من باب التهكمِ، ويجوز أن يكون المراد أنهم كانوا يتوقعون من أوثانهم أنها تشفع لهم عند الله تعالى. وذكر الواحديُّ في البسيط - أنه يجوز أن يُحْمَل هذا على ميعاد الأولياء، دون وعيد الأعداء؛ لأن خُلْفَ الوعيد كرم عند العرب؛ لأنهم يمدحون بذلك، قال: [الطويل] 1343 - إذَا وَعَدَ السَّرَّاءَ أنَجْزَ وَعْدَهُ ... وَإنْ أوْعَدَ الضَّرَّاءَ فَالْعَفْوُ مَانِعُه وروى المناظرة بين أبي عمرو بن العلاء وبين عمرو بن عُبَيْد: قال أبو عمرو بن العلاء لعمرو بن عُبَيْد فما تقول في أصحاب الكبائر؟ فقال: أقول: إنَّ الله تعالى وَعَدَ وعْداً وأوعد إيعاداً، فهو مُنجز إيعاده كما هو منجز وعده، فقال أبو عمرو بن العلاء: إنك رجل أعْجَمُ، لا أقول: أعجم اللسان، ولكن أعجمُ القلب؛ إن العربَ تَعُدُّ الرجوعَ عن الوعد لُؤماً، وعن الإيعاد كَرَمًا، وأنشد: [الطويل] 1344 - وَإنِّيَ إن أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُكْذِبُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدِي فقال له عمرو بن عبيد: يا أبا عمرو، فهل يُسَمّى الله مكذب نفسه؟ فقال: لا، فقال له عمرو بن عبيد: فقد سقطت حجتك. قال ابن الخطبيبِ: «وكان لأبي عمرو بن العلاء أن يجيب عن هذا السؤال فيقول: إنك قِسْت الوعيد على الوعد، وأنا إنما ذكرت هذا لبيان الفرق بين البابين؛ وذلك لأن الوعدَ حق عليه، والوعيد حق له، ومن أسقط حق نفسه فقد أتى بالجود والكرم، ومن أسقط حق غيره، فذلك هو اللؤم، فظهر الفرق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 48 وأما قولك: لو لم يفعلْ لصار كاذباً، أو مكذب نفسه. فالجوابُ: أن هذا إنما يلزم لو كان الوعيدُ ثابتاً جزماً من غير شرط، وعندي أن الوعيد مشروط بعدم العفو فلا يلزم من تركه دخول الكذب في كلام الله تعالى» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 لما حكى دعاءَ المؤمنين وتضرُّعَهم حكى كيفيةَ حال الكافرين، وشدة عقابهم، وفيهم قولان: أحدهما: أن المراد بهم وفد نجران؛ لأنا روينا في قصتهم أن أبا حارثة بن علقمة قال لأخيه إني أعلم أنه رسولُ اللهِ حقاً، ولكني إن أظهرتُ ذلك أخذ ملوكُ الرومِ مني ما أطَوْنِي من المال، فبيَّن الله تعالى أن أموالهم لا تدفع عنهم عذابَ الله. الثاني: أن اللفظ عام، وخصوصُ السبب لا سمنع عمومَ اللفظ. قوله: {لَن تُغْنِيَ} العامة على «تُغْنِي» بالتاء من فوق؛ مراعاةً لتأنيث الجميع، وقرأ الحسنُ وأبو عبد الرحمن بالياء من تحت - بالتذكير - على الأصل، وسكن الحسن ياءَ «تُغْنِي» ؛ استثقالاً للحركةِ على حرف العلة، وذهاباً به مَذْهَبَ الألف، وَبَعضهم يخص هذا بالضرورةِ. قوله: {مِّنَ الله} في «مِن» هذه أربعة أوجه: أحدها: أنها لابتداء الغايةِ - مجازاً - أي: من عذاب اله وجزائه. الثاني: أنها بمعنى «عند» قاله أبو عبيدة، وجعله كقوله تعالى: {أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 4] ، أي: عند جوع، وعند خوف، وهذا ضعيف عند النحويين. الثالث: أنها بمعنى بدل. قال الزمخشري: قوله: {مِّنَ الله} مثل قوله: {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} [يونس: 36] ، والمعنى: لن تغني عنهم من رحمة الله، أو من طاعته شيئاً، أي: بدل رحمته وطاعته، وبدل الحق ومنه [قوله] : «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» ، أي: لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 49 ينفعه جده وحظه من الدنيا بدلاً، أي: بدل طاعتك وما عندك، وفي معناه قوله تعالى: {وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى} [سبأ: 37] ، وهذا الذي ذكره من كونها بمعنى بدل جمهور النحاة يَأبَاه؛ فإن عامة ما أوْرَدَهُ يتأوَّله الجمهورُ. ومنه قوله: [الرجز] 1345 - جاريةٌ لَمْ تَأكُلِ الْمُرَقَّقَا ... وَلَمْ تَذُقْ مِنَ الْبُقُولِ الْفُسْتُقَا وقول الآخر: [الكامل] 1346 - أخَذُوا الْمَخَاضَ مِنَ الْفصيلِ غُلُبَّةً ... ظُلْماً، وَيَكْتُبُ للأميرِ أفِيلا وقوله تعالى: {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} [الزخرف: 60] ، وقوله: {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] ؟ الرابع: أنها تبعيضية، إلا أن هذا الوجه لما أجازه أبو حيّان مبنياً على إعراب «شَيْئاً» مفعولاً به، بمعنى: لا تدفع، ولا تمنع، قال: فعلى هذا يجوز أن يكون «من» في موضع الحال من «شَيْئاً» ؛ لأنه لو تأخر لكان في موضع النعتِ له، فلما تقدم انتصب على الحال، وتكون «من» إذ ذاك - للتبعيض. قال شهاب الدينِ: «وهذا ينبغي أن لا يجوز ألبتة؛ لأن» منَ «التبعيضية تؤوَّلُ بلفظ بعض مضافةً لما جرَّتْه» مِنْ «ألا ترى أنك إذا قلتَ: رأيت رجلاً من بني تميم، معناه: بعض بني تميم، وأخذت من الدراهم: أي: بعضَ الدراهم، وهنا لا يُتَصَوَّرُ ذلك أصْلاً، وإنما يصح جعله صفة لِ» شَيْئاً «إذا جعلنا» مِنْ «لابتداء الغاية، كقولك: عندي درهم من زيد، أي: كائن أو مستقر من زيد، ويمتنع فيها التبعيض، والحال كالصفة في المعنى، فامتنع أن تكون من للتبعيض مع جعله» مِنَ اللهِ «حالاً من» شَيْئاً «، وأبو حيّان تبع أبا البقاءِ في ذلك، إلا أن أبا البقاء حين قال ذلك - قَدَّر مضافاً وضَّح به قوله، والتقدير: شيئاً من عذاب الله، فكان ينبغي أن يتبعه - في هذا الوجهِ - مُصَرِّحاً بما يدفع هذا الذي ذكرته» . و «شَيْئاً» إما منصوب على المفعول به وقد تقدم تأويله وإما على المصدرية، أي: شَيْئاً من الإغناء. قوله: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} هذه الجملة تحتمل وجهَيْن: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 50 أحدهما: أن تكون مستأنفةً. والثاني: أن تكون منسوقة على خبر «إنَّ» و «هم» تحتمل الابتداء والفصل. وقرأ العامة «وَقُودُ» بفتح الواو، والحَسن بِضَمِّها وتقدم تحقيقُ ذلك في البقرة، وأن المصدرية محتملة في المفتوح الواو أيضاً، وحيث كان مصدراً فلا بد من تأويله، فلا حاجة إلى إعادته. فصل اعلم أن كمال العذاب هو أن يزول عنهم كل ما يُنْتَفَعُ به، ثم تجتمع عليه الأسبابُ المؤلمة. الأول هو المراد بقوله: {لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم} ؛ فإن المرء - عند الخطوب - يفزع إلى المال والولد؛ لأنهما أقربُ الأمور التي يُفْزَع إليها في دَفْع النوائب، فبيَّن تعالى أن صفة ذلك اليوم مخالِفَةٌ لصفةِ الدنيا، وإذا تعذَّر عليه الانتفاع في ذلك اليوم بالمالِ والولدِ - وهما أقرب الطرق - فما عداه بالتعذُّر أوْلَى، ونظيره: {يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88 - 89] . وأما الثاني من أسباب كمال العذاب - وهو اجتماع الأسباب المُؤْلمةِ - فهو المراد بقوله: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} وهذا هو النهايةُ في العذابِ؛ فإنه لا عذابَ أعظم من أن تشتَعِل النارُ فيم كاشتعالها في الحطب اليابِسِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 في كاف «كَدَأب» وجهانِ: أحدهما: أنها في محل رَفْع؛ خَبَراً لِمبتدأ مُضْمَر، تقديره: دأبهم - في ذلك «كَدَأبِ آلِ فِرعَوْن» وبه بدأ الزمخشريُّ، وابنُ عطية. الثاني: أنها في محل نَصْب، وفي الناصب لها تسعةُ أقوالٍ: أحدها: أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف، والعامل فيه «كَفَرُوا» ، تقديره: إنَّ الذين كفروا كُفْراً كدأب آل فرعون، أي: كعادتهم في الكفر، وهو رأي الفرَّاءِ. وهذا القول مردود بأنه قد أخبر عن الموصول قبل تمام صلته، فلزم الفصلُ بينَ أبْعَاضِ العلةِ بالأجنبيِّ، وهو لا يجوز. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 51 الثاني: أنه مصوب ب «كَفَرُوا» لكن مقدر؛ لدلالة هذا الملفوظ به عليه. الثالث: أن الناصبَ مقدَّر، مدلول عليه بقوله: «لَنْ تُغْنِيَ» أي: بطل النتفاعهم بالأموالِ والأولادِ كعادة آل فرعونَ في ذلك. والمعنى: إنكم قد عرفتم ما حلَّ بآل فرعون ومَنْ قبلَهم من المكذبين بالرسل - من العذاب المعجل الذي عنده - لم ينفعهم مال ولا ولد. الرابع: أنه منصوب بلفظ «وَقُودُ» ، أي: تُوقَد النارُ بهم كما توقد بآل فرعون، كما تقول: إنك لتظلم الناس كدأبِ أبيك، تريد: كظلم أبيك، قاله الزمخشريُّ، وفيه نظر؛ لأن الوقود - على القراءة المشهورة - الأظهر فيه أنه اسم لِما يوقد به، وإذا كان اسماً فلا عَمَل له، فإن قيل: إنه مصدر على قراءة الحَسن صَحَّ، ويكون معنى الدأب: الدؤوب - وهو اللُّبْثُ والدوام، وطول البقاء في الشيء - وتقدير الآية: «وَأُولَئِكَ هُم وَقُودُ كَدَأْبِ آل فِرْعَونَ» . [أي: دؤوبهم في النار كدأب آل فرعون] . الخامس: أنه منصوب بنفس «لَنْ تُغْنِي» أي: لن تغني عنهم مثل ما لم تُغنِ عن أولئك، ذكره الزمخشري، وضعَّفه أبو حيَّان بلزوم الفصل بين العامل ومعموله بالجملة - التي هي قوله: {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} قال: «على أي التقديرين اللَّذَيْنِ قدرناهما فيهما من أن تكون معطوفة على خبر» إنَّ «أو على الجملة المؤكَّدة ب» إنَّ «قال: فإن جعلتها اعتراضيةً - وهو بعيد - جازَ ما قال الزمخشريُّ» . السادس: أن يكون العامل فيها فعلاً مقدَّراً، مدلولاً عليه بلفظ «الوَقُود» ، تقديره: توقَد بهم كعادة آل فرعون، ويكون التشبيه في نفس الاحتراق، قاله ابنُ عطية. السابع: أن العامل يُعَذَّبُونَ كعادةِ آل فرعونَ، يدل عليه سياق الكلام. الثامن: أنه منصوب {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} ، والضمير في «كَذَّبُوا» - على هذا - لكفار مكة وغيرهم من معاصِرِي رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أي: كذبوا تكذيباً كعادة آل فرعونَ في ذلك التكذيب. التاسع: أن العامل فيه قوله: {فَأَخَذَهُمُ الله} ، أي: فأخذهم الله أخْذاً كأخذه آل فرعون، والمصدر تارةً يضاف إلى الفاعل، وتارةً إلى المفعول، والمعنى: كَدَأبِ الله في آل فرعون، ونظيره قوله تعالى: {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} [البقرة: 165] أي: كَحُبِّهم لله، وقال: {سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ} [الإسراء: 77] والمعنى: سنتي فيمن أرسلنا قبلك، وهذا مردود؛ فإن ما بعد الفاء العاطفة لا يعمل فيما قبلها، لا يجوز قمت زيداً فضربت وأما زيداً فاضرب، فقد تقدم الكلام عليه في البقرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 52 وقد حكى بعضُ النحاةِ - عن الكوفيين - أنهم يجيزون تقديم المعمول على حرف العطف، فعلى هذا يجوز هذا القول، وفي كلام الزمخشريِّ سهو؛ فإنه قال: ويجوز أن ينتصب محلُّ الكاف ب «لَنْ تُغْنِيَ» أو ب «خَالِدُونَ» ، [أي: لم تُغنِ عنهم مثل ما لم تغن عن أولئك، أو هم فيها خالدون كما يُخَلَّدُون] . وليس في لفظ الآية الكريمة {خَالِدُونَ} ، إنما نظم الآية {وأولئك هُمْ وَقُودُ النار} ، ويبعد أن يقال: أراد «خَالِدُون» مُقَدَّراً، يدل عليه السياق، اللهم إلا إن فسرنا الدأبَ باللُّبْث والدوام وطول البقاء. وقال القفَّالُ: «يحتمل أن تكون الآية جامعة للعادة المضافة إلى الله تعالى، والعادة المضافة إلى الكفار، كأنه قيل: إن عادة هؤلاء الكفار في إيذاء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كعادة من قبلهم في إيذاء رُسُلِهِم وعادتنا أيضاً في إهلاك الكفارِ، كحعادتنا في إهلاك أولئك الكفار المتقدمين، والمقصود - على جميع التقديراتِ - نصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على إيذاء الكفار، وبشارته بأن الله سينتقم منهم» . الدأب: العادة، يقال: دأب، يَدْأبُ، اي: واظب، ولازم، ومنه {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً} [يوسف: 47] ، أي: مداومة. وقال امرؤ القيس: [الطويل] 1347 - ... - كَدَأبكَ مِنْ أمِّ الْحُوَيْرِثِ قَبْلَهَا وَجَارَتِهَا أمِّ الرَّبَابِ بِمَاسَلِ ... وقال زُهير: [الطويل] 1348 - لأرْتَحِلَنّ بِالْفَجْرِ ثُمَّ لأدْأبَنّْ ... إلَى اللَّيْلِ إلاَّ أنْ يُعَرِّجَنِي طِفْلُ وقال الواحديُّ: «الدأب: الاجتهاد والتعب، يقال: صار فلان يومه كله يَدْأب فيه، فهو دائب، أي: اجتهج في سَيْرِه، هذا أصله في اللغة، ثم [يصير] الدأب عبارة عن الحال والشأن والأمر والعادة؛ لاشتمال العمل والجهد على هذا كله» . وكذا قال الزمخشريُّ، قال: «مصدر دأب في العمل إذا كَدَح فيه، فوُضِع مَوْضِعَ ما عليه الإنسان من شأنه وحاله» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 53 ويقال: دأَب، ودأْب - بفتح الهمزة وسكونها - وهما لغتان في المصدر كالضأن والضأَن وكالمَعْز والمَعَز وقرأ حفص: {سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً} بالفتح. قال الفرَّاء: «والعرب تثقل ما كان ثانيه من حروف الحلق كالنَّعْل والنَّعَل، والنَّهْر والنَّهَر، والشَّأْم والشَّأَم. وأنشد: [البسيط] 1349 - قَدْ سَارَ شَرْقِيُّهُمْ حَتَّى أتَوْا سَبَأ ... وَانْسَاحَ غَرْبِيُّهُمْ حَتَّى هَوى الشَّأَمَا {والذين مِن قَبْلِهِمْ} يجوز أن يَكُونَ مجروراً نسقاً على {آلِ فِرْعَوْنَ} ، وأن يكونَ مرفوعاً على الابتداء، والخبر قوله - بعد ذلك - {كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} ، وهذان الاحتمالان جائزان مطلقاً، وخص أبو البقاء جواز الرفع بكون الكافِ في محل رفع، فقال:» فعلى هذا - أي: على كونها مرفوعة المحل؛ خبراً لمبتدأ مضمر - يجوز في {والذين مِن قَبْلِهِمْ} مبتدأ، و «كَذَّبُوا» خبره «. قوله: {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} قد تقدم أنه يجوز أن يكون خَبراً عن «الَّذِينَ» إن قيل: إنه مبتدأ، فإن لم يكن مبتدأ فقد تقدم أيضاً أنه يكون تفسيراً للدأب، كأنه قيل: ما فعلوا، وما فعل بهم؟ فقيل: كذبوا بآياتِنا، فهو جوابُ سؤال مقدر، وأن يكون حالاً، وفي قوله: {بِآيَاتِنَا} التفات؛ لأن قبله {مِّنَ الله} وهو اسم ظاهر. والمراد بالآيات: المعجزات، والباء في «بِذُنُوبِهِمْ» يَجوز أن تكون سببيةً، أي: أخذهم بسبب ما اجترحوا، وأن تكون للحالِ، أي أخذهم متلبسين بالذنوب، غير تائبين منها والذنب في الأصل - التِّلْو والتابع، وسُمِّيَت الجريمةُ ذَنْباً؛ لأنها يتلو، أي: يتبع عقابُها فاعلمه والذَّنُوب: الدَّلْو؛ لأنها تتلو الحبلَ في الجذبِ، وأصل ذلك من ذَنَب الحيوان؛ لأن يذنبه أي: يتلوه، يقال: ذنبه يذنبه ذنباً، أي: تبعه، واستعمل في الأخذ؛ لأن مَنْ بينَ يده العقاب كالمأخوذ المأسور الذي لا يَقْدر على التخلُّص. قوله {شَدِيدُ العقاب} كقوله: {سَرِيعُ الحساب} [البقرة: 202] ، أي: شديدٌ عِقَابه وقد تقدم تحقيقه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 54 قرأ الأخوان: «سَيُغلبُونَ» و «يُحْشَرُونَ» - بالغيبة - والباقون بالخطاب، وهما واضحان كقولك: قل لزيد: قم؛ على الحكاية، وقل لزيد: يقوم وقد تقدم نحو من هذا في قوله: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} [البقرة: 83] . وقال أبو حيّان: - في قراءة الغيبة -: «الظاهر أنَّ الضميرَ للذين كفروا، وتكون الجملة - إذ ذاك ليست محكية ب» قل «بل محكية بقول آخَرَ، التقدير: قل لهم قولي: سيغلبون وإخباري أنهم سيقع عليهم الغَلَبةُ، كما قال:» قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إن يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سلف «فبالتاء أخبرهم بمعنى ما أخبر به من أنهم سيُغْلَبون، وبالياء أخبرهم باللفظ الذي أخبر به أنهم سيُغْلَبُون» . وهذا الذي قاله سبقه إليه الزمخشريُّ، فأخذه منه، ولكن عبارة الزمخشريِّ أوضحُ، قال رَحِمَهُ اللَّهُ: فإن قلت: أيُّ فَرْقٍ بين القراءتين - من حيث المعنى؟ قلت معنى القراءة بالتاء - أي من فوق - الأمر بأن يخبرهم بما سيجري عليهم من الغلبة والحَشْر إلى جهنَّمَ، فهو إخبار بمعنى: ستُغْلَبُون وتُحْشَرون، فهو كائن من نفس المتوعَّد به، وهو الذي يدل عليه اللفظ ومعنى القراءة بالياء الأمر بأن يحكي لهم ما أخْبِرَ به من وعيدهم بلفظه، كأنه قال: أدِّ إليهم هذا القول الذي هو قولي لك: «سيُغْلَبون ويُحْشَرون» . وجوَّز الفرَّاءُ وثعلبُ أن يكون الضمير في «سَيُغْلَبُونَ وَيُحْشَرُونَ» لكفار قريش، ويُرَاد بالذين كفروا اليهود، والمعنى: قل لليهود: ستُغْلَبُ قريش. وهذا إنما يتجه على قراءة الغيبة فقط. قال مَكيٌّ: «ويقوِّي القراءة بالياء - أي من تحت - إجماعهم على الياء في قوله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] ، والتاء يعني من فوق أحَبُّ إليَّ، لإجماع الحَرَميَّينِ وعاصم وغيرهم على ذلك» . قال شهابُ الدينِ: ومِثْل إجماعهم على قوله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ} [الأنفال: 38] إجماعُهم على قوله {قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ} [النور: 30] ، وقوله: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ} [الجاثية: 14] ، وقال الفرّاء: «مَن قرأ بالتاءِ جعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 55 اليهود والمشركين داخِلينَ في الخطاب، ثم يجوز - في هذا المعنى - التاء والياء، كما تقول في الكلام: قل لعبد الله: إنه قائم، وإنك قائم» . وفي حرف عبد الله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} ، ومَن قرأ بالياء فإنه ذهب إلى مخاطبة اليهود، وأنَّ الغَلَبَةَ تقع على المشركين، كأنه قيل: قل يا محمد لليهود سيُغْلَب المشركون، ويُحْشَرُونَ، فليس يجوز في هذا المعنى إلاَّ الياءُ لأن المشركين غيب. فصل في سبب النزول في سبب نزول الآية أوجه: الأول: قال ابن إسحاق - ورواه سعيدُ بنُ جُبَيْر، وعكرمةُ عن ابن عباس -: لما أصاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قريشاً ببدر، ورجع إلى المدينة، جمع اليهودَ في سوق بني قينقاع، وقال: يا معشرَ اليهود احذروا من الله مثل ما نزل بقريش يوم بدر، فأسلموا قبل أن يَنْزِل بكم ما نزل بهم، فقد عرفتم أني نَبِيٌّ مُرْسَل، تجدون ذلك في كتابكم، فقالوا: يا محمد، لا يَغُرَّنَّكَ أنك لقيت قوماً أغماراً - لا عِلْم لهم بالحرب - فأصَبْتَ منهم فُرْصَةٌ، وإنا - والله - لو قاتلناك لعرفْتَ أنَّا نحن الناس، فأنزل الله تعالى: { {قُل لِلَّذِينَ كفروا} ، يعني اليهود «سَتُغْلَبُونَ» تُهْزَمُونَ، «وَتُحْشَرُونَ» فِي الآخرة «إلَى جَهَنَّم وَبِئْسَ الْمِهَادُ» أي: الفراش. الثاني: قال الكلبيُّ عن ابن عباس - أيضاً -: إن يهود أهل المدينة - لما شاهَدُوا هزيمة المشركين يومَ بدر - قالوا: والله إن هذا لهو النبيُّ الأميُّ الذي بَشَّرَنَا به موسى، وفي التوراة نعته، وأنه لا يُرَدُّ عليه رأيه، وأرادوا اتباعه، ثم قال بعضهم لبعض: لا تعجلوا حتى ننظر إلى وقعة له أخرى، فلما كان يوم أحد، ونُكِبَ أصحابُ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شَكُّوا، وقالوا: ليس هو ذلك، فغَلَبَ عليهمُ الشقاءُ فلم يُسْلِموا، وقد كان بينهم وبين أصحابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عهدٌ إلى مدة فنقضوا ذلك العهدَ، وانطلق كعبُ بن الأشرف في ستين راكباً - إلى مكة يستنفرهم، فأجمعوا أمرهم على قتال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله هذه الآية. الثالث: أن هذه الآية واردة في جميع الكفار. فصل في تكليف ما لا يطاق استدلوا على [جواز] تكليف ما لا يطاق بهذه الآية، قالوا: لأن الله تعالى أخبر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 56 عن الكفارِ بأنهم يُحْشَرونَ إلى جهنم، فلو آمنوا لانقلب هذا الخبر كَذِباً، وذلك محال، فكأنَّ الإيمان منهم محال، وقد أمِروا به، فيكون تكليفاً بالمحال. {سَتُغْلَبُونَ} إخبار عن أمر يحصل في المستقبل، وقد وقع مخبره على موافقته، فكان هذا إخباراً عن الغيب، فهو مُعْجز، ونظيره - في حق عيسى - {وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] . قوله: {بِئْسَ المهاد} المخصوص بالذم محذوفٌ، أي بئس المهاد جهنمُ، والحذف للمخصوص يدل على صحة مذهب سيبويه من أنه مبتدأ. والجملة قبله خبره، ولو كان - كما قال غيره - مبتدأ محذوف الخبر، أو بالعكس، ملا حف ثانياً؛ للإجحاف بحذف سائر الجملة. و «بئس» مأخوذ من البأساء، وهو الشر والشدة، قال تعالى: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] أي: شديد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 «قَدْ كَانَ» جواب قسم محذوفٍ، و «آيَةٌ» اسم «كان» ولم يُؤنث الفعلُ؛ لأن تأنيث الآية مجازيٌّ، ولأنها بمعنى الدليل والبرهان. فهذا كقول امرئِ القيسِ: [المتقارب] 1350 - بَرَهْرَهَةٌ، رُؤدَةٌ، رَخْصَةٌ ... كَخُرُعُوبَةِ الْبَانَةِ الْمُنْفَطِرْ قال الأصمعي: «البَرَهْرَهَةُ: الممتلِئَة المُتَرَجْرِجَة، والرُّؤدَة، والرادة: الناعمة» . قال أبو عمرو: وإنما قال: الْمُنْفَطِر، ولم يقل: المنفطرة؛ لأنه رَدٌّ على القضيب، فكأنه قال: البان المنفطر، والخرعوبة: القضيب، والمنفطر: الذي ينفطر بالورق، وهو ألين ما يكون. قال أبو حيّان: أوَّل البانةَ بمعنى القضيب، فلذلك ذكر المنفطر، ولوجود الفصل ب «لَكُم» فإن الفصلَ مسوغ لذلك مع كون التأنيث حقيقيًّا، كقوله: [البسيط] 1351 - إنَّ امْرَأ غَرَّهُ مِنكُنَّ وَاحِدَةٌ ... بَعْدِي وَبَعْدَكِ فِي الدُّنْيا لَمَغْرُورُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 57 وقال بعضهم: محمول على المعنى، والمعنى: قد كان لكم بيانُ هَذه الآيةِ. وفي خبر «كان» وَجهَانِ: أحدهما: أنه «لَكُم» و «فِي فِئَتَيْنِ» في محل رفع نَعْتاً لِ «آيَةٌ» . والثاني: أنه «فِي فِئَتَيْنِ» وفي «لَكُمْ» وجهانِ: أحدهما: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من «آية» ؛ لأنه - في الأصل - صفة لآية، فلمَّا تقدَّم نُصِبَ حَالاً. الثاني: أنه متعلق ب «كان» ذكره أبو البقاء، وهذا عند مَنْ يَرَى أنها تعمل في الظرف وحرف الجر ولكن في جَعْل «فِي فِئَتَيْنِ» الخَبَرَ إشْكالٌ، وهو أن حكم اسم «كان» حكم المبتدأ، فلا يجوز، أن يكونَا اسماً لها إلا ما جاز الابتداء به، وهنا لو جعلت «آية» مبتدأ، وما بعدها خبراً لم يجز؛ إذْ لا مُسَوِّغَ لربتداء بهذه النكرة، بخلاف ما إذا جَعَلْتَ «لَكُم» الخبرَ، فإنَّه جائز لوجود المسوِّغ، وهو تقدُّمُ الخبرِ حرفَ جَرٍّ. قوله: {التقتا} في محل جر، صفة ل «فِئَتَيْنِ» ، أي: فئتين ملتقيتين، يعني بالفئتين المسلمين والمشركين يوم بَدر. قوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ} العامة على رفع «فِئَةٌ» وفيها أوجُه: أحدها: أن تَرْتَفِعَ على البدل من فاعل «الْتَقَتَا» ، وعلى هذا فلا بد من ضمير محذوف يعود على «فِئَتَيْنِ» المتقدمتين في الذكر؛ ليسوغ الوصف بالجملة؛ إذ لو لم يقدَّر ذلك لما صَحَّ؛ لخلو الجملة الوصفية من ضمير، والتقدير: في فئتين التقت فئةٌ منهما مؤمنة، وفئة أخرى كافرة. الثاني: أن يرتفع على خبر ابتداء مُضْمَرٍ، تقديره: إحداهما فئةٌ تقاتل، فقطع الكلام عن أوله، ومِثْلُه ما أنشده الفرّاء على ذلك: [الطويل] 1352 - إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَيْنِ شَامِتٌ ... وَآخَرُ مُثنٍ بالذي كُنْتُ أصْنَعُ أي أحدهما شامت، وآخر مُثنٍ، ومثله في القطع قول الآخر: [البسيط] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 58 1353 - حَتَّى إذَا مَا اسْتَقَلَّ النَّجْمُ فِي غَلَسٍ ... وَغُودِرَ البَقْلُ مَلْوِيٌّ وَمَحْصُودُ أي: بعضه مَلْويٌّ، وبَعْضُه مَحْصُود. قال أبو البقاء: فإن قلتَ: إذا قدرت في الأولى إحداهما مبتدأ كان القياس أن يكون والأخرى أي الفئة الأخر كافرة. قيل: لمَّا عُلِم أن التفريقَ هنا لنفس الشيء المقدم ذكره كان التعريفُ والتنكيرُ واحداً، ومثل الآية الكريمة في هذا السؤال وجوابه البيت المتقدِّم: شامت، وآخر مُثْنٍ، فجاء به نكرة دون ال. الثالث: أن يرتفع على الابتداء، وخبره مُضْمَر، تقديره: منهما فئةٌ تقاتل، وكذا في البيت، أي: منهم شامت، ومنهم مثنٍ. ومثله قول النابغةِ: [الطويل] 1354 - تَوهَّمْتُ آيَاتٍ لهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِستَّةِ أعْوَامٍ، وَذَا الْعَامُ سَابِعُ رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْن لأياً أبِينُهُ ... نُؤيٌ كجذمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ تقديره: منهنَّ - أي من الآيات - رمادٌ، ومنهن نُؤيٌ ويحتمل البيت أن يكون - كما تقدم - من تقدير مبتدأ، ورماد خبره، كما تقدم في نظيره. وقرأ الحسنُ ومجاهدٌ وحُمَيدٌ: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ} بالجر على البدل من فِئَتَيْنِ «، ويُسَمَّى هذا البدل بدلاً تفصيلياً كقول كُثَيِّر عَزَّةَ: [الطويل] 1355 - وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيْن رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ... وَرِجْلٍ رَمَى فِيْهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ هو بدل بعض من كل، وإذا كان كذلك فلا بد من ضمير يعود على المبدل منه، تقديره: فئةٍ منهما. وقرأ ابن السَّمَيْفَع، وابن أبي عَبْلَة» فِئَةٌ «بالنصب، وفيه أربعة أوجهٍ: أحدها: النصب بإضمار أعني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 59 والثاني: النصب على المَدْح، وتحرير هذا القول أن يقال على المدح في الأول وعلى الذم في الثاني، كأنه قيل: أمدح فئةٌ تقاتل في سبيل الله، وأذمُّ أخرى كافرةً. والثالث: أن ينتصب على الاختصاص، جوَّزَه الزمخشريُّ. قال أبو حيّان:» وليس بجيد؛ لأن المنصوبَ لا يكون نكرةٌ ولا مُبْهَماً «. قال شهابُ الدينِ: لا يعني الزمخشريُّ الاختصاصَ المبوَّبَ له في النحو نحو:» نَحْنُ - مَعَاشِرَ الأنبياءِ - لا نُورَثُ «، إنما على النصب بإضمار فعلٍ لائقٍ، وأهل البيان يُسَمُّونَ هذا النحوَ اختصاصاً. الرابع: أن ينتصب» فِئَةٌ «على الحال من فاعل» الْتَقَتَا «، كأنه قيل: التقتا مؤمنةً وكافرةً، فعلى هذا يكون» فئة «و» أخرى «توطئةً للحال؛ لأن المقصود ذكر وَصْفَيْهما، وهذا كقولهم: زيد رجلاً صالحاً، ومثله في باب الإخبار - {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} [الأعراف: 81] ، ونحوه. قوله: {وأخرى كَافِرَةٌ} » أخْرَى «صفة لموصوف محذوف، تقديره: وفِئَةٌ أخْرَى كَافِرَةٌ وقرئت» كافرة «بالرفع والجر على حسب القراءتين المذكورتين في» فِئَةٌ تُقَاتِلُ «، وهذه منسوقة عليها. وكان من حق من قرأ» فِئَةٌ «- بالنصب - أن يقرأ» وأخْرَى كَافِرَةٌ «بالنصب عطفاً على الأولى، وفي عبارة الزَّمخشريِّ ما يوهم القراءة به؛ فإنه قال:» وقرئ «فِئَةٍ تقاتلُ» «وأخرى كافرةٍ» بالجر على البدل من «فئتين» ، والنصب على الاختصاص أو الحال «فظاهر قوله: و» بالنصب «أي في جميع ما تقدم وهو فئةً تقاتلُ أخرى كافرةً وقد تقدم سؤال أبي البقاء، وهو لو لم يقل: والأخرى بالتعريف أعني حال رفع فئة تقاتل على خبر ابتداء مضمر تقديره إحداهما، والجواب عنه. والعامة على «تُقَاتِلُ» - بالتأنيث «؛ لإسناد الفعل إلى ضمير المؤنث، ومتى أسْنِد إلى ضمير المؤنث وجب تأنيثه، سواء كان التأنيث حقيقةً أو مجازاً، نحو الشمس طلعت، وعليه جمهور الناس. وخالف ابنُ كَيْسان، فأجاز: الشمسُ طلع. مستشهداً بقول الشاعر: [المتقارب] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 60 1356 - فَلاَ مُزْنَةٌ وَدَقَتْ وَدْقَهَا ... وَلا أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَِهَا حيث قال: أبقل - وهو مسند لضمير الأرض - ولم يقل: أبقلت، وغيره يخصه بالضرورة. وقالوا: إذ كان يمكن أن يَنقلَ حركةَ الهمزةِ على تاء التأنيثِ الساكنةِ، فيقول: ولا أرضَ أبقلتِ أبْقَالَها. وقد رَدُّوا عليه بأن الضرورة ليس معناها ذلك، ولئن سلمنا ذلك فلا نُسَلِّم أن هذا الشاعرَ كان ممن لغته النقل، لأن النقل ليس لغةَ كلِّ العربِ. وقرأ مجاهدٌ ومقاتل:» يُقَاتِلُ «- بالياء من تحت - وهي مُخَرَّجةٌ على مذهب ابنِ كَيْسَانَ، ومُقوِّيَةٌ له، قالوا: والذي حسن ذلك كونُ» فِئَةٌ «في معنى القوم والناس، فلذلك عاد الضمير عليها مذكراً. قوله:» يَرَوْنَهُمْ «، قرأ نافع - وحده - من السبعة، ويعقوب، وسهل:» تَرَوْنَهُمْ «بالخطاب والباقون من السبعة بالغيبة. فأما قراءة نافع ففيها ثمانية أوجهٍ: أحدها: أن الضميرَ في» لَكُمْ «والمرفوع في» تَرَوْنَهُمْ «للمؤمنين، والضمير المنصوب في» تَرَوْنَهُمْ «والمجرور في» مِثْلَيْهِمْ «للكافرين، والمعنى: قد كان لكم - أيها المؤمنون - آية في فئتين بأن رأيتم الكفارَ مثلي أنفسهم في العدد، وهو أبلغ في القدرة؛ حيث رأى المؤمنون الكافرين مثلي عَدَدِ الكافرين، ومع ذلك انتصروا عليهم وغلبوهم، وأوقعوا بهم الأفاعيلَ، ونحوه قوله تعالى: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةٍ كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249] . واستبعد بعضهم هذا التأويلَ؛ لقوله تعالى - في الأنفال [الآية: 44]-: {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً} ، فالقصة واحدة، وهناك تدل الآية على أن الله - تعالى - قلَّل المشركين في أعين المؤمنين؛ لئلا يَجْبُنُوا عنهم، وعلى هذا التأويل - المذكور ههنا - يكون قد كثرهم في أعينهم. ويمكن أن يجاب باختلاف الحالين؛ وذلك أنه في وقتٍ أراهم [إياهم] مثلي عددهم؛ ليمتحنهم ويبتليهم، ثم قلَّلهم في أعينهم؛ ليقدموا عليهم، فالآيتان باعتبارين، ومثله قوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 61 الرحمن: 39] ، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] وقوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42] مع قوله: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} [المرسلات: 35] . قال الفرّاء: المراد بالتقليل: التهوين، كقولك - في الكلام - إني لأرى كثيركم قليلاً، أي: قد هوّن عليّ، [لا أني أرى الثلاثة اثنين] . الثاني: أن يكون الخطاب في «تَرَوْنَهُم» للمؤمنين - أيضاً - والضمير المنصوب في «تَرَوْنَهُمْ» للكافرين - أيضاً - والضمير المجرور في «مِثْلَيْهِمْ» للمؤمنين، والمعنى: تَرَوْنَ أيُّها المؤمنون الكافرين مثلَي عدد أنفسكم، وهذا تقليلٌ للكافرين عند المؤمنين في رأي العينِ؛ وذلك أن الكفار كانوا ألفاً ونَيِّفاً، والمسلمون على الثلث منهم، فأراهم إياهم مِثْلَيْهم، على ما قرر عليهم - في مقاومة الواحدِ للاثنين - في قوله تعالى: {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} [الأنفال: 66] بعدما كُلِّفوا أن يقاوم كلُّ واحد عشرة في قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 65] . قال الزمخشريُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - «وقراءة نافع لا تُساعِد عليه» ، يعني على هذا التأويل المذكور ولم يُبين وجه عدم المساعدةِ، ووجهه - والله أعلم - أنه كان ينبغي أن يكون التركيبُ: ترونهم مثليكم - بالخطاب في «مِثْلَيهم» لا بالغيبة. قال أبو عبدِ الله الفارسيّ - بعد الذي ذكره الزمخشريّ -: «قلت: بل يُساعد عليه، إن كان الخطاب في الآية للمسلمين، وقد قيل ذلك» اه، فلم يأت أبو عبد الله بجواب؛ إذ الإشكالُ باقٍ. وقد أجاب بعضهم عن ذلك بجوابين: أحدهما: أنه من باب الالتفاتِ من الخطاب إلى الغيبة، وأنَّ حقَّ الكلام: مثلَيْكم - بالخطاب - إلا أنه التفت إلى الغيبة، ونظَّره بقوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] . والثاني: أن الضمير في «مِثْلَيْهِمْ» وإن كان المراد به المؤمنين إلا أنه عاد على قوله: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله} ، والفئة المقاتلة في سبيل الله عبارة عن المؤمنين المخاطبين. والمعنى: تَرَوْنَ - أيها المؤمنون - الفئةَ الكافرةَ مثلي الفئة المقاتلة في سبيل الله، [فكأنه] قيل: ترونهم - أيها المؤمنون - مثليكم، وهو جواب حسن. فإن قيل: كيف يرونهم مثليهم رأيَ العينِ، وقد كانوا ثلاثة أمثالكم؟ فالجواب: أن الله - تعالى - إنما أظهر للمسلمين من عدد المشركين القدر الذي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 62 علم المسلمون أنهم يغلبونهم؛ وذلك لأنه - تعالى - قال: {فَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} فأظهر ذلك العدد [من المشركين] للمؤمنين؛ تقوية لقلوبهم، وإزالةٌ للخوف عن صدورهم. الثالث: أن يكون الخطاب في «لَكُمْ» وفي «تَرَونَهُم» للكفار وهم قريش، والضمير المنصوب والمجرور للمؤمنين أي: قد كان لكم - أيها المشركون - آية؛ حيث ترون المسلمين مثلي أنفسهم في العدد، فيكون قد كثرهم في أعين الكفارِ، ليجبنُوا عنهم، فيعود السؤالُ المذكور بين هذه الآية، وآية الأنفال، وهي قوله تعالى: {وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ } [الأنفال: 44] ، فكيف يقال - هنا - إنه يكثرهم؟ فيعود الجواب المتقدم باختلاف الحالتين، وهو أنه قللهم أولاً، ليجترئ عليهم الكفارُ، فلما التقى الجمعان كثرهم في أعينهم؛ ليحصل لهم الخَوَرُ والفَشَلُ. الرابع: كالثالث، إلا أن الضمير في «مثليهم» يعود على المشركين، فيعودُ ذلك السؤالُ، وهو أنه كان ينبغي أن يقال: مثليكم، ليطابق الكلام، فيعود الجوابان. وهما: إما الالتفات من الخطاب إلى الغيبة، وإما عوده على الفئة الكافرة؛ لأنها عبارة عن المشركين، كما كان ذلك الضمير عبارة عن الفئة المقاتلة، ويكون التقدير: ترون - أيها المشركون - المؤمنين مثلي فئتكم الكافرة. وعلى هذا فيكونون قد رَأوا المؤمنين مثلي أنفسِ المشركين - ألفين ونيفاً - وهذا مَدَدٌ من الله تعالى، حيثُ أرى الكفارَ المؤمنين مثلي عدد المشركين، حتى فشلوا، وجبنوا، فطمع المسلمون فيهم، فانتصروا عليهم، ويؤيده قوله تعالى: {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} [آل عمران: 13] الإرادة - هنا - بمنزلة المدد بالملائكة في النصرة بكليهما، ويعود السؤال، وهو كيف كثرهم إلى هذه الغايةِ مع قوله - في الأنفال -: {وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44] ؟ ويعود الجواب. الخامس: أن الخطاب في «لَكُم» و «تَرَوْنَهُمْ» لليهود، والضميران - المنصوب والمجرور - على هذا عائدان على المسلمين، على معنى: ترونهم - لو رأيتموهم - مثليهم، وفي هذا التقدير تكلُّف لا حاجة إليه. وكأن هذا القائل اختار أن يكون الخطاب في الآية المتقدمة - وهي قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} - {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ} - لليهود، فجعله في «تَرَوْنَهُم» لهم - أيضاً - ولكن الخروج من خطاب اليهود إلى خطاب قوم آخرين أوْلَى من هذا التقدير المتكلف؛ لأن اليهود لم يكونوا حاضري الوقعةِ، حتى يُخَاطَبُوا برؤيتهم لهم كذلك، ويجوز - على هذا القول - أن يكون الضمير - المنصوب والمجرور - عائدَيْن على الكفار، أي: أنهم كُثِّرَ في أعينهم الكفارُ، حتى صاروا مثلي عدد المؤمنين، ومع ذلك غلبهم المؤمنون، وانتصروا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 63 عليهم، فهو أبلغ في القدرة. ويجوز أن يعود المنصوب على المسلمين، والمجرور على المشركين، أي: ترون - أيها اليهود المسلمين مثلي عدد المشركين؛ مهابةً لهم، وتهويلاً لأمر المؤمنين، كما كان ذلك في حق المشركين - فيما تقدم من الأقوال -، ويجوز أن يعود المنصوب على المشركين، والمجرور على المسلمين، والمعنى: ترون - أيها اليهود لو رأيتم - المشركين مثلي عدد المؤمنين وذلك أنتم قُلِّلوا في أعينهم؛ ليَحْصُل لهم الفزَعُ والغَمُّ؛ لأنه كان يغمهم قلةُ المؤمنين، ويعجبهم كثرتهم ونصرتهم على المسلمين، حَسَداً وبَغْياً. فهذه ثلاثة أوجهٍ مرتبة على الوجهِ الخامسِ، فتصير ثمانية أوجهٍ في قراءة نافع. أما قراءة الباقين ففيها أوجه: أحدها: أنها كقراءة الخطاب، فكل ما قيل في المراد به الخطابُ هناك قيل به هنا، ولكنه جاء على باب الالتفاتِ من خطاب إلى غيبةٍ. الثاني: في أن الخطاب في «لَكُمْ» للمؤمنين، والضمير المرفوع في «يَرَوْنَهُم» للكفار، والمنصوب والمجرور للمسلمين، والمعنى: يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المؤمنين - ستمائة ونيفاً وعشرين - أراهم الله - مع قتلهم - إياهم ضعفهم؛ ليهابوهم، ويجبنوا عنهم. الثالث: أن الخطاب في «لَكُم» للمؤمنين - أيضاً - والضمير المرفوع في «يَرَوْنَهُم» للكفار، والمنصوب للمسلمين، والمجرور للمشركين، أي: يرى المشركون [المؤمنين] مثلي عدد المشركين أراهم الله المؤمنين أضعافهم؛ لما تقدم في الوجه قبله. الرابع: أن يعود الضميرُ المرفوعُ في «يَرَوْنَهُم» على الفئة الكافرةِ؛ لأنها جمع في المعنى، والضمير المنصوب والمجرور على ما تقدم من احتمال عودهما على الكافرين، أو [على] المسلمين، أو أحدهما لأحدهم. والذي تقوى في هذه الآيةِ - من جميع الوجوه المتقدمةِ - من حيث المعنى أن يكون مدارُ الآيةِ على تقليل المسلمين، وتكثير الكافرين؛ لأن مقصود الآية ومساقها للدلالةِ على قدرةِ الله الباهرةِ، وتأييده بالنصر لعباده المؤمنين مع قلة عددهم، وخُذْلان الكافرين مع كَثْرةِ عددهم وتحزبهم لنعلم أن النصر كله من عند الله، وليس سببه كثرتكم وقلةَ عدوِّكم، بل سببه ما فعله الله تعالى من إلقاء الرعب في قلوب أعدائكم، ويؤيده قوله بعد ذلك: {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} وقال في موضع آخر: {وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} [التوبة: 25] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 64 وقال أبو شامة - بَعْدَ ذِكر هذا المعنى وتقويته -: فالهاء في «يَرَوْنَهُمْ» للكفار، سواء قُرِئ بالغيبة أم بالخطاب، والهاء في «مِثلَيْهم» للمسلمين. فإن قلت: إن كان المراد هذا فهلاَّ قيل: يَرَونَهُمْ ثلاثةَ أمثالهم، فكان أبلغ في الآية، وهي نَصْر القليل على هذا الكثير، والعدة كانت كذلك أو أكثر؟ قلت: أخبر عن الواقع، وكان آية أخرى مضمومة إلى آيةِ البصر، وهي تقليل الكفارِ في أعين المسلمين وقللوا إلى حد وعد المسلمون النصر عليهم فيه، وهو أن الواحد من المسلمين يَغْلِب الاثنين، فلم تكن حاجة إلى التقليل بأكثر من هذا، وفيه فائدةُ وقوع ما ضَمِنَ لهم من النصر فيه انتهى. قال شهاب الدين: «وإلى هذا المعنى ذهب الفراء، أعني أنهم يرونهم ثلاثةَ أمثالهم فإنه قال: مثليهم: ثلاثة أمثالهم، كقول القائل: عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها» . وغلطة أبو إسحاقَ - في هذا - وقال: مِثْل الشيء: ما ساواه، ومثلاه [ما ساواه] مرتين. قال ابن كَيْسان: الذي أوقع الفراء في ذلك أن الكفار كانوا - يوم بدر - ثلاثة أمثالِ المؤمنين فتوهَّم أنه لا يجوز أن يروهم إلا على عدتهم، والمعنى ليس عليه، وإنما أراهم الله على غير عدتهم لجهتين: إحداهما: أنه رأى الصلاح في ذلك؛ لأن المؤمنين تقوى قلوبُهم بذلك. والأخرى: أنه آية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والجملة - على قراءة نافع - يحتمل أن تكون مستأنفةً، لا محل لها من الإعراب، ويحتمل أن يكون لها محل، وفيه - حينئذ - وجهانِ: أحدهما: النصب على الحال من الكاف في «لَكُم» أي: قد كان لكم حال كونكم ترونهم. والثاني: الجر؛ نعتاً ل «فِئَتَيْنِ» ؛ لأن فيها ضميراً يرجع عليهما، قاله أبو البقاء وأما على قراءة الغيبة فيحتمل الاستئناف، ويحتمل الرفع؛ صفة لإحدى الفئتين، ويحتمل الجر؛ صفة ل «فِئَتَيْنِ» أيضاً، على أن تكون الواو في «يَرَوْنَهُمْ» ترجع إلى اليهود؛ لأن في الجملة ضميراً يعود على الفئتين. وقرأ ابن عباس وطلحة «تُرَوْنَهُمْ» - مبنياً للمفعول على الخطاب - والسُّلَميّ كذلك إلا أنه بالغيبة وهما واضحتان مما تقدم تقريره والفاعل المحذوف هو الله تعالى والرؤية - هنا - فيها رأيان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 65 أحدهما: أنها البصرية، ويؤيد ذلك تأكيده بالمصدر المؤكد، وهو قوله: «رَأيَ الْعينِ» . قال الزمخشريُّ: «رؤية ظاهرة مكشوفة، لا لبس فيها» ؛ لأن الإدراك عند المعتزلة واجب الحصول عند اجتماع الشرائط، وسلامة الحاسَّةِ، ولهذا اعتذر القاضي عن هذا الموضع [بوجوه] : أحدها: أن عند الاشتغالِ بالمحاربةِ لا يتفرغ الإنسان لأن يُدِيرَ حدقته حول العسكر، وينظر إليهم على سبيل التأمل وثانيها: أنه قد يحصل من الغبار ما يمنع من إدراك البعض. وثالثها: يجوز أن يقال: إن الله تعالى خلق في الهواء ما منع من إدراك ثلث العسكر، [فعلى هذا] ، يتعدى لواحد، ومثليهم نصب على الحالِ. الثاني: أنها من رؤية القلبِ، فعلى هذا يكون «مِثْلَيهِم» مفعولاً ثانياً، وقد ردّه أبو البقاء فقال: ولا يجوز أن تكون الرؤية من رؤية القلب - على كل الأقوال - لوجهين: أحدهما: قوله: «رأي العين» . الثاني: أن رؤية القلب علم، ومحال أن يُعْلَمَ الشيء شَيْئَين. وأجيب عن [الوجه] الأول بأن انتصابهَ انتصابُ المصدر التشبيهي، أي: رأياً مثل رأي العين، أي: يشبه رأي العين، فليس إياه على التحقيق، وعن الثاني بأن الرؤية هنا يُرَاد بها الاعتقاد، فلا يلزم المحال المذكور، وإذا كانوا قد أطلقوا العلم - في اللغة - على الاعتقاد - دون اليقين - فلأن يطلقوا عليه الرأيَ أوْلَى وأحْرَى. ومن إطلاق العلم على الاعتقاد قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] ؛ إذْ لا سبيلَ إلى العلم اليقيني في ذلك؛ إذ لا يعلم ذلك إلاَّ اللهُ تعالى، فالمعنى: فإن اعتقدتموهن، والاعتقاد قد يكون صحيحاً، وقد يكون فاسداً، ويدل على هذا التأويل قراءة من قرأ «تُرَوْنَهُمْ» - بالتاء والياء مبنيًّا للمفعول -؛ لأن قولهم: أرَى كذا - بضم الهمزة - يكون فيما عند المتكلم فيه شك وتخمينٌ، لا يقين وعلم، فلما كان اعتقاد التضعيف في جمع الكفار، أو في جمع المؤمنين تضميناً وظناً؛ لا يقيناً دخل الكلامَ ضربٌ من الشكِّ، وأيضاً - كما يستحيل حملُ الرؤيةِ هنا على العلم - يستحيل أيضاً حملها على رؤية البصر بعين ما ذكرتم من المحال، وذلك كما أنه لا يقع العلم غيرَ مطابقٍ للمعلوم، كذلك لا يقع النظر البصري غير مطابق لذلك الشيء المُبْصَر المنظور إليه، فكان المراد التخمين والظن، لا اليقين والعلم، كذا قيل، وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 66 أن البصر لا يخالف المُبْصَر؛ لجواز أن يحصل خَلَلٌ في البصر، وسوء في النظر، فيتخيل الباصر الشيئَ شيئَيْن فأكثر، وبالعكس. احتج من قال: إن الرائي هو المشركون بوجوه: الأول: أن تعلُّق الفعل بالفاعل أشدُّ من تعلُّقهِ بالمعفول، فجَعْلُ أقرب المذكورين السابقين فاعلاً وأبعدهما مفعولاً أوْلَى من العكس، وأقرب المذكورين هو قوله: {كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ} . الثاني: مُقَدَّمُ الآية - وهو قوله {قَدْ كَانَ لِكُمْ آيَةٌ} خطاب مع الكفار، فقراءة نافع - بالتاء - تكون خطاباً مع أولئك الكفار، والمعنى: تَرَوْنَ يا مشركي قريش المسلمين مثليهم، فهذه القراءة لا تساعد غلا على كون الرائي مشركاً. الثالث: أن الله تعالى جعل هذه الحالة آية للكفار حتى تكونَ حُجَّةً عليهم، ولو كانت هذه الحالةُ حاصلة للمؤمن لم يصح جَعْلُها حُجَّةٌ على الكافر. واحتج من قال: الراءون هم المسلمون بأن الرائين لو كانوا هم المشركين لزم رؤيةُ ما ليس بموجود وهو محال - ولو كان الراءون هم المؤمنين لزم أن لا يرى ما هو موجود، وهذا ليس بمحال فكان أولى، قال ابن مسعودٍ: نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا، ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علنيا رجلاً واحداً، ثم قللهم الله - أيضاً - في أعينهم حتى رَأوْا عدداً يسيراً أقل من أنفسهم، قال ابن مسعود: «حَتَّى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعينَ؟ قال: أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم، فقلنا: كم كنتم؟ قال: ألفاً» . فصل وجه النظم أنه - تعالى - لما أنزل الآية المتقدمة في اليهود، وهي قوله: {سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} ، فدعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الإسلام، أظهروا التمرد، وقالوا: لسنا أمثال قريشٍ في الضعفِ، وقلة المعرفة بالقتال، بل معنا من الشوكة والمعرفة بالقتال ما نغلب به كل مَنْ ينازعنا، فقال تعالى: إنكم - وإن كنتم [أغنياء] ، أقوياء، أرباب قدرة وعدة فإنكم - ستغلبون، ثم ذكر - تعالى - ما يجري مجرى الدلالة على صحة ذلك، فقال: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا} يعني واقعة بدر؛ فإن الكثرة والعُدَّة كانت للكفار، والقلة وعدم السلاح من جانب المسلمين، ثم إن الله تعالى قهر الكفارَ، ونصر المسلمين، وهذا يدل على أن النصر بتأييد الله ونصرِه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 67 الفئة: الجماعة، والمراد بالفئة التي تقاتل في سبيل الله - أي: في طاعته رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه يوم بدر، وكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، سبعة وسبعين رجلاً من المهاجرين، ومائتين وستة وثلاثين من الأنصار، وصاحب راية المهاجرين عليّ بن أبي طالب، وصاحب راية الأنصار سعد بن عبادة، وكان فيهم سبعون بعيراً، بين كل أربعة منهم بعير، وفرسان: فرس للمقدادِ بن عمرو، وفرس لمرثد بن ابي مريد، وأكثرهم رجَّالةٌ، وكان معهم من الدروع ستة، وثمانية سيوف، والمراد بالأخْرَى الكافرة مُشركو مكة، وكانوا تسعمائة وخمسين رجلاً من المقاتلة، رأسهم عتبة بن ربيعة بن عبد شمس، وفيهم مائةُ فرس، وكان فيهم أبو سفيان وأبو جهلٍ، وكان معهم من الإبل سبعمائةُ بعيرٍ، وأهل الخيل كلُّهم كانوا دارعين وهم مائة نفرٍ، وكان في الرجال دروع سوى ذلك. فصل ذكر العلماءُ في كَوْنِ هذه الواقعةِ آية وجوهاً: أحدها: أن المسلمين كانوا قد اجتمع فيهم من أسباب الضعف أمور، منها: قِلَّةٌ العَدَد. ومنها: أهم خرجوا غير قاصدين للحرب فلم يتأهبوا. ومنها: قِلَّةُ السلاح والخيل. ومنها: أن ذلك أول غزواتهم، وكان قد حصل للمشركين أضداد هذه المعاني من كثرة العدد، وأنهم خرجوا متأهبين للمحاربة، وأنهم كانوا معتادين للحروب في الأزمنة الماضية، وإذْ كان الأمر كذلك فكان غَلَبُ هؤلاء الضعفاء خارجاً عن العادة، فيكون مُعْجزاً. وثانيها: أنه - عليه السلام - كان قد أخبر قومه بأن الله ينصره على قريش، بقوله: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7] ، يعني جمع قريش، وكان قد أخبر - قبل الحرب - بأن هذا مصرع فلان، فلما وُجِدَ مَخْبَرُ خَبَرهِ في المستقبل على وَفقِ خَبَرِه، كان ذلك إخباراً عن الغَيْب؛ فكان مُعْجِزاً. وثالثها: قوله تعالى: {يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين} ، والصحيح أن الرائين هم المشركون، والمرئيين هم المؤمنون، وعلى كلا التقديرين يكون مُعْجِزاً. ورابعها: قال الحسنُ: إن الله - تعالى - أمدَّ رسولَه في تلك الغزوة بخمسةِ آلافِ من الملائكة، لقوله تعالى: {فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة مُرْدِفِينَ} [الأنفال: 9] ، وقال: {بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف مِّنَ الملاائكة مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] قيل: إنه كان على أذناب خيولهم ونواصيهم صوفٌ أبيض، وهو المراد من قوله: {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 68 قوله: {رَأْيَ العين} في انتصابه ثلاثة أوجهٍ، تقدم منها اثنان النصب على المصدر التوكيدي، أو النصب على المصدر التشبيهيّ. الثالث: أنه منصوب على ظرف المكانِ، قال الواحديُّ: «. . كما تقول: ترونهم أمامكم، ومثله هو مني مَزجَرَ الكلب، وَمَناطَ [الْعُنق] ، وهذا إخراج للفظ عن موضوعه - مع عدم المساعد - معنًى أو صناعةً. و» رأى «مشترك بين» رأى «معنى أبصر، ومصدره: الرَّأي، والرؤية، وبمعنى اعتقد وله الرأي وبمعنى الحلم، وله الرؤيا كالدنيا، فوقع الفرق بالمصدر، فالرؤية للبصر خاصةً، والرؤيا للحلم فقط، والرأي مشترك بين البصرية والاعتقادية، يقال: هذا رأي فلان، أي: اعتقاده. قال: [الطويل] 1357 - رَأى النَّاسَ - إلاَّ مَنْ رَأى مِثْلَ رَأيِهِ ... خَوَارِدَ تَرَّاكِينَ قَصْدَ الْمَخَارِجِ قوله: {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} التأييد: تفعيل، من الأَيْد، وهو القوَّة، والباء سببية أي: سبب تأييده، ومفعول» يَشَاءُ «محذوف، أي: من يشاء تأييده. وقرأ ورش» يُويِّدُ «، بإبدال الهمزة واواً مَحْضَةً، وهو تسهيل قياسيٌّ؛ قال أبو البقاء وغيره:» ولا يجوز أن يُجْعَل بَيْنَ بَيْنَ؛ لقربها من الألف، والألف لا يكون ما قبلها إلا مفتوحاً، ولذلك لم تجعل الهمزة المبدوء بها بَيْنَ بَيْنَ لاستحالة الابتداء بالألف «. وهو مذهب سيبويه في الهمزة المفتوحة بعد كسرة قلبها ياء محضة، وبعد الضمة قَلْبُها واواً محضة للعلة المذكورة وهي قُرْب الهمزة التي بَيْنَ بَيْنَ من الألف، والألف لا تكون ضمة ولا كسرة. و» عبرة «: فِعْلَة - من العبور كالركبة وكالجِلْسة، والعبور: التجاوز، ومنه عبرتُ النهر، والمعبر السفينة؛ لأن بها يُعْبَر إلى الجانب الآخر، وعَبْرَةُ العين: دَمْعُهَا؛ لأنها تجاوزها، وعَبَّر بالعِبْرة عن الاتعاظ والاستيقاظ؛ لأن المتَّعِظَ يَعْبُر من الجَهْل غلى العلم، ومن الهلاك إلى النجاة، والاعتبار: افتعال منه، والعبارة: الكلام الموصل إلى الغرض، لأن فيه مجاوزةً، وعبرت الرؤيا وعبَّرتها، - مخفَّفاً ومثقلاً - لأنك نقلت ما عندك من تأويلها إلى رائيها. و» لأولي أبصار «صفة ل» عبرة «، أي: عبرة كائنة لأولي الأبصار - لذوي العقول يقال: لفلان بصر بهذا الأمر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 69 وقيل: لمن أبصر الجمعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 والعامة على بناء «زُيِّنَ» للمفعول، والفاعل المحذوف هو الله تعالى؛ لما ركب في طباع البشر من حب هذه الأشياء، وقيل: هو الشيطان، فالأوّل قول أهلِ السنة؛ قالوا: لو كان المزين هو الشيطان فمن ذا الذي زَيَّن الكفرَ والبدعةَ للشيطان؟ فإن كان ذلك شيطاناً آخرَ لزم التسلسل، وإن وقع ذلك من نفس ذلك الشيطان في الإنسان فليكن في الإنسان كذلك، وإن كان من الله وهو الحق - فليكن في حَقِّ الإنسان أيضاً كذلك، ويؤيده قوله تعالى: {هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا} [القصص: 63] يعني إن اعتقد أحد أنَّا أغويناهم، فمَن الذي أغوانا؟ وهذا ظاهر جداً، وقال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا} [الكهف: 7] ونُقِل عن المعتزلة ثلاثةُ أقوالٍ: أحدها: أن الشيطان زَيَّن لهم، حكي عن الحسن أنه [كان]- يحلف بالله على ذلك - ويقول: من زينها؟ إنما زيَّنها الشيطانُ؛ لأنه لا أحد أبغض لها من خالقها. احتج لهم القاضي بوجوه: الأول: أنه تعالى أطلق حبَّ الشهواتِ، فيدخل فيه حُبُّ الشهواتِ المحرمةِ، ومُزَينُ الشهواتِ المحرمة هو الشيطانُ. الثاني: أنه - تعالى - ذكر القناطيرَ المقنطرةَ من الذهبِ والفضةِ، وحُبُّ هذا المالِ الكثيرِ لا يليق إلا بمَنْ جعل الدنيا قِبْلَةَ طلبه، ومُنتَهَى مقصودِه؛ لأن أهْلَ الآخرةِ يكتفون بالبُلْغَةِ. الثالث: قوله تعالى: {ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا} ، فذكره في مَعْرض ذَمِّ الدنيا، والذامُّ للشيء لا يزينُهُ. الرابع: قوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم} [آل عمران: 15] والمقصود من هذا الكلامِ صرفُ العبدِ عن الدنيا وتقبيحُها له، وذلك لا يليق بمن يزيِّنُ الدنيا في عينه. القول الثاني: أن المزين هو الله تعالى، واحتجوا عليه بوجوه: أحدها: أنه تعالى كما رغَّب في منافِع الآخرةِ فقد خلق مَلاَذَّ الدنيا، وأباحها لعبيده؛ فإنه إذا خلق الشهوةَ والمُشْتَهَى، وخلق للمشتهى عِلْماً بما في تناوُل المشتَهَى من اللذةِ، ثم أباح له ذلك التناولَ؛ يقال: إنه زيَّنَها له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 70 وثانيها: أن الانتفاع بهذه الشهواتِ وسائلُ إلى منافع الآخرةِ، والله تعالى نَدَب إليها، فكان تزييناً لها، أمَّا كونها وسائلَ إلى ثوابِ الآخرةِ أنه يتصدق بها، ويتقوَّى بها على الطاعة وأيضاً إذا علم أن تلك المنافع إنما تيسرت بتخليق الله حمله ذلك على الاتشغال بالشكر. قال صاحب بن عبَّادٍ: «شُرْبُ الْماءِ الْبَارِدِ في الصَّيْفِ يَسْتَخْرِجُ الْحَمْدَ مِنْ أقْصَى الْقَلْبِ» وأيضاً فإن القادرَ على التمتُّع باللذات إذا تركها واشتغل بالعبادة، وتحمل ما في ذلك من المشقة ك ان أكثرَ ثواباً. وثالثها: قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} [البقرة: 29] ، وقوله: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} [الأعراف: 32] ، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا} [الكهف: 7] وقال: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 31] ، وقال: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} [البقرة: 22] ، وقال: {كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً} [البقرة: 168] ، وكل ذلك يدل على أن التزيين من الله تعالى. القول الثالث - وهو اختيار الجبائي والقاضي -: وهو التفصيل، فإن كان حراماً فالتزيين فيه من الشيطان، وإن كان واجباً، أو مندوباً، فالتزيين فيه من الله تعالى ذكره القاضي في تفسيره وبقي قسمٌ ثالث، وهو المباح الذي ليس في فعله ثواب، ولا في تركه عقابٌ، وكان من حق القاضي أن يذكره فلم يذكره. ويُبَيِّنَ التزيين فيه، هل هو من الله تعالى أو من الشيطان؟ وقرأ مجاهد: «زَيَّنَ» مبنيًّا للفاعل، و «حُبَّ» مفعول به نصاً، والفاعل إما ضمير الله تعالى؛ المتقدم ذكره في قوله: {والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ} [آل عمران: 13] ، وإما ضمير الشيطان، أضمر - وإنْ لم يجر له ذكر - لأنه أصل ذلك، فذكرُ هذه الأشياءِ مُؤذِنٌ بذِكْرِه، وأضافَ المصدر لمفعوله في {حُبُّ الشهوات} . والشهوات جمع شَهْوَة - بسكون العين - فحُرِّكت في الجمع، ولا يجوز التسكين إلا في ضرورة، كقوله: [الطويل] 1358 - وَحُمِّلتُ زَفْرَاتِ الضُّحَى فَأطَقْتُهَا ... وَمَا لِي بِوَفْرَاتِ العَشِيِّ يَدَانِ بتسكين الفاء. والشهوةُ مصدر يُراد به اسم المفعول، أي: المشتهيات، فهو من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 71 باب: رَجُل عَدل حيث جعلت نفس المصدر مبالغةً. والشهوة: مَيْل النفس، وتُجْمَع على شهوات - كالآية الكريمة - وعلى شُهًى - كغُرَفٍ -. قالت امرأة من بني نصر بن معاوية: [الطويل] 1359 - فَلَوْلاَ الشُّهَى - وَاللهِ - كُنْتُ جَدِيرَةٌ ... بِأنْ أتركَ اللَّذَاتِ في كُلِّ مشْهَدِ قال النحويون: لا تُجْمَع فَعْلَة - المعتلة اللام يعنون بفتح الفاء وسكون العين على فُعَل إلا ثلاثة ألفاظٍ: قرية وقُرًى، ونَزْوَة ونُزًى، وكَوَّة - عند من فتح الكاف - وكُوًى. واستدرك أبو حيّان: «واستدركت - أنا - شُهًى، وأنشد البيت» . وقال الراغب: «وقد يُسَمَّى المشتهى، شهوةً، وقد يقال للقوَّة التي بها يُشْتَهَى الشيء: شهوة، وقوله تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} يحتمل الشهوتين» . قال الزمخشريُّ: وفي تسميتها بهذا الاسم فائدتان: إحداهما: أنه جعل الأعيانَ التي ذكرها شهواتٍ؛ مبالغةً في كونها مشتهاةٌ، محروصاً على الاستمتاع بها. الثانية: أن الشهوة صفة مسترذلة عند الحكماء، مذموم من اتبعها، شاهد على نفسه بالبهيمية، فكأن المقصود من ذكر هذا اللفظ التنفير منها. فصل وَجهُ النظم: أنا روينا أن أبا حارثة بن علقمة النصراني قال لأخيه: إنه يعرف صدق محمد فيما جاء به، إلا أنه لا يُقرُّ بذلك؛ خوفاً من أن يأخذ ملكُ الروم منه المالَ والجاهَ، وأيضاً روينا أن النبي - عليه السلام - لما دعا اليهود إلى الإسلام - بعد غزوة بدر - أظهروا من أنفسهم القوةَ والشدةَ، والاستظهارَ والسلاحَ، فبين - تعالى - في هذه الآية أن هذه الأشياء وغيرها - من متاع الدنيا - زائلة، باطلة، وأن الآخرة خير وأبقى. فصل قال المتكلمون: دلت هذه الآية على أن الحبَّ غيرُ الشهوةِ؛ لأنه أضافهُ إليها، والمضاف غيرُ المضافِ إليه، والشهوة فعل الله تعالى، والمحبة فعل العبد. قالت الحكماءُ: الإنسان قد يحب شيئاً، ولكنه يحب ألا يحبه، كالمسلم قد يميل طبعه إلى بعض المحرمات، لكنه يحب ألا يحبه، وأما من أحب شيئاً، وأحب أن يحبه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 72 فذلك هو كمال المحبة، فإن كان ذلك في جانب الخير، فهو كمال السعادة، كقول سليمان: {إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير} [ص: 32] ، ومعناه: أحب الخير، وأحب أن أكون محباً للخير، وإن كان ذلك في جانب الشرِّ فهو كما قال في هذه الآية؛ فإن قوله: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} يدل على ثلاثةِ أمور مترتبة: أولها: أنه يشتهي أنواع المشتهيات. ثانيها: أنه يحب شهوته لها. ثالثها: أنه يعتقد أن تلك المحبة حسنة. ولما اجتمعت هذه الدرجاتُ الثلاثُ في هذه القضية بلغت الغايةَ القصوى في الشدة، فلا تنحلّ إلا بتوفيق عظيمٍ من الله تعالى، ثم إنه أضاف ذلك إلى الناس، ولفظ «النَّاس» عام، دخله حرف التعريف فيفيد الاستغراق، فظاهر اللفظ يقتضي أن هذا المعنى حاصل لجميع الناس، والعقل - أيضاً - يدل عليه؛ لأن كل ما كان لذيذاً ونافعاً فهو محبوب، ومطلوب لذاته، والمنافع قسمان: جسماني، وروحاني، فالجسماني حاصل لكل أحد في أول الأمر، والروحاني لا يحصل إلا في الإنسان الواحد على سبيل الندرة، ثم إن انجذاب نفسه إلى اللذات الجسمانية كالملكة المستقرة وانجذابها إلى اللذات الروحانية كالحالة الطارئة التي تزول بأدنى سبب، فلا جرم كان الغالب على الخلق هو الميل الشديد إلى اللذات الجسمانية، فلهذا السبب عم الله هذا الحكمَ في الكل. قوله تعالى: {مِنَ النساء} في محل نَصْب على الحال من الشهوات، والتقدير: حال كون الشهوات من كذا وكذا، فهي مفسرة لها في المعنى. ويجوز أن تكون «مِنْ» لبيان الجنس، لقول الزمخشريِّ: «ثم يفسره بهذه الأجناس» . كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ، والمعنى: فاجتنبوا الأوثان التي هي رِجْسٌ. وقدم النساءَ على الكل، قال القرطبيُّ: لكثرة تشوُّق النفوس إليهن؛ لأنهن حبائلُ الشيطان، وفتنة الرجالِ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتْنَةً أضَرَّ عَلَى الرِّجالِ مِنَ النِّسَاءِ» أخرجه البخاري ومسلم لأن الالتذاذ منهن أكثرُ، والاستئناسَ بهن أتَمُّ، ولذلك قال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 73 تعالى: {خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] ، ثم ثَنَّى بالولد الذَّكَر؛ لأن حُبَّ الولد الذكر أكثر من حب الولد الأنثى، واعلم أن الله تعالى - في إيجاد حُبِّ الزوجة والولد في قلب الإنسان - حكمةً بالغةً؛ إذْ لولا هذا الحُبُّ لَمَا حصل التوالُدُ والتناسُل، وهذه المحبة غريزة في جميع الحيوان، والبنين: جمع ابن، قال نوح: {رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] ويًصَغَّر «ابن» على بُنَيّ، قال لقمان: {يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله} [لقمان: 13] ، وقال نوح: {يابني اركب مَّعَنَا} [هود: 42] . قوله تعالى: {والقناطير} هي جمع قِنْطار، وفي نونه قولان: أحدهما: أنها أصلية، وأن وَزْنَه فِعْلاَل، كحِمْلاق، وقِرْطاس. والثاني: أنها زائدة، وأن وزنه فِنْعال كفِنْعاس، وهو الجمل الشديد، واشتقاقه من قطر يقطر - إذا سال؛ لأن الذهب والفضة يُشَبَّهَان بالماء في سرعة الانقلابِ، وكثرة التقلُّب. وقال الزَّجَّاج: هو مأخوذ من قَنْطَرتُ الشيء - إذا عقدته وأحكمته - ومنه القنطرة؛ لإحْكام عقدها. حكى أبو عبيدة عن العرب أنهم يقولون: القنطار وزن لا يُحَدُّ. قال ابن الخطيب: «وهذا هو الصحيح» . وقال الربيع بن أنس: القنطار: المال الكثير بعضه على بعض. وقال القرطبي: «والعرب تقول قنطر الرجل إذا بلغ ماله أن يوزن بالقنطار» . وقال معاذ بن جبل - ورواه أبَيّ بنُ كعب عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: «القنطارُ ألفٌ ومئتا أوقية» . وقال ابن عباس والضحاك: ألف ومائتا مثقالٍ، وعنهما - في رواية أخرى - اثنا عشر ألفَ درْهمٍ أو ألف دينار دية أحدكم، وبه قال الحسن. وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «القِنْطَارُ اثْنَا عَشَرَ ألْفَ أوْقيةٍ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 74 وروى أنس - أيضاً - عنه أن القنطار ألف دينار. وروى سعيد بن المسيب وقتادة: ثمانون ألفاً. وقال مجاهدٌ: سبعون ألفاً. وقال السُّدِّيُّ: أربعة آلاف مثقالٍ. وقال الكلبيُّ أبو نضرة: القنطار - بلسان الروم - ملء مسك الثور من ذهب، أو فضة. وقال الحكم: القنطار ما بين السماء والأرض من مال. وقال سعيد بن جبير وعكرمة: مائة ألفٍ، ومائة مَنّ، ومائة رَطل، ومائة مثقال، ومائة درهم، وقد جاء الإسلام - يوم جاء - وبمكة مائة رجل قد قَنْطروا. قوله: «الْمُقَنطَرَة» مُنَفْعَلَة من القنطار وهو للتأكيد، كقولهم: ألف مؤلَّفة، وبدرة مبدرة، وإبل مُؤبَّلة، ودراهم مُدَرْهمة. وقال الكلبي: القناطير الثلاثة، والمقنطرة المضاعفة، فكان المجموع ستة. وقال الضحاك: معنى «الْمُقَنْطَرَة» : المحَصَّنة المُحْكمة. وقال قتادة: هي الكثير بعضها فوق بعض. وقال السُّدِّي: المضروبة، المنقوشة حتى صارت دراهم ودنانير. وقال الفراء: المضعّفة، والقناطير الثلاثة، فالمقنطرة تسعة وجاء في الحديث أن القنطار ألف ومائتا أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض. وقال ابو عبيدة: القناطير أحدها قنطار، ولا نجد العرب تعرف وزنه ولا واحد للقنطار من لفظه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 75 وقال ثعلب: المعوَّل عليه عند العرب أنه أربعة آلاف دينار، فإذا قالوا: قَنَاطير مقنطرةٌ، فهي اثنا عشر ديناراً وقيل: غن القنطار ملء جلد ثور ذهباً. وقيل: ثمانون ألفاً وقيل: هو جملة كثيرة مجهولة من المال نقله ابن الأثير. قوله: {مِنَ الذَّهَبِ} كقوله: {مِنَ النِّسَاءِ} ، [والذَّهَب] مؤنث، ولذلك يُصَغَّر على ذهيبة، ويُجْمَع على أذهاب وذُهوب، واشتقاقه من الذهاب، ويقال: رجل ذَهِب بكسر الهاء - رأى معدن الذهب فدُهِش و [ «الفضة» تجمع على فضض، واشتقاقها من انفض إذا تفرق] . قال القرطبيُّ: والذهب مكيالٌ لأهل اليَمَن، قال: واشتقاق الذهب والفضة، يشعر بزوالهما وعدم ثبوتهما كما هو مشاهد ف ي الوجود، ومن أحسن ما قيل في ذلك قول بعضهم: [البسيط] 1360 - النَّارُ آخِرُ دِينَارٍ نَطَقْتَ بِهِ ... وَالهَمُّ آخِرُ هَذَا الدِّرْهَمِ الجَارِي وَالمَرْءُ بَيْنَهُمَا إذْ كَانَ ذَا وَرَعٍ ... مُعَذَّبُ القَلْبِ بَيْنَ الهَمِّ وَالنَّارِ والذهب والفضة: إنما كانا محبوبَيْن لأنهما جُعِلا ثَمَن جميع الأشياء، فمالكها كالمالك لجميع الأشياء. قوله: «وَالْخَيْلِ» عطف على النساء، قال أبو البقاء: [معطوف على النساء] ، لا على الذهب والفضة، لأنها لا تسمى قنطاراً وتوهم مثل هذا بعيد جداً، والخيل فيه قولان: أحدهما: قال الواحديُّ: «إنه جمع لا واحد له من لفظه، كالقَوْم، والنساء والرهط» . الثاني: أن واحده خائل، فهو نظير راكب وركب، وتاجر وتجر، وطائر وطير. وفي هذا خلاف بين سيبويه والأخفش، فسيبويه يجعله اسم جمع، والخفش يجعله جمع تكسير. وفي اشتقاقها وجهان: أحدهما: من الاختيال - وهو العجب - سُمِّيت بذلك؛ لاختيالها في مِشيتها بطول أذنابها قال امرؤ القيس: [المتقارب] 1361 - لَهَا ذَنَبٌ مِثْلُ ذَيْلِ الْعَرُوسِ ... تَسُدُّ بِهِ فَرْجَهَا مِنْ دُبُرْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 76 الثاني: من التخيل، قيل: لأنها تتخيل في صورة من هو أعظم منها. وقيل: أصل الاختيال من التخيل، وهو التشبيه بالشيء؛ لأن المختال يتخيل في صورة من هو أعظم منه كِبْراً. والأخيل: الشَّقِرَّاق؛ لأنه يتغير لونهُ، فمرة أحمر، ومرة أصفر وعليه قوله: [مجزوء الكامل] 1362 - كَأبِي بَرَاقِشَ كُلُّ لَوْ ... نٍ لَوْنُهُ يَتَخَيَّلُ وجوز بعضهم: أن يكون مخفَّفاً من «خَيَّل» - بتشديد الياء - نحو مَيْت - في ميِّت - وهيْن في هَيِّن، وفيه نظر؛ لأن كل ما سُمِع فيه التخفيف سُمِع فيه التثقيل، وهذا لم يُسْمع إلا مخفَّفاً؛ وهذا تقدم. وقال الراغب: «الخيل - في الأصل - اسم للأفراس والفرسان جميعاً، قال تعالى: {وَمِن رِّبَاطِ الخيل} [الأنفال: 60] في الأصل للأفراس، ويستعمل في كل واحد منهما منفرداً، نحو ما رُوِي» يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي «، فهذا للفرسان، وقوله - عليه السلام -:» عَفَوْتُ لَكُمْ عَنْ صَدَقَةِ الْخَيْلِ «، يعني الأفراس، وفيه نظر؛ لأن أهل اللغة نَصُّوا على أن قوله - عليه السلام -» يَا خَيْلَ اللهِ ارْكَبي «إما مجاز إضمار أو مجاز علاقة، ولو كان للفرسان حقيقة لما ساغ قولهم. قوله: «الْمُسَوَّمَة» أصل التسويم: التعليم، ومعنى مسومة: مُعَلَّمة. قال أبو مسلم: مأخوذ من السيما - بالمد والقصر - ومعناه واحد، وهو الهيئة الحسنة، قال تعالى: {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} [الفتح: 29] واختلفوا في تلك العلامة. فقال أبو مسلم: هي الأوضاح والغُرز التي تكون في الخيل وهي أن تكون غُرًّا محجلة. وقال الأصم: البلق. وقال قتادة: الشِّية. وقال المؤرج: الكَيّ، والأول أحسن؛ لأن الإشارة في الآية إلى أشرف أحوالها وقال: بل هي من سوم الماشية، أي: مرعية، يقال: أسَمْتُ ماشيتس، فسامت، قال تعالى: {فِيهِ تُسِيمُونَ} [النحل: 10] ، وسومتها فاستامت، أي: مرعية، فيتعدى - تارة - بالهمزة، وتارة بالتضعيف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 77 وقيل: بل هو من السيمياء - وهي الحسن - فمعنى مُسَومة: أي: ذات حُسن، قاله عكرمة، واختاره النحاس؛ قال لأنه من الوَسْم، ورد عليه بعضهم: باختلاف المادتين، وأجاب بعضهم بأنه من باب المقلوب، فيصح ما قاله وتقدم تحقيق ذلك في «يسومونكم» وقوله «بسيماهم» . فصل قال القرطبيُّ: جاء في الخبر عن علي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن الله عَزَّ وَجَلَّ خلق الفرس من الريح، ولذلك جعلها تطير بلا جناح. قال وهب بن منبه: خلقها من ريح الجنوب. وفي الخبر: أن الله تعالى عرض على ىدم جميع الدواب، فقال له: اختر منها واحدة، فاختار الفرس، فقيل له: اخترتَ عِزَّك، فصار اسمه الخيل من هذا الوجه، ويُمِّي خَيْلاً؛ لأن من ركبها اختال على أعداء الله، وسُمِّي فرساً؛ لأنه يفترس مسافات الجو افتراس السبع، ويقطعها كالالتهام بيديه على الشيء خَطْفاً وتَنَاولاً، وسمي عَربيًّا؛ لأنه جيء به من بعد آدم لإسماعيل؛ جزاء على رفع قواعد البيت، وإسماعيل عربي، فصارت له نحلةً من الله، وسمي عربياً، وفي الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لا يَدْخُلُ الشَّيْطَان دَاراً فِيهَا فَرَسٌ عَتِيقٌ» ، وإنما سمي عتيقاً؛ لأنه تخلص من الهجانة، وقال - عليه السلام -: «خَيْرُ الْخَيْلِ الأدْهَمُ، الأقرعُ، الأرْثم ثم الأقرح المحجل طَلْقُ اليَمينِ» . قوله: {والأنعام} جمع نَعَمٍ، والنعم مختصة بالإبل، والبقر، والغنم. وقال الهروي: النعم يذكر ويؤنث، فإذا جُمِع أطلق على الإبل والبقر والغنم، وظاهر هذا أنه - قبل جمعه على أنعام - لا يطلق على الثلاثة، بل يختص بواحد منها، وقد صرَّح الفراء بهذا، فقا لالنعم: الإبل فقط قال بعضهم لكونها تشبه النعام في جزاء الصبر. وقال ابن كيسان: إذا قلت: نعم لم يكن إلا للإبل وإذا قلت: أنعام وقعت على الإبل وكل ما يرعى؛ قال حسان: [الوافر] 1363 - وَكَانَتْ لاَ يَزَالُ بِهَا أنِيْسٌ ... خِلالَ مُرُوجِهَا نَعَمٌ وَشَاءُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 78 وهو مذكر ولا يؤنث، تقول: هذا نعم وارد، وهو جمعٌ، لا واحد له من لفظه. وقال ابن قتيبة: «الأنعام: الإبل والبقر والغنم، واحده: نَعَمٌ وهو جمع لا واحد له من لفظه» ، سميت بذلك؛ لنعومة مشيها ولينها، وعلى الجملة فالاشتقاق في أسماء الأجناس قليل جدًّا. قوله: «وَالْحَرْثِ» ، الحرث تقدم تفسيره وهو - هنا - مصدر واقع موقع المفعول به، فلذلك وُحِّد، ولم يُجْمع كما جُمِعت أخواته، ويجوز إدغام الثاء في الذال، وإن كان بعض الناس ضعفه: بأنه يلزم الجمع بين ساكنين، والأول ليس حرف لين، قال: بخلاف «يَلْهَثْ ذلك» حيث أدغم الثاء في الذال؛ لانتفاء التقاء الساكنين، إذ الهاء قبل الثاء متحركة. فصل الحرث هنا اسم لكل ما يحرث. تقول: حرث الرجل حرثاً إذا أثار الأرض بمعنى الفلاحة، ويقال: حرث وفي الحديث: «احرثوا هذا القرآن أي: فتشوه» قال ابن الأعرابي الحرث: التفتيش، وفي الحديث أصدق الأسماء الحارث، لأن الحارث هو الكاسب، واحترس المال كسبه، والمحراث مسعر النار والحراث مجرى الوتر في القوس، والجمع: أحْرِثَة، وأحرث الرجل ناقته أهزلها. وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أنواعاً من الفصاحة والبلاغة، منها: الإتيان بها مجملة، ومنها جعله لها نفس الشهوات؛ مبالغة في التنفير عنها، ومنها: البداءة بالأهم، فالأهم، فذكر - أولاً - النساء لأنهن أكثر امتزاجاً، ومخالطة بالإنسان، وهن حبائل الشيطان، قال - عليه السلام -: «مَا تَرَكْتُ بَعْدِي فِتنَةً أضَرَّ عَلَى الرَّجَالِ مِنَ النسَاءِ» ، وقال: «مَا رَأيْتُ مِنْ نَاقِصَاتِ عَقْلٍ وَدِينٍ أسْلَبَ لِلُبِّ الرَّجُل الْحَلِيمِ مِنكُنَّ» ، ويُرْوَى: الحازم منكن. وقيل: فيهن فتنتان، وفي البنين فتنة واحدة؛ لأنهن يقطعن الأرحام والصلات بين الأهل - غالباً -، وهن سبب في جَمْع المال من حلال وحرام - غالباً -، والأولاد يُجْمَع لأجلهم المال، فلذلك ثنى بالبنين، وفي الحديث: «الْوَلدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ» ، ولأنهم لأجلهم المال، فلذلك ثنى بالبنين، وفي الحديث: «الْوَلدُ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ» ، ولأنهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 79 فروع منهن، وثمراتٌ نشأت عنهن، وفي كلامهم: «المرء مفتون بولده» ، وقُدِّمت على الأموال؛ لأنها أحَبُّ إلى المرء من ماله. وأما تقديمُ المال على الولد - في بعض المواضع - فإنما ذلك في سياق امتنان، وإنعام أو نُصْرة، ومعاونة؛ لأن الرجالَ تُستمال بالأموال - ثم ذكر تمامَ اللذةِ، وهو المركوب البهيمي من بينِ سائر الحيوانات، ثم أتى بما يَحصل به جمال حين تريحون وحين تسرحون، كما تشهد به الآية الأخرى ثم ذكر ما به قوامهم، وحياة بنيتهم، وهو الزروع والثمار. ومنها الإتيان بلفظ يشعر بشدة حب هذه الأشياء، بقوله: «زين» والزينة محبوبة في الطباع. ومنها: بناء الفعل للمفعول؛ لأن الغرضَ الإعلام بحصول ذلك. ومنها: إضافة الحبِّ للشهوات، والشهوات هي الميل والنزوع إلى الشيء. ومنها التجنيس: القناطير المقنطرة. ومنها: الجمع بين ما يشبه المطابقة في قوله: {الذهب والفضة} ؛ لأنهما صارا متقابلَيْن في غالبِ العُرْف. ومنها: وصف «الْقَنَاطِيرِ» ب «الْمُقَنْطَرَةِ» الدالة على تكثيرها مع كَثْرتها في ذاتها. ومنها: ذكر هذا الجنس بمادة «الْخَيْلِ» لما في اللفظ من الدلالة على تحسينه، ولم يقل: الأفراس، وكذا قوله «الأنْعَامِ» ، ولم يَقُل: الإبل والبقر والغنم؛ لأنه أخصر. فصل قال القرطبيُّ: قال العلماء: ذكر الله - تعالى - أربعة أصناف من المال، كل نوع منها يتموَّل به صِنْفٌ من الناس، أمَّا الذهب والفضة فيتموَّل به التُّجَّارُ، وأما الخيل المسومة فيتموّل بها الملوكُ، وأما الأنعامُ فيتموَّل بها أهلُ البوادِي، وأما الْحَرْثُ فيتموَّل به أهل البساتين، فتكون فتنة كل صنفٍ في النوع الذي يتموَّل به، وأما النساء والبنون ففتنة للجميع. قوله: {ذلك مَتَاعُ} الإشارة بذلك للمذكور المتقدم، فلذلك وَحَّدَ اسم الإشارة والمشارُ إليه متعدد، كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . وقد تقدم. فصل قال القاضي: وهذا يدل على أن هذا التزيين مضافٌ إلى الله تعالى؛ لأن متاعَ الدنيا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 80 إنما خُلِقَ ليُسْتَمْتَعَ بها، والاستمتاعُ بمتاع الدنيا على وجوه: منها: أن ينفرد به من خَصَّه الله تعالى بهذه النعم، فيكون مذموماً. ومنها: أن يتركَ الانتفاع به - مع الحاجة إليه - فيكون مذموماً. ومنها: أن ينتفع به في وجه مباحٍ، من غير أن يتوصل بذلك إلى مصالحِ الآخرةِ، وذلك لا ممدوح ولا مذموم. ومنها: أن ينتفع به على وَجْهٍ يتوصل به إلى مصالحِ الآخرةِ، وذلك هو الممدوحُ. قوله: {والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب} ، أي: الْمَرْجع، فالمآب: مَفْعَل، من آب، يئوب، إياباً، وأوْبَةً وأيبةً، ومآباً، أي: رجع، والأصل: مَأوَب، فنُقِلَتْ حركةُ الواوِ إلى الهمزةِ الساكنة قبلَها، فقلبت الواوُ ألفاً، وهو - هنا - اسم مصدر، أي: حسن الرجوع، وقد يقع اسم مكانٍ، أو زمان، تقول: آب يَئُوبُ أواباً وإياباً كقوله تعالى: {إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 25] وقوله: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً لِّلطَّاغِينَ مَآباً} [النبأ: 21 - 22] . فإن قيل: المآب قسمان: الجنة، وهي في غاية الحُسْن، والنار، وهي خالية عن الحُسْن فكيف وصف المآب المطلق بالحسن؟ فالجواب: أنَّ المقصود - بالذات - هو الجنة، وأما النار فمقصودة بالعرض، والمقصود من الآية التزهيد في الدنيا، والترغيب في الآخرة؛ لأن قوله: {ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا} أي: ما يتَمتع به فيها، ثم يذهب ولا يَبقَى، قال - عليه السلام -: «ازهد فِي الدُّنيا يحِبَّك اللهُ» أي: في متاعِها من الجاهِ والمالِ الزائدِ على الضَّرورِيِّ والله تعالى - أعلم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 قرأ نافعُ وابنُ كثير وأبو عمرو بتحقيق الأولى، وتسهيل الثانية، والباقون بالتحقيق فيهما، ومَد هاتَيْن الهمزَتَيْن - بلا خلاف - قالون عن نافع، وأبو عمرو وهشام عن ابن عامر بخلاف عنهما والباقون بغير مدّ على أصولهم من تحقيق وتسهيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 81 وورش على أصله من نقل حركة الهمزة الأولى إلى لام «قُلْ» . ولا بد من ذكر اختلاف القراء في هذه اللفظة وشبهها، وتحرير مذاهبهم؛ فإنه موضع عسير الضبط، فنقول: الوارد من ذلك في القرآن الكريم ثلاثة مواضع - أعني همزتين، أولاهُمَا مفتوحةُ، والثانية مضمومة - الأول: هذا الموضع. والثاني: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ص: 8] ، والثالث: {أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا} [القمر: 25] ، والقُرَّاء فيها على خمسِ مراتب: أحدها: مرتبة قالون، وهي تسهيل الثانية بَيْنَ بَيْنَ، وإدخال ألِفٍ بين الهمزتين - بلا خلاف - كذا رواه عن نافع. الثانية: مرتبة وَرْش وابن كثير، وهي تسهيل الثانية - أيضاً - بين بين، من غير إدخال ألِفٍ بين الهمزتين بخلاف كذا روى ورش عن نافع. الثالثة: مرتبة الكوفيين وابنِ ذكوان عن ابن عامر، وهي تحقيق الثانيةِ، من غير إدخال ألف بلا خلاف -، كذا روى ابن ذكوان عن ابن عامر. الرابعة: مرتبة هشام، وهي أنه رُويَ عنه ثلاثةُ أوجه: الأول: التحقيق، وعدم إدخال ألف بين الهمزتين في الثلاثِ مواضِعَ. الثاني: التحقيق، وإدخال ألف بينهما في المواضع الثلاثة. الثالث: التفرقة بين السور، فيُحقق ويُقْصِر في هذه السورة، ويُسَهِّل ويمد في السورتين الأخْرَيَيْن. الخامسة: مرتبة أبي عمرو، وهي تسهيل الثانية مع إدخال الألف وعدمه. وتسهيل هذه الأوجه تقدم في أول البقرة. ونقل أبو البقاء أنه قُرِئَ: أَؤُنَبِّئكم - بواوٍ خالصةٍ بعد الهمزةِ؛ لانضمامها - وليس ذلك بالوَجْه. وفي قوله: {أَؤُنَبِّئُكُم} التفاتٌ من الغيبة - في قوله: «للنَّاسِ» - إلى الخطاب، تشريفاً لهم. «بِخَيْرٍ» متعلق بالفعل، وهذا الفعل لَمَّا لم يضمن معنى «أعلم» تعدى لاثنين، الأول تعدى إليه بنفسه، وإلى الثاني بالحرف، ولو ضُمِّنَ معناها لتعدَّى إلى ثلاثة. و «مِنْ ذَلِكُمْ» متعلق ب «خَيْر» ؛ لأنه على بابه من كونه أفعل تفضيل، والإشارة ب «ذَلِكُمْ» إلى ما تقدم من ذكر الشهوات وتقدم تسويغ الإشارة بالمفرد إلى الجمع، ولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 82 يجوز أن تكون «خير» ليست للتفضيل، ويكون المراد به خيراً من الخيور، ويكون «مِنْ» صفة لقوله: «خَيْرٍ» . قال أبو البقاء: «من» في موضع نَصْب بخير، تقديره [بما يفضل من ذلك، ولا يجوز أن يكون صلة لخير؛ لأن ذلك يوجب أن تكون الجنة وما فيها] مما رغبوا فيه بعضاً لِمَا زهدوا فيه من الأموال ونحوها، وتابَعَهُ في ذلك أبو حيان. فصل كيفية النَّظم أنه - تعالى - لما عدَّد نِعَم الدنيا بيَّن - هنا - أن منافع الآخرة خيرٌ منها كما قال في آية أخرى: {والآخرة خَيْرٌ وأبقى} [الأعلى: 17] ؛ لأن نعم الدنيا مشوبَةٌ بالأنكاد، فانيةٌ، ونِعَم الآخرة خالصةٌ، باقيةٌ. قوله: {لِلَّذِينَ اتقوا} يجوز فيه أربعة أوجهٍ: أحدها: أنه متعلّق بخَيْرٍ، ويكون الكلام تم هنا، وتُرْفَع «جَنَّاتٌ» على خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره هو جنات، أي ذلك الذي هو خير مما تقدم جنات، فالجملة بيان وتفسير للخَيْريَّة، ومثله قوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم} [الحج: 72] ، ثم قال: {النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ} [الحج: 72] ويؤيد ذلك قراءة «جَنَّاتٍ» - بكسر التاء - على أنها بدل من «بِخَيْرٍ» فهي بيان للخير. والثاني: أن الجارَّ خبر مقدم، و «جَنَّاتٌ» مبتدأ مؤخر، أو يكون «جَنَّاتٌ» فاعلاً بالجار قبله - وإن لم يعتمد - عند مَنْ يَرَى ذلك، وعلى هذين التقديرين، فالكلام تم عند قوله: {مِّن ذلكم} ، ثم ابتدأ بهذه الجملة، وهي - أيضاً مبينة ومفسِّرة للخَيْرية. وأما الوجهان الأخيران فذكرهما مكي - مع جَرِّ «جَنَّات» - يعني أنه لم يُجِز الوجهين إلا إذا جررت «جنات» بدلاً من «خَيْر» . الوجه الأول: أنه متعلق ب «أؤثنَبِّئُكُمْ» . الوجه الثاني: أنه صفة ل «خَيْر» . ولا بد من إيراد نصه؛ فإن فيه غشكالاً، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد أن ذكر أن «لِلَّذِينَ» خبر مقدَّم، و «جنات» مبتدأ -: «ويجوز الخفض في» جناتٍ «على البدل من» خَيْر «على أن تجعل اللام في» لِلَّذِينَ «متعلقةً ب» أؤُنَبِّئُكُمْ «، أو تجعلها صفة ل» خَيْر «، ولو جعلت اللام متعلقة بمحذوف قامت مقامه لم يجز خفض» جنات «؛ لأن حروف الجر، والظروف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 83 إذا تعلقت بمحذوف، وقد قامت مقامه - صار فيها ضمير مقدر مرفوع، واحتاجت إلى ابتداء يعود عليه ذلك الضمير، كقولك: لزيد مال، في الدار زيد، خلفك عمرو، فلا بد من رفع» جَنَّات «، إذا تعلقت اللام بمحذوف، ولو تعلقت بمحذوف على أن لا ضمير فيها لرفعت» جَنَّات «بفعلها، وهو مذهب الأخفش في رفعه ما بعد الظروف وحروف الخفض بالاستقرار، وإنما يحسن ذلك عند حذاق النحويين إذا كانت الظروف، أو حروف الخفض صفةً لما قبلها، فحينئذ يتمكن ويحْسُن رفعُ الاسم بالاستقرار، وقد شرحنا ذلك وبيناه في أمثلة؛ وكذلك إذا كانت أحوالاً» . فقد جوَّز تعلُّقَ هذه اللام ب «أؤُنَبِّئُكُمْ» أو بمحذوف على أنها صفة لخير، بشرط أن يُجَرَّ لفظُ «جنات» على البدل من «خَيْر» وظاهره أنه لا يجوز ذلك مع رفع «جَنَّات» وعلَّل ذلك بأن حروف الجر تتعلق بمحذوف، يحمل الضمير، فوجب أن يُؤتَى له بمبتدأ هو «جَنَّات» وهذا الذي قاله من هذه الحيثية لا يلزم؛ إذ لقائل أن يقول: أجوز تعلق اللام بما ذكرت من الوجهين مع رفع «جَنَّات» على أنها خبر مبتدأ محذوف، لا على الابتداء حتى يلزم ما ذكرت ولكن الوجهين ضعيفان من جهة أخرى، وهو أن المعنى ليس واضحاً بما ذكر مع أنّ جعله صفة لخير أقوى من جعلها متعلقة ب «أؤُنَبِّئُكُمْ» ؛ إذ لا معنى له، وقوله - في الظروف وحروف الجر -: إنها عند الحذاق إنما ترفع الفاعل إذا كانت صفات. . وكذلك إن كانت أحوالاً - فيه قصور؛ لأن هذا الحكم مستقر لها في مواضع: منها: الموضعان اللذان ذكرهما. وثالثها: أن يقعا صلة. ورابعها: أن يقعا خبراً لمبتدأ. وخامسها: أن تعتمد على نقي. وسادسها: أن تعتمد على استفهام. وقد تقدم تحرير هذا. فصل قد بيَّنا في قوله تعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] معنى التقوى، وبالجملة فإن المتقي هو الآتي بالواجبات، المتحرز عن المحظورات. وقيل: التقوى عبارة عن اتقاء الشرك؛ لأن التقوى - في عُرْف القرآن - مختصة بالإيمان. قال تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} [الفتح: 26] ، وظاهر اللفظ يطابق الامتنان بحقيقة التقوى، وهي حاصلةٌ عند حصولِ اتقاء الشرك وعرف القرآن مطابق لذلك، فوجب حملُه على مَن اتقى الكفر: قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} فيه أربعة أوجهٍ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 84 أحدها: أنه في محل نصب على الحال من «جَنَّات» ؛ لأنه - في الأصل - صفة لها، فلما قُدِّم نصب حالاً. الثاني: أنه متعلق بما تعلق به «لِلَّذِينَ» من الاستقرار، إذَا جعلناه خبراً، أو رافعاً «جَنَّاتٌ» بالفاعلية، أما إذا علقته ب «خَيْر» أو «أؤنَبَّئُكُمْ» فلا؛ لعدم تضمينه الاستقرار. الثالث: أن يكون معمولاً ل «تَجْرِي» ، وهذا لا يساعد عليه المعنى. الرابع: أنه متعلق ب «خَيْر» ، كما تعلق به «لِلَّذِينَ» ، كما تقدم. ويضعف أن يكون الكلام قد تم عند قوله: {لِلَّذِينَ اتقوا} ثم يُبْتَدَأ بقوله: {عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ} - على الابتداء والخبر - وتكُون الجملة مبيِّنة ومفسِّرة للخيرية، كما تقدم في غيرها. وقرأ يعقوب «جَنَّاتٍ» بكسر التاء - وفيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنها بدل من لفظ «بِخَيْر» فتكون مجرورة، وهي بيان له - كما تقدم. الثاني: أنها بدل من محل «بِخَيْر» - ومحله النصب - وهو في المعنى كالأول. الثالث: أنه منصوب بإضمار «أعني» ، وهو نظير الوجه الصائر إلى رفعه على خبر ابتداء مضمر. قوله: «تَجْرِي» صفة لِ «جَنَّات» ، فهو في محل رفع، أو نصب، أو جر - على حسب القراءتين، والتخاريج فيهما - و «مِنْ تَحْتِهَا» متعلق ب «تَجْرِي» وجوز فيه أبو البقاء أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه حال من «الأنهار» قال: أي: تجري الأنهار كائنةً تحتها، وهذا يشبه تهيئة العامل للعمل في شيء وقطعه عنه. قوله: {خَالِدِينَ} حال، وصاحبها الضمير المستكن في «لِلَّذِينَ» والعامل فيها - حينئذ - الاستقرار المقدَّر. وقال أبو البقاء: «إن شئت من الهاء في: تَحْتِهَا» ، وهذا الذي ذكره - إنما يتمشى على مذهب الكوفيين، وذلك أن جعلها حالاً من الهاء في تحتها يؤدي إلى جريان الصفة على غير من هي له في المعنى؛ لأن الخلود من أوصاف الجنة ولذلك جمع هذه الحال جمع العقلاءِ، فكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير مرفوع بارز، هو الذي كان مستتراً في الصفة نحو: زيد هند ضاربها هو، والكوفيون يقولون: إن أمِنَ اللبس - كهذا - لم يجب بروز الضمير، وإلا يجب، والبصريون لا يفرقون. وتقدم البحث في ذلك. قوله: {وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ} «من رفع» جَنَّاتٌ «- كما هو المشهور - كان عطف» أزْواجٌ «و» رِضْوانٌ «سَهْلاً، ومَنْ كَسَر التاء فيجب - حينئذ - على قراءته أن يكون مرفوعاً على أنه مبتدأ خبره مضمر، تقديره: ولهم أزواجٌ، ولهم رضوان، وتقدم الكلام على» أزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ «في البقرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 85 فصل اعلم أن النعمة - وإن عَظُمَت - لن تكمل إلا بالأزواج اللواتي لا يحصل الأنْس إلاَّ بِهِنَّ وقد وصفهن بصفة واحدةٍ جامعةٍ لكل مطلوب، فقال:» مُطَهَّرَةٌ «فيدخل في ذلك الطهارة من الحيض والنفاس والأخلاق الدنيئة، والقُبْح، وتشويه الخِلْقة، وسوء العِشرة، وسائر ما ينفر عنه الطبع. قوله:» وَرِضْوَان «فيه لغتان: ضم الراء، وهي لغة تميم وقيس، وبها قرأ عاصم في جميع القرآن إلا في الثانية من سورة المائدة وهي {مَنِ اتبع رِضْوَانَه} [المائدة: 16] ، فبعضهم نقل عنه الجَزْم بكسرها، وبعضهم نقل عنه الخلافَ فيها خاصة. والكسر، وهو لغة الحجاز، وبها قرأ الباقون - وهل هما بمعنى واحد، أو بَينهما فرقٌ؟ قولان: أحدهما: أنهما مصدران بمعنى واحد - كالعُدْوان. قال الفرّاء:» رَضِيتُ رِضاً، ورِضْوَاناً ورُضْواناً، ومثل الرِّضْوَان - بالكسر - الحِرْمان، وبالضم الطُّغْيَان، والرُّجحان، والكُفْران، والشُّكْران «. الثاني: أن المكسور اسم، ومنه رِضوان: خازن الجنة صلّى الله على نبينا وعلى أنبيائه وملائكته. والمضموم هو المصدر، و «مِنَ اللهِ» صفة لِ «رِضْوَان» . فصل روى أبو سعيد الخدري أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ اللهَ يَقُولُ لأهْلِ الْجَنَّةِ يَا أهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَقُولُونَ: لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ، فَيَقُولُ: هَلْ رَضِيْتُمْ؟ فَيَقُولُونَ: وَمَا لَنَا لا نَرْضَى وَقَدْ أعْطَيْتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ أحَداً مِنْ خَلْقِكَ؟ فَيَقُولُ: ألاَ أعْطِيكُمْ أفْضَلَ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُونَ: يَا رَبِّ، وَأيُّ شَيءٍ أفْضَلُ مِنْ ذَلِكَ؟ فَيَقُولُ: أحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أسْخَطْ عَلَيْكُمُ بَعْدَهُ أبَداً» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 86 ثم قال: «وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ» ، أي: عالم بمصالحهم، فيجب أن يَرْضَوْا لأنفسهم ما اختاره لهم. قوله تعالى: {الذين يَقُولُونَ} يحتمل أن يكون محلُّه الرفعَ، والنصبَ، والجرَّ، فالرفع من وجهينِ: أحدهما: أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: الذين يقولون كذا مستجاب لهم، أو لهم ذلك الجزاء المذكور. الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف، كأنه قيل: مَنْ هُمْ هؤلاء المتقون؟ فقيل: الذين يقولون كيت، وكيت. والنصب من وجه واحدٍ، وهو النصب بإضمار أعني، أو أمدح، وهو نظير الرفع على خبر ابتداء مضمر، ويُسَمَّيَان: الرفع على القطع، والنصب على القطع. والجر من وجهين: أحدهما: النعت. والثاني: البدل، ثم لك - في جعله نَعْتاً أو بَدَلاً - وجهان: أحدهما: جعله نعتاً لِلَّذِينَ اتَّقَوا، أو بدلاً منه. والثاني: جعله نعتاً للعباد، أو بدلاً منهم. واستضعف ابو البقاء جعله نعتاً للعباد، قال: [ويضعف أن يكون صفةً للعباد] ؛ لأن فيه تخصيصاً لعلم اللهِ، وهو جائز - على ضعفه - ويكون الوجه فيه إعلامهم بأنه عالم بمقدار مشقتهم في العبادة، فهو يُجازيهم عليها، كما قال: {والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُم} [النساء: 25] . والجملة من قوله: {والله بَصِيرٌ} يجوز أن تكون معترضة، لا محل لها، إذا جعلتَ «الَّذِينَ يَقُولُونَ» تابعاً لِ «الَّذِينَ اتَّقَوا» - نعتاً أو بدلاً -، وإن جعلته مرفوعاً، أو منصوباً فلا. فصل اعلم أن قولَهم {رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} يدل على أنهم توسَّلوا بمجرد الإيمان إلى طلب المغفرة، والله - تعالى - مدحهم بذلك، وأثْنَى عليهم، فدلَّ هذا على أن العبد - بمجرد الإيمان - يستوجب الرحمةَ والمغفرةَ من الله تعالى، ويؤيِّدُ هذا قولُه تعالى: {رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} [آل عمران: 193] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 87 فإن قيل: أليس أنه تعالى اعتبر جملة الطاعات في حصول المغفرة؛ حيث أتبع هذه الآية بقوله: {الصابرين والصادقين} ؟ فالجواب: أن هذه الآيةَ تؤكد ما قلنا؛ لأنه - تعالى - جعل مجردَ الإيمانِ وسيلةً إلى طَلَب المغفرة، ثم ذكر بعده صفاتِ المطيعين، وهي كونهم صابرين صادقين، ولو كانت هذه الصفات شرائطَ للحصول على المغفرة لكان ذِكرُها قبل طَلَب المغفرة أولى، فلما رتَّب طلب المغفرة على مجرد الإيمان، ثم ذكر بعده هذه الصفاتِ، علمنا أن هذه الصفاتِ غيرُ معتبرة في حصول أصل المغفرة، وإنما هي مُعْتَبَرَة في حصول كمال الدرجات. قوله تعالى: {الصابرين} إن قدرت {الذين يَقُولُونَ} منصوبَ المحل، أو مجروره - على ما تقدم - كان «الصَّابِرِينَ» نعتاً له - على كلا التقديرين، فيجوز أن يكون في محل نصب، وأن يكون في محل جر، وإن قدرته مرفوعَ المحل تعين نَصْب «الصَّابِرِينَ» بإضمار «أعني» . فصل المراد بالصابرين في أداء المأمورات، وترك المحظورات، وعلى البأساء، والضراء وحين البأس، والصادقين في إيمانهم. قال قتادة: «هم قوم صدقت نِيَّاتُهم، واستقامت قلوبُهم وألسنتُهم، فصدقوا في السر والعلانية» . فالصدق يجري على القول والفعل والنية، فالصدق في القول مشهور - وهو تجنُّب الكذب - والصدق في الفعل الإتيان به تاماً، يقال: صدق فلان في القتال، وصدق في الحكمة، والصدق في النية العزم الجازم حتى يبلغَ الفعلَ. «القانِتِينَ» المطيعين، المُصَلِّين، والقنوت: عبارة عن الدوام على الطاعة والمواظبة عليها، «والمنفقين» أموالهم في طاعة الله، ويدخل فيه إنفاق المرء على نفسه، وأهله، وأقاربه، وصلة رحمه، وفي الزكاة، والجهاد، وسائر وجوه البر. {والمستغفرين بالأسحار} . قال مجاهدٌ وقتادة والكلبيُّ: يعني المصلين بالأسحار. وعن زيد بن أسلم: هم الذين يصلون الصبحَ في جماعةٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 88 وقال الحسنُ: مدوا الصلاة إلى السَّحَر، ثم استغفروا. وقال نافع: كان ابن عمر يُحْيِي الليل، ثم يقول: يا نافِعُ، أسْحَرْنَا؟ فيقول: لا، فيعاوِدُ الصلاةَ، فإذا قلتُ: نَعَمْ، قعد يستغفر اللهَ، ويدعو حتى يُصْبحَ. وعن أبي هريرةَ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يَنْزِلُ اللهُ إلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا كُلَّ لَيْلَةِ - حِينَ يبقى ثُلُثُ اللَّيْلِ - فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، أنا الْملِكُ، مَنْ ذَا الَّذِي يَدْعُونِي فَأسْتَجِيبَ لَهُ؟ مَن ذَا الَّذِي يَسْالُنِي فَأُعْطِيهُ؟ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأغْفِرَ لَهُ؟» رواه مسلم. قال القرطبيُّ: وقد اختلف في تأويله، وأوْلى ما قيل فيه ما جاء في كتاب النسائي - مفسَّراً - عن أبي هريرة وأبي سعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قالا: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الله - عَزَّ وَجَلَّ - يُمْهلُ حَتَّى يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأوَّلُ، ثُمَّ يَأمرُ مُنَادِياً، يَقُولُ: هَلْ مِن دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ؟ هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَى؟» ، صححه أبو محمد عبدُ الحق، وهو يرفع الإشكال، ويوضِّح كلَّ احتمال، وأن الأول من باب حذف المضاف، أي: ينزل مَلَكُ رَبِّنَا، فيقول. وقد رُوِيَ «يُنْزَلُ» - بضمِّ الياءِ - وهو يُبَيِّن ما ذكرنا. وحكي عن الحسن أن لُقْمانَ قال لابنه: «لاَ تَكُونَنَّ أعْجَزَ مِنْ هَذَا الدِّيكِ؛ يُصَوِّتُ بالأسْحَارِ وَأنْتَ نَائِمٌ عَلَى فِرَاشِكَ» . واعلم أن وقت السَّحَر أطيبُ أوقاتِ النومِ، فإذا أعرض العبد عن تلك اللذة، وأقبل على العبوديةِ، كانت الطاعة أكملَ، وأشقَّ، فيكثر ثوابُها، وأيضاً فإن النوم هو الموت الأصغر، وعند السحر كأنّ الأموات تصير أحياءً، فيكون وقتاً للوجود العام. و «الأسْحَار» جمع سَحَرٍ - بفتح العين وسكونها - واختلف أهلُ اللغة في السَّحَرِ، ايُّ وقت هو؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 89 فقال الزّجّاج وجماعة: إنه وقتٌ قبلَ طلوعِ الفجر، ومنه تسحر، أي: أكل في ذلك الوقت واسْتَحَرَ - إذا سافر فيه -. قال زُهَيْر: [الطويل] 1364 - بَكَرْنَ بُكُوراً، وَاسْتَحَرْنَ بِسُحْرَةٍ ... فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفمِ وقال الرَّاغب: «السَّحَر: اختلاط ظلام آخرِ الليل بضياءِ النهارِ، وجُعِل اسماً لذلك الوقت، ويقال: لَقِيتُه بأعلى السحرين، والْمُسْحِر: الخارج سَحَراً، والسّحور: اسم للطعام المأكول سَحَراً، والتَّسَحُّر: أكلُه» . والمُسْتَحِر: الطائر الصيَّاح في السَّحَر. قال الشاعر: [المتقارب] 1365 - يُعَلُّ بِهِ بَرْدُ أنْيَابِهَا ... إذَا غَرَّدَ الطَّائِرُ الْمُسْتَجِرْ وقال بعضهم: أسْحَر الطائرُ، أي: صاح، وتحرك في صياحه، وأنشد البيت، وهذا وإن كان مطلقاً فإنما يريد ما ذكر بالصياح في السَّحر، ويقال: أسْحَر الرجلُ إذا دَخَل في وقت السحر كأظهر - أي: دخل في وقت الظهر. قال: [المتقارب] 1366 - وَأدْلجَ مِن طَيْبَة مُسْرِعاً ... فَجَاءَ إلَيْنَا وَقَدْ أسْحَرَ ومثله: استحر أيضاً. وقال بعضهم: السَّحَرُ من ثُلُث الليل الأخير إلى طلوع الفجر. وقال بعضهم - أيضاً -: السحر - عند العرب - من آخر الليل، ثم يستمر حكمه إلى الإسفار كلِّه، يقال له سحر قيل: وسمي السحر سحراً؛ لخفائه، ومنه قيل للسِّحْرِ سِحْرٌ؛ للُطْفِهِ وخفائه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 90 والسَّحْر - بسكون الحاء - منتهى قصبة الرّكبة، ومنه قول عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «مَاتَ بَيْنَ سَحْري وَنَحْري» سُمِّي بذلك لخفائه. و «سَحَر» فيه كلام كثير بالنسبة إلى الصرْف وعدمه، والتصرف وعدمه، والإعراب وعدمه، يأتي تفصيله - إن شاء الله تعالى -. فإن قيل: كيف دخلت الواوُ على هذه الصفاتِ، وكلُّها لقبيل واحد؟ ففيه جوابان: أحدهما: أن الصفاتِ إذا تكرَّرَت جاز أن يُعْطَف بعضُها على بعض بالواو - وإن كان الموصوف بها واحداً -، ودخول الواو - في مثل هذا - تفخيم؛ لأنه يُؤذِن بأن كل صفة مستقلة بالمدح. الثاني: أن هذه الصفات متفرقة فيهم، فبعضُهم صابر، وبعضُهم صادق، فالموصوف بها متعدِّد. هذا كلام أبي البقاء. وقال الزمخشريُّ: «الواو المتوسطة بين الصفاتِ للدلالة على كمالهم في كل واحدة منها» . قال ابو حيّان: «ولا نعلم أن العطف في الصفة بالواو يدل على الكمال» . قال شهاب الدين: «قد علمه علماء البيان، وتقدم تحقيقه في أول سورة البقرة، وما أنشدته على ذلك من لسان العرب» . والباء في قوله: «بِالأسْحَارِ» بمعنى «في» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 العامة على «شَهِدَ» فعلاً ماضياً، مبنيًّا للفاعل، ولفظ الجلالة رَفْع به. وقرأ أبو الشعثاء: «شُهِدَ» مبنيًّا للمفعول، ولفظ الجلالة قائِم مقام الفاعل، وعلى هذه القراءة يكون «أنَّهُ لاَ إلَهَ إلاَّ هُوَ» في محل رفع؛ بدلاً من اسم «اللهُ» - بدل اشتمال، تقديره: شُهِدَ وحدانيةُ الله - تعالى - وألوهيتهُ. ولما كان المعنى على هذه القراءة كذلك أشكل عطف الملائكة، وأولي العلم على لفظ الجلالة، فخُرِّج ذلك على عدم العطف، بل إما على الابتداء، والخبر محذوف؛ لدلالة الكلام عليه، تقديره: والملائكة، وأولو العلم يشهدون بذلك، يدل عليه قوله تعالى: {شَهِدَ الله} ، وإما على الفاعلية بإضمار محذوف، تقديره: وشَهِدَ الملائكةُ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 91 وأولو العلم بذلك، وهو قريب من قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} [النور: 36] ، في قراءة مَنْ بناه للمفعول. وقوله: [الطويل] 1367 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ وقرأ أبو المهلَّب: «شُهَدَاءَ اللهِ» جمعاً على فُعَلاَء - كظُرفاءَ - منصوباً، ورُوِيَ عنه وعن أبي نُهَيْك كذلك إلا أنه مرفوع، وفي كلتا القراءتين مضاف للفظ الجلالة، فأما النصب فعلى الحال، وصاحبها هو الضمير المستتر في «الْمُسْتَغْفِرِينَ» . قال ابنُ جني، وتبعه الزمخشريُّ، وأبو البقاء: وأما الرفع فعلى إضمار مبتدأ، أي: هم شهداءُ الله. وشهداء: يُحْتَمل أن يكون جمع شاهد - كشاعر وشُعَراء - وأن يكون جمع شهيد كظريف وظُرفاء. وقرأ أبو المهلب - أيضاً -: «شُهُداً الله» - بضم الشين والهاء والتنوين ونصب لفظ الجلالة وهو منصوب على الحال؛ جمع شهيد - كنذير ونُذُر - واسم «الله» منصوب على التعظيم أي يشهدون الله، أي: وحدانيته. وروى النقاش أنه قرأ كذلك، إلاّ أنه قال: برَفْع الدال ونصبها، والإضافة للَفْظ الجلالة، فالرفع والنصب على ما تقدم في «شُهَدَاءَ» ، وأما الإضافة، فيحتمل أن تكون محضة، بمعنى أنك عرفتهم إضافتهم إليه من غير تعرض لحدوث فعل، كقولك: عباد الله، وأن يكون من نصب كالقراءة قبلها فتكون غير محضة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 92 ونقل الزمخشريُّ أنه قُرِئ «شُهَدَاء لله» جمعاً على فُعَلاَء، وزيادة لام جر داخلة على اسم الله، وفي الهمزة النصب والرفع، وخرجهما على ما تقدم من الحال والخبر، وعلى هذه القراءات كلها ففي رفع «الْمَلاَئِكَةِ» وما بعدها ثلاثة أوجه: أحدها: الابتداء، والخبر محذوف. والثاني: أنه فاعل بفعل مقدر. الثالث: - ذكره الزمخشريُّ - وهو النسق على الضمير المستكن في «شَهِدَ اللهُ» ، قال: «وجاز ذلك لوقوع الفاصلِ بينهما» . قوله: «أنَّهُ» العامة على فَتح الهمزة، وإنما فُتِحَت؛ لأنها على حذف حرف الجر، أي: شهد الله بأنه لا إله إلا هو، فلما حذف الحرف جاز أن يكون محلها نصباً، وأن يكون محلها جَرًّا. وقرأ ابن عباس «إنَّهُ» - بكسر الهمزة - وفيها تخريجان: أحدهما: إجراء «شَهِدَ» مُجْرَى القولن لأنه بمعناه، وكذا وقع في التفسير: شهد الله اي: قال الله، ويؤيدَه ما نقله المؤرِّجُ من أن «شَهِد» بمعنى «قال» لغة قيس بن عيلان. الثاني: أنها جملة اعتراض - بين العامل - وهو شَهِد - وبين معموله - وهو قوله: إنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإسْلاَمُ «، وجاز ذلك لِما في هذه الجملةِ من التأكيد، وتقوية المعنى وهذا إنما يتجه على قراءة فتح» أنَّ «من» أنَّ الدِّينَ «، وأما على قراءة الكسر فلا يجوز، فتعيَّنَ الوجهُ الأول. والضمير في» أنَّهُ «يحتمل العود على الباري؛ لتقدم ذكره، ويحتمل أن يكون ضميرَ الأمر، ويؤيِّدُ ذلك قراءةُ عبد الله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} ف» أنْ «مخفَّفة في هذه القراءة، والمخففة لا تعمل إلا في ضمير الشأن - ويُحْذَف حينئذ - ولا تعمل في غيره إلا ضرورة [وأدغم أبو عمرو بخلاف عنه واو هُوَ في واو النسق بعدها، وقد تقدم تحقيق هذه المسألة عند قوله:» هُوَ وَالَّذِينَ ىمَنُوا مَعَه «] . فصل قال سعيدُ بنُ جُبَيْر: كان حَوْلَ البيت ثلاثمائةٍ وستون صَنَماً، فلما نزلت هذه الآية خَرَرْنَ سُجَّداً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 93 وقيل: نزلت هذه الآية في نصارى نجران. وقال الكلبيُّ: قدم حَبْران من أحبار الشام على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما أبْصَرَ المدينةَ قال أحدهما: ما أشبه هذه المدينةَ بصفة مدينةِ النبيّ الذي يخرج في آخر الزمان؟ فلما دخَلاَ عليه عرفاه بالصفة، فقالا له: أنت محمد؟ قال: نعم، قالا: وأنت أحمد؟ قال: أنا محمد وأحمد، قال: فإنا نسألك عن شيء، فإن أخبرتنا به آمَنَّا بك، وصدقناك، فقال: سَلاَ، فقالا: أخبرنا عَنْ أعظم شهادة في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ، فأنزل الله هذه الآيةَ، فأسلم الرجلان. فصل قال بعض المفسرين: شهد الله، أي: قال. وقيل: بَيَّن الله؛ لأن الشهادة تبيين. وقال مجاهد: حَكَم الله. وقيل: أعْلَمَ الله أنه لا إله إلا هو. فإن قيل: المدَّعِي للوحدانية هو الله - تعالى - فكيف يكون المدَّعِي شاهداً؟ فالجوابُ من وجوهٍ: أحدها: ما تقدم من أن» شَهِدَ «بمعنى» قال «أو» بَيَّن «أو» حَكَم «. الثاني: أن الشاهدَ الحقيقي ليس إلا الله - تعالى -؛ لأنه الذي خلق الأشياءَ، وجعلها دلائلَ على توحيده، فلولا تلك الدلائلُ لم يتوصل أحد إلى معرفته بالوحدانيةِ، فهو - تعالى وفقهم، حتى أرشدهم إلى معرفة التوحيد، وإذا كان كذلك كان الشاهد على الوحدانيةِ هو الله تعالى، ولهذا قال: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيد} [الأنعام: 19] . الثالث: أنه الموجود - أزلاً وأبداً - وكل ما سواه فقد كان في الأزل عدماً صِرْفاً، والعدم غائب، والموجود حاضر، وإذا كان ما سواه - في الأزل - غائباً، وهو - تعالى - حاضر فبشهادته صار شاهداً، فكان الحق شاهداً على الكل، فلهذا قال: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} . فصل تقدم أن شهادة اللهِ الإخبار والإعلام، ومعنى شهادة الملائكة والمؤمنين الإقرار والمراد بأولي العلم، قيل: الأنبياء - عليهم السلام -. قال ابنُ كَيْسَان: يعني المهاجرين والأنصار. وقال مقاتل: علماء مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وأصحابه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 94 قال السُّديُّ والكلبيُّ: يعني جميع المؤمنين الذين عرفوا وحدانية الله - تعالى - بالدلائل القاطعة؛ لأن الشهادة إنما تكون مقبولة، إذا كان الإخبار بها مقروناً بالعلم، ولذلك قال - عليه السلام -: «إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فَاشْهَدْ» . فإن قيل: إذا كانت شهادةُ الله عبارةً عن إقامة الدلائل، وشهادة الملائكة، وأولي العلم عبارة عن الإقرار، فكيف جمعهما في اللفظ؟ فالجواب: أن هذا ليس ببعيد، ونظيره قوله - تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56] ، ومعلوم أن الصلاة من الله تعالى الرحمة - كما ورد - ومن الملائكة الدعاء، ومن المؤمنين الاستغفار، وقد جمعهما في اللفظ. فصل دلّت هذه الآيةُ على فَضْل العلم وشرف العلماء؛ فإنه لو كان أحد أشرف من العلماء لقرنه الله باسمه واسم ملائكته، كما قرن الله اسم العلماء، وقال تعالى - لنبيه -: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] ، فلو كان شيء أشرف من العلم لأمر الله - تعالى - نبيَّه المزيد منه، كما أمره أن يستزيد من العلم. وقال عليه السلام: «الْعُلَمَاءُ وَرَثَةُ الأنْبِيَاءِ» ، وقال: «العُلمَاءُ أمناء اللهِ عَلَى خَلْقِهِ» [وهذا شرف للعلماء عظيم، ومحل لهم في الدين خطير] . قوله تعالى: {قَآئِمَاً بالقسط} في نَصْبه أربعة أوجه: أحدها: أنه منصوب على الحال، واختلفوا في ذلك؛ فبعضهم جعله حالاً من اسم «اللهُ» ، فالعامل فيها «شَهِدَ» . قال الزمخشري: وانتصابه على أنه حال مؤكِّدة منه، كقوله تعالى: {وَهُوَ الحق مُصَدِّقا} [البقرة: 91] . قال أبو حيّان: وليس من باب الحال المؤكدة؛ لأنه ليس من باب {وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} [مريم: 15] ولا من باب: أنا عبد الله شجاعاً فليس «قَائِماً بِالْقِسْطِ» بمعنى «شَهِدَ» وليس مؤكداً مضمونَ الجملة السابقة في نحو: أنا عبد الله شجاعاً، وهو زيد شجاعاً، لكنْ في هذا التخريج قلقٌ في التركيب؛ يصير كقولك: أكل زيدٌ طعاماً وعائشةُ وفاطمةُ جائعاً، ففصل بين المعطوف عليه، والمعطوف بالمفعول، وبين الحال وصاحبه بالمفعول، والمعطوف، لكن يمشيه كونها كلُّها معمولةٌ لعاملٍ واحدٍ. قال شهاب الدينِ: مؤاخذته له في قوله «مؤكِّدة» غير ظاهرةٍ، وذلك أن الحالَ على قسمين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 95 إما مؤكدة، وإما مبيِّنة - وهي الأصل - فالمبيِّن ةلا جائز أن تكون ههنا؛ لأن المبيّنة منتقلة، والانتقال - هنا - محال؛ إذْ عَدْلُ الله - تعالى - لا يتغير. وقيل: لنا قسم ثالث - وهي الحال اللازمة - فكان للزمخشري مندوحة عن قوله: «مؤكِّدة» وعن قوله «لازمة» . فالجواب: أن كل مؤكِّدة لازمة، فلا فرق بين العبارتين - وإن كان الشيخ زعم أن إصلاح العبارة يحصل بقوله: لازمة - ويدل على ما ذكرته من ملازمة التأكيد للحال اللازمة وبالعكس الاستقراء وقوله: ليس معنى «قَائِماً بِالْقِسْطِ» معنى «شَهِدَ» ممنوع، بل معنى: «شَهِدَ» مع متعلَّقِهِ هو {أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} - مساوٍ لقوله: «قَائِماً بِالْقِسْطِ» ؛ لأن التوحيد ملازمٌ للعدل. قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: لِمَ جاز إفراده بنصب الحال دون المعطوفَيْن عليه، ولو قلتَ: جاءني زيدٌ وعمرو راكباً لم يَجُزْ؟ قلتُ: إنما جاز هذا؛ لعدم الإلباس، كما جاء في قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72]- إن انتصب» نَافِلَةً «حالاً عن يعقوب، ولو قلت: جاءني زيد وهند راكباً، جاز؛ لتميزه بالذكورة» . قال أبو حيّان: «وما ذَكَرَ من قوله: جاءني زيد وعمرو راكباً، أنه لا يجوز ليس كما ذكر، فهذا جائز؛ لأن الحال قَيْدٌ فيمن وقع منه أو به الفعل، أو ما أشبه ذلك، وإذا كان قَيْداً فإنه يُحْمَل على أقرب مذكور؛ ويكون» راكباً «حالاً مما يليه، ولا فرق في ذلك بين الحال والصفة لو قلت: جاءني زيد وعمرو الطويل، لكان» الطويل «صفة لعمرو، ولا تقول: لا تجوز هذه المسألة؛ لأنه يلبس، بل لا لبس في هذا، وهو جائز، فكذلك الحال، وأما قوله: إن» نَافِلَة «انتصب حالاً عن» يعقوب «فلا يتعين أن يكون حالاً عن يعقوب؛ إذ يحتمل أن يكون» نَافِلَةً «مصدراً - كالعاقبة والعافية - ومعناه زيادة، فيكون ذلك شاملاً إسحاق ويعقوب؛ لأنهما زِيدا لإبراهيم بعد ابنه إسماعيل وغيره» . قال شهاب الدينِ: «مراد الزمخشريِّ بمنع جاءني زيد وعمرو راكباً إذا أريد أن الحال منهما معاً، أما إذا أُريد أنها حال من واحد منهما فإنما يُجْعَل لِما يليه؛ لعَوْد الضمير على أقرب مذكور» . وبعضهم جعله حالاً من «هُوَ» . قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: قد جعلته حالاً من فاعل «شَهِدَ» فهل يصح أن ينتصب حالاً عن «هو» في «لا إلَهَ إلاَّ هُوَ» ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 96 قلتُ: نعم؛ لأنها حالٌ مؤكِّدةٌ، والحال المؤكدة لا تستدعي أن يكون في الجملة - التي هي زيادة في فائدتها - عامل فيها، كقولك: «أنا عبد الله جاعاً» ، يعني: أن الحال المؤكِّدة لا يكون العامل فيها النصب شَيْئاً من الجملة السابقة قبلها، إنما تنتصب بعامل مضمر، فإن كان المتكلم مُخْبِراً عن نفسه، نحو أنا عبد الله شجاعاً قدرته: أحُقَّ - مبنياً للمفعول - شجاعاً، وإن كان مُخبراً عن غيره قدرته - مخبراً عن الفاعل - نحو هذا عبد الله شجاعاً أي: أحقه، هذا هو المذهب المشهور في نَصْب مثل هذه الحال، وفي المسألة قولٌ ثانٍ - لأبي إسحاق - أن العامل فيها هو خبر المبتدأ؛ لِمَا ضُمِّنَ مِنْ مَعْنَى المشتق؛ إذْ هو بمعنى المُسَمَّى، وقول ثالث أن العامل فيها المبتدأ؛ لما ضُمِّن من معنى التنبيه وهي مسألة طويلة. وبعضم جعله حالاً من الجميع على اعتبار كل واحدٍ قائماً بالقسط، وهذا مناقض لما قاله الزمخشري من أن الحال مختصة بالله - تعالى - دون ما عُطِف عليه، وهذا المذهب مردود بأنه لو جاز ذلك لجاز: جاء القوم راكباً، أي: كل واحد منهم «راكباً» والعربُ لا تقول ذلك ألبتة ففسد هذا، فهذه ثلاثة أوجهٍ في صاحب الحال. الوجه الثاني من أوجه نصب قائماً: نصبه على النعت للمنفي ب «لا» كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسط إلا هو. قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: هل يجوز أن يكون صفةً للمنفي، كأنه قيل: لا إله قائماً بالقسط إلاَّ هو؟ قلتُ: لا يَبْعد؛ فقد رأيناهم يتسعون في الفصل بين الصفة والموصوف» ثم قال: «وهو أوجه من انتصابه عن فاعل» شَهِدَ «، وكذلك انتصابه على المدح» . قال أبو حيّان «:» وكأن الزمخشريَّ قد مثل في الفصل بين الصفة والموصوف بقوله: لا رجل إلا عبد الله شجاعاً، ... وهذا الذي ذكره لا يجوز؛ لأنه فصل بين الصفة والموصوف بأجنبي وهو المعطوفان اللذان هما {والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} ، وليسا معمولَيْن لشيءٍ من جملة {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} ، بل هما معمولان ل «شَهِدَ» ، وهو نظير: عرف زيدٌ أنَّ هِنْداً خَارِجَةٌ وعمرو وجَعْفَرٌ التميميَّةَ، فيفصل بين «هند» و «التميمية» بأجنبي ليس داخلاً في خبر ما عمل فيها، وذلك الأجنبي هو «عمرو وجعفر» المرفوعان المعطوفان ب «عرف» - على زيد، وأما المثال الذي مَثَّل به، وهو: لا رجل إلا عبد الله شجاعاً، فليس نظير تخريجه في الآية؛ لأن قولك: إلا عبد الله، بدل على الموضع من «لا رجل» ، فهو تابع على الموضع، فليس بأجنبي على أنَّ في جواز هذا التركيب نظراً؛ لأنه بدل، و «شجاعاً» وصف، والقاعدة: أنه إذا اجتمع البدل والوصف قُدِّم الوصف على البدل، وسبب ذلك أنه على نية تكرار العامل - على الصحيح - فصار من جملة أخْرَى على هذا المذهب «. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 97 الوجه الثالث: نصبه على المدح. قال الزمخشري: فإن قلت: أليس من حق المنتصب على المدح أن يكون معرفة، كقولك: الحمدُ للهِ الحميدَ، «إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبِيَاءِ - لا نُورَثُ» ، وقوله: [البسيط] 1368 - إنَّا - بَنِي نَهْشَلٍ - لا ندعِي لأبٍ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . قلتُ: قد جاء نكرةً كما جاء معرفةً، وأنشد سيبويه - مما جاء منه نكرة - قول الْهُذَلِيّ: [المتقارب] 1369 - وَيَأوِي إلَى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ ... وَشُعْثاً مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِي قال أبو حيان: «انتهى هذا السؤال وجوابه، وفي ذلك تخليط؛ وذلك أنه لم يُفَرِّقُ بين المنصوب على المدح، أو الذم، أو الترحم، وبين المنصوب على الاختصاص، وجعل حكمَها واحداً، وأوْرَد مثالاً من المنصوب على المدح، وهو الحمد لله الحميدَ، ومثالَيْن من المنصوب على الاختصاص، وهما:» إنَّا - مَعْشَرَ الأنْبِيَاءِ - لا نُورَثُ «، وقوله:» إنَّا - بَنِي نهشل - لا ندَّعِي لأب «والذي ذكره النحويون أن المنصوبَ على المدح أو الذم أو الترحُّم، قد يكون معرفة، وقبله معرفة - يصلح أن يكون تابعاً لها، وقد لا يصلح - وقد يكون نكرةً وقبله معرفة، فلا يصلح أن يكون نعتاً لها. نحو قول النابغة: 1370 - أقَارعُ عَوْفٍ، لا أحَاوِلُ غَيْرَهَا ... وُجُوهَ قُرُودٍ تَبْتَغِي مَنْ تُجَادِعُ فنصب» وُجُوهَ قُرُودٍ «على الذم، وقبله معرفة، وهي» أقارعُ عَوْفٍ «، وأما المنصوب على الاختصاص فنصوا على أنه لا يكون نكرةً، ولا مُبْهَماً، ولا يكون إلا معرَّفاً بالألف واللام، أو بالإضافة، أو بالعلميَّة، أو لفظ» أي «، ولا يكون إلا بعد ضمير متكلم مختص الجزء: 5 ¦ الصفحة: 98 به، أو مشارك فيه، وربما أتى بعد ضمير مخاطب» . الوجه الرابع: نَصْبه على القطع، أي إنه كان من حقه أن يرتفع؛ نعتاً لله تعالى بعد تعريفه ب «أل» والأصل: شَهِدَ اللهُ القائمُ بالقسط، فلما نُكِّر امتنع إتباعه، فقُطِع إلى النصب، وهذا مذهبُ الكوفيين، ونقله بعضهم عن الفراء - وحده -، ومنه عندهم قول امرئ القيس: 1371 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَعَالَيْنَ قِنْوَاناً مِنَ الْبُسرِ أحْمَرَا وقد تقدم ذلك محققاً. الأصل: «من البُسْر الأحمر» ويؤيد هذا قراءة عبدِ الله «القائمُ بالقسط» - برفع القائم؛ تابعاً للفظ الجلالة - وخرَّجه الزمخشري وغيره على أنه بدل من «هو» أو خبر مبتدأ محذوف تقديره: هو القائم. قال أبو حيّان: ولا يجوز ذلك؛ لأن فيه فَصْلاً بين البدل والمبدل منه بأجنبي، وهو المعطوفان؛ لأنهما معمولان لغير العامل في المبدَل منه، ولو كان العامل في المعطوف هو العامل ف يالمعطوف لم يجز ذلك - أيضاً -؛ لأنه إذا اجتمع العطف والبدل قُدِّمَ البدل على العطف. لو قلت: جاء زيدٌ وعائشةُ أخوك، لم يجز، إنما الكلام: «جاء زيدٌ أخوك وعائشةُ» . فيحصل في رفع «القائم» - على هذه القراءة - ثلاثة اوجهٍ: النصب، والبدل، وخبر مبتدأ محذوف. ونقِل عن عبد الله - أيضاً - أنه قرأ «قَائِمٌ بِالْقِسطِ» - بالتنكير، ورفعه من وجْهَي البدل، وخبر المبتدأ. وقرأ أبو حنيفة: «قَيِّماً» - بالنصب على ما تقدم -. فهذه أربعة أوجه مُحَرَّرَة من كلام القوم. والظاهر أن رفع {والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} عطفٌ على لفظِ الجلالةِ. وقال بعضهم: الكلام تم عند قوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} ، وارتفع «الْمَلاَئِكَةُ» بفعل مُضْمَر، تقديره: وشهد الملائكة وأولو العلم بذلك، وكأن هذا المذهبَ يرى أن شهادة الله مغايرة لشهادة الملائكة وأولي العلم، ولا يجيز إعمال المشترك في معنيَيْه، فاحتاج من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 99 أجل ذلك إلى إضمار فعل يوافق هذا المنطوقَ لفظاً، ويخالفه معنى، وهذا نظير قوله تعالى: {إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي} [الأحزاب: 56] كما قدمناه. قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: هل دخل قيامُه بالقسط في حكم شهادة الله والملائكة، وأولي العلم، كما دخلت الوحدانية؟ قلتُ: نعم، إذا جعلته حالاً من» هُوَ «أوْنَصْباً على المدح منه، أو صفة للمنفي، كأنه قيل: شهد الله والملائكة، وأولو العلم أنه لا إله إلا هو، وأنه قائم بالقسط» . فصل معنى «قَائِماً بِالْقِسْطِ» أي: قائماً بتدبير الخلْقِ، كما يقال: فلان قائم بأمر فلان، أي مدبِّر له، رزَّاق، مجازٍ بالأعمال، والمراد بالقِسْط: العدل. قال ابن الخطيب: وهذا العدل منه ما هو متصل بباب الدنيا، ومنه ما هو متصل بباب الدين أما المتصل بالدنيا فانظر - أوَّلاً - في كيفية خَلْقِه أعضاءَ الإنسان؛ حتى تعرفَ عدلَ الله - تعالى - فيها، ثم انظر إلى اختلاف أحوال الخلق في الحُسْن والقُبْح، والغِنَى والفقر، والصحةِ والسقم، وطول العمر وقصره، واللذة والآلام، واقطع بأن كل ذلك عدل من الله، وحكمة وصواب، ثم انظر في كيفية خلق العناصر، وأجرام الأفلاك، وتقدير كل واحد منها بقدر معين، وخاصيَّةٍ معينة، واقطع بأن كل ذلك حكمة وصواب. وأما ما يتصل بأمر الدين فانظر إلى اختلاف الخلق في العلم والجهل، والفطانة والبلادة، والهداية والغواية، واقطع بأن كل ذلك عدل وقسط. قوله تعالى: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} في هذه الجملة وجهان: الأول: أنها مكرَّرة للتوكيد، قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: لِمَ كرَّر قولَه: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} ؟ قلت: ذكره - أولاً - للدلالة على اختصاصه بالوحدانية، وأنه لا إله إلا تلك الذات المتميزة، ثم ذكره - ثانياً - بعدما قَرَن بإثبات الوحدانية إثبات العدل؛ للدلالة على اختصاصه بالأمرين، كأنه قال: لا إله إلا هذا الموصوف بالصفتين، ولذلك قرن به قوله تعالى: {العزيز الحكيم} ؛ لتضمنها معنى الوحدانيةِ والعدلِ» . وقال بعضهم: ليس بتكرير؛ لأن الأول شهادة الله - تعالى - وحده. والثاني: شهادة الملائكة وأولي العلم، وهذا عند من يرفع «الْمَلاَئِكَةُ» بفعل آخر مضمر - كما ذكرنا - من أنه لا يرى إعمال المشترك، وأن الشهادتين متغايرتان، وهو مذهب مرجوح. وقال الراغبُ: «إنما كرَّر {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} ؛ لأن صفات التنزيه أشرف من صفات التمجيد؛ لأن أكثرها مشارك - في ألفاظها - العبيد، فيصح وصفُهم بها، ولذلك وردت ألفاظ في حقه أكثر وأبلغ» . وقال بعضهم: «فائدة هذا التكرار الإعلام بأن المسلم يجب أن يكون - أبداً - في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 100 تكرير هذه الكلمة؛ فإن أشرف كلمة يذكرها الإنسان، هي هذه الكلمة، فإذا كان في أكثر أوقاتِه مشتغلاً بذكرِها، كان مشتَغِلاً بأعظم أنواع العبادات» . قوله: {العزيز الحكيم} فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنه بدل من «هُوَ» . الثاني: أنه خبر مبتدأ مُضْمَر. الثالث: أنه نعت لِ «هُوَ» ، وهذا إنما يتمشَّى على مذهب الكسائي؛ فإن يرى وَصْفَ الضمير الغائبِ. فصل ذِكْرُ هاتين الصفتين إشارةٌ إلى كمال العلم؛ لأن الإلهية لا تحصل إلا معهما؛ لأن كونه قائماً بالقسط لا يتم إلا إذا كان عالماً بمقادير الحاجات، وكان قادراً على تحصيل المهمات، وقد قدَّم «الْعَزِيزُ» على «الْحَكِيمُ» ؛ لأن العلم بكونه - تعالى - قادراً متقدم على العلم بكونه عالماً في طريق المعرفة الاستدلالية، فلما كان هذا الخطاب مع المستدلين - لا جرم - قدَّم ذكر «الْعَزِيزُ» على «الْحَكِيمُ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 قرأ الكسائي بفتح الهمزة، والباقون بكسرها، فأما قراءة الجماعةِ فعلى الاستئناف، وهي مؤكِّدة للجملة الأولى. قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: ما فائدة هذا التوكيد؟ قلت: فائدته أن قوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} توحيد، وقوله:» قائِماً بِالقِسْط «تعديلٌ، فإذا أردفه بقوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} فقد آذَن أن الإسلام هو العدل والتوحيد، وهو الدين عند الله، وما عداه فليس في شيء من الدين عنده» . وأما قراءة الكسائي ففيها أوجه: أحدها: أنها بدل من {أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} - على قراءة الجمهورِ - في أن {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} فيها وجهان: أحدهما: أنه من بدل الشيء من الشيء، وذلك أن الدين - الذي هو الإسلام - يتضمن العدلَ، والتوحيد، وهو هو في المعنى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 101 والثاني: أنه بدل اشتمال؛ لأن الإسلام يشتمل على التوحيدِ والعدلِ. والثاني من الأوْجُهِ السابقةِ: أن يكون «إنَّ الدِّينَ» بدلاً من قوله «بِالْقِسْطِ» ثم لك اعتباران: أحدهما: أن تجعله بدلاً من لفظه، فيكون محل «إنَّ الدِّينَ» الجر. والثاني: أن تجعلَه بدلاً من موضعه، فيكون محلها نصباً، وهذا - الثاني - لا حاجة إليه - وإن كان أبو البقاء ذَكَرَه. وإنما صحَّ البدلُ في المعنى؛ لأن الدين - الذي هو الإسلامُ - قِسْط وعَدْل، فيكون - أيضاً - من بدل الشيء من الشيء - وهما لعينٍ واحدة -. ويجوز أن يكون بدل اشتمال؛ لأن الدين مشتمل على القسط - وهو العدل - وهذه التخاريج لأبي علي الفارسي، وتبعه الزمخشريُّ في بعضها. قال أبو حيّان: «وهو _ أبو علي - معتزليّ، فلذلك يشتمل كلامُه على لفظ المعتزلة من التوحيد والعدل، وعلى البدل من أنه خرجه هو وغيره، وليس بجيد؛ لأنه يؤدي إلى تركيب بعيد أن يأتي في كلام العرب وهو: عَرَفَ زَيْدٌ أنَّهُ لاَ شُجَاعَ إلاَّ هُوَ وَبَنُو تَمِيمٍ وَبَنُ دَارِمٍ مُلاَقِياً لِلْحُرُوبِ، لاَ شُجَاعَ إلاَّ هُوَ الْبَطَلُ الْحَامِي، إنَّ الخصلةَ الحميدةَ هي البسالةُ، وتقريب هذا المثال: ضرب زيدٌ عائشة، والعُمرانِ حَنِقاً أختك، فحَنقاً، حال من» زيد «و» أختك «بدل من» عائشة «ففصل بين البدل والمبدل منه بالعطف - وهذا لا يجوز - والحال لغير المبدل منه - وهو لا يجوز -؛ لأنه فصل بأجنبي بين البدل والمبدل منه» . قوله عرف زيد هو نظير «شَهِدَ اللهُ» ، وقوله: أنه لا شجاع إلا هو نظير {أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} وقوله: وبنو دارم نظير قوله: «وَالْمَلاَئِكَةُ» وقوله: ملاقياً للحروب نظير قوله: «قَائِماً بِالْقِسْطِ» وقوله: لا شجاع إلا هو نظير قوله: {لاَ إله إِلاَّ هُوَ} فجاء به مكرَّراً - كما في الآية - وقوله: البطل الحامي نظير قوله «الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» وقوله: إن الخصلةَ الحميدةَ هي البسالةُ نظير قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} . قال شهابُ الدين: «ولا يظهر لي منعُ ذلك ولا عدمُ صحةِ تركيبهِ، حتى يقول: ليس بجيِّد، وبعيد أن يأتي عن العرب مثلُه، وما ادَّعاه بقوله - في المثال الثاني -: إن فيه الفصل بأجنبيٍّ فيه نظر؛ إذْ هذه الجمل صارت كلُّها كالجملةِ الواحدةِ؛ لما اشتملت عليه من تقويةِ كلمات بعضها ببعض، وأبو علي وأبو القاسم وغيرُهما لم يكونوا في محل مَنْ يَجْهَل صحةَ تركيبِ بعضِ الكلام وفساده» . ثم قال أبو حيّان: «قال الزمخشريُّ: وقُرِئَتَا مفتوحتَيْن على أن الثاني بدل من الأول، كأنه قيل: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام، والمبدَل هو المبدَل منه في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 102 المعنى، فكان بياناً صريحاً؛ لأن دينَ الإسلام هو التوحيد والعدل» فقال: فَهَذَا نَقْل كَلاَمِ أبي عَلِيٍّ دُونَ استيفاس. الثالث - من الأوجل -: أن يكون «إنَّ الدِّينَ» معطوفاً على {أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} حذف منه حرف العطف، قاله ابن جرير، وضعفه ابن عطية، ولم يُبَيِّن وَجْهَ ضَعْفه. قال أبو حيان: «ووجه ضَعْفِه أنه متنافر التركيب مع إضمار حرف العطف، فيفصل بين المتعاطفَين المرفوعين بالمنصوب المفعول، وبين المتعاطفين المنصوبين بالمرفوع المشارك الفاعل في الفاعلية وبجملتي الاعتراض، وصار في التركيب دون مراعاة الفصل، نحو أكل زيدٌ خُبْزاً، وعَمْرو سَمَكاً، يعني فصلت بين زيد وعمرو ب» خبزاً وسمكاً «. الرابع: أن يكون معمولاً لقوله: {شَهِدَ الله} ، أي: شهد الله بأن الدين، فلما حذف حرف الجر جاز أن يحكم على موضعه بالنصب، أو الجر. فإن قلت: إنما يتجه هذا التخريجُ على قراءة ابن عباس، وهي كسر» أنّ «الأولى، وتكون الجملة - حينئذ - اعتراضاً بين طشَهِدَ» وبين معموله كما تقدم، وأما على قراءة فتح «أن» الأولى - وهي قراءة العامة - فلا يتجه ما ذكرتَ من التخريج؛ لأن الأولى معمولة له، استغنى بها. فالجوابُ: أن ذلك مُتَّجِهٌ - أيضاً - مع فتح الأولى، وهو أن يُجْعَل الأولى على حذف لام العلة تقديره: شهد الله أن الدين عند الله الإسلام؛ لأنه لا إله إلا هو، وهذا التخريج ذكره الواحديُّ، وقال: «هذا معنى قول الفراء حيث يقول - في الاحتجاج للكسائي -: إن شئت جعلت» أنه «على الشرط، وجعلنا الشهادة واقعة على قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} ، ويكون» إنَّ «الأولى يصلح فيها الخفض، كثولك: شهد الله لوحدانية أن الدين عند الله الإسلام» . وهو كلام مُشْكِلٌ في نفسه، ومعنى قوله على الشرط، أي: العلة، سمَّى العلةَ شرطاً؛ لأن المشروطَ متوقفٌ عليه كتوقف المعلول على علتع، فهو علة، إلا أنه خلاف اصطلاح النحويين. ثم اعترض الواحدي على هذا التخريج بأنه لو كان كذلك لم يَحْسُن إعادة اسم «الله» ، ولكان التركيب: إن الدين عنده الإسلام؛ لأن الاسم قد سَبَق، فالوجه الكناية. ثم أجاب بأن العربَ رُبَّما أعادت الاسم موضعَ الكناية، وأنشد: [الخفيف] 1372 - لاَ أرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالفقِيرَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 103 يعني أنه من باب إيقاع الظاهر موقع المضمر، ويزيده - هنا - حُسْناً أنه في موضع تعظيم وتفخيم. الخامس: أن تكون على حذف حرف الجر معمولة للفظ «الْحَكِيم» ، كأنه قيل: الحكيم بأن، أي: الحاكم بأن ف «حَكِيم» مثال مبالغة، مُحَوَّل من فاعل، فهو كالعليم والخبير والبصير، أي: المبالغ في هذه الأوصاف، وإنما عَدَل عن لفظ «حاكم» إلى «حكيم» - مع زيادة المبالغة -؛ لموافقة «الْعَزِيز» ، ومعنى المبالغة: تكرار حكمهِ - بالنسبة إلى الشرائع - أن الدينَ عند الله الإسلام؛ إذْ حَكَم في كلّ شريعة بذلك، قاله أبو حيّان، ثم قال: فإن قلتَ: لم حَمَلْتَ «الْحَكِيم» على أنه مُحوَّل من «فاعل» إلى فعيل؛ للمبالغة، وهَلاَّ جعلته «فَعِيلا» ، بمعنى «مُفْعِل» فيكون معناه «الْمُحكِم» كما قالوا في «أليم» : إنه بمعنى «مُؤْلِم» وفي «سميع» من قول الشاعر: [الوافر] 1373 - أمِنْ رَيْحَانَة الدَّاعي السَّمِيع ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . أي: المُسْمِع؟ فالجوابُ: أنا لا نسلم أن «فَعِيلا» يأتي بمعنى «مفعل» ، وقد يؤول «أليم» و «سميع» على غير «مفعل» ، ولئن سلمنا ذلك، فهو من الندور والشذوذ، بحيث لا يَنْقاس، [وأما] «فعيل» محوَّل من «فاعل» ؛ للمبالغة فهو منقاس؛ كثير جداً، خارج عن الحصر، كعليم، وسميع، وقدير، وخبير، وحفيظ إلى ألفاظ لا تُحْصَى كَثْرَةً، وأيضاً فإن العربيَّ الْقُحَّ، الباقي على سجيته لم يفهم من «حكيم» إلا أنه محوَّل من «فاعل» ؛ للمبالغة، ألا ترى أنه لما سمع قارئاً يقرأ {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله} [المائدة: 38] والله غفور رحيم أنكر أن تكون فاصلة هذا التركيب السابق {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، فقيل له: التلاوة: {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} ، فقال: هكذا يكون، عَزَّ فَحَكَم فقط، ففَهِم من «حكيم» أنه محوَّل - للمبالغة - من «حاكم» ، وفَهْم هذا العربيِّ حُجَّةٌ قاطعةٌ بما قلناه، وهذا تخريج سَهْل، سائغ جداً، يزيل تلك التكلفات والتركيبات التي يُنزّه كتابُ الله عنها، وأما على قراءة ابن عباس فكذلك نقول، ولا نجعل {إِنَّ الدِّينَ} معمولاً لِ «شَهِدَ» - كما فهموا - وأن {أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} اعتراض - يعني بين الحال وصاحبها، وبين معموله - بل نقول: معمول «شَهِدَ» هو «إنَّهُ» - بالكسر - على تخريج من خرج أن «شَهِدَ» - لما كان بمعنى القول - كسر ما بعده؛ إجراءً له مُجْرَى القول. أو نقول: إنه معموله، وعلقت، ولم تدخل اللام في الخبر؛ لأنه منفي، بخلاف ما لو كان مثبتاً فإنك تقول: شهدت إنَّ زيداً لَمُنْطَلِقٌ، فتعلق ب «إنَّ» مع وجود اللام؛ لأنه لو لم تكن اللام لفتحت «إنَّ» ، فقلت: شهدت أنَّ زَيْداً منطلقٌ، فمن قرأ بفتح «أنَّه» ، فإنه لم يَنْو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 104 التعليقَ، ومن كسر فإنه نوى التعليق، ولم تدخل اللام في الخبر؛ لأنه منفي كما ذكرنا. قال شهاب الدينِ: وكان الشيخ - لما ذكر الفصل والاعتراض بين كلمات هذه الآية - قال ما نصه: «وأما قراءة ابن عباس فتخرج على أن {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} هو معمول» شَهِدَ «ويكون في الكلام اعتراضان: أحدهما: بين المعطوف عليه والمعطوف وهو {لاَ إله إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} وإذا أعربنا {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} خبرَ مبتدأ محذوفٍ كان ذلك ثلاثة اعتراضات، انظر هذه التعوجيهات البعيدة، التي لا يقدر أحد على أن يأتي لها بنظيرٍ من كلام العربِ، وإنما حمل على ذلك العُجْمَةُ، وعدمُ الإمعان في تراكيب كلام العربِ، وحِفْظِ أشعارِها» . قال شهاب الدينِ: «ونسبة كلامِ أعلام الأئمة إلى العجمة، وعدم معرفتهم بكلام العرب، وحملهم كلام الله على ما لا يجوز، وأن هذا - الذي ذكره - هو تخريج سهل واضح، غير مقبول ولا مُسَلَّم، بل المتبادر إلى الذهن ما نقله الناسُ، وتلك الاعتراضات بين أثناء تلك الآيةِ الكريمةِ موجودٌ نظيرُها في كلامِ العربِ، وكيف يجهل الفارسي والزمخشريُّ والفراءُ وأضرابهم ذلك؟ وكيف يَتَبَجَّجُ باطِّلاعه على ما لم يَطلع عليه مثلُ هؤلاء؟ وكيف يظن بالزمخشري أنه لا يعرفُ مواقعَ النظم، وهو المسلَّم له في علم المعاني والبيان والبديع، ولا يَشُك أحد أنه لا بد لمن يتعرض إلى علم التفسير أن يعرفَ جملةً صالحةً من هذه العلوم» . قوله: {عِنْدَ الله} ظرف، العامل فيه لفظ «الدِّين» ؛ ملا تضمنه من معنى الفعل. قال أبو البقاء: «ولا يكون حالاً؛ لأن» إنَّ «لا تعمل في الحال» . قال شهاب الدين: قد جوز في «ليت» وفي «كأن» أن تعمل في الحال «. قال شهاب الدين: قد جوز في «ليت» وفي «كأن» أن تعمل في الحال. قالوا: لما تضمنته هذه الأحرف من معنى التمني والتشبيه، ف «إن» للتأكيد، فلْتَعْمَل في الحال - أيضاً - فليست تتباعد عن «الهاء» التي للتنبيه. قيل: هي أولى منها، وذلك أنها عاملة، و «هاء» ليست بعاملة، فهي أقرب لشبه الفعل من هاء. فصل الدين - في أصل اللغة - عبارة عن الانقياد والطاعة والتسليم والمتابعة، قال تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً} [النساء: 94] ، أي: لمن صار منقاداً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 105 لكم، ومتابعاً، والإسلام هو الدخول في السلم، يقال: أسلم، أي: دخل في السلم، كقولهم: أشتى، وأقحط، وأصل السِّلم: السلامة، وقال ابن الأنباري: «المُسْلِم» معناه المخلص لله عبادته، من قولهم: سَلِم الشيء لفلان، أي: خَلصَ، فالإسلام معناه: إخلاص الدين والعقيدة لله تعالى «. وأما في عرف الشرع فالإسلام هو الإيمان؛ لوجهين: أحدهما: هذه الآية؛ لأن قوله: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} يقتضي أن الدين المقبول عند الله ليس إلا الإسلام، فلو كان الإيمانُ غيرَ الإسلام وجب أن لا يكون الإيمان ديناً مقبولاً عند الله - وهو باطل -. الثاني: قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] فلو كان الإيمانُ غيرَ الإسلام لوجب أن لا يكون مقبولاً عند الله تعالى. قال القرطبيُّ: الإسلام هو الإيمان، بمعنى التداخل، وهو أن يُطْلَق أحدهما ويُراد به مسماه في الأصل ومُسمَّى الآخر، كما في هذه الآية؛ إذ قد دخل فيهما التصديق والأعمال، ومنه قوله - عليه السلام -:» الإيمانَ مَعْرِفةٌ بالْقَلْبِ، وقَوْلٌ باللِّسَان، وعَمَلٌ بالأرْكَانِ «أخرجه ابن ماجه. فإن قيل: قوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] صريح في أن الإسلام غير الإيمان. فالجواب: أن الإسلام عبارة عن انقياد - كما بينَّا في أصل اللغة - والمنافقون انقادوا في الظاهر من خوف السيف - فلا جرم - كان الإسلام حاصلاً في الظاهر، والإيمان - أيضاً - كان حاصلاً في حكم الظاهر؛ لأنه - تعالى - قال: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] والإيمان الذي يُبيح النكاحَ في الحكم - هو الإقرار الظاهر، فعلى هذا، الإسلام والإيمان تارةً يُعتبران في الظاهر دون الباطن، وتارة في الباطن والظاهر، فالأول هو النفاق، وهو المراد بقوله:» قَالَتِ الأعْرَابُ «؛ لأن باطن المنافق غير منقاد لدين الله تعالى، فكان تقدير الآية: لم تسلموا في القلب والباطن، ولكن قولوا: أسلمْنا في الظاهر. فصل قال قتادة - في قوله تعالى -: {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} ، شهادة ألا إله إلا الله، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 106 والإقرار بما جاء من عند الله، وهو دين الله الذي شرع لنفسه، وبعث به رُسُلَه وَدَلَّ عليه أولياءه، لا يقبلُ غيرَه، ولا يَجْزِي إلا به. روى غالب القطان، قال: أتيتُ الكوفةَ في تجارة، فنزلتُ قريباً من الأعمش، فكنت أختلف إليه، فلما كنت ذاتَ ليلةٍ، أردت أن أنحدر إلى البصرة، قام من الليل يتهجد، فمرَّ بهذه الآيةِ: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} [آل عمران: 18] قال الأعمش: وأنا أشهدُ بما شَهد الله به، وأستودع الله هذه الشهادة، وهي لي - عند الله - وديعة، {إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} - قالها مراراً. قلت: لقد سمع فيها شيئاً، فصليْت معه، وودعته، ثم قلت: إني سمعتُكَ تُرَدِّدُهَا، فما بلغك؟ قال: واللهِ لا أحَدثُكَ بها إلى سنةٍ، فكتَبْتُ على بابه ذلك اليومَ، وأقمتُ سنةً، فلمَّا مضت السنةُ، قلتُ: يا أبا محمد، قد مضت السنةُ، فقال: حَدَّثني من حدثني عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «يُجَاء بِصَاحِبهَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقُولُ اللهُ تعالى: إنَّ لِعَبْدِي هذا - عندي - عهداً، وَأنا أحَقُّ مَنْ وَفَى بِالْعَهْدِ، أدْخِلُوا عَبْدِي الْجَنَّةَ» . قوله تعالى: {وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} . قال الكلبي: نزلت في اليهود والنصارى حين تركوا الإسلام، أي: وما اختلف الذين أوتوا الكتابَ في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلاَّ من بعد ما جاءهم العلم، يعني بيان نعته في كتبهم. وقال الربيع: إن موسى - عليه السلام - لما حضره الموتُ دعا سبعين رجلاً من أحبار بني إسرائيل، فاستَوْدَعَهم التوراة، واستخلف يُوشَعَ بن نون، فلما مضى القرنُ السبعين - حتى أهرقوا بينهم الدماء، ووقع الشَّرُّ والاختلافُ، وذلك {مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} يعني بيان ما في التوراة، {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي: طلباً للملك والرياسة، فسلط الله عليهم الجبابرةَ. قال محمدُ بنُ جفعر بن الزبير: نزلت في نصارى نجران، معناها: {وَمَا اختلف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 107 الذين أُوتُواْ الكتاب} يعني الإنجيل في أمر عيسى، وفرَّقوا القول فيه: {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} بأن الله واحد، وأن عيسى عبدُ اله ورسوله، {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} ، أي: المعاداة والمخالفة. وقيل: المراد اليهود والنصارى، واختلافهم هو قولُ اليهودِ: عُزَيْرٌ ابنُ الله، وقول النصارى: المسيح ابنُ الله، وأنكروا نبوة محمد، قالوا: نحن أحق بالنبوة من قريش، لأنهم أميُّونَ، ونحن أهل الكتاب. وقوله: {إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} أي: الدلائل التي لو نظروا فيها لحصل لهم العلم؛ لأنا لو حملناهم على العلم لصاروا معاندين، والعناد على الجمع العظيم لا يصح. [وهذه الآية وردت في كل أهل الكتاب، وهو جمع عظيم. وقال الأخفش: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب؛ بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم. وقال ابن عمر وغيره: أخبر - تعالى - عن] اختلاف أهل الكتاب أنه كان على علم منهم بالحقائقِ، وأنه كان بغياً وطلباً للدنيا. وفي الكلام تقديم وتأخير، فالمعنى: وما اختلف الذين أوتوا الكتاب بغياً بينهم إلا من بعد ما جاءهم العلم. قوله: «بَغْياً» فيه أوجه: أحدها: أنه مفعول من أجله، العامل فيه «اخْتَلَفَ» والاستثناء مُفَرَّغ، والتقدير: وما اختلفوا إلا للبغي لا لغيره، قاله الأخفش، ورجحه أبو علي. الثاني: أنه مصدر في محل نصب على الحال من «الذين» كأنه قيل: ما اختلفوا إلا في هذه الحال، والاستثناء مُفَرَّغ أيضاً. الثالث: أنه منصوب على المصدر، والعامل فيه مقدَّر، كأنه لما قيل: {وَمَا اخْتَلَفَ} دل على معنى: وما بغى، فهو مصدر، قاله الزّجّاجُ، ووقع بعد «إلا» مستثنيان، وهما: «مِنْ بَعْدِ» و «بَغْياً» وقد تقدم تخريج ذلك. قال الأخفش: قوله: «بَغْياً» من صلة قوله: «اخْتَلَفُوا» ، والمعنى: وما اختلفوا بغياً بينهم إنما اختلفوا للبغي. قال القفّالُ: وهذا أجودُ من الأول؛ لأن الأولَ يُوهِمُ أنَّ اختلافَهم بسبب مجيء العلم، والثاني يفيد أن اختلافهم لأجل الحَسَدِ والبغي. قوله: {وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله} «مَنْ» مبتدأ، وفي خبره الأقوال الثلاثة - أعني: فعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 108 الشرط وحده، أو الجواب وحده، أو كلاهما - وعلى القول بكونه الجواب وحده لا بد من ضمير مقدَّر، أي: سريع الحساب له. فصل وهذا تهديد، وفيه وجهان: الأول: المعنى: فإنه سيصير إلى الله تعالى سريعاً، فيحاسبه، أي: يُجازيه على كُفْره. الثاني: أن الله تعالى سيُعْلِمه بأعماله معاصيه وأنواع كفره، بإحصاء سريع، مع كَثْرَةِ الأعمال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 {فَإنْ حَآجُّوكَ} أي: خاصموك يا محمد في الدين بالأقاويل المزوَّرة، المغالطات، فأسْند أمرك إلى ما كُلِّفْتَ به من الإيمان والتبليغ، وعلى الله نصرك وذلك أن اليهود والنصارى قالوا: لسنا على ما سميتنا به يا محمد، إنما اليهودية والنصرانية نسب، والدين هو الإسلام، ونحن عليه، فقال الله تعالى - {فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} أي: انقدت لله وحده، وإنما خص الوجه؛ لأنه أكرم جوارح الإنسان. وقال الفرّاءُ: معناه: أخلصت عملي لله. وفي كيفية إيراد هذا الكلام وجوه: أحدها: أنه - عليه السلام - كان قد أظهر لهم الحجةَ - على صدقه - قبل نزول هذه الآية - مراراً، فإن هذه السورة مدنية، وكان قد أظهر لهم المعجزاتِ بالقرآن، ودعاء الشجرة، وكلام الذئب، وغيرها مما يدل على صحة دينه، وذكر الحجة على فساد قول النصارى بقوله {الحي القيوم} ، وأجاب عن شبه القوم بأسرها، ومشاهدة يوم بدر وأثبت التوحيد، ونفى الضدَّ والندَّ والصاحبة والولد بقوله: {شَهِدَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] ، وبين - تعالى - أن إعراضهم عن الحق إنما كان بَغْياً وحَسَداً، فلما لِمْ يَبْقَ حجة على فِرَق الكفار إلا أقامها، قال بعده: {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ} وهذه عادة المُحِقِّ مع المُبْطِلِ، إذا أورد عليه حُجَّة بَعْدَ حُجَّة، ولم يرجع إليه، فقد يقول - في آخر الأمر -: أما أنا فمنقادٌ للحق، فإن وافقتم، واتبعتم الحق الذي أنا عليه، فقد اهتديتم، وإن اعترضتم، فالله بالمرصاد. ثانيها: أن القوم كانوا مُقِرِّينَ بوجود الصانع، وكونه مستحقاً للعبادة، فكأنه - عليه السلام - قال لهم: هذا القدر متفق عليه بين الكُلِّ، فأنا مستمسك بهذا القدر المتفق عليه، وداعي الخلق إليه، وإنما الخلاف في أمور وراء ذلك، وأنتم المدعون فعليكم الإثبات، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 109 ونظيره قوله: {قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [أل عمران: 64] . وثالثها: قال أبو مسلم: هو أن اليهود والنصارى وعبدة الأوثان كانوا مقرِّين بتعظيم إبراهيم - عليه السلام -، وبأنه كان مُحِقًّا صادقاً في دينه إلا في زيادات من الشرائع، فأمر الله تعالى - محمداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يتبع ملته، بقوله تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] ، ثم أمخر محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذا الموضع أن يقول كقول إبراهيم حيث قال: {إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض} [الأنعام: 79] فقل يا محمد: «أسْلَمْتُ وَجْهِيَ» كقول إبراهيم: «وَجَّهْتُ وَجْهِيَ» ، أي: أعرضت عن كل معبود سوى الله - تعالى - وقصدته وأخصلت له، كأنه قال: فإن نازعوك في هذه التفاصيل فقل: أنا متمسك بطريقة إبراهيم - عليه السلام - وأنتم مقرون بأن طريقته حق لا شبهة فيها، فكان هذا من باب التمسك بالإلزامات. فصل فَتَحَ الياءَ من «وَجْهِيَ» - هنا وفي الأنعام - نافع وابن عامر وجعفر وحفص وسكنها الباقون. قوله: {وَمَنِ اتَّبَعَنِ} في محل «مَنْ» وجوه: أحدها: الرفع؛ عطفاً على التاء في «أسْلَمْتُ» ، وجاز ذلك؛ لوجود الفصل بالمفعول؛ قاله الزمخشريُّ وابن عطية. قال أبو حيان: «ولا يمكن حمله على ظاهره؛ لأنه إذا عطف الضمير في نحو:» أكلت رغيفاً وزيدٌ «لزم من ذلك أن يكونا شريكين في أكل الرغيف، وهنا لا يسوغ ذلك؛ لأن المعنى ليس على أنهم أسلموا هم. وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسلم وجهه، بل المعنى على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسلم وجهه لله، وأنهم أسلموا وجوههم لله؛ [فالذي يقوى في الإعراب أنه معطوف على ضمير محذوف منه المفعول، لا مشارك في مفعول» أسْلَمْتُ «والتقدير: ومن اتبعني وجهه، أو أنه مبتدأ محذوف الخبر؛ لدلالة المعنى عليه، والتقدير: ومن اتبعني كذلك، أي: أسلموا وجوههم لله] ، كما تقول: قضى زيد نحبه وعمرو، أي: عمرو كذلك، أي: قضى نحبه» . قال شهابُ الدينِ: «إنما صحت المشاركة في نحو: أكلتُ رغيفاً وزيدٌ؛ لإمكان ذلك، وأما في الآية الكريمة فلا يُتَوَهَّمُ فيه المشاركة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 110 الثاني: أنه مرفوع بالابتداء، والخبر محذوف - كما تقدم. الثالث: أنه منصوب على المعية، والواو بمعنى «مع» أي: أسلمت وجهي لله مع من اتبعني؛ قاله الزمخشريُّ. وقال أبو حيّان: «ومن الجهة التي امتنع عطف» مَنْ «على الضمير - إذا حُمِلَ الكلام على ظاهره دون تأويل - يمتنع كون» مَنْ «منصوباً على أنه مفعول معه؛ لأنك إذا قلتَ: أكلتُ رغيفاً وعمرو أي مع عمرو - دل ذلك على أنه مشارك لك في أكل الرغيف، وقد أجاز الزمخشريُّ هذا الوجهَ، - وهو لا يجوز - لما ذكرنا - على كل حال؛ لأنه لا يجوز حذف المفعول مع كون الواوِ واوَ» مع «ألبتة» . قال شهابُ الدينِ: «فهم المعنى، وعدم الإلباس يسَوِّغ ما ذكره الزمخشريُّ، وأي مانع من أن المعنى: فقل: أسلمت وجهي لله مصاحباً لمن أسلم وَجْهَهُ لله أيضاً، وهذا معنى صحيح مع القول بالمعية» . الرابع: أن محل «مَنْ» الخفض، نسقاً على اسم «الله» ، وهذا الإعراب - وإن كان ظاهره مُشْكِلاً - قد يؤول على معنى: جعلت مقصدي لله بالإيمان به والطاعة له، ولمن اتبعني بالحفظ له. وقد أثبت الياءَ في «مَنِ اتَّبَعَنِي» نافع، وحذفها أبو عمرو وخلاد - وقفاً - والباقون حذفُوهَا فيهما؛ موافقةً للرسم، وحسن ذلك أيضاً كونها فاصلةً ورأس آية، نحو {أَكْرَمَنِ} [الفجر: 15] و {أَهَانَنِ} [الفجر: 16] وعليه قول الأعشى: [المتقارب] 1374 - وَهَلْ يَمْنَعَنِّي أرْتيادِي الْبِلاَ ... دَ مِنْ حَذَر الْمَوْتِ أنْ يَأتِيَنْ وقول الأعشى - أيضاً -: [المتقارب] 1375 - وَمَنْ شَانِىءٍ كَاسِفٍ بَالُهُ ... إذا مَا انْتَسَبْتُ لَهْ أنْكَرَنْ قال بعضهم: حذف هذه الياء مع نون الوقاية - خاصّة - فإن لم تكن نونٌ فالكثير إثباتُها. قوله: قال {وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب} يعني اليهود والنصارى، والمراد بالأميِّيِّين: مشركو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 111 العرب، ووصفهم بكونهم أميين؛ لأنهم لم يَدَّعوا كتاباً، شبههم بمن لا يقرأ ولا يكتب، وإما لكونهم ليسوا من أهل الكتابة والقراءة، وإن كان فيهم من يكتب فهو نادر. قوله: {أَأَسْلَمْتُمْ} صورته استفهام، ومعناه الأمر، أي: أسلموا، كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] . قال الزمخشري: «يعني أنه قد أتاكم من البيِّنات ما يوجب الإسلام، ويقتضي حصوله - لا محالة - فهل أسلمتم بعدُ أم أنتم على كفركم؟ ، وهذا كقولك - لمن لخَّصْتُ له المسألة، ولم تُبْقِ من طُرُق البيان والكشف طريقاً إلاَّ سلكته -: هل فهمتها، أم لا - لا أُمَّ لك - ومنه قوله - عَزَّ وَجَلَّ - {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر، وفي الاستفهام استقصار، وتعبير بالمعاندة، وقلة الإنصاف؛ لأن المُنْصِفَ - إذا تَجَلَّتْ لَهُ الحجَّةُ - لم يتوقف إذْعانه للحق» . وقال الزّجّاج: «أأسْلَمْتُم» تهديد. قال القرطبيُّ: «وهذا حَسَنٌ؛ لأن المعنى: أأسْلَمْتُمْ أمْ لاَ؟» . قوله: {فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا} دخلت «قد» على الماضي؛ مبالغة في تحقُّق وقوعِ الفعل، وكأنه قد قَرُب من الوقوع. رُوي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ هذه الآية، فقال أهل الكتاب: أسْلَمْنَا، فقال لليهود: أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى كَلِمَةُ اللهِ وَعَبْدُهُ، وَرَسُولُهُ؟ فقالوا: معاذَ اللهِ، وقال للنَّصَارَى: أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ؟ فقالوا معاذَ الله أن يكون عيسى عبداً، فقال الله عَزَّ وَجَلَّ -: {وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} ، أي: تبليغ الرسالة، وليس عليك الهداية. والبلاغ: مصدر «بَلَغَ» - بتخفيف عين الفعل -. قيل: إنها نُسِخَت بالجهاد. {والله بَصِيرٌ بالعباد} عالم بمن يؤمن ومن لا يؤمن، وهذا يفيد الوعد والوعيد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 لما ذكر حال من يُعْرِض ويتولّى وصفهم في هذه الآيةِ بثلاثِ صفاتٍ: الأولى قوله: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ} لما ضمن هذا الموصول معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو قوله: {فَبَشِّرْهُم} ، وهذا هو الصحيح، أعني أنه إذا نُسِخَ المبتدأ ب «إنَّ» فجواز دخول الفاء باقٍ؛ لأن المعنى لم يتغير، بل ازداد تأكيداً، وخالف الأخفش، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 112 فمنع دخولها من نسخه ب «إنَّ» والسماع حُجَّةٌ عليه كهذه الآية، وكقوله: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق} الآية [البروج: 10] ، وكذلك إذا نُسِخَ ب «لَكِنَّ» كقوله: [الطويل] 1376 - فَوَاللهِ مَا فَارَقْتُكُمْ عَنْ مَلَلَةٍ وَلَكِنَّ مَا يُقْضَى فَسَوْفَ يَكُونُ وكذلك إذا نُسِخ ب «أنَّ» - المفتوحة - كقوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] أما إذا نُسِخ ب «لَيْتَ» ، و «لَعَلَّ» و «كَأنَّ» امتنعت الفاءُ عند الجميع؛ لتغيُّرِ المعنى. فصل المراد بهؤلاء الكفارِ اليهودُ والنصارى. فإن قيل: ظاهر هذه الآيةِ يقتضي كونَهم كافرين بجميع آيات الله - تعالى -، واليهود والنصارى، كانوا مقرِّين بالصانع وعلمِه وقدرته والمعادِ. الجواب: أن تُصْرَفَ الآياتُ إلى المعهود السابق - وهو القرآن ومحمد - أو نحمله على العموم، ونقول: إن من كذب بنبوة محمد - عليه السلام - يلزمه أن يُكذب بجميع آيات الله تعالى. الصفة الثانية: قوله: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ} قرأ الحسن هذه والتي بعدها بالتشديد ومعناه: التكثير، وجاء - هنا - {بِغَيْرِ حَقٍّ} منكَّراً، وفي البقرة [بِغَيْرِ الحَقِّ} معرَّفاً قيل: لأن الجملة - هنا - أخرجت مخرَجَ الشرط - وهو عام لا يتخصَّص - فلذلك ناسبَ أن تذكر في سياق النفي؛ لتعمَّ. وأما في البقرة فجاءت الآية في ناسٍ معهودين، مختصين بأعيانهم، وكان الحق الذي يُقْتَل به الإنسان معروفاً عندهم، فلم يقصد هذا العموم الذي هنان فجِيء في كل مكان بما يناسبه. فصل روى أبو عبيدة بنُ الجراح، قال: قلت: يا رسولَ الله، أيُّ الناسِ أشَدُّ عذاباً يَوْمَ القيامةِ؟ قال: رجل قتل نبيًّا، أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقرأ هذه الآية، ثم قال: يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثةً وأربعين نبيًّا، من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل، واثنا عشر رجلاً من عُبَّادِ بني إسرائيلَ، فأمَرُوا قَتَلَتَهُمْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 113 بالمعروفِ، ونَهَوْهُمْ عن المنكر، فقُتِلوا جميعاً من آخرِ النَّهَارِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، فَهُم الَّذينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تعالى. وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن زكريا، وزعموا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم. فإن قيل: قوله: {إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله} في حكم المستقبل؛ لأنه كان وعيداً لمن كان في زمن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يقع منهم قتل الأنبياء، ولا الآمرين بالقسط، فكيف يَصِحُّ ذلكظ فالجوابُ من وجهين: أحدهما: أن هذه لما كانت طريقة أسلافِهم صحَّت الإضافة إليهم؛ إذْ كانوا مُصَوِّبِينَ لهم، راضين بطريقتهم، فإن صُنْعَ الأب قد يُضاف إلى الابن، إذا كان راضياً به. الثاني: أن القوم كانوا يريدون قَتلَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقتلَ المؤمنين، إلا أن الله - تعالى - عَصَمَه منهم، فلما كانوا راغبين في ذلك صحَّ إطلاق هذا الاسم عليهم - على سبيل المجاز - كما يقال: النار مُحْرِقةٌ، السَّمُّ قاتل. فإن قيل: قَتْل الأنبياء لا يصح أن يكون إلا بغير حق، فما فائدة قوله: {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ} ؟ فالجوابُ تقدم في البقرة، وأيضاً يجوز أن يكون قصدوا بقتلهم أنها طريقة العدل عندهم. فإن قيل: قوله: {وَيَقْتُلُونَ النبيين} ظاهره يُشْعِر بأنهم قتلوا كُلَّ النبيِّين، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل، ولا الأكثر، ولا النصف. فالجواب أن الألف واللام هنا للعَهْد، لا للاستغراق. الصفة الثالثة: قوله: {وَيَقْتُلُونَ الذين} قرأ حمزة «وَيُقَاتِلُونَ» - من المقاتلة - والباقون «وَيَقْتُلُونَ» - كالأول. فأما قراءةُ حمزةَ فإنه غاير فيها بين الفعلين، وهي موافقة لقراءة عبد الله «وَقَاتَلُوا» - من المقاتلة - إلا أنه أتى بصيغة الماضي، وحمزة يحتمل أن يكون المضارع - في قراءته - لحكاية الحال، ومعناه: المُضِيّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 114 وأما الباقون فقيل - في قراءتهم -: إنما كرر الفعل؛ لاختلاف متعلَّقه، أو كُرِّرَ؛ تأكيداً، وقيل: المراد بأحد القتلَيْن إزهاق الروح، وبالآخر الإهانة، وإماتة الذكر، فلذلك ذكر كل واحد على حدته، ولولا ذلك لكان التركيبُ: ويقتلون النَّبِيِّينَ والذين يأمرون، وبهذا التركيب قرأ أبَيّ. قوله: {مِنَ النَّاسِ} إما بيان، وإما للتبعيض، وكلاهما معلوم أنهم من الناس، فهو جَارٍ مَجْرَى التأكيد. فصل قال القرطبيُّ: «دلت هذه الآيةُ على أن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجباً في الأمم المتقدمةِ، وهو فائدة الرِّسالةِ وخلافة النبوة» . قال الحسنُ: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ أمَرَ بِالْمَعْرُوفِ، أو نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهُوَ خَلِيفَةُ اللهِ في أرْضِهِ، وَخَلِيفَةُ رَسُولِهِ، وَخِلِيفَةُ كِتَابِهِ» . وعن دُرَّةَ بِنْتِ أبِي لَهَب، قالت: جاء رجل إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو على المنبر - فقال: مَنْ خيرُ الناس يا رسول الله؟ قال: «آمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وأنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأتْقَاهُمْ لله، وَأوْصَلُهُمْ لِرَحِمِهِ» . قد ورد في النزيل: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف} [التوبة: 67] ، ثم قال: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} [التوبة: 71] . فجعل - تعالى - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقاً بين المؤمنين والمنافقين، فدل ذلك على أن أخَصَّ أوصاف المُؤمِن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه، ثم إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطانُ؛ إذْ كانت إقامةُ الحدودِ إليه، والتعزير إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلاً قويًّا، عالماً، اميناً، ويأمره بذلك، ويُمْضِي الحدودَ على وَجْهها من غير زيادةٍ، كما قال تعالى: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر} [الحج: 41] . فصل قال الحسنُ: هذه الآيةُ تدل على أن القائمَ بالأمْر بالمعروف والنهي عن المنكر - عند الخوف - تلي منزلته - في العِظَم - منزلةَ الأنبياء، ورُوِيَ أنَّ رَجُلاً قام إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 115 بمِنًى - فقال: أيُّ الجهاد أفضلُ؟ فقال عليه السلام: «أفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَق عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائرٍ» . قال ابن جريج: كان الوحي يأتي إلى أنبياء بني إسرائيل - ولم يكن يأتيهم كتابٌ - فيدكِّرُون قومَهم فيُقْتلون، فيقوم رجال ممن تَبِعهم وصدَّقهم، فيذكرون قومَهم، فيُقْتَلون - أيضاً - فهم الذين يأمرون بالقسط من الناس. قوله: {أولئك الذين حَبِطَتْ} قرأ ابنُ عباس وأبو عبد الرحمن «حَبَطَتْ» بفتح الباء - وهي لغة معروفة، أي: بطلت في الدنيا - بإبدال المدح بالذم، والثناء باللعن، وقَتْلِهم، وسَبْيِهم وأخذ أموالهم، واسترقاقِهم، وغير ذلك من أنواع الذل - وفي الآخرة - بإزالة الثواب، وحصول العقاب - {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} يَدْفَعُونَ عَنْهُم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 لمَّا نَبَّهَ على عِنادِهم بقوله: {فَإنْ حَآجُّوكَ} [آل عمران: 20] بَيَّنَ في هذه الآيةِ غايةَ عِنادِهم، واعلم أن ظاهر الآية يتناول الكُلَّ؛ لأنه ذكره في معرض الذم، إلا أنه قد دَلَّ دليل آخر على أنه ليس كل أهل الكتاب كذلك، لقوله تعالى: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ} [آل عمران: 113] والمراد بالكتاب غير القرآن؛ لأنه أضاف الكتاب إلى الكفار، وهم اليهود والنصارى. فصل في سبب النزول وجوهٍ: أحدها: رَوَى ابنُ عباس: أنَّ رجلاً وامرأةً - من اليهود - زَنَيَا وكانا ذَوَى شَرَفٍ، وكان في كتابهم الرَّجْمُ، فكرهوا رَجْمَهُمَا؛ لشرفهما، فرجعوا في أمرهما إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، رجَاءَ أن يكون عنده رخصةٌ في تَرْك الرجم، فحكم الرسولُ - عليه السلام - بالرجم، فأنكروا ذلك، فقال - عليه السلام - «بيني وبينكم التوراةُ؛ فإن فيها الرَّجمَ، فمَنْ أعْلَمُكم» ؟ قالوا: رجل أعور يسكن فَدك، يقال له: ابن صوريا، فأرسلوا إليه فقدِمَ المدينةَ، وكان جبريلُ قد وصفه لرسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنت ابن صُوريا» ؟ قال: نَعَمْ، قال: « الجزء: 5 ¦ الصفحة: 116 أنت أعلمُ اليهودِ» ؟ قال: كذلك يَزْعُمُونَ، قال: «فأحْضِروا التوراةَ» ، فلما أتى على آية الرجم وضع يده عليها، فقال ابنُ سَلاَم: قد جاوَزَ موضِعَها يا رسول الله، وقام فرفع كَفَّه عنها فوجدوا آيةَ الرجم، فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهما فرُجِمَا، فغضبت اليهودُ لذلك غَضَباً شديداً، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وثانيها: روى سعيدُ بنُ جُبَيْر وعكرمةُ - عن ابنِ عباس - قال: دخل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيت المِدْرَاس على جماعة من اليهود، فدعاهم إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - فقال له نعيم بن عمرو والحرث بن يزيد: على أي دين أنت يا محمد؟ فقال: على ملة إبراهيم، قالا: إن إبراهيمَ كان يهوديًّا فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فهلموا إلى التوراة؛ فهي بيننا وبينكم حَكَمْ فأتيَا عليه» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. وثالثها: أن علامة بعثة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مذكورةٌ في التوراةِ، والدلائل على صحة نبوته موجودة فيها فلما دادلوه في النبوة والبعثة دعاهم إلى التحاكم إلى كتابهم، فأبَوْا، فأنزل الله - تعالى - هذه الآيةَ، ولذلك قال: {فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [آل عمران: 93] وهذه الآية تدل على أن دلائلَ صحةِ نبوتهِ موجودةٌ في التوراة؛ إذْ لو علموا أنه ليس في التوراة ما يدل على صحة نبوته لسارعوا إليه، ولَمَا ستروا ذلك. رابعها: أن هذا الحكم عام في اليهود والنصارى؛ فإن دلائل صحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت موجودة في التوراة والإنجيل. وقوله: {نَصِيباً مِّنَ الكتاب} أي: من علم الكتاب؛ لأنا لو أجريناه على ظاهره، فهم قد أوتوا كل الكتاب، والمراد بذلك العلماء منهم، وهم الذين يُدْعَوْن إلى الكتاب؛ لأن مَنْ لا علمَ له بذلك لا يدعى إليه. قوله: «يُدْعَوْنَ» في محل نَصْب على الحال من {الذين أُوتُواْ الكتاب} . قوله: «إلَى كِتَابِ اللهِ» قال أكثرُ المفسرين: هو التوراة؛ لوجوهٍ: أحدها: ما ذكرنا في سبب النزول. ثانيها: أن الآيةَ سِيقت للتعجُّب من تمرُّدِهم وإعْرَاضِهم، والتعجُّب إنما يحصل إذا تَمَرَّدُوا على حكم الكتاب الذي يعتقدون صحته. ثالثها: أن هذا هو المناسب لما قبل الآية؛ لأنه لما بَيَّن أنه ليس عليه إلا البلاغ وصبَّره على معاندتهم - مع ظهور الحُجَّة عليهم - بيَّن أنهم استعملوا طريقَ المكابرةِ في نفس كتابِهم الذي أقروا بصحته، فستروا ما فيه من الدلائلِ الدالةِ على صحةِ نبوةِ محمدٍ - عليه السلام - فهذا يدل على أنهم في غاية التعصُّب والبُعْدِ عن قبول الحق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 117 قال ابنُ عباس والحسنُ وقتادةُ: هو القرآن. روى الضّحاكُ عن ابن عباس - في هذه الآية - أن الله - تعالى - جعل القرآن حَكَماً فيما بينهم وبَيْنَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فحكم القرآن على اليهود والنصارى أنهم على غير الهُدَى، فأعرضوا عنه، وقال تعالى: {هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق} [الجاثية: 29] ، وقال تعالى: {وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مُّعْرِضُونَ} [النور: 48] . فإن قيل: كيف دُعُوا إلى حُكْم كتاب لا يؤمنون به؟ فالجواب: أنه مدعوا إليه بَعْدَ قِيَام الحُجَج الدالَّةِ على أنه كتابٌ من عند الله. قوله: «ليحكم» متعلق ب «يدعون» . وإضافة الحكم إلى الكتاب مجاز مشهور. وقرأ الحسن وأبو جعفر والجحدري «لِيُحْكَمَ» - مبنيًّا للمفعول - والقائم مقام الفاعل هو الظرف، أي: ليقع الحكمُ بينهم. قال الزمخشريُّ: قوله: {لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} يقتضي أن يكون الاختلاف واقعاً فيما بينهم، لا فيما بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله: {ثُمَّ يتولى} عطف على «يُدْعَوْنَ» و «مِنْهُمُ» صفة ل «فَرِيقٌ» ، وقوله: {وَهُم مُّعْرِضُونَ} يجوز أن تكون صفةً معطوفة على الصفة قبلها - فتكون الواو عاطفة - وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في «مِنْهُمْ» ؛ لوقوعه صفة - فتكون الواو واوَ الحال - ويجوز أن تكون صفةً معطوفة على الصفة قبلها - فتكون الواو عاطفة - وأن تكون في محل نصب على الحال من الضمير المستتر في «مِنْهُمْ» ؛ لوقوعه صفة - فتكون الواو واوَ الحال - ويجوز أن تكون حالاً من «فَرِيقٌ» ، وجاز ذلك - وإن كان نكرةً - لتخصيصه بالوصف قبله، وإن كان حالاً فيجوز أن تكون مؤكِّدةً؛ لأن التولِّ] والإعراض عما دعا إليه. قال ابنُ الخطيبِ: «فكأن المتولِّيَ والمعرضَ هو ذلك الفريق، والمعنى أنه مُتَوَلِّ عن استماع الحُجَّة في ذلك المقام، ومُعْرِضٌ عن استماع سائر الحُجَج» . ويحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، لا محل لها، أخبر عنهم بذلك، فيكون المتولِّي هم الرؤساء والعلماء، والأتباع مُعرضون عن القبول؛ لأجل تَوَلِّي علمائِهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 قوله: «ذَلِكَ» فيها وجهان: أصحهما: أنها مبتدأ، والجار بعده خبره، اي: ذلك التوَلِّي بسبب هذه الأقوال الباطلةِ، التي لا حقيقةَ لها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 118 والثاني: ان «ذَلِكَ» خبرُ مبتدأ محذوفٍ، اي: الأمر ذلك، وهو قول الزَّجَّاج وعلى هذا قوله: «بأنَّهُمْ» متعلق بذلك المقدَّر - وهو الأمر ونحوه -. وقال أبو البقاء: فعلى هذا يكون قوله «بأنَّهُمْ» في موضع نَصْب على الحال بما في «ذَا» من معنى الإشارة، أي: ذلك الأمر مستحقاً بقولهم، ثم قال: «وهذا ضعيفٌ» . قلت: بل لا يجوز ألبتة. وجاء - هنا - «مَعْدُودَاتٍ» ، بصيغة الجمع - وفي البقرة «مَعْدُودَةً» ، تفنُّناً في البلاغة، وذلك أن جمع التكسير - غير العاقل - يجوز أن يعامَل معاملةَ الواحدةِ المؤنثة تارةً، ومعاملةَ جمع الإناث أخْرَى، فيقال: هذه جبال راسيةٌ - وإن شئت: راسياتٌ -، وجمال ماشية، وإن شئت: ماشيات. وخص الجمع بهذا الموضع؛ لأنه مكان تشنيع عليهم بما فعلوا وقالوا: فأتى بلفظ الجمع مبالغةٌ في زجرهم، وزجر من يعمل بعملهم. فصل قال الجبائيُّ: «هذه الآية فيها [دلالة] على بُطْلان قَوْل مَنْ يقول: إنَّ أهلَ النار يخرجون من النار، قال: لأنه لو صَحَّ ذلك في هذه الآية لصح في سائر الأمم، ولو ثبت ذلك في سائر الأمم لما كان المُخْبِر بذلك كاذباً، ولما استحق الذمَّ، فلما ذكر الله - تعالى - ذلك في معرض الذمِّ، علمنا أن القول بخروج أهل النارِ من النار [قول] باطل» . قال ابن الخطيبِ: «كان من حقه أن لا يذكر مثل هذا الكلام؛ لأن مذهبه أن العَفْوَ حَسَنٌ، جائز من الله، وإذا كان كذلك لم يلزم من حصول العفوِ في هذه الأمةِ حصولُه في سائر الأمم سلمنا أنه لا يلزم ذلك، لكن لِمَ قلتم: إن القومَ إنما استحقوا الذمَّ على مجرَّد الإخبارِ بأن الفاسقَ يخرج من النار؟ بل ههُنَا وُجُوهٌ أخَر: الأول: لعلهم استوجبوا الذم على أنهم قطعوا بأن مدة عذاب الفاسقِ قصيرة، قليلة؛ فإنه روي أنهم كانوا يقولون: إنَّ مدة عذابنا سبعةُ أيام، ومنهم من قال: لا، بل أربعينَ ليلةً - على قدر مُدَّة عبادة العَجْل -. الثاني: أنهم كانوا يتساهلون في أصول الدين، ويقولون: بتقدير وقوع الخطأ منا، فإنَّ عذابنا قليل، وهذا خطأ؛ لأن عندنا المخطئ في التوهيد والنبوة والمعاد كافر، والكافر عذابه دائم. الثالث: أنهم لما قالوا: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} استحقروا تكذيبَ محمد - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 119 عليه السلام -، واعتقدوا أنه لا تأثيرَ له في تغليظ العقاب، فكان ذلك تصريحاً بتكذيبه - عليه السلام - وذلك كُفر، والكافر المُصِرُّ على كُفره لا شكَّ أن عذابَه مُخَلَّد، فثبت أنَّ احتجاجَ الجبائي بهذه الآية ضعيف» . قوله: {وَغَرَّهُمْ فِى دِينِهِمْ} الغُرور: الخِدَاع، يقال منه: غَرًَّهُ، يَغُرُّهُ، غُرُوراً، فهو غَارٌّ، ومغرور. والغَرُور: - بالفتح - مثال مبالغة كالضَّرُوب. والغِرُّ: الصغير، والغِرِّيرَة: الصغيرة؛ لأنهما يُخ عان، والغِرَّة: مأخوذة من هذا، قال: أخذه على غِرَّة، أي: تغفُّل وخداعِ، والغُرَّة: بياض في الوجه، يقال منه: وَجْهٌ أغَرُّ، ورجل أغَرّ وامرأة غَرَّاء. والجمع القياسي: غُرٌّ، وغير القياسي غُرَّانُ. قال: [الطويل] 1377 - ثِيَابُ بَنِي عَوْفٍ طَهَارَى نَقِيَّةٌ ... وَأوْجُهُهُمْ عِنْدَ الْمَشَاهِدِ غُرَّانُ والغرة من كل شيء أنفسه، وفي الحديث: «وَجَعَلَ فِي الْجَنِينِ غُرَّةً، عَبْداً أوُ أمَةً» . قيل: الغُرًَّة: الخِيار، وقال أبو عمرو بن العلاء - في تفسير هذا الحديث - إنه لا يكون إلا الأبيض من الرقيق، كأنه أخَذَه من الغُرَّة، وهو البياض في الوَجْه. قوله: {مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} «ما» يجوز أن تكون مصدريةً، أو بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف أي: الذي كانوا يفترونه. قيل هو قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] . وقيل: هو قولهم: نحن على الحق وأنت على الباطل. قوله: «فَكَيْفَ إذا» «كَيْفَ» منصوبة بفعل مُضْمَر، تقديره: كيف يكون حالهم، كذا قدَّره الحوفيّ وهذا يحتمل أن يكون الكون تاماً، فيجيء في «كيف» الوجهان المتقدمان في قوله: «كَيْفَ تَكْفُرُونَ» من التشبيه بالحال، أو الظرف، وأن تكون الناقصة فتكون «كيف» خبرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 120 وقدّر بعضهم الفعل، فقال: كيف يصنعون؟ [فإن أراد «كان» التامة كانت في موضع نصب على الحال، وإن أراد الناقصة كانت في موضع نصب على خبر «كان» ] ، فكيف على ما تقدم من الوجهين. ويجوز أن تكون «كيف» خبراً مقدماً والمبتدأ محذوف، تقديره: فكيف حالُهم؟ قوله: {إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} «إذا» ظرف محض من غير تضمين شرط، والعامل فيه العامل مُضْمَر، وهي منصوبة انتصاب الظروفِ كان العامل في «إذَا» الاستقرار العامل في «كَيْفَ» ؛ لأنها كالظرف، وإن قلنا: إنها اسم غير ظرف، بل لمجرد السؤال كان العامل فيها نفس المبتدأ - الذي قدرناه - أي: كيف حالهم في وقت جمعهم؟ ويُحْذَف الحال - كثيراً - مع «كيف» ، لدلالته عليها، تقول: كنت أكرمه - ولم يزرني - فكيف لو زارني؟ أي: كيف حاله إذا زارني؟ وهذا الحذف يوجب مزيد البلاغة، لما فيه من تحرُّك النفي على استحضار كل نوع من أنواع الكرامة، وكل نوع من أنواع العذاب - في هذه الآية -. قوله: «لِيَوْمٍ» متعلق ب «جَمَعْنَاهُمْ» أي: لقضاء يوم، أو لجزاء يوم. فإن قيل: لِمَ قال: «لِيَوْمٍ» ولم يقل: في «يَوْمٍ» . فالجوابُ: ما ذكرناه من أنّ المرادَ: لجزاء يوم، أو لحساب يوم، فحذف المضاف، ودلت اللام عليه قال الفرّاءُ: اللام لفعل مضمر، فإذا قلتَ: جُمِعُوا ليوم الخميس، كان المعنى: جمعوا لفعل يوجد في يوم الخميس، وإذا قلت: جُمِعُوا في يوم الخميس لم تُضْمِرْ فِعْلاً. وأيضاً فمن المعلوم أن ذلك اليوم لا فائدةَ فيه إلا المجازاة. وقال الكسائيُّ: اللام بمعنى «في» . «لا ريب فيه» صفة للظرف. قوله: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} إن حَمَلْتَ «مَا كَسَبَتْ» على عمل العبد، جُعِلَ في الكلام حذفٌ، والتقدير: ووفيت كلُّ نفسٍ جزاءَ ما كسبت من ثواب وعقاب، وإن حملت «مَا كَسَبَتْ» على الثواب والعقاب استغنيت عن هذا الإضمار، ثم قال: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} فلا يُنْقَص من ثواب حسناتهم، ولا يُزاد على عقاب سيئاتهم. فصل استدلوا بهذه الآية على أن صاحب الكبيرة - من أصحاب الصلاة - لا يُخَلَّد في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 121 النار؛ لأنه مستحق للعقاب - بتلك الكبيرة - ومستحق ثواب الإيمانِ، فلا بُدَّ وأن يُوَفَّى ذلك الثوابَ؛ لقوله تعالى: {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} فإما أن يُثاب في الجنة ثم يُنقَل إلى النار، وذلك باطل بالإجماع. وإما أن يُعاقَبَ في النار، ثم يُنْقَل إلى دار الثواب أبَداً مُخَلَّداً، وهو المطلوب. وقد تقدم إبطال تمسك المعتزلة بالعمومات. فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يُقال: إن ثوابَ إيمانهم يُحْبَط بعقاب معصيتهم؟ فالجوابُ: أن هذا باطل لما تقدم في البقرة من أن القول بالمحابطة محال؛ وأيضاً فإنا نعلم - بالضرورة - أن ثوابَ توحيدِ [سبعين] سنةً أزيد من عقاب شُرْبِ جَرْعَةٍ من الخمر والمنازع فيه مُكابِر، وبتقدير القول بصحة المحابطة يمتنع سقوط ثوابِ كل الإيمانِ بعقاب شُربِ جَرعَةٍ من الخمر. وكان يحيى بن معاذ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقول: ثواب إيمان لحظة يُسْقِط كُفْرَ ستين سنةً، فثواب إيمان ستين سنةً كيف يُعْقَل أن لا يُحْبِطَ عِقَابَ ذَنْبِ لَحْظَة؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 لمَّا بيَّن دلائلَ التوحيدِ والنبوَّةِ، وصحة دينِ الإسلام، وذكر صفاتِ المخالفين، وشدةَ عنادِهم وغُرُورِهم، ثم ذكر وعيدَهم بجمعهم يوم القيامة، أمر رسوله - عليه السلام - بدعاءٍ وتمجيدٍ يخالف طريقةَ هؤلاءِ المعاندين. قوله: «اللَّهُمَّ» اختلف البصريون والكوفيون في هذه اللفظةِ. قال البصريون: الأصل: يا الله، فحُذِفَ حَرْفُ النداءِ، وعُوِّضَ عنه هذه الميمُ المشددة، وهذا خاصٌّ بهذا الاسم الشريف، فلا يجوز تعويضُ الميم من حرف النداء في غيره، واستدلوا على أنها عِوَضٌ من «يا» بأنهم لم يجمعوا بينهما إلا في ضرورة الشعر، كقوله: [الرجز] 1378 - وَمَا عَلَيْكِ أنْ تَقُولِي كُلَّمَا ... سَبَّحْتِ أوْ هَلَّلْتِ يَا اللَّهُمَّ مَا أُرْدُدْ عَلَيْنَا شَيْخَنَا مُسَلَّمَا ... فَإنَّنَا مِنْ خَيْرِهِ لَنْ نُعْدَمَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 122 وقَوْلِ الآخر: [الرجز] 1379 - إنِّي إذَا مَا حَدَث ألَمَّا ... أقُولُ: يَا اللَّهُمَّ، يَا اللَّهُمَّا وقال الكوفيون: الميم المشددة بَقِيَّةُ فِعْل محذوفٍ، تقديره: أمَّنَا بخير، أي: اقْصِدنا به، من قولك: أمَمْتُ زيداً، أي: قصدته، ومنه: {ولاا آمِّينَ البيت الحرام} [المائدة: 2] أي: قاصديه، وعلى هذا فالجمع بين «يا» والميم ليس بضرورةٍ عندهم، وليست عوضاً منها. وقد رَدَّ عليهمُ البصريون هذا بأنه قد سُمِعَ: اللهمَّ أمَّنا بخير، وقال تعالى: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} [الأنفالِ: 32] فقد صرَّح بالمدعُوِّ به، فلو كانت الميمُ بقيةَ «أمَّنَا» لفسد المعنى، فبان بُطْلانهُ. وهذا من الأسماء التي لزمت النداءَ، فلا يجوز أن يقع في غيره، وقد وقع في ضرورة الشعر كونه فاعلاً، أنشد الفرّاء: [مخلّع البسيط] 1380 - كَحَلْقَةٍ مِنْ أبِي دِثَارٍ ... يَسْمضعُهَا اللَّهُمَ الْكُبَارُ استعمله - هاهنا - فاعلاً بقوله: يسمعها. ولا يجوز تخفيفُ الميم، وجوَّزه الفراء، وأنشد البيت: بتخفيف الميم؛ إذ لا يمكن استقامةُ الوزن إلا بذلك. قال بعضهم: هذا خطأ فاحشٌ، وذلك لأن الميم بقية «أمَّنَا» - على رأي الفراء - فكيف يجوزه الفراء؟ وأجاب عن البيت بأن الرواية ليست كذلك، بل الرواية: [مخلّع البسيط] 1381 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... يَسْمَعُهَا لاَهُهُ الْكُبَارُ قال شهابُ الدينِ: «وهذا لا يعارِض الرواية الأخرى؛ فإنه كما صحّت هذه صحت تلك» . ورد الزّجّاج مذهب الفراء بأنه لو كان الأصل: يا الله آمَّنا للفْظِ به مُنَبِّهاً على الأصل، كما قالوا - في وَيلمِّهِ -: وَيْلٌ لأمِّهِ. وردوا مذهب الفراءِ - أيضاً - بأنه يلزم منه جواز أن تقول: يا اللهم، ولما لم يَجُزْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 123 ذلك علمنا فساد قولِ الفراءِ، بل نقول: كان يجب أن يكون حرف النداء لازماً، كما يقال: يا الله اغفر لي، وأجاب الفراء عن قول الزَّجَّاجِ بأن أصله - عندنا - أن يقال: يا الله أمَّنا - ومن يُنْكِر جوازَ التكلم بذلك -؟ وأيضاً فلأن كثيراً من الألفاظ لا يجوز فيها إقامةُ الفرع مُقامَ الأصل، ألا ترى أنَّ مذهب الخليل وسيبويه أن «ما أكرمه» معناه: شيء أكرمه، ثم إنه - قط - لا يُسْتَعْمَل هذا الكلام - الذي زعموا أنه هو الأصل - في معرض التعجُّب، فكذا هنا. وأجاب عن الرد الثاني بقوله: مَن الذي يُسَلِّم لكم أنه لا يجوز ان يقال: يا اللهمَّ، وأنشد قول الراجز المتقدم يا اللهمّ، وقول البصريين: هذا الشعر غير معروف، فحاصله تكذيب النقل، ولو فتحنا هذا البابَ لم يَبْقَ من اللغة والنحو شيءٌ سَلِيماً من الطعن. وقولهم: كان يلزم ذكر حرف النداء، فقد يُحْذَف حرف النداءِ، كقوله: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق} [يوسف: 46] فلا يبعد أن يُخَصَّ هذا الاسم بالتزام الحذف. واحتج الفراء على فساد قول البصريين بوجوه: أحدها: أنا لو جعلنا الميم قائماً مقام حرف النداء، لكنا قد أجزنا تأخير حرف النداء عن ذكر المنادى فيقال: الله يا، وهذا لا يجوز ألبتة. ثانيها: لو كان هذا الحرف قائماً مقام النداء لجاز مثلُه في سائر الأسماءِ، فيقال: زيدُمَّ، وبكرُمَّ كما يجوز يا زيد، يا بَكر. ثالثها: لو كانت الميم بدلاً عن حرف النداء لما اجتمعا، لكنهما اجتمعا في الشعر الذي رويناه. ومن أحكام هذه اللفظة أنها كثر دورها، حتى حذفت منها الألف واللام - في قولهم: لا هُمَّ - أي: اللهم. قال الشاعرُ: [الراجز] 1382 - لاهُمَّ إنَّ عَامِرَ بْنَ جَهْمِ ... أحْرَمَ حَجًّا فِي ثِيَابٍ دُسْمِ وقال آخرُ: [الرجز] 1383 - لاهُمَّ إنَّ جُرْهُماً عِبَادُكَا ... النَّاسُ طُرْقٌ وَهُمْ بِلادُكَا قوله: {مَالِكَ الملك} فيه أوجه: أحدها: أنه بدل من «اللَّهُمَّ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 124 الثاني: أنه عطف بيان. الثالث: أنه منادًى ثانٍ، حُذِف منه حرف النداء، أي: يا مالكَ الملك، وهذا هو البدل في الحقيقة؛ إذ البدل على نية تكرار العامل؛ إلا أن الفرق أن هذا ليس بتابعٍ. الرابع: أنه نعت ل «اللَّهُمَّ» على الموضع، فلذلك نُصِبَ، وهذا ليس مذهبَ سيبويه؛ لأنه لا يُجيز نعتَ هذه اللفظة؛ لوجود الميم في آخرها؛ لأنها أخرجتها عن نظائِرها من الأسماء، وأجاز المبرّدُ ذلك، واختارَه الزّجّاج، قالا: لأن الميم بدل من «يا» والمنادى مع «يا» لا يمتنع وصفه، فكذا مع ما هو عوضٌ منها، وأيضاً فإن الاسمَ لم يتغير عن حكمه؛ ألا ترى إلى بقائه مبنيًّا على الضم كما كان مبنيًّا مع «يا» . وانتصر الفارسيّ لسيبويه، بأنه ليس في الأسماء الموصوفة شيء على حد «اللَّهُمَّ» ، فإذا خالف ما عليه الأسماء الموصوفة، ودخل في حيِّز ما لا يوصَف من الأصوات، وجب أن لا يُوصف. والأسماء المناداة، المفردة، المعرفة، القياس أن لا تُوصَف - كما ذهب إليه بعضُ الناسِ؛ لأنها واقعة موقع ما لا يوصف وكما أنه لما وقع موقع ما لا ذهب إليه بعضُ الناسِ؛ لأنها واقعة موضع ما لا يوصف وكما أنه لما موقع ما لا يعرب لم يعرب، كذلك لما وقع موقع ما لا يوصف لم يوصف، فأما قوله: [الرجز] 1384 - يا حَكَمث الْوَارِثُ عَنْ عَبْدِ الْمَلِكْ ... [وقوله] : [الرجز] 1385 - يَا حَكَمُ بْنِ الْمُنْذِرِ بْنِ الْجَارُودْ ... سُرَادِقُ الْمَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ وقوله: [الوافر] 1386 - فَمَا كَعْبُ بْنُ مَامَةَ وَابْنُ سُعْدَى ... بِأجْوَدَ مِنْكَ يَا عُمَرَ الجَوادَا فإن الأول على أنت. والثاني على نداء ثانٍ والثالث: على إضمار أعني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 125 فلما كان هذا الاسم الأصل فيه أن لا يوصَف؛ لما ذكرنا، كان «اللهم» أولى أن لا يوصَف، لأنه قبل ضَمِّ الميم إليه واقعٌ موقع ما لا يوصف، فلما ضُمَّت إليه الميم صِيغ معها صياغةً مخصوصةً فصال حكمه حكم الأصواب، وحكم الأصوات أن لا توصف نحو غاقٍ، وهذا - مع ما ضُمَّ إليه من الميم - بمنزلة صوت مضمومٍ إلى صوتٍ نحو حَيَّهَلْ، فحقه أن لا يوصَف، كما لا يوصَف حيَّهَلْ. قال شهابُ الدينِ: «هذا ما انتصر به أبو علي لسيبويه، وإن كان لا ينتهض مانعاً» . قوله: تُؤتِي «هذه الجملة، وما عُطِفَ عليها يجوز أن تكون مستأنفةً، مبينة لقوله: {مَالِكَ الملك} ويجوز أن تكون حالاً من المنادى. وي انتصاب الحال من المنادى خلاف، الصحيح جوازه؛ لأنه مفعول به، والحال - كما يكون لبيان هيئة الفاعل - يكون لبيان هيئةِ المفعول، ولذلك أعرَبَ الْحُذَّاقُ قولَ النابغة: [البسيط] 138 - يَا دَار مَيَّة بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ... أقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الأبدِ » بالعلياء «حالاً من» دار مية «، وكذلك» أقوت «. والثالث من وجوه» تُؤتِي «: أن تكون خبرَ مُبتدأ مضمر، أي: أنت تؤتي، لتكون الجملة اسمية وحينئذ يجوز أن تكون مستأنفةً، وأن تكون حالية. قوله:» تشاء «أي: تشاء إيتاءَه، وتشاء انتزاعه، فحذف المفعول بعد المشيئة؛ للعلم به، والنزع: الجذب، يقال: نَزَعَه، ينزعه، نزعاً - إذا جذَبَهُ - ويُعَبَّر به عن المَيْل، ومنه: نزعت نفسه إلى كذا كأن جاذباً جذبها، ويعبر به عن الإزالة، يقال نزع الله عنك الشر - أي: أزاله - ومنه قوله تعالى: {يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا} [الأعراف: 27] ومثله هذه الآية، فإن المعنى وتُزيل الملك. فصل في بيان سبب النزول في سبب النزول وجوهٍ: أحدها: قال ابن عباس وأنس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين افتتح مكة - وعد أمته ملك فارس والروم، فقال المنافقون واليهود: هيهاتَ، هيهاتَ، من أين لمحمد ملك فارس والروم - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 126 وهم أعزُّ وأمْنَعُ من ذلك -! ألم يكفِ محمداً مكة والمدينة حتى طمع في ملك فارس والروم؟ فأنزل الله - تعالى - هذه الآية. وثانيها: روي أنه - عليه السلام - لما خَطَّ الخندق عام الأحزاب، وقطع لكل عشرة أربعين ذراعاً وأخذوا يحفرون، خرج من وسط الخندق صخرة كالتل العظيم، لم تعمل فيها المَعَاوِلُ. فوجهوا سَلْمَان إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخذ المعول من سلمان، فلما ضربها صدعها وبرق منها بَرْقٌ أضاء ما بين لابتَيْها، كأنه مصباح في جوف ليل مظلم، فكبر، وكبر المسلمون، وقال عليه السلام: «أضاءت لي منها قصور الحيرة كأنها أنياب الكلابِ، ثم ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها قصور صنعاء، ثم ضرب الثالثة فقال: أخبرني جبريل - عليه السلام - أن أمتي ظاهرة على كلها، فأبشروا» ، فقال المنافقون: ألا تعجبوا من نبيكم، يَعِدُكم الباطل، يخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة، ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم تحفرون الخندق من الخوف لا تستطيعون أن تخرجوا، فنزلت هذه الآية. وثالثها: قال الحسنُ: إن الله - تعالى - أمر نبيه أن يَسأله أن يعطيه ملك فارس والروم، ويردَّ ذل العرب عليهما، وأمره بذلك دليل على أنه يستجيب له هذا الدعاءَ، وهكذا منازل الأنبياء - إذا أمِرُوا بدعاء استُجِيب دعاؤهم. وقيل: نزلت دامغةً لنصارى نجرانَ، في قولهم: إن عيسى هو الله، وذلك أن هذه الأوصافَ تبين - لكل صحيح الفطرة - أن عيسى ليس فيه شيءٌ منها. قال ابن إسحاق: أعلم الله - تعالى - في هذه الآية - بعنادهم وكُفْرهم، وأن عيسى - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 127 عليه السلام - وإن كان الله - تعالى - أعطاه آياتٍ تدل على نبوته، من إحياءِ الموتى - وغير ذلك - فإن الله - عَزَّ وَجَلَّ - هو المنفردُ بهذه الأشياءِ - من قوله: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ} إلى قوله: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . فصل قوله: {مَالِكَ الملك} أي: مالك العباد وما ملكوا. وقيل: مالك السموات والأرض قال الله تعالى - في بعض كتبه -: «أَنَا اللهُ، مالك الملك وملك الملوك، قُلُوبُ المُلُوكِ ونواصِيهم بِيَدِي، فإِن العِبَادُ أطاعوني جَعَلْتُهُم عَلَيهم رحمةً، وإن عصوني جعلتُهُم عليهم عقوبةً، فلا تشغلوا أنفسَكم بسَبِّ الملوكِ، ولكن توبوا إليَّ فأُعَطِّفَهُم عَلَيكُم» . فصل قال الزمخشريُّ: «مالك الملك، أي: يملك جنس الملك، فيتصرف فيه تصرُّفَ المُلاَّك فيما يملكون» . قال مجاهدٌ وسعيدٌ بنُ جُبَيْر والسُّدِّي: «تُؤتِي الْمُلْكَ» يعني النبوَّة والرسالة، كما قال تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} [النساء: 54] ، فالنبوة أعظم مراتب الملك؛ لأن العلماء لهم أمر عظيم على بواطن الخلقِ، والجبابرة لهم أمر على ظواهر الخلق والأنبياء أمرهم نافذ ظاهراً وباطناً، أما باطناً؛ فلأنه يجب على كل أحد أن يقبل دينهم وشريعتَهم، وأن يعتقدَ أنه هو الحقُّ، وأما ظاهراً؛ فلأنهم لو خالفوهم لاستوجبوا القتلَ. فإن قيل: قوله: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} يدل على أنه قد يَعْزِل عن النبوة مَنْ جعله نَبِيًّا، وذلك لا يجوزُ. فالجوابُ من وجهين: الأول: أن الله تعالى - إذا جعل النبوة في نسل رجلٍ، فإذا أخرجها الله تعالى من نسله، وشرَّف بها إنساناً آخرَ - من غير ذلك النسل - صح أن يقال: إنه - تعالى - نَزَعَهَا منهم، واليهود كانوا معتقدين أن النبوةَ لا تكون إلا في بني إسرائيل، فلما شرَّف الله بها محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صَحّ أن يُقَالَ: إنه نزع مُلْكَ النبوةِ من بني إسرائيلَ إلى العرب. الثاني: أن يكون المراد من قوله: {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} ، أي: تحرمهم، ولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 128 تعطيهم هذا الملك، لا على معنى أنه يسلب ذلك بعد إعطائه، ونظيره قوله تعالى: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [البقرة: 257] مع أن هذا الكلام يتناول مَن لم يكن في ظلمة الكفرِ قطّ. وحكي عن الكفار قولهم - للأنبياء عليهم السلام -: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} [الأعراف: 88] وقول الأنبياء: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا} [الأعراف: 89] مع أنهم لم يكونوا فيها - قط -. وعلى هذا القول تكون الآية رَدًّا على أربع فِرَقٍ: إحداها: الذين استبعدوا أن يجعل الله بَشَراً رسولاً. الثانية: الذين جوَّزوا أن يكون الرسول من البشر، إلا أنهم قالوا: إن محمداً فقير {وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] . الثالثة: اليهود الذين قالوا: إن النبوة في أسلافِنَا، وإن قريشاً ليست أهلاً للكتاب والنبوة. الرابعة: المنافقون، فإنهم ك انوا يحسدونه على النبوة - على ما حكى عنهم في قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 54] . وقيل: المراد ما يُسَمَّى مُلْكاً في العُرْف، وهو عبارة عن أشياء: أحدها: كثرة المال والجاه. الثاني: أن يكون بحيث يجب على غيره طاعتُه، ويكون تحت أمرِه ونهيِه. الثالث: أن يكونَ بحيث لو نازعه في مُلْكه أحدٌ قَدَرَ على قهر ذلك المنازع. أما كثرةُ المالِ فقد نرى الرجل اللبيب لا يحصل له - مع العناء العظيم، والمعرفة الكثيرة - إلا قليل من المال، ونرى الأبْلَهَ الغافلَ قد يحصل له من الأموال ما لا يعلم كميتها. وأما الجاه، فالأمر فيه أظهر، أما القسم الثاني - وهو وجوب طاعة الغير له - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله. وأما القسم الثالث - وهو حصول النصرة والظفر - فمعلوم أن ذلك لا يحصل إلا من الله تعالى؛ فكم شاهدنا من فئةٍ قليلةٍ غلبت فئةً كثيرةً بإذن الله تعالى. فصل قال الكعبيُّ: قوله: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ} ، أي: بالاستحقاق، فتؤتيه من يقوم به، وتنزعه من الفاسقِ؛ لقوله تعالى: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] وقوله - في العبد الصالح -: {إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم} [البقرة: 247] فجعله سبباً للملك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 129 وقال الجبائيُّ: هذا الملك مختص بملوك العَدْل، فأما ملوك الظلم، فلا يجوز أن يكون ملكُهم بإيتاء الله - تعالى - وكيف يصح أن يكون بايتاء الله - تعالى - وقد ألزمهم أن لا يمتلكوه، ومنعهم من ذلك، فقد صح - بما ذكرناه - أن الملوك العادلين هم المخصوصون بأن الله - تعالى - آتاهم ذلك الملكَ: وأما الظالمون فلا، قالوا: ونظيرُ هذا ما قلنا في الرزق أنه لا يكون من الحرام الذي زَجَرَ الله - تعالى - عنه، وأمره بأن يرده على مالكه، فكذا ههنا. قالوا: وأما النزعُ، فإنه بخلاف ذلك؛ لأنه - كما ينزع الملكَ من الملوك العادلين؛ لمصلحة تقتضي ذلك - قد ينزع الملكَ عن الملوك الظالمين، ونزع الملك يكون بوجوه: منها: بالموت، وإزالة العقل، وإزالة القوى، والقدرة، والحواسّ. ومنها: بورود الهلاكِ، والتلف على الأموال. ومنها: أن يأمر الله - تعالى - المُحِقَّ بأن يسلبَ الملكَ الذي في يد المتغلب المُبْطِل، ويؤتيه القُوة، والنُّصرة عليه، فيقهره، ويسلب ملكه، فيجوز أن يُضاف هذا السلب، والنزع إلى الله - تعالى - لأنه واقع عن أمره، كما نزع الله - تعالى - مُلْكَ فارسِ، على يد الرسول - عليه السلام. فالجوابُ: أن تقول: حصولُ المُلْكِ للظالِم إما أن يكون حصل لا عَنْ فاعل، وذلك يقتضي نفي الصانع، وإما أن يكون حصل بفعل المتغلِّب، وذلك باطل؛ لأن كل أحد يريد تحصيل الملك والدولة لنفسه، ولا يتيسر له ألبتة، فلم يبق إلا أن يقال: بأن ملك الظالمين إنما حصل بإيتاء الله تعالى - وهذا أمرٌ ظاهر؛ فإن الرجلَ قد يكون مُهَاباً، والقلوب تميل إليه، والنصر قريب له، والظفر جليس معه، وأينما توجه حصل مقصوده، وقد يكون على الضد من ذلك، ومن تأمل في كيفية أحوالِ الملوكِ اضطر إلى العلم بأن ذلك ليس إلا بتقدير الله. ولذلك قال بعض الشعراءِ: [الكامل] 1388 - لَوْ كَانَ بِالْحِيَلِ الْغِنَى لَوَجَدتنِي ... بِأجَلِّ أسْبَابِ السَّمَاءِ تَعَلُّقِي لَكِنَّ مَنْ رُزِقَ الْحِجَا حُرِمَ الغِنَى ... ضِدَّانِ مُفْتَرقَانِ أيَّ تَفَرُّقِ وَمِنَ الدَّلِيل عَلَى الْقَضَاءِ وَكَوْنِهِ ... بُؤسُ اللَّبِيبِ وَطِيبُ عَيْشِ الأحْمَقِ وقيل: قوله تعالى: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ} محمول على جميع أنواع الملكِ، فيدخل فيه ملك النبوةِ، وملكُ العلمِ، وملكُ العقلِ والأخلاقِ الحسنةِ، وملكُ البقاءِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 130 والقدرةِ، وملك محبة القلوبِ، وملك الأموال؛ لأن اللفظ عام، فلا يجوز التخصيص من غير دليل. وقال الكلبيُّ: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ} العرب، {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} أبا جهل وصناديد قريش. وقيل: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ} آدم وولده، {وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ} من إبليس وجنده. قوله: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} . قال عطاء: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} المهاجرين والأنصار، {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} فارس والروم. وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} محمداً وأصحابه، حين دخلوا مكة في عشرة آلاف ظاهرين عليها، {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} أبا جهل وأصحابه، حين حُزَّت رؤوسُهم، وألْقُوا في القليب. وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} بالإيمان والهداية، {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} بالكفر والضلالة. وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} بالطاعة، {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} بالمعصيةِ. وقيل: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} بالنصر، {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} بالقهرِ. {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} بالغنى، {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} بالفقرِ. {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ} بالقناعة والرِّضا، {وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} بالحرص والطمع. قوله: {بِيَدِكَ الخير} في الكلام حذف معطوف، تقديرُهُ: والشَّرُّ، كقَوْلِهِ تَعَالى {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ، أي: وَالبَرْدَ. وكَقَوْلِهِ: [الطويل] 1389 - كأنَّ الْحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأمامِهَا ... إذَا أنْجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أعْسَرَا أي ويدها. قال الزمَخْشَريُّ: «فَإن قُلْتَ: كَيْفَ قَالَ:» بِيَدِكَ الْخَيْرُ «دُونَ الشَّرِّ؟ قلت: لأنَّ الكَلامَ إنَّما وَقَعَ في الْخَيْرِ الَّذِي يَسُوْقُهُ اللهُ إلى الْمُؤمِنين، - وَهُوَ الَّذِي أنْكَرتهُ الْكَفَرةُ. فقال: {بِيَدِكَ الخير} تؤتِيْه أوْلِياءَكَ عَلى رَغْم مِنْ أعْدائِكَ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 131 وقيل: خَصَّ الخيرَ؛ لأنَّه فِي مَوْضِعِ دُعَاءٍ، وَرَغْبَةٍ فِي فَضْلِهِ. وقيل: هَذَا مِنْ آدابِ الْقُرآنِ؛ حَيْثُ لَمْ يُصَرِّح إلاَّ بِمَا هُوَ مَحْبُوبٌ لِخَلْقِه، وَمِثْلُه: «والشر ليس إليك» ، وَقَوْلُهُ تَعَالى: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] . فصل الألف وَاللامُ فِي «الْخَيْرِ» يُوجِبَانِ العُمُوم، وَالْمَعْنَى: [أنَّ الْخَيْرَاتِ تَحْصُلُ] بقدرتك، فَقولُهُ: «بِيَدِكَ» لاَ بِيَدِ غَيْركَ، كَقَوْلِهِ: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} [الكافرون: 6] ، أي: لَكُم دِيْنُكُمْ لا لغيركم، وذَلِكَ الحَصْرُ منَافٍ لِحُصُولِ الْخَيْرِ بِيَدِ غَيْرِه فثبت دلالةُ الآيةِ عَلَى أنَّ الْجَمِيع مِنهُ بِخَلْقِه وتكوينه، وَإيْجَادِهِ وَفَضْلِهِ، وَأفضلُ الخيرات هو الإيمان بالله، فوجب أن يكون الخير من تخليق الله لا مِنْ تَخْلِيق الْعَبْدِ، وَهَذا استدلالٌ ظَاهرٌ. وزاد بَعْضُهُم فَقَالَ: كُلُّ فَاعِلَيْنِ فِعْلُ أحدِهمَا أفْضَلُ مِنْ فِعْلِ الآخَرِ، كَانَ ذَلِكَ الفَاعِلُ أشْرَفَ وَأكْملَ من الآخرِ، وَلاَ شَكَّ أنَّ الإيمانَ أفْضَلُ مِنْ الْخَيْرِ، ومِنْ كُلِّ مَا سِوى الإيْمانِ، فَلَوْ كَانَ الإيمانُ بِخَلْقِ العبد - لا بِخَلْقِ اللهِ تعالى - لوجَبَ كَوْنُ العبْدِ زَائِداً في الخَيْرِية على اللهِ - تَعَالى - وَذَلِكَ كفر قبيح، فدلت الآية - من هذين الوجهين - على أنَّ الإيْمَانَ بِخَلْقِ اللهِ تَعَالَى. فإن قيل: هَذِه الآيةُ حُجَّةٌ عَلَيْكُمْ مِنْ وَجهٍ آخر؛ لأنه لما قال: {بِيَدِكَ الخير} كان معناه: ليس بيدك إلا الخير، وهذا يقتضي أن لا يكونَ الكفرُ والمعصيةُ بيده. فالجوابُ: أن قوله: {بِيَدِكَ الخير} يُفيد أن بيدك الخير - لا بيد غيرك - فهذا ينافي أن يكون الخير بيد غيره، لكن لا ينافي أن يكون بيده الخير، وبيده ما سوى الخيرِ، إلا أنه خَصّ الخير بالذكر؛ لأنه الأمر المنتفَع به، فوقع التنصيص عليه لهذا المعنى. قال القاضي: «كل خير حصل من جهة العباد فلولا أنه - تعالى - أقدرهم عليه، وهداهم إليه، لما تمكنوا منه، فلهذا السبب كان مضافاً إلى الله تعالى» . قال ابن الخطيبِ: «وهذا ضعيفٌ؛ لأن بعضَ الخير يصير مضافاً إلى الله - تعالى - ويصير أشرف الخيرات مضافاً إلى العبد، وهذا خلافُ النص» . وقوله: {إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} كالتأكيد لما تقدم من كونه مالكاً لإيتاء الملك ونَزْعه، والإعزار، والإذلال. قوله: {تُولِجُ الليل فِي النهار} يقال: وَلَجَ، يَلِجُ، وُلُوجاً، وَلِجَةً - كعِدَة - ووَلْجاً - ك «وَعْدًا» ، واتَّلَجَ، يتَّلِجُ، اتِّلاجاً، والأصل: اوْتَلج، يَوْتَلِجُ، اوتِلاَجاً، فقُلبت الواوُ تاءً قبل تاء الافتعال، نحو: اتَّعَدَ يتَّعِد اتِّعاداً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 132 قال الشاعر: [الطويل] 1390 - فَإنَّ القَوَافِي يَتَّلِجْنَ مَوَالِجاً ... تَضَايَقَ عَنْهَا أنْ تَوَلَّجَهَا الإبَرْ الولوج: الدخول، والإيلاج: الإدخالُ - ومعنى الآية على ذلك. وقول من قال: معناه النقص فإنما أراد اللازم؛ لأنه - تبارك وتعالى - إذا أدخل من هذا في هذا فقد نقص المأخوذ منه المُدْخَل في ذلك الآخر. وزعم بعضهم أن تولج بمعنى ترفع، وأن «في» بمعنى «على» وليس بشيءٍ. وقيل: المعنى: أنه - تعالى - يأتي بالليل عقيب النهار -، فيُلْبس الدنيا ظُلْمَتَه - بعد أن كان فيها ضوءُ النهارِ - ثم يأتي بالنهار عقيب الليل، فيُلْبس الدنيا ضَوْءَه، فكأن المراد من إيلاج أحدهما في الآخر إيجاد كل واحد منهما عقيب الآخر. قال ابن الخطيب: «والقول بأن معناه النقص أقرب إلى اللفظ؛ لأنه إذا كان النهار طويلاً، فجعل ما نقص منه زيادةٍ في الليل، كان ما نقص منه زيادة في الآخر» . قوله: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} اختلف القراء في لفظة «الْمَيِّتِ» فقرأ ابنُ كثير وأبو عَمْرو وابن عامر وأبو بكر عن عاصم لفظ «الْمَيْتِ» من غير تاء تأنيث - مُخَفَّفاً، في جميع القرآن، سواء وصف به الحيوان نحو: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} [آل عمران: 27] أو الجماد نحو: {فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ} [فاطر: 9]- مُنَكَّراً أو معرفاً كما تقدم ذكره - إلا قوله تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] ، وقوله: {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17]- في إبراهيم - مما لم يمت بعد، فإن الكل ثقلوه، وكذلك لفظ «الميتة» في قوله: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة} [يس: 33] دون الميتة المذكورة مع الدم - فإن تلك لم يشدِّدْها إلا بعضُ قُرَّاء الشواذ - وكذلك قوله: {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} [الأنعام: 139] ، وقوله: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} [الزخرف: 11] ، وقوله: {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة} [الأنعام: 145] فإنها مخَفَّفاتٌ عند الجميع، وثَقّل نافعٌ جميعَ ذلك، والأخوان وحفص - عن نافع - وافقوا ابن كثير ومن معه في الأنعام في قوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاه} [الأنعام: 122] ، وفي الحجرات: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتا} [الحجرات: 12] ، وفي يس: {الأرض الميتة} [يس: 33] ، ووافقوا نافعاً فيما عدا ذلك، فجمعوا بين اللغتين؛ إيذاناً بأن كلاًّ من القراءتين صحيح، وهما بمعنًى؛ لأن «فَيْعِل» يجوز تخفيفه في المعتل بحَذْف إحْدى ياءَيْه، فيقال: هَيْن وهيِّن، لَيْن وليِّن، ميْت وميِّت، وقد جمع الجزء: 5 ¦ الصفحة: 133 الشاعر بين اللغتين في قوله: [الخفيف] 1391 - لَيْسَ مَنْ مَاتَ فَاسْتَرَاحَ بِمَيْتٍ ... إنَّمَا الْمَيْتُ مَيِّتُ الأحْيَاءِ إنَّمَا الْمَيْتُ مَنْ يَعِيشُ كَئِيباً ... كَاسِفاً بِالُهُ قَليلَ الرَّجَاءِ وزعم بعضهم أن «ميتاً» بالتخفيف - لمن وقع به الموت، وأن المشدّد يُستعمَل فيمن مات ومن لم يَمُتْ، كقولهً - تعالى -: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] . وقسم لا خلاف في تخفيفه - وهو ما تقدم في قوله: {الميتة والدم} {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} [الأنعام: 139] {إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَة} ، وقوله: {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً} [الزخرف: 11] . وقسم فيه الخلاف - وهو ما عدا ذلك - وتقدم تفصيله وقد تقدم أيضاً أن أصل «ميِّت» مَيْوِت، فأدغم، وفي وزنه خلاف، هل وزنه «فَيْعِل» - وهو مذهب البصريين - أو «فَعْيِل» - وهو مذهب الكوفيين - وأصله مَوْيِتٌ، قالوا: لأن فَيْعِلاً مفقود في الصحيح؛ فالمعتل أولى أن لا يوجد فيه، وأجاب البصريون عن قولهم: لا نظير له في الصحيح بأن قُضَاة - في جميع قاضٍ - لا نظير له في الصحيح، ويدل على عَدم التلازم «قُضاة» جمع قاضٍ وفي «قضاة» خلاف طويل ليس هذا موضعه. واعترض عليهم البصريون بأنه لو كان وزنه «فَعْيِلاً» لوجب أن يصح، كما صحت نظائره من ذوات الواو نحو: طويل، وعويل، وقويم، فحيث اعتل بالقلب والإدغام امتنع أن يُدَّعى أن أصله «فَعْيِل» لمخالفة نظائره، وهو ردٌّ حسنٌ. فصل قال ابن مسعود وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة: يُخْرِجُ الحيوانَ من النطفة - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 134 وهي ميتة - والطير من البيضة، وبالعكس. وقال الحسنُ وعطاء: يُخْرِج المؤمن من الكافر - كإبراهيم من آزر - والكافر من المؤمن - مثل كنعان من نوح. وقال الزَّجَّاج: يُخْرِج النبات الغضَّ الطريَّ من الحب اليابس، ويخرج الحب اليابس من النبات، قال القفّال: «والكلمة محتملة للكل. أما الحيوان والنطفة فقال تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] . والكافر والمؤمن فقال تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] ، أي: كافراً فهديناه» . قال القرطبيُّ: روى معمر عن الزهريِّ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دخل على نسائه، فإذا بامرأة حسنة النعمة، قال: مَنْ هذه؟ قلن: إحدى خالاتك، قال: ومَنْ هِي؟ قلن: خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سبحان الذي يخرج الحي من الميت» . وكانت امرأة صالحة، وكان أبوها كافراً. وأما النبات والحب فقال تعالى: {فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [فاطر: 9] . قوله: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يجوز أن تكون الباء للحال من الفاعل، أي: ترزقه وأنت لم تحاسبه، أي: لم تُضَيِّقْ عليه، أو من المفعول، أي: غير مُضَيِّقٍ عليه وقد تقدم الكلام على مثل هذا مشبعاً في قوله تعالى في البقرة: {والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . واشتملت هذه الآيةُ على أنواع من البديع: منها: التجنيس المماثل في قوله تعالى: {مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 135 ومنها: الطباق، وهو الجمع بين متضادين أو شبههما - في قوله: «تُؤتي» وتَنْزعُ «وتعزُّ وتُذِلُّ وفي قوله: {بِيَدِكَ الخير} أي: والشَّرُّ - عند بعضهم -، وفي قوله:» اللَّيْل «و» النَّهَار «و» الحيّ «و» الميّت «. ومنها رَدُّ الأعجازِ على الصدورِ، والصدورِ على الأعجاز في قوله: {تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل} ، وفي قوله: {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} ونحوه عادات الشاذات شاذات العاداتِ. وتضمنت من المعاني التوكيد بإيقاع الظاهر موقع المُضْمَر في قوله: {تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ} وفي تجوُّزه بإيقاع الحرف مكان ما هو بمعناه، والحذف لفهم المعنى. فصل قال أبو العبَّاس المقرئ: ورد لفظ الحساب في القرآن على ثلاثة أوجهٍ: الأول: بمعنى التعبِ، قال تعالى: {وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} . الثاني: بمعنى العدد، كقوله: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] أي: بغير عَددٍ. الثالث: بمعنى المطالبة، قال تعالى: {فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] [أي: بغير مطالبة. فصل عن علي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّ فاتحةَ الكتابِ، وآية الكرسي، وآيتين من آل عمرانَ - وهما {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 18 - 19] ، {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} مُعلَّقاتٌ، ما بينهُنَّ وبَيْنَ اللهِ حجابٌ، قُلْنَ: يا ربِّ، تُهْبِطُنا إلى أرْضك، وإلى مَنْ يَعْصِيك؟ قال الله - عَزَّ وَجَلَّ -: إنِّي حَلَفْتُ لا يقرؤكُنَّ أحدٌ من عبادي دُبُرَ كُلِّ صَلاَةٍ إلا جَعَلْتُ الجنةَ مثواهُ - على ما كان منه - ولأسْكَنْتُه حَظيرةَ القدس، ولنظرتُ إليه بعين مكنونة كلَّ يَوْم سَبْعِينَ مرةً، ولقضيتُ له كلَّ يومٍ سبعين حاجةً أدناها المغفرة - ولأعذته من كلِّ عدوٍّ وحاسدٍ، ونصرتُه منهم «. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 136 العامة على قراءة «لا يَتَّخِذْ» نَهْياً، وقرأ الضَّبِّيُّ «لا يَتَّخِذُ» برفع الذال - نفياً - بمعنى لا ينبغي، أو هو خبر بمعنى النهي نحو {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} [البقرة: 233] و {وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ} [البقرة: 282]- فيمن رفع الراء. قال أبو البقاء وغيره: «وأجاز الكسائيُّ فيه [رفع الراء] على الخبر، والمعنى: لا ينبغي» . وهذا موافق لما قاله الفرَّاء، فإنه قال: «ولو رَفَع على الخبر - كقراءة مَنْ قرأ: {لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ} جاز» . قال أبو إسحاق: ويكون المعنى - على الرفع - أنه مَنْ كان مؤمناً، فلا ينبغي أن يتخذ الكافرَ ولياً؛ [لأن ولي الكافر راضٍ بكُفْره، فهو كافر] . كأنهما لم يَطَّلِعَا على قراءة الضبي، أو لم تثبت عندهما. و «يتخذ» يجوز أن يكون متعدياً لواحد، فيكون «أوْلِيَاءَ» حالاً، وأن يكون متعدياً لاثنين، وأولياء هو الثاني. قوله: {مِن دُونِ المؤمنين} فيه وجهان: أظهرهما: أن «مِن» لابتداء الغايةِ، وهي متعلقة بفعل الاتخاذ. قال علي بن عيسى: «أي: لا تجعلوا ابتداءَ الولايةِ من مكانٍ دون مكان المؤمنين» . وقد تقدم تحقيقُ هذا، عند قوله تعالى: {وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ الله} في البقرة [الآية 23] . والثاني - أجاز أبو البقاء - أن يكون في موضع نصب، صفة لِ «أوْلِيَاءَ» فعلى هذا يتعلق بمحذوف. قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أدغم الكسائيُّ اللام في الذال هنا، وفي مواضع أخَر تقدم التنبيه عليها في البقرة. قوله: {مِنَ الله} الظاهر أنه في محل نصب على الحال من «شَيءٍ» ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 137 «فِي شَيءٍ» هو خبر «لَيْسَ» ؛ لأن به تستقل فائدةُ الإسنادِ، والتقدير: فليس في شيء كائن من الله، ولا بد من حذف مضافٍ، أي: فليس من ولاية الله. وقيل: من دين الله، ونظَّر بعضُهم الآيةَ الكريمةَ ببيت النابغةِ: [الوافر] 1392 - إذَا حَاوَلْتَ مِنْ أسَدٍ فُجُوراً ... فَإنِّي لَسْتُ مِنْكَ وَلَسْتَ مِني قال ابو حيّان: «والتنظير ليس بجيِّدٍ؛ لأن» منك «و» مني «خبر» لَيْسَ «وتستقل به الفائدةُ، وفي الآية الخبر قوله:» فِي شَيءٍ «فليس البيتُ كالآيةِ» . وقد نحا ابن عطية هذا المنحى المذكورَ عن بعضهم، فقال: فليس من الله في شيء مَرْضِيِّ على الكمالِ والصوابِ، وهذا كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ، تقديره: فليس من التقرب إلى الله والثواب، وقوله: «فِي شَيءٍ» هو في موضع نصبٍ على الحالِ من الضمير الذي في قوله: {فَلَيْسَ مِنَ الله} . قال أبو حيّان: «وهو كلام مضطرب؛ لأن تقديره:» فليس من التقرُّب إلى الله «يقتضي أن لا يكون» مِنَ اللهِ «خبراً لِ» لَيْسَ «؛ إذْ لا يستقل، وقوله:» فِي شَيءٍ «هو في موضع نصبٍ على الحال يقتضي أن لا يكون خبراً، فيبقى» ليس «- على قوله - ليس لها خبر، وذلك لا يجوز، وتشبيهه الآية الكريمة بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» من غشنا فليس منا «ليس بجيِّد؛ لما بينَّا من الفرق بين بيت النابغة، وبين الآية الكريمةِ» . قال شهاب الدين: «وقد يجاب عن قوله: إن» مِنَ اللهِ «لا يكون خبراً؛ لعدم الاستقلال بأن في الكلام حذفَ مضافٍ، تقديره: فليس من أولياء اللهِ» لا يكون خبراً؛ لعدم الاستقلال بأن في الكلام حذفَ مضافٍ، تقديره: فليس من أولياء اللهِ؛ لأن اتخاذَ الكفار أولياء ينافي ولاية الله - تعالى -، وكذا قول ابن عطية: فليس من التقرُّب، أي: من أهل التقرب، وحينئذٍ يكون التنظير بين الآية، والحديث، وبيت النابغة مستقيماً بالنسبة إلى ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 138 ذكر، ونظير تقديرِ المضافِ هنا - قوله: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] ، أي: من أشياعي وأتباعي، وكذا قوله: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} [البقرة: 249] أي: من أشياعي وقول العرب: أنت مني فرسخين، أي: من أشياعي ما سرنا فرسخين، ويجوز أن يكون «مِنَ اللهِ» هو خبر «ليس» و «فِي شيءٍ» يكون حالاً منالضمير في «لَيْسَ» - كما ذهب إليه ابن عطية تصريحاً، وغيره إيماءً، وتقدم الاعتراض عليهما والجواب «. قوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ} هذا استثناء مُفَرَّغ من المفعول من أجله، والعامل فيه» لا يَتَّخِذْ «أي: لا يتخذ المؤمنُ الكافرَ وليًّا لشيء من الأشياء إلا للتقيةِ ظاهراً، أي: يكون مواليه في الظاهر، ومعاديه في الباطن، وعلى هذا فقوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} وجوابه معترضٌ بين العلةِ ومعلولِها وفي قوله: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ} التفات من غيبةٍ إلى خطابٍ، ولو جرى على سنن الكلامِ الأول لجاء الكلام غيبة، وذكروا للالتفات - هنا - معنى حسناً، وذلك أن موالاةَ الكفارِ لما كانت مستقبحةً لم يواجه الله - تعالى - عباده بخطاب النهي، بل جاء به في كلام أسْندَ الفعل المنهي عنه لغيب، ولما كانت المجاملة - في الظاهر - والمحاسنة جائزة لعذرٍ - وهو اتقاء شرهم - حَسُنَ الإقبال إليهم، وخطابهم برفع الحرج عنهم في ذلك. قوله: {تُقَاةً} في نصبها ثلاثة أوجهٍ، وذلك مَبْنِيٌّ على تفسير» تُقَاةً «ما هي؟ أحدها: أنها منصوبةٌ على المصدرِ، والتقدير: تتقوا منهم اتِّقَاءً، ف» تُقَاة «واقعة موقع الاتقاء، والعرب تأتي بالمصادر نائبة عن بعضها، والأصل: أن تتقوا اتقاءً - نحو تقتدر اقتداراً - ولكنهم أتوا بالمصدر على حذف الزوائدِ، كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] والأصل إنباتاً. ومثله قول الشاعر: [الوافر] 1393 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَبَعْدَ عَطَائِكَ الْمَائَةَ الرِّتَاعَا أي: اعطائك، ومن ذلك - أيضاً - قوله: [الوافر] 1394 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وَلَيْس بِأنْ تَتَبَّعَُ اتِّبَاعَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 139 وقول الآخر: [الوافر] 1395 - وَلاَحَ بِجَانِبِ الْجَبَلَيْنِ مِنْهُ ... رُكَامٌ يَحْفِرُ الأرْضَ احْتِفَارَا وهذا عكس الآية؛ إذ جاء المصدرُ مُزَاداً فيه، والفعل الناصب له مُجَرَّد من تلك الزوائدِ، ومن مجيء المصدر على غير المصدر قوله تعالى: {وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً} [المزمل: 8] . وقول الآخر: [الرجز أو السريع] 1396 - وَقَدْ تَطَوَّيْتُ انْطِوَاءَ الْحِضْبِ ... والأصل: تَطَوِّيَّا، والأصل في «تُقَاةً» وقية مصدر على فُعَل من الوقاية. وقد تقدم تفسير هذه المادة، ثم أبدلت الواوُ تاءً مثل تخمة وتكأة وتجاه، فتحركت الواو وانفتح ما قبلها، فقُلِبَتْ ألفاً، فصار اللفظ «تقاة» كما ترى بوزن «فعلة» ومجيء المصدر على «فُعَل» و «فُعَلَة» قليل، نحو: التخمة، والتؤدة، والتهمة والتكأة، وانضم إلى ذلك كونها جاءت على غير المصدر، والكثير مجيء المصادرِ جارية على أفعالها. قيل: وحسَّن مجيءَ هذا المصدر ثلاثياً كونُ فعله قد حُذِفت زوائده في كثيرٍ من كلامهم، نحو: تقى يتقى. ومنه قوله: [الطويل] 1397 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... تَقِ اللهَ فِينَا وَالْكِتَابَ الَّذِي تَتْلُو وقد تقدم تحقيق ذلك أول البقرة. الثاني: أنها منصوبة على المفعول به، وذلك على أن «تَتَّقُوا» بمعنى تخافوا، وتكون «تُقَاةً» مصدراً واقعاً موقعَ المفعول به، وهو ظاهر قول الزمخشريِّ، فإنه قال: «إلا أن تَخَافُوا من جهتهم أمراً يجب اتقاؤه» . وقُرِئَ «تَقِيَّةً» وقيل - للمتقى -: تُقَاة، وتقية، كقولهم: ضَرْب الأمير - لمضروبه فصار تقديرُ الكلامِ: إلا أن تخافوا منهم أمْراً مُتَّقًى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 140 الثالث: أنها منصوبةٌ على الحال، وصاحب الحال فاعل «تَتَّقُوا» وعلى هذا تكون حالاً مؤكدةً لأن معناه مفهوم من عاملها، كقوله: {وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 33] ، وقوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} [البقرة: 60] وهو - على هذا - جمع فاعل، - وإن لم يُلْفَظْ ب «فاعل» من هذه المادة - فيكون فاعلاً وفُعَلَة، نحو: رَامٍ ورُمَاة، وغَازٍ وغُزَاة، لأن «فُعَلَة» يطَّرد جمعاً لِ «فاعل» الوصف، المعتل اللام. وقيل: بل لعله جمع ل «فَعِيل» أجاز ذلك كلَّه أبو علي الفارسي. قال شهاب الدينِ: «جمع فعيل على» فُعَلَة «لا يجوز، فإن» فَعِيلاً «الوصف المعتل اللام يجمع على» أفعلاء «نحو: غَنِيّ وأغنياء، وتَقِيّ وأتقياء، وصَفِيّ وأصفياء. فإن قيل: قد جاء» فعيل «الوصف مجموعاً على» فَُلَة «قالوا: كَمِيّ وكُمَاة. فالجواب: أنه من النادر، بحيثُ لا يُقاس عليه «. وقرأ ابنُ عباس ومجاهدٌ، وأبو رجاء وقتادةُ وأبو حَيْوةَ ويعقوبُ وسهلٌ وعاصمٌ - في رواية المعتل عينه - تتقوا منهم تقيَّة - بوزن مَطِيَّة - وهي مصدر - أيضاً - بمعنى تقاة، يقال: اتَّقَى يتقي اتقاءً وتَقْوًى وتُقَاةً وتَقِيَّة وتُقًى، فيجيء مصدر» افْتَعَل «من هذه المادة على الافتعال، وعلى ما ذكر معه من هذه الأوزانِ، ويقال - أيضاً -: تقيت أتقي - ثلاثياً - تَقِيَّةً وتقوًى وتُقَاةً وتُقًى، والياء في جميع هذه الألفاظ بدل من الواو لما عرفته من الاشتقاق. وأمال الأخوانِ» تُقَاةً «هنا؛ لأن ألفَها منقلبةٌ عن ياءٍ، ولم يؤثِّرْ حرفُ الاستعلاء في منع الإمالة؛ لأن السبب غيرُ ظاهر، ألا ترى أن سبب الياء الإمالة المقدرة - بخلاف غالب، وطالب، وقادم فإن حرف الاستعلاء - هنا - مؤثِّر؛ لكن سبب الإمالة ظاهر، وهو الكسرة، وعلى هذا يقال: كيف يؤثر مع السبب الظاهر، ولم يؤثر مع المقدَّر وكان العكس أولى. والجوابُ: أن الكسرة سببٌ منفصلٌ عن الحرف المُمَال - ليس موجوداً فيه - بخلاف الألف المنقلبة عن ياء، فإنها - نفسها - مقتضية للإمالة، فلذلك لم يقاوِمها حرفُ الاستعلاء. وأمال الكسائي - وحده - {حَقَّ تُقَاتِهِ} [آل عمران: 102] فخرج حمزة عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 141 أصله، وكأن الفرق أن» تُقَاةً «- هذه - رُسِمَتْ بالياء، فلذلك وافق حمزةُ الكسائيَّ عليه، ولذلك قال بعضهم:» تَقِيَّة «- بوزن مطيّة - كما تقدم؛ لظاهر الرسم، بخلاف» تُقَاتِهِ «. قال شهاب الدين: [وإنما أمعنت في سبب الإمالة هنا؛ لأن بعضهم زعم أن إمالة هذا شاذٌّ؛ لأجل حرف الاستعلاء، وأن سيبويه حكى عن قوم أنَّهم يُميلُون شَيْئاً لا تجوز إمالَُه، نحو: رَأيْتُ عِرْقَى بالإمالة، وليس هذا من ذلك؛ لما تقدم لك من أن سبب الإمالة في كسْرِهِ ظاهرٌ. وقوله:» مِنْهُمْ «متعلق ب» تَتَّقُوا «أو بمحذوف على أنه حال من» تُقَاةً «؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون صفةً لها، فلما قُدِّم نُصِبَ حالاً، هذا إذا لم نجعل» تُقَاةً «حالاً، فأما إذا جعلناها حالاً تعيَّن أن يَتَعلَّق» مِنْهُمْ «بالفعل قبله، ولا يجوز أن يكون حالاً من» تُقَاةً «لفساد المعنى؛ لأن المخاطبين ليسوا من الكافرين. فصل في كيفية النظم في كيفية النظمِ وجهان: أحدهما: أنه - تعالى - لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه في تعظيم اللهِ - تعالى - ذكر بعده ما يجب أن يكون المؤمن عليه في المعاملة مع الناس، فقال: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين} . والثاني: أنه لما بَيَّن أنه - تعالى - مالك الدنيا والآخرة، بيَّن أنه ينبغي أن تكون الرغبة فيما عنده وعند أوليائه - دون أعدائه -. فصل في سبب النزول وجوه: أحدها: قال ابن عبّاسٍ: كان الحجاج بن عمرو وابنُ أبي الحُقَيْقِ وقيسُ بنُ زيد [قد بطنوا] بنفر من الأنصار؛ ليفتنوهم عن دينهم، فقال رفاعة بن عبد المنذر وعبد الله بن جبير وسعد بن خيثمة لأولئك النفر من المسلمين: اجتنبوا هؤلاءِ اليهودَ، واحذروا أن يفتنوكم عن دينكم، فأبى أولئك النفر إلاّ مباطَنَتَهُمْ، فنزلت هذه الآية. وثانيها: قال مقاتلٌ: نزلت في حاطب بن أبي بلتعةَ، وغيره؛ حيث كانوا يُظْهرون المودةَ لكفار مكة فنهاهم عنها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 142 ثالثها: قال الكلبيُّ - عن أبي صالح عن ابن عبّاس -: نزلت في المنافقين - عبد الله بن أبيِّ وأصحابه - ك انوا يتولَّون اليهودَ والمشركين، ويأتونهم بالأخبار، يرجون لهم الظفر والنصر على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت الآية. ورابعها: أنها نزلت في عُبَادةَ بن الصامتِ - وكان له حلفاء من اليهود - في يوم الأحزاب قال: يا رسول الله، معي خمسمائة من اليهود، وقد رأيت أن يخرجوا معي، فنزلت هذه الآية في تحريم موالاة الكافرين. وقد نزلت آيات أخَرُ في هذا المعنى، منها قوله تعالى: {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] ، وقوله: {لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ} [المجادلة: 22] وقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ} [المائدة: 51] وقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ} [الممتحنة: 1] ، وقوله: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] . فصل موالاة الكافر تنقسم ثلاثة أقسامٍ. الأول: أن يَرْضَى بكفره، ويُصَوِّبَه، ويواليَه لأجْلِه، فهذا كافر؛ لأنه راضٍ بالكفر ومُصَوِّبٌ له. الثاني: المعاشرةُ الجميلةُ بحَسَب الظاهر، وذلك غير ممنوع منه. الثالث: الموالاة، بمعنى الركون إليهم، والمعونة، والنُّصْرة، إما بسبب القرابة، وإما بسبب المحبة مع اعتقاد أن دينَه باطل - فهذا منهيٌّ عنه، ولا يوجب الكفر؛ لأنه - بهذا المعنى - قد يجره إلى استحسان طريقِه، والرِّضَى بدينه، وذلك يخرجه عن الإسلام، ولذلك هدد الله بهذه الآية - فقال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} . فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الآية النهي عن اتخاذ الكافرين أولياء - بمعنى أن يتولوهم دون المؤمنين - فأما إذا تولَّوْهم، وتولَّوُا المؤمنين معهم، فليس ذلك بمنهيٍّ عنه، وأيضاً فقوله: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ} فيه زيادة مَزِيَّةٍ؛ لأن الرجلَ قد يوالي غيره، ولا يتخذه موالياً له، فالنهيُّ عن اتخاذه موالياً لا يوجب النهي عن أصل موالاته؟ فالجوابُ: أن هذين الاحتمالين - وإن قاما في الآية - إلا أن سائر الآيات الدالةِ على أنه لا يجوز موالاتُهم دلت على سقوطِ هذينِ الاحتمالينِ. فصل معنى قوله: {مِن دُونِ المؤمنين} أي: من غير المؤمنين، كقوله: {وادعوا شُهَدَآءَكُم مِّن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 143 دُونِ الله} [البقرة: 23] ، أي: من غير الله؛ لأن لفظة «دون» تختص بالمكان، تقول: زيد جلس دون عمرو، أي: في مكان أسفلَ منه، ثم إن مَن كان مُبَايِناً لغيره في المكان، فهو مغاير له، فجعل لفظ «دون» مستعملاً في معنى «غير» ، ثم قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ} يقع عليه اسم الولاية أي: فليس من ولاية الله في شيءٍ، يعني أنه مُنْسَلِخ من ولاية الله - تعالى - رأساً، وهذا أمر معقول؛ فإن موالاةَ الوليّ وموالاةَ عدوِّه ضدان. قال الشاعر: [الطويل] 1398 - تَوَدُّ عَدُوِّي ثُمَّ تَزْعُمُ أنَّنِي ... صَدِيقُكَ، لَيْسَ النَّوْكُ عَنْكَ بِعَازِبِ وكتب الشَّعبيُّ إلى صديق له كتاباً، من جملته: وَمَنْ وَالَى عَدُوَّكَ فَقَدْ عَادَاكَ، وَمَنْ عَادَى عَدُوَّكَ فَقَدْ وَالاَكَ. وقد تقدم القول بأن المعنى فليس من دون اله في شيء. ثم قال: {إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً} أي: إلا أن تخافوا منهم مخافة، قال الحسنُ: أخذ مُسَيْلمةَ الكذابُ رجلين من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال لأحدهما: تشهد أن محمَّداً رسولُ الله؟ قال: نعم، قال: أفتشهد أني رسول الله؟ قال: نعم - وكان مسيلمة يزعم أنه رسول بني حَنِيفَةَ، ومحمد رسول قُرَيْش - فتركه، ودعا الآخر قال: أتشهد أن محمداً رسول الله؟ قال: نعم نعم نعم، فقال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: إني أصم، ثلاثاً - فقدمه، فقتله، فبلغ ذلك رسولَ الله، فقال: أما هذا المقتولُ فمضى على يقينه وصدقه، فهنيئاً له، وأما الآخر فقبل رخصة الله فلا تبعة عليه. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106] . فصل التَّقِيَّة لها أحكامٌ: منها: أنها تجوز إذا كان الرجلُ في قومٍ كفارٍ، ويخاف منهم على نفسه، وماله، فيداريهم باللسان، بأن لا يُظْهِرَ العداوةَ باللسان، بل يجوز له أن يُظْهِر الكلامَ الموهمَ للمحبة والموالاة، بشرط أن يضمر خلافَه، وأن يُعَرِّضَ في كُلِّ ما يقول؛ فإن التقية تأثيرُها في الظاهر، لا في أحوال القلوبِ، ولو أفصح بالإيمان - حيث يجوز له التقية - كان أفضل؛ لقصةِ مسيلمةَ. ومنها: أنها إنما تجوز فيما يتعلق بدفع الضرر عن نفسه، أما ما يرجع ضرره إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 144 الغير كالقتلِ، والزنا، وغصب الأموالِ، والشهادة بالزور، وقذف المحصنات، وإطلاع الكفارِ على عورات المسلمين، فلا تجوز البتة. ومنها: أنها تحل مع الكفار الغالبين، وقال بعض العلماء: إنها تحل مع المسلمين - إذا شاكلت حالُهم حال المشركين؛ محاماةً على النفس، وهل هي جائزة لصَوْن المال؟ يُحْتَمل أن يُحْكَم فيها بالجواز؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «حُرْمَةُ مَالِ الْمُسْلِم كَحُرْمَةِ دَمهِ» ، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قُتِلَ دُونَ مَالِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ» ، ولأن الحاجة إلى المال شديدة، والماء إذا بِيعَ بالغبن سقط فرضُ الوضوء، وجاز الاقتصار على التيمم؛ دفعاً لذلك القدر من نقصان المال، فهاهنا أوْلَى. فصل قال معاذُ بن جبل ومجاهدٌ: كانت التَّقِيَّةُ في أول الإسلام - قبل استحكام الدين، وقوة المسلمين - أما اليوم فلا؛ لأن الله أعَزَّ الإسلامَ، فلا ينبغي لأهل الإسلام أن يتقوا من عدوهم، وروي عن الحسنِ أنه قال: التقية جائزة للمؤمنين إلى يوم القيامةِ. قال ابن الخطيبِ: «وهذا القول أوْلَى؛ لأن دَفْعَ الضررِ عن النفس واجبٌ بقدر الإمكان» . وقال يحيى البِكَالِيّ: قلت لسعيد بن جُبَيرٍ - في أيام الحجاجِ -: إن الحسنَ كان يقول: لكم التقية باللسان، والقلب مطمئن، فقال سعيد بن جبيرٍ: ليس في الإسلام تَقِيَّة، إنما التَّقِيَّة لأهل الحرب. قوله: {وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ} ، «نَفْسَهُ» مفعول ثان ل «يُحَذِّرُ» ؛ لأنه في الأصل مُتَعَدِّ لواحد، فازداد بالتضعيف آخر، وقدَّر بعضهم حذفَ مضاف - أي: عقاب نفسه - وصرح بعضهم بعدم الاحتياجِ إليه، كذا نقله أبو البقاء عنهم. قال الزّجّاج: «أي: ويحذركم الله إياه، ثم استغنَوْا عن ذلك بذا، وصار المستعملَ، قال تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] فمعناه: تعلم ما عندي، وما في حقيقتي، ولا أعلم ما عندك ولا ما في حقيقتك» . قال شهابُ الدينِ: «وليس بشيءٍ؛ إذْ لا بد من تقدير هذا المضافِ، ألا ترى إلى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 145 غير ما نحن فيه - في نحو قولك: حذرتك نفسَ زيد - أنه لا بد من شيءٍ تحذر منه - كالعقاب والسطوة؛ لأن الذواتِ لا يُتَصَوَّرُ الحذرُ منها نفسها، إنما يتصور من أفعالِها وما يَصْدُرُ عنها» . قال أبو مسلم: «والمعنى {وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ} أن تعصوه، فتستحقوا عقابه» . وَعَبَّر - هنا - بالنفس عن الذات؛ جَرْياً على عادةِ العرب، كما قال الأعشى: [الكامل] 1399 - يَوْماً بِأجْوَدَ نَائِلاً مِنْهُ إذَا ... نَفْسُ الْجَبَانِ تَجَهَّمْتَ سُؤَّالَهَا قال بعضهم: «الهاء في» نَفْسَهُ «تعود على المصدر المفهوم من قوله:» لاَ يَتَّخِذ «، أي: ويحذركم الله نفس الاتخاذ، والنفس: عبارة عن وجود الشيء وذاته» . قال أبو العباس المُقْرِئُ: ورد لفظ «النفس» في القرآن على أربعة أضربٍ: الأول: بمعنى العلم بالشيء، والشهادة، كقوله: {وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ} ، يعني علمه فيكم، وشهادته عليكم. الثاني: بمعنى البدن، قال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} [آل عمران: 185] . الثالث: بمعنى الهَوَى، كقوله: {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} [يوسف: 53] يعني الهَوَى. الرابع: بمعنى الروحِ، قال تعالى: {أخرجوا أَنْفُسَكُمُ} [الأنعام: 93] ، أي: أرواحكم. فصل المعنى: يخوفكم الله عقوبته على موالاةِ الكُفَّار، وارتكاب المناهي ومخالفة المأمور. والفائدة في ذكر النفس: أنه لو قال: ويحذركم الله، فهذا لا يُفِيد أن الذي أرِيدَ التحذيرُ منه هو عقاب يصدر من الله - تعالى - أو من غيره، فلما ذَكَر النفسَ زالت هذه الأشياءُ، ومعلوم أن العقابَ الصادرَ عنه، يكون أعظمَ أنواع العقابِ؛ لكونه قادراً على ما لا نهايةَ له، وأنه لا قُدْرَةَ لأحد على دَفْعِهِ وَمَنْعِه مما أراد، ثم قال: {وإلى الله المصير} ، أي: يحذركم اللهُ عقابه عند مصيركم إليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 لما نهى المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء - واستثنى عنه التَّقِيَّة في الظاهر - أتبعه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 146 بالوعيد على أن يصير الباطنُ موافقاً للظاهر - في وقت التقية -؛ لئلا يجرَّه ذلك الظاهرُ إلى الموالاةِ في الباطن، فبيَّن - تعالى - أن علمه بالظاهر كعِلْمِه بالباطن. فإن قيل: قوله: {إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ} شرط، وقوله: {يَعْلَمْهُ الله} جزاء، ولا شك أن الجزاء مترتِّب على الشرط، متأخِّرٌ عنه، فهذا يقتضي حدوثَ علمِ اللهِ تعالى. فالجوابُ: أن تعلق علم الله بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن، وهذا التجدُّد إنما يعرض في النِّسَب، والإضافات، والتعلُّقات، لا في حقيقة العلم. فإن قيل: إن محل البواعثِ والضمائر هو القلب، فلم قال: {إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ} ولم يَقُلْ: {مَا فِي قلُوبِكُمْ} ؟ فالجوابُ: لأن القلبَ في الصدر، فجاز إقامة الصدر مقام القلب، كما قال: {يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ} [الناس: 5] . فصل قوله: {قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ} قلوبكم، من مودة الكفار وموالاتهم {أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله} . وقال الكلبيُّ: إن تُسرُّوا ما في قلوبكم لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من التكذيب، أو تُظْهِرُوه، لحَرْبِهِ وقتاله يعلْمه الله، ويجازكم عليه. قوله: «وَيَعْلَمُ» مستأنف، وليس منسوقاً على جواب الشرطِ؛ لأن علمه بما في السموات وما في الأرض غير متوقِّف على شرط، فلذلك جِيء مستأنفاً، وقوله: {وَيَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} من باب ذكر العام بعد الخاص. {مَا فِى صُدُورِكُمْ} ، وقدَّم - هنا - الإخْفَاءَ على الإبداء وجعل محلهما الصدور، بخلاف آية البقرةِ - فإنه قدَّم فيها الإبداء على الإخفاء، وجعل محلهما النفس، وجعل جواب الشرطِ المحاسبة؛ تفنُّناً في البلاغة، وذكر ذلك للتحذير؛ لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فكيف يَخْفَى عليه الضميرُ؟ قوله: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} وهو تمام التحذير؛ لأنه إذا كان قادراً على جميع المقدورات كان - لا محالة - قادراً على إيصال حق كل أحد إليه، فيكون هذا تمام الوعدِ، والوعيد، والترغيب، والترهيب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 أحدها: أنه منصوب ب «قَدِيرٌ» ، أي: قدير في ذلك اليوم العظيم، لا يقال: يلزم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 147 من ذلك تقييد قدرته بزمان؛ لأنه إذا قدر في ذلك اليوم الذي يُسْلَب فيه كلُّ أحدٍ قدرته، فلأنْ يقدرَ في غيره بطريق الأولى. وإلى هذا ذهب ابو بكر ابن الأنباري. الثاني: أنه منصوب ب «يُحَذِّرُكُمْ» ، أي: يخوفكم عقابه في ذلك اليوم، وإلى هذا نحا أبو إسحاق، ورجحه. ولا يجوز أن ينتصب ب «يُحَذِّرُكُمْ» المتأخرة. قال ابن الأنباري: لا يجوز أن يكون اليوم منصوباً ب «يُحَذِّرُكُمْ» المذكور في هذه الآية؛ لأن واو النسق لا يعمل ما بعدها فيما قبلها «. وعلى ما ذكره أبو إسحاق يكون ما بين الظرفِ وناصبه معترضاً، وهو كلامٌ طويلٌ، والفصل بمثله مستبعد، هذا من جهة الصناعة، وأما من جهة المعنى، فلا يصح؛ لأن التخويف لم يقع في ذلك اليوم؛ لأنه ليس زمانَ تكليف؛ لأن التخويف موجود، واليوم موعود، فكيف يتلاقيان؟ قال: أن يكون منصوباً بالمصير، والتقدير: وإلى الله المصير يومَ تَجِدُ، وإليه نحا الزّجّاجُ - أيضاً - وابن الأنباري ومكيٌّ، وغيرُهم، وهذا ضعيف على قواعد البصريين؛ للزوم الفصل بين المصدر ومعموله بكلامٍ طويلٍ. وقد يقال: إن جُمَل الاعتراضِ لا يُبَالَى بها في الفصل، وهذا من ذاك. الرابع: أن يكون منصوباً ب» اذكر «مقدراً، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً، وقدر الطبريُّ الناصب له» اتَّقُوا «، وفي التقدير ما فيه من كونه على خلاف الأصلِ، مع الاستغناء عنه. الخامس: أن العامل فيه ذلك المضاف المقدر قبل» نفسه «، أي: يحذركم اللهُ عقاب نفسه يوم تجد، فالعامل فيه» عقاب «لا» يحذركم «قاله أبو البقاء، وفي قوله:» لا يُحَذِّرُكُمْ «فرار عما أورد على أبي إسحاقَ كما تقدم. السادس: أنه منصوب ب» تَوَدُّ «. قال الزمخشريُّ:» يَوْمَ تَجِدُ «منصوب ب» تَوَدُّ «والضمير في» بينه «لليوم، أي: يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها تتمنى لو أن بينها، وبين ذلك اليوم، وهَوْله أمداً بعيداً» . وهذا ظاهر حسنٌ، ولكن في هذه المسألة خلافٌ ضعيف؛ جمهور البصريين والكوفيين على جوازها، وذهب الأخفشُ الفرّاءُ إلى مَنْعِهَا. وضابط هذه المسألة أنه إذا كان الفاعلُ ضميراً عائداً إلى شيء مُتَّصِلٍ بمعمولِ الفعلِ نحو: ثَوْبَيْ أخَوْيك يلبسان، فالفاعل هو الألف، وهو ضمير عائد على «أخويك» المتصلين بمفعول «يلبسان» ومثله: غلام هندٍ ضربَتْ، ففاعل «ضربت» ضمير عائد على «هند» المتصلة ب «غلام» المنصوب ب «ضربت» والآية من هذا القبيل؛ فإن فاعل «تَوَدُّ» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 148 ضميرٌ عائدٌ على «نَفْس» المتصلة ب «يَوْمَ» لأنها في جملة أضِيفَ الظرفُ إلى تلك الجملةِ، والظرف منصوب ب طتَوَدُّ «، والتقدير: يوم وُجدان كل نفس خيرها وشرها مُحْضَرَيْنِ تَوَدُّ كذا. احتج الجمهور على الجواز بالسماع. وهو قول الشاعر: [الخفيف] 1400 - أجَلَ الْمَرْءِ يَسْتَحِثُّ وَلاَ يَدْ ... ري إذَا يَبْتَغِي حًصُولَ الأمَانِي ففاعل «يستحثَ» ضمير عائد على «المرء» المتصل ب «أجل» المنصوب ب «يستحث» . واحتج المانعون بأن المعمول فضلة، يجوز الاستغناء عنه، وعَوْد الضمير عليه في هذه المسائل يقتضي لزوم ذكره، فيتنافى هذان السببان، ولذلك أجمع على منع زيداً ضرب، وزيداً ظن قائماً، أي: ضرب نفسه، وظنها، وهو دليلٌ واضح للمانع لولا ما يرده من السماع كالبيت المتقدم وفي الفرق عُسْر بين: غلامَ زَيدٍ ضَرَبَ، وبين: زيداً ضَرَبَ، حيث جاز الأول، وامتنع الثاني، بمقتضى العلة المذكورة. قوله: «تجد» يجوز أن تكون [المتعدية لواحد بمعنى «تصيب» ، ويكون «محضراً» على هذا منصوباً على الحال، وهذا هو الظاهر، ويجوز أن تكون علمية] ، فتتعدى لاثنين، أولهما «مَا عَمِلَتْ» ، والثاني «مُحْضَراً» وليس بالقويّ في المعنى، و «ما» يجوز فيها وجهان: أظهرهما: أنها بمعنى «الذي» فالعائد - على هذا - مقدَّر، أي: ما عملته، وقوله: {مِنْ خَيْرٍ} حال، إما من الموصول، وإما من عائده، ويجوز أن تكون «مِنْ» لبيان الجنسِ. ويجوز أن تكون «ما» مصدرية، ويكون المصدر - حينئذ - واقعاً موقع مفعول، تقديره: يوم تجد كلُّ نفس عملها - أي: معمولها - فلا عائد حينئذ [عند الجمهور] . قوله: {وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ} يجوز في «ما» هذه أن تكون منسوقة على «ما» التي قبلها بالاعتبارين المذكورَيْن فيها - أي: وتجد الذي عملته، أو وتجد عملها - أي: معمولها - من سوء. فإن جعلنا «تَجِدُ» متعدياً لاثنين، فالثاني محذوف، أي: وتجد الذي عملته من سوء محضراً، أو وتجد عملها مُحْضَراً، نحو علمت زيداً ذاهباً وبكراً - أي: وبكراً ذاهباً - فحذفت مفعوله الثاني؛ للدلالة عليه بذكره مع الأول. وإن جعلناها متعدية لواحد، فالحال من الموصول أيضاً - محذوفة، أي: تجده محضراً - اي: في هذه الحال - وهذا كقولك: أكرمت زيداً ضاحكاً وعمراً - أي: وعمراً ضاحكاً - حذفت حال الثاني؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 149 لدلالة حال الأول عليه -، وعلى هذا فيكون في الجملة من قوله: «تَوَدُّ» وجهان: أحدهما: أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل «عَمِلَتْ» ، أي: وما عملته حال كونها وَادَّةً، اي: متمنِّيًَ البعد من السوءِ. والثاني: أن تكون مستأنفةً، أخبر الله تعالى عنها بذلك، وعلى هذا لا تكونُ الآية دليلاً على القطع بوعيد المذنبين. ووضع الكرم، واللطف هذا؛ لأنه نَصَّ في جانب الثوابِ على كونه مُحْضَراً، وأما في جانب العقاب فلم ينصّ على الحضورِ، بل ذكر أنهم يودون الفرار منه، والبعد عنه، وذلك بَيِّنٌ على أن جانب الوعد أولى بالوقوع من جانب الوعيدِ. ويجوز أن تكون «ما» مرفوعة بالابتداء، والخبر الجملة في قوله: «تَوَدُّ» ، أي: والذي عملته وعملها تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً. والضمير في «بَيْنَهُ» فيه وجهان: أحدهما - وهو الظاهر - عوده على «مَا عَمِلَتْ» ، وأعاده الزمخشري على «الْيَوْم» . قال أبو حيّان: «وأبعد الزمخشري في عوده على» اليوم «؛ لأن أحد القسمين اللذين أحْضِروا له في ذلك اليوم هو الخير الذي عمله، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير، إلا بتجوُّز إذا كان يشتمل على الخير والشر، فتود تباعده؛ لتسلم من الشرِّ، ودعه لا يحصل له الخير. والأولى عوده على {وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء} ؛ لأنه أقربُ مذكورٍ؛ ولأن المعنى أن السوء تَتَمَنَّى في ذلك اليوم التباعُدَ منه» . فإن قيل: هل يجوز أن تكون «ما» هذه شرطية؟ فالجواب: أن الزمخشريَّ، وابن عطية مَنَعَا من ذلك، وَجَعَلا علة المنع عدم جزم الفعل الواقع جواباً، وهو «تَوَدُّ» . قال شهاب الدينِ: «وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنهم نَصُّوا على أنه إذا وقع فعلُ الشرطِ ماضياً، والجزاء مضارعاً جاز في ذلك المضارع وجهان - الجزم والرفع - وقد سُمِعَا من لسان العرب، ومنه بيت زُهَيْر: [البسيط] 1401 - وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ ... يَقُولُ: لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 150 ومن الجزم قوله تعالى {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ} [هود: 15] ، وقوله: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ} [الشورى: 20] ، وقوله: {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20] فدل ذلك على أن المانع من شرطيتها ليس هو رَفْعَ تَودُّ» . وأجاب ابو حيّان بأنها ليست شرطية - لا لما ذكر الزمخشريُّ وابن عطيّة - بل لعلَّةٍ أخرى، قال: كنت سُئِلت عن قول الزمخشريِّ: فذكره ثم قال: ولنذكر هاهنا ما تمس إليه الحاجة بعد أن تقدم ما ينبغي تقديمه، فنقول: إذا كان فعل الشرط ماضياً، وبعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء جاز في ذلك المضارع، الجَزْمُ، وجاز فيه الرفعُ، مثال ذلك: إن قام زيد يَقُمْ - ويقوم عمرو، فأما الجزم فعلى جواب الشرط ولا نعلم في جواز ذلك خلافاً، وأنه فصيح، إلا ما ذكره صاحب كتاب «الإعراب» عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلام الفصيح، وإنما يجيء مع «كان» كقوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ} [هود: 15] ، لأنها أصل الأفعال، ولا يجوز ذلك مع غيرها، وظاهر كلام سيبويه، وكلام الجماعة، أنه لا يختص ذلك ب «كان» بل سائر الأفعال في ذلك مثل «كان» . وأنشد سيبويه للفرزدق: [البسيط] 1402 - دَسَّتْ رَسُولاً بِأنَّ الْقَوْمَ إنْ قَدَرُوا ... عَلَيْكَ يَشْفُوا صُدُوراً ذَاتَ تَوغِيرِ وقال أيضاً: [الطويل] 1403 - تَعَالَ فَإنْ عَاهَدتنِي لا تَخُونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَجِبَانِ وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثيراً. قال بعض أصحابنا: هو أحسن من الجزم، ومنه بيت زهير السابق. ومثله - أيضاً - قوله: [الطويل] 1404 - وَإنْ شُلَّ رَيْعَانُ الْجَمِيع مَخَافَةً ... نَقُولُ - جِهَاراً - وَيْلَكُمْ لا تُنَفِّرُوا وقال أبو صخر: [الطويل] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 151 1405 - وَلاَ بِالَّذِي إنْ بَانَ عَنْهُ حَبِيبُهُ ... يَقُول - وَيُخْفِي - الصَّبْرَ - إنِّي لَجَازعُ وقال الآخر: [الطويل] 1406 - وَإنْ بَعُدُوا لا يَأمَنُونَ اقْتِرَابَهُ ... تَشَوُّفَ أهْلِ الْغَائِبِ الْمُتَنَظَّرِ وقال الآخر: [الطويل] 1407 - فَإنْ كَانَ لا يُرْضِيكَ حَتَّى تَرُدَّنِي ... إلَى قَطَرِيٍّ لا إخَالُكَ رَاضِيا وقال الآخر: [البسيط] 1408 - إنْ يُسْألُوا الْخَيْرَ يُعْطُوهُ وَإنْ خُبِرُوا ... فِي الجَهْدِ أدْرَكَ مِنْهُمْ طيبُ أخْبَارِ قال شهاب الدين: «هكذا ساق هذا البيتَ في جملة الأبيات الدالة على رفع المضارع، ويدل على ذلك أنه قال - بعد إنشاده هذه الأبيات كلَّها -: فهذا الرفع - كما رأيت - كثير» . وهذا البيتُ ليس من ذلك؛ لأن المضارع فيه مجزوم - وهو يُعْطُوه - وعلامة جزمهِ سقوط النون فكان ينبغي أن ينشده حين أنشد: دَسَّتْ رَسُولاً، وقوله: «تعال فإن عاهدتني» . وقال: فهذا الرفع كثير - كما رأيت - ونصوص الأئمة على جوازه في الكلام - وإن اختلفت تأويلاتُهم كما سنذكره - وقال صاحبنا أبو جعفر أحمد بن عبد النور بن رشيد المالقي - وهو مصنف كتاب رصف المباني - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا أعلم منه شيئاً جاء في الكلام، وإذا جاء فقياسه الجزم؛ لأنه أصل العمل في المضارع - تقدم الماضي أو تأخَّر - وتأوَّل هذا المسموعَ على إضْمَار الفاء، وجملة مثل قول الشاعر: [الرجز] 1409 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 152 على مذهب من جعل الفاءَ منه محذوفة. وأما المتقدمون فاختلفوا في تخريج الرَّفعِ. فذهب سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم، وأنَّ جوابَ الشرط ليس مذكوراً عِنْدَه، وذهب المبردُ والكوفيون إلى أنه هو الجواب، وإنما حُذِفَ منه الفاءُ، والفاء يُرْفَع ما بعدها، كقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] فأعْطِيَتْ - في الإضمار - حكمَها في الإظهار. وذهب غيرهما إلى أن المضارعَ هو الجوابُ بنفسه - أيضاً - كالقول قبله، إلا أنه ليس معه فاء مقدرة قالوا: لكن لما كان فعلُ الشرط ماضياً، لا يظهر لأداة الشرط فيه عملٌ ظاهِرٌ استضعفوا أداةَ الشرط، فلم يُعْمِلُوها في الجواب؛ لضَعْفِها، فالمضارع المرفوع - عند هذا القائل - جواب بنفسه من غير نية تقديم، ولا على إضمار الفاء، وإنما لم يُجْزَم لما ذُكِر، وهذا المذهب والذي قبله ضعيفان. وتلخص من هذا الذي قلناه - أن رَفْعَ المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطاً، لكن امتنع أن يكون «وما عملت» شرطاً لعلة أخرى - لا لكون «تَوَدُّ» مرفوعاً، وذلك على ما تقرَّر من مذهب سيبويه أن النية بالمرفوع التقديم، وأنه - إذ ذاك - دليل على الجواب لا نفس الجواب، فنقول: لما كان «تَوَدُّ» مَنوياً به التقديم أدَّى إلَى تقديم المُضْمَ رعلى ظاهرهِ في غير الأبوابِ المستثناة في العربية، ألا ترى أن الضمير في قوله: «وَبَيْنَه» عائد على اسم الشرط - الذي هو «ما» - فيصير التقدير: تَوَدُّ كلُّ نفسٍ لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً ما عملت من سوء، فلزم هذا التقدير تقديم المضمر على الظاهر، وذلك لا يجوز. فإن قلت: لم لا يجوز ذلك والضمير قد تأخَّر عن اسم الشرط وإن كانت نيتُه التقديمَ فقد حصل عَوْدُ الضمير على الاسم الظاهر قَبْلَه، وذلك نظير: ضرب زيداً غلامُه، فالفاعل رُتْبته التقديمُ، ووجب تأخيره لصحة عود الضمير؟ فالجواب: أن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه؛ لعود الضمير، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء - لا دليله - ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل؟ بل إنها تعمل في جملة الجزاء، وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب، وإذا كان كذلك تدافَع الأمر؛ لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل شرط، ومن حيث عَوْد الضمير على اسم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 153 الشرط اقتضاها، فتدافَعَا، وهذا بخلاف: ضرب زيد أخاه؛ فإنها جملة واحدة، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معاً، فكل واحد منهما يقتضي صاحبه، ومن ذلك جاز - عند بعضهم - ضرب غلامُها هنداً، لاشتراك الفاعل - المضاف إلى الضمير - والمفعول الذي عاد عليه الضمير - في العامل، وامتنع ضرب غلامُها جازَ عنده؛ لعدم الاشتراك في العامل، ففرق ما بين المسألتين، ولا يُحْفَظ من لسان العربِ: أوَدُّ لو أني أكْرمه أبا ضربتُ هِندٍ؛ لأنه يلزم منه تقديم المُضْمَر على مفسِّره - في غير المواضع التي ذكرها النحويون - فلذلك لا يجوز تأخيره «انتهى. وقد جوَّز ابو البقاء كونَها شرطية، ولم يلتفت لما مَنَعُوا به ذلك، فقال:» والثاني - أنها شرط وارتفع «تَوَدُّ» على إرادة الفاء، أي: فهو تود «. ويجوز أن يرتفع من غير تقدير حذف؛ لأن الشرط - هنا - ماضٍ، وإذا لم يظهر في الشرط لفظ الجزم جاز في الجزاء الوجهان: الجزم والرفع. [وقد تقدم تحقيق القول في ذلك، فالظاهر موافقته للقول الثالث من تخريج الرفع في المضارع كما تقدم تحقيقه وقرأ ... ] عبد الله وابن أبي عبلة: «ودت» - بلفظ الماضي - وعلى هذه القراءة يجوز في «ما» وجهان: أحدهما: أن تكون شرطية، وفي محلها - حينئذ - احتمالان. الأول: النصب بالفعل بعدها، والتقدير: أيَّ شيء عملت من سوء ودت، ف «وَدَّتْ» جواب الشرط. الثاني: الرفع على الابتداء، والعائد على المبتدأ محذوف، تقديره: وما عملته، وهذا جائز في اسم الشرط خاصة عند افرّاء في فصيح الكلام، أعني حذف عائد المبتدأ إذا كان منصوباً بفعل نحو: «أيُّهُمْ ضرب أكرمه» - برفع «أيُّهم» وإذا كان المبتدأ غير ذلك ضَعُفَ نحو: زيدٌ ضربت، [وسيأتي لهذه المسألة مزيد بيان في قراءة من قرأ: «أفحكمُ الجاهلية يبغون» ، وفي قوله: «وكل وعد الله الحسنى» في الحديد] . الوجه الثاني من وجهي «ما» : أن تكون موصولة، بمعنى: الذي عملته من سوء ودت لو أن بينها وبينه أمدا بعيداً، ومحلها - على هذا - رفع بالابتداءِ، و «وَدَّتْ» الخبر، وهو اختيار الزمخشريِّ؛ لأنه قال: «لكن الحمل على الابتداء والخبر أوْقَعُ في المعنى: لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم، وأثبت؛ لموافقة قراءة العامة» انتهى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 154 فإن قيل: لِمَ لَمْ يمتنع أن تكون «ما» شرطية على هذه القراءة، كما امتنع ذلك فيها على قراءة العامة؟ فالجواب: أن العلة إن كانت رفعَ الفعل، وعدم جَزْمه - كما قال به الزمخشريّ وابن عطية - فهي مفقودة في هذه القراءة؛ لأن الماضيَ مبني اللفظ، لا يظهر فيه لأداة الشرط عملٌ وإن كانت العلة أن النية به التقديم، فيلزم عَوْدُ الضميرِ على متأخِّرٍ لفظاً ورُتْبةًن فهي أيضاً مفقودة فيها؛ إذ لا دَاعِيَ يدعو إلى ذلك. قوله - هنا - على بابها، من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوعِ غيره، وعلى هذا ففي الكلام حذفان: أحدهما: حذف مفعول «تَوَدُّ» . والثاني: حذف جواب «لَوْ» ، والتقدير فيها: تود تباعُدَ ما بينها وبينه لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً لسُرَّت بذلك، أو لفرحت ونحوه. والخلاف في «لو» بعد فعل الودادة وما بمعناه أنها تكون مصدرية كما تقدم تحريره في البقرة، يبعد مجيئه هنا؛ لأن بعدها حرفاً مصدرياً وهو «أن» . قال أبو حيان: ولا يباشر حرف مصدري حرفاً مصدرياً إلا قليلاً كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23] ، قال شهاب الدين: إلا قليلاً يشعر بجوازه، وهو لا يجوز ألبتة، وأما الآية التي أوردها فقد مضى النحاة على أن ما زائدة. وقد تقدم الكلام في «أنَّ» الواقعة بعد «لَوْ» هذه، هل محلها الرفع على الابتداء، والخبر محذوفٌ - كما ذهب إليه سيبويه - أو أنها في محل رفع بالفاعلية بفعل مقدَّر، أي: لو ثبت أن بينها وما قال الناس في ذلك وقد زعم بعضهم أن «لو» - هنا - مصدرية، هي وما في حيزها من معنى المفعول لِ «تَوَدُّ» ، أي تود تباعد ما بينها وبينه، وفي ذلك إشكال، وهو دخول حرف مصدري على مثله، لكن المعنى على تسلط الوداد على «لو» وما في حيِّزها لولا المانع الصناعي. والأمد: غاية الشيء ومنتهاه، وجمعه آماد - نجو أجل وآجال - فأبدِلَت الهمزةُ ألِفاً، لوقوعها ساكنةً بعد همزةِ «أفعال» . قال الراغب: «الأمَد والأبد متقاربان، لكن الأبد عبارة عن مدة الزمانِ التي ليس لها حَدٌّ محدود، وَلا يتقيد فلا يقال: أبَدَ كذا والأمد مدة لها حَدٌّ مجهول إذا أطلق، وقد ينحصر إذا قيل: أمَد كذا، كما يقال: زمان كذا، والفرق بين الأمد والزمان، أن الأمد يقال لاعتبار الغايةِ، والزمان عام في المبدأ والغاية ولذلك قال بعضهم: المدى والأمد يتقاربان» . فصل المعنى: {تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ} يعني: لو أن بين النفس وبين السوء أمداً بعيداً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 155 قال السُّدِّيُّ: مكاناً بعيداً. وقال مقاتلٌ: كما بين المَشرق والمَغْرِب؛ لقوله تعالى: {ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين} [الزخرف: 38] . قال الحسنُ: يسر أحدهم أن لا يلقى عمله أبداً. اعلم أن المقصود تَمَني بُعْدِه، سواء حملنا لفظ الأمَد على الزمان، أو على المكان. ثم قال: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} وهو تأكيد للوعيد، ثم قال: {والله رَؤُوفُ بالعباد} وفيه وجوه: الأول: أنه رؤوفٌ بهم، حَيْثُ حذَّرهم من نفسه، وعرفهم كمالَ علمِه وقدرتهِ، وأنه يُمْهِل ولا يُهْمِل، ورغبهم في استيجاب رحمته، وحذَّرهم من استحقاق غضبه. قال الحسنُ: «ومن رأفته بهم أن حذَّرَهُم نفسه» . الثاني: أنه رؤوف بالعباد، حيث أمْهَلَهُمْ للتوبة والتدارك والتَّلاَفِي. الثالث: أنه لما قال: {وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ} - وهو للوعيد - أتبعه بالوعد، وهو قوله: {والله رَؤُوفُ بالعباد} ، ليعلم العبد أن وَعْدَ رحمته غالب على وعيده. الرابع: أن لفظ «العباد» في القرآن مختص بالمؤمنين، قال تعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] ، وقال: {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] ، فعلى هذا لما ذكر وعيد الكفار والفساق ذكر وعد أهل الطاعة، فقال: {والله رَؤُوفُ بالعباد} ، أي: كما هو منتقم من الكفار والفساق فهو رؤوف بالعباد المطيعين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 قرأ العامة «تُحِبُّونَ» - بضم حرف المضارعة، من «أحَبَّ» وكذلك {يُحْبِبْكُمُ الله} . وقرأ ابو رجاء العُطَارِديّ «تَحِبُّون، يَحْبِبْكم» بفتح حرف المضارعة - من حَبَّ - وهما لغتان، يقال حَبَّه يَحُبُّه - بضم الحاء وكسرها في المضارع - وأحَبَّهُ يُحبُّهُ. وحكى أبو زيد: حَبَبْتُهُ، أحِبُّه. وأنشد: 1410 - فَوَاللهِ لَوْلاَ ثُمْرُهُ مَا حَبَبْتُهُ ... وَلاَ كَانَ أدْنَى مِنْ عُوَيفٍ وَمُشرِقِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 156 ونقل الزمخشريُّ: قراءة يحبكم - بفتح الياء والإدغام - وهو ظاهر، لأنه متى سكن المثلين جَزْماً، أو وقْفاً جاز فيه لغتان: الفك والإدغام. وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله في المائدة. والحُبّ: الخَابِيَة - فارسيّ مُعَرَّب - والجمع: حِباب وحِبَبَة، حكاه الجوهريُّ. وقرأ الجمهور «فَاتَّبِعُونِي» بتخفيف النون، وهي للوقاية. وقرأ الزُّهري بتشديدها، وخُرِّجَتُ على أنه ألحق الفعل نون التأكيد، وأدغمها في نون الوقاية وكان ينبغي له أن يحذف واوَ الضمير؛ لالتقاء الساكنين، إلا أنه شبَّه ذلك بقوله: {أتحاجواني} وهو توجيه ضعيف ولكن هو يصلح لتخريج هذا الشذوذ. وطعن الزجاجُ على من روى عن أبي عمرو إدغام الراء من «يغفر» في لام «لكم» . وقال: هو خطأ وغلط على أبي عمرو. وقد تقدم تحقيقه، وأنه لا خطأ ولا غلط، بل هو لغة للعرب، نقلها الناس، وإن كان البصريون لا يُجِيزون ذلك كما يقول الزجاج. فصل اعلم أنه - تعالى - لما دعاهم إلى الإيمان به وبرسولِه على سبيل التهديدِ والوعيد دعاهم إلى ذلك بطريق آخرَ، وهو أن اليهود كانوا يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] فنزلت هذه الآية. وروي الضحاك - عن ابن عباس - أن النبي وقف على قريش - وهم في المسجد الحرام يسجدون للأصنام وقد علقوا عليها بيض النعام وجعلوا في آذانها السيوف. - فقال: يا معشر قريش، والله لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم، فقالت قريش: إنما نعبدها حباً لله: {لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] ، فقال الله - تعالى -: «قل» يا محمد {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله} فتعبدون الأصنام لتقربكم إليه {فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله} فأنا رسولُه إليكم، وحجتُه عليكم أي اتبعوا شريعتي وسنتي يحببكم الله. وقال القرطبي: «نزلت في وفد نجرانَ؛ إذْ زعموا أنّ ما ادَّعَوْه في عيسى حُبٌّ لله عَزَّ وَجَلَّ» . وروي أن المسلمين قالوا: يا رسول الله، والله إنا لنحب رَبَّنا، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني} [آل عمران: 31] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 157 قال ابن عرفة: المحبة - عند العرب - إرادة الشيء على قَصْدٍ له. وقال الأزهري: محبة العبد لله ورسوله طاعته لهما، واتباعه أمرهما، قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني} [آل عمران: 31] [ومحبة الله للعباد إنعامه عليهم بالغفران، قال الله تعالى: {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} [آل عمران: 32] ، أي: لا يغفر لهم] . قال سهل بن عبد الله: علامة حُبُّ الله حُبَّ القرآن، وعلامة حب القرآن حبُّ النبي، وعلامة حب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حب السنة، وعلامة حب السنة، حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة، أن لا يحب نفسه، وعلامة أن لا يحب نفسه أن يبغض الدنيا، وعلامة بغض الدنيا أن لا يأخذ منها إلا الزاد والبُلْغَة. قوله: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول} الآية قيل: إنه لما نزلت هذه الآية، قال عبد الله بن أبي لأصحابه: إن محمداً يجعل طاعته كطاعة الله، ويأمرنا أن نحبه كما أحبت النصارَى عيسى - عليه السلام - فنزل قوله: {قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ} أعرَضوا عنها {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} لا يَرْضَى فعلَهم ولا يغفر لهم. والمعنى: إنما أوجب الله عليكم طاعتي، ومتابعتي - لا كما تقول النصارى في عيسى، [بل لكوني رسولاً من عند الله] . قوله: {فإِن تَوَلَّوْاْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مضارعاً، والأصل «تَتَوَلُّوْا» فحذف إحدى التاءين كما تقدم، وعلى هذا، فالكلام جارٍ على نسق واحدٍ، وهو الخطاب. والثاني: أن يكون فعلاً ماضياص مسنداً لضمير غيب، فيجوز أن يكون من باب الالتفاتِ، ويكون المراد بالغُيَّبِ المخاطبين في المعنى، ونظيره قوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] . فصل روي عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «كُلُّ أمتي يدخلونَ الجنة إلا مَنْ أبَى» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 158 قالوا: ومن يَأبَى؟ قال: «مَنْ أطَاعَني دَخَلَ الْجَنَّةَ، ومَنْ عَصَانِي فَقَدْ أبَى» . قال جابر بن عبد الله: «جاء الملائكة إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وهو نائم - فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العين نائمة، والقلب يقظان، فقالوا: إن لصاحبكم هذا مَثَلاً، فاضربوا له مَثَلاً، فقالوا: مثله كمثل رجل بنى داراً، وجعل فيها مأدُبَةً، وبعث داعياً، فمن أجاب الداعي دَخل الدارَ، وأكل من المأدبةِ، ومن لم يجب الداعيَ لم يدخل الدارَ، ولم يأكُلْ من المأدُبَةِ، فقالوا: أوِّلُوها له بفقهها، فقال بعضهم: إنه نائم، وقال بعضهم: إن العينَ نائمة والقلب يقظانُ، قالوا: فالدار الجنة، والداعي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أطاع محمداً فقد أطاع الله، ومن عَصَى محمداً فقد عصى الله، ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَرَقَ بين الناس» . روى الترمذي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «من أراد أن يحبه اللهُ عليه بصدقِ الحديثِ، وأداء الأمانة وأن لا يؤذِي جاره» وروى مسلم - عن أبي هريرة - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنَّ الله إذا أحبَّ عبداً دعا جبريلَ فقال: إنِّي أحِبُّ فلاناً، فأحبه، قال: فيحبه جبريلُ، ثم ينادي في السماء، فيقول: إن الله يُحب فلاناً فأحبوه، فيحبه أهلُ السّماءِ، قال: ثم يُوضَع له القبولُ في الأرض، وإذا أبغض عبداً دعا جبريلَ فيقول: إني أبْغِضُ فلاناً فأبْغِضْهُ، قال: فيبغضه جبريل، ثم ينادي في أهل السماء: إن الله يبغض فلاناً فأبْغِضُوه، قال فيبغضونه، ثم تُوضَع له البَغْضَاءُ في الأرض» . وقال: {فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين} ولم يَقُلْ: فإنه لا يحب؛ لأن العرب إذا عظَّمت الشيءَ أعادت ذِكْرهَ، أنشد سيبويه [قول الشاعر] : [الخفيف] 1411 - لا أرَى الْمَوْتَ يَسْبِقُ الْمَوْتَ شَيْءٌ ... نَغَّصَ الْمَوْتُ ذَا الْغِنَى وَالْفَقِيرا ويحتمل أن يكون لأجل أنه تقدم ذِكْرُ الله والرسول، فذكره للتمييز؛ لَئِلاّ يعودَ الضمير على الأقْرَبِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 لما بين - تعالى - أن محبته لا تتم إلا بمتابعة الرسول بين علو درجات الرُّسُل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 159 فقال: «إنَّ اللهَ اصطفى آدم ونوحاً» «نوح» اسم أعجمي، لا اشتقاق له عند محققي النحويين، وزعم بعضهم أنه مشتق من النُّواح. وهذا كما تقدم لهم في آدم وإسحاق ويعقوب، وهو منصرف وإن كان فيه عِلَّتان فَرعيَّتان: العلمية والعجمة الشخصية - لخفّة بنائه؛ لكونه ثلاثياً ساكن الوسط، وقد جوَّز بعضهم منعَه؛ قياساً على «هند» وبابها لا سماعاً؛ إذْ لم يُسمَع إلا مصروفاً وادعى الفرّاء أن في الكلام حذفَ مضاف، تقديره: إن الله اصطَفى دينَ آدمَ. قال التبريزي: «وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنه لو كان الأمر على ذلك لقيل: ونوحٍ - بالجر - إذ الأصل دين آدم ودين نوح» . وهذه سقطة من التبريزيُّ؛ إذْ لا يلزم أنه إذا حُذِفَ المضاف، بقي المضاف إليه [على جره]- حتى يرد على الفراء بذلك، بل المشهور - الذي لا يعرف الفصحاء غيره - إعراب المضاف إليه بإعراب المضاف حين حذفه، ولا يجوز بقاؤه على جرِّه إلا في قليل من الكلام، بشَرْطٍ مذكورٍ في النحو يأتي في الأنفال إن شاء الله تعالى. وكان ينبغي - على رأي التبريزيّ: أن يكون قوله تعالى: {واسأل القرية} [يوسف: 82] بجر «القرية» ؛ لأن الكُلَّ هو وغيره - يقولون: هذا على حَذْف مضاف، تقديره: أهل القرية. قال القرطبيُّ: «وهو - نوح - شيخُ المرسلين، وأول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض - بعد آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بتحريم البنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وسائر القرابات المحرمة، ومن قال - من المؤرخين - إن إدريس كان قبلَه فقد وهم» على ما يأتي بيانه في الأعراف - إن شاء الله تعالى. وعمران اسم أعجميٌّ. وقيل: عربيّ، مشتق من العَمْر، وعلى كلا القولين فهو ممنوع من الصرف؛ للعلمية، والعُجْمة الشخصية، وإما للعلمية، وزيادة الألِف والنون. قوله: {عَلَى العالمين} متعلق ب «اصْطَفَى» . قوله: «اصْطَفَى» يتعدى ب «مِنْ» نحو اصطفيتك مِن الناس. فالجواب: أنه ضُمِّنَ معنى «فَضَّل» ، أي: فضَّلَهُم بالاصطفاء. فصل اعلم أن المخلوقات على قسمين: مكلَّف، وغير مكلَّف، واتفقوا على أن المكلَّف أفضل. وأصناف المكلفين أربعة: الملائكة، والإنس، والجن، والشياطين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 160 أما الملائكة فقد روي أنهم خُلِقوا من الريح، ولهذا قدروا على الطيران، وعلى حمل العرش، وسُمُّوا روحانيين وروي أنهم خُلِقوا من النور، ولهذا صَفَتْ وأخلصت لله - تعالى - ويُمْكن الجمع بين الروايتين بأن نقول: أبدانهم من الريح، وأرواحهم من النور وهؤلاء سكان عالم السموات. أما الشياطين فهم كفرة، أما إبليس فكُفْره ظاهر؛ لقوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الكافرين} [البقرة: 34] . وأما سائر الشياطين فكفرة؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] . ومن خواص الشياطين أنهم أعداء للبشر، قال تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50] وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن} [الأنعام: 112] . وهم مخلوقون من النار؛ لقوله تعالى - حكاية عن إبليس -: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ} [الأعراف: 12] . وأما الجن فمنهم كافر، ومنهم مؤمن، قال تعالى: {وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون} [الجن: 14] . وأما الإنس فوالدهم الأول آدم؛ لقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] وقوله: {الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] . واتفق العقلاءُ على أن البشر أفضل من الجنِّ والشياطين، واختلفوا هل البشر أفضل أم الْمَلَك؟ كما قدمناه في البقرة، واستدل القائلون بأن البشر أفضل بهذه الآية؛ لأن الاصطفاء يدل على مزيد الكرامة، وعُلُوِّ الدرجة، فكما بيّن - تعالى - أنه اصطفى آدم وأولادَه من الأنبياء على كل العالمين، وجب أن يكونوا أفضل من الملائكة؛ لأنهم من العالمين. فإن قيل: إن حملنا هذه الآية على تفضيل المذكورين فيها على كل العالمين أدى إلى التناقض؛ لأن الجمع الكثير إذا وُصفُوا بأن كل واحد منهم أفضل من كل العالمين، يلزم كون كل واحد منهم أفضل من الآخر وذلك محالٌ، ولو حملناه على كونه أفضل المعنى، دفعاً للتناقض وأيضاً قال تعالى - في صفة بني إسرائيل - {وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47] ولا يلزم كونهم أفضل من محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بل قلنا: المراد به عالمو زمان كل واحد منهم، فكذا هنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 161 فالجواب أن ظاهر قوله: اصْطَفَى آدم على العالمين، يتناول كل مَنْ يَصِحُّ إطلاق لفظ «العالم» عليه فيندرج فيه الملك، غاية ما في الباب أنه تُرِكَ العملُ بعمومه - في بعض الصور - لدليل قام عليه فلا يجوز أن يتركه في سائر الصور من غير دليل. فصل الاصطفاء - في اللغة - الاختيار فمعنى اصْطَفاهُم: أي: جعلهم صفوةَ خلقه تمثيلاً بما يُشَاهَد من الشيء الذي يُصَفَّى من الكدورة، ويقال: صفَّاهم صَفْوَةً، وصِفْوَةً، وصُفْوَةً. ونظير هذه الآية قوله - لموسى -: {إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس} [الأعراف: 144] . وقال في إبراهيم وإسحاق ويعقوب: {وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار} [ص: 47] وفي الآية قولان: أحدهما: المعنى أ، الله اصطفى دين آدمَ ودين نوح - على حذف مضاف - كما تقدم. الثاني: أن الله اصطفاهم؛ أي: صفَّاهم من الصفاتِ الذميمة، وزينهم بالصفات الحميدة، وهذا أولى لعدم الاحتياج إلى الإضمار، ولموافقة قوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] . فصل قيل: اختار الله آدم بخمسة أشياءٍ: أولها: أنه خلقه بيده في أحسن صورة بقدرته. الثاني: أنه علَّمه الأسماء كلَّها. الثالث: أنه أمر الملائكة أن يسجدوا له. الرابع: أنه أسكنه الجنة. الخامس: أنه جعله أبا البشر. واختار نوحاً بخمسة أشياءٍ: أولها: أنه جعله أبا البشر - بعد آدم -؛ لأن الناس كلَّهم غرقوا، وصار ذريته هم الباقين. الثاني: أنه أطال عمره، ويقال: «طوبى لمن طال عمره وحسن عمله» . الثالث: أنه استجاب دعاءه على الكافرين والمؤمنين. الرابع: أنه حمله على السفينة. الخامس: أنه كان أول من نسخ الشرائع، وكان قبل ذلك لم يُحَرَّم تزويج الخالات والعمات. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 162 واختار إبراهيم بخمسة أشياءٍ: أولها: أنه خرج منها جراً إلى ربه ليَهْدِيه. الثاني: أنه اتخذه خليلاً. الثالث: أنه أنجاه من النار. الرابع: أنه جعله للناس إماماً. الخامس: أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن. وأما آل عمران فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنهم اختارهما على العالمين؛ حيث أنزل على قومهما المن والسلْوى، وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم وإن كان عمران أبا مريم فإنه اصطفى مريم بولادة عيسى من غير أب، ولك لم يكن لأحد من العالمين والله أعلم. فصل ذكر الحليمي في كتابه - المنهاج للأنبياء - قال: لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القُوَى الجسمانية، والقوى الروحانية، أما القوى الجسمانية، فهي إما مُدْرِكة، وإمَّا محرِّكة؛ أما المدركة فهي إما الحواس الظاهرة، وإما الحواس الباطنة، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة: أحدها: القوة الباصرة، فكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مخصوصاً بكمال هذه الصفة، لقوله: «زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها» وقوله: «أقيموا صفوفكم وتراصوا؛ فإني أراكم من وراء ظهري» ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم - عليه السلام - قال تعالى: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} [الأنعام: 75] وذكر في تفسيرها أنه - تعالى قَوَّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل. قال الحليمي: وهذا غير مُسْتبعَد؛ لأن البُصراء يتفاوتون، فيُرْوَى أن زرقاء اليمامةِ كانت تُبْصِر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، فلا يبعد أن يكون بَصَرُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أقْوَى من بصرها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 163 وثانيها: القوة السامعة، فكان - عليه السلام - أقوى الناسِ في هذه القوة؛ لقوله: «أطت السماء وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى» . وسمع أطيط السماء وسمع دوياً فذكر أنه هويّ صخرة قذفت في جهنم، فلم تبلغ مقرها إلى الآن. قال الحليمي: ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا؛ فإنهم زعموا أن فيثاغورث راضَ نفسه حتى سمع حفيف الفلك. ونظير هذه القوة لسليمان - عليه السلام - في قصة النملة حيث قالت: {ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] فالله - تعالى - أسمع سليمان كلامَ النملة، وأوقفه على معناه وحصل ذلك لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين تكلم مع الذئب والبعير والضَّبِّ. وثالثها: تقوية قوة الشَّمِّ، كما في حق يعقوب - حين قال: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} [يوسف: 94] فأحسّ بها من مسيرة ثلاثة أيامٍ. ورابعها: تقوية قوة الذوقِ، كما في حق نبيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قال: «إن هذا الذراع يخبرني بأنه مسموم» . خامسها: تقوية قوة اللمس، كما في حق الخليل - عليه السلام - حيث جُعِلَتْ له النارُ بَرْداً وسلاماً وكيف يستبعد هذا ويُشَاهَد مثلُه في السَّمَنْدَل، والنعامة. وأما الحواس الباطنة فمنها: قوة الحفظ، قال تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] ، ومنها: قوة الذكاء: قال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: علمني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألف باب من العلم، واستنبط من كلّ باب ألف باب. فإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ أما القوى المحرِّكة، فمثل عروج الرسول إلى المعراج، وعروج عيسى حيًّا إلى السماء، ورَفْع إدريس وإلياس - على ما وردت به الأخبار - قال تعالى: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] . وأما القوة الروحانية العقلية، فلا بد أن تكون في غاية الكمال، ونهاية الصفاء، إذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 164 عرفت هذا فقوله: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحاً} معناه أن الله اصطفى آدم، إمَّا من سكان العالم السفلي - على قول من يقول: الملك أفضل من البشر - أو من سكان العالم العلويّ والسفليّ - على قول من يقول: البشر أفضل المخلوقات - ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة، من أولاد آدم، وهم شيث وأولاده، إلى إدريس، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم حصل من إبراهيم شعبتان: إسماعيل وإسحاق فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيصو، فوضع النبوة في نسل يعقوب ووضع الملك في نسل عيصو، واستمرَّ ذلك غلى زمان نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما ظهر محمد نُقِل نور النبوة، ونور الملك إليه، وبقيا - أعني الدين والملك لا تباعد بينهما إلى قيام الساعة. فصل من الناس من قال: المرادُ بآل إبراهيم: المؤمنون، لقوله تعالى: {أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46] والصحيح أن المراد بهم الأولاد: إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من آل إبراهيم. وقيل: المراد بآل إبراهيم وآل عمران إبراهيم وعمران نفسهما؛ لقوله: {وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ} [البقرة: 248] ، وقوله: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لَقَد أعُطيَ مِزْمَاراً مِنْ مَزِامِيرِ آله دَاوُد» . وقال الشاعر: [الطويل] 1412 - وَلاَ تَنْسَ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أجَنَّهُ ... عَلِيٌّ وعَبَّاسٌ وَآلُ أبِي بَكْرِ وقال الآخر: [الوافر] 1413 - يُلاَقِي مِنْ تَذَكر آل لَيْلَى ... كَمَا يَلْقَى السَّليمُ مِنَ العِدَادِ وقيل: المراد من آل عمران عيسى - عليه السلام - لأن أمه ابنة عمران. وأما عمران فقيل: والد موسى، وهارون، وأتباعهما من الأنبياء. وقال الحسن ووهب: المراد عمران بن ماثان، أبو مريم، وقيل اسمه عمران بن أشهم بن أمون، من ولد سليمان وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم الصلاة والسلام - قالوا: وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة واحتج من قال بأنه والد مريم بذكر قصة مريم عقيبه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 165 قوله: {ذُرِّيَّةَ} في نَصْبها وجهان: أحدهما: أنها منصوبة على البدل مما قبلها، وفي المُبْدَل منه - على هذا - ثلاثة أوجه: أحدها: أنها بدل من «آدَمَ» وما عُطِفَ عليه وهذا إنَّمَا يتأتَّى على قول من يُطْلِق «الذُّرِّيَّة» على الآباء وعلى الأبناء وإليه ذَهَب جماعةٌ. قال الجرجاني: «الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء والأبناء ذرية للآباء. وجاز ذلك؛ لأنه من ذرأ الخلق، فالأب ذُرِئ منه الولد، والولد ذرئ من الأب» . قال الراغبُ: «الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل، لقوله تعالى: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} [يس: 40] أي: آباءهم، ويقال للنساء: الذراريّ» . فعلى هذين القولين صَحَّ جَعْل «ذُرِّيَّةٌ» بدَلاً من «آدم» بما عطف عليه. قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون بدلاً من» آدم «؛ لأنه ليس بذريته» ، وهذا ظاهر إن أراد آدَمَ وحده دون مَنْ عُطِف عليه، وإن أراد «آدم» ومَنْ ذُكِرَ معه فيكون المانع عنده عدم جواز إطلاق الذُّرِّيَّة على الآباء. الثاني - من وجهي البدل - أنها بدل من «نُوح» ومَنْ عطف عليه، وإليه نحا أبو البقاء. الثالث: أنها بدل من الآلين - أعني آل إبراهيمَ وآل عمرانَ - وإليه نحا الزمخشريُّ. يريد أن الأولين ذرية واحدة. الوجه الثاني - من وجهي نصب «ذُرِّيَّةً» - النصب على الحال، تقديره: اصطفاهم حال كونهم بعضهم من بعض، فالعامل فيها اصطفى. وقد تقدم القول في اشتقاق هذه اللفظة. قوله: {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} هذه الجملة في موضع نصب، نعتاً لِ «ذُرِّيَّةً» . فصل قيل: {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} أي: بعضها من وَلَد بعض. وقال الحسن وقتادة: {بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ} في الضلالة. وقيل: في الاجتباء والاصطفاء والنبوة. وقيل: بعضها من بعض في التناصُر. وقيل: بعضها على دين بعض - أي: في التوحيد، والإخلاص، والطاعة كقوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 166 {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} [التوبة: 67] ، أي: بسبب اشتراكهم في النفاق. قوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} قال القفَّال: والله سميع لأقوال العباد، عليم بضمائرهم، وأفعالهم، يصطفي من يعلم استقامته قولاً وفعلاً، ونظيره قوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] . وقيل: إن اليهود كانوا يقولون: نحن من ولد إبراهيم، وآل عمران، فنحن أبناء الله، والنصارى كانوا يقولون المسيح ابن الله، وكان بعضهم عالماً بأن هذا الكلامَ باطل، إلا أنه بقي مصراً عليه، ليُطَيِّب قلوبَ العوامِّ، فكأنه - تعالى - يقول: والله {سَمِيعٌ} لهذه الأقوالِ الباطلةِ منكم، «عليم» بأغراضكم الفاسدةِ من هذه الأقولال، فيجازيكم عليها، فكان أول الآية بياناً لشرف الأنبياءِ والرسل وتهديداً لهؤلاء الكاذبين الذين يزعمون أنهم مستقرون على أديانهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 في الناصب لِ «إذْ» أوجه: أحدها: أنه «اذكر» مقدَّراً، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً، أي: اذكر لهم وقت قول امرأة عمران كيت وكيت وإليه ذهب ابو الحسن وأبو العباس. الثاني: أن الناصب له معنى الاصطفاء، أي: «اصْطَفَى» مقدَّراً مدلولاً عليه ب «اصْطَفَى» الأوَّل والتقدير: واصطفى آل عمران - إذ قالت امرأة عمران. وعلى هذا يكون قوله: {وَآلَ عِمْرَانَ} [آل عمران: 33] من باب عطف الجمل لا من باب عطف المفردات؛ إذ لو جُعِل من عطف المفردات لزم أن يكون وقتُ اصطفاءِ آدمَ وقول امرأةِ عمران كيت وكيت، وليس كذلك؛ لتغاير الزمانَيْن، فلذلك اضطررنا إلى تقدير عامل غير هذا الملفوظِ به، وإلى هذا ذَهَبَ الزَّجَّاجُ وغيره. الثالث: أنه منصوب ب «سميع» وبه صرح ابن جرير الطبري، وإليه نحا الزمخشري؛ فإنه قال: سميع عليم لقول امرأة عمران ونِيَّتها، و «إذْ» منصوب به. قال أبو حيّان: ولا يَصِحُّ ذَلِكَ؛ لأن قوله: {عَلِيمٌ} إمّا أن يكون خبراً بعد خبر، أو وصفاً لقوله: «سميع» فإن كان خبراً فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول؛ لأنه أجنبيٌّ عنهما، وإن كان وَصْفاً فلا يجوز أن يَعْمَل {سَمِيعٌ} في الظرف؛ لأنه قَدْ وُصِفَ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 167 واسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وُصِفَ قَبْلَ معموله لا يجوز له - إذ ذاك - أن يعمل، على خلاف لبعض الكوفيين في ذلك؛ لأن اتصافه تعالى ب {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لا يتقيد بذلك الوقت. قال شهابُ الدين: «وهذا القدر غيرُ مانع؛ لأنه يُتَّسَع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسَع في غيره، ولذلك تقدم على ما في خبر» أل «الموصولة وما في خبر» أن «المصدرية» . وأما كونه - تعالى - سميعاً عليماً لا يتقيد بذلك الوقت، فإن سَمْعَه لذلك الكلام مقيَّد بوجود ذلك الكلام، وعلمه - تعالى - بأنها تذكر مقيَّد بذكرها لذلك، والتغيُّر في السمع والعلم، إنما هو في النسبِ والتعلُّقات. الرابع: أن تكون «إذْ» زائدةً، وهو قول أبي عُبَيْدَةَ، والتقدير: قالت امرأة عمرانَ، وهذا غلط من النحويين، قال الزّجّاج لم يصنع أبو عبيدة في هذا شيئاً؛ لأن إلغاء حرفٍ من كتاب الله تعالى - من غير ضرورةٍ لا يجوز، وكان أبو عبيدة يُضَعَّفُ في النحو. الخامس: قال الأخفش والمُبَرِّد: التقدير: «ألم تر إذْ قالت امرأة عمران، ومثله في كتاب الله كثير» . فصل امرأة عمران هي حَنَّة بنت فاقوذا أم مريم، وهي حنة - بالحاء المهملة والنون - وجدة عيسى - عليه السلام - وليس باسم عربي. قال القرطبيُّ: «ولا يُعْرَف في العربية» حنة «: اسم امرأة - وفي العرب أبو حنة البدريّ، ويقال فيه أبو حبة - بالباء الموحَّدة - وهو أصح، واسمه عامر، ودير حنة بالشام، ودير آخر أيضاً يقال له كذلك. قال أبو نواس: 1414 - يَا ديرَ حَنَّةَ مِنْ ذَاتِ الأكَيْرَاحِ ... مَنْ يَصْحُ عَنْكِ فَإنِّي لَسْتُ بِالصَّاحِي وفي العرب كثير، منهم أبو حبة الأنصاريّ وأبو السنابل بن بعْكك - المذكور في حديث سبيعة الأسلمية، ولا يعرف» خَنَّة «- بالخاء المعجمة - إلا بنت يحيى بن أكثم، وهي أم محمد بن نصر، ولا يُعْرَف» جَنَّة «- بالجيم - إلاَّ أبو جنة وهو خال ذي الرمة الشاعر، نقل هذا كله ابنُ ماكولا» . وعمران بن ماثان، وليس بعمران أبي موسى، وبينهما ألف وثمانمائة سنة، وكان بنو ماثان رؤوس بني إسرائيل وأحبارهم وملوكهم. وقيل: عمران بن أشهم، وكان زكريا قد تزوَّج إيشاع بنت فاقوذ، وهي أخت حنة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 168 أم مريم، فكان يحيى بن زكريا ومريم عليهما السلام ولدي خالة، وفي كيفية هذا النذر روايات. قال عكرمةُ: إنها كانت عاقراً لا تلد، وتغبط النساء بالأولاد، فقالت: اللهم إن لك علي نذراً إن رزقتني ولداً ن أتصدَّقَ به على بيتك المقدَّس، فيكونَ من سَدَنَتِهِ. الثانية: قال محمد بن إسحاق: إن أم مريم ما كان يحصل لها ولد، فلما شاخت جلست يوماً في ظل شجرة فرأت ظائراً يُطْعِم فِراخًاً له فتحركت نفسها للولد، فدعت رَبَّها أن يَهَبَ لها وَلَداً، فحملت مريم وهلك عمران - فلما عرفت جعلته لله محرراً - أي: خادماً للمسجد. قال الحسن البصري: إنما فعلت ذلك بإلهام من الله - تعالى - ولولاه لما فعلت، كما رأى إبراهيم - عليه السلام - ذبحَ ابنه في المنام فعلم أن ذلك أمر الله تعالى - وإن لم يكن عن وحي، وكما ألهم الله أمَّ موسى بقَذْفه في اليم وليس بوحي، فلما حررت ما في بطنها - ولم تعلم ما هو، قال لها زوجها: ويحكِ: ما صنعتِ؟ أرأيت إن كان ما في بطنك أنثَى لا يصح لذلك؟ فوقعوا جميعاً في هَمٍّ من ذلك، فهلك عمران وحنة حامل بمريم {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} . قوله: «مُحَرَّراً» في نَصبه أوجه: أحدها: أنها حال من الموصول - وهو {مَا فِي بَطْنِي} - فالعامل فيها «نذرت» . الثاني: أنه حال من الضمير المرفوع بالجار؛ لوقوعه صلة «ما» وهو قريب من الأول، فالعامل الاستقرار الذي تضمنه الجار والمجرور. الثالث: أن ينتصب على المصدر؛ لأن المصدرَ يأتي على زِنَةِ اسم المفعول من الفعل الزَّائد على ثلاثة أحرف، وعلى هذا، فيجوز أن يكون في الكلام حذفُ مضاف، تقديره: نذرتُ لك ما في بطني نَذْرَ تحرير، ويجوز أن يكون «ما» انتصب على المعنى؛ لأن معنى {نَذَرْتُ لَكَ} : حرَّرتُ لك ما في بطني تحريراً، ومن مجيء المصدر بزنة المفعول مما زاد على الثلاثي قوله: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] وقوله: {وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ} [الحج: 18]- في قراءة من فتح الراء - أي: كلَّ تمزيق، فما له من إكرام. ومثله قول: [الوافر] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 169 1415 - ألَمْ تَعْلَمْ مُسَرَّحِيَ الْقَوَافِي ... فَلاَ عِيًّا بِهِنَّ وَلاَ اجْتِلاَبَا أي تسريحي القوافي. الرابع: أن يكون نعتاً لمفعولٍ محذوفٍ، تقديره: غلاماً مُحَرَّراً، قاله مكيُّ بن أبي طالب - وجعل ابنُ عطية، في هذا القول نظراً. قال شهاب الدين: «وجه النظر فيه أن» نذر «قد أخذ مفعوله - وهو قوله: {مَا فِي بَطْنِي} فلم يتعد إلى مفعول آخرَ، وهو نظر صحيح» . وعلى القول بأنها حال يجوز أن تكون حالاً مقارنة إن أريد بالتحرير معنى العِتْق ومقدرة معنى خدمة الكنيسة - كما جاء في التفسير، ووقف أبو عمرو والكسائي على «امرأة» بالهاء - دون التاء - وقد كتبوا «امرأة» بالتاء وقياسها الهاء هاهنا وفي يوسف «امرأة العزيز» موضعين - وامرأة نوح، وامرأة لوط، وامرأة فرعون، وأهل المدينة يقفون بالتاء؛ إتباعاً لرسم المصحف، وهي لغة للعرب يقولون في حمزة: حمزت. وأنشدوا: 1416 - وَاللهُ نَجَّاكَ بِكَفَّيْ مَسْلَمَتْ ... مِنْ بَعْدِمَا وَبعْدِمَا وَبَعْدِمَتْ فصل والنذر ما يوجبه الإنسان على نفسه وهذا النوع من النَّذْر كان في بني إسرائيل، ولم يوجَد في شرعنا. قال ابن العربي: «لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حَمْلِها نذرٌ؛ لكونها حُرَّةٌ، فلو كانت امرأته أَمَة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده. وكيفما تصرفت حاله فإنه إن كان الناذرُ عبداً فلم يتقرر وله في ذلك، وإن كان حُرًّا، فلا يصح أن يكون، مملوكاً له، وكذلك المرأة مثله، فأي وجه للنذر فيه؟ وإنما معناه - والله أعلم - أن المرء إنما يريدُ ولَده للأنس به والتسلّي، والاستنصارِ، فطلبت هذه المرأة أنساً به، وسُكوناً إليه، فلمَّا مَنَّ الله - تعالى - عليها به نذرَتْ أن حظها من الأنس متروك فيه، وهو على خدمة الله - تعالى - موقوفٌ، وهذا نَذْر الأحرار من الأبرار، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 170 وأرادت به مُحَرَّراً من جهتي رق الدنيا وأشغالها. قوله: {مَا فِي بَطْنِي} أتى ب» ما «التي لغير العاقلِ؛ لأن ما في بطنها مُبْهَمٌ أمرُه، والمُبْهَم أمره يجوز أن يُعَبَّر عنه ب» ما «. ومثاله أن تقول إذا رأيتَ شبحاً من بعيد لا تدري إنسان هو أم غيره: ما هذا؟ ولو عرفته إنساناً وجهلت كونه ذكراً أو أنثى، قلت: ما هو أيضاً؟ والآية من هذا القبيل، هذا عند مَنْ يرى أن» ما «مخصوصة بغير العاقل، وأما من يرى وقوعها على العقلاء، فلا يتأوَّل شيئاً. وقيل: إنه لما كان ما في البطن لا تمييز له ولا عقل عبر عنه ب «ما» التي لغير العُقَلاء. المحرر: الذي يُجْعَل حُرًّا خالصاً، يقال: حرَّرت العبدَ - إذا أخلصته من الرق - وحرَّرْت الكتاب، أي: أصلحته وخلصته من وجوه الغلط، ورجل حُرّ: إذا كان خالصاً لنفسه، وليس لأحد عليه تعلُّق. والطين الحر: الخالص من الرمل والحمأة والعيوب، فمعنى «مُحَرَّراً» ، أي: مُخْلصاً للعبادة، قاله الشعبيُّ. وقيل: خادماً للبيعة. وقيل: عتيقاً من أمر الدنيا لطاعة الله. وقيل: خادماً لمن يدرس الكتاب، ويُعَلِّم في البيع. والمعنى أنها نذرت أن تجعلَ الولدَ وَقْفاً على طاعة الله تعالى. قيل: لم يكن لبني إسرائيل غنيمة ولا شيء، فكان تحريرهم جعلَهم أولادَهم على الصفة التي ذكرنا؛ وذلك؛ لأنه كان الأمر في دينهم أن الولد إذا صَارَ بحيث يمكن استخدامه كان يجب عليه خدمة الأبوين، فكانوا - بالنذر - يتركون ذلك النوعَ من الانتفاع، ويجعلونهم محرَّرين لخدمة المسجد وطاعة الله تعالى. وقيل: كان المحرر يجعل في الكنيسة - يقوم بخدمتها - حتى يبلغَ الحلم، ثم يُخَيَّر بين المُقام والذهاب فإن أبي المقام، وأراد أن يذهب ذهب، وإن اختار المقام فليس له بعدَ ذلك خيار، ولم يكن نبيّ إلا ومن نسله محرَّر في بيت المقدس. وهذا التحرير لم يكن جائزاً إلا في الغلمان، أما الجارية فكانت لا تصلح لذلك؛ لِمَا يُصِيبها من الحيض، والأذى، وحنَّةُ نذرت مطلقاً، إما لأنها بنت الأمر على التقدير، أو لأنها جعلت ذلك النذر وسيلةً إلى طلب الذكر ومعنى: نذرت لك أي لعبادتك، وتقدم الكلام على النذر، ثم قال تعالى - حاكياً عنها -: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم} ، والتقبُّل: أخذ الشيء على الرضا، قال الواحديُّ: «وأصله من المقابلة؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 171 لأنه يقابَل بالجزاءِ، وهذا كلام مَن لم يرد بفعله إلا رضا الله - تعالى - والإخلاصَ في عبادته ومعنى {السميع} أي: لتضرعي ودعائي وندائي {العليم} بما في ضميري ونيَّتي. قوله: {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا} الضمير في» وضعتها «يعود على» ما «- من حيث المعنى -؛ لأن الذي في بطنها أنْثَى - في علم الله - فعاد الضمير على معناها دون لفظها. وقيل: إنما أنث؛ حَمْلاً على مضيّ النسمة أو الْجِبلَّة أو النفس، قاله الزمخشريُّ. وقال ابنُ عطية: حملاً على الموجودة، ورفعاً للفظ» ما «في قوله {مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً} . قوله: {أنثى} فيه وجهان: أحدهما: أنها منصوبة على الحال، وهي حال مؤكِّدَة؛ لأن التأنيث مفهوم من تأنيث الضمير، فجاءت» أنثى «مؤكدة. قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: كيف جاز انتصاب» أنثى «حالاً من الضمير في» وَضَعْتُهَا «وهو كذلك كقولك: وضعت الأنثى أنثى؟ قلت: الأصل وضعته أنثى، وإنما أنث لتأنيث الحال؛ لأن الحالَ وذا الحال لشيء واحد، كما أنث الاسم في من كانت أمك؛ لتأنيث الخبر، ونظيره قوله تعالى: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} [النساء: 176] . وأما على تأويل النسمة والجبلة فهو ظاهرٌ، كأنه قيل: إني وَضَعْتُ النسمةَ أنثى» . يعني أن الحال على الجواب الثاني - تكون مبيِّنة لا مؤكِّدة؛ وذلك لأن النسمة والجبلة تصدق على الذكر وعلى الأنثى، فلما حصل الاشتراكُ جاءت الحال مبيِّنةً لها، إلا أن أبا حيّان ناقشة في الجواب الأول، فقال: وآل قوله - يعني الزمخشري - إلى أن «أنثى» تكون حالاً مؤكِّدة، ولا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال عن أن يكون حالاً مؤكِّدة، وأما تشبيهه ذلك بقوله: من كانت أمّك - حيث عاد الضمير على معنى «ما» - فليس ذلك نظير {وَضَعْتُهَآ أنثى} ؛ لأن ذلك حَمْلٌ على معنى «ما» إذ المعنى: اية امرأة كانت أمك، أي كانت هي أي أمُّك، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبرِ، وإنما هو من باب الحملِ على معنى «ما» ولو فرضنا أنه من تأنيث الاسم لتأنيث الخبر لم يكن نظير {وَضَعْتُهَآ أنثى} ؛ لأن الخبر تخصَّصَ بالإضافة غلى الضمير فاستفيد من الخبر ما لا يُستفاد من الاسم، بخلاف «أنْثَى» فإنه لمجرَّد التأكيد، وأما تنظيره بقوله: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} . فيعني أنه ثَنَّى الاسمَ؛ لتثنية الخبر. والكلام يأتي عليه في مكانه إن شاء الله تعالى فإنها من المشكلات، فالأحسن أن يُجعل الضمير - في {وَضَعْتُهَآ أنثى} - عائداً على النسمة أو النفس، فتكون الحال مبيِّنة مؤكِّدة. قال شهاب الدين: قوله: «ليس نظيرها؛ لأن من كانت أمك» حُمل فيه على معنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 172 من، وهذا أنث لتأنيث الخبر «ليس كما قال، بل هو نظيره، وذلك أنه في الآية الكريمة حُمل على معنى» ما «كما حمل هناك على معنى» من «، وقول الزمخشري:» لتأنيث الخبر «أي لأن المرادَ ب» من «: التأنيث، بدليل تأنيث الخبر، فتأنيث الخبر بَيَّنَ لنا أن المراد ب» من «المؤنث كذلك تأنيث الحال وهو أنثى، بيّن لنا أن المراد ب» ما «في قوله: {مَا فِي بَطْنِي} أنه شيءٌ مؤنث، وهذا واضح لا يحتاج إلى فكر، وأما قوله:» فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف {وَضَعْتُهَآ أنثى} ، فإنه لمجرد التوكيد «ليس بظاهر أيضاً؛ وذلك لأن الزمخشري إنما أراد بكونه نظيره من حيث إن التأكيد في كلّ من المثالين مفهوم قبل مجيء الحال في الآية وقَبْل مجيء الخبر في النظير المأما كونه يفارقه في شيء آخر لعارض، فلا يضر ذلك في التنظير، ولا يخرجه عن كونه يشبهه من هذه الجهة، وقد تحصل لك في هذه الحالة وجهان: أحدهما: أنها مؤكِّدة إن قلنا: إن الضمير في {وَضَعَتْهَا} عائد على معنى» ما «. الثاني: أنها مبيِّنة إن قلنا: إن الضمير عائد على الجبلة والنسمة أو النفس أو الجِبلَّة لصدق كل من هذه الألفاظِ الثلاثةِ على الذكر والأنثى. الوجه الثاني من وجهي «أنثى» : أنها بدل من «ها» في {وَضَعَتْهَا} بدل كل من كل - قاله أبو البقاء. ويكون في هذا البدلِ بيان ما المراد بهذا الضميرِ، وهذا من المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعدَه لفظاً ورتبة، فإن كان الضمير مرفوعاً نحو: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُوا} [الأنبياء: 3]- على أحد الأوجهِ - فالكل يجيزون فيه البدلَ، وإن كان غير مرفوعٍ نحو ضربته زيداً ومررت به زيدٍ فاختلِفَ فيه، والصحيح جوازه كقول الشاعر: [الطويل] 1417 - عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً ... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ بجر حاتم الأخير بدلاً من الهاء في «جُودِهِ» . فصل والفائدةُ في قولها: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} أنه تقدم منها النذر في تحرير ما في بطنها، وكان الغالبُ على ظَنِّها أنه ذَكَر، فلم تشترط ذلك في كلامِها، وكانت عادتُهم تحريرَ الذكر، لأنه هو الذي يُفَرَّغ لخدمة المسجد دون الأنثى، فقالت: {رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى} خائفة أن نذرها لم يقع الموقع الذي يُعتَد به، ومعتذرةً من إطلاقها النذر المتقدم، فذكرت ذلك على سبيل الاعتذار، لا على سبيل الإعلام؛ تعالى الله عن [أن يحتاج إلى إعلامها] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 173 قوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} قرأ ابن عامر وأبو بكر «وَضَعْتُ» بتاء المتكلم - وهو من كلام أمِّ مَرْيَمَ خاطبت بذلك نفسَها؛ تَسَلِّياً لها واعتذاراً للهِ تعالى؛ حيث أتت بمولود لا يصلح لما نذرته من سدانة بيت المقدس. قال الزمخشريُّ - وقد ذكر هذه القراءة -: «تعني ولعل الله - تعالى - فيه سِرًّا وحكمةً، ولعل هذه الأنثى خير من الذكر؛ تَسلِيَةً لنفسها» . وقيل: قالت ذلك؛ خوفاً أن يُظَنَّ بها أنها تُخْبِر الله - تعالى - فأزالت الشبهةَ بقولها هذا وبينت أنها إنما قالتْ ذلك للاعتذارِ لا للإعلام - وفي قولها: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} التفات من الخطاب إلى الغيبة؛ إذ لو جَرَتْ على مقتضَى قولها: «رَبِّ» لقالت: وأنت أعلم. وقرأ الباقون: «وَضَعَتْ» بتاء التأنيث الساكنةِ - على إسناد الفعل لضمير أم مريم، وهو من كلام الباري تعالى، وفيه تنبيه على عِظَم قَدْر هذا المولود، وأنَّ له شأناً لم تعرفيه، ولم تعرفي إلا كونه أنثى لا غير، دون ما يئول إليه من أمور عِظَامٍ، وآيات واضحةٍ. قال الزمخشريُّ: «ولتكلُّمها بذلك على وجه التحسُّر والتحزُّن قال الله - تعالى -: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} تعظيماً لموضوعها، وتجهيلاً لها بقدر ما وُهِبَ لها منه، ومعناه: والله أعلم بالشيء الذي وضعت، وما علق به من عظائم الأمور، وأن يجعله وولده آيةً للعالمين، وهي جاهلة بذلك لا تعلم منه شيئاً فلذلك تحسرت» . وقد رجح بعضهم القراءة الثانية على الأولى بقوله: {والله أَعْلَمُ} قال: «ولو كان من كلامِ مريم لكان التركيب: وأنت أعلم» . وقد تقدم جوابُه بأنه التفات. وقرأ ابن عباس «والله أعلم بِمَا وَضَعَتِ» - بكسر التاء - خاطبها الله - تعالى - بذلك، بمعنى: أنك لا تعلمين قدرَ هذه المولودة، ولا قدر ما علم الله فيها من عظائمِ الأمورِ. قوله: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} ؛ هذه الجملة - يحتمل أن تكون معترضةً، وأن يكون لها محل، وذلك بحسب القراءات المذكورة في «وَضَعَتْ» - كما يأتي تفصيله - والألف واللام في «الذكَر» يحتمل أن تكون للعهدِ، والمعنى: ليس الذكر الذي طلبَتْ كالأنثى التي وَهِبَتْ لها. قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: فما معنى قولها: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} ؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 174 قلت: هو بيان لما في قوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ} من التعظيم للموضوع، والرفع منه، ومعناه: ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وُهِبَتْ لها، والألف واللام فيهما يحتمل أن تكون للعهد وأن تكون للجنس، على أن المراد: أن الذكر ليس كالأنثى في الفضل والمزية؛ إذ هو صالح لخدمة المتعبدات والتحرير ولمخالطة الأجانب، بخلاف الأنثى؛ لِما يعتريها من الحيض، وعوارض النسوان. وكان سياقُ الكلام - على هذا - يقتضي أن يدخل النفي على ما استقر، وحصل عندَها، وانتفت عنه صفاتُ الكمال للغرض المقصود منه، فكان التركيبُ: وليس الأنثى كالذكر، وإنما عدل عن ذلك؛ لأنها بدأت بالأهم لما كانت تريده، وهو المُتَلَجلِج في صدرها، والحائل في نفسها، فلم يَجْرِ لسانُها في ابتداء النطق إلا به، فصار التقديرُ: وليس جنسُ الذكرِ مثل جنس الأنثى، لما بينهما من التفاوتِ فيما ذكر، ولولا هذه المعاني التي استنبطها العلماء، وفهموها عن الله - تعالى - لم يكن لمجرد الإخبار بالجملة الليسية معنًى؛ إذ كلُّ أحدٍ يعلَمُ أن الذكر لَيْسَ كالأنثى. وقوله: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} هذه الجملة معطوفة على قوله {إِنِّي وَضَعْتُهَآ} على قراءة مَنْ ضَمَّ التاء في قوله وضعت فتكون هي وما قبلها في محل نصب بالقول، والتقدير: قالت: إني وضعتُها، وقالت: والله أعلم بما وَضَعْتُ، وقالت: وليس الذكر كالأنثى، وقالت: إنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَم. وأما على قراءة من سكن التاء أو كسرها فتكون {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا} أيضاً معطوفاً على {إِنِّي وَضَعْتُهَآ} ويكون قد فصل بين المتعاطفَيْن بجملتي اعتراض، كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] قاله الزمخشريُّ. قال أبو حيّان: «ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان؛ لأنه يحتمل أن يكون: {وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} من كلامها في هذه القراءة» ويكون المعترض جملة واحدة - كما كان من كلامها في قراءة من قرأ «وَضَعْتُ» بضم التاء - بل ينبغي أن يكون هذا المتعيِّن؛ لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة، ولأن في اعتراضِ جملتين خلافاً لمذهب أبي علي الفارسي من أنه لا يعترض جملتان. وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما - على زعمه - بين المعطوف والمعطوفِ عليه، بقوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] ليس تشبيهاً مطابقاً للآية؛ لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب، بل اعترض بين القسم - الذي هو {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم} [الواقعة: 75]- وبين جوابه - الذي هو {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77]- بجملة واحدة - وهي قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} - لكنه جاء في جملة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 175 الاعتراض - بين بعض أجزائها، وبعض اعتراض بجملة - وهي قوله: {لَّوْ تَعْلَمُونَ} اعتراضٌ بها بين المنعوتِ الذي هو «لَقَسَمٌ» - وبين نعته - الذي هو «عَظِيمٌ» - فهذا اعتراضٌ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض كقوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى} . قال شهابُ الدين: والمشاحَّة بمثل هذه الأشياء ليست طائلة، وقوله: «ليس فصلاً بجملتي اعتراض» ممنوع، بل هو فَصْلٌ بجملتي اعتراض، وكونه جاء اعتراضاً في اعتراض لا يضر ولا يقدَح في قوله: فصل بجملتين «ف» سمى «يتعدى لاثنين، أحدهما بنفسه، وإلى الآخر بحرف الجر، ويجوز حذفه، تقول: سميت زيداً، والأصل: بزيدٍ، وجمع الشاعرُ بين الأصل والفرع في قوله: [المتقارب] 1418 - وَسُنِّيْتَ كَعباً بِشَرِّ الْعِظَامِ ... وَكَانَ أبُوكَ يُسَمَّى الْجَعَل أي يسمى بالجُعَل - وقد تقدم الكلامَ في مريمَ واشتقاقها ومعناها. فصل ظاهر هذا الكلام يدل على أن عمران كان قد مات قبل وَضْعِ حَنَّة مَرْيمَ، فلذلك تولَّت الأم تسميتها؛ لأن العادة أن التسمية يتولاّها الآباء، وأرادت بهذه التسمية أن تطلب من الله أن يعصمها من آفاتِ الدين والدنيا؛ لأن مريم - في لغتهم - العابدة، ويؤكد ذلك قوله: بعد ذلك: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} . وقولها: {سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} جَعَلت هذا اللفظَ اسماً لها وهذا يدل على أن الاسم والمسمى والتسمية أمور ثلاثة متغايرة، وعلى أن تسمية الولد يكون يوم الوضع. قوله: {وِإِنِّي أُعِيذُهَا} عطف على {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا} وأتى - هنا - بخبر» إنَّ «فعلاً مضارعاً؛ دلالة على طلبها استمرار الاستعاذة دون انقطاعها، بخلاف قوله: {وَضَعْتُها} و {سَمَّيْتُهَا} حيث أتى بالخبرين ماضيَيْن؛ لانقطاعهما، وقدم المُعَاذَ به على المعطوف؛ اهتماماً به. وفتح نافع ياءَ المتكلم قبل هذه الهمزة المضمومة، وكذلك ياء وقع بعدها همزة مضمومة إلا في موضعين فإن الكُلَّ اتفقوا على سكونها فيهما -: {بعهدي أُوف} [البقرة: 40] و {آتوني أُفْرِغ} [الكهف: 96] والباقي عشرة مواضع، هذا الذي في هذه السورة أحدها. فصل لما فاتها ما كانت تريد من أن يكون رجلاً خادماً للمسجد، تضرعت إلى الله تعالى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 176 أن يحفظها من الشيطان، وأن يجعلها من الصالحات القانتات. قال القرطبي: «معنى قوله: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ} يعني خادم الرب - بلغتهم - {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ} مريمَ. {وَذُرِّيَّتَهَا} عيسى. وهذا يدل على أن الذرية قد تقع على الولد خاصّة» . قوله: {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا} الجمهور على {فَتَقَبَّلَهَا} فعلاً ماضياً على «تَفَعَّل» بتشديد العينِ - و {رَبُّهَا} فاعل به، وتفعل يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون بمعنى المجرَّد - أي فقبلها - بمعنى رَضِيها مكان الذَّكر المنذورِ، ولم يقبل أنثى منذورة - قبل مريم - كذا ورد في التفسير، و «تَفَعَّل» يأتي بمعنى «فَعَل» مُجَرَّداً، نحو تعجب وعَجب من كذا، وتَبَرَّأ وبَرِئَ منه. والثاني: أن «تفعل» بمعنى: استفعل، أي: فاستقبلها ربُّها، يقال: استقبلت الشيءَ أي: أخذته أول مرة. والمعنى: أن اللهَ تولاَّها من أول أمرها وحين ولادتها. ومنه قول الشاعر: [الوافر] 1419 - وَخَيْرُ الأمْرِ مَا اسْتَقْبَلْتَ مِنْهُ ... وَلَيْسَ بِأنْ تَتَبَّعَهُ اتِّبَاعا ومنه المثل: خذ الأمر بقوابله. و «تَفَعَّل» بمعنى «استفعل» كثير، نحو: تعظم، واستعظم، وتكبر، واستكبر، وتعجَّل واستعجل. قال بعضُ العلماء: «إن ما كان من باب التفعُّل، فإنه يدل على شدة اعتناء ذلك الفاعل بإظهار ذلك الفعل، كالتصبُّر والتجلُّد، ونحوهما، فإنهما يُفيد أن الجِدَّ في غظهار الصَبْرِ والجَلَدِ، فكذا هنا التقبل يفيد المبالغة في إظهار القبولِ» . فإن قيل: فلِمَ لَمْ يَقُلْ: فتقبلها ربُّها بتَقَبُّلٍ حَسَنٍ، حتى تكمُلَ المبالغةُ؟ فالجوابُ: أنَّ لفظَ التَّقَبُّل - وإن أفاد ما ذكرنا - يُفِيدُ نوعَ تكلُّفِ خلاف الطبعِ، فذكر التقبلَ، ليفيد الجد والمبالغة، ثم ذكر القبولَ، ليفيد أن ذلك ليس على خلاف الطبعِ، بل على وفق الطبعِ، وهذه الوجوه - وإن كانت ممتنعةً في حق اللهِ تعالى - تدل من حيثُ الاستعارةُ - على حصول العنايةِ العظيمةِ في تربيتها، وهو وجه مناسبٌ. والباء - في قوله: «بِقَبُولٍ» - فيها وجهانِ: أحدهما: أنها زائدة، أي: قبولاً، وعلى هذا فينتصب «قبولاً» على المصدر الذي جاء على حذف الزوائد؛ إذْ لو جاء على «تَقَبُّل» لقيل: تَقَبُّلاً، نحو تَكَبَّرَ تَكَبُّراً. وَقَبُول: من المصادر التي جاءت على «فَعُول» - بفتح الفاء - قال سيبويه: خمسة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 177 مصادر جاءت على «فَعُول» قَبُول، وطَهُور، ووَقُود، ووَضُوء، وولُوع، إلا أن الأكثر في الوقود - إذا كان مصدراً - الضَّمّ، يقال: قَبلتُ الشيءَ قَبُولاً، وأجاز الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ ضم القافِ من قَبُول وهو القياس، كالدخولِ والخروجِ، وحكاها ابنُ الأعرابي عن الأعراب: قبلت قَبُولاً - بفتح القافِ وضمها - سماعاً، وعلى وجهه قُبُول - لا غير - يعني لم يُقَل هنا إلا بالضم، وأنشدوا: [السريع] 1420 - قَدْ يُحْمَدث الْمَرْءُ وَإنْ لَمْ يُبَلْ ... بالشّرِّ وَالْوَجْهُ عَلَيْهِ الْقُبُولْ بضم القاف - كذا حكاه بعضهم. قال الزَّجَّاجُ: إن «قَبُولاً» هذا ليس منصوباً بهذا الْفِعْلِ حتى يكونَ مصدراً على غير المصدر، بل هو منصوب بفعل موافقٍ له، - أي: مجرداً - قال: والتقدير: فتقبلها بتقبُّلٍ حَسَنٍ، وقَبِلَها قبولاً حَسَناً، أي: رضيها، وفيه بُعَدٌ. والوجه الثاني: أن الياء ليست بزائدة، بل هي على حالها، ويكون المرادُ بالقبول - هنا - اسماً لما يقبل به الشيءُ، نحو اللدود، لما يُلَدُّ به. والمعنى بذلك اختصاصه لها بإقامتها مقام الذكرِ في النذر. فصل في تفسير ذلك القبولِ الْحَسَنِ وجوهٌ: أحدها: أنه - تعالى - استجاب دعاءَ أمِّ مريمَ، وعصمها، وعصم ولدَهَا عيسى - عليه السلام - من الشيطان. روى أبو هريرةَ أن رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَا مِنْ مَوْلُودٍ إلاَّ والشَّيْطَانُ يَمَسه - حِيْنَ يُولَدُ - فَيَسْتَهِلُّ صَارِخاً مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إلاَّ مَرْيَمَ وَابنها» ، ثم قال أبو هريرة: اقرَأُوا - إنْ شِئْتُمْ - {وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم} ، طعن القاضي في هذا الخبر، وقال: إنه خبر واحد على خلاف الدَّليلِ؛ وإنما قلنا: إنه على خلاف الدليل لوجوهٍ: الأول: أن الشيطان إنما يدعو إلى الشَّرِّ مَنْ يَعْرف الخير والشر، والطفل المولود ليس كذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 178 الثاني: أن الشيطان لو تمكَّن من هذا النخس لفعل أكثر من ذلك - من إهلاك الصالحين، وإفساد أحوَالهم. الثالث: لِمَ خَصَّ - بهذا الاستثناء - مريم وعيسى - عليهما السلام - دون سائر الأنبياء؟ الرابع: أن ذلك المس لو وُجِدَ بَقِيَ أثَرهُ، ولو بقي أثره لدام الصُّرَاخُ والبُكاءُ، فلمَّا لم يكن كذلك علمنا بُطْلانَهُ. الوجه الثاني - في معنى القبول الحسن -: ما رُوِيَ أن حَنَّةَ - حين ولدت مريمَ - لفَّتْها في خِرْقَةٍ وحملتها إلى المسجد ووضعتها عند الأحبار أبناء هارون - وهم في بيت المقدس كالحجبة في الكعبة - وقالت: خذوا هذه النذيرةَ، فتنافسوا فيها؛ لأنها كانت بنت إمامهم، فقال لهم زكريَّا: أنا أحق بها؛ عندي خالتها، فقالوا: لا، حتى نقترع عليها، فانطلقوا - وكانوا سبعةً وعشرين - إلى نهرٍ جارٍ. قال السُّدِّيُّ: هو نهر الأردُن - فألقوا فيه أقلامهم التي كانوا يكتبون الوحي بها، على أن كل من يرتفع قلمه، فهو الراجحُ، ثم ألقوا أقلامَهم ثلاثَ مراتٍ، وفي كل مرة كان يرتفع قلم زكريا فوق الماءِ، وترسب أقلامهم، فأخذها زكريَّا. قاله محمد بن إسحاق وجماعة، وقيل: جرى قلم زكريا مُصْعِداً إلى أعلى الْمَاءِ، وجرت أقلامهم بجري الماء. وقال السُّدِّيُّ وجماعة: ثبت قلم زكريا وقام فوق الماء كأنه في طين، وجرت أقلامُهم، فذهب بها الماء، فسَهَمَهُم زكريا - وكان رأس الأحبار ونبيهم - فأخذها. الوجه الثالث: رَوَى القفّالُ عن الحسنِ أنه قال: إن مريم تكلمت في صباها - كما تكلم المسيحُ - ولم تلتقم ثدياً قط، وإن رزقها كان يأتيها من الْجَنَّةِ. الوجه الرابع: أن عادتَهم في شريعتهم أن التحريرَ لا يجوز إلا في حق الغلام، وحتى يصير عاقلاً قادراً على خدمة المسجد، وهنا قبل الله تلك الْجَارِيَةَ على صغرهَا، وعدم قدرتها على خدمة المسجد. وقيل: معنى التَّقَبُّل: التكفُّل في التربية، والقيام بشأنها. وقال الحسنُ: معنى التقبل أنه ما عاذ بها قط ساعة من ليل ونهار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 179 وقوله: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} نبات: مصدر على غير المصدر؛ إذ القايس إنبات، وقيل: بل هو منصوب بمُضْمَرٍ موافق له أيضاً، تقديره: فتنبت نباتاً حسناً، قاله ابنُ الأنباريّ. وقيل: كانت تنبت في اليوم كما ينبت المولود في العام. وقيل: تنبت في الصلاح والعِفَّةِ والطاعةِ. وقال القرطبي: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} أي: سَوَّى خَلْقَها من غير زيادةٍ ولا نُقْصَانٍ. قوله: {وَكَفَّلَهَا} قرأ الكوفيون {وَكَفَّلَهَا} - بتشديد الْعَيْنِ - «زَكَرِيَّا» - بالقصر - إلا أبا بكر، فإنه قرأه بالمد كالباقين، ولكنه ينصبه، والباقون يرفعونه. وقرأ مجاهدٌ «فَتَقَبَّلَهَا» بسكون اللام «رَبَّهَا» منصوباً، «وأنْبَتَهَا» - بكسر الباء وسكون التاء - وكَفِّلْها - بكسر الفاء [وسكون اللام] والتخفيف وقرأ أبي: «وأكْفَلَهَا» - كأكْرَمَهَا - فعلا ماضياً. وقرأ عبد الله المزني «وَكَفِلَهَا» - بكسر الفاء والتَّخْفِيفِ -. فأما قراءة الكوفيين فإنهم عَدَّوُا الفعل بالتضعيف إلى مفعولين، ثانيهما زكريا، فمن قصره، كالأخَوَيْن وحفص - كان عنده مُقَدَّر النصب، ومن مَدَّ كأبي بكر عن عاصم أظهر فيه الفتحة وهكذا أقرأ به، وأما قراءة بقية السبعة ف «كَفِلَ» مخفف عندهم، متعد لواحد - وهو ضمير مريم - وفاعله زكريا. قال أبو عبيدة: ضمن القيام بها، ولا مخالفة بين القراءتين؛ لأن الله لما كفَّلَها إياه كَفِلَها، وهو في قراءتهم ممدود، مرفوع بالفاعلية. وأما قراءة: «أكْفَلهَا» فإنه عدَّاه بالهمزة كما عدَّاه غيرُه بالتضعيف نحو خرَّجْته وأخْرَجته، وكرَّمته وأكرمته وهذه قراءة الكوفيين في المعنى والإعْرَابِ؛ فإن الفاعل هو الله تعالى، والمفعول الأول هو: ضمير مَرْيَمَ والثاني: هو زكريا. أما قراءة «وَكفِلها» - بكسر الفاءِ - فإنها لغة في «كَفَل» يقال: كَفَلَ يَكْفُل - كقَتَل يقْتُل - وهي الفاشية، وكَفِلَ يَكْفَلُ - كعَلِمَ يَعْلَمُ - وعليها هذه الْقِرَاءةُ، وإعرابها كإعراب قراءة الجماعة في كون «زكريا» فاعلاً. وأما قراءة مجاهدٍ فإنها «كَفِّلْهَا» على لفظ الدعاء من أم مريم لله - تعالى - بأن يفعل لها ما سألته ربَّهَا منصوب على النداء، أي: فَتَقَبَّلْهَا يَا رَبَّهَا، وأنبِتْهَا وكَفِّلْهَا يَا رَبَّهَا، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 180 وزكريا في هذه القراءة مفعول ثان أيضاً كقراءة الكوفيين. وقرأ حفص والأخوانِ «زكريا» - بالقصر - حيث ورد في القرآن، وباقي السبعة بالْمَدِّ والمدُّ والقَصْرُ في هذا الاسم لغتان فاشيتان عن أهل الحجاز. وهو اسم أعجمي فكان من حقه أن يقولوا فيه: مُنِع من الصرف للعلمية، والعُجْمَة - كنظاشره - وإنَّما قالوا منع من الصرف لوجود ألفِ التَّأنِيثِ فيه: إما الممدودة كَحَمْرَاءَ، وإما المقصورة كحُبْلَى، وكأن الذي اضطرهم إلى ذلك أنهم رأوْه ممنوعاً - معرفةً ونكرة - قالوا: فلو كان منعه للعلمية والعُجمَةِ لانصرف نكرة لزوال أحد سببي المنع، لكن العرب منعته نكرةً، فعلمنا أن المانع غير ذلك، وليس معناه - هنا - يصلح مانعاً من صَرْفهِ إلا ألف التأنيث - يَعْنُون للشبه بألف التأنيث - وإلا فهذا اسم أعجمي لا يُعْرفَ له اشتقاقٌ، حتى يُدَّعَى فيه أنَّ الألف فيه للتأنيث. على أن أبا حاتم قد ذهب إلى صَرْفه نكرةً، وكأنه لحظ المانعَ فيه ما تقدمَ من العلميَّة والعُجْمَةِ، لكنهم غلطوه وخطئوه في ذلك، وأشبع الفارسيُّ القولَ فيه فقال: «لا يخلو من أن تكون الهمزة فيه للتأنيث، أو للإلحاق أو منقلبة، ولا يجوز أن تكون منقلبةٌ؛ لأن الانقلاب لا يخلو من أن يكون من حرفٍ أصلي، أو من حرف الإلحاق؛ لأنه ليس في الأصول شيء يكون هذا مُلْحَقاً به، وإذا ثَبَتَ ذلكَ ثبت أنها للتأنيث وكذلك القول في الألف المقصورة» . قال شِهَابُ الدِّينِ: «وهذا - الذي قاله أبو علي - صحيح، لو كان فيما يُعْرَفُ له اشتقاق ويدخله تصريف، ولكنهم يُجرون الأسماء الأعجميّة مُجْرَى العربية بمعنى أنَّ هذا لَوْ وَرَدَ في لسان العرب كيف يكون حكمه» . وفيه - بَعْدَ ذلك - لغتانِ أخْرَيَانِ: إحداهما: زكريّ - بياء مشددة في آخره فقط دون ألف - وهو في هذه اللغة منصرف، ووجَّهَ أبو علي ذلك فقال: «القول فيه أنَّهُ حُذِفَ منه الياءان اللتان كانتا فيه - ممدوداً ومقصوراً - وما بعدها، وألحق بياء النَّسَب، ويدل على ذلك صرفُ الاسم، ولو كانت اياءان هما اللتان كانتا فيه لوجب أن لا ينصرفَ؛ للعجمة والتعريف، وهذه لُغَةُ أهل نجد ومَنْ والاهم» . الثانية: زَكْر - بوزن عَمْرو - حكاه الأخفشُ. والكفالة أي: الضمان - في الأصل - ثم يُستعار للضَّمِّ والأخذ، يقال منه: كَفَل يَكْفُل، وكَفِلَ يَكْفَلُ، كعلم يعلم - كفالةً وكَفْلاً، فهو كافِل وكفيل، والكافل: هو الذي ينفق على إنسان ويهتم بإصلاح حاله، وفي الحديث: «أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة» وقال تعالى: {أَكْفِلْنِيهَا} [ص: 23] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 181 واختلفوا في كَفَالةِ زكريا - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إياها، فقال الأكثرون: كان ذلك حال طفولتها، وبه جاءت الروايات. وقال بعضهم: بل إنما كفلها بعد أن طمثت، واحتجوا بوجهين: أحدهما: قوله تعالى: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} ثم قال: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} وهذا يوهم أن تكل الكفالة بعد ذلك النباتِ الحسنِ. الثاني: أنه - تعالى - قال: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله} وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع في وقت تلك الكفالة. وأجيبوا عن الأول بأن الواو لا توجب الترتيب، فلعل الإنباتَ الحسنَ وكفالة زكريا حَصَلا معاً. وعن الثاني بأن دخول زكريا عليها، وسؤالَه لها هذا السؤالَ لعله وقع في آخرِ زمانِ الكفالةِ. قوله: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب} «المحراب» فيه وجهان: أحدهما: وهو مذهب سيبويه أنه منصوب على الظرف، وشذ عن سائر أخواته بعد «دَخَلَ» خاصَّةً، يعني أن كل ظرف مكان مختص لا يصل إليه الفعل إلا بواسطة «في» نحو صليت في المحراب - ولا تقول: صليت المحرابَ - ونِمْتُ في السوقِ - ولا تقول: السوقَ - إلا مع دخل خاصة، نحو دخلت السوق والبيت ... الخ. وإلا ألفاظاً أخر مذكورة في كتب النحو. والثاني مذهب الأخفش وهو نَصب ما بعد «دَخَلَ» على المفعول به لا على الظرف فقولك: دخلت البيت، كقولك: هدمت البيت، في نصب كل منهما على المفعول به - وهو قول مرجوح؛ بدليل أن «دَخَلَ» لو سُلِّطَ على غير الظَّرْفِ المختص وجب وصوله بواسطة «في» تقول: دخلتُ في الأمر - ولا تقول: دخلت الأمر - فدل ذلك على عدم تَعَدِّيه للمفعول به بنفسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 182 والجواب: قال ابو عبيدة: هو سَيِّدُ المجالس ومقدَّمها وأشرفها، وكذلك هو من المسجد. وقال أبو عمرو بن العلاء: هو القصر؛ لعُلُوِّه وشَرَفِهِ. وقال الأصمعيُّ: هو الغُرْفَة. وأنشد لامرئِ القيس: [الطويل] 1421 - وَمَاذَا عَلَيْهِ أنّ ذَكَرْتَ أو أنِسَا ... كَغِزْلاَنِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبِ أقْيَالِ قالوا معناه: في غرف أقيال. وأنشد غيره - لعُمَرَ بن أبي ربيعة: [السريع] 1422 - رَبَّةُ مِحْرَابٍ إذَا ما جِئْتُهَا ... لَمْ أدْنُ حَتَّى أرْتَقِي سُلَّما وقيل: هو المحراب من المسجد المعهود، وهو الأليق بالآية. وقد ذكرناه عمن تقدم فإنما يَعْنُونَ به: المحراب من حيث هو، وأما في هذه الآية فلا يظهر بينهم خلاف في أنه المحراب المتعارف عليه. واستدل الأصمعيّ على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى: {إِذْ تَسَوَّرُواْ المحراب} [ص: 21] فوجه الإمالة تقدم الكسرة، ووجه التَّفْخِيم أنه الأصل. قوله: {وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} «وجد» هذه بمعنى أصاب ولَقِيَ وصَادَفَ، فيتعدى لِواحِدٍ وهو «رِزْقاً» و «عندها» الظاهر أنه ظرف للوجدان. وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من «رِزْقاً» ؛ لأنه يصلح أن يكون صفة له في الأصل، وعلى هذا فيتعلق بمحذوف، ف «وجد» هو الناصب لِ «كُلَّمَا» لأنها ظرفية، وأبو البقاء سمَّاه جوابها؛ لأنها عنده الشرط كما سيأتي. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 183 قوله: {قَالَ يا مريم} فيه وجهان: أحدهما: أنه مستأنف، قال ابو البقاء: «ولا يجوز أن يكون بدلاً من» وَجَدَ «؛ لأنه ليس بمعناه» . الثاني: أنه معطوف بالفاء، فحذف العاطف، قال أبو البقاء: «كما حذفت في جواب الشرط في قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] ، وكذلك قول الشاعر: [البسيط] 1423 - مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . وهذا الموضع يشبه جوابَ الشرط، لأن» كُلَّمَا «تشبه الشرط في اقتضائها الجواب. قال شهاب الدين: وهذا - الذي قاله - فيه نظر من حيث إنه تخيَّل أن قوله تعالى: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ} أن جوابَ الشرط هو نفس {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} حُذِفَتْ منه الفاء، وليس كذلك، بل جواب الشرط محذوف، و {إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} جواب قسم مقدر قبل الشرط وقد تقدم تحقيق هذه المسألة، وليس هذا مما حُذِفَتْ منه فاء الجزاء ألبتة، وكيف يَدَّعِي ذلك، ويُشَبِّهه بالبيت المذكور، وهو لا يجوز إلا في ضرورة؟ ثم الذي يظهر أن الجملةَ من قوله:» وَجَدَ «في محل نصب على الحال من فاعل» دَخَلَ «ويكون جواب» كُلَّمَا «هو نفس» قَالَ «والتقدير: كلما دخل عليها زكريا المحراب واجداً عندَها الرزق. قال: وهذا بَيِّن. ونكر» رِزْقاً «تعظيماً، أو ليدل به على نوع» ما «. قوله: {أنى لَكِ هذا} » أنى «خبر مقدم، و» هَذَا «مبتدأ مؤخر ومعنى أنى هذا: من أين؟ كذا فسَّره أبو عبيدة. قيل: ويجوز أن يكون سؤالاً عن الكيفية، أي: كيف تَهَيأ لكِ هذا؟ قال الكميت: [المنسرح] 1425 - أنَّى وَمِنْ أيْنَ هَزَّكَ الطَّرَبُ ... مِنْ حَيْثُ لاَ صَبْوةٌ وَلاَ رِيَبُ وجوَّز أبو البقاء في» أنَّى «أن ينتصب على الظرف بالاستقرار الذي في» ذلك «. و» لك «رافع ل» هذا «يعني بالفاعلية. ولا حاجة إلى ذلك، وتقدم الكلام على «أنى» في «البقرة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 184 فصل قال الرَّبيع بن أنس: إن زكريا كان إذا خرج من عندها غلق عليها سبعةَ أبوابٍ، فإذا دخل عليها غُرفتها وجد عندها رزقاً - أي: فاكهة في غير حينها - فاكهة الصَّيْفِ في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، فيقول يا مريمُ، أنى لك هذا؟ قال ابو عبيدة: معناه من أين لك هذا، وأنكر بعضهم عليه وقال: معناه من أي جهة لك هذا؛ لأن أنّى للسؤال عن الجهة، وأين للسؤال عن المكان. فصل احتجوا على صحة القول بكرامات الأولياء بهذه الآية؛ فإنَّ حصول الرزق عندها إمَّا أن يكون خارقاً للعادة أو لا يكون، فإن كان غيرَ خارقٍ للعادة، فذلك باطلٌ من خمسة أوْجُهٍ: الأول: أنه على هذا التقدير لا يكون ذلك الرزقُ عند مريم دليلاً على عُلُوِّ شأنِهَا، وامتيازها عن سائر الناس بتلك الخاصِّيَّةِ، وهو المعنى المراد من الآية. الثاني: قوله {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} [آل عمران: 38] والقرآن دلَّ على أنه كان آيساص من الولد؛ بسبب شيخوخته وشيخوخة زوجته، فلما رأى خَرْقَ العادة في حق مريمَ طمع في حصول الولد، فيستقيم قوله {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} . ولو كان الذي شاهده في حق مريم غيرَ خارق لم تكن مشاهدةُ ذلك سبباص لطمعه في انخراق العادة له بحصول الولد من المرأة الشيخة العاقر. الثالث: تنكير الرزق في قوله: «رِزْقاً» فإنه يدل على تعظيم حال ذلك الرزق كأنه قيل: رزق وإنه رزق عديب فلولا أنه خارق للعادة لم يفد الغرض اللائق بسياق الآية. الرابع: أنه - تعالى - قال: {وَجَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91] ولولا أنه ظهر عليها الخوارق وإلا لم يصح ذلك. الخامس: تواتُر الروايات على أن زكريا - عليه السلام - كان يجد عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها الصلاة والسلام كان خارقاً للعادة، وإذا ثبت ذلك فنقول: إمّا أنه كان معجزةً لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك، والأول باطل؛ لأن النبيَّ الموجودَ في ذلكَ الزمانِ زكريا - عليه السلام - ولو كان ذلك معجزةً له لكان عالماً بحاله، ولم يَشْتبه أمْرُه عليه، ولم يَقُلْ ل «مريم» أنَّى لَكِ هَذَا؟ وأيضاً فقوله {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} مُشْعِرٌ بأنه لما سألها ذكرت له أن ذلك من عند الله، فهنالك طمع في انخراق العادةِ في حصول الولد من المرأة الشيخة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 185 العقيم العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا من إخبار مريم، وإذا كان كذلك، وإذا ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزةً لزكريا - عليه السلام - فلم يَبْقَ إلاَّ أنها كانت لمريم عليها السلام إما بسبب ابنها أو لعيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كرامة لمريم، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل. قال أبو علي الجبائي: لم لا يجوز أن يقال تلك الخوارق كانت معجزات زكريا - عليه السلام - لوجهين: الأول: أن زكريا دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقها، وأنه كان غافلاً عما يأتيها من الأرزاق من عند الله، فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معيَّن قال لها: أنَّى لكِ هذا؟ فقالت هو من عند الله، فعند ذلك يعلم أن الله أظهر بدعائه تلك المعجزةَ. الثاني: يحتمل أن يكون زكريا شاهد عند مريم رزقاً معتاداً، إلا أنه كان يأتيها من السماء، وكان زكريا يسألها عن ذلك، حَذَراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها، فقالت: هو من عند الله لا من عند غيره. وأيضاً لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من الخوارق، بل معنى الآية أن الله - تعالى - كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الانفاق على الزاهداتِ العابداتِ، فكأن زكريا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمّا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه رُبَّما أتاها ذلك الرزق من جهةٍ لا ينبغي، فكان يسألها عن كيفية الحال. والجواب عن الأول والثاني: أنه لو كان معجزاً لزكريا لكان زكريا مأذوناً له من عند الله في طلب ذلك، ومتى كان مأذوناً له في ذلك الطلب كان عالماً - قطعاً - بأنه يحصل، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال، ولم يكن لقول: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ} فائدة. والجواب عن الثالث: أنه - على هذا التقدير - لا يبقى لاختصاص مريم بمثل هذه الواقعة وجه. أيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا يليق، فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة؟ فسقطت هذه الأسئلة. واحتج المعتزلة على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء، ودليل النَّبِيِّ لا يوجد مع غير النبي، كما أن الفعل المُحْكَم - لما كان دليلاً على العلم لا جرم - لا يوجد في حَقِّ غَيْرِ العالمِ. والجواب من وجوه: الأول: أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدَّعِي، فإن ادَّعَى صاحبهُ النبوةَ، فذلك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبيًّا، وإن ادَّعَى الولايةَ، فذلك يدل على كونه وليًّا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 186 والثاني: قال بعضهم: «الأنبياء مأمورون بإظهارها، والأولياء مأمورون بإخفائها» . والثالث: أن النبي يدَّعي المعجزة ويقطع به، والولي لا يمكنه القطع به. الرابع: أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة. قوله: {إنًّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} يُحْتَمَل أن يكون من جملة كلام مريم - عليها السلام - فيكون منصوباً. ويحتمل أن يكون مستأنفاً، من كلام الله تعالى، وتقدم الكلامُ على نظيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 «هنا» هو الاسم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، وهو منصوب على الظرف المكاني ب «دَعَا» وزان «ذلك» ، وهو منصوب على الظرف المكاني، ب «دعا» أي: في ذلك المكان الذي راى فيه ما رأى من أمر مريمَ، وهو ظرف لا يتصرف بل يلزم النصبَ على الظرفية ب «مِنْ» وَ «إلَى» . قال الشاعر: [الرجز] 1426 - قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أمكِنَهْ ... مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هُنَهْ وحكمه حكم «ذَا» من كونه يُجَرَّد من حرف التنبيه، ومن الكاف واللام، نحو «هُنَا» وقد يَصْحَبه «ها» التنبيه، نحو هاهنا، ومع الكاف قليلاً، نحو ها هناك، ويمتنع الجمع بينها وبين اللام. وأخوات «هنا» بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها - و «ثَمَّ» بفتح الثاء - وقد يقال: «هَنَّت» . ولا يشار ب «هُنَالِكَ» وما ذُكِرَ مَعَهُ إلا للأمكنة، كقوله: {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ} [الأعراف: 119] وقوله: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق} [الكهف: 44] وقوله: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 187 وقد زعم بعضهم أن «هُنا» و «هناك» و «هنالك» للزمان، فمن ورود «هنالك» بمعنى الزمان عند بعضهم - هذه الآية أي: في ذلك الزمان دعا زكريا ربه، ومثله: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} [الأحزاب: 11] ، وقوله: {فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ} ومنه قول زهير: [الطويل] 1427 - هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ومن «هنَّا» قوله: [الكامل] 1428 - حَنَّتْ نُوَارُ وَلاَتَ هَنَّا حَنَّتِ ... وَبَدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أجَنَّتِ لأن «لات» لا تعمل إلا في الأحيان. وفي عبارة السجاوندي أن «هناك» في المكان، و «هنالك» في الزمان، وهو سهو؛ لأنها للمكان سواء تجردت، أو اتصلت بالكاف واللام معاً، أم بالكاف من دون اللام. فصل ذكر المفسّرون أن زكريا - عليه السلام - لما رأى خَوَارِقَ العادة عند مريم طمع في خرق العادةِ في حقه، فرزقه الله الولد من الشيخة العاقر. فإن قيل: لِمَ قلتم: إنَّ زكريا - عليه السلام - ما كان عالماً بأن الله قادر على خَرْق العادة إلا عند مشاهدة تلك الكرامات عند مريم، وهذه النسبة شَكٌّ في قدرة الله - تعالى - من زكريا، وإن قلتم بأنه كان عالماً بقدرة الله تعالى على ذلك لم تكن المشاهدة سبباً لزيادة علمه بقدرة الله - تعالى - فلم يكن لمشاهدته لتلك الكرامات أَثرٌ في السببية؟ فالجواب: أنه كان عالماً قبل ذلك بالخوارق، أما أنّه هل تقع أم لا؟ فلم يكن عالماً به، فلما شاهد وعلم أنه إذا وقع كرامة لوَلِيّ فبأن يجوز وقوع معجزة لنبيّ كان أولى، فلا جرم قوي طمعه عند ذلك. قوله: {مِن لَّدُنْكَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه يتعلق ب «هَبْ» وتكون «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً، أي: يا رب هَبْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 188 لي من عندك. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه في الأصل صفة لِ «ذُرِّيَّة» فلما قُدِّم عليها انتَصَبَ حالاً. وتقدم الكلام على «لَدُنْ» وأحكامها. قال ابن الخطيب: «وقول زكريا: {هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً} لما لم تكن أسباب الولادة في حقه موجودة، قال: {مِن لَّدُنْكَ} أي بمحض قدرتك، من غير شيء من هذه الأسباب» . فصل الذرية: النسل، وهو يقع على الواحدِ والجمعِ والذكرِ والأنثى، والمراد - هنا - ولد واحد، وهو مثل قوله: «فهب لي من لدنك وليًّا» . قوله: {طَيِّبَةً} إن أريد ب «ذُرِّيَّة» الجنس، فيكون التأنيث في «طيِّبة» باعتبار تأنيث الجماعة، وإن أريد به ذَكر واحد فالتأنيث باعتبارِ اللفظِ. قال الفراء: وأنّث «طَيِّبَةً» لتأنيث لفظ «الذرية» كما قال القائل في ذلك البيت: [الوافر] 1429 - أبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أخْرَى ... وَأنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ الشخص، فإذا كان مذكَّراً لم يجز فيه إلا التذكيرُ، وقد جمع الشاعر بين التذكير والتانيث في قوله: [الطويل] 1430 - فَمَا تَزْدَرِي مِنْ حَيَّةٍ جبَلِيَّةٍ ... سُكَاتٍ إذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بِأدْرَدَا قوله {سَمِيعٌ الدعآء} مثال مبالغة، مُحَوَّل من سامع، وليس بمعنى مُسْمِع؛ لفساد المعنى؛ لأن معناه إنك سامعه، وقيل: مُجِيبه، كقوله: {إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون} [يس: 25] أي: فأجيبوني، وكقول المصلي: سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، يريد قبل اللهُ حَمْدَ مَنْ حَمِدَهُ من المؤمنين. فصل قال القرطبيُّ: دَلَّتْ هذه الآيةُ على طلب الولد، وهي سُنَّةُ المرسلين والصِّدِّيقينَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 189 قال تعالى - حكاية عن إبراهيم -: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84] . وقال تعالى: {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] ودعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنس فقال: «اللهُمَّ أكثر مالَه وولَده، وبَارِك لَهُ فِيمَا أعْطَيْتَه» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تَزَوَّجُوا الْوَلُودَ الوَدُودَ؛ فَإنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الأمَمَ يَوْمَ الْقِيَامةِ» فدلَّ على أن طلب الولَد مندوبٌ إليه؛ لِما يُرْجَى من نفعه في الدنيا والآخرة، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذَا مَاتَ أحَدُكُم انْقَطَع عَمَلُهُ إلاَّ مِنْ ثَلاَثٍ» فذكر «أو ولَدٌ صَالح يَدْعُو لَهُ» . فصل ويجب على الإنسان أن يتضرَّع إلى الله - تعالى - في هداية زوجته وولده بالتوفيق، والهداية، والصَّلاح، والعَفَاف، وأن يكونا معينَيْنِ له على دينه ودُنياه، حتى تَعْظُم منفعتُهما قال زكريا: {واجعله رَبِّ رَضِيّاً} [مريم: 6] ، وقال: {ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} وقال تعالى: {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ} [الفرقان: 74] . قوله: {فَنَادَتْهُ الملاائكة} قرأ الأخوان «فَنَادَاهُ المَلاَئِكَةُ» - من غير تأنيث - والباقون « الجزء: 5 ¦ الصفحة: 190 فَنَادَتْهُ» بتاء التأنيث - باعتبار الجمع المُكَسَّر، فيجوز في الفعل المسند إليه التذكير باعتبار الجمع، والتأنيث باعتبار الجماعة، ولتأنيث لفظ «الملائكة» مع أن المذكور إذا تقدَّم فعلُهم - وهم جماعة - كان التأنيث فيه أحسن؛ كقوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب} [الحجرات: 14] . ومثل هذا {إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملاائكة} [الأنفال: 50] تُقْرأ بالتاء والياء، وكذا قوله: {تَعْرُجُ الملائكة} [المعارج: 4] . قال الزجاج: يلحقها التأنيث للفظ الجماعة، ويجوز أن يُعَبَّر عنها بلفظ التذكير؛ لأنه - تعالى جمع الملائكة، وهكذا قوله: {وَقَالَ نِسْوَةٌ} [يوسف: 30] . وإنما حَسُنَ الحذفُ - هنا - للفصل بين الفعل وفاعله. وقد تجرأ بعضُهم على قراءة العامة، فقال: «أكره التأنيثَ؛ لما فيه من موافقة دَعْوَى الجاهلية؛ لأن الجاهلية زعمت أن الملائكة إناث» . روى إبراهيم قال: كان عبد الله بن مسعود يُذَكِّر الملائكةَ في كُلِّ القرآنِ. قال أبو عُبَيْد: «نراه اختار ذلك؛ خلافاً على المشركين؛ لأنهم قالوا: الملائكة بناتُ اللهِ» . وروى الشعبيُّ أن ابن مسعود قال: «إذا اختلفتم في الياء والتاء فاجعلوها ياءً» . وتجرأ أبو البقاء على قراءة الأخوين، فقال: وكره قوم قراءة التأنيث لموافقة الجاهلية، ولذلك قرأ «فناداه» بغير تاء - والقراءة غير جيِّدة؛ لأن الملائكة جمع، وما اعتلوا ليس بشيءٍ؛ لأن الإجماع على إثبات التاء في قوله: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم} [آل عمران: 42] . وهذان القولان - الصادران من أبي البقاء وغيره - ليسا بجيِّدَيْن؛ لأنهما قراءتان متواترتان، فلا ينبغي أن ترد إحداهما ألبتة. والأخوان على أصلهما من غمالة «فَنَادَاهُ» . والرسم يحتمل القراءتين معاً - أعني: التذكير والتأنيث والجمهور على أن الملائكة المراد بهم واحد - وهو جبريل. قال الزَّجَّاج: أتاه النداء من هذا الجنس الذين هم الملائكة، كقولك: فلان يركب السُّفُنَ - أي: هذا الجنس كقوله تعالى: {يُنَزِّلُ الملاائكة} [النحل: 2] يعني جبريل «بِالرُّوحِ» يعني الوحي. ومثله قوله: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] وهو نعيم بن مسعود، وقوله: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173] يعني أبا سفيان. ولما كان جبريل - عليه السلام - رئيسَ الملائكة أخبر عنه إخبار الجماعة؛ تعظيماً له. قيل: الرئيس لا بدَّ له من أتباع، فلذلك أخبر عنه وعنهم، وإن كان النداء قد صدر منه - قاله الفضل بن سلمة - ويؤيد كون المنادي جبريل وحده قراءةُ عبد الله - وكذا في مصحفه - فناداه جبريل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 191 والعطف بالفاء - في قوله «فَنَادَتْهُ» - مُؤذِنٌ بأن الدعاء مُتَعقب بالتبشير. والنداء: رفع الصوت، يقال: نادَى ندَاء - بضم النون وكسرها - والأكثر في الأصوات مجيئها على الضم، نحو البُكَاء، والصُّراخ، والدُّعاء، والرُّغاء. وقيل: المكسور مصدر، والمصموم اسم. ولو عُكِسَ هذا لكان أبْيَنَ؛ لموافقته نظائره من المصادر. قال يعقوب بن السكيت: إن ضمّيت نونه قصرته، وإن كسرتها مددته. وأصل المادة يدل على الرفع، ومنه المنْتَدَى والنادي؛ لاجتماع القوم فيهما وارتفاع أصواتهم. وقالت قريش: دار الندوة، لارتفاع أصواتهم عند المشاورة والمحاورة فيها، وفلان أنْدَى صَوْتاً من فلان - أي: أرفع - هذا أصله في اللغة، وفي العرف: صار ذلك لأحسنها نَغَماً وصوتاً، والنَّدَى: المَطَر، ومنه: نَدِيَ، يَنْدَى، ويُعَبَّر به عن الجود، كما يُعَبَّر بالمطر والغيث عنه استعارةً. قوله: {وَهُوَ قَائِمٌ} جملة حالية من مفعول النداء، و «يُصَلِّي» يحتمل أوجهاً: أحدها: أن يكون خبراً ثانياً - عند مَنْ يرى تَعَدُّدَه مطلقاً - نحو: زيدٌ شاعرٌ فقيهٌ. الثاني: أنه حال من مفعول النداء، وذلك - أيضاً - عند مَنْ يجوِّز تعدُّدَ الحال. الثالث: أنه حال من الضمير المستتر في «قَائِمٌ» فيكون حالاً من حال. الرابع: أن يكون صفة لِ «قَائِمٌ» . قوله: {فِي المحراب} متعلق ب «يُصَلِّي، ويجوز أن يتعلق ب» قَائِمٌ «إذا جعلنا يُصَلِّي حالاً من الضمير في» قَائِمٌ «؛ لأن العامل فيه - حينئذ - وفي الحال شيء واحد، فلا يلزم فيه فَصْل، أما إذا جعلناه خبراً ثانياً أو صفة لِ» قَائِمٌ «أو حالاً من المفعول لزم الفصلُ بين العاملِ ومعمولهِ بأجنبيٍّ. هذا معنى كلام أبي حيّان. قال شِهَابُ الدِّيْنِ: والذي يظهر أنه يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع؛ فإن كُلاًّ من» قَائِمٌ «و» يصلِّي «يصح أن يتسلَّط على» فِي الْمِحْرَابِ «وذلك على أي وجهٍ تقدم من وجوه الإعراب. والمحراب - هنا -: المسجد. قوله: {إِنَّ الله} قرأ نافع وحمزة وابن عامر بكسر» إنَّ «والباقون بفتحها، فالكسر عند الكوفيين؛ لإجراء النداء مُجْرَى القولِ، فيُكْسر معه، وند البصريين، على إضْمار القول - أي: فنادته، فقالت. والفتح والحذف - على حذف حرف الجر، تقديره: فنادته الجزء: 5 ¦ الصفحة: 192 بأن الله، فلما حُذِفَ الخافض جَرَى الوجهان المشهوران في مَحَلِّها. وفي قراءة عبد الله:» فنادته الملائكة يا زكريا «فقوله:» يا زكريا «هو مفعول النداء، وعلى هذه القراءة يتعين كسر» إن «ولا يجوز فتحُها؛ لاستيفاء الفعلِ معموليه، وهما الضمير وما نُودي به زكريا. قوله: {يُبَشِّرُكَ} قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم الخمسة في هذه السورة {أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} - في موضعين - وفي سورة الإسراء: {وَيُبَشِّرُ المؤمنين} [الإسراء: 9] وفي سورة الكهف: {وَيُبَشِّرُ المؤمنين} - بضم الياء، وفتح الباء، وكسر الشين مشددة - من بَشَّرَه، يُبَشِّرُه. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم - ثلاثتهم - كذلك في سورة الشورى، وهو قوله: {ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ} [الشورى: 23] . وقرأ الجميع - دون حمزة - كذلك في سورة براءة: {يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ} [التوبة: 21] وفي الحجر - في قوله: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ} [الحجر: 53]- ولا خلاف في الثاني - وهو قوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54]- أنه بالتثقيل. وكذلك قرأ الجميع - دون حمزة - في سورة مريم - في موضعين {إِنَّا نُبَشِّرُكَ} [مريم: 7] وقوله: {لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين} [مريم: 97] . وكل من لم يذكر من قرأ بالتقييد المذكور فإنه يقرأ بفتح حرف المضارعة، وسكون الياء وضم الشين. وإذا أردت معرفة ضبط هذا الفَضل، فاعلم أن المواضع التي وقع فيها الخلاف المذكور تسع كلماتٍ، والقُرَّاء فيه على أربع مراتبٍ: فنافع وابن عامر وعاصم ثَقَّلُوا الجميعَ. وحمزة خفّف الجميع إلا قوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] . وابن كثير وأبو عمرو ثقلا الجميعَ إلا التي في سورة الشورَى فإنهما وافقَا فيها حمزة. والكسائي خفَّف خمساً منها، وثقَّل أربعاً، فخفَّفَ كلمتي هذه السورةِ، وكلمات الإسراء والكهفِ والشورَى. وقد تقدم أن في هذا الفعل ثلاث لغاتٍ: بشَّر - بالتشديد - وبَشَرَ - بالتخفيف -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 193 وعليه ما أنشده الفراء قوله: [الطويل] 1431 - بَشَرْتَ عِيَالِي إذْ رَأيْتَ صَحِيفَةً ... أتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا الثالثة: أبْشَرَ - رباعياً - وعليه قراءة بعضهم «يُبَشِّرُكَ» - بضم الياء. ومن التبشير قول الآخر: [الكامل] 1432 - يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ ... هَلاَّ غَضِبْتَ لَنَا وَأنْتَ أمِيْرُ؟ وقد أجمع على مواضع من هذه اللغات نحو «فَبَشِّرْهُمْ» . {وَأَبْشِرُوا} [فصلت: 30] ، {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ} [هود: 71] . قالوا: {بَشَّرْنَاكَ بالحق} [الحجر: 55] . فلم يرد الخلاف إلا في المضارع دونَ الماضي. وقد تقدم معنى البشارة واشتقاقها في سورة البقرة. قوله: {بيحيى} متعلق ب {يُبَشِّرُكَ} ولا بد من حذف مضاف، أي: بولادة يحيى؛ لأن الذوات ليست متعلقة للبشارة، ولا بد في الكلام من حذف معمول قاد إليه السياقُ، تقديره: بولادة يحيى منك ومن امرأتك، دلَّ على ذلك قرينةُ الحالِ وسياقُ الكلامِ. و «يحيى» فيه قولان: أحدهما - وهو المشهور عند المفسِّرين -: أنه منقول من الفعل المضارع وقد سَمُّوا بالأفعالِ كثيراً، نحو يعيش ويعمر ويموت. قال قتادة: «سُمِّي {بيحيى} لأن الله أحياه بالإيمان» . وقال الزَّجَّاج: «حيي بالعلم» وعلى هذا فهو ممنوع من الصرف للعلميَّة ووزن الفعل، نحو يزيد ويشكر وتغلب. والثاني: أنه أعجميّ لا اشتقاق له - وهو الظاهر - فامتناعه للعلمية والعُجْمَة الشخصية. وعلى كلا القولين يُجْمَع على «يَحْيَوْنَ» بحَذْف الألف وبقاء الفتحةِ تدلّ عليها. وقال الكوفيون: إن كان عربيَّا منقولاً من الفعل فالأمر كذلك، وإن كان أعجمياً ضُمَّ ما قبل الواو، وكسر ما قبل الياء؛ إجراءً له مُجْرَى المنقوص، نحو جاء القاضُون، ورأيت القاضِين، نقل هذا أبو حيّان نهم. ونقل ابنُ مالك عنم أن الاسم إن كانت ألفه زائدةً ضُمَّ ما قبلَ الواو، وكُسِرَ ما قبلَ الياءِ، نحو: جاء حبلون ورأيت حُبلِين، وإن كانت أصليةً نحو دُجَوْن وجب فتح ما قبل الحرفين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 194 قالوا: فإن كان أعجمياً جاز الوجهان؛ لاحتمال أن تكون ألفهُ أصليةً أو زائدة؛ إذْ لا يُعْرَف له اشتقاق. ويصغر يحيى على «يُحَيَّى» وأنشد للشيخ أبي عمرو بن الحاجب في ذلك: [مجزوء الرمل] 1433 - أيُّها الْعَالِمُ بِالتَّصْرِ ... يفِ لا زِلْتَ تُحَيَّا قَالَ قَوْمٌ: إنَّ يَحْيَى ... إنْ يُصَغَّرْ فَيُحَيَّا وَأبَى قَوْمٌ فَقَالُوا ... لَيْسَ هَذَا الرَّأيُ حَيَّا إنَّمَا كَانَ صَوَاباً ... لَوْ أجَابُوا بِيُحَيَّا كَيْفَ قَدْ رَدُّوا يُحَيَّا ... أمْ تَرَى وَجْهاً يُحَيَّا؟ وهذا جارٍ مَجْرَى الألْغاز في تصغير هذه اللفظة، وذلك يختلف بالتصريف والعمل، وهو أنه لما اجتمع في آخر الاسم المصَغَّر ثلاثُ ياءاتٍ جرى فيه خلافٌ بين النحاة بالنسبةِ إلى الحَذْف والإثبات، وأصل المسألة تصغير «أحْوَى» ويُنْسَب إلى «يَحْيَى» «يَحْيَى» - بحذف الألف، تشبيهاً لها بالزائد - نحو حُبْلِيّ - في حُبْلَى - و «يَحْيَوِيّ» - بالقلب؛ لأنها أصل كألف مَلْهَوِيّ، أو شبيهة بالأصل إن كان أعجمياً - و «يَحْيَاوِيّ» - بزيادة ألف قبل قَلْبِ ألفِهِ واواً. وقرأ حمزة والكسائي «يَحْيَى» بالإمالة؛ لأجل الياء والباقون بالتفخيم. قال ابن عباس: «سُمِّيَ» يَحْيَى؛ لأن اللهَ أحيا به عَقْرَ أمِّه. وقال قتادة: لأن الله أحيا قلبه بالإيمان. وقيل: لأن الله أحياه بالطاعة حتى إنه لم يَعْصِ اللهَ، ولم يَهِمّ بمعصيةٍ. قال القرطبي: «كان اسمه - في الكتاب الأول - حَيَا، وكان اسم سارة - زوجة إبراهيم - يسارة، وتفسيره بالعربية: لا تلد، فلما بُشِّرَت بإسحاق قيل لها: سارة، سمَّاها بذلك جبريل - عليه السلام - فقالت: يا إبراهيم، لم نقص من اسمي حرف؟ فقال إبراهيم ذلك لجبريل - عليه السلام - فقال: إن ذلك حرف زيد في اسمِ ابنٍ لها من أفضل الأنبياء، اسمه حيا، فسُمِّي بيَحْيَى» . قوله: {مُصَدِّقًا} حال من «يَحْيَى» وهذه حال مقدرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 195 وقال ابن عطية: «هي حال مؤكدة بحسب حال هؤلاء الأنبياء عليهم الصلاة والسلام» . و «بِكلِمةٍ» متعلق ب «مُصَدِّقاً» . وقرأ أبو السّمال «بِكِلْمَةٍ» - بكسر الكاف وسكون اللام - وهي لغة صحيحة؛ وذلك أنه أتبع الفاء للعين في حركتها، فالتقى بذلك كسرتان، فحذف الثانيةَ؛ لأجل الاستثقال. فصل قيل: المراد بها الجمع؛ إذ المقصود التوراة والإنجيل وغيرهما من كتب الله تعالى المُنَزَّلة فعبَّر عن الجمع ببعضه، ومثل هذا قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالَهَا شَاعِرٌ كَلِمَةُ لَبِيدٍ» حيثُ قال: [الطويل] 1434 - ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِل ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . وذكر جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - الحُوَيْدِرَة فقال: لَعَنَ اللهُ كلمته - يعني قصيدته. وقال الجمهور: الكلمة: هي عيسى عليه السلام. قال السديُّ: لقيت أمُّ عيسى، أمَّ يَحيى - وهذه حامل بعيسى، وتلك حامل بيحيى - فقالت أم يحيى: أشعَرْتِ أني حُبْلَى؟ : فقالت: مريم: وأنا - أيضاً - حُبْلَى، قالت امرأة زكريا: فإني وجدت ما في بطني يسجد لما في بطنك، فذلك قوله: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله} . قال القرطبيُّ: «رُوِيَ أنها أحسَّت بجنينها يَخِرّ برأسه إلى ناحية بطن مريم» . وقال ابن عبّاسٍ: إن يحيى كان أكبر سِنًّا من عيسى بستةِ أشهر. وقيل: بثلاث سنين، وكان يحيى أول من آمن به وصدق بأنه كلمة الله وروحه. وسمي عيسى عليه السلام كلمة. قيل: لأنه خُلِقَ بكلمة من الله {كُنْ فَيَكُونُ} من غير واسطة أب فسمي لهذا كلمة - كما يسمى المخلوق خَلْقاً، والمقدور قُدْرة، والمرجُوُّ رجاءً، والمشتَهَى شهوةً - وهو باب مشهور في اللغة. وقيل: هو بشارة اللهِ مريم بعيسى - بكلامه على لسان جبريل عليه السَّلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 196 وقيل: لأنه تكلم ف يالطفوليَّة، وأتاه الكتاب في زَمَنِ الطفوليَّةِ، فلهذا كان بالغاً مبلغاً عظيماً، فسُمِّيَ كلمة كما يقال: فلان جود وإقبال - إذا كان كاملاً فيهما. وقيل: لما وردت البشارةُ به في كتب الأنبياء قبله، فلما جاء قيل: هذا هو تلك الكلمة - كما إذا أخبر عن حدوث أمر، فإذا حَدَث ذلك الأمر، قال: قد جاء قولي، وجاء كلامي - أي: ما كنت أقول، وأتكلم به - ونظيره قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين كفروا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار} [غافر: 6] وقوله: {ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين} [الزمر: 71] . وقيل: لأن الإنسان قد يُسَمَّى ب «فضل الله» و «لطف الله» وكذلك عيسى كان اسمه كلمة الله وروح الله. واعلم أن كلمة الله - تعالى - كلامه، وكلامه - على قول أهل السنة - صفةٌ قديمةٌ قائمةٌ بذاته وفي قول المعتزلة: صفة يخلقها الله في جسم مخصوص، دالة بالوضع على معاني مخصوصة. وضروريّ حاصل بأن الصفة القديمة، أو الأصوات التي هي أعراض غير باقية يستحيل أن يقال: إنها ذات عيسى، ولما كان ذلك باطلاً في بداهة العقول، لم يَبْقَ إلا التأويل. قوله: {مِّنَ الله} في محل جر؛ صفة ل «كَلِمَةٍ» فيتعلق بمحذوف، أي: بكلمة كائنة من الله {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً} أحوال أيضاً - كمصَدِّقاً. والسيد: فَيْعِل، والأصل سَيْود، ففُعِلَ به ما فعل ب «ميت» ، كما تقدم، واشتقاقه من سَادَ، يَسُودُ، سِيَادَةً، وسُؤدُداً - أي فاق نظراءه في الشرف والسؤدد. ومنه قوله: [الرجز] 1435 - نَفْسٌ عِصَامٍ سَوَّدَتْ عِصَاما ... وَعَلَّمَتْهُ الْكَرَّ والإقْدَامَا وَصَيَّرَتْهُ بطلاً هُمَامَا وجمعه على «فَعَلَة» شاذ قياساً، فصيح استعمالاً؛ قال تعالى: {إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا} [الأحزاب: 67] . وقال بعضهم: سُمي سيِّداً؛ لأنه يسود سَوَاد الناس أي: مُعْظَمهم وجُلَّهم. والأصل سَوَدَة، و «فَعَلَة» لِ «فاعِل» نحو كافِر وكفرة، وفاجِر وفَجَرَة، وبارّ وبررة. وقال ابن عباس: السَّيِّد: الحليم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 197 قال الجبائي: إنه كان سيداً للمؤمنين، ورئيساً لهم في الدين - أعني: في العلم والحلم والعبادة والورع. قال مجاهدٌ: السَّيِّد: الكريم على الله تعالى. وقال ابن المُسَيِّبِ: السيِّد: الفقيه العالم. وقال عكرمة: السيد: الذي لا يغلبه الغضبُ. وقيل: هو الرئيس الذي يتبع، ويُنتَهَى إلى قولهِ. وقال المفضل: السيد في الدين. وقال الضحاك: الحسن الخلق. وقال سعيد بن جبير: هو الذي يُطيع ربَّه. ويقول عن الضَّحَّاكِ: السيد: التقِيّ. وقال سفيان: الذي لا يحسد. وقيل: هو الذي يفوق قومَه في جميع خصال الخيرِ. وقيل: هو القانع بما قسم الله له. وقيل: هو السَّخِيّ. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ سَيدُكُمْ يَا بَنِي سَلمةَ» ؟ قالوا: جَد بن قَيْس على بُخْلِه، فقال: «وأي دواء أدوى من البخل، لكن سَيِّدَكم عمرو بن الجموح» وفي الآية بذلك دليل على جواز تسمية الإنسان سيداً كما تجوز تسميته عزيزاً وكريماً. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لبني قريظة: «قوموا إلى سيِّدكم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 198 وقال - في الحسن -: «إن ابني هذا سَيِّدٌ، فلعلَّ اللهَ يُصْلِحُ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْن عَظِيْمَتين من المسلمين» . قال الكسائي: السيّد من المَعْز: [الْمُسِّن] . وفي الحديث: «الثَّنِيُّ من الضَّأن خير من السَّيِّد مِن الْمَعْزِ الْمُسِنّ» . وقال الشاعر: [الطويل] 1436 - سَوَاءٌ عَلَيْهِ شَاةُ عَامٍ دَنَت لَهُ ... لِيَذْبَحَهَا للِضَّيْفِ أمْ شَاةُ سَيِّد والحصور: فعول للمبالغة، مُحَوَّل من حاصر، كضروب. وفي قوله: [الطويل] 1437 - ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمَانِهَا ... إذَا عَدِمُوا زاداً فَإنَّكَ حَاصِرُ وقيل: بل هو فَعُول بمعنى: مفعول، أي: محصور، ومثله ركوب بمعنى: مركوب، وحلوب بمعنى: محلوب. والحصور: الذي يكتم سره. قال جرير: [الكامل] 1438 - وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِراً بِسِرِّكِ يَا أمَيْمَ ضَنِينَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 199 وهو البخيل - أيضاً - قال: [البسيط] 1439 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... لاَ بِالْحَصُورِ وَلاَ فِيهَا بِسَئّارِ وقد تقدم اشتقاق هذه المادة وهو مأخوذ من المنع؛ وذلك لأن الحصور هو الذي لا يأتي النساء - إما لطبعه على ذلك، وإما لمغالبته نفسه - قال ابنُ مسعودٍ وابن عبَّاس وسعيد بن جبير وقتادة وعطاء والحسن: الحصور: الذي لا يأتي النساء ولا يقربُهُنَّ، وهو - على هذا - بمعنى فاعل، يعني أنه يحصر نفسه عن الشهوات. قال سعيد بن المُسيِّبِ هو العِنِّين الذي لا ماء له، فيكون بمعنى «مفعول» كأنه ممنوع من النساء. واختيار المحققين أنه الذي لا يأتي النساء لا للعجز بل للعفة والزهد - مثل الشروب والظلوم والغشوم - والمنع إنما يحصل إذا كان المقتضي قائماً، والدفع إنما يحصل عند قوة الداعية والرغبة والغِلْمَة. والكلام إنما خرج مخرج الثناء وأيضاً فإنه أبعد من إلحاق الآفة بالأنبياء - والصفة التي ذكروها صفة نقص، وذكر صفة النقصان في معرِض المدحِ، لا يجوز، ولا يستحق به ثواباً ولا تعظيماً. فصل احتجَّ بعضُهم - بهذه الآية - على أن ترك النكاح أفضل؛ لأنه - تعالى - مدحه بترك النكاح، فيكون تركه أفضل في تلك الشريعة، فيجب أن يكون الأمر كذلك في شريعتنا؛ للنص والمعقول أما النص فقوله تعالى: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 200 وأمَّا المعقول فهو أن الأصل في الثابت بقاؤه على ما كان، والنسخ على خلاف الأصل. وأجيبوا بأن هذا منسوخ بقوله - «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا» وقوله: «لا رَهْبَانِيَّةَ فِي الإسلامِ» . وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «النِّكَاحُ سُنَّتِي وَسُنَّةُ الأنبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، فَمَنْ رَغِبَ عَن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» . وقولهم: النسخ على خلاف الأصل. قلنا: مسلم إذا لم يُعْلَم الناسخُ، وقد علمناه. قوله: {وَنَبِيًّا} اعلم أن السيادةَ إشارة إلى أمرين: أحدهما: القدرة على ضبط مصالح الخَلْق فيما يرجع إلى تعليمِ الدين. والثاني: ضبط مصالحهم في تأديبهم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. والحصور إشارة إلى الزهد التام، فلما اجتمعا حصلت النبوة؛ لأنه ليس بعدهما إلا النبوة. قوله: {مِّنَ الصالحين} صفة لقوله: {وَنَبِيّاً} فهو في محل نصب، وفي معناه ثلاثة أوجهٍ: الأول: معناه من أولاد الصالحين. الثاني: أنه خَيِّر - كما يقال للرجل الخَيِّر: إنه من الصالحين. الثالث: أن صلاحه كان أتمَّ من صلاح سائر الأنبياء؛ لقوله - عليه السلام -: «مَا مِنْ نَبِيٍّ إلاَّ عَصَى وَهَمّ بِمَعْصِيَةٍ إلاَّ يحيَى بن زكريا، فإنه لم يَعْصِ ولم يَهِمَّ بمعصيةٍ» . فإن قيل: إن كان منصب النبوة أعلى من منصب الصلاح، فما الفائدة في ذكر منصب الصلاح بعد ذكر النبوة؟ فالجواب: أن سليمان - بعد حصول النبوة - قال: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 201 وتحقيقه أن للأنبياء قدراً من الصلاح لو انتقص لانتفت النبوة، فذلك القدر - بالنسبة إليهم - يجري مجرى حفظ الواجبات - بالنسبة إلينا - وبعد اشتراكهم في ذلك القدر تتفاوت درجاتُهم في الزيادة على ذلك القدر، فكلما كان أكثر نصيباً كان أعلى قَدْراً. والله أعلم. قوله: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} يجوز أن تكون الناقصة، وفي خبرها - حينئذ - وجهان: أحدهما: « {أنى» لأنها بمعنى «كيف» أو بمعنى «مِنْ أيْنَ» ؟ ، و «لِي» - على هذا - تبيين. والثاني: أن الخبر هو الجار والمجرور، و «كيف» منصوب على الظرف. ويجوز أن تكون التامة، فيكون الظرف والجار - كلاهما - متعلقين ب «يَكُونُ» ، أي: كيف يحدث لي غلام؟ ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «غُلاَمٌ» ؛ لأنه لو تأخر لكان صفةً له. قوله: {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} جملة حالية. قال أهل المعاني: «كل شيء صادفتَه وبلغتَه فقد صادفكَ وبلغكَ» . فلهذا جاز أن نقول: بلغتُ الكِبَرَ، وجاز أن تقول: بلغَنِي الكِبَرُ، يدل عليه قولُ العربِ: تلقيت الحائط وتلقاني الحائط. وقيل: لأن الحوادث تطلب الإنسان. وقيل: هو من المقلوب، كقوله: [البسيط] 1440 - مِثْلُ الْقَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ ... نَجْرَانَ أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجرُ فإن قيل: أيجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد؟ فالجواب: أنه لا يجوز، والفرق بينهما أن الكِبَر كالشيء الطالب للإنسان، فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتيه - أيضاً - بمرور السنين عليه، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب، فظهر الفرقُ. فصل قدم في هذه السورة حال نفسه، وأخَّر حالَ امرأته، وفي سورة مريم عكس. فقيل: لأن ضَرْبَ الآيات - في مريم - مطابق لهذا التركيب؛ لأنه قدَّم وَهْنَ عَظْمِه، واشتعالَ شيْبه، وخوفه مواليه ممن ورائه، وقال: «وَكَانَتِ امْرَأتِي عَاقِراً» فلما أعاد ذِكْرَهما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 202 في استفهامه أخر ذِكْر الكِبَر، ليوافق رؤوس الآي - وهي باب مقصود في الفصاحة - والعطف بالواو لا يقتضي ترتيباً زمانيًّا فلذلك لم يبال بتقديم ولا تأخير. فصل الغلام: الفَتِيُّ السِّنِّ من الناس - وهو الذي بَقَلَ شَارِبُه - وإطلاقه على الطفل وعلى الكهل مجاز؛ أما الطفل فللتفاؤل بما يئول إليه، وأما الكهل، فباعتبار ما كان عليه. قالت ليلى الأخيليّة: [الطويل] 1441 - شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا ... غُلاَمٌ إذَا هَزَّ القَنَاةَ سَقَاهَا وقال بعضهم: ما دام الولد في بطن أمِّه سُمِّي جَنِيناً، قال تعالى: {وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] سمي بذلك لاجتنانه في الرحم، فإذا وُلِدَ سُمِّي صَبِيًّا، فإذا فُطِمَ سمي غُلاماً إلى سبع سنين، ثم يُسَمَّى يافعاً إلى أن يبلغ عشر سنين، ثم يُطْلَق عليه حَزَوَّر إلى خمس عشرة سنة، ثم يصير قمراً إلى خمس وعشرين سنةً، ثم عنطْنَطاً إلى ثلاثين. قال الشاعر: [الطويل] 1442 - وَبِالْمَخْضِ حَتَّى صَارَ جَعْداً عَنَطْنَطاً ... إذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الْفَحْلِ غَارِبُهْ ثم حَلْحَلاً إلى أربعين، ثم كَهْلاً إلى خمسين - وقيل: إلى ستين - ثم شيخاً إلى ثمانين، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند قوله: {فِي المهد وَكَهْلاً} [آل عمران: 46] ثم هو راغم بعد ذلك. واشتقاق «الغلام» من الغِلْمَة والاغتلام، وهو طلب النكاح، لما كان مسبباً عنه أخذ منه لفظه. ويقال: اغتلم الفَحْلُ: أي: اشتدت شهوتُه إلى طلب النكاح، واغتلم البحر، أي: هاج وتلاطمت أمواجه، مستعار منه. وجمعه - في القلة - أغْلِمَةٌ، وفي الكثرة: غِلْمان، وقد جمع - شذوذاً - على غِلْمَة، وهل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع؟ قال الفراء: «يقال: غلام بيِّن الغلومة والغلومِيَّة والغُلامية، قال: والعرب تجعل مصدر كل اسم ليس له فعل معروف على هذا المثال فيقولون: عبد بَيِّنُ العبودية والعُبَاديَّة - يعني لم تتكلم العرب من هذا بفعل -» . قال القرطبي: والغَيْلم: ذكر السلحفاة، والغَيْلم: موضع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 203 وهي مصدر كَبِر يَكْبَر كِبَراً أي: طعن في السِّنِّ، قال: [الطويل] 1443 - صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبَهْمَ يَا لَيْتَ أنَّنَا ... إلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ فصل قال الكلبيُّ: كان زكريا - يوم بُشِّر بالولد - ابن ثنتين وتسعين سنة. وقيل: ابن ثنتين وسبعين سنة. وروى الضحاك - عن ابن عباسٍ - قال: كان ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنةً. فإن قيل: قوله: {رَبِّ أنى يَكُونُ} خطاب مع الله، أو مع الملائكة، وليس جائزاً أن يكون مع الله تعالى؛ لأن الآية المقدمةَ دلَّت على أن الذين نادَوْه هم الملائكةُ، وهذا الكلام، لا بُدَّ أن يكون خطاباً مع ذلك المنادَى لا مع غيره، وليس جائزاً أن يكون خطاباً مع الملك؛ لأنه لا يجوز أن يقول الإنسان للملك: يا رب، فذكر المفسّرون فيه جوابَيْنِ: أحدهما: أن الملائكة لما نادَوه وبَشَّروه تعجَّب زكريا، ورجع في إزالة ذلك التعجُّب إلى الله - تعالى -. الثاني: أنه خطاب مع الملائكة، والربُّ إشارة غلى المربِّي، ويجوز وَصْف المخلوقِ به، فإنه يقال: فلان يربيني ويُحْسِن إليَّ. فإن قيل: لم قال زكريا - بعدما وعده الله وبشره بالولد -: «أنى يكون لي غلام» أكان ذلك عنده محال أو شَكًّا في وعد الله وقدرته؟ فالجواب: من وجوهٍ: أحدها: إن قلنا: معناه من أين؟ هذا الكلام لم يكن لأجل أنه لو كان لا نُطْفَةَ إلا مِن خَلْق، ولا خَلْقَ إلا من نطفة، لزم التسلسل، ولزم حدوث الحوادث في الأزل - وهو محال - فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله - تعالى - لا من نطفة، أو من نطفة خلقها اللهُ - تعالى - لاَ مِنْ إنسان. [ثانيها] : يحتمل أن زكريَّا طلب ذلك من الله - تعالى - فلو كان ذلك محالاً ممتنعاً لَمَا طلبه من الله - تعالى -. وإذا كان معنى «أنَّى» : كيف، فحدوث الولد يحتمل وجهين: أحدهما: أي منع شيخوخته، وشيخوخة امرأته، أو يجعله وامرأته شابين، أو يرزقه الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 204 ولداً من امرأة أخْرَى، فقوله: {رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} معناه: كيف تعطيني الولد؟ فسأل عن الكيفية على القسم الأول، أمّا على القسم الثاني فقال مستفهماً لا شاكاً. قاله الحسنُ والأصمّ. وثانيهما: أن من كان آيساً من الشيء مستبعِداً لحصوله ووقوعه، إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود، فربما صار كالمدهوش من شدة الفرحِ، ويقول: كيف حصل هذا؟ ومن أين وقع؟ كمن يرى إنساناً وَهَبَ أموالاً عظيمة، يقول: كيف وَهَبَ هذه الأموالَ؟ ومن أين سَمَحَتْ نفسك بِهبَتِهَا. كذا هنا. الثالث: أن الملائكة لما بشَّروه بيحيى، لم يعلم أنه يُرزَق الولد من جهة أنثى، أو من صُلْبه، فذكر هذا الكلام ليزول ذلك الاحتمال. الرابع: أن العبد إذا كان في غاية الاشتياقِ إلى شيء يطلب من السيد، ثم إن السيد يَعِدُه بأنه سيعطيه، فعند ذلك يلتذُّ السائلُ بسماعِ ذلك، فربما أعاد السؤال؛ ليُعِيدَ ذلك الجواب، فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى، فيحتمل أن يكون هذا هو السبب في إعادة هذا الكلام. الخامس: نقل عن سفيان بن عيينة قال: كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان نسي ذلك السؤال وقت البشارةِ، فلما سمع البشارة - زمان الشيخوخة - استبعد ذلك - على مجرى العادة لا شكًّا في قدرة الله - تعالى -. السادس: قال عكرمة والسُّدِّيُّ: إنَّ زكريا - عليه السلام - جاءه الشيطان عند سماع البشارة، فقال يا زكريا إن هذا لصوت من الشيطان - وقد سخر منك - ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور، فقال زكريا ذلك؛ دَفْعاً للوسوسة، ومقصوده من هذا الكلام أن يُرِيَه الله آيةً تدل على ن ذلك الكلامَ من الوَحْيِ والملائكة لا من إلقاء الشيطانِ. قال القرطبي: لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشياطينِ عند الأنبياء عليهم السلام؛ إذْ لَوْ جوَّزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع. ويمكن أن يُجاب بأنه لمَّا قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله بواسطة الملائكة، ولا مَدْخَل للشيطان فيه، أمّا ما يتعلق بمصالح الدنيا أو الولد، فربما لا يتأكد ذلك بالمعجزات. فلا جرم [بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان] ، فرجع إلى الله - تعالى - في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 205 قوله: {وامرأتي عَاقِرٌ} جملة حالية، إما من الياء في «لِي» فيتعدد الحال - عند مَنْ يراه - وإما من الياء في «بَلَغَنِي» ، والعاقر: مَنْ لا يولد له رجلاً كان أو امرأة، مشتقاً من العَقْر، وهو القتل، كأنهم تخيلوا فيه قتل أولاده، والفعل - بهذا المعنى - لازم، وأما عَقَرْتُ - بمعنى «نَحَرْت» فمُتَعَدٍّ. قال تعالى: {فَعَقَرُواْ الناقة} [الأعراف: 77] . وقال الشاعر: [الطويل] 1444 - ... ... ... ... ... ... ... . ... عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ الْقَيْسِ فَانْزِلِ وقيل: عاقر - على النسب - أي: ذات عقر، وهي بمعنى مفعول، أي: معقورة، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث، والعَُقْر بفتح العين وضمها - أصل الشيء، ومنه عقر الدار، وعقر الحوض، وفي الحديث: «ما غُزِيَ قَوْمٌ قَطٌّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلاَّ ذَلُّوا» وعقرته، أي: أصبت عقره، أي: أصله - نحو رأسته، أي أصبت رأسه، والعقر - أيضاً - آخر الولد، وكذلك بيضة العَقر، والعقار: الخمر لأنها تعقر العقل - مجازاً - وفي كلامهم رفع فلان عقيرته، أي: صوته، وذلك أن رَجَلاً عُقِرَ رجله فرفع صوته، فاستُعِير ذلك لكلّ من رفع صوته. وقال: وأنشد الفراء: [الرجز] 1445 - أرْزَامُ بَابٍ عَقُرَتْ أعْوَامَا ... فَعَلَّقَتْ بُنَيَّهَا تَسْمَامَا وقال بعضهم: يقال: عَقُرت المرأةُ تعقُر عَقْراً وعَقَاراً ويقال: عَقُر الرجل وعَقَر وعَقِرَ إذا لم تَحْبَل زوجته، فجعل الفعل المسند إلى الرجل أوسع من المسند إلى المرأة. قال الزّجّاج: عاقر بمعنى ذات عُقر قال: لأن فَعُلْت أسماء الفاعلين منه على فعيل نحو ظريفة، وكريمة، وإنما عاقر على ذات عُقْر، قلت: وهذا نص في أن الفعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 206 المسند للمرأة لا يقال فيه إلا عَقُرَتْ - بضم القاف؛ إذْ لَوْ جاز فَتْحها، أو كسرها لجاء منهما فَاعِل - من غير تأويل على النسب، ومن ورود عاقر وصفاً للرجل قول عامر بن الطفيل: [الطويل] 1446 - لَبِئْسَ الْفَتَى إنْ كُنْتُ أعْوَرَ عَاقِراً ... جَبَاناً فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ قال القرطبيُّ: «والعاقر: العظيم من الرمل، لا يُنْبِت شيئاً، والعُقْر - أيضاً - مهر المرأة إذا وطئت بِشُبْهَةٍ وبَيْضَةُ الْعُقْر: زعموا أنها بيضة الديك، لأنه يبيض في عمره بيضةً واحدةً إلى الطول، وعقر النار - أيضاً - وسطها ومعظمها وعقر الحوض: مُؤخِّره - حيث تقف الإبل إذا وردت» . قوله: {قَالَ كَذَلِكَ} هذا القائل هو الرب المذكور في قوله: {رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} وقد ذكرنا أنه يحتمل أن يكون هو الله تعالى وأن يكون هو جبريل - عليه السلام. قوله: {كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} في الكاف وجهان: أحدهما: أنها في محل نصب، وفيه التخريجان المشهوران: الأول - وعليه أكثر المعربين -: أنها نعت لمصدر محذوف، وتقديره يفعل الله ما يشاء من الأفعال العجيبة، مثل ذاك الفعل، وهو خلق الولد بين شيخ فَانٍ وعجوز عاقرٍ. والثاني أنها في محل نصب على الحال من ضمير ذلك المصدرِ، أي: يفعل الفعل حال كونه مثل ذلك وهو مذهب سيبويه، وقد تقدم إيضاحه. الثاني - من وجهي الكاف -: أنها في محل رفع خبر مقدَّم، ولفظ الجلالة مبتدأ مؤخر، فقدره الزمخشري على نحو هذه الصفة لله، ويفعل ما يشاء بيان له، وقدره ابن عطية: «كهذه القدرة المستغربة هي قدرة الله» . وقدّره أبو حيّان، فقال: «وذلك على حذف مضاف، أي: صنع الله الغريب مثل ذلك الصنع، فيكون {يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} شرحاً للإبهام الذي في اسم الإشارة» . فالكلام - على الأول - جملة واحدة، وعلى الثاني جملتان. وقال ابن عطية: «ويحتمل أن تكون الإشارة بذلك إلى حال زكريا وحال امرأته، كأنه قال: رَبِّ على أيّ وجه يكون لنا غلام ونحن بحال كذا؟ فقال لهما: كما أنتما يكون لكما الغلام، والكلام تام، على هذا التأويل - في قوله» كذلك «، وقوله: {الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} جملة مبيِّنة مقررة في النفس وقوع هذا الأمر المستغرب» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 207 وعلى هذا الذي ذكره يكون «كَذَلِكَ» متعلقاً بمحذوف، و «اللهُ يَفْعَلُ» جملة منعقدة مع مبتدأ وخبر. قوله: {اجعل لي آيَةً} يجوز أن يكون الجعل بمعنى التصيير، فيتعدى لاثنين: أولهما «آية» ، الثاني: الجار قبله، والتقديم - هنا - واجب؛ لأنه لا مسوغ للابتداء بهذه النكرة - وهي آية - أي: لو انحلت إلى مبتدأ وخبر إلا تقدم هذا الجار، وحكمها بعد دخول الناسخ حكمها قبله، والتقدير: صير آية من الآيات لي، ويجوز أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد - أي: أوجد لي آية - فيتعدى لواحد، وفي «لِي» - على هذا - وجهان: أحدهما: أن يتعلق بالجَعْل. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «آيةً» ؛ لأنه لو تأخَّر لجاز أن يقع صفة لها. ويجوز أن يكون للبيان. وحرك الياء - بالفتح - نافع وأبو عمرو، وسكنها الباقون. فصل المراد بالآية: العلامة، أي: علامة أعلم بها وقتَ حضمْل امرأتي، فأزيد في العبادة شكراً لذلك، وذكروا في الآية وجوهاً: أحدها: أنه - تعالى - حبس لسانه ثلاثة أيامٍ، فلم يقدر أن يكلم الناس إلا رمزاً؛ وهو قول أكثر المفسّرين، وفيه فائدتان: إحداهما: أن يكون ذلك دليلاً على علوق الولد. والثانية: أنه تعالى - حبس لسانه عن أمور الدنيا، وأقْدَره على الذكر، والتسبيح، والتهليل، فيكون في تلك المدةِ مشتغِلاً بذكر الله - تعالى - وبالطاعة وبالشكر على تلك النعمة. واعلم أن اشتمالَ تلك الْوَاقِعَةِ على المعجزة من وجوهٍ: أحدها: أن قدرته على التكلُّم بالتسبيح والذكر، وعجزه عن الكلام بأمور الدنيا من أعظم المعجزات. وثانيها: أن حصول تلك المعجزة في تلك الأيامِ المقدرة - مع حصول البنية واعتدال المزاج - معجزة ظاهرة. ثالثها: أن إخباره بأنه متى حصلت هذه الحالة، فقد حصل الولد، ثُم إنَّ الأمر خرج على وفق هذا الخبر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 208 الثاني: قال أبو مسلم: إنّ زكريا لما طلب من الله آيةً تدل على علوق الولد، قال تعالى: آيتك أن تصير مأموراً بأن لا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ بلياليها مع الخلق، وأن تكون مشتغلاً بالذكر، والتسبيح، والتهليل، معرضاً عن الخلق والدنيا؛ شكراً لله - تعالى - على إعطاء مثل هذه الموهبة، فإن كانت لك حاجة دُلَّ عليها بالرمز، فإذا أمرت بهذه الطاعة فقد حصل المطلوب. الثالث: قال قتادة: أمسك لسانه عن الكلام؛ عقوبة لسؤاله الآية - بعد مشافهة الملائكة له بالبشارة - فلم يقدر على الكلام ثلاثة أيام. وقوله: {أَلاَّ تُكَلِّمَ} «أن» وما في حَيِّزها في محل رفع؛ خبراً لقوله: {آيَتُكَ} أي آيتك عدم كلامك الناس. والجمهور على نصب «تُكَلِّمَ» بأن المصدرية. وقرأ ابن أبي عبلة برفعه، وفيه وجهان: أحدهما: أن تكون «أن» مخففة من الثقيلة، واسمها - حينئذ - ضمير الشأن محذوف والجملة المنفيَّة بعدها في محل رفع، خبراً لِ «أن» ومثله: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ} [طه: 89] وقوله: {وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [المائدة: 71] ووقع الفاصل بين «أن» والفعل الواقع خبرها حرف نفي، ولكن يُضعف كونَها مخفَّفةً عدمُ وقوعها بعد فعل يقين. والثاني: أن تكون «أن» الناصبة حُمِلَتْ على «ما» أختها، ومثله: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] و «أن» وما في حيزها - أيضاً - في محل رفع، خبراً ل «آيتك» . قوله: {ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ} الصحيح أن هذا النحو - وهو ما كان من الأزمنة يستغرق جميع الحدث الواقع فيه - منصوب على الظرف، خلافاً للكوفيين، فإنهم ينصبونه نصب المفعول به. وقيل: وثم معطوف محذوف تقديره ثلاثة أيام ولياليها، فحذف، كقوله تعالى: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ونظائره؛ يدل على ذلك قوله - في سورة مريم - {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} [مريم: 10] وقد يقال: إنه يؤخذ المجموع من الآيتين، فلا حاجة إلى ادعاء حذف؛ فإنه على هذا التقدير الذي ذكرتموه - يحتاج إلى تقدير معطوف في الآية الأخرىك ثلاث ليال وأيامها. قوله: {إلاَّ رَمْزًا} فيه وجهان: أحدهما: أنه استثناء منقطع؛ لأن الرمز ليس من جنس الكلام، إذ الرمز الإشارة بعَيْن، أو حاجب أو نحوهما، ولم يذكر أبو البقاء غيره. وبه بدأ ابن عطية مختاراً له، فإنه قال: «والمراد بالكلام - في الآية - إنما هو النطق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 209 باللسان لا الإعلام بما في النفس، فحقيقة هذا الاستثناء، منقطع، ثم قال: وذهب الفقهاءُ إلى أن الإشارة ونحوها في حكم الكلام في الأيْمَان ونحوها؛ فعلى هذا يجيء الاستثناء متصلاً» . والوجه الثاني: أنه متصل؛ لأن الكلام لغة يطلق بإزاء معانٍ: الرمز والإشارة من جملتها. أنشدوا: [الطويل] 1447 - إذَا كَلَّمَتْنِي بِالْعُيُونِ الْفَوَاتِرِ ... رَدَدتُ عَلَيْهَا بِالدُّمُوعِ الْبَوَادِرِ وقال آخر: [الطويل] 1448 - أرَادَتْ كَلاَماً فَاتَّقَتْ مِنْ رَقِيبِهَا ... فَلَمْ يَكُ إلاَّ وَمْؤُهَا بِالْحَوَاجِبِ وهو مستعمل، قال حبيب: [البسيط] 1449 - كَلَّمْتُهُ بِجُفُونٍ غَيْرِ نَاطِقَةٍ ... فَكَانَ مِنْ رَدِّهِ مَا قَالَ حَاجِبُهُ وبهذا الوجه بدأ الزمخشريُّ مختاراً له، قال: «لما أدى مؤدَّى الكلام، وفُهِم منه ما يُفْهَم سُمِّي كلاماً، ويجوز أن يكون استثناء منقطعاً» . والرمز: الإشارة والإيماء بعين، أو حاجب أو يَدٍ - ذكر بعض المفسّرين أن إشارته كانت بالمُسَبِّحة ومنه قيل للفاجرة: الرَّمَّازة، والرمَّازة، وفي الحديث: «نَهَى عَنْ كَسْبِ الرَّمَّازَةِ» ، يقال منه: رمزت ترمُز وترمِز - بضم العين وكسرها في المضارع. وأصل الرمز: التحرك، يقال: رمز وارْتَمز أي: تحرَّك، ومنه قيل للبحر: الراموز، لتحركه واضطرابه. وقال الراغب: «الرمز: الإشارة بالشفة والصوت الخفي، والغمز بالحاجب. وما ارمَازَّ: أي ما تكلم رمزاً، وكتيبه رمَّازة: أي: لم يُسْمَع منها إلا رَمزاً؛ لكثرتها» . ويؤيد كونه الصوت الخفي - على ما قاله الراغب - أنه كان ممنوعاً من رفع الصوت. قال الفراء: «قد يكون الرمز باللسان من غي أن يتبيَّن، وهو الصوت الخفي، شبه الهَمْس» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 210 وقال عطاء: أراد صوم ثلاثة أيامٍ؛ لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزاً. وقرأ العامة: «رمزاً» - بفتح الراء وسكون الميم - وقرأ يحيى بن وثَّابِ وعلقمة بن قيس «رُمُزاً» بضمها - وفيه وجهان: أحدهما: أنه مصدر على «فُعْل» - بتسكين العين - في الصل، ثم ضُمَّتِ العين؛ إتباعاً، كقولهم اليُسُر والعُسُر - في اليُسْر والعُسْر - وقد تقدم كلام أهل التصريف فيه. والثاني: أنه جمع رموز - كرُسُل في جمع رسول - ولم يذكر الزمخشريُّ غيره. وقال أبو البقاء: «وقرئ بضمها - أي: الراء - وهو جمع رُمُزَة - بضمتين - وأقر ذلك في الجمع. ويجوز أن يكون مسَكَّنَ الميم - في الأصل - وإنما أتبع الضمُّ الضَّمَّ. ويجوز أن يكون مصدراً غير جمع، وضُمَّ، إتباعاً، كاليُسُر واليُسْر» . قال شهاب الدين: قوله: «جمع رُمُزة» إلى قوله: في الصل؛ كلام لا يفهم منه معنى صحيح. وقرأ الأعمش: «رَمَزاً» بفتحهما. وخرجها الزمخشري على أنه جمع رامز - كخادم وخَدَم - وانتصابه على هذا - على الحال من الفاعل - وهو ضمير زكريا - والمفعول معاً - وهو الناس - كأنه قال: إلا مترامزين، كقوله: [الوافر] 1450 - مَتَى مَا تَلْقَنِي فَرْدَيْنِ تَرْجُفْ ... رَوَانِفُ ألْيَتَيْكَ وَتُسْتَطَارَا وكقوله: [الكامل] 1451 - فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعْلَمَنْ ... أَيِّي وَأيُّكَ فَارِسُ الأحْزَابِ؟ قوله: «كَثِيراً» نعت لمصدر محذوف، أو حال من ضمير ذلك المصدر، أو نعت لزمان محذوف تقديره: ذِكْراً كثيراً، أو زماناً كثيراً، والباء في قوله: «بِالْعَشِيِّ» بمعنى «فِي» أي: في العشي والإبكار. والعشي: يقال من وقت زوال الشمس إلى مَغيبها، كذا قال الزمخشريُّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 211 وقال الراغب: «العشيُّ من زوال الشمسِ إلى الصباحِ» . والأول هو المعروف. قال الشاعر: [الطويل] 1452 - فَلاَ الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعُهُ ... وَلاَ الْفَيْءُ مِنْ بَرْدِ العَشِيِّ تَذُوقُ وقال الواحديُّ: «العَشِيّ: جمع عشية، وهي آخر النهارِ» . والعامة قرءوا: «والإبْكَارِ» بكسر الهمزة، وهو مصدر أبكر يُبْكِر إبكاراً - أي: خرج بُكْرَةً، ومثله: بَكَرَ - بالتخفيف - وابتكر. قال عمر بن أبي ربيعة: [الطويل] 1453 - أمِنْ آلِ نُعْمٍ أنْتَ غَادٍ فَمُبْكر ..... ... ... ... ... ... ... . . وقال: [الخفيف] 1454 - أيُّهَا الرَّائِحُ المُجِدُّ ابْتِكَاراً ..... ... ... ... ... ... ... . وقال أيضاً: [الطويل] 1455 - بَكَرْنَ بُكُوراً وَاسْتَحَرْنَ بسُحْرَةٍ ... فَهُنَّ لِوَادِي الرَّسِّ كَالْيَدِ لِلْفَمِ وقرئ شاذاً «والأبْكَار» - بفتح الهمزة - وهو جمع بَكَرَ - بفتح الفاء والعين - ومتى أريد به هذا الوقت من يوم بعينه امتنع من الصرف والتصرُّف، فلا يُستعمَل غيرَ ظرف، تقول: أتيتك يوم الجمعة بَكَر. وسبب مَنْع صَرْفه التعريفُ والعدل عن «أل» . فلو أرِيدَ به وقت مُبْهَم انصرف نحو أتيتك بكراً من الأبكار ونظيره سحر وأسْحار - في جميع ما تقدم. وهذه القراءة تناسب قوله: {بالعشي} عند من يجعلها جمع عَشِيَّة؛ ليتقابل الجَمْعَان. ووقت الإبكار من طلوع الفجر إلى وقت الضحى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 212 وقال الراغب: أصل الكلمة هي البكرة - أول النهار - فاشتقَّ من لفظه لفظُ الفعل، فقيل: بكر فلان بُكُوراً - إذا خرج بُكْرَةً. والبَكور: المبالغ في البكور، وبَكَّر في حاجته، وابتكر وبَاكَر. [وتصور فيها] معنى التعجيل؛ لتقدُّمِها على سائر أوقاتِ النهار فقيل لكل مُتَعَجِّل: بَكَّر. وظاهر هذه العبارة أن البَكَر مختص بطلوع الشمس إلى الضُّحَى، فإن أريد به من أول طلوع الفجر إلى الضحى فإنه على خلاف الأصلِ. وقد صرح الواحديُّ بذلك، فقال: «هذا معنى الإبكارِ، ثم يُسَمَّى ما بين طلوعِ الفجر إلى الضُّحَى إبكاراً كما يسمى إصْبَاحاً» . فصل قيل: المراد بالذكر الكثير: الذكر بالقلب، وقوله: {وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار} محمول على الذكر باللسان. وقيل: المراد بالتسبيح: الصلاة؛ لأنها تسمى تسبيحاً، قال تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] . ومنه سمي صلاة الظهر والعصر: صلاتي العشيّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 إن شئت جعلتَ «إذ» نسقاً على الظرف قبله - وهو قوله: {إِذْ قَالَتِ امرأة عِمْرَانَ} [آل عمران: 35] ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 213 وإن شئت جعلته منصوباً بمقدّر، قاله أبو البقاء. وقرأ ابنُ مسعودٍ وابن عمرَ: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة} ، - دون تاء تأنيث، وتقدم توجيهه في «فناداه الملائكة» - ومعمول القول الجملة المؤكدة ب «إنَّ» - من قوله: {إِنَّ الله اصطفاك} - وكرر الاصطفاء؛ رَفْعاً من شأنها. قال الزمخشريُّ: «اصطفاك أولاً حين تَقَبَّلَكِ مِنْ أمِّكِ، وربَّاكِ، واختصك بالكرامة السنية، واصطفاك آخراً على نساء العالمين، بأن وَهَبَ لكِ عيسى من غير أبٍ، ولم يكن ذلك لأحد من النساء» . واصطفى: «افتعل» من الصفوة أبدلت التاء طاءً؛ لأجل حرف الإطباق كما تقدم تقريره في البقرة، وتقدم سبب تعديه ب «على» وإن كان أصل تعديته بمن. وقال أبو البقاء: «وكرر اصطفى إما توكيداً وإما لتبيين من اصطفاها عليهم» . وقال الواحديُّ: «وكرَّر الاصطفاء؛ لأنّ كلا الاصطفاءين يختلف معناهما، فالاصطفاء الأول عموم يدخل فيه صوالح النساءِ، والثاني: اصطفاءٌ بما اختصت به من خصائصها» . فصل المراد بالملائكة - هنا جبريل وحده كقوله: {يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ1764;اْ} [النحل: 2] يعني: جبريل وإنما عدلنا عن الظاهر؛ لأن سورةَ مريمَ دلت على أن المتكلمَ مع مريم عليه السلام هو جبريلُ؛ لقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} [مريم: 17] . فصل اعلم أن مريمَ - عليها السلامُ - ما كانت من الأنبياء، لقوله تعالى {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7] ، وهذا الاستدلالُ فيه نظرٌ؛ لأن الإرسالَ ليس هو المدَّعَى، وإنما المدَّعَى هو النبوة، فإنَّ كلَّ رسول نبيٌّ، وليس كلُّ نبيٍّ رسولاً، وإذا كان كذلك كان إرسالُ جبريلَ إليها إمَّا يكون كرامةً لها - وهو مذهب مَنْ يُجوز كرامات الأولياء - وإرهاصاً لعيسى، والإرهاص: هو مقدمة تأسيسِ النبوةِ، وإما أن يكون معجزةً لزكريا عليه السلام وهو قول جمهور المعتزلة. وقال بعضهم: إن ذلك كان على سبيل النفث في الرَّوع، والإلهام، والإلقاء في القلب، كما كان في حقِّ أم موسى - عليه السلام - في قوله: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى} [القصص: 7] . فصل قيل: المرادُ بالاصطفاء الأول أمور: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 214 أحدها: أنه - تعالى - قبل تحريرها - مع كونها أنثى - ولم يحصل هذا لغيرها. وثانيها: قال الحسنُ: إن أمَّها لما وضعتها ما غذَّتها طرفة عين، بل ألقتها إلى زكريا، فكان رزقُها يأتيها من الجَنَّةِ. وثالثها: أنّه - تعالى - فرَّغها لعبادته، وكفاها أمر رِزقها. ورابعها: أنه - تعالى - أَسْمَعَها كلام الملائكة شِفَاهاً، ولم يتَّفِق ذلك لأُنْثَى غيرها. فصل وفي التطهير أيضاً وجوه: أحدها: أنه - تعالى - طهرها عن الكفر والمعصية، كقوله تعالى في أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} [الأحزاب: 33] . وثانيها: طهرها عن مسيس الرجال. وثالثها: طهرها عن الحيض والنفاس. ورابعها: طهرها عن الأفعال الخسيسة. وخامسها: طهرها عن مقال اليهود وكذبهم وافترائهم. وأما الاصطفاء الثاني، فالمراد منه أنه - تعالى - وَهَبَ لها عيسى عليه السلام من غير أب، وأَنْطَق عيسى حين انفصاله منها وحين شَهِد لها ببراءتها من التهمة، وجعلها وابنها ىية للعالمين. وقال علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «خَيْرُ نِسَائِهَا مَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَان، وخَيْرُ نِسَائِهَا خَدِيجَةُ» رواه وكيع وأشار وكيع إلى السماء والأرض. وعن أبي موسى الأشعريّ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كَمُلَ مِنَ الرِّجَالِ كَثِيرٌ، وَلَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَرْيَمُ ابْنَة عمران، وآسِية امْرَأةُ فِرْعَوْنَ، وَإِنَّ فَضْلَ عَائِشَة عَلَى سائِر النِّسَاءِ كَفَضْلِ الثَّرِيد عَلَى سَائِرِ الطَّعَامِ» . وعن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «حَسْبُك مِنْ نِسَاء العَالَمِين أَرْبَعٌ: مَرْيم بِنْتُ عِمْرانَ، وَخَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِد، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ، وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 215 وقيل: دلَّ هذا الحديثُ على أن هؤلاء الأربع أفضلُ من سائر النساء، وهذه الآية دلت على أنَّ مريم عليها السلام أفضل من الكُلِّ. وقَول مَنْ قال: «المراد أنها مُصْطَفَاةٌ على عالمي زمانها، فهذا تَركٌ للظاهر. وروى موسى بن عقبة عن كُريب عن ابن عباسٍ قال رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -:» سَيِّدَةُ نساءِ العَالَمِينَ مَرْيَمُ ثُمَّ فَاطِمَة، ثُمَّ خَدِيْجَةُ، ثُمَّ آسيَةُ «حديث حسن. قال القرطبي: خصَّ الله مريَم بما لم يؤتهِ أحداً من النساء؛ وذلك أن رُوحَ القدس كلَّمها، وظهر لها ونفخ في دِرْعها، ودنا منها للنفخة، وليس هذا لأحد من النساء، وصدَّقت بكلمات ربِّها، لم تَسأَلْ آيةً عندما بُشرَت - كما سأل زكريا - من الآية، ولذلك سمَّاها الله - تعالى - في تنزيله: صِدِّيقةً، قال» وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ «وقال: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين} [التحريم: 12] فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق بكلمات البشرى، وشهد لها بالقنوت؛ ولما بُشِّرَ زكريا بالغلام لحظ إلى كِبَر سِنِّه، وعقم رحم امرأته فقال: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ} [آل عمران: 40] ، فسأل آية. وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر، ولم يَمْسَسْها بَشَر، فقيل لها كذلك قال رَبُّكِ فاقتصرت على ذلك، وصدَّقت بكلمات ربها، ولم تسأل آية، فمن يَعْلم كُنه هذا الأمر، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدمَ ما لها من هذه المناقب؟ قوله: {يا مريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين} تقدم الكلام في القنوت عند قوله تعالى: {وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] . وأنه طول القيام. فإن قيل: لِمَ قدم ذكر السجود على الركوع؟ فالجواب من وجوهٍ: أحدها: أن الواو تفيد التشريك لا الترتيبَ. الثاني: أن غاية قُرْب العبد من ربه إذا كان ساجداً، فلما اختص السجود بهذه الفضيلة قُدِّم على بَاقِي الطَّاعَاتِ. الثالث: قال ابنُ الأنباري: «قوله تعالى: {اقنتي لِرَبِّكِ} أمر بالعبادة على العموم، وقوله بَعْدَ ذلك: {واسجدي واركعي} يعني استعملي السجود في وقته اللائق به، وليس المراد أن تجمع بينهم، ثم تقدم السجود على الركوعِ» . الرابع: أن الصلاة تسمى سجوداً - كما قيل في قوله: {وَأَدْبَارَ السجود} [ق: 40] وفي الحديث: «إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين» . وأيضاً قال: فالسجود أفضل أجزاء الصلاة، وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه مجاز مشهور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 216 وإذا ثبت ذلك فقوله: {يامريم اقنتي} معناه: قومي، وقوله: {واسجدي} أمر ظاهر بالصلاة حال الانفراد، وقوله: {واركعي مَعَ الراكعين} أمر بالخضوع، والخشوع بالقلب. الخامس: لعلّ السجود في ذلك الدين كان متقدّماً على الركوع. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: واركعي مع الراكعات؟ فالجواب: لأن الاقتداء بالرجل - حال الاختفاء من الرجال - أفضل من الاقتداء بالنساء. وقيل: لأنه أعم وأشمل. قال المفسّرون: لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات - شفاهاً - لمريم قامت في الصّلاة، حتى تورمت قدماها، وسالت دماً وقَيْحاً. وقوله: {واركعي مَعَ الراكعين} قيل: معناه: افعلي كفعلهم. وقيل: المراد به الصلاة الجامعة. قوله: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ} يجوز فيه أوجه: أحدها: أن يكون «ذَلِكَ» خبرَ مبتدأ محذوفٍ، وتقديره: الأمر ذلك. و {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب} متعلقاً بما بعدَه، وتكون الجملة من «نُوحِيهِ» - إذ ذاك - إما مُبَيِّنَة وشارحة للجملة قبلها، وإما حالاً. الثاني: أن يكون «ذَلِكَ» مبتدأ، و {مِنْ أَنَبَآءِ الغيب} خبره، والجملة من «نُوحِيهِ» مستأنفة، والضميرُ من «نوحِيهِ» عائد على الغيب، أي: الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونُظهرك على قصص مَنْ تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار، ولذلك أتى بالمضارع في «نُوحِيهِ» . وهذا أحسن من عَوْده على «ذَلِكَ» ؛ لأن عَوده على الغيب يشمل ما تقدم من القصص، وما لم يتقدم منها، ولو أعدته على «ذَلِكَ» اختص بما مَضَى وتقدم. الثالث: أن يكون «نُوحِيهِ» هو الخبر و {مِنْ أَنَبَآءِ الغيب} على وجهَيْه المتقدمَيْن من كونه حالاً من ذلك، أو متعلقاً ب «نُوحِيه» . ويجوز فيه وجه ثالثٌ - على هذا - وهو أن يُجْعَل حالاً من مفعول «نُوحِيهِ» أي: نوحيه حال كونه بعض أنباءِ الغيبِ. فصل الإنباء هو الإخبارُ عما غاب عنك - والإيحاء، ورد بإزاء معانٍ مختلفةٍ، وأصله إعلام في خفاء يكون بالرمز والإشارة ويتضمن السرعة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 217 كما في قوله: [الطويل] 1456 - ... ... ... ... ... ... . ... فَأَوْحَتْ إلَيْنَا وَالأنَامِلُ رُسْلُهَا وقال تعالى: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 11] . ويكون بالكتابة، قال زهير: [الطويل] 1457 - أتَى الْعُجْمَ وَالآفاقَ مِنْهُ قَصَائِدٌ ... بَقِينَ بَقَاءَ الْوَحْي فِي الْحَجَرِ الأصَمْ ويطلق الوحي على الشيء المكتوب، قال: [الكامل] 1458 - فَمَدَافِعُ الرَّيانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا ... خَلَقاً كَمَا ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلاَمُهَا قيل: الوُحِيّ: جمع وَحْي - كفلس وفلوس - كُسِرَت الحاءُ إتباعاً. قال القرطبيُّ: «وأصل الوحي في اللغة: إعلام في خفاءٍ» . وتعريفُ الوحي بأمر خفي من غشارة، أو كتابة، أو غيرها، وبهذا التفسير يُعَدُّ الإلهامُ وَحياً، كقوله تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] وقال - في الشياطين -: {لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ} [الأنعام: 121] وقال: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 11] ، فلما ألقى الله - تعالى - هذه الأنباء إلى الرسول عليه السلام - بواسطة جبريل عليه السلام - بحيث يخفى ذلك على غيره - سمَّاه وحياً. قوله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ} فيه وجهان: أظهرهما: أنه منصوب بالاستقرار العامل في الظرف الواقع خبراً. والثاني - وإليه ذهب الفارسي -: أنه منصوب ب «كُنْتَ» . وهو منه عجيب؛ لأنه يزعم أنها مسلوبة الدلالة على الحدثِ، فكيف يعمل في الظرف، والظرف وعاء للأحداث؟ والذي يظهر أن الفارسيَّ إنما جوَّز ذلك بناء على ما يجوز أن يكون مراداً في الآية، وهو أن تكون «كان» تامة بمعنى: وما وُجدتَ في ذلك الوقت. والضمير في «لَدَيْهِمْ» عائد على المتنازعين في مريم - وإن لم يَجْرِ لهم ذِكْرٌ -؛ لأن السياقَ قد دلّ عليهم. فإن قيل: لم نُفِيَت المشاهدةُ - وانتفاؤها معلوم بالضرورة - وتُرِك نفي استماع هذه الأنباء من حُفَّاظِها، وهو أمر مجوز؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 218 فالجواب: أن هذا الكلامَ ونحوه، كقوله: {وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور} [القصص: 46] وقوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ} [يوسف: 102] وقوله: {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا} [هود: 49]- وإن كان انتفاؤه معلوماً بالضرورة - جار مَجْرَى التهكُّم بمُنْكِري الوحي، يعني أنه إذا عُلِمَ أنك لم تُعَاصِر أولئك، ولم تُدارِس أحداً في العلم، فلم يبق اطلاعك عليه إلا من جهة الوَحْي. ومعنى الآية: ذلك - الذي ذكرناه - من حديث زكريا ويحيى ومريم - عليهم السلام - من أخبار الغيب نوحيه إليك، وذلك دليلٌ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه أخبر عن قصصهم - ولم يكن قرأ الكتب - وصدَّقه أهل الكتاب بذلك. ثم قال: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ} أي: وما كنت يا محمد بحضرتهم {إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ} . أقلام: جمع قَلَم، وهو فَعَل بمعنى مفعول، أي: مَقْلُوم. والقَلْمُ: القَطْع، ومثله: القبض بمعنى المقبوض، والنقض بمعنى المنقوض، وجمع القلم على أقلام - وهو جمع قِلَّة - وحكى ابنُ سيدَه أنه يُجْمَع على قلام - بوزن رِماح - في الكثرة. وقيل له: قَلَم؛ لأنه يُقْلَم، ومنه قلمت ظفري - أي: قطعته وسويته. قال زهير: [الطويل] 1459 - لَدَى أسَدٍ شَاكِي السلاحِ مُقَذَّفٍ ... لَهُ لِبَدٌ أظْفَارُهُ لَمْ تُقَلَّمِ وقيل: سمي القَلَمُ قَلَماً، تشبيهاً بالقُلامةِ - وهو نَبْتٌ ضعيفٌ - وذلك لأنه يُرقق فيَضْعف. فصل في المراد بالأقلام - هنا - وجوهٌ: أحدها: التي يُكْتَب بها، وكان اقتراعهم أن مَنْ جرى قلمُه عكس جَرْي الماء، فالحقُّ معه، فلما فعلوا ذلك صار قلم زكريا كذلك، فسلموا الأمر له، وهذا قول الأكثرين. الثاني: قال الربيع: ألْْقَوا عِصِيَّهم في الماء. الثالث: قال ابو مسلم: هي السهام التي كانت الأمم يفعلونها عند المساهمة، يكتبون عليها أسماءَهُمْ، فمَنْ خرج له السهم سُلِّم إليه الأمر، قال تعالى: {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين} [الصافات: 141] . وإنما سميت هذه السهامُ أقْلاَماً؛ لأنها تُقْلَم وتُبْرَى، وكلما قَطَعْتَ شيئاً بعد شيء فقد قلمته، ولهذا يُسَمَّى ما يُكْتَب به قَلَماً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 219 واختلفوا فيهم، فقيل: هم سَدَنَةُ البيت، وقيل: هم العلماء والحبار وكُتَّاب الوَحْي. قوله: {أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} هذه الجملة منصوبة المحل؛ لأنها مُعَلقة لفعل محذوف، ذلك الفعل في محل نصب على الحال، تقديره: يُلْقُون أقلامَهم ينظرون - أو يعلمون - أيهم يكفل مريم. وجوز الزمخشريُّ: أن يقدَّر ب «يقولون» فيكون مَحْكيًّا به، ودل [على ذلك] قوله، يُلْقُون. وقوله: {وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} كقوله: {وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون} . فصل اختلفوا في السبب، الذي لأجله رغبوا في كفالتها، حتى تنازعوا فيها: قيل: لن أباها عمرانَ كان رئيساً لهم، ومتقدِّماً فيهم، فلأجل حَقِّ أبيها رغبوا في كفالتها. وقيل: لأن أمَّها حرَّرَتْها لعبادة الله - تعالى - ولخدمة بيته، فلأجْل ذلك حرصوا على التكفُّل بها. وقيل: لأنهم وجدوا أمرها وأمر عيسى مبيَّناً في الكتب الإلهيةِ، فلهذا السببِ اختصموا في كفالتها. فصل دلت هذه الآية على إثبات القُرْعة، وهي أصل في شَرْعِنا لكل من أراد العدل في القسمة. قال القرطبيُّ: وهي سنة عند جمهور الفقهاء في المستوين في الحجة؛ ليعدل بينهم وتطمئن قلوبهم، وترتفع الظِّنَّةُ عمن يتولى قسمتهم، ولا يفضل أحدٌ منهم على صاحبه، وقد ورد الكتاب والسنة بالقرعة، وقال أبو حنيفة وأصحابه؛: لا معنى لها، وزعموا أنها تُشْبِه الأزلام التي نَهَى اللهُ عنها. قال أبو عبيد: «وقد عمل بالقرعة ثلاثة من الأنبياء: يونس وزكريا ومحمد صلّى الله عليهم وسلّم» . قال ابنُ المُنْذِرِ: «واستعمال القرعة كالإجماع من أهل العلم فيما يقسم بين الشركاء» . فصل قال القرطبيُّ: دلَّتْ هذه الآية على أن الخالةَ أحقُّ بالحضانةِ من سائر الْقَرَابَاتِ ما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 220 عدا الجَدَّة، وقد قضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بابنة حمزة لجعفر - وكانت خالتها عنده - وقال: «الخالة بِمَنْزِلَةِ الأمِّ» . قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة} في هذا الظرف أوجهٌ: أحدها: أن يكون منتصباً ب «يَخْتَصِمُونَ» . الثاني: أنه بدل من «إذْ يَخْتَصِمُونَ» وهو قول الزجاج. وفي هذين الوجهين بُعْدٌ؛ حيث يلزم اتحاد زمان الاختصام، وزمانِ قَوْل الكلام، ولم يكن ذلك؛ لأن وقت الاختصام كان صغيراً جِدًّا، ووقت قولِ الملائكةِ بعد ذلك بأحْيَانٍ. قال الحسنُ: إنها كانت عاقلة في حال الصِّغَرِ، وإن ذلك كان من كراماتها. فإن صحَّ ذلك صحَّ الاتحاد، وقد استشعر الزمخشريُّ هذا السؤال، فأجاب بأن الاختصام والبشارة وقَعَا في زمان واسعٍ، كما تقول: لقيته سنةَ كذا، يعني أن اللقاءَ إنما يقع في بعض السنة فكذا هذا. الثالث: أن يكون بدلاً من {وَإِذْ قَالَتِ الملائكة} - أولاً - وبه بدأ الزمخشريُّ - كالمختار له - وفيه بعد لكثرة الفاصل بين البدلَ والمبدل منه. الرابع: نصبه بإضمار فعل. الخامس: قال أبو عبيدة: «إذْ - هنا - صلة زائدة» . والمراد بالملائكة هنا: جبريل عليه السلام لما قررناه وقد تقدم الكلام في البشارة. فصل قال القرطبيُّ: «قوله تعالى: {إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ} دليل على نبوتها مع ما تقدم من كونها أفضل نساءِ العالمين، وأن الملائكة قد بلّغتها الوحي عن الله - عَزَّ وَجَلَّ - بالتكليف والإخبار والبشارة كما بلَّغت سائر الأنبياءِ، فهي إذاً نَبِيّة، والنبيُّ أفضل من الوليّ» . وقال ابنُ الخطيب: ذلك كرامة لها؛ إذ ليست نبية؛ لختصاص النبوةِ بالرجال، وقال جمهورُ المعتزلة؛ ذلك معجزة لعيسى - عليه السلام -. قال ابنُ الْخَطِيبِ: وهو عندنا إرهاصٌ لعيسى، أو كرامة لمريم. قوله: {بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ} في محل جر؛ صفة ل «كَلِمَةٍ» و «مِنْ» ليست للتبعيض؛ إذ لو كان كذلك، لكان الله - تعالى - مُتبعِّضاً مُتجزِّئاً - تعالى الله عن ذلك - بل لابتداء الغاية؛ لأن كلمة الله مبدأ لظهوره وحدوثه، والمراد بالكلمة - هنا - عيسى - لوجوده بها وهو قوله: كن فهو من باب إطلاق السبب على المُسَبّب. فإن قيل: أليس كل مخلوق، فهو يخلق بهذه الكلمة؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 221 فالجوابُ: نَعَمْ، إلا أن ما هو السبب المتعارَف كان مفقوداً في حق عيسى - عليه السلام - فكان إضافة حدوثه إلى الكلمة أكمل وأتم، فجعل هذا التأويل كأنه نفس الكلمة، كمن غلب عليه الجود والكرم يُقال على سبيل المبالغة -: إنه نفس الجود ومَحْض الكرم، فكذا ها هنا. وأيضاص فإن السلطان قد يُوصَف بأنه ظلُّ اللهِ، ونور اللهِ - إذا أظهر لهم ظل العدل، ونور الإحسانِ، فكذا عيسى - عليه السلام - لما كان سبباً لظهور كلام الله - تعالى - بكثرة بياناته، وإزالة الشبهاتِ والتحريفات عنه، فسُمِّيَ بكلمة الله على هذا التأويل. فصل حدوث الولد من غير نطفة الأب مُمكن، أما على اصول المسلمين، فظاهر؛ لأنّ الله تعالى قادرٌ على كل الممكنات، وإذا خلق آدمَ من غير أمٍّ ولا أبٍ، فخَلْقُه عيسى - عليه السلام - من غير أب أولى، وأما على أصول الفلاسفة فإنهم اتفقوا على أنه لا يمتنع حدوث الإنسان على سبيل التولُّد؛ لامتزاج العناصر الأربعة على القدر الذي يناسب بَدَنَ الإنسان، وعند امتزاجها يجب حدوث الكيفية المزاجية، وعند حصول الكيفية المزاجية، يجب تعلُّق النفس، فثبت أن حدوث الإنسان - على سبيل التولد - معقول ممكن، وأيضاً إنا نشاهد حدوث كثير من الحيوانات على سبيل التولد - كتولُّد الفأر عن المدر، والحيَّات عن الشعر، والعقارب عن الباذَروج - وإذا كان كذلك فتولُّد الولَدِ لا عَنِ أبٍ أوْلَى ألا يكون ممتنعاً. وأيضاً، فإن التخيُّلات الذهنية كثيراً ما تكون أسباباً لحدوث الحوادث الكثيرة كما أن تصور حدوث المنافي، يوجب حصول كيفية الغضب، ويوجب حصول السخونة الشديدة في البدن، وكما أن اللوح الطويل إذا كان موضوعاً على الأرض، قدر الإنسان على المشي عليه، ولو جعل كالقنطرة على وهدة لم يقدر على المشي عليه، بل كلما يمشي سقط، وما ذاك إلا لأن تصور السقوط يوجب حصول السقوط، وقد ذكر الفلاسفة أمثلة كثيرة لهذا الباب، فما المانع أن يقال: إنها لما تخيلت صورةَ جبريل عليه السلام [كفى ذلك في علوق] الولد في رحمها، وإذا كانت هذه الوجوهُ ممكنةٌ كان القول بحدوث عيسى - من غير أبٍ - غير ممتنع. قوله: {اسمه المسيح عِيسَى} اسمه مبتدأ، والمسيح خبره، وعيسى بدل منه، أو عطف بيان. قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون خبراً آخرَ؛ لأن تعدد الأخبار يوجب تعدد المبتدأ، والمبتدأ مفرد - وهو قوله: اسمه - ولو كان» عِيسَى «خبراً آخر لكان أسماؤه أو أسماؤها - على تأنيث الكلمة» وأما من يجيز ذلك فقد أعرب «عِيسَى» خبراً ثانياً، وأعربه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 222 بعضهم خبرَ مبتدأ محذوفٍ - اي: هو عيسى. ويجوز على هذا الوجه وَجْهٌ رابعٌ، وهو النَّصْب بإضمار أعني؛ لأن كل ما جاز قطعه رفعاص جاز قطعه نصباً، والألف واللام في المسيح للغلبة كهي في الصعق والعيُّوق وفيه وجهان: أحدهما: أنه فَعِيل بمعنى فاعل، فحُوِّلَ منه مبالغةً. قيل: لأنه يمسح الأرض بالسياحة، أي: يقطعها ومنه: مسح القسام الأرض وعلى هذا المعنى يجوز أن يقالَ لعيسى: مِسِّيح - بالتشديد - على المبالغة، كما يقال: رجل شريب. وقيل: لأنه يمسح ذا العاهةِ فَيَبْرَأُ - قاله ابن عباس. وقيل: كان يمسح رأسَ اليتيم. وقيل: يلبس المسح فسمي بما يئوب إليه. وقيل: إنه فَعِيل بمعنى مفعول؛ لأنه مُسِحَ بالبركة. وقيل لأنه مُسِح من الأوزار والآثام، أو لأنه مَشِيح القَدَم لا أخْمَصَ له. قال الشاعر: [الرجز] 1460 - بَاتَ يُقَاسِيهَا غُلاَمٌ كَالزَّلَمْ ... مُدَمْلَجُ السَّاقَيْنِ مَمْسُوحُ الْقَدَمْ أو لمسح وَجْههِ بالمَلاحة، قال: [الطويل] 1461 - عَلَى وَجْهِ مَيٍّ مِسْحَةٌ مِنْ مَلاَحَةٍ ..... ... ... ... ... ... ... . أو لأنه كان ممسوحاً بدُهْنٍ طاهرٍ مبارَكٍ، تُمْسَح به الأنبياء، ولا يُمْسَح به غيرُهم، قالوا: وهذا الدهن من مسح به وقتَ الولادة فإنه يكون نبيًّا، أو لأنه مَسَحَهُ جبريلُ بجَنَاحه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 223 وقت الولادة؛ صوناً له عن مَسِّ الشيطان. أو لأنه خرج من بطن أمه مَمْسُوحاً بالدُّهْن. والثاني: أنّ وزنه مَفْعِل - من السياحة - وعلى هذا تكون الميمُ فيه زائدة، وعلى هذا كلِّه، فهو منقول من الصفة. وق لأبو عمرو بن العلاء: المَسِيح: الملك. وقال النَّخَعِيُّ: المسيح: الصديق. ويكون المسيح بمعنى: الكذَّاب، وبه سُمِّي الدجال، والحرف من الأضداد. وسمي الدجَّال مَسِيحاً لوجهَيْن. أحدهما: أنه ممسوح إحدى العينَيْن. الثاني: أنه يَمْسَح الأرضَ - أي يقطعها - في المدةِ القليلةِ، قالوا: ولهذا قيل له: دَجَّال؛ لضَرْبه الأرضَ، وقَطْعِه أكثر نواحيها. يقال: قد دَجَل الرجلُ - إذا فعل ذلك. وقيل: سُمِّي دَجَّالاً من دَجَّل الرجل إذا موَّه ولبَّس. قال أبو عبيدٍ واللَّيْث: أصله - بالعبرانية - مَشِيحَا، فغُيِّر. قال أبو حيان: «فعلى هذا يكون اسماً مرتجلاً، ليس مُشْتَقاً من المَسْح، ولا من السياحة» . قال شهاب الدينِ: «قوله: ليس مشتقاً صحيح، ولكن لا يلزم من ذلك أن يكون مُرْتَجَلاً ولا بد، لاحتمال أن يكون في لغتهم مَنْقُولاً من شيء عندهم» . وعيسى أصله: يسوع، كما قالوا في موسى: أصله موشى، أو ميشا - بالعبرانية. فيكون من الاشتقاق الأوسط لأنه يُشْتَرط فيه وجود الحروف لا ترتيبها، والأكبر يُشترط فيه أن يكون في الفرع حرفان، والأصغر يُشْتَرط فيه أن يكون في الفرع حروف الأصل مرتَّبَةً. وعيسى اسم أعجمي، فلذلك لم يَنْصَرف - في معرفة ولا نكرة - لأنَّ فيه ألفَ تأنيث، ويكون مُشْتَقاً من عاسه يعوسه، إذا سَاسَه وقام عليه. وأتى الضمير مذكَّراً في قوله: «اسْمُهُ» وإن كان عائداً على الكلمة؛ مراعاةً للمعنى؛ إذ المراد بها مذكَّر. وقيل - في الدَّجّال -: مِسِّيح - بكسر الميم وشد السين، وبعضهم يقوله كذا بالخاء المعجمة، وبعضهم يقوله بفتح الميم والخاء المعجمة - مُخَفَّفاً - والأول هو المشهور؛ لأنه يمسح الأرض - أي: يطوفها - ويدخل جميعَ بلدانِها إلا مكةَ والمدينةَ وبيتَ المقدسِ، فهو فعيل بمعنى فاعل. والدَّجَّال يمسح الأرضَ محنة وابنُ مريمَ يمسحها مِنْحَةً. وإن كان سُمِّي مسيحاً؛ لأنه ممسوح العين فهو فعيل بمعنى مفعول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 224 قال الشاعر: [الرجز] 1462 - ... ... ... ... ... ... ... . ... إذَا الْمَسِيحُ يَقْتُلُ الْمَسِيحَا فصل «ابنُ مريم» يجوز أن يكون صفة ل «عيسَى» قال ابن عطية: وعيسى خبر لمبتدأ محذوف، ويدعو إلى هذا كون قوله: «ابن مريم» صفة لعيسى؛ إذْ قد أجمع الناسُ على كَتْبِهِ دون ألفٍ. وأما على البدل، أو عطف البيان فلا يجوز أن يكون «ابْنُ مَريمَ» صفة ل «عِيسَى» لأن الاسم - هنا - لم يُرَدْ به الشخص. هذه النزعة لأبي علي. وفي صدر الكلام نظرٌ. انتهى. قال شهابُ الدِّينِ: «فقد حَتَّم كونه صفة؛ لأجل كَتْبهِ بغير ألف، وأما على البدل، أو عطف البيان فلا يكون» ابْنُ مَرْيَمَ «صفة ل» عِيسَى «يعني: بدل عيسى من المسيح، فجعله غير صفة له مع وجود الدليل الذي ذكره، وهو كتبه بغير ألف» . وقد منع أبو البقاء أن يكون «ابْنُ مَرْيَمَ» بدلاً أو صفة ل «عِيسَى» قال: «لأن» ابْن مَرْيَمَ «ليس بالاسم ألا ترى أنك لا تقول: اسم هذا الرجل ابن عمرو - إلا إذا كان قد عُلِّق عَلَماً عليه» . قال شهاب الدينِ: «وهذا التعليل الذي ذكره إنما ينهض دليلاً في عدم كونه بدلاً، وأما كونه صفة، فلا يمنع ذلك، بل إذا كان اسماً امتنع كونه صفة؛ إذ يصير في حكم الأعلامِ، وهي لا يُوصف بها، ألا ترى أنك إذا سميت رجلاً ب» ابن عمرو «امتنع أن يقع» ابن عمرو «صفة والحالة هذه» . قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: لِمَ قِيلَ: {اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ} وهذه ثلاثة أشياء، الاسم عِيسَى، وأما المسيح والابن فلَقَب، وصفة؟ قلت: الاسم للمسمَّى يُعْرَف بها، ويتميَّزُ من غيره، فكأنه قِيلَ: الذي يُعْرَف به ويتميز ممن سواه مجموع هذه الألفاظِ الثلاثةِ» . فظهر من كلامه أن مجموع الألفاظِ الثلاثة أخبار عن اسمه، بمعنى أنَّ كُلاًّ منها ليس مُستَقِلاً بالخبريَّةِ، بل هو من باب: هذا حُلْوٌ حَامِضٌ [وهذا أعسر يسرا] . ونظيره قول الشاعر: [الخفيف] 1463 - كَيْفَ أصْبَحْتَ كَيْفَ أمْسَيْتَ مِمَّا ... يَزْرَعُ الوُدَّ فِي فُؤادِ الْكَرِيمِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 225 أي مجموع كيف أصبحت، وكيف أمسيت. فكما جاز تعدُّد المبتدأ لفظاً - من غير عاطف - والمعنى على الْمَجْمُوعِ، فكذلك في الْخَبَرِ. وقد أنشدوا عليه أبياتاً كقوله: [الرجز} 1464 - مَنْ يَكُ ذَا بَتٍّ فَهَذَا بَتِّي ... مُقَيِّظٌ، مُصَيِّفٌ، مَشَتِّي وقد زعم بعضهم أن «المَسِيح» ليس باسم لَقَب له، بل هو صفة كالضّارِبِ والظريف، قال: وعلى هذا ففي الكلام تقديمٌ وتأخِيرٌ؛ إذ «الْمَسِيحُ» صفةٌ ل «عِيسَى» والتقدير: اسمه عيسى المسيح «. وهذا لا يجوز أعني: تقديم الصفة على الموصوف - لكنه يعني: أنه صفة له في الأصل، والعرب إذا قدِّمت ما هو صفة في الأصل جعلوه مبيناً على العامل قَبْلَهُ، وجعلوا الموصوف بدلاً من صفته في الأًل، نحو قوله: [الرجز] 1465 - وَبِالطَّوِيْلِ الْعُمْرِ عُمْراً حَيْدَرَا ..... ... ... ... ... ... الأصل: وبالعمر الطويل، هذا في المعارفِ، وأما في النِّكِرَاتِ، فينصبون الصفةَ حالاً. وقال أبو حيَّان: «ولا يصح أن يكون» الْمَسِيحُ «- في هذا التَّركيبِ - صفة؛ لأن المُخْبَر به - على هذا لفظ» عِيسَى «والمسيح من صفة المدلول، لا من صفة الدَّالِّ؛ إذ لفظ» عِيسَى «ليس المسيح» . ومن قال: إنهما اسمانِ، قال: تَقَدَّمَ المسيحُ على عيسى؛ لشهرته. قال ابن الأنباريّ: وإنما بدأ بلقبه؛ لأن المسيح أشهرُ من عيسى؛ لأنه قَلَّ أن يقع على سَمِيِّ، فيشتبه به، وعيسى قد يقع على عدد كثيرٍ، فقدَّمه لشهرته، ألا ترى أن ألقاب الخلفاء أشهر من أسمائهم، فهذا يدل على أن المسيح عند ابن الأنباري لَقَبٌ، لا اسمٌ. قال أبو إسحاق: «عيسى معرب من أيسوع، وإن جعلته عربياً لم ينصرفْ في معرفة ولا نكرة؛ لأن فيه ألفَ التأنيثِ، ويكون مشتقاً من عاسه يعوسه: إذا ساسه وقام عليه» . قال الزمخشريُّ: «ومُشْتَقُّهُمَا - يعني المسيح وعيسَى - من المَسْح والعَيْس كالراقم على الماء» ، وقد تقدم الكلام على عيسى ومريم واشتقاقهما في سورة البقرة. وقوله: {وَجِيهًا} حال، وكذلك قوله: {وَمِنَ المُقَرَّبِينَ} وقوله: {وَيُكَلِّمُ} وقوله: {مِّنَ الصالحين} هذه أربعة أحوالٍ انتصبت عن قوله: «بِكَلِمَةٍ» . وإنما ذَكَّر الحالَ؛ حملاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 226 على المعنى؛ إذ المعنى المرادُ بها: الولد والمُكَوِّن، كما ذكَّر الضميرَ في «اسْمُهُ» . فالحال الأولى جِيءَ بها على الأصل - اسماً صريحاً - والباقية في تأويله. والثانيةُ: جار ومجرور، وأتى بِهَا هكذا؛ لوقوعها فاصلةً في الكلام، ولو جِيءَ بها اسماً صريحاً، لفات مناسبة الفواصل. والثالثة جملة فعليَّة، وعطف الفعل على الاسم؛ لتأويلهِ به، وهو كقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] ، أي: وقَابضات، ومثله في عطفِ الاسمِ على الفعل؛ لأنه في تأويله، قولُ النابغة: [الطويل] 1466 - فَأَلْفَيْتُهُ يَوْماً يُبِيْرُ عَدُوَّهُ ... وَمُجْرٍ عَطَاءً يَسْتَحِقُّ الْمَعَابِرَا وقال الآخر: [الرجز] 1467 - بَاتَ يُغشِّيها بِغَضَبٍ بَاتِرِ ... يَقْصِدُ في أَسْوُقِهَا وَجَائِرِ والمعنى: مُبِيراً عدوه، وقاصداً. وجاء بالثالثة جملة فعلية؛ لأنها في رُتْبتها، إذ الحالُ وَصْفٌ في المعنى، وقد تقدم أنه إذا اجتمعَ صفات مختلفة في الصراحةِ والتأويل قُدِّم الاسمُ، ثمَّ الظرفُ - أو عديلهُ - ثم الجملةُ. فكذا فعل هنا، فقدم الاسم - وهو {وَجِيهًا} - ثم الجار والمجرور، ثم الفعل، وأتى به مضارعاً؛ لدلالته على التجدُّد وقتاً مؤقتاً، بخلاف الوجاهةِ، فإنَّ المرادَ ثبوتها واستقرارها، والاسمُ مُتَكَفِّلٌ بذلِك، والجار قريبٌ من المفرد، فلذلك ثَنَّى به، إذ المقصودُ ثبوتُ تَقْرِيبِهِ. والتضعيف في «الْمُقَرَّبِينَ» للتعدية، لا للمبالغةِ؛ ملا تقدم من أن التضعِيفَ للمبالغة لا يُكْسِبُ الفعلَ مفعولاً، وهذا قد أكسبه مفعولاً - كما ترى - بخلاف: قَطَّعْتُ الأثوابَ، فإنَّ التعدي حاصل قبل ذلك. وجيء بالرابعة - بقوله: {مِّنَ الصالحين} مراعاةً للفاصلةِ، كما تقدم في «الْمُقَرَّبِينَ» . والمعنى: إنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بهذه الكلمةِ موصوفةً بهذه الصفاتِ الجميلةِ. ومنع أبو البقاء أن تكونَ أحوالاً من «الْمَسِيحِ» أو من «عِيسَى» أو من «ابْن مرْيَمَ» قال: «لأنها أخبارٌ، والعاملُ فيها الابتداءُ، أو المبتدأ، أو هما، وليس شيءٌ من ذلك يعملُ في الحالِ» . ومنع أيضاً - كونَهَا حالاً من الهاء في «اسْمُهُ» قال: «للفصل الواقعِ بينهما، ولعدمِ العاملِ في الحال» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 227 قال شهابُ الدينِ: «ومذهبهُ - أيضاً - أنَّ الحالَ لا يجيءُ مِنَ المُضَافِ إليهِ، وهو مرادُهُ بقولِهِ: ولعدم العامل. وجاءت الحالُ من النكرةِ؛ لتخصُّصِها بالصفة بعدها. وظاهرُ كلام الواحديِّ - فيما نقَلهُ عن الفرَّاء - أنَّها يجوز أن تكون أحوالاً من» عِيسَى «فإنَّه قال: والقرَّاء تسمِّي هذا قَطْعاً، كأنه قال: عيسى ابن مريم الوجيه، قطعَ منه التعريف. فظاهرُ هذا يُؤذِنُ بأنَّ {وَجِيهًا} من صفةِ» عِيسَى «في الأصلِ، فقطع عنه، والحالُ وصفٌ في المعنى» . والوجيه: ذو الجاه، وهو القوةُ، والمنعةُ، والشرفُ. وجمع «وَجيه» وُجَهاءُ، ووِجَاهٌ، يقال: وَجُهَ الرَّجُلُ يوجه وجاهة، فهو وجيه - إذا صارت له منزلةٌ رفيعةٌ عند الناسِ. وقال بعضهم: الوجيهُ: الكريمُ. و «كَهْلاً» من قولهم: اكتهلت الدوحة، إذا عَمَّها النُّوْرُ - والمرأة كهلة. وقال الراغب: «والكهل: مَنْ وَخَطَه الشَّيْبُ، واكتهل النباتُ: إذا شارف اليُبُوسَةَ مشارفةَ الكهل الشَّيْبَ» . وأنشد قولَ الأعشى - في وَصْف رَوْضَةٍ بأكمل أحوالها -: [البسيط] 1468 - يُضَاحِكُ الشَّمْسَ مِنْهَا كَوْكَبٌ شَرِقٌ ... مُؤزَّرٌ بِعَمِيمِ النَّبْتِ مُكْتَهِلُ وقد تقدم الكلام في تنقُّل أحوالِ الولدِ من لدُنْ كونهِ في البطن إلى شيخوخته، عند ذِكْر «غلام» . وقال بعضهم: «ما دامَ في بطن أمِّه، فهو جنين، فإذا وُلِدَ فوليد، فإذا لم يستتمّ الأسبوع فصديغٌ؛ وما دام يرضع فهو رضيع، ثم هو فَطِيمٌ - عند الفِطَام - وإذا لم يرضع؛ فجَحْوَش، فإذا دبَّ ونما: فدراج، فإذا سقطت رواضِعهُ فثَغور ومثغور، [فإذا نبتت أسنانهُ بعد السقوط بمُتَّغِر - بالتاء والثاء] ، فإذا جاوز العشر: فمترعرع، وناشئ. فإذا رَاهَق الحُلم: فيافع، ومُراهق. فإذا احتلم فحَزَوَّر. والغلام يُطْلَق عليه في جميع أحواله بعد الولادة، فإذا اخضر شارُبه، وسال عذاره: فباقِل، فإذا صار ذا لِحْيَةٍ: ففتًى وشارخ، فإذا اكتملت لحيته؛ فمُجْتَمِع، ثم هو من الثلاثين إلى الأربعين شابّ، ومن الأربعين إلى ستين كهل» ، ولأهل اللغة عبارات مختلفة في ذلك، وهذا أشهرها. فإن قيل: المستغرب إنما هو كلام الطفل في المَهْد، وأما كلام الكهول فغير مُسْتَغْرَب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 228 فالجوابُ من وجوهٍ: أحدها: قالوا: لم يتكلم صبيٌّ في المهد، وعاش، أو لم يتكلمْ أصلاً، بل يبقى أخرس أبداً، فبشَّر اللهُ مريم بأن هذا يتكلم طفلاً، ويعيش حتى يكلم الناس في كهولته، ففيه تَطْمِينٌ لخاطرِها. وثانيها: قال الزَّمخْشَريُّ وأبو مسلم: «يكلم الناس طفلاً وكهلاً ومعناه يتكلم في هاتين الحالتين كلامَ الأنبياءِ، من غير تفاوت بين حال الطفولة وحال الكهولة» . وثالثها: يكلم الناسَ مرةً واحدةً في المهدِ؛ لإظهار بَرَاءةِ أمِّه، ثم عند الكُهُولةِ يتكلم بالوحي والنبوة. ورابعها: قال الأصَمُّ: المراد منه: بيان أنه يبلغ من [الصِّبَا، إلى] الكهولة. وخامسها: أنّ المرادَ منه الرد على وَفْد نجرانَ في قولهم: إن عيسى كان إلهاً، فإنه منقلب في الأحوال من الصِّبَا إلى الكهولة، والتغيُّر على الإلهِ محال. فإن قيل: قد نقل أن عُمْر عيسى - لما رُفِع - كان ثلاثاً وثلاثين سنةً وأشْهُراً، وعلى هذا التقدير، فلم يبلغْ سِنَّ الكهولةِ. فالجوابُ: قد بيَّنَّا أن الكهلَ - في اللُّغةِ - عبارة عن الكامل التام، وأكمل أحوال الإنسان ما بين الثلاثين إلى الأربعين - فصَحَّ وصْفُه بكونه كَهْلاً. وقال الحُسَيْن بنُ الفَضْل البَجَلِيُّ: «ويكون كهلاً بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان، ويكلم الناسَ، ويقتل الدَّجَّالَ، قال: وفي الآية نص على أنه - عليه السلامُ - سينزل إلى الأرض» . و «وَجِيهاً» اشتقاقه من الوجه؛ لأنه أشرف الأعضاء. والجاه مقلوب منه، فوزنه «عَفل» . قوله: {فِي الدنيا} متعلق ب «وَجِيهاً» ؛ لما فيه من معنى الْفِعْلِ، ومعنى كونه {وَجِيهاً فِي الدنيا} بسبب النبوة، و «في الآخرة» بسبب عُلُوِّ المنزلة. وقوله: {فِي الدنيا} بأنه مُسْتَجَاب الدعاء، ويُحْيي الموتى، ويُبْرِئ الأكمه والأبْرَصَ بدعائه، وفي الآخرة بأنه يشفع في المُحِقِّين من أمته. وقيل: في الدنيا؛ لأنه مبرأٌ من العيوب التي وَصَفَتْه اليهودُ بها، وفي الآخرة بكثرة ثوابه وعُلُوِّ درجته. فإن قيل: كيف كان وجيهاً في الدنيا، واليهود عاملوه بما عاملوه؟ والجوابُ: أنه - تعالى - سمَّى موسى - عليه السلامُ - بالوجيه، مع أن اليهودَ طعنوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 229 فيه، وآذَوْهُ إلى أن برأه اللهُ مما قالوا، ولم يقدح ذلك في وجاهته، فكذا هنا. قوله: {وَمِنَ المُقَرَّبِينَ} قيل «كان هذا مَدْحاً عظيماً للملائكة؛ لأنه ألْحَقَه بمثل مَنْزِلَتِهِمْ، وهو دليل لمن جعل الملائكة أفضل. وقيل: معناه: سيُرْفَع إلى السماء بمصاحبة الْمَلاَئِكَةِ. وقيل: ليس كل وجيه في الآخرة يكون مُقَرَّباً؛ لأن أهل الجنة تتفاوت درجاتُهم. وقوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} الواو للعطف على قوله: «وَجِيهًا» ، والتقدير: وجيهاً ومُكَلَّماً. قال ابن الخطيب: وهذا عندي ضعيفٌ؛ لأن عطف الجملة الفعلية على الاسمية غير جائز إلا لضرورة [أو لفائدة] ، والأوْلَى أن يُقال: تقدير الآيةِ: إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى ابن مريم، الوجيه في الدنيا والآخرة، المعدود من المقرَّبِينَ، وهذا المجموع جملة واحدة، ثم قال: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} . فقوله: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ} عطف على قوله: {إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ} . وأجيب بأن هذا خطأ؛ لأنه إن أراد العطف على جملة {إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ} فهي جملة اسمية فقد عطف الفعلية على الاسمية، فوقع فيما فَرَّ منه. وإن أراد العطفَ على «يُبَشِّرُكِ» فهو خطأ؛ لأن المعطوف على الخبر خبر - و «يُبَشِّرُكِ» خبر - فيصير التقدير: إن الله يكلم الناسَ في المهدِ، والصواب ما قالوه من كونه حالاً، وأن الجملة الحالية إذا كانت فعلاً فهي مقدرة بالاسم، فجاز العطف. قوله: {فِي المهد} يجوز فيه وَجْهَان: أظهرهما: أنه متعلق بمحذوف؛ على أنه حال من الضمير في {وَيُكَلِّمُ} أي: يكلمهم صَغِيراً، و «كَهْلاً» على هذا نسق على هذه الحال المؤوَّلة فعلى هذا تكون خمسة أحوال. والثاني: أنه ظرف ل «يُكَلِّمُ» كسائر المنفصلات، و «كَهلاً» على هذا نَسَق على «وَجِيهاً» فعلى هذا يكون خَمْسَةَ أحْوَالٍ. والكهل: هو مَنْ بلغ سِنَّ الكُهُولة، وأولها ثلاثون. وقيل: اثنان وثلاثون. وقيل: ثلاث وثلاثون. وقيل: أربعون. وآخرها: خمسون. وقيل: ستون. ثم يدخل في سن الشَّيْخُوخَةِ. واشتقاقه من: اكتهل النبات - إذا علا وارتفع - ومنه الكاهل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 230 وقال صاحبُ المُجْمَلِ: «أكهل الرجل: وَخَطَهُ الشَّيْبُ» . فصل كلامه - عليه السلام - في المَهْد هو قوله: {إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة مَا دُمْتُ حَيّاً وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً والسلام عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 30 - 33] . وحكي عن مجاهدٍ قال: قالت مريم: كنت إذا خلوتُ أنا وعيسى حدَّثني وحدّثته، فإذا شغلني عنه إنسان كان يُسَبِّحُ في بطني وأنا أسمعُ. فصل ذكر القرطبيُّ في تفسيره عن ابن أبي شيبةَ بسنده، قال: «لم يتكلمْ في الْمَهْدِ إلا ثلاثة: عيسى ابن مريم، وصاحب يوسف، وصاحب جُرَيْج» . [وفي صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة عيسى ابن مريم، وصاحب جريج وصاحب الجبار» ] . وقال الضَّحَّاكُ: «تكلم في المهد ستة شاهد يوسف، وصبيّ ماشطة امرأة فرعون، وعيسى، ويحيى، وصاحب جريج» ولم يذكر صاحب الأخدود، فأسقط صاحب الأخدود، وبه يكون المتكلمون سبعةً. قال القرطبيُّ: «ولا معارضة بين هذا وبين قوله - عليه السلام -:» لَمْ يَتَكَلَّمْ في المَهْدِ إلاَّ ثَلاَثَةٌ «بالحصر - فإنه أخبر بما كان في علمه مما أوحِي إليه في تلك الحالِ، ثم بعد هذا أعلمه اله - تعالى - بما شاء من ذلك، فأخْبَرَ به. والمهدُ: ما يُهُيَّأُ للصَّبِيِّ أن يربى فيه، من مَهَّدت له المكان - أي: وطَّأته وليَّنته له - وفيه احتمالانِ: أحدهما يُحتمل أن يكون أصله المصدر، فسُمِّي به المكانُ، ويحتمل أن يكون بنفسه اسم مَكان غير مصدر. وقد قرئ: مَهْداً ومِهَاداً في طه كما سيأتي إن شاء الله تعالى. قال ابن الخطيب [قوله: وكهلاً يدل على أنه يكلم الناس بعد الكهولة، وذلك بعد أن ينزل من السماء في آخر الزمان. قال الحسين بن الفضل: في الآية نص على نزوله إلى الأرض وقد] أنكرت النصارَى كلامَ المسيح - عليه السلام - في المَهْد، واحتجوا - على صحة قولهم بأن كلامه من أعْجب الأمور وأغربها، ولا شك أن هذه الواقعةَ لو وقعت لوجب أن يكون وقوعُها الجزء: 5 ¦ الصفحة: 231 في حضور الجَمْع العظيم الذي يحصل القطع واليقين بقولهم؛ لأن تخصيصَ مثل هذا المُعْجِز بالواحد والاثنين لا يجوز، ولو حدثت هذه الواقعة لتوفَّرَت الدواعي على نقلها، فيصير ذلك بالغاً حَد التواتُرِ، يمتنع إخفاؤه. وأيضاً فإن النصارَى بالَغُوا في المسيح، حتى ادَّعَوْا ألوهيته، ومن هذا شأنه في التعصُّب يمتنع أن تخفى مناقِبُه، فلما أنكروه - وهم أحق النّاسِ بإظهاره - علمنا أنه ما كان موجوداً. وأجاب المتكلمون بأن كلامه - حينئذٍ - إظهار لبراءة أمِّه، والحاضرون قليلون يجوز تواطؤهم على الإخفاء، فنسبهم الناس إلى الكذب، أو خافوا من ذلك الأمر إلى أن أخبر به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك يدل على معجزته، وصدقه. قوله: {قَالَتْ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ} » يكون «يحتمل التمام والنقصان، وتقدم إعراب هذه الجمل في قصة زكريا إلا أنه قال هناك: {يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} وقال هنا {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} قيل: لأن قِصَّتَها أغربُ من قضته؛ ذلك أنه لم يُعْهَد ولد من عذراءَ لم يَمْسَسْها بشرٌ ألبتة، بخلاف الولد بين الشيخ والعجوز، فإنه يستبعد، وقد يُعْهَد بمثله - وإن كان قليلاً - فلذلك أتى ب» يَخْلُقُ «المقتضي للإيجاد والاختراع من غير إحالة على سببٍ ظاهرٍ، وإن كانت الأشياء كلها بخَلقه وإيجاده - وإن كان لها أسبابٌ ظاهرة. قوله: {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} هذه الجملة حَالٌ، والبشر - في الأصل - مصدر كالخَلق، ولذلك يُسَوَّى فيه بين المذكَّر ولمؤنَّث، والمفرد، والمثنى، والجمع، تقول: هذه بَشَرٌ، وهذا بَشَرٌ، وهؤلاء بَشَرَ. كقولك: هؤلاء خَلْق. قيل: واشتقاقه من البشرة، وهي ظاهر الجلدِ؛ لأنه الذي شأنه أن يظهر الفرح والغم في بشرته، وتقدم اختلاف القرَّاء في {فَيَكُونُ} وما ذُكِر في توجيهه. فصل قال المفسّرون: إنما قالت ذلك؛ لأن البشريةَ تقتضي التعجُّبَ مما وقع على خلاف العادة؛ إذْ لم تَجْرِ عادة بأن يُولَدَ وَلَدٌ بلا أبٍ. فصل قال القرطبيُّ: «معنى قوله: {قَالَتْ رَبِّ} أي: يا سيدي، تخاطب جبريل - عليه السلامُ - لأنه لما تمثَّل لها، قال لها: {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً} [مريم: 19] فلما سمعت ذلك من قوله استفهمت عن طريق الولد، فقالت: {أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} ؟ أي: بنكاح، وذلك: لأن العادة التي أجراها الله في خَلْقه أن الولد لا يكون إلا من نكاح، [أو سفاح] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 232 وقيل: إنها لم تستبعد من قدرة الله شيئاً، ولكن أرادت: كيف يكون هذا الولد؟ من قِبَلِ زَوْجٍ في المستقبل؟ أم يخْلُقُه الله ابتداءً. قوله: {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . تقدم الكلام فيه. قال ابنُ جُرَيْجٍ: نفخ جبريلُ في جيب درعها وكُمِّها، فحملت من ساعتها بعيسى. وقيل: وقع نفخ جبريل - عليه السلام - في رَحِمِهَا، فعلقت بذلك. وقال بعضهم: لا يجوز أن يكون الخَلْق من نفخ جبريل؛ لأن الولدَ يكون بعضُه من الملائكة وبعضه من الإنس؛ ولكن سبب ذلك، أن اللهَ تعالى لما خلق آدمَ وأخذ الميثاقَ من ذريته، فجعل بعضَ الماءِ في أصلاب الآباء، وبعضه في أرحام الأمَّهَاتِ، فإذا اجتمع الماءان صارَ ولداً، وإن اللهَ - تعالى - جعل الماءين جميعاً في مريمَ، بعضه في رحمها، وبعضه في صلبها، فنفخ جبريلُ، ليهيجَ شهوتَها، فإن المرأة ما لم تهج شهوتها لم تحبل فلما هاجت شهوتها بنفخ جبريل وقع الماء - الذي كان في صُلْبها - في رَحِمِهَا، فاختلط الماءان، فعلقت بذلك، فذلك قوله تعالى: {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} . قوله: {وَيُعَلِّمُهُ الكتاب} قرأ نافع وعاصم ويعقوب {وَيُعَلِّمُهُ} - بياء الغيبة - والباقون بنون المتكلم المعظم نفسه، وعلى كلتا القراتين ففي محل هذه الجملة أوجهٌ: أحدها: أنها معطوفة على» يُبَشِّرُكِ «أي: أن الله يبشركِ بكلمةٍ ويعلم ذلك المولود المُعَبَّر عنه بالكلمة. الثاني: أنها معطوفة على» يَخْلُقُ «أي: كذلك الله يخلق ما يشاء ويعلمه. وإلى هذين الوجهين، ذهب جماعة منهم الزمخشريُّ وأبو علي الفارسيّ، وهذان الوجهان ظاهران على قراءة الياء، وأما قراءة النون، فلا يظهر هذان الوجهان عليها إلا بتأويل الالتفات من ضمير الغيبة إلى ضمير المتكلم، إيذاناً بالفخامة والتعظيم. فأما عطفه على» يُبَشِّرُكِ «فقد استبعده أبو حيَّانَ جِدًّا، قال:» لطول الفصل بين المعطوف، والمعطوف عليه «، وأما عطفه على» يَخْلُقُ «فقال:» هو معطوف عليه سواء كانت - يعني «يَخْلُقُ» خبراً عن الله أم تفسيراص لما قبلها، إذا أعربت لفظ «اللهُ» مبتدأ، وما قبله خبر «. يعني أنه تقدم في إعراب {كَذَلِكَ الله} في قصة زكريا أوجهٍ: أحدها ما ذكره - ف «يُعَلِّمُهُ» معطوف على «يخلُقُ» بالاعتبارين [المذكورين] ؛ إذْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 233 لا مَانِعَ من ذلك، وعلى هذا الذي ذكره أبو حيّان وغيره، تكون الجملة الشرطية معترضة بين المعطوف والمعطوف عليه، والجملة من «نُعَلِّمُهُ» - في الوجهين المتقدمين - مرفوعة المحل، لرفع محل ما عُطِفَتْ عليه. الثالث: أن يعطف على «يُكَلِّمُ» فيكون منصوباً على الحال، والتقدير: يُبَشِّرُكَ بكلمة مُكَلِّماً ومُعلِّماً الكتاب، وهذا الوجه جوزه ابنُ عَطِيَّةَ وغيره. الرابع: أن يكون معطوفاً على «وَجِيهاً» ؛ لأنه في تأويل اسم منصوبٍ على الحال، وهذا الوجه جوَّزه الزمخشريُّ. واستبعد أبو حيّان هذين الوجهين الأخيرين - أعني الثالث والرابع - قال: «الطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه، ولا يقع مثلُه في لسان العرب» . الخامس: أن يكون معطوفاً على الجملة المحكية بالقول: - وهي {كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} . قال أبو حيّان: «وعلى كلتا القراءتين هي معطوفة على الجملة المقولة؛ وذلك أن الضمير في (قال كذلك) لله - تعالى - والجملة بعده هي المقولة، وسواء كان لفظ (الله) مبتدأ خبره ما قبله، أم مبتدأ، وخبره» يَخْلُقُ «- على ما مر إعرابه في {قَالَ كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ} - فيكون هذا من القول لمريم على سبيل الاغتباط، والتبشير بهذا الولد، الذي أوجده اللهُ منها» . السادس: أن يكون مستأنفاً، لا محلَّ له من الإعراب. قال الزَّمَخْشريُّ - بعد أن ذكر فيه أنه يجوز أن يكون معطوفاً على «يُبَشِّرُكِ» أو يخلق أو «وَجِيهاً» -: «أو هو كلام مبتدأ» يعني مستأنفاً. قال أبو حيّان: «فإن عنى أنه استئناف إخبار عن الله، أو من الله - على اختلاف القراءتين - فمن حيث ثبوت الواو لا بد أن يكون معطوفاً على شيء قبله، فلا يكون ابتداء كلام إلا أن يُدَّعَى زيادةُ الواو في وتعلمه، فحينئذٍ يَسِحُّ أن يكون ابتداءَ كلامٍ، وإن عنى أنه ليس معطوفاً على ما ذكر، فكان ينبغي أن يبين ما عطف عليه، وأن يكون الذي عُطِف عليه ابتداء كلام، حتى يكون المعطوف كذلك» . قال شهاب الدين: «وهذا الاعتراض غير لازم؛ لأنه لا يلزم من جعله كلاماً مستأنفاً أن يُدَّعَى زيادة الواو، ولا أنه لا بد من معطوف عليه؛ لأن النحويين، وأهل البيان نَصُّوا على أن الواوَ تكون للاستئناف، بدليل أن الشعراء يأتُون بها في أوائل اشعارهم، من غير تقدُّم شيءٍ يكون ما بعدَها معطوفاً عليه، والأشعار مشحونة بذلك، ويُسمونها واوَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 234 الاستئناف، ومَن منع ذلك قدَّر أنّ الشاعرَ عطف كلامه على شيء منويٍّ في نفسه، ولكن الأول أشهر القولين» . وقال الطبريُّ: قراءة الياء عطف على قوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} ، وقراءة النون، عطف على قوله: {نُوحِيهِ إلَيْكَ} . قال ابن عطيةَ: «وهذا الذي قاله في الوجهين مفسد للمعنى» . ولم يبين أبو محمد وجه إفساد المعنى. قال أبو حيّان: «أما قراءةُ النون، فظاهر فساد عطفه عفى» نُوحِيهِ «من حيث اللفظ ومن حيث المعنى، أما من حيث اللفظ فمثله لا يقع في لسان الْعَرَبِ؛ لبُعْدِ الفَصْل المُفْرِط، وتعقيد التركيب وتنافي الكلامِ، وأما من حيث المعنى فإنَّ المعطوف بالواو شريك المعطوف عليه في المعنى، فيصير المعنى بقوله: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب} ، أي: إخبارك يا محمد بقصة امرأة عمرانَ وولادتها لمريم، وَكَفَالَةِ زكريا، وقصته في ولادة يحيى، وتبشير الملائكة لمريمَ بالاصطفاء والتطهير كل ذلك من أخبار الغيب - نعلمه، أي: نعلم عيسى الكتاب، فهذا كلام لا ينتظم [معناه] مع معنى ما قبله. أما قراءة الياء وعطف» وَيُعَلِّمُهُ «على» يَخْلُقُ «فليست مُفْسِدَةً للمعنى، بل هو أوْلَى وأصَحّ ما يحمل عطف» وَيُعَلِّمُهُ «لقُرب لفظه وصحة معناه - وقد ذكرنا جوازَه قبل - ويكون الله أخبر مريم بأنه - تعالى - يخلق الأشياءَ الغريبةَ التي لم تَجْرِ العادة بِمثلِهَا، مثلما خلق لك ولداً من غير أبٍ، وأنه - تعالى - يُعَلِّمُ هذا الولَد الذي يخلقه لك ما لم يُعَلِّمْه مَنْ قَبْلَه من الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل، فيكون في هذا الإخبار أعظم تبشيرٍ لها بهذا الولد، وإظهار بركته، وأنه ليس مشبهاً أولاد الناس - من بني إسرائيل - بل هو مخالف لهم في أصل النشأة، وفيما يعلمه - تعالى - من العلم، وهذا يظهر لي أنه أحسن ما يحمل عليه عطف وَيُعَلِّمُهُ» اه. قال أبو البقاء: «يُقْرَأ - نعلمه - بالنون، حملاً على قوله: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ} ويقرأ بالياء؛ حملاً على» يُبَشِّرُكِ «وموضعه حال معطوفة على» وَجِيهاً «. قال أبو حيّان: وقال بعضهم:» وَنُعَلِّمُهُ «- بالنون - حملاً على» نُوحِيهِ «- إن عني بالحمل العطف فلا شيء أبعد من هذا التقدير، وإن عني بالحمل أنه من باب الالتفات فهو صحيح» . قال شهاب الدين: «يتعين أن يعني بقوله: حَمْلاً؛ الالتفات ليس إلا، ولا يجوز أن يعني به العطف لقوله: وموضعه حال معطوفة على» وَجِيهاً «وكيف يستقيم أن يُرِيدَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 235 عطفه على» يُبَشِّرُكِ «أو على توجيهه مع حكمه عليه بأنه معطوف على» وَجِيهاً «؟ هذا ما لا يستقيم أبداً» . فصل في المراد ب «الكتاب» المرادُ من «الكِتَاب» : تعليم الخط والكتابة، ومن «الْحِكْمَة» تعليم العلوم، وتهذيب الأخلاق: {والتوراة والإنجيل} كتابان إلهيان، وذلك هو الغاية العُلْيا في العلم؛ لأنه يحيط بالأسرار العقلية والشرعية، ويطَّلع على الحِكَم العُلْوِيَّةِ والسُّفْلِيَّةِ. قوله: {وَرَسُولاً} فيه وجهان: أحدهما: أن صفة - بمعنى مُرْسَل - على «فَعُول» كالصَّبور والشَّكُور. والثاني: أنه - في الأصل - مصدر، ومن مَجِيء «رسول» مصدراً قوله: [الطويل] 1469 - لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحتُ عِنْدَهُمْ ... يِسِرِّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ وقال آخر: [الوافر] 1470 - ألاَ أبْلِغْ أبَا عَمْرٍو رَسُولاً ... بِأنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ أي أبلغه رسالة. ومنه قوله تعالى: «إنَّا رسُولُ رَبِّ العالمين» - على أحد التأويلين - أي: إنا ذوا رسالةِ ربِّ العالمينَ. وعلى الوجهين يترتب الكلامُ في إعراب «رَسُولاً» ، فعلى الأول يكون في نصبه ستة أوجهٍ: أحدها: أن يكون معطوفاً على «يُعَلِّمُهُ» - إذا أعربناه حالاً معطوفاً على «وَجِيهاً» - إذ التقدير وجيهاً ومُعَلَّماً ومُرْسَلاً. قاله الزمخشريُّ وابنُ عطيةَ. وقال أبو حيّان: «وقد بيَّنا ضَعْفَ إعرابِ مَنْ يقول: إن» وَيُعَلِّمُهُ «معطوف على» وَجِيهاً «؛ للفصل المُفْرِط بين المتعاطفَيْن [وهو مبني على إعراب» ويعلمه «] » . الثاني: أن يكون نَسَقاً على «كَهْلاً» الذي هو حال من الضمير المستتر في «وَيُكَلِّمُ» ، أي: يكلم الناسَ طفلاً وكهلاً ومُرْسَلاً إلى بني إسرائيلَ، وقد جَوَّز ذلك ابنُ عطيةَ، واستبعده أبو حيّان؛ لطول الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 236 قال شهاب الدين: «ويظهر أن ذلك لا يجوز - من حيث المعنى - إذْ يصير التقدير: يكلم الناس في حال كونه رسولاً إليهم وهو إنما صار رسولاً بعد ذلك بأزمنةٍ» . فإن قيل: هي حَالٌ مُقَدَّرة، كقولهم: مررت برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً، وقوله: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] . وقيل: الأصل في الحال أن تكون مقارنة، ولا تكون مقدّرة إلا حيث لا لَبْسَ. الثالث: أن يكون منصوباً بفعل مُضْمَرٍ لائقٍ بالمعنى، تقديره: ويجعله رسولاً، لما رأوه لا يصح عطفه على مفاعيل التعليم أضمروا له عاملاً يناسب. وهذا كما قالوا في قوله: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] وقوله: [مجزوء الكامل] 1471 - يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سيْفاً وَرُمْحَا وقول الآخر: [الكامل] 1472 - فَعَلَفتُهَا تبْناً وَمَاءً بَارِداً ..... ... ... ... ... ... ... ... . وقول الآخر: [الوافر] 1473 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَزَجَّجْنَ الْحَوَاجِبَ وَالْعُيُونَا أي: واعتقدوا الإيمانَ، وحاملاً رُمْحاً، وسيقتها ماءً بارداً، وكحَّلْنَ العيون. وهذا على أحد التأويلين في هذه الأمثلة. الرابع: أن يكون منصوباً بإضمار فعل من لفظ «رسول» ويكون ذلك الفعل معمولاً لقول مُضْمَرٍ - أيضاً - هو من قول عيسى. الخامس: أن الرسول - فيه بمعنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم، ويوضِّحُ هذين الوجهين الأخيرين، ما قاله الزمخشريُّ: «فإن قلت: عَلاَم تَحْمِل» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 237 وَرَسُولاً «و» مُصَدِّقاً «من المنصوبات المتقدمة، وقوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} و {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} يأبى حَمله عليها؟ قلت: هو من المضايق، وفيه وجهان: أحدهما: أن يُضمر له» وأرسَلْت «- على إرادة القول - تقديره: ويعلمه الكتاب والحكمة، ويقول: أرسلت رسولاً بأني قد جئتكم، ومصدقاً لما بين يديَّ. الثاني: أن الرسول والمصدِّق فيهما معنى النطق، فكأنه قيل: وناطقاً بأني قد جئتكم، ومصدقاً لما بين يدي» . اه. إنما احتاج إلى إضمار ذلك كُلِّه تصحيحاً للمعنى واللفظ، وذلك أن ما قبله من المنصوبات، لا يصح عطفه عليه في الظاهر؛ لأن الضمائر المتقدمة غُيَّب، والضميرانِ المصاحبانِ لهذين المنصوبين في حُكْم المتكلم؛ فاحتاج إلى ذلك التقدير؛ ليناسب الضمائر. وقال أبو حيان: «وهذا الوجه ضعيف؛ إذْ فيه إضمارُ الْقَوْلِ ومعموله - الذي هو أرسلت - والاستغناء عنهما باسمِ منصوبٍ على الحال المؤكِّدة، إذْ يُفْهَم من قوله: وأرسلت، أنه رسول، فهي - على هذا - حال مؤكِّدة» . واختار أبو حيّان الوجه الثالث، قال: «إذْ ليس فيه إلا إضمار فعل يدل عليه المعنى - ويكون قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} معمولاً ل» رَسُولاً «أي: ناطقاً بأني قد جئتكم، على قراءة الجمهور» . الثالث: أن يكون حالاً من مفعول «وَيًعَلِّمُهُ» وذلك على زيادة الواو - كأنه قيل: ويعلمه الكتاب، حال كونه رسولاً. قاله الأخفشُ، وهذا على أصل مذهبه من تجويزه زيادة الواو، وهو مذهب مَرْجُوحٌ. وعلى الثاني وهو كون «الرسول» مصدراً كالرسالة في نصبه وجهان: أحدهما: أنه مفعول به - عطفاً على المفعول الثاني لِ «يُعَلِّمُهُ» - أي: ويعلمه الكتاب والرسالة معاً، أي: يعلمه الرسالة أيضاً. الثاني: أنه مصدر في موضع الحال، وفيه التأويلات المشهورة في: رَجُلٌ عَدْل. وقرأ اليزيديُّ «وَرَسُولٍ» بالجر - وخرجها الزمخشريُّ على أنها منسوقة على قوله: «بِكَلِمَةٍ» أي: يبشرك بكلمة وبرسول. وفيه بُعْدٌ لكثرة الفصل بين المتعاطفين، ولكن لا يظهر لهذه القراءة الشاذة غير هذا التخريج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 238 قوله: {إلى بني إِسْرَائِيلَ} فيه وَجْهَانِ: أحدهما: أن يتعلق بنفس «رسول» إذْ فعله يتعدى ب «إِلَى» . والثاني: أن يتعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل «رَسُولاً» فيكون منصوبَ المحلِّ في قراءة الجمهور، مجرورة في قراءة اليزيديِّ. فصل هذه الآية تدل على أنه - عليه السلامُ - كان رسولاً إلى كل بني إسرائيل، وقال بعض اليهودِ: إنه كان مبعوثاً إلى قوم مخصوصين. قيل: إنما كان رسولاً بعد البلوغ، وكان أول أنبياء بني إسرائيل يوسف وآخرهم عيسى - عليهما السلام - وقال القرطبيُّ: وفي حديث أبي ذر الطويل: « ... وَأولُ أنْبِيَاءِ بَنِي إسْرَائِيلَ مُوْسَى، وآخرهُم عِيسَى» . قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} قرأ العامَّةُ «أنِّي» بفتح الهمزة، وفيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن موضعها جر - بعد إسقاط الخافض -، إذ الأصل: بأني، فيكون «بأنَّي» متعلِّقاً ب «رَسُولاً» وهذا مذهب الخليلِ والكسائي. والثاني: أن موضعها نصب، وفيه ثلاثة أوجهٍ: الأول: أنه نصب بعد إسقاط الخافض - وهو الباء - وهذا مذهبُ التلميذين: سيبويه والفرّاء. الثاني: أنه منصوب بفعل مقدَّر، أي: يذكر، فيذكر صفة ل «رَسُولاً» حُذِفَت الصفة، وبقي معمولُها. الثالث: أنه منصوب على البدل من «رَسُولاً» ، أي: إذا جعلته مصدراً مفعولاً به، تقديره: ويسلمه الكتاب ويعلمه أني قد جئتكم. وقرأ بعضهم بكسر الهمزة، وفيها تأويلان: أحدهما: أنها على إضمار القول، أي قائلاً: إني قد جئتكم، فحُذِفَ القولُ - الذي هو حالٌ في المعنى، وأبقي معموله. والثاني: أن «رَسُولاً» بمعنى ناطق، فهو مُضَمَّن معنى القول، وما ك ان مُضَمَّناً معنى القول أعْطِيَ حكم القول. وهذا مذهب الكوفيين. قوله: {بِآيَةٍ} يحتمل أن يكون متعلقاص بمحذوفٍ، على أنه حال من فاعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 239 «جِئْتُكمُ» ، أي: جئتكم [ملتبساً بآية] . والثاني: أن يكون متعلقاً بنفس المجيء، أي: جاءتكم الآية. . والآية: العلامة. فإن قيل: لم قال «بِآيَةٍ» وقد أتى بآياتٍ؟ فالجوابُ: أن المراد بالآية: الجنس. وقيل: لأن الكل دل على شيء واحدٍ، وهو صدقه في الرسالة. قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} صفة ل «آيَةٍ» فيتعلق بمحذوف، أي: بآية من عند ربكم، ف «مِنْ» للابتداء مجازاً، ويجوز أن يتعلق {مِّن رَّبِّكُمْ} بنفس المجيء - أيضاً. وقدر أبو البقاء الحال - في قوله: «بِآيَةٍ» - بقوله: «محتجاً بآيةٍ، إن عنى من جهة المعنى صح، وإن عنى من جهة الصناعة لم يَصِحّ؛ إذْ لم يُضْمَرْ في هذه الأماكن، إلا الأكوان المُطْلَقَة» . وقرأ الجمهور «بِآيةٍ» - بالإفراد - في الموضعين، وابن مسعود -: بآياتٍ - جمعاً - في الموضعين. قوله: {أني أَخْلُقُ} قرأ نافع بكسر الهمزة، والباقون بفتحها، فالكسر من ثلاثة أوجهٍ: أحدها: على إضمار القول، أي: فقلت: إني أخلق. الثاني: أنه على الاستئناف. والثالث: على التفسير، فسر بهذه الجملة قوله: «بِآيَةْ» ، كأن قائلاً قال: وما الآية؟ فقال هذا الكلام. ونظيره قوله: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] ثم قال: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] ف «خَلَقَهُ» مفسرة للمثل؛ ونظيره - أيضاً قوله: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [المائدة: 9] ثم فسر الوعد {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9] . وهذا الوجه هو الصائر إلى الاستئناف؛ فإن المستأنَفَ يؤتى به تفسيراً به لمجرد الإخبار بما تضمنه، وفي الوجه الثالث نقول: إنه متعلِّق بما تقدمه، مفسِّر له. وأما قراءة الجماعة ففيها أرْبَعَةُ أوْجُهٍ: أحدها: أنها بدل من {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ} فيجيء، فيها ما تقدم في تلك؛ لأن حكمها حكمها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 240 الثاني: أنها بدل من «بِآيَةٍ» فيكون محلُّها الجَرّ، أي: وجئتكم بأني أخلق لكم، وهذا نفسه آية من الآيات. وهذا البدلُ يحتمل أن يكون كُلاًّ من كُلٍّ - إن أريد بالآية شيء خاصٌّ - وأن يكون بدل بعض من كل إن أريد بالآية الجنس. الثالث: أنها خبر مبتدأ مُضْمَر، تقديره: هي أني أخلق، أي: الآية التي جئت بها أني أخلق وهذه الجملة - في الحقيقة - جوابٌ لسؤال مقدر، كأن قائلاً قال: وما الآية؟ فقال ذلك. الرابع: أن تكون منصوبةً بإضمار فعل، وهو - أيضاً - جواب لذلك السؤال، كأنه قال: أعني أني أخلُقُ. وهذان الوجهان يلاقيان - في المعنى - قراءة نافع - على بعض الوجوه - فإنهما استئناف. قوله: {أَخْلُقُ لَكُم} [البقرة: 21] أن الخلق هو التقدير، ويدل عليه وُجُوهٌ: أحدها: قوله: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] أي: المقدِّرين، وقد ثبت أن العبد لا يكون خالقاً بمعنى التكوين والإبداع، فوجب أن يكون بالتقدير والتسوية. وثانيها: أن لفظ الخلق: يطلق على الكذب، قال تعالى: {إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين} [الشعراء: 137] وقال: {وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا} [العنكبوت: 17] وقال: {إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق} [ص: 7] . والكاذب إنما سُمِّي خالقاً، لأنه يقدِّر الكذب في خاطره ويُصَوره. وثالثها: هذه الآية. ورابعها: قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض} [البقرة: 29] إشارة إلى الماضي، فلو حملنا قوله: «خلق» على الإيجاد والإبداع لكان المعنى: أن كل ما في الأرض الآن فهو - تعالى - كان قد أوجده في الزمان الماضي، وذلك بَاطِلٌ، فوجب حَمْل الخلق على التقدير - حتى يَصِحّ الكلام - وهو أنه - تعالى - قدَّر في الماضي كلَّ ما وُجِدَ الآن في الأرض. وخامسها: قول الشاعر: [الكامل] 1474 - وَلأنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ ... وَبَعْضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لاَ يَفْرِي وقال الآخر: [البسيط] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 241 1475 - وَلاَ يَئِطُّ بِأيْدِي الْخَالِقِينَ وَلاَ ... أيْدِي الْخَوَالِقِ إلاَّ جَيِّدُ الأدَمِ وسادسها: أنه يقال: خلق الفعل إذا قدرها وسواها بالمقياس، والخَلاَق: المقدار من الخير، وفلان خليق بكذا، أي: له هذا المقدار من الاستحقاق، والصخرة الخَلْقاء: الملساء؛ لأن الملاسة استواء وفي الخشونة اختلاف، فثبت أن الخلق عبارةٌ عن التقدير والتسوية. وقال أبو عبد الله البصريُّ: لا يجوز إطلاق «الخالق» على الله - تعالى - في الحقيقة؛ لأن التقدير والتسوية عبارة عن الظن والتخيُّل، وذلك على الله تعالى مُحَالٌ. وأجيب بقوله تعالى: {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ الله} [فاطر: 3] والتقدير والتسوية عبارة عن العلم والظن، لكن الظن كان محالاً في حق الله تعالى فالْعِلْمُ ثابتٌ. إذا عرفت هذا فقوله: {أني أَخْلُقُ} معناه: أقَدِّر وأصَوِّر. قوله: {لَكُمْ} متعلق ب «أخلُقُ» واللام للعلة، أي: لأجلكم - بمعنى لتحصيل إيمانكم، ودَفْع تكذيبكم إياي - وإلا فالذوات لا تكون عِلَلاً، بل أحداثها. و {مِّنَ الطين} متعلق به - أيضاً - و «مِنْ» لابتداء الغاية، وقول من قال: إنها للبيان تساهل؛ إذ لم يَسْبِق مُبْهَم تبينه. قوله: {كَهَيْئَةِ} في موضع هذه الكاف ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنها نَعْت لمفعولٍ محذوفٍ، تقديره: أني أخلق لكم هيئة مثلَ هيئة الطير. والهيئة إما أن تكونَ في الأصل مصدراً، ثم أطلِقَت على المفعول - أي: المُهَيَّأ - كالخلق بمعنى: المخلوق، وإما أن تكون اسماً لحال الشيء وليست مصدراً، والمصدر: التَّهْيِيء - والتَّهَيُّؤ - والتَّهْيِئَة. ويقال: هاء الشيء يَهِيءُ هَيْئاً وهَيْئَةً - إذا ترتب واستقر على حال مخصوص - ويتعدى بالتضعيف، قال تعالى: {وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً} [الكهف: 16] ، والطين معروف، يقال: طَانَهُ الله على كذا وطَلَمَهُ - بإبدال النون ميماً - أي: جبله عليه، والنفخ مَعْرُوفٌ. الثاني: أن الكاف مفعول به؛ لأنها اسم كسائر الأسماء - وهذا رأي الأخْفَشِ، حيث يجعل الكاف اسماً حيث وقعت وغيره من النحاة لا يقول بذلك إلا إذا اضطر إليه - كوقوعها مجرورة بحرف جر، أو إضافة، أو وقوعها فاعلةً أو مبتدأ. وقد تقدم ذلك. الثالث: أنها نعت لمصدر محذوف، قاله الواحديُّ نقلاً عن أبي عليٍّ بعد كلامٍ طويلٍ: «ويكون الكاف موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد، تقديره: أنِّي أخلق لكم من الطّينِ خلقاً مثل هيئة الطَّيْرِ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 242 وفيما قاله نظرٌ من حيث المعنى؛ لأن التحدِّي إنما يقع في أثر الخلق - وهو ما ينشأ عنه من المخلوقات - لا في نفس الخلق، اللهم إلا أن نقول: المراد بهذا المصدر المفعول به فيئول إلى ما تقدم. قال الزمخشري: أي أقدِّر لكم شيئاً مثل هيئة الطّيرِ. وهذا تصريح منه بأنها صفة لمفعول محذوف وقوله: «أقدر» تفسير للخلق؛ لأن الخلق هنا - التقدير - كما تقدم - وليس المراد الاختراع، فإنه مختص بالباري - تعالى -. وقرأ الزهريُّ: «كَهَيْئَةِ» - بنقل حركة الهمزة إلى الياء. وقرأ أبو جعفر: «كَهَيْئَةِ الطَّائِرِ» . قوله: {فَأَنْفُخُ فِيهِ} في هذا الضمير ستة أوجُهٍ: أحدها: أنه عائد على الكاف؛ لأنها اسم - عند مَنْ يرى ذلك - أي: فأنفخ في مثل هيئة الطير. الثاني: أنه عائد على «هَيْئَةِ» ، لأنها في معنى الشيء المُهَيَّأ، فلذلك عاد الضميرُ عليها مذكَّراً وإن كانت مؤنثةً - اعتباراً بمعناها دون لفظها، ونظيره قوله تعالى: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة} [النساء: 8] ثم قال {فارزقوهم مِّنْهُ} [النساء: 8] فأعاد الضمير في {مِنْهَا} على {القِسْمَةَ} لما كانت بمعنى المقسوم. الثالث: أنه عائد على ذلك المفعول المحذوف، أي: فأنفخ في ذلك الشيء المماثل لهيئة الطير. الرابع: أنه عائد على ما وقعت عليه الدلالة في اللفظ. وهو أني أخلق. ويكون الخلق بمنزلة المخلوق. الخامس: أنه عائد على ما دَلَّت عليه الكاف من معنى المثل؛ لأن المعنى: أخلق من الطِّينِ مثلَ هيئة الطَّير وتكون الكاف في موضع نصب على أنه صفة للمصدر المراد تقديره: أني أخلق لكم خلقاً مثل هيئة الطير. قاله الفارسي؛ وقد تقدم الكلام معه في ذلك. السادس: أنه عائد على الطين، قاله أبو البقاء، وأفسده الواحديُّ، قال: «ولا يجوز أن تعود الكناية على» الطِّينِ «لأن النفخ إنما يكون في طين مخصوص وهو ما كان مهيَّئاً منه - والطين المتقدم ذكرُه عام فلا تعود إليه الكناية، ألا ترى أنه لا ينفخ في جميع الطين» . وفي هذا الرَّد نَظَر؛ إذ لقائلٍ أن يقول: لا نُسَلِّم عمومَ الطين المتقدم، بل المراد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 243 بعضه. ولذلك أدخل عليه «مِنْ» التي تقتضي التبعيض، فإذا صار المعنى: أني أخلق بعض الطين، عاد الضَّمِيرُ عليه من غير إشكال، ولكنَّ الواحدي جعل «مِنْ» في الطين لابتداء الغاية، وهو الظَّاهِرُ. قال أبو حيّان: «وقرأ بعض القُرَّاء» فأنْفَخَهَا «. أعَاد الضمير على الهيئة المحذوفة؛ إذ يكون التقدير: هيئة كهيئة الطير، أو على الكاف - على المعنى - إذ هي بمعنى مماثلة هيئة الطير، فيكون التأنيث هنا كما هو في آية المائدة: {فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً} [المائدة: 110] ويكون في هذه القراءة قد حذف حرف الجر، كما حذف في قوله: [البسيط] 1476 - مَا شُقَّ جَيْبٌ وَلاَ قَمَتْكَ نَائِحَةٌ ... وَلاَ بَكَتْكَ جِيَادٌ عِنْدَ أسْلاَبِ وقول النابغة: [البسيط] 1477 - ... ... ... ... ... ..... كَالْهِبْرَقِيِّ تَنَحَّى يَنْفُخُ الْفَحْما يريد ولا قامت عليك، وينفخ في الفَحْمِ. وهي قراءة شائة، نقلها الفرَّاء» . قال شهابُ الدين: «وعجبت منه، كيف لم يَعْزُها، وقد عزاها صاحبُ الكشَّاف إلى عبد الله، قال: وقرأ:» أعبدُ الله «فأنفخها» . قوله: {فَيَكُونُ} في «يكون» وجهان: أحدهما: أنها تامة، أي: فيوجد، ويكون «طيراً» - على هذا - حالاً. والثاني: أنها ناقصة، و «طَيْراً» - على هذا - حالاً. والثاني: أنها ناقصة، و «طيراً» خبرها. وهذا هو الذي ينبغي أن يكون؛ لأن في وقوع اسم الجنس حالاً لا حاجة إلى تأويل، وإنما يظهر ذلك على قراءة نَافعٍ «طَائِراً» ؛ لأنه - حينئذٍ - اسم مشتق. وإذا قيل بنقصانها، فيجوز أن تكون على بابها، ويجوز أن تكون بمعنى «صار» الناقصة، كقوله: [الطويل] 1478 - بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كَاَنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا أي صارت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 244 وقال أبو البقاء: «فيكون - أي فيصير - فيجوز أن يكون» كان «هنا - التامة؛ لأن معناها» صار «بمعنى: انتقل، ويجوز أن تكون الناقصة، و» طَائِراً «- على الأول - حالٌ، وعلى الثاني - خَبَرٌ» . قال شِهَابُ الدِّينِ: «ولا حاجة إلى جعله إياها - في حال تمامها - بمعنى» صار «التامة التي معناها معنى» انتقل «بل النحويون إنما يقدرون التامة بمعنى حدث، ووجد، وحصل، وشبهها وإذا جعلوها بمعنى» صار «فإنما يعنون» صار «الناقصة» . وقرأ نافع ويَعْقُوبُ فيكون طائِراً - هنا وفي المائدة - والباقون «طَيْراً» في الموضعين. فأما قراءة نافع فوجَّهَهَا بعضُهم بأنَّ المعنى على التوحيد، والتقدير: فيكون ما أنفخ فيه طائراً ولا يعترض عليه بأن الرسمَ الكريمَ إنما هو «طَيْراً» - دون ألف - لأن الرسم يُجوِّز حذف مثل هذه الألف تخفيفاً ويدل على ذلك أنه رسم قوله تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] ولا طير - دون ألف - ولم يقرأه أحد «طائر» - بالألف - فالرسم محمل، لا مُنَافٍ. قال بعضهم كالشارح لما تقدم -: ذهب نافع إلى نوع واحد من الطير؛ لأنه لم يخلق غير الخفّاشِ، وزعم آخرون أن معنى قراءته: يكون كل واحد مما أنفخ فيه طائراً، قال: كقوله تعالى: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] أي اجلدوا كل واحد منهم وهو كثير من كلامهم. وأما قراءة الباقين فمعناها يحتمل أن يُرَاد به اسم الجنس - أي: جنس الطير - ويُحْتَمل أن يُرَاد به الواحد فما فوقه، ويحتمل أن يراد به الجمع، ولا سيما عند من يرى أن طيراً صيغة جمع نحو رَكْب وصَحْب وتَجْر؛ جمع راكب وصاحب وتاجر - وهو الأخفشُ - وأما عند سيبويه فهي عنده أسماء جموع، لا جموع صريحة وتقدم الكلام على ذلك في البقرة. وحسن قراءة الجماعة لموافقتها لما قبلها - في قوله: {مِّنَ الطير} - ولموافقة الرسم لفظاً ومعنى. قوله: {بِإِذْنِ الله} يجوز أن يتعلق ب «طَيْراً» - على قراءة نَافِعٍ، وأما على قراءة غيره فلا يتعلق به؛ لأن «طَيْراً» اسم جِنْسٍ، فيتعلق بمحذوف على أن صفة لِ «طَيْراً» أي: طيراً ملتبساً بإذن الله - بتمكينه وإقداره. قال أبو البقاء: متعلق ب «يكون» . وهذا إنما يظهر إذا جعل «كان» تامة، وأما إذا جعلها ناقصة ففي تعلُّق الظرف بها الخلاف المشهور. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 245 فصل روي أن عيسى - عليه السلام - لما ادَّعَى النبوةَ، وأظهر المعجزات، طالبوه بخَلْق خفاش فأخذ طيناً، فصوَّره، فنفخ فيه، فإذا هو يطير بين السماء والأرض. قال وَهْبٌ: كان يطير ما دام الناسُ ينظرون إليه، فإذا غاب عن أعينهم سقط ميِّتاً، ليتميز فعلُ الخلْق من فعل الخالق. قيل: خلق الخُفَّاش، لأنه أكمل الطير خَلْقاً، وأبلغ في القدرة؛ لأن لها ثَدْياً وأسْنَاناً وأذناً، وهي تحيض وتطهر وتَلِد. وقيل: إنما طالبوه بخلق خُفَّاش؛ لأنه أعجب من سائر الخلق، ومن عجائبه أنه لحم ودم، يطير بغير ريش ويلد كما يَلِد الحيوان، ولا يبيض كما يبيض سائر الطُّيور، ويكون له الضرع يخرج منه اللبن، ولا يُبصر في ضوء النهار، ولا في ظلمة الليل، وإنما يرى في ساعتين: بعد غروب الشمس سَاعةً، وبعد طلوع الفجر سَاعةً - قبل أن يُسْفِر جِدًّا - ويضحك كما يضحك الإنسان، ويحيض كما تحيض المرأة. قال قوم إنه لم يخلق غير الخفاش. وقال آخرون: إنه خلق أنواعاً من الطّيْرِ. فصل قال بعض المتكلمين: دلت الآيةُ على أن الروح جسم رقيقٌ، كأنه الريح؛ لأنه وصفها بالنفخ، ثم هاهنا بحث، وهو أنه هل يجوز أن يقال: إنه - تعالى - أودع في نفس عيسى - عليه السلام - خاصية، بحيث إذا نفخ في شيء كانت نفخته فيه موجبة لصيرورة ذلك الشيء حَيًّا؟ ويقال: إن الله - تعالى - كان يخلق الحياة في ذلك الجسم بصورته، عند نفخ عيسى على سبيل إظهار المعجزات، وهذا الثاني هو الحق؛ لقوله تعالى: {الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] وقال إبراهيمُ عليه السلام لمناظريه: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] فلو حصل لغيره هذه الصفة لبطل ذلك الاستدلال. وقوله: {بِإِذْنِ الله} معناه: بتكوين الله وتخليقه؛ لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 145] أي بأن يُوجَِ اللهُ الموتَ. فصل القرآن دل على أنه - عليه السلام - إنما تولد من نفخ جبريل - عليه السلام - في مريم وجبريل روح محض وروحاني محض، فكانت نفخة عيسى عليه السلام سبباً للحياة والروح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 246 قوله: «وأبرئ الأكمه» وأبرئ عطف على «أخْلُقُ» فهو داخل في خبر «أنِّي» . يقال: أبرأت زيد عن العاهة ومن الدِّيْن، وبَرَّأتك من الدين - بالتضعيف. وبَرَأت من المرض أبْرأ وبَرِئْتُ - أيضاً - وأما برئت من الدَّيْنِ ومن الذَّنْب، فبَرِئْتُ لا غَيْرُ. وقال الأصمعيُّ: برئتُ من المرض لغةُ تَمِيم، وبَرَأتُ لغَةُ الحجازِ. قال الراغبُ: «بَرَأتُ من المرض وَبَرئْتُ، وَبَرَأت من فلان» ، فالظاهرُ من هذا أنه لا يقال الوجهان - أعني فتح الراء وكسرها - إلا في البراءة من المرض ونحوه. وأما الدَّيْنُ والذَّنْبُ ونحوهما، فالفتح ليس إلا. والبراءة: التخلص من الشيء المكروه مجاورته؛ وكذلك التَّبَري والبراء. فصل من وُلِدَ أعْمَى، يقال: كَمِه يَكْمَهُ فهو أكْمَه. قال رؤبة: [الرجز] 1479 - فَارْتَدَّ عَنْهَا كَارْتِدَادِ الأكْمَهِ ... يقال: كمهتها، أي: أعميتها. قال الزمخشريُّ والراغبُ وغيرُهما: «الأكمهُ: من وُلِدَ مطموس العينين» ، وهو قول ابنِ عباس وقتادة. قال الزمخشري: «ولم يوجد في هذه الأمة أكمه غير قتادة صاحب التفسير» . قال الراغب: «وقد يُقال لمن ذَهَبَتْ عينُه: أكمه» . قال سُوَيد: [الرمل] 1480 - كَمِهَتْ عَيْنَاهُ حَتَّى ابْيَضّتَا ..... ... ... ... ... ... ... . . قال الحسنُ والسُّدِّيُّ: هو الأعمى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 247 وقال عكرمةُ: هو الأعمش. وقال مجاهد: هو الذي يبصر بالنهار ولا يُبْصر بالليلز والبرص: داء معروف، وهو بياضٌ يَعْتَري الإنسانَ، ولم تكن العربُ تنْفر من شيء نُفْرَتَها منه، ويُقال: برص يبرص بَرَصاً، أي: أصابه ذلك، ويقال له: الوَضَح، وفي الحديث: «وَكَانَ بِهَا وَضَحٌ» . والوضَّاح من ملوك العرب هابوا أن يقولوا له: الأبرص. ويقال للقمر: أبْرَص؛ لشدة بياضِه. وقال الراغب «وللنكتة التي عليه» وليس بِظَاهِرٍ، فَإنَّ النُّكْتَةَ التي عليه سوداء، والوزغ سامٌّ أبرص، سُمِّيَ بذلك؛ تشبيهاً بالبرص، والبريص: الذي يَلْمَع لمعان البرص ويقارب البصيص. فصل إنما خَصَّ هذين المرضَيْن لأنهما أعْيا الأطباء، وكان الغالب في زمن عيسى - عليه السلام - الطبَّ، فأراهم الله المعجزة من جنس ذلك. قال وَهَبٌ: رُبَّما اجتمع على عيسى عليه السلام من المرضى - في اليوم الواحد - خَمْسُونَ ألفاً، من أطاق منهم أن يبلغه بَلَغه، ومن لم يُطِقُ مَشَى إليه عيسى، وكان يداويهم بالدُّعاء - على شرط الإيمان - ويُحْيي الموتَى. قال الكلبيُّ: كان عيسى يُحْيي الموتَى ب «يا حَيُّ يَا قَيُّومُ، أخي عَازَرَ» وكان صديقاً له، ودعا سام من نوح من قبره فخرج حَيًّا، ومرَّ على ابن عجوز ميت، فدعا الله عيسى، فنزل عن سريره حَيًّا، ورجع إلى أهله وبقي ووُلِدَ لَهُ، وبنت العاشر أحياها، وولدت بعد ذلك. وأما العازر فإنه كان تُوُفِّي قبل ذلك بأيام فدعا الله، فقام - بإذن الله - وَودَكُه يَقْطُر، وعاش، ووُلِدَ له. وأما ابنُ العجوزِ، فإنه مر به محمولاً على سريره، فدعا الله، فقام، ولبس ثيابه وحمل السرير على عنقه إلى أهله، وأما ابنة العاشر فكان أتى عليها ليلة، فدعا الله، فعاشت بعد ذلك، وولد لها. فلما رأوا ذلك قالوا: إنك تُحْيي من كان موتُه قريباً، ولعله لم يمت، بل أصابتهم سكتة فأَحْيِ لنا سام بن نوح، فقال: دلوني على قبره، فخرجوا وخرج معهم، حتى انتهى إلى قبره، فدعا الله، فخرج من قبره، قد شاب رأسُهُ، فقال له عيسى: كيف شاب رأسُك ولم يكن في زمانكم شَيْبٌ؟ فقال: يا رُوحَ اللهِ، إنك دعوتني، فسمعت صوتاً يقول: أجِبْ رُوحَ اللهِ، فظننت أن القيامة قد قامت، فمن هَوْل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 248 ذلك شاب رأسي. فساله عن النزع، فقال: يا روح الله، إن مرارة النزع لم تَذْهَب من حنجرتي - وكان قد مر على وقت موته أكثر من أربعة آلاف سنةٍ - ثم قال للقوم: صَدِّقُوه؛ فإنه نبيٌّ، فآمن به بعضُهم، وكذَّبه بعضُهم، وقالوا: هذا سحرز فصل قَيَّد قوله: {أني أَخْلُقُ} بإذن الله؛ لأنه خارق عظيم، فأتَى به؛ دفعاً لتوهُّم الإلهية، ولم يأت فيه فيما عُطِف عليه في قوله: {وَأُبْرِىءُ الأكمه والأبرص} ثم قيَّد الخارقَ الثالث - أيضاً - بإذن الله؛ لأنه خارق عظيم أيضاً - وعطف عليه قوله: {وَأُنَبِّئُكُم} من غير تقييد له ونبهه على عِظم ما قبلَه، ودَفْعاً لوهم من يتوهم فيه الإلهيّة، أو يكون قد حذف القيد من المعطوفين؛ اكتفاء به في الأول والأول أحسن. قوله: {بِمَا تَأْكُلُونَ} يجوز في «ما» أن تكون موصولةً - اسميَّة أو حرفيَّة - ونكرة موصوفة. فعلى الأول والثالث تحتاج إلى عامل بخلاف الثاني - عند الجمهور - وكذلك «ما» في قوله: {وَمَا تَدَّخِرُونَ} محتملة لما ذكر. وأتى بهذه الخوارق الأربع بلفظ المضارع؛ دلالةً على تجدُّد ذلك كلَّ وقتٍ طُلِبَ منه. قوله: {تَدَّخِرُونَ} قراءة العامة بدال مشدَّدةٍ مهملةٍ، وأصله: تَذتَخِرُونَ - تفتعلون - من الذخر، وهو التخبية، يقال: ذَخَر الشيء يَذْخَرُه ذَخْراً، فهو ذاخرٌ ومذخورٌ - أي: خبَّأه. قال الشاعر: [البسيط] 1481 - لَهَا أشَارِيرُ مِنْ لَحْمٍ تُتَمِّرُهُ ... مِنَ الثَّعَالِبِي وَذُخْرٌ مِنْ أرَانِيها الذخر: فُعْل بمعنى المذخور، نحو الأكل بمعنى المأكول، وبعض النحويين يصَحِّفُ هذا البيتَ فيقول: وَوخْزٌ - بالواو والزاي - وقوله: من الثَّعَالِي، وأرانيها، يريد: الثعالب، وأرانبها، فأبدل الباء الموحدة باثنتين من تحتها. ولما كان أصله: تَذْتَخِرون، اجتمعت الذال المعجمة مع تاء الافتعال، فأبدِلَتْ تاء الافتعال دالاً مهملةً، فالتقى بذلك متقاربان - الدال والذال - فأبدل الذال - المعجمة - دالاً، وأدغمها في الذال المعجمة - فصال اللفظ: تَدَّخرون. وقد قرأ السوسيُّ - في رواية عن أبي عمرو - تَذْدَخِرُون بقلب تاء الافتعال دالاً مهملة من غير إدغام، وهذا وإن كان جائزاً إلا أن الإدْغامَ هو الفصيح. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 249 وقرأ الزهري ومجاهد وأبو السّمّال وأيوب السختياني «تَذْخَرُونَ» - بسكون الذَّال المعجمة، وفَتح الخاء جاءوا به مجرداً على فَعَل، يقال: ذَخَرته - أي: خبَّأته. ومن العرب من يقلب تاء الافتعال - في هذا النحو - ذالاً معجمة، فيقول: اذَّخَر يذخِر - بذال معجمة مشددة، ومثله اذَّكَر فهو مذّكر. وسيأتي إن شاء الله تعالى. قال أبو البقاء: والأصل في «تَدَّخِرُونَ» تَذتَخِرون، إلاَّ أنَّ الذالَ مجهورة، والتاء مهموسة، فلم يجتمعا، فأبدلت التاء دالاً؛ لأنها من مَخْرَجِها؛ لتقرب من الذال، ثم أبدِلت الذال دالاً، وأدغمت. و «في بيوتكم» متعلق ب «تَدَّخِرُونَ» . فصل في الآية قولان: أحدهما: قال السُّديُّ: كان عيسى عليه السلام في الكتّاب يُحَدِّثُ الغِلْمَانَ بما يصنع آباؤهم، ويقول للغلام: انطلق فقد أكل أهلُك كذا وكذا، ورفعوا لك كذا وكذا، فينطلق الصبيُّ إلى أهله، ويبكي لهم، حتى يعطوه ذلك الشيءَ، فيقولون مَنْ أخبرَك بهذا؟ فيقول: عيسى، فحبسوا صبيانَهُمْ عنه، وقالوا: لا تلعبوا مع هذا الساحر، فجمعوهم في بيتٍ فجاء عيسى، وطلبهم، فقالوا: ليسوا هاهنا. فقال: ما في هذا البيت قالوا: خنازير، قال عيسى: كذلك يكونون، ففتحوا عليهم فإذا هم خنازير، ففشا ذلك في بني إسرائيل، فهمت به بنو إسرائيل، فلما خافت عليه أمُّه، حملته على حمارٍ لها، وخرجت هاربةً به إلى مصر. قال قتادةُ: إنما كان هذا في المائدةِ، وكان خواناً ينزل عليهم أينما كانوا كالمَنِّ والسَّلْوَى وأمروا أن لا يخونوا ولا يخبئوا لغد، فخانوا وخبّأوا، فجعل عيسى يخبرهم بما أكلوا من المائدة وبما ادَّخروا، فمسخهم اللهُ خنازيرَ. وقال القرطبيُّ: إنه لمَّا أحيا لهم الموتى طلبوا منه آيةً أخرى، وقالوا: أخبرنا بما نأكل في بيوتنا، وبما ندخر للغد، فأخبرهم، فقال: يا فلان، أكلتَ كذا وكذا، وادَّخرت كذا وكذا، وأنت يا فلان، أكلت كذا وكذا وادَّخرت كذا وكذا. فصل اعلم أن الإخبار عن الغيب على هذا الوجه معجزة؛ وذلك لن المنجِّمين الذين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 250 يدعون استخراج الجنيِّ لا يُمكنهم ذلك إلا عن تقدم سؤال يستعينون عند ذلك بآلة، ويتوصَّلون بها إلى معرفة أحوال الكواكبِ، ثم يعترفون بأنهم يغلطون كثيراً، فأما الإخبار عن الغيب من غير استعانة بآلة ولا تقدم مسألة فلا يكون إلا بوحي من الله تعالى. قوله: {إنَّ فِى ذَلِكَ} إشارة غلى جميع ما تقدم من الخوارق، وأشِير إليها بلفظ الإفْرادِ - وإن كانت جمعاً في المعنى - بتأويل ما ذُكِر. وقد تقدم أن مصحفَ عبدِ الله وقراءته «لآياتٍ» - بالجمع؛ مراعاةً لما ذكرنا من معنى الجمع، وهذه الجملة يُحْتَمَل أن تكون من كلام عيسى، وأن تكون من كلام الله تعالى. قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} جوابه محذوف، أي: إن كنتم مؤمنين انتفعتم بهذه الآية، وتدبَّرتموها. وقدر بعضهم صفةً محذوفةً ل «آية» أي: لآية نافعة. قال ابو حيّان: «حتى يتَّجه التعلُّق بهذا الشرط» وفيه نظر؛ إذْ يَصِحّ التعلُّق بالشرط دون تقدير هذه الصفة. قوله: {مُصَدِّقًا} نَسَقٌ على محل بآيةٍ، لأن محل «بآيَةٍ» في محل نصبٍ على الحالِ؛ إذ التقدير وجئتكم متلبساً بآيةٍ ومصدقاً. وقال الفراء والزَّجَّاجُ: نصب «مُصَدِّقاً» على الحال، المعنى: وجئتكم مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ، وجاز إضمار «جئتكم» ، لدلالة أول الكلام عليه - وهو قوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} - ومثله في الكلام: جئته بما يُحِبُّ ومُكْرِماً له. قال الفراء: «ولا يجوز أن يكون» مُصَدِّقاً «معطوفاً على» وَجِيهاً «؛ لأنه لو كان كذلك لقال: أو مصدقاً لما بين يديه، يعني: أنه لو كان معطوفاً عليه؛ لأتى معه بضمير الغيبة، لا بضمير التكلُّم» . وذكر غير الفرّاء، ومنع - أيضاً - أن يكون منسوقاً على «رَسُولاً» قال: لأنه لو كان مردوداً عليه لقال: ومصدقاً لما بين يديك؛ لأنه خاطب بذلك مريم، أو قال: بين يديه. يعني أنه لو كان معطوفاً على «رَسُولاً» لكان ينبغي أن يُؤتَى بضمير الخطاب؛ مراعاةً لمريم، أو بضمير الخطاب مراعاةً للاسم الظاهر. قال أبو حيّان: وقد ذكرنا أنه يجوز في «رَسُولاً» أن يكون منصوباً بإضمار فعل - أي: وأرسلت رسولاً - فعلى هذا التقدير يكون «مُصَدِّقاً» معطوفاً على «رَسُولاً» . قوله: {مِنَ التوراة} فيه وجهان: أحدهما: أنه حال من «ما» الموصولة، أي: الذي بين يدي حال كونه من التوراةِ، فالعامل فيه مصدقاً لأنه عامل في صاحب الحالِ. الثاني: أنه حال من الضمير المُسْتَتِر في الظرف الواقع صِلَةً. والعامل فيه الاستقرارُ المُضْمَرُ في الظرف أو نفس الظرف؛ لقيامه مقامَ الفعل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 251 فصل اعلم أنه يجب على كل نبيٍّ أن يكون مُصَدِّقاً لجميع الأنبياء؛ لأن الطريق إلى ثبوت نبوتهم هو المعجزة، فكل مَنْ حصلت له المعجزةُ، وجب الاعترافُ بنبوته. قوله: {وَلأُحِلَّ} فيه أوجُهٌ: أحدها: أنه معطوف على معنى «مُصَدِّقاً» إذ المعنى: جئتكم لأصَدِّقَ ما بين يديَّ ولأحِلَّ لكم، ومثله من الكلام: جئته مُعْتَذِراً إليه ولأجْتَلِبَ رِضاهُ - أي: دئت لأعتذر ولأجتلب - كذا قال الواحديُّ، وفيه نظرٌ؛ لأن المعطوف عليه حال، وهذا تعليلٌ. قال أبو حيّان: - بعد أن ذكر هذا الوَجْهَ -: «وهذا هو العطف على التوهُّم وليس هذا منه؛ لأن معقولية الحال مخالفة لمعقوليَّة التعليلِ، والعطف على التوهُّم لا بُدَّ أن يكون المعنى مُتَّحِداً في المعطوف والمعطوف عليه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} [المنافقون: 10] كيف اتحد المعنى من حيث الصلاحية لجواب التحضيض. وكذلك قول الشاعر: [الطويل] 1482 - تَقِيٌّ نَقِيٌّ، لَمْ يُكَثِّرْ غَنِيمَةً ... بِنَهْكَةِ ذِي قُرْبَى وَلاَ بِحَقَلَّدِ كيف اتخذ معنى النفي في قوله: لم يُكَثِّرْ، وفي قوله: ولا بِحَقلَّدٍ، أي: ليس بمكثر ولا بحقلدٍ. وكذلك ما جاء منه «. قال شهابُ الدّينِ:» ويمكن أن يريد هذا القائلُ أنه معطوف على معنى «مُصَدِّقاً» أي: بسبب دلالته على علةٍ محذوفةٍ، هي موافقة له في اللفظ، فنسب العطف على معناه، باعتبار دلالته على العلة المحذوفة لأنها تشاركه في أصل معناه - أعني مدلول المادة - وإن كانت دلالة الحال غير دلالة العقل «. الثاني: انه معطوف على عِلَّةٍ مقدرة، أي: جئتكم بآية، ولأوسِّعَ عليكم ولأحِلَّ، أو لأخفِّفَ عنكم ولأحِلَّ، ونحو ذلك. الثالث: أنه معمول لفعلٍ مُضْمَرٍ؛ لدلالة ما تقدم عليه، أي: وجئتكم لأحِلَّ، فحذف العامل بعد الواو. والرابع: أنه متعلق بقوله: {وَأَطِيعُونِ} والمعنى اتبعوني لأحِلَّ لكم. وهذا بَعِيدٌ جداً أو مُمتنع. الخامس: أن يكون {ولأُحِلَّ لَكُمْ} رداً على قوله:» بِآيةٍ «. قال الزمخشريُّ: {وَلأُحِلَّ} رَدٌّ على قوله {بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي: جئتكم بآية من ربكم ولأحلَّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 252 قال أبو حيان:» ولا يستقيم أن يكون {وَلأُحِلَّ لَكُم} راَّا على «بآيَةٍ» ، لأن «بِآيَةٍ» في موضع حال و «لأحل» تعليل، ولا يَصِحُّ عطف التعليل على الحال؛ لأن العطف بالحرف المشرك في الحكم يوجب التشريك في جنس المعطوفِ عليه، فإن عطفت على مصدر، أو مفعولٍ به، أو ظرفٍ، أو حالٍ، أو تعليل وغير ذلك شارَكه في ذلك المعطوف «. قال شهاب الدين: ويحتمل أن يكون جوابه ما تقدم من أنه أراد رداً على» بآية «من حيث دلالتها على عمل مقدر. قوله: {بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} المراد ب» بَعْض «مدلوله في الأصل. قال أبو عبيدة: إنها - هنا - بمعنى» كل «. مستدلاًّ بقول لَبِيد: [الكامل] 1483 - تَرَّاكُ أمْكِنَةٍ إِذَا لَمْ أرْضَهَا ... أوْ يَعْتَلِقُ بَعْضَ النُّفُوسِ حِمَامُهَا يعني كلّ النفوس. وقد يرد الناسُ عليه بأنه كان يَلْزَمُ أن يُحِلَّ لهم الزنا، والسرقةَ، والقَتْلَ؛ لأنها كانت محرَّمةً عليهم، فلو كان المعنى: ولأحِلَّ لكم كُلَّ الذي حُرِّم عليكم لأحلَّ لهم ذلك كلَّه. واستدل بعضهم على أن» بَعْضاً «بمعنى» كُلّ «بقول الآخر: [الطويل] 1484 - أبَا مُنْذِرٍ أفْنَيْتَ فَاسْتَبْقِ بَعْضَنَا ... حَنَانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ مِنْ بَعْضِ أي: أهون من كل شر. واستدل ىخرون بقول الشَّاعِر: [البسيط] 1485 - إنَّ الأمُورَ إذَا الأحْدَاثُ دَبَّرَهَا ... دُونَ الشُّيُوخِ تَرَى فِي بَعْضِهَا خَلَلاَ أي: في كلها خللاً، ولا حاجة إلى إخراج اللفظ عن مدلوله مع إمكان صحة معناه؛ إذ مراد لبيد ب» بَعْضَ النُّفُوسِ «نفسه هو والتبعيض في البيت الآخر واضح؛ فإن الشر بعضه أهون من بعضٍ آخر لا من كُلِّه، وكذلك ليس كل أمر دبره الأحداث كان خَلَلاً، بل قد يأتي تدبيره خيراً من تدبير الشيخ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 253 وقرأ العامة: «حُرِّمَ» بالبناء للمفعول، والفاعل هو الله. وقرأ عكرمة «حَرَّمَ» مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى، أو الموصول في قوله: {لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} ؛ لأنه كتاب مُنزَّل، أو موسى؛ لأنه هو صاحب التوراة، فأضمر بالدلالة عليه بذكر كتابه. وقرأ إبراهيم النّخْعِيُّ: «حَرُمَ» - بوزن شَرُفَ وظَرُفَ - ونُسِب الفعل إليه مجازاً للعلم بأن المُحَرِّم هو الله. فإن قيل: هذه الآية مناقضةٌ للآية التي قبلَها؛ لأنها صريحة في أنه جاء ليُحِلَّ لهم بعض الذي كان محرماً عليهم في التوراة، وهذا يقتضي أن يكون حكمُه بخلاف حكم التوراة، وهذا يناقض قوله: {وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة} . فالجوابُ: أنه لا مناقضة بين الكلام؛ لأن التصديق بالتوراة، لا معنى له إلاَّ اعتقاد أن كلَّ ما فيه فهو حق وصواب، فإذا لم يكن التأبيد مذكوراً في التوراة لم يكن حكمُ عيسَى بتحليل ما كان محرَّماً فيه مناقضاً لكونه مُصَدِّقاً بالتوراة، كما يَرِدُ النسخُ في الشريعةِ الواحدةِ. فصل قال وَهَبٌ: كان عيسى على شريعة موسى، يقرِّر السبتَ، ويستقبل بيتَ المَقدِس، ثم فَسَّرَ قوله: {وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} بأمرين: أحدهما: أن الأحبار كانوا قد وضعوا من عند أنفسهم شرائعَ باطلةً، ونسبوها إلى موسى، فجاء عيسى ورفعها، وأبْطلها وأعاد الأمر إلى ما كان في زمن موسى - عليهما السلام -. الثاني: أن الله - تعالى - كان قد حَرَّم عليهم بعضَ الأشياء؛ عقوبةً لهم على بعض ما صدر عنهم من الجنايات، كما قال: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] ثم بَقِي ذلك التحريمُ مستمراً على اليهود، فجاء عيسى، ورفع عنهم تلك التشديداتِ. وقال آخرون: إن عيسى رَفَعَ كثيراً من أحكام التوراةِ، ولم يقدَحْ ذلك في كونه مُصَدِّقاً بالتوراة؛ لِمَأ بينا أن الناسخَ والمنسوخَ كلاهما حَقٌّ وصِدْقٌ، فرفع السَّبْتَ، وأقام الأحدَ مُقَامَه. قوله: {وَجِئْتُكُمْ} هذه الجملة يحتمل أن تكون تأكيداً للأولَى؛ لتقدُّم معناها ولفظها قبل ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 254 قال أبو البقاء: «هذا تكرير للتوكيد؛ لأنه قد سبق هذا المعنى في الآية التي قبلها» . ويحتمل أن تكون للتأسيس؛ لاختلاف متعلَّقها ومتعلَّق ما قبلها. قال أبو حَيَّانَ: قوله: {وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} للتأسيس، لا للتوكيد لاختلاف متعلقها لقوله: {أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} وتكون هذه الآية هي {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} ، لأن هذا القولَ شاهدٌ على صحة رسالتِه؛ إذ جميعُ الرُّسُلِ كانوا عليه لم يختلفوا فيه، وجعل هذا القولَ آيةَ وعلامةً؛ لأنه رسول كسائر الرُّسُلِ؛ حيث هداه للنظر في أدلَّةِ العقل والاستدلال قاله الزمخشريُّ، [وهو صحيح] . وقال: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} لأن طاعة الرسولِ من لوازم تَقْوَى اللهِ. وقوله: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} قراءة العامة بكسر همزة «إنّ» على الإخبار المستأنف؛ وهذا ظاهر على قولنا: إن {جِئْتُكُمْ} تأكيد. أما إذا جعلناه تأسيساً، وجُعِلَت الآية هي قوله: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} - بالمعنى المذكور أولاً - فلا يصحُ الاستئناف، بل يكون الكسر على إضمار القول، وذلك القول بدلٌ من الآية، كأن التقدير: وجئتكم بآية من ربكم قَوْلي: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} ، ف «قَوْلِي» بدلٌ من آية، و «إنّ» وما في حَيِّزها معمول «قولي» ، ويكون قوله: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} اعتراضاً بين البدل والمُبْدَل منه. وقرئ بفتح الهمزة، وفيه أوجُهٌ: أحدها: أنه بدل من «آية» ، كأن التقدير: وجئتكم بأن الله ربي وربكم، أي: جئتكم بالتوحيد. وقوله: {فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ} اعتراضٌ أيضاً. الثاني: أن ذلك على إضمار لام العلة، ولام العلةِ متعلقة بما بعدها من قوله {فاعبدوه} ، والتقدير: فاعبدوه لأن الله ربي وربكم كقوله: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ} [قريش: 1] إلى أن قال: {فَلْيَعْبُدُواْ} [قريش: 3] إذ التقدير فليعبدوا، لإيلاف قريش، وهذا عند سيبويه وأتباعه - ممنوع؛ لأنه متى كان المعمول أنّ وصلتها يمتنع تقديمها على عاملها لا يجيزون: أنَّ زيداً منطق عرفت - تريد عرفت أن زيداً منطلقٌ - للفتح اللفظي، إذْ تَصَدُّرُها - لفظاً يقتضي كسرها. الثالث: أن يكون على إسقاط الْخَافِضِ - وهو على - و «على» يتعلق بآية بنفسها، والتقدير: وجئتكم بآية على أن الله، كأنه قيل: بعلامة ودلالة على توحيد الله - تعالى - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 255 قاله ابنُ عَطِيَّةَ، وعلى هذا فالجملتان الأمْرِيَّتان اعتراض - أيضاً - وفيه بُعْدٌ. قوله: {هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} «هذا» إشارة إلى التوحيد المدلول عليه بقوله {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} أو إلى نفس {إِنَّ الله} باعتبار هذا اللفظ هو الصراط المستقيم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 الإحساس: الإدراك ببعص الحواسّ الخمس وهي الذوق والشمُّ واللمس والسمع والبصر - يقال: أحسَسْتُ بالشيء وبالشيء وحَسَسْتُه وحَسَسْتُ به، ويقال: حَسَيْت - بإبدال سينه الثانية ياءً - وأحست بحذف أول سِينيه -. قال الشاعر: [الوافر] 1486 - سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا ... أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ قال سيبويه: ومما شَذَّ من المضاعف - يعني في الحَذْف - فشبيه بباب أقمت، وليس وذلك قولهم أَحَسْتُ وأَحَسْنَ - يريدون: أحسست وأحسَسْنَ، وكذلك تفعل به في كل بناء يبنى الفعل فيه ولا تصل إليه الحركة، فإذا قلت: لم أحس، لم تحذف. وقيل: الإحساس: الوجود والرؤية، يقال: هل أحْسَسَْ صاحبَك - أي: وجدته، أو رأيته؟ قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ «الحِسّ» في القرآن على أربعة أضربٍ: الأول: بمعنى الرؤية، قال تعالى: {فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى مِنْهُمُ الكفر} [آل عمران: 52] وقوله تعالى: {أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} [الأنبياء: 12] أي رأوه. وقوله {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ} [مريم: 98] أي: هل تَرَى منهم؟ الثاني: بمعنى القتل، قال تعالى: {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ} [آل عمران: 152] أي: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 256 تقتلونهم. الثالث: بمعنى البحث، قال تعالى: {فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ} [يوسف: 87] . الرابع: بمعنى الصوت، قال تعالى: {لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} [الأنبياء: 102] أي: صَوْتَهَا. قوله: {مِّنْهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلق ب «أحَسَّ» و «مِنْ» لابتداء الغاية أي: ابتداء الإحساس من جهتهم. الثاني: أنه متعلق بمحذوف، على أنه حال من الكفر، أي: أحس الكفر حال كونه صادراً منهم. فصل في هذا الإحساس وجهان: أحدهما: أنهم تكلَّمُوا كلمةَ الكُفْرِ فأحَسُّوا ذلك بإذنه. والثاني: أن يُحْمَلَ على التأويل، وهو أنه عرف منهم إصرارَهم على الكفر وعزمهم على قتله، ولما كان ذلك العلم عِلْماً لا شُبْهَةَ فيه، مثل العلم الحاصل من الحواس - لا جرم - عبر عنه بالإحساس، واختلفوا في السبب الذي ظهر فيه كفرهم على وُجُوهٍ: أحدها: قال السُّدِّيُّ: إنه - تعالى - لما بعثه إلى بني إسرائيل، ودعاهم إلى دينِ اللهِ تعالى فتمردوا وعصوا، فخافهم واختفى عنهم. وقيل: نفوه وأخرجوه، فخرج هو وأمُّه يَسِيحَانِ في الأرض، فَنَزَلا في قرية على رجل، فأضافهم، وأحسن إليهم، وكان بتلك المدينة ملك جَبَّار، فجاء ذلك الرجل يوماً حَزِيناً، مُهْتضمًّا، ومريم عند امرأته، فقالت مريم ما شأن زَوْجك؟ أراه كئيباص؟ قالت: لا تسأليني. فقالت: أخبريني، لعل الله يفرِّج كرْبَتَه، قالت: إن لنا ملكاً يجعل على كل رجل منا يطعمه ويطعم جنوده، ويسقيهم الخمر، فإن لم يفعل، عاقبه، واليوم نوبتنا، وليس لذلك عندنا سَعَةٌ، قالت: فقولي له: لا يهتم؛ فإني آمُرُ ابني فيدعو له، فيُكفى ذلك. فقالت مريم لعيسى يا ولدي ادع الله أن يكفيه ذلك، فقال: يا أمَّه، إن فعلتُ ذلك كان فيه شر فقالت: قد احْسَنَ إلينا وأكرمنا، فقال عيسى: قولي له إذا قَرُب مجيء الملك فاملأ قُدُورَك وجوابيَك [ماءاً] ثم أعْلِمْني. ففعل ذلك، فدعا الله تعالى - فتحوَّل ما في القدور طبيخاً، وما في الجوابي خَمْراً، لم يرى الناس مثلَه، فلما جاء الملك أكل، فلما شرب الخمرَ، قال: من اين هذا الخمر؟ قال: من أرض كذا، قال الملك: إن خمري من تلك الأرض وليست مثل هذه قال: هذه من أرض أخرى، فلما خلط على الملك، واشتد عليه، قال: أنا أُخْبِرُك، عندي غلام لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه وإنه دعا الله فجعل الماء خمراً وكان للملك ابن يُريد أن يستخلفه، فمات قبل ذلك بأيام - وكان أحبَّ الخلق إليه - فقال: إنه رجل دعا الله حتى جعل الماء خمراً ليُستجابَنَّ له حتى يُحْييَ ابني، فدعا عيسى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 257 فكلمه في ذلك فقا لعيسى: لا تفعل فإنه إن عاش وقع الشر فقال: ما أبالي ما كان - إذا رأيته - قال عيسى: فإن أحيَيْتُهُ تتركني وأمي نذهب حيث شئنا؟ قال: نعم. فدعا الله تعالى - فعاش الغلامُ، فلما رآه أهل مملكته قد عاش تنادوا بالسلاح وقالوا: أكلنا هذا، حتى إذا دنا موته يريد أن يستخلفَ علينا ابنه فيأكلنا كما أكلنا أبوه؟ فاقتتلوا. وذهب عيسى وأمُّه فمروا بالحواريِّين - وهم يصطادون السمكَ - فقال ما تصنعون؟ قالوا: نصطاد السمك، قال: أفلا تمشون حتى تصطادوا الناسَ؟ قالوا: مَنْ أنت؟ قال: عيسى ابن مريم، عبد الله ورسوله، {مَنْ أنصاري إِلَى الله} ؟ فآمنوا به وانطلقوا معه وصار أمر عيسى مشهوراً في الخلق، فقصد اليهودُ قتلَه، وأظهروا الطعن فيه. وثانيها: أن اليهود كانوا عارفين بأنه المسيح المبشَّر به في التوراة، وأنه ينسخ دينَهم، فكانوا هم أوَّل طاعنين فيه، طالبين قَتْلَهُ، فلما أظهر الدعوةَ، اشتد غضبهُم، وأخذوا في إيذائه وطلبوا قتله. وثالثها: أن عيسى - عليه السلام - ظنّ من قومه الذين دعاهم إلى الإيمان أنهم لا يؤمنون به، وأن دعوته لا تنجع فيهم، فأحب أن يمتحنهم، ليتحقق ما ظنه بهم، فقال لهم: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} فما أجابه إلا الحواريُّونَ، فعند ذلك أحس بأن مَنْ سِوَى الحواريين كافرون، مصرون على إنكار دينه، وطلب قتله. قوله: {مَنْ أنصاري إِلَى الله} ؟ «أنْصَار» جمع نصير نحو شريف وأشراف. وقال قوم: هو جمع نَصْر المراد به المصدر، ويحتاج إلى حذف مضاف أي مَنْ أصْحَابُ نُصْرَتي؟ و «إلى» على بابها، وتتعلق بمحذوف؛ لنها حال، تقديره: من أنصاري مضافين إلى الله، كذا قدره أبو البقاء. وقال قوم إن «إلَى» بمعنى مع أي: مع الله، قال الفرَّاء: وهو وجه حسن. وإنما يجوز أن تجعل «إلَى» في موضع «مع» إذا ضَمَمْتَ الشيء إلى الشيء مما لم يكن معه، كقول العرب: الذود إلى الذَّوْدِ إبل، أي: مع الذود. بخلاف قولك: قدم فلان ومعه مال كثير، فإنه لا يصلح أن يقال: وإليه مال، وكذا قوله: قدم فلان مع أهله، ولو قلت إلى أهله لم يصح، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] . وقد رد أبو البقاء كونَها بمعنى: «مع» فقال: [وقيل: هي بمعنى: «مع» ] وليس بشيء؛ فإن «إلَى» لا تصلح أن تكون بمعنى «مع» ولا قياس يُعَضِّدُهُ. وقيل: إن «إلَى» بمعنى اللام من أنصاري لله؟ كقوله: {يهدي إِلَى الحق} ، كذا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 258 قدره الفارسي. وقيل: ضمَّن أنصاري معنى الإضافة، أي: من يضيف نفسه إلى الله في نصرتي، فيكون «إلَى الله» متعلقاً بنفس «أنصاري» . وقيل: متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء في «أنْصَارِي» أي: مَنْ أنصاري ذَاهِباً إلى الله ملتجِئاً إليه، قاله الزمخشريُّ. وقيل: التقدير: من أنصاري إلى أن أبَيِّن أمر الله، وإلى أن أظهر دينه، ويكون «إلَى» هاهنا غاية؛ كأنه أراد: من يثبت على نصرتي إلى أن تتم دعوتي، ويظهر أمرُ الله؟ وقيل: المعنى: من أنصاري فيما يكون قربة إلى الله ووسيلة إليه؟ وفي الحديث: أنه - عليه السلام - كان يقول - إذا ضَحَّى -: «اللَّهُمَّ مِنْكَ وإلَيْكَ» أي تقرّبنا إليك. وقيل: «إلى» بمعنى: «في» تقديره: من أنصاري في سبيل الله؟ قاله الحسنُ. فصل والحواريون، جمع حواري، وهو النّاصرُ، وهو مصروفٌ - وإن ماثل «مفاعل» ؛ لأن ياء النسب فيه عارضة ومثله حَوَاليّ - وهو المحتال - وهذا بخلاف: قَمَارِيّ وَبخَاتِيّ، فإنهما ممنوعان من الصرف، والفرق أن الياء في حواريّ وحواليّ - عارضة، بخلافها في قَمَاري وبخاتيّ فإنها موجودة - قبل جمعهما - في قولك قُمْريّ وبُخْتِيّ. والحواريّ: الناصر - كما تقدم - ويُسَمَّى كل من تبع نبياً ونصره: حوارياً؛ تسمية له باسم أولئك؛ تشبيهاً بهم، وفي الحديث عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الزبير: «ابن عمتي وحواريّ أمتي» وفيه أيضاً - «إنَّ لكل نبي حواريًّا وحواريي الزُّبَيْر» ، وقال معمر قال قتادة: إن الحواريّين كلهم من قريش: أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وحمزة، وجعفر، وأبو عبيدةِ بن الجراح، وعثمان بن مَظْعُون وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وَقّاصِ وطلحة بن عبيد الله والزبير بن العوامِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين. وقيل: الحواريّ: هو صفوة الرجل وخالصته واشتقاقه من جِرتُ الثوب، أي: أخلصت بياضَه بالغَسْل، ومنه سُمِّي القَصَّار الجزء: 5 ¦ الصفحة: 259 حوارياً؛ لتنظيفه الثياب، وفي التفسير: إن أتباع عيسى كانوا قصارين. قال أبو عبيدة: سمي اصحاب عيسى الحواريون للبياض وكانوا قصارين. وقال الفرزدق: [البسيط] 1487 - فَقُلْتُ: إنَّ الْحَوَارِيَّاتِ مَعْطَبَةٌ ... إذَا تَفَتَّلْنَ مِنْ تَحْتِ الْجَلاَبِيْبِ يعني النساء؛ لبياضهن وصفاء لونهن - ولا سيما المترفِّهات - يقال لهن: الحواريات، ولذلك قال الزَّمَخْشَريُّ: وحواري الرَّجُلِ: صفوته وخالصته، ومنه قيل للحضريات: الحواريات؛ لخلوص ألوانهن ونظافتهن. [وأنشد لأبي حلزة اليشكري] : [الطويل] 1488 - فَقُلْ للحَوَارِيَّاتِ: يبكين غيرَنا ... ولا تبكِنا إلا الكلابُ النوابحُ ومنه سميت الحور العين؛ لبياضهن ونظافتهن، والاشتقاق من الحور، وهو تبيض الثياب وغيرها: وقال الضّحّاكُ: هم الغَسَّالون وهم بلغة النبط - وهواري - بالهاء مكان الحاء -. قال ابن الأنباري: فمن قال بهذا القول قال: هذا حرف اشتركت فيه لغة العرب ولغة النبطِ وهو قول مقاتل بن سليمان إن الحواريين هم القصارون. وقيل: «هم المجاهدون» كذا نقله ابنُ الأنباريّ. وأنشد: [الطويل] 1489 - وَنَحْنُ أُنَاسٌ تَمْلأُ البِيْضُ هَامُنَا ... وَنَحْنُ الحَوَارِيُّونَ يَوْمَ نُزَاحِفُ جَمَاجِمُنَا يَوْمَ اللِّقَاءِ تُرُوسُنَا ... إلَى الْمَوْتِ نَمْشِي لَيْسَ فِينَا تَجَانُفُ قال الواحديُّ: والمختار - من هذه الأقوال عند أهل اللغة - أن هذا الاسم لزمهم للبياض ثم ذكر ما تقدم عن أبي عبيدة. وقال الراغبُ: حوَّرت الشيء: بيَّضت ودوَّرته، ومنه الخبز الحُوَّارَى، والحواريُّون: أنصار عيسى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 260 وقيل: اشتقاقه من حار يَحُور - أي: رَجَع. قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الانشقاق: 14] . أي لن يرجع، فكأنهم الراجعون إلى الله تعالى حار يحور حَوَراً - أي: رجع - وحار يحور حَوَراً - إذا تردَّد في مكانه ومنه: حار الماء في القدر، وحار في أمره، وتحيَّر فيه، وأصله تَحَيْوَرَ، فقُلِبَت الواوُ ياءً، فوزنه تَفَيْعَل، لا تفعَّل؛ إذْ لو كان تفعّل لقيل: تحوَّر نحو تجوَّز ومنه قيل للعود الذي تُشَدُّ عليه البكرة: مِحْوَر؛ لتردُّدِهِ، ومَحَارة الأذُنِ، لظاهره المنقعر - تشبيهاً بمحارة الماء؛ لتردُّد الهواء بالصوت كتردُّد الماء في المحارة، والقوم في حوارى أي: في تَرَدُّد إلى نقصان، ومنه: «نعوذ بالله من الحور بعد الكور» وفيه تفسيران: أحدهما: نعوذ بالله من التردُّد في الأمر بعد المُضِيِّ فيه والثاني: نعوذ بالله من النقصان والتردُّد في الحال بعد الزيادةِ فيها. ويقال: حَارَ بعدما كان. والمحاورة: المرادَّة في [الكلام] ، وكذلك التحاورُ، والحوار، ومنه: {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ} [الكهف: 34] و {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ} [المجادلة: 1] ومنه أيضاً: كلمته فما رجع إليَّ حواراً وحَوِيراً ومَحُورة وما يعيش بحَوْر - أي: بعَقْل يرجع إليه. والحور: ظهور قَلِيلِ بَيَاض في العين من السواد، وذلك نهاية الحُسْنِ في العينِ، يقال - منه -: أحورت عينه، والمذكر أحور، والمؤنث حوراء والجمع فيهما حور - نحو حُمر في جمع أحمر وحمراء -. وقيل: سُمِّيت الحوراءُ حوراء لذلك. وقيل: اشتقاقهم من نقاء القلب وخلوصه وصدقه، قاله أبو البقاء والضَّحَّاك، وهو راجع للمعنى الأول من خلوص البياض، فهو مجاز عن التنظيف من الآثام، وما يشوب الدين. قاله ابن المبارك: سُمُّوا بذلك؛ لما عليهم من أثر العبادة ونورها. وقال رَوْحُ بن قَاسِم: سألت قتادةَ عن الحواريِّين، فقال: هم الذين تَصْلُح لهم الخلافةُ، وعنه أنه قال: الحواريون هم الوزراء. والياء في «حواريّ وحواليّ» ليست للنسب، بل زيادة كزيادتها في كُرْسِيٍّ، وقرأ العامة «الْحَوَارِيُّونَ» بتشديد الياء في جميع القرآن، وقرأ الثَّقَفِي والنخعيّ بتخفيفها في جميع القرأن، قالوا: لأن التشديد ثقيل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 261 وكان قياس هذه القراءة أن يُقال فيها: الحوارون؛ وذلك أنه يستثقل الضمة على الياء المكسور ما قبلها، فتنتقل ضمة الياءِ إلى ما قبلها، فتَسْكُن الياء، فيلتقي ساكنان، فيحذفوا الياء؛ لالتقاء الساكنين، وهذا نحو جا ءالقاضون، الأصل: القاضيون، فَفَعَلُوا به ما ذُكِر. قالوا: وإنما أقِرَّت ضمةُ الياء عليها؛ تنبيهاً على أن التشديد مُرادٌ؛ لأن التشديد يتحمل الضمة، كما ذهب الأخفشُ في «يَسْتَهْزِيُونَ» إذ أبدل الهمزةَ ياءً مضمومةً، وإنما بقيت الضمة؛ تنبيهاً على الهمزة. فصل في المراد ب «الحواريين» اختلفوا في الحواريين، فقال مجاهد والسُّدِّيُّ: كانوا صيادين يصطادون السمك وسُمُّوا حواريين؛ لبياض ثيابهم، وذلك أن عيسى لما خرج سائحاً مَرَّ بجماعة يصطادون السمك وكان فيهم شمعون ويعقوب ويُوحَنَّا بني رودي وهم منه جملة الحواريين الاثني عشر، فقال لهم عيسى: أنتم تصيدون السمك، فإن اتبعتموني صرتم بحيث تصيدون الناسَ بحياة الأبد، قالوا: ومن أنت؟ قال: عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله فطلبوا منه المعجز، وكان شمعون قد رَمَى شبكته تلك الليلة، فما اصطاد شيئاً، فأمره عيسى بإلقاء شبكته في الماء مرة أخرى فاجتمع في تلك الشبكة ما كادت تتمزق، واستعانوا بأهل سفينة أخرى وملئوا سفينتين، فعند ذلك آمنوا بعيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال الحسنُ: كانوا قصَّارين، سُمُّوا بذلك لأنهم كانوا يحوِّرون الثيابَ، أي يبيِّضونها. وقيل: كانوا ملاَّحين وكانوا اثني عشر رجلاً، اتَّبعوا عيسى، وكانوا إذا جاعوا قالوا: يا روحَ الله جعلنا، فيضرب بيده الأرضَ، فيخرج لكل واحد رغيفانِ، وإذا عطشوا قالوا: عطشنا، فيضرب بيده الأرضَ فيخرج الماء، فيشربون، فقالوا: من أفضل منا؛ إذا شئنا أُطعِمْنَا، وإذا شئنا استقينا، وقد آمنا بك؟ فقال: أفضل منكم مَنْ يعمل بيده، ويأكل من كَسْبه، قال: فصاروا يَغْسِلُون الثيابَ بالكراء، فسُمُّوا حَوَاريِّين. وقيل: كانوا ملوكاً، وذلك أن واحداً من الملوك صنع طعاماً، وجمع الناس عليه، وكان عيسى عليه السلامُ على قصعة منها، فكانت القصعة لا تنقص، فذكروا هذه الواقعة لذلك الملك، فقال: أتعرفونه؟ قالوا: نعم فذهبوا، فجاءوا بعيسى، فقال: من أنت؟ قال عيسى ابن مريم، قال: وأنا أترك ملكي وأتبعك، فتبعه ذلك الملك مع أقاربه، فأولئك هم الحواريون. وقيل: إن أمه سلَّمته إلى صَبَّاغ، فكان إذا أراد أن يعلِّمَه شيئاً كان هو أعلم به منه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 262 فأراد الصباغ أن يغيب يوماً لبعض مُهمَّاتِه، فقال له: هاهنا ثياب مختلفة، وقد جعلت على كل واحد علامةً معينةً، فاصبغها بتلك الألوان حتى يتم المقصود عند رجوعي، ثم غاب، فطبخ عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جُبًّا واحداً، وجعل الجميع فيه، وقال: كوني بإذن الله كما أريد، فرجع الصباغ، وسأله، فأخبره بما فعل، فقال: أفسدت عليَّ الثيابَ، قال: قم فانظر، فكان يخرج ثوباً أخضر، وثوباً أصفر، وثوباً أحمر، - كما كان يريد - إلى أن أخرج الجميع على الألوان التي أرادها، فتعجب الحاضرون منه وآمنوا به، وهم الحواريُّونَ. قال القفَّال: ويجوز أن يكون بعضُ هؤلاء الحواريين الاثني عشر من الملوك، وبعضهم من صيادي السَّمكِ، وبعضهم من القصَّارين، وبعضهم من الصبَّاغين، والكل سموا بالحواريين؛ لأنهم كانوا أنصار عيسى - عليه السلام - وأعوانه، والمخلصين في محبته وطاعته. قوله: {قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله} أي: أنصار أنبيائه؛ لأن نُصْرَةَ اللهِ - في الحقيقة - محالٌ. {آمَنَّا بالله} هذا يجري مجرى ذكر العلة، والمعنى: أنه يجب علينا أن نكون من أنصار الله؛ لأجل أن آمنا به؛ فإن الإيمان بالله يوجب نُصْرَةَ دينِ الله، والذَّبَّ عن أوليائه، والمحاربة لأعدائه، ثم قالوا: {واشهد} يا عيسى {بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} أي: منقادون لما تريد منا من نُصْرَتِك. ويحتمل أن يكون ذلك إقراراً منهم بأن دينَهم الإسلام، وأنه دين كلّ الأنبياء - عليهم السلام - ولما أشهدوا عيسى على إيمانهم تضرَّعوا غلى الله، وقالوا: {رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتْ واتبعنا الرسول} عيسى {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} الذين شهدوا لأنبيائك بالصدق. وقال عطاء: مع النبيين؛ لأن كل نبي شاهد أمته، وقد أجاب الله دعاءهم، وجعلهم مثل الأنبياء والرسل وأحيوا الموتى كما صنع عيسى - عليه السلام -. قال ابن عباس: مع محمد وأمته، قال تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] . وقيل: اجعلنا من تلك الفرقة الذين فرنتَ ذكرَهم بذكرِك في قولك: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم} [آل عمران: 18] . قوله: {مَعَ الشاهدين} حال من مفعول {فاكتبنا} وفي الكلام حذف، أي: مع الشاهدين لك بالوحدانية. قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} من باب المقابلة، أي: لا يجوز أن يوصف - تعالى - بالمكر إلاَّ لأجْل ما ذُكِرَ معه من لفظ آخر مسند لمن يليق به. هكذا قيل، وقد جاز ذلك من غير مقابلة في قوله: {أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم} [الأعراف: 99] والمكر في اللغة أصله الستر، يقال: مكر اللَّيْلُ، أي أظلم وستر بظلمته ما فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 263 قال القرطبي: وأصل المكر في اللغة: الاحتيال والخِداع، والمكر: خَدَالةُ الساق، والمكر: ضَرْب من النبات ويقال: بل هو المَغْرَة، حكاه ابنُ فارس، قالوا: واشتقاقه من المكر، وهو شجر ملقف، تخيلوا منه أن المكر منه أن المكر يلتفّ بالممكور به ويشتمل عليه، وامرأة ممكورة الخَلْق، أي: ملتفة الجسم، وكذا ممكورة البَطْن. ثم أطلق المكر على الخُبْث والخداع، ولذلك عبر عنه بعض أهل اللغة بأنه السعيُ بالفساد، قال الزّجّاجُ هو من مكر الليل وأمكر أي أظلم، وعب ربعضهم عنه فقال هو صرف الغير عما يقصده بحيلةٍ، وذلك ضربان: محمود، وهو ان يتحرَّى به فِعْلَ جَميلٍ، وعلى ذلك قوله: {والله خَيْرُ الماكرين} . ومذموم، وهو أن يتحرَّى به فعل قبيح، نحو: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] ٍ. فصل أمَّا مَكْرُهُمْ بعيسى - عليه السلام - فهو أن عيسى لما خرج عن قومه - هو وأمه - عاد إليهم مع الحواريين، وصاح فيهم بالدعوة، فَهَمُّوا بقتله، فذلك مكرهم به. وأما مكرُ الله بهم ففيه وجوه: أحدها: أن مكر الله استدرَاج العبد، وأخذه بغتةً من حيث لا يعلم، كما قال {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} [القلم: 44] . وقال الزّجّاج: «مكر الله» مجازاتهم على مكرهم، فسَمَّى الجزاءَ باسم الابتداء؛ لأنه في مقابلته، كقوله: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15] وقوله: {وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] . ومكر الله - تعالى - خاصة بهم في هذه الآية هو أنه رفع عيسى عليه السلام إلى السماء وذلك أن اليهود أرادوا قتلَ عيسى، وكان جبريل لا يفارقه ساعةً واحدةً، وهو معنى قوله: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس} [البقرة: 87] فلما أرادوا ذلك أمره جبريل أن يدخل بيتاً فيه رَوْزَنَةٌ، فلما دخلوا أخرجه جبريل من تلك الروزنة، وكان قد ألقي شبهه على غيره، فأخِذ، وصُلِب، فتفرَّق الحاضرون ثلاث فرقٍ: فرقة قالوا: كان الله فينا فذهب. والأخْرَى قالت: ابن الله. والثالثة قالت: كان عبد الله ورسوله فأكرمه بأن رفعه إلى السماء فصار لكل فرقة جمع، وظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنة إلى أن بعث الله محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الثاني: أن الحواريين كانوا اثني عشر، وكانوا مجتمعين في بيت، فنافق واحدٌ منهم، ودل اليهود عليه فألقى الله شبهه عليه، ورفع عيسى، فأخذوا ذلك المنافقَ الذي كان منهم وقتلوه، وصلبوه على ظن أنه عيسى عليه السلام، ثم قالوا: وجهه يُشْبِه وَجْه عيسى، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا عيسى، وبدنه يشبه بدن عيسى صاحبنا، فإن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ وإن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ فوقع بينهم قتالٌ عظيمٌ، حتى قتل بعضهم، فذلك هو مكرُ اللهِ بهم. الثالث: قال محمدُ بنُ إسحاقَ: إن اليهودَ عَذبُوا الحواريين بعد أن رُفِع عيسى عليه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 264 السلام، ولَقُوا منهم الجهد، فبلغ ذلك ملك الروم، وكان ملك اليهود من رعيته، فقيل له: إن رجلاً من بني إسرائيل ممن تحت أمرك كان يخبرهم أنه رسول الله، وأراهم إحياء الموتَى، وإبراء الأكْمَهِ والأبرصِ، وفَعَل وَفََل، فقال: لو علمتُ ذلك ما خَلَّيْتُ بينهم وبينه. ثم بعث إلى الحواريين، فانتزعهم من أيديهم وسالهم عن عيسى، فأخبروه وبايعوه على دينهم، وأنزل المصلوب، فغيبه، وأخذ الخشبة، فأكرمها وصانها، ثم غزا بني إسرائيلَ وقتل منهم خَلْقاً عظيماً، ومنه ظهر أصل النصرانية في الروم وكان اسم هذا الملك طباريس، وصار نصرانياً إلا أنه ما أظهَر ذلك، ثم جاء بعده ملك آخرُ يقال طبطيوس غزا بيت المقدس بعد رفع عيسى بنحو من أربعين سنة، فقتل وسبى، ولم يترك في مدينة بيت المقدسِ حجراً على حجر، فخرج عند ذلك قريظةُ والنضيرُ إلى الحجاز، فهذا كله مما جازاهم الله تعالى به على تكذيب المسيح والهَمِّ بقَتْله. الرابع: أن الله تعالى سلَّط عليهم ملك فارس، فقتلهم، وسباهم، وهو قوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار} [الإسراء: 5] فهذا هو مكر الله - تعالى - بهم. الخامس: يحتمل أن يكون المراد منهم أنهم مكروا في إخفاء أمره، وإبطال دينه، ومكر الله بهم، حيثُ أعلى دينَهُ، وأظهر شَرِيعَتَهُ، وقهر بالذل أعداءَه - وهم اليهود. وفي قوله: {والله خَيْرُ الماكرين} إيقاعُ الظاهرِ موقعَ المضمر؛ إذ الأصل: ومكروا ومكر اللهُ، وَهُوَ خَيرُ بالْماكِرِينَ قوله: {إِذْ قَالَ الله} في ناصبه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: قوله: {وَمَكَرَ الله} أي: مكر الله بهم في هذا الوقت. الثاني: {خَيْرُ الماكرين} . الثالث: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} ، فيه وجهان: أحدهما: وهو الأظهر - أن يكون الكلام على حاله - من غير ادعاء تقديم وتأخير فيه - بمعنى إني مستوفي أجلك ومؤخرك وعاصمك من أن يقتلكَ الكفارُ، إلى أن تموت حتفَ أنفِك - من غير أن تُقتَل بأيدي الكفار - ورافعك إلى سمائي. الثاني: أن في الكلام تقديماً وتأخيراً، والأصلُ: رافعك إليَّ ومتوفيك؛ لأنه رُفِعَ إلى السماء، ثم يتوفى بعد ذلك، واواو للجمع، فلا فرق بين التقديمِ والتأخيرِ قاله أبو البقاء. ولا حاجة إلى ذلك مع إمكان إقرار كل واحد في مكانه مما تقدم من المعنى، إلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 265 أن أبا البقاء حمل التوفي على الموت، وذلك إنما هو بَعْدَ رَفْعِه، ونزلوه إلى الأرض وحُكمِه بِشريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما ثبت في الحديثِ. فعلى الأول ففيه وجوهٌ: أحدها: إني متمم عمرك، وإذا تَمَّ عمرُك فحينئذٍ أتوفَّاك كما قدمناه. الثاني: إني مُميتُك، والمقصود منه ألا يصل أعدؤه من اليهود إلى قتله. وهو مروي عن ابن عبَّاسٍ ومحمد بن إسحاق، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أوجهٍ: الأول: قال وَهْبٌ: تُوفِّي ثلاثَ ساعاتٍ، ثم رُفِع وأحْيِيَ. الثاني: قال محمد بن إسحاق: توفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه. الثالث: قال الربيع بن أنس: إنه - تعالى - أنامه حال رفعه إلى السماء، قال تعالى {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] . وثالثها: أن الواو لا تفيد الترتيب، فالأمر فيه موقوف على الدليل، وقد ثبت أنه حي، وأنه ينزل ويقتل الدجال ثم يتوفاه الله بعد ذلكز رابعها: إني متوفيك عن شهواتك، وحظوظ نفسك، فيصير حاله كحال الملائكة - في زوال [الشهوات] والغضب والأخلاق الذميمة -. خامسها: أن التَّوفِّيَ اخذ الشيء وافياً، ولما علم الله أن من الناس من يخطر بباله أن الذي رفعه الله هو رُوحهُ، لا جَسَدُهُ، ذكر ذلك؛ ليدل على أنه - عليه السلام - رفع بتمامه إلى السماء - بروحه وجسده. وسادسها: إني متوفيك، أي جاعلك كالمتوفى؛ لأنه إذا رفع إلى السماء، وانقطع خبره، وأثره عن الأرض كان كالمتوفى، وإطلاق اسم الشيء على ما يشابهه في أكثر خواصه وصفاته جائز حسن. وسابعها: أن التوفِّي هو القبض، يقال: فلان وفاني دراهمي، ووافاني، وتوفيتها منه، كما يقال سلم فلان درامي إلي، وتسلمتها منه. فإن قيل: فعلى هذا يكون التوفي في عين الرفع، فيصير قوله: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} تكراراً، فالجواب: أن قوله {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} يدل على حُصُولِ التَّوفِّي، وهو جنس تحته أنواع، بعضها بالموتِ وبعضُها بالإصعادِ، فلما قال: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} صار تعييناً للنوع، فلم يكن تكراراً. ثامنها: أن يقدر حذف مضاف، أي: متوفي عملك، بمعنى مستوفي عملك، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 266 ورافعك إليَّ، أي: ورافع عملك إليّ، كقوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] والمرادُ منه: أنه تعالى بشره بقبول طاعاتِهِ وأعماله، وعرَّفه أن ما يصل إليه من المتاعب والمشاق - في نشر دينه، وإظهار شريعته من الأعداء فهو لا يُضيع أجره، ولا يهدر ثوابهُ. وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ليُوشِكَنَّ أنْ يَنْزِلَ فِيْكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حكماً عدلاً، يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلُ الْخِنْزِيرَ، وَيَضَعُ الْجِزْيَةَ، فَيَفِيضُ الْمَالُ، حَتَّى لا يَقْبَلُهُ أحَدٌ» . وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نزول عيسى: «وَيُهْلَكُ فِي زَمَانِهِ الْمِلَلُ كُلُّها إلاَّ الإسْلاَم وَيُهْلَكُ الدَّجَّال، فَيَمْكُثُ في الأرْضِ أرْبَعِينَ سَنَةً، ثُمَّ يُتَوَفَّى فَيُصَلِّي عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ» . وقيل للحُسَيْن بن الفضل: هل تجدُ نزولَ عيسى في القرآن؟ قال: نعم، قوله: {وَكَهْلاً} وهو لم يكتهل في الدنيا، وإنما معناه: {وَكَهْلاً} بعد نزوله من السماء. فصل قال القرطبيُّ: «والصحيح أن الله تعالى - رفعه من غير وفاةْ ولا نومٍ - كما قال الحسنُ وابنُ زيد - وهو اختيار الطبريِّ، وهو الصحيحُ عن ابنِ عباس» . وقال الضحاك: وكانت القصة أنهم لما أرادوا قَتْلَ عيسى عليه السلام اجتمع الحواريُّونَ في غرفة - وهم اثنا عشرَ رَجُلاً، فدخل عليهمُ المسيحُ من مشكاةِ الغرفةِ، فأخبر إبليس جَميع الْيَهُودِ، فركب منهم أربعة آلاف رجلٍ، فأخذوا بباب الغرفة، فقال المسيح للحواريين: أيُّكُمْ يخرج، ويقتل، ويكون معي في الجنة؟ فقال واحدٌ منهم أنا يا نبيَّ الله، فألقَى إليه مدرعة من صوف، وعمامة من صوفٍ، ونَاوَلَه عُكَّازه، وألقي عليه شبه عيسى، فخرج على اليهود فقتلوه، وصلبوه، وأما عيسى فكساه اللهُ الرِّيشَ، وألبسه النورَ، وقطع عنه شهوة المطعم والمشرب، فَطَارَ مع الملائكة، ثم إن اصحابه تفرقوا ثلاث فرق: فقالت فرقة: كان اللهُ فينا، ثم صعد إلى السماء، وهم اليعقوبية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 267 وقالت فرقة: كان فينا ابن الله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهم النسطورية. وقالت فرقة: كان فينا عبدُ الله ورسوله - ما شاء الله - ثم رفعه الله إليه - وهؤلاء هم المسلمون. فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها، فلم يَزَل الإسلامُ طامساً حتى بَعَثَ اللهُ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ} [الصف: 14] الآية على ما سيأتي من السورة إن شاء الله تعالى. قوله: {وَرَافِعُكَ إلَيَّ} تمسَّك القائلون بالاستعلاء بهذه الآية، وأجيبُوا عنها بوجوهٍ: أحدها: أن المراد إلى محل كرامتي، كقول إبراهيم: «إنِّي ذاهبٌ إلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ» وإنما ذهب إبراهيم عليه السلام من «العراق» إلى «الشام» ، ويُسَمَّى الحُجَّاجُ زُوَّارَ الله، والمجاورون جيران الله، والمراد من كل ذلك التفخيم والتعظيم، فكذا هاهنا. وثانيها: أن معناه [رافعك إلى مكان] لا يملك الحكم عليه فيه غيرُ اللهِ؛ لأن في الأرض قد يتولى الخلقَ أنواعُ الحُكَّامِ، أمَّا السموات فلا حاكم هناك - في الظاهر وفي الحقيقة - إلا اللهُ. وثالثها: أن القول بأن الله في مكان لم يكن ارتفاع عيسى إلى ذلك المكان سبباً لانتفاعه، بل إنما ينتفع بذلك لو وجد هناك مطلوبهُ من الثواب والرَّوح والريحان والراحة، فلا بد من حمل اللفظِ على أن المراد: ورافعك إلى محل ثوابك ومجازاتك، وإذا كان لا بد من إضمار ما ذكرناه لم يَبْقَ في الآية دلالة على ما ذكروه. قوله: {وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} معناه مُخْرِجك من بينهم، ومُنَجِّيك، فكما عظَّم شأنَه بلفظ الرفع، أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهيرِ، وكل ذلك مبالغة في إعلاء شأنَه بلفظ الرفع، أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهيرِ، وكل ذلك مبالغة في إعلاء شأنِه وتعظيم منصبه عند الله تعالى. قوله: {وَجَاعِلُ الذين اتبعوك} فيه قولان: أظهرهما: أنه خطاب لعيسى عليه السلام. الثاني: أنه خطاب لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيكون الوقف على قوله: {مِنَ الذين كَفَرُواْ} تاماً، والابتداء بما بعده، وجاز هذا؛ لدلالة الحال عليه. و {فَوْقَ الذين كَفَرُواْ} ثاني مفعولي {وَجَاعِلُ} لأنه بمعنى مُصَيِّر فقط. و {إلى يَوْمِ القيامة} متعلق بالجَعْل، يعني أن هذا الجعل مستمر إلى ذلك اليوم. ويجوز أن يتعلق الاستقرار المقدَّر في فَوْقَ أي: جاعلهم قاهرين لهم، إلى يَوْمِ القيامةِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 268 يعني أنهم ظاهرون على اليهود، وغيرهم من الكفار بالغلبة في الدنيا، فأما يوم القيامة، فَيَحْكُمُ اللهُ بينهم، فيدخل الطائع الجَنَّةَ، والعاصي النَّارَ وليس المعنى على انقطاع ارتفاع المؤمنين على الكافرين بعد الدنيا، وانقضائها؛ لن لهم استعلاءٌ آخر غير هذا الاستعلاء. قال أبو حيّان: «والظاهر أن» إلى «تتعلق بمحذوف وهو العامل في» فَوْقَ «وهو المفعول الثاني ل» َجَاعِل «إذْ معنى» جاعل «هنا مُصَيِّر، فالمعنى كائنين فوقهم إلى يوم القيامة. وهذا على أن الفوقية مجاز، أما إن كانت الفوقية حقيقة - وهي الفوقية في الجنة - فلا تتعلق» إلى «بذلك المحذوف، بل بما تقدم من» مُتَوَفِّيك «أو من» رَافِعُكَ «أو من» مُطَهِّرُكَ «إذْ يصح تعلُّقه بكل واحد منها، أما تعلقه ب» رَافِعُكَ «أو ب» مُطَهِّرُكَ «فظاهر، وأما ب» مُتَوَفِّيكَ «فعلى بعض الأقوال» . يعني ببعض الأقوال أن التوفي يُرادُ به: قابضك من الأرض من غير موت، وهو قول جماعة - كالحسن والكلبي [وابن جريج] وابن زيد وغيرهم. أو يراد به ما ذكره الزمخشريُّ: وهو مُسْتَوْفٍ أجلك، ومعناه: إني عاصمك من أن يقتلَكَ الكفارُ، ومؤخِّرُك إلى أجل كتبتُهُ لك، ومميتك حَتْفَ أنفكِ لا قَتْلاً بأيدي الكفار، وإن على قول مَنْ يقول: إنه تَوَفٍّ حقيقةً فلا يُتَصَوَّر تعلُّقه به؛ لأن القائلَ بذلك لم يَقُل باستمرار الوفاة إلى يوم القيامة، بل قائل يقول: إنه تُوُفِّي ثَلاثَ ساعاتٍ، بقدر ما رفع إلى سمائه حتّى لا يلحقَه خوفٌ ولا ذُعْرٌ في اليقظة. وعلى هذا الذي ذكره أبو حيان يجوز أن تكون المسألة من الإعمال، ويكون قد تنازع في هذا الجار ثلاثةُ عواملَ، وإذا ضَمَمْنَا إليها كَوَن الفوقية مجازاً تنازع فيها أربعة عوامل، والظاهر أنه متعلق ب «جَاعِل» . وقد تقدم أن أبا عمرو يسكن ميم «أحكم» ونحوه قبل الباء. فصل قال قتادةُ والربيعُ والشعبيُّ ومقاتل والكلبيُّ: الذي اتبعوه هم أهْلُ الإسلام الذين صدقوه واتبعوا دينَه في التوحيد من أمَّةِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهم فوق الذين كفروا ظاهرين بالعزة، والمنعة، والحُجَّةِ. قال الضحاك: يعني الحواريين. وقيل: هم الروم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 269 وقيل: النصارى، فَهُمْ فَوْقَ اليهود إلى يَوْمِ القيامةِ، فإن اليهود قد ذهب ملكُهم، وملك النصارى يدوم إلى قريب من قيام الساعة. وعلى هذا الاتباع بمعنى الادعاء والمحبة لا اتباع الدين، فإن النصارى - وإن أظهروا من أنفسهم موافقته فهم مخالفون له أشَدَّ مخالفةٍ؛ لأن صريح العقل يشهد بأن عيسى ما كان يرضى بشيء مما يقوله هؤلاء الجُهَّالُ، ومع ذلك فإنا نرى دولة النصارى في الدنيا أعظم وأقوى من أمر اليهود، ولا نرى في طرف من أطراف الدنيا ملكاً يهوديًّا ولا بلدة مملوءة من اليهود، بل يكونون - أيْنَما كانوا - في الذلة والمسكنة، والنصارى بخلاف ذلك. فصل قال أهلُ التّاريخِ: حملت مريم بعيسى ولها ثلاثَ عشْرَةَ سنةً، وولدت عيسى ببيت لحم لمضيّ خمس وستين سنةً من غلبة الاسكندر على أهل بابل، وأوحى الله إليه على رأس ثلاثين سنةً ورفعه من بيت المقْدِس ليلة القدر في شهر رمضانَ وهو ابنُ ثلاثٍ وثلاثينَ سنة، فكانت نبوته ثلاث سنين، وعاشت أمُّه مريم بعد رفعه ست سنين. فصل قال ابنُ الْخَطِيبِ: في مباحث هذه الآية موضعٌ مشكل، وهو أن نَصَّ القرآن يدل على أنه - تعالى - حين رفعه ألقى شبهه على غيره، على ما قال: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} [النساء: 157] والخبار واردة أيْضاً بذلك، إلا أن الرواياتِ اختلفت، فتارة يروى أن الله تعالى ألقى شَبَهَهُ عليه حتى يُقْتَل في مكانه، وبالجملة ففي إلقاء شَبَهِهِ على الغير إشكالات: الأول: أنا لو جوَّزنا إلقاء شَبَه إنسان على إنسان آخر، لزم السفسطة؛ فإني إذا رأيتُ ولدي، ثم زينته ثانياً فحينذئ أجوِّزُ أن يكون هذا الذي أراه ثانياً ليس ولدي، بل هو إنسان آخر أُلْقِي شَبَهُهُ عليه وحينئذٍ يرتفع الأمانُ عن المحسوسات. وأيضاً فالصحابة الذين رأوْا مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأمرهم، ويَنْهَاهُمْ، وجب أن لا يعرفوا أنه محمدٌ؛ لاحتمال أنه ألقي شبهه على الغير، وذلك يُفْضِي إلى سقوط الشرائعِ. وأيضاً فمدار الأمرِ في الأخبار المتواترةِ على أن يكون المُخْبر الأول إنما أخبر عن المحسوس، فإذا [جاز] الغلط في المبصرات كان سقوط الخبر المتواتر أولى، وبالجملة، فَفَتْحُ هذا البابِ أوله السفسطةُ، وآخره إبطالُ النبوات بالْكُلِّيَّةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 270 الإشكال الثاني: أن اللهَ - تعالى - كان قد أمر جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بأن يكون معه في أكثر الأحوال، كذا قاله المفسّرون في تفسير قوله تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس} [المائدة: 110] ثم إن طرف جناح واحد من أجنحة جبريل عليه السلام كان يكفي للعالم من البشر، فكيف لم يَكْفِ في منع أولئك اليهود عنه. وأيضاً إنه عليه السلام - لَمَّا كان قادراً على إحياء الموتَى، وإبراء الأكمه والأبرص، فكيف لم يقدر على إماتة اليهودِ الذين قصدوه بالسوء، وعلى إسْقامهم، وإلقاء الزمانة والفَلَج عليهم حتى يصيروا عاجزينَ عن التعرُّضِ له؟ الإشكال الثالث: أنه - تعالى - كان قادراً على تخليصه من أولئك الأعداء بأن يدفعَه عنهم، ويرفعه إلى السماء فما الفائدة في إلقاء الشبه على الغير؟ وهل فيه إلا إلقاء مسكين في القَتْل من غير فائدة ألبتة؟ الإشكال الرابع: أنه إذا ألقي شبهه على الغير، ثم إنه رُفِعَ بَعدَ ذلك إلى السماء فالقومُ اعتقدوا فيه أنه عيسى عليه السلام مع أنه ما كان عيسى، فهذا كان إلقاء لهم في الجهل والتلبيس وهذا لا يليق بحكمة الله تعالى. الإشكال الخامس: أن النصارَى - على كثرتهم في مشارقِ الأرض ومغاربها وشدة محبتهم للمسيح، وغلوّهم في أمره - أخبروا أنهم شاهدوه مقتولاً، مصلوباً، فلو أنكرنا ذلك، طعَنَّا فيما ثبت بالتواتر، والطعن في التواتر يوجب الطعن في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكل ذلك باطل. الإشكال السادس: أنه ثبت بالتواتر أن المصلوب بقي حيًّا زماناً طويلاً فلو لم يكن ذلك عيسى - بل كان غيره - لأظهر الجزع، ولقال: إني لَسْتُ بعيسى - بل إنما أنا غيره - ولبالغ في تعريف هذا المعنى، ولو ذكر ذلك لاشتهر عند الخلق هذا المعنى، فلما لم يوجد شيء من هذا علمنا أنه ليس الأمر على ما ذكرتم. والجواب ن الأول: أنه كل من أثبت القادرَ المختارَ سلَّم أنه - تعالى - قادرٌ على أن يخلق إنساناً آخر على صورة زَيْدٍ - مثلاً - ثم إن هذا التجويز لا يوجب الشك المذكور، فكذا القول فيما ذكرتم. والجواب عن الثاني: أن جبريل عليه السلام لو دفع الأعداء عنه، أو أقدر الله عيسى على دَفْع الأعداء عن نفسه لبلغت معجزته إلى حد الإلجاء، وذلك غير جائز، وهذا هو الجواب عن الإشكال الثالث؛ فإنه - تعلى لو رفعه إلى السماء، وما ألْقَى شَبَهَهُ على الغير لبلغت تلك المعجزةُ إلى حَدِّ الإلجاء. والجواب عن الرابع: أن تلامذة عيسى كانوا حاضرين، وكانوا عالمين بكيفية الواقعة؛ وهم كانوا يزيلون ذلك التلبيس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 271 والجواب عن الخامس: أن الحاضرين في ذلك الوقت كانوا قليلين، ودخول الشبهة على الجَمْع القليل جائز، والتواتر إذا انتهى في حد الأمر إلى الْجَمْعِ القليلِ، لم يكن مُفِيداً للعلم. والجواب عن السادس: أن بتقدير أن يكون الذي أُلْقِيَ شَبَهُ عيسى عليه كان مُسْلِماً، وقَبِل ذلك عن عيسى عليه السلام جاز أن يسكت عن تعريف حقيقةِ الحالِ في تلك الواقعةِ. وبالجملة فالأسئلة المذكورة أمور تتطرق إليها الاحتمالات من بعض الوجوهِ، ولما ثبت بالمعجز القاطِع صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كل ما أخبر عنه امتنع صيرورة هذه الأسئلة المحتملةِ معارِضَةً للنص القاطع عن الله. قوله: {ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ} في الآخرة {فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} من الدّينِ، وأمر عيسى عليه السلام؛ التفات من غيبة إلى خطابِ؛ وذلك أنه - تعالى - قدَّم ذِكْر مَنْ كَذَّب بعيسى وافترى عليه - وهم اليهود - وقدَّم - أيضاً - ذِكْرَ مَنْ آمن به - وهم الحواريون رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وقفَّى بعد ذلك بالإخبار بأنه يجعل مُتَّبِعِي عيسى فوق مخالفيه، فلو جاء النظم على هذا السياق - من غير التفات، لكان: ثم إليّ مرجعهم، فأحكم بَيْنَهُم فيما كانوا، ولكنه التفت إلى الخطاب؛ لأنه أبلغ في البشارة، وأزجر في النذارة. وفي ترتيب هذه الأخبار الأربعة - أعني: إني مُتَوفِّيكَ وَرَافِعُكَ وَمُطَهِّرُكَ وَجَاعِلُ - هذا الترتيب معنًى حَسَنٌ جِدًّا؛ وذلك أنه - تعالى - بشَّره - أولاً - بأنه متوفيه، ومتولّي أمره، فليس للكفار المتوعِّدين له بالقتل عليه سلطانٌ ولا سبيلٌ، ثم بَشَّرَه - ثانياً - بأنه رافعه إليه - أي: إلى سمائه محل أنبيائه وملائكته، ومحل عبادته؛ ليسكن فيها، ويعبدَ ربَّه مع عابديه - ثم - ثالثاً - بتطهيره من أوضار الكفرة وأذاهم وما قذفوه به، ثم رابعاً - برفعة تابعيه على من خالَفهم؛ ليتمَّ بذلك سروره، ويكمل فرحه. وقدم البشارة بما يتعلق بنفسه على البشارة بما يتعلق بغيره؛ لأن - الإنسان بنفسه أهم، وبشأنه أعْنَى، كقوله: {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارا} [التحريم: 6] وفي الحديث: «ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنَ تَعُولُ» . قوله: {فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ} في محل هذا الموصول قولان: أظهرهما - وهو الأظهر -: أنه مرفوع على الابتداء، والخبر الفاء وما بعدها. الثاني: أنه منصوب بفعل مقدَّر، على أن المسألة من باب الاشتغال، إذ الفعل بعده قد عمل في ضميره، وهذا وجه ضعيف؛ لأن «أمَّا» لا يليها إلا المبتدأ وإذا لم يَلِها إلا المبتدأ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 272 امتنع حمل الاسم بعدها على إضمار فعل، ومن جوَّز ذلك قال: بأنه يُضْمَر الفعلُ متأخِّراً عن الاسم، ولا يضمر قبله. قال: لئلا يَلِيَ «أمَّا» فعل - وهي لا يليها الأفعال ألبتة - فَتُقَدِّر - في قولك: أما زيداً فضربتُهُ - أما زيداً ضربتُ فضَرَبْتُه، وكذا هنا يُقَدَّر: فأما الذين كفروا أعَذِّبُ فأعَذِّبُهُم؛ قدر العامل بعد الصلة، ولا تقدره قبل الموصول؛ لما ذكرناه. وهذا ينبغي أن لا يجوز؛ لعدم الحاجة إليه مع ارتكابِ وجهٍ ضعيفٍ جدًّا في أفصح الكلامِ. وقد قرئ شاذًّا {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ} [فصلت: 17] بنصب «ثمود» واستضعافها الناس. فصل عذاب الكفار - في الدنيا - بالقتل والسبي والجزية والذلة، وفي الآخرة بالنار أيك في وقت الآخرة بالنار {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} . فإن قيل: وصف العقاب بالشدة يقتضي أن يكون عقاب الكافر في الدنيا أشد، ولسنا نجد الأمر كذلك فإن الأمر تارة يكون على الكفار، وأخرى على المسلمين، ولا نجد بين الناس تفاوتاً. فالجوابُ: أن التفاوُتَ في الدنيا موجود؛ لأن الآية في بيان أمر اليهود الذين كذبوا بعيسى - عليه السلام -، وَنَرى الذِّلَّةَ والمسكنةَ لازمةً لهم. فإن قيل: أليس قد يمتنع على الأئمة وعلى المؤمنين قتل الكفار؛ بسبب العهد وعقد الذِّمَّة؟ فالجواب: أن المانع من القتل هو العهد، ولذلك إذا زالَ العهدُ حَلَّ قَتْلُه. قوله: {وَأَمَّا الذين آمَنُوا} الكلام فيه كالكلام في الموصول قبله. وقد قرأ حفص عن عاصم والحسن «فَيُوَفِّيهِمْ» - بياء الغيبة - والباقون بالنون. فقراءة حفص على الالتفاتِ من التكلُّم إلى الغيبة؛ تفنُّناً في الفصاحةِ، وقراءة الباقين جاريةٌ على ما تقدم من إتِّسَاق النظم، ولكن جاء هناك بالمتكلم وحده، وهنا بالمتكلم وحده المعظم نفسه؛ اعتناءً بالمؤمنين، ورفْعاً من شأنهم؛ لمَّا كانوا مُعَظَّمِينَ عندَه. فصل دَلّتْ هذه الآية على أن العملَ الصالحَ خارجٌ عن مُسَمَّى الإيمان وقد تقدم ذلك، واستدلوا بالآية على أن العملَ علةٌ للجزاء؛ لقوله: {فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ} فشبههم - في عبادتهم لأجل طلب الثّوابِ بالمستأجر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 273 واحتج المعتزلة بقوله: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} - بمنزلة قوله: لا يريد ظُلْمَ الظالمين - على أنه تعالى - لا يريد الكفر والمعاصي، قالوا: لأن مُرِيدَ الشيء لا بد وأن يكون مُحِبًّا له إذا كان ذلك الشيء من الأفعال، وإنما تخالف المحبةُ الإرادة إذا علقناهما بالأشخاص، فقد يقال: أحبّ زيداً، ولا يقال: أريده. فأما إذا عُلِّقَتا بالأفعال فمعناهما واحد، إذا استُعْمِلَتَا على حقيقة اللغة، فصار قوله: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} بمنزلة قوله: لا يريد ظلم الظالمين كذا قرره القاضي. وأجيب بأن المحبةَ عبارة عن إرادة إيصالِ الخيرِ إليه فهو - تعالى - وإن أراد كُفْرَ الكافرِ إلا أنه لا يريد إيصالَ الثواب إلَيْه. قوله: { {ذلك نَتْلُوهُ} يجوز أن يكون «ذَلِكَ» مبتدأ، «نَتْلُوهُ» الخبر «مِنَ الآيَاتِ» حال أو خبر بعد خبر. ويجوز أن يكون «ذَلِكَ» منصوباً بفعل مقدَّر يفسِّره ما بعده - فالمسألة من باب الاشتغال - و «مِنَ الآيَاتِ» حال، أو خبر مبتدأ مُضمَرٍ [أي: هو من الآيات، ولكنّ الأحسن الرفعُ بالابتداء؛ لأنه لا يحوج إلى إضمار، وعندهم «زيد ضربته» أحسن من «زيداً ضربته» ، ويجوز أن يكون ذلك خبر مبتدأ مضمر] ، يعني الأمر ذلك، و «نَتْلُوهُ» على هذا حال من اسم الإشارة، و {مِنَ الآيَاتِ} حال من مفعول «نَتْلُوهُ» . ويجوز أن يكون «ذَلِكَ» موصولاً بمعنى «الذي» و «نَتْلُوهُ» صلة وعائد، وهو مبتدأ خبره الجار بعده أي: الذي نتلوه عليك كائن من الآيات، أي: المعجزات الدالة على نبوتك. جوَّز ذلك الزَّجَّاجُ وتبعه الزمخشريُّ، وهذا مذهب الكوفيين. أما البصريون فلا يُجيزُون أن يكون اسماً من أسماء الإشارة موصولاً إلا «ذَا» خاصةً، بشروطٍ تقدم ذكرها؛ ويجوز أن يكون «ذلك» مبتدأ، و «مِنَ الآيَاتِ» خبره، و «نَتْلُوهُ» جملة في موضع نصب على الحال، والعامل معنى اسم الإشارة. قوله: «نَتْلُوهُ» فيه وجهان: أحدهما: أنه وإن كان مضارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنًى، أي: الذي قدمناه من قصة عيسى وما جرى له تلوناه عليك، كقوله: {واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين} [البقرة: 102] . والثاني: أنه على بابه؛ لأن الكلام لم يتم، ولم يفرغ من قصة عيسى - عليه السلام - إذْ بقي منها بقية. و «من» فيها وجهانِ: أظهرهما: أنها تبعيضية؛ لأن المَتلُوَّ عليه - من قصة عيسى - بعض معجزاته وبعض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 274 القرآن وهذا أوْجَهُ وأوضحُ. والمرادُ بالآيات - على هذا - العلامات الدالة على نبوتك. والثاني: أنها لبيان الجنسِ، وإليه ذهب ابنُ عَطِيَّةَ وبَدَأ به. قال أبو حيّان: وَلاَ يَتأتَّى ذلك من جهة المعنى إلا بمجاز؛ لأن تقدير «من» البيانية بالموصول ليس بظاهر؛ إذ لو قلتَ: ذلك تتلوه عليك الذي هو الآيات والذكر الحكيم لاحتجت إلى تأويل، وهو أن تجعل بعض الآيات والذكر آياتٍ وذكراً [على سبيل المجاز] . والحكيمُ: صيغة مبالغة محول من «فاعل» . ووصف الكتاب بذلك مجازاً؛ لأن هذه الصفة الحقيقية لمنزِّله والمتكلم به، فوصف بصفة من هو من سببه - وهو الباري تبارك وتعالى - أو لأنه ناطق بالحكمة أو لأنه أحْكِم في نظمه. وجوزوا أن تكون بمعنى «مُفْعَل» أي: مُحْكَم، كقوله: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] إلا أن «فعيل» بمعنى «مُفْعَل» قليل، قد جاءت منه أليْفَاظ، قالوا: عقدت العسل فهو عقيد ومعقد وحبست الفرس [في سبيل الله] فهو حبيس ومُحْبَس. وفي قوله: «نَتْلُوه» التفات من غيبة إلى تكلُّم؛ لأنه قد تقدمه اسم ظاهر - وهو قوله: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} - كذا قاله أبو حيّان، وفيه نظرٌ؛ إذ يُحْتَمل أن يكون قوله: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} جِيء به اعتراضاً بَيْنَ أبعاض هذه القصَّةِ. فصل التلاوة والقصص واحد؛ لأن معناهما يرجع إلى شيء يُذْكَر بعضُه على أثَر بعض ثم إنه تعالى أضاف القصص إلى نفسه فقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] كما أضاف التلاوة إلى نفسه في قوله: {نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى} [القصص: 3] ، وذلك يدل على تشريف الملك وتعظيمه؛ لأن التالي على النبي إنما هو الملك، فَجَعلَ تِلاَوَةَ الْمَلَكِ جَارِيَةً مَجْرَى تِلاَوَتِهِ. والمراد بالذكر الحكيم هو القرآن. وقيل: هُوَ اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ الَّذي مِنْهُ نُقِلَت الْكُتُبُ المنزلةُ على الأنبياء - عليهم السلام - أخبر - تعالى - أنَّهُ أنزلَ هذه القَصصَ مما كُتِبَ هنالك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 {إِنَّ مَثَلَ عيسى} جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بما قبلها تعلقاً صناعياً، بل معنويًّا. وزعم بَعْضهُمْ أنها جواب القسم، وذلك القسم هو قوله: {والذكر الحكيم} كأنه قيل: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 275 أقسم بالذكر الحكيم أنَّ مثل عيسى، فَيَكُونُ الْكَلاَمُ قد تم عند قوله: {مِنَ الآيَاتِ} ثم استأنف قسماً، فالواو حَرْف جَرٍّ، لا عطف وهذا بَعِيدٌ، أو مُمْتَنعٌ؛ إذ فيه تفكيكٌ لنَظْم القرآنِ، وإذْهاب لرونقه وفصاحته. قوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} في هذه الجملة وَجْهَانِ: أظهرهما: أنها مفسِّرة لوجه الشبه بين المثلين، فلا مَحَلَّ لَهَا حينئذٍ مِنَ الإعْرَابِ. الثاني: أنها في محل نصب على الحال من آدَمَ عليه السلام و «قد» معه مضمرة، والعامل فيها معنى التشبيه والهاء في طخَلَقَهُ «عائدة على» آدم «ولا تعود على» عِيْسَى «لِفَسَادِ المعنى. وقال ابن عطية:» ولا يجوز أن تكون خَلَقَه [صفة] لآدم ولا حالاً منه «. قال الزّجّاج: إذ الماضي لا يكون حالاً أنت فيهان بل هو كلامٌ مَقْطُوعٌ منه مَضمَّن تفسير الْمَثَلِ، كما يقال في الكَلامِ: مثلك مثل زيد، يشبه في امر من الأمور، ثم يخبر بقصة زيد، فيقول: فعل كذا وكذا. قال أبو حيّان:» وَفيهِ نَظرٌ «ولم يُبَيِّنُ وَجْهَ النظر. قال شهاب الدِّينِ:» والظاهر من هذا النظر أن الاعتراضَ - وهو قوله: لا يكون حالاً أنت فيها غير لازمٍ؛ إذ تقدير «قَدْ» تُقَرِّبُه من الحال. وقد يظهر الجوابُ عما قاله الزَّجَّاجُ من قول الزمخشريِّ: قدره جسداً من طين {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ} أي: أنشأه بَشَراً «. قال أبو حيّان: ولو كان الخلق بمعنى الإنشاء - لا بمعنى التقدير - لم يأت بقوله:» كُنْ «؛ لأن ما خلق لا يقال له: كُنْ، ولا ينشأ إلا إن كان معنى: {ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن} عِبَارةً عَنْ نَفْخِ الرُّوحِ فِيهِ. وقال الواحديُّ: قوله {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} لَيْسَ بِصِلَةٍ لآدم وَلاَ صِفَةٍ؛ لأن الصِّلَةَ للمبهمات، والصفة للنَّكِرِاتِ، ولكنه خبر مُسْتَأنَف على وجه التفسِيرِ لحال آدمَ عليه السلام. وعلى قول الزجّاج: {مِن تُرَابٍ} فيه وجهان: أظهرهما: أنه متعلق ب» خَلَقَهُ «أي: ابتدأ خلقه من هذا الجنس. الثاني: أنه حال من مفعول» خلقه «تقديره: خلقه كائناً من تراب، وهذا لا يساعده المعنى. وَالْمَثَلُ هاهنا منهم من فسَّره بمعنى الحال والشأن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 276 قال الزَّمَخْشَريُّ:» إن شأن عيسى وحاله الغريبة كشأن آدمَ «. وعلى هذا التفسير فالكاف على بابها - من كونها حرف تشبيه - وفسَّر بعضُهم المثل بمعنى الصفة، كقوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} [الرعد: 35] ، أي: صفة الجنة. قال ابنُ عَطِيَّة: وهذا عندي خطأٌ وضَعْفٌ في فَهْمِ الكلام، وإنما المعنى: أن المثل الذي تتصوره النفوس والعقول من عيسى هو كالمُتَصَوَّر من آدمَ؛ إذ النّاس كلهم مُجْمِعُون على أن الله - تعالى - خلقه من تراب، من غير فحل، وكذلك قوله: {مَّثَلُ الْجَنَّةِ} عبارة عن المُتَصَوَّر منها. والكاف في «كَمَثَلِ» اسم على ما ذكرناه من المعنى. قال أبو حيّان: «ولا يظهر لي فرق بين كلامه هذا وكلام مَنْ جعل المثل بمعنى الشأن والحَال أو بمعنى الصفةِ» . [قَالَ شِهَابُ الدِّينِ: قَد تَقَدَّمَ فَي أوَّلِ الْبَقَرةِ أنَّ الْمَثَلَ قَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَن الصِّفَةِ، وَقَدْ لا يُعَبَّرُ بِهِ عَنْهَا؛ فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى تَغَايُرِهِمَا، وَقَدْ تَقَدَّمَ كَلاَمُ النَّاسِ فِيهِ، ويدلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا قَالَهُ صَاحِبُ «ريِّ الظَّمآنِ» عن الفارسيّ الْجَميعِ، وقَالَ: «المَثَلُ بِمعنَى الصِّفَةِ، لا يمكن تَصْحِيحُهُ فِي اللُّغَةِ، إنَّمَا الْمثَلُ التشبيه على هذا تدور تصاريفُ الكلمةِ، ولا معنى للوصفية في التشابه؛ ومعنى المثل] في كلامهم أنها كلمة يُرْسِلها قائلُها لحكمة تُشَبَّه بها الأمور، وتقابَل بها الأحوال وقد فرق بين لفظ المثل في الاصطلاح وبين الصفة. قال بعضهم: إن الكافَ زائدة. وقال آخرون: إنّ» مَثَلاً «زائدة فحصل في الكافِ ثَلاَثَةُ أقوالٍ: قيل: أظهرها: أنها على بابها من الحرفية وعدم الزيادة وقد تقدم تحقيقه. وقال الزمخشريُّ:» فإن قلتَ: كيف شُبِّه به وقد وُجِد هو بغير أب ووُجِد آدم من غير أب ولا أمٍّ؟ قلت: هو مثله في أحد الطَّرَفَيْنِ، فلا يمنع اختصاصه دونه بالطرف الآخر من تشبيهه به؛ لأن المماثلة مشاركة في بعض الأوصاف، ولأنه شُبِّه به في أنه وُجِد وجوداً خارجاً عن العادةِ المستمرةِ، وهما في ذلك يظهران، ولأن الوجود من غير أب ولا أمٍّ أغرب وأخرق للعادةِ من الوجود من غي رأب، فشبَّه الغريبَ بالأغرب؛ ليكون أقطعَ للخَصْم، وأحسم لمادة شُبْهَتِه، إذا نُظِّر فيما هو أغرب مما اسْتَغْرَبَه «. فصل قال القرطبيُّ:» دَلَّت هذه الآية على صحةِ القياسِ. والتشبيه واقع على أن عيسى خُلِقَ من غير أب كآدم، لا على أنه خلق من ترابٍ، والشيء قد يُشَبَّه بالشيء - وإن كان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 277 بينهما فرقٌ [كَبِيرٌ]- بعد أن يَجْتَمِعَا في وصف واحدٍ «. وعن بعض العلماء أنه أسِر بالروم، فقال لهم: لِمَ تعبدون عيسى؟ قالوا: لأنه لا أبَ لَه. قال: فآدم أوْلَى؛ لأنه لا أبوين له، قالوا: فإنه كان يُحْيي الموتَى؟ قال: فحَزقيل أوْلَى؛ لأن عيسى أحْيَى أربعةَ نفر، وحزقيل أحْيَى ثَمَانِيةَ آلاف، قالوا: فإنه كان يُبْرِئُ الأكمه والأبرص. قال: فجَرْجيس أوْلَى؛ لأنه طُبخَ، وأحرق، وخَرَجَ سَالِماً. قوله: {كُنْ فَيَكُونُ} اختلفوا في المقول له: كُنْ، فالأكثرون على أنه آدم - عليه السلام - وعلى هذا يقع الإشكال في لفظ الآية؛ لأنه إنما يقول له: كن قبل أن يخلقَه لا بعده، وهاهنا يقول: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن} . والجوابُ: أن الله - تعالى - أخبرنا - أولاً - أنه خلق آدم من غير ذَكَرٍ، ولا أنثى، ثم ابتدأ أمراً آخر - يُريد أن يُخْبرَنا به - فقالَ: إني مُخبِرُكم - أيضاً بعد خبري الأولِ - أني قلتُ له: كُن فكان، فجاء «ثُمَّ» لمعنى الخبر الذي تقدم، والخبر الذي تأخر في الذكر؛ لأنَّ الخلقَ تقدم على قوله: «كُنْ» . وهذا كما تقولُ: أخْبِرُكَ أنِّي أعطيكَ اليومَ ألفاً ثم أخبرك أني أعطيتك أمسَ ألفاً، ف «أمسِ» متقدم على «اليوم» وإنما جاء ب «ثُمَّ» ؛ لأنَّ خبرَ «اليومَ» متقدِّمٌ خبر «أمس» ؛ حيث جاء خبرُ «أمس» بعد مُضِيِّ خَبَر «اليوم» ومثله قوله: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1]- وقد خَلَقَنا بعد خلق زَوْجِها، ولكن هذا على الخبر دون الخلق؛ لأنَّ التأويلَ: أخبركُمْ أني قد خلقتُكُم من نفسٍ واحدةٍ -؛ لأن حواءَ قد خُلِقَتْ من ضِلعِهِ ثم أخبركم أني خَلَقْتُ زَوْجَهَا منها. ومثل هذا قول الشاعر: [الخفيف] 1490 - إنَّ مَنْ سَادَ ثُمَّ سَادَ أبُوهُ ... ثُمَّ قَدْ سَادَ بَعْدَ ذَلِكَ جَدُّهُ ومعلوم أن الأبَ متقدِّمٌ له، والجدُّ متقدمٌ للأبِ، فالترتيب يعود إلى الخبرِ لا إلى الوجودِ، كقولهِ: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ} [البلد: 17] فكذا قوله: {خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ} أي: صيَّره خلْقاً سَويًّا، ثم إني أخبرُكم أني إنما خلقتُه بأن قُلتُ لَهُ: كُنْ. فالتراخي في الخبرِ، لا في هذا المخبرِ عن ذلك المخبر. ويجوز أن يكون المرادُ خلقَهُ قالباً من ترابٍ، ثم قال له: كُنْ بَشَراً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 278 فإن قيل: الضميرُ في قوله: {خَلَقَهُ} راجع إلى آدم، وحين كان تراباً لم يكن آدم موجوداً. فالجواب: أن ذلك الهيكل لما كان بحيث يصير آدم عن قريب سماه آدم؛ تسمية للشيء بما يئول إليه. قال أبُو مُسْلِم: «قد بَيَّنَّا أن لخلق هو التقدير والتسوية، ويرجع معناه إلى علم الله - تعالى - بكيفية وقوعه، وإرادته لإيقاعه على الوجه المخصوص، وكل ذلك مُتَقدِّم في الأزل، وأما قوله: كن، فهو عبارة عن إدخاله في الوجود، فثبت أن خلق آدم متقدِّم على قوله: كن» . وقال بعضهم: المقول له: كن هو عيسى، ولا إشكال على هذا. قوله: {فَيَكُونُ} يجوز أن يكون على بابه من كونه مستقبلاً، والمعنى: فيكون كما يأمر الله - تعالى - فيكون حكاية للحال التي يكون عليها آدم. قال بعضُهُمْ: معناه: اعلم يا محمد أن ما قال له ربُّك: كن فإنه يكون لا محالة. ويجوز أن يكون {فَيَكُونُ} بمعنى: «فكان» وعلى هذا أكثر المفسِّرين، والنحويين، وبهذا فَسَّرَهُ ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. فصل أجمع المفسّرون على أن هذه الآية نزلت عند حضور وفد نجران وذلك أنهم قالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما لك تشتم صاحِبَنَا؟ قال: «ومَا أقُولُ» ؟ قالوا: تقول: إنه عَبْدٌ، قَالَ: «أجلْ، هُوَ عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، وَكَلِمتُهُ ألْقَاهَا إلَى الْعَذْرَاء الْبَتُولِ» ، فغَضِبُوا، وقالوا: هل رأيت إنساناً - قطُّ - من غير أب؟ فقال «إنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ» كأنهم قالوا: يا محمد لما سلمت أنه لا أب له من البشر وجب أن يكون أبوه هو الله، فَقَالَ: «إنَّ آدَمَ مَا كَانَ لَهُ أبٌ وَلاَ أمٌّ وَلَمْ يَلْزَمْ أن يَكُونَ أبُوهُ هُوَ الله، وأنْ يَكَونَ ابْناً للهِ» ، فَكَذَا الْقَوْلُ فِي عِيسَى، وأيضاً إذَا جَازَ أن يَخْلُقَ اللهُ آدَمَ مِن التراب، فلم لا يجوز أن يخلُقَ عيسَى منْ دمِ مَرْيَمَ؟ بل هذا أقرب إلى العقل، فإن تولُّد الحيوان من الدم الذي يجتمع في رحم الأم أقرب من تولُّده من التراب اليابس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 279 فصل اعلم أن العقل دل على أنه لا بد للناس من والد أول، وإلا لزم أن يكون كل ولد مسبوقاً بوالد لا إلى أول، وهو مُحَالٌ، والقرآن دل على أن ذلك الوالد الأول هو آدم. لقوله: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] ثُم إنه - تعالى - ذكر في كيفية خلق آدمَ وجوهاً كثيرةً: أحدها: أنه مخلوق من التراب - كما في هذه الآية. الثاني: أنه مخلوق من الماء، قال تعالى: {وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً} [الفرقان: 54] . الثالث: أنه مخلوق من الطين، [قال تعالى: {وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ} ] [السجدة: 7] . رابعها: أنه مخلوق من سلالة من طين، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] . خامسها: أنه مخلوق من طين لازبٍ، قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} [الصافات: 11] . سادسها: أنه مخلوق من صلصال من حَمَأ مسنون. سابعها: أنه [خلق] من عَجَلٍ. ثامنها: قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ} [البلد: 4] . قال الحكماء: إنما خُلِق آدمُ من التراب؛ لوجوهٍ: الأول: ليكون متواضعاً. الثاني: ليكون سَتَّاراً. الثالث: إذا كان من الأرض ليكون أشدَّ التصاقاً بالأرض؛ لأنه إنما خلق لخلافة الأرض؛ لقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30] . الرابع: أراد الحق إظهار القدرة، فخلق الشياطين من النار التي هي أضوأ الأجرامِ، وابتلاهم بظلمات الضلالة، وخلق الملائكة من الهواء الذي هو ألطف الأجرام، وأعطاهم كمال الشدة والقوة، وخلق آدم من التراب الذي هو أكثف الأجرام، ثم أعطاهم المعرفة والنور والهداية، وخلق السموات من أمواج مياه البحر، وأبقاها مُعَلَّقة في الهواء، حتى يكون خلقه هذه الأجرام بُرْهاناً باهِراً، ودليلاً ظاهراً على أنه - تعالى - هو المدبر بغير احتياج. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 280 الخامس: خلق الإنسان من تراب، فيكون مُطْفِئاً لنار الشهوة، والغضب، والحِرْص؛ فإن هذه النيران لا تنطفئ إلا بالتراب، وإنما خلقه من الماء ليكون صافياً، تتجلَّى فيه صُوَرُ الأشياء، ثم إنه - تعالى - فرج بين الأرض والماء ليمتزجَ اللطيفُ بالكثيفِ، فيصير طيناً، وهو قولُهُ: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ} [ص: 71] ثم إنه في المرتبةِ الرابعة قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] والسلالةُ بمعنى المسلولةِ قال: فعالة بمعنى مفعولة؛ لأنها هي التي من ألطف أجزاء الطين، ثم إنه في المرتبة الخامسة جعله طيناً لازباً، فقال: {إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ} [الصافات: 11] ثم إنَّه في المرتبةِ السادسةِ أثبت له ثلاثةَ أنواعٍ من الصفاتِ: أحدها: أنَّه صلصالٌ، والصلصالُ: اليابسُ الذي إذا حُرِّك تصلصلَ، كالخزفِ الذي يُسْمَع مِنْ داخلهِ صوتٌ. الثاني: الحمأ، وهو الذي استقر في الماء مُدَّةً، وتغيَّر لونُه إلى السَّوادِ. الثالث: تغيُر رائحته، وهو المسنونُ، قال تعالى: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259] ، أي: لم يتغيَّر. قوله: {الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} يجوزُ أنْ تكونَ هذه الجملةُ مستقلةً برأسِهَا والمعنى أنَّ الحقَّ الثابت الذي لا يضمحلّ هو مِنْ ربك، ومن جملةِ ما جاء مِنْ ربكَ قصةُ عيسى وأمُهُ، فهو حقٌّ ثابتٌ. ويجوز أن يكونَ «الحقُّ» خبرَ مبتدأ محذوفٍ أي: ما قَصَصْنَا عليكَ من خبرِ عيسى وأمه، وحُذِفَ لكونه معلوماً. و {مِّن رَّبِّكُمْ} على هذا - فيهِ وجهانِ: أحدهما: أنه حال فيتعلق بمحذوف. والثاني: أنه خبر ثان - عند من يجوز ذلك وتقدم نظير هذه الجملة في البقرة. وقال بعضهم: «الحق رفع بإضمار فعل، أي: جاءك الحق» . وقيل: إنه مرفوع بالصفة، وفيه تقديم وتأخير، تقديره: من ربك الحق. والامتراء: الشك. قال ابنُ الأنباريِّ: هو مأخوذٌ من قول العرب: مَرَيْتُ الناقة والشاة - إذا حلبتهما - فكأن الشاك يجتذب بشكِّه شَرًّا - كاللبن الذي يُجْتَذَب عند الحلب. ويقال قد مارى فلان فلاناً - إذا جادله - كأنه يستخرج غضبه، قال ابنُ عبّاسٍ لعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: لا أماريك أبَداً. ومنه قيل: الشكر يَمْتَرِي المزيد؛ أي: يجلبه. فصل هذا الخطابُ - في الظاهر - مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واختُلِفَ في تأويلِهِ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 281 فقيل إن هذا الخطاب - وإن كان ظاهره مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا أنه في المعنى مع الأمة؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن شاكاً في أمر عيسى، فهو كقوله: {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} [الطلاق: 1] . وقيل إنه خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعناه أنه من باب الإلهاب والتهييج على الثبات على ما هو عليه من الحق أي: دم على يقينك وعلى ما أنت عليه من تَرْك الامتراء. فصل ومعنى الآية فيه قولان: أحدهما: قال أبو مسلم: معناه أن هذا الذي أنزلتُ عليك - من حبر عيسى - هو الحقُّ، لا ما قالت النصارى واليهود، فالنصارى قالوا: إن مريم ولدت إلَهاً، واليهود رَمَوْا مريم عليها السلام بالإفك، ونسبوها إلى يوسف بن يعقوب النجار، فالله - تعالى - بَيَّن أن هذا الذي نزل في القرآن هو الحق، ثم نهى عن الشك فيه. الثاني: ما ذكرنا من المثل - وهو قصة آدم - فإنه لا بيان لهذه المسألة، ولا برهان أقوى من التمسُّك بهذه الواقعةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 يجوز في «مَنْ» وجهان: أحدهما: أن تكونَ شرطية - وهو الظاهرُ - أي: إن حاجَّكَ أحدٌ فقُل له كيت وكيت. ويجوز أن تكونَ موصولة بمعنى: «الذي» وإنما دخلت الفاءُ في الخبرِ لتضمُّنه معنى الشرطِ [والمحاجةِ مفاعلة وهي من اثنين، وكانَ الأمرُ كذلِكَ] . «فِيهِ» متعلق ب «حَاجَّكَ» اي: جادلَكَ في شأنِهِ، والهاء فيها وجهان: أولهما: وهو الأظهرُ - عودُها على عيسى عليه السلامُ. الثاني: عودها على «الْحَقِّ» ؛ لأنه أقربُمذكورٍ، والأول أظْهَرُ؛ لأنَّ عيسى هو المحدَّثُ عنهُ، وهو صاحبُ القصة. قوله: {مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ} متعلق ب «حَاجَّكَ» - أيضاً - و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، ففاعل «جَاءََكَ» ضمير يعود عليها، أي: من بعد الذي جاءك هو. {مِنَ الْعِلْمِ} حال من فاعل «جَاءَكَ» . ويجوز أن تكونَ موصولةً حرفيَّةً، وحينئذٍ يقال: يلزم من ذلك خُلُوُّ الفعل من الفاعلِ، أو عَوْد الضمير على الحرف؛ لأن «جَاءَكَ» لا بد له من فاعل، وليس معنا شيء يصلح عوده عليه إلا «ما» وهي حرفية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 282 والجوابُ: أنه يجوز أن يكون الفاعل قوله: {مِنَ الْعِلْمِ} و «من» مزيدة - ي: من بعد ما جاءك العلم - وهذا إنما يتخرج على قول الأخفش؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً. و «مِنْ» في قوله: «مِنَ الْعِلْمِ» يحتمل أن تكون تبعيضيَّة - وهو الظاهر - وأن تكون لبيان الجنس. والمراد بالعلم هو أنَّ عيسى عبد الله ورسوله، وليس المراد - هاهنا - بالعلم نفس العلم؛ لن العلمَ الذي في قلبه لا يؤثر في ذلك، بل المرادُ بالعلم، ما ذكره من الدلائل العقلية، والدلائل الواصلة إليه بالوحي. فصل ورد لفظ «الْعِلْم» في القرآن على أربعة [أضربٍ] . الأول: العلم القرآن، قال تعالى: {فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم} [آل عمران: 61] . الثاني: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال تعالى: {فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم} [الجاثية: 17] أي: محمد، لما اختلف فيه أهلُ الكتاب. الثالث: الكيمياء، قال تعالى - حكاية عن قارون -: {إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عنديا} [القصص: 78] . الرابع: الشرك، قال تعالى: {فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم} [غافر: 83] أي من الشرك. فصل قال ابن الخطيب: لما كنت بخوارزم أخبرتُ أنه جاء نصرانيٌّ يَدَّعِي التحقيق والتعمق في مذهبهم، فذهَبْتُ إليه، وشرعنا في الحديث، فقال: ما الدليل على نُبُوَّةِ محمد؟ فقلتُ كما نقل إلينا ظهورُ الخوارق على يد موسى وعيسى وغيرهما من الأنبياء نُقِل إلينا ظهور الخوارق على يد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإن ردَدْنَا التواتُرَ، وقُلْنَا: إن المعجز لا يدل على الصدق فحينئذ بطل نبوة سائر الأنبياءِ - عليهم السلامُ - وإن اعترفنا بصحةِ التواتُرِ، واعترفنا بدلالةِ المُعْجِزِ على الصدقِ، فهُمَا حاصلان في مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجبَ الاعترافُ قطعاً بنبوةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ضرورةَ أن عند الاستواء في الدليل لا بدّ من الاستواء في حصول المدلول. فقال النصرانيُّ: أنا لا أقول في عيسى - إنه كان نبياً بل أقول: إنه كان إلهاً. فقلتُ له: الكلامُ في النبوةِ لا بد وأن يكونَ مسبوقاً بمعرفة الإلهِ وهذا الذي تقولُهُ باطلٌ، ويدلُ عليهِ وجوه: الأول: أنّ الإله عبارة عن موجودٍ واجب الوجودِ لذاتِهِ - بحيثُ لا يكون جِسماً ولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 283 متحيّزاً ولا عرضاً - وعيسى عبارة عن هذا الشخص البشريِّ الجسمانيِّ الذي وُجِدَ بعد أنْ كانَ معدوماً، وقُتِلَ - على قولِكُمْ - بعد أن كان حياً، وكان طفلاً - أولاً - ثم صار مُترعرعاً، ثم صار شاباً، ويشربُ ويُحْدِثُ وينامُ ويستيقظ وقد تقرَّرَ في بداهةِ العقولِ أن المحدث لا يكونُ قديماً والمحتاج لا يكون غَنِيًّا، والممكن لا يكون واجباً والمتغير لا يكون دائماً. الثاني: أنكم تعترفون أنَّ اليهودَ قتلوه وأخذوه، وصلبوه، وتركوه حيًّا على الخشبة، وقد مزَّقوا ضِلْعه، وانه كان يحتال في الهَرَبِ منهم، وفي الاختفاء عنهم، وحين عاملوه بتلك المعاملات أظهر الجزَعَ الشديدَ. فإن ك ان إلهاً، وكان الإله حالاًّ فيه، أو كان جُزءٌ من إله حالاًّ فيه، فلِمَ لَمْ يدفَعْهم عن نفسه؟ ولم لم يهلكهم بالكلية؟ وأيُّ حاجةٍ إلى إظهار الجَزَع منهم، والاحتيال في الفرار منهم؟ وبالله إني لأتعجَّب جداً من أن العاقلَ كيف يليق به أن يقولَ هذا القولَ، ويعتقد صحته، وبداهة العقل تكاد أن تشهد بفساده؟ الثالث: أن يقال: إن الإله إمَّا أن يكونَ هذا الشخصُ الجسمانيُّ المُشَاهَدُ، أو يقال: إن الإله بكليته فيه، أو حل بعضُ الإله فيه. والأقسام الثلاثة باطلة: أما الأول فإن إله العالم لو كان هو ذلك الجسم، فحين قتله اليهودُ كان ذلك قولاً بأن اليهودَ قتلوا إله العالَم، فكيف بَقِيَ العالَم بعد ذلك من غير إلهٍ؟ ثم إن أشَدَّ الناس ذُلاًّ ودَنَاءَةً اليهودُ، فالإله الذي تقتله اليهودُ إلهٌ في غاية العجز. وأما الثاني: - وهو أن الإله بكليته حَلَّ في هذا الجسم - فهو أيضاً - فاسد؛ لأن الإله إن لم يكن جسماً ولا عَرَضاً امتنع حُلولُه في الجسم، وإن كان جسماً فحينئذ يكون حلوله في جسم آخرَ، عبارة عن اختلاط أجزائه بأجزاء ذلك الجسم، وذلك يوجب وقوع التفرُّق في أجزاء ذلك الإله، وإن كان عرضاً كان محتاجاً إلى المحلّ، وحينئذ يكون الإله محتاجاً إلى غيره، وكل ذلك سخفٌ. وأما الثالثة: وهو أنهُ حَلَّ فيه بعضٌ من أبعاض الإله وجزء من أجزائه، وذلك - أيضاً - محالٌ؛ لأن ذلك الجزء إن كان معتبراً في الإلهية فعند انفصاله عن الإله، وجب أن لا يبقى الإله إلهاً. وإن كان معتبراً في تحقق الإلهية لم يكن جُزْءاً من إله فثبت فسادُ هذه الأقسام. الوجه الرابعُ - في بطلان قول النصارى - ما ثبت بالتواتر أن عيسى عليه السلام كان عظيم الرغبة في العبادة والطاعة لله - تعالى - ولو كان إلهاً لاستحال ذلك؛ لأن الإله لا يَعْبُدُ نفسه، ثم قلت للنصراني: ما الذي دَلّكَ على كونِهِ إلهاً؟ فقال دلَّ عليه ظهورُ العجائبِ عليه من إحياء الموتى وإبْراءِ الأكمهِ والأبرصِ وذلك لا يمكن حصوله إلا بقدرةِ الإله - تعالى - فقلتُ لَهُ: تسلم أنَّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول، أم لا؟ فإنْ لَمْ تُسَلِّمْ لزمك مِنْ نفي العالمِ في الأزلِ نفي الصانع وإن سَلَّمْتَ أنَّهُ لا يلزمُ من عدم الدليل عدم المدلول فأقول: لَمَّا جوَّزْتَ حُلُولَ الإلَهِ في بَدَنِ عيسى عليه السلام فكيف عَرَفْتَ أنَّ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 284 الإلهَ ما حل في بَدَنِي وفي بدنِكَ، وفي بَدَنِ كلِّ حيوانٍ، ونباتٍ وجمادٍ؟ فقال: الفرقُ ظاهرٌ؛ وذلك أني إنما حكمت بذلك الحلول؛ لأنَّه ظهرتْ تلك الأفعال العجيبةُ عليه، والأفعال العديبةُ ما ظهرتْ على يديَّ وعلى يديْكَ، فعلمنا أنَّ ذلكَ الحلولَ - هاهنا - مفقودٌ، فقلتُ له: تبين الآن أنك ما عرفت معنى قولي: إنه لا يلزمُ من عدمِ الدليلِ عدمُ المدلول، وذلك أنَّ ظهورَ تلك الخوارقِ دالة على حلول الإله في بدن عيسى، فعدم ظهور الخوارقِ مني ومنك ليس فيه إلا أنه لم يوجد ذلك الدليل فإذا تبيَّنَّا أنه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول لا يلزم من عدم ظهور تلك الخوارق مني ومنك عدم الحلول في حقي وفي حقك، بل في حقّ الكلب والسِّنَّوْر والفأر، ثم قلت: إن مذهباص يؤدي إلى تجويز القول بحلول ذات الله في بدن الكلبِ والذبابِ لفي غاية الخِسَّةِ والرَّكاكة. الوجه الخامس: أن قَلْبَ العصا حَيَّةً أبعد في العقل من إعادة الميت حيًّا؛ لأن المشاكلة بين بدن الحي وبدن الميت أكثر من المشاكلة بين الخشبة وبين بدن اليعبانِ، فإذا لم يوجب قلب العصا حيةً كوْن موسى إلهاً، ولا ابناً للإله، فبأن لا يدل إحياءُ الموتَى على الإلهية كان أولَى. قوله: {تَعَالَوْاْ} العامة على فَتْح اللام؛ لأنه أمر من تعالَى يَتَعالَى - كترامى يترامى - وأصل ألفِهِ ياء وأصل هذه [الياء] واو؛ وذلك أنه مشتقٌّ من العُلُوّ - وهو الارتفاع كما سيأتي بيانه في الاشتقاق - والواو متى وقعت رابعةً فصاعداً قُلبت ياءً فصار «تَعَالَوا» تَعَالَي، فتحرك حرفُ العلَّة، وانفتح ما قبله، فقُلِبت ألفاً فصار «تَعَالَي» - كترامى وتعادى - فإذا أمرت منه الواحد، قلتَ: تعالَ يا زيد - بحذف الألف - وكذا إذا أمرت الجمع المذكر قلت: تعَالَوْا؛ لأنك لما حَذَفْتَ الألف لأجل الأمر أبقيتَ الفتحة مشعرة بها. وإن شئت قلتَ: الأصل: تعالَيُوا، وأصل هذه الياء واو - كما تقدم - ثم استُثْقِلَت الضمة على الياء، فحُذِفت ضمتُها، فالتقى ساكنان، فحذف أوَّلُهما - وهو الياء - لالتقاء الساكنين ونزلت الفتحةُ على حالها. وإن شئت قلت: لما كان الأصل تعلَيُوا تحرك حرفُ العِلَّةِ، وانفتح ما قبله - وهو الياءُ - فقلب ألفاً، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما - وهو الألف - وبقيت الفتحة دالةٌ عليه. والفرق بين هذا وبين الوجه الأول أن الألف - في الوجه الأول - حُذِفَت لأجل الأمر - وإن لم تتصل به واو ضمير، وفي هذا حُذِفَتْ لالتقائها مع واو الضمير. وكذلك إذا أمرت الواحدة تقول لها: تعالَي، فهذه الياء، هي ياء الفاعلة من جملة الضمائر، والتصريف كما تقدم، إلا أنك تقول هنا: الكسرة على الياء بدل الضمة هناك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 285 وأما إذا أمرت المثنى فإن الياء تثبت فتقول: يا زيدان تعالَيَا، ويا هندان تعالَيَا - أيضاً يستوي فيه المذكران والمؤنثان - وكذلك أمر جماعة الإناث تثبت فيه الياء تقول: يا نسوة تعالَيْنَ، قال تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [الأحزاب: 28] ؛ إذْ لا مقتضي للحذف، ولا للقلب؛ وهو ظاهرٌ بما تمهد من القواعد. وقرأ الحسن وأبو السَّمَّال وأبو واقد: تَعَالُوا - بضم اللام - ووجهوها على أن الأصل: تعالَيُوا - كما تقدم فاستُثْقِلت الضمة على الياء، فنُقِلت إلى اللام - بعد سلب حركتها - فبقي تعالُوا - بضم اللام. قال الزمخشريُّ في سورة النساء: وعلى هذه القراءة قال الحَمدَانِيّ: [الطويل] 1491 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... تَعَالِي أُقَاسِمْكِ الْهُمُومَ تَعَالِي بكسر اللام - وقد غاب بعضُ الناس عليه في استشهاده بشعر هذا المولَّد المتأخِّر وليس بعيْبٍ؛ فإنه ذكره استئناساً. وهذا كما تقدم في أول البقرة - عندما أنشد لحبيب: [الطويل] 1492 - هُمَا أظْلَمَا حَالَيَّ ثُمَّتَ أجْلَيَا ... ظَلاَمَيْهِمَا عَنْ وَجْهِ أمْرَدَ أشْيَبِ واعتذر هو عن ذلك فكيف يعاب عليه بشيء عَرَفَهُ، ونَبَّه عليه، واعتذر عنه؟ والذي يظهر في توجيه هذه القراءة أنهم تناسَوُا الحرفَ المحذوف، حتى كأنهم توهَّمُوا أن الكلمةَ بنيت على ذلك، وأنّ اللام هي الآخِر في الحقيقة، فلذلك عُومِلَتْ معاملةَ الآخِر حقيقةً، فضُمَّتْ قبل واو الضمير وكُسِرَت قبل يائه، ويدل على ما قلناه أنهم قالوا: - في لم أبَلْه -: إن الأصل: أبالي؛ لأنه مضارع «بالَى» فلما دَخَلَ الجازمُ حذفوا له حرفَ العلةِ - على القاعدة - ثم تناسَوْا ذلك الحرفَ، فسكنوا للجازم اللام؛ لأنها كالأخير حقيقةً، فلما سكنت اللام التقى ساكنان - هي والألف قبلها - فحذفت الألف؛ لالتقاء الساكنين. وهذا التعليل أوْلَى؛ لأنه يَعُمُّ هذه القراءةَ والبيت المذكور، وعلى مقتضى تعليله هو أن يقال: الأصل تعاليي، فاستُثْقلت الكسرةُ على الياء، فنُقِلت إلى اللام - بعد سَلْبِهَا حركتها - ثم حذفت الياءُ؛ لالتقاءِ الساكنَيْنِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 286 وتعالَ فعل صريح، وليس باسم فعل؛ لاتصال الضمائرِ المرفوعةِ البارزة به. قيل: وأصله طلب الإقبال من مكان مرتفع؛ تفاؤلاً بذلك وإدناءً للمدعو؛ لأنه من العلو والرِّفْعَة. ثم تُوُسِّعَ فيه، فاستعمل في مجرد طلب المجيء، حتى يقال ذلك لمن تريد إهانته - كقولك للعدو: تعالَ - ولمن لا يعقل كالبهائم ونحوها. وقيل: هو الدعاءُ لمكان مرتفع، ثم تُوُسِّع فيه، حتى استُعمِل في طلب الإقبال إلى كل مكان، حتى المنخفض. و «ندع» جزم على جواب الأمرِ؛ إذ يَصحُّ أن يقال: فتعالوا ندع. قوله: «أبْناءنا» . قيل: اراد الحسن والحسين ويؤيده قوله تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] {وَزَكَرِيَّا ويحيى وعيسى} [الأنعام: 85] ومعلوم أن عيسى إنما انتسب إلى إبراهيم بالأم - لا بالأب - فثبت أن ابن البنت قد يسمى ابناً. و «نِساءَنَا» فاطمة، «وَأنْفُسَنَا» عني نفسه وعلياً، والعرب تسمي ابن العم نفسه كما قال: {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] يريد إخوانكم. وقيل هو على العموم لجماعة أهل الدين. قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} قال ابنُ عبّاس: نتضرع في الدعاء. وقال الكلبي: نجتهد ونبالغ في الداعاء وقال الكسائيُّ وأبو عبيدة: نَلتعن. والابتهال: افتعال، من البُهْلَة، وهي - بفتح الباء وضمها - اللعنة، قال الزمخشريُّ: ثم نتباهل بأن نقول لعنة الله على الكاذب منا ومنكم والبهلة - بالفتح والضم - اللعنة، وبَهَلَه الله: لعنه وأبعده من رحمته من قولك: أبهله إذا أهمله، وناقة باهل: لا صِرَارَ عليها، أي: مرسلة مُخَلاَّة - كالرجل الطريد المنفي - وإذا كان البهل هو الإرسال والتخلية، فمن بهله الله فقد خلاه، ووكله إلى نفسه، فهو هالك لا شك فيه - كالناقة الباهل التي لا حافظ لها، فمن شاء حلبها، لا تقدر على الدفع عن نفسها هذا أصل الابتهال، ثم استُعْمِل في كل دعاء مُجْتَهَدٍ فيه - وإن لم يكن التعاناً -[يعني أنه اشتهر في اللغة: فلان يبتهل إلى الله - تعالى - في قضاء حاجته، ويبتهل في كشف كربته] . قال شهاب الدّين: ما أحسن ما جعل «الافتعال» - هنا - بمعنى التفاعل؛ لأن المعنى لا يجيء إلا على ذلك، وتفاعل و «افتعل» أخوان في مواضع، نحو اجتوروا وتجاوروا، واشتوروا وتشاوروا، واقتتل القوم وتقاتلوا، واصطحبوا وتصاحبوا، لذلك صحت واو اجتوروا واشتوروا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 287 قال الراغبُ: وأصل البهل: كون الشيء غيرَ مراعى، والباهل: البعير المُخَلَّى عن قيده والناقة المخلَّى ضرعها عن صِرَارٍ، وأنشد لامرأة: أتيتك باهلاً غير ذات صِرار. وأبهلت فلاناً: خليته وإرادته؛ تشبيهاً بالبعير الباهل، والبهل والابتهال في الدعاء: الاسترسال فيه والتضرع، نحو {ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل} ومن فسر الابتهال باللعن فلأجل أن الاسترسال في هذا المكان لأجل اللعن. قال الشاعر: (وهو لبيد) : [الرمل] 1493 - مِنْ قُرُومٍ سَادَةٍ في قَوْمِهِمْ ... نَظَرَ الدَّهْرُ إلَيْهِمْ فَابْتَهَلْ وظاهر هذا أنَّ الابتهال عام في كل دعاء - لعناً كان أو غيره - ثم خُصَّ في هذه الآية باللعن، وظاهر عبارة الزمخشري أن أصله خصوصيته باللعن، ثم تُجُوِّز فيه، فاستُعمِل في كل اجتهاد في دعاء - لعناً كان، أو غيره - والظاهر من أقوال اللغويين ما ذكره الراغب. قال أبو بكر بن دُرَيْد في مقصورته: [الرجز] 1494 - لَمْ أرَ كَالْمُزْنِ سَوَاماً بُهَّلا تَحْسَبُهَا مَرْعِيَّةً وَهْيَ سُدَى بهلاً جمع باهلة - أي: مهملة، وفاعلة تجمع على فُعَّل، نحو ضُرَّب. والسُّدَى: المهمل - أيضاً - وأتى ب «ثُمَّ» هنا، تنبيهاً على خطئهم في مباهلته، كأنه يقول لهم: لا تعجلوا، وتَأنَّوْا؛ لعلَّه أن يظهر لكم الحق، فلذلك أتى بحرف التراخي. قوله: {فَنَجْعَل} هي المتعدية لاثنين - بمعنى نصير - و {عَلَى الكاذبين} هو المفعول الثاني. فصل روي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما أورد الدلالة على نصارى نجران، ثم إنهم أصرُّوا على جهلهم، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ يَأمُرُنِي - إن لَمْ تَقْبَلُوْا الْحُجَّةَ - أنْ أبَاهِلَكُمْ» ، فقالوا: يا أبا القاسم، بل نرجع، فننظر في أمرنا، ثم نأتيك غداً، فخلا بعضهم ببعض، فقالوا للعاقب وكان ذا رأيهم: يا عبد المسيح، ما ترى؟ فقال: والله لقد عرفتم - يا معشر النصارى - أن محمداً نبي مرسل، ولقد جاءكم بالكلام الحق في أمر صاحبكم، والله ما باهل قوم نبيًّا - قط - فعاش كبيرُهم ولا صغيرُهم، ولأن فعلتم ذلك لنهلكن، ولكان الاستئصال، فإن أبيتم إلا الإصرار على دينكم والإقامة على ما أنتم عليه، فوادِعوا الرجل، وانصرِفوا إلى بلادكم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 288 فأتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان قد خرج وعليه مرط من شعر أسود، وكان قد احتضن الحُسَيْن، وأخذ بيد الحسن، وفاطمة تمشي خلفه وعليّ خلفهما، وهو يقول لهم: إذَا دَعَوْتُ فأمِّنُوا، فقال أسقفُ نجران: يا معشر النصارى إنّي لأرى وجوهاً لو شاء الله أن يُزيل جَبَلاً من مكانه لأزاله بها، فلا تباهلوا، فتهلكوا ولا يبقى نصراني على وجه الأرض إلى يوم القيامة فقالوا: يا أبا القاسم، قد رأينا أن لا نباهلَك، وأن نقرك على دينك، ونثبت على ديننا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «فَإنْ أبَيْتُمُ الْمُبَاهَلَةَ فَأسْلِمُوا يَكُنْ لَكُمْ مَا لِلْمُسْلِمِيْنَ وَعَلَيْكُمْ مَا عَلَيْهمْ فأبَوْا، فقال: فَإنِّي أنَابِذُكُمْ» ، فقالوا ما لنا بحَرْبِ العَرَب طاقةٌ، ولكن نصالِحُكَ على أن لا تَغزُوَنا، ولا تُرُدَّنا عن ديننا، على أن نؤدِّي إليك في كل عام ألفَيْ حُلَّة - ألفاً في صَفَر وألفاً في رجب - وثلاثين درعاً عادية من حديد، فَصَالَحَهُمْ عَلَى ذلك، وَقَالَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الْعَذَابَ قَدْ تَدَلَّى عَلَى أهْلِ نَجْرَانَ، وَلَوْ لاعَنُوا لَمُسِخُوا قِرَدَةً وَخَنَازِيرَ، ولاضْطَرَمَ عَلَيْهِمُ الْوَادِي نَاراً، وَلأسْتَأصَلَ اللهُ نَجْرَانَ وَأهْلَهُ - حَتَّى الطَّيْرَ عَلَى الشَّجَرِ - وَلَمَا حَالَ الْحَوْلُ عَلَى النَّصَارى كلِّهِمْ حَى يَهْلِكُوا» . وروي أنه - عليه السَّلامُ - لما خرج في المرط الأسود، فجاء الحَسَن، فأدْخله، ثم جاء الحُسَيْن فأدخله، ثُمّ فَاطِمَةُ، ثُم عليٌّ، ثم قال: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] . فصل قال بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: إن القول، بأن الابتهال هو الاجتهاد في الدعاء أوْلَى؛ لأنه يكون قوله: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي: ثم نجتهد في الدعاء، ونجعل اللعنة على الكاذب، وعلى القول بأنه الالتعان يصير التقدير: {ثُمَّ نَبْتَهِلْ} أي: نَلْتَعِن، فنجعل لعنة الله على الكاذب، هو تكرارٌ. وهنا سؤالان: السؤالُ الأولُ: الأولاد إذا كانوا صِغَاراً لم يَجُزْ نزولُ العذابِ بهم، وقد ورد في الخبر أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أدْخَل في المباهلةِ الحسنَ والحسينَ، فما الفائدة فيه؟ والجواب: أن عادة الله جاريةٌ بأن عقوبة الاستئصال إذا نزلت بقوم هلك معهم الأولاد والنساء، فيكون ذلك في حق البالغين عقاباً، وفي حق النساء جارياً مجرى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 289 إماتتهم، وإيصال الآلام إليهم ومعلوم أن شفقة الإنسان على أولاده، وأهله شديدة جِداً، ورُبَّما جَعَل الإنسانُ نفسَه فداءً لهم وإذا كان كذلك فهو - عليه السلامُ - أحضر صبيانه ونساءه معه، وأمرهم بأن يفعلوا مثل ذلك، ليكون ذلك أبلغ للزجر، وأقوى في تخويف الخصم، وأدل على وثوقه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن الحقَّ معه. السؤال الثاني: أليس أن بعض الكفار استعمل المباهلة مع نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث قالوا: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ثم إنه لم ينزل بهم عذاب ألبتة - فكذا ها هنا - وأيضاً فبتقدير نزول العذابِ يكون ذلك مناقضاً لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] . الجوابُ: أن الخاص مقدَّم على العام، فلما أخبر - عليه السلامُ - بنزول العذاب في هذه القصة على التعيين، وجب أن تعتقد أن الأمرَ كذلك. فصل دلت هذه الواقعةُ على صحة نبوتِهِ - عليه السلام - من وَجْهَيْنِ: أحدهما: أنه - عليه السلام - خوفهم بنزول العذاب، ولو لم يكن واثقاً بذلك لكان ذلك منه سعياً في إظهار كذب نفسه؛ لأن بتقدير أن يرغبوا في مباهلته، ثم لا ينزل العذاب، فحينئذ يظهر كذبه، فلما أصرَّ على ذلك علمنا أنه إنما أصرَّ عليه؛ لكونه واثقاً بنزول العذاب عليهم. وثانيهما: أن القوم - لما تركوا مباهلته - لولا أنهم عرفوا من التوراة والإنجيل ما يدل على نبوته لما أحجموا عن مباهلته. فإن قيلَ: لم لا يجوز أن يُقال: إنهم كانوا شاكِّين، فتركوا مباهلَتَه؛ خَوْفاً من أن يكون صادقاً، فينزل بهم ما ذُكِرَ من العذاب؟ فالجوابُ: أن هذا مدفوع من وَجْهَيْنِ: الأول: أن القوم كانوا يَبْذلون النفوسَ والأموالَ في المنازعة مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولو كانوا شاكِّين لَمَا فعلوا ذلك. الثاني: أنه قد نُقل عن أولئك النصارَى أنهم قالوا: إنه والله هو النبي المبشَّرُ به في التوراةِ والإنجيلِ وإنكم لو باهلتموه لحصل الاستئصالُ، فكان تصريحاً منهم بأن الامتناع من المباهلة كان لأجل علْمِهم بأنه نبي مُرْسَل من عند الله تعالى. فصل قال ابنُ الْخَطِيبِ: كان في الرِّيِّ رجلٌ يقال له مَحْمُود بن الحسن الحِمْضِيُّ، وكان معلم الاثني عشرية، وكان يزعم أن عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أفضل من جميع الأنبياء - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 290 سوى محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال: والذي يدل على ذلك قوله: {وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ} ، وليس المراد بقوله: {وَأَنفُسَنَا} نفس محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الإنسان لا يدعو نفسه، بل المراد به غيره، وأجمعوا على أن ذلك الغير كان علي بن أبي طالب، فدلت الآية على أن نفس علي هي نفس محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يمكن أن يكون المراد منه أن هذه النفس هي عين تلك النفسِ، فالمراد: أن هذه النفس مثل تلك النفس، وذلك يقتضي الاستواء في جميع الوجوه، ترك العمل بهذا العموم في حق النبوة وفي حق الفضل؛ لقيام الدلائل على أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان نبياً، وما كان عَلِيٌّ كذلك، ولانعقاد الاجماع على أن محمداً ك ان أفضل من علي، فيبقى فيما وراءه معمولاً به، ثم الإجماع دَلَّ على أنّ محمداً كان أفضلَ من سائر الأنبياء، فيلزم أن يكون عَلِيٌّ أفضلَ من سائر الأنبياء، فهذا وجه الاستدلال بظاهر هذه الآية، ثم قال: ويؤكد هذا الاستدلالَ الحديثُ المقبولُ - عند الموافقِ والمخالفِ - وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من أرَادَ أنْ يَرَى آدَمَ فِي عِلمِهِ، وَنُوحاً في طَاعَتِهِ، وإبْرَاهِيمَ فِي خُلَّتِه، وَمُوسَى في هَيْبَتِه، وَعِيْسَى في صَفْوَتِهِ فَلْيَنْظُرْ إلى عَلِيِّ بنِ أبي طالبٍ» . فالحديث دل على أنه اجتمع فيه ما كان متفرِّقاً فيهم، وذلك يدل على أن عَلِيًّا أفضل من جميع الأنبياء سوى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. أما سائر الشيعةِ فقد كانوا - قديماً وحديثاً - يستدلون بهذه الآية على أن عليًّا أفضلُ من سائر الصحابة؛ وذلك لأنَّ الآية لمَّا دلَّت على أن نَفْسَ عَلِيٍّ مِثْلُ مُحَمَّدٍ - إلا ما خصه الدليل - وكان نفس محمد أفضل من الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - فوجب أن يكون نفس عليٍّ أفضل من سائر الصحابة، هذا تقريرُ كلامِ الشيعة. فالجوابُ: أنه كما انعقد الإجماع بَيْنَ المسلمين على أن محمداً أفضلُ من عليٍّ، فكذلك انعقد الإجماع بينهم - قَبْلَ ظُهُورِ هذا الإنسانِ - على أن النبيَّ أفضل ممن ليس بنبيِّ، وأجمعوا على أن عليًّا ما كان نبيًّا، فلزم القطعُ على أن ظاهرَ الآية، كما أنه مخصوص في حق محمد، فكذلك مخصوص في حق سائر الأنبياءِ - عليهم السلام -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 قال أبو مُسْلِمٍ: هذا الكلام متصل بما قبله، ولا يجوز الوقف على قوله: {الكاذبين} ، وتقدير الآية: فنجعلْ لَعْنَةَ اللهِ عَلَى الْكَاذِبِيْنَ بأن هذا هو القصص الحقُ، وعلى هذا التقدير كان حق «إنَّ» أن تكون مفتوحةً، إلا أنها كُسِرَت؛ لدخول اللاَّمِ في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 291 قوله: {لَهُوَ الْقَصَصُ} ، كما في قوله: {إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ} [العاديات: 11] . قال الباقون: الكلام تمّ عند قوله: {عَلَى الكاذبين} وما بعده جملة أخْرَى مستقلة غير مُتعَلِّقةٍ بما قبلها، فَقَوْلُهُ: {هذا} الكلام إشارةٌ إلى ما تقدم من الدلائلِ والدعاءِ إلى الْمُبَاهَلَةِ، وأخبار عيسى. وقيل: هو إشارة لما بعده - وهو قوله: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} - وضُعفَ هذا بوجهين: أحدهما: أنَّ هذا ليس بقصصٍ. الثاني: أن مقترن بحرف العطف. واعتذر بعضهم عن الأول، فقال: إن أراد بالقصص الخبر، فيصح على هذا، ويكون التقدير: إن الخبر الحق {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} ولكن الاعتراض الثاني باقٍ، لم يُجَبْ عنه. و «هُوَ» يجوز أن يكون فَصْلاً، و «القصص» خبر «إن» ، و «الْحَقُّ» صفته، ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ و «الْقَصَصُ» خبره، والجملة خبر «إنَّ» . والقصص مصدر قولهم: قَصَّ فلانٌ الحديثَ، يَقُصُّهُ، قَصًّا، وقَصَصاً وأصله: تتبع الأثَر، يقال: فلان خرج يقصُّ أثَرَ فلان، أي: يتبعه، ليعرف أين ذَهَبَ. ومنه قوله: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] ، أي، اتبعي أثره، وكذلك القاصّ في الكلام، لأنه يتتبع خَبراً بعد خبر. وقد تقدم التنبيه على قراءتي «لهْو» بسكون الهاء وضمها؛ إجراء لها مجرى عضد. قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: لم جاز دخولُ اللامِ على الفَصْل؟ قلت: إذا جاز دخولُها على الخبر كان دخولُها على الفَصْل أجودَ؛ لأنه أقرب إلى المبتدأ منه وأصلها أن تدخل على المبتدأ. قوله: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن {مِنْ إله} مبتدأ، و «مِنْ» مزيدة فيه، و «إلاَّ اللهُ» خبره، تقديره: ما إلَهٌ إلا اللهُ، وزيدت «مِنْ» للاستغراق والعموم. قال الزمخشريُّ: و «مِنْ» - في قوله: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} - بمنزلة البناء على الفتح في: لا إلَهَ إلا اللهُ - في إفادة معنى الاستغراق. قال شهابُ الدينِ: الاستغراق في: لاَ إلَهَ إلاَّ اللهُ، لم نستفده من البناء على الفتح، بل استفدناه من «مِنْ» المقدَّرة، الدالة على الاستغراق، نَصَّ النحويون على ذلك، واستدلوا عليه بظهورها في قول الشاعر: [الطويل] 1495 - فَقَامَ يَذُودُ النَّاسَ عَنْهَا بِسَيْفِهِ ... وَقَالَ: ألاَ لاَ مِنْ سَبيلٍ إلَى هِنْدٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 292 الثاني: أن يكون الخبر مُضْمَراً، تقديره: وما من إله لنا إلا الله، و {إِلاَّ الله} بدل من موضع {مِنْ إله} ، لأن موضعه رفع بالابتداء، ولا يجوز في مثله الإبدالُ من اللفظ، لِئَلاّ يلزم زيادة «مِنْ» في الواجب، وذلك لا يجوز عند الجمهور. ويجوز في مثل هذا التركيب نصب ما بعد «إِلاَّ» على الاستثناء، ولكن لم يُقرأ به، إلا أنَّه جائز لُغَةً أنْ يُقَالَ لاَ إلهَ إلاَّ اللهُ - برفع لفظ الجلالة بدلاً من الموضع، ونصبها على الاستثناء من الضمير المستكن في الخبر المقدر؛ إذ التقدير: لا إله استقر لنا إلا الله. وقال بَعْضُهُم: دخلت «مِنْ» لإفادة تأكيد النفي؛ لأنك لو قلتَ: ما عندي من الناس أحد، أفاد أن عندك بعض الناس. فإذا قلتَ: ما عندي من الناس من أحدٍ، أفاد أن ليس عندك بعضهم وإذا لم يكن عندك بعضهم فبأن لا يكون عندك كلهم أوْلَى، فثبت أن قوله: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله} مبالغة في أنه لا إله إلا الله الواحدُ الحقُّ. قوله: {وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم} كقوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} وفيه إشارةٌ إلى الجواب عن شبهات النَّصَارَى، لأن اعتمادَهم على أمرين: أحدهما: أنه قدر على إحياء الموتَى وإبراء الأكْمَهِ والأبْرَصِ، فكأنه - تعالى - قال: هذا القدر من القدرة لا يكفي في الإلهية، بل لا بُدَّ وأن يكون عزيزاً، غالباً، لا يدفع، ولا يمنع، وأنتم اعترفتم بأن عيسى - عليه السلام - ما كان كذلك، بل قلتم: إنّ اليهودَ قتلوه. والثاني: أنهم قالوا: إنه كان يُخبر عن الغيوب وغيرها، فكأنه - تعالى - قال: هذا القدرُ من العلم لا يكفي في الإلهية، بل لا بد وأن يكون حَكِيماً، أي: عالماً بجميع المعلومات، وبجميع عواقب الأمورِ. فَذِكرُ العزيز الحكيم - هاهنا - إشارةٌ إلى الجواب عن هاتَيْنِ الشبهتين، ونظير هذه الآية ما ذكر تعالى في أول السورة من قوله: {هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم} [آل عمران: 6] . وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْا} يجوز أن يكون مضارعاً - حُذِفَتْ منه إحدى التاءَين، تخفيفاً - على حَدِّ قراءة: {تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4] و {تَذَكَّرُون} [الأنعام: 152]- ويؤيد هذا نسق الكلام، ونظمُه في خطاب من تقدم في قوله: {تَعَالَوْا} ثم جرى معهم في الخطاب إلى أن قال لهم: فَإن تولّوا. قال ابو البقاء: «ويجوز أن يكون مستقبلاً، تقديره: تتولوا - ذكره النَّحَّاسُ - وهو ضعيفٌ؛ لأن حَرْفَ الْمُضَارَعَِ لا يُحْذَف» . قال شهاب الدين: «وهذا ليس بشيء؛ لأن حرف المضارعة يُحْذَف - في هذا النحو - من غير خِلافٍ. وسيأتي من ذلك طائفة كثيرة» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 293 وقد أجمعوا على الحذف في قوله: {تَنَزَّلُ الملائكة وَالرُّوحُ فِيهَا} [القدر: 4] . ويجوز أن يكون ماضياً، أي: فإن تَوَلَّى وَفْدُ نجرانَ المطلوب مباهلتهم، ويكون - على ذلك - في الكلام التفات؛ إذْ فيه انتقال من خطابٍ إلى غيبةٍ. قوله: {بِالْمُفْسِدِينَ} من وقوع الظاهر موقعَ المُضْمَرِ، تنبيهاً على العلة المقتضية للجزاءِ، وكان الأصل: فإن الله عليم بكم - على الأول - وبهم - على الثاني. فصل ومعنى الآية: فإن تولوا عما وَصَفْتَ لهم من أنه الواحد، وأنه يجب أن يكون عزيزاً غالباً، قادراً على جميع المقدوراتِ، حكيماً، عالماً بالعواقب - مع أن عيسى ما كان كذلك - فاعلم أن تولّيهم وإعراضَهم ليس إلاَّ على سبيل العِنَادِ، فاقطع كلامَك عَنْهُم، وفَوِّضْ أمرك إلى اللهِ؛ فإنه عليم بالمفسدين الذين يعبدون غيرَ اللهِ، مُطَّلِع على ما في قلوبهم من الأغراض الفاسدة، قادرٌ على مجازاتهم. قوله : {إلى كَلَمَةٍ } مُتَعَلِّق ب «تَعَالَوْا» فذكر مفعول «تَعَالَوْا» قبلها، فإنه لم يذكر مفعوله؛ فإن المقصودَ مُجَرَّدُ الإقبال، ويجوز أن يكون حذفه للدلالة عليه، تقديره: تعالوا إلى المباهلة. وقرأ العامة «كَلِمَةٍ» - بفتح الكاف وكسر اللام - وهو الأصل، وقرأ أبو السَّمَّال «كِلْمَةٍ» بوزن سدرة و «كَلْمَةٍ» كَضَرْبَة وتقدم هذا قريباً. وكلمة مفسَّرة بما بعدها - من قوله: «ألاّ نَعْبُدَ إلاَّ الله» - فالمرادُ بها كَلاَمٌ كَثِيرٌ، وهَذا مِنْ بَابَ إطلاق الجزء والمراد به الكل، ومنه تسميتهم القصيدة جميعاً قافيةً - والقافية جزء منها قال: [الوافر] 1496 - أعَلِّمُهُ الرِّمَايَةَ كُلَّ يَوْمٍ ... فَلَمَّا اشتدَّ سَاعِدُهُ رَمَانِي وَكَمْ عَلَّمُْهُ نَظْمَ الْقَوَافِي ... فَلَمَّا قَالَ قَافِيَةً هَجَانِي ويقولون كلمة الشهادة - يعنون: لا إله إلا الله، مُحَمدٌ رَسُولُ اللهِ - وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أصْدَقُ كَلِمَةٍ قَالهَا شاعرٌ كلمة لبِيدٍ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 294 يريد: [الطويل] 1497 - ألا كُلُّ شَيْءٍ مَا خَلاَ اللهَ بَاطِلُ ... وَكُلُّ نَعِيمٍ - لا مَحَالَةَ - زَائِلُ وهذا كما يسمون الشيء بجزئه في الأعيان، لأنه المقصود منه، قالوا لرئيس القوم - وهو الذي ينظر لهم ما يحتاجون إليه -: عَيْن، فأطلقوا عليه «عيناً» . وقال بعضهم: وُضِعَ المفردُ موضعَ الجمع، كما قال: [الطويل] 1498 - بِهَا جِيَفُ الْحَسْرَى، فَأمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ، وَأمَّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ وقيل: أطلقت الكلمة على الكلمات؛ لارتباط بعضها ببعضٍ، فصارت في قوة الكلمة الواحدة - إذا اخْتلَّ جُزْءٌ منها اختلت الكلمةُ؛ لأن كلمة التوحيد - لا إله إلا الله - هي كلماتٌ لا تتم النسبة المقصودة فيها من حصر الإلهية في «الله» إلا بمجموعها. وقرأ العامة «سَوَاءٍ» بالجر؛ نعتاً لِ «كَلِمَةٍ» بمعنى عَدْلٍ، ويدل عليه قراءة عبد الله: إلى كلمة عدل، وهذا تفسير لا قراءة. وسواء في الأصل - مصدر، ففي الوصف التأويلات الثلاثة المعروفة، ولذلك لم يُؤنث كما لم تؤنث ب «امرأة عدل» ؛ لأن المصادر لا تُثَنَّى، ولا تُجْمَع، ولا تُؤنَّثُ، فإذا فتحت السين مَدَدْتَ، وإذا كسرتَ أو ضممت قصرت، كقوله: {مكَانًا سُوًى} [طه: 58] . وقرأ الحسن «سَوَاءٌ» بالنصب، وفيها وجهان: أحدهما: نصبها على المصدر. قال الزمخشريُّ: «بمعنى: اسْتَوْتِ اسْتِوَاءً» ، وكذا الحوفيّ. والثاني: أنه منصوب على الحال، وجاءت الحالُ من النكرةِ، وقد نصَّ عليه سيبويه. قال أبو حيّان: «ولكن المشهور غيره، والذي حسَّن مجيئَها من النكرة - هنا - كونُ الوَصْفِ بالمصدر على خلاف الأصل، والصفة والحال متلاقيان من حيث المعنى» . وكأن أبا حيان غض من تخريج الزمخشريِّ والحوفيّ، فقال: «والحال والصفة متلاقيان من حيثُ المعنى، والمصدر يحتاج إلى إضمار عاملٍ، وإلى تأويل» سواء «بمعنى استواء» . والأشهر استعمال «سَوَاء» بمعنى اسم الفاعل - أي: مُسْتوٍ. قال شهاب الدين: «وبذلك فسَّرها ابن عباس، فقال: إلى كَلِمَةٍ مُسْتَوِيَةٍ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 295 قوله: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله} فيه ستة أوجهٍ: أحدها: أنه بدل من «كَلِمةٍ» - بدل كل من كل. الثاني: بدل من «سَوَاء» جوزه أبو البقاء؛ وليس بواضح، لأن المقصود إنما هو الموصوف لا صفته فنسبة البدلية إلى الموصوف أوْلَى، وعلى الوجهين ف «أنْ» وما في حَيِّزها في محل جَرٍّ. الثالث: أنه في محل رَفْع؛ خبراً لمبتدأ مُضْمَرٍ، والجملة استئناف، جواب لسؤال مقدَّر، كأنه لما قيل: {تَعَالَوْاْ إلى كَلَمَةٍ} قال قائل: ما هي؟ فقيل: هي أن لا نعبد إلا الله، وعلى هذا الأوجه الثلاثة ف «بَيْنَ» منصوب ب «سَوَاءٍ» ظرفاً له، أي: يقع الاستواء في هذه الجهة. وقد صرَّح بذلك [الشاعر] ، حيث قال: [الوافر] 1499 - أرُونِي خُطَّةً لا عَيبَ فيهَا ... يُسَوِّي بَيْنَنَا فِيهَا السَّوَاءُ والوقف التام - حينئذ - عند قوله: {مِّن دُونِ الله} ؛ لارتباط الكلام معنًى وإعراباً. الرابع: أن يكون «أنْ» وما في حَيِّزها في محل رفع بالابتداء، والخبرُ: الظرفُ قبله. الخامس: جوَّز ابو البقاء أن يكون فاعلاً بالظرف قبله، وهذا إنما يتأتَّى على رأي الأخفش؛ إذا لم يعتمد الظرفُ. وحينئذ يكون الوقف على «سَوَاءٍ» ثم يبتدأ بقوله: {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله} وهذا فيه بُعْدٌ من حيثُ المعنى، ثم إنهم جعلوا هذه الجملة صفة ل «كَلِمةٍ» ، وهذا غلط؛ لعدم رابطة بين الصفة والموصوف، وتقدير العائد ليس بالسهل. وعلى هذا فَقوْل أبي البقاء: وقيل: تم الكلامُ على «سَوَاءٍ» ، ثم استأنف، فقال: {بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ} ، أي: بيننا وبينكم التوحيد، فعلى هذا يكون {أَلاَّ نَعْبُدَ} مبتدأ، والظرف خبره، والجملة صفة ل «الكلمة» ، غير واضح؛ لأنه - من حيث جعلها صفة - كيف يحسن أن يقول: تم الكلام على «سَوَاءٍ» ثم استأنف؟ بل كان الصواب - على هذا الإعراب - أن تكون الجملة استئنافية - كما تقدم. السادس: أن يكون: {أَلاَّ نَعْبُدَ} مرفوعاً بالفاعلية ب «سَوَاءٍ» ، وإلى هذا ذَهَب الرُّمَّانِيُّ؛ فإن التقدير - عنده - إلى كلمة مستوٍ فيها بيننا وبينكم عدم عبادةُ غيرِ الله تعالى: قال أبو حيّان: «إلا أن فيه إضمارَ الرابطِ - وهو فيها - وهو ضعيف» . فصل لما أوْرَد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على نصارى نجران أنواعَ الدلائل، دعاهم إلى الْمُبَاهَلَةِ فخافوا، وما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 296 شرعوا فيها، وقبلوا الصَّغَارَ بأداء الجزية، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حريصاً على إيمانهم، فكأنه - تعالى - قال: يا محمدُ، اترك ذلك المنهجَ من الكلام، واعدل [إلى] منهج آخرَ يشهد كلُّ ذي عقل سليم، وطبع مستقيم أنه [متين] مبنيٌّ على الإنصاف وتَرْك الجدال «قل يا أهل الكتاب هلموا إلى كلمة سواءٍ» فيها إنصافٌ لبعضنا من بعض، ولا ميل فيها لأحدٍ على صاحبه، وهي: {أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً} فهذا وَجْهُ النَّظم. فصل وفي المراد بأهل الكتاب ثلاثة أقوال: أحدها: أن المراد: نصىرَى نجرانَ. الثاني: اليهود من المدينة. الثالث: أنها نزلت في الفريقين، ويدل على هذا وجهان: الأول: أن ظاهر اللفظ يتناولهما. الثاني: قال المفسّرون - في سبب النزولِ -: قدم وَفْد نجران المدينة، فالتَقَوْا مع اليهود، واختصموا في إبراهيم - عليه السلامُ - فزعمت النصارى أنه كان نَصْرانيًّا، وأنه على دينهم، وأنهم وهم على دينه وأوْلَى الناس به، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كِلاَ الْفَرِيْقَيْنِ بَرِيءٌ من إبْرَاهِيمَ وَدِيْنِهِ؛ كَانَ حَنيفاً مسلِماً، وَأنَا عَلَى دِينِهِ فاتَّبِعُوا دِينَهُ الإسْلامَ» فقالت اليهودُ: يا محمدُ، ما تريد إلا أن نتخذَك رَبًّا كما اتخذت النصارى عيسى ربًّا، وقالت النصارى: يا محمد ما تريد إلا أن نقول فيك، كما قالت اليهود في عُزَيْرٍ، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال ابن الخطيب: «وعندي أن الأقرب حَمْلُه على النصارى؛ لما بيَّنَّا في وجه النَّظْم أنه لما أورد - الدلالة عليهم أولاً، ثم باهلهم ثانياً، فعدل عن هذا المقام إلى الكلام المبني على غاية الإنصاف، وترك المجادلةِ، وطلبِ الإقْحام والإلزام، ويدل عليه أنه خاطَبَهُم - هنا - بقوله: {ياأهل الكتاب} ، وهذا الاسم من أحسن الأسماء، وأكمل الألقاب؛ حيث جعلهم أهلاً للكتاب، ونظيره ما يقال لحافظ القرآن: حَامِلَ كتاب الله العزيز، وللمفسِّر يا مُفَسِّرَ كلام اللهِ، فإن هذا اللقبَ يدل على أن قائله أراد المبالغة في تعظيم المخاطَب، وتَطْييب قَلْبِه، وذلك إنما يُقال عند عدول الإنسانِ مع خَصْمه عن طريقة اللَّجَاج والنزاع إلى طريقة طلب الإنْصَافِ» . قوله: {تَعَالَوْا} هَلُمُّوا {إلى كَلَمَةٍ سَوَآءٍ} فيها إنصافٌ من بعضنا لبعض، لا ميل فيه لأحد على صاحبه. والسواء: هو العَدْل والإنصاف؛ لأن حقيقةَ الإنصاف إعطاء النصف، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 297 فإن الواجب في العقول ترك الظلم على النفس وعلى الغير، وذلك لا يحصل إلا بإعطاء النصف؛ لكي يُسَوِّي بين نفسه وبين الغير. ثم إنه تعالى ذكر ثلاثةَ أشياءَ: الأول: أن لا نعبدَ إلا اللهَ. الثاني: أن لا نُشْركَ به به شيْئاً. الثالث: أن لا يتخذَ بعضُنا أرْباباً مِن دونِ اللهِ. ودون - هذه - بمعنى: «غير» . إنما ذكر هذه الثلاثة؛ لأن النصارَى جمعوا بينها، فعبدوا غيرَ الله - وهو المسيح - وأشركوا بالله غيره؛ لأنهم يقولون: إنه ثلاثة: أب وابن وروح القدس، واتخذوا أحبارهم أرباباً من دون الله؛ لأنهم كانوا يطيعونهم في التحليل والتحريم، وكانو يسجدون لهم، ويطيعونهم في المعاصي، قال تعالى: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31] . قال أبو مُسْلِم: ومذهبهم أن مَن صار كاملاً في الرياضة والمجاهدة ظهر فيه أثَرُ اللاهوت، فيقدر على إحياء الموتَى، وإبراء الأكْمَهِ والأبْرَصِ، فإنهم - وإن لم يُطْلقوا عليه لفظ «الرَّبِّ» - أثبتوا في حقه معنى الربوبية، وهذه الأقوال الثلاثة باطلة. أما الأول: فإن قبل المسيح ما كان المعبود إلا الله، فوجب أن يَبْقَى الأمر بعد ظهور المسيح على ما كان. الثاني: والقول بالشرك باطل باتفاق الكُلِّ. والثالث: - أيضاً باطل -؛ لأنه إذا كان الخالق والرازق والمُنْعِم - بجميع النعم - هو الله وجب أن لا يرجع في التحليل، والتحريم، والانقياد، والطاعة إلا إليه، - دون الأحْبار والرُّهبان. وقوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} قال القرطبي: معنى قوله: {وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} أي لا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه، إلا فيما حلَّلَه الله - تعالى - وهو نظير قوله تعالى: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31] أي: أنزلوهم منزلةَ ربهم في قبول تحريمهم وتحليلهم لِما لم يحرمْه الله ولم يحللْه، وهذا يدل على بُطْلان القول بالاستحسان المجردِ الذي لا يستند إلى دليلٍ شرعيٍّ. قال إلكيا الطبريُّ: «مثل [استحسانات] أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون [مستندات بينة] » . قال عكرمةُ: «هو سجودُ بعضهم لبعض» ، أي: لا نسجد لغير الله، وكان السجود إلى زمان نبينا عليه السلامُ - ثم نُهِيَ عنه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 298 وروى ابن ماجه - في سننه - عن أنس، قال: «قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ، أيَنحَنِي بَعْضُنَا لِبَعْضٍ؟ قال:» لاَ «، قُلْنَا: أيُعَانِقُ بَعْضُنَا بَعْضاً؟ قَالَ:» لا، وَلَكِنْ تَصَافَحُوا «. وقيل: لا نطيع أحداً في معصية الله. قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ} . قال أبو البقاء: هو ماضٍ، ولا يجوز أن يكون التقدير:» فإن تتولوا «لفساد المعنى؛ لأن قوله: {فَقُولُواْ اشهدوا} خطاب للمؤمنين، و» يَتولّوا «للمشركين وعند ذلك لا يبقى في الكلام جوابُ الشرط، والتقدير: فقولوا لهم وهذا ظاهر. والمعنى: إن أبَوْا إلا الإصرارَ فقولوا لهم: اشْهَدُوا بأنا مسلمون [مخلصون بالتوحيد] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 قوله: {لِمَ تُحَآجُّونَ} هي «ما» الاستفهامية، دخل عليها حرف الجر، فحُذِفَت ألفُها وتقدم ذلك في البقرة، واللام متعلقة بما بعدها، وتقديمها على عاملها واجب؛ لجرها ما له صَدْرُ الكلام. قوله: {في إِبْرَاهِيمَ} لا بد من مضافٍ محذوفٍ، أي: في دين إبراهيم وشريعته؛ لأن الذوات لا مجادلة فيها. قوله: {وَمَآ أُنزِلَتِ التوراة} الظاهر أن الواو للحال، كهي في قوله: {لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [آل عمران: 70] . أي كيف تحاجون في شريعته والحال أن التوراة والإنجيل متأخران عنه؟ وجوزوا أن تكون عاطفة، وليس بالبيِّن، وهذا الاستفهام للإنكار والتعجُّب، وقوله: {إِلاَّ مِن بَعْدِهِ} متعلق ب «أنزلت» ، وهو استثناء مفرَّغ. فصل اعلم أن اليهود كانوا يقولون: إن إبراهيم كان على ديننا، والنصارى كانوا يقولون: إن إبراهيم كان على ديننا، فقيل لهم: كيف تقولون ذلك والتوراة والإنجيل إنما نَزَلاَ من بعده بزمان طويلٍ؟ كان بين إبراهيم وبين موسى ألف سنةٍ، وبين موسى وعيسى ألف سنةٍ، فكيف يُعْقَل أنْ يكون يهوديًّا أو نصرانياً؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 299 فإن قيل: فهذا - أيضاً - لازم عليكم؛ لأنكم تقولون: إن إبراهيم على دين الإسلام، والإسلام إنما نزل بعده بزمان طويلٍ، فإن قلتم: المراد أن إبراهيم كان في أصول الدين على مذهب المسلمين الآن، فنقول لهم: لِمَ لا يجوز - أيضاً - أن يقول اليهود: إن إبراهيم كان يهوديًّا بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه اليهود، وتقول النصارى: إن إبراهيم كان نصرانياً بمعنى أنه كان على الدين الذي عليه النصارى؟ فكون التوراة والإنجيل نازلين بعد إبراهيم لا ينافي كونه يهودياً أو نصرانياً، كما أن كون القرآن نازلاً بعده لا ينافي كونه مسلماً. فالجواب: أن القرآن أخبر أن إبراهيم كان حنيفاً مسلماً، وليس في التوراة والإنجيل أن إبراهيم كان يهودياً، أو نصرانياً، فظهر الفرق. ثم نقول: أما كون النصارى ليسوا على ملة إبراهيمَ فظاهر؛ لأن المسيح ما كان موجوداً في زمان إبراهيمَ فما كانت عبادته مشروعة في زمان إبراهيم - لا محالة - فكان الاشتغال بعبادة المسيح مخالفة لإبراهيم - لا محالة - وأما كون اليهدود ليسوا على ملة إبراهيم، فلا شك أنه كان لله - تعالى - تكاليف على الخلق قبل مجيء موسى عليه السلام وكان قبله أنبياء، وكانت لهم شرائعُ معيَّنة، فلما جاء موسى صلى الله على نبينا وعليه وسلم، فإما أن يقال: إنّ موسَى جاء بتقرير تلك الشرائع، أو بغيرها، فإن جاء بتقريرها لم يكن موسَى صاحب الشريعةِ، بل كان كالفقيه المقرِّر لشرعِ مَنْ قبله، واليهود لا يرضَوْن بذلك. وإذا كان جاء بشرع سوى شرع مَنْ تقدمه فقد قال بالنسخ، فثبت أنه لا بد وأن يكون دين كُلِّ الأنبياء جواز القول بالنسخ، وأن النسخ حق - واليهود يُنْكرون ذلك، فثبت أن اليهود ليسوا على ملة إبراهيم، فظهر بُطْلانُ قولِ اليهود. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 القراء في هذه على أربع مراتِبَ، والإعراب متوقِّفٌ على ذلك: المرتبة الأولى للكوفيين وابن عامر والبَزِّي عن ابن كثير: ها أنتم - بألف بعد الهاء، وهمزة مخففة بعدها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 300 المرتبة الثانية لأبي عمرو وقالون عن نافع: بألف بعد الهاء، وهمزة مسهَّلَة بين بين بعدها. المرتبة الثالثة لورش، وله وجهانِ: أحدهما: بهمزة مسهلة بين بين بعد الهاء دون ألف بينهما. الثاني: بألفٍ صريحةٍ بعد الهاء بغير همزة بالكلية. المرتبة الرابعة لقُنْبُل بهمزة مُخَفَّفَة بعد الهاء دون ألف. فصل اختلف الناسُ في هذه الهاء: فمنهم من قال: إنها «ها» التي للتنبيه الداخلة على أسماء الإشارة، وقد كثر الفصلُ بينها وبين أسماء الإشارةِ بالضمائر المرفوعة المنفصلة، نحو: ها أنت ذا قائماً، وها نحن، وها هم، وهؤلاء، وقد تُعادُ مع الإشارة بعد دخولها على الضمائرِ؛ توكيداً، كهذه الآية، ويقل الفصل بغير ذلك كقوله: [البسيط] 1500 - تَعَلَّمَنْ هَا - لَعَمْرُ اللهِ - ذَا قَسَماً ... فَاقْدِرْ بِذَرْعِكَ وَانْظُرْ أيْنَ تَنْسَلِكُ وقول النابغة: [البسيط] 1501 - هَا - إنَّ - ذِي عِذْرَةٌ إنْ لا تَكُنْ قُبِلَتْ ... فَإِنَّ صَاحِبَهَا قَدْ تَاهَ في الْبَلَدِ ومنهم من قال: إنها مُبْدَلَةٌ من همزة الاستفهام، والأصل: أأنتم؟ وهو استفهام إنكار، وقد كثر إبدال الهمزة هاء - وإن لم ينقس - قالوا هَرَقْتُ، وهَرَحْتُ، وهَنَرتُ، وهذا قول أبي عمرو بن العلاء، وأبي الحسن الأخفش، وجماعة، وأستحسنه أبو جعفر، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنه لم يثبُت ذلك في همزة الاستفهام، لم يُسْمَع: هَتَضْرِبُ زَيْداً - بمعنى أتَضْرِبُ زيداً؟ وإذا لم يثبت ذلك فكيف يُحْمَلُ هذا عليه؟ هذا معنى ما اعترض به أبو حيان على هؤلاء الأئمةِ، وإذا ثبت إبدال الهمزة هاءٌ هان الأمر، ولا نظر إلى كونها همزةَ استفهام، ولا غيرها، وهذا - أعني كونها همزة استفهام أبْدِلت هاءً - ظاهر قراءة قُنْبُلٍ، وورش؛ لأنهما لا يُدْخِلان ألفاً بين الهاء وهمزة «أنتم» ؛ لأن إدخال الألف لما كان لاستثقال توالي همزتين، فلما أبدلت الهمزة هاء زال الثقل لفظاً؛ فلم يُحتَج إلى فاصلةٍ، وقد جاء إبدال همزة الاستفهام ألفاً في قول الشاعر: [الكامل] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 301 1502 - وَأتَتْ صَوَاحِبَهَا، وَقُلْنَ هَذَا الَّذِي ... مَنَحَ الْمَوَدَّةَ غَيْرَنَا وَجَفَانَا يريد أذا الذي؟ ويضعف جعلها - على قراءتهما - «ها» التي للتنبيه؛ لأنه لم يُحْفَظ حَذْفُ ألِفِها، لا يقال: هَذَا زيد - بحذف ألف «ها» - كذا قيل. قال شهاب الدّينِ: «وقد حذفها ابنُ عامر في ثلاثة مواضع - إلا أنه ضم الهاء الباقية بعد حذف الألف - فقرأ - في الوصل -: {يا أيها الساحر} [الزخرف: 49] و {وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا المؤمنون} [النور: 31] ، و {سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَا الثقلان} [الرحمن: 31] ، ولكن إنما فعل ذلك اتباعاً للرسم؛ لأن الألفَ حُذِفَتْ في مرسوم مصحف الشام في هذه الثلاثة، وعلى الجملة فقد ثبت حذف ألف «ها» التي للتنبيه. وأمَّا من أثبت الألف بَيْن الهاء وبين همزة «أنتم» فالظاهر أنها للتنبيه، ويضعف أن تكون بدلاً من همزة الاستفهام؛ لما تقدم من أن الألف إنما تدخل لأجل الثقل، والثقل قد زال بإبدال الهمزة هاء، وقال بعضهم: الذي يقتضيه النظر أن تكون «ها» - في قراءة الكوفيين والبَزِّيّ وابن ذكوان -، للتنبيه؛ لأن الألف في قراءتهم ثابتة، وليس من مذهبهم أن يفصلوا بين الهمزتين بألف، وأن تكون في قراءة قُنْبُل وورش - مُبْدَلَة من همزة؛ لأن قُنْبُلاً يقرأ بهمزة بعد الهاء، ولو كانت «ها» للتنبيه لأتى بألف بعد الهاء، وإنما لم يُسهِّل الهمزة - كما سَهَّلَها في {أَأَنذَرْتَهُمْ} ونحوه لأن إبدال الأولى هاء أغناه عن ذلك، ولأن ورشاً فعل فيه ما فعل في: {أَأَنذَرْتَهُمْ} ونحوه من تسهيل الهمزة، وترك إدخال الألفِ، وكان الوجه في قراءته بالألف - أيضاً - الحمل على البدل كالوجه الثاني في {أَأَنذَرْتَهُمْ} ونحوه. وما عدا هؤلاء المذكورين - وهم أبو عمرو وهشام وقالون - يحتمل أن تكون «ها» للتنبيه، وأن تكون بدلاً من همزة الاستفهام. أما الوجه الأول فلأن «ها» التنبيه دخلت على «أنتم» فحَقَّق هشام الهمزة كما حققها في «هؤلاء» ونحوها، وَخَفَّفَهَا قالون وأبو عمرو؛ لتوسُّطِها بدخول حرف التنبيه عليها، وتخفيف الهمزة المتوسطة قَوِيٌّ. الوجهُ الثاني: أن تكونَ الهاءُ بدلاً من همزة الاستفهام؛ لأنهم يَفْصِلُون بين الهمزتين بألفٍ، فيكون أبو عمرو وقالون على أصلهما - في إدخال الألف والتسهيل - وهشام الجزء: 5 ¦ الصفحة: 302 على أصله - في إدخال الألف والتحقيق - ولم يُقْرَأ بالوجه الثاني - وهو التسهيل - لأن إبدال الهمزة الأولى هاءً مُغْنٍ عن ذلك. وقال آخرون: إنه يجوز أن تكون «ها» - في قراءة الجميع - مُبْدَلَةً من همزة، وأن تكون التي للتنبيه دخلت على «أنتم» ذكر ذلك ابو علي الفارسي والمَهْدَوِي ومَكِيّ في آخرين. فأما احتمال هذين الوجهين - في قراءة أبي عمرو وقالون عن نافع، وهشام عن ابن عامر - فقد تقدم توجيهه، وأما احتمالهما في قراءة غيرهم، فأما الكوفيون والبَزِّيُّ وابنُ ذكوان فقد تقدم توجيه كون «ها» - عندهم - للتنبيه، وأما توجيه كونها بدلاً من الهمزة - عندهم - أن يكون الأصل أنه أأنتم، ففصلوا بالألف - على لغة مَنْ قال: [الطويل] 1503 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... أأنتِ أمْ أمُّ سَالِمِ ولم يعبئوا بإبدال الهمزة الأولى هاءً؛ لكَوْن البدَلِ فيها عارضاً، وهؤلاء، وإن لم يكن من مذهبهم الفصل لكنهم جمعوا بين اللغتين. وأما توجيه كونها بدلاً من الهمزة - في قراءة قُنْبُلٍ وورشٍ - فقد تقدم، وأما توجيه كونها للتنبيه في قراءتهما - وإن لم يكن فيها ألف - أن تكون الألف حُذِفَتْ لكثرة الاستعمال، وعلى قول مَنْ أبدل كورشٍ حذفت إحدى الألفين؛ لالتقاء الساكنين. قال أبو شَامَةَ: الأوْلَى في هذه الكلمة - على جميع القراءات فيها - أن تكون «ها» للتنبيه؛ لأنا إن جعلناها بدلاً من همزةٍ كانت الهمزةُ همزةَ استفهامٍ، و {هاأنتم} أينما جاءت في القرآن إنما جاءت للخبر، لا للاستفهام، ولا مانع من ذلك إلا تسهيلُ مَنْ سَهَّل، وحَذْفُ مَنْ حذف، أما التسهيل فقد سبق تشبيهه بقوله: {لأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] وشبهه، وأما الحذف فنقول: «ها» مثل «أما» - كلاهما حرف تنبيه - وقد ثبت جواز حذف ألف «أما» فكذا حذف ألف «ها» وعلى ذلك قولهم: أمَ واللهِ لأفْعَلَنَّ. وقد حمل البصريون قولهم: «هَلُمَّ» على أن الأصل «هَالُمَّ» ، ثم حذف الف «ها» فكذا {هاأنتم} . وهو كلام حَسَنٌ، إلا أنَّ قوله: إن {هاأنتم} - حيث جاءت - كانت خبراً، لا استفهاماً ممنوع، بل يجوز ذلك، ويجوز الاستفهام، انتهى. ذكر الفرّاءُ أيضاً - هنا - بحثاً بالنسبة إلى القصر والمد، فقال: من أثبت الألفَ في «ها» ، واعتقدها للتنبيه، وكان مذهبُه أن يقصر في المنفصل، فقياسه هنا قَصْر الألف سواء حقَّق الهمزة، أو سهلها، وأمّا من جعلها للتنبيه، ومذهبه المد في المنفصل، أو جعل الهاء مبدلة من همزة استفهام - فقياسه أن يمد - سواء حقق الهمزة أو سهلها -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 303 وأما ورش فقد تقدم عنه وجهان: إبدال الهمزة - من «أنتم» - ألفاً، وتسهيلها بَيْن بَيْنَ، فإذا أبدل مَدَّ، وإذا سهَّل قَصَر، إذا عُرِف هذا ففي إعراب هذه الآيةِ أوجُهٌ: أحدها: أنَّ «أنتم» مبتدأ، و «هَؤُلاَءِ» خبره، والجملة من قوله: {حَاجَجْتُمْ} في محل نصب على الحال يدل على ذلك تصريحُ العَرَب بإيقاع الحال موقعها - في قولهم: ها أنا ذا قائماً، ثم هذه الحال عندهم - من الأحوال اللازمة، التي لا يَسْتَغْنِي الكلامُ عَنْها. الثالث: أن يكون {هاأنتم هؤلااء} على ما تقدم - أيضاً - ولكن هَؤلاءِ هنا موصول، لا يتم إلا بصلةٍ وعائدٍ، وهما الجملة من قوله: {حَاجَجْتُمْ} ، ذكره الزمخشريُّ. وهذا إنما يتجه عند الكوفيين، تقديره: ها أنتم الذين حاججتم. الرابع: أن يكون «أنْتُمْ» مبتدأ، و «حَاجَجْتُمْ» خبره، و «هؤلاء» منادًى، وهذا إنما يتَّجِه عند الكوفيين أيضاً؛ لأن حرفَ النداء لا يُحْذَف من أسماء الإشارة، وأجازه الكوفيون وأنشدوا: [البسيط] 1504 - إنَّ الأولَى وَصَفُوا قَوْمِي لَهُمْ فَبِهِمْ ... هَذَا اعْتَصِمْ تَلْقَ مَنْ عَادَاكَ مَخْذُولا يريد يا هذا اعتصم، وقول الآخر: [الخفيف] 1505 - لا يَغُرًَّنَّكُمْ أولاَءِ مِنَ الْقَوْ ... مِ جُنُوحٌ لِلسِّلْمِ فَهْوَ خِدَاعُ يريد: يا أولاء. الخامس: أن يكون «هَؤلاءِ» منصوباً على الاختصاص بإضمار فعل. و «أنتُمْ» مبتدأ، و «حَاجَجْتُمْ» خبره، وجملة الاختصاص مُعْتَرِضَةٌ. السادس: أن يكون على حذف مضافٍ، تقديره: ها أنتم مثل هؤلاء، وتكون الجملة بعدَها مُبَيِّنَةٌ لوجه الشبه، أو حالاً. السابع: أن يكون «أنْتُمْ» خبراص مقدماً، و «هَؤلاءِ» مبتدأ مؤخراً. وهذه الأوجهُ السبعةُ قد تقدم ذكرُها، وذكرُ من نسبت إليه والردُّ على بعض القائلين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 304 ببعضها، بما يغني عند إعادته في سورة البقرةِ عند قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ} [البقرة: 85] فليلتفت إليه. قوله: {فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} «ما» يجوز أن تكون معنى «الذي» وأن تكونَ نكرةً موصوفةً. ولا يجوز أن تكون مصدرية؛ لعود الضمير عليها، وهي حرف عند الجمهور، و «لَكُمْ» يجوز أن يكون خبراً مقدماً، و «عِلمٌ» مبتدأ مؤخراً، والجملة صلة لِ «ما» أو صفة، ويجوز أن يكون لكم وحده صلة، أو صفة، و «عِلْمٌ» فاعلٌ به؛ لأنه قد اعتمد، و «بِهِ» متعلق بمحذوف؛ لأنه حال من «عِلْمٌ» إذ لو تأخَّر عنه لصَحَّ جَعْلُه نعتاً له، ولا يجوز أن يتعلق ب «عِلمٌ» لأنه مصدر، والمصدر لا يتقدم معموله عليه، فإن جعلته متعلِّقاً بمحذوف يفسِّره المصدرُ جاز ذلك، وسُمي بياناً. فصل وأما المعنى فقال قتادةُ والسُّدِّيُّ والربيعُ وغيرُهم: إن الذي لهم به علم هو دينُهم وجدوه في كتبهم، وثبتَتْ صحتُه لديهم، والذي ليس لهم به علم هو شريعةُ إبراهيمَ، وما عليه مما ليس في كتبهم، ولا جاءت به إليهم رُسُلُهُمْ، ولا كانوا مُعَاصِرِيه، فيعلمون دينَه، فجدالهم فيه مجرَّد عِنَادٍ ومُكَابَرة. قيل: الذي لهم به علم هو أمر نبيِّنا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه موجود عندهم في كُتُبِهم بنعته، والذي ليس به علمٌ هو أمر إبراهيم - عليه السلام -. قال الزمخشريُّ: «يعني أنتم هؤلاء الأشخاص الحَمْقَى، وبيان حماقتكم، أنكم جادلتم فيما لكم به علم ومما نطق به التوراة والإنجيل، {فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} ولا نطق به كِتَأبُكُمْ من إبراهيمَ» . فصل اعلم أنهم زعموا أن شريعةَ التوراةِ والإنجيل مخالِفَةٌ لشريعة القرآن، وهو المراد بقوله {حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} ثم قال: {فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} وهو ادِّعاؤكم أن شريعةَ إبراهيمَ كانت مخالفةً لشريعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد تقدم أقوال العلماء فيه ثم يُحْتَمَل في قوله: {هاأنتم هؤلااء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ} فكيف تحاجُّونه فيما لا علم لكم به ألبتة؟ ثم حقَّق ذلك بقوله: {والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} كيفية تلك الأحوال من المخالفةِ والموافقةِ، ثم ذكر - تعالى - ذلك مفَصَّلاً، مُبَيَّناً، فقال: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً} فكذَّبهم فيما ادَّعَوْه - من موافقته لهما - بَدْأً باليهود؛ لأن شريعتهم أقدم وكرر «لا» - في قوله: {وَلاَ نَصْرَانِيّاً} - توكيداً، وبياناً أنه كان منفيًّا عن كل واحد من الدينين على حدته. قال القرطبيُّ: «دلَّت الآيةُ على المنع من جدال مَنْ لا علم له، وقد ورد الأمر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 305 بالجدال لمن علم وأتقن، قال تعالى: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] ، وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه أتاه رجل وولده، فقال: يا رسولَ الله، إنَّ امرأتي وَلَدَتْ غُلاماً أسْوَدَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هَلْ لَكَ مِنْ إِبِلٍ «؟ قال: نَعَمْ، قَالَ:» فَمَا ألْوَانُهَا «؟ قال: حُمْرٌ، قال:» فَهَلْ فِيهَا مِنْ أَوْرَقَ «؟ قَالَ: نَعَمْ، قَال:» مِنْ أيْنَ أتَاهَا ذَلِكَ «؟ قَالَ: لَعَلَّ عِرْقاً نزَعَه، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» وَهَذَا الغَلامُ لَعَلَّ عِرْقاً نَزَعَهُ «. وهذه حقيقة الجدال، والنهاية في تبيين الاستدلال من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» . قوله: {ولكن} استدراك لما كان عليه، ووقعت - هنا - أحسن موقع؛ إذْ هي بين نَقِيضَيْن بالنسبة إلى اعتقادِ الحقِّ والباطلِ. ولما كان الخطاب مع اليهود والنصارَى أتى بجُمْلة تنفي أخْرَى؛ ليدل على أنه لم يكن على دين أحد من المشركين، كالعرب عَبَدَةِ الأوثان، والمجوس عَبَدَةِ النار، والصابئةِ عَبَدَةِ الكواكبِ. بهذا يطرحُ سؤالُ مَنْ قال: أيُّ فائدةٍ في قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} بعد قوله: {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً} ؟ وأتى بخبر «كان» مجموعاً، فقال: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} بكونه فاصلةً، ولولا مراعاة ذلك لكانَتِ المطابقةُ مطلوبةً بينه وبين ما استدرك عنه في قوله: {يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً} فيتناسب النفيان. وقيل: قوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} تعريض بكَوْن النصارى مشركين في قولهم بإلهية المسيح، وكون اليهود مشركين في قولهم بالتشبيه. والحنيفُ: المائل عن الأديان كلِّها إلى الدّينِ المُسْتَقِيمِ. وقيل: الحنيفُ: الذي يُوَحِّد، ويَحُد، ويُضَحِّي، ويَخْتَتِنُ، ويَسْتَقِبِل القبلة وتقدم الكلام عليه في البقرة. فإن قيل: قولكم: إبراهيم على دين الإسلام، أتريدون به الموافقة في الأصول، أو في الفروع؟ فإن كان الأول لم يكن هذا مختصًّا بدين الإسلام، بل نقطع بأنّ إبراهيمَ أيضاً على دين اليهود -[ذلك الدينَ الذي جاء به موسى - وكان أيضاً - نصرانياً] أعني تلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 306 النصرانية التي جاء بها عيسى - فإنَّ أديانَ الأنبياء كلَّها لا يجوز أن تكون مختلفة في الأصول، وإن أردتم به الموافقةَ في الفروع لزم أن لا يكون محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صاحب شرع ألبتة، بل كان مقرِّراص لدين غيره، وأيضاً فمن المعلوم بالضرورة أن التعبُّد بالقرآن ما كان موجوداً في زمان إبراهيمَ، وتلاوة القرآن مشروعة في صلاتنا، وغير مشروعة في صلاتهم. فالجوابُ: أنه يجوز أن يكون المراد به الموافقة في الأصولِ والغرض منه بيانُ أنه ما كان موافقاً في أصول الدين لمذهب هؤلاء الذين هُمُ اليهود والنصارى في زماننا هذا. ويجوز أن يقالَ: المراد به الموافقة في الفروع، وذلك لأن اللهَ نسخ تلك الشرائعَ بشرع موسى، ثم زمان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نسخ شرع موسى بتلك الشرائع التي كانت ثابتةً في زمان إبراهيم عليه السلامُ - وعلى هذا التقدير يكون - عليه السلامُ - صاحب الشريعة، ثم لمَّا كان غالب شرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موافقاً لشرع إبراهيم، جاز إطلاق الموافقة عليه، ولو وقعت المخالفةُ في القليل لم يقدَحْ ذلك في حصول الموافقة. قوله: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ} ، «إبْراهِيم» متعلِّق به «أوْلَى» و «أوْلَى» أفعل تفضيل، من الولي، وهو القُرْب، والمعنى: إنَّ أقْرَبَ الناسِ به، وأخصهم، فألفه منقلبة عن ياء، لكون فائه واواً، قال أبو البقاء: وألفه منقلبة عن ياء، لأن فاءَه واوٌ، فلا تكون لامه واواً؛ إذ ليس في الكلام ما فاؤه ولامه واوان إلا واو - يعني اسم حرف التهجِّي - كالوسط من قول - أو اسم حرف المعنى - كواو النسق - ولأهل التصريفِ خلاف في عينه، هل هي واو - أيضاً - أو ياء. {لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} خبر «إن» و {وهذا النبي} نَسَق على الموصول، وكذلك: {والذين آمَنُواْ} ، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وإن كانوا داخلين فيمن اتبع إبراهيمَ إلا أنهم خُصُّوا بالذِّكْر؛ تشريفاً، وتكريماً، فهو من باب قوله تعالى: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . حكى الزمخشريُّ أنه قُرِئَ: {وهذا النبي} - بالنصب والجر - فالنصب نَسَقاً على مفعول {اتَّبَعُوهُ} فيكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد اتَّبَعه غيرُه - كما اتبع إبراهيمَ - والتقدير: للذين اتبعوا إبراهيمَ وهذا النبيَّ، ويكون قوله: {والذين آمَنُواْ} نَسًقاً على قوله: {لِّلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} . والجر نَسَقاً على «إبْرَاهِيمَ» أي: إن أوْلَى الناسِ بإبراهيمَ وبهذا النبي، لَلَّذِينَ اتَّبَعُوه، وفيه نظرٌ من حيث إنه كان ينبغي أن يُثَنَّى الضميرُ في «اتَّبَعُوهُ» فيُقَال: اتبعوهما، اللهم إلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 307 أن يقال: هو من باب: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ، ثم قال: {والله وَلِيُّ المؤمنين} بالنصر والمعونةِ والتوفيقِ والإكرامِ فصل روى الكلبيُّ وابنُ إسحاقَ حديث هجرة الحبشة لما هاجر جعفر بن أبي طالب، وأناس من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الحبشة، واستقرَّتْ بهم الدَّارُ، وهاجر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة، وكان من أمر بدر ما كان، اجتمعت قريش في دارِ الندوةِ، وقالوا: إن لنا في الذين عند النجاشي - من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - ثأراً ممن قُتِل منكم ببدر، فاجمعوا مالاً، وأهدوه إلى النجاشِيِّ؛ لعله يدفع إليكم مَنْ عنده من قَوْمِكُمْ، ولْيُنْتَدَب لذلك رجلان من ذوي رَأيكم، فبعثوا عمرو بنَ العاصِ، وعمارة بن الوليد مع الهدايا، فركِبا البحرَ، وأتَيَا الحبشةَ، فلما دَخَلاَ على النجاشيِّ سَجَدَا له، وسلما عليه، وقَالاَ له: إنَّ قومَنا لك ناصحون شاكرون، ولصِلاَحِك مُحِبُّونَ، وإنهم بعثونا لنحذّرك هؤلاءِ الذين قَدِموا عليك؛ لأنهم قومُ رجلٍ كَذَّابٍ، خرج فينا يزعم أنه رسولُ اللهِ، ولم يتابعه أحدٌ منا إلاَّ السُّفَهاءُ، وإنا كنا ضيَّقْنَا عليهم الأمر، وألجأناهم إلى شِعْبٍ بأرضِنَا، لا يدخل عليهم أحدٌ، ولا يخرجُ منهم أحدٌ، حتى قتلهم الجوعُ والعطشُ، فلمَّا اشتدَّ عليهم الأمرُ بعث إليك ابن عَمِّه، ليُفْسِد عليك دِينَك ومُلْكَك ورَعِيَّتَك، فاحْذَرْهُمْ، وادْفَعْهم إلَيْنَا، لنكفِيَكَهُمْ، قالوا: وآية ذلك أنهم إذا دَخَلوا عليك لا يسجدون لك، ولا يُحَيُّونَك بالتحية التي يُحَيِّيك بها الناسُ رغبةً عن دِينك وسُنَّتِكَ. فدعاهم النجاشيُّ، فلمَّا حضروا صاح جعفرُ بالباب: يستأذن عليك حزبُ اللهِ، فقال النجاشيُّ: مروا هذا الصائحَ فلْيُعِدْ كلامَه، ففعل جَعْفَرُ، فقال النجاشيُّ: نعم، فلْيَدْخُلُوا بأمان اللهِ وذمته، فنظر عمرو بنُ العاصِ إلى صاحبه، فقال: ألا تسمع؟ يرطنون ب «حِزْبِ اللهِ» وما أجابهم به النجاشي!!! فساءهما ذلك، ثم دخلوا عليه ولم يَسْجُدُوا له، فقال عمرو بن العاص ألا ترى أنهم يستكبرون أن يسجدوا لك؟ فقال لهم النجاشِيُّ: ما منعكم أن تسجدوا لِي وتُحَيُّونِي بالتحية التي يحييني بها مَنْ أتاني من الآفاقِ؟ قالوا: نَسْجُد لله الذي خَلَقَكَ ومُلْكَك، وإنما كانت تلك التحيةُ لنا ونحن نعبدُ الأصْنَام، فبعث الله فينا نبيًّا صادقاً، وأمرنا بالتحية التي رضيها اللهُ، وهي السلامُ، وتحية أهل الجنَّةِ، فعرف النجاشيُّ أن ذلك حَقٌّ، وأنه في التوراة والإنجيل، فقال: أيكم الهاتف: يستأذنُ عليك حِزْبُ الله؟ قال جَعْفَر: أنا، قال: فتكلم، قال: إنك مَلِك من ملوك أهل الأرض، ومن أهل الكتاب، ولا يصلح عندَك كثرةُ الكلامِ، ولا الظلمُ، وأنا أحب أن أجيبَ عن أصحابي، فمر هذين الرجلين، فلْيَتَكَلَّمْ أحدُهما، وليُنْصِت الآخرُ، فيسمع محاورتنا، فقال عَمْرو لجعفر: تَكَلَّمْ، فقال جعفر للنجاشيُّ: سل هذين الرجلين أعَبيدٌ نحن أم أحرارٌ؟ فإن كنا عبيداً أبَقْنَا من أرْبَابِنا فاردُدْنا إليهم، فقال النجاشيُّ: أعبيدٌ هم أم أحرار؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 308 فقال لا، بل أحرارٌ كرام، فقال النجاشيُّ: نَجَوْا من العبوديَّةِ، ثم قال جعفرُ: سَلْهَُمَا هل لهم فينا دماء بغير حق، فيقتصّ منا؟ فقال عمرو: لا، ولا قطرة. قال جعفر: سَلْهُمَا، هل أخذنا أموالَ الناسِ بغير حق، فعلينا قضاؤها - قال النجاشيُّ: إن كان قنطاراً فعلي قضاؤه - فقال عمرو: لا، ولا قيراط، فقال النجاشيُّ: فما تطلبون منهم؟ قال عمرو كنا وهم على دينٍ واحدٍ - دين آبائِنا - فتركوا ذلك، واتَّبَعُوا غيره، فَبَعَثَنَا إليك قومنا لتدفعهم إلينا، فقال النجاشيُّ: ما هذا الدينُ الذي كنتم عليه، الدين الذي اتبعتموه؟ قال: أما الدينُ الذي كنا عليه فتركناه فهو دينُ الشيطانِ، كنا نكفر بالله، ونعبد الحجارة، وأما الدين الذي تحوَّلنا إليه فدينُ الله الإسلامُ، جاءنا به من الله رسولٌ، وكتاب مثل كتاب ابن مريم، موافِقاً له. فقال النجاشيُّ: يا جعفر، تكلمت بأمر عظيم، فعلى رِسْلِك، ثم أمر النجاشيُّ، فضُرِب بالنَّاقوس، قد اجتمع إليه كُلُّ قِسِّيسٍ ورَاهبٍ، فلما اجتمعوا عنده، قال النجاشيُّ: أنشدكم اله الذي أنزل الإنجيل على عيسى، هل تجدون بين عيسى وبين يوم القيامة نبيًّا مُرسَلاً؟ فقالوا: اللهم نَعَمْ، قد بشرنا به عيسَى، وقال: مَنْ آمن به فقد آمن بي، ومن كَفَر به فقد كفر بي. قال النجاشيُّ لجعفَرَ: ماذا يقول لكم هذا الرجلُ؟ وما يأمركم به، وما ينهاكم عنه؟ قال: يقرأ علينا [كتاب الله] ، ويأمرنا بالمعروف، وينهانا عن المنكر، ويأمر بحُسْنِ الجوار، وصلة الرَّحِم، وبِرِّ اليتيم، وأمرنا أن لا نعبد إلا اللهَ وحدَه لا شريك له، فقال: اقرأ عليَّ مما يقرأ عليكم، فقرأ سورتي العنكبوت والرُّوم، ففاضت عينا النجاشيِّ وأصحابه من الدّمع، وقالوا: زِدْنَا يا جعفرُ من هذا الحديثِ الطيبِ، فقرأ عليهم سورة الكهف، فأراد عمرو أن يُغْضِبَ النجاشِيّ، فقال: إنهم يشتمون عيسى ابن مريمَ وأمَّه، فقال النجاشِيُّ: ما تقولون في عيسى وأمِّه، فقرأ عليهم جعفر سورة «مريم» ، فلما أتى على ذكر مريم وعيسى رفع النجاشِيُّ نُفَاثَةً من سواكه قَدْرَ ما يُقْذِي العَيْنَ قال: والله ما زادَ المسيحُ على قول هذا، ثم أقبل على جعفرَ وأصحابه، فقال: اذهبوا فأنتم شيوم بأرضي، آمنون، مَنْ سَبَّكُمْ وآذاكم غَرِم، ثم قال: أبشروا، ولا تخافوا، فلا دهورة اليوم على حزب إبراهيمَ، قال عمرو: يا نجاشيُّ، ومَنْ حِزْبَ إبراهيم؟ قال: هؤلاء الرهط وصاحبُهم الذي جاءوا من عنده ومَن اتبعهم، فأنكر ذلك المشركون، وادَّعَوْا في دين إبراهيمَ، ثم رَدَّ النجاشيُّ على عمرو وصاحبه المالَ الذي حملوه، وقال: إنما هديَّتُكم إليّ رشْوَة، فاقبضوها؛ فإن الله - تعالى - ملَّكَني ولم يأخذْ مني رشوة، قال جعفرُ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 309 فانصرفْنَا، فكنا في خير دارٍ، وأكرم جوارٍ، فأنزل الله ذلك اليوم على رسوله في خصومتهم في إبراهيم - وهو في المدينة - قوله - عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين} . وروى ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ وُلاَةً مِنَ النَّبِيِّينَ، وَإنَّ وليِّي مِنْهُمْ أبي، وَخَلِيلُ رَبِّي» ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 في «مِن» وجهان: أظهرهما: أنها تبعيضيَّة. والثاني: أنها لبيان الجني. قال ابن عطيَّة: ويعني أن المراد ب «طائفة» جميع أهل الكتاب، قال أبو حيّان: وهذا بعيد من دلالة اللفظ، وهذا الجار - على القول بأنها تبعضية - في محلّ رفع، صفة لِ «طَائِفَةٌ» ، وعلى القول بأنها بيانية تعلق بمحذوف. وقوله: تقدم أنه يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون على بابها - من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره. قال أبو مُسْلِم الأصبهاني: «وَدَّ» بمعنى تَمَنَّى، فيستعمل معها «لو» و «أن» وربما جُمِع بينهما، فَيُقَالُ: وددت أن لو فعلت، ومصدره الودادة، والاسم منه وُدّ وبمعنى «أحَبَّ» فيتعدَّى «أحَب» والمصدر المودة، والاسم منه ود وقد يتداخلانِ في المصدر والاسم. وقال الراغب: «إذا كان بمعنى» أحب «لا يجوز إدخال» لو «فيه أبداً» . وقال الرمانيُّ: «إذا كان وَدَّ» بمعنى تمنَّى صلُح للحال والاستقبال [والماضي، وإذا كان بمعنى الهمة والإرادة لم يصلح للماضي؛ لأن الإرادة لاستدعاء الفعل، وإذا كان للحال والمستقبل جاز وتجوز «لَوْ» ، وإذا كان للماضي لم يجز «أنْ» لأن «أن» للمستقبل] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 310 وفيه نظرٌ، لأن «أن» تُوصَل بالماضي. فصل لما بَيَّن - تعالى - أن من طريقة أهل الكتاب العدولَ عن الحق، والإعراضَ عن قبول الحجة بيَّن - هنا - أنهم لا يقتصرون على هذا القدر، بل يجتهدون في إضلال المؤمنين بإلقاء الشبهات، كقولهم: إن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُقرٌّ بموسَى وعيسَى، وكقولهم: إن النسخ يُفْضِي إلى البداء والغرض منه: تنبيه المؤمنين على ألاَّ يَغْتَرُّوا بكلام اليهودِ، ونظيرُه قولُه تعالى في سورة البقرة: {وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً} [البقرة: 109] ، وقوله: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً} [النساء: 89] . فصل قيل: نزلت هذه الآية في معاذ بن جبلٍ وعمارِ بن ياسرٍ وحُذَيفَةَ حين دعاهم اليهود إلى دينهم، فنزلت. «ودت» تمنَّت طَائِفَةٌ جماعة {مِّنْ أَهْلِ الكتاب} يعني اليهود {لَوْ يُضِلُّونَكُمْ} ، ولم يَقُلْ: أن يضلوكم؛ لأن «لو» أوفق للتمني؛ فإن قولك: لو كان كذا، يفيد التمني، ونظيره قوله: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} [البقرة: 96] ، ثم قال تعالى: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} وهو يحتمل وجوهاً منها: إهلاكهم أنفسهم باستحقاق العقاب على قَصْدِهم إضلال الغير، كقوله: {وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57] ، وقوله: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [العنكبوت: 13] ، وقوله: و {لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25] . ومنها: إخراجهم أنفسهم عن معرفة الهدى والحق؛ لأن الذاهب عن الاهتداء ضالّ. [ومنها: أنهم اجتهدوا في إضلال المؤمنين، ثم إن المؤمنين لم يلتفتوا إليهم، فهم قد صاروا خائبين خاسرين؛ حيث اعتقدوا شيئاً، ولاح لهم أن الأمر بخلاف ما تصوَّروه] . ثم قال تعالى: {وَمَا يَشْعُرُونَ} ، أي: وما يعلمون أن هذا يَضُرُّهم، ولا يضر المؤمنين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 311 «لم» أصلها «لِمَا» لأنها «ما» التي للاستفهام، دخلت عليها اللامُ، فحُذِفت الألف؛ لطلب الخفة لأن حرف الجر صار كالعِوَضِ عنها، ولأنها وقعت طرفاً، ويدل عليها الفتحة؛ وعلى هذا قوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} [النبأ: 1] وقوله: {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] والوقف على [هذه الحروف] يكون بالهاء نحو فَبِمَهْ، لِمَهْ. قوله: {بِآيَاتِ الله} فيه وُجُوهٌ: أحدها: أن المراد بها ما في التوراة والإنجيل، وعلى هذا يُحْتَمل أن يكون المراد ما في هذين الكتابين من البشارة بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونَعْتِه، ويحتمل أن يكون المرادُ بما في هذين الكتابين من أن إبراهيمَ كان حنيفاً مسلماً. ويحتمل أن يكون ما فيهما من أن الدين عند اللهِ الإسْلاَمُ؛ وقائل هذا القول المحتمل لهذه الوجوه، يقول: إن الكفرَ بآيات الله يحتمل وجهين: أحدهما: أنهم ما كانوا كافرين بالتَّوْرَاةِ، بل كانوا كافرين بما تدل عليه التوراةُ، فأطلق اسْمَ الدليل على المدلول، على سبيل الْمَجَازِ. الثاني: أنهم كانوا كافرين بنفس التوراة؛ لأنهم كانوا يُحَرِّفُونها، وكانوا يُنَكِرون وجودَ تلك الآياتِ الدالةِ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الوجه الثاني: أن المراد بآيات الله [هو] القرآن وبيان نعته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} أن نعته مذكور في التوراة والإنجيل، وتُنْكِرون عند العوام كَوْنَ القرآنِ معجزةٌ، ثم تشهدون بقلوبكم وعقولكم بكونه معجزاً. الوجه الثالث: أن المراد بآياتِ الله جملة المعزات التي ظهرت على يد [النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى هذا قوله: {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} معناه: وأنكم لما اعترفتم بدلالة المعجزاتِ التي ظهرت على] سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - الدالة على صدقهم، من حيث إنَّ المعجز قائم مقام التصديق من الله وإذا شهدتم بأن المعجز دليل على صدق الأنبياء عليهم السلام، وأنتم قد شاهدتم المعجز في حق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان إصرارُكم على إنكار نبوته ورسالته مناقضاً لما شهدتم بحقيقته من دلالةِ معجزات سائر الأنبياء - عليهم السلام -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 قرأ العامة: {تَلْبِسُونَ} بكسر الباء، من لبس عليه يلبس، أي: خلَطه، وقرأ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 312 يحيى بن وثَّابٍ بفتحها جعله من لبست الثوب ألبسه - على جهة المجاز، وقرأ أبو مجلز «تُلبِّسُون» - بضم التاء، وكسر الباء وتشديدها - من لبَّس «بالتشديد» ، ومعناه التكثير. والباء في «الباطل» للحال، أي: متلبساً بالباطل. فصل في معنى: تلبسون الحق {تَلْبِسُونَ} تخلطون {الحق بالباطل} الإسلام باليهودية والنصرانية. وقيل: تخلطون الإيمان بعيسى - وهو الحق - بالكفر بمحمد - وهو الباطل -. وقيل: التوراة التي أنزل الله على موسى بالباطل، الذي حرَّفتموه، وكتبتموه بأيديكم، قاله الحسنُ وابن زيد. وقال ابنُ عباس وقتادةُ: تواضعوا على إظهار الإسلام أول النهار، ثم الرجوع عنه في آخر النهار تشكيكاً للناس. قال القاضي: أن يكون في التوراة ما يدل على نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من البشارة والنعت والصفة، ويكون في التوراة - أيضاً - ما يوهم خلاف ذلك، فيكون كالمحكم والمتشابه، فيلبسون على الضعفاء أحد الأمرين بالآخر. وقيل إنهم كانوا يقولون: إنَّ محمداً معترفٌ بأن موسى حَقٌّ، ثم إنّ التوراةَ دالة على أن شرع موسى لا ينسخ، وكل ذلك إلقاء للشبهات. قوله: {وَتَكْتُمُونَ الحق} جملة مُسْتَأنَفةٌ، ولذلك لم يُنْصَب بإضمار «أن» في جواب الاستفهام، وقد أجاز الزجاجُ - من البصريين - والفرّاءُ - من الكوفيين - فيه النصب - من حيث العربية - تسقط النون، فينتصب على الصرف عند الكوفيين، وبإضمار «أن» عند البصريين. ومنع ذلك أبو علي الفارسيّ، وأنكَرَه، وقال: الاستفهام واقع على اللبس فحسب، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 313 وأما {يَكْتُمُونَ} فخبر حتم، لا يجوز فيه إلا الرفع. يعني أنه ليس معطوفاً على {تَلْبِسُونَ} ، بل هو استئناف، خَبَّر عنهم أنهم يكتمون الحقَّ مع علمهم أنه حَقٌّ. ونقل ابو محمد بن عَطِيَّة عن أبي عليٍّ أنه قال: الصَّرْف - هنا - يَقْبُح، وكذلك إضمار «أن» لأن «تَكتُمُونَ» معطوف على موجب مقرَّر، وليس بمستفهَم عنه، وإنما استفهم عن السبب في اللبس، واللبس موجب، فليست الآيةُ بمنزلةِ قولهم: لا تأكل السمكَ وتَشْرَبَ اللَّبَنَ، وليس بمنزلة قولك: أيقومُ فأقومَ؟ والعطف على الموجب المقرَّر قبيح متى نصب - إلا في ضرورة الشعر - كما رُوِي: [الوافر] 1506 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَأَلْحَقَ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا قال سيبويه - في قولك: أسِرْتَ حتى تَدْخُلَهَا -: لا يجوز إلا النَّصْبُ في «تداخلها» لأن السير مستفهم عنه غيرُ موجَب، وإذا قلنا: أيهم سار حتى يدخلُها؟ رفعت لأن السيرَ موجب والاستفهام إنما وقع عن غيره. قال أبو حيّان: وظاهر هذا النقل - عنه - معارضتُه لما نقل عنه قبله؛ لأن ما قبلَه فيه أن الاستفهام رفع عن اللبس فحَسْب، وأما {يَكْتُمُونَ} فخبر حَتْماً، لا يجوز فيه إلا الرفع، وفيما نقله ابن عطية أنَّ {يَكْتُمُونَ} معطوف على موجَب مقرَّر، وليس بمستفهم عنه، فيدل العطفُ على اشتراكهما في الاستفهام عن سبب اللبس، وسبب الكَتْم الموجبين، وفرق بين هذا المعنى، وبين أن يكون {يَكْتُمُونَ} إخْباراً محضاً، لم يشترك مع اللبس في السؤالِ عن السببِ، وهذا الذي ذهبَ إليه أبو علي من أن الاستفهام إذا تضمَّن وقوعَ الفعل، لا ينتصب الفعل بإضمار «أن» في جوابه وتبعه في ذلك جمال الدين ابن مالك، فقال في تسهيله: «أو لاستفهام لا يتضمَّن وقوعَ الفعلِ» . فإن تضمن وقوع الفعلِ امتنع النصبُ عندَه، نحو: لِمَ ضربتَ زيداً فيجازِيَك؛ لأن الضرب قد وقع. ولم يشترط غيرُهما - من النحويين - ذلك، بل إذا تعذر سَبْك المصدر مما قبله - إمَّا لعدم تقدُّمِ فعل، وأما لاستحالة سَبْك المصدر المراد به الاستقبال؛ لأجل مُضِيِّ الفعل - فإنما يقدر مصعد مقدَّراً استقبالُه بما يدل عليه المعنى، فإذا قلت: لِمَ ضربتَ زيداً فاَضْرِبَك؟ فالتقدير: ليكن منك إعلام بضَرْبِ زيدٍ فمجازاة منا، وأما ما ردَّ به أبو علي الفارسي على الزجَّاج والفرَّاء ليس بلازم؛ لأنه قد منع أن يراد بالفعل المُضِيَّ معنى إذ ليس نصًّا في ذلك؛ إذْ قد يمكن الاستقبال لتحقيق صدوره لا سيما على الشخص الذي صدر منه أمثال ذلك، وعلى تقدير تحقُّق المُضِي فلا يلزم - أيضاً - لأنه - كما تقدم - إذا لم يُمْكن سَبْك مصدر مستقبل من الجملة الاستفهامية سبكناه من لازمها، ويدل على إلغاء هذا الشرطِ، والتأويل بما ذكرناه ما حكاه ابنُ كَيْسَان من رفع المضارع بعد فعلٍ ماضٍ، محقَّق الوقوع، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 314 مستفهَم عنه، نحو: أين ذهب زيد فنتَّبعُه؟ ومن أبوك فنكرمه؟ وكم مالك فنعرفُه؟ كل ذلك متأوَّل بما ذكرنا من انسباك المصدر المستقبل من لازم الجُمَل المتقدمة، فإن التقدير: ليكن منك إعلامٌ بذهاب زيد فاتباعٌ منا، وليكن منك إعلام بأبيك فإكرام له منا، وليكن منك تعريف بقدر مالك فمعرفة مِنَّا. قال شهابُ الدِّينِ: «وهذا البحثُ الطويلُ على تقدير شيء لم يَقَعْ، فإنه لم يُقْرَأ - لا في الشاذ ولا في غيره - إلا ثابتَ النون، ولكن للعلماء غرضٌ في تطويل البحث، تنقيحاً للذهن» . ووراء هذا قراءة مُشْكِلَة، رَوَوْها عن عُبَيْد بن عُمَير، وهي: لِمَ تَلْبسُوا الحق بالباطل وَتَكْتُمُوا بحذف النون من الفعلين - وهي قراءة قراءة لا تَبْعد عن [لَغطِ البحث] ، كأنه توهم أن «لَمْ» هي الجازمة، فجزم بها، وقد نقل المفسّرونَ عن بعض النُّحَاةِ - هنا - أنهم يجزمون بلم حملاً على «لم» - نقل ذلك السجاونديُّ وغيره عنهم، ولا أظن نحويّاً يقول ذلك ألبتة، كيف يقولون في جار ومجرور: إنه يَجْزِم؟ هذا ما لا يُتفَوَّهُ به ألبتة ولا نطيق سماعه، فإن ثبتت هذه القراءةُ ولا بد فلتكن مما حُذِف فيه نونُ الرفع تخفيفاً؛ حيث لا مقتضى لحَذْفها، ومن ذلك قراءة بعضهم: {قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا} [القصص: 48]- بتشديد الظاء - الأصل: تتظاهران، فأدغم الثاني في الظاء، وحذف النون تخفيفاً، وفي الحديث: «والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتّى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابّوا. .» يريد - عليه السلامُ -: لا تدخلون، ولا تؤمنون؛ لاستحالة النهي معنًى. وقال الشاعرُ: [الرجز] 1507 - أبِيتُ أسْرِي، وَتَبِيتِي تَدْلُكِي ... وَجْهَكِ بالْعَنْبَر وَالْمِسْكِ الذَّكِي يريد تبيتين وتدلُكين. ومثله قول أبي طالب: [الطويل] 1508 - فَإنْ يَكُ قَوْمٌ سَرَّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ ... سَتَحْتَلِبُوهَا لاَقِحاً غَيْرَ بَاهِلِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 315 يريد: ستحتلبونها. ولا يجوز أن يُتَوهَّم - في هذا البيت - أن يكون حذف النون لأجل جواب الشرط، لأن الفاء مُرادَة وجوباً؛ لعدم صلاحية «ستحتلبوها» جواباً؛ لاقترانه بحرف التنفيس. والمراد بالحق: الآيات الدالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة. قوله: {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} جملة حالية، ومتعلق العلم محذوف، إما اقتصاراً، وإما اختصاراً - أي: وأنتم تعلمون الحق من الباطل، أو نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو تعلمون أن عقابَ مَنْ يفعل ذلك عظيم، وتعلمن أنكم تفعلون ذلك عناداً وحسداً. فصل في كلام القاضي قال القاضي: قوله تعالى: {لِمَ تَكْفُرُونَ} ؟ و {لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل} يدل على أن ذلك فعلهم؛ لأنه لا يجوز أن يخلقه فيهم، ثم يقول: لِمَ فعلتم؟ وجوابه: أن الفعل يتوقف على الداعية، فتلك الداعية إن حدثت لا لِمُحْدِث لزم نفي الصانع، وإن كان محدثها هو العبد افتقر إلى إرادة أخرى، وإن كان مُحْدِثُها هو الله - تعالى - لزمكم ما ألزمتموه علينا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 حكي عنهم التلبيسُ، فذكر منه هذا النوع. قوله: {وَجْهَ النهار} منصوب على الظرف؛ لأنه بمعنى: أول النهار؛ لأن الوجه - في اللغة - مستقبل كل شيء؛ لأنه أول ما يواجَه منه، كما يقال - لأول الثوب -: وجه الثوب. روى ثَعْلَبٌ عن ابن الأعرابي: أتيته بوجه نهارٍ، وصدر نهار، وشباب نهار، أي: أوله وقال الربيع بن زياد العبسي: [الكامل] 1509 - مَنْ كَانَ مَسْرُوراً بِمَقْتَلِ مَالِكٍ ... فَلْيَأتِ نِسْوَتَنَا بِوَجْهِ نَهَارِ أي: بأوله، وفي ناصب هذا الظرف وجهان: أظهرهما: أنه فعل المر من قوله {آمِنُواْ} أي: أوْقَعُوا إيمانَكم في أول النهار، وأوقعوا كُفْرَكم في آخره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 316 والثاني: أنه {وَأَنْزَلَ} أي: آمنوا بالمُنَزَّل في أول النهار، وليس ذلك بظاهر، بدليل المقابلة في قوله: {واكفروا آخِرَهُ} . فإن الضميرَ يعودُ على النهارِ، ومن جوَّز الوجه الثاني جعل الضمير يعود على {بالذي أُنْزِلَ} ، أي: واكفروا آخر المنزَّل، وأسباب النزول تُخالف هذا التأويل وفي هذا البيتِ الذي أنشدناه فائدةٌ، وذلك أنه من قصيدة يرثي بها مالك بن زهير بن خُزَيْمَةَ العبسي، وبعده: [الكامل] 1510 - يَجِدِ النِّسَاءَ حَوَاسِراً يَنْدُبْنَهُ ... يَبْكِينَ قَبْلَ تَبَلُّجِ الأسْحَارِ قَدْ كُنَّ يَخْبَأنَ الْوُجُوهَ تَسَتُّراً ... فَالْيَوْمَ حِينَ بَدَوْنَ لِلنُّظَّارِ يَخْمِشْنَ حرَّاتِ الْوُجُوهِ عَلَى امرئٍ ... سَهْلِ الْخَلِيقَةِ طَيِّبِ الأخْبَارِ ومعنى الأبيات يحتاج إلى معرفةِ اصطلاح العربِ في ذلك، وهو أنهم ك انوا إذا قُتِلَ لهم قتيلٌ لا تقوم عليه نائحةٌ ولا تَنْدُبُه نادبةٌ، حتى يؤخذَ بثأره، فقال هذا: من سرَّه قَتْلُ مالك، فليأتِ في أول النهارِ يجدنا قد أخذْنَا بثأره، فذكر اللازم للشيء، وهو من باب الكناية. وحكي أن الشيباني سأل الأصمعي: كيف تنشد قول الربيع: ... . . حين بدأنَ، أو بدَيْنَ؟ فقال الأصمعيّ: بَدأنَ، فقال: أخطأت، فقال: بَدَيْنَ، فقال: أخطأتَ، فغضب الأصمعيُّ، وكان الصواب أن يقول: بدَوْنَ - بالواو - لأنه من باب: بدا يَبْدو، أي: ظهر - فأتى الأصمعي يوماً للشيباني، وقال له: كيف تُصَغِّر مُخْتَاراً؟ فقال: مُخَيتير، فضَحِك منه، وصفَّق بيديه، وشَنَّع عليه في حلقته، وكان الصواب أن يقولَ: مُخَيِّر - بتشديد الياء - وذلك أنه اجتمع زائدان -، الميم والتاء - والميم أولى بالبقاء؛ لعلة ذكرها التصريفيُّون، فأبقاها، وحذف التاء، وأتى بياء التصغير، فقلب - لألها - الألف ياءً، وأدْغمها فيها، فصار: مُخَيِّراً - كما ترى - وهو يحتمل أن يكون اسمَ فاعل، أو اسمَ مفعول - كما كان يحتملها مُكَبَّرهُ، وهذا - أيضاً - يلبس باسم الفاعل خَيَّر فهو مُخَيِّر، والقرائنُ تبينه. ومفعول {يَرْجِعُونَ} محذوف - أيضاً - اقتصاراً - أي: لعلهم يكونون من أهل الرجوع، أو اختصاراً أي: يرجعون إلى دينكم وما أنتم عليه. فصل قال القرطبيُّ: والطائفة: الجماعة - من طاف يطوفُ - وقد يُسْتَعْمَل للواحد على معنى: نفس طائفة، ومعنى الآية يحتمل أن يكون المراد كلَّ ما أنزل، وأن يكون بعضَ ما أنزل أما الاول ففيه وجوهٌ: الأول: أن اليهودَ والنصارَى استخرجوا حيلةً في تشكيك ضَعَفَةِ المسلمين في صحة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 317 الإسلام، وهي أن يظهروا تصديق ما ينزل على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الشرائع في بعض الأوقات، ثم يُظهروا بعد ذلك تكذيبه فإن الناس متى شاهدوا هذا التكذيب قالوا: هذا التكذيب ليس لأجل الحَسَدِ والعناد، وإلا لَمَا آمَنُوا في أول الأمر، فإذا لم يكن حَسَداً، وجب أن يكون لأجل أنهم أهل الكتاب وقد تفكَّروا في أمره، واستَقْصَوْا في البحث عن دلائل نبوتِهِ، فلاح لهم - بعد ذلك التأمل التام، والبحثَ الوافي - أنه كذاب، فيصير هذا الطريق شبهة لضَعَفةِ المسلمين في صحة نبوته. قال الحَسَنُ والسُّدِّيُّ: تواطأ اثنا عشر رجلاً من أحبار خيبر وقُرَى عُرَيْنَة، وقال بَعْضُهُمْ ادخلوا في دين محمدٍ أولَ النهار باللسان دون الاعتقاد، ثم اكفروا آخِرَ النهار، وقولوا: إنّا نظرنا في كتابنا، وشاوَرْنا علماءَنا، فوجدنا محمداً ليس بذلك، وظهر لنا كذبُه، فإذا فعلتم ذلك شَكَّ أصحابُه في دينهم، واتهموه، وقالوا: إنهم أهْلُ الكتاب، وهم أعلم منا، فيرجعون عن دينهم، وهذا قول أبي مُسْلِمِ الأصبهانيِّ. قال الأصمُّ: قال بعضهم لبعض: إن كذبتموه في جميع ما جاء به فإن عوامكم يعلمون كذبكم؛ لأن كثيراً يعلمون ما جاء به حقٌّ، ولكن صَدِّقُوه في بعض، وكَذِّبوه في بعض، حتى يحمل الناسُ تكذيبَكم على الإنصاف، لا على العِناد، فيقبلوا قولكم. وأما الاحتمال الثاني - وهو الإيمان بالبعض - ففيه وجهان أحدهما: قال ابنُ عباسٍ: «وَجْهَ النَّهارِ» : أوله، وهو صلاة الصبح، {واكفروا آخِرَهُ} يعني: صلاة الظهر، وتقديره: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يصلي إلى بيت المقدس - بعد أن قدم المدينة - ففرح اليهود بذلك، وطمعوا أن يكون منهم، فلمَّا حوله الله إلى الكعبة - وكان ذلك عند صلاة الظهر - قال كعبُ بن الأشرفِ وغيره: «ءامنوا بالذي أنزل على الذين ءامنوا وجه النهار» يعني آمنوا بالْقِبْلَةِ التي صلى إليها صلاةَ الصبح، فهي الحق، {واكفروا} بالقبلة إلى الكعبة {لَعَلَّهُمْ} يقولون: إن هؤلاء أهل كتاب، وهم أعلم، فيرجعون إلى قبلتنا. الثاني: قال بعضُهُمْ لبعض: صَلُّوا إلى الكعبة أولَ النهار ثم اكفروا بهذه القبلةِ في آخر النهار؛ وصلوا إلى الصخرة لعلهم يقولون: إن أهل الكتاب أصحابُ العلم، فلولا أنهم عَرفوا بُطْلانَ هذه الْقِبْلَة لَمَا تركوها، فحينئذٍ يرجعون عن هذه القبلة. فصل في فوائد كشف حيلتهم إخبار الله - تعالى - عن تواطُئِهم على هذه الحيلة فيه فائدةٌ من وُجُوهٍ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 318 الأول: أن ذلك إخبار عن الغيب، فَيَكون مُعْجِزاً؛ لأنها كانت مخفيَّةً فيما بينهم، وما أطْلعوا عليه أحداً من الأجانب. الثاني: أنه - تعالى - لما أطْلع المؤمنين على هذه الحيلةِ لم يَبْقَ لها أثرٌ في قلوبِ المؤمنين، ولولا هذا الإعلام لكان رُبَّما أثّرت في قلوب بعضِ [المؤمنين الذين] في إيمانهم ضعف. الثالث: [أن القومَ] لما افتضحوا في هذه الحيلةِ صار ذلك رادِعاً لهم عن الإقدام على أمْثَالِها من الحِيل والتلبيس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 اللام في «لِمَنْ» فيها وجهان: أحدهما: أنها زائدة مؤكِّدة، كهي في قوله تعالى: {قُلْ عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] أي: ردفكم وقول الآخر: [الوافر] 1511 - فَلَمَّا أنْ تَوَاقَفْنَا قَلِيلاً ... أنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَميْنَا وقول الآخر: [الكامل] 1512 - مَا كُنْتُ أخْدَعُ لِلْخَلِيلِ بِخُلَّةٍ ... حَتَّى يَكُونَ لِيَ الْخَلِيلُ خَدُوعَا وقول الآخر: [الطويل] 1513 - يَذُمُّونَ لِلدُّنْيَا وَهُمْ يَحْلِبُونَهَا ... أفَاوِيقَ حَتَّى ما يَدِرُّ لَهَا فَضْلُ أي: أنخنا الكلاكِلَ، وأخدع الخليل، ويذمون الدنيا، ويُرْوَى: يذمون بالدنيا، بالباء. قال شهابُ الدينِ: وأظن البيتَ: يذمون لِي الدنيا - فاشتبه اللفظ على السامع - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 319 وكذا رأيته في بعض التفاسيرِ، وهذا الوجه ليس بالقوي. الثاني: أن «آمن» ضُمِّن معنى أقَرَّ واعْتَرَف، فعُدِّيَ باللام، أي: ولا تُقِرّوا، ولا تعترفوا إلا لمن تبع دينكم، ونحوه قوله: {فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ} [يونس: 83] وقوله: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17] وقال أبو علي: وقد يتعدَّى آمن باللام في قوله: {فَمَآ آمَنَ لموسى} [يونس: 83] ، وقوله: {آمَنتُمْ لَهُ} [طه: 71] ، وقوله: {يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: 61] فذكر أنه يتعدى بها من غير تضمين، والصَّوَابُ التضمين وقد تقدم تحقيقه أول البقرة. وهنا استثناء مُفَرَّغٌ. وقال أبو البقاء: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه استثناء مما قبلَه، والتقديرُ: ولا تَقرُّوا إلا لمن تبع، فعلى هذا اللام غير زائدة ولا يجوز أن تكون زائدة ويكون محمولاً على المعنى، أي اجْحَدوا كُلَّ أحد إلا من تبع دينكم. والثاني: أن النية به التأخير، والتقدير: ولا تُصَدِّقُوا أن يؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا من تبع دينكم؛ فاللام على هذا - زائدة، و «مَنْ» في موضع نصب على الاستثناء من أحد. وقال الفارسيُّ: الإيمان لا يتعدى إلى مفعولين، فلا يتعلق - أيضاً - بجارين، وقد تعلَّق بالجار المحذوف من قوله: {أَن يؤتى} فلا يتعلق باللام في قوله: {لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} إلا أن يحمل اللام على معناه، فيتعدى إلى مفعولين، ويكون المعنى: ولا تُقِرُّوا بأن يُتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينَكم، كما تقول: أقررت لزيد بألفٍ، فتكون اللام متعلقة بالمعنى، ولا تكون زائدة على حد: {رَدِفَ لَكُمْ} [النمل: 72] و {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] وهذا تَصْرِيحٌ من أبي علي بأنه ضمن «آمن» معنى «أقَرَّ» . فصل اتفق المفسّرون على أن هذا بقية كلامِ اليهودِ، وفيه وجهانِ: الأول: أن معناه: ولا تُصَدِّقُوا إلا بنبي يُقرِّر شرائعَ التوراةِ، ومَنْ جاء بتغيير شرع من أحكام التوراة، فلا تصدقوه، وعلى هذا التفسير تكون اللام في {لِمَنْ تَبِعَ} صلة زائدة. الثاني: معناه: لا تأتوا بذلك الإيمان إلا لأجل مَنْ تبع دينكم، أي: ليس الغرضُ من الإتيان بذلك التلبيس إلا بقاء أتباعكم على دينكم، فإنّ مقصود كلِّ أحد حفظ أتباعه وأشياعه على متابعته. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 320 ثم قال: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} . قال ابن عباسٍ: معناه: الدين دين الله، ونظيره: {قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} [الأنعام: 71] وبيان كيف صار هذا الكلامُ جواباً عما حكاه عنهم: أما على الوجه الأول - وهو قولهم: لا دينَ إلا ما هم عليه - فهذا الكلام إنما صَحَّ جواباً عنهم من حيثُ إن الذي هم عليه ثبت ديناً من جهة الله - تعالى - لأنه أمر به، وأرشد إليه، فإذا وجب الانقياد لغيره كان ديناً يجب أن يُتَّبعَ - وإن كان مخالفاً لما تقدَّم - لأن الدينَ إنما صارَ ديناً بحكمه وهدايته، فحيثما كان حُكْمُه وجب متابعته، ونظيره قوله تعالى - جواباً لهم عن قوله: {مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة: 142]- قوله: {قُل للَّهِ المشرق والمغرب} [البقرة: 142] يعني: الجهاتِ كلَّها لله، فله أن يُحَوِّل القبلةَ إلى أيِّ جهةٍ شاء. وعلى الوجه الثاني: المعنى: {إِنَّ الهدى هُدَى الله} قد جئتكم به، فلن ينفعَكم في دفعه هذا الكيد الضعيفُ. فصل قوله تعالى: {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} نقل ابنُ عطيّة الإجماع من أهل التأويل على أن هذا من مقول الطائفة، وليس بسديد، لما نقل من الخلاف، وهل هي من مقول الطائفة أم من مقول الله تعالى - على معنى أن الله - تعالى - خاطب به المؤمنين، تثبيتاً لقلوبهم، وتسكيناً لجأشهم؛ لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهودِ عليهم وتزويرهم؟ [إذا كان من كلامِ طائفةِ اليهودِ، فالظاهر أنه انقطع كلامُهم؛ إذ لا خلاف، ولا شك أن قولَه: {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} من كلام الله مخاطباً لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] . قوله: {أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ} اعلم أن هذه الآية من المشكلات، فنقول: اختلف الناس في هذه الآية على وجوه: الأول: أن قوله: {أَن يؤتى أَحَدٌ} متعلق بقوله: {وَلاَ تؤمنوا} على حذف حرف الجر، والأًل: ولا تُؤْمِنُوا بأن يُؤتَى أحدٌ مثل ما أوتيتم إلا لمن تبع دينكم، فلما حُذِفَ حرف الجر جرى الخلافُ المشهور بين الخليل وسيبويه في محل «أن» ، ويكون قولُه: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} جملةً اعتراضيةً. قال القفّالُ: يحتمل أن يكون قوله: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} كلاماً أمر اللهُ نبيه أن يقولَه عند انتهاء الحكاية عن اليهود إلى هذا الموضع؛ لأنه لما حكى عنهم في هذا الموضع قولاً باطلاً - لا جرم - أدب الله رسوله بأن يقابله بقول حَقِّ، ثم يعود إلى حكايةِ تمامِ كلامِهم - كما إذا حكى المسلم عن بعضِ الكُفَّار قَوْلاً فيه كُفْر، فيقول - عند بلوغه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 321 إلى تلك الكلمة -: آمنت بالله، أو يقول: لاَ إلَه إلا اللهُ، أو يقول: تعالى الله عن ذلك، ثم يعود إلى تمام الحكاية، فيكون قوله: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} من هذا الباب. قال الزمخشريُّ في تقرير هذا الوجه - وبه بدأ -: {وَلاَ تؤمنوا مُتَعَلِّقٌ بقوله: {أَن يؤتى أَحَدٌ} وما بينهما اعتراضٌ، أي: ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم، وأسِرُّوا تصديقكُمْ بأن المسلمين قد أوتوا مثل ما أوتيتم، ولا تُفْشُوه إلا لأشياعكم - وحدهم - دون المسلمين؛ لئلاَّ يزيدَهم ثباتاً، ودون المشركين، لئلا يدعوهم إلى الإسلام. {أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ} عطف على {أَن يؤتى} والضمير في {يُحَاجُّوكُمْ} لِ {أَحَدٌ} لأنه في معنى الجميع، بمعنى: ولا تؤمنوا لغير أتباعكم بأن المسلمين يحاجونكم عند ربكم بالحق، ويغالبونكم عَنْدَ اللهِ - تعالى - بالحُجَّةِ. فإن قلت: ما معنى الاعتراضِ؟ قلت: معناه: إن الهدَى هُدى الله، من شاء يَلْطُف به حتى يُسلم، أو يزيد ثباتاً، ولم ينفع كيدكم وحِيَلُكم، وذَبُّكم تصديقكم عن المسلمين والمشركين، وكذلك قوله: {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} يريد الهداية والتوفيق. قال شهاب الدينِ: «وهذا كلامٌ حسَنٌ، لولا ما يُريد بباطنه» ، وعلى هذا يكون قوله: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ} مستثْنَى من شيء محذوفٍ، تقديره: ولا تُؤمنوا بأن يُؤتَى أحد مل ما أوتيتم لأحد من الناس إلا لأشياعكم دون غيرهم، وتكون هذه الجملة - أعني قوله: {وَلاَ تؤمنوا} من كلام الطَّائِفَةِ المتقدمة، أي وقالت طائفةٌ كذا، وقالت أيضاً: ولا تؤمنوا، وتكون الجملة من قوله: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} من كلام اللهِ لا غير «. قال ابن الخطيبِ: وعندي أن هذا التفسير ضعيف من وُجُوهٍ: الأول: أن جدَّ القوم في حفظ أتباعهم عن قبول دين محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أعظمَ من جدهم في حفظِ غير أتباعهم عنه، فكيف يليق أن يوصِيَ بعضُهم بعضاً بالإقرار بما يدل على صحة دين محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند أتباعهم، وأشياعهم، وأن يمتنعوا من ذلك عند الأجانب؟ هذا في غاية البعد. الثاني: أن على هذا التقدير لا بد من الحَذْف؛ فإن التقدير: قل إن الهُدَى هُدَى اللهِ، وإنّ الفَضْلَ بِيَدِ اللهِ، وَلا بُدَّ مِنْ حَذْفِ قَلْ في قوله: {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله} . الثالث: أنه كيف وقع قوله: {قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله} فيما بين جزأي كلام واحد؟ هذا في غاية البعد عن الكلام المستقيم. الوجه الثاني: أن اللام زائدة في {لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ} وهو مستثنى من» أحَدٌ «المتأخِّر، والتقدير: ولا تصدقوا أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا مَنْ تَبعَ دينَكُمْ، ف {لِمَنْ تَبِعَ} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 322 منصوب على الاستثناء من» أحد «، وعلى هذا الوجه جوَّز أبو البقاء في محل {أَن يؤتى} ثلاثة أوجهٍ: الأول والثاني: مذهب الخليل وسيبويه، وقد تَقَدَّمَا. الثالث: النصب على المفعول من أجله، تقديره: مخافةَ أن يُؤتَى. وهذا الوجه الثالث - لا يصح من جهة المعنى، ولا من جهة الصناعة، أمّا المعنى فواضحٌ وأما الصناعة فإن فيه تقديم المستثنى على المستثنى منه، وعلى عامله، وفيه - أيضاً - تقديم ما في صلة أن عليها، وهو غير جائزٍ. الوجه الثالث: أن يكون {أَن يؤتى} مجروراً بحرف العلة - وهو اللام - والمُعَلَّل محذوف، تقديره لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم قلتم ذلك، ودبَّرتموه، لا لشيء آخرَ، وقوله: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} معناه: ولا تؤمنوا هذا الإيمانَ الظاهرَ - وهو إيمانكم وَجْهَ النَّهَارِ - {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} ، إلا لمن كانوا تابعين لدينكم ممن أسلموا منكم؛ لأن رجوعَهم كان أرْجَى عندهم من رجوع من سواهم، ولأن إسلامَهم كان أغبط لهم، وقوله: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} معناه: لأن يؤتى مثل ما أوتيتُمْ قلتم ذلك، ودبرتموه، لا لشيء آخرَ، يعني أن ما بكم من الحسد والبغي، أن يؤتى أحَدٌ مثل ما أوتيتم من فَضْل العلم والكتاب دعاكم إلى أن قُلْتُم ما قلتم، والدليل عليه قراءة ابن كثير: أأنْ يُؤتَى أحَدٌ؟ - بزيادة همزة الاستفهامِ، والتقرير، والتوبيخ - بمعنى: ألأن يؤتى أحَدٌ؟ فإن قلت: ما معنى قوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} على هذا؟ قلت: معناه: دبرتم ما دبرتم لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم، ولما يتصل به عند كفركم به في محاجتهم [لكم] عند ربكم. الوجه الرابع: أن ينتصب {أَن يؤتى} بفعل مقدَّرٍ، يدل عليه: {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} إنكار لأن يؤتى أحد مثل ما أوتُوا. قال أبو حيّان: وهذا بعيد؛ لأنه فيه حذفَ حرف النهي وحذفَ معموله، ولم يُحْفظ ذلك من لسانهم. قال شهاب الدين: «متى دلَّ على العامل دليلٌ جاز حَذْفُه على أي حالةٍ كان» . الوجه الخامس: أن يكون {هُدَى الله} بدلاً من «الْهُدَى» الذي هو اسم «إنَّ» ويكون الجزء: 5 ¦ الصفحة: 323 خبر {أَن يؤتى أَحَدٌ} ، قُلْ إنَّ هدى الله أن يؤتى أحد، أي إن هدى الله آتياً أحداً مثل ما أوتيتم، ويكون «أوْ» بمعنى «حتى» ، والمعنى: حتى يحاجوكم عند ربكم، فيغلبوكم ويدحضوا حُجَّتَكم عند الله، ولا يكون {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} معطوفاً على {أَن يؤتى} وداخلاً في خبر إن. الوجه السادس: أن يكون {أَن يؤتى} بدلاً من {هُدَى الله} ويكون المعنى: قُلْ بأن الهدى هدى الله، وهو أن يؤتى أحد كالذي جاءنا نحن، ويكون قوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} بمعنى فليحاجوكم، فإنهم يغلبونكم، قال ابنُ عطية: وفيه نظرٌ؛ لأن يؤدي إلى حذف حرف [النهي] وإبقاء عمله. الوجه السابع: أن تكون «لا» النافية مقدَّرة قبل {أَن يؤتى} فحذفت؛ لدلالة الكلام عليها، وتكون «أو» بمعنى «إلاَّ أن» والتقدير: ولا تؤمنوا لأحد بشيء إلا لمن تبع دينَكم بانتفاء أن يؤتى أحَدٌ مثل ما أوتيتم إلا من تَبع دينَكُمْ، وجاء بمثله، فإن ذلك لا يؤتى به غيركم إلا أن يحاجوكم، كقولك: لألزمنك أو تقضيني حقي. وفيه ضعف من حيث حذف «لا» النافية، وما ذكروه من دلالة الكلامِ عليها غير ظاهر. الوجه الثامن: أن يكون {أَن يؤتى} مفعولاً من أجله، وتحرير هذا القول أن يجعل قوله: {أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ} ليس داخلاً تحت قوله: «قل» بل هو من تمام قول الطائفة، متصل بقوله: ولا تؤمنوا إلا لمن جاء بمثل دينكم مخافةَ أن يؤتى أحد من النُّبُوَّة والكرامة مثل ما أوتيتم، ومخافةَ أن يُحاجُّوكم بتصديقكم إياهم عند ربكم إذا لم تستمروا عليه، وهذا القولُ منهم ثمرة حسدهم وكُفْرهم - مع معرفتهم بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولما قدر المُبردُ المفعول من أجله - هنا - قدر المضاف: كراهة أن يُؤتَى أحد مثل ما أوتيتم، أي: مما خالف دينَ الإسلام؛ لأن اللهَ لا يهدي من هو كاذبٌ كَفَّار، فهُدَى الله بعيد من غير المؤمنين والخطاب في {أُوتِيتُمْ} و {يُحَاجُّوكُمْ} لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. واستضعف بعضُهم هذا، وقال: كونه مفعولاً من أجْلهِ - على تقدير: كراهة - يحتاج إلى تقدير عامل فيه ويصعُب تقديره؛ إذ قبله جملة لا يظهر تعليل النسبة فيها، بكراهة الإيتاء المذكور. الوجه التاسع: أن «أنْ» المفتوحة تأتي للنفي - كما تأتي «لا» ، نقله بعضهم أيضاً عن الفراء، وجعلَ «أو» بمعنى «إلا» ، والتقدير: لا يُؤتَى أحد ما أوتيتم إلا أن يحاجُّوكم، فإن إيتاءه ما أوتيتم مقرون بمغالبتكم أو محاجتكم عند ربكم؛ لأن من آتاه الله الوحي لا بُدّ أن يحاجهم عند ربهم - في كونهم لا يتبعونه - فقوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} حالٌ لازمةٌ من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 324 جهة المعنى؛ إذ لا يوحي اللهُ لرسولٍ إلا وهو يُحاجُّ مخالفيه. وهذا قول ساقطٌ؛ إذْ لم يثبت ذلك من لسان العربِ. فصل «أحد» يجوز أن تكون - في الآية الكريمة - من الأسماء الملازمةِ للنفي، وأن تكون بمعنى «واحد» والفرق بينهما أن الملازمة للنفي همزته أصلية، والذي لا يلزم النفي همزته بدل من واو فعلى جعله ملازماً للنفي يظهر عود الضمير عليه جمعاً؛ اعتباراً بمعناه؛ إذ المراد به العموم، وعليه قوله: {فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} [الحاقة: 47]- جمع الخبر لما كان «أحَدٌ» في معنى الجميع - وعلى جعله غير اللازم للنفي يكون جمع الضمير في {يُحَاجُّوكُمْ} باعتبار الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأتباعِه. وبعض الأوجه المتقدمة يصح أن يجعل فيها «أحد» - المذكور - الملازم للنفي، وذلك إذا كان الكلام على معنى الجَحْد، وإذا كان الكلام على معنى الثبوت - كما مَرَّ في بعض الوجوه فيمتنع جعفُه الملازم للنفي. والأمر واضح مما تقدم. فصل قرأ ابنُ كثير: أأن يؤتى - بهمزة استفهام - وهو على قاعدته من كونه يسهل الثانية بين بين من غير مدة بينهما، وخُرِّجَتْ هذه القراءةُ على وجوهٍ: أحدها: أن يكون {أَن يؤتى} على حذف حرف الجر - وهو لام العلة - والمُعَلَّل محذوف تقديره: ألأن يؤتى أحدٌ مثل ما أوتيتم قلتم ذلك ودبَّرتموه - وتقدم تحقيقه - وهذه اللفظة موضوعة للتوبيخ، كقوله تعالى: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين} [القلم: 14 - 15] ، والمعنى: أمن أجل أن يُؤتَى أحدٌ شرائعَ مثلَ ما أوتيتم من الشرائع تُنْكِرون اتباعه؟ ثم حذف الجواب، للاختصارِ، تقديره: أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا معشرَ اليهودِ من الكتاب والحكمة تحسدونه، ولا تؤمنون به، قاله قتادةُ والربيعُ، وهذا الحذفُ كثيرٌ؛ يقول الرجل - بعد طول العتاب لصاحبه، وتعديده عليه ذنوبه بعد قلة إحسانه إليه -: أمِنْ قلة إحساني إليك؟ أمِنْ إساءتي إليك؟ والمعنى: أمن هذا فعلتَ ما فعلتَ؟ ونظيره: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ الليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ} [الزمر: 9] ، وهذا الوجه يُروى عن مجاهد وعيسى بن عُمَرَ. وحينئذ يسوغ في محل «أن» الوجهان - أعني النصب - مذهب سيبويه - والجر مذهب الخليلِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 325 وثانيها: أن {أَن يؤتى} في محل رفع بالابتداء، والخبر محذوف، تقديره: أأن يُؤتَى أحَدٌ - يا معشر اليهودِ - من الكتاب والعلم مثل ما أوتيتم تصدقون به، أو تعترفون به، أو تذكرونه لغيركم، أو تُشيعونه في الناس، ونحو ذلك مما يَحْسُنُ تقديره، وهذا على قول مَنْ يقول: أزَيْدٌ ضربته؟ وهو وجه مرجوحٌ، كذا قدره الواحديُّ تبعاً للفارسيِّ وأحسن من هذا التقدير لأن الأصل أإتيان أحد مثل ما أوتيتم ممكن أو مصدق به. الثالث: أن يكون منصوباً بفعل مقدَّرٍ يُفَسِّرُه هذا الفعل المُضْمَر، وتكون المسألة من باب الاشتغال، التقدير: أتذكرون أن يؤتى أحَدٌ تذكرونه؟ ف «تذكرونه» مُفَسِّرٌ ل «تذكرون» الأولى، على حد: أزيداً ضربتَه؟ ثم حذف الفعل الأخير؛ لدلالة الكلام عليه، وكأنه منطوقٌ به، ولكونه في قوةِ المنطوقِ به صَحَّ له أن يُفَسِّر مُضْمَراً وهذه المسألة منصوص عليها، وهذا أرجح من الوجه قبله، لأنه مثل: أزيداً ضربته وهو أرجح، لأجل الطالب للفعل، ومثل حذف هذا الفعل المقدَّر لدلالة ما قبل الاستفهام عليه حذف الفعل في قوله تعالى: {آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ} [يونس: 91] تقديره: آلآن آمنتَ، ورجعتَ وثبت، ونحو ذلك. قال الواحديُّ: فإن قيل: كيف جاز دخول «أحَدٌ» في هذه القراءة، وقد انقطع من النفي، والاستفهام، وإذا انقطع الكلام - إيجاباً وتقريراً - فلا يجوز دخول «أحَدٌ» . قيل: يجوز أن يكون طأحَدٌ «- في هذا الموضع - أحداً الذي في نحو أحد وعشرين، وهذا يقع في الإيجاب، ألا ترى أنه بمعنى» واحد «. قال أبو العباسِ: إن» أحَداً «و» وَحَداً «و» وَاحِداً «بمعنًى. وقوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} ، أو في هذه القراءة - بمعنى» حتى «، ومعنى الكلام: أأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم تذكرونه لغيركم حتى يُحَاجُّوكُمْ عند ربكم. قال الفراء:» ومثله في لكلام: تَعَلَّق به أو يُعْطيك حَقَّك. ومثله قول امرئ القيس: [الطويل] 1514 - فَقُلْتُ لَهُ: لا تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا ... نُحَاوِلُ مُلْكاً أو نَمُوتَ فنُعْذَرَا أي حتى، ومن هذا قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 128] ، ومعنى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 326 الآية: ما أعطي أحد مثل ما أوتيتم - يا أمة محمدٍ - من الدين والحُجَّة حتى يحاجوكم عند ربكم «، قال:» فهذا وَجْهٌ، وأجود منه أن تجعله عَطْفاً على الاستفهام، والمعنى: أأن يُؤتَى أحَد مثل ما أوتيتم أو يحاجَّكم أحد عند الله تصدقونه؟ «. وهذا كله معنى قول أبي علي الفارسي. ويجوز أن يكون {أَن يؤتى أَحَدٌ} منصوباً بفعل مُقَدَّرٍ لا على سبيل التفسير، بل لمجرد الدلالة المعنوية، تقديره: أتذكرون، أو أتشيعونه. ذكره الفارسي أيضاً، وهذا هو الوجه الرابع. الخامس: أن يكون {أَن يؤتى} - قراءته - مفعولاً من أجله على أن يكون داخلاً تحت القول لا من قول الطائفة، وهو أظهر مِنْ جَعْلِه من قَوْل الطَّائِفَةِ. قال ابن الخطيبِ:» أما قراءة من يقصر الألف من «أنْ» فقد يُمْكن إيضاحها على معنى الاستفهام، كما قرئ: {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُم} [البقرة: 6]- بالمد والقصر - وكذا قوله تعالى: {أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ} [القلم: 14] قرئ بالمد والقصر. وقال امرؤ القيس: [المتقارب] 1515 - تَرُوحُ مِنَ الْحَيِّ أمْ تَبْتَكِرْ ... وَمَاذَا عَلَيْكَ بِأنْ تَنْتَظِر؟ أراد: أتروح؟ فحذف ألف الاستفهام؛ لدلالة «أم» عليه، وإذا ثبت أن هذه القراءةَ مُحْتَمِلَةٌ لمعنى الاستفهام كان التقدير ما شرحناه في القراءة الأولى. وقد ضعف الفارسيُّ قراءةَ ابن كثيرٍ، فقال: [ «وهذا موضع ينبغي أن تُرَجَّحَ فيه قراءةُ غيرِ ابنِ كثير على قراءة ابن كثير] ؛ لأن الأسماء المُفْرَدةَ ليس بالمستمر فيها أن تدلَّ على الكثرة» . وقرأ الأعمش وشعيب بن أبي حمزة: إن يُؤتَى - بكسْر الهمزة - وخرَّجها الزمخشريُّ على أنها «إنْ» النافية، فقال: وقُرِئَ: «إن يؤتى أحد» على «إن» النافية، وهو متصل بكلام أهل الكتاب، أي: «ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم» وقولوا لهم: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم حتى يحاجوكم عند ربكم، يعني ما يُؤتَوْنَ مثلَه فلا يحاجونكم. قال ابنُ عطيةَ: «وهذه القراءة تحتمل أن يكون الكلام خطاباً من الطائفة القائلة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 327 ويكون قولها: أو يحاجوكم بمعنى: أو فَلْيُحَاجُّوكُمْ، وهذا على التصميم على أنه لا يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم، أو يكون بمعنى إلا أن يحاجوكم، وهذا على تجويز أن يؤتى أحد ذلك إذا قامت الحجة له» ، فقد ظهر - على ما ذكره ابن عطية - أنه يجوز في «أوْ» - في هذه القراءة - أن تكون على بابها من كونها للتنويع والتخيير، وأن تكون بمعنى «إلا» إلا أن فيه حذفَ حرفِ الجزمِ، وإبقاء عمله وهو لا يجوز، وعلى قول غيره تكون بمعنى «حَتَّى» . وقرأ الحسن: أن يُؤتِيَ أحَد - على بناء الفعل للفاعل - ولما نقل بعضهم هذه القراءةَ لم يتعرَّض ل «أن» - بفتح ولا بكسر - كأبي البقاء، وابن عطية، وقيَّدَها بعضُهم بكسر «أنْ» وفسَّرها بإن النافية، والظاهر في معناه أن إنعام الله تعالى لا يُشْبِهه إنعام أحد من خلقه، وهي خطاب من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأمته، والمفعول المحذوف، تقديره: إن يُؤتِيَ أحَدٌ أحَداً مثل ما أوتيتم، فحذف المفعول الأول، وهُوَ أحَدٌ؛ لدلالة المعنى عليه، وأبقى الثاني، فيكون قول اليهودِ وقد تم عند قوله: {إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} وما بعده من قول الله تعالى، يقول: «قل» يا محمدُ إن {الهدى هُدَى الله أَن يؤتى} «إنْ» بمعنى الجحد، أي: ما يؤتى أحد مثل ما أوتيتم يا أمة محمد، أو يحاجوكم، يعني: إلا أن يجادلكم اليهودُ بالباطل، فيقولوا: نحن أفضل منكم وهذا معنى قول سعيد بن جُبَيرٍ والحسن والكلبيِّ ومقاتلٍ وهذا ملخَّص كلام الناسِ في هذه الآية مع اختلافهم. قال الواحدي: «وهذه الآيةُ من مشكلات القرآن، وأصعبه تفسيراً؛ ولقد تدبَّرْتُ أقْوَالَ أهلِ التفسير، والمعاني في هذه الآية، فلم أجد قولاً يَطَّرِدُ في الآيةِ، من أوَّلِها إلى آخرهَا، مع بيان المعنى في النظم» . فصل قال بعض المفسّرين: هذا من قول الله - تعالى -، يقول: «قل» لهم يا محمدُ: {إِنَّ الهدى هُدَى الله} بأن أنزل كتاباً مثل كتابكم، وبعث نبيًّا حسدتموه، وكفرتم به، {قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ} وقوله: {أَوْ يُحَاجُّوكُمْ} - على هذا - رجوع إلى خطاب المؤمنين، وتكون «أوْ» بمعنى «إنْ» لأنهما حرفا شرط وجزاء، ويوضع أحدُهما مَوْضِعَ الآخر، وإن يُحاجُّوكم - يا معشرَ المؤمنين - عند ربكم فقل يا محمدُ، إنَّ الهدى هدى الله، ونحن عليه. ويجوز أن يكون الجميعُ خِطاباً للمؤمنين، ويكون نظمُ الآيةِ: إنْ يُؤتَ أحدٌ مثلَ ما أوتيتم - يا معشرَ المؤمنين - يَحْسدوكم، فقل: إن الفَضْلَ بِيَدِ الله، وإن حاجُّوكم فقل: إنَّ الْهُدَى هُدَى الله. ويجوز أن يكون الخبر عن اليهود قد تم عند قوله تعالى: {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} وقوله: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 328 {وَلاَ تؤمنوا} من كلام الله تعالى - كما تقدم - ثَبَّت به قلوبَ المؤمنينَ؛ لئلا يشكُّوا عند تلبيس اليهود، وتزويرهم في دينهم، ومعناه: لا تُصدِّقوا يا مَعْشَرَ الْمُؤمنين إلا مَنْ تَبعَ دِينَكُمْ، ولا تصدقوا أن يُؤتَى أحدٌ مثلَ ما أوتيتم من الدين والفَضْلِ، ولا تصدِّقُوا أن يُحاجُّوكم في دينكم عند ربكم، أو يقدروا على ذلك؛ فإنَّ الهدى هدى اللهِ، والفضل بيد اللهِ يؤتيه من يشاء، والله واسعٌ عليمٌ، فتكون الآية كلُّها خطاب الله - تعالى - مع المؤمنين. و «الفضل» - هنا - الرسالة، وهو - في اللغة - عبارة عن الزيادة، وأكثر ما يُستعمَل في زيادة الإحسان، والفاضل: الزائد على غيره [في خصال الخير، ثم كَثر استعمال الفَضْل حتى صار لكل نفع قَصَد به فاعله الإحسانَ إلى الغير] ، وقوله: {بِيَدِ الله} معناه: أن مالك له، يؤتيه من يشاءُ، أي: هو تفضُّلٌ موقوف على مشيئته، وهذا يدل على أن النبوةَ تحصُل بالتفضُّلِ، لا بالاستحقاق؛ لأنه جعلها من باب الفَضْل الذي لفاعله أنْ يفعَلَه، وأنْ لا يفعَلَه. الواسع: الكامل القدرة، والعليم: الكامل العلم، فلكمال قُدْرَتهِ يصح أن يتفضل على أيِّ عَبْدٍ شاء بأي تفضُّل شاء، ولكمال علمه لا يكون شيء من افعاله إلا على وَجْه الحكمة والصواب. قوله: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} أي: يختص بنبوته من يَشَاء، وهذا كالتأكيد لِمَا تَقَدَّم، والفرق بين هذه الآية والتي قبلها أن الفضل عبارة عن الزيادةِ من جنس المزيدِ عليه، والرحمةُ المضافةُ إلى الله - تعالى - أمرٌ أعْلى من ذلك الفضل، فرُبَّما بلغت هذه الرحمةُ إلى أن لا تكون من جنس ما آتاهم، بل يكون أعْلى وأجلَّ من ذلك {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 لما حكى خيانَتَهم في باب الدِّين ذكرها - ايضاً - في الأموال. قوله: «مَنْ» مبتدأ، و {وَمِّنْ أَهْلِ} خَبَرُه، قُدِّمَ عليه، و «مَنْ» إما موصولة، وإما نكرة. و «إن تأمنه بقنطار يؤده» هذه الجملة الشرطية، إما صلة، فلا محل لها، وإما صفة فمحلّها الرفع. وقرا بعضهم: {تَأْمَنْهُ} ، و {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّ} [يوسف: 11] . بكسر حرف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 329 المضارعة، وكذلك ابن مسعود والأشهب والعقيلي، إلا أنهما أبْدَلاَ الهمزة ياءً. وجعل ابن عطية ذلك لغة قُرَيْشٍ، وغلَّطه أبو حيّان وقد تقدّمَ الْكَلاَمُ في كسر حرف المضارعةِ، وشرطه في الفاتحة يقال: أمنته بكذا، وعلى كذا، فالباءُ للإلصاق بالأمانة، و «على» بمعنى استيلاء المودع على الأمانة. وقيل: معنى: أمنته بكذا، وثقت به فيه، وأمنته عليه: جعلته أميناً عليه. والقنطارُ والدينار: المراد بهما العددُ الكثيرُ، والعدد القليل، يعني: أن فيهم مَنْ هو في غاية الأمانة، حتى أنه لو ائتمِن على الأموال الكثيرة أدَّى الأمانة فيها، ومنهم من هو في غاية الخيانة، حتى لو ائتُمِن على الشيء القليل فإنه يخون فيه. واختلف في القنطار، فقيل: ألف ومائتان أوقية؛ لأن الآية نزلت في عبد الله بن سلام، حين استودعه رجل من قريش ألفاً ومائتي أوقية من الذهب، فردَّه، ولم يَخُنْ فيه. ورُوِي عن ابن عباس أنه مِلْءُ جلد ثور من المال. وقيل: ألف ألف دينار، أو ألف الف درهم - وقد تقدم -. والدينار: أصله: دِنَّار - بنونين - فاستثقل توالي مثلَيْن، فأبدلوا أولهما حرفَ علة، تخفيفاً؛ لكثرة دوره في لسانهم، ويدل على ذلك رَدُّه إلى النونين - تكسيراً وتصغيراً - في قولهم: دَنَانير ودُنَيْنِير. ومثله قيراط، أصله: قِرَّاط، بدليل قراريط وقُرَيْرِيط، كما قالوا: تَظَنَّيْتُ، وقصَّصْتُ أظفاري، يريدون: تظنّنت وقصّصت - بثلاث نونات وثلاث صاداتٍ - والدِّينار مُعرَّب، قالوا: ولم يختلف وزنه أصْلاً وهو أربعة وعشرون قيراطاً، كل قِيراطٍ ثلاث شعيرات معتدلاتٍ، فالمجموع اثنان وسبعون شعيرةً. وقرأ أبو عمرو وحمزة وأبو بكر عن عاصم «يُؤَدِّهْ» بسكون الهاء في الحرفين. وقرأ قالون «يُؤَدِّهِ» بكسر الهاء من دون صلة، والباقون بكسرها موصولة بياء، وعن هشام وجهان: أحدهما: كقالون، والآخر كالجماعة. أما قراءة أبي عمرو ومن معه فقد خرَّجوها على أوجه، أحسنها أنه سكنت هاء الضمير، إجراءً للوصْل مجرى الوقف وهو باب واسع مضى منه شيء - نحو: {يَتَسَنَّهْ} [البقرة: 259] و {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيت} [البقرة: 258] وسيأتي منه أشياء إن شاء الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 330 وأنشد ابنُ مجاهد على ذلك: [البسيط] 1516 - وأشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ ... إلاَّ لأنَّ عُيُونَهْ سَيْلُ وَادِيهَا وأنشد الأخفش: [الطويل] 1517 - فَبتُّ لَدَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ أخِيلُهُ ... وَمِطْوايَ مُشْتَاقَانِ لَهْ أرقَان إلا أن هذا يخصُّه بعضهم بضرورة الشعر، وليس كما قال، لما سيأتي. وقد طعن بعضهم على هذه القراءةِ، فقال الزَّجَّاجُ: هذا الإسكان الذي رُوِيَ عن هؤلاء غلط بَيِّنٌ؛ وأن الفاء لا ينبغي أن تُجْزَم، وإذا لم تُجْزَم فلا تسكن في الوصل، وأما ابو عمرو فأُراه كان يختلس الكسرة، فغلط عليه كما غلط عليه في «باريكم» . وقد حكى عنه سيبويه - وهو ضابط لمثل هذا - أنه كان يكسر كسراً خفياً، يعني يكسر في {بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] كسراً خفيًّا، فظنه الراوي سكوناً. قال شهابُ الدينِ: وهذا الرد من الزجَّاج ليس بشيءٍ لوجوه: منها: أنه فَرَّ من السكون غلى الاختلاس، والذي نصَّ على أن السكون لا يجوز نص على أنَّ الاختلاس - ايضاً - لا يجوز إلا في ضرورة، بل جعل الإسكان في الضرورة أحسن منه في الاختلاس، قال: ليُجْرَى الوصلُ مجرى الوقف إجراء كاملاً، وجعل قوله: [البسيط] 1518 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... إلاَّ لأن عُيُونَهْ سَيْلُ وَادِيهَا أحسن من قوله: [البسيط] 1519 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... مَا حَجَّ رَبَّهُ في الدُّنْيَا ولا اعْتَمَرَ حيث سكن الأول، واختلس الثاني. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 331 ومنها أن هذه لغة ثابتة عن العرب حفظها الأئمة الأعلام كالكسائي والفراء - حكى الكسائيُّ عن بني عقيل وبني كلابٍ {إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُود} [العاديات: 6]- بسكون الهاء وكسرها من غير إشباع -. ويقولون: لَهُ مال، ولَهْ مالٌ - بالإسكان والاختلاس. قال الفراء: من العرب مَنْ يجزم الهاء - إذا تحرَّك ما قبلَها - نحو ضَرَبْتُهْ ضرباً شديداً، فيسكنون الهاء كما يسكنون ميم «أنتم» و «قمتم» وأصلها الرفع. وأنشد: [الرجز] 1520 - لمَّا رَأى أن لا دَعَهْ ولا شِبَعْ ... مَالَ إلَى أرْطَاةِ حِقف فالطَدَعْ قال شهاب الدينِ: وهذا عجي من الفرَّاء؛ كيف يُنْشِد هذا البيت في هذا المَعْرِض؛ لأن هذه الفاء مبدلة من تاء التأنيث التي كانت ثابتةً في الوصل، فقلبها هاءً ساكنة في الوصل؛ إجراءً له مُجْرَى الوقف وكلامنا إنما هو في هاء الضمير لا في هاء التأنيثِ؛ لأن هاء التانيثِ لا حَظَّ لها في الحركة ألبتة، ولذلك امتنع رومها وإشمامُها في الوقف، نَصُّوا على ذلك، وكان الزجاج يُضَعَّف في اللغة، ولذلك رد على ثعلب - في فصيحه - أشياء أنكرها عن العرب، فردَّ الناسُ عليه رَدَّه، وقالوا: قالتها العربُ، فحفظها ثعلب ولم يحفظْها الزجَّاج. فليكن هذا منها. وزعم بعضهم أن الفعلَ لما كان مجزوماً، وحلت الهاءُ محلّ لامِهِ جرى عليها ما يَجْرِي على لام الفعل - من السكون للجزم - وهو غير سديدٍ. وأما قراءة قالون فأنشدوا عليها قول الشاعر: [الوافر] 1521 - لَهُ زَجَلٌ كأنَّهُ صَوْتُ حَادٍ ... إذَا طَلَبَ الْوَسِيقَةَ أوْ زَمِيرُ وقول الآخر: [الطويل] 1522 - أنَا ابْنُ كِلابٍ وابْنُ أوْسٍ فَمَنْ يَكُنْ ... قِنَاعُهُ مغْطِيًّا فَإنِّي لَمُجْتَلى وقول الآخر: [البسيط] 1523 - أوْ مَعْبَرُ الظَّهْرِ يُنْبي عَنْ وَلِيَّتِهِ ... مَا حَجَّ رَبَّهُ فِي الدُّنْيَا وَلا اعْتَمَرَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 332 وقد تقدم أنها لغة عقيل، وكلاب أيضاً، وأما قراءة الباقين فواضحة وقرأ الزهريُّ «يُؤَدِّهو» بضم الهاء بعدها واو، وهذا هو الأصل في هاء الكتابة، وقرأ سَلاَّم كذلك إلا أنه ترك الواوَ فاختلس، وهما نظيرتا قراءتي «يؤدهي» و {يُؤَدِّهِ} - بالإشباع والاختلاس مع الكسرِ واعلم أن هذه الهاء متى جاءت بعد فعل مجزوم، أو أمر معتلِّ الآخر، جَرَى فيها هذه الأوجُه الثلاثة أعني السكون والإشباع والاختلاس - كقوله: {نُؤْتِهِ مِنْهَ} [آل عمران: 145] وقوله: {يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] وقوله: {مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّم} [النساء: 115] ، وقوله: {فَأَلْقِهْ إِلَيْهِم} [النمل: 28] وقد جاء ذلك في قراءة السبعة - أعني: الأوجه الثلاثة - في بعض هذه الكلمات وبعضها لم يأت فيه إلا وجه - وسيأتي مفصَّلاً في مواضعه إنْ شاء الله. وليس فيه أن الهاء التي للكناية متى سبقها متحرَّك فالفصيح فيها الإشباع، نحو «إنَّهُ، لَهُ، بِهِ» ، وإن سبقها ساكن، فالأشهر الاختلاس - سواء كان ذلك الساكن صحيحاً أو معتلاً - نحو فيه، منه وبعضهم يفرق بين المعتلْ والصحيح وقد تقدم ذلك أول الكتاب. إذا علم ذلك فنقول: هذه الكلمات - المشار إليها - إن نظرنا إلى اللفظ فقد وقعت بعد متحرِّك، فحقها أن تشبع حركتها موصولةً بالياء، أو الواو، وإن سكنت فلما تقدم من إجراء الوصل مُجرى الوقف. وإن نظرنا إلى الأصل فقد سبقها ساكن - وهو حَرْفُ العلة المحذوف للجزم - فلذلك جاز الاختلاسُ، وهذا أصل نافع مطرد في جميع هذه الكلمات. قوله {بِدِينَارٍ} في هذه الباء ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنها للإلصاق، وفيه قَلَقٌ. الثاني: أنها بمعنى «في» ولا بد من حذف مضاف، أي: في حفظ قنطار، وفي حفظ دينار. الثالث: أنها بمعنى «على» وقد عُدِّيَ بها كثيراً، كقوله: {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُف} [يوسف: 11] وقوله: {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ} [يوسف: 64] وكذلك هي في {بِقِنطَارٍ} . قوله: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} استثناء مفرَّغ من الظرف العام؛ إذ التقدير: لا يؤده إليك في جميع المُددِ والأزمنة إلا في مدة دوامك قائماً عليه، متوكِّلاً به و «دُمْتَ» هذه هي الناقصةُ، ترفع وتنصب، وشرط إعمالها أن يتقدمها ما الظرفية كهذه الآية إذ التقدير إلا مدة دومك [ولا ينصرف، فأما قولهم: «يدوم» فمضارع «دام» التامة بمعنى بقي، ولكونها صلة ل «ما» الظرفية] لزم أن يكون بحاجة إلى كلام آخر، ليعمل في الظرف نحو الجزء: 5 ¦ الصفحة: 333 أصحبك ما دمت باكياً ولو قلت ما دام زيد قائماً من غير شيء لم يكن كلاماً. وجوز أبو البقاء في «ما» هذه أن تكون مصدرية فقط، وذلك المصدر - المنسبك منها ومن دام - في محل نصب على الحال، وهو استثناءٌ مفرَّغ - أيضاً - من الأحوال المقدَّرة العامة، والتقدير: إلا في حال ملازمتك له، وعلى هذا، فيكون «دَامَ» هنا تامة؛ لما تقدم من أن تقدُّم الظرفية شرط في إعمالها، فإذا كانت تامة انتصب «قَائماً» على الحال، يقال: دام يدُوم - كقام يقوم - و «دُمت قائماً» بضم الفاء وهذه لغة الحجاز، وتميم يقولون: دِمْت - بكسرها - وبها قرأ أبو عبد الرحمن وابن وثّابٍ والأعمشُ وطلحة والفياضُ بن غزوان وهذه لغة تميم، ويجتمعون في المضارع، فيقولون: يدوم يعني: أن الحجازيين والتميميين اتفقوا على أن المضارع مضمومُ الْعَيْنِ، وكان قياسُ تميم أن تقول يُدام كخاف يخاف - فيكون وزنها عند الحجازيين فعَل - بفتح العين - وعند التميمين فِعل بكسرها هذا نقل الفراء. وأما غيره فنقل عن تميم أنهم يقولون: دِمْتُ أدام - كخِفت اخاف - نقل ذلك أبو إسحاق وغيره كالراغب الأصبهاني والزمخشري. وأصل هذه المادة: الدلالة على الثبوت والسكون، يقل: دام الماء، أي سكن. وفي الحديث: «لا يبولن أحدكم في الماء الدائم» وفي بعضه بزيادة: الذي لا يجري، وهو تفسير له، وأدَمْت القِدْرَ، ودومتها سكنت غليانها بالماء، ومنه: دامَ الشيء، إذا امتدَّ عليه الزمان، ودوَّمت الشمس: إذا وقعت في كبد السماء. قال ذو الرمة: [البسيط] 1524 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وَالشَّمْسُ حيْرَى لَهَا في الْجَوِّ تَدْوِيمُ هكذا أنشد الراغبُ هذا الشطر على هذا المعنى، وغيره ينشده على معنى أن الدوام يُعَبَّر به عن الاستدارة حول الشيء، ومنه الدوام، وهو الدُّوَار الذي يأخذ الإنسان في دماغه، فيرَى الأشياء دائرة. وأنشد معه - أيضاً - قول علقمة به عَبدَة: [البسيط] 1525 - تَشْفِي الصُّدَاعَ وَلاَ يُؤْذِيكَ سَالِيهَا ... وَلاَ يُخَالِطُهَا فِي الرَّأْسِ تَدْوِيمُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 334 ومنها: دوَّم الطائر، إذا حَلَّق ودار. قوله: «عَلَيْهِ» متعلق ب «قائِماً» وفي المراد بالقيام - هنا - وجهان: الأول: الحقيقة، وهو أن يقوم على رأس غريمه، ويلازمه بالمطالبة، وإن أخَّره أنكر. قال القرطبيُّ: استدل أبو حنيفةَ على مذهبه في ملازمة الغريم بقوله تعالى: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} وأباه سائر العلماء واستدلَّ بعضهم على حَبْس المِدْيان بقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} فإذا كان له ملازمته، ومنعه من التصرف، جاز حبسه. وقيل معنى: إلا ما دمت عليه قائماً أي: بوجهك، فيهابك، ويستحيي منك، فإن الحياء في العينين ألا ترى قول ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لا تطلبوا من الأعمى حاجة فإن الحياء في العينين وإذا طلبتَ من أخيك حاجة فانظر غليه بوجهك، حتى يستحيي فيقضيها. الثاني: المجاز. قال ابن عباس: المرادَ من هذا القيام، الإلحاح، والخصومة، والتقاضي، والمطالبة، قال ابن قُتَيْبَة: أصله أن المطالبَ للشيء يقوم فيه، والتارك له يَبُْد عنه، بدليل قوله تعالى: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} [آل عمران: 113] أي: عاملة بأمر الله، غير تاركة. ثم قيل لكل مَنْ واظب على مطالبة أمر: قام به - وإن لم يكن ثَمَّ قيام - وقال: أبو علي الفارسي: القيام - في اللغة - بمعنى الدوام والثبات، كما ذكرناه في قوله تعالى: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} [النمل: 3] ومنه قوله: {دِينًا قَيِّمًا} [الأنعام: 161] ، أي: دائماً ثابتاً لا ينسخ فمعنى الآية: دائماً، ثابتاً في مطالبتك. فصل دلَّت الآية على انقسام أهل الكتاب إلى قسمين: أهل أمانة، وأهل خيانة. فقيل: اهل الأمانة هم الذين أسلموا، وأهل الخيانة: هم الذين لم يُسْلِموا. وقيل: أهل الأمانة هم النصارى وأهل الخيانة: هم اليهود. وروى الضحاك عن ابن عباس - في هذه الآية {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} يعني عبد الله بن سلام، [أودعه رجل ألفاً ومائتي أوقية من ذهب، فأداه. {وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} يعني: فنحاص بن عازوراء] ، استودعه رجل من قريش ديناراً، فخانه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 335 فصل يدخل تحت هذه الآية العَيْنُ والدَّيْنُ؛ لأن الإنسانَ قد يأتمن غيره على الوديعة، وعلى المبايعة، وعلى المقارضة، وليس في الآية ما يدل على التعيين، ونُقِل عن ابنِ عباس أنه حمله على المبايعة، فقال ومنهم من تبايعه بثمن القنطار، فيؤديه إليك، ومنهم من تبايعه بثمنِ الدينارِ، فلا يؤديه إليك ونقلنا - أيضاً - أن الآية نزلت في رجل أودعَ مالاً كثيراً عبد الله بن سلام فأدَّاه، ومالاً قليلاً عند فنحاص بن عازوراء فلم يؤده، فثبت أن اللفظ محتمل لجميع الأقسام. قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ} ذكروا في السبب الذي لأجله اعتقد اليهود هذا الاستحلال وجوهاً: أحدها: أنهم يبالغون في التعصُّب لدينهم، فلذلك يقولون: يحل لنا قتل المخالف، وأخذ ماله بأي طريق كان، وروي أنه لما نزلت هذه الآية قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كَذَبَ أعْدَاءُ اللهِ، مَا مِنْ شَيْءٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيّةِ إلا وهُو تَحْتَ قدَميَّ، إلاَّ الأمَانَةَ، فإنَّهَا مُؤدَّاة إلى البَرِّ والْفَاجِرِ» . الثاني: أن اليهود قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] والخلق لنا عبيد، فلا سبيل لأحد علينا، إذا أكلنا أموال عبيدنا. الثالث: قال القرطبيُّ: قالت اليهود: إن الأموال كانت كلُّها لنا، فما في أيدي العرب منها، فهو لنا؛ ظلمونا وغصبونا، فلا سبيل علينا في أخذنا إياه منهم. الرابع: قال الحسنُ وابنُ جريجٍ ومقاتلٍ: إن اليهودَ إنما ذكروا هذا الكلامَ لمن خالفهم من العرب الذين آمنوا بالرسول خاصَّةً، وليس لكل من خالفهم. ورُوي أنهم بايعوا رجالاً في الجاهلية، فلما أسلموا طالبوهم بالأموال، فقالوا: ليس علينا حَقٌّ؛ لأنكم تركتم دينكم. وادَّعَوْا أنهم وجدوا ذلك في كتابهم. قال ابن الخطيبِ: «ومن المحتملِ أنه كان من مذهب اليهود، أن مَن انتقل من دين باطلٍ إلى دين آخرَ باطلٍ كان في حكم المرتدِّ، فهم - وإن اعتقدوا أن العرب كُفار، إلا أنهم لما اعتقدوا في الإسلام أنه كُفر - حكموا على العرب الذي أسلموا بالرِّدَّةِ. قوله: {لَيْسَ عَلَيْنَا} يجوز أن يكون في» ليس «ضمير الشأنِ - وهو اسمها - وحينئذ يجوز أن يكون» سبيل «مبتدأ، و» عَلَيْنَا «الخبر، والجملة خبر ليس. ويجوز أن يكون» الجزء: 5 ¦ الصفحة: 336 عَلَيْنَا «وحده هو الخبر، و {سَبِيلِ} مرتفع به على الفاعلية. ويجوز أن يكون {سَبِيلِ} اسم» ليس «والخبر أحد الجارين أعني: {عَلَيْنَا} أو {فِي الأميين} . ويجوز أن يتعلق {فِي الأميين} بالاستقرار الذي تعلق به» عَلَيْنَا «وجوّز بعضهم أن يتعلق بنفس» ليس «نقله أبو البقاء، وغيرُه، وفي هذا النقل نظر؛ وذلك أن هذه الأفعال النواقص في عملها في الظروف خلاف، وَبَنَوُا الخلافَ على الخلاف في دلالتها على الحدث، فمن قال: تدل على الحدث جوز إعمالها في الظرف وشبهه، ومن قال: لا تدل على الحدث منعوا إعمالها. واتفقوا على أن» ليس «لا يدل على حدث ألبتة، فكيف تعمل؟ هذا ما لا يُعْقَل. ويجوز أن يتعلق {فِي الأميين} ب» سَبيلٌ «، لأنه استعمل بمعنى الحرجِ، والضمانِ، ونحوها. ويجوز أن يكون حالاً منه فيتعلق بمحذوف. قال: فالأمي منسوب إلى الأم، وسُمِّي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمياً؛ قيل: لأنه كان لا يكتب، وذلك لأن الأمَّ: أصل الشيء فمن لا يكتب فقد بَقِي على أصله في أن لا يكتب. وقيل: نسبة إلى مكة، وهي أمُّ القُرَى. قوله: {وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب} فيه وجوهٌ: أحدها: هو قولهم: أن جواز الخيانةِ مع المخالف مذكور ف يالتوراة، وكانوا كاذبين في ذلك، وعالمين بكونهم كاذبين. [ومن كان كذلك كانت خيانته أعظمَ، وجرمُه أفحش] فيه. وثانيها: أنهم يعلمون كون الخيانة مُحَرَّمَةٌ. وثالثها: أنهم يعلمون ما على الخائن من الإثم. فصل في رد شهادة الكافر قال القرطبيُّ:» دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ الكافرَ لا يُجعل أهلاً لقبول شهادته؛ لأن الله تعالى وصفه بالكذب، وفي الآية رَدٌّ على الكَفَرَةِ الذين يُحَلِّلُون ويُحَرِّمون من غير تحليل الله وتحريمه ويجعلون ذلك من الشرع، قال ابن العربيّ: ومِنْ هذا يخرج الرَّدُّ على مَنْ يحكم بالاستحسان مِن غير دليل، ولست أعلم أحداً من أهل القبلةِ قاله «. قوله: {عَلَى اللَّهِ} يجوز أن يتعلق بالكذب - وإن كان مصدراً - لأنه يُتَّسَع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسَع في غيرهما ومَنْ منع علَّقه ب» يَقُولُونَ «متضمِّناً معنى يفترون، فعُدِّي تعديته. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من» الْكَذِب «، وقوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} جملة حالية، ومفعول العلم محذوف اقتصاراً، أي: وهم من ذوي العلم، أو اختصاراً، أي: وهم يعلمون كذبهم وافتراءهم، وهو أقبح لهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 337 قوله: {بلى} جواب لقولهم: «لَيْسَ» وإيجاب لما نفوه. وتقدم القول في نظيره. قال ابن الخطيبِ: وعندي الوقف التام على «بلى» ثم استأنف. وقيل: إن كلمة «بلى» كلمة تُذْكَر ابتداءً لكلام آخرَ يُذكَر بعده؛ لأن قولَهم: ليس علينا فيما نفعل جناحٌ قائمٌ مقام قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] فذكر - تعالى - أن أهل الوفاءِ بالعهد والتقى هم الذين يحبهم الله تعالى - لا غيرهم - وعلى هذا الوجه، فلا يَحْسُن الوقف على «بلى» اه. و «مَنْ» شرطية، أو موصولة، والرابط بين الجملة الجزائية، أو الخبرية هو العموم في {الْمُتَّقِينَ} وعند من يرى الربط بقيام الظاهر مقام المضمر يقول ذلك هنا. وقيل: الجزاء، أو الخبر محذوف، تقديره: يحبه الله، ودل على هذا المحذوف قوله: {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} وفيه تكلُّفٌ لا حاجةَ إليه. قال القرطبيُّ: «مَنْ» رفع بالابتداء، وهو شرط، و «أوفى» في موضع جزم «واتَّقَى» معطوف عليه، واتقى الله، ولم يكذب، ولم يستحل ما حرم عليه {فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} أي يحب أولئك. و «بعهده» يجوز أن يكون المصدر مضافاً لفاعله على أن الضمير يعود على «مَنْ» . أو مضافاً إلى مفعوله على أنه يعود على «اللهِ» ويجوز أن يكون المصدر مضافاً للفاعل وإن كان الضمير لله تعالى وإلى المفعول وإن كان الضمير عائداً على «مَنْ» ومعناه واضح عند التَّأمُّلِ. فإن قيل: بتقدير أن يكون الضميرُ عائداً إلى الفاعل، وهو «مَنْ» فإنه يدل على أنه لو وفى أهل الكتاب بعهودهم وتركوا الخيانةَ، فإنهم يكتسبونَ محبة اللهِ. فالجواب أن الأمر كذلك، فإنهم إذا وفوا بالعهود، فأول ما يوفون به العهد الأعظم، وهو ما أخذَ الله عليهم في كتابهم من الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبما جاء به، وهو المراد بالعهد في هذه الآية قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقاً خَالِصاً، وَمَنْ كَانتْ فيه وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خصلَةٌ مِن النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إذا ائتُمِنَ خَانَ، وَإذَا حدَّث كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإذَا خَاصَم فَجرَ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 مما جاء في تعلق هذه الآية بما قبلها وجوهٌ: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 338 أحدها: أنه - تعالى - لما وصف اليهودَ بالخيانة في أموال النّاس، فمعلوم أن الخيانَة في الأموال، لا تكون بالأيمان الكاذبةِ. وثانيها: أنه - تعالى - حَكَى عنهم أنهم يقولون على الله الكذب، وهم يعلمون، ولا شك أن عهد الله - تعالى - على كل مكلَّفٍ أن لا يكذبَ على الله. وثالثها: أنه - تعالى - ذكر في الآية الأولى خيانَتهم في أموال الناس، وذكر في هذه الآية خيانتهم في عهد الله وفي تعظيم أسمائِهِ؛ حيث يَحْلِفون بها كاذبين. وقال بعضهم: إن هذه الآية ابتداء كلام مستقلٍّ في المنع من الأيمان الكاذبةِ؛ لأن اللفظَ عامٌّ، والروايات الكثيرة دلَّت على أنها نزلت في أقوامٍ أقدموا على الأيمان الكاذبة. فصل قال عكرمةُ: نزلت في أحبار اليهود، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكتبوا بأيديهم غيرَها، وحلفوا أنها من عند الله؛ لئلا تفوتَهم الرِّشاء التي كانت من أبناء عمهم. وقيل: نزلت في ادِّعائهم أنه {لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ} [آل عمران: 75] كتبوا ذلك بأيديهم، وحَلَفُوا أنه من عند الله قاله الحسنُ. وقال ابن جُرَيْجٍ: نزلت في الأشعث بن قيس وخَصْمٍ له، اختصما في أرض إلى رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أقم بيِّنتك، فقال: ليس لي بينة، فقال لليهودي: احلِفْ، قال: إذاً يحلف، فيذهب بمالي، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ} فنكل الأشعث. قال مجاهدٌ: نزلت في رجل حلف يميناً فاجرةً في تنفيق سلعته، عن أبي ذر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلاَ يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ. قَالَ: وقرأها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثلاث مرات، فقال أبو ذر: خابوا، وخسروا مَنْ هم يا رسولَ اللهِ؟ قال: المُسْبِلُ إزَارَهُ، والمَنَّانُ، والمُنْفِقُ سلعَتَهُ بالحَلِف الْكَاذِبِ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 339 وروى أبو هريرة عن النبي: «ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَلاَ يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ ألِيمٌ: رَجُلٌ حَلَفَ يَمِيناً عَلَى مَالِ مُسْلِمٍ، فاقتطعه، وَرَجُلٌ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ بَعْدَ صَلاَةِ الْعَصْرِ أنَّهُ أعْطِي بِسِلْعَتِهِ أكْثَرَ مِمَّا أعْطي وَهُوَ كَاذِبٌ - وَرَجُلٌ مَنَعَ فَضْلَ ماءٍ، فَإن اللهَ - تَعَالَى - يَقولُ: الْيَوم أمْنَعُكَ فَضْلِي كَمَا مَنَعْتَ فَضْلَ مَا لَمْ تَعْمَلْ يَدَاكَ» . وقيل: جاء رجل من حضرموت ورجل من كِنْدةَ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال الحضرميُّ: يا رسولَ اللهِ، إن هذا قد غلبني على أرض لي - كانت لأبي - فقال الكنديّ: هي أرضي في يدي، أزرعها، ليس له فيها حق فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للحَضْرَمِيّ: «ألك بيِّنةٌ؟ قال لا، قَالَ: فَلَكَ يمينُهُ قال: يا رسولَ اللهِ، إن الرجل فاجِرٌ لا يبالي على ما حلف عليه، قال ليس لك منه إلا ذلك، فانطلق ليحلف، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما أدبر» أما لئن حَلَفَ علَى ما لَيْسَ لَهُ لِيَأكُلَهُ ظُلماً لَيَلْقَيَنَّ اللهَ وَهُوَ عَنْهُ مُعْرِضٌ «. قال علقمة: أما الكنديّ فهو عمرو بن القيس بن عابس الكنديّ، وخصمه ربيعة بن عبدان الحضرميّ، روى أبو أمامة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» مَن اقْتَطَعَ حَقَّ امْرِئٍ مُسْلِم - بِيَمِينِهِ - حَرَّم اللهُ عَلَيْه الْجَنَّة وَأوْجَبَ لَهُ النَّارَ، قَالُوا: وإن كان شيئاً يسيراً يا رسولَ الله؟ قَالَ: وَإنْ كَانَ قَضِيباً مِنْ أرَاكٍ «قالها ثلاث مراتٍ. قوله: {أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة} أي: لا نصيبَ لهم في الآخرةِ وتعيمها، وهذا مشروطٌ بالإجماع بعد التوبة، فإذا تاب عنها سقط الوعيدُ - بالإجماع - وشرط بعضهم عدم العفو؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] ، {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ} أي: كلاماً ينفعهم، ويسرهم. وقيل: لمعنى الغضب، كما يقول الرجل: إني لا أكلم فلاناً - إذا كان قد غضب عليه - قاله القفالُ. ثم قال: {وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة} أي: لا يرحمهم، ولا يُحْسِن إليهم، ولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 340 يُنِيلُهم خيراً، وليس المقصود منه النظر بتقليب الحَدَقَةِ إلى المَرْئِيّ - تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً - {وَلاَ يُزَكِّيهِمْ} أي: لا يطهرهم من دنس الذنوب بالمغفرة. وقيل: لا يُثْنِي عليهم كما يُثْنِي على أوليائه - كثناء المزكِّي للشاهد والتزكية من الله قد تكون على ألسنة الملائكة، كقوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23 - 24] وقد تكون من غير واسطة، أما في الدنيا فكقوله: {التائبون العابدون} [التوبة: 112] . وأما في الآخرة فكقوله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] . ثم قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} في هذه اللام أحدهما: أنها بمعنى الاستحقاق , أي: يستحقُّون العذاب الأليم. لما بين حرمانهم من الثواب، بين كونهم في العقاب الشديد المؤلم. فصل قال القرطبي: " دلت هذه الآية والأحاديث على أن حكم الحاكم لا يحل المال في الباطن بقضاء الظاهر إذا علم المحكوم له بطلانه، وروت أم سلمة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنكم تختصمون إليَّ، وإنما بشرٌ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من يأخذه؛ فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها يوم القيامة. قوله: {ولهم عذاب أليم} في هذه اللام قولان: أحدهما: أنها بمعنى الاستحقاق، أي: يستحقُّون العذاب الأليم. الثاني: كما تقول: المال لزيد , فتكون لام التمليك , فذكر ملك العذاب لهم , تهكُّماً بهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 هذه الآية تدل على أن التي قبلها نزلت في اليهود. وقوله: يَلْوُونَ «صفة ل» فريقاً «فهي في محل نصبٍ، وجمع الضمير اعتباراً بالمعنى؛ لأنه اسم جمع - كالقوم والرهط -. قال أبو البقاء:» ولو أفرد على اللفظ لجاز «وفيه نظرٌ؛ إذ لا يجوز: القوم جاءني، والعامة على {يَلْوُونَ} بفتح الياء، وسكون اللام، وبعدها واو مضمومة، ثم أخْرَى ساكنة مضارع لوى أي: فتل. وقرأ أبو جعفر وشيبة بن نِصاح وأبو حاتم - عن نافع -» يُلَوُّون «بضم الياء، وفتح الجزء: 5 ¦ الصفحة: 341 اللام، وتشديد الأولى - من لَوَّى» مضعَّفاً، والتضعيف فيه للتكثير والمبالغة، لا للتعدية؛ إذ لو كان لها لتعدى لآخرَ؛ لأنه مُتَعَدٍّ لواحد قبل ذلك، ونسبها الزمخشريُّ لأهل المدينةِ، وهو كما قال، فإن هؤلاء رؤساء قُرَّاء المدينةز وقرأ حُمَيْد «يَلُون» - بفتح الياء، وضم اللام، بعدها واو مفردة ساكنة - ونسبها الزمخشريُّ لمجاهدٍ وابنِ كثيرٍ، ووجَّهَهَا هو بأن الأصل {يَلْوُونَ} - كقراءة العامة - ثم أبدِلَت الواو المضمومة همزة، وهو بدلٌ قباسيٌّ - كأجوه وأقِّتَتْ. ثم خُفِّفَت الهمزةُ بإلقاء حركتها على الساكن قبلها وهو اللام - وحُذِفَت الهمزةُ، فبقي وزن «يَلُون» يَفُون - بحذْف اللام والعين - وذلك لأن اللام - وهي الياء - حُذِفت لالتقاء الساكنين؛ لأن الأصل «يلويون» كيضربون، فاستُثْقِلَت الضمة على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان - الياء وواو الضمير - فحُذِفت الياء لالتقائهما، ثم حُذِفت الواو التي هي عين الكلمة. و {أَلْسِنَتَهُمْ} جمع لسانٍ، وهذا على لغة من ذكَّره، وأما على لغة من يُؤنثه - فيقول: هذه لسانٌ - فإنه يجمع على «ألْسُن» - نحو ذِراع وأذرُع وكراع وأكرِع. وقال الفرّاء: لم نسمعْه من العرب إلا مذكَّراً. ويُعَبَّر باللسان عن الكلام؛ لأنه ينشأ منه، وفيه - والمراد به ذلك - التذكير والتأنيث -، والليّ: الفتل، يقال: لَويْت الثوب، ولويت عنقه - أي فتلته - والليُّ: المطل، لواه دَيْنَه، يلويه لَيًّا، وليَّاناً: مطله. والمصدر: اللَّيّ واللّيان. قال الشاعرُ: [الرجز] 1526 - قَدْ كُنْتُ دَايَنْتُ بِهَا حَسَّانا ... مَخَافَةَ إلافْلاسِ وَاللَّيانا والأصل لوْيٌ، ولَوْيَان، فأعِلَّ بما تقدم في «مَيِّت» وبابه ثم يُطْلَق اللَّيُّ على الإراغة والمراوغة في الحجج والخصومة؛ تشبيهاً للمعاني بالأجرام. وفي الحديث: «لَيُّ الْوَاحِدِ ظُلْمٌ» . وقال بعضهم: اللَّيّ عبارة عن عَطْف الشيء، وردّه عن الاستقامة إلى الاعوجاج يقال: لَوَيْت يده والتوى الشيءُ - إذا انحرف - والتوى فلان عليَّ إذا غيَّر أخلاقه عن الاستواء إلى ضده. ولوى لسانه عن كذا - إذا غيره - ولوى فلانٌ فلاناً عن رأيه - إذا أماله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 342 عنه - و {بالكتاب} متعلق ب {يَلْوُونَ} ، وجعله أبو البقاء حالاً من الألسنة، قال: وتقديره: ملتبسة بالكتاب، أو ناطقة بالكتاب. والضمير في {لِتَحْسَبُوهُ} يجوز أن يعود على ما تقدَّم مما دل عليه ذِكْر اللَّيّ والتحريف، أي: لتحسبوا المحرف من التوراة. ويجوز أن يعود على مضاف محذوفٍ، دل عليه المعنى، والأصل: يلوون ألسنتهم بشِبْهِ الكتاب؛ لتحسبوا شِبْهَ الكتاب الذي حرفوه من الكتاب، ويكون كقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ} [النور: 40] ثم قال: {يَغْشَاهُ} [النور: 40] يعود على «ذِي» المحذوفة. و «من الكتاب» هو المفعول الثاني للحُسْبان. وقُرئ «ليحسبوه» - بياء الغيبة - والمراد بهم المسلمون - أيضاً - كما أريد بالمخاطبين في قراءة العامة، والمعنى: ليحسب المسلمون أن المحرَّف من التوراة. قال ابن الخطيبِ: «لَيُّ اللسان شبيه بالتشدُّقِ والتنطُّع والتكلُّف - وذلك مذموم - فعبَّر الله عن قراءتهم لذلك الكتاب الباطل بلَيِّ اللسان؛ ذمًّا لهم، ولم يُعَبِّر عنها بالقراءة. والعرب تفرِّق بين ألفاظ المدح والذم في الشيء الواحد، فيقولون - في المدح -: خطيب مِصْقَع، وفي الذم: مِكْثَارٌ، ثَرْثَارٌ فالمراد بقوله: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب} أي: بقراءة ذلك الكتاب الباطل» . فصل قال القفَّالُ: معنى قوله: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ} أن يعمدوا إلى اللفظة، فيحرفونها عن حركات الإعراب تحريفاً يتغيَّر به المعنى، وهذا كثيرٌ في لسان العرب، فلا يبعد مثله في العبرانية، فكانوا يفعلون ذلك في الآياتِ الدالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة. وروي عن ابنِ عباسٍ قال: إن النفر الذين لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، كتبوا كتاباً شوَّشوا فيه نعتَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وخلطوه بالكتاب الذي كان فيه نعت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قالوا: هذا من عند الله. فصل قال جمهور المفسّرين: هذا النفر هم: كعب بن الأشرف، ومالك بن الصيف، وحيي بن أخطب، وأبو ياسر، وشعبة بن عمرو الشاعر. {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ} يعطفونها بالتحريف والتغيير، وهو ما غيّروا من صفة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وآية الرجم، وغير ذلك. {لِتَحْسَبُوهُ} أي: لتظنوا ما حرفوا {مِنَ الكتاب} الذي أنزله الله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أنَّهم الكاذبون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 343 وروى الضحاكُ عن ابن عباسٍ أن الآية نزلت في اليهود والنصارى جميعاً، وذلك أنهم حرَّفوا التوراة والإنجيلَ، وألحقوا بكتاب الله ما ليس منه. فإن قيل: كيف يمكن إدخالُ التحريف في التوراة، مع شُهْرتها العظيمة؟ فالجوابُ: لعله صدر هذا العمل عن نفر قليلٍ، يجوز تواطؤهم على التحريف، ثم إنهم عرضوا ذلك المحرَّف على بعض العوامِّ، وعلى هذا التقدير يكون هذا التحريف ممكناً. قال ابن الخطيب: «والأصوب - عندي - في الآية أن الآياتِ الدَّالَّةِ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يُحتاج فيها إلى تدقيق النظرِ والتأمُّل، والقوم كانوا يُورِدون عليها الأسئلة المشوشة، والاعتراضات المظلمة، فكانت تصير تلك الدلائل مشتبهةً على السَّامِعِينَ، واليهود كانو يقولون: مراد اللهِ من هذه الآياتِ ما ذكرناهُ - لا ما ذكرتم - فكان هذا هو المراد بالتحريف وَلَيِّ الألسنةِ، كما أن المُحِقَّ - في زمننا - إذا استدل بآيةٍ فالمُبْطِل يورد عليه الأسئلةَ والشبهاتِ، ويقول: لَيْسَ مُرَادُ اللهِ - تعالى - ما ذكرت، بل ما ذكرناه، فكذا هنا، والله أعلمُ» . فإن قيل: ما الفرق بين قوله: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} وبين قوله: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} ؟ فالجوابُ: أن المغايرة حاصلة؛ لأنه ليس كل ما لم يكن في الكتاب لم يكن من عند الله تعالى؛ فإن الحكم الشرعيَّ قد ثبت تارةً بالكتاب، وتارةً بالسنَّةِ، وتارة بالإجماع، وثارةً بالقياس، والكل من عند الله تعالى - فقوله: {لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الكتاب وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ} هذا نفيٌ خاصٌّ، ثم عطف النفي العام فقال: {وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ الله} فلا يكون تكراراً. وأيضاً يجوز أن يكون المراد من الكتاب التوراة، ويكون المراد من قولهم: {هُوَ مِنْ عِنْدِ اللًّهِ} أنه موجود في كتاب سائر الأنبياء عليهم السلام مثل شعيب وأرميا؛ وذلك لأن القومَ في نسبة ذلك التحريفِ إلى الله تعالى كانوا متحيرين فإن وجدوا قوماً من الأغمار والبُلْه الجاهلين بالتوراة نسبوا ذلك المحرَّف إلى أنه من عنده، وإن من وجدوا قوماً عُقَلاَء أذكياء زعموا أنه موجودٌ في كتب سائر الأنبياءِ، الذين جاءوا بعد موسى عليه السَّلاَمُ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 قال مقاتل والضَّحّاكُ {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} يعني عيسى - عليه السلام - وذلك أن نصارَى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 344 نجرانَ كانوا يقولون: إن عيسى أمرهم أن [يتخذوه] ربًّا، فأنزل الله هذه الآية. وقال ابن عباس وعطاء: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب} أي: القرآن وذلك أن أبا رافع القُرظِي - من اليهود، والرئيس - من نصارى نَجْران، قالا: يا محمد، أتريد أن نعبدَك ونتخذك رباً؟ قَالَ: «مَعَاذَ اللهِ أنْ نَأمُرَ بِعبَادَةِ غَيْرِ اللهِ، مَا بِذَلِكَ بَعَثَنِي اللهُ، وَلاَ بِذَلِكَ أمَرَنِي اللهُ» فأنزل الله هذه الآية. قال ابن عباسٍ: لما قالت اليهودُ: عُزَيْر ابنُ الله وقالت النصارى: المسيح ابنُ اللهِ نزلت هذه الآية. والبشر جميع بني آدم، لا واحد له من لفظه - كالقوم والجيش - ويوضع موضع الواحدِ، والجمع، قال القرطبي: «لأنه بمنزلة المصدر» . قوله: {أَن يُؤْتِيهُ} اسم «كَانَ» و «الْبَشَر» خبرها. وقوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ} عطف على «يُؤتيهُ» ، وهذا العطفُ لازم من حيث المعنى؛ إذ لو سكت عنه لم يصحّ المعنى؛ لأن الله - تعالى - قد آتى كثيراً من البشر الكتابَ والحُكْمَ والنبوةَ، وهذا كما يقولون - في بعض الأحوال والمفاعيل -: إنها لازمة فلا غرو - أيضاً - في لزوم المعطوف. وإنما بينا هذا؛ لأجل قراءة تأتي - إن شاء اله تعالى - ومعنى مجيء هذا النَّفي في كلام العرب، نحو: «ما كان لزيد أن يفعل» ، كقوله تعالى: {مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا} [النور: 16] . وقوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} [النساء: 92] وقوله: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35] أي: ما ينبغي لنا، ونحوه بنفي الكون والمراد نفي خبره، وهو على قسمين: قسم يكون النفي فيه من جهة العقل؛ ويُعَبَّر عنه بالنفي التام - كهذه الآية - لأن الله - تعالى - لا يُعْطي الكتاب بالحكم والنبوة لمن يقول هذه المقالة الشنعاء، ونحوه: {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} [النمل: 60] وقوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 145] . وقسم يكون النفي فيه على سبيل الانتفاء، كقول أبي بكر: ما كان لابن أبي قحافة أن يتقدم فيصلي بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويُعْرَف القسمان من السياق. وقرأ العامة «يَقُولَ» - بالنصب - نسقاً على «يؤتيه» والتقدير: لا يجتمع النبوة وهذا القول. والعامل فيه «أن» وهو معطوف عليه بمعنى: ثم أن يقول. والمراد بالحكم: الفَهْم والعلم. وقيل: إمضاء الحكم عن الله - عَزَّ وَجَلَّ -. و {الكتاب} القرآن. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 345 وقرأ ابن كثير - في رواية شبل بن عباد - وأبو عمرو - في رواية محبوب -: «يقولُ» - بالرفع - وخرَّجوها على القطع والاستئناف، وهو مُشْكِلٌ؛ لما تقدم من أن المعنى على لزوم ذكر هذا المعطوف؛ إذْ لا يستقلّ ما قبله؛ لفساد المعنى، فكيف يقولون: على القطع والاستئناف. قوله: {عِبَادًا} حكى الواحديُّ - عن ابن عباسٍ - أنه قال في قوله تعالى: {كُونُواْ عِبَاداً لِّي} أنه لغة مزينة ويقولون للعبيد: عباد. قال ابنُ عطِية: ومن جموعه: عَبِيد وعِبِدَّى. قال بعض اللغويين: هذه الجموع كلُّها بمعنًى. وقال بعضهم: العبادُ للهِ، والعبيدُ والعِبِدَّى للبشر. وقال بعضهم: العِبِدَّى إنما تقال في العبد من العَبيد، كأنه مبالغة تقتضي الإغراق في العبودية، والذي استقرأت في لفظ «العباد» أنه جَمْع عَبْد متى سيقت اللفظة في مضمار الترفُّع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير، وتصغير الشأن، وانظر قوله: {والله رَؤُوفٌ بالعباد} {بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ} [الأنبياء: 26] وقوله: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] وقول عيسى في معنى الشفاعة والتعريض {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ} [المائدة: 118] ، وأما العبيد، فتستعمل في تحقيره. ومنه قول امرئ القيس: 1527 - قُولاَ لِدُودَانَ عَبِيدِ العَصَا ... مَا غَرَّكُمْ بِالأسَدِ الْبَاسِلِ وقال حمزة بن عبد المطلب: «وَهَلْ أنْتُمْ إلاَّ عَبِيدٌ لأبِي» ؟ ومنه قوله: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] لأنه مكان تشفيق وإعلام بقلة أنصارهم ومقدرتهم، وأنه - تعالى - ليس بظلامٍ لهم مع ذلك. ولما كانت «العباد» تقتضي الطاعة لم تقع هنا، ولذلك أتى بها في قوله تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] فهذا النوع من النظر يسلك به سبيل العجائب في فصاحة القرآن على الطريقة العربية. قال أبو حيّان: «وفيه بعض مناقشة، أما قوله: ومن جموعه عَبِيد وعِبِدَّى، فأما عبيد، فالأصح أنه جمع، وقيل اسم جمع. وأما عِبِدَّى فإنه اسم جمع، وألفه للتأنيث» . قال شهابُ الدّينِ: «لا مناقشة، فإنه إنما يعني جَمْعاً معنويًّا، ولا شك أن اسمَ الجمع جَمْعٌ معنويٌّ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 346 قال: وأما ما استقرأه من أن «عِباداً» يساق في [مضمار] الترفُّع والدلالة على الطاعة، دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير، وإيراده ألفاظاً في القرآن بلفظ «العباد» وأما قوله: وأما العبيد، فيستعمل في تحقيره - وأنشد بيت امرئ القيس، وقول حمزة: «وهل أنتم إلا عبيد أبي» ، وقوله تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] فاستقراء ليس بصحيح، إنما كثر استعمال «عباد» دون «عبيد» لأن «فعالاً» في جمع «فَعْل» غير الياء والعين قياس مُطَّردٌ، وجمع فَعْل على «فعيل» لا يطَّرد. قال سيبويه: «وربما جاء» فعيلاً «وهو قليل - نحو الكليب والعبيد» . فلما كان «فِعَال» مقيساً في جمع «عبد» جاء «عباد» كثيراً، وأما {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] فحسَّنَ مجيئه هنا - وإن لم يكن مقيساً - أنه جحاء لتواخي الفواصل، ألا ترى أن قبله: {أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] وبعده {قالوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} [فصلت: 47] فحَسَّنَ مجيئه بلفظ العبيد مؤاخاة هاتين الفاصلتين. ونظير هذا - في سورة ق - {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق: 29] لأن قبله: {وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد} [ق: 28] . وبعده: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امتلأت وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} [ق: 30] وأما مدلوله فمدلول «عباد» سواء، وأما بيت امرئ القيس فلم يُفْهَم التحقير من لفظ «عبيد» إنما فُهم من إضافتهم إلى العصا، ومن مجموع البيت. وكذلك قول حمزةَ: هل أنتم إلا عبيد؟ إنما فهم التحقير من قرينة الحال التي كان عليها، وأتى في البيت وفي قول حمزة على أحد الجائزين. وقال شهابُ الدينِ: «رده عليه استقراءه من غير إثباته ما يجرِّم الاستقراء مردود، وأما ادِّعاؤه أن التحقير مفهوم من السياق - دون لفظ -» عبيد «- ممنوع؛ لأنه إذا دار إحالة الحكم بين اللفظ وغيره، فالإحالة على اللفظ أوْلَى» . قوله: «لي» صفة ل «عباد» . و {مِن دُونِ الله} متعلق بلفظ «عِبَاداً لما فيه من معنى الفعل، ويجوز أن يكون صفة ثانية، وأن يكون حالاً؛ لتخصُّص النكرة بالوصف. قوله: {ولكن كُونُواْ} أي: ولكن يقول: كونوا، فلا بد من إضمار القول هنا، ومذهب العرب جواز الإضمار إذا كان في الكلام ما يدل عليه، كقوله تعالى: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [آل عمران: 106] أي: يقال لهم ذلك. والربانيون: جمع رَبَّانِيّ، وفيه قولان: أحدهما: قال سيبَوَيْهِ: إنه منسوب إلى الرَّبّ، يعني كونه عالماً به، ومواظباً على طاعته، كما يُقال: رجل إلهيّ إذا كان مقبلاً على معرفة الإلهِ وطاعتِهِ، والألف والنونُ فيه زائدتان في النسبِ، دلالةٌ على المبالغة كرقباني وشَعراني، ولِحْيَاني - للغليظِ الرقبةِ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 347 والكثيرِ الشعرِ، والطويلِ اللحيةِ - ولا تُفرد هذه الزيادة عن النسب أما إذا نسبوا إلى الرقبة والشعر واللحية - من غير مبالغة: قالوا: رَقَبيّ وشَعْرِيّ ولحويّ. الثاني: قال المُبَرِّدُ: الربانيون: أرباب العلم، منسوب إلى رَبَّان، والربان: هو المُعَلِّم للخير، ومَن يوسوس للناس ويعرِّفُهم أمرَ دينهم، فالألف والنون والتاء على زيادة الوصف، كهي في عطشان وريان وجوعان ووسنان، ثم ضمت إليه ياء النسب - كما قيل: لحيانيّ ورقبانيّ - وتكون النسبة - على هذا - في الوصف نحو أحمري، قال: [الرجز] 1528 - أطَرَباً وَأنتَ قِنَّسْرِيُّ ... وَالدَّهْرُ بِالإنْسَانِ دَوَّارِيُّ وقال سيبويه: زادوا ألفاً ونوناً ف يالربانيّ؛ لأنهم أرادوا تخصيصاً بعلم الرَّبِّ دون غيره من العلوم، وهذا كما يقال: شعرانيّ ولحيانيّ ورقبانيّ. قال الواحديُّ: فعلى قول سيبويه الرباني منسوب إلى الربِّ مأخوذٌ من التربية. وفي التفسير: كونوا فقهاء، علماء، عاملين. قاله عليٌّ وابن عباس والحسنُ. وقال قتادةُ: حكماء، علماء وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: فقهاء، معلمين. وقل عطاءٌ: علماء، حكماء، نصحاء لله في خلقه. وقيل: الرَّبَّانِيّ: الذي يُربِّي الناسَ بصغار العلم قَبل كِباره. وقال سعيد بن جُبَيرٍ: الرباني: العالم الذي يعمل بعلمه. وقيل: الربانيون فوق الأحبار، والأحبارُ: العلماء، والربانيون: الذين جمعوا مع العلم البصارة لسياسة الناس، ولما مات ابنُ عبَّاسٍ قال محمدُ بنُ الحنفيةَ: اليوم مات رَبَّانِيُّ هذه الأمة. وقال ابنُ زيدٍ: الربانيُّ: هو الذي يربُّ النَّاسَ، والربانيون هم: ولاة الأمة والعلماء، وذكروا هذا - أيضاً - في قوله تعالى: {لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار} [المائدة: 63] أي: الولاة والعلماء، وهما الفريقان اللذان يطاعان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 348 ومعنى الآية - على هذا التقدير - لا أدعوكم إلى أن تكونوا عباداً لي، ولكن أدعوكم إلى أن تكونوا ملوكاً وعلماء باستعمالكم أمر الله تعالى، ومواظبتكم على طاعته. قال القفال: يحتمل أن يكون الوالي، سُمِّي ربانيًّا؛ لأنه يُطاع كالربِّ، فنسب إليه. قال أبو عبيدة: أحسب أن هذه الكلمة ليست بعربيةٍ، إنما هي عبرانية، أو سريانية، وسواء كانت عبرانية، أو سريانية، أو عربية فهي تدل على الإنسان الذي عَلِمَ وعَمِلَ بما عَلِم، ثم اشتغل بتعليم الخيرِ. قوله: {بِمَا كُنْتُمْ} الباء سببية، أي: كونوا علماء بسبب كَوْنِكُمْ، وفي متعلق هذه الباء ثلاثة أقوالٍ: أحدها: أنها متعلقة ب «كُونُوا» ذكره أبو البقاء، والخلاف مشهورٌ. الثاني: أن تتعلق ب «رَبَّانِيِّينَ» لأن فيه معنى الفعل. الثالث: أن تتعلق بمحذوف على أنها صفة ل «رَبَّانِيِّينَ» ذكره أبو البقاء، وليس بواضح المعنى، و «ما» مصدرية، فتكون مع الفعل بتأويل المصدر، أي: بسبب كونكم عالمينَ، نظيره قوله: {اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ} [الجاثية: 34] . وظاهر كلام أبي حيان أنه يجوز أن تكون غير ذلك؛ فإنه قال: و «ما» الظاهر أنها مصدرية، فهذا يوم تجويز غير ذلك - وفي جوازه بُعْد - وهو أن تكون موصولة، وحينئذ تحتاج إلى عائد وهو مقدر، أي بسبب الذي تعلمون به الكتاب، وقد نقص شرطٌ، وهو اتحاد المتعلَّق، فلذلك لم يظهر جعلها غير مصدرية. و «كُنْتُمْ» معناه «أنتم» كقوله: {مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} [مريم: 29] أي مَنْ هو في المهد. قوله: {تَعْلَمُونَ} قرأ نافعٌ وابنُ كثير وأبو عمرو «تَعْلَمُونَ» مفتوح حرف المضارعة، ساكن العين مفتوح اللام من عَلِم يَعْلَم، أي: تعرفون، فيتعدى لواحدٍ، وباقي السبعة بضم حرف المضارعة، وفتح العين وتشديد اللام مكسورةً، فيتعدى لاثنين، أولهما محذوف، تقديره: تُعَلِّمُونَ الناسَ والطالبين الكتاب. ويجوزُ أن لا يُراد مفعول، أي: كنتم من أهل التعليم، وهو نظير: أطعم الخبزَ، المقصود الأهم إطعام الخُبْز من غير نظرٍ إلى مَنْ يُطْعمُه، فالتضعيف فيه للتعدية. وقد رجح جماعة هذه القراءة على قراءة نافع، بأنها أبلغ؛ وذلك أن كل مُعَلِّم عالم، وليس كُلُّ عالمٍ معلماً، فالوصْف بالتعليم أبلغ، وبأن قبله ذِكْرَ الربانيين، والرباني يقتضي أن يَعْلَم، ويُعَلَّمَ غيرَه، لا أن يقتصر بالعلم على نفسه. ورجح بعضُهم الأولى بأنه لم يُذْكَر إلا مفعول واحدٌ، والأصل عدم الحذف - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 349 والتخفيف مُسوَّغ لذلك، بخلاف التشديد، فإنه لا بدّ من تقدير مفعول. وأيضاً فهو أوفق لِ «تَدْرُسُونَ» . والقراءتان متواترتان، فلا ينبغي ترجيحُ إحداهما على الأخْرى. وقرأ الحسن ومجاهدٌ «تَعَلَّمُونَ» - بفتح التاء والعين، واللام مشددة - من تعلم، والأصل تتعلمون - بتاءين - فحُذِفَتْ إحداهما. قوله: {وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ} كالذي قبله، والعامة على «تَدْرُسُونَ بفتح التاء، وضم الراء - من الدرس، وهو مناسب» تَعْلَمُونَ «من علم - ثلاثياً. قال بعضهم: كان حق من يقرأ» تُعَلِّمون «- بالتشديد - أن يقرأ» تُدَرِّسُونَ «- بالتشديد وليس بلازمٍ؛ إذ المعنى: صرتم تُعَلِّمون غيرَكم، ثم تُدَرِّسُونَ، وبما كنتم تدرسون عليهم - أي: تتلونه عليهم، كقوله: {لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس} [الإسراء: 6] . قال أبو حَيْوَةَ - في إحدى الرواتين عنه -» تَدْرِسُونَ «- بكسر الراء - وهي لغة ضعيفة، يقال: دَرَس العلم يدرسه - بكسر العين في المضارع - وهما لغتان في مضارع» درس «وقرأ هو - أيضاً - في رواية» تُدَرِّسُونَ «من درَّس - بالتشديد - وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون التضعيف فيه للتكثير موافقاً لقراءة» تَعْلَمُونَ «بالتخفيف. الثاني: أن التضعيف للتعدية، ويكون المفعولان محذوفين؛ لغهم المعنى، والتقدير: تُدَرِّسُونَ غيركم العلم، أي: تحملونهم على الدرس. وقُرِئَ» تُدْرِسُونَ «من أدرس - كيكرمون من أكرم - على أن أفعل بمعنى فعل - بالتشديد - فأدرس ودرّس واحد كأكرم وكرّم، وأنزل ونزّل. والدرس: التكرار والإدمان على الشيء. ومنه: درس زيد الكتاب والقرآن، يدرُسه ويدرِسه، أي: كرر عليه، ويقال درست الكتاب، أي: تناولت أثره بالحفظ، ولما كان ذلك بمداومة القرآن عبر عن إدامة القرآن بالدرس. ودَرَس المنزلُ: ذهب أثرُه، وطلَلٌ عافٍ ودارس بمعنًى. قوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} قرأ ابن عامر وعاصم وحمزة بنصب يَأمُرَكُمْ» والباقون بالرفع وأبو عمرو على أصله من جواز تسكين الراء والاختلاس، وهي قراءة واضحة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 350 سهلة التخريج، والمعنى، وذلك أنها على القطع والاستئناف. أخبر تعالى - بأن ذلك الأمر لا يقع، والفاعل فيه احتمالان: أحدهما: هو ضمير الله - تعالى -. الثاني: هو ضمير الموصوف المتقدم. والمعنى: ولا يأمركم الله، وقال ابن جريج وجماعة: ولا يأمركم محمد أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً وقيل: لا يأمركم عيسى. وقيل: لا يأمركم الأنبياء أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرْباباً، كفعل قريش والصابئين - حيث قالوا في المسيح هو العزير. والمعنى على عوده على «بَشَر» أنه لا يقع من بشر موصوفٍ بما وُصِفَ به أن يَجْعَل نفسه ربًّا، فيُعْبَدَ، ولا يأمر - أيضاً - أن تُعْبَد الملائكةُ والنبيون من دون الله، فانتفى أن يدعوَ الناسَ إلى عبادة نفسه، وإلى عبادة غيره - والمعنى - على عَوْده على الله - تعالى - أنه تعالى أخْبَر أنه لم يَأمُرْ بذلك، فانتفى أمر الله وأمر أنبيائه بعبادة غيره تعالى. وأما قراءة النصب ففيها وجوهٌ: أحدها: قول أبي علي وغيره، وهو أن يكون المعنى: دلالة أن يأمركم، فقدروا «أن» مضمرة بعده وتكون «لا» مؤكِّدة لمعنى النفي السابق، كما تقول: ما كان من زيد إتيان ولا قيام وأنت تريد انتفاء كل واحد منهما عن زيد، ف «لا» للتوكيد لمعنى النفي السابق، وبقي معنى الكلام: ما كان من زيد إتيان، ولا منه قيام. الثاني: أن يكون نصبه لنَسَقه على {أَن يُؤْتِيهُ} قال سيبويه: والمعنى: وما كان لبَشَرٍ أن يأمركم أن تتخِذُوا الملائكة. قال الواحديُّ: ويُقوي هذا الوجهَ ما ذكرنا من أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتريد يا محمدُ أن نتخذَك رَبًّا؟ فنزلت. الثالث: أن يكون معطوفاً على «يَقُولُ في قراءة العامة - قاله الطَّبَريُّ. قال ابن عطيةَ:» وهذا خَطأ لا يلتئم به المعنى «، ولم يبين أبو مُحَمدٍ وَجْهَ الخَطَأ» ولا عدم التآم المعنى. قال أبو حيّان: «وجه الخطأ أنه إذا كان معطوفاً على» يَقُولَ «وجعل» لا للنفي - على سبيل التأسيس لا على سبيل التأكيد - فلا يمكن أن يُقَدَّر الناصب - وهو «أن» - إلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 351 قبل «لا» النافية، وإذا قدرها قبلها انسبك منها ومن الفعل المنفي ب «لا» مصدر منفي، فيصير المعنى: ما كان لبشر موصوف بما وُصِفَ به انتفاء أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً - وإذا لم يكن له انتفاء الأمر بذلك كان له ثبوت الأمر بذلك، وهو خَطَأ بيِّن. أما إذا جعل «لا» لتأكيد النفي لا لتأسيسه فلا يلزم خَطَأ، ولا عدم التئام المعنى؛ وذلك أنه يصير النفي مستحباً على المصدرين المقدَّرِ ثبوتهما، فينتفي قوله: {كُونُواْ عِبَاداً لِّي} وينتفي أيضاً أمره باتخاذ الملائكة والنبيين أرباباً. ويوضِّح هذا المعنى وَضْعُ «غير» موضع «لا» فإذا قلتَ: ما لزيد فقهٌ ولا نحوٌ. كانت «لا» لتأكيد النفي، وانتفى عنه الوَصْفان، ولو جعلت «لا» لتأسيس النفي كانت بمعنى «غير» فيصير المعنى انتفاء الفقه عنه، وثبوت النحو له؛ إذ لو قلت: ما لزيد فقه غير نحو، ك ان في ذلك إثبات النحو له، كأنك قلتَ: ما له غير نحو، ألا ترى أنك إذا قلت: جئت بلا زادٍ، كان المعنى: جئت بغير زاد وإذا قلت: ما جئت بغير زادٍ، معناه أنك جئت بزاد؛ لأن «لا» هنا لتأسيس النفي، فإطلاق ابن عطية الخطأ وعدم التئامِ المعنى إنما يكون على أحد التقديرين، وهو أن يكون «لا» لتأسيس النفي لا لتأكيده، وأن يكون من عطف المنفي ب «لا» على المثبت الداخل عليه النفي نحو: ما أريد أن تجهل وألا تتعلم، تريد: ما أريد أن لا تتعلم «. وتابع الزمخشريُّ الطبريَّ في عطف» يَأمُرَكُم «على» يَقُولَ «وجوَّزَ في طلا» الداخلة عليه وجهين: أحدهما: أن يكون لتأسيس النفي. الثاني: أنها مزيدة لتأكيده، فقال: وقُرِئ {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} بالنصب؛ عطفاً على «ثُمَّ يَقُولَ» وفيه وجهان: أحدهما: أن تجعل «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ} . والمعنى: ما كان لبشر أن يستنبئه الله تعالى، ويُنَصِّبه للدعاء إلى اختصاص الله بالعبادة وترك الأنداد، ثم يأمر الناس بأن يكونوا عباداً لهم، ويأمركم أن تتخذوا الملائكة والنبيين أرباباً، كقولك: ما كان لزيد أن أكرمه، ثم يهينني ولا يستخف بي. والثاني: أن يُجْعَل «لا» غير مزيدة، والمعنى أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان ينهَى قُرَيشاً عن عبادة الملائكة واليهود والنصارى عن عبادةِ عُزَيْرٍ والمسيح، فلما قالوا له: أنتخذك ربًّا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه الله ثم يأمر الناس بعبادته، وينهاكم عن عبادة الملائكة والأنبياء. قال شهاب الدينِ: «وكلام الزمخشري صحيحٌ، ومعناه واضح على كلا تقديري كون» لا «لتأسيس النفي وتأكيده فكيف يَجْعَل الشيخُ كلامَ الطبريِّ فاسداً على أحد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 352 التقديرين - وهو كونها لتأسيس النفي فقد ظهر صحةُ كلام الطبريِّ بكلام الزمخشريِّ، وظهر أن رَدَّ ابنِ عطيةَ عليه مردودٌ» . وقد رجح الناس قراءةَ الرفعِ على النصبِ. قال سيبويه: ولا يأمركم منقطعة مما قبلها؛ لأن المعنى ولا يأمركم الله. قال الواحدي: ومما يدل على انقطاعها من النسق، وأنها مُسْتأنفة، فلما وقعت «لا» موقع «لن» رفعت كما قال تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم} [البقرة: 119] وفي قراءة، عبد الله: ولن تُسْأل. قال الزمخشريُّ: والقراءة بالرفع على ابتداء الكلام أظهر، ويعضدُهَا قراءةُ عبد الله: «ولَنْ يَأمُرَكم» وقد تقدم أن الضمير في «يَأمُركُمْ» يجوز أن يعود على «الله» وأن يعود على البشر الموصوف بما تقدم والمراد به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو أعم من ذلك. وسواء قرئ برفع {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ} وبنصبه إذا جعلناه معطوفاً على «يَقُولَ» فإن الضمير يعود على «بشر» لا غير، [ويؤيد هذا قولُ بعضهم: ووجه القراءة بالنصب أن يكون معطوفاً على الفعل المنصوب قبله، فيكون الضمير المرفوع لِ «بشر» لا غير يعني بما قبله «ثُمَّ يَقُولَ» . ولما ذكر سيبويه قراءة الرفع جعل الضمير عائداً على «الله» تعالى ولم يذكر غير ذلك، فيحتمل أن يكون هو الأظهر عنده، ويُحْتَمَل أنه لا يجوز غيرُه، والأول أوْلَى. قال بعضهم: وفي الضمير المنصوب في «يَأمُرُكُمْ» - على كلتا القراءتين - خروج من الغيبة إلى الخطاب على طريق الالتفات، فكأنه توهم أنه لما تقدم في قوله ذكر النافي - في قوله: {ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ} كان ينبغي أن يكون النظم ولا يأمرهم؛ جرياً على ما تقدم، وليس كذلك، بل هذا ابتداء خطابٍ، لا التفات فيه. قوله: {أَيَأْمُرُكُم بالكفر} الهمزة للاستفهام بمعنى الإنكار، يعني أنه لا يفعل ذلك. قوله: {بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} «بَعْدَ» متعلق ب «يَأمُرُكُمْ» وبعد ظرف زمان مضاف لظرف زمان ماضٍ وقد تقدّم أنه لا يضافُ إليه إلا الزمان، نحو حينئذٍ ويومئذٍ. و {أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} في محل خفض بالإضافة؛ لأن «إذْ» تضاف إلى الجملة مطلقاً. قال الزمخشريُّ: «بَعْدَ إذ أنْتُمْ مُسْلِمُونَ» دليلٌ على أن المخاطبين كانوا مسلمين، وهم الذين استأذنوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يَسْجُدُوا له. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 353 العامل في «إذْ» وجوه: أحدها: «اذكر» إن كان الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الثاني: «اذكروا» إن كان الخطاب لأهل الكتابِ. الثالث: اصطفى، فيكون معطوفاً على «إذْ» المتقدمة قبلها، وفيه بُعْدٌ؛ بل امتناع؛ لبُعْده. الرابع: أن العامل فيه «قَالَ» في قوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} وهو واضح. وميثاق، يجوز أن يكون مضافاً لفاعله، أو لمفعوله، وفي مصحف أبيّ وعبد الله وقراءتهما: {مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [آل عمران: 187] . وعن مجاهد، وقال: أخطأ الكاتب. قال شهابُ الدين: «وهذا خطأٌ من قائله - كائناً مَنْ كان - ولا أظنه عن مجاهد؛ فإنه قرأ عليه مثل ابن كثير وأبي عمرو بن العلاء، ولم يَنْقُلْ عنه واحدٌ منهما شيئاً مِنْ ذلك» . والمعنى على القراءة الشهيرة صحيح، وقد ذكروا فيها أوجهاً: أحدها: أن الكلام على ظاهرهِ، وأن الله تعالى - أخذ على الأنبياء مواثيق أنهم يُصَدِّقون بعضهم بعضاً وينصر بعضُهم بعضاً، بمعنى: أنه يوصي قومه أن ينصروا ذلك النبي الذي يأتي بعده، ولا يخذلوه وهذا قول سعيد بن جبيرٍ والحسن وطاووس. وقيل هذا الميثاقُ مختص بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا مرويٌّ عن عليٍّ وابن عباس وقتادةَ والسدي، واحتج القائلون بهذا بقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين} [آل عمران: 81] وهذا يدل على أن الآخذ [هو الله - تعالى - والمأخوذ منهم هم النبيون، وليس في الآية ذكر الأمة، فلم يحسن صرف الميثاق إلى الأمة] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 354 وأجيب بأن على الوجه الذي قلتم يكون الميثاقُ مضافاً إلى الموثَقِ عليه. وعلى قولنا إضافته [إليهم إضافة الفعل إلى الفاعل - وهو الموثق - وإضافة الفعلِ إلى الفاعل أقوى من إضافته] إلى المفعول؛ فإن لم يكن فلا أقل من المساواة، وهو كما يقال: ميثاقُ اللهِ وعهجه، فيكون التقدير: وإذ أخذ اللهُ الميثاق الذي وثقه الأنبياء على أمَمِهم. ويمكن أن يُراد ميثاق أولاد النبيين - وهم بنو إسرائيلَ - على حذف مضافٍ [وهو كما يقال: «فعل بكر بن وائل كذا» ، و «فعل معد بن عدنان كذا» ، والمراد أولادهم وقومهم، فكذا ههنا] . ويحتمل أن يكون المراد من لفظ «النَّبِيِّينَ» أهل الكتاب، فأطلق لفظ «النَّبِيِّينَ» عليهم؛ تهكُّماً بهم على زعمهم؛ لأنهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوة من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنا أهل الكتاب، ومنا النبيون، قاله الزمخشريُّ. ويمكن أنه ذكر النبي والمراد أمته كقوله: {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ} [الطلاق: 1] . واحتجوا - أيضاً - بما روي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لَقَدْ جِئْتُكُمْ بِهَا بَيْضَاءَ نَقِيَّةٌ، أمَا وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بْنُ عمْرانَ حَيًّا لَمَا وَسعهُ إلاَّ اتِّبَاعِي» . وبما روي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: «إن الله - تعالى - ما بعث آدم وَمَنْ بعده من الأنبياء عليهم السلام إلا أخذ العهد عليه لئن بُعِث محمدٌ وهو حَيٌّ ليؤمننَّ به، ولينصرنه» . القول الثاني: أن الميثاق مضاف لفاعله، والموثق عليه غير مذكور؛ لفهم المعنى، والتقدير: ميثاق النبيِّين على أممهم، ويؤيده قراءة أبَيّ وعبد الله، ويؤيده - أيضاً - قوله: {فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك} [آل عمران: 82] والمراد من الآية أن الأنبياء كانوا يأخذون الميثاق من أمهم بأنه إذا بُعِث محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُؤمِنوا به وينصروه وهو قول مجاهدٍ والربيع، واحتجوا بقوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} [آل عمران: 81] وإنما كان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبعوثاً إلى أهل الكتابِ دون النبيين. وقال أبو مسلم: ظاهر الآية يدل على أن الذين أخذ اللهُ الميثاق منهم، يجب عليهم الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند مبعثه وكل الأنبياءِ يكونون عند مبعثه عليه السَّلامُ من زمرة الأموات والميت لا يكون مكلفاً، فعلمنا أن المأخوذ عليهم الميثاق ليسوا هم النبيين بل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 355 أممهم، ويؤكِّد هذا أنه - تعالى - حكم على مَنْ أخِذ عليهم الميثاقُ أنهم لو تولوا كانوا فاسقين، وهذا الوصف لا يليق بالأنبياء، وإنما يليق بالأمم. قال القفال عن هذا الاستدلال بأنه لا يجوز أن يكون المراد من الآية أن الأنبياء لو كانوا في الحياة لوجب عليهم الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بل يكون هذا كقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] وقد علم الله تعالى أنه لا يُشرك قط، ولكن خرج هذا على سبيل الفَرْض والتقدير، وكقوله: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 44 - 46] وكقوله في صفة الملائكة: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين} [الأنبياء: 29] وكل ذلك على سبيل الفرض والتقدير - فكذا هنا - وقوله: إنه سماهم فاسقين فهو على تقدير التولي، واسم الشرك أقبح من اسم الفسق - وقد ذكره - تعالى - على سبيل الفرض في قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] . واحتجوا - أيضاً - بأن المقصود من الآية أن يؤمن الذين كانوا في زمان الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإذا كان الميثاق مأخوذاً عليهم كان ذلك أبلغ في تحصيل هذا المقصود من أن يكون مأخوذاً على الأنبياء وأجيب عن ذلك بأن درجاتِ الأنبياء أعلى وأشرف من درجات الأمم، فإذا دلت الآيةُ على أن اللهَ أوجب على جميع الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو كانوا أحياءً - وأنهم لو تركوا ذلك لصاروا من زمرة الفاسقين، فلأن يكون الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واجباً على أممهم كان أولى. واحتجوا أيضاً بما روي عن ابن عباس قال: إنما أخذ الله ميثاقَ النَّبِيِّين على قومهم. وبقوله تعالى: {اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] وبقوله: {وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [آل عمران: 187] . وقال بعض أصحاب القول الأول: المعنى: أن الله أخذ ميثاق النبيين أن يأخذوا الميثاق على أممهم أن يؤمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وينصروه، ويصدقوه - إن أدركوه. قال بعضهم: إن الله أخذ الميثاق على النبيين وأممِهم - جميعاً - في أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاكتفى بذكر الأنبياء؛ لأن العهد مع المتبوع عَهْد مع التابع، وهذا معنى قول ابن عباسٍ. قرأ العامَّة: «لما آتيتكم» بفتح لام «لما» وتخفيف الميم، وحمزة - وحده - على كسر اللام. وقرأ الحسن وسعيد بن جبير «لَمَّا» بالفتح والتشديد. فأما قراءة العامة ففيها خمسة أوجه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 356 أحدها: أن تكون «ما» موصولة بمعنى الذي، وهي مفعولة بفعل محذوف، ذلك الفعل هو جواب القسم والتقدير: واللهِ لَتُبَلِّغُنَّ ما آتيناكم من كتاب. قال هذا القائلُ: لأن لامَ القسَم إنما تقع على الفعل فلما دلت هذه اللام على الفعل حُذِف. ثم قال تعالى: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: وعلى هذا التقدير يستقيم النَّظْمُ. وقال شهاب الدينِ: وهذا الوجه لا ينبغي أن يجوز ألبتة؛ إذ يمتنع أن تقول في نظيره من الكلام: «والله لزيداً» تريد: والله لنضربن زيداً. الوجه الثاني: وهو قول أبي علي وغيره: أن تكون اللام - في «لَمَا» - جواب قوله: {مِيثَاقَ النبيين} لأنه جارٍ مَجْرَى القسم، فهي بمنزلة قولك: لزيدٌ أفضل من عمرو، فهي لام الابتداء المتلَقَّى بها القسم وتسمى اللام المتلقية للقسم. و «ما» مبتدأة موصولة و «آتيتكم» صلتها، والعائد محذوف، تقديره: آتيناكموه فحذف لاستكمال شرطه. و {مِّن كِتَابٍ} حال - إما من الموصول، وإما من عائده - وقوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} عطف على الصلة، وحينئذٍ فلا بد من رابط يربط هذه الجملةَ بما قبلها؛ فإن المعطوفَ على الصلة صِلة. واختلفوا في ذلك، فذهب بعضهم إلى أنه محذوف، تقديره: جاءكم رسول به، فحذف «به» لطول الكلام ودلالة المعنى عليه. وهذا لا يجوز؛ لأنه متى جُرَّ العائدُ لم يُحْذَف إلا بشروط، وهي مفقودةٌ هنا، [وزعم هؤلاء أن هذا مذهب سيبويه، وفيه ما قد عرفت، ومنهم من] قال: الربط حصل - هنا - بالظاهر، لأن الظاهر - وهو قوله «لما معكم» صادق على قوله: «لما آتيناكم» فهو نظير: أبو سعيد الذي رويت عن الخدري، والحجاج الذي رأيت أبو يوسف. وقال: [الطويل] 1529 - فَيَا رَبَّ لَيْلَى أنْتَ في كُلِّ مَوْطِنٍ ... وَأنْتَ الَّذِي فِي رَحْمةِ اللهِ أطْمَعُ يريد رويت عنه، ورأيته، وفي رحمته. فأقام الظاهر مقام المضمر، وقد وقع ذلك في المبتدأ والخبر، نحو قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30] ولم يقل: إنا لا نضيع، وقال تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} [يوسف: 90] ولم يقل: لا يضيع أجره وهذا رأي أبي الحسن والأخفش. وقد تقدم البحث فيه. ومنهم من قال: إن العائد يكون ضمير الاستقرار العامل في «مَعَ» و «لتؤمنن به» جوابُ قسمٍ مقدرٍ، وهذا القَسَم المقدَّر وجوابه خبر للمبتدأ الذي هو «لما آتيناكم» والهاء - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 357 في «بِهِ» - تعود على المبتدأ، ولا تعود على «رَسُولٌ» لئلاَّ يلزم خلُوّ الجملة الواقعة خبراً من رابط يربطها بالمبتدأ. الوجه الثالث: كما تقدم، إلا أن اللام في «لَمَا» لام التوطئة؛ لأن اخذ الميثاق في معنى الاستخلاف. وفي «لتؤمنن» لام جواب القسم، هذا كلام الزمخشريِّ. ثم قال: و «ما» تحتمل أن تكون المتضمنة لمعنى الشرط، و «لَتُؤمِنُنَّ» سادّ مَسَدّ جواب القَسَم والشرط جميعاً، وأن تكون بمعنى الذي. وهذا الذي قاله فيه نظرٌ؛ من حيثُ إن لام التوطئة تكون مع أدوات الشرط، وتأتي - غالباً - مع «إن» أما مع الموصول فلا يجوزُ في اللام أن تكون موطئةً وأن تكون للابتداء. ثم ذكر في «ما» الوجهين، لحملنا كل واحد على ما يليق به. الوجه الرابع: أن اللام هي الموطئة، و «ما» بعدها شرطية، ومحلها النصب على المفعول به بالفعل الذي بعدها - وهو «آتيْنَاكُمْ» ، وهذا الفعل مستقبل معنًى؛ لكونه في جزاء الشرط، ومحله الجزم، والتقدير: واللهِ لأي شيء آتيتكم من كذا وكذا ليكونن كذا، وقوله: {مِّن كِتَابٍ} ، كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] وقد تقدم تقريره. وقوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ} عطف على الفعل قبله، فيلزم أن يكون فيه رابط يربطه بما عُطِف عليه، و «لَتُؤمِنُنَّ» جواب لقوله: {أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين} وجواب الشرط محذوف، سَدَّ جوابُ القسم مَسَدَّه، والضمير في «بِهِ» عائد على «رَسُولٌ» ، كذا قال أبو حيّان. قال شهاب الدين: «وفيه نظر؛ لأنه يمكن عودُه على اسم الشرط، ويُستغنَى - حينئذٍ - عن تقديره رابطاً» . وهذا كما تقدم في الوجه الثاني ونظير هذا من الكلام أن نقول: أحلف بالله لأيهمْ رأيت، ثم ذهب إليه رجل قرشي لأحسنن إليه - تريد إلى الرجل - وهذا الوجه هو مذهب الكسائي. وقد سأل سيبويه الخليل عن هذه الآية، فأجاب بأن «ما» بمنزلة الذي، ودخلت اللام على «ما» كما دخلت على «إن» حين قلت: والله لئن فعلت لأفعلن، فاللام التي في «ما» كهذه التي في «إن» واللام التي في الفعل كهذه اللام التي في الفعل هنا. هذا نصُّ الخليلِ. قال أبو علي: لم يرد الخليل بقوله: إنما بمنزلة الذي كونها موصولة، بل إنها اسم كما أن «الذي» اسم وإما أن تكون حرفاً كما جاءت حرفاً في قوله: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ} [هود: 111] وقوله: {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا} [الزخرف: 35] . وقال سيبويه: ومثل ذلك {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [الأعراف: 18] إنما دخلت اللام على نية اليمين. وإلى كونها شرطية ذهب جماعة كالمازني والزجَّاج والفارسيّ والزمخشري. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 358 قال أبو حيّان: «وفيه خدش لطيف جدًّا» وحاصل ما ذكر: أنهم إن أرادوا تفسير المعنى فيمكن أن يقال، وإن أرادوا تفسير الإعراب فلا يصح؛ لأن كلاَّ منهما - أعني: الشرط والقسم - بطلب جواباً على حدة، ولا يمكن أن يكون هذا محمولاً عليهما؛ لأن الشرط يقتضيه على جهة العمل، فيكون في موضع جزمٍ، والقسم يطلبه على جهة التعلُّق المعنويّ به من غير عملٍ، فلا موضع له من الإعراب، ومحال أن يكون الشيءُ له موضع من الإعراب ولا موضع له من الإعراب. [وتقدم هذا الإشكال وجوابه] . الوجه الخامس: أن أصلها «لَمّا» - بالتشديد - فخُفِّفَتْ، وهذا قول أبي إسحاق وسيأتي في قراءة التشديد، وقرأ حمزة لما - بكسر اللام، خفيفة الميم - أيضاً - وفيها أربعة أوجه: أحدها: وهو أغربها - أن تكون اللام بمعنى «بَعْد» . كقول النابغة: [الطويل] 1530 - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لها فعَرفْتُهَا ... لِسِتّةِ أعْوَامٍ وَذَا الْعَامُ سَابِعُ يريد: فعرفتها بعد ستة أعوام، وهذا منقول عن صاحب النَّظْم. قال شهاب الدين: «ولا أدري ما حمله على ذلك؟ وكيف ينتظم هذا كلاماً؟ إْ يصير تقديره: وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين بعدما آتيتكم، ومَن المخاطب بذلك؟» . الثاني: أن اللام للتعليل - وهذا الذي ينبغي أن لا يُحَاد عنه - وهي متعلِّقة ب «لتؤمنن» و «ما» حينئذٍ - مصدرية. قال الزمخشري: «ومعناه: لأجل إيتائي إياكم بعض الكتاب والحكمة، ثم لمجيء رسول مصدق لتؤمنن به على أن» ما «مصدرية، والفعلان معها - أعني:» آتيناكم «و» جاءكم «- في معنى المصدرين، واللام داخلة للتعليل، والمعنى: أخذ اللهُ ميثاقهم ليؤمنن بالرسول، ولينصرنه، لأجل أن آتيتكم الكتابَ والحكمةَ، وأن الرسول الذي آمركم بالإيمان به ونُصْرَتِهِ موافق لكم، غير مخالف لكم» . قال أبو حيّان: وظاهر هذا التعليل الذي ذكره، والتقدير الذي قدره أنه تعليلٌ للفعل المقسَم فإن عنى هذا الظاهر، فهو مخالفٌ لظاهر الآية؛ لأن ظاهر الآية يقتضي أن يكون تعليلاً لأخْذ الميثاق، لا لمتعلِّقه - وهو الإيمان - فاللام متعلقة ب «أخَذَ» وعلى ظاهر تقدير الزمخشريِّ تكون متعلقة بقوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} ويمتنع ذلك من حيث إن اللام المتلَقَّى بها القسم لا يعمل ما بعدها فيما قبلها تقول: والله لأضربن زيداً، ولا يجوز: والله زيداً لأضربن، فعلى هذا لا يجوز أن تتعلق اللام في «لَمَا» بقوله: «لتؤمنن» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 359 وأجاز بعض النحويين في معمول الجواب - إذا كان ظرفاً أو مجروراً - تَقَدُّمَه، وجعل من ذلك قوله: {عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} [المؤمنون: 40] . وقوله: [الطويل] 1531 - ... ... ... ... ... ... ... . ... بِأسْحَم دَاجٍ عَوْضُ لا نتفَرَّقُ فعلى هذا يجوز أن يتعلق بقوله: {لَتُؤْمِنُنَّ} . قال شهاب الدين «أما تعلُّق اللام ب {لَتُؤْمِنُنَّ} - من حيث المعنى - فإنه أظهر من تعلُّقِها ب» أخذ «فلم يَبْقَ إلا ما ذكر من منع تقديم معمول الجواب المقترن بالام عليه، وقد يكون الزمخشريُّ ممن يرى جوازه» . والثالث: أن تتعلق اللام ب «أخَذَ» ، أي لأجل إيتائي إياكم كيت وكيت، أخذت عليكم الميثاقَ، وفي الكلام حذفُ مضاف، تقديره: رعاية ما آتيتكم. الرابع: أن تتعلق ب «المِيثاق» ، لأنه مصدر، أي: توثقنا عليهم لذلك. هذه الأوجه بالنسبة إلى اللام، وأما «ما» ففيها ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن تكون مصدرية كما تقدم عن الزمخشريِّ. والثاني: أنها موصولة بمعنى «الذي» وعائدها محذوف، و {ثُمَّ جَآءَكُمْ} ، عطف على الصلة، والرابط بالموصول إما محذوف، تقديره: به، وإما قيام الظاهر مقام المضمر، وهو رأي الأخفشِ، وإما ضمير الاستقرار الذي تضمنه «مَعَكُمْ» . والثالث: أنها نكرة موصوفة، والجملة بعدها صفتها، وعائدها محذوف، {ثُمَّ جَآءَكُمْ} عطف على الصفة، والكلام في الرابط كما تقدم فيها وهي صلة، إلا أن إقامة الظاهر مُقَامه في الصفة ممتنع، لو قلت: مررت برجل قام أبو عبد الله - على أن يكون قام أبو عبد الله صفة لرجل، والرابط أبو عبد الله، إذ هو الرجلُ في المعنى - لم يجز ذلك، وإن جاز في الصلة والخبر - عند من يرى ذلك - فيتعين عود ضمير محذوف وجواب قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ} قوله: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ} والضمير في «بِهِ» عائد على «رَسُولٌ» ويجوز الفصل بين القسم والمقسم عليه بمثل هذا الجار والمجرور، فلو قلت أقسمت لَلْخَبر الذي بلغني عن عمرو لأحْسِنَنَّ إليه، جاز. وقوله: {مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} إما حالٌ من الموصول، أو من عائده، وإمّا بيانٌ له الجزء: 5 ¦ الصفحة: 360 فامتنع في قراءة حمزة أن تكون «ما» شرطية، كما امتنع - في قراءة الجمهورِ - أن تكون مصدرية. وأما قراءة التشديد ففيها أوجهٌ: أحدها: أن «لَمَّا» هنا - ظرفية، بمعنى «حين» ثم القائل بظرفيتها اختلف تقديره في جوابها، فذهب الزمخشري إلى أن الجواب مقدَّر من جنس جواب القسم، فقال: «لَمَّا» - بالتشديد - بمعنى «حين» أي حين آتيتكم الكتاب والحكمة، ثم جاءكم رسول، وجب عليكم الإيمان به، ونُصْرَتُه. وقال ابن عطية: ويظهر أن «لَمَّا» هذه هي الظرفية، أي: لما كنتم بهذه الحال رؤساء الناس وأمثالهم أخذ عليكم الميثاق؛ إذ على القادة يُؤخَذ، فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزةَ فقدر ابن عطية جوابها من جنس ما سبقها، وهذا الذي ذهب إليه مذهبٌ مرجوحٌ، قال به الفارسيُّ والجمهور وسيبويه وأتباعه والجمهور. وقال الزجَّاجُ: أي: لما ىتاكم الكتاب والحكمة، أي: أخذ عليكم الميثاق وتكون لما يؤول إلى الجزاء، كما تقول: لما جئتني أكرمتك. وهذه العبارة لا يؤخذ منها كون «لما» ظرفية، ولا غير ذلك، إلا أن فيها عاضداً لتقدير ابن عطية جوابها من جنس ما تقدمها، بخلاف تقدير الزمخشريِّ. الثاني: أن «لَمَّا» حرف وجوب لوجوب، وهو مذهب سيبويه، وجوابها كما تقدم من تقديري ابن عطيةَ والزمخشري، وفي قول ابن عطيةَ: فيجيء على هذا المعنى كالمعنى في قراءة حمزةَ - نظر؛ إذ قراءة حمزة فيها تعليل، وهذه القراءة لا تعليل فيها، اللهم إلا أن يقال: لما كانت «لَمَّا» تحتاج إلى جواب أشبه ذلك العلة ومعمولها؛ لأنك إذا قلت: لما جئتني أكرمتك؛ في قوة: أكرمتك لأجل مجيئي إليه، فهي من هذه الجهة كقراءة حمزة. والثالث: أن الأصل: لمن ما، فأدغمت النون في الميم، لأنها تقاربها، والإدغام - هنا - واجبٌ، ولما اجتمع ثلاث ميمات: ميم «من» وميم «ما» والميم التي انقلبت من نون - من أجل الإدغام - فحصل ثقل في اللفظ، قال الزمخشريُّ: «فحذفوا إحداها» . قال أبو حيّان: وفيه إبهام، وقد عيَّنها ابنُ جني بأن المحذوف هي الأولى، وفيه نظرٌ؛ لأن الثقل إنما حصل بما بعد الأولى، ولذلك كان الصحيحُ في نظائره إنما هو حذف الثاني، في نحو {تَنَزَّلُ الملائكة} [القدر: 4] وقد ذكر أبو البقاء أن المحذوفة هي النافية، قال: «لضعفها بكونها بدلاً، وحصول التكرير بها» و «مِنْ» هذه التي في لمن ما زائدة في الواجب على رأي الأخفشِ - وهذا تخريج أبي الفتح، وفيه نظر بالنسبة إلى ادِّعائه زيادة «من» ، فإن التركيب يقلق على ذلك، ويبقى المعنى غير ظاهر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 361 الرابع: أن الأصل - أيضاً - لِمَنْ ما، ففُعِل به ما تقدم من القلبِ والإدغامِ، ثم الحذف، إلا أن «من» ليست زائدة، بل هي تعليلية، قال الزمخشريُّ: «ومعناه: لمن أجل ما آتيتكم لتؤمنن به، وهذا نحو من قراءة حمزة في المعنى» . وهذا الوجه أوجه مما تقدمه؛ لسلامته من ادِّعاء زيادة «من» ولوضوح معناه. وقرأ نافع «آتيناكم» بضمير المعظم نفسه، كقوله: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [الإسراء: 55] وقوله: {وَآتَيْنَاهُ الحكم} [مريم: 12] ، والباقون: «آتيتكم» - بضمير المتكلم وحده - وهو موافق لما قبله وما بعده من صيغة الإفراد في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله} و {جَآءَكُمْ} و {إِصْرِي} . وفي قوله: «آتيتكم» و «آتيناكم» على كلتا القراءتين - التفاتان: الأول: الخروج من الغيبة إلى التكلم في قوله: «آتينا» أو «آتيت» لأن قبله ذكر الجلالة المعظمة في قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله} . والثاني: الخروج من الغيبة إلى الخطاب في قوله: «آتيناكم» لأنه قد تقدمه اسم ظاهر، وهو {النبيين} إذ لو جرى على مقتضي تقدُّم الجلالة والنبيين لكان الترتيب: وإذْ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتاهم من كتاب. كذا قال بعضهم، وفيه نظرٌ؛ لأن مثل هذا لا يُسَمَّى التفاتاً في اصطلاحهم، وإنما يسمى حكاية الحال، ونظيره قولك: حلف زيد ليفعلن، ولأفعلن، فالغيبة مراعاة لتقدم الاسم الظاهر، والتكلُّم حكاية لكلام الحالف. والآية الكريمة من هذا. وأصل: {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} ، لَتُؤمِنُونَنَّ به ولتنصرونن، فالنون الأولى علامة الرفع، والمشدَّدة بعدها للتوكيد، فاستثقل توالي ثلاثة أمثالٍ، فحذفوا نون الرفع؛ لأنها ليست في القوة كالتي للتوكيد، فالتقى - بحذفها - ساكنان، فحذفت الواو، لالتقاء الساكنين. وقرأ عبد الله «مُصَدِّقاً» نصب على الحال من النكرة، وقد قاسَه سيبويه، وإن كان املشهور عنه خلافه، وَحَسَّنَ ذلك هنا كونُ النكرة في قوة المعرفةِ من حيث إنَّها أريد بها شخص معين - وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واللام في «لَمَا» - زائدة؛ لأن العامل فرع - وهو «مصدِّق» - والأصل مصدق ما معكم. فصل قال بعضُ العلماءِ: في الآية إضمار آخرَ، وأراح نفسه من تلك التكلُّفات المتقدمة، فقال: تقدير الآية: وإذ أخذ اللهُ ميثاق النبيين لتُبَلِّغُنَّ الناسَ ما آتيتكم من كتاب وحكمة إلا أنه حذف «لتبلغن» لدلالة الكلام عليه؛ لأن لام القسم إنما تقع على الفعل، فلما دَلَّت هذه اللام على هذا الفعل جاز حذفه اختصاراً، ثم قال بعده: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ} وعلى هذا التقدير يستقيم النظم، ولا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 362 يحتاج إلى تكلُّف، وإذا كان لا بد من التزام الإضمار، فهذا الإضمار الذي ينتظم به الكلام نظما ًجلياً أولى. فصل والمراد من الكتاب هو المنزَّل، المقروء، والحكمة هي الوحيُ الوارد بالتكليف المفصَّلة التي لم يشتمل الكتاب عليها. وكلمة «مِنْ» - في قوله: {مِّن كِتَابٍ} تبيين ل «ما» كقولك: ما عندي من الوَرِقِ دانقان. وقيل: هذا الخطابُ إما أن يكون مع الأنبياء، فجميع الأنبياءِ، ما أوتوا الكتاب، وإنما أوتي بعضُهم، وإن كان مع الأمم فالإشكال أظهر. والجواب من وجهين: الأول: أن جميع الأنبياء أوتوا الكتاب بمعنى كونه مهتدياً به، داعياً إلى العمل به، وإن لم ينزل عليه. الثاني: أشرف الأنبياء هم الذين أوتوا الكتاب، فوصف الكل بوصف أشرفهم. فإن قيل: ما وَجْه قوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ} والرسول لا يجيء إلى النبيين، وإنما يجيء إلى الأمم؟ فالجواب: أما إن حَمَلْنا قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين} على أخذ ميثاق أممهم، فالسؤال قد زال، وإن حملناه على أخذ ميثاق النبيين من أنفسهم، كان قوله: {ثُمَّ جَآءَكُمْ} أي: ثم جاءكم في زمانكم. فإن قيل: كيف يكون محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُصَدقاً لما معهم - مع مخالفة شرعه لشرعهم -؟ فالجواب: أن المراد به حصول الموافقة في التوحيد والنبوات وأصول الشرائعِ، أما تفاصيلها فإن وقع خلاف فيها فذاك في الحقيقة ليس بخلاف؛ لأن جميع الأنبياءِ متفقون على أن الحق في زمان موسى ليس إلا شرعه، وأنّ الحقَّ في زمان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس إلا شرعه، فهذا وإن كان يوهم الخلاف فهو في الحقيقة وفاق. وأيضاً فالمراد بقوله: {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} هو أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مصدقٌ لما معهم من صفته، وأحواله المذكورة في التوراة والإنجيل، فلما ظهر على أحوال مطابقةٍ لما ذكر في تلك الكتب كان نفس مجيئه تصديقاً لما معهم. والميثاق يحتمل وجهين: أحدهما: هو أن يكون ما قُرر في عقولهم من الدلائل الدالة على أن الانقيادَ لأمر اللهِ واجبٌ، فإذا جاء الرسول فهو إنما يكون رسولاً عند ظهور المعجزاتِ الدَّالَّةِ على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 363 صدقه، فإذا أخبرهم بعد ذلك أن الله أمر الخلق بالإيمان به عرفوا - عند ذلك - وجوبه، فتقرير هذا الدليل في عقولهم هو المراد من الميثاق. ويحتمل أن المراد بأخذ الميثاق أنه - تعالى - شرح صفاتِه في كتب الأنبياء المتقدِّمين، وإذا صارت مطابقة لما في كتبهم المتقدمة، وجب الانقياد له، فقوله تعالى: {ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} يدل على هذين الوجهين، أما على الأول فقوله: «رسولٌ» ، وأما على الثاني فقوله {مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ} . قوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} فاعل «قَالَ» يجوز أن يكون ضمير الله - تعالى - وهو الظاهر - وأن يكون ضمير النبي الذي هو واحد النبيين، خاطب بذلك أمَّته، ومتعلَّق الإقرار محذوف، أي: أقررتم بذلك كله؟ والاستفهام - على الأول - مجاز؛ إذ المراد به التقرير والتوكيد عليهم؛ لاستحالته في حق الباري تعالى، وعلى الثاني: هو استفهام حقيقة. و «إصري» على الأول - الياء لله - تعالى - وعلى الثاني للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقرأ الامة «إصري» بكسر الهمزة، وهي الفصحى، وقرأ أبو بكر عن عاصم - في رواية - «أُصْرِي» بضمها ثم المضموم الهمزة يحتمل أن يكون لغة في المكسور - وهو الظاهرُ - ويحتمل أن يكون جمع إصار ومثله أزُر في جميع إزار، والإصر: الثقل الذي يلحق الإنسان؛ لأجل ما يلزمه من عَمَلٍ، قال الزمخشري: «سُمِّي العهدُ إصْراً؛ لأنه مما يؤصر، أي: يُشَدّ، ويُعْقَد، ومنه الإصار الذي يُعْقَد به» وتقدم الكلام عليه في آخر البقرة. فصل إذا قلنا: إن اللهَ - تعالى - هو الذي أخذ الميثاق على النبيين كان قوله {أَأَقْرَرْتُمْ} معناه: أأقررتم بالإيمان به، والنَّصْرِ له. وذلك حين استخرج الذرية من صلب آدَمَ والأنبياء فيهم كالمصابيح - وأخذ عليهم الميثاق في أمر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي} ؟ أي قبلتم على ذلك عهدي. والإصر: العهد الثقيل؛ والإقرار في اللغة منقول بالألف من قَرَّ الشيء يَقِرُّ إذا ثبت ولزم مكانه، وأقره غيره، والمقرُّ بالشيء، يُقِرُّه على نفسه، أي: يثبته. والأخذ بمعنى القبول كثير في كلامهم، قال تعالى: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] أي: لا تُقْبَل فِدْيَةٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 364 وقال: {وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ} [التوبة: 104] أي: يقبلها. وقوله: {أَقْرَرْنَا} أي: بالإيمان به، وبنصرته، وفي الكلام حذف جملة، حُذِفَت لدلالة ما تقدم عليها؛ إذ التقدير: قالوا: أقررنا، وأخذنا إصرك على ذلك كلِّه. وقوله: {فاشهدوا} هذه الفاء عاطفة على جملة مقدَّرة، والتقدير: قال: أأقررتم؟ فاشهدوا، ونظير ذلك: ألقيت زيداً؟ قال: لقيته، قال: فأحْسِنْ إليه. التقدير: القيت زيداً، فأحسن إليه، فما فيه الفاء بعض المقول، ولا جائز أن يكون كل المقول؛ لأجل الفاء، ألا ترى قوله: {قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ} وقوله: {قالوا أَقْرَرْنَا} . لو كان كلّ المقول لم تدخل الفاء، قاله أبو حيان. فصل في معنى قوله: {فاشهدوا} وجوه: الأول: فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار، {وَأَنَاْ مَعَكُمْ} أي: وأنا على إقراركم، وإشهاد بعضكم بعضاً {مِّنَ الشاهدين} وهذا توكيد وتحذير من الرجوع إذا علموا شهادةَ الله، وشهادة بعضهم على بعض. الثاني: أن هذا خطاب للملائكة بأن يشهدوا عليهم، قاله سعيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ. الثالث: أن قولِه: {فاشهدوا} إشهاد على نفسه، ونظيره قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ} [الأعراف: 172] وهذا باب من المبالغة. الرابع: فاشهدوا، أي: بيِّنوا هذا الميثاقَ للخاصّ والعامّ؛ لكي لا يبقى لأحد عذْرٌ في الجَهْل به، وأصله أن الشاهد يُبَيِّن صِدْقَ الدَّعْوَى. الخامس: قال ابنُ عَبّاسٍ: {فاشهدوا} أي: فاعلموا، واستيقِنوا ما قررته عليكم من هذا الميثاق، وكونوا فيه كالمشاهد للشيء المعاين له. السادس: إذا قلنا: إنَّ أخْذَ الميثاقِ كان من الأمم، فقوله: {فاشهدوا} خطاب للأنبياء بأن يكونوا شاهدين عليهم. قوله: {مِّنَ الشاهدين} هذا هو الخبر؛ لأنه محط الفائدة. وأما قوله: {مَعَكُمْ} فيجوز أن يكون حالاً، أي: وأنا من الشاهدين مصاحباً لكم، ويجوز أن يكون منصوباً ب «الشَّاهدينَ» ظرفاً له عند مَنْ يرى تجويزَ ذلك - ويمتنع أن يكون هذا هو الخبرُ؛ إذ الفائدة به غير تامةٍ في هذا المقامِ. والجملة من قوله: {وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين} يجوز ألا يكون لها محل؛ لاستئنافها. ويجوز أن تكون في محل نصب على الحال من فاعل {فاشهدوا} والمقصود من هذا الكلام التأكيد، وتقوية الإلزام. قوله: {فَمَنْ تولى} يجوز أن تكون «مَنْ» شرطية، فالفاء - في «فَأولَئِكَ» جوابها. والفعل الماضي ينقلب مستقبلاً في الشرط. وأن تكون موصولةً، ودخلت الفاء لشبه المبتدأ باسم الشرطِ، فالفعل بعدها على الأول - في محل جزم، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 365 وعلى الثاني لا محل له؛ لكونه صلة، وأما «فأولئك» ففي محل جزم أيضاً - على الأول، ورفع الثاني، لوقوعه خبراً و «هم» يجوز أن يكون فَصْلاً، وأن يكون مبتدأ. ومعنى الآية: من أعرض عن الإيمان بهذا الرسولِ، وبنصرته، والإقرار له {فأولئك هُمُ الفاسقون} الخارجون عن الإيمان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 الجمهور يجعلون الهمزة مقدَّمةً على الفاء، للزومها الصدر، والزمخشري يقرها على حالها، ويُقدِّر محذوفاً قبلها، وهنا جوَّز وجهين: أحدهما: أن تكون الفاء عاطفةً جملة علىجملة، والمعنى: فأولئك هم الفاسقون، فغير دين الله يبغون، ثم توسطت الهمزة بينهما. والثاني: أن تعطف على محذوف، تقديره أيتولون، فغير دين الله يبغون؟ لأن الاستفهام إنما يكون عن الأفعال والحوادث، وهو استفهام استنكار، وقدم المفعول - الذي هو «غير» - على فعله؛ لأنه أهم من حيث أن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - مُتَوَجِّه إلى المعبود الباطل، هذا كلام الزمخشريِّ. قال أبو حيان: «ولا تحقيق فيه؛ لأن الإنكار - الذي هو معنى الهمزة - لا يتوجه إلى الذوات، وإنما يتوجه إلى الأفعال التي تتعلق بالذوات، فالذي أنكر إنما هو الابتغاء، الذي متعلقه غير دين الله، وإنما جاء تقديم المفعول من باب الاتساع، ولشبه» يبغون «بالفاصلة، فأخَّرَ الفعلُ» . وقرأ أبو عمرو وحفص عن عاصم «يَبْغُونَ» من تحت - نسقاً على قوله: {هُمُ الفاسقون} [آل عمران: 82] والباقون بتاء الخطاب، التفاتاً لقوله: {لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] ولقوله: {أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ} [آل عمران: 81] . وأيضاً فلا يبعد أن يُقال للمسلم والكافر، ولكل أحد: أفغير دين الله تبغون مع علمكم أنه أسلم له مَنْ في السموات والأرض وأن مَرْجعكم إليه؟ ونظيره قوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} [آل عمران: 101] . قال ابن الخطيب: ذكر المفسّرون في سبب النزولِ أن أهل الكتاب اختصموا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فادَّعَى كلّ واحدٍ من الفريقين أنه على دين إبراهيم، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ بَرِيءٌ مِنْ إبْرَاهِيمَ، فَغَضِبُوا وقالوا: والله لا نَرْضَى بقضائِك، ولا نأخذ بِدِينِكَ» ، فنزل قوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 366 قال ابن الخطيب: ويبعد عندي حَمْلُ هذه الآيةِ على هذا السبب؛ لأن على هذا التقدير - الآية منقطعة عما قبلها، والاستفهام على سبيل الإنكار يقتضي تعلُّقَها بما قبلها، وإنما الوجه في الآية أن هذا الميثاق لما كان مذكونراً في كُتُبِهِم، وهم كانوا عارفين بذلك، وعالمين بصِدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في النبوة، فلم يبق كفرهم إلا مجردَ عنادٍ وحَسَدٍ وعداوةٍ، فصاروا كإبليس حين دعاه الحسدُ إلى الكُفر، فأعلمهم - تعالى - أنهم متى كانوا كذلك كانوا طالبين ديناً غير دين اللهِ - تعالى - ثم بيَّن لهم أن التمرُّدَ على الله، والإعراضَ عن حكمه مما لا يليق بالعقل، فقال: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} . قوله: «وله أسلم من في السموات» جملةٌ حاليةٌ، أي: كيف يبغون غير دينه، والحال هذه، وفي قوله: «طوعاً وكرهاً» وجهان: أحدهما: أنهما مصدران في موضع الحال، والتقدير: طائعين وكارهين. الثاني: أنهما مصدران على غير المصدر، قال ابو البقاء: «لأن» أسْلَمَ «بمعنى انقاد، وأطاع» وتابعه أبو حيان على هذا. وفيه نظرٌ؛ من حيث إن هذا ماشٍ في «طَوْعاً» لموافقته معنى الفعل قبله، وأما «كَرْهاً» ، كيف يقال فيه ذلك؟ والقول بأنه يُغتفر في التوالي ما لا يُغْتَفَر في الأوائل، غير نافع هنا. ويقال يطاع يطوع، وأطاع يُطيع بمعنى، قاله ابن السِّكيتِ، وقول: طاعه يطوعه: انقاد له، وأطاعه، أي: رضي لأمره، وطاوعه، أي: وافقه. قرأ الأعمش: «وَكُرْهاً» - بالضم - وسيأتي أنها قراءة الأخوين في سورة النساء. قال الحسنُ: أسلم من في السموات طوعاً، وأسلم من في الأرض بعضهم طَوْعاً، وبعضهم خوفاً من السيف والسِّبْي. وقال مجاهد: «طوعاً» المؤمن، و «كرْهاً» ظل الكافر، بدليل قوله: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} [الرعد: 15] . وقيل هذا يوم الميثاق، حين قال: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] فقال بعضهم طوعاً، وبعضهم كرهاً. قال قتادة: المؤمن أسلم طوعاً فنفعه، والكافر أسلم كرهاً في وقت اليأس، فلم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 367 ينفعه، قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85] . قال الشعبي: وهو استعاذتهم به عند اضطرارهم، كقوله: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [العنكبوت: 65] . قال الكلبيُّ: «طَوْعاً» الذي وُلِد في الإسلام «وَكَرْهاً» الذين أجْبِروا على الإسلام. قال ابن الخطيب: كل أحد منقاد - طوعاً أو كرهاً - فالمسلمون منقادون لله طوعاً فيما يتعلق بالدّينِ، ومنقادون له فيما يخالف طِباعَهم من الفقر والمرض والموت وأشباهه. وأما الكافرون، فهم منقادون لله كرهاً على كل حال؛ لأنهم لا ينقادون لله فيما يتعلق بالدِّين، وفي غير ذلك مستسلمون له - سبحانه - كرهاً، لا يمكنهم دفع قضائه وقدره. وقيل: كل الخلق منقادون للإلهية طوعاً، بدليل قوله: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] ومنقادون لتكاليفه وإيجاده للآلام كرهاً. قوله: {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} يجوز أن تكون هذه الجملةُ مستأنفةً، فلا محل لها، وإنما سيقت للإخبار بذلك؛ لتضمنها معنى التهديد العظيم، والوعيد الشديد. ويجوز أن تكون معطوفة على الجملة من قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ} فتكون حالاً - أيضاً - ويكون المعنى: أنه نَعَى عليهم ابتغاء غير دين من أسلم له جميع من في السموات والأرض - طائعين ومكرهين - ومن مرجعهم إليه. قرأ حفص - عن عاصم - «يُرْجَعُونَ» بياء الغيبة - ويحتمل ذلك وجوهاً: أحدها: أن يعود الضمير على {مَنْ أَسْلَمَ} . الثاني: أن يعود على من عاد عليه الضمير في «يَبْغُونَ» في قراءة من قرأ بالغيبة، ولا التفات في هذين. والثالث: أن يعود على من عاد عليه الضمير في «تَبْغُونَ» - في قراءة الخطاب - فيكون التفاتاً حينئذ. وقرأ الباقون - «تبغون» - بالخطاب - وهو واضح، ومن قرأه بالغيبة كان التفاتاً منه. ويجوز أن يكون التفاتاً من قوله: {مَن فِي السماوات والأرض} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 وفي هذه الآية احتمالان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 368 أحدهما: أن يكون المأمور بهذا القول - وهو «آمَنَّا» إلى آخره - هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم في ذلك معنيان: أحدهما: أن يكون هو وأمته مأمورين بذلك، وإنما حُذِفَ معطوفُه؛ لِفَهْم المعنى، والتقدير: قل يا محمد أنت وأمتك: آمنا بالله، كذا قدَّره ابنُ عطية. والثاني: أن المأمور بذلك نبينا وحده، وإنما خوطب بلفظ الجمع؛ تعظيماً له. قال الزمخشري: «ويجوز أن يُؤمَر بأن يتكلم عن نفسه كما يتكلم الملوك؛ إجلالاً من الله - تعالى - لقدر نبيِّه» . والاحتمال الثاني: أن يكون المأمور بهذا القول مَنْ تقدم، والتقدير: قل لهم: قولوا: آمنا، ف «آمَنَّا» منصوب ب «قُلْ» على الاحتمال الأول، وب «قُولُوا» المقدَّر على الاحتمال الثاني، وذلك القول المُضْمر منصوب المحل. وهذه الآية شبيهة بالتي في البقرة، إلا أنَّ هنا عَدَّى «أُنْزِلَ» ب «عَلَى» وهناك عدَّاه ب «إلى» . قال الزمخشري: لوجود المعنيين جميعاً؛ لأن الوحي ينزل من فوق، وينتهي إلى الرسل، فجاء تارة بأحد المعنيين، وأخرى بالآخر. قال ابن عطيةَ: «الإنزال على نَبِيّ الأمة إنزال عليها» وهذا ليس بطائل بالنسبة إلى طلب الفرق. قال الراغب: «إنما قال - هنا -» عَلَى «، لأن ذلك لما كان خطاباً للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان واصلاً إليه من الملأ الأعلى بلا واسطةٍ بشريةٍ، كان لفظ» عَلَى «المختص بالعُلُوِّ أوْلَى به، وهناك لما كان خطاباً للأمة، وقد وصل إليهم بواسطة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لفظ» إلَى «المختص بالاتصال أوْلَى. ويجوز أن يقال:» أنزل عليه «، إنما يُحْمَل على ما أُمِر المنزَّل عليه أن يُبَلِّغَه غيرَه. وأنزل إليه، يُحْمَل على ما خُصَّ به في نفسه، وإليه نهاية الإنزال، وعلى ذلك قال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 51] وقال: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] خص هنا ب» إلى «لماكان مخصوصاً بالذكر الذي هو بيان المنزل، وهذا كلام في الأولى لا في الوجوب» . وهذا الذي ذكره الراغب ردَّه الزمخشريُّ، فقال: «ومن قال: إنما قيل:» عَلَيْنَا «لقوله:» قُلْ «و» إلينا «لقوله:» قُولُوا «، تفرقة بين الرسول والمؤمنين؛ لأن الرسول يأتيه الوحي عن طريق الاستعلام، ويأتيهم على وجه الانتهاء، فقد تعسَّف؛ ألا ترى إلى قوله: {بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4] وقوله: {وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب} [المائدة: 48] وقوله: {وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار} [آل عمران: 72] وفي البقرة: {وَمَا أُوتِيَ النبيون} [ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 369 البقرة: 136] وهنا: «وَالنَّبِيُّونَ» ، لأن التي في البقرة لفظ الخطابِ فيها عام، ومن حكم خطاب العام البسط دون الإيجاز، بخلاف الخطاب هنا، لأنه خاص، فلذلك اكتفى فيه بالإيجاز دون الإطناب «. قال ابن الخطيب: قدَّم الإيمانَ بالله على الإيمان بالأنبياء؛ لأن الإيمان بالله أصل الإيمان بالنبوة، ثم في المرتبة الثانية قدم ذكر الإيمان بما أنزِل عليه؛ لأن كتب سائر الأنبياء حرَّفوها وبدَّلوها، فلا سبيلَ إلى معرفة أحوالها إلا بالإيمان بما أُنْزِل على محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكأن ما أنزل على محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كالأصل لما أُنْزِل على سائر الأنبياء، فلذا قدَّمه، وفي المرتبة الثالثة ذكر بعض الأنبياء، وهم الأنبياء الذين يَعْتَرِفُ أهلُ الكتاب بوجودِهم، ويختلفون في نبوتِهِمْ، والأسباط: هم أسباط يعقوبَ الذين ذكر الله - تعالى - أممهم الاثنتي عشرة في سورة الأعراف. فصل قوله: {والنبيون} بعد قوله: {وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى} من باب عطف العامِّ على الخاص. اختلف العلماء في كيفية الإيمان بالأنبياء المتقدِّمين الذين نُسِخَتْ شرائعُهم. وحقيقة الخلاف أن شرعه لما صار منسوخاً، فهل تصير نُبُوَّتُه منسوخةً؟ فمن قال: إنها تصير منسوخة قال: نُؤْمن بأنهم كانوا أنبساءَ وَرُسُلاً، ولا نؤمن بأنهم أنبياء ورسل في الحال. ومَنْ قال: إن نسخَ الشريعة لا يقتضي نسخ النبوة، قال: نؤمن بأنهم أنبياء ورسُل في الحال، فتنبَّه لهذا الموضع. فصل قال ابن الخطيب: اختلفوا في معنى قوله: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} بأن نؤمن ببعضٍ دون بعضٍ - كما فرَّقت اليهود والنصارَى. وقال أبو مسلم: لا نفرق ما جمعوا، وهو كقوله تعالى: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} [آل عمران: 103] وذَمَّ قوماً ووصفهم بالتفرُّق، فقال: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 94] . قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} فيه وجوهٌ: الأول: أن إقرارنا بنبوَّة هؤلاء الأنْبِياء إنما كان لأننا منقادون لله - تعالى - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 370 مستسلمون لحُكْمِه، وفيه تنبيه على أن حاله على خلاف الذين خاطبهم الله بقوله: {أَفَغَيْرَ دِينِ الله يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض} [آل عمران: 83] . قال أبو مسلم: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} أي: مستسلمون لأمْره بالرضا، وترك المخالفة، وتلك صفة المؤمنين بالله، وهم أهل السلم، والكافرون أهل الحربِ، لقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} [المائدة: 33] . قال ابن الخطيب: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} يُفيد الحَصْر، والتقدير: له أسلمنا لا لغرض آخرَ من سمعة، ورياء، وطلب مالٍ، وهذا تنبيه على أن حالَهم بالضِّدِّ من ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 العامة يظهرون هذين المثلين في {يَبْتَغِ غَيْرَ} لأن بينهُمَا فاصلاً فلم يلتقيا في الحقيقةِ، وذلك الفاصل هو الياء التي حذفت للجزم. وروي عن أبي عمرو فيها الوجهان: الإظهار على الأصل، ولمراعاة الفاصل الأصْلِيّ. والإدغام؛ مراعاةً للفظ؛ إذ يَصْدُق أنهما التقيا في الجملة، ولأن ذلك مستحِقّ الحَذْف لعامل الجَزْم. وليس هذا مخصوصاً بهذه الآية، بل كل ما التقى فيه مِثْلاَنِ بسبب حذف حرف لعلةٍ اقتضت ذلك جَرَى فيها الوجهان، نحو: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} [يوسف: 9] وقوله: {وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} [غافر: 28] . وقد استشكل على هذا نحو {ويا قوم مَا لي أَدْعُوكُمْ} [غافر: 41] ونحو: {وياقوم مَن يَنصُرُنِي} [هود: 30] فإنه لم يُرْوَ عن أبي عمرو خلاف في إدغامها، وكان القياس يقتضي جواز الوجهين، لأن ياء المتكلم فاصلة تقديراً. قوله: «دِيناً» فيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنه مفعول «يَبْتَغِ» و «غَيْرَ الإسْلاَمِ» حالٌ؛ لأنها في الأصل صفةٌ له، فلما قُدِّمَتْ نُصِبَت حالاً. الثاني: أن يكون تمييزاً لِ «غَيْرَ» لإبهامها، فمُيِّزَتْ كما مُيِّزت «مِثْلُ» و «شِبهُ» وأخواتهما، وسُمِع من العرب: إن لنا غيرَها إبلاً وشاءً. والثالث: أن يكون بدلاً من «غَيْرَ» . وعلى هذين الوجهين ف {غَيْرَ الإسلام} هو المفعول به ل «يبتغ» . وقوله: {وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} يجوز أن لا يكون لهذه الجملة محلٌّ؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 371 لاستئنافها، ويجوز أن تكون في محل جَزْم؛ نَسَقاً على جواب الشرط - وهو {فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} - ويكون قد ترتب على ابتغاء غير الإسلام ديناً الخُسران وعدمُ القبول. فصل لما تقدم قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [آل عمران: 84] بيَّن أن الدينَ ليس إلا الإسلام، وأن كل دين غيره ليس بمقبولٍ؛ لأن معنى قبول العمل أن يرضى اللهُ ذلك العملَ، ويثيب فاعله عليه، قال تعالى {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} [المائدة: 27] وما لم يكن مقبولاً كان صاحبُه من الخاسرين في الآخرة بحرمان الثواب، وحصول العقاب، مع الندامة على ما فاته من العمل الصالح، مع التعب والمشقة في الدنيا في ذلك الدين الباطل. فصل قال المفسرون: نزلت هذه الآيةُ في اثني عشر رجلاً ارتدُّوا عن الإسلام، وخرجوا من المدينة، وأتوا مكةَ كُفَّاراً منهم الحَرْث بن سُوَيْد الأنصاريُّ، فنزل قول الله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} والخُسْران في الآخرة يكونُ بحرمانِ الثَّوابِ، وحصول العقاب، والتأسُّف على ما فاته في الدنيا من العملِ الصالحِ، والتحسُّر على ما تحمَّلَه من التعب والمشقة في تقرير دينه الباطلِ. وظاهر هذه الآية يدل على أن الإيمان هو الإسلام؛ إذْ لو كان غيره لوجب أن لا يكون الإيمان مقبولاً؛ لقوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} إلا أن ظاهر قوله تعالى: {قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا} [الحجرات: 14] يقتضي التغاير بينهما، ووجه التوفيق بينهما أن تُحْمل الآية الأولى على العُرْف الشرعيّ، والآية الثانية على الموضع اللغويّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 الاستفهام فيه كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28] . وقيل: الاستفهام - هنا - معناه النَّفْي كقوله: [الخفيف] 1532 - كَيْفَ نَوْمي عَلَى الْفِرَاش وَلَمَّا ... تَشمَلِ الشَّامَ غَارَةٌ شَعْوَاءُ؟ وقول الآخر: [الطويل] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 372 1533 - فَهَذِي سُيُوفٌ يَا صُدَبُّ بْنَ مَالِكٍ ... كَثِيرٌ، وَلَكِنْ كَيْفَ بِالسَّيْفِ ضَارِبُ؟ يعني: أين بالسيف؟ {وشهدوا} في هذه الجملة ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنها معطوفة على «كَفَرُوا» و «كَفَرُوا» في محل نَصْب؛ نعتاً لِ «قوماً» أي: كيف يهدي من جمع بين هذين الأمرين، وإلى هذا ذهب ابنُ عطيةَ والحَوْفِيُّ وأبو البقاء، وردَّه مكيّ، فقال: لا يجوز عطف «شَهِدُوا» على كَفَرُوا «لفساد المعنى. ولم يُبَيِّن جهَةَ الفساد، فكأنه فهم الترتيب بين الكفر والشهادة، فلذلك فَسَد المعنى عنده. وهذا غير لازم؛ فإن الواو لا تقتضي ترتيباً، ولذلك قال ابن عطيةَ:» المعنى مفهوم أن الشهادة قبل الكُفْر، والواو لا تُرَتِّب «. الثاني: أنها في محل نصب على الحال من واو» كَفَرُوا «فالعامل فيها الرافع لصاحبها، و» قد «مضمرة معها على رأي - أي كفروا وقد شهدوا، وإليه ذهب جماعةٌ كالزمخشريِّ، وأبي البقاء وغيرهما. قال أبو البقاء:» ولا يجوز أن يكون العامل «يَهْدِي» ؛ لأنه يهدي من شَهِدَ أن الرسولَ حق «. يعني أنه لا يجوز أن يكون حالاً من» قَوْماً «والعاملُ في الحالِ» يَهْدِي «لما ذكر من فساد المعنى. الثالث: أن يكون معطوفاً على» إيمَانِهِمْ «لما تضمَّنه من الانحلال لجملة فعلية؛ إذ التقدير: بعد أن آمنوا وشهدوا، وإلى هذا ذهب جماعة. قال الزمخشريُّ: أن يُعْطَف على ما في» إيمانهم «من معنى الفعل؛ لأن معناه: بعد أن آمنوا، كقوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} [المنافقون: 10] وقول الشاعر: [الطويل] 1534 - مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحِينَ عَشِيرَةً ... وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا وجه تنظيره ذلك بالآية والبيت يوهم ما يسوِّغ العطف عليه في الجملة، كذا يقول النحاة: جزم على التوهم أي لسقوط الفاء؛ إذْ لو سقطت لانجزم في جواب التحضيض، ولذا يقولون: توهَّم وجودَ الباء فَجَرَّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 373 وفي العبارة - بالنسبة إلى القرآن - سوء أدبٍ، ولكنهم لم يقصدوا ذلك. وكان تنظير الزمخشري بغير ذلك أولى، كقوله: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَنا} [الحديد: 18] . إذ هو في قوة: إن الذين تصدقوا وأقرضوا. وقال الواحدي:» عطف الفعل على المصدر؛ لأنه أرادَ بالمصدر الفعلَ، تقديره: كفروا بالله بعد أن آمنوا، فهو عطف على المعنى، كقوله: [الوافر] 1535 - لَلُبْسُ عَبَاءةٍ وَتَقَرُّ عَيْنِي ... أحَبُّ إلَيَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ معناه: لأن ألبس عباءةً وتقرَّ عيني «. وظاهر عبارة الزمخشري والواحدي أن الأول مؤوَّل لأجل الثاني، وهذا ليس بظاهر؛ لأنا إنما نحتاج إلى ذلك لكون الموضع يطلب فِعْلاً، كقوله: {إِنَّ المصدقين} لأن الموصول يطلب جملة فعلية، فاحتجنا أن نتأول اسم الفاعل بفعله، وعطفنا عليه و «أقرضُوا» وأما «بعد إيمانهم» وقوله: «للبس عباءة» ، فليس الاسم محتاجاً إلى فِعل، فالذي ينبغي هو أن نتأوَّل الثاني باسم؛ ليصحَّ عطفه على الاسم الصريح قبله، وتأويله بأن تأتي معه ب «أن» المصدريَّة مقدَّرةً، تَقْدِيرُهُ: بعد إيمانهم وأن شهدوا أي وشهادتهم، ولهذا تأول النحويون قوله: للُبْسُ عباءة وتقرَّ: وأن تَقَرَّ، إذ التقدير: وقرة عيني، وإلى هذا ذهب أبو البقاء، فقال: «التقدير: بعد أن آمنوا وأن شهدوا، فيكون في موضع جر، يعني أنه على تأويل مصدر معطوف على المصدر الصحيح المجرور بالظرف» . وكلام الجرجاني فيه ما يشهد لهذا، ويشهد لتقدير الزمخشريّ؛ فإنه قال: قوله «وَشَهِدُوا» منسوق على ما يُمْكن في التقدير، وذلك أن قوله: «بعد إيمانهم» يمكن أن يكون: بعد أن آمنوا، و «أن» الخفيفة مع الفعل بمنزلة المصدر، كقوله: {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُم} [البقرة: 184] ، أي: والصوم. ومثله مما حُمِل فيه على المعنى قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِل} [الشورى: 51] فهو عطف على قوله: «إلا وحياً» ويمكن فيه: إلاَّ أن يُوحِيَ إليه، فلما كان قوله: «إلا وحياً» بمعنى: إلا أن يُوحِي إليه، حمله على ذلك. ومثله من الشعر: [الطويل] 1536 - فَظَلَّ طُهَاةُ اللَّحْمِ مِنْ بَيْنِ مُنْضِجٍ ... صَفِيفَ شواءٍ أوْ قَدِيرٍ مُعَجَّلِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 374 خفض قوله: قدير؛ لأنه عطف على ما يمكن في قوله: منضج؛ لأنه أمكن أن يكون مضافاً إلى الصفيف، فحملَه على ذلك، فإتيانه بهذا البيت نظير إتيان الزمخشريِّ بهذه الآيةِ الكريمةِ والبيت المتقدميْن؛ لأنه جر «قدير» - هنا - على التوهُّم، كأنه توهَّم إضافة اسم الفاعل إلى مفعوله؛ تخفيفاً، فَجرَّ على التوهُّم كما توهم الآخر وجود الباء في قوله: ليسوا مصلحين؛ لأنها كثيراً ما تزاد في خبر «ليس» . فإن قيل: إذا كان تقدير الآية: كيف يهدي اللهُ قوماً كفروا بعد الإيمانِ وبعد الشهادةِ بأن الرسول حق، وبعد أن جاءَهم البيِّنات، فعطف الشهادة بأن الرسول حَقٌّ يقتضي أنه مغاير للإيمان. فالجواب: أن الإيمان هو التصديق بالقلب، والشهادة هي الإقرار باللسان، فهما متغايران. وقوله: «أن الرسول» الجمهور على أنه وَصْف بمعنى المُرْسَل، وقيل: هو بمعنى الرسالةِ، فيكون مصدراً، وقد تقدم. فصل في سبب النزول أقوالٌ: الأول: قال ابنُ عباسٍ: نزلت في عشرة رهط، كانوا آمنوا، ثم ارتدُّوا، ولَحِقُوا بمكةَ، ثم اخذوا يتربصون به ريب المنون، فأنزل اللهُ فيهم هذه الآيةَ، وكان منهم مَنْ آمن، فاستثنى التائبَ منهم بقوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} [البقرة: 160] . الثاني: رُوِيَ - أيضاً - عن ابن عباسٍ أنها نزلت في يهود قُرَيْظَةَ والنضير، ومن دان بدينهم، كفروا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أن كانوا مؤمنين به قبل بَعْثه، وكانوا يشهدون له بالنبوةِ، فلما بُعثَ، وجاءهم بالبينات والمعجزات كفروا بَغياً وَحَسَداً. الثالث: نزلت في الحرث بن سُوَيْد الأنصاري حين ندم على رِدَّته، فأرسل إلى قومه أن سَلُوا: هل لي من توبة؟ فأرسل إليه اخوه بالآية، فأقبل إلى المدينة، وتاب، وقبل الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ توبته. قال القفال: للناس في هذه الآية قولان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 375 منهم من قال: إنَّ قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينا} [آل عمران: 85] وما بعده إلى قوله {وأولئك هُمُ الضآلون} [آل عمران: 90] نزل جميعه في قصة واحدة، ومنهم من قال: ابتداء القصة من قوله «إلا الذين تابوا» إلى «إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار» على التقديرين ففيها - أيضاً - قولان: أحدهما: أنها في أهل الكتاب. والثاني: أنها في قوم مرتدين عن الإسلام، آمنوا ثم ارتدوا. فصل قالت المعتزلةُ: أصولنا تشهد بأن الله هدى جميعَ الخلقِ إلى الدِّينِ؛ بمعنى: التعريف ووضع الدلائل وفعل الألطاف، فلو لم يَعُمّ الكُلَّ بهذه الأشياء لصار الكافرُ والضالُّ معذوراً، ثم إنه تعالى - حكم بأنه لم يَهْدِ هؤلاء الكفارَ، فلا بد من تفسير هذه الهدايةِ بشيء آخرَ سوى نَصْب الدلائل، ثم ذكروا فيه وجوهاً: الأول: أن المراد من هذه الهداية منع الألطاف التي يؤتيها المؤمنين؛ ثواباً لهم على إيمانهم، كقوله: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وقوله: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] وقوله: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَه} [المائدة: 16] فهذه الآيات تدل على أن المهتدي قد يزيده الله هدًى. الثاني: أن المراد أنه - تعالى - لا يهديهم إلى الجنة، قال تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّم} [النساء: 168 - 169] وقال: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} [يونس: 9] . والثالث: أنه لا يمكن أن يكون المرادُ من الهداية خلق المعرفة فيه؛ لأنه - على هذا التّقْدِيرِ - يلزم أن يكون الكفر - أيضاً - من الله؛ لأنه - تعالى - إذا خلق المعرفةَ فيه كان مؤمناً مهتدياً، وإذا لم يخلقها كان كافراً ضَالاً، وإذا كان الكفر من الله - تعالى - لم يَصِحّ أن يذُمَّهم الله - تعالى - على الكفر، ولم يَصِحّ أن يُضاف الكفرُ إليهم، لكن الآية ناطقة بأنهم مذمومون بسبب الكفر، وكونهم فاعلين للكفر، فإنه قال: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} ؟ فأضاف الكفر إليهم، وذمَّهم عليه. وقال أهل السنة: المرادُ من الهداية خلق المعرفة، وقد جَرَت سُنَّة اللهِ في دار التكليفِ أن كلِّ فِعْلٍ يقصد العبد إلى تحصيله، فإن الله - تعالى - يخلقه عقيب القصد من العبد، فكأنه - تعالى - قال: كيف يخلق الله فيهم المعرفةَ والهدايةَ وهم قصدوا تحصيلَ الكفر وأرادوه؟ فإن قيل: قال - في أول الآية -: {كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ} وقوله في آخرها: «والله لا يهدي القوم الظالمين» يقتضي التكرار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 376 فالجواب: أن الأولَ مخصوص بالمرتد، والثاني عمّ ذلك الحكم في المرتد والكافر الأصلي، وسمي الكافر ظالماً؛ لقوله: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] والسبب فيه أن الكافر أوْرد نفسَه مواردَ البلاء والعقاب؛ بسبب ذلك الكفر، فكان ظالماً لنفسه. قال القرطبي: «فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي أن مَنْ كفر بعد إسلامه لا يهديه اللهُ، ومن كان ظالماً لا يهديه الله، وقد رأينا كثيراً من المرتدين أسلموا وهداهم اللهُ، وكثيراً من الظالمين تابوا عن الظُّلْم. فالجواب: أن معناه لا يهديهم الله ما داموا مقيمين على طُفْرِهم وظُلْمهم ولا يُقبِلون على الإسلام، فأما مَنْ أسلموا وتابوا فقد وَفَّقَهُمُ اللهُ لذلك» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 وفي قوله: {جَزَآؤُهُمْ} وجهان: أحدهما: أن يكون مبتدأ ثانياً، و {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله} في محل رفع؛ خبراً ل «جَزَاؤُهُمْ» والجملة خبر ل «أولئك» . والثاني: أن يكون «جَزَاؤُهُمْ» بدلاً من «أولَئِكَ» بدل اشتمال، و {أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله} خبر «أولئك» . وقال هنا: {جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله} وقال - هناك -: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله} [البقرة: 161] دون «جزاؤهم» قيل: لأن هناك وقع الإخْبار عمن توفِّيَ على الكُفْر، فمن ثَمَّ حتم الله عليه اللعنة، بخلافه هنا، فإن سبب النزول في قوم ارتدوا ثم رجعوا للإسلام، ومعنى: «جَزَاؤُهُمْ» أي: جزاء كفرهم وارتدادهم، وتقدم القول في قراءة الحسن «النَّاس أجمعون» وتخريجها. قوله: «خالدين» حال من المضير في «عَلَيْهِمْ» والعامل فيها الاستقرار؛ أو الجارّ؛ لقيامه مقام الفعلِ، والضمير في «فِيهَا» للَّعنة، ومعنى الخلود في اللعن فيه وجهان: الأول: أنهم يوم القيامة لا تزال تلعنهم الملائكةُ والمؤمنون، ومَنْ معهم في النار، ولا يخلو حالٌ من أحوالهم من اللعنة. الثاني: أن اللَّعْنَ يوجب العقابَ، فعبَّر عن خلود أثر اللعن بخلود اللعنِ، ونظيره قوله: {مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً خَالِدِينَ فِيهِ} [طه: 100 - 101] وقال ابن عباس: قوله: «خالدين فيها» أي في «جهنم» ، فعلى هذا الكناية عن غير مذكور. و {لاَ يُخَفَّفُ} جملة حالية أو مستأنفة، و {إِلاَّ الذين} استثناء متصل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 377 فصل اعلم أن لعنة الله مخالفة للعنة الملائكة؛ لأن لعنته بالإبعاد من الجنة، وإنزال العذاب، واللعنة من الملائكة، ومن الناس هي بالقول، وكل ذلك مستحق لهم بسبب ظلمهم وكفرهم. فإن قيل: لم عَمَّ جَمِيع النَّاس، ومَنْ يُوافِقهُ لا يَلْعَنُهُ؟ فَالجوابُ مِن وُجوهٍ: أحدها: قال أبو مُسْلِمٍ: لَهُ ان يَلْعَنَهُ، وَإن كَانَ لاَ يَلْعَنُهُ. الثاني: أنَّهُم فِي الآخرةِ يَلْعَنُ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، لِقَوْلِهِ تَعالَى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَ} [الأعراف: 38] وقال: {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضا} [العنكبوت: 25] وعلى هَذا فَقَدْ حَصَلَ اللَّعْنُ للكفارِ ومن يوافقهم. الثالث: كأن الناسَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، والْكُفَّار لَيْسُوا مِن النَّاس. الرابع: وهو الأصح - أنَّ جميعَ الْخَلقِ يَلْعَنُونَ المُبْطِلَ والكَافِرَ، وَلَكِنَّهُ يَعْتَقِدُ فِي نَفْسِهِ أنَّهُ لَيْسَ بمُبْطِلٍ وَلا بكافرٍ فَإذا لَعَن الكافِرَ - وَكَانَ هُو فِي عِلم اللهِ كَافراً - فَقَدْ لَعَنَ نَفْسَه، وَهُوَ لا يَعْلَم ذَلكَ. قوله: «لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينظرون» مَعْنَى الإنْظَار: التَّأخِيْرُ، قَالَ تَعالى: {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَة} [البقرة: 280] والمَعْنَى: لاَ يُخَفَّفُ، وَلا يُؤخَّر من وَعتٍ إلى وَقْتٍ، ثُم قَال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} ثمَ بَيَّن أن التوبة وحدَها لا تَكْفِي، حَتَّى يُضافَ إليها العملُ الصالحُ، فَقالَ: {وَأَصْلَحُواْ} أي: أصلحوا باطنهم مع الحق بِالمُراقَباتِ، وَمَعَ الْخَلْقِ بالعِبَادَاتِ، وَذَلِكَ أنَّ الحَارثَ بن سُويد لَمَّا لَحِق بالكُفَّار نَدِم، وأرسل إلى قومه أن سَلُوا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هَلْ لِي مِنْ تَوْبَةٍ؟ فَفَعَلُوا فَأنْزَلَ اللهُ {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فَحَمَلَهَا إليه رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَقَرأها عَلَيهِ، فَقَالَ الْحَارثُ: إنك واللهِ ما عَلِمْتُ - لَصَدُوقٌ، وَإنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصدقُ منك؛ وإنَّ اللهَ - عَزَّ وجل - لأصْدَقُ الثلاثة، فرجع الحارثُ إلى المَدِينَةِ، وَأسْلَمَ، وحسن إسلامه. وفي قوله: {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وجهان: الأول: أن الله غفور لقبائحهم في الدنيا بالستر، رحيم في الآخرة بالعفو. الثاني: غفور بإزالة العقاب، رحيم بإعطاء الثواب، ونظيره قوله: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَف} [الأنفال: 38] . ودخلت الفاء في قوله: «فإن الله» لشبه الجزاء؛ إذ الكلام قد تضمَّن معنى: إن تابوا فإن الله يغفر لهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 قوله: «كفراً» تمييز منقول من الفاعلية، والأصل: ثم ازداد كفرُهم، والدال الأولى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 378 بدل من تاء الافتعال؛ لوقوعها بعد الزاي، كذا أعربه أبو حيان، وفيه نظر؛ إذ المعنى على أنه مفعول به، وهي أن الفعل المتعدي لاثنين إذا جُعِل مطاوعاص نقص مفعولاً، وهذا من ذاك؛ لأن الأصل: زدت زيداً خيراً فازداده، وكذلك أصل الآيةِ الكريمةِ: زادهم الله كُفراً فازدادوه، فلم يؤت هنا بالفاء داخلةً على «لَنْ» وأتي بها في «لَنْ» الثانية، لأن الفاءَ مُؤذِنَةً بالاستحقاق بالوصف السابق - لأنه قد صَرَّحَ بقَيْد مَوْتِهِم على الكُفْر، بخلاف «لَنِ» الأولى، فإنه لم يُصَرِّحْ ممعها به فلذلك لم يُؤتَ بالفاء. قال ابن الخطيب: دخول الفاء يدل على أن الكلام مبني على الشرط والجزاء، وعند «عدم» الفاء لم يفهم من الكلام كونه شرطاً وجزاء، تقول: الذي جاءني له درهم، فهذا لا يُفيد أن الدرهم حصل له بسبب المجيء، وذكر التاء يدل على أن عدم قبول الفدية معلل بالموت على الكفر. وقرأ عكرمة «لن نَقْبَلَ» بنون العظمة، ونصب «توبَتَهم» وكذلك قرأ «فلن نقبل من أحدهم ملء» بالنصب. فصل قال القرطبي: قال قتادة والحسن: نزلت هذه الآية في اليهود، كفروا بعيسى عليه السلام، والإنجيل بعد إيمانهم بأنبيائهم، ثم ازدادوا كفراً بكفرهم بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن. وقال أبو العالية: نزلت في اليهود والنصارى، كفروا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما رأوه بعد إيمانهم بنعته وصفته في كتبهم، ثم ازدادوا كفراً يعني: ذنوباً، يعني: في حال كفرهم. وقال مجاهد: نزلت في جميع الكفار؛ أشركوا بعد إقرارهم بأن الله تعالى خالقُهم، ثم ازدادوا كُفْراً، أي: أقاموا على كُفْرهم حتى هلكوا عليه. وقيل: ازدادوا كُفْراً كلما نزلت آية كفروا بها، فازدادوا كُفْراً. وقيل: ازدادوا بقولهم: نتربص بمحمد ريب النون. وقال الكلبي: نزلت في الأحد عشر أصحاب الحَرْث بن سُوَيْد، لما رجع إلى الإسلام، أقاموا هم على الكفر بمكة، وقالوا: نقيم على الكفر ما بدا لنا، فمتى أردنا الرجعة ينزل فينا ما نزل في الحَرْث، فلما افتتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكةَ، فمن دخل منهم في الإسلام قُبِلَت توبته، ونزلت فيمن مات منهم كافراً: {إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّار} [البقرة: 161] الآية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 379 فإن قيل: قد وعد اللهُ بقبول توبة مَنْ تاب، فما معنى قوله: «فلن تقبل توبتهم» ؟ قيل: لن تقبل توبتُهم إذا وقعوا في الحشرجة، كما قال: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن} [النساء: 18] قاله الحسنُ وقتادة وعطاء. وقيل: هذا مخصوص بأصحاب الحرث بن سُويد حين أمسكوا عن الإسلام، وقالوا: نتربَّص بمحمد، فإن ساعده الزمان نرجع إلى دينه، لن يقبل ذلك منهم. وقال القاضي والقفال وابنُ الأنباري: إنه - تعالى - لما قدَّم ذِكْر مَنْ كفر بعد الإيمان، وبيَّن أنه أهل اللعنة إلا أن يتوب، ذكر في هذه أنه لو كفر مرةً أخْرَى بعد تلك التوبة الأولى، فإن تلك التوبة الأولى تعتبر غير مقبولة، وتصير كأنها لم تكن. قال: وهذا الوجه أليق بالآية من سائر الوجوه، لأن تقدير الآية: إلا الَّذين تابوا وأصلحوا فإن الله غفور رحيم، فإن كانوا كذلك، ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم. وقال الزمخشري: قوله: «لن تقبل توبتهم» كناية عن الموت على الكفر؛ لأن الذي لا تُقْبَل توبتُه من الكفار هو الذي يموت على الكفر، كأنه قيل: إن اليهود والمرتدين الذين فعلوا ما فعلوا، ميتون على الكفر داخلون في جملة من لا تُقْبَل توبتهم. وقيل: لعلّ المراد ما إذا تابوا عن تلك الزيادة، ولا تصير مقبولة ما لم تحصل التوبة عن الأصل. قال ابن الخطيب: «وهذه الجوابات إنما تتمشى على ما إذا حملنا قوله:» إن الذين كفروا ثم ازدادوا كفراً «على المعهود السابق، لا على الاستغراق، وإلا فكم من مرتد تابَ عن ارتداده توبةً صحيحةً، مقرونة بالإخلاص في زمان التكليف، فأما جواب القفال والقاضي، فهو جواب مطرد، سواء حملنا اللفظ على المعهود السابق، أو على الاستغراق» . قوله: «وأولئك هم الضالون» في هذه الجملة ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون في محل رفع؛ عَطْفاً على خبر «إنَّ» ، أي: إن الذين كفروا لن تُقْبَلَ توبتُهم، وإنهم أولئك هم الضَّالُّون. الثاني: أن تُجعل معطوفةً على الجملة المؤكَّدة ب «إنَّ» ، وحينئذ فلا محل لها من الإعراب، لعَطْفِها على ما لا محل له. الثالث: هو إعرابها بأن تكون الواو للحال، فالجملة بعدها في محل نصب على الحال، والمعنى: لن تقبل توبتهم من الذنوب، والحال أنهم ضالُّون، فالتوبة والضلال متنافيان، لا يجتمعان، قاله الراغب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 380 وهو بعيد في التركيب، وإن كان قريب المعنى. قال أبو حيان: «وينبو عن هذا المعنى هذا التركيب إذْ لو أريد هذا المعنى لم يُؤتَ باسم الإشارة» . فإن قيل: قوله: «وأولئك هم الضالون» ظاهره ينفي عدم كون غيرهم ضالاً، وليس الأمر كذلك؛ بل كل كافر ضال، سواء كفر بعد الإيمان، أو كان كافراً في الأصل، فالجواب: هذا محمول على أنهم هم الضالون على سبيل الكمال. فإن قيل: إنه وصفهم - أولاً - بالكفر والغُلُوِّ فيه، ثم وصفهم - ثانياً - بالضلال، والكفر أقبح أنواع الضلالة، والوصف إنما يراد للمبالغة، والمبالغة إنما تحصل بوصف الشيء بما هو أقوى منه حالاً، لا بما هو أضعف حالاً منه. فالجواب: قد ذكرنا أن المراد منه: أنهم هم الضالُّون على سبيل الكمال، وحينئذ تحصل المبالغة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 اعلم أن الكافر على ثلاثة أقسام: الأول: الذي يتوب عن الكفر توبةً صحيحةً مقبولةً، وهو المراد بقوله: «إلا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا» . الثاني: الذي يتوب عن الكفر توبةً فاسدةً، وهو المذكور في الآيةِ المتقدمةِ، وقال: {لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُم} . الثالث: الذي يموت على الكفر من غير توبةٍ، وهو المذكور في هذه الآية، وقد أخبر عن هؤلاء بثلاثة أشياء: أحدها: قوله: «فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً» قد تقدم أن عكرمة يقرأ: «نقبل ملء» بالنون مفعولاً به وقرأ بعضهم «فلن يقبل» - بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل وهو الله تعالى، «مِلْءَ» بالنصب كما تقدم. وقرأ ابو جعفر وأبو السَّمَّال «مل الأرض» بطرح همزة «ملء» ، نقل حركتها إلى الساكن قبلها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 381 وبعضهم يدغم نحو هذا - أي لام «ملء» في لام «الأرضِ» - بعروض التقائهما. والملء: مقدار ما يُمْلأ الوعاء، والمَلْء - بفتح الميم - هو المصدر، يقال: ملأت القدر، أملؤها، مَلأ، والملاءة بضم الميم والمد: الملحَفة. و «ذهباً» العامة على نصبه، تمييزاً. وقال الكسائي: على إسقاط الخافض، وهذا كالأول؛ لأن التمييز مقدر ب «من» واحتاجت «ملء» إلى تفسير؛ لأنها دالة على مقدار - كالقفيز والصّاع -. وقرأ الأعمش: «ذهب» - بالرفع -. قال الزمخشريُّ: ردًّا على «مِلْءُ» كما يقال: عندي عشرون نَفْساً رجال، يعني الردّ البدل، ويكون بدل نكرة من معرفة. قال أبو حيان: ولذلك ضبط الحذّاق قوله: «لك الحمد ملء السموات» بالرفع، على أنه نعت لِ «الْحَمْد» . واستضعفوا نصبه على الحال، لكونه معرفة. قال شهاب الدين: «يتعين نصبه على الحال، حتى يلزم ما ذكره من الضعف، بل هو منصوب على الظرف، أي: إن الحمد يقع مِلْئاً للسموات والأرض» . فإن قيل: من المعلوم أن الكافر لا يملك يوم القيامة نقيراً ولا قطميراً، وبتقدير أن يملك الذهب فلا نَفْعَ فيه، فما فائدة ذكره؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنهم إذا ماتوا على الكُفْر، فلو أنهم كانوا قد أنفقوا في الدنيا - مع الكفر _ أموالاً، فإنها لا تكون مقبولة. الثاني: أن هذا على سبيل الفرْض والتقدير، فالذهب كناية عن أعز الأشياء، والتقدير: لو أن الكافر يوم القيامة قدر على أعز الأشياء، ثم قدر على بَذْله في غاية الكثرة، فعجز أن يتوسل بذلك إلى تخليص نفسه من العذاب، والمقصود أنهم آيسون من تخليص النفس من العقاب. روى أنس - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يَقُولُ اللهُ - لأهْوَن أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَومَ القِيَامَةِ - لَوْ أنَّ لَكَ مَا فِي الأرْضِ مِنْ شَيءٍ، أكُنْتَ تَفْتَدِي بِهِ؟ فَيَقُولُ نَعَمْ، فَيَقُولُ: أرَدتُّ مِنْك أهْوَنَ مِنْ هَذَا وَأَنْتَ فِي صُلبِ آدَمَ: أنْ لا تُشْرِكَ بِي شَيْئاً، فأبَيْتَ إلاَّ أنْ تُشْرِكَ بِي» قوله: «ولو افتدى به» الجمهور على ثبوت الواو، وهي واو الحال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 382 قال الزمخشريّ: فإن قلت: كيف موقع قوله: «ولو افتدى به» ؟ قلت: هو كلام محمول على المعنى، كأنه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً. انتهى. والذي ينبغي أن يُحْمَل عليه: أن الله - تعالى - أخبر أن مَن ْ مات كافراً لا يُقْبَل منه ما يملأ الأرض من ذهب على كل حال يقصدُها، ولو في حال افتدائه من العذاب، وذلك أن حالة الافتداء حالة لا يميز فيها المفتدي عن المفتدى منه؛ إذ هي حالة قهر من المفتدى منه للمفتدي. قال أبو حيان: وقد قررنا - في نحو هذا التركيب - أن «لَوْ» تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء، وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها، كقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أعْطُوا السَّائِلَ ولو جاء عَلَى فَرَسٍ» وقوله: «رُدُّوا السَّائِلَ ولَو بِظِلْف محرق» كأن هذه الأشياء مما ينبغي أن يؤتى بها؛ لأن كون السائل على فرس يُشْعر بغناه، فلا يناسب أن يُعْطَى، وكذلك الظلف المحرق، لا غناء فيه، فكان يناسب أن لا يُرَدَّ به السائل. قيل: الواو - هنا - زائدة، وقد يتأيد هذا بقراءة ابن أب يعبلة طلو افتدى به «- دون واو - معناه أنه جعل الافتداء شرطاً في عدم القبول، فلم يتعمم النفي وجود القبول. و» لو «قيل: هي - هنا - شرطية؛ بمعنى» إن «لا التي معناها لما كان سيقع لوقوع غيره؛ لأنها متعلقة بمستقبل، وهو قوله:» فلن تقبل «، وتلك متعلّقة بالماضي. قال الزجاج: إنها للعطف، والتقدير: لو تقرب إلى الله بملء الأرض ذهباً لن يقبل منه، ولو افتدى به لم تقبل منه، وهذا اختيار ابن الأنباري، قال: وهذا آكد في التغليظ؛ لأنه تصريح بنفي القبول من وجوه. وقيل: دخلت الواو لبيان التفصيل بعد الإجمال؛ لأن قوله: {فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً} يحتمل الوجوه الكثيرة، فنص على نفي القبول بجهة الفدية. وقال ابن الخطيب: إن مَنْ غضب على بعض عبيده، فإذا أتحفه ذلك العبد بتُحفَةٍ وهدية لم يقبلْها البتة، إلا أنه قد يُقْبَل منه الفدية، فأما إذا لم تُقْبَل منه الفدية - أيضاً - كان ذلك غاية الغضب، والمبالغة إنما تحصل بذكر ما هو الغاية، فحكمه - تعالى - بأنه لا يقبل منهم ملءَ الأرض ذهباً، ولو كان واقعاً على سبيل الفداء تنبيه على أنه إذا لم يكن مقبولاً لا بالفدية فبأن لا يقبل منهم بسائر الطرق أولى. وافتدى افتعل - من لفظ الفدية - وهو متعدٍّ لواحد؛ لأنه بمعنى فدى، فيكون افتعل فيه وفعل بمعنى، نحو: شَوَى، واشْتَوَى، ومفعوله محذوف، تقديره: افْتدَى نفسه. والهاء في «به» - فيها أقوال: أحدها: - وهو الأظهر - عودها على «ملء» ؛ لأنه مقدار يملأها، أي: ولو افتدى بملء الأرض. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 383 الثاني: أن يعوج على «ذَهَباً» ، قاله أبو البقاء. قال أبو حيان: ويوجد في بعض التفاسير أنها تعود على الملء، أو على الذهب، فقوله: «أو على الذهب» غلط. قال شهاب الدين: «كأن وجه الغلط فيه أنه ليس محدَّثاً عنه، إنما جيء به بياناً وتفسيراً لغيره، فضلة» . الثالث: أن يعود على «مِثْل» محذوف. قال الزمخشريُّ: «ويجوز أن يُراد: ولو افتدى بمثله، كقوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَه} [الرعد: 18] ، والمثل يحذف في كلامهم كثيراً، كقولك: ضربت ضرب زيد - تريد: مثل ضربه - وقولك: أبو يوسف أبو حنيفة - أي: مثله -. وقوله: [الرجز] 1537 - لا هَيْثَمَ اللَّيْلَةَ لِلْمَطِيِّ ... وَلاَ فَتَى إلاَّ ابْنُ خَيْبَرِيّ و» قضية ولا أبا حسن لها «يريد: لا مثل هيثم، ولا مثل أبي حسن، كما أنه يزاد قولهم: مثلك لا يفعل كذا، يريدون: أنت لا تفعل كذا، وذلك أن المثلين يسد أحدهما مسد الآخر، فكانا في حكم شيء واحد» . قال أبو حيان: «ولا حاجةَ إلى تقدير» مثل «في قوله:» ولو افتدى به «، وكأن الزمخشريَّ تخيَّل انَّ قدّر أن يُقْبَل لا يُمكن أن يُفْتَدَى به، فاحتاج إلى إضمار:» مثل «حتى يغاير ما نُفِي قبولُه وبين ما يفتدى به، وليس كذلك؛ لأن ذلك - ما ذكرناه - على سبيل الفرض والتقدير؛ إذ لا يمكن - عادةً - أن أحداً يملك مِلْءَ الأرض ذهباً، بحيث أنه لو بَذَلَهُ - على أيِّ جهةٍ بذله - لم يُقْبَل منه، بل لو كان ذلك ممكناً لم يَحْتَج إلى تقدير» مثل «؛ لأنه نفى قبوله - حتى في حالة الافتداء - وليس ما قدر في الآية نظير ما مثل به، لأن هذا التقدير لا يحتاج إليه، ولا معنى له، ولا في اللفظ، ولا في المعنى ما يدل عليه، فلا يقدر. وأما ما مثل به - من نحو: ضربت ضربَ زيدٍ، وأبو يوسف أبو حنيفةَ - فبضرورة العقل يُعْلَم أنه لا بد من تقدير مثل إذ ضربك يستحيل أن يكون ضربَ زيد، وذات أبي يوسف، يستحيل أن تكون ذاتَ أبي حنيفة. وأما «لا هيثم الليلة للمطي» ، فدل على حذف «مثل» ما تقرر في اللغة العربية أن «لا» التي لنفي الجنس، لا تدخل على الأعلام، فتؤثر فيها، فاحتيج إلى إضمار: «مثل» لتبقى على ما تقرر فيها؛ إذ تقرر أنها لا تعمل إلا في الجنس؛ لأن العلمية تنافي عمومَ الجنس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 384 وأما قوله: كما يزاد في: مثلك لا يفعل - تريد: أنت - فهذا قول قد قيل، ولكن المختار عند حُذَّاق النحويين أن الأسماء لا تزاد «. قال شهاب الدين: وهذا الاعتراض - على طوله - جوابه ما قاله أبو القاسم - في خطبة كشافه - واللغوي وإن علك اللغة بلحييه والنحوي - وإن كان أنحَى من سيبويه -[لا يتصدى أحد لسلوك تلك الطرائقِ، ولا يغوص على شيء من تلك الحقائقِ، إلا رجل قد برع في علمين مختصَّين بالقرآن المعاني والبديع - وتمهَّل في ارتيادهما آونةً، وتعب في التنقير عنهما أزمنةً] . قوله:» أولئك لم عذاب أليم «هذا هو النوع الثاني من وعيده الذي توعَّدَهم به. ويجوز أن يكون» لهم «: خبراً لاسم الإشارة، و» عَذَابٌ «فاعل به، وعمل لاعتماده على ذي خبره، أي: أولئك استقر لهم عذاب. وأن يكون» لَهُمْ «خبراً مقدَّماًن و» عَذَابٌ «مبتدأ مؤخر، والجملة خبر عن اسم الإشارة، والأول أحسن؛ لأن الإخبار بالمفرد أقرب من الإخبار بالجملة، والأول من قبيل الإخبار بالمفرد. قوله: {وما لهم من ناصرين} هذا هو النوع الثالث من الوعيد، ويجوز في إعرابه وجهان: أحدهما: أن يكون {مِّن نَّاصِرِينَ} : فاعلاً، وجاز عمل الجارّ؛ لاعتماده على حرف النفي، أي: وما استقر لهم من ناصرين. والثاني: أنه خبر مقدَّم، و {مِّن نَّاصِرِينَ} : مبتدأ مؤخر، و» مِنْ «مزيدة على الإعرابَيْن؛ لوجود الشرطين في زيادتها. وأتى ب» ناصرين «جمعاً؛ لتوافق الفواصل. واحتجوا بهذه الآية على إثبات الشفاعة؛ لأنه - تعالى - ختم وعيد الكفار بعدم النصرة والشفاعة، فلو حصل هذا المعنى في حق غير الكافر بطل تخصيص هذا الوعيد بالكفر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 النيل: إدراك الشيء ولحوقه. وقيل: هو العطية. وقيل: هو تناول الشيء باليد، يقال: نِلْتُه، أناله، نَيْلاً، قال تعالى: {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلا} [التوبة: 120] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 385 وأما النول - بالواو - فمعناه التناول، يقال: نِلتُه، أنوله، أي تناولته، وأنلْته زيداً، وأنوله إياه، أي ناولته إياه، كقولك: عطوته، أعطوه، بمعنى: تناولته، وأعطيته إياه - إذا ناولته إياه. قوله: «حتى تنفقوا» بمعنى إلى أن، و «مِن» في «مما تحبون» تبعيضية يدل عليه قراءة عبد الله: بعض ما تحبون. قال شهاب الدين: «وهذه - عندي - ليست قراءة، بل تفسير معنى» . وقال آخرون: «إنها للتبيين» . [وجوز أبو البقاء ذلك فقال: «أو نكرة موصوفة ولا تكون مصدرية؛ لأن المحبة لا تتفق، فإن جعلت المحبة بمعنى: المفعول، جاز على رأي أبي علي» يعني يَبْقى التقدير: من الشيء المحبوب، وهذان الوجهان ضعيفان والأول أضعف] . فصل لما بيَّن أن نفقتهم لا تنفع ذكَر - هنا - ما ينفع، فإن من أنفق مما يُحِبُّ كان من جملة الأبرار المذكورين في قوله: {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 13] ، وغيرها. قال ابن الخطيب: «وفي هذا لطيفة، وهي أنه - تعالى - قال في سورة البقرة -: {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 177] وقال - هنا - {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} والمعنى: لو فعلتم ذلك المتقدم كله، لا تفوزون بالبر حتى تُنْفقوا مما تُحِبُّون، وذلك يدل على أن النفقة من أفضل الطاعات. فإن قيل:» حتى «لانتهاء الغاية، فتقتضي الآية أن من أنفق مما يحب، صار من جملة الأبرار، ونال البر وإن لم يأت بسائر الطاعات. فالجواب: أن المحبوب إنما يُنفق إذا طمع المنفِق فيما هو أشرف منه، فلا ينفق المرءُ في الدنيا إلا إذا أيقن سعادة الآخرة، وذلك يستلزم الإقرار بالصانع، وأنه يجب عليه الانقيادُ لأوامره وتكاليفه، وذلك يعتمد تحصيل جميع الخصال المحمودة في الدين» . فصل قال ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ مَسْعُودٍ ومُجَاهِدٌ: البرّ: الجنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 386 وقال مقاتل بن حيان: البرّ التقوى. كقوله: {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} [البقرة: 177] إلى قوله: {وأولئك هُمُ المتقون} [البقرة: 177] . وقيل: البر «الطاعة. فالذين قالوا: إن البر هو الجنة قال بعضهم: معناه لن تنالوا ثواب البر. ومنهم من قال: المراد بر الله أولياءه، وإكرامه إياهم، وتفضله عليهم، من قولهم: بَرَّني فلان بكذا أو بِرُّ فلان لا ينقطع عني. وقوله:» مما تحبون «قال بعضهم: إنه نفس المال. وقال آخرون: أن تكون الهبة رفيعة جيدة لقوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُون} [البقرة: 267] . وقال آخرون: ما يكون محتاجاً إليه القوم؛ قال تعالى: {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّه} [الإنسان: 8]- في أحد تفاسير الحُبِّ - وقوله: {وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَة} [الحشر: 9] . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أفْضَلُ الصَّدَقَةِ مَا تَصَدَّقْتَ بِهِ وَأنْتَ صَحِيحٌ، شَحِيحٌ، تَأمُلُ الغِنَى وتَخْشَى الْفَقْرَ» . روى الضحاك عن ابن عباس: أن المراد به: الزكاة. قال ابْنُ الخَطِيبِ: لو خصصنا الآية بغير الزكاة لكان أوْلَى؛ لأن الآية مخصوصة بإيتاء الأحَبّ، والزكاة الواجبة لا يجب على المزكِّي أن يُخرج أشرف أموال، أو أكرمها، بل الصحيح أن هذه الآية مخصوصة بإيتاء المال على سبيل النَّدْب. ونقل الواحدي عن مجاهد والكلبي، أن هذه الآية منسوخة بإيتاء الزكاة، وهذا في غاية البُعْد؛ لأن إيجاب الزكاة كيف ينافي الترغيب في بَذْل المحبوب لوجه الله. قوله: {وما تنفقوا من شيء} تقدم نظيره في البقرة. فإن قيل: لِمَ قيل: {فإن الله به عليم} على جهة جواب الشرط، مع أن الله يعلمه على كل حال؟ فالجواب م نوجهين: الأول: أن فيه معنى الجزاء، تقديره: وما تُنْفِقُوا من شيء فإن الله مجازيكم به - قَلَّ أم كَثر -، لأنه عليم به، لا يَخْفَى عليه شيء منه، فجعل كونه عالماً بذلك الإنفاق كناية عن إعطاء الثواب، والتعريض - في مثل هذا الموضع - يكون أبلغ من التصريح. الثاني: أنه - تعالى - يعلم الوجه الذي لأجله تفعلونه، ويعلم أن الداعي إليه هو الإخلاص أم الرياء، ويعلم أنكم تنفقون الأحب الأجود أم الأخسّ الأرذل، ونظيره قوله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 387 تعالى: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} [البقرة: 197] ، وقوله: {وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن نَّفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِّن نَّذْرٍ فَإِنَّ الله يَعْلَمُه} [البقرة: 270] أي: يبينه ويجازيكم على قدره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 الحِلّ بمعنى: الحَلالَ، وهو - في الأصل - مصدر لِ «حَلَّ يَحِلُّ» ، كقولك: عز يعز عزًّا، ثم يطلق على الأشخاص، مبالغة، ولذلك يَسْتَوي فيه الواحدُ والمثنَّى والمجموعُ، والمذكَّرُ والمؤنثُ، كقوله تعالى: {لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ} [الممتحنة: 10] ، وفي الحديث عن عائشة: «كُنْتُ أطيِّبُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لِحِلِّه ولِحَرَمِهِ» ، أي لإحلاله ولإحرامه، وهو كالحرم واللبس - بمعنى: الحرام واللباس - وقال ابن عباس - في زمزم -: هي حِلٌّ وبِلٌّ. رواه سفيان بن عُيَيْنَة، فسئل سفيان، ما حِلّ؟ فقال: محَلَّل. و «لِبَني» : متعلق ب «حِلاًّ» . قوله: {إِلاَّ مَا حَرَّمَ} مستثنى من اسم «كَانَ» . وجوَّز أبو البقاء أن يكون مستثنًى من ضمير مستتر في «حِلاًّ» فقال لأنه استثناء من اسم «كَانَ» والعامل فيه: «كان» ، ويجوز أن يعمل فيه «حِلاًّ» ، ويكون فيه ضمير يكون الاستثناء منه؛ لأن حِلاًّ وحلالاً في موضع اسم الفاعل بمعنى الجائز والمباح. وفي هذا الاستثناء قولان: أحدهما: أنه متَّصل، والتقدير: إلا ما حرَّم إسرائيل على نفسه، فحرم عليهم في التوراة، فليس فيها ما زادوه من محرمات، وادَّعَوْا صحةَ ذلك. والثاني: أنه مُنْقَطِع، والتقدير: لكن حرم إسرائيلُ على نفسه خاصَّةً، ولم يحرمه عليهم، والأول هو الصحيح. قوله: {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة} فيه وجهان: أحدهما: انه متعلق ب «حَرَّم» أي: إلا ما حرَّم من قبل، قاله أبو البقاء. قال أبو حيان: «ويبعد ذلك؛ إذ هو من الإخبار بالواضح؛ لأنه معلوم أن الذي حَرَّم إسرائيل على نفسه، هو من قبل إنزال التوراة ضرورةً؛ لتباعد ما بين وجود إسرائيل وإنزال التوراة» . والثاني: أنه يتعلق بقوله: {كَانَ حِلاًّ} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 388 قال أبو حيان: «ويظهر أنه متعلّق بقوله: {كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ} ، أي: من قبل أن تُنَزًّل التوراة، وفصل بالاستثناء؛ إذْ هو فَصْل جائز، وذلك على مذهب الكسائي وأبي الحسن، في جواز أن يعمل ما قبل» إلا «فيما بعدها إذا كان ظرفاً أو مجروراً أو حالاً - نحو ما جلس إلا زيد عندك، ما أوَى إلا عمرو إليك، وما جاء إلا زيد ضاحكاً. وأجاز الكسائي ذلك في المنصوب مطلقاً، نحو ما ضرب إلا زيدٌ عمراً؛ وأجاز ذلك هو وابن الأنباري في المرفوع، نحو ما ضرب إلا زيداً عمرو، وأما تخريجه على غير مذهب الكسائي وأبي الحسن، فَيُقدَّر له عامل من جنس ما قبله، تقديره - هنا - جل من قبل أن ينزل أي تنزل التوراة» . وقرئ: {تُنَزَّلَ التوراة} بتخفيف الزاي وتشديدها، وكلاهما بمعنى واحد، وهذا يرد قولَ من قال بأن «تنَزَّل» - بالتشديد - يدل على أنه نزل مُنَجَّماً؛ لأن التوراة إنَّما نزلت دُفْعَةً واحدة بإجماع المفسرين. فصل لما تقدمت الآيات الدالة ُ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والإلزامات الواردة على أهل الكتاب، بين في هذه الآية الجوابَ عن شُبُهاتهم، وهي تحتمل وجوهاً: روي أن اليهود كانوا يُعَوِّلُونَ في إنكار شرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على إنكار النسخ، فأبطل الله - تعالى - عليهم ذلك بأن كل الطعام كان حِلاًّ لبني إسرائيل، إلا ما حرم إسرائيل على نفسه، فذلك الذي حرمه على نفسه كان حلالاً، ثم صار حراماً عليه وعلى أولاده، فحصل النسخُ، وبطل قولكم: النسخ غير جائز، فلما توجَّه على اليهود هذا السؤالُ أنكروا أن تكون حرمةُ ذلك الطعام الذي حُرِّم بسبب أن إسرائيلَ حرَّمه على نفسه، بل زعموا أن ذلك كان حراماً من زمان آدم إلى زمانهم، فعند هذا طلب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منهم أن يُحْضِروا التوراةَ؛ فإن التوراةَ ناطقة بأن بعض أنواع الطعام إنما حُرِّم بسبب أن إسرائيلَ حرَّمه على نفسه، فخافوا من الفضيحة، وامتنعوا من إحضار التوراة، فحصل عند ذلك أمور كثيرة تُقَوِّي القولَ بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. منها: أن النسخ قد ثبت لا محيصَ عنه، وهم يُنْكِرُونه. ومنها: ظهور كذبهم للناس، فيما نسبوه إلى التوراة. ومنها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان أمِّيًّا، لا يقرأ ولا يكتب، فدل على أنه لم يعرفُ هذه المسألةَ الغامضةَ إلا بوحي من الله تعالى. الوجه الثاني: أن اليهود قالوا له: إنك تدَّعي أنك على ملة إبراهيم، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانَها مع أن ذلك كان حراماً في دين إبراهيم، فلست أنت على ملة إبراهيم، فجعلوا ذلك شبهةً طاعِنةً في صحة دعواه، فأجابهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على هذه الشبهة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 389 وقال: إن ذلك كان حلالاً لإبراهيمَ وإسماعيلَ وإسحاق ويعقوبَ، إلا أن يعقوبَ حرَّمه على نفسه، لسبب من الأسباب، وبقيت تلك الحُرْمَةُ في أولاده، فأنكر اليهودُ ذلك، وقالوا: ما نحرمه اليوم كان حراماً على نوح وإبراهيمَ حتى انتهى إلينا، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فأمرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإحضار التوراةِ، وطالَبَهُمْ بأن يستخرجوا منها آيةً تدل على أن لحومَ الإبل وألبانَها كانت محرمةً على إبراهيم، فعجزوا عن ذلك، وافتضحوا، فظهر كذبُهم. الوجه الثالث: أنه - تعالى - لما أنزل قوله: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] ، قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] فدل ذلك على أنه إنما حرم على اليهود هذه الأشياء - جزاءً لهم على بَغيهم - وأنه لم يكن شيء من الطعام حراماً، غير الذي حرا إسرائيل على نفسه، فشقَّ ذلك على اليهود من وجهين: أحدهما: أن ذلك يدل على تحريم هذه الأشياءِ بعد الإباحة، وذلك يقتضي النسخ، وهم ينكرونه. والثاني: أن ذلك يدل على أنهم كانوا موصوفين بقبائح الأفعال، فلما شَقَّ ذلك عليهم من هذين الوجهين، أنكروا كَوْنَ حُرْمَةِ هذه الأشياء متجدِّدَةً، وزعموا أنها كانت مُحَرَّمَةً أبداً، فطالبهم النبيُّ بآية من التوراة تدل على صِحَّةِ قولِهم فعجزوا وافتضحوا فهذا وجه النظم وسبب النزول. فصل قال الزمخشري: «كُلُّ الطَّعَامِ» كل المطعومات، أو كل أنواع الطعام. واختلف الناس في اللفظ المفرد المحلَّى بالألف واللام، هل يفيد العموم أم لا؟ فذهب قوم إلى أنه يفيده لوجوه: الأول: أنه - تعالى - أدْخل لفظ «كُلّ» على لفظ «الطَّعَامِ» فلولا أن لفظ الطَّعَامِ «قائم مقام المطعومات، وإلا لما جاز ذلك. والثاني: أنه استثنى ما حرم إسرائيلُ على نفسه، والاستثناء يُخْرِج من الكلام ما لولاه لدخل فلولا دخول كل الأقسام تحت لفظ:» الطَّعَام «، وإلا لم يَصِحْ الاستثناء ويؤيده قوله تعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ} [العصر: 1 - 3] . الثالث: أنه - تعالى - وصف هذا اللفظ المفرد بما يُوصف به لفظ الجمع، فقال {والنخل بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ} [ق: 10] ، فعلى هذا لا يحتاج إلى الإضمار الذي ذكره الزمخشريُّ. ومن قال: إنه لا يفيد العمومَ، يحتاج إلى الإضمار. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 390 فصل الطعام: اسم لكل ما يُؤكَل ويُطْعَم. وزعم بعض الحنفيَّة: أنه اسم للبُرِّ خاصَّةً، وهذه الآية حُجَّة عليهم؛ لأنه استثنى من لفظ» الطَّعَامِ «: ما حرم إسرائيل على نفسه، وأجمع المفسرون على أن ذلك الذي حرَّمه على نفسه كان غير الحنطة وما يُتَّخَذ منها، ويؤكد ذلك قوله - في صفة الماء -: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} [البقرة: 249] ، وقوله: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} [المائدة: 5] ، وأراد الذبائح، وقالت عائشة:» مَا لَنَا طَعَامٌ إلاَّ الأسودان «والمراد: التمر والماء. فصل في المراد بالذي حرم إسرائيل على نفسه اختلفوا في الذي حرَّمه إسرائيل على نفسه وفي سببه: قال أبو العالية وعطاء ومقاتل والكلبيُّ: روى ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» إنَّ يعقوبَ مَرِضَ مَرَضاً شديداً، فَنَذَرَ لَئِنْ عَافَاهُ اللهُ ليُحَرِّمَنَّ أحَبَّ الطعامِ والشَّرَابِ إلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ لُحْمَانَ الإبلِ وألبانها «. قال ابن عباس ومجاهد وقتادةُ والسُّدِّيُّ والضَّحَّاكُ: هي العروق، وكان السبب فيه، أنه اشتكى عرق النسا، وكان أصل وجعه - فيما روى جويبر ومقاتلٌ عن الضحاك - أن يعقوب كان قد نذر إن وهبه الله اثْنَي عشر وَلداً، وأتَى بيتَ لمقدس صحيحاً، أن يذبح آخرَهم، فتلقاه ملَكٌ من الملائكة، فقال: يا يعقوبُ، إنك رجل قويٌّ، فهل لك في الصِّراع؟ فصارعه فلم يصرع واحدٌ منهما صاحبه، فغمزه الملك غمزةً، فعرض له عرق النسا من ذلك، ثم قال له الملك: أما إني لو شئتُ أن أصرعك لفعلت، ولكن غمزتك هذه الغمزة؛ [لأنك كنتَ نذرتَ إن أتيتَ بيتَ المقدس صحيحاً أن تذبح آخر ولدِك، فجعل الله له بهذه الغمزة] مخرجاً، فلما قدم يعقوب بيت المقدسِ أراد ذَبْحَ ولده، ونَسِي قولَ المَلَك، فأتاه الملك، وقال: إنما غمزتم للمخرج، وقد وفى نذرك، فلا سبيل لك إلى ولدِك. وقال عباسٍ ومُجَاهِدٌ وقَتَادَةُ والسُّدِّيُّ: أقبل يعقوب من: «حَرَّان» يريد بيت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 391 المقدس، حين هرب من أخيه عيصو، وكان رجلاً بطيشاً، قويًّا، فلقيه ملك، فظنَّ يعقوب أنه لِصّ، فعالجه ليصرعه فلم يصرع واحد منهما صاحبه، فغمز الملك فَخْذَ يعقوب، ثم صعد إلى السماء، ويعقوب ينظر إليه، فهاج به عرق النسا، ولقي من ذلك بلاءً وشِدَّةً، وكان لا ينام الليل من الوجع ويبيت وله زقاء: أي صياح، فحلف لئن شفاه الله أن لا يأكل عِرْقاً ولا طعاماً فيه عِرْق، فحرَّمه على نفسه، فكان بنوه - بعد ذلك - يَتَّبعون العروق، ويخرجونها من اللحم. وروى جبير عن الضحاك عن ابن عباس: لما أصاب يعقوبَ عرقُ النسا، وصف له الأطباء أن يجتنب لُحْمانَ الإبل، فحرَّمها يعقوب على نفسه. وقال الحسن: حرَّم يعقوب على نفسه لحم الجزور، تعبُّداً لله تعالى، فسأل ربه أن يُجِيز له ذلك، ومنعها الله على وَلَدِهِ. فإن قيل: التحريم والتحليل إنما يثبت بخطاب الله - تعالى - وظاهر الآية يدل على أن إسرائيلَ حرم ذلك على نفسه، فكيف صار ذلك سَبَباً لحصول الحُرْمَة؟ فالجواب من وجوه: الأول: أنه لا يبعد أن الإنسانَ إذا حرَّم شيئاً على نفسه، فإن الله يُحَرِّمُه عليه كما أن الإنسانَ يحرم امرأته بالطلاق، ويحرم جاريته بالعِتْق، فكذلك يجوز أن يقول الله تعالى: إن حرَّمْتَ شيئاً على نفسك فأنا - أيضاً - أحَرِّمُه عليك. الثاني: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ربما اجتهد، فأدَّى اجتهاده إلى التحريم، فقال بتحريمه، والاجتهاد جائز من الأنبياء؛ لعموم قوله: {فاعتبروا ياأولي الأبصار} [الحشر: 2] ، ولقوله: {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ} [النساء: 83] ، ولقوله - لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ، فدل على أنه كان بالاجتهاد. وقوله تعالى: {إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ} يدل على أنه إنما حرَّمه على نفسه بالاجتهاد؛ إذْ لو كان بالنصِّ لقال: إلاَّ ما حرَّمه الله على إسرائيل. الثالث: يُحْتَمَل أن التحريم في شرعه كالنذر في شرعنا، فكما يجب علينا الوفاةُ بالنذر - وهو بإيجاب العبد على نفسه - كان يجب في شرعه الوفاءُ بالتحريم. الرابع: قال الأصم: لعل نفسه كانت مائلةً إلى تلك الانواع كُلِّها، فامتنع من أكلها؛ قَهْراً للنَّفْس، وطَلَباً لمرضاة الله، كما يفعله كثير من الزُّهَّادِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 392 فصل ترجم ابنُ ماجه في سننه «دواء عرقِ النساء» وروى بسنده عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «شِفاءُ عِرْقِ النِّسَا ألْيَةُ شَاةٍ، [أعرابية] تُذابُ، ثُمَّ تُجَزَّأ ثَلاثَةَ أجْزَاءٍ، ثُمَّ تُشْرَبُ عَلَى الرِّيق في كُلِّ يَوْمٍ جُزْءًا» . وفي رواية عن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في عرق النسا -: «تُؤخَذُ ألْيَةُ كَبْشٍ عَرَبِيٍّ - لا صَغِيرٍ وَلاَ كَبِيرٍ - فَتُقَطَّع صِغَاراً، فتُخْرَجُ إهَالتُه، فتقسَّم ثلاثة أقسام، قِسْمٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ عَلَى الرِّيقِ» قال أنس: فوصفته لأكثر من مائة، فبرئوا - بإذن الله عَزَّ وَجَلَّ -، وروى شعبة قال: حدثني شيخ - في زمن الحجَّاج بن يوسف - في عرق النسا، يمسح على ذلك الموضع، ويقول أقسم لك بالله الأعلى، لئن لم تَنْتَهِ لأكوَينَّك بنارٍ، أو لأحْلِقَنَّكَ بمُوسى. قال شعبة: قد جرَّبته، لقوله: وتمسح على ذلك الموضع. فصل دلّت هذه الآية على جواز الاجتهاد للأنبياء؛ ولأنه إذا شُرع الاجتهاد لغيرهم، فهم أولى؛ لأنهم أكمل من غيرهم، ومنع بعضُهم ذلك؛ لأنهم متمكنون من الوحي، وقال تعالى: {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1] . فصل ظاهر الآية يدل على أنَّ الذي حرمه إسرائيل على نفسه، قد حرَّمه الله على بني إسرائيلَ؛ لقوله تعالى: {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ} ، فحكم بحلِّ كل أنواع المطعومات لبني إسرائيلَ، ثم استثنى منها ما حرمه إسرائيلُ على نفسه، فوجب - بحكم الاستثناء - أن يكون ذلك حراماً عليهمز فصل ومعنى قوله: {مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة} أي: قبل نزول التوراة كان حلاًّ لبني إسرائيل كلُّ المطعومات سوى ما حرمه إسرائيلُ على نفسه، أما بعد نزول التوراة، فلم يَبْقَ كذلك بل حرم الله - تعالى - عليهم أنواعاً كثيرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 393 وقال السدي: حرم الله عليهم في التوراة ما كانوا يُحَرِّمونه قبل نزولها. قال ابن عطية: إنما كان مُحَرَّماً عليهم بتحريم إسرائيل؛ فإنه كان قد قال: إن عافاني الله لا يأكله لي ولد، ولم يكن محرَّماً عليهم في التوراة. وقال الكلبي: لم يُحَرِّمه الله عليهم في التوراة، وإنما حُرِّم عليهم بعد التوراة بظُلْمهم، كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] ، وقال: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] روي أن بني إسرائيل كانوا إذا أتوا بذنب عظيم، حرَّم الله عليهم نوعاً من أنواع الطعام، أو سلط عليهم سبباً لهلاك أو مَضَرَّةٍ. وقال الضحاكُ: لم يكن شيئاً من ذلك مُحَرَّماً عليهم، ولا حَرَّمه الله في التوراة، وإنما حرموه على أنفسهم؛ اتباعاً لأبيهم، ثم أضافوا تحريمه إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - فكذبهم الله، فقال: «قُلْ» : يا محمد {فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها} حتى يتبين أنه كما قلتم {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} ، فلم يأتوا بها، فقال - الله عَزَّ وَجَلَّ -: {فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} ، «مَنْ» يجوز أن تكون شرطيَّةً، أو موصولة، وحمل على لفظها في قوله: «افْتَرَى» فوحَّد الضمير، وعلى معناها فجمع في قوله: {فأولئك هُمُ الظالمون} ، والافتراء مأخوذ من الفَرْي، وهو القطع، والظالم هو الذي يضع الشيء في غير مَوْضِعِه. وقوله: {مِن بَعْدِ ذَلِكَ} أي: من بعد ظهور الحجة، {فأولئك هُمُ الظالمون} المستحقون لعذاب الله. قوله: {مِنْ بَعْدِ} فيه وجهان: أحدهما: - وهو الظاهر -: أن يتعلق ب «افْتَرَى» . الثاني: قال أبو البقاء: يجوز أن يتعلق بالكذب، يعني: الكذب الواقع من بعد ذلك. وفي المشار إليه ثلاثة أوجه: أحدها: استقرار التحريم المذكور في التوراةِ عليهم؛ إذ المعنى: إلا ما حرم إسرائيلُ على نفسه، ثم حرم في التوراة؛ عقوبةً لهم. الثاني: التلاوة، وجاز تذكير اسم الإشارة؛ لأن المراد بها بيان مذهبهم. الثالث: الحال بعد تحريم إسرائيل على نفسه، وهذه الجملة - أعني: قوله: {فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب} - يجوز أن تكون استئنافيةً، فلا محل لها من الإعراب، ويجوز أن تكون منصوبة المحل؛ نسقاً على قوله: {فَأْتُواْ بالتوراة} ، فتندرج في المقول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 أي قل لهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 394 والعامة على إظهار لام «قُلْ» مع الصاد. وقرأ ابنُ بن تغلب بإدغامها فيها، وكذلك أدغم اللام في السين في قوله: {قُلْ سِيرُواْ} [الأنعام: 11] وسيأتي أن حمزةَ والكسائيِّ وهشاماً أدْغموا اللام في السين في قوله: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ} [يوسف: 18] . قال أبو الفتح: «عِلَّةُ ذلك فُشُوُّ هذين الحرفَيْن في الضم، وانتشار الصوت المُنْبَثّ عنهما، فقاربتا بذلك مخرج اللام، فجاز إدغامها فيهما» ، وهو مأخوذ من كلام سيبويه، فإن سيبويه قال: «والإدغام، يعني: إدغام اللام مع الصاد والطاء وأخواتهما، جائز، وليس ككثرته مع الراء؛ لأن هذه الحروفَ تراخين عنها، وهن من الثنايا؛ قال: وجواز الإدغام أنّ ىخر مخرج اللام قريب من مخرجها» . انتهى. قال أبو البقاء عبارة تُوَضِّحُ ما تقدم، وهي: «لأن الصاد فيها انبساط، وفي اللام انبساط، بحيث يتلاقى طرفاهما، فصارا متقاربين» . وقد تقدم إعراب قوله: ملة إبراهيم حنيفاً. فصل {قُلْ صَدَقَ الله} يحتمل وجوهاً: أحدها: قل: صدق اللهُ في أن ذلك النوعَ من الطعام، صار حراماً على بني إسرائيلَ، وأولادِه بعد أن كان حلالاً لهم، فصحَّ القولُ بالنسخ، وبطلت شُبْهَةُ اليهود. وثانيها: قل: صدق اللهُ في أن لحوم الإبل، وألبانها كانت مُحَلَّلَةً لإبراهيمَ، وإنما حُرِّمَتْ على بني إسرائيلَ؛ لأن إسرائيلَ حَرَّمها على نفسه، فثبت أن محمداً لما أفتى بِحلِّ لحوم الإبل، وألبانِها، فقد أفتى بملة إبراهيمَ. وثالثها: صدق الله في أن سائرَ الأطعمة، كانت مُحَلَّلَةً لبني إسرائيلَ، وإنما حُرِّمَتْ على اليهود؛ جزاءً على قبائح أفعالهم. وقوله: {فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} أي: اتبعوا ما يدعوكم إليه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ملة إبراهيمَ. وسواء قال: {مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} أو قال: «ملة إبراهيم الحنيف» ؛ لأن الحال والصفة في المعنى سواء. وقوله: {وَمَا كَانَ مِنَ المشركين} أي: لم يدْعُ مع الله إلهاً آخرَ، كما فعله العرب من عبادة الأوثان، أو كما فعله اليهودُ من أن عُزَيراً ابن الله، أو كما فعله النصارى من ادِّعاء أن المسيح ابن الله. والمعنى: إن إبراهيم - عليه السلام - لم يكنْ من الطائفة المشركةِ في وقت من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 395 الأوقاتِ، والغرض منه بيان أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على دين إبراهيم في الفروع والأصول؛ لأن مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يدعو إلا إلى التوحيدِ، والبراءة عن كل معبودٍ سوى اللهِ تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه: الأول: أن المرادَ منه: الجواب عن شبهةٍ أخْرَى من شُبَهِ اليهود في إنكار نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وذلك لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا حُوِّل إلى الكعبةِ، طَعَنَ اليهودُ في نبوَّتِهِ، وقالوا: إنَّ بيتَ المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال؛ لأنه وُضِع قبل الكعبة، وهو أرضُ المحشَر، وقبلةُ جُملة الأنبياء، وإذا كان كذلك فتحويل القبلةِ منه إلى الكعبة باطل، وأجابهم الله بقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} هو الكعبة، فكان جَعْلُه قِبْلَةً أوْلَى. الثاني: أن المقصود من الآيةِ المتقدمةِ بيان النسخ، هل يجوز أم لا؟ واستدلَّ - عليه السلام - على جوازه، بأن الأطعمة كانت مُباحةً لبني إسرائيلَ، ثم إن الله تعالى حرَّم بعضَها، والقوم نازعوه فيه، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نسخه هو القبلة، فذكر الله - في هذه الآيات - بيان ما لأجله حُوِّلَت القبلة إلى الكعبة، وهو كَوْنُ الكعبة أفضلَ من غيرها. الثالث: أنه - تعالى - لما قال في الآية المتقدمةِ: {فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 95] ، وكان من أعظم شعائر ملة إبراهيمَ الحَجُّ - ذكر في هذه الآية فضل البيت؛ ليُفَرِّعَ عليه إيجابَ الحَجِّ. الرابع: أنه لما تقدَّم مناظرة اليهود والنصارى، وزعموا أنهم على ملة إبراهيم، فبيّن الله كذبهم في هذه الآية من حيث إن حَجَّ الكعبةِ كان ملةَ إبراهيمَ، وهم لا يَحُجُّون، فدل ذلك على كذِبهم. قوله: {وُضِعَ لِلنَّاسِ} هذه الجملة في موضع خفض؛ صفة ل «بَيْتٍ» . وقرأ العامة «وُضِعَ» مبنيًّا للمفعول. وعكرمة وابن السميفع «وضَعَ» مبنيًّا للفاعل. وفي فاعله قولان: أحدهما: - وهو الأظهر - أنه ضمير إبراهيم؛ لتقدُّم ذِكْرِه؛ ولأنه مشهور بعمارته. والثاني: أنه ضمير الباري تعالى، و «لِلنَّاسٍ» متعلق بالفعل قبله، واللام فيه للعلة. و «للذي» بِبَكَّة «خبر» إنَّ «وأخبر - هنا - بالمعرفة - وهو الموصول - عن النكرة - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 396 وهو» أول بَيْتٍ «- لتخصيص النكرة بشيئين: الإضافة، والوصف بالجملة بعده، وهو جائز في باب» إن «، ومن عبارة سيبويه: إن قريباً منك زيدٌ، لما تخصص» قريباً «بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرناه، وزاده حُسْناً - هنا - كونه اسماً ل» إنَّ «، وقد جاءت النكرة اسماً ل» إنَّ «- وإن لم يكن تخصيص - كقوله: [الطويل] 1538 - وَإنَّ حَرَاماً أن أسُبَّ مُجَاشِعاً ... بِآبَائِيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الخَضَارِمِ وببكة صلة، والباء فيه ظرفية، أي: في مكة. وبكة فيها اربعة أوجه: أحدها: أنها مرادفة ل» مكة «فأبدلت ميمها باءً، قالوا: والعرب تُعَاقِب بين الباء والميم في مواضع، قالوا: هذا على ضربة لازم، ولازب، وهذا أمر راتب، وراتم، والنبيط والنميط وسبد رأسه وسمَدَها، وأغبطت الحمى، وأغمطت. وقيل: إنها اسم لبطن مكة، ومكة اسم لكل البلد. وقيل: إنها اسم لمكان البيت. وقيل: إنها اسم للمسجد نفسه، وأيدوا هذا بأن التباكّ وهو: الازدحام إنما يحصل عند الطواف، يقال: تباكَّ الناسُ - أي: ازْدَحموا، ويُفْسِد هذا القولَ أن يكون الشيء ظرفاً لنفسه، كذا قال بعضهم، وهو فاسد، لأن البيت في المسجد حقيقةً. وقال الأكثرون: بكة: اسم للمسجد والمطاف، ومكة: اسم البلد، لقوله تعالى: {لَلَّذِي بِبَكَّةَ} فدل على أن البيت مظروف في بكة، فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكةَ ظرفاً له. وسميت بكة؛ لازدحام الناس، قاله مجاهد وقتادة، وهو قول محمد بن علي الباقر. وقال بعضهم: رأيت محمد بن علي الباقر يصلي، فمرت امرأة بين يديه، فذهبت أدْفَعها، فقال: دعها، فإنها سُمِّيَتْ بكةَ، لأنه يبكُّ بعضُهم بعضاً، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي، ولا بأس بذلك هنا. وقيل: لأنها تبكُّ أعناق الجبابرة - أي: تدقها. قال قطرب: تقول العرب: بَكَكْتهُ، أبُكُّهُ، بَكًّا، إذا وضعت منه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 397 وسميت مكة - من قولهم: مَكَكْتُ المخ من العظم، إذا تستقصيته ولم تترك فيه شيئاً. ومنه: مَكَّ الفصيل ما في ضَرْعِ أمِّه - إذا لم يترك فيه لبناً، ورُويَ أنه قال: «لا تُمَكِّكُوا عَلَى غُرَمَائِكُمْ» . وقيل: لأنها تَمُكُّ الذنوبَ، أي: تُزيلها كلَّها. قال ابن الأنباري: وسُمِّيَتْ مكة لِقلَّةِ مائِها وزرعها، وقلة خِصْبها، فهي مأخوذة من مكَكْت العَظْم، إذا لم تترك فيه شيئاً. وقيل: لأن مَنْ ظَلَم فيها مَكَّهُ اللهُ، أي: استقصاه بالهلاك. وقيل: سُمِّيت بذلك؛ لاجتلابها الناسَ من كل جانب من الأرض، كما يقال: امتكّ الفصيلُ - إذا استقصى ما في الضَّرْع. وقال الخليل: لأنها وسط الأرض كالمخ وسط العظم. وقيل: لأن العيونَ والمياه تنبع من تحت مكة، فالأرض كلها تمك من ماء مكة، والمكوك: كأس يشرب به، ويُكال به - ك «الصُّوَاع» . قال القفال: لها أسماء كثيرة، مكة، وبكة، وأمّ رُحْم، - بضم الراء وإسكان الحاء - قال مجاهد: لأن الناس يتراحمون فيها، ويتوادَعُون - والباسَّة؛ قال الماوَرْدِي: لأنها تبس من الْحَد فيها، أي: تُحَطِّمه وتُهْلكه، قال تعالى: {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً} [الواقعة: 5] . ويروى: الناسَّة - بالنون - قال صاحبُ المطالع: ويقال: الناسَّة - بالنون -. قال الماوَرْدِيُّ: لأنها تنس من ألحد فيها - أي: تطرده وتَنْفِيه. ونقل الجوهري - عن الأصمعي -: النَّسّ: اليبس، يُقال: جاءنا بخُبْزَة ناسَّة، ومنه قيل لمكةَ: الناسَّة؛ لقلة مائها. والرأس، والعرش، والقادس، والمقدَّسة - من التقديس - وصَلاَحِ - بفتح الصاد وكسر الحاء - مبنيًّا على الكسر كقَطَامِ وحَذَامِ، والبلد، والحاطمة؛ لأنها تحطم من استخَفَّ بها، وأم القرى؛ لأنها أصل كل بلدة، ومنها دحيت الأرض، ولهذا المعنى تُزَار من جميع نواحي الأرض. فصل الأوَّلُ: هو الفرد السابق، فإذا قال: أوَّلُ عبد أشتريه فهو حُرّ، فلو اشترى عبدَيْن في المرة الأولى لم يُعْتَقْ واحدٌ منهما؛ لأن الأول هو الفرد، ثم لو اشترى بعد ذلك ما شاء لم يعتق؛ لأن شرط الأوَّليَّة قد عُدِمَ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 398 إذا عُرِفَ هذا، فقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} لا يدل على أنه أوَّلُ بَيْتٍ خلقه الله تعالى، ولا أنه أول بيت ظهر في الأرض، بل يدل على أنه أول بيت وُضِعَ للناس، فكونه موضوعاً للناس يقتضي كونه مشتركاً فيه بين جميع الناس، وكونه مشتركاً فيه بين كل الناس، لا يحصل إلا إذا كان البيت موضعاً للطاعات، وقِبْلَةً للخلق، فدلَّت الآية على أن هذا البيت وَضَعه الله - تعالى - للطاعات والعبادات، فيدخل فيه كونه قِبْلَةً للصلوات، وموضِعاً للحجِّ. فإن قيل: كونه أولاً في هذا الوَصْف يقتضي أن يكون له ثانٍ، فهذا يقتضي أن يكون بيتُ المقدس يشاركه في هذا الصفات، التي منها وجوبُ حَجِّه، ومعلوم أنه ليس كذلك. فالجواب من وجهين: الأول: أن لفظ «الأوًّل» - في اللغة - اسم للشيء الذي يُوجَد ابتداءً، سواء حصل بعده شيء آخرُ، أو لم يحصل، يقال: هذا أول قدومي مكة، وهذا أول مال أصَبْتُه، ولو قال: أول عبدٍ أملكه فهو حُرٌّ، فملك عبداً عُتِق - وإن لم يملك بعده آخر - فكذا هنا. الثاني: أن المراد منه: أول بيت وُضِع لطاعات الناس وعباداتهم، وبيت المقدس يُشاركه في كونه موضوعاً للطاعاتِ والعباداتِ، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إلاَّ لِثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: المَسْجِد الْحَرَامِ، والمسْجِدِ الأقْصَى، ومَسْجِدِي هَذَا» ، وهذا القدر يكفي في صدق كَوْنِ الكعبةِ أول بيتٍ وضع للناس، فأما أن يكون بيتُ المقدسِ مشاركاً له في جميع الأمور، حتى في وجوبِ الحَجِّ، فهذا غير لازم. فصل قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ} يحتمل أن يكون المراد: أنه أول في الموضع والبناء، وأن يكون أولاً في كونه مباركاً وهُدًى، وفيه قولان للمفسرين. فعلى الأول فيه أقوال: أحدها: روى الواحدي في البسيط عن مجاهد أنه قال: خلق الله البيت قبل أن يخلقَ شيئاً من الأرضين. وفي رواية: «خَلَقَ اللهُ مَوْضِعَ هَذَا البَيْتِ قَبْلَ أنْ يَخْلُق شَيْئاً مِنَ الأرضِينَ بِألْفي سَنَةٍ، وَإنَّ قَوَاعِدَه لَفِي الأرْضِ السَّابِعَةِ السُّفْلَى» . وروى النووي - في مناسكه - عن الأزْرَقِي - في كتاب مكة - عن مجاهد قال: إن هذا البيتَ أحد أربعة عشر بيتاً، في كل سماء بيتٌ، وفي كل أرض بيت، بعضهن مقابل بعض. وروى أيضاً عن علي بن الحُسَيْن بن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 399 النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عن الله - تعالى - قال: «إنَّ اللهَ بَعَثَ مَلاَئكةً، فَقَالَ: ابْنُوا لِي فِي الأرْضِ بَيْتاً عَلَى مِثَالِ البَيْتِ المَعْمُورِ، فبنوا له بيتاً على مثالِه، واسْمُه الضُّرَاح، وَأمَرَ اللهُ مَنْ فِي الأرْضِ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ - الَّذِينَ هُمْ سُكَّانُ الأرْضِ - أنْ يَطُوفُوا بِهِ كَمَا يَطُوفُ أهْلُ السَّمَاءِ بِالْبَيْتِ المَعْمُورِ وَهَذَا كَانَ قَبْلَ خَلْقِ آدَمَ بِألفَيْ عَامٍ وَكَانُوا يَحُجُّونَهُ، فَلَمَّا حَجَّه آدَمُ، قَالَتِ المَلاَئِكَةُ: بَرَّ حَجُّك، حَجَجْنَا هَذَا البَيْتَ قَبْلَكَ بِألْفَي عَامٍ» ورُوِي عن عبد الله بن عمر ومجاهد والسُّدِّيّ: أنه أول بيت وُضِعَ على وجه الماء، عند خلق الأرض والسماء، وقد خلقه الله قبل خلق الأرض بألفي عام، وكان زَبَدَةً بيضاء على الماء، ثم دُحِيَت الأرض من تحته. قال القفال في تفسيره: روى حَبيب بن أبي ثابت عن ابن عباس، قال، وُجِدَ في كتاب - في المقام، أو تحت المقام - أنا الله، ذو بكَّةَ، وضعتُها يومَ وضعتُ الشمسَ والقمرَ، وحرَّمْتُها يوم وَضَعْتُ هذين الحجرَيْن وحفَفْتُها بسبعة أملاك حُنَفَاء. روي: أن آدم لما أهْبِط إلى الأرض شكا الوحشةَ، فأمره الله - تعالى - ببناء الكعبةِ، وطاف بها وبقي ذلك إلى زمان نوح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَلَمَّا أرسلَ اللهُ الطوفانَ، رفع البيت إلى السماء السابعة - حيال الكعبة - تتعبد عنده الملائكة، يدخله كلَّ يوم سبعون ألف مَلَك، سوى مَنْ دخل قبلُ فيه، ثم بعد الطوفان اندرس موضعُ الكعبةِ، وبقي مُخْتَفِياً إلى أن بعث الله جبريلَ إلى إبراهيم، ودلَّه على مكان البيت، وأمره بعمارته. قال القاضي: القول بأنه رُفِع - زمانَ الطوفان - إلى السماء بعيد؛ لأن موضِعَ التشريف هو تلك الجهة المعينة، والجهة لا يمكن رفعها إلى السماء، ألا ترى أن الكعبة لو انهدمت - والعياذ بالله - ونُقِلت الحجارة بعد الانهدام، ويجب على كل مسلم أن يُصَلِّيَ إلى تلك الجهةِ بعينها، وإذا كان كذلك، فلا فائدة في رفع تلك الجدرانِ إلى السماء. انتهى. فدلت هذه الأقوال المتقدمة على أن الكعبة، كانت موجودةً في زمان آدم - عليه السلام - ويؤيده أن الصلوات كانت لازمةً في جميع أديان الأنبياء، لقوله: {أولئك الذين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 400 أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ ءادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً} [مريم: 58] . ولما كانوا يسجدون لله، فالسجود لا بد له من قِبْلَةٍ، فلو كانت قبلة شيث وإدريس ونوح موضعاً آخر سوى القبلة لبطل قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} ، فدلَّ ذلك على أن قبلةَ أولئك الأنبياء هي الكعبةُ. القول الثاني: أنَّ المرادَ بالأوليَّةِ: كونه مباركاً وهدًى، قالوا: لأنه رُوِي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سُئِلَ عن أول مسجد وُضِعَ للنَّاس، فقال: «المَسْجِدُ الحَرَامُ، ثُمَّ بَيْتُ المَقْدسِ، فَقِيلَ: كَمْ بَيْنَهُمَا؟ قال: أرْبَعُونَ سَنَةً، وأينما أدْرَكَتْك الصلاةُ فَصَلِّ فهو مسجدٌ» . وعن علي: أن رجلاً قال له: هو أول بيتٍ؟ قال: لا، كان قبلَه بيوتٌ، أول بيت وُضِعَ للناس، مباركاً، فيه الهُدَى والرحمةُ والبركةُ، أول مَنْ بناه إبراهيم، ثم بتاه قوم من العرب من جُرْهُم، ثم هُدِم، فبنته العمالقةُ، وهم ملوك من أولاد عمليق بن سام بن نوح، ثم هدم فبناه قريش. ودلالة الآية على الأولية في الشرف أمر لا بد منه؛ لأن المقصود الأصلي من هذه الأولية ترجيحه على بيت المقدس، وهذا إنما يتم بالأوليةِ في الفضيلةِ والشرفِ، ولا تأثيرَ للأوليَّة في البناء في هذا المقصودِ، إلا أن ثبوتَ الأوليةِ بسبب الفضيلةِ لا ينافي ثبوتَ الأولية في البناء. فصل في بيان فضيلته اتفقتِ الأمَمُ على أن باني هذا البيت هو الخليل - عليه السلام - وباني بيت المقدس سليمان - عليه السلام - فمن هذا الوجه، تكون الكعبة أشرف، فكان الآمر بالعمارة هو الله، والمبلغُ والمهندسُ جبريل، والبانِي هو الخليلَ، والتلميذُ المُعِينُ هو إسماعيل؛ فلهذا قيل: ليس في العالم بِنَاءٌ أشرف من الكعبة. وأيضاً مقام إبراهيم، وهو الحَجَر الذي وَضَع إبراهيمُ قدمه عليه، فجعل الله ما تحت قدم إبراهيم من ذلك الحجر - دون سائر أجزائه - كالطين، حتى غاصَ فيه قدمُ إبراهيم من ذلك الحَجَر، وهذا مما لا يقدر عليه إلا الله، ولا يُظْهِره إلا على الأنبياء، ثم لمَّا رفع إبراهيمُ قدمه عنه، خلق اللهُ فيه الصلابة الحجريَّةَ مرةً أخرى، ثم إنه أبْقَى ذلك الحجرَ على سبيل الاستمرار والدوام، فهذه أنواع من الآيات العجيبة، والمعجزات الباهرةِ. وأيضاً قلّة ما يجتمع من حَصَى الجمار فيه، فإنه منذ آلاف السنين، وقد يبلغ من يرمي في كل سنة خمسمائة ألف إنسان كل واحد منهم سبعين حصاةً، ثم لا يُرَى هناك إلا ما لو اجتمع في سنةٍ واحدةٍ لكان غير كثير، وليس الموضع الذي تُرْمَى إليه الجمرات مَسِيل ماء، ولا مَهَبَّ رِياحٍ شديدةٍ، وقد جاء في الأثر: أن مَنْ قُبِلَتْ حَجَّتُهُ رُفِعَتْ جَمَرَاتُهُ إلى السَّمَاءِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 401 وأيضاً فإن الطيور لا تمر فوقَ الكعبةِ عند طيرانها في الهواء بل تنحرف عنه إذا وصلت إلى ما فوقه. وأيضاً فالوحوش إذا اجتمعت عنده لا يُؤذي بعضُهم بعضاً - كالكلاب والظباء - ولا يصطاد فيه الظباءَ الكلاب والوحوشُ، وتلك خاصِّيَّةٌ عظيمةٌ، ومن سكن مكة أمِن من النهب والغارة، بدعاء إبراهيمَ وقوله: {رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} [إبراهيم: 35] ، وقال: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] ، وقال: {رَبَّ هذا البيت الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ} [قريش: 3 - 4] . وأيضاً فالأشرم - صاحب الفيل - لما قاد الجيوش والفيل إلى الكعبة، وعجز قريش عن مقاومته، وفارقوا مكةَ وتركوا له الكعبة، فأرسلَ الله - تعالى - عليهم طيراً أبابيلَ، ترميهم بحجاةٍ، والأبابيل: هم الجماعة من الطير بعد الجماعة، وكانت صِغَاراً، تحمل أحجاراً ترميهم بها، فهلك الملك والعسكر بتلك الأحجار - مع أنها كانت في غاية الصغَر - وهذه آيةٌ باهرةٌ دالةٌ على شرف الكعبة. فإن قيل: ما الحكمة في أن الله - تعالى - وَضَعَها بوادٍ غيرِ ذِي زرع؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنه - تعالى - قطع بذلك رجاءَ أهل حَرَمه وسَدَنَةِ بيته عَمَّنْ سواه، حتى لا يتكلوا إلا على الله تعالى. وثانيها: أنه لا يسكنها أحد من الجبابرة والأكاسرة، فإنهم يُحبُّونَ طيبات الدنيا، فإذا لم يجدوها هناك تركوا ذلك الموضِعَ، والمقصود تنزيه ذلك الموضع عن لوث وجود أهل الدنيا. وثالثها: أنه فعل ذلك؛ لئلا يقصدها أحدٌ للتجارة، بل يكون ذلك لمحض العبادة والزيارة. ورابعها: أن الله - تعالى - أظهر بذلك شَرَف الفَقْر، حيث وَضَعَ أشرف البيوت، في أقل المواضع نصيباً من الدنيا، فكأنه قال: جعلت أهل الفقر في الدنيا أهل البلد الأمينَ، فكذلك أجعلهم في الآخرة أهل المقام الأمين، لهم في الدنيا بيتُ الأمْن، وفي الآخرة دارُ الأمْن. فسل للكعبة أسماء كثيرة: أحدها: الكعبة، قال تعالى: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ} [المائدة: 97] ، وهذا الاسم يدل على الإشراف والارتفاع، وسمي الكعب كعباً؛ لإشرافه على الرسغ، وسميت المرأة الناهدة الثديين كاعباً لارتفاع ثدييها، فلما كان هذا البيت أشرف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 402 بيوت الأرض، وأقدمها زماناً، سُمي بهذا الاسم. وثانيها: البيت العتيق، قال تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 33] وسُمي العتيقَ؛ لأنه أقدم بيوت الأرض. وقيل: لأنه خُلِق قبل الأرض والسماء؛ وقيل: لأن الله - تعالى - أعْتَقَه من الغَرَق. وقيل: لأن كُلَّ من قَصَد تخريبه أهلكه الله - مأخوذ من قولهم: عتق الطائر - إذا قَوِي في وَكْرِه. وقيل: لأن كل من زَارَه أعتقه اللهُ من النار. وثالثها: المسجد الحرام، قال تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى} [الإسراء: 1] وسُمِّيَ بذلك؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال في خطبته - يوم فتح مكة -: «ألاَ إنَّ اللهَ حرَّم مكّة يَوْمَ خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ بِحُرْمَةِ اللهِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، لا يُعْضَد شَجَرُها ولا يختلى خلاؤها، ولا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا إلا لمُنْشِدها» . فإن قيل: كيف الجمع بين قوله: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ} [الحج: 26] ، وقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 96] فهناك أضافه إلى نفسه، وهنا أسندَه إلى الناس؟ فالجواب: كأنه قال: البيت لي، ولكن وضعته ليكون قبلة للناس. قوله: {مُبَارَكاً وَهُدًى} حالان، إما من الضمير في «وُضِعَ» كذا أعربه أبو البقاء وغيره، وفيه نظر؛ من حيث إنه يلزم الفصل بين الال بأجنبيّ - وهو خبر «إنَّ» - وذلك غير جائز؛ لأن الخبر معمول ل «إنَّ» فإن أضمرت عاملاً بعد الخبر أمكن أن يعمل في الحال، وكان تقديره: أول بيت وُضِعَ للناس للذي ببكة وُضِعَ مباركاً، والذي حمل على ذلك ما يُعْطيه تفسير أمير المؤمنين من أنه وُضِعَ أولاً بقيد هذه الحال. وإما أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في «بِبَكَّةَ» أي استقر ببكة في حال بركته، وهو وجه ظاهر الجواز. والظاهر أن قوله: «وَهُدًى» معطوف على «مُبَارَكاً» والمعطوف على الحال حال. وجوز بعضهم أن يكونَ مرفوعاً، على أنه خبر مبتدأ محذوف - أي: وهو هدى - ولا حاجة إلى تكلف هذا الإضمار. والبركة: الزيادة، يقال: بارك الله لك، أي: زادك خيراً، وهو مُتَعَدٍّ، ويدل عليه قوله تعالى: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا} [النمل: 8] و «تبارك» لا يتَصَرف، ولا يُستعمل إلا مُسْنداً لله تعالى، ومعناه - في حقه تعالى -: تزايد خيرُه وإحسانه. وقيل: البركة ثبوت الخير، مأخوذ من مَبْرَك البعير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 403 وإما من الضمير المستكن في الجار وهو «ببكة» لوقوعه صلة، والعامل فيها الجار وبما تضمنه من الاستقرار أو العامل في الجار ويجوز أن ينصب على إضمار فعل المدح أو على الاختصاص، ولا يضر كونه نكرة وقد تقدم دلائل ذلك. و «للعالمين» كقوله: «للمتقين» أول البقرة. فصل البركة لها معنيان. أحدهما: النمو والتزايُد. والثاني: البقاء والدوام، يقال: تبارك الله؛ لثبوته ولم يزل ولا يزال. والبركة: شبه الحوض؛ لثبوت الماء فيها، وبَرَكَ البعير إذا وضع صَدْرَه على الأرض وثَبت واستقرَّ، فإن فسرنا البركة بالنمو والتزايد، فهذا البيت مبارَك فيه من وجوه: أحدها: أن الطاعات يزداد ثوابُها فيه؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فَضْلُ المَسْجِدِ الحَرَامِ عَلَى مَسْجِدِي فَضْلُ مَسْجِدِي عَلَى سَائِرِ المَسَاجِدِ» ، ثُمَّ قال: «صَلاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا أفْضَلُ مِنْ ألْفِ صَلاَةٍ فِيمَا سِوَاهُ» هذا في الصلاة، وأمَّا في الحج فقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ حَجَّ هَذَا البَيْتَ، ولَمْ يَرْفُثْ، ولم يَفْسُق، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِِ كَيَوْم وَلَدَتْهُ أمُّهُ» ، وفي حديث آخر: «الحَجُّ المَبْرُورُ لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجَنَّةَ» ، ومعلوم أنه لا أكثر بركةً مما يجلب المغفرة والرحمة. ثانيها: قال القَفَّالُ: ويجوز أن يكون بركته، ما ذكر في قوله تعالى: {يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً} [القصص: 57] فيكون كقوله: {إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} [الإسراء: 1] . وثالثها: أن العاقل يجب أن يستحضرَ في ذهنه أنَّ الكعبةَ كالنقطة، وليتصور أن صفوف المتوجهين في الصلوات كالدوائر المحيطة بالمركز، وليتأمل كم عدد الصفوف المحيطة بهذه الدائرة حال اشتغالهم بالصلاة، ولا شكَّ أنه يحصل فيما بين هؤلاء المصلين أشخاص أرواحهم عُلْويَّة، وقلوبهم قدسية، وأسرارهم نورانية، وضمائرهم ربانية، ثم إن تلك الأرواح الصافية إذا توجهت إلى كعبة المعرفة، وأجسادهم توجَّهت إلى هذه الكعبة الحسية، فمن كان في الكعبة يتصل أنوار أرواح أولئك المتوجهين بنور روحه، فتزداد الأنوار الإلهية في قلبه، ويَعْظُم لمعان الأضواء الروحانية في سِرِّه، وهذا بَحْرٌ عظيم، ومقام شريف، وهو ينبهك على معنى كونه مباركاً. وإن فسرنا البركةَ بالدوام فالكعبة لا تنفك من الطائفين والراكعين والساجدين والعاكفين. وأيضاً فالأرض كرة، وإذا كان كذلك فكل زمان يُفْرَض فهو صُبْح لقوم، وظهر لآخرين، وعَصر لثالث، ومغرب لرابع، وعشاء لخامس، وإذا كان الأمر كذلك، لم تنفك الكعبةُ عن توجُّه قوم إليها من الجزء: 5 ¦ الصفحة: 404 طرَفٍ من أطراف العالم؛ لأداء فرض الصلاة، فكان الدوام حاصلاً من هذه الجهة، وأيضاً بقاء الكعبة على هذه الحالة ألُوفاً من السنين دوام - أيضاً -. وأما كونه هدًى للعالمين، فقيل: لأنه قبلة يهتدون به إلى جهة صلاتهم. وقيل: هُدًى، أي: دلالة على وجود الصانع المختار، وصدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في النبوة، بما فيه من الآيات والعجائب التي ذكرناها. وقيل: هُدًى للعالمين إلى الجنة؛ لأن من أقام الصلاة إليه استوجب الجنة. قوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} يجوز أن تكون هذه الجملة في محل نصب على الحال، إما من ضمير «وُضِعَ» وفيه ما تقدم من الإشكال. وأمَّا من الضمير في «بِبَكَّةَ» وهذا على رأي مَنْ يُجِيز تعدد الحال الذي حالٍ واحدٍ. وإما من الضمير في «للعالمِينَ» ، وإما من «هُدًى» ، وجاز ذلك لتخصُّصِه بالوَصْف، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «مُبَارَكاً» . ويجود أن تكون الجملة في محل نصب؛ نعتاً لِ «هُدًى» بعد نعته بالجار قبله. ويجوز أن تكون هذه الجملة مستأنفةً، لا محل لها من الإعراب، وإنما جِيء بها بياناً وتفسيراً لبركته وهُداه، ويجوز أن يكون الحال أو الوصف على ما مر تفصيله هو الجار والمجرور فقط، و «آياتٌ» مرفوع بها على سبيل الفاعلية لأن الجار متى اعتمد على أشياء تقدمت أول الكتاب رفع الفاعل، وهذا أرجح مِنْ جَعْلِها جملةً من مبتدأ وخبر؛ لأن الحالَ والنعتَ والخبرَ أصلها: أن تكون مفردة، فما قَرُب منها كان أولى، والجار قريب من المفرد، ولذلك تقدَّكم المفردُ، ثم الظرفُ، ثم الجملة فيما ذكرنا، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28] ، فقدم الوصف بالمفرد «مُؤمِنٌ» ، وثَنَّى بما قَرُبَ منه وهو {مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] ، وثلَّث بالجملة وهي {يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} وقد جاء في الظاهر عكس هذا، وسيأتي الكلام عليه - إن شاء الله - عند قوله: {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ} [المائدة: 45] . قوله: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} فيه أوْجُه: أحدها: أن «مَقَام» : بدل من «آيَاتٌ» وعلى هذا يقال: إن النحويين نَصُّوا على أنه متى ذكر جَمع لا يُبْدَل منه إلا ما يُوَفِّي بالجمع، فتقول: مررت برجال زيد وعمرو وبكر؛ لأن أقل الجمع - على الصحيح - ثلاثة، فإن لم يُوَفِّ، قالوا: وجب القطع عن البدلية، إما إلى النصب بإضمار فِعْل، وإما إلى الرفع، على مبتدأ محذوف الخبر، كما تقول - في المثال المتقدم - زيداً وعمراً، أي: أعني زيداً وعمراً، أو زيد وعمرو، أي: منهم زيد وعمرو. ولذلك أعربوا قول النابغة الذبياني: [الطويل] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 405 1539 - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَا فَعَرَفْتُهَا ... لِسِتَّةِ أعْوَامٍ وَذَا العَامُ سَابِعُ رَمَادٌ كَكُحْلِ الْعَيْنِ لأْياً أبينُهُ ... وَنُؤيٌ كَجِذْمِ الْحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ على القطع المتقدم، أي: فمنها رمادٌ ونؤي، وكذا قوله تعالى: {هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج: 17 - 18] أي: أعني فرعون وثمود، أو أذُمّ فرعونَ وثمودَ، على أنه قد يُقال: إن المراد بفرعون وثمودَ؛ هما ومَنْ تبعهما من قومهما، فذكرهما وافٍ بالجمعيَّةِ. وفي الآية الكريمة - هنا - لم يُذْكَر بعد الآيات إلا شيئان: المقام، وأمن داخله، فكيف يكون بَدَلاً؟ وهذا الإشكال - أيضاً - وارد على قول مَنْ جعلَه خبرَ مبتدأ محذوفٍ، أي: هي مقام إبراهيم، فكيف يُخْبِر عن الجمع باثنين؟ وفيه أجوبة: أحدها: أن أقلَّ الجمع اثنان - كما ذهب إليه بعضهم. قال الزمخشري: ويجوز أن يُراد: فيه آيات مقام إبراهيم، وأمن من دخله؛ لأن الاثنين نَوْعٌ من الجَمْع، كالثلاثة والأربعة، وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الاثْنَانِ فَمَا فَوْقَهُمَا جَمَاعَةٌ» . قال الزجَّاج: ولفظ الجمع قد يُستعمل في الاثنين، قال تعالى: {إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] . وقال بعضهم: تمام الثلاة قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} وتقدير الكلام: مقام إبراهيم، وأن من دخله كان آمناً، وأن لله على الناس حَجَّ البيت، ثم حذف «أن» اختصاراً، كما في قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط} [الأعراف: 29] أي: أمر ربي أن اقسطوا. الثاني: أن {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} وإن كان مفرداً لفظاً إلا أنه يشتمل على آياتٍ كثيرةٍ، بمعنيين: أحدهما: أن أثر القدمين في الصخرة الصَّمَّاء آية، وغَوصَهما فيها إلى الكعبين آية أخْرَى؛ وبعض الصخرة دون بعض آيةٌ، وإبقاؤه على مر الزمان، وحفظه من الأعداء الكثيرة آية، واستمراره دون آيات سائر الأنبياء خلا نبينا صلى الله عليه وعلى سائرهم آية، قال معناه الزمخشري. وثانيهما: أن {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} بمنزلة آيات كثيرة؛ لأن كل ما كان معجزةً لنبيٍ فهو دليل على وجود الصانع وعلمه وقدرته وإرادته وحياته، وكونه غنيًّا مُنَزَّهاً، مقدَّساً عن مشابهة المحدثات، فمقام إبراهيم وإن كان شيئاً واحداً إلا أنه لما حصل فيه هذه الوجوه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 406 الكثيرة كان بمنزلة الآيات، كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} [النحل: 120] ، قاله ابنُ الخطيب. الثالث: أن يكون هذا من باب الطَّيّ، وهو أن يُذْكَرَ جَمْعٌ، ثم يُؤتَى ببعضه، ويُسْكَت عن ذِكْر باقيه لغرض للمتكلم، ويُسَمَّى طَيًّا. وأنشد الزمخشري عليه قول جرير: [البسيط] 1540 - كَانَتْ حَنِيفَةُ أثْلاَثاً فَثُلْثُهُمُ ... مِنَ الْعَبِيدِ، وَثُلْثٌ مِنْ مَوَالِيهَا وأورد منه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «حُبِّبَ إليّ مِنْ دُنْيَاكُم ثَلاثٌ: الطيبُ والنِّسَاءُ، وجُعِلَت قُرَّةُ عَينِي فِي الصلاة» ذكر اثنين - وهما الطيب والنساء - وطَوَى ذِكْر الثالثة. لا يقال إن الثالثة قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «جعلت قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ» لأنها ليست من دنياهم، إنما هي من الأمور الأخروية. وفائدة الطَّيّ - عندهم - تكثير ذلك الشيء، كأنه تعالى لما ذكر من جملة الآيات هاتين الآيتين قال: وكثير سواهما. وقال ابنُ عطية: «والأرجح - عندي - أن الماقم، وأمن الداخل، جُعِلاَ مثالاً مما في حرم الله - تعالى - من الآيات، وخُصَّا بالذِّكْر؛ لِعِظَمِهِمَا، وأنهما تقوم بهما الحُجَّةُ على الكفَّار؛ إذْ هم مدركون لهاتين الآيتين بِحَوَاسِّهم» . الوجه الثاني: أن يكون {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} عطف بيان، قاله الزمخشري. ورَدَّ عليه أبو حيان هذا من جهة تخالفهما تعريفاً وتنكيراً، فقال: وقوله مخالف لإجماع البصريين والكوفيين، فلا يلتفت إليه، وحُكْم عطف البيان عند الكوفيين حكم النعت، فيُتْبعون النكرة نكرة، والمعرفة معرفة، ويتبعهم في ذلك أبو علي الفارسي. وأما البصريون، فلا يجوز - عندهم - إلا أن يكونا معرفتين، ولا يجوز أن يكونا نكرتين، وكل شيء أورده الكوفيون مما يُوهِم جوازَ كونه عطفَ بيان جعله البصريون بَدَلاً، ولم يَقُمْ دليل للكوفيين؛ وستأتي هذه المسألة إن شاء الله - عند قوله: {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] وقوله: {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35] ، ولما أوّل الزمخشريُّ مقام إبراهيم وأمن داخله - بالتأويل المذكور - اعترض على نفسه بما ذكرناه من إبدال غير الجمع من الجمع - وأجاب بما تقدم، واعترض - أيضاً - على نفسه بأنه كيف تكون الجملة عطف بيان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 407 للأسماء المفردةِ؟ فقال: «فإن قلتَ: كيف أجَزْت أن يكون مقام إبراهيم والأمن عطف بيان للآيات. وقوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} جملة مستأنفة، إما ابتدائية وإما شرطية؟ قلت: أجَزْت ذلك من حيث المعنى؛ لأن قوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} دل على أمْن مَنْ دخله، وكأنه قيل: فيه ىيات بيِّنات مقام إبراهيم وأمن من دخله، ألا ترى أنك لو قلت: فيه آية بينة، مَنْ دخله كان آمناً صَحَّ؛ لأن المعنى: فيه آية بينة أمن مَنْ دخله» . قال أبو حيان: «وليس بواضح؛ لأن تقديره - وأمنَ الداخل - هو مرفوع، عطفاً على» مَقَام إبراهيم «وفسر بهما الآيات، والجملة من قوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} لا موضع لها من الإعراب، فتدافعا، إلا إن اعتقد أن ذلك معطوف على محذوف، يدل عليه ما بعده، فيمكن التوجيه، فلا يجعل قوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} في معنى: وأمن داخله، إلا من حيث تفسير المعنى، لا تفسير الإعراب» . قال شهاب الدين: «وهي مُشَاحَّةٌ لا طائلَ تحتَها، ولا تدافع فيما ذكر؛ لأن الجملة متى كانت في تأويل المفرد صح عطفُها عليه» . الوجه الثالث: قال المبرد: «مَقَامُ» مصدر، فلم يُجْمَع، كما قال: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] والمراد: مقامات إبراهيم، وهي ما أقامه إبراهيم من أمور الحج، وأعمال المناسك، ولا شك أنها كثيرة، وعلى هذا، فالمراد بالآيات: شعائر الحج، كما قال تعالى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله} [الحج: 32] . الوجه الرابع: أن قوله: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} خبر مبتدأ مضمر، تقديره: أحدها، أي: أحد تلك الآيات البينات مقام إبراهيم، أو مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: منها، أي: من الآيات البيِّنات «مقام إبراهيم» . وقال بعضهم: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} لا تعلُّقَ له بقوله: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} ، فكأنه - تعالى - قال: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} ومع ذلك فهو {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} ومَقَرُّه، والموضع الذي اختاره، وعَبَدَ الله فيه؛ لأن كل ذلك من الخِلال التي بها تَشَرَّف وتَعَظَّم. وقرأ أبَيّ وعُمَر وابنُ عباس ومُجَاهِدٌ وأبو جعفر المديني - في رواية قتيبة - آية بيِّنة - بالتوحيد، وتخريج «مَقَامُ» - على الأوجه المتقدِّمة - سَهْل، من كونه بدلاً، أو بياناً - عند الزمخشري - أو خبر مبتدأ محذوف وهذا البدل متفق عليه؛ لأن البصريين يُبْدِلون من النكرة مطلقاً، والكوفيون لا يبدلون منها إلا بشرط وَصْفها، وقد وُصِفَتْ. فصل قال المفسرون: الآيات منها مقام إبراهيم، وهو الحَجَر الذي وضعه إبراهيم تحت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 408 قدميه، لمَّا ارتفع بنيان الكعبة، وضَعُفَ إبراهيم عن رَفْع الحجارة، قام على هذا الحجر، فغاصت فيه قدماه. وقيل: إنه جاء زائراً من الشام إلى مكة وكان قَدْ حلف لامرأته أن لا ينزلَ بمكة حتى يرجع، فَلَمَّا رجع إلى مكة قالت له أم إسماعيل: انزل حتى تغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءته بهذا الحجر، فوضعته على الجانب الأيمن، فوضع قدمه عليه حتى غسلت أحد جانبي رأسه، ثم حولته إلى الجانب الأيسر، حتى غسلت الجانبَ الآخرَ، فبقي أثرُ قدميه عليه، فاندرس من كَثْرَةِ المَسْحِ بالأيدي. وقيل: هو الحجر الذي قام عليه إبراهيم - عليه السلام - عند الأذان بالحج. قال القفّال: «ويجوز أن يكون إبراهيم قام على ذلك الحجر في هذه المواضع كلِّها» . وقيل: مقام إبراهيم؛ هو جميع الحرم، كما تقدم عن المبرد. ومن الآيات - أيضاً - الحجر الأسود، وزمزم، والحطيم، والمشاعر كلها. ومن الآيات ما تقدم ذكره من أمر الطير والصيد، وأنه بلد صدر إليها الأنبياء والمرسلون، والأولياء والأبرار، وأن الطاعة والصدقة فيه، يُضاعف ثوابُها بمائة ألف. والمقام هو في المسجد الحرام، قُبالَة باب البيت. وروي عن ابن عباس وعبد الله بن عمرو بن العاص أنهما قالا: الحجر الأسود، والمقام من الجنة. قال الأزرقي: ذرع المقام ذراع، وسعة أهلاه أربعة عشر إصْبَعاً في أربعة عشر إصبعاً، ومن أسفله مثل ذلك، وفي طرفيه - من أعلاه وأسفله - طوقان من ذهب، وما بين الطوقين من الحجر من المقام بارز، لا ذهب عليه، طوله من نواحيه كلها تِسعة أصابع، وعرضه عشر أصابع في عشر أصابع طولاً، وعرض حجر المقام من نواحيه، إحدى وعشرون إصبعاً، ووسطه مربع، والقدمان داخلتان في الحجر سبع أصابع، ودخولهما منحرفتان، وبين القدمين من الحجر أصبعان، ووسطه قد استدق من التمسُّح به، والمقام في حوض من ساج مربع، حوله رصاص، وعلى الحوض صفائح رصاص ليس بها، وعلى المقام صندوق ساج مسقف، ومن وراء المقام ملبن ساج في الأرض، في ظهره سلسلتان يدخلان في أسفل الصندوق، فيقفل عليهما قفلان، وهذا الموضع فيه المقام اليوم، وهو الموضع الذي كان فيه في زمن الجاهلية، ثم في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبعده، ولم يُغَيَّر موضعه، إلا أنه جاء سَيْل في زمن عمر بن الخطاب - يقال له: سيل أم نهشل؛ لأنه ذهب بأمِّ نَهْشَلٍ بِنْتِ عُبَيْدَةَ بْنِ أبِي رُجَيْحَة، فماتت، فاحتمل ذلك السيل المقام من موضعه هذا، فذهب به إلى أسفل مكة فأتي به، فربطوه في أستار الكعبة - في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 409 وجهها - وكتبوا بذلك إلى عمر، فأقبل عمر من المدينة فزعاً، فدخل بعمرة في شهر رمضان، وقد غُبِّيَ موضعُه، وعفاه السيل، فجمع عمر الناس، وسألهم عن موضعه، وتشاوروا عليه حتى اتفقوا على موضعه الذي كان فيه، فجعله فيه، وعمل عمر الردم، لمنع السيل، فلم يعله سيل بعد ذلك إلى الآن. ثم بعث أمير المؤمنين المهدي ألف دينار ليضبّبوا بها المقام - وكان قد انثلم - ثم أمَرَ المتوكل أن يجعل عليه ذهب فوق ذلك الذهب - أحْسِنْ بذلك العمل - فعمل في مصدر الحاج سنة ست وثلاثين ومائتين، فهو الذهب الذي عليه اليوم، وهو فوق الذي عمله المهدي. فصل قوله: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} . قال الحسن وقتادة: كانت العرب - في الجاهلية - يقتل بعضهم بعضاً، ويُغير بعضهم على بعض، ومن دخل الحرم أمِنَ مِن القتل والغارة، وهذا قول أكثر المفسرين، لقوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] . وقيل: أراد به أن مَنْ دخله عام عمرة القضاء مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان آمِناً، كما قال تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27] . وقال الضَّحَّاكُ: من حَجَّه كان آمناً من الذنوب التي اكتسبها قبل ذلك. وقيل: معناه من دَخَلَه مُعَظِّماً له، متقرِّباً إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - كان آمناً يوم القيامة من العذاب. وقيل: هو خبر بمعنى الأمر، تقديره: ومن دخله فأمِّنوه، كقوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} [البقرة: 197] ، أي: لا ترفثوا، ولا تفسقوا، ولا تجادلوا. فصل قال أبو بكر الرازي: لما كانت الآيات المذكورة عقيب قوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} موجودة في جميع الحرم، ثم قال: {وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} ، وجب أن يكون مراده جميع الحرم، وأجمعوا على أنه لو قَتَل في الحرم، فإنه يُسْتَوْفَى القصاص منه في الحرم، وأجمعوا على أن الحرَم لا يفيد الأمان فيما سوى النفس، إنما الخلاف فيما إذا وجب القصاص عليه خارج الحرم، فالتجأ إلى الحرم، فهل يُستوفى منه القصاص في الحرم؟ فقال الشافعي: يستوفى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 410 وقال أبو حنيفة: لا يستوفى، بل يمنع منه الطعام، والشراب، والبيع والشراء، والكلام حتى يخرج، ثم يستوفى منه القصاصُ، واحتج بهذه الآية فقال: ظاهر الآية الإخبار عن كونه آمِناً، ولا يُمكن حمله على الخبر؛ إذْ قد لا يصير آمِناً في حق مَنْ أتى بالجناية في الحَرَم، وفي القصاص فيما دون النفس، فوجب حمله على الأمر، وتركنا العمل به في الجناية التي دون النفس؛ لأن الضرر فيها أخف من ضرر القتل، وفي القصاص بالجناية في الحرم؛ لأنه هو الذي هتك حُرْمة الحَرَم، فيبقى في محل الخلاف على مقتضى ظاهر الآية. وأجي ببأنَّ قوله: {كَانَ آمِناً} إثبات لمُسَمَّى الآية، ويكفي في العمل به، في إثبات الأمن من بعض الوجوه، ونحن نقول به، وبيانه من وجوه: الأول: أن من دخله للنُّسُكِ، تقرُّباً إلى الله تعالى، كان آمِناً من النار يوم القيامة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ صَبَرَ عَلَى حَرِّ مكةَ سَاعةً من نَهَارِ تَبَاعَدَتْ عَنْهُ النَّارُ مَسِيرَةَ مِائَتَيْ عَامٍ» ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ وَلَمْ يفْسقْ خَرَجَ من ذُنُوبِهِ كَيَوْمِ وَلَدَتْهُ أمُّه» . الثاني: يحتمل أن يكونَ المراد: ما أودعه الله في قلوب الخَلْق من الشفقة على كل من التجأ إليه، ودفع المكروه عنه، ولما كان المر واقعاً على هذا الوجه - في الأكثر - أخبر بوقوعه على هذا الوجه مطلقاً، وهذا أولى مما قالوه، لوجهين: الأول: أنا - على هذا التقدير - لا نجعل الخبر قائماً مقامَ الأمر، وهم جعلوه قائماً مقامَ الأمر. الثاني: أنه - تعالى - إنما ذكر هذا، لبيان فضيلةِ البيتِ، وذلك إنما يحصل بشيءٍ كان معلوماً للقوم حتى يصيرَ ذلك حجةً على فضيلة البيت، فأما الحكم الذي بينه الله في شرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإنه لا يصير ذلك حجةً على اليهود والنصارى في إثبات فضيلة الكعبة. الوجه الثالث: قد تقدم أن هذا إنما ورد في عمرة القضاء. الرابع: ما تقدم - ايضاً - عن الضَّحَّاكِ أنه يكون آمِناً من الذنوب التي اكتسبها. وملخّص الجواب: أنه حكم بثبوت الأمن، ويكفي في العمل به إثبات الأمن من وَجْهٍ وَاحدٍ، وفي صورة واحدة، فإذا حملناه على بعض هذه الوجوه فقد عملنا بمقتضى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 411 هذا النَّصّ، فلا يبقى في النص دلالة على قولهم، ويتأكد هذا بأن حمل النَّصِّ على هذا الوجه، لا يفضي إلى تخصيص النصوص الدالة على وجوب القصاص، وحمله على ما قالوه يُفْضِي إلى ذلك، فكان قولُنا أوْلَى. قوله: «ولله على الناس حج البيت» لمَّا ذكر فضائلَ البيت ومناقبه، أردفه بذكر إيجاب الحج إليه. وقرأ حمزة والكسائي وحفص عن عاصم: «حِجّ البيت» - بكسر الحاء في هذا الحرف خاصة، وتقدم في البقرة في الشاذ بكسر الحاء - وتقدم هنا اشتقاق المادة - والباقون بفتحها - وهي لغة أهل الحجاز والعالية والكسر لغة نجد؛ وهما جائزان مطلقاً في اللغة مثل رَطل ورِطل، وبَذْر وبِذْر، وهما لغتان فصيحتان بمعنى واحدٍ. وقيل: المكسور اسم للعمل، والمفتوح المصدر. وقال سيبويه: يجوز أن تكون المكسورة - أيضاً - مصدراً كالذِّكر والعِلْم. فصل الحج أحد أركان الإسلام؛ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بُنِيَ الإسلامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَة أنْ لاَ إله إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ اللهِ، وإقَامِ الصَّلاةِ، وإيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَصَوْمِ رمضانَ، وحَجَّ البيتِ لمن اسْتَطَاعَ إليه سبيلاً» . ويشترط لوجوبه خمسة شروط: الإسلام، والبلوغ، والعقل، والحُرِّيَّة، والاستطاعة. فصل احتجوا بهذه الآية على أن الكُفَّارَ مخطبون بفروع الإسلام؛ لأن ظاهر قوله تعالى {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} يعم المؤمنَ والكافرَ، وعدم الإيمان لا يصلح معارضاً، ومخصِّصاً، لهذا العموم؛ لأن الدهريّ مكلَّف بالإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أن الإيمان بالله الذي هو شرط لصحة الإيمان بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، غير حاصل، والمُحْدِث مكلَّف بالصلاة، مع أن الوضوء الذي هو شرط لصحة الصلاة، غير حصل، لم يكن عدم الشرط مانعاً من كونه مكلَّفاً بالمشروط. فكذا هاهنا. فصل قال القرطُبي: دلَّ الكتاب والسنة على أن الحَجَّ على التراخي، وهو أحد قولي مالك، والشافعي، ومحمد بن الحسن، وأبي يوسف في رواية عنه، وذهب بعض الجزء: 5 ¦ الصفحة: 412 المتأخرين من المالكية إلى أنه على الفَوْر، وهو قول داود، والصحيح الأول؛ لأنَّ الله تعالى قال في سورة الحج -: {وَأَذِّن فِي الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج: 27] ، وسورة الحج مكيّة، وقال هاهنا: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} وهذه السورة نزلت عام أحد بالمدينة، سنة ثلاثٍ من الهجرة، ولم يحجّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى سنة عشر، وأجمع العلماء على ترك تفسيق القادر على الحج، إذا أخَّرَهُ عامداً. فصل روي أنه لما نزلت هذه الآيةُ قيل: يا رسولَ اللهِ، أكتبَ علينا الحَدُّ في كل عام؟ ذكروا ذلك ثلاثاً، فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم قال في الرابعة: «لَوْ قُلتُ: نَعَمْ لَوَجَبَتْ، وَلَوْ وَجَبَتْ مَا قُمتمُ بها، وَلَو لَمْ تَقُومُوا بِهَا لَكَفَرْتُمْ، ألا فَوَادِعونِي ما وَادَعْتُكم وَإذَا أمَرْتُكُمْ بِأمْرٍ فَأتُوا مِنْهُ ما اسْتَطَعْتُمْ، وَإذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ أمْرٍ فَانْتَهُوا عَنْهُ، فَإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ مَسَائِلِهِمْ، وَاخْتِلاَفِهِمْ على أنْبِيَائِهِمْ» . فصل احتج العلماء بهذا الخبر، على أن الأمر لا يفيد التكرار من وجهين: الأول: أن الأمر ورد بالحج، ولم يُفِد التكرار. والثاني: أن الصحابة استفهموا، هل يوجب التكرار أم لا؟ ولو كانت هذه الصيغة تفيد التكرار لما استفهموا مع علمهم باللغة. قوله: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فيه ستة أوجُه: أحدها: أن «مَنْ» بدل من «النَّاس» بدل بعض من كل، وبدل البعض وبدل الاشتمال لا بد في كل منهما من ضميرٍ يعود على المُبْدَل منه، نحو: أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَه، وسُلِب زيدٌ ثوبُه، وهنا ليس من ضمير. فقيل: هو محذوف تقديره من استطاع منهم. الثاني: أنه بدلُ كُلٍّ من كُلٍّ، إذ المراد بالناس المذكورين: خاصٌّ، والفرق بين هذا الوجه، والذي قبله، أن الذي قبله يقال فيه: عام مخصوص، وهذا يقال فيه: عامٌّ أريد به الخاص، وهو فرق واضح وهاتان العبارتان للشافعي. الثالث: أنها خبر مبتدأ مُضْمَر، تقديره: هم من استطاع. الرابع: أنها منصوبة بإضمار فعل، أي: أعني من استطاع. وهذان الوجهان - في الحقيقة - مأخوذان من وجه البدل؛ فإنَّ كل ما جاز إبداله مما قبله، جاز قطعه إلى الرفع، أو إلى النصب المذكورين آنفاً. الخامس: أن «مَنْ» فاعل بالمصدر وهو «حَدُّ» ، والمصدر مضاف لمفعوله، والتقدير: ولله على الناس أن يحج من استطاع منهم سبيلاً البيت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 413 وهذا الوجه قد رَدَّه جماعةٌ من حيث الصناعة، ومن حيث المعنى؛ أما من حيث الصناعة؛ فلأنه إذا اجتمع فاعل ومفعول مع المصدر العامل فيهما، فإنما يُضَاف المصدر لمرفوعه - دون منصوبة - فيقال: يعجبني ضَرْبُ زيدٍ عمراً، ولو قلتَ: ضَرْبُ عمرٍو زيدٌ، لم يجزْ إلا في ضرورة، كقوله: [البسيط] 1541 - أفْتَى تِلاَدِي وَمَا جَمَّعْتُ مِنْ نَشَبٍ ... قَرْعُ الْقَوَاقِيزِ أفْوَاهُ الأبَارِيقِ يروى بنصب «أفواه» على إضافة المصدر - وهو «قَرْع» - إلى فاعله، وبالرفع على إضافته إلى مفعوله. وقد جوَّزَ، بعضُهم في الكلام على ضَعْفٍ، والقرآن لا يُحْمَل على ما في الضرورة، ولا على ما فيه ضعف، أمَّا من حيث المعنى؛ فلأنه يؤدي إلى تكليف الناس جميعهم - مستطيعهم وغير مستطيعهم - بأن يحج مستطيعهم، فيلزم من ذلك تكليف غير المُسْتَطِيعِ بأن يَحُجَّ، وهو غير جائز - وقد التزم بعضُهم هذا، وقال: نعم، نقول بموجبه، وأن الله - تعالى - كلَّف الناسَ ذلك، حتى لو لم يحج المستطيعون لزم غير المستطيعين أن يأمروهم بالحج حسب الإمكان؛ لأن إحجاج الناس إلى الكعبة وعرفة فرضٌ واجب. و «مَنْ» - على هذه الأوجه الخمسة - موصولة بمعنى: الذي. السادس: أنها شرطية، والجزاء محذوف، يدل عليه ما تقدم، أو هو نفس المتقدم - على رأي - ولا بد من ضمير يعود من جملة الشرط على «النَّاسِ» ، تقديره: من استطاع منهم إليه سبيلاً فلله عليه. ويترجح هذا بمقابلته بالشرط بعده، وهو قوله: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} . وقوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} جملة من مبتدأ - وهو {حِجُّ البيت} - وخبر - وهو قوله: «لله» - و «عَلَى النَّاسِ» متعلق بما تعلق به الخبر، أو متعلق بمحذوف؛ على أنه حال من الضمير المستكن في الجار، والعامل فيه - أيضاً - ذلك الاستقرار المحذوف، ويجوز أن يكون على الناس هو الخبر، و «للهِ» متعلق بما تعلق به الخبر، ويمتنع فيه أن يكون حالاً من الضمير في «عَلَى النَّاسِ» وَإنْ كان العكس جائزاً - كما تقدم -. والفرق أنه يلزم هنا تقديم الحال على العامل المعنوي، والحال لا يتقدم على العامل المعنوي - بخلاف الظرف وحرف الجر، فإنهما يتقدمان على عاملهما المعنوي؛ للاتساع فيهما، وقد تقدم أن الشيخ جمال الدين بن مالك، يجوز تقديمها على العامل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 414 المعنوي - إذا كانت هي ظرفاً، أو حرف جر، والعامل كذلك، ومسألتنا في الآية الكريمة من هذا القبيل. وقد جيء في هذه الآيات بمبالغاتٍ كثيرة. منها قوله: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} يعني: أنه حق واجب عليهم لله في رقابهم، لا ينفكون عن أدائه والخروج عن عُهدته. ومنها: أنه ذكر «النَّاسَ» ، ثم أبدل منهم {مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} ، وفيه ضربان من التأكيد. أحدهما: أن الإبدال تثنية المراد وتكرير له. والثاني: أن التفصيل بعد الإجمال، والإيضاح بعد الإبهام، إيراد له في صورتين مختلفتين، قاله الزمخشري، على عادة فصاحته، وتلخيصه المعنى بأقرب لفظ، والألف واللام في «البَيْتِ» للعهد؛ لتقدم ذكره، وهو أعلم بالغلبة كالثريا والصعيد. فإذا قيل: زار البيتَ، لم يَتَبَادر الذهن إلا إلى الكعبة شرفها الله. وقال الشاعر: [الطويل] 1542 - لَعَمْرِي لأنْتَ الْبَيْتُ أكْرِمُ أهْلَهُ ... وَأقْعُدُ فِي أفْيَائِهِ بِالأصَائِلِ أنشد هذا البيت أبو حيان في هذا المعرض. قال شهابُ الدين: «وفيه نظر، إذْ ليس في الظاهر الكعبة» . الضمير في: «إلَيْهِ» الظاهر عوده على الحَجِّ؛ لأنه محدَّث عنه. قال الفراء: إن نويت الاستئناف ب «مَنْ» كانت شرطاً، وأسقط الْجَزاء لدلالة ما قبله عليه، والتقدير: من استطاع إلى الحج سبيلاً، فللَّه عليه حجُّ البيت. وقيل: يعود على «الْبَيْتِ» ، و «إلَيْهِ» متعلق ب «اسْتَطَاعَ» ، و «سَبِيلاً» مفعول به؛ لأن استطاع متعدٍّ، ومنه قوله تعالى: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ} [الأعراف: 197] ، إلى غير ذلك من الآيات. فصل قال أبو العباس المقرئ: ورد لفظ الاستطاعة بإزاء معنيين في القرآن: الأول: سَعَةِ المال، قال تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] أي: سعة في المال ومنه قوله تعالى: {لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة: 42] أي: لو وجدنا سعة في المال. الثاني: بمعنى الإطاقة، قال تعالى: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء} [النساء: 129] ، وقال: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 415 فصل استطاعة السبيل إلى الشيء: عبارة عن إمكان الوصول إليه، قال تعالى: {فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ} [غافر: 1] ، وقال: {هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: 44] . قال عبد الله بن عمر: سأل رجلٌ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله، ما يُوجب الحَجَّ؟ فقال: «الزاد والراحلة، قال: يا رسول الله، فما الحاجّ؟ قال: الشعث، التَّفِل. فقام آخر فقال: يا رسول الله، أيُّ الحج أفضل؟ فقال: الحج والثج، فقام آخر فقال: يا رسول ما السبيلُ؟ فقال:» زادٌ ورَاحِلةٌ «. ويعتبر في حصول هذا الإمكان صحة البدن، وزوال خَوف التلف من سبع، أو عدو، أو فُقْدان الطعام والشراب، والقدرة على المال الذي يشتري به الزاد، والراحلة، ويقضي جميع الديون التي عليه، ويَرُدّ ما عنده من الودائع، ويضع عند مَنْ تجب عليه نفقته من المال، ما يكفيه لذهابه ومجيئه، هذا قول الأكثرين. وروى القفال: عن جُوَيْبِر عن الضحاك أنه قال: إذا كان شاباً صحيحاً ليس له مال، فعليه أن يؤاجر نفسه حتى يقضي حجه، فقال له قائل: أكلَّف الله الناس أن يمشوا إلى البيت؟ فقال: لو كان لبعضهم ميراث بمكة أكان يتركه؟ قال: لا، بل ينطلق إليه ولو حبواً، قال: فكذلك يجب عليه حجّ البيت. وعن عكرمة - أيضاً - أنه قال: الاستطاعة هي: صحة البدن، وإمكان المشي إذا لم يجد ما يركبه؛ لأن الصحيح البدن، القادر على المشي إذا لم يجد ما يركبه يصدق عليه أنه مستطيع لذلك الفعل، فتخصيص الاستطاعة بالزاد والراحلة تَرْك لظاهر الآية، فلا بد من دليل منفصل، والأخبار المروية أخبار آحاد، فلا يُتْرَك لها ظاهرُ الكتاب، ولا سيما وقد طُعِنَ فيها من وجوه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 416 الأول: من جهة السند. الثاني: أن حصول الزاد والراحلة قد لا يكفي، فلا بد من اعتبار صحة البدن، وعدم الخوف، وهذا ليس في الأخبار، فظاهرها يقتضي أن لا يكون شيء من ذلك مُعْتبراً. الوجه الثالث: اعتبار وفاء الدين، ونفقة عياله، ورد الودائع. وأجيبوا بأنه يُفْضِي إلى معارضة قوله تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقوله: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] . فصل احتج جمهورُ المعتزلةِ بهذه الآيةِ على أن الاستطاعة قبلَ الفعل، فقالوا: لأنه لو كانت الاستطاعة مع الفعل لكان من لم يحج لم يكن مستطيعاً للحج ومن لم يكن مستطيعاً لا يتناوله التكليف المذكور في هذه الآية، فيلزم منه أن كل من لم يحج لا يصير مأموراً بالحَجِّ بهذه الآية، وذلك باطل. وأجيبوا بأن هذا - أيضاً - يلزمهم؛ لأن القادر إما أن يصير مأموراً بالفعل قبل حصول الداعي إلى الفعل، أو بعد حصولِه، أما قبل حصول الداعي، فمحال؛ لأن قبلَ حصولِ الداعي يمتنع حصول الفعل، فيكون التكليف به تكليفاً بما لا يُطاقُ، وأما بعد حصولِ الداعي، فالفعل يصيرُ واجب الحصول، فلا يكون في التكليف به فائدةٌ، وإذا كانت الاستطاعةُ منفيةً في الحالتين، وجب ألا يتوجه التكليفُ المذكورُ في هذه الآيةِ على أحدٍ. فصل إذا كان عاجزاً بنفسه؛ لكونه زَمِناً، أو مريضاً لا يُرْجَى بُرْؤه - وله مال يُمْكِن أن يستأجر مَنْ يَحُجُّ عنه - وجب عليه أن يستأجر، لما روى عبد الله بن عباس، قال: كان الفضل بن عباس ردف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجاءته امرأة من خثعم، تستفتيه، فجعل الفضلُ ينظر إليها، وتنظر إليه، فجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصرف وَجْهَ الفضل إلى الشق الآخرِ، فقالت: يا رسول الله، إن فريضة الله على عباده في الحجِّ أدركَتْ أبي شيخاً كبيراً، لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحجُّ عنه؟ قال: نَعَم. وقال مالك: لا يجب عليه، وهذا هو المعضوب، والعَضْب: القطع، وبه سُمِّيَ السيف عَضْباً، فكأن من انتهى إلى ألا يقدر أن يستمسك على الراحلة، ولا يثبت عليها بمنزلة من قطعت أعضاؤه، أو لا يقدر على شيء. وإن لم يكن له مال لكن بذل له ولدُه، أو أجنبي، الطاعةَ في أن يحج عنه، فهل يلزمه [أن يأمره] إذا كان يعتمد صدقه؟ وفي المسألة خلاف، فالقائل بالوجوب قال: لأن وجوب الحج معلق بالاستطاعة، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 417 وهذا مستطيع، لأنه يقال - في العُرْف -: فلان مستطيع لبناء دارٍ، وإن كان لا يفعله بنفسه، وإنما يفعله بماله، وبأعوانه -. وقال أبو حنيفة: لا يجب ببذل الطاعة، قال: وحديث الخثعميَّة يدل على أنه من باب التطوّعات؛ وإيصال البر للأموات، ألا ترى أنه شَبَّه فعل الحج بالدَّيْن؟ وبالإحماع لو مات ميِّت وعليه دين لم يجب على وليِّه قضاؤه من ماله، فإن تطوع بذلك تأدَّى عنه الدين، ويدل على أن الحج في حديث الخثعمية ما كان واجباً لوقُها: إن أبي لا يستطيع - ومن لا يستطيع لا يجب عليه، وهذا تصريح بنفي الوجوب. وقوله: {وَمَن كَفَرَ} يجوز أن تكون الشرطية - وهو الظاهر - ويجوز أن تكون الموصولة، ودخلت الفاء؛ شبهاً للموصول باسم الشرط كما تقدم، ولا يخفى حال الجملتين بعدها بالاعتبارين المذكورين، ولا بد من رابط بين الشرط وجزائه، أو المبتدأ وخبره، ومن جوَّز إقامة الظاهر مقام المضمر اكتفى بذلك في قوله: {غَنِيٌّ عَنِ العالمين} كأنه قال: غني عنهم. فصل في هذا الوعيد قولان: الأول: قال مجاهد: هلا كلام مستقلٌّ بنفسه، ووعيد عام في حَقِّ مَنْ كَفَر بالله ولا تعلُّق له بما قبلَه. الثاني: قال ابْنُ عباس والحَسَنُ وعَطَاء: مَنْ جَحَد فرض الحَج. وقال آخرون: من ترك الحج، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ فَلْيَمُتْ إن شاء يَهُودِيًّا وإن شاء نَصْرَانِيًّا» وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ مَات ولم يَحُجَّ حَجَّة الإسْلامِ - وَلَمنْ تَمْنَعْهُ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ أوْ مَرَضٌ حَابِسٌ، أو سُلْطَانٌ جائر - فَلْيَمُتْ على أي حالةٍ شاء - يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا» . وقال سعيد بن جبير: إن مات جارٌ لي لم يحج - وله ميسرة - لم أصَلِّ عليه. فإن قيل: كيف يجوز الحكم عليه بالكفر بسبب تَرْك الحج؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 418 فالجواب قال القفال المراد منه التغليظ، أي: قد قارب الكُفْر، وعمل ما يعمله مَنْ كفر بالحج كقوله: {وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} [الأحزاب: 10] أي: كادت تبلغ. وكقوله عليه السلام -: «مَنْ تَرَك الصلاة متعمِّداً فقد كَفَر» وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ أتَى حَائِضاً أو امرأة في دبرها فقد كَفَر» . وأما الأكثرون فهم الذين حَمَلُوا هذا الوعيدَ على تارك اعتقاد الحج. قال الضحاك: لما نزلت آية «الحج» ، جمع الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أهلَ الأديان الستة: المسلمين، والنصارى، واليهود، والصابئين، والمجوس، والمشركين، فخاطبهم، وقال: «إن الله كتب عليكم الحج فحجوا» فآمن به المسلمون، وكفرت به الملل الخمس، وقالوا: لا نؤمن به، ولا نصلي إليه، ولا نحجه، فأنزل الله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 في كيفية النظم وجهان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 419 الأول: أنه - تعالى - لما أوْرَد الدلائلَ على نبوَّةِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، مما ورد في التوراة، والإنجيل، عقَّب ذلك بشبهات القوم من إنكار النَّسْخ، واستقبال الكعبة في الصلاة، ووجوب حَجِّها، وأجاب عن هاتين الشُّبْهَتَيْن بقوله {كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ} [آل عمران: 93] وبقوله: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96] فلما تَمَّ الاستدلال خاطبهم - بعد ذلك - بالكلام اللَّيِّن، وقال: «لم تكفرون بآيات الله» بعد ظهور البينات؟ الثاني: أنه - تعالى - لما بيَّن فضائلَ الكعبة ووجوبَ الحَجِّ - والقوم كانوا عالمين بأن هذا هو الدين الحق - قال لهم: {لم تكفرون بآيات الله} بعد أن علمتم كونها حَقًّا صحيحةً؟ واعلم: أن المُبْطل قد يكون ضَالاً مفلاًّ فقط، وقد يكون ضالاً مضلاً، والقوم كانوا موصوفين بالأمرين جميعاً، فبدأ - تعالى - بالإنكار على أهل الصفة الأولَى - على سبيل الرفق - فقال: {يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله} ؟ قال الحسن: هم العلماء من أهل الكتاب، الذين علموا صحة نبوته؛ لقوله: «وأنتم شهداء» . وقال آخرون: المراد: أهل الكتاب كلهم. فإن قيل: لماذا خَصَّ أهْل الكتاب دون سائر الكفار؟ فالجواب من وجهين: الأول: أنا بَيَّنَّا أنه - تعالى - أورد الدليلَ عليهم من التوراة والإنجيل على صحة نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم أجاب عن شُبْهتهم في ذلك، فلمَّا تمَّ ذلك خاطبهم، فقال: «يا أهل الكتاب» . والثاني: أن معرفتهم بآيات الله أقْوَى؛ لتقدُّم اعترافهم بالتوحيد، وأصل النبوة، ولمعرفتهم بما في كُتُبِهم من الشهادة بصدق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والبشارة بنبوته. والمراد بآيات الله: الآيات التي نصبها الله - تعالى - على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمراد بكُفْرهم بها كفرهم بدلالتها على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فصل قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أن الكُفْرَ من قِبَلِهِم - حتى يَصِحْ هذا التوبيخُ، ولذلك لا يصح توبيخهم على طولهم، وصِحَّتِهم، ومَرَضِهم. وأجيبوا بالمعارضة بالعلم والداعي. قوله: {والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} الواو للحال، والمعنى: لِمَ تكفرون بآيات الله التي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 420 دلَّتكم على صحة صدق محمد، والحال أن الله شهيد على أعمالكم، ومجازيكم عليها؟ ثم لما أنكر [عليهم في ضلالهم ذكر ذلك الإنكار] عليهم في إضلالهم لضَعَفَةِ المسلمين، فقال: {قل يا أهل الكتاب لم تصدون عن سبيل الله من آمن} ؟ «لم» : متعلق بالفعل بعده، و «من آمن» مفعوله والعامة على «تُصِدُّون» - بفتح التاء - من صَدَّ يَصُدُّ - ثلاثياً - ويُستَعْمَل لازماً ومتعدياً. وقرأ الحسن «تُصِدُّونَ» - بضم التاء - من أصَدَّ - مثل أعد - ووجهه أن يكون عدى «صَدَّ» اللازم بالهمزة كقول ذي الرمة: [الطويل] 1543 - أناسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بِالسَّيْفِ عَنْهُمْ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . قال الفراء: يقال: صَدَدتُه، أصُدُّه، صَدًّا. وأصْدَدتهُ، إصْداداً. وكان صدهم عن سبيل الله بإلقاءِ الشُّبَه في قلوب الضَّعفَة من المسلمين، وكانوا يُنْكِرون كَوْنَ صفته في كتابهم. قوله: {تَبْغُونَهَا} يجوز أن تكون جملةً مستأنفةً، أخبر عنهم بذلك - وأن تكون في محل نَصْب على الحال، وهو أظهر من الأول؛ لأن الجملةَ الاستفهاميةَ السابقة جِيء بعدَها بجملة حالية - أيضاً - وهي قوله: {والله شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ} . {وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ} [البقرة: 84] . فتتفق الجملتان في انتصاب الحال عن كل منهما، ثم إذا قُلْنا بأنها حال، ففي صاحبها احتمالان: أحدهما: أنه فاعل «تَصُدُّونَ» . والثاني: أنه {سَبِيلِ الله} . وإن جاز الوجهان لأن الجملة - اشتملت على ضمير كل منهما. والضمير في {تَبْغُونَهَا} يعود على {سَبِيلِ} فالسبيل يذَكَّر ويؤنث كما تقدم ومن التأنيث هذه الآية، وقوله: {قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] . وقول الشاعر: [الوافر] 1544 - فَلاَ تَبَْدْ فَكُلُّ فَتَى أنَاسٍ ... سَيُصْبحُ سَالِكاً تِلْكَ السَّبِيلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 421 قوله (عوجاً) فيه وجهان: أحدهما: أنه مفعول به، وذلك أن يُراد ب «تَبْغُونَ» تطلبون. قال الزجَّاج والطبريّ: تطلبون لها اعوجاجاً. تقول العرب: ابْغِني كذا - بوصل الألف - أي: أطْلُبه لي، وأبْغِني كذا - بقطع، الألف - أي: أعِنِّي على طلبه. قال ابنُ الأنباري: البغي يقتصر له على مفعول واحد إذا لم يكن معه اللام، كقولك: بغيت المال والأجر والثواب. وههنا أريد يبغون لها عوجاً، فلما سقطت اللام عمل الفعل فيما بعدَها، كما قالوا وهبتك درهماً، يريدون وهبت لك، ومثله: صِدْتُك ظبياً، أي: صدت لك. قال الشاعر: [الخفيف] 1545 - فَتَوَلَّى غُلاَمُُهُمْ ثُمَّ نَادَى ... أظِليماً أصِيدُكُمْ أمْ حِمَارا يريد: أصيد لكم ظليماً؟ ومثله: «جنيتك كمأة وجنيتك طِبًّا» ، والأصل جنيت لك، فحذف ونصب «. والثاني: أنه حال من فاعل» تَبْغُونََهَا «وذلك أن يُراد ب» تبغون «معنى تتعدّون، والبغي: التَّعَدِّي. والمعنى: تبغون عليها، أو فيها. قال الزجاج: كأنه قال تبغونها ضالين، والعوج بالكسر، والعوج بالفتح - المَيْل، ولكن العرب فرَّقوا بينهما، فخَصُّوا المكسور بالمعاني، والمفتوح بالأعيان تقول: في دينه وفي كلامه عِوَج - بالكسر، وفي الجدار والقناة والشجر عَوَجٌ - بالفتح. قال أبو عبيدة: العِوَج - بالكسر. المَيْل في الدِّين والكلامِ والعملِ، وبالفتح في الحائط والجِذْع. وقال أبو إسحاق: الكسر فيما لا تَرَى له شَخْصاً، وبالفتح فيما له شَخْصٌ. وقال صاحب المُجْمَل: بالفتح في كل منتصب كالحائط، والعوَج - يعني: بالكسر - ما كان في بساط، أو دين، أو أرض، أو معاش، فجعل الفرق بينهما بغير ما تقدم. وقال الراغب: العِوَجُ: العطف من حال الانتصاب، يقال: عُجْتُ البعير بزمامه، وفلان ما يعوج به - أي: يرجع، والعَوَج - يعني: بالفتح - يقال فيما يُدْرَك بالبصر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 422 كالخشب المتصِب، ونحوه، والعِوَجُ يقال فيما يُدْرَك بفِكْر وبصيرة، كما يكون في أرض بسيطة عوج، فيُعْرَف تفاوتُه بالبصيرة، وكالدين والمعاش، وهذا قريب من قول ابن فارس؛ لأنه كثيراً ما يأخذ منه. وقد سأل الزمخشريُّ في سورة طه قوله تعالى: {لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً} [طه: 107]- سؤالاً، حاصله: أنه كيف قيل: عوج - بالكسر - في الأعيان، وإنما يقال في المعاني؟ وأجاب هناك بجواب حَسَنٍ - يأتي إن شاء الله. والسؤال إنما يَجيء على قول أبي عبيدة والزجَّاج المتقدم، وأما على قول ابن فارس والراغب فلا يرد، ومن مجيء العِوَج بمعنى الميل من حيث الجملة قول الشاعر: [الوافر] 1546 - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا ... كَلاَمُكُمُ عَلَيَّ إذَنْ حَرَامُ وقول امرئ القيس: [الكامل] 1547 - عُوجَا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لأنَّنَا ... نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ حِذَامِ أي: ولم تميلوا، ومِيلاَ. وأما قولهم: ما يَعوج زيد بالدواء - أي: ما ينتفع به - فمن مادة أخرى ومعنى آخر. والعاجُ: العَظْم، ألفه مجهولة لا يُعْلم منقلبة عن واوٍ أو عن ياءٍ؟ وفي الحديث أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لثوبان: «اشْتَرِ لِفَاطِمَةَ سِوَاراً مِنْ عَاج» . قال القتيبي: العاجُ الذَّبْل؛ وقال أبو خراش الهذليّ في امرأة: [الطويل] 1548 - فَجَاءَتْ كَخَاصِي الْعِيرِ لَمْتَحْلَ عَاجَةً ... وَلاَ جَاجَةً مِنْهَا تَلُوحُ عَلَى وَشْمِ قال الأصْمَعِيّ: العاجة: الذبلة، والجاجة - بجيمين - خَرَزةَ ما تساوي فلساً. وقوله: كَخَاصِي العير، هذا مَثَل تقوله العرب لمن جاء مُسْتَحياً مِنْ أمْرٍ، فيقال: جاء كخاصي العير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 423 والعير: الحمار، يعنون جاء مستحياً. ويقال: عاج بالمكان، وعوَّج به - أي: أقام وقَطَن، وفي حديث إسماعيلَ - على نبينا وعليه السلام -: «ها أنتم عائجون» أي مقيمون. وأنشدوا للفرزدق: [الوافر] 1549 - هَلَ أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا ... نَرَى الْعَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الْخِيَامِ؟ كذا أنشد هذا البيت الهرويُّ، مستشهداً به على الإقامة - وليس بظاهر - بل المراد ب «عائجون» في البيت: سائلون ومُلْتفتون. وفي الحديث: «ثم عاج رأسه إليها» أي: التفت إليها. والرجل الأعوج: السيّئ الخُلُق، وهو بَيِّن العَوَج. والعوج من الخيل التي في رجلها تَجْنيب. والأعوج من الخيل منسوبة إلى فرس كان في الجاهلية سابقاً، ويقال: فرس مُجَنَّب إذا كان بعيد ما بين الساقين غير فَحَجٍ، وهو مَدْح ويقال: الحنبة: اعوجاج. قوله: {وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ} حال، إما من فاعل «تَصُدُّونَ» ، وإما من فاعل «تَبْغُونهَا» ، وإما مستأنف وليس بظاهر و «شهداء» جمع شهيد أو شاهد كما تقدم. فصل ومعنى الآية أنهم يقصدون الزيغَ والتحريفَ لسبيله بالشُّبَهِ التي يُوردونها على الضَّعَفَة كقولهم: النسخ يدل على البداء، وقولهم: إن في التوراة: أن شريعةَ موسى باقيةٌ إلى الأبد. وقيل كانوا يَدَّعون أنهم على دينِ الله وسبيله، وهذا على أنَّ «عِوَجاً» في موضع الحال والمعنى: يبغونها ضَالينَ. قوله: {وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ} قال ابن عباس: أي: شهداء أن في التوراة: أن دينَ الله الذي لا يقبل غيره هو الإسلام. وقيل: وأنتم تشهدون ظهورَ المعجزاتِ على نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: وأنتم تشهدون أنه لا يجوز الصَّدُّ عن سبيلِ اللهِ. وقيل: {وَأَنْتُمْ شُهَدَآءُ} عُدول بين أهل دينكم، يثقون بأقوالكم، ويُعوّلون على الجزء: 5 ¦ الصفحة: 424 شهادتكم في عظائم المور ومَنْ كان كذلك، فكيف يليق به الإصرار على الباطلِ والكذبِ، والضلالِ والإضلالِ؟ ثم قال: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} والمراد منه: التهديد، وختم الآية الأولى بقوله: {والله شَهِيدٌ} ؛ لأنهم كانوا يُظهرون إلقاء الشُّبَه في قلوب المسلمين، ويحتالون في ذلك بوجوه الحِيَل - فلا جرم - قال فيما أظهره: {والله شَهِيدٌ} ، وختم هذه الآيةَ بقوله: {وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} ؛ لأن ذلك فيما أضمروه من الإضلال للغير. وكرر في الآيتين قوله: {قل يا أهل الكتاب} ؛ لأن المقصودَ التوبيخُ على ألْطَف الوجوه، وهذا الخطاب أقرب إلى التلطف في صَرْفهم عن طريقتهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 لمَّا حذَّر أهْلَ الكتاب عن الإغواء والإضلال، حذَّرَ الْمُؤمنين في هذه الآية عن إغوائهم وإضلالهم، ومنعهم عن الالتفات إلى قولهم. رُوِي أن شأسَ بن قيس اليهوديّ كان عظيمَ الكُفْر، شديد الطعن على المسلمين، شديد الحَسَد، فاتفق أنه مرَّ على نفر من الأوس والخزرج - وهم في مجلسٍ جَمَعَهم يتحدثون، وكان قد زال ما بينهم من الشحناء والتباغُض، فغاظه ما رأى من ألْفتهِمْ، وصلاح ذاتِ بينهم في الإسلام بعد الذي كان بينهم في الجاهليةِ، فقال: قد اجتمع مَلأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمعوا بها - من قرارٍ، فأمر شابًّا من اليهود - كان معه - فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم ذكرهم يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعضَ ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، وكان بعاث يوماً اقتتلت فيه الأوس مع الخزرج، وكان الظَّفَرُ فيه للأوس على الخَزْرَج - ففعل: فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثَبَ رجلان من الحَيَّيْنِ على الرُّكَب - أوس بن قيظي، أحد بني حارثة، من الأوس وجبار بن صَخْر، أحد بني سلمة من الخزرج - فتقاولا، ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددتها الآن جَذَعة، فغضب الفريقان جميعاً، وقالا: قد فعلنا، السلاحَ السلاحَ، موعدكم الظاهرة - وهي حَرَّة - فخرجوا إليها، وانضمَّت الأوس والخزرج بعضُها إلى بعض على دعواهم التي كانوا عليها في الجاهليةِ، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فخرج إليهم - فيمن معه من المهاجرين - حتى جاءهم فقال: «يَا مَعْشَرَ المُسْلِمِينَ، أبدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ وَأنَا بَيْنَ أظْهُرِكم بَعْدَ إذْ أكْرَمَكُمُ اللهُ بالإسْلاَمِ وقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أمْرَ الجَاهِلِيَّةِ، وَألَّفَ بَيْنَكُمْ، فَتَرْجِعُونَ إلَى مَا كُنْتُمْ كُفَّاراً؟ اللهَ الله» فعرف القومُ أنها نزغة من شيطان، وكيدٌ من عدوِّهم، فألْقَوا السلاحَ من أيديهم، وبَكَوْا، وعانق بعضهم بعضاً، ثم انصرفوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سامعين مطيعين، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 425 فأنزل الله هذه الآية، فما كان يوم أقبح أولاً وأحسن آخراً من ذلك اليوم. واعلم أن هذه الآية يحتمل أن يكون المراد بها: جميع ما يحاولونه من أنواع الضلالة، فبيَّن - تعالى - أن المؤمنين إذا قَبِلوا منهم قولَهم أدَّى ذلك - حالاً بعد حال - إلى أن يعودوا كفاراً، واكلفر يوجب الهلاك في الدُّنْيَا بالعداوة والمحاربة، وسفك الدماء، وفي الآخرة بالعذاب الأليم الدائم. قوله: {يَرُدُّوكُم} رَدَّ، يجوز أن يُضَمَّن معنى: «صَيَّر» فينصب مفعولَيْن. ومنه قول الشاعر: [الوافر] 1550 - رَمَى الحَدَثَانُ نِسْوَةَ سَعْدٍ ... بِمِقْدَارٍ سَمَدْنَ لَهُ سُمُوداً فَرَدَّ شُعُورَهُنَّ السُّودَ بِيضاً ... وَرَدَّ وُجُوهَهُنَّ البِيضَ سُودَا ويجوز ألا يتضمن، فيكون المنصوبُ الثاني حالاً. قوله: {بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} يجوز أن يكون منصوباً ب «يَرُدُّوكُمْ» ، وأن يتعلق ب «كَافِرِينَ» ، ويصير المعنى كالمعنى في قوله: {كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ} [آل عمران: 86] . قوله: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ} «كَيْفَ» كلمة تعجُّب، وهو على الله - تعالى - محال، والمراد منه التغليظ والمنع؛ لأن تلاوة آيات الله عليهم، حالاً بعد حال - مع كون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيهم - تُزيل الشُّبَه، وتُقَرِّر الحُجج، كالمانع من وقوعهم في الكُفْر، فكان صدور الكفر عن هؤلاءِ الحاضرين للتلاوة والرسول معهم أبعد من هذا الوجه. قال زيد من أرقم: قام فينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذات يوم خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: «أمَّا بَعْدُ، أيُّهَا النَّاسِ، إنَّمَا أنَا بَشَرٌ، يُوشِكُ أن يَأتِيَنِي رَسُولُ رَبِّي فأجِيبَه، وإنِّي تَارِكٌ فيكُمُ الثَّقَلَيْنِ: أوَّلُهُمَا كتَابُ اللهِ، فِيهِ الهُدَى والنُّور، فَتَمسَّكُوا بِكِتَابِ اللهِ، وَخّذُوا بِهِ ورغب فيه ثم قال: وَاهْل بَيْتِي، أذكِّرُكُمُ اللهَ فِي أهْلِ بَيتِي» . قوله: {وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله} جملة حالية، من فاعل: «تَكْفُرُونَ» . وكذلك قوله: {وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} أي: كيف يُوجَد منكم الكفرُ مع وجود هاتين الحالتين؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 426 والاعتصام: الامتناع، يقال: اعْتَصَمَ واسْتَعْصَمَ بمعنًى واحدٍ، واعْتَصَمَ زَيْدٌ عَمْراً، أي: هيَّأ له ما يَعْتصِمُ به. وقيل: الاعتصام: الاستمساك، واستعصم بكذا، أي: استمسك به. ومعنى الآية: ومن يتمسك بدينِ الله وطاعته فقد هُدِي وأرْشِد إلى صراطٍ مستقيمٍ. وقيل: ومن يؤمن بالله. وقيل: ومن يتمسك بحبل الله وهو القرآن. والعِصام: ما يُشدُّ به القربة، وبه يسمَّى الأشخاص، والعِصْمة مستعملة بالمعنيَيْن؛ لأنها مانعةٌ من الخطيئة وصاحبها متمسك بالحق - والعصمة - أيضاً - شِبْه السوار، والمِعْصَم: موضع العِصْمَة، ويُسَمَّى البياض الذي في الرسغ - عُصْمَة؛ تشبيهاً بها، وكأنهم جعلوا ضمةَ العينِ فارقةً، وأصل العُصْمة: البياض يكون في أيدي الخيل والظباء والوعول، والأعْصَم من الوعول: ما في معاصمها بياضٌ، وهي أشدُّها عَدْواً. قال: [الكامل] 1551 - لَوْ أنَّ عُصْمَ عَمَامَتَيْن وَيَذْبُلٍ ... سمعَا حَدِيثَكَ أنْزَلاَ الأوْعَالا وعصمه الطعام: منع الجوع منه، تقول العرب: عَصَمَ فلاناً الطعامُ، أي: منعه من الجوع. وقال أحمد بن يحيى: العرب تُسَمِّي الخبز عاصِماً، وجابراً. قال: [الرجز] 1552 - فَلاَ تَلُومِينِي وَلُومِي جَابِرا ... فَجَابِرٌ كَلَّفَنِي الْهَوَاجِرَا ويسمونه عامراً، وأنشد: [الطويل] 1553 - أبُو مَالِكٍ يَعْتَادُنِي بِالظَّهَائِر ... يِجِيءُ فَيُلْقِي رَحْلَهُ عِنْدَ عَامِرِ وأبو مالك كنية الجوع. وفي الحديث - في النساء: «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنْهُنَّ إلاَّ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ» وهو الأبيض الرجلين. وقيل: الأبيض الجناحَين. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «المَرْأةُ الصَّالِحَةُ فِي النِّسَاءِ كَالْغُرَابِ الأعْصَمِ في الغِرْبَانِ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 427 قيل: يا رسولَ الله، وما الغراب الأعصم؟ قال «الَّذِي فِي أحدِ جَنَاحَيْه بَيَاضٌ» . وفي الحديث: كنا مع عمرو بن العاص، فدخلنا شِعْباً، فإذا نحن بغربان، وفيهن غُرابٌ أحمرُ المنقار أحمر الرِّجلين، فقال عَمرو: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ مِنَ النِّسَاءِ إلاَّ بِقَدْرِ هَذَا مِنَ الغِرْبَانِ» والمراد منه: التقليل. قوله: «فقد هدي» جواب الشرط، وجيء ف يالجواب ب «قد» دلالةً على التوقُّع؛ لأن المعتصم متوقع الهداية. والمعنى: ومن يمتنع بدينِ الله، ويتمسك بدينه، وطاعتهِ، فقد هُدِي إلى صراطِ مستقيم واضح. وفسره ابن جرير ومن يعتصم بالله أي: يؤمن بالله. فصل احتجوا بهذه الآية على أن فعل العبدِ مخلوق لله تعالى؛ لأنه جعل اعتصامهم هداية من الله تعالى، والمعتزلة ذكروا فيه وجوهاً: أحدها: أن المرادَ بهذه الهداية الزيادة في الألطاف المرتبة على أداء الطاعات، كقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام} [المائدة: 16] وهذا اختيار القفال. الثاني: أن التقدير: ومن يعتصم بالله فنعم ما فعل؛ فإنه إنما هُدِي إلى الصراط المستقيم، ليفعل ذلك. الثالث: أن التقدير: ومن يعتصم بالله فقد هُدِيَ إلى طريقِ الجنة. الرابع: قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «فقد هدي» أي: فقد حصل له الهدى - لا محالة - كما تقول: إذا جئتَ فلاناً فقد أفلحتَ، كأن الهدى قد حصل، فهو يخبر عنه حاصِلاً؛ لأن المعتصم بالله متوقّع للهدى، كما أن قاصد الكريم متوقع للفلاح عنده. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 428 لما حذر المؤمنين من إضْلال الكفَّارِ، أمرهم في هذه الآياتِ بمجامع الطاعات، فأمرهم - أولاً - بتقوى الله، وثانياً - بالاعتصاب بحبل الله، وثالثاً - بالاجتماع والتأليف، ورابعاً - بالترغيب بقوله: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} . والسبب في هذا الترتيب أن فِعْلَ الإنسان، لا بد وأن يكون مُعَلَّلاً إما بالرهبة، وإما بالرغبة، والرهبة مقدمة على الرغبة؛ لأن دَفْع الضرر مقدَّمٌ على جَلْب النَّفْع، فقوله: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ} إشارة إلى التخويف من عقاب الله، ثم جعله سبباً للتمسك بدين الله والاعتصام بحبله، ثم أرْدَفَه بالرغبة، فقال: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} فكأنه قال: خَوْف الله يوجب ذلك، وكثرة نعم الله توجب ذلك، فلم تَبْقَ جهة من الجهات الموجبة للفعل إلا وهي حاصلة في وجوب انقيادكم لأمر الله تعالى، ووجوب طاعتكم لحكمه. فصل قال بعض العلماء: هذه الآية منسوخة؛ لما روي عن ابن عباس أنه لمَّا نزلت هذه الآية شق ذلك على المسلمين؛ لأن حقَّ تقاته أن يُطَاعَ فلا يُعْصَى طرفة عين، وأن يُشْكَر فلا يُكفر، وأن يذكر فلا ينسى - والعباد لا طاقة لهم بذلك، فنزل: {فاتقوا الله مَا استطعتم} [التغابن: 16] ، فنسخت أول هذه الآيةِ، ولم ينسخ آخرها، وهو قوله: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} وقال جمهور المحقِّقين: إن القول بهذا النسخ باطلٌ؛ لما روي عن معاذ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أتَدْرِي مَا حَقُّ اللهِ عَلَى العِبَادِ، وَمَا حَقُّ العِبَادِ على الله» ؟ فقلت: اللهُ ورسولُه أعْلَمُ. قال: «حَقُّ الله على العِبَادِ أن يَعْبُدُوهُ وَلاَ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وحَقُّ العِبَادِ على اللهِ ألا يُعَذِّبَ مَنْ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً» قلت: يا رسول الله، أفلا أبَشر الناسَ؟ قال: «لا تبشرهم فيتَّكلوا» وهذا لا يجوز أن يُنْسخَ؛ ولأن معنى قوله: {اتقوا الله حق تقاته} أي: كما يحق أن يتقى، وذلك بأن تُجْتَنَبَ جميع معاصيه، ÷ ومثل هذا لا يجوز أن يُنْسخ؛ لأنه إباحة لبعض المعاصي، وإذا كان كذلك صار معنى هذه الآية ومعنى قوله: {فاتقوا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 429 الله ما استطعتم} واحداً؛ لأن من اتقى الله ما استطاع فقد اتقاه حق تقاته؛ ولأن حق تقاته ما استطاع من التقوى؛ لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها والوسع دون الطاقة، ونظير هذه الآية قوله: {وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ} [الحج: 78] . فإن قيل: أليس قد قال تعالى: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ} [الأنعام: 91] ؟ فالجواب: أن هذه الآية وردت في ثلاثة مواضع في القرآن، وكلها في صفة الكفار، لا في صفة المسلمين، وأما الذين قالوا: إن المراد هو أن يُطاع فلا يُعصى فهذا صحيح، والذي يصدر عن الإنسان كان سَهْواً، أو نِسْيَاناً فغير قادح فيه؛ لأن التكليف مرفوع عنه في هذه الأحوال، وكذلك قوله: أن يشكر فلا يكفر؛ لأن ذلك واجب عليه عند حضور نعم الله بالبال، فأما عند السهو فلا يجب، وكذلك قوله: أن يذكر فلا يُنْسَى، فإن ذلك واجب عند الدعاء والعبادة، وكل ذلك مما يطاق، فلا وَجْهَ للقول بالنسخ. وقوله: {حَقَّ تُقَاتِهِ} أي: كما يجب أن يُتَّقَى، والتقى اسم للفعل - من قولك: اتقيت - كما أن الهُدَى اسم الفعل من قولك: اهتديت. قوله: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} نَهْي في الصورة عن موتهم إلا على هذه الحالة، والمراد: دوامهم على الإسلام؛ وذلك أن الموت لا بدّ منه، فكأنه قال: دوموا على الإسلام غلى الموت، وقريب منه ما حَكَى سيبويه: لا أرَيَنَّكَ هَهُنا، أي: لا تكن بالحضرة، فتقع عليك رؤيتي، والجملة من قوله: {وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} في محل نصب على الحال، والاستثناء مُفَرَّغ من الأحوال العامة، أي: لا تموتن على حالة من سائر الأحوال إلا على هذه الحال الحسنةِ، وجاء بها جملةً اسميةً؛ لأنها أبلغ وآكد؛ إذْ فيها ضمير متكرر، ولو قيل: إلا مسلمين لم يُفِدْ هذا التأكيد وتقدم إيضاح هذا التركيب في البقرة عند قوله تعالى: {إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ} [البقرة: 132] بل دل على الاقتران بالموت لا متقدِّماً ولا متأخراً. قوله: {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً} الحبل - في الأصل - هو: السبب، وكل ما وصلك إلى شيء فهو حبل، وأصله في الأجرام واستعماله في المعانِي من باب المجاز. ويجوز أن يكون - حينئذٍ - من باب الاستعارة، ويجوز أن يكون من باب التمثيل، ومن كلام الأنصار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: يا رسولَ الله، إنَّ بيننا وبَيْنَ القوم حبالاً ونحن قاطعوها - يعْنُون العهود والحِلْف. قال الأعشى: [الكامل] 1554 - وَإذَا تُجَوِّزُهَا حِبَالُ قَبِيلَةٍ ... أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 430 يعني العهود. قيل: والسبب فيه أن الرجل كان إذا سافر خاف، فيأخذ من القبيلة عَهداً إلى الأخرى، ويُعْطَى سَهْماً وحَبْلاً، ويكون معه كالعلامة، فسُمِّيَ العهدُ حَبْلاً لذلك، وهذا المعنى غير طائل، بل سُمِّي العهد حبلاً للتوصُّل به إلى الغرض. وقال آخر: [الكامل] 1555 - مَا زِلْتُ مُعْتَصِماً بِحَبْلٍ مِنْكُمُ ... مَنْ حَلَّ سَاحَتَكُمْ بِأسْبَابِ نَجَا قال القرطبي: العِصْمة: المَنَعَة، ومنه يقال للبَذْرَقة: عصمة، والبذرقة: الخفارة للقافلة، وهو من يُرسَلُ معها يحميها ممن يؤذيها، قال ابنُ خالويه: «البذرقة ليست بعربيةٍ، وإنَّما هي كلمة فارسية عرَّبتها العرب، يقال: بعث السلطان بَذْرَقَةً مع القافلة» . والحبل لفظ مشترك، وأصله - في اللغة: السبب الذي يُوصل به إلى البغية والحاجة، والحبل: المستطيل من الرمل، ومنه الحديث: «واللهَ مَا تَرَكَتُ مِنْ حَبْلٍ إلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْه، فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ» ؟ والحبل: الرَّسَن، والحبل: الداهية. قال كثير: [الطويل] 1556 - فَلاَ تَعْجَلِي يَا عَزَّ أنْ تتفهمي ... بنُصْحٍ أتَى الوَاشُونَ أمْ بِحُبُولٍ والحبالة: حبالة الصائد، وكلها ليس مراداً في الآية إلا الذي بمعنى العَهْد. والمراد بالحبل - هنا -: القرآن؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في الحديث الطويل -: «هو حَبْلُ الله المتين» . وقال ابن عباس: هو العهد المذكور في قوله: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] لقوله تعالى: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس} [آل عمران: 112] أي: بعهد، وسُمِّيَ العَهْدُ حبلاً لما تقدم من إزالة الخوف. وقيل: دين الله. وقيل: طاعة الله، وقيل: هو الإخلاص. وقيل: الجماعة؛ لأنه عقبه بقوله: {وَلاَ تَفَرَّقُوا} . وتحقيقه: أن النازل في البئر لما كان يعتصم بالحبل، تحرُّزاً من السقوط فيها، وكان كتاب الله وعهده ودينه وطاعته، وموافقة جماعة المؤمنين حِرزاً لصاحبه من السقوط في جهنم - جعل ذلك حبلاً لله، وأمروا بالاعتصام به. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 431 وقوله: {جَمِيعًا} أي: مجتمعين عليه، فهو حال من الفاعل. قوله: {وَلاَ تَفَرَّقُوا} قراءة البَزِّيِّ بتشديد التاء وصلاً وقد تقدم توجيهه في البقرة عند قوله «ولا تيمموا» والباقون بتخفيفها على الحذف. فصل في التأويل وجوه: الأول: أنه نَهْي عن الاختلاف في الدين؛ لأن الحق لا يكون إلا واحداً، وما عداه جهلٌ وضلال، قال تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} [يونس: 32] . الثاني: أنه نَهْي عن المعاداةِ والمخاصمةِ؛ فإنهم كانوا في الجاهلية مواظبين على ذلك، فنهوا عنه. الثالث: أنه نَهْي عما يوجب الفُرقة، ويزيل الألفة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «سَتَفْتَرِقُ أمَّتِي عَلَى نَيِّفٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً الناجِي مِنْهُمْ وَاحِدَةٌ» قيل: ومن هي يا رسول الله؟ قال: «الجَمَاعَةَ» . وروي: «السواد الأعظم» . ويروى: «مَا أنَا عَلَيْهِ وَأصْحَابِي» . واعلم أن النهْيَ عن الاختلاف، والأمر بالاتفاق، يدل على أن الحق لا يكون إلا واحداً. فصل استدلت نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: الأحكام الشرعية إما أن يقال: إن الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 432 سبحانه - نصب عليها دلائل يقينية، أو ظنية، فإن كانت يقينية فلا يكتفى فيها بالقياس الجزء: 5 ¦ الصفحة: 433 الذي يفيد الظن؛ لأن الدليل لا يكتفى به في موضع اليقين، وإن كانت ظنيّة أدى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 434 الرجوع إليها إلى الاختلاف والنزاع وقد نهى الله عنه بقوله: {وَلاَ تَفَرَّقُوا} [آل عمران: 103] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 435 وقوله: {وَلاَ تَنَازَعُواْ} [الأنفال: 46] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 436 والجواب بأن هذا العموم مخصوص بالأدلة الدالة على العمل بالقياس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 437 قال القرطبي: وليس في الآية دليل على تحريم الاختلاف في الفروع؛ فإن ذلك ليس اختلافاً؛ إذ الاختلاف يتعذر معه الائتلاف والجمع، وأما حكم مسائل الاجتهاد، فإن الاختلاف فيها بسبب اتسخراج الفرائض ودقائق معاني الشرع، وما زالت الصحابة مختلفين في أحكام الحوادث، وهم - مع ذلك - متآلفون وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اخْتِلاَفُ أمَّتِي رَحْمَةٌ» وإنما منع الله الاختلاف الذي هو سبب الفساد، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تَفَرَّقَت اليَهُودُ عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - أوْ اثنتين وَسَبْعِينَ فِرْقَةً - وَالنَّصَارَى مِثْلَ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أمَّتِي ثلاثاً وسبعين فرْقَةً» . قوله: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} . {نِعْمَةَ الله} مصدر مضاف لفاعله؛ إذ هو المُنْعِم، {عَلَيْكُمْ} ، ويجوز أن يكون متعلقاً بنفس {نِعْمَتَ} ؛ لأن هذه المادةَ تتعدى ب «على» قال تعالى: {وَإِذْ تَقُولُ للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] . ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من «نِعْمَةَ» ، فيتعلق بمحذوف، أي: مستقرة، وكائنة عليكم. قوله: {إِذْ كُنْتُمْ} «إذْ» منصوبة - ب «نِعْمَةَ» ظرفاً لها ويجوز أن يكون متعلِّقاً بالاستقرار الذي تضمنه {عَلَيْكُمْ} إذا قلنا: إن «عَلَيْكُمْ» حال من النعمة، وأما إذا علقنا «عَلَيْكُمْ» ب «نِعْمَةَ» تعيَّن الوجه الأول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 438 وجوز الحوفي أن يكون منصوباً ب «اذْكُروا» يعني: مفعولاً به، لا أنه ظرف له؛ لفساد المعنى؛ إذْ «اذْكُرُوا» مستقبل، و «إذْ» ماضٍ. فصل {كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} . قال محمد بن إسحاق وغيره من أهل الأخبار: كان الوس والخزرج أخوين لأب وأمٍّ، فوقعت بينهما عداوةٌ - بسبب قتيل - فتطاولت تلك العداوة والحرب بينهم مائة وعشرين سنة، إلى أن أطفأ الله تعالى، ذلك بالإسلام، وألَّف بينهم برسوله - عليه السلام - وكان سبب ألفتهِمْ أن سويدَ بن الصامت - أخا بني عمرو بن عوف - كان شريفاً، تُسمِّيه قومه: الكامل، لجلده ونسبه، قدم «مكة» حاجًّا أو معتمراً، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد بُعِثَ وأمِرَ بالدعوة، فتصدَّى له حين سمع به، فدعاه إلى الله وإلى الإسلام، فقال له سُوَيْدٌ: فلعلَّ الذي معك مثل الذي معي. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وَمَا الَّذِي مَعَكَ؟ قال: حِكْمَةُ لقمان فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أعْرِضْهَا عَلِيَّ «فعرضها عليه، فقال: إنَّ هذا الكلام حَسَنٌ معي أفْضَلُ مِنْ هَذَا - قُرْآنٌ أنْزَلَهُ اللهُ عَلَيَّ نُوراً وهُدًى، فَتَلاَ عليهِ القرآنَ، وَدَعَاهُ إلَى الإسْلام، فَلَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ، وقال: إنَّ هَذَا القولَ أحْسَنُ، ثُمَّ انْصرَفَ إلى المدينةِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أنْ قَتَلَهُ الخَزْرَجُ يَوْمَ بُعَاث» فإن قومه يقولون: قد قتل وهو مسلم، ثم قدم أبو الجيسر أنس بن رافع معه فتية من بني الأشهل - فيهم إياس بن معاذ - يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزر، فلما سمع بهم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أاهم، فجلس إليهم، فقال: «هَلْ لَكُمْ إلَى خير مما جِئْتُمْ لَهُ؟ قالوا: ومَا ذَاكَ؟ قال: أنَا رَسُولُ اللهِ بَعَثَنِيَ اللهُ إلى العِبَادِ، أدْعُوهُمْ إلى ألاَّ يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً، وأنْزَلَ عَليَّ الكِتَابَ، ثُمَّ ذكر لهم الإسلام» ، وتلا عليهم القرآن، فقال إياس بن معاذ وكان غلاماً حدثاً: أي قوم، هذا والله خير مما جئتم له، فأخذ أبو الجيسر حَفنَةً من البطحاء، فضرب بها وجه إياس، وقال: دَعْنا منك؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 439 فلعمري لقد جئنا لغير هذا، فصمت إياس، وقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنهم ثم انصرفوا إلى «المدينة» ، فكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج، ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك فلما أراد الله - عَزَّ وَجَلَّ - إظْهارَ دينهِ، وإعزازَ نبيه، خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الموسم الذي لقي فيه النفر من الأنصار، يعرض نفسه على قبائل العرب - كما كان يصنع في كل موسم - فلقي عند العقبة رَهْطاً من الخزرج - أراد الله بهم خيراً - وهم أسعد بن زرارة، وعوف ابن الحارث - وهو ابن عفراء - ورافع بن مالك العجلاني وقطبة بن عامر بن خريدة، وعقبة بن عامر، وجابر بن عبد الله، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ أنْتُمْ؟ قالوا: نفر من الخزرج فقال: أمِنْ مَوَالِي يَهُود؟ قالوا: نعم، قال أفَلاَ تَجْلُسوا حَتَّى أكلِّمَكُمْ» ؟ قالوا: بلى، فجلسوا معه، فدعاهم إلى الله، وعرض عليهم الإسلام، وتلا عليهم القرآن، وكان مما صنع الله لهم به في الإسلام أنّ يهود كانوا معهم ببلادهم، وكانوا أهل كتاب وعِلْم، وهم كانوا أهل أوثان وشِرْك، وكانوا - إذا كان بينهم شيء - يقولون: إن نبيًّا الآن مبعوثاً قد أظَلَّ زمانه نتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرمَ، فلما كلم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أولئك النفر، ودعاهم إلى الله قال بعضهم لبعض: يا قوم، تعلمون - والله - أنه النبي الذي توعَّدَكم به اليهود، فلا تسبقنكم إليه، فأجابوه وصدقوه، وأسلموا، وقالوا: إنا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العَدَاوةِ والشر ما بينهم، وعسى الله أن يجمعهم بك، وسنقدم عليهم، وندعوهم إلى أمرك، فإن يجمعهم الله عليك فلا رَجُلَ أعزُّ منك، ثم انصرفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ راجعين إلى بلادهم - قد آمنوا - فلما قَدِمُوا «المدينة» ذكروا لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودعوهم إلى الإسلام حتى فَشَا فيهم، فلم تَبْقَ دار من الأنصار إلا وفيها ذِكْرٌ من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى إذا كان العام المقبل وافَى الموسم من الأنصار اثنا عشر رَجُلاً: أسعد بن زرارة، وعوف ومعاذ - ابنا عفراء، ورافع بن مالك بن العجلاني، وذكوان بن عبد الجزء: 5 ¦ الصفحة: 440 القيس، وعبادة بن الصامت، ويزيد بن ثعلبة، وعباس بن عبادة، وعقبة بن عامر، وقُطْبَةُ بن عامر - وهؤلاء خزرجيُّون - وأبو الهيثم بن التَّيِّهَانِ، وعويم بن ساعدة - من الأوس - فلَقَوْه في «العقبة» - وهي العقبة الأولى - فبايعوا رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على بيعة النساء، على ألا يُشْركوا بالله شيئاً، ولا يسرقوا ولا يزنوا. . إلى آخر الآية، فإن وفَّيْتُم فلكم الجنة، وإن غشيتم شيئاً من ذلك، فَأخِذتم بِحدِّهِ في الدنيا فهو كَفَّارة له، وإن سَتَرهُ الله عليكم فأمركم إلى الله إن شاء عذبكم، وإن شاء غفر لكم، قال: وذلك قبل أن يفرض عليهم الحرب، قال: فلما انصرف القوم بعث معهم رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف وأمره أن يُقْرئهم القرآن، ويعلمهم الإسلام، ويُفقههم في الدين، فنزل مصعب على أسعد بن زرارة، ثم إن أسعد بن زرارة خرج بمصعب، فدخل به حائطاً من حوائط بني ظفر، فجلسا في الحَائِطِ، واجتمع إليهما رجال من أسلم، فقال سعد بن معاذ لأسيد بن حضير: انطلق إلى هذين الرجلين اللذين قد أتيا دَارَنَا - لِيُسَفِّهَا ضعفاءنا - فازجرهما وانْهَهما عن أن يأتيا دارَنا، فإن أسعد ابن خالتي، ولولا ذلك لكفيتك، وكان سعد بن معاذ وأسيد بن حضير سَيِّدَي قومهما من بني عبد الأشهل وهما مشركان، فأخذ أسيد بن حضير حَرْبَتَهُ، ثم أقبل إلى مصعب وأسعد - وهما جالسان في الحائط - فلما رآه أسعد بن زرارَةَ قال لمصعب: هذا سيد قومه قد جاءك، فاصدق الله فيه. قال مصعب: إن يجلس أكَلِّمْهُ، فوقف عليهما متشتماً، فقال: ما جاء بكما إلينا، تسفِّهان ضعفاءَنا؟ اعتزلا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة. فقال مصعب: أو تجلس فتسمع؟ فإن رضيت أمرا قبلته، وإن كرهته كفّ عنك ما كرهت. قال: أنصفت، ثم ركز حريته وجلس إليهما، فكلَّمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقالا: والله لعرفنا في وجهه الإسلام قبل أن نتكلم في إشراق وجهه وتسهُّهله، ثم قال: ما أحسن هذا وأجمله، كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قال: تغتسل، وتُطهِّر ثوبك، ثم تشهد شهادةَ الحق، ثم تصلي ركعتين. فقالم واغتسل، وغسل ثوبه، وتشهد شهادة الحق، وصلى ركعتين، ثم قال لهما: إن ورائي رجلاً إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكما الآن، ثم أخَذَ حَرْبَتَهُ، وانصرف إلى سعد وقومه، وهم جلوس في ناديهم - فلما نظر إليه بن معاذ مُقْبِلاً قال: أحلف بالله لقد جاءكم أسَيْدٌ بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم، فلما وقف على النَّادي قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين، فوالله ما رأيت بهما بأساً، وقد نهيتهما، فقالا: تفعل ما أحببت، وقد حدثت أن من بني حارثة أناساً خرجوا إلى أسعد بن زرارة، ليقتلوه، وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك، ليخفروك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 441 فقام سعد مُغْضَباً مبادراً تخوُّفاً للذي ذُكِرَ له من بني حارثة، فأخذ الحربة، ثم قال: والله ما أراك أغنيت شيئاً، فلما رآهما مطمئنين عرف أن أسيداً إنما أراد أن يَسْمَعَ منهما، فوقف عليهما متشتماً، فقال لأسعد بن زرارة: والله لولا ما بيني وبينك من القَرَابة، ما رمت هذا مني، أتغشانا في دارنا بما نَكْرَهُ؟ فقال أسعد بن زرارة لمصعب بن عمير: أي مصعب، جاءك - والله - سيد مَنْ وراءَه من قومه، إن يتبعك لم يتخلف عنك منهم أحد. فقال له مصعب: أفتقعد وتسمع؟ فإن رضيت أمراً، ورغبت فيه، قبلته، وإن كرهته، عَزَلْنَا عنك ما تكره. قال سعد: أنْصَفْتَ، ثم ركز الحَرْبَةَ، فجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه القرآن. قالا: فعرفنا والله في وجهه الإسلام قبل أن يَتَكَلَّمَ به، ثم قال: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ قالا: تغتسل وتطهر ثوبك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم تصلي ركعتين، فقام واغتسل وطهر ثوبه وتشهد شهادة الحق وركع ركعتين، ثم أخذ حربته، فأقبل عامداً إلى نادي قومه ومعه أسيد بن حضير. فلما رآه قومه مُقْبِلاً، قالوا: نحلف بالله لقد رَجَعَ سعد إليكم، بغير الوجه الذي ذهب به من عندكم. فلما وقف عليهم قال: يا بني عبد الأشهل، كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأفضلنا رأياً، وأيمننا نقيبة. قال: فإن كلام رجالكم ونسائكم عليَّ حرامٌ، حتى تؤمنوا بالله ورسوله. قال: فما أمسى في دار عبد الأشهل رجل ولا امرأة إلا مسلم أو مسلمة، ورجع أسعد بن زرارة ومصعب إلى منزل أسعد بن زرارة، فأقام عنده يدعو الناس إلى الإسلام، حتى لم تَبْقَ دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون، إلا ما كان من دار بني أمية بن زيد، وخطمة، ووائل، وواقف؛ وذلك أنه كان فيهم أبو قيس بن الأسلت الشاعر، وكانوا يسمعونه ويطيعونه، فوقف بهم عن الإسلام، حتى هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى «المدينة» ومضى بدر وأحد والخندق. قال: ثم إن مصعب بن عمير رجع إلى «مكة» وخرج معه من الأنصار سبعون رجلاً مع حُجَّاج قومهم من أهل الشرك، حتى قدموا «مطة» ، فواعدوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العقبة من أوسط أيام التشريق، وهي بيعة العقبة الثانية. قال كَعْبُ بْنُ مَالِك: فلما فرغنا من الحج وكانت الليلة التي واعدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعنا عبد الله بن عمرو بن حرام أبو جابر أخبرناه، وكنا نكتم على مَنْ معنا من المشركين الجزء: 5 ¦ الصفحة: 442 أمرنا - وكلمناه، وقلنا له، يا أبا جابر إنك سيد من ساداتنا، شريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حَطَباً للنار غداً، ودعوناه إلى الإسلام، فأسلم، وأخبرناه بميعاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فشهد معنا العَقَبَة - وكان نقيباً فيها - فَبِتْنَا تلك الليلة مع قومنا في رِحَالنا حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا لميعاد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نَتَسَلَّلُ مُسْتَخْفِين تَسَلُّلَ القَطَا، حتى إذا اجتمعنا في الشِّعْب عند «العقبة» ، ونحن سبعون رجلاً ومعنا امرأتان من نسائنا، نسيبة بنت كعب، أم عمارة إحدى نساء بني النجَّار، وأسماء بنت عمرو بن عَدِيِّ، أم منيع، إحدى نساء بني سلمة، فاجتمعنا في الشِّعْب ننتظر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى جاءنا ومعه عمه العَبَّاسُ بن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثّق له، فلما جلسنا كان أول من تكلم العباس بن عبد المطلب. فقال: يا معشر الخزرج - وكانت العرب إنما يسمون هذا الحي من أنصار خزرجها وأوسها - إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا، ممن هو على مثل رأينا فيه، وهو في عِزٍّ من قومه، ومَنَعَةٍ في بلده، وإنه قد أبَى إلا الانحياز إليكم، واللحوق بكم فإن كنتم ترون أنكم وَافُونَ له بما دَعوْتُمُوهُ إليهِ، ومَانِعُوهُ ممن خالفه، فأنتم وما تَحَمَّلْتم من ذلك، وإن كنتم ترون أنكم مُسْلِموه، وخاذلوه - بعد الخروج إليكم - فمن الآن فَدَعُوهُ؛ فإنه في عِزٍّ ومَنَعةٍ. قال: فقلنا: قد سمعنا ما قلتَ، فَتَكَلَّمْ يا رسولَ الله، وخُذْ لنفسك ولربك ما شِئْتَ. قال: فتكلَّم رسولُ الله، فتلا القرآن ودعانا إلى الله - عَزَّ وَجَلَّ - ورَغَّبَ في الإسلام، ثم قال: أبايِعُكُمْ عَلَى أنْ تَمْنَعُونِي مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ نِسَاءَكُمْ وَآبْنَاءَكُمْ -. فأخذ البراء بن مَعْرُورٍ بيده، ثم قال: والذي بعثك بالحق نبيًّا، لنمنعنَّك مما نمنع منه أَزْرَنا، فبايِعْنا يا رسول الله، فنحن أهل الحرب، وأهل الحلقة، ورثناها كابراً عن كابرٍ، قال: فاعترض القول - والبراء يُكَلِّم رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - أبو الهيثم بن التَّيْهان. فقال: يا رسول الله إن بيننا وبين الناس حبالاً - يعني العهود - وإنا قاطعوها، فهل عسيت إن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله، أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ فتبسَّم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال: «لا، بل الأبدَ الأبدَ، الدَّمَ الدَّمَ، الهدمَ الهدمَ، أنْتُمْ مِنِّي وَأنَا مِنْكُمْ، أحَارِبُ مَنْ حَارَبْتُمُ، وأسَالِمُ مَنْ سَالَمْتُمُ» ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أخْرِجُوا إليَّ منكم اثني عَشَرَ نَقِيْباً، كُفلاء على قومهم بما فيهم ككفالة الحَوَاريينَ لِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ، فأخرجوا تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس» . قال عاصم بن عمرو بن قتادة: إن القوم لما اجتمعوا لبيعة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاريّ: يا معشرَ الخزرج، فهل تدرون عَلاَمَ تبايعون هذا الرجل إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود، فإن كنتم تَرَونَ أنكم إذا أنْهِكَتْ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 443 أموالكم مصيبةً، وأشرافكم قتلى أسلمتموه فمن الآن، فهو والله خِزْيٌ في الدنيا والآخرةِ، وإن كنتم تَرَوْنَ أنكم وافون له بما دَعوتُمُوه إليه على تهلكة الأموال، وقَتْلِ الأشْراف فخُذوه، فهو - والله - خير الدنيا والآخرة. قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال، وَقَتْل الأشراف، فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وَفَّيْنَا؟ قال: «الجَنَّةُ» . قالوا: ابْسُطْ يدك، فبسط يده، فبايعوه، وأول مَنْ ضَرَبَ على يده: البَرَاءُ بن معرور، ثم بايع القومُ. قال: فلما بايعنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صرخ الشَّيْطان من أعلى رأس العَقَبة بأنفذ صوت ما سمعته قط: يا أهل الجباجب، هل لكم في مُذَمَّم والصُّبَاة معه، قد اجتمعوا على حَرْبكم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هَذَا عَدُوُّ اللهِ، أزَبُّ العَقَبَة، اسمعْ أيْ عَدُوَّ اللهِ - أمَا وَاللهِ لأفْرُغَنَّ لَكَ. ثم قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ارْفَضُّوا إلَى رِحَالِكُمْ» . فقال العباس بن عبادة بن نَضْلة: والذي بعثك بالحق، لئن شئتَ لنميلن غداً على أهل مِنًى بأسيافنا، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَمْ نُؤْمَرْ بذلك، وَلِكِنْ ارْجِعُوا إلَى رِحَالِكُمْ» فرجعنا إلى مضاجعنا، فنمنا عليها، حتى أصبحنا، فلما أصبحنا، غدت علينا جُلَّةُ قريش، حتى جاءونا في منازلنا، فقالوا: يا معشرَ الخزرج، بلغنا أنكم جئتم صاحبنا هذا، تستخرجونه من بين أظْهُرنا، وتبايعونه على حَرْبِنَا، وإنه - والله - ما حي من العرب أبغض إلينا، أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم. قال: فانبعث مَنْ هناك من مشركي قَوْمِنَا، يحلفون لهم بالله، ما كان من هذا شيء وما علمناه - وصَدَقُوا، لم يعلموا - وبعضنا ينظر إلى بَعْضٍ، وقام القوم، وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزوميّ - وعليه نَعْلاَن جديدان - فقُلت له كلمة - كأني أريد أن أشرك القوم بها فيما قالوا - يا أبا جابر، أما تستطيع أن تتخذ - وأنت سيد من سادتنا - مثل نَعْلَيْ هذا الفتى من قُرَيش؟ قال فسمعها الحارثُ، فخلعهما من رِجْلَيْه، ثم رمى بهما إليَّ، وقال: والله لتنتعلنّهما. قال: فقال أبو جابر: مَهْ والله لقد أحفظت الفتى، فاردد إليه نعليه، قال: والله لا أردُّهما، قال: والله يا أبا صالحٍ، لئن صَدَق الفال لأسلبنَّه. قال: ثم انصرف الأنصار إلى «المدينة» - وقد شدوا العَقْد - فلما قدموها أظهر الله الإسلام بهم وبلغ ذلك قريشاً، فآذوا أصحابَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصحابه: «إن الله قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون فيها» ، فأمرهم بالهجرة إلى «المدينة» ، واللحوق بإخوانهم من الأنصار، فأول من هاجر إلى «المدينة» : أبو سلمة بن عبد الأسد المخزوميّ، ثم عامر بن ربيعة، ثُم عبد الله بن جحش، ثم تابع أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 444 أرْسَالاً إلى «المدينة» ، فجمع الله أهْلَ «المدينة» - أوْسَهَا وخَزْرَجَها - بالإسلام، وأصلح الله ذات بينهم بنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا معنى قوله تعالى: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً} [آل عمران: 103] يا معشر الأنصار قبل الإسلام {فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} بالإسلام {فَأَصْبَحْتُمْ} أي: فصرتم. و «أصبح» من أخوات «كان» فإذا كانت ناقصة، كانت مثل «كان» في رفع الاسم ونَصْب الخبر، وإذا كانت تامة رفعت فاعلاً، واستغنت به، فإن وجد منصوب بعدها فهي حال، وتكون تامة إذا كانت بمعنى دخل في الصباح، تقول: أصبح زيد، أي دخل في الصباح، ومثلها - في ذلك - «أمسى» قال تعالى {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وقال: {وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ} [الصافات: 137] . وفي أمثالهم: «إذا سمعت بسرى القين فاعلم أنه مصبح» ؛ لأن القين - وهو الحداد - ربما قلَّت صناعته في أحياء العرب، فيقول: أنا غداً مسافر، فيأتيه الناس بحوائجهم، ويقيم، ويترك السفر، فأخرجوه مثلاً لمن يقول قولاً ويخالفه. والمعنى: فاعلم أنه مقيم في الصباح. ويكون بمعنى «صار» عملاً ومعنًى. كقوله: [الخفيف] 1557 - فَأصْبَحُوا كَأنَّهُمْ وَرَقٌ جَفْ ... فَ فَألْوَتْ بِهِ الصَّبَا وَالدَّبُورُ أي: صاروا. و «إخواناً» خبرها، وجوَّزوا فيها - هنا - أن تكون على بابها - من دلالتها على اتصاف الموصوف بالصفة في وقت الصباح، وتكون بمعنى: «صار» - وأن تكون تامة، أي: دخلتم في الصباح، فإذا كانت ناقصة على بابها - فالأظهر أن يكون «إخْناناً» خبرها، و «بنعمته» متعلق به لما فيه من معنى الفعل، أي: تآخيتم بنعمته، والباء للسببية. وجوَّز أبو حيان أن تتعلق ب «أصْبَحْتم» ، وقد عُرف ما فيه من خلاف. وجوّز غيره أن تتعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل «أصْبَحْتُمْ» ، أي: فأصبحتم إخواناً ملتبسين بنعمته، أو حال من «إخواناً» ؛ لأنه في الأصل - صفة له. وجوَّزوا أن تكون «بِنِعْمَتِهِ» هو الخبر، و «إخواناً» حال والباء بمعنى الظرفية، وإذا كانت بمعنى: «صار» جرى فيها ما تقدم من جميع هذه الأوجه، وإذا كانت تامة، فإخواناً حال، و «بِنِعْمَتِهِ» فيه ما تقدم من الأوجه خلا الخبرية. قال ابن عطية: «فأصْبَحْتُمْ» عبارة عن الاستمرار - وإن كانت اللفظة مخصوصة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 445 بوقت - وإنما خُصَّت هذه اللفظة بهذا المعنى من حيث مبدأ النهار، وفيه مبدأ الأعمال، فالحال التي يحبها المرء من نفسه فيها هي التي يستمر عليها يومَه في الأغلب. ومنه قول الربيع بن ضَبع: [المنسرح] 1558 - أصْبَحْتُ لاَ أحْمِلُ السِّلاَحَ وَلاَ ... أمْلُِ رَأسَ البَعِيرِ إنْ نَفَرَا قال أبو حيان: وهذا الذي ذكره - من أن «أصبح» للاستمرار وعلله بما ذكره - لم أر أحداً من النحويين ذهب إليه، إنما ذكروا أنها تُسْتَعْمَل بالوجهين اللذين ذكرناهما. قال شهاب الدين: وهذا - الذي ذكره ابن عطية - معنى حَسَنٌ، وإذا لم يَنُصّ عليه النحويون لا يُدْفَع؛ لأن النحاة - غالباً - إنما يتحدثون بما يتعلق بالألفاظ، وأما المعاني المفهومة من فَحْوى الكلام، فلا حاجة إلى الكلام عليها غالباً. والإخوان: جمع أخ، وإخوة اسم جمع عند سيبويه، وعند غيره هي جمع. وقال بعضهم: إن الأخ في النسب - يُجْمَع على: «إخوة» ، وفي الدين يُجْمَع على: «إخوان» ، هذا أغلب استعمالهم، وقال تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ونفس هذه الآية تَرُدُّ ما قاله؛ لأن المراد - هنا - ليس أخُوَّة النسب إنما المراد أخوة الدين والصداقة. قال أبو حاتم: قال أهل البصرة: الإخوة في النسب، والإخوان في الصداقة، قال: وهذا غلط؛ يقال للأصدقاء والأنسباء: إخوة، وإخوان، قال تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ولم يَعْنِ النسب، وقال تعالى: {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} [النور: 61] وهذا في النسب. وهذا الرد من أبي حاتم إنما يتّجِه على هذا النقل المُطْلق، ولا يرد على النقل الأول؛ لأنهم قيدوه بالأغلب في الاستعمال. قال الزجاج: أصل الأخ - في اللغة - من التوخي - وهو الطلب؛ فإن الأخ مقصده مقصد أخيه، والصديق مأخوذ من أن يصدق كل واحد من الصديقين ما في قلبه، ولا يُخْفِي عنه شيئاً. قوله: {وَكُنْتُمْ على شَفَا حُفْرَةٍ} شَفَا الشيء: طرفه وحرفه، وهو مقصور من ذوات الواو، ويُثَنَّى بالواو نحو: شَفَوَيْن ويكتب بالألف، ويُجْمَع على أشفاء، ويُسْتَعْمَل مضافاً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 446 إلى أعلى الشيء وإلى أسفله، فمن الأول: {شَفَا جُرُفٍ هَارٍ} [التوبة: 109] ومن الثاني: هذه الآية. وأشْفَى على كذا: قاربه، ومنه: أشفى المريض على الموت. قال يعقوب: يقال للرجل عند موته، وللقمر عند محاقه، وللشمس عند غروبها: ما بقي منه، أو منها، إلا شَفاً، أي: إلا قليل. وقال بعضهم: يقال لما بين الليل والنهار، وعند غروب الشمس إذا غاب بعضها: شَفاً. وأنشد: [الرجز] 1559 - أدْرَكْتُهُ بِلاَ شَفاً، أوْ بِشَفَا ... وَالشَّمْسُ قَدْ كَادَتْ تكونُ دَنفَا قوله بلا بشفا: أي: غابت الشمسُ، وقوله: أو بشفا، أي: بقيت منه بقية. قال الراغب: والشفاء من المرض: موافاة شفا السلامة، وصار اسماً للبُرْء والشفاء. قال البخاري: قال النحاس: «الأصل في شفا - شَفَوٌ، ولهذا يُكْتَب بالألف، ولا يمال» . وقال الأخفش: «لما لم تَجُز فيه الإمالة عُرِفَ أنه من الواو» ؛ لأن الإمالةَ من الياء. قال المهدويّ: «وهذا تمثيل يُراد به خروجُهم من الكفر إلى الإيمان» . قوله: {فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا} في عَود هذا الضمير وجوه: أحدها: أنه عائد على «حُفْرَةٍ» . والثاني: أنه عائد على «النَّارِ» . قال الطبريّ: إن بعض الناس يُعيده على الشفا، وأنث من حيث كان الشفا مضافاً إلى مؤنث، كما قال جرير: [الوافر] 1560 - أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ قال ابن عطية: «وليس الأمر كما ذكروا؛ لأنه لا يُحتاج - في الآية - إلى مثل هذه الصناعة، إلا لو لم يجد للضمير مُعَاداً إلا الشفا، أما ومعنا لفظ مؤنث يعود الضميرُ عليه، ويُعَذِّده المعنى المتكلَّم فيه، فلا يحتاج إلى تلك الصناعة» . قال أبو حيان: «وأقول: لا يحسن عَوْدُه إلا على الشفا؛ لأن كينونتهم على الشفا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 447 هو أحد جزأي الإسناد، فالضمير لا يعود إلا عليه، وأما ذِكْرُ الحفرة، فإنما جاءت على سبيل الإضافة إليها، ألا ترى أنك إذا قلت: كان زَيْدٌ غلامَ جَعْفَر، لم يكن جعفر محدِّثاً عنه، وليس أحد جُزْأي الإسناد، وكذا لو قلتَ: زيد ضرب غلامَ هند، لم تُحَدِّث عن هند بشيء، وإنما ذكرت جعفراً وهنداً؛ تخصيصاً للمحدَّث عنه، وأما ذكر:» النَّارِ «فإنما ذُكِرَ لتخصيص الحُفْرة، وليست - أيضاً - أحد جزأي الإسناد، وليست أيضاً محدَّثاً عنها، فالإنقاذ من الشفا أبلغ من الإنقاذ من الحفرة من النار؛ لأن الإنقاذ منه يستلزم من الحُفْرة ومن النار، والإنقاذ منهما لا يستلزم الإنقاذ من الشفا، فعَوْدُه على الشفا هو الظاهر من حيث اللفظ ومن حيث المعنى» . قال الزجَّاج: «وقوله:» مِنْهَأ «الكناية راجعة إلى النار، لا إلى الشَّفَا؛ لأنَّ القصد الإنجاء من النار لا من شفا الحفرة» . وقال غيره: «الضمير عائد إلى الحُفْرَةِ؛ ولما أنقذهم من الحُفْرَةِ فقد أنقذهم من شَفَا الحفرة؛ لأن شفاها منها» . قال الواحديّ: على أنه يجوز أن يذكر المضاف إليه، ثم تعود الكناية إلى المضاف إليه - دون المضاف، كقول جرير: [الوافر] 1561 - أرَى مَرَّ السِّنِينَ أخَذْنَ مِنِّي ... كَمَا أخَذَ السِّرَارُ مِنَ الْهِلاَلِ كذلك قول العجاج: [الرجز] 1562 - طُولُ اللَّيَالِي أسْرَعَتْ فِي نَقْضِي ... طَوَيْنَ طُولِي وَطَوَيْنَ عَرضِي قال: وهذا إذا كان المضاف من جنس المضاف إليه، فإن مَرَّ السنين هو المسنون، وكذلك شفا الحُفْرة من الحفرة، فذكَّر الشَّفَا، وعادت الكناية إلى الحفرة. وهذان القولان نَصٌّ في رَدِّ ما قاله أبو حيان، إلا أن المعنى الذي ذكره أولَى؛ لأنه إذا أنقذهم من طَرف الحفرة فهو أبلغ من إنقاذهم من الحفرة، وما ذكره - أيضاً - من الصناعة واضح. قال بعضهم: «شَفَا الحُفْرة، وشفتها: طرفها، فجاز أن يخبر عنها بالتذكير والتأنيث» . والإنقاذ: التخليص والتنحِية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 448 قال الأزهَريُّ: «يقال: أنقذته، ونقذته، واستنقذته، وتنقَّذْتُه بمعنًى ويقال: فرس نقيذ، إذا كان مأخوذاً من قوم آخرين؛ لأنه استُنْقِذَ منهم» . والحفرة: فُعْلَة بمعنى: مفعولة، كغُرْفة بمعنى: مغروفة. فصل قيل معناه: إنكم كنتم مُشْرِفين على جهنمَ بكُفْركم؛ لأن جهنم مشبهة بالحُفْرة التي فيها النار، فجعل استحقاقهم النار بكفرهم، كالإشراف منهم على النار، والمصير منهم إلى حَرْفها، فبيَّن - تعالى - أنه أنقذهم من هذه الحُفرة، بعد أن قربوا من الوقوع فيها. قالت المعتزلة: ومعنى ذلك أن الله - تعالى - لطف بهم بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وسائر ألطافه حتى آمنوا. وقال أهل السنة: جميع الألطاف مشترك بين المؤمن والكافر، فلو كان فاعل الإيمان وموجده هو العبد لكان العبد هو الذي أنقذ نفسه من النار، والله - تعالى - حكم بأنه هو الذي أنقذهم من النار، فدل هذا على أنه خالق أفعال العباد. قوله تعالى: {كذلك يُبَيِّنُ الله} نعت لمصدر محذوف، أو حال من ضميره، أي: يبين الله لكم تَبْييناً مثل تبيينه لكم الآيات الواضحة، لكي تهتدوا بها. قال الجبائي: «الآية تدل على أنه - تعالى - يُريد منهم الاهتداء» . قال الواحدي: إن المعنى: لتكونوا على رَجاء هدايته. وهذا فيه ضَعْفٌ؛ لأن على هذا التقدير يلزم أن يريد الله منهم ذلك الرجاء، وعلى مذهبنا قد لا يريده. وأجاب غيره بأن كلمة «لَعَلَّ» للترجي، والمعنى: أنا فعلنا فعلاً يشبه فعل من يترجى ذلك. قوله: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير} اعلم أنه - تعالى - لما عاب على أهل الكتاب كفرهم وسعيهم في تكفير الغير خاطب المؤمنين بتقوى الله والإيمان به، فقال: {اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ واعتصموا بِحَبْلِ الله} ثم أمرهم بالسعي في إلقاء الغير في الإيمان والطاعة، فقال: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ} يجوز أن تكون التامة، أي: ولتوجد منكم أمة، فتكون «أمَّةٌ» : فاعلاً، و «يَدْعُونَ» : جملة في محل رفع صفة ل «أمة» ، و «مِنْكُمْ» متعلق ب «تكن» على أنها تبعيضية. ويجوز أن يكون: «مِنْكُمْ» متعلِّقاً بمحذوف على أنه حال من «أمَّةٌ» إذْ كان يجوز جعله صفةً لها لو تأخر عنها. ويجوز أن تكون «مِنْ» للبيان؛ لأن المبيَّن - وإن تأخر لفظاً - فهو متقدم رتبة. ويجوز أن تكون الناقصة، ف «أمةٌ» اسمها، و «يَدْعُونَ» خبرها، و «مِنْكُمْ» متعلق إمَّا بالكون، وإمَّا بمحذوف على الحال من «أمةٌ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 449 ويجوز أن يكون «مِنْكُمْ» هو الخبر، و «يَدْعُونَ» صفة ل «أمة» ، وفيه بُعد. وقرأ العامة: «وَلْتَكُنْ» بسكون اللام. وقرأ الحسن والزهريّ والسلميّ بكسرها، وهو الأصل. وقوله: {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} من باب ذكر الخاص بعد العام؛ اعتناء به - كقوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98]-؛ لأن اسم «الْخَيْر» يقع عليهما، بل هما أعظم الخيور. فصل قال بعض العلماء: «مِنْ» - هنا - ليست للتبعيض، لوجهين: الأول: أنه أوجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على كل الأمة. الثاني: أنه يجب على كل مكلَّف الأمر بالمعروف والنَّهْي عن المنكر - إما بيده، أو لسانه، أو بقلبه - فيكون معنى الآية: كونوا أمةً دُعاةً إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر. وكلمة: «مِنْ» : إنما هي للتبيين، كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ويقال: لفلان من أولاده جند، وللأمير من غِلْمانه عَسْكَر، والمراد: جميع الأولاد والغلمان لا بعضهم - فكذا هنا. ثم إذا قلنا بأنه يجب على الكُلِّ، فيسقط بفعل البعض، كقوله تعالى: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: 41] ، وقوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة: 39] فالأمر عامٌّ، ثم إذا قام به مَنْ يكفي، سقط التكليف عن الباقين والقائلون بالتبعيض اختلفوا على قولين: أحدهما: أن في القوم مَنْ لا يقدر على الدعوة، والأمر بالمعروف، والنَّهْي عن المنكر - كالمرضى والعاجزين. الثاني: أن هذا التكليف مختصّ بالعلماء؛ لأن الدعوة إلى الخير، والأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر مشروطة بالعلم بهم، ونظيره قوله تعالى: {الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة} [الحج: 41] وليس كل الناس يُمَكنون. وقوله: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ} [التوبة: 122] ، وأيضاً الإجماع على أن ذلك واجب على الكفاية، وإذا كان كذلك كان المعنى: ليقُمْ بذلك بعضُكم. وقال الضَّحَّاك: المراد بهذه الآية: أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنهم كاوا يتعلمون من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويعلّمون الناس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 450 قال القُرْطُبِيُّ: «وقرأ ابنُ الزبير: ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم» . قال ابن الأنباري: «هذه الزيادة تفسير من ابن الزبير، وكلام من كلامه، غلط فيه بعض الناقلين، فألحقه بألفاظ القرآن، يدل على ذلك أن عثمان بن عفان قرأ: ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويستعينون بالله على ما أصابهم. فما يشك عاقل في أن عثمان لا يعتد هذه الزيادة من القرآن؛ إذْ لم يكتبها في مصحفه الذي هو إمام المسلمين «. فصل قال المفسرون: الدعوة إلى الخير - أي: إلا الإسلام - والأمر بالمعروف، وهو الترغيب في فعل ما ينبغي، والنهي عن المنكر هو الترغيب في تَرْك ما لا ينبغي، {وأولئك هُمُ المفلحون} أي: العاملون بهذه الأعمال هم المفلحون الفائزون، وقد تقدم تفسيره. قال - عليه السلام -:» مَنْ أمَرَ بالْمَعْرُوفِ، وَنَهَى عَنِ المُنْكَرِ، كَانَ خَلِيفَةَ اللهِ، وَخلِيفَةَ رَسُولِهِ، وَخَلِيْفَةَ كِتَابِهِ «وقال - أيضاً -:» وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَتَأمُرنَّ بِالْمَعْرُوفِ، ولتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أوْ لَيُوشِكَنَّ اللهُ أنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ عِنْدِهِ ثُمَّ لَتدْعُنَّهُ فَلاَ يُسْتَجَابَ لَكُمْ «. قوله: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات} . قال أكثر المفسرين: هم اليهود والنصارى، وقال بعضهم: هم المُبْتَدِعَةُ من هذه الأمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 451 وقال أبو أمامةُ: هم الحرورية بالشام. وقال عبد الله بن شداد: وقف أبو أمامة - وأنا معه - على رؤوس الحرورية بالشام فقال: كلاب النار كانوا مؤمنين، فكفروا بعد إيمانهم، ثُمَّ قرأ: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا} الآية. وروى عمر بن الخطاب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» مَنْ سرَّه بَحْبُوحَةُ الجَنَّةِ فَعَلَيْهِ بِالْجَمَاعَةِ؛ فإنَّ الشَّيْطَانَ مَعَ الواحِدِ، وَهُوَ مِنَ الاثْنينِ أبْعَدُ «. وذكر الفعلَ في قوله: {وجَآءَهُمُ البينات} للفصل ولكونه غيرَ حقيقيِّ؛ لأنه بمعنى الدلائل. وقيل: لجواز حذف علامة التأنيث من الفعل - إذا كان فعل المؤنث متقدِّماً. والتفرق والافتراق واحد، ملا رَوَى أبو برزة - في حديث بيع الفرس -، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» البَيْعَانِ بِالْخِيَارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا، وَإنِّي لأرَاكُما قَدِ افْتَرَقْتُمَا «فجعل التفرُّقَ والافتراقَ بمعنًى واحدٍ، وهو أعلم بلغة الصحابة، وبكلام النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال القرطبي: وأهل اللغة فرَّقوا بين فَرَقْت - مخففاً - وفرَّقت مشدداً، فجعلوه - بالتخفيف - في الكلام، وبالتثقيل في الأبدان» . قال ثعلب: «أخبَرَني ابن الأعرابيّ، قال: يقال: فرَقْتُ بين الكلامين - مخففاً - فافترقا، وفرَّقْت بين الاثنين بالتشديد فتفرقا» . فجعل الافتراق في القول، والتفرق في الأبدان، وكلام أبي برزة يرد هذا. وقال بعضهم: {تَفَرَّقُواْ واختلفوا} معناهما مختلف. فقيل: تفرقوا بالعداوة، واختلفوا في الدين. وقيل: تفرقوا بسبب استخراج التأويلاتِ الفاسدةِ لتلك النصوصِ، واختلفوا في أن حاول كلُّ واحدٍ منهم نُصْرَةَ مَذْهَبِهِ. وقيل: تفرقوا بأبدانهم - بأن صار كل واحد من أولئك الأخيار رئيساً في بلدٍ. قوله: {وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} يعني: بسبب تفرُّقهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 452 في ناصب «يَوْمَ» أوجه: أحدها: أنه الاستقرار الذي تضمنه «لَهُمْ» والتقدير: وأولئك استقر لهم عذاب يوم تبيضُّ وجوه. وقيل: إن العامل فيه مضمر، تدل عليه الجملة السابقة، والتقدير: يُعَذَّبُونَ يوم تبيض وجوه. وقيل: اعاملَ فيه «عَظِيمٌ» وضُعِّفَ هذا بأنه يلزم تقييد عِظَمِهِ بهذا اليوم. وهذا التضعيف ضعيف؛ لأنه إذا عظم في هذا اليوم ففي غيره أوْلَى. قال شهابُ الدين: «وهذا غير لازم» ، قال: «وأيضاً فإنه مسكوت عنه فيما عدا هذا اليوم» . وقيل: إن العامل «عَذَابٌ» . وهذا ممتنع؛ لأن المصدر الموصوف لا يعمل بعد وصفه. وقيل: إنه منصوب بإضمار «اذكر» . وقرأ يحيى بن وثاب، وأبو نُهَيك، وأبو رُزَيْن العقيليّ: «تِبْيَضُّ» و «تِسْوَدُّ» - بكسر التاء - وهي لغة تميم. وقرأ الحسن والزهري وابن مُحَيْصِن، وأبُو الجَوْزَاءِ: تِبياضّ وتسوادّ - بألف فيهما - وهي أبلغ؛ فإن البياض أدلُّ على اتصاف الشيء بالبياض من ابيضَّ، ويجوز كسر حرف المضارعة - أيضاً - مع الألف، إلا أنه لم ينقل قراءةً لأحدٍ. فصل نظير هذه الآية قوله تعالى: {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] ، وقوله: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ} [يونس: 26] ، وقوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [القيامة: 22 - 25] ، وإذا عرفت هذا، ففي هذا البياض والسواد وجهان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 453 الأول: قال أبو مسلم: إن البياض عبارة عن الاستبشار، والسواد عبارة عن الغم، وهذا مجاز مستعمل قال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} [النحل: 58] . ويقال: لفلان عندي يَدٌ بيضاء. وقال بعضهم في الشيب: [الخفيف] 1563 - يَا بَيَاضَ الْقُرُونِ سَوَّدْتَ وَجْهِي ... عِنْدَ بِيضِ الْوُجُوهِ سُودِ الْقُرُون فَلَعَمْرِي لأخْفِيَنَّكَ جَهْدِي ... عَنْ عَيَانِي، وعَنْ عَيَانِ الْعُيُونِ بِسَوَادِ فِيهِ بَيَاضٌ لِوَجْهِي ... وَسَوَادٌ لِوَجْهِكَ المَلْعُونِ وتقول العرب - لمن نال بغيته، وفاز بمطلوبه -: ابيضَّ وجهه، ومعناه: الاستبشار والتهلل، ويقال - لمن وصل إليه مكروه -: ارْبَدَّ وجهه، واغبرَّ لونُه، وتغيرت صورته، فعلى هذا معنى الآية: إن المؤمن مستبشر بحسناته، وبنعيم الله، والكافر على ضد ذلك. الثاني: أن البياض والسواد يحصلان حقيقة؛ لأن اللفظ حقيقة فيهما، ولا دليل يصرفه، فوجب المصير إليه، ولأبي مسلم أن يقول: بل معنا دليل يصرفه، وهو قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ} [عبس: 38 - 41] ، فجعل الغَبَرةَ والقَتَرَة في مقابلة الضحك والاستبشار فلو لم يكن المراد ما ذكرنا من المجاز لما صح جعله مقابلاً له. فصل احتجوا بهذه الآية على أن المكلَّف إما مؤمن، وإما كافر، وليس - هنا - قسم ثالث كما قاله المعتزلة - فلو كان ثَمَّ ثالث لذكره، قالوا: ويؤيده قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} [عبس: 38 - 42] . وأجاب القاضي: بأن ترك القسم الثالث لا يدل على عدمه؛ لأنه تعالى قال: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} ، فذكرهما منكرين، وذلك لا يفيد العموم، وأيضاً فالمذكور في الآية هم المؤمنون والذين كفروا بعد إيمانهم، ومعلوم أن الكافر الأصليَّ من أهل النار، مع أنه لم يدخل في هذا التقسيم، فكذلك الفساق. وأجيب بوجهين: الأول: أن المراد منه كل مَنْ أسلم وقت استخراج الذريَّة من صُلْب آدم، رواه الواحدي في البسيط بإسناده عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيدخل الكل فيه. الثاني: أنه قال: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ، فجعل موجب العذاب هو الكفر، سواء كفر بعد الإيمان أو كان كافراً أصليًّا. قال الزمخشري: هم المنافقون، آمنوا بألسنتهم، وأنكروا بقلوبهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 454 وقال عكرمة: هم أهل الكتاب، آمنوا بأنبيائهم وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن يُبْعَث، فلما بُعِثَ كفروا به. قوله: {أكَفَرْتُمْ} هذه الجملة في مَحَلِّ نصب بقول مُضْمَرٍ، وذلك القول المضمر - مع فاء مضمرة - أيضاً - هو جواب «أما» ، وحذف الفاء مع القول مطرد، وذلك أن القول يُضْمَر كثيراً، كقوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23 - 24] . وقوله: {والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ} [الزمر: 3] ، وقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ} [البقرة: 127] ، وأما حذفها دون إضمار القول فلا يجوز إلا في ضرورة. كقوله: [الطويل] 1564 - فأمَّا الْقِتَالُ لا قَتالَ لَديْكُمُ ... وَلِكِنَّ سَيْراً في عِرَاضِ الْمَوَاكِبِ أي: فلا قتال. وقال صاحب «أسرار التنزيل» : إنّ النحاة اعترض عليهم - في قولهم: لما حذف يقال: حُذِفت الفاء؛ بقوله تعالى: {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ} [الجاثية: 31] ، فحذف يقال، ولم يحذف الفاء، فلما بطل هذا تعيَّن أن يكون الجواب في قوله: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ، فوقع ذلك جواباً له، ولقوله: {أَكَفَرْتُم} ومن نظم العرب - إذا ذكروا حرفاً يقتضي جواباً له - أن يكتفوا عن جوابه حتى يذكروا حرفاً آخر يقتضي جواباً، ثم يجعلون له جواباً واحداً، كما في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] ، فقوله: {فلا خوف عليهم} جواب للشرطين معاً، وليس «أفلم تكن آياتي» جواب «إما» بل الفاء عاطفة على مقدَّر، والتقدير: أأهملتكم، فلم أتل عليكم آياتي؟ قال أبو حيان: وهو كلام أديب لا كلام نحويّ، أما قوله: قد اعترض على النحاة، فيكفي في بُطْلان هذا الاعتراض أنه اعتراض على جميع النحاة؛ لأنه ما من نحويٍّ إلا خرَّج الآيةَ على إضمار: فيُقال لهم: أكفرتم، وقالوا: هذا هو فَحْوَى الخطابِ، وهو أن يكون في الكلام شيء مقدَّر لا يستغني المعنى عنه، فالقول بخلافه مخالف للإجماع، فلا التفات إليه. وأما ما اعترض به من قوله: {وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي} [الجاثية: 31] وأنهم قدروه: فيقال لهم: أفلم تكن آياتي، فحذف فيقال ولم تحذف الفاء، فدل على بطلان هذا التقدير - فليس بصحيح، بل هذه الفاء التي بعد الهمزة في «أفَلَمْ» ليست فاء «فيقال» التي هي جواب «أما» - حتى يقال: حذف «يقال» وبقيت الفاء، بل الفاء التي هي جواب «أما» و «يقال» بعدها - محذوف، وفاء «أفلم» يحتمل وجهين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 455 أحدهما: أن تكون زائدة. وقد أنشد النحويون على زيادة الفاء قول الشاعر: [الطويل] 1565 - يَمُوتُ أناسٌ أوْ يَشِيبُ فَتَاهُمُ ... وَيَحْدُثُ نَاسٌ، والصَّغِيرُ فِيَكْبُرُ أي: صغير يكبر، وقول الآخر: [الكامل] 1566 - لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِزمُهَا ... فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْضَبُ أي: تركت، وقول زُهير: [الطويل] 1567 - أرَانِي إذَا ما بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى ... فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا يريد ثم إذا. وقال الأخفش: «وزعموا أنهم يقولون: أخوك فوجد، يريدون: أخوك وجد» . والوجه الثاني: أن تكون الفاء تفسيرية، والتقدير: فيقال لهم ما يسوؤهم، «أفلم» تكن آياتي، ثم اعتني بحرف الاستفهام، فتقدمت على الفاء التفسيرية، كما تتقدم على الفاء التي للتعقيب في قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} [يوسف: 109] وهذا على رَأي من يثبت أن الفاء تفسيرية، نحو توضأ زيد فغسل وجهه ويديه. . إلى آخر أفعال الوضوء، فالفاء - هنا - ليت مرتِّبة، وإنما هي مفسِّرة للوضوء، كذلك تكون في {أفلم تكن آياتي تتلى عليكم} مفسرة للقول الذي يسوؤهم. وقوله: فلما بطل هذا تعين أن يكون الجواب: «تذوقوا» ، أي: تعيَّن بطلان حذف ما قدَّره النحويون، من قوله: «فيقال لهم» ؛ لوجود هذه الفاء في «أفلم تكن» ، وقد بيَّنَّا أن ذلك التقدير لم يبطل؛ وأنه سواء في الآيتين، وإذا كان كذلك فجواب: «أما» هو فيقال - في الموضعين - ومعنى الكلام عليه، وأما تقديره: أأهملتكم فلم تكن آياتي تتلى عليكم؟ فهذه نزعة زمخشرية، وذلك أن الزمخشريَّ يقدِّر بين همزة الاستفهام وبين الفاء فِعْلاً يصح عطف ما بعدها عليه، ولا يعتقد أن الفاء والواو، و «ثم» إذا دخلت عليها الهمزة - أصلهن التقديم على الهمزة، لكن اعتني بالاستفهام، فقدم على حرف العطف - كما ذهب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 456 إليه سيبويه وغيره من النحويين - وقد رجع الزمخشريّ إلى مذهب الجماعة في ذلك، وبطلان قول الأول مذكور في النحو وقد تقدم - في هذا الكتاب - حكاية مذهب الجماعة في ذلك، وعلى تقدير قول هذا الرجل - أأهملتكم فلم تكن آياتي، لا بدّ من إذمار القول، وتقديره: فيقال: أاهملتكم؛ لأن هذا المقدَّر هو خبر المبتدأ، والفاء جواب «أما» ، وهو الذي يدل عليه الكلام، ويقتضيه ضرورة. وقول هذا الرجل: فوعق ذلك جواباً له ولقوله: «أكفرتم» يعني: أن «فذوقوا العذاب» جواب ل «أما» ولقوله: «أكفرتم» والاستفهام - هنا - لا جواب له إنما هو استفهام على طريق التوبيخ والإرذال بهم. وأما قول هذا الرجل: ومن نظم العرب إلى آخره، فليس كلام العرب على ما زعم، بل يُجْعَل لكُلٍّ جوابٌ، إن لا يكن ظاهراً فمقدَّر، ولا يجعلون لهما جواباً واحداً. وأما دعواه ذلك في قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى} [البقرة: 38] وزعمه أن قوله تعالى: {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] . انتهى. والهمزة في «أكَفَرْتُمْ» للإنكار عليهم، والتوبيخ لهم، والتعجُّب من حالهم. وفي قوله: «أكَفَرْتُمْ» نوع من الالتفات، وهو المُسَمَّى عند علماء البيان بتلوين الخطاب، وذلك أن قوله: {فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ} في حكم الغيبة، وقوله - بعد ذلك «أكَفَرْتُمْ» خطاب مواجهة. قوله: {فَذُوقُوا} من باب الاستعارة، جعل العذاب شيئاً يُدْرَك بحاسَّةِ الأكْل، والذوق؛ تصويراً له بصورة ما يُذَاق. وقوله: {بِمَا كُنْتُمْ} الباء سببية، و «ما» مصدرية، ولا تكون بمعنى: الذي؛ لاحتياجها إلى العائد، وتقديره غير جائز، لعدم الشروط المجوِّزة لحَذْفِه. فإن قيل: إنه - تعالى - قدَّم الذين ابيضَّت وجوهُهُمْ - في التقسيم - على الذين اسودَّت وجوهُهُم وكان حق الترتيب أن يقدِّمَهم في البيان. فالجواب: أن الواو للجمع لا للترتيب، وأيضاً فالمقصود إيصال الرحمة، لا ابتداء العذاب، فابتدأ بذكر أهل الثواب، لأنهم أشرف، ثم ختم بذكرهم، تنبيهاً على أن إرادة الرحمة أكثر من إرادة الغضب، كما قال: {سبقت رحمتي غضبي} ، وأيضاً فالفصحاء والشعراء قالوا: يجب أن يكون مطلع الكلام ومقطعه شيئاً يسر الطبع، ويشرح الصدر - وذكر رحمة الله تعالى كذلك - فلا جرم ابتدأ بذكر أهل الثواب، وختم بذكرهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 457 قوله: {وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . قال ابنُ عباس: هي الجنة. قال المحققون: هذا إشارة إلى أن العبد - وإن كثرة طاعاتُه - لا يدخل الجنة إلا برحمة الله؛ وذلك لأن العبد ما دامت داعيته إلى الفعل، والترك سواء، يمتنع منه الفعل، فإذا لم يحصل رُجْحان داعية الطاعة، لم تحصل منه الطاعة، وذلك الرُّجْحان لا يكون إلا بخلق الله - تعالى - فإذن صدور تلك الطاعة من العبد نعمة من الله تعالى في حق العبد، فكيف يصير ذلك موجباً على الله شيئاً كما تقوله المعتزلة؟ فثبت أن دخول الجنة لا يكون إلا بفضل الله - تعالى - وبرحمته، وبكرمه، لا باستحقاقنا. قرأ أبو الجزاء، وابنُ يَعْمُرَ: اسْوَادَّتْ، وابياضَّتْ - بألف - وقد تقدمت قراءتهما: تبياض، وتسوادُّ، وهذا قياسها، وأصْل «افْعَلَّ» هذا أن يكون دالاً على عَيْبٍ حِسِّيٍّ - ك «اعورَّ واسود واحْمَرَّ» - وأن لا يكون من مضعف كأجَمَّ، ولا معتل اللام كألْمَى، وأن يكون للمطاوعة، وندر نحو انقضَّ الحائط، وابْهَارَّ الليل، واشعارَّ الرجل - تفرَّق شَعْرُه - إذْ لا دلالةَ فيه على عَيْبٍ، ولا لون، وندر - أيضاً - ارْعَوَى، فإنه معتل اللام، مطاوع لرعوته - بمعنى، كففته - وليس دالاًّ على عيب، ولا لون، وأما دخول الألف في «افْعَلَّ» هذا - فدالٌّ على عُرُوضِ ذلك المعنى، وعدمها دالٌّ على ثبوته واستقراره، فإذا قلتَ: اسوادَّ وجْهُه، دلَّ على اتصافه بالسواد من غير عُروض فيه، وإذا قلت: اسوادَّ، دل على حدوثه، هذا هو الغالب، وقد يُعْكَس، قال تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64]- فالقصد الدلالة على لزوم الوصف بذلك للجنتين - وقال: {تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} [الكهف: 17] القصد به العروض لازورار الشمس، لا الثبوت والاستقرار - كذا قيل - وفيه نظر؛ لأن المقصود وَصْف الشمس بهذه الصفة الثابتة بالنسبة إلى هؤلاء القوم خاصَّة. فصل قال بعض المفسرين: بياض الوجوه وسوادها، إنما يحصل عند قيامهم من قبورهم للبعث، فتكون وجوه المؤمنين مبيضة، ووجوه الكافرين مسودة. وقيل: عند الميزان، إذا رجحت حسناته ابْيَضَّ وجهه، وإذا رجحت سيئاته اسوَدَّ وجهه. قيل: إن ذلك عند قراءة الكتاب، إذ قرأ المؤمن كتابه، فرأى حسناته استبشر، ابيضَّ وجْهُه، وإذا قرأ الكافر كتابَه، فرأى سيئاته اسوَدَّ وجهه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 458 وقيل: إن ذلك عند قوله تعالى: {وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون} [يس: 59] . قيل: يُؤمَرُ كلُّ فريق بأن يجتمع إلى معبوده، فإذا انتهَوا إليه حزنوا واسودَّتْ وجوهُهُمْ. قوله: {فَفِي رَحْمَةِ الله} فيها وجهان: أحدهما: أن الجارَّ متعلق ب «خالِدُونَ» ، و «فِيهَا» تأكيد لفظي للحرف، والتقدير: فهم خالدون في رحمة الله فيها. وقد تقرر أنه لا يؤكد الحرف تأكيداً لفظياً، إلا بإعادة ما دخل عليه، أو بإعادة ضميره - كهذه الآية - ولا يجوز أن يعود - وحْدَه - إلا في ضرورةٍ. كقوله: [الرجز] 1568 - حَتَّى تَرَاهَا وكَأنَّ وكأنْ ... أعْنَاقَهَا مُشَدَّدَاتٌ بِقَرَنْ كذا ينشدون هذا البيت. وأصرح منه في الباب - قول الشاعر: [الوافر] 1569 - فَلاَ وَاللهِ لا يُلْقَى لِمَا بِي ... وَلاَ لِلِمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ ويحسن ذلك إذا اختلف لفظهما. كقوله: [الطويل] 1570 - فَأصْبَحْنَ لا يَسْألْنني عَنْ بِمَا بِهِ ... أصَعَّدَ في عُلُوِ الْهَوَى أمْ تَصَوَّيَا للهم إلا أن يكون ذلك الحرفُ قائماً مقام جملة، فيُكَرَّر - وحده - كحروف الجواب، مثل: نَعَمْ نَعَمْ، وبلى بلى، ولا لا. والثاني: أن قوله: {فَفِي رَحْمَةِ الله} : خبر لمبتدأ مُضْمَر، والجملة - بأسْرها - جواب: «أما» والتقدير: فهم مستقرون في رحمة الله، وتكون الجملة - بعده - من قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} جملة مستقلة من مبتدأ وخبر، دلت على أن الاستقرار في الرحمة على سبيل الخلود، فلا تعلُّق لها بالجملة قبلها من حيث الإعراب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 459 قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: كيف موقع قوله: {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} بعد قوله: {فَفِي رَحْمَةِ الله} ؟ قلت: موقع الاستئناف، كأنه قيل: كيف يكونون فيها؟ فقيل: هم فيها خالدون، لا يظنعون عها، ولا يموتون. فإن قيل: الكُفَّار مخلَّدون في النار، كما أن المؤمنين مخلَّدون في الجنة، فما الحكمة في ذكر خلود المؤمنين ولم يذكر خلود الكافرين؟ فالجواب: أن ذلك يُشْعِر بأنَّ جانبَ الرحمةِ أغْلَب؛ لأنه ابتدأ بذكر أهل الرحمة، وختم بهم، لمَّا ذكر العذابَ لم يُضِفْه إلى نفسه، بل قال: {فَذُوقُواْ العذاب} ، وأضاف ذكر الرحمة إلى نفسه، فقال: {فَفِي رَحْمَةِ الله} ، ولما ذكر العذاب ما نصَّ على الخلود، ونصَّ عليه في جانب الرحمة، ولما ذكر العذاب علله بفعلهم، فقال: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} ولما ذكر الثواب علَّلَه برحمته، فقال: {فَفِي رَحْمَةِ الله} ثم قال - في آخر الآية -: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108] ، وكل ذلك يُشْعِر بأن جانبَ الرحمة مُغَلَّب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 460 قوله: «تلْكَ» مبتدأ، {آيَاتُ الله} خبره، و «نَْلُوهَا» جملة حالية. وقيل: {آيَاتُ الله} بدل من «تِلْكَ» ، و «نَتْلُوها» جملة واقعة خبر المتبدأ، و «بِالحَقِّ» حال من فاعل «نتلُوهَا» ، أو مفعولة، وهي حال مؤكدة؛ لأنه - تعالى - لا ينزلها إلا على هذه الصفة. وقال الزَّجَّاج: «في الكلام حذف، تقديره: تلك آيات القرآن حُجَجُ الله ودلائله» . قال أبو حيان: فعلى هذا الذي قدَّره يكون خبر المبتدأ محذوفاً؛ لأنه عنده بهذا التقدير يتم معنى الآية، وهذا التقدير لا حاجة إليه؛ [إذ الكلام مُسْتَغْنٍ عنه، تامٌّ بنفسه] . والإشارة ب «تِلْكَ» إلى الآيات المتقدمة المتضمنة تعذيب الكفار، وتنعيم الأبرار، وإنما جاز إقامة «تلك» مقام هذه؛ لأن هذه الآيات المذكورة قد انقضت بعد الذكر، فصارت كأنها بعدت، فقيل فيها: «تلك» . وقيل: لأن الله - تعالى - وعده أن يُنزل عليه كتاباً مشتملاً على ما لا بدّ منه في الدين، فلما أنزل هذه الآيات قال: تلك الآيات الموعودة هي التي نتلوها عليك. وقرأ العامة «نَتْلُوها» - بنون العظمة - وفيه التفات من الغيبة إلى التكلَّم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 460 وقرأ أبو نُهَيْك: «يتلوها» بالياء - من تحت - وفيه احتمالان: أحدهما: أن يكون الفاعل ضمير الباري - تعالى - لتقدُّم ذكره في قوله: {آيَاتُ الله} ولا التفات في هذا التقدير، بخلاف قراءة العامة. الثاني: أن يكون الفاعل ضمير جبريل. قوله: {بالحق} فيه وجهان: لأول: ملتبسة بالحق والعدل من جزاء المحسن والمسيء بما يستوجبانه. الثاني: بالحق، أي: بالمعنى الحق؛ لأن معنى المتلُوِّ حَقّ. قوله: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} اللام - في «لِلْعَالَمِينَ» - زائدة - لا تعلُّق لها بشيء، زيدت في مفعول المصدر وهو ظلم والفاعل محذوف، وهو - في التقدير - ضمير الباري، والتقدير: وما الله يريد أن يظلم العالمين، فزيدت اللام، تقوية للعامل؛ لكونه فرعاً، كقوله: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] . فصل وقيل: معنى الكلام: وما الله يريد ظلم العالمين بعضهم لبعض، ورُدَّ هذا بأنه لو كان المراد هذا لكان التركيب ب «من» أولى منه باللام، فكان يقال: ظلماً من العالمين، فهذا معنى ينبو عنه اللفظ. ونكر «ظلماً» ؛ لأنه في سياق النفي، فهو يعم كل أنواع الظلم، وحسن ذكر الظلم - هنا -، لأنه تقدم ذكر العقوبة الشديدة، وهو تعالى أكرم الأكرمين، فكأنه - تعالى يعتذر عن ذلك، فقال: إنهم إنما وقعوا في هذا العذاب بسبب أفعالهم. فصل قال الجبائي: هذه الآية تدل على أنه - تعالى - لا يريد شيئاً من القبائح، لا من أفعاله، ولا من أفعال عباده ولا يفعل شيئاً من ذلك، لأن الظلم إما أن يُفْرَض صدوره من الله - تعالى - أو من العبد، وصدوره من العبد إما أن يظلم العبد نفسه بعصيانه - أو يظلم غيره، فهذه الأقسام الثلاثة هي أقسام الظلم، وقوله: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} نكرة في سياق النفي، فوجب ألا يريد شيئاً يكون ظلماً، سواء كان منه أو من غيره، وإذا ثبت ذلك وجب أن لا يفعل الظلم أصلاً - ويلزم منه أن يكون فاعلاً لأعمال العباد؛ لأن من جملة أعمالهم ظلمهم لأنفسهم، وظلم بعضهم لبعض، فثبت بهذه الآية أنه - تعالى - غير فاعل للظلم، وغير فاعل لأعمال العباد، وغير مريد للقبائح من أفعال العباد، قالوا: ويؤيده قوله - بعد ذلك -: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [آل عمران: 109] وإنما ذكر هذه الآية - عقيب ما تقدم - لوجهين: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 461 الأول: أنه لما ذكر أنه لا يريد الظلم والقبائح، استدل عليه بأن فاعل القبيح، إنما يفعل القبيح إما للجهل، أو للعجز، أو للحاجة، وكل ذلك - على الله - محال؛ لأنه مالك لكل ما في السموات وما في الأرض وهذه المالكية تنافي العَجْزَ والجَهْلَ والحاجة، فامتنع كونه فاعلاً للقبيح. الثاني: أنه لما ذكر أنه لا يريد الظلم بوجهٍ من الوجوه، كان لقائل أن يقولَ: إنا نشاهد وجودَ الظلم في العالم، فإذا لم يكن وقوعه بإرادة الله - تعالى - ك ان على خلاف إرادته، فيلزم منه كونه ضعيفاً عاجزاً مغلوباً، وذلك محال. فأجاب الله - تعالى - بقوله: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} أي: أنه تعالى قادر على أن يمنع الظلم عن الظالم - على سبيل الإلجاء والقَهْر - وإذا كان قادراً على ذلك لا يكون عاجزاً، ضعيفاً؛ إلا أنه - تعالى - أراد منهم ترك المعصية - اختياراً - ليستحقوا الثواب، فلو قهرهم على الترك لبطلت هذه الفائدة. وأجيب بأن المراد من الآية أنه - تعالى - لا يريد أن يظلم أحداً من عباده. وقوله: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} يدل على كونه خالقاً لأفعالِ العبادِ؛ لأن أفعالَ العبادِ من جملة ما في السموات وما في الأرض. وأجاب الجبائي: بأن قوله: «ولله» إضافة ملك، لا إضافة فعل، ألا ترى أنه يقال: هذا البناء لفلان. ويريدون أنه مملوكه، لا أنه مفعوله، وأيضاً فالمقصود من الآية تعظيم الله - تعالى - لنفسه، وتَمدُّحه لإلهية نفسه، ولا يجوز أن يتمدح بأن ينسب غلى نفسه الأفعال القبيحة، وأيضاً فقوله: {مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ، إنما يتناول ما كان مظروفاً في السموات والأرض، وذلك من صفات الأجسام، لا مِنْ صفات الأفعال التي هي أعراض. وأجيب بأن هذه إضافة الفعل؛ لأن القادر على الحَسَن والقبيح، لا يرجح الحَسَن على القبيح إذا حصل في قلبه ما يدعوه إلى الفعل الحَسَن، وتلك الداعية حاصلة بتخليق الله - تعالى - دَفْعاً للتسلسل، ولمَّا كان المؤثِّر في حصول فعل العبد هي مجموع القدرة والداعية بخلق الله - تعالى - ثبت أن فعل العبد مخلوق لله تعالى. وقوله: {وإلى الله تُرْجَعُ الأمور} المراد منه رجوع الخلق إلى حُكمه وقضائه، لا لحكم غيره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 462 في «كان» هذه - ستة أقوال: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 462 أحدها: أنها ناقصة على بابها - وإذا كانت كذلك، فلا دلالة لها على مُضِيٍّ وانقطاع، بل تصلح للانقطاع نحو: كان زيدٌ قائماً، وتصلح للدوام، كقوله: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 96] ، وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] ، فهي - هنا - بمنزلة: لم يزل، وهذا بحسب القرائن. وقال الزمخشري: «كان عبارة عن وجود الشيء في زمنٍ ماضٍ، على سبيل الإبهام، وليس فيه دليل على عدم سابق، ولا على انقطاع طارئ، ومنه قوله تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} ، وقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] . كأنه قيل: وُجِدتم خيرَ أمة» . قال أبو حيان: قوله: «لم يدل على عدم سابق» ، هذا إذا لم يكن بمعنى: «صار» ، فإذا كان بمعنى: «صار» دلت على عدم سابق، فإذا قلتَ: كان زيدٌ عالماً - بمعنى: صار زيدٌ عالماً - دل على أنه نقل من حالة الجَهْل إلى حالة العلم. وقوله:؛ «ولا على انقطاع طارئ» ، قد ذكرنا - قبل - أن الصحيح أنها كسائر الأفعال، يدل لفظ المُضِيّ منها على الانقطاع، ثم قد يستعمل حيث لا انقطاع، وفرق بين الدلالة والاستعمال؛ ألا ترى أنك تقول: «هذا اللفظ يدل على العموم» ثم قد يستعمل حيث لا يراد العموم، بل يراد الخصوص. وقوله: كأنه قيل: «وجتم خير أمة» ، هذا يعارض قوله: إنها مثل قوله: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} ؛ لأن تقديره: وجدتم خير أمة يدل على أنها التامة، وأن {خَيْرَ أُمَّةٍ} حال، وقوله: {وكان الله غفوراً رحيماً} لا شك أنها - هنا - الناقصة، فتعارضا. قال شهابُ الدين: «لا تعرُضَ؛ لأن هذا تفسير معنًى، لا إعراب» . الثاني: أنها بمعنى: «صرتم» ، و «كان» تأتي بمعنى: «صار» كثيراً. كقوله: [الطويل] 1571 - بِتَيْهَاءَ قَفْرٍ وَالْمَطِيُّ كأنَّهَا ... قَطَا الْحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُهَا أي: صارت فراخاً. الثالث: أنها تامة، بمعنى: «وجدتم» ، و {خَيْرَ أُمَّةٍ} - على هذا منصوب على الحال، أي: وجدتم على هذه الحال. الرابع:؛ أنها زائدة، والتقدير: أنتم خير أمة، وهذا قول مرجوح، أو غلط، لوجهين: أحدهما: أنها لا تزاد أولاً، وقد نقل ابنُ مالك الاتفاق على ذلك. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 463 الثاني: أنها لا تعمل في «خير» مع زيادتها. وفي الثاني نظر، إذ الزيادة لا تنافي العمل، لما تقدم عند قوله: «وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله» ؟ الخامس: أنها على بابها، والمراد: كنتم في علم الله، أو في اللوح المحفوظ، أو في الأمم السالفة، مذكورين بأنكم خير أمة. السادس: أن هذه الجملة متصلة بقوله: «ففي رحمة الله» ، أي: فيقال لهم يوم القيامة: «كنتم خير أمة» ، وهو بعيد جِدًّا. قوله: {أُخْرِجَتْ} يجوز في هذه الجملة أن تكون في مَحَلِّ جَرٍّ؛ نعتاً ل «أمةٍ» - وهو الظاهر - وأن تكون في محل نصب؛ نعتاً ل «خَيْر» ، وحينئذ يكون قد روعي لفظ الاسم الظاهر بعد وروده بعد ضمير الخطاب، ولو روعي ضمير الخطاب لكان جائزاً - أيضاً - وذلك أنه إذا تقدم ضميرُ حاضرٍ - متكلِّماً كان أو غائباً أو ماطباً - ثم جاء بعده خبره اسماً ظاهراً، ثم جاء بعد ذلك الاسم الظاهر ما يصلح أن يكون وصفاً له كان للعرب فيه طريقان: أحدهما: مراعاة ذلك الضمير السابق، فيطابقه بما في تلك الجملة الواقعة صفة للاسم الظاهر. الثانية: مراعاة ذلك الاسم الظاهر، فيبعد الضمير عليه منها غائباً، وذلك كقولك: أنت رجل يأمر بالمعروف، بالخطاب، مراعاة ل «أنت» ، وبالغيبة، مراعاة للفظ «رجل» ، وأنا امرؤ أقول الحق - بالمتكلم؛ مراعاة ل «أنا» ويقول الحقّ، مراعاة لمرئٍ، وبالغيبة مراعة للفظ امرئ، ومن مراعاة الضمير قوله تعالى: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} [النمل: 55] ، وقوله: {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ} [النمل: 47] ، وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ» . وقول الشاعر: [الطويل] 1572 - وَأنْتَ امْرُؤٌ قَدْ كَثَّأتْ لَكَ لِحْيَةٌ ... كَأنَّكَ مِنْهَا قَاعِدٌ في جُوَالِقِ ولو قيل: - في الآية الكريمة -: أخْرِجْتُمْ؛ مراعاة ل «كُنْتُمْ» لكان جائزاً - من حيث الجزء: 5 ¦ الصفحة: 464 اللفظ - ولكن لا يجوز أن يُقْرأ به؛ لأن القراءةَ سنَّة مُتَّبَعَةٌ، فالأولَى أن تُجْعَل الجملة صفة ل «أمَّةٍ» ، لا ل «خَيْرَ» ن لتناسب الخطاب في قوله: {تَاْمُرُونَ} . قوله: {لِلنَّاسِ} فيه أوجه: أحدها: أن تتعلق ب {أُخْرِجَتْ} ومعناه: ما أخرج الله أمة خيراً من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وفي الحديث: «ألا وَإنَّ هَذِه الأمة تُوفِّي سبعين أمة، أنتم خَيْرُهَا وَأكْرَمُهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى» . الثاني: أنه متعلق ب «خَيْرَ» أي: أنتم خير الناس للناس. قال أبو هريرة: معناه:؛ كنتم خير الناس للناس؛ تجيئون بهم في السلاسل، فتُدْخلونهم في الإسلام. وقال قتادة: هم أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يؤمر نبيٌّ قبله بالقتال، فهم يقاتلون الكفار، فيُدْخلونهم في الإسلام، فهم خير أمةٍ للناس. والفرق بينهما - من حيث المعنى - أنه لا يلزم أن يكونوا أفضلَ الأمم - في الوجه الثاني - من هذا اللفظ بل من موضع آخرَ. الثالث: أنه متعلِّق - من حيث المعنى، لا من حيث الإعراب، ب «تَأمُرُونَ» على أن مجرورَها مفعول به، فلما تقدم ضَعُفَ العامل، فَقُوِّيَ بزيادة اللام، كقوله: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] أي: إن كنتم تعبرون الرؤيا. قوله: {تَأْمُرُونَ} في هذه الجملة أوجُهٌ: الأول: أنها خبر ثان لِ «كُنْتُمْ» ، ويكون قد راعى الضمير المتقدم - في «كُنْتُمْ» ، ولو راعى الخبر لقال: يأمرون - بالغيبة، وقد تقدم تحقيقه. الثاني: أنها في محل نصب على الحال، قاله الراغب وابن عطية. الثالث: أنها في محل نصب؛ نعتاً لِ {خَيْرَ أُمَّةٍ} ، وأتى بالخطاب لما تقدم، قاله الحوفي. الرابع: أنها مستأنفة، بيَّن بها كونهم خير أمة، كأنه قيل: السبب في كونكم خير الأمم هذه الخصال الحميدة، والمقصود بيان علة تلك الخيرية - كقولك: زيد كريم؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 465 يُطعِم الناسَ ويكسوهم - لأن ذِكْرَ الحكم مقروناً بالوصف المناسِب له يُشْعِر بالعلِّيَّةِ، فها هنا لما ذكر - عقيب الخيرية - أمْرَهم بالمعروف، ونَهْيَهُم عن المنكر، أوجب أن تكون تلك الخيرية لهذا السبب، وهذا أغرب الأوجه. فصل في كيفية النظم وجهان: أحدهما: أنه لما حذَّر المؤمنين من أن يكونوا مثل أهل الكتاب - في التفرُّق والاختلاف، وذكر ثواب المطيعين، وعقاب الكافرين، وكان الغرض من ذلك حَمْلَ المؤمنين على الانقياد والطاعة، أرْدَفه بطريق آخر يقتضي الحمل على الانقياد والطاعة، فقال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} ، فاللائق بكم ألا تُبْطِلوا على أنفسكم هذه الفضيلة المحمودة، وإن كنتم منقادين للطاعات. الثاني: أنه - تعالى - لما ذكر وعيدَ الأشقياء، وتسويد وجوههم - ونبَّه على السبب بقوله: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108] يعني: أنهم إنما استحقُّوا ذلك بأفعالهم القبيحةِ؛ نبَّه في هذه الآية على سبب وعد السعداء بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} يعني: أن تلك السعدات التي فازوا بها في الآخرة؛ لأنهم كانوا خير أمةٍ أخْرِجَتْ للناس. قال عكرمة، ومُقَاتِلٌ: نزلت في ابن مسعود، وأبَي بن كعب، ومُعَاذِ بن جبلٍ، وسالم مولي أبي حذيفة، وذلك أن مالك بن الصيف، ووهب بن يهوذا اليهوديَّيْن قالا لهم: نحن أفضل منكم، وديننا خير مما تدعوننا إليه. [فأنزل الله هذه الآية] . وروى الترمذيُّ - عن بَهْز بن حكيم، عن أبيه، عن جده - أنه سمع النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول - في قوله تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} قال: «أنْتُمْ تُتِمُّونَ سَبْعِينَ أمَّةً، أنْتُمْ خَيْرُهَا وَأكْرَمُهَا عَلَى اللهِ تَعَالَى» قال: هذا حديث حسن. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} قال: هم الذين هاجروا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة. وقال جويبر - عن الضَّحَّاك -: هم أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصَّة الدعاة والرواة الذين أمر الله المسلمين بطاعتهم. وروي عن عمر بن الخطاب، قال: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} تكون لأولنا، ولا تكون لآخرنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 466 وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «خَيْرُكم قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - قال عمران بن حصين: لا أدري، أذَكَر النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد قرنه قرنين أم ثلاثة؟ - ثم إن بعدكم قوماً يخونون ولا يُؤتَمَنُون، ويَشهدون ولا يُستشهَدون، ويَنْذِرون ولا يُوفون، ويظهر فيهم السمن» . فصل قال القفال: أصل الأمة: الطائفة المجتمعة على الشيء الواحد، فأمة نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، هم الجماعة الموصوفون بالإيمان به، والإقرار بنبوته، وقد يُقال - لكل من جمعته الدعوة - إنهم أمته، إلا أن لفظ: «الأمة» إذا أطْلِقَت وَحْدَها، وقع على الأول، إلا أنه إذا قيل: أجمعت الأمة على كذا، فهم منه الأول، قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أمَّتِي لا تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلالَةٍ» وروي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول - يوم القيامة -: «أمتي، أمَّتِي» ، فلفظ «الأمة» في هذه المواضع وأشباهها - يُفْهَم منه المُقِرُّون بنبوته، فأما أهل دعوته فإنهم إنما يُقال لهم: أمَّة الدعوة، ولا يطلق عليهم لفظ «الأمة» إلا بهذا الشرط. فصل احتج بعض العلماء بهذه الآية على أن إجماعَ الأمة حجة من وجهين: الأول: أنه - تعالى - قال: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] ثم قال - في هذه الآية: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} ، فوجب أن تكون - بحكم هذه الآية - هذه الأمة أفضل من تلك الأمة، الذين يهدون بالحق من قوم موسى، وإذا كان كذلك وجب أن تكون هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق، إذْ لو جاز - في هذه الأمة - أن تحكم بما ليس بحَقٍّ، لامتنع كونهم أفضل من الأمة التي تهدي بالحق؛ لأن المبطل لا يكون خيراً من الحَقِّ، وإذا ثبت أن هذه الأمة لا تحكم إلا بالحق كان إجماعهم حجة. الثاني: أن الألف واللام في لفظ: «املعروف» ، و «المنكر» ، يفيدان الاستقرار، وهذا يقتضي كونهم آمرين بكل معروف، وناهين عن كل منكرٍ، ومتى كانوا كذلك كان إجماعهم حقًّا، وصدقاً - لا محالة - فكان حُجَّةً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 467 فإن قيل: الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والإيمان بالله، هذه الصفات الثلاث كانت حاصلة في سائر الأمم، فمن أي وَجْهٍ كانت هذه الأمة خير الأمم؟ والجواب: قال القفال: إن تفضيلهم على سائر الأمم الذين كانوا قبلهم إنما حصل لأجل أنهم يأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر بآكد الوجوه - وهو القتال -: لأن الأمر بالمعروف قد يكون بالقلب وباللسان، واليد، وأقواها القتال؛ لأنه إلقاء للنفس في خطر القتل، وأعرف المعروفات الدين الحق، والإيمان بالتوحيد والنبوة، وأنكر المنكرات الكفر بالله، فلما كان الجهاد في الدين تحملاً لأعظم المضارّ؛ لغرض إيصال الغير إلى أعظم المنافع، وتخليصه من أعظم المضار، وجب أن يكون الجهاد أعظم العبادات، وهو في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع - فلا جرم - صار ذلك موجباً لفَضْل العبادات، وهو في شرعنا أقوى منه في سائر الشرائع - فلا جرم - صار ذلك موجباً لفَضْل هذه الأمة على سائر الأمم. وهذا معنى ما روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} تأمرونهم أن يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويُقِرُّوا بما أنزل الله، وتقاتلونهم عليه، و «لا إله إلا الله» أعظم المعروف، والتكذيب هو أنكر المنكر. ثم قال القفال: فائدة: القتال على الدين لا يُنكره مُنْصف، لأن أكثر الناس يحبون أديانهم بسبب الإلف والعادة، ولا يتأملون في الدلائل الواردة عليهم، فإذا أكره - بالتخويف بالقتل - على الدخول في الدين، دخل فيه، ثم لا يزال يَضْعُف في قلبه ما كان من حب الباطل، ويقوى حُبُّ الدين الحقِّ في قلبه إلى أن ينتقل من الباطل إلى الحقّ، ومن استحقاق العذاب الأليم إلى استحقاقِ الثوابِ الدائم، والنعيم المقيم. فإن قيل: لم قدم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر على الإيمان بالله، في الذكر - مع أن الإيمان بالله - لا بد وأن يكون مُقَدَّماً على كل الطاعات. فالجواب: أن الإيمان بالله مشترك فيه بين جميع الأمم المُحِقَّةِ، ثم إنه - تعالى - ذكر أن فَضْل هذه الأمَّة أقوى حالاً - في الأمر بالمعروف، والنَّهْيِ عن المنكر - من سائر الأمم، فالمؤثر - إذَنْ - في هذه الخيرية هو الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وأما الإيمان بالله فهو شرط لتأثير هذا المؤثر في هذا الحكم؛ لأنه ما لم يوجد الإيمان لم يصر شيء من الطاعات وصْفاً من صفات الخيرية. فإن قيل: لم اكتفى بذكر الإيمان بالله، ولم يذكر الإيمان بالنبوة، مع أنه لا بُدَّ منه؟ فالجواب: أنّ الإيمان بالله يستلزم الإيمان بالنبوة، لأن الإيمان بالله لا يحصل إلا إذا حصل الإيمان بكونه صادقاً، والإيمان بكونه صادقاً لا يحصل إلا إذا كان الذي أظهر الجزء: 5 ¦ الصفحة: 468 المعجزة، على وفق دعواه صادقاً؛ لأن المعجز قائم مقام التصديق بالقول، فلما شاهد ظهور المعجز على وفق دعوى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان من ضرورة الإيمان بالله الإيمان بنبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان الاقتصار على ذِكْر الإيمان بالله تنبيهاً على هذه الدقيقة. قوله: {وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: لو آمن أهل الكتاب بهذا الذي حصلت به صفة الخيريَّةِ لأتباع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لحصلت هذه الخيرية - أيضاً - لهم. الثاني: أن أه لالكتاب إنما آثروا دينهم، حُبًّا للرياسة، واستتباع العوام، ولو آمنوا لحصلت لهم الرياسة في الدنيا مع الثواب العظيم في الآخرة، فكان ذلك خيراً مما قَنِعُوا به. قوله: {لَكَانَ خَيْرًا} اسم «كان» ضمير يعود على المصدر المدلول عليه بفعله، والتقدير لكان الإيمان خيراً لهم كقولهم: «من كذب كان شراً له» أي: كان الكذب شراً له، كقوله تعالى: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] . وقول الشاعر: [الوافر] 1573 - إذَا نُهِيَ السَّفِيةُ جَرَى إلَيْهِ ... وَخَالفَ، وَالسَّفِيةُ إلى خِلاَفِ أي: جرى إليه السفه. والمفضل عليه محذوف، أي: خيراً لهم من كُفْرهم، وبقائهم على جَهْلهم. وقال ابن عطية: ولفظة «خير» صيغة تفضيل، ولا مشاركة بين كُفْرهم وإيمانهم في الخير، وإنما جاز ذلك لما في لفظه «خير» من الشياع وتشعب الوجوه، وكذلك هي لفظة «أفضل» ، و «أحب» وما جرى مجراها. قال أبو حيان: «وإبقاؤها على موضوعها الأصلي أوْلَى - إذا أمكن ذلك - وقد أمكن ذلك؛ إذ الخيرية مطلقة، فتحصل بأدْنى مشاركة» . قوله: {مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} جملة مستأنفة، سِيقت للإخبار بذلك. قال الزمخشريّ: «هما كلامان واردان على طريق الاستطراد، عند إجراء ذِكْر أهل الكتاب، كما يقول القائل - إذا ذكر فلاناً - من شأنه كيت وكيت - ولذلك جاء من غير عاطف» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 469 الألف واللام في قوله: {الْمُؤْمِنُونَ} للعهد، لا للاستغراق، والمراد عبد الله بن سلام ورهطه من «الليهود» ، والنجاشي ورَهْطه من «النصارى» . فإن قيل: الوصْف إنما يُذْكَر للمبالغة، فأي مبالغة تحصل في وصف الكافر بأنه فاسق؟ فالجواب: أن الكافر قد يكون عَدْلاً في دينه، وفاسقاً في دينه، فالفاسق في دينه يكون مردوداً عند جميع الطوائف؛ لأن المسلمين لا يقبلونه لكفْره، والكفّار لا يقبلونه لفِسْقِه عندهم، فكأنه قيل: أهل الكتاب فريقان: منهم مَنْ آمن، والذين لم يؤمنوا فهم فاسقون في أديانهم، فليسوا ممن يُقْتَدَى بهم ألبتة عند أحدٍ من العقلاء. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 470 لمَّا رغَّب المسلمين في تَرْك الالتفات إلى أقوال الكُفَّار وأفعالهم بقوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عمران: 110] ، رغَّبهم - أيضاً - من وَجْه آخر، وهو أنه لا قُدْرَةَ لهم على إضرار المسلمين، إلا بالقليل من القول الذي لا عبرة به، ولو أنهم قاتلوا المسلمين لانهزمت الكفار، فلذلك لا يلتفت إلى أقوالهم وأفعالهم. قال مقاتل: إن رؤوس اليهود عمدوا إلى مَنْ آمن منهم - عبد الله بن سلام وأصحابه - فآذَوْهم، فنزلت هذه الآية. قوله: {إِلاَّ أَذًى} فيه وجهان: أحدهما: أنه متصل، وهو استثناء مفرَّغ من المصدر العام، كأنه قيل: لن يضروكم ضرراً ألبتة إلا ضرر أذى لا يبالى به - من كلمة سوء ونحوها - إمَّا بالطعن في محمد وعيسى - عليهما السلام - وَإمَّا بإظهار كلمة الكفر - كقولهم: عيسى ابنُ الله، وعُزَيْر ابن الله، وإن الله ثالث ثلاثة، وإما بتحريف نصوص التوراة والإنجيل، وإما بتخويف ضعفةِ المسلمين. الثاني: أنه منقطع، أي: لن يضروكم بقتال وغَلَبَة، لكن بكلمة أذًى ونحوها. قال بعض العلماء: وهذا بعيد، لأن الوجوه المذكورة توجب وقوع الغَمِّ في قلوب المسلمين، والغم ضرر. فالتقدير: لا يضروكم إلا الضرر الذي هو الأذى، فهو استثناء صحيح، والمعنى: لا يضروكم إلا ضَرَراً يَسِيراً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 470 قوله: {وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار} هذا إخْبار بأنهم لو قاتلوا المسلمين لانهزموا، وخُذلوا، {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} أي: إنهم بعد صيرورتهم منهزمين لا يحصل لهم شوكة، ولا قوة - ألبتة -، ونظيره قوله تعالى: {وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الأدبار} [الحشر: 12] ، وقوله: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد} [آل عمران: 12] ، وقوله: {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 44 - 45] ، وكل ذلك وَعْد بالفتح، والنصر، والظفر، وهذه الآية اشتملت على الإخبار عن غيوب كثيرة. منها: أن المؤمنين آمنون من ضررهم. ومنها: أنهم لو قاتلوا المؤمنين لانهزموا. ومنها: أنه لا يحصل لهم شوكة بعد الانهزام. وكل هذه الأخبار وقعت كما أخبر الله عنها، فإن اليهود لم يقاتلوا إلا انهزموا، وما أقدموا على محاربة، وطلب رئاسة إلا خُذِلوا، وكل ذلك إخبار عن الغيب، فيكون معجزاً. فإن قيل: هَبْ أن اليهودَ كذلك، لكن النصارى ليسوا كذلك، وهذا يقدح في صحة هذه الآيات. فالجواب: أنها مخصوصة باليهود، لما رُوِيَ في سبب النزول. وقوله: {ثُمَّ لاَ يُنْصَرُونَ} كلام مستأنف. فإن قيل: لِمَ كان قوله: {ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ} مستأنفاً، ولم يُجْزَم، عطفاً على جواب الشرط؟ فالجواب: أنه لو جُزِم لتغيَّر المعنى؛ لأن الله - تعالى - أخبرهم بعدم نُصْرَتهم - مطلقاً - فلو عطفناه على جواب الشرط لزم تقييده بمقاتلتهم لنا، بينما هم غير منصورين مطلقاً - قاتلوا، أو لم يقاتلوا. وزعم بعضهم أن المعطوف على جواب الشرط ب «ثم» لا يجوز جزمه ألبتة، قال: لأن المعطوف على الجواب جواب، وجواب الشرط يقع بعده وعقيبه، و «ثم» يقتضي التراخي، فكيف يتصور وقوعه عقيب الشرط؟ فلذلك لم يُجْزَم مع «ثم» . وهذا فاسد جدًّا؛ لقوله تعالى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] ، ف «لا يكونوا» مجزوم نسقاً على «يستبدل» الواقع جواباً للشرط، والعاطف «ثُمَّ» . و «الأدبار» مفعول ثان لِ «يُوَلُّوكُمْ» ؛ لأنه تعدَّى بالتضعيف إلى مفعولٍ آخَرَ. فإن قيل: ما الذي عطف عليه قوله: {لاَ يُنصَرُونَ} ؟ فالجواب: هو جملة الشرط والجزاء، كأنه قيل: أخبركم أنهم إن يقاتلوكم ينهزموا، ثم أخبركم أنهم لا يُنصرون. وإنما ذكر لفظ «ثُمَّ» ، لإفادة معنى التراخي في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 471 المرتبة، لأن الإخبار بتسليط الخذلان عليهم أعظم من الإخبار بتوليتهم الأدبار. قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} يعني: أن الذلة جُعِلَتْ ملصَقَة، بهم، كالشيء الذي يُضرب على الشيء فيلصق به، ومنه قولهم: ما هذا عليَّ بضربة لازب ومنه تسمية الخراج ضريبة. والذلة: هي الذل، وفي المراد بها أقوال. فقيل: إنها الجزية؛ وذلك؛ لأن ضَرْب الجزية عليهم يوجب الذلة والصَّغَار. وقيل: أن يُحارَبُوا، ويقْتَلوا، وتقسَّم أموالُهم، وتُسْبَى ذَراريهم، وتُملك أراضيهم - كقوله: {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم} [البقرة: 191] ، ثم قال تعالى: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله} والمراد: إلاَّ بعهد من الله، وعِصْمة، وذمام من الله ومن المؤمنين؛ لأن عند ذلك تزول هذه الأحكام. وقيل: إن المراد بها أنك لا ترى فيهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً معتبراً، بل هم مُسْتَخْفُون في جميع البلاد، ذليلون، مهينون. قوله: {أَيْنَ مَا ثُقِفُوا} ، «أيْنَمَا» اسم شرط، وهي ظرف مكان، و «ما» مزيدة فيها، ف «ثُقِفُوا» في محل جزم بها، وجواب الشرط إما محذوف - أي: أينما ثُقِفُوا غلبوا وذُلّوا، دلَّ عليه قوله: {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} ، وإما نفس «ضُرِبَتْ» ، عند مَنْ يُجيز تقديم جواب الشرط عليه، ف {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ} لا محل له - على الأول، ومحله جزم على الثاني. قوله: {إلاَّ بِحَبْلٍ} هذا الجار في محل نَصْب على الحال، وهو استثناء مفرَّغ من الأحوال العامة. قال الزمخشري: «وهو استثناء من أعَمِّ عامّة الأحوال، والمعنى: ضُرِبَتْ عليهم الذلة في عامة الأحوال، إلا في حال اعتصامهم بحبل الله، وحبل الناس، فهو استثناء متصل» . قال الزجّاج والفرَّاء: هو استثناء منقطع، فقدره الفراء: إلا أن يعتصموا بحبل من الله، فحذف ما يتعلق به الجار. كقول حميد بن ثور الهلالي: [الطويل] 1574 - رَأتْنِي بِحَبْلَيْهَا، فَصَدَّتْ مَخَافَةً ... وَفِي الْحَبْلِ رَوْعَاءُ الْفُؤَادِ، فَرُوقُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 472 أراد: أقبلت بحبليها، فحذف الفعل؛ للدلالة عليه. ونظَّره ابنُ عطية بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} [النساء: 92] قال: «لأن بادئ الرأي يعطي أن له أن يقتل خطأ، وأن الحبل من الله ومن الناس يزيل ضرب الذلة، وليس الأمر كذلك، وإنَّما في الكلام محذوف، يدركه فَهْمُ السامع الناظر في الأمر، وتقديره: - في أمتنا - فلا نجاة من الموت إلا بحبل» . قال أبو حيان: «وعلى ما قدره لا يكون استثناءً منقطعاً؛ لأنه مستثنًى من جملة مقدَّرة، وهي: فلا نجاة من الموت، وهو متصل على هذا التقدير، فلا يكون استثناء المنقطع - كما قرره النحاة - على قسمين: منه ما يمكن أن يتسلط عليه العامل، ومنه لا يمكن فيه ذلك - ومنه هذه الآية - على تقدير الانقطاع - إذ التقدير: لكن اعتصامهم بحبل من الله وحَبْل من الناس يُنَجيهم من القتل، والأسر، وسَبي الذراري، واستئصال أموالهم؛ ويدل على أنه منقطع الإخبار بذلك في قوله تعالى - في سورة البقرة -: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [البقرة: 61] ، فلم يستثنِ هناك» . قال محمد بن جرير الطبري: «قد ضُرِبَت الذلة على اليهود، سواء كانوا على عهد من الله أو لم يكونوا، ولا يخرجون بهذا الاستثناء من الذلة إلى العزة، فقوله: {إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ الله} تقديره: لكن يعتصمون بحبل من الله وحبل من الناس» . قال ابن الخطيب: «وهذا ضعيف؛ لأن حَمْلَ لفظ» إلاَّ «على» لكن «خلاف الظاهر، وأيضاً: إذا حملنا الكلام على أن المراد: لكن قد يعتصمون بحبل من الله، وحبل من الناس، لم يتم هذا القدر إلا بإضمار الشيء الذي يعتصمون بهذه الأشياء لأجل الحذر عنه، والإشمار خلاف الأصل، فلا يُصار إلى هذه الأشياء إلا عند الضرورة، فإذا كان لا ضرورةَ - هاهنا - إلى ذلك، كان المصير إليه غير جائز، بل هاهنا وجه آخر، وهو أن تُحْمَل الذِّلَّةُ على كل هذه الأشياء - أعني: القتل، والأسْر، وسَبْي الذراري، وأخذ المال، وإلحاق الصغار، والمهانة، ويكون فائدة الاستثناء هو أنه لا يبقى مجموع هذه الأحكام، وذلك لا ينافي بقاء بعض هذه الأحكام، وهو أخذ القليل من أموالهم - المُسَمَّى بالجزية - وبقاء المهانة والصغار فيهم» . وقال بعضهم الباء - في قوله: «بحبل» - بمعنى: «مع» ، كقولك: اخرج بنا نفعل كذا - أي: معنا، والتقدير: إلا مع حبل من الله. فصل تقدم الكلام في أن المراد بالحبل: العهد. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 473 فإن قيل: إنه عطف على حبل الله حبلاً من الناس، وذلك يقتضي المغيرة. فالجواب: قال بعضهم: حبل الله هو الإسلام، وحبل الناس هو العهد والذمة، وهذا بعيد؛ لأنه لو كان المراد ذلك، لكان ينبغي أن يقال: أو حبل من الناس. وقال آخرون: المراد بكلا الحبلين: العهد والذمة والأمان، وإنما ذكر - تعالى - الحَبْلَيْن؛ لأن الأمان المأخوذ من المؤمنين، هو الأمان المأخوذ بإذن الله تعالى. قال ابن الخطيب: وهذا عندي - أيضاً - شعيف، والذي عندي فيه أن الأمان للذميّ قسمان: أحدهما: الذي نصَّ الله عليه، وهو أخْذ الجزية. الثاني: الذي فُوض إلى رَأي الإمام، فيزيد فيه تارة، وينقص بحسب الاجتهاد، فالأول: هو المُسَمَّى بحبل الله، والثاني: هو المسمى بحبل المؤمنين. قوله: {وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله} تقدم أن معناه: مَكَثُوا، ولبثوا، وداموا في غضب الله، مأخوذ من البوء - وهو المكان ومنه: تبوأ فلان منزل كذا - ومنه قوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار} [الحشر: 9] . قوله: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ} . قال الحسن، وأكثر المفسرين: المسكنة: الجزية؛ لأنه لم يستثنها، فدلَّ ذلك على بقائها عليهم، والباقي عليهم ليس إلا الجزية. وقال آخرون: المسكنة: هي أن اليهودي يُظهر من نفسه الفقر، وإن كان موسراً. وقال آخرون: هذا إخبار من الله بأنه جعل أموال اليهود رزقاً للمسلمين، فيصيروا مساكين. قوله: {ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ} بيَّن العلة في إلصاق هذه الأمور المكروهة بهم، وتقدم الكلام على مثل ذلك في سورة البقرة. فإن قيل: فما الحكمة في قوله: {ذلك بِمَا عَصَوْاْ} ، ولا يجوز أنْ يكونَ هذا التكرير للتأكيد؛ لأن التأكيد يجب أن يكون بشيء أقْوَى من المؤكد - والعصيان أقل حالاً من الكفر - فلا يُؤكَّد الكفر بالعصيان؟ فالجواب من وجهين: الأول: أن علة الذلة، والغضب، والمسكنة، هي: الكُفر، وقتل الأنبياء، وعلة الكُفْر وقتل الأنبياء هي: المعصية؛ لأنهم لما توغَّلوا في المعاصي والذنوب، وتزايدت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 474 ظلمات المعاصي - حالاً فحالاً، ضعف نور الإيمان حالاً فحالاً - إلى أن بطل نور الإيمان، وحصلت ظلمة الكُفْر، وإليه أشار بقوله: {كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] ، فقوله: {ذلك بِمَا عَصَوْاْ} إشارة إلى العلة. ولهذا المعنى قال الإمام أحمد - وقد سُئل عن تارك السنن، هل تُقْبَل شهادته؟ - قال: ذلك رجل سوء؛ لأنه إذا وقع في ترك السنن أدَّى ذلك إلى تَرْك الفرائض، وإذ وقع في تَرْك الفرائض، وقع في استحقار الشريعة، ومن ابتلي بذلك وقع في الكُفْر. الثاني: أن يُحْمَل قوله: {كانوا يكفرون بآيات الله} على أسلافهم، وقوله: {ذلك بِمَا عَصَوْاْ} في الحاضرين في زمن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلا يلزم التكرار، فكأنه - تعالى - بيَّن عقوبة مَنْ تقدَّم، ثم بيَّن أن المتأخر - لما تبع من تقدم - صار لأجل معصيته، وعداوته متسوجِباً لمثل عقوبتهم، حتى يظهر للخلق ما أنزل الله بالفريقين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 475 الظاهر في هذه أنّ الوقف على «سَوَاءٌ» تام؛ فإن الواو اسم «ليس» و «سواء» خبر، والواو تعود على أهل الكتاب المتقدم ذكرهم. ولامعنى: أنهم منقسمون إلى مؤمن وكافر؛ لقوله: {مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون} [آل عمران: 110] ، فانتفى استواؤهم. و «سواء» - في الأصل - مصدر، ولذلك وُحِّدَ، وقد تقدم تحقيقه أول البقرة. قال أبو عبيدة: الواو في «لَيْسُوا» علامة جمع، وليست ضميراً، واسم «ليس» - على هذا - «أمة» و «قَائِمَةٌ» صفتها، وكذا «يَتْلُونَ» ، وهذا على لغة «أكلوني البراغيث» . كقول الآخر: [المتقارب] 1575 - يَلُومَونَنِي فِي اشْتِرَاءِ النَّخِي ... لِ أهْلِي، فَكُلُّهُمْ بعَذْلِ أَلُومُ قالوا: وهي لغة ضعيفة، ونازع السُّهَيْلِيّ النحويين في كونها ضعيفةً، ونسبها بعضُهم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 475 إلى شنوءة، وكثيراً ما جاء عليها الحديث، وفي القرآن مثلُها. وسيأتي تحقيقها في المائدة. قال ابنُ عطية: وما قاله أبو أبو عبيدةَ خطأٌ مردودٌ، ولم يبيِّن وَجْهَ الخطأ، وكأنه توهم أن اسم «ليس» هو {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} فقط، وأنه لا محذوفَ ثَمَّ؛ إذ ليس الغرض تفاوت الأمة القائمة التالية، فإذا قُدِّر - ثَمَّ - محذوف لم يكن قول أبي عبيدةَ خطأً مردوداً إلا أن بعضهم رد قوله بأنها لغة ضعيفة وقد تقدم ما فيها. والتقدير الذي يصح به المعنى: أي: ليس سواء من أهل الكتاب أمة قائمة، موصوفة بما ذُكِرَ، وأمة كافرة، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ. وقال الفرَّاءُ: إن الوقفَ لا يتم على «سَوَاءً» فجعل الواو اسم «ليس» ، و «سَوَاءً» خبرها - كما قال الجمهور - و «أمَّةٌ» مرتفعة ب «سَوَاءً» ارتفاع الفاعل، أي: ليس أهل الكتاب مستوياً، من أهل الكتاب أمة قائمة، موصوفة بما ذُكِر، وأمة كافرة، فبهذا التقدير يصح به المعنى الذي نحا إليه أبو عُبَيْدَةَ. وقال الفرَّاءُ: إن الوقفَ لا يتم على «سَوَاءً» فجعل الواو اسم «ليس» ، و «سَوَاءً» خبرها - كما قال الجمهور - و «أمَّةٌ» مرتفعة ب «سَوَاءً» ارتفاع الفاعل، أي: ليس أهل الكتاب مستوياً، من أهل الكتاب أمة قائمة، موصوفة بما ذُكِر، وأمة كافرة، فحُذِفَت هذه الجملةُ المعادلة؛ لدلالة القسم الأول عليها؛ فإن مذهب العرب إذا ذُكِرَ أحد الضدين، أغْنَى عن ذِكر الضِّدِّ الآخَر. قال أبو ذُؤيب: [الطويل] 1576 - دَعَانِي إلَيْهَا الْقَلْبُ إنِّي لأمْرِهَا ... سَمِيعٌ، فَمَا أدْرِي أرُشْدٌ طِلاَبُها؟ والتقدير: أم غي، فحذف الغَيّ؛ لدلالة ضِدِّه عليه. ومثله قول الآخر: [الطويل] 1577 - أرَاكَ، فَمَا أدْرِي أهَمٌّ هَمَمْتُهُ ... وَذُو الْهَمِّ قِدْماً خَاشِعٌ مُتَضَائِلُ أي أهم هممته أم غيره؟ فحذف؛ للدلالة، وهو كثير. قال الفراء: «لأن المساواة تقتضي شيئين» ، كقوله: {سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد} [الحج: 25] ، وقوله: {سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ} [الجاثية: 21] . وقد ضُعِّفَ قَوْلُ الفراء من حيث الحذف، ومن حيث وَضع الظاهر مَوْضِعَ المُضْمَر؛ إذ الأصل: منهم أمة قائمة، فوضع أهل الكتاب موضع المضمر. والوجه أن يكون {لَيْسُواْ سَوَآءً} جملة تامة، وقوله: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ} جملة برأسها، وقوله: {يَتْلُونَ} جملة أخرى، مبينة لعدم استوائهم - كما جاءت الجملة من قوله: {تَأْمُرُونَ بالمعروف} [آل عمران: 110] مبيِّنة للخيريَّةِ. ويجوز أن يكون {يَتْلُونَ} في محل رفع، صفة ل «أمَّةٌ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 476 ويجوز أن يكون حالاً من «أمَّةٌ» ؛ لتخصُّصِها بالنعت. ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «قَائِمة» ، وعلى كونها حالاً من «أمَّةٌ» يكون العامل فيها الاستقرار الذي تضمنه الجار. ويجوز أن يكون حالاً من الضميرِ المستكن في هذا الجار، لوقوعه خبراً ل «أمَّة» . فصل قال جمهور العلماء: المراد بأهل الكتاب: مَنْ آمَنَ بموسى وعيسى عليهما السلام. اليهود: ما آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا شِرارُنا، ولولا ذلك ما تركوا دينَ آبائِهم، لقد كفروا، وخسروا، فأنزل الله هذه الآية؛ لبيان فضلهم. وقيل: لما وَصَفَ أهلَ الكتاب - في الآيات المتقدمةِ - بالصفات المذمومة، ذَكَر - في هذه الآية - أن كل أهل الكتاب ليسوا كذلك، بل فيهم مَنْ يكون موصوفاً بالصفات المحمودة المرضية. قال الثوريّ: بلغني أنها نزلت في قوم كانوا يُصلون بين المغرب والعشاء. وعن عطاء، أنها نزلت في أربعين رجلاً من أهل نجرانَ، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثلاثة من الروم، كانوا على دين عيسى، وصدقوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان من الأنصار فيهم عدة - قبل قدوم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، منهم أسعد بن زرارة، والبراء بن معرور، ومحمد بن مسلمة، وأبو قيس صِرْمة بن أنس، كانوا موحِّدين، يغتسلون من الجنابة، ويقومون بما عرفوا من شرائع الحنيفية، حتى بعث الله لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فصدَّقوه، ونصروه. وقال آخرون: المراد بأهل الكتاب: كل من أوتي الكتابَ من أهل الأدْيان - والمسلمون من جُمْلتهم - قال تعالى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا} [فاطر: 32] ، ويؤيِّد هذا ما رَوَى ابنُ مسعود: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخَّر صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد، فإذا الناس ينتظرون الصلاة، فقال: «أما إنه ليس أحَدٌ مِنْ أهْلِ الأدْيَانِ يَذْكُرُ اللهَ - تَعَالَى - هَذِهِ السَّاعةِ غَيْركُمْ» وقرأ هذه الآية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 477 قال القفال: ولا يبعد أن يقال: أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأقاموا صلاة العتمة في الساعة التي ينام فيها غيرُهم من أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا. ولا يبعد - أيضاً - أن يقال: المراد: كلّ مَنْ آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسمَّاهم الله بأهل الكتاب، كأنه قيل: أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة، والمسلمون الذين سماهم الله بأهل الكتاب حالهم وصفتهم هكذا، فكيف يستويان؟ فيكون الغرض - من هذه الآية - تقرير فضيلة أهل الإسلام، تأكيداً لما تقدم من قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 110] ونظيره قوله: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} [السجدة: 18] ، منهم {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله} قيل: قائمة في الصلاة يتلون آياتِ الله، فعبَّر بذلك عن تهجُّدِهم. وقال ابن عباس: مهتدية، قائمة على أمر الله - تعالى - لم يضيِّعوه، ولم يتركوه. قال الحسن: ثابتة على التمسُّك بالدين الحق، ملازمة له، غير مضطربة، كقوله تعالى: {إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً} [آل عمران: 75] . قال مجاهد: «قَائِمَةٌ» أي: مستقيمة، عادلة - من قولك: أقمت العود - فقام بمعنى: استقام. وقيل: الأمَّة: الطريقة، ومعنى الآية: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ} أي: ذو أمة، ومعناه: ذو طريقة مستقيمة، والمراد ب {آيَاتِ الله} : القرآن، وقد يُراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على ذاته، وصفاته، والمراد هاهنا: الأول. قوله: {آنَآءَ الليل} ظرف ل «يتلون» ، والآناء: الساعات، واحده: أنَى - بفتح الهمزة والنون، بزنة عصا - أو إنَى بكسر الهمزة، وفتح النون، بزنة مِعًى، أو أنْي - بالفتح والسكون بزنة ظَبْي، أو إنْي - بالكسر والسكون، بزنة نِحْي - أو إنْو - بالكسر والسكون مع الواو، بزنة جرو - فالهمزة في «آناء» منقلبة عن ياء، على الأقوال الأربعة - كرداء - وعن واو على القول الأخير، نحو كساء. قال القفال: كأن التأنِّيَ مأخوذ منه، لأنه انتظار الساعات والأوقات، وفي الحديث أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال للرجل الذي أخر المجيء إلى الجمعة -: «آذيت وآنيت» أي: دافعت الأوقات. وستأتي بقية هذه المادة في مواضعها. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 478 ولا يجوز أن يكون «آناء الليل» ظرفاً لِ «قَائِمَةٌ» . قال أبو القباءِ: «لأن» قَائِمَةٌ «قد وُصِفَتْ، فلا يجوز أن تعمل فيما بعد الصفة» ، وهذا على تقدير أن يكون «يَتْلُونَ» وَصْفاً لِ «قائمة» ، وفيه نظر؛ لأن المعنَى ليس على جَعْل هذه الجملةِ صفة لما قبلها، بل على الاستئناف للبيان المتقدم، وعلى تقدير جَعْلها صفة لما قبلها، فهي صفة ل «أمَّةٌ» ، لا لِ «قَائِمَةٌ» ؛ لأن الصفة لا توصَف إلا أن يكون معنى الصفة الثانية لائقاً بما قبلها، نحو: مررت برجل ناطقٍ فصيح، ففصيح صفة لناطق؛ لأن معناه لائق به، وبعضهم يجعله وَصْفاً لرجل. وإنما المانع من تعلُّق هذا الظرف ب «قَائِمَةٌ» ما ذكرناه من استئناف جملته. قوله: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} يجوز أن يكون حالاً من فاعل «يَتْلُونَ» أي: يَتْلُونَ القرآن، وهم ساجدون، وهذا قد يكون في شريعتهم - مشروعية التلاوة في السجود - بخلاف شرعنا، قال عليه السلام «ألاَ إنِّي نُهِيتُ أن أقرأ القُرآنَ رَاكِعاً، أو سَاجِداً» ، وبهذا يرجح قول من يقول إنهم غير أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «قَائِمَةٌ» قاله أبو البقاء. وفيه ضعف؛ للاستئناف المذكور. وقيل: المراد بقوله: {وَهُمْ يَسْجُدُونَ} : أنهم يصلون، والصلاة تسمى سجوداً، وركوعاً، وتسبيحاً، قال تعالى: {واركعي مَعَ الراكعين} [آل عمران: 43] ، وقال: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] ، والمراد: الصلاة. وقيل: {يَسْجُدُونَ} أي: يخضعون لله؛ لأن العرب تسمِّي الخضوعَ سجوداً، قال تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [النحل: 49] . ويجوز أن تكون مستأنفة، والمعنى: أنهم يقومون تارةً، ويسجدون تارةً، يبتغون الفضل والرحمة بأنواع ما يكون في الصلاة من الخضوع لله، ونظيره قوله: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً} [الفرقان: 64] . قوله: {يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} إمَّا استئناف، وإما أحوال، وجيء بالجملة الأولى اسميةً؛ دلالةً على الاستقرار، وصُدِّرَتْ بضميرٍ، وثَنَّى عليه جملة فعلية، ليتكرر الضمير، فيزداد بتكراره توكيداً. وجيء بالخبر مضارعاً؛ دلالةً على تجدُّدِ السجود في كل وقت، وكذلك جيء بالجُمَل التي بعدها أفعالاً مضارعة. ويحتمل أن يكون {يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} خبراً ثانياً، لقوله: «هُمْ» ، ولذلك ترك العاطف ولو ذكره لكان جائزاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 479 فصل اعلم أن اليهود كانوا يقومون في الليل للتهجُّد، وقراءة التوراة، فلما مدح المؤمنين بالتهجد وقراءة القرآن أردف ذلك بقوله: {يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} ، وقد تقدَّم أن الإيمان بالله يستلزم الإيمان بجميع أنبيائه ورُسُلِهِ، والإيمان باليومِ الآخرِ يستلزم الحذرَ من المعاصي، وهؤلاء اليهود كانوا ينكرون أنبياء الله، ولا يحترزون عن معاصي الله، لم يحصل لهم الإيمان بالمبدأ أو المعاد. قوله: {وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} . قال ابن عباس: يؤمنون بتوحيد الله، ونبوة صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وينهون عن الكفر. وقيل: يأمرون بما ينبغي، وينهون عَمَّا لا ينبغي. وقوله: {وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات} فيه وجهان: أحدهما: يتبادرون إليها خوف الفَوْتِ بالمَوْتِ. فإن قيل: أليس أن العجلة مذمومةٌ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الْعَجَلَةُ من الشَّيْطَانِ، والتأنِّي من الرَّحْمَنِ» فما الفرق بين السرعة والعَجَلَة؟ فالجواب: أن السرعة مخصوصة بأن يقدم ما ينبغي تقديمه، والعجلة مخصوصة بأن يقدم ما لا ينبغي تقديمه فالمسارعة مخصوصة بفرط الرغبة فيما يتعلق بالدين، لأن من رغب في الآخرة آثر الفَوْزَ على التراخي، قال تعالى: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 133] ، والعجلة - أيضاً - ليست مذمومة على الاطلاق؛ لقوله تعالى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} [طه: 84] . الوجه الثاني: يعملونها غَيْرَ متثاقلين. قوله: {وأولئك مِنَ الصالحين} أي: الموصوفون بهذه الصفات من جملة الصالحين، الذين صلحت أحوالهم عند الله ورضيهم، وهذا غاية المدح من وجهين: الأول: أن الله مدح بهذه الصفة أكابر الأنبياء، فقال - بعد ذكر إسماعيل، وإدريس، وذي الكفل وغيرهم: {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِّنَ الصالحين} [الأنبياء: 86] ، وقال: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاَهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} [التحريم: 4] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 480 الثاني: أن الصلاح ضِدُّ الفساد، فكل ما لا ينبغي أن يكون فهو فساد، سواء كان ذلك في العقائد، أو في الأعمال - وإذا كان كذلك كان كل ما ينبغي أن يكون صلاحاً، فكان الصَّلاحُ دالاًّ على أكمل الدرجات. قوله: {مِنَ الصالحين} يجوز في «من» أن تكون للتبعيض - وهو الظاهر -. وجعلها ابن عطية لبيان الجنس، وفيه نظر؛ إذْ لم يتقدم مُبْهَمٌ، فتبينه هذه. قوله: {وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ} . قرأ الأخوان وحَفْص: «يَفْعَلُوا» و «يُكْفروهُ» - بالغيبة -. والباقون بالخطاب. الغيب مراعاة لقوله: {مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} ، فجرى على لفظ الغيبة، أخبرنا - تعالى - أن ما يفعلونه من خير يبقى لهم غير مكفور؛ وقراءة الباقين بالتاء الرجوع إلى الخطاب لأمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} . ويجوز أن يكون التفاتاً من الغيبة في قوله: {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} إلى آخره؛ إلى خطابهم، وذلك أنه آنسهم بهذا الخطاب، ويؤيد ذلك أنه اقتصر على ذكر الخير دون الشر؛ ليزيد في التأنيس. ويدل على ذلك قراءة الأخوين؛ فإنها كالنص في أن المراد قوله: {أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ} . فصل اعلم أن اليهودَ لما قالوا لعبد الله بن سلام وأصحابه: إنكم خسرتم بسبب إيمانكم، قال الله تعالى: بل فازوا بالدرجات العُظْمَى، فالمقصود تعظيمهم؛ ليزول عن قلبهم أثر كلام أولئك الجهال، وهذا وإن كان لفظه - على قراءة الغيبة - لمؤمني أهل الكتاب، فسائر الخلق يدخلون فيه نظراً إلى العلّة. أما على قراءة المخاطبة فهذا ابتداء خطاب لجميع المؤمنين - ونظيره قوله: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} [البقرة: 197] ، وقوله: {وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ} [البقرة: 272] ، وقوله: {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله} [المزمل: 20] ، ونقل عن أبي عمرو: أنه كان يقرأها بالقراءتين. وسُمِّيَ منع الجزاء كفراً لوجهين: الأول: أنه - تعالى - سَمَّى إيصال الجزاء شُكْراً، فقال: {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] ، وسمى منعه كفراً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 481 الثاني: أن الكفر - في اللغة -: الستر. فسمي منع الجزاء كُفْراً؛ لأنه بمنزلة الجَحْدِ والستر. فإن قيل: «شكر» و «كفر» لا يتعديان إلا إلى واحد، يقال: شكر النعمة، وكفرها - فكيف تعدّى - هنا - لاثنين أولهما قام مقام الفاعل، والثاني: الهاء في «يكفروه» ؟ . فقيل: إنه ضُمِّن معنى فعل يتعدى لاثنين - كحرم ومنع، فكأنه قيل: فلن يُحْرَموه، ولن يُمْنَعُوا جزاءه. ثم قال: {والله عَلِيمٌ بالمتقين} واسم «الله» يدل على عدم العجز، والبخل، والحاجة؛ لأنه إله جميع المحدثات، وقوله: «عَلِيمٌ» يدل على عدم الجَهْل، وإذا انتفت هذه الصفاتُ، امتنع المنع من الجزاء؛ لأن منعَ الحق لا بد وأن يكون لأحد هذه الأمور. وقوله: {بِالمُتَّقِينَ} - مع أنه عالم بالكلِّ - بشارة للمتقين بجزيل الثواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 482 لمَّا وصف المؤمنين بالصفاتِ الحَسَنة، أتبعه بوعيد الكُفَّار، ليجمع بين الوعدُ والْوَعيد، والترغيب والترهيب. قال ابْنُ عَبَّاسٍ: يريد قريظة والنضير؛ لأن معاندتهم كانت لأجل المال، لقوله تعالى: في سورة البقرة {تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة: 41] . وقيل: نزلت في مشركي قريش؛ فإن أبا جهل كان كثير الافتخار بماله. وقيل: نزلت في أبي سفيان؛ فإنه أنفق مالاً كثيراً على المشركين يوم بَدر وأحد. وقيل: إنها عامة في جميع الكفار؛ لأنهم كانوا يتعززون بكثرة الأموال، ويعيرُون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأتباعه بالفقر، ويقولون: لو كان محمد على الحق، لما تركه ربه في الفقر والشدة. فالأولون قالوا: إن الآية مخصوصة، وهؤلاء قالوا: إن اللفظ عام، ولا دليلَ يوجب التخصيص، وخص الأولاد، لأنهم أقرب أنساباً إليهم. واحتجَّ أهلُ السنة بقوله: {وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} عَلَى أن فُسَّاق أهل الصلاة لا يَبقون في النار أبداً؛ لأن هذه الكلمة تفيد الحصر، فيقال: أولئك أصحاب زيد، لا غيرهم، ولما أفادت معنى: «الحصر» ثبت أن الخلودَ في النار ليس إلاَّ ل «الكفار» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 482 لمَّا بيَّن أن أموالهم لا تغني عنهم شيئاً، فربما أنفقوها في وجوه الخير، فيخطر ببالهم أنهم يبتغون بذلك وجه الله، فأزال الله تعالى - بهذه الآية - ذلك الخاطر، وبَيَّن أنهم لا ينتفعون بشيء من تلك النفقات. والمثل: الشبه الذي يصير كالعلم؛ لكثرة استعماله فيما يشبه به. و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية وما بعدها محذوف لاستكمال الشروط أي «ينفقونه» . وحاصل الكلام أن كفرهم يبطل ثواب نفقتهم، كما أن الريح الباردة تهلك الزرع. قوله: {كَمَثَلِ رِيحٍ} خبر المبتدأ، وعلى هذا الظاهر - أعني: تشبيه الشيء المنفق بالريح - استشكل التشبيه؛ لأن المعنى على تشبيهه بالحرث - أي: الزرع - لا بالريح، وقد أجيب عن ذلك بوجوه: أحدها: أنه من باب التشبيه المركب، بمعنى أنه تقابل الهيئة المجتمعة بالهيئة المجتمعة، وليس تقابل الأفراد بالأفراد كما مر في أول سورة البقرة عند قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ} وهذا اختيار الزمخشري. ثانيها: أنه من باب التشبيه بين شيئين بشيئين، فذكر أحد المشبَّهين، وترك ذكر الآخر وذكر أحد المشبهين به، فقد حذف من كل اثنين ما يدل عليه نظيره، كما مر في قوله تعالى: {وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ} [البقرة: 171] ، وهو اختيار ابن عطية، قال: «وهذا غاية البلاغة والإعجاز» . وثالثها: أنه على حذف مضاف، إمَّا من الأول، تقديره: مثل مهلك ما ينفقونه، وإما من الثاني، تقديره: كمثل مهلك ريح، وهذا الثاني أظهر؛ لأنه يؤدِّي - في الأول - إلى تشبيه الشيء المُنْفَق - المُهْلَك - بالريح، وليس المعنى عليه، ففيه عَوْدٌ لما فُرَّ منه. وذكر أبو حيان التقدير المشار إليه، ولم ينبه عليه اللهم إلا أن يريد ب «مهلك» اسم مصدر، أي: مثل إهلاك ما ينفقون، ولكن يحتاج إلى تقدير مثل هذا المضاف - أيضاً - قبل «رِيح» تقديره: مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح. وقيل: التقدير: مثل الكفر - في إهلاك ما ينفقون - كمثل الريح المهلكة للحرث. وقال ابن الخطيب: «لعل الإشارة في قوله: {مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ} إلى ما أنفقوا في إنذار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في جَمْع العساكر عليه، فكان هذا الإنفاق مهلكاً لجميع ما أتَوْا به من أعمال البر والخير، حينئذ يستقيم التشبيه من غير حاجة إلى إضمار، وتقديم وتأخير، والتقدير: مثل ما ينفقون في كونه مبطلاً لما أتوا به - قبل ذلك - من أعمال البر كمثل ريح فيها صر في كونها مبطلة للحرث» . وهذا فيه نظر؛ لأن الكفار لا يثبت لهم عملُ برٍّ، حتى تحبطه النفقة المذكورة، قال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 483 تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] . وقد يمكن أن يجاب عنه بأنه إن كان المراد بالذين كفروا: أهل الكتاب، فقد كانت لهم أعمال بر قبل بعثة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وإن كان المراد: المشركين، فلا يُحْكَم عليهم إلا بعد البعثة، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] . ويجوز في «ما» أن تكون موصولة اسمية، وعائدها محذوف - أي: مثل ما ينفقونه - وأن تكون ما مصدرية، وحينئذ يكون قد شبه إنفاقهم - في عدم نفعه - بالريح الموصوفة بهذه الصفة، وهو من باب تشبيه المعقول بالمحسوس. فصل اختلفوا في هذا الإنفاق - هاهنا - فقيل: هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة، قال تعالى: {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92] والمراد به: جميع أعمال الخير. وقيل: المراد به: إنفاق الأموال، للآية المتقدمة. فصل وقيل: المراد به: إنفاق الأموال، للآية المتقدمة. فصل اختلفوا هل المراد - بهذه الآية - جميع الكفار، أو بعضهم؟ . فقيل: جميع الكفار؛ وذلك لأن إنفاقهم إن كان لمنافع الدنيا، لم يبق له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر، وإن كان لمنافع الآخرة - كبناء الرباطات، والقناطر، والإحسان إلى الضعفاء والأيتام والأرامل، ووجوه البر - يرجو بذلك الإنفاق خيراً، لم ينتفع به في الآخرة؛ لأن كفره يبطله، فكان كمن زرع زرعاً، وتوقع منه تقطعاً كثيراً، فأصابته الريح، فأحرقته، فلا يبقى معه غير الأسف والحزن، قال تعالى: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] . وقيل: المراد: بعض الكفار. فقيل: أراد نفقات أبي سفيان، وأصحابه يوم بدر وأحُد - على عداوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال مقاتل: أراد نفقات اليهود على علمائهم؛ لأجل التحريف. وقيل: إن المنافقين كانوا يُنفقون أموالَهم في سبيلِ الله، لكن على سبيل التَّقِيَّة، والخوف من المسلمين، مداراةً لهم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 484 قوله: {فِيهَا صِرٌّ} في محل جر، نعتاً ل «ريح» ، ويجوز أن يكون {فِيهَا صِرٌّ} : جملة من مبتدأ وخبر، ويجوز أن يكون «فيها» - وحده - هو الصفة، و «صِرٌّ» فاعل له - وجاز ذلك؛ لاعتماد الجار على الموصوف - وهذا أحسن؛ لأن الأصل في الأوصاف: الإفراد، وهذا قريب منه. والصِّرّ: قال ابْنُ عبَّاسٍ، وقَتَادَةُ، والسُّدِّيُّ، وابْنُ زَيْدٍ، وأكثر أهل اللغة: إنه البرد الشديد، المحْرِق. قال الشاعر: [البسيط] 1578 - لا تَعْدِلِينَ أتَاوِيِّينَ تَضْربُهُمْ ... نَكْبَاءُ صِرٌّ بِأصْحَابِ الْمُحِلاَّتِ وقيل: الصِّرُّ بمعنى: الصرصر - وهو البرد -. قالت ليلى الأخيلية: [الطويل] 1579 - وَلَمْ يَغْلِبِ الْخَصْمَ الألَدَّ وَيَمْلأ الْ ... جِفَانَ سَرِيعاً يَوْمَ نَكْبَاءَ صَرْصَرِ مأخوذ من الشد والتعقيد، ومنه الصُّرَّة - للعُقْدة - وأصَرَّ على كذا: لَزِمَه. وقال أبُو بَكْرٍ الأصَمُّ، وابْنُ الأنْبَارِي: هي السَّمُومُ الحَارَّة. وقال الزجاج: الصَّرْصَر: صوت لهيب النار - في الريح - من صَرَّ الشيءُ، يَصِرُّ، صَريراً - أي: صَوَّت بهذا الحِسِّ المعروف، ومنه صرير الباب، والصرة: الصيحة، قال تعالى: {فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ} [الذاريات: 29] . وروى ابْنُ الأنْبَارِيِّ - بإسناده - عن ابْنِ عَبَّاسٍ، في قوله: {فِيهَا صِرٌّ} قال: فيها نار. وعلى القولين، فالمقصود من التشبيه حاصل؛ لأنه - سواء كان بَرْداً مُهْلِكاً، أو حَرًّا مُحْرِقاً - يبطل الحرث والزرع، وإذا عُرِف هذا، فإن قلنا: الصِّرّ: البَرْد الشديد، أو هو صوت النار، أو هو صوت الريح، فَظَرْفِيَّة الريح له واضحة، وإن كان الصِّرُّ صفة الريح - كالصرصر - فالمعنى: فيها قِرَّة صر - كما تقول: برد بارد - وحُذِفَ الوصوف، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 485 وقامت الصفة مقامه، أو تكون الظرفية مجازاً جعل الموصوف ظرفاً للصفة. كقوله: [الوافر] 1580 - ... ... ... ... ... ... . ... وَفِي الرَّحْمَنِ لِلضُّعَفَاءِ كَافِي ومنه قوله: إن ضيعني فلان، ففي الله كافٍ، المعنى: الرحمن كافٍ، الله كافٍ، وهذا فيه بُعْد. قوله: «أصَابَتْ» هذه الجملة في محل جَرّ - أيضاً - صفة ل «رِيح» . ولا يجوز أن يكون صفة ل «صر» ؛ لأنه مذكَّر، وبدأ أولاً بالوَصْف بالجار؛ لأنه قريب من المفرد، ثم بالجملة، هذا إن أعربنا «فِيهَا» - وحده - صفة، ورفعنا به «صِرٌّ» ، أما إذا أعربناه خبراً مقدماً، أو «صِرٌّ» مبتدأ، فهما جملة - أيضاً -. قوله: {ظَلَمُوا} صفة ل «قوم» ، والضمير في {ظَلَمَهُمُ} يعود على القوم ذوي الحرث، أي: ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم بارتكابهم المعاصي التي كانت سبباً في إهلاكهم؛ أو لأنهم زرعوا في غير موضع الزرع، أو في غير وقته؛ لأن الظلم: وضع الشيء في غير موضعه، وبهذا يتأكد وَجْه الشبه؛ لأن الزرع - لا في موضعه، ولا في وقته - يضيع، ثم أصابته الريح الباردة، فكان أولى بالضياع، وكذا - هاهنا - الكفار لما أتَوْا بالإنفاق لا في موضعه ولا في وقته ثم أصابه شؤمُ كُفْرِهم، فصار ضائعاً، والله أعلم. وجوَّزَ الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره: أن يعود الضمير على المنفقين، وإليه نَحَا ابْنُ عَطِيَّةَ، ورجحه بأن أصحاب الحرث لم يُذْكَروا للرد عليهم، ولا لتبيين ظلمهم، بل لمجرد التشبيه. وقوله: {ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} العامَّة على تخفيف «لكن» ، وهي استدراكية، و «أنْفُسَهُمْ» مفعول مقدَّم، قُدِّم للاختصاص، أي: لم يقع وبالُ ظلمهم إلاَّ بأنفسهم خاصَّة، لا يتخطاهم، ولأجل الفواصل - أيضاً -. وقرأها بعضُهم مشدَّدة، ووجهها أن تكون «أنْفُسَهُمْ» اسمها، و «يَظْلِمُونَ» الخبر، والعائد من الجملة الخبريَّة على الاسم محذوف، تقديره: ولكن أنفسهم يظلمونها، فحذف، وحسَّنَ حذفَه كَوْنُ الفعلِ فاصلة، فلو ذكر مفعوله، لفات هذا الغرض. وقد خرجه بعضهم على أن يكون اسمها ضمير الأمر والقصة - حُذِفَ للعلم به، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 486 و «أنْفُسَهُمْ» مفعول مقدم ل «يَظْلِمُونَ» كما تقدم والجملة خبر لها. وقد رُدَّ هذا بأن حذف اسم هذه الحروف لا يجوز إلا ضرورة. كقوله: [الخفيف] 1581 - إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الْكَنِيسَةَ يَوْماً ... يَلْقَ فِيهَا جَآذِراً وَظِبَاءَ على أن بعضهم لا يُقصره على الضرورة، مستشهداً بقوله - عليه السلام -: «إنَّ مِنْ أشَدِّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ المُصَوِّرون» . قال: تقديره: إنه، ويعزى هذا للكسائي. وقد ردَّه بعضُهم، وخرَّج الحديثَ على زيادة «من» والتقدير: إن أشد الناس. والبصريون لا يُجِيزون زيادة «من» في مثل هذا التركيب لما تقدم وإنما يُجيزها الأخفش. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 487 لما شرح أحوالَ المؤمنين والكافرين، شرع في تحذير المؤمنين عن مخالطة الكافرين، وأكد الزجر عن الركون إلى الكُفار، وهو مُتَّصل بما سبق من قوله: {إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [آل عمران: 100] . قوله: {مِّن دُونِكُمْ} يجوز أن يكون صفةً ل «بِطَانَةً» ، فيتعلق بمحذوف، أي: كائنة من غيركم. وقدره الزمخشريّ: من غير أبناء جنسكم وهم المسلمون. ويجوز أن يتعلق بفعل النهي، وجوَّز بعضُهم أن تكون «من» زائدة، والمعنى: دونكم في العمل والإيمان. وبطانة الرجل: خاصَّته الذين يُبَاطنهم في الأمور، ولا يُظْهِر غيرَهم عليها، مشتقة من البطن، والباطن دون الظاهر، وهذا كما استعاروا الشعارَ والدِّثار في ذلك، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «النَّاسُ دثار، والأنْصَارُ شِعَار» . والشعَارُ: ما يلي الجسد من الثياب. ويقال: بَطَنَ فلانٌ بفلانٍ، بُطُوناً، وبِطَانة. قال الشاعر: [الطويل] . 1582 - أولَئِكَ خُلْصَانِي، نَعَمْ وَبِطَانَتِي ... وَهُمْ عَيْبَتِي مِنْ دُونِ كُلِّ قَرِيبِ فالبطانة مصدر يُسمَّى به الواحد والجمع، وأصله من البطن، ومنه: بطانة الثوب غير ظهارته. فإن قيل: قوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً} نكرة في سياق النفي، فيقتضي العموم في النهي عن مصاحبة الكفار، وقد قال تعالى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ} [الممتحنة: 8] فكيف الجمع فيهما. فالجواب: أن الخاص مقدَّم على العام. قوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ} لما منع المؤمنين من أن يتخذوا بطانة من الكافرين ذَكَر علَّة النهي، وهي أمور: أحدها: قوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} يقال: ألا في الأمر، يَألُو فيه، أي: قصَّر - نحو غزا يغزو - فأصله أن يتعدى بحرف الجر كما ترى. واختلف في نصب «خَبَالاً» على وجوه: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 488 أحدها: أنه مفعول ثانٍ، وإنما تعدَّى لاثنين؛ للتضمين. قال الزمخشري: يقال: ألا في الأمر، يألو فيه - أي: قصَّر - ثم استُعْمِل مُعَدًّى إلى مفعولين في قولهم: لا آلوك نُصْحاً، ولا آلوك جُهْداً، على التضمين، والمعنى: لا أمنعك نُصْحاً ولا أنقُصُكَهُ. الثاني: أنه منصوب على إسقاط الخافض، والأصل: لا يألونكم في خبال، أو في تخبيلكم، أو بالخبال، كما يقال: أوجعته ضرباً، وهذا غير منقاسٍ، بخلاف التضمين؛ فإنه ينقاس، وإن كان فيه خلافٌ واهٍ. الثالث: أن ينتصب على التمييز، وهو - حينئذ - تمييز منقول من المفعولية، والأصل: لا يألون خبالكم، أي: في خبالكم، ثم جعل الضمير - المضاف إليه - مفعولاً بعد إسقاط الخافض فنُصِبَ الخبال - الذي كان مضافاً - تمييزاً، ومثله قوله: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} [القمر: 12] على أن «عُيُوناً» بدل بعض من كل، وفيه حذف العائد، أي: عيوناً منها، وعلى هذا التخريج، يجوز أن يكون «خَبَالاً» يدل اشتمال من «كم» والضمي ر أيضاً محذوف أي: «خبالاً منكم» وهذا وَجْه رابع. الخامس: أنه مصدر في موضع الحال، أي: متخبلين. السادس: قال ابْنُ عَطِيَّةَ: معناه: لا يقصرون لكم فيما فيه الفساد عليكم. فعلى هذا - الذي قدره - يكون المضمر، و «خَبَالاً» منصوبين على إسقاط الخافض، وهو اللام، وهذه الجملة فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها جُمْلة استئنافية، لا محل لها من الإعراب، وإنما جِيءَ بها، وبالجُمَل التي بعدها، لبيان حال الطائفة الكافرة، حتى ينفروا منها، فلا يتخذوها بطانة، وهو وجه حسن. الثاني: أنها جملة في موضع نصب؛ حال من الضمير المستكن في «دُونِكُمْ» على أن الجار صفة لبطانة. الثالث: أنها في محل نصب؛ نعتاً ل «بِطَانةً» - أيضاً -. والألْو - بزنة الغزو - التقصير - كما تقدم -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 489 قال زهير: [الطويل] 1583 - سَعَى بَعْدَهُمْ قَوْمِي لِكَيْ يُدْرِكُوهُمُ ... فَلَمْ يَفْعَلُوا، وَلَم يُليمُوا، وَلَمْ يَأْلُوا وقال امرؤ القيس: [الطويل] 1584 - وَمَا المَرْءُ مَا دَامَتْ حُشَاشَةُ نَفْسِهِ ... بِمُذْرِكِ أطْرَافِ الخُطُوبِ وَلاَ آلِي يقال: آلَى، يُولِي - بزنة أكرم، فأبدِلَت الهمزةُ الثانية ألفاً. وأنشدوا: [الوافر] 1585 - ... ... ... ... ... ... . ... فَمَا آلَى بَنِيَّ وَلاَ أسَاءُوا ويقال: ائتلَى، يأتلي - بزنة اكتسب يكتسب -. قال امرؤ القيس: [الطويل] 1586 - ألاَ رُبَّ خَصْمٍ فِيَكِ ألْوَى رَدَدْتُهُ ... نَصِيحٍ عَلَى تَعْذَالِهِ غَيْرِ مُؤْتَلِي فيتحد لفظ آلى بمعنى قصَّر، وآلى بمعنى حَلفَ - وإن كان الفرق بينهما ثابتاً من حيث المادة؛ لأن لامه من معنى الحلف ياء، ومن معنى التقصير واو. قال الراغب: وألَوْتُ فلاناً، أي: أوْليته تقصيراً - نحو كسبته، أي: أوْليته كَسْباً - وما ألوته جهداً، أي: ما أوليته تقصيراً بحسب الجهد، فقولك: جهداً، تمييز. وقوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} [آل عمران: 118] أي: لا يُقَصِّرون في طلب الخبال، ولا يدعون جهدهم في مضرتكم، قال تعالى: {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ} [النور: 22] . قيل: هو «يفتعل» من ألوت. وقيل: هو من آليت، أي: حلفت. والخبال: الفساد، وأصله ما يلحق الحيوان من مَرَض، وفتور، فيورثه فساداً الجزء: 5 ¦ الصفحة: 490 واضطراباً، يقال منه: خبله وخَبَّله - بالتخفيف والتشديد، فهو خابل، ومُخَبَّل، ومخبول، والمخبل: الناقص العقل، قال تعالى: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47] ، ويقال: خَبْل، وخَبَل، وخَبَال وفي الحديث: «مَنْ شَرِبَ الَْمْرَ ثَلاَثاً كَانَ حَقًّا على اللهِ أن يَسقيه مِنْ طِينَةِ الخَبَالِ» . وقال زهير بن أبي سُلْمى: [الطويل] 1587 - هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا ... وَإنْ يُسْألُوا يُعْطُوا، وَإن يُيْسِرُوا يُغْلُوا والمعنى في هذا البيت: أنهم إذا طُلِب منهم إفساد شيء من إبلهم أفسدوه، وهذا كناية عن كرمهم. فصل قال ابنُ عبَّاسٍ: كان رِجَالٌ من المُسْلِمِينَ يُوَاصِلُونَ اليَهُودَ؛ لما بينهم من القَرَابةِ، والصداقة، والحِلْف، والجوار، والرضاع، فأنزل الله تعالى هذه الآية ينهاهم فيها عن مباطنتهم. قال مجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين، كانوا يواصلون المنافقين، فنهاهم الله عن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 491 ذلك، ويؤيِّد هذا القولَ ما ذكره بعد في قوله: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119] وهذه صفة المنافقين. وقيل: أراد جميع الكفار. والعنت: شدة الضرر والمشقة، قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] ، وقد تقدم اشتقاقه. قوله: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} هذه العلة الثانية، وفي هذه الجملة ثلاثة أوجه: أحدها: وهو الأظهر - أن تكون مستأنفة، لا محل لها من الإعراب - كما هو الظاهر في التي قبلها. والثاني: أنها نعت ل «بِطَانَةً» فمحلُّها نصب. قال الواحدي: «ولا يصح هذا؛ لأن البطانة قد وُصِفَت بقوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} ، ولو كان هذا صفة - أيضاً -، لوجب إدخال حرف العطف بينهما» . والثالث: أنها حال من الضمير في «يَألونَكُمْ» ، و «ما» مصدرية، و «عَنِتُّمْ» صلتها، وهي وصلتها مفعول الودادة، أي: عنتكم، أي: مقتكم. وقال الراغب: «المعاندة، والمعانتة، يتقاربان، لكن المعاندة هي الممانعة، والمعانتة: أن يتحرى مع الممانعة المشقة» . والفرق بين قوله: {لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً} ، وقوله: {وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ} ، في المعنى من وجوه: الأول: لا يقصرون في إفساد دينكم، فإن عجزوا عنه، ودُّوا إلقاءكم في أشد أنواع الضرر. الثاني: لا يقصرون عن إفساد أموركم، فإن لم يفعلوا ذلك؛ لمانعٍ، فحُبّه في قلوبهم. الثالث: لا يقصرون في إفساد أموركم في الدنيا، فإن عجزوا عنه لمانع لم يزل عن قلوبهم حب إعناتكم. قال القُرْطُبِيُّ: «وقد انقلبت هذه الأحوال في هذه الأزمان باتخاذ أهل الكتاب كَتَبَةً وأمَنَاءَ، وتسوَّدوا بذلك عند الجهلة الأغبياء من الولاة والأمراء» . وروى البخاري عن أبي سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ما بَعَثَ اللهُ مِنْ نَبِيٍّ، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 492 وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيْفَةٍ إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ: بِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ، وتَحُضُّهُ عَلَيهِ، وبِطَانَةٌ تَأمُرُهُ بِالشَّرِ، وَتَحُضُّهُ عَلَيهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللهُ تعالى» . وروى أنس بن مالك قال: قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ تَسْتَضِيئُوا بِنَارِ المُشْرِكِينَ، وَلاَ تَنْقُشُوا فِي خَواتِيمكُمْ غريباً» . وفسره الحَسَنُ بْنُ أبِي الحَسَنِ، فقال: أراد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا تستشيروا المشركين في شيء من أموركم، ولا تنقشوا في خواتيمكم محمداً. قال الحَسَنُ: وتصديق ذلك في كتاب الله - عَزَّ وَجَلَّ -: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} الآية. العلة الثالثة: قوله: {قَدْ بَدَتِ البغضآء} هذه الجملة كالتي قبلها، وقرأ عبد الله «بَدَا» - من غير تاء - لأن الفاعل مؤنَّث مجازيّ؛ ولأنها في معنى البغض، والبغضاء: مصدر - كالسراء والضراء - يقال منه: بَغُضَ الرجل، فهو بغيض، كظَرُفَ فهو ظَرِيفٌ. قوله: {مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} متعلق ب «بَدَتْ» و «مِنْ» لابتداء الغاية، وجوَّز ابو البقاء أن يكون حالاً، أي: خارجة من أفواههم، والأفواه: جمع فَم، وأصله فوه، فلامه هاء، يدل على ذلك جمعه على أفواه، وتصغيره على «فُوَيْه» ، والنسب إليه على فوهي، وهل وزنه فَعْل - بسكون العين - أو «فَعَل» - بفتح العين -؟ خلاف للنحويين، ثم حذفوا لامه تخفيفاً، فبقي آخرهُ حرف علة، فأبدلوه ميماً؛ لقُرْبهِ منها؛ لأنهما من الشفة، وفي الميم هُوِيٌّ في الفم يضارع المد الذي في الواو. وهذا كله إذا أفردوه عن الإضافة، فإن أضافوه لَمْ يُبْدلوا حرفَ العلة. كقوله: [البسيط] 1588 - فَوهٌ كَشقِّ الْعَصَا لأْياً تُبَيِّنُهُ ... أسَكُّ مَا يَسْمَعُ الأصْوَاَ مَضلُومُ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 493 عكس الأمر في الطرفين، فأتى بالميم في حال الإضافة، وبحرف العلة في القطع عنها. فمن الأول قوله: [الرجز] 1589 - يُصْبِحُ ظَمْآنَ وَفِي الْبَحْرِ فَمُهُ ... وخصَّه الفارسيُّ وجماعة بالضرورة، وغيرهم جوَّزه سعة، وجعل منه قوله: «لخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك» . ومن الثاني قوله: [الرجز] 1590 - خَالَطَ مِنْ سَلْمَى خَيَاشِيمَ وَفَا ... أي: وفاها، وإنما جاز ذلك؛ لأن الإضافة كالمنطوق بها. وقالت العرب: رجل مفوَّه - إذا كان يجيد القولَ - وأَفْوَه: إذا كان واسعَ الفم. قال لبيد: [الوافر] 1591 - ... ... ... ... ..... وَمَا فَاهُوا بِهِ أبَداً مُقِيمُ وفي الفم تسع لغات، وله أربع مواد: ف م هـ. ف م و. ف م ي. ف م م؛ بدليل أفواه، وفموين، وفميين، وأفمام. فصل {قَدْ بَدَتِ البغضآء} أي: ظهرت علامة العداوة من أفواههم. فإن حملناه على المنافقين، فمعناه أن يجري في كلامه ما يدل على نفاقه، وعدم الود والنصيحة، كقوله: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول} [محمد: 30] ، أو بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين، والكفَّار، لإطلاع بعضهم بعضاً على ذلك. وإن حملناه على اليهود فمعناه: أنهم يُظهرون تكذيب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والكتاب، وينسبونه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 494 إلى الجهل. وإن حَمَلْناه على الكُفَّار، فمعنى البغضاء الشتيمة والوقيعة في المسلمين. فصل قال القُرْطُبِيُّ: «وفي هذه الآية دليل على أن شهادةَ العدو على عدوِّه لا تجوز، وبذلك قال أهل المدينة وأهل الحجاز، ورُوِيَ عن أبي حنيفةَ جوازُ ذلك. وحكى ابن بطّال عن ابن شعبان أنه قال: أجمع العلماء على أنه لا تجوز شهادة العدو على عدوه في شيء، وإن كان عَدْلاً - والعداوة تُزيل العدالة، فكيف بعداوة الكافر» . قوله: {وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} يجوز أن تكون «ما» بمعنى: الذي، والعائد محذوف - أي: تخفيه فحذف - وأن تكون مصدرية - أي: وإخفاء صدورهم - وعلى كلا التقديرين، ف «ما» مبتدأ و «أكبر» خبره، والمفضَّل عليه محذوف، أي: أكبر من الذي أبدَوْهُ بأفواههم. قوله: {إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} شرط، حذف جوابه، لدلالة ما تقدم عليه، أو هو ما تقدم - عند من يرى جوازه -. والمعنى: إن كنتم من أهل العقل، والفهم، والدراية. وقيل: إن كنتم تعقلون الفَصْل بين ما يستحقه الولِيّ والعدُوّ، والمقصود منه: استعمال العقل في تأمل هذه الآيات، وتدبُّر هذه البينات. قوله تعالى: {هَآأَنْتُمْ أولااء تُحِبُّونَهُمْ} قد تقدم نظيره. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «ها» للتنبيه، و «أنْتُمْ» مبتدأ و «أولاءِ» خبره، و «تُحِبُّونَهُمْ» في موضع نصب على الحال من اسم الإشارة. ويجوز أن يكون «أولاء» بمعنى: الذي، و «تُحِبُّونَهُمْ» صلة له، والموصول مع الصلة خبر. قال الفرَّاء: «أولاَءِ» خبر، و «يحبونهم» خبر بعد خبر. ويجوز أن يكون «أولاء» في موضع نصب بفعل محذوف، فتكون المسالة من باب الاشتغال، نحو: أنا زيداً ضربته. قوله: {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} يحتمل أن يكون استئناف إخبار، وأن يكون جملة حالية. فصل قال المُفَضَّل: «تحبّونهم» تريدون لهم الإسلام، وهو خير الأشياء، و {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} ، فإنهم يريدون بقاءكم على الكفر، وهو يوجب الهلاك. وقيل: {يُحِبُّونَهُمْ} بسبب ما بينكم وبينهم من القرابة، والرضاع، والمصاهرة، {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} لأجل الإسلام. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 495 وقيل: {تُحِبُّونَهُمْ} بسبب إظهارهم لكم الإسلام {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} بسبب أن الكفر مستغرق في قلوبهم. وقال أبُو العَالِيَةِ، ومُقَاتِلٌ: المحبة - هاهنا - بمعنى: المصافاة، أي: أنتم - أيها المؤمنون - تصافونهم، ولا يصافونكم؛ لنفاقهم. وقال الأصمّ: {تُحِبُّونَهُمْ} بمعنى: أنكم لا تريدون إلقاءهم في الآفات، والمحن، {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} بمعنى: أنهم يريدون إلقاءكم في الآفات والمِحَن، ويتربصون بكم الدوائر. وقيل: {تُحِبُّونَهُمْ} بسبب أنهم يُظهرون لكم محبة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم يبغضون الرسول، ومحب المبغوض مبغوض. وقيل: {تُحِبُّونَهُمْ} أي: تخالطونهم، وتُفشون إليهم أسرارَكم في أمور دينكم {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} أي: لا يفعلون ذلك بكم. قوله: {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ} يجوز أن تكون الألف واللام - في الكتاب - للجنس، والمعنى: بالكتب كلها، فاكتفى بالواحد. وقيل: أفرد الكتاب؛ لأنه مصدر، فيجوز أن يُسَمَّى به الجمع. وقيل: إن المصدر لا يُجْمَع إلا على التأويل، فلهذا لم يَقُل: الكتب - بدلاً من الكتاب -، وإن كان لو قاله لجاز، توسعاً. ويجوز أن يكون للعهد، والمراد به: كتاب مخصوص. وهنا جملة محذوفة، يدل عليها السياق، والتقدير: {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ} ، وهم لا يؤمنون بكتابكم، وحَسُنَ العطفُ، لما تقدم من أن ذكر أحد الضدين يُغْني عن ذِكْر الآخر، وتقدير الكلام: أنكم تؤمنون بكتبهم كلها، وهم - ممع ذلك - يبغضونكم، فما بالكم - مع ذلك - تحبونهم، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم؟ . وفيه تنبيخ شديد بأنهم - في باطلهم - أصلب منكم في حقكم. قوله: {وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} ومعناه: إذا خَلاَ بعضهم ببعض أظهروا شدة العداوة، وشدة الغيظ على المؤمنين، حتى تبلغ الشدة إلى عَضِّ الأنامل، كما يفعل الإنسان - إذا اشتد غيظه، وعَظُم حُزنه - على فَوْت مطلوبه، ولمَّا كَثُر هذا الفعلُ من الغضبان صار ذلك كناية عن الغضب، وإن لم يكن هناك عض. قوله: {عَلَيْكُمْ} متعلق ب «عَضُّوا» ، وكذلك {مِنَ الغيظ} و «مِنْ» فيه لابتداء الغاية، ويجوز أن يكون بمعنى اللام، فيفيد العِلِّيَّةَ - اي: من أجل الغيظ -. وجوز أبو البقاء - في «عَلَيْكُمْ» ، وفي {مِنَ الغيظ} - أن يكونا حالين، فقال: «ويجوز أن يكون حالاً، أي: حنقين عليكم من الغيظ. {ومِنَ الغيظ} متعلق ب» عَضُّوا « الجزء: 5 ¦ الصفحة: 496 أيضاً، و» مِنْ «لابتداء الغاية، أي: من أجل الغيظ، ويجوز أن يكون حالاً، أي: مغتاظين» . انتهى. وقوله: و «من» لابتداء الغاية - أي: من أجل الغيظ كلام متنافر؛ لأن التي للابتداء لا تفسَّر بمعنى: «من أجل» ، فإنه معنى العلة، والعلة والابتداء متغايران، وعلى الجملة، فالحالية - فيهما - لا يظهر معناها، وتقديره الحال ليس تقديراً صناعيًّا؛ لأن التقدير الصناعي إنما يكون بالأكوان المطلقة. والعَضّ: الأزم بالأسنان، وهو تحامُل الأسنان بعضها على بعض، يقال: عَضِضْتُ قال امرؤ القيس: [الطويل] 1592 - ... ... ... ... ... ..... كَفَحْلِ الْهِجَانِ يَنْتَحِي لِلْعَضِيضِ جعل الباء زائدة في المفعول؛ إذ الأصل: يعضون خلفنا الأنامل. وقال آخر: [المتقارب] 1594 - قَدَ افْنَى أنَامِلَهُ أزْمُهُ ... فَأضْحَى يَعَضُّ عَلَيَّ الْوَظِيفَا وقال الحارث بن ظالم المري: [الطويل] 1595 - وَأقْتُلُ أقْوَاماً لِئاماً أذِلَّةً ... يَعُذُّونَ مِنْ غَيْظٍ رُءُوسَ الأبَاهِمِ وقال آخر: [البسيط] 1596 - إذَا رَأوْنِي - أطَالَ اللهُ غَيْظَهُمُ ... عَضُّوا مِنَ الْغَيظِ أطْرَافَ الأبَاهِيمِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 497 والعَضّ كله بالضاد، إلا في قولهم: عَظَّ الزمان - أي: اشتد - وعظت الحرب، فإنهما بالظاء - أخت الطاء -. قال الشاعر: [الطويل] 1597 - وَعَظُّ زَمَانٍ - يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ الْمَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ قال شهاب الدين: «وقد رأيته بخط جماعة من الفضلاء: وعضُّ زمان - بالضاد» . والعُضُّ - بضم الفاء - عَلَف من نوًى مرضوض وغيره، ومنه: بَعير عُضَاضِيّ - أي: سمين - كأنه منسوب إليه، وأعَضَّ القومُ - إذا أكلت إبلُهم ذلك، والعِضّ - بكسر الفاء - الرجل الداهية، كأنهم تصوروا عَضَّه وشدته. وزمن عضوض - أي: جدب، والتَّعْضوض: نوع من التمر، سُمِّيَ بذلك لشدة مضغه وصعوبته. والأنامل: جمع أنملة - وهي رؤوس الأصابع. قال الرُّماني: واشتقاقها من النمل - هذا الحيوان المعروف - شبهت به لدقتها، وسرعة تصرفها وحركتها، ومنه قالوا للنمام: «نمل ومنمل» لذلك. قال الشاعر: [المتقارب] 1598 - وَلَسْتُ بِذِي نَيْرَبٍ فِيهِمُ ... وَلاَ مُنْمِشٍ فيهِمُ مُنْمِلِ وفي ميمها الضم والفتح. والغيظ: مصدر غاظه، يغيظه - أي: أغضبه -. وفسره الراغب بأنه أشد الغضب، قال: وهو الحرارة التي يجدها الإنسان من ثوران دَمِ قلبه. وإذا وصف به الله تعالى، فإنما يراد به الانتقام. والتغيظ: إظهار الغيظ، وقد يكون مع ذلك صوت، قال تعالى: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان: 12] ، والجملة من قوله: {وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ} معطوفة على {تُحِبُّونَهُمْ} ، ففيها ما فيها من الأوجه المعروفة. قال الزمخشري: والواو في {وَتُؤْمِنُونَ} للحال، وانتصابها من {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} أي: لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابكم كله، وهم - مع ذلك - يبغضونكم، فما بالكم تحبونهم، وهم لا يؤمنون بشيء من كتابكم. قال أبو حيان: «وهو حسن، إلا أن فيه من الصناعة النحوية ما يخدشه، وهو أنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 498 جعل الواو في {وَتُؤْمِنُونَ} للحال، وانتصابها من {وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ} والمضارع المثبت - إذا وقع حالاً - لا تدخل عليه واو الحال، تقول: جاء زيد يضحك، ولا يجوز: ويضحك، فأما قولهم: قمت وأصُكُّ عينه، ففي غاية الشذوذ، وقد أوِّل على إضمار مبتدأ، أي: وأنا أصُكّ عينه، فتصير الجملة اسمية، ويحتمل هذا التأويل هنا: ولا يحبونكم وأنتم تؤمنون بالكتاب كله، لكنَّ الأولَى ما ذكرنا من كونها للعطف» . يعني: فإنه لا يُحْوِج إلى حَذْف، بخلاف تقديره مبتدأ، فإنه على خلاف الأصل. قوله: {قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ} يجوز أن تكون الباء للحال، أي: موتوا ملتبسين بغيظكم لا يزايلكم، وهو كناية عن كثرة افسلام وفُشوِّه؛ لأنه كلما ازداد الإيمان ازداد غيظهم، ويجوز أن تكون للسببية أي: بسبب غَيْظكم، وليس بالقويّ. وقوله: {مُوتُواْ} صورته أمر ومعناه الدعاء، فيكون دُعَاءً عليهم بأن يزداد غَيْظُهم، حتى يهلكوا به، والمراد من ازدياد الغيظ: ازدياد ما يوجب لهم ذلك الغيظ من قوة الإسلام، وعِزِّ أهْلِه، وما لهم في ذلك من الذُّلِّ، والخِزْي، والعار. وقيل: معناه الخبر، أي: أن الأمر كذلك. وقد قال بعضهم: إنه لا يجوز أن يكون بمعنى: الدعاء؛ لأنه لو كان أمره بأن يدعو عليهم بذلك لماتوا جميعاً على هذه الصفة؛ فإنَّ دعوته لا ترد، وقد آمن منهم كثيرون بعد هذه الآيةِ، [وليس بخبر] ؛ لأنه لو كان خبراً لوقع على حكم ما أخبره، ولم يؤمن أحدٌ بعدُ، وإذا انتفى هذان المعنيان فلم يَبْقَ إلا أن يكون معناه التوبيخ، والتهديد، كقوله تعالى: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] و «إذَا لَمْ تَسءتَحْي فاصْنَعْ مَا شِئْتَ» . وهذا - الذي قاله - ليس بشيء؛ لأن مَنْ آمن منهم لم يدخل تحت الدعاء - إن قُصِد به الدعاء - ولا تحت الخبر، إن قُصِد به الإخبار. قوله: {إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} يحتمل أن تكون هذه الجملة مستأنفة، أخبر - تعالى - بذلك؛ لأنهم كانوا يُخفون غيظَهم ما أمكنهم، فذكر ذلك لهم على سبيل الوعيد، ويحتمل أن يكون من جملة المقول، أي: قُلْ لهم: كذا، وكذا، فيكون في محل نصب بالقول، ومعنى قوله: {بِذَاتِ} أي: باملُضْمَرات، ذوات الصدور، ف «ذَات» - هنا - تأنيث «ذي» بمعنى صاحب؛ فحُذِف الموصوف، وأقيمت صفته مقامه، أي: عَلِيمٌ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 499 بالمضمرات صاحبة الصدُور، و «ذو» جعلت صاحبة للصدور لملازمتها لها، وعدم انفكاكها عنها، نحو أصحاب النار، وأصحاب الجنة. والمراد بذات الصدور: الخواطر القائمة بالقلب من الدواعهي، والصوارف الموجودة فيه. واختلفوا ف يالوقف على هذه اللفظة، هل يوقف عليها بالتاء، أو بالهاء؟ . فقال الأخفش، والفَرَّاءُ، وابن كيسان: الوقف عليها بالتاء اتباعاً لرسم المصحف. وقال الكسائي، والجَرْمِيّ: يوقف عليها بالهاء، لأنها تاء تأنيث، كهي في صاحبة، وموافقة الرسم أوْلَى؛ فإنَّهُ قد ثبت لنا الوقف على تاء التأنيث الصريحة بالتاء، فإذا وقفنا - هنا - بالتاء، وافقنا تلك اللغة، والرسم، بخلاف عكسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 500 قرأ العامة {تَسُؤْهُمْ} ، بالتأنيث؛ مراعاةً للفظ «حَسَنَةٌ» . وقرأ أبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ بالياء من تحت؛ لأنّ تأنيثها مجازيّ، وقياسه أن يقرأ «وَإن يصبكم سَيئةٌ» بالتذكير - أيضاً - لكن لم يبلغنا عنه في ذلك شيء. والمس: أصله باليد، ثم يُسَمَّى كل ما يصل غلى الشيء ماسًّا، على سبيل التشبيه، يقال: فلان مسَّه العصب والنصب، قال تعالى: {وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38] . وقال الزمخشري: المسّ مستعار هاهنا بمعنى: الإصابة، قال تعالى: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ} [التوبة: 50] . وقال: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] . والمراد بالحسنة - هنا: منفعة الدنيا، من صحة البدن، وحصول الخِصْب والغنيمة، والاستيلاء على الأعداء، وحصول الألْفَة والمحبة بين المؤمنين. والمراد بالسيِّئَة: اضدادها، والسيئة: من ساء الشيء يَسيءُ - فهو سيِّءٌ، والأنْثَى سيئة - أي: قبح، ومنه قوله تعالى {سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} [المائدة: 66] ، والسوء ضد الحسن، وهذه الآية من تمام وَصْف المنافقين. فصل قال ابو العباس: وردت الحسنةُ على خمسةِ أوجُه: الأول: بمعنى: النصر والظفَر، قال تعالى: {إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} [آل عمران: 120] أي: نَصْر وَظفَر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 500 الثاني: بمعنى: التوحيد، قال تعالى: {مَن جَآءَ بالحسنة} [الأنعام: 160] أي: بالتوحيد. الثالث: الرَّخَاء: قال تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله} [النساء: 78] أي: رخاء. الرابع: بمعنى: العاقبة، قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} [الرعد: 6] أي بالعذاب قبل العاقبةِ. الخامس: القول بالمعروف، قال تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة} [الرعد: 22] أي: بالقول المعروف. فصل والسيئة - أيضاً - على خمسة أوجه: الأول: بمعنى: الهزيمة - كما تقدم - كقوله: {وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا} [آل عمران: 120] أي: هزيمة. الثاني: الشرك، قال تعالى: {وَمَن جَآءَ بالسيئة} [الأنعام: 160] أي: بالشرك. الثالث: القحط، قال تعالى: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ} [النساء: 78] أي: قحط، ومثله قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131] . الرابع: العذاب، قال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة} [الرعد: 6] . الخامس: القول الرديء، قال تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة} [الرعد: 22] . قوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ} أي: على طاعة الله، وعلى ما ينالكم فيها من شدة، وغَمٍّ، {وَتَتَّقُواْ} كلَّ ما نهاكم عنه، {لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ} . قرأ نافع وابنُ كثير وأبو عمرو: «يَضُرْكُمْ» بكسر الضاد، وجزم الراء في جواب الشرط، من ضاره يضيره ويقال - أيضاً -: ضاره يضوره، ففي العين لغتان، ويقال ضاره يضيره ضَيْراً، فهو ضائر، وهو مضير، نحو: قلته أقوله، فأنا قائل، وهو مقول. وقرأ الباقون: {يَضُرُّكُمْ} بضم الضاد، وتشديد الراء مرفوعة، وفي هذه القراءة أوجه: الأول: أن الفعل مرتفع، وليس بجواب للشرط، وإنما هو دالٌّ على جواب الشرط، وذلك أنه على نية التقديم؛ إذ التقدير: لا يضركم إن تصبروا وتتقوا، فلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 501 يضركم، فحذف فلا يضركم الذي هو الجواب، لدلالة ما تقدم عليه، ثم أخر ما هو دليل على الجواب، وهذا تخريج سيبويه وأتباعه، إنما احتاجوا إلى ارتكاب ذلك، لما رأوا من عدم الجزم في فعل مضارع لا مانع من إعمال الجزم، ومثله قول الراجز: 1599 - يا أقْرَعُ بْنَ حَابسٍ يَا أقْرَعُ ... إنَّكَ إنْ يُصْرَع أخُوكَ تُصْرَعُ برفع «تصرع» الأخير -. وكذلك قوله: [البسيط] 1600 - وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ ... يَقُولُ: لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ برفع «يقول» - إلاَّ أن هذا النوع مطّرد، بخلاف ما قبله - أعني: كون فعل الشرط والجزاء مضارعين - فإن المنقول عن سيبويه، وأتباعه وجوب الجزم، إلا في ضرورة. كقوله: [الرجز] 1601 - ... ... ... ... ... ... . ... إنَّك إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ وتخريجه هذه الآية على ما تقدم عنه يدل على أن ذلك لا يُخَصُّ بالضرورةز الوجه الثاني: أن الفعل ارتفع لوقوعه بعد فاء مقدَّرة، وهي وما بعدها الجواب في الحقيقة، والفعل متى وقع بعد الفاء رُفِع ليس إلاَّ كقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] . والتقدير: فلا يضركم، والفاء حذفت في غير محل النزاع. كقوله: [البسيط] 1602 - مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا ... وَالشَّرُّ بِالشَّرِّ عِنْدَ اللهِ مِثْلانِ أي: فالله يشكرها، وهذا الوجه نقله بعضهم عن المبرد، وفيه نظر؛ من حيث إنهم، لما أنشدوا البيت المذكور، نقلوا عن المبرد أنه لا يُجَوَّز حَذْفَ هذه الفاء - ألبتة - لا ضرورة، ولا غيرها - وينقلون عنه أنه يقول: إنما الرواية في هذا البيت: [البسيط] 1603 - مَنْ يَفْعَلِ الْخَيْرَ فَالرَّحْمنُ يَشْكُرُهُ ... وردوا عليه بأنه إذا صحَّت روايةٌ، فلا يقدح فيها غيرُها، ونقله بعضُهم عن الفراء والكسائي، وهذا أقرب. الوجه الثالث: أن الحركة حركة إتباع؛ وذلك أن الأصل: «لاَ يَضْرُرْكُمْ» . بالفك وسكون الثاني جَزْماً، وسيأتي أنه إذا التقى مِثْلان في آخر فعل سكن ثانيهما - جَزْماً، أو وَقْفاً - فللعرب فيه مذهبان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 502 الجزم: وهو لغة تميم. والفك: وهو لغة الحجاز. لكن لا سبيل إلى الإدغام إلا في متحرك، فاضطررنا إلى تحريك المِثْل الثاني، فحَرَّكْناه بأقرب الحركات إليه، وهي الضمة التي على الحرف قبله، فحرَّكناه بها، وأدْغمنا ما قبله فيه، فهو مجزوم تقديراً، وهذه الحركة - في الحقيقة - حركة إتباع، لا حركة إعراب، بخلافها في الوجهين السابقين، فإنها حركة إعراب. واعلم أنه متى أدغم هذا النوع، فإما أن تكون فاؤُه مضمومةً، أو مفتوحةً، أو مكسورةً، فإن كانت مضمومة - كالآية الكريمة. وقولهم: مُدَّ - ففيه ثلاثة أوجه حالة الإدغام: الضم للإتباع، والفتح للتخفيف، والكسر على أصل التقاء الساكنين، فتقول: مُدَّ ومُدُّ ومُدِّ. وينشدون على ذلك قول الشاعر: [الوافر] 1604 - فغُضّ الطَّرْفَ إنَّكَ مِنْ نُمَيْرٍ ... فَلاَ كَعْباً بَلَغْتَ وَلاَ كِلاَبَا بضم الضاد، وفتحها، وكسرها - على ما تقرر - وسيأتي أن الآية قُرِئَ فيها بالأوُجه الثلاثةِ. وإن كانت فاؤه مفتوحةً، نحو عَضَّ، أو مكسورة، نحو فِرَّ، كان في اللام وجهان: الفتح، والكسر؛ إذ لا وَجْهَ للضمِّ، لكن لك في نحو فِرَّ أن تقول: الكسر من وجهين: إما الإتباع، وإما التقاء الساكنين، وكذلك لك في الفتح - نحو عَضَّ - وجهان - أيضاً -: إما الإتباع، وإمَّا التخفيف. هذا كله إذا لم يتصل بالفعل ضمير غائب، فأما إذا اتصل به ضمير الغائب - نحو رُدَّهُ - ففيه تفصيل ولغات ليس هذا موضعها. وقرأ عاصم - فيما رواه المفضَّل -: بضم الضاد، وتشديد الراء مفتوحة - على ما تقدم من التخفيف - وهي عندهم أوجه من ضم الراء. وقرأ الضحاك بن مزاحم: «لا يَضُرِّكُمْ» بضم الضاد، وتشديد الراء المكسورة - على ما تقدم من التقاء الساكنين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 503 وكأن ابْنُ عَطِيَّةَ لم يحفظها قراءةً؛ فإنه قال: فأما الكسر فلا أعرفه قراءةً. وعبارة الزجَّاج في ذلك متجوَّز فيها؛ إذْ يظهر من روح كلامه أنها قراءة وقد بينا أنها قراءة. وقرأ أبيّ: «لا يَضْرُرْكُمْ» بالفكّ، وهي لغة الحجاز. والكيد: المكر والاحتيال. وقال الراغب: هو نوع من الاحتيال، وقد يكون ممدوحاً، وقد يكون مذموماً، وإن كان استعماله في المذموم أكثر. قال ابْنُ قُتَيْبَةَ: وأصله من المشقة، من قولهم: فلان يكيد بنفسه، أي: يجود بها في غمرات الموت، ومشقاته. ويقال: كِدْتُ فلاناً، أكيده - كبعته أبيعُه. قال الشاعر: [الخفيف] 1605 - مَنْ يَكِدْنِي بسَيِّءٍ كُنْتُ مِنْهُ ... كَالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ وَالْوَرِيدِ و «شَيْئاً» منصوب نصب المصادر، أي: شيئاً من الضرر، وقد تقدم نظيره. ومعنى الآية: أن كل من صبر على أداء أوامر الله تعالى، واتقى عما نهى الله عنه، كان في حِفْظ الله، فلا يضره كيد الكائدين، ولا حِيَلُ المحتالين. قوله: {إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} قراءة العامة {يَعْمَلُونَ} - بالغيبة، وهي واضحة. وقرأ الحسن بالخطاب، إما على الالتفات، والتقدير: إنه عالم، محيط بما تعملونه من الصبر والتقوى، فيفعل بكم ما أنتم أهله، وإما على إضمار: قُل لهم يا محمد. وإنما قال: {إِنَّ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} ولم يقل: إنَّ اللهَ محيط بما يعملونَ؛ لأنهم يُقدِّمون الأهم، والذي هُمْ بشأنه أعْنَى، وليس المقصود - هنا - بيان كونه تعالى عالماً، بل بيان أن جميع أعمالهم معلومة لله تعالى، ومجازيهم عليها، فلا جرم قدّم ذكر العمل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 504 العامل في «إذْ» مضمَر، تقديره: واذكر إذْ غدوت، فينتصب المفعول به لا على الظرف، وجوَّز أبو مسلم أن يكون معطوفاً على {فِئَتَيْنِ} في قوله: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ} [آل عمران: 13] أي: قد كان لكم آية في فئتين، وفي إذْ غَدَوْتَ، وهذا لا ينبغي أن يعرَّج عليه. وقال بعضهم: العامل في «إذْ» «محيط» تقديره: بما يعملون محيط إذْ غَدَوْتَ. قال بعضهم: وهذا لا يَصحّ؛ لأن الواو في (وَإِذْ) يمنع في عمل (مُحِيطٌ) فيها. والغُدوّ: الخروج أول النهار، يقال: غدا يغدو، أي: خرج غدوة، وفي هذا دليل على جواز صلاة الجمعة قبل الزوال؛ لأن المفسِّرين أجمعوا على أنه إنما خرج بعد أن صَلَّى الجمعة. ويُسْتَعْمَل بمعنى: «صار» عند بعضهم، فيكون ناقصاً، يرفع الاسم، وينصب الخبر، وعليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَوْ تَوَكَّلْتُمْ عَلَى اللهِ حَقَّ توكُّلِهِ لَرَزَقكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصاً، وتَرُوحُ بِطَاناً» . قوله: «من أهلك» متعلق ب «غَدَوْتَ» ، وفي «مِنْ» وجهان: أحدهما: أنها لابتداء الغاية، أي: من بين أهلك. قال أبو البقاء: «وموضعه نصب، تقديره فارقت أهلَك» . قال شهابُ الدِّيْنِ: «وهذا الذي قاله ليس تفسير إعراب، ولا تفسير معنى؛ فإن المعنى على غير ما ذكر» . الثاني: أنها بمعنى: «مع» أي: مع أهْلك، وهذا لا يساعده لفظ، ولا معنى. قوله: «تبوئ» يجوز أن تكون الجملة حالاً من فاعل: «غَدَوْتَ» ، وهي حال مقدرة، أي: قاصداً تَبْوئةَ المؤمنين؛ لأن وقت الغدو ليس وقتاً للتبوئة، ويُحْتَمَل أن تكون حالاً مقارنة؛ لأن الزمان متسع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 505 و «تبوئ» أي تُنزل، فهو يتعدى لمفعولين، إلى أحدهما بنفسه، وإلى الآخر بحرف الجر، وقد يُحْذَف - كهذه الآية - ومن عدم الحذف قوله تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت} [الحج: 26] وأصله من المباءة - وهي المرجع -. قال الشاعر: [الطويل] 1606 - وَمَا بَوَّأ الرَّحْمَنُ بَيْتَكَ مُنْزِلاً ... بِشَرْقيٍّ أجْيَادِ الصَّفَا وَالْمُحَرَّمِ وقال آخر: [مجزوء الكامل] 1607 - كَمْ صَاحِبٍ لِيَ صَالِحٍ ... بَوَّأتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا وقد تقدم اشتقاقه. وقيل: اللام في قوله «لإبراهيم» مزيدة، فعلى هذا يكون متعدياً لاثنين بنفسه. و «مقَاعِدَ» جمع مَقْعَد، والمراد به - هنا - مكان القعود، و «قعد» قد يكون بمعنى: «صار» في المثل خاصة. قال الزمخشري: «وقد اتُّسِعَ في قَامَ، وقَعَدَ، حتى أجْرِيَا مُجْرَى صار» . قال أبو حيان: أما إجراء قَعَدَ مُجْرَى صار، فقال بعض أصحابنا: إنما جاء ذلك في لفظة واحدة شاذة في المثل قولهم: شَحَذَ شَفْرَتَه حتَّى قَعَدَتْ كأنَّهَا حَرْبَةٌ، ولذلك نُقِد على الزمخشري تخريجُه قوله تعالى: {فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً} [الإسراء: 22] بمعنى تصير؛ لأنه لا يَطَّرِد إجراء قَعَدَ مُجْرَى صار. قال شهابُ الدين: «وهذا - الذي ذكره الزمخشري - صحيح، من كون قَعَد بمعنى: صار في غير ما أشار إليه هذا القائل؛ حكى أبو عمر الزاهد - عن ابن الأعرابي - أن العرب تقول: قعد فلان أميراً بعد أن كان مأموراً، أي: صار» . ثم قال أبو حيان: وأما إجراء قام مُجْرَى صار، فلا أعلم أحداً عدَّها في أخَوَاتِ «كان» ، ولا جعلها بمعنى «صار» إلا ابن هشام الخَضْراوي، فإنه ذكر - في قول الشاعر: [الوافر] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 506 1608 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ أنها من أفعال المقاربة. قال شهابُ الدين: «وغيرُه من النحويين من يجعلها زائدةً، وهو شاذٌّ، أيضاً» . وقرأ العامة: «تبوّئ» بعدَّوْه بالتضعيف، وقرأ عبد الله: «تُبْوِئ» ، بسكون الباء فعدَّاه بالهمزة، فهو مضارع أبْوَأ - كأكرم. وقرأ يحيى بن وثَّاب «تُبْوِي» كقراءة عبد الله، إلا أنه سَهَّل بإبدالها ياءً، فصار لفظه كلفظ: يُحيي. وقرأ عبد الله: للمؤمنين - بلام الجر - كقوله: «وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت» وقد تقدم أن في هذه اللام قولين، والظاهر أنها معدية؛ لأنه قبل التضعيف، والهمزة غيرُ متعدٍّ بنفسه. ويحتمل أن يكون قد ضمَّنه - هنا - تهيِّئ، وترتِّب. وقرأ الأشهب «مقاعد القتال» - بإضافتها للقتال - واللام في «لِلْقِتَالِ» - في قراءة الجمهور - فيها وجهان: أوّلهما: - وهو أظهر -: أنها متعلقة ب «تبوئ» على أنها لام العلة. والثاني: أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها صفة لِ «مَقَاعِدَ» أي: مقاعد كائنة، ومُهَيَّأة للقتال، ولا يجوز تعلقها ب «مقاعد» ، وإن كانت مشتقة؛ لأنها مكان، والأمكنة لا تعمل. فصل كيفية النظم أنه - تعالى - لما قال: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 120] أتبعه ببيان أن الصبر يؤدي إلى النُّصْرة، والمعونة، ودَفْع ضرر العدو، وأن عدم الصبر يؤدي إلى خلاف ذلك، فقال: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} يعني: يوم أُحُد، كانوا كثيرين، مستعدِّين للقتال، فلما خالفوا أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ انهزموا، ويوم بدر كانوا قليلين، غير مستعدين للقتال، فلما أطاعوا أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غَلَبُوا. وفيه وجه آخر، وهو أنه لما نهى عن اتخاذ المنافقين بطانة، بيَّن - هنا - العلة في ذلك، وهي أن انكسارَكم يوم أحُد، إنما حصل بسبب تخلُّف عبد الله بن أبَيِّ ابْن سَلُول، المنافق. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 507 فصل اختلفوا في هذا اليوم. فقال ابن عباس، والسُّدِّيّ، وابنُ إسْحَاقَ، والرَّبِيعُ، والأصم، وأبو مسلم، وأكثر المفسرين: إنه يوم أُحُد. وقال الحسنُ: هو يوم بدر. وقال مجاهد ومقاتل: هو يوم الأحزاب، واحتج الأولون بوجوه: الأول: أن أكثر العلماء بالمغازي ذكروا أن هذه الآية نزلت في واقعة أحُد. والثاني: أنه - تعالى - قال بعد هذه الآية: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} [آل عمران: 123] ، والظاهر أنه معطوف على ما تقدم، وحقُّ المعطوف أن يغاير المعطوفَ عليه، وأما يوم الأحزاب فالقوم إنما خالفوا أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم أحُد، لا يوم الأحزاب، فكانت قصة أحُد ألْيَقَ بهذا الكلام، لأن المقصود من ذكر هذه القصة تقرير قوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ} [آل عمران: 120] . الثالث: أن الانكسار كان في يوم أُحُد أكثر منه في يوم الأحزاب، لأن في يوم أُحُد قَتَلُا جَمْعاً كثيراً من أكابر الصحابة، ولم يتفق ذلك في يوم الأحزاب، فكان حمل الآية على يوم أحُد أوْلَى. الرابع: أن ما بعده إلى قريب من آخر السورة متعلق بحرب أحد. فصل قال مُجَاهِدٌ، والكَلْبِيُّ، والوَاقِدِي: غَدَا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من منزل عائشة، فمشى على رجليه إلى أحد، يَصُفُّ أصحابَه للقتال، كما يقوم القداح، وروي أن المشركين نزلوا بأحُد يوم الأربعاء، فلما سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بنزولهم، استشار أصحابه، ودعا عبدَ الله الجزء: 5 ¦ الصفحة: 508 ابْن أبيّ ابْنَ سلول - ولم يدعه قط قبلها -، فاستشاره، فقال عبد الله بن أبَيّ، وأكثر الأنصار: يا رسول الله أقم بالمدينة، لا تخرج إليهم، فوالله ما خرجنا عنها إلى عدو قط إلا أصاب منا، ولا دخل عدو علينا إلا أصبْنَا منه، فدعهم، فإن أقاموا أقاموا بِشَرِّ موضع، وإن دخلوا قاتلهم الرجالُ في وجوههم، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم، وإن رجعوا رجعوا خائبين، فأعْجَبَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا الرأيُ. وقال آخرون: اخرج بنا إلى هؤلاء الأكْلُب؛ لئلا يظنّوا أنا قد خفناهم وضعفنا، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنِّي رَأيْتُ فِي مَنَامِي بَقَرَةً تُذْبَحُ حَوْلِي، فأوَّلْتُها خَيْراً، وَرَأيْتُ فِي ذُبَابَةِ سَيْفِي ثَلْماً، فَأوَّلْتُه هَزِيمَةً ورايت كأنِّي أدْخَلْتُ يَدِي فِي دِرْع حَصِينَة، فأوَّلْتُها المَدِينَةَ، فَإنْ رَأيْتُمْ أن تُقِيمُوا بِالْمَدِينَةِ، وتدعوهُمْ - وَكَانَ يُعْجِبُهُ أنْ يَدْخُلُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ، فِيُقَاتَلُوا في الأزقَّة - فَقَالَ رِجالٌ مِنَ المُسْلمين فَاتَهُمْ يَوْمَ بَدْرٍ، وأكْرَمَهُمُ اللهُ بِالشَّهَادَةِ يَوْمَ أحُدٍ: اخْرُجْ بِنَا إلَى أعْدائِنَا، فَلَمْ يَزَالُوا برسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَتَّى دَخَلَ، فَلَبَس لأمَتهُ، فَلَمَّا رَأوْهُ قَدْ لَبِسَ السِّلاَحَ نَدِمُوا، وَقَالُوا: بِئْسَ ما صنعنا، نُشِيرُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والوَحْيُ يَأتِيهِ!!! فَقُامُوا، واعْتَذَرُوا إلَيْهِ، وَقَالُوا: اصْنَعْ ما رأيت، فَقَالَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يَنْبَغِي لِنَبِيٍّ أنْ يَلْبَسَ لأمَتَهُ، فَيَضَعَهَا حَتَّى يُقَاتِلَ - وَكَانَ قَدْ أقَامَ المُشرِكُون بأحُدٍ يَوْمَ الأرْبِعَاءِ، وَيَوْمَ الخَمِيسِ - فَرَاحَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَوْمَ الجُمُعَةِ بَعْدَمَا صَلى بِأصْحَابِهِ الجمعة، وقد مَاتَ فِي ذَلِكَ اليَوْمِ رَجُلٌ مِنَ الأنْصَارِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثُمَّ خَرَجَ إلَيْهِمْ، فَأصْبَحَ بالشِّعْب من أحُد يوم السَّبْتِ للنصف من شَوَّال سنة ثلاثٍ من الهجرة، فَمَشَى عَلَى رجْلَيْهِ، وَجَعَلَ يصُفُّ أصحابَه لِلْقِتَالِ كَمَا تُقَوَّمُ القِدَاحُ، إنْ رَأى صدْراً بَارِزاً تأخَّر، وكان نزوله في جانب الوادي، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد، وأمَّرَ عبد الله بن جبير على الرُّماة، وقال: ادفعوا عنا بالنبل حتى لا يأتونا من ورائنا، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصحابه: اثْبُتُوا فِي هَذَا المَقَامِ، فَإذَا عاينوكم وَلَّوْكم الأدبار، فلا تطلبوا المدبرين، ولا تخرجوا من هذا المقام» . ثم إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما خالف رأي عبد الله بن أبي شق ذلك عليه، وقال: أطاع الولدان وعصاني، ثم قال لأصحابه: إن محمداً إنما يظفر بعدوه بكم، وقد واعد أصحابه أن أعداءهم إذا عاينوهم انهزموا، فإذا رأيتم أعداءه فانهزموا، فيتبعوكم، فيصير الأمر على خلاف ما قاله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلما التقى الفريقان انهزم عدو الله بالمنافقين، وكان جملة عسكر المسلمين ألفاً، فانهزم عبد الله بن أبي بثلاثمائة، وبقيت سبعمائة، فذلك قوله تعالى: «إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ» [آل عمران: 122] . أي: أن تضعفا، وتجبُنا، وتتخلفا. والطائفتان: بنو سلمة من الخزرج، وبنو حارثة من الأوس، وكانا جناحي العسكر، وكان عليه السلام قد خرج في ألف رجل، فانخزل عبد الله بن أبي بثلث الجيش، وقال: نقتل أنفسنا وأولادنا! فتبعهم أبو جابر السُّلمِي، وقال: أنشدكم الله في نبيكم، وفي الجزء: 5 ¦ الصفحة: 509 أنفسكم، فقال عبد الله بن أبَيّ: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167] ، وهمت بنو سلمة وبنو حارثة بالانصراف مع عبد الله بن أبيّ، فعصمهم الله، فلم ينصرفوا، فذكرهم الله عظيم نعمته. فقال - عَزَّ وَجَلَّ - {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ والله وَلِيُّهُمَا} [آل عمران: 122] ناصرهما، وحافظهما، ثم قواهم الله، حتى هزموا المشركين، فلما رأى المؤمنون انهزام القوم، طلبوا المدبرين، فأراد الله أن يعظهم عن هذا الفعل؛ لئلا يقدموا على مخالفة أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وليعلموا أن نصرهم غنما حصل ببركة طاعتهم لله ولرسوله، ومتى تركهم الله مع عدوهم لم يقوموا لهم، فنزع الله الرُّعب من قلوب المشركين، فكَرَّ عليهم المشركون، وتفرق العسكر ن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما قال تعالى: {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ} [آل عمران: 153] ، وشُجَّ وَجْه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكُس~رَت رَبَاعِيَتهُ، وشَلَّتْ يد طلحة دونه، ولم يَبْقَ معه إلا أبو بكر، وعليّ، والعباسُ، وطلحة وسعد، ووقعت الصيحة في العسكر بأن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قُتِل، ثم نودي على الأنصار بأن هذا رسول الله، فرجع إليه المهاجرون والأنصار، وكان قد قُتِل منهم سبعون، وأكْثر فيهم الجراح، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رحم الله رجلاً ذَبَّ عن إخوانه، وشدَّ على المشركين بمن معه حتى كشفهم عن القتلى والجرحى» ، وكان الكفار ثلاثة آلاف، والمسلمون ألفاً - أو أقل - رجع عبد الله بن أبي في ثلاثمائة، وبقي مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سبعمائة، وأعانهم الله حتى هزموا الكفارَ، ثم لمَّا خالفوا أمرَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، واشتغلوا بطلب الغنائم انقلب الأمر عليهم، وانهزموا. قوله: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: سميع لأقوالكم، «عليم» بضمائركم؛ لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما شاور أصحابه في تلك الحرب، فقال بعضهم: أقم بالمدينة، وقال آخرون: اخرج إليهم، فكان لكل أحد غرض في نفسه، فمن موافق ومن منافق، فقال تعالى: {أنا سميع لما تقولون عليم بما تسرون} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 510 قوله: {إِذْ هَمَّتْ} في هذا الظرف أوجه: أحدها: أنه ظَرْف ل {غَدَوْتَ} . الثاني: أنه بدل من {وَإِذْ غَدَوْتَ} ، فالعامل، فيه هو العامل في المُبْدَل منه. الثالث: أنه ظرف ل {تُبَوِّىءُ} . وهذه الأوجه تحتاج إلى نقل تاريخي في اتحاد الزمانين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 510 الرابع: أن الناصب له «عَليمٌ» وحده - ذكره أبو البقاء. الخامس: أن العامل فيه إما «سَمِيعٌ» ، وإما «عَلِيمٌ» على سبيل التنازع، وتكون المسألة - حينئذ - من إعمال الثاني، إذ لو أعمل الأول، لأضمر في الثاني. قال الزمخشري: أو عمل فيه معنى: {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . قال أبو حيان: «وهذا غير محرَّر؛ لأن العامل لا يكون مركباً من وصفين، فتحريره أن يقال: عمل فيه معنى سميع، أو عليم، وتكون المسألة من التنازع» . قال شهاب الدين: «لم يرد الزمخشري بذلك إلا ما ذكرناه من إرادة التنازع، ويصدق أن يقول: عمل فيه هذا وهذا بالمعنى المذكور؛ لا أنهما عملا فيه معاً، على أنه لو قيل به لم يكن مبتدعاً قولاً؛ إذ الفراء يرى ذلك، ويقول - في نحو: ضربتُ وأكرمتُ زيداً: إن زيداً منصوب بهما، وإنهما سُلِّطَا عليه معاً» . فإن قيل: إذا كان الهمُّ العزم فظاهر الآية يدل على أن الطائفتين عزمتا على الفشل، والترك - وذلك معصية - فكيف يليق أن يقال: {والله وَلِيُّهُمَا} ؟ فالجواب: أن الهَمَّ قد يُرادُ به الكفر، وقد يراد به: حديث النفس، وقد يراد به: ما يظهر من القول الدالِّ على قوة العدو وكثرة عدده، وأيُّ شيء ظهر من هذا الجنس صح أن يوصف صاحبه بأنه هَمَّ أن يفشل، من حيث ظهر منه ما يوجب ضَعْف القلب، وإذا كان كذلك، فلا يدل على أن المعصية وقعت منهما، وبتقدير أن يقال ذلك، فيكون من باب الصغائر؛ لقوله: {والله وَلِيُّهُمَا} . وقيل: الهَمّ دون العزّم، وذلك أن أول ما يمر بقلب الإنسان يُسَمَّى: خاطراً، فإذا قويَ سُمِّيَ: حديث نفسٍ، فإذا قَوِيَ سُمِّيَ: هَمًّا، فإذا قَوِيَ سُمِّيَ: عزماً، ثم بعده إما قول، أو فعل. وبعضهم يُعَبِّر بالهَم عن الإرادة، تقول العرب: هممت بكذا، أهُمَ به - بضم الهاء - ويقال: همت - بميم واحدة - حذفوا إحدى الميمين تخفيفاً، كما قالوا: مِسْت وظلت، وحست - في مَسِسْتُ وظَلِلْتُ وحَسِنْتُ - وهو غير مقيس. والهم - أيضاً -: الحُزْن الذي يُذِيب صاحبه، وهو مأخوذ من قولهم: همت الشحم - أي: أذبته، والهم الذي في النفس قريب منه، لأنه قد يؤثر في نفس الإنسان، كما يؤثر الحُزْن. ولذلك قال الشاعر: [الطويل] 1609 - وَهَمُّكَ مَا لَمْ تُمْضِهِ لَكَ مُنْصِبٌ ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 511 أي: إنك إذا هممت بشيء، ولم تفعله، وجال في نفسك، فأنت في تعب منه حتى تقضيَه. قوله: {أن تَفْشَلاَ} متعلق ب «هَمَّتْ» ؛ لأنه يتعدى بالباء، والأصل: بأن تفشلا، فيجري في محل «أن» الوجهان المشهوران. والفشل: الجبن والخَوَر. وقال بعضهم: الفشل في الرأي: العجز، وفي البدن: الإعياء، وعدم النهوض، وفي الحرب الجُبْن والخَوَر، والفعل منه فَشِل - بكسر العين - وتفاشل الماء - إذا سال -. وقرأ عبد الله: والله وليهم، كقوله: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] . قوله: {وَعَلى الله} متعلق بقوله: {فَلْيَتَوَكَّلِ} ، قدم للاختصاص، ولتناسب رؤوس الآي. وتقدم القول في نحو هذه الفاء. قال أبو البقاء: «دخلت الفاء فمعنى الشرط، والمعنى: إن فشلوا فتوكلوا أنتم، أو إنْ صعب الأمر فتوكلوا» . قال جابر: نزلت هذه الآية - {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ} - فينا - بني سلمة، وبني حارثة وما أحب أنها لم تنزل، والله يقول: {والله وَلِيُّهُمَا} . قال ابنُ الخَطِيبِ: «ومعنى ذلك فرط الاستبشار بما حصل لهم من الشرف بثناء الله تعالى، وإنزاله فيهم آية ناطقة بصحة الولاية، وأن تلك الهمَّة، ما أخرجتهم عن ولاية الله تعالى» . والتوكُّل: تفعُّل، إمَّا من الوكالة - وهي: تفويض الأمر إلى من يوثق بحُسْن الجزء: 5 ¦ الصفحة: 512 تدبيره، ومعرفته في التصرُّف - وإمَّا من وكل أمره إلى فلان، إذا عجز عنه. قال ابنُ فارس: «هو إظهار العَجْز، والاعتماد على غيرك» ، يقال: فلان وكله يَكِلُه، أي: عاجز يكلُ أمره إلى غيره، والتاء في تُكَلَة بدل من الواو، كتخمة وتجاه وتراث. فصل اختلف العلماء في حقيقة التوكل، فسئل عنه سَهْل بن عبد الله، فقال: قالت فرقة: هو الرضا بالضمان وقطع الطمع من المخلوقين. وقال قوم: التَّوكُّل: ترك الأسباب، والركون إلى مُسَبِّب الأسباب، فإذا شغله السبب عن المسبب، زال عنه اسم التوكُّل. قال سهل: من قال: التوكل يكون بتَرك السبب، فقد طعن في سنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الله يقول: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبا} [الأنفال: 69] ، والغنيمة اكتساب، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ اللهَ يُحِبُّ الْعَبْدَ الْمُحْتَرِفَ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 513 في كيفية النظم وجهان: أحدهما: أنه - تعالى - لمَّا ذكر قصةَ أحُد أتبعها بقصة بدر؛ لأن المشركين كانوا في غاية القوة، ثم سلط المسلمين عليهم، فصار ذلك دليلاً على أن العاقل يجب أن لا يتوسل إلى غرضه إلا بالتوكل على الله، ويكون ذلك تأكيداً لقوله: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئا} [ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 513 آل عمران: 120] ، وقوله: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [آل عمران: 122] . الثاني: أنه - تعالى - حكى عن الطائفتين أنهما همتا بالفشل، ثم قال: {والله وَلِيُّهُمَا وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [آل عمران: 122] . ثعني: من كان الله ناصراً له ومعيناً له فكيف يليق به الفشل؟ ثم أكَّد ذلك بقصة بدر؛ فإن المسلمين كانوا في غاية الضعف، ولكن لمَّا كان الله تعالى ناصراً لهم، فازوا بمطلوبهم، وقهروا خصومهم، فهذا وجه النظم. والنصر: العون، نصرهم الله يوم بدر، وقتل فيه صناديد المشركين، وعلى ذلك اليوم ابتني الإسلام، وكان أول قتال قاتله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله: {بِبَدْرٍ} متعلق ب {نَصَرَكُمُ} ، وفي الباء - حينئذ - قولان: أحدهما: - وهو الأظهر -: أنها ظرفية، أي: في بدر، كقولك: زيد بمكة، أي: في مكة. الثاني: أن تتعلق بمحذوف على أنها باء المصاحبة، فمحلُّها النصب على الحال، أي: مصاحبين لبدر، و «بدر» : اسم لماء بين مكة والميدنة، سُمِّي بذلك لصفائه كالبدر. وقيل: لاستدارته وقيل: اسم بئر لرجل يقال له: بدر، وهو بدر بن كلدة، قاله الشعبي، وأنكر عليه بذكر الله - تعالى - مِنَّتَه عليهم بالنُّصْرَةِ يوم بدر وقيل: إنه اسم للبئر كما يسمى البلد باسم من غير أن ينقل إليه اسم صاحبه. قاله الواقدي وشيوخه. وقيل: اسم وادٍن وكان يوم بدر السابع عشر من رمضان وكان يوم الجمعة، لثمانية وعشرين شهراً من الهجرة. قوله: {وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ} في محل نصب على الحال من مفعول: {نَصَرَكُمُ} و {أَذِلَّةٌ} جمع ذليل وهو جمع قلة؛ إشعاراً بقلتهم مع هذه الصفة، و «فعيل» الوصف - قياس جمعه على فعلاء، كظريف وظرفاء، وشريف وشرفاء، غلا أنه تُرِك في المضعَّف؛ تخفيفاً ألا ترى إلى ما يؤدي إليه جمع ذليل وخليل على ذُللاء وخُللاء من الثقل؟ فإن قيل: قال الله تعالى: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِين} [المنافقون: 8] فما معنى قوله: {وَأنْتُمْ أَذِلَّةٌ} ؟ فالجواب من وجوه: الأول: أنه بمعنى: القلة وضعف الحال، وقلة السلاح والمال، وعدم القدرة على مقاومة العدو، وأن نقيضه العِز، وهو القوة والغلبة. رُوِيَ أن المسلمين كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، ولم يكن فيهم إلا فرس واحد، وأكثرهم رَجَّالة، وربما كان الجمع منهم يركبون جَمَلاً واحداً، والكفار كانوا قريبين من ألف مقاتل، ومعهم مائة فرس، مع الأسلحة الكثيرة، والعُدَّة الكاملة. قال القرطبيُّ: واسم الذل في هذا الموضع مستعار، ولم يكونوا في أنفسهم إلا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 514 أعزَّة، لكن نسبتهم إلى عدوهم، وإلى جميع الكفار في أقطار الأرض، تقتضي عند التأمل ذِلّتَهُمْ، وأنهم يغلبون. الثاني: لعل المراد: أنهم كانوا أذلة في زَعْم المشركين، واعتقادهم؛ لأجل قلة عددهم، وسلاحهم وهو مثل ما حكى الله - تعالى - عن الكفار قولهم: {لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8] . الثالث: أن الصحابة كانوا قد شاهدوا الكفار بمكة في قوتهم، وثروتهم، وثروتهم، إلى ذلك الوقت، ولم يَبْقَ للصحابة عليهم استيلاء، فكانت هيبتهم باقية في قلوبهم، فلهذا السبب كانوا يهابونهم ويخافونهم. ثم قال: {فاتقوا الله} أي: في الثَّباتِ مع رسوله. {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} بتقواكم ما أنعم الله به عليكم ممن نصرته، أو لعل الله ينعم عليكم نعمة أخرى تشكرونها، فوضع الشكر موضع الإنعام؛ لأنه سبب له. قوله: {إذْ تَقُولُ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه منصوب بإضمار اذكر. الثاني: إن قلنا: إن هذا الوعد حصل يوم بَدْر، فالعامل في «إذْ» قوله: {نَصَرَكُمُ الله} والتقدير: إذ نصركم الله ببدر، وأنتم أذلة إذ تقول للمؤمنين. وإن قلنا: إن هذا الوعد حصل يوم أُحُد، فيكون بَدَلاً من قوله: {إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ} [آل عمران: 122] ، فهذه ثلاثة أوجه. فصل رُوِي عن ابن عبَّاسٍ والكَلْبِيِّ والواقِدِيِّ ومُقَاتِلٍ ومُحَمَّدِ بْنِ إسْحَاقَ: أنه يوم أُحُد، لوجوه: أحدها: أن يوم بدر إنما أمِدَّ الرسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بألف من الملائكة لقوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة} [الأنفال: 9] ، فكيف يليق به ما ذكر فيه ثلاثة آلاف، وخمسة آلاف؟ وثانيها: أن الكفارَ كانوا يوم بدر ألفاً، وما يقرب منه، والمسلمون كانوا على الثلث منهم؛ لأنهم كانوا ثلاثمائة وبضعة عشر، فأنزل الله تعالى يوم بدر ألفاً من الملائكة، فصار عدد الكُفَّار مقابلاً بعدد الملائكة مع زيادة عدد المسلمين، فلا جرم، وقعة الهزيمة على الكفار، فكذلك يوم اُحُد، كان عدد المسلمين ألفاً، وعدد الكفار ثلاثة آلاف، فكان عدد المسلمين على الثلث من عدد الكفار في هذا اليوم، فوعدهم الله في هذا اليوم أن ينزل ثلاثة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 515 آلاف من الملائكة؛ ليصير عدد الكفار مقابلاً لعدد الملائكةِ، مع زيادة عدد المسلمين، فيصير ذلك دليلاً على أن المسلمين يهزمونهم، كما هزموهم يوم بدر، ثم جعل الثلاثة آلاف خمسة آلاف لتزداد قوة المسلمين في هذا اليوم ويزول الخوف عن قلوبهم. وثالثها: أنه قال في هذه الآية: {وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف مِّنَ الملاائكة مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] . والمراد: ويأتيكم أعداؤكم من فورهم، ويوم أحُد هذا اليوم الذي كان يأتيهم الأعداء، فأما يوم بدر، فإنهم لم يأتوهم، بل هم ذهبوا إلى الأعداء. فإن قيل: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعدهم بخمسة آلاف يوم أُحُد، فحصول الإمداد بثلاثة آلاف يلزم منه الخلف في الوعد؟ فالجواب من وجهين: الأول: أن إنزال الآلاف الخمسة، كان مشروطاً بأن يصبروا، ويتَّقوا في المغانم، فَخَالَفُوا أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلما فات الشرط، فات المشروط، وأمَّا إنزال الآلاف الثلاثة، فقد وَعَدَ المؤمنين بها حين بوَّأهُم مقاعدَ القتال. الثاني: أنا لا نسلم أنَّ الملائكة ما نزلت. روى الواقدي عن مجاهد قال: حضرت الملائكة يومَ أُحُد، ولكنهم لم يقاتلوا، ورُوِيَ أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعطى اللواءَ مُصْعَبَ بن عُمَيْر، فقُتِل مُصْعَبٌ، فأخذه ملك في صورة مُصْعَب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «تقدم يا مصعب» ، فقال الملك: لستُ بمُصعَب، فعرف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه مَلَك أمِدَّ به. وعن سعد بن أبي وقاص أنه قال: كنت أرمي السهمَ يومئذٍ، فيرد علي رجل أبيض، حسن الوجه، وما كنت أعرفه، وظننت أنه مَلَك. فعلى هذا القول يكون قوله تعالى: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ} مُعْتَرِضاً بين الكلامين. وقال قتادة: أمدَّهم الله يوم بدر بألفٍ من الملائكة، على ما قال: {فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملاائكة} [الأنفال: 9] ، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسةَ آلاف، كما قال هاهنا: {بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلااف} [آل عمران: 125] ، فصبروا يوم بدر واتقوا، فأمدم الله بخمسة آلاف كما وعد، ويدل على ذلك أنَّ قلة العَدَد والعُدَد كانت يومَ بدر أكثر، فكان الاحتياج إلى المَدَد يقوي القلب - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 516 في ذلك اليوم - أكثرَ، فصَرْف الكلام إليه أوْلَى؛ ولأن الوعدَ بإنزال ثلاثة آلاف من الملائكة كان مطلقاً، غير مشورط بشرطٍ، فوجب أن يحصل، وإنَّما حصل يوم بدر، لا يوم أُحُد، وليس لأحد أن يقول: إنهم نزلوا، لكن ما قاتلوا؛ لأنهم وُعِدوا بالإمداد، وبمجرد الإنزال لا يحصل الإمداد، بل لا بدّ من الإعانة، والإعانة حصلت يوم بدر، لا يوم أُحُد. وأما الجواب عن أدلة الأولين، فأما قولهم - في الحُجَّة الأولى - إنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إنما أمِدَّ يَوْمَ بدر بألف، فالجواب من وجهين: الأول: أنه - تعالى - أمد أصحاب الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بألف، ثم زاد فيهم ألفين، فصاروا ثلاثةَ آلاف، ثم زاد ألفين آخرين، فصاروا خمسةَ آلاف فكأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لهم: «ألن يكفيكم أن يُمِدَّكُم رَبُّكم بثلاثة آلاف؟ فقالوا: بلى فقال لهم: إن تصبروا وتتقوا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بخمسة آلافٍ» . الثاني: أن أهل بدر إنَّما أمِدُّوا بألْف - على ما ذكر في سورة اطلأنفال ثم بلغهم أن بعض المشركين يريد إمداد قُرَيْش بعدد كثير، فخافوا، وشَقَّ عليهم ذلك، لقِلَّة عددهم، فوعدهم الله بأن الكفار إن جاءَهم مدد، فأنا أمِدُّكم بخمسة آلاف من الملائكة، ثم إنه لم يأتِ قريشاً ذلك المدد بل انصرفوا حين بلغهم هزيمة قُرَيشٍ، فاصتغنى إمداد المسلمين عن الزيادة على الألف. وأما قولهم: إن الكفارَ كانوا - يوم بَدْرٍ - ألْفاً، فأنزل الله تعالى ألفاً من الملائكة، ويوم أُحُد كانوا ثلاثة آلاف فأنزل الله ثلاثةَ آلاف، فهذا لا يوجب أن يكون الأمر كذلك، بل يفعل الله ما يشاء من زيادةٍ ونَقْصٍ بحسب ما يريد، وأما التمسك بقوله: {وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ} فالجواب: أن المشركين لمّا سمعوا أن الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأصحابه قد تعرَّضوا للعير ثار الغضب في قلوبهم، واجتمعوا، وقصدوا النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم إن الصحابةَ لما سمعوا ذلك، خافوا فأخبر الله تعالى أنهم إن يأتوكم من فَوْرِهم يُمْدِدكم بخمسةِ آلاف من الملائكة. فصل قال القرطبيُّ: «نزول الملائكة سبب من أسباب النصر، لا يحتاج إليه الرَّبُّ تعالى، وإنما يحتاج إليه المخلوق، فلْيَعْلَق القلبُ بالله، ولْيَثِقْ به، فهو الناصر بسبب وبغير سبب {إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُون} [يس: 82] ، لكن أخبر بذلك ليمتثل الخَلْقُ ما أمرهم به من الأسباب التي قد خلت من قبل {وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلا} [الأحزاب: 62] ، ولا يقدح ذلك في التوكُّل، وهو رَدٌّ على مَنْ قال: إن الأسبابَ إنما سُنَّتْ في حَقِّ الضعفاء، لا الأقوياء؛ فإنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه كانوا أقوياءَ، وغيرهم هم الضعفاء، وهذا واضح» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 517 فصل في اختلافهم في عدد الملائكة اختلفوا في عدد الملائكة، فمن الناس مَنْ ضَمَّ العدد الناقص إلى العدد الزائد؛ فقالوا: الوعد بإمداد الثلاثة لا شرط فيه، والوعد بإمداد الخمسة مشروط بالصبر والتَّقْوَى، ومجيء الكفار من فورهم، فلا بد من التغاير، وهذا القول ضعيف، لأنه لا يلزم من كون الخمسة مشروطة، أن تكون الثلاثة التي هي جزؤها مشروطة بذلك الشرط. ومنهم من أدخل العدد الناقص في العدد الزائد. فعلى القول الأول إن حَمَلْنا الآية على قصة بدر، كان عدد الملائكة تسعة آلاف؛ لأنه تعالى ذكر الألف وذكر ثلاثة آلاف، وذكر خمسة آلاف، فالمجموع تسعة آلاف. وإن حملناها على قِصَّة أُحُدٍ، فإنما فيها ذكر الثلاثة والخمسة، فيكون المجموع ثمانية آلاف. وعلى القول الثاني: وهو إدخال الناقص في الزائد، فإن حملنا الآية على قصة بدر، فقالوا: عدد الملائكة: خمسة آلاف؛ لأنهم وُعِدوا بالألف، ثم ضُمَّ إليه الألفان، فصاروا ثلاثةً، ثم ضُمَّ إليه ألفان، فلا جرم، وعدوا بخمسة آلاف. وقد رُوِيَ أن أهْلَ بَدْر أمِدُّوا بألْف، فقيل: إن كُرْز بن جابر المحاربيّ يريد ان يُمِدَّ المشركين، فشَقَّ ذلك على المسلمين، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهم: «ألَنْ يَكْفِيَكُمْ» يعني بتقدير أن يجيء المشركين مَدَدٌ، فالله - تعالى - يمدكم - أيضاً - بثلاثة آلاف وخمسة آلاف، ثم إن المشركين ما جاءهم المَدَدُ «. وإن حملناها على قصة أُحُد، فيكون عدد الملائكة ثلاثة آلاف؛ لأن الخمسةَ، وعدوا بها بشرط أن يَصْبروا ويتقوا، ويأتوهم من الفور. فصل أجمع المفسرون وأهلُ السِّير على أن الله - تعالى - أنزل الملائكةَ يوم بدر، وأنهم قاتلوا الكفارَ. قال ابن عباس ومجاهد: لم تقاتل الملائكة في المعركة إلا يوم بدرٍ، وفيما سوى ذلك يشهدون القتال، ولا يقاتلون، إنما يكونون عدداً ومدداً وهذا قول الأكثرين. وقال الحسن: هؤلاء الخمسة آلافٍ ردء المؤمنين إلى يوم القيامة في المعركة. وأنكر ابو بكر الأصم ذلك أشد الإنكار، واحْتَجَّ عليه بوجوه: الأول: أن الملك الواحد يكفي في إهلاك أهل الأرض؛ فإنَّ المشهور أنَّ جبريل - عليه السلام - أدخل جناحه تحت المدائن السبع لقوم لوط، وبلغ جناحُه إلى الأرض السابعة، ثم رفعها إلى السماء، فجعل عاليها سافلَها، فإذا حضر هو يوم بدر، فأيُّ حاجة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 518 إلى مقاتلةِ الناسِ مع الكفار؟ ثم بتقدير حضوره، فأي فائدة في إرسال سائر الملائكة؟ الثاني: أن أكابر الكفار كانوا مشهورين، وكل واحد منهم مقابله من الصحابة معلوم، وإذا كان كذلك امتنع إسناد قتله إلى الملائكة. الثالث: أن الملائكة لو قاتلوا لكانوا إما أن يصيروا بحيث يراهم الناس، أوْ لا، فإن رآهم الناس، فإما أن يروهم في صورة الناس، أو في صورة غيرهم، فإنْ رَأوْهُمْ في صورة الناس، صار المشاهَد من عسكر الرسول ثلاثة آلاف أو أكثر، ولم يَقُلْ بذلك أحدٌ؛ لأنه مخالف لقوله تعالى: {وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِم} [الأنفال: 44] وإن شاهدوهم في صور غير صور الناس، لزم وقوع الرُّعْب الشديد في قلوب الخلق؛ لأن من شاهد الجن، لا شك أنه يشتد فَزَعُه - ولم ينقل ذلك ألبتة - وإن لم يَرَوْهُم، فعلى هذا التقدير إذا حاربوا، وحزوا الرؤوس، وشقُّوا البطون، وأسقطوا الكفار عن الأفراس، فحينئذ إذا شاهد الكفار هذه الأفعال مع أنهم لم يشاهدوا أحَداً من الفاعلين، وهذا يكون من أعظم المعجزات، فيجب أن لا يبقى منهم كافر ولا متمرد، ولما لم يوجد شيء من ذلك عُرفَ فسادُه. الرابع: أن الملائكة الذين نزلوا، إما أن يكونوا أجساماً لطيفةً أو كثيفة، فإن كانت كثيفةً وجب أن يراهم الكل كرؤية غيرهم، ومعلوم أن الأمر ما ان كذلك، وإن كانت لطيفةً مثل الهواء - لم يكن فيهم صلابة وقوة، ويمتنع كونهم راكبين على الخيول. والجواب: أن نص القرآن ناطق بِها، وقد وردت في الأخبار قريب من التواتر قال عبد الله بن عُمَيْر لما رجعت قريش من أحد، جعلوا يتحدثون في أنْدِيَتِهم بما ظفروا، ويقولون: لم نَرَ الخيل البُلْق، ولا الرجالَ البيضَ الذين كُنَّا نراهم يومَ بدر. وقال سعدُ بن أبي وقاص: رأيتُ عن يمين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعن شماله يوم أحد رجلين عليهما ثياب بِيضٌ، ما رأيتهما قبل، ولا بعد. قال سعدُ بن إبراهيمَ: يعني: جبريل وميكائيل. وهذه الشبهة إنما تليق بمن يُنكر القرآن والنبوة، فأما من يُقِرُّ بهما، فلا يليق به شيءٌ من هذا، وهذه الشبهة إذا قابلناها بكمال قدرة الله - تعالى - زالت؛ فإنه - تعالى - يفعل ما يشاء؛ لأنه قادر على جميع الممكنات. فصل اختلفوا في كيفية نُصْرة الملائكة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 519 فقال بعضهم: بالقتال مع المؤمنين. وقال بعضهم: بل بتقوية نفوسهم، وإشعارهم بأن النُّصْرة لهم، وإلقاء الرعب في قلوب الكفار. وقال أكثر المفسرين: إنهم لم يقاتلوا في غير بدر. قوله: {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} معنى الكفاية: هو سَدُّ الخلة، والقيام بالأمر. يقال: كَفَاهُ أمر كذا، أي: سَدَّ خلته. والإمداد: إعانة الجيش بالجيش، وهو في الأصل إعطا ءالشيء حالاً بعد حال. قال المفضَّل: ما كان على جهة القوة والإعانة، قيل فيه: أمَدَّه يُمِدُّه، وما كان على جهة الزيادة، قيل فيه: مَدَّه يَمُدُّه مَدًّا ومنه: {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر} [لقمان: 27] . وقيل: المَدُّ في الشر، والإمداد في الخير؛ لقوله تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] وقوله: {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} [مريم: 79] وقال في الخير: {أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْف} [الأنفال: 9] وقال: {وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِين} [الإسراء: 6] . قوله: {أَن يُمِدَّكُمْ} فاعل، {أَلَنْ يَكْفِيكُمْ} أي: ألن يكفيكم إمدادُ ربكم، والهمزة لما دخلت على النفي قررته على سبيل الإنكار، وجيء ب «لن» دون «لا» ؛ لأنها أبلغ في النفي، وفي مصحف أبيّ «الا» بدون «لن» وكأنه قصد تفسير المعنى. و «بثلاثة» متعلق ب {يُمِدَّكُمْ} . وقرأ الحسن البصريّ «ثلاثة آلافٍ» - بهاء - ساكنة في الوصل - وكذلك «بخمسة آلافٍ» كأنه أجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف، وهي ضعيفة؛ لأنها في متضايفين تقتضيان الاتصال. قال ابن عطية: ووجْه هذه القراءة ضعيف؛ لأن المضاف والمضاف إليه كالشيء الواحد يقتضيان الاتصال إذْ هما كالاسم الواحد، وإنما الثاني كمال الأول، والهاء إنما هي أمارة وقف، فيتعلق الوقف في موضع إنما هو للاتصال، لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضعَ، من ذلك ما حكاه الفرَّاء من قولهم: أكلت لحما شاةٍ - يريدون لحم شاة - فَمَطلُوا الفتحةَ، حتى نشأت عنها ألِفٌ، كما قالوا في الوقف قالا - يريدون قال - ثم مَطَلُوا الفتحة في القوافي، ونحوها من مواضع الرؤية والتثبيت. ومن ذلك في الشعر قوله: [الكامل] 1610 - يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ ... زَيَّافَةٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُكْدَمِ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 520 يريد: «ينبع» ، فمطل ومثله قول الآخر: [الرجز] 1611 - أقُولُ إذْ خَرَّتْ عَلَى الْكَلْكَالِ ... يَا نَاقَتَا مَا جُلْتُ مِنْ مَجَالِ يريد: «الكلكل» ، فمطل ومثله قول الشاعر: [الوافر] 1612 - فَأنْتَ مِنَ الْغَوَائِلِ حِينَ تُرْمَى ... وَمَنْ ذَمِّ الرِّجَالِ بِمُنْتَزَاحِ يريد: بمنتزح. قال أبو الفتح: «فإذا جاز أن يعترض هذا [الفتور] والتمادي بين أثناء الكلمة الواحدة، جاز التمادي بين المضاف والمضاف إليه، إذ هما اثنان» . قال أبو حيان - بعد نقل كلام ابن عطية -: «وهو تكثير وتنظير بغير ما يناسب، والذي يناسب توجيه هذه القراءة الشاذة أنها من إجراء الوَصْل مُجْرَى الوَقْف، وإجراء الوَقْف مُجْرَى الوصل والوصل مجرى الوقف موجود في كلامهم وأما قوله: لكن قد جاء نحو هذا للعرب في مواضع، وجميع ما ذكر إنما هو من باب إشباع الحركة، وإشباع الحركة ليس نحو إبدال التاء هاء في الوَصْل، وإنما نظير هذا قولهم: ثلاثة اربعة، أبدل التاء هاء، ثم نقل حركة همزة أربعة إليها، وحذف الهمزة، فأجْرَى الوصل مُجْرَى الوقف في الإبدال، ولأجل الوصل نقل فأجرى الوصل مُجْرى الوقف؛ إذْ لا يكون هذا النقل إلا في الوَصْل» . وقرئ شاذًّا - أيضاً -: بثلاثةْ آلاف - بتاء ساكنة، وهي أيضاً من إجراء الوصل مجرى الوقف من حيث السكون واختلفوا في هذه التاء الموقوف عليها الآن، أهي تاء التأنيث التي كانت، فسكنت فقط، أو هي بدل من هاء التأنيث المبدلة من التاء؟ ولا طائل تحته. قوله: {مِّنَ الملاائكة} يجوز أن تكون «مِنْ» للبيان، وأن تكون «مِنْ» ومجرورها في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 521 موضع الجر صفة ل «لَثَلاثَةِ» أو لِ «آلافٍ» . قوله: {مُنْزَلِينَ} صفة ل «ثلاثة آلاف» ، ويجوز أن يكون حالاً من «الْمَلاَئِكَةِ» والأول أظهر. وقرأ ابن عامر «مُنزَّلين» - بالتضعيف - وكذلك شدد قوله في سورة العنكبوت: {إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مِّنَ السمآء} [العنكبوت: 34] إلا أنه هنا - اسم مفعول، وهناك اسم فاعل. والباقون خفَّفوها وقرأها ابن أبي عَبْلَة - هنا - مُنَزَّلين - بالتشديد مكسور الزاي، مبنياً للفاعل. وبعضهم قرأه كذلك، إلا أنه خفف الزاي، جعله من أنزل - كأكرم - والتضعيف والهمزة كلاهما للتعدية، ففعَّل وأفْعل بمعنًى، وقد تقدم أن الزمخشري جعل التشديد دالاًّ على التنجيم وتقدم البحث معه في ذلك وفي القراءتنين الأخيرتين يون المفعول محذوفاً، أي: منزلين النصر على المؤمنين، والعذاب على الكافرين. قوله: {بلى} حرف جواب، وهو إيجاب للنفي في قوله: {أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ} وقد تقدم الكلام عليه وجواب الشرط قوله: {يُمْدِدْكُمْ} . والفوز: العجلة والسرعة، ومنه: فارت القِدْرُ، إذا اشتد غلبانها وسارع ما فيها إلى الخروج، والفوز مصدر، يقال: فَار يفُورُ فَوْراً، قال تعالى: {حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التنور} [هود: 40] ، ثم جعلوا هذه اللفظة استعارة في السرعة، يقال: جاء فلان من فوره وفيه قول الأصوليين الأمر للفور ويعبّر به عن الغضب والحِدة؛ لأن الغضبان يسارع إلى البطش بمن يغضب عليه، فالفَوْز - في الأصل -: مصدر، ثم يُعَبَّر به عن الحالة التي لا ريث فيها ولا تعريج على شيء سواها وقال ابن عباس والحسن وقتادة وأكثر المفسرين: معنى «مِنْ فَورِهم هَذَا» : من وجههم هذا. وقال مجاهد والضَّحَّاكُ: من غضبهم هذا؛ لأنهم إنَّما رجعوا للحرب يوم أُحُد من غَضَبِهم ليوم بدر. قوله: {مُسَوِّمِينَ} كقوله: {مُنزَلِينَ} ، وقرأ ابْنُ كَثيرٍ وأبُو عَمْروٍ وعَاصِمٌ بكسر الواو، على اسم الفاعل، والباقون بفتحها على اسم المفعول، فأما القراءة الأولى، فيحتمل أن تكون من السوم - وهو ترك الماشية ترعى - والمعنى: أنهم سَوَّموا خَيْلَهم، أي أعطوها سَوْمَها من الجَرْي والجَوَلان، وتركوها كذلك، كما يفعل من يسيم ماشيته في المرعى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 522 ويحتمل أن تكون من السومة - وهي العلامة - على معنى أنهم سوموا أنفسهم، أو خيلهم. روي أنهم كانوا على خَيْلٍ بُلْقٍ، قال عروة بن الزبير: كانت الملائكة على خَيْل بُلْقٍ، عليهم عمائمُ بِيضٌ، قد أرسلوها بين أكتافهم. وقال هشام بن عروة: عمائم صفر. وروي أنهم كانوا بعمائم بيضٍ، إلا جبريل فبعمامة صفراء، على مثال الزبير بن العوام. قال قتادةُ والضَّحَّاكُ: كانوا قد علموا بالعهن في نواصي الخيل وأذنابها. ورُوِيَ أنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأصحابه يوم بدر: «تسوموا، فإنَّ الملائكة قد تسومت بالصوف الأبيض في قلانسهم ومغافرهم» وأما القراءة الثانية، فواضحة بالمعنيين المذكورين، فمعنى السوم فيها: أن الله أرسلهم، إذ الملائكة كانوا مرسلين من عند الله لنُصْرة نبيه والمؤمنين. قال أبو زيد: سوم الرجل خَيْلَه، أي أرسلها. وحكى بعضهم: سومت غلامي، أي: أرسلته، ولهذا قال الأخفش: معنى «مُسَوَّمِينَ» مُرْسَلِين. ومعنى السومة فيها: أن الله - تعالى - سومهم، أي جعل عليهم علامة، وهي العمائم، أو أن الملائكة جعلوا خيلهم نوعاً خاصاً - وهي البلق - فقد سوموا خيلهم. فصل قال القُرْطُبِيُّ: «وفي الآية دلالة على اتخاذ الشارة، والعلامة للقبائل، والكتائب، يجعلها السلطان لهم؛ لتتميز كل قبيلة وكتيبة من غيرها عند الحرب، وعلى فضل الخيل البُلْق؛ لنزول الملائكة عليها» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 523 قال القرطبي: «ولعلها نزلت على البلق موافقة لفرس المقداد؛ فإنه كان أبلق، ولم يكن له فرس غيره، فنزلت الملائكة على الخيل البُلْق، إكراماً للمقداد، كما نزل جبريل معتماً بعمامة صفراء على مثال الزبير» . قوله: {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى} الكناية في «جَعَلَهُ» عائدة على المصدر، أي: ما جعل الإمداد إلا بشرى لكم بأنكم تُنصرون، وهذا الاستثناء فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مفعول من أجله، وهو استثناء مفرغ؛ إذ التقدير: وما جعله لشيء من الأشياء إلا للبُشْرَى، وشروط نصبه موجودة، وهي اتحاد الفاعل، والزمان، وكونه مصدراً سبق للعلة. والثاني: أنه مفعول ثانٍ لِ «جَعَل» على أنها تصييرية. والثالث: أنه بدل من الهاء في «جَعَلَهُ» قاله الحوفيّ وجعل الهاء عائدةً على الوعد بالمدد. والبشرى: مصدر على «فُعْلَى» كالرُّجْعَى. وقيل: اسم من الإبشار، وتقدَّم الكلام في معنى البُشْرَى في قوله تعالى: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [البقرة: 25] . قوله: {وَلِتَطْمَئِنَّ} فيه وجهان: أحدهما: أنًّه معطوف على «بُشْرَى» هذا إذا جعلناها مفعولاً من أجله، وإنما جُرَّ باللام؛ لاختلال شرط من شروط النصب - وهو عدم اتحاد الفاعل - فإن فاعل الجَعْل هو الله - تعالى - وفاعل الاطمئنان القلوب، فلذلك نصب المعطوف عليه لاستكمال الشروط، وجر المعطوف باللام لاختلال شرطه، وقد تقدم، والتقدير: وما جعله إلا للبشرى وللطمأنينة. والثاني: أنها متعلقة بمحذوف، أي: ولتطمئن قلوبكم، فعلى ذلك، أو كان كيت وكيت. وقال أبو حيان: و «تطمئن» منصوب بإضمار «أن» بعد لام «كي» ، فهو من عطف الاسم على توهم موضع اسم آخر. ثم نقل عن ابن عطية أنه قال: «اللام في {وَلِتَطْمَئِنَّ} متعلقة بفعل مضمر يدل عليه» جَعَلَهُ «ومعنى الآية: وما كان هذا الإمداد إلا لتستبشروا به، ولتطمئن به قلوبكم. قال أبو حيان:» وكأنه رأى أنه لا يمكن - عنده - أن يُعطف {وَلِتَطْمَئِنَّ} على {بشرى} ، على الموضع؛ لأن من شرط العطف على الموضع - عند أصحابنا - أن يكون ثَمَّ مُحْرِز للموضع، ولا محرز هنا؛ لأن عامل الجَرِّ مفقود، ومَنْ لم يشترط المحرز، فيجوز ذلك على مذهبه وسيكون من باب العطف على التوهُّم «. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 524 قال شهاب الدين:» وقد جعل بعضهم الواو في {وَلِتَطْمَئِنَّ} زائدة، وهو لائق بمذهب الأخفش، وعلى هذا فتتعلق اللام بالبشرى، أي: أن البشرى عِلَّة للجَعْل، والطمأنينة علة للبُشْرَى، فهي علة العلة «. قال ابْنُ الخَطِيبِ: في ذكر الإمداد مطلوبان وأحدهما أقوى في المطلوبية من الآخر: فأحدهما: إدخال السرور في قلوبهم، وهو المراد بقوله: إلاًَّ بشرى} . الثاني: حصول الطمأنينة بالنصر، فلا يجنبون، وهذا هو المقصود الأصلي، ففرق بين هاتين العبارتين تنبيهاً على حصول التفاوت بين الأمرين في المطلوبية، فعطف الفعل على الاسم، ولما كان الأقوى حصول الطمأنينة، أدخل حرف التعليل على فعل الطمأنينة، فقال: {وَلِتَطْمَئِنَّ} ونظيره قوله: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] لما كان المقصود الأصلي هو الركوب، أدخَل عليه حرف التعليل، فكذا هاهنا. قال أبو حيان:» ويناقش في قوله: عطف الفعل على الاسم؛ إذْ ليس من عطف الفعل على الاسم وفي قوله: أدخل حرف التعليل، وليس ذلك كما ذكره «. انتهى. قال شهَابُ الدِّينِ: «إن عنى الشيخ أنه لم يدخل حرف التعليل ألبتة، فهذا لا يمكن إنكاره ألبتة، وإن عنى أنه لم يدخله بالمعنى الذي قصده الإمام فسَهْل» . وقال الجُرْجَانِيُّ في نظمه: «هذا على تأويل: وما جعله الله إلا ليبشركم ولتطمئن، ومن أجاز إقحام الواو - وهو مذهب الكوفيين - جعلها مقحمة في {وَلِتَطْمَئِنَّ} فيكون التقدير: وما جعله الله إلا بشرى لكم؛ لتطمئنَّ قلوبكم به» . والضميران في قوله {وَمَا جَعَلَهُ} ، و «بِهِ» يعودان على الإمداد المفهومِ من الفعل المتقدم، وهو قوله: «يمددكم» . وقيل: يعودان على النصر. وقيل: على التسويم. وقيل: على التنزيل. وقيل: على المدد. وقيل: على الوعد. فصل قال في هذه الآية: «لَكُمْ» وتركها في سورة الأنفال؛ لأن تيك مختصر هذه، فكان الإطناب - هنا - أوْلَى؛ لأن القصة مكملة هنا، فناسب إيناسهم بالخطاب المواجه، وأخر - هنا - «به» وقدمه في سورة الأنفال؛ لأن الخطاب - هنا - موجود في «لَكُمْ» فأتبع الخطاب الخطاب، وهنا جاء بالصفتين تابعتين في قوله: {العزيز الحكيم} وجاء بهما في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 525 جملة مستأنفة في سورة الأنفال، في قوله: {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [الأنفال: 10] ؛ لأنه لما خاطبهم - هنا - حسن تعجيل بشارتهم بأنه عزيز حكيم، أي: لا يغالب، وأن أفعاله كلها متقنة حكمة وصواب، فالنصر من عند÷ فاستعينوا به، وتوكلوا عليه؛ لأن العز والحُكْم له. قوله: {لِيَقْطَعَ} في متعلق هذه اللام سبعة أوجه: أحدها: أنها متعلقة بقوله: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله} قاله الحوفيّ، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفَصْل. الثاني: أنها متعلقة بالنصر في قوله: {وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} والمعنى: أن المقصود من نصركم، هو أن تقطعوا طرفاً من الذين كفروا، أي: تملكوا طائفة منهم، وتقتلوا قطعة منهم، وفي هذا نظر من حيث إنه قد فصل بين المصدر ومتعلقه بأجنبيّ، وهو الخبر. الثالث: أنها متعلقة بما تعلَّق به الخبر، وهو قوله: {مِنْ عِندِ الله} ، والتقدير: وما النصر إلا كائن، أو إلا مستقر من عند الله ليقطع. والرابع: أنها متعلقة بمحذوف، تقديره: أمَدَّكُم، أو نَصَرَكُم، ليقطَعَ. الخامس: أنها معطوفة على قوله: «ولتطمئن» حذف حرف لعطف لفهم المعنى؛ لأنه إذا كان البعض قريباً من البعض جاز حذف العاطف، كقوله: {ثلاثة رابعهم كلبهم} وقول السيد لعبده: أكرمتك لتخدمني، لتعينني، لتقوم بخدمتي، فحذف العاطف لقُرْب البعض من البعض، فكذا هنا وعلى هذا فتكون الجملة في قوله: {وما النصر إلا من عند الله} اعتراضية بين المعطوف والمعطوف عليه، وهو ساقط الاعتبار. السادس: أنها متعلقة بالجَعْل قاله ابن عطية. السابع: أنها متعلقة بقوله: {يُمْدِدْكُمْ} وفيه بُعْدٌ؛ للفواصل بينهما. والطرف: المراد به: جماعة، وطائفة، وإنما حَسَُ ذِكْر الطرف - هنا - ولم يحسن ذكر الوسط؛ لأنه لا وصول إلى الوَسَطِ إلا بعد الأخذ من الطرف، وهذا يوافق قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ} [التوبة: 123] وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} [الرعد: 41] . قوله: {مِّنَ الذين} يجوز أن يكون متعلِّقاً بالقَطْع، فتكون «مِنْ» لابتداء الغاية، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه صفة ل «طَرَفاً» وتكون «مِنْ» للتبعيض. قوله: {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} عطف على «لِيَقْطَعَ» . و «أو» ؛ قيل: على بابها من التفصيل، أي: ليقطع طرفاً من البعض، ويكبت بعضاً آخرين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 526 وقيل: بل هي بمعنى الواو، أي: يجمع عليهم الشيئين. والكبت: الإصابة بمكروه. وقيل: هو الصَّرع للوجْه واليدين، وعلى هذين فالتاء أصلية، ليست بدلاً من شيء، بل هي مادة مستقلة. وقيل: أصله من كبده، إذا أصابه بمكروه أثر في كبده وَجَعاً، كقولك: رأسته، أي: أصبت رأسه، ويدل على ذلك قراءة لاحق بن حُمَيد: أو يكبدَهم - بالدال - والعرب تُبْدِل التاء من الدال، قالوا: هَرَتَ الثوبَ، وهردَه، وسَبَتَ رأسَه، وسَبَدَه - إذا حَلَقَه -. وقد قيل: إنّ قراءة لاحق أصلها التاء، وإنما أُبدِلت دالاً، كقولهم: سبد رأسه، وهرد الثوب، والأصل فيهما التاء. فصل معنى قوله: {لِيَقْطَعَ طَرَفًا} أي: ليُهْلِكَ طائفة. وقال السُّدِّيُّ: لِيَهْدِمَ رُكْناً من أركان الشرك بالقتل والأسر، فقُتِل من قادتهم وسادتهم يوم بدر - سبعون، وأُسِر سبعون، ومَنْ حَمَل الآيةَ على أحُد، فقد قُتِل منهم يومئذ ستة عشر، وكانت النُّصرة للمسلمين، حتى خالفوا أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فانقلبت عليهم. {أَوْ يَكْبِتَهُمْ} . قال الكلبي: يهزمهم. وقال السُّدي: يلعنهم. وقال أبو عبيدة: يُهْلِكهم ويصرعهم على وجوههم. وقيل: يُخْزِيهم والمكبوت الحزين. وقيل: يَغِيظهم. وقيل: يُذلهم. قوله: {فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ} لن ينالوا خيراً مما كانوا يرجون من الظفر بكم. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 527 والخيبة لا تكون إلا بعد التوقُّع، وأما اليأس فإنه يكون بعد التوقُّع وقبلَه، فنقيض اليأس الرجاء، ونقيض الخيبة: الظفر يقال: خَابَ يَخِيبُ خَيْبَةً. و {خَآئِبِينَ} نُصِبَ على الحال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 528 اختلفوا في سبب النزول. فقيل: نزلت في قصة أُحُد، وهؤلاء اختلفوا على ثلاثة أقوالٍ: أحدها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أراد أن يدعُوَ على الكفار، فنزلت هذه الآيةُ، وهؤلاء ذكروا أقوالاً: أحدها: أن عُتْبَةَ بن أبي وقاص شجَّه، وكسر رَبَاعِيَتَهُ، فجعل يمسحُ الدمَ عن وجهه، وسالم مولى أبي حذيفة يغسل عن وجهه الدم، وهو يقول: كيف يُفْلِح قومٌ خضَّبوا وَجْه نبيهم بالدم، وهو يدعوهم إلى ربهم؟ ثم أراد أن يدعُوَ عليهم، فنزلت هذه الآية. وروى سالم بن عبد الله عن أبيه عبد الله بن عمر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لَعَنَ أقوماً، فقال: «اللهم العن أبا سفيان، الهم العن الحارثَ بن هشام، اللهم العن صفوانَ بن أمَيَّة» ، فنزلت هذه الآية. {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فتابَ على هؤلاءِ، وحَسُنَ إسلامهم. وقيل: نزلت في حَمْزَةَ بن عبد المطلب لما رأى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما فعلوا به من المُثْلَة، قال: لأمَثِّلَنَّ بهم كما مثّلوا به. فنزلت هذه الآية. {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} فتابَ على هؤلاءِ، وحَسُنَ إسلامِهم. وقيل: نزلت في حَمْزَةَ بن عبد المطلب لما رأى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما فعلوا به من المُثْلَة، قال: لأمَثِّلَنَّ بهم كما مثّلوا به. فنزلت هذه الآية. قال القفال: وكل هذه الأشياء حصلت يومُ أُحُد، فنزلت الآيةُ عند الكل، فلا يمنع حملها على الكل. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 528 الثاني: أنها نزلت بسبب أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أراد أن يلعنَ المسلمين الذين خالفوا أمره والذين انهزموا، فمنعه الله من ذلك قاله ابنُ عباس. الثالث: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أراد أنْ يستغفرَ للمسلمين الذين انهزموا، وخالفوا أمره، ويدعوَ لهم، فنزلت الآية. القول الثاني: أنها نزلت في واقعةٍ أخرى، وهي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعث جَمْعاً من خيار أصْحَابه - وهم سبعون رجلاً من القُرَّاء إلى بِئْر معونة، في صفر سنة أربع من الهجرة، على رأس أربعة أشهر من أحد، ليُعَلِّموا الناسَ القرآن والعلم، أميرهم المنذر بن عمرو، فذهب إليهم عامر بن الطفيل مع عسكره فقتلهم، فوَجِدَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ذلك وَجْداً شديداً، وقَنَتَ شهراً في الصلوات كلِّها يدعو على جماعة من تلك القبائلِ باللعن والسنين، فنزلت الآية، قاله مقاتل وأكثر العلماء متفقون على أنها في قصة أحد. فإن قيل: ظاهر هذه الآية يدل على أنها وردت للمنع من أمرٍ كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يريد أن يفعلَه، وذلك الفعل إن كان بأمر الله، فكيف يمنعه منه؟ وإن كان بغير أمر الله، فكيف يصح هذا مع قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] ؟ وأيضاً فالآية دالة على عصمة الأنبياء، فالأمر الممنوع منه في هذه الآية، إن كان حَسَناً فلِمَ منعه اللهُ؟ وإن كان قبيحاً، فكيف يكون فاعله معصوماً؟ فالجواب من وجهين: الأول: أن المنعَ من الفعل لا يدل على أن الممنوع كان مُشْتَغَلاً به؛ فإنه تعالى - قال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ، وإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يُشْرِك قط، وقال: «يا أيها النبي اتق الله» وهذا لا يدل على أنه ما كان يتقي الله، ثم قال: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين} [الأحزاب: 1] ، وهذا لا يدل على أنه أطاعهم، والفائدة في هذا المنع أنه لما حصل ما يوجب الغَمَّ الشديد، والغضب العظيم، وهو قَتْل عمه حمزةَ، وقتل المسلمين. والظاهر أن هذا الغضب يَحْمِل الإنسان على ما لا ينبغي من القول والفعل، فنصَّ الله على المنع؛ تقويةً لِعصْمَته، وتأكيداً لطهارته. والثاني: لعله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ همَّ أن يفعلَ، لكنه كان ذلك من باب تَرْك الأفضل، والأوْلَى، فلا جرم، أرشده الله تعالى إلى اختيار الأوْلَى، ونظيره قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} [النحل: 126 - 127] فكأنه - تعالى - قال: إن كان لا بد أن تعاقب ذلك الظالمَ فاكتفِ بالمثل، ثم قال ثانياً: وإن تركته كان ذلك أوْلَى، ثم أمره أمراً جازِماً بتَرْكِه، فقال: {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} [النحل: 127] . ووجه ثالث: وهو أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما مال قلبه إلى اللعنة عليهم، استأذن ربه فيه، فنزلت الآية بالنص على المنع. وعلى هذا التقدير، فلا يدل هذا النهي على القدح في العِصْمة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 529 فصل في معنى الآية قولان: الأول: ليس لك من مصالح عبادي شيء إلا ما أُوحِي إليك. وثانيها: ليس لك في أن يتوبَ الله عليهم، ولا في أن يعذبَهم شيء غلا إذا كان على وفق أمري، وهو كقوله: {أَلاَ لَهُ الحكم} [الأنعام: 62] ، واختلفوا في هذا المنع من اللعن، لأي معنًى كان؟ فقيل: الحكمة فيه أنه - تعالى - ربما علم من حال بعض الكفار أنه يتوب، وأنه سيولد له وَلَدٌ، يكون مسلماً، بَرًّا، تقيًّا، فإذا حصل دعاء الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليهم بالهلاك، فإن قُبلت دعوتُه فات هذا المقصود، وإنْ لم تُقْبَلْ دعوتُه كان ذلك كالاستخفاف بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلأجل هذا المعنى منعه الله تعالى - من اللَّعْن، وأمره بأن يُفَوِّضَ الكل إلى علم الله سبحانه وتعالى. وقيل المقصود منه إظهار عجز العبودية وألا يخوض العبد في أسرار الله تعالى. قوله: {أَوْ يَتُوبَ} في نصبه أوجهٌ: أحدها: أنه معطوف على الأفعال المنصوبة قبلَه، تقديره: لِيقطَعَ، أو يتوبَ عليهم، أو يكبتهم، أو يعذبهم. وعلى هذا فيكون قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} جملة معترضة بين المتعاطِفَيْن، والمعنى: إن الله تعالى هو المالك لأمرهم، فإن شاء قطع طرفاً منهم، أو هزمهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا، أو يعذبهم إن تمادَوْا على كُفْرهم، وإلى هذا التخريج ذهب جماعة من النحاة كالفراء، والزجاج. الثاني: أن «أو» هنا بمعنى «إلا أن» كقولهم: لألزمنك أو تقضين حقي أي: إلا أن تقتضينه. الثالث: «أوْ» بمعنى: «حتى» ، أي: ليس لك من الأمر شيء حتى يتوب وعلى هذين القولين فالكلام متصل بقوله: {ليس لك من الأمر شيء} ، والمعنى: ليس لك من الأمر شيء إلا أن يتوب عليهم بالإسلام، فيحصل لك سرور بهدايتهم إليه، أو يعذبهم بقتل، أو نار في الآخرة، فتشقى بهم، وممن ذهب إلى ذلك الفراء، وأبو بكر بن الأنباري، قال الفراء: ومثل هذا من الكلام: لألزمنك أو تعطيني، على معنى إلا أن تُعطيني وحتى تعطيني وأنشدوا في ذلك قول امرئ القيس: [الطويل] 1613 - فَقُلْتُ لَهُ: لاَ تَبْكِ عَيْنُكَ إنَّمَا ... تُحَاوِلُ مُلْكاً، أوْ تَمُوتَ، فَُعْذَرَا أراد: حتى تموت، أو: إلا أن تموت. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 530 قال شهاب الدين: «وفي تقدير بيت امرئ القيس ب» حتى «نظر؛ إذ ليس المعنى عليه؛ لأنه لم يفعل ذلك لأجل هذه الغاية، والنحويون لم يقدروه إلا بمعنى: إلا أنْ» . الثالث: منصوب بإضمار: «أنْ» عطفاً على قوله: «الأمر» ، كأنه قيل: ليس لك من الأمر أو من توبته عليهم، أو تعذيبهم شيء، فلما كان في تأويل الاسم عُطِفَ على الاسم قبلَه، فهو من باب قوله: [الطويل] 1614 - فَلَوْلاَ رِجَالٌ مِنْ رِزَامٍ أعِزَّةٌ ... وَآلُ سُبَيْعٍ، أوْ أسُوءَكَ عَلْقَمَا وقوله: [الوافر] 1615 - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ، وَتَقَرَّ عَيْنِي ... أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ الرابع: أنه معطوف - بالتأويل المذكور - على «شَيءٌ» ، والتقدير: ليس لك من الأمر شيء، أو توبة الله عليهم، أو تعذيبهم، أي: ليس لك - أيضاً - توبتهم ولا تعذيبهم، إنما ذلك راجع إلى الله عَزَّ وَجَلَّ. وقرأ أبَيّ: أو يتوبُ، أو يعذبهم، برفعهما على الاستئناف في جملة اسمية، أضْمِر مبتدؤُها، أي: هو يتوبُ، ويعذبُهم. فصل يحتمل أن يكون المراد من هذا العذاب: هو عذاب الدنيا - بالقَتْل والأسْر - وأن يكون عذابَ الآخرة، وعلى التقديرين فعِلْمُ ذلك مُفَوَّضٌ إلى الله تعالى. قوله: {فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ} جملة مستقلة، والمقصود من ذكرها: تعليل حسن والتعذيب، والمعنى: إن يعذبهم فبظلمهم. واعلم أنه إذا كان الغرض من الآية منعه من الدعاء على الكفار صَحَّ ذلك، وسمَّاهم ظالمين؛ لأن الشرك ظلم، بل هو أعظم الظلم؛ لأن الله تعالى قال: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . وإن كان الغرضُ منها منعه من الدعاء على المسلمين الذين خالفوا أمره، صح الكلام - أيضاً -؛ لأن من عصى الله، فقد ظلم نفسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 531 والمقصود منه: تأكيد ما ذكره أولاً من قوله: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} [آل عمران: 128] ، والمعنى: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 531 إنما يكون ذلك لمن له الملك، وليس هو لأحد إلا الله. وقال: {مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ولم يقل: مَنْ؛ لأن الإشارة إلى الحقائق والماهيات، فدخل الكُلُّ فيه. قوله: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} احتجوا بذلك على أنه سبحانه - له أن يُدْخِلَ الجنة - بحُكْم إلهيته - جميعَ الكُفَّار، وله أن يُدْخِلَ النارَ - بحكم إلهيته - جميع المقربين، ولا اعتراض عليه؛ لأن فعلَ العبد متوقف على الإرادة، وتلك الإرادة مخلوقة لله - تعالى - فإذا خلق الله تلك الإرادة أطاع، وإذا خلق النوع الآخر من الإرادة عصى، فطاعة العبد من الله، ومعصيته - أيضاً - من الله - وفعل الله لا يوجب على الله شيئاً - ألبتة -، فلا الطاعة توجب الثواب، ولا المعصية توجب العقاب، بل الكل من الله - بحكم إلهيته وقهره وقدرته - فصح ما ادعيناه. فإن قيل: أليس ثبت أنه لا يُغْفَرُ لِلْكُفَّارِ، ولا يُعَذَّبُ المَلاَئِكَةُ والأنْبِيَاءُ - عليهم السلام. قلنا: مدلول الآية أنه لو أراد فعل، ولا اعتراض عليه، وهذا القدر لا يقتضي أنه يفعل، أو لا يفعل. ثم قال: «والله غفور رحيم» والمقصود منه أنه وإن حَسُنَ كل ذلك منه إلا أن جانب الرحمة والمغفرة غالب، لا على سبيل الوجوب، بل على سبيل الفضل والإحسان. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 532 قال بعضهم: إنه تعالى لما شرح عظيم نعمه على المؤمنين، فيما يتعلق بإرشادهم إلى الأصلح في أمر الدين والجهاد، اتبع ذلك بما يدخل في الأمر والنهي، والترغيب والتحذير، وعلى هذا التقدير، فيكون ابتداء كلام، لا تعلُّق له بما قبله. وقال القفال: يُحتمل أن يكون متصلاً بما قبله من أن المشركين إنما أنفقوا على تلك العساكر أموالاً جمعوها بسبب الربا، فلعل ذلك يصير داعياً للمسلمين على الإقدام على الربا، فيجمعوا المالَ، ويُنْفِقُوه على العساكر، فيتمكنون من الانتقام منهم، فنهاهم الله عن ذلك. قوله: {أَضْعَافاً} جمع ضعف، ولما كان جمع قلة - والمقصود: الكثرة - أتبعه بما يدل على الكثرة وهو الوصف بقوله: {مُّضَاعَفَةً} . وقال أبو البقاء: {أَضْعَافاً} مصدر في موضع الحال من «الرِّبا» ، تقديره: مضاعفاً، وتقدم الكلام على {أَضْعَافاً} ومفرده في البقرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 532 وقرأ ابنُ كثير وابنُ عامر: «مضعَّفة» - مشددة العين، دون ألف. والباقون بالألف والتخفيف، وتقدم الكلام على ذلك في البقرة. فصل لما كان الرجل في الجاهلية، إذا كان له على إنسان مائة درهم إلى أجل، ولم يكن المديون واجداً لذلك المال فقال: زدني في المال حَتَّى أزيدَك في الأجَلِ، فربما جعله مائتين، ثم إذا حَلَّ الأجَلُ الثاني، فعل مثل ذلك، ثم إلى آجالٍ كثيرةٍ، فيأخذ بسبب تلك المائة أضعافها، فهذا هو المراد بقوله: {أَضْعَافاً مُّضَاعَفَةً} . قوله: {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} فإن اتقاء الله واجب، والفلاح يقف عليه، وهذا يدل على أن الربا من الكبائر، وقد تقدم الكلام على الربا في «البقرة» . قوله تعالى: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} في هذه الآية سؤالان. الأول: أن النار التي أعدت للكافرين تكون بقدر كفرهم؛ وذلك أزيد مما يستحقه المسلم بفسقه، فكيف قال: {واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} ؟ والجواب: أن التقدير: اتقوا أن تجحدوا تحريمَ الربا، فتصيروا كافرين. السؤال الثاني: أن ظاهر قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} يقتضي أنها ما أعدت لغيرهم، وهذا يقتضي القطع بأن أحداً من المؤمنين لا يدخل النار، وهو خلاف سائر الآيات. والجواب عليه من وجوه: أحدها: أنه لا يبعد أن يكون في النار دركات، أعِدَّ بعضُها للكفار، وبعضها للفُسَّاق، فتكون هذه الآية إشارة إلى الدركات المخصوصة بالكفار، وهذا لا يَمْنَعُ ثبوت دركات أخْرَى أعِدَّت لغير الكفار. وثانيها: أن تكون النار مُعَدَّة للكافرين، ولا يمنع دخول المؤمنين فيها؛ لأن أكثر أهل النار الكفار، فذكر الأغلب، كما أن الرجل يقول: هذه الدابة أعددتَها لِلِقَاءِ المُشْرِكِينَ، ولا يمنع من ركوبها لحوائجه، ويكون صادقاً في ذلك. وثالثها: أن القرآن كالسورة الواحِدَةِ، فهذه الآية دلت على أن النار معدة للكافرين، وباقي الآيات دلَّت أيضاً على أنها معدة لمن سرق، وقتل، وزنى، وقذف، ومثله قوله تعالى: {كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ} [الملك: 8] ، وليس جميع الكفار قال ذلك، وقوله: {فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون} [الشعراء: 94] إلى قوله: {إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين} [الشعراء: 98] ، وليس هذا صفة جميعهم، لما كانت هذه الصفات مذكورة في سائر السور كانت كالمذكورة - هاهنا -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 533 الرابع: أن قوله: {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} إثبات كونها معدة لهم، ولا يدل على الحصر، كقوله - في الجنة: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} [آل عمران: 133] ، ولا يدل ذلك على أنه لا يدخلها سواهم من الصبيان والمجانين، والحور العين. وخامسها: أنَّ المقصود مِنْ وَصْفها - بكونها {أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} : تعظيم الزَّجْرِ؛ لأن المؤمنين مخاطبين باتقاء المعاصي، إذا علموا بأنهم متى فارقوا التقوى، دخلوا النار المعدة للكافرين، وقد تقرَّر في عقولهم عظم عقوبة الكافرين، انزجروا عن المعاصي أتَمَّ الانزجار، كما يُخوفُ الوالدُ ولدَه بأنك إن عصيتني أدخلتك دارَ السباع، ولا يدل ذلك على أن تلك الدارَ لا يدخلها غيرهم. وهذه الآية تدل على أن النار مخلوقة في الأزل؛ لأن قوله: «أعِدَّتْ» إخبار عن الماضي، فلا بد وأن يكون ذلك الشيء دخل في الوجود. قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لما ذكر الوعيد ذكر بعده الوعد - على عادته المستمرَّة في القرآن. قال محمدُ بن إسحاق بن يسار: هذه الآية معاتبة للذين عَصَوْا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حين أمرهم بما أمرهم يوم أُحُدٍ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 534 قرأ نافعُ، وابْنُ عَامِرٍ: سارعوا - بدون واو - وكذلك هي في مصاحف المدينة والشام. والباقون بواو العطف، وكذلك هي في مصاحف مكةَ والعراقِ ومصحف عثمانَ. فمن أسقطها استأنف الأمر بذلك، أو أراد العطف، لكنه حذف العاطفَ؛ لقُرْب كل واحد منهما من الآخر في المعنى - كقوله تعالى: {ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] ، فإن قوله: {وسارعوا} ، وقوله: {وأطيعوا} كالشيء الواحد، وقد تقدم ضعف هذا المذهب. ومن أثبت الواو عطف جملة أمريةً على مثلها، وبعد إتباع الأثر في التلاوة، أتبع كل رسم مصحفه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 534 ورَوَى الكِسَائِيُّ: الإمالة في {وسارعوا} ، و {أولئك يُسَارِعُونَ} [المؤمنون: 61] ، و {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات} [المؤمنون: 56] وذلك لمكان الراء المكسورة. قوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} صفة لِ «مَغْفِرَةٍ» ، و «مِنْ» للابتداء مجازاً. فصل قال بعضهم: في الكلام حذف، والتقدير: وسارعوا إلى ما يوجب مغفرة من ربكم. وفيه نظر؛ لأن الموجب للمغفرة، ليس إلا افعال المأمورات، وترك المنهيات، فكان هذا أمراً بالمسارعة إلى فعل المأمورات، وترك المنهيات. وتمسك كثيرٌ من الأصوليين بهذه الآية، في أن ظاهر الأمرِ يوجب الفور؛ لأنه الجزء: 5 ¦ الصفحة: 535 ذكر المغفرة على سبيل التنكير، والمراد منه: المغفرة العظيمة المتناهية في العِظَم، وذلك هو المغفرة الحاصلة بسبب الإسلام. فصل قال ابْنُ عَبَّاسٍ: إلى الإسلام. ورُوِيَ عنه إلى التوبة - وهو قول عكرمة - والمعنى: وبادروا، وسابقوا. وقال عَلِيُّ بْنُ أبِي طَالِب: إلى أداء الفرائض؛ لأن الأمر مُطْلَق، فيعم كل المفروضات. وقال عثمان بن عفان: إنه الإخلاص؛ لأنه المقصود من جميع العبادات؛ لقوله تعالى: {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5] . وقال أبو العالية: إلى الهجرة. وقال الضحاك ومحمد بن إسحاق: إلى الجهاد؛ لأن من قوله: {وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ} [آل عمران: 121] إلى تمام ستين آية نزل في يوم أُحُد، فكان كل هذه الأوامر والنواهي مختصَّة بما يتعلق بالجهاد. وقال سعيد بن جبير: إلى التكبيرة الأولى، وهو مروي عن أنس. وقال يمان: إنه الصلوات. وقال عِكْرمَةُ ومُقَاتِل: إنه جميع الطاعة؛ لأن اللفظ عام، فيتناول الكُلَّ. وقال الأصَمُّ: {وسارعوا} بادروا إلى التوبة من الربا والذنوب؛ لأنه - تعالى - نهى الجزء: 5 ¦ الصفحة: 536 أوَّلاً عن الربا، ثم قال: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} وهذا يدل على أن المراد منه: المسارعة في تَرْك ما تقدم النَّهْيُ عنه. قال ابنُ الخَطِيبِ: «والأوْلَى ما تقدم من وجوب حَمْله على أداء الواجبات، والتوبة عن جميع المحظورات، لأن اللفظ عامّ، فلا وَجْهَ لتخصيصه، ثم إنه - تعالى - بَيَّن أنه كما تجب المسارعةُ والمغفرة، فكذلك تجب المسارعة إلى الجنة، وإنما فصل بينهما؛ لأن الغُفْران معناه إزالة العقاب، والجنة معناها حصول الثواب، فجمع بينهما؛ للإشعار بأنه، لا بُدَّ للمكلف من تحصيل الأمرين» . قوله: {عَرْضُهَا السماوات والأرض} [لا بد فيه من حَذْف؛ لأن نفس السموات] لا تكون عرضاً للجنة، فالتقدير: عرضها مثل عرض السموات والأرض، يدل على ذلك قوله: «كعرض» ، والجملة في محل جر صفة لِ «جَنَّةٍ» . فصل في معنى قوله: {عَرْضُهَا السماوات والأرض} وجوه: أحدها: أن المراد: لو جُعِلَت السمواتُ والأرضُ طبقاتٍ طبقاتٍ، بحيث تكون كل واحدةٍ من تلك الطبقات خَطاً مؤلفاً من أجزاء لا تُجَزَّأ، ثم وُصِل البعض بالبعض طبقاً واحداً، لكان مثل عرض الجنة. وثانيها: أن الجنة التي يكون عرضُها كعرض السموات والأرض، إنَّما تكون للرجل الواحد؛ لأن الإنسان إنما يرغب فيما يصير ملْكاً له. وثالثها: قال أبو مسلم: إن الجنة لو عُرِضت بالسموات والأرض على سبيل البيع، لكانت ثمناً للجنة، يقول: إذا بعت الشيء بالشيء: عرضته عليه وعارضته به فصار العرض يوضع موضع المساواة بين الشيئين في القدر، وكذلك - أيضاً - في معنى: القيمة؛ لأنها مأخوذة من مقاومة الشيء للشيء حتى يكون كلُّ واحدٍ منهما مِثْلاً للآخر. ورابعها: أن المقصود المبالغة في وَصْف سعة الجنة؛ لأنه ليس شيء عنده أعرض منها، ونظيره قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} [هود: 107 - 108] فإن أطْول الأشياء بقاءً - عندنا - هو السموات والأرض فخوطبنا على قَدْر ما عرفناه. فإن قيل: لِمَ خُصَّ العَرْضُ بالذكْر. فالجواب من وجهين: الأول: أنه لما كان الغرض تعظيم سعتها، فإذا كان عَرْضُها بهذا العِظَم، فالظاهر أن الطول يكون أعظم، ونظيره قوله: {بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} [الرحمن: 54] ، فذكر البطائن؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 537 لأن الظاهرَ أنَّها أقل من الظِّهارة، فإذا كانت البطائن هكذا، فكيف الظهارة. الثاني: قال القفّال: ليس المراد بالعَرض - هاهنا - المخالف للطول، بل هو عبارة عن السعة، كما تقول العرب: بلاد عريضة، ويقال: هذه دعوى عريضة، واسعة عظيمة. قال الشاعر: [الطويل] 1616 - كَأنَّ بِلاَدَ اللهِ - وَهْيَ عَرِيضَةٌ - ... عَلَى الْخَائِفِ الْمَطْلُوبِ كِفَّةُ حَابِلِ والأصل فيه أن ما اتسع عَرْضُه لم يَضِقْ وما ضاق عرضه دَقَّ، فجعل العَرْضَ كنايةً عن السعة. فصل رُوِيَ أن يهوديًّا سأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال: إنك تدعو إلى جنة عرضُها السموات والأرض أعدت للمتقين، فأين النار. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سبحان الله!! فأين الليلُ إذا جاءَ النهار» . ورُوِيَ عن طارق بن شهاب أن ناساً من اليهود سألوا عمر بن الخطاب - وعنده أصحابه - فقالوا: أرأيتم قولكم: وجنة عرضها السموات والأرض؟ فأين النار. قال عُمَرُ: أرأيتم إذا جاء النهار، أين يكون الليل؟ وإذا جاء الليل، أين يكون النهار. قال عُمَرُ: أرأيتم إذا جاء النهار، أين يكون الليل؟ وإذا جاء الليل، أين يكون النهار. فقالوا له: إنه لمثلها في التوراة، ومعناه حيث شاء الله. سُئِلَ أنس بن مالك عن الجنة، أفي السماء، أم في الأرض. فقال: وأي أرض وسماء تسع الجنة. قيل: فأين هي. فقال: فوق السماوات السبع، تحت العرش. وقال قتادة: كانوا يَرَوْنَ أن الجنة فوقَ السموات السبع، وأن جهنَّمَ تحت الأرضين السبع. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 538 فإن قيل: قال الله تعالى: {وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ} [الذاريات: 22] ، وأراد بالذي وُعِدنا الجنة، وإذا كانت الجنة في السماء، فكيف يكون عَرْضُها السمواتُ والأرض. فالجواب: أن باب الجنة في السماء، وعرضها كما أخبر. وقيل: إن الجنة والنار تُخْلقان بعد قيام الساعة، فعلى هذا لا يبعد أن تُخْلَق الجنة في مكان السموات، والنار في مكان الأرض. قوله: {أُعِدَّتْ} يجوز أن يكون محلها الجَرّ، صفة ثانية لِ «جَنَّةٍ» ، ويجوز أن يكون محلها النصب على الحال من «جَنَّةٍ» ؛ لأنها لما وُصِفَتْ تخصَّصت، فقَرُبَت من المعارف. قال أبو حيان: «ويجوز أن يكون مستأنفاً، ولا يجوز أن يكون حالاً من المضاف إليه؛ لثلاثة أشياء: أحدها: أنه لا عامل، وما جاء من ذلك متأوَّل على ضَعْفه. والثاني: أن العرض - هنا - لا يراد به: المصدر الحقيقي، بل يراد به: المسافة. الثالث: أن ذلك يلزم منه الفصل بين الحال، وصاحبه بالخبر» . يعني بالخبر: قوله: {السماوات} ، وهو رَدٌّ صحيح. وظاهر الآية يدل على أن الجنة والنار مخلوقتان الآن، وهو نص حديث الإسراء في الصحيحين وغيرهما. وقالت المعتزلة: إن الجنة والنار غير مخلوقتين في وقتنا هذا، وإن الله تعالى إذا طوى السماوات والأرض ابتدأ خلق الجنة والنار حيث شاء؛ لأنهما دار جزاء بالثواب والعقاب، فخُلِقتا في وقت الجزاء؛ لأنه لا يجتمع دار التكليف، ودار الجزاء في الدنيا، كما لم يجتمعا في الآخرة. وقال ابن فورك: «الجنة في السماء، ويزاد فيها يوم القيامة» . قوله: {الذين يُنفِقُونَ} يجوز في محله الألقاب الثلاثة، فالجر على النعت، أو البدل، أو البيان، والنصب والرفع على القطع المشعر بالمدح، ولما أخبر بأن الجنة مُعَدَّة للمتقين وصفهم بصفات ثلاث، حتى يُقْتَدَى بهم في تلك الصفات. فاصفة الأولى: قوله: {الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء} . فقيل: معناه: في العُسْر واليُسْر. وقيل: سواء كانوا في سرور، أو حُزْن، أو في عُسْر، أو في يُسْر. وقيل: سواء سرهم ذلك الإنفاق - بأن كان على وفق طبعهم - أو ساءهم - بأن كان على خلاف طبعهم - فإنهم لا يتركونه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 539 روى أبو هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنَ اللهِ، قَرِيبٌ مِنَ الجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّاسِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّارِ، وَالبَخِيلُ بَعِيدٌ مِنَ اللهِ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ، بَعِيدٌ مِنَ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنَ النَّارِ، ولجاهل سخِيٌّ أحبُّ إلَى اللهِ مِنَ عابد بخيل» . ورُوي أنَّ عَائِشَةَ تصدَّقَتْ بحَبَّة عِنَبٍ. الصفة الثانية: قوله: {والكاظمين الغيظ} يجوز فيه الجر والنَّصب على ما تقدم قبله. والكَظْم: الحبس، يقال: كظم غيظه، أي: حبسه، وكَظَم القربة والسقاء كذلك، والكظم - في الأصل - مخرج النفَس، يقال: أخذ بكظمه، أي: أخذ بمجرى نفسه. والكُظوم: احتباس النفس، ويُعَبَّر به عن السكوت، قال المبرد: تأويله أنه كتمه على امتلاء به منه، يقال: كَظَمْتُ السِّقَاءَ، إذا ملأته وسددت عليه، وكل ما سددت من مجرى ماء، أو باب، أو طريق، فهو كَظْم، والذي يُسَدّ به يقال له: الكظامة والسدادة، ويقال للقناة التي تجري في بطن الأرض: كظامة، لامتلائها بالماء كامتلاء القربة المكظومة، والمَكْظُوم: الممتلئ غيظاً، وكأنه - لغيظه لا يستطيع أن يتكلم، ولا يُخرج نفسه، والكظيم: الممتلئ أسَفاً. قال أبو طالب: [الكامل] 1617 - فَحَضَضْتُ قَوْمِي، وَاحْتَسَبْتُ قِتَالَهُمْ ... وَالْقَوْمُ مِنْ خَوْفِ المَنَايَا كُظَّزُ وكظم البعيرُ جِرَّتَه، إذا رَدَّها في جَوْفه، وترك الاجترار. ومنه قول الراعي: [الكامل] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 540 1618 - فَأفَضْنَ بَعْدَ كُظُومِهِنَّ بِجِرَّةِ ... مِنْ ذِي الأبَاطِحِ إذْ رَعَيْنَ حَقِيلا الحقيل، قيل: نبت. وقيل: موضع، فعلى الأول هو مفعول به، وعلى الثاني هو ظرف، ويكون قد شذ جره ب «في» ؛ لأنه ظرف مكان مختص، ويكون المفعول محذوفاً، أي: إذْ رعين الكلأ في حقيل، ولا تقطع الإبلُ جِرَّتَها إلا عند الجهد والفزع فلا تجترّ. ومنه قول أعشى باهلة يصف رجلاً يكثر نحر الإبل: [البسيط] 1619 - قَدْ تَكْظِمُ البُزْلُ مِنْهُ حِينَ تُبْصِرُهُ ... حَتَّى تَقَطَّعَ فِي أجْوَافِهَا الْجِرَرُ والجرر جمع جِرَّة. والكظامة: حلقة من حديد تكون في طرف الميزان تجمع فيها خيوطه، وهي - أيضاً - السير الذي يُوصَل بوتر القَوْس. والكظائم: خروق بين البئرين يجري منها الماء إلى الأخرى، كل ذلك تشبيه بمجرى النفَس وتردّده فيه. فصل قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى إنْفاذِهِ - مَلأ اللهُ قَلْبَه أمناً وَإيمَاناً» ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كَظَمَ غَيْظاً - وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَى أن ينفذه - دَعَاهُ اللهُ - عَزَّ وَجَلَّ - يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى رُؤوسِ الخَلائِقِ، حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أيِّ الحُورِ شَاءَ» . {والكاظمين الغيظ} : الذين يَكُفُّونَ عيظهم عن الإمضاء، ونظيره قوله: {وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ} [الشورى: 37] ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَيْسَ الشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، لَكِنَّهُ الَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ الغَضَبِ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 541 الصفة الثالثة: قوله: {والعافين عَنِ الناس} . قال القفال: يُحْتَمَلُ أن يكون هذا راجعاً إلى ما ذم من فعل المشركين في أكل الربا، فنهي المؤمنين عن ذلك، ونُدبوا إلى العفو عن المُعْسرين، فإنه تعال قال - عقب قصة الربا والتداين -: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] وقال {وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 280] . ويُحْتَمَلُ أنْ يكون هذا بسبب غضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حين مَثَّلُوا بعَمِّه حمزة، وقال: لأمَثلنَّ بِهِمْ فندب إلى كَظْم هذا الغيظ. وقال الكلبي: العافين عن المملوكين سوءَ الأدب. وقال زَيْدُ بْنُ أسْلَمَ وَمُقَاتِلٌ: عمن ظلمهم وأساء إليهم، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لاَ يَكُونُ العَبْدُ ذَا فضْل حَتَّى يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ، ويَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ ويُعْطَِ مَنْ حَرَمَهُ» . ورُوِي عن عيسى ابن مريم أنه قال: «لَيْسَ الإحْسَانُ أنْ تُحْسِنَ إلى مَنْ أحْسَنَ إلَيْكَ، ذَاكَ مُكَافَأةٌ، إنَّما الإحْسَانُ أنْ تُحسِنَ إلى مَنْ أسَاءَ إلَيْكَ» . ثم قال: {والله يُحِبُّ المحسنين} هذه اللام يحتمل أن تكون للجنس، فيدخل كل مُحْسن، وأن تكون للعهد، فتكون إشارة إلى هؤلاء. وهذه الآية من أقْوَى الدلائل على أن الله - تعالى - يعفو عن العُصَاة، لأنه قد مدح الفاعلين لهذه الخصال، وأحَبَّهم، وهو أكرم الأكرمين، والعفو والغفور الحليم، والآمر بالإحسان، فكيف يمدح بهذه الأفعال، ويندب إليها، ولا يفعلها؟ إن ذلك لممتنع في العقول. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 542 يجوز أن يكون معطوفاً على الموصول قبله، ففيه ما فيه من الأوجه السابقة، وتكون الجملةُ من قوله: {والله يُحِبُّ المحسنين} [آل عمران: 134] جملة اعتراض بين المتعاطفين. ويجوز أن يكون «والذين» مرفوعاً بالابتداء، و «أولَئِكَ» مبتدأ ثانٍ، و «جَزَاؤهُمْ» مبتدأ ثالث، و «مَغْفِرَةٌ» خبر الثالث، والثالث وخبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول. وقوله: {إِذَا فَعَلُواْ} شرط، وجوابه: {ذَكَرُواْ} . قوله: {فاستغفروا} عطف على الجواب، والجملة الشرطية وجوابها صلة الموصول، والمفعول الأول ل «اسْتَغْفَرُوا» محذوف، أي: استغفروا الله لذنوبهم، وقد تقدم الكلام على «استغفر» ، وأنه تعدى لاثنين، ثانيهما بحرف الجر، وليس هو هذه اللام، بل «من» وقد يُحْذَف. فصل في سبب النزول قال ابن مسعود: قال المؤمنون: يا رسولَ الله، كانت بو إسرائيل اكرمَ على الله مِنَّا؛ كان أحدهم إذا أذنب اصبحت كفارةُ ذَنْبِه مكتوبةً على عتبة بابه، اجدع أنفك، افعل كذا، فأنزل الله هذه الآية. قال عطاء: نزلت في نبهان التمار - وكُنيته أبو مقبل - أتته امرأة حسناء، تبتاعُ منه تَمْراً، فقال لها: إن هذا التمر ليس بجيِّد، وإن في البيت أجودَ منه، فذهب بها إلى بيته، فضمها إلى نفسه، وقَبَّلها، فقالت له: أتَّقِ الله، فتركها، وندم على ذلك، وأتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذكر له ذلك فنزلت هذه الآية. وقال مُقَاتِلٌ والكَلْبِيُّ: آخى رسولُ الله بين رجلين، أحدهما من الأنصار، والآخر من ثقيفٍ، فخرج الثقفيُّ في غزاةٍ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقُرْعة في السفر، وخلف الأنصاريّ على أهله، يَتَعَاهَدُهُم، واشترى لهم اللحمَ ذات يوم، فلما أرادت المرأةُ أن تأخذ منه، دخل على أثرها، وقَبَّل يَدَهَا، فوضعت كَفَّهَا على وَجْهها، ثم ندم الرجل وانصرف، ووضع الترابَ على رأسه، وهام على وجهه، ولما رجع الثقفيُّ لم يستقبله الأنصاريُّ، فسأل امرأته عن حاله، فقالت: لا أكثر اللهُ في الإخوان مثله، ووصفت له الحال، والأنصاري يسيح في الجبال تائباً مستغفراً، فطلب الأنصاريَّ الثقفيُّ حتى وجده، فأتى به الجزء: 5 ¦ الصفحة: 543 أبا بكر؛ رجاء أن يجد\َ عنده راحةً وفرجاً، وقال الأنصاريُّ: هلكت، وذكر القصة، فقال أبو بكر: ويحك! أما علمت أن الله يغار للغازي ما لا يغار للمقيم؟ ثم لقيا عُمَرَ، فقال له مثل ذلك، فأتيا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال لهما مثل مقالتهما، فأنزل الله هذه الآية. الفاحشة - هنا - نعت محذوف، تقديره: فعلوا فِعْلَةً فاحشةً. وأصل الفُحْش: القُبْح الخارج عن الحد، فقوله: {فَاحِشَةً} يعني: قبيحة، خارجة عما أذن الله فيه. قال جَابِر: الفاحشة: الزنا؛ لقوله تعالى: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ} [النساء: 15] ، وقوله: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] . قوله: {أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ} . قال الزمخشري: «الفاحشة: ما كان فعله كاملاً في القُبْح، وظُلْمُ النفس هو أي ذَنْب كان، مما يؤاخذُ الإنسانُ به» . وقيل: الفاحشة: هي الكبيرة، وظلم النفس هو الصغيرة. وقيل: الفاحشة، هي الزنا، وظلم النفس: هو القُبْلة واللَّمْسَة والنظرة. وقال مُقاتِلٌ والكَلْبِيُّ: الفاحشة ما دون الزنا من قُبْلَة أو لَمْسَةٍ، أو نظرة، فيما لا يحل. وقيل: فعلوا فاحشة فِعْلاً، أو ظلموا أنفسهم قولاً. قوله: رذَكَرُواْ الله} أي: ذكروا وعيدَ الله وعقابه، فيكون من باب حذف المضاف. قال الضحاك: ذكروا العرض الأكبر على الله. وقال مُقاتِلٌ والوَاقِدِيُّ: تفكروا أن الله سائلهم. وقيل: المراد بهذا الذكر: ذكر الله بالثناء والتعظيم والإجلال؛ لأن من أراد أن يسأل الله تعالى مسالةً، فالواجب أن يقدم على تلك المسألة الثناء على الله تعالى، فهاهنا لما كان المراد منه: الاستغفار من الذنوب قدَّموا عليه الثناء، ثم اشتغلوا بالاستغفار، {فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ} أي: ندموا على فِعْل ما مضَى مع العزم على تَرْك مثله في الجزء: 5 ¦ الصفحة: 544 المستقبل، وهذا حقيقة التوبة، فأما الاستغفار باللسان، فلا أثر له في إزالة الذنب، بل يجب إظهار هذا الاستغفار، لإزالة التهمة. وقوله: {لِذُنُوبِهِمْ} أي: لأجل ذنوبهم. قوله: {وَمَنْ يَغْفِرُ} استفهام بمعنى: النفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء. قوله: {إلاَّ الله} بدل من الضمير المستكن في «يَغْفِرُ» ، والتقدير: لا يغفر أحد الذنوب إلا الله تعالى، والمختار - هنا - الرفع على البدل، لكَوْن الكلام غيرَ إيجاب. وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] . وقال أبو البقاء «مَنْ» مبتدأ، «يَغْفِرُ» خبره، و {إلاَّ الله} فاعل «يَغْفِرُ» ، أو بدل من المضمر فيه، وهو الوجه؛ لأنك إذا جعلت «اللهُ» فاعلاً، احتجْتَ إلى تقدير ضمير، أي: ومَنْ يغفر الذنوب له غير الله. قال شهَابُ الدين: «وهذا الذي قاله - أعني: جعله الجلالة فاعلاً - يقرب من الغلط؛ فإن الاستفهام - هنا - لا يُراد به حقيقته، إنما يرادُ» النفي «، والوجه ما تقدم من كون الجلالة بدلاً من ذلك الضمير المستتر، والعائد على» من «الاستفهامية» ز ومعنى الكلام أن المغفرة لا تُطْلب إلا من الله؛ لأنه القادر على عقاب العبد في الدنيا والآخرة، فكان هو القادر على إزالة العقاب عنه. قوله: {وَلَمْ يُصِرُّواْ} يجوز أن تكون جملة حالية من فاعل {فاستغفروا} أي: ترتب على فعلهم الفاحش ذكر الله تعالى، والاستغفار لذنوبهم، وعدم إصرارهم عليها، وتكون الجملة من قوله: {وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله} - على هذين الوجهين معترضة بين المتعاطفين على الوجه الثاني، وبين الحال وذي الحال على الوجه الأول. فصل وأصْل الإصرار: الثبات على الشيء. قال الحسن: إتيان العبد ذَنْباً عَمْداً إصرار، حتى يتوب. وقال السُّدِّي: الإصرار: السكوت وتَرْك الاستغفار. وعن أبي نُصيرة قال: لقيت مولّى لأبي بكر، فقلتُ له: أسَمِعْتَ من أبي بكر شيئاً؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 545 قال: نعم، سمعته يقول: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا أصَرَّ مَنِ اسْتَغْفَرَ، وَإنْ عَادَ فِي الْيَوْمِ سَبِعِين مَرَّةً» . وقيل: الإصرار: المداومة على الشيء، وتَرْك الإقلاع عنه، وتأكيد العزم على ألا يتركه، من قولهم: صر الدنانير، إذا ربط عليها، ومنه: صُرَّة الدراهم - لما يربط منها -. قال الحُطََيْئة: يصف خيلاً: [الطويل] 1620 - عَوَابِسُ بِالشُّعْثِ الْكُمَاةِ إذَا ابْتَغَوْا ... عُلاَلَتَها بِالْخُحْصَدَاتِ أصَرَّتِ أي: ثبتت، وأقامت، مداغومة على ما حملت عليه. وقال الشاعر: [البسيط] 1621 - يُصِرُّ بِاللَّيْلِ مَا تُخْفِي شَوِاكِلُهُ ... يَا وَيْحَ كُلِّ مُصِرِّ القَلْبِ خَتَّارِ و «ما» في قوله: {على مَا فَعَلُواْ} يجوز أن تكون اسمية بمعنى: الذي، ويجوز أن تكون مصدرية. قوله: {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} يجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل {فاستغفروا} ، وأن يكون حالاً من فاعل {يُصِرُّوا} ، والتقدير: ولم يُصِرُّوا على ما فعلوا من الذنوب بحال ما كانوا عالمين بكونها محرمة؛ لأنه قد يُعْذَر مَنْ لا يعلم حرمة الفعل، أما العالم بالحرمة، فإنه لا يعذر. ومفعول {يَعْلَمُونَ} محذوف للعلم به. فقيل: تقديره: يعلمون أن الله يتوب على مَنْ تاب، قاله مجاهد. وقيل: يعلمون أن تَرْكه أوْلَى، قاله ابنُ عباس والحسن. وقيل: يعلمون المؤاخذة بها، أو عفو الله عنها. وقال ابْنُ عَبَّاسِ، ومُقَاتِلٍ، والحَسَنُ، والكَلْبِيُّ: وهم يعلمون أنها معصية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 546 وقيل: وهم يعلمون أن الإصرارَ ضار. وقال الضَّحَّاكُ: وهم يعلمون أن الله يملك مغفرةَ الذنوب، وقال الحسن بن الفضل: وهم يعلمون أن لهم رباً يغفر الذنوب. وقيل: وهم يعلمون أن الله تعالى، لا يتعاظمه الْعَفْو عن الذنوب - وإن كثرت -. وقيل: وهم يعلمون أنهم إن استغفروا غُفِرَ لهم. قوله: {أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} ، والمعنى: أن المطلوب بالتوبة أمران: الأول: الأمن من العقاب، وإليه الإشارة بقوله: {مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} . والثاني: إيصال الثواب إليه، وهو المراد بقوله: {وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} . قوله: {مِن رَّبِّهِمْ} في محل رفع؛ نعتاً لِ «مَغْفِرَةٌ» ، و «مِنْ» للتبعيض، أي: من مغفرات ربهم. قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} حال من الضمير في {جَزَآؤُهُمْ} ؛ لأنه مفعول به في المعنى؛ لأن المعنى: يجزيهم الله جنات في حال خلودهم ويكون حالاً مقدراً، ولا يجوز أن تكون حالاً من «جَنَّاتٌ» في اللفظ، وهي لأصحابها في المعنى؛ إذْ لو كان ذلك لبرز الضمير، لجَرَيان الصفة على غير مَنْ هي له، والجملة من قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} في محل رفع؛ نعتاً لِ «جَنَّاتٌ» . وتقدم إعراب نظير هذه الجمل. قوله: {وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين} المخصوص بالمدح محذوف، تقديره: ونِعْمَ أجر العاملين الجنة. فصل دلَّتْ هذه الآية على أن الغفران والجنات يكون أجراً لعملهم، وجزاءً عليه. قال القَاضِي: وهذا يُبْطِل قولَ مَنْ قال: إن الثواب تفضُّل من الله، وليس بجزاءٍ على عملهم. قال ثابت البُنَانِي: بلغني أن إبليسَ بكَى حين نزلت هذه الآية {والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله} الآية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 547 لما وعد على الطاعة والتوبة بالمغفرة والجنة، أتبعه بذكر ما يحملهم على فعل الجزء: 5 ¦ الصفحة: 547 الطاعةِ والتوبةِ، وهو تأمل أحوال القرونِ الخوالي، وهذا تَسْلِيَة من الله تعالى للمؤمنين. قال الواحدي: أصل الخلُوّ - في اللغة - الانفراد، والمكان الخالي هو المنفرد عمن يسكن فيه، ويُستعمل - أيضاً - في الزمان بمعنى: المُضِيّ؛ لأن ما مضى انفرد عن الوجود، وخلا عنه، وكذا الأمم الخالية. قوله: {مِن قَبْلِكُمْ} يجوز أن يتعلق ب «خَلَتْ» ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من {سُنَنٌ} ؛ لأنه - في الأصل - يجوز أن يكون وَصْفاً، فلما قُدِّمَ نُصبَ حالاً. والسُّنَن: جمع سُنَّة، وهي الطريقة التي يكون عليها الإنسان ويلازمها، ومنه سُنَّة الأنبياء. قال خالد الهُذَلِي لخاله أبي ذُؤيب: [الطويل] 1622 - فَلاَ تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةِ أنْتَ سِرْتَهَا ... فَأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا وقال آخر: [الطويل] 1623 - وَإنَّ الأُلَى بِالطَّفِّ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... تَأسَّوْا، فَسَنُّوا لِلْكِرَامِ التَّآسِيَا وقال لبيد: [الكامل] 1624 - مِنْ أمَّةٍ سَنَّتْ لَهُمْ آبَاؤُهُمْ ... وَلِكُلِّ قَوْمٍ سُنَّةٌ وَإمامُهَا وقال المفضَّل: السُّنَّة: الأمة، وأنشد: [البسيط] 1625 - مَا عَايَنَ النَّاسُ مِنْ فَضْلٍ كَفَضْلِكُمُ ... وَلاَ رَأوْا مِثْلَكم فِي سَالِفِ السُّنَنِ ولا دليل فيه؛ لاحتمال أن يكون معناه: أهل السنن. وقال الخليل: سَنَّ الشيء بمعنى: صوره، ومنه: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 28] أي: مُصَوَّر وقيل: سن الماء والدرع إذا صبهما، وقوله: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} يجوز أن يكون منه، ولكن نسبة الصب إلى الطين بعيدة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 548 وقيل: مسنون، أي: متغير. وقال بعض أهل اللغة: هي فُعْلة من سَنَّ الماء، يسنه، إذا والى صَبَّه، والسَّنُّ: صَبُّ الماء والعرق نحوهما. وأنشد لزهير: [الوافر] 1626 - نُعَوِّدُهَا الطراد كُلَّ يَوْمٍ ... تُسَنُّ عَلَى سَنَابِكِهَا الْقُرُونُ أي: يُصب عليها من العرق، شبَّه الطريقة بالماء المصبوب، فإنه يتوالى جرْيُ الماء فيه على نَهْج واحد، فالسُّنَّة بمعنى: مفعول، كالغُرْفَةِ. وقيل: اشتقاقها من سننت النَّصْل، أسنّه، سنًّا، إذا حددته [على المِسَن] ، والمعنى: أن الطريقةَ الحسنةَ، يُعْتَنَى بها، كما يُعْتَنَى بالنَّصْل ونحوه. وقيل: من سَنَّ الإبل، إذا أحسن رعايتها، والمعنى: أن صاحب السنة يقوم على أصحابه، كما يقوم الراعي على إبله، والفعل الذي سَنَّه النبي سُمِّيَ سُنَّةً بمعنى: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحسن رعايته وإدامته. وقد مضى من ذلك جملة صالحة في البقرة. فصل قال [أكثر المفسرين] : المراد: سنن الهلاك؛ لقوله تعالى: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} [الزخرف: 25] ؛ لأنهم لما خالفوا الرُّسُلَ؛ لحرصهم على الدنيا، ثم انقرضوا، ولم يَبْقَ من دنياهم أثر وبقي اللعن في الدنيا، والعقاب في الآخرة عليهم، فرغَّب الله تعالى أمَّةَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الإيمان بالتداخل في أحوال هؤلاء الماضين، ليصير ذلك داعياً لهم إلى الإيمان بالله ورُسُله، والإعراض عن الرياسة في طلب الدنيا والحياة. قال الزجاج: المعنى: أهل سنن، فحذف المضاف. قال مجاهد: بل المراد، سنة الله تعالى في الكافرين والمؤمنين، فإن الدنيا لم تَبْقَ، لا مع المؤمن، ولا مع الكافر، ولكن المؤمن يبقى له بعد موته الثناءُ الجميل في الدنيا، والثواب الجزيل في العُقْبَى، والكافر يبقى اللعن عليه في الدنيا والعقاب في الآخرة. قوله: {فَسِيرُواْ} جملة معطوفة على ما قبلها، والتسبُّب في هذه الفاء ظاهر، أي: سبب الأمر بالسير لتنظروا - نَظَرَ اعتبار - خُلُوَّ مَنْ قبلكم من الأمم وطرائقهم. وقال أبو البقاء: «ودخلت الفاء في» فَسِيرُوا «؛ لأن المعنى على الشرط، أي: إن شككتم فسيروا» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 549 وقوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} «كيف» خبر مقدم، واجب التقديم، لتضمُّنه معنى «الاستفهام» ، وهو معلق ل «انْظُرُوا» قبله، فالجملة في محل نصب بعد إسقاط الخافض؛ إذ الأصل: انظروا في كذا. فصل والغرض من هذا الكلام: زَجْر الكفار عن الكفر بتأمل أحوال المكذبين، ونظيره قوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون} [الصافات: 171 - 173] ، وقوله: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [القصص: 83] ، وقوله: {أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} [الأنبياء: 105] وليس المراد منه الأمر بالسير - لا محالة - بل المقصود: تعرف أحوالهم، فإن حصلت المعرفة بغير السير حصل المقصود، ويحتمل أن يقال - أيضاً -: إنَّ مشاهدة آثار المتقدمين لها، أثر أقوى من أثر المساع. قال الشاعر: [الخفيف] 1627 - إنَّ آثَارَنَا تَدُلُّ عَلَيْنَا ... فَانْظُرُوا بَعْدَنَا إلَى الآثَارِ فصل قال المفسرون: وهذا في حرب أحد، يقول: فأنا أمهلهم، وأسْتدرجهم، حتى يبلغ أجلي الذي أجَلألْتُ في نُصْرَة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأوليائه وهلاك أعدائه. قوله تعالى: {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} أي: القرآن. وقيل: ما تقدم من قوله: {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ} . وقيل: ما تقدم من أمره ونهيه ووعده ووعيده. والموعظة: الوعظ وقد تقدم. قوله: «للناس» يجوز أن يتعلقَ بالمصدر قبلَه، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه وَصْف له. قوله: {لِّلْمُتَّقِينَ} يجوز أن يكون وَصْفاً - أيضاً - ويجوز أن يتعلق بما قبله، وهو محتمل لأن يكونَ من التنازع، وهو على إعمال الثاني للمحذوف من الأول. فصل في الفرق بين الإبانة وبين الهُدَى، وبين الموعظة؛ لأن العطْفَ يقتضي المغايرة، وذكروا فيه وجهين: الأول: أن البيان هو الدلالة التي تزيل الشبهة، والهُدَى بيان الطريق الرشيد؛ ليُسْلَك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 550 دون طريق الغَيّ، والموعظة هي الكلام الذي يُفِيد الزَّجْر عما لا ينبغي في الدين. الثاني: أن البيانَ هو الدلالة، وأما الهدى فهي الدلالة بشرط إفْضَائها إلى الاهتداء. وخصَّ المتقين؛ لأنهم المنتفعون به، وتقدَّم الكلام في ذلك في قوله: «هدى للمتقين» . وقيل: إن قوله {هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ} عَامّ، ثم قوله: {وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ} مخصوص بالمتقين؛ لأن الهُدَى اسم للدلالة الموصِّلة إلى الاهتداء، وهذا لا يحصُل إلا في حقِّ المتقين. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 551 الأصل: تُوْهِنوا، فحُذِفت الواو؛ لوقوعها بين تاء وكسرة في الأصل، ثم أجْريت حروف المضارعة مُجْراها في ذلك، ويقال: وَهَنَ - بالفتح في الماضي - يَهِنُ - بالكسر في المضارع. ونُقِلَ أنه يُقال: وَهُن، ووَهِنَ - بضم الهاء وكسر في الماضي - و «وَهَنَ» يُستعمل لازماً ومتعدياً، تقول: وَهَنَ زيدٌ، أي: ضَعُفَ، قال تعالى: {وَهَنَ العظم مِنِّي} [مريم: 4] ، ووَهَنْتُه وأضعفته، ومنه الحديث: «وَهَنْتُهُمْ حُمَّى يَثْرِبَ» ، والمصدر على الوهَن - بفتح الهاء وسكونها. وقال زهير: [البسيط] 1628 - ... ... ... ... ... . ... فَأصْبَحَ الْحَبْلُ مِنْهَا وَاهِناً خَلَقَا أي: ضعيفاً. قوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} جملة حالية من فاعل {تَهِنُوا} ، أو {تَحْزَنُوا} ، والاستئناف فيها غير ظاهر، و {الأَعْلَوْنَ} جمع أعْلَى، والأصل: أعْلَيَوْنَ، فتحرَّكت الياء، وانفتح ما قبلها، فقُلبَت ألفاً فحُذِفت لالتقاء الساكنين، وبقيَت الفتحةُ لتدلَّ عليها. وإن شئت قُلْتَ: استثقلت الضمةُ على الياء، فحُذِفت، فالتقى ساكنان أيضاً - الياء والواو - فحُذِفتَ الياء؛ لالتقاء الساكنين، وإنَّما احتجنا إلى ذلك؛ لأن واو الجمع لا يكون ما قبلها إلا مضموماً، لفظاً، أو تقديراً. وهذا من مثال التقدير. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 551 فصل اعلم أن الآياتِ المتقدمة، كالمقدمة لهذه الآية، كأنه قال: إن بحثتم عن أحوال القرون الماضية، علمتم أن أهل الباطل، وإن اتفقت لهم [الصَّولة] ، فمآل أمْرهم إلى الضَّعْف، ومآل أهل الحق إلى العُلُو والقوة، فلا ينبغي أن تصير صَولَةُ الكفَّار عليكم يوم أحد سبباً لضعف قلوبكم، وهذا حَثٌّ لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الجهاد على ما أصابهم من القتل، والجراح يوم أُحُد، يقول: {وَلاَ تَهِنُوا} أي: لا تضعُفوا ولا تجبنُوا عن جهاد أعدائكم بما نالكم من القتل والجرح، {وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} أي: تكون لكم العاقبة بالنصر والظَّفَر، وهذا مناسب لما قبله، لأن القومَ انكسرت قلوبُهم بذلك الوَهْن، فكانوا محتاجين إلى ما يُقَوِّي قلوبهم. وقيل: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} أي: أن حالكم أعلى من حالهم في القتل، لأنكم أصَبْتُم منهم يوم بدر أكثر مما أصابوا منكم يوم أُحُد، وهو كقوله: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] أو لأن قتالكم لله تعالى، وقتالهم للشيطان؛ أو لأن قتالكم للدين الحق، وقتالهم للدين الباطل، فكل ذلك يُوجِب أن تكونوا أعْلَى حالاً منهم. وقيل: «وأنتم الأعلون بالحجة» . قوله: {إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} جوابه محذوف. فقيل: تقديره: فلا تَهِنُوا ولا تحزنوا. وقيل: تقديره: إن كنتم مؤمنين علمتم أن هذه الموقعةَ لا تَبْقَى بحالها، وأن الدولة تصير للمسلمين. فصل معنى: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} أي: بقيتم على إيمانكم. وقيل: وأنتم الأعلون فكونوا مصدِّقين بما يَعِدُكم الله، ويُبَشِّركم به من الغَلَبَة. وقيل: إن كنتم مؤمنين، معناه: إذا كنتم مؤمنين، أي: لأنكم مؤمنون. وقال ابنُ عباس: انهزم أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الشعب، فأقبل خالدُ بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يَعْلُوَ عليهم الجبلَ، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اللهم لا يَعْلُونَّ عَلَيْنَا، اللهُمَّ لا قُوَّةَ إلاَّ بِكَ» ، وثاب نَفَرٌ من المسلمين، رُماة، فصعدوا الجبل ورموا خَيْلَ المشركين، حتى هزموهم، فذلك قوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} . وقال الكلبيُّ: نَزَلَتْ هذه الآية بعد يوم أُحُد، حين أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصحابه بطلب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 552 القوم - مع ما أصابهم من الجراح - فاشتدَّ ذلك على المسلمين، فأنزل الله هذه الآية؛ دليله قوله تعالى: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم} [النساء: 104] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 553 قرأ الأخوان، وأبو بكر: قُرْح - بضم القاف - وكذلك «القُرْحُ» معرَّفاً. والباقون بالفتح فيهما. فقيل: هما بمعنى واحد، ثم اختلف القائلون بهذا. فقال بعضهم: المراد بهما: الجُرْح نفسه، وقال بعضهم - منهم الأخفش - المراد بهما المصدر، يقال: قَرِحَ الجُرح، يَقْرحُ، قَرْحاً، وقُرْحاً. قال امرؤ القيس: [الطويل] 1629 - وَبُدِّلْتُ قَرْحاً دَامِياً بَعْدَ صِحَّةٍ ... لَعَلَّ مَنَايَانَا تَحَوَّلْنَ أبْؤُسَا والفتح لغة الحجاز، والضم لغة تميم، فهما كالضَّعْف والضُّعْف، والكَرْه والكُرْه، والوَجْد والوُجْد. وقال بعضهم: المفتوح: الجُرْح، والمضموم: ألَمُه، وهو قول الفراء. وقرأ ابن السميفع بفتح القاف والراء، كالطرْد والطرَد. وقال أبو البقاءِ: «وهو مصدر قَرِحَ يَقْرح، إذا صار له قُرْحَة، وهو بمعنى: دَمِيَ» . وقُرِئَ قُرُح - بضمهما -. قيل: وذلك على الإتباع كاليُسْر واليُسُر، والطُّنْب والطُّنُب. وقرأ الأعمش: «إن تمسسكم قروح» - بالتاء من فوق، [وصيغة الجمع في الفاعل] ، وأصل المادة: الدلالة على الخُلُوص، ومنه الماء القَرَاح، الذي لا كُدُورةَ فيه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 553 قال الشاعر: [الوافر] 1630 - فَسَاغَ لِيَ الشَّرَابُ، وَكُنْتُ قَبْلاً ... أكَادُ أغَصُّ بِالْمَاءِ الْقَرَاح وأرض قرحة - اي: خالصة الطين - ومنه قريحة الرجل - اي: خالص طَبْعه -. وقال الراغب: «القَرْح الأثر من الجراحة من شيء يُصيبه من خارج، والقُرْح - يعني: بالضم - أثرها من شيء داخل - كالبشرة ونحوها - يقال: قَرَحْته، نحو جَرَحْته. قال الشاعر: [البسيط] 1631 - لا يُسْلِمُونَ قَرِيحاً حَلَّ وَسَطَهُمُ ... يَوْمَ اللِّقَاءِ، ولا يُشْوُونَ مَنْ قَرَحُوا أي: جرحوا. وقرح: خرج به قرح. ويقال: قَرَحَ قلبُه، وأقرحه الله - يعني: فَعَل وأفْعَل فيه بمعنًى - والاقتراح: الابتداع والابتكار ومنه: اقترح عليَّ فلانٌ كذا، واقترحْتُ بِئراً: استخرجت منها ماءً قَرَاحاً. والقريحة - في الأصل - المكان الذي يجمتع فيه الماء المستنبط - ومنه استُعِيرت قريحةُ الإنسان - وفرس قارح، إذا أصابه أثَرٌ من ظُهور نَابِهِ، والأنْثَى قارحة، وروضة قرحاء، إذا كان في وسطها نَوْر؛ وذلك لتشبيهها بالفرس القرحاء» . قوله: {فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ} للنحويين - في مثل هذا - تأويل، وهو أن يُقَدِّرُوا شيئاً مستقبلاً؛ لأنه لا يكون التعليق إلا في المستقبل - وقوله: {فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِثْلُهُ} ماضٍ مُحَقَّق - وذلك التأويل هو التبيين، أي: فقد تَبَيَّن مَسُّ القرح للقوم وسيأتي له نظائر، نحو: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ} [يوسف: 26] و {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27] . وقال بعضهم: جواب الشرط محذوف، تقديره: فتأسَّوا، ونحو ذلك. وقال أبو حيان: «ومَنْ زعم أن جواب الشرط هو» فَقَدْ مَسَّ «، فهو ذاهل» . قال شهابُ الدين: «غالب النحويين جعلوه جواباً، متأولين له بما ذكرت» . فصل هذا خطاب للمسلمين حين انصرفوا من أحُد مع الكآبة، يقول: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 554 يوم أحد فقد مَسَّهُمْ قَرْحٌ مِثْلُهُ يوْمَ بَدْرٍ، وهو كقوله تعالى: {أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} [آل عمران: 165] . وقيل: إن الكفار قد نالهم يوم أُحُد مثل ما نالكم من الجُرح، والقتل؛ لأنه قُتِل منهم نيفٌ وعشرون رجلاً، وقتل صاحبُ لوائهم، والجراحات كَثُرَتْ فيهم، وعُقِرَ عامةُ خَيْلهم بالنبل، وكانت الهزيمة عليهم في أول النهار. فإن قيل: كيف قال: {قَرْحٌ مِّثْلُهُ} ، وما كان قَرءحُهم يومَ أُحُد مثل قَرْح المشركين. فالجواب: أن تفسير القرح - في هذا التأويل - بمجرد الانهزام، لا بكَثْرة القَتْلَى. قوله: {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} يجوز في «الأيَّامُ» أن تكون خبراً لِ «تِلْكَ» و «نُدَاوِلُهَا» جملة حالية، العامل فيها معنى اسم الإشارة، أي: إشيرُ إليها حال كونها مداوَلةً، ويجوز أن تكون «الأيَّامُ» بدلاً، أو عَطْفَ بيان، أو نَعْتاً لاسم الإشارة، والخبر هو الجملة من قوله: {نُدَاوِلُهَا} وقد مر نحوه في قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا} [أل عمران: 108] إلا أن هناك لا يجيء القول بالنعت؛ لما عرفت أنَّ اسم الإشارة لا ينعت إلا بذي أل و «بَيْنَ» متعلق ب «نُدَاوِلُهَا» ، وجَوَّزَ أبُو البقاءِ أن يكون حالاً من مفعول «نُدَاوِلُهَا» ولَيْسَ بِشَيءٍ. والمداوَلة: المناوَبة على الشيء، والمُعَاودة، وتعهَّده مرةَ بعد أخْرَى، يقال: دَاوَلْتُ بينهم الشيء فتداولوه، كأن «فَاعَل» بمعنى: «فَعَل» . قال الشاعر: [الكامل] 1632 - تَرِدُ الْمِيَاهَ، فَلاَ تَزَالُ تَدَاوُلاً ... في النَّاسِ بَيْنَ تَمَثُّل وَسَمَاعِ وأدال فلانٌ فلاناً: جعل له دولة. وقال الفقَّال: المداولة: نَقْل الشيء من واحد إلى آخر، يقال: تداولته الأيدي - إذا تناولته ومنه قوله تعالى: {كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ} [الحشر: 7] أي: تتداولونها، ولا تجعلون للفقراء منها نصيباً، ويقال: الدُّنيا دول، أي: تنتقل من قوم إلى آخرين. ويقال الجزء: 5 ¦ الصفحة: 555 دال له الدهرُ بكذا - إذا انتقل إليه. ويقال: دُولة، ودَوْلة - بفتح الفاء وضمها - وقد قُرِئَ بهما في سورة الحشر كما سيأتي إن شاء الله تعالى. واختلفوا، هل اللفظتان بمعنًى، أو بينهما فَرْقٌ. فقال الراغب: «إنهما سِيَّانِ، فيكون في المصدر لغتان» . وفرَّق بعضُهم بينهما، واختلف هؤلاء في الفرق. فقال بعضُهم: الدَّوْلَة - بالفتح - في الحرب والجاه، وبالضم: في المال، وهذا تردُّه القراءتان في سورة الحشر. وقيل: بالضم اسم الشيء المتداوَل، وبالفتح نفس المصدر، وهذا قريب. وقيل: بالضم هي المصدر، وبالفتح الفَعْلة الواحدة، فلذلك يقال: في دَوْلة فلان؛ لأنها مرة في الدهر. والدَّوْر والدَّوْل متقاربان في المعنى، ولكن بينهما عموم وخصوص؛ فإن الدولة لا تقال إلا في الحظ الدنيويّ. والدَّؤلُولُ: الداهية، والجمع الدآليل والدُّؤلات. وقرئ شاذًّا: «يُدَاوِلَهَا» - بياء الغيبة - وهو موافق لما قبله، ولما بعده. وقرأ العامةُ على الالتفات المفيد للتعظيم. فصل ومعنى مداولة الأيام بين الناس أن مسارَّها لا تدوم، وكذلك مضارُّها، فيوم يكون السرور لإنسان والغمّ لعدوه، ويوم آخر بالعكس، وليس المراد من هذه المداولة أن الله تعالى تارةً ينصر المؤمنين، وأخْرَى ينصر الكافرين؛ لأن نَصْر الله مَنْصِب شريف عظيم، فلا يليق بالكافر، بل المراد من هذه المداولة: أنه تارة يُشَدَّد المحنة على الكفار، وتارة على المؤمنين، وتشديد المحنة على المؤمن أدَبٌ له في الدنيا، وتشديد المِحْنةِ على الكافر غضب من الله تعالى عليه. ورُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجَبَل يوم أُحُد، قال: أين ابن أبي كبشة؟ أين ابن أبي قحافة؟ أين ابن الخطاب؟ فقال عمر: هَذَا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا أبو بكر، وهذا أنا عمر، فقال أبو سفيان: يوم بيوم والأيام دُوَلٌ والحرب سجال، فقال عمر: لا سواء؛ قتلانا في الجنة، وقتلاكم في النار، فقال أبو سفيان: إن كان كما تزعمون فقد خِبنا - إذَنْ وخَسِرْنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 556 وروى البراء بن عازب قال: جعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الرُّماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - عبدَ الله بن جبير، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن رأيتمونا تَخَطَّفُنَا الطير فلا تبرحوا مكانكم هذا حتى أرْسِل إليكم، وإن رأيتمونا هزمنا القوم وأوطأناهم فلا تبرحوا حتى أُرْسِل إليكم، وكان على يمنة المشركين خالد ابن الوليد، وعلى ميسرتهم عكرمة بن أبي جهل، ومعهم النساء يضربْنَ بالدفوف، ويقُلْنَ الأشعارَ، فقاتلوا حتى حميت الحربُ، فأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سيفاً، فقال: مَنْ يأخذ هذا السيف بحقه، ويَضْرب به العدو حتى ينحني؟ فأخذه أبو دُجانة سماك بن خَرْشَة الأنصاري، فلما أخذه اعتَمَّ بعمامة حمراء، وجعل يتبختر، - فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّها لمِشْيَة يبغضُهَا اللهُ ورسولُه إلا فِي هَذَا المَوْضِعِ» فَفلَقَ به هَامَ المشركين، وحمل النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابهُ على المشركين، فهزموهم، قال: فأنا - والله - رأيتُ النساء يشتدّون - قد بدت خلاخِلُهن وأسْوُقُهن رافعات ثيابهن، فقال أصحاب عبد الله: الغنيمةَ، أي قوم الغنيمة، ظهر أصحابكم، فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جُبَيْر: أنسيتم ما قال لكم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقالوا: والله لنأتِيَنَّ الناسَ فلنصيبن من الغنيمة، فلما أتَوْهُم صُرِفَتْ وُجوهُهم، فأقْبَلُوا منهزمين، فذاك إذْ تدعوهم، والرسول في أخراهم، فلم يَبْقَ مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غيرُ اثني عَشَرَ رَجُلاً، فأصابوا مِنَّا سَبْعِينَ، وكان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه أصابوا من المشركين يومَ بدر أربعين ومائة - سبعين أسيراً، وسبعين قتيلاً - فقال أبو سفيان ثلاثَ مرات: أفي القوم محمدٌ؟ فنهاهم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُجيبوه، فقال: أفي القوم ابن أبي قُحَافَةَ ثلاث مرات؟ أفي القوم عُمَر ثلاث مرات؟ فرجع إلى أصْحَابه، فقال: أما هؤلاء فقد قُتِلوا، فما مَلَكَ عمرُ نفسه؛ فقال: كذبتَ - والله - يا عدوّ الله؛ إن الذين عددت لأحياء كلهم، وقد بقي لك ما يسوؤك، قال: يوم بيوم بدر، والحرب سِجَال، إنكم ستجدون في القوم مُثْلَةً لَمْ آمُرْ بها ولم تَسُؤنِي، ثم جعل يزمجر: اعْلُ هُبَلُ، اعْلُ هُبَلُ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أجِيبُوهُ، قالوا يا رسول الله ما نقول؟ قال: قُولُوا: اللهُ أعْلَى وأجَلُّ» ، قال: إنَّ لَنَا العُزَّى ولا عُزَّى لَكُمْ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أجِيبُوه، قالوا ما نقول؟ قال: قُولُوا: اللهُ مَوْلاَنَا وَلاَ مَوْلَى لَكُمْ» وروي هذا المعنى عن ابن عباس. قوله: «وليعلم الله» ذكر أبو بكر بن الأنباري في تعلُّق هذه اللام وجهين: أحدهما: أن اللام صلة لفعل مُضْمَر، يدل عليه أول الكلم، تقديره: وليعلم الله الذين آمنوا نُدَاوِلها. الثاني: أن العامل فيها (نُدَاوِلُهَا) المذكور، بتقدير: نداولها بين الناس ليظهر أمرهم، ولنبين أعمالهم، وليعلم الله الذين آمنوا، فلما ظهر معنى اللام المضمر في « الجزء: 5 ¦ الصفحة: 557 ليظهر» ، و «لتتبين» جرت مجرى الظاهرة، فجاز العطف عليها. وَجَوَّز أبو البقاء أن تكون الواو زائدة، وعلى هذا، فاللام متعلقة ب (نُدَاوِلُهَا) من غير تقدير شيء، ولكن هذا لا حاجة إليه. ولم يَجْنَحْ إلى زيادة الواو إلا الأخفش في مواضع - ليس هذا منها - ووافقه بعض الكوفيين على ذلك. وقدَّرَه الزَّمَخْشَرِيُّ: «فعلنا ذلك ليكون كيت وكيت، وليعلم» . فقدر عاملاً، وعلق به علة محذوفة، عطف عليها هذه العلة. قال أبو حيان: «ولم يُعَيِّن فاعل العلة المحذوفة، إنما كَنَّى عنه ب» كيت وكيت «، ولا يُكَنَّى عن الشيء حتى يُعْرَف، ففي هذا الوجه حذف العلة، وحذف عاملها، وإبهام فاعلها، فالوجه الأول أظهر؛ إذْ ليس فيه غير حذف العامل» . ويعني بالوجه الأول أنه قَدَّره: وليعلم الله فعلنا ذلك - وهو المداولة، أو نَيْل الكفار منكم -. وقال بعضهم: «اللام المتعلقة بفعل مُضْمَر، إما بعده، أو قبلَه، أما الإضمار بعده فبتقدير: وليعلمَ الله الذين آمنوا فعلنا هذه المداولةَ، وأما الإضمار قبلَه فعلى تقدير: وتلك الأيام نداولها بين الناس لأمور: منها: ليعلم الله الذين آمنوا، ومنها: ليتخذ منكم شهداء، ومنها: ليمحص الله الذي آمنوا، ومنها: ليمحق الكافرين. فكل ذلك كالسبب والعِلَّةِ في تلك المداولة» . والعلم هنا - يجوز أن يتعدَّى لواحد، قالوا: لأنه بمعنى: عَرَفَ - وهو مشكل؛ لأنه لا يجوز وَصْف الله تعالى بذلك لما تقدم أن المعرفة تستدعي جَهْلاً بالشيء - أو أنَّها متعلقة بالذات دون الأحوال. ويجوز أن يكون متعدياً لاثنين، فالثاني محذوف، تقديره: وليعلم الله الذين آمنوا مميزين بالإيمان من غيرهم. والواو في قوله: {وَلِيَعْلَمَ الله} لها نظائر كثيرة في القرآن، كقوله: {وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75] وقوله: {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 113] . فصل تقدير الكلام: وتلك الأيام نداولها بين الناس، ليكون كيت وكيت، وليعلم الله، وإنما حُذِف المعطوف عليه، للإيذان بأن المصلحة في هذه المداولة ليست بواحدة؛ ليُسَلِّيَهم عما جرى، ليُعَرِّفَهم تلك الواقعة، وأن شأنهم فيها فيه من وجوه المصالح ما لو عرفوه لسرَّهم. فإن قيل: ظاهر قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ} مُشْعِر بأنه - تعالى - إنما فعل تلك المداولة، ليكتسِبَ هذا العلم، وذلك في حقه تعالى محال، ونظير هذه الآية - الجزء: 5 ¦ الصفحة: 558 في الإشكال - قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين} [آل عمران: 142] وقوله: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} [العنكبوت: 3] . وقوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً} [الكهف: 12] وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} [محمد: 31] وقوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول} [البقرة: 143] وقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7] . ولقد احتج هشام بن الحكم بظواهر هذه الآياتِ على أن الله تعالى لا يعلم حدوثَ الحوادث إلا عند وقوعها، فقال: كل هذه الآيات دالة على أنه - تعالى - إنما صار عالماً بحدوث هذه الأشياء عند حدوثها. وأجاب المتكلمون عنه بأن الدلائل العقليةَ دلَّتْ على أنه - تعالى - يعلم الحوادث قبل وقوعها فثبت أن التغيير في العِلْم محال، إلا أن إطلاقَ لفظ العلم على المعلوم، والقُدْرة على المقدور مجاز مشهور، يقال: هذا عِلْم فلان - والمراد: معلومه - وهذه قدرة فلان - والمراد: مقدوره، فكل آية يُشْعر ظاهرها بتجدُّد العلم، فالمراد: تجدُّد المعلوم. إذا عُرِفَ هذا فنقول: في هذه الآية وجوه: أحدها: لِيَظْهَرَ الإخْلاَصُ من النفاق، والمؤمنُ من الكافر. وثانيها: ليَعْلَم أولياء الله، فأضاف العلم إلى نفسه تفخيماً. وثالثها: ليحكم بالامتياز فوُضِع العلم مكان الحكم بالامتياز؛ لأن الحُكْم لا يحصل إلا بعد العلم. ورابعها: ليعلم ذلك واقعاً كما كان يعلم أنه سيقع؛ لأنَّ المجازاة تقع على الواقع، دُونَ المعلوم الذي لم يُوجَد. قوله: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} الظاهر ان «مِنْكُمْ» متعلِّق بالاتخاذ، وجوزوا فيه أن يتعلق بمحذوف، على أنه حال من «شُهَدَاءَ» ؛ لأنه - في الأصل - صفة له. فصل والمرادُ بقوله: {وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ} أي: شهداء على النَّاس بما صدر منهم من الذنوب والمعاصي، فإن كونهم شهداء على الناس منصب عالٍ، ودرجة عالية. وقيل: المراد منه: ويُكرِم قوماً بالشهادة؛ وذلك: لأن قوماً من المسلمين فاتهم يومُ بدر، وكانوا يتمنَّوْن لقاء العدو، وأن يكونن لهم يوم كيوم بدر؛ يقاتلون فيه العدو، ويلتمسون فيه الشهادة، والقرآن مملوءٌ من تعظيم حال الشهداء، فإنه قرتهم مع النبيين في قوله: {وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء} [الزمر: 69] وقوله: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 559 النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين} [النساء: 69] وهذه الآيات تدلُّ على أن جميع الحوادث بإرادة الله تعالى. والشُّهداء: جمع شهيد كالكُرَماء، والظُّرَفَاء. فصل في تسميتهم «شهداء» وجوه: أحدها: قال النَّضْر بن شميل: الشهداء أحياء، لقوله تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] فأرواحهم حية، وقد حضرت دار السلام، وأرواح غيرهم لا تشهدها. الثاني: قال ابن الأنباريّ: لأن الله تعالى وملائكته شهدوا لهم بالجنة، فالشهداء جمع شهيد، «فعيل» بمعنى: «مفعول» . الثالث: لأنهم يشهدون يوم القيامة مع النبيِّين والصِّدِّيقين، فيكونون شهداءَ على الناسِ. الرابع: سُمُّوا شهداء، لأنهم لما ماتوا أدْخِلوا الجنة، بدليل أنَّ الكُفَّار لما ماتوا أدخِلوا النار؛ قال تعالى: {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [نوح: 25] . فأما: {والله لاَ يُحِبُّ الظالمين} فهذا اعتراض بين بعض التعليل وبعض. قال ابن عباس: أي: المشركين؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . قوله: {وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ} التمحيص: التخليص من الشيء. وقيل: المَحْص كالفَحْص، لكن الفَحْص يقال في إبراز الشيء من أثناء ما يختلط به وهو منفصل، والمَحْص: يقال في إبرازه عما هو متصل به، يقال: مَحَصْتُ الذهب، ومحَّصته - إذا أزلْت عنه ما يشوبه من خَبَث، ومَحَص الثوب: إذا زال عنه زئبره ومَحَصَ الحَبْل - إذا أخلق حتى ذهب عنه زئبره، ومحص الظَّبْيُ: عدا. ف «محص» - بالتخفيف - يكون قاصراً ومتعدياً، هكذا روى الزجاج هذه اللفظةَ - الحبل - ورواها النقاش: مَحَص الجمل - إذا ذهب وَبَرُه وامَّلَسَ - والمعنيان واضحان. وقال الخليل: التمحيص: التخليصُ من الشيء المعيب. وقيل: هو الابتلاء والاختبار. قال الشاعر: [الطويل] 1633 - رَأيْتُ فُضَيْلاً كَانَ شَيْئاً مُلَفَّفاً ... فَكَشَّفَهُ التَّمْحِيصُ حَتَّى بَدَا لِيَا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 560 وروى الواحِديُّ عن المبرد بسند متصل: مَحَصَ الحبلُ يمحص مَحْصاً - إذا ذهب زئبره حتى يتملص، وحبل محيص ومليص بمعنًى واحدٍ، قال: ويستحب في الفرس أن تُمَحَّصَ قوائمُه أي: تُخَلَّص من الرَّهَل. [وأنشد ابن الأنباريّ على ذلك]- يصف فرساً -: [البسيط] 1634 - صُمُّ النُّسُورِ، صِحَاحٌ، غَيْرُ عَاثِرَةٍ ... رُكِّبْنَ فِي مَحِصَاتٍ مُلْتَقَى العَصَبِ أي: في قوائم متجرِّدات من اللحم، ليس فيها إلا العظم والجلد. قال المبرد: ومعنى قول الناس مَحِّصْ عنا ذُنوبَنَا: أذهِب عنا ما تعلَّق من الذنوب. قال الواحديُّ: «وهذا - الذي قاله المبردُ - تأويل المحَص - بفتح الحاء - وهو واقع، والمَحْص - بسكون الحاء -» مصنوع «- وقال الخليل: يقال: مَحَصْت الشيء أمحصه مَحْصاً - إذا أخلصته من كل عيب» . وفي جعله محْصاً - بتسكين الحاء - مصنوعاً نظر؛ لأن أهل اللغة نقلوه ساكنها، وهو قياس مصدر الثلاثي. ومَحَصْت السيف والسنان: جَلَوتُهما حتى ذهب صدأهما. قال أسامة الهذليّ: [الطويل] 1635 - وَشَقُّوا بِمَمْحُوصِ السِّفَانِ فُؤادَهُ ... لَهُمْ قُتُرَاتٌ قَدْ بُنِيْنَ مَحَاتِد أي: بمجلُوٍّ، ومنه استُعِير ذلك في وَصْف الحبل بالملاسة والبريق. قال العجاج: [الرجز] 1636 - شَدِيدُ جَلْزِ الصُّلْبِ مَمْحُوصُ الشَّوَى ... كَالْكَرِّ، لا شَخْتٌ وَلاَ فِيهِ لَوَى والشوى: الظهر، قَصَره ضرورةً، سُمِع: فعلتُه حتى انقطع شَوَاي، أي: ظَهْري. والمحق - في اللغة - النقصان. وقال المفضَّل: هو أن يذهب الشيءُ كلُّه، حتَّى لا يُرَى منه شيء، ومنه قوله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا} [البقرة: 276] أي: يستأصله، وقد تقدم الكلام عليه في البقرة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 561 قال الزجاج: معنى الآية: أن الله تعالى جعل الأيام مداولةً بين المسلمين والكافرين، فإن حصلت الغلبة للكافرين كان المراد: تمحيص ذنوب المؤمنين - أي: تطهيرها - وإن كانت الغلبة للمؤمنين كان المراد: مَحْق آثار الكافرين، ومَحْوَهم، فقابل تمحيص المؤمنين بمحق الكافرين؛ لأن تمحيص هؤلاء باهلاك ذنوبهم نظير مَحْق أولئك بإهلاك نفوسهم، وهذه مقابلة لطيفة، والأقرب أن المراد بالكافرين - هنا - طائفة مخصوصة منهم - وهم الذين حاربوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم أُحُد، لأن الله تعالى لم يَمْحَق كل الكافرين، بل بَقِي كثير منهم على كُفره. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 562 لما بيَّن في الآية الأولى الأسباب الموجبة في مداولة الأيام، ذكر في هذه الآية ما هو السبب الأصليّ لذلك، فقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} بدون تحمُّل المشاق؟ وفي «أم» - هذه - أوجه: أظهرها: أنها منقطعة، مقدَّرة ب «بل» ، وهمزة الاستفهام ويكون معناه الإنكار عليهم. وقيل: «أمْ» بمعنى الهمزة وحدها، ومعناه كما تقدم التوبيخ والإنكار. وقيل: هذا الاستفهام معناه النهي. قال أبو مسلم: «إنه نهي وقع بحرف الاستفهام الذي يأتي للتبكيت، وتلخيصه: لا تحسبوا أن تدخلوا الجنة، ولم يقع منكم الجهاد، وهو كقوله: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] وافتتح الكلام بذكر» أم «التي هي أكثر ما تأتي في كلامهم واقعة بين ضربين يشك في أحدهما، لا يعينه، يقولون: أزيد ضربت أم عمراً؟ مع تيقُّن وقوع الضرب بأحدهما، قال: وعادة العرب أن يأتوا بهذا الجنس من الاستفهام توكيداً، فلما قال: {وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا} [آل عمران: 139] كأنه قال: أفتعلمون أن ذلك كما تُؤمَرون به أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير مجاهدةٍ وَصَبْر؟» . وقيل: هي متصلة. قال ابنُ بَحْر: «هي عديلة همزة تقدر من معنى ما تقدم، وذلك أن قوله: {إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ} [آل عمران: 140] و {وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس} [آل عمران: 140] إلى آخر القصة يقتضي أن نتبع ذلك أتعلمون أن التكليف يوجب ذلك أم حسبتم أن تدخلوا الجنة من غير اختبار وتحمُّل مشقة، وأن تجاهدوا، فيعلم الله ذلك منكم واقعاً» . و «أحسب» - هنا - على بابها من ترجيح أحد الطرفين، و {أَن تَدْخُلُواْ} ساد مسد المفعولين - على رأي سيبويه - ومسد الأول، والثاني: محذوف - على رأي الأخفش. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 562 قوله: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} جملة حالية. قال الزَّمَخْشَرِي: «و» لما «بمعنى» لم «، إلا أنَّ فيه ضرباً من التوقُّع، فدلَّ على نفي الجهاد فيما مضى، وعلى توقُّعه فيما يستقبل، وتقول: وعدتني أن تفعل كذا ولمَّا، تريد: ولم تفعل، وأنا أتوقَّع فِعْلَه» . قال أبو حيان: «وهذا الذي قاله في» لما «- من أنها تدل على توقُّع الفعل المنفي بها فيما يستقبل - لا أعلم أحداً من النحويين ذكره، بل ذكروا أنك إذا قلت: لما يخرج زيد، دل ذلك على انتفاء الخروج فيما مضى، متصلاً نفيه إلى وقت الاخبار، أما أنها تدل على توقُّعه في المستقبل فلا، لكنني وجدت في كلام الفراء شيئاً يُقارب ما قاله الزمخشري، قال:» لما «لتعريض الوجود بخلاف» لم «. قال شِهَابُ الدين: والنحاة إنما فرَّقوا بينهما من جهة أن المنفي ب «لَمْ» هو فعل غير مقرون ب «قد» ، والمنفي ب «لما» فعل مقرون بها، و «قد» تدل على التوقُّع، فيكون كلام الزمخشري صحيحاً من هذه الجهة، ويدل على ما قلته - من كون «لم» لنفي فعل فلان، و «لما» لنفي قد فعل - نصُّ سيبويه فمن دونه. قال الزجاج إذا قيل فعل فلان، فجوابه: لم يفعل، وإذا قيل: قد فعل فلان، فجوابه لما يفعل؛ لأنه لما أُكِّد في جانب الثبوت ب «قد» لا جرم أنه أكد في جانب النفي بكلمة «لما» ، وقد تقدم نظير هذه الآية في «البقرة» وظاهر الآية يدل على وقوع النفي على العلم، والمراد: وقوعه على نفي المعلوم، والتقدير: أم حسبتم أن تدخلوا الجنةَ، ولمَّا يصدر الجهادُ عنكم؟ وتقريره: أن العلم متعلق بالمعلوم، كما هو عليه، فلما حَصَلَتْ هذه المطابقة - لا جرم - حَسُن إقامة كلِّ واحدٍ منهما مقامَ الآخر. فصل قال القرطبيّ: والمعنى: أحسبتم يا من انهزم يوم أحد أن تدخلوا الجنة، كما دخل الذين قُتِلوا، وصبروا على ألم الجراح والقتل، من غير أن تسلكوا طريقهم، وتصبروا صَبْرَهم؟ لا؛ حتَّى يعلم الله الذين جاهدوا منكم، أي: علم شهادة، حتى يقع عليه الجزاء، والمعنى: ولم تجاهدوا، فيعلم ذلك منكم، ف «لما» بمعنى: «لم» . قوله: «مِنْكُمْ» حال من «الَّذِينَ» . وقرأ العامة {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله} بكسر الميم - على أصل التقاء الساكنين. وقرأ النخعي وابن وثاب بفتحها، وفيها وجهان: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 563 الأول: أن الفتحة فتحة إتباع الميم ل «اللام» قبلها. الثاني: أنه على إرادة النون الخفيفة، والأًصل: ولما يعلمن، والمنفي ب «لما» قد جاء مؤكداً بها، كقول الشاعر: [الرجز] 1637 - يَحْسَبُهُ الْجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلَمَا ... شَيْخاً عَلَى كُرْسِيِّهِ مُعَمَّمَا فلما حذفت النون بقي آخر الفعل مفتوحاً، كقول الشاعر: [الخفيف] 1638 - لا تُهِينَ الْفَقِيرَ عَلَّكَ أن تَرْ ... كَعَ يَوْماً وَالدَّهْرُ قَدْ رَفَعَهْ وعليه تُخَرَّج قراءةُ: {أَلَم نَشْرَحَ} [الشرح: 1]- بفتح الحاء -. وقول الآخر: [الرجز] 1639 - مِنْ أيِّ يَوْمَيَّ مِنَ الْمَوْتِ أفْر ... مِنْ يَوْمِ لَمْ يُقْدَرَ أوْ يَوْم قُدِرْ قوله: «ويَعْلَمَ» العامة على فتح الميم، وفيها تخريجان: أحدهما: وهو الأشهر - أن الفعل منصوب، ثم هل نصبه ب «أن» مقدَّرة بعد الواو المقتضية للجمع كهي في قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن، أي: لا تجمع بينهما - وهو مذهب البصريين - أو بواو الصرف - وهو مذهب الكوفيين - يعنون أنه كان من حق الفعل أن يُعْرَب بإعراب ما قبله، فلما جاءت الواو صرفته إلى وجهٍ آخرَ من الإعراب. الثاني: أن الفتحةَ فتحةُ التقاء الساكنين، والفعل مجزوم، فلما وقع بعده ساكنٌ آخر، احتيج إلى تحريك آخرهِ، فكانت الفتحة أوْلَى؛ لأنها أخف، وللإتباع لحركة اللام، كما قيل ذلك في أحد التخريجين في قراءة «وَلَمَّا يَعْلَمَ اللهُ» بفتح الميم - والأول هو الوجه. وقرأ الحسنُ وأبو حيوةَ وابنُ يَعْمُرَ: بكسر الميم؛ عطفاً على «يَعْلَم» المجزوم ب «لَمَّا» . وقرأ عَبْدُ الوَارِثِ - عن أبي عَمْرو بْنِ العَلاَءِ - «وَيعْلَمُ» بالرفع، وفيها وجهان: أظهرهما: أنه مستأنف، أخبر - تعالى - بذلك. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: «على أن الواو للحال، كأنه قيل: ولما تجاهدوا وأنتم صابرون» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 564 قال أبُو حَيَّانَ: «ولا يصح ما قال؛ لأن واو الحال لا تدخل على المضارع، لا يجوز: جاء زيد ويضحك - تريد: جاء زيد يضحك، لأن المضارع واقع موقع اسم الفاعل، فكما لا يجوز: جاء زيد وضاحكاً، كذلك لا يجوز: جاء زيد ويضحك فإن أولَ على أن المضارع خبر لمبتدأ محذوف، أمكن ذلك، التقدير: وهو يعلم الصابرين. كما أولوا قول الشاعر: [المتقارب] 1640 - ... ... ... ... ... . ... نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكا أي: وأنا أرهنهم» . قال شهابُ الدين: «قوله: لا تدخل على المضارع، هذا ليس على إطلاقه، بل ينبغي أن يقول: على المضارع المثبت، أو المنفي ب» لا «؛ لأنها تدخل على المضارع المنفي ب» لم ولمَّا «. وقد عُرِف ذلك مراراً» . ومعنى الآية: أن دخول الجنة، وترك المصابرة على الجهاد مما لا يجتمعان. قوله تعالى: {وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت} قرأ البزي: بتشديد تاء «تَمَنَّوْنَ» ، ولا يمكن ذلك إلا في الوصل، وقاعدته: أنه يصل ميم الجمع بواو، وقد تقدم تحرير هذا عند قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ} [البقرة: 267] . قوله: «مِن قَبْلِ» الجمهور على كسر اللام؛ لأنها مُعْربة؛ لإضافتها إلى «أنْ» وصلتها. وقرأ مجاهد وابنُ جبير: {مِنْ قَبْلُ} بضم اللام، وقطعها عن الإضافة، كقوله تعالى: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] وعلى هذا فَ «أنْ» وَصِلَتُها بدل اشتمال من «الْمَوْتَ» في محل نصب، أي: تَمَنَّوْنَ لقاء الموت، كقولك: رَهِبْتُ العَجُوَّ لقاءَه، والضمير في «تَلْقَوْهُ» فيه وجهان: أظهرهما: عوده على «الْمَوْتَ» . والثاني: عوده على العدو، وإن لم يجر له ذِكْر - لدلالة الحال عليه. وقرأ الزُّهَرِيُّ، والنخعيّ «تُلاَقُوه» ، ومعناه معنى «تَلْقَوْه» ؛ لأن «لقي» يستدعي أن يكون بين اثنين - بمادته - وإن لم يكن على المفاعلة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 565 قوله: {فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} الظاهر أن الرؤية بصرية، فيكتفى بمفعول واحد. وجوَّزوا أن تكون علمية، فتحتاج إلى مفعولٍ ثانٍ، هو محذوف، أي: فقد علمتموه حاضراً - أي: الموت -. إلا أن حَذْف أحد المفعولين في باب «ظن» ليس بالسَّهْل، حتى إن بعضهم يَخُصُّه بالضرورة، كقول عنترة: [الكامل] 1641 - وَلَقَدْ نَزَلْتِ، فَلاَ تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بِمَنْزِلَةِ الْمُحَبِّ الْمُكْرَمِ أي: فلا تظني غيره واقعاً مني. قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} يجوز أن تكون جملة حالية - وهي حال مؤكِّدة - رفعت ما تحتمله الرؤية من المجاز، أو الاشتراك بينها وبين رؤية القلب، ويجوز أن تكون مستأنفة، بمعنى: وأنتم تنظرون في فعلكم - الآن - بعد انقضاء الحرب، هل وَفَّيْتُمْ، أو خالفتم؟ وقال ابنُ الأنْبَارِي: «رَأيْتُمُوهُ» ، أي: قابلتموه {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} بعيونكم، ولهذه العلة ذكر النظر بعد الرؤية حيث اختلف معناهما؛ لأن الأول بمعنى: المقابلة والمواجهة، والثاني بمعنى: رؤية العين. وهذا - أعني: إطلاق الرؤية على المقابلة والمواجهة - غير معروف عند أهل اللسان، وعلى تقدير صحته، فتكون الجملة من قوله: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} جملة حالية مبيِّنة - لا مؤكِّدة - لأنها أفادت معنًى زائداً على معنى عاملها. ويجوز أن يقدَّر لِ «تَنْظُرُونَ» مفعولاً، ويجوز أن لا يُقَدَّر؛ إذ المعنى: وأنتم من أهل النظر. فصل قال المفسرون: إنَّ قوماً من المسلمين تَمَنَّوا يوماً كيوم بدر؛ ليقاتلوا، وليستشهدوا، فأراهم الله يومَ أُحُد. وقوله: {تَمَنَّوْنَ الموت} أي: سبب الموت - وهو الجهاد - {مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ} يعني: أسبابه، وذكر النظر بعد الرؤية؛ تأكيداً - كما قدمناه -. وقيل: لأن الرؤية قد تكون بمعنى: العلم، فقال: {وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} ليعلم أن المراد بالرؤية: هي البصرية. وقيل: وأنتم تنظرون إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 566 «ما» نافية، ولا عمل لها هنا مطلقاً - أعني: على لغة الحجازيين والتميميِّين؛ لأن التميميين لا يعملونها - ألبتة - والحجازيين يُعْملونها بشروط، منها: ألا يَنْتَقضَ النفي ب «إلا» إذْ يزول السبب الذي عَمِلَتْ لأجله - وهو شبهها ب «ليس» في نفي الحال - فيكون «مُحَمَّدٌ» مبتدأ، و «رَسُولٌ» خبر. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 567 هذا -[أعني: إهمالها إذا نُقِضَ نفيُها]- مذهب الجمهور، وقد أجاز يونس إعمالها مُنْتَقَضَةَ النَّفْيِ ب «إلا» . وأنشد: [الطويل] 1642 - وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ مَنْجَنُوناً بِأهْلِهِ ... وَمَا صَاحِبُ الْحَاجَاتِ إلاَّ مُعَذَّبا فنصب «منجنوناً» ، و «مُعَذَّباً» على خبر «ما» - وهما بعد «إلا» -. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 568 ومثله قول الآخر: [الوافر] 1643 - وَمَا حَقُّ الَّذِي يَعْثُو نَهَاراً ... وَيَسْرِقُ لَيْلَهُ إلاَّ نَكَالا ف «حق» اسم «ما» و «نكالا» خبرها. وتأول الجمهورُ هذه الشواهدَ على أنَّ الخبر محذوف، وهذا المنصوب مَعْمُولٌ لذلك الخبر المحذوفِ، والتقدير: وما الدَّهر إلا يدور دورانَ منجنونٍ، فحُذف الفعلُ الناصبُ لِ «دَوَرَانَ» ثم حُذِفَ المضافُ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامه في الإعراب، وكذا: «إلا مُعَذَّباً» تقديره: يُعَذَّبُ تعذيباً، فحُذِف الفعلُ، وأقيم «معذَّباً» مقام «تَعْذِيب» ، كقوله تعالى: {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 19] أي: كل تمزيق. وكذا: «إلا نَكَالاً» ، وفيه من التكلُّف ما ترى. و «مُحَمَّدٌ» هو المستغرق لجميع المحامد؛ لأن الحَمْد لا يستوجبه إلا الكامل، والتحميد فوق الحمد، فلا يستحقه إلا المُسْتَوْلي على الأمَد في الكمال. وأكرم الله نبيه باسمين مشتقَّيْن من اسمه - جل جلاله - وهما محمد وأحمد. قال أهل اللغة: كل جامع لصفات الخير يُسَمَّى «محمدا» . قوله: {قَدْ خَلَتْ} في هذه الجملة وجهان: أظهرهما: أنها في محل رفع؛ صفة لِ «رَسُولٌ» . الثاني: أنها في محل نصب على الحال من الضمي رالمستكن في «رَسُولٌ» ، وفيه نظر؛ لجريان هذه الصفة مجرى الجوامد، فلا تتحمل ضميراً. قوله: «من قبله» فيه وجهان - أيضاً -: أظهرهما: أنه معلق ب «خلت» . والثاني: أنه متعلق بمحذوفٍ؛ حال من «الرُّسُلُ» مقدَّماً عليها، وهي - حينئذ - حال مؤكِّدة؛ لأن ذِكْرَ الخُلُوِّ مُشْعِرٌ بالقَبْلِيَّة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 569 وقرأ ابنُ عَبَّاسٍ «رُسُلٌ» - بالتنكير -. قال ابُو الفَتْحِ: ووجها أنَّه موضع تيسير لأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أمر الحياة ومكان تسوية بينه وبين البشر في ذلك، وكذلك يفعل في أماكن الاقتصاد، كقوله: {وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور} [سبأ: 13] . وقوله: {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40] . وقال أبُو البَقَاءِ: «وهو قريب من معنى» المعرفة. كأنه يريد أن المراد بالرسل «الجنس» ، فالنكرة قريب منه بهذه الحيثية «. وقراءة الجمهور أولى؛ لأنها تدل على تفخيم الرسل وتعظيمهم. قال أبو علي: والرسول جاء على ضربين: أحدهما: أن يراد به المرسل. والآخر: الرسالة، وهاهنا المراد منه» المُرْسَل «، كقوله تعالى: {إِنَّكَ لَمِنَ المرسلين} [يس: 3] وقوله: {ياأيها الرسول بَلِّغْ} [المائدة: 67] و» فعول «قد يراد به: المفعول، كالرَّكُوب والحَلُوب لما يُرْكَب ويُحْلَب، والرسول بمعنى الرسالة. كقوله: [الطويل] 1644 - لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ ما بُحتُ عِنْدَهُم ... بِسِرٍّ، ولا أرْسَلتُهُمْ بِرَسُولِ فصل قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وأصْحَابُ المَغَازِي: لما رأى خالد بن الوليد الرُّمَاةَ يوم أحد قد اشتغلوا بالغنيمة، ورأى ظهورَهم خاليةً، صاح في خَيْله من المُشْرِكِين، ثم حمل على أصحاب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من خلفهم -، فهزموهم، وقتلوهم، ورمى عبد الله بن قمئة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بحَجَر، فكسر أنفه ورباعيته، وشُجَّ في وجهه، فأثقله، وتفرق عنه أصحابُه؛ ونهض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى صَخْرَةٍ ليعلوها - وكان قد ظاهر بَيْن دِرْعَيْن - فلم يستطع، فجلس تحته طلحة، فنهض حتى استوى عليها فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوْجَبَ طَلْحَةُ، ووقعت هند والنسوةُ معها يُمَثِّلْنَ بالقَتْلَى من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يجدعن الآذان والأنوف، حتى اتخذت هند قلائدَ من ذلك، وأعطتها وَحْشِيًّا، ونقرت عن كبد حمزة، فلاكتها، فلم تَستسغها، فلفظَتْها، وأقبل عبدُ الله بن قمئة يريد قَتْلَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذَبَّ مصعب بن عمير وهو صاحب الجزء: 5 ¦ الصفحة: 570 راية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنه، فقتله ابنُ قَمِئة، وهو يرى أنه قتل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرجع، وقال: إني قتلتُ محمداً، وصاح صارخ: ألا إن محمداً قد قُتِل - قيل: إن ذلك الصارخ كان إبليس - وانكف الناسُ، وجعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو الناسَ: إليَّ عباد الله، إليَّ عباد الله، فاجتمع إليه ثلاثون رجلاً، فحَمَوْه حتى كسفوا عنه المشركين، ورمى سعدُ بن أبي وقاص حتى اندقت سِيَةُ قوسه، ومثل له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كنانته فقال: ارْمِ فداكَ أبي وأمي، وكان أبو طلحةَ رجلاً رامياً، شديد النزع، كسر يومَ أُحُد قوسين أو ثلاثة، فكان الرجل يمر معه بجَعْبَةٍ من النَّبْلِ، فيقول: انثرها لأبي طلحة، وكان إذ رمى يُشْرِفُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فينظر إلى موضع نَبْلِهِ، وأَصيبت يَدُ طلحةَ بن عبيد الله فيبست، وقى بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأصِيبتْ عَيْنُ قتادةَ بن النعمان يومئذ، حتى وقعت على وجنته، فردها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكانَها، فعادت كأحسن ما كانت، فلما انصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أدْرَكَهُ أبَيّ بن خلف الجُمَحِيّ، وهو يقول: لا نجوتُ إن نَجَا، فقال القوم: يا رسولَ الله، ألا يعطف عليه رجل منا؟ فقال: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: دَعُوه، حتى إذا دنا منه - وكان أبَيّ كُلَّما لقي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَبْل ذلك، قال له: عندي دمكة أعلفها كل يوم فَرَق ذُرة؛ أقتلك عليها، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: بَلْ أنا أقْتُلُكَ إنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمَّا دَنَا مِنْهُ تَنَاوَلَ رَسُولُ اللهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الحَرْبَة من الحارث بن الصِّمَّة، ثم استقبله فطعنه في عنقه، وخدشه خدشة، فتدأدأ عن فرسه - وهو يخور كما يخور الثور - وهو يقول: قتلني محمد، وحمله أصحابه، وقالوا: ليس بك من بأس، فقال: أليس قال لي: أقتلك؟ فلم يلبث إلا يوماً حتى مات بموضع يقال له: سرف. قال ابن عباس: اشتد غضب الله على مَنْ قتل نبيه، واشتد غضب الله على من رمى وَجْهَ رسول الله قال: وفشا في الناس أن محمداً قد قُتِل فقال بعضُ المسلمين: يا ليت لنا رسولاً غلى عبد الله بن أبي فيأخذ لنا أماناً من أبي سفيان، وبعض الصحابة جلسوا وألقوا بأيديهم. وقال أناس من أهل النفاق: إن كان محمدٌ قد قُتِل فالحقوا بدينكم الأول، فقال أنَس بن النضر - عم أنس بن مالك: يا قوم، إن كان محمد قد قُتِل فإن ربَّ محمد لم يُقْتَل، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله، قوموا، فقاتلوا على ما قاتل عليه، وموتوا على ما مات عليه، ثم قال: اللهم إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء - يعني: المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء - يعني: المنافقين - ثم شد بسيفه، فقاتل حتى قُتِلَ ثم إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ انطلق إلى الصخرة وهو يدعو الناس، فأوَّل من عرف رسول الله كعب بن مالك، وقال: عرفت عينيه تحت المِغْفر تزهران، فناديت بأعلى صوتي: يا معشر المسلمين، أبشروا؛ هذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأشار إليَّ أن أسْكُتَ، فانْحَازَتْ إليه طائفة من أصحابه، فلامهم النَّبيُّ على الفرار. فقالوا: يا رسولَ الله - فديناك بآبائِنَا وأمهاتنا - أتانا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 571 الخبر بأنك قُتِلْتَ فَرَعَبتْ قلوبنا، فولَّينَا مُدْبِرِين، فأنزل الله قوله: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل} . قوله: {أَفإِنْ مَّاتَ} الهمزة لاستفهام الإنكار، والفاء للعطف، ورتبتها التقديم؛ لأنها حرف عطف، وإنما قُدِّمت الهمزة؛ لأن لها صَدر الكلام، وقد تقدم تحقيقه وأن الزمخشري يقدِّر بينهما فعلاً محذوفاً تعطف الفاء عليه ما بعدها. قال ابن الخطيب كَمَالُ الدِّينِ الزَّمَلْكَانِيُّ: «الأوجه: أن يقدر محذوف بعد الهمزة، وقبل الفاء، تكون الفاء عاطفة عليه، ولو صُرِّحَ به لقيل: أتؤمنون به مدة حياته فإن مات ارتددتم، فتخالفوا سُنَنَ أتباع الأنبياء قبلكم في ثباتهم على مِلَلِ أنبيائهم بعد وفاتهم. وهذا هو مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ، إلا أنَّ الزمخشريَّ - هنا - عبر بعبارة لا تقتضي مذهبه الذي هو حذف جملة بعد الهمزة؛ فإنه قال: الفاء معلقة للجملة الشرطية بالجملة قَبْلَها على معنى «التسبيب» ، والهمزة لإنكار أن يجعلوا خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله سبباً لانقلابهم على أعقابهم بعد هلاكه - بموتٍ أو قَتْل - مع علمهم أن خُلُوَّ الرُّسُلِ قبله، وبقاء دينهم متمسكاً به يجب أن يجعل سبباً للتمسُّك بدين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا للانقلاب عنه «. فظاهر هذا الكلام أن الفاء عطفت هذه الجملة المشتملة على الإنكار على ما قبلها من قوله: {قَدْ خَلَتْ} من غير تقدير جملة أخرى. وقال أبو البقاء قريباً من هذا؛ فإنه قال:» الهمزة عند سيبويه في موضعها، والفاء تدل على تعلُّق الشرطِ بما قبله «. لا يقال: إنه جعل الهمزة في موضعها، فيوهم هذا أن الفاء ليست مقدمة عليها؛ لأنه جعل هذا مقابلاً لمذهب يونس؛ فإن يونس يزعم أن هذه الهمزة - في مثل هذا التركيب - داخلة على جواب الشرط، فهي في مذهبه في غير موضعها وسيأتي تحريره. و» إن «شرطية، و» مَاتَ «و» انْقَلَبْتُمْ «شرط وجزاء، ودخول الهمزة على أداة الشرط لا يُغَيِّر سبباً من حكمها. وزعم يونس أن الفعل الثاني - الذي هو جزاء الشرط - ليس هو جزاء للشرط، وإنما هو المستفْهَم عنه، وأن الهمزة داخلة عليه تقديراً، فينوى به التقرير، وحينئذ لا يكون جواباً، بل الجواب محذوف، ولا بد - إذ ذاك - من أن يكون فعل الشرط ماضياً، إذْ لا يُحْذَف الجواب إلا والشرط ماضٍ، ولا اعتبار بالشعر؛ فإنه ضرورة، فلا يجوز عنده أن تقول: إن تكرمني أكرمك ولا يجزنهما، ولا بجزم الأول ورفع الثاني، لأن الشرط مضارع. ولا أإن أكرمتني أكرمك - بجزم أكرمك؛ لأنه ليس الجواب، بل دال عليه، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 572 والنية به التقديم، فإن رفعت» أكرمك «وقلت: أإن أكرمتني أكرمك، صح عنده. فالتقدير عند يونس: أانقلبتم على أعقابكم إن مات محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأن الغرض إنكار انقلابهم على أعقابهم بعد موته، وبقول يونس قال كثير من المفسِّرين؛ فإنهم يقولون: ألف الاستفهام دخلت في غير موضعها؛ لأن الغرض إنما هو أتنقلبون إن مات محمد؟ وقال أبو البقاء:» وقال يونس: الهمزة في مثل هذا حقها أن تدخل على جواب الشرط، تقديره: أتنقلبون إن مات؟ لأن الغرض التنبيه، أو التنبيخ على هذا الفعل المشروط «. ومذهب سيبويه الحقُّ؛ لوجهَيْن: أحدهما: أنك لو قدمتَ الدجواب، لم يكن للفاء وجه؛ إذ لا يصح أن تقول: أتزوروني فإن زرتك. ومنه قوله: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] . والثاني: أنَّ الهمزة لها صدر الكلام، و «إنْ» لها صدر الكلام، وقد وقعا في موضعهما، والممعنى يتم بدخول الهمزة على جملة الشرط والجوابِ؛ لأنهما كالشيء الواحد. وقد رد النحويون على يونس بقوله: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} ، فإنَّ الفاء في قوله: «فَهُمْ» تعين أن يكون جواباً للشرط، وأتى - هنا - ب «إن» التي تقتضي الشك، والموت أمر محقق، إلاَّ أنه أورده مورد المشكوك فيه؛ للتردد بين الموت والقتل. فإن قيل: إنه - تعالى - بَيَّن في آيات كثيرة أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يُقْتَل، قال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] وقال: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] وقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] ، وإذا عُلِم أنه لا يقتل، فلِمَ قال: (أو قتل) ؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أن صدق القضية الشرطية لا تقتضي صدق جُزْأيها؛ فإنك تقول: إن كانت الخمسة زوجاص كانت مقسمة بمتساويين، فالشرطية صادقة، وجزآها كاذبان، وقال تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فهذا حَقٌّ، مع أنه ليس فيهما آلهة، وليس فيهما فساد. الثاني: أن هذا ورد على سبيل الإلزام؛ فإن موسى - عليه السلام - مات ولم ترجع أمتُه عن دينه، والنصارى زعموا أن عيسى قُتِل، ولم يرجعوا عن دينه، فكذا هنا. وثالثها: أن الموت لا يُوجب رجوع الأمة عن دينه، فكذا القتل وجب ألا يوجب الرجوع عن دينه، لأنه لا فارق بين الأمرين، فلما رجع إلى هذا المعنى، كان المقصود منه الرد على أولئك الذين شكوا في صحة الدين، وهَمُّوا بالارتداد. فإن قيل: قوله: { {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} شكٌّ، وهو - على الله تعالى - محال. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 573 فالجواب: أن المراد: أنه سَوَاءً وقع هذا أو ذاك، فلا تأثير له في ضَعْف الدين ووجوب الارتداد. فصل قوله: {انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ} أي: صرتم كُفاراً بعد إيمانكم، يقال لكل من عاد إلى ما كان عليه: رجع وراءه، فانقلب على عقبه، ونكص على عقبيه، وذلك أن المنافقين قالوا لضَعَفَةِ المسلمين: إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل فالحقوا بدينكم، فقال بعض الأنصار إن كان محمد قد قُتِل، فإن رَبَّ محمد لم يُقْتَل، فقاتِلوا على ما قاتل عليه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فقد بيَّن - تعالى - أن قتله لا يوجب ضعفاً في دينه بدليلين: أحدهما: القياس على موت سائر الأنبياء. والثاني: أن الحَاجَةَ إلى الرسول إنما هي لتبليغ الدين، وبعد ذلك لا حَاجَة إليه، فلم يلزم من قَتْلِه فَسَادُ الدين. قوله : {على أَعْقَابِكُمْ } فيه وجهان: أظهرهما: أنه متعلق ب «انْقَلَبْتُمْ» . والثاني: أنه حال من فاعل «انْقَلَبْتُمْ» ، كأنه قيل: انقلبتم راجعين. قوله: {وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ} . قرأ ابنُ أبي إسحاق «على عقبه» - بالإفراد، و «شَيْئاً» نصب على المصدر أي: شيئاً من الضرر، لا قليلاً ولا كثيراً. والمراد منه: تأكيد الوعيد، وأن المنقلب بارتداده لا يضر الله شيئاً، وإنما يضر نفسه. ثم قال: {وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} والمعنى: أن تلك الهزيمة لما أوقعَتْ شُبْهَةً في قلوب بعضهم، ولم تقع في قلوب العلماء الأقوياء من المؤمنين، فهم شكروا الله على ثباتهم على الإيمان وشدة تمسكهم به فمدحهم الله تعالى. رَوَى ابنُ جرير الطَّبَرِيُّ عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال المراد بقوله تعالى: {وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} : أبو بكر وأصحابه. وروى عنه أيضاً أنه قال: أبو بكر أمين الشاكرين، وأمين الله تعالى. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 574 {أَنْ تَمُوتَ} في محل رفع؛ اسماً ل «كان» ، و «لِنَفْسٍ» خبر مقدَّم فيتعلق الجزء: 5 ¦ الصفحة: 574 بمحذوف، و {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} حال من الضمير في «تَمُوتَ» ، فيتعلق بمحذوف، وهو استثناء مفرَّغ، والتقدير: وما كان لها أن تموتَ إلا مأذوناً لها، والباء للمصاحبة. وقال أبُو البَقَاءِ: {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} الخبر، واللام للتبيين، متعلِّقة ب «كان» . وقيل: هي متعلقة بمحذوف، تقديره: الموت لنفس، و «أنْ تَمُوتَ» تبيين للمحذوف، ولا يجوز أن تتعلق اللام ب «تَمُوتَ» لما فيه من تقديم الصلة على الموصول. وقال بعضهم: إن «كَانَ» زائدة، فيكون «أن تموت» مبتدأ، و «لنفس» خبره. وقال الزجاج: اللام منقولة، تقديره وما كانت نفس لتموتَ ثم قدمت اللام، فجعل ما كان اسماً ل «كان» - وهو (أن تَموتَ) - خبراً لها، وما كان خبراً - وهو «لِنَفْسٍ» - اسماً لها، فهذه خمسة أقوال، أظهرها: الأول. أما قول أبي البقاء: واللام للتبيين، فتتعلق بمحذوف، ففيه نظر من وجهين: أحدهما: أنَّ «كان» الناقصة لا تعمل في غير اسمها وخبرها، ولئن سُلِّم ذلك، فاللام التي للتبيين إنما تتعلق بمحذوف، وقد نَصُّوا على ذلك في نحو: سَقْياً لك. وقيل: إن فيه حذف المصدر وإبقاء معموله، وهو لا يجوز. أما مَنْ جعل «لِنَفْسٍ» متعلقة بمحذوف - تقديره: الموت لنفس، ففاسدٌ، لأنه ادَّعَى حذف شيء لا يجوز؛ لأنه إن جعل «كَانَ» تامة، أو ناقصة، امتنع حذفُ مرفوعها، لأن الفاعل لا يُحْذَف. وكذلك قول مَنْ جعل «كان» زائدة. أما على قول الزجاج فإنه تفسير معنًى، لا تفسير إعراب. فصل في تعلُّق هذه الآية بما قبلَها وجوه: أحدها: أن المنافقين حين قالوا: إن محمداً قُتِل، فقال تعالى: لا تموت نفس إلا بإذن الله، فقتله - أيضاً - مثل موته لا يحصل إلا في الوقت المقدَّر له، فكما أن موته في داره لا يدل على فساد دينه، كذلك إذا قُتِل لا يؤثر ذلك في فساد دينه. والمقصود منه إبطال قول المنافقين لضَعَفَةِ المسلمين: إن كان محمدٌ قُتِل فارجعوا إلى دينكم الأول. والثاني: أن المراد: تحريض المسلمين على الجهاد بإعلامهم أن الحذرَ لا يدفَع القدر، وأن أحداً لا يموت قبل الأجل، وإذا جاء الأجل لا يندفع، فلا فائدة في الجُبْن والخوف. والثالث: أن المراد حِفْظ الله للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من تلك الواقعة المخوفة؛ فإنه لم يَبْقَ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 575 سبب من أسباب الهلاك إلا وقد حصل، ولكن لما كان الله حافِظَه وناصِرَه ما ضَرَّه شيءٌ من ذلك، وفيه تنبيه على أن الصحابة قصَّروا في الذَّبِّ عنه. ورابعها: أن المقصود منه الجواب عن كلام المنافقين للصحابة، حين رجعوا وقد قتل منهم من قتل {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} [آل عمران: 156] فأخبر - تعالى - أنَّ الموت والقتل لا يكونان إلا بإذن الله. قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 145] ، فليس في إرجاف من أرجف بموت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يحقق ذلك فيه، أو يعين في تقوية الكُفْر، بل يُبْقيه الله إلى أن يَظْهَرَ على الدِّين كله. فصل قال القُرْطُبِي: «هذا حضٌّ على الجهاد، وإعلام بأن الموت، لا بد منه لكل إنسان وأن كل إنسان - مقتولاً كان أو غيرَ مقتول - مَيِّت إذا بلغ أجله المتكوبَ له؛ لأن معنى {مُّؤَجَّلاً} إلى أجل، ومعنى {بِإِذْنِ الله} : بقضاء الله وقدره» . واختلفوا في الإذن. قال أبو مسلم: هو الأمر، أي أن الله - تعالى - يأمر ملك الموت بقبض الأرواح. وقيل: المراد منه: التكوين والإيجاد، لأنه لا يقدر على الإماتة والإحياء إلا الله تعالى. وقيل: الإذن: هو التخلية والإطلاق، وتَرْك المنع بالقهر والإجبار، كقوله تعالى: {وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [البقرة: 102] أي: بتخليته بينه وبين قاتله. وقيل: الإذن بمعنى: العلم، والمعنى: أن نفساً لن تموتَ إلاَّ في الوقت الذي علم الله - تعالى - موتها فيه. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: الإذن: هو قَضَاءُ الله وقدره؛ فإنه لا يحدث شيء إلاَّ بمشيئته وإرادته - سبحانه وتعالى -. قوله: {كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} في نصبه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه مصدر مؤكِّد لمضمون الجملة التي قبله، فعامله مُضْمَر، تقديره: كتب الله ذلك كتاباً، نحو قوله تعالى: {صُنْعَ الله} [النمل: 88] وقوله: {وَعَدَ الله} [الروم: 6] ، وقوله: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] . الثاني: أنه منصوب على التمييز، ذكره ابنُ عطية، وهذا غير مستقيم؛ لأن التمييز منقول وغير منقول، وأقسامه محصورة، وليس هذا شيئاً منها، وأيضاً فأين الذات المُبْهَمة التي تحتاج إلى تفسير؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 576 والثالث: أنه منصوب على الإغراء، والتقدير: الزموا كتاباً مؤجَّلاً، وآمنوا بالقدر، وليس المعنى على ذلك. وقرأ ورش: «مُوجَّلاً» بالواو بدل الهمزة، وهو قياس تخفيفها. فصل الكتاب المؤجَّل هو الكتاب المشتمل على الآجال، ويقال: إنه اللوح المحفوظ، أي: كتب لكل نفس أجلاً لا يقدر أحدٌ على تقديمه وتأخيره، جاء في الحديث أنه تعالى قال للقلم: اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. فصل قال القاضِي: أما الأجل والرزق، فهما مضافان إلى الله تعالى، وأمَّا الكُفْرُ والفِسْقُ والإيمان والطاعة، فكل ذلك مضاف إلى العبد، فإذا كتب الله ذلك، فإنما يكتب ما يعلمه من اختيار العبد وذلك لا يُخْرج العبد عن الاختيار. وجوابه: أنه إذا علم الله من العبد الكفر، وكتب في اللوح المحفوظ منه الكفر، فلو أتَى بالإيمان كان ذلك جمعاً بين المتنافيين؛ لأن العلم بالكفر، والخبر والصدق عن الكفر - مع عدم الكفر - جمع بين النقيضين، وهو محال، وهذا موضِعُ الإلزام. فصل قال المفسرون: أجل الموت هو الوقت الذي في معلوم الله - تعالى - أن روح الحيِّ تفارق جيده فيه، ومتى قُتِل العبدُ علمنا أن ذلك أجله، ولا يصح أن يقال: لو لم يُقْتَل لعاش، بدليل قوله تعالى: {كِتَاباً مُّؤَجَّلاً} [آل عمران: 145] ، وقوله: {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [يونس: 49] وقوله: {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ} [نوح: 4] ، وقوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [الرعد: 38] . والمعتزليّ يقول: يتقدَّم الأجل ويتأخّر، وأن مَنْ قُتِل فإنما يهلك قبل أجله، وكذلك كل ما ذبح من الحيوان كان هلاكه قبل أجله، لأنه يجب على القاتل الضمان والدِّيَة، وهذه الآية رَدٌّ عليهم. قوله: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا} مبتدأ، وهي شرطية. وفي خبر هذا المبتدأ الخلاف الجزء: 5 ¦ الصفحة: 577 المشهور. وأدغم أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن عامر بخلاف عنه - دال «يُرِد» في الثاء. والباقون بالإظهار. وقرأ أبو عمرو بالإسكان في هاء «نُؤتِهِ» في الموضعين وَصْلاً ووقفاً. وهشام - بخلاف عنه - بالاختلاس وصلاً. والباقون بالإشباع وَصْلاً. فأما السكون فقالوا: إن الهاء لما حلت محلّ ذلك المحذوف أعطيت ما كان يستحقه من السكون، وأما الاختلاس، فلاستصحاب ما كانت عليه الهاء قبل حَذْف لام الكلمة؛ فإن الأصل: نؤتيه، فحُذِفَت الياء للجزم، ولم يُعْتَدّ بهذا العارض، فبقيت الهاء على ما كانت عليه. وأما الإشباع فنظراً إلى اللفظ؛ لأن الهاء بعد متحرِّكٍ في اللفظ، وإن كانت في الأصل بعد ساكن - وهو الياء التي حُذِفَت للجزم - والأوْلى أنْ يقال: إنَّ الاختلاس والإسكان بعد المتحرك لغة ثابتة عن بني عقيل وبني كلاب. حكى الكسائي: لَهْ مالٌ، وبِهْ داء - بسكون الهاء، واختلاس حركتها - وبهذا يَتَبَيَّن أن مَنْ قال: إسكان الهاء واختلاسها - في هذا النحو - لا يجوز إلا ضرورةً، ليس بشيءٍ، أمَّا غير بني عقيل، وبني كلاب، فنعم لا يوجد ذلك عندهم، إلا في ضرورة. كقوله: [الوافر] 1645 - لَهُ زَجَلٌ كَأنَّهُ صَوْتُ حَادٍ إذَا طَلَبَ الوَسِيقَةَ أوْ زَمِيرُ باختلاس هاء (كأنه) . ومثله قول الآخر: [البسيط] 1646 - وَأشْرَبُ الْمَاءَ مَا بِي نَحْوَهُ عَطَشٌ ... إلاَّ لأنَّ عُيُونَهْ سَيل وَادِيهَا بسكونها. وجعل ابن عصفور الضرورة في «البيت الثاني» أحسن منها في «البيت الأول» ، قال: لأنه إذهاب للحركة وصِلَتِها، فهي جَرْي على الضرورة [إجراءً] كاملاً، وإنما ذكرنا هذه التعليلات لكثرة ورود هذه المسالة، نحو: {يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7] ، ونحو: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 578 وقُرِئ: يُؤتِه - بياء الغيبة - والضمير لله تعالى، وكذلك: «وسنجزي الشاكرين» بالنون والياء. فصل نزلت في الذين تركوا المركز يوم أُحُد؛ طلباً للغنيمة، {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا} يعني: الغنيمة، قوله: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا} قيل: أراد الذين ثبتوا مع أميرهم عبد الله بن جُبَير حتى قُتِلوا، وهذه الآية - وإن وردت في الجهاد خاصة - عامة في جميع الأعمال؛ لأن المؤثر في جلب الثواب والعقاب هو القصد والدواعي، لا ظواهر الأعمال. ثم قال: «وسنجزي الشاكرين» أي: المؤمنين المطيعين. عن أنس بن مالك، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ كَانَتْ نِيَّتُه طَلَبَ الآخِرَةِ جَعَلَ اللهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ، وَجَمَعَ له شَمْلَهُ، وَأتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ. وَمَنْ كَانَتْ نِيَّتُه طَلَبَ الدُّنْيَا جَعَلَ اللهُ الفَقْرَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَشَتَّتَ عَلَيْهِ أمْرَهُ، وَلاَ يَأتِيهِ مِنْهَا إلاَّ مَا كُتِبَ لَهُ» وروى عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّما الأعمالُ بالنياتِ، وإنَّمَا لِكُلُ امرئٍ ما نَوَى، فمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى اللهِ وَرَسُولِه فَهِجْرَتُه إلَى اللهِ وَرَسُولِه، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُه إلَى دُنْيَا يُصيبُها، أو امْرَأة يَنْكِحُهَا، فهِجْرَتُه إلى مَا هَاجَرَ إلَيْه» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 579 هذه اللفظة، قيل: هي مركبة من كاف التشبيه، ومن «أيِّ» ، وقد حدث فيهما بعد التركيب معنى التكثير، المفهوم من «كَمْ» الخبرية، ومثلُها في التركيب وإفهام التكثير: «كذا» في قولهم: له عندي كذا درهماً، والأصل: كاف التشبيه و «ذا» الذي هو اسم إشارة، فلما رُكَِّبَا حدَثَ فيهما معنى التكثير، ف «كم» الخبرية وكأيِّن وكذا كلها بمعنًى واحد، وقد عهدنا في التركيب إحداث معنى آخر؛ ألا ترى أن «لولا» حدث لها معنًى جديدٌ، وكان من حقها - على هذا - أو يُوقَفَ عليها بغير نون؛ لأن التنوين يُحْذَف وقفاً، إلا أن الصحابة كتبتها «كَأيِّنْ» - بثبوت النون -، فمن ثم وقف عليها جمهور القراء بالنون؛ اتِّبَاعاً لرسم المصحف. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 579 ووقف أبو عمرو وسورة بن المبارك عن الكسائي «كأي» - من غير نون - على القياس. واعتل الفارسيُّ لوقف النون بأشياء، منها: أن الكلمة لما رُكِّبَتْ خرجت عن نظائرها، فجعل التنوين كأنه حرف أصلي من بنية الكلمة. وفيها لغات خمس. أحدها: «كَيِّنْ» - وهي الأصل - وبها قرأ الجماعة، إلاَّ ابن كثير. وقال الشاعر: [الوافر] 1647 - كَأيِّنْ فِي الْمَعَاشِرِ مِنْ أنَاسٍ ... أخُوهُمْ فَوْقَهُمْ، وَهُمُ كِرَامُ الثانية: «كائِنْ» - بزنة كاعِن - وبها قرأ ابن كثير وجماعة، وهي أكثر استعمالاً من «كأيِّنْ» وإن كانت تلك الأصل -. قال الشاعر: [الوافر] 1648 - وَكَائنْ بِالأبَاطِحِ مِنْ صَدِيقٍ ... يَرَانِي لَوْ أصِبْتُ هُوَ المُصَابَا وقال الآخر: [الطويل] 1649 - وَكَائِنْ رَدَدْنَا عَنْكُمُ مِنْ مُدَجَّجٍ ..... ... ... ... . وقال آخر: [الطويل] 1650 - ... - وَكَائِنْ تَرَى فِي الْحَيِّ مِنْ ذِي قَرَابَةٍ ... ... ... ... ... ... الجزء: 5 ¦ الصفحة: 580 أنشده المفضل ممدوداً، مهموزاً، مخففاً. واختلفوا في توجيه هذه القراءة، فنُقِل عن المبرد أنها اسم فاعل من كان، يكون، فهو كائن، واستبعده مكِّيّ، قال: لإتيان «مِنْ» بعده، ولبنائه على السكون. وكذلك أبو البقاء، قال: «وهو بعيد الصحة؛ لأنه لو كان كذلك لكان معرباً، ولم يكن فيه معنى التكثير» . لا يقال: هذا تحامُل على المبرد؛ فإن هذا لازم له - أيضاً - فإن البناء، ومعنى التكثير عارضان - أيضاً - لأن التركيب عُهِد فيه مثل ذلك - كما تقدم في «كذا» ، و «لولا» ، ونحوهما، وأما لفظٌ مفردٌ يُنقل غلى معنى، ويُبْنَى من غير سبب، فلم يُوجد له نظير. وقيل: هذه القراءة أصلها «كَأيِّنْ» - كقراءة الجماعة - إلا أن الكلمة دخلها القلب، فصارت «كائن» مثل كاعن - واختلفوا في تصييرها بالقلب كذلك على أربعة أوجه: أحدها: أنه قُدِّمت الياءُ المشددةُ على الهمزة، فصار وزنها كَعَلف، إلا أنك قدمتَ العينَ والسلام، وهما الياء المشددة - ثم حذفت الياء الثانية لثقلها بالحركة والتضعيف، كما قالوا في: «أيُّها» ، ثم قلبت الياء الساكنة ألفاً، كما قلبوها في نحو آية - والأصل: أيَّة - وكما قالوا: طائِيّ - والأصل: طَيئ - فصار اللفظ «كَأيِنْ» ووزنه كَعْف، لأن الفاء أخرت إلى موضع اللام، واللام قد حُذفَتْ. الوجه الثاني: أنه حذفت الياء الساكنة - التي هي عين - وقُدِّمَت المتحركة - التي هي لام - فتأخرت الهمزة - التي هي فاء - وقلبت الياء ألفاً؛ لتحركها وانفتاح ما قبلها، فصار «كائن» ووزنه كلف. الوجه الثالث: ويُعْزَى للخليل - أنه قُدِّمَت إحدى الياءين في موضع الهمزة، فتحركت بحركة الهمزة - وهي الفتحة - وصارت الهمزة ساكنة في موضع الياء، فتحركت الياءُ، وانفتح ما قبلها، فقُلِبَتْ ألفاً، فالتقى الساكنان - الألف المنقلبة عن الياء، والهمزة بعدها ساكنة - فكُسِرَت الهمزة على أصل التقاء الساكنين، وبقيت إحدى الياءين متطرفة، فأذهبها التنوين - بعد سلب حركتها - كياء قاضٍ وغازٍ. الوجه الرابع: أنه قُدِّمَت الياء المتحركةُ، فانقلبت ألفاً، وبقيت الأخرى ساكنة، فحذفها التنوين - مثل قاضٍ - ووزنه على هذين الوجهين أيضاً كلف؛ لما تقدم من حذف العين، وتأخير الفاء، وإنما الأعمال تختلف. اللغة الثالثة: «كَأْيِنْ» - بياء خفيفة بعد الهمزة - على مثال كَعْيِن، وبها قرأ ابنُ مُحَيْصِن، والأشهبُ العقيلي، ووجهها أن الأصل: «كَأيِّنْ» - كقراءة الجماعة - فحُذِفَت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 581 الياءُ الثانية، استثقالاً، فالتقى ساكنان - الياء والتنوين - فكُسِر الياء؛ لالتقاء الساكنين، ثم سكنت الهمزة تخفيفاً لثقل الكلمة بالتركيب، فصارت كالكلمة الواحدة كما سكنوا «فهو» و «فهي» . اللغة الرابعة: «كَيْإن» بياء ساكنة، بعدها همزة مكسورة، وهذه مقلوب القراءة التي قبلها، وقرأ بها بعضهم. اللغة الخامسة: «كإنْ» - على مثال كَعٍ - ونقلها الداني قراءة عن ابن مُحَيْصِن أيضاً. وقال الشاعر: [الطويل] 1651 - كَئِنْ مِنْ صَدِيقٍ خِلْتُهُ صَادِقَ الإخَا ... ءِ أبَانَ اخْتِبَاري أنَّهُ لِي مُدَاهِنُ وفيها وجهان: أحدهما: أنه حذف الياءين دُفعَةً واحدةً لامتزاج الكلمتين بالتركيب. والثاني: أنه حذف إحدى الياءين - على ما تقدم تقريره -، ثم حذف الأخرى لالتقائها ساكنةً مع التنوين ووزنه - على هذا - كَفٍ؛ لحذف العين واللام منه. واختلفوا في «أي» هل هي مصدر في الأصل، أم لا؟ فذهب جماعة إلى أنها ليست مصدراً، وهو قول أبي البقاء؛ فإنه قال «كَأيِّنْ» الأصل فيه: «أيٌّ» ، التي هي بعض من كل، أدخلت عليها كافُ التشبيه. وفي عبارته عن «أيّ» بأنها بعض من كل، نظر لأنها ليست بمعنى: بعض من كل، نعم إذا أضيفت إلى معرفة فحُكْمها حُكم «بعض» في مطابقة الجُزْء، وعود الضمير، نحو: أيُّ الرجلين قائم ولا نقول: قاما، فليست هي التي «بعض» اصلاً. وذهب ابنُ جني إلى أنها - في الأصل - مصدر أوَى يأوِي - إذا انضم، واجتمع - والأصل: أوْيٌ، نحو طَوَى يَطْوي طيًّا - فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت في الياء، وكأن ابن جنِّي ينظر إلى أن معنى المادة من الاجتماع الذي يدل عليه «أي» فإنها للعموم، والعموم يستلزم الاجتماع. وهل هذه الكاف الداخلة على «أي» تتعلق بغيرها من حروف الجر، أم لا؟ والصحيح أنها لا تتعلق بشيء؛ لأنها مع «أي» صارتا بمنزلة كلمة واحدة - وهي «كم» - فلم تتعلق بشيء، ولذلك هُجِر معناه الأصلي - وهو التشبيه -. وزعم الحوفيّّ أنها تتعلق بعامل، فقال: «أما العامل في الكاف، فإن جعلناها على حكم الأصل، فمحمول على المعنى، والمعنى: إصابتكم كإصابة من تقدَّم من الأنبياء وأصحابهم، وإن حملنا الحكم على الانتقال إلى معنى» كم «، كان العامل بتقدير الابتداء، الجزء: 5 ¦ الصفحة: 582 وكانت في موضع رفع، و» قاتل «الخبر، و» مِنْ «متعلقة بمعنى» الاستقرار «، والتقدير الأول أوضح؛ لحمل الكلام على اللفظ دون المعنى، بما يجب من الخفض في» أي «، وإذا كانت» أي «على بابها من معاملة اللفظ، ف» من «متعلقة بما تعلقت به الكاف من الممعنى المدلول عليه» اه. وهو كلام غريب. واختار أبو حيان أن «كأين» كلمة بسيطة - غير مركبة - وأن آخرها نون - هي من نفس الكلمة - لا تنوين؛ لأن هذه الدعاوى المتقدمة لا يقوم عليها دليل، وهذه طريق سهلة، والنحويون ذكروا هذه الأشياء؛ محافظةً على أصولهم، مع ما ينضم إلى ذلك من الفوائد، وتمرين الذهن. هذا ما يتعلق بها من حيث التركيب، فموضعها رفع بالابتداء، وفي خبرها أربعة أوجه: أحدها: أنه «قاتل» فإن فيه ضميراً مرفوعاً به، يعود على المبتدأ، والتقدير: كثير من الأنبياء قاتل. قال ابو البقاء: والجيد أن يعود الضمير على لفظ «كأين» ، كما تقول: مائة نبي قُتِل، فالضمير للمائة؛ إذ هي المبتدأ. فإن قيل: لو كان كذلك لأنثت، فقلت: قُتِلَتْ؟ قيل: هذا محمول على المعنى؛ لأن التقدير: كثير من الرجال قُتِل. كأنه يعني بغير الجيد عوده على لفظ «نَبِيّ» ، فعلى هذا جملة {مَعَهُ رِبِّيُّونَ} جملة في محل نصب على الحال من الضمير في «قُتِل» . ويجوز أن يرتفع «ربيون» على الفاعلية بالظرف، ويكون الظرف هو الواقع حالاً، التقدير: استقر معه ربيون. وهو أولى؛ لأنه من قبيل المفردات، وأصل الحال والخبر والصفة أن تكون مفردة. ويجوز أن يكون «مَعَهُ» - وحده - هو الحال، و «رِبِّيُّونَ» فاعل به، ولا يحتاج - هنا - إلى واو الحال؛ لأن الضمير هو الرابط - أعني: الضمير في «مَعَهُ» . ويجوز أن يكون حالاً من «نَبِيّ» - وإن كان نكرة - لتخصيصه بالصفة حينئذ؛ ذكره مكي. وعمل الظرف - هنا - لاعتماده على ذي الحال. قال أبو حيان: وهي حال محكية، فلذلك ارتفع «ربيون» بالظرف - وإن كان العامل ماضياً، لأنه حكى الحال الماضية، كقوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} [الكهف: 18] ، وذلك على مذهب البصريين، وأما الكسائي فيعمل اسم الفاعل العاري من «أل» مطلقاً. وفيه نظر؛ لأنا لا نسلم أن الظرف يتعلق باسم فاعل، حتى يلزم عليه ما قال من تأويله اسم الفاعل بحال ماضية، بل يدعى تعلُّقه بفعل، تقديره: استقر معه ربيون. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 583 الوجه الثاني: أن يكون «قَاتَلَ» جملة في محل جر؛ صفة لِ «نَبِيّ» ، و {مَعَهُ رِبِّيُّونَ} هو الخبر، لكن الوجهان المتقدمان في جعله حالاً - أعني: إن شئت أن تجعل «مَعَهُ» خبراً مقدماً، و «ربِّيُّونَ» مبتدأ مرخراً، والجملة خبر «كَأيِّنْ» ، وأن تجعل «مَعَهُ» - وحده - هو الخبر، و «ربِّيُّونَ» فاعل به؛ لاعتماد الظرف على ذي خبر. الوجه الثالث: أن يكون الخبر محذوفاً، تقديره: في الدنيا، أو مضى، أو: صابر، وعلى هذا، فقوله: «قَاتَلَ» في محل جر؛ صفة لِ «نَبِيٍّ» ، و «مَعَهُ ربِّيُّونَ» حال من الضمير في «قَاتَلَ» - على ما تقدم تقريره - ويجوز أن يكون «مَعَهُ ربِّيُّونَ» صفة ثانية ل «نَبِيٍّ» ، وُصِف بصفتين: بكونه قاتل، وبكونه معه ربيون. الوجه الرابع: أن يكون «قَاتَلَ» فارغاً من الضمير، مسنداً إلى «رِبِّيُّونَ» وفي هذه الجملة - حينئذ - احتمالان: أحدهما: أن تكون خبراً ل «كأيِّنْ» . الثاني: ان تكون في محل جر ل «نَبِيٍّ» والخبر محذوف - على ما تقدم - وادِّعَاء حذف الخبر ضعيف لاستقلال الكلام بدونه. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون «قَاتَلَ» مسنداً لِ «رِبِّيُّونَ» ، فلا ضمير فيه على هذا، والجملة صفة «نَبِيٍّ» . ويجوز أن يكون خبراً، فيصير في الخبر أربعة أوجه، ويجوز أن يكون صفةً لِ «نَبِيٍّ» والخبر محذوف على ما ذكرنا. وقوله: صفة ل «رَبِّيُّونَ» يعني: أن القتل من صفتهم في المعنى، وقوله: «فيصير في الخبر أربعة أوجه» يعني: ما تقدم له من أوجه ذكرها، وقوله: فلا ضمير فيه - على هذا - والجملة صفة «نبي» غلط؛ لأنه يبقى المبتدأ بلا خبرٍ. فإن قلتَ: إنما يزعم هذا لأنه يقدر خبراً محذوفاً؟ قلت: قد ذكر أوجهاً أخَر؛ حيثُ قال: «ويجوز أن تكون صفة ل» نَبِيٍّ «والخبرُ محذوفٌ - على ما ذكرنا» . ورجَّح كونَ قَاتَلَ مسنداً إلى ضمير النبي أن القصة بسبب غزوةِ أحُدٍ، وتخاذل المؤمنين حين قيل: إن محمداً قد ماتَ مقتولاً؛ ويؤيدُ هذا الترجيح قوله: {أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ} [آل عمران: 144] وإليه ذهب ابنُ عباسٍ والطبريُّ وجماعة. وعن ابن عباسٍ - في قوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161]- قال: النبي يُقتل فكيف لا يُخَان؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 584 وذهب الحسنُ وابن جُبَيرٍ وجماعة إلى أن القتلَ للرِّبِّيِّينَ، قالوا: لأنه لم يُقْتَل نبيٌّ في حَرْب قط ونصر الزمخشري هذا بقراءة قُتِّل - بالتشديد - يعني أنّ التكثيرَ لا يتأتى في الواحد - وهو النبي - وهذا - الذي ذكره الزمخشريُّ - سبقه إليه ابنُ جني - وسيأتي تأويله -. وقرأ ابن كثيرٍ، ونافع، وأبو عمرو: قُتِل - مبنياً للمفعول - وقتادة كذلك، إلا أنه شدد التاء، وباقي السبعة: قاتل، وكل من هذه الأفعال يصلح أن يرفع ضمير «نَبِيّ» وأن يرفع «رِبِّيُّونَ» - كما تقدم تفصيلُهُ -. وقال ابنُ جني: إنَّ قراءة: قُتّل - بالتَّشْديد - يتعين أن يسند الفعل فيها إلى الظاهر - أعني: «رِبِّيُّونَ» - قال: لأنَّ الواحدَ لا تكثير فيه. قال أبو البقاء: «ولا يمتنع أنْ يكونَ فيه ضمير الأول؛ لأنه في معنى الجماعةِ» . يعني أن «مِنْ نَبِيٍّ» المراد به الجنس، فالتكثير بالنسبة لكثرة الأشخاص؛ لا بالنسبة إلى كل فَرْد؛ إذ القتل لا يتكثر في كلِّ فردٍ. وهذا الجوابُ - الذي أجابَ به أبو البقاءِ - استشعر به أبو الفتحِ، وأجاب عنه، قَالَ: فإن قيل: فهلاَّ جاز فُعِّل؛ حَمْلاً على معنى «كَمْ» ؟ فالجواب: أن اللفظ قد مشى على جهة الإفراد في قوله: «مِنْ نَبِيٍّ} ودلَّ الضمير المفرد» مَعَهُ «على أن المراد إنما هو التمثيلُ بواحدٍ واحدٍ، فخرج الكلامُ على معنى» كم «. قال: في هذه القراءةِ دلالةٌ على أنَّ من قرأ من السَّبْعَةِ» قُتِلَ «أو» قَاتَل مَعَهُ رِبِّيُّونَ «فإن» ربِّيُّونَ «مرفوعٌ في قراءته ب» قُتِل «أو» قَاتَل «وليس مرفوعاً بالابتداء، ولا بالظرف، الذي هو» مَعَه «. قال أبو حيّان: «وليس بظاهر؛ لأن» كأين «مثل» كَمْ «وأنتَ خبيرٌ إذا قلتَ: كم من عانٍ فككته، فأفردت، راعيت لفظ» كم «ومعناها جمع، فإذا قلت: فككتهم، راعيت المعنى، وليس معنى مراعاة اللفظ إلا أنك أفردت الضمير، والمراد به الجمع. فلا فرق من حيثُ المعنى - بين فككته وفككتهم، كذلك لا فرق بين قتل معه ربيون، وقتل معهم ربيون، وإنما جاز مراعاة اللفظ تارةً، ومراعاة المعنى تارة؛ لأن مدلول» كم «و» كأين «كثير، والمعنى: جمع كثير، وإذا أخبرت عن جمع كثيرٍ فتارةً تفرد؛ مراعاةً للفظ، وتارة تجمع؛ مراعاة للمعنى، كما قال تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 44 و45] ، فقال:» مُنْتَصِر «وقال:» وَيُوَلُّونَ «فأفرد في» مُنْتَصِرٌ «وجمع في» يُوَلُّونَ «. ورجح بعضهم قراءة» قَاتَلَ «لقوله - بعد ذلك -: {فَمَا وَهَنُواْ} قال: وإذا قتلوا، فكيف يوصفون بذلك؟ إنما يوصف بهذا الأحياء؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 585 والجوابُ: أن معناه: قتل بعضهم، كما تقول: قُتِلَ بنو فلانٍ في وقعة كذا، ثم انصرفوا. وقال ابن عطية: قراءة من قَرَأ» قَاتَلَ «أعم في المدْحِ؛ لأنه يدخل فيها من قتل ومن بقي، ويحسن عندي - على هذه القراءة - إسنادُ الفعل إلى الربيين، وعلى قراءة: قتل - إسناده إلى» نبي «. قال أبو حيّان:» قتل «يظهر أنها مدح، وهي أبلغ في مقصود الخطاب؛ لأنها نَصٌّ في وقوع القتل، ويستلزم المقاتلة. و» قَاتَل «لا تدلُّ على القتل؛ إذ لا يلزم من المقاتلة وجود القتل؛ فقد تكون مقاتلة ولا يقع قتل. قوله: {مِّن نَّبِيٍّ} تمييز ل» كَأيِّنْ «لأنها مثل» كم «الخبرية. وزعم بعضهم أنه يلزم جره ب» من «ولهذا لم يجئ في التنزيل إلا كذلك، وهذا هو الأكثرُ الغالب. قال وقد جاء تمييزُها منصوباً، قال الشاعرُ: [الخفيف] 1652 - أطْرُدِ الْيَأسَ بِالرَّجَاءِ فَكَائِن ... آلِماً حُمَّ يُسْرُهُ بَعْدَ عُسْرِ وقال آخر: [الطويل] 1653 - فَكَائِنْ لَنَا فَضْلاً عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةً ... قَدِيماً، وَلاَ تَدْرُونَ مَا مَنُّ مُنْعِمِ وأما جره فممتنع؛ لأن آخرَها تنوين، وهو لا يثبت مع الإضافة. و» ربيون «: جمع رِبِّيّ، وهو العالم، منسوب إلى الرَّبّ، وإنما كُسِرت راؤه؛ تغييراً في النسب، نحو: إمْسِيّ - في النسبة إلى أمس - وقيل: كُسِر للإتباع. وقيل: لا تغيير فيه، وهو منسوب إلى الرُّبة - وهي الجماعة - وقرأ الجمهور بكسر الرَّاءِ، وقرأ عليّ، وابنُ مسعودٍ، وابن عبّاسٍ، والحسنُ» رُبِّيُّونَ «- بضم الراء - وهو من تغيير النسبِ، إذا قلنا: هو منسوب إلى الربِّ، وقيل: لا تغيير، وهو منسوب إلى الربة، وهي الجماعة. قال القرطبيُّ «واحدهم ربِّيّ - بكسر الراء وضمها» . وقرأ ابنُ عباسٍ - في رواية قتادة - رَبِّيُّونَ، بفتحها على الأصل، إن قلنا: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 586 منسوب إلى الرَّبِّ، وإلا فمن تغيير النسب، إن قلنا: إنه منسوب إلى الربة. قال ابن جني: والفتح لغة تميم. وقال النقاشُ: «هم المكثرون العلم» من قولهم: رَبَ الشيء يربو - إذا كَثر - وهذا سَهْوٌ منه؛ لاختلاف المادتين؛ لأن تلك من راء وياء وواو، وهذه من راء وباء مكررة. قال ابن عبَّاسٍ ومجاهدٌ وقتادةُ: الجماعات الكثيرة وقال ابنُ مسعودٍ: والربيون: الألوف. وقال الكلبيّ: الرِّبِّيَّة الواحدة: عشرة آلاف. وقال الضَّحَّاك: الرَّبِّيَّة الواحدة ألف، وقال الحسنُ: رِبِّيُّون: فُقَهاء وعُلَماء. وقيل: هم الأتباع، فالربانيون: الولاة، والربانيون: الرعية. وحكى الواحديُّ - عن الفرّاءِ - الربانيون: الألوف. قوله: «كَثِيرٌ» صفة لِ «رِبِّيُّونَ وإن كان بلفظ الإفرادِ؛ لأن معناه الجمع. فصل معنى الآية - على القراءة الأولى - أن كثيراً من الأنبياء قُتِلوا، والذين بَقُوا بعدهم ما وَهَنوا في دينهم، بل استمرُّوا على نُصْرَة دِينهم [وقتال] عدوِّهم، فينبغي أن يكون حالُكُم - يا أمة محمدٍ - هكذا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 587 قال القفالُ: والوقف - في هذا التأويل - على قوله:» قُتِل «وقوله {مَعَهُ رِبيُّونَ كَثِيرٌ} حال، بمعى: قُتِل حال ما كان معه ربيون كثير. أو يكون على معنى التقديم والتأخير أي: وكأين من نبي معه ربيون كثيرٌ، فما وهن الربيون على كثرتهم. وقيل: المعنى: وكأين من نبي قُتِل ممن كان معه وعلى دينه ربيون كثيرٌ، فما ضَعُفَ الباقون، ولا استكانوا؛ لقَتْل من قُتِل من إخوانهم، بل مضوا على جهاد عدوهم، فقد كان ينبغي أن يكون حالكم كذلك. وحُجَّة هذه القراءة أنّ المقصودَ من هذه الآية حكاية ما جرى لسائر الأنبياءِ؛ لتقتدي هذه الأمة بهم. والمعنى على القراءة الثانية -: وكم من نبي قاتل معه العددُ الكثيرُ من أصحابه، فأصابهم من عدوهم قروح، فما وَهَنُوا؛ لأن الذي أصابهم إنما هو في سبيل اللهِ وطاعته، وإقامة دينه، ونصرة رسوله، فكذلك كان ينبغي أن تفعلوا مثل ذلك يا أمةَ مُحَمدٍ. وحجة هذه القراءة: أن المراد من هذه الآية ترغيب الذين كانوا مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في القتال، فوجب أن يكون المذكورُ هو القتال، وأيضاً رُوِي عن سعيد بن جبيرٍ أنه قال: ما سمعنا بنبي قُتِل في القتال. قوله: {فَمَا وَهَنُواْ} الضمير في» وَهَنُوا «يعود على الربِّيِّين بجُمْلتهم، إن كان قُتِل مسنداً إلى ضمير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكذا في قراءة» قَاتَلَ «سواء كان مسنداً إلى ضمير النبي، أو إلى الربِّيين، فالضمير يعود على بعضهم وقد تقدم ذلك عند ترجيح قراءة» قاتل «. والجمهورُ على «وَهَنُوا» - بفتح الهاء - والأعمش وأبو السَّمَّال بكسرها، وهما لغتانِ: وَهَنَ يَهِنُ - كَوَعَدَ يَعِدُ - وَوَهَنَ يَوْهَنُ - كوَجَلَ يَوْجَلُ - وروي عن أبي السَّمَّال - أيضاً - وعِكْرمة: وهْنوا - بسكون الهاء - وهو من تخفيف فَعَل؛ لأنه حرف حلق، نحو نعم وشَهْد - في نَعِم وشَهِد -. قال القرطبيُّ: - عن أبي زيد -: «وَهِنَ الشيء يَهِنُ وَهْناً، وأوْهنته أنا ووهَّنْتُه: ضعَّفته، والواهنة: أسفل الأضلاع وقصارَاها، والوَهْن من الإبل: الكثيف، والوَهْن: ساعة تمضي من الليل، وكذلك المَوْهِن، وأوهَنَّا: صِرْنا في تلك الساعة» . و {لِمَآ أَصَابَهُمْ} متعلق ب «وَهَنُوا» و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، أو مصدرية، أو نكرة موصوفة. وقرأ الجمهور {وَمَا ضَعُفُواْ} - بضم العين - وقرئ: ضَعَفُوا - بفتحها - وحكاها الكسائي لغة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 588 قوله: {وَمَا اسْتَكَانُواْ} فيه ثلاثةُ أقوالٍ: أحدها: أنه «استفعل» من الكَوْن - والكَوْن: الذُّلّ - وأصله: استكون، فنُقِلَتْ حركة الواو على الكافِ، ثم قُلِبَت الواو ألفاً. وقال الأزهريُّ وأبو علي: هو من قول العربِ: بَاتَ فُلان بكَيْنَةِ سوء - على وزن جَفْنَة - أي: بحالة سوء، فألفه - على هذا من ياء، والأصل: استكْيَن، ففُعِل بالياء ما فُعِل بأختها. [وهو القول الثاني] . الثالث: قال الفرّاء: وزنة «افتعل» من السكون، وإنما أُشْبِعَت الفتحة، فتولَّد منها ألف. كقول الشاعر: [الرجز] 1654 - أعُوذُ باللهِ مِنَ الْعَقْرَابِ ... الشَّائِلاَتِ عُقَدِ الأذْنَابِ يريد: العقرب الشائلة. ورُدَّ على الفرّاء بأن هذه الألف ثابتة في جميع تصاريف الكلمةِ، نحو: استكان، يستكين، فهو مستكينٌ ومُستكان إليه استكانةً. وبأنَّ الإشباعَ لا يكون إلا في ضرورةٍ. وكلاهما لا يلزمه؛ أما الإشباع فواقع في القراءات - السبع - كما سيأتي -. وأما ثبوت الألف في تصاريف الكلمةِ فلا يدلُّ - أيضاً - لأن الزائدَ قد يَلْزَم؛ ألا ترى أنَّ الميم - في تَمَنْدَل وتَمَدْرَع - زائدة، ومع ذلك ثابتة في جميع تصاريفِ الكلمة، قالوا: تَمَنْدَلَ، يَتَمَنْدَلُ، تَمَنْدُلاً، فهو مُتَمَنْدِل، ومُتَمَنْدَل به. وكذلك تَمَدْرَع، وهما من الندل والدرع. وعبارة أبي البقاءِ أحسن في الرَّدِّ؛ فإنه قال: «لأن الكلمة ثبتت عينها في جميع تصاريفها تقول: استكان، يستكين، استكانة، فهو مستكين، ومُسْتكان له والإشباع لا يكون على هذا الحد» . ولم يذكر متعلق الاستكانة والضعف - فلم يَقُلْ: فما ضَعُفُوا عن كذا، وما استكانوا لكذا - للعلم، أو للاقتصار على الفعلين - نحو {كُلُواْ واشربوا} [الحاقة: 24] ليعم كُلَّ ما يصلح لهما. وقال الزمخشري: ما وَهَنُوا عند قَتْل النبيّ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 589 وقيل: ما وَهَنُوا لقتل من قتل منهم. فصل المعنى: ما جَبُنُوا لما أصابهم في سبيل اللهِ، وما ضَعُفُوا عن الجهادِ بما نالهم من الجراح، وما استكانوا للعدو. وقال مقاتلٌ: وما استسْلَموا، وما خضعوا لعدوهم. وقال السُّدِّيُّ: وما ذلوا. وهذا تعريض بما أصابهم من الْوَهَنِ، والانكسار عند الإرجاف بقَتْل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبضعفهم عند ذلك عن مجاهدة المشركين، واستكانتهم للكافرين، حتى أرادوا أن يعتضدوا بالمنافقِ عَبْدِ اللهِ بنِ أبَيٍّ؛ ليطلب لهم الأمان من أبي سفيان. ويحتمل - أيضاً - أن يُفَسَّر الوهن باستيلاء الخوفِ عليهم، ويُفَسَّر الضعف بأن يضعف إيمانُهم، وتقع الشكوك والشبهات في قلوبهم، والاستكانة: هي الانتقال من دينهم إلى دين عدوهم. ثم قال: {والله يُحِبُّ الصابرين} أي: مَنْ صَبَر على تحمُّل الشدائدِ في طريق اللهِ ولم يُظْهِر الجزعَ والعجزَ والهلع؛ فإنَّ اللهَ يحبه. ومحبة الله - تعالى - للعبد عباة عن إرادة إكرامه وإعزازه وتعظيمه، والحكم له بالثواب والجنة. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 590 الجمهور على نصب {قَوْلِهِمْ} خبراً مقدَّماً، والاسم «أنْ» وما في حيزها، تقديره: وما كان قولهم [إلا هذا الدعاء، أي: هو دأبهم وديدنهم] . وقرأ ابن كثيرٍ وعاصم - في رواية عنهما - برفع «قولُهم» على أنه اسم «كان» والخبر «أن» وما في حيزها. وقراءة الجمهور أوْلَى؛ لأنه إذا اجتمع معرفتانِ فالأولى أن تَجْعَل الأعرف اسماً، و «أن» وما في حيزها أعْر أعْرَف؛ قالوا: لأنها تُشْبِه المُضْمَر من حيثُ إنها لا تُضْمَر، ولا تُوصَف، ولا يُوصَف بها، و «قولهم» مضافٌ لمُضْمَرٍ، فَهُوَ في رُتْبَةِ العَلَمِ، فهو أقلُّ تعريفاً. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 590 ورَجَّحَ أبو البقاء قراءة الجمهور بوجهين: أحدهما: هذا، والآخر: أن ما بعد «إلاَّ» مُثبَت، والمعنى: كان قولَهُمْ: ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا دَأبَهم في الدعاء، وهو حَسَنٌ. والمعنى: وما كان قولهم شيئاً من الأقوالِ إلا هذا القول الخاصّ. فصل معنى الآية: وما كان قولهم عند قَتْل نبيِّهم إلا أن قالوا: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذنوبنَا، والغرض مِنْهُ تحريضُ هذه الأمة بالاقتداء بهم. قال القاضي: إنما قدموا طلب المغفرة للذنوب والإسراف؛ لأنه - تعالى - لما ضَمِن النُّصرةَ للمؤمنين، فإذا لم تحصل النصرة، وظهر أمارات استيلاء العدو، دلَّ ذلك ظاهراً - على صدور ذنب وتقصير من المؤمنين، فلهذا المعنى يجب عليهم تقديمَ التوبةِ والاستغفارِ على طلب النُّصْرَة، فبيَّن - تعالى - أنهم بدءوا بالتوبة عن كل المعاصي، فقالوا: {ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} أي: الصغائر {وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا} أي: الكبائر؛ لأن الإسراف في كل شيء هو الإفراط فيه؛ قال تعالى: {قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ} [الزمر: 53] وقال {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} [الإسراء: 33] وقال: {وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الأعراف: 31] ويقال: فلان مُسْرِف - إذا كان مكثراً في النفقة. قوله: {في أَمْرِنَا} يَجُوز فيه وجهانِ: الأول: أنه متعلق بالمصدر قبله، يقال: أسرفتُ في كذا. الثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حَالٌ منه، أي: حال كونه مستقراً في أمرنا. والأول أوجهُ. ثم سألوا - بعد ذلك - أن يثبت أقدامهم، وذلك بإزالة الخوفِ عن قلوبهم، وهذا يدلُّ على أن فعل العبد مخلوقٌ للهِ، والمعتزلة يحملونه على الألطاف. ثم سألوا أن ينصرهم على القوم الكافرين، وهذه النصرة لا بد فيها من أمر زائدٍ على ثبات أقدامهم. قال القاضي: وهذا تأديبٌ من الله - تعالى - في كيفية الطلب بالأدعية عند النوائب والمِحَن، سواء كان في الجهادِ أو غيره. قوله: «فآتاهم الله» يقتضي أن اللهَ - تَعَالَى - أعطاهم [الأمْرَين] أما ثوابُ الدُّنْيَا فَهُوَ: النصرة والغنيمة، وقهر العدو، والثناء الجميل، وانشراح الصدرِ بنور الإيمان، وأما ثوابُ الآخرة فلا شك أنه ثواب الجنة. وقرأ الجَحْدَرِيُّ فأثابهم - من لفظ الثواب - وخَصَّ - تعالى - ثواب الآخرة الجزء: 5 ¦ الصفحة: 591 بالحُسْنِ؛ تنبيهاً على جلالةِ ثوابِهِم، وذلك لأنّ ثوابَ الآخرةِ كُلَّه في غاية الحُسْنِ. ويجوز أن يُحْمَل قوله: «فآتاهم» على أنه سيؤتيهم، كقوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} [النحل: 1] أي: سيأتي أمرُ اللهِ. قيل: ولا يمتنع أن تكون هذه الآية مختصة بالشهداءِ - وقد أخبرَ - تَعَالَى - عن بعضهم أنهم أحياءٌ، عند ربِّهِم يرزقونَ - فيكون حالُ هؤلاء - أيضاً - كذلك. فصل قال فيما تقدم: {وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [آل عمران: 145] فأتى بلفظ «من» الدالة على التبعيض، وقال هنا: {فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة} ولم يذكر كلمة «من» لأن الذين يُريدون ثوابَ الآخرةِ إنما اشتغلوا بالعبادة لطلب الثوابِ، فكانت مرتبتهم في العبودية نازلةً عن مرتبة هؤلاء؛ لأنهم لم يذكروا من أنفسهم إلا الذنبَ والتقصيرَ، ولم يذكروا التدبيرَ والنصرةَ والإعانة إلا من ربّهم، فكان مقامهم في العبودية في غاية الكمالِ؛ لأنَّهم أرادوا خدمة مولاهم، وأما أولئك فإنما أرادوا الثواب. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 592 لما أمر اللهُ تَعَالَى بالاقتداء بأنصار الأنبياءِ حذَّر عن طاعة الكفار - يعني مشركي العرب - وذلك أنّ الكفار لما أرجفوا بقولهم إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد قُتِل ودعا المنافقونَ بعضَ ضَعَفَةِ المُسْلِمِين، مَنَعَ المسلمين بهذه الآية عن الالتفات إلى كلام أولئك المنافقين. وقيل: المرادُ - بالذين كفروا - عبد الله بن أبي وأتباعه في قولهم للمؤمنين عند الهزيمة: ارجعوا إلى إخوانكم، وادخلوا في دينهم، وقالوا: لو كان محمدٌ رسولَ اللهِ ما وقعت له هذه الواقعةُ، وإنما هو رجل كسائر الناسِ، يَوْمٌ لَهُ، وَيَومٌ عليه. وقال آخرون: المراد - بالذين كفروا - اليهود الذين كانوا بالمدينة يُلْقُون الشُّبهَاتِ. وقيل: المرادُ أبو سفيان؛ لأنه كان شجرة الفتن. قال ابنُ الْخَطِيبِ: «والأقرب أنه يتناول كُلَّ الكفار؛ لأن اللفظ عامٌّ، وخصوص السببِ لا يمنع من عموم اللفظِ» . قوله: {يَرُدُّوكُم} جواب {إِن تُطِيعُواْ} وقوله: {إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ} لا يُمْكن حمله على طاعتهم في كل ما يقولونه، بل لا بُدَّ من التخصيصِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 592 وقيل: إن تطيعوهم فيما يأمرونكم به يوم أحُدٍ من ترك الإسلامِ. وقيل: إن تطيعوهم في كل ما يأمرونكم به من الضلال. وقيل في المشورة. وقيل في تَرْك المحاربة، وهو قوله: {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} [آل عمران: 156] ثم قال: {يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ} يعني يردوكم إلى الكُفْر بعد الإيمان؛ لأن قبولَهُم في الدعوة إلى الكفر، ثم قال: {فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} فلما كان اللفظ عاماً دخل فيه خُسران الدنيا وخُسْران الآخرة. أما خسران الدنيا فلان أشَقَّ الأشياء على العُقلاء في الدنيا الانقياد إلى العَدُوِّ، وإظهار الحاجة إليه. وأما خُسْران الآخرة فالحرمان من الثواب المؤبَّد، والوقوع في العقاب المخلَّد و «خَاسِرِينَ» حالٌ. قوله: {بَلِ الله مَوْلاَكُمْ} مبتدأ وخبر، وقرأ الحسنُ بنصب الجلالةِ؛ على إضمار فِعْل يدل عليه الشرط الأول، والتقدير: لا تطيعوا الذين كفروا، بل أطيعوا الله، و «مَوْلاَكُمْ» صفة. وقال مَكِّي: «وأجاز الفرَّاء: بل الله - بالنصب -» كأنه لم يطلع على أنها قراءة. فصل والمعنى: أنكم إن تطيعوا الكفار لينصروكم ويُعينوكم فهذا جَهْل، لأنهم عاجزون متحيرون، والعاقل يطلب النُّصْرَةَ من الله تعالى؛ لأنه هو الذي ينصركم على العَدُوِّ، ثم بيَّن أنه خير الناصرين، وذلك لوجوهٍ: أولها: أنه - تعالى - هو القادرُ على نصرتك في كلِّ ما تريدُ والعالم الذي لا يَخْفَى عليه دعاؤك وتضرُّعك، والكريم الذي لا يبخل في جوده ونصرة العبيد بعضهم لبعض بخلاف ذلك في كل هذه الوجوه. ثانيها: أنه ينصرك في الدُّنْيَا والآخرة، وغيره ليس كذلك. ثالثها: أنه ينصرك قبل سُؤالك ومعرفتك بالحاجة، كما قال: {قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار} [الأنبياء: 42] وغيره ليس كذلك. واعلم أن ظاهر قوله: {وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} يقتضي أن يكون من جنس سائر الناصِرِينَ، وهو منزَّه، عن ذلك، وإنما ورد الكلامُ على حسب تعارفهم، كقوله: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 593 قوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} هذا من تمامِ ما تقدم من وجوه الترغيبِ في الجهاد وعدم المبالاةِ بالكفارِ. قوله: {سَنُلْقِي} الجمهور بنون العظمة، وهو التفات من الغيبة - في قوله: {وَهُوَ خَيْرُ الناصرين} وذلك للتنبيه على عظم ما يلقيه - تعالى -. وقرأ أيوب السَّخْتِيانيّ «سَيُلْقِي» بالغيبة؛ جَرْياً على الأصل. وقدم المجرور على المفعول به؛ اهتماماً بذكر المحلّ قبل ذكر الحَال: والإلقاء - هنا - مجاز؛ لأن أصلَه في الأجرام، فاستُعِيرَ هنا، كقول الشَّاعر: [الطويل] 1655 - هُمَا نَفَثَا فِي فِيء مِنْ فَمَويْهِمَا ... عَلَى النَّابِحِ الْعَاوِي أشَدَّ رِجَامِ وقرأ ابنُ عامرٍ والكسائيُّ، وأبو جعفرٍ، ويعقوبُ: «الرُّعْب» و «رُعْباً» - بضم العين - والباقون بالإسكان فقيل: هما لغتان. وقيل: الأصل الضم، وخُفِّف، وهذا قياس مطردٌ. وقيل: الأصلُ السكون، وضُمَّ إتباعاً كالصبْح والصبُح، وهذا عكس المعهود من لغة العربِ. والرُّعْب: الخوف، يقال: رعيته، فهو مرعوب، وأصله من الامتلاء، يقال: رَعَبْتُ الحوض، أي: ملأته وسَيْل راعب، أي: ملأ الوادي. فصل قيل: هذا الوعدُ مخصوصٌ بيوم أحُد؛ لأن الآياتِ المتقدمة إنما وردت في هذه الواقعة. والقائلون بهذا ذكروا في كيفية إلقاء الرعبِ في قلوب المشركين وجهين: الأول: أن الكفارَ لما هزموا المسلمين أوقع اللهُ الرعب في قلوبهم، فتركوهم، وفرّوا منهم من غير سبب، حتى رُوِيَ أن أبا سفيان صعد الجبل، وقال: أين ابنُ أبي كبشةَ؟ أين ابن أبي قُحافةَ؟ أين ابن الخطابِ؟ فأجابه عمر، ودارت بينهم كلماتٌ، وما الجزء: 5 ¦ الصفحة: 594 تجاسَر أبو سفيان على النزول من الجبل، والذهاب إليهم. والثاني: أن الكفار لما ذهبوا متوجهين إلى مكة - وكانوا في بعض الطريقِ - ندموا، وقالوا: ما صنعنا شيئاً، قتلنا أكثرهم ولم يبق منهم إلا الشديد، ثم تركناهم ونحن قاهرون، ارجعوا حتى نستأصلهم بالكُلية، فلما عزموا على ذلك القى اللهُ الرُّعْبَ في قلوبهم. وقيل: إنَّ هذا الوْعَد غير مختصٍّ بيوم أُحُد، بل هو عام. قال القفالُ: كأنه قيل: إنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في ويم أُحُدٍ، إلا أنّ اللهَ تعالى - سَيُلْقي الرُّعب منكم بعد ذلك في قلوب الكُفَّار حتى يقهر الكفار، ويُظْهِرَ دينكم على سائِرِ الأديان، وقد فعل الله ذلك، حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل. ونظير هذه الآية قوله: «نصرت بالرعب مسيرة شهر» . فصل قال بعض العلماءِ: إن هذا العموم على ظاهره، لأنه لا أحد يخالف دينَ الإسلام إلا في قلبه ضَرْب من الرُّعْب، ولا يقتضي وقوع جميع أنواع الرُّعب في قلوب الكافرين، إنما يقتضي وقوع هذه الحقيقة في قلوبهم من بعض الوجوهِ، وذهب جماعة من المفسّرين إلى أن مخصوص بأوائل الكفار. قوله: {فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 156] متعلق بالإلقاء، وكذلك {بِمَآ أَشْرَكُواْ} ولا يضر تعلُّق الحرفين؛ لاختلاف معناهما، فإن «في» للظرفية؛ الباء للسببية. و «ما» مصدرية، و «ما» الثانية مفعول به لِ «أشْرَكُوا» وهي موصولة بمعنى الذي، أو نكرة موصوفة، والراجع: الهاء في «به» ولا يجوز أن تكون مصدرية - عند الجمهورِ - لعود الضمير عليها، وتسلط النفي على الإنزال - لفظاً - والمقصود نفي السلطان - أي: الحجة - كأنه قيل: لا سُلطان على الإشراك فينزل. كقول الشاعر: [السريع] 1656 - ... ... ... ... ... . ... وَلاَ تَرَى الضَّبَّ بِهَا يَنْجَحِرْ أي لا ينجحر الضَّبُّ بها، فيُرَى. ومثله قول الشاعر: [الطويل] 1657 - عَلَى لاَحِبٍ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ ..... ... ... ... ... . . أي: لا منار فيهتدى به، فالمعنى على نَفْي السلطان والإنزال معاً. و «سُلْطَاناً» مفعول به لِ «يُنَزِّلُ» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 595 قوله: {بِمَآ أَشْرَكُواْ} «ما» مصدرية، والمعنى: بسبب إشراكهم باللهِ، وتقريره: أن الدعاء إنما يصير في محل الإجابة عند الاضطرار، كقوله: {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] ومن اعتقد أن لله شريكاً لم يحصل له الاضطرار؛ لأنه يقول: إذا كان هذا المعبودُ لا ينصرني، فالآخر ينصرني، وإذا لم يحصل في قلبه الاضطرارُ لم تحصل له الأجابةُ ولا النصرة وإذا لم يحصل ذلك وجب أن يحصل الرعبُ والخوفُ في قلبه فثبت أن الشركَ باللهِ يوجب الرعبَ. قوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} السُّلْطَان - هنا -: الحجة والبرهان، وفي اشتقاقه وجوهٌ: فقيل: من سليط السراج الذي يوقَد به، شُبِّه لإنارته ووضوحه. قاله الزجاجُ. وقال ابن دُرَيْدٍ: من السلاطة، وهي الحِدَّة والقَهْر. وقال الليثُ: السلطان: القدرة؛ لأن أصل بنائه من التسليط، فسلطان الملكِ: قوته وقدرته، ويسمى البرهان سُلْطَاناً، لقوته على دَفْعِ الباطِلِ. فإن قيل: إن هذا الكلامَ يوهم أنّ فيه سلطاناً إلا أنَّ اللهَ - تعالى - ما أنزله؟ فالجوابُ: أن تقدير الكلامِ أنه لو كان لأنزل الله به سلطاناً، فلما لم ينزل به سلطاناً وجب عدمه. وحاصل الكلام فيه ما يقوله المتكلمون: إن هذا لا دليلَ عليه، فلم يَجُزْ إثباتُه. وبالغ بعضهم، فقال: لا دليلَ عليه، فيجب نَفْيُه. فصل استدلوا بهذه الآية على فساد التقليد؛ لأن الآيةَ دلَّت على أنَّ الشِّركَ لا دليلَ عليه، فوجب أن يكونَ القولُ به باطلاً، فكذلك كل قولٍ لا دليلَ عليه. وقوله: {وَمَأْوَاهُمُ النار} بين تعالى أنَّ أحوالَ المشركين في الدنيا هو وقوع الخوفِ في قلوبِهِم وأحوالهم في الآخرة هي أن مأواهم: مسكنهم النار. قوله: {وَبِئْسَ مثوى الظالمين} المخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ، أي: مثواهم، أو النار. المثوى: مَفْعَل، من ثَوَيْتُ - أي: أقمت - فلامه ياء وقدم المأوى - وهو المكان الذي يأوي إليه الإنسان - على المَثْوَى - وهو مكان الإقامةِ - لأن الترتيبَ الوجوديَّ أن يأوي، ثم يئوي، ولا يلزم المأوى الإقامة، بخلاف عكسه. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 596 صَدَقَ يتعدى لاثنين، أحدهما بنفسه، والآخر بالحرفِ، وقد يُحْذَف، كهذه الآية. والتقدير: صدقكم في وعده، كقولهم: صَدقتُه في الحديث وصدقته الحديث و {إِذْ تَحُسُّونَهُمْ} معمول لِ «صَدَقَكُمْ» أي: صدقكم في ذلك الوقتِ، وهو وقتُ حَسِّهِم، أي: قَتْلهم. وأجاز أبو البقاء أن يكون معمولاً للوعد في قوله: «وَعْدَه» - وفيه نظرٌ؛ لأن الوعد متقدِّمٌ على هذا الوقت. يقال: حَسَسْتُه، أحَسُّه، وقرأ عُبَيْد بن عُمَير: تُحِسُّونَهُم - رباعياً - أي: أذهبتم حِسَّهم بالقتل. قال أبو عبيدةَ، والزَّجَّاجُ: الحَسُّ: الاستئصال بالقَتْل. قال الشاعر: [الطويل] 1658 - حَسَنَاهُمُ بِالسَّيْفِ حَسًّا فأصْبَحَتْ ... بَقِيَّتُهُمْ قَدْ شُرِّدُوا وَتَبَدَّدُوا وقال جرير: [الوافر] 1659 - تَحُسُّهُمُ السُّيُوفُ كَمَا تَسَامَى ... حَرِيقُ النَّارِ فِي الأجَم الْحَصِيدِ ويقال: جراد محسوس - إذ قتله البردُ - والبرد محسة للنبت: - أي: محرقة له، ذاهبته. وسنة حَسُوسٌ: أي: جدبة، تأكل كلَّ شيءٍ. قال رؤية: [الرجز] 1660 - إذَا شَكَوْنَا سَنَةً حَسُوسَا ... تَأكُلُ بَعْدَ الأخْضَرِ الْيَبِيسَا وأصله من الحِسّ - الذي هو الإدراك بالحاسة -. قال أبو عبيدٍ: الحَسُّ: الاستئصال بالقتل واشتقاقه من الحِسّ، حَسَّه - إذا قتله - لأنه يُبْطل حِسَّه بالقتل، كما يقال: بَطَنَهُ - إذا أصاب بطنه، وَرَأسَهُ، إذا أصاب رأسه. و «بإذْنِهِ» متعلق بمحذوف؛ لأنه حالٌ من فاعل «تَحُسُّونَهُمْ» ، أي: تقتلونهم مأذوناً لكم في ذلك. قال القرطبيُّ: «ومعنى قوله:» بإذْنه «أي: بعلمه، أو بقضائه وأمره» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 597 فصل وجه النظم: قال محمدُ بن كَعْب القُرَظيّ: لما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابُه إلى المدينة من أحدٍ - وقد أصابهم ما أصابهم - قال ناسٌ من أصحابه: من أين أصابنا هذا، وقد وعدنا اللهُ بالنصرِ؟ فأنزلَ اللهُ هذه الآية؛ لأنَّ النصرَ كان للمسلمين في الابتداءِ. وقيل: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى في المنام أنه يذبح كَبْشاً، فَصَدَقَ اللهُ رُؤيَاهُ بِقَتْلِ طَلْحَةَ بن عثمان - صاحب لواء المشركين يوم أُحُدٍ - وقُتِل بعده تسعةُ نفر على اللواء، فذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} يريد: تصديق الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: يجوز أن يكون هذا الوعد ما ذكره في قوله تعالى: {إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ} [آل عمران: 125] إلا أن هذا مشروطاً بشرط الصبرِ والتقوى. وقيل: يجوز أن يكون هذا الوعد هو قوله: {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} [آل عمران: 151] . وقيل: الوعد هو قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للرُّماة: لا تبرحوا عن هذا المكانَ؛ فإنا لا نزال غالبين ما دُمْتم في هذا المكان. قال أبو مسلم: لما وعَدهم اللهُ - تعالى - في الآية المتقدمة - بإلقاء الرعب في قلوب الكفارِ، أكد ذلك بأن ذكرهم ما أنجزهم من الوعدِ بالصبر في واقعة أُحُدٍ، فإنه لما وعدهم بالنصر - بشرط أن يتقوا ويصبروا فحين أتَوْا بذلك الشرطِ، وفى الله تعالى لهم بالمشروطِ. فصل وقد تقدم في قصة أُحُد - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جعل أُحُداً خَلْفَ ظَهْره، واستقبل المدينة، وأقام الرماةَ عند الجبلِ، وأمرهم أن يثبتوا هناك، ولا يبرحوا - سواء كانت النُّصْرَة للمسلمين أو عليهم - فلما أقبل المشركونَ جعل الرُّمَاة يَرْشُقُون خيلها، والباقون يضربونهم بالسيوفِ، حتّى انهزموا، والمسلمون على آثارهم يحسونهم، أي: يقتلونهم قتلاً كثيراً. وقوله: {حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} في «حَتَّى» قولان: أحدهما: أنها حرف جر بمعنى «إلى» وفي متعلقها - حينئذ - ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنها متعلقة ب «تَحسُّونَهُمْ» اي: تقتلونهم إلى هذا الوقت. الثاني: أنها متعلقة ب «صَدَقَكُمْ» وهو ظاهر قول الزمخشريّ، قال: «ويجوز أن يكونَ المعنى: صدقكم اللهُ وَعْدَه إلى وقت فَشَلِكم» . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 598 الثالث: أنّها متعلقة بمحذوف، دَلَّ عليه السياقُ. قال أبو البقاء: «تقديره: دام لكم ذلك إلى وقتِ فَشَلِكُم» . القول الثاني: أنَّها حرف ابتداءٍ داخلة على الجملة الشرطية، و «إذَا» على بابها - من كونها شرطية - وفي جوابها - حينئذٍ - ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: قال الفرّاء: جوابها «وَتَنَازَعْتُمْ» وتكون الواو زائدة، كقوله: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ وَنَادَيْنَاهُ} [الصافات: 103 - 104] والمعنى ناديناه، كذا - هنا - الفشل والتنازع صار موجباً للعصيان، فكأنَّ التقدير: حتى إذا فَشِلْتُم، وتنازعتم في الأمر عصيتم. قال: ومذهب العرب إدخال الواو في جواب «حَتَّى» كقوله: {حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} {الزمر: 73] فإن قيل: قوله: {فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ} معصية، فلو جعلنا الفشل والتنازُع علةً للمعصية لزم كونُ الشيء علةً لنفسه، وذلك فاسدٌ. فالجواب: أن المراد من العصيان - هنا - خروجهم عن ذلك المكانِ، فلم يلزم تعليلُ الشيء بنفسه. ولم يَقْبَل البصريون هذا الجوابَ؛ لأن مذهَبهمْ أنه لا يجوزُ جَعْلَ الواو زائدة. قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ} و «ثم» زائدة. قال أبو علي: ويجوز أن يكون الجواب {صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} و «ثُمَّ» زائدة، والتقدير: حتى إذا فشلتم وتنازعتم وعصيتم صرفكم عنهم. وقد أنشد بعضُ النحويين في زيادتها قول الشاعر: [الطويل] 161 - أرَانِي إذَا مَا بِتُّ بِتُّ عَلَى هَوًى ... فَثُمَّ إذَا أصْبَحْتُ أصْبَحْتُ غَادِيَا وجوز الأخفشُ أن تكون زائدةً في قوله تعالى: {حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 118] وهذان القولان ضعيفانِ جداً. والثالث - وهو الصحيحُ - أنه محذوف، واختلفت عبارتهم في تقديره، فقدَّرَه ابنُ عطيةَ: انهزمتم وقدَّره الزمخشريُّ: منعكم نصرَه. وقدَّره ابو البقاء: بأن أمركم. ودلّ على ذلك قوله تعالى: {مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} [آل عمران: 152] . وقدره غيره: امتحنتم. وقيل فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، وتقديره: حتّى إذا تنازعتم في الأمر وعصيتم فشلتم. وقدَّره أبو حيان: انقسمتم إلى قسمَيْن، ويدلُّ عليه ما بعده، وهو نظيرُ قوله: {فَلَمَّا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 599 نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [لقمان: 32] قال أبو حيان: لا يقال: كيف يقالُ: انقسمتم إلى مريدِ الدُّنْيَا، وإلى مريدِ الآخرةِ فيمن فشل وتنازع وعصى؛ لأن هذه الأفعالَ لم تصدر من كُلِّهم، بل من بعضِهِمْ. واختلفوا في «إذا» - هذه - هل هي على بابها أم بمعنى «إذْ» ؟ والصحيح الأول، سواء قلنا إنها شرطية أم لا. فصل الفشلُ: هو الضعف. وقيل: الفشل: الجُبْن، وليس بصحيح؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ} [الأنفال: 46] أي: فتضعفوا، ولا يليق أن يكونَ المعنى فتجبنوا. والمراد من التنازُع اختلاف الرُّماةِ حين انهزم المشركون، فقال بعضُهم لبعض: انهزم القومُ، فما مقامنا؟ وأقبلوا على الغنيمة. وقال بعضهم: لا نتجاوز أمر رسولِ اللهِ وثبت عبد الله بن جبير في نَفَرٍ يسير من أصحابه دون العَشَرة - فلما رآهم خالد بن الوليد وعكرمةُ بن أبي جهلٍ حملوا على الرُّمَاة فقتلوهم، وأقبلوا على المسلمين، وحالت الريحُ، فصارت دبوراً بعد أن كانت صَباً، وانتقضت صفوف المسلمين، واختلطوا فجعلوا يقتتلون على غير شِعَارٍ، يَضْرِبُ بعضهم بعضاً ما يَشْعرون من الدهش، ونادى إبليسُ: إن محمداً قد قُتِل، فكان ذلك سبب هزيمة المسلمينَ. قوله: {وَعَصَيْتُمْ} يعني: أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اي خالفتم أمره بملازمة ذلك المكان {مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} من الظفر والغنيمة. فإن قيل: لِمَ قدم ذِكْرَ الفشل على التنازع والمعصية؟ فالجوابُ: أن القوم لما رأوا هزيمة الكفارِ، وطمعوا في الغنيمة، فشلوا في أنفسهم عن الثبات، طمعاً من الغنيمةِ، ثم تنازعوا - بطريق القولِ في أنَّا هل نذهب لطلب الغنيمة، أم لا؟ ثم اشتغلوا بطلب الغنيمة. فإن قيل: إنما عصى البعض بمفارقة ذلك المكانِ، فلِمَ جاء العقابُ عاماً؟ فالجوابُ: أنَّ اللفظَ - وإن كان عاماً - قد جاء المخصِّص بعده، وهو قوله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} . الجزء: 5 ¦ الصفحة: 600 قوله: {مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ} المقصودُ منه التنبيهُ على عِظَمِ المعصية؛ لأنهم لمَّا شاهدوا أن الله - تعالى - أكرمهم بإنجاز الوَعْد كان من حَقِّهم أن يمتنعوا عن المعصية. فلما أقدموا عليها، سلبهم اللهُ ذلك الإكرام، وأذاقهم وبالَ أمْرِهم. قوله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا} يعني: الذين تركوا المركز، وأقبلوا على النهبِ {وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} يعني: الذين ثبتوا مع عبد الله بن جُبَيْرٍ، حتى قُتِلوا. قال عبدُ الله بن مسعودٍ: وما شعرت أن أحداً من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يريد الدنيا، حتى كان يومُ أحدٍ، ونزلت هذه الآية. قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ} عطفٌ على ما قبله، والجملتان من قوله: {مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة} اعتراض بين المتعاطفين، وقال أبو البقاء: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ} معطوف على الفعل المحذوف. يعني الذي قدره جواباً للشرط، ولا حاجة إليه، و «لِيَبْتَلِيَكُمْ» متعلق ب «صَرَفَكُمْ» و «أن» مضمرة بعد اللام. فصل اختلفوا في تفسير هذه الآية؛ وذلك لأن صَرْفَهم عن الكفار معصية، فكيف أضافه إلى نفسه؟ فقال جمهورُ المفسّرينَ: الخيرُ والشر بإرادة اللهِ تَعَالَى وتخليقه، ومعنى هذا الصَّرْفِ أنَّ اللهَ تعالى رَدَّ المسلمينَ عن الكفارِ وألقى الهزيمةَ عليهم، وسلَّط الكفارَ عليهم. وقالت المعتزلةُ: هذا التأويل غير جائز؛ للقرآن والعقل، أم القرآنُ فقوله تعالى: {إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} [آل عمران: 155] فأضاف ما كان منهم إلى فعل الشيطان فكيف يُضيفه بعد هذا إلى نفسه؟ وأما المعقولُ فإن اللهَ تعالى عاتَبَهم على ذلك الانصراف، ولو كان ذلك بفعل اللهِ لم تَجزْ مُعَاتَبَتَهُم عليه، كما لا يجوز معاتبتهم على طُولِهِمْ وقِسَرِهم، ثم ذكروا وجوهاً من التأويل: أحدها: قال الجبائيُّ: إنَّ الرُّماةَ افترقوا فِرْقَتَيْن، فبعضهم فارق المكان لطلب الغنائم، وبعضهم بقي هناك، فالذين بَقُوا أحاط بهم العَدُوُّ، فلو استمروا هناك لقتلهم العدُوُّ من غير فائدةٍ أصْلاً، فلهذا السبب جاز لهم أن يتنحوا عن ذلك إلى موضع يتحرزون فيه عن العدو - كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين ذهب إلى الجبل في جماعة من أصحابه - ولم يكونوا عُصَاةً بذلك، فلما كان ذلك الانصراف جائزاً أضافه إلى نفسه، بمعنى أنه كان بأمره وإذنه، ثم قال: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} والمرادُ: أنه - تعالى - لما صرفهم إلى ذلك الجزء: 5 ¦ الصفحة: 601 المكانِ، وتحصَّنُوا به، أمرهم - هناك - بالجهادِ، والذَّبِّ عن بقية المسلمينَ، ولا شك أن الإقدامَ على الجهادِ بعد الانهزامِ، وبعد أن شاهدوا قَتْل أقاربهم وأحِبَّائهم من أعظم أنواع الابتلاء. فإن قيل: فعلى هذا التأويل، هؤلاء الذين صرفهم الله عن الكفار ما كانوا مُذْنِبِين، فلم قال: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} . قلنا: الآية مشتملة على ذِكْر مَنْ كان معذوراً في الانصرافِ، ومَنْ لم يكن معذوراً، أو هم الذين بدءوا بالهزيمة، فقوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} راجعٌ إلى المعذورينَ؛ لأنَّ الآية لما اشتملتْ على قسمينِ، وعلى حُكمين، رَجَعَ كلُّ حكم إلى القسم الذي يليق به، ونظيره: {ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا فِي الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} [التوبة: 40] والمرادُ الذي قال له: لا تحزن إن اللهَ مَعَنَا - وهو أبو بكر - لأنه كان خائفاً قبل هذا القولِ، فلما سَمِعَ هذا القولَ سَكَنَ، ثم قال: «وَأيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا» وعنى بذلك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دون أبي بكرٍ؛ لأنه قد جرى ذكرهما جميعاً، هذا قول الجبائي. الثاني: ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني: وهو أنَّ المرادَ من قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} أنه - تعالى - أزال ما كان في قلوب الكفارِ من الرُّعْبِ من المسلمينَ؛ عقوبةً منه على عصيانهم وفَشَلِهم، ثم قال: {لِيَبْتَلِيَكُمْ} أي: ليجعل ذلك الصَّرْف محنةً عليكم؛ لتتوبوا إلى اللهِ، وترجعوا إليه، وتستغفروه من مخالفة أمرِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومَيْلكم إلى الغنيمةِ، ثم أعلمهم أنهُ - تعالى - قد عفا عَنْهُم. الثالثُ: قال الكَعْبي: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ} بأ، لم يأمركم بمعاودتهم من فورهم {لِيَبْتَلِيَكُمْ} بكثرة الإنعام عليكم. قوله: {وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ} ظاهره يقتضي تقدُّم ذَنْب منهم. قال القاضي إنْ كان ذلك الذنبُ من الصغائر صحَّ أن يصف نفسه بأنّه عفا عنهم من غير توبة، فإن كان من الكبائرِ، فلا بد من إضمار توبتهم؛ [الإقامة] الدلالةِ على أن أصحاب الكبائر إذا لم يتوبوا لم يكونوا من أهل العفو والمغفرةِ. وأجيب بأنَّ هذا الذنبَ لا شك أنه كان كبيرة، لأنهم خالفوا صريحَ نَصَّ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وصارت تلك المخالفة سبباً لانهزام المسلمينَ، وقُتِلَ جَمْعٌ كبيرٌ من أكابرهم، ومن المعلوم أن ذلك كله من باب الكبائرِ. وأيضاً ظاهر قوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} [الأنفال: 16] يدل على كونه كبيرة، ويضعف قول من قال: إنه خاص في بَدْر؛ لأن اللفظَ عامٌّ، ولا تفاوت في المقصودِ، فكان الجزء: 5 ¦ الصفحة: 602 التخصيصُ ممتنعاً، ثم إن ظاهرَ هذه الآية يدل على أنه - تعَالَى - عفا عنهم من غير توبةٍ؛ لأنه لم يذكر التوبة، فدلَّ على أنه - تعَالَى - قد يعفو عن أصحاب الكبائرِ، ثم قال: {والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين} وهو راجعٌ إلى ما تَقَدَّمَ من ذكر النعم؛ فإنه نصرهم - أولاً - ثم عفا عنهم - ثانياً - وهذا يدل على أن صَاحِبَ الكبيرةِ مُؤمِنٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 603 العامل في «إذْ» قيل: مُضْمَر، أي: اذكروا. وقال الزمخشريُّ: «صَرَفَكُمْ» أوْ «لِيَبْتَلِيَكُمْ» . وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون ظرفاً لِ «عَصَيْتُمْ» أوْ «تَنَازَعْتُمْ» أو فَشِلْتُمْ. وقيل: هو ظرف لِ «عَفَا عَنْكُمْ» أي: عفا عنكم إذْ تُصْعِدُون هاربين. وكل هذه الوجوهِ سائغةٌ، وكونه ظرفاً لِ «صَرَفَكُمْ» جيدٌ من جهةِ المعنى، ولِ «عَفَا» جيدٌ من جهة القُرْبِ، وعلى بعض هذه الأقوالِ تكون المسألةُ من باب التنازعِ، ويكون على إعمال الأخيرِ منها، لعدم الإضمارِ في الأول، ويكون التنازعُ في أكثرِ من عاملينِ. والجمهور على {تُصْعِدُونَ} - بضم التاء وكسر العين - من: أصْعَدَ في الأرض، إذا ذهب فيها. والهمزةُ فيه للدخول، نحو أصبح زيدٌ، أي: دخل في الصباح، فالمعنى: إذ تدخلون في الصعود، ويُبيِّن ذلك قراءة أبيٍّ «تصعدون في الوادي» . وقرأ الحسنُ، والسُّلمي، وقتادةُ: «تَصْعَدُونَ» بفتح التاء والعين - من: صعد في الجبل، أي: رقي، والجمع بين القراءتين أنهم - أولاً - أصعدوا في الوادي، ثم لما هزمهم العدو - صعدوا في الجبل، وهذا على رَأى مَنْ يُفَرِّق بين صعد وأصْعد، وقرأ أبو حَيْوَةَ: «تَصَعَّدُون» بالتشديد - وأصله: تَتَصَعَّدُونَ، حذفت إحدى التاءين، إما تاء المضارعة، أو تاء «تَفَعَّل» والجمع بين قراءتِهِ وقراءة غيره كما تقدم. والجمهورُ {تُصْعِدُونَ} بتاء الخطاب، وابن مُحَيْصن - ويُرْوَى عن ابن كثيرٍ - بياء الغيبة، على الالتفاتِ، وهو حسنٌ. ويجوز أن يعودَ الضمير على المؤمنين، أي: {والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين إِذْ تُصْعِدُونَ} فالعاملُ في «إذْ» «فَضْلٍ» ويقال: أصْعَدَ: أبعد في الذهاب، قال القُتَبِيُّ أصعد: الجزء: 5 ¦ الصفحة: 603 إذا أبْعَد في الذهاب، وأمعن فيه، فكأن الإصعادَ إبعادٌ في الأرض كإبعاد الارتفاعِ. قال الشاعرُ: [الطويل] 1662 - ألاَ أيُّهَذَا السَّائِلِي، أيْنَ أصْعَدَتْ؟ ... فَإنَّ لَهَا مِنْ بَطْنِ يَثْرِبَ مِوْعِدا وقال آخرُ: [الرجز] 1663 - قَدْ كُنْتِ تَبْكِينَ عَلَى الإضعَادِ ... فَالْيَوْمَ سُرِّحْتِ، وَصَاحَ الْحَادِي وقال الفرَّاءُ وأبو حاتم: الإصعاد: في ابتداء السفر والمخارج، والصعود: مصدر صَعَدَ: رقي من سُفْلٍ إلى عُلُو، ففرَّق هؤلاء بين صَعَد وأصْعَد. وقال المفضَّلُك صعد وأصعد بمعنًى واحدٍ، والصعيد: وجْهُ الأرضِ. قال بعضُ المفسّرين: «وكلتا القراءتين صوابٌ، فقد كان يومئذ من المهزمين مُصْعِد وصاعد» . قوله: {وَلاَ تَلْوُونَ} الجمهور على {تَلْوُونَ} - بواوين - وقُرِئَ بإبدال الأولى همزة؛ كراهية اجتماع واوين، وليس بقياسٍ؛ لكون الضمة عارضة، والواو المضمومة تُبْدَل همزة بشروط تقدمت في «البقرة» . منها: ألا تكون الضمة عارضة، كهذه، وأن لا تكون مزيدة، نحو ترهوك. وألا يمكن تخفيفها، نحو سُور ونور - جمع سوار ونوار - لأنه يمكن تبكينُها فتقول: سور ونور، فيخف اللفظ بها. وألا يُدْغم فيها، نحو تعوَّذ - مصدر تعوذ. ومعنى {وَلاَ تَلْوُونَ} ولا ترجعون، يقال: لَوَى به: ذهب به، ولَوَى عليه: عطف. قَالَ الشاعرُ: [الطويل] 1664 - ... ... ... ... ... ... . ... أخُو الْجَهْدِ لا يَلْوِي عَلَى مَنْ تَعَذَّرَا وأصله أن المعرِّجَ على الشيءِ يلوي عليه عنقه، أو عنان دابته، فإذا مضى - ولم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 604 يعرِّج - قيل: لن يلوي، ثم استعمل في ترك التعريجِ على الشيء وترك الالتفاتِ إليه، يقال: فلانٌ لا يلوي على كذا أي: لا يلتف إليه، وأصل {تَلْوُونَ} تلويون، فَأعِلَّ بحذفِ اللام، وقد تقدم في قوله: {يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ} [آل عمران: 78] وقرأ الأعمشُ، وأبو بكر بنُ عَيَّاشٍ - ورويت عن عاصم «تُلوون» بضم التاء - من ألوى وهي لغةٌ في لوى. وقرأ الحسن «تَلُون» بضم التاء - من ألوى وهي لغةٌ في لوى. وقرأ الحسن «تَلُون» - بواو واحدة - وخرجوها على أنه أبدل الواو همزةً، ثم نقل حركة الهمزة على اللام، ثم حذف الهمزة، على القاعدة، فلم يبق من الكلمة إلا الفاء - وهي اللام - وقال ابنُ عطيةَ: «وحذفت إحدى الواوين للساكنين، وكان قد تقدم أن هذه القراءة هي قراءة مركبةٌ على لغة من يهمز الواوَ، وينقل الحركة» . وهذا عجيبٌ، بعد أن يجعلها من باب نقل حركةِ الهمزةِ، كيف يعودُ ويقول: حذفت إحدى الواوين للساكنين؟ ويُمكن تخريجُ هذه القراءة على وجعين آخرينِ: أحدهما: أن يقالَ: استُثقلت الضمةُ على الواو؛ لأنها أختها، فكأنه اجتمع ثلاثُ واواتٍ، فنُقِلت الضمةُ إلى اللامِ، فالتقى ساكنانِ - الواو التي هي عينُ الكلمةِ، والواو التي هي ضميرٌ - فحُذفت الأولى؛ لالتقاء الساكنين، ولو قال ابن عطيةَ هكذا لكان أولى. الثاني: أن يكون «تَلُونَ» مضارع وَلِي - من الولاية - وإنما عُدِّي ب «على» لأنه ضُمِّن معنى العطف. وقرأ حُميد بن قيس: «على أُحُدٍ» - بضمتين - يريد الجَبَل، والمعنى: ولا تلوون على مَنْ فِي جبل أُحُد، وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال ابن عطية: والقراءة الشهيرة أقْوى؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكن على الجبل إلا بعدما فَرَّ الناسُ عنه، وهذه الحالُ - من إصعادهم - إنما كانت وهو يدعوهم. ومعنى الآيةِ: تعرجون، ولا يلتفت بعضٌ إلى بعضٍ. قوله: «والرسول يدعوكم» ، مبتدأ وخبر في محل نصب على الحالِ، العامل فيها «تلوون» . أي: والرسول يدعوكم في أخراكم ومن ورائكم، يقول: «إليَّ عِبَاد َالله؛ فأنا رسولُ اللهِ، من يكر فله الجنَّةُ» . ويحتمل أنه كان يدعوكم إلى نفسه، حتى تجتمعوا عنده، ولا تتفرقوا. و «أخراهم» آخر الناس كما يقال في أولهم، ويقال: جاء فلانٌ في أخريات الناس. قوله: {فَأَثَابَكُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أنه معطوف على «تصعدون» و «تلوون» ، ولا يضر كونهما مضارعين؛ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 605 لأنهما ماضيان في المعنى؛ لأن «إذ» المضافة إليهما صيرتهما ماضيين، فكأن المعنى إذا صعدتم، وألويتم. الثاني: أنه معطوفٌ على «صرفكم» . قال الزمخشريُّ {فَأَثَابَكُمْ} عطف على صرفكم، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان: أحدهما: أنه الباري تعالى. والثاني: أنه معطوف على «صرفكم» . قال الزمخشريُّ {فَأَثَابَكُمْ} عطف على صرفكم، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفصل وفي فاعله قولان: أحدهما: أنه الباري تعالى. والثاني: أنه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: ويجوز أن يكون الضمير في {فَأَثَابَكُمْ} للرسول أي: فآساكم من الاغتمام، وكما غمكم ما نزل به من كسر رباعيته غمه ما نزل بكم من فوت الغنيمة. و «غماً» مفعول ثانٍ. وقوله: {فَأَثَابَكُمْ} هل هو حقيقة أو مجاز فقيل: مجاز كأنه جعل الغم قائماً مقام الثواب الَّذِي كان يحصل لولا الفرارُ فهو كقوله: [الطويل] 1665 - أخَافُ زِيَاداً أنْ يَكُونَ عَطَاؤُهُ ... أدَاهِم سُوداً أوْ مُحَدْرَجَة سُمْرَا وقول الآخر: 1666 - تحية بينهم ضرب وجميع ... جعل القيود والسياط بمنزلة العطاء، والضرب بمنزلة التحية. وقال الفرّاءُ: «الإثابة - هاهنا - بمعنى المعاقبة» وهو يرجع إلى المجاز؛ لأن الإثابة أصلها في الحسنات. قوله: {بِغَمٍّ} يجوز في الباء أوجهٌ: أحدها: أن تكون للسببيةِ، على معنى أن متعلِّق الغَمْ الأول الصحابة، ومتعلق الغَمِّ الثاني قيل المشركين يوم بدرٍ. قال الحَسَنُ: يريد غَم يوم أحدٍ للمسلمين بغمّ يوم بدرٍ للمشركينَ، والمعنى: فأثابكم غماً بالغم الذي أوقعه على أيديكم بالكفار يوم بدرٍ. وقيل متعلَّق الغَمِّ الرسول، والمعنى: أذاقكم الله غمًّا بسبب الغَمِّ الذي أدخلتموه على الرسول والمؤمنين بفشلكم ومخالفتكم أمره، أو فأثابكم الرسول غماً بسبب غفم اغتممتموه لأجله، والمعنى أن الصحابة لما رأوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شُجَّ وكُسِرت رَبَاعِيَتُه، وقُتِل عَمه، اغتممتموه لأجله، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما رآهم قَد عَصَوْا رَبَّهُم لأجل الغنيمة - ثم الجزء: 5 ¦ الصفحة: 606 بَقَوْا محرومينَ من الغنيمةِ - وقتِلَ أقاربُهم، اغتم لأجلهم. الثاني: أن تكون الباء للمصاحبة، أي: غماً مصاحِباً لغم، ويكون الغمَّان للصحابة، بمعنى غَمًّا مع غم أو غماً على غم، فالغم الأولُ: الهزيمة والقتل، والثاني إشراف خالد بخيل الكفار، أو بإرجافهم: قتل الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعلى الأول تتعلق الباء ب {فَأَثَابَكُمْ} . قال أبو البقاء وقيل: المعنى بسبب غم، فيكون مفعولاً به. وعلى الثاني يتعلقُ بمحذوفٍ؛ لأنه صفة لِ «غَمّ» أي: غماً مصاحباً لغم، أو ملتبساً بغَمٍّ، وأجاز أبو البقاء أن تكون الباءُ بمعنى «بعد» أو بمعنى «بدل» وجعلها - في هذين الوجهين - صفة ل «غماً» . وكونها بمعنى «بعد» و «بدل» بعيدٌ، وكأنه يريدُ تفسير المعنى، وكذا قَالَ الزمخشريُّ غماً بَعْدَ غَمٍّ. واعلم أن الغموم هناك كانت كثيرة: أولاً: غَمُّهم بما نالهم من العدوِّ في الأنفس والأموال. ثانياً: غمُّهم بما لَحِق المسلمين من ذلك. ثالثاً: غمُّهم بما وصل إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. رابعاً: غمُّهم بما وقع منهم من المعصية وخوف عقابها. خامساً: غمُّهم بسبب التوبة التي صارت واجبةً عليهم؛ لأنهم إذا تابوا عن تلك المعصية لم تتم توبتهم إلا بتركِ الهزيمةِ والعَوْدِ إلى المحاربة بعد الانهزامِ، وذلك من أشق الأشياء؛ لأن الإنسانَ بعد انهزامه - يَضعُف قلبُه ويجبن، فإذا أمِرَ بالمعاودةِ، فإن فعل خاف القتلَ، وإنْ لم يفعلُ خافَ الكُفْرَ وعِقَابَ الآخِرَةِ - وهذا الغَمُّ أعظمها. سادسها: غمُّهم حين سمعوا أن محمداً قُتِلَ. سابعها: غمُّهم حين أشرف خالد بن الوليد عليهم بخَيْل المشركين. ثامنها: غمُّهم حين أشرف أبو سفيان، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ انطلق يومئذٍ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 607 يدعو الناسَ حتى انتهى إلى أصحاب الصخرةِ، فلما رَأوْهُ وضع رجلٌ سَهْماً في قوسه، وأراد أن يَرْمِيَه، فقال: أنا رسولُ اللهِ، ففرحوا حين وجدوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفرح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين رأى مَنْ يمتنع به، فأقبلوا على المشركين، يذكرون الفتح وما فاتهم منه، ويذكرون أصحابهم الذين قُتِلوا، فأقبل أبو سفيان وأصحابه، حتى وقفوا بباب الشِّعْب، فلما نظر المسلمون إليهم همَّهم ذلك، وظنوا أنهم يميلون عليهم، فيقتلونهم، فأنساهم هذا ما نالهم، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس لهم أن يَعْلونا، اللهم إن تُقْتَل هذه العصابةُ لا تُعْبَد في الأرض، ثم بدأ أصحابه، فرمَوْهم بالحجارة حتَّى أنزلوهم. وإذا عرفت هذا فكلُّ واحدٍ من المفسّرين فسَّر هذين الغمين بغمين من هذه الغموم وقال القفّال: وعندنا أن الله - تعالى - ما أراد بقوله: {غُمّاً بِغَمٍّ} اثنين، وإنما أراد مواصلة الغموم وطولها، أي: أن اللهَ عاقبكم بغموم كثيرة، مثل قتل إخوانكم وأقاربكم، ونزول المشركين من فوق الجبلِ عليكم، بحيث لم تأمنوا أن يهلك أكثركم، ومثل إقدامكم على المعصيةِ، فكأنه - تعالى - قال: أثابكم هذه الغمومَ المتعاقبةَ؛ ليصير ذلك زاجراً لكم عن الإقدام على المعصية، والاشتغال بما يخالف أمرَ الله تعالى. والغَمّ: التغطية، يقال: يوم غَمٌّ، وليلة غَمَّةٌ - إذا كانا مُظْلِمَيْن - ومنه: غُمَّ الهلال - إذا لَمْ يُرَ، وغَمَّ الأمرُ، يَغْمَى - إذا لم يُتَبَيَّنُ. قوله: {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ} هذه لام «كي» وهي لام جرٍّ، والنصب - هنا - ب «كي» لئلاَّ يلزم دخول حرفِ جرٍّ على مثله، وفي متعلَّق هذه اللام قولانِ: أحدهما: أنه {فَأَثَابَكُمْ} وفي «لا» على هذا وجهانِ: الأول: أنها زائدةٌ؛ لأنه لا يترتب على الاغتمام انتفاء الحُزْن، والمعنى: أنه غمهم ليُحْزِنهم؛ عقوبةً لهم على تركهم مواقفهم، قاله أبو البقاء. الثاني: أنها ليست زائدة، فقال الزمخشريُّ: معنى {لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ} لتتمرَّنوا على تجرُّع الغمومِ، وتتضرروا باحتمال الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعدُ على فائتٍ من المنافع، ولا على مُصِيبٍ من المضارّ. وقال ابن عطية: «المعنى: لتعلَمُوا أن ما وقع بكم إنما هو بجنايتكم، فأنتم ورَّطتم أنفسكم، وعادة البشر أن جاني الذنب يصبر للعقوبة، وأكثر قلق المعاقب وحزنه إذا ظن البراءة من نفسه» . ثانيهما: أن اللام تتعلق ب «عَفَا» لأن عَفْوه يُذْهِب كُلَّ حُزْن، وفيه بُعْدٌ؛ لطول الفَصْلِ. ثم قال: {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي: عالم بجميع أعمالكم وقصودكم ودواعيكم، قادرٌ على مجازاتها، وهذا زَجْرٌ للبُعْدِ عَنِ الإقْدَامِ عَلَى الْمَعْصِيَةِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 608 الأول: أنها مفعول «أنْزَلَ» . الثاني: أها حال من «نُعَاساً» لأنها في الأصل - صفةٌ، فلما قُدِّمَتْ نُصِبت حالاً. الثالث: أنها مفعولٌ من أجْله، وهو فاسدٌ؛ لاختلال شَرْطِهِ - وهو اتحادُ الفاعلِ - فإنّ فاعل «أنْزَلَ» غير فاعلِ الأمَنَةِ. الرابع: أنه حالٌ من المخاطبين في «عَلَيْكُمْ» وفيه حينئذٍ - تأويلانِ: إما على حَذْف مضافٍ - اي ذور أمَنَةٍ - وإما أن يكون «أمَنَةً» جمع آمن، نحو بار وبَرَرَة، وكافر وكَفَرَة. وألأما «نُعَاساً» فإن أعْرَبْنا «أمَنَةً» مفعولاً به كان بدلاً، وهو بدل اشتمالٍ؛ لأن كُلاًّ من الأمَنَةِ والنُّعَاسِ يشتملُ على الآخر، أو عطف بيان عند غير الجمهورِ؛ فإنهم لا يشترطون جريانه في المعارِفِ، أو مفعولاً من أجلِهِ، وهو فاسدٌ؛ لما تقدم وإن أعربنا «أمَنَةً» حالاً، كان «نُعَاساً» مفعولاً ب «أنزَلَ» و «أنْزَلَ» عطف على «فأثَابَكُمْ» وفاعله ضمير اللهِ تَعَالى، و «أل» في «الْغَمِّ» للعهد؛ لتقدُّم ذِكْره ورد أبو حيان على الزمخشريِّ كون «أمَنَةً» مفعولاً به بما تقدم، وفيه نظرٌ، فإن الزمخشريَّ قال أو مفعولاً له بمعنى نعستم أمنة. فقدر له عاملاً يتحد فاعله مع فاعل «أمَنَةً» فكأنه استشعر السؤال، فلذلك قدرَ عاملاً على أنه قد يُقال: إن الأمَنَةَ من اللهِ تَعَالَى، بمعنى أنهُ أوقعها بهم، كأنه قيل: أنزلَ عليكم النعاس ليُؤمِّنَكُمْ به. و «أمَنَةً» كما يكون مصدراً لمن وقع به الأمن يكون مصدراً لمن أُوقِع به. وقرأ لجمهور: أمَنَةً - بفتح الميم - إما مصدراً بمعنى الأمن، أو جمع آمن، على ما تقدم تفصيله. والنَّخَعِيُّ وابن محيصن - بسكون الميم وهو مصدرٌ فقط، والأمْن والأمَنة بمعنًى واحدٍ، وقيل الأمْنُ يكون مع زوالِ سببِ الخَوفِ، والأمَنة مع بقاء سببِ الخوفِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 609 فصل في بيان كيفية النظم في كيفية النَّظْمِ وَجْهَانِ: أحدهما: أنه لما وعد المؤمنين بالنصر، فالنصر لا بدّ وأن يُسبق بإزالة الخوف عنهم؛ ليصير ذلك كالدلالة على أنه تعالى منجزٌ وَعْدَهُ في نَصْر المؤمنينَ. الثاني: أنه - تعالى - بيَّن نَصْرَ المؤمنين - أولاً - فلما عصى بعضهم سلط عليهم الخوفَ. ثم ذكر أنه أزال ذلك الخوف عن قلوب مَنْ كان صادقاً في إيمانه، مستقِرًّا على دينه بحيث غلب النعاس عنه. واعلم أن الذين كانُوا مع رسولِ الله يوم أُحُدٍ فريقانِ: أحدهما: الجازمونَ بنبوَّة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهؤلاء كانوا قاطعينَ بأنَّ اللهَ يَنْصُرُ هذا الدينَ، وأن هذه الواقعةَ لا تؤدي إلى الاستئصالِ، فلا جَرَمَ كانوا مؤمنين، وبلغ ذلك الأمن إلى حيثُ غشيَهم النُّعَاسُ فإن النوم لا يجيء مع الخوفِ، فقال - هاهنا - في قصة أُحُدٍ: {ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً} وقال في قصة بدرٍ: {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ} [الأنفال: 11] . وأما الفريقُ الثاّنِي فهم المنافقونَ، فكانوا شاكِّين في نبوتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما حضروا إلا لطلب الغنيمةِ، فهؤلاء اشتد جزعُهُمْ، وعظم خوفُهُمْ. فإن قيلك لم قدم ذكر الأمَنَة على النُّعَاسِ في قصة أُحُدٍ، وأخرها في قصة بدرٍ؟ فالجوابُ: أنه لما وعدهم بالنصر، فالأمن وزوال الخوف إشارةٌ ودليلٌ على إنجاز الوَعْدِ. قوله: {يغشى} قراءة حمزة والكسائي بالتاء من فوق، والباقون بالباء؛ ردًّا إلى النُّعَاسِ، وخرَّجوا قراءة حمزة والكسائي على أنها صفة ل «امَنَةً» ؛ مراعاة لها، ولا بُدّ من تفصيل، وهو إن أعربوا «نُعَاساً» بدلاً، أو عَطْفَ بيانٍ، أشكل قولهم من وَجْهَيْن: الأول: أن النُّحاة نَصُّوا على أنه إذا اجتمع الصفةُ والبدلُ أو عَطْفُ البيانِ، قدِّمت الصفة، وأخر غيرها، وهنا قد قدَّموا البدلَ، أو عطف البيانِ عليها. الثاني: أن المعروفَ في لغة العرب أن يُحَدَّث عن البدل، لا عن المبدَل منه، تقول: هِنْد حُسْنُها فاتِنٌ، ولا يجوز فاتنة - إلا قليلاً - فَجَعْلُهم «نُعَاساً» بدلاً من «أمَنَةً» يضعف لهذا. فإن قيل: قد جاء مراعاة المبدَل منه في قول الشاعر: [الكامل] الجزء: 5 ¦ الصفحة: 610 1667 - وَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّرِاةِ كَأَنَّهُ ... مَا حَاجِبَيْنهِ مُعَيَّنٌ بِسَوَادِ فقال: «مُعَيَّنٌ» ؛ مراعة للهاء في «كأنه» ولم يُرَاعِ البدل - حاجبيه - ومثله قول الآخر: [الكامل] 1668 - إنَّ السُّيُوفَ غُدُوَّها وَرَواحَهَا ... تَرَكَتْ هَوَازِنَ مِثْلَ قَرْنِ الأعضَبِ فقال: تركت؛ مراعاة للسيوف، ولو راعَى البدل لقال: تركا. فالجوابُ: أنَّ هذا - وإن كان قد قَالَ به بعضُ النحويينَ؛ مستنداً إلى هذين البيتين - مُؤوَّلٌ بأن «معين» خبر لِ «حاجبيه» لجريانهما مَجْرَى الشيء الواحدِ في كلام الْعَرَبِ، وأنَّ نصب «غُدُوَّهَا وَرَوَاحَهَا» على الظرف، لا على البدل. وقد تقدم شيء من هذا عند قوله: {عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ} [البقرة: 102] . وإن اعربوا «نُعَاساً» مفعولاً به و «أمَنَةً» حالٌ يلزم الفصل - أيضاً - وفي جوازه نظر، والأحسنُ - حينئذٍ - أن تكون هذه جملة استئنافية جواباً لسؤال مقدَّر، كأنه قيل: ما حكم هذه الأمَنَة؟ فأخبر بقوله: «تغشى» . ومن قرأ بالياء أعاد الضمير على «نُعَاساً» وتكون الجملة صفة له، و «مِنْكُمْ» متعلق بمحذوف، صفة لِ «طَائِفَةً» . فصل قال أبو طلحة: غشينا النعاس ونحن في مصافِّنا يوم أُحُدٍ، فكان السيفُ يسقط من أحَدِنا فيأخذه، ثم يسقط فيأخذه، وقال ثابتٌ: عن أنسٍ عن أبي طلحةَ قال: رفعت رأسي يومَ أُحُدٍ، فجعلت ما أرى أحداً من القوم إلا وهو يميل تحت جحفته من النُّعاس. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 611 وقال الزبيرُ: كنت مع رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين اشتدَّ الخوفُ، فأنزلَ اللهُ علينا النومَ، واللهِ إنِّ لأسمع قول مُعَتِّب بن قُشَيْر - ما أسمعه إلاّ كالحلم - يقول: «لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمْرِ شيءٌ مَا قُتِلْنَا هَهُنَا» . فصل قال ابنُ مسعودٍ: النُّعَاسُ في القتال أمنة، والنعاس في الصلاة من الشَّيْطَانِ، وذلك أنه في القتال لا يكون إلا من الوثوق باللهِ، والفراغ عن الدنيا، ولا يكون في الصَّلاة إلا من غاية البعد عن اللهِ تعَالَى. واعلم أنّ ذلك النعاسَ فيه فوائدٌ: الأولى: أنه وَقَعَ على كافة المؤمنين - لا على الحد المعتاد - فكان معجزة ظاهرة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا شكَّ أن المؤمنين متى شاهدوا تلك المعجزةَ الجديدة ازدادوا إيماناً مع إيمانهم، ومتى صاروا كذلك ازداد أحدهم في محاربة العدو. الثانية: أن الأرق والسهر يوجبان الضعف والكلال، والنوم يفيد عود القوةِ والنشاطِ، واشتدادَ القوةِ والقدرةِ. الثالثة: أنَّ الكفارَ لما اشتغلوا بقَتْل المسلمين ألقى اللهُ النومَ على عين من بقي منهم؛ لئلاّ يشاهدوا قتل أعزتهم فيشتد الخوفُ والجُبْنُ في قلوبِهمْ. الرابعةُ: أن الأعداءَ كانوا في غاية الحرصِ على قتلهم، فبقاؤهم ف يالنوم مع السَّلامةِ في مثل تلك المعركةِ - من أدلِّ الدَّلائِلِ على أنَّ حِفْظ اللهِ وعصمته معهم، وذلك مما يُزِيل الخوفَ عن قلوبهم، ويورثهم مزيدَ الوثوق بوعد الله تعالى. قوله: {وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} في هذه الواو ثلاثة أوجهٍ: الأول: أنها واو الحالِ، وما بعدها في محل نَصْبٍ على الحال، والعامل فيها «يَغْشَى» . الثاني: أنها واو الاستئناف، وهي التي عبر عناه مَكيٌّ بواو الابتداء. الثالث: أنها بمعنى «إذْ» ذكره مَكي، وأبو البقاءِ، وهو ضعيفٌ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 612 و «طائفة» مبتدأ، والخبر {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} وجاز الابتداء بالنكرة لأحدِ شيئين: إما للاعتمادِ على واو الحالِ، وقد عده بعضهم مسوغاً - وإن كان الأكثرُ لم يذكره -. وأنشدوا: [الطويل] 1669 - سَرَيْنَا وَنَجْمٌ قَدْ أضَاءَ فَمُذْ بَدَا ... مُحَيَّاكِ أخْفَى ضَوْءهُ كُلَّ شَارِقِ وإما لأن الموضعَ تفسيلٌ؛ فإن المعنى: يغشى طائفةً، وطائفة لم يغشهم. فهو كقوله: 1670 - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَولِ ولو قُرِئ بنصب «طَائِفَة» - على أن تكون المسألةُ من باب الاشتغالِ - لم يكن ممتنعاً إلا من جهة النقلِ؛ فإنه لم يُحْفظ قراءة، وفي خبر هذا المبتدأ أربعة أوجهٍ: أحدها: أنه {أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} كما تقدم. الثاني: أنه «يَظُنُّونَ» والجملة قبله صفة لِ «طَائِفَة» . الثالث: أنه محذوفٌ، أي: ومنكم طائفة وهذا يُقَوِّي أنَّ معناه التفصيل، والجملتان صفة لِ «طَائِفَةٌ» أو يكون «يَظُنُّونَ» حالاً من مفعول «أهَمَّتْهُمْ» أو من «طَائِفَةٌ» لتخصُّصه بالوَصْف، أو خبراً بعد خبر إن قلنا: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} خر أول. وفيه من الخلاف ما تقدم. الرابع: أن الخبر {يَقُولُونَ} والجملتان قبله على ما تقدّم من كونهما صفتين، أو خبرين، أو إحداهما خبر، والأخْرَى حالٌ. ويجوز أن يكون {يَقُولُونَ} صفة أو حالاً - أيضاً - إن قلنا: إن الخبرَ هو الجملة التي قبله، أو قلنا: إن الخبر مُضْمَرٌ. قوله: {يَظُنُّونَ} له مفعولان، فقال أبو البقاءِ: {غَيْرَ الحق} المفعولُ الأولُ، أي أمراً غير الحق، و «باللهِ» هو المفعول الثاني. وقال الزمخشريُّ: {غَيْرَ الحق} في حكم المصدر، ومعناه: يظنون باللهِ غير الظن الحق الذي يجب أي يُظَنَّ به. و {ظَنَّ الجاهلية} بدل منه. ويجوز أن يكون المعنى: يظنون بالله ظن الجاهلية و {غَيْرَ الحق} تأكيداً لِ {يَظُنُّونَ} كقولك: هذا القول غير ما يقول. فعلى ما قال لا يتعدى «ظن» إلى مفعولين، بل تكون الباء ظرفية، كقولك: ظننت الجزء: 5 ¦ الصفحة: 613 بزيد، أي: جعلته مكان ظني، وعلى هذا المعنى حمل النحويون قولَ الشاعر: [الطويل] 1671 - فَقُلْتُ لَهُمْ: ظُنُّوا بِألْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ فِي الْفَارِسِيِّ الْمُسَرَّدِ أي قلتُ لهم: اجعلوا ظنكم في الفي مُدَجَّجٍ. ويحصل في نصب {غَيْرَ الحق} وجهان: أحدهما: أنه مفعول أول لِ «يَظُنُّونَ» . والثاني: أنه مصدرٌ مؤكِّدٌ للجملة التي قبله بالمعنيين اللذين ذكرهما الزمخشريُّ. وفي نصب {ظَنَّ الجاهلية} وجهان - أيضاً -: البدل من {غَيْرَ الحق} أو أنه مصدر مؤكِّد لِ {يَظُنُّونَ} . و «بالله» إما متعلِّق بمحذوف على جَعله مفعولاً ثانياً، وإما بفعل الظنِّ - على ما تقدم - وإضافة الظنِّ إلى الجاهلية، قال الزمخشريُّ: «كقولك: حاتم الجود، ورجل صدقٍ، يريد: الظنَّ المختص بالملة الجاهلية، ويجوز أن يراد ظن أهل الجاهلية» . وقال غيره: المعنى: المدة الجاهلية، أي: القديمة قبل الإسلامِ، نحو {حَمِيَّةَ الجاهلية} [الفتح: 26] فصل هؤلاء هم المنافقونَ - عبد الله بن أبيٍّ، ومُعَتب بن قُشَيْرٍ، وأصحابهما - كان همتهم خلاص أنفسهم، يقال: همني الشيء - إذا كان من همي وقصدي - وذلك أن الإنسان إذا اشتدَّ انشغاله بالشيء صار غافلاً عما سواه، فلما كان أحَبُّ الأشياء إلى الإنسان نفسَه، فعند الخوفِ على النفس يصير ذاهلاً عن كل ما سواها، فهذا هو المرادُ من قوله: {أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ} ، وفي هذا الظنِّ احتمالانِ: أحدهما - وهو الأظهرُ -: أنهم كانوا يقولون في أنفسهم: لو كان محمدٌ مُحِقًّا في دعواه لما سُلِّطَ الكفار عليه - وهذا ظنٌّ فاسدٌ، أما على قول أهلِ السُّنَّةِ فلأنه - تعالى - يفعل ما يشاءُ، ويحكمُ ما يريدُ، لا اعتراض عليه. وأما على قول من يعتبر المصالح في أفعال اللهِ وأحكامِهِ، فلا يبعد أن يكون للهِ حكمٌ خفيَّةٌ، وألطافٌ مَرْعِيَّةٌ في تخلية الكافر بحيثُ يقهر المسلم، فإنَّ الدنيا دارُ امتحانٍ وابتلاء، ووجوه المصالحِ مستورةٌ عن العقول. قال القفال: لو كان كون المؤمنِ محقاً يوجب زوال هذه المعاني لوجب أن يضطر الناسُ إلى معرفة كون المُحِقّ مُحِقًّا، وذلك ينافي التكليفَ، واستحقاق الثوابِ والعقابِ، والمُحِقُّ إنما يُعْرَف بما معه من الدَّلائل والبيِّنات، فأمّا القَهْرُ فقد يكونُ من المُبْطِل للمحقِّ ومن المحِقِّ للمُبْطِلِ. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 614 الاحتمالُ الثاني: أن ذلكَ الظنَّ هو أنهم كانوا يُنكِرون إلَه الْعَالَمِ، وينكرون النبوةَ والبعثَ - فلا جَرَمَ - ما وثقوا بقول النبيِّ صلى الله عليه وسفم في أنَّ اللهَ تعَالى يُقَوِّيهم وَيَنْصُرُهُمْ. وقيل: ظنوا أن محمداً قد قُتِل. و {ظَنَّ الجاهلية} بدل من قوله: {غَيْرَ الحق} وفائدة هذا الترتيب أنَّ غَيْرَ الحقِّ أديانٌ كثيرةٌ، وأقبحُهَا مقالة أهل الجاهلية، فذكر أنهم يظنون بالله غير الحق ثم بيَّن أنهم اختاروا من أقسامِ الأديانِ التي هي غيرُ حَقَّةٍ أقبحها وأكثرها بطلاناً، وهو ظنُّ أهل الجاهلية. قوله: {يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} «من» - في {مِن شَيْءٍ} - زائدة في المبتدأ، وفي الخبر وجهانِ: أحدهما - وهو الأصحُّ -: أنه «لَنَا» فيكون {مِنَ الأمر} في محل نصبٍ على الحالِ من «شَيءٍ» لأنه نعتُ نكرة، قدم عليها، فنصب حالاً، وتعلق بمحذوفٍ. الثاني: - أجازه أبو البقاء - أن يكون {مِنَ الأمر} هو الخبر، و «لنا» تبيين، وبه تتم الفائدةُ كقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] . وهذا ليس بشيء؛ لأنه إذا جعله للتبيين فحينئذٍ يتعلق بمحذوفٍ، وإذا كان كذلك فيصير «لَنَا» من جملة أخرى، فتبقى الجملةُ من المبتدأ والخبر غير مستقلةٍ بالفائدةِ، وليس نظيراً لقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} فإن «لَهُ» فيها متعلق بنفس «كُفُواً» لا بمحذوفٍ، وهو نظيرُ قولكَ: لم يكن أحدٌ قاتلاً لبكرٍ. ف «لبكر» متعلق بنفس الخبر. وهل هنا الاستفهام عن حقيقته، أم لا؟ فيه وجهانِ: أظهرهما: نَعَمْ، ويعنون بالأمر: النصر والغلبة. والثاني: أنه بمعنى النفي، كأنهم قالوا: ليس لنا من الأمر - أي النصر - شيء، وإليه ذَهَبَ قتادةُ وابنُ جُرَيْجٍ. ولكن يضعف هذا بقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} فإن من نَفَى عن نفسه شيئاً لا يجاب بأنه ثبت لغيره؛ لأنه يُقِرُّ بذلك، اللهم إلاَّ أن يقدر جملة أخرى ثبوتية مع هذه الجملة، فكأنَّهم قالوا: ليس لنا من الأمر شيءٌ، بَلْ لمن أكرهنا على الخروج وحَمَلَنا عليه، فحينئذ يحْسُن الجوابُ بقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} لقولهم هذا، وهذه الجملةُ الجوابيةُ اعتراض بين الجُمَل التي جاءت بعد قوله: «وطائفة» فإن قوله: {يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم} وكذا {يَقُولُونَ} - الثانية - إما خبر عن «طَائِفَةٌ» أو حال مما قبلها. فصل اعلم أنَّ قولَهُ: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} حكايةٌ للشبهة التي تمسَّك بها المنافقون، وهي تحتمل وجوهاً: الأول: أنَّ عبد الله بن أبيٍّ لما شاوره النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذه الواقعةِ أشار عليه بأن لا الجزء: 5 ¦ الصفحة: 615 يخرج من المدينةِ، ثُمَّ إنَّ الصحابةَ ألَحُّوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أن يخرج إليهم، فغضب عبد اللهِ بنُ أبي من ذلك، فقال: عصاني وأطاع الوِلْدان، فلما كثر القتل في بني الخزرج، ورجع عبدُ الله بن أبي قيل له: قُتِل بنو الخَزرج!! فقال: «هل لنا من الأمر من شيء» ؟ يعني: أن محمداً لم يقبل قولي حين أمرتُه بأن لا يخرج من «المدينة» . والمعنى: هل لنا أمرٌ يُطاع؟ وهو استفهام على سبيل الإنكار. الثاني: ما تقدم في الإعرابِ أنَّ معناه النفي، أي: هل لنا من الشيء الذي كان يَعِدُنا به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو النصر والقوة - شيء؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار. الثالث: أن التقدير: أنطمع أن تكون لنا الغلبة على هؤلاء؟ ويكون المراد منه الطعن في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويحتمل أن يكونَ قائلُهُ من المؤمنين، ويكون المرادُ منه إظهار الشَّفَقَة، أنه متى يكون الفرجُ والنُّصرة؟ وهو المرادُ - أيضاً - بقوله: هو النصر والقوة - شيء؟ وهذا استفهامٌ على سبيل الإنكار. الثا {يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} . وقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} قرأ أبو عمرو «كُلُّهُ» - رفعاً - وفيه وجهان: الأول: - وهو الأظهر - أنه رفع بالابتداء، و «لله» خبره والجملة خبر «إنَّ» نحو: إن مال زيد كله عنده. الثاني: أنه توكيد على المحل، فإن اسمها - في الأصل - مرفوعٌ بالابتداء، وهذا مذهبُ الزَّجَّاجِ والجَرْمي، يُجْرُون التوابعَ كلَّها مُجْرَى عطف النسق، فيكون «للهِ» خبراً لِ «إنَّ» أيضاً. وقرأ الباقون بالنصب، فيكون تأكيداً لاسم «إنَّ» وحَكَى مكي عن الأخفش أنه بدل منه - وليس بواضح - و «للهِ» خبر «إنَّ» . وقيل على النعت؛ لأنَّ لفظة «كُلّ» للتأكيد، فكانت كلفظة «أجمع» . فصل هذه الآية تدل على أن جميع المحدثات خلق لله تعالى بقضائه وقدره؛ لأن المنافقين قالوا: إن محمداً لو قبل مِنَّا رَأيَنَأ ونُصْحَنا، ملا وقع في هذه المِحْنةِ، فأجابهم اللهُ تَعَالَى بأن الأمرَ كُلَّه للهِ، وهذا [الجواب] إنما ينتظم إذا كانت أفعالُ العبادِ بقضاء اللهِ وقدَرِهِ؛ إذ لو كانت خارجة عن مشيئته لم يكن هذا الجواب دافعاً لشبهة المنافقين. قوله: {يُخْفُونَ} إما خبر لِ {طَآئِفَةً} وإما حال مما قبله - كما تقدم - وقوله: {يَقُولُونَ} الجزء: 5 ¦ الصفحة: 616 يحتمل هذينِ الوجهينِ، ويحتمل أن يكون تفسيراً لقوله: {يُخْفُونَ} فلا محلَّ له حينئذٍ. قوله: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ} كقوله: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} وقد عرف الصحيح من الوجهين. وقوله: «ما قُتِلْنا ههنا» جواب «لَوْ» وجاء على الأفصح، فإن جوابها إذا كان منفياً ب «ما» فالأكثر عدم اللام، وفي الإيجاب بالعكس، وقد أعرب الزمخشريُّ هذه الجُمَلَ الواقعة بعد قوله: «وطائفة» إعراباً أفْضى إلى خروج المبتدأ بلا خبر فقال: «فإن قُلتَ: كيف مواقعُ هذه الجُمَلِ الواقعة بعد قوله:» وطائفة «. قُلْتُ: {قَدْ أَهَمَّتْهُمْ} صفة ل {َطَآئِفَةٌ} و {يَظُنُّونَ} صفة أخرى، أو حالٌ، بمعنى: قد أهمتهم أنفسهم ظَانِّين، أو استئنافٌ على وجه البيانِ للجملة قبلها و {يَقُولُونَ} بدلٌ من {يَظُنُّونَ} . فإن قلتَ: كيف صَحَّ أن يقع ما هو مسألة عن الأمر بدلاً من الإخبار بالظنِّ؟ قلتُ: كانت مسألتهم صادرة عن الظن، فلذلك جاز إبداله منه، و {يُخْفُونَ} حال من {يَقُولُونَ} و {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} اعتراض بين الحالِ وذي الحالِ، و {يَقُولُونَ} بدلٌ من {يُخْفُونَ} والأجود أن يكون استئنافاً» . انتهى. وهذا من أبي القاسم بناءً على أنَّ الخبرَ محذوفٌ، كما تقدم تقريره في قوله: {وَطَآئِفَةٌ} أي: ومنكم طائفةٌ، فإنه موضعُ تفصيلٍ. فإن قيل: ما الفرق بين قوله: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} وبين قوله: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ} وقد أجاب عن الأول بقوله: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ} وأجاب ههنا بغير ذلك؟ فالجوابُ من وجهين: الأول: أن المنافقينَ قال بعضهم لبعض: لو كان لنا عقولٌ لم نخرج مع محمدٍ إلى قتالِ أهلِ مكةَ، وما قُتِلْنَا هاهنا، وهذا يدلُّ على أنَّ الأمر ليس كما قلتم من أنَّ الأمرَ كلَّه للهِ، وهذا كالمناظرةِ الدائرةِ بين أهلِ السُّنَّةِ والمُعْتَزلَةِ؛ فإنَّ السُّنِّي يقولُ: الأمر كُلُّهُ - في الطَّاعِةِ والمعصيةِ، والإيمانِ والكُفْرِ بيد اللهِ، والمعتزلي يقول: ليس الأمر كذلكح فإن الإنسانَ مختارٌ، وميتقلٌّ بالفعل، إن شاء آمن وإن شاء كَفَر، فَعلى هذا الوجه لا يكون هذا الكلام شبهة مستقلة بنفسها، بل يكون الغرض منه الطعن فيما جعله الله تعالى جواباً عن الشُّبْهَةِ الأولى. الثاني: أن المراد من قوله: {هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ} أي: هل لنا من النُّصْرَة التي وَعَدَنَا بها محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شيء؟ ويكون المراد من قوله: «لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا» هو ما كان بقوله عبد الله بن أبي من أن محمداً لو أطاعني ما خرج عن «المدينة» ، وما قُتِلْنا ههنا. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 617 واعلم أنه - تعالى - أجاب عن هذه [الشُّبْهَةَ] من ثلاثة أوجهٍ: الأول: قوله: {قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ} ومعناه: أن الحَذَرَ لا يدفع القَدَرَ، فالذين قَدَّر الله عليهم القَتْلَ، لا بُدَّ وأن يُقْتَلُوا على كل تقديرٍ؛ لأنَّ اللهَ تَعَالى لما أخبره أنه يقتل، فلو لم يُقْتَلْ، لانْقَلَبَ علمه جهلاً. وقال المفسِّرون: لو جلستم في بيوتكم لخرج منكم مَنْ كَتَبَ اللهُ عليهم القَتْلَ إلى مضاجعهم ومصارعهم، حتى يُوجَدَ ما علم الله أنه يُوجد وقيل: تقديرُ الكلام: كأنه قيل للمنافقين: لو جلستم في بيوتكم، وتَخَلَّفْتُمْ عن الجهاد، لخرج المؤمنون الذين كُتِبَ عليهم قتال الكفار إلى مضاجعهم، ولم يتخلَّفوا عن هذه الطاعة بسبب تخلُّفكم. قوله: {لَبَرَزَ} جاء على الأفصح، وهو ثُبُوتُ اللامِ في جواب «لو» مثبتاً. وقراءة الجمهور {لَبَرَزَ} مخفَّفاً مبنياً للفاعل، وقرأ أبو حَيْوَة «لَبُرِّزَ» مشدَّداً، مبينيًّا للمفعول، عدَّاه بالتضعيف. وقرئ «كَتَبَ» مبنياً للفاعل، و «القَتْلَ» مفعول به. وقرأ الحسنُ: {كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال} رَفعاً. الجوابُ الثاني عن هذه الشُّبْهَةِ قوله: «وليبتلي» فيه خمسة أوجُهٍ: فقيل: إنه متعلق بفعل قبله، وتقديره: فَرَضَ اللهُ عليكم القتَالَ، ولم يَنْصُرْكُمْ يوم أُحُدٍ، ليبتلي ما في صدوركم، أي: ضمائركم. وقيل: بفعل بعده، أي: ليبتلي فَعَلَ هذه الأشياء. وقيل: الواو زائدة، واللام متعلقة بما قبلها. وقيل: «وليبتلي» عطف على «ليبتلي» الأول وإنما كُرِّرت لطول الكلام، فعطف عليه {وَلِيُمَحِّصَ} قاله ابنُ بحرٍ. وقيل: هو عطف على علةٍ محذوفة تقديره: ليقضي اللهُ أمرَه وليبتلي. الجواب الثالث عن هذه الشُّبْهَةِ قوله: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} فيه وَجْهَانِ: أحدهما: أن هذه الواقعة تخرج ما في قلوبكم من الوساوس والشبهات، وتطهرها. الثاني: أنها تصيره كَفَّارةً لذنوبكم، فتمحصكم عن تبعات المعاصي والسيئات. فإن قيل: قد سبق ذِكْرُ الابتلاء في قوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152] فلم أعادَه؟ الجزء: 5 ¦ الصفحة: 618 فالجواب: أنه أعادهُ؛ لطول الكلام بينهما، ولأن الابتلاء الأول هزيمة المؤمنين، والابتلاء الثاني سائر الأحوال. فإن قيل: قوله: {وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ} المرادُ منه القلب؛ لقوله: {القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] فجعل متعلق الابتلاء ما انطوى عليه الصَّدْرُ - وهو ما في القلب من النِّيَّةِ - وجعل متعلق التمحيص ما في القلب - وهو النيات والعقائد - فلم خالف بين اللفظين في المتعلِّق؟ فالجوابُ: أنه لما اختلف المتعلَّقان حسنَ اختلافُ لفظَيْهما. ثم قال: {والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} أي: الأسرار والضمائر؛ لأنها حالَّةٌ فيها، مصاحبة لها، وذكر ذلك ليدل به على أن ابتلاءه لم يكن لأنه يَخْفَى عليه ما في الصدور وغيره - لأنه عالم بجميع المعلومات - وإنما ابتلاهم لمَحْض الإلهية. الجزء: 5 ¦ الصفحة: 619 إنما ثُنّي «الْجَمْعَان» - وإن كان اسم جمع - وقد نَصًّ النُّحَاةُ على أنه لا يُثَنَّى ولا يُجْمَع إلا شذوذاً - لأنه أريد به النوع؛ فإن المعنى جَمْع المؤمنين وجَمْع المشركين، فلما أريد به ذلك ثُنِّي، كقوله: [الطويل] 1672 - وَكُلُّ رَفِيقَيْ كُلِّ رَحْلٍ وَإنْ هُمَا ... تَعَاطَى الْقَنَا قَوْماً هُمَا أخَوَانِ فصل {تَوَلَّوْاْ} تنهزموا {يَوْمَ التقى الجمعان} جمع المسلمين وجمع المشركين يوم أُحُدٍ، وكان قد انهزم أكْثَرُ المسلمين، ولم يَبْقَ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، إلا ثلاثةَ عشر رجلاً، ستةٌ من المهاجرين: أبُو بَكْرٍ، وأبو عُبّيْدَةَ بن الجراح وعليٌّ، وطَلْحَة، وعبد الرحمن بن عَوْفٍ، وسعد بن ابي وَقَّاصٍ - وسبعة من الأنصار - حباب بن المنذر وأو دُجَانَة، وعاصم بن ثابت، والحارث بن الصِّمَّة، وسهل بن حُنَيْف، وأسَيْد بن حُضَيْر، وسعد بن مُعّاذٍ - وقيل: أرْبَعَةَ عشَرَ؛ سبعةٌ من المهاجرين، فذكر الزبير بن العوّام معهم، وسبعةٌ من الأنصار. وقيل: إن ثمانية من هؤلاء كانوا بايعوه يومئذٍ على الموت: ثلاثة من المهاجرين: طلحة، والزبير، وعلي، وخمسة من الأنصار: أبو دُجَانة، والحارث بن الصِّمَّة، وحباب بن المُنْذِرِ، وعاصم بن ثابتٍ، وسهل بن حنيف، ثم لم يقتل منهم أحد. ورُوي أنه أصيب مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نحو ثلاثينَ، كلهم يجيء، ويَجْثو بين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 3 يديه، ويقول: وجهي لوجهك الفداء، ونفسي لنفسك الفداء، وعليك السَّلامُ غيرَ مُودَّعٍ. قوله: {إِنَّمَا استزلهم الشيطان} السين في {استزلهم} للطلب، والظاهر أن استفعل ها هنا - بمعنى أفْعَل؛ لأن القصة تدلُّ عليه، فالمعنى: حَمَلَة على الزلة، فيكون ك «اسْتَلَّ» و «أبَلَّ» واستزلَّ بمعنى وَاحِدٍ، قال تعالى: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان} [البقرة: 36] . وقال ابن قتيبةَ: {استزلهم} طلب زلَّتَهُمْ، كما يقال: استعجلته: أي: طلبت عجلته، واستعملته طلبت عمله. فصل قال الكعبيُّ: الآية تدلُّ على أن المعاصيَ لا تُنْسَب إلى الله؛ فإنه - تعالى - نسبها هنا إلى الشِّيْطَانِ، فهو كقوله تعالى - حكاية عن موسى -: {هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان} [القصص: 15] وكقوله - حكاية عن يُوسفَ -: {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي} [يوسف: 100] وقوله - حكاية عن صاحب موسى -: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] . قوله: {بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} فيه وجهانِ: الأول: أن الباء للإلصاق، كقولك: كتبت بالقَلَم، وقطعت بالسِّكِّين، والمعنى: أنه قد صدرت عنهم جنايات، فبواسطتها قدر الشَّيطان على لستزلالهم، وعلى هذا التقدير اختلفوا: فقال الزَّجَّاجُ: إنهم لم يتولَّوْا عناداً، ولا فراراً من الزَّحْف، رغبة منهم في الدنيا، وإنما ذكَّرهم الشيطانُ ذنوباً - كانت لهم - فكرهوا البقاء إللا على حالٍ يَرْضَوْنَهَا. وقيل: لما أذنبوا - بمفارقة المركز، أو برغبتهم في الغنيمة، أو بفشلهم عن الجهاد - أزلهم الشيطانُ بهذه المعصيةِ، وأوقعهم في الهزيمة. الثاني: أن تكونَ الباء للتبعيض، والمعنى: أنَّ هذه الزَّلَّةَ وقعت لهم في بعض أعمالهم. قوله: {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} هذه الآية تدل على أن تلك الزَّلَّة ما كانت بسبب الكُفْرِ؛ فإن العفو عن الكفر لا يجوز؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] فالعفو عن الصغائر والكبائر جائز. قالت المعتزلة: ذلك الذنب إن كان من الصغائر، جاء العفو عنه من غير توبةٍ، وإن كان من الكبائر لم يَجُز العفو عنه من غيب توبةٍ، وإن كان من الكبائر لم يَجُز العفو عنه من غير توبة - وإن كان ذلك غير مذكور في الآية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 4 قال القاضي: والقربُ أن ذلك الذنب كان من الصغائر، لوجهين: أحدهما: أنه لال يكاد - في الكبائر - يقال: [إنها زَلَّة] ، إنما يقال ذلك في الصغائر. الثاني: ان القوم ظنوا أنَّ الهزيمةَ لما وقعت على المشركين، لم يَبْقَ إلى ثباتهم في ذلك المكانِ حاجة فلا جرم - انقلبوا عنه، وتحوَّلوا لطلب الغنيمة، ومثل هذا لا يبعد أن يكون من باب الصغائر لأن للاجتهاد في مثله مَدْخَلاً. قال ابنُ الخَطِيبِ: وهذه تكلُّفات لا حاجة إليها، وقد بينَّا كونها من الكبائر، والاجتهاد لا مدخل له مع النص الصريح بلزوم المركز، سواء كانت الغلبة لهم، أو عليهم. ثم قال: {إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ} أي {غَفُورٌ} لمن تاب، {حَلِيمٌ} لا يعجل بالعقوبة، وهذا يدل على أن ذلك الذنب كان من الكبائر؛ لأن لو كان من الصغائر لوجب ان يعفو عنه - على قول المعتزلة - ولو كان العفو واجباً لما حَسُنَ التمدُّح به؛ لأن من يظلم إنساناً لا يحسُن ان يتمدّح بأنه عفا عنه، وغفر له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 وجه النظم أن المنافقين كانوا يعيّرون المؤمنين في الجهاد مع الكفار، بقولهم: {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} ثم إنه ظهر عند بعض المؤمنين فتورٌ وفشلٌ في الجهاد، حتى وقع يومَ أحُدٍ ما وقع، وعفا اللهُ بفضله عنهم، فنهاهم في هذه الآية عن القول بمثل مقالة المنافقين، لمن يريد الخروج إلى الجهادِ، فقال: لا تقولوا - لمن يريد الخروجَ إلى الجهاد -: لو لم تخرجوا لما متم، وما قُتِلْتُم، فإن الله هو المُحْيي والمميت، فمن قُدِّر له البقاءُ لم يُقْتَل في الجهاد، ومن قُدِّر له الموتُ مات وإن لم يجاهد، وهو المراد بقوله: {والله يُحْيِي وَيُمِيتُ} . وأيضاً فالذي يُقْتَل في الجهاد، لو لم يخرج إلى الجهاد، لكان يموت لا محالة، فإذا كان لا بد من الموت فلأن يُقْتَلَ في الجهاد - حتى يستوجب الثوابَ العظيمَ - خيرٌ له من أي يموت من غير فائدة، وهو المرادُ بقوله: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 5 واختلفوا في {الَّذِينَ كَفَرُواْ} فقيل: هل هو كافر يقول هكذا. وقيل: إنه مخصوصٌ بالمنافقين؛ لأن هذه الآيات في شرح أحوالهم. وقيل: مختصة بعبد الله بن أبيّ ابن مسلول ومعتب بن قُشَير، وسائر أصحابهما. قوله: {لإِخْوَانِهِمْ} قال الزمخشريُّ: «لأجل إخوانكم» . وهذا يدل على أن أولئك الإخوان كانوا مَيِّتين عند هذا القول ويُحْتمل ان يكونَ المراد منه الأخوة في النسب، كقوله تعالى: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} [الأعراف: 65] ويكون المقتولون من المسلمين كانوا من أقارب المنافقين، فقال المنافقونَ هذا الكلام، بعد أن قُتِلَ بعضهم في بعض الغزوات. قوله: {إِذَا ضَرَبُواْ} «إذا» ظرف مستقبل، فلذلك اضطربت أقوالُ المعربين - هنا - من حيثُ إن العامل فيها {قَالُواْ} - وهو ماضٍ - فقال الزمخشريُّ: «فإن قُلْتَ: كيف قيل: {إِذَا ضَرَبُواْ} مع» قالوا «؟ قلت: هو حكاية حال ماضية، كقولك: حين يضربون في الأرض» . وقال أبو البقاء بعد قول قريب من قول الزمخشريِّ: «ويجوز أن يكون {كَفَرُواْ} و {قَالُواْ} ماضيين، يُراد بهما المستقبل المحكي به الحال فعلى هذا يكون التقدير: يكفرون، ويقولون لإخوانهم» . انتهى. ففي كلا الوجهين حكاية حال، لكن في الأول حكاية حال ماضية، وفي الثاني مستقبلة، وهو - من هذه الحيثية - كقوله تعالى: {حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [البقرة: 214] . ويجوز أن يراد بها الاستقبال، لا على سبيل الحكاية، بل لوقوعه صلة لموصول، وقد نصَّ بعضهم على أن الماضي - إذا وقع صلة لموصول - صلح للاستقبال، كقوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 34] . وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ، وقال: «دخلت» إذا «وهي حرفُ استقبالٍ - من حيثُ» الذين «اسم فيه إبهام، يعم مَنْ قال في الماضي، ومَنْ يقول في الاستقبال، ومن حيثُ هذه النازلة تتصور في مستقبل الزمان» يعني: فتكون حكاية حالٍ مستقبلة. قال ابن الخَطِيبِ: إنما عَبَّرَ عن المستقبل بلفظ الماضي لفائدتين: إحداهما: أن الشيء الذي يكون لازم الحصول في المستقبل، قد يُعَبَّر عنه بأنه حَدَث، أو هو حادث، قال تعالى: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] وقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ} [الزمر: 30] فهنا لو وقع التعبير عنه بلفظ المستقبل لم يكن فيه ذلك المعنى، فلما وقع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 6 التعبير عنه بلفظ الماضي، دلَّ على أن جِدَّهم واجتهادهم في تقرير الشبهة قد بلغ الغاية، فصار بسبب ذلك الجد، هذا المستقبل كالواقع. الثانية: أنه - تعالى - لما عبر عن المستقبل بلفظ الماضي، دلَّ ذلك على أنه ليس المقصود الإخبار عن صدور هذا الكلام، بل المقصود الإخبار عن جِدِّهم واجتهادهم في تقرير هذه الشُّبْهَةِ «. وقدَّر أبو حيّان: مضافاً محذوفاً وهو عامل في» إذا «تقديره: وقالوا لهلاك إخوانهم، أي: مخافة أن يهلك إخوانهم إذا سافروا، أو غَزَوْا، فقدَّر العامل مصدراً مُنْحَلاًّ لِ» أن «والمضارع، حتى يكون مستقبلاً، قال: لكن يكون الضمير في قوله: {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا} عائداً على {لإِخْوَانِهِمْ} لفظاً، وعلى غيرهم معنى - أي: يعود على إخوان آخرين، وهم الذين تَقَدَّمَ موتُهم بسبب سفرٍ، أو غزو، وقَصْدُهُمْ بذلك تثبيطُ الباقين - وهو مثل قوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر: 11] وقول العربِ: عندي درهم ونِصْفُه. وقول الشاعرِ: [البسيط] 1673 - قَالَتْ: ألاَ لَيْتَما هَذَا الحَمَامُ لَنَا ... إلَى حَمَامَتِنَا، أو نِصْفُهُ فَقَدِ المعنى: من معمر آخر، ونصف درهم آخر، ونصف حمام آخرَ. وقال قُطربٌ: كلة» إذْ «و» إذا «يجوز إقامة كل واحد منهما مُقَامَ الأخْرَى، فيكون» إذا «هنا بمعنى» إذْ «. قال بعضهم: وهذا ليس بشيء. قال ابن الخَطِيبِ:» أقول: هذا - الذي قاله قُطْرُبٌ - كلامٌ حسنٌ، وذلك لأنا جوَّزْنا إثبات اللغة بشعرٍ مجهولٍ، فنقول عن قائل مجهول، فلأنْ يُجَوَّزَ إثباتها بالقرآن العظيم كان ذلك اولى، أقصى ما في الباب أن يقال: «إذا» حقيقة في المستقبل، ولكن لم لا يجوز استعماله في الماضي على سبيل المجازِ، لما بينه وبين كلمة «إذْ» من المشابهة الشديدة، وكثيراً أرى النحويين يتحيَّرون في تقرير الألفاظ الواردة في القرآن، فإذا استشهدوا في تقريره ببيت مجهولٍ فَرِحوا به، وأنا شديدُ التعجُّب منهم؛ فإنهم إذا جعلوا ورودَ القرآنِ به دليلاً على صحته كان أولى «. قوله: {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} - بالتشديد - جمع غازٍ - كالرُّكَّع والسُّجَّد - جمع راكع وساجد - وقياسه: غُزَاة كرام ورُمَاة - ولكنهم جملوا المعتل على الصحيح، في نحو ضارب وضُرَّب، وصائم وصُوَّم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 7 وقرأ الزَّهريُّ والحسنُ «غُزًى» - بالتخفيف - وفيها وجهانِ: الأول: أنه خفف الزاي، كراهية التثقيل في الجمع. الثاني: أن أصله: غُزاة - كقُضاة ورُماة - ولكنه حذف تاء التأنيث؛ لأن نفس الصيغة دالَةٌ على الجمع فالتاء مُستغنًى عنها. قال ابنُ عَطِيَّةَ: «وهذا الحذفُ كثيرٌ في كلامهم. ومنه قول الشاعر يمدح الكسائِي: [الطويل] 1674 - أبَى الذَّمَّ أخْلاَقُ الْكِسَائِيِّ، وَانْتَحَى ... بِهِ المَجْدُ أخْلاَقَ الأبُوِّ السَّوابِقِ يريد: الأبُوَّة - جمع أب - كما أن العمومة جمع عم، والبُنُوَّة جمع ابن وقد قالوا: ابن، وبنو» . ورد عليه أبو حيّان بأن الحذف ليس بكثير، وأن قوله: حذف التاء من عمومة، ليس كذلك، بل الأصل: عموم - من غير تاء - ثم أدخلوا عليها التاء لتأكيد الجمع، فما جاء على «فعول» - من غير تاء - هو الأصل، نحو: عموم وفحول، وما جاء فيه التاء، فهو الذي يحتاج إلى تأويله بالجمع، والجمع لم يُبْنَ على هذه التاء، حتى يُدَّعَى حَذْفُها، وهذا بخلاف قُضَاة وبابه؛ فإنه بني عليها، فيمكن ادعاء الحذف فيه، وأما أبوة وبُنوة فليسا جَمْعَيْن، بل مصدرين، وأما أبُوّ - في البيت - فهو شاذّ عند النحاة من جهة أنه من حقِّهِ أن يُعلَّه، فيقول: «أبَيّ» بقلب الواوين ياءين، نحو: عُصِيّ، ويقال غُزَّاء بالمد أيضاً، وهو شاذ. فتحصَّل في غازٍ ثلاثة جموع في التكسير: غُزَاة كقُضاة، وغُزًى كصوَّم، وغُزَّاء كصُوَّام، وجمع رابع، وهو جمع سلامة، والجملة كلُّها في محل نصب بالقول. قال القرطبيُّ: «والمغزية: المرأة التي غزا زوجها، وأتانٌ مُغْزِية: متأخِّرةُ النِّتَاجِ، ثم تنتج وأغْزَت الناقة إذا عسر لِقَاحُها، والغَزْو: قصد الشيء، والمَغْزَى: المَقْصِد، ويقال: - في النسب إلى الغزو: غَزَوِيّ» . قال الواحديُّ: «في الآية محذوف، يدل عليه الكلام، والتقدير: {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض} فماتوا {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} فقتلوا، {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} فقوله: {مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} يدل على قتلهم وموتهم» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 8 فصل المراد بالضَّرْبِ: السفر البعيد، وقوله: «غُزًّى» هم الغُزَاة الخارجون للجهاد، فكان المنافقونَ يقولون - إذا رَأوْا مَنْ مات في سفر أو غزو -: إنما ماتوا، أو قتلوا بسبب السفر والغزو، وقصدهم بذلك تنفير الناس. فإن قيل: لم ذكر الغزو بعد الضرب في الأرض - وهو داخل فيه؟ فالجوابُ: أن الضرب في الأرض يرادُ به السفر البعيد، لا القريب، إذ الخارج من المدينة إلى جبل أحدٍ لا يوصف بأنه ضارب في الأرض، وفي الغزو لا فرق بينه وبين قريبه وبعيده، فلذلك أورد الغزو عن الضرب في الأرض. قوله: {لِيَجْعَلَ الله} في هذه اللام قولان: قيل: إنها لام «كَيْ» . وقيل: إنها لام العاقبة والصيرورة، فعلى القول الأول في تعلُّق هذه اللام وجهانِ: فقيل: التقدير: أوقع ذلك - أي: القول، أو المعتقد - ليجعله حَسْرَةً، أو ندمَهم، كذا قدره أبو البقاء وأجاز الزمخشريُّ أن تتعلق بجملة النفي، وذلك على معنيين - باعتبار ما يراد باسم الإشارة. أما الاعتبار الأول، فإنه قال: «يعني لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول واعتقاده ليجعله اللهُ حَسْرةً في قلوبكم خاصَّةً، ويصون منها قلوبكم» ، فجعل ذلك إشارة إلى القول والاعتقاد. وأما الاعتبار الثاني فإنه قال: «ويجوز أن يكون ذلك إشارة إلى ما دلَّ عليه النَّهْيُّ، أي: لا تكونوا مثلهم؛ ليجعلَ اللهُ انتفاء كونكم مثلهم حسرة في قلوبهم؛ لأن مخالفتهم فيما يقولون ويعتقدون مما يغمُّهم ويغيظهم» . وردّ عليه أبو حيان المعنى الأول بالمعنى الثاني الذي ذكره هو، فقال - بعد ما حكى عنه المعنى الأول: - «وهو كلام شيخ لا تحقيق فيه؛ لأن جَعْلَ الحسرة لا يكون سبباً للنهي، إنما يكون سبباً لحصول امتثال النهي، وهو انتفاء المماثلة، فحصول ذلك الانتفاء والمخالفة فيما يقولون ويعتقدون، يحصل عنه ما يغيظهم ويغمهم، إذ لم توافقهم فيما قالوه واعتقدوه، لا تضربوا في الأرض ولا تغزو، فالتبسَ على الزمخشريِّ استدعاء انتفاء المماثلة لحصول الانتفاء، وفَهْم هذا فيه خفاءٌ ودقةٌ» . قال شهاب الدين: ولا أدري ما وجه تفنيد كلام أبي القاسم، وكيف رد عليه على زعمه بكلامه؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 9 وقال أبو حَيَّانَ - أيضاً -: «وقال ابنُ عِيسَى وغيره، اللامُ متعلِّقة بالكون، أي: لا تكونوا كهؤلاء، ليجعل الله ذلك حَسْرَةً في قلوبهم دونكم، ومنه اخذ الزمخشريُّ قوله، لكن ابن عيسى نَصَّ على ما تتعلق به اللام، وذاك لم ينص، وقد بينَّا فساد هذا القول» . وقوله: وذاك لم ينص، بل قد نَصَّ، فإنه قال: فإن قُلْتَ: ما متعلق {لِيَجْعَلَ} ؟ قلت: {َقَالُواْ} أو {لاَ تَكُونُواْ} . وأيُّ نَصٍّ أظهرُ من هذا؟ ولا يجوز تعلق اللام - ومعناها التعليل - ب {قَالُواْ} لفساد المعنى؛ لأنهم لم يقولوه لذلك، بل لتثبيط المؤمنين عن الجهاد. وعلى القول الثاني - أعني: كونها للعاقبة تتعلق ب {قَالُواْ} والمعنى: أنهم قالوا ذلك لغرض من أغراضهم، فكان عاقبة قولهم، ومصيره إلى الحسرة، والندامة، كقوله تعالى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] وهم لم يلتقطوه لذلك، ولكن كان مآله لذلك. ولكن كونها للصيرورة لم يعرفه أكثر النحويين، وإنما هو شيءُ ينسبونه للأخفش، وما ورد من ذلك يؤولونه على العكس من الكلام، نحو: {فَبَشِّرْهُم} [آل عمران: 21] وهذا رأي الزمخشري؛ فإنه شبه هذه اللام باللام في {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] ومذهبه في تلك أنها للعلة - بالتأويل المذكور والجَعْلُ - هنا - بمعنى التَّصْييرِ. فصل اختلفوا في المشار إليه ب «ذَلِكَ» : فعن الزَّجاجِ هو الظَّنُّ، ظنوا أنهم لو لم يحضروا لم يُقْتَلُوا. وقال الزمخشريُّ ما معناه: الإشارة إلى النطق والاعتقاد بالقول. وقريب منه قول ابن عطيةَ: «الإشارة بذلك إلى هذا المعتقد الذي لهم» . وقال ابنُ عَطِيَّة - أيضاً -: ويحتمل عندي - أن تكونَ الإشارةُ إلى النهي والانتهاء معاً، فتأمله «. وقيل: هو المصدر المفهوم من {قَالُواْ} ، و {حَسْرَةً} مفعول ثانٍ، و {فِي قُلُوبِهِمْ} يجوز أن يتعلق بالجَعْل - وهو أبلغ - أو بمحذوف على أنه صفة للنكرة قبله. فصل ذكروا - في بيان ذلك القول حَسْرَةً في قلوبهم - وجوهاً: الأول: أن أقارب ذلك المقتول إذا سمعوا هذا الكلام ازدادت الحسرة في قلوبهم؛ لأن أحدهم يعتقد أنه لو بالغ في مَنعه عن ذلك السفر، او الغزو، لبقي، فذلك الشخص إنما مات، أو قُتِلَ بسبب أن هذا الإنسان قَصَّر في مَنْعه، فيعتقد السامعُ لهذا الكلام أنه هو الذي تسبب في مَوْت ذلك الشخص العزيز عليه، أو قتله، ومتى اعتقد في نفسه ذلك، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 10 فلا شك أنه يزداد حسرته وتلهُّفُه، أما المسلم المعتقد أن الحياةَ والموت بتقدير اللهِ وقضائه، لم يحصل في قلبه شيء من هذا النوع من الحسرة البتة. الثاني: أن المنافقين إذا القوا هذه الشبهة إلى إخوانهم، تثبطوا، وتخلَّفوا عن الجهاد، فإذا اشتغل المسلمون بالجهاد، ووصلوا بسببه إلى الغنائم العظيمة، والاستيلاء على الأعداء، والفوز بالأماني، بقي المتخلف عن ذلك في الحَسَد، والحَسرة. الثالث: أن هذه الحسرة، إنما تحصُل يومَ القيامةِ في قلوب المنافقين، إذا رَأوا تخصيص الله للمجاهدين بمزيد من الكرامات وعُلُوِّ الدرجات، وتخصيص هؤلاء المنافقين بمزيد الخِزْي واللَّعْن والعقاب. الرابع: أن المنافقين إذا أوردوا هذه الشبهة على ضَعَفَة المسلمين، ووجدوا منهم قبولاً لها، فرحوا بذلك؛ لرواج كيدهم، ومكرهم على الضَّعَفَة، فالله - تعالى - يقول: إنه يصير ذلك حسرةً في قلوبهم إذا علموا أنهم كانوا على الباطل. الخامس: أن اجتهادَهُمْ في تكثير الشبهاتِ، وإلقاء الضلالات يُعْمِي قلوبهم، فيقعون عند ذلك في الحسرة، والخيبة، وضيق الصدر، وهو المراد بقوله تعالى: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125] . السادس: أنهم إذا ألْقَوْا هذه الشبهةَ على الأقوياء، لم يلتفتوا إليهم، فيضيع سعيُهم ويبطل كيدُهم، فتحصل الحسرة في قلوبهم. قوله: {والله يُحْيِي وَيُمِيتُ} فيه وجهان: الأول: أن المقصود منه بيان الجواب عن شُبْهَة المنافقين، وتقريره: إن المحيي والمميت هو اللهُ تعالى، ولا تاثير لشيء آخر في الحياةِ والموتِ، وأن علمَ اللهِ لا يتغير، وأن حُكْمَه لا ينقلب، وأن قضاءه لا يتبدَّل، فكيف ينفع الجلوس في البيت من الموت؟ فإن قيل: أن كان القولُ بأنّ قضاءَ اللهِ لا يتبدل يمنع من كون الجِدِّ والاجتهاد مفيداً في الحذر عن القتل والموت، فكذا القول بأن قضاءَ اللهِ يتبدَّل، وجب أن يمنع من كون العمل مفيداً في الاحتراز عن عقاب الآخرة، وهذا يمنع من لزوم التكليفِ. والمقصود من الآياتِ تقرير الأمر بالجهاد والتكلف، وإذا كان كذلك، كان هذا الكلام يُفْضي ثبوته إلى نفيه. فالجوابُ: أن حُسْنَ التكليف - عندنا - غير مُعَلَّل بِعِلَّة ورعاية [مصلحة] ، بل اللهُ يفعل ما يشاءُ، ويحكمُ ما يريد. الثاني: أن [المقصود] بقوله: {والله يُحْيِي وَيُمِيتُ} أنه يُحْيي قلوبَ أوليائه وأهل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 11 طاعته بالنور والفرقان، ويُميتُ قلوبَ أعدائه من المنافقين بالضلال. قوله: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قرأ ابن كثير وحمزة والكسائي «يعملون» بالغيبة؛ رَدَّا على {الذين كَفَرُواْ} والباقون بالخطاب؛ ردَّا على قوله: و {لاَ تَكُونُواْ} وهو خطابٌ للمؤمنينَ. فإن قيل: الصادر منهم كان قولاً مسموعاً، لا فعلاً مَرْئِيًّا، فلِمَ علَّقه بالبصر دون السمع؟ فالجوابُ: قال الراغبُ: لما كان ذلك القول من الكفار قصداً منهم إلى عمل يحاولونه، خص البصر بذلك، كقولك - لمن يقول شيئاً، وهو يقصد فعلاً يحاوله -: أنا أرى ما تفعله. قوله: {وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ} اللام هي الموطئة لقسم محذوف، وجوابه قوله: {لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} وحُذِفَ جوابُ الشرط؛ لسَدِّ جواب القسم مسده؛ لكونه دالاً عليه وهذا ما عناه الزمخشريُّ بقوله: وهو ساد مسدَّ جواب الشرط. ولا يعني بذلك أنه من غير حذف. قوله: {أَوْ مُتُّمْ} قرأ نافع وحمزة والكسائي «مِتُّمْ» - بكسر الميم - والباقون بضمها، فالضَّمُّ مِنْ مَاتَ يَمُوتُ مُتُّ - مثل: قَالَ يَقُولُ قُلْتُ، ومن كسر، فهو من مَاتَ يَمَاتُ مِتُّ، مثل: هَابَ يَهَابُ هِبْتُ، وخَاَفَ يَخَافُ خِفْتُ. روى المبرِّدُ هذه اللغة. قال شهابُ الدينِ: وهو الصحيحُ من قول أهل العربية، والأصل: مَوْتَ - بكسر العين - كخَوِفَ، فجاء مضارعه على يَفْعَل - بفتح العين -. قال الشاعر: [الرجز] 1675 - بُنَيَّتِي يَا أسْعَدَ الْبَنَاتِ ... عِيشي، وَلاَ نأمَنُ انْ تَمَاتِي فجاء بمضارعِهِ على يَفْعَل - بالفتح - فعلى هذه اللغة يلزم أن يقال في الماضي المسند إلى التاء، أو إحدى أخواتها: مِتُّ - بالكسر ليس إلا - وهو انا نقلنا حركة الواو غلى الفاء بعد سلب حركتها، دلالة على بنية الكلمة في الأصل، هذا أوْلَى من قول من يقول: إن مِتُّ - بالكسر - مأخوذة من لغة من يقول يموت - بالضم في المضارع - وجعلوا ذلك شاذاً في القياس كثيراً في الاستعمال، كالمازني وأبي علي الفارسي، ونقله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 12 بعضُهُمْ عن سيبويه صريحاً، وإذا ثبت ذلك لغةً، فلا معنى إلى ادَّعاء الشذوذ فيه. قوله: {لَمَغْفِرَةٌ} اللام لامُ الابتداءِ، وهي ما بعدها جواب القسم - كما تقدم - وفيها وجهان: الأول: وهو الأظهر -: انها مرفوعة بالابتداء، والمسوِّغات - هنا - كثيرة: لام الابتداء، والعطف عليها في قوله: {وَرَحْمَةٌ} ووصفها، فإن قوله {مِّنَ الله} صفة لها، ويتعلق - حينئذٍ - و «خيرٌ» خبر عنها. والثاني: أن تكون مرفوعةً على خبر ابتداءٍ مُضْمَرٍ - إذا أُرِيدَ بالمغفرة والرحمة القتل، أو الموت في سبيل الله؛ لأنهما مقترنان بالموت في سبيل الله - فيكون التقدير: فلذلك، أي: الموت أو القتل في سبيل الله - مغفرة ورحمة خير، ويكون «خيرٌ» صفة لا خبراً، وإلى هذا نحا ابنُ عطيةَ؛ فإنه قال: وتحتمل الآية أن يكون قوله: {لَمَغْفِرَةٌ} إشارة إلى الموت، أوالقتل في سبيل الله، فسمى ذلك مغفرة ورحمة؛ إذ هما مقترنان به، ويجيء التقديرُ: لذك مغفرةٌ ورحمةٌ، وترتفع المغفرةُ على خبر الابتداء المقدر، وقوله: «خير» صفة لا خبر ابتداء انتهى، والأول أظهر. و «خير» - هنا - على بابها من كونها للتفضيل وعن ابن عباسٍ: خير من طلاع الأرض ذهبة حمراء. قال ابن الخطيبِ: «والأصوب - عندي - أن يقال: إن هذه اللام في» المغفرة «للتأكيد، فيكون المعنى: إن وجب أن تموتوا، أو تُقْتَلوا، في سفركم أو غزوكم، فكذلك وجب أن تفوزوا بالمغفرة - أيضاً - فلماذا تَحْتَرزون عنه؟ كأنه قيل: إن الموت والقتل غير لازم الحصولِ، ثمَّ بتقدير أن يكون لازماً، فغنه يستعقب لزوم المغفرةِ، فكيف يليق بالعاقل ان يحترز عنه» ؟ قوله: {وَرَحْمَةٌ} أي: ورحمة من الله، فحذف صفتها لدلالة الأولى عليها، ولا بُدَّ من حذف آخر، مصحِّح للمعنى، وتقديره: لمغفرةٌ لكم من الله، ورحمة منه لكم. فإن قيل: المغفرة هي الرحمة، فلِمَ كرَّرها، ونكَّرَها؟ فالجوابُ: أما التنكير فإن ذلك إيذان بأن أدنى خير أقل شيءٍ خير من الدنيا وما فيها، وهو المراد بقوله: «مما تجمعون» ونظيره قوله تعالى: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} [بالتوبة: 72] والتنكير قد يشعر بالتقليل، وأما التكرير فلا نسلمه؛ لأن المغفرة مرتبة على الرحمة، فيرحم، ثم يغفر. قوله: «مما يجمعون» «ما» موصولة اسمية، والعائدُ محذوفٌ، يوجوز أن تكون مصدرية. وعلى هذا فالمفعول به محذوف، أي: من جمعكم المال ونحو. وقراءة الجماعة «تجمعون» - بالخطاب - جَرياً على قوله: «ولئن قتلتم» وحفص - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 13 بالغيبة - إما على الرجوع على الكفار المتقدمين، وإما على الالتفات من خطاب المؤمنين. فإن قيل: ههنا ثلاثة مواضع، تقدم الموت على القتل في الأول والأخير، وقدِّم القتل على الموت في المتوسط فما الحكمةُ في ذلك؟ فالجوابُ: ان الأولَ لمناسبة ما قبله، من قوله: {إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض أَوْ كَانُواْ غُزًّى} فرجع الموت لمن ضرب في الأرض، والقتل لمن غزا، وأما الثاني فلأنه مَحَلَّ تحريض على الجهادِ، فقُدِّمَ الأهمّ الأشرف، وأما الأخير فلأن الموت أغلب. فإن قيل: كيف تكون المغفرة موصوفة بأنها خير مما يجمعون ولا خير فيما يجمعونه أصلاً. فالجوابُ: أنَّ الذي يجمعونه في الدُّنيا قد يكون من الحلال الذي يُعَدُّ خيراً، وأيضاً هذا واردٌ على حسب قولهم ومُعْتَقَدهم أن تلك الأموال خيرات. فقيل: المغفرة خير من هذه الأشياء التي تظنونها خيرات. قوله: {وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} هذا الترتيب في غاية الحُسْنِ؛ فإنه قال في الآية الأولى: {لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله} وهذه إشارةٌ إلى مَنْ عَبَدَه خوفاً من عقابه، ثم قال: {وَرَحْمَةٌ} وهو إشارة إلى مَنْ عبده لطلب ثوابه، ثم ختمها بقوله: {لإِلَى الله تُحْشَرُونَ} وهو إشارة إلى مَنْ عبده لمجردِ لمجردِ العبوديةِ والربوبيةِ، وهذا أعلى المقاماتِ، يروى أن عيسى - عليه السَّلامُ - مَرَّ باَقوامٍ نُحِفَتْ أبْدَانُهُمْ، واصْفَرَّتْ وُجُوهُهُمْ، ورأى عليهم آثارَ العبادة، فقال: ماذا تَطْلُبُون؟ فقالوا: نخشى عذابَ اللهِ، فقال: هو أكرمُ من أن يمنعكم رحمته. ثم مرَّ بقوم، فرأى آثار العبودية عليهم أكثر، فسألهم: فقالوا: نعبده لأنه إلهُنَا، ونحن عبيدُهُ، لا لرغبة ولا لرهبة، فقال: أنتم العبيد المخلصونَ، والمتعبدون المحقون. قوله: {لإِلَى الله} اللام جواب القسم، فهي داخلة على {تُحْشَرُونَ} و {وَإِلَى الله} متعلقٌ به، وإنما قُدِّم للاختصاص، أي: إلى الله - لا إلى غيره - يكون حشركم، أو للاهتمام به، وحسًّنه كونُه فاصلة، ولولا الفصل لوجب توكيد الفعل بالنون؛ لأن المضارع المثبت إذا كان مستقبلاً وجب توكيده [بالنون] ، مع اللام، خلافاً للكوفيين؛ حيث يُجيزون التعاقُبَ بينهما. كقول الشاعر: [الكامل] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 14 1676 - وَقَتِيلِ مُرَّةَ أثأرَنَّ ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فجاء بالنون دون اللام. وقول الآخر: [الطويل] 1677 - لَئِنْ قَدْ ضَاقََتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ رَبِّي أنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ فجاء باللام دون النون، والبصريون يجعلونه ضرورة. فإن فُصِلَ بين اللام بالمعمول - كهذه الآية - أو بقَدْ، نحو: والله لقد أقومُ. وقوله: [الطويل] 1678 - كَذَبْتِ لَقَدْ أُصْبِي عَلَى المرْءِ عِرْسَهُ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . أو بحرف التنفيس، كقوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5] فلا يجوز توكيده - حينئذ - بالنون، قال الفارسيُّ: «الأصل دخولُ النُّونِ، فَرْقاً بين لام اليمينِ، ولام الابتداءِ، ولام الابتداء لا تدخل على الفضلاتِ، فبدخول لام اليمين على الفضلة حصل الفرقُ، فلم يُحْتَجْ إلى النون وبدخولها على» سوف «حصل الفرق - أيضاً - فلا حاجةَ إلى النُّونِ ولام الابتداء لا تدخل على الفعل إلا إذا كان حالاً، أما مستقبلاً فلا» . وأتى بالفعل مبنيًّا لما لم يسم فاعله - مع أن فاعل الحشرِ هُوَ اللهُ - وإنما لم يصرح به، تعظيماً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 في «ما» وجهان: أحدهما: أنها زائدة للتوكيد، والدلالة على أن لِينَهُ لَهُمْ ما كان إلا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 15 برحمة من اللهِ، نظيره قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} [المائدة: 13] وقوله: {عَمَّا قَلِيلٍ} [المؤمنون: 40] وقوله: {جُندٌ مَّا هُنَالِكَ} [ص: 11] وقوله: {مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ} [نوح: 25] . والعربُ قد تريد في الكلام - للتأكيد - ما يستغنى عنه، قال تعالى: {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ} [يوسف: 96] فزاد «أن» للتأكيد. وقال المحققون: دخول اللفظ المهمل الوضع في كلام أحكم الحاكمين - غيرُ جائزٍ، بل تكون غير مزيدة، وإنما هي نكرة، وفيها وجهان: الأول: أنها موصوفة ب «رَحْمَةٍ» أي: فبشيء رحمة. الثاني: أنها غير موصوفة، و «رَحْمَةٍ» بدل منها، نقله مكيٌّ عن ابن كَيْسَان. ونقل أبو البقاءِ عن الأخفش وغيره: أنها نكرة موصوفة، «رَحْمَةٍ» بدل منها، كأنه أبهم، ثم بين بالإبدال. وقال ابن الخطيب: «يجوز أن تكون» مَا «استفهاماً للتعجب، تقديره: فبأي رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ، وذلك؛ لأن جنايتهم لما كانت عظيمة - ثم إنه ما أظهر - ألبتة - تغليظاً في القول، ولا خشونة في الكلام - علموا أن هذا لا يتأتى إلا بتأييد ربانيٍّ وتسديدٍ إلهيٍّ فكان ذلك موضع التعجب» . ورد عليه أبو حيّان بأنه لا يخلو إما أن يجعل «ما» مضافة إلى «رَحْمَةٍ» - وهو ظاهر تقديره - فيلزم إضافة «ما» الاستفهامية، وقد نصوا على أنه لا يضاف من أسماء الاستفهام إلا «أي» اتفاقاً و «كم» عند الزَّجَّاج - وإما أن لا يجعلها مضافة، فتكون «رَحْمَةٍ» بدلاً منها، وحينئذٍ يلزم إعادة حرف الاستفهام في البدل، كما قرره النحويون. ثم قال: «وهذا الرجلُ لاحظ المعنى، ولم يلتفت إلى ما تقرر في علم النحو من أحكام الألفاظ، وكان يغنيه عن هذا الارتباك، والتسلق إلى ما لا يحسنه والتصوُّر عليه قول الزجاج - في» ما «هذه: إنها صلة، فيها معنى التأكيدِ بإجماع النحويينَ. وليس لقائل أن يقولَ: له أن يجعلها غير مضافةٍ، ولا يجعل» رَحْمَةٍ «بدلاً - حالا يلزم إعادة حرف الاستفهام - بل يجعلها صفة، لأن» ما «الاستفهامية لا توصف وكأن من يدعي فيها أنها غير مزيدة يفر من هذه العبارة في كلام الله تعالى، وإليه ذهب أبو بكر الزبيديُّ، فكان لا يُجَوِّزُ أن يقال - في القرآن -: هذا زائد أصلاً. وهذا فيه نظرٌ؛ لأن القائلين يكون هذا زائداً لا يَعْنون أنه يجوز سقوطه، ولا أنه مُهْمَلٌ لا معنى له بل يقولون: زائد للتوكيدِ، فله أسوةٌ بشائرِ ألفاظِ التوكيدِ الواقعة في القرآن. و» ما «كما تُزاد بين الباء ومجرورها، تزاد أيضاً بين» من «و» عَنْ «والكاف ومجرورها. قال مكيٌّ: «ويجوز رفع» رحمة «على أن تجعل» ما «بمعنى الذي، وتضمر» هُوَ « الجزء: 6 ¦ الصفحة: 16 في الصلة وتحذفها، كما قرئ: {تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ} [الأنعام: 154] . فقوله: ويجوزُ يعني من حيث الصناعةِ، وأما كونها قراءة، فلا نحفظها. فصل الليْنُ: الرفق. ومعنى الكلام. فبرحمة من الله لنت لهم، أي: سهلت لهم أخلاقك، وكثر احتمالك، ولم تسرع إليهم فيما كان منهم يوم أُحُدٍ. واحتجوا - بهذه الآية - على مسألة القضاء والقدر، لأن اللهَ بين أن حسن الخلق إنما كان بسبب رحمة الله تعالى. قوله: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} الفظاظةُ: الجفوة في المعاشرة قولاً وفعلاً، قال الشَّاعرُ: [البسيط] 1679 - اخشَى فَظَاظَةَ عَمٍّ، أوْ جَفَاءَ أخ ... وَكُنْتُ أخْشَى عَلَيْهَا مِنْ أذَى الْكَلم والغلظُ: كبر الإجرام، ثم تجوز به في عدم الشفقة، وكثرة القسوةِ في القلب. قال الشاعرُ: [البسيط] 1680 - يُبْكَى عَلَيْنَا وَلاَ نَبْكِي عَلَى أحَدٍ ... ونَحْنُ أغْلَظُ أكْبَاداً مِنَ الإبِلِ وقال الراغبُ: الفَظَّ: هو الكريه الخُلُق، وقال الواحديُّ: الفَظُّ: الغليظُ الجانبِ، السيِّء الخُلُق وهو مستعارٌ من الفَظِّ، وهو ماء الكرش، وهو مكروه شُربه إلا في ضرورة. وقال الراغبُ: الغَلِظ: ضد الرِّقَّةِ، ويقال: غلظ بالكسر والضم وعن الغِلْظة تنشأ الفظاظة. فإن قيل: إذا كانت الفظاظةُ تنشأُ عن الغلظة، فلم قُدَِّمَتْ عَلِيْهَا؟ فالجوابُ: قُدِّم ما هو ظاهر للحس على ما خافٍ في القلب؛ لأن الفظاظة: الجفوة في العِشْرَة قولاً وفعلاً - كما تقدم - والغلظة: قساوة القلب، وهذا أحسن من قول من جعلهما بمعنى، وجمع بينهما تأكيداً. وأما الانفضاض والغضّ فهو تفرُّق الأجزاء وانتشارها. ومنه فضَّ ختم الكتاب، ثم استُعِير منه انفضاض الناس، قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] ومنه يقال: لا يفضض اللهُ فاك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 17 فصل في معنى الآية ومعنى الكلامِ: لو كنتَ جافياً، سَيّء الخُلُقِ، قليل الاحتمالِ. وقال الكلبيُّ: فظاً في القول، غليظ القلبِ في الفعلِ، لانفضوا من حولك تفرَّقوا عنك وذلك أن المقصود من البعثة أن يبلِّغ الرسولُ تكاليفَ اللهِ تعالى إلى الخَلْق، وذلك لا يتم إلا بميل قلوبهم إليه، وسكون نفوسهم لديه، وهذا المقصودُ لا يتم إلا إذا كان رحيماً بهم، كريماً، يتجاوز عن ذنوبهم، ويعفو عن سيئاتهم، ويخصهم بالبرِّ والشفقة، فلهذه الأسباب وجب أن يكون الرسولُ مُبَرَّءاً عن سوء الخلق، وغِلْظة القلبِ، ويكون كثير الميلِ إلى إعانة الضعفاء، وكثير القيام بإعانة الفقراء. وحمل القفَّال هذه الايةَ على واقعة أُحُد، فقال: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} يوم أحُد، حين عادُوا إليك يعد الانهزام {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب} فشَافَهْتُهُمْ بالملامة على ذلك الانهزام {لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} هيبة منك وحياءً، بسبب ما كانوا منهم من الانهزام، فكان ذلك مما يُطْمَع العدو فيك وفيهم. قوله : {فاعف عَنْهُمْ} جاء على أحسن النسق، وذلك أنه - أولاً - أُمِر بالعفو عنهم فيما يتعلق بخاصَّةِ نفسه، فإذا انتهَوْا إلى هذا المقام أمر أن يستغفرَ لهم ما بينهم وبين الله تعالى، لتنزاح عنهم التبعاتُ، فلما صاروا إلى هنا أُمِرَ بأن يشاوروهم في الأمرِ إذا صاروا خالصين من التبعتين، مُصَفَّيْنَ منهما. والأمرُ هنا - وإن كان عاماً - المراد به الخصوص. قال أبو البقاء: الأمر - هنا - جنس، وهو عامٌّ يراد به الخاصُّ؛ لأنه لم يُؤمَر بمشاورتهم في الفرائض، ولذلك قرأ ابن عباسٍ: في بعض الأمر وهذا تفسيرٌ لا تلاوةٌ. فصل ظاهر الأمر الوجوب، و «الفاء» في قوله: {فاعف عَنْهُمْ} تدل على التعقيب، وهذا يدل على أنه - تعالى - أوجب عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يعفو عنهم في الحال، ولما آل الأمرُ إلى الأمة لم يوجبه عليهم، بل ندبهم إليه، فقال: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 134] وقوله: {واستغفر لَهُمْ} يدل على دلالة قوية على أنه - تعالى - يعفو عن أصحاب الكبائر، لأن الانهزام في وقت المحاربة كبيرة، لقوله تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} [الأنفال: 16] وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين عد الكبائر -: «والتولي يوم الزحف» وإذا ثبت أنه كبيرة، فالله تعالى - حضّ - في هذه الآية - على العفو عنهم، وأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالاستفغار الجزء: 6 ¦ الصفحة: 18 لهم، وإذا أمره بالاستغفار لهم لا يجوز أن لا يجيبه إليه؛ لأن ذلك لا يليق بالكريم، وإذا دلت الآية على أنه - تعالى - شفع محمداً في أصحاب الكبائر في الدنيا فلأنه يشفعه يوم القيامة كان أولى. قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} يقال شاورهم مشاورة وشِوَاراً وَمَشورة، والقوم شورى، وهي مصدر، سمي القوم بها، كقوله: {وَإِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47] قيل: المشاورة: مأخوذة من قولهم: شُرتُ العسل، أشورُه: إذا أخذته من موضعه واستخرجته. وقيل: مأخوذة من قولهم: شربت الدابّة، شوراً - إذا عرضتها والمكان الذي يعرض فيه الدوابّ يسمى مشواراً، كأنه بالعرض - يعلم خيره وشرهن فكذلك بالمشاورة يعلم خير الأمور وشرها. الفائدة في أمر اللهِ لرسوله بالمشاورة من وجوه: الأول: أن مشاورة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إياهم توجب علو شأنهم، ورفعة درجتهم، وذلك يقتضي شدة محبتهم له، فلو لم يفعل ذلك لكان ذلك إهانة بهم، فيحصل سوء الخلقِ والفظاظة. الثاني: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإن كان أكملَ الناس عقلاً، إلا أن [عقول] الخلق غير متناهية، فقد يخطر ببال إنسانٍ من وجوه المصالح - ما لا يخطر ببال آخرَ، لا سيما فيما يتعلق بأمور الدنيا، قال: «أَنتم أعرف بأمور دنياكم» ولهذا السبب قال: «ما تشاور قوم قط إلا هُدُوا لأرشد أمورهم» . الثالث: قال الحسنُ وسفيانُ بن عيينة إنما أمر بذلك ليقتدي به غيره في المشاورة ويصير ذلك سنة في أمته. الرابع: أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شاورهم في واقعة أُحُد، فأشاروا عليه بالخروج، وكان ميله إلى ألا يخرج، فلما خرج وقع ما وقع، فلو ترك مشاورتهم بعد ذلك لكان ذلك يدل على أنه بقي في قلبه منهم - بسبب مشاورتهم - بقية أثرٍ، فأمره الله - تعالى - بمشاورتهم بعد تلك الواقعةِ، ليدل على أنه لم يَبْقَ في قلبه أثرٌ من تلك الواقعة. الخامس: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر بمشاورتهم، لا ليستفيد منهم رأياً وعِلْماً، بل ليعلم مقادير عقولهم، ومحبتهم له. وقيل: أمر بالمشاورة [ليعلم] مقدار عقولهم وعلمهم، فينزلهم منازلهم على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 19 قدر عقولهم وعلمهم. وذكروا - أيضاً - وُجُوهاً أُخَرَ، وهذا كافٍ. فصل اتفقوا على أنَّ كلَّ ما نزل فيه وحي من عند الله لم يجز للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يشاورَ الأمةَ فيه، لأن النصَّ إذا جاء بطل الرأي والقياس، أما ما لا نصَّ فيه، فهل يجوز المشاورةُ فيه في جميع الأشياء، أم لا؟ قال الكلبيُّ وأكثر العلماء: الأمر بالمشاورة إنما هو في الحروبِ، قالوا: لأن الألف واللام - في لفظ «الأمر» ليسا للاستغراق؛ لما بينَّا أن الذي نزل فيه الوحي لا تجوز المشاورة فيه، فوجب حمل الألف واللام - هنا - على المعهود السابق، والمعهودُ السابقُ في هذه الآية ما يتعلق بالحرب ولقاء العدو، فكان قوله: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} مختصاً بذلك وقد أشار الحُبابُ بنُ المنذر يوم أُحُدٍ - على النبي بالنزول على الماء، فقبل منه. وأشار عليه السعدان - سعد بنُ معاذٍ وسعد بن عبادةَ - يوم الخندق بترك مصالحة غطفان على بعض ثمار المدينة لينصرفوا، فقبل منهما، وخرق الصحيفةُ. وقال بعضهم: اللفظ عام، خص منه ما نزل فيه وحيٌ، فتبقى حجته في الباقي. قال بعضهم: هذه الآية تدل على أن القياسَ حُجَّةٌ. فصل روى الواحديُّ في «البسيط» عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قال: الذي أمر النبي بمشاورته في هذه الآية أبو بكر وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - واستشكلته ابن الخطيب، قال: «وعندي فيه إشكالٌ؛ لأن الذين امَرَ اللهُ رسولَه بمشاورتهم في هذه الآية هم الذي أمره بأن يعفو عنهم ويستغفر لهم - وهم المنهزمون - فَهَبْ ان عمر كان من المنهزمين فدخل تحت الآيةِ إلا أن أبا بكر ما كان منهم، فكيف يدخل تحت هذه الآية؟» . قوله: {فَإِذَا عَزَمْتَ} الجمهورُ على فتح التاءِ؛ خطاباً له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقرأ عكرمة وجعفر الصادق - ورُويت عن جابر بن زيد - بضَمِّها. على انها لله تعالى، على معنى: فإذا ارشدتك إليه، وجعلتك تقصده. وجاء قوله: من الالتفات؛ إذ لو جاء على نسقِ هذا الكلام لقيل: فتوكل عليَّ. فقد نُسِب العزمُ إليه تعالى في قول أم سلمة: «ثم عزم الله لي» وذلك على سبيل المجاز. فصل معنى الكلامِ: فإذا عزمتَ على اللهِ لا على مشاورتهم، أي: قم بأمر اللهِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 20 وثق به، {إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين} وهذا جارٍ مجرى العلةِ الباعثةِ على التوكُّل عند الأخذ في كل الأمورِ، وهذه الآية تدل على أنه ليس التوكُّلُ أن يُهْمِل نفسه - كقول بعض الجُهَّال - وإلا لكان الأمرُ بالمشاورة منافياً [للأمر بالتوكل] ، بل التوكلُ هو أن يراعيَ الإنسانُ الأسبابَ الظاهرةَ، ولكن لا يعوِّل بقلبه عليها، بل يعوِّل على عصمة الحقِّ. فصل التوكلُ: الاعتماد على الله تعالى مع إظهار العجزِ، والاسم: التُّكْلان، يقال منه: اتكلت عليه في أمري وأصله، اوتَكَلْتُ، قُلِبت الواو ياء، لانكسار ما قبلها، ثم أُبْدِلت منها التاء، وأدغمت في تاء الافتعال، ويقال: وكَّلْته بأمري توكيلاً، والاسم: الوكَالة - بكسر الواو وفتحها -. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 قوله: {إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} شرطٌ وجوابه، وكذلك قوله: {وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي} وهذا التفات من الغيبة إلى الخطاب - كذا قوله أبو حيان. يعني من الغيبة في قوله: {لِنتَ لَهُمْ} وقوله: {لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} وقوله: {فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} قال شهاب الدين: وفيه نظر. وجاء قوله: {فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} جواباً للشرطِ، وهو نفيٌ صريحٌ، وقوله: {فَمَن ذَا الذي} - وهو متضمن للنفي - جوابٌ للشرط الثاني، تلطفاً بالمؤمنين، حيث صرح لهم بعدم الغلبة في الأول، ولم يصرح لهم بأنه لا ناصر لهم في الثاني بل أتى به في صورة الاستفهام - وإن كان معناه نفياً. وقوله: {فَمَن ذَا الذي} قد تقدم مثله في البقرة. والهاء - في قوله: {مِّنْ بَعْدِهِ} - فيها وجهان: أحدهما - وهو الأظهر -: أنها تعود على «الله» تعالى، وفيه احتمالانِ: الأول: أن يكون ذلك على حذف مضاف، أي: من بعد خذلانه. الثاني: إنه يحتاج إلى ذلك، ويكون معنى الكلامِ: إنكم إذا جاوزتموه إلى غيره، - وقد خذلكم - فمن يجاوزه إليه وينصركم؟ ثانيهما: أن يعود على الخذلان المفهوم من الفعلن وهو نظيرُ قوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] . قوله: {إِن يَنصُرْكُمُ الله} يعنكم ويمنعكم من عدوكم {فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ} مثل يوم بدر {وَإِن يَخْذُلْكُمْ} يترككم كما أن بأُحُدٍ - لم ينصركم أحَدٌ. والخذلان: القعود عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 21 النصرة. قراءة الجمهور {يَخْذُلْكُمْ} - بفتح الياء - من خَذَله - ثلاثياً -. وقرا عمرو بن عبيد: «يُخْذِلْكُم» - بضم الياء - من أخْذَلَ - رباعياً - والهمزة فيه لجعل الشيء، أي: إن يجعلكم مخذولين، والخّذْل والخُذلان - ضد النصر - وهو ترك من يظن به النُّصرة، وأصله من خَذَلَت الظبيةُ ولدَها - إذا تركته منفرداً - ولهذا قيل لها: خاذل ويقال للولدِ المتروك - أيضاً -: خاذل، وهذا النَّسَبِ، والمعنى: أنَّها مخذولة. قال الشاعرُ: [البسيط] 1681 - بِجِيدِ مُغْزِلَةٍ أدْمَاءَ خَاذِلَةٍ ... مِنَ الظِّبَاءِ تُرَاعِي شَادِناً خَرِقاً ويقال له - أيضاً -: خذول، فعول بمعنى مفعول. قال الشاعر: [الطويل] 1682 - خَذُولٌ تُرَاعِي رَبْرَباً بِخَمِيلَةٍ ... تَنَاوَلُ اطْرَافَ الْبريرِ وتَرْتَدِي ومنه يقال: تخاذلَتْ رجلا فلان. قال الأعشى: [الرمل] 1683 - بَيْنَ مَغْلوبٍ كَريمٍ جَدُّهُ ... وخَذُولِ الرَجْلِ مِنْ غَيْرِ كَسَحْ ثم قال: {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} فقدم الجارّ إيذاناً بالاختصاص، أي: ليخص المؤمنون رَبَّهُم بالتوكل عليه والتفويض له؛ لعلمهم أنه لا ناصرَ لهم سواهُ. وهو معنى حَسَنٌ، ذكره الزمخشريُّ. فصل احتجوا - بهذه الآية - على الإيمانَ لا يحصل إلا بإعانة الله، والكفر لا يحصل إلا بخذلانه؛ لأن الآية دالةٌ على أن الأمر كلَّهُ للهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 {أَنْ يَغُلَّ} في محل رفع، اسم كان و «لنبيّ» خبرٌ مقدَّمٌ، أي: ما كان له غلول أو إغلال على حسب القراءتينِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 22 وقرا ابنُ كثيرٍ، وأبو عمرو، وعاصم، بفتح الياء وضم الغين - من غل - مبنياً للفاعل، ومعناه: أنه لا يصح أن يقع من النبي غلول؛ لتنافيهما، فلا يجوز أن يتوهَّمَ ذلك فيه ألبتة. وقرأ الباقون «يُغَلَّ» مبنياً للمفعول، وهذه القراءة فيها احتمالانِ: أحدهما: أن يكون من «غَلَّ» ثلاثياً، والمعنى: ما صح لنبيٍّ أن يخونه غيره ويَغُلَّهُ، فهو نفيٌ في معنى النهي، أي: لا يَغُلَّهُ أحدٌ. ثانيهما: أن يكون من «أغَلَّ» رباعياً، وفيها وجهانِ: أحدهما: أن يكون من «أغَلَّهُ» أي: نسبه إلى الغُلُولِ، كقولهم: أكذبته إذا نسبته إلى الكذب - وهذا في المعنى كالذي قبله، أي: نفي في معنى النهي، أي: لا يَنْسبه أحدٌ إلى الغلولِ. قال ابن قتيبة: ولو كان الرمادُ هذا المعنى لقيل: يُغَلَّلُ كما يقال: يُفَسَّق، ويُخَوَّن، ويُفَجَّر، والأولى أن يقال: إنه من «أغللته» أي: وجدته غالاً، كما يقال: «أبخَلْتُهُ» . الثاني: أن يكون من «أغلَّهُ» أي: وَجَدتهُ محموداً وبخيلاً. والظاهر أن قراءة «يَغُلَّ» بالبناء للفاعل - لا يُقَدَّر فيها مفعول محذوف؛ لأن الغرض نفي هذه الصفةِ عن النبيِّ من غير نظر إلى تعلق بمفعول، كقولك: وهو يُعْطِي ويمنع - تريد إثبات هاتين الصفتين، وقدر له أبو البقاء مفعولاً، فقال: تقديره أن يغل المال أو الغنيمة. واختار أبو عبيدة والفارسي قراءة البناء للفاعل قالا: «لأن الفعل الوارد بعد» ما كان لكذا أن يفعل «أكثر ما يجيء منسوباً إلى الفاعل نحو: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ} [آل عمران: 145] ، {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ} [آل عمران: 179] و {مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله} [يوسف: 38] {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} [يوسف: 76] {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً} [التوبة: 115] {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} [آل عمران: 179] ويقال: ما كان ليضرب، فوجب إلحاق هذه الآية بالأعم الأغلب ويأكده ما حكى أبو عبيدة عن يونس أنه كان يختار هذه القراءة، وقال: ليس في الكلام ما كان لكَ أن تُقرب - بضم التاء، وأيضاً فهذه القرءة اختيار ابن عباسٍ، فقيل له: إن ابن مسعودٍ يقرأ: يُغل فقال ابنُ عباس: كان النبيُّ يقصدون قتله فكيف لا ينسبونه إلى الخيانة. قال شهاب الدين، ورجحها بعضهم بقوله: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ} فهذا يوافق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 23 هذه القراءة، ولا حجة في ذلك؛ لأنها موافقة للأخرى. و» الغلول «في الأصل تدرع الخيانة وتوسطها و» الغلل «تَدْرُّع الشيء وتوسطه، قال: [الوافر] 1684 - تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ سَرَابٌ ... وَلاَ حُزْنٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ قيل: تَغَلْغَلَ الشيء إذا تخلل بخفية. قال: [الوافر] 1685 - تَغَلْغَلَ حُبُّ مَيَّةَ فِي فُؤادِي ... والغلالة: الثوب الذي يلبس تحت الثياب، والغلول الذي هو الأخذُ في خفية مأخوذةٌ من هذا المعنى. ومنه: أغل الجازر - إذا سرق وترك في الإهاب شيئاً من اللحم. وفرَّقت العرب بين الأفعال والمصادر، فقالوا: غَلَّ يَغَلُّ غلولاً - بالضم في المصدر والمضارع - إذا خان. وغَلَّ يَغِلُّ غِلاًّ - بالكسر فيهما - الحقد قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الأعراف: 43] أي: حِقْد. قال القرطبيُّ: «والغالّ: أرض مطمئنة، ذات شجرٍ، ومنابت الساج والطلح، يقال لها: غال. والغال: - أيضاً: نبت، والجمع: غُلاَّن - بالضم» . فصل اختلفوا في أسباب النزولِ: فرُوِيَ أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غنم في بعض الغزوات، وجمع الغنائم، وتأخرت القسمةُ؛ لبعض الموانع، وقالوا: ألا تقسم غنائمنا؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَوْ كَانَ لَكُمْ مِثْلُ أحُدِ ذَهَباً مَا حَبَسْتُ عَنْكُمْ دِرْهَماً، أَتَحْسَبُونَ أنِّي أغُلُّكُمْ مَغْنَمَكُم» فانزل الله تعالى هذه الآية. وقيل: الآية نزلت في أداء الوحي، كان صلى الله يقرأ القرآن، وفيه عَيْبُ دينهم وسَبُّ آلهتهم، فسألوه أن يترك ذلك، فنزلت. وروى عكرمة وسعيد بن جبير: أن الآية نزلت في قطيفة حمراء، فقدت يوم بدر، فقال بعض الناس: لعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخذها، فنزلت الآية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 24 ورُوِيَ - من طريق آخرَ - عن ابن عباسٍ: أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الغنائم بشيء زائد، فنزلت الآية. ورُوِيَ أنه بعض طلائع، فغنموا غنائم، فقسمها ولم يُقسَّم للطلائع، فنزلت الآيةُ. وقال الكلبيُّ ومقاتل: نزلت هذه الآيةُ في غنائم أحدٍ، حين ترك الرُّماة المركز؛ طلباً للغنيمة، وقالوا: نخشى أن يقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: مَنْ أخذ شيئاً فهو له، وأن لا يقسم الغنائم - كما لم يقسِّمْها يوم بدرٍ - فتركوا المركز ووقعوا في الغنائم، فقال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ألم أقل لكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيهم أمري؟» قالوا: تركنا بقية إخوانِنا وقوفاً، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بل ظننتم أن نَغُلَّ، فلا نقسم،» فنزلت الآية. وقيل: إن الأقرباء ألحُّوا عليه يسألونه من المَغْنَم، فأنزل الله تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ} فيُعْطي قوماً، ويمنع آخرين، بل عليه أن يقسم بينهم بالسَّوِيَّةِ. هذه الأقوال موافقة للقراءة الأولى. وأما ما يوافق القراءة الثانية فرُوِيَ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما وقعت غنائمُ هوازن في يده يوم حُنَيْن، غَلَّ رَجُلٌ بمخيط، فنزلت هذه الآيةُ. وقال قتادة: ذكر لنا أنها نزلت في طائفة غلت من أصحابه. قوله: {وَمَن يَغْلُلْ} الظاهر أن هذه الجملة الشرطية مستأنفةٌ لا محل لها من الإعرابِ، وإنما هي للردع عن الإغلالِ، وزعم أبو البقاء أنها يجوز أن تكون حالاً، ويكون التقدير: في حال علم الغالِّ بعقوبة الغلول. وهذا - وإن كان محتملاً - بعيدٌ. و «ما» موصولة بمعنى الذي، فالعائد محذوف أي: غَلَّه، ويدل على ذلك الحديث، أنّ أحدهم يأتي بالشيء الذي أخذه على رقبته. ويجوز أن تكون مصدرية، ويكون على حذف مضاف، أي: بإثم غُلوله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 25 فصل قال أكثر المفسّرينَ: إن هذه الآية على ظاهرها، قالوا: وهو نظير قوله في مانع الزكاة: {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة: 35] ويدل عليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا أُلْفِيَنَّ أحَدَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رَقَبَتِهِ بَعِيرٌ لَهُ رُغَاءٌ، أوْ بَقَرَةٌ لَهَا خُوَارٌ، أو شَاةٌ لَهَا ثُغَاءٌ، فَيُنَادِي يَا مُحَمَّدُ، يَا مُحَمَّدُ، فأقُولَ: لاَ امْلِكُ لَكَ مِنَ اللهِ شَيْئاً، قَدْ بَلَّغْتُكَ» . وعن ابن عباس أنه قال: يمثِّلُ له ذلك الشيء في قَعْرِ جهنمَ، ثم يقال له: أنزل إليه فخُذْه، فينزل إليه، فإذا انتهى إليه حمله على ظهره، فلا يُقْبل منه. قال المحققونَ: وفائدته أنه إذا جاء يوم القيامةِ، وعلى رقبته ذلك الغلول ازدادت فضيحتُه. وقال أبو مسلم: ليس المقصودُ من الآية ظاهرَها، بل المقصود تشديدُ الوعيدِ على سبيل التمثيلِ، كقوله تعالى: {إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ} [لقمان: 16] فإنه ليس المقصود نفس هذا الظاهرِ، بل المقصود إثبات أن اللهَ لا يغرب عن علمه وعن حفظه مثقالُ ذرةٍ في الأرضِ، ولا في السماءِ، فكذا هنا المقصود تشديدُ الوعيد، والمعنى: أن الله يحفظ عليه هذا الغلول، ويعزره عليه يوم القيامة ويجازيه؛ لأنه لا تخفى عليه خافية. وقال الكعبيُّ: المرادُ أنه يشتهر بذلك مثل اشتهار من يحمل ذلك الشيء. قال ابن الخطيبِ: والأول أولى؛ لأنه حمل الكلام على حقيقته. وقيل: معنى: {يَأْتِ بِمَا غَلَّ} أي: يشهد عليه يومَ القيامةِ بتلك الخيانةِ والغلولِ. فصل قال القرطبيُّ: دلَّتْ هذه الآية على أن الغلولَ من الغنيمة كبيرةٌ من الكبائرِ، ويؤيده ما ورد من قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: - في مدعم -: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إنَّ الشَّمْلَةَ الَّتِي أخذَ يَوْمَ خَيْبَرِ مِنَ الْمَغَانِمِ ولم تُصِبْهَا المَقَاسِمُ - لتَشْتَعِلُ عَلَيْهِ نَاراً» فلما سمع الناسُ ذلك جاء رجل بشراك أو شراكين إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: «شَرِاكٌ أو شَرِكَانِ مِنْ نَارٍ» وامتناعه من الصلاة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 26 على مَنْ غَلَّ دليلٌ على تعظيم الغلولِ، وتعظيم الذنب فيه، وأنه من الكبائر، وهو من حقوق الآدميين، ولا بُدَّ فيه من القصاص بالحسنات والسيئات، ثم صاحبه في المشيئة وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «شَرِاكٌ أو شَرِاكَانِ مِنْ نَارٍ» مثل قوله: «أدُّوا الْخِيَاطَ وَالْمَخِيطَ» وهذا يدل على أن القليلَ والكثير لا يحلّ أخذهُ في الغَزْو قبل المقاسم، إلا ما أجمعوا عليه من أكل المطاعم في أرض الغزو والاحتطابِ والاصطيادِ. فصل قال القرطبيُّ: أجمع العلماءُ على أنه يجب على الغالِّ أن يرد ما غله إلى صاحب المقاسم قبل أن ينصرف الناسُ - إذا أمكنه - فذلك توبته. واختلفوا فيما يُفْعَل به إذا افترق أهلُ العسكر ولم يصل إليه، فقال جماعة من أهل العلمِ: يدفع إلى الإمام خمسه ويتصدق بالباقي - وكذا كل مال لا يعرف صاحبه فإنه يُتَصدق به - وقال الشاافعيُّ: ليس له الصدقة بمال غيره. فصل اختلفوا هل يعاقب الغلّ بإحراق متاعه؟ قال مالك والشافعيُّ وأبو حنيفة وأصحابهم والليث: لا يحرق متاعه. وقال الشافعيُّ: إن كان عالماً بالنهي عوقب. وقال الأوزاعيُّ: يُحْرَق متاع الغال كلُّه إلا سلاحه وثيابَه التي عليه وسرجه، ولا يُنْزَع منه دابتُه، ولا يُحْرَقُ الشيءُ الذي غَلَّ، وهذا قول أحمد وإسحاق، وقال الحسن: إلا أن يكون حيواناً أو مصحفاً. فصل في العقوبة بالمال، قال مالك - في الذَّمِّيّ الذي يبيع الخمرَ من المُسْلِمِ - يراق الخمر على المُسْلِمِ، ويُنْزَع الثمن من الذميّ؛ عقوبةً له؛ لئلا يبيعَ الخمر بين المسلمين، وقد أراق عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لبناً شِيَبَ بِماء. فصل من الغلول هدايا العمال؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للذي أهْدِيَ إليْه، وكان بعضه على الصدقة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 27 فأهْدِيَ إليه فقال: هذا لكم، وهذا أهْدِيَ إليَّ فقال عليه السلام: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ، فَيَجِيءُ، فَيَقُولُ: هَذَا لَكُمْ، هَذَا لَكُمْ، وهَذَا أهْدِيَ إليَّ، ألاَ جَلَسَ فِي بَيْتِ أُمِّهِ وَأبِيهِ، فَيَنْظُرَ أيُهْدَى إلِيْهِ أَمْ لاَ» . فصل ومن الغلول - أيضاً - حَبْس الكتبِ عن أصحابها، وما في معناها. قال الزهريُّ: إياك وغلول الكتبِ، فقيل له: وما غلول الكتب؟ قال حبسها عن أصحابها. وقد قيل - في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} أي: يكتم شيئاً من الوحي؛ رغبةً، أو رهبةً، أو مُدَاهَنَةً. قوله: {ثُمَّ توفى} هذه الجملة معطوفة على الجملة الشرطية، وفيها إعلامٌ أن الغالَّ وغيره من جميع الكاسبين لا بد وأن يُجَازوا، فيندرج الغالُّ تحت هذا العموم - أيضاً - فكأنه ذُكِرَ مرتَيْن. قال الزمخشريُّ: فإن قلتَ: هلاَّ قِيلَ: ثم يُوَفَّى ما كسب؛ ليتصل به؟ قلت: جيء بعامٍّ دخل تحته كلُّ كاسب من الغالِّ وغيره، فاتصل به من حيث المعنى، وهو أثبتُ وأبلغ. فصل تمسك المعتزلة بهذا في إثبات كون العبد فاعلاً، وفي إثبات وعيد الفساق. أما الأول: فلأنه - تعالى - قال - في القاتل المتعمد -: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] وأثبت في هذه الآية أن كلَّ عاملٍ يصل إليه جزاؤه، فيحصل - من مجموع الآيتين - القطع بوعيد الفساق. والجواب عن الأول: المعارضة بالعلم، وعن الثاني: أن هذا العموم مخصوص في صورة التوبةِ فكذلك يجب أن يكون مخصوصاً في صورة العفو، للدلائل الدالة على العفو. ثم قال تعالى: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 لما قال - في الآية الأولى -: {ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أتبعه بتفصيل هذه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 28 الجملة، فقال: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} والكلام [في] مثله قد تقدم من أن الفاء النية بها التقديم على الهمزة، وأن مذهب الزمخشريِّ تقدير فعل بينهما. قال أبو حيّان: وتقديره - في هذا التركيب - متكلِّف جدًّا. والذي يظهر من التقديرات: أجعل لكم تمييزاً بين الضالِّ والمهتدي، فمن اتبع رضوان الله واهتدَى ليس كَمَنْ باء بسخَطِه؛ وغل؛ لأن الاستفهام هنا - للنفي. و «مَنْ» - هنا - موصولة بمعنى الذي في محل بالابتداء، والجار والمجرور الخبر، قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون شَرْطاً؛ لأن» كَمَنْ «لا يصلح أن يكون جواباً» . يعني: لأنه كان يجب اقترانه بالفاء؛ لأن المعنى يأباه. و «بِسَخَطٍ» يجوز أن يتعلق بنفس الفعل، أي: رجع بسخطه، ويجوز أن يكون حالاً، فيتعلق بمحذوف، أي رجع مصاحباً لسخطه، أو ملتبساً به، و {مِّنَ الله} صفته. والسَّخَط: الغضبُ الشديدُ، ويقال: سَخَط - بفتحتين - وهو مصدر قياسي، ويقالأ: سُخْط - بضم السين، وسكون الخاء - وهو غير مقيس. ويقال: هو سُخْطةُ الملك - بالتاء - أي في كرهه منه له. وقرأ عاصم - في إحدى الروايتين عنه - رُضْوان - بضم الراء - والباقون بكسرها، وهما مصدران، فالضم كالكُفْران، والكسر كالحِسْبان. فصل الهمزة فيه للإنكارِ، والفاء، للعطف على محذوف، والتقدير: أفمن اتقى فابتع رضوان الله وقوله: «بَاءَ» أي: رجع، وقد تقدم. واختلف المفسّرون، فقال الكلبيُّ والضحَّاك: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} في ترك الغلول {كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله} في فِعْل الغُلول؟ . وقيل: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} بالإيمان به والعمل بطاعة {كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله} بالكفر به والاشتغال بمعصيته؟ وقيل: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} وهم المهاجرون {كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله} وهم المنافقون؟ . وقال الزَّجَّاجُ: لما حمل المشركون على المسلمين دَعَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أصحابه إلى أن يَحْملوا على المشركين، ففعله بعضهم، وتركه آخرونَ، فقوله: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} وهم الذين امتثلوا أمره {كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله} وهم الذين لم يقبلوا قَوْلَه؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 29 قال القاضي: «كُلُّ وَاحِدٍ من هذه الوجوهِ صحيحٌ، ولكن لا يجوز قصر اللفظ عليه؛ لأن اللفظ عام؛ فيجب أن يتناول الكُلُّ، وإن كانت الآيةُ نزلت في واقعة معينة لكن عمومَ اللفظِ لا يُبْطِلُ بِخُصوصِ السبب. وقوله: {وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ} في هذه الجملة احتمالان: أحدهما: أن تكون مستأنفة، أخبر أن مَنْ بَاءَ بِسَخَطه أوَى إلى جهنمَ، وتفهم منه مقابله، وهو أن من اتّبع الرضوانَ كان مأواه الجنة، وإنما سكت عن هذا، ونص على ذلك ليكون أبلغ في الزَّجْر، ولا بد من حذف في هذه الجُمَلِ، تقديره: أفمن أتبع ما يؤول به إلى رضا الله فباء برضاه كمن أتبع ما يؤول به إلى سخطه؟ الثاني: أنها داخلة في حَيِّز الموصول، فتكون معطوفة على» بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ الله «فيكون قد وصل الموصول بجملتين: اسمية وفعلية، وعلى الاحتمالين، لا محلَّ لها من الإعراب. قوله: {وَبِئْسَ المصير} المخصوص بالذم محذوف، أي وبئس المصيرُ جهنمُ. واشتملت الآية على الطباق في قوله: {يَنصُرْكُمُ} و {يَخْذُلْكُمْ} وقوله: {رِضْوَانَ الله} و» بسخطه «والتجنيس المماثل في قوله: {يَغُلَّ} و {بِمَا غَلَّ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 {هُمْ دَرَجَاتٌ} مبتدأ وخبر، ولا بد من تأويل [بالإخبار] بالدرجات عن «هم» لأنها ليست إياهم، فيجوز أن يكون جُعُلوا نَفْسَ الدرجات مبالغةً، والمعنى: أنهم متفاوتون في الجزاء على كَسْبهم، كما أن الدرجات متفاوتة والأصل على التشبيه، أي: هم مثل الدرجات في التفاوت. ومنه قوله: [الوافر] 1686 - أنصْبٌ لِلْمَنِيَّةِ تَعْتَريهم ... رِجَالِي أمْ هُمُ دَرَجُ السُّيُولِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 30 ويجوز أن يكون على حَذْف مضاف، أي: هم ذوو درجات، أي: أصحاب منازل ورُتَب في الثواب والعقاب وأجاز ابنُ الخطيب أن يكون في الأصل: لهم درجاتٌ - فحُذِفت اللامُ - وعلى هذا يكون «درجات» مبتدأ، وما قبلها الخبرُ، وردَّه بعضهم، وقال: هذا من جهله وجهل متبوعيه - من المفسرين - بلسان العرب، وقَالَ: لا مساغ لحذف اللام ألبتة؛ لأنها إنما تُحَذَف في مواضع يضطر إليها، وهنا المعنى واضحٌ، مستقيم من غير تقدير حَذْف. قال شهابُ الدينِ: «وادِّعاء حذف اللام خَطَأٌ، والمخطئ معذورٌ؛ وقد نُقِلَ عن المفسرين هذا، ونقل عن ابن عبَّاسٍ والحسنِ لكل درجات من الجنة والنار، فإن كان هذا القائل أخذ من هذا الكلام بأن اللام محذوفة فهو مخطئ؛ لأن هؤلاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - يفسَِّرون المعنى لا الإعراب اللفظي» . وقرأ النخعي «هم درجة» بالإفراد على الجنس. قوله: {عِندَ الله} فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلق ب «درجات» فيكون في محل رفع. فصل «هم» عائد إلى لفظ «من» في قوله: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} ولفظ «كم» معناه الجمع. ونظيره قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} [السجدة: 18] . ثم قال: «لا يستوون» بصيغة الجمع، وهو عائد إلى «من» . واعلم أنه لما عاد إلى المتقدم ذكره، والذي تقدّم ذكره نوعان: من اتبع رضوان الله، ومن باء بسخطٍ من الله - يُحتمل أن يعودَ إلى الأول، ويحتمَل أن يعودَ إلى الثاني، ويحتمل أن يعودَ إليهما، فإن عاد إلى الأول صَحَّ - ويكون التقديرُ: إنّ أهلَّ الثَّواب درجات على حسب أعمالهم - لوجوه: الأول: ان الغالب - في العُرْف - استعمال الدرجاتِ في أهل الثّوابِ والدركات في أهل العقاب. الثاني: أن ما كان من الثّواب والرحمة فإن الله يُضيفه إلى نفسه وما كان من العقاب لا يضيفه إلى نفسه قال تعالى: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 54] فلما أضاف هذه الدرجات إلى نفسه - حيث قال: «عند الله» - علمنا أن المراد أهل الثواب ويؤكده هذا قوله تعالى: {انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} [الإسراء: 21] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 31 الثالث: أنه - تعالى - وصف مَنْ باء بِسَخَطٍ من الله - وهو أن مأواهم جهنم وبئس المصيرِ - فوجب أن يكون قوله: «هم درجات» وصفاً لمَن اتبع رضوان الله. وإن أعدنا الضمير إلى مَنْ باء بسخط فلأنه أقرب، وهو قول الحسن، قال: إن المراد به أن أهل النارِ متفاوتون في مراتب العذاب، كقوله: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ} [الأحقاف: 19] وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنَّ فِيهَا ضَحْضَاحاً وغَمْراً، وأنَا أرَجْو أنْ يَكُونَ أبُو طِالِبٍ فِي ضَحْضَاحِهَا» . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ رجُلٌ لَهُ نَعْلانِ مِنْ نَارٍ يَغْلِي مِنْ حَرِّهِمَا دِمَاغُهُ» . وإذا أعدنا الضمير إليهما فلأن درجات أهل الثواب متفاوتة، وكذلك درجات أهل العقاب، قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] . وقوله: «عَنْدَ اللهِ» أي: في حكم الله وعلمه، كما يقال: هذه المسألة عند الشافعيّ كذا، وعند أبي حنيفة كذا. ثم قال: «واللهُ بَصيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ» أي «عالم بجميع أفعال العباد على التفصيل. فصل ذكر محمدُ بن إسحاق - في تأويل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161]- وجهاً آخر، فقال: أي: ما كان لنبي ان يكتمَ الناس ما بعثه الله به إليهم، رغبةً أو رهبةً، ثم قال: {أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله} يعني رجَّح رضوانَ الله على رضوان الخَلْق وسَخَط الله على الخَلْق {كَمَن بَآءَ بِسَخْطٍ مِّنَ الله} فرجَّح سخَط الخلق على سخط الله، ورضوان الخَلْق على رضوان الله؟ ووجه النَّظم - على هذا التقدير - أنه تعالى لما قال: {فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر} [آل عمران: 159] بيَّن أنَّ ذلك إنما يكون معتبراً إذا كان على وفق الدين، فأما إذا كان على خِلاف الدّينِ فإنه غيرُ جائزٍ، فكيف يُمِنُ التسويةُ بينَ من اتبع رضوانَ الله وطاعته وبَيْنَ من اتبع رضوانَ الخلقِ؟ قال ابنُ الخَطِيبِ:» وهذا الذي ذكره مُحْتَمَل، لأنا بيَّنَّا أنَّ الغلولَ عبارةٌ عن الخيانة على سبيل الخفية، فأما اختصاص هذا اللفظ بالخيانة في الغنيمة، فهو عُرْفٌ حادِثٌ «. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 «لقد من الله» جوابٌ لقسم نحذوفٌ، وقُرِئ: لَمِنْ مَنَّ الله - ب «من» الجارة، و «منِّ» - بالتشديد مجرورها - وخرَّجه الزمخشريُّ على وجهينِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 32 أحدهما: أن يكون هذا الجارُّ خبراً مقدماً والمبتدأ محذوفٌ، تقديره: لمن من الله على المؤمنين مَنُّهُ، أو بعثه إذ بَعَثَ فيهم، فحذف لقيامِ الدَّلالةِ. الثاني: أنه جعل المبتدأ نفس «إذ» بمعنى: وقتٍ: وخبرها الجارُّ قبلها، وتقديره: لمن من الله على المؤمنين وقت بَعْثِهِ، ونظره بقولهم: أخطب ما يكون الأميرُ إذا كان قائماً. وهذان وجهانِ - في هذه القراءة - مما يدلان على رسوخ قدمِهِ في هذا العلمِ. قال شهابُ الدينِ: إلا أن أبا حيان قد ردَّ عليه الوجه الثاني بأن «إذ» غيرُ متصرفةٍ، لا تكون إلا ظرفاً، أو مضافاً إليها اسم زمان أو مفعولة ب «اذكر» - على قول - ونقل قول أبي علي - فيها وفي «إذا» أنهما لم يردا في كلام العربِ إلا ظرفين، ولا يكونان فاعلين، ولا مفعولين، ولا مبتدأين. قال: ولا يحفظ من كلامهم: إذْ قام زيد طويل - يريد: وقت قيامه طويل - وبأن تنظيره القراءة بقولهم: أخطب ما يكون الأمير إذا كان قائماً، خطأ؛ من حيث أن المشبه مبتدأ، والمشبهُ به ظرف في موضعِ الخبرِ - عند من يُعْرِب هذا الإعرابَ - ومن حيثُ إنَّ هذا الخبرَ - الذي قد أبرزه ظاهراً واجب الحذف؛ لسَدِّ الحال مَسَدَّه، نص عليه النحويونَ الذين يعربونه هكذا، فكيف يبرزه في اللفظ؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 33 قال شهابُ الدين: «وجواب هذا الردِّ واضحٌ وليت أبا القاسم لم يذكر تخريج هذه القراءة؛ لكي نسمع ما يقول هو» . والجمهورُ على ضم الفاء - من أنفسهم - أي: من جملتهم وجنسهم، وقرأت عائشةُ، وفاطمةُ والضّحّاكُ، ورواها أنس عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بفتح الفاء، من النَّفاسة - وهي الشرف - أي: من أشرفهم نسباً وخَلْقاً، وخُلُقاً. وعن علي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أنا أنفسكم نسباً، وحسباً، وصهراً» وهذا الجارُّ يحتمل وجهين: الأول: أن يتعلق بنفس «بعث» . الثاني: أن يتعلق بمحذوف، على أنه وصف ل «رسولاً» فيكون منصوب المحل، ويقوي هذا الوجه قراءة فتح الفاء. فصل في المراد ب «أنفسهم» قيل: أراد به العرب؛ لأنه ليس حَيّ من أحياء االعرب إلا وقد ولد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولد فيهم نسب، إلا بني تغلب، لقوله تعالى: {هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ} [الجمعة: 2] . وقال آخرون: أراد به جميع المؤمنين. ومعنى قوله: «من أنفسهم» أي: بالإيمان والشفقة، لا بالنسب، كقوله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] . ووجه هذه المِنَّة: أن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعوهم إلى ما يُخَلِّصُهم من عقابِ الله، ويوصلهم إلى ثواب الله، كقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وأيضاً كونه من أنفسهم لأنه لو كان من غير جنسهم لم يَرْكَنوا إليه. وخص هذه المنة بالمؤمنين لأنهم المنتفعون بها، كقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] . فصل قال الواحدي: المَنّ - في كلام العرب - بإزاء مَعَانٍ: أحدها: الذي يسقط من السماء، قال تعالى: {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى} [البقرة: 57] . ثانيها: أن تُمَنَّ بما أعطيتَ كقوله: {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} [البقرة: 264] . ثالثها: القَطْع، كقوله: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} [الانشقاق: 25] وقوله: {وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ} [القلم: 3] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 34 رابعها: الإنعام والإحسان إلى مَنْ يطلب الجزاء منه، ومنه قوله: {هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [ص: 39] . وقوله: {وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ} [المدثر: 6] . والمنَّان - في صفة الله تعالى -: المُعْطِي ابتداً من غير طلب عِوَضٍ، ومنه الآية: {لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين} [آل عمران: 164] أي: أنعم عليهم، وأحْسَن إليهم ببعثِهِ هذا الرسول. قوله: {يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ} [الجمعة: 2] في محل نصب حال، أو مستأنف. وقال القرطبي: «يتلو» في موضع نصب، نعت ل «رسولاً» - وقد تقدم نظيرها في البقرة. {وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة} [آل عمران: 164] معنى الآية: يبلغهم الوحي، ويطهرهم، ويعلمهم الكتاب - أي: معرفة الأحكام الشرعية - والحكمة - أي: أسرارها وعِلَلَها ومنافعها - ثم قال: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} وهذا وَجْه النعمة؛ لأن ورود العلم عقيب الجهل من أعظم النعم. قوله: {وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ} هي «إن» المخففة، واللام فارقة - وقد تقدم تحقيقه - إلا أن الزمخخشري ومكيًّا - هنا - حين جعلاها مخففة قدَّرَا لها اسماً محذوفاً. فقال الزمخشري: «وتقديره: إن الشأن، وإن الحديث كانوا من قبل» . وقال مكي: «وأما سيبويه فإنه قال» إن «مخففة من الثقيلة، واسمها مضمر، والتقدير - على قوله -: وإنهم كانوا من قبل لفي ضلال مبين» وهذا ليس بجيّد؛ لأن «إن» المخففة إنما تعمل في الظاهر - على غير الأفصح - ولا عمل لها في المضمر ولا يقَدَّر لها اسمٌ محذوفٌ ألبتة، بل تُهْمَل، أو تعمل - على ما تقدم - مع أن الزمخشريَّ لم يُصَرِّحْ بأن اسمها محذوف، بل قال: «إن» هي المخففة من الثَّقِيلَةِ، واللام فارقة بينها وبين النافية، وتقديره: وإن الشأن والحديث كانوا؛ وهذا تفسيرُ معنى لا إعراب. وفي هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنها استئنافية، لا محلَّ لَهَا مِنَ الأعْرَاب. والثاني أنها محل نَصْب على الحال من المفعول به - في: «يعلمهم» وهو الأظهر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 الهمزة للإنكار، وجعلها ابنُ عطية للتقرير، والواو عاطفة، والنية بها التقديم على الهمزة. وقال الزمخشري: و «لما» نصب ب «قلتم» و «أصابتكم» في محل الجر، بإضافة « الجزء: 6 ¦ الصفحة: 35 لما» إليه، وتقديره: أقلتم حين أصابتكم. و «أنى هذا» نصب؛ لأنه مقول، والهمزة للتقرير والتقريع. فإن قلتَ: علامَ عطفت الواو هذه الجملة؟ قلتُ: على ما مضى من قصة أحُد - من قوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} -[آل عمران: 152] ويجوز أن تكونَ معطوفة على محذوف، [كأنه قيل] : أفعلتم كذا، وقلتم حينئذ كذا؟ انتهى. أمّا جعله «لما» بمعنى «حين» - أي ظرفاً - فهو مذهب الفارسيِّ وقد تقدم تقرير المذهبين وأما قوله: «عطف على قصة أحد» فهذا غير مذهبه، لأن الجاري من مذهبه إنما هو تقديرُ جملة، يعطف ما بعد الواو عليها - أو الفاء، أو «ثم» - كما قرره هو في الوجه الثاني. و «أنى هذا» «أنى» بمعنى من أين - كما تقدم في قوله: {أنى لَكِ هذا} [آل عمران: 37]- ويدل عليه قوله: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} وقوله: {مِنْ عِنْدِ الله} قاله الزمخشري. ورد عيله أبو حيّان بأن الظرف إذا وقع خبراً للمبتدأ لا يقدَّر داخلاً عليه حرف جر، غير «في» . أما أن يقدر داخلاً عليه «من» فلا؛ لأنه إنما انتصب على إسقاط «في» ولذلك إذا أضمِر الظرف تعدى إليه الفعل بواسطة «في» إلا أن يتسع في الفعل فينصبه نصب التشبيه بالمفعول به، فتقدير الزمخشريُّ غيرُ سائغٍ، واستدلاله بقوله تعالى: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} وقوله: {مِنْ عِنْدِ الله} وقوف مع مطابقة الجواب للسؤال في اللفظ، وذهول عن هذه القاعدة التي ذكرناها. واختار أبو حيان أن «أنى» بمعنى «كيف» قال: و «أنى» سؤالٌ عن الحال - هنا - ولا يناسب أن يكون - هنا - بمعنى «أين» أو «متى» لأن الاستفهام لم يقع عن المكان، ولا عن الزمان، إنما وقع عن الحال التي اقتضت لهم ذلك، سألوا عنها على سبيل التعجُّب - وجاء الجواب من حيث المعنى لا من حيثُ اللفظ - في قوله: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} - والسؤال ب «أنى» سؤال عن تعيين كيفية حصول هذا الأمرِ، والجواب كقوله: {مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} يتضمن تعيين الكيفية؛ لأنه بتعيين السبب تتعين الكيفيةُ من حيثُ المعنى لو قيل - على سبيل التعجُّبِ والإنكارِ -: كيف لا يحج زيد الصَّالحُ؟ وأجيب ذلك بأن يقال: لعدم استطاعته، لحصل الجوابُ، وانتظم من المعنى أنه لا يحج وهو غير مستطيعٍ. قال شهابُ الدينِ: «أما قوله: لا يقدِّر الظرف بحرف جَرّ غير» في «فالزمخشريُّ لم يقدر» في «مع» أن «حتى يلزمه ما قال، إنما جعل» أنى «بمنزلة» من أين «في المعنى. وأما عدوله عن الجواب المطابق لفظاً فالعكسُ أولى» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 36 قوله: {قَدْ أَصَبْتُمْ} في محل رفع؛ صفة ل «مصيبة» . و «قلتم» - على مذهب سيبوبه - جواب «لما» وعلى مذهب الفارسيّ ناصب لها على حسب ما تقدم من مذهبيهما. قوله: {قُلْ هُوَ} هذا الضمير راجع على «المصيبة» من حيثُ المعنى، ويجوز أن يكونَ حذفُ مضافٍ مراعى - أي: سببها - وكذلك الإشارة لقوله: {أنى هذا} لأن المراد المصيبة. فصل وجه النظم: أنه - تعالى - لما أخبر عن المنافقين بأنهم نسبوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الغلول حكى عنهم شُبْهَةً أخرى في هذه الآية، وهي قولهم: لو كان رسولاً من عند الله لما انهزم عسكرهُ من الكفار في يوم أحُدٍ، وهو المرادُ من قولهم: أنى هذا؟ وأجاب الله تعالى عنه بقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} أي: هذا الانهزامُ إنما حصل بشؤم عصيانكم. ومعنى: {قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا} أن المشركين قتلوا من المسلمين - يوم أحُدٍ - سبعين، وقتل المسلمون منهم - يوم بدر - سبعين، وأسروا سبعينَ، والأسيرُ في حكم القتيلِ، لأن الآسر يقتل أسيره إن أراد. {قُلْتُمْ أنى هذا} : من أين لنا هذا القتلُ والهزيمة، ونحن مسلمونَ، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فينا؟ {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} روى عبيدة السَّلْمَاني عن علي قال: جاء جبريل إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم بدر، فقال: يا مُحَمَّدُ، إن الله قد كَرِهَ ما صنع قومك - من أخذهم الفداء من الأسارى - وقد أمرك أن تخيرهم بين أن يقدموا الأسارى، فتضرب أعناقهم، وبين أن يأخذوا الفداء على أن يقتل منهم عِدَّتهم، فذكر ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للنّاسِ، فقالوا: يا رسولَ الله، عشائرنا، وإخواننا، لا، بل نأخذ منهم الفداء، فتتقوّى به على قتال العدو، ونرضى أن يستشهد منا عشدَّتهم، فقُتِلَ منهم - يوم أحدٍ - سبعونَ، عدد أسارى أهل بدر، فهذا معنى قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} أي: بأخذ الفداء، واختياركم القتلَ. وقيل: إنما وقعتم في هذه المصيبة بشُؤم معصيتكم في الأمور المتقدم ذِكرها. فصل استدل المعتزلةُ بقوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} على أن أفعال العبد غير مخلوقةٍ لله تعالى من وجوهٍ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 37 أحدها: أنه لو كان ذلك حاصلاً بخَلْق الله تعالى - ولا تأثير للعبد فيه - كان قوله: {قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ} كذباً. ثانيها: أنهم تعجبوا كيف سلط الله الكافرَ على المؤمن؟ فأزال الله ذلك التعجب بقوله: إنما وقعتم في هذا المكروه بشُؤم فعلكم، فلو كان خلقاً لله لم يصح الجوابُ. ثالثها: أن القوم قالوا: {أنى هذا} أي: من أينَ هَذَا؟ وهذا طلبٌ لسبب الحدوثِ، فلو لم يكن المحدث لها هو العبدُ لم يكن الجوابُ مطابقاً للسؤال. وأجيبوا عن الأوليْن بالمعارضة بالآيات الدالة على كون أفعال العبدِ بإيجاد الله تعالى، وعن الثالث بأنه لو كانوا هم الذين أوجدوا الفعل لم يحسن منهم السؤالُ عن سببه. ثم قال: {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: قادر على نصْركم - لو صبرتم وثبتُّم - كما قدر على التخلية - إذ خالفتم وعصيتم - وهذا يدل على أن فعل العبد مخلوق لله تعالى، قالوا: لأن فعل العبد شيء، فيكون الله قادراً على إيجاده، فلو أوجده0 العبد امتنع كونه - تعالى - قادراً على إيجاده؛ لأنه لما أوجده العبد امتنع من الله إيجاده، لأن إيجادَ الموجودِ مُحَالٌ، والمُفضِي إلى المُحَالِ مُحَالٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 «ما» موصولة بمعنى الذي، في محل رفع بالابتداء، و «بإذن الله» الخبر، وهو على إضمار مبتدأ، تقديره: فهو بإذن الله، ودخلت الفاء في الخبر؛ لشِبْه المبتدأ بالشرط، نحو: الذي يأتيني فله درهم، وهذا - على ما قرره الجمهورُ - مُشْكِل؛ وذلك أنهم قرروا أنه لا يجوز دخول هذه الفاءِ زائدةً في الخبر إلا بشروط. منها: أن تكون الصلةُ مستقبلةً في المعنى؛ وذلك لأن الفاءَ إنما دخلت للشِّبْه بالشَّرط، والشّرط إنما يكون في الاستقبال، لا في الماضي، لو قلت: الذي أتاني أمس فله درهم، لم يصحّ، «وأصابكم» - هنا - ماضٍ في المعنى؛ لأن القصة ماضية، فكيف جاز دخول هذه الفاءِ زائدةً في الخبر إلا بشروط. منها: أن تكون الصلةُ مستقبلةً في المعنى؛ وذلك لأن الفاءَ إنما دخلت للشِّبْه بالشَّرط، والشّرط إنما يكون في الاستقبال، لا في الماضي، لو قلت: الذي أتاني أمس فله درهم، لم يصحّ، «وأصابكم» - هنا - ماضٍ في المعنى؛ لأن القصة ماضية، فكيف جاز دخول هذه الفاء؟ أجابوا عنه بأنه يُحْمل على التبيُّن - أي: وما تبين إصابته إياكم - كما تأولوا قوله: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ} [يوسف: 26]- أي تبين - وهذا شرطٌ صريحٌ، وإذا صحَّ هذا التأويل فلْنَجْعَل «ما» - هنا - شرطاً صريحاً، وتكون الفاء داخلة وجوباً؛ لكونها واقعة جواباً للشرط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 38 وقال ابنُ عطية: «يحسن دخولُ الفاء إذا كان سببَ الإعطاء، وكذلك ترتيبُ هذه، فالمعنى إنما هو: وما أذن الله فيه فهو الذي أصابكم، لكن قدم الأهم في نفوسهم، والأقرب إلى حسّهم. والإذن: التمكينُ من الشيء مع العلم به» . وهذا حسنٌ من حيثُ المعنى؛ فإن الإصابة مرتبة على الإذْن من حيث المعنى، وأشار بقوله: الأهم والأقرب، إلى ما أصابهم يوم التقى الجَمْعَانِ. فصل ذكر في الآية الأولى أن الذي أصابهم كان من عند أنفسهم، وذكر هذه الآية وجهاً آخرَ، وهو أن يتميز المؤمنُ عن المنافقِ، والمراد بالجمعينِ هو جمعُ المؤمنينَ، وجمعُ المشركينَ في يوم أحُدٍ. واختلفوا في المراد بقوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله} [التوبة: 3] وقوله: {آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ} [فصلت: 47] وقوله: {فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} [البقرة: 279] وطعن الواحدي في هذا بأن الآية إنما هي لتسلية المؤمنين مما أصابهم، ولا تحصل التسلية إذا كان ذلك واقعاً بعِلة؛ لأن علمه عام في جميع المعلومات. وقيل: فبأمر الله؛ لقوله: {ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ} [آل عمران: 152] والمعنى: أنه - تعالى - لما أمر بالمحاربة، ثم أدت تلك المحاربة إلى ذلك الانهزام صح - على سبيل المجاز - أن يقال: حصل ذلك بأمره. ونُقِل - عن ابن عباسٍ - أن المرادَ من الإذن قضاءُ الله بذلك وحكمه به. وهذا أولى؛ لأن الآية تسلية للمؤمنين مما أصابهم، وبهذا تحصل التسلية. قوله: {وَلِيَعْلَمَ المؤمنين} في هذه اللام قولان: أحدهما: أنها معطوفة على معنى قوله: {فَبِإِذْنِ الله} عطف سبب على سبب، فتتعلق بما تتعلق به الباء. الثاني: أنها متعلقة بمحذوف، أي: وليعلم فعل ذلك - أي: أصابكم - والأول أولى - وقد تقدم أن معنى: وليعلم الله كذا: أي يُبَيِّن، أو يظهر للناس ما كان في علمه، وزعم بعضهم أن ثَمَّ مضافاً، أي: ليعلم إيمان المؤمنين، ونفاق المنافقين، ولا حاجة إليه. قوله: {وَلْيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ} قال الواحدي: «يقال: نَافَقَ الرَّجُلُ - فهو منافقٌ - إذا أظهر كلمة الإيمان، وأضمَر خلافَها، والنفاق اسم إسلامي، اختلِف في اشتقاقه على وجوهٍ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 39 أحدها: قال أبو عبيد: من نافقاء اليربوع؛ لأن حجر اليربوع لها بابان: القاصعاء، والنافقاء، فإذا طلب من أيهما خرج من الآخر، فقيل للمنافق: إنه منافق لأنه وضع لنفسه طريقين: إظهار الإسلام، وإضمار الكُفْرِ، فمن أيهما طُلِب خرج من الآخر. الثاني: قال ابنُ الأنباري: المنافق من النَّفَق، وهو السربُ، ومعناه: أنه يتستّر بالإسْلامِ كما يتستَّر الرجُلُ في السِّرْبِ. الثالث: أنه مأخوذٌ من النافقاء، ولكن على غير الوجه الذي ذكره أبو عبيدٍ، وهو أن النافقاء جثحْر يحفره اليربوعُ في داخل الأرضِ، ثم إنه يُرقِّق ما فوقَ الجُحر، حتى إذا رابه رَيْبٌ، رفع التراب برأسه وخرج، فقيل للمنافق: منافق؛ لأنه أضمر الكُفْرَ في باطنه، فإذا فتشته رمى عنه ذلك الكفر، وتمسَّك بالإسلام» . قوله: {وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ} هذه الجملة تحتمل وجهين: الأول: أنْ تكونَ استئنافية، أخبر الله أنهم مأمورونَ إما بالقتال، وإما بالدَّفْع، أي: تكثير سواد المسلمين. الثاني: أن تكون معطوفة على «نافقوا» فتكون داخلة في صلة الموصول، أي: ليعلم الذين حصل منهم النفاقُ والقول بكذا و «تعالوا» و «قاتلوا» كلاهما قام مقام الفاعل ل «قيل» لأنه هو المقول. قال أبو البقاء: إنما لم يأتي بحرف العطف - يعني بين «تعالوا» و «قاتلوا» - لأنه أراد أن يجعل كل واحدةٍ من الجملتين مقصودة بنفسها، ويجوز أن يقال: إن المقصودَ هو الأمر بالقتال، و «تعالوا» ذكر ما لو سكت عنه لكان في الكلام دليل عليه. وقيل: الأمر الثاني حال. يعني بقوله: «تعالوا» ذكر ما لو سكت، أن المقصود إنما أمرهم بالقتال، لا مجيئهم وحده، وجعله «قاتلوا» حالاً من «تعالوا» فاسد؛ لأن الجملة الحالية يُشْتَرط أن تكونَ خبرية، وهذه طلبية. قوله: «أو ادفعوا» «أو» - هنا - على بابها من التخيير والإباحة. وقيل: بمعنى الواو؛ لأنه طلب منهم القتال والدفع، والأول أصح. فصل اختلفوا في القائل، فقال الصمُّ: إنه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يَدْعُوهُمْ إلى القتال. وقيل: إن عبد الله بن أبيّ ابن أبي سلول لما خرج بعسكره إلى أحُد قال: لم نُلْقي أنفسَنا في القتل؟ فرجعوا، وكانوا ثلاثمائةٍ من جملة الألف الذي خرجوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال لهم عبد الله بن عمرو بن حرام - أبو جابر بن عبد الله الأنصاريّ -: أذكركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عند حضور العَدَوِّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 40 فصل معنى {قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا} يعني: إن كان في قلوبكم حُبُّ الدين والإسلام فقاتلوا للدين والإسلام، وإن لم تكونوا كذلك، فقاتلوا دفعاً عن أنفسكم وأهليكم وأموالكم. وقال السُّدَّيُّ: وابنُ جُرَيْج: ادفعوا عنا العدو بتكثير سوادنا - إن لم تقاتلوا معنا - لأن الكثرة أحد أسباب الهَيْبة. وقوله: {قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً} إنما لم يَأتِ - في هذه الجُمْلة - بحرف عطف؛ لأنها جواب لسؤال سائل كأنه قيل: فما قالوا - لما قيل لهم ذلك -؟ فأجيب بأنهم قالوا ذلك. و «نعلم» - وإن كان مضارعاً - معناه المُضِيّ؛ لأن «لو» تخص المضارع، إذا كانت لما سيقع لوقوع غيره، ونكَّر «قتالاً» للتقليل، أي: لو علمنا بعض قتال ما. وهذا جواب المنافقين حين قيل لهم: {تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا} فقال تعالى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} . «هم» مبتدأ، و «أقرب» خبره، وهو أفعل تفضيل، و «للكفر» متعلق به، وكذلك «للإيمان» . فإن قيل: لا يتعلق حرفا جر - متحدان لفظاً ومعنىً - بعامل واحد، إلا أن يكونَ أحدهما معطوفاً على الآخر، أو بدلاً منه، فكيف تعلقا ب «أقرب» ؟ فالجوابُ: أن هذا خاصٌّ بأفعل التفضيل، قالوا: لأنه في قوة عاملين، فإنّ قوة قولك زيدٌ أفضلُ مِنْ عَمْرو، معناه: يزيد فضله على فضل عمرو. وقال أبو البقاء: «وجاز أن يعمل» أقرب «فيهما؛ لأنهما يشبهان الظرف، وكما عمل» أطيب «في قولهم: هذا بسراً أطيب منه رُطباً، في الظرفين المقدرين لأن» أفعل «يدل على معنيين - على أصل الفعلِ وزيادتهِ - فيعمل في كل واحد منهما بمعنى غير الأخر، فتقديره: يزيد قُرْبهم إلى الكفر على قربهم إلى الإيمان» . ولا حاجة إلى تشبيه الجارين بالظرفين؛ لأن ظاهره أن المسوغ لتعلقهما بعامل واحد تشبيههما بالظرفين وليس كذلك، وقوله: الظرفين المقدَّرين، يعني أن المعنى: هذا في أوانِ بُسْرَيته أطيب منه. و «أقرب» - هنا - من القُرْب - الذي هو ضد البعدِ - ويتعدى بثلاثة حروف: اللام، و «إلى» و «من» . تقول: قربت لك ومنك إليك، فإذا قلت: زيد أقرب من العلم من عمرو، ف «من» الولى المعدية لأصل معنى القرب، والثانية هي الجارة للمفضول، وإذا تقرر هذا فلا حاجة إلى ادعاء أن اللام بمعنى «إلى» . و «يومئذ» متعلق ب «أقرب» ومذا «منهم» و «من» هذه هي الجارةُ للمفضول بعد «أفعل» وليست هي المعدية لأصل الفعل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 41 ومعنى: {هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ} أنهم كانوا - قبل هذا الوقت - كاتمين للنفاق، فكانوا في الظاهر أبعد من الكفر، فلما ظهر منهم ما كانوا يكتمونه صاروا أقرب للكفر؛ لأن رجوعهم عن معاونة المسلمين دَلَّ على أنهم ليسوا من المسلمين. وقيل: المعنى أنهم لأهل الكفر أقرب نُصْرَةً منهم لأهل الإيمان؛ لأن تقليلَهم سوادَ المسلمين يؤدي إلى تقوية المشركين. و «إذ» مضافةٌ لجملةٍ محذوفةٍ، عُوِّضَ منها التنوين، وتقدير هذه الجملة: هم للكفر يوم إذ قالوا: لو نَعْلَم قتالاً لاتبعناكم. وقيل: المعنى على حذف مضاف، أي: هم لأهل الكفر أقرب منهم لأهل الإيمان، وفُضِّلُوا - هنا - على أنفسهم باعتبار حالين ووقتين، ولولا ذلك لم يَجُزْ، تقول: زيدٌ قاعداً أفضل منه قائماً، أو زيد قاعداً اليوم أفضل منه قاعداً غداً. ولو قلت: زيد اليوم قاعداً أفضل منه اليوم قاعداً. لم يَجُزْ. وحكى النقاش - عن بعض المفسّرين - أن «أقرب» - هنا - ليست من معنى القُرب - الذي هو ضد البُعْدِ - وإنما هي من القَرَب - بفتح القاف والراء - وهو طلبُ الماءِ، ومنه قارب الماء، وليلةُ القُرْب: ليلة الورود، فالمعنى: هم أطلب للكفر، وعلى هذا تتعين التعدية باللام - على حَدِّ قولك: زيد أضربُ لعمرو. فصل قال أكثرُ العلماءِ: هذا تنصيصٌُ من الله تعالى على أنهم كفار. قال الحَسَنُ: إذا قال الله تعالى: «أقرب» فهو اليقين بأنهم مشركون، وهو مثل قوله: {مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] فهذه الزيادة لا شك فيها، وأيضاً فالمكَلَّف لا يمكن أن ينفك عن الإيمان والكُفْرِ فلما دلَّت الآية على القُرْب من الكفر لزم حصول الكفر. وقال الواحديُّ - في «البسيط» : هذه الآية دليلٌ على أن مَنْ اتى بكلمة التوحيد لم يكفر، ولم يطلق القول بتكفيره؛ لأنه - تعالى - لم يطلق القول بتكفيرهم - مع أنهم كانوا كافرين - لإظهارهم كلمة التوحيد. قوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} في هذه الجملة وجهانِ: أحدهما: أنها مستأنفةٌ، لا محلَّ لها من الإعرابِ. الثاني: أنها في محل نَصْب على الحال من الضمير في «أقرب» أي: قربوا للكفر قائلين هذه المقالة - وقوله: {بِأَفْوَاهِهِم} قيل: تأكيد، كقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] . والظاهرُ أن القولَ يُطْلق على اللساني والنفساني، فتقييده بقوله: {بِأَفْوَاهِهِم} تقييد لأحد مُحْتَمَلَيْه، اللهم إلا أن يُقَال: إن إطلاقه على النفسانيّ مجاز، قال الجزء: 6 ¦ الصفحة: 42 الزمخشري: «وذكر الأفواه مع القلوب؛ تصويراً لنفاقهم، وأن إيمانهم موجود في أفواههم، معدوم في قلوبهم» . وبهذا - الذي قاله الزمخشريُّ - ينتفي كونُه للتأكيد؛ لتحصيله هذه الفائدة - ومعنى الاية: أن لسانهم مُخَالِفٌ لقلوبهم، فهم وإن كانوا يُظْهرون الإيمانَ باللسانِ، لكنهم يُضْمِرون في قلوبهم الكُفْرَ. قوله تعالى: {والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} أي: عالم بما في ضمائرهم. فإن قيل: المعلوم إذا علمه عالمانِ لم يكن أحدُهما أعلمَ به من الآخرِ، فما معنى قوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ} ؟ فالجواب: أنّ الله - تعالى - يعلم من تفاصيل تلك الأحوال ما لا يعلمه غيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 جوَّزوا في موضع «الذين» الألقاب الثلاثة: الرفع والنصب والجر، فالرفعُ من ثلاثةِ أوجهٍ: أحدهما: أن يكون مرفوعاً على خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: هم الذين. ثانيها: أنه بدل من واو «يكتمون» . ثالثها: أنه مبتدأ، والخبر قوله: «قل فادْرءوا» ولا بُدَّ من حذف عائدٍ، تقديره: قُلْ لَهُمْ. والنصبُ من ثلاثة أوجه - أيضاً -: أحدها: النصبُ على الذَّم، أي: أذم الذين قالوا. ثانيها: أنه بدل من «الذين نافقوا» . ثالثها: أنه صفة. والجر من وجهينِ: البدل من الضمير في «بأفواهم» أو من الضمير في «قلوبهم» كقول الفرزدق: [الطويل] 1687 - عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي الْقَوْمِ حَاتِماً ... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بِالْمَاءِ حَاتِمِ بجر «حاتم» على أنه بدل من الهاء في «جوده» - وقد تقدم الخلافُ في هذه المسألةِ وقال أبو حيان: وجوَّزوا في إعراب «الذين» وُجُوهاً: الرفع، على النعت ل «الذين نافقوا» أو على أنه خبر لمبتدأ محذوف والنصب ... فذكره إلى آخره. قال شهابُ الدينِ: وهذا عجيبٌ منه؛ لأنَّ «الذين نافقوا» منصوب بقوله: «وليعلم» وهم - في الحقيقة - عطف على «المؤمنين» وإنَّمَا كرر العاملَ توكيداً، والشيخُ لا يخفَى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 43 عليه ما هو أشكلُ من هذا فيحتمل أن يكون تبع غيرَه في هذا السهو - وهو الظاهر من كلامه - ولم ينظر في الآية، اتكالاً على ما رآه منقولاً، وكثيراً ما يقع الناس فيه، وأن يُعْتَقَدَ أنّ «الذين» فاعل بقوله: «وليعلم» أي: فعل الله ذلك ليعلم هو المؤمنين، وليعلم المنافقون، ولكن مثل هذا لا ينبغي أن يجوز ألبتة. قوله: «وقعدوا» يجوز في هذه الجملة وجهانِ: أحدهما: أن تكون حالية من فاعل «قالوا» و «قد» مرادة أي: وقد قعدوا، ومجيء الماضي حالاً بالواو و «قد» أو بأحدهما، أو بدونهما، ثابتٌ من لسان العربِ. الثاني: أنها معطوفة على الصلة، فتكون معترضة بين «قالوا» ومعمولها، وهو «لو أطاعونا» . فصل في المراد ب «الذين» قال المفسّرون المراد ب «الذين» عبدُ بنُ أبَيٍّ وأصحابُهُ. وقال الأصَم: هذا لا يجوزُ؛ لأن عبد الله بن أبي خرج مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الجهادِ يوم أحُدٍ، وهذا القول واقع ممن تخلَّف، لأنه قال: {الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا} أي في القعود «ما قتلوا» فهو كلامُ متأخرٍ عن الجهاد قاله لمن خرج إلى الجهادِ ولمن هو قوي النية في ذلك؛ ليجعله شُبْهَةً فيما بعد، صارفاً لهم عن الجهاد. وهذا فيه نظرٌ؛ لأنه يحتمل أنه أراد بقوله: «وقعدوا» القعود عن القتالِ، لا عن الخروج إلى القتال؛ فإن عبد الله بن أبَيّ خَرَجَ إلى الْقِتَالِ، ولم يُقَاتِل، بل هَرَبَ بمن معه، ويُطْلَق عليه أنه قَعَد عن القتال وهو القائلُ هذا الكلام. وقوله: {لإِخْوَانِهِمْ} أي: لأجل إخوانهم - وقد تقدم: هل المرادُ - من هذه الأخوة - الأخوة في النسب، أو الأخوة بسبب المشاركة في الدَّارِ، أو في عدداوة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو في عبادة الأوثان؟ قوله: {قُلْ فَادْرَءُوا} ادفعوا {عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} ذكر ذلك على سبيل الجوابِ لقولهم: {لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا} . فإن قيل: ما وجه هذا الاستدلالِ مع أن الفرقَ ظاهرٌ؛ فإن التحرُّز عن القتل ممكن، وأما التحرزُ عن الموتِ فغير ممكن ألبته؟ فالجوابُ: أن هذا الدليلَ لا يتمشى إلا إذا قلنا: إنّ الكُلَّ بقضاء الله وقَدَرِه، فحينئذٍ لا يبقى بين القتلِ وبين الموتِ فرق، فيصح الاستدلالُ، أما إذا قلنا: بأن فعل العبد ليس بتقدير الله وقضائه، كان الفرق بين القتل والموتِ ظاهراً. وقوله: {إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ} أي: في كونكم مشتغلين بالحذر عن المكاره، والوصول إلى المطالب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 44 «الذين» مفعول أول، و «أمواتاً» مفعول ثانٍ، والفاعلُ إما ضمير كل مخاطب، أو ضمير الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما تقدم في نظائره وقرأ حُمَيْد بن قَيْس وهشام - بخلاف عنه - «يحسبن» بياء الغيبة، وفي الفاعل وجهان: أحدهما: أنه مُضْمَر، إما ضمير الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو ضمير مَنْ يَصْلح للحسبان - أي: حاسب. الثاني: قاله الزمخشري: وهو أن يكون «الذين قتلوا» قال: ويجوز أن يكون «الذين قتلوا» فاعلاً والتقديرُ: ولا يحسبنهم الذين قتلوا أمواتاً، أي: ولا يحسبن الذين قتلوا أنفسهم أمواتاً. فإن قلت: كيف جاز حذف المفعول الأول؟ قلتُ: هو - في الأصلِ - مبتدأ، فحذف كما حذف المبتدأ في قوله: «بل أحياء» أي: هم أحياءٌ؛ لدلالة الكلام عليهما. وردَّ عليه أبو حيان بأن هذا التقديرَ يؤدي إلى تقديم الضمير على مفسره، وذلك لا يجوز إلا في أبواب محصورةٍ، وعَدَّ منه باب رُبُّهُ رَجُلاً، نعم رجلاً زيد، والتنازع عند إعمال الثاني في رأيه سيبويه، والبدل على خلاف فيه، وضمير الأمرِ، قال: «وزاد بعضُ أصحابِنَا أن يكون المفَسِّرُ خبراً للضمير» وبأن حذف أحد مفعولي «ظن» اختصاراً إنما يتمشى له عند الجمهور مع أنه قليل جِداً، نص عليه الفارسيُّ، ومنعه ابنُ ملكون ألبتة. قال شهابُ الدينِ: «وهذا من تحملاته عليه، أما قوله: يؤدي إلى تقديم المضمر ... إلى آخره، فالزمخشريُّ لم يقدره صناعةً، بل إيراداً للمعنى المقصود، ولذلك لَمّا أراد أن يقدر الصناعة النحوية قدَّره بلفظ» أنفسهم «المنصوبة وهي المفعول الأول، وأظن الشيخ يتوهم أنها مرفوعة، تأكيداً للضمير في» قتلوا «ولم ينتبه أنه إنما قدرها مفعولاً أول منصوبة، وأما تَمْشِية قوله على مذهب الجمهور فيكفيه ذلك وما عليه من ابن ملكون، وستأتي مواضعُ يضطر هو وغيره إلى حَذْف أحدِ المفعولينِ، كما ستقف عليه قريباً. وتقدم الكلامُ على مادة» حسب «ولغاتها، وقراءاتها، وقُرِئَ» تحسبن «- بفتح السين - قاله الزمخشريُّ وقرأ ابن عامر» قتّلوا «- بالتشديد - وهشام وحده في» ما « الجزء: 6 ¦ الصفحة: 45 ماتوا وما قتلوا» والباقون بالتخفيف، فالتشديد للتكثير، والتخفيفُ صالح لذلك، وقرأ الجمهورُ «أحياءٌ» رفعاً، على تقدير: بل هُمْ أحياءٌ، وقرأ ابنُ ابي عَبْلَة «أحياءً» وخرَّجها أبو البقاء على وجهين: أحدهماك أن يكون عطفاً على «أمواتاً» قال: «أمواتاً» قال: «كما تقول: ما ظننت زيداً قائماً بل قاعداً» . الثاني: - وإليه ذهب الزمخشري - أيضاً - أن يكون بإضمار فعل، تقديره: بَلِ احسبهم أحياءً، وهذا الوجهُ سبق إليه أبة إسحاق، الزجاجِ، إلا أن الفارسيَّ ردَّه عليه - في الإغفال - وقال، لأن الأمر يقينٌ، فلا يجوز أن يؤمر فيه بمحسبة، ولا يصح أن يُضمرَ فيه إلا فعلُ المحسبة، فوجه قراءة ابن أبي عبلة أن يضمر فعلاً غير المحسبة، اعتقدهم، أو اجعلهم، وذلك ضعيفٌ؛ إذ لا دَلاَلَةَ في الكلامِ على ما يُضْمَر. قال شهابُ الدينِ: وهذا تحامُل من أبي عليٍّ أما قوله: إن الأمر يقينٌ، يعني أن كونهم أحياء أمر متيقن، فكيف يقال فيه: أحسبهم - بفعل يقتضي الشك - وهذا غير لازم؛ لأن «حسب» قد تأتي لليقين. قال الشاعر: [الطويل] 1688 - حَسِبْتُ التُّقَى وَالمَجْدَ خَيْرَ تِجَارَةٍ ... رَبَاحاً إذَا ما المَرْءُ أصبَحَ ثَاقِلا وقال آخر: [الطويل] 1689 - شَهِدْت وَفَاتُونِي وَكُنْتُ حَسِبْتُنِي ... فَقيراً إلى أن يَشْهَدوُا وَتَغِيبي ف «حسب» - في هذين البيتين - لليقين؛ لأن المعنى على ذلك. وقوله: لذلك ضعيف، يعني من حيث عدم الدلالة اللفظية، وليس كذلك، بل إذا أرشَدَ المعنى إلى شيء يُقَدَّر ذلك الشيءُ - لدلالة المعنى عليه - من غير ضَعْفٍ - وإن كانَ دلالةُ اللَّفظِ أحسنَ - وأما تقديره هو: اعتقدهم أو جعلهم، قال الشيخ: هذا لا يصح ألبتة سواءٌ جعلت: اجعلهم بمعنى اخلقهم، أو صيِّرهم أو سمِّهم، أو الْقهم. قوله: {عِندَ رَبِّهِمْ} فيه خمسةُ أوجهٍ: أحدها: أن يكون خبراً ثانياً ل «أحياء» على قراءة الجمهورِ. الثاني: أن يكون ظرفاً ل «أحياء» لأن المعنى: يحيون عند ربهم. الثالث: أن يكون ظرفاً ل «يرزقون» أي: يقع رزقهم في هذا المكانِ الشريفِ. الراع: أن يون صفة ل «أحياء» فيكون في محل رفع على قراءة الجمهور، ونصب على قراءة ابن أبي عبلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 46 الخامس: أن يكون حالاً من الضمير المستكن في «أحياء» . أي: يحيون مرزوقين. والمراد بالعندية: المجاز عن قربهم بالتكرمة. وقيل: {عِندَ رَبِّهِمْ} أي: في حكمه، كما تقول: هذه المسألةُ عند الشافعي كذا، وعنده غيره كذا. قال ابنُ عطية «وهو على حَذف مضاف، أي: عند كرامة ربهم» . ولا حاجةَ إليه؛ لأن الأولَ أليق. قوله: {يُرْزَقُونَ} فيه أربعةُ وجهٍ: أحدها: ان يكون خبراً ثالثاً ل «أحياء» أو ثانياً - إذا لم نجعل الظرفَ خبراً. الثاني: أنها صفة ل «أحياء:» - بالاعتبارين المتقدمين - فإن أعربنا الظرف وصفاً - أيضاً - فيكون هذا جاء على وعديله؛ لأنه أقرب إلى المفرد. الثالث: أنه حال من الضمير في «أحياء» أي: يحيون مرزوقين. الرابع: أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الظرف، إذا جعلته صفة. وليس ذلك مختصاً بجعله صفة فقط، بل لو جعلته حالاً جاز ذلك - أيضاً - وهذه تُسمى الحالَ المتداخلة، ولو جعلته خبراً كان كذلك «. فصل هذه الآية نزلت في شهداء بدرٍ، وكانوا أربعةَ عشرَ رجلاً، ثمانية من الأنصارِ، وستة من المهاجرين. وقيل: نزلت في شهداء أُحُدٍ، وكانو سبعينَ رجلاً، أربعة من المهاجرين - حمزة بن عبد المطلب ومصعب بن عميرٍ، وعثمان بن شماسٍ، وعبد الله جَحْشٍ - وباقيهم من الأنصار. فصل ظاهرُ هذه الآية يدل على كون هؤلاء المقتولين أحياء، فإما أن يكون حقيقةً، أو مجازاً، فإن كان حقيقةً، فإما أن يكون بمعنى أنهم سيصيرون في الآخرة أحياء، أو في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 47 الحال. وبتقدير أن يكونوا أحياءً في الحال، فإما أن يكون المرادُ الحياةَ الروحانيةَ، أو الجسمانيةَ، فأما الاحتمال الأولُ - وهو أنهم سيصيرون أحياء في الآخرة - فقد ذهب إليه جماعةٌ من المعتزلةِ، منهم الكَعْبِيِّ، قال: لأن الله - تعالى - أورده هذه الآية تكذيباً للمنافقين في جَحْدِهِم البعثَ والمعادَ، وقولهم: إن أصحاب مُحَمَّدٍ يُعَرِّضون أنفسهم للتقل، فَيُقْتَلون، ويخسرون الحياة، ولا يصلونَ إلى خيرٍ. وهذه الاية تردُّ هذا القول؛ لأن ظاهرَها يدل على كونهم أحياءً حال نزول هذه الآية، وأيضاً فإنه تعالى قال: {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [نوح: 25] والفاء للتعقيب، والتعذيب مشروط بالحياة. وقال: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46] وإذا جعل الله أهل العذاب أحياءً - قبل القيامة - لأجل الثواب أولى؛ لأن جانب الإحسان والرحمةِ أرجح من جانب العذاب، وأيضاً لو كان المراد أنه سيجعلهم أحياءً في القيامة لمَا قال للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} مع علمه بأن جميع المؤمنين كذلك. فإن قيل: إنه صلى الله عله وسلم كان عالماً بأنهم سيصيرون أحياءً عند البعثِ، لكنه غير عالم أنهم من أهلِ الجَنَّةِ، فجاز أن ييشِّره الله - تعالى - بانهم سيصيرون أحياءً، ويصلون إلى الثواب؟ فالجوابُ: أن قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ} وإنما يتناول الموتَ؛ لأنه قال: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً} فالذي يُزيل هذا الحسبان هو كونُهم أحياءً في الحال؛ لأنه لا حسبان - هناك - في صيرورتهم أحياء يوم القيامة. وقوله: {يُرْزَقُونَ} خبر مبتدأ، ولا تعلُّق له بذلك الحسبان، فزال السؤالُ، وأيضاً فقوله تعالى: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ} فالقوم الذينَ لم يلحقوا بهم لا بد وأن يكونوا في الدُّنْيا، واستبشارهم بمن يكون في الدنيا ولا بد وأن يكون قبل القيامة، والاستبشار لا يكون إلا مع الحياةِ، فدل على كونهم أحياءً قبل يوم القيامة. وأيضاً روى ابن عباسٍ أن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال - في صفة الشهداء: «أَرْوَاحُهُمْ في أَجْوَافِ طَيْرٍ خُضْرٍ، تَرِدُ أَنهارَ الجَنَّةِ، وَتَأْكُلُ مِنْ ثِمَارِهَا، وَتَسْرَحُ حيثُ شاءتْ، وتأوي إلى قَنَاديلَ تحت العَرْشِ؛ فلمت رأوا طِيبَ مَسْكَنِهِمْ ومَطْعَمِهِمْ ومَشْرَبِهِمْ قَالُوا: يَا لَيْتَ قومَنَا يَعْلَمُونَ بِمَا نَحْنُ فِيهِ مِنَ النَّعِيم، كَيْ يَرْغَبُوا فِي الجِهَادِ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى أَنَا مُخْبِرٌ عَنْكُمْ، وَمُبَلِّغٌ إخْوَانِكُم، فَفَرِحُوا بِذَلِكَ وَاسْتَبْشَرُوا» ، فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى هذه الآية. وسُئِلَ ابنُ مسعود الجزء: 6 ¦ الصفحة: 48 عن هذه الآية، فقال: سألنا عنها، فقيل لنا: إن الشهداء على نهر بباب الجنّة في قُبَّةٍ خضراءَ. وفي رواية: في روضةٍ خضراء. وعن جابرٍ بن عبد الله، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ألاَ أبَشرُكَ أنَّ أباكَ - حَيْثُ أصِيبَ بأحُدٍ - أحْيَاهُ اللهُ، ثُمَّ قَالَ: مَا تُرِيدُ يا عبدَ اللهِ بنَ عَمرو أن أَفْعَلَ لَكَ؟ قَالَ: يَا رَبِّ، أحِبُّ أن تَرُدَّنِي إلى الدُّنْيَا فأقْتَلَ فيك مرةً أخْرَى» . الاحتمالُ الثاني - وهو أنهم أحياءٌ في الحالِ - والقائلون بهذا القولِ، منهم من أثبت الحياةَ للروح، ومنهم من أثبتها للبدنِ، فمن أثبتها للروح قال: لقوله تعالى: {ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً فادخلي فِي عِبَادِي وادخلي جَنَّتِي} [الفجر: 27 - 30] والمراد: الروح. وروي انه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم بدرٍ كان ينادي المقتولين، ويقول: {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً} [الأعراف: 44] فقيل: يا رسول الله، إنهم أمواتٌ، فكيف تُناديهم؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنهم أسمع منكم» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنبياء الله لا يموتون ولكن ينتقلون من دار إلى دار» . الاحتمالُ الثالثُ: من أثبت الحياة للأجساد، وهؤلاء اختلفوا، فقال بعضهم: أنه - تعالى - يُصْعد أجسادَ الشهداءِ إلى السموات، وإلى قناديل تحت العرش، ويوصل إليها الكرامات. وقد طعنوا في هذا، وقالوا: إنا نرى الشهداء تأكلهم السباع، ونرى المقتول يبقى أياماً إلى أن تتفسّخ وتنفصل أعضاؤه، فَعَوْدُ الحياة إليها مُسْتبعدٌ، وإن جوزنا كونها حية عاقلة، متنعمة عارفة: لزم القول بالسفسطة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 49 الاحتمالُ الرابعُ: إن كونهم أحياء من طريق المجاز. قال الأصمُّ البلخيُّ: إذا كان الميِّتُ عظيم المنزلةِ في الدينِ، وكانت عاقبته يومَ القيامةِ إلى السعادة والكرامة، صحَّ أن يقالَ: أنه حَيّ، وليس بميتٍ، كما يقال - في الجاهلِ الذي لا ينفع نفسه ولا غيره -: إنه ميتٌ، وكما يقال - للبليد -: إنه حمار، وللمؤذي إنه سبع، كما قال عبد الملك بن مروان - لما رأى الزُّهريَّ، وعلم فقهه وتحقيقه -: مَا مَاتَ مَنْ خَلْفَهُ مِثْلُكَ. وإذا مَاتَ الإنسانُ، وخلف ثناء جميلاً، وذكراً حَسَناً، يقال - على سبيل المجاز: أنه مَا مَاتَ. وقال آخَرونَ: مجازُ هذه الآية أن أجسادَهم لا تَبْلى تحت الأرضِ، كما روي أن معاوية لما أراد أن يُجري العينَ إلى قبور الشهداء، أمر أن ينادى: مَن كان له قَتيل فليخْرجه من هذا الموضع، قال جابرٌ: فخرجنا إليهم، فأخرجناهم رِطاب الأبدان فأصابَ المسحاةُ أصبعَ رَجُلٍ مَنْهُمْ، فانفطرت دماً. وقيل: المراد - بكونهم أحياء - أنهم لا يُغَسَّلون كما يُغَسَل الأموات. قال القرطبي: إذا كان الشهيدُ حيًّا - حكماً - فلا يُصَلَّى عليه، كالحَيِّ حِسًّا. قوله: {فَرِحِينَ} فيه خمسة أوجهٍ: أحدها: أن يكون حالاً من الضمير في «أحياء» . ثانيها: أن يكون حالاً من الضمير في الظرف. ثالثها: أن يكون حالاً من الضمير في {يُرْزَقُونَ} . رابعها: أنه منصوبٌ على المَدْح. خامسها: أنه صفة ل «أحياء» . وهذا مختص بقراءة ابن أبي عبلة و «بما» يتعلق ب «فرحين» . قوله: {مِن فَضْلِهِ} في «من» ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن معناها السببية، أي بسببب فضله، أي: الذي آتاهم الله متسبب عن فضله. الثاني: أنها لابتداء الغايةِ، وعلى هذين الوجهين تتعلق ب «آتاهم» . الثالث: أنها للتبعيض، أي: بعض فضله، وعلى هذا فتتعلق بمحذوف، على أنه حال من الضمير العائدِ على الموصول ولكنه حُذِف، والتقدير: بما آتاهموه كائناً من فَضْلهِ. قوله: «ويستبشرون» فيه أربعة أوجهٍ: أحدها: أن يكون من باب عطفِ الفعلِ على الاسم؛ لكون الفعل في تأويله، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 50 فيكون عطفاً على «فرحين» كأنه قيل: فرحين ومُسْتَبْشِرِين، ونظَّروه بقوله تعالى: {فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] . الثاني: أنه - أيضاً - يكون من باب عطف الفعل على الاسم، ولكن لا لأن الاسم في تأويل الفعل، قال أبو البقاء هو معطوف على «فرحين» لأن اسم الفاعل - هنا - يُشْبه الفعل المضارع يعني أن «فرحين» بمنزلة يفرحون، وكأنه جعله من باب قوله: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ الله} [الحديد: 18] والتقديرُ الأولُ أولى، لأن الاسم - وهو «فرحين» لا ضرورة بنا إلى أن نجعله في محل رفع فعل مضارع - حتى يتأول الاسم به - والفعل فَرْع فينبغي أن يُرَدَّ إليه. وإنما فعلنا ذلك في الآية؛ لأن «أل» الموصولة بمعنى: الذي و «الذي» لا يُوصَل إلا بجملة أو شبهها، وذلك الشبهُ - في الحقيقة - يتأول بجملة. الثالث: أن يكون مُستأنفاً، والواو للعطف، عطفت فعلية على اسمية. الرابع: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: وهم يستبشرون، وحينئذٍ يجوز وجهان: أحدهما: أن تكون الجملة حاليةً من الضمير المستكن في «فرحين» أو من العائد المحذوف من «آتاهم» وإنما احتجنا إلى تقدير مبتدأ عند جعلنا إياها حالاً؛ لأن المضارعَ المثبت لا يجوز اقترانه بواو الحال لما تقدم مراراً. الثاني من هذين الوجهين: ان تكون استئنافية، عطف جملة اسمية على مثلها. و «استفعل» - هنا - ليست للطلب، بل تكون بمعنى المجرد، نحو: استغنى الله - بمعنى: غَنِيَ، وقد سُمِع بَشِر الرجل - بكسر العين - فيكون استبشر بمعناه، قاله ابنُ عطية. ويجوز أن يكون مطاوع أبشَرَ، نحو: أكانَهُ فاستكان، وأراحه فاستراح، وأشلاه فاستشلى، وأحكمَه فاستحكم - وهو كثيرٌ - وجعله أبو حيّان أظهر؛ من حيث إن المطاوعَة تدل على الاستفعال عن الغيرِ، فحصلت لهم البُشرى بإبشار الله تعالى، وهذا لا يلزم إذَا كان بمعنى المجردِ. قوله: {مِّنْ خَلْفِهِمْ} في هذا الجارّ وجهان: أحدهما: أنه متعلق ب «لم يلحقوا» على معنى أنهم قد بَقُوا بَعْدَهم، وهم قد تقدموهم. الثاني: أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال من فعل «لم يلحقوا» على معنى أنهم قد بَقُوا بَعْدَهم، وهم قد تقدموهم. الثاني: أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنه حال من فاعل «يلحقوا بهم» ، أي: لم يلحقوا بهم حال كونهم متخلِّفين عنهم - أي: في الحياة -. فصل معنى الكلام: ويستبشرون: ويفرحون بالذين لم يلحقوا بهم، من إخوانهم الذين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 51 تركوهم أحياءً في الدنيا على مناهج الإيمان والجهاد؛ لِيُعْلِمَهم انهم إذَا استشهدوا لحقوا بهم، ونالوا من الكرامةِ ما نَالوا هُمْ؛ فلذلك يستبشرون. وقال الزَّجَاج وابن فورك: الإشارة - بالاستبشار للذين لم يلحقوا بهم - لى جميع المؤمنين - وإن لم يقتلوا - ولكنهم لما عايَنُوا ثوابَ الله وقع اليقينُ بأن دين افسلام هُوَ الحقُّ الذي يُثِيبُ الله عليه، فهم فرحون لأنفسهم بما آتاهم الله من فضله، مستبشرون للمؤمنين بأن لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. قوله: {أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن «أن» وما في حيِّزِها في محل جَرّ، بدلاً من «بالذين» بدل اشتمال، أي: يستبشرون بعد خوفهم وحُزْنهم، فهو المستبشَر به في الحقيقة، لأن الذواتَ لا يُسْتَبْشَرُ بها. الثاني: أنها في محل نَصْبٍ؛ على أنها مفعول من أجله، أي: لأنهم لا خوف عليهم. و «أن» - هذه - هي المخفَّفة، واسمها ضمير الشأن، وجملة النفي بعدها في محل الخبر. فإن قيل: الذوات لا يُسْتبشر بها - كما تقدم - فكيف قال: {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ} . فالجوابُ أن ذلك على حَذْفِ مُضَافٍ مناسبٍ، تقديره: ويَسْتبشرون بسلامةِ الذين، أو لحوقهم بهم في الدرجة. وقال مكيٌّ - بعد أن حكى أنها بدلُ اشتمالٍ -: ويجوز أن يكون في موضع نَصْب، على معنى: بأن لا وهذا - هو بعينه - وجه البدل المتقدّم، غاية ما في الباب أنه أعاد مع البدل العامل في تقديره اللهُمّ إلا أن يعني أنها - وإن كانت بدلاً من «الذين» - ليست في محل جَرٍّ، بل في محل نَصْبٍ، لأنها سقطت منها الباء؛ فإن الأصل: بان لا، وإذا حُذِف منها حرفُ الجرِ كانت في محل نصبٍ على رأي سيبويه والفرَّاء - وهو بعيدٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 لما بيَّنَ - تعالى - أنهم يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم، بيَّن - هنا - أنهم يستبشرون لأنفسهم بما رُزِقوا من النعيم ولذلك أعاد لفظَ لاستبشارِ. فإن قيلَ: أليس الذي ذكر فَرَحَهم بأحوالِ أنفسهم والفرحُ عينُ الاستبشارِ - فلزم التكرارُ؟ فالجوابُ من وجهين: أحدهما: أن الاستبشارَ هو الفرحُ التامُّ، فلا يلزم التكرارُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 52 الثاني: لَعَلَّ المرادَ حصولُ الفرحِ بما حصل في الحالِ، وحصولُ الاستبشارِ بما عرفوا أنّ النعمةَ العظيمةَ تحصيل لهم في الآخرةِ. فإن قيلَ: ما الفرقُ بين النعمةِ والفَضْلِ، فإنَّ العطفَ يقتضي المغايرةَ؟ فالجواب: أن النعمةَ هي الثواب، والفَضْل: هو التفضُّل الزائد. وقيل: النعمة: المغفرة، والفَضْل: الثواب الزائد. وقيل: للتأكيد. روى الترمذيّ عن المقدام بن معد يكرب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لِلشَّهِيْدِ عِنْدَ اللهِ سِتُّ خَصَالٍ: يُغْفَرُ لَهُ، ويَرَى مَقْعَدَهُ مَنَ الْجَنَّةِ، ويُجارُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَيَأْمَنُ الْفَزَعَ الأكْبَرَ، وَيُوضَعٌُ عَلَى رَأسِهِ تَاجُ الْوقارِ، الْيَاقُوتَةُ مِنْهُ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، ويُزَوَّج اثنينِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ العِينِ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أقارِبِه» ، قال: هذا حديثٌ حَسَنٌ، صحيحٌ، غريبٌ، وهذا تفسيرُ النعمةِ والفضلِ، وهذا في الترمذيِّ وابن ماجه ستٌّ، وهي في العدد سبعةٌ. فصل وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الإنسانَ يكون فَرحُهُ واستبشارُهُ - بصلاحِ حالِ إخوانِهِ - أتم من استبشاره بسَعَادةِ نَفْسِهِ، لأنهُ - تعالى - مَدَحهم على ذلك بكونهم أوَّلَ ما استبشروا فرحا بإخوانهم، ثم ذكر - بعده - استبشارهم بأنفسهم، فقال: {يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ} . قوله: {وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ} قرأ الكِسائيُّ بِكَسْرِ «أن» على الاستئنافِ. وقال الزمخشري: إن قراءة الكسرِ اعتراضٌ. واستشكلَ كونها اعتراضاً؛ لأنها لم تقع بين شيئن متلازمين. ويمكن أن يُجاب عنه بأن «الذين استجابوا» يجوز أن يكون تابعاً ل «الذين لم يلحقوا» - نعتاً، أو بدلاً، على ما سيأتي - فعلى هذا لا يتصور الاعتراض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 53 ويؤيدُ كونها الاستئناف قراءةُ عبد الله ومصحفُه: والله لا يضيع، وقرأ باقي السبعةِ بالفتحِ؛ عَطْفاً على قوله: «بنعمة» لأنها بتأويل مصدر، أي: يستبشرون بنعمةٍ من الله وفضل منه وعدم إضاعةِ الله أجْرَ المؤمنين. فإن قيل: لم قال: «يستبشرون» من غير عطف؟ فالجوابُ فيه أوجهٌ: أحدها: أنه استئنافٌ متعلِّقٌ بهم أنفسهم، دون «الذين لم يلحقوا بهم» لاختلافِ متعلِّقٍ البشارتين. الثاني: أنه تأكيدٌ الأولِ؛ لأنه قصد بالنعمة والفضل مُتَعَلِّقِ الاستبشارِ الأولِ، وإليهِ ذَهَبَ الزمخشري. الثالثُ: انه بدلٌ من الفعل الأول، ومعنى كونه بدلاً: أنه لما كان متعلقه بياناً لمتعلق الأول حَسُن أن يقال: بدل منه، وإلا فكيف يبدل فعلٌ من فعل موافقٍ له لفظاً ومعنًى؟ وهذا في المعنى يئول إلى وجه التأكيد. الرابعُ: أنه حال من فاعل «يحزنون» و «يحزنون» عاملٌ فيه، أي: ولا هم يحزنون حال كونهم مستبشرين بنعمة. وهو بعيدٌ، لوجهين: أحدهما: أن الظاهر اختلافُ مَنْ نفي عنه الحُزْن ومن استبشرَ. الثاني: أن نفي الحزن ليس مقيَّداً ليكون أبلغ في البشارة، والحال قَيْدٌ فيه، فيفوت هذا المعنى. فصل والمقصودُ - من هذا الكلام - أن أيصال الثواب العظيم إلى الشهداء ليس مخصوصاً بهم، بل كل مؤمنٍ يستحق شيئاً من الأجر والثوابِ، فإن الله تعالى يوصِّل ثوابه إليه، ولا يُضيعه. قوله: «الذين استجابوا» فيه ستة أوْجُهٍ: أحدها: أنه مبتدأ، وخبره قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ} . وقال مَكيٌّ: ابتداء وخبره «من بعدما أصابهم القرح» وهذا غلطٌ؛ لأن هذا ليس بمفيد ألبتة، بل «من بعد» متعلقٌ ب «استجابوا» . الثاني: أنه خبر مبتدأ مُضْمَر، أي: هم الذين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 54 الثالث: أنه منصوب بإضمار «أعني» وهذانِ الوجهانِ يشملهما قولك: القطع. الرابع: أنه بدل من «المؤمنين» . الخامس: أنه بدلٌ من «الذين لم يلحقوا» قَالَه مَكّيٌّ. السادسُ: أنه نعتٌ ل «المؤمنين» ويجوزُ فيه وجهٌ سابعٌ، وهو أن يكون نعتاً لقوله: «الذين لم يلحقوا» قياساً على جَعْلِهِ بدلاً منهم عند مكيٍّ. و «ما» في قوله: {مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ} مصدرية، و «الذين أحسنوا» خَبَرٌ مقدَّمٌ، و «منهم» فِيهِ وَجْهَان: أحدهما: أنه حالٌ من الضمير في «أحسنوا» وعلى هذا ف «من» تكون تبعيضية. الثاني: أنها لبيان الجنسِ. قال الزمخشري: «مثلها في قوله تعالى: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً} [الفتح: 29] لأن الذين استجابوا لله والرسولِ قد أحسنوا كلهم لا بعضهم» . و «أجر» مبتدأ مؤخَّر، والجملة من هذا المبتدأ وخبره، إما مُستأنفة، أو حالٌ - إن لم يُعْرَب «الذين استجابوا» مبتدأ - وإما خبرٌ - إنْ أعربناه مبتدأ - كما تقدم تقريره. والمرادُ: أحسنوا فما أتوا به من طاعة الرسول صلى الله واتقوا ارتكابَ شيءٍ من المنهيات. فصل في بيان سبب النزول في سبب نزول هذه الآية وجهان: أحدهما - وهو الأصح -: أن أبا سفيان وأصحابه لما انصرفوا من أحُدٍ، فلما بلغوا الرَّوحاء ندموا وتلاوموا، وقالوا: لا محمداً قَتَلْتُمْ، ولا الكواعبَ أردفتم، قتلتموهم حتى لم يَبْقَ منهم إلا الشريد تركتموهم، ارجعوا فاستأصلوهم، فهمُّوا بالرجوع فبلغ ذلك الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأراد أن يُرْهِب الكُفَّارَ، ويُريَهم من نفسه وأصحابه قوةً، فندب أصحابه للخروج في طلب أبي سفيانَ، وقال: لا أريد أن يخرجَ الآن إلا من كان في القتالِ، فانتدبَ عصابةً منهم - ما بهم من ألم الجِراح والقَرْح الذي أصابهم يوم أحُد - ونادى منادي رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ألا لا يخرجنَّ معنا أَحَدٌ، إلا مَنْ حضر يومنا بالأمس، فكلمه جابر بن عبد الله، فقال: يا رسولَ الله إن أبي كان قد خلَّفني على أخواتٍ لي سَبْع، وقال: يا بُنَيَّ لا يَنْبَغِي لِي وَلاَ لَكَ أن نَتْرك هؤلاء النسوةَ ولا رَجُلَ فِيهنَّ، ولستُ بالذي أوثرك على نفسي بالجهاد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتخلَّفْ على أخواتك فتخلفتُ عليهن. فأذن له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَخَرَجَ مَعَهُ، وخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُرْهِباً للعدو، وليبلغهم أنه خَرَجَ في طلبهم، فيظنوا به قوةً، وأن الذي أصابهم لم يوهِنهم، فينصرفوا. فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سَبْعِينَ رَجُلاً، منهم أبو بكرٍ وعمرُ، وعثمانُ، وعليٍّ، وطلحةُ، والزبيرُ، وسعدٌ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 55 سعيدٌ، وعبد الرحمن بنُ عوفٍ، وعبدُ الله بنُ مسعودٍ، وحديفةُ بنُ اليَمانِ، وأبو عبيدةَ بنُ الجراح، حتى بلغوا حمراء الأسد - وهي من المدينة على ثمانية أميال - روي عن عائشةً أنَّها قالتْ - لعبدِ الله بن الزُّبَيْر: ابنَ أختي، أما - والله - إن أباك وجَدَّك - تعني أبا بكر والزبير - لَمِنَ الذين قال الله - عَزَّ وَجَلَّ - فيهم: {الذين استجابوا للَّهِ والرسول} . وروي أنه كان فيهم مَنْ يحمل صاحبه على عنقه ساعةً، ثم كان المحمولُ يحملَ الحاملَ ساعةً أخرى، وذلك لكثرة الجراحاتِ فيهم، وكان منهم من يتوكأ على صاحِبِه ساعةً، ويتوكأ عليه صاحبه ساعة أخرى فمر برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَعْبَدٌ الخُزَاعِيُّ بحمراء الأسدِ، وكانت خزاعةُ - مسلمهم وكافرهم - عَيْبَة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بتهامة، صَفْقَتُهُمْ معهم ولا يُخفونَ عنه شيئاً كان بها، ومعبد - يومئذ - مشرك، فقال: يا محمدُ والله لقد عَزَّ علينا ما أصابك في أصحابك، ولوددنا أن الله قد أعفاك منهم. ثم خرج من عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى لقي أبا سفيان ومَنْ معه - بالروحاء - قد أجمعوا الرجعة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: قد أصبنا جُلَّ أصحابه وقادتهم، لنكرَّنَّ على بقيتهم، فلنفرغن منهم فلما رأى أبو سفيان معبداً قال: ما وراءك يا معبدُ؟ قال: محمد وقد خرج في أصحابه يطلبكم في جمع لم أر مثلَه قط، يتحرقون عليكم تحرُّقاً، قد اجتمع معه مَنْ كان تخلف عنه في يومكم، وندموا على صنيعكم وفيهم من الحنَقِ عليكم شيء لم أرَ مِثْلَه قط، قال ويلك ما تقول؟ قال: والله ما أراك ترتحل حتى ترى نواصي الخيل. قال: والله لقد أجمعنا الكرة عليهم لنستأصل بقيتهم. قال: فإني أنهاك عن ذلك، فوالله لقد حملني ما رأيتُ على أن قلت فيه أبياتاً: [البسيط] 1690 - كَادَت تُهَدُّ مِنَ الأصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إذْ سَالَتِ الأرْضُ بِالجُرْدِ الأبَابِيلِ وذكر أبياتاً. «ففَتَّرَ ذلك أبا سفيان ومَنْ معه. ومَرَّ به رَكْبٌ من بن عبد القيسِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 56 فقالوا: أين تريدون؟ قالوا: نريد المدينةَ قالوا: ولِمَ؟ قالوا: نريد المِيرَة، قال فهل أنتم مبلِّغون محمداً عني رسالةً وأحمِّلُ لكم إِبلَكم زبيباً ب» عكاظ «غداً إذا وافيتمونا؟ قالوا: نَعَمْ، قال فإن جئتموه فأخبروني فأخبروه أنا قد جمعنا إليه وإلى أصحابه؛ لنَسْتَأْصِلَ بقيته، وانصرف أبو سفيان إلى مكةَ. ومرَّ الركب برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو ب» حمراء الأسد «فأخبروه بالذي قال أبو سفيان، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: حَسْبُنَا الله ونِعْمَ الوكيلِ، ثم انصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة.» هذا قولُ أكثرِ المفسّرين. الثاني: «قال الأصمُّ: نزلت هذه الآية في يوم أحُدٍ، لما رجع الناس إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد الهزيمة، فشدّ بهم على المشركين حتى كشفهم وكانوا قد هموا هم بالمُثْلة، فدفعهم عنها بعد أن مثَّلوا بحمزةَ، فقذف في قلوبهم الرُّعْبَ، فانهزموا، وصلى عليهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودفنهم بدمائهم. وذكروا أن صفيةَ جاءت لتنظرَ إلى أخيها حمزةَ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للزبير: رُدَّها؛ لئلا تجزع من مُثْلَةِ أخيها، فقالت: قد بلغني ما فُعِلَ به، وذلك يسيرٌ في جَنْب طاعةِ الله تعالى، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للزُّبَيْر: فَدَعْها، لتنظرَ إليه، فقالت خيراً، واستغفرت له. وجاءت امرأة - قُتِل زَوْجُها وأبوها وأخوها وابنُها - فلما رأت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو حَيٌّ قالت: كل مصيبةٍ بعدك هدر.» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 في قوله: «الذين» ما تقدم في: «الذين» قبله، إلا في رفعه بالابتداء. وهذه الآية نزلت في غزوة بدر الصُّغْرَى، «روى ابن عباسٍ أن أبا سفيانَ لما عزم على أن ينصرف من المدينة إلى مَكَّةَ - قال: يا محمدُ موعدنا موسم بدر الصغرى، فنقتتل بها - إن شِئْتَ - فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لعمر: قُلْ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ ذَلِكَ - إنْ شَاءَ الله - فلما كان العام المقبل، خرج أبو سفيان في أهل مكةَ، حتى نزل» مجنة «من ناحية» مَرَّ الظهران «فألقى الله تعالى الرُّعب في قلبه، فبدا له أن يرجعَ فلقي نُعَيم بن مسعود الشْجَعِيّ - وقد قَدِم معتمراً - فقال أبو سفيان: يا نعيمُ، إني واعدتُ محمداً وأصحابه أن نلتقي بموسم بدرٍ، وإن هذا عام جَدْبٍ، ولا يُصْلِحُنا إلا عام نَرْعَى فيه الشجر ونشرب فيه اللبنَ، وقد بدا لي أن لا أخرج إليها، ولكن إن خَرَجَ مُحَمّدٌ - ولم أخرُجْ - زاد بذلك جُرْأةً، وَلأنْ يكونَ الخُلْفُ من قِبَلِهِمْ أحَبُّ من أن يكون من قِبَلي، فالْحَق بالمدينة فَثَبِّطْهُم، ولك عندي عشرةٌ من الإبل، أضعها على يد سُهَيْلِ بْنِ عمرو ويضمنها. قال: فجاء سُهَيلٌ، فقال له نعيمٌ: يا أبا يزيدَ أتضمنُ لي هذه القلائصِ، فأنطلق إلى مُحَمَّدٍ فأثبطه؟ قال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 57 نَعَمْ، فخرج نُعَيْمٌ، حتى أتى المدينة، فوجد المسلمين يتجهَّزون لميعاد أبي سفيان، فقال: أين تريدون؟ فقالوا: واعَدَنَا أبو سفيان لموسم بدر الصُّغْرَى أن نقتتل بها، فقال: بئس الذي رأيتم، أتَوْكُمْ في دياركم وقراركم، فلم يفلت منكم إلا الشريد، أفتريجون أن تخرجوا إليهم؟ فإن ذهبتم إليهم لم يرجع منكم أحد، وقد جمعوا لكم عند الموسم. فوقع هذا الكلام في قلوب بعضهم، فلما عرفوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك قال:» والذي نفسُ محمدٍ بيده لأخرجنّ إليهم ولو وحدي «. فأما الجبان فإنه رجع، وأما الشُّجَاعُ فإنه تأهَّبَ للقتالِ، وقالوا» حسبنا الله ونعم الوكيل «. ثم خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعه نحو سبعين رجلاً - فيهم ابنُ مسعود حتى وافَوْا بدر الصغرى - وهي ماء لِبَني كنانةَ، وكانت موضعٍ سوقٍ لهم، يجتمعون فيه كل عام ثمانية أيام - ولم يَلْقَ رسولُ الله - وأصحابه أحداً من المشركين ووافقوا السوق، وكانت معهم نفقاتٌ وتجاراتٌ، فباعوا واشتروا أدماً وزبيباً، وأصابوا بالدرهم درهمين، وانصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين. ورجع أبو سفيان إلى مكة، وسَمَّى أهل مكة جيشه جيش السويق، وقالوا: إنما خرجتم لتشربوا السويق.» هذا سبب نزول الآية. والمراد ب «الناس» نُعَيم بن مسعود - في قول مجاهد وعكرمة - فهو من العامِّ الذي أرِيدَ به الخاصّ، كقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس} [النساء: 54] يعني محمداً وحده، وإنما جاز إطلاقُ لفظِ «الناس» على الواحد؛ لأن الإنسانَ الواحدَ إذا كان له أتباع يقولون مثل قوله، أو يَرْضَونَ بقوله فإنه يحسن - حينئذٍ - إضافة ذلك الفعل إلى الكل، قال تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا} [البقرة: 72] وقال: {وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً} [البقرة: 55] وهم لم يفعلوا ذلك، وإنما فعله أسلافهم، إلا انهم لما تابعوهم وصوَّبوا فِعْلَهُمْ، حَسُن إضافة ذلك إليهم. وقال ابنُ عَبَّاس، ومحمد بن إسحاقَ، وجماعة: أراد بالنَّاسِ: الرَّكْبَ من بني عبد القيسِ «قد جمعوا لكم» يعني أبا سفيان وأصحابه. وقال السُّدِّيُّ: هم المنافقون، قالوا للمسلمين - حين تجهزوا للمسير إلى بدر لميعاد أبي سفيان -: القوم قد أَتَوْكُمْ في دياركم، فقتلوا أكثركم، فإن ذَهَبْتُمْ إليهم لم يَبْقَ منكم أحدٌ، لا سيما وقد جمعوا لكم جَمْعاً عظيماً «فاخشوهم» أي: فخافوهم. قوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} في فاعل «فزادهم» ثلاثة أوجهٍ: الأول - وهو الأظهرُ -: أنه ضميرٌ يعود على المصدر المفهوم من «قال» أي فزادهم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 58 القول بكيتَ وكيتَ إيماناً، كقوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] . الثاني: أنه يعود على المقول - الذي هو {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم} كأنه قيل: قالوا لهم هذا الكلام فزادهم إيماناً. الثالث: أنه يعود على «الناس» إذا أريد به فَرْدٌ واحد - كما نُقِلَ في سبب النزول - وهو نعيم بن مسعود الأشْجَعِيّ. واستضعف أبو حيّان الوجهين الأخيرَيْنِ، قال: «وهما ضعيفانِ؛ من حيثُ إنّ الأولَ لا يزيد إيماناً إلا النطقُ به، لا هو في نفسه، ومن حيثُ إنّ الثاني إذا أطلقَ على المفرد لفظ الجمع مجازاً فإن الضمائر تجري على ذلك الجمع، لا على المفرد. تقول: مفارقة شابت - باعتبار الإخبار عن الجمع - ولا يجوز: مفارقة شاب - باعتبار: مَفْرِقُهُ شَابَ» . قال شهابُ الدّين: «وفيما قاله نَظَر؛ لأن المقولَ هو الذي في الحقيقة حصل به زيادة الإيمان - وأما قولُهُ: تجري على الجمع، لا على المفرد، فغير مُسَلَّم، ويعضده أنهم نَصُّوا على أنه يجوز اعتبار لفظ الجمع الواقع موقع المُثَنَّى تارةً، ومعناه تارةً أخْرَى، فأجازوا: رؤوس الكبشينِ قطعتهن، وقطعتهما، وإذا ثبت ذلك في الجمع الواقع موقع المثنى، فليَجز في الواقع موقع المفرد. ولقائلٍ أن يفرق بينهما، وهو أنه إنما جاز أن يراعى معنى التثنية - المعبر عنها بلفظ الجمع - لقربها منه؛ من حيثُ إنّ كلاً منهما فيه ضم شيء إلى مثله. بخلاف المفرد، فإنه بعيدٌ من الجمع؛ لعدم الضمِّ، فلا يلزمُ من مراعاة معنى التثنية في ذلك مراعاة معنى المفردِ. فصل قال أبو العَبَّاس المُقْرئ: لفظ» الوكيل «في القرآن على وجهين: الأول: بمعنى المائع - كهذه الآية - ومثله قوله: {فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} [النساء: 109] أي: مانعاً. الثاني: بمعنى: الشاهدِ، قال تعالى: {وكفى بالله وَكِيلاً} [النساء: 81، 132، 171] أي: شهيداً، ومثله قوله: {إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ والله على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [هود: 12] . أي: شاهد، ومثله: {فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 28] أي: شهيد. قوله: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله} [آل عمران: 173] عطف «قالوا» على «فزادهم» والجملة بعد القول في محل نَصْب به. قوله: {وَنِعْمَ الوكيل} المخصوصُ بالمدحِ، أي: الله تعالى. قوله: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ} في متعلق باء «بنعمة» وجهانِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 59 أحدهما: أنها متعلقة بنفس الفعل على أنها باء التعدية؟ الثاني: أنها تتعلَّق بمحذوف، على أنَّها حال من الضمير في «انقلبوا» والباء على هذه المصاحبة، كأنه قيل: فانقلبوا ملتبسين بنعمة ومصاحبين لها. والتقدير: وخرجوا فانقلبوا، وحذف الخروجُ؛ لأن الانقلابَ يدل عليه، كقول: {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] أي: فضرب فتنفلق ومعنى الآية: «فانقلبوا» بعافية، لم يلقوا عدواً «وفضل» تجارة وربح، وهو ما أصابوا من السوق. قوله: {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} هذه الجملة في محل نصب على الحال - أيضاً - وفي ذي الحال وجهان: أحدهما: أنه فاعل «انقلبوا» أي: انقلبوا سالمين من السوء. الثاني: أنه الضمير المستكن في «بنعمة» إذا كانت حالاً، والتقدير: فانقلبوا منعَّمينَ بريئينَ من السوء. والعاملُ فيها: العامل في بنعمة فهما حالان متداخلان، والحال إذا وقعت مضارعاً منفياً ب «لم» وفيها ضمير ذي الحال جاز دخول الواو وعدمه فمن الأول قوله تعالى: {أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ} [الأنعام: 93] وقول كعب: [البسيط] 1691 - لا تَأخُذَنِّي بِأقْوالِ الوُشَاةِ وَلَمْ ... أذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الأقَاوِيلُ ومن الثَّاني هذه الآية، وقوله: {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} [الأحزاب: 25] وقول [قيس] بن الأسلت: 1692 - وَأضْرِبُ الْقَوْنَسَ يَوْمَ الْوَغَى ... بِالسَّيْفِ لَمْ يَقْصُرْ بِهِ بَاعِي وبهذا يُعْرَف غَلَط الأستاذ ابن خروف؛ حيث زعم أنّ الواوَ لازَمةٌ في مِثْلِ هَذَا، سواء كان في الجملة ضمير، أو لَمْ يَكُنْ. قوله: {واتبعوا} يجوز في هذه الجملة وجهانِ: الأول: أنا عطف على «انقلبوا» . الثاني: أنها حال من فاعل «انقلبوا» - أيضاً - ويكون على إضمار «قد» أي: وقد اتبعوا. فصل قال القرطبيُّ: «وقد اختلف العلماء في زيادة الإيمان ونُقْصانه على أقوال، والعقيدة في هذا على أن نفس الإيمان - الذي هو تاج - واحدٌ، وتصديق واحد بشيء ما إنما هو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 60 معنى مفرد، لا يدخل معه زيادة إذا حصل، ولا يبقى منه شيء إذا زال، فلم يَبْقَ إلا أن تكون الزيادة والنقصان في متعلقاته، دون ذاتِهِ. ومعنى الآية: زادهم قولِ الناسِ إيماناً ونُصْرَةً ويقيناً في دينهم، وإقامة على نُصْرَته، وقوةً وجرأةً واستعداداً، فزيادة الإيمان - على هذا - هي في الأعمال» . قال ابنُ الخطيب: المرادُ بالزيادَةِ في الإيمان أنهم لما سمعوا هذا الكلامَ المخوِّف لم يلتفتوا إليه، بل حدث في قلوبهم عَزْم متأكد على محاربة الكفار وعلى طاعة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في كل ما يأمر به وينهى عنه - ثقل ذلك أو خَفَّ - لأنه قد كان فيهم مَنْ به جراحاتٌ عظيمةٌ، وكانوا محتاجين إلى الممداواةِ، وحدث في قلوبهم وثوق بأنَّ الله ينصره على أعدائهم ويؤيدهم في هذه المحاربة، فهذا هو المراد من قوله: {فَزَادَهُمْ إِيمَاناً} . فصل هذه الواقعةُ تدل دلالة ظاهرةً على أن الكل بقضاء وقَدَره؛ وذلك لأن المسلمين كانوا قد انهزموا من المشركين يوم أحُدٍ، والعادة جارية بأنه إذا انهزم أحد الخصمينِ عن الآخر، فإنه يحصل في قلب الغالب قوة وشدة استيلاء، وفي قلب المغلوب انكسار وضعف، ثم إنه - سبحانه وتعالى - قَلَبَ القضية ها هنا، فأودع قلوبَ الغالبين - وهم المشركونَ - الخوفَ والرعبَ، وأودع قلوب المغلوبين القوةَ والحميةَ والصلابةَ، وذلك يدل على أن الدواعي والصوارفَ من الله تعالى، وأنها متى حدثت في القلوبِ وقعت الأفعال على وفقتها. ثم قال تعالى: {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} والمعنى: أنهم كلما زادوا إيماناً في قلوبهم أظهروا ما يطابقه، فقالوا: {حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل} قال ابن الأنْبَارِيّ: {حَسْبُنَا الله} أي: كافينا الله. ومثله قوله امرئ القيس: [الوافر] 1693 - فَتَملأ بِيْتَنَا أقِطاً وَسَمْناً ... وَحَسْبُكَ مِنْ غَنًى شِبَعٌ وَرِيّ أي: يكفيك الشَّبَعُ والرَّيُّ. وأما «الوكيل» ففيه أقوالٌ: أحدُهَا: أنه الكفيل. قال الشاعر: [الطويل] 1694 - ذَكَرْتُ أبَا أروَى فَبِتُّ كَأَنَّنِي ... بِرَدِّ الأمُورِ الْمَاضِيَاتِ وَكِيلُ الثاني: قال الفرّاء: الوكيل: الكافي، والذي يدل على صحة هذا القول أن «نِعْمَ» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 61 سبيلها أن يكن الذي بعدها موافقاً قبلها، تقول: رازقنا الله ونعم الرازق، وخالقنا الله ونعم الخالقُ، وهذا أحسنُ من قول مَنْ يقول: خالقنا الله ونعم الرازقُ، فكذا ههنا تقدير الآية: يكفينا الله ونعم الكافي. الثالث: «الوكيل» فعيل بمعنى مفعول، وهو الموكول إليه. والكافي والكفيل يجوز أن يُسَمَّى وكيلاً؛ لأن الكافيَ يكون الأمرُ موكولاً إليه، وكذا الكفيلُ يكون الأمر موكولاً إليه. ثم قال: {فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ} قال مجاهدٌ: النعمة - هنا - العافية، والفَضْل: التجارة. وقيل: النعمة: منافع الدنيا، والفَضْل: ثواب الآخرة. قوله: {لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء} أي: لم يصبهم قَتْلٌ ولا جِرَاحٌ - في قول الجميع - {واتبعوا رِضْوَانَ الله} طاعة الله، وطاعة رسوله، {والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} قد تفضل عليهم بالتوفيق فيما فعلوا. روي أنهم قالوا: هل يكن هذا غَزْواً؟ فأعطاهم الله ثوابَ الغَزْوِ. واختلف أهْلُ المغازي، ذهب الواقديُّ إلى تخصيص الآية الأولى ب «حمراء السد» والثانية ب «بدر الصغرى» . ومنهم مَنْ جَعَل الآيتين بين واقعة بدرٍ الصُّغْرَى، والأول أوْلَى؛ لأن قوله تعالى: {مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح} [آل عمران: 172] يدل على قُرْب عهدهم بالقَرْح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 «إنما» حرف مكفوف ب «ما» عن العمل وقد تقدم الكلام فيها أول الكتاب. وفي إعراب هذه الجملة خمسةُ أوجهٍ: الأول: أن يكون «ذلكم» مبتدأ، «والشيطان» خبره، و «يخوف أولياءه» حال؛ بدليل وقوع الحالِ الصريحةِ في مثل هذا التركيب، نحو قوله: {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] وقوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 62 الثاني: أن يكون «الشيطان» بدلاً، أو عطف بيان، و «يخوف» الخبر، ذكره أبو البقاء. الثالث: أن يكون «الشيطان» نعتاً لاسم الإشارة، و «يخوف» على أن يرادَ ب «الشيطان» نعيم، أو أبو سفيان - ذكره الزمخشري قال أبو حيّان: «وإنما قال: والمراد ب» الشيطان «نعيم، أو أبو سفيان؛ لأنه لا يكون نعتاً - والمراد به إبليس - لأنه إذ ذاك - يكون علماً بالغلبة، إذ أصله صفة - كالعيُّوق - ثم غلب على إبليس كما غلب العيُّوق على النَّجْمِ الَّذِي ينطلق عليه» وفيه نظرٌ. الرابع: أن يكون «ذلكم» مبتدأ، و «الشيطان» خبر، و «يخوف» جملةٌ مستأنفةٌ، بيان لشيطنته، والمراد بالشَّيْطانِ هو المثبط للمؤمنين. الخامس: أن يكون «ذلكم» مبتدأ، و «الشيطان» مبتدأ ثانٍ، و «يخوف» خبر الثاني، والثاني وخبره خبرُ الأول؛ قاله ابنُ عطيةَ، وقال: «وهذا الإعرابُ خير - في تناسق المعنى - من أن يكون» الشيطان «خبر» ذلكم «لأنه يجيء في المعنى استعارة بعيدة» . ورَدَّ عليه أبو حيّان هذا الإعراب - إن كان الضمير في «أولياءه» عائداً على «الشيطان» لخُلُوِّ الجملة الواقعة خبراً عن رابط يربطها بالمبتدأ - وليست نفس المبتدأ في المعنى، نحو: هِجِّيرى أبِي بكر لا إلَه إلا الله وإن كان عائداً على «ذلكم» - ويراد ب «ذلكم» غير الشيطان جاز، وصار نظير: إنما هند زيد [يضرب غلامها] ، والمعنى: إنما ذلكم الركب، أو أبو سفيان الشيطان يخوفكم أنتم أولياؤه، أي: أولياء الركب، أو أولياء أبي سفيان - والمشار إليه ب «ذلكم» هل هو عين أو معنى؟ فيه احتمالان: أحدهما: أنه إشارةٌ إلى ناسٍِ مخصوصين - كَنُعَيْم وأبيب سفيانَ وأشياعهما - على ما تقدم. الثاني: إشارة إلى جميع ما جرى من أخبارِ الركبِ وإرسال أبي سفيان وجزع من جزع - وعلى هذا التقدير فلا بُدَّ من حذف مضافٍ، أي: فعل الشيطان، وقدَّره الزمخشري: قول الشيطانِ، أي: قوله السابق، وهو: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم} [آل عمران: 173] وعلى كلا التقديرين - أعني كون الإشارة لأعيان أو معان - فالإخبار ب «الشيطان» عن «ذلكم» مجاز؛ لأن الأعيان المذكورين والمعاني من الأقوال والأفعال الصادرة من الكفار - ليست نفس الشيطان، وإنما لما كانت بسببه ووسوسته جَازَ ذلك. قوله: {يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ} قد تقدم ما محله من الإعراب. والتضعيفُ فيه للتعدية، فإنه قَبْلَ التَّضْعيف متعدٍّ إلى واحدٍ، وبالتضعيف يكتسب ثانياً، وهو من باب «أعطى» ، فيجوز الجزء: 6 ¦ الصفحة: 63 حذف مفعوليه، أو أحدهما اقتصاراً واختصاراً، وهو في الآية الكريمة يحتمل أوجُهاً: أحدها: أنْ يكون المفعولُ الأولُ محذوفاً، تقديره: يخوفكم أولياءه، ويقوِّي هذا التقديرَ قراءة ابن عبَّاسٍ وابن مسعود هذه الآية كذلك، والمراد ب «أولياءه» - هنا - الكفارُ، ولا بُدَّ من حذف مضافٍ، أي: شر أوليائه؛ لأن الذوات لا يخاف منها. الثاني: أن يكون المفعول الثاني هو المحذوف، و «أولياءه» هو الأول، والتقدير: يخوف أولياءه شَرَّ الكفار، ويكون المراد ب «أولياءه» - على هذا الوجه - المنافقين ومَنْ في قلبه مرضٌ ممن تخلف عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الخروج. والمعنى: أن تخويفه بالكفار إنما يحصل للمنافقين الذين هم أولياؤه، وأما أنتم فلا يصل إليكم تخويفه قاله الحسنُ والسُّدِّي. الثالث: أن المفعولين محذوفان، و «أولياءه» نعتٌ - على إسقاط حرف الجر - والتقدير: يخوفكم الشر بأوليائه. والباء للسبب، أي: بسبب أوليائه فيكونون هم كآلةِ التخويف لكم. قالوا: ومثل حذف المفعول الثاني قوله تعالى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم} [القصص: 7] أي: فإذا خِفْتِ عليه فرعونَ. ومثال حذف الجارّ قوله تعالى: {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ} [الكهف: 2] معناه لينذركم ببأسٍ، وقوله: {لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق} [غافر: 15] . وهذا قول الفرّاء والزّجّاج وأبي عليّ، قالوا: ويدل عليه قراءة أبَيٍّ والنَّخَعِيِّ: يخوفكم بأوليائه. قال شهابُ الدّينِ: فكأن هذا القائل رأى قراءة أبَيّ والنخعيّ «يخوف بأوليائه» فظن أنَّ قراءة الجمهورِ مثلها في الأصل، ثم حُذِفتَ الباء، وليس كذلك، بل تُخَرَّج قراءةُ الجمهورِ على ما تقدم؛ إذ لا حاجةَ إلى ادِّعاء ما لا ضرورة له. وأما قراءة أبَيّ فيحتمل أن تكون الباء زائدة، كقوله: [البسيط] 1695 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... سُودُ الْمَحَاجِرِ لا يَقْرَانَ بِالسُّوَرِ فتكون كقراءة الجمهور في المعنى. ويحتمل أن تكون للسبب، والمفعولان محذوفان - كما تقدم. قوله: {فَلاَ تَخَافُوهُمْ} في الضمير المنصوب ثلاثةُ أوجهٍ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 64 الأول - وهو الأظهر -: أنه يعود على «أولياءه» أي: فلا تخافوا أولياءَ الشيطان، هذا إن أريد بالأولياء كفار قريش. الثاني: أنه يعود على «الناس» من قوله: {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173] إن كان المراد ب «أولياءه» المنافقين. الثالث: أنه يعود على «الشيطان» قال أبو البقاء: «إنما جمع الضمير؛ لأن الشيطان جنس» والياء في قوله: «وخافوني» من الزوائد، فإثبتها أبو عمرو وصلاً، وحَذَفَها وقفاً - على قاعدته - والباقون يحذفونها مطلقاً. فصل في ورود الخوف في القرآن الكريم ورد الخوف على ثلاثةِ أوجهٍ: الأول: الخوفُ بعينه، كهذه الآية. الثاني: الخوف: القتال، قال تعالى: {فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} [الأحزاب: 19] أي: إذا ذهب القتال. الثالث: الخوف: العِلْم، قال تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 229] وقوله: {وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ} [الأنعام: 51] . أي: يعلمون وقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [النساء: 35] أي: علمتم. وقوله: {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} جوابه محذوف، أو متقدم - عند مَنْ يرى ذلك - وهذا من باب الإلهاب والتهييج. إلا فهم ملتبسون بالإيمان. قوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ الذين} قرأ نافع «يُحزنك» - بضم حرف المضارعة - من «أحزن» - رباعياً - في سائر القرآن إلا التي في قوله: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] فإنه كالجماعة. والباقون بفتح الباء - من «حزنه» ثلاثياً - فقيل: هما من باب ما جاء فيه فَعَل وأفْعَل بمعنى. وقيل: باختلاف معنى، فَحَزَنَه: جَعَل فيه حُزْناَ - نحو: دهنه وكحله، أي: جعل فيه دهناً وكحلاً - وأحزنته: إذا جعلته حزيناً. ومثل حَزَنَه وأحْزَنَه فَتَنَه وأفتَنَه، قال سيبويه: «وقال بعضُ العربِ: أحزنت له الحُزْن، وأحزنته: عرَّضته للحُزْن. قاله أبو البقاء وقد تقدم اشتقاق هذه اللفظة في» البقرة «. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 65 قال شهابُ الدينِ:» والحق أن حزنه لغتان فاشيتان، لثبوتهما متوازتين - وإن كان أبو البقاء قال: إن أحزن لغة قليلة، ومن عجيب ما اتفق أن نافعاً - رَحِمَهُ اللَّهُ - يقرأ هذه المادة من «أحزن» إلا التي في الأنبياء - كما تقدم - وأن شيخه أبا جعفر يزيد بن القعقاع يقرأها من «حزنه» - ثلاثياً - إلا التي في الأنبياء، وهذا من الجمع بين اللغتين، والقراءة سنة مُتَّبَعَة «. وقرأ الجماعة:» يسارعون «بالفتح والإمالة، وقرأ النحوي» يسرعون «- من أسرع - في جميع القرآن، قال ابن عطيةَ:» وقراءة الجماعة أبلغ؛ لأن مَنْ يسارع غيرَه أشد اجتهاداً من الذي يُسرع وحده «. قوله: {إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} في نصب» شيئاً «وَجْهَانِ: أحدهما: أنه مصدر، أي: لا يضرونه شيئاً من الضرر. الثاني: أنه منصوب على إسقاط الخافض، أي: لن يضروه بشيء. وهكذا كل موضع أشبهه ففيه الوجهان. فصل اختلفوا في هؤلاء المسافرين فقال الضَّحَّاك: هم كفار قريش، وقال غيره: هم المنافقون؛ يسارعون في الكفر مظاهرةً للكفار» إنهم لن يضروا الله «بمُسارعتهم في الكُفْر. وقيل: إن قوماً من الكفار أسلموا، ثم ارتدوا؛ خوفاً من قريش، فوقع الغمُّ في قَلْبِ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك السبب فإنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ظن أنهم بسبب تلك الرِّدَّة يُلحِقون به مَضَرَّة، فبيَّن - تعالى - أن ردَّتَهم لا تؤثر في لُحُوقِ ضررٍ بك. قال القاضي: ويقوى هذا الوجه بأن المستمر على الكفر لا يوصَفُ بأنه يسارعُ في الكفرِ، وإنما يُوصَف بذلك مَنْ يكفر بعد الإيمان. وأيضاً فإن إرادته ألا يجعل لهم حَظَّاً في الآخرة لا تليق إلا بمن قد آمن واستوجب ذلك، ثم أحبط. وأيضاً فإن الحُزْن إنما يكون على فوات أمرٍ مقصودٍ، فلما قدَّر النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الانتفاع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 66 بإيمانهم - ثم كفروا - حَزنَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند ذلك؛ لفوات التكثير بهم، فآمنه الله من ذلك، وعرَّفه أن وجودَ إيمانهم كعدمه في أن أحوالَه لا تتغير. وقيل: المراد رؤساء اليهود - كعب بن الأشرف وأصحابه - كتموا صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمتاع الدنيا. قال القَفَّال ولا يبعد حمل الآية على جميع أصناف الكفار؛ لقوله تعالى: {يا أيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الذين هِادُواْ} [المائدة: 41] . فإن قيل: الحُزْن على كُفر الكافر، ومعصية العاصي طاعة، فكيف نهاه الله عن الطاعة؟ فالجوابُ من وجهين: الأول: أنه كان يفرط في احُزْن على كُفْر قومه، حتَّى كاد يؤدي ذلك إلى لحوق الضرر به، فنهاه الله تعالى عن الإسراف فيه، كما قال: {فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} [فاطر: 8] . الثاني: أن المعنى لا يُحْزنوكَ بخوف أن يضروك، ويعينوا عليك؛ ألا ترى إلى قوله: {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} يعني: أنهم لا يضرون - بمسارعتهم في الكفر - غير أنفسهم، ولا يعود وبال ذلك على غيرهم ألبتة. ثم قال: {يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة} وهذا تنصيصٌ وردٌّ على المعتزلة بأنَّ الخيرَ والشر بإرادة الله تعالى، وتدل الآية - أيضاً - على أنَّ النكرةَ في سياق النَّفي تعم؛ إذ لو لم يحصل العموم لم يحصل في تهديد الكفار بهذه الآية، ثم قال: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهذا كلام مبتدأ والمعنى: أنه كما لا حَظَّ لهم ألبتة من منافع الآخرة، فلهم الحَظُّ العظيمُ من [مضارِّها] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 اعلم أنه لا يبعد حَمْلَ الآية الأولى على المرتدين، وحمل هذه الآية على اليهود. ومعنى: {اشتروا الكفر بالإيمان} أنهم كانوا يعرفون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويؤمنون به قبل مَبْعَثِه، فلما بُعِثَ كفروا به، وتركوا ما كانوا عليه، فكأنهم أعطوا الإيمان، وأخذوا الكفر بدلاً عنه، كما يفعلُ المشتري من إعطاء شيء وأخْذ غيره بدلاً عنه. ولا يبعد أيضاً - حَمْلُ هذه الآيةِ على المنافقينَ؛ لأنهم متى كانوا مع المؤمنين أظهروا الإيمان، فإذا خلوا إلى شياطينهم كفروا، وتركوا الإيمان، فكان ذلك كأنهم اشتروا الكفر بالإيمان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 67 فإن قيل: ما فائدة التكرار في الآيتين في قوله: {لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً} ؟ فالجوابُ: أن فائدةَ التكرارِ أمورٌ: أحدهما: أن الذين اشتروا الكفرَ بالإيمانِ لا شك أنهم كانوا كافرين أولاً، ثم آمنوا، ثم كفروا بعد ذلك، وهذا يدلُّ على شدَّة الاضطرابِ، وضَعْفِ الرأي، وقِلَّةِ الثباتِ، ومثل هذا الإنسان لا خوف منه، ولا هيبةَ له، ولا قدرةَ له على إلحاق الضَّرَر بالغير. ثانيها: أن أمر [الدّينِ] أهمّ الأمورِ وأعظمها، ومثل هذا مما لا يقدم الإنسان فيه - على الفعل، أو على التَّركِ - إلا بعد إمعانٍ النّظَرِ، وكَثْرة الفِكْر، وهؤلاء يُقْدِمون على الفعل، أو على الترك في هذا المهم بأهونِ الأسبابِ وأضعفِ الموجباتِ، وهذا يدلُّ على قِلَّةِ عقولهم، وشدة حماقتهم، وأمثال هؤلاء لا يَلْتَفِتُ العاقلُ إليهم. ثالثها: أن أكثرهم إنما ينازعونك في الدّينِ لا بِنَاءً على الشُّبُهات، بل بناءً على الحَسَدِ والمنازعة في منصب الدُّنْيَا، ومَنْ كان عَقْلَه بهذا القَدْر - وهو بيع السعادة العظيمة الأخروية بالقليل الفاني من سعادة الدنيا - كان في غاية الحماقة، ومِثْلهُ لا يقدر على إلحاق ضرر بالغير، والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 قرأ الجمهور «يحسبن» بالغيبة، وحمزة بالخطاب، وحكى الزّجّاج عن خلق كثير كقراءة حمزة إلا أنهم كسروا «أنما» ونصبوا «خير» وأنكرها ابن مجاهدٍ - وسيأتي إيضاح ذلك - وقرأ يحيى بن وثاب بالغيبة وكسر «إنما» . وحكى عنه الزمخشري - أيضاً - أنه قرأ بكسر «أنما» الأولى وفتح الثانية مع الغيبة، فهذه خَمْسُ قراءاتٍ. فأما قراءة الجمهور، فتخريجها واضح، وهو أنه يجوز أن يكون الفعل مسنداً إلى «الذين» و «أن» وما اتصل بها سادَّة مسد المفعولين - عند سيبويه - أو مسدَّ أحدهما، والآخر محذوف عند الأخفش - ويجوز أن يكون مسنداً إلى ضمير غائب، يراد به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي لا يحسبن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فعلى هذا أن يكون «الذين كفروا» مفعولاً أول، وأما الثاني فسيأتي الكلام عليه في قراءة حمزة، لتتحد هذه القراءة - على هذا الوجه - مع قراءة حمزة رَحِمَهُ اللَّهُ، وسيأتي تخريجها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 68 و «ما» يجوز أن تكون موصولة اسمية، فيكون العائد محذوفاً، لاستكمال الشروط، أي: الذي نمليه ويجوز أن تكون مصدرية - أي: إملاءنا - وهي اسم «إن» و «خير» خبرها. قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن تكون كافةً، وزائدة؛ إذ لو كان كذلك لانتصب» خير «ب» نملي «واحتاجت» أن «إلى خبر، إذا كانت» ما «زائدة، أو قدر الفعل يليها، وكلاهما ممتنع» انتهى. وهي من الواضحات. وكتبوا «أنماط - في الموضعين - متصلة، وكان من حق الأولى الفصل؛ لأنها موصولة. وأما قراءة حمزة فاضطربت فيها أقوال الناس وتخاريجهم، حتى أنه نُقل عن ابن أبي حاتم أنها لحن. قال النحاس: وتابَعَهُ على ذلك [جماعة] وهذا لا يُلتفت إليه، لتواترها، وفي هنا تخريجها ستة أوجُهٍ: أحدها: أن يكون فاعل» تحسبن «ضمير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ و» الذين كفروا «مفعول أول، و» أنما نملي لهم خير «مفعول ثان، ولا بُدَّ - على هذا التخريج - من حَذْفِ مضافٍ، إما من الأول، تقديره: ولا تحسبن شأنَ الذين، وإما من الثَّاني، تقديره: أصحاب أن إملاءنا خير لهم. وإنما احتجْنَا إلى هذا التأويل؛ لأن» أنما نملي «بتأويل مصدر، والمصدر معنى من المعاني لا يَصْدُقُ على» الذين كفروا «والمفعول الثاني في هذا البابِ هُوَ الأولُ في المعنى. الثاني: أن يكون» أنما نملي لهم «بدلاً من» الذين كفروا «. وإلى هذا ذهب الكسائي، والفرّاء، وتبعهما جماعة، منهم الزَّجَّاج والزمخشري، وابنُ الباذش، قال الكسائي والفرّاء: وجه هذه القراءة التكرير والتأكيد، والتقدير: ولا تحسبن الذين كفروا، ولا تحسبن أنما نملي. قال الفرّاءُ: ومثله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ} [الزخرف: 66] أي «ما ينظرون إلا أن تأتيهم. انتهى. ورد بعضهم قولَ الكسائيِّ والفرَاءِ، بأن حَذْفَ المفعولِ الثاني - في هذه الأفعالِ - لا يجوز عند أحد. وهذا الردُّ ليس بشيءٍ؛ لأن الممنوعَ إنما هو حذف الاقتصارِ - وقد تقدم تحقيق ذلك. وقال ابنُ الباذش: ويكون المفعول الثاني قد حُذِف؛ لدلالة الكلامِ عليه، ويكون التقدير: ولا تحسبن الذين كفروا خَيْريَّةَ إملاءنا لهم ثابتة، أو واقعة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 69 قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف صح مَجِيءُ البدلِ، ولم يذكر إلا أحد المفعولين، ولا يجوز الاقتصارُ بفعل الحسبانِ على مفعولٍ واحدٍ؟ قلتُ: صحَّ ذلك من حيثُ إنّ التعويلَ على البدل والمبدل منه في حكم المُنَحَّى، ألا تراك تقول: جَعَلْتُ متاعَك بعضَه فوقَ بَعْضٍ، مع امتناع سكوتك على: متاعك. وهذا البدلُ بدلُ اشتكالٍ - وهو الظاهرُ - أو يدل كُلٍّ من كُلٍّ، ويكون على حَذْف مضافٍ، تقديره: ولا تحسبن إملاء الذين، فحذف» إملاء «وأبدل منه:» أنما نملي «قولان مشهوران. الثالثُ: وهو أغربها -: أن يكون» الذين كفروا «فاعلاً ب» تحسبن «على تأويل أن تكون التاء في الفعل للتأنيث، كقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين} [الشعراء: 105] أي: ولا تحسبن القوم الذين كفروا، و» الذين «وضصْف للقوم، كقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ} [الأعراف: 137] . فعلى هذا تتحدد هذه القراءة مع قراءة الغيبة، وتخريجها كتخريجها، ذك ذلك أبو القاسم الكرماني في تفسيره المُسمَّى ب» اللُّباب «. وفيه نظر؛ من حيث إن» الذين «جارٍ مَجْرَى جمع المذكر السالم، والجمع المذكر السالم لا يجوز تأنيث فعله - عند البصريين - لا يجوزُ: قامت الزيدون، ولا: تقوم الزيدون. وأما اعتذاره عن ذلك بأن» الذين «صفة للقوم - الجائز تأنيث فِعلهم - وإنما حذف، فلا ينفعه؛ لأن الاعتبارَ إنما هو بالملفوظ لا بالمقدَّر، لا يجيز أحدٌ من البصريين: قامت المسلمون - على إرادة: القوم المسلمون - ألبتة. وقال أبو الحسن الحوفيُّ:» أن «وما عملت فيه من موضع نصب على البدل، و» الذين «المفعول الأول، والثاني محذوف. وهو معنى قول الزمخشريَّ المتقدم. الرابع: أن يكون:» أنما نملي لهم «بدلاً من:» الذين كفروا «بدل اشتمال - أي: إملاءنا - و» خير «بالرفع - خبر مبتدأ محذوف، أي: هو خير لأنفسهم، والجملة هي المفعول الثاني، نقل ذلك أبو شامة عن بعضهم، ثم وقال: قُلْتُ: ومثل هذه القراءة بيت الحماسةِ. 1696 - فِينَا الأنَاةُ، وَلبَعْضُ الْقَوْمِ يَحْسَبُنَا ... أَنَّا بِطَاءٌ، وَفِي إبْطَائِنَا سَرَعُ كذا جاءت الرواية بفتح» أنا «بعد ذكر المفعول الأول، فعلى هذا يجوز أن تقول: حسبت زيداً أنه قائم، أي: حسبته ذا قيام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 70 فوجه الفتح أنها وقعت مفعولاً، وهي ما عملت فيه من موضع مفرد، وهو المفعول الثاني ل «حسبت» انتهى. وفيما قاله نظرٌ؛ لأن النحاة نصُّوا على وجوب كسر «إن» إذا وقعت مفعولاً ثانياً، والأول اسم عين، وأنشدوا البيتَ المذكورَ على ذلك، وعلَّلوا وجوب الكسر بأنا لو فتحنا لكانت في محل مصدر، فيلزم منه الاخبار بالمعنى عن العين. الخامس: ان يكون «الذين كفروا» مفعولاً به، و {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} في موضع المفعول الثاني، و {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ} مبتدأ وخبر اعترض به بين مفعولي «تحسبن» ففي الكلام تقديم وتأخير، نُقِل ذلك عن الأخفشِ. قال أبو حاتم: وسمعتُ الأخفشَ يذكر فتح «أن» - يحتج به لأهل القَدَر لنه كان منهم - ويجعله على التقديم والتأخير، [أي] : ولا تحسبنَّ الذين كفروا أنما نثمْلي لهم ليزدادوا إثماً، إنما نملي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم. انتهى. وإنما جاز أن تكون «أن» المفتوحة مبتدأ بها أول الكلام؛ لأن مذهبَ الأخفش ذلك، وغيره يمنع ذلك، فإن تقدم خبرها عليها - نحو: ظني أنك منطلق، أو «أما» التفصيلية، نحو أما أنك منطلق فعندي، جاز ذلك إجماعاً. وقول أبي حاتم: يذكر فتح «أن» يعني بها التي في قوله: «أنما نملي لهم خير» . ووجه تمسُّك القدرية أن الله تعالى لا يجوز أن يُمْلِي لهم إلا ما هو خير لأنفسهم، لأنه يجب - عندهم - رعاية الأصلح. السادس: قال المهدويّ: وقال قوم: قدم «الذين كفروا» توكيداً، ثم حالهم، من قوله: «أنما نملي لهم» رداً عليهم، والتقديرُ: ولا تحسبن أن إملاءنا للذين كفروا خيرٌ لأنفسهم. وأما قراءة يحيى - بكسر «إنَّما» مع الغيبة - فلا تخلو إما أن يُجْعَلَ الفعلُ مسنداً إلى «الذين» أو إلى ضميرٍ غائبٍ، فإن كانت الأولى كانت «أنما» وما في حيِّزها معلقة ل «تحسبن» وإن لم تكن اللام في خبرها لفظاً، فهي مقدرة، فيكون «إنّما» - بالكسر - في موضع نَصْبٍ؛ لأنها معلقة لفعل الحسبان من نية اللام، ونظير ذلك تعليق أفعال القلوبِ عن المفعولينِ الصريحين - بتقدير لام الابتداء - في قوله [البسيط] : 1697 - كَذَاكَ أدَّبتُ حَتَّى صَارَ مِنْ خُلُقِي ... أَنِّي وَجَدْتُ مِلاَكُ الشَّيْمَةِ الأدَبُ فلولا تقدير اللاتم لوجب نصب «ملاك» و «الأدب» . وكذلك في الآية لولا تقدير اللام لوجب فتح «إنما» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 71 ويجوز أن يكون المفعول الأول قد حُذِف - وهو ضمير الأمرِ والشأنِ - وقد قيل بذلك في البيت، وهو الأحسنُ فيه. والأصلُ: لا تحسبنه - أي الأمر - و «إنما نملي لهم» في موضع المفعول الثاني، وهي المفسرة للضمير وإن كان الثاني كان «الذين» مفعولاً أول، و «أنما نملي» في موضع المفعول الثاني. وأما قراءته التي حكاها عنه الزمخشريُّ، فقد خرَّجَها هو، فقال: على معنى: ولا تحسبن الذين كفروا أن إملاءنا لازدياد الإثم - كما يفعلون - وإنما هو ليتوبوا، ويدخلوا في الإيمان، وقوله: {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} اعتراض بين الفعل ومعموله، ومعناه: إن إملاءنا خيرٌ لأنفسهم إن عملوا فيه، وعرفوا إنعام الله عليهم، بتفسيح المُدَّةِ، وترك المعاجلةِ بالعقوبة. انتهى. فعلى هذا يكون «الذين» فاعلاً، و «أنما» - المفتوحة - سادة مسد المفعولين، أحدهما - على الخلاف - واعترض بهذه الجملة بين الفعل ومعموله. قال النَّحَّاسُ: قراءة يحيى بن وَثَّابٍ - بكسر «إن» فيهما جميعاً - حسنة، كما تقول: حسبت عمراً أبوه خارجٌ. وأما ما حكاه الزّجّاج - قراءةً - عن خلق كثير، وهو نصب «خير» على الظاهر من كلامه، فقد ذكر نخريجها، على أن {أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ} بدل من «الذين كفروا» و «خيراً» مفعول ثانٍ، ولا بد من إيراد نَصِّه، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مَنْ قرأ: «ولا يحسبن» بالياء، لم يَجُزْ عند البصريين إلا كسر «إن» والمعنى: لا يجسبن الذين كفروا إملاءنا خير لهم، ودخلت «إن» مؤكِّدةً، فإذا فتحت صار المعنى: وزلا يبسحبن الذين كفروا إملاءنا خير لهم، قال: وهو عندي يجوز في هذا الموضع على البدل من «الذين» والمعنى: ولا يحسبن إملاءنا للذين كفروا خيراً لهم، وقد قرأ بها خلقٌ كثير، ومثل هذه القراءة من الشعر قول الشاعر: [الطويل] 1698 - فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكَ وَاحِدٍ ... وَلَكِنَّهُ بُنْيَانُ قَوْمٍ تَهَدَّمَا جعل «هلكه» بدلاً من «قيس» والمعنى: فما كان هلك قيس هلك واحدٍ، 1هـ. يعني: «هلك» - الأول - بدل من المرفوع، فبقي «هلك واحد» منصوباً، خبراً ل «ما كان» كذلك: «أنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ» «أن» واسمها - وهي «ما» الموصولة - وصلتها، والخبر - وهو «لَهُم» في محل نصب، بدلاً من «الَّذِينَ كَفَرُوا» فبقي «خَيْراً» منصوباً على أنه مفعول ثانٍ ل «تضحْسَبَنَّ» . إلا أن الفارسي قد رد هذا على أبي إسحاقَ بان هذه القراءة لم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 72 يقرأ بها أحد - أعني نصب «خَيْراً» - قال أبو علي الفارسي: لا يصح البدل، إلا بنصب «خَيْرٌ» من حيثُ كان المفعول الثاني ل «حسبت» فكما انتصب «هلكَ واحدٍ» في البيت - لما أبدل الأول من «قيس» - بأنه خبر ل «كان» كذلك ينتصب «خَيْرٌ لَهُمْ» إذا أُبْدِل الاملاء من «الَّذِينَ كَفَرُوا» بأنه مفعول ثانٍ ل «تَحْسَبَنَّ» . قال: وسألت أحمد بن مُوسَى عنها، فزعم أن أحداً لم يقرأ بها يعني ب «أحمد» هذا أبا بكر بن مجاهد الإمام المشهور، وقال - في الحجة -: «الَّذِينَ كَفَرُوا» في موضع نصب؛ بأنها المفعول الأول، والمفعول الثاني هو الأول - في هذا الباب - في المعنى، فلا يجوزُ - إذَنْ - فتح «إن» في قوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ} لأن إملاءهم لا يكون إياهم. فإن قُلْتَ: لِمَ لا يجوز الفتح في «أن» وجعلها بدلاً من «الَّذِينَ كَفَرُوا» كقوله تعالى: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف: 63] وكما كان «أن» من قوله تعالى: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ الله إِحْدَى الطائفتين أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7] ؟ قيل: لا يجوز ذلك؛ لأنك إذا أبدلت «أن» من «الذين كفروا» كما أبدلت «أنَّ» من «إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ» لزمك أن تنصب «خَيْراً» على تقدير: لاَ تَحْسَبَنَّ إملاء الذين كفروا خيراً لأنفسهم، من حيثُ كان المفعولُ ل «تَحْسَبَنَّ» . انتهى ما رد به عليه، فلم يَبْقَ إلا الترجيح بين نَقْل الزجَّاج وابنِ مجاهد. قال شهاب الدين: طولا شك أن ابنَ مجاهدٍ أَعْنَى بالقراءات، إلا أن الزَّجَّاجَ ثقةٌ، ويقول: قرأ به خلقٌ كثيرٌ وهذا يبعد غلطه فيه، والإثبات مقدم على النفي، وما ذكره أبو علي - من قوله: وإذا لم يجز لا كسر «إن» ... . الخ - هذا - أيضاً مما لم يقرأ به أحد «. قال مَكِّي:» وجه القراءة لمن قرأ بالتاء - يعني بتاء الخطاب - أن يكسر «إنَّما» فتكون الجملة في موضع المفعول الثاني، ولم يقرأ به أحدٌ علمته «. وقد نقل أبو البقاء أن نصب» خَيْراً «قراءة شاذة قال: وقد قرئَ شَاذَّاً بالنصب، على أن يكون» لأَنْفُسِهِمْ «خبر» أن «و» لَهُمْ «تبيين، أو حال من» خَيْر «. يعني: أنه لما جعل» لأَنْفُسِهِم «الخبر، جعل» لَهُمط إما تبييناً، تقديره: أعني لهم وإما حالاً من النكرة المتأخرة، لأنه كان في الأصل صفة لها. والظاهر - على هذه القراءة - الجزء: 6 ¦ الصفحة: 73 ما تقدم من كون «لَهُمْ» هو الخبر، ويكون «لأَنْفُسِهِمْ» في محل نصب؛ صفة ل «خَيْرٌ» - كما كان صفة له في قراءة الجمهور. ونقل - أيضاً - قراءة كسر «أن» وهي قراءة يحيى، وخرجها على أنها جواب قسم محذوف، والقسم وجوابه يسد مَسَدَّ المفعولينِ، ولا حاجة إلى ذلك، بل تخريجها على ما تقدم أَوْلَى؛ لأن الأصل عدم الحذفِ. والإملاء: الأمهالُ والمَدُّ في العمرِ ومنه مَلاَوَةُ الدهر - للمدة الطويلة - يقال: مَلَوْتُ من الدهر مَلْوَةً ومِلْوَةً ومُلْوَةً ومَلاوةً ومِلاَوَةً ومُلاَوَةً بمعنىً واحد. قال الأصمعيُّ: يقال أملى عليه الزمان - أي: طال - وأملى له - أي: طوَّل له وأمهله - قال أبو عبيدة: ومه: الملا - للأرض الواسعة - والمَلَوَان: الليل والنهار، وقولهم: مَلاَّكَ الله بِنعَمِه أي: مَنَحَكَها عُمْراً طَوِيلاً -. وقيل: المَلَوَانِ: تكرُّر الليل والنهار وامتدادُهما، بدليلِ إضافتهما إليهما في قول الشّاعرِ: [الطويل] 1699 - نَهَارٌ وَلَيْلٌ دَائِمٌ مَلَوَاهُمَا ... عَلَى كُلِّ حَلِ المَرْءِ يَخْتَلِفَانِ فلو كانا الليلَ والنَّهارِ لما أُضِيف إليهما؛ إذ الشيءُ لا يُضاف إلى نفسه. فقوله: «أنما نملي لهم» أصل الياء واوٌ، ثم قُلِبَت لوقوعها رابعة. قوله: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} قد تقدم أن يحيى بن وثَّاب قرأ بكسر الأولى وفتح هذا فيما نقله الزمخشريُّ وتقدم تخريجُها، إلا أن أبا حيّان قال: إنه لم يَحْكِها عنه غير الزمخشريِّ بل الَّذِينَ نقلوا قراءةَ يحيى إنما نقلوا كسر الأولى فقط، قال: وإنما الزمخشريُّ - لولوعه بنْصرة مذهبه - يروم رد كل شيء إليه. قل شهابُ الدِّينِ: وهذا تحامُلٌ عليه؛ لأنه ثقةٌ، لا ينقل ما لم يُرْوَ. وأما على قراءة كسرها ففيها وجهان: الأول: أنها جملة مستأنفة، تعليلٌ للجملة قبلها، كأنه قيل: ما بالُهُمْ يحسبون الإملاء خيراً؟ فقيل « {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً} و» إنّ «- هنا مكفوفة ب» ما «ولذلك كُتِبَتْ متصلة - على الأصل ولا يجوز أن تكون موصولة - اسمية ولا حرفية - لأن لام» كي «لا يصح وقوعها خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه. الثاني: أنّ هذه الجملة تكريرٌ للأولى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 74 قال أبو البقاء: وقيل:» إنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ «تكريرٌ لَهُمْ» تكريرٌ للأول، و «لِيَزْدَادوا» هو المفعول الثاني ل «تَحْسَبَنَّ» على قراءة التاء، والتقدير: ولا تحسبنّ يا محمد إملاء الذين كفروا ليزدادوا إيماناً، بل ليزدادوا إثماً. ويُرْوَى عن بعض الصحابة أنه قرأها كذلك. قال شِهَابُ الدينِ: وفي هذا نظر، من حيث إنه جعل «لِيَزْدَادوا» هو المفعول الثاني، وقد تقدم أن لام «كي» لا تقع خبراً للمبتدأ ولا لنواسخه، ولأن هذا إنما يتم له على تقدير فتح الثانيةِ، وقد تقدم أنّ أحداً لم ينقلها عن يحيى إلا الزمخشريّ والذي يقرأ «تَحْسَبَنَّ» - بتاء الخطاب - لا يفتحها ألبتة. واللام في «ليزدادوا» فيها وجهان: أحدهما: أنها لام «كي» . والثاني: أنها لامُ الصَّيْرُورَةِ. قوله: «وَلَهُم عَذَابٌ مُهِينٌ» في هذه الواو قولان: أحدهما: أنها للعطف؟ والثاني: أنها للحالِ، وظاهرُ قول الزمخشريُّ أنها للحالِ في قراءة يَحْيى بن وثَّاب فقط؛ فإنه قال: فإن قلت: ما معنى القراءة - يعني: قراءة يحيى التي نقلها هو عنه؟ قلتُ: معناه: ولا تحسبوا أن إملاءه لزيادة الإثم والتعذيب، والواو للحال، كأنه قيل: ليزدادوا إثْماً مُعَدًّا لهم عذابٌ مهينٌ. قال أبو حيَّان: بعد ما ذكر من إنكاره عليه نَقْل فَتْح الثانية عن يحيى كما تقدم -: «ولما قَرَّرَ في هذه القراءة أن المعنى على نَهْي الكافر أن يحسب أنما يُملي اللهُ لزيادة الإثم، وأنه إنما يملي [لزيادة] الخير، كان قوله: {وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} يدفع هذا التفسير، فخرج ذلك على أن الواو للحالِ، حتى يزول هذا التدافعُ الذي بين هذه القراءة، وبين ظاهر آخر الآية. فصل أصل» ليزدادوا «: ليزتادوا - بالتاء - لأنه افتعال من الزيادة، ولكن تاء الافتعال تقلب دالاً بعد ثلاثة أحرف الزاي، والذال، والدال - نحو ادكروا والفعل هنا - متعدٍّ لواحدٍ، وكان - في الأصل - متعدياً لاثنين، - كقوله تعالى: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} [البقرة: 10] ولكنه بالافتعالِ ينقص أبداً مفعولاً، فإن كان الفعلُ - قبل بنائه على» افتعل «للمطاوعة - مُتَعدياً لواحدٍ، صار قاصراً بعد المطاوعةِ، نحو مددتُ الحبلَ فامتدَّ، وإن كان متعدياً لاثنين صار - بعد الافتعال - متعدياً لواحدٍ، كهذه الآية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 75 وخُتِمَتْ كل وحدة من هذه الآيات الثلاث بصفة للعذاب غير ما خُتِمَتْ به الأخْرَى؛ لمعنًى مناسب، وهو أن الأولى تضمنت الإخبار عنهم بالمسارعة في الكُفْرِ، والمسارعةُ في الشيء والمبادرة في تحصيله تقتضي جلالته وعظمته، فجُعِل جزاؤه {عَذَابٌ عَظِيمٌ} مقابلاً لهم، ويدل ذلك على خساسة ما سارعوا فيه. وأما الثانية فتضمنت اشتراءهم الكُفْر بالإيمان، والعادة سرورُ المشتري واغتباطه بما اشتراه، فإذا خسر تألَّم، فخُتِمَت هذه الآية بألم العذابِ، كما يجد المشتري المغبون ألَمَ خسارته. وأما الثالثة فتضمنت الإملاء - وهو الإمتاع بالمال وزينة الدنيا - وذلك يقتضي التعزُّزَ والتكبُّرَ والجبروتَ فختمت هذه الآيةُ بما يقتضي إهانتهم وذِلَّتهم بعد عِزِّهم وتكبُّرهم. فصل قال ابنُ الخطيبِ: احتج أصحابُنا - بهذه الآية - في إثبات القضاء والقدر؛ لأن الإملاء عبارة عن تأخيره مدة - والتأخيرُ من فعلِ اللهِ تعالى - والآية دلَّت على أنَّ هذا الإملاء ليس بخير لهم، فهو سبحانَهُ خالقُ الخيرِ والشرِ. ودلَّت على أن المقصودَ من هذا الإملاء هو أن يزدادوا إثماً، فدل على أن المعاصيَ والكُفْر بإرادته وأكَّد بقوله: {وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} . وأيضاً أخبر عنهم بأنهم لا خير لهم في هذا الإملاء؛ لأنهم لا يحصلون إلا زيادة البغي والطغيان، والإتيان بخلاف خبر لله - مع بقاء ذلك الخبر - جمع بين النقيضين، وهو محالٌ. وإذا لم يكونوا قادرين - مع ذلك الإملاء - على الخير والطاعة - مع أنهم مكلَّفُون بذلك - لزم في نفسه بُطْلان مذهب المعتزلة. وأجب المعتزلة عن الأول بأنّ المرادَ: ليس خيراً لهم بأن يموتوا كما مات الشهداءُ يومَ أُحُدٍ؛ لأن هذه الآيات في شأن أُحُدٍ، ولا يلزمُ من كَوْنه ليس خيراً من القتل يوم أحد إلا أن يكونَ في نفسه خيراً. وعن الثاني بأنه ليس المرادُ ليقدموا على الكفرِ والعصيانِ؛ لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فيُحْتَمَلُ أن تكونَ اللامُ للعاقبة - كقوله: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8]- أو يكون فيه تقديم وتأخير، تقديره: لا يحسبن الذين كفروا أنما نُملي لهم ليزدادوا إثماً، إنما نُمْلي لهم خير لأنفسهم. أو لأنهم لما ازدادوا طغياناً - بإمهاله - أشبه حال مَنْ فعل أهلِ السُّنَّةِ فلأنهم يُحيلون تعليل أفعاله تَعَالَى بالأغراض، وأما على قولنا فلأنَّا إنما نُعَلِّلُ بغرض الإحسانِ، لا بالتعب فسقط ما ذكروه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 76 وقول القائل: ما المرادُ بهذه الآية؟ لا يُلْتَفَتُ إليه؛ لأن المستدلَّ نَفَى الاستدلال على أن اللام للتعليلِ، فإذا بَطَلَ ذلك سقط استدلالُهُ. وعن الثالث، وهو مسألةُ العلمِ والخبر، أنه معارض بأنه يلزم أنه تعالى موجب لا مختار، وهو باطلٌ. والجوابُ عن الأول أنَّ المنفيَّ هو الخير في نفس الأمر لا بمعنى المفاضلةِ؛ لأن الذي للمفاضلة لا بد وأن يُذْكِر مُقابِلُه، فلما يُذْكَ دلَّ على المنفيَّ هو الخيرُ مطلقاً. وتمسُّكهم بقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ} [النساء: 64] جوابه: أن ما تمسَّكوا به عام، ودليلنا خاصّ. وقولهم: اللام للعاقبة، قلنا: خلاف الظاهر - مع أن البرهان العقليّ يُبْطله؛ لأنه تعالى لما علم ذلك وجب حصولُهُ؛ لأن حصولَ معلومِهِ واجبٌ، وعدم حصوله مُحالٌ، وإرادة المحالِ مُحَالٌ فوجب أن يرد ما هو الواقع، فثبت أن المقصود هو التعليلُ. وأما التقديمُ والتأخيرُ، فجوابُهُ: أن ذلك على خلاف الأصل؛ لأن ذلك إنما يتم لو كانت «أَنَّمَا» الأولى مكسورة والثانية مفتوحة وقولهم: لا يمكن حَمْل اللام على التعليل، قلنا: الممتنع - عندنا - تعليل أفعاله - تعالى - بغرض يصدر عن العباد، فأما أنه يفعل فعلاً ليحصل منه شيء آخرَ، فغير ممتنع. وأيضاً فالآية نصٌّ على أنه ليس المقصود من الإملاء إيصال الخير لهم، والقوم لا يقولونَ به، فهي حجةٌ عليهم، وأما المعارضة فجوابها: أن تأثيرَ قدرة اللهِ تَعَالَى - في إيجاد المُحْدِثَات - متقدمٌ على تعلُّق علمه بعدمه، فلم يكن أن يكون العلم مانعاً من القدرة، وأما العبدُ فتأثير قدرته في إيجاد الفعل متأخر عن تعلُّق علم الله تعالى بعدمه، فصحَّ كَوْنَ هذا العلمِ مانعاً للعبدِ عن الفعل. قال ابن الخطيبِ: اتفق أصحابُنا، على أنه ليس لله تعالى على الكافر نعمةٌ دينيةٌ، واختلفوا في الدنيوية فتمسك النافون بهذه الآيةِ، وقالوا: دلت على إطالة عُمْره ليس بخير له، والعقل يُقَرِّه لك؛ لأن من أطعم إنساناً طعاماً مسموماً لا يعد ذلك إنعاماً، فإذا كان القصدُ من نعم الدنيا عذاب الآخرة فليست بنعمة، ومما ورد من النعم في حقِّ الكافرِ محمولٌ على ما هو نعمةٌ في الظَّاهر لكنه نقم في محض الحقيقة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 اللام في «ليذر» تُسمَّى لامَ الجحودِ، ويُنْصَب بعدها المضارع بإضمار «أن» ولا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 77 يجوز إظهارها. والفرق بين لام «كي» أن هذه - على المشهور - شرطها أن تكون بعد كون منفي، ومنهم من يشترط مضي الكونِ، ومنهم من لم يشترط الكون. وفي خبر «كان» - هنا - وما أشبه قولان: أحدهما: قولُ البصريينَ - أنه محذوفٌ، وأن اللامَ مقوية لتعدية ذلك الخبرِ المقدَّر لِضَعْفه، والتقدير: ما كان الله مُريداً لأن يَذَر، و «أن يذر» هو مفعول «مريداً» والتقديرُ: ما كان اللهُ مُريداً ترك المؤمنين. الثاني: قول الكوفيين - أن اللامَ زائدةٌ لتأكيدِ النفي، وأن الفعل بعدها هو خبرُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 78 كانَ واللامُ عندهم هي العاملةُ النصْبَ في الفعل بنفسها، لا بإضمار «أن» والتقدير عندهم: ما كان الله ليذرَ المؤمنين. وضعَّف أبو البقاء مذهبَ الكوفيين بأنّ النصب قد وُجِد بعد هذه اللامِ، فإن كان النصبُ بها نفسها فليست زائدةً، وإن كان النصبُ بإضمار «أن» فسَد من جهة المعنى لأن «أن» وما في حيزها بتأويل مصدر، والخبر في باب «كان» هو الاسم في المعنى، فيلزم أن يكون المصدر - الذي هو معنى من المعاني - صادقاً على اسمها، وهو مُحَالٌ. وجوابه: أما قوله: إن كان النصبُ بها فليست زائدةً ممنوع؛ لأن العملَ لا يمنع الزيادةَ، ألا ترى انَّ حروف الجَرِّ تُزاد، وهي عاملة وكذلك «أن» عند الأخفشِ، و «كان» في قول الشاعر: [الوافر] 1700 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَجِيرَان لَنَا كَانُوا كِرَام كما تقدم تحقيقه و «يذر» فعل لا يتصرف - كَيَدَعُ - استغناء عنه بتصرُّف [مرادفه]- وحُذِفت الواو من «يذر» من غير موجب تصريفي، وإنما حُمِلَت على «يدع» لأنها بمعناها، و «يدع» حُذِفت منه الواوُ لموجب، وهو وقوع الواو بين ياءٍ وكسرةٍ مقدرة وأما الواو في «يذر» فوقعت بين ياء وفتحةٍ أصليةٍ. وقد تقدم تحقيقه عند قوله تعالى: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا} [البقرة: 278] . فصل وجه النظم: أن هذه الآية من بقية أحُد، فأخبر - تعالى - أن الأحوالَ التي وقعتْ في تلك الحادثةِ - من القتل والهزيمة، ثم دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الخروج إلى العدو مع من كان بهم من الجراحاتِ، ثم دعاهم مرة أخْرَى إلى بدرٍ الصُّغْرَى، لموعد أبي سفيانَ - دليلٌ على امتيازِ المؤمنين من المنافقين، فأخبر - تعالى - بأنه لا يجوزُ - في حكمته - أن يترككم على ما أنتم عليه من اختلاط المنافقين بكم، وإظهارهم أنهم منكم - بل يجب في حكمته أن يُمَيِّز الخبيث - وهو المنافق - من الطيب - وهو المؤمن -. فصل في سبب النزول قال الكلبيُّ: قالت قريشُ: يا محمدُ، تزعم أن من خالفك، فهو في النَّارِ، واللهُ عليه غَضْبَانُ، وأن من اتبعك، وهو على دينك، فهو في الجَنَّةِ، واللهُ عَنْهُ راضٍ. فأخْبِرْنا بمن يُؤمنُ بك، ومَن لا يُؤمنُ؛ فأنزل الله هذه الآية. وقال السُّديُّ: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «عُرِضَتْ عليَّ أمَّتِي فِي صُورَتِهَا في العِلِّيِّينَ، كَمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 79 عُرِضَتْ عَلَى آدَمَ وأعْلِمتُ مَنْ يُؤْمِنُ ومَنْ يَكْفُرُ» فبلغ ذلك المنافقين، فقالوا: استهزاءً -: زعم محمدٌ أنه يعلم من يؤمن به، ومَنْ يكفرُ، ممن لم يُخْلَقْ بَعْدُ، ونحن معه، وما يعرفنا، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقام على المنبر فحمد اللهَ، وأَثْنَى عليه، ثم قال: «مَا بَالُ أقْوامٍ طَعَنُوا فِي عِلمي، لا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ - فِيمَا بَيْنَكُم وبَيْنَ السَّاعَةِ - إلاَّ نَبَّأتُكمُ بِهِ» فقام عبد الله بن حذافة السهميّ، وقال: مَنْ أبي، يا رسول اللهِ؟ فقال: «حُذَافة» فقام عُمَرُ، فقال: يا رسول الله، رضينا بالله رَبَّاً، وبالإسلامِ ديناً، وبالقرآن إماماً، وبك نبيًّا، فاعفُ عنا، عفا الله عنك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فَهَل أنْتُمْ مُنْتَهٌونَ» - مرتين - ثم نزل عن المِنْبَرِ «فأنزل اللهُ هذه الآية. قوله: {حتى يَمِيزَ} حتى - هنا - قيل: هي الغائية المجرَّدة، بمعنى» إلى «والفعل بعدها منصوب بإضمار» أن «وقد تقدم تحقيقه في» البقرة «. فإن قيل الغاية - هنا - مشكلة - على ظاهر اللفظ - لأنه يصير المعنى: أنه تعالى لا يترك المؤمنين على ما أنتم عليه إلى هذه الغاية - وهي التمييز بين الخبيثِ والطَّيِّبِ - ومفهومه أنه إذا وُجِدَت الغاية ترك المؤمنين على ما أنتم عليه. هذا ظاهرُ ما قالوه من كونها للغاية، وليس المعنى على ذلك قَطْعاً، ويصيرُ هذا نظيرُ قولكَ: لا أكَلِّم زيداً حتى يقدم عمرو، فالكلام منتفٍ إلى قدوم عمرو. فالجوابُ عنه:» حَتّى «غاية لمن يفهم من معنى هذا الكلام، ومعناه: أنه - تعالى - يخلص ما بينكم بالابتلاء والامتحان إلى أن يميز الخبيثَ من الطيبِ. وقرأ حمزة [والكسائي]- هنا وفي الأنفال -» يُمَيِّزَ «بالتشديد - والباقون بالتخفيف، وعن ابن كثيرٍ - أيضاً -» يُميز «من» أماز «فهذه ثلاث لغاتٍ، يقال: مَازَه وميَّزه وأمازه. والتشديد والهمزة ليسا للنقل؛ لأنّ الفِعْلَ - قبلهما - مُتَعَد، وإنما» «فعّل» - بالتشديد - و «أفعل» بمعنى: المجرد. وهل «ماز» و «مَيَّز» بمعنًى واحدٍ، أو بمعنيين مختلفين؟ قولان. ثم القائلونَ بالفرق اختلفوا، فقال بعضهم: لا يقال: ماز، إلا في كثير، فأما واحدٌ من واحدٍ فميَّزت، ولذلك قال أبو مُعاذٍ: يقال ميَّزتُ بين الشيئين تَمْييزاً، ومِزْت بين الأشياء مَيْزاً. وقال بعضُهُمْ عكس هذا - مزت بين الشيئين مَيْزاً، وميَّزت بين الأشياء تمييزاً - وهذا هو القياس، فإنَّ التضعيفَ يؤذن بالتكثير، وهو لائقٌ بالمتعددات، وكذلك إذا جعلتَ الواحد شيئين قلت: فَرَقْت: - بالتخفيف - ومنه: فرق الشعر، وإن جعلته أشياء، قلت: فرَّقْتها تَفْرِيقاً. ورجَّح بعضُهم «مَيَّز» - بالتشديد - بأنه أكثر استعمالاً، ولذلك لم يستعملوا المصدر إلا منه، قالوا: التمييز، ولم يقولوا: المَيْز - يعني لم يقولوه سماعاً، وإلا فهو جائز قياساً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 80 فصل ومعنى الآية: حتى يميز المنافق من المخلصِ، وقد ميَّزهم يَوْمَ أحُدٍ؛ حيث أظهروا النفاق، وتخلَّفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فإن قيل: إنَّ التمييزَ إنْ ظَهَرَ وانكشفَ، فقد ظهر كُفْرُ المنافقينَ، وظهور كُفْرِهم ينفي كونهم منافقين، وإن لم يحصل الوَعْدُ. فالجوابُ: أنه ظهر بحيث يُفيد الامتيازَ القَطْعِيّ. قال قتادة: حتّى يميز المؤمن من الكافر بالهجرة والجهادِ. قال الضَّحَّاك: «مَا كَانَ اللهُ لِيَذَرَ المُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أنْتُمْ عَلَيْهِ» في أصلاب الرَِّجَالِ، وأرحام النِّساءِ، يا معشرَ المنافقينَ، حتّى يفرق بينكم وبين مَنْ في أصْلابكم، وأرحام نسائكم من المؤمنينَ. وقيل: «حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ وهو الذنب» مِنَ الطَّيِّبِ «وهو المؤمنُ، يعني يَحُطُّ الأوزار عن المؤمنين بما يُصيبهم من نكبةٍ ومحنةٍ ومصيبةٍ. وقيل: الخبيث: هو الكُفْر: أذلَّه الله وأخْمَدَه، وأعلى الإسلامَ وأظهره، فهذا هو التمييزُ. قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} ومعناه: أنه لا يجوز أن يطلعكم على أصل ذلك التمييزِ، فيقول: إنَّ فلاناً منافق، وإن فلاناً مؤمنٌ؛ فإن سنَّة اللهِ جارية بأنه لا يُطْلِع عوامَّ الناس على غَيْبه، ولا سبيلَ لَكُمْ إلى معرفة ذَلِكَ الامتيازِ إلا بالامتحاناتِ ووقوع المِحَن والآفاتِ - كما ذكرنا - وأما معرفة ذلك على سبيل الاطلاعِ على الغيب، فذلك من خواصِّ الأنبياء، فلهذا قال: {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} فيخصهم بإعلام أن هذا مؤمن، وهذا منافق، نظيره قوله تعالى: {عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 26، 27] . ويحتمل أن يكون المعنى: وما كان اللهُ ليجعَلَكم كلَّكم عالمينَ بالغيب كعلم الرسول، فتنشغلوا عن الرسول، بل اللهُ يخص من يشاءُ من عبادِهِ، ثم يُكَلِّف الباقينَ طاعة هذا الرسولِ. قوله:» وَلكِنَّ «هذا استدراكٌ من معنى الكلامِ المتقدمِ؛ لأنه تعالى - لما قال: {وَمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 81 كَانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ} أَوْهَمَ ذلك أنه لا يُطْلِعُ أحداً على غيبه؛ لعموم الخطابِ - فاستدرك الرُّسُلَ. والمعنى: {وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي} أي يصطفي {مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ} فَيَطْلِعُهُ على الغيبِ، فهو ضِدٌّ لما قبله في المعنى، وقد تقدم أنها بين ضِدَّيْنِ ونقيضَيْن، وفي الخلافين خلافٌ. يَجْتَبِي: يصطفي ويختار، من: جَبَوْت المال والماء، وجبيتهما - لغتان - فالياء في يجتبي يُحْتَمَل أن تكون على أصلها، ويُحْتَمل أن تكون منقلبةً عن واوٍ؛ لانكسارِ ما قبلها. ومفعول «يَشَاءُ» محذوفٌ، وينبغي أن يقدر ما يليق بالمعنى، والتقدير: يشاءُ إطلاعه على الغيب. قوله: «فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ» يعني أن هذه الشبهة الذي ذكرتموها في الطعن في نبوة محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - من وقوع الحوادث المكروهة في قصة أُحُد، وقد أجبْنا عنها، فلم يَبْقَ إلا أن تُؤمِنوا بالله ورُسُله. وإنما قال: «وَرُسُلِهِ» ولم يَقُلْ: ورسوله؛ لأن الطريقةَ الموصلةَ إلى الإقرار بنبوَّة الأنبياء ليس إلا المُعْجِز، وهو حاصل في حقِّ محمَّدْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فوجب الإقرار بنبوة الأنبياء، فلهذا قال: «وَرُسُلِهِ» لأن طريقة إثبات نبوة جميع الأنبياءِ واحدٌ، فمن أقر بنبوة واحدٍ لزمه الإقرار بنبوَّة الكُلِّ، ثم لمَّا أمرهم بذلك وعدهم بالثواب فقال: «وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيم» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 لمَّا حرَّضهم على بذل النفس في الجهاد - فيما تقدم - حرضهم على بذل المال في الجهاد، وبيَّن الوعيد لمن يبخل. قرأ حمزة بالخطاب في «تَحْسَبَنَّ» والباقون بالغيبة فأما قراءة حمزة ف «الّذِينَ» مفعول أول، و «خَيْراً» هو المفعول الثّاني، ولا بد من حَذْف مضَاف؛ ليصدقَ الخبرُ على «المبتدأ، وتقديره: ولا تحسبن بُخْل الّذين يبخلون. قال أبو البقاء:» وهو ضَعِيفٌ؛ لأن فيه إضمار البخلِ قبل ذِكْر ما يدل عليه «. وفيه نظر؛ لأن دلالة المحذوفِ قد تكون متقدمةً، وقد تكون متأخرة، وليس هذا من بابِ الإضمارِ في شيءٍ، حتَّى يشترطَ فيه تقدُّم ما يدل على ذلك الضمير. و» هو «فيه وجهان: الأول: أنه فَصل بين مفعولي» يَحْسَبَنَّ «. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 82 والثاني - قاله أبو البقاء -: أنه توكيدٌ، وهو خطأٌ؛ لأنَّ المضمَرَ لا يؤكِّد المظهر. والمفعولُ الأولُ اسم مظهرٌ، ولكنه حُذِف - كما تقدم - وبعضُهم يُعَبِّر عنه، فيقول: أُضْمِر المفعولُ الأولُ - يعني حذف فلا يعبر عنه بهذه العبارة. و» هو «- في هذه المسألة - تتعينُ فصيلتُه لأنه لا يخلو إمّا أن يكونَ مبتدأً، أو بدلاً، أو توكيداً، والأول مُنْتَفٍ؛ لنَصْب ما بعده - وهو خير - وكذلك الثاني؛ لأنه كان يلزمُ أن يوافقَ ما قبله في الإعراب، فكان ينبغي أن يقال: إياه، لا» هُوَ «وكذلك الثالثُ - كما تقدم. أما قراءة الجماعة، فيجوز أن يكونَ الفعلُ مُسْنَداً إلى ضميرِ غائبٍ - إما الرسولُ، أو حاسب ما - ويجوز أن يكونَ مسنداً إلى الذين فإن كان مسنداً إلى ضمير غائب، ف» الذِينَ «مفعول أولٌ، على حذف مضافٍ، ما تقدّم في قراءة حمزة، أي: بُخْل الذين، والتقدير: ولا يحسبنَّ الرسولُ - أو أحد - بُخْلَ الذين يبخلون خيراً لأنفسهم. و» هُوَ «فَصْل - كما تقدم - فتتحد القراءتان معنى وتخريجاً. وإن كان مسنداً إلى» الذِينَ «ففي المفعول الأول وجهان: أحدهما: أنه محذوف؛ لدلالة» يَبْخَلُونَ «عليه، كأنه قيل: ولا يحسبن الباخلون بُخْلَهم هو خيراً لهم و» هو «فَصْل. قال ابن عطية:» ودل على هذا البخل «يَبْخَلون» كما دَلَّ «السَّفيه» على السَّفهِ في قول الشاعر: 1701 - إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ ... وَخَالَفَ وَالسَّفِيهُ إلى خِلاَفِ أي: جرى إلى السفه. قال أبو حيّان: وليست الدلالةُ فيهما سواء، لوجهين: أحدهما: أن الدالَّ في الآية هو الفعلُ، وفي البيتِ هُوَ اسم الفاعِل، ودلالةُ الفعلِ على المصدرِ أقوى من دلالة اسم الفاعل، ولذلك كَثر إضمار المصدرِ؛ لدلالة الفعل عليه - في القرآن وكلام العربِ - ولم يؤثر دلالةُ اسم الفاعل على المصدر، إنما جاء في هذا البيتِ، أو في غيره أن وُجد أن في الآية حَذفاً لظاهرٍ؛ إذ قدَّروا المحذوف «بخلهم» وأما فهو إضمارٌ لا حذفٌ. الوجه الثاني: أن المفعول نفس «هُوَ» وهو ضمير البخل الذي دلَّ عليه «يَبْخَلُونَ» - كقوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8]- قاله أبو البقاء. وهو غلطٌ أيضاً، لأنه كان ينبغي أن يأتي به بصيغة المنصوب، فيقول: «إياه» لكونه منصوباً ب «يَحْسَبَن» ولا ضرورة بنا إلى أن نَدَّعِيَ أنه من باب استعارة الرفع مكان النصب كقولهم: ما أنا كأنت، ولا أنتَ كأنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 83 وفي الآية وجهٌ غريبٌ، خرَّجه أبو حيَّان، قال: «وهو أن تكون المسألة من باب الإعمال، إذا جعلنا الفعل مسنداً لِ» الذِينَ «وذلك أن» يَحْسَبْنَّ «يطلب مفعولين، و» يَبْخَلُونَ «يطلب مفعولاً بحرف جَر فقوله» ما أتاهم «يَطْلبه» يَحْسَبَنَّ «على أن يكون المفعول الأول، ويكون» هُوَ «فَصْلاً، و» خَيْراً «المفعول الثاني، ويطلبه» يَبْخَلونَ «بتوسُّط حرف الجَر، فأعمل الثانيَ - على الفصح في لسان العرب، وعلى ما جاء في القرآن - وهو» يَبْخَلونَ «فعدي بحرف الجر، وأخذ معمواه، وحذف معمول» يَحْسَبَنَّ «الأول، وبقي معموله الثاني؛ لأنه لم يتنازع فيه، إنما جاء التنازع بالنسبة إلى المفعول الأولِ، وساغ حذفه - وحده - كما ساغ حذف المفعولين في مسألة سيبويه: متى رأيت أو قلت: زيد منطلقٌ؟ لأن رأيت وقلت - في هذه المسألة - تنازعا في زيدٌ منطلقٌ، وفي الآية لم يتنازعا إلاَ في الأولِ، وتقدير المعنى: ولا يحسبن ما آتاهم اللهُ من فَضْلِه هو خيراً لهم الناس الذين يبخلون به، فَعَلَى هذا التقدير يكون» هُوَ «فصلاً ل» ما آتاهم «المحذوف، لا لبخلهم المقدَّر في قول الجماعة. ونظير هذا التركيبِ» ظَنَّ الذي مَرَّ بهند هي المنطلقة، المعنى: ظن هند الشخص الذي مر بها هي المنطلقة، فالذي تنازعه الفعلان هو المفعول الأولُ، فأعمل الفعل الثانيَ فيه، وبقي الأول يطلب محذوفاً، ويطلب الثاني مثبتاً، إذ لم يقعْ فيه التنازعُ. ومع غرابة هذا التخريج، وتطويله بالتنظير والتقدير، فيه نظر؛ وذلك أن النحويين نصوا على أنه إذا أعملنا الفعل الثانيَ، واحتاج الأول إلى ضمير المتنازع فيه، فإن كان يطلبه مرفوعاً أضمر فيه، وإن كان يطلبه غيرَ رفوع حُذِف، إلا أن يكون أحد مفعولي «ظن» فلا يحذف، بل يُضْمَر ويُؤخر وعللوا ذلك بأنه لو حذف لبقي خبر دون مخبر عنه - أو بالعكس - وهذا مذهبُ البصريين، وفيه بحثٌ، لأن لقائلٍ أن يقول: حُذِف اختصاراً، لا اقتصاراً، وأنتم تجيزون حذف أحدهما اختصاراً في غير التنازع، فليَجُزْ في التنازع؛ إذْ لا فارق، وحينئذ يَقْوَى تَخْرِيجُ الشَّيْخِ بهذا البحثِ، أو يلتزم القول بمذهب الكوفيين، فإنهم يُجِيزون الحّذْف فيما نحن فيه. وذكر مكيٌّ ترجيحَ كُلٍّ من القراءتين، فقال: «فأما القراءة بالتاء - وهي قراءة حمزة - فإنه جعل المخاطب هو الفاعل، وهو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ و» الذِينَ «مفعول أول - على تقدير حَذْف مضاف، وإقامة المضاف إليه - الذين - مُقامه - و» هو «فصل، و» خَيْراً «مفعول ثانٍ، تقديره: ةلا تحسبن يا محمد بُخلل الذين يَبْخَلُون خَيْراً لهم، ولا بد من هذا الإضمار، ليكون المفعول الثاني هو الأول في المعنى، وفيها نظرٌ؛ لجواز ما في الصلة تفسير ما قبل الصلة، على أن في هذه مزية على القراءة بالياء؛ لأمك إذا حذفْتَ المفعول أبقيتَ المضافَ إليه يقوم مقامه، ولو حذفت المفعولَ في قراءة الياء لم يَبْقَ ما يقوم مقامه. وفي القراءة بالياء - أيضاً - مزية على القراءة بالتاء، وذلك أنك حذفت البُخْلَ بعد تقدُّم» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 84 يَبْخَلُونَ «وفي القراءة بالتاء حذفتَ البُخْلَ قبل إتيان» يَبْخَلونَ «وجعلْتَ ما في صلة» الذِينَ «تفسيرَ من قبل الصلة، فالقراءتان متوازيتان في القوة والضَّعف» . والميراثُ: مصدر كالميعاد، وياؤه منقلبة عن واو، لانكسار ما قبلها - وهي ساكنةٌ - لأنها من الوراثة كالميقات والميزان - من الوقت والوزن - وقرأ أبو عمرو وابن كثير «يَعْمَلُونَ» بالغيبةِ، جَرْياً على قوله: {الذين يَبْخَلُونَ} - والباقون بالخطابِ، وفيها وجهانِ: أحدهما: انه التفات، فالمراد: الذين يبخلون. الثاني: أنه رَدَّ على قوله: {وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ} . فصل الآية دالَّة على ذَمِّ البُخْل بشيء من الخيراتِ سواء كان مالاً أو علماً. فإن كان على البُخْلِ بالمال فالمعنى: لا يحسبن البخلاءُ أن بُخْلَهم هو خير لهم، بل هو شرٌّ لهم، لأن المالَ يزول، ويبقى عقابُ بُخْلِهم عليهم، كما قال: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} وهذا هو المراد من قوله: {وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} قال أبُو مسعودٍ وابن عباسٍ، وأبو وائل والشعبيُّ والسُّدَّي: يُجْعَل ما منعه من الزكاة حَيَّةً يُطَوَّقُ بها في عنقه يوم القيامة تنهشه من رأسه إلى قَدَمِهِ. وإن كان المرادُ البُخْلَ بالعلم؛ فلأنّ اليهود كانوا يكتمون نعت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان ذلك الكتمانُ بُخْلاً، ولا شك أن العلم فَضْل من الله. والقول الأول أوْلَى؛ لقوله تعالى: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} وإذا فسَّرنا الآية بالعِلْم احتجنا إلى تحمُّل المجاز، وإذا فسَّرنا بالمال لم نَحْتَجْ إلى المجازِ. وأيضاً فالحَمْل على البُخْل بالمال تكون الآية ترغيباً في بَذْل المالِ في الجهادِ، فيحْسُن نظم الآية مع ما قبلها، وبحَمْلها على البُخْل بالعلم ينقطع النَّظْمُ إلا بتكلُّفٍ بعيدٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 85 فصل في اختلافهم في البخل في الآيات اختلفوا في هذا البخلِ، فقال أكثرُ العلماءِ: المراد به مَنْع الواجب، واستدلُّوا بوجوهٍ: أحدها: أن الآية دالةٌ على الوعيدِ الشديدِ في البُخْل، وذلك الوعيدُ لا يليق إلا بالواجبِ. ثانيها: أن اللهَ - تعالى - ذَمَّ البُخْل وعابه، وَنْعُ التطوُّعِ لا يجوز أن يُذَمَّ فاعِلُه وأن يُعَابَ به. ثالثها: أنه لو كان تارك التفضُّل بخيلاً لوجب على مَنْ ملك المالَ العظيمَ أن يُخْرج الكلَّ، وإلا لم يتخلَّص من الذم. رابعها: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «وَأيُّ دَاءٍ أدْوَأُ مِنَ البُخْلِ» ومعلوم أن تارك التطوُّع لا يليق به هذا الوصف. خامسها: أنه - تعالى - لا ينفك عن ترك التفضُّل؛ لأنه لا نهايةَ لمقدوراته في التفضُّل، وكل ما يدخل في الوجود، فهو متناهٍ، فيكون لا محالة - تاركاً للتفضُّل فلو كان ترك التفضُّل بُخْلاً لزم أنْ يكونَ اللهُ موصوفاً بالبُخْل، تعالى الله عن ذلك عُلوًّا كبيراً. فصل اعلم أنَّ إنفاقَ الواجبِ أقسامٌ: منها: إنفاقه على نفسه، وعلى أقاربه الذين تلزمه نفقتهم. ومنها: الزكوات، ومنها: ما إذا احتاج المسلمونَ إلى دَفْع عَدُوٍّ يقصد قَتْلَهُم ومالهم، فيجب عليهم إنفاق المالِ على مَنْ يدفع عنهم. ومنها: دَفْع ما يسد رَمَقَ المضطر، فهذه الاتفاقات واجبة. قوله: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة} اختلفوا في هذا الوعيد، فقال ابنُ مسعودٍ وابنُ عباس: إنَّ هذه الأموالَ تصير حيّاتٍ يطوقون بها - كما تقدم - وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالاً، فَلَمْ يُؤدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعاً أقْرَعَ، لَهُ زَبيبتانِ، يُطَوِّقهُ يَوْم القِيَامَةِ ثُمَّ يأخُذُ بِلهزمتيهِ - يعني: شِدقيهِ: ثُمَّ يَقُولُ: أنَا مَالُكَ، أنَا كَنزُكَ» ثم تلا قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 86 وقال مجاهدٌ: معنى «سَيُطَوَّقُونَ» سَيُكَلَّفون أن يأتوا بما بَخِلوا يه يومَ القيامةِ، أي: يُؤمرون بأداء ما منعوا، فلا يمكنهم الإتيان به، فيكون توبيخاً. وقيل: سيلزَمون إثمه في الآخرة، وهذا على طريق التمثيلِ، يقال: فلانٌ كالطَّوق في رقبة فلان، كما يقال: قلدتك هذا الأمر، وجعلت هذا الأمر في عنقك، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] . وإن حملنا البخل على البُخْل بالعلم كان معناه: أنَ اللهَ تعالى يجعل في أعناقهم طوقاً من نار، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْم يَعْلَمُهُ، فَكَتَمَهُ، ألْجِمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِلجامٍ مِنْ نَارٍ» . قوله: {وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} فيه وجهانِ: أحدهما: أن له ما فيهما مما يتوارثه أهلُهما من مالٍ وغيره، فما لهم يبخلون عليه بملكه، كقوله: {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7] . ثانيهما: - وهو قول الأكثرين -: أنه يُفنى أهلَ السموات والأرض، ويُبْقى الأملاك، ولا مالك لها إلا الله، فجرّى هذا مَجْرَى الوراثة. قَال ابن الأنباريّ: يقال: وَرِثَ فلانٌ عِلْمَ فُلان، إذا انفرد به بعد أن كانَ مشاركاً فيه، وقال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] لأنه انفردَ بذلك الأمر بعد أن كان داودُ مشاركاً له فيه. قال القرطبيُّ: أخبر - تعالى - ببقائه ودوام مُلْكِه، وأنه في الأبد كهو في الأزلِ، غنيّ عن العالمين، فيرث الأرضَ بعد فناءِ خَلْقِه، وزوال أملاكِهِم، فتبقى الأملاكُُ والأموالُ لا مدعى فيها، فجرى هذا مجرى الوراثةِ في عادة الخلقِ، وليس بميراث في الحقيقة؛ لأن الوارث في الحقيقة هو الذي يرث شيئاً لم يكن ملكَهُ من قبل، والله - سبحانه وتعالى - مالك السمواتِ والأرضِ وما بينهما، وكانت السَّمواتُ وما فيها له، وأن الأموالَ كانت عارية عند أربابها، فإذا ماتُوا العاريةُ إلى صاحبها الذي كانت له في الأصل ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 في كيفية النظم وجهانِ: الأول: أنه - تعالى - لما أمر المكلَّفين ببَذْلِ النفسِ والمالِ في سبيل اللهِ - فيما تقدم - وبالغ في تقريرِ ذلك، قالت الكفارُ: إنه - تعالى - لما طلب الإنفاقَ في تحصيلِ مطلوبِهِ كان فقيراً عاجزاً، والفقر على اللهِ مُحَالٌ، فَطَلَبُه للمال من عبيده مُحَالٌ، وذلك يدل على كذب مُحَمَّدٍ في إسناد هذا الطلب إلى الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 87 الثاني: أن أمة موسى كانوا إذا أرادوا التقرُّبَ إلى اللهِ تعالى بأموالهم، كانت تجيء نارٌ من السّماء فتحرقها، فلما طلب النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ منهم بذْلَ المال في سبيل الله قالوا له: لو كنت نبياً لما طلبتَ الأموال لهذا الغرض؛ فإنه - تعالى - ليس بفقيرٍ حَتَّى يحتاجَ - في إصلاح دينِهِ - إلى أموالنا، فلو كان يطلب أموالَنا لجاءت نارٌ من السماء فتحرقها، فلما لم تفعل ذلك عرفنا أنك لستَ بنبيٍّ. قوله: {قالوا إِنَّ} العامل في «إنَّ هو» قاَلُوا «ف» إنَّ «وما في حيِّزها منصوب المحل ب» قَالُوا «لا بالقول، وأجاز أبو البقاء أن تكون المسألة من باب التنازع، أعني بين المصدر، وهو» قَوْلَ «وبين الفعلِ وهو» قَالُوا «تَنَازعَا في» إنَّ «لأنه مصدر، وهذا يُخَرَّج على قول الكوفيين في إعمال الأول، وهو قولٌ ضعيفٌ، ويزداد هنا ضَعفاً بأنَّ الثاني فِعْل، والأول مصدرٌ، وإعمال الفعل أَقْوَى» . وظاهر كلامه أن المسألة من التنازع، و"نما الضعف عنده من جهة إعمالِ الأولِ، فلو قدَّرْنا إعمال الثاني لكان ينبغي أن يجوز عنده، لكنه منع من ذلك مانع آخر، وهو أنه إذا احتاج الثاني إلى ضمير المتنازع فيه أخذه، ولا يجوز حذفه، وهو - هنا - غير مذكور، فدلَّ على أنها ليستْ عنده من التنازع على قول الكوفيين، وهو ضعيفٌ كما ذكر. وانظر كيف أكَّدوا الجملةَ المشتملة على ما أسندوه إليه - تعالى - وإلى عدم ذلك فيما أسندوه لأنفسهم كأنه عند الناس أمر معروف. فصل قال الحسنُ ومجاهدٌ: لما نزل قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] . قالت اليهودُ: إنَّ اللهَ فقيرٌ يستقرض منا، ونحن أغنياء. وذكر الحسن أنَّ قائل هذه المقالة هو حُيَيّ بن أخْطَبَ. وقال عكرمةُ والسدِّيُّ ومقاتلٌ ومحمدُ بنُ إسحاقَ: كتب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أبي بكر الصديق إلى يهود بني قَيْنُقَاع؛ يدعوهم إلى الإسلام، وإلى أقام الصلاة وإيتاء الزَّكَاةِ، وأن يُقْرِضوا الله قَرْضاً حسناً، فدخَلَ أبو بكر - ذات يومٍ - بيت مِدْراسهم، فوجد كثيراً من اليهود قد اجتمعوا إلى رجل منهم، يقال له: فنحاص بن عازوراء، وكان من علمائهم، ومعه حَبْرٌ آخَرُ، يقال له: أشيع، فقال أبو بكرٍ لفنحاصٍ: اتَّقِ اللهَ وأَسْلِم؛ فوالله إنك لتَعلم أن محمداً رسولُ الله، قد جاءكم بالحق من عند الله، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة، فآمِنْ وصَدِّقْ، وأَقْرِض اللهَ قَرْضاً حَسَناً يُدْخِلْكَ الجَنَّةَ، ويضاعفْ لك الثَّوابَ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 88 فقال فنحاص: يا أبا بكر، تزعم أن ربنا يستقرض من أموالنا، وما يستقرض إلا الفقيرُ من الغنيّ، فإن كان كما تقول حقاً فإن الله - إذَنْ - فقيرٌ ونحن أغنياء، وأنه ينهاكم عن الرِّبَا ويُعْطِينا، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا - يعني في قوله: {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] فغضب أبو بكرٍ، وضرب وَجْه فنحاص ضربةً شديدةً، وقال: والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عَدُوَّ الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا محمدُ، انظر ما صنع بي صاحبُك. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يا أبا بكر، ما حملك ما صنعتَ؟ قال يا رسولَ اللهِ، إن عدوّ الله قال قولاً عظيماً، زعم أن الله فقير وهم أغنياء، فغضبت لله، وضربت وجهه، فجحد ذلك فِنْحاصٌ، فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ - هذه الآية رَدًّا على فنحاصٍ، وتصديقاً لأبي بكر. واعلم أنَّ ظاهرة الآية يدل على أن قائل هذا القول كانوا جماعةً؛ لقوله تعالى: {الذين قالوا} وأما ما روي عن فِنْحاص فلا يدل على أن غيره لم يَقُل ذلك، والكتاب يشهد بأن القائلين جماعة، فيجب القطع بذلك. قوله: {سَنَكْتُبُ} قرأ حمزة بالياء، مبنياً لما لم يُسَمَّ فاعله، و «ما» وصلتها قائم مقام الفاعل، و «قَتْلُهم» - بالرفع - عَطْفاً على الموصول، و «يَقُولُ» - بياء الغيبة - والمعنى: سيحفظ عليهم. والباقون بالنون للمتكلم العظيم، ف «ما» منصوبة المحل، و «قَتْلَهُمْ» بالنصب عَطْفاً عليها، و «نَقُولُ» بالنون - والمعنى: سنأمر الحفظةَ بالكتابةِ. وقرأ طلحة بن مُصَرَِّف «سَتُكْتَبُ» - بتاء التأنيث - على تأويل «مَا قَالُوا» ب «مَقَالَتُهُمْ» . وقرأ ابن مسعود - وكذلك هي في مصحفه - سنكتب ما يقولون ويقال. والحسنُ والعرج «سَيَكْتُب» - بالغيبة - مبنياً للفاعل، أي: الله تعالى: أو الملك. و «ما» - في جميع ذلك - يجوز أن تكون موصولة اسمية - وهو الظاهر - وحذف العائدُ لاستكمال شروطِ الْحَذْفِ، تقديره: سنكتب الذي يقولونه - ويجوز أن تكون مصدرية، أي: قولهم - ويراد به - إذ ذاك - المفعول به، أي: مقولتهم، كقولهم: ضَرْب الأمير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 89 قوله: {وَقَتْلَهُمُ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ} أي: ونكتب قتلهم، أي: رضاهم بالقتل، والمراد قتل أسلافهم الأنبياء، ولكن لما رضوا بذلك صحت الإضافة إليهم، حسّنَ رجل عند الشعبي قتلَ عثمانَ، فقال الشعبي: قد شركت في دمه، فجعل الرضا بالقتل قتلاً، قال القرطبيُّ: وهذه مسألة عظمى، حيثُ يكون الرضا بالمعصية معصية، وقد روى أبو داود عن العُرس بن عُمَيْرة الكِنديّ، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إذَا عُمِلَتِ الْخَطِيئَةُ فِي الأرْضِ كَانَ مِنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا - أو فَأنْكَرَهَا - كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، ومَنْ غَابَ فَرَضِيَها كَانَ كَمَن شَهِدَها» وتقدم الكلام على إضافة قتل الأنبياء إلى هؤلاء الحاضرين. والفائدةُ في ضَمِّ أنهم قتلوا الأنبياء إلى وصفهم الله تعالى بالفقر بيان أن جَهْلهم ليس مخصوصاً بهذا الوقت، بل هم - منذ كانوا - مُصِرُّون على الجهالات والحماقات. ثم قال: {وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} أي: النار، وهو بمعنى المُحْرَق - كالأليم بمعنى المُؤلم - وهذا القول يحتمل أن يقال لهم عند الموت، أو عند الحشر، إن لم يكن هناك قَوْلٌ. فإن قيل: إنهم أوردوا سؤالاً، وهو أن من طلب المالَ من غيره كان فقيراً، فلو طلب اللهُ المالَ من عبيده لكان فقيراً، وذلك مُحالٌ، فوجب أن يقال: إنه لم يَطْلبِ المال من وعبيده، وذلك قادحٌ في كونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صادقاً في ادِّعاء النُّبوةِ، فهذا هو شُبْهَتُهم، فأين الجوابُ؟ وكيف يحسن ذِكر الوعيد قبل ذلك الجوابِ عَنْهَا؟ . فالجوابُ: إن فرَّعْنا على قول أهل السُّنَّةِ والجماعة قلنا: يفعل الله ما يشاء، ويحكم ما يريد، فلا يبعد أن يأمر اللهُ عبيده ببذل الأموال، مع كونه تعالى أغنى الأغنياء. وأما على قول المعتزلة - فإنه تعالى يُراعي المصالح - فلا يَبْعد أن يكون في هذا التكليف أنواع من المصالح العائدة إلى العباد؛ فإن إنفاق المال يوجب زوال حُبِّ المالِ عن القلب، وذلك من أعظم المنافع، وتتفرع عليه مصالحُ كثيرةٌ: منها: أن إنفاقه سببٌ للبقاء المخلد في دار الثَّوابِ. ومنها: أن يصير القلبُ - بذلك الإنفاقِ - فارغاً من حُبِّ ما سوى اللهِ تَعَالَى. ومنها: أنه لو ترك الإنفاق لبقي حُبُّ المالِ في قلبه، فتتألم روحه لمفارقته. قوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ} مبتدأ وخبر، تقديره: ذلك مستحق بما قدمت، كذا قدره أبو البقاء، وفيه نظر. و «ما» يجوز أن تكون موصولة، وموصوفة، و «ذلك» إشارةٌ إلى ما قدَّم من عقابهم، وهذه الجملة تحتملُ وجهينِ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 90 أحدهما: أن تكون في محلِّ نَصْبٍ بالقول؛ عَطْفاً على «ذُوقُوا» كأنه قيل: ونقول لهم - أيضاً - ذلك بما قدمت أيديكم، وُبِّخُوا بذلك، وذكر لهم السبب الذي أوجب العقاب. الثاني: أن لا تكونَ داخلةً في حكاية القولِ، بل تكون خطاباً لمعاصري رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم نزولِ الآيةِ. وذكرت الأيدي؛ لأن أكثرَ الأعمال تُزاوَل بها، قال القرطبيُّ: «وخص الأيدي بالذكر؛ ليدل على تَوَلي الفعل ومباشرته؛ إذ قد يضاف الفعلُ إلى الإنسان بمعنى أنه أمر به، كقوله: {يُذَبِّحُ أَبْنَآءَهُمْ} [القصص: 4] وأصل» أيْدِيكُمْ «أيْدِيُكُم، فحُذِفت الضمةُ؛ لثقلها. قوله: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} عطف على» ما «المجرورة بالباء، أي: ذلك العقاب حاصل بسبب كَسْبكم، وعدم ظُلْمه لكم. فإن قيل: إن «ظلاماً» صيغة مبالغة، تقتضي التكثير، فهي أخص من «ظالم» ، ولا يلزم من نفي الأخص نفي الأعم، فإذا قلت: زيد ليس بظلامٍ، أي: ليس كثير الظُّلم - مع جواز أن يكون ظالماً وإذا قُلْتَ: ليس بظالم، انتفى الظلم من أصله فكيف قال تعالى: {لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} ؟ فالجوابُ من وجوهٍ: الأول: أن «فَعَّالاً» قد لا يُراد به [التكثير] ، كقول طرَفة: [الطويل] 1702 - وَلَسْتُ بِحَلاَّلِ التِّلاَعِ مَخَافَةً ... وَلكِنْ مَتَى يَسْتَرْفِدِ الْقَوْمَ أرْفِدِ لا يريد - هنا - أنه قد يحل التلاع قليلاً؛ لأن ذلك يدفعه آخر البيت الذي يدل على نَفْي البخل على كل حالٍ، وأيضاً تمام المدح لا يحصل بإرادة الكثرة. الثاني: أنه للكثرة، ولكنه لما كان مقابلاً بالعباد - وهم كثيرون - ناسب أن يقابلَ الكثيرَ بالكثيرِ. الثالث: أنه إذا نفي الظلم الكثير انتفى الظلم القليلُ ضرورة؛ لأن الذي يظلم إنما يظلم إنما يظلم لانتفاعه بالظلم فإذا ترك الظلم الكثير مع زيادة نفعه في حق مَنْ يجوز عليه النفع والضر - كان للظلم القليل المنفعة أترك. الرابع: أن يكون على النسب، أي: لا يُنسَب إليه ظُلم، فيكون من باب بَزَّازٍ وعَطَّارٍ، كأنه قيل: ليس بذي ظلم ألبتة. ذكر هذه الأربعة أبو البقاء. وقال القاضي أبو بكرٍ: العذاب الذي توعد أن يفعلَه بهم، لو كان ظُلْماً لكان عظيماً، فنفاه على حَدِّ عِظْمِه لو كان ثابتاً. وقال الراغبُ: «العبيد - إذا أُضيف إلى الله تَعَالَى - أعم من العباد، ولهذا قال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 91 {وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [ق: 29] فنبَّه على أنه لا يظلم من تخصص بعبادته، ومن انتسب إلى غيره من الذين يُسَمَّون بعبد الشمس وعبد اللات ونحو ذلك» . وكأن الراغبَ قد قدّم الفرق بين «عبيد» و «عباد» فقال: وجمع العَبْد - الذي هو مسترق - عبيد وقيل: عِبِدَّى وجمع العبَدْ - الذي هو العابد - عباد، وقد تقدم اشتقاقُ هذه اللَّفْظَةِ وجموعها وبقية الوجوه مذكورة في سورة «ق» . فصل قالت المعتزلةُ: هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العِبَادِ مخلوقة لَهُمْ، وإلا لم تكن مما قدمت أيديهم، وأجيبوا بمسألة العلمِ والداعي على ما تقدم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 يجوز في حل «الذِينَ» الألقاب الثلاثة، فالجَرّ من ثلاثة أوجهٍ: الأول: أنه صفة للفريق المخصوصين بإضافة «قَوْلَ» إليه - في قوله: «قول الذين قالوا» . الثاني: أنه بدل منه. الثالث: أنه صفة ل «الْعَبِيد» أي: ليس بظلاَّم للعبيد الذين قالوا كيتَ وكيتَ، قاله الزَّجَّاجُ قال ابنُ عطيَّة: «وهذا مفسد للمعنى والوصف» . والرفعُ على القطع - بإضمار مبتدأ - أي: هم الذين، وكذلك النصب على القطع - أيضاً - بإضمار فعلٍ لائقٍ، أي: أذم الذين. قوله: «أن لا نؤمن» في «أنْ» وجهان: أحدهما: أنها عَلَى حَذْف حرف الجرِّ، والأصل: في أن لا نؤمنَ، وحينئذ يجيء فيها المذهبانِ المشهورانِ أهي في محلِّ جَرٍّ، أو نَصْبٍ. الثاني: أنها مفعول بها، على تَضْمين «عَهِدَ» معنى ألزم، تقول: عهدت إليه كذا - أي: ألزمته إياه - فهي - على هذا - في محل نصب فقط. و «أن» تُكْتَب متصلة، ومنفصلة، اعتباراً بالأصل، أو بالإدغام. ونقل أبو البقاء أن منهم من يَحذفُها في الخط، اكتفاءً بالتشديد، وحكى مكي - عن المبرد - أنَّها إن أدُغِمَتْ بغير غنة كتبت متصلة، إلا فمنفصلة. ونُقِل عن بعضهم أنها كانت مخففة كتبت منفصلة وإن كانت ناصبة كتبت متصلة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 92 والفرق أن المخففةَ مَعَهَا ضمير مقدر، فكأنه فاصل بينهما، بخلاف الناصبة، وقول أهل الخط - في مثل هذا -: تكتب متصلة، عبارة عن حَذْفها في الخط بالكلية؛ اعتباراً بلفظ الإدغام، لا أنهم يكتبون [متصلة] ، ويثبتون لها بعضَ صورتها، فيكتبون: أنْلاَ، والدليل على ذلك أنهم لما قالوا في «أم من» و «أم ما» ونحوه بالاتصال، إنما يعنون به كتابة حرف واحدٍ، فيكتبون أمَّن، وأما، وفَهم أبو البقاء أن الاتصالَ في ذلك عبارة عن كتابتهم لها في بعض صورتها ملتصقة ب «لا» ، والدليل على أنه فهم ذلك أنه قال: ومنهم مَنْ يحذفها في الخط؛ اكتفاءً بالتشديد. فجعل الحذف قسيماً للفصل والوصل، ولا يقول أحَدٌ بهذا. وتعدى «نؤمن» باللام؛ لتضمُّنه معنى الاعتراف. وقد تقدم في أول «البقرة» . وقرأ عيسى بن عمر «بقُرُبان» - بضمتين -. قال القرطبيُّ: «كما قيل - في جمع ظُلْمة - ظلمات وفي حجرة - حجرات» . قال ابن عطيةَ: إتباعاً لضمة القاف، وليس بِلُغَةٍ؛ لأنه ليس في الكلام فعلان - بضم الفاء والعين -. وحكى سيبويه: السُّلُطان - بضمِّ اللمِ - وقال: إنّ ذلك على الإتباع. قال أبو حيان: «ولم يَقل سيبويه: إن ذلك على الإتباع، بل قال: ولا نعلم في الكلامِ فِعِلان ولا فِعُلان، ولا شيئاً من هذا النحو، ولكنه جاء فُعُلاَن - وهو قليل - قالوا: السلطان، وهو اسم، وقتل الشَّارحُ لكلام سيبويه: صاحبُ هذه اللغةِ لا يسكن ولا يُتبع، وكذا ذَكَر التصرفيونَ أنه بناء مُسْتقل، قالوا: فيما لحقه زيادتانِ بعد اللامِ، وعلى فعلان - ولم يجيء فُعُلان إلا اسماً، وهو قليلٌ، نحو سُلُطان» . قال شهاب الدِّينِ: «أما ابن عَطِيّةَ فمسلم أنه وَهِم في النقل عن سيبويه في» سلطان «خاصةٌ، ولكن قوله في» قُربَانٍ «صحيح ولأن أهل التصريف لم يستثنوا إلا السُّلُطان» . والقُرْبان - في الأصل - مصدر، ثم سُمِّي به المفعول، كالرَّهْن، فإنه في الأصل مصدر، ولا حاجة إلى حذف مضاف، وزعم أبو البقاء أنه على حَذْف مضاف - أي: تقريب قُرْبان - قال: «أي: يُشْرَع لنا ذلك» . وقوله: {تَأْكُلُهُ النار} صفة لِ «قُرْبَانٌ» وإسناد الأكل إليها مجاز، عبَّرَ عَنْ إفنائها الأشياء بالأكل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 93 قوله: {مِّن قَبْلِي بالبينات} كلاهما متعلق ب «جَاءَكُم» والباءُ تحتمل المعية والتعدية، أي: مصاحبين للآيات. فصل في رد شبهة الطاعنين في النبوة هذه شبهةٌ ثانية طعن بها الكفار في نبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتقريرها: أنك يا محمد - لم تفعل كذلك، فوجب ألا تكون نبياً، قال ابن عباسٍ: نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرفِ، ومالك بن الصَّيف وكعب بن أسدٍ، ووهب بن يهوذا وزيد بن التابوت، وفنحاص بن عازوراء، وحُيَيّ بن أخطب، أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا محمدُ تزعم أن اللهَ بعثك إلينا رسولاً، وأنزل عليك كتاباً، وقد عَهدَ اللهُ إلينا في التوراة أن لا نؤمن لرسول يزعم أنه جاء من عند الله، حتى يأتِيَنَا بقُرْبان تأكله النار، فإن جئتنا به صدَّقْنَاك، فأنزل الله هذه الآية. والقُرْبان: كل ما يَتَقَرَّب به العبدُ إلى الله - تعالى - من نسيكة، وصدقة، وعَمَلٍ صالح. قال الواحديُّ: وأصله المصدر من قولك: قرب قُرْبَاناً - كالكُفْران والرُّجحان والخُسْران - ثم سمي به نفس المتقرَّب به ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لكعب بن عُجْرة -: «يَا كَعْبُ، الصَّوْمُ جُنَّةٌ، والصَّلاةُ قُرْبانٌ» . قال القرطبيُّ: «وهو فُعْلان - من القربة - ويكون اسماً، ومصدراً. فمثال الاسم: السُّلْطان والبُرْهان ومثال المصدر: العُدوان والخُسْران» . فصل في بيان ادعاء اليهود واختلفوا فيما ادَّعاه اليهود. فقال السُّدَّيُّ: إن هذا الشرط جاء في التوراة، ولكنه مع شَرْط، وذلك أنه - تعالى - قال في التوراة: من جاءكم يزعم أنه رسول الله، فلا تصدقوه، حتى يأتيكم بقربانٍ تأكله النار، إلا المسيحُ ومحمد، فإنهما إذا أتيا فآمِنوا بهما؛ فإنهما يأتيان بقُرْبانٍ لا تأكله النّار، قال: وكان هذه العادة باقية إلى مبعث المسيحِ - عليه السَّلام - فلما بُعِثَ المسيح ارتفعت وزالت. وقال آخرونَ: إن ادعاء هذا الشرطِ كذب على التَّوراة، لأن القربانَ لم يكن في معجزات موسى وعيسى - عليهما السَّلامُ - وأيضاً فإنه إذا كانت هذه معجزةً، فلا فرقَ بينها وبين باقي المعجزاتِ، فلم يكن لتخصيصها بالذكر فائدةٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 94 واعلم أنه - تعالى - أجاب عن هذه الشُّبهة، فقال: {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} والمرادُ أسلافهم، فبيَّن - بهذا الكلام - أنهم إنما يطلبونَ ذلك على سبيل التعنُّت، لا على وَجْه الاسترشاد، إذ لو لم يكن كذلك لما سَعَوْا في قَتْلهم. فإن قيل: لم قال: {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ} ولم يَقل: جاءتكم رُسل؟ فالجوابُ: أن فعل المؤنث يُذَكَّر إذا تقدمه جمعُ تكسير. والمراد بقوله: {وبالذي قُلْتُمْ} هو ما طلبوه منه، وهو القُرْبان. فإن قيل: إن القوم إنما طالبوه بالقُرْبان، فما الحكمة في أنه أجابهم بقوله: {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات} ثم أضاف إلى قوله: {وبالذي قُلْتُمْ} وهو القربان؟ فالجواب: أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو قال لهم: إن الأنبياء المتقدمين أتوا بالقُربان لم يلزم من ذلك وجوب الاعتراف بنبوتهم؛ لاحتمال أن الإتيان بهذا القُرْبانِ شرطٌ للنبوة، لا موجب لها، والشرط هو الذي يلزم من عدمه عدم المشروط لكن لا يلزمُ من وجوده وجود المشروط، فثبت أنه لو اكتفى بهذا القَدْرِ لما كان الإلزام وارداً عليهم، فلما قال: {قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ} كان الإلزام وارداً عليهم؛ لأنهم لما أتوا بالبينات فقد أتَوا بالموجب للصدق، ولما أتَوا بالقُرْبان فقد أتوا بالشرط، فعند الإتيانِ بهما وجب الإقرارُ بالنبوة. قال القرطبيُّ: في معنى الآية -: «قُلْ» يا محمد «قَد جَاءَكُمْ» يا معشرَ اليهود {رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات وبالذي قُلْتُمْ} من القُرْبان «فلم قتلتموهم» يعني زكريا ويحيى وشعيباً وسائر مَنْ قَتَلوا من الأنبياء - عليهم السلام - ولم يؤمنوا بهم. أراد بذلك أسلافهم. وهذه الآية هي التي تلاها عامر الشعبيُّ، واحتج بها على الذي حَسَّن قَتلَ عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وأن اللهَ تعالى سمي اليهودَ - لرضاهم بفِعْل أسلافهم - وإن كان بينهم نحوٌ من سبعمائة سنةٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 قوله: {فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ} ليس جواباً، بل الجوابُ محذوف، أي: فقل، ونحوه؛ لأن هذا قد مضَى وتحقَّق، والجملة من «جَاءُوا» في محل رفع، صفة لِ «رُسُلٌ» و «مِنْ قَبْلِكَ» متعلق ب «كُذِّبَ» والباء في «بِالبَيِّنَاتِ» تحتمل الوجهين، كنظيرتها. ومعنى الآية: فإن كذبوك في قولك: إنَّ الأنبياء المتقدمين أتَوْا بالقُرْبان. ويحتمل أن يكون المعنى: فإن كذبوك في أصل النبوة - وهو أولى - والمرادُ بالبيناتِ المعجزاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 95 وقرأ الجمهورُ: «وَالزبر والكتاب» - من غير باء الجر - وقرأ ابنُ عامر «وَبِالزُّبُرِ» - بإعادتها - وهشام وحده عنه «وَبِالكِتَابِ» - بإعادتها أيضاً - وهي في مصاحف الشاميين كقراءة ابنِ عامر، فَمَنْ لم يأتِ بها اكتفى بالعطفِ، ومن أتى بها كان ذلك تأكيداً. والزُّبر: جمع زَبُور - بالفتح - ويقال: بالضم أيضاً - وهل هما بمعنىً واحد أو مختلفان؟ سيأتي الكلام عليهما - إن شاء الله تعالى - في النساء في قوله: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} [النساء: 163] . واشتقاقه من زَبَرْتُ: أي: كتبتُ وزَبَرْته: قرأتهُ، وَزَبرْته: حسَّنت كتابتَه، وزَبَرْته: زَجَرته. فزبور - بالفتح - فَعُول بمعنى مفعول - كالركوب بمعنى: المركوب - والحلوب - بمعنى المحلوب - والمعنى: الكُتُب المزبورة، أي: المكتوبة، والزُّبُر: جمع زبور، وهو الكتاب. قال امرؤ القيس: [الطويل] 1703 - لمَنْ طَلَلٌ أبصَرْتُهُ فَشَجانِي ... كَخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبِ يَمَانِي وقيل: اشتقاق من الزَّبْر - بمعنى: الزجر: تقول: زبرت الرجل: أي: نهرته. وزبرت البئر: أي: طويتها بالحجارة. فإن قيل: لِمَ عطف «الْكِتَابِ المُنِيرِ» على «الزُّبُرِ» مع أن الكتاب المنير من الزُّبُر؟ فالجوابُ: لأن الكتاب المنير أشرف الكتب، وأحسن الزبر، فحسُن العطف، كقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} [الأحزاب: 7] . وقوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . ووجه شرفه: كونه مشتملاً على جميع الشريعة، أو كونه باقياً على وَجْه الدَّهْر. وقيل: المراد ب «الزُّبُر» الصُّحُف، والمراد ب «الْكِتَابِ الْمُنِيرِ» التوراة والإنجيل والزبور. و «الْمُنِير» اسم فاعل من أنار، أي: أضاء، وهو الواضح. والمراد بهذه الآية - تسلية قلب الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما جرى على الأنبياء قبله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 96 والمرادُ بهذه الآية - زيادة تأكيد التسليةِ والمبالغةِ في إزالة الحُزْنِ عن قلبه؛ لأن مَنْ علم أن عاقبته الموت زالت عن قلبه الغموم والأحزان، ولأن بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المُحْسِن من المُسِيء، [والمُحِقُّ من المُبْطِل] . قوله: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت} مبتدأ وخبر، وسوَّغَ الابتداء بالنكرة العموم والإضافة. والجمهور على «ذَائِقَةٌ المَوْتَ» بالتنوين والنَّصْب في «الْمَوْتِ» على الأصل. وقرأ الأعمشُ بعدم التنوين ونَصْب «الْمَوْت» وذلك على حَذْف التنوين؛ لالتقاء الساكنين وإرادته وهو كقول الشاعرِ: [المتقارب] 1704 - فأَلْقَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتَبٍ ... وَلاَ ذَاكِرَ اللهَ إلاَّ قَلِيلا - بنصب الجلالة - وقراءة مَنْ قرأ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله} [الإخلاص: 1، 2]- بحذف التنوين من «أحَدٌ» لالتقاء الساكنين. [ونقل] أبو البقاء - فيها - قراءةً غريبةً، وتخريجاً غريباً، قال: «وتقرأ شاذاً - أيضاً - ذَائِقُهُ الْمَوْتُ على جعل الهاء ضمير» كل «على اللفظ، وهو مبتدأ وخبرٌ، وإذا صحت هذه قراءةٌ فتكون» كل «مبتدأ، و» ذَائِقُهُ «خبر مقدَّم، و» الْمَوْتُ «مبتدأ مؤخرٌ، والجملة خبر» كُلّ «وأضيف» ذائق «إلى ضمير» كل «باعتبار لفظها، ويكون هذا من باب القلب في الكلام؛ لأن النفس هي التي تذوق الموت وليس الموت يذوقها، وهنا جعل الموت هو الذي يذوق النفس، قَلْباً للكلامِ؛ لفهم المعنى، كقولهم: عَرَضْتُ الناقة على الحوض، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 97 ومنه قوله: {وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار} [الأحقاف: 34] وقولك: أدخلت القلنسوة في رأسي. وقول الشَّاعرِ: [البسيط] 1705 - مِثْلُ القَنَافِذِ هَدَّاجُونَ قَدْ بَلَغَتْ ... نَجْرَانَ، أوْ بَلَغَتْ سَوْآتِهِمْ هَجَرُ الأصل: عرضت الحوض على الناقة، ويوم تُعْرَض النار على الذين كفروا، وأدخلت رأسي في القلنسوة، وبلغت سوآتهم هَجَرَ، فقلبت. وسيأتي خلافُ النّاسِ في القلب في موضعه إن شاء الله - تعالى -. وكان أبو البقاء قد قَدَّم قبل هذا التأنيث في» ذائقة «إنما هو باعتبار معنى» كلٍّ «قال:» لأن كل نفس نفوس، فلو ذكر على لفظ «كل» جاز، يعني أنه لو قيل: {كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ} جاز، وقد تَقَدَّمَ أول البقرة أنه يجب [اعتبار] لفظ ما يُضافُ إليه إذا كان نكرة ولا يجوز أن يعتبر «كل» وتحقيق هذه المسألةِ هناك. فصل قال ابنُ الخطيبِ: هذه الآية من تمام التسلية لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إما بأن غموم الدنيا يقطعها الموتُ، وما كان كذلك لا ينبغي للعاقل أن يَلْتَفِتَ إليه. وإما لأن بعد هذه الدار داراً يتميز فيها المُحْسِن من المُسِيء، فلا يُلْتَفَت إلى غَمِّ الدنيا وبُؤْسِها. فإن قيل: قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] يقتضي الاندراج، وأيضاً فالنفس والذات واحد، فتدخل الجمادات لأنهم ذوات، ويقتضي موت أهلِ الجَنَّةِ؛ لأنهم نفوس. فالجوابُ: أنّ المُرَادَ: المكلَّفون في دار التكليف، لقوله، عقبيها: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ} وذلك لا يتأتَّى إلا فيهم. فصل قالت الفلاسفةُ: الموت واجب للأجسامِ؛ لأن الحياةَ الجسمانيةَ إنما تحصل بالرطوبةِ والحرارةِ الغريزيتين، ثم إن الحرارةَ تستمد من الرطوبة إلى أن تفنى، فيحصل الموتُ قالوا: والآية تدل على أن النفوس لا تموت؛ لأنه جعلها ذائقة، والذائق لا بد أن يبقى حال الذوق والمعنى: ذائقة موت البدنِ، وبدل ذلك - أيضاً - على أنَّ النفسَ غير البدن. قوله: {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ} «ما» كافة لِ «إن» عن العمل، قال مكيٌّ: «ولا يحسبن أن تكون» ما «بمعنى الذي، لأنه يلزم رفع» أجورُكم «ولم يقرأ به أحَدٌ، ولأنه يصير التقدير: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 98 وأن الذي توفَّوْنَهُ أجوركم، كقولك: إنّ الذي أكرمته عمرو، وأيضاً فإنك تفرق بين الصلة والموصول بخبر الابتداء» . يعني لو كانت «ما» موصولة لكانت اسم «إن» فيلزم - حينئذٍ - رفع «أجوركم» على أنه خبرها، كقوله تعالى: {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه: 69] ف «ما» - هنا - يجوز أن تكون بمعنى الذي، أو مصدرية، تقديره: إنَّ الذي صنعوه، أو إن صُنْعَهم، ولذلك رفع «كِيْدُ» ، خبرها. وقوله: وأيضاً فإنك تفرق ... ، يعني أن «يَوْمَ الْقِيَامَة» متعلق ب «تُوَفَّوْنَ» فهو من تمام الصلة - التي هي الفعل ومعموله - ولا يُخْبَر عن موصول إلا بعد تمام صلته، وهذا وإن كان من الواضحات، إلا أن فيه تنبيهاً على أصول العلم. فصل قال المفسّرون: أجر المؤمنِ الثوابُ، وأجرُ الكافر العقابُ، ولم يعتد بالنعمة في الدنيا - أجراً وجزاء - لأنها عُرْضَةٌ للفناء. قوله: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار} أدغم أبو عمرو الحاء في العين، قالوا: لطول الكلمة، وتكرير الحاء، دون قوله: {ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] وقوله: {المسيح عِيسَى} [آل عمران: 45] ونُقِل عنه الإدغامُ مطلقاً، وعدمه مطلقاً والنحويون يمنعون ذلك، ولا يُجيزونه إلا بعد أن يقلبوا العين حاء ويُدْغِموا الحاء فيها، قالوا: لأن الأقوى لا يُدْغَم في الأضْعَف، وهذا عكس الإدغامِ، أن تقلب فيه الأول للثاني إلا في مسألتين: إحداهما: هذه، والثانية: الحاء في الهاء، نحو: امدح حلالاً - بقلب الهاء حاء أيضاً - ولذلك طعن بعضهم على قراءةِ أبي عمرو، ولا يُلْتَفَت إليه. . ومعنى الكلام، {فَمَن زُحْزِحَ} أي: نُحِّي وأزيل عن النار وأدخل الجنة فقد فاز. قوله: {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور} المتاع: ما يتَمَتَّع به، وينتفع [به الناسُ -[كالقِدْرِ] والقصعة - ثم يزول ولا يبقى قاله أكثرُ المفسّرين. وقال الحَسَن: هو كخضرة النبات، ولعب البنات، ولا حاصل له. وقال قتادة: هي متاع متروك: يوشك أن يضمحِلَّ، فينبغي للإنسان أن يأخذ من هذا المتاع بطاعة الله - تعالى - ما استطاع. وقوله: «الْغُرور» يجوز أن يكون مصدراً من قولك: غَرَرْتَ فلاناً غُرُوراً، شبه بالمتاع الذي يُدَلس به على المستام، ويغر عليه حتى يشتريه، ثم يظهر فَسَادُهُ لَهُ، ومنه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 99 الحديث: «نهى عن بيع الغرر» ويجوز أن يكون جَمْعاً. وقرأ عبد الله لفتح الغين وفسرها بالشيطان أن يكون فَعُولاً بمعنى مفعول، أي: متاع الغُرُور، أي: المخدوع: وأصل الغَرَر: الخدع. قال سعيدُ بن جُبَيْرٍ: هذا في حق من آثر الدنيا على الآخرة، وأما مَنْ طلب الآخرة بها فإنها متاع بلاغ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 وهذه الآية زيادة في تَسْلية الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه بَيَّن له أنّ الكفار بعد أن آذَوُا الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمسلمين يوم أُحدٍ، فسيؤذونهم - أيضاً - في المستقبل في النفسِ والمالِ. والمرادُ منه أن يُوَطِّنوا أنفسَهم على الصْبر؛ فإن العالم بنزول البلاء عليه لا يعظم وَقْعه في قَلْبِهِ بخلاف غيرِ العالم فإنه يعظم عنده ويَشُقُّ عَلَيْهِ. قوله: {لَتُبْلَوُنَّ} هذا جوابُ قَسَم محذوف، تقديره: والله لَتُبْلَوُنّ، وهذه الواو هي واو الضمير، والواو التي هي لام الكلمة حُذَفَتْ لأمر تصريفيِّ، وذلك أن أصله: لَتُبْلَوُّنَنَّ، فالنون الأولى للرفع، حُذِفَتْ لأجل نونِ التوكيد، وتحرَّكت الواوُ [الأولى]- التي هي لامُ الكلمةِ - وانفتح ما قبلَهَا فقُلِبَتْ ألفاً، فالتقى ساكنان - الألف وواو الضمير - فحُذَفَتْ الألف؛ لئلا يلتقيا، وضُمَّتْ الواو؛ دلالةً على المحذوف. وإنْ شئتَ قلت: استُقْبِلَتْ الضمةُ على الواو الأولى، فحُذِفَت، فالتقى ساكنان، فحُذِفَتْ الواوُ الأولى وحُرِّكت الثانية بحركة مجانسةٍ، دلالةً على المحذوف. ولا يجوز قَلْبُ مثل هذه الواوِ همزةً؛ [لأن حركتها عارضةٌ] ولذلك لم [تُقلَب] ألِفاً، وإن تحرَّكَتْ وانفتح ما قبلَها. ويقال للواحدِ من المذكَّر: لتُبْلَوَنَّ يا رجلُ وللاثنين: لتبليانِّ يا رجلانِ، ولجماعة الرجال: لتبلوُنَّ. وأصل «لَتسْمعنَّ» : لَتَسْمَعُونَنَّ، ففعل فيه ما تقدم، إلا أن هنا حُذِفَتْ واوُ الضمير؛ لأن قَبْلَهَا حَرْفاً صحيحاً. فصل في المراد بالابتلاء معنى الابتلاء: الاختبار وطلب المعرفةِ، ومعناه في وَصْف الله تعالى به معاملةُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 100 العبد معاملةَ المختبر، واختلفوا في هذا الابتلاء، فقيل: المراد ما نالهم من الشدة والفَقْرِ والقتل والجرح من الكفار، ومن حيثُ أُلزموا الصبر في الجهاد. وقيل: الابتلاء في الأموال بالمصائب، وبالإنفاق في سبيل اللهِ وسائر تكاليف الشَّرْع، والابتلاء في الأنفس بالموت والأمراض وفَقْد الأحْباب. وبدأ بذكر الأموال لكثرة المصائب بها. وقال الحسنُ: التكاليفُ الشديدَةُ المتعلقة بالدينِ والمالِ، كالصلاة والزكاة والجهاد. وقال القاضي: والظاهرُ يحتمل الكُلُّ. قوله: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً} المرادُ منه أنواع الأذى الحاصلة من اليهود والنصارَى والمشركين للمسلمين، وذلك أنهم كانوا يقولون: {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] و {المسيح ابن الله} [التوبة: 30] و «ثالث ثلاثة» وكانوا يطعنون في الرسول بكل ما يقدرون عليه، وهجاه كعبُ بن الأشرفِ، وكانوا يُحَرِّضون النَاس على مخالفة الرسول، ويجمعون الناس لمحاربته، ويُثَبّطون المسلمين عن نُصْرَتِه، ثم قال: {وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور} . قال المفسّرونَ: بَعَثَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبا بكر إلى فنحاص اليهوديِّ، يستمده، فقال فنحاصٌ: قد احتاج ربكم إلى أن نمده فَهَمَّ أبو بكر أن يَضْرِبَه بالسيف، وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال له - حين أرسله -: لا تغلبن على شيء حتى ترجع إليَّ، فتذكَّر أبو بكر ذلك، وكفَّ عن الضرب، فنزلت الآية. فصل في الآية تأويلان: أحدهما: أن المرادَ منه أمر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمصابرة على الابتلاء في النفسِ والمالِ، وتحمُّلِ الأذَى، وتَرك المعارضة والمقابلة، وذلك لأنه أقرب إلى دخول المُخالف في الدين، كقوله تعالى: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] وقوله: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ} [الجاثية: 14] وقوله: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] وقوله: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35] وقوله: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} [فصلت: 34] . قال الواحديُّ: كان هذا قَبلَ نزولِ آية السيف. قال القفّال: والذي عندي أنّ هذا ليس بمنسوخ، والظاهر أنها نزلت عقب قصة أحُدٍ، والمعنى: أنهم امِرُوا بالصَّبر على ما يؤذون به الرسولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على طريقِ الأقوالِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 101 الجارية فيما بينهم، واستعمال مداراتهم في كثير من الأحوالِ، والأمر بالقتالِ لا ينافي الأمر بالمُصابرة. التأويل الثاني: أن يكونَ المرادُ من الصَّبرِ والتقوى: الصبر على مجاهدة الكفار ومنابذتهم والإنكار عليهم. فالصبرُ عبارة عن احتمال الأذى والمكروه، والتقوى عبارة عن الاحتراز عما لا ينبغي. وقوله: {فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور} أي: من صواب التدبير والرشدِ الذي ينبغي لكل عاقلٍ أن يُقْدِمَ عليه. وقيل: {مِنْ عَزْمِ الأمور} أي: من حق الأمورِ وخَيرها. وقال عطاءٌ: من حقيقة الإيمان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 في كيفية النظمِ وجهان: أحدهما: أنه - تعالى - لما حكى عنهم الطَعْنَ في نبوَّتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأجاب عن ذلك، بيَّن في هذه الآية التعجُّب من حالهم. والمعنى: كيف يليق بكم الطعن في نبوَّته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكتبكم ناطقة بأنه يجب عليكم ذِكْرُ الدلائل الدالة على صِدقه ونبوته؟ ثانيهما: أنه لما أوجب عليه احتمال الأذَى من أهل الكتاب - وكان من جُمْلَة أذاهم كتمانُ ما في التوراة والإنجيل من الدلائلِ الدالةِ على نبوَّتِه، وتحريفها - بيَّن أن هذا من تلك الجملةِ التي يجبُ فيها الصبر. قوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} هذا جواب لما تضمنه الميثاق من القسم. وقرأ أبو عمرو، وابن كثيرٍ، وأبو بكر بالياء، جرياً على الاسم الظاهر - وهو كالغائب - وحَسَّن ذلك قوله - بعده -: «فَنَبَذُوهُ» والباقون بالتاء؛ خطاباً على الحكاية، تقديره: وقلنا لهم، وهذا كقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ} [البقرة: 83] بالتاء والياء كما تقدم تحريره. قوله: {وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} يحتمل وجهين: أحدهما: واو الحال، والجملة بعدها نصب على الحال، أي: لتبينُنَّه غيرَ كاتمين. الثاني: أنها للعَطْف، والفعل بعدها مُقْسَم عليه - أيضاً - وإنما لم يُؤَكِّدْ بالنون؛ لأنه منفيّ، كما تقول: واللهِ لا يقومُ زيدٌ - من غير نون - وقال أبو البقاء: «ولم يأتِ بها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 102 في» تَكْتُمُونَ «اكتفاءً بالتوكيد في الأول؛» تَكْتُمُونَهُ «توكيد» . وظاهر عبارته أنه لو لم يكنْ بعد مؤكَّد بالنون لزم توكيده، وليس كذبك؛ لما تقدم. وقوله: لأنه توكيدٌ، يعني أن نفي الكتمان فُهمَ من قوله: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} فجاء قوله: {وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} توكيداً في المعنى. واستحسن أبو حيَّان هذا الوجه - أعني: جَعْل الواو عاطفةً لا حاليةً - قال: «وهذا الوجه - عندي - أعْربَ وأفصح؛ لأن الأول يحتاج إلى إضمار مبتدأ قبل» لا «لا تدخل عليه واوُ الحال» . وغيره يقول: إنه يمتنع إذا كانَ مضارعاً مُثْبَتاً، فيُفهم من هذا أن المضارعَ المنفيَّ بكُلِّ نافٍ لا يمتنع دخولُها عليه. وقرأ عبد الله: لَيُبَينونَه - من غير توكيد - قال ابنُ عطيَّة: «وقد لا تلزم هذه النونُ لامَ التوكيد قال سيبويه» . والمعروفُ - من مذهب البصريين - لزومهما معاً، والكوفيون يجيزون تعاقُبَهما في سعةَ الكلامَ. وأنشدوا: [الطويل] 1706 - وَعَيْشِكِ - يا سَلْمَى - لأوقِنُ أنَّني ... لِمَا شِئْتِ مُسْتْلٍ، وَلَوْ أنَّهُ الْقَتْلُ وقال الآخرُ: [المتقارب] 1707 - يَمِيناً لأبْغَضُ كُلَّ امْرِئٍ ... يُزَخْرِفُ قَوْلاً وَلاَ يَفْعَلُ فأتى باللام وحدها. وقد تقدم تحقيقُ هذا. وقرأ ابنُ عباس: ميثاق النبيين لتبيننه للناس، فالضمير في قوله: {فَنَبَذُوهُ} يعود على {الناس} المبيَّن لهم؛ لاستحالة عَوْدِهِ على النبيين، وكان قد تقدم في قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ} [آل عمران: 81] أنه - في أحد الأوجه - على حذف مضاف، أي: أولاد النبيين، فلا بُعْدَ في تقديره هنا - أعني: قراءة ابن عباس -. والهاء في {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} قال سعيدُ بنُ جُبَيْر والسُّدِّيُّ تعود إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى هذا يكونُ الضميرُ عائداً إلى معلوم غير مذكور. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 103 وقال الحسنُ وقتادةَ: تعود على «الكِتَابِ» أي: يبينون للناس ما في التوراة والإنجيل من الدلالة على صدق نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فإن قيل: البيانُ يضادُّ الكتمان، فلما أمر بالبيان كان الأمر به نهياًَ عن الكتمان فما الفائدة في ذِكْرِ النَّهي عن الكتمان؟ فالجوابُ: أن المرادَ من البيان ذِكْرُ الآياتِ الدالةِ على نبوةِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من التوراة والإنجيل والمراد من النهي عن الكتمان أن لا يلقوا فيها التأويلات الفاسدة، والشبهات المعطلة. قال قتادةُ: هذا ميثاقٌ أخذه الله على أهلِ العِلْمِ، فمَنْ عَلِمَ شيئاً فلْيُعَلِّمْه، وإياكم وكتمانَ العِلْمِ، فإنه هَلَكَه. قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ يَعْلَمُهُ فَكَتَمَهُ ألْجِمَ يَوْمَ الْقِيامةِ بِلِجَامٍ مِنْ نارٍ» . قوله: {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} طرحوه، وضيَّعوه، ولم يُراعوه، ولم يلتفتوا إليه. والنبذ وراء الظهر مثَل للطَّرْح، ونقيضه: جعله نُصْبَ عينيه. وقوله: {واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} معناه: أنهم أخفوا الحقَّ؛ ليتوسلوا بذلك إلى وجدان شيء من الدنيا، ثم قال: {فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 هذا أيضاً من جملة أذاهم؛ لأنهم يفرحون بما أتوا به من أنواع الخُبْث والتلبيس على ضَعَفَةِ الْمُسْلِمِين ويُحِبُّونَ أنْ يُحْمَدُوا بِأنَّهُم أهلُ البِرِّ والصدقة والتقوَى، ولا شك أن الإنسانَ يتأذّى بمشاهدة مثل هذه الأحْوالِ، فأمر النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمصابرة عليها. قوله: و {لاَ تَحْسَبَنَّ} قرأ ابنُ كثير وأبو عمر «يَحْسَبَنَّ» و «فَلاَ يَحْسَبَنَّهُمْ» - بالياء فيهما، ورفع ياء «تَحْسَبَنَّهُم» وقرأ الكوفيونَ بتاءِ الخطابِ، وفتح الباء فيهما معاً، ونافع وابن عامر بياء الغيبة في الأول، وتاء الخطاب في الثاني، وفتح الباء فيهما معاً، وقُرِئَ شاذاً بتاء الخطاب وضَمِّ الباء فيهما معاً، وقرئ فيه أيضاً بياء الغيبة فيهما، وفتح الباء فيهما أيضاً فهذه خَمْس قراءاتٍ، فأما قراءة ابن كثيرٍ وأبي عمرو ففيهما خمسةُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 104 أوجهٍ، وذلك: لأنه لا يخلو إما أن يُجْعَلَ الفعل الأول مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ، أو إلى الموصولِ، فإنْ جعلناه مسنداً إلى ضميرٍ غائبٍ، الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو غيره - ففي المسألة وجهان: ِ أحدهما: أنَّ «الَّذِينَ» مفعول أوّل، والثاني محذوفٌ؛ لدلالة المفعول الثاني للفعل الذي بعده عليه، وهو «بِمَفَازَةٍ» والتقدير: لا يحسبن الرسول - أو حاسب - الذين يفرحون بمفازة، فأسند الفعل الثاني لضميرِ «الَّذِينَ» ومفعولاه الضمير المنصوب، و «بِمَفاَزَةٍ» . الثاني: أن «الَّذِينَ» مفعول أول - أيضاً - ومفعوله الثاني هو «بِمَفَازَةٍ» الملفوظ به بعد الفعل الثاني، ومفعول الفعل الثاني محذوف؛ لدلالة مفعول الأول عليه، والتقدير: لا يحسبن الرسول الذين يفرحون بمفازة فلا يحسبنهم كذلك، والعمل كما تقدم، وهذا بعيد جِداً، للفصل بين المفعول الثاني للفعل الأول لكلامٍ طويلٍ من غير حاجةٍ، والفاء - على هذين الوجهين - عاطفة؛ والسببية فيها ظاهرة. وإن جعلناه مسنداً إلى الموصول ففيه ثلاثة أوجهٍ: أولها: أن الفعل الأول حُذِفَ مفعولاه، اختصاراً؛ لدلالة مفعولي الفعل الثاني عليهما، تقديره: ولا يحسبن الفارحون أنفسَهم فائزين فلا يحسبنهم فائزين. كقول الآخر: [الطويل] 1708 - بأيِّ كِتَابٍ، أمّ بِأيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبَّهُمْ عَاراً عَلَيَّ وَتحْسَبُ أي: وتحسب حبهم عاراً، فحذفت مفعولي الفعل الثاني؛ لدلالة مفعولي الأول عليهما، وهو عكس الآيةِ الكريمةِ، حيث حذف فيها من الفعلِ الأولِ. ثانيها: أن الفعل الأول لم يحتج إلى مفعولين هنا. قال أبو علي «تَحْسَبَنَّ» لم يقع على شيء و «الَّذيِنَ» رفع به، وقد تجيء هذه الأفعال لَغْواً، لا في حُكْمِ الجُمَل المفيدة، نحو قوله: [الطويل] 1709 - وَمَا خِلْتُ أبْقَى بِيْنَنَا مِنْ مَوَدَّةٍ ... عِرَاضُ الْمَذَاكِي المُسْنِفَاتِ الْقَلائِصا المذاكي: الخيل التي قد أتى عليها بعد قروحها سنة أو سنتان، الواحد: مُذَك مثل المُخَلف من الإبل وفي المثل: جريُ المذكيات غِلاب. والمُسْنفات: اسم مفعول، يقال: سنفت البعير أسنفه، سنفاً، إذا كففته بزمامه وأنت راكبه وأسنف البعير لغة في سنفه وأسنف البعير بنفسه إذا رفع رأسه، يتعدى ولا يتعدى وكانت العربُ تركب الإبلَ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 105 وتجنب الخيل، تقول: الحرب لا تبقى مودة وقال الخليلُ: العربُ تقول: ما رأيته يقول ذلك إلا زيدٌ، وما ظننته يقول ذلك إلا زيدٌ. يعني أبو علي أنها في هذه الأماكن مُلْغَاة، لا مفعول لها. ثالثها: أن يكون المفعول الأول للفعل الأول محذوفاً، والثاني هو نفس «بِمَفَازَةٍ» ويكون «فَلاَ يَحْسَبَنهُمْ» توكيداً للفعل الأول، وهذا رأي الزمخشريِّ؛ فإنه قال بعد ما حكى هذه القراءة -: «على أن الفعل لِ {الذين يَفْرَحُونَ} والمفعول الأول محذوف، على معنى: لا يحسبنهم الذين يفرحون بمفازة بمعنى: لا يحسبنهم أنفسهم الذين يفرحون فائزين، و» فلا يحسبنهم «تأكيد» . قال أبو حيّان: «وتقدم لنا الرَّدُّ على الزمخشريّ في تقديره: لا يحسبنهم الذين في قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي} [آل عمران: 178] وأن هذا التقدير لا يصح» . قال شهابُ الدِّينِ: قد تقدَّم ذلك والجواب عنه، لكن ليس هو في قوله: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [آل عمران: 178] بل في قوله: {ولا يَحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله} من قراءة من قرأ بياء الغيبة، فهناك ردَّ عليه بما قال، وقد أجيب عنه والحمد لله، وإنما نبهت على ذلك لئلا يطلب هذا البحث من المكان الذي ذكره فلم يوجد. ويجوز أن يقالَ: في تقرير هذا الوجه الثالث -: أنه حذف من إحدى الفعلين ما أثبت نظيره في الآخر وذلك أن «بِمَفَازَةٍ» مفعول ثانٍ للفعل الأول، حذفت من الفعل الثاني، و «هُمْ» في «فلا يحسبنهم» مفعول أول للفعل الثاني، وهو محذوفٌ من الأولِ. وإذا عرفت ذلك فالفعلُ الثاني - على هذه الأوجه الثلاثة - تأكيدٌ للأول. وقال مكِّيٌّ: إن الفعل الثاني بدلٌ من الأولِ. وفي تسمية مثل هذا بدلاً نظر لا يخفى، وكأنه يريد أنه في حكم المكرر، فهو يرجع إلى معنى التأكيد. وكذلك قال بعضهم: والثاني مُعَاد على طريق البدل، مشوباً بمعنى التأكيدِ. وعلى هذين القولين - أعني كونه تأكيداً، أو بدلاً - فالفاء زائدة، ليست عاطفة ولا جواباً. قوله: {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ} أصله: تحسبونَنَّهم، بنونين - الأولى نون الرفع، والثانية للتوكيد - وكتصريفه لا يخفى من القواعد المتقدمة. وتعدى هنا فعل المضمر المنفصل إلى ضميره المتصل، وهو خاص بباب الظن، وبعدم وفقد دون سائر الأفعال. لو قلت: «أكرمتُني» ، أي: «أكرمت أنا نفسي» لم يجز. وأما قراءة الكوفيين فالفعلانِ فيها مسندان إلى ضمير المخاطب إما الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 106 كل من يصلح للخطاب - والكلام في المفعولين للفعلين كالكلام فيهما في قراءة أبي عمرو وابن كثيرٍ، على قولنا إن الفعلَ الأولَ مسندٌ لضميرٍ غائبٍ، والفعل الثاني تأكيدٌ للأولِ، أو بدلٌ منه، والفاء زائدة، كما تقدم في توجيه قراءة أبي عمرو وابن كثير، على قولنا: إن الفعلين مسندان للموصول؛ لأن الفاعل فيهما واحد، واستدلوا على أن الفاء زائدة بقول الشاعر: [الكامل] 1710 - لا تَجْزَعِي إنْ مُنْفِساً أهْلَكْتُهُ ... فَإذَا هَلَكْتُ فَعِنْدَ ذلِكَ فَاجْزَعِي وقول الآخر: [الكامل] 1711 - لَمَّا اتَّقَى بِيَدٍ عَظِيمٍ جِرْمُهَا ... فَتَرَكْتُ ضَاحِيَ جِلْدِهَا يَتَذَبْذَبُ وقول الآخر: [الكامل] 1712 - حَتَّى تَرَكْتُ العَائِدَاتِ يَعُدْنَهُ ... فَيَقُلْنَ: لا تَبْعَدْ، وَقُلْتُ لَهُ: ابْعَدِ إلا أنَّ زيادةَ الفاءِ ليس رأي الجمهورِ، إنما قال به الأخفش. وأما قراءة نافع وابن عامرٍ - بالغيبة في الأولِ، والخطاب في الثاني - فوجهها أنهما غايرا بين الفاعلين، والكلام فيهما يؤخذ مما تقدم، فيؤخذ الكلام في الفعل الأول من الكلام على قراءة أبي عمرو وابن كثير، وفي الثاني من الكلام على قراءة الكوفيين بما يليق به، إلا أنه ممتنع - هنا - أن يكون الفعل الثاني تأكيداً للأول، أو بدلاً منه؛ لاختلاف فاعليهما، فتكون الفاء - هنا - عاطفةً ليس إلا، وقال أبو علي في الحُجة -: إن الفاءَ زائدة، والثاني بدلٌ من الأولِ، قال: «وليس هذا موضع العطف لأن الكلامَ لم يتم، ألا ترى أن المفعول الثاني لم يُذْكَر بَعْدُ» . وفيه نظرٌ؛ لاختلاف الفعلين باختلاف فاعليهما. وأما قراءة الخطاب فيهما مع ضم الباء فيهما فالفعلان مسندان لضمير المؤمنين المخاطبين، والكلام في المفعولين كالكلام فيهما في قراءة الكوفيينَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 107 وأما قراءةُ الغيبةِ وفتح الباء فيهما فالفعلان مسندانِ إلى ضميرٍ غائبٍ، أي: لا يحسبن الرسولُ، أو حاسبٌ. والكلامُ في المفعولينِ للفعلينِ، كالكلام في القراءة التي قبلها، والثاني من الفعلين تأكيدٌ، أو بدلٌ، والفاءُ زائدةٌ - على هاتينِ القرائتينِ - لاتحادِ الفاعلِ. وقرأ النَّخعِيُّ، ومروان بن الحكمِ «بما آتوا» ممدوداً، أي: أعْطُوا، وقرأ علي بن أبي طالبٍ «أوتوا» مبنياً للمفعول. فصل قال ابنُ عبّاسٍ: قوله: {يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ} هم اليهودُ، حرَّفوا التوراةَ، وفرحوا بذلك، وأحبوا أن يوصَفُوا بالديانةِ والفَضْلِ. وقيل: سأل رسولُ اللهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اليهودَ عن شيء من التوراة، فأخبروه بخلافه، وفرحوا بذلك التلبيسِ وطلبوا أن يثنى عليهم بذلك. وقيل: فرحوا بكتمان النصوص الدالة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأحبوا أن يُحْمَدُوا بأنهم متبعون دين إبراهيم. وقيل: هُم المنافقونَ، فرحوا بِنفَاقِهِمْ للمسلمينَ، وأحبُّوا أن يَحْمَدَهم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الإيمانِ. وقيل: هم بعض المنافقينَ، تخلفوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الغَزْو، وفرحوا بقعودهم، واعتذروا، وطمعوا أن يُثَنَى عليهم بالاعتراف بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفَرِحوا بذلك الكتمان، وزعموا أنهم أبناءُ اللهِ وأحباؤهُ. فصل قال الفرّاءُ: «يَفْرَحُونَ بِمَا أتَوْا» أي: بما فعلوا، كقوله: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} [مريم: 27] أي: فَعَلْتِ، وقوله: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} [النساء: 16] . قال الزمخشريُّ: «أتى وجاء تُسْتَعْملان بمعنى فَعَل قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} [مريم: 61] ويدل عليه قراءة أبَي يفرحون بما فَعَلوا» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 108 قوله: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} قد تقدم معناه في كيفية النظم {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} أي: بمنجاة من العذاب، من قولهم: فاز فلان - إذا نجا - أي: ليسوا بفائزين. وقيل: لأنها موضع تفويز ومظنة هلاك، تقول العرب: فوَّز الرجل - إذا مات -. وقال الفرّاءُ: أي: ببعيد من العذاب؛ لأن الفوز معناه التباعُد من المكروه، ثم حقَّق ذلك بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قوله: {مِّنَ العذاب} فيه وجهانِ: أحدهما: أنه متعلق بمحذوف، على أنه صفة لِ «مَفَازَةٍ» أي: بمفازة كائنةٍ من العذاب على جَعْلِنَا «مَفَازَةٍ» مكاناً، أي بموضع فَوْز. قال أبو البقاء: «لأن المفازةَ مكان، والمكانُ لا يعملُ» . يعني فلا يكون متعلقاً بها، بل محذوف، على أنه صفة لها، إلا أن جعله صفة مشكل؛ لأن المفازة لا تتصف بكونها {مِّنَ العذاب} اللهم إلا أن يُقَدَّر ذلك المحذوف الذي يتعلق به الجارُّ شيئاً خاصاً حتى يُصبح المعنى تقديره: بمفازة منجيةٍ من العذابِ، وفيه الإشكالُ المعروفُ، وهو أنه لا يُقَدَّر المحذوف - في مثله - إلا كَوْناً مطلقاً. الثاني: أن يتعلق بنفس «مفازة» على أنها مصدر بمعنى الفَوْز، تقول: فزت منه أي: نَجَوْت، ولا يضر كونها مؤنثة بالتاء؛ لأنها مبنيةٌ عليها، وليست الدالة على التوحيد. كقوله: [الطويل] 1713 - فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالمَوَارِدِ فأعمل «رهبة» في «عقابك» وهو مفعول صريح، فهذا أولى. قال أبو البقاء: «ويكون التقدير: فلا تحسبنهم فائزين، فالمصدر في موضع اسم الفاعلِ» . فإن أراد تفسير المعنى فذاك، وإن أراد أنه بهذا التقدير - يصح التعلُّق، فلا حاجة إليه؛ إذ المصدر مستقل بذلك لفظاً ومعنىً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 قال القرطبيُّ: «هذا احتجاجٌ على الذين قالوا: إنّ الله فقيرٌ ونحن أغنياء، وتكذيب لهم» . وقيل: المعنى: لا تظنَّنَّ الفرحين ينجون من العذاب، فإنّ للهِ كُلّ شيء، وهم في قبضة القدير، فيكون معطوفاً على الكلام الأولِ، أي: إنهم لا ينجون من عذابه، يأخذهم متى شاء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 109 {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: لهم عذابٌ أليمٌ ممن له ملك السموات والأرض، فكيف يرجو النجاة من كان معذبه هذا المالك القادر؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 اعلم أنه - تعالى - لما قرَّر الأحكام، وأجاب عن شُبَه المُبْطِلين، عاد إلى ذِكْر ما يدل على التوحيد فذكر هذه الآية. قال ابنُ عبيد قلت لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبكَتْ وأطالت، ثم قالت: «كُلُّ أمره عَجَبٍ، أتاني في ليلتي، فدخل في لحافي، حتى ألصق جِلدَه بجلدي، ثم قال لي: يَا عَائِشَة، هَلْ لَكِ أن تَأذَنِي لِي اللَّيْلةَ في عِبَادَةِ رَبِّي؟ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ، إنِّي لأحبُّكَ وأحِبُّ مُرَادَكَ، فَقَد أذِنْتُ لَكَ، فَقَامَ إلى قِرْبَةٍ مِنْ مَاءٍ في البيتِ، فَتَوَضَّأ، ولم يُكْثِرْ من صَبِّ الْمَاءِ، ثُمَّ قَامَ يُصلِّي، فَقَرأ مِنَ الْقُرْآنِ، وجَعَلَ يَبْكِي، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَجَعَلَ يَبْكِي حَتَّى رَأَيْتُ دُمُوعَه قَدْ بَلَّتِ الأرْض فأتاه بلالٌ يُؤذنُهُ بِصَلاَةِ الْغَدَاةَ، فَرَآهُ يَبْكِي، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أتَبْكِي وَقَدْ غَفَرَ اللهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأخَّرَ؟ فَقَالَ: يَا بِلاَلُ، أفَلا أكثونُ عَبْداً شَكُوراً، ثُمَّ قَالَ: مَا لِيَ لا أبكي وَقَدْ أنْزَلَ اللهُ في هَذِهِ اللَّيْلَةِ: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} الآيات، ثُمَّ قَالَ: وَيْلٌ لِمَنْ قَرَأهَا وَلَمْ يَتَفَكَّرْ فِيهَا» . وروي: «ويلٌ لِمَنْ لاَكَها بَيْنَ فَكَّيْهِ وَلَمْ يَتَأمَّلْ فِيهَا.» «وروي عن عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا قامَ من الليلِ يتسوكُ، ثم ينظر إلى السماء ويقول: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب} » . واعلم أنه - تعالى - ذكر هذه الآية في سورة البقرة، وختمها بقوله: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] وختمها هنا - بقوله: {لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب} وذكر في سورة البقرة - مع هذه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 110 الدلائل الثلاثة - خمسة أنواعٍ أخر حتى كان المجموع ثمانية أنواع من الدلائل، وهنا اكتفى بذكر ثلاثةٍ - وهي السموات والأرض والليل والنهار - فأمّا الأول فلأن العقلَ له ظاهرٌ، وله لُبٌّ، ففي أولِ الأمرِ يكون عقْلاً، وفي كمالِ الحالِ يكون لُبًّا، ففي حالةِ كمالِهِ لا يحتاجُ إلى كَثرة الدلائلِ، فلذلك ذكر له ثلاثةَ أنواعٍ من الدلائلِ، وأسقط الخمسةَ، واكتفى بذكر هذه الثلاثة؛ لأن الدلائل السماوية أقْهَر وأبْهَر، والعجائب فيها أكثر. قوله: {الذين يَذْكُرُونَ الله} فيه خمسة أوجهٍ: أحدهما: أنه نعت لِ {لأُوْلِي الألباب} فهو مجرور. ثانيها: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين. ثالثها: أنه منصوب بإضمار أعني. وهذان الوجهان يُسَمَّيان بالقطع كما تقدم. رابعها: أنه مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: يقولون: ربنا. قاله أبو البقاء. خامسها: أنه بدل من {لأُوْلِي الألباب} ذكره مكِّيٌّ، والأول أحسنها. و {قِيَاماً وَقُعُوداً} حالانِ من فاعلٍ {يَذْكُرُونَ} و {وعلى جُنُوبِهِمْ} حال - أيضاً - فيتعلق بمحذوف، والمعنى: يذكرونه قياماً وقعوداً ومضطجعين، فعطف الحال المؤوَّلة على الصريحة، عكس الآية الأخْرَى - وهي قوله تعالى: {دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} [يونس: 12]- حيث عطفَ الصريحةَ على المؤولة. و {قِيَاماً وَقُعُوداً} جَمْعان لقائمٍ وقاعدٍ، وأجِيز أن يكونا مصدرَيْن، وحينئذ يتأوَّلان على معنى: ذوي قيام وقعود، ولا حاجة إلى هذا. فصل قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عباس، والنَّخعيّ، وقتادة: هذا في الصلاة، يُصلي قائماً، فإن لم يستطعْ فعلى جَنْبٍ. وقال سائر المفسّرين: أراد به المداومة على الذكر في جميع الأحوال، لأن الإنسانَ قلما يخلو من إحدى هذه الحالات. قوله: {وَيَتَفَكَّرُونَ} فيه وجهان: أظهرهما: أنها عطف على الصلة، فلا محلَّ لها. والثاني: أنها في محل نصبٍ على الحالِ، عطفاً على {قِيَاماً} أي: يذكرونه متفكِّرين. فإن قيل: هذا مضارع مثبت، فكيف دخلت عليه الواو؟ . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 111 فالجوابُ: أن هذه واو العطف، والممنوع إنما هو واو الحال. و «خَلْق» فيه وجهان: أحدهما: أنه مصدر على أصْله، أي يتفكرون في صفة هذه المخلوقات العجيبة، ويكون مصدراً مضافاً لمفعوله. الثاني: أنه بمعنى المفعول، أي: في مخلوق السموات والأرض وتكون إضافته في المعنى إلى الظرف، أي: يتفكرون فيما أودع اللهُ هذين الظرفين من الكواكب وغيرها. وقال أبو البقاء: «وأن يكون بمعنى المخلوق، ويكون من إضافة الشيء إلى ما هو في المعنى» . قال شِهَابُ الدّينِ: «وهذا كلامٌ متهافتٌ؛ إذ لا يُضاف الشيء إلى نفسه، وما أوهم بذلك يُؤَوَّل» . فصل {وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} وما أبدع فيهما؛ ليدلهم ذلك على قدرة الصانع، [ويعرفوا] أن لهلا مُدَبِّراً حَكِيماً. وقال بعض العلماءِ: الفكرة تُذْهِب الغفلة، وتُحْدِث للقلب خشية، كما يُحْدث الماء للزرع والنبات، ولا أجليت القلوب بِمثل الأحزان، ولا استنارت بمثل الفِكْرة. واعلم أن دلائلَ التوحيدِ محصورةٌ في قسمين: دلائل الآفاق، ودلائل الأنفس، ولا شك أن دلائلَ الآفاق أجَلُّ وأعْظَمُ، كما قال تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 57] فلذلك أمر بالتفكر في خلق السموات والأرض؛ لأن دلالتها أعجب، وكيف لا تكون كذلك لو أنَّ الإنسانَ نظرَ إلى ورقةٍ صغيرةٍ من أوراقِ شجرةٍ رأى في تلك الورقةِ عِرْقاً واحداً مُمْتداً في وَسَطها، ثم يتشعَّب من ذلك العرق عروقٌ كثيرةٌ من الجانبين، ثم بتشعَّب منها عروق دقيقة، ولا يزال يتشعب من كل عرقٍ عروقٌ أخْرَى، حتى تصيرَ في الورقة بحيثُ لا يراها البَصَر، وعند هذا يعلم أن للحق في تدبير هذه الورقة على هذه الخلقة حِكَمَاً بَالِغَةً، وأسراراً عجيبةً، وان الله تعالى أودَعَ فيها قوةً جاذبةً لغذائها من قََعْر الأرض، ثم إنّ ذلك الغذاء يجري في تلك العروق حتى يتوزَّع على كل جزءٍ من أجزاء تلك الورقةِ جُزْءٌ من أجزاء ذلك الغذاء - بتقدير العزيز العليم - ولو أراد الإنسان أن يعرف كيفية خلقه على تلك الورقة، وكيفية التدبير في إيجادها، وإيداع القوى الغذائية والنامية فيها لعجز عنه، فإذا عرف أن عقله قاصرٌ عن الوقوف على كيفية خلقه تلك الورقة الصغيرة، فحينئذ يقيس تلك الورقة إلى السموات - مع ما فيها من الشمس والقمر والنجوم - وإلى الأرض - مع ما فيها من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 112 البحار والجبال والمعادن والنبات والحيوان - عرف أن تلك الورقة - بالنسبة إلى هذه الأشياء - كالعدم، فإذا اعترف بقصور عقله عن معرفة ذلك الشيء الحقير، عرف أنه لا سبيل لَهُ - ألبتة - إلى الاطلاع على عجائب حِكمته في خَلْقِ السَّمَواتِ والأرض فلم يَبْقَ - مع هذا - إلا الاعترافُ بأنَّ الخالقَ أجَلّ وأعظم من أن يُحِيط به وَصْفُ الواصفينَ ومعارفُ العارفين، بل يسلّم أن كل ما خلق ففيه حِكَمٌ بالغة - وإن كان لا سبيلَ له إلى معرفتها - فعند ذلك يقول: {سُبْحَانَكَ} والمرادُ منه الاشتغال بالتهليل والتسبيح والتحميد، ويشتغل بالدعاء، فيقول: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . قوله: {رَبَّنَآ} هذه الجملة في محل نصب بقول محذوف، تقديره: يقولون، والجملة القولية فيها وجهان: أظهرهما: أنها حال من فاعل «يَتَفَكَّرُونَ» أي: يتفكرون قائلين قائلين ربنا، وإذا أعربنا «يَتَفَكَّرُونَ» حالاً - كما تقدم - فيكون الحالان متداخلين. والوجه الثاني: «هَذَا» إشارة إلى الخلق، إن أريد به المخلوق، وأجاز أبو البقاء - حال الإشارة إليه ب «هذا» - أن يكون مصدراً على حاله، لا بمعنى المخلوق، وفيه نظرٌ. أو إلى السّموات والأرض - وإن كانا شيئين، كل منهما جمع - لأنهما بتأويلِ هذا المخلوق العجيب، أو لأنهما في معنى الجَمْعِ، فأشير إليهما كما يُشار إلى لفظِ الجمعِ. قوله: «بَاطِلاً» في نصبه خمسةُ أوجهٍ: أحدها: أنه نعت لمصدر محذوف، أي: خَلْقاً باطلاً، وقد تقدم أن سيبويه يجعل مثل هذا حالاً من ضمير ذلك المصدر. الثاني: أنه حالٌ من المفعولِ به، وهو «هَذَا» . الثالث: أنه على إسقاطِ حرفٍ خافضٍ - وهو الباء - والمعنى: ما خلقتهما بباطلٍ، بل بحَقٍّ وقُدْرَةٍ. الرابع: أنه مفعول من أجله، و «فاعل» قد يجيء مصدراً، كالعاقبة، والعافية. الخامس: أنه مفعولٌ ثانٍ ل «خلق» قالوا: و «خلق» إذا كانت بمعنى «جَعَلَ» التي تتعدى لاثنين، تعدّت لاثنين. وهذا غيرُ معروفٍ عند أهلِ العربيةِ، بل المعروف أن «جعل» إذا كانت بمعنى «خلق» تعدت لواحدٍ فقط. وأحسن هذه الأعاريب أن تكون حالاً مِنْ «هَذَا» وهي حالٌ لا يُسْتَغنَى عَنْهَا؛ لأنها لو حُذِفَتْ لاختلَّ الكلامُ، وهي كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} [الدخان: 38] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 113 قوله: {سُبْحَانَكَ} تقدم إعرابه، وهو معترض بين قوله: {رَبَّنَآ} وبين قوله: {فَقِنَا} . وقال أبو البقاء: «دخلت الفاء لمعنى الجزاءِ، والتقدير: إذا نَزهناك، أو وحَّدْناك فقنا» . وهذا لا حاجةَ إليه، بل التسبب فيها ظاهرٌ؛ تسبب عن قولهم: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ} طلبهم وقاية النار. وقيل: هي لترتيب السؤالِ على ما تضمنه {سُبْحَانَكَ} من معنى الفعل، أي: سبحانك فقنا. وأبْعَد مَنْ ذَهَب إلى أنها للترتيب على ما تضمنه النداء. فصل قالتِ المعتزلةُ: دلَّتْ هذه الآيةُ على أنَّ كلَّ ما يفعله الله تعالى، فهو إنما يفعله لغرض الإحسان إلى العبيد، ولأجل الحكمة، والمراد منها رعاية مصالح العباد، قالوا: لأنه لو لم يخلق السمواتِ والأرضَ لغرض كان خلقهما باطلاً، وذلك ضد هذه الآية، قالوا: وقوله: {سُبْحَانَكَ} تنزيهٌ له عن خَلْقِه لهما باطلاً. وأجابَ الواحدي: بأنّ الباطل هو الذاهبُ الزائلُ؛ الذي لا يكون له قوةٌ ولا صلابةٌ ولا بقاءٌ، وخَلْق السمواتِ والأرض مُحْكَمٌ، مُتْقَنٌ، ألا ترى إلى قوله تعالى: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ} [الملك: 3] ؟ وقوله: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً} [النبأ: 12] . فكان المرادُ من قوله: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} هذا المعنى، لا ما ذكره المعتزلة. فإن قيل: هذا الوجهُ مدفوعٌ بوجوهٍ: الأول: لو كان المرادُ بالباطلِ: الرخو، المتلاشي؛ لكان قوله: {سُبْحَانَكَ} تنزيهاً لهُ أنْ يخلق مثل الخلق، وذلك باطلٌ. الثاني: أنه إنما يحسن وصل قوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} به إذا حملناه على المعنى الذي ذكرناه؛ لأن التقدير: ما خلقته باطلاً بغير حكمةٍ، بل خلقته بحكمةٍ عظيمةٍ. فعلى قولنا يحسن النظم، وعلى قولكم بشدة التركيب لم يحسن النَّظمُ. الثالثُ: أنه - تعالى - ذكر هذا في آيةٍ أخْرى، فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ} [ص: 27] وقال في آية أخرى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ مَا خَلَقْنَاهُمَآ إِلاَّ بالحق} [الدخان: 38 - 39] وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى الله الملك الحق} [المؤمنون: 115 و116] . أي: فتعالى الملك الحقُّ على أنْ يكونَ خلقه عَبَثاً، وإذا لم يكن عبثاً فامتناعُ كونِهِ باطلاً أولَى. فالجواب: أنّ بديهةَ العقلِ شاهدةٌ بأنّ الموجودَ إما واجبٌ لذاته، وإما ممكن لذاته، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 114 وشاهدة بانّ كلَّ ممكنٍ لذاته فإنه لا بد وأن ينتهي في رجحانه إلى الواجب لذاته، وإذا كان كذلك وجب أن يكونَ الخير والشر بقضاء اللهِ، وإذا كان كذلك امتنع أن يكونَ المرادُ من الآية تعليلُ أفعالِ اللهِ - تعالى - بالمصالح وأما قوله: لو كان كذلك لكان قوله: {سُبْحَانَكَ} تنزيهاً عن فعل ما لا شدة فيه ولا صلابة، وذلك باطلٌ، فجوابُهُ: لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ: ربنا ما خلقت هذا رخواً فاسدَ التركيب، بل خلقته صلباً محكماً؟ وقوله: {سُبْحَانَكَ} معناه: أنك إن خلقت السمواتِ والأرضَ صلبةً، شديدةً، باقيةً، فأنت منزهٌ عن الاحتياج إليه والانتفاع به. وأما قولهم: إنما يحسن وصل قوله: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} به إذا فسَّرناه بقولنا، فالجوابُ: لا نسلم بل وجه النظم أنّ قوله: {سُبْحَانَكَ} اعتراف بكونه غنياً عن كل ما سواه، وإذا وصفه بالغنى يكون قد اعترف لنفسه بالعجز والحاجة إليه في الدنيا والآخرة، فقال: {فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} وهذا الوجه أحسن في النظم. وأما سائر الآيات التي ذكروها فهي دالةٌ على أن أفعاله منزهة عن اتصافها بالعبث، واللعب، والبطلان ونحن نقولُ بموجبه، وأنّ أفعَالهُ كُلَّها حكمةٌ وصوابٌ. وقوله: {سُبْحَانَكَ} إقرارٌ بعجز العقولِ عن الإحاطة بآثار اللهِ في خلق السمواتِ والأرضِ. يعني أنَّ الخلقَ إذا تفكروا في هذهِ الأجسامِ العظيمةِ لم يعرفوا منها إلا هذا القدر. والمقصود منه تعليم العبادِ كيفية الدعاء وآدابه، وذلك أنّ من أراد الدعاء فليقدم الثناءَ، ثم يذكر بعده الدعاء، كهذه الآيةِ. قوله: {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار} «من» شرطية، مفعول مقدم، واجب التقديم، لأن له صدرَ الكلام، و «تُدْخِل» مجزوم بها، و {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} جوابٌ لها. وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم قولين غريبين: الأول: أن تكون «من» منصوبة بفعل مقدَّر، يُفَسِّره قوله: {فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} . وهذا غلطٌ؛ لأن مَنْ شرط الاشتغال صحة تسلط ما يفسَّر على ما هو منصوب، والجوابُ لا يعمل فيما قبل فعل الشرط؛ لأنه لا يتقدم على الشرط. الثاني: أن تكون «مَنْ» مبتدأ، والشرطُ وجوابُهُ خبر هذا المبتدأ. وهذان الوجهان غلط، والله أعلم. وعلى الأقوالِ كُلِّها فهذه الجملةُ الشرطيةُ في محل رفع؛ خبراً لِ «إنَّ» . ويقال: خزيته وأخزيته ثلاثياً ورباعياً - والأكثر الرباعي، وخَزِيَ الرجلُ يَخْزَى خِزْياً - إذا افتضح - وخزايةً - إذا استحيا - فالفعلُ واحدٌ، وإنما يتميز بالمصدرِ. قال الواحديُّ: الإخزاء - في اللغو - يَرِدُ على معانٍ يقرب بعضُها من بعض. قال الزَّجَّاجُ: أخْزَى الله العدُوَّ: أي: أبعده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 115 وقال غيره: أخزاه اللهُ: أي: أهانه. وقال شمر: أخزاه اللهُ: أي: فضحه، وفي القرآن: {وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود: 78] . وقال المفضَّلُ: أخزاه الله: أي: أهلكه. وقال ابنُ الأنباري: الخِزْي - في اللغة - الهلاك بتلف أو انقطاع حجة، أو وقوع في بلاء، وكل هذه الوجوه متقاربة. وقال الزمخشريُّ: «فَقَدْ أخْزَيْتَهُ» أي: أبلغت في إخزائه. فصل قالت المعتزلةُ: هذه الآيةُ دالةٌ على أن صاحب الكبيرةِ - من أهل الصَّلاةِ - ليس بمؤمن؛ لأن صاحب الكبيرة إذا دخل النار فقد أخزاهُ اللهُ؛ لدلالة هذه الآية، والمؤمن لا يخزى؛ لقوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [التحريم: 8] فوجب من [مجموع هاتين] الآيتين ألا يكن صاحب الكبيرةِ مؤمناً. والجواب أن قوله: {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} لا يقتضي نفي الإخزاء مطلقاً، وإنما يقتضي ألا يَحْصُلَ الإخزاءُ في وقتٍ آخَرَ. وأجاب الواحديُّ في «البسيط» بثلاثة أجوبةٍ أُخَرَ. أحدها: أنه نقل عن سعيد بن المُسَيَّبِ، والثوري، وقتادة، أن قوله: «فَقَدْ أخْزَيْتَهُ» مخصوصٌ بمن يدخل النّارَ للخلودِ. وهذا الجوابُ ضعيفٌ؛ لأن مذهبَ المعتزلةِ أنّ كلَّ فاسقٍ دخل النَّارَ، فإنَّما يدخلها للخلودِ فيها. وثانيها: أن المُدْخَل في النار مخزًى في حال دخوله، وإن كان عاقبته أن يخرج منها. وهذا - أيضاً - ضعيفٌ؛ لأنَّ نفي الخِزْي عن المؤمنين على الإطلاق، وهذه الآيةُ دلت على حصول الخِزْي لكل من دخل النّارَ، فحصل بحُكم هاتين الآيتين - بين كونه مؤمناً، وبين كونه كافراً - من يدخل النار - منافاةٌ. وثالثها: أنّ الإخزاءَ يحتمل وَجْهَيْن «: أحدهما: الإهانة والإهلاك. وثانيهما: التخجيل، يقال: خَزِيَ خِزَايةً: إذا استحيا، وأخزاهُ غيرُه: إذا عمل به عملاً يُخْجله ويستحيي منه. قال ابنُ الخطيبِ:» واعلم أنّ حاصلَ هذا الجوابِ: أنَّ لفظَ الإخزاءِ مشتركٌ بين التخجيلِ وبين الإهلاكِ، واللفظُ لا يمكن حَمْله في طرفي النفي والإثبات على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 116 معنييه جميعاً، وإذا كانَ كذلك جاز أن يكون المنفي بقوله: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [التحريم: 8] غير المثبت في قوله: {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} وعلى هذا يسقط الاستدلالُ، إلا أنّ هذا الجوابَ إنما يتمشى إذا كان لفظُ الإخزاء مشتركاً بين هذين المفهومين، أما إذا كان لفظاً متواطئاً، مفيداً لمعنًى واحدٍ وكان المعنيان اللذان ذكرهما الواحديُّ نوعين تحت جنس واحدٍ، سقط هذا الجوابُ؛ لأن قوله: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [التحريم: 8] لنفي الجنس، وقوله: «فقد أخزيته» لإثبات النوع، وحينئذ تحصل المنافاةُ بينهما «. قال القرطبيُّ:» وقال أهل المعاني: الخِزي أن يكون بمعنى الحياء، يقال: خَزِيَ يَخْزَى خزايةً إذا استحيا، فهو خَزْيان. قال ذو الرمة: [البسيط] 1714 - خَزَايَةً أدْرَكَتْهُ عِنْدَ جُرْأتِهِ ... مِنْ جَانِبِ الحَبْلِ مَخْلُوطاً بِهَا الْغَضَبُ فخِزْي المؤمنينَ - يومئذٍ - استحياؤهم في دخول النَارِ من سائرِ أهلِ الأدْيَانِ إلى أن يخرجوا مِنْهَا، والخِزْي للكافرين هو إهلاكهم فيها من غير موتٍ، والمؤمنون يموتون، فافترقوا، كذا ثبت في صحيح السنة، من حديث أبي سعيدٍ الخُدْريِّ، أخرجه مسلمٌ «. فصل احتجت المرجئة بهذه الآيةِ في القطعِ بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يُخْزَى، وكل مَنْ دخل النَّار فإنه يُخْزَى، فيلزم القطع بأنَّ صاحبَ الكبيرةِ لا يدخل النارَ، وإنما قُلْنا: صاحبُ الكبيرةِ لا يُخْزَى؛ لأن صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ، والمؤمنُ لا يُخْزَى، وإنما قلنا: إنه مؤمنٌ؛ لقوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله} [الحجرات: 9] سمي الباغي - حال كونِهِ باغياً - مؤمناً، والبغي من الكبائر بالإجماع، وأيضاً قال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] سمى القاتلَ - بالعَمْد العدوان - مؤمناً، فثبت أنَّ صاحبَ الكبيرةِ مؤمنٌ، وإنما قلنا: إن المؤمن لا يُخْزَى؛ لقوله تعالى: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [التحريم: 8] ولقوله: {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} [آل عمران: 194] ، ثم قال: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195] وهذه الاستجابة تدل على أنه - تعالى - لا يخزي المؤمنين، فثبت أن صاحبَ الكبيرِ لا يُخْزَى وكل مَنْ دخل النار فإنه يُخْزَى؛ لقوله تعالى: {إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} فثبت - بهاتين المقدمتين - أن صاحب الكبيرة لا يدخل النار. والجوابُ: ما تقدم من أن قوله: {يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ} [التحريم: 8] إنما يدل على نَفْي الإخزاء مع النَّبِيّ، وذلك لا ينافي حصول الإخزاء في وقتٍ آخرَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 117 عموم هذه الآية مخصوصٌ في مواضع، منها قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] ثم قال: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} [مريم: 72] وأهل الثَّوابِ مصونونَ عن الحِزْي. ومنها: أنَّ الملائكةَ - الذين هم خَزَنَة جَهَنَّم يكونون في النَّارِ، وهُمْ - أيضاً - مصونونَ عَنِ الخزي، قال تعالى: {عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] . قوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} «مِنْ» زائدة، لوجودِ الشَّرْطَيْنِ، وفي مجرورها وجهانِ: أحدهما: أنه مبتدأ، وخبره في الجارّ قبله، وتقديمه - هنا - جائزٌ لا واجبٌ؛ لأنَّ النفي مسوَّغٌ وحَسَّن تقديمه كونُ مبتدئه فاصلةً. الثاني: أنه فاعل بالجارِّ قبله، لاعتماده على النفي، وهذا جائزٌ عند الجميعِ. فصل تمسَّك المعتزلةُ بهذه الآيةِ في نَفْي الشفاعةِ للفسَّاق؛ وذلك لأن الشفاعة، نوع نُصْرَةٍ، ونَفْي الجنس يقتضي نَفْيَ النَّوعِ، والجوابُ من وجوهٍ: أحدها: أن القرآنَ دلَّ على أنّ الظالمينَ - بالإطلاقِ - هم الكفَّارُ، قال تعالى: {والكافرون هُمُ الظالمون} [البقرة: 254] ويؤكّده ما حكى عن الكفار من نفيهم الشفعاء والأنصار في قولهم: {فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ} [الشعراء: 100 - 101] . ثانيها: أنَّ الشفيع لا يمكنه أن يشفع إلا بإذن اللهِ تَعَالَى، قال تعالى: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] وإذا كان كذلك لم يكن الشفيعُ قادراً على النُّصرَةِ إلا بعد الإذن، وإذا حصل الإذن ففي الحقيقة إنما ظهر العفو من اللهِ تَعَالَى، فقوله: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} يُفيد أنه لا حكمَ إلا لله، كما قال: {أَلاَ لَهُ الحكم} [الأنعام: 62] وقال: {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] . فإن قيل: فعلى هذا التقديرِ لا يبقى لتخصيص الظالمينَ - بهذا الحكمِ - فائدةٌ. فالجوابُ: بل فيه فائدةٌ، لأنه وعد المؤمنينَ المتقينَ في الدُّنْيَا بالفوزِ بالثَّوابِ، والنجاةِ من العقابِ، فلهم يومَ القيامةِ هذه المنزلةُ، وأما الفُسَّاقُ فليس لهم ذلك، فصَحَّ تخصيصهم بنَفْي الأنصارِ على الإطلاقِ. ثالثها: أن هذه الآيةَ عامةٌ، والأحاديثُ الواردةُ بثبوتِ الشفاعةِ خاصةٌ، والخاصُّ مقَدَّم على العامّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 118 «سمع» إن دخلت على ما يصح أن يُسْمَعَ - نحو: سمعتُ كلامكَ وقراءتك - تَعَدَّتْ لواحدٍ، فإن دخلت على ما يصح سماعهُ - بأن كان ذاتاً - فلا يصحُّ الاقتصارُ عليه وَحْدَه، بل لا بد من الدلالة على شيء يُسْمَع، نحو سمعتُ رجلاً يقول كذا، وسمعت زيداً يتكلم، وللنحويين - في هذه المسألة - قولانِ: أحدهما: أنها تتعدى فيه - أيضاً - إلى مفعولٍِ واحدٍ، والجملة الواقعة بعد المنصوب صفة إن كان قبلها نكرة، أو حالاً، إن كان معرفة. والثاني: - قول الفارسيُّ وجماعة -: أنها تتعدى لاثنين، والجملة في محلِّ الثاني منهما، فعلى قول الجمهورِ يكون «يُنَادِي» في محل نَصْبٍ، لأنهُ صفةٌ لمنصوبٍ قبلهُ، وعلى قول الفارسيِّ يكون في محل نصْبٍ على أنه مفعولٌ ثانٍ. وقال الزمخشريُّ: «تقول: سمعت رجلاً يقولُ كذا، وسمعت زيداً يتكلمُ، فتوقع الفعل على الرجل، وتحذف المسموع؛ لأنك وصفته بما يسمع، أو جعلته حالاً منه، فأغناك عن ذِكْره، ولولا الوصف أو الحالُ لم يكن منه بُدٌّ، وأن تقول: سمعتُ كلامَ فلانٍ أو قَوْلَهُ» . وهذا قولُ الجمهورِ المتقدم ذِكره. إلا أن أبا حيّان اعترض عليه، فقال «وقوله: ولولا الوصفُ أو الحالُ ... إلى آخره، ليس كذلك، بل لا يكونُ وَصْفٌ ولا حالٌ، ويدخل» سَمِعَ «على ذات على مسموع، وذلك إذا كان في الكلام ما يُشْعِر بالمسموع - وإن لم يكن وَصْفاً ولا حالاً - ومنه قوله تعالى: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ} [الشعراء: 72] فأغنى ذكر طرف الدعاء عن ذكر المسموع» . وأجاز أبو البقاء في «يُنَادِي» أن تكون في محل نَصْبٍ على الحال من الضمير المستكن في «مُنَادِياً» . فإن قيل: ما الفائدة في الجمع بين «مُنَادِياً» و «يُنَادِي» ؟ فأجاب الزمخشريُّ بأنه ذَكَر النداء مطلقاً، ثم مقيَّداً بالإيمانِ، تفخيماً لشأن المُنَادِي؛ لأنه لا مناديَ أعظمُ من منادٍ ينادي للإيمان، ونحوه قولك: مررت بهادٍ يهدي للإسلام، وذلك أن المنادِيَ إذا أطلق ذهب الوَهم إلى منادٍ للحرب، أو لإطفاء الثائرة، أو لإغاثة المكروبِ، أو لكفاية بعض النوازلِ، أو لبعض المنافعِ وكذلكَ الهادي يُطلق على مَنْ يهدي للطريق، ويهدي لسدادِ الرأي، وغير ذلك فإذا قُلْتَ: ينادي للإيمان، ويهدي للإسلام فقد رَفَعْتَ من شأن المنادِي والهادي وفخّمته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 119 وأجاب أبو البقاء بثلاثة أجوبةٍ: أحدها: التوكيد، نحو: قُم قَائِماً. الثاني: أنه وصل به ما حسَّن التكرير، وهو الإيمان. الثالث: أنه لو اقتصر على الاسم لجاز أن يكون «سَمِعَ» مقروناً بالنداء بذكر ما ليس بنداءٍ، فلمَّا قال: «يُنَادي» محذوفٌ، أي: ينادي في الناس، وبجوز ألا يُرادَ مفعول، نحو: أمات وأحيا. ونادى ودعا يتعديان باللام تارةٌ، وب «إلى» أخرى، وكذلك نَدَبَ. قال الزمخشريُّ: وذلك أن معنى انتهاءِ الغايةِ ومعنى الاختصاص واقعان جميعاً، فاللام في موضعها ولا حاجةَ إلى أن يقالَ: إنها بمعنى «إلى» ولا أنها بمعنى الباء، ولا أنها لام العلة - أي: لأجل الإيمان - كما ذهب إليه بعضهم ووجه المجاز فيه أنه لما كان مشتملاً على الرشد وكان كل مَنْ تأمَّلَه وَصَلَ به إلى الهدى - إذا وفَّقه الله لذلك - صار كأن يدعو إلى الهُدَى، وينادي يما فيه من أنواعِ الدلائلِ، كما قيل - في جهنم -: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وتولى} [المعارج: 17] إذْ كان مصيرهم إليها. فصل اختلفوا في المراد بالمنادِي: فقال ابنُ مسعود، وابنُ عباسٍ، وأكثرُ المفسّرين: يعني محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال القرطبيُّ: يعني القرآن؛ إذ ليس كلهم سَمِعَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ودليلُ هذا القولِ ما أخبر اللهُ - تعالى - عن مؤمني الجِنِّ إذْ قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ} [الجن: 1 - 2] . قوله: «أَنْ آمَنُوا» في «أن» قولان: أحدهما: أنها تفسيرية؛ لأنها وقعت بعد فعل بمعنى القول لا حروفه، وعلى هذا فلا موضع لها من الإعرابِ. ثانيهما: أنها مصدرية، وصلت بفعل الأمرِ، وفي وَصْلِها به نظرٌ، من حيثُ إنها إذا انسبك منها وما بعدها مصدر تفوت الدلالة على الأمرية، واستدلوا على وَصْلِها بالأمر بقولهم. كتبت إليه بأن قُمْ فهي - هنا - مصدرية [ليس إلا، وإلا يلزم عدم تعلُّق حرف الجر، وإذا قيل بأنها مصدرية] فالأصل التعدي إليها بالباء، أي: بأن آمنوا، فيكون فيها المذهبانِ المشهورانِ - الجرُّ والنصبُ. قوله: «فآمَنَّا» عطف على ما «سَمِعْنَا» والعطف بالفاء مؤذن بتعجيل القبولِ وتسبب الإيمانِ على السَّماع من غير مُهْلَة، والمعنى: فآمنا بربنا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 120 قوله: {رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} اعلم أنهم قد طلبوا من الله في هذا الدعاءِ ثلاثةَ أشياءٍ: أحدهَا: غفران الذنوب، والغفران: هو الستر والتغطية. ثانيها: التكفير، وهو التغطية - أيضاً - يقال: رجل مُكَفَّرٌ بالسِّلاح - أي: مُغَطَّى - ومنه الكُفْر - أيضاً - قال الشاعرُ: [الكامل] 1715 - ... ... ... ... ... ... ..... فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ ظَلاَمُهَا فالمغفرة والتكفير - بحسب اللغة - معناهما شيء واحد، وأما المفسرون فقال بعضهم: المرادُ بهما شيءٌ واحدٌ، وإنما أعيد ذلك للتأكيد؛ لأن الإلحاحَ والمبالغة في الدعاء أمرٌ مطلوبٌ. وقيل: المرادُ بالأول ما تقدم من الذنوب، وبالثاني المستأنفُ. وقيل: المرادُ بالغُفْران ما يزول بالتوبة، وبالتكفير ما تكفِّره الطاعةُ العظيمةُ. وقيل: المرادُ بالأولِ: ما أتى به الإنسانُ مع العلمِ بكونهِ معصية، وبالثاني ما أتى به مع الجَهْل. ثالثها: قوله: {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار} أي: توفَّنا معدودين في صُحْبَتِهم، فيكون الظرفُ متعلِّقاً بما قَبْلهُ، وقيل: تُجَوَّزَ به عن الزمان ويجوز أن يكون حالاً من المفعول، فيتعلق بمحذوف. وأجازَ مَكِّيٍّ، وأبو البقاءِ: أن يكون صفة لموصوف محذوف، أي: أبراراً مع الأبرارِ، كقوله: [الوافر] 1716 - كأنَّكَ مِنْ جِمَالِ بَنِي أقَيْشٍ ... يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بِشَنّ أي: كأنك جمل من جمال. قال أبو البقاء: « [تقديره] أبراراً مع الأبرار، وأبراراً - على هذا - حالٌ» . والأبرار يجوز أن يكونَ جمع بارّ - كصاحب وأصحاب، ويجوز أن يكون جمع بَرٍّ، بزنة: كَتِف وأكتاف، ورَبّ وأرْبَاب. قال القفّالُ: في تفسير هذه المعية وجهانِ: أحدهما: أن وفاتهم معهم: هي أن يموتوا على مثل أعمالهم، حتى يكونوا في درجاتهم يومَ القيامةِ، كما تقول: أنّا مع الشافعي في هذه المسألة، أي: مساوٍ له في ذلك الاعتقادِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 121 ثانيهما: أنّ المرادَ منه كونُهم في جُملة أتباع الأبرار، كقوله: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين} [النساء: 69] . فصل احتجوا بهذه الآية على حصول العفو بدون التوبة من وجهين: الأول: أنهم طلبوا المغفرةَ مطلقاً، ثم أجابهم الله تعالى بقوله: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195] وهذا صريحٌ في أنه - تعالى - قد يغفرُ الذنبَ وإنْ لم توجد التوبةُ. الثاني: أنه - تعالى - حكى عنهم إخبارَهم بإيمانهم، ثم قالوا: {فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا} فأتى بفاء الجزاء وهذا يدلُّ على أنّ مجردَ الإيمان سبب لحسن طلب المغفرة من اللهِ تَعَالَى، ثُمَّ إنَّ اللهَ تَعَالَى أجابَهُمْ بقوله: {فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ} [آل عمران: 195] فدلت هذه الآيةُ على أنَّ مجردَ الإيمانِ سببٌ لحصول الغُفْرانِ، إما ابتداء - بأن يعفوَ عنه، ولا يُدخلَهم النار - بأن يُعَذِّبهم مدةً، ثم يعفوَ عنهم، ويُخْرِجَهم من النار. قوله تعالى: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} في هذا الجارّ ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنه متعلق ب «وعدتنا» . قال الزمخشريُّ: «على - هذه - صلة للوعد، كما في قولك: وعد الله الْجَنَّةَ على الطَّاعَةِ، والمعنى: ما وعدتنا مُنَزَّلاً على رسلك، أو محمولاً على رسلك؛ لأنَّ الرُّسُلَ مُحَمَّلون ذلك قال تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ} [النور: 54] . وردَّ عليه أبو حيّان: بأنَّ الذي قدَّره محذوفاً كون مقيّد، وقد عُلِم من القواعد أنَّ الظرفَ والجارَّ إذا وقعَا حالَيْن، أو وَصْفَيْن، أو خَبَرَيْن، أو صِلَتَيْن تعلُّقاً بكون مطلق، والجار - هنا - وقع حالاً، فكيف يقدر متعلقه كوناً مقيَّداً، وهو منزَّل، أو محمول؟ ثالثها: - ذكره أبو البقاء - أن يتعلق» على «ب» آتِنَا «وقدر مضافاً، فقال: على ألْسِنة رسُلك وهو حسن. وقرأ الأعمشُ: على رُسُلِكَ - بسكون السّينِ. فإن قيل: إن الخُلْف في وَعْد اللهِ - تعالى - محالٌ، فكيف طلبوا ما علموا أنه واقع لا محالة؟ فالجوابُ من وجوهٍ: الأول: أنه ليس المقصود من الدعاء طلب الفعلِ، بل المقصود منه إظهارُ الخضوعِ والذَّلَّة والعبودية، وقد أمِرْنا بالدعاء بأشياء نقطع بوجودها لا محالة كقوله: {قَالَ رَبِّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 122 احكم بالحق} [الأنبياء: 111] وقوله: {فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7] . الثاني: أنَّ وعدَ اللهِ لا يتناول آحاد الأمة بأعيانهم، بل بحسب أوصافهم، فإنه - تعالى - وعد المتقين بالثوابِ، ووعد الفُسَّاقَ بالعقاب، فقوله: {وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا} معناه: وفَّقْنا للأعمال التي نصير بها أهلاً لوعدك، واعصمْنا من الأعمال التي نصير بها أهلاً للعقابِ والخِزْي. الثالث: أن اللهَ - تَعَالَى - وعد المؤمنينَ بأن ينصُرَهُمْ في الدُّنُيَا على أعدائِهِم، فهُم طلبوا تعجيل ذلك. فصل دلَّت الآية على أنَّهُم إنَّمَا طلبوا منافعَ الآخرةِ بحُكْم الوعدِ لا بحُكْم الاستحقاق؛ لقولهم: {وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} ثم قالوا: {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} وهذا يدلُّ على أنَّ المقتضي لحصول منافع الآخرةِ هُوَ الوَعْدُ لا الاستحقاقُ. فإن قيلَ: متى حصل الثوابُ لزم اندفاعُ العقابِ لا محالةَ، فلما طلبوا الثَّوابَ بقولهم: {وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا} كيف طلبوا ترك العقاب بقولهم: {وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة} بل لو طلب ترك العقاب - أولاً - ثم طلب الثَّوابَ بعده لاستقام الكلامُ؟ فالجوابُ من وجهينِ: الأول: أن الثَّوابَ شرطه أن يكون منفعة مرونة بالتعظيم والسرور، فقوله: {وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا} المراد منه المنافعُ وقوله: {وَلاَ تُخْزِنَا} المرادُ منه التعظيمُ. الثاني: ما تقدم من أنَّ المقصودَ طلب التوفيق إلى الطاعة، والعصمة عن المعصية، كأنه قيل: وفقنا للطاعات، وإذا وفقتنا فاعصمنا عما يبطلها، ويوقعنا في الخزي. وعلى هذا يحسن النظم. و «الميعاد» مصدر بمعنى الوَعْد. قوله: {يَوْمَ القيامة} فيه وجهان: الأول: أنه منصوب ب {وَلاَ تُخْزِنَ} . والثَّاني: أنه أجاز أبو حيَّان أن يكونَ من باب الإعمالِ؛ إذ يصلح أن يكون منصوباً ب {وَلاَ تُخْزِنَ} وب {وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا} إذا كان الموعود به الجنة. {فاستجاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 } لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فالذين هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً مِّن عِندِ الله والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب {} بمعنى: أجَابَ ويتعدى بنفسه وباللام، وتقدم تحقيقه في قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 123 ونقل تاج القراء أن «أجَابَ» عام، و «اسْتَجَابَ» خاص في حصول المطلوب. قال الحسن: ما زالوا يقولون ربنا ربنا حتى استجاب لهم. وقال جعفر الصادق: من حزبه أمرٌ فقال خمس مرات «ربَنا» نجّاه مما يخاف، وأعطاه ما أراد، قيل: وكيف ذلك؟ قال اقرءوا: {الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً} [آل عمران: 191] إلى قوله: {إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد} [آل عمران: 194] . قوله تعالى: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ} الجمهور على فتح «أن» والأصل: بأني، فيجيء فيها المذهبان، وقل أن يأتي على هذا الأصل، وقرأ عيسى بن عمر بالكسر، وفيها وجهان: أحدهما: على إضمار القول أي: فقال: إني. والثاني: أنه على الحكاية ب «استجاب» ؛ لأن فيه معنى القول، وهو رأي الكوفيين. قوله: «لا أضيع» الجمهور على «أضيع» من أضاع، وقرئ بالتشديد والتضعيف، والهمزة فيه للنقل كقوله: [الطويل] 1717 - كمُرْضِعَةٍ أوْلاَدَ أخْرَى وَضَيَّعَتْ ... بَنِي بَطْنِهَا هَذَا الضَّلالُ عَنِ الْقَصْدِ قوله: «منكم» في موضع جر صفة ل: «عامل» ، أي: كائناً منكم. قوله: «من ذكر وأنثى» فيه خمسة أوجهٍ: أحدها: أن «مِنْ» لبيان الجنسِ، بيِّن جنس العامل، والتقدير: الذي هو ذكرٌ أو أنثى، وإن كان بعضهم قد اشترطَ في البيانيةِ أن تدخلَ على معرَّفٍ بلامِ الجنسِ. ثانيها: أنَّهَا زائدةٌ، لتقدم النفي في الكلام، وعلى هذا فيكون {مِّن ذَكَرٍ} بدلاً من نفس «عَامِلٍ» ، كأنه قيل: عامل ذكر أو أنثى، ولكنْ فيه نظرٌ؛ من حيثُ إنَّ البدلَ لا يُزاد فيه «من» . ثالثها: أنها متعلقة بمحذوف؛ لأنها حالٌ من الضمير المستكن في «مِنْكُمْ» ؛ لأنه لما وقع صفة تحمَّل ضميراً، والعامل في الحال العامل في «مِنْكُمْ» أي: عامل كائن منكم كائناً من ذكر. رابعها: أن يكون «مِنْ ذكرٍ» بدلاً من «مِنْكُمْ» ؛ قال أبو البقاء: «وهو بدلُ الشيء من الشيء، وهما لعين واحدة» . يعني فيكون بدلاً تفصيليًّا بإعادة العامل، كقوله: {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 124 الأعراف: 75] وقوله: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] وفيه إشكالٌ من وجهينِ: الأول: أنه بدل ظاهر من حاضر في بدل كل من كل، وهو لا يجوز إلا عند الأخفش، وقيَّد بعضُهم جوازه بأن يفيد إحاطة، كقوله: [الطويل] 1718 - فَمَا بَرِحَتْ أقْدامُنَا فِي مَكَانِنَا ... ثَلاَثَتُنَا حَتَّى أرينَا الْمَنَائِيَا وقوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا} [المائدة: 114] فلما أفاد الإحاطةَ والتأكيدَ جاز، واستدل الأخْفَش بقول الشَّاعرِ: [البسيط] 1719 - بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ... وَأمَّ نَهْجَ الْهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلا وقول الآخرِ: [الطويل] 1720 - وَشَوْهَاءَ تَعْدُو بِي إلَى صَارِخِ الْوَغَى ... بِمُسْتَلئِمٍ مِثْلِ الْفَنِيقِ المُدَجَّلِ ف «قريش» بدلٌ من «كم» و «بمستلئم» بدل من «بي» بإعادة حرف الجر، وايس ثَمَّ إحاطة ولا تأكيد، فمذهبه يتمشى على رأي الأخفشِ دون الجمهورِ. الثاني: أن البدلَ التفصيليّ لا يكون ب «أو» إنما يكون بالواو؛ لأنها للجمع. كقولِ الشّاعرِ: [الطويل] 1721 - وَكُنْتُ كَذِي رِجْلَيِنِ رِجْلٍ صَحِيحَةٍ ... وَرِجْلٍ رَمَى فِيهَا الزَّمَانُ فَشَلَّتِ ويُمكن أن يجابَ عنه بأن «أو» قد تأتي بمعنى الواو. كما في قول الشّاعرِ: [الكامل] 1722 - قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّرِيخَ رَأَتَهُمْ ... مَا بَيْنَ مُلْجِمِ مُهْرِهِ أوْ سَافِعِ ف «أو» بمعنى الواو، لأن «بين» لا تدخل إلا على متعدد، وكذلك هنا لما كان «عامل» عاماً أبْدِلَ منه على سبيل التوكيدِ، وعطف على أحد الجزأين ما لا بد له منه؛ لأنه لا يؤكَّد العموم إلا بعموم مثله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 125 خامسها: أن يكون {مِّن ذَكَرٍ} صفة ثانية لِ «عامل» قصد بها التوضيح، فيتعلق بمحذوف كالتي قبلها. قوله: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} مبتدأٌ وخبرٌ، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ: الأولُ: أنَّ هذه الجملةَ استئنافيةٌ، جيء بها لتبيين شركة النساء مع الرجالِ في الثَّواب الذي وَعَدَ الله به عباده العاملين؛ لأنه روي في سبب النزولِ، أنَّ أمَّ سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: يَا رَسُولَ اللهِ إني لأسْمَع الله يذكر الرِّجَالَ في الهجرة، ولا يذكر النَِّسَاءَ، فنزلت الآية. والمعنى: كما أنكم من أصلٍ واحدٍ، وأن بعضكم مأخوذٌ من بعضٍ، كذلك أنتم في ثواب العملِ، لا يُثابُ عامل دون امرأةٍ عاملةٍ. وعبَّر الزمخشريُّ عن هذا بأنها جملة معترضة، قال: «وهذه جملةٌ معترضةٌ ثبت بها شركة النساءِ مع الرّجال فيما وعد اللهُ عباده العاملينَ» . ويعني بالاعتراض أنها جيء بها بين قوله: {عَمَلَ عَامِلٍ} وبين ما فُصِّل به عملُ العاملِ من قوله: {فالذين هَاجَرُواْ} ولذا قال الزمخشريُّ: {فالذين هَاجَرُواْ} تفصيل لعمل العاملِ منهم على سبيل التعظيمِ لَهُ. الثاني: أنَّ هذه الجملَة صِفَةٌ. الثالث: أنَّها حالٌ، ذكرهما أبو البقاءِ، ولم يُعيِّن الموصوف ولا ذا الحال، وفيه نظرٌ. قال الكلبي: «بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ» في الدين والنصرة والموالاة. وقيل: كلكم من آدم وحوَّاء، وقال الضّحّاك: [رجالكم] شكب نسائكم، ونساؤكم شكل رجالِكم في الطاعات؛ لقوله: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] . وقيل: «مِنْ» بمعنى اللامِ، أي: بعضكم لبعض ومثل بعض في الثّواب على الطاعة والعقاب على المعصية. قال القفَّالُ: هذا من قولكم: فرن مني، أي: عَلَى خلقي وسيرتي. قال تعالى: {فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي} [البقرة: 249] وقال عليه السَّلامُ: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا» فقوله: {بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ} أي: بعضكم شبه بعض في استحقاق الثوابِ على الطَّاعة والعقاب على المعصية. فصل ليس المرادُ أنه لا يُضِيع نفس العمل؛ لأن العملَ - كما وجد - تلاشى وفني، بل المرادُ أنه لا يُضِيع ثوابَ العملِ، والإضاعة: عبارة عن تَرْكِ الإثابةِ، «لاَ أضِيعُ» نفي للنفي، فيكون إثباتاً، فيصير المعنى: إني أوَصِّل ثوابَ أعمالِكم إليكم، وإذا ثبت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 126 ذلك فالآية دالَّةٌ على أن أحَداً من المؤمنين لا يُخَلَّد في النار؛ لأنه بعلمه الصالح استحق ثواباً، وبمعصيته استحق عقاباً، فلا بد من وصولهما إليه - بحكم هذه الآية - والجمع بينهما مُحَالٌ، فإما أن يقدم الثواب، ثم يعاقب، وهو باطلٌ بالإجماعِ، أو يقدم العقاب، ثم ينقل إلى الثّوابِ. وهو المطلوب. فإن قيلَ: القوم طلبوا - أولاً - غفران الذنوب، وثانياً: إعطاء الثواب، فقوله: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} إجابة لهم في إعطاء الثواب، فأين الجوابُ في طلب غُفْران الذنوب. فالجواب أنه لا يلزم من إسقاط العذاب حصول الثواب، لكن يلزم من حصول الثّوابِ إسقاط العذاب فصار قوله: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ} إجابةً لدعائهم في المطلوبَيْن. قال ابنُ الخطيبِ: «وعندي - في الآية - وَجْه آخر، وهو أن المراد من قوله: {أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ} أي لا يضيع دُعاءكم. وعدم إضاعة الدعاء عبارة عن إجابة الدعاء، فكان المراد منه أنه حصلت إجابة دعائكم في كل ما طلبتموه وسألتموه» . قوله: {فالذين هَاجَرُواْ} مبتدأ، وقوله: {لأُكَفِّرَنَّ} جواب قسم محذوف، تقديره: والله لأكَفِّرَنَّ، وهذا القسم وجوابه خبر لهذا المبتدأ. وفي هذه الآية ونظائرها من قوله تعالى: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] وقولِ الشاعر: [الكامل] 1723 - جَشَأتْ فَقُلْتُ اللَّذْ جَشَأتِ لَيَأتِيَنْ ... وَإذَا أتَاكِ فَلاَتَ حِينَ مَنَاصِ رَدٌّ على ثعلبٍ؛ حيث زعم أن الجملةَ القسميةَ لا تقع خبراً، وله أن يقول: هذه معمولة لقول مُضْمَر هو الخبرُ - وله نظائر. والظاهرُ أن هذه الجُمَل - التي بعد الموصولِ - كُلَّها صِلات له، فلا يكون الخبرُ إلا لمن جمع بين هذه الصفاتِ: المهاجرة، والقَتْل، والقتال. ويجوز أن يكون ذلك على التنويع، ويكون قد حَذف الموصولات لفَهْم المعنى وهو مذهب الكوفيين كما تقدم، والتقدير: فالذين هاجروا والذين أخْرِجوا، والذين قاتلوا: فيكون الخبر بقوله: {لأُكَفِّرَنَّ} عمن اتصف بواحدةٍ من هذه. وقرأ جمهورُ السبعة: «وَقَاتَلُوا وَقُتِلوا» ببناء للفاعلِ من المفاعَلةِ، والثاني للمفعول، وهي قراءة واضحة. وابنُ عامرٍ، وابن كثيرٍ كذلك، إلا أنهما شدَّدَا التاء من «قُتلوا» للتكثير، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 127 وحمزة والكسائي بعكس هذا، ببناء الأولِ للمفعول، والثاني للفاعلِ، وتوجيه هذه القراءة بأحدِ معنيينِ: الأول: أنّ الواو لا تقتضي الترتيب، كقوله: {واسجدي واركعي} [آل عمران: 43] فلذلك قدم معها ما هو متأخرٌ عنها في المعنى، هذا إن حَمَلْنا ذلك على اتحاد الأشخاصِ الذِينَ صدر منهم هذانِ الفعلانِ. الثاني: أن تحمل ذلك على التوزيع، أي: منهم مَنْ قُتِلَ، ومنهم مِنْ قاتل كقولهم: قُتِلْنا ورَبِّ الكعبة إذا ظهرت أماراتُ القتلِ فيهم وهذه الآيةُ في المعنى كقوله: {قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ} [آل عمران: 146] والخلافُ في هذه كالخلافِ في قوله: {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} [التوبة: 111] والتوجيهُ هناك كالتوجيهِ هنا. وقرأ عمر بن عبد العزيز وقَتَلوا وقُتِلوا - ببناء الأولِ للفاعل، والثاني للمفعول - من «فعل» ثلاثياً، وهي كقراءة الجماعة، وقرأ محارب بن دثار: وقَتَلوا وقَاتَلُوا - ببنائهما للفاعل - وقرأ طلحة بن مُصرِّف: وقُتِّلوا وقاتلوا، كقراءة حمزة والكسائي، إلا أنه شدد التاء، والتخريج كتخريج قراءتهما. ونقل أبو حيّان - عن الحسنِ وأبي رجاء - قاتلوا وقتّلوا، بتشديد التاءِ من «قُتّلوا» وهذه هي قراءة ابن كثيرٍ وابن عامرٍ - كما تقدم - وكأنه لم يعرف أنها قراءتهما. فصل هذه في المهاجرينَ الذين أخرجهم المشركون من ديارهم، فقوله: {وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي} أي: في طاعتي وديني. {لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار ثَوَاباً} قوله: «ثواباً» في نصبه ثمانية أوجهٍ: أحدها: أنه نصب على المصدر المؤكد؛ لأن معنى الجملةِ قبله تقتضيه، والتقدير: لأثيبَنَّهم إثابة أو تثويباً، فوضع «ثَوَاباً» موضع أحد هذينِ المصدرينِ؛ لأن الثوابَ - في الأصل - اسم لما يُثَابُ به، كالعطاء - اسم لما يُعْطَى - ثم قد يقعان موضع المصدر، وهو نظير قوله: {صُنْعَ الله} [النمل: 88] و {وَعْدَ الله} [القصص: 13] في كونهما مؤكدينِ. ثانيهما: أن يكون حالاً من «جَنَّاتٍ» أي: مثاباً بها - وجاز ذلك وإن كانت نكرة؛ لتخصصها بالصفة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 128 ثالثها: أنها حالٌ من ضمير المفعول، أي: مثابين. رابعها: أنه حالٌ من الضمير في «تَجْرِي» العائد على «جَنَّات» وخصَّص أبو البقاء كونه حالاً بجَعْله بمعنى الشيء المُثَاب بِهِ، قال: وقد يقع بمعنى الشيء المثاب به، كقولك: هذا الدرهم ثوابك، فعلى هذا يجوز أن يكونَ حالاً من [ضمير الجنّاتِ، أي: مثاباً بها، ويجوز أن يكون حالاً من] ضمير المفعول به في «لأدْخِلَنَّهُم» . خامسها: نصبه بفعل محذوف، أي: نعطيهم ثواباً. سادسها: أنه بدل من «جَنَّاتٍ» وقالوا: على تضمين «لأدْخِلَنَّهُمْ» لأعْطِيَنَّهُمْ، لما رأوا أنَّ الثوابَ لا يصح أن ينسب إليه الدخولُ فيه، احتاجوا إلى ذلك. ولقائل أن يقول: جعل الثواب ظرفاً لهم، مبالغة، كما قيل في قوله: {تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] . سابعها: أنه نصب على التمييز، وهو مذهب الفرّاء. ثامنها: أنه منصوبٌ على القطعِ، وهو مذهبُ الكسائيّ، إلا أن مكِّياً لما نقل هذا عن الكسائي فَسَّر القطع بكونه على الحالِ، وعلى الجملة فهذانِ وجهانِ غريبانِ. وقوله: {مِّن عِندِ الله} صفةٌ له، وهذا يدل على كون ذلك الثَّوابِ في غايةِ الشرف، كقول السلطانِ العظيم: أخلع عليك خلعة من عندِي. قوله: {والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب} الأحسن أن يرتفع {حُسْنُ الثواب} على الفاعلية بالظرف قبله؛ لاعتماده على المبتدأ قَبْله، والتقدير: والله استقر عنده حُسْنُ الثَّوابِ. ويجوز أن يكون مبتدأ، والظرف قبله خبره، والجملة خبرُ الأولِ. وإنما كان الوجه الأول أحسنَ؛ لأنّ فيه الإخبار بمفرد - وهو الأصل - بخلاف الثّانِي، فإنَّ الإخبار فيه بجملة وهذا تأكيد لكونه ذلك الثوابِ في غايةِ الشرفِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 الغرور: مصدر قولك: غَرَرْت الرجل بما يستحسنه في الظاهر، ثم يجده - عند التفتيش - على خلاف ما يجب. نزلت في المشركينَ، وذلك أنهم كانوا في رخاءٍ ولينٍ من العيش وتنعم، فقال بعض المؤمنينَ: إنَّ أعداءَ اللهِ فيما نرى من الخير، ونحن في الجَهْد، فأنزلَ اللهُ هذه الآيةَ: {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ} في ضَرْبهم «فِي الْبِلادِ» وتصرُّفهم في الأرض للتجارات وأنواع المكاسب. فالخطاب مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمرادُ منه غيره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 129 قال قتادةُ: واللهِ ما غروا نبيَّ الله قط، حتى قبضه اللهُ تَعَالَى، ويمكن أن يقالَ: سبب عدم إغراره هو تواتُر الآيات عليه، لقوله: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء: 74] فسقط قولُ قتادةَ. قوله: «مَتَاعٌ» خبر مبتدأ محذوف، دَلَّ عليه الكلام، تقديره: تقلبهم، أو تصرفهم متاع قليل. والمخصوص بالذم محذوف، أي: بئس المهاد جهنم. ومعنى «مَتَاعٌ قَلِيلٌ» أي: بُلْغة فانية، ومُتْعة زائلة. وإنما وصفه بالقِلَّة؛ لأن نعيم الدنيا مشوب بالآفات ثم ينقطع، وكيف لا يكون قليلاً وقد كان معدوماً من الأزل إلى الآن، وسيصير معدوماً من الأزل وإلى الأبد فإذا قابلت زمان الوجود بما مضى وما يأتي - وهو الأزل والأبد - كان أقل من أن يجوز وصفه بأنه قليل ثُمّ قال بعده: {ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد} يعني أنه مع قلته يؤول إلى المَضَرَّة العظيمةِ، ومثل ها لا يُعَدُّ نِعْمَةً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 قرأ الجمهورُ بتخفيف «لكن» وأبو جعفر بتشديدها، فعلى القراءة الأولى الموصول رفع بالابتداء، وعند يونس يجوز إعمال المخففة، وعلى الثانية في محل نصب. ووقعت «لكِن» هنا أحسن موقع؛ فإنها وقعت بين ضِدَّيْن، وذلك أن معنى الجملتينِ - التي بعدها والتي قبلها - آيلٌ إلى تعذيب الكفار، وتنعيم المؤمنين المتقين. ووجه الاستدراك أنه لما وصف الكفار بقلة نَفْع تقلبهم في التجارة، وتصرُّفهم في البلاد لأجْلِها، جاز أن يتوهَّم مُتَوَهِّمٌ أن التجارة - من حيث هي - متصفة بذلك، فاستدرك أنَّ المتقينَ - وإن أخذوا في التجارة - لا يضرهم ذلك، وأنَّ لهم ما وعدهم به. قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} هذه الجملة أجاز مكيٌّ فيها وجهينِ: أحدهما: الرفع، على النعت لِ «جَنَّاتٌ» . والثاني: النصبُ، على الحال من الضمير المستكن في «لَهُمْ» قال: «وإن شئت في موضع نصب على الحال من المضمر المرفوع في» لَهُمْ «إذْ هو كالفعل المتأخر بعد الفاعل إن رفعت» جَنَّاتٌ «بالابتداء، فإن رفعتها بالاستقرار لم يكن في» لَهُمْ «ضميرٌ مرفوعٌ؛ إذ هو كالفعل المتقدِّم على فاعله» . يعني أنّ «جَنَّاتٌ» يجوز فيها رفعها من وجهين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 130 أحدهما: الابتداء، والجار قبلها خبرها، والجملة خبر «الَّذِينَ اتَّقوا» . ثانيهما: الفاعلية؛ لأن الجارَّ قبلها اعتمد بكونه خبراً لِ «الَّذِينَ اتَّقَوْا» . وقد تقدم أن هذا أوْلَى، لقُربه من المفرد. فإنْ جعلنا رفعها بالابتداء جاز في {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} وجهان: وجهان: الرفع على النعت، والنصب على الحال من الضمير المرفوع في «لَهُمْ» لتحمُّله - حينئذٍ - ضميراً. وإن جعلنا رفعها بالفاعلية تعيَّن أن يكون الجملة بعدها في موضع رَفْع؛ نعتاً لها، ولا يجوز النصبُ على الحال، لأن «لَهُمْ» ليس فيه - حيئذٍ - ضمير؛ لرفعه الظاهر. و «خَالِدِينَ» نُصِبَ على الحالِ من الضمير في «لَهُمْ» والعاملُ فيه معنى الاستقرارِ. قوله: «نُزُ لاً» النُّزُل: ما يُهَيَّأ للنزيل - وهو الضيف. قال أبو العشراء الضبي: [الطويل] 1724 - وكُفَّا إذَا الْجَبَّارُ بِالْجَيْشِ ضَافَنَا ... جَعَلْنَا الْقَنَا والْمُرْهَفَاتِ لَهُ نُزُلا هذا أصله، ثم اتُّسِع فيه، فأطلق على الرزق والغذاء - وإن لم يكن لضيف - ومنه قوله تعالى: {فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ} [الواقعة: 93] وفيه قولانِ، هل هو مصدرٌ أو جمع نازل، كقول الأعشى: [البسيط] 1725 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أو تَنْزِلُونَ فَإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ إذا تقرَّر هذا ففي نَصْبه سِتَّةُ أوجهٍ: أحدهما: أنه منصوب على المصدر المؤكّد، لأنه معنى «لَهُمْ جَنَّاتٌ» : نُنْزِلُهم جنات نزلاً، وقدَّره الزمخشريُّ بقوله: «كأنه قيل: رزقاً، أو عطاءً من عند اللهِ» . ثانيها: نصبه بفعل مُضْمَر، أي: جعلنا لهم نُزُلاً. ثالثها: نَصبه على الحال من «جَنَّات» لأنها تخصَّصَت بالوَصْف. رابعها: أن يكون حالاً من الضمير في «فِيهَا» أي مُنزّلةً - إذا قيل بأنّ «نُزلاً» مصدر بمنى المفعول نقله أبو البقاءِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 131 خامسها: أنه حالٌ من الضمير المستكن في «خَالِدِينَ» - إذا قُلْنَا: إنه جمع نازل - قاله الفارسيُّ في التذكرة. سادسها: وهو قول الفرّاء - نصبه على التفسير - أي التمييز - كما تقول: هو لك هبةً، أو صدقةً وهذا هو القولُ بكونه حالاً. والجمهور على ضم الزاي، وقرأ الحسنُ، والأعمشُ، والنَّخَعِيُّ، بسكونها، وهي لغةٌ، وعليها البيتُ المتقدم. وقد تقدم أن مثل هذا يكون فيه المسكَّن مخففاً من المثقل أو بالعكس، والحق الأول. قوله: {مِّنْ عِندِ الله} فيه ثلاثة أوجه، لأنك إن جعلت «نُزُلاً» مصدراً، كان الظرفُ صفةً له، فيتعلق بمحذوف، أي: نزلاً كائناً من عند اللهِ أي: على سبيلِ التكريمِ، وإنْ جعلته جمعاً كان في الظرف وجهانِ: أحدهما: جَعْله حالاً من الضمير المحذوفِ، تقديره: نُزُلاً إياها. ثانيهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: ذلك من عند الله؛ نقل ذلك أبو البقاءِ. قوله: {وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ} «ما» موصولة، وموضعها رفع بالابتداء والخبر «خَيْرٌ» و «للأبْرَارِ» صفة لِ «خير» فهو في محل رفع، ويتعلق بمحذوفٍ، وظاهر عبارة أبي حيّان أنه يتعلق بنفس «خَيْرٍ» فإنه قال: و «للأبرارِ» متعلق ب «خَيْرٌ» . وأجاز بعضهم أن يكون «لِلأبْرَارِ» هو الخبر، و «خَيْرٌ» خبر ثانٍ، قال أبو البقاء: «والثاني - أي: الوجه الثاني -: أن يكون الخبر» لِلأبْرَارِ «والنية به التقديمُ، أي: والذي عند اللهِ مستقرٌّ للأبرارِ، و» خَيْرٌ «- على هذا - خبرٌ ثانٍ» . وفي ادِّعاء التقديمِ والتأخيرِ نظرٌ؛ لأن الأصلَ في الإخبار أنْ يكونَ بالاسمِ الصريحِ، فإذا اجتمعَ خبرٌ مفردٌ صريحٌ، وخبرٌ مؤوَّلٌ به بُدِئَ بالصريحِ من غير عكس - كالصفة - فإذا وقعا في الآية على الترتيبِ المذكور، فكيف يُدَّعَى فيها التقديمُ والتأخيرُ؟ . ونقل أبو البقاء - عن بعضهم - أنه جعل «لِلأبْرَارِ» حالاً من الضمير في الظرف، «خّيْرٌ» خبر المبتدأ، قال: «وهذا بعيدٌ؛ لأن فيه الفصل بين المبتدأ والخبر بحالٍ لغيره، والفصلُ بين الحالِ وصاحب الحالِ بخبر المبتدأ، وذلك لا يجوزُ في الاختيار» . قال أبو حيّان: «وقيل: فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، أي: الذي عند الله للأبرار خير لهم، وهذا ذهولٌ عن قاعدةِ العربية من أن المجرور - إذ ذاك - يتعلق بما تعلَّق به الظرف الواقع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 132 صلة للموصول، فيكون المجرورُ داخلاً في حيِّز الصِّلَةِ، ولا يُخْبَر عن الموصول إلا بعد استيفائه صِلته ومتعلقاتها» . فإن عنى الشيخُ بالتقديم والتأخير على الوجه - أعني جعل «لِلأبْرَارِ» حالاً من الضمير في الظرف فصحيحٌ، لأنَّ العاملَ في الحالِ - حينئذ - الاستقرارُ الذي هو عاملٌ في الظرفِ الواقع صِلةً، فيلزم ما قاله، وإن عنى به الوجهَ الأول - أعني: جعل «لِلأبْرَارِ» خبراً، والنية به التقديم وب «خَيْرٌ» التأخير كما ذكر أبو البقاءِ، فلا يلزم ما قال؛ لأنّ «لِلأبْرَارِ» - حينئذٍ - يتعلَّق بمحذوفٍ آخرَ غير الذي تعلُّق به الظرفُ. و «خَيْرٌ» - هنا - يجوز أن يكون للتفضيل، وأن لا يكون، فإن كان للتفضيل كان المعنى: وما عند الله خيرٌ للأبرار مما لهم في الدنيا، أو خيرٌ لهم مما ينقلب فيه الكفارُ من المتاعِ القليلِ الزائلِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 قال جابرٌ، وابنُ عبّاسٍ، وقتادةُ، وأنسٌ: نزلت في النجاشي - ملك الحبشة - واسمه أصْحَمة، وهو - بالعربية - عطية، «وذلك أنه لما مات نعاه جبريلُ - عليه السّلام - لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في اليوم الذي مات فيه، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأصحابه: اخرجوا، فصلُّوا على أخ لكم مات بِغَيْر أرْضِكم، فقالوا: مَنْ هو؟ قال النجاشيُّ، فخرج إلى البقيع، وكُشِفَ له إلى أرض الحبشةِ، فأبصر سريرَ النجاشي، وصَلَّى عليه أربعَ تكبيراتٍ، واستغفر له، فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يُصلي على عِلجٍ حبشيٍّ، نصرانيٍّ، لم يَرَه قطّ، وليس على دينه.» فأنزل الله هذه الآية. قال عطاءٌ: نزلت في أربعينَ رجلاً من أهل نجرانَ، واثنينَ وثلاثينَ من الحبشة، وثمانيةٍ من الرُّوم، كانوا على دينِ عيسى فآمنوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال ابن جُرَيْحٍ: نزلت في عبد اللهِ بن سلام وأصحابه. وقال مُجَاهدٌ: نزلتْ في مؤمني أهل الكتاب كُلِّهم. قوله: {لَمَن يُؤْمِنُ} اللام لام الابتداء، دخلت على اسم «إنَّ» لتأخُّرهِ عنها، و «مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 133 أهْلِ» خبرٌ مقدَّمٌ و «من» يجوز أن تكونَ موصولةً - وهو الأظهر - وموصوفة، أي: ل «قوماً» ، و «يؤمن» صلة - على الأول - فلا محلَّ له، وصفة - على الثاني - فمحله النصب، وأتى - هنا - بالصلة مستقبلة - وإن كان ذلك قد مضى - دلالة على الاستمرار والديمومة. والمعنى: إن من أهْلِ الكتابِ مَنْ يُؤمِن باللهِ وما أنْزِل إليكم، وهو القرآنُ، وما أنْزِلَ إلَيْهَم، وهو التوراة والإنجيل. قوله: {خَاشِعِينَ} فيه أربعةُ أوجهٍ: أحدها: أنه حالٌ من الضمير في «يؤمن» وجَمَعَه، حَمْلاً على معنى «مَنْ» كما جمع في قوله: «إلَيْهِمْ» وبدأ بالحمل على اللفظ في «يُؤْمِن» ثم بالحَمْلِ على المعنى؛ لأنه الأولى. ثانيها: أنه حال من الضمير في «إلَيْهِمْ» فالعامل فيه «أنْزِلَ» . ثالثها: أنه حال من الضمير في «يَشْتَرُون» وتقديم ما في حيِّز «لا» عليها جائز على الصحيح وتقدم شيء من ذلك في الفاتحة. رابعها: أنه صفة لِ «من» إذا قيل بأنها نكرة موصوفة. وأما الأوجه الثلاثة السابقة فجائزة، سواء كانت موصولةٌ، أو نكرة موصوفة. قوله: «للهِ» فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلق ب «خَاشِعِينَ» أي: لأجل الله. ثانيهما: أنه متعلق ب «لاَ يَشْتَرُونَ» ذكره أبو البقاء، قال: «وهو في نية التأخير، أي: لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً لأجل الله» . قوله: {لاَ يَشْتَرُونَ} كقوله: {خَاشِعِينَ} إلا في الوجه الثالث، لتعذره، ويزيد عليها وجهاً آخر، وهو أن يكون حالاً من الضمير المستكن في «خَاشِعينَ» أي: غير مشترين. وتقدم معنى الخشوع والاشتراء وما قيل في البقرة. ومعناه: أنهم لا يُحَرِّفُونَ كُتُبَهم، ولا يكتمون صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأجل الرياسة والمأكلة، كفعل غيرهم من رؤساءِ اليهودِ. واعلم أنه - تعالى - لما بيَّن أنَّ مصير الكفار إلى العقاب، بيَّن - هنا - أنَّ مِنْ آمنَ منهم فإن مَصيرَه إلى الثَّوابِ. وقد وصفهم بصفات: أولها: الإيمان بالله. ثانيها: الإيمان بما أُنْزِلَ على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وثالثها: الإيمان بما أُنْزِلَ على الأنبياء قَبْلَه. ورابعها: كونهم خَاشِعِينَ لله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 134 وخامسها: أنهم لا يشترون بآيات الله ثَمَناً قَلِيلاً، كما يفعله أهلُ الكتابِ ممن كان يكتم أمرَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله: {أولاائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ} «أولئك» مبتدأ، وأما «لَهُمْ أجْرُهُمْ» ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون «لَهُمْ» خبراً مقدَّماً، و «أجْرُهُمْ» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر الأول، وعلى هذا فالظرفُ فيه وجهانِ: الأول: أنه متعلق ب «أجْرُهُمْ» . الثاني: أنه حال من الضمير في «لَهُمْ» وهو ضمير الأجر، لأنه واقع خبراً. ثانيها: أن يرتفع «أجْرُهُمْ» بالجارِّ قبله، وفي الظرف الوجهان، إلا أنّ الحال من «أجْرُهُمْ» الظاهر؛ لأن «لَهُمْ» لا ضمير فيه حينئذ. ثالثها: أن الظرف هو خبر «أجْرُهُمْ» و «لَهُمْ» متعلق بما تعلَّق به من هذا الظرف من الثبوت والاستقرار. ومن هنا إلى آخر السورة تقدم إعراب نظائره. قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 قال ابنُ الخطيبِ: «ختم هذه السورة بهذه الآية المشتملة على جميع الآدابِ، وذلك لأن أحوال الإنسان قسمان: منها ما يتعلق به وحده، ومنها ما يكون مشتركاً بينه وبين غيره، أما القسم الأول فلا بُدَّ فيه من الصَّبْر، وأما القسم الثاني فلا بد فيه من المصابرة» . قال الحسن: اصبروا على دينكم، فلا تدعوه لشِدَّةٍ لا رَخَاءٍ. وقال قتادة: اصبروا على طاعةِ الله، وصابروا أهل الضلالة، ورابطوا في سبيل الله. وقال الضحاكُ، ومقاتل بنُ سليمان: على أمر اللهِ. وقال مقاتلُ بن حيان: على فرائض الله. وقال زيد بن أسلم: على الجهاد. وقال الكلبيّ على البلاء. واعلم أن الصبر يدخل تحته أنواع: الصبر على مشقّة النظر والاستدلال على الطاعات، وعلى الاحتراز عن المنهيَّات، وعلى شدائد الدُّنْيا من الفَقْر، والقحط والخوف، وأما المصابرة فهي تَحَمُّل المكاره الواقعة بينه وبيْنَ غيره، كتحَمُّل الأخلاق الردئيةِ من أهله وجيرانه وترك الانتقام كقوله تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199] وإيثار الغير على نفسه، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقوله: {اصبروا وَصَابِرُواْ} من الجناس اللفظي، وكذلك قوله: {اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ} [التوبة: 38] «وصابروا» يعني الكفار، «ورابطوا» يعني المشركين. قال أبو عبيدة: «أي: اثبتوا ودَاوِمُوا» والربطُ: الشد، وأصل المرابطة: أن يربط هؤلاء خيولهم وهؤلاء خيولهم بحيث يمون كل من الخصمين مستعداً لقتال الآخرِ ثم قيل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 135 لكل مقيم في ثَغْرٍ يدفع عَمَّنْ وراءه: مرابط، وإن لم يكن له مركوبٌ مربوطٌ. قال - عليه السلام -: «رِباط يَوْم في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها وما عليها، وموضع سَوْطِ أحَدِكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها» . {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} قال بعضهم: اصبروا على النَّعْماء، وصابروا على البأساء والضراء، ورابطوا في دار الأعداء، واتقوا إله الأرض والسماء، لعلكم تفلحون في دار البقاء. وقيل: المرابطة: انتظار الصلاة بعد الصلاة لما روى أبو سلمةَ بن عبد الرحمن، قال: لم يكن في زمنِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غزو يرابط فيه، وإنما نزلت هذه الآية في انتظار الصلاة بعد الصلاة. واحتج أبو سلمة بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ألاَ أدلُّكم عَلَى مَا يَمْحُو اللهُ بِهِ الْخَطَايَا، ويَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟ إسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرةُ الْخُطَا إلى المَسَاجِدِ، وانْتِظَارُ الصَّلاَةِ بَعْدَ الصَّلاةِ ثُمَّ قَالَ: فَذلِكُمُ الرِّبَاطُ» ثلاث مراتٍ - وقيل الرباط: اللزوم والثبات، وهذا المعنى يعم ما تقدم. روى ابنُ عباسِ، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قرأ السُّورَةَ الَّتِي يُذكر فِيهَا آل عِمْرانَ يَومَ الْجُمُعَةِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَمَلاَئِكتهُ حَتَّى تُحْجَب الشَّمس» . وعن أبَيٍّ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قرأ آلِ عمرانَ أعْطي بكل آيةٍ منها أمَاناً على جِسْر جَهَنَّمَ» وعن ابن مسعود قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ آلَ عِمْرَانَ فَهُوَ غَنِيٌّ» . وعن العرس بن عُمَيْرَةَ قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «تَعَلَّمُوا البَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ؛ فَإنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ، وَإنَّهُمَا يَأتِيَانِ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي صُورَةِ مَلَكَيْنِ يَشْفَعَانِ لَصَاحِبِهمَا حَتَّى يُدْخِلاَهُ الْجَنَّةَ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 136 قيل: سُمِّيتَ البَقَرَةُ وآل عمران بالزَّهْرَاوَيْنِ؛ لأنهما نُورَان، مأخوذ من الزَّهر والزَّهرة. وقيل: لِهِدَايَتِهِمَا قَارِئهُمَا بما يُزْهِرُ له من نُورِهما، أي مَعَانيهما. وقيل: لما يُثِيبُ على قراءتها من النُّورِ التَّامِّ يوم القيامة. وقيل: لما تَضَمَّنَتَاهُ من اسْمِ الله الأعظمِ، كما رَوَى أبو دَاوُدَ وغيره عن أسْمَاءَ بنت يَزيدَ؛ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «اسْمُ اللهِ الأعْظَمُ فِي هَاتَيْنِ الآيَتَيْنِ: {وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم} [البقرة: 163] ، والتي في آل عمران: {الله لاا إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 2] .» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 137 سورة النساء مدنية وهي مائة وست وتسعون آية، وثلاثة آلاف وسبعمائة وخمس وأربعون كلمة، وستة عشر ألفا وثلاثة وثلاثون حرفا. قال القرطبي: هذه السورة مدنية إلا آية واحدة منها [وهي] قوله تعالى: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} [النساء: 58] فإنها نزلت ب " مكة " عام الفتح، وفي عثمان بن طلحة على ما سيأتي بيانه. قال النقاش: وقيل: نزلت عند هجرة رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مكة إلى المدينة. وقيل: إن قوله تعالى: {يا أيها الناس} حيث وقع في القرآن إنما هو مكي. قاله علقمة وغيره: " فيشبه أن يكون صدر السورة مكيا، وما نزل بعد الهجرة فإنما هو مدني ". وقال النحاس: " هذه السورة مكية ". وقال القرطبي: والصحيح الأول. قال في " صحيح البخاري ": " عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، تعني قد بنى بها، ولا خلاف بين العلماء أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنما بنى بعائشة بالمدينة، ومن تبين أحكامها علم أنها مدنية لا شك فيها، وأما من قال: {يا أيها الناس} [مكي] حيث وقع، فليس بصحيح. قال: البقرة مدنية وفيها {يا أيها الناس} مرتين في موضعين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 138 قال بعض المفسرين: «ابتدأ الله سبحانه وتعالى هذه السورة بالعطف على النساء والأيتام، ذكر فيها أحكاماً كثيرة، وبذلك ختمها، ولما كانت هذه التكاليف شاقة على النفوس والطِّبَاع، افتتحها بالأمر بالتقوى المشتملة على كل خير» . فصل روى الواحدي عن ابن عباس في قوله: {ياأيها الناس} أن هذا الخطاب لأهل مكة. ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً وأما الأصوليون من المفسرين فاتفقوا على أن الخطاب عام لجميع المكلّفين، وهذا هو الأصحُّ؛ لأن لفظ الناس جمع دخله الألف واللام فيفيد الاستغراق، ولأنه علّل الأمر بالاتِّقَاءِ لكونه تعالى خالق لهم من نفس واحدة، وهذه العلة موجودة في جميع المكلفين. وأيضاً فالتكليف بالتقوى غير مختص بأهل مكة، بل هو عام، وَإذَا كان لفظ الناس عاماً، والمر بالتقوى عاماً، وعلة هذا التكليف عامةً، فلا وجه للتخصيص، وحجة ابن عباس أن قوله: {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] مختص بالعرب؛ لأن المناشدة بالله وبالرحم عادة مختصة بهم، فيقولون: «أسألك بالله وبالرحم، أنشدك الله والرحم» ، وإذا كان كذلك، كان قوله: {واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] ، مختصاً بالعرب، فيكون قوله: {ياأيها الناس} مختصاً بهم، لأن الخطابين متوجهان إلى مخاطب واحد. ويمكن الجواب عنه بأن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم الآية. فصل اعلم أنه تعالى جعل الافتتاح لسورتين في القرآن: أحدهما: هذه وهي السورة الرابعة من النصف الأول من القرآن، وعلل الأمر بالتقوى فيهما بما يدل على معرفة المبدأ بأنه خلق الخلق من نفس واحدة، وهذا يدل على كمال قدرة الخالق وكمال علمه وحكمته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 139 والثانية: سورة الحج وهي الرابعة أيضاً من النصف الثاني من القرآن وعلَّلَ الأمر بالتقوى فيها بما يدل على معرفة المعاد. فَجَعَلَ صدر هاتين السورتين دليلاً على معرفة المبدأ والمعاد، وقدّم السورة الدالة على المبدأ على السورة الدالة على المعاد، وهذا سر عظيم. {مِّن نَّفْسٍ} متعلق ب «خلقكم» فهو في محل نصب، و «من» لابتداء الغاية، وكذلك «منها زوجها وبتَّ منهما» والجمهور على واحدة بتاء التأنيث، وأجمع المسلمون على أنَّ المراد بالنفس الواحدة [هاهنا] آدم عليه السلام، إلا أنه أنث الوصف على لفظ النفس لقوله تعالى: {أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ} [الكهف: 74] . وابن أبي عبلة واحدٍ من غير [تاء] تأنيث وله وجهان: أحدهما: مراعاة المعنى؛ لأنه المراد بالنفس آدم عليه السلام. والثاني: أن النفس تذكر وتؤنث. وعليه قوله: [الوافر] 1726 - ثَلاَثَةُ أنْفُسٍ وَثَلاَثُ ذَوْدٍ ... لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ عَلَى عِيَالِي قوله: {وَخَلَقَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه عطفٌ على معنى «واحدة» لما فيه من معنى الفعل، كأنه قيل: «من نفس وحدت» أي: انفردت، يُقال: «رجل وَحُد يَحِدُ وَحْداً وَحِدَة» انفرد. الثاني: انه عَطْفٌ على محذوف. قال الزَّمَخْشرِيُّ: «كأنه قيل: من نفسٍ واحدةٍ أنشأها أو ابتدأها وخلق منها، وإنما حذف لدلالة المعنى عليه، والمعنى شَعَّبكم من نفس واحدةٍ هذه صفتها» بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقكم منها، وَإنَّما حمل الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى والقائل الذي قبله على ذلك مراعاةُ الترتيب الوجودي؛ لأن خلق حواء - وهي المعبر عنها بالزوج - قبل خلقنا ولا حاجة إلى ذلك، لأن الواو لا تقتضي ترتيباً على الصحيح. الثالث: أنه عطف على «خَلْقَكُمْ» ، فهو داخل في حيز الصلة والواو ولا يُبَالَى بها، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 140 إذ لا تقتضي ترتيباً؛ إلا أن الزَّمَخشريَّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى خَصَّ هذا الوجه بكون الخطاب [للمؤمنين] في {ياأيها الناس} لمعاصري الرسول عليه السلام فإنه قال: والثاني أنه يُعْطَفُ على «خلقكم» ويكون الخطاب للذين بُعِثَ إليهم الرسول، والمعنى: خلقكم من نفس آدم؛ لأنه من جملة الجنس المفرّع [منه] وخلق منها أُمَّكم حواء. فظاهر هذا خصوصيَّةُ الوجه الثاني أن يكون الخطاب للمعاصرين، وفيه نظر، وَقَدَّرَ بعضهم مضافاً في «منها» أي: «مِنْ جِنْسِها زوجَها» ، وهو قول أبي مسلم، قال: وهو كقوله: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [النحل: 72] وقال {إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ} [آل عمران: 164] وقوله: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ} [التوبة: 28] . قال: وحواء لم تخلق من آدم، وإنما خلقت من طينة فَضَلَتْ من طينة آدم. قال الْقَاضِي: والأول أقوى لقوله: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} . قال ابن الخَطِيبُ: «يمكن أن يجاب بأن كلمة» مِن «لابتداء الغاية، فَلمَّا كان ابتداء الغاية وهو ابتداء التخليق والإيجاد وقع بآدم صحّ أن يُقَالَ: {خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} وأيضاً فالقادر على خلق آدم من التراب، [كان قادراً أيضاً على خلق حواء من التراب] ، وَإذا كان كذلك فأيّ فائدة في خلقها من ضلع من أضلاعه» . وقرئ «وخالِقُ وباثٌّ» بلفظ اسم الفاعل، وخَرَّجَهُ الزمخشريُّ على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أي: وهو خالِقٌ وباثٌّ. وَيُقَالُ: بَثَّ وأبَثَّ ومعناه «فَرَّقَ» ثلاثياً ورباعياً. قال ابن المظفر: «البثُّ تَفْرِيقَكَ الأشياء» . يقال: بَثَّ الخيلَ في الغارة، وبَثَّ الصَّيادُ كِلاَبَهُ، وخلق الله الخلق: بَثَّهُمْ في الأرض، وبثثت البسطة إذا نشتريها. قال تعالى: {وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 16] . فإن قيل: ما المناسبةُ بين الأمر بالتقوى وما ذكر معه من الوصف؟ فالجواب: لما ذكر أنَّه خَلَقَنَا من نفس واحدة، وذلك علة لوجوب الانقياد علينا لتكاليفه؛ لأنا عبيدة وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 141 مولانا، ويجب على العبد الانقياد لمولاه؛ ولأنه أنعم ومَنَّ بوجوه الإنعام والامتنان، فأوجَدَ وأَحْيَا وعَلَّمَ وهَدَى، فعلى العبد أن يُقَابِلَ تلك النِّعَم بأنواع الخضوع والانقياد؛ ولأنه بكونه موجداً وخالقاً وِرِبَّاً يجبُ علينا عبادته، وامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، ويلزم من ذلك ألا نوجب لتلك الأفعال ثواباً؛ لأن أداء الحق لمستحقه لا يوجب، وثواب هذا إن سَلَّمْنَا أن العبد أتى بتلك الطاعات من عند نفسه، فكيف وهذا محال؛ لأن الطاعات لا تحصل إلاَّ بخلق الله - تعالى - القدرة عليها، والداعية إليها [ومتى حصلت القدرة والداعي كان] مجموعهما موجباً لصدور الطاعة، فتكون تلك الطاعة إنعاماً آخر. وأيضاً أنَّهُ خلقنا مِنْ نفسٍ واحدةٍ، ذلك أيضاً يوجبُ عَلَيْنَا طَاعَتَهُ لأنَّ ذلك يَدُلُّ على كمالِ القدرة؛ لأن ذلك لو كان بالطبيعة لما تولد عن الإنسان إلاَّ إنسان يشاكله ويشابهه في الْخِلْقَةِ والطبيعةِ، ولَمَّا اختلف الناس في الصفات والألوان، دَلَّ على أن الخالق قَادِرٌ مختارٌ عَالِمٌ، يجب الانقياد لتكاليفه؛ ولأن الله تَعالى عَقَّبَ الأمر بالتقوى بالأمر بالإحسان إلى الْيَتَامَى والنساءِ والضُّعَفَاء وكونهم من نفْس واحدة باعث على ذلك بكونه [وذلك لأن الأقارب لا بد أن] يكون بينهم مواصلة وقرابة، وذلك يزيد في المحبة، ولذلك يفرح الإنسان بمدح أقاربه ويحزن بذمهم فقدَّمَ ذكرهم، فقال: {مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} ليؤكد شفقة بعضنا على بعض. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: وبَثَّ منها الرِّجال والنِّسَاءَ. فالجواب: لأن ذلك يقتضي كونهما مبثوثين من نفسيهما، وذلك محال، فلهذا عدل إلى قوله: {وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} . وقوله: «كثيراً» فيه وجهان: أظهرهما: أنه نَعْتٌ ل «رِجَالاً» . قال أبو البقاء: ولم يؤنثه حَمْلاً على المعنى؛ لأن «رجالاً» بمعنى عدد أو جمع أو جنس كما ذَكَّر الفعل المسند إلى جماعةِ لمؤنثِ لقوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة} [يوسف: 30] . والثاني: أنه نعت لمصدر تقديره: وبث منهم بثاً كثيراً؛ وقد تقدم أن مذهب سيبويه في مثله النصبُ على لحالِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 142 فإن قيل: لم خَصَّ لرّجالَ بوصفِ الكثرةِ دون النساء؟ ففيه جوابان: أحدهما: أنه حَذَفَ صِفَتَهُنّ لدلالة ما قبلها عليها تقديره: ونساءً كثيرة. والثاني: أنَّ الرِّجال لشهرتهم [وبروزهم] يُنَاسِبُهم ذلك بخلاف النِّسَاء، فإنَّ الأليقَ بِهِنَّ الخمولُ والإخفاء. قوله: {تَسَآءَلُونَ} قرأ الكوفيون «تَسَاءَلُونَ» بتخفيف السين على حذف إحدى التاءين تخفيفاً، والأصل: «تتساءلون» به، وقَدْ تَقَدَّمَ الخلافُ: هَلْ المحذوفُ الأولى أو الثانية وقرأ الباقون بالتشديد على إدغام تاء التفاعل في السين؛ لأن مقاربتها في الهمس، ولهذا تُبْدَلُ من السين، قالوا: «ست» والأصل «سِدْسٌ» وقرأ عبد الله: «تَسْاَلُون» من سأل الثلاثي، وقُرِئَ «تَسَلون» بنقل حركة الهمزة على السين، و «تَسَاءلون» على التفاعل فيه وجهان: أحدهما: المشاركة في السؤال. والثاني: أنه بمعنى فَعَلَ، ويدلّ عليه قراءة عبد الله. قال أبُو البَقَاءِ: «وَدَخَلَ حَرْفُ الجرِّ في المفعول؛ لأن المعنى:» تتخالفون: يعني أن الأصل تعدية «تسألون» إلى الضمير بنفسه، فلما ضُمِّن «تتخلفون» عُدِّي تَعْدِيَتَه «. قوله: {والأرحام} الجمهور نصبوا الميم، وفيه وجهان: أحدهما: أنه عطف على لفظ الجلالة، أي: واتقوا الأرحام أي: لا تقطعوها، وقَدَّرَ بعضهم مضافً أي: قَطْعَ الأرحام. ويقال: إنَّ هذا في الحقيقةِ من عطف الخاصِّ علا العام، وذلك أن معنى اتقوا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 143 الله؛ اتقوا مخالَفَتَه، وقَطْعُ لأرحام مندرج فيه، وهذا قول مجاهد وقتادة والسَّدي والضحاك والفرّاء والزّجّاج. قال الواحدي: ويجوز أن يكون منصوباً بالإغراء، أي: والأرحام احفظوها وصلوها كقولك: الأسدَ الأسدَ، وهذا يَدُلُّ على تحريم قطعيةِ الرحم ووجوب صلته. والثاني: أنه معطوف على محل المجرور في» به «، نحو: مررت بزيد وعمراً، ولمَّ لم يَشْرَكه في الإتباع على اللفظ تبعه على الموضع، وه يؤيده قراءة عبد الله» وبالأرحام «. وقال أبو البقاء: تُعَظِّمُونه والأرحام، لأنَّ الحَلْفَ به تَعْظِيم له» ، وقرأ حمزة «والأرحامِ» بالجر، قال القفال: وقد رويت هذه القراءة عن مجاهد وغيره، وفيها قولان. أحدهما: أنه عَطَفَ على الضمير المجرور في «به» من غير إعادة الجار، وهذا لا يجيزه البصريون، وقد تَقَدَّم تحقيقُ ذلك، وأن فيها ثلاثةَ مذاهب، واحتجاج كل فريق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 144 في قوله تعالى: {وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة: 217] وقد طَعَنَ جَمَاعَةٌ في هذه القراءة، كالزجاج وغيره، حتى يحكى عن الفراء الذي مذهبه جوازُ ذلك أنه قال: حدثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم، قال: {والأرحام} بخفض [الأرحام] هو كقولهم: «أسألك باللَّهِ والرحمِ» قال: «وهذا قبيح؛ لأنَّ العرب لا ترُدُّ مخفوضاً على مخفوضٍ قَدْ كُنِي به، وَضَعَّفَهُ بَعْضُهمُ بأنه عطف للمظهر على الضمير، وهو لا يجوز. قال ابن عيس: إنهم لم يستحسنوا عطف المظهر على الضمير المرفوع، فلا يجوز أن يقال:» اذهب وزيد «و» ذهبت وزيدا «، بل يقولون: اذهبْ أنت وزيد وذهبت أنا وزيد، قال تعالى: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ} [المائدة: 24] مع أن الضمير المرفوع قد ينفصل، فإذا لم يجز عطف المظهر على الضمير المرفوع مع أنه أقوى من الضمير المجرور، بسبب أنه قد ينفصل؛ فلأن لا يجوز عطف المظهر على الضمير المجرور، مع أنه [لا] ينفصل أَلْبَتَّةَ أولى. والثاني: أنه ليس معطوفاً على الضمير المجرور، بل الواو للقسم وهو خفض بحرف القسم مقسم به، وجوابُ القسمِ {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} وضُعِّفَ هذا بوجهين: أحدهما: أن قراءتي النصبِ وإظهار حرفِ الجر في ب» الأرحام «يمنعان من ذلكَ، والأصلُ توافق القراءات. والثاني: أنَّهُ نُهِيَ أن يُحْلَفَ بغيرِ الله تعالى، والأحاديثُ مُصَرَّحةٌ بذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 145 وَقَدَّرَ بَعْضهم مضافاً فراراً من ذلك فقال: «ورَبِّ الأرحام» . قال أبو البقاء: وهذا قد أغنى عنه ما قبله «يعني: الحلف بالله تعالى. ويمكن الجواب عن هذا بأن للهَ تعالى أن يُقسمَ بما يشاء من مخلوقاته [كما أقسم] بالشمس والنجم والليل، وإن كنا نَحْنُ منهيين عن ذلك، إلا أنَّ المقصود من حيث المعنى، ليس على القسم، فالأولى حمل هذه القراءات على العطف على الضمير، ولا التفات إلى طَعْنِ مَنْ طَعَنَ فيها. وأجاب آخرون بأن هذا حكاية عن فعل كانوا يفعلونه في الجاهلية؛ لأنهم كانوا يقولون: أسألك بالله وبالرحم، فمجيء هذا الفعل عنهم في الماضي لا ينافي ورود النهي عنه في المستقبل؛ وأيضاً فالنهي ورد عن الحلف بالآباء فقط، وهاهنا ليس كذلك، بل هو حلف باللهِ أولاً، ثُمَّ قرن بِهِ بَعْدَ ذكر لرحم، وهذا لا ينافي مدلول الحديث. أيضاً فحمزة أحد القراءة السبعة، الظاهر أنه لم يأتِ بهذه القراءة من عند نفسه، بل رواها عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وذلك يوجب القطع بصحة اللغة، ولا التفات إلى أقيسة النحاة عند وجود السماع، وأيضاً فلهذه القراءة وجهان: أحدهما: ما تقدم من تقدير تكرير الجر، وإن لم يجزه البصريون فقد أجازه غيرهم. والثاني: فقد ورد في الشعر وأنشد سيبويه: [البسيط] 1727 - فاليَوْمَ قَرَّبْتَ تَهْجُونَا وتَشْتُمْنَا ... فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأيَّامِ مِنْ عَجَب وقال الآخر [الطويل] 1728 - تُعَلَّقُ في مِثْلِ السَّوَاري سُيُوفُنَا ... وَمَا بَيْنَهَا والْكَعْبِ غَوْطٌ نَفَانِفُ وقال آخر [الوافر] 1729 - أكُرُّ على الكِتيبَةِ لا أُبالِي ... أفِيهَا كَانَ حَتْفِي أمْ سِوَاهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 146 وحمزة بالرتبة السَّنيَّة المانعةِ له من نقلِ قراءة ضعيفة. قال بن الخطيبِ:» والعَجَبُ من هَؤلاء [النحاة] أنهم يستحسنون إثبات هذه اللغة بهذين البيتين المجهولين، ولا يستحسنوها بقراءة حمزة ومجاهد، مع أنهما كانا من أكابر علماء السلف في علم القرآن «. وقرأ عبد الله أيضاً» والأرحامُ «رفعاً على الابتداء، والخبرُ محذوف فقدَّرَهُ ابن عطية: أهلٌ أنْ توصل، وقَدَّرَهُ الزمخشري:» والأرحام مِمَّا يتقي «أو» مما يتساءل به «. وهذا أحسنُ للدلالة اللفظية، والمعنوية، بخلاف الأول فإنَّه للدلالة المعنوية فقط، وقَدَّرَهُ أبو البقاء: والأرحام محترمة، أي: واجبٌ حرمتها. فإن قيل: ما فائدةُ هذا التكرير في قوله أولاً:» اتقوا الله الذي خلقكم «. ثم قال بعده:» واتقوا الله «. فالجواب فائدته من وجوه: الأول: فائدته تأكيد الأمر والحث عليه. والثاني: أن الأمر الأول عامّ في التقوى بناء على الترتيب. والأمر الثاني خاص فيما يلتمس البعض من البعض، ويقع التساؤل به. الثالث: قوله أولاً: {اتقوا رَبَّكُمُ} ولفظ» الرَّبِّ «يَدَلُّ على التربية والإحسان، وقوله ثانياً {واتقوا الله} ولفظ» الإله «يدل على الغلبة والقهر، فالأمر الأول بالتقوى بناء على الترغيب، والأمر الثاني يدل على الترهيب، فكأنَّهُ قيل: اتقِ الله إنه ربّاك، وأحسن إليك، واتق مخالفته؛ لأنه شديدُ العقاب عظيم السطوة. وقوله تعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} . جارٍ مجرى التعليل والرقيب: فَعيل للمبالغة من رَقَبَ يَرْقُبُ رَقْباً، ورُقوباً، ورِقْباناً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 147 إذا أحدَّ النَّظَرَ [لأمر يريد تحقيقه] ، والرقيب هو المراقب الذي يحفظ جميع أفعالك، واستعماله في صفات الله تعالى بمعنى الحفيظ قال: [مجزوء الكامل] 1730 - كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ للضْ ... ضُرَبَاءِ أيْدِيهمْ نَوَاهِدْ وقال: [الكامل] 1731 - وَمَعَ الحَبيبِ بِهَا لَقَدْ نِلْتَ المُنَى ... لِي عَقْلَهُ الْحُسَّادُ وَالرُّقَباءُ والْمَرْقَبُ: المكان العالي المشرف يقف عليه الرقيب، والرقيب أيضاً [ضرب] من الحيات، والرقيب السهم الثالث من سهام الميسر، وقد تقدمت من البقرة، والارتقاب: الانتظار. فصل دَلَّتْ الآيةُ على تعظيم حق الرحم وتأكيد النهي عن قطعه. قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] . وقال تعالى: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} [التوبة: 10] قيل: إنَّ الإلّ القرابة، قال: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] وقال عليه السلام: قال الله تعالى: «أنا الرحمن وهي الرحم اشتققتُ لها اسماً من اسمي، من وَصَلَها وَصَلْتُه، ومن قطعها قطعته» . فصل قال القرطبيُّ: الرحم: اسم لكافة الأقارب من غير فرق بين المحرم وغيره. وأبو حنيفةَ يعتبر الرَّحم المحرم في منع الرجوعِ في الهِبَةِ، ويجوز الرجوع في حق بني الأعمام، مع أنَّ القطيعة موجودة، والقرابة حاصلة ولذلك تعلّق بها الإرث، والولاية، وغيرهما من الأحكام، فاعتبار المحرم زيادة على نصِّ القرآن من غير دليل، وهم يرون ذلك [نسخاً] ، سيما وفيه إشارة بالتعليل إلى القطيعة قد جوَّزها في حق بني الأعمام، وبني الأخوال والخالات. فصل أجمعت الأمةُ على أنَّ صلة الرَّحم واجبة، وأن قطيعتها محرَّمة، وقد صحَّ أن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 148 رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأسْمَاءَ وقد سألته: أأصِلُ أمِّي؟ «صِلِي أمَّكِ» فأمرها بصلتها وهي كافرة فلتأكيدها دخل الفضل في صلة الكافرة حتى انتهى لحل بأبي حنيفة وأصحابه ومن وافقهم إلى توارث ذوي الأرحام، إذا لم يكن عصبة، ولا ذو فرض ويعتقون على من اشتراهم من ذوي رحمهم لحرمة الرّحم، ويؤيده قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «مَنْ مَلَكَ ذَا رحمٍ محرمٍ فَهُوَ حُرٌّ» وهذا قول أكثر أهل العلم، وروي ذلك عن عمر بن الخطاب وعبد الله بن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما ولا يعرف لهما من الصحابة مخالف. فصل واختلفوا في ذَوِي المَحَارمِ من الرِّضَاعةِ، فقال أكْثَرُ أهلِ العلمِ: لا يدخلون في مقتضى الحديث. وقال شريك القاضي: يُعْتَقُونَ. وذهب أهل الظاهر وبعض المتكلمين إلى أن الأب [لا] يعتق على الابن إذا ملكه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 149 لما وَصَّى في الآية السابقة بالأرحام وصَّى في هذه الآية بالأيتام؛ لأنهم قد صاروا بحيثُ لا كافِلَ لهم ولا مُشْفِقَ فيهم - أسوأ حلاً ممن له رحم، فإنه عطفه عليه، وهذا خطاب الأولياء والأوصياء. قالوا: إن اليتيم من لا أب له ولا جد، والإيتاء: الإعطاء قال أبو زيد: أتَوْتُ الرجلَ آتُوه إتاوَةٌ، وهي الرّشوة. وقال الزمخشري: الأيتام الذين مات آباؤهم، وَالايُتْمُ: الانفراد، ومنه الرملة اليتيمة، والدُّرة اليتيمة. وقيل: [اليتيم] في الأناسي من قبل الآباء وفي البهائم من قبل الأمهات. قال: وحق هذا الاسم أن يقع على الضعفاء والكبار لمن يبقى معنى الانفراد عن الآباء، إلا أنَّ في العرف اختصّ هذا الاسم بمن لم يبلغ، فإذا صار مستعينً بنفسه في تحصيل مصالحه عن كافله، زال عنه هذا الاسم؛ وكانت قريش تقول لرسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: يَتِيم أبي طَالِبٍ، إمَّا على القياس، وإما حكاية للحال التي كان عليها حين صغره ناشئاً في حجر عمه توضيعاً له. وأما على قوله عليه السلام: «لاَ يتم بَعْدَ بُلُوغ» فهو تعليم للشريعة لا تعليم للغة. وروى أبو بكر الرازي في أحكام القرآن أن جده كتب إلى ابن عباس يسأله عن اليتيم متى ينقطع يتمه؟ فكتب إليه: إذا أونِسَ منه الرشد انقطع يتمه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 150 وفي بعض الروايات: إن الرجل ليقبض على لحيته ولم ينقطع عنه يتمه بعدُ [فأخبر ابن عباس] أن اسم اليتيم يلزمه بعد البلوغ، إذا لم يؤنس منه الرُّشْدُ، ثم قال أبو بكر: «واسم اليتم قد يقع على المرأة المفردة عن زوجها» . قال عليه السلام: «تستأمر اليتيمة في نفسها» وهي لا تستمر إلاَّ وهي بالغة. قال الشاعر: [الرجز] 1732 - إنَّ الْقُبٌورَ تَنْكِحُ الأيَامى ... النِّسْوَةَ ولأرَمِلَ الْيَتَامَى فالحاصل أنّ اسم اليتيم بحسب اللُّغة يتناول الصغير والكبير. فإن قيل: كيف جُمِعَ اليتيمُ على يتامى؟ واليتيم فعيل: فيجمع على فعلى، كمريض ومرضى وقتيل وقتلى، وجريح وجرحى؟ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ: فيه وجهان. أحدهما: أن يقال: إن جمع اليتيم، يَتْامَى، ثمّ يجمع فعلى على فَعَالَى كأسير وأسَارِى. والثاني: أن نقول: جمع اليتيم يتائم؛ لأن اليتيم جار مجرى الاسم نحو «صاحب» و «فارس» ثم تنقلب «اليتائم» «يتامى» . قال القفّال: «ويجوز يتيم ويتامى كنديم وندامى، ويجوز أيضاً يتيم وأيتام كشريف وأشراف» . فإن قيل: إن اسم اليتيم مختص بالصغير فما دام يتيماً، فكيف قال: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} . فالجوابُ من وجهين: الأول: أن يقال: المراد من اليتامى الذين بلغوا وكبروا، وسمَّاهم لله - تعلى - يتامى، إما على أصل اللغة، وإما لقرب عهدهم باليُتْم، وإن كان قد زال من هذا الوقت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 151 كقوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} [الأعراف: 120] . أي: الذين كانوا سحرة قبل السُّجود، وأيضاً سمَّى اللهُ تعالى مقاربة انقضاء العدة بلوغ الأجل في قوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [الطلاق: 2] والمعنى مقاربة الأجل، ويدل على أن المراد من اليتامى في هذه الآية البالغون قوله تعالى: {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} [النساء: 6] والإشهاد عليهم لا يصح قبل البلوغ. الوجه الثاني: أن يقال: المراد باليتامى الصِّغار، وعلى هذا ففي الآية وجهان: أحدهما: أن قوله «وَآتَوَا» أمر، والأمر يتناول المستقبل فيكون المعنى: أن هؤلاء الذين هم يتامى في الحال آتوهم بعد زوال صفة اليتم عنهم أموالهم. فتزول المناقضة. والثاني: أنَّ المُرَاد: وآتوا اليتامى حال كونهم يَتَامَى ما يحتاجونه مِنْ نفقتهم وكسوتهم، والفائدة فيه: أنه كان يجوز أن يظنّ أنّه لا يجوز إنفاق ماله عليه حال صغره، فباح اللهُ - تعالى - ذلك، وفيه إشكال وهو: أنه لو كان المراد ذلك لقال: وآتوهم من أموالهم، والآية تَدُلُّ على إيتائهم كل مالهم. فصل نقل أبو بكر الرازيُّ في أحكام القرآن عن الحسن أنه قال: لما نزلت هذه الآية في أموال اليتامى كرهوا أن يخالطوهم، وعزلوا أموالهم عن أموال اليتامى، فَشَكَوا ذلك إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزل اللهُ تعالى {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] . فخلطوا عند ذلك طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم. قال المفسرون: الصحيح أنها «نزلت في رجل من غطفان، كان معه كثير لابن أخ له يتيم، فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عمُّهُ فترافعا إلى النَّبيِّ صلى لله عليه وسلم فنزلت هذه الآية، فلما علمها العَمُّ قال: أطَعْنَا لرَّسُولَ، نعوذ بالله من الحُوب الكبير، ودفع إليه ماله فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ وَيطعْ رَبَّهُ هكذا فإنَّهُ يَحِلُّ دَارَهُ «أي: جَنَّتهُ، فلما قبض الصَّبِيُّ ماله أنفقه في سبيل الله فقال النبي صلى لله عليه وسلم» ثَبَتَ الأجْرُ وَبَقِيَ الوِزْرُ «. قال القرطبيُّ: وإيتاء اليتامى أموالهم يكون من وجهين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 152 أحدهما: إجراء الطَّعام والكسوة ما دامت الولاية، إذْ لا يمكن إلا ذلك لمن لا يستحق الأخذ الكلي كالصغير والسفيه الكبير. والثاني: الإيتاء بالتمكين وتسليم المال إليه، وذلك عند ابتلاء والإرشاد وتكون تسميته حينئذ يتيماً مجازاً بمعنى: الَّذي كان يتيماً استصحاباً للاسم، كقوله {فَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} [الشعراء: 46] أي الذين كانوا سحرة، وكان يقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» يتيم أبي طالب «فإذا تحقَّقَ الوليّ رشده حَرُمَ عليه إمساك ماله عنه. قال أبو حنيفة: إذا بلغ خمساً وعشرين سنة، أعطي ماله على كل حال؛ لأنَّه يصير جداً. قوله: {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ} وقد تقدَّم في البقرة قوله: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ} [البقرة: 59] أنَّ المجرور بالباء هو المتروك، والمنصوب هو الحاصل، وتفعل هنا بمعنى استفعل، وهو كثير، نحو تَعَجَّل وَتََأَخَّرَ بمعنى استعجل واستأخر ومن مجيء تبدَّلَ بمعنى اسْتَبْدَلَ قولُ ذي الرمة: [الطويل] 1733 - فَيَا كَرَمَ السَّكْنِ الَّذِينَ تَحَمَّلُوا ... عَنِ الدَّارِ وَالمُسْتَخْلَفِ الْمَتِبَدِّلِ أي: المستبدل. قل الواحدي: «تبدل الشَّيء بالشيء إذا أخذ مكانه» . قوله: «بالطّيب» . هو المفعول الثاني ل «تتبدلوا» . وفي معنى هذا التبدُّل وجوه: الأول: قال الفرّاء والزَّجَّاج: لا تستبدلوا الحرام، وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم الذي لأبيح لكم. الثاني: قل سعيد بن المسيب والنخعي والزهْري والأسُّدِّيُّ: وكان ولياء اليتامى يأخذون الجيد من مال اليتم ويجعل مكانها المهزولة، ويأخذ الدرهم الجيد، ويجعل مكانه الزيف، يقول: درهم بدرهم، فَنُهُوا عن ذلك. وطعن الزمخشريُّ: في هذا الوجه فقال: ليس هذا تَبَدُّلاً، إنما هو تبديل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 153 الثالث: أن يكون صديقه فيأخذ منه نعجة عجفاء مكان سمينة من مال الصبي. الرابع: معناه لا تأكلوا مال اليتيم سلفاً مع التزام بَدَلِهِ بعد ذلك. فصل قل أبو العباس المقرئ: ورد لفظ «الطيِّب» في القرآن على أربعة أوجه: الأول: الحلال كهذه الآية. الثاني: بمعنى الظَّاهر كقوله تعالى: {صَعِيداً طَيِّباً} [النساء: 43] أي: ظاهراً. الثالث: بمعنى الحَسَن قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] أي: الحسن، ومثله {والطيبات لِلطَّيِّبِينَ} [النور: 26] أي: الكلام الحسن للمؤمنين. الرابع: الطيِّبَ: المؤمن قال تعالى: {حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب} [آل عمران: 179] يعني: الكافر من المؤمن. قوله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} في قوله ثلاثة أوجه: أحدها: أن «إلى» بمعنى «مع» كقوله: {إِلَى المرافق} [المائدة: 6] ، وهذا رأي الكوفيين. الثاني: أنها على بابها وهي ومجرورها متعلّقة بمحذوف على أنَّه حال، أي: مضمومة، أو مضافة إلى أموالكم. الثالث: أن يضمَّن «تأكلوا» بمعنى «تضموا» كأنه قيل: ولا تَضمُّوها إلى أموالكم آكلين. قال الزمخشري: «فإن قلت: قد حَرَّمَ عليهم أكل مال اليتامى، فدخل فيه أكله وحده ومع أموالهم، فَلِمَ ورد النهي عن أكلها معها؟ قلت:» لأنهم إذا كانوا مستغنين عن أموال اليتامى بما رزقهم الله - تعالى - من الحلال، وهم من ذلك يَطْعمون منها، كان القبحُ أبلغ والذمُّ ألحق، ولأنهم كنوا يفعلون كذلك فنعى عليهم فعلهم، وَنَّعَ بهم ليكون زجر لهم «. واعلم أنه تعالى، وَإن ذكر الأكل، فالمرادُ به سائر التصرفات المملكة للمال، وإنما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 154 ذكر الأكل لأنه معظم ما يقع التصرف لأجله. قوله: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً} في الهاء ثلاثة أوجه: حده: أنها تعود على الأكل المفهوم، من» لا تأكلوا «. الثَّاني: على التبدُّلِ المفهوم من» لا تَتَبَدَّلُوا الخبيث «. الثالث: عليهما ذهاباً به مذهب اسم الإشارة نحو: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [البقرة: 68] ومنه: [الرجز] 1714 - كأَنَّهُ في الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ ... وقد تقدم ذلك في البقرة، والأول أولى لأنه أقرب مذكور. وقرأ الجمهور «حُوبً» بضم الحاءِ، ولحسن بفتحها، وبعضهم: «حَباً» بالألف، وهي لغت في المصدر، والفتح لغة تميم. ونظير الحوْب والحاب، والقول والقال، والطُّرد والطَّرْد - وهو لإثم - وقيل: المضموم اسم مصدر، [والمفتوح مصدر] وصله من حوب الأبل، وهو زجرها فسُمِّي به لإثم؛ لأنه يزجر به، ويطلق على الذَّنب أيضاً؛ لأنه يزجر عنه، ومنه قول عليه السلام: «إنَّ طَلاقَ أمِّ أيُّوبَ لَحُوبْ» أي: لذنب عظيم. وقل القرطبي: والحوبُ الوحشة، ومنه قوله عليه السَّلام أبي أيوب «إن طلاق أم أيوب لحوب» . قال القفال: وكأن أصل لكلمةِ من لتَّحوُّبِ وهو التَّوجُّعُ، فالحوبُ هو ارتكاب ما يتوجَّعُ لمرتكبُ منه، يقال: حَابَ يَحُوب، حَوْباً، وحَاباً وحِيابة. قال المخبل السعدي: [الطويل] 1735 - فلا يَدْخُلَنَّ الدَّهْرَ قَبْرَكَ حُوبُ ... فَإنَّكَ تَلْقَاهُ عَلَيْكَ حَسِيبُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 155 وقال آخر [الوافر] 1736 - وإنّ مُهَاجِرَيْنِ تَكَنَّفَاهُ ... غَدَاتَئِذٍ لَقَدْ خَطِئَا وَحَابَا والحَوْبةُ: المرة الواحدة، والحَوْبَةُ: الحاجة، ومنه في الدعاء «إليكَ أرفع حَوْبَتِي» ، وأوقْعَ اللهُ الْحَوْبَة، و «تحوَّب فلان» إذا خرج من الحَوْب كتحرَّج وتَأَثَّمَ، والتضعيف للسَّلْبِ، و «الحَوِأب» بهمزة بعد الواو المكان الواسع والحوب الحاجة، يقال: ألحق اللهُ به الحوبةَ، أي: [المسألة] والحاجة، والمسكنة ومنه قولهم باب بحيبة سوء، وأصل الياء الواو، وتحوَّب فلان أي: تعبد وألقى الحوب عن نفسه، والتحوُّب أيضاً التحزُّن، وهو أيضاً الصياحُ الشديد كالزَّجْرِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ} شرط، وفي جوابه وجهان: أحدهما: أنه قوله: {فانكحوا} وذلك أنهم كانوا يتزوجون الثمانَ، والعشر، ولا يقومون بحقوقهن، فلمَّا نزلت {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ} أخذوا يَتحرّجونَ من ولاية اليتامى، فقيل لهم: إن خفتم من الجورِ في حقوق اليتامى فخافوا أيضاً من الجور في حقوق النساء، فانكحوا ما طاب لكم من [النساء مثنى وثلاث ورباع من] الأجنبيات أي: اللاتي لسن تحت ولايتكم، فعلى هذا يحتاج إلى تقدير مضاف، أي: في نكاح يتامى النساء. فإن قيل: «فواحدة» جواب لقوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً} فكيف يكون جواباً للأول؛ فالجواب: أنَّهُ أَعَادَ الشرط الثاني لأنه كالأول في المعنى، لما طالَ الفصل بين الأول وجوابه وفيه نظر لا يخفى. والخوف هنا على بابه فالمراد به الحذر. وقال أبو عبيدة إنه بمعنى اليقين وأنشد الشاعر: [الطويل] 1737 - فَقُلْتُ لهُمْ خَافُوا بأَلْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سَرَاتُهُمُ في الفَارِسِي الْمُسَرَّدِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 156 أي: أيقِنُوا، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيْقُ ذلك والردُّ عليه عند قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} [البقرة: 229] . قوله: {أَلاَّ تُقْسِطُواْ} إنْ قَدَّرَتْ أنها على حذف حرف الجر، أي: «مِنْ أن لا» ففيها الخلاف المشهور أي: في محل نصب [أو جر، وإنْ لم تقدّر ذلك بل وصل الفعل إليها بنفسه، كأنك قلت: «فَإنْ حَذَرْتم» فهي في محل نصب] فقط كما تَقَدَّمَ في البقرة. وقرا الجمهور: «تقسطوا» بضم التاء، من أقْسَط: إذا عدل، فتكون لا على هذه القراءة نافيةُ، والتقديرُ: وإنْ خِفْتُمْ عدم الإقساط أي: العدل. وقرأ إبراهيم النخعي: ويحيى بن وثَّاب بفتحها من «قسط» وفيها تأويلان: أحدهما: أن «قَسَطَ» بمعنى «جار» ، وهذا هو المشهور في اللغة، أعني أن الرباعي بمعنى عَدَلَ، والثلاثي بمعنى جار، وكأنَّ الهمزة فيه للسَّلْبِ بمعنى «أقسط» أي: أزال القسط وهو الجور، و «لا» على هذا القول زائدة ليس إلا، وإلا يفسد المعنى كهي في قوله: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] . والثاني: حكي الزجاج أن «قسط» الثلاثي يستعمل استعمال «أقسط» الرباعي، فعلى هذا تكون «لا» غير زائدة، كهي في القراءة الشهيرة؛ إلاَّ أنَّ التَّفْرِقَةَ هي المعروفةُ لغة. قالوا: قاسطته إذَا غَلَبْتَهُ على قِسْطِهِ، فبنوا «قسط» على بناء ظلم وجار وغلب. وقال الراغب: «القِسْط» أن يأخذ قِسْطَ غيره، وذلك جَوْرٌ، وأَقْسَطَ غيره، والإقسَاطِ أن يُعْطِيَ قِسْطَ غَيْرِهِ، وذلك إنصاف، ولذلك يقال: قَسَطَ الرَّجُلُ إذَا جَار، وأَقْسَطَ إذَا عدَلَ، قال تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] . [وقال تعالى: {وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} [الحجرات: 9] . وَحُكِيَ أنَّ الحَجَّاجَ لما أحضر سعيد بن جبير، قال له: ما تقول فيَّ؟ قال: «قَاسِطٌ عادِلٌ» فأعجب الحاضرون، فقال لهم الحجاج: ويلكم لم تفهموا عنه إنّه جعلني جائراً كافراً، ألم تسمعوا قوله تعالى: {وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً} [الجن: 15] . المادة من قوله: {قَآئِمَاً بالقسط} [آل عمران: 18] . قوله: {مَا طَابَ} في «ما» هذه أوجه: أحدها: أنها بمعنى الذي وذلك عند من يرى أن «ما» تكون للعاقل، وهي مسألة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 157 مشهورة، وذلك أن «ما» و «من» وهما يتعاقبان، قال تعالى: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] وقال: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ} [الكافرون: 3] وقال {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ} [النور: 45] . وحكى أبو عمرو بن العلاء: سبحان من سبح الرعد بحمده. وقال بعضهم: نَزَّلَ الإناث منزلة غير العقلاء كقوله: {إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6] . قال بعضهم: وَحَسن وقوعها هنا أنها واقعة على النساء، وهن ناقصات العقول. وبعضهم يقول: هي لصفات من يعقل. وبعضهم يقول: لنوع من يعقل كأنه قيل: النوع الطيب من النساء، وهي عبارات متقاربة. فلذلك لم نعدّها أوجهاً. الثاني: أنها نَكِرَةٌ موصوفة، أي: انكحوا جنساً طيباً أو عدداً طيِّباً. الثالث: أنها مصدرية، وذلك المصدر واقع موقع اسم الفاعل، تقديره: فانحكوا [الطَّيِّبَ. وقال أبو حيان: والمصدر مقدر هنا باسم الفاعل، والمعنى فانكحوا] النكاح الذي طاب لكم. والأول أظهر. الرابع: أنها ظرفية تستلزم المصدريَّة، والتقدير: فانحكوا ما طاب مدة يطيب فيها النكاح لكم. إذا تقرر هذا، فإن قلنا: إنها موصولة اسمية أو نكرة موصوفة، أو مصدرية، والمصدرُ واقع اسم الفاعل كانت «ما» مفعولاً ب «انكحوا» ويكون «من النساء» فيه وجهان: أحدهما: أنها لبيان الجنس المبهم في «ما» عند مَنْ يثبت لها ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 158 والثاني: أنها تبعيضية، أي: بعض النساء، وتتعلق بمحذوف على أنها حال من «ما طاب» وإن قلنا: إنها مصدرية ظرفية محضة، ولم يُوقع المصدر موقع اسم فاعل كما قال أبو حيان كان مفعول «فانكحوا» قوله «من النساء» نحو قولك: أكلت من الرغيفِ، وشربتُ من العسل أي: شيئاً من الرغيف وشيئاً من العسل. فإن قيل: لِمَ لا يجعل على هذا «مثنى» وما بعدها هو مفعول «فانكحوا» أي: فانكحوا هذا العدد؟ فالجواب أن هذه الألفاظ المعدولة لا تلي العوامل. وقرأ ابن أبي عبلة «مَنْ طَابَ» وهو يرجحُ كون «ما» بمعنى الذي للعاقل، وفي مصحف أبي بن كعب بالياء، وهذا ليس بمبني للمفعول؛ لأنه قاصر، وإنما كُتِبَ كذلك دلالة على الإمالة وهي قراءة حمزة. فصل اختلف المفسرون في كيفية تعلق هذا الجزاء بهذا الشرط فروى عروة قال: قلت لعائشة: ما معنى قول الله تعالى {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} . فقالت: يا ابن أخي هي اليتيمة تكون في حجر وليِّها فَيرغَبُ في مالها وجمالها، إلاَّ أنَّهُ يريد أن ينكحها بأدنى من صداقها، ثم إذا تزوج بها عاملها معاملة رديئة لعلمه بأنه ليس لها من يَذُبُّ عنها ويدفع شر ذلك الزوج عنها، فقال تعالى: {وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى} فانكحوا من غيرهن ما طاب لكم من النساء، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - ثم إن الناس استفتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد هذه الآية فيهن، فانزل اللهُ تعالى: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب فِي يَتَامَى النسآء [اللاتي لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ} [النساء: 127] فالمراد منه هذه الآية، وهن قوله {وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى} . وقيل: لَمَّا نَزَلَتْ هذه الآية المتقدمة في اليتامى وأكل أموالهم خاف الأولياء من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 159 لحوق الحوبِ بتركِ الإقْسَاطِ في حقوق اليتامى فتحرجوا من أموالهم، وكان الرجل منهم ربما كان عنده العشرة من الأزواج أو اكثر، ولا يقوم بحقوقهنَّ في العدل. فقيل لهم: إن خفتم ترك العدل في حقوق اليتامى فتحرجتم منها، فكونوا خائفين من ترك العدل في النساء، فقللوا عدد المنكوحات؛ لأن من تحرج من ذنب أو تاب عنه وهو مرتكب مثله، فكأنه لم يتحرّج، وهذا قول سعيد بن جبير، وقتادة والضحاك والسدي. وقيل: لما تحرّجوا من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم في حق اليتامى فكونوا خائفين من الزنا، فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات، قاله مجاهد. وقال عكرمة: هو الرجل عنده النسوة ويكون عند الأيتام، فإذا أنفق ماله على النسوة، وصار محتاجاً أخذ في إنفاق مال اليتامى عليهن، فقال تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} عند كثرة الزوجات فقد حرمت عليكم [نكاح] أكثر من أربع ليزول هذا الخوف، وهذه رواية لطاوس عن ابن عباس. فصل قال الواحدي والزمخشري: قوله: {مَا طَابَ لَكُمْ} أي ما حلَّ لكم من النساء لأن منهن من يحرم نكاحها وهي الأنواع المذكورة في قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} [النساء: 23] . قال ابن الخطيب: وهذا فيه نظر؛ لأن قوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ} هو أمر إباحة، فلو كان المراد ما حل لكم لنزلت الآية منزلة قوله، أبَحْنَا لَكُمْ نِكَاحَ من يكون نكاحها مباحاً لكم، وذلك يخرج الآية من الفائدة، وأيضاً على التقدير الذي ذكره تصير الآية مجملة؛ لأنَّ أسباب الحِلِّ والإبَاحَةِ لمَّا لَمْ تُذْكَرْ في هذه الآية صارت مجملة لا محالة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 160 وإذا حملنا الطيب على استطابة النفس وميل القلب كانت الآية عامة دخلها التخصيص، وقد ثبت في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص والإجمال كان رفع الإجمال أولى؛ لأن العام المخصوص حجة في غير محل التخصيص، والمجملُ لا يكون حجة أصلاً. قوله «مَثْنَى» منصوب على الحال من «طَابَ» وجعله أبو البَقاء حالاً من «النساء» فأجاز هو وابن عطية أن يكون بدلاً من «ما» وهذان الوجهان [ضعيفان] . أمَّا الأول: فلأنَّ الْمُحْدَّث عنه إنما هو الموصول وأتى بقوله {النسآء} كالتبيين. وأما الثاني: فلأنَّ البدل على نِيَّةِ تكرار العامل، وقد تقدم أن هذه الألفاظ لا تباشر العوامل. واعلم أن هذه الألفاظ المعدولة فيها خلاف، وهل يجوز فيها القياس أم يقتصر فيها على السماع؟ قولان: وقول الكوفيين وأبي إسحاق: جوازه. والمسموع [من ذلك] أحد عشر لفظاً: أُحاد، وَمَوْحَد، وثُنَاء، وَمَثْنَى، وَثُلاَثَ، وَمَثْلَث، ورُباع، وَمَرْبَع، ولم يسمع خُماس ومَخْمس، وعَشار ومَعْشَر. واختلفوا أيضاً في سبب منع الصرف فيها على أربعة مذاهب: أحدها: مذهب سيبويه، وهو أنها مُنِعَتْ من الصرف للعدلِ والوصفِ أمَّا الوصف فظاهر، وَأَمَّا العدل فلكونها معدولة من صيغة إلى صيغة وذلك أنها معدولة عن عدد مكرر. فإذا قلت: جاء القوم أحاد أو مَوْحَدَ أو ثُلاثَ أو مَثْلَثَ، كان بمنزلة قولك: جاءوا واحداً واحداً وثلاثةً ثَلاثَةً، ولا يُرادُ بالمعدولِ عنه التوكيد، إنما يُرادُ به تكرار العدد لقولهم: علمته الحساب باباً باباً. والثاني: مذهب الفراء، وهو العدل والتعريف بنية الألف واللام ولذلك يمتنع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 161 إضافتها عنده لتقدير الألف واللام، وامتنع ظهور الألف واللام عنده لأنها في نِيَّة الإضافة. الثالث: مذهب أبي إسحاق: وهو عدلها عن عدد مكرر وعدلها عن التأنيث. والرابع: نَقَلَهُ الأخفش عن بعضهم، أنه تكرار العدل، وذلك أنه عَدَلَ عن لفظ اثنين اثنين، وعن معناه؛ لأنه قد لا يستعمل في موضع تستعمل فيه الأعداد في المعدولة بقوله: جاءني اثنان وثلاثة، ولا تقول: «جاءني مَثْنَى وثلاث» حتى يتقدم قبله جمع؛ لأن هذا الباب جعل بياناً لترتيب الفعل، فإذا قلت: «جَاءَ الْقَوْمُ مَثْنَى» ، أَفَادَ أنَّ مجيئهم وقع من اثنين اثنين، بخلاف غير المعدولة، فَإنَّها تفيد الإخبار عن مقدارِ المعدودِ دُونَ غيره؛ فقد بان بما ذكرنا اختلافهما في المعنى فلذلك جاز أن تقوم العِلَّةُ مَقَامَ العلتين لإيجابهما حكمين مختلفين - انتهى. وقال الزمخشري: «إنَّمَا منعت الصرف لما فيها من العَدْلَيْن؛ عدلها من صيغتها، وعدلها عن تكررها، وهن نكرات يُعَرَّفْنَ بلام التعريف، يقال: فلان ينكح المثْنَى والثلاث» . قال أبو حيان: «ما ذهب إليه من امتناعها لذلك لا اعلم أحداً قاله، بل المذهب فيه أربعة» ذكرها كما تقدم، وقد يقال: إنَّ هذا هو المذهب الرابع وعبَّر عن العدل في المعنى بعدلها عن تكررها وناقشه [أبو حيان] أيضاً في مثاله بقوله: ينكح المثنى من وجهين: أحدهما: دخول «أل» عليها، قال: «وهذا لم يذهب إليه أحد بَلْ لَمْ تُسْتَعْمَلْ في لسان العرب إلاَّ نكرات» الثاني: أنه أولاها العوامل، ولا تلي العوامل بل يتقدمها شيء يلي العوامل، ولا تقع إلا أخباراً كقوله عليه السلام: «صلاةُ اللَّيْلِ مَثْنَى مَثْنَى» أو أحوالاً كهذه الآية الكريمة أو صفات نحو قوله تعالى: {أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] وقوله: [الطويل] 1738 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 6 ¦ الصفحة: 162 ذِئَابٌ تَبَغَّى النَّاسَ مَثْنَى وَمَوْحَدُ وقد وقعت إضافتها قليلاً كقوله: [الطويل] 1739 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... بِمَثْنَى الزُّقَاقِ المُتْرَعَاتِ وَبِالجُزُرْ وقد استدلَّ بعضهم على إيلائها العَوَامل على قِلَّةٍ بقوله: [الوافر] 1740 - ضَرَبْتُ خُمَاسَ ضَرْبَةَ عَبْشَمِيٍّ ... أذارُ سُدَاس ألاَّ يَسْتَقِيمَا ويمكن تأويله على حذف المفعول لفهم المعنى تقديره: ضربتهم خماس. ومن أحكام هذه الألفاظ ألا تؤنث بالتاءِ، لا تقول: «مثناة» ولا «ثُلاثة» بل تَجْرِي على المذكر والمؤنث جَرَياناً واحداً. وقرأ النخعي وابن وثّاب «ورُبَعَ» من غير ألف، وزاد الزمخشري عن النخعي: «وثُلَثَ» أيضاً، وغيره عنه «ثُنَى» مقصوراً من «ثُناء» حَذَفوا الألف من ذلك كله تحقيقاً، كما حذفها الآخر في قوله: [الرجز] 1741 - ... ... ... ... ... ... ... ... يريد بارداً وَصلَّياناً بَرِدَا فصل معنى قوله: «مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ» أي اثنين وثلاثاً وأربعاً أربعاً، والواو بمعنى «أو» للتخيير كقوله تعالى: {أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى} [سبأ: 46] وقوله: {أولي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 163 أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} [فاطر: 1] وأجمعت الأمة على أنه لا يجوز لأحد أن يتزوج أكثر من أربع نسوة، وكانت الزيادة من خصائص النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فصل ذهبَ أكْثرُ الفقهاء إلى أن قوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ} لا يتناول العبد؛ لأن الخطاب إنما يتناول إنساناً متى طلب امرأة قَدِرَ على نكاحها، والعبد ليس كذلك؛ لأنه لا يتمكن من النكاح إلا بإذن مولاه لقوله تعالى: {عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} [النحل: 75] ، فَيَنْفِي كونه مستقلاًّ بالنكاح. وقال عليه السلام: «أيُّما عَبْدٍ تَزَوَّجَ بِغَيْرِ إذنِ مَوْلاَهُ فَهُوَ عَاهِرٌ» . وقال مالك: يجوز للعبد أن يتزوج أربعاً لظاهر الآية. وأجيب بأن قوله تعالى بعد هذه الآية: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مختص بالأحرار؛ لأن العبد لا ملك له، وبقوله تعالى: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4] والعبد لا يأكل ما طابت عنه نفس امرأته من المهر، بل يكون لسيده. قال مالك: إذا ورد عمومان مستقلان فدخول التقييد في الآخر لا يوجب دخوله في السابق. وأجيب بأن هذه الخطابات وردت متوالية على نسق واحد، فلما ذكر في بعضها الأحرار علم أن الكل كذلك. فصل ذهبت طائفة فقالوا: يجوز التزويج بأيّ عدد شاء، واحتجوا بالقرآن والخبر، أمَّا القرآن فتمسكوا بهذه الآية من ثلاثة أوجه: الأول: أن قوله {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} إطلاق في جميع الأعداد، بدليل أنه لا عدد إلاّ ويصح استثناؤه منه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 164 وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل. الثاني: أن قوله: «مثنى وثلاث ورباع» لا يصلح مخصصاً لذلك العموم؛ لأن تخصيص بعض الأعداد يدخل على رفع الحرج؛ والحجر مطلقاً، فإن الإنسانَ إذا قال لولده: افعل ما شئت، اذهب إلى السوق وإلى المدرسة، وإلى البستان، لم يكن تنصيصاً للإذن بتلك الأشْيَاء المذكورة فقط، بل يكون ذلك إذناً في المذكور، وغيره، هكذا هنا. الثالث: أن الواو للجمع المطلق، فقوله تعالى: {مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ} لا يدخل هذا المجموع، وهو تسعة، بل يفيد ثمانية عشر؛ لأن قوله مثنى ليس عبارة عن اثنين فقط، بل عن اثنين اثنين، وكذا البقية. وأما الخبر فمن وجهين: الأول: أنه ثبت بالتواتر أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مات عن تسع، وأمرنا الله باتباعه بقوله تعالى: {فاتبعوه} [الأنعام: 153] وأقل [مراتب] الأمر الإباحة. الثاني: أن التزويج بأكثر من أربع طريقة عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فيكون سنةً له. وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «النِّكَاحُ سُنَّتِي وَسُنَّةُ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي» وهذا يقتضي الذم لمن ترك التزويج بأكثر من أربع، فلا أقل من أن يثبت أصل الجواز. أجاب القدماء بما رُوِيَ أن غَيْلاَنَ أسلم وتحته عشر نسوة فقال له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أمْسِكْ أربعاً وَفَارِقْ بَاقِيهنَّ» وهذا ضعيف من وجهين: الول: أن هذا نسخ للقرآن بخبر الواحد، وذلك لا يجوز. الثاني: أن هذه واقعة حال، فلعله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إنَّما أمره بإرسال أربع ومفارقة البواقي؛ لأن الجمع بين الأربع وبين البواقي غير جائز، إمَّا لنسب أو رضاع، أو اختلاف دين محرم، وإذا قام الاحتمال فلا يمكن نسخ القرآن إلا بمثله. واستدلوا أيضاً بإجماع فقهاء الأمصار على أنه لا يجوز الزيادة على الربع، وهذا أيضاً فيه نظر من وجهين: أحدهما: أن الإجْمَاعَ لا يُنْسَخُ به فكيف يقال: الإجماع نسخ هذه الآية؟ الثاني: أن هؤلاء الذين قالوا بجواز الزيادة على الأربع من جملة فقهاء الأمصار، والإجماع لا ينعقد مع مخالفة الواحد والاثنين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 165 وأجيب عن الأول بأن الإجماع يكشف عن حصول الناسخ في زمن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعن الثاني أن هذا المخالف من أهل البدعة، فلا عبرة بمخالفته. فإن قيل: إذا كان المر على ما قلتم فكان الأولى أن يقال: «مثنى او ثلاث أو رباع» فلم جاء بواو العطف [دون «أو» ] . فالجواب: أنه لو جاء بالعطف ب «أو» لكان يقتضي أنه يجوز ذلك إلا أحد هذه الأقسام، وألاَّ يجوز لهم أن يجمعوا بين هذه الأقسام، بمعنى أن بعضهم يأتي بالتثنية، وبعضهم بالتثليث، والفريق الثالث بالتربيع، فلما ذكره بحرف الواو أفاد ذلك أنه يجوز لكل طائفة أن يختاروا قسماً من هذه الأقسام، ونظيره أن يقال للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف، درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، ولطائفة ثالثة أن يأخذوا أربعة أربعة، فكذا ها هنا في ترك «أو» وذكر الواو. فصل قال مالك والشافعيُّ: - رحمهما الله تعالى - «إذا تزوج خامسة وعنده أربع عليه الحد إن كان عالماً» . وقال الزُّهْرِيُّ: «يرجم إذا كان عالماً، وإذا كان جاهلاً عليه أدنى الحدين، الذي هو الجلد وهو مهرها، ويفرِّق بينهما ولا يجتمعان أبداً» . وقال النُّعْمَانُ: «لا حدّ عيه في شيء من ذلك» . وقالت طائفة: «يحدُّ في ذات المحرم، ولا يحدّ في غير ذلك من النكاح، مثل أن يتزوج مجوسية، أو خمساً في عقد، أو تزوّج معتدة، أو بغير شهود، أو [تزوج] أمة بغير إذن مولاها» . قوله: {فَإِنْ خِفْتُمْ} شرط، إذا أنتج من الآيتين هذه وقوله: {وَلَن تستطيعوا} [النساء: 129] ما أنتج [من] الدلالة اقتضى أنه لا يجوز أن يتزوّج غير واحدة، أو يتسرَّى بما ملكت يمينه، ويبقى الفصل بجملة الاعتراض لا فائدة له، بَلْ يكون لغواً على زعمه. والجمهور على نصب «فواحدة» بإضمار فعل أي: فانكحوا واحدة وطؤوا ما ملكت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 166 أيمانكم، وإنما قدّرنا ناصباً آخر لملك اليمين؛ لأن النكاح لا يقع في ملك اليمين، إلا أن يريد به الوطء في هذا، والتزويج في الأول، فيلزم استعمال المشترك في معنيين أو الجمع بين الحقيقة والمجاز، وكلاهما مقول به، وهذا قريب من قوله: [الرجز] 1742 - عَلَفْتُهَا تِبْنَاً وَمَاءً بَارِدَاً ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . وبابه. وقرأ الحسن وأبو جعفر: «فواحدةٌ» بالرفع، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: الرفع بالابتداء، وسوَّغ الابتداء بالنكرة اعتمادها على فاء الجزاء، والخبر محذوف أي: فواحدة كافية. الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوف أي فالمقنع واحدة. الثالث: أنه فاعل بفعل مقدّر أي: يكفي واحدة. و «أو» على بابها من كونها للإباحة أو التخيير. و «ما ملكت» كهي [في قوله] : «مَا طَابَ» [فإن قيل: المالك هو نفسه لا يمينه، فلِمَ] أضاف المِلْك لليمين [فالجواب] لأنها محل المحاسن، وبها تُتَلَقَّى رايات المجد. وروي عن أبي عمرو: «فما ملكت أيمانكم» ، والمعنى: إن لم يعدل في عِشْرَةِ واحدة فما ملكت يمينه. وقرأ ابن أبي عبلة «أو من ملكت أيمانكم» . ومعنى الآية: إن خفتم ألا تعدلوا بين هذه الأعداد كما خفتم ترك العدل فيما فوقها فاكتفوا بزوجة واحدة، أو بالمملوكة. قوله: «ذلك أدنى» مبتدأ وخبر، و «ذلك» إشارة إلى اختيار الواحدة أو التسرِّي. و «أدنى» أفعل تفضيل من دنا يدنو أي: قرُب إلى عدم العول. قال أبو العباس المقرئ: «ورد لفظ أدنى في القرآن على وجهين: الأول: بمعنى أحرى قال تعالى: {ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} . والثاني: بمعنى» دون «قال تعالى: {أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ} [البقرة: 61] يعني الرديء بالجيد» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 167 قوله تعالى: {أَلاَّ تَعُولُواْ} في محل نصب أو جرٍّ على الخلاف المشهور في «أن» بعد حذف حرف الجر، وفي ذلك الحرف المحذوف ثلاثة أوجه: أحدها: «إلى» أي: أدنى إلى ألا تعولوا. والثاني: «اللام» والتقدير: أدنى لئلا تعولوا. والثالث: وقدّره الزمخشريُّ من ألا تميلوا؛ لأن أفعل التفضيل يجري مجرى فعله، فما تعدى به فعله [تعدى] هو به، وأدنى من «دنا» و «دنا» يتعدى ب «إلى» و «اللام» ، و «من» تقول: دنوت إليه، وله، ومنه. وقرأ الجمهور: «تعولوا» من عال يعول إذا مال وجار، والمصدر العول والعيالة، وعال الحاكم أي: جار. حكي أن أعرابياً حكم عليه حاكم فقال له: أتعول عليَّ. وقال أبو طالب في النبي عليه السلام [الطويل] 1743 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... لَهُ حَاكِمٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرُ عَائِلِ وروي عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - مرفوعاً عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} [النساء: 3] قال: «لاَ تَجُورُوا» . وفي رواية أخرى «ألا تميلوا» . قال الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: «كلا اللفظين مرويّ؛ وعال الرجل عيالَهُ يَعُولهم إذا مانَهُمْ من المؤونة ومنه أبْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بمَنْ تَعُول» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 168 وحكى ابن العرابي: عال الرجل يعول: كثر عياله، وَعَالَ يِعِيلُ افتقر وصار له عائلة، والحاصل أن «عال» يكون لازماً ومتعدياً، فاللازم يكون بمعنى: مال وجار، والمتعدي ومنه «عال الميزان» . قال أبو طالب: [الطويل] 1744 - بِمِيزانِ قِسْطٍ لا يَغِلُّ شَعِيرَةً ... وَوَزَّان صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ وعالت الفريضة إذا زارت سهامها، ومعنى كثر عياله، وبمعنى تفاقم الأمر، والمضارع من هذا كله يَعُولُ، وعال الرجل افتقر، وعالَ في الأرض: ذهب فيها، والمضارع من هذين يَعِيل، والمتعدي يكون بمعنى أثقل، وبمعنى مانَ من المؤونة، وبمعنى غَلَبَ ومنه «عيل صبري» ، ومضارع هذا كله يَعُول، وبمعنى أعجز، تقول: أعجزني الأمرُ، ومضارع هذا يَعيل، والمصدر «عَيْل» و «مَعِيل» ، فقد تلخص من هذا أن «عال» اللازم يكون تارة من ذوات الواو، وتارة من ذوات الياء، باختلاف المعنى، وكذلك عال المتعدي أيضاً. ومنه: [الطويل] 1745 - وَوَزَّانُ صِدْقٍ وَزْنُهُ غَيْرُ عَائِلِ ... وفسَّر الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ {تَعُولُواْ} بمعنى يكثر عيالُكُم. وردَّ هذا القول جماعة كأبي بكر بن داود الرازي والزجاج وصاحب النظم. قال الرازي: «هذا غلط من جهة المعنى واللفظ، أما المعنى فللإباحة السراري صح أنه مظنة كثرة العيال كالتزويج، وأما اللفظ؛ فلأن مادة عال بمعنى كثر عياله من ذوات الياء؛ لأنه من العَيْلَةِ، وأما عال بمعنى» جار «فمن ذوات الواو، واختلفت المادتان، وأيضاً فقد خالف المفسرين» . وقال صاحبُ النظم: قال أولاً «ألاَّ تعدلوا» فوجب أن يكون ضده الجور. وأجيب عن الأول وهو أنَّ التَّسْتَرِي أيضاً يكثر معه العيال، مع أنه مباح ممنوع؛ لأن الأمة ليست كالزوجة؛ لأنه يعزل عنها بغير إذنها، ويؤجرها ويأخذ أجرتها ينفقها عليه وعلى أولاده وعليها. قال الزمخشري: «وجههُ أن يُجْعَلَ من قولك: عَالَ الرجلُ عياله يعولهم كقولك: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 169 مانَهم يُمُونهم أي: أنْفَقَ عليهم؛ لأن من كثر عياله لَزِمَهُ أن يَعُولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة من كسب الحلال والأخذ من طيب الرزق» ثم أثنى على الشافعي ثناءً جميلاً، وقال: ولكن للعلماء طُرق وأساليبُ، فسلك في تفسير هذه الآية مسلك الكنايات، انتهى. وأما قولُهم: «خالف المفسرين» فليس بصحيح، بل قاله زيد بن أسلم وابن زيد. واما قولهم: «اختلفت المادتان» فليس بصحيح أيضاً؛ لأنه قد تقدَّم حكايةُ ابن الأعرابي عن العرب: عال الرجل يعول كثر عياله، وحكاها الْكِسَائِيُّ أيضاً قال: يقالُ: عالَ الرَّجل يَعُولُ، وأعال يعيل كثر عياله. قال أبو حاتم: كان الشَّافِعِيُّ أعْلَمَ بلسانِ العرب مشنَّا، ولعلّه لغة، ويقال: هي لغة «حمير» ونقلها أيضاً الدَّوْرِيُّ المقرِئُ لغةً عِنْ حِمْيَرَ وأنشد [الوافر] : 1746 - وَإنَّ الْموتَ يأخُذُ كُلَّ حَيٍّ ... بِلاَ شَكٍّ وَإنْ أمْشِي وَعَالا أمشى: كثرت ماشيته، وعَالَ كَثُرَ عياله، ولا حجَّةَ في هذا؛ لاحتمال أن يكون «عال» من ذَوَاتِ الياء، وهم لا يُنْكِرُونَ أنَّ «عال» يكون بمعنى كثر عياله، ورُوِيَ عنه أيضاً أنَّهُ فَسَّرَ تعولوا بمعنى تفتقروا، ولا يُريدُ به أنَّ «تعولوا» وتعيلوا بمعنى، بل قصد الكِنَايَة أيضاً؛ لأن كثرةَ العيالِ سَبَبٌ للفقر. وقرأ طلحة: «تَعيلوا» بفتح تاء المضارعة من عال يعيل افتقر قال: [الوافر] 1747 - فَمَا يَدْرِي الفَقِيرُ مَتى غِنَاهُ ... وَمَا يَدْرِي الْغَنِيُّ مَتَى يَعِيلُ وقرأ طاوس: «تُعيلوا» بضمها من أعَالَ: كثر عياله، وهي تُعَضَّدُ تفسير الشَّافعيِّ المتقدِّم من حيث المعنى. وقال الرَّاغبُ: عَالَهُ، وَغَالَهُ يتقاربان، لكن الغَوْلَ: فيما يُهلك والعَوْل فيما يُثْقِلُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 مفعول ثانٍ، وهي جمع «صَدُقة» بفتح الصَّاد وضمَّ الدَّال بزنة «سَمُرة» ، والمرادُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 170 بها: المهر وهذه هي القراءة المشهُورَةُ، وهي لُغَةُ الحجاز. وقرأ قتادةُ: «صُدْقاتهن» بضمِّ الصَّادِ وإسكان الدَّال، جمعُ صُدْقَةٍ بزنة غُرْفَةٍ. وقرأ مجاهدٌ وابن أبي عبلة بضمهما وهي جمع صدقة بضم الصاد والدال، وهي تثقيل الساكنة الدَّال للاتباع. وقرأ ابن وثاب والنخعي «صُدُقَتَهُنَّ» بضمهما مع الإفراد. قال الزَّمخشريُّ وهي تثقيل صُدْقة كقولهم في «ظُلْمة» «ظُلُمة» ، وقد تقدم الخلاف، هل يجوز تثقيل الساكن المضموم الفاء؟ وقرئ: «صدقاتهن» بفتح الصَّادِ وإسْكَانِ الدَّالِ وهي تخفيف القراءة المشهورة، كقولهم في عَضُد: عَضْد. قال الوَاحِدِيُّ: «ولفظ الصَّاد والدَّال والقاف موضوع للكمال والصحة، يسمّى المهر صداقاً وصدقة وذلك لأنَّ عقد النكاح به يتم. وفي نصب» نحلة «أربعةُ أوجهٍ: أحدها: أنَّها منصوبةِ على المصدر، والعامل فيها الفعل قبلها؛ لأن» آتوهن «بمعنى انحلوهُنَّ، فهي مصدر على غير الصدر نحو:» قَعَدْت جلوساً «. الثاني: أنها مصدرٌ واقِعٌ موقع الحال، وفي صاحب الحال ثلاثة احتمالات: أحدها: أنَّهُ الفاعل من» فآتوهن «أي: فآتوهن ناحِلين. الثاني: أنَّهُ المفعول الأوَّل وهو: النِّسَاءُ. الثالث: أنه المفعول الثاني وهو» صدقاتهن «. أي: منحولات. الوجه الثَّالثُ: أنَّها مفعول من أجله، إذا فُسِّرَتْ بمعنى: شِرْعة. الوجه الرابع: انتصابها بإضمار فعل بمعنى: شَرَعَ أي: نحل الله ذلك نِحلة، أي: شَرَعَةُ شِرْعة وديناً. والنِّحْلَةُ العَطِيَّةُ عَنْ طِيبِ النَّفْسِ، والنَّحْلَة: الشِّرْعَة، ومنه: نِحْلة الإسلام خَير النحل، وفلان ينتحل بكذا: أي يَدِيِنُ به، والنَّحْلَةُ: الفَرِيضةُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 171 قال الراغب: والنِّحْلَة والنَّحْلَةُ: الْعَطِيَّةُ على سبيل التبرع، وهي أخصُّ من الهِبَةَ، إذ كُل هبة نحلة من غير عكس، واشتقاقهُ فيما أرَى من النَّحْلِ، نظراً منه إلى فعله، فكأن» نَحَلْتهُ «أعْطَيْتَهُ عَطِيةَ النحل، ثم قال: ويجوز أن تكون النِّحْلةُ أصلاً فَسُمَّى النَّحْلُ بذلك اعتباراً بفعله. وقال الزَّمخشريُّ: مِنْ نَحَلَه كذا أي: أعطاه إيَّاه ووهبه له عن طيب نفسه، نِحْلَةً وَنَحْلاً، ومنه حديث أبي بكر - رضي الله عَنْهُ -:» غنّي نَحَلْتُكَ جِدَادَ عِشْرِينَ وِسْقاً «. قال القَفَّالُ: وأصله إضافة الشيء إلى غير من هو له، يقال: هذا شعر منحول، أي: مضاف إلى غير قائله، وانتحلت كذا إذا ادَّعَْتَهُ وَأَضَفْتَهُ إلى نَفْسِكَ. فصل من المقصود بالخطاب في الآية في هذا الخطاب قولان: أحدهما: أنه» لأولياء « [النساء] ؛ لأنَّ العربَ كانت في الجاهليَّةِ لا تعطي النساء من مهورهن شيئاً، وكذلك كانوا يقولون لمن ولدت له بنت: هنيئاً لك النافجة، ومعناه: أنَّك تأخذ مهرها إبلاً فَتَضُمَّهَا إلى إبلك فتنفج مالك اي: تعظمه، وقال ابن العرابي: النافجة ما يأخذه الرَّجلُ من الحلوانِ إذا زوج ابنته، فَنَهى الله عن ذلك، وامر بدفع الحقِّ إلى أهله، وهذا قول الكلبيِّ وأبي صالح واختيار الفرَّاء وابن قتيبةَ. وقال الحضرميّ: وكان أولياء النساء يُعطى هذا أُخْتَه على أن يعطيه الآخرُ أخته، ولا مهر بينهما، فَنُهوا عن ذلك، «ونهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الشِّغَار» ، وهو أن يزوج الرَّجل ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ولا صداق بَيْنَهُمَا. الثاني: أنَّ الخطاب للأزواج، أمِرُوا بإيفاء مهور النساء، وهذا قول علقمة، والنَخَعِيّ وقتادة، واختيار الزجَّاج، لأنه لا ذكر للأولياء ها هنا، والخطاب قبله للأزواج. قال قَتَادَةُ: نحلة فريضة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 172 وقال ابن جريج: فريضة مسمَّاة. قال أبو عبيدة: لا تكون النِّحْلَةُ إلاَّ مُسَمَّاة ومعلومة. قال القَفَّال: يحتمل أن يكون المراد من الإيتاء المناولة، ويحتمل أن يكون المراد منه الالتزام كقوله تعالى: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ} [التوبة: 29] أي: يضمنوها ويلتزموها، فعلى الول المراد دفع المُسَمَّى، وعلى الثاني أن المراد بيان أن الفروج لا تُستباح إلا بعوض يلتزم سواء سمَّي أو لم يسمَّ، إلا ما خُصَّ به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الموهوبة. قوله: «فإن طبن لكم منه» «منه» في محل جر؛ لأنه صفة ل «شيء» فيتعلق بمحذوف أي: عن شيء كائن منه. و «مِنْ» فيها وجهان: أحدهما: أنها للتبغيض، ولذلك يجوز أن تَهَبَهُ كُلَّ الصَّداق. قال ابن عطيَّة: و «مِنْ» لبيان الجنس ها هنا ولذلك يجوز أن تهب المهر كله، ولو [وقعت] على التبغيض لما جَازَ ذلك انتهى. وقد تَقَدَّمَ أن الليث يمنع ذلك، ولا يشكل كونها للتَّبغيض، وفي هذا الضمير أقوال: أحدها: أنه يعود على الصَّداق المدلول عليه ب {صَدُقَاتِهِنَّ} . الثاني: أنه يعود على «الصَّدُقات» لسدِّ الواحِدِ مَسَدَّها، لو قيل: صَداقَهُنَّ لم يختلَّ المعنى، وهو شبيهٌ بقولهم: هو أحسنُ الفتيان وأجْمَلُهُ؛ ولأنه لو قيل: «هو أحسنُ فتىً» لَصَحَّ المعنى. ومثله: [الرجز] 1748 - وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ ... في «برد» ضمير يعود على «ألبان» لسدِّ «لبن» مسدَّها. الثالث: أنه يعود على «الصَّدُقات» أيضاً، لكن ذهاباً بالضمير مذهب الإشارة فَإنَّ اسم الإشارة قد يُشارُ بِهِ مفرداً مذكراً إلى أشياء تقدمت، كقوله: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 173 ذلكم} [آل عمران: 15] بعد ذكر أشياء قبله، وقد تقدم ما روي في البقرة ما حكي عن رؤية لما قيل له في قوله: [الرجز] 1749 - فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادِ وَبَلَقْ ... كَأَنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَقْ فقال: أردت ذلك فأجْرَى الضمير مجرى اسم الإشارة. الرابع: أنه يعود على المال، وإنْ لم يَجْرِ له ذِكْرٌ؛ لأنَّ الصَّدُقاتِ تدُلُّ عليه. الخامس: أنه يعود على الإيتاء المدلول عليه ب «آتوا» ، قاله الرَّاغب وابن عطيَّة. السَّادس: قال الزمخشريُّ «ويجوز أن يُذَكَّر الضمير؛ لينصرف إلى الصَّداق الواحد، فيكون متناولاً بَعْضَهُ، ولو أَنّثَ لتناول ظاهرة هبةَ الصَّداق كُلِّه؛ لأنَّ بعض الصُّدقات واحد منها فصاعداً» . وقال أبو حَيَّان: وأقولُ حَسَّن تذكير الضمير أن معنى «فَإنْ طِبْنَ» فإن طابَتْ كُلُّ واحدةٍ فلذلك قال: «منه» أي: مِنْ صَداقِها، وهو نظير قوله: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً} [يوسف: 31] ؛ أي لكلّ واحدة منهن، ولذلك أفرد «متكأ» . قوله: «نَفْسَاً» منصوب على التَّمييز، وهو هنا منقولٌ من الفاعل؛ إذ الأصل: فإنْ طابَتْ أنفسُهُنَّ، ومثله {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] . وهذا منصوب عن تمام الكلام، وجِيء بالتمييز هنا مفرداً، وإن كان قبلَه جمعٌ لعدم اللَّبْسِ، إذْ من المعلوم أنَّ الكُلَّ لَسْنَ مشتركاتٍ في نفسٍ واحدةٍ، ومثله: قَرَّ الزيدون عيناً، كقوله: {وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْع} [هود: 77] وقيل: لَفْظثهَا واحد ومعناها جمع، ويجوز «انفساً» «وأعيناً» وَلاَ بُدَّ مِنَ التعرُّض لقاعدةٍ يَعُمُّ نفعها، وهي أنَّه إذا وقع تمييز بعد جمع منتصبٍ عن تمام الكلام فلا يخلو: إمَّا أن يكون موافقاً لما قبله نحو: كَرُمَ الزيدون رجالاً، كما يطابقهُ خبراً وصفةً وحالاً. وإن كان الثاني: فإمَّا أن يكونَ مفرد المدلول أو مختلفة، فإن كان مفردَ المدلول وَجَبَ إفرادُ التمييز كقولك في أبناء رجل واحد: كَرُمَ بنو زيدٍ أباً أو أصلاً، أي: إنَّ لهم جميعهم أباً واحداً متصفاً بالكرمِ، ومثله «كَرم التقياء سَعْياً» ، إذا لم تَقصدْ بالمصدر اختلافَ الأنواع لاختلاف محالَّه، وإنْ كَانَ مختلفَ المدلول: فإما أن يُلبِسَ إفرادُ التمييز لو أُفرد أولاً، فإن ألْبَسَ وَجَبَت المطابقُ نحو: كَرُمَ الزيدون آباء، أي: أن لكل واحد أباً غير أب الآخر يتصفُ بالكرمِ، ولو أفردت هنا لَتُوُهِّم أنهم كلَّهم بنو أبٍ واحد، والغرضُ خلافه، وإنْ لم يُلبس جاز الأمران المطابقة والإفراد، وهو الأوْلى، ولذلك جاءت عليه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 174 الآية الكريمةُ، وحكمُ التثنية في ذلك كالجمع، وَحَسَّنَ الإفرادَ ها هنا أيضاً ما تقدَّم مِن مُحَسِّنِ تذكير الضمير وإفراده في «منه» ، وهو أنَّ المعنى: فإن طابت كُلُّ واحدة نفساً. وقال بعض البصريين: «إنَّما أفرد؛ لأن المراد بالنفس هنا الهوى، والهوى مصدر، والمصادر لا تُثَنَّى ولا تجمع» . وقال الزَّمخشريُّ: و «نَفْسَاً» تمييزٌ، وتوحيدثها؛ لأن الغرضَ بيانُ الجنس والواحد يدل عليه. ونحا أبو البَقاءِ نَحْوَهُ، وشَبَّهَهُ ب «درهماً» في قولك: عشرون درهماً. واختلف النحاةُ في جوازِ تقديمِ التمييزِ على عامله إذا كان متصرفاً فمنعه سيبويه، وأجازه المبرد وجماعة مستدلين بقوله: [الطويل] 1750 - أتَهْجُرُ لَيْلَى بِالفُرَاقِ حَبيبَها ... وَمَا كَانَ نَفْساً بالفراقِ تَطِيبُ وقوله: [الطويل] 1751 - رَدَدْتُ بِمِثْلِ السَّيدِ نَهْدٍ مُقَلَّصٍ ... كَمِيشٍ إذَا عِطْفَاهُ مَاءً تَحَلَّبَا والأصل تطيبُ نفساً، وتحلَّبا ماء، وفي البيتين كلامٌ طويل ليس هذا محلَّه، وحجةُ سيبويه في منع ذلك انَّ التَّمييز فاعل في الأصْلِ، والفاعِلُ لا يَتضقَدَّم، فكذلك ما في قوته، واعترضَ على هذا بنحو: زيداً، من قولك أخرجْتُ زيداً، فإن زيداً في الأصل فاعل قبل النَّقْل، إذ الأصل: خرج زيدٌ والفرق لائح فالتمييز أقسام كثيرة مذكورة في كتب القوم. والجارّان في قوله {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ} متعلقان بالفعل قبلهما متضمناً معنى الاعراض، ولذلك عُدِّي ب «عن» كأنَّهُ قيل: فَإن أعْرَضْنَ لَكُمْ عِن شيء منه طيبات النفوس، والفاء في «فَكُلوه» جواب الشرط وهي واجبة، والفاء في «فُكلوه» عائدة على «شيء» . فإن قيل: لِمَ قال: {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ} ولم يقل: وَهَبْنَ لَكُمْ أوْ سَمضحْنَ لَكُمْ؟ فالجواب أنَّ المراعى وهو تجافي نفسها عن بالموهوب طيبة] . قوله: «فكلوه هنيئاً مريئاً» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 175 في نصب «هَنِيئاً» أربعةُ أقوال: أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على أنه صفة لمصدر محذوف تقديره: أكْلاّ هنيّئاً. الثاني: أنه منصوب على الحال من الهاء في «فَكُلُوهُ» أي: مُهَنِّئاً، أي سهلاً. والثالث: أنه منصوب على الحال بفعل لا يجوز إظهاره ألبتة؛ لأنَّهُ قصد بهذه الحالِ النيابةُ عن فعلها نحو: «أقائماً وَقَدْ قَعَدَ النَّاسُ» ، كما ينوب المصدر عن فعله نحو «سَقْياً لَهُ وَرَعْياً» . الرابع: أنهما صفتان قامتا مقام المصدر المقصود به الدعاءُ النائب عن فعله. قال الزَّمَخشرِيُّ: «وقد يوقف على» فَكُلُوهُ «ويبتدأ ب» هنيئاً مريئاً «على الدعاء وعلى أنهما صفتان أقيمتا مقام المصدرين؛ كأنه قيل:» هَنْئاً مًرْءاً «. قال أبو حيان: وهذا تحريف لكلام النُّحاة، وتحريفه هو جَعْلهما أُقِيما مُقام المصدر، فانتصابهما انتصباَ المصدرِ، ولذلك قال: كَأَنَّهُ قيل:» هَنْئاً مَرْءاً «، فصار كقولك» سٌقْياص لك «و» رَعْياً لك «، وَيَدُلُّ على تحريفه وَصِحَّةِ قول النحاة انَّ المصادرَ المقصودَ بها الدعاء لا ترفع الظاهر، لا تقول:» سقياً اللهَ لك «، ولا:» رعياً الله لك «، وإنْ كانَ ذلك جائزاً في أفعالها، و» هنيئاً مرئياً «، يرفعان الظاهر بدليل قوله: [الطويل] 1752 - هَنِيئاً مَرِيئاً غَيْرَ دَاءٍ مُخامِرٍ ... لِعِزَّةَ مِنْ أعْرَاضِنَا مَا اسْتَحَلَّتِ ف» ما «مرفوع ب» هنيئاً «أو» مريئاً «على الإعمال، وجاز ذلك وَإنْ لَمْ يَكُنْ بَيْنَ الْعَاملين رَبْطٌ بِعَطْفٍ ولا غيره؛ لأن» مريئاً «لا يستعملُ إلاَّ تابعاً ل» هنيئاً «فكأنَّهما عاملٌ واحد. ولو قلت: «قام قعد زيد» لم يكن من الإعمال إلاَّ على نِيَّة حرف العطف. انتهى. إلاَّ أن عبارة سيبويه فيها ما يُرْشِدُ لِما قاله الزَّمخشريُّ، فإنه قال: هنيئاً مَرِيئاً صِفَتَانِ نصبهما نصب المصادر المدعو بها بالفعل المذكور غير المستعمل إظهارُهُ المختزل لدلالة الكلام عليه، كأنهم قالوا: ثبت ذلك هنيئاً مريئاً، فَاَوَّلُ البعارة يُسَاعِدُ الزمخشري، وآخرها وهو تقديره بقوله: كأنهم قالوا: ثَبَتَ هنيئاً، يُعَكِّرُ عليه، فعلى القولين الوَّلين يكُون «هَنيئاً مَريئاً» متعلقين بالجملة قبلهما لفظاً ومعنى، وعلى الآخرين مقتطعين لفظاً؛ لأنَّ عاملهما مُقَدَّر من جُملةٍ أخرى كما تقدم تقريره. واختلف النحويون في قولك لمن قال: أصاب فلان خيراً هنيئاً مريئاً له ذلك. هل «ذلك» مرفوع بالفعل المقدر، وتقديره: ثبت له ذلك هنيئاً، فحذف «ثبت» وقام « الجزء: 6 ¦ الصفحة: 176 هنيئاً» مقامه الذي هو حال أو مرفوع ب «هنيئاً» نفسه؛ لأنه لمَّا قَامً مقامَ الفعلِ رَفَعَ ما كان الفعل يرفعه، كما أن قولك: «زَيْدٌ في الدَّارِ» «في الدَّارِ» ضمير كان مستتراً في الاستقرار فلما حذف الاستقرار، وقام الجار مقامه رفع الضمير [المستتر] الذي كان فيه، وقد ذهب إلى الأول السيرافي وجعل في «هنيئاً» فارغاً من الضمير لرفعه الاسمَ الظاهر، وَإذا قُلْتَ: «هَنِيئاً» وَلَمْ تَقُلْ «ذلك» فعلى مذهب السيرافي يكون في «هَنِيئاً» ضمير عائدٌ على ذِي الْحَالِ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في «ثبت» المحذوفِ، وعلى مذهب الفارسي يكون في «هنيئاً» قد قام مقام الفعل المحذوف فارغاً من الضمير. وأما نصب «مريئاً» ففيه خمسة أوجه: أحدها: أنَّهُ صِفَةٌ ل «هنيئاً» وإليه ذَهَبَ الحوفي. والثاني: أنَّهُ انتصب انتصاب «هنيئاً» وقد تقدَّم ما فيه من الأوجه، ومنع الفارسي كونه صفة ل «هنيئاً» قال: لأنَّ هنيئاً قام مقام الفعل، والفعل لا يوصف، فكذا ما قام مَقَامَهُ، ويؤيد ما قاله الفارسيُّ انَّ اسم الفاعل واسم المفعول وأمثلة المالغة والمصادر إذا وُصِفَت لم تَعْمَل عمل الفعل، ولم تستعمل «مريئاً» إلا تابعاً ل «هنيئاً» ، ونقل بعضهم أنه قد يجيء [غير] تابع وهو مردود؛ لأن العرب لم تَستَعْمِله إلاَّ تابعاً، وهل «هَنِيئاً» في الأصل اسما فاعل على زنة المَبَالَغَة؟ أم هما مصدران جاءا على وزن فَعِيلٍ، كالصَّهيلِ والهدير؟ خلاف. نقل أبُو حَيَّان القول الثاني عن أبي البَقَاءِ قال: وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على خلاف وزن «فعيل» ، كالصَّهيل والهدير، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر. انتهى. وأبو البقاء في عبارته إشْكَالٌ، فلا بد من التعرض إليها ليُعرف ما فيها، قال: «هنيئاً» مصدر جاء على وزن «فَعِيل» ، وهو نعت لمصدر محذوفٍ، أي: أكْلاً هنيئاً، وقيل: هو مصدر في موضع الحال من الهاء والتقدير مُهَنَّأً، و «مريئاً» مثله، وتلمريء فعيل بمعنى مُفْعِل، لأنَّك تقول: «أمْرَأَنِي الشَّيْء» ، ووجه لمصدر محذوف؟ وكيف يفسر «مريئاً» المصدر بمعنى اسم الفاعل؟ ذهب الزمخشري إلى انَّهُمَا وصفان قال: «فإنَّ الهنيءَ والْمَريءَ صفتان من هَنُء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 177 الطعام ومَرُؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه» . انتهى. وَهَنَا يضهْنَا بغير همز - لغة ثانية أيضاً - وقرأ أبو جعفر: «هنيّاً مريّاً» ، بتشديد الياء فيهما من غير همزة، كذلك «بري» و «بريون» و «بريَّا» ، ويقال: هَنَأَني الطعامُ ومرأني، وإن أفردت «مَرَأنِي» ، وهذا كما قالوا: أخَذَهُ ما قَدُمَ وَمَا حَدُثَ، بضم الدَّال من «حدث» مشاكلة ل «قَدُمَ» ، ولو أُفرد لم يستعمل إلاَّ مفتوح الدال، وله نظائر أخر، ويقال: هَنَأتُ الرجل أهْنِئُهُ بكسر العين في المضارع أي: أعطيته. واشتقاق الهنيء من الهِناء، وهو ما يُطْلَى به البَعير للجرب كالقطران قال: [الطويل] 1753 - مُتَبَدِّلاً تَبْدُو مَحَاسِنُهُ ... يَضَعُ الْهَنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقْبِ والمريءُ مَا سَاغَ وَسَهُلَ من الحق، ومنه قِيل لمجرى الطَّعَام من الحُلْقُوم إلى فم المعدة: مَرِيء. فصل في دلالة الآية على أمور دَلَّت الآية الكريمة على أمور: منها انَّ المهر لها ولا حق للولي فيه. ومنها جواز هبتها للمهر قبل القبضِ؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالين. فإن قيل: قوله: «فكلوه هنيئاً مريئاً» يتناول ما إذا كان المهر عيناً، أما إذا كان ديناً فالآية غير متناولة له لأنَّهُ لا يقال لما في الذمة كُلْهُ مريئاً. فالجواب أن المراد بقوله «هنيئاً مريئاً» ليس نفس الكل، بل المراد منه كل التصرفات، وإنما خَصَّ الأكل بالذكر، لأنَّهُ معظم المقصود من المال لقوله {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} بالنساء: 10] وقوله: {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [النساء: 29] . فصل قال بعض العلماء: إن وهبت ثم طلبت بعد الهبة، علم أنها لم تطب عنه نفساً، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 178 وعن الشعبي: أن امرأة جاءت مع زوجها إلى شُريح في عَطِيَّة أعْطَتْهَا إيَّاهُ، وَهِيَ تطلب الرجوع، فقال شُرَيْح: رُدَّ عَلَيْهَا، فقال الرجل: أليس قد قال الله تعالى {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ} ، فقال: لو طابت نفسها عنه ما رجعت فيه. وروي عنه أيضاً: أقيلها فيما وهبت ولا أقليه؛ لأنهن يخدعن. وَرُوِيَ أنَّ رجلاً من آل أبي معيطٍ أعطته امرأته ألف دينار صداقاً كان لها عليه، فلبثت شهراً ثم طلقها، فخاصمته إلى عبد الملك بن مروان، فقال الرَّجُلُ: أعْطَتْنِي طيبة به نفسها، فقال عبدُ الملك: فإن الآية التي بَعْدَهَا {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] أردد عليها. وعن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه كتب إلى قُضاتِه: إن النساءَ يُعْطين رَغْبَةً ورهبة، وَأَيُّمَا امرأة أعطته ثم أرادت أن ترجع فذلك لها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 أصل تُؤْتُوا تُؤتيوا: تُكْرِموا فاستثقلت الضمةُ على الياءِ وواو الضمير فحذفت الياء لئلا يلتقي ساكنان. والسُّفَهاء جمع: سفيه، وعن مجاهد: «المراد بالسُّفَهاءِ» النِّسَاءِ مَنْ كُنَّ أزواجاً، أو بنات، أو أمهات، وضَعَّفَهُ بَعْضُهُم بأنَّ فَعِيلة إنَّما تُجْمَع على فَعَائلِ أوْ فَعِيلات، قاله [أبو البقاء] وابن عطية، وقد نقل بعضهم أنَّ سَفَيهةَ تُجْمَعُ: على «سُفَهَاءَ» كالمُذكَّر، وعلى هذا لا يَضْعُفُ قول مُجَاهِدٍ. وجمعُ فَعِيلَةٍ ابن عطية جمع فَعِيلة بِفَعَائِلٍ، أوْ فَعِيلات ليس بظاهر، لأنَّهَا يَطَّرد فيها أيْضاً «فِعَال» نحو: كريمةٍ، وَكرامٍ، وظريفةً، وظِراف، وكذلك إطلاقهُ فَعِيلة، وَكَانَ مِنْ حَقِّه أنْ يقيِّدَها بألاَّ تكون بمعنى: مَفْعُولةٍ، تَحَرُّزاً من قتيلة فَإنَّها لا تُجْمَعُ على فَعَائِل. والجمهورُ قرؤوا (الَّتِي) بلفظِ الإفراد صفةً للأمْوالِ، وإنْ كانت جَمْعاً؛ لأنَّهُ تَقَدَّم أنَّ جمع ما لا يعقل من الكثرة، أو لم يكن له إلا جمعٌ واحدٌ، الأحسنُ فيه أنْ يُعَامَل مُعَاملةَ الوَاحِدَةِ المؤنَّثة، والأمْوالِ من هذا القبيل، لأنَّهَا جمعُ ما لا يُعْقل، ولم تُجْمَع إلاَّ على أفْعال، وإنْ كانت بلفظِ القِلَّةِ؛ لأن المرادَ بها الكثرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 179 وقرأ الحسن والنخعي «اللاتي» مطابقةٌ للفظ الجمع، وكان القياسُ ألاَّ يوصف ب «اللاتي» إلا ما يوصفُ مفرده ب «التي» والأموال لا يوصف مفردها وهو «مال» ب «التي» . وقال الفراء: العرب تقول في النِّساءِ «اللاتي» أو جمع «التي» نفسها. قوله: «قياماً» إن قلنا: أن «جَعَلَ» بمعنى صَيَّرَ ف «قياماً» مفعول ثانٍ، والأول محذوف، وهو عائد الموصول والتقدير: الَّتِي جعلها اللهُ، أي: صَيَّرَها لكم قياماً، وَإنْ قُلْنَا: إنها بمعنى «خلق» ف «قياماً» حال، من ذلك العائد على المحذوف، والتقدير: جعلها أي: خلقها وأوجدها في حال كونها قياماً. وقرأ نافع وابن عامر «قيماً» ، وباقي السبعة «قياماً» وابن عمر «قِواماً» بكسر القاف، والحسن وعيسى بن عمر «قَواماً» بفتحها وَيُرْوَى عَنْ أبي عمرو، وقرئ «قِوَماً» بزنة «عِنب» . فَأَمَّا قراءة نافع وابن عامر ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: أن «قِيماً» مصدر كالقيام وليس مقصوراً منه قال الكسائِيُّ والأخْفشُ والفراء. فهو مصدر بمعنى القيام الذي يُرادُ به الثباتُ والدَّوامُ، وقد رُدَّ هذا القولُ بأنه كان يَنْبَغِي أن تَصِحَّ الواو لتحضُنها بِتَوسُّطِها، كما صَحَّت واو «عِوَض» «وحِوَل» ، وقد أجيبَ عنه بأنه تَبعَ فعله من الإعلال وكما أُعِلَّ فعله أُعِلَّ هو، ولأنه بمعنى القِيام فَحُمِلَ عليه في الإعلال. وَحَكَى الأخفش: «قِيماً» و «قِوَماً» قال: والقياسُ تصحيحُ الواو، وإنما اعتلت على وجه الشُّذُوذِ كقولهم: «ثِيرَة» وقول بني ضبة «طِيال» في جمع طويل، وقول الجميع «جِياد» في جمع جواد، وإذا أعلّوا «دِيَماً» لإعلال «دِيْمة» ، فاعتلالُ المصدر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 180 لاعتلال فعلِه أوْلى، ألا تَرَى إلى صِحَّةِ الجمع مع اعتلالِ مُفْرده في معيشة، ومعايش، ومقامة، ومَقَاوِم، ولم يُصَححوا مَصْدراً أعلُّوا فِعْلهُ. الثاني: أنه جمع «قِيمة» ك «دِيَم» في جمع «دِيْمَة» ، والمعنى: أنَّ الأموال كالقيم للنفوس؛ لأنَّ بقاءها بها، وقد رَدَّ الفارسيُّ هذا الوجه، وإنْ كان هو قول البصريين غير الأخفشِ، بأنه قد قرئ قوله تعالى: {دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} [الأنعام: 161] وقوله: {البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ} [المائدة: 97] . ولا يصحُّ معنى القيمة فيهما، وقد رَدَّ عليه الناس بأنَّه لا يلزم من عدم صحَّة معناه في الآيتين المذكورتين ألا يصح هنا، إذ معناه لائق، وهناك معنى آخر يليق بالآيتين المذكورتين كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وأما قراءة باقي السَّبعة فهو مصدرُ «قام» والأصلُ «قِوام» ، فأبدلت الواوُ ياءً للقاعدةِ المعروفة، والمعنى: التي جعلها اللهُ سبب قيام أبدانكم أي: بقائها. وقال الزَّمخشريُّ: «أي: تقومون بها وتنتعشون بها» . وأما قراءة عبد الله بن عمر ففيها وجهان: أحدهما: أنه مصدرُ قَاوَمَ ك «لاوَذَ، لِواذاَ» صحَّت الواوُ في المصدرِ كما صحَّت في الفعل. الثاني: أنه اسم لما يقوم به الشَّيء، وليس بمصدر كقولهم: «هذا ملاك الأمر» أي: ما يملك به الأمر. وَأمَّا قراءة الحَسَن ففيها وجهان: أحدهما: أنَّه اسم مصدر كالكلام، والدَّوام، والسَّلام. والثاني: أنَّهُ لغة من القوام المراد به القامة، والمعنى: التي جعلها الله سببُ بقاءِ قاماتكم، يقال: جارية حَسَنةُ القِوام، والقَوام، والقمة كله بمعنى واحد. وقال أبو حاتم قوام بالفتح خطأ، قال: لأنَّ القوام امتداد القامة، وقد تقدَّم تأويلُ ذلك على أنَّ الكسائيَّ قال: هو بمعنى القِوام أي بالكسر، يعني أنه مصدر، وَأمَّا «قِوَماً» فهو مصدر جاء على الأصلِ، أعني: الصَّحِيحَ العين كالعِوَض، والحِوَل. فصل لما أمر في الآية الأولى بإيتاء اليتامى أمْوَالَهم، وبدفع صدقات النساء إليهنَّ فَكَأنَّهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 181 قال: إنَّمَا أمرتكم بذلك إذا كانوا عاقلين بالغين، متمكنين من حفظ أموالهم، فأمَّا إذا كانوا غير بالغين، أو غير عقلاء، أو كانوا بالغين عقلاء؛ إلاَّ أنَّهم سُفهاء، فلا تدفعوا إليهم أموالهم، والمقصود منه الاحتياطُ في حفظ أموال الضُّعفاء العاجزين. واختلفوا في السُّفَهاء: فقال مجاهد والضَّحَّاك: هم النِّسَاءَ كما قَدَّمْنَا، وهذا مذهب ابن عمر ويدلُّ عليه ما روى أبو أمامة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ألا إنَّما خُلِقَت النَّارُ للسُّفَهاء، يقولها [ثلاثاً] ألا وإن السُّفهاء النِّساء، [إلاّ امرأة أطاعت قيّمها» ] . وقال الزَّمخشريُّ وابن زيد: والسُّفهاء ههنا السفهاء عن من الأولاد، ويقول: لا تعط مالك [الذي هو قيامك] ولدك السَّفيه فيفسده. وقال ابن عباس والحسن وقتادة وسعيد بن جبير: هم النِّساء [والصبيان] إذا علم الرجل أنَّ امرأته سفيهةٌ مُفْسِدةٌ، وَأنَّ ولده سفيه مفسد، فلا يسلط واحداً منهما على ماله. وقيل: المرادُ بالسُّفهاء كل من لم يحفظ المال للمصلحة من النِّسَاءِ والصبيان والأيتام، وكلُّ من اتَّصف بهذه الصفة؛ لأنَّ التَّخصيص بغير دليل لا يجوز، وقد تقدَّم في «البقرة» أنَّ السَّفه خفة العقل ولذلك سُمِّي الفاسق سفيهاً، لأنه لا وزن له عند أهل العلم والدين، ويسمى النَّاقص العقل سفيهاً لخفة عقله. فصل في دلالة الآية في الحجر على السفيه قال القرطبيُّ: دلت هذه على جواز الحجر على السَّفيه لقوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} ، وقوله: {فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً} [البقرة: 282] فأثبت الولاية على السَّفيه كما أثبتها على الضَّعيف، والمراد بالضَّعيف في الآية الضَّعيف الْعَقْلِ لصغرِ أو مرض. فصل في حال السفيه قبل الحجر عليه [قال القرطبيُّ] : واختلفوا في حال السَّفيه قبل الْحَجْرِ عَلَيْهِ، فقال مالك وأكثر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 182 أصحابه: إنَّ فعل السَّفيه وأمره كُلّهُ جائز، حتى يحجر عليه الإمامُ، وهو مذهب الشَّافعيِّ وأبي يوسف. وقال ابن القَاسِم: أفعاله غير جائزة، وإن لم يضرب الإمام على يَدِهِ. فصل: في الحجر على الكبير واختلفوا في الحجر على الكبير، فقال مالك وجمهورُ الفقهاء: يحجر عليه. وقال أبو حَنِيفَةَ: لا يحجر على من بلغ عاقلاً إلا ان يكون مُفسداً لماله، فإذا كان كذلك منع من تسلميهم المالَ حتى يبلغ [خمساً وعشرين سنة، فإذا بلغها] ، سُلِّمَ إليه المال بكل حالٍ، سواء كان مُفْسِداً، أو غير مفسد؛ لأنَّه يُحبَلُ منه لاثنتي عشرة سنة، ثم يُولد له لِستَّةِ أشهرٍ فيصير جَدَّاً وأباً، وأنا أستحي أن أحجر على مَنْ يصلح أن يكون جَدَّاً. فصل في الخطاب في الآية في هذا الخطاب قولان: الأوَّلُ: أنَّهُ خطاب الأولياء بأن يُؤتُوا السُّفهاء الذين تحت ولايتهم أموالهم لقوله تعالى: {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم} [النساء: 5] وبه يصلح نظمُ الآيةِ مع ما قَبلها. فإن قيلَ: فكان ينبغي على هذا ان يقال: ولا يؤتوا السُّفَهَاء أموالهم. فالجوابُ من وجهين: أحدهما: أنَّه تعالى أضاف المال إليهم، لا لأنَّهم ملكوه، لكن من حيث ملكوا التصرف فيه، ويكفي في الإضافة الملابسة بأدنى سبب. وثانيهما: إنَّما حَسًنَتِ هذه الإضافَةُ إجراءاً للوحدة بالنَّوع مجرى الوحدة بالشخص كقوله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} [النساء: 25] {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وقوله: {ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] ومعلوم أنَّ الرَّجل منهم ما كان يقتل نفسه، وإنَّمَا كان يقتل بعضهم بعضاً، وكان الكلُّ من نَوْع واحدٍ، فكا ها هنا لما كان المال ينتفع به نَوْع الإنسان، ويحتاج إليه، فلأجل هذه الوَحْدَة النَّوعيَّة حسنت إضافة أموال السُّفهاء إلى الأولياء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 183 القول الثاني: أنَّه خطاب للآباء بألاَّ يدفعوا مالهم إلى أولادهم إذا كانوا لا يحفظون المال سفهاءُ، وعلى هذا فإضَافَةُ الأموال إليهم حقيقة، والقول الأوَّلُ أرجحُ؛ لأنَّ ظاهر النَّهي التحريم، وأجمعوا على انَّهُ لا يحرم عليه أن يهب من أولاده الصّغار، ومن النِّسوان ما شاء من ماله، وأجمعوا على أنه يحرم على الولي أن يدفع إلى السُّفهاء أموالهم؛ لأنه قال في آخر الآية: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} وهذه الوصيّة بالأيتام أشبه، لأنَّ المرء مشفق بطبعه على ولده، فلا يقولُ له إلا المعروفَ، وإنَّما يحتاج إلى هذه الوصيَّة مع الأيتام الأجانب. قال ابنُ الخطيب: «ولا يمتنع [أيضاً] حمل الآية على كلا الوجهين» . قال القاضي: هذا بعيد؛ لأنه يقتضي حمل قوله: «أمْوالُكم» على الحقيقة والمجاز جميعاً، ويمكن الجوابُ عنه بأن قوله: {أَمْوَالَكُمُ} يفيدُ كون تلك الأموال مختصة بهم، اختصاصاً يمكنه التّصرف فيها، ثم إنَّ هذا الاختصاص حاصل في المال المملوك له وفي المال المملوك للصَّبي، إلاَّ أنَّه تحت تصرُّفه، فهذا التَّفاوت واقع في مفهوم خارج من المفهوم المستفاد من قوله {أَمْوَالَكُمُ} وإذا كَانَ كذلك لم يبعد حمل اللَّفظ عليهما من حيث إن اللفظ [أفاد] معنى واحداً مشتركاً بينهما. قوله: {وارزقوهم فِيهَا واكسوهم} . ومعنى الرزق: أن أنفقوا عليهم. وقوله «فيها» فيه وجهان: أحدهما: أنَّ «في» على بابها من الظرفية، أي اجعلوا رزقهم فيها. والثاني: أنها بمعنى «مِنْ» ، أي: بعضها والمراد: [من] أرباحها بالتجارة. قال ابن الخطيب: «وإنَّمَا قال» فيها «ولم يقل: مِنْهَا، لئلا يكون ذلك أمراً بأن يجعلوا بعض أموالهم رِزْقاً [لهم] ، بل أمرهم أن يجعلوا أموالهم مكاناً لرزقهم، بأنْ يَتَجِرُوا فيها، فيجعلوا أرزاقهم من الأرْبَاحِ لا من أصول الأموال» . والأمر بالكِسْوَةِ ظاهر. فصل في تفسير القول المعروف قوله تعالى: {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} . اختلف المفسِّرون في القول المعروف: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 184 قال ابن جُريْجٍ ومجاهد: إنه العدة الجميلة من البرِّ والصِّلة. وقال ابنُ عباس: هو مثل أن يقول: إذا ربحت في سَفْرتِي هذه فعلت بك ما أنت أهله، وإن غنمت في غَزَاتِي جعلت لك حظاً. وقال ابن زيد: إن لم يكن ممن يجب عليك نفقته، فقل له: عافانا الله وإيَّاك، وبارك اللهُ فيك. وقيل: قولاً لَيِّنَاً تَطِيبُ بهِ أنفسهم. وقال الزَّجَّاجُ: «علموهم مع إطعامهم وكسوتهم أمر دينهم» . وقال القَفَّالُ: «هو أنه إن كان المولى عليه صبياً فيعرفه الولي أنَّ المال ماله، وهو خازن له، وأنه إذا زال صباه يَردُّ إليه المال، ونظيره قوله تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [الضحى: 9] [و] لا تعاشره بالتَّسلُّطِ عليه كمعاشرة العبيد، وكذا قوله: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} [الإسراء: 28] وإن كان المولى عليه سفيهاً، وَعَظَهُ ونصحه وحثه على الصلاة، ورَغَّبَهُ في ترك التبذير والإسراف، وعَرَّفَهُ عاقبة التبذير الفقر والاحتياج إلى الخلق، إلى ما يشبه هذا النوع من الكلام» . وقال ابن الخطيب: وهذا أحسن من سائر الوجوه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 لما أمر بدفع مال اليتيم إليه، بيَّن هنا متى يؤتيهم أموالهم، وشرَطَ في دفع أموالهم إليهم شرطين: أحدهما: بلوغ النكاح. والثًَّاني: إينَاسِ الرُّشد. في «حتى» هذه وما أشبهها أعني الداخلة على «إذا» قولان: أشهرهما: أنَّها حرف غاية، دخلت على الجملة الشَّرطيَّة وجوابها، والمعنى: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم، واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم، بشرط إيناس الرُّشد، فهي حرف ابتداء كالدَّاخلة على سائِرِ الجمل كقوله: [الطويل] 1754 - فَمَا زَالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا ... بِدجْلَةَ حَتَّى مَاءُ دَجْلَةَ أشْكَلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 185 وقول امرئ القيس: [الطويل] 1755 - سَرَيْتُ بِهِمْ حَتَّى تَكِلَّ مَطِيُّهُمْ ... وَحَتَّى الْجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بأرْسَانِ والثاني: وهو قول جماعة منهم الزَّجَّاج وابن درُسْتَوية: أنَّها حرف جر، وما بعدها مجرور بها، وعلى هذا ف «إذا» تتمحَّضّ للظَّرْفِيَّةِ، ولا يكون فيه معنى الشَّرط، وعلى القول الأوَّلِ يكون العامل في «إذَا» ما تَخَلَّص من معنى جوابها تقديره: إذا بلغوا النِّكاح راشدين فادفعوا. وظاهرُ العبارة لبعضهم أنَّ «إذا» ليست بشرطيَّة، لحُصُولِ ما بعدها، وأجاز سيبويه أن يجازي بها في الشِّعر، وقال: «فعلوا ذلك مضطرين» ، وإنما جُوزي بها لأنَّها تحتاج إلى جواب، وبأنَّه يليها الفعلُ ظاهراً، أو مضمراً، واحتجَّ الخليلُ على عدم شَرطيَّتِها بحصولِ ما بعدِها، ألا ترى أنك تقول: أجيئك إذا احمر البُسر، ولا تقول: إن أحمر. قال أبُو حيان: وكلامُه يُدلُّ على أنها تكون ظرفاً مجرداً، ليس فيها معنى الشَّرط، وهو مخالف للنَّحويين، فإنَّهم كالمجمعين على أنها [ظرف] فيها معنى الشِّرط غالباً، وإن وُجِدَ في عبارةِ بعضهم ما يَنْفَى كونها أداة شرطٍ، فإنَّما أنها لا يجزم بها، إلاَّ أنها لا تكون شرطاً، وقَدَّرَ بعضهم مضافاً قال: تقديره يبلغوا حَدَّ النكاحِ أو وقته، والظَّاهرُ أنها لا تحتاج إليه، والمعنى: صَلَحوا للنكاح. فصل في معنى الابتلاء وكيفيته والابتلاءُ: الاختيارُ، أي اختبروهم في عقولهم وإدراكهم،، وحفظهم أموالهم. نزلت في ثابت بن رفاعة، مات أبُوهُ رفاعةُ وتركه صغيراً عند عمه، فجاء عمُّه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: إن ابن أخي يتيم في حجري، فما يَحِلُّ لي مِنْ ماله، ومتى أدفع إليه ماله؟ فنزلت هذه الآية. قال سعيد بن جبير ومجاهد والشَّعبيُّ: «لا يدفع إليه ماله، وإنْ كان شيخاً حتى يؤنس رشده» ، فالابتلاءُ باختلاف أحوالهم، فإن كان مِمَّنْ يتصرف في السوق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 186 فيدفع الولي إليه شيئاً من المال، وينظر في تَصَرُّفه، وإن كان ممَّن لا يتصرف فيختبره في نفقة داره، والإنفاق على عبيده وأجرائه وتُخْتبر المرأة في أمر بيتها وحفظ متاعها وغزلها واستغزالها فإذَا رأى حسن تصرُّفه وتدبيره مراراً حيث يغلب على الظن رشده دفع إليه المال. فصل فيما إذا عاد إلى السَّفه بعد اخذ المال قال القرطبيُّ: «إذا سُلِّم إليه المال لوجود الرشد، ثم عاد إلى السَّفه عاد الحجرُ والقصاص. دليلنا قوله تعالى: {وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ} [النساء: 5] . ويجوز للوصيّ أن يصنع في مال اليتيم ما كان للأب أن يصنعه من تجارةٍ وإبضاع وشراء وبيع، وعليه أنْ يؤدّى الزَّكاة من سائر أمواله عينٍ وحرث وماشية وفطرة، ويؤدّي عنه أرُوش الجنايات، وقيم المُتْلَفَاتِ، ونفقةِ الوالدين، وسائر الحقوق اللازمة، ويجوز ان يزوجه، ويؤدّي عنه الصداق، ويشتري له جارية يتسرّى بها، ويصالح له وعليه على وجه النَّظر. فصل المراد من بلوغ النكاح والمراد من بلوغ النِّكاح هو الاحتلام، لقوله تعالى: {وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم} [النور: 59] وعند هذا الحدّ يجري على صاحبه قلم التَّكليف، وإنَّما سمي الاحتلام بلوغ النَّكاح بمعنى الجماع. واعلم أن للبلوغ خمس علامات ثَلاثَةٌ منها مُشْتَرَكةٌ بين الذكور والإناث وهي: الاحتلامُ، والسنُّ المخصوص، ونَبضاتُ الشّعر الخشن على العانَةِ. وقيل: إنبات الشَّعر الخشن بلوغ في أولاد المشركين، ولا يكون لأولاد المسلمين؛ لأن أولاد المسلمين يمكن الوقوف على مواليدهم بالرُّجوع إلى آبائهم، وأولاد الكفار لا يوقف على مواليدهم، ولا يُقْبَلُ قول آبائهم فيه لكفرهم، فجعل الإنبات الذي هو أمَارةُ البلوغ بلوغاً في حقِّهم. واثنان منها تختّص بالنّساء وهما: الْحَيْضُ والْحِبَلُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 187 فصل قال أبُو حنيفةَ:» تصرفات [الصَّبي] العاقل المميز بإذن الوليّ صحيحة لهذه الآية، ولأنه يصحّ الاستثناء فيه فيقال: ابتلوا اليتامى إلاَّ في البَيْع والشِّراء «. قال الشَّافعيُّ: اختبار عقله في أنه هل له فَهْم وعَقْلٌ في معرفة المصالح والمفاسد؟ بأن يبيع الوليُّ ويشتري له بحضوره، ثم يستكشفُ من الصبيِّ أحوال ذلك البيع والشِّراء، وما فيها من المصالح والمفاسد، وبهذا القَدْر يحصل الابتلاء والاختبار، وأيضاً هَبْ أنَّا سَلَّمْنَا أنه يدفع إليه شيئاً ليبيع أو يشتري، فَلِمَ قلتَ: إنَّ هذا القدر يدل على صِحَّةِ ذلك البيع والشِّراء؟ قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ} . والفاءُ جواب» إذا «وفي قوله: {فادفعوا} جواب» إن «. وقرأ ابن مسعود» فإن أحستم «والأصْلُ أحسسْتُم فحذف إحدى السّينين، ويحتمل أن تكون العينَ أو اللام، ومثله قول أبي زبيد: [الوافر] 1756 - سِوَى أنَّ الْعِتَاقَ مِنَ الْمَطَايَا ... حَسِينَ بِهِ فَهُنَّ إلّيْهِ شُوسُ وهذا خلاف لا ينقاسُ، ونقل بعضهم أنَّها لغةُ سُلَيم، وَأنَّهَا مُطَّردة في عين كل فعلٍ مضاعفة اتصل به تاءُ الضَّمير أو نونه ونَكَّر» رُشْداً «دلاّلةُ على التنويعِ، والمعنى أيّ نوعٍ حَصَلَ من الرُّشدِ كان كافياً. وقرأ الجمهور» رُشْداً «بضمة وسكون، وابن مسعود والسُّلميُّ بفتحتين، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 188 وبعضهم بضمتين، وسيأتي الكلامُ على ذلك في الأعراف إن شاء الله تعالى. وآنس كذا أحسَّ به وشَعَرَ، قال: [الخفيف] 1757 - آنسَنْ نَبْأةً وَأفْزَعَهَا القُنْ ... نَاصُ عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْسَاءُ وقد قيل: «وجد» عن الفراء. وقيل: أبصر. وقيل: رأيتم. وقيل: آنست وأحسست ووجدت بمعنى واحدٍ. وقال القرطبي: وأصْلُ الإيناس في اللُّغة الإبصار، ومنه قوله {آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً} [القصص: 29] . قال أهل اللُّغة: هو إصابة الخير، قال تعالى: {قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي} [البقرة: 256] ، والغيُّ: هو العصيان: قال تعالى: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] يكون نقضيه هو الرشد، وقال تعالى: {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] . وقال أبو حنيفة: «لا يعتبر هنا الصَّلاح في المال فقط» ، وينبني على هذا أن أبا حنيفة لا يرى الحجر على الفاسق، والشافعي يراه. فصل إذا بلغ الرُّشْد زال عنه الحجر، ودفع إليه، رجلاً كان أو امرأة، تزوج أو لم يتزوج. وعند مالك إن كانت امرأة لا يدفع المال إليها ما لم تتزوج، فإذا تزوّجتْ دفع المال إليها، ولكن لا ينفذ تصرفها إلاَّ بإذن الزَّوج ما لم تكبر وَتُجَرَّبْ، فإذا بلغ الصبي رشيداً وزال الحجر عنه ثم عاد سفيهاً [نُظِرَ] إنْ مبذراً لماله حُجِرَ عليه، كما يستدام الحجر عَلَيْهِ إذا بلغ بهذه الصفة، وقيل: لا يُعَادُ؛ لأن حكم الدوام أقْوَى من حكم الابتداء، وعند أبي حنيفة لا حَجْرَ على البَالِغِ العاقِلِ بحال. قوله: {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً} . في نصبهما وجهان: أحدهما: أنهما منصوبان على المفعولِ من أجْلِهِ أي: لأجل الإسراف والبِدَارِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 189 ونقل عن ابن عباس أنه قال: «كان الأولياء يستغنمون أكل مال اليتيم، لئلا يكبر فينزع المال منهم» . والثَّاني: أنَّهما مصدران في موضع الحالِ أي: مُسْرِفينَ وَمُبادِرِينَ. وبداراً مصدرُ بادرَ والمفاعلة هنا يجوز أن تكون من اثنين على بابها، بمعنى ان الوليَّ يبادرُ ليتيم إلى أخْذِ مالهِ، واليتيمُ يُبَادِرُ إلى الكبر، ويجوز أن يكون من واحد بمعنى: أنَّ فاعل بمعنى فعل نحو: سافر وطارق. قوله: «أن تكبروا» . فيه وجهان: أحدهما: أنه مفعول بالمصدر أي: وبداراً كبرهم، كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14، 15] وفي إعمال المصدر المُنَوِّنِ الخلاف المشهور. والثَّاني: أنَّه مفعول من أجله على حذف أي: مخافة أن يكبروا، وعلى هذا فمفعولُ «بِدَاراً» محذوف، وهذه الجملة النَّهْييَّةُ فيها وجهان: أصحهما: أنها استئنافية، وليست معطوفةً على ما قبلها. والثَّاني: أنَّها عطف على ما قبلها، وهو جوابُ الشرط ب «إن» أي: فادفعوا ولا تأكلوها، وهذا فاسدٌ؛ لأن الشّرط وجوابه، مترتِّبان على بلوغ النِّكاح وهو معارضٌ لقوله: {وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} فَيَلزَمُ منه سَبْقُه على ما ترتَّب عَلَيْهِ، وذلك ممتنع. والمعنى: ولا تأكلوها يا معشرَ الأولياءِ «إسْرافاً» أي: بغير حقٍّ، «وبداراً» أي: ومبادرة، ثم بَيَّنَ مَا يَحِلُّ لهم من مالهم فقال: «وَمَنْ كَانَ غَنِياً فَلْيَسْتَعْفِفْ» أي: فليمتنع من مال اليتيم فلا يرزؤه قليلاً ولا كثيراً، والعفة الامتناع مما لا يحل. قال الواحديُّ: استعفف عن الشيءِ وعَفَّ: إذا امتنعَ منه وتَرَكَهُ. قال الزمخشريُّ: «استعفف أبلغ مِنْ عَفٍّ كأنَّه طالب زيادة العِفَّةِ» . قوله: {وَمَن كَانَ فَقِيراً} . محتاجاً إلى مال اليتيم، وهو يحفظه ويتعمَّده {فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} . رُوِيَ عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدِّه أن رجلاً أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «إنِّي فَقِيرٌ وَلَيْسَ لِي شَيْءٌ وَلِي يَتيمٌ، فقال: كُلْ مِنْ مَالِ يَتِيمكَ عَيْرَ مُسْرِفٍ وَلا مُبَذِّرٍ وَلاَ مُتَأثِّل» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 190 واختلفوا، هل يلزمهُ القضاءُ؟ فقال مجاهدٌ وسعيدُ بن جبير: يقضي إذا أيسر لقوله: {فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} والمعروف: هو ان يقترض من مال اليتيم إذا احتاج إليه، فإذا أيْسَرَ قَضَاهُ. قال عمرُ بن الخطّاب: «إنِّي أنْزَلْتُ نفسي من مال الله بمنزلة مال اليتيم، إن استغنيتُ استعففتُ، وإنْ افترقتُ أكَلْتُ بالمعروفِ، فَإذا أيْسَرْتُ قضيتُ» . وأكثر الروايات عن ابن عباس، وبعض العلماء أنّ القرض مخصوص بأصول الأموال من الذَّهب والفضَّة وغيرهما، فأمَّا التَّناول من ألبان المواشي، واستخدام العبيد، وركوب الدَّواب، فمباح له إذا لم يضرَّ بالمال، وهذا قول أبي العالية؛ لأنه أمر بدفع أموالهم إليهم. قال الشَّعْبيُّ: «لا يأكله إلا أن يضطر كما يضطر إلى الميتة» . وقال قوم: لا قضاء عليه لقوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً} وهذا يُشْعِرُ بأن له أن يأكل بقدر الحاجة، وقوله {فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} أن للوصي أن ينتفع بمقدار الحاجة، وقوله {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] {سَعِيراً} [النساء: 10] يدل على أن مال اليتيم قد يؤكل وغير ظلم، وإلاَّ لم يكن لقوله {ظُلْماً} معنى. وأيضاً الحديث المتقدم، وأيضاً فيقاسُ على السَّاعي فإنَّهُ يُضْرَبُ له من الصَّدقات على قدر عمله، فكذا ها هنا. وقال أبُو بكرٍ الرازيُّ: الَّذي نعرفه من مذهب أصحابنا أنه لا يأخذ على سبيل القرض، ولا على سبيل الابتداء سواء كان غنياً أو فقيراً، لقوله تعالى: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] إلى قوله {حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2] ، وقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] إلى قوله {سَعِيراً} [النساء: 10] وقوله: {وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط} [النساء: 127] . فصل قال القرطبيُّ: كما على الوصي والكفيل حفظ مال يتيمه كذلك عليه حفظ الصبيِّ في بدنه وتأديبه، «رُوِيَ أنَّ رجلاً قال لِلنبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنَّ في حجري يتيماً أآكل من ماله؟ قال:» الجزء: 6 ¦ الصفحة: 191 نعم «غير متأثل مالاً ولا واقٍ مالك بماله» قال: يا رسول الله أفأضربه، قال: «مَا كُنْت ضَارِبً منه وَلَدَكَ» . {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} . وهذا أمر رشاد، وليس بواجب، أمر الولي بالإشهاد على دفع المال إلى اليتيم بعد البلوغ ليزول عنه التهمة وتنقطع الخصومة. واختلفوا فيما إذا ادَّعى الوصيُّ بعد بلوغ اليتيم أنَّه دفع المال إليه هل يصدَّق؟ أو قال أنْفَقْتُ عليه المالَ في صغر؟ فقال مالكٌ والشَّافعيُّ: لا يصدَّقُ. وقال أبو حنيفة: «يصدَّقُ» . قوله: {وكفى بالله حَسِيباً} . في «كفى» قولان: أحدهما: أنَّها اسم فعل. والثاني: وهو الصَّحيح - إنها فعلٌ، وفي فاعلها قولان: الأول: وهو الصَّحيح أنَّهُ المجرور بالباء، والباء زائدة فيه وفي فاعل مضارعه نحو: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ} [فصلت: 53] باطِّراد فقال أبُو البقاء: زيدت لتدلَّ على معنى الأمر إذ التقدير: اكتف بالله، وهذا القول سبقه إليه مَكِي والزَّجاجُ فإنه قال: دَخَلَتْ الباءُ في الفاعل؛ لأن معنى الكلام الأمرُ أي: الباء ليست بزائدة، وهو كلامٌ غيرُ صحيح؛ لأنه من حيث المعنى الذي قدَّره يكون الفاعل هم المخاطبين، و «بالله» متعلّق به، ومن حيث كون «الباء» دخلت في الفاعل يكون الفاعل هو اللهُ تعالى، فيتناقض. وفي كلام ابن عطية نحو من قوله أيضاً فإنه قال: «بالله» في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 192 وفائدة زيادته تبيَّن معنى الأمر في صورة الخَبَرِ أي: اكتفوا بالله، «فالباء» تدل على المراد من ذلك، وفي هذا ما رُدَّ به على الزَّجَّاجِ، وزيادة جَعْلِ الحرف زائداً وغير زائدٍ. والثاني: أنَّه مضمر والتَّقديرُ: كفى الاكتفاء و «بالله» على هذا في موضع نصب؛ لأنه مفعول به في المعنى، وهذا رأي ابن السَّراج، وَرُدَّ هذا بأن إعمال المصدر المحذوف لا يجوز عند البصريين إلا ضرورة كقوله: [البسيط] 1758 - هَلْ تَذْكُرُونَ إلَى الدَّيْرَينِ هجْرَتَكُمْ ... وَمَسْحَكُمْ صُلْبَكُمْ رَحْمَانُ قُرْبَاناً أي قولكم: يا رحمان قرباناً، وقَالَ أبو حيان: وقيل: الفاعِلُ مضمر، وهو ضمير الاكتفاء أي: كفى هو أيْ: الاكتفاء، و «الباء» ليست زائدة، فيكون في موضع نصب ويتعلق أنذاك بالفاعل، وهذا الوجه لا يسوغ على مذهب البصريين، لأنه لا يجوز عندهم إعْمَالُ المصدر مضمراً، وإن عني بالإضمار الحذف امتنع عندهم أيضاً لوجهين: حذف الفاعل، وإعمال المصدر محذوفاً وإبقاء معموله، وفيه نظرٌ؛ إذْ لقائل أن يقول: إذا قلنا بأن فاعل «كفى» مضمر لا نعلق «بالله» بالفاعل حتّى يلزم ما ذكر بل نعلقه بنفس الفعل كما تقدَّمَ. وقال ابْن عيسى: إنَّما دخلت الباء في «كفى بالله» ؛ لأنَّهُ كان يتصل اتَّصال الفاعل [وبدخول الباء اتصل] اتصالَ المضافِ، واتَّصال الفاعل، لأنَّ الكفاية منه ليست كالكفاية من غيره فضوعِفَ لفظها لمضاعفة معناها، ويحتاج إلى فكر. قوله: {حَسِيباً} فيه وجهان: أصحهما: أنه تمييز يدلُّ على ذلك صلاحيَّة دخول «مِنْ» عليه، وهي علامة التمييز. والثَّاني: أنه حال. و «كفى» ها هنا متعدّية لواحد، وهو محذوف تقديره: «وكفاكم الله» . وقال أبُو البَقَاءِ: «وكفى» يتعدَّى إلى مفعولين حُذِفَا هنا تقديره: كفاك اللهُ شرَّهم بدليل قوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة: 137] والظاهر أن معناها غيرُ معنى هذه. قال أبو حيّان بعد أن ذكر أنها متعدية لواحد: وتأتي بغير هذا المعنى متعدية إلى اثنين كقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة: 137] وهو محل نظر. قال ابن الأنباري والأزهري: يحتمل أن يكون الحَسِيبُ بمعنى المحاسب، وأن يكون بمعنى الكافي، فمن الأول قولهم للرَّجل تهديداً: حَسْبُهُ اللهُ، [ومعناه: يحاسبه] الله على ما يفعل من الظُّلم، ومن الثَّاني قولهم: حسبك الله، أي: كافيك الله وهذا وعيد سواء فسَّرنا الحسيب بالمحاسب، أو بالكافي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 193 لما ذَكَرَ تعالى أمر اليتامى، وصله بذكر المواريثِ، وهذا هو النَّوْع الرَّابع من الأحكام المذكورة في هذه السورة، ويكون ما يتعلق بالمواريث. قال ابن عباس: سبب نزول هذه الآية أن أوس بن ثابت الأنصاري توفي عن ثلاث بنات وامرأة، فجاء رجلان من بَنِي عمّه وهما وصيّان له يقال لهما: سُوَيدٌ وعَرْفجَة فأخذا ماله، ولم يعطيا امرأته ولا بناته شيئاً وكانوا في الجاهليَّةِ لا يورثون النِّساء ولا الصغار، وإنْ كان الصغير ذكراً إنما كانوا يورثون الرِّجال، ويقولون لا يعطي إلا من قاتل، وطاعن بالرُّمح، وحاز القسمة وذبَّ عن الحَوْزَةِ، «فجأت أمُّ كُحّة فقالت: يا رسول الله إن أوس بن ثابت مات، وترك عليّ بنات، وأنا امرأته ليس عندي ما أنفق عليهن وقد ترك أبوهنّ مالاً حسناً، وهو عند سويد وعرْفجة، ولكم يعطياني ولا بناتي شيئاً وهن في حجري لا يطمعْنَ ولا يسقين، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» ارجعي إلى بيتك حتى أنظر فيما يحدثُ الله في أمرك «. فدعاهما رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرساً، ولا يحمل كلاًّ، ولا يَنْكَأُ عَدُوّاً فأنزل الله تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} يعني للذُّكور مما ترك أولاد الميِّت وأقربائه {نَصيِبٌ} حظّ {مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} من الميراث، {وَلِلنِّسَآءِ} نصيب، ولكنه تعالى لم يُبَيِّن المقدار في هذه الآية، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» لا تُفَرِّقَا مِنْ مَالِ أوْسِ بْنِ ثَابِتْ شيئاً فَإنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لِبَنَاتِهِ نَصِيباً مِمَّا تِرَكَ، ولَمْ يبيِّن كَمْ هُوَ حَتَّى أنْظُر مَا يَنْزِلُ فِيهِنَّ «فأنزل اللهُ - عزّ وجلّ -: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} [النساء: 11] فأرسل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى سُوَيْدٍ وَعُرْفُجة أن ادفعا إلى أمّ كُحة الثمن وإلى بناته الثلثين، ولكما باقي المال،» فهذا هو الكلام في سبب نزول هذه الآية. بين الله تعالى أن للنِّسَاء حقاً في الميراث خلافاً لعادَةِ العرب في الجاهليَّةِ وذكره مُجْملاً أولاً ثم بَيَّنَهُ بعد ذلك على سبيل التدريج؛ لأنَّ النَّقل عن العادة يشق، فقال لهما: «ادفعا إليها نصيب بناتها الثُّلثين ولَكُمَا باقي المال» . قوله: {مِّمَّا تَرَكَ} هذا الجارُّ في محل رفع؛ لأنه صفة للمرفوع قبله أيْ: نَصِيبٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 194 كائن أو مستقر، ويجوز أن يكون في محلّ نصبٍ متعلِّقاً بلفظ «نصيب» لأنه من تمامه. وقوله {مِمَّا قَلَّ} [و] في هذا الجارّ أيضاً وجهان: أحدهما: أنه بدل من «ما» الأخيرة في «مما ترك» بإعادة حرف الجرّ في البدل، والضمير في «منه» عائد على «ما» الأخيرة، وهذا البدل مرادٌ أيضاً في الجملة الأولى حُذِفَ للدلالة عليه، ولأن المقصود بذلك التأكيد؛ لأنه تفصيلٌ للعموم المفهوم من قوله {مِّمَّا تَرَكَ} فجاء هذا البدل مفصّلا لحالتيه من الكثرة والقِلَّةِ. والثاني: أنه حال من الضَّمِيرِ المحذوف من «ترك» أي: مما تركه قليلاً، أو كثيراً، أو مستقراً مما قلّ. فصل قال القُرْطِبِيُّ: استدلّ علماؤنا بهذه الآية على قسم المتروك على الفرائض، فإن كانت القِسْمَةُ لغير المتروك عن حاله كالحمام الصّغير، والدّار التي تبطل منافعها بإقرار أهل السهام فيها فقال مالك: يقسم ذلك، وإن لم ينتفع أحدهم بنصيبه لقوله تعالى {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} [النساء: 7] وبه قال الشَّافعيُّ وأبو حنيفة. قال أبو حنيفة: في الدِّار الصَّغيرة يكون بين اثنين فطلب أحدهما القسمة، وأبى صَاحِبُه قُسمتْ له. وقال ابن أبي ليلى: إن كان فيهم من لا يَنْتَفِعُ بقسمه، فلا يقسم، وكل قسم يدخل فيه الضّرر على أحدهما، دون الآخر فإنَّه لا يقسم، وهو قول أبي ثَوْرٍ. وقال ابْنُ المُنْذِرِ: وهو أصحُّ القولين. قوله: {نَصِيباً مَّفْرُوضاً} فيه أوجه: أحدها: أن «نصيباً» ينتصب على أنَّهُ واقع موقع المصدر، والعامل فيه معنى ما تقدَّم إذ التَّقدير عطاءً أو استحقاقاً، وهذا معنى قول مَنْ يقول منصوب على المصدر المؤكد. قال الزَّمخشريُّ: كقوله: {فَرِيضَةً مِّنَ الله} [النساء: 11] كأنه قيل: قسمة مفروضة، وقد سَبَقه الفرَّاءُ إلى هذا، قال: نُصِبَ؛ لأنه أخرج مُخْرَجَ المَصْدَر؛ ولذلك وحّده كقولك: له عَليَّ كذا حقّاً لازماً، ونحوه {فَرِيضَةً مِّنَ الله} [النساء: 11] ، ولو كان اسْماً صحيحاً لم ينصب، لا تقول: لك عليّ حق درهماً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 195 الثاني: أنَّه منصوبٌ على الحالِ ويُحتمل أن يكون صاحبُ الحال الفاعل في «قَلَّ» أو «كَثر» ويُحتمل أن يكون «نَصِيب» ، وإن كان نكرة لتخصّصه إمَّا بالوَصْفِ، وإمَّا بالعمل والعامل في الحال الاستقرار الَّذي في قوله: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ} ، وإلى نصبه حالاً ذهب الزَّجَّاج ومكيٌّ قالا: المعنى لهؤلاء أنْصِباء على ما ذكرناها في حالِ الفرض. الثالث: أنَّهُ منصوبٌ على الاختصاص بمعنى: أعني نَصيباً، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. قال أبو حيَّان: إن عنى الاخْتِصاص المصطلَح عليه فهو مردود بكونه نكرةً، وقد نَصُّوا على اشتراط تعريفه. الرابع: النصب بإضمار فعل أي: أو جُعِلَت لهم نصيباً. الخامس: أنه مصدر صريح أي نَصَّبْتُهُ نَصيباً. فصل دلالة الآية على توريث ذوي الأرحام قال أبُو بكرٍ الرازي: هذه الآية تَدُلُّ على توريث ذوي الأرْحَام لأنَّ العمَّاتِ والأخوالِ، والخالاتِ، وأولادَ النبات من القريبين، فوجب دُخُولُهُم تَحْتَ قوله {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} أقصى ما في الباب أنَّ قدر ذلك النَّصيب غير مذكور في هذه الآية إلاَّ أنَّا نثبت كونهم مستحقين لأصل النَّصيب بهذه الآية، وَأَمَّا المقدار فنستفيده من سائر الدلائل. فصل معنى «مفروضاً» أي: مَقْطُوعَاً واجباً الفرضِ: الحز والتأثير، ولذلك سُمِيَ الحزّ الَّذي في سية القوس، فرضاً، والحزُّ الَّذي في القداح يسمَّى أيضاً فرضاً، وهو علامة لتميّز بينها وبين غيرها، والفرضة علامة في مقسم الماء يعرفُ بها كل ذي حقٌّ حقَّه من الشُّرْبِ، فهذا أصلُ الفرض في اللُّغةِ، ولهذا سَمَّى أصحابُ أبي حنيفة الفرض [به] ما ثبت بدليل قَطْعِيٍّ، والواجب عبارة عن السقوط يقال: وَجَبَتِ الشَّمْسُ: إذا سَقَطَت وسمعتُ وجبةٌ يعني: سَقْطَة، قال تعالى: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي: سَقَطَتْ، وتأثير القَطْعِ أقوى من تأثير السُّقوط. قال ابن الخطيب: وهذا التقرير يقضي عليهم بأن الآية ما تناولت ذوي الأرحام [ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 196 لأن توريث ذوي الأرحام ليس من باب ما عرف بدليل] قاطع بإجْمَاعِ الأمَّةِ، فلم يكن توريثهم فَرْضَاً، والآية إنَّمَا تناولت التَّوريث المفروض فَلَزِمَ القَطْعُ بأنَّ هذه الآية ما تَنَاولت ذوي الأرحام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 اختلفوا في المُرَادِ بهذه القسمة على ثَلاثَةِ أقوال: القول الأوَّلُ: أن المُرَادَ بها في قسمة الميراث، واختلفَ القائلون بهذا القول، هل المرادُ به لوجوبُ أو النَّدْبُ؟ فالقائلون بالوُجُوبِ اختلفوا، فقال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ والضَّحاك: كانت هذه قَبْلَ آية المواريث، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيةُ المواريث جعلت المواريثُ لأهْلَها ونسخت هذه الآية وقال ابنُ عَبَّاسٍ والشَّعْبِيُّ والنَّخَعِيُّ والزُّهْرِيُّ: وهي محكمة. قل مُجَاهِدٌ: وهي واجبةٌ على أهل الميراثِ ما طالت به أنفسهم. قال الحَسَنُ: كانوا يُعْطون التابوت والأواني ورثّ الثياب والمتاع والشيء الذي يُسْتَحْيَا من قسمته، وإن كان بَعْضُ الوَرَثَة صغاراً فقد اختلفوا فيه، قل ابن عبَّاسٍ وغيره: إن كانت الورثة كباراً رضخوا لهم، وإن كانت الوَرَثَةِ صغارً اعتذروا إليهم، فَيَقُولُ الولي: إني لا أملك هذا المال إنَّمَا هو الصغار، ولو كان لي منه شيء لأعطيتكم. وقال بعضهم: ذلك حقٌّ واجب في أموال الصغار والكبار، فإن كانُوا كِبَاراً تَوَلوا إعطاءَهم وإن كانوا صِغاراً أعطى وليهم، وروى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرينَ أنَّ عبيدة السَّلْمَانِي قسم أموال أيتام، وأمر بشاة فذبحت فصنع لهم طعاماً لأجل هذه الآية، وقال: لولا هذه الآية لكان هذا من مالي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 197 وقَالَ قَتَادَةُ عن يَحْيَى بن معمر: ثلاث آياتٍ محكمات مذنيات تركهن النَّاسُ، هذه الآية، وآية الاستئذان {ياأيها الذينءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم} [النور: 58] وقوله: {يا أيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى} [الحجرات: 13] . وقال آخرون: ذلك على سبيل النَّدْبِ إذا كان الورثة كباراً، فإن كَانُوا صغاراً فليس إلاَّ القول المعروف، وهذا هو الَّذي عليه فقهاءُ الأمصار لأنَّه لو كان لهم حَقٌّ معين لبينه اللهُ - تعالى - كسائر الحقوق، ولو كان واجباً لتوفّرت الدَّواعي على نقله لشدَّة حرص الفقراء والمساكين على تقريره، ولو كان كَذَلِكَ لنقل على سبيل التَّوَاتُرِ. القول الثَّاني: أنَّ المراد بالقسمة الوصيَّة فَإذَا [حضرها منة لا يرث] من الأقرباء اليتامى والمساكين أي: الذين لا يرثون ثم قال: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى} واليتامى والمساكين} أنَّهُ راجع إلى أولي القربى الذين يرثون. [وقوله: {فارزقوهم مِّنْهُ} راجع إلى اليتامى والمساكين الذين لا يرثون] . وهذا القَوْلُ محكيٌّ عن سعيد بن جُبَيْرٍ، وقدم اليتامى على المساكين، لأنَّ ضعفهم أكثرُ وحاجاتهم أشَدُّ فكان وضع الصدقات أفضل وأعظم في الأجر. قوله: {فارزقوهم مِّنْهُ} . في هذا الضمير ثَلاَثَةُ أوْجهٍ: أحدها: أنه يعود على المال، لأنَّ القسمة تَدُلُّ عليه بطريق الالتزام. الثَّانِي: أنَّهُ يعود على «ما» في قوله: {مِّمَّا تَرَكَ} . الثَّالِثُ: أنَّهُ يعود على نفس القِسْمَةِ، وإن كان مذكراً مراعاة للمعنى إذ المراد بالقسمة الشيء المقسوم، وهذا على رأي من يرى ذلك، وَأمَّا مَنْ يقول: القسمة من الاقتسام كالخبرة من الاختبار أو بمعنى القَسَم فلا يتأتى ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 قرأ الجمهور بسكون اللاَّم في الأفعال الثَّلاَثَةِ وهي لام الأمر، والفعل بعدها مجزومٌ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 198 بها، وقرأ الحَسَنُ وعيسى بْنُ عُمَرَ بكسر اللامِ في الأفْعَالِ الثَّلاثة وهو الأصل، والإسكان تخفيفٌ إجراءً للمنفصل مُجْرى المتصل، فإنهم شَبَّهوا «وليخش» ب «كَيف» وهذا ما تَقَدَّمَ الكلام في نحو: «وهْيَ» و «لَهْي» في أول البقرة. قال القرطبي: حذفت الأولف من {وَلْيَخْشَ} للجزم بالأمر، ولا يجوز عند سِيبَويْه إضمار لام الأمر قياساً على حروف الجرّ إلاّ ضرورة شعر، وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم. وأنشدوا: [الوافر] 1759 - مُحَمَّدُ تَفِدُ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إذَا مَا خِفْتَ مِنْ شَيءٍ تَبَالاَ أراد لتفد وهو مفعل «يخشى» محذوف لدلالة الكلام عليه، و «لو» هذه فيها احتمالان: أحدهما: أنَّهَا على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره أو حرف امتناع لامتناع على اختلاف العبارتين. والثَّانِي: أنَّهَا بمعنى «إن» الشَّرطية وإلى الاحتمال الأوَّل ذهب ابْنُ عطيّة والزَّمخشري. قال الزَّمخشريُّ: فإن قلت ما معنى وقوع {لَوْ تَرَكُواْ} وجوابه صلة ل «الذين» قلت: معناه: وليخش الَّذِينَ صفتهم وحالهم أنَّهم لو شارفوا أن يتركوا خَلْفَهُمْ ذريّة ضِعافاً، وذلك عند احتضارهم خَافُوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل: [الوافر] 1760 - لَقَدْ زَادَ الحَيَاةَ إليَّ حُبّاً ... بَنَاتِي إنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ أُحَاذِرُ أنْ يَرَيْنَ البُؤسَ بَعْدِي ... وَأنْ يَشْرَبْنَ رَنْقاً بَعْدَ صَافِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 199 وقال ابن عطية تقديره: لو تركوا لخَافُوا، ويجوزُ حذف اللام من جواب «لو» ووجه التمسك بهذه العبارة أنَّهُ جعل اللامَ مقدَّرَةً في جوابها، ولو كانت «لَوْ» يمتنع بها الشَّيء لامتناع غيره، و «خَافُوا» جوابُ «لَوْ» . وإلى الاحتمال الثَّانِي ذهب أبو البقاءِ وابنُ مَالِكٍ: «لو» هنا شرطية بمعنى «إنْ» فتقلب الماضي إلى معنى الاستقبال، والتَّقدير: وليخش الذين إنْ تركوا ولو وقع بعد «لو» هذه مضارع كان مستقبلاً كما يكونُ بَعْدَ «إنْ» وأنشد: [الكامل] 1761 - لاَ يُلْفِكَ الرَّاجُوكَ إلاَّ مُظْهِراً ... خُلُقَ الكِرَام وَلَوْ تَكُونُ عَدِيماً أي: وإنْ تكن عديماً، ومثلُ هذا البيت قول الآخر: [البسيط] 1762 - قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا شَدُّوا مَآزِرَهُمْ ... دُونَ النَّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بأطْهَارِ والَّذي ينبغي أن تكون على بابها كونها تعليقاً في الماضي، وَإِنَّمَا حمل ابْنُ مالك، وَأبَا البقاء على جَعْلِها بمعنى «إنْ» توهُّمُ أنَّهُ لَمَّا أمر بالخشيةِ - والأمرُ مستقبل ومتعلِّقُ الأمر موصول لم يصحّ أن تكون الصِّلةُ ماضية على تقدير دلالته على العدم الذي ينافي امتثالَ الأمر، وحَسَّنَ مكانَ «لو» لفظ «إنْ» ولأجل هذا التوهُّم لم يُدْخل الزمخشري «لَوْ» على فعل مستقبل، بل أتى بفعل ماضٍ مسندٍ للموصول حالةَ الأمر فقال: «وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا» . قال أبُو حَيَّان: «وهو الَّذي تَوهَّموه لا يلزم، إلاَّ كانت الصِّلةُ ماضيةً في المعنى واقعةً بالفعل، إذا معنى» لو تركوا من خلفهم «أي: ماتوا فتركوا من خلفهم، فلو كان كذلك للزم التَّأويلُ في» لَوْ «أن تكون بمعنى» إنْ «إذ لا يجامع الأمر بإيقاع فعل مَنْ مات بالفعل، فَإذَا كَانَ مَاضياً على تقدير فَيَصِحُّ أن يقع صِلَةً وأن يكون العاملُ في الموصول الفعل المستقبل نحو قولك: ليزرْنَا الذي لو مات أمسِ لبكيناه» . انتهى. وَأمَّا البيتان المتقدّمان فلا يلزمُ من صِحَّةِ جَعْلِهَا فيهما بمعنى «إنْ» أنْ تكن في الآية كذلك؛ لأنَّا في البيتين نضطر إلى ذلك، أمَّا البيتُ الأوَّلُ فلأن جواب «لو» محذوف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 200 مدلولٌ عليه بقوله: «لا يلفك» وهو نَهْيٌ، والنًّهْيُ مستقبلٌ فلذلك كانت «لَوْ» تعليقاً في المستقبل. وأمَّا البيت الثَّاني فلدخول ما بعدها في حَيزِ «إذا» ، و «إذا» للمستقبل. ومفعول {وَلْيَخْشَ} محذوفٌ أي: وليخش الله. ويجوز أن تكون المسألةُ من باب التَّنَازُع فإنَّ {وَلْيَخْشَ} يطلبُ الجلالة، وكذلك {فَلْيَتَّقُواّ} فيكون من إعمال الثَّاني للحذف من الأوَّلِ. قوله: {مِنْ خَلْفِهِمْ} فيه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ متعلِّقٌ ب «تَرَكُوا» ظرفاً له. والثَّاني: أنَّه مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من «ذرية» ؛ لأنَّه في الأصل صفة نكرة قُدِّمَتْ عليها فَجُعِلَتْ حالاً. قوله: {ضِعَافاً} ، أمال حمزة: ألف {ضِعَافاً} ولم يبال بحرف الاستعلاء لانكساره ففيه انحدارٌ فلم ينافِِ الإمالَة. وقرأ ابن مُحَيْصِنٍ «ضُعُفاً» بضمِّ الضَادِ والعين وتنوين الفاء، والسُّلمي وعائشة «ضعفاء» بضم الضاد وفتح العين والمد، وهو جمع مَقِيسٌ في فعيل صفةً نحو: ظَرِيفٍ وَظُرَفاء وكَرِيم وكرماء، وقرئ «ضَعافَى» بالفتح والإمالة نحو: سَكَارى، وظاهر عبارةِ الزَِّمشري أنَّه قُرِئَ «ضُعافى» بضمِّ الضَّادِ مثل سُكارى فَإِنَّهُ قال: «وقُرِئَ ضُعَفَاء، وضَعافى وضُعافى نحو سَكارى وسُكارى» فيحتمل أنْ يريد أنَّه قُرِئَ بضمّ الضَّادِ وفتحها، ويحتمل أن يُرِيدَ أنََّهُ قُرِئَ «ضَعافى» بفتح الضَّاد دونً إمَالَةٍ، و «ضَعافَى» بفتحها مع الإمالة [كَسَكارى بفتح اسلين دون إمالة، وسكارى بفتحها مع الإمالة] ، والظَّاهِرُ الأوَّلُ، والغالب على الظَّنِّ أنَّهَا لم تُنْقل قراءة. قوله: {خَافُواْ عَلَيْهِمْ} . أمَالَ حمزةُ ألف «خَافُوا» للكسرة المقدَّرَةِ في الألف، إذ الأصل «خَوِفَ» بكسر العين؛ بدليلِ فتحها في المُضَارعِ نحو: «يَخَافُ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 201 وعلَّل أبو البَقَاءِ وغيره ذلك بأنَّ الكَسْرَ قد يَعْرِض في حال من الأحوال وذلك إذَا أُسْنِدَ الفِعْلُ إلى ضَمِيرِ المُتَكَلِّم، أو إحدى أخواته: خِفْت وخِفْنَا، والجملةُ من «لَوْ» وجوابها صلةُ «الَّذينَ» . فصل اختلفوا في المعنيِّ على أقْوَالٍ: أحدها: أنَّهَا في الرَّجُلِ يحضره الموت فيقول مَنْ في حضرته: انظر لنفسك فَإنَّ أولادك ورثتك لا يغنون عنك من الله شيئاً. قَدِّم لنفسك، أعتِقْ، وتصدَّقْ، وأعْطِ فلاناً كَذَا، وفلاناً كذا، حتَّى يأتي على عامَّة ماله، فنهاهم اللهُ تعالى عن ذلك، وأمرهم أن يأمروه بأن ينظر لولده ولا يزيد في وصيَّتِهِ على الثُّلُثِ فيكون خطاباً للحاضرين عند الميت. فقيل لهم: كما أنَّكم تكرهون بقا أولادكم الضُّعفاء ماله، ومعناه كما أنَّك لا ترضى لنفسك مثل هذا الفعل فلا تَرْضَاهُ لأخيك المسلم. وثانيها: أنَّهُ خِطَابٌ للمريض بحضرة الموت ويريد الوصيَّة للأجانب، فيقول له من يحضره: اتَّق الله وأمسك مالك على ولدك مع أنَّ القَائِلَ لَهُ يجب أنْ يُوصِيَ لَهُ. وثالثها: أنَّهُ خِطَابٌ لمن قرب أجله ويكون المقصود نهيه عن تكثير الوصيَّة، لئلا تضيع ورثته بعد مَوْتِهِ، فَإنْ كانت هذه الآية نزلت قبل تَقْدِيرِ الوصيَّة بالثُّلُثِ، كان المرادُ بها ألا يستغرق التركةَ بالوصيَّةِ، وَإن كانت نزلت بعد تقدير الوصيَّة بالثُّلُثِ كان المرادُ منها ألا يوصي أيضاً بالثُّلُث بل ينقص إذا خاف على ذُرِّيته، وهذا مَرْويٌّ عن كثير من الصَّحَابَة. رابعها: أنَّ هذا خطابٌ لأولياء اليتيم، قال الكَلْبِيُّ: كَأَنَّهُ يقول من كان في حِجْرِهِ فليحسن إليْه بما يجب أن يُفْعَلَ بذريته من بعده. قال القاضي: وهذا أليقُ بما تَقَدَّمَ وتأخَّرَ من الآيات الواردة في الأيْتَام. قوله: {فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} . أي فليتقوا الله في الأمر الذي تقدم ذكره، والاحتياط فيه، وليقولوا قولاً سديداً، والقولُ السديدُ هو العدل والصّواب من القول. قال الزمخشريُّ: القولُ السَّديدُ من الأوصياء أن لا يؤذوا اليتامى ويكلموهم كما يكلمون أولادهم بالترحيب ويخاطبونهم: يا بني، ويا ولدي، والقول السّديد من الجالسين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 202 إلى المريض أن يقولوا: لا تسرف في وصيتك ولا تجحف بأولادك [مثل قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لِسَعْدٍ] والقول السَّديد من الوَرَثَة حال قسمة الميراث للحاضرين الذين لا يرثون أن يلطفوا إليهم القول ويخصوهم بالإكرام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 قال مقاتل بن حيّان: نزلت في رجل من غَطَفَانَ يقال له مرثدُ بْنُ زَيْدٍ وَلِي مالَ ابن أخيه وهو يتيمٌ صغيرٌ، فَأكَلَهُ فأنزل اللهُ هذه الآية. قوله: {ظُلْماً} فيه وجهان: أحدهما: أنَّه مفعول من أجله، وشروط النصب موجودة. الثاني: أنَّهُ مصدرٌ في محلِّ نَصْب على الحَالِ أي: يأكُلُونَهُ ظالمين والجملة من قوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ} هذه الجملة في محل رفع ل «إنَّ» ، وفي ذلك خلاف. قال أبُو حيان: وَحَسَّنَه هنا وقوعُ [اسم] «أن» موصولاً فطال الكلامُ بصلة الموصول فلما تباعد ما بينهما لم يُبَالِ بذلك، وهذا أحْسَنُ من قولك: «إنَّ زيداً إنَّ أبَاهُ منطلق» ، ولقائلٍ أن يقول: ليس فيها دلالة على ذلك؛ لأنها مكفوفة ب «ما» ومعناها الحصرُ فصارت مثل قولك، في المعنى: «إنَّ زيداً ما انطلق إلاَّ أبوه» وهو محل نظر. قوله: {فِي بُطُونِهِمْ} فيه وجهان: أحدهما: انَّهُ مُتَعَلِّقٌ ب {يَأْكُلُونَ} أي: بطونُهم أوْعِيَةٌ للنَّارِ، إمَّا حَقِيقَةً: بأنْ يَخلق اللهُ لهم ناراً يأكلونَهَا في بُطُونِهِم، أوْ مَجَازاً بِأنْ أطْلِقَ المُسَبِّبَ وأرادَ السبب لكونه يُفْضِي إلَيْهِ ويستلزمه، كما يُطْلَقُ اسْمُ أحَدِ المتلازمين على الآخَرِ كقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] . قال القاضِي: وهذا أوْلَى؛ لأن الإشارةَ فيه إلى كُلِّ واحِدٍ. وَالثَّاني: أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حال مِنْ «نارا» وكان في الأصل صفة للنكرة فَلَمَّا قُدِّمَتِ انْتَصَبَتْ حَالاً. وذكر أبُو البَقَاءِ هذا الوجه عن أبِي عَلِيٍّ في «تَذْكِرَتِهِ» ، وحكى عنه أنَّهُ منع أنْ يكون ظرفاً ل {يَأْكُلُونَ} فَإنَّهُ قال: {فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} حال من نار، أي: نَارٌ كَائِنَةٌ في بُطُونِهِمْ، وليس بِظَرْفٍ ل {يَأْكُلُونَ} ذكره في التَّذْكِرَةِ «. إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 203 فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً وفي قوله:» وَالَّذي يَخُصُّ هذا المَوْضِع «فيه نَظَرٌ، فَإنَّهُ كما يجوزُ أن يكونَ {فِي بُطُونِهِمْ} حالاً من» نَار «هنا يجوزُ أن يكون حالاً من» النَّار «في البقرة، وفي [إبداء] الفرقِ عُسْرٌ، ولم يظهر [منع أبي عليٍّ كَوْنَ {فِي بُطُونِهِمْ} ظرفاًَ للأكْلِ وجه ظاهر فإن قيل: الأكل لا يكون إلا] في البَطْنِ فما فائدةُ قوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} ؟ . فالجوابُ أنَّ المرادَ به التَّأكِيدُ والمبالغةُ كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167] والقول لا يكون إلا بالفم، وقوله: {ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] والقلبُ لا يكونُ إلاَّ في الصَّدْرِ، وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] والطّيرانُ لا يكون إلاَّ بالنَّجَاحِ. فصل في جواز الأكل من مال اليتيم هذه الآيةُ توكيدٌ للوعيدِ المُتَقَدِّمِ لأكل مال اليتيم، وخَصَّ الأكل بالظلم، فأخرج الأكل بغير الظُّلْمِ مثل أكْلِ الوليّ بالمعروف من مال اليتيم، وإلاَّ لم يكن لهذا التَّخصيص فائدة. فصل في حرمة جميع الإتلافات لمال اليتيم ذكر تعالى الأكل إلا أنَّ المراد منه كُلّ أنواع الإتلافات فإنَّ ضرر اليتيم لا يختلفُ بأن يكون إتلاف مال بالأكْلِ، أو بطريقٍ آخَرَ، وإنَّمَا ذكر الأكْلَ، وأراد به كُلَّ التَّصرفات المُتْلِفَةِ لِوُجُوهٍ: أحدها: أنَّ عامَّة أموال اليَتَامَى في ذلك الوقت هو الأنعام الَّتي يؤكل لحومها ويَشْرَبُ ألبانها فخرجَ الكَلاَمُ على عاداتهم. وثانيها: أنَّهُ جَرَتِ العَادَةُ فيمن أنْفَقَ مَالَهُ في وجوه مراداته خيراً كانت أو شراً أنَّهُ يقال: إنَّهُ أكل ماله. وثالثها: أنَّ الأكل هو المعظم فما يبتغي من التَّصرفات. قوله: {وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً} ، قرأ الجمهور بفتح الياء واللام، وابن عامر وأبو بكرٍ بضمِّ اليَاءِ مَبْنِيّاً من الثُّلاَثِيِّ، ويَحْتمل أنْ يكون من أصليٍّ فَلَمَّا بُنِيَ للمفعول قَامَ الأوَّلُ مقام الفَاعِلِ، وابن أبي عبلة بضمهما مبنياً للفاعل الرُّبَاعي، والأصل على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 204 هذه القراءة: سَيُصْلون من أصلي مثل يكرمون من أكرم، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياء فحذفت، فالتقى السَّاكنان فَحُذِفَ أولُهما وهو الياءُ وَضَمُّ ما قبل الواو ليصح و «أصْلَى» يُحتمل أنْ تكون الهمزةُ فيه للدُّخول في الشَّيءِ، فَيَتَعَدَّى لواحدٍ وهو {سَعِيراً} ، وأن تكون للتَّعدية، فالمفعول محذوف أي: يُصْلَونَ أنفْسهم سعيراً. وأبو حَيْوَةَ بضم الياء وفتح الصَّادِ واللاَّم مُشَدَّدَة مبنياً للمفعول من صَلَّى مضعفاً. قال أبُو البَقَاءِ: والتّضعيفُ للتكثير. والصَّلْي: الإيقاد بالنَّارِ، يقال: صَلِيَ بكذا - بكسر العين - وقوله {لاَ يَصْلاَهَآ} أي: يَصْلَى بها. وقال الخليلُ: صَلِيَ الكافرُ النَّارَ أي: قَاسَى حَرَّها وصلاه النَّارَ وَأصْلاَهُ غيرهُ، هكذا قال الرَّاغِبُ. وظاهرُ العِبَارَةِ أنَّ فَعِلَ وَأفْعَل [بمعنى] ، يتعدَّيان إلى اثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ، وقد يُحْذَف. وقال غيره: «صَلِيَ بالنَّارِ أي: تَسَخَّنَ بقربها» ف {سَعِيراً} على هذا منصوبٌ على إسقاط الخَافض. وَيَدُلُّ على أنَّ أصْلَ «يَصْلاها» يَصْلَى بها قول الشاعر: [الطويل] 1763 - إذَا أوْقَدُوا نَاراً لِحَرْبِ عَدُوِّهِمْ ... فَقَدْ خَابَ مَنْ يَصْلى بِهَا وَسَعِيرِهَا وقيل: صَلَيْتُه النَّارَ: أدْنَيْتُه منها، فيجوزُ أنْ يكونَ منصوباً مِنْ غير إسقاطِ خافضٍ. قال الفرَّاءُ: الصلى: اسم الوقود وهو الصّلاء إذا كسرت مدّت، وإذا فتحت قُصِرَتْ، ومن ضَمِّ الياء فهو من قولهم: أصْلاَهُ الله حَرَّ النَّار إصلاء، قال: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} [النساء: 30] وقال: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26] . وقال أبو زَيْدٍ: يقال: صَلِيَ الرَّجلُ النَّارَ يَصْلاَهَا صَلًى وصلاءً، وهُوَ صَالِي النَّارِ، وقوم صالون وصلاء، قال تعالى: {إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} [الصافات: 163] وقال: {أولى بِهَا صِلِيّاً} [مريم: 70] والسّعير في الأصل الجمر المشتعل، وسَعَرْتُ النَّارَ أوقدتها، ومنه: مُسْعِرُ حَرْبٍ، على التشبيه، والمِسْعَرُ: الآلةُ الَّتي تُحَرَّكُ بها النَّارُ. فصل روي أنَّهُ لما أنزلت هذه الآية ثقل ذلك على النَّاسِ فاحترزوا عن مخالطة اليتامى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 205 بالكليَّةِ، فصعب الأمر على اليتامى، فنزل قوله تعالى: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] وزعم بعضهم أنَّ هذه الآية صارت منسوخة بتلك وهو بعيد؛ لأنَّ هذه الآية في المنع من الظُّلْمِ وهذا لا يصير منسوخاً، بل المقصود أنَّ مخالطة أموال اليتامى إن كان على وجه الظُّلْم فهو إثم عظيم كما في هذه الآية، وَإنْ كان على وجه الإحسان والتّربية فهو من أعظم [أبواب] البرّ، لقوله: {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان: الأوَّلُ: أنَّهُ تعالى لَمَّا بَيَّن الحكم في مال الأيتام وما على الأولياء فيه، بَيَّنَ في هذه الآية كيفية تملك الأيتام المال بالإرث. الثَّاني: أنَّهُ لمَّا بين حكم الميراث مجملاً في قوله: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} فذكر هنا تفصيل ذلك المجمل. فصل اعلم أنَّ الوراثة كانت في الجاهليَّةِ بالذُّكورة والقوَة، وكانوا يورثون الرّجال دون النِّسَاء والصّبيان، فأبطل الله ذلك بقوله: {لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ} [النساء: 7] الآية. وكانت أيضاً في الجاهليَّة وابتداء الإسلام بالمخالطة، قال تعالى: {والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ} [النساء: 33] . ثم صارت الوراثة بالهجرة، قال تعالى: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ} [الأنفال: 72] فنسخ اللهُ ذلك كله بقوله: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} [الأنفال: 75] وصارت الوراثة بأحد الأمور الثَّلاثة: النّسب، أو النكاح، أو الولاء. وقيل: كانت الوراثة أيضاً بالتَّبنِّي، فإنَّ الرَّجل منهم كان يتبنَّى ابنَ غَيْره فَيُنْسَبُ إليه دون أبيه من النَّسب فيرثه، وهو نوع من المعاهدة المتقدِّمَةِ، وكذلك بالمؤاخَاةِ. وقال بعض العلماء: لم ينسخ شيء من ذلك بل قررهم الله عليه فقوله: {وَلِكُلٍّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 206 جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} [النساء: 33] [ليس المراد منه النصيب من المال، بل المراد فآتوهم نصيبهم من النصرة] والنصيحة وحسن المعاشرة. فصل: سبب نزول الآية روى عطاء قال: استشهد سعدُ بْنُ الرَّبِيع النَّقيب، وترك ابنتين وامرأة وأخاً، فأخذ الأخ المال كُلَّهُ، فأتت المرأةُ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالت: يا رسول اللهِ هاتان ابنتا سَعْدٍ، وإن سعداً قتل، وأن عمهما أخذ مالهما، فقال عليه السلام: «ارجعي فَلَعَلَّ اللهَ سَيَقْضِي [فيه] » ثم إنها عادت إليه بعد مدة وبكت، فأنزل الله هذه الآية، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عمَّهما، وقال له: «أعْطِ ابْنَتَيْ سَعْدٍ الثُّلُثَيْنِ، وَأمَّهُمَا الثُّمُنَ وَمَا بَقي فَهُوَ لَكَ» فهذا أوَّلُ ميراث قُسِّمَ في الإسلام. وقال مقاتلٌ والكَلْبِيُّ: ننزل في أم كُحَّة امرأة أوس بْنِ ثَابتٍ وبناته. وروى جابر قال: جاء رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنا مريض لا أعقِلُ فتوضّأ فَصَبَّ عَلَيَّ من وضوئه فقلتُ: يا رسول الله لمن المِيرَاثُ، وَإنَّمَا يرثُنِي كَلاَلَةٌ فنزلت آية الفرائض. فصل قال القَفَّالُ: قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} أي: يقول لكم قولاً يوصلكم إلى إيفاءِ حقوق أولادكم بعد موتكم، وأصل الإيصاء هو الإيصَالُ يقال: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 207 وصى يصي إذا وَصَلَ، فإذا قيل: أوصاني، فمعناه: أوصلني إلى علم ما أحتاج إلى علمه، وكذلك وَصَّى وهو على المبالغة. وقال الزَّجَّاج: معنى قوله هاهنا {يُوصِيكُمُ} أي: يَفْرِضُ عليكم؛ لأنَّ الوصية مِنَ الله إيجابٌ لقوله بعد نَصِّه على المحرمات {ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ} [الأنعام: 151] . وقرأ الحسن وأبي عبلة {يُوصِيكُمُ} بالتَّشديد، وقد تَقَدَّمَ أنَّ أوْصَى ووصَّى لغتان. قوله: {في أَوْلاَدِكُمْ} قيل: ثَمَّ مضاف محذوف أي: في أولاد موتاكم. قالوا: لأنَّهُ لا يَجُوزُ أنْ يُخَاطِبَ الحيُّ بقسمةِ الميراثِ في أولاده، ويُفْرَضَ عليه ذلك. وقال بعضهم: إن قلنا إنَّ معنى {يُوصِيكُمُ} «يبين لكم» لم يحتج إلى هذا التقدير، وقَدَّر بَعْضُهُم قبل: {أَوْلاَدِكُمْ} مضافاً، أي: في شأن أولادكم، أو في أمر أولادكم. قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ} هذه الجملة من مبتدأ وخبر، يُحْتَمل أن تكونَ في محلِّ نَصْبٍ ب «يوصي» ؛ لأنَّ المعنى: يَفْرِضُ لكم، أو يُشَرِّع في أوْلادَكُمْ، كذا قاله أبُو البَقَاءِ، وهذا يقرب من مذهب الفرَّاء، فإنَّهُ يُجْرٍي ما كان بمعنى القول مُجْراه في حكاية الجملِ، فالجملةُ في موضع نَصْب ب «يوصيكم» . وقال مَكِّيٌّ: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ} ابتداءُ وخبر في موضع نصب تَبْيينٌ لِلْوَصِيَّةِ وَتَفْسِيرٌ لَهَا. وقال الكِسَائِيُّ: «ارتفع» مثل «على حذف» أنَّ «تقديره: أنَّ للذكرِ مثلُ حظّ، وبه قرأ ابن ابيب عبلة، ويحتمل ألاَّ يكون لها محلٌّ من الإعراب، بل جيء بها للبيان والتَّفسير فهي جُملةٌ مفسِّرةٌ للوصيَّةِ، وهذا أحسن وجار على مذهب البصريين، وهو ظاهر عبارة الزمخشريِّ، فَإنَّهُ قال: وهذا إجمالٌ تفصيلُه {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} . وقوله: {لِلذَّكَرِ} لا بُدَّ من ضمير يعود على {أَوْلاَدِكُمْ} من هذه الجملة، فيحتمل أن يكون مجذوفاً أي: للذكر منهم نحو:» السَّمْنُ مَنَوانِ بدرهم «قاله الزمخشريُّ، ويحتمل أن يكون قام مقام الألف واللام عند مَنْ يرى ذلك، والأصل: لذكرهم و» مثل «صفة لموصوفٍ محذوفٍ أي: للذَّكَر منهم حَظٌّ مثلُ حَظِّ الأنثيين. فإن قيل: لا يقال في اللُّغَةِ: أوصيك لكذا، فكيف قال هنا: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ} ؟ . فالجوابُ: أنَّهُ لما كانت الوصية قولاً، فلهذا قال بعد قوله: {يُوصِيكُمُ الله} قولاً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 208 مستأنفاً وهو قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} ونظيره قوله تعالى: {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم مَّغْفِرَةً} [الفتح: 29] أي: قال لهم مغفرة؛ لأن الوعد قولٌ. فصل اعلم أنه تعالى بدأ بذكر ميراث الأوْلاَدِ؛ لأنَّ تعلُّق الإنسان بولده أشدّ التّعلقات، وللأولاد حال من انفراد وحال اجتماع مع الوالدين. فحال الانفراد [ثلاثة] إمَّا أن يَكُونُوا ذكوراً وإناثاً، أو ذكوراً فقط، أو إناثاً فقط، فإنْ كانوا ذكوراً وإناثاً فقد بَيَّنَ اللهُ تعالى حكمهم بقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} فبين تعالى أن للذكر مثل ما للأنثى مرتين. قوله: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً} الضمير في» كُنَّ «يعودُ على الإناثِ اللاَّتي شَمَلَهُنَّ قوله: {في أَوْلاَدِكُمْ} . فإنَّ التَّقدير: في أولادكم الذُّكور والإناث، فعادَ الضَّمِيرُ على أحد قِسمي الأولادِ، وإذا عاد الضَّمِيرُ على جمع التكسير العاقل المراد به مَحْضَ الذُّكور، وفي قوله عليه السَّلام «ورب الشياطين ومن أضللن» لعوده على جماعة الإناث، فَلأنْ يعودَ كذلك على جمع التكسير المشتمل على الإناث بطريق الأوْلى [والأحرى] ، وهذا معنى قول أبي حيَّان: وفيه نَظَرٌ لأن عوده هناك كضمير الإناث إنما كان لمعنى مفقودٍ هنا وهو طلب المشاكلة لأنَّ قبله «اللهم رب السموات ومن أضللن الأرضين وما أقللن» ذَكَر ذلك النحويون. وقيل: الضَّمير يعود على المتروكات أي: فإن كانت المتروكات، وَدَلَّ ذِكْرُ الأولاد عليه، قاله أبُو البقاء ومكيٌّ وقدَّره الزمخشريُّ: فإنْ كانت البنات أو المولودات. فإذا تقرر هذا ف «كُنَّ» كان واسمُها و «نسَاءٌ» خبرها، و «فوق اثنتين» ظرف في فائدةٌ، ألا ترى أنَّه لو قيل: «إنْ كان الزيدون رجالاً كان كذا» لم يَكُنْ فيه فائدةٌ. وأجاز الزَّمخشريُّ في هذه الآية وَجْهين غريبين: أحدهما: أن يكون الضمير في «كُنَّ» ضميراً مبهماً، و «نساء» منصوبٌ على أنَّهُ تفسيرٌ له يعني: تمييزاً، وكذلك قال في الضَّمِير الَّذي في «كَانَتْ» من قوله: {وَإِن كَانَتْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 209 وَاحِدَةً} على أنَّ «كن» تَامَّةٌ. والوجه الآخر: أن يكون «فوق اثنتين» خبراً ثانياً ل «كُنَّ» وَرَدَّهما عليه أبو حيّان: أمَّا الأوَّلُ: فلأنَّ «كانَ» ليْسَتْ من الأفعالِ الَّتي يكونُ فاعلُها مضمراً يُفَسِّره ما بَعْدَهُ بل هذا مختصٌّ من الأفعال ب «نعم» و «بئس» وَمَا جَرَى مَجْرَاهُمَا وبَابُ التنازع عند إعْمَالِ الثاني، فَلِمَا تَقَّدَمَ من الاحتياج إلى هذه الصفةِ؛ لأنَّ الخبرَ لا بُدَّ أنْ تَسْتَقِلَّ به فَائِدةُ الإسناد، وَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّهُ لو اقتصر على قوله «فإن كن نساء» لم يُفِدْ شيئاً؛ لأنَّهُ مَعْلُومٌ. قوله: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} قرأ الجمهور «ثلُثا» بضمِّ اللام، وهي لغة الحجاز وبني أسد. قال النَّحَّاسُ: من الثُّلث إلى العشر. وقرأ الحسن ونعيمُ بن ميسرةَ «ثُلْثا» و «الثُّلْثُ» و «النِّصْفُ» و «الرُّبْع» و «الثُّمْنُ» كلُّ ذلك بإسكان الوسط. وقال الزَّجَّاجُ: هي لغة واحدة، والسُّكونُ تخفيف. فصل بَيَّنَ في هذه الآية ما إذا كانوا إناثاً فقط، فقال: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف} ، إلا أنَّه تعالى لم يَبيِّن حُكْمَ الْبِنْتَين تصريحاً، واختلفوا فيه: فعن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ قال: الثُّلثان فرض الثلاث من البنات فصاعداً، وأمَّا فرض البنتين فهو النّصف؛ لهذه الآية؛ لأنَّ لفظة «إن» في اللُّغة للاشتراط، وذلك يدلُّ على أن أخذ الثُّلثي مشروطاً بكونهن فوق الاثنتين وهو الثلاث فصاعداً. والجواب من وجوه: الأول: قوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف} فجعل حصول النّصف مشروطاً بكونها واحدةً، وذلك ينفي حصول النّصف نصيباً للبنتين وقد جعل النّصف نصيبَ البنتين، فهذا لازم لَهُ. الثَّاني: لا نُسَلِّمُ أنَّ كلمة «إن» تَدُلُّ على انتفاء الحكم عند انتفاء الوصف، لأنَّهُ لو كان الآمر كذلك لزم التناقض بين هاتين الآيتين؛ لأن الإجماع دَلًّ على أنَّ نَصِيبَ البنتين إمَّا النِّصْفُ، وإمَّا الثُّلثان، وبتقدير أن تكون كلمة «إن» للاشتراط وجب القول بفسادهما، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 210 فثبت أنَّ القول بكلمة الاشتراط يفضي إلى الباطل فيكون باطلاً ولأنَّهُ تعالى قال: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] وقال: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101] ولا يمكن أن يفيد معنى الاشتراط في هذه الآيات. الثَّالث: أنَّ في الآية تقديماً وتأخيراً والتقدير: فإن كُنَّ نِسَاءً اثنتين فما فَوْقَهُمَا فلهن الثُّلثان. وَأمَّا سَائِرُ الأمَّةِ، فأجمعوا على أنَّ فرض البنتين الثلثان. قال أبو مسلم الأصفهاني: عرفناه من قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} فإذا كان نصيب الذكر مثل حظ الأنثيين، ونصيبُ الذكر هاهنا الثُّلثان وجل لا محالةَ أن يكون نصيب البنتين الثلثين. وقال أبو بكر الرَّازي: إذا مات وخلف ابناً وبنتاً فهاهنا نصيب البنتِ الثّلث لقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} فإذا كان نصيب البنت مع الولد الذّكر هو الثُّلث، فأن يكون نصيبها مع ولد آخر أنثى هو الثلث كان أولى؛ لأنَّ الذكر أقوى من الأنْثَى، وإذا كان حظ البنتين أزيد من حظ الواحدة، وَجَبَ أن يكون ذلك هو الثُّلثان؛ لأنَّهُ لا قائل بالفرق، وأيضاً فلما ذكرنا من سبب النُّزول أنه عليه السلاَّم أعطى بنتي سعد بن الرَّبيع الثّلثين، ولأنَّه تعالى ذكر في هذه الآية حكم الواحدة من البنات وحكم الثلاث فما فوقهن، ولم يذكر حكم البنتين، وقال في ميراث الأخوات {إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ} [النساء: 176] فذكر ميراث الأخت والأختين، ولم يذكر ميراث الكثير فصار كل واحدة من هاتين الآيتين مُجْمَلاً من وجه ومبيناً من وجه، فنقول: لما كان نصيبُ الأخوات الكثيرة على ذلك؛ لأنَّ البنت لَمَّا كانت أشد اتِّصالاً بالميت؛ امتنع جعل الأضعف زائداً على الأقْوَى. وأما القسم الثَّالِثُ: وهو أن يكون الأولاد ذكوراً فقط، فللواحد المنفرد أخذ المال كلّه، لقوله تعالى {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} ثم قال في البنات {وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف} فلزم من مجموع الآيتين أن نصيب الابن المنفرد جميع المال، وقال عليه السَّلام: «ما أبْقَتِ السِّهَامُ فللأوْلَى عَصَبةٍ ذَكَرٍ» وَإذَا أخَذَ كل ما يبقى بعد السِّهَام، وجب أن يأخذ الكلَّ إذا لم يكن سهام. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 211 فإن قيل: حظُّ الأنثيين الثُّلثان فقوله {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} يقتضي أن يكون حظُّ الذَكر مطلقاً هو الثُّلث، وذلك ينفي أن يأخذ المال كله. فالجوابُ: أنَّ المراد منه حال الاجتماع لا حال الانفراد؛ لأن قوله {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} يقتضي حصول الأولاد، وقوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} يقتضي حصول الذكر والأنثى هناك، هذا كلُّهَ إذا كان ابناً واحداً فقط، فلو كان أكثر من واحد تشاركوا في جهة الاستحقاق؛ ولا رجحان، فوجب قسم المال بينهم بالسَّويَّةِ، والله أعلم. فإن قيل: إنَّ المرأة أكثر عجزاً من الرجل، وأقل اقتداراً من الرَّجُل لعجزها عن الخروج والبروز، فإنَّ زوجها وأقاربها يمنعونها من ذلك، ولنقصان عقلها وكثرة اختداعها واغترارها، وإذا ثبت أنَّ عجزها أكمل، وجب أن يكون نصيبها من الميراث أكثر، فإن لم يكن أكثر فلا أقل من المساواة، فما الحكمة في أنَّه تعالى جعل نصيبها نصف نصيب الرجل؟ . فالجواب: لأن خرج المرأة أقل، لأن زوجها ينفق عليها وخرج الرَّجل أكثر، لأنَّهُ هو المنفق على زوجته ومن كان خرجه أكثر فهو إلى المال أحوج؛ ولأنَّ الرَّجُلَ أكملُ حالاً من المرأة في الخلقةِ وفي العقل والمناصب الدينيَّة، مثل صلاحية القضاء والإمامة، وأيضاً شهادة المرأة نِصْفُ شهادة الرَّجُلِ، ومن كان كذلك؛ وجب أن يكون الإنعام إليه أكثر؛ ولأنَّ المرأة قليلةُ العقل كثيرةُ الشَّهْوَةِ، فإذا انضاف إليها المال الكثير عظم الفسادُ، ولهذا قال الشَّاعرُ: [الرجز] 1764 - إنَّ الفَرَاغَ وَالشَّبَابِ وَالْجِدْه ... مَفْسَدَةٌ لِلْمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَهُ وروي أنَّ جعفر الصادق سُئِلَ عن هذه الآية فقال: «إنَّ حواء أخذت حفنة من الحنطة وأكلتها وأخذت حفنة أخرى وخبأتها ثم أخذت حفنة أخرى ودفعتها إلى آدم، فلما جعلت نصيبها ضعف نصيب الرجل أقلب الله الأمر عليها فجعل نصيب المرأة نصفَ نصيب الرَّجل» . فإن قيل: لِمَ لم يَقُل للأنثيين مثل حظ الذَّكر، أو للأنقى مثلاً حظ الذَّكر؟ فالجواب أنَّه لمَّا كان الذَّكر أفضل من الأنثى قدَّمَ ذِكْرَهُ على كر الأنثى كما جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى، ولأنَّ قوله {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} يدلُّ على فضل الذكر بالمطابقة، وعلى نقص الأنثى بالالتزام، ولو قال كما ذكرتم لَدَلَّ على نقص الأنثى بالمطابقة وفضل الذَّكر بالالتزام، فرجح الطرف الأوَّل تنبيهاً على أنَّ السَّعي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 212 في تشهير الفضائل يجب أن يكون راجحاً على السعي في تشهير الرَّذائل، ولهذا قال {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] فذكر الإحسان مرتين والإساءة مرَّة واحدة، وأيضاً فلأنهم كانوا يورثون دون الإناث، وهو سبب نزول الآية، فقيل: كفى للذكر أن جعل نصيبه ضعف نصيب الأنثى فلا ينبغي أن يطمع في حِرْمَانِ الأنْثَى بالكليَّةِ. فإن قيل: قوله: {فَإِن كُنَّ نِسَآءً} جمع، وأقلُّ الجمع ثلاثة فما فائدة قوله: {فَوْقَ اثنتين} ؟ . فالجواب: للتأكيد كقوله: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10] وقوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} [النحل: 51] . فصل اسم الولد يقع على ولد الصّلب حقيقة، وهل يستعمل في ولد الابن حقيقة أو مجازاً؟ خلاف. فإن قلنا: إنَّهُ مجاز، فنقول: ثَبتَ في أصول الفقه أنَّ اللَّفظ الواحد لا يجوز أن يستعمل دفعةً واحدةً في حقيقته وفي مجازه معاً، فحينئذ يمتنع أنْ يكون المراد بقوله {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} ولد الصّلب، وولد الابن معاً، ويُدْفَعُ هذا الإشكال بأن يقال: إنَّا لا نَسْتَفِيدُ حُكْمَ ولد الابن من هذه الآية، [بل] من دليل آخر، وذلك أن أولاد الابن لا يرثون إلا عند عدم الولد، وإذا لم يستغرق ولد الصّلب كلِّ الميراث، وإن ثبت أنَّه حقيقة فيهما فيكون مشتركاً بينهما فيعود الإشكال، لإنَّه ثبت أنَّهُ لا يجوزُ استعمال اللَّفظ المشترك لإفادة معينية معاً، بل الوَاجِبُ أنَّ اللفظ يكون متواطئاً فيهما كالحيوان بالنِّسبةِ إلى الإنسان، والفرص، [والذي] يدلّ على صحَّةِ ذلك قوله {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} [النساء: 23] وأجمعوا على أنه يدخل فيه ابن الصّلب، وأولاد الابن، فعلمنا أنَّ لفظ الابن يتواطأ بالنسبة إلى ولد الصّلب وولد الابن والجدّات. وقد وقع ذلك في قوله تعالى: {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] والأظهر أنَّهُ ليس على سبيل الحقيقة، فإن الصَّحَابَةِ اتَّفقوا على أنه ليس للجدّ حكم مذكور في القرآن، ولو كان اسم الأب يتناول الجد لما صحَّ ذلك. فصل قالوا إن عموم قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} مخصوص بأربع صور: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 213 أحدها: لا يتوارث الحرّ والعبد. وثانيها: أنه إذا قتل مورثه عمداً لا يرث. وثالثها: اختلاف الدّين. ورابعها: أنَّ الأنبياء عليهم السَّلام لا يورثون، وروي أنَّ فاطمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - لما طلبت الميراث ومنعوها، احتجَّوا عليها بقوله عليه السلام: «نَحْنُ مَعَاشِرَ الأنْبِيَاء لا نُورَثُ مَا تَرَكْنَاهُ صَدَقَة» فعند هذا أشارت إلى أن عموم القرآن لا يجوز تخصيصه بخير الواحد. وقوله: «وإن كانت واحدة» قرأ نافع «وَاحِدَةٌ» رفعاً على أن «كَانَ» تامة أي: وإن وُجِدَتْ واحدةٌ، والباقون «واحدة» نصباً على أن «كَانَ» ناقصة واسمُها مستتر فيها يعودُ على الوارثة أو المتروكة و «واحدة» نَصْبٌ على خبر «كان» ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أنَّ الزَّمَخشريَّ أجاز أن يكون في «كان» ضمير مبهمٌ مفسَّر بالمنصوبِ بعد. وقرأ السُّلمي: «النُّصف» بضم النون، وهي قراءةُ عليِّ وزيد بن ثابت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وقد تقدَّم شيء من ذلك في البقرة في قوله: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] ويعني: كون البنت الواحدة لها النّصف؛ لأن الابن الواحد له جميع المال إذا انفرد، فكذلك البنت إذا انفردت لها نصف ما للذكر إذا انفرد؛ لأنَّ الذَّكر له مثل حظ الأنثيين. قوله: {وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس} . {السدس} مبتدأ و {وَلأَبَوَيْهِ} خبرٌ مقدَّمٌ، و {لِكُلِّ وَاحِدٍ} بدل من {وَلأَبَوَيْهِ} ، وهذا نص الزمخشريِّ فإنَّه قال: {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} بدل من {وَلأَبَوَيْهِ} بتكرير العامل، وفائدة هذا البدل أنَّهُ لو قيل: «ولأبويه السدس» لكان ظاهرةُ اشتراكهما فيه، ولو قيل: «لأبويه السدسان» لأوْهَمَ قِسْمَةَ السدسين عليهما بالسويةِ وعلى خلافهما. فإن قُلْتَ: فهلا قيل: «ولكل واحد من أبويه السدس» وأيُّ فائدةٍ في ذكر الأبوين أولا ثم في الإبدال منهما؟ . قلت: لأنًّ في الإبدال والتفصيل بَعْدَ الإجمال تأكيداً وتشديداً كالذي تراه في الجمع بين المفسَّر والتفسير. و {السدس} مبتدأ، وخبره {لأَبَوَيْهِ} والبدلُ متوسط بينهما للبيان. انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 214 ونَاقَشَهُ أبو حيان فِي جَعْلِهِ {لأَبَوَيْهِ} الخبر دون قوله: {لِكُلِّ وَاحِدٍ} قال: «لأنه ينبغي أن يكون البدل هو الخبر دونَ المبدل منه» يعني: أنَّ البدل هو المعتمد عليه، والمبدل منه صار في حكم المُطَّرح، ونَظَّره بقولك: «إنَّ زيداً عينهُ حسنةٌ» فكما أنَّ «حَسَنَةٌ» خبر عن «عينه» دون «زيد» في حكم المُطَّرح فكذلك هذا، ونَظَّره أيضاً بقولك: [أبواك لكل واحد منهما يصنع كذا ف «يصنع» خبر عن كل واحد منهما. ولو قلت: «أبواك كُلُّ واحدٍ منهما يصنع كذا» لَمْ يَجُزْ. وفي هذه المناقشة نَظَرٌ، لأنه إذا قيل لك: ما مَحَلُّ لأبويه من الإعراب؟ تُضطر إلى أن تقول: في مَحَلِّ رفع خبراً مقدماً، ولكنه نقل نسبة الخيريّة إلى {لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} دون {لأَبَوَيْهِ} قال: وقال بعضهم: {السدس} رفع بالابتداء، و {لِكُلِّ وَاحِدٍ} الخبرُ و {لِكُلِّ} بَدَلٌ من الأبوين، و «منهما» نعت لواحد، وهذا البدلُ هو بدلُ بعضِ من كُلِّ، ولذلك أتَى معه بالضَّمير، ولا يُتَوَهَّمُ أنَّهُ بدلُ شيءٍ من شيْءٍ وهما لعين واحدةٍ لجوازِ أبواك يَصْنعان كذا وامتناع أبواك كل وتجد منهما يصنعان كذا، بل تقول: يصنع. انتهى. والضَّمير في «لأبويه» عائد على ما عاد عليه الضَّمير في «ترك» ، وهو الميتُ المدلولُ عليه بقوة الكلام، والتثنية في «أبويه» من التَّغليب، والأصل: لأبيه وأمه وَإِنَّما غَلَّبَ المذكر على المؤنث كقولهم: «القمران، والعمران» وهي تثنية لا تنقاس. فصل إذا كان مع الأبوين ولد أو أكثر كان لِكُلِّ واحد منهما السُّدس وسوى اللهُ بين الأب والأمّ في هذا الموضع؛ لأنَّ الأبَ وإن كان يستوجب التفضيل لما كان ينفقه على الابن، وبنصرته له والذب عنه صغيراً، فالأم أيضاً حملته كُرهاً ووضعته كُرْهاً؛ وكان بطنها له وعاءً، وثديها له سقاء، وحِجْرُهَا له فناء فتكافأت الحجتان، فلذلك سوَّى بينهما، فإن كانت بنتاً واحدةً وبنت ابن فللبنت النصف وللأمِّ السُّدس وللأب ما بقي، وهو الثلثُ [نصف بفرضه، وهو السُّدس] وباقيه بالتَّعصيب فإن قيل: حقُّ الأبوين على الإنسان أعظمُ من حقِّ ولده عليه، لأنَّ الله تعالى قرن طاعته بطاعتهما فما الحِكْمَةُ في جَعْلِ نصيب الأولادِ أكبر؟ . فالجواب: أن الوالدين ما بقي من عمرهما إلاّ القليل، فكان احتياجهما إلى المال قَلِيلاً، وأمَّا الأولاد فهم في زمن الصِّبا، فكان احتياجهم إلى المال أكثر [فظهر الفرق] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 215 قوله: {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث} قرأ الجمهور {فَلأُمِّهِ} وقوله: {في أُمِّ الكتاب} [الزخرف: 4] . وقوله: {حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا} في القصص [آية: 59] . وقوله: {مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النحل: 78] . وقوله: {أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور: 61] و {فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النجم: 32] بضم الهمزة من «أمّ» وهو الأصلُ. وقرأ حمزة والكسائيُّ جميعَ ذلك بكسر الهمزة. وانفرد حمزة بزيادة كسر الميم من «إمِّهات» فإنَّهُ لا خلاف في ضَمِّها. أمَّا وجهُ قراءة الجمهور فظاهرٌ، لأنَّهُ الأصل كما تَقَدَّمَ. وَأمَّا قراءة حمزة والكسائي بكسر الهمزة فقالوا: لمناسبة الكسرة أو الياء الّتي قبل الهمزة، فكسرت الهمزةُ إتباعاً لما قَبْلَها، ولاستثقالهم الخروج من كَسْرِ أو شبه إلى ضم. قال الزَّجَّاجُ: وليس في كلام العرب «فِعُل» بكسر الفاء وضمِّ العين، فلا جَرَمَ جُعِلَتْ الضمةُ كسرةً، ولذلك إذا ابتدآ بالهمزة ضَمَّاها لزوال الكسر أو الياء، وأمَّا كسر حمزة الميم من «إمَّهات» في المواضع المذكورة فللإتْبَاع، أتبعَ حركة الميم لحركةِ الهمزةِ، فكسرةُ الميم تَبَعُ التَّبَع، ولذلك إذا ابتدأ بها ضم الهمزة وفتح الميم؛ لما تقدَّمَ من زوال موجب ذلك. وكَسْرُ همزة «أم» بعد الكسرة أو الياء حكاه سببويْهِ لُغَةً عن العرب، ونَسَبَها الكِسائِي والفرَّاء إلى «هوازن» و «هذيل» . فصل ذكر ها هنا أنَّ الأبوين إذا لم يكن معهما وَارِثٌ غَيرُهُمَا، فإنَّ الأم تأخذ الثُّلث، ويأخذ الأبُ ما بقي وهو الثُّلثان، وإذا ثبت أنَّهُ يأخذُ الباقي بالتَّعْصِيبِ، وجب أن يأخذ المال كُلَّهُ إذا انفرد؛ لأنَّ هذا شأن التَّعصيب، فإن كان مع الأبوين أحد الزَّوجين، فذهب أكثر الصَّحَابة إلى أنَّ الزَّوْجَ يأخذ فَرْضَهُ، ثم تأخذ الأم ثُلْثَ ما بقي، ويأخذ الأب ما بقي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 216 وقال ابن عباس: يأخذ الزوج فَرْضَهُ، وتأخذ الأم الثلث كاملاً، ويأخذ الأب ما بقي. وقال: لا أجد في كتاب اللهِ - تعالى - ثلث ما بقي. وعن ابن سيرينَ أنَّهُ وافق ابن عبَّاس في الزَّوْجَة والأبوين، وخَالَفَهُ في الزَّوْجِ والأبوين، لأنَّهُ يُفْضِي إلى أن يكون للأنثى مثل حَظِّ الذكرين. وَأمَّا الزَّوْجَةُ، فلا يفضي إلى ذلك. وحجَّةُ الجمهور أنَّ قاعدة الميراث متى اجتمع ذكر وأنثى من جنس واحد، كان للذَّكَرِ مثل حَظِّ الأنثيين، كالأبوين مع البنت، والأخ مع الأخت، وابن الابن مع بنت الابن، والأم مع الأب كذلك إذا لم يكن للميِّتِ وارث سواهما كما تَقَدَّمَ. وإن كان كذلك، فإنَّ الزَّوْجَ يأخذ نصيبه، ويقسَّمُ الباقي بين الأبوين للذَّكر مثل حظ الأنثيين؛ ولأن الزَّوج يأخذ نصيبه بحكم عَقْدِ النِّكَاحِ لا بحكم القرابة، فأشبه الوصيَّة في قسمة الباقي. وأيضاً فإنَّ الزَّوْجَ إذا أخذ النصف، فلو دفعنا ثلث جميع المال للأم والسدس إلى الأب، يلزم منه أن يكون للأنثى مثل حظِّ الذكرين، وهذا خلاف قوله: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} . قوله: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدس} . «إخوة» أعم من أن يكونوا ذكورا أو إناثاً، أو بعضهم ذكورا وبعضهم إناثاً، ويكون هذا من باب التغليب، وزعم قومٌ أن الإخوة خاصٌّ بالذُّكور، وأنَّ الأخوات لا يَحْجُبْنَ الأم من الثُّلثِ إلى السُّدس، فقالوا: لأن «إخوة» جمع «أخ» ، والجمهور على أنَّ الإخوة وإن كانوا بلفظ الجمع يقعون على الاثنين، فيحجب الأخوان أيضاً الأم من الثُّلث إلى السُّدس خلافاً لابن عبَّاسٍ، فإنَّهُ لا يحجبُ بهما والظاهر معه. روي أنَّ ابن عباس قال لعثمان بِمَ صار الأخوان يَرُدّان الأم من الثُّلث إلى السُّدس، وَإنَّمَا قال الله تعالى: {فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} والأخوان في لِسان قومك ليس بإخوة؟ فقال عثمان: لا أستطيعُ أنْ أرُدَّ قضاءً قُضِيَ به قبلي، ومضى في الأمصار. وهذه المسألة مبنيَّةٌ على أنَّ أقل الجمع ثلاثة، والموجب لذلك هو القياس يخص هذه المسألة بأنَّ الأختين ميراثهما ميراث الثَّلاث، كما أنَّ ميراث البنتين مثل ميراث الثلاثة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 217 فكذلك نصيبُ الأختين من الأمِّ مثل نصيب الثلاثة، وإذا كان كذلك؛ وجب أن يَحْصُلَ الحَجْبُ بالأختين، وإذا وجب الحَجْبُ بالأختين لزم ثبوته في الأخوين؛ لأنَّهُ لا قَائِلَ بالفرق [فهذا أحسن ما يمكن أن يقال في هذا الموضع وفيه إشكال لأن] إجراء القياس في التقديرات صعب لأنَّهُ غير معقول، فيمونُ ذلك مجرَّدُ تشبيه من غير جامعٍ. فالجوابُ أن يقال: لا يُتَمَسَّكُ به على طريقة القياس بل على طريقة الاستقراء، لأنَّ الكثرة أمارة العموم. فصل [والأخوة] إذا حجبوا الأم من الثُّلُثِ إلى السُّدُسِ، فلا يرثون مع الأب شيئاً [ألبتة] بل يأخذ الأب باقي المال، وهو خمسة أسْدَاسٍ، سدس بالفرض، والباقي بالتَّعصيب، وقال ابن عبَّاسٍ: الإخوة يأخذون السُّدُسَ الذي حجبوا الأم عنه، وما بقي فللأب، وحجته الاستقراء دَلَّ على أن مَنْ لا يرث لا يحجب، فهؤلاء الإخوة لما حجبوا وجب أن يرثوا، وهذا يختص بالإخوة للأم إذا اجتمعوا مع الأبوين فإنَّهُمْ يحجبون الأم من الثُّلث إلى السُّدس، ولا يرثون شيئاً؛ لأن الأب يسقطهم. قوله: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّهُ متعلقٌ بما تقدمه من قسمة المواريث كُلِّهَا لا بما يليه وحده، كأنَّهُ قيل: قسمةُ هذه الأنصباء من بعد وصية قاله الزَّمَخْشَرِيُّ، يعني أنه متعلِّقٌ بقوله: {يُوصِيكُمُ الله} وما بعده. والثاني: قاله أبُو حيَّان أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بمحذوفٍ، أي: يَسْتَحِقُّون ذلك كما فُصِّلَ من بعد وصية. [والثالث: أنَّهُ حال من السُّدس، تقديره: مستحقاً من بعد وصيَّة] ، والعاملُ الظرفُ قاله أبُو البَقَاءِ، وَجَوَّزَ فيه وَجْهاً آخر، قال: [ويجوزُ أن يكون ظرفاً] أي: يستقر لهم ذلك بعد إخراج الوصيّةِ، ولا بُدَّ من تقدير حذف المضاف لأنَّ الوصيَّةَ هنا المالُ المُوصَى به، وقد تكون «الوصيَّةُ» مَصْدراً مثل «الفريضة» ، وهذان الوجهان لا يَظْهَرُ لهما وَجْهٌ. وقوله: والعاملُ الظَّرف، يعني بالظَّرف: الجارَّ والمجرور في قوله تعالى: {فَلأُمِّهِ السدس} فإنه شبيه بالظرفية، وعمل في الحال لما تضمنه من الفعل لوقوعه خبراً، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 218 و «يوصي» فعل مضارع المرادُ به المضمر، أي: وصية أوْصَى بها و «بها» متعلق به، والجملة في محلِّ جَرِّ صفةً ل «وصية» . وقرأ ابنُ كثير وابنُ عامرٍ وأبُو بكرٍ «يُوصَى» مبنيّاً للمفعول في الموضعين، ووافقهم حفص في الأخير، والباقون مبنياً للفاعل. وقُرِئَ شاذاً «يُوصَّى» بالتشديد مبنياً للمفعول، ف «بها» في قراءة البناء للفاعل في مَحَلِّ نصب، وفي قراءة البناء للمفعول في مَحَلِّ رفعٍ لقيامه مقامَ الفاعل. قوله: «أو دين» ، «أو» هنا لأحدِ الشيئين، قال أبو البقاء: «وَلا تَدُلُّ على ترتيب، إذْ لا فرقَ بين قولك:» جاءني زيد أو عمرو «، وبين قولك:» جاءني عمرو أو زيد «؛ لأنَّ» أو «لأحد الشيئين، والواحدُ لا ترتيب فيه، وبهذا يفسد قولُ مَنْ قَالَ:» من بعد دين أو وصية «وإنَّمَا يَقَعُ الترتيبُ فيما إذا اجتمعا، فَيُقَدَّمُ الدَّيْنُ على الوصيَّةِ» . وقال الزَّمخشريُّ: «فإنْ قُلْتَ: فما معنى أو؟ قلت: معناها الإباحةُ، وأنَّهُ إن كان أحدهما، أو كلاهما قُدِّمَ على قِسْمَةِ الميراثِ، كقولك:» جالس الحسنَ أو ابن سيرين «، فإن قلت: لم قُدِّمَتِ الوصيّة على الدَّيْنِ والدَّيْنُ مُقَدَّمٌ عليها في الشَّريعةِ؟ . قلت: لما كانت الوصيّةُ مُشْبهَةً للميراثِ في كونِها مَأخوذةً مِنْ غير عوضٍ، كان إخراجُها مِمَّا يَشُقُّ على الورَثةِ، بخلاف الدَّيْن، فإن نفوسهم مطمئنَّةٌ إلى أدائه، فلذلك قُدِّمَتْ على الدَّيْنِ بَعْثاً على وجوبها، والمسارعة إلى إخراجها مع الدَّيْنِ، ولذلك جيءَ بكلمةِ» أو «للتَّسْوِيَةِ بينهما في الوجوب» . وقال ابن الخَطِيبِ: إنَّ كلمة «أو» إذا دخلت على النفي صارت في معنى الواو، كقوله: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] وقوله: {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} [الأنعام: 146] فكانت «أو» هاهنا بمعنى الواو، وكذلك قوله تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} لما كان في معنى الاستثناء صار كأنه قال: إلاّ أن يكون هناك وَصِية أوْ دين فيكون المراد بعدهما جميعاً. قوله: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ} مبتدأ، و {لاَ تَدْرُونَ} وما في حَيِّزه في محلِّ الرفع خبراً له. و {أَيُّهُمْ} فيه وجهان: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 219 أشهرهُمَا: [عند المعربين] أني كونَ {أَيُّهُمْ} مبتدأ وهو اسم استفهام، و «أقربُ» خَبَرُهُ، والجملة من هذا المبتدأ وخبره في محلِّ نصب ب «تدرون» ؛ لأنَّهَا من أفْعَالِ القُلُوبِ، فَعَلَّقَها اسمُ الاستفهامِ عَنْ أنْ تَعْمَلَ في لفظه؛ لأنَّ الاستفهامَ لا يعْمَلُ فيه ما قبله في غير الاستثبات. والثَّاني: أنَّهُ يجوزُ أن يكون {أَيُّهُمْ} موصولةً بمعنى {الَّذِي} و {والأقربون} خبرُ مبتدأ مضمر، وهو عائدُ الموصولِ، وجازَ حذفه؛ لأنه يجوز ذلك مع «أي» مطلقاً: أي: أطالت الصِّلَةُ أم لم تَطُل، والتَّقدير: أيُّهم هو أقربُ، وهذا الموصول وَصِلَتُهُ في محلِّ نصب على أنَّهُ مفعول به، نَصَبَه {تَدْرُونَ} ، وإنَّمَا بُنِيَ لوجودِ شَرْطَي البناء، وهما: أنْ تُضافَ «أي» لفظاً، وَأنْ يُحْذَفَ صَدْرُ صِلَتِهَا، وصارت الآيةٌ نظيرَ قوله تعالى: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} [مريم: 69] ، فصار التقدير: لا تدرون الذي هو أقربُ. قال أبو حيَّان: «ولم أرهم ذكروه» ، يعني هذا الوجه، ولا مانع منه لا من جهة المعنى، ولا من جهة الصِّنَاعة. فعلى القول الأوَّلِ تكونُ الجملةُ سَادَّةً مَسَدَّ المفعولين، ولا حاجة إلى تقدير حذف. وعلى الثَّاني يكونُ الموصولُ في محلِّ نصبٍ مَفْعُلاً أوَّلَ، ويكون الثَّاني محذوفاً، وبعدم الاحتياج إلى حَذْفِ المفعول الثَّاني، يترجَّحُ الوجه الأوَّلُ. ثم هذه الجملةُ، أعني قوله: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ} لا محلَّ لها من الإعراب، لأنَّها جملة اعتراضية. قال الزمخشريُّ، بعد ان حَكَى في معانيها أقوالاً اختار منها الأوَّلَ: لأنَّ هذه الجملةَ اعتراضيّة، ومن حقِّ الاعتراض أن يؤكِّد ما اعْتَرَضَ بينه وبين ما يناسِبُه. يعني بالاعتراض: أنَّهَا واقعةٌ بين قصة المواريث، إلاَّ أنَّ هذا الاعتراض غيرُ مرادِ النحويين، لأنَّهُمْ لا يَعْنُون بالاعتراضِ في اصْطِلاحِهِمْ إلاَّ ما كان بين شيئين مُتَلاَزِمَيْنِ كالاعتراض بين المبتدأ وخبره، والشرط وجزائه والقَسَمِ وجوابه، والصِّلَةِ وموصولها. فصل في معاني {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ} ذكر الزَّمخشريُّ في معانيها أقوالاً: أحدها: - وهو الذي اختاره - أن جَعْلَها متعلَِّقة بالوصيَّة، فقال: ثم أكَّدَ ذلك - يعني الاهتمام بالوصيَّة - ورَغَّبَ فيه بقوله: {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ} أي: لا تدرون مَنْ أنفع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 220 لكم من آبائكم وأبنائكم الذين يَمُوتون، أمَنْ أوْصَى منهم أم مَنْ لم يوص، يعني: أنَّ مَنْ أوصى ببعض ماله فعرَّضكم لثواب الآخرة بإمضاء وصيته فهو أقرب لكم نفعاً وأحضر جدوى ممن ترك الوصية فوفَّر عليكم عَرَضَ الدُّنيا، وجعل ثَوَابَ الآخرة أقرب وأحضر من عَرَضِ الدُّنيا ذهاباً إلى حقيقة الأمر؛ لأنَّ عَرَضَ الدُّنيا، وإن كان قريباً عَاجِلاً في الصُّورَةِ إلاَّ أنَّهُ بَاقٍ، وفي الحقيقة الأقربُ الأدنى. وقيل: إنَّ الله - تعالى - لما ذكر أنصباء الأولاد، وأنصباء الأبوين، وكانت العقول لا تدرك معاني تلك التَّقديرات، فربَّما خطر ببال الإنسان أنَّ القسمةَ لو وقعت على غير هذا الوَجْهِ كانتْ أنفع له وأصلح لا سيما وقد كانت قسمة المواريث عند العرب على غير هذا الوَجْه فأزال اللهُ - تعالى - هذه الشُّبْهَة بأن قال: إنَّ عقولكم لا تحيط بمصالحكم، فَرُبَّمَا اعتقدتم في شيء أنَّهُ صالح لكم، وهو عين المضرة، وربَّمَا اعتقدتم في شيء أنَّهُ مَضَرَّة، ويكون عين المصلحة، وأمَّا الإله الرَّحيم فهو يعلمُ مغيبات الأمور وعواقبها، وكَأنَّهُ قال: اتركوا تقديرات المواريث بالمقادير التي تستحسنها عقولكم وانقادوا للمقادير التي قَدَّرَهَا اللهُ تعالى عليكم بقوله {آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً} إشارة إلى ترك ما يميل الطبعُ إليه من قسمة المواريث. قوله: {فَرِيضَةً مِّنَ الله} إشارة إلى وجوب الانقياد إلى المقادير الشَّرعيَّة. وقال ابن عباس: «لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعاً» أي: أطوعهم الله - عزَّ وجلَّ - من الآباء والأبناء أرفع درجة يوم القيامة [والله تعالى يُشَفّع المؤمنين بعضهم في بعض، فإذا كان الوالد أرفع درجة يوم القيامة في الجنة رفع إليه ولده وإن كان الولد أرفع درجة] رفع إليه والده لتقر بذلك أعينهم. قوله: {نَفْعاً} نُصِبَ على التَّمييز من «أقرب» ، وهو منقول من الفاعلية، واجب النَّصب؛ لأنَّهُ متى وقع تمييزٌ بَعْدَ «أفْعَلِ» التفضيل، فَإن صَحَّ أنْ يُصَاغَ منها مُسْندٌ إلى ذلك التمييز على جهةِ الفاعليَّة وجل النَّصب كهذه الآية، إذْ يَصِحُّ أن يُقَالَ: أيُّهم أقْرَبُ لكم نَفْعُهُ، وإن لم يَصحّ ذلك وجب جَرُّه نحو: «زيد أحسن فقيه» بخلاف «زيد أحسن فقهاً» ، وهذه قاعدة مفيدة و «لكم» متعلق ب «أقرب» . قوله: {فَرِيضَةً} فيها ثلاثة أوجه: أظهرها: أنَّها مصدرٌ مؤكد لمضمون الجملة السَّابقة من الوصية؛ لأن معنى « الجزء: 6 ¦ الصفحة: 221 يوصيكم» : فَرَضَ عليكم ذلك، فصار المعنى: «يوصيكم الله وصية فرض» ، فهو مصدر على غير الصَّدْرِ. والثاني: أنَّها مصدر [منصوبٌ بفعل] محذوف من لفظها. قال أبو البَقَاء: و {فَرِيضَةً} مصدر لفعل محذوف، أي: فرض اللهُ ذلك فريضة. والثالث: قاله مَكيٌّ وغيره: أنَّهَا حال؛ لأنَّها ليست مصدراً، وكلامُ الزمخشريُّ محتمل للوجهين الأوَّلَيْن، فإنَّهُ قال: «فريضة» نصبت نَصْبَ المصدر المؤكد، أي: «فرض الله ذلك فرضاً» . ثم قال: «إن الله كان عليماً» أي: بأمور العباد «حكيما» بنصب الأحكام. فإن قيل: لِمَ قال كان عليماً حكيماً مع أنَّهُ لم يزل كذلك؟ . فالجوابُ قال الخليلُ: الخبرُ عن الله تعالى بهذه الألفاظ، كالخبر بالحال والاستقبال؛ لأنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الدخول تحت الزمان. قال سيبويه: القومُ لما شاهدوا علماً وحكمةً وفضلاً وإحساناً تعجبوا، فقيل لهم: إنَّ اللهَ كذلك، ولم يزل موصوفاً بهذه الصفات. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 اعلم أنَّ أقسام الوراثة ثلاثة: قسم لا يسقط بحال وهم: الآباء والأولاد والأزواج قسمان، والثَّالِثُ هو المسمى بالكلالة وهذا القسم متأخر عن القسمين الأوَّلين لأنه قد يعرض لهم السُّقوط بالكليَّة، ولأنَّهم يدلون إلى الميِّتِ بواسطة، والقسمان الأوَّلان يدلون بأنفسهم فقدَّمَ اللهُ تعالى الوارث بالنَّسب؛ لأنَّهُ أعلاها ثمَّ ثنى بذكر الوارث بالسَّبب الَّذي لا يسقط بحال، لأنَّهُ دون الأوَّلِ وهو الزوجان ثم ذكر القسم الثَّالث بعدهما؛ لأنَّهُ دونهما، ولما جعل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 222 نصيب الذَّكر مثل حظ الأنثيين في الوارث النّسبي كذلك جعل حظّ الرَّجُلِ مثل حظِّ الأنثيين في الوارث السببي فقال {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ} وسواء كان الولد ذكراً أو أنثى، ولا فرق بين الأوَّلادِ وأولاد الأولاد. فصل: الخلاف في غسل الزوج زوجته بعد موتها ذهب الشافعيُّ وأحمدُ إلى أنَّهُ يجوزُ لِلرَّجُلِ أن يغسل زوجته لقوله {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} فسمَّاها زوجة بعد الموت. قال أبو حنيفة: لا يَجُوزُ؛ لأنَّهَا ليست زوجة؛ لأنَّهُ لا يحلًّ وطؤها بعد الموت. وأجيب بأنَّها لو لم تكن زوجة لكان قوله {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} مجازاً، وقد ثبت أنَّ التَّخْصيص اولى من المجاز عند التَّعارُضِ، وأيضاً فقد حَرُمَ الوطء في صورٍ كَثِيرَةٍ مع وجود الزوجيَّة كزمن الحيض والنفاس نهار رمضان، وعند الصّلوات المفروضة، والحج المفروض. ثمَّ قال: «فلهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم فإن كان لكم ولد فلهن الثمن» وسواء كانت واحدة أو أربعاً فهم فيه سواء، وهذه الآية تدلُّ على فضل الرَّجل على المرأة لتفضيلهم في النَّصِيبِ، ولأنَّه ذكر الرِّجَالَ على سبيل المخاطبة وذكر النساء على سبيل المغايبة. قوله: «وإن كان رجل يورثه كلالة» اضْطَرَبَتْ أقوال العلماء في هذه ولا بُدَّ قبل التعرُّض للإعراب من ذكر معنى {الكلالة} واشتقاقها، فإنَّ الإعراب متوقف على ذلك، فتقول: اختلف الناس في معنى {الكلالة} فقال جمهور اللغويين وغيرهم: إنَّه الميت الَّذي لا وَلَدَ لَهُ ولا والد، وهو قول عليٍّ وابن مسعودٍ. وقيل: الَّذي لا والد له فقط، وهو قول عمر. وقيل: الَّذي لا والد له فقط، وهو قول عمر. وقيل: الَّذي لا ولد له فقط. وقيل: هو من لا يرثه أبٌ ولا أم، وعلى هذه الأقوال كلِّها قالكلالةُ واقعة على الميت. وقيل: الكَلاَلَةُ: الورثة ما عدا الأبوين والولد، قاله قُطْرب، وهو اختيار أبي بكر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - وسموا بذلك؛ لأنَّ الميِّت بذهاب طرفيه تُكَلِّلُهُ الورثة، أي: أحاطوا به الجزء: 6 ¦ الصفحة: 223 من جميع نواحيه، ويُؤَيَّدُ هذا القول بأنَّ الآية نزلت في جَابِرٍ، ولم يَكُنْ له يَوْمَ نزلت أبٌ ولا ابن. وأيضاً يقال: كلت الرحم بين فلان وفلان إذا تباعدت القرابة وحلم فلان على فلان ثمَّ كَلَّ عنه إذا تباعد، فسميت القرابةُ البعيدةُ كلالة من هذا الوجه. وأيضاً يقال: كَلَّ الرَّجُلُ يَكِلُّ كَلاًّ وكَلاَلَةً: إذا أعيا وذهبت قوَّته، فاستعاروا هذا اللفْظ عن القرابة الحاصلة، من غير أولاد لبعدها. وأيضاً فإنَّهُ تعالى قال {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ} [النساء: 176] وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الكلالة من لا ولد له ولا والد؛ لأنَّهُ شرط عدم الولد وَورَّثَ الأخت والأخ، وهما لا يرِثان مع وجود الأب. وروى جابر قال: مَرِضْتُ مَرَضاً شديداً أشرفتُ منه على الموت، فأتاني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقلتُ: يا رسول الله إنِّي رَجُلٌ لا يَرِثُنِي إلاَّ كَلاَلَة، وَأرَادَ به أنَّهُ ليس له والد ولا ولد، وهو قول سعيد بن جُبَيْرٍ وإليه ذهب أكثرُ الصَّحَابَةَ. وروي عن عمر أيضاً أنَّهُ قال: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الكلالة فما أغلظ في شيء ما أغلظ لي فيها، ضرب بيده صدري وقال «يَكْفِيك آيَةُ الصَّيْفِ» ، وهي الآية الأخيرة من سورة النساء سميت بذلك؛ لأنها نزلت في الصَّيْفِ، ومات ولم يَفْهَمْهَا ولم يقل فيها شيئاً. وقيل: {الكلالة} : المالُ الموروث، وهو قول النَّضْرِ بْنِ شُمَيْلٍ. وقيل: {الكلالة} القرابة، وقيل: الوراثة. فقد تلخص مما تقدم أنَّها [إمَّا] الميِّتُ الموروث أو الوارثُ، أو المال الموروثُ، أو الإرْث، أو القرابة. وأما اشتقاقها: فقيل: هي مشتقة من تَكَلَّلَهُ الشَّيء، أي: أحاط به، وذلك أنَّهُ إذا لم يترك ولداً ولا والداً فقط انقطع طَرَفَاهُ، وهما عَمُودَا نَسَبِهِ وبقي مال الموروثُ لِمَنْ يَتَكَلَّلُهُ نَسَبُهُ، أي: يحيط به كالإكْليلِ. ومنه «الروضة المكللة» أي: بالزَّهْرِ، وعليه قول الفرزدق: [الطويل] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 224 1765 - وَرِثْتُمْ قَنَاةَ المَجْدِ لاَ عَنْ كَلاَلَةٍ ... عَنِ ابْنَيْ مَنَافٍ عَبْدِ شَمْسٍ وَهَاشِمٍ وقيل: اشتقاقها من «الكلال» وهو الإعْيَاء، فكأنه يصير الميراث إلى الوارث من بَعْدِ إعياء. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: و «الكلالة» في الأصل: مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوَّةِ من الإعياء. قال الأعشى: [الطويل] 1766 - فَآلَيْتَ لاَ أرْثِي لَهَا مِنْ كَلاَلَةٍ ... وَلاَ مِنْ وَحًى حَتَّى تُلاَقِيْ مُحَمَّداً فاستعير للقرابة من غير جهة الولد والوالد، ولأنَّهَا بالإضافة إلى قرابتهما كأنها كالَّةٌ ضعيفة، وأجاز فيها أيضاً أن تكون صفة على وزن «فَعَالة» ، قال: «كالهَجَاجَةِ والفَقَاقَةِ للأحْمَقِ» . ويقال: رجل كلالة، وامرأةٌ كلالة، وقوم كلالة، لا يثنى ولا يجمع؛ لأنَّهُ مصدر كالدّلالة والوَكَالة. إذا تقرَّرَ هذا فَلْنَعد إلى الإعراب بعَوْنِ الله، فتقول: يجوز في «كان» وجهان: أحدهما: ان تكون ناقصة و «رجل» اسمها، وفي الخبر احتمالان: أحدهما: أنه «كلالة» إن قيل: إنها الميت، وإن قيل: إنَّها الوارث، أو غير ذلك، فَتُقَدَّر حذف مضاف، أي: ذَا كلالة، و «يورث» حينئذٍ في محلَِّ رفع صفة ل «رجل» وهو فِعْلٌ مبنيٌّ للمفعول، ويتعدّى في الأصل لاثْنَيْنِ أقيم الأوَّلُ مقامَ الفاعلِ، وهو ضمير الرَّجُلِ. والثَّاني: محذوف تقديره: يورث هو مَالَهُ، وَهَلْ هذا الفِعلُ من «ورث» الثُّلاثي أو «أورث» الرُّبَاعيُّ؟ . فيه خلافٌ، إلاَّ أنَّ الزَّمَخْشَرِيُّ لَمَّا جَعَلَهٌُ مِنَ الثُّلاثي جعله يتعَدَّى إلى [المفعول] الأوَّلِ من المفعولين ب «من» فإنَّهُ قال [وإن كان رجل يورث من كلالة] و «يورث» من وَرِثَ أي: يورث فيه يعني أنَّهُ في الأصْلِ يتعدَّى ب «مِنْ» . [قال:] وقد تُحْذَفُ، تقولُ: «وَرِثْتُ زَيْداً مَالَهُ» أي: مِنْ زَيْد، ولَمّا جَعَلَهُ الرَّجُلَ وارثاً لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 225 موروثاً، فإنَّهُ قال: «فإنْ قلتَ: فإن جَعَلْتَ تُورَثُ على البناء للمفعول من» أورث «فما وَجْهُهُ» . قلتُ: الرَّجُلُ حينئذٍ الوارثُ لا الموروثُ «. وقال أبُو حيَّان: إنَِّه من» أورث «الرُّباعِيِّ المبنيِّ للمفعول، وَلَمْ يُقَيِّدْهُ بالمعنى الذي قيده به الزَّمَخْشَرِيُّ. الاحتمالُ الثَّاني: أن يكون الخبرُ الجملة من» يورث «. وفي نَصْبِ {كَلاَلَةً} أربعةُ أوْجُهٍ: أحدها: أنَّهُ حال من الضمير في» يورث «، إنْ أُرِيدَ بها الميِّتُ، أو الوارثُ، إلاَّ أنَّهُ يَحْتاج في جَعْلها بمعنى الوارث إلى تقدير مضافٍ، أي: يُورث ذا كَلاَلَةٍ؛ لأنَّ الكلالة حينئذٍ ليست نفس الضَّمير المستكن في {يُورَثُ} . قال أبُو البَقَاءِ: على جعلها بمعنى الميت ولو قُرِئَ» كلالةٌ «بالرَّفع على أنَّهَا صفةٌ أو بدلٌ من الضَّميرِ في {يُورَثُ} لجاز، غير أنِّي لم أعرف أحداً قَرَأ به، فلا يُقْرأنَّ إلا بما نُقِلَ. يعني بكونها صفةً: أنَّهَا صفةٌ ل» رَجُل «. الثَّاني: أنَّهَا مفعولٌ من أجله، إنْ قيل: إنَّهَا بمعنى القرابة، أي: يُوْرَثُ لأجل الكلالة. الثَّالثُ: أنَّهُ مفعول ثَانٍ ل {يُورَثُ} إن قيل: إنَّها بمعنى المال المَوْرُوثِ. الرَّابعُ: أنَّها نعتٌ لمصدر محذوفٍ، إن قيل: إنَّهَا بمعنى الوِرَاثَةِ، أي: يُورَثُ وِرَاثَةَ كَلاَلَةٍ. وقدَّرَ مَكِّيٌّ في هذا الوجه حَذْفَ مضافٍ تقديره:» ذَات كَلاَلَةٍ «. الوجه الثَّاني من وجهي» كان «أن تكون تَامَّةً، فيُكْتَفى بالمرفوع، أي: وإن وُجِدَ رجل. و {يُورَثُ} في محلِّ رفع صِفَةٍ ل» رَجُل «و {كَلاَلَةً} منصوبةٌ على ما تَقَدَّمَ من الحال، أو المفعول من أجله أو المفعول به، أو النَّعت لمصدرٍ محذوف عَلَى ما قُرِّرَ من معانيها، وَيخُصُّ هذا وجه آخر ذكره مَكيٌّ، وهو أن تَكُونَ {كَلاَلَةً} منصوبة على التمييزِ. [قال مَكِّيٌّ: «كان» أي: وقع، و {يُورَثُ} نعت للرَّجُل و «رجل» رفع ب «كان» و {كَلاَلَةً} نصب على التفسير] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 226 وقيل: هو نصبٌ على الحال على أنَّ الكَلاَلَةَ هو الميِّت على هذين الوجهين، وفي جعلها تَفْسيراً - أي: تمييزاً - نظرٌ لا يَخْفى. وقرأ الجمهور: {يُورَثُ} مبنيّاً للمفعولِ كما تَقَدَّمَ توجيهه. وقرأ الحسن: يورث مبنيّاً للفاعل، ونُقِلَ عنه أيضاً، وعن أبي رَجَاءَ كذلك، إلاّ أنَّهُما شدَّدا الراء، وتوجيه القراءتين واضح مِمّا تقدَّم، وذلك أنَّهُ إنْ أُريد بالكلالة الميِّتُ، فيكون المفعولان محذوفين، و {كَلاَلَةً} نَصْبٌ على الحال، أي: وَإنْ كان رجلٌ يُورِثُ وَارثَهُ، أوْ أهْلَهُ مالَه في حال كَوْنِهِ كَلالَةً. وَإِنْ أُرِيدَ بها القرابة، فتكون منصوبةً على المفعول مِنْ أجْله، والمفعولان أيضاً محذوفان على ما تَقَدَّمَ تقريره، وَإنْ أُرِيدَ بها المالُ كانت مفعولاً ثانياً، والأوَّلُ محذوفٌ أي: يُورِثُ أهْلَهُ مَالَهُ، وَإنْ أُريدَ بها الوارثُ فبالعكس، أي: يُورِثُ مالَهُ أهلَه. قوله: {أَو امرأة} عطف على {رَجُلٌ} وحُذِفَ منها ما أُثْبِتَ في المعطوف عليه للدلالة على ذلك، التَّقديرُ: أو امرأةٌ تُورَثُ كَلاَلَةً، وإنْ كان لا يَلْزَمُ من تقييد المعطوف عليه تقييدُ المعطوفِ ولا العكس، إلاّ أنَّهُ هو الظَّاهِرُ. وقوله: {وَلَهُ أَخٌ} جملة مِنْ مبتدأٍ وخبرٍ في محلِّ نصبٍ على الحال، والواو الدَّاخلة عليها واوُ الحال، وصاحبُ الحال إمَّا {رَجُلٌ} أي: إنْ كان {يُورَثُ} صفةً له، وإمَّا الضَّميرُ المستتر في {يُورَثُ} وَوَحَّدَ الضمير في قوله: «وله» ؛ لأنَّ العطف ب «أو» وما ورد على خلاف ذلك أوَّلَ عند الجمهور كقوله: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} [النساء: 135] . فإن قيل: قوله تعالى: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امرأة} ثم قال {وَلَهُ أَخٌ} فهي عن الرَّجُلِ، وما هي عن المرأة، فما السَّبَبُ فيه؟ . فالجوابُ: قال النُّحَاةُ: إذا تقدَّمَ متعاطفان ب «أو» مذكر ومؤنَّث كنتَ بالخيار، بَيْنَ أنْ تراعي المتقدم أو المتأخِّرَ، فتقول: «زيدٌ أو هندُ قامَ» وَإنْ شئت: «قَامَتْ» . وأجاب أبُو البَقَاءِ عن تذكيره بثلاثة أوجه: أحدُها: أنَّهُ يعود على الرَّجُلِ وهو مذكر مبدوء به. والثَّالِثُ: أنَّهُ يعود على الميِّت، أو الموروثِ لِتَقَدُّمِ ما يدلُّ عليه، والضَّمير في قوله: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} فيه وجهان: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 227 أحدُهُمَا: أنَّهُ يعود على الأخ والأخت. والثَّانِي: أنَّهُ يعودُ على الرَّجُلِ، وعلى أخيه وأخته، إذا أُريدُ بالرَّجُلِ في قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً} أنَّهُ وارثٌ لا موروثٌ، كما تَقَدَّمَتْ حكايته في قول الزَّمَخْشَرِيِّ. قال الزَّمخشريُّ - بعد ما حكيناه عنه -: «فإن قلتَ: فالضَّمِيرُ في قوله:» فلكل واحد منهما «إلى مَنْ يرجعُ حينئذٍ؟ . قلت: على الرَّجُلِ، وعلى أخيه، أو أخته، وعلى الأوَّل إليهما. فإن قُلْتَ: إذا رجع الضَّمِيرُ إليهما أفاد استواءَهُمَا في حيازةِ السُّدُسِ من غير مُفَاضَلَةِ الذَّكر للأنثى، فهلْ تبقى هذ الفائدةُ قائمةً في هذا الوجه؟ . قلتُ: نَعَمْ، لأنك إذا قلتَ: السُّدس له أو لواحد مِن الأخِ أو الأخت على التخيير، فقد سَوَّيْتَ بين الذَّكر والأنثى «. انتهى. وأجمع المفسِّرونَ على أنَّ المراد بالأخ والأخت هاهنا الإخوة من الأمِّ؛ لأنَّ ما في آخر السُّورة يدلُّ على ذلك، وهو كون للأخت النّصف، وللأختين الثُّلثان وللإخوة الذُّكور والإناث للذَّكَر مثلُ حظِّ الأنثيين، ولقراءة أبِي سَعِيدٍ. وقرأ أبيٌّ» أخ أو أخت من الأم «. وقرأ سعد بن أبي وقاص» من أم «بغير أداة التَّعريف. قوله: {فَإِن كانوا} الواو ضمير الإخوة من الأمِّ المدلول عليهم بقوله: {أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} والمرادُ الذُّكورُ والإناث، وأتى بضمير الذُّكور في قوله: {كانوا} وقوله: {خَلْفِهِمْ} تغليباً للمذكَّر على المؤنَّثِ، و» ذلك «إشارةٌ إلى الواحد، أي: أكثر من الواحد، يعني: فإنْ كان مَنْ يَرِثُ زائداً على الواحد؛ لأنَّهُ لا يَصِحُّ أن يقال:» هذا أكثرُ من واحد «بهذا المعنى لتنافي معنى كثير وواحد، وإلاّ فالواحدُ لا كثرة فيه، وتقدَّمَ إعراب» من بعد وصية يوصى بها «. فصل: في أثر عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال أبو بكر الصّديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في خطبته: ألا إنَّ الآيةَ التي أنزل اللهُ - تعالى - في أوَّل سورة النِّسَاءِ في بيان الفرائضِ أنزلها في الوَلَدِ، والوالد والأمِّ، والآية الجزء: 6 ¦ الصفحة: 228 الثَّانية في الزَّوْجِ والإخوة من الأمِّ، والآية الَّتي ختم بها سورة الأنفالِ أنزلها في أولي الأرحام {بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} [الأنفال: 75] . قوله: {غَيْرَ مُضَآرٍّ} » غير «نَصْبٌ على الحال من الفاعل في» يوصَى «، وهو ضمير يعود على الرجل في قوله: {وَإِن كَانَ رَجُلٌ} ، هذا إنْ أُريد بالرَّجل الموروث، وإن أُرِيدَ به الوارثُ كما تَقَدَّمَ، فيعود على الميِّت الموروث المدلول عليه بالوارثِ مِنْ طريقِ الالتزام، كما دلَّ عليه في قوله: {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} ، أي: تَرَكَهُ الموروث، فصار التقدير: يوصَى بها الموروثُ، وهكذا أعْرَبَهُ الناس فجعلوه حالاً: الزَّمَخْشَرِيُّ وغيره. وَردَّهُ أبو حيَّان، بأنَّهُ يُؤدِّي إلى الفَصْلِ بينَ هذه الحال وعامِلها بأجنبيِّ منهما، وذلك أنَّ العَامِلَ فيها {يوصى} كما تقرَّرَ. وقوله: {أَوْ دَيْنٍ} أجنبي؛ لأنَّهُ معطوف على {وَصِيَّةٍ} الموصوفة بالعامل في الحال. قال: ولو كانَ على ما قالوه من الإعراب لكانَ التركيب:» من بعد وصية يوصى بها غير مضار أو دين «. وهذا الوجه مانع في كلتا القراءتين: أعني ناء الفعلِ للفاعل، أو المفعول، وتزيدُ عليه قراءة البناء للمفعول وَجْهاً آخَر، وهو أن صاحب الحال غيرُ مذكور؛ لأنَّهُ فاعِلٌ في الأصل، حُذِفَ وأُقِيمَ المفعول مقامه، ألا ترى أنَّكَ لو قلت:» ترسل الرياح مبشراً بها «بكسر الشين يعني» يرسل الله الرياح مبشراً بها «فحذفت الفاعل، وأقمت المفعولَ مُقامَهُ، وجئتَ بالحال من الفاعل لم يَجزْ، فكذلك هذا، ثم خَرَّجه على أحد وجهين: إما بفعل يَدُّلُ عليه ما قبله من المعنى؛ ويكون عاماً لمعنى ما يتسلَّط على المال بالوصية أو الدِّيْن، وتقديره: يلزمُ ذلك مالَهُ، أو يوجبه [فيه] غَير مُضَارٍّ بورثته بذلك الإلزامِ أو الإيجاب. وإمَّا بفعلٍ مَبْني للفاعل لدلالَةِ المبني للمفعول عليه، أي: يوصي غير مُضارٍّ، فيصيرُ نظير قوله: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} [النور: 36، 37] على قراءة من قرأ بفتح الباء. فصل اعلم أنَّ الضّرار في الوّصِيَّةِ يقعُ على وجوهٍ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 229 منها: أن يوصي بأكثر من الثُّلُثِ، أو يُقِرَّ بكلِّ ماله، أو ببعضه لآخر، أو يُقِرَّ على نفسه بدين لا حقيقةَ له دَفْعاً للميراث عن الورثة، أو يُقِرَّ بأنَّ الدّين الذي كان له على فلان قد استوفاه ووصل إليه، أو يبيع شيئاً بثمن رخيص، أو يشتري شيئاً بثمن غالٍ، كلُّ ذلك لغرض ألاّ يصلَ المالُ إلى الورثة، أو يوصي بالثُّلُث لا لوجه اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الإضْرَارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبَائِرِ» ، وعن شَهْر بنِ حَوْشَب عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَإذَا لأوْصى وَجَارَ فِي وَصِيّتِه خَتَمَ اللَّهُ لَهُ بِشرِّ عَمَلِهِ؛ فَيدخُل النَّارَ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعِملِ أهْلِ النَّارِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَعْدِلُ فِي وَصِيَّتِهِ فَيَخْتِمُ اللَّهُ لَهُ بِخَيْرِ عَمَلِهِ فَيَدْخُلَ الْجَنَّةَ» ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ قَطَعَ مِيراثاً فَرَضَهُ اللَّهُ - تعالى - قَطَعَ اللَّهُ - تعالى - مِيراثَهُ مِنَ الْجَنَّةِ» ، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى بعد هذه الآية: {تِلْكَ حُدُودُ الله} [النساء: 13] قال ابنُ عبَّاسٍ: في الوصيَّةِ {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} [النساء: 14] قال: في الوصِيَّةِ. فصل هل يجب إخراج الزكاة والحج من التركة؟ قال الشَّافِعِيُّ: إذَا أخَّرَ الزَّكاةَ والحج حتَّى مات يجب إخراجهما من التَّركة. وقال أبو حَنِيفَةَ: «لا تجب» . حجَّةُ الوجوب أنَّهَا دينٌ، وقال تعالى: {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 230 وقال عليه الصَّلاة والسَّلامُ: «أرَأيْتَ لَوْ كَانَ عَلَى أبِيكَ دَيْنٌ» وقال عليه السلام: «دينُ اللَّهِ أحَقُّ أنْ يُقْضَى» . قوله: {وَصِيَّةٍ} في نصبها أربعة أوجه: أحدها: أنَّهُ مصدرٌ مؤكَّد، أي: يوصيكم اللَّهُ [بذلك] وَصِيَّة. الثَّاني: أنها مصدر في موضع الحال، والعامل فيها {يُوصِيكُمُ الله} قاله ابنُ عَطِيَّةَ. والثَّالِثُ: أنها منصوبةٌ على الخروج إمَّا مِنْ قوله: {فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس} ، أو من قوله: {لِكَ فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث} ، وهذه عبارةٌ تشبه عبارة الكوفيين. والرَّابعُ: أنَّها منصوبةٌ باسم الفاعل وهو {مُضَآرٍّ} والمُضَارَّة لا تقع بالوصيَّةِ بل بالورثة، لكنَّه لَمَّا وّصَّى اللَّهُ - تعالى - بالورَثَة جَعَلَ المُضَارَّة الواقعة بهم كأنها واقعة بنفس الوصيّة مُبَالَغةً في ذلك، وَيُؤيَّدُ هذا التخريج قراءة الحسن: {غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله والله} بإضافة اسم الفاعل إليها على ما ذكرناه من المجاز، وَصَارَ نظير قولهم: «يا سارِقَ الليلةَ» ، التقدير: غير مضار في وصية من الله، فاتُّسعَ في هذا إلى أنَّ عُدَّيَ بنفسه من غير واسطةٍ، لما ذكرنا من قَصْد المبالغة، وهذا أحْسَنُ تخريجاً من تخريج أبي البَقَاءِ فإنَّهُ ذكر في تخريج قراءة الحَسَنِ وجهين: أحدهما: أنَّهُ على حذف «أهل» أو «ذي» أي: غير مضارِّ أهل وصيَّةٍ، أو ذي وَصِيَّة. والثَّاني: على حذف وقت، أي: وقت وصيَّة، قال وهو مِنْ إضافَةِ الصِّفة إلى الزَّمانِ، ويقرب من ذلك قولهم: هو فارسُ حربٍ، أي: فارس في الحرب، وتقولُ: هو فارسُ زمانه، أي: فارس في زمانه، كذلك تقدير القراءة: غير مضارٍّ في وقت الوصيَّة. ومفعول {مُضَآرٍّ} محذوفٌ إذا لم تُجعَلْ {وَصِيَّةً} مفعولةً، أي: غير مضارٍّ وَرَثتِهِ بوصيَّةِ. فَإنْ قيل: ما الحكمةُ في أنَّهُ ختم الآية الأولى بقوله: «فريضة من الله والله عليم حليم» وختم هذه الآية بقوله: «وصية من الله» ؟ فالجوابُ: أنَّ لفظ الفرض أقوى وأؤكد من لفظ الوَصِيَّةِ، فختم شرح ميراث الأولاد بذكر الفريضة، وختم شرح ميراث الكلالة بالوصيَّةِ ليدُلَّ بذلك على أنَّ الكلَّ، وإن كان واجب الرِّعاية، إلاَّ أن رعاية حال الأولاد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 231 أولى وأقوى، ثم قال: «والله عليم حليم» عليم بمن جار أو عدل في وصيته «حليم» على الجائر لا يعالجه بالعقوبة وهذا وعيدٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 لما بَيَّنَ سهام المواريث ذكر الوعد والوعيد، ترغيبا في الطَّاعة وترهيباً عن المعصية. وقوله تعالى: {تِلْكَ} إشارة إلى ما ذكر من المواريث؛ لأنَّ الضَّمير يعود إلى أقرب مذكورٍ. وقيل: إشارة إلى كلِّ ما ذكر من أوَّلِ السُّورة إلى هنا من أحكام أموال اليتامى، والأنكحة، وأحكام المواريث، قاله الأصمُّ؛ لأنَّ الأقرب إذا لم يمنع من عوده إلى الأبعد وجب عوده إلى الكُلِّ؛ ولأنَّ المراد بحدود اللهِ: الأحكام التي ذكرناها وبيَّنها، ومنه حدود الدّار؛ لأنَّها تميزها من غيرها. قوله: {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ} وقوله: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} . قيل: مختصٌّ بمن أطاع أو عصى في هذه التَّكاليف المذكورة في هذه السُّورة. وقال المحقِّقُون: بل هو عام؛ لأنَّ اللَّفظَ عامٌّ فيتناول الكُلَّ. قوله: {يُدْخِلْهُ} حَمَلَ على لفظ «مَنْ» ، فَأفْرَدَ الضَّميرَ في قوله: {وَمَن يُطِعِ الله} و {يُدْخِلْهُ} وعلى معناها، فجمع في قوله: {خَالِدِينَ} وهذا أحسنُ الحَمْلَيْنِ، أعني: الحمل على الَّلفظ، ثم على المعنى، ويجوز العكس، وإن كان ابن عطيَّة قد منعه وليس بشيء لثبوته عن العرب، وَقَد تَقَدَّمَ ذلك مِرَاراً، وفيه تفصيلٌ، وه شروط مذكورة في كتب النحوِ. قوله: {خَالِدِينَ} في نصبه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ حال من الضمير المنصوب في {يُدْخِلْهُ} وَلاَ يَضُرُّ تَغَايُرُ الحال وصاحبها من حيث كانت جمعاً وصاحِبُها مفرداً، لما تقدَّم من اعتبار الَّلفْظِ والمَعْنَى وهي مقدّرة؛ لأنَّ الخلود بعد الدُّخول. والثَّاني: أن يكون نَعْتاً ل {جَنَّاتٍ} من باب ما جَرَى على موصوفه لَفْظاً، وهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 232 لغيره معنىً، نحو: مررت برجُلٍ قائمةٍ أمُّه، وبامرأة حَسَنٍ غُلامُها، ف «قائمة» وحسن وإن كانا جَارِيينِ على ما قبلهما لَفْظاً فهما لِما بَعْدَهما معنىً، وأجازَ ذلك في الآية الكريمة الزَّجَّاجُ وتبعه التبرِيزيُّ، إلاَّ أنَّ الصِّفة إذا جَرَتْ على غير مَنْ هي له وجب إبرازُ الضَّمير مطلقاً على مذهب البصريين ألْبسَ أو لم يُلْبَسْ. وَأمَّا الكوفيين فيفصِّلون، فيقولون: إذا جرت الصِّفة على غير مَنْ هي له، فإنْ ألْبسَ وَجَبَ إبرازُ الضمير، كما هو مذهبُ البصريين؛ نحو: «زيدٌ عمرو ضاربُه هو» ، إذا كان الضربُ واقعاً من زيد على عمرو، فإن لم يُلْبسْ لم يَجِبِ الإبرازُ، نحو: «زيدٌ هندُ ضاربُها» ، إذا تَقَرَّرَ هذا فَمذهَبُ الزَّجَّاجِ في الآية إنَّمَا يتمشَّى على رأي الكوفيين، وهو مذهب حَسَنٌ. واستدلَّ مَنْ نَصَرَ مذهب الكوفيين بالسَّمَاعِ، فمنه قراءة مَنْ قرأ {إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} [الأحزاب: 53] بجر «غير» مع عدم بروز الضمير، ولو أبْرَزَهُ لقال: غير ناظرين إناه أنتم. ومنه قول الآخر: [البسيط] 1767 - قَوْمِي ذُرَا المَجْدِ بَانُوهَا وَقَدْ عَلِمَتْ ... بِكُنْهِ ذَلِكَ عَدْنَانٌ وقَحْطَانُ ولم يقل: بَانُوهَا هُمْ. وقد خَرَّج بعضهمُ البيت على حذف مبتدأ، تقديره: هم بتنوها ف «قومي» مبتدأ أوَّلٌ، و «ذُرا» مبتدأ ثان، و «هُمْ مبتدأ ثالث، و» بانوها «خبر الثَّالث والثَّالِثُ وخبره خبر الثَّاني والثاني وخبره خبر الأوَّل. وقد منع الزمخشريُّ كون» خَالِدينَ «و» خَالِداً «صفةٌ ل» جَنَّاتِ «و» ناراً «؟ قلت: لا لأنَّهما جَرَيَا على غير مَنْ هُمَا له، فلا بُدَّ مِنَ الضَّميرِ في قولك:» خالدين هم فيها «، و» خالداً هو فيها «. ومنع أبُو البَقَاءِ ذلك أيضاً بعدم إبراز الضمير لكن مع» خالداً «ولم يتعرض لذلك مع» خالدين «ولا فرق بَيْنَهُما، ثم حكى جواز ذلك عن الكوفيين، وهذا المنع على مذهب البصريين كما تقدَّمَ. وقرأ نافعٌ وابنُ عَامِرٍ هنا» نُدْخِلْهُ «في الموضعين، وفي سورة الفتح [الآية 17] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 233 وفي سورة التغابن [الآية 9] والطلاق [الآية 11] بنون العظمة، والباقون بالياء، والضميرُ للَّه تعالى. فإن قيل: كيف جمع {خَالِدِينَ} في الطائعين، وأفرد خالداً في العاصين؟ . فالجواب: قالوا: لأنَّ أهلَ الطَّاعة أهلُ الشَّفاعة، فلمَّا كانوا يَدْخُلون هو والمشفوُعُ لهم ناشب ذلك الجمع، والعاصي لا يَدْخُلُ به غيرهُ النارَ، فناسَبَ ذلك الإفرادُ. قوله: {جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} هذه الجملةُ في محل نصبِ صفةٍ ل» جنات «، وقد تقدم مراراً أن المنصوب بعد» دخل «من الظروف هل نَصْبُهُ نصبُ الظُّروف، أو نَصْبُ المفعول به؟ الأوَّل: قول الجمهور. والثاني: قول الأخفش، فكذلك {جَنَّاتٍ} ، و {نَاراً} . فصل قالت المعتزلةُ: هذه الآية دلَّت على أنَّ العصاة من أهل الصَّلاة يخلدون في النّار؛ لأنَّ قوله {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} إمَّا أن يختص بمن تعدَّى الحدود المتقدمة، وهي حدود المواريث أو يدخل فيها ذلك وغيره، وعلى هذا يلزمُ دخول من تَعَدَّى في المواريث في هذا الوعيد، وذلك عام فيمن تَعدَّى، وهو مِنْ أهل الصَّلاة، أو ليس من أهل الصًّلاة فدلّت هذه الآية على القطع بالوعيد وعلى الخلود، ولا يقال على هذا الوعيد مختص بمن تَعَدَّى حدودَ اللَّهِ، وذلك لا يتحقَّق إلاَّ في حقِّ الكافر، فإنَّهُ هو الَّذي تعدّى جميعَ حدودَ اللَّه، فَإنَّا نقولُ: هذا مدفوع من وجهين: الأوَّلُ: أنَّا لو حملنا هذه الآية على تعدي جميع حدود اللَّه خرجت الآية عن الفائدة، لأنَّ اللَّه تعالى نهى عن اليهوديَّةِ والنَّصرانية، والمجوسيَّة، فتعدي جميع هذه النَّواهي وتركها إنما يكون بأن يأتي اليهودية والنصرانية والمجوسية معاً، وذلك محال، فثبت أن تعدي جميع حدود اللَّه محالٌ، وإذا كان كذلك علمنا أنَّ المراد منه أي حدٍّ كان من حدود اللَّه. الثَّاني: أنَّ هذه الآية مذكورة عقيب قسمة المواريث فيكونُ المراد فيها التّعدي في الحدود المذكورة في قسمة الموارث. وأجيب بأنَّا أجمعنا على أنَّ هذا الوعيد مختصٌّ بعدم التَّوْبَةِ؛ لأنَّ الدَّليل دَلَّ على أنَّهُ إذا تابَ لم يبق هذا الوعيد فكذلك يجوز أن يكون مشروطاً بعدم العَفْوِ، فإنَّ بتقدير الجزء: 6 ¦ الصفحة: 234 قيام الدلالة على حصول العفو يمتنع بقاء هذا الوعيد عند حصول العفوِ، ونَحْنُ قَدْ ذَكَرْنَا الدلائل الدّالة على حصول العفو، ثمَّ نقول: هذا العموم مخصوصٌ بالكافر لوجهين: الأوَّلُ: أنا إذا قلنا لكم: ما الدَّليلُ على أنَّ كلمة «من» في معرض الشَّرط تفيد العموم؟ قلتم: لأنَّهُ يصحُّ الاستثناء، [منه، والاستثناء] يخرج من الكلام ما لولاه لدخل فيه، فنقول: إنْ صح هذا الدَّليل فهو يَدُلُّ على أنَّ قوله {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} يختص بالكافرِ؛ لأن جميع المعاصي يَصِحُّ استثناؤها من هذا اللفْظِ، فَيُقَالُ: ومن يعص الله ورسوله إلاَّ فِي الكُفْرِ، وإلاَّ في الفسق، وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل، فهذا يقتضي أن قوله: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} في جميع أنواع المعاصي والقبائح، وذلك لا يتحقَّق إلاَّ فِي حَقِّ الكافِرِ، وقوله: الإتيان بجميع المعاصي محال قال: ةذلك لأنَّ الإتيان باليهوديَّة والنصرانيَّة والمجوسية معاً محال، فنقول: ظاهر اللَّفظ يقتضي العموم إلاَّ إذَا قَامَ مُخَصَّصٌ عقليّ أو شرعيّ، وعلى هذا التقدير يسقط سؤالهم. والوجه الثاني: في بيان تخصيص العموم بالكافر، أنَّ قوله: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ} يفيد كونه فاعلاً للمعصية والذّنب، فقوله: «ويتعد حدوده» لو كان المرادُ منه عينُ ذلك للزم التّكرار، وهو خلافُ الأصْلِ فوجب حمله على الكفر، وقولهم: تحمل هذه الآية على تعدّي الحدود المذكورة في المواريث. قلنا: هَبْ أنَّ الأمرَ كذلك إلاَّ أنَّهُ يسقط ما ذكرناه من السُّؤال بهذا الكلام؛ لأنَّ التَّعدي في حدود المواريث تارة [يكون] بأن يعتقد أنَّ تلك التَّكاليف، والأحكام حقٌّ وواجبة القبول، إلاَّ أنَّهُ يتركها، وتارة [يكون] بأن يعتقد أنَّهَا واقعة لا على وجه الحكمة والصَّواب، فيكون هذا هو الغاية من تعدي الحدود وأمَّا الأوَّلُ فلا يكاد يطلقُ في حَقِّهِ أنه تعدى حدود اللهِ، وَإلاَّ لزم وقوع التَّكرار، فعلمنا أنَّ هذا الوعيد مختصّ بالكافر الذي لا يرضى بما قسمه اللهُ من المواريث. فصل قال ابن عبَّاسٍ: الإضرار في الوصيَّة من الكبائر؛ لأنَّهُ عَقَّبَ هذه الآية بالوعيد. وفي الحديث «إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلَ بعَمَلِ أهْلِ الْجَنَّةِ سَبْعِينَ سَنَةً فَيَحِيفُ فِي وَصِيَّتِهِ فيختم له [اللهُ] بشر عمله فيدخل النار، وإنَّ الرَّجل ليعمل بعمل أهل النَّار سبعين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 235 سنةً فيعدلُ في وصيَّتِه فيختم له بخير فيدخل الجنة» . وفي الحديث: «مَنْ قَطَعَ مِيراثاً فرضه اللهُ ميراثه من الجنة» والزيادة في الوصيَّة تدل على الحسرة وذلك من أكبر الكبائر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 لما أمر تعالى في الآية المتقدّمة بالإحسان إلى النساء أمَرَ هنا بالتَّغليظ عليهن فيما يأتينه من الفاحشةِ فإن ذلك إحسان إليهن في الحقيقة. وأيضاً وكما يستوفى لخلقه فكذلك يستوفي عليهم وليس في إحكامه محاباة. وأيضاً فلا يجعل أمر الله بالإحسان إليهنَّ سبباً لترك إقامة الحدود عليهن فيصيرُ ذلك سبباً لوقوعهن في أنواع المفاسد. قوله: {واللاتي} جمع «التي» في المعنى لا في اللَّفْظِ، لأنَّ هذه صيغٌ [موضوعة للتّثنية والجمع، وليس بتثنية ولا جمع حقيقةً. وقال أبُو البَقَاءِ: «اللاتي» جمع «التي» على غير قياس. وقيل: هي صيغة] موضوعة للجمع، ومثل هذا لا ينبغي أن يَعُدَّه خلافاً، ولها جموعٌ كثيرة: ثلاثة عشرَ لفظة، وهي: اللاتي واللوَاتِي، واللائِي، وبلا ياءات فهذه ستٌّ، واللاي بالياء من غير همز، واللاء من غير ياء ولا همز، واللَّواء، بالمدِّ، واللَّوا بالقَصْر و «الأُلى» كقوله: [الطويل] 1768 - فَأمَّا الُلَى يَسْكُنَّ غَوْرَ تِهَامَةٍ ... فَكُلُّ فَتَاةٍ تَتْرُكُ الْحِجْلَ أفْصَمَا إلاَّ أنَّ الكثير أن تكون جمع «الَّذي» و «اللاَّاتِ» مكسوراً مُطْلَقاً أوْ مُعْرباً إعرابَ جمع المؤنَّث السَّالم كقوله: [الطويل] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 236 1769 - أولَئِكَ إخْوَانِ] الَّذِينَ عَرَفْتُهُمْ ... وأخدّانُكَ اللاَّءَاتُ زُيِّنَ بِالكَتَمْ برفع اللاَّءات. قال ابن الأنباريِّ: العرب تقولُ في الجمع من غير الحيوان، الّتي، ومن الحيوان: اللاتي، كقوله: {أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً} [النساء: 5] . وقال في هذه الآية: اللاتي، واللائي، والفرق هو أن الجمع من غير الحيوان سبيله سبيل الشيء الواحد وأمَّا جمع الحيوان ليس كذلك بل كلُّ واحدةٍ منهما غير متميزة عن غيرها بخواص وصفات فافترقا، ومن العَرَبِ من يسوِّي بين البابين، فيقولُ: كما فعلت الهندات التي من أرمها كذا، وما فعلت الأثواب التي من قصتهن كذا، والأوَّلُ هو المختار وفي محلِّ «اللاتي» قولان: أحدهما: الجملة من قوله: {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ} وجاز دخول الفاء زائدة في الخبر، وإن لم يَجُزْ زيادتها في نحو: «زيدٌ فاضرِبْ» على رأي الجمهور؛ لأن المبتدأ أشبه الشرك في كونه موصولاً عامّاً صلته فِعْلُ مستقبل، والخبرُ مستحقٌّ بالصّلة. الوجه الثاني: أنَّ الخبر محذوف، والتقدير: «فيما يتلى عليكم حكم اللاتي» فحذف الخبر والمضاف إلى المبتدأ للدلالة عليهما، وأقيمَ المضافُ إلى مُقامَه، وهذا نظيرُ ما فَعَلَهُ سيبويه في نحو: {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] {والسارق والسارقة فاقطعوا} [المائدة: 38] ، أي فيما يُتلى عليكم حُكْمُ الزانية، ويكون قوله: «فاستشهدوا عليهن» «فاجلدوا» دالاًّ على ذلك الحكم المحذوف لأنه بيان له. والقولُ الثاني: أنَّه منصوبٌ بفعل مقدر لدلالة السِّياق عليه لا على جهة الاشتغال لما نذكره، والتقدير: اقصدوا اللاتي يأتين، أو تعمَّدوا ولا يجوز أن ينتصب بفعل مضمر يفسره قوله: «فاستشهدوا» فتكون المسألةُ من باب الاشتغال؛ لأنَّ هذا الموصولَ أشبَهَ اسْمَ الشّرطِ، كما تقدَّم تقديره، واسم الشرط ولا يجوز أن ينتصب على الاشتغال، لأنَّهُ لا يعنمل فيه ما قبله فلو نصبناه بفعل فقد لزم أن يعمل فه ما قبله هذا ماق اله بعضهمْ، ويقرُب منه ماق اله أبُو البَقَاءِ فإنَّهُ قال: وإذا كان كذلك، أي: كونه في حُكْمِ الشَّرْطِ لم يحسن النَّصب، لأنَّ تقدير الفعل قبل أداء الشرط لا يجوز وتقديره بعد الصِّلةَ يحتاج إلى إضمار فعل غير قوله «فاستشهدوا» ؛ لأن «استشهدوا» لا يَصِحُّ أن يعمل النصب في «اللاتي» ، وفي عبارته مناقشةٌ يطولُ ذكرُهَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 237 والثَّاني: أنَّهُ منصوب على الاشتغال، ومَنَعَهُمْ ذلك بأنَّه يَلْزَمُ أن يعمل فيه ما قبله جوابه أنَّا نُقَدِّرُ الفعلَ لا قَبْلَهُ، وهذا خلافٌ مشهور في أسماءِ الشَّرْطِ والاستفهام، هل يَجْرِي فيها الاشتغال أم لا؟ . فمنعه قَوْمٌ لِمَا تقدم وأجازه آخرون مقدَِّرين الفعل بعد الشَّرْطِ والاستفهامِ. وكونُهُ منصوباً على الاشتغال هو ظاهر كلام مكِّيٍّ، فإنَّهُ ذكر ذلك في قوله: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا} [النساء: 16] فالآيتانُ من وادٍ واحد ولا بُدَّ من إيراد نَصِّه لِيتَّضِحَ لك قوله؛ قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: {واللذان يَأْتِيَانِهَا} [النساء: 16] الاختيار عند سيبويه في «اللذان» الرفع، وإن كان معنى الكلام الأمْرَ؛ لأنَّه لمَّا وَصَلَ بالفعلِ تمكَّنَ معنى الشَّرط فيه، إذْ لا يقع على شيء بعينه، فلمَّا تمكَّنَ معنى الشَّرط والإبهام جرى مَجْرَى الشَّرطِ في كونه لم يَعْمل فيه مَا قَبْلَهُ، كما لا يعمل في الشَّرط ما قبله من مُضْمَر أو مظهر، ثم قال: «والنَّصْبُ جائِزٌ على إضمار فعلٍ مدلولٍ عليه كما تَقَدَّمَ نقله عن بعضهم، لأنه لم يكُنْ لتعليله بقوله:» لأنه إنما أشبه الشرط إلى آخره «فائدة، إذ النصبُ كذلك لا يحتاج إلى هذا الاعتذار. فصل قال القرطبيُّ: الفاحشة في هذا الموضع الزنا، فالمرادُ بالفاحشة: الفعلة القبيحة وهي مصدر كالعَاقِبَةِ والعَافِيَةِ، وقرأ ابن مسعود» بالفاحشة «بباء الجرِّ وقوله:» من نسائكم «في محلِّ النصب على الحال من الفاعل في» يأتين «، فهو يتعلق بمحذوفٍ أي: ياتين كائناتٍ من نسائكم. وأما قوله:» منكم «ففيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّق بقوله:» فاستشهدوا «. والثاني: أن يَتَعَلَّق بمحذوفٍ على أنَّهُ صفة ل» أربعة «فيكون في محل نصبٍ تقديره: فاستشهدوا عليهنَّ أربعةً كائنة منكم. فصل معنى يأتين الفاحشة أي يفعلنها يقال: أتيت أمراً قبيحاً، أي: فعلته قال تعالى: {لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} [مريم: 27] وقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} [مريم: 89] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 238 وقال ابن مسعود» بالفاحشة «هي الفعلة القبيحة. قال أهل اللُّغَةِ هي مصدر كالعاقبة والعافية، ويُقَالُ: فحش الرَّجُلُ بمعنى تفحش فحشاً وفاحشة وأفحش إذا جَاءَ بالقبيح من القول والفعل، وأجمعوا على أنَّ المراد بالفاحشة هنا الزّنا، وإنَّما تطلق الفاحشةُ على الزِّنت لزيادتها في القُبْحِ على كثير من القَبَائِحِ. فإن قيل: الكفرُ أقْبَحُ منه، وقتل النفس أقبح منه، ولا يسمَّى ذلك فاحشة؟ فالجوابُ من وجهين: الأوَّلُ: أنَّ الكفرَ لا يستحقه الكافر من نفسه ولا يعتقده قبحاً، بل يعتقده صواباً، وكذلك المقبل على الشجاعة يُقْدِمُ عليها من يراها حسنةً وأمَّا الزِّنَا ففاعله يعلمُ قُبْحَهُ [ويُقْدِمُ عَلَيْهِ] وَيُوَافِق على فحشه. الثاني: قال ابن الخطيب إنَّ القُوَى المدَبرة لقوى الإنسان ثلاثة القُوَى النّاطقة، والقوَّةُ الغضبية، والقوّة الشَّهوانيةُ وفساد القوَّة النَّاطقة هو الكفر والبدعة وما يشبههما، وفساد القوَّة الغضبية هو القتل وما يشبهه وأخس هذه القوى الثلاثة القوة الشَّهوانية فلا جَرَمَ كَانَ فَسَادُهَا أخس أنواع الفساد، فلهذا السبب خُصَّ هذا العمل بالفاحشةِ. فصل في شهود الزنا قوله: {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} أي: من المسلمين فجعل الله الشهادةَ على الزنا خاصة بأربعة تغليظاً على المدَّعي وستراً على العباد. وقال القرطبيُّ: وتعديل الشهود بأربعة في الزّنا حكم ثابت في التّوراة والإنجيل والقرآن؛ قال الله تعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم} [النور: 4] وقال هنا: {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ} وروى أبو داود عن جابر بن عبد الله: جاءت اليهودُ برجُلٍ وامرأةٍ زنيا، فقال عليه السَّلام: «ائْتُونِي بأعْلَمَ رَجُلَيْنِ مِنْكُم» ، فَأتَوْهُ يابْنَي صُورِيَا فَنَشَدهُمَا: كَيْفَ تَجِدَانِ أمْرَ هَذَيْنِ في التَّوْرَاةِ؟ قَالا «نَجِدُ في التَّوراةِ إذَا شَهِدَ أرْبَعةٌ أنَّهمُ رأوا ذكَرَهُ في فَرْجِهَا مَثْلَ الْميلِ فِي المُكْحلةِ رُجِمَا قَال: فما يَمْنَعُكُمَا أن تَرْجُمُوهُمَا؟ قَالاَ: ذَهَبَ سُلْطَانُنَا فَكَرِهْنَا الْقَتْلَ؛ فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الشُّهُودَ فَشَهشدوُا أنَّهُم رَأوا أنَّهُم رَأوا ذَكَرَهُ فقِي فَرْجِهَا مِثْلَ الْميلِ فِي المُكْحلةِ فَأمَرَ رَسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِرَجْمِهِمَا» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 239 وقال قومٌ: إنَما كان الشهود فالزِنا أربعة ليترتب شاهدان على كل واحد من الزانيين كسائر الحقوق؛ إذْ هو حقٌّ يؤخذ من كلِّ واحد منهما، وهذا ضعيف؛ فإنَّ اليمين تدخل من الأموال والَّلوْثُ في القسامة ولا يدخلُ لواحد منهما هنا. فصل قال جمهورُ المفسرين: المراد من هذه الآية أن المرأةَ إذا أتَت الزِّنَا فإن شَهِدَ عَلَيْهَا أربعةُ رجال أحرار عدول أنَّها زنت؟ أمْسِكَتْ في بيت محبوسة، إلى أن تموت أو يجعل اللهُ لها سبيلاً، وقال أبُو مُسْلِمٍ: المرادُ من هذه الفاحشة السَّحاقات وَحَدُّهن الحبس إلى الموتِ، والمرادُ من قوله: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} [النساء: 16] أهل اللواطُ وَحَدُّها الأذى بالقول والفعل، والمراد بالآية المذكورة في سورة النُّورِ: الزنا بين الرَّجل والمرأة وَحَده في البكر الجلد، وفي المحصن الرَّجم، ويَدُلُّ على ذلك وجوه: أحدها: أن قوله: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ} مخصوص بالنّسوان وقوله: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} [النساء: 16] مَخْصُوصٌ بالرِّجال؛ لأنَّ قوله «اللذان» تثنية المذكر. فإنْ قيل: لم لا يجوزُ أن يكونَ المراد من قوله: {واللذان} الذّكر والأنثى إلاَّ أنَّه غلب لفظ الذَّكر. فالجوابُ: لو كان كذلك لما أفرد ذكر النِّساء من قبل فلما أفرد ذكرهن ثم ذكر بعده قوله: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} [النساء: 16] سقط هذا الاحتمال. وثانيها: أنَّ على هذا التقدير لا يحتاج إلى التزام النسخ في شيء من الآيات بل يكون حكم كلِّ واحد مهما باقياً مقرراً وعلى ما ذكر ثم يلزمُ النسخ في هاتين الآيتين والنَّسخ خلافُ الأصل. ثالثها: أنَّ على التقدير الَّذي ذكرتم يكون قوله: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة} في الزنا، وقوله: {واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ} [النساء: 16] في الزِّنَا أيضتً فيفضي إلى تكرار الشيء الواحد في الموضع الواجد مرتين، وإنَّهُ قبيح، وعلى قولنا لا يفضي إلى ذلك فكان أولى. رابعها: أنَّ القائلين بأنَّ هذه الآية نزلت في الزِّنَ فسروا قوله: {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} بالجلد والتغريب والرّجم، وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ هذه الأشياء تكون عليهنّ لا لهُنَّ، قال تعالى: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] وأمَّا نحن فنفسِّرُ ذلك بتسهيل الله لها قضاء الشَّهوة بطريق النِّكاح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 240 قال أبُو مٌسْلِمٍ: يَدُلُّ على صِحَّةِ ما ذكرنا قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذَا أتَى الرَّجُلُ الرَّجُلَ فَهُمَا زَانِيَانِ، وَإذَا أتَت الْمَرْأةُ الْمَرْأةَ فَهُمَا زَانِيَتَان» . واحتجُّوا على إبطال كلام أبي مسلم بوجوه: الأوَّلُ: أنَّ هذا قول لم يقله أحدٌ من المفسّرين المتقدّمين. الثَّاني: أنَّه روي في الحديث أنَّهُ عليه السَّلام قال: «قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلاً الثَّيِّبُ تُرْجَمُ وَالْبِكْرُ تُجْلَدُ» وهذا يدلُّ على أنَّ هذه الآية نازلة في حقِّ الزُّنَاةِ. الثَّالث: أنّ الصحابة اختلفوا في حكم اللِّواط، ولم يتمسّك أحد منهم بهذه الآية، فعدم تمسكهم بها مع شدَّةِ احتياجهم إلى نَصٍّ يدلُّ على هذا الحكم من أقوى الدَّلائل على أنَّ هذه الآية ليست في اللواطة. وأجاب أبو مسلم عن الأوَّل بأنَّ هذا الإجماع ممنوع، فلقد قاتل بهذا القول مجاهدق، وهو من أكابر المفسرين، وقد ثبت في أصول الفقه أنَّ استنباط تأويل جديد في الآية لم يذكره المتقدمون جائز. والجوابُ عن الثَّاني أنَّ هذا يفضي إلى نسخ القرآن بخبر الوَاحِدِ، وإنَّهُ غير جائز. وعن الثَّالِثِ أن مطلوب الصَّحابة أنَّهُ هل يُقام الحدُّ على اللوطي وليس في هذه الآية دلالة على نفي ولا إثبات فلهذا لم يرجعوا إليها. فصل المرادُ من قوله: {مِن نِّسَآئِكُمْ} أي: زوجاتكم لقوله: {والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ} [المجادلة: 3] وقوله: {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء: 23] [من نسائكم] وقيل: أي: من الثيب. وقوله: «فأمسكوهن» أي احبسوهنّ في بيوتكم، والحكمة فيه أنَّ المرأة إنَّمَا تقع في الزِّنَا عند الخروج والبروز، فإذا حُبِسَتْ في البيت لم تقدر على الزِّنَا، وتعتاد العفاف عن الزّنا. قل عبادة بن الصّامت والحسن ومجاهد: كان هذا في ابتداء الإسلام حتى نسخ بالإذى الّذي بعده، ثمَّ نسخ ذلك بالرّجم في الثيّب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 241 وقيل: بل كان للإيذاء أولاً ثمَّ نسخ بالإمساك، ولَكِنَّ التلاوة أخرت. وقال ابن فورك: هذا الإمساك والحبس في البيوت كأنَّ في صدر الإسلام قبل ان يكثر الجناة. فلما كثروا وخشي قوتهم اتخذوا لهم سجناً، قال ابن العربي فإن قيل: التوفي والموت بمعنى واحد، فيصير التَّقدير: أو يميتهن الموت. فالجوابُ، يجوز أن يريد يتوفاهن ملائكة الموت بقوله: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي} [النحل: 28] أو حتّى يأخذن الموت. فإن قيل: إنكُمْ تفسِّرون قوله تعالى: {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} الثَّيِّبُ تُرْجَمُ والْبِكْرُ تجلد، وهذا بعيد؛ لأنَّ هذا السبيل عليها لا لها، فإنَّ الرَّجم أغلظ من الحبس. فالجوابُ: أنَّ النَّبي - عليه السَّلام - فَسَرَ السّبيل بذلك في قوله: «خذوا عني خذوا عني قَد جعل اللهُ لهن سبيلاً، الثَّيِّبُ بالثَّيب جلد مائةٍ ورجم بالحجارة، والبكرُ بالبكر جلد مائة وتغريب عام» فلما فَسَّرَ الرسول عليه السًّلام السبيل بذلك وجب القطع بِصِحَّته. وأيضاً فله وجه في اللُّغة، لأنَّ المخلص من الشَّيء هو سبيله، سواء كان أخفّ أو أثقل. قوله: «حتى يتوفاهن الموت» «حَتَّى» بمعنى «إلَى» فالفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» وهي متعلقة بقوله «فأمسكوهن» غاية له. وقوله: {أَوْ يَجْعَلَ الله} فيه وجهان: أحدهما: أن تكون «أوْ» عاطفة، فيكون الدعل غايةً لإمساكهن أيضاً، فينتصبُ «يجعل» بالعطف على {يَتَوَفَّاهُنَّ} . والثَّاني: أن تكون «أو» بمعنى «إلاَّ» كالَّتِي في قولهم: «لأزمنك أو تقضيني حقي» على أحد المعنيين، والفعل بعدها منصوب أيضاً بإضمار «أنْ» كقوله: [الطويل] 1770 - فَسِرْ في بِلاَدِ اللهِ وَالْتَمِسِ الْغِنى ... تَعِشْ ذَا يَسَارٍ أوْ تَمُوتَ فَتُعْذَرَا أي: إلا أن تموت، والفرق بين هذا الوجه والّذي قبله أنَّ الجَعْلَ ليس غاية لإمساكهنَّ في البيوت. قوله: {لَهُنَّ} فيه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ مُتَعِلُّقٌ ب {يَجْعَلَ} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 242 والثَّاني: أنَّهُ متعلِّق بمحذوف، لأنَّهُ حال من {سَبِيلاً} إذ هو في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدَِّمَ عليها فَنُصِبَ حالاً، هذا إنْ جُعِلَ الجَعْلُ بمعنى الشِّرْع أو الخَلْق، وإنْ جُعِل بمعنى التصيير، فيكون {لَهُنَّ} مفعولاً ثانياً قُدِّمَ على الأوَّلِ وهو {سَبِيلاً} ، وتقديمُه هنا واجب؛ لأنهما لو انْحَلاَّ لمبتدأ وخبرٍ وَجَبَ تقديم هذا الخبر لكونه جارّاً، والمبتدأ نكرة لا مسوغ لها غير ذلك. فصل روي عن علي أنَّهُ جَلَدَ شَرَاحَةَ الهمدانية يوم الخميس مائة ثمَّ رجمها يوم الجمعة، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنَّة رسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعامَّة العلماء على أنَّ الثَّيِّب لا تجلد مع الرّجم؛ لأنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجم ماعزاً والغامدية ولم يجلدهما، وقال: «يَا أنيسُ امْضِ إلَى امْرأةٍ هَذَا فَإنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجمْهَا» ولم يأمره بالجلد، وعند أبي حنيفة التّغريب أيضا منسوخ في حقِّ البكر، وأكثر أهل العلم على أنَّهُ ثابت، وروى نافع عن ابن عمر أنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ضَرَبَ وغَرَّبَ وأن أبا بكر ضَرَبَ وغَرَّبَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 243 واختلفوا في الإمساك في البيت هل كان حَداً فنسخ أم كان حبساً ليظهر الْحَدُّ؟ على قولين: فقيل: هو توعد بالحد. وقال ابن عبَّاسٍ والحسن: إنَّهُ حَدٌّ، وزاد ابن زيد أنَّهُمْ منعوا من النِّكاحِ حتّى يموتوا عقوبة لهم، لأنهم طلبوا النكاح من غير وجهه، وهذا يَدُلُّ على أنَّهُ كان حدّاً، بل أشد غير أنَّ ذلك الحكم ثابت محدود إلى غاية، وهو الأذى في الآية الأخرى على اختلاف التأويلين في أيّهما قبل، وكلاهما ممدود إلى غاية، وهو قول عليه السَّلام: «خُذُوا عضنِّي خُذُوا عَنِّي قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سبيلاً» الحديث وهذا كقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] فإذا جاء اللَّيْلُ ارتفع حكمُ الصِّيام إلى غايته لا لنسخه، هذا قول المحقِّقين المتأخِّرين، فإنَّ النَّسخ إنَّمَا يكون بين القولين المتعارضين اللَّذين لا يمكن الجمع بينهما والجمع ممكن بَيْنَ الحبس والتّغريب والجلد والرَّجم. وقد قال بعضُ العلماء: إن الأذى والتغريب باقٍ مع الجلد؛ لأنَّهُمَا لا يتعارضان فيحملان على شخص واحد فأمَّا الحبس فمنسوخ بالإجماع، وإطلاق المتقدمين النّسخ على مثل هذا لا يجوز. [وقيل: إن المراد بقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً} المراد أن يحبس كل من الرجل والمرأة في مكانه حتى يدركهن الأجل بالموت، أو يتبين الحمل فيجري عليهما حينئذ القصاص انتهى. والله أعلم] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 {واللذان} الكلام عليه كالكلام على «اللاتي» إلاَّ أن في كلام أبي البقاء ما يوهمُ جواز الاشتغال فيه فإنه قال: الكلام في «اللذان» كالكلام في «اللاتي» إلاَّ أنَّ مَنْ أجاز النَّصب يَصِحُّ أن يقدِّرَ فعلاً من جنس المذكور، تقديره: أذُوا اللذين ولا يجوز أن يعمل ما بعد الفاء فيما قبلها هاهنا، ولو عَرِيَ من الضَّمير، لأنَّ الفاء هنا في حكم الفاء الواقعة في جواب الشرط، وتلك يقطع ما بعدها عما قبلها، فقوله: «من أجاز النصب» يحتملُ من أجازه النَّصب المتقدِّم في «اللاتي» بإضمار فعلٍ لا على سبيل الاشتغال كما قدَّره هو بنحو «اقصدوا» ويحتمل من أجاز النَّصب على الاشتغال من حيث الجملة، إلاَّ ان هذا بعيدٌ؛ لأنَّ الآيتين من وادٍِ واحدٍ، فلا يُظَنُّ به أنَّهُ يمنع في إحداهما ويجيزُ في الأخرى، ولا ينفع كون الآية فيها الفعل الذي يفسّر متعدّ بحرف جر والفعلُ الَّذي في هذه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 244 الآية مُتَعَدٍّ بنفسه، فيكون أقوى، إذ لا أثر لذلك في باب الاشتغال. والضمير المنصوب في «يأتيانهما» للفاحشة. وقرأ عبد الله «يأتين بالفاحشة» ، أي: يَجئْنَ، ومعنى قراءة الجمهور «يَغْشَيْنَها ويخالطنها» . وقرأ الجمهور «واللذان» بتخفيف النُّون. وقرأ ابن كثير «واللذانِّ» هنا «واللذينِّ» في السجدة [آية 29] بتشديد النون، ووجهها جعل إحدى النونين عوضاً من الباء المحذوفة الَّتي كان ينبغي أن تبقى، وذلك أن «الَّذي» مثل «القاضي» ، و «القاضي» تثبت ياؤه في التثنية فكان حقّ [ «ياء» ] «الَّذي» و «الَّتي» أن تثبت في التثنية، ولكنهم حَذَفُوها، إمَّا لأنَّ هذه تثنيةٌ على غَيْرِ القياس؛ لأنَّ المبهماتِ لا تُثَنَّى حقيقةً، إذ لا يثنى ما يُنَكَّر، والمبهمات لا تنكر، فجعلوا الحذف منبهةً على هذا، وإمَّا لطولِ الكلاَمِ بِالصِّلَةِ. وزعم ابنُ عصفور أنَّ تشديد النُّون لا يجوزُ إلاَّ مع الألفِ كهذه الآية، ولا يجوز مع الياء في الجرّ والنّصب. وقراءة ابن كثير في «حم» السجدة {أَرِنَا اللذين أَضَلاَّنَا} [فصلت: 29] حجةٌ عليه. قال ابن مقسم: إنَّما شدّد ابن كثير هذه النّونات لأمرين: أحدهما: الفرق بين تثنية الأسماء المتمكنة وغير المتمكنة، والآخر: أن «الّذي وهذا» مبنيان على حرفٍ واحدٍ وهو الذّال، فأرادوا تقوية كل واحد منهما، بأن زادوا على نونها نوناً أخرى من جنسها. وقيل: سبب التّشديد فيها أنّ النون فيها ليست نون التّثنية فأرادوا أن يفرِّقوا بينها وبين نون التثنية. وقيل: زادوا النُّون تأكيداً كما زادوا اللام. وقرئ: «اللَّذَأَنِّ» بهمزة وتشديد النون، وَوَجْهُهَا أنه لَمَّا شَدَّدَ النون الْتَقَى ساكنان، فَفَرَّ من ذلك بإبدال الألف همزةً، وقد تقدَّم تحقيق ذلك في الفاتحة [الآية: 7] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 245 وقرأ عبد الله: «والذين يفعلونه منكم» وهذه قراءة مشكلة؛ لأنَّهَا بصيغة الجمع، وبعدخا ضمير تثنية وَقَدْ يُتَكَلَّفُ تخريجٌ لها، وهو أنَّ «الذين» لَمَّا كان شاملاً لصنفي الذّكورِ والإناثِ عَادَ الضّميرُ عليه مثنى اعتباراً بما انْدَرَجَ تحته، وهذا كما عاج ضَمِيرُ الجمع على المُثَنَّى الشّامل لأفرادٍ كثيرة مندرجةٍ تحْتَه، كقوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ} [الحجرات: 9] ، و {هذان خَصْمَانِ اختصموا} [الحج: 19] كذا قاله أبو حيان. قال شهاب الدِّينِ: وفيه نظر، فإنَّ الفَرْقَ ثابتٌ، وذلك لأن «الطَّائفة» اسم لجماعة، وكذلك «خَصْم» ؛ لأنَّهُ في الأصل مصدرٌ فأطلِقَ على الجمع. وأصل «فآذوهما» فآذِيُوهما، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياء فحذفت، فالتقى ساكنان، فَحُذِفَت الياء الّتي هي لام الكلمة وضُمَّ ما قبل الواوِ لِتَصِحَّ. فصل اختلفوا في وجهِ هذا التّكرير، فقال مُجَاهِدٌ: الآية الأولى في النساء وهذه في الرّجال، وَخُصَّ الحبسُ في البيتِ بالمرأة، وخُصَّ الإيذاء بالرجال؛ لأنَّ المرأة إنَما تقع في الزّنا عند الخروج والبروز، وإذا حبست في البيت انقطعت مادّة هذه المعصية، وأمَّا الرَّجل فلا يمكن حبسه في البيت؛ لأنَّهُ يحتاج إلى الخروج لإصلاح معاشه، ومهماته، وقوت عياله. وقيل: إنّ الإيذاء مشترك بين الرّجل والمرأة، والحبس كان من خواصّ المرأة. وقال السُّدِّيُّ: المرادُ بهذه الآية البكرُ من الرِّجال والنِّساء وبالآية الأولى للثيب لوجوه: الأوَّل: قوله: {واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة مِن نِّسَآئِكُمْ} فأضافهن إلى الأزواج. الثَّاني: أنَّهُ سماهنَّ نساء، وهذا الاسم أليق بالثَّيب. الثالث: أنَّ الإيذاء أحقّ من الحبس في البيت، والأخف للبكر دون الثّيب. وقال أبو مسلم: الآية الولى في السّحاقات، وهذه في أهل اللّواط، وقد تَقَدَّمَ. وقيل: إنَّهُ بَيَّنَ في الآية الأولى أنَّ الشهداء على الزِّنَا لا بدّ وأن يكونوا أربعة، وبين في هذه الآية أنَّهم لو كانوا شاهدين فآذوهما بالرّفع إلى الإمام والحدّ، فإن تابا قبل الرفع إلى الإمام فاتركوهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 246 فصل قال عطاء وقتادة: قوله «فآذوهما» يعني فعيروهما باللسان: أما خِفْتَ اللهَ؟ أما استحييت من الله حين زنيت. وقال مُجَاهِدٌ: سبوهما واشتموهما. وقيل: يقال لهما: «بئس ما فعلتما» وخالفتما أمر الله. وقال ابن عبَّاس: هو باللسان واليد يُؤذي بالتعيير وضرب النعال. قوله تعالى: {فَإِن تَابَا} أي: من الفاحشة {وَأَصْلَحَا} العمل فيما بعد {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ} ، فاتركوهما ولا تؤذوهما، {إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً} ومعنى التواب أنه يعود على عبده بفضله ومغفرته إذا تاب إليه من ذنبه. والله أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 قد تقدَّمَ الكلام على {إِنَّمَا} في أول البقرة [آية 11] وما قيل فيها. و «التوبة» ، مبتدأ وفي خبرها وجهان: أظهرهما: أنَّهُ «على الله» ، أي: إنَّمَا التَّوْبَةُ مستقرّة على فضل اللهِ، ويكون «للذين» متعلقاً بما تَعَلَّقَ به الخبر. وأجاز أبُو البقاء: عند ذِكْرِهِ هذا الوجه أن يكون «للذين» متعلقاً بمحذوف على أنه حال، قال: فعلى أن يكون {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء} حالاً من الضّمير في الظّرف وهو «على الله» ، والعاملُ فيها الظّرفُ أو الاستقرار، أي: كائنةً لِلَّين، ولا يجوز أن يكون العاملُ في الحال «التوبة» ؛ لأنَّه قَدْ فُصِلَ بَيْنَهُمَا بالخبر، وهذا فيه تكلُّفٌ لا حاجةِ إليه. الثّاني: أن يكون الخبر «للذين» و «على الله» متعلّق بمحذوف على أنَّهُ حال من شيءٍ محذوف، والتقديرُ: إنما التَّوبة إذا كانت - أو إذْ كانت - على اللهِ للذين يعملونَ ف «إذا» و «إذ» معمولان ل «الذين» لأن الظَّرْف يتقَدَّمُ على عامله المعنوي و «كان» هذه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 247 هي التَّامَّة، وفاعلها هو صاحب الحالن ولا يجوز أن يكون {عَلَى الله} حالاً من الضَّمير المستتر في {لِلَّذِينَ} والعامل فيها {لِلَّذِينَ} لأنَّهُ عاملٌ معنويٌّ، والحال لا تتقدَّمُ على عاملها المعنوي، هذا ما قاله أبُو البقَاءِ وَنَظَّر هذه المسألة بقولهم: «هذا بُسْراً أطْيَبُ منه رُطَباً» يعني: أنَّ التَّقدير: إذا كان بُسْراً أطيبُ منه إذا كان رُطباً. وفي هذه المسألة أقْوَالٌ كثيرة مضطربة لا يحتملها هذا الكتاب وقدر أبو حيان مضافين حُذفا من المبتدأ والخبر، فقال: التَّقدير: إنَّمَا قَبُولُ التوبة مترتب على [فضل] اللهِ ف «على» باقية على بابها يعني من الاستعلاء قوله: {بِجَهَالَةٍ} فيه وجهان: أحدهما: أنْ يتعلّق بمحذوف على أنَّهُ حال من فاعل {يَعْمَلُونَ} ، ومعناها المصاحبة أي: يعملون السُّوء متلبسين بجهالةٍ، أي: مصاحبين لها، ويجوز أن يكون حالاً من المفعول، أي: ملتبساً بجهالة، وفيه بُعْدٌ وتَجَوُّزٌ. والثاني: أن يتعلق ب {يَعْمَلُونَ} على أنَّها باء السّببية. قال أبُو حيَّان: أي الحامل لهم على عمل السُّوء هو الجهالة، إذْ لو كانوا عالمين بما يترتَّب على المعصية متذكرين له حال عملها لم يُقْدِمُوا عليها كقوله: «لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن» لأنَّ العقل حينئذ يكون مغلوباً أو مَسْلُوباً. فصل لما ذكر في الآية الأولى أن المرتكبين للفاحشة إذا تابا وأصلحا زال عنهما الإيذاء، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 248 وأخبر على الإطلاق أنّه توابٌ رحيمٌ، ذكر هنا وقت التّوبةة وشرطها بشرطين: أحدهما: قوله {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ} وفيه إشكالان: الإشكال الأوَّلُ: أن من عمل ذنباً ولم يعلم أنَّهُ ذنب لم يستحق عقاباً؛ لأنَّ الخطأ مرفوع عن الأمَّةِ، فعلى هذا الَّذين يعملون السُّوء بجهالة لا حاجة بهم إلى التَّوبة. الإشكال الثَّاني: أن كلمة «إنَّمَا» للحصر، فظاهره يقتضي أن مَنْ أقدم على السوء مع العلم بكونه سوءاً لا يقبل توبته، وذلك باطل بالإجماع. فالجواب عن الأوَّلِ أنَّ اليهوديَّ اختار اليهوديَّة وهو لا يعلم كونها ذنباً مع أنَّهُ يستحقُّ العقاب عليها. والجوابُ عن الثَّاني: أنَّ من أتى معصية مع الجهل بكونها معصية يكون حاله أخَفُّ ممَّنْ أتى بها مع العلم بكونها معصية، فلا جرم خَصَّ الأوَّل بوجوب قبول التّوبة وجوباً على سبيل الوعد والكرم، وأمَّا القسم الثَّاني فلمّا كان ذنبهم أغلظ لا جرم لم يذكر فيهم هذا التّأكيد في قبول التّوبة فتكون هذه الآية دالّة من هذا الوجه على أن قبول التّوبة غير واجب على اللهِ تعالى. ومعنى الآية يحتمل وجهين: الأوَّلُ: أن قوله: {عَلَى الله} إعلام، فَإنَّهُ يجب على الله قبولها لزوم الكرم والفضل والإحسان وإخبار بأنَّه سيفعل ذلك. والثَّاني: إنَّما الهداية إلى التَّوْبَةِ والإعانة عليها على اللهِ في حقِّ من أتى بالذَّنب على سبيل الجهالة، ثمَّ تاب قريباً، وترك الإصرار، وأتى بالاستغفار. فصل قال الحسن: معنى الآية: التّوبة التي يقبلها اللهُ، فيكون «على» بمعنى عند، وقيل: من الله {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ} . قال قتادةُ: أجمع أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّ ما عُصِيَ الله به فهو جهالة عمداً كان أو لم يكن، ولك من عصى الله فهو جاهل. قال تعالى إخباراً عن يوسف - عليه السلام -: {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين [فاستجاب لَهُ رَبُّهُ} [يوسف: 33، 34] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 249 وقال: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} [يوسف: 89] وقال لنوح - عليه السلام -: {إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46] وقال موسى لبني إسرائيل حين قالوا: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة: 67] {أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} [البقرة: 67] والسّبب في إطلاق اسم الجاهل على العاصي؛ لأنَّهُ لو استعمل ما معه من العلم بالثواب والعقاب لما أقدم على المعصية، فصار كأنَّنه لا علم له. وقال مجاهدٌ: المراد من الآية العمد. وقيل: أن يأتي بالمعصية مع العلم بكونها معصية، إلاَّ أنه يكون جاهلاً بقدر عقابه. وقيل: أن يأتي بالمعصية مع أنه لا يعلم كونها معصية إلاَّ أنَّهُ كان متمكناً من تحصيل العلم يكون اليهودية ذنباً ومعصية، وكفى ذلك في ثبوت استحقاق العذاب، ويخرج من هذا النَّائم والسّاهي، فإنَّه لو أتى بالقبيح لكنَّه [ما كان متمكناً] من العلم بكونه قبيحاً. فصل استدلَّ القاضي بهذه الآية على أنَّهُ يجب على اللهِ عقلاً قبول التَّوْبَةِ؛ لأنَّ كلمة «عَلَى» للوجوب؛ ولأنَّا لو حملنا قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} على مجرد القبول لم يبق بينه وبين قوله: {فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} فرق؛ لأن قوله هذا أيضاً إخبار عن الوقوع، [فإذا جعلنا الأوَّلَ إخباراً عن الوجوب، والثَّاني إخباراً عن الوقوع] ظهر الفرق بين الآيتين وزال التكرار. والجوابُ أنَّ القول بالوجوب على الله تعالى باطلٌ لوجوه: الأوَّلُ: أنَّ لازم الوجوب استحقاق الذّم عند الترك، فهذه الملازمة إمَّا ان تكون ممتنعة الثبوت في حقِّ اللهِ تعالى أو غير ممتنعة الثُّبُوتِ في حقِّه، والأوَّلُ باطلٌ، لأنَّ ترك الواجب لما كان مستلزماً هذا الذّم محال الثّبوت في حقِّ اللهِ تعالى وجب أن يكون ذلك الترك ممتنع الثبوت في حقِّ الله تعالى، وإذا كان الترك ممتنع الثبوت عقلاً كان الفعل واجب الثُّبوت، فحينئذ يكون الله تعالى موجباً بالذَّاتِ لا فاعلاً بالاختيار وذلك باطل، وإنْ كان استحقاق الذَّمِّ غير ممتنع الحصول في حقِّ اللهِ تعالى، فكلُّ ما كان ممكناً لا يلزم من فرضه محال، فيلزم أن يكون الإله مع كونه إلهاً يكون موصوفاً باستحقاق الذّم وذلك محال لا يقوله عاقل، فثبت أنَّ القول بالوجوب على اللهِ تعالى محال. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 250 وثانيها: أنَّ قادرية العبد بالنِّسبة إلى فعل التَّوْبَةِ وتركها إمَّا أن يكون على السَّويَّةِ، أوْ لا، فإن كان على السَّويَّةِ لم يترجح فعل التَّوبة على تركها إلا بمرجِّح، وذلك المرجح إن حدث لا عن محدث لزم نفي الصّانع، وإن حدث علىلا العبد عاد التّقسيم، وإن حدث عن الله تعالى فحينئذٍ إنَّما أقبل العبد على التَّوبة بمعونة الله وتقويته، فتكون تلك العقوبة إنْعَاماً مَنَ اللهِ تعالى على عبده، وإنعام المولى على عبده لا يوجب أنْ ينعم عليه مرة أخرى فثبت أنَّ صدور التّوبة عن العبد لا يوجب على الله القبول، وإن كانت قادرية العبد لا تصلح للترّك وللفعل، فيكون القول بالوجوب أظْهَرُ بطلاناً. ثالثها: التّوبة عبارة عن النَّدم على ما مضى، والعزم على التّرك في المستقبل والنّدم والعزم من باب الكراهات والإرادات وهما لا يحصلان باختيار العبد وإلاَّ افتقر في تحصيلهما إلى إرادة أخرى ولزم التّسلسل، وإذا كان كذلك كان حصول هذا النّدم، وهذا العزم بمحض تخليق الله تعالى، وفعل الله لا يوجب على الله فعلاً آخر فكان القولُ بالوُجُوبِ باطِلاً. ورابعها: أنَّ التوبة فعل يحصل باختيار العبد على قولهم، فلو صار ذلك علة للوجوب على اللهِ تعالى وفعل الله تعالى، لصار فعل العبد مؤثّراً في ذات الله تعالى وفي صفاته، وذلك لا يقولُهُ عاقل. والجوابُ عن حجتهم: أنَّ الله تعالى وعد قبول التّوبة من المؤمنين، وإذا وعد اللهُ بشيء، وكان الخلفُ في وعده مُحالاً كان ذلك شبيهاً بالواجب، فبهذا التأويل صح إطلاق كلمة {عَلَى} وبهذا يظهر الفرق بين قوله {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ} وبين قوله {فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِم} . فإن قيل: لما أخبر عن قبول التّوبة وكان ما أخبر الله تعالى وقوعه واجب الوقوع لزم منه ألاَّ يكون فاعلاً مختاراً. فالجوابُ: أنَّ الإخبارِ عن الوقوع تبع للوقوع والوقوع تبع للإيقاع، والتبع لا يغير الأصل، فكان فاعلاً مختاراً في ذلك الإيقاع، وأمَّا قولكم بأن وقوع التَّوبة من حيثُ إنَّهَا هي مؤثرة في وجوب القبول على الله وذلك لا يقوله عاقل فظهر الفرق. قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فأولئك} فهذا هو الشّرطُ الثّاني. قال السدي والكلبي: القريب أن يتوب في صحته قبل مرض موته. وقال عكرمة: قبل الموت. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 251 وقيل: قبل أنْ يحيط السّوء بحسناته فيحبطها. وقال الضَّحَّاكُ: قبل مُعَاينة ملك الموت. قوله: {مِن قَرِيبٍ} فيه وجهان: أحدهما: أن تكون «من» لابتداء الغاية، أي: تبتدئ التَّوبة من زمان قريب من زمان المعصية لئلاّ يقع في الإصْرارِ، وهذا إنَّما يتأتَّى على قول الكوفيين، وأما البصريون فلا يجيزون أن تكون «من» لابتداء الغاية في الزَّمَانِ، ويتأوَّلون ما جاء منه، ويكون مفهوم الآية أنَّه لو تاب من زمان بعيدٍ لم يدخل في مَنْ خُصَّ بكرامةِ قَبُولِ التّوبة على اللهِ المذكورة في هذه الآية، بل يكون داخلاً فيمن قال فيهم {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] . والثاني: أنَّهَا للتّبعيض أي: بعض زمانٍ قريب يعني أي جُزْء من أجزاء هذا الزمان أتى بالتّوبة فيه، فهو تائبٌ من قريب. وعلى الوجهين ف «مِنْ» متعلقة ب «يتوبون» ، و «قريب» صِفَةٌ لزمان محذوف، كما تقدم تقريره، إلاَّ أنَّ حّذْفَ هذا الموصوف وإقَامةَ هذه الصفةِ مُقَامة ليس بقياسٍ، إذ لا يَنْقَاسُ الحَذْفُ إلاَّ في صور. منها أن تكون الصفةُ جَرَتْ مَجْرى الأسماء الجوامد، كالأبْطَحِ والأبرق، أو كانت خاصةً بجنس الموصوف، نحو: مررت بكاتبٍ، أو تقدَّم ذِكْرُ موصوفها، نحو: اسقني ماءً ولَوْ بَارِداً، وما نحن فيه ليس شيئاً من ذلك. وفي قوله: {ثُمَّ يَتُوبُونَ} إعلامٌ بِسَعَةِ عَفْوِهِ، حيثُ أتى بحرف التّراخي والفاء في قوله: {فأولئك} مُؤْذِنَةٌ بتَسَبُّبِ قَبُولِ الله تَوبتهم إذا تابوا من قريب، وضَمَّنَ {يَتُوبُونَ} معنى يَعْطِفُ فلذلك [عَدَّى] ب «على» . وأما قوله: {إِنَّمَا التوبة عَلَى الله} فَراعَى المضاف المحذوف، إذا التّقدير: إنَّما قبولُ التَّوبَةِ على اللهِ، كذا قال الشَّيخ وفيه نَظَرٌ. فصل معنى قوله: {فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} يعني أنّ العبد الَّذي هذا شأنه إذا أتى بالتَّوبة قبلها منه، فالمراد بالأوَّل التّوفيق إلى التوبة، وبالثَّاني قبول التّوبة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 252 وقوله: {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} أي: أنَّهُ إنَّما أتى بتلك المعصية لاستيلاء الشّهوة والغضب والجهالة عليه «حكيماً» بأن العبد لما كان من صفته ذلك إنَّه تاب عنها من قريب فإنه يقبل توبته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 قوله: {وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} يعني: المعاصي، لما ذكر شَرَائِطَ التَّوْبَةِ المقبولة، أرْدَفَهَا بِشَرْحِ التَّوبة التي لا تكونُ مقبولة، قوله: {حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت} «حتَّى» حرف ابتداء، والجملةُ الشَّرْطِيَّةُ بَعْدَهَا غايةٌ لما قَبْلََهَا، أي: ليست التَّوْبَةُ لقوم يَعْمَلُونَ السَّيَئاتِ، وغايةُ عملهم إذَا حَضَرَ أحدَهُمُ المَوْتُ قالوا «كيت وكيت» هذا وجه حَسَنٌ، ولا يجوزُ أنْ تكُونَ «حتى» جارّة ل «إذا» أي: يعملون السَّيِّئاتِ إلى وقت حضور الموتِ من حيثُ إنَّهَا شرطيَّةٌ، والشَّرْطُ لا يعمل فيه ما قبله، وإذا جعلنا «حتَّى» جارَّةً تعلَّقت ب «يعملون» وأدوات الشَّرْطِ لا يعملُ فيها ما قَبْلَهَا، ألا ترى أنَّهُ يجوزُ «بمَن تمرر أمْرُرْ» ، ولا يجوز: مَرَرْتُ بمن يقم أكرمْه، لأنَّ له صَدر الكلام، ولأنَّ «إذا» لا تَتَصَرَّفُ على المَشْهُورِ كما تَقَدَّمَ في أوَّل البَقَرَةِ؛ واستدلَّ ابْنُ مَالِك على تصرُّفِهَا بوجُوهٍ: منها جرها ب «حتَّى» نحو: {حتى إِذَا جَآءُوهَا} [الزمر: 71] {حتى إِذَا كُنتُمْ} [يونس: 22] وفيه من الإشكال [ما ذكرته لك] وقد تَقَدمَ تقرير ذلك عند قوله، {حتى إِذَا بَلَغُواْ} [النساء: 6] . فصل دلت هذه الآية عَلَى أنَّ من حَضَرَهُ المَوْتُ وشاهد أهواله لا تقبل توبته، ويُؤيِّدُهُ أيضاً قوله تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85] . وقال في صفةِ فِرْعَونَ {أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المفسدين} [يونس: 90، 91] وقوله: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً [فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ] قَآئِلُهَا} [المؤمنون: 99 - 100] وقوله {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 253 الْمَوْتُ فَيَقُولُ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ} [المنافقون: 10، 11] . وقال عليه السلام «إنَّ الله - تعالى - يَقْبَلُ تَوْبَة الْعَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ» وعن عطاءٍ: ولو قبل موته بفواق النَّاقَةِ. وعن الحسن: أنَّ إبليس قال حين أهْبِطَ إلى الأرض وعِزّتِكَ لا أفارق ابْن آدم ما دَامَ روحه في جَسَده. فقال: وَعِزَّتِي لا أُغْلِقُ عليه بَابَ التَّوْبَةِ ما لم يغرغر. فصل قال المُحَقِّقُونَ: قُرْبَ الموتِ لا يمنعُ من قَبُولِ التَّوْبَةِ، بل المانع من قبول التَّوْبَةِ مشاهدة الأهوال الَّتي عندها يحصل العلم باللهِ تعالى على سَبِيل الاضطرار. وقالوا: لأنَّ جماعة أماتهم الله تعالى ثُمَّ أحياهم مثل قوم من بني إسرائيل، وأولاد أيُّوب - عليه السَّلاَمُ - ثمَّ إنَّه تعالى كلَّفهم بعد ذلك الإحياء، فَدَلَّ ذلك على أنَّ مُشَاهَدَةِ الموت لا تخلّ بالتكليف ولأنّ الشَّدائِدَ التي يلقاها من يقرب موته تكون مثل الشَّدائد الحاصلة عند مانعة من بقاء التكاليف فكذا القول في تلك الشّدائد. وأيضاً فالقرب من الموت إذَا عَظُمَتِ الآلامِ [صار اضطرارُ العبد أشَدُّ، واللهُ تعالى يقول {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [النمل: 62] فتزايد الآلام] في ذلك الوقت بأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 254 يكون سبباً لِقَبُولِ التَّوبة أولى مِنْ أن يكون سبباً لعدم قَبُولِ التَّوْبَة. فصل لما بيّن تعالى أنَّهُ يقبل التَّوبةَ من القسم الأوَّل، وهم الذين يعملونَ السُّوءَ بجهالة، وبَيَّنَ في هذا القسم الثَّاني يعملون السَّيِّئاتِ أنَّهُ لا يقبل توبتهم فبقي بحكم التَّقسيم العقلي قِسْمٌ ثَالِثٌ مَتَوَسط بين هذين القسمين، وهم الَّذِينَ يعملون السُّوءَ على سبيل العَمْدِ ثم يَتُوبُونَ فلم يخبر عنهم أنَّهُ يَرُدُّ توبتهم، بل تركهم في المَشِيئَةِ حيث قال: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] . قوله: {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ} «الذين» مجرور المحل عطفاً على قوله {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات} أي: لَيْسَت التَّوْبَةُ لهؤلاء، ولا لهؤلاء، فَسَوَّى بين مَنْ مَاتَ كافراً وبين من لم يَتُبْ إلاَّ عند معاينة الموتِ في عدمِ قَبُولِ تَوْبَتِه، والمراد بالعاملين السيئات المنافقون. وأجَازَ أبُو البَقَاءِ في {الذين} أن يكون مرفوع المحلّ على الابتداء وخبره «أولئك» وما بَعْدَهُ مُعْتَقِداً أنَّ اللامَ لام الابتداء وليست ب «لا» النَّافية، وهذا الَّذي قاله من كون اللام لام الابتداء لا يصحُّ أن يكونَ قد رُسِمَتْ في المُصْحَفِ لامٌ داخلة على {الذين} فيصير «وللذين» وليس المرسوم كذلك، وإنَّمَا هو لام وألف، وألف لام التَّعريف الدَّاخلة على الموصول وصورته: ولا الذين. فصل قيل: المراد ب «الذين يعملون السيئات» العصاة وب «الذين يموتون وهم كفّار» الذي يموت كافراً؛ لأنَّ المعطوف يكون مغايراً للمعطوف عليه. وقيل: المرادُ بالأوَّل: المنافقون، وبالثاني: الكفَّار. قال ابنُ الخطيب: وهذا لا يصحُّ؛ لأنَّ المنافقَ كافرٌ فيدخل في الثَّاني ويمكن أن يجاب بأنَّ المنافق لما أظهر الإيمان فَمَنْ لم يَعْلَمْ حاله يعتقد أنَّ حكمه حكم المُؤمن، {والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] و «أولئك» يجوزُ أن تكون إشارة إلى {وَلاَ الذين يَمُوتُونَ} وهم كفَّار؛ لأنَّ اسم الإشارةِ يجري مجرى الضَّمير فيعود إلى أقرب مذكور، ويجوزُ أن يُشَار بِه إلى الصّنفين الذين يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ، والذين يموتون وهم كفار. {أَعْتَدْنَا} أي: أحْضَرِنَا وهذا يَدُلُّ على أنَّ النَّار مخلوقة؛ لأنَّ العذاب الأليم ليس إلاَّ جهنم وقد أخبر عنه بصيغة الماضي، واللهُ أعلم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 255 هذا مُتَّصِلٌ بما تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في الزوجاتِ. قال المُفَسِّرُونَ: نزلت في أهل المدينة كانوا في الجاهليَّة، وفي أوَّلِ الإسْلامِ إذا مات الرَّجُلُ وله امرأة جاء ابنه من غيرها أو قريبه من عصبته فألْقَى ثوبه على تلك المرأة وقال: وَرِثْتُ امْرأتَهُ كما وَرِثْتُ ماله، فصار أحقُّ بها من سَائِرِ النَّاسِ ومن نفسها فإن شَاءَ تَزَوَّجَهَا بغير صَدَاق، إلاَّ الصّداق الأوّل الّذي أصْدَقَهَا الميت، وإن شاء زَوَّجَهَا من إنسان آخر، وأخذ صداقها، ولم يعطها منه شيئاً، وإن شاء عَضَلها ومنعها من الأزْوَاج يُضَارها لتفتدي منه بما أخذت من الميت أو تموت هي فيرثها، وإنْ ذهبت المرَأةُ إلى أهلها قبل أنْ يلقي عليها ولي زوجها ثوبه فهي أحق بِنَفْسِهَا فكانوا على هذا حتى مات أبو قيس الأسْلَتِ الأنْصَارِي وترك امرأته كُبيشة بنت معن الأنصاريّة فقام ابْنٌ من غيرها يقال له محصن، وقال مقاتل بْنُ حيَّان: اسمه قيس بْنُ أبِي قَيْسٍ، وطرح ثَوْبَهُ عليها فَوَرِثَ نكاحها وتركلها فلم يقربها ولم ينفق عليها يضارها لتفتدي منه بما ورثت، «فأتَتْ كبيشةُ رَسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: يَا رَسُولَ اللهِ إنَّ أبَا قَيْسٍ تُوُفِّي وَوَرِثَ نكاحي ابنه فلا هو ينفق عَلَيَّ وَلاَ يدخل بي ولا يخلي سبيلي فَقَالَ لها: اقْعَدِي فِي بَيْتِكِ حَتَّى يَأتِ فِيكِ أمرُ اللهِ،» فأنْزَلَ هذِهِ الآيةَ. وقيل: كان يكون عند الرَّجل عجوز ولها مال ونفسه تتشوق إلى الشّابّة فيكره فِراق العجوز لمالها، فيمسكها، ولا يقربها حتَّى تفتدي منه بمالها أو تموت فيرثُ مالها فنزلت الآية تأمر الزَّوْجَ أن يطلِّقَهَا إن كره صحبتها، ولا يرثها كرهاً فذلك قوله «لا يحل لك أن ترثوا النساء كرهاً» والمقصود إذهاب ما كانوا عليه في الجاهِلِيَّةِ وإلاَّ يجعل النِّساء كالمال يورثن عن الرِّجال. قوله: أن ترثوا [النساء] في محلّ رفع على الفاعليَّة ب «يحل» أي: لا يحل لَكُمْ إرثُ النساء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 256 وقرئ: «لا تحل» بالتاء من فوق على تأويل «أن ترثوا» : بالوراثة، وهي مؤنَّثة، وهي كقراءة {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الأنعام: 23] بتأنيث «تكن» ونصب فتنتهم «بتأويل ثم لم تكن فتنتهم إلا مقالتهم، إلاَّ أنَّ في آية الأنْعَامِ مسوغاً، وهي الإخبار عنه بمؤنث كما سيأتي، و {النسآء} مفعولٌ به، إمَّا على حذف مضاف أي: أن تَرثُوا مال النِّسَاءِ إن كان الخَطَابُ للأزْوَاجِ، لأنَّهُ روي أنَّ الرَّجُلَ منهم كان إذا لم يكن له غرض في المرأة أمسكها حتى تموتَ؛ فيرثها، أو تَفْتَدِيَ منه بمالها إنْ لم تَمُت، وإمَّا من غير حذف على أن يكون بمعنى الشَّيءِ الموروث إنْ كان الخطاب للأولياء، أو لأقرباء الميّت، وقد تَقَدَّمَ المعنيانِ في سبب النُّزُولِ على ما تَقَدَّمَ؛ فلا يحتاج إلى حَذْفِ أحد المفعولين إمّا الأوَّلُ أو الثَّانِي على جَعْلِ {أَن تَرِثُواْ} متعدّياً لاثنين كما فعل أبُو الْبَقَاءِ. قال: {النسآء} فيه وجهان: أحدهما: هُنَّ المفعول الأوَّل، والنساء على هذا هُنَّ الموروثاتُ، وكانت الجاهليّة ترث نساء آبائهم وَيَقُولُونَ: نحنُ أحقُّ بنكاحهنَّ. والثاني: أنه المفعول الثّاني، والتّقدير: أن ترثوا من النّساء أي: أن ترثوهن كَارِهات، أو مكروهات، وقرأ الأخوان «كرهاً» هنا وفي «براءة» و «الأحقاف» بضمِّ الكَافِ، وافقهما عاصم وابن عامر في رواية ابن ذكوان عنه على ما يأتي في الأحقاف، والباقون بالفتح. وقد تَقَدَّمَ في الكُره والكَره بمعنى واحد أم لا؟ في أوَّلِ البَقَرَةِ. ولا مفهوم لقوله {كَرْهاً} يعني فيجوز أن يرثوهن إذا لم يَكْرَهْن ذلك لخروجه مَخْرج الغالب. قوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} فيه وجهان: أظهرهُمَا: أنَّهُ مجزوم ب «لا» الناهية عطف جملة نهي على جملة خبريَّة فإنْ لم تشترط المناسبةُ بين الجُمَلِ كما هو مذهب سِيبَويْه - فواضحٌ، وَإن اشترطنا ذلك - كما هو رأي بعضهم - فلأن الجُمْلَةَ قبلها في معنى النهي إذ التَّقْديرُ: «ولا ترثوا النساء كرهاً» فإنَّهُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 257 غير حلال لكم. وجعله أبُو البقاءِ على هذا الوجه مستأتفاً يعني أنَّه ليس بمعطوفٍ على الفعلِ قبله. والثَّانِي: أجازه ابن عطية وَأبَو البَقَاءِ أن يكون منصوباً عطفاً على الفِعْلِ قبله. وقال ابنُ عَطِيَّةَ: ويُحتمل أن يكونَ {تَعْضُلُوهُنَّ} نصباً عطفٌ على {تَرِثُواْ} فتكون الواو مشتركةً عاطفةً فِعْلاً على فعلٍ. وقرأ ابْنُ مَسْعُودٍ: «ولا تعضلوهن» فهذه القراءة تقوّي احتمال النّصب، وأن العَضْلَ مَمَّا لا يَحِلُّ بالنص. وردَّ أبو حيَّان هذا الوجه بأنَّكَ إذا عطفت فعلاً منفياً ب «لا» على مثبت وكانا منصوبين فَإنَّ النَّاصبَ لا يُقَدَّر إلاَّ بعد حرف العطف لا بعد «لا» ، فإذا قلت: أريد أن أتوب ولا أدخل النار، قال التقدير: أريد أن أتوبَ و [أنْ] لا أدخل النار «؛ لأن الفعل يطلب الأول على سبيل الثبوتِ، والثاني على سبيل النفي والمعنى: أريدُ التوبةَ انتفاء دخولي النار، فلو كان المتسلط على المتعاطفين نفياً فكذلك، ولو قدَّرْتَ هذا التقدير في الآية لم يصح لو قلت:» لا يحل أن لا تعضلوهن «، لم يصح إلاَّ أن تجعل» لا «زائدة لا نافيةً، وهو خلاف الظاهر، وأما أن تقدِّر» أنْ «بعد» لا «النافية فلا يَصِحُّ، وإذا قَدَّرتَ» أن «بعد» لاَ «كان من عطف المصدر المقدّر على المصدر المقدر، لا من باب عطف الفعل على الفعل، فالتبس على ابْنِ عَطِيَّة العطفان، وظَنَّ أنَّهُ بصلاحية تقدير» أن «بعد» لا «يكونُ مِنْ عَطْفِ الفعل على الفعل وفَرْقٌ بين قولِك» لا أريد أن تقوم إلا تخرج «وقولك: أرِيدُ أنْ تَقُوم ولا أنْ تَخْرُجَ، ففي الأول نَفَى إرادةَ وجودِ قيامه، وإرادة انتفاء خروجه، فقد أرادَ خروجه، وفي الثَّانية نَفَى إرادةَ وجودِ قيامه ووجودَ خروجه، فلا يريد لا القيام، ولا الخروج. وهذا في فهمه بعضُ غموضٍ على مَنْ تَمَرَّنَ في علم العربيَّةِ؛ انتهى ما ردّ بِهِ. قال شهابُ الدِّينِ: وفيه نظر من حيث إنَّ المثال الّذي ذكره في قوله: «أريد أن أتوب ولا أدخل النار» فَإنَّ تقديرَ النَّاصب فيه قبل «لا» واجب من حيثُ إنَّهُ لو قُدِّرَ بعدها الجزء: 6 ¦ الصفحة: 258 لفسد التركيب، وأما في الآية فتقدير «أن» بعد «لا» صحيح، فَإنَّ التقدير يصير: لا يَحِلُّ لكم إرث النساء كَرْهاً ولا عَضْلُهن، ويَؤيِّدُ ما قلته، وَمَا ذَهَبَ إليه ابن عكيَّةَ قولُ الزمخرشيِّ فإنَّهُ قال: فإن قلت: تَعْضُُلُوهُنَّ ما وجه إعرابه؟ قلت: النَّصبُ عطفاً على {أَن تَرِثُواْ} و «لا» لتأكيد النّفي أي: «لا يحل لكم أن ترثوا النساء ولا أن تعضلوهن: فَقَدِ صَرَّحَ الزمخشري بهذا االمعنى وصَرَّحَ بزيادة» لا «التي جَعَلَها الشيخ خلاف الظاهر، وفي الكلام حذف تقديره:» ولا تعضلوهن من النكاح «إن كان الطاب للأولياء: أو: لا تعضلوهن من الطلاق، إن كان الخطاب للأزواج. وهو قول أكثر المفسرين. وقيل: [هو] خطابُ الوارث الزَّوج بحبس الزّوجة حتى تَرُدَّ الميراث. قال ابنُ عَطِيَّة: هذا في الرَّجُلِ تكون له المرَْأةُ وهو كاره لصحبتها، ولها عليه مهر فيضارها لتفتدي وترد إليه ما ساق إليها من المهر فنهاه اللهُ عن ذلك. وقيل: الخِطَابُ عامٌّ في الكلِّ. قوله: {لِتَذْهَبُواْ} اللام متعلّقةُ ب {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} والباء في» ببعض «فيها وجهان: أحدهُمَا: أنَّها باء التعدية المرادفةُ لهمزتها أي: لتِذْهِبُوا بما آتيتموهن. والثاني: أنها للمصاحبةِ، فيكون الجارُّ في محلِّ نصبٍ على الحال، ويتعلَّقُ بمحذوفٍ أي: لتذهبوا مصحوبين ببعض، و» ما «موصولة بمعنى الذؤي، أوْ نكرة موصوفة، وعلى التقديرين فالعائدُ محذوف، وفي تقديره إشْكَالٌ تَقَدَّمَ الكلام عليه في البقرة عند قوله: {وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] . قوله: {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ} في هذا الاستثناء قولان: أحدُهُمَا: أنه منقطعٌ فيكونُ {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ} في محلِّ نصب. والثَّاني: أنه متَّصِلٌ وفيه حينئذٍ ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّه مستثنى من ظرف زمان عام تقديره:» ولا تعضلوهن في وقت من الأوقات إلاّ في حال إتيانهن بفاحشة «. والثَّاني أنَّه مستثنى من الأحوال العامَّة، تقديره: ولا تعضلوهن في وقتٍ من الوقات إلاَّ في حال إتيانهن بفاحشة، والمعنى لا يحل له أن يحبسها ضراراً حتى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 259 تفتدي منه إلاّ إذا زَنَتْ، والقائلون بهذا منهم من قال بقي هذا الحكم ولم ينسخ ومنهم من قال: نسخ بآية الجلد. الثالث: أنه مستثنى من العلة العامة تقديره: لا تعضلوهن لعلةٍ من العلل إلا لإتيانهن بفاحشة. وقال أبو البثاء بعد أن حكى فيه وجه الانقطاه: «والثاني: هو في موضع الحال تقديره: إلاَّ في حال [إتيانهن بفاحشةٍ، وقيل: هو استثناء متصل، تقديره: ولا تَعْضُلوهن في حال إلا في حال] إتيان الفاحشة» انتهى. وهذان الوجهان هما في الحقيقة وجهٌ واحد، لأنَّ القائلَ بكونه منصوباً على الحال لا بُدَّ أن يقدِّر شيئاً عاماً يجعل هذا الحال مستثناةً منه. وقرأ ابنُ كثير وأبو بكر عن عاصم: «مبيَّنة» اسم لمفعول بفتح الياء في جميع القرآن، أي بَيَّنَها في قوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي} [إبراهيم: 36] والباقون بكسر الياء من اسم الفاعل وفيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ من بيَّن المتعدي، فعلى هذا [يكون] المفعول مَحْذُوفاً تقديره [مبينة حال مرتكبها. والثاني: أنها من بَيَّن الازم، فإن بَيَّنَ يكون متعديا ولازماً يقال:] بانَ الشَّيْء وأبان واستبان، وبين تبين، بمعنى واحد أي: أظهر، وإذا ظهرت صارت أسباباً للبيان، وإذا صَارَتْ سبباً للبيان جاز إسناد البيان إليها، كما انذَ الأصنام لما كانت شسبباً للضلال حسُنَ إسناد الإضلال إليها لأنَّ الفاحشة لا فعل لها في الحَقِيقَةِ. وأيضاً الفاحشة تتبين فإن يشهد عليها أربعة صارت مبينة. وقرأ بعضهم «مُبَينَة» بكسر الياء وسكون الياءِ اسم فاعل من «أبان» وهذان الوجهان [هما] المتقدّمان في المشددة المكسورة، لأن «أبان» أيضاً يكون متعدياً ولازماً وأما «مبيناتط جمعاً فقرأهن الاخوان وابن عامر وحفص عن عاصم بكسر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 260 الياء اسم فاعل، والباقون بفتحها اسم مفعول، وتَقَدَّمَ وجه ذلك. فصل قال ابنُ مَسْعُودٍ وَقَتَادَةُ: الفاحشة هي النُّشوز، وإيذاء الزَّوج، والمعنى إذا كان سوء العشرة من جهتهن فقد عذرتم في طلب الخُلْعِ ويُؤَيِّدُهُ قولُ أبيٍّ بن كعب، إلاَّ أن يفحشن عليكم. وقال الحَسَنُ، وأبو قلاَبَةَ والسُّدِّيُّ: هي الزنى والمعنى، إذَا نَشَزَتِ الَمْرأةُ، أوْ زَنَتْ حَلَّ للزَّوْج أنْ يسألها الخُلْعَ. وقال عطاء: كان الرَّجُلُ إذا أصابت امرأته فَاحِشَةً أخذ منها ما ساق إليها وأخرجها فنسخ اللهُ ذلك. قوله: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} . وقال الزَّجَّاجُ: وهو النصفة في المبيت والنفقة والإجمال في القول. وقيل: أن يتصنّع لها كما تَتَصَنع له. [قوله:] {بالمعروف} لها وجهان: أظهرهما: أنَّهَا باءُ الحالش، أي: من الفاعل مُصَاحبين لهن بالمعروف، أو من المفعول أي مصحوبات بالمعروف. والثَّاني: أنها باء التعدية. قال أبُو البَقَاءِ: بالمعروف مفعول، أو حال. فصل قال القُرْطُبِيُّ: استدل علماؤنا بقوله تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف} أنّ المرأة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 261 إذا لم يكفيها خادم واحد أنَّ عليه أن يكفيها قدر كفايتها كابنة الخليفة والملك وشبههما ممن لا يكفيها خادم واحد، وأنَّ ذلك هو المعاشرةُ بالمعْرُوفِ. وقال الشَّافِعِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ: لا يلزمه إلا خادم واحد، وذلك يكفيها خدمة نفسها وليس في العالم امرأة إلا ويكفيها خادم واحد، وهذا كالمقاتل تكون له أفراس فلا يُسْهمُ لَهُ إلاَّ بفرس واحد؛ لأنه لا يقاتل إلا على فرس واحد، قال علماؤنا: وهذا التشبهي غلط؛ لأن مثل بنات الملوك اللاتي لهن خدمة كثيرة لا يكفيها خادم واحد، لأن إصلاح شأنها ومطبخها، وغسيل ثيابها لا يكفيها خادم واحد يقوم بذلك. قوله: {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ [فعسى} ] أي إن كرهتم عشرتهن بالمعروف وآثرتم فراقهن. قوله: {فعسى} الفاء جواب الشرط، وإنَّمَا اقترنت بها عسى؛ لأنها جامدة. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قلت من أي وجه صح أن يكون فعسى جزاء للشرط؟ قلت: من حيث المعنى فإن كرهتموهن فاصبروا عليهن مع الكرامة، فلعلَّ لكم فيما تكرهون خيراً كثيراً ليس فيما تحبون. ولهذا قال قَتَادَةُ: فإنه فسر الخير الكثير بودٍّ يحصل فتنقلب الكراهة محبة، فلعلَّ لكم فيما تكرهون خيراً كثيراً ليس فيما تحبون. وقيل: ولد صالح. وقرئ وَيَجْعَلُ برفع اللام. قال الزَّمَخْشَرِيُّ على أنه حال يعني: ويكون خبر المبتدأ محذوف لئلا يلزم دخول الواو على مضارع مثبت، و «عسى» هنا تامة؛ لأنها رفعت انَّ وما بعدها، والتقدير: فقد قربت كراهيتكم فاستغنت عن تقدير خبر، والضمير في «فيه» يعود على شيء، أي: في ذلك الشيء المكروه. وقيل: يعود على الكره المدلول عليه بالفعل، والمعنى {فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ} ورغبتم في مفارقتهن، فربما جعل في تلك المفارقة لهن خيراً كثيراً، وذلك بأن تتزوج غيره خيراً منه. ونظيره قوله: {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} [النساء: 130] وهذا قول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 262 الأصَمِّ، قال القاضي، وهذا بعيد؛ لأنه تعالى حث بما ذكر على استمرار الصحبة فكيف يريد المفارقة. وقيل: الضمير يعود على الصبر، وإن لم يجر له ذكر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 لما اذن في مضارة الزوجات إذَا أتبني بفاحشة مبينة بين في هذه الاية تحريم المضارة في غير حال الإتيان بالفاحشة؛ وذلك لأن الرجل إذا مال إلى التَّزَوُّج بامرأة أخرى، وزمى زوجته بنفسه بالفاحشة حتى يُلْجِئَها إلى الافتداء منه بما أعْطاهَا ليصرفه في تزوج المرأة التي يريدها، فقال تعالى {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} . قوله: {مَّكَانَ زَوْجٍ} ظرف منصوب بالاستبدال، والمراد بالزوج هنا الجمع، أيْ: فإن أردتم استبدال أزواج مكان أزواج وجاز ذلك [لدلالة] جمع المستبدلين، إذ لا يتوهم اشتراك المخاطبين في زوج واحد مكان زوج واحد، ولإرادة معنى الجمع عاد الضمير من قوله {إِحْدَاهُنَّ} على «زوج» جمعاً. [و] التي نهى عن الأخذ منها في المستبدل مكانها؛ لأنها آخذة منه بدليل قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} وهذا إنَّمَا هو في القديمة لا في المستحدثة، وقال: {إِحْدَاهُنَّ} ليدل على أنه قوله {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} المراد منه: وآتى كل واحد منكم إحداهن أي: إحدى الأزواج [ولم يقل: «آتيتموهن قنطاراً، فدَلَّ [على] لفظ إحداهن» . على أنَّ الضمير المراد استبدال أزواج مكان أزواج فأرِيدَ بالمفرد هنا الجمع، لدلالة {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ} ، واُرِيدَ بقوله: «وآتيتم كل واحد واحد» لدلالة إحداهن - وهي مفردة - على ذلك، ولا يَدُلُّ على هذا المعنى البليغ بأوجز، ولا أفصح من هذا التركيب، وقد تقدم معنى القنطار واشتقاقه في «آل عمران» والضمير في «منه» عائد على قنطار. وقَرَأَ ابْنُ مُحَيْصِنٍ «آتيتم إحداهن» بوصل ألف إحدى، كما قرأ «إنها لإحدى الكبر» ، حذف الهمزة تحقيقاً كقوله: [الرجز] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 263 1771 - إنء لَمٍ اُقَاتِلْ فَالْبِسُونِي بُرْقُعَا ... وقد طول أبُو البَقَاءِ هنا، ولم يأتِ بطائلٍ فقال: وفي قوله: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} إشكالان: أحدهما: أنه جمع الضمير والمتقدم زوجان. والثاني: أن التي يريد أن يستبدل بها هي التي تكون قد أعطاها مالاً، فَنَهَاهُ عن أخذه، فَأَمَّا التي يريد أن يستحدث بها فلم يكن أعطاها شيئاً حَتَّى ينهى عن خذه، ويتأيد ذلك بقوله {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} . والجواب عن الأول: أنَّ المراد بالزوج الجمع؛ لأن الخطاب لجماعة الرجاال، وكل منهم [قد] يريد الاستبدال، ويجوز أنْ يكون جمع؛ لأن التي يريد أنْ يستحدثها يفضي حالها إلى أن تكون زوجاً و [أن] يريد أن يستبدل بها كما استبدل بالأولى فجمع على هذا المعنى. وأمَّا الإشكال الثاني ففيه جوابان: احدُهُمَا: انَّه وضع الظاهر موضع المضمر، والأصل «وآتوتموهن» . والثاني: أن المستبدل بها مبهمة فقال «إحداهن» إذْ لم يتعين حتى يرجع الضمير إليها، وقد ذكرنا نحواً من هذا في قوله «فتذكر إحداهما الأخرى» انتهى. قال شهابُ الدِّينِ: وفي قوله «وضع الظاهر موضع المضمر» نظر؛ لأنَّهُ لو كان الأصل كذلك لأوهَمَ أنَّ الجميع آتوا الأزْوَاجَ قنطاراً كما لم تقدم وليس كذلك. فصل [حكم المغالاة في المهر] قالوا: دَلَّتِ الآية على جواز المغالاة في المهر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 264 رُوِيَ أنَّ عمر بن الخطاب قال على المِنْبَرِ: «ألاَ لاَ تُغَالُوا في مهور نِسَائكُم» فقامت امرأة فقالت: يا ابن الخطاب الله يعطينا وَأنْتَ تمنع، وتلت الآية فقال عمر: كلّ الناس أفْقَهُ مِنْكَ يا عكرُ، ورجع عن ذلك. قال ابن الخطيب: وعندي أنَّ الآية لا دلالة فيها على جواز المغالاة؛ لأن قوله {إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً} لا يدل على جواز إيتاء القنطار، كما أن قوله {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] لا يدل على حصول الآلهة فالحاصل أنَّهُ لا يلزم مكن جعل الشيء شرطاً لشيء آخر كون ذلك الشرط في نفسه جائز الوقوع. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من قُتل له قتيلٌ فأهله بين خيرتين» ولم يلزم منه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 265 جواز القتل، وقد يقول الرجل: لو كان الإله جسماً لكان محدثاً، وهذا حق، ولا يلزم منه أن [قولنا] الإله جسم حق. فصل يدخل في الآية ما إذَا كان آتَاهَا مهرها، وما إذا لم يؤتها؛ لأنه إذَا أوقع العقد على الصداق فقد آتاها ذلك الصداق في حكم الله فلا فرق بين ما إذا آتاها الصداق حساً، وبين ما إذا لم يؤتها. فصل [في الخلوة الصحيحة هل تقرر المهر؟] احتج ابُو بكر الرازي بهذه الآيةَ على أنَّ الخلوة الصحيحة تقرر المهر. قال: لأنَّ اللهَ تعالى منع الزوج من أنْ يأخذ منها شيئاً من المهر، وهذا المنع مطلق ترك العمل قبل الخلوة؛ فوجب أن يكون معمولاً به بعد الخلوة. قال: ولا يجوز أن يقال إنَّه مخصوص بقوله تعالى: {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرر: 237] لأن الصحابة اختلفوا في تفسير المسيس. فقال عمر وعلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: المراد من المسيس: الخلوة. وقال عبد الله: هو الجماع إذَا صار مختلفاً فيه امتنع جعله مخصصاً لعموم الآية. وأجيب أنَّ هذه الآية هنا مختصة بعد الجماع لقوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} وإفضاء بعضهم إلى بعض، هو الجماع على ما سيأتي. فصل [سوء العشرة هل يوجب العوض] سُوءُ العشرة إنْ كان من قِبَلِ الزوجة حَلَّ أخذ بدل الخُلْعِ؛ لقوله: {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} وإن كان من قِبل الزوج، كثرِهَ له أن يأخذ من مهرها شيئاً؛ لأنه نهى في هذه الآية عن الأخذ، ثم إن خالف وفعل ملك بدل الخُلْعِ كما أنَّ البيع وقت النداء منهي عنه، ثم إنه يفيد الملك. قوله: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} استفهام إنكاري أي: اتفعلونه مع قبحه، وفي نصب {بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً} وجهان: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 266 أحدهما: أنها منصوبان على المفعول من أجله أي لبهتانكم وإثمكم. قال الزمخشريُّ: فإن لم يكن عَرَضاً كقولك: قعد عن القتال جبناً. وقيل: انتصب ينزع الخافض أي ببهتان. والثاني: أنَّهُمَا مصدران في موضع الحال، وفي صاحبهما وجهان: أظهرهُمَا: أنَّه الفاعل في أتأخذونه أي: باهتين وآثمين. والثاني: أنَّهُ المفعول أي: أتأخذونه مبهتاً محيراً لشنعته، وقبح الأحدوثة عنه، والتقدير: تصيبون في أخذه بهتاناً، والبُهْتَانُ فُعْلان من البُهْتِ، وهو في اللغة: الكذب الذي يواجه به الإنسان صاحبه على وجه المكابرة، وأصله من بهت الرَّجُلُ إذا تحيَّر فالبهتان كذب يحير الإنسان لعظمه ثم جُعِلَ كُلُّ باطل يتحير من بطلانه بهتاناً، ومنه الحديث: «إذا واجهت أخاك بما ليس فيه فقد بَهَتَّهُ» ولقد تقدم الكلام عليه في البقرة. وفي تسمية هذا الأخذ «بهتانا» وجوه: أحدها: انَّهُ تَعَالى لما فرض لها ذلك المهر فأخذهُ؛ كَأنَّهُ يقول: ليس ذلك بفرض فيكون بُهْتَاناً. وثانيها: أنَّ العقد يستلزم مهراً وتكفل بالعقد تسليم ذلك المهر إيلها ولا يأخذه منها، صار ذلك القول الذي عقد به العقد بهتاناً. وثالثها: أنا ذكرنا أنه كان من عادتهم إذا أرادوا تطليق الزوجة رموها بفاحشة، حتى تخاف وتشتري نفسها منه بذلك المهر، فلما كان ذلك واقعاً على هذا الوَجْهِ في الأغلب جعل كأنه أخذه بهتاناً [وإثماً] . [رابعها: أنَّه عقاب البهتان والإثم المبين فهو كقوله: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء: 10] . وقوله: {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ} تقدَّمَ الكلام في كيف عند قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 267 قوله: {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ} الواو للحال، والجملة بعدها: في محل نصب، وأتى ب «قد» ليقرب الماضي من الحال، وكذلك «أخذن» وقد مقدرة معه لتقدم ذكرها، وأصل أفْضَى ذهب إلى فضاه أي ناحية سعته، يقال: فَضَى يَفْضُو فَضْواً، وأفضى: عن ياء أصلها واو. وقال اللَّيْثُ: أفْضَى فلان إلى فلان أي: وصل إليه، وأصله أنه صار في فضائه وفرجته. وقال غيره: اصل الإفْضَاءِ الوصول إلى الشيء من غير واسطة. وللمفسرين في هذا الإفضاء قولان: أحدهُمَا: قال ابن عباس: ومجاهد، والسدي أنَّهُ كناية عن الجماع وهو اختيار الزجاج، وابن قتيبة، ومذهب الشافعيّ؛ لأنَّ عنده أن الزوج إذا أطلق قبل المسيس فله أن يرجع في نصف المهر، وإنْ خلا بها. والثاني: أنَّ الإفضاء هو الخلوة وإن لم يجامعها. وقال الكلبي: الإفضاء ان يكون معها في لحاف واحد، جامعها أو لم يجامعها، وهذا اختيار الفراء، ومذهب أبي حنيفةَ؛ لأن الخلوةَ في الأنكحة الصحيحة تقرر المهر، واسْتَدَلُّوا على القول الأوَّّلِ بوجوهٍ: أحدها: ما تَقَدَّمَ عن الليث: أنه يصير في فرجته وفضائه، وهذا المعنى إنَّمَا يحصل في الحقيقة عند الجماع. وثانيها: انه تعالى ذكر في معرض التعجب فقال {وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} والتعجب إنما يتم إذا كان هذا الإفضاء سبباً قوياً في حصول الألفة والمحبّة، وذلك لا يحصل بمجرد الخلوة وإنَّمَا يحصل بالجماع، فيحمل عليه. وثالثها: أن الإفضاء إليها لا بد وأن يكون مفسراً بفعل منه ينتهي إليه؛ لأن كلمة «إلى» لانتهاء الغاية، ومجرد الخلوة ليبس كذلك؛ لأن عند الخلوة المحضة لم يصل كل واحد منهما إلى الآخر فامتنع تفسير قوله: {أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} بمجرد الخلوة. وإنْ قيل: إذا اضطجعها في لحافٍ واحد ملامساً فقد الإفْضَاء مِنْ بعضهم إلى بعض؛ فوجب أن يكون ذلك كافياً وأنتم لا تقولون به. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 268 فالجَوَابُ أنَّ القائل بذلك قائلان: قائل يقول: المهر لا يتقرر إلاَّ بالجماع، وآخر يقول: يتقرَّر بمجرد الخلوة ولا يقولُ أحَدٌ إنَّه يتقرر بالملامسة والمضاجعة فَبَطَلَ هذا القول بالإجماع، ولم يبق في تفسير الإفضاء إلاَّ أحد أمرين: إمَّا الجماع، وإمَّا الخلوةَ، وقد أبطلنا القول بالخلوة بما بيناه فلم يبق إلاَّ أن المراد بالإفْضَاءِ الجماع. ورابعها: أنَّ المهر قَبْلَ الخُلْوَةِ ما كان مُتَقَرِّراً، وقدو علّقَ الشَّرع تقريره على إفضاء البعض إلى البعض، وقد اشتبه في المُرَادِ بهذا الإفضاء هل هو الخُلوة، أو الجماع، وإذَا وقع الشكُّ وجب بقاء ما كان على ما كان والأصل براءة الذمة. احتج من قال: بأن الخلوة الصحيحة تقرر المهر وتُوجِبُ العدةَ دخل بها أوْ لم يدخل بها بما رَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عن [ابن] ثوبان، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ كَشَفَ خِمَارَ امْرَأةٍ ونَظَرَ إلَيْهَا وَجَبَ الصَّدَاقُ» وقال عمر: إذَا أغْلَقَ باباً وأرخى ستراً وأرى عورة فقد وجب الصداق، وقضى الخلفاء الراشدون أنَّ من أغلق باباً، وأرخى ستراً فقد وجب الصداق وعليها العدة. قوله {وَأَخَذْنَ مِنكُ} في منكم زوجان: أظهرهما: أنه متعلق ب «أخذن» ، وأجاز فيه أبُو الْبَقَاءِ أن يكون حالاً من ميثاقاً قدّم عليه كأنه لما رأى أنَّه يجوز أن يكون صفة لو تأخر أجاز ذلك وهو ضعيف. قال الحسن، وابن سيرين، والضحاك، وقتادة، والسدي، وعكرمة، والفراء: المراد بالميثاق هو قول الولي عند العقد: زوّجْتُكَها على ما أخذ للنساء على الرجال من إمساك بمعروف، أو تسريح بإحسان. وقال الشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ ومُجَاهِدٌ: في كلمة النِّكَاحش المعقود عليها على الصداق الجزء: 6 ¦ الصفحة: 269 وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «اتَّقُوا اللهَ في النِّسَاءِ فَإنَّكُمْ أخَذْتُمُوهُنَّ بأمَانَةِ اللهِ واسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللهِ» . وقيل المراد بالميثاق الغليظ هو: إفْضَاءُ بعضهم إلى بعض وصفه بالغلظة لعظمة ما يحدث بين الزوجين من الاتحاد والألفة والامتزاج. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 قوله تعالى: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} إلى قوله: [سبيلا] . قال الأشعث بن سَوّار توفي أبو قيس وكان من صالحي الأنصار فخطب ابنه امرأة أبيه فقالت إنِّي أعدّك ولداً وأنت من صالحي قومك، ولكني آتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استأمره، فأتته فأخبرته فأنزل الله هذه الآية. قال ابن عباس وجمهور المفسرين: كان أهل الجاهلية يتزوجون بأزواج آبائهم فنهوا بهذه الآية عن [ذلك. قوله «ما نكح» في «ما» هذه قولان] : أحدهما: أنها موصولة اسمية واقعة على انواع من يعقل كما تقدم في قوله {مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] هذا عند من لا يجيز وقوعها على آحاد العقلاء فأما من يجيز ذلك فيقول: إنها واقعة موقع من ف «ما» مفعول به بقوله «ولا تنكحوا» والتقدير: ولا تتزوّجُوا من تزوج آباؤكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 270 والثاني: أنها مصدرية أي: ولا تنكحوا مثل نكاح آبائكم الّذي كان من الجاهليَّة وهو النكاح الفاسد كنكاح الشغار وغيره، واختار هذا القول جماعة وغيره، واختار هذا القول جماعة منهم ابن جرير الطبري وقال: ولو كان معناه: ولا تنكحوا النساء التي نكح آباؤكم لوجب أن يكون موضع «ما» «من» انتهى. وتبين كونه حراماً، أو فاسداً من قوله {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً} . قوله {مِّنَ النسآء} تقدم نظيره أول السورة. فصل [حكم نكاح مزنية الأب] قال أبو حنيفة وأحمد: يحرم على الرجل ان يتزوج بمزنية أبيه وقال الشافعي: لا يحرم، واحتج الأولون بهذه الآية، لأنه تعالى نهى الرجل أن ينكح منكوحة أبيه، والنكاح عبارة عن الوطء لوجوه: أحدها: قوله تعالى {فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} [البقرة: 230] فأضاف النّكاح إلى الزّوج، والنّكاح المضاف إلى الزّوج هو الوطء لا العقد؛ لأن الإنسان لا يتزوج من [زوجة] نفسه؛ لأن ذلك في تحصيل الحاصل؛ ولأنَّهُ لو كان المراد به في هذه الآية العقد لحصل التحليل بمجرد العقد وحيث لم يحصل علمنا أن المراد من النكاح في هذه الآية ليس هو العقد، فتعين أن يكون هو الوطء؛ لأنه لا قائل بالفرق. وثانيها: قوله {وابتلوا اليتامى حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ} [النساء: 6] والمراد به الوطء لا العقد؛ لأن أهلية العقد كانت حاصلة. وثالثها: قوله: {الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً} ولو كان المراد العقد لزم الكذب. ورابعها: قوله عليه [الصلاة] والسلام «ناكح اليد ملعون» وليس المراد العقد فثبت بهذه الوجوه أنَّ النكاح عبارة عن الوطء فلزم أن يكون المراد من قوله «ما نكح آباؤكم» أي: وطئن آباؤكم، فيدخل فيه المنكوحة والمَزْنِيُّ بها. فإن قيل قد ورد أيضاً لفظ «النكاح» بمعنى العقد، قال تعالى {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] . إذا نكحتم المؤمنات. وقال عليه [الصلاة] والسلام: «ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح» فلم كان حمل اللفظ على الوطء أوْلَى من حمله على العقد؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 271 فالجواب أن لفظ «النكاح» حقيقة في الوطء مجاز في العقد. لأنَّ لفظ النكاح في أصْلِ اللغة عبارة عن الضَّمِّ، ومعنى حاصل في الوطء لا في العقد، فكان حقيقة في الوطء وإنَّمَا سُمِّيَ العقد بهذا الاسم؛ لأنه سبب الوطء، فيكون من باب إطلاق اسم المسبب على السبب كما أنَّ العقيقة: اسم للشِّعْرِ الذي يكون على رأس الصغير حال ما يولد ثم تُسَمَّى الشاة التي تذبح عند خلق ذلك الشِّعْر عقيقة [فكذا ها هنا. هذا على قول من يقول: لا يجوز استعمال اللفظ الواحد بالاعتبار الواحد في حقيقته] ومجازه فلا جرم نقول: المستفاد من هذه الآية حكم الوطء أمَّا حكم العقد فَإنَّهُ يستفاد من دليل آخر، فأمَّا [من] ذهب إلى اللفظ المشترك يجوز استعماله في مفهوميْه معاً، فإنه يقول دلت الآية على لفظ النكاح حقيقة الوطء، وفي العقد معاً، فكان قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء} نهي عن الوطء وعن العقد معاً حملاً للفظ على مفهوميه ولو سلمنا أنَّه لا يجوز استعمال اللفظ المشترك في مفهوميْه معاًً، لكن ثبت بالدلائل المذكورة أنَّ لفظ النكاح قد استُعمِلَ في الوطء تارةً، وفي العقد أخرى، والقول بالاشتراكِ والمجاز خلاف الأصل، فلا بدّ من جعله حقيقة في القدر المشترك بينهما، وهو معنى الضمّ حتَّى يندفع الاشتراك والمجاز، فإذا كان كذلك كان قوله: «ولا تنكحوا ما نكح أباؤكم من النساء» نهياً عن كل واحد من القسمين لا محالة، فإنّ النهي عن التزويج يكون نهياً عن العقد، وعن الوطء معاً، وأجيبوا عن هذا الاحتجاج بوجوه: الأوَّل: لا نسلم أنَّ النكاح يقع على الوطء، والوجوه الَّتي احتجوا بها معارضة بوجوه: الأول: قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «النِّكَاحُ سُنَّتِي» ولا شك أنَّ الْوَطْءَ من حيث كونه وَطْئاً ليس سنة [له] وإلا لزم أنْ يكون الوطء بالسفاح سُنَّةًَ فلما ثبت أنَّ النِّكاح سنة، وثبت أن الوطء ليس بسنة ثبت أنَّ النكاحَ ليس عبارة عن الوطء وكذلك قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «تَنَاكَحُوا تَكَاثَرُوا» ولو كان الوطء مسمى بالنكاح لكان هذا إذناً في مطلق الوطء، وكذا التمسك بقوله {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] . لا يقال: لما وقع التعارض بين هذه الدّلائل فالترجيح معنا، وذلك لأنَّا لو قلنا الوطء مسمى بالنكاح على سبيل الحقيقة لزم دخول المجاز في دليلنا، ومتى وقع التعارض بين المجاز والتخصيص كان التزام التخصيص أولى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 272 لأنَّا نقول: أنْتُم تساعدونا على أنَّ لَفْظَ النِّكاح مستعمل في العقد، فلو قلنا: إنَّ النكاح حقيقة في الوطء لزم دخول التخصيص في الآيات التي ذكرناها ولزم القول بالمجاز في الآيات التي ذكر النِّكَاح فيها بمعنى الوطء ولا يلزمنا التخصيص فقولكم: يوجب المجاز والتخصيص معاً وقولنا: يوجب المجاز فقط، فكان قولنا أوْلَى. الوجه الثَّاني من الوجوه الدَّالة على أنَّ النِّكاح ليس حقيقة في الوطء قوله عليه [الصلاة] والسلام «وُلِدَتْ مِنْ نِكَاحٍ وَلَمْ أُولد مِنْ سِفَاحٍ» وهذا يقتضي أن لا يكون الوطء نكاحاً. الوجه الثالث: من حلف في أولاد الزنا أنهم ليسوا أولاد نكاح لَمْ يَحْنَثْ، ولو كان الوطء نكاحاً لوجب أن يحنث. سلمنا أنَّ الوطء يسمى نكاحاً لوجب أن يحنث. سلمنا أنَّ الوطء يسمى نكاحاً لكن العقد أيضاً يسمى نكاحاً فلم كان حمل الآية على ما [ذكرتم أولى من حملها على ما ذكرنا] . وأمَّا قولهم إنَّ الوطء مسبب للعقد، فكما يحسن إطلاق المسبب مجازاً فكذا يحتمل أن يُقَالَ النِّكاح اسم للعقد ثم أُطْلِقَ هذا الاسم على الوطء لِكَوْنِ الوطء مسبباً له، فلم كان أحدهما أوْلَى من الآخر، بل ما ذكرناه أولى؛ لأن استلزام السبب للمسبب أولى وأتم من استلزام المسبب للسبب المعين، فإنَّهُ لا يمنع حصول الحقيقة الواحدة بأسباب كثيرة كالمِلْك، فَإنَّهُ يحصل بالبيع واهبة والوصية والإرث، ولا شك أنَّ الملازمة شرط لجواز المجاز، فَثَبَتَ أنَّ القول بأنَّ اسم النِّكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد أولى من عكسه. والوجه الثاني: أنَّهُ ثبت في أصول الفِقْهِ أنَّهُ يجوز استعمال اللفظ الواحد في حقيقته ومجازه معاً فحينئذ يلزم ألا تكون الآية دالة على حكم العقد، وهذا وإن كانوا قد التزموه لكنه مدفوع بإجماع المفسرين على سبب نُزُولِ هذه الآية هو أنَّهُم كانوا يتزوجون بأزواج آبائهم، وأجمع المسلمون على أنَّ سبب نزول تلك الآية لا بد وَأنْ يكون داخلاً [تحت الآية، بل اختلفوا في أنَّ غيره هل يدخل تحت الآية أم لا؟ فَأمَّا أنَّ سبب النُّزول يكون] داخلاً فيها فذلك مجمع عليه، وإذَا ثبت أنَّ سبب النزول لا بدّ وأن يكون مراداً ثبت بالإجماع أنَّ النهي عن العقد مراد من هذه الآية فيكون قولهم مضاد للدليل القاطع، فيكون مردوداً. وَأمَّا استدلالهم بالضم فضعيف؛ لأنَّ الضم الحاصل في الوطء عبارة عن اتحاد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 273 الأجسام وتلاصقها، والضم الحاصل في العقد ليس كذلك؛ لأنَّ الإيجاب والقبول أصوات غير باقية، فمعنى الضمّ والتّلاقي والتّجاور فيها محال، وَإذَا كان كذلك فليس بين الوطء والعقد مفهوم مشترك حتى [يقال إنَّ لفظ النكاح حقيقة فيه، فإذا بطل ذلك لم يبق إلا أنْ يُقَالَ لفظ النكاح مشترك بين الوطء والعقد] ويقال: إنه حقيقة في أحدهما مجاز في الآخر، ويرجع الكلام إلى الوجهين الأوَّلين. الوجهُ الثالث: سلمنا أنَّ النِّكاح بمعنى الوطءِ ولكن لم قلتم إن قوله {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} المراد منه المنكوحة بل المراد منه المصدر لإجماعهم على أنَّ لفظ «ما» حقيقة في غير العقلاء، فلو كان المراد منه المنكوحة لزم هذا المجاز، وهو خلاف الأصل، بل أهل العربية اتفقوا على أن ما «ما» مع ما بعدها في تقدير المصدر فتقدير الآية: «ولا تنكحوا نكاح آبائكم» ، ويكون المرادُ منه النَّهي على أن ينكحوا نكاحاً مثل نكاح آبائهم فإن أنكحتم كانت بغير وَلي ولا شهود، وكانت مُؤقتة، وكان على سبيل القهر والإلجاء، فنهاهم اللهُ تعالى عن مثل هذه الأنكحة بهذه الآيةِ؛ وهذا الوجه مَنْقُولٌ عن ابن جَرِيرٍ وغيره كما تقدَّمَ. الوجه الرابع: سَلَّمْنَا أنَّ المراد المنكوحة، والتقدير: ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم، ولكن قوله {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} ليس صريحاً في العموم بدليل أنَّهُ يصحُّ إدخال لفظ الكلِّ في البعض عليه، فيقالُ: ولا تنكحُوا بعض ما نكح آباؤكم، [ولو كان هذا صريحاً في العموم لكان إدْخَالُ لفظ الكلِّ عليه تكراراً، وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً، ومعلوم أنَّهُ ليس كذلك، وإذَا ثبت أنه لا يفيد العموم لم يتناول محل النزاع، لا يقال: لو لم يفد يصير مجملاً غير مفيد والأصل ألا يكون كذلك؛ لأنا نقول: لا نُسَلِّمُ أن التقدير لا يفيد العموم لم يكن صرفه إلى البعض أولى من صرفه إلى غيره، وذلك لأن المفسرين أجمعوا على أنَّ سبب نزوله إنما هو التزوّج بزوجات الآباء، فكان صرفه إلى هذا القسم أولى، وبهذا التقدير يزول الإجمال] . الوجهُ الخامس: سلمنا أن هذا النهي يتناول محل النِّزاع لكن لم قُلْتُمْ: إنَّهُ يفيد التحريم، أليس أن كثيراً من أقسام النَّهي لا يُفِيدُ التَّحْريم، بل يفيدُ التنزيه، أقصى ما في البَاب أن يقال: هذا على خلاف الأصل، ولكن يجب المصير إذا دلّ الدّليل على صحّة [هذا] النكاح [وسنذكره. الوجه السادس: هب أن ما ذكرتم يدل على فساد هذا النكاح] إلا أن ههنا ما يدلُّ على صحَّة هذا النكاح وهو من وجوه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 274 الأوَّلُ: هذا النِّكاح منعقد؛ فوجب أن يكون صحيحاً، بيان أنَّهُ منعقد لأنَّهُ منهي عنه بهذه الآية، ومذهب أبي حَنِيفَةَ أنَّ النَّهْيَ عن الشَّيء يَدُلُّ على كونه في نفسه منعقداً، وهذا أصْلُ مذهبه في مَسْأَلَةِ البيع الفَاسِدِ وصوم يوم النَّحْرِ، فيلزمُ من مجموع هاتين المُقَدِّمَتَيْنِ، أن يكون هذا النِّكاح منعقداً على أصل أبي حنيفة، وإذا كان منعقداً في هذه الصُّورة؛ وَجَبَ القولُ بالصِّحَّة؛ لأنَّهُ لا قائل بالفَرْقِ. وثانيها: [أنَّ] قوله {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] وهذا نهي إلى غاية إيمانِهنَّ والحكمُ المدود إلى غاية ينتهي عند حُصُولِ تلك الغاية، وإذا انتهى [المنع] حصل الجواز، فهذا يقتضي جواز إنكاحهن على الإطلاق، ويدخل في هذا العموم مزنيّة الأب وغيرها، أقصى ما في هذا الباب أنَّ هذا العموم خُصَّ في مواضع، فَيَبْقَى حجة في غير محل التخصيص، ولذلك يستدل بجميع المعلومات الواردة في باب النكاح كقوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] وقوله {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] وكذلك قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وليس لأحد أن يقول إن قوله {مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ضمير عائد إلى المذكور السابق، ومن جملة المذكور السابق قوله: {مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] وليس لأحد أن يقول إن قوله {مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} [النساء: 24] ضمير عائد إلى المذكور السابق، ومن جملة المذكور السابق قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء} لأن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات إليه هو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] وكان قوله {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء} عائداً إليه، ولا يدخل فيه قوله {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء} وكذلك عموم الأحاديث كقوله عليه السلام «إذَا جَاءَكُم مضنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ فَزَوِّجُوهُ» وقوله « الجزء: 6 ¦ الصفحة: 275 زوجوا بناتكم [الأكفاء] » وهذه العمومات تتناول محل النزاع، والترجيح يكون بكثرة الأدلة، وبتقدير أن يثبت لهم أن النكاح حقيقة في الوطء مجاز في العقد، فيكون حملنا الآية على العقد لم يلزمنا إلاَّ مجاز واحد، وبتقدير أن تحلم تلك الآية على حرمة الوطء تلزمنا هذه التخصيصات الكثيرة، فكان الترجيح من جانبنا لكثرة الدلائل. وثالثها: الحديث المشهور وهو قوله عليه السلام «الحرام لا يحرم الحلال» أقصى ما في هذا الباب أن يقال: إن قطرة من الخمر إذا وقت في كوز ماء، فههنا الحرام حرّم الحلال، [وإذا اختلطت المنكوحة بالأجنبيات واشتبهت بهن فههنا الحرام حرم الحلال] إلا أنَّا نقول: دخول التخصيص فيه في بعض الصور، ولا يمنع من الاستدلال به. ورابعها: أن يقول: المقتضي لجواز النِّكاح قائم، والفَارِقُ بَيْنَ مَحَلِّ الإجماع وبين مَحَلِّ النَّزاع ظاهر؛ فَوَجَبَ القولُ بالجوازِ أمَّا المقتضي فهو أن يقيس نكاح هذه المرأة على نكاح سائر النّسوان عند حُصُولِ الشَّرائط المتفق عليها؛ بجامع ما في النِّكاح مِنَ المصالح، وأمَّا الفارق: فهو أنَّ هذه الحرمة إنَّمَا حكم الشَّارع بثبوتها سعياً في إبقاء الوصلة الحاصلة بسبب النكاح، ومعلوم أنَّ هذا لا يليق بالزِّنَا. بيان المقام الأول: من تزوج بامرأة فلم يدخل على المرأة أبو الرجل وابنه، ولم تدخل على المرأة أم المرأة وبنتها، لبقيت المرأة كالمحبوسة في البيت، ولتعطل على الزوج والزوجة أكثر المصالح، ولو أذنَّا في هذا الدخول، ولم نحكم بالمحرمية فربما امتد على البعض إلى البعض، وحصل الميل والرغبة، وعند حصول التزوج بأمها وابنتها تحصل النفرةَ الشديدة بينهن؛ لأنَّ صدور الإيذاء عن الأقارب أقوى وقعاً، وأشد إيلاماً وتأثيراً، وعند حصول النفرة الشَّديدة يحصل التَّطْلِيقُ والفراق، أمَّا إذا حصلت المحرمية انقطعت الأطماع وانحبست الشهوة، فلا يحصل ذلك الضرر فيبقى النكاح بين الزّوجين سليماً عن هذه المفسدة، فثبت أن المقصود من حكم الشّرع بهذه المحرمية السعي في تقريرِ الاتصال الحاصل بين الزوجين، وإذَا كان المقصود من المحرمية إبقاء ذلك الاتِّصال، فمعلوم أنّ الاتصال الحاصل عند النكاح مطلوب البقاء، فناسب حكم الشرع بإثبات هذه المحرمية [وأما الاتصال الحاصل بالزنا فهو غير مطلوب البقاء، فلم يتناسب] حكم الشرع بإثبات هذه المحرمية، وهذا وجه مقبول. قوله {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} في هذا الاستثناء قولان: أحدهما: أنه منقطع؛ إذ الماضي لا يجامع الاستقبال، والمعنى أنَّهُ لما حرَّم عليهم نكاح ما نكح آباؤهم [من النِّساء] تطرق الوهم إلى ما مضى في الجاهِلِيَّةِ ما حكمه؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 276 فقيل: إلاَّ ما قد سَلَفَ، فلا إثْمَ عَلَيْهِ. وقال ابْنُ زَيْدٍ في معنى ذلك أيضاً: إنَّ المُرَادَ بالنِّكَاحِ العقدُ بالنِّكَاحِ العقدُ الصَّحِيحُ، وحَمَلَ {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} على ما قد يتعاطَاهُ بعضهم من الزِّنَا [فقال: إلا ما سلف من الآباء في الجاهلية من الزنا] بالنِّسَاءِ، فَذَلِكَ جائز لكم زواجكم في الإسْلاَمِ، وكأنَّهُ قيل: ولا تَعْقِدُوا عَلَى مَنْ عقد آباؤكم عليه إلاَّ ما قد سَلَفَ من زَنَاهُم، فَإنَّهُ يجوز لكم أن تَتَزَوَّجُوهُمْ، فهو استثناءٌ منقطعٌ أيضاً. والثاني: أنَّهُ استثناءٌ مُتَّصِلٌ وفيه معنيان: أحدهما: أن يحمل النِّكَاح على الوَطْءِ، والمعنى: أنَّهُ نهى أنْ يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأةً وَطَئَهَا أبُوه، إلا ما قد سَلَفَ من الأبِ في الجاهليَّةِ من الزِّنَا بالمرأةِ، فإنَّه يجوز للابن تزويجها نُقِلَ هذا المَعْنَى عن ابن زَيْدٍ أيضاً إلاّ أنَّهُ لا بدّ من التّخصيص [أيضاً] في شيئين: أحدهُمَا: قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} أي: ولا تَطَئُوا وطئاً مباحاً بالتَّزويج. والثَّاني: التَّخْصيصُ في قوله: {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} بوطء الزِّنَا وإلا فَالوَطْءُ فيما قَدْ سَلَفَ قد يكون [وَطْئاً] غير زنا، وقد يكون زنا فيصير التقدير: ولا تطئوا ما وطئ آباؤكم وَطْئاً مباحاً بالتزويج إلاَّ من كان وطؤها فيما مضى وطء زنا في الجاهليَّةِ. والمعنى الثَّاني: ولا تَنْكِحُوا مِثْلَ نكاح آبائكم في الجاهليَّةِ إلاَّ ما تَقَدَّمَ منكم من تلك العُقُودِ الفَاسِدَةِ فَيُبَاحُ لكم الإقامة عليها في الإسْلاَمِ، إذا كان ممّا يقرر الإسلام عليه، وهذا على رَأي من يَجْعَل «ما» مصدريّة، وقد تَقَدَّمَ مذل ذلك. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قلت: كيف استثنى {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} مما نكح آباؤكم؟ قلتك كما استثنى «غير أن سيوفهم» من قوله «ولا عيب فيهم» يعني: إن أمكنكم أن تنكحوا ما قد سلف فانكحوه، فلا يحل لكم غيره، وذلك غير ممكن، والغرض المبالغة في تحريمه، وسدّ الطريق إلى إباحته كما تَعَلَّقَ بالمحال في التأبيد في نحو قولهم: «حتى يبيضّ القار» و {حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} [الأعراف: 40] انتهى. أشار رحمهُ اللهُ إلى بيت النَّابِغَةِ في قوله: [الطويل] 1772 - وَلاَ عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فُلُولٌ مِنْ قِرَاعِ الْكَتَائِبِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 277 يعني إن وجد فيهم عيباً فهو هذا، وهذا لا يعدّه عيباً فانتفى العَيْبُ عَنْهُمْ بدليل، ولكن هذا الاستثناء على هذا المعنى الَّذي أباه الزَّمَخْشَرِيُّ، من قبيل المنقطع، أو المتصل؟ والحقُّ أنَّهُ متصل لأن المعنى: ولا تَنْكَحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ [إلا] اللاتي مضين وفنين، وهذا محالٌ، وكونه محالاً لا يخرجه عن الاتَّصال، وأمَّا البيتُ ففيه نَظَرٌ؛ والظَّاهِرُ أنَّ الاستثناء فيه متصل أيضاً لأنه جعل العيب شاملاً لقوله: «غير أن سيوفهم [بهن فلول من قراع] » بالمعنى الَّذي أراده وللبحث فيه مجال، فتلخَّص مِمَّا تَقَدَّمَ أنَّ المراد بالنِّكَاحِ في هذه الآيةِ العقدُ الصَّحِيحُ، أو الفاسد أو الوطء، أو يرادُ بالأوَّلِ العقد، وبالثَّانِي الوَطْءُ وقد تَقَدَّمَ الكَلاَمُ على ذلك في البَقَرَةِ. وزعمَ بعضهم أنَّ في الآية تقديماً وتأخيراً، والأصل: «ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم من النساء إنه كان فاحشة ومقتاً وساء سبيلاً إلا ما قد سلف» ، وهذا فاسدٌ من حيث الإعراب ومن حيث المعنى، أمَّا الأوَّل فلأنَّ ما في حيز «إن» لا يتقدَّمُ عليها، وأيضاً فالمستثنى يتقدَّمُ على الجملة الَّتي هو من متعلِّقاتها سواءً كان متصلاً أو منقطعاً وإن كان في هذا خلاف ضعيف. وأمَّا الثَّاني فلأنَّهُ أخْبَرَ أنه فاحشة ومقت في الزَّمان الماضي [بقوله «كان» ، فلا يصحُّ أن يستثنى منه الماضي؛ إذ يصيرُ المعنى هو فاحشة في الزّمان الماضي] إلا ما وقع منه في الزَّمَان الماضي فليس بفاحشة. وقيل: إن «إلا» هاهنا بمعنى «بَعْدَ» كقوله تعالى {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى [وَوَقَاهُمْ] } [الدخان: 56] أيْ بعد المَوْتَةِ الأوَلى وقيل {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} قيل نزول آية التحرير وقيل {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} فإنكم مقرون عليه، قالوا: لأنَّهُ عليه السَّلاَمُ أقَرَّ بما عليهنَّ مدة ثم أمر بمفارقتهن وإنَّمَا فعل ذلك ليكون إخراجهم عن العادة الرَّديئة على سبيل التَّدرُّجِ. وقيل: إنَّ هذا خطأ؛ لأنَّه عليه السَّلامُ ما أقَرَّ أحداً على نكاح امرأة أبيه، وَإنْ كان في الجاهليَّةِ، لما روى البراء بنُ عَازِبٍ قال: مَرَّ بِي خَالِي أبُو بُرْدَة [ابن نيار] ومعه لواء قلت أيْنَ تَذْهَبُ؟ قال: بَعَثَنِي رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى رجل تزوَّجَ امرأة أبيه مِنْ بعده آتيه برأسه وآخذ ماله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 278 فصل قال القُرْطُبِيُّ، وقد كان في العَرَبِ قبائل [قد اعتادت] أنْ يخلف [ابن] الرَّجُل على امرأةِ أبيه، وكانت هذه السِّيرة في الأنصار لازمة، وكانت في قريش مباحة مع التَّراضي، ألا ترى أنَّ عمرو بْنُ أميَّة خلف على امرأة أبيه بعد موته فولدت له مسافراً وأبا معيط، وكان لها من أمية أبو العيص وغيره؛ فكان بنو أمية إخوة [مُسَافِر وأبي مُعَيط] وأعمامها، وأيضاً صفوان بن أميَّةَ تزوَّج بعد أبيه امرأته، فاختة بنت الأسود بن المطلب بن أسَد، وكان أميّة قتل عنها ومن ذلك منظور بن زبَّان خلف على مُلَيْكة بِنْتِ خَارِجَةَ، وكان تحت أبيه زبَّان بن سيار ومن ذلك حِصْن بن أبِي قَيْسٍ تزوَّجَ امرأة أبيه [كُبَيْشَة] بنت معن، والأسود بن خلف تزوَّج امرأة أبيه. قوله: {إِنَّهُ} إن هذا الضمير يعود على النِّكَاح المفهوم من قوله: {وَلاَ تَنكِحُواْ} ويجوز أن يعود على الزِّنَا إذا أرِيدَ بقوله {إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} من الزِّنَا و «كان» هنا تدلُّ على الماضي فقط؛ لأنَّ معناها هنا: لم يزل، أي في حكم اللهِ وعلمه موصوفاً بهذا الوصف، وهذا المعنى هو الذي حَمَلَ المبرد على قوله: «إنها زائدة» ، وردَّ عليه [أبُو حَيَّان] بوجود الخبر والزَّائدة لا خبر لها، وكأنه يعني بزيادتها ما ذكرناه من قوله لا تَدُلُّ على الماضي فَقَطْ، فَعَبَّر عن ذلك بالزِّيَادَةِ. فصل وصف تعالى هذا النِّكَاحَ بأمُورٍ ثَلاَثَةٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ فاحشةٌ، والفَاحِشَةُ أقبحُ المعاصي، وذلك أنَّ زوجة [الأب] تشبه الأمّ، فكان مباشرتها من أفْحَشِ الفواحش لأنَّ نكاح الأمّهات من أقبح الأشْيَاءِ عند العَرَب قال أبُو العبَّاس سالت ابن الأعرابي عن نكاح المقت فقال: هو أن يتزوج الرَّجل امرأة أبيه إذا طلَّقها أو مات عنها ويقال لهذا الرَّجُل: الضَّيْزَن وقال ابْنُ عَرَفَة: كانت العرب إذا تزوَّجَ الرَّجُلُ امرأة أبيه فأولدها، قيل للولد: المقتِيّ. والثَّاني: امَقْتُ هو بغضٌ مقرون باستحقار، فهو أخصُّ منه، وهو من اللَّه تعالى في حقِّ العبد يدلُّ على غاية الخزْي والخَسَارِ، وكان لذلك أخص قبل النَّهْي منكراً في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 279 قلوبهم، ممقوتاً عندهم، وكانت العَرَبُ تقولُ لولد الرَّجُلِ من امرأة أبيه: «مقيتٌ» وكان منهم الأشْعَثُ بنُ قَيْسٍ، أبو معيط بن أبي عمرو بن أميةَ. والثَّالِثُ: قوله: {وَسَآءَ سَبِيلاً} وأعلم لأنَّ مراتب القبح ثَلاثَة: الْقُبْحُ العَقْلِيُّ، والقبح الشَّرْعِيُّ، والقبح العَادِيُّ، فقوله: «فاحشة» إشارة إلى القُبْحِ العقلي، وقوله {وَمَقْتاً} إشارةً إلى القبح الشَّرعي، وقوله {وَسَآءَ سَبِيلاً} إشارةً إلى القبح في العرف والعادةِ، ومن اجتمع فيه هذه الوجوه فقد بلغ الغاية في القبح. قوله {وَسَآءَ سَبِيلاً} في «ساء» قولان: أحدهما: أنها جارية مجرى بئس في الذَّمِّ والعمل، ففيها ضمير مبهم يفسِّره ما بعده وهو {سَبِيلاً} والمخصوص بالذَّمِّ محذوف تقديره «وساء سبيل هذا النكاح» كقوله: «بئس الشراب» أي: ذلك الماء. قال الَّليْثُ: «ساء» فعل لازم وفاعله [مضمر، و] «سبيلاً» منصوب تفسيراً لذلك الفاعل المحذوف كما قال {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69] . الثاني: أنَّهَا لا تجري مجرى بِئْسَ في العمل، بل هي كسائر الأفعال، فيكونُ فيها ضمير يعودُ على ما عاد الضَّمِيرُ في {إِنَّهُ} ؛ و {سَبِيلاً} على كلا التَّقْدِيرَيْنِ تمييز وفي هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنها لا محل لها من الإعراب بل هي مُسْتَأنَفَةٌ ويكون الوقف على قوله: ومقتاً، ثم يستأنف {وَسَآءَ سَبِيلاً} أي: وساء هذا السَّبِيلُ من نكاح مَنْ نكحهن من الآباء. والثاني: أن يكون معطوفاً على خبر كان، على أنَّه يجعل محكياً بقول مضمر، ذلك القول هو المعطوف على الخبر، والتقدير: ومقولاً فيه {وَسَآءَ سَبِيلاً} فهكذا قدَّرَهُ أبُو البَقَاءِ. ولقائل أن يقول يجوز أنْ يكون عطفاً على خبر كان من غير إضمار قول؛ لأنَّ هذه الجملةَ في قوة المفردِ، ألا ترى أنه يقع خبراً بنفسه، بِقَوْلِ: زيد سَاءَ رَجُلاً، فغاية ما في البَابِ أنَّكَ أتيتَ بِأخبَارٍ كان أحدُهَا مفرد والآخر جملة، اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقالَ: إنَّ هذه الجملة إنشائِيَّة، والإنشائيَّة لا تقع خبراً ل «كان» فاحتاج إلى إضمار القول، وفيه بحث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 280 أمهات جمع أمِّ والهاء زائدةٌ في الجمع، فَرْقاً بَيْنِ العُقَلاَءِ وغيرهم، يُقَالُ في العُقَلاَءِ أمَّهَات، وفي غيرهم أمات كقوله: 1773 - وَأمَّاتِ أطْلاَءٍ صغار ... هذا هو المشهور، وقد يقال: «أمَّات» في العقلاء و «أمهات» في غيرهم، وقد جمع الشَّاعِرُ بين الاستعمالين في العُقَلاَءِ فقال: [المتقارب] 1774 - إذَا الأمَّهاتُ قَبَحْنَ الوُجُوهَ ... فَرَجْتَ الظَّلاَمَ بِأُمَّاتِكَا وقد سُمِعَ «أمهة» في «أم» بزيادَةِ هاء بعدها تاء تأنيث، قال: [الزجر] 1775 - أُمَّهَتي خِنْدَفٌ وَالْياسُ أبِي ... فعلى هذا يَجُوزُ أنْ تكون أمَّهات جمع «أمهة» المزيد فيها الهاء، والهاءُ قد أتَتْ زَائِدةً في مواضع قالوا: هِبْلَع، وهِجْزَع من البَلْعِ وَالجَزْع. قوله: {وَبَنَاتُكُمْ} عطف على {أُمَّهَاتُكُمْ} وبنَاتُ جمع بِنْتٍ، وَبِنْتٌ: تأنيث ابن، وتقدَّمَ الكلام عليه وعلى اشتقاقه ووزنه في البقرة في قوله: {يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] إلا أنَّ أبَا البقاء حكى [عن] الفرَّاءِ أنَّ «بَنَات» ليس جمعاً ل «بِنْتٍ» ، يعني: بكسر البَاءِ بل جمع «بَنَة» يعني: بفتحها قال: وكُسِرَتِ الْبَاءِ تنبيهاً على المحذوف. قال شهابُ الدِّينِ: هذا إنَّمَا يَجيءُ على اعتقادِ أنَّ لامها ياء، وقد تَقَدَّمَ الخلافُ في ذلك، وأنَّ الصَّحِيحَ أنَّهَا واو، وَحَكَى عن غيره أن أصلها: «بَنَوة» وعلى ذلك جَاءَ جمْعُهَا ومذكرها، وهو بنون، قال: وهو مذهب البصريين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 281 قال شهَابُ الدِّينِ: لا خلاف بين القوْليْنِ في التَّحْقِيقِ؛ لأنَّ من قال بنات جمعُ التأنيث، والَّذي قال: بنات جمع «بنوة» لفظ بالأصْلِ فَلاَ خِلاف. وأعْلَمْ أنَّ تَاء «بِنْتٍ» وَ «أخْت» تاءُ تعويضٍ عن اللامِ المحذوفَةِ، كما تَقَّدَمَ تقريره، وليست للتَّأنِيثِ؛ لوجهين: أحدُهُما: أنَّ تَاءَ التَّأنيثِ يَلْزَمُ فتح ما قبلها لفظاً أوْ تقديراً: نحو: تَمْرَةٍ وفتاة، وهذه ساكنٌ ما قَبْلَهَا. والثَّاني: أنَّ تَاءَ التأنيث تبدل في الوقف هاء، وهذه لا تُبْدَلُ، بل تُقَرُّ على حالها. قال أبُو البَقَاءِ: «فإن قيل: لِمَ رُدَّ المحذوف في» أخوات «ولم يُرَدُّ في» بَنَات «؟ قيل: [حُمِلَ] كلُّ واحد من الجَمْعَيْنِ على مذكَّرِهِ، فمذكر» بنات «لم يُرَدُّ إليه المحذوف بل قالوا فيه» بَنُون «، ومذكر» أخَوات «رُدَّ فيه محذوفة قالوا في جمع أخ، إخْوَة وإخوان» . قال شهَابُ الدِّينِ: وهذا الذي قاله ليس بشيء؛ لأنَّهُ أخذ جمع التَّكسير وهو إخوة وإخوان مقابلاً ل «أخوات» جمع التَّصْحِيحِ، فقال: رُدَّ في أخوات كما رُدَّ في إخوة، وهذا أيْضاً موجودٌ في بنات؛ لأنَّ مذكَّره في التكسير رُدَّ إليه المحذوفُ قالوا: ابن وأبناء، ولمّا جمعوا أخاً جمع السَّلامة قالوا فيه «أخُون» بالحذف، فردُّوا في تكسير ابن وأخ محذوفهما، ولم يَرُدُّوا في تصحيحهما، [فبان] فَسَادُ ما قال. فصل: اعلم أنَّ اللهَ تعالى نَصَّ على تحريم أرْبَعَةَ عَشَرَ صِنْفاً من النِّسْوَانِ، سبعة من جهة النَّسَبِ، وهُنَّ الأمَّهات [والبنات، والأخوات، والعمات، والخالات، وبنات الأخ وبنات الأخت، وسبعة من غير النسب، وهن الأمهات المرضعات] والأخوات من الرِّضاعة وأمهات النِّساء، وبنات النِّساء المدخُول بأمَّهاتِهِنَّ، وأزواج الأبْنَاءِ، وأزواج الآباء، وقد ذُكِرُوا في الآية المتقدمة، والجمع بين الأختين. فصل قال الكرخِيُّ: هذه الآية مجملة؛ لأنَّهُ أضيفَ التَّحريم فيها إلى الأمَّهاتِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 282 والبنات، والتحريم لا يمكن إضافَتُه إلى الأعْيَانِ، وإنَّمَا يضاف إلى الأفْعالِ، وذلك الفعل غير مذكُورٍ في الآية فليس إضافة هذا التحريم إلى بعض الأفْعالِ التي لا يمكن إيقاعها في ذوات الأمهات والبنات أوْلى من بعض، فصارت الآية مجملة على هذا الوجه. قال ابن الخطيب: والجواب من وجهين: الأول: أنَّ تقديمَ قوله {وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ} يدل على أنَّ المراد من قوله: «حرمت عليكم أمهاتكم» تحريم نكاحهن. الثاني: أنَّ من المعلوم بالضَّرُورَةِ من دين مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّ المراد منه تحريم نكاحِهِنَّ، والأصل فيه أن الحرمة والإباحة إذا أضيفتا إلى الأعيان فالمراد تحريم الفعل المطلوب منها في العرف فإذا قيل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} فهم كل أحد أنَّ المراد تحريم نكاحهن، ولما قال عليه السَّلام «لا يحل دم امرئ مُسْلِمٍ إلاَّ بإحدى ثلاث» فهم كل أحد أنَّ المراد لا يحلُّ إراقة دمه وَإذَا كان ذلك معلوماً بالضَّرُورَةِ، كان إلْقَاءُ الشُّبهات فيها جارياً مَجْرَى القَدْحِ في البديهيَّاتِ وشبه السُّفُسْطَائِيَّةِ. بلى عندي فيه بحثٌ من وجوه أخرى: أحدها: أن قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} مذكور على ما لَمْ يُسَمَّ فاعله، فليس فيه تصريح بأنَّ فَاعِلَ هذا التحريم هو اللَّهُ تعالى، وما لم يَثْبُتْ ذلك لم تُفِد الآية شيئاً آخر، ولا سبيل إليه إلا بإجماع، فهذه الآيةُ وحدها لا تفيد شيئاً، بل لا بد معها من الإجماع على هذه المقدمة. وثانيها: أنَّ قوله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} [ليس] نصاً في ثبوت التحريم على سبيل التأبيد فَإنَّ القدر المذكور في الآية يمكن تقسيمه إلى المُؤقَّتِ، فإنَّهُ يقال تارة {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} مؤقتاً «وحرمت عليكم [أمهاتكم] » مؤبداً، وإذا كان ذلك صالحاً للتَّقْسِيمِ لم يكن نصاً في التَّأبيد فإذنْ لا يُسْتَفاد التأبيد إلاَّ من دليل منفصل. وثالثها: أنَّ قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} إخبار عن ثبوت هذا التحريم في الماضي، وظاهر اللفظ غير متناول للحاضر والمستقبل، فلا يعرف ذلك إلاَّ بدليل منفصل. ورابعها: أنَّ هذه ظاهر قوله «حرمت عليكم [أمهاتكم] » يقتضي أنَّهُ قد حرَّم على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 283 كُلِّ أحدٍ جميع أمَّهَاتِهم، وجميع بَنَاتِهِمْ، ومعلوم أنَّه ليس كذلك، بل المقصود أنه تعالى قابل الدمع بالجمع، فيقتضي مقابلة الفَرْدِ بالفَرْدِ، فَهَذَا يقتضي أن اله تعالى قَدَّ حرَّمَ على كُلِّ أحَدٍ أمّه خاصة، وأخته خاصة، وهذا فيه نوع عدول عن الظاهر. خامسها: أنَّ قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} يشعر ظاهره بسبق الحل، إذ لو كَانَ أبداً موصوفاً بالحرمة، لكان قوله {حُرِّمَتْ} تحريماً لما هو في نفسه حرام، فيكونُ ذلك إيْجَاد الموجود، وهو محالٌ؛ فثبت أنَّ المراد من قوله: {حُرِّمَتْ} ليس تجديد التحريم، حتى يلزم الإشكال، بل المراد الإخْبَار عن حُصُولِ التحريم فثبت بهذه الوجوه أن ظاهر الآية وحده غير كاف في ثبوت المطلوب. فصل [حرمة الأمهات ثابتة من زمن آدم] حرمة الأمهات والبنات كانت ثابتة من زمن آدم - عليه السلام - إلى زماننا ولم يثبت حل نكاحهن في شيء من الأدْيَان الإلهَّة إلا ما نقل عن زرادشت رسول المجوس أنَّهُ قال بحله، وأكثر المسلمين اتفقوا على أنَّهُ كان كذاباً، وأما نكاح الأخَوَاتِ فقد نُقِلَ: أنَّهُ كان مُبَاحاً في زَمَنِ آدم عليه السلام، وَإنَّمَا أبَاحَهُ الله للضرورة، وأنكر بَعْضُهُمْ ذلك، وقال: إنَّهُ تعالى كان يَبْعَثُ الجواري من الجنَّةِ ليتزوّج بهنَّ أبناء آدم عليه السَّلامِ، ويبعث أيضاً لبنات آدم من يتزوج بهن من الحور، وهذا بعيد؛ لأنَّهُ إذا كان زوجات أبنائه وأزواج بناته من الجنة فحينئذٍ لا يكون هذا النسل من أوْلادِ آدم فقط، وذلك باطل بالإجماع. فصل [سبب التحريم] ذكر العلماءُ أنَّ سبب التحريم منه أنَّ الوطءَ إذلالٌ وإهانةٌ، فإنَّ الإنسان يستحي من ذكره، ولا يقدمُ عليه إلاَّ في الموضع الخالي، وأكثر أنواع الشتم لا يكون إلا بذكره، وإذَا كان الأمر كَذَلِكَ؛ وَجَبَ صونُ الأمَّهات [عنه؛ لأنَّ إنعام الأم] على الولد أعظم وجوه الإنعام؛ فوجب صونُهَا عن هذا الإذلاَلِ، والبنتُ بمنزلة جزء من الإنسان وبعض منه، قال عليه السَّلام: «فَاطِمَةُ بضْعَةٌ مِنِّي» فيجبُ صونها عن هذا الإذلال، وكذا القول في البقية. فصل كلُّ امرأةٍ يرجع نسبك إلَيْهَا بالولادة من جهة أبيك أو من جهة أمِّكَ بدرجة أو درجات سواءَ رجعت إليها بذكور، أو بإناث فهي أمُّك، ثمَّ هنا بحث، وهو أنَّ لفظ الأم إن كان حقيقة في الأم الأصلية وفي الجدات، فَإمَّا أنْ يكون لفظ الأمّ متواطئاً أو مشتركاً فإن كان متواطئاً أعْنِي أن يكون موضوعاً بإزَاءِ قَدْرٍ مُشْتَركٍ بين الأمّ الأصليَّة، وبين سائر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 284 الجدّات، فتكون الآية نَصاً في تحريم الأمِّ الأصليَّة وفي الجدَّات، وأمَّا إن كان لفظ «الأمّ» مشتركاً في الأم الأصليَّة وفي الجدّات فهذا تفريع على أنَّ اللَّفظ هنا على الكُلِّ، [وحينئذ يكون تحريم الجدات منصوصاً عليه، ومنهم] من لم يجوزه، والقائلون بذلك لهم طريقان في هذا الوَضْعِ: أحدُهُما: أنَّ لفظ الأمِّ إنْ أُريد به ههنا الأم الأصليَّة فتحريمُ نكاحها هنا مستفادٌ بالنصّ، وَأمَّ تحريمُ نكاح الجدَّاتِ فَمُسْتَفادٌ مِنَ الإجماع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 285 الثاني: أنَّهُ تعالى تكلم بهذه الآية مرَّتين، يريدُ في كلِّ مرَّةٍ مفهوماً آخر. وَإنْ كان لفظ «الأمِّ» حقيقة في الأمّ الأصليَّة، مجازاً في الجدَّات، فقد ثبت أنَّهُ لا يَجُوزُ استعمال اللَّفْظِ الوَاحِدِ دفعةً واحدةً في حقيقته ومجازه معاً، وحينئذٍ يرجع الطريقان المذكوران [للأول] ، وَكُلُّ أنثى رجع نسبها إليك بالولادة بدرجة أو بدرجات، بإنَاثٍ، أو بِذُكُورٍ، فهي بنتُكَ، وهل بِنْتُ الابْنِ وبِنْتُ البِنْتِ تسمّى هنا حقيقة أوْ مجازاً؟ فيه البحث كما في الأمِّ. فصل هل زواج الرجل بأمه يوجب الحد قال الشَّافِعِيّ: إذا تزوَّج الرَّجُل بأمِّهِ ودخل بها، لزمه الحدُّ. وقال أبُو حَنِيفَةَ: لا يلزم، حجة الشَّافِعِيِّ أنَّ وجود هذا النكاح وعدمه سواء، فَكَانَ هذا الْوَطْء زنا، فيلزمه الحدّ، وَإنَّمَا قلنا: إنَّ وجوده وعدمه سواءً؛ لأنَّهُ تعالى قال {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وقد علم من دين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّ المراد من هذه الآية تحريم نكاحها، وإذَا ثبت ذلك فنقولُ: الموجودُ ليس إلا صيغة الإيجاب والقَبُولِ، فَلَوْ حصل هذا الانعقاد، لكانَ هذا الانعقَادُ إمَّا أنْ يقالَ: إنَّهُ حصل في الحقيقة أو في حكم الشَّرع، والأوَّلُ باطل؛ لأنَّ صيغة الإيجاب والقبول كلام وهو عرض لا يبقى، والقبول لا يوجدُ إلا بعد الإيجاب، وحصولُ الانعقاد بَيْنَ الموجود والمعدوم محال. والثَّاني باطلٌ؛ لأنَّ اللَّه - تعالى - بيَّنَ في هذه الآية بطلان هذا العقد [قطعاً] ، وإذا كان هذا العقد بَاطِلاً قطعاً في حكم الشَّرْعِ، فكيف يمكنُ القَوْلُ بِأنَّهُ منعقدٌ شَرْعاً؟ فَثَبَتَ أنَّ وجود هذا العقد وعدمه بمثابة واحدة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 286 فصل [حكم نكاح البنت من الزنا] قال الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: البنت المخلوقة من ماء الزنا لا تحرم على الزاني. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 287 وقال أبو حنيفة وأحمد: تحرم. حجَّةُ الشَّافِعِيِّ أنَّهَا ليست بنتاً فلا تحرم، وإنما قلنا: ليست بنتاً لوجوه: أحدها: أنَّ أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إمَّا أن يثبت كونها بنتاً له بناء على الحقيقةِ، وهي كونها مخلوقة من مائه أو [بناء] على حكم الشَّرعِ بثبوت هذا النَّسَبِ، والأوَّلُ باطلٌ على مذهبه طرداً أو عكساً، وأمَّا الطرد فهو أنَّهُ مخلوق من مَائِهِ، مع أن أبَا حنيفة قال: لا يثبت ولدها إلا عند الاستلحاق، ولو كان النَّسب هو كون الوَلَدِ مخلوقاً من مائه، لما توقّف [أبو حنيفة في] ثبوت هذا النسب على الاستلحاق. وَأمَّا العكس فهو أنَّ المشرقي إذَا تزوَّجَ بالمغربية، وحصل هناك ولد فَأبُو حَنِيفَةَ أثْبَتَ النسب ههنا مع القطع بأنَّهُ غير مخلوق من مَائِهِ، فثبت أنَّ القول بجعله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 288 التَخليق من مائه سبباً للنَّسب باطل، طرداً أوْ عكساً على قول أبِي حنيفة، وأمَّا إذا قلنا: إنَّ النَّسب إنَّمَا يثبت لحكم الشرع فههنا أجمع المسلمون أنَّه لا نسب لولد الزِّنى من الزَّاني، ولو انتسب إلى الزَّاني لوجب على القَاضِي منعَه من ذلك الانتساب، فَثَبَتَ أنَّ انتسابها إلَيْهِ غير ممكن، لا على الحقيقة، ولا على حكم الشرع. وثانيها: قوله عليه السَّلاَمُ: «الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ ولِلْعَاهِرِ الحَجَرُ» فحصر النسب في الفراش. وثالثها: أنَّهُ لا ولاية له عليها، ولا يَرِثُهَا ولا ترثه، ولا يجب لها عليه نفقة ولا حضانة، ولا يَحِلُّ له الخلوةُ بها، ولَمَّا لم يثبت شَيْء من ذلك علمنا انتفاء النَّسَبِ بينهما، وَإذَا انتفى النَّسَبُ بينهما حلَّ التَّزَوُّجُ بها. قوله {وَأَخَوَاتُكُمْ} ويدخل فيه الأخوات للأبوين والأب وللأم. قوله {وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاَتُكُمْ} . قال الواحِدِيُّ: كلُّ ذكر رجع نسبك إلَيْهِ فأخته عَمَّتُك، وقد تكون العمة من جهة الأم، وهي أخْتُ أبي أمِّكَ، وكل أنثى رجع نسبك إلَيْهَا بالولادة فأختها خالتك، وقد تكونُ الخالةُ من جهة الأبِ، وهي أختُ أمِّ أبيكَ، فألف «خالة» و «خال» منقلبة عن وَاوٍ بدليل جمعه على «أخْوَالٍ» قال تعالى: {وَبَنَاتُ الأخ وَبَنَاتُ الأخت} وقوله وبنات الأخ والأخت، والقول فيهنَّ كالقول في بنات الصلب. قال المفسِّرُون كُلُّ امرأةٍ حرم اللَّهُ نكاحها ابتداءً فهنَّ المذكورات في الآية الأولى وكلُّ امرأة كانت حلالاً ثمَّ طَرَأَ تحريمها فهن اللاتي ذكرن في باقي الآية. قوله {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة} . قال الواحِدِيُّ: سَمَّاهُن أمهات لأجل الحرمة، كما أنَّهُ تعالى سَمَّى أزواج النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمهات المؤمنين [في قوله:] {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] . قوله: {مِّنَ الرضاعة} في موضع نصب على الحال، يتعلق بمحذوف تقديره: وأخواتكم كائنات من الرضاعة. وقرأ أبو حيوة من الرِّضاعة بكسر الرَّاءِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 289 فصل: [حرمة الأمهات والأخوات من الرضاعة] نُصَّ في هذه الآية على حرمة الأمَّهَاتِ والأخوات من الرِّضاعة كما يحرمن من النَّسَبِ، وقد نبَّه الله تعالى في الآية على ذلك بتسميته المرضعة أماً والمرضعة أختاً فأجرى الرّضاع مجرى النَّسَبِ، [وذلك لأنَّهُ تعالى حرم بسبب النّسب] سبعاً اثنان بطريق الولادةِ وهما الأمهات والبنات، وخمسٌ بطريق الأخوة؛ وهنَّ: الأخواتُ والعماتُ والخالاتُ وبنات الأخ، وبنات الأخت، ثمَّ لما شرع في أحوال الرِّضاعَةِ ذكر من كل واحد من هذين القسمين صورة واحدة تنبيهاً بها على الباقي، فذكر من قسم قرابة الولادة الأمَّهات، ومن قسم قرابة الأخوة الأخوات، ونَبَّه بذكر هذين المثالين من هذين القسمين على أنَّ الحال في باب الرضاع، كما هو في باب النَّسَبِ، ثُمَّ إنّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أكَّدَ ذلك البيان بقوله «يحرم من الرضاع ما يحرم بالنسب» . فصل: [من هي الأم من الرضاع؟] الأمُّ من الرّضَاعِ هي المرضعةُ، وكذلك كلُّ امرأةٍ انتسبت إليها بالأمومة إمّا من جهة النَّسَبِ، أو من جهة الرضاع، وكذلك القَوْلُ في الأب وَإذَا عرفت الأم والأب عرفت البنت أيضاً بذلك الطريق. وَأمَّا الأخوات فالأخت للأبوين هي الصغيرة الأجنبية التي أرضعتها أمك بلبن أبيك سواءً أرضعتها معك، أو مع ولد قبلك أو بعدك، والأخت للأب: هي الَّتي أرضعتها زوجة أبيك بلبن أبيكَ، والأخت للأمِّ: هي التي أرضعتها أمك بلبن رجل آخر، وكذلك تعرف العمَّات والخالات، وبنات الأخت. فصل: [شرطا حرمة الرضاع] إنَّمَا تَثْبُتُ حرمة الرضاعة بشرطين: أحدهُمَا: أن يكون قبل استكمال المولود حولين، لقوله تعالى {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] وقالت أمُّ سلمة: قال رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لا يحرم من الْعَظْمَ وأنْبَتَ اللَّحْمَ» وَإنَّمَا يكون هذا في حال الصغر [لا في حال الكبر] . وعند أبي حَنِيفَةَ مدة الرضاع ثلاثون شهراً؛ لقوله تعالى {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْر} [الأحقاف: 15] [وهو عند الأكثرين لأقلِّ هذه الحمل وأكثر مدة الرضاع، وأقَلُّ مدة الحمل ستة أشهر] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 290 الشَّرط الثَّاني: أن توجد خمس رضعات متفرِّقات، يُرْوَى ذلك عن عائشة، وبه قال عبدُ اللَّه بنُ الزُّبَيْرِ؛ وإلَيْهِ ذهب الشَّافِعِيُّ وأحْمَدُ، قالت عائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: أنزل في القرآن عشر رضعات يحرمن فنسخ من ذلك خمس، وصار إلى خمس رضعات معلوماتٍ يحرمن وتوفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والأمر على ذلك. وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «لا تُحَرِّمُ المَصَّةُ مِنَ الرِّضَاعِ وَلاَ المَصَّتان» [وذهب ابن عباس وابن عمر إلى أن قليله وكثيره محرم، وبه قال سعيد بن المسيب] وإليه ذهب سفيانُ الثَّوْرِيُّ ومالكٌ والأوزاعيُّ، وعبدُ اللَّهِ بنُ المباركِ وأصحابُ الرأي. قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ} فيدخل فيه أمها الأصلية وجميع جدّاتها من قبل الأب والأم كما بينا في النَّسب ومذهب أكثر الصحابة والتَّابعين أنَّ أمَّ الزَّوْجَةِ تحرم على زوج بنتها سواء دخل بالبنت أو لم يدخل، وذهبَ بعضُ الصَّحَابَةِ إلى أنَّ أمَّ المرأةِ لا تحرم إلا بالدُّخول بالبنت، كما أنَّ الرَّبيبة لا تحرمُ إلاَّ بالدُّخول بأمِّهَا، وهو قول علي وزيد وابن عمر وابن الزبير وجابر، وأظهر الروايات عن ابن عبَّاسٍ والسَّبَبُ في هذه الاستعارة أن مَنْ ربي طفلاً أجلسه في حجره فصار الحجرُ عبارة عن التَّربية كما يقالُ: فلان في حضَانّةِ فلان، وأصله من الحضْنِ: الَّذي هو الإبْطُ، وقال أبُو عُبَيْدَةَ: {فِي حُجُورِكُمْ} أي: في بيوتكم. قوله: {وَرَبَائِبُكُمُ} الرَّبَائب: جمع ربيبة، وهي: بنتُ الزوج أو الزوجة، والمذكر: رَبِيبٌ. سميا بذلك؛ لأن أحد الزوجين يُرَبّيه كما يربّي ابنه. قوله: {اللاتي فِي حُجُورِكُمْ} لا مفهوم له لخروجه مخرج الغالب، والحجور: جمع حجر بفتح الخاء، وكسرها، وهو مُقَدَّمُ ثوب الإنسان ثمَّ استعملت اللَّفْظَةُ في الحِفْظِ والسَّتْرِ. وروى قَتَادَة عن سعيد بْنِ المُسَيَّبِ أنَّ زيد بن ثابت قال: إذا طلق الرَّجُلُ امرأتَهُ قبل الدُّخُولِ [بها] تزوَّج بأمِّها، وإذا ماتت لم يتزوّج بأمِّهَا، والفرقُ بينهما أنَّ الطَّلاق قبل الدُّخول لم يتعلق به شيء؛ لأنَّهُ لا يجب عليها عدّة، والموتُ في حكم الدُّخول في وجوب العدة. قوله: {مِّن نِّسَآئِكُمُ} فيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ حال من ربائبكم تقديره: وربائبكم كائنات من نسائكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 291 والثاني: أنَّهُ حال من الضَّمِيرِ المستكن في قوله: {فِي حُجُورِكُمْ} لأنه لما وقع صلة تَحَمَّل ضميراً أي: اللاتي استقررن في حجوركم. فصل قوله: {اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} صفة لنسائكم المجرور ب «من» اشترط في تحريم الرّبيبة أنَّ يدخل بأمها، ولا جائز أن تكون صفة ل «نسائكم» الأولى والثانية لوجهين: أحدهما: من جهة الصّناعة، وهو أنَّ نسائكم الأولى مجرورة بالإضافة، والثَّانية مجرورة بمن فقد احتمل العاملان، وإذا اختلفا امتنع النعت لا تقولُ: رأيتُ زيداً، ومررت بِعَمروٍ العَاقِلين، على أن يكون العاقلين صفة لهما. والثَّاني: من جهة المعنى، وهو أن أم المرأة تَحْرُمُ بمجرد العقد على البنت دخل بها أو لم يدخل بها عند الجمهور، والرَّبيبَةُ لا تحرم إلا بالدُّخُولِ على أمِّهَا، وفي كلام الزمخشريِّ ما يلزم منه أنَّهُ يجوزُ أن يكون هذا الوصف راجعاً إلى الأولى في المعنى، فإنه قال: مِنْ نِسَائِكُمْ متعلق ب {وَرَبَائِبُكُمُ} ومعناه: أنَّ الرَّبيبة من المرأة المدخول بها محرّمة على الرَّجُلِ حلال له إذَا لم يدخل بها. فَإن قُلْتَ: هل يصحُّ أن يتعلَّق بقوله {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ} قلتُ: لا يخلو إمَّا أنْ يتعلَّق بهن، وبالرَّبائب فتكونُ حرمتهنَّ غير مبهمة وحرمةُ الرَّبائب مبهمة، فلا يجوز الأوَّلُ؛ لأن معنى «مِنْ» مع أحد المتعلّقين خلاف معناها مع الآخر، ألاَ ترى أنَّكَ إذا قلت: وأمهات نسائكم من نسائكم اللاتي دخلتم بهن، فقد جعلت «مِنْ» لبيانِ النِّساء، وتمييزاً للمدخول بِهِنَّ [من غير المدخول بهن] وَإذَا قلت: وربائبكم من نسائكم التي دخلتم بهن، فَإنَّكَ جاعل «من» لابتداء الغاية، كما تقول بَنَاتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [من خديجة] ، وليس بصحيحٍ أنْ يعنى بالكلمة الواحدة في خطاب واحدٍ معنيين مختلفين، ولا يجوز الثَّاني؛ لأن الذي يليه هو الذي يستوجبُ التعليق [به] ، ما لم يَعْرِضْ أمر لا يُرَدُّ إلاَّ أن تقول أعَلِّقُهُ بالنِّساء والرَّبَائِبِ، وأجعل «مِنْ» للاتصال كقوله تعالى {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} [التوبة: 67] وقال: [الوافر] 1776 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... فإني لست منك ولست مني وقوله: «مَا أنَا مِنَ الدَّدِ وَلاَ الدَّدُ مِنِّي» وأمهات النِّساء متصلات بالنِّساء؛ لأنَّهُنَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 292 أمهاتهن كما أنَّ الرَّبائب متَّصلات بأمهاتنَ؛ لأنَّهُنَّ بناتهنَّ، هذا وقد اتفقوا على أنَّ التحريم لأمهات النساء مبهم، انتهى. ثمَّ قال: إلا ما روي عن عليِّ، وابن عباَّسٍ، وزيد بن عمر، وابن الزُّبير أنَّهُم قرؤوا «وأمهات نسائكم اللاتي دخلتم بهن» ، وكان ابنُ عبَّاسٍ يقول: واللَّه ما أنزل إلاَّ هكذا، فقوله أعلّقه بالنِّساء والرَّبائب إلى آخره، يقتضي أنَّ القيدَ الذي في الربائب، وهو الدُّخُول في أمَّهات نسائكم كما تَقَدَّم حكايته عن عليٍّ وابن عباس. قال أبو حَيَّان: ولا نعلم أحَداً أثبت ل «مِنْ» معنى الاتصال، وأمَّا الآية والبيت والحديثُ فمؤَّولٌ. فصل روي عن علي - رضي اللَّهُ عنه - أنَّهُ قال: الرّبيبة إذَا لم تكن في حجر الزَّوْجِ؛ وكان في بلد آخر ثمَّ فارق الأمَّ بعد الدُّخول فإنَّهُ يجوزُ له أن يتزوَّج الربيبة، واحتجَّ على ذلك بقوله {اللاتي فِي حُجُورِكُمْ} شرط في تحريمها كونها ربيبة في حجره فإذا لم تكن في تربيته، ولا في حجره فقد فات الشَّرْطَانِ. وَأمَّا سائر العلماء فَإنَّهمُ قالوا: إذا دخل بالأم حرمت بنتها عليه سواء كانت في تربيتها أوْ لم تكن لقوله تعالى {فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} عَلَّقَ رفع الجناح بمجرَّدِ عدم الدُّخُولِ، وهذا يقتضي أنَّ المقتضي لحصول الجناح هو مُجرَّدُ الدُّخُولِ، وإنَّمَا ذكر التّربية والحجر حملاً على الأعَمِّ الأغلب لا أن تفيد شرطاً في التحريم. قوله: {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} الحلائل جمع حليلة، وهي الزوجة سميت بذلك؛ لأنها تحل مع زوجها حيث كان فهي فعيلة بمعنى فاعلة، والزوج حليل كذلك قال الشاعر: [الكامل] 1778 - أغْشَى فتاة الحَيِّ عِنْدَ حَلِيلِهَا ... وَإذَا غَزَا فِي الْجَيْشِ لا أغْشَاهَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 293 وقيل: إنه لشدّة اتِّصال كل واحد منهما بالآخر كَأنَّهُمَا يحلان في ثواب واحد وفي لحاف واحد، وفي منزل واحد، وعلى هذا فالجاريَةُ كذلك فلا يجوز للأب أنْ يتزوَّج بجارية ابنه. وقيل: لأنَّ كل واحد منهما كَأنَّهُ حالٌّ في قلب صاحبه وفي روحه لشدَّةِ ما بينهما من المَحَبَّةِ والألفة. وقيل اشتقاقها من لفظ الحلال إذْ كُلُّ واحد منهما حلال لصاحبه. فالحليلةُ تكون بِمَعْنَى المحلَّة أيْ المحللة، والجارية كذلك؛ فَوَجَبَ كونها حليلة، فَفَعِيلٌ بمعنى: مَفْعُول، أي: مُحَلَّلَةٌ، وهو محلل لها، إلاَّ أنَّ هذا يُضْعِفُه دخول تاء التَّأنِيثِ اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقال: إنَّه جرى مجرى الجوامد كالنَّطِيحةِ، والذَّبيحة. وقيل: هما من لفظ «الحَلّ» ضد العقد؛ لأنَّ كُلاًّ منهما يحل إزار صاحبه. و «الذين من أصلابكم» صفة مبنية؛ لأنَّ الابن قد يطلق على المتبنى به، وليست امرأته حرام على من تبنّى، فإنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نكح زينب بنت جحش الأسديّة، وهي بنت أميمةَ بنت عبد المطلب فكانت زينب ابنة عمّة النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان زوجها زيد بن حارثة وكان زيد تبناه رسولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال المشركون إنَّهُ تزوج امرأة ابنه فأنْزَلَ الله تعالى: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} [الأحزاب: 4] وقال {لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ} [الأحزاب: 37] ، وَأمَّا الابن من الرّضَاع فإنَّهُ وإن كان حكمه حكم ابن الصَّلب في ذلك فمبين بالسُّنَّةِ، فلا يَرِدُ على الآية الكريمة. وأصلاب: جمع صلب، وهو الظّهر، سمِّي بذلك لقوَّتِهِ اشتقاقاً من الصَّلابة، وأفصح لغَتَيْه «صُلْب» بضمِّ الفاء وسكون العين، وهي لغة الحجاز، وبنو تميم وأسد يقولون «صَلَباً» بفتحها حكى ذلك الفرَّاء عنهم في كتاب «لغات القرآن» وأنشد عن بعضهم: [الرجز] 1779 - فِي صَلَبٍ مِثْلِ الْعِنَانِ المُؤدَمِ ... وحكى عنهم: إذْ أقُوم أشتكي صَلَبي، وصُلُبٌ بضم الصّاد واللام وصَالِبٌ ومنه قول العبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ينقل من صَالبٍ إلى رَحِمٍ. فصل [الخلاف في حل جارية الابن للأب] قال الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - لا يجوز للأب أنْ يتزوج جارية ابنه وقال أبُو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 294 حنيفة: يجوز استدلّ الشافعيُّ بما تقدَّمَ من الاشتقاق فمن قال: إنَّهُ ليس كذلك فهو شهادةٌ على النّفي ب «لا» فلا يلتفتُ إليْه. انتهى. فصل [حرمة حليلة الابن بالعقد] اتَّفَقُوا على أنَّ حُرْمَةَ حليلة الابن تَحْصُلُ بنفس الْعَقْدِ كما تحصل حرمة حليلة الأب بنفس العقد، لأنَّ عموم الآية يقتضي ذلك سواء كان مدخولاً بها أو لم يكن. سئل ابْنُ عَبَّاسٍ عن قوله {وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ} أنَّهُ تعالى لم يبين أنَّ هذا الحكم مخصوص بما إذا دخل الابن بها أو غير مخصوص، فقال ابن عبَّاس: أبهموا ما أبهمه اللَّه، فليس المراد من هذا الإبهام كونها مجملة مشتبهة، بل المرادُ من هذا الإبهام التأبيد، ألا ترى أنَّهُ قال في السّبعة المحرمة من النَّسب إنَّها من المبهمات [أي] اللّواتي تثبت حرمتهن على سبيل التّأييد فَكَذَا هُنَا. فصل [هل يحرم النكاح باللواط؟] [قال القرطبي] : اخْتَلَفُوا في اللائِطِ فقال مَالِكٌ والشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة وأصحابهم لا يحرم النِّكاح باللواط، وقال الثَّوْرِيُّ: إذا لَعِبَ بالصَّبِيِّ حَرُمَتْ عليه أمُّهُ وقال الإمام أحْمَدُ: إذا تلوَّطَ بابن امرأته أو أخيها، أو أبيها حَرُمَتْ عليه امْرأتُهُ وقال الأوزاعيُّ: إذَا لاَطَ بِغُلاَمٍ ووُلِدَ للمفجور به بنتٌ لم يجز للفَاجِرِ أن يتزوَّجها، لأنَّهَا بنت من قد دخل به. فصل اتَّفَقُوا على أنَّ هذه الآية تقتضي تحريم حليلة ولد الولد على الجدِّ، وهذا يدلُّ على أنَّ ولد الولد يطلق أنَّهُ من صلب الجدّ، وكذلك ولد الولد منسوب إلى الجدّ بالولادة. قوله {وَأَن تَجْمَعُواْ} في محلّ رفع عطف على مرفوع {حُرِّمَتْ} أي «وحرم عليكم الجمعُ بين الأختين، والمراد الجمع بينهما في النِّكَاحِ. أما في المِلْك فجائز اتفاقاً، وأمَّا الوطء بملك اليمين ففيه خلاف. قوله {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} استثناء منقطع فهو منصوب المحلّ كما تَقَدَّمَ في نظيره، أي: لكن ما مضى في الجاهليَّةِ فَإنَّ اللَّهَ يغفره، وقيل: المعنى إلاَّ ما عقد عليه قبل الإسْلاَمِ، فإنَّهُ بعد الإسلام يبقى النّكاح على صحَّتِهِ، ولكن يختار واحدة منهما ويفارق الأخرى، وتقدَّم قريب من هذا المعنى في {إَلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} الأوَّل، ويكون الاسْتِثْنَاء عليه متصلاً، وهنا لا يتأتى الاتصال عليه ألْبَتَّةَ لفساد المعنى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 295 وقال عطاء والسُّدِّيِّ: إلا ما قَدْ سلف، إلا ما كان من يعقوب عليه السَّلام فإنه جمع بين ليَّا أمِّ يهوذا، وراحيل أمِّ يوسف عليهما السَّلامُ وكانتا أختين {إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} . فصل لا يجوزُ أنْ يجمع بين أختين في عقد النكاح، ولا في عقدين، ويجوز أن يجمع بينهما بالملك، فَإذَا وَطِئَ إحْدَاهُمَا لم تُبَحْ لَهُ الأخرى حتّى تحرم الموطوءَة بتزويج، أو إخراج عن ملكه ويعلم أنَّهَا غير حامل. قال القُرْطُبِيُّ: وشذّ أهلَ الظَّاهِرِ فقالوا: يجوزُ الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوَطْءِ، كما يجوز الجمعُ بينهما في الملك، واحتجوا بما روي عن عثمان في الأختين بملك [اليمين في الوطء] ، قال: حرمتهما آية وأحلتهما آية فلا آمرك ولا أنْهَاكَ فَخَرَجَ السَّائِلُ فلقي رجلاً من أصحابِ النَّبيِّ صلى الله عليهما وسلم، قال مَعَمَرٌ أحسبه قال عليّ قال ما سألتَ عنه عثمان فأخبره بما سأله وبما أفتاه فقالَ لَهُ: لكنِّي أنْهَاكَ، ولو كان لي عليك سبيل ثم فعلت لجعلتك نكالاً. فصل ويحرم الجمع بين المرأةِ وعمتها وبينها وبين خالتها لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لاَ يُجْمَعُ بَيْنَ الْمَرْأةِ وَعَمَّتِهَا وَ! لاَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ خَالَتِهَا» . وَلاَ يَجُوزُ لِلْحُرِّ أنْ يَجْمَعَ بَيْنَ أكْثَرِ مِنْ أرْبَعِ نِسْوَةٍ، وَلاَ لِلْعَبْدِ أنْ يَجْمَعَ بَيْنَ اثْنَتَيْنِ فَإنْ جَمَعَ بَيْنَ مضنْ لاَ يَجُوزُ الجَمْعُ بِيْنَهُ فِي عَقْدٍ وَاحِدٍ فَسَدَ وَإنْ كَانَ فِي عَقْدَيْنِ لَمْ يَصِحُّ الثَّانِي مِنْهُمَا وَاللهُ أعْلَمُ. « الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 قوله تعالى {والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ} قرأ الجمهور {والمحصنات} بفتح الصاد سواء كانت معرفة بأل أم نكرة والكسائي بكسرها في الجميع إلاَّ في قوله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 296 {وَالْمُحْصَنَاتُ} في هذه الآية فَإنَّهُ وافق الجمهور فأما الفتح ففيه وجهان: أشهرهما: أنَّهُ أسْنَدَ الإحصان إلى غيرهن، وهو إما الأزْوَاجُ أو الأولياء، فَإنَّ الزَّوج يحصن امرأته أي يعفها، والولي يحصنها بالتَّزويج أيضاً واللهُ يحصنها بذلك. والثَّاني: أنَّ هَذَا المفتوح الصاد بمنزلة المكسور منها، يعني: أنه اسم فاعل، وَإنَّمَا شذ فتح عين اسم الفاعل في ثلاثة ألفاظ أحصن، فهو مُحْصَنٌ، وَألقح فهو مُلَقَّحٌ، وأسْهَبَ فهو مُسْهَبُ، وَأمَّا الكسرُ فَإنَّهُ أسند الإحصان إليهن؛ لأنَّهُنَّ يحصن أنفسهن بعفافهن، أو يحصن فروجهن بالحفظ، أو يحصن أزواجهن، وَأمَّا استثناء الكسائي الآية لتي هنا قال: لأن المراد بهن المُزَوَّجَات، [فالمعنى أنَّ أزواجهن أحصنوهن فهنَّ مفعولات، وهذا على أحد الأقوال في المحصناتِ هنا منهنَّ على أنَّهُ قد قُرِئَ شاذاً بالكسر في هذا أيضاً قال: وإنْ أُرِيدَ بهن المزوَجات] ؛ لأنَّ المراد أحصن أزواجهن، وفروجهن وهو ظاهر. وقرأ يزيد بن قطيب: «والمُحْصُنات» بضمّ الصّاد كأنَّهُ لم يعتد بالساكن فاتبع الصّاد للميم كقولهم: «مَنْتُن» ، وأصل هذه المادة الدَّلالة على المنع ومنه الحصن؛ لأنَّهُ يمنع به، و «حصان» بالكَسْرِ للفرس من ذلك، ومدينة حصينةٌ ودرع حصينة أي: مَانِعَةٌ صاحبها من الجراح، قال تعالى {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ} [الأنبياء: 80] أي: لتمنعكم، والحَصَانُ: بالفتح المرأة العفيفة؛ لمنعها فرجها من الفَسَادِ، قال تعالى: {التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ} [التحريم: 12] ، ويقال: أحْصَنَتِ المرأةُ وَحَصُنَتْ، ومصدر حَصُنَتْ: «حصن» عن سيبويه، و «حصانة» عن الكِسَائيِّ، وأبي عبيدةَ، واسمُ الفاعل من أحْصَنَتْ مُحْصَنَةٌ، ومن حَصُنَت حَاصِنٌ، قال الشاعر: [الرجز] 1780 - حَاصِنٍ مِنْ حَاصِنَاتٍ مُلْسِ ... مِن الأذى وَمِنْ قرافِ الْوَقْسِ ويقالُ بها «حصان» كما تقدم [بفتح الحاء] قال [حَسَّان] يصف عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: [الطويل] 1781 - حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تَزِنُ بِرِيبَةٍ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 297 فصل [معنى الإحصان] والإحْصَان ورد في القرآن [بإزاء] أربعة معان: التزّوج كهذه الآية لأنَّهُ عطفت المحصنات على المحرّمات، فلا بدّ وأنْ يكون الإحصان سبباً للحرمة، ومعلوم أن الحرية والعفاف، والإسلام لها تأثير لها في ذلك، والمرْأةُ المزوّجة محرمة على الْغَيْرِ. الثَّاني: العِفَّةُ قال تعالى: {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} [النساء: 25] وقوله {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} [المائدة: 5] {والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} [الأنبياء: 91] أي: أعَفَّتْهُ. الثالث: الحرية في قوله: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] يعني الحرائر؛ لأنَّهُ لو قَذَفَ غَيْرَ حرَّةٍ لم يجلد ثمانين جلدة، وكذا قوله {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] وقوله: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات} [النساء: 25] . الرَّابع: الإسلام قال تعالى: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} قيل في تفسيره فإذا أسْلَمْنَ، وهذا يقع معرفته في الاستثناء الواقع بعده، وهو قول بعض العلماء، فإنْ أُرِيدَ به هنا التَّزوج كان المعنى: وحرمت عليكم المحصنات أي المتزوجات، قال أبُو سَعِيدٍ الخُدْرِيُّ نزلت في نساء كُنَّ يهاجرن إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولهنَّ أزواج فيتزوّجْنَ بعض المسلمين، ثم يقدم أزواجهن مهاجرين فَنَهى اللهُ عن نكاحهن [ثم استثنى] فقال: {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} يعني بالسّبي، [ولهن أزواج في دار الحرب يحل لمالكهن وطؤهنّ بعد الاستبراء؛ لأنَّ بالسّبي] يرتفع النِّكاح بينها وبين زوجها. قال أبُو سَعيدٍ الخُدْرِيُّ: بعث رسول اللهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم حنين جيشاً إلى أوطاس فأصابوا سبايا لَهُنَّ أزْوَاج من المشركين فكرهوا غشيانهن وتحرجوا، فأنزل الله هذه الآية. وقال عطاءٌ: يريد أن تكون أمته في نكاح عبده يجوز أن ينزعها منه. وقال ابن مسعود: أرَادَ أنْ يبيع الجارية المزوّجة فتقع الفرقة بينها وبين زوجها، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 298 ويكون بيعها طلاقاً فيحل للمشتري وطؤها وهذا قول أبيّ بن كعب وابن مسعود، وابن عبَّاسٍ، وجابر، وأنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وقال علي، وعمر، وعبد الرحمن بن عوف: إنَّ الأمة المزوجة إذَا بيعت لا يقع عليها الطَّلاق، وعليه إجْمَاعُ الفقهاء اليوم؛ لأنَّ عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - لما اشترت بريرة وأعتقتها خيرها النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكانت متزوجة فلو وقع الطلاق بالبيع لما كان في ذلك فائدة، وحجة الأوَّلين ما روي في قصة بَريرةَ أنَّه عليه الصلاة والسَّلامُ قال: «بيع الأمة طلاقها» قالوا: فَإذَا ملكت الأمة حَلَّ وطؤها سواء ملكت بشراء، أو هبة أوْ إرث ويدل على أنَّ مُجَرَّد السّبي يحلُّ الأمة قول الْفَرَزْدَق: [الطويل] 1782 - وذَاتِ حَلِيلٍ أنْكَحَتْهَا رِمَاحُنَا ... حَلاَلٌ لِمَنْ يَبْنِي بِهَا لَمْ تُطْلَّقِ يعني: أنَّ مجرد سبائها أحَلَّهَا بعد الاستبراء، وإنْ أُريد به الإسلام، أو العفّة فالمعنى: أنَّ المسلمات العفيفات حرام كلهنَّ، [يعني] فلا يزنى بهن إلا مَا مُلِكَ منهنّ بتزويج نكاح جديد بعد وقوعه البَيْنُونَةِ بينهن وبين أزواجهم أو ما ملكت يمين إن كانت المرأة مملوكة، فيكون المراد بما ملكت أيمانكم التّسلط عليهن، وهو قدر مشتركٌ، وعلى هذه الأوجه الثَّلاثة يكون الاستثناء متصلاً، وإذا أريد الحرائر، فالمرادُ إلا بما ملكت [أيمانكم] بملك اليمين ويدل عليه قوله بعد ذلك {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} [النساء: 25] فكان المراد [بالمحصنات هنا هو المراد] هناك، وعلى هذا ففي قوله {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} وجهان: الأوَّلُ: أنَّ المراد منه إلاَّ العقد الذي جعله الله تعالى ملكاً لكم وهو الأربع. والثَّاني: أنَّ الحرائرَ محرمات عليكم إلا ما أثبت اللهُ لكم ملكاً عليهنَّ بحضور الولي والشُّهود والشُّروط المعتبرة في النِّكاح، في محلِّ نصب على الحال كنظيره المتقدّم. وقال مَكِّيٍّ: فائدةُ [قوله] {مِنَ النسآء} أنَّ المحصنات يقع على الأنفس فقوله: {مِنَ النسآء} يرفع ذلك الاحتمال، والدَّلِيلًُ على أنَّهُ يراد ب «المحصنات» الأنفس قوله {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] فلو أُرِيدَ به النِّساء خاصَّةً لم حُدَّ مِنْ قذف رجلاً بنصّ القرآن، وقد أجمعوا على أنَّ حدَّه بهذا النَّص. انتهى. قال شهَابُ الدِّينِ: وهذا كلام عجيبٌ؛ لأنَّهُ بعد تسليم ما قاله في آية النُّور كيف يتوهَّم ذلك هنا أحد من النَّاس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 299 فصل [في سبي أحد الزوجين] اتَّفَقُوا على أنَّهُ إذَا سبي أحد الزَّوْجَيْنِ قبل الآخر وأخرج إلى دار الإسلام وقعت الفرقة بينهما، فإنْ سُبِيَا معاً، قال الشَّافِعِيُّ: تزول الزَّوجيّة ويستبرئها المالك. وقال أبو حَنِيفَةَ لا تزول الزَّوجيَِّة. واستدلَّ الشافعيُّ بقوله {والمحصنات مِنَ النسآء} فيقتضي تحريم ذوات الأزواج ثم قال {إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ} يقتضي أن عند طريان الملك ترتفع الحرمة ويحصل الحل. قال أبُو بَكْرٍ الرَّازِيُّ: إن حصلت الفُرْقَةُ بمجرد طريان الملك فوجب أن تقع الفرقة بشراء الأمة واتهابها [وإرثها] وليس ذلك واجب، فإنَّ العام بعد التَّخصيص حجة في الباقي، وأيضاً فالحاصل عن السَّبي إحداث الملك، وعند البيع نقل الملك من شخص إلى شخص، فكان الأوَّل أقوى. قوله [ {كِتَابَ الله} ] في نصبه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنَّهُ منصوبٌ على أنَّهُ مصدر مؤكّد بمضمون الجملة المتقدِّمة قبله، وهي قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ} ونصبه بفعل مقدر [تقديره] كتب الله ذلك عليكم كتاباً، والمعنى: كتب اللهُ عليكم تحريم ما تقدَّمَ ذكره من المحرمات كتَاباً مِنَ اللهِ، ومجيء المصدر من غير لفظ الفعل كثير. قال تعالى {وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب صُنْعَ الله} [النمل: 88] ، وأبعد عبيدة السلماني في جعله هذا المصدر مؤكداً لمضمون الجملة من قوله تعالى «فانكحوا ما طاب لكم [» من النساء «] . الثاني: أنه منصوب على الأغراء ب» عليكم «والتقدير: عليكم كتاب الله، أي: ألزموه كقوله تعالى {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ} [المائدة: 105] وهذا رأي الكِسَائيِّ ومن تابعه أجازوا تقديمَ المنصوب في باب الإغراء مستدلَّينَ بهذه الآية، وبقول الشَّاعِرِ: [الرجز] 1783 - يَأيُّهَا المَائِحُ دَلْوِي دُونَكَا ... إنِّي رأيْتُ النَّاسَ يَحْمَدُونَكَا ف» دَلْوِي «منصوبٌ بدونك تقَدَّمَ، والبصريون يمنعون ذلك، قالوا: لأنَّ العامل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 300 ضعيف، وتأوَّلُوا الآية [على ما تَقَدَّمَ] والبيتَ على أنَّ» دَلْوِي «منصوب بالمائِحِ أي: الَّذِي مَاحَ دلوي. والثَّالثُ: أنَّهُ منصوبٌ بإضْمْارِ فعل أي: الزموا كشتَابَ اللهِ [وهذا قريب من الآخر. وقال أبُو الْبَقَاءِ: هذا الوجه تقديره: الزموا كِتَاب اللهِ] وعليكم: إغراء يعني: أنَّ مفعوله قد حُذِفَ للدلاَلَةِ ب {كِتَابَ الله} عليه. أيْ عليكم ذلك فيكون أكثر تأكيداً، وأمَّا عليكم فقال أبُو الْبَقَاءِ: إنَّهَا على القَوْلِ بأنَّ كِتَابَ اللهِ مصدرٌ يتعلَّقُ بذلك الفعل المقدر النَّاصب لكتاب، ولا يتعلَّق بالمصدر وقال: لأنَّهُ هنا فَضْلة، قال: وقيل: يتعلَّق بنفس المصدر؛ لأنَّهُ ناب عن الفعل حيثُ لم يذكر معه فهو كقولك: مروراً بِزَيْدٍ، قلت وَأمَّا على القول بأنَّهُ [إغراء فلا محل له من الإعراب لأنه واقع موقع فعل الأمر وأما على القول بأنَّه] منصوبٌ بإضْمَارِ فعل أي الزموا فَعَلَيْكُمْ متعلِّقٌ بنفس كتاب، أو محذوف على أنَّهُ حالٌ منه. وقرأ أبُو حَيْوَةَ «كتب الله» جعله جَمْعاً مرفوعاً مضافاً للهِ تعالى على أنَّه خبر مبتدأ محذوف تقديره: هذه كُتُبُ اللهِ عليكم. قوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ} قرأ الأخوانِ وحفصٌ عن عاصمٍ {وَأُحِلَّ} ، مبيِّنا للمفعول والباقُونَ مبنيًّا للفاعل، وكِلْتَا القراءَتَيْنِ الفعل فيما معطوف على الجملة الفعليَّةِ من قوله {حُرِّمَتْ} ، والمُحَرَّمُ والمُحَلَّلُ: هو اللهُ - تعالى - في الموضعين سواء صرَّح بإسناد الفعل إلى ضميره، أو حذف الفاعل للعلم بِهِ، وادَّعى الزَّمَخْشَرِيُّ أنَّ قراءة {وَأُحِلَّ لَكُمْ} مبنياً للمفعول [عطف على {حُرِّمَتْ} ليعطف فعلاً مبنياً للمفعول] على مثله، [أي حرمت المبني للمفعول] وَأمَّا على قراءة بنائه للفاعل فَجَعَلَهُ معطوفاً على الفعل المقدَّر النَّاصِبِ لكتاب [كأنه قيل: كتب اللهُ عليكم تحريم ذلك، وأحَلَّ لكم ما وراء ذلكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 301 قال أبُو حَيَّان: وما اختاره يعني من التَّفْرِقَةِ بين القِرَاءَتَيْنِ غير مختار؛ لأنَّ النَّاصب لكتاب الله] جملة مؤكدّة لمضمون الجُمْلَة من قوله {حُرِّمَتْ} إلى آخره، وقوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ} جملة تأسيسية، [فلا يناسب أنْ تعطف إلاَّ على تأسيسية مثلها لا على] جملة مؤكدة، والجملتان هنا متقابلتان إذْ إحْدَاهُمَا للتحريم، والأخرى للتحليل فالمناسب أن تعطف إحْدَاهُمَا على الأخرى لا على جملة أخرى غير الأولى، وقد فعل هو مثل ذلك في قراءة البناء للمفعول، فليكن هذا مثله. قال شهاب الدِّينِ: وفي هذا الرد [لأنَّ تحليل ما سوى ذلك مؤكد لتحريمه معنى وما ذكره أمر استحساني رعاية لمناسبة ظاهره وقد تبع البيضاويُّ الزَّمَخْشَرِيَّ في التفرقة فتأمل. قوله] «ما وراء ذلكم» مفعول به إما منصوب المحل أوْ مرفوع على حسب القراءتين في «أحل» . فصل ظاهر قوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم} يقتضي حِلَّ كُلِّ من سوى الأصناف المذكورة إلا أنَّهُ دَلَّ الدَّلِيلُ على تحريم أصناف أخرى سوى [الأصناف] المذكورين، لقوله عليه السلام: «لا تُنْكَحُ المَرْأةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا» ، وزعم الخوارجُ أنَّ هذا خبر واحد، فلا يجوزُ أن يخصَّ به القرآن لوجوه: أحَدُهَا: أنَّ عموم الكتاب مقطوع وخبر الواحد مظنون المتن، فَكَانَ أضعف فترجيحُهُ يقتضي تقديم الأضعف على الأقوى، وهو لا يجوز. وثانيها: حديث معاذٍ حين قال عليه السَّلام: «بِمَ تَحْكُم؟ قال: بِكِتَابِ اللهِ قَالَ فَإنْ لَمْ تَجِدْ قَالَ بِسُنَّةِ رَسُول اللهِ» فقدَّمَ التَّمَسُّكَ بالكتاب على التَّمَسُّكِ بالسُّنَّةِ [وعلق جواز التمسك بالسُّنَّة على عدم الكتاب بكلمة «إن» والمتعلَّق على شرط عدم عند عدم الشِّرط. وثالثها: قوله عليه السَّلام: «إذَا رُوِيَ لَكُم عَنِّي فاعرِضُوهُ عَلَى كتابِ اللهِ فَإنْ وَافَقَ فَاقْبَلُوهُ وَإلاَّ فَرُدًُّوهُ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 302 هذا يقتضي إلاَّ يقبل خبر الواحد إلا عمد موافقة الكِتَابِ. ورابعها: أنَّ قوله تعالى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم} مع قوله عليه السلام «لاَ تُنْكَحُ الْمَرْأةُ عَلَى عَمَّتِهَا وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا» لا يخلو من ثَلاثَةِ أوجه: إمَّا أن تكون الآية نزلت بَعْدَ الخبر فتكون الآية ناسخة له؛ لأنَّ العام نسخَ القرآن بخبر الوَاحِدِ، وإنه لا يجوز وإمَّا أنْ يردا معاً، وهذا أيضاً بَاطِلٌ؛ لأنَّ [على] هذا التَّقْدِيرِ تكون الآية وَحْدَهَا غير مَبْنِيَِّةٍ، وتكونُ الحجَّةُ مجموع الآية والخبر. ولا يجوزُ للِرَّسُولِ أنْ يسعى في تشهير الشُّبْهَةِ، ولا يسعى في تشهير الحجَّة، فكان يجب عليه ألاَّ يسمع أحَدٌ هذه الآية إلاّ مع [هذا] الخبر، ويوجب على الأمَّةِ ألاَّ يبلغوا هذه الآية أحداً إلا مع هذا الخبر، ولو كان كذلك لزم أن يكون اشتهار هذا الخبر مساوياً لاشتهار هذه الآية، ولما لم يكن كذلك عُلِمَ فساد هَذَا القسم. وخامسُهَا: أنَّ بتقدير صحَّةِ هذا الخبر قطعاً إلا أنْ التَّمسُّكَ بالآية راجحٌ عليه لوجهين: الأوَّلُ: أنَّ قوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم} نص صريح في التحليل كما أن قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} نص صريح في التحريم. وأما قوله: «لا تُنْكَحُ المَرْأةُ عَلَى عَمَّتِهَا {وَلاَ عَلَى خَالَتِهَا] » فليس نصاً صريحاً؛ لأنَّ ظاهره إخبار، وحمل الإخبار على النَّهي مجاز، وإن سلّمنا كونه نهياً فدلالة النَّهي على التحريم أضعف من دلالة لفظ [الإحْلاَل] على معنى الإبَاحَةِ. الثَّانِي: أنَّ الآية صريحة في تحليل كُلِّ ما سوى المذكورات والحديثُ ليس صريحاً في العموم بل احتماله للمعهود السَّابق أظهر. وسادسها: أنَّهُ تعالى اسْتَقْصَى في هذه الآيةَ شرح أصْنَافِ المحرَّمات فعدَّ منها خَمْسَةَ عَشرَ صنفاً، ثُمَّ بعد هذا التّفصيل التَّام والاستقصاء الشّديد قال {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم} فلو لم يَثْبُت الحلُّ في كُلِّ من سوى هذه الأصناف المذكورة، لكانَ هذا الاستقصاء عبثاً، ولغواً، وذلك لا يليق بالحكيم. والجوابُ من وُجُوهٍ: الأول: قال الحَسَنُ وأبو بَكْرٍ الأصَم إنَّ قوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم} لا يقتضي إثبات الحل على التأبيد؛ لأنَّهُ يصحُّ [تقسيم] هذا المفهوم إلى المؤبد، وإلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 303 غير المؤبَّد، فيقال {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم} أبداً، ويقال {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُم} إلى الوقت الفلانِيِّ، ولو كان صريحاً في التَّأبيد لما كان هذا التقسيم ممكناً في الآية، فالآية لا تُفِيدُ [إلاَّ] إحلال من سوى المذكورات، والعقلُ يشهد بأنَّ الإحلال أعمّ من الإحلال المؤبد، ومن الإحلال المؤقّت، فالآيةُ لا تفيد إلا حلّ مَنْ عدا المذكورات في ذلك الوقت، فأمَّا ثبوتُ حكمهم في سائر الأوقات فَمَسْكُوتٌ عنه، وقد كان حِلُّ من سوى المَذْكُوراتِ ثَابِتاً في ذَلِكَ الوقت، وطريان حرمة بعضهم بَعْدَ ذَلِكَ لاَ يَكُونُ تَخْصِيصاً لذلك النَّصِّ ولا نسخاً له، وبهذا الطَّرِيق يظهر أنَّ قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23] ليس نصّاً في تأبيد هذا التَّحريمِ، وَإنَّمَا عرفنا ذلك التَّأبيد بالتَّواتر من دين محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. الثَّانِي: أنَّ حرمة الجمع بَيْنَ الأخْتَيْنِ لِكَوْنِهِما أخْتَيْنِ يناسبُ هذه الحرمة؛ لأنَّ الأخْتيَّة قَريبَةٌ فناسبت مزيد الوصلة والشّفقة والكرامة، فكون إحداهما ضرَّة الأخْرَى موجبٌ الوَحْشَةَ العظيمةَ والنُّفْرَةَ الشَّدِيدَةَ كالأختية تناسب حرمة الجمع بينهما في النِّكَاحِ لما ثبتَ في أصُول الْفِقْهِ: أنَّ ذِكْرَ الحُكْمِ مع الوَصْفِ المُنَاسِبِ مُشْعِرٌ بالعِلّيةِ، وهذا المعنى مَوْجُودٌ فِي المْرأةِ وعمَّتِهَا، وخالَتِهَا، بل أولى؛ لأنَّ العمّة [والخالَة] تشبهان الأمِّ. والثَّالِثُ: أنَّهُ تعالى نَصَّ على تَحْرِيمِ أمَّهَاتِ النِّسَاءِ، ولفظُ الأمِّ قد ينطلقُ على العَمَّةِ والخَالَةِ، أمَّا العمَّةُ فلقوله تعالى مخبراً عن أوْلاَدِ يعقوب عليه السَّلامُ {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] فأطلق لفظ الأبِ على «إسماعيل» مع أنَّهُ كان عَمّاً وإذا كان العَمُّ أباً لزم أن تكون العَمَّة أمًّا، وأمَّا إطلاق لفظ «الأمِّ» على الخالة فقوله تعالى {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} [يوسف: 100] والمراد أبوه وخالته، فإنَّ أمَّه كانت مُتَوَفَّاة في ذلك الوقتِ فثبت أن قوله {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ} يتناولُ العمَّةَ والخَالَةَ من بعض الوُجُوهِ وإذا كان كذلك فلم يكن قوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} متناولاً له، وَإنَّمَا تناولتهم آية التحريم في قوله {وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ} إمَّا بالدلالة الصَّريحة، أو الجليّة، أو الخفية. الرَّابعُ: أنْ تقولَ: يجوز تخصيصُ عموم الكِتَاب بخبر الوَاحِدِ الصّنف الثَّاني من المحرَّمات، والخارجة من هذا العموم: المطلقة ثلاثاً، ونكاح المُعْتَدَّة، ومن كان متزوّجاً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 304 بحرّة لم يجز له أن يَتَزَوَّج أمَةً، وتحريم الخامسة، وتحريم الملاعنة لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «المُتَلاَعِنَانِ لا يَجْتَمِعَان أبَداً» . قوله {أَن تَبْتَغُواْ} في محلّه ثلاثة أوْجِهٍ: الرَّفُعُ، والنَّصْبُ، والجَرُّ فالرَّفْعُ على أنَّهُ بدل من {مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} على قراءة أحِلَّ مبْنِيَّاً للمفعول [لأنّ «ما» حينئذٍ قائِمَة مقامَ الفَاعلِ؛ وهذا بدل منها بدل اشتمال، وَأمَّا النَّصْبُ فالأجود أن يكون على أنَّه بدل من «مَا» المتقدّمة على قراءة «أَحَلَّ» مبنيّاً للفاعل] كأنه قال: وأحل لكم ابتغاء أموالكم من تزويج أو ملك يمين، وأجاز الزَّمَخْشَرِيُّ أن يكونَ نصبه على المفعول من أجلِهِ، قال: بمعنى بَيَّنَ لكم [ما يَحِلُّ مما] يحرم إرادة أنْ يَكُونَ ابتغاؤكم بأموالكم الَّتي جعل اللهُ لَكُمْ قِيَاماً في حال كونكم مُحْصِنِينَ، وأنحى عليه أبُو حَيَّانَ وجعله إنَّمَا قَصَدَ بِذَلِكَ دسيسة الاعتزال ثم قال: فَظَاهِرُ الآية غير ما فَهِمَهُ إذ الظِّاهِرُ أنَّهُ تعالى أحَلَّ لنا ابتغاء ما سوى المُحَرَّماتِ السَّابق ذكرها بأمْوَالِنَا حَالَةَ الإحْصَانِ؛ لا حالةَ السِّفَاح، وعلى هذا الظَّاهِرِ لا يجوز أن يعرب {أَن تَبْتَغُواْ} مفعولاً له، لأنَّه فات شرط من شُرُوطِ المفعول له، وهو اتِّحاد الفاعِلِ في العامل والمفعول له؛ لأنَّ الفاعِلَ ب «أحل» هو اللهُ - تعالى -، والفاعل في {تَبْتَغُواْ} ضمير المخاطبين، فقد اخْتَلَفَا ولما أحسّ الزمخشريُّ إن كان أحس جعل «أن تبتغوا» على حذف إرادة حتّى يتحد الفاعل في قوله {وَأُحِلَّ} في المفعول له، ولم يجعل {أَن تَبْتَغُواْ} مفعولاً له إلاّ على حذف مضاف، وَإقامتهِ مُقَامهُ، وهذا كُلُّهُ خروجٌ عن الظَّاهِر انتهى. قال شهابُ الدِّينِ: ولا أدْرِي ما هَذَا التَّحمل، ولا كيف يخفى عَلَى أبي القاسم شرط اتحاد الفاعلِ في المفعولِ لَهُ حتّى يقول: إنْ كان أحسّ، وأجاز أبُو البقاءِ فيه النَّصْبَ على حذف حَرْفِ الْجَرِّ. قال أبُو البَقَاءِ: في «ما» من قوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وجهان: أحدُهمَا: هي بمعنى «مِنْ» فعلى هذا يكون قوله {أَن تَبْتَغُواْ [بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ} ] في موضع جرٍّ أو نصبٍ على تقديرِ بأن تبتغوا؛ أو لأنْ تبتغوا، أي أبيح لكم غير ما ذكرنا من النِّساء بالمُهُورِ. والثَّاني: أنَّ «ما» بمعنى الذي، والذي كناية عن الفعلِ، أي: وأحلّ لكم تحصيل ما وراء ذلك الفعل المحرم، و {أَن تَبْتَغُواْ} بدلٌ منه، ويجوزُ أن يكون «أن تبتغوا» في هذا الوَجْهِ مثله في الوجه الأوَّلِ، يعني: فيكونُ أصله بأن تَبْتَغُوا، أو لأن تبتغوا، وفيما قاله الجزء: 6 ¦ الصفحة: 305 نظرٌ لا يخفى، وأمَّا الجرُّ فعلى ما قاله أبُو البَقَاءِ، وقد تَقَدَّم ما فيه. و {مُّحْصِنِينَ} حال من فاعل تبتغوا، و {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} حال ثانية، ويجوزُ أن يكون حال من الضَّمَيرٍ في {مُّحْصِنِينَ} ، ومفعول مُحصنينَ ومُسافحينَ محذوف، أي: محصنين فُرُوجَكُمْ غير مسافحين الزَّوَانِي، وكأنَّها في الحقيقةِ حال مؤكدة؛ لأنَّ المحصن غير مسافح، ولم يقرأ أحدٌ بفتح الصَّادِ من محصنين فيما نعلم. والسَّفَاحُ الزِّنَا. قال اللَّيث: السَّفَاحُ والمُسَافحةُ: الفجور، وأصله الصَّبُّ، يقال: دموع سَوَافِحُ ومسْفُوحةٌ. قال تعالى: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} [الأنعام: 145] وفلان سَفَّاحٌ للدِّمَاء، وسمي الزَّنَا سفاحاً؛ لأنَّهُ لا غرض للزَّاني إلا صب منيه، وكانوا يَقُولُونَ صافحني ومَا ذَمَّنِي والمسافحُ من يظاهر بالزِّنَا، ومتّخذ الأخْدَان من تستر فاتَّخَذَ واحدة خفية. فصل [الخلاف في قدر المهر] قال أبُو حنيفة: لا مهر أقلَّ من عشرة دراهم، وقال غيره: يجوزُ بالقليل والكثير، واحتج أبُو حنيفة بهذه الآية؛ لأنَّهُ تعالى قَيْد التحليل بالابتغاء بالأموال و [الدِّرهم] والدرهمان لا يسمّى أموالاً، فلا يصحُّ جعلها مهراً. فإن قيل: ومَنْ عنده عشرة دراهم، لا يقال عنده أموال ع أنَّكُم تجوزونها مَهْراً قلنا: ظاهر الآيةِ يقتضي ألاَّ يكون العشرة كافية، إلا أنَّا أنزلنا العملَ بظاهر هذه الآية للإجْمَاعِ على جوازه، ويتمسَّك في الأقل من العشرة بِظَاهِرِ الآية وهذا استدلال على أنَّ الابتغاء بغير الأموال غير جائز، إلاّ على سبيل المفهوم وأنتم لا تقولُونَ به، واستدلّ المخالف بوجوه: أحدها: قوله {أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ} فقابل الجَمْعُ بالجَمْعِ فيقتضي توزع الفَرْد على الفَرْدِ، وهذا يقتضي أنْ يتمكَّن كلُّ واحدٍ من ابتغاء النِّكَاح بما يسمى مالاً، والقليل والكثير في هذه الحقيقةِ، وفي هذا الاسم سواء. وثانيها: قوله تعالى {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [البقرة: 237] فَدَلَّتْ الآية على سقوط النصف من المذكور، وهذا يقتضي أنَّهُ لو وقع العقدُ في أوَّلِ الأمْرِ بِدرْهمٍ: لم يجب إلا نصفُ درهمٍ، وأنْتُمْ لا تقُولُونَ به. وثالثها: ما رُوِيَ أنَّ امْرَأةً جيء إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتزوّج بها رجل على نعلين الجزء: 6 ¦ الصفحة: 306 فقال عليه السَّلام «رَضيت مِنْ نَفْسِكَ بِنَعْلَين» ، فقالت: نعم؛ فأجازه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «والظاهرُ أنَّ قيمة النَّعلين أقلُّ من عشرةِ دراهم، فإنَّ مثل هذا الرجل والمرأةِ اللذين تزوَّجَا على نعلين يكونان في غَايَةِ الفَقْرِ فنعلهما تكون قليلة القِيمَةِ جدّاً. وروى جَابِر عن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّهُ قال:» مَنْ أعْطَى امْرأةً من نِكَاح كَفَّ دقيق، أو سويق، أو طعاماً فقد استحلّ «، وحديث الواهبة نفسها أنَّهُ - عليه السَّلامُ -» قال لِلَّذي أرَادَ أن يتزوَّجَهَا الْتَمِسْ وَلَوْ خَاتماً مِنْ حَدِيدٍ «وذلك لا يساوي عشرة دراهم. فصل [في الخلاف في المهر بالمنافع] قال أبُو حنيفةَ: لو تزوَّجَهَا على تعْليمِ سورة من القُرْآنِ لم يكن ذلك مهراً، ولها مهر مثلها ولو تزوَّجَهَا على خدمة سَنَةٍ، فإنْ كان حرّاً فلها مَهْرُ مثلها، وإنْ كان عبداً فلها خدمة سنة وقال غيره: يجوزُ جعل ذلك مهراً، واحتجَّ أبُو حنيفةَ بهذه الآية. قال: لأنَّهُ تعالى شرط في حصول الحل ذلك الابتغاء بالمال، والمال اسمٌ للأعيان لا للمنافع وأيضاً قال: {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وذلك صفة للأعيان لا للمنَافِعِ، وأيضاً قال {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4] . وأجيب عن الأوَّل بأن الآية دَلَّت على أنَّ الابتغاء بالمال جائز، وليس فيه بيان أنَّ الابتغاء بغير المال جَائِزٌ أم لا. وعن الثاني: بأنَّ لَفْظَ الايتاء كما يتناولُ الأعيان المنافِعَ الملتزمة. وعن الثَّالث: أنَّهُ خرج الخطاب على الأعمِّ الأغلب. واستدلَّ المُخالفُ بوجهين: أحدهما: قصة شعيب في قوله لموسى {إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] وشرعهم شرع لَنا ما لم يرد نَاسِخٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 307 وثانيهما: قوله عليه السلام» زَوَّجْتُكَ بِمَا مَعَكَ مِنَ القُرْآنِ «. فصل [في تفسير قوله {مُّحْصِنِينَ} ] في قوله مُحصنينَ وجهان: أحدُهُما: - أنَّ المراد أنْ يصيروا مُحْصنينَ بسبب عَقْدِ النِّكَاحِ. الثَّاني: - أنْ يكون الاحصانُ شَرْطاً في الإحلالِ المذكور في قوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} والأوَّلُ أولى؛ لأنَّ الآية تَبْقى عامَّةً معلومة المعنى. وعلى الثَّاني: تكونُ الآيةُ مجملةً؛ لأنَّ الإحْصانَ المذكور فيها غير مُبَيّن، والمعلَّق على المجمل يكون مجملاً، وحمل الآية على وَجْهٍ معلوم أوْلَى من حملها على وجه مجمل. قوله: {فَمَا استمتعتم بِهِ} يجوزُ في «ما» وجهان أحدهُمَا: أنْ تكون شرطيّة. والثَّاني: أن تكونَ مَوْصولةً، وعلى كلا التقديرين فيجوزُ أن يكون المراد بها النساء المُسْتمتعَ بِهِنَّ، أي النَّوع المستمتع به، وأن يراد بها الاستمتاع الَّذي هو الحدث، وعلى جميع الأوجهِ المُتقدِّمَةِ، فهي في محلِّ رفع بالابتداء، فإنْ كانت شرطيَّة ففي خبرها الخِلافُ المشهور هل هو فعل الشّرط وجوابه، أو كلاهما وقد تقدَّمَ تحقيقهُ في البقرة، وإن كانت موصولة؛ فالخبَرُ قوله «فآتوهن» ودخلت الفاءُ لشبه الموصول باسم الشرط كما تقدَّمَ، ثم إنْ أريد بها النَّوع المستمتعُ به فالعَائِدُ على المبتد سواء كانت ما شرطية أو موصولة الضمير [المنصوب] في «فآتوهن» ويكون قد راعى لفظ «مَا» تارة فأفرد في قوله «بِهِ» ، ومعناها أخرى، فجمع في قوله «منهن» «فآتوهن» فيصيرُ المعنى: أي أُرِيدَ بها الاستمتاع، فالعائِدُ حينئذٍ محذوف، تقديره: فأيُّ نوع من الاستمتاعِ استمتعتم به من النساء فآتوهنّ أجورهن لأجله. و «من» في «منهن» تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون للبيان. والثاني: أنْ تكون للتّبعيض، ومحلها النّص على الحال، من الهاء في «به» ، ولا يجوزُ في «ما» أنْ تكون مصدريّة لفساد المعنى ولعود الضَّميرِ في «بِهِ» عليها. فصل [في تفسير الاستمتاع] الاستمتاعُ في اللُّغَةِ: الانْتِفَاعُ، وكلُّ مَا انتفعَ به فهو مَتَاعٌ، يقالُ: استمتع الرَّجُلُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 308 بولده، ويقال فيمنْ مَاتَ شابّاً: لم يَتمتَّع بشَبَابِهِ، قال تعالى {رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ} [الأنعام: 128] وقال {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ} [التوبة: 69] يعني: بحظِّكُمْ عليهنّ؛ فآتُوهنّ أجورهنّ عليه، أو مهورهن عليه، وإنَّما سُمِّيَ المهرُ أجراً؛ لأنَّهُ بَدَلُ المَنَافِعِ كما سُمِّي بَدَلُ منافع الدَّارِ والدَّابَّةِ أجْراً. فصل [في الخلاف في تقرير لمهر بالخلوة] قال الشَّافعيُّ: الخلوةُ الصَّحيحةُ لا تُقرِّرُ المَهْرَ. وقال أبُو حنيفةَ وأحْمَدُ: تقرره، واحتجَّ الشَّافِعِيُّ بقوله تعالى {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فجعل وُجُوبَ إتيانهنّ لأجل الاستمتاع بهنَّ، فلوْ تقرَّر بالخُلْوَةِ قبلَ الاستمتَاعِ لمنع من تَعَلُّقِ النُّقُودِ بالاسْتِمتَاعِ وهو خلاف الآية. فصل قال الحَسَنُ ومُجاهدٌ وأكثرُ العلماءِ: والمراد بهذه الآية ابتغاء بالأمْوَالِ على طريق النِّكاحِ الصحيح. وقوله {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فجعل وُجُوبَ إتيانهنّ بالدُّخُول أي {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي مهورهن بالتَّمام. قال القُرْطُبِيُّ: اختلف النَّاس في المعقود عليه في النِّكَاحِ هل هو بَدَنُ المرأة، أو منفعة البُضْعِ، أو الحِلّ على ثلاثة أقوال، قال: والظَّاهِرُ المجموع؛ لأنَّ العَقْدَ يقتضي كُلَّ ذلك فإنَّ عقد النِّكاح آتاها نصف المهر، وقال آخرونَ: هو نِكَاحُ المُتْعَةِ، وهو أن يستأجر امرأةً بمالٍ مَعْلوم إلى أجل معينٍ، فإذا انقضت تلك المدَّة باتت منه بلا طلاق وتستبرئ رحمها، وليس بينهما ميراث، وكان ذلك مباحاً في ابتداء الإسْلامِ ثم نَهَى عنه رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، روى الرّبيع بن سبرة الجهني أنَّ أباه حدَّثه أنَّهُ كان مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء فإنَّ اللَّهَ قد حرَّم ذلك إلى يوم القيامة فَمَنْ كان عنده منهن شيء فَلْيُخَلِّ سبيله، ولا تأخُذُوا مما آتيتموهن شيئاً» وروى علي بن أبي طالب «أنَّ رسول الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ نهى عن متعة النِّسَاءِ يَوْمَ خيبر وعن أكل لُحُومِ الحُمُرِ الإنسيّة» وعامّة أهل العلم على أنَّ نكاح المتعة حرام منسوخ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 309 وذهب ابن عباس إلى أنَّ الآية محكمة، ويرخّص في نكاح [المُتْعَةِ] . روى أبو نَضْرَةَ قال: سألتُ ابْن عَبَّاسٍ عن متعة النّساءِ فقال: أما تقرأ سورة النِّساء: {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} إلى أجل مسمى {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} قلت: لا أقرؤها هكذا، فقال ابن عبَّاس: هكذا أنزل اللَّهُ ثلاث مرات، وروي أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه السلام طول العزوبة فقال «اسْتَمْتِعُوا مِنْ هَذِه النِّسَاءِ» وهذا القول مروي عن ابن عبَّاسٍ وعمران بن الحُصَيْنِ، أمَّا ابن عبَّاسٍ فعنه ثلاث روايات أحدها أنَّهَا مباحة مطلقاً، وقال عِمَارة سألت ابن عباس عن المتعة أسِفَاحٌ هي أم نِكَاحٌ قال: لا سِفَاحَ ولا نِكَاحَ، قلتُ: فما هي قال: مُتْعَةٌ كما قال اللَّهُ تعالى قلت: هل لها عِدَّةٌ؟ قال: نعم حيضةٌ، قلت: هل يتوارثان، قال: لا. الثانية أنَّ النَّاسَ لما ذكرُوا الأسفار في المتعة، قال ابن عبَّاس: قَاتَلهُمُ اللَّهُ ما أفتيت بإباحتها على الإطلاق، لكني قلت إنَّها تحلُّ للمضطر كما تحلُّ الميتةُ، والدَّم، ولحمُ الخنزير له. الثَّالِثَةُ: أنَّهُ أقرَّ بأنَّهَا صارت مَنْسُوخَةً. روى عَطَاءٌ الخُراسَانِيُّ: عن ابن عبَّاسٍ في قوله تعالى {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} قال صارت هذه الآيةُ منسوخة بقوله تعالى {ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [الطلاق: 1] وروى أيضاً أنَّهُ قال عند موته: اللَّهُمَّ إني أتوبُ إليك من قولي في المتعة والصرف، وأمَّا عمرانُ بْنُ الحُصَيْنِ فإنَّهُ قال نزلت هذه المتعة في كتاب اللَّهِ ولم ينزل بعدها آية تنسخها، وأمرنا بها رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتمتعنا بها، ومات ولم ينهنا عنه، ثمَّ قال رجلٌ برأيه ما شاء، وروى مُحَمِّدُ بْنُ جريرٍ الطبري في تفسيره عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّهُ قال: لولا أنَّ عمر نهى عن المتعة [ما زنا إلا شقي. والجمهور على تحريم نكاح المتعة لما روى سالم بن عبد الله بن عمر أنَّ عمرُ بْنُ الخَطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال في خطبته ما بال رجال ينكحون هذه المتعة] وقد نهى رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 310 عنها لا أجِدُ أحداً نكحها إلاَّ رجمتُهُ بالحجارة، وقال: هذه المُتْعة النِّكَاحُ والطَّلاق والعدّةُ والميراث فذكر هذا الكلام في مَجْمَعٍ من الصَّحَابَةِ، ولم ينكروا عليه، فالحالُ لا يخلو من أن يكونُوا عالمين بحرمة المُتْعةِ فَسَكتُوا، أو كانوا عالمين بإباحتها فسكتوا مداهنة، أو ما عرفوا حكمها فسكتوا تَوَقُّفاً. والأوَّلُ: هو المطلوب. والثَّاني: يُوجبُ تكفيرَ عُمَرَ وتكفيرَ الصَّحابةِ، لأنَّ من علم أنَّ رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حكم بإباحة المُتْعَةِ ثمَّ قال: إنَّهَا محرَّمة من غير نسخ لها فهو كافر، ومن صدقه مع علمه بكونه مخطئاً كافر، وهذا يقتضي تَكْفِير الأمَّةِ. وإن لم يكونوا عالمين بالإباحَةِ ولا بالحرمة، فهذا أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ كون المتعة مباحة يقتضي كونها كالنِّكَاح، واحتياج النَّاس إلى معرفة حكمها عام في حقِّ الكُلِّ، ومثل هذا يمتنع خفاؤه بل يجبُ أن يُشْتَهَر العلم بحكمه كاشتهار علمهم بحلِّ النِّكاح، ولما بطل هذان القسمان ثَبَتَ أنَّ الصَّحَابَةَ إنَّمَا سَكَتُوا عن الإنكار على عُمَرَ لعلمهم بأنَّ المتعة صارت منسوخَةً في الإسْلاَمِ. فإن قيل: الرَّجْمُ غير جائز مع أنَّ الصَّحابةَ ما أنكروا عليه حين ذكر ذلك، ولما سكتَ ابْنَ عباسٍ عنه في مسألة المُبَاهَلَة ثم ذكرها بعد موت عمر وقال: من شاء باهلته فقيل له: هلاّ قلت هذا في زمن عُمَرَ، فقال: هِبْتُه، وكان أمْرَأً مُهاباً. فالجوابُ لعلَّهُ ذكر ذلك على سبيل الزَّجْرِ والتهديدِ والسِّيَاسة، ومثلُ هذا جائز [للإمام] عند المصلحةَ كقوله عليه السَّلامُ «مَنْ مَنَعَ الزَّكاةَ فإنَّا نَأخُذُهَا مِنْهُ وَشَطْر مالِهِ» وأخذ شَطْرِ المالِ غير جائز لكنَّه قال ذلك للزَّجر فكذا ههنا، وأمَّا سكوت ابن عباس، فكَانَ سكوت رجل واحد في خلائق عظيمة، فلا يُشْبِهُ سكوت الخَلاَئِقِ العظيمة عند رجل واحد، ويدلُّ على التَّحريم حديثُ الربيعِ بْنِ سبرة، وحديث عَلِيٍّ المذكوران أوَّل الفَصْلِ قال الرَّبيعُ بْنُ سُليْمَانَ: سمعت الشَّافِعِيِّ يقول: لا أعلم في الإسْلاَمِ شيئاً أحِلَّ ثم حرم غير المُتْعَةِ. واحتجَّ من قال بإباحَةِ المتعة بوجوهٍ: أحدُهَا قراءة أبيِّ بنِ كَعْبٍ وابن عباس «فما استمتعتم به منهن إلى أجل مسمى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 311 فآتوهن أجورهن» ولم ينكر عليهما هذه القراءة فكان إجماعاً، فيقابل الإجماع الَّذي كان حاضراً عند خطبة عُمَرَ. الثَّاني: أنَّ المذكور في الآية إنَّمَا هو مُجَرَّدُ الابتغاء بالمالِ، ثُمَّ إنَّهُ تعالى أمر بإتيانهنَّ أجورهنَّ بعد الاستمتاع بهنَّ، وذلك يدُلُّ على أنَّ مجرَّدَ الابتغاءِ بالمال يجوزُ الوطء، ومجرَّد الابتغاء بالمالِ لا يكونُ إلاَّ في نِكَاحِ المُتْعَةِ، فأمَّا في النِّكَاحِ المطلق، فالحل إنَّمَا يحصل بالعَقْدِ والولي والشُّهود، ولا يفيد فيه مُجرَّدُ الابتغاء بالمال. الثَّالِثُ: أنَّهُ وَاجِبٌ إيتاء الأجور بمجرَّدَ الاستمتاع، والاستمتاعُ عبارةٌ عن التَّلذُّذِ والانتفاع، وأمَّا في النِّكَاحِ المطلق فإيتاء الأجور لا يتوقَّفُ على الاستمتاع ألْبَتَّةَ بل على العقد. ألا تَرَى انَّ بمجرد النِّكَاحِ يلزم نصفُ المهر. الرَّابعُ: أن الأمَّةَ مجمعة على أنَّ نِكَاحَ المتعة كَانَ جَائِزاً في الإسْلامِ، وإنَّمَا الخلافُ في النَّسْخِ، فَنَقُولُ لو كان النَّاسِخُ موجوداً، لكان إمَّا معلوماً بالتَّواتُرِ أو الآحاد، ولم يعلم بالتَّواتُرِ؛ لأنَّه كان يلزمُ منه كونُ عليٍّ، وابن عباس، وعمران بن الحُصَيْنِ منكرين لما عرف ثبوته بالتَّواتُرِ في دين محمَّدٍ عليه السلامُ، وذلك يوجب تكفيرهم، ويكون باطلاً قطعاً، وإنْ كان ثابتاً بالآحاد لزم نسخ الثابت المتواتر المقطوع به بخبر الوَاحِدِ المظنون، وهذا أيضاً باطل، ومما يدلُّ على بطلان هذا النَّسخ أيضاً أنَّ أكثر الرِّوايات أنَّ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نهى عن المتعة يوم خيبر، وأكثر الرِّوايات أنَّهُ عليه السلامُ أباح المتعةَ في حجَّة الوداع وفي يومَ الفَتْحِ، وهذان اليومان متأخرانِ عن يوم خيبر، وذلك يدلُّ على فساد ما روي أنَّهُ عليه السلامُ نسخ المتعة يوم خيبر، لأنَّ النَّاسِخَ يمتنع تقدُّمهُ على المنسوخ، [وقول] من قال إنَّهُ حصل التحليل مراراً [والنسخ مرارا] قول ضعيف لم يقل به أحدٌ من [المُتقدِّمينَ] المعتبرين، إلا الذين أرادوا إزالة التَّناقُضِ عن هذه الرِّوايات. الخامس: أنَّ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال على المنبر متعتان كانتا مشروعتين في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأنا أنهى عنهما: مُتْعَةُ الحَجِّ، ومتعةُ النِّكَاحِ وهذا تنصيص منه على أنَّ متعة النِّكاحِ كانت موجودةً في عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقوله «وأنا أنْهى» يدلُّ على أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما نسخة، وَإنَّما عمر هو الذي نَسَخَهُ وإذَا كانت كذلك؛ وجب أن لا يصير منسوخاً بنسخ عُمرَ، وهذا هو الحجةُ التي احتجَّ بها عمران بن الحصين حيث قال: ولم تنزل آية بنسخ آية المتعة، ولم يَنْهَنَا عنها حتى مات، ثم قال رجلٌ برأيه ما شاء، يريد أنَّ عمر نهى عنها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 312 والجوابُ أنْ يقال: إن هذه الآيةَ مشتملة على أنَّ المراد منها تحريم نكاح المتعة من ثلاثة أوجُهٍ: الأوَّلُ: أنَّهُ تعالى ذكر المحرمات بالنِّكاح أولاً في قوله {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} ثم قال في آخر الآية {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} كانَ المرادُ بهذا التحليل ههنا ما هو المراد هناك بالتَّحريم هو النِّكاح، فالمرادُ بالتحليل هنا أيضاً يجب أنْ يكون هو النِّكاح. الثّاني: قوله تعالى {مُّحْصِنِينَ} والإحْصَانُ لا يكون إلاَّ في نكاحٍ صحيح. الثالثُ: قوله {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} سمَّى الزِّنَا سِفَاحاً؛ لأنَّهُ لا مقصود فيه إلا سفح الماء ولا يطلب فيه الولد وسائر مصالح النِّكاح، والمتعة لا يراد منها إلاَّ سفح الماء فكان سفاحاً، هذا قول أبِي بكر الرَّازي، وفيه مناقشة. أمَّا الأولُ: فإنَّهُ تعالى ذكر أصْنافاً مِمَّنْ يَحْرُمُ وَطْؤهُنَّ ثم قال {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أي وأحل لكم وَطْءُ ما وراء هذه الأصناف، فأيُّ فساد في هذا الكلام. وأمَّا الثَّاني: وهو أنَّ الزِّنَا إنَّمَا سمي سفاحاً؛ لأنَّهُ لا يراد منه إلا سفح الماء فالمتعةُ ليست كذلك فإنَّ المقصود منها سفح الماء بطريق مشروع مأذون فيه من قبل اللَّه، لم قلتم إنَّ المتعة محرمة. قال ابْنُ الخطيبِ: وَإنَّمَا الجواب المعتمدُ أن نقول: إنَّا لا نُنْكِرُ أنَّ المتعةَ كانت مباحة إنَّمَا الذي نقوله: إنَّها صارت منسوخَةً، وعلى هذا التقدير، فلو كانت [هذه الآية دالة على أنها مشروعة] [لم يكن ذلك قادحاً في غرضنا، وهذا هو الجواب أيضاً عن تمسكهم بقراءة أبيّ وابن عباس، فإن تلك القراءة بتقدير ثبوتها لا تدل إلا على أن المتعة كانت مشروعة، ونحن لا ننازع] لكن نقول: إنَّ النسْخَ طرأ عليه، وما ذكرتم من الدلائل لا يدفع قولنا، وقولهم إنَّ النَّاسخَ إمَّا أن يكون متواتراً، أو آحاداً قلنا: لعلَّ بعضهم سمعه ثم نسيه [ثم إن عمر - رضي لله عنه - لمّا ذكر في الجمع العظيم تذكروه وعرفوا صدقه فيه وسلموا الأمر له. وقولهم:] إنَّ عمر أضاف النّهي عن المتعة إلى نفسه. قلنا: قد بَيَّنَا أنَّهُ لو كان مراده أنَّ المتعة كانت مباحة في شرع محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأنا أنهى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 313 عنه؛ لزمَ تكفيره، وتكفير كلّ مَنْ لا يحاربه وينازعه، ويفْضِي ذلك إلى تكفير جميع المؤمنين، وكلُّ ذلك باطل فلم يبق إلا أن يقال: كان مراده أنّ المتعة كانت مباحة في زمن الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأنا أنهى عنها لما ثبت أنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نسخها، فهو ناقل للنَّسْخِ، لا أنَّهُ نسخ من عنده. فصل قال القرطبيُّ: اختلف العلماءُ كم مرة أبيحت ونسخت؛ ففي «صحيح مسلم» عن [عبد] الله قال: «كُنَّا نَغْزُو مع رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليس لنا نِسَاء، فقلنا: ألا نَسْتَخْصِي؟ فنهانا عن ذَلِكَ، ثُمَّ رَخَّص لنا أنْ نَنْكِحَ المَرْأةَ بالثَّوْبِ إلى أجَلٍ» قال أبُو حَاتِم البُسْتِيُّ في صحيحه: قولهم للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ألا نَسْتَخْصِي» دليل على أنَّ المتعة كانتَ مَحْظُورَةً قبل أنْ يبيح لهم الاستمتاع، ولو لم تكن محظورة لم يكن لسؤالهم عن هذا معنىً، ثم رَخَّص لهم في الغَزْوِ أن ينكحوا المرأة بالثَّوب إلى أجَلٍ ثمَّ نهى عنها عام خيبر ثم أذن فيها عام الفتح ثم حرمها بعد ثلاث فهي محرّمة إلى يوم القيامة. وقال ابن العَرَبِيّ: وأمَّا متعة النَساء فهي من غرائب الشَّريعة؛ لأنَّهَا أبيحت في صدر الإسْلامِ ثمَّ حرمت يَوْمَ خيبر، ثم أبيحت في غزوة أوْطَاسٍ ثُمَّ حرِّمت بعد ذلك، واستقر الأمر على التَّحريم، وليس لها أختٌ في الشَّريعة إلاَّ مسألة القبلة، فإنَّ النَّسْخَ طرأ عليها [مرتين] ثم استقرَّتْ بعد ذلك. وقال غيره مِمَّنْ جمع طرق الأحاديث فيها: إنَّها تقتضي التَّحليلَ والتَّحْرِيمَ سبع مرات فروى ابن أبي عمرة: أنَّها كانت في صدر الإسلام. وروى سلمةُ بْنُ الأكوع: أنَّها كانت عام أوْطَاسٍ، ومن رواية عليٍّ تحريمها يومَ خيبر، ومن رواية الرَّبِيعِ بْنِ سبرة إباحتها يَوْمَ الفَتْحِ. قال القرطبيُّ وهذه الطرق كُلُّهَا في «صحيح مسلم» وغيره عن علي نَهْيَهُ عنها في غزوة تَبُوكَ وفي مصنف أبي داود من حديث الرَّبيعِ بْنِ سبرةَ النَّهي عنها في حجَّةِ الوَدَاعِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 314 وروى الحسن عن [ابن] سبرة أيضاً: ما حلَّتِ المتعةُ قطُّ إلاّ ثلاثاً في عمرة الفَضَاءِ ما حلَّت قبلها، ولا بعدها. فهذه سبعةُ مواطن أحلت فيها المتعة وحرمت. قوله «فريضة» حال من أجورهن، أو مصدر مؤكد أي فرض اللَّهُ ذلك فريضة [أو فرضاً] أو مصدر على غير المصدر؛ لأنَّ الإيتاء مفروض فَكَأنَّهُ قال «فآتوهن أجورهن إيتاء مفروضاً» . قوله «ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة» من حمل الآية على النِّكاح الصّحيح قال المراد منه الإبراء من المهر، أو الحط عنه، أو الافتداء، أو الاعتياض وهو كقوله تعالى {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [النساء: 4] [فإن قبضها ملكت بالقبض] وقوله {إَلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} [البقرة: 237] من حمل الآية على نِكَاحِ المتعة قال: أراد إذا انْقَطَعَ زمانُ المتعَةِ لم يبق للرَّجُلِ على المرأة سبيل، فإنْ شاءت المرأة زادت في الأجل وزاد الرجل في الأجر وإن لم يتراضيا تفارقا. فصل [حكم إلحاق الزيادة بالصداق] قال أبُو حنيفة: إلحاق الزِّيَادَةِ بالصَّدَاقِ جائز، وهي ثابتة إن دَخَلَ بها، أو مات عنها وإن طلقها قبل الدُّخولِ بطلت الزِّيَادة، وكانت بمنزلة الهبة فإن قبضتها ملكتها بالقبض، وإن لم تقبضها بطلت، واحتَجُّوا بقوله {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة} وهذا بعمومه يدلُّ على جواز إلحاق الزِّيَادة [بالصداق، قال: بل هذه بالزيادة أخص منها بالنقصان؛ لأنه تعالى علقه بتراضيهما والبراءة والحط لا يحتاج إلى رضا الزوج، والزيادة لا تصح إلا بقبوله، فإذا علق ذلك بتراضيهما جميعاً، دل على أن المراد هو الزيادة. الجواب أنه لا يجوز أن تكون الزيادة عبارة] عما ذكره الزَّجَّاجُ، وهو أنَّهُ إذا طلقها قبل الدُّخول، فإن شاءت أبرأته من النَّصف، وإن شاء الزَّوج سلّم إليها كلَّ المال، فيكون قد زادها على ما وَجَبَ عليه؛ ولأنَّ هذه الزيادة لو التحقت بالأصل لكان إمَّا مع العقد الأوَّلِ، أوْ بعد زواله، والأوَّلُ باطل؛ لأنَّ العقد لما انعقد على القدر الأوَّلِ، فلو انعقد مرَّةً أخرى على القدر الثَّاني؛ لكان ذلك تكويناً لذلك العقد بعد ثبوته، وهو تحصيلُ الحاصلِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 315 والثَّاني باطل؛ لانعقادِ الإجماع على أنَّ عند إلحاق الزَّيادَةِ لا يرتفعُ العقدُ الأوَّلُ، ففسد قولهم. فصل [في استحباب قلة المهر] اعلم أنَّهُ لا تقدير لأكثر الصّداق لقوله تعالى {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} [النساء: 20] والمستحبّ أن لا يغالي فيه. قال عُمَرُ بْنُ الخطَّاب: «ألاَ لاَ تغالوا في صدقة النِّساء، فإنَّهَا لو كانت مُكرمَةً في الدُّنْيَا وتقوى عند اللَّهِ، لكان أولاكم بها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ما علمت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نَكَحَ شيئاً من نسَائِهِ، ولا أنكح شيئاً من بناته بأكثر من اثْنَي عشر أوقية. وعن أبِي سَلَمَةَ قال: سألتُ عَائِشَة كم كان صداق النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: كَانَ صَدَاقُهُ لأزْوَاجِهِ اثْنَتي عَشْرَةَ أوقِيةً وَنشاً وقالت: أتدري ما النشُّ؟ قلتُ: لا قالت: نصف أوقية فتلك خَمسمائة دِرهم، وَأمَّ أقل الصَّداق فذهب بعضهم إلى أنَّهُ لا تقدير فيه، بل ما جاز أنْ يكونَ مبيعاً أو ثمناً جاز أن يكون صداقاً، وهو قول ربيعةَ، وسفيانَ الثَّوريَ، والشَّافعيِّ، وأحمد وإسحاقَ. وقال عمرُ بْنُ الخَطَّابِ:» في ثلاث قبضات مهر زينب «، وقال سعيدُ بن المسيِّبِ:» لو أصدقها سوطاً جاو «، وقال قوم: تقدر بنصاب السّرقة، وهو قول مَالِكٍ، وأبي حنيفَةَ، غير أنَّ نصاب السَّرقةِ عند مالك ثَلاثَةُ دراهِمَ، وحجَّةُ الشافعي وأحمد قوله عليه السلام» الْتَمِسْ َلَوْ خَاتَماً مِنْ حَدِيدِ، زوجتك بما معك من القرآن «، وزوّج امْرَأةً على نَعْلَيْن. فصل [في حكم جعل القرآن ونحوه صداقاً] قال الشافعيُّ، وأحمدُ:» يجوزُ أن يجعل تعليم القرآن صَدَاقاً للحديث «، وقال أصحابُ الرَّأي لا يجوزُ، وكذلك كلُّ عَمَلٍ يجوزُ الاستئجار عليه مثل البِنَاءِ، والخياطة وغيرهما يجوز أن يجعل صداقاً للحديث، ولقول شُعيب لموسى عليه السَّلامُ {إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} [القصص: 27] . وقال أبو حنيفة: لا يجوز أن يجعل منفعة الحرّ صداقاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 316 قوله تعالى {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات} الآية «من» شرطية وهو الظَّاهِرُ، ويجوز أن تكون موصولة، وقوله {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} إما جواب الشَّرط، وإمَّا خبر الموصول، وشروط دخول الفاء في الخبر موجودة و {مِنكُمْ} في محلِّ نصب على الحال من فاعل {يَسْتَطِعْ} وفي نصب {طَوْلاً} ثلاثة أوْجُهٍ: أظهرُهَا: أنَّه مفعول ب «يستطيع» وفي قوله «أنْ ينكح» على هذا ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّه في محلِّ نصبٍ ب «طولاً» على أنَّهُ مفعول بالمصدر المنون؛ لأنَّه مصدر؛ وطلت الشيء أي: نلتُهُ، والتَّقدير: ومن لم يستطع أنْ ينال نكاح المحصنات [المؤمنات] ، ومثله قول الفَرَزْدَقِ: [الكامل] 1784 - إنَّ الْفَرَزْدَقَ صَخْرَةٌ مَلْمُومَةٌ ... طَالَتْ فَلَيْسَ يَنَالُهَا الأوْعَالاَ أي: طالت الأوْعَالُ فلم تَنْلها، وإعمالُ التصدر المنوَّن كثيثر قال الشَّاعِرُ: [الوافر] 1785 - بِضَرْبٍ بِالسُّيُوفِ رُؤُوسَ قَوْمٍ ... أزَلْنَا هَامَهُنَّ عَنِ المَقِيلِ وقول الله تعالى {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً ذَا} [البلد: 14، 15] وهذا الوجه ذهب إليه الفارسي. الثاني: {أَن يَنكِحَ} بدل من {طَوْلاً} بدل الشَّيْءِ من الشَّيْءِ؛ لأنَّ الطول هو القدرة، أو الفضل، والنِّكَاحُ قدرة وفضل. الثَّالثُ: أنَّهُ على حذف حرف الجَرِّ، ثم اختلف هؤلاء، فمنهم مَنْ قَدَّرَهُ ب «إلى» أي: طولاً إلى أن ينكح المُحْصَنَاتِ، ومنهم من قَدَّرَهُ باللامِ أي: لأن ينكح، وعلى هذين التَّقديرين، فالجارّ في محلِّ الصِّفَةِ لطولاً، فيتعلَّق بمحذوف، ثُمَّ لما حُذِفَ حرف الجرِّ فالخلاف المشهُورُ في محل «أن» أنصبٌ هو أم جرٌّ؟ . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 317 وقيل: اللامُ المقدّرة مع «أنْ» هي لام المفعول من أجله، أي: لأجل نِكاحِهنَّ. الوجه الثَّاني من نصب {طَوْلاً} : أن يكون مفعولاً له على حذف [مضاف] أي: ومن لم يستطع منكم لعدم طول نكاح المحصنات، وعلى هذا ف «ان ينكح» مفعول «يستطع» أي: ومن لم يستطع نكاح المُحْصَنَات لعدم الطُّوْلِ. الوجه الثالثُ: أن يكون مَنْصُوباً على المصدر. قال ابْنُ عَطيَّة: ويصحُّ أن يكون طَوْلاً نصباً على المَصْدَرِ، والعامِلُ فيه الاستطاعة [لأنَّهما بمعنى و {أَن يَنكِحَ} ، على هذا مفعول بالاستطاعة، أو] بالمصدر يعني أنَّ الطولَ هو الطاعة في المعنى، فَكَأنَّهُ قيل: ومن لم يستطع منكم استطاعة، والطَّوْلُ: [الفضل ومنه] التطول وهو التَّفضل قال تعالى {ذِي الطول} [غافر: 3] ويقال: تطاولَ لهذا الشَّيءِ أي تناوله كما يقالُ: يد فلان مبسوطة، وأصل هذه الكلمة من الطُّولِ الّذي هو ضدّ القصر؛ لأنَّهُ ذَا كان طويلاً ففيه كمال وزيادة [كما أنه إذا كان قصيراً ففيه قصور ونقصان، فسمى الغنى طولاً لأنه ينال به المراد ما لا ينال عند الفقر] كما أنَّ بالطول ينال ما لا ينال بالقصر. قال ابنُ عبَِّاس ومُجاهدٌ وسعيدُ بنُ جبيرٍ والسُّديُّ وابنُ زيدٍ، ومالكٌ: «الطَّول هو السَّعة، والغنى» قيل: والطَّوْلُ: الحرة، ومعناه: أنَّ من عنده حرَّة لا يجوز له نكاح [أمة] ، وإن عَدمَ السَّعَةَ، وخاف العَنَتَ؛ لأنَّه طالب شهوة وعنده امرأة، وهو قول أبِي حنيفَةَ [وبه قال الطَّبرِيُّ] . وقال أبُو يُوسفَ: الطَّوْلُ هو وجود الحرَّة تحته، وقيل: الطَّوْلُ هو التَّجلد والصبر كمن احبَّ أمةً، وهويها حتَّى صار لذلك لا يستطيع أن يتزوج [عليها] غيرها، فإنَّ له أن يتزوّج الأمَةَ إذا لم يملك مهرها، وخاف أن يبغي بها، وإن كان يجد سَعَةً في المال لِنِكَاحِ حرَّةٍ. وهذا قول قَتَادَةَ والنَّخَعِيِّ وعطاءٍ، وسفيان والثَّوْرِي نقله القُرْطُبِيُّ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 318 فصل: [تفسير المراد بالمحصنات] والمراد بالمحصنات ههنا الحرائر [لأنه تعالى أثبت نكاح الإماء عند تعذر نكاح المحصنات، فلا بد أني يكون المراد بهن الحرائر] ؛ لأنه ذكرهن كالضّد الأمَاء ووجه تسميتهن بالمحصنات على قراءة من فتح الصَّاد أنَّهن أحصن بحريتهن عن أحوال الإمَاءِ فإنَّ الأمَةَ تكونُ خراجةً مُمْتهنَةً مُبْتَذِلَةً في الظَّاهِرِ، والحرةُ مصونة عن هذه القَضَايَا، وأمَّا على قراءة كسر الصاد فالمعنى أنهن أحصن أنفسهن بحريتهنَّ. فصل [في شرط نكاح الأمة] دلَّتِ الآيَةُ على أنَّهُ لا يجوزُ للحرِّ نكاحُ الأمَةِ إلاَّ بشرطين؛ وهما ألاَّ يجد مهر حرة، ولا ثمن أمة، وأنْ يخاف العَنَتَ، وهو قولٌ جائزٌ، وبه قال طاوس وعمرو بْنُ دينَار، وإليه ذهب مالكٌ والشَّافعيُّ وأحْمَدُ، وجوّز أصحابُ الرَّأي للحر نكاح الأمَةِ. فإنْ قيل: أيُّ تفاوت بين ثمن الأمة، أو مهرها وبّيْنَ نكاح الحرَّة الفقيرة. فَالجوابُ: أنَّ العادة كانت في الإماء التخفيف لاشتغالهن بخدمةِ السَّيِّد فظهر التَّفَاوُتُ. فصل [في حكم نكاح الأمة الكتابية] دلَّت الآيةُ على أنَّهُ لا يجوز للمُسْلِم نكاحُ الأمَةِ الكتابيَّةِ لقوله: {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ولقوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} [المائدة: 5] ولأن الأمَةَ الكافرةَ ناقِصَةٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: نَقْصُ الرِّقِّ، ونَقْصُ الكُفْرِ، والولدُ تابع للأمِّ في الحريةِ والرق، فيتعلَّقُ الولدُ رقيقاً على مِلْكِ الكافِرِ وجوز أبُو حنيفة ذلك لعموم قوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] وقوله: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] وقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وقوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [المائدة: 5] والمراد بهذا الإحصان العفّة. والجَوَابُ أنَِّ آيتنا خاصةٌ، والخاص مُقَدَّمٌ على العام؛ ولأنها دخلها التخصيص فيما إذا كان تحته حرّ"، وَاتَّفَقُوا على أنَّهُ [لا] يجوزُ وطؤها بملك اليمين. انتهى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 319 فصل [في شرط الإيمان] ظاهر قوله: «وَمَنْ لم يستطِع منكُم طولاً أن ينكح المُحصناتِ المُؤْمنِات فمِنْ ما ملكتْ أيمانكم من فتياتكم المؤمنات» يقتضي كون الإيمان معتبراً من الحرَّة فعلى هذا لو قدر على طول حرّة كتابيَّة، ولم يقدر على طول أمةٍ مسلمةٍ فإنَّهُ يجوزُ له أن يتزوّج بالأمةِ، وأكثرُ العُلماء على أنَّ ذكر الإيمان نذب في الحرائرِ، ولا فرق بين [الأمة] المؤمنة والكتابيَّة في كثرة المؤمنة وقلتها. فصل في التَّحذيرِ من نكاح الأمَاءِ وجوهٌ منها: - الولد ينبع الأمِّ في الحريَّة والرِّق فيصير الولد رقيقاً. قال عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أي حُرٍّ تَزوَّجَ بأمَةٍ، فقد رَقّ نِصْفُهُ، يعني: يصير وَلَدُهُ رقيقاً. وقال سعيدُ بْنُ جُبير: ما نكاح الأمة من الزِّنَا إلا قريب، قال الله تعالى: {مِنْكُمْ وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} أي عنْ نِكَاحِ الإمَاءِ. ومنها أنَّ الأمَةَ تكون قد تعوّدت الخروجَ، والبروزَ والمخالطةَ للرِّجَالِ وصارت في غاية الوقَاحةِ، ورُبَّمَا تَعَوَّدَت الفجورَ. ومنها أن حقّ المولى عليهم أعظم من حقِّ الزَّوْجِ، ولا تخلص للزَّوْج كخلوص الحُرَّةِ، وربَّما احتاج الزَّوْجُ إليها جداً، ولا يجد إليها سبيلاً [لحبس السيّد لها] . ومنها أنَّ المولى قد يبيعها من إنسان آخر، فعلى قول من يقول بيع الأمَةِ يُوجِبُ طلاقها تصير مطلَّقَة شاء الزَّوْجُ أم أبى، وعلى قول من لا يرى ذلك فقد يُسَافِر المولى بها وبولدها، وذلك من أعْظَمِ المَضَارّ. ومنها أن مهرها ملك لمولاها، فلا تَقْدِرُ على هبته لِزوجهَا، ولا إبرائه بخلاف الحرَّةِ، فلهذه الوجوه لم يُؤْذَنْ في نِكَاحِ الأمةِ إلا على سبيل الرُّخصةِ. وروى أبُو هريرة قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول [الحرائر] صلاح البيت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 320 والإماء هلاك البيت أو قال فساد «فساد البيت» ذكره القرطبي. قوله: «فممّا» الفاء قد تقدّم أنَّها إمَّا جواب الشَّرط، وإمَّا زائدة في الخَبَرِ على حَسْبِ القولين في «من» وفي هذه الآية سبعة أوْجُهٍ: أحدها: أنَّها متعلّقة بفعل مقدّر بعد الفاء تقديرُهُ: فينكحُ مِمَّا ملكت أيمانكم و «ما» على هذا موصولة بمعنى الذي أي: نوع الّذي ملكته، ومفعولُ ذلك الفعل المقدّر محذوفٌ تقديرهُ: فَيَنْكِحُ امرأة، أو أمَةً مما ملكته أيمانكم؛ ف «مِمَّا» في الحقيقة متعلق بمحذوف لأنَّهُ صفة لذلك المفعولِ المحذُوفِ و «من» للتَّبعيضِ، نحو: أكلتُ مِنَ الرَّغيفِ، و {مِّن فَتَيَاتِكُمُ} في محلِّ نصب على الحال من الضَّمير المقدّر في «ملكت» العائد على [ «مَا» ] الموصولة و {المؤمنات} صفة لفتياتكم. الثَّاني: أن تكون «مِنْ» زائدة و «ما» هي المفعولة بذلك الفعل المقدَّر أي: فلينكح ما ملكته أيمانكم. الثَّالثُ: أنَّ «مِنْ» في {مِّن فَتَيَاتِكُمُ} زائدة و {فَتَيَاتِكُمُ} هو مفعولُ ذلك الفعل المقدَّرِ أي: فلينكح فتياتكم، و «مما ملكت» متعلق بنفس الفعل و «من» لابتداء الغاية، أو بمحذوف على أنَّهُ حال من «فتياتكم» قدم عليها و «من» للتَّبعيضِ. الرَّابعُ: أن مفعول «فلينكح» [هو المؤمنات أي: فلينكح] المؤمنات الفتيات و «مما ملكت» على ما تقدَّم في الوجْهِ قبله و «من فتياتكم» حال من ذلك العائد المحذوف. الخامِسُ: أنَّ مما في محَلِّ رفع خبراً لمبتدأ محذوف تقديره: فالمنكوحَةُ مِمَّا ملكت [أيمانكم] . السَّادس: أن «ما» في «مِمَّا» مصدريَّةٌ أي: فلينكح من ملك أيمانكم، ولا بدَّ أن يكون هذا المصدر واقعاً موقع المفعولِ نحو: {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] ليصحّ [وقوع] النكاح [عليه] . السَّابعُ: وهو أغبرها ونقل عن جماعة منهم ابن جرير أنَّ في الآية تقديماً وتأخيراًَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 321 وأنَّ التقدير: ومنْ لَمْ يستطعْ منكمْ [طولاً] أنْ ينكحَ المُحْصنَاتِ المُؤْمِنَاتِ فلينكح بعضكم من بعض الفتيات، فبعضكم فاعل ذلك [الفعل] المقدّر، فعلى هذا يكون قوله {والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ} معترضاً بين ذلك الفعل المقدَّر وفاعله، ومثل هذا لا ينبغي أن يقال. فصل قال ابن عباس: يُريدُ بقوله {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} أي: فليتزوّج جاريةَ أخيه، فإنَّ الإنسانَ لا يجوز له أن يتزوّج بجارية نفسه، والفتيات المملوكات جمع فتاةٍ تقُولُ العربُ للأمة: فتاة، وللعبد: فتى، قال عليه السلامَ: «لا يَقُولَنَّ أحدكُم عَبْدِي، ولا أمَتِي، وَلكِنْ لِيَقُلْ فَتَاي وفَتَاتِي» ويقالُ للجارية الحديثة: فتاة، والغلام، فتى، والغلام، فتى، والأمة تسمى فَتَاة. قوله: «والله أعلم بإيمانكم» جملة من مبتدأ وخبر جيء بها بعد قوله {مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات} لتفيد أنَّ الإيمان الظَّاهر كافٍ في نكاحِ الأمَةِ المؤمنة ظاهراً ولا يشترط في ذلك أن يعلم إيمانها يقيناً، فإنَّ ذلك لا يطلع عليه إلا الله تعالى، وفيه تأنيس أيضاً بنكاح الإماءِ، فإنَّهم كانوا يفرون من ذلك. قال الزَّجَّاجُ: «المعنى: احملوا فتياتكم على ظاهر الإيمانِ، واللهُ أعلمُ بالسَّرائِرِ» . قوله تعالى: {بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ} مبتدأ وخبر أيضاً، جيء بهذه الجملة أيضاً تأنيساً بنكاح الأمة [كما تقدَّم، والمعنى: أنَّ بعضكم من جنس بعض في النَّسب والدين، فلا يدفع الحر عن نكاح الأمَّةِ، عند الحاجة إليه، وما أحسن قول أمير المؤمنين عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه] : [البسيط] 1786 - والنَّاسُ مِنْ جِهَةِ التَّمْثيلِ أَكْفَاءُ ... أبوهُمُ آدَمٌ والأمُّ حَوَّاءُ والحكمَةُ في ذِكْرِ هذه الكَلِمَةِ أنَّ العَرَبَ كانوا يَتفاخَرُونَ بالأنْسَابِ، فأخبر تعالى أن ذلك لا يلتفت إليه؛ لأنَّ الإيمان أعظم الفضائل، وإذا حصل الاشتراك فيه فلا يلتفت إلى ما وراء ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 322 قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] وقال: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] وكان أهلُ الجاهليّة يضعون من أين الهجين فذكر تعالى هذه الكلمة زجراً لهم من أخلاق أهل الجاهليَّةِ. قوله «بإذن أهلهن» متعلق ب «انكحوهنّ» وقدّر بعضهم مضافاً محذوفاً أي: بإذنِ أهل ولايتهن، وأهل ولاية نكاحهن هم المُلاَّك. فصل في نكاح الأمة بإذن سيدها اتَّفَقُوا على أنَّ نكاحَ الأمَةِ بدون إذن سيِّدهَا باطلٌ بهذه الآية فإنها تقتضي كون الإذن شرطاً في جواز النِّكاحِ، وإن لم يكن النكاح واجباً كقوله عليه [الصَّلاة و] السلام: «مَنْ أسْلَمَ فَلْيُسْلِمْ فِي كَيْلٍ معلُومٍ ووَزْنٍ مَعْلُومٍ إلَى أجَلٍ مَعلُوم» فالسلم ليس بواجب، ولكنَّهُ إذا اختار أن يُسْلِمَ فعليه استيفاء هذه الشَّرائط، ولأنَّ الأمَّةَ ملك للسيِّد، وبالتّزوج تبطل عليه أكْثَرُ منافعها؛ فوجب ألاّ يجوز ذلك إلا بإذنِهِ، وأمَّا العبد فلقوله عليه السَّلامُ: «إذَا تَزَوَّجَ العَبْدُ بِغَيْرِ إذْنِ السيّد فهو عاهِرٌ» . فصل في اشتراط إذن الولي في النكاح استدلُّوا بهذه الآية على أنَّه لا يصحُّ نِكَاحُ الحرَّة البالغة العاقلة إلاَّ بإذن الولي، قالوا: لأنَّ الضَّمِيرَ في قوله {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} عائد إلى الإماءِ والأمة ذات موصوفة بالرِّق، وصفة الرِّقِّ صفة زَائِلَةٌ لا تتناول الإشارة بتلك الصّفة، إلا تَرى أنَّهُ لَوْ حلف لا يَتكلَّمُ مع هذا الشاب فصار شيخاً ثم تَكَلَّمَ معه حَنَثَ؛ فثبت أن الإشارة إلى الذَّاتِ الموصوفة بصفَةٍ، عرضية زائلة باقية بعد زوال تلك الصِّفةِ العرضية، وإذَا كان كذلك، فوجب أن تكون الإشَارَة إلى الإمَاءِ باقيةً بعد زَوَالِ الرِّقِّ، وحصول صفة الحريّة لهنّ، وإذا ثبت أنَّ ذلك في الصُّورَةِ الباقية؛ وجب ثبوته في سائر الصُّورِ، لأنَّهُ لا قائل بالفرق. قال الرازيُّ: هذه الآية ترد على الشافعيِّ، فإنَّهُ يقول: لا عِبَارَةَ للمرأة في النِّكاح، فإذا ملكت المرأةُ جارية وكلتْ مَنْ يزوجها، واللهُ تعالى شرط إذن أهلهنّ مطلقاً فقد ترك [الظاهر] والجوابُ من وُجُوهٍ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 323 الأوَّلُ: المرادُ بالإذن الرِّضَا ولا بدَّ مِنْهُ. الثَّاني: أنَّ المرادَ بأهلهنّ من يقدر على نكاحهن، فإن كانت امرأةً فموْلاَهَا. الثَّالِثُ: أنَّ الأهْلَ يتناولُ الذكورَ والإناثَ، لكنَّهُ عام والأدلَّةُ الدَّالَّةُ على المرأة لا تنكح نفسها خاصّة، والخاصُّ مقدَّمٌ وفي الحديثِ: «العَاهِر هي التي تنكِحُ نَفْسَهَا» ولذا كانت مسلوبةَ العبارة في [حقّ] نفسها، فهي في حقّ مملوكها أولى. قوله تعالى «فآتوهن أجورهن» قال بعضهم: هو المهر، قال: والمُرادَ به مهر المثل لقوله تعالى: {بالمعروف} وهذا إنَّمّا ينطلق فيما كان مبنياً على الاجتهاد وغالب الظنِّ في المعتاد والمتعارف كقوله: «وعلى الوارث مثل ذلك» {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} [البقرة: 233] . وقال القاضي: «المرادُ من [الأجُورِ:] النَّفَقةُ عليهنّ قال: لأنَّ المهر مقدّر، فلا معنى لاشتراط المعروف فيه، فكأنَّهُ تعالى بيَّن أنَّ كونها أمَةً لا يقدحُ في وُجُوبِ نفقتها، وكفايتها كما في حقّ الحرة، وأكثر المفسَِّرينَ حملوا قوله: {بالمعروف} على تَرْكِ المطْلِ، والتَّأخيرِ عند المطالبة على العَادَةِ الجميلَةِ. فصل في من المستحق لقبض مهر الأمة؟ نقل أبُو بكرٍ الرَّازِي في أحكام القرآن عن بعض أصْحَابِ مالكٍ، أنَّ الأمة هي المستحقّة لقبض مهرها بهذه الآيةِ. والجوابُ من وُجوهٍ: أحدُهَا: أنَّا إذا حملنا [قوله] الأجور على النَّفَقَةِ، زال تمسكهم. وثانيها: إنَّمَا أضاف إيتاء المهور إليهن، لأنَّهُ ثمن بعضهم، وليس في قوله «وآتوهن» ما يوجب كون المَهْرِ ملكاً لهنَّ. وثالِثُهَا: ثبت أنَّهَا تقتضي كَوْنَ المَهْرِ ملكاً لهُنَّ، ولكنَّهُ عليه السلامُ قال: «العَبْدُ وَمَا فِي يَدِهِ [ملِكٌ] لمولاهُ» وقال تعالى: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} [النحل: 75] فنفى الملك عنه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 324 ورابعهَا: أنَّ عِوَضٌ عن منافِع البُضْعِ، وهي مملوكةٌ للسيِّدِ. قوله: «بالمعروف» فيه ثلاثةُ أوجُهٍ: أحدها: أنَّه متعلِّق ب {وَآتُوهُنَّ} أي: آتوهن مهورهن بالمعروف. الثَّاني: أنَّهُ حالٌ من أجورهن أي: ملتبسات بالمعروف، يعني: غير ممطولة. الثالِثُ: أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بقوله {فانكحوهن} أي: فانكحوهن بالمعروف [بإذن أهلهن ومهر مثلهن، والإشهاد عليه، وهذا هو المعروفُ] وقيل: في الكلامِ حذف تقديره: وآتوهنَّ أجورهن بإذن أهلهنَّ فحذف من الثَّاني لدلالة الأوَّلِ عليه، نحو {والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات} [الأحزاب: 35] . أي الذاكرات الله. وقيل: ثُمَّ مُضَاف مقدر أي: وآتوا مواليهن أجورهن؛ لأنَّ الأمة لا يسلّم لها شيءٌ من المهر. قوله تعالى {مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ} حالان من مفعول {فَآتُوهُنَّ} ومحصنات على هذا، بمعنى مزوجات. وقيل: {مُحْصَنَاتٍ} حال من مفعول {فانكحوهن} ، ومحصنات على هذا بمعنى عفائف، أو مسلمات، والمعنى: فانكحوهن حال كونهن محصنات لا حال سفاحهن واتِّخَاذِهِنَّ للأخدان، وقد تقدم أن «محصنات» بكسر الصَّاد وفتحها وما معناها، وأن {غَيْرَ مُسَافِحِينَ} حال مؤكدة. و {وَلاَ مُتَّخِذَات} عطف على الحال قبله، والأخدان مفعول بمتخذات، لأنَّهُ اسم فاعل، وأخدان جمع «خِدْن» كعِدْل وأعْدَال. والخِدْنُ: الصَّاحب. قال أبو زيد: الأخدانُ: الأصدقاء على الفاحشة، واحدهُمْ خِدْنٌ وخدين وهو الّذي يخادنك، ورجل خُدْنَةٌ: إذا اتَّخَذَ أخداناً أي: أصحاباً وقد تقدَّمَ أنَّ المُسَافح هو المجاهر بالزِّنَا، ومتخذ الأخْدَان هو المستتر [به] ، وكان الزِّنَا في الجاهليَّة منقسماً إلى هذين القسمين، ولم يحكموا على ذاتِ الخدن بكونها زانية. قوله: «فإذا أحصن» قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفص عن عاصم {أُحْصِنَّ} بضمّ الهمزة وكسر الصَّادِ على البِنَاءِ للمفعول والباقون بفتحها على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 325 البنَاءِ للفاعل، فمعنى الأوَّلِ أحصن بالتزويج فالمحصن بهن هو الزوجَ، هكذا قاله ابنُ عباسٍ، وسعيدُ بْنُ جُبيرٍ والحَسَنُ ومُجاهِد. ومعنى الثَّانية: «وأحصن فروجهن أو أزواجهن» . وقال عُمَرُ وابنُ مسعودٍ والشعبيُّ والنخعيُّ والسديُّ: أسلمن. وطعنوا في هذا الوجه بِأنَّهُ تعالى وصف الإماء بالإيمان في قوله {فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات} ويبعد أن يقال: فتياتكم المؤمنات، ثم يقال: فإذا آمن فإن حالهن كذا وكذا، ويمكن جوابه بأنَّهُ تعالى حكم حكمين: الأوَّلُ: حال نكاح الأمَاءِ فاعتبر الإيمان فيه بقوله: {فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات} . والثَّاني: ما يجبُ عليهنَّ عند إقدامهن على الفاحشَةِ، فذكر [حال] إيمانهنَّ أيضاً في هذا الحكم وهو قوله تعالى {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} . قوله: «فإن أتين بفاحشة فعليهن» الفاء في «فإنْ» جواب «إذَا» وفي «فعليهن» جواب «إن» فالشَّرط الثَّاني وجوابه مترتِّبٌ على وجود الأوَّلِ، ونظيره: إن أُكلت فإن ضربت عمراً فأنت حرٌّ، لا يُعتق حتى يأكل أولاً، ثم يضرب عمراً ثانياً ولو أسقطت الفاء الدّاخلة على «إن» في مثل هذا التّركيب انعكس الحكم، ولزم أن يَضْرب أولاً ثُمَّ يأكل ثانياً، وهذا يُعْرف من قواعد النَّحْوِ، وهو أن الشَّرْطَ الثَّاني يُجْعل حالاً، فيجب التَّلبُّسُ به أولاً. قوله: «من العذاب» متعلق بمحذوف؛ لأنَّهُ حال من الضَّميرِ المستكن في صلة «ما» وهو «على» ، فالعامل فيها معنوي، وهو في الحقيقة ما تعلَّقَ به هذا الجر، ولا يجوز أن يكون حالاً من «ما» المجرورة بإضافة «نصف» إليها؛ لأنَّ الحال لا بدَّ أن يعمل فيها [ما يعمل] في صاحبها [إن] و «نصفُ» هو العامل في صاحبها الخفض بالإضافة، ولكنه لا يعمل في الحال، لأنَّهُ [ليس] من السماء العاملة إلا أنَّ بعضهم يرى أنَّهُ إذا كان الجزء: 6 ¦ الصفحة: 326 جزءاً من المضاف جاز ذلك فيه، والنصفُ جزء فيجوز ذلك. فصل في الآية إشكال، وهو أنَّ المحصنات في قوله: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات} إمَّا أن يكون المرادُ منه الحرائِر المتزوّجات، أو الحرائر الأبكار، والسَّبَبُ في إطلاق اسم المحصنات عليهن حريتهن، والأول مُشْكِلٌ؛ لأن الواجبَ على الحرائر المتزوجات في الزِّنَا الرَّجم، فهذا يقتضي أن يجب في زِنَا الإماء نصفُ الرَّجْمِ وذلك باطل. والثَّاني وهو أن يكون المراد الحرائر الأبكار، فنصف ما عليهنَّ خمسون جَلْدَةً وهذا القدر واجب في زنَا الأمَةِ، سواء كانت مُحْصَنَةً أو لم تكن، فحينئذ يكون هذا الحكمُ معلقاً بمجرَّدِ صُدُورِ الزِّنَا عنهنَّ، وظاهر الآية يقتضي كونه معلقاً بمجموع الأمرين: الإحصان والزِّنا، لأنَّ قوله {فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ} شرط بعد شرط. فيقتضي كون الحكم مشروطاً بهما نصاً. فالجوابُ أن يُخْتارَ القسم الثَّاني، وقوله: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ} ليس المرادُ منه جعل هذا الإحْصَانِ شرطاً لأن يجب في زَنَاهَا خمسُونَ جَلْدَةً، بل المعنى أنَّ حدَّ الزِّنَا يغلظ عند التَّزوُّجِ فهذه إذَا زَنَتْ، وقد تزوَّجت فحدُّهَا خمسون جلدة، لا يزيد عليه فبأن يكون قبل التَّزوُّجِ هذا القدر [أيضاً] أولى، وهذا مما يَجْرِِي [فيه مجرى] المفهوم بالنَّصِّ لأنَّهُ لما خفف الحدَّ لمكان الرّق عند حصول ما يُوجبُ التَّغليظَ فبأن يجب هذا القدر عندما لا يوجد المغلظ أولى، وذهب بعضهم إلى أنَّهُ لا جلد على من لم يتزوّج من المماليك إذَا زَنَا لقوله تعالى: {فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} وهذا مرويٌّ عن ابن عباسٍ وبه قال طاووس. ومعنى الإحصان عند الآخرين الإسلامُ، وإن كان المرادُ منه التزويج، فليس المراد منه أنَّ التزويج شرط لوجوب الحدّ عليه، بل المرادُ منه التّنبيه على أنَّ الممْلُوكَ إذا كان محصناً بالتَّزويج؛ فلا رجم عليه، إنَّمَا حده الجلد بخلاف الحر، فحدُّ الأمةِ ثابت بهذه الآية، وبيان أنَّه الجلد قوله عليه السلامُ «إذا زَنَتْ أمَةُ أحدكُمْ فليَجْلِدْهَا ثُمَّ إنْ زَنَتْ فَلْيَجْلِدْهَا ولا يُثْرِبْ عليْهَا، ثُمَّ إن زَنَتْ الثَّالِثَةُ؛ فَلْيَبِعْها وَلَوْ بِحَبْلٍ مِنْ شَعِرٍ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 327 فصل في من يقيم الحد على الإماء؟ اختلفوا فيمن يقيمُ الحدَّ على العَبْدِ والأمَةِ إذَا زَنَيَا، قال بن شهاب: مضت السُّنَّةُ أن يَحُدَّ العَبْدَ والأمَةَ أهلُوهُم في الزِّنَا، إلاَّ أنْ يُرْفَع أمرُهُمْ إلى السَّلطان، فليس لأحَدٍ أن يفتات عليه قوله عليه السلامُ «إذَا زَنَتْ أمَةُ أحدكُمْ فليَجْلِدْهَا مِنْهُمْ، ومَنْ لَمْ يُحْصَن» . قال مَالِكٌ: يَحُدَّ المولى عبده في الزِّنَا وشرب الخمر، والقَذْفِ إذا شهد عنده الشُّهُودُ، ولا يقطعُهُ في السَّرقَةِ إلاَّ الإمام. وقال أبُو حنيفةَ: «لا يقيمُ الحُدُودَ عليهم إلاَّ السُّلْطَان» . فصل متى يحد الأمة السلطان؟ قال القُرطبيُّ: إذَا زنتِ الأمَةُ ثُمَّ عُتِقَتْ قَبْلَ أن يحدَّها سيِّدُهَا لم يحدَّهَا إلا السُّلْطَان، فإنْ زَنَتْ ثم تزوَّجَتْ لم يكُنْ لسيِّدِهَا أن يجلدَهَا لحقِّ الزَّوْجِ؛ إذ قد يَضُرُّهُ ذلك، إذَا لم يكن الزَّوْجُ ملكاً للسَّيِّدِ، فلو كان ملكاً للسَّيِّدِ؛ جازَ ذلك لأن حقَّهُمَا حَقُّهُ. فصل إذا أقرَّ العَبْدُ بالزِّنَا، وأنْكَرَهُ المولى فالحدُّ يجبُ على العبد لإقرارِهِ، ولا يلتفت لإنكار السَّيِّد، فلو عفا السَّيِّدُ عن عَبْدِهِ، أو أمته إذا زَنَيَا، فقال الحَسَنُ: له أن يغفر وقال غيرُهُ: لا ينفَعُهُ إلاَّ إقامَةُ الحدِّ، كما لا يسع السُّلطانَ أنْ يعفو عن حدٍّ إذا عَلِمَهُ. قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ} «ذلك» : مبتدأ ولمن خشِيَ: جارٌّ ومجرورٌ [خبره] ، والمشارُ إليه ب «ذلك» إلى نكاح الأمة المؤمنة لمنْ عَدِمَ الطَّوْلَ، والعَنَتُ في الأصْلِ انكسارُ العَظْمِ بعد الجَبْرِ؛ فاستعير لكلٍّ مَشَقَّةٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 328 قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ} [البقرة: 220] أي: لشدَّدَ الأمرَ عليكم، وأُريدَ بِهِ به هُنَا ما يجرُّ إليه الزِّنَا منَ العذاب الدُّنْيَوِيِّ، والأخرويِّ. وقال بعضُ المفسِّرينَ: إنَّ الشَّبق الشَّديدَ في حقِّ النساء قد يؤدِّي إلى اختناق الرَّحم، وأمَّا في حقِّ الرِّجالِ فقد يردي إلى أوجاعِ الوركين والظهر والأوَّل هو اللائِقُ ببيان القرآن. و «منكم» حالٌ من الضَّميرِ في «خشيِ» أي: في حال كَوْنِهِ مِنْكُمْ، ويجوزُ أن تكون «من» للبيان. قوله: {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} . مبتدأ وخبر لتأوله بالمصدَرِ وهو كقوله {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] والمعنى وأنْ تَصْبِرُوا عن نكاح الإماء متعفِّفينَ خيرٌ لكم لما بَيَّنَا من المفاسدِ الحاصلة في هذا النَّكَاحِ. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الحَرَائِرُ صَلاَحُ البَيْتِ، والإمَاءُ هَلاَكُهُ» . وقال الشاعر: 1787 - وَمَنْ لَمْ يَكُنْ فِي بَيْتِهِ قَهْرَمَانَةٌ ... فَذلِكَ بَيْتٌ لا أبَالَكَ ضَائِعُ وقال الآخر: [الطويل] 1788 - إذَا لَمْ يَكُنْ فِي مَنْزِلِ المَرْءِ حُرَّةٌ ... تُدَبِّرُهُ ضَاعَتْ مَصَالِحُ دَارِهِ فصل مذهب أبي حنيفة وأحمد: أنَّ الاشتغال بالنِّكاح أفضل من الاشتغال بالنَّافلة، فإن قالوا بهذا سواء كان نكاح حرَّةٍ أو نكاح أمةٍ فهذه الآية نصَّ في بطلان قولهم، وإن قالوا: إنَّا لا نرجِّح نكاح الأمة على النَّافلة، فحينئذٍ يسقط استدلالهم. ثم قال: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} وهذا كالمؤكّد لما ذكره؛ لأنَّ الأولى ترك هذا النِّكاح يعني أنَّهُ وإنْ حصل ما يقتضي المَنْعَ من هذا النِّكَاحِ إلا أنَّهُ تعالى أباحه لاحتياجكم إليه، فكان ذلك من باب المغفرة والرَّحْمَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 للنَّاس في مثل التركيب مذاهب، فمذهبُ البصريين أنَّ مفعول «يريدُ» محذوف الجزء: 6 ¦ الصفحة: 329 تقديره يريد اللهُ تحريم ما حرَّم [عليكم] وتحليل ما حلَّل، وتشريعَ ما تقدَّم لأجلِ التَّبيين لكم، ونسبه بعضهم لسيبويه، فتملَّقُ الإرادة غير التّبيين وما عطف عليه، وَإِنَّما تأوَّلوهُ بذلك؛ لئلاَّ يلزم تعدّي الفعل إلى مفعوله المُتَأَخّر عنه باللاَّمِ، وهو ممتنع وإلى إضمار «إن» بعد اللام الزائدة. والمذهبُ الثَّانِي - ويُعْزَى أيضاً لبعض البصريّين -: أن يُقَدَّرَ الفعل الَّذي قبل اللاَّم بمصدر في محلِّ رفع بالابتداء، والجارُ بعده خبره، فيقدر: يريدُ اللهُ ليبيِّن إرادة اللهَ تعالى للتّبيين وقوله: [شعر] [الطويل] 1789 - أُرِيدُ لأنْسى ذِكْرَهَا [فَكَأَنَّمَا ... تُمَثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ سَبيلِ] أي: إرادتي، وقوله تعالى {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ} [الأنعام: 71] أي: أُمِرْنَا بما أُمِرْنَا لنسلم، وفي هذا القول تأويل الفعل بمصدر، من غير حرف مصدر، وهو ضعيفٌ نحو: «تَسْمَعُ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه» قالوا: تقديره: أن تسمع فلما حذف «أن» رفعِ الفعل وهو من تأويل المصدر لأجل الحرف المُقدَّر [فكذلك هذا] فلام الجرِّ على الأوَّل في محلِّ نصب لتعلقها ب «يُريدُ» وعلى الثَّاني في محلِّ رفع لوقوعها خبراً. الثالث: وهو مذهبُ الكوفيّين أنَّ الرمَ هي النَّاصبة بنفسها من غير إضمار «انْ» ، وما بعدها مفعول الإرادة، لأنَّها قد تُقَامُ اللامُ مقام «أنْ» في: أردت وأمرت، فيقال: أردتُ أن تذهب، وأردت لتذهب، وأمرتك لتقُومَ، وأمرتُكَ أن تَقُومَ، قال تعالى: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله} [الصف: 8] ، وقال في موضع آخر: [ {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله} ] [التوبة: 32] . وقال: {وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين} [الأنعام: 71] وفي موضع آخر: {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ} [غافر: 66] وقال: {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى: 15] أي: أنْ أعدل بينكم، ومنع البصريُّون ذلك؛ لأنَّ اللام ثبت بها الجرُّ في الأسماء، فلا يجوزُ أن ينصب بها فالنَّصب عندهم بإضمار «أنْ» كما تَقَدَّمَ. الرَّابِعُ، وإليه ذهب الزَّمخشريُّ، وأبُو البقاءِ: أنَّ اللامَ زائدةٌ، و: أنَّ «مضمرة بعدها، والتَّبْيينُ مفعول [الإرادة. قال الزمخشري: {يُرِيدُ الله} يريدُ اللهُ أن يُبيِّنَ، فزيدت اللامُ لإرادة التبيين، كَمَا] زيدت في» لا أبا لك «لتأكيد إضافة الأبِ وهذا خارج عن أقوال البَصْرِيِّيِنَ، والكوفيين، وفيه أن» أنْ «تضمر بعد اللام الزَّائدة، وهي لا تضمر فيما نصَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 330 النحويون بعد لام إلاَّ وتلك اللامُ للتعليل، أو للجُحُودِ. وقال بعضهم: اللامُ» لام «العاقبة كهي في قوله تعالى {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً [وَحَزَناً} ] [القصص: 8] ولم يذكر مفعل التبيين، بل حذفه للعلم به فقدَّره بعضهم: ليبيِّن لكم ما يقرّ ربَكم، ومنه قول بعضهم إنَّ الصبر عن نكاح الإماء خير. فالأوَّلُ قاله عطاء. والثَّاني قاله الكلبيُّ. وبعضهم: ما فصَّلَ من الشَّرائع، وبعضهم أمر دينكم، وهي متقاربة، ويجوز في الآية وجه آخر [حَسَنٌ] ؛ وهو أن تكون المسألَةُ من باب الإعمال تنازع: «يبيِّن» و «يَهدي» في «سنن الذين من قبلكم» ، لأنَّ كلاَّ منهما يطلبه من جهة المعنى، وتكونُ المسألة من إعمال الثَّاني، وحذف الضَّمير من الأوَّلِ تقديره: ليبينها لكم ويهديكم سُننَ الَّذين من قبلكم. والسُّنَّةُ: الطَّريقَةُ؛ لأنَّ المفسّرين نقلوا أن كلَّ ما بَيَّن لنا تحريمه وتحليله من النساء في الآيات المتقدمة فقد كان الحكم كذلك أيضاً في الأمم السَّالفةِ، أو أنه بين لَكُمْ المصالح؛ لأنَّ الشَّرَائِعَ، وإن كانت مختلفة في نفسها إلا أنَّها متَّفِقَةٌ في المصلحة. فصل قال بعضُ المفسَّرينَ {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ} معناهما واحد وقال آخرون هذا ضعيفٌ. والحقُّ أنَّ قوله: {لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} أي: يميِّزَ الحلالَ من الحرامِ، والحسن من القبيح. وقوله تعالى: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ} أي: أن الذي بيَّن تحريمه، وتحليله لنا في الآيات المتقدّمة وقد كان كذلك في شرائع [الإسلام] من قبلنا، أو يكون المراد منه {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ} [في] بيان ما لكم فيه من المصلحة [فإنَّ الشَّرائعَ، وإن اختلفت في نفسها إلاَّ أنَّهَا متفقة في المصالح] . قوله: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} قال القاضي: معناه أنَّهُ تعالى كما أراد منّا نفس الطّاعة، فلا جَر\ضمَ بيَّنَها وأزال الشُّبْهَةَ عنها وإذا وقع التَّقصيرُ والتَّفريط منَّا؛ فيريد أن يتوبَ علينا؛ لأنَّ المكلف قد يطيع فيستحق الثَّوابَ، وقد يطيع فيستحقّ الثَّوابَ، وقد يعصي فيحْتَاج إلى التلافي في التَّوبَةِ وفي التَّوْبَةِ وفي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 331 الآية إشكالٌ، وهو أنَّ الحَقَّ إمَّا أن يكون قول أهل السُّنَّةِ [من أنَّ فعل العبدِ] مخلوقٌ للهِ [وَإمَّا أن الحقَّ قولُ المعتزلة: من أنَّ فعلَ العبدِ ليسَ مخلوق اللهِ تعالى؛ والآيةُ مُشْكَلَةٌ على القَوْلَيْنِ] أمَّا على الأوَّلِ [فلانّ] كلِّ مَا يريده الله تعالى [فَإنَّهُ] يحصلُ، فإذا أرَاد أن يتوبَ علينا وأحبَّ أن تحصل التَّوْبَةَ لكلنا، ومعلومٌ أنَّهُ ليس لذلك، وأمَّا على القول الثَّاني: فهو تعالى يريدُ مِنَّا أن نتُوبَ باختيارنا، وفعلنا وقوله {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} [ظاهره] مشعر بأنَّهُ تعالى هو الَّذي يخلق التَّوْبَةَ فينا. فالجوابُ أن قوله {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} صريحٌ في أنَّهُ تعالى هو الذي يقبلُ التَّوْبَةَ فينا والعقل يؤكِّدُهُ؛ لأنَّ التَّوْبَةَ عبارةٌ عن النَّدمِ في الماضي، والعزم على التَّرْكِ في المستقبل، والنَّدم والعزم من باب الإراداتِ، والإرادةُ لا يمكن إرادتها وإلا لزم التَّسلسل؛ فإذن الإرادةُ يمتنع أن تكونَ فعل الإنسان فعلمنا أن هذا النَّدم والعزم لا يحصلان إلا بتخليق اللهِ تعالى فَدَلَّ البرهانُ العقليُّ على صحَّةِ ما أشعر به القرآن، وهو أنَّهُ تعالى [هو] الذي يتوبُ علينا. وإن قالوا: لو تاب عليْنَا لحصلتْ هذه التَّوْبَةُ [لهم فزاد هذا الإشكال واللهُ أعلم] . فنقولُ: قوله تعالى: {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} خطابٌ مع الأمَّةِ، وقد تابَ عليهم في نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيَّات المذكورة في هذه الآيات وحصلت هذه التَّوْبَةِ لهم فَزَالَ الإشكالُ واللهُ أعلم. ] ثم قال {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي: [عليم] بمصالح عبادة حكيم في أمر دينهم ودنياهم وحكيم فيما دبَّرَ من أمورهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 قوله تعالى: {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} زعم بعضهم أنَّ [في] قوله {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} تكريراً لقوله {وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ} المعطوف على التّبيين. قال عطيَّةُ: وتكرار إرادة الله تعالى التَّوبة على عباده تقوية للإخبار الأوَّل وليس القصد في الآية إلا الإخبار عن إرادة الذين يتبعون الشَّهوات فقدمت إرادة الله تَوْطِئة مُظْهِرَةً لفسادِ إرادة مُبتغي الشَّهَوَاتِ، وهذا الذي قاله إنَّمَا يتمشّى على أنَّ المجرور باللامِ في قوله {لِيُبَيِّنَ} مفعول به للإرادة لا على كونه علّةً، وقد تقدَّمَ أنَّ ذلك قول الكوفيِّين، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 332 وهو ضعيفٌ، وقد ضعَّفه هو أيضاً، إذا تقرر هذا فنقول: لا تكرار في الآية؛ لأن تعلّق الإرادة بالتَّوبة في الأَّولِ على جهة العِلِّيَّة، وفي الثَّاني على جهة المفعوليَّة، فقد اختلف المتعلقان. وقوله {عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الذين} بالرَّفع عطفاً على {والله يُرِيدُ} عطف جملة على جملة اسميّة، ولا يجوز أن ينصب لفساد المعنى؛ إذ يصير التَّقدير: واللهُ يريدُ أن يتوب، ويريد أن يريد الذين، واختار الرَّاغِبُ: أنَّ الواو للحال تنبيهاً على أنَّهُ يريدُ التَّوْبَةَ عليكم في حال ما تريدون أن تميلوا فخالف بَيْنَ الإخبارين في تقديم المخبر عنه في الجملة الأولى، وتأخيره في الثَّانية؛ ليبيّن أنَّ الثَّاني ليس على العطف، وقد رُدَّ عليه بأنَّ إرادة اللهِ بالجملة الأولى اسميّة دلالة على الثَّبوت، وبالثَّانية فعلية دلالة على الحدوث. فصل في تحليل المجوس لما حرم الله تعالى قيل: إنَّ المجوسَ كانوا يحلُّون الأخوات، وبنات الإخوة والأخوات، فلما حرمهنَّ اللهُ تعالى قالوا إنَّك تحلُّون بنت الخالة والعمَّةِ، والخالةُ والعمةُ حرام عليكم فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلتْ هذه الآية. وقال السُّدِّيُّ: المرادُ بالَّذينَ يتبعونَ الشَّهوات هم اليهودُ والنَّصارى. وقال مجاهدٌ هم الزُّناةُ يريدون أن يميلوا عن الحقِّ فيزنون كما يزنون. وقيل: هم جميع أهل الباطل. فصل قالت المعتزلة قوله {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} يدلّ على أنه تعالى يريد التوبة من الكلِّ والطَّاعة من الكُلِّ. وقال أهل السُّنَّةِ، هذا محال؛ لأنَّهُ تعالى علم من الفاسق أنَّهُ لا يتوب، وعلمه بأنَّهُ لا يتوب مع توبته ضدان، وذلك العلم ممتنعٌ الزَّوال مع وجود أحدِ الضِّدَّين، وكانت إرادة ضدّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 333 الآخر إرادة لما علم كونه محالاً، وذلك محالٌ، وأيضاً فإنَّهُ إذَا كان يريدُ التَّوْبَةَ من الكُلِّ، ويريد الشَّيْطَانُ أن تميلوا ميلاً عظيماً، ثم يحصلُ مراد الشَّيطان لا مراد الرحمن، فحينئذٍ نفاذ الشيطان في ملك الرحمن أتمُّ من نفاذ الرحمنِ في ملك نَفْسِهِ، وذلك مُحالٌ؛ فثبت أن قوله {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} خطاب مع قوم معنيين حصلت هذه التَّوبة لهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 في هذه الجملة احتمالان: أصحُّهما: أنَّها حال من قوله {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} العامل فيها يريد أي: واللهُ يريد أن يتوبَ عليكم يريد أن يخفف عنكم، وفي هذا الإعراب نَظَرٌ من وجهين: أحدهما: أنَّهُ يؤدِّي إلى الفصل بين الحال، وبين عاملها بجملة معطوفة على جملة العامل في الحال ضمير تلك الجملة المعطوف عليها، والجملةُ المعطوفة وهي {وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ} جملة أجنبية من الحال وعاملها. والثَّاني: أنَّ الفعل الذي وقع حالاً رفع الاسم الظَّاهر فوقع الرَّبط بالظاهرِ؛ لأن {يُرِيدُ} رفع اسم الله، وكان من حقِّه أن يرفع ضميره، والرَّبْطُ بالظَّاهِرِ إنَّمَا وقع بالجملة الواقعة خبراً أو وصلة، أمَّا الواقعة حالاً وصفة فلا، إلا أن يَردَ به سماع، ويصير هذا الإعراب نظير: «بكر يخرج يضربُ بكر خالداً» ولم يذكر مفعول التخفيف فهو محذوف، فقيل تقديره: يخفف عنكم تكليف النظر، وإزال الحيرة، وقيل: إثم ما يرتكبون، وقيل: عام في جميع أحكام الشرع وقد سهل علينا كما قال تعالى {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ [والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} ] [الأعراف: 157] وقال عليه السلام: «بعثت بالحنفية السمحة» وقال {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] وقال {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] وقال مجاهد ومقاتل: المراد به [إباحة] نكاح الأمة عند الضرورة. قوله تعالى: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} والمعنى أنه بضعفه خفف تكليف، والأقرب أن يحمل هذا الضعف على كثرة الدواعي إلى اتباع الشهوة واللذة لا على ضعيف الخلقة [لأن ضعيف الخلقة] لو قوى الله داعيته إلى الطاعة كان في حكم القوي والقوي في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 334 الخلقة إذا كان ضعيف الدواعي إلى الطاعة صار في حكم الضعيف، فالتأثير في هذا الباب لضعف الداعية وقوتها لا لضعف البدن. قال طاوس والكلبي وغيرهما: في أمر النساء لا يصبر عنهن. وقال ابن كيسان: خلق الله الإنسان ضعيفاً أي بأن تستميله شهوته. وقال الحسن: المراد ضعيف الخلقة وهو أنه [خلقه] من ماء مهين. وقال تعالى {الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ} [الروم: 54] . فصل وفي نصب ضعيفاً أربعة أوجه: أظهرها: أنه حال من الإنسان وهي حال مؤكدة. والثاني: - كأنه تمييز قالوا: لأنه يصلح لدخول «مِنْ» وهذا غلط. الثالث: أنه على حذف حرف الجرِ، والأصل: خلق من شيء ضعيف، أي: من ماء مهين، أو من نطفة، فلما حُذِفَ الموصوف وحرف الجر وَصَلَ الفعل إليه بنفسه فنصبه. الرابع: - وإليه أشار ابن عطية، أنه منصوب على أنه مفعول ثانٍ ب «خلق» قالوا: ويصح أن يكون خلق بمعنى «جُعِلَ» فيكسبها ذلك قوة التعدي إلى المفعولين فيكون قوله «ضعيفاً» مفعولاً ثانياً، وهذا الذي ذكره غريب لم نرهم نَصُّوا على أن خلق يكون ك «جعل» فيتعدى لاثنين مع حصرهم الأفعال المتعدية للاثنين، ورأيناها يقولون: إن «جَعَلَ» إذا كان بمعنى «خَلَقَ» تعدت لواحد. فصل روي عن ابن عباس أنه قال: ثماني آيات في سورة النساء خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت قوله تعالى {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] {والله يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} و {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 335 {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] {إِنَّ [الله لاَ يَظْلِمُ] مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} النساء: 40] ، {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء: 110] و {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ} [النساء: 147] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 في كيفية النظم وجهان: أحدهما: أنه تعالى لما ذكر كيفية التصرف في النفوس بسبب النكاح ذكر كيفية التصرف في الأموال. الثاني: لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإبقاء المهور بيَّن بعد ذلك كيفية التصرف في الأموال، وخص الأكل بالذكر دون غيره من التصرفات لأنه المقصود الأعظم من الأموال؛ لقوله تعالى {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً} [النساء: 10] ، واختلفوا في تفسير الباطل فقيل هو الربا والغضب والقمار والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة، وعلى هذا تكون الآية مجملة لأنه يصير التقدير: لا تأكلوا أموالكم التي حصلتموها بطريق غير مشروع، ولم يذكر ههنا الطريقة المشروعة على التفصيل فصارت الآية مجملة. وروي عن ابن عباس والحسن أن الباطل هو ما يؤخذ من الإنسان بغير عوض وعلى هذا لا تكون الآية مجملة لكن قال بعضهم: إنها منسوخة: قال لما نزلت هذه الآية تحرّج الناس من أن يأكلوا عند أحد شيئاً وشق ذلك على الخلق. فنسخ الله تعالى ذلك بقوله في سورة النور {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النور: 61] وأيضاً إنما هو تخصيص ولهذا روى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: هذه الآية محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 336 وقيل: المراد بالباطل [هو] العقود الفاسدة، وقوله {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل} [يدخل فيه أكل مال الغير بالباطل] وأكل مال نفسه بالباطل فيدخل فيه القسمان معاً كقوله: {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُم} يدل على النهي عن قتل غيره وقتل نفسه أما أكل مال نفسه بالباطل فهو إنفاقه في معاصي الله تعالى، وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه. قوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} في هذا الاستثناء قولان: أصحهما: أنه استثناء منقطع لوجهين: أحدهما: أن التجارة لم تندرج في الأموال المأكولة بالباطل حتى يستثنى عنها سواء فسرنا الباطل بغير عوض، أو بغير طريق شرعيّ. والثاني: أن المستثنى كون، والكون ليس مالاً من الأموال. الثالث: أنه متصل قيل: لأن المعنى لا تأكلوها بسبب إلا أن تكون تجارة. قال أبو البقاء: وهو ضعيف؛ لأنه قال: بالباطل، والتجارة ليست من جنس الباطل، وفي الكلام حذف مضاف تقديره؛ إلا في حال كونها تجارة، أو في وقت كونها تجارة انتهى. ف «أن» تكون في محل نصب على الاستثناء وقد تقدم تحقيقه. وقرا الكوفيون تجارة نصباً على أن كان ناقصة، واسمها مستتر فيها يعود على الأموال، ولا بد من حذف مضاف من «تجارة» تقديره: إلا أن تكون الأموال أموال تجارة، ويجوز أن يفسر الضمير بالتجارة بعدها أي: إلا أن تكون التجارةُ تجارةً كقوله: [الطويل] 1790 - ... ... ... ... ... ... ... ... إذَا كَانَ يَوْمَاً ذَا كَواكِبَ أشْنَعَا أي إذا كان اليوم يوماً، واختار أبو عبيدةَ قراءة الكوفيين، وقرأ الباقون «تجارةٌ» رفعاً على أنها «كان» التامة قال مكي «وأكثر كلام العرب أن قولهم» إلا أن تكون «في هذا الاستثناء بغير ضمير فيها يعود على معنى: يحدث ويقع، وقد تقدم الكلام على ذلك في البقرة. وقوله: {عَن تَرَاضٍ} متعلق بمحذوف لأنه صفة ل» تجارة «فموضعه رفع أو نصب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 337 على حسب القراءتين، وأصل» تراض «» تراضِوٌ «بالواو؛ [لأنه مصدر تراضي تَفَاعَلَ من رَضِيَ، ورَضِيَ من ذوات الواو بدليل الرُّضوان، وإنما تطرفت الواو بعد كسرة] فقلبت ياء فقلت: تراضياً، و» منكم «صفة لتراضٍ، فهو محل جر و» من «لابتداء الغاية. فصل والتجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة ومنه الجر الذي يعطيه الله تعالى للعبد عوضاً من الأعمال الصالحة. قال تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] وقال {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر: 29] وقال {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] ، فسمَّى ذلك كُلَّهُ بيعاً وشراءً على وَجْهِ المَجَازِ، تشبيهاً بِعُقُود المبيعَاتِ الّتي تحصلُ بها الأغْرارُ. فصل: كل معاوضة تجارة اعلم أنَّ كُلَّ مُعَاوَضَةٍ تجارةٌ على أيّ وجْهٍ كان العوض، إلا أنَّ قوله تعالى {بالباطل} أخرج منها كُلَّ عوضٍ لا يجوزُ شَرْعَاً من رباً وغيره أو عوض فَاسِدٍ كالخمرِ، والخَنْزِيرِ، وغير ذلِكَ، ويخرج أيضاً كُلُّ عقدٍ جائزٍ لا عوض فيه كالقرض والصَّدَقَةِ، والهِبَةِ، لا للثَّوابِ، وجازت عُقُودُ التَّبرُّعاتِ بأدلَّةٍ أخَر، وخَرَجَ منها دٌعاءُ أخيك إيَّاكَ إلى طَعَامِهِ، بآيةِ النُّورِ، على ما سيأتي إن شاء الله - تعالى -. فصل قال القرطبيُّ: لَوِ اشْتَرَيْتَ فِي السُّوقِ شَيْئاً فقالَ لَكَ صًاحِبُهُ قبل الشِّرَاءِ ذُقْهُ، وأنت في حلٍّ، فلا تَأكُلْ منه؛ لأن إذْنهُ في الأكْلِ لأجْلِ الشِّراءِ، فربما لا يقعُ بيعٌ، فيكونُ ذلك شُبْهَة، لكن لو وصف لَكَ فاشْتَرَيْتَ، فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيَار. فصل قوله {عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} أي: بطيبة نَفْسِ كلِّ وَاحدٍ على الوَجْه المَشْرُوعِ. وقيل هو أن يخير كُلُّ وَاحدٍ من المُتابِعيْنَ صاحِبَهُ بَعْدَ الْبَيْع، فيلزمُ وإلا فلهما الخِيَارُ ما لم يَتَفَرَّقَا لقوله عليه السلامُ:» الْبَيْعانِ بالخيارِ مَا لَمْ يَتَفَرَّقَا «أو يخير كُلّ واحد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 338 منهما صاحبَهُ متبايعاً على ذلك، فَقَدْ وَجَبَ البَيْعُ، واعلم: أنَّهُ كَمَا يحلُّ المستفاد منَ التِّجارَة، فقد يَحِلُّ أيضاً المالُ المستفاد مِنَ الهِبَةِ، والوصيَّةِ والإرث، والصَّدَقَةِ، والمهر، ِ وأرُوشِ الجنايَاتِ، فإنَّ أسْباب المالِ كثيرةٌ سوى التِّجارة. فإن قُلْنَا: الاستثناءُ مُنقطِعٌ، فلا إشْكالٌ؛ لأنَّهُ تعالى ذَكَرَ هَاهُنا شيئاً واحداً، من أسْبَابِ المِلْكِ، ولم يذكره غيرهُ بنفي، ولا إثْبَاتٍ. وإن قلنا: الاسْتثناء مُتَّصِلٌ كان ذلك حكماً بأنَّ غيرَ التِّجَارةِ لا يفيد الحلّ، وعلى هذا لا بُدّ مِنَ النَّسْخِ، والتَّخْصيصِ. فصل ذهب بعضُ الْعُلَمَاءِ إلى أنَّ النَّهْيَ في المعاملات يَقْتَضِي البُطْلاَنَ، وقال أبُو حنيفَةَ: لا يَدُلُّ عليه واحتجّ الأوَّلُونَ بوجوهٍ: أحدُهَا: أنَّ جميعَ الأمْوالِ مملوكةٌ للهِ تعالى، فإذا أذن لبعض عبيده في بعض التَّصَرُّفَاتِ، ثم إنَّ الوكِيلَ تَصَرّفَ على خِلافِ قَولِ الموكل، فذلك غير مُنعقدٍ، فإذا كان التَّصرفُ الواقع على خلاف قول المِالِكِ المجازي لا يَنْعَقدُ، فالتصرفُ الواقِعُ على خِلاَفِ قَوْلِ المالِكِ الحقيقيّ غير مُنْعَقِدٍ بِطَرِيقِ الأوْلَى. وثانيها: أنَّ التصرُّفات الفَاسِدَة؛ إمَّا أن تكُونَ مُسْتَلْزَمَةً لِدُخُولِ المُحرَّم المنهيّ في الوُجُودِ أو لا، فإن كان الأول وجب القول ببطلانها قياساً على التصرفات الفاسدة، والجامِعُ السعي في ألا يَدخُلَ منشأ النَّهي في الوُجُودِ، وإنْ كانَ الثَّانِي؛ وَجَبَ القَوْلُ بصحَّتها قياساً على التصرُّفَاتِ الصَّحيحةِ، والجامعُ كونُهَا تَصرُّفَاتٍ خالية عن المفْسَدَة، فثبت أنَّهُ لا بُدَّ من وُقُوعِ التَّصرُّفِ على هذين الوجْهَيْنِ، فأمَّا القَوْلُ بتصرف لا يكُونُ صحيحاً، ولا باطلاً، فهو محال. وثالثها: أنَّ قوله: «لا تَبِيعُوا الدِّرْهَمَ بالدِّرْهَمَيْن» كقوله: «لا تبيعوا الحر بالعبد» فكما أن هذا نهي في اللفْظِ، لكنَّهُ نَسْخٌ للشَّرعيةِ [فكذا الأوَّلُ، وإذا كان نَسْخاً للشَّرْعيَّةِ] ، بطل كونُهُ مُفيداً للحكم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 339 قوله {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} قرأ عَلِي - رضي اللهُ عنه -: «تُقْتَّلُوا» بالتَّشْديدِ على التكثير، والمعنى لا يَقْتلُ بَعضُكُم بعضاً، وإنَّما قَالَ {أَنْفُسَكُمْ} لقوله عليه الصَّلاةُ والسَّلام: «المُؤْمِنُونَ كنَفْسٍ وَاحِدَةٍ» ولأن العَرَبَ يَقُولُونَ «قُلْنَا وَرَبِّ الكَعْبَةِ» إذا قتل بعضهم؛ لأنَّ قتل بعضِهِم، يجري مَجْرَى قَتْلِهِمْ. فإن قيل: المُؤمِنُ مع إيمانِهِ لا يجُوزُ أن ينهى عَنْ قَتْلِ نَفْسِهِ، لأنه ملجأ إلى ألاَّ يَقْتُلَ نَفْسَهُ، لأنَّ الصَّارِفَ عنه قائمٌ، وهو الألَمُ الشَّديدُ، والذَّمُّ العَظِيم، والصَّارف عنه في الآخرة قَائِمٌ وهو استحقاقُ العَذَابِ العَظِيمِ. إذا كان كذلك، لم يَكُنْ للنَّهْيِ عَنْهُ فائدة، وإنَّمَا يُمْكِنُ هَذَا النهي، فِيمَنْ يَعْتَقِدُ في قَتْلِ نَفْسِهِ ما يعتقدُهُ أهْلُ الهِنْدِ، وذَلِكَ لا يَتَأتَّى مِنَ المُؤْمِنِ. فَالجَوَابُ: أنَّ المُؤْمِنَ مع إيمانِهِ، قد يَلْحَقُهُ مِنَ الغَمِّ، والأذِيَّةِ ما يكُونُ القَتْلُ عليه أسْهَل مِنْ ذلك، ولذلك نَرَى كَثيراً مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَقْتَلُونَ أنْفُسَهُم، بمثل السَّبَبِ الذي ذَكَرْنَاهُ، ويحتمل أنَّ مَعْنَاهُ لا تَفْعَلُوا ما تَسْتَحِقُّونَ به القتل كالزِّنَا بعد الإحْصَانِ والرِّدَّةِ، وقتلِ النَّفْسِ المعصومة، ثمَّ بيَّنَ تعالى أنَّهُ رحيمٌ بعباده، ولأجْلِ رحمته نهاهم هم كُلِّ ما يستوجبون به مَشَقَّة، أو مِحْنَة حَيْثُ لم يأمرهم بقتلهم أنفسَهُم كما أمَرَ به بني إسرائيل ليَكُونَ تَوْبَةُ لهم وكان بكُم يَا أمَّة محمَّد رحيماً، حيث لم يكلفكم تلك التَّكاليف الصَّعْبَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} «مَنْ» شرطيَّة [مبتدأ] ، والخبر «فَسَوْفَ» والفاءُ هنا واجبة لِعَدَمِ صلاحيَّةِ الجَوَابِ للشَّرْطِ، و «ذَلٍكَ» إشارةٌ إلى قتل الأنفُسِ قال الزَّجَّاجُ: يَعُودُ إلى قَتْلِ الأنْفُسِ، وأكل المالِ بالبَاطِلِ؛ لأنَّهُمَا مذكوران في آية واحدة. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: إنَّهُ يعودُ على كُلِّ ما نهى اللهُ عنه من أوَّلِ السُّورةِ إلى هذا المَوْضعِ، وقال الطَّبريُّ: «ذلك» عائد على ما نهي عنه من آخر وعيد وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} [النساء: 19] ؛ لأنَّ كل ما ينهى عنه من أوَّلِ السُّورةِ قرن به وعيد، إلا مِنْ قوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً} [النساء: 19] فإنَّهُ لا وعيدَ بَعْدَهُ إلا قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً} [النساء: 30] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 340 الآية. وقيل الوعيد بذكر العُدْوَانِ والظُّلْمِ، ليخرج منه فعل السَّهْوِ والغلط، وذكر العًُدْوَانِ، والظُّلْمِ مع تقارب معناهما لاختلافِ ألفاظِهِما كقوله: «بُعْداً» و «سُحْقاً» وقوله يعقوب عليه السلام: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: 86] وقوله: [الوافر] 1791 - أ - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وألْفَى قَوْلَهَا كَذِباً وَمَيْنَا و «عدواناً وظلماً» حالان أي: متعدياً ظالماً أو مفعول من أجلها وشروط النصب متوفرة وقُرِئَ: «عِدْواناً» بكسر العين. و «العدوان» : مُجاوَرَةُ الحَدّ، والظُّلْمُ: وضع الشَّيْءِِ في غير مَحَلِّه، ومعنى {نُصْلِيهِ نَاراً} ، أي: يمسُّه حَرُّهَا. وقرأ الجمهور: {نُصْلِيهِ} من أصْلَى، والنون للتعظيم. وقرأ الأعْمَشُ: «نُصْلِّيه» مُشَدّداً. وقرئ: «نَصْليه» بفتح النُّونِ من صَلَيْتُه النَّار. ومنه: «شاة مصلية» . و «يصليه» بياء الغَيْبَةِ. وفي الفاعِلِ احتمالان: أحدهُمَا: أنَّهُ ضميرُ الباري تعالى. والثًَّاني: أنَّهُ ضميرٌ عائدٌ على ما أُشير به إلَيْهِ مِنَ الْقَتْلِ؛ لأنَّهُ سَبَبٌ في ذلك ونكر «ناراً» تعظيماً. {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} أي: هيناً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 قرأ ابْن جُبَيْرٍ، وابنُ مَسْعُود: «كَبِيرَ» بالإفراد والمرادُ به الكُفْرُ وقرأ المفضّلُ: «يُكَفِّر» ، «ويدخلكم» بياء الغَيْبَةِ للهِ تعالى. وقرأ ابْنُ عَبَّاسٍ: «من سيئاتكم» بزيادة «من» . وقَرَأَ نَافِعٌ وحده هنا وفي الحج: «مَدْخَلاً» بفتح الميم، والباقُونَ بضمها، ولم يَخْتَلِفُوا في ضَمِّ التي في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 341 الإسراء. فأمَّا مَضْمُومُ الميم، فإنَّهُ يحتملُ وجهين: أحدهُمَا: أنَّهُ مَصْدرٌ وقد تَقَرَّر أنَّ اسْمَ المصْدَرِ من الرُّبَاعِيّ فما فَوْقَهُ كاسْمِ المفعُولِ، والمدخول فيه على هذا مَحْذُوفٌ أي: «ويدخلكم الجنة إدخالاً» . والثَّانِي: أنَّهُ اسمُ مَكَانِ الدُّخُولِ، وفي نصبه حينئذٍ احتِمَالاَنِ « أحدهُمَا: أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرْفِ، وهو مَذْهَبُ سيبوَيْهِ. والثَّاني: أنَّه مفعولٌ به، وهو مَذْهَبُ الأخْفَشِ، وهكذا كُلُّ مكان مختص بعد» دخل «فإنَّ فيه هذين المذْهَبَيْنِ، وهذه القِرَاءَةُ واضحةٌ، لأنَّ اسم المصْدَرِ، والمكان جَارِيَانِ على فعليهما. وَأمَّا قِرَاءةُ نافِع، فتحتاجُ إلى تأويل، وذلك لأنَّ الميمَ المفتوحة إنَّما هو من الثُّلاثِيُّ، والفعل السَّابقُ لهذا رُباعِيّ فقيل: إنَّهُ منصوبٌ بفعل مقدّر مطاوع لهاذ الفِعْلِ، والتقدِيرُ: يدخلكم، فتدخلون مدخلاً. و» مَدْخَلاً «مَنْصُوبٌ على ما تقدَّمَ: إمَّا المصدريّة، وإما المَكَانِيَّة بوجهيها. وقيل: هُوَ مصْدَرٌ عَلَى حَذْفِ الزَّوائِدِ نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] على أحد القَوْلَيْنِ. فصل روى ابْنُ عمرو عن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّهُ قال:» الكَبَائِرُ الإشْرَاكُ باللهِ عزَّ وجلَّ وعقوقُ الوالِدَيْنِ، وقَتْلُ النَّفْسِ، واليَمِينُ الغَمُوسُ «. وقال عليه السَّلام:» ألاَ أنبِئُكُمْ بأكْبَرِ الكَبَائِر؟ «ثلاثاً. فقالوا: بَلَى يا رسُولَ اللَّهِ. قال:» الإشْرَاكُ باللَّهِ، وَعُقُوقُ الوَالِديْنِ - وَكَانَ مُتّكئاً فَجَلَسَ - وَقَالَ: ألاَ وَقَوْلُ الزُّورِ «فما زال يُكَرِّرُهَا، حَتَّى قُلْنا لَيْتَهُ سَكَتَ. وعن عُمَرَ بْنِ شراحيل عن عَبْدِ اللَّهِ قال: قُلْتُ يا رَسُولَ اللَّهِ: أيُّ الذَّنْبِ أعْظَمُ. قال:» أنْ تَجْعَلَ للَّهِ نِدَّاً وَهُوَ خَالِقُكَ «قال: ثُمَّ أي. قال:» لأنْ تَقْتَلُ وَلَدَكَ مَخَافَةَ أنْ يَأكُلَ مَعَكَ «. قُلْتُ: ثمَّ أيْ. قال» أنْ تُزَانِيَ حَليلَةَ جَارِك «فأنزلَ اللَّهُ - تعالى - تَصديقَ قَوْلِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 342 النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله تعالى: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] وعن أبي هريرةَ عنِ النَّبِي صلى اله عليه وسلم قال:» اجْتَنِبُوا السَّبْعَ المُوبقَاتِ قالُوا يا رَسُول اللَّهِ، وما هُنَّ؟ قال: الشِّرْكُ باللَّهِ، والسِّحْرُ، وقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللَّهُ إلاَّ بالحقِّ وأكْلُ الرَِّبَا، وأكْلُ مَالِ اليتيمِ، والتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْف المُحصنَاتِ الغَافِلاَتِ «. وقال عبدُ الله بْنُ مسعودِ: أكْبَرُ الكَبَائِرِ الشِّرْكُ باللَّهِ، والأمن من مَكْرِ اللَّه والقنوط من رحمة اللَّه، واليأسُ من روح اللَّهِ. وعن النَّبَيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مِنْ أكْبَر الكبَائِر يسبُّ الرَّجُلِ وَالديْهِ: قالَ وَكَيْفَ يَسُبُّ الرَّجُلُ وَالدَيْهِ قال: [يَسُبُّ الرجُل أبَا الرجل وَأمه] فَيَسُب أباهُ وَيسُبُّ أمَّهُ» . وعن سعيد بْنِ جُبَيْرٍ أنَّ رَجُلاً سألَ ابْنَ عباس عن الكبائِرِ أسَبْعٌ هي قال: هي إلى السبعمائة أقرب [غير] أنه لاَ كبيرَةَ مع الاستغْفَارِ، ولا صغيرَةَ معَ الإصْرَارِ، وقال: كُلُّ شيْءٍ عصي اللَّه به، فهو كبيرة، فمن عمل شيئاً منها، فَلْيَسْتَغْفِر اللَّهَ فإنَّ اللَّه لا يخلد في النَّارِ من هذه الأمَّةِ إلاَّ من كان راجعاً عن الإسلامِ، أو جاحداً فريضته، أو مكذباً بقدره. قال ابْنُ الخطيبِ: وهذا القول ضعيف؛ لأنَّهُ لا فرقَ بينهما كقولهِ: يكفر، وما لا يكفرون في الحديث: تعيين أشيَاء من الكبائرِ منها: الشركُ، واليمينَ الغَمُوسُ [ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 343 والرِّبا] وعُقوقُ الوالدين، والقَتْلُ، وغيرهما ولقوله تعالى: {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات: 7] فالكبائِرُ هي الفُسُوقُ والصغائر هي العصيان حتى يصحّ العطف. احتجّ ابنُ عبَّاس ما إذا اعتبر المعاصي بالنِّسْبَةِ إلى جلال اللَّه تعالى، وعظمته كانت كبائر بالنِّسْبَةِ لِكثَةِ نعمه تعالى، فذلك لعدم تناهيها، فَكُلُّ ذنبٍ كبيرة. والجوابُ كما أنَّهُ سبحانه وتعالى أجلُّ الموجودات، وأشرفهم، وهو أرحمُ الراحِمينَ، وأغنى الأغنياءِ عن الطَّاعات وذلك يوجبُ خفة الذنب ثم إنَّهَا وإن كان كبيرة فبعضها أكبر مِنْ بعض. فصل قال بعضهم: لتمييز الكبيرةِ عن الصَّغيرة بذاتها، وقيل: إنَّما تتميزُ بحسب [حال فاعليها] فالأولون لهم أقوال، أوَّلُهَا: قال ابْنُ عبَّاسٍ: كلُّ ما قرن بذكر الوعيد، فهو كبيرةٌ كالقَتْلِ، والقذف. الثَّاني: عن ابْنِ مسعُودٍ: كلّ ما نهي عنه من أوَّلِ النِّسَاءِ إلى ثلاثة وثلاثين آية فهو كبيرة لقوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} . الثالث: قتل كل عمد فهو كبيرةٌ على الأوَّل لأنَّ كل ذنٍ لا بُدّ أن يكون متعلّق الذَّم عاجلاً، والعقاب آجلاً وهذا يقتضي أنَّ كُلَّ ذنْبٍ كبيرة، وعلى الثَّانِي أنَّ الكبائِرَ مذكورة في سائر السور، فلا معنى لتخصيصها بهذه السُّورة، وعن الثَّالث إنْ أرادَ بالعَمْدِ أنَّهُ ليس بساهٍ فهذا هو الذي نهي عنه، فيكونُ كُل ذنب كبيرة، وإنْ أرَاد انه يَفْعَلُهُ مع العِلْمِ به، فإنَّهُ معصيةٌ فمعلومٌ أنَّ اليَهُودَ والنَّصَارَى يكفُرُونَ بمحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يعلمون أنه معصيةٌ، وذلك كفرٌ وكبيرةٌ، فبطلت هذه الوجوه الثلاثةُ. وأما القولُ الثَّاني أنَّ الكبائر تمتزُ عن الصّغَائِرِ باعْتِبَارِ فاعلها، فهو قَوْلُ مَنْ يقولُ للطَّاعَةِ قدر من الثواب وللمعصية قدر من العقاب فالقِسْمَةُ العقْلِيَّةُ تقتضي أقْسَامَ التَّساوي والتعادل، ورُجْحَان الثَّوابِ، ورجحان العِقَابِ فالأوَّلُ ممكنٌ عقلاً إلا أن الدليل السمعي دلل على أنه لا يوجد لقوله تعالى: {فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير} [الشورى: 7] ولو وجد ذلك لم يكن في الجنَّةِ، ولا في السَّعيرِ. والثَّاني: ينحبط العقابُ بما يُساويه مِنَ الثَّوابِ، والمعصية هي الصَّغيرة تسمى الانحباط بالتَّكفير. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 344 والثَّالثُ: ينحبطُ الثَّوابُ بما يساويه من العقاب، ويسمى الكبيرة، وسمي الانحبَاط بالإحباط، فَظَهَرَ الفرقُ بين الكبيرةِ والصغيرةِ، وهذا قول جمهور المُعتزِلَةِ، وهو مَبْنِيٌّ على أصولٍ باطلةٍ: الأول: أنَّ الطَّاعةَ توجبُ ثواباً والمعصية توجب عقاباً، وهو بَاطِلٌ لما تقدَّم من أنَّ الفعل يتوقَّفُ على دَاعِيَةٍ مِن اللَّه تعالى، وذلك يَمْنَعُ الإيجاب. ولأنَّ من اشْتَغَلَ بالعِبَادَةِ والتَّوحيدِ ثمانين سنة، ثم شَرِبَ قطرة خمر، فإنْ قالوا بالإحْبَاطِ خالف الضرورة والإجماع، وإن خالف وقالوا بترجيح الثَّوابِ نقضوا أصْلَهُم مِنَ التحسين والتقبيح العَقْلِيَّيْن فتبطل قواعدهم. ولأنَّه سمى الله تعالى كبيرة لسابقه [على الطاعة] وموجبة لها [فأوَّلُ واجب] لا يستحقّ ثواباً، فيكون عِقَاب كُلّ معصية أن لا بد مِنْ ثَوَاب فاعلها، فتكون جميع المعاصي كبائر، وهو بَاطِلٌ، وقد تقدَّم القول بإبطال القَوْلِ بالإحْبَاط. فصل قال ابنُ الخطيبِ: الأكثرُونَ على أنَّ اللَّه تعالى لم يُميِّز الكبائِرَ، ولم يُعَيِّنْهَا، قالوا: لأنَّ تمييزها وتعيينها مع إخباره بأن اجتنابها يكفِّر الصَّغَائِرَ إغراء بالإقدام على الصغائر، وذلك قَبيحٌ لا يليقُ بالحكمة، أمَّا إذَا لم يميِّزْهَا، كتحرير كَوْنِ المعْصيَةِ كبيرة زاجراً غن الإقدام عليها كإخفاء ليلة القدر وساعة الجمعة والصلاة الوسطى ووقت الموت مع تجوز تعيين بعض الكبائر كما ورد في الحديث والآيات كما ذكر عن ابن عباس أنها سَبْعَةٌ فقال هي إلى السّبعمائة أقرب. فصل احتج الكعبيُّ بهذه الآية على القَطْعِ بوعيد أصْحَابِ الكبائرِ قال: لأنَّهُ تعالى بَيَّن أنَّ من اجتنب الكبَائِرَ يكفر عنه سيئاته، فَدَلَّ على أنَّ مَنْ لَمْ يَجْتنبها لم تكفَّرْ عَنْهُ، ولو جَازَ أنْ يغفرَ الكبائِرَ، والصَّغائِرَ، لم يَصِحَّ هذا الكلامُ. والجوابُ مِنْ وُجُوهٍ: الأوَّلُ: إنكم إما أن تستدلوا بأن تخصيص الشيء بالذكر يدل على نفي الحكم عما عداه، فذلك باطل عِندْ المُعتزِلَةِ، وعِنْدَنَا دلالتُهُ ظَنيَّةٌ ضعيفةٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 345 وإما أن تستدلوا به من حيث أنَّ المعلق على الشيء بكلمة «إن» عدم عند عدم ذلكَ، فهذا أيضاً ضعيفٌ لقوله تعالى: {واشكروا نِعْمَةَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [النحل: 114] والشكر واجب مطلقاً ولقوله تعالى {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ} [البقرة: 283] وأداء الأمانة واجب مطلقاً ولقوله تعالى {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان} [البقرة: 282] يجوزُ شهادَتُهُم مع وُجُودِ الرِّجَالِ وقوله: {وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] ، {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً} [النور: 33] ، {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] . وقوله {أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا إِنَّ الكافرين} [النساء: 101] . {فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} [النساء: 11] {إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ} [النساء: 35] ، {وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} [النساء: 130] . وهذا كُلُّهُ يَدُلُّ على العدمِ بهذا الكلامِ، والعَجَبُ أنَّ القَاضِي عَبْدَ الجبَّارِ لا يرى أنَّ المعلّق على الشَّيءِ كلمة «إنْ» عدمٌ عنه العدمِ، واسْتَحْسنَ في التَّفْسير استدلاله على الكفر بهذه الآية. الجوابُ الثَّاني: قال أبُو مُسْلِمِ: جَاءَت هذه الآيةُ عقيبَ نِكَاحِ المحرَّمات، وعضل النِّسَاء، وأخذ أمْوالِ اليتامى [وأكل المال بالباطل و] غير ذلك فالمُرادُ إن تجتنبوا هذه الكبائرِ التي نهيناكم عنها، كَفرنَا عنكم سَيِّئاتِكُمْ [أي: ما سلف] من ارتكابها وإذا احْتملَ هذَا؛ لم يَتَعيَّن ما ذكرهُ المعتزِلَةُ، واعترضه القاضي بوجهين: أحدهُمَا: أنَّ الآية عامَّة، فلا تخْصيصَ بِذَلِكَ. الثَّانِي: أن اجتنابهم إمّا أنْ يكُونَ مع التَّوْبَة، والتَّوْبَةُ قد أزالت العقاب أو بدونها، فمن أيْنَ أنَّ اجتنابَ هذه الكبائِر، تُوجِبُ تكفيرَ تلك السَّيّئَاتِ. والجواب عن الأوَّلِ: أنّا لا نَدْفَعُ القَطْعَ بذلك، بل نَقُولُ: هو يحتمل، فلا يَتعيَّن ما ذكرتموه. وعن الثَّاني: أنَّ ما ذكروه لا يَقْدَحُ في الاحتمال المذكور [هنا] . الجوابُ الثَّانِي: أنَّ المَعَاصِي: قد تكُونُ كبيرَة بالنِّسْبَةِ إلى شيء، صغيرة بالنسبة إلى شَيْءٍ آخر، وكذلك العكسُ، فليس ثمّة ما يكونُ كبيرةً مطلقاً، إلا الكُفْر، وأنواعه [ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 346 كثيرة] ، فلمَّا لم يكن المراد إن تجتنبوا الكُفْرَ بأنواعِهِ، يغفر لكم ما وَرَاءَهُ، وهذا احْتِمَالٌ ظاهرٌ مُطابقٌ لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] ، سقط استدلالهم بذلك. فصل قال القرطبِيُّ: قال الأصولِيُّونَ: لا يَجِبُ القَطْعُ بِتكْفيرِ الصَّغائِرِ باجتناب الكبائر، وإنَّمَا محمل ذلك على غلبَةٍ الظَّنِّ، وقوَّةِ الرَّجَاءِ، والمشيئة ثابتةٌ، ودلَّ على ذلك: أنا لو قَطَعْنَا لمجتنب الكبائِرِ، وممتثلِ الفرائِضِ، تكفيرَ صَغَائِرهِ قطعاً؛ لكانت لَهُ في حُكْمِ المُبَاحِ الذي يقطع بأن أتباعه عليه، وذلك نَقْضٌ لعُرَى الشَّريعة، ولا صغيرةَ عِنْدَنَا. قال القُشَيْرِيُّ: والصَّحيحُ أنها كَبَائِر ولكن بعضُهَا أعْظُم وقعاً من بعضٍ، والحكمة في عدم التمييز أن يجتنب العبد جميع المعاصي. قال القرطبي: وأيضاً مَنْ نظر إلى بعض المُخالفَةِ كما قالَ بعضهُمُ: لا تنظر إلى صغر الذَّنْبِ، ولكن انظُرْ مَنْ عَصيتَ [فإن كان الأمْرُ كذلِكَ] كانت الذنوب بهذه النِّسْبَةِ كُلِّها كبائر، وعلى هذا النَّحْوِ يُخَرَّجُ كلامُ القُشَيْريّ، وأبي إسْحَاقَ الإسفراييني والقاضي أبي بَكْرِ بْنِ الطَّيِّب قالوا: وإنَّما يقالُ لبعضها صغيرة بالإضَافَةِ إلى ما هو أكْبرُ منها كما يقالُ: الزنا صغيرة بإضافته إلى الكفر، والقُبْلَةُ المحرَّمَةُ صغيرَةٌ بالنِّسْبَة إلى الزِّنَا، ولا ذنبَ عِنْدَنَا يُغْفَرُ باجْتِنَابِ ذنبٍ آخر، بل كُلُّ ذنْبٍ كبيرةٌ ومرتكبُهُ في المشيئةِ، غير الكُفْرِ لقوله تعالى {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] قالوا: هذه الآية يردُّ إليها جميع الآيات المُطلقةُ، يزيدُ عليها قوله عليه السلام: «من اقْتطعَ حَقَّ امْرِىءٍ مُسْلِمٍ بيمينه فقدْ أوْجَبَ اللَّهُ لَهُ النَّارَ وحرَّمَ عَلَيْهِ الجَنَّةَ فقال رَجُلٌ: يا رسُولَ الله، وإنْ كَانَ شيئاً يَسِيراً فقَالَ: وَإنْ كَانَ قَضِيباً مِنَ أراك» ، فقد جاء الوَعِيدُ الشَّديدُ على اليَسيرِ، كما جَاءَ على الكثير. وقال عبدُ اللَّهِ بْنُ [مسعود: «ما نَهَى اللَّه عنْهُ في تلكَ السُّورَةِ إلى قوله: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} فهو كبيرة. وقال [علي] بن] أبي طلحة: الكبيرة: كلُّ ذنب ختمه اللَّهُ بِنَارٍ، أو غضَبٍ، أو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 347 لَعْنَةٍ، أو عَذابٍ [أو آثامٍ» . وقال الضحاك: «البيرة ما أوعد الله عليه حَدَّا في الدُّنْيَا، وعَذَاباً في الآخرة» . وقال الحُسَيْنُ [بنُ الفضل] : ما سمّاه اللَّهُ في القرآن كَبيراً، أو عظيماً نحو قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [النساء: 2] ، {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} [الإسراء: 31] ، {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، {سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] ، {إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً} [الأحزاب: 53] . وقال سُفْيانُ الثَّورِيُّ: «الكَبَائِرُ هي المظالِمُ بَيْنكَ وبَيْنَ العِبادِ، والصَّغَائِرُ: ما كان بَيْنَكَ وبَيْنَ اللَّهِ، إن اللَّه كَريمٌ يَعْفُو [ويصفح] » . وقال مالك بن مغول: «الكبَائِرُ» ذُنُوبُ أهْلِ البِدَعِ، والسّيئات: ذُنُوبُ أهْلِ السّنة [الصَّغَائِر] «. وقيل:» الكَبَائِرُ ذُنُوب العَمْدِ، والسيئات الخَطأ والنِّسيان، وما أكْره عَلَيْهِ، وحديث النَّفْسِ المرفوعة عَنْ هذه الأمَّةِ «. وقال السُّدِّيُّ: الكَبَائِرُ ما نهى اللَّه عنه من [الذُّنُوب] الكبائر والسَّيِّئات مقدّماتُها وتوابعها، وما يَجْتَمِعُ فيه الصَّالحُ والفاسقُ مثل النَّظْرَةِ، واللَّمْسَةِ، والقُبْلَةِ، وأشباهها. قال عليه السلامُ:» الْعَيْنَانِ تَزْنيانِ، واليَدَانِ تَزْنيانِ، والرِّجْلانِ تَزْنيانِ، وَيُصدِّقُ ذلك الفَرْجُ، أو يُكذِّبُهُ «. وقيل: الكَبَائِرُ الشِّرْكُ، وما يؤدِّي إليْهِ، وما دُونَ الشِّرْكِ، فهو من السَّيِّئاتِ. قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] . قوله: {نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} . قال المفسِّرُون: أي من الصَّلاة إلى الصَّلاةِ، ومن الجُمْعَةِ إلى الجُمْعَةِ، ومن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 348 رَمضَان إلى رمضَان، لقوله عليه السلامُ:» [الصَّلَوَاتُ] الخمسُ والجمعةُ إلى الجُمعةِ ورَمضَانُ إلى رَمضَان مُكَفِّراتٌ لِّمَا بَيْنهُنَّ إذَا اجْتُنِبَتِ الكَبَائِرِ «. {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً} أي حسناً وهو الجنة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 في كيفية النظم وجهان: أحدهما: قال القفَّالُ: «لما نَهاهُم في الآية المُتقدِّمَةَ عن أكل الأمْوَالِ بالباطل، وعن قتْلِ النُّفُوسِ، أمرهم في هذه الآيةِ بما سهَّلَ عليهم تَرْكَ هذه المنهيَّاتِ، وهو أن يَرْضَى كُلُّ واحد بِمَا قسَمَ اللَّهُ، فإنَّهُ إذا لم يَرْض، وَقَعَ في الحَسَدِ، وإذا وقع في الحَسَدِ وَقعَ لا مَحَالَة في أخْذِ الأمْوَالِ بالبَاطلِ، وفي قتل النُّفُوسِ» . الثَّانِي: أنَّ أخْذ الأمْوَالِ بالبَاطلِ، وقتلَ النُّفُوسِ من أعمال الجَوَارِحِ، فأمر أوَّلاً بتركها ليصيرَ الظَّاهِرُ طاهراً عن الأفعال القبيحة، ثُمَّ أمَرَهُ بعْدَهَا بترك التَّعَرُّضِ لِنُفُوسِ النَّاسِ، وأموالهم بالقَلْب على سَبيلِ الحَسَدِ، ليصيرَ البَاطِنُ أيضاً طاهراً عن الأخلاق الذَّمِيمَةِ. فصل في سبب نزول الآية قال مُجاهِدٌ: «قالت أمُّ سلمةَ: يا رسُولَ اللَّهِ، إنَّ الرِّجَالَ يَغْزُونَ ولا نَغْزُو، ولهم ضِعْفُ مَا لَنَا مِنَ المِيراثِ، فلو كُنَّا رجالاً غَزَوْنَا كما غَزَوا، وأخذْنَا مِنَ المِيراثِ مثلما أخذُوا؟ فنزلت هذه الآية» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 349 وقيل: لمّا جَعَلَ اللَّهُ للذَّكر مِثْلُ حَظِّ الانثيين في الميراثِ، قالتِ النِّسَاءُ: نَحْنُ أحْوجُ إلى الزِّيَادةِ مِنَ الرِّجَالِ؛ لأنا ضعفاء، وهم أقْويَاء، وأقدر منا على المَعَاشِ فنزلت الآية. وقال قتَادَةُ والسُّدِّيُّ: لما نزل قوله تعالى: {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} [النساء: 11] ؛ قال الرِّجالُ: إنَّ لنرجو أن نُفَضَّل على النِّسَاءِ بحسناتنا في الآخرة، فيكون أجرنا على الضّعف من أجر النِّسَاءِ كما فُضِّلْنَا عليهنَّ في الميراثِ في الدُّنْيَا، فقال اللَّهُ تعالى: {لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن} [النساء: 32] . وقيل: أتَتِ امْرَأةٌ إلى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالت: رَبُّ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ واحِدٌ، وأنتَ الرَّسُول إليْنَا، وإليهم، وأبونا آدَمُ، وأمُّنا حَوَّاءُ، فما السَّبَبُ في أنَّ اللَّه يَذكُرُ الرِّجَالَ، ولا يَذْكُرُنَا؛ فنزلت الآية، فقالَتْ: وقد سَبَقَنَا الرِّجَالُ بالجهادِ فمَا لَنَا؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ لِلْحَامِلِ مِنْكُنَّ أجْرُ الصَّائِمِ القَائِم، فإذَا ضَرَبَهَا الطَّلْقُ لم يدْر أحدٌ مَا لَهَا مِنَ الأجْرِ، فَإذَا أرْضَعَتْ كَانَ لَهَا بِكُلِّ مَصَّة أَجر إحيَاء نَفْسٍ» . قوله: {مَا فَضَّلَ الله} «ما» موصولة، أو نكرة موصوفة، والعائدُ الهاء في «بِهِ» ، و «بعضكُم» مفعول ب «فَضَّلَ» ، و «عَلَى بَعْضٍ» متعلّق به. فصل قال القرطبِيُّ: التَّمني نوع من الإرادَةِ يَتَعلَّقُ بالمستقبلِ، واعْلَم أنَّ الإنسان إذَا شَاهَدَ أنواع الفَضَائِلِ حاصلة لإنسان، ووجد نَفْسَهُ خالياً عن جملتها، أو عن أكثرها، فحينئذٍ يتألَّمُ قلبه، ثُمَّ يعرض ها هنا حالتان: إحداهما: [أن يتمنى] زوال تِلْكَ السعادات عن ذلك الإنْسَانِ. والأخرى: لا يَتمَنَّى ذلك، بَلْ يَتَمنَّى حصول مثلها له. فالأوَّلُ هو الحَسَدُ المذْمُومُ، والثَّانِي هو الغِبْطَةُ، فأمّا كون الحسد مذموماً؛ فلأن اللَّه تعالى لمّا دَبَّر هذا العَالَم، وأفاض أنواع الكَرَمِ عليهم، فمن تمنى زوال ذلك؛ فكأنه اعْتَرَضَ على اللَّه في فعله، وفي حِكْمَتِهِ، وَرُبَّمَا اعْتَقَدَ في نفسه، أنَّهُ أحَقُّ بتلك النِّعَمِ من ذلِكَ الإنْسَانِ، وهذا اعْتِرَاضٌ على اللَّهِ، فيما يلقيه من الكُفْرِ، وفساد الدِّين، وقطعَ المَوَدَّةِ، والمَحَبَّةِ، وَيَنْقَلِبُ ذلك إلى أضداده. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 350 وأما سبب المنع من الحَسَدِ، فعلى مذهَبِ أهْلِ السُّنَّة، فلأنه تعالى {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] ، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 23] ، ولا اعْتراضَ علَيْه في فعله، وعلى مذْهَبِ المُعتزِلَةِ، فلأنه تعالى علاَّم الغيوب، فهو أعرف من خَلْقِهِ بوجوهِ المَصَالِح، ولهذا [المعنى] قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ} [الشورى: 27] ، فلا بد لِكُلِّ عاقل من الرِّضَا بقضاء اللَّهِ، وممَّا يؤكِّدُ ذلك، قوله عليه السلامُ: «لاَ يَخْطبُ الرَّجُلُ علَى خِطبَةِ أخيه، ولا يَسُومُ عَلى سَوْمِ أخيهِ، ولا تَسْألِ المرأةُ طلاقَ أخْتِهَا لتلقي مَا فِي إنَائِهَا، فإنَّ الله - تعالى - هُو رَازِقُهَا» والمقصودُ من كُلِّ ذلِكَ المُبَالَغة في المَنْعِ مِنَ الحَسَدِ. وَأمَّا الثَّاني، وهو الغِبْطَةُ، فَمِنَ النَّاسِ من جَوَّزَهُ، ومنعه آخرون قالوا: لأنَّهُ رُبَّمَا كانت تلك النِّعْمَةُ مفسدة في دينِهِ، ومضرّة عليه في الدُّنْيَا، ولذلك لا يجُوزُ للإنْسَانِ أنْ يَقُولَ: «اللَّهُمَّ أعطني دَاراً مثلَ دَارِ فُلانٍ، وزوجةً مِثْلَ زوْجَةِ فُلانٍ، بل ينبغِي أنْ يقُولَ: اللَّهُمَّ أعْطِنِي ما يَكُون صَلاَحاً في دِيني ودنياي، وَمَعادي ومَعَاشي» وإذا تأمَّلَ الإنْسَانُ لم يجد دُعَاءً أحْسَنَ مِمَّا ذكرهُ اللَّهُ في القُرآنِ تعْلِيماً لِعبَادِهِ، وهو قوله تعالى: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار} [البقرة: 201] ، ولهذا قال: {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32] . وأمّا من جوّزه فاسْتَدَلَّ بقوله عليه السلامُ: «لاَ حَسَد إلاَّ في اثْنَتَيْن، رَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ الْقُرآنَ، فَهُو يقُومُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، وأطرافَ النَّهَارِ، وَرَجُلٍ آتَاهُ اللَّهُ مَالاً، فهُوَ يَنُفِقُ مِنْهُ آنَاءَ اللَّيْلِ، وأطرافَ النَّهَارِ» فمعنى قوله: «لا حسد» ، أي: لا غبطة أعظم وأفضل مِنَ الغبْطَةِ في هذين الأمْرَين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 351 قال بعضُ العُلَمَاءِ: «النَّهي [عن] التَّمنِّي المذكورِ في هذهِ الآية، هو ما لا يجوزُ تمنِّيه من عَرَضِ الدُّنْيَا، وأشباهها، وأما التَّمني في الأعْمَالِ الصَّالِحَةِ، فحَسَنٌ قال عليه السَّلامُ:» اللَّهُمَّ وَددْتُ أنِّي أحْيَى، ثُمَّ أقتَلُ [ثم أحيي ثم أقتل «] ، وذلك يَدُلُّ على فَضْلِ الشَّهَادةِ على سَائِر أعْمَالِ البِرّ؛ لأنَّهُ - عليه السلامُ - تمنَّاهَا دون غيرها فرزقه اللَّهُ إيَّاهَا لقوله عليه السلامُ:» مَا زَالَتْ أكْلةَ خيبرٍ تعاودني [كُل عامٍ، حتى كان هذا] أوان انقطاع أبْهري «. وفي الصَّحِيح:» إنَّ الشَّهيد يُقالُ لَهُ: تَمَنَّ، فَيقُولُ: أتَمَنَّى أنْ أرجعَ إلى الدُّنْيَا، فأقتَل في سَبيلكَ مَرَّة أخْرَى «وكان عليه السَّلامُ يتمنى إيمانَ أبي طالب وأبي لهب، وصَنَادِيد قُرَيْشٍ، مع علمه بأنَّهُ لا يكونُ. قوله: {بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ} قيل: مِنَ الجِهَادِ. {وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن} ، أي: من طَاعَةِ أزواجهن [وحفظ فُرُوجهِنَّ] . وقيل: ما قدر لهن من الميراث، يجبُ أن يرضوا به، ويتركوا الاعتراض نهى اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - عن التَّمنِّي على هذا الوجه لما فيه من دَوَاعِي الحَسَدِ، ولأنَّ اللَّه - عزّ وجلّ - أعلم بمصالحهم منهم؛ فوضَعَ القِسْمَةَ بينهم مُتَفَاوِتَةً على حَسْبِ ما علم مِنْ مصالِحِهمْ ويكونُ الاكتساب بمعنى: الإصَابَةِ. وقيل: ما يَسْتَحِقُّوهُ من الثَّواب في الآخِرَةِ. وقيل: [المرادُ] الكلُّ؛ لأنَّ اللَّفْظَةَ محتملة ولا منافاة. فصل: إثبات الهمزة في الأمر من السؤال الجمهورُ على إثْباتِ الهمْزَةِ في الأمرِ من السُّؤالِ الموجه نحو المخاطب، إذا تَقدَّمَهُ واو، أو فاء نحو: {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ} [يونس: 94] ، {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} [النساء: 32] ، وابن كثير، والكسَائِي بنقل حركة الهمْزَة إلى السِّين تخفيفاً لكثرة استعماله. فإن لم تتقدَّمه واو، ولا فاء، فالكًُلُّ على النقل نحو: {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 211] ، وإن كان لغائب، فالكُلُّ على الهمز نحو: {وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ} [الممتحنة: 10] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 352 وَوَهِمَ ابْنُ عَطيَّة، فنقل اتِّفَاقَ القُرَّاءِ على الهَمْزِ في نحو: {وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ} [الممتحنة: 10] ، وليس اتفاقهم في هذا، بل في «وليسألوا ما أنفقوا» كما تقدَّم. وتخفيف الهَمْزَةِ لغةُ الحِجَازِ، ويحتملُ أن يكونُ ذلك من لغة من يقُولُ «سَالَ يَسَالُ» بألف مَحْضَةٍ، وقد تقدَّمَ تحقيق ذلك، وهذا إنَّمَا يتأتى في «سَلْ» ، و «فَسَلْ» وأمّا «وسَألوا» ، فلا يَتَأتَّى فيه ذلك؛ لأنَّهُ كان ينبغي أنْ يُقَالَ: سالوا كَخَافُوا، وقد يُقَالُ: إنَّهُ التزم الحذف لكثرة الورود، وقد تقدّم في البَقَرة عند {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 211] . وهو يَتعَدَّى لاثْنَيْنِ، والجلالة مفعول أوّل، وفي الثَّاني قولان: أحدهما: أنَّهُ محْذُوفٌ، فقدَّره ابْنُ عطيَّة: «أمانيَّكم» وقدّره أبُو عليِّ الفارسِيُّ وغيره: شيئاً مِنْ فَضْلِه، فحذفَ المَوْصُوف، وأبْقَى صِفَتَهُ نحو: «أطعمته من اللحم» ، أي: شيئاً منه، و «مِنْ» تبعيضيَّة. والثَّاني: أن «مِنْ» زائدة، والتَّقديرُ: «واسألوا الله فَضْلَهُ» ، وهذا إنَّما يَتَمَشَّى على رَأي الأخْفَشِ لفقدان الشَّرْطَيْنِ، وهما تنكيرُ المجْرُورِ، وكون الكلام [غير موجب] . فصل قال عليه السلامُ: «سَلوا اللَّه مِنْ فَضْلِه، فإنَّهُ يحِبُ أنْ يُسْألَ، وأفْضَلُ العِبَادَةِ انْتِظَارُ الفَرَج» ، وقال - عليه السلامُ -: «مَنْ لَمْ يَسْألِ اللَّهَ يَغْضَبْ عليْهِ» . وقال القُرْطُبِيُّ: «وهذا يَدُلُّ على أنَّ الأمْرَ بالسُّؤالِ للَّهِ تعالى واجبٌ، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الإنسَانَ لا يجوزُ له أنْ يعيِّن شيئاً في الدُّعَاءِ، والطَّلب، ولكن يَطْلُبُ مِنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 353 فَضْلِ اللَّهِ - تعالى - ما يكُونُ سبباً لصلاحِ دينهِ ودُنْيَاهُ» . ثُمَّ قَالَ {إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً} ومعناه: أنَّهُ العالم بما يكونُ صلاحاً للسَّائِلينَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 «جعلنا» فيه سِتَّةُ أوْجُهٍ، وذلك يَسْتَدْعِي مقدِّمَةً قبله، وَهُوَ أنّ «كُلّ» لا بدَّ لَهَا مِنْ شَيْءٍ تُضَافُ إليْهِ. قال القُرْطُبِيُّ: «كُلّ» في كلام العربِ مَعْناهَا: الإحَاطَةُ والعموم، فإذا جَاءَتْ مُفْرَدَة، فلا بدَّ وأن يكُونَ في الكَلاَمِ حَذْفٌ عند جميع النحويين «. واختلفوا في تقديرهِ: فقيل تقدِيرُهُ: ولكلِّ إنسان. وقيل: لِكُلِّ مال، وقيل: لِكُلِّ قوم، فإنْ كانَ التَّقْديرُ: لكل إنسان، ففيه ثلاثة أوجه: أحدُهَا: وَلِكُلِّ إنسانٍ موروثٍ جعلنا موالي، أي: وُرَّاثاً مِمَّا تَرَكَ، ففي» تَرَكَ «ضميرٌ عائد على» كُلّ «، وهنا تمّ الكلام. وقيل: تَقْدِيرُهُ: ويتعلق» مِمَّا تَرَك «ب» مَوَالي «لما فيه من معنى الوراثة، و» موالي «: مَفْعُولٌ أوَّ ل» جَعَلَ «، و» جَعَلَ «بمعنى:» صَيَّر «، و» لِكُلّ «جار ومجرور هو المفعول الثَّاني، قُدِّم على عامِلِهِ، ويرتفع» الوِلْدَان «على خبر مبتدأ محذوف، أو بفعل مقدّر، أي: يرثون مما [ترك] ، كأنه قيل: ومَنْ الوارثُ؟ فقيل: هم الوَالِدَان والأقْرَبُون، والأصل:» وجعلنا لكل ميت وراثاً يرثون مما تركه هم الوالدان والأقربون «. والثَّانِي: أنَّ التَّقديرَ: ولكلِّ إنْسَانٍ موروث، جعلنا وراثاً مما ترك ذلك الإنسان. ثُمَّ بين الإنْسَان المضاف إليه» كُلّ «بقوله: {الوالدان} ، كأنه قيل: ومن هو هَذَا الإنسان الموروث؟ فقيل: الوالدان والأقربُونَ، والإعراب كما تقدَّمَ في الوَجْهِ قَبْلَهُ، إنَّمَا الفرقُ بينهما أنَّ الوالِدَيْنِ في الأوَّلِ وارثون، وفي الثانِي مورثون، وعلى هذيْنِ الوجْهَيْنِ فالكلامُ جُمْلَتَانِ، ولا ضميرَ، محذُوف في» جعلنا «، و» موالي «مفعول أول، و» لكل «مفعول ثان. الثَّالِثُ: أن يكُونَ التَّقدِيرُ: ولكل إنسان وارِث ممَّن تركُ الولِدَانِ والأقْرَبُون جعلنا موالي، أي: موروثين، فَيُراد بالمَولى: الموْرُوثُ، ويرتفع» الوالدان «ب:» ترك «، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 354 وتكون» مَا «بمعنى» مَنْ «، والجارّ، والمجرورُ صِفَةٌ للمضاف إليه» كُلّ «، والكلامُ على هذا جُمْلَةٌ واحِدَةٌ، وفي هذا بُعْدٌ كبير. الرَّابعُ: إذا كان التَّقديرُ وَلِكلِّ قوْمٍ، فالمعنى: ولكل قوم جعلنهم مَوَالي نصيبٌ مِمَّا تَرَكَهُ والدُهم وأقربوهم، ف» لكل «خبر مقدّم، و» نَصِيب «مُبْتَدَأٌ مُؤخَّرٌ، و» جعلناهم «صفة لقوم، والضَّمِيرُ العَائِدُ عليهم مفعولُ:» جعل «، و» موالي «: إما ثانٍ وإمّا حالٌ، على أنَّهَا بمعنى» خلقنا «، و» مما ترك «صفةٌ للمبتدأ، ثم حُذف المُبْتَدَأ، وبقيت صفته، [وحُذِفَ المُضَافُ إليه» كُلّ «وبقيت صفته أيضاً] ، وحُذف العَائِدُ على المَوْصُوفِ. ونظيره: لِكُلِّ خَلَقَهُ اللَّه إنْسَاناً مِنْ رِزْقِ اللَّه، أي: لِكُلِّ أحدٍ خلقه اللَّه إنْسَاناً نَصِيبٌ من رزقِ اللَّهِ. الخَامِسُ: إنْ كَانَ التَّقدِيرُ: ولكلِّ مالٍ، فقالوا: يكون المعنى: ولكلِّ مال مِمَّا تركه الوالدانِ والأقربون جعلنا موالي، أي: وُرَّاثاً يلونه، ويحوزونه، وجعلوا «لِكُلّ» متعلقة: ب «جَعَلَ» ، و «مِمَّا ترك» صفة ل «كُلّ» ، والوالدان فَلعِلٌ ب «تَرَكَ» ، فيكونُ الكلامُ على هذا، وعلى الوجهين قبله كلاماً واحداً، وهذا وإنْ كَانَ حَسَناً، إلاّ أنَّ فيه الفَصْلَ بين الصِّفَةِ والموْصُوفِ بجملةٍ عامِلَةٍ في الموْصُوفِ. قاتل أبُو حَيَّان: «وهو نظير قولك: بكلِّ رَجُلٍ مَرَرْتُ تميميٍّ وفي جواز ذلك نَظَرٌ» . قال شهَابُ الدِّينِ: «ولا يحتاجُ إلى نَظَرٍ؛ لأنَّهُ قد وُجِدَ الفصلُ بَيْنَ الموْصُوفِ والصِّفَةِ بالجملةِ العَامِلَةِ في المُضَافِ إلى المَوصُوفِ، كقوله تعالى: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السماوات والأرض} [الأنعام: 14] ف {فَاطِرِ} صفة ل {الله} ، وقد فُصِلَ [بينهما] ب {أَتَّخِذُ} العامل في {أَغَيْرَ} فهذا أولى» . السَّادسُ: أنْ يكُونَ لكلِّ [مال] مفعولاً ثانياً ل «جعَلَ» على أنَّها تصييرية، و «مَوَالي» مفعول أوَّل، والإعرابُ على ما تقدَّمَ. فصل «المَولى» لفظ مُشْتَرَكٌ بيْنَ مَعَانٍ: أحدها: المعتِقُ؛ لأنَّهُ ولي نعمة من أعتقه، ولذلك سمي مولى النعمة. ثانيها: الْعَبْدُ المُعْتَقُ لاتِّصَالِ ولايَةِ مَوْلاَهُ به في إنْعَامِه عليه، وهذا كما سُمِّيَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 355 الطَّالِبُ غرِيماً؛ لأنَّ له اللُّزُوم والمطالبة بحقِّه، ويسمَّى المطلوب غريماً، لِكونِ الدِّينِ لازِماً له. وثالثها: الحليفُ؛ لأنَّ المحالف يلي أمْرَهُ بِعَقْدِ اليَمينِ. ورابعُهَا: ابْنُ العَمِّ؛ لأنَّهُ يليه بالنُّصْرَةِ. وخامسها: المولى لأنَّ يليه بالنُّصْرَةِ، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} [محمد: 11] . سادسُهَا: العَصَبَةُ، وهو المُرادُ بهذه الآية؛ لقوله عليه السلامُ: «أنا أوْلَى بالمؤمنينَ، مَنْ مَات وتَرَكَ مالاً، فَمَالُهُ لمَوَالِي الْعَصَبَةِ، ومَنْ ترك ديناً؛ فأنَا وَلِيُّه» . وقال عليه السلامُ: «ألْحِقُوا الفَرَائِضَ بأهْلِهَا، فَمَا بَقِيَ فللأوْلَى عصبَةٍ ذكر» . قوله {والذين عَقَدَتْ} في محلّهِ أربعة أوجهٍ: أحدُهَا: أنَّهُ مُبْتدأ والخبر قوله: «فآتوهم» [ودخلت الفاء في الحيز لتضمن الذي معنى الشرط] . الثَّاني: أنَّهُ منصوبٌ على الاشْتِغالِ بإضمار فعلٍ، وهذا أرجحُ مِنْ حَيْثُ إنَّ بَعْدَهُ طلباً. والثَّالِثُ: أنَّهُ مرفوعٌ عطفاً على {الوالدان والأقربون} ، فإن أريدَ بالوالدين أنَّهُم موروثون، عادَ الضَّميرُ من «فآتوهم» على «موالي» وإن أُريد أنَّهُم وَارِثُون جازَ عودُه على «موالي» وعلى الوالدَيْنِ وما عُطِفَ عليهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 356 الرَّابِعُ: أنَّهُ منصوب عطفاً على «موالي» . قال أبُو البَقَاءِ: [أي:] «وجعلنا الذين عاقدتْ وُرّاثاً؛ وكان ذلك ونسخ» ، وردّ عليه أبُو حَيَّان بِفَسَادِ العطْفِ، قال: فإن جُعِل من عطْفِ الجُمَل، وحُذِفَ المفعولُ الثَّاني لدلالة المعنى عليه أمكن ذلك أيْ: جعلنا وُرَّاثاً لكلِّ شَيْءٍ من المال، أو لِكُلِّ إنسان، وجَعلنَا الذِينَ عاقَدَتْ أيمانكم وراثاً وفيه بعد ذلِكَ تَكَلُّفٌ. انتهى. وقرأ عاصمٌ وحمْزَةُ والكسَائِيُّ: «عقدت» والباقون: «عاقدت» بألف وروي عن حمزة التَّشديد في «عقدت» ، والمفاعلة هنا ظَاهِرَةٌ؛ لأنَّ المَرَادَ المخالفة. والمفعولُ محذوفٌ على كُلٍّ من القِرَاءاتِ، أي: عاقدْتَهم أو عَقَدْتَ حِلْفهم، ونسبة المُعاقَدَةِ، أو العَقْدِ إلى الأيمان مجاز، سوَاءٌ أُريد بالأيْمَانِ الجَارِحَة، أم القَسمُ. وقيل: ثمَّ مُضافٌ محذوفٌ، أي: عقدت ذَوُو أيْمَانِكُم. فصل في: «معنى المعاقدة والأيمان» المُعَاقَدَةُ المُحالَفَةُ، والأيْمَانُ جمع يَمينٍ من اليد والقسَمِ، وذلك أنَّهُم كانُوا عند المُحالَفَةُ يأخذُ بعضهُمُ يدَ بَعْضٍ، على الوفَاءِ [والتمسك] بالعهد. فصل الخلاف في نسخ الآية قال بعضهم: إنَّ هذه الآية مَنْسُوخَةٌ، واسْتدلُّوا على ذلك بوجوه: أحدها: أنَّ الرَّجُلَ كان في الجاهلِيَّةِ يُعَاقِدُ غيْرَهُ، فيقُولُ: «دَميَ دمُكَ وسِلْمِي سِلْمُك، وَحَرْبِي حَرْبُكَ، وترثُنِي وَأرِثُك، وَتَعْقِلُ عَنِّي، وأعْقِلُ عنك» ، فيَكُونُ لهذا الحليف السّدس [من] الميراثِ، فذلك قوله: «فآتوهم نصيبهم» ، فنُسِخ ذلك بقوله: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} [الأنفال: 75] ، وبقوله: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: 11] . وثانيها: أنَّ الرَّجُلَ كانَ يتَّخِذُ أجنبياً فيجعله ابْناً له، وَهُمُ المُسَمُّوْنَ بالأدْعِيَاء في قوله تعالى: {أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ} ، وكانوا يتوارثون بذلك، ثم نُسِخَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 357 وثالِثُهَا: أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يُثْبِتُ المؤاخاة بيْنَ الرَّجلين مِنْ أصحابِهِ، وكان ذلك سَبَباً للِتَّوَارُثِ، ثم نسخ. وقال آخرُونَ: الآيةُ غير مَنْسُوخَةٍ. وقال إبْراهيمُ ومُجاهِدٌ: أرادَ: «فآتوهم نصيبهم من النصر والرفادة ولا ميراث» . وقال الجبَّائِيُّ: تقدير الآية: «ولكل شيء مما ترك الوالدان والأقربون» ، «والذين عاقدت أيمانكم» معطوف على قوله: «الوالدان والأقربون» ، وسمى اللَّهُ تعالى الوارث مولى، والمعنى: لا تَدفعُوا المالَ إلى الحليفِ، بل للمولى، والْوَارِثِ. وقال آخرون: المُرادُ ب «الذين عاقدت أيمانكم» الزَّوْجُ، والزَّوْجَةُ، فأراد عقد النِّكاح قال تعالى {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح} [البقرة: 235] وهو قول أبِي مُسْلِم الأصفهانيَّ قال: ونظيره آية المواريث، لما بَيَّنَ آية ميراث الوالدَيْنِ، ذكر معهم ميراثَ الزَّوْجِ، والزَّوْجَةِ. وقيل: أراد بقوله: «الذين عاقدت أيمانكم» : الميراث بِسَبَبِ [الوَلاَء] وقيل: «نزَلَتِ الآيةُ في أبِي بكرٍ الصِّدِّيق، وابنه عبد الرَّحْمن، أمره اللَّه أن يؤتيه نَصِيبَهُ» . وقال الأصمُّ: المُرادُ بهذا النَّصِيب على سبيل الهِبَةِ، والهديَّة بالشيءِ القَلِيلِ كأمره تعالى لمن حَضَرَ القِسمَةَ أن يجعل لَهُ نصيباً كما تقدّم. فصل الخلاف في إرث المولى الأسفل من الأعلى قال جمهور الفُقَهَاءِ: «لا يَرثُ المَولى الأسْفَل من الأعلى» . وحكى الطَّحَاوِيُّ عن الحسن بنِ زيادٍ أنَّهُ قال: «يَرِثُ» ، لما روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ رجُلاً أعتق عبداً له؛ فَمَاتَ المُعْتِق، ولم يترك إلا المُعتَق، فجعل رسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ميراثه للغلام المعتق ولأنَّهُ داخلٌ في عموم قوله: «والذين عاقدت أيمانهم فآتوهم نصيبهم» . وأجيب بأنه لَعَلّ ذلك لما صار لبيت المال دفعه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الغُلامِ لحاجته، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 358 وفقره؛ لأنه كانَ مالاً لا وارث لَهُ، فَسَبيلُهُ أن يُصرف إلى الفُقَرَاءِ. ثم قال تعالى [ {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} [النساء: 48] ثم قال] {إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً} ، وهذه كلمة وعد للمطيعين، ووعيد لِلْعُصَاةِ، والشَّهِيدُ الشَّاهد، والمرادُ إمّا علمه تعالى بجميع المَعْلُومَاتِ، فيكونُ المُرَادُ بالشَّهيدِ العالم، وإمّا شهادته على الخلق يَوْمَ القِيامَةِ، فالمُرَادُ بالشَّهيدِ المخبر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 وجه النَّظْم: أنَّ النِّسَاءَ لمّا تَكلَّمْنَ في تَفْضيل [الله] الرِّجال عليهن في الميراثِ؛ بيَّن في هذه الآيَةِ أنَّهُ إنَّمَا فضَّل الرِّجَال على النِّسَاءِ في الميراث؛ لأنَّ الرِّجالَ قوَّامون على النساء؛ فهم وإن اشْترَكُوا في اسْتِمْتَاعِ كُلّ واحدٍ منهم بالآخر، فاللَّهُ أمَرَ الرِّجَالَ بالْقِيَامِ عليهنَّ والنفقة، ودفع المَهْرِ إليهنَّ. وَالْقَوَّامُ، والقَيِّمُ بمعنى واحد، والقوام أبْلَغُ، وهو القيم بالمصالح، والتَّدْبِيرِ، والتَّأدِيبِ، والاهتمام بالْحِفْظِ. قال مُقَاتِلٌ: «نزلت في سَعْد بْنِ الرَّبيعِ، وكان من النقباء وفي امرأته حبيبةَ بِنْتِ [زَيْدِ ابْنِ خارجة بن أبي زهير] . وقال ابْنُ عَبَّاس، والكلْبِيُّ:» امرأته عَميرَةُ بِنْتُ محمد بْن مَسْلَمةَ، وذلك أنَّها نَشَزَتْ عليه، فَلَطَمَهَا فانْطلقَ أبُوها معها إلى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أفَرْشْتُهُ كريمَتِي فلطمَهَا، وإنَّ أثَرَ اللَّطْمَةِ بَاقٍ في وَجْهِهَا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اقتصِّي منه ثم قال: اصبري حتى أنظر، فنزلت هذه الآية، فقال النبي عليه السلام: أردْنَا أمراً، وأرَادَ اللَّهُ أمْراً، والَّذِي أرَادَ اللَّهُ خَيْر، ورَفَعَ الْقِصَاصَ «. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 359 قوله: {عَلَى النِّسَآءِ} متعلق ب {قَوَّامُونَ} وكذا» بما «والباء للسَّبَبيَّةِ، ويجوز أن تكُونَ لِلْحَالِ، فتتَعلَّق بِمحذُوفٍ؛ لأنَّهَا حَالٌ من الضَّميرِ في {قَوَّامُونَ} تقديره: مُسْتَحِقِّينَ بتفضيل اللِّهِ إيَّاهُمْ، و» مَا «مَصْدَريَّةٌ، وقيل: بمعنى الَّذِي، وهو ضعيفٌ لحذف العائِدِ من غَيْرِ مُسَوِّغ. والبعضُ الأوَّلُ لمُرادُ به الرِّجالُ، والبَعْضُ الثَّاني: النسَاءُ، وعَدلَ عَنِ الضَّميريْن فلم يَقُل: بما فَضَّلَهم اللَّهُ عَلَيْهِنَّ، للإبهام الذي في بَعْض. فصل في دلالة الآية على تأديب النساء دَلَّت الآيةُ عَلَى تأديبِ الرِّجَالِ نساءهم، فإذا حفظن حقوق الرجال، فلا ينبغي أن يسيء الرجل عشرتها. فصل اعلم أن فضل الرجال على النِّسَاءِ من وُجُوهٍ كثيرةٍ؛ بعضها صفات حقيقيَّة , وبعضها أحْكَامٌ شرْعيَّةٌ , فالصِّفَاتُ الحقيقيَّة [أن] عُقُولَ الرِّجَالِ وعُلُومَهُم أكْثَر، وقُدْرَتهم على الأعْمَالِ الشَّاقَّة أكْمَل، وفيهم كذَلِكَ من الْعَقْلِ والْقُوَّةِ والكِتَابَةِ في الغالب والفُرُوسيَّةِ، والرَّمْي، وفيهمُ العُلَمَاءُ، والإمَامَةُ الكُبْرَى [والصغرى] ، والجهادُ والأذانُ، والخطبةُ، والجمعةُ، والاعْتِكَافُ، والشَّهَادَةُ على الحدود والقِصَاص، وفي الأنْكِحَةِ عند بعضِهِم، وزيادة نصيب الميراث، والتَّعْصيب، وتحمل الدِّية في قتل الخَطَأ، وفي القَسَامَةِ، وفي ولايةِ النِّكَاحِ، والطَّلاقِ، والرَّجْعَةِ، وعَدَدِ الأزْوَاجِ، وإليهم الانتساب. وأمّا الصِّفَاتُ الشَّرعيَّةُ فقوله تعالى: {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} والمرادُ: عطية المَهْرِ، والنَّفَقَة عليها، وكُلُّ ذلك يَدُلُّ على فَضْل الرِّجَالِ على النِّسَاءِ. قوله تعالى: {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ} يَتَعَلَّقُ بما تَعَلَّق به الأوَّلُ، و» مَا «يَجُوزُ أنْ تكُونَ بمعنى» الّذِي «من غير ضَعْفٍ؛ لأنَّ للحذف مسوِّغاً، أي:» وبما أنفقوه من أموالهم «. {مِنْ أَمْوَالِهِمْ} متعلّق ب {أَنْفَقُواْ} ، أو بمحذوف على أنَّهُ حال من الضَّمير المحذُوف. فصل قال القُرْطبِيُّ: قوله: {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} يدلُّ على أنَّهُ متى عجز عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 360 نَفَقَتِهَا، لم يَكُن قوَّاماً عليها [وإذا لم يكن قوّاماً] كان لها فَسْخُ العَقْدِ؛ لزوال المَقْصُودِ الَّذي شُرع لأجْلِهِ النِّكَاحُ، فدلَّ ذلك على ثبوت فَسْخِ النِّكَاحِ عند الإعسار بالنَّفَقَةِ، والكِسْوَةِ، وهذا مَذْهَبُ مَالِكٍ والشَّافعيّ، وأحْمدَ. وقال أبو حنيفة: لا يُفْسَخُ لقوله تعالى: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] . قوله: {فالصالحات قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ الله} ] «الصَّالحات» مبتدأ، وما يَعْدَهُ خبران لَهُ، و «للغيب» مُتعلِّق ب «حَافظاتٌ» و «أل» في «الغيب» عوض من الضَّميرِ عند الكُوفييِّنَ كقوله: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] ، أي: رأسي وقوله: [البسيط] 1791 - ب - لميَاءُ في شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ ... وَفِي اللِّثَاتِ وفِي أنْيَابِهَا شَنَبُ أي: لثاتها. والجمهور على رفع الجلالةَ من {حَفِظَ الله} وفي «مَا» على هذه القراءة ثلاثَةُ أوْجُه: أحدُهَا أنَّهَا مَصْدَريَّةٌ، والمعنى: بحظ اللَّه إيَّاهُنَّ أي: بتوفيقه لهن، أو بالوصيَّةِ منه تعالى عليهنَّ. والثاني: أن تكُونَ بمعنى الذي، والعَائِدُ محذوفٌ، أي: بالَّذي حفظه اللَّهُ لَهُنَّ مِنْ مُهُورِ أزواجهِنَّ، والنّفقة عليهن، قاله الزَّجَّاجُ. والثَّالِثُ: أن تكُونَ «مَا» نكرة موصوفة، والعَائِدُ محذوفٌ أيضاً، كما تقرَّرَ في المَوْصُولَةِ، بمعنى الَّذِي. وقرأ أبُو جَعْفَرٍ بنصب الجَلاَلَةِ. وفي «مَا» ثلاثة أوجه أيضاً: أحدُهَا: أنَّها بمعنى الَّذِي. والثَّانِي: [أنها] نكرةٌ موصُوفَةٌ، وفي {حَفِظَ} ضمير يعُودُ على [ «ما» ] أي: بما حفظ من البرِّ والطَّاعَةِ، ولا بدّ من حَذْفِ مضافٍ تقديره: بما حَفِظَ دين اللَّه، أو أمر اللَّه؛ لأنَّ الذَّات المقدَّسة لا يحفظها أحَدٌ. والثَّالِثُ: أنْ تكُونَ «مَا» مَصْدريَّة، والمعنى: بما حفظن اللَّه في امتثال أمره، وَسَاغَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 361 عَوْدُ الضَِّميرِ مُفْرَداً على جَمْعِ الإنَاثِ؛ لأنَّهُنَّ في معنى الجنس كأنه قيل: «فمن صلح» فَعَاد الضَّميرِ مُفْرداً بهذا الاعتبارِ، ورُدَّ هذا الوجه بِعَدَمِ مُطَابَقَةِ الضَّميرِ لما يعودُ عليه وهذا جوابه، وجعله ابْنُ جِنّي مثل قول الشَّاعِرِ: [المتقارب] 1792 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... فإنَّ الحَوَادِثِ اوْدَى بِهَا أي: أوْدَيْنَ، وَيَنْبَغِي أن يُقَالَ: الأصْلُ بما حفظت الله، والحوادث أوْدَتْ، لأنَّهَا يَجُوزُ انْ يَعُودَ الضَّميرُ عَلَى [جمع] الإنَاثِ كَعَوْدِهِ عَلَى الوَاحِدَةِ مِنْهُنَّ، تقول: النِّسَاءُ قَامَتْ، إلاَّ أنَّهُ شَذَّ حذفُ تَاءِ التَّأنيثِ مِنَ الْفِعْلِ المُسْندِ إلى ضَميرِ المُؤنَّثِ. وقرأ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودِ - وهي في مُصْحَفِهِ كَذَلِكَ - «فالصالح قوانت حوافظ» بالتكسير. قال ابْن جني: وهي أشْبَهُ بالمَعْنَى لإعطائِهَا الكَثْرَة، وَهِيَ المَقْصُودَةُ هُنَا، يعني: أن «فَوَاعِل» من جُمُوعِ الكَثْرَةِ، وجمع التَّصحيح جمع قلَّةٍ، ما لم تَقْتَرِنْ بالألف واللاَّمِ. وظاهِرُ عِبَارَةَ أبِي البَقَاءِ أنه لِلقِلَّةِ، وَإنْ اقْتَرَنَ ب «أل» فإنَّهُ قال: وجمع التَّصحيح لا يدلّ على الكثرة بوضعِهِ، وقد استعمل فيها كقوله تعالى: {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} [سبأ: 37] . وفيما قالهُ [أبُو الفتح] وأبُو البقاءِ نَظَرٌ، فإنَّ «الصَّالِحات» في القراءةِ المَشْهُورَةِ مُعَرَّفَةٌ بِأل، وقَد تَقَدَّمَ أنَّه تكُونُ لِلْعُمُومِ، إلاَّ انَّ العموم المفيد للكثرة، ليس مِنْ صيغَةِ الجَمْعِ، بل مِنْ «ألْ» ، وإذا ثَبَتَ أن «الصَّالِحَاتِ» جمع كَثْرَةٍ، لَزِمَ أنْ يكُونَ «قَانِتَات» و «حَافِظَات» للكثرة؛ لأنَّهُ خبرٌ عن الجميعِ، فَيُفِييدُ الكَثْرَةَ، ألا تَرَى أنَّكَ إذا قلت: الرِّجَالُ قَائِمُونَ، لَزِمَ أنْ يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الرِّجَالِ قَائِماً، ولا يجوز أن يكُونَ بعضُهم قاعداً، فإذاً القراءةُ الشَّهيرةُ وافيةٌ بالْمعنى [المقصود] . فصل قال الواحديُّ: لفظ القنُوتِ يُفيدُ: الطَّاعَةَ، وَهُوَ عَامٌّ في طَاعَةِ اللهِ، وطاعة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 362 الأزْوَاجِ، وما حَالُ المرأةِ عِنْدَ غَيْبَةِ الزَّوْجِ فقد وصفها اللهُ بقوله: {قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ} ، واعْلَمْ أنَّ الغيب، خلاف الشَّهَادَةِ، والمعنى: كَوْنُهنَّ حافِظَاتٌ بموجب الغَيْب، وهو أنْ تَحْفَظَ نَفْسَهَا عن الزِّنَا؛ لئلا يلحق الزَِّوْج الغَائب عار الزِّنَا، ويلحق به الوَلَد المتكون من نُطْفَةِ غيرِهِ، وتحفظ ماله لئلا يضيع، وتحفظ مَنْزِلَهُ عَمَّا لا يَنْبَغِي، قال عليه السَّلامُ: «خَيْرُ النِّسَاءِ امرأةٌ إن نَظَرَتْ إلَيْهَا سَرَّتْكَ، وَإنْ أمرتها أطاعَتْكَ، وإنْ غِبْتَ عَنْهَا حَفِظَتْكَ في مَالِكَ ونفسها» وتلا هذه الآية. قوله: {واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} لما ذكر الصالحات ذكر بعده غير الصّالحات فقال: «واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهنّ» والخَوْفُ عِبَارَةٌ عَن حَالَةٍ تَحْصُلُ في القَلْبِ، عند حُدُوثِ أمر مَكْرُوهٍ في المُسْتَقْبل. قال الشَّافِعيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: دَلالَةُ النُّشوُزِ قَدْ تكُونُ قَوْلاً، وقد تكُونُ فِعْلاً، فالقول مثل أن تلبيه إذا دَعَاهَا، وتخْضَعُ لَهُ بالقَوْلِ إذَا خَاطَبَهَا ثُم تغيَّرتْ، والفِعْلُ إن كَانَتْ تَقومُ إلَيْهِ إذَا دَخَلَ عَلَيْهَا، أوْ تُسارعُ إلى أمره وتبادر إلى فراشه باستبشار إذا التمسها، ثم [إنها] تغيرت عَنْ كل ذلك، فهذه إمارَاتٌ دالةٌ على النُّشوزِ، فحينئذٍ ظنَّ نُشُوزهَا، فهذه المقدمَاتُ تُوجِبُ خَوْفَ النُّشُوزِ، وأمّا النشوز فهو مغصية الزَّوْج، وُخَالَفَتَهُ، وأصْلُهُ مِنْ قولهم: نَشَزَ الشَّيْئُ إذا ارتفع، ومنه يُقالُ للأرضِ المرتفعة: «نَشَزٌ» ، يُقَالُ: نَشَزَ الرَّجُلُ ينشِز [وينشُز] إذا كان قاعداً فَنَهض قَائِماً، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ يَرْفَعِ الله} [المجادلة: 11] ارتفعوا أو انهضوا إلى حرب أو أمر من أمور اللهِ تعالى. وقال أبُو منْصُورٍ اللُّغَويُّ: «النُّشُوزُ كرَاهِيَةُ كُل واحد من الزَّوْجَيْنِ صاحِبَهُ، يقال: نَشَزَتْ تَنْشَزُ، فهي نَاشِزٌ بغير هاء، وهي السَّيِّئَةُ العِشْرَةِ» . وقال ابْنُ دُرَيْدٍ: «نَشَزَتْ المرْأةُ، وَنَشَسَتْ، ونَشَصَتْ بمعنى واحد» . قوله: «فعظوهنّ» ، أي: بالتخويف من الله تعالى، فَيُقَالُ: اتَّقي الله فإنَّ عليك حقًّا لي، وارجعي عمّا أنت عليه، واعْلَمِِي أنَّ طاعتي فرضٌ عليك، فإن أصرَّت على النُّشوزِ، فيهجرها في المَضْجَعِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 363 قال ابْنُ عَبَّاسٍ «يوليها ظَهْرَهُ في الفِرَاشِ، ولا يُكَلِّمُها» . وقال غيره: «يَعْتَزِلُ عَنْهَا إلى فِرَاشٍ آخر» . قال الشَّافعيُّ: «ولا يزيد في هجره في الكلام على ثَلاثٍ، فإذَا هجرها في المَضْجَع، فإن كانت تَبْغَضُه، وافقها ذلك الهجران، فيكونُ ذلك دليلاً على كمال النُّشوزِ» . ومنهم من حَمَلَ الهِجْرَانَ في المَضَاجِعِ على تَرْكِ المُبَاشَرَةِ. وقال القرطبي: وقيل: اهْجرُوهُنَّ مِنَ الهُجْرِ، وهو القَبيحُ من الكَلاَمِ، أي: غلظُوا عليْهِنَّ فِي القَوْلِ، ضاجعوهن للجماع وغيره و [قال] معناه سفيان [الثَّوْرِي] ، وروي عن ابْن عَبَّاسٍ. وقيل: شدّوهن [وثاقاً] في بيوتهن، من قولهم: هجر البعيرَ، أي: ربطه بالهجار، وهو حَبْلٌ يُشَدُّ به البعيرُ، وهذا اختِيارُ الطَّبري، وقدح في سائر الأقْوالِ، ورَدَّ عليه القاضِي أبُو بَكْرٍ بْن العَرَبِيّ وقال: «يا لها من هَفْوَة عالمٍ بالقرآن والسُّنَّةِ، والَّذي حملَهُ على [هذا] التأويلِ حديثٌ غريبٌ، رواه ابْنُ وهب عن مالكٍ: أنَّ أسْمَاءَ بنتَ أبي بكر الصّديق امرأةَ الزُّبَيْرِ بنِ العَوّامِ كانت قد نَشَرَتْ على زوجها فقد شعر واحدة بالأخْرَى ثم ضَرَبَهَا» الحديث. فرأى الرَّبط والعقد، مع احْتِمَالِ اللَّفْظِ، مع فعل الزُّبَيْرِ، فأقدم على هذا التَّفْسيرِ «. قال القرطبيُّ: وهذا الهَجْرُ غَايَتُهُ عِنْدَ العُلَمَاءِ شهر، كما فعل النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين أسَرَّ إلى حَفْصَة حديثاً، فأفشته إلى عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -. قوله: {فِي المضاجع} فيه وجهان: أحدها: أنَّ» في «على بابها من الظرفيَّةِ متعلّق ب {اهجروهن} أي: اتركوا مضاجعتهن، أي: النَّوْمَ مَعَهُنَّ دون كلامِهِنَّ ومؤاكلتهنَّ. والثَّاني: أنها للِسَّبَبِ. قال أبُو البقاءِ: {واهجروهن} بسبب المضاجع، كما تَقُولُ: في هذه الجِنَايَةِ عُقُوبَةٌ، وجعل مكي هذا الوجه مُتَعَيِّناً، ومنع الأول، قال: ليس {فِي المضاجع} ظرفاً للهجران، وإنَّمَا هو سَبَبٌ لِهِجْرَانِ التَّخَلُّفِ، ومعناه: فاهجروهنّ من أجل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 364 تخلفهن عن المُضاجَعَةِ معكم، وفيه نَظَرٌ لا يخفى. وكلام الوحِدِي يُفْهِم أنَّهُ يجوزُ تعلُّقه ب {نُشُوزَهُنَّ} ، فإنه قال - بعدما حكى عن ابْنِ عَبَّاسٍ كلاماً -: والمعنى على هذا:» واللاتي تخافون نشوزهن في المضاجع «، والكلامُ الذي حَكاهُ عن ابن عباس هو قوله: هذا كُلُّهُ في المَضْجَعِ، إذا هي عَصَتْ أن تَضْطَجِعَ مَعَهُ، ولكن لا يجوزُ ذلك؛ لئلاّ يلزمَ الفَصْلُ بين المَصْدَرِ ومعموله بأجنبيّ. وقدّر بعضهم مَعْطُوفاً بعد قوله:» واللاتي تخافون «، أي: واللاتي تخافون نشوزهن، ونَشَزْنَ، كأنَّهُ يريد أنَّهُ لا يجوُز. ُ الإقدام على الوَعْظِ، وما بعده بِمُجَرَّدِ الخَوْفِ. وقيل: لا حَاجَةَ إلى ذلك؛ لأنَّ الخَوْفَ بمعنى اليقين [قال تعالى {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً} [البقرة: 182] ، قال ابن عباسٍ: تخافون بمعنى تتيقّنون] ، وقيل: غلبة الظنِّ في ذلك كافِيَةٌ. قوله: {واضربوهن} يعني: أنَّهُنّ [إن] لم ينزعن مع الهجران فاضربُوهُنَّ، يعني ضرباً غَيْرَ مُبَرَّحٍ، ولا شَائِنٍ. قال عَطَاءٌ:» [هو] ضَرْب بالسِّواكِ «. وقال عليه السَّلامُ في حقّ المرْأةِ: «أنْ تُطْعِمَهَا إذَا طَعِمَتْ، وتكسوها إذا اكْتَسَيت، ولا تضرب الوَجْهُ، ولا تهجر إلاَّ في البَيْتِ» . قال الشَّافِعيُّ: يكُونُ دون الأرْبَعينَ. وقال بعضُهُم: لا يَبْلغُ به عِشْرِينَ، لأنَّهُ حدٌّ كامِلٌ في حَقّش العبد، ويكونُ بحيث لا يُفْضي إلى الهَلاَكِ، ويَكُونُ مفرقاً على بدنها، ولا تجوزُ الموالاة في مَوْضِعٍ واحدٍ، ويتقي الوجه. قال بعضُ العُلَمَاءِ: يكُونُ الضَّرْبُ بمنديلٍ مَلْفُوفٍ، أو بِيَدِهِ، ولا يَضْرِبُهَا بالسِّياطِ، ولا بالعَصَا، وبالجملة فالتَّخفيفُ مراعى في هَذَا البَابِ. قال الشَّافعيُّ: «الضَّرْبُ مُبَاحٌ وتركُهُ أفْضَلُ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 365 واختلفوا: هل هذا الحُكْمُ على الترتيبِ، أم لا؟ قال عَلِيُّ بْنُ أبي طالبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يَعِظُهَا بِلِسَانِهِ، فإنْ أبَتْ هَجَرَهَا فِي المَضْجَعِ [فإن أبتْ ضَرَبَهَا] ، فإن لم تَتَّعِظْ بالضَّرْبِ بَعَثَ الحكم [مِنْ أهْلِهِ] . وقال آخرون: هذا الترتيب مراعى عند خَوْف النُّشُوزِ أمّا عند تحقق النشوز، فلا بأس بالجمع بين الكُلِّ. قوله: « [فإن أطعنكم] فلا تبغوا عليهن سبيلاً» في نَصْبِ «سبيلاً» وجْهَانٍ: أحدهما: أنه مفعول به. والثَّانِي: أنَّهُ على إسْقَاطِ الخَافِضِ، وهذان الوَجْهَانِ مبنيان على تفسِير البَغْي هنا ما هو؟ فقيل: هو الظٌّلْمُ من قوله: {فبغى عَلَيْهِمْ} [القصص: 76] ، فعلى هذا يَكُونُ لازِماً، و «سبيلاً» منصوب بإسْقَاطِ الخَافِضِ أي: كسبيل. وقيل: هو الطَّلب، من قولهم: بَغَيْتُه، أي: طلبته، وفي {عَلَيْهِنَّ} وجهان: أحدهما: أنه متعلّق ب {تَبْغُواْ} . والثَّاني: أنَّهُ مُتَعَلِّق بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من {سَبِيلاً} ، لأنه في الأصلِ صفة النكرة قُدِّم عليها. فصل قال بعضُهُم: معناه: لا تتجنّوا عليهنَّ بقولٍ، أو فِعْلٍ. قال ابْنُ عيينَةَ لا تكِّفوهُنَّ محبتكم، فإنَّ القلب ليس بأيديهن، ثم قال تعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} مُتعلياً عن أنْ يكلّف العبادَ ما لا يُطيقُونَهُ، فلذلك لا تُكلفوهنّ محِبَتَكُم، فإنهن لا يطقنَ ذِلكَ. وقيل: إنَّهُ مع عُلُوِّهِ، وكبريائه لا يُؤاخِذُ العَاصي إذَا تَابَ، فأنتم أولى إذا تابت المرأةُ من نُشُوزِهَا بأن تقبلوا تَوْبَتَهَا، وقيل: إنَّهُنَّ إن وضعن عن دَفْعِ ظلمكم فاللهُ سبحانه كبيرٌ عليٌّ قاهر يَنْتَصِفُ لَهُنَّ مِنْكُمْ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 لما ذكر الضربَ ذَكَرَ هذه المحاكمة؛ لأنَّ بها يتبينّ المظلومُ من الظَّالِمِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 366 قال ابْنُ عَبَّاسٍ: {خِفْتُمْ} أي: علمتم قال: وَهَذَا بِخِلافِ قوله تعالى: {واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ} ، فإنَّ ذلك محمول على الظَّنِّ، والفرق بَيْنَ الموضِعَيْنِ في الابْتِدَاءِ يظهرُ له أمارات النُّشُوزِ، فعند ذلِك يحصل الخَوْفُ، وأمّا بَعْدَ الوعْظِ، والهجر والضَّرْبِ إن أصرّت على النُّشُوزِ، فقد حَصَلَ العِلْمُ بالنُّشُوزِ، فَوَجَبَ حملُ الخَوْفِ ههنا على العِلْمِ. وقال لزَّجَّاجُ: القول بأن الخَوْفَ ها هنا بمعنى اليَقِيِنِ خطأ، فإنّا لو عِلِمْنَا الشقاق عَلَى الحَقيقَةِ لم يحتج إلى الحُكمِ، وأُجيبَ بأن وجود الشقاق وإن كانَ مَعْلُوماً، إلاَّ أنا لا نَعْلم أن ذلك الشِّقاق صدر عَنْ هَذَا، أو عَنْ، ذلك، فالحَاجَة إلى الحَكَمِيْنِ لمَعْرِفَةِ هذا المَعْنَى. قال ابْنُ الخَطيبِ: ويمكنُ أن يُقالَ: وُجود الشِّقَاقِ ف بالحَالِ مَعْلُومٌ، ومثل هذا لا يَحْصُلُ منهُ خَوْفٌ، إنَّمَا الخَوْفُ في أنَّهُ هل يَبْقَى ذلك الشِّقَاقُ أم لا، فالفَائِدَةُ في بعث الحكمين لِيْسَتْ إزالة الشِّقَاقِ الثَّابِت، فإنَّ ذلك مُحَالٌ، بل الفائِدَةُ إزالة ذلك الشِّقاق في المُسْتَقْبَلِ. قوله: {شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} فيه وجهان: أحدهما: أنَّ الشِّقَاقَ مضاف إلى «بَيْنَ» ومعناها الظَّرْفِيَّةُ، والأصْلُ: «شقاقاً بينهما» ، ولكنَّهُ اتَّسع فيه، فأضيف الحَدَثُ إلى ظَرْفِهِ وإضافة المصدر إلى الظرف جائزة لحصوله فيه، وظرفيته باقية نحو: سَرَّنِي مسير اللَّيْلَةِ، ويعجبني صَوْمُ يَوْم عَرَفَةَ، ومنه: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} [سبأ: 33] . والثَّاني: أنه خَرَجَ عن الظَّرفيَّةِ، وبقي كَسَائِرِ الأسْمَاءِ، كأنه أُريد به المُعَاشرة، والمصاحبة بين الزَّوْجَيْنِ، وإلى مَيْلِ أبي البقاء قال: والبَيْنُ هنا الوَصْلُ الكائنُ بين الزوجين «وللشقاق تأويلان: أحدهما: أن كل واحد منهما يفعل ما يَشُقُّ على صاحبه. والثاني: أن كل واحد منهما صار في شق بالعداوة والمباينة. فصل [معاني الشقاق] وقد ورد الشِّقاقُ على أربعة أوْجُهٍ: الأوَّلُ: بمعنى الخِلاَفِ كهذه الآية، أي: خلاف بينهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 367 الثَّاني: الضَّلالُ، قال تعالى: {وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} [الحج: 53] أي: في ضلال. الثَّالث: أن الشِّقَاقَ: العداوة قال تعالى: {وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي} هود: 89] أي: عداوتي، و [العداوة] وممّا يشق على صاحبه. الرابع: أنّ كُلَّ واحدٍ منها صار في شقّ بالعداوة، والمباينة. فصل [هل البعث خطاب للإمام أم لآحاد الناس] قوله {فابعثوا} قال بعضهم: هذا خِطَابٌ للإمام، أو نائبة وقال آخرون: هَذَا خطابٌ عامٌّ للجميع، وليس حمله على البَعْضِ أولى من حَمْلِهِ على البَقِيَّةِ، فَوَجَبَ حملُهُ على الكُلِّ، فعلى هذا يكونُ أمراً لآحاد الأمة سواء وجد الإمام، أم لم يُوجَدْ، فللصَّالحين أنْ يَبْعَثُوا حكماً من أهلِهِ، وحكماً من أهْلِهَا للإصلاح، ولأنَّ هذا يَجْرِي مَجْرَى دَفْع الضَّرَر، ولكل أحد أنْ يَقُومَ به. قوله: {مِّنْ أَهْلِهِ} فيه وجهان: أحدُهُمَا: أنه متعلِّق ب {فابعثوا} فهي لابتداء الغاية. والثَّاني: أن يتعلَّق بمحذُوف؛ لأنَّهَا صفة للنكِرَةِ، أي: كائناً من أهله فهي للتَّبْغيضِ. فصل شَرْطُ الحَكَمَيْنِ أن يكونَا عَدْلَيْنِ، ويجعلهما الحَاكِمُ حَكَمَيْنِ، والأولى أنْ يكُونَ [واحد من أهْلِهِ، وواحد من أهْلِهَا، لأنَّ أقاربهما أعرف بحالهما من الأجَانِبِ، وأشدّ طلباً للصلاح، فإن كانا] أجنبيّين [جَازَ] . وفائدة الحكمين أن يخلو كُلّ واحد منهما بِصَاحِبِه، ويستكشف منه حقيقةَ الحَالِ، ليعرفَ رَغْبَتَهُ في الإقَامَةِ معه على النِّكَاحِ، أو المُفَارَقِةِ، ثمَّ يَجتمعُ الحكمان، فَيَفْعَلاَنِ ما هو المَصْلَحَةُ من طلاقٍ، أو خَلْع. وهل للحكمين تَنْفِيذُ أمْرٍ يُلْزِمُ الزَّوِجَيْنِ دون إذْنِهِمَا، مثل: أن يطلق حَكَمُ الرَّجل، أو يفتدي حَكَمُ المرْأةِ بشيءٍ من مالِهَا؟ قال أبُو حَنِيفَةَ: لاَ يَجُوزُ. وقال غيره: يَجُوزُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 368 قوله: {إِن يُرِيدَآ} يَجُوزُ أن يَعُودَ الضميران في {إِن يُرِيدَآ} و {بَيْنَهُمَآ} على الزَّوْجَيْنِ، أي: إن يُرد الزَّوجان إصلاحاً يُوفِّق اللهُ بَيْنَ الزوجين، وأنْ يَعُودا على الحَكَمَيْنِ، وأن يُعودَ الأوَّلُ على الحَكَمَيْنِ، والثَّانِي على الزَّوْجَيْنِ، وأنْ يَكُونَ بالعكس وأُضْمِرَ الزَّوجان وإن لم يجر لهما ذكرٌ لدلاَلَةِ ذِكرِ الرِّجَالِ والنِّسَاءِ عليهما. وجعل أبُو البقاءِ الضَّميرَ في {بَيْنَهُمَآ} عائداً على الزَّوْجَينِ فقط، سَوَاءٌ قيل بأن ضمير {يُرِيدُ الله} عائداً على الحكمين، او الزوجين. فصل قال القُرْطُبِيُّ: ويجزي إرسالُ الوَاحِدِ قال: لأن الله - تعالى - حكم في الزنا بأربعة شهود، ثم أرسل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المرأة الزَّانية أنَيْساً وحده، وقالَ له: «إن اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا» قال: وإذا جَازَ إرسال الواحد فلو حَكَّمَ الزوجان واحداً أجْزَأ إذَا رَضِيَا بذلك، وإنما خاطب الله الحكام دون الزوجين، فإن أرسل الزوجان حَكَمَيْنِ وحَكما نفذ حكمهما؛ لأن التحكيم عندنا جائز، وينفذ فعلُ الحكم في كل مسألة، إذا كان كل واحد منهما عدلاً. وأصل التوفيق المُوافَقَةَ، وهي المُسَاوَاة في أمْرِ من الأمور، فالتَّوْفِيق اللُّطف الذي يتفق عنده فعل الطاعة. ثم قال: {إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً خَبِيراً} والمراد: الوعيد للزَّوْجَيْنِ والحَكَمَيْنِ في طريق سُلُوك المُخَالفِ الحق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 لمَّا أرشد كُلَّ وَاحِدٍ من الزَّوْجَيْنِ إلى المُعَاملة الحسنة [مع الآخر، أرشد في هَذهِ الآية إلى سَائِرِ الأخْلاَق الحَسَنة] وذكر منها [هَهُنا] عَشْرَة أنْوَاع: الأول: قوله - تعالى - {واعبدوا الله} قال ابن عبَّاس: وَحِّدوُهُ، واعلم أن العِبَادة عبارةٌ عن كل عَمَل يُؤْتَى به لمجَرَّد أمْر الله - تعالى - بذلك، ولما أمَر بالعبَادَةِ، أمر بالإخلاصِ فيها: فقال {وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 369 قال القرطُبي: ذكر العُلَمَاء أن من تطهَّر [تَبَرُّداً] أو صام [حميَّة] لِمعدَتِهِ، ويرى مع ذَلِكَ التَّقرُّب لم يُجْزِه؛ لأنه مَزَج [نية] التَّقرُّب بنيَّة دُنْيَويَّة، ولذا إذا أحسَّ الإمام بداخِلٍ وهو رَاكِعٌ لم يَنْتَظِرْه، لأنه يُخْرِج ذكر [الله] بانتظاره عن كَوْنِه خالصاً - لله - تعالى. ثم قال {وبالوالدين إِحْسَاناً} وتقدم الكلام على نظير هذا في البَقَرَةِ، واتَّفقوا على أن ههنا مَحْذوفاً، والتَّقْدير: «وأحسنوا بالوالدين إحساناً» ؛ كقوله: «فضرب الرقاب» أي: فاضْربُوها، وقرأ ابن أبي عَبْلَة: «إحسان» بالرَّفع على أنَّه مُبْتَدأ، وخبره الجَارّ [والمجرور] قَبْلَهُ. والمراد بهذه الجُملَةِ: الأمر بالإحسان وإن كانت خبريةً؛ كقوله - تعالى - {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] . قوله: {وَبِذِي القربى} فأعاد الباء، وذلك لأنها في حق هذه الأمَّة، فالاعتناء بها أكثر، وإعادة الباء تدل على زيادة تأكيد فنتسب ذلك هنا، بخلاف آية البَقَرَة، فإنَّها في حقِّ بني إسْرائيل، والمراد الأمْر بصلَة الرَّحم، كما ذكر في أول السُّورة بقوله: {والأرحام} [النساء: 1] . واعلم أن الوَالِدَيْنِ من القَرَابة أيضاً، إلا أنَّهما لمّا تَخَصَّصَت قرابتهما بكَوْنِهمَا أقرب القَرَابات، لا جرم خصّهما بالذِّكْر. {واليتامى} فاليتيم مَخْصُوص بنوعِيْن من العَجْز: أحدهما: الصِّغر. والثاني: عَدَم المُنْفِق، ومن هذا حَالهُ كان في غَايَة العَجْزِ واستِحْقَاقِ الرحمة. قوله {والمساكين} فالمسْكين وإن كان عدِيم المالِ، إلا أنَّه لكبره يمكنه أن يَعْرض حالَ نَفْسَه على الغَيْرِ؛ فيجتلب به نَفْعَاً أو يدفعَ به ضرراً، وأما اليتيمُ، فلا قُدرة له؛ فلهذا المعنى قدَّم الله اليتيم في الذِّكر على المِسْكِين، والإحْسَان إلى المِسْكِين إما بالإجْمَالِ إلَيْهِ، وإمّا بالرَّدِّ الجميل، لقوله: {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 10] . وقوله: {والجار ذِي القربى} الجمهور على خفض الجارّ، والمراد به القَرِيب النَّسِيب، وبالجار الجُنُب: لبعيد النَّسِيب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 370 وعن مَيْمُون بن مَهْرَان: والجار ذِي القُرْبَى، أُريد به الجارِ القريب، قال ابن عطيَّة: وهذا خطأ؛ لأنَّه على تأويله جمع بين ألَ والإضافة، إذ كان وَجْه الكَلاَمِ: وجار ذي القُرْبَى [الجار القريب] ، ويمكن جوابُه على ان ذِي القُرْبَى، بدل من الجارِّ على حَذْفِ مُضَافٍ، أي: والجار ذِي القُرْبَى؛ كقوله: [الخفيف] . 1793 - نَصَرَ اللهُ أعْظُماً دَفَنُوهَا ... بسجِسْتَانَ طَلحة الطَّلحَاتِ أي: أعْظُم طَلْحَة، [ومن كلامهم] : لو يعلمُون العِلْم الكبيرة سنة، أي: علم الكبيرة سنّه، فحذف البَدل لدلالة الكلام عليه. وقرأ بعضهم: «والجار ذا القربى: نصباً، وخرجه الزَمَخْشَرِي على الاخْتِصَاص لقوله - تعالى -: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] والجُنُب صِفَة على فُعُل، نحو:» ناقة سُرُح «، ويَسْتَوي فيه المُفْرَدَ والمثّنَّى والجُمُوع، مذكراً أو مؤنثاً، نحو:» رجال جنب «وقال - تعالى -: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً} [المائدة: 6] ، وبعضهم يثنيه ويجمعه، ومثله: شُلُل، وعن عَاصِم: والجَار الجَنْبِ، بفتح الجيم وسُكُون النون وهو وَصْفٌ أيضاً بمعنى المُجَانِب، كقولهم: رجل عَدْل، وألفُ الجَار عن واو؛ لقولهم: تجاورُوا، وجَاوَرْتُه، ويُجْمَع على جيرة وجِيَران، والجَنَابَةِ البُعْد؛ قال [الطويل] 1794 - فَلاَ تَحْرمَنِّي نَائلاً عَنْ جَنَابَةٍ ... فَإنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ القبابِ غَريبُ لأن الإنْسَان يُتركُ جَانباً، ومنه {واجنبني وَبَنِيَّ أَن [نَّعْبُدَ الأصنام} ] [إبراهيم: 35] ، وأصله من الجَنَابَة، ضِدّها القَرَابَة، وهو البُعْدُ، يقال: رَجُلٌ جُنُبٌ، إذا كان غريباً مُتَبَاعِداً عن أهله، ورَجُل أجْنَبِيٌّ، وهو البَعيد منك في القَرَابة، ومنه الجَنَابَة من الجِمَاع؛ لتباعده عن الطَّهَارَةِ وعن الصَّلاة حَتَّى يَغْتَسِل، وهذان الجنبانِ؛ لبُعْد كلِّ واحدٍ منهما عن الآخر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 371 فصل: في الإحسان إلى الجار قالت عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -:» يا رسولُ الله، إن لي جارَيْن، فإلى يهما أُهْدِي، قال: إلى أقربِهِمَا منكِ باباً «، وعن ابْن عُمر؛ قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ما زال جِبْريلُ يُوصِيني بالجَارِ، حَتَّى ظَنَنْتُ أنَّهُ سَيُورِّثُهُ «، وقال - عليه السلام -:» لا يَدْخُلُ الجَنَّة من لا يَأمَنْ جَارَهُ بَوائِقَهُ، ألاَ وَإنَّ الجَوارَ أرْبَعُون «وكان الزهري يقول: أرْبَعُون يَمْنَة، وأربعون يَسْرَة، وأربعون أمَامَه، وأرْبَعُون خَلْفه. وعن بي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -:» قيل: يا رسولُ الله، إن فُلانَة تَصُوم النَّهار وتصلي بالَّيْلِ، وفي لِسَانِها شَيءٌ يؤذي جِيرانَهَا، [فقال: «لا يَحْفَظُ] حق الجَارَ إلا مَنْ رَحم الله، وقليل ما هُم، أتدرون ما حَقَّ الجَارِ: إن افْتَقَر أغْنَيْتَه، وإن استقْرَضَ أقْرَضْتَه، وإن أصابه خير هَنَّيْتَه، وإن أصَابه ضَرٌّ عَزَّيته، وإن مَرِضَ عُدْتَه، وإن ماتَ شَيَّعْت جَنَازته» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 372 وقال نَوف الشَّامِي: {والجار ذِي القربى} المُسْلِم، [والجار] الجُنُب: اليَهُودي والنَّصرَاني. قال القرطبي: وعلى هذه فالوصاية بالجارِ، مأمورٌ بها مَنْدُوب إليها، مسلِماً كان أو كَافِراً، وهو الصَّحيح، والإحْسَان قد يكون بِمَعْنَى المُواسَاة، وقد يكون بِمَعْنَى حُسْن العِشْرَةِ، وكَفّ الأذَى، والمُحَامَاة دُونَه. وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «الجيرَان [ثلاثة:] فجارٌ له ثلاثة حُقُوقٍ، وجار له حَقَّان وجارٌ له حَقٌّ واحد» . فأما الجار الَّذِي له ثلاَثَةُ حُقُوقٍ: فالجار القَريب المُسْلِم، له حقُّ الجِوار، وحق القَرَابَة، وحَقّ الإسْلام. والجارُ الذي له حَقَّان: فهو الجَار المُسْلِم فله حق الإسلام، وحق الجِوارِ. والجار الذي له حَقٌّ واحد: هو الكَافِر، له حق الجِوَار. وقال بَعْضُ العُلَمَاءِ: {والجار ذِي القربى} هو القريب المَسْكَن منك، {والجار الجنب} هو البعيد المَسْكَن منك. قال القَرْطُبِي: وأحَاديثُ إكرامِ الجَارِ جاءت مُطْلَقَةٌ غير مُقَيَّدة، حتى الكَافِر وفي الخبر «قالُوا: يا رسولُ الله، أنطعمهم من لُحُوم النُّسُك؟ قال:» لا تطعم المشركين من نسك المسلمين «فنهيه - عليه السلام - عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 373 إطْعَام المُشْرِكين من نُسُك المُسْلِمِ، يحتمل النُّسُك لوَاجب الذي لا يجُوزُ للنَّاسِك أن يَأكُل مِنْهُ، ولا أن يُطْعِمَهُ الأغْنِيَاء، فأما غير الوَاجِبِ الذي يُجْزِيه إطعام الأغنياء، فيجوز أن يُطعِمَهُ أهْل الذِّمَّة» قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لِعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - عند تفريقِ لَحْمِ الأضحِيَة: «أهْدِي جَارَنَا اليَهُودِيّ» . قوله: {والصاحب بالجنب} قال مُجاهد، وابن عبَّاس، وعِكرمة، وقتادة: يعني: الرفيق في السَّفَر، وقال عَلِيّ وعبد الله، والنَّخعِي: وهو المرْأة تكون إلى جِنْبِهِ. وقال ابن جُرَيْج، وابن زِيْد: هو الذي يَصْحَبُك رجاء نَفعِك، وقيل: هو الَّذِي صحبك إما رفيقاً في سَفَرٍ، وإما جًاراً مُلاصِقاً، وإما شريكاً في تَعَلُّم أو حرْفَة، وإما قاعداً إلى جَنْبِك في مَجْلس وَاحِدٍ أو مَسْجِد أو غير ذلك، من أدنى صُحْبَة التأمَت بينك وبَيْنَهُ. وقوله: {بالجنب} في الباء وجْهَان: أحدهما: أن تكون بمعنى «في» . والثاني: أن تكون على بَابِها وهو الأوْلَى، وعلى كلا التَّقْدِيرَيْن تتعلّق بمحذُوف؛ لأنها حَالٌ من الصَّاحِبِ. قوله: {وابن السبيل} قيل: هو المُسافِرِ الذي انْقَطع عن بلده، وقيل: هو الضَّيْف، قال - عليه السَّلام -: «من كان يُؤمِن بالله واليَوْمِ الآخر فليُكْرِم ضَيْفَهُ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 374 وقوله: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْْ} [النساء: 3] يجوز أن يُرَاد ب «ما» غير العَبِيد والإمَاء حَمْلاً على الأنْوَاع؛ لقوله - تعالى - {مَا طَابَ لَكُمْ} [النساء: 3] وأن يكون أُريد جميع ما مَلَكَهُ [الإنسان] من الحَيَوانات، فاختلط العَاقِلُ بغيره، فأتى ب «ما» . فصل روت أمّ سَلَمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «قالت: كان النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولُ في مَرَضِه:» الصَّلاة وما ملكت أيمانكم «، وقال - عليه السلام -:» هم إخْوَانكُم جَعَلهم الله تَحْتَ أيْديكم، فمن جعل الله أخَاه تحت يَده، فَلْيُطْعِمْه ممّا يأكُل، وليلبسه مما يَلْبِس، ولا يُكَلِّفْه من العَمَل ما يغلبه [فإن كَلَّفَهُ مَن العَمَل مَا يغلبه] فَلْيُعِنْهُ عليه «. ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} : المُخْتَال هو ذُو الخُيَلاَء والكِبْر. قال أهل اللغة: هو التيَّاه، والمُخْتَال اسم فاعِلٍ من اخْتَال يَخْتَال، أي: تَكَبَّر وأعْجِب بنَفْسِهِ، وألفهُ عن ياءٍ؛ كقولهم: الخُيَلاَءُ والمَخِيلَة، وسُمِع أيضاً: خَالَ الرَّجُل يخال خَوْلاً بالمعنى الأوَّل، فيكون لهذا المَعْنَى مَادَّتَان خَيْلَ وَخَوَلَ. قال ابن عبَّاس:» يريد المُخْتَال العَظِيم في نَفْسِهِ، الذي لا يَقُوم بحقُوقُ أحَد «. والفَخُور صيغة المُبَالَغَة، وهو الَّذِي يعد مَنَاقِبَ نَفْسِه ومحاسنه، وقال ابن عبَّاس: الفَخُور الذي يَفْخَر على عِبَاد الله بما أعْطَاه من أنْواع نِعَمِهِ. وقال - عليه السلام -:» بينما رجل يتبختر في بردين، وفد أعْجِبَتْه نَفْسُه، خسف الله به الأرْض، فهو يتجْلجَل فيها إلى يَوْم القِيِامَةِ «. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 375 وقال - عليه السلام -:» لا يَنْظُر الله إلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيْلاَء يوم القِيامَة «. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 في: {الذين يَبْخَلُونَ} سَبْعَة أوجه: أحدها: أن يكُون مَنْصُوباً بدلاً مِنْ «مَنْ» ، وجُمِعَ حَمْلاً على المَعْنَى. الثاني: أنه نَصْب على البَدَل من {مُخْتَالاً} وجُمِعَ أيضاً لما تقَدَّم. الثالث: أنه نُصِبَ على الذَّمِّ. قال القرطبِي: ويجوز أن يكُون مَنْصوباً بإضْمَار «أعْنِي» ، وقالَ: ولا يجوز أن يكون صِفَة؛ لأن «مَنْ» و «ما» لا يوصفان ولا يُوصَفُ بهما. الرابع: أنه مُبْتَدأ وفي خَبَره قولان: أحدُهُما: محذوف فَقَدَّرهُ بعضُهم: «مبغضون» لدلالة «إن الله لا يحب» [وبعضهم:] «معذبون» ؛ لقوله: «وأعتدنا للكافرين عذاباً» . وقدَّره الزمخشري «أحقَّاء بكل مَلاَمَة» ، وقدره أبو البَقَاء: أُولَئِكَ أوْلِيَاؤُهُم الشَّيْطَان. والثاني: أن قوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] ويكون قوله: [ {والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس} ] [النساء: 38] عطفاً على المُبْتدأ والعَائِد مَحْذُوفٌ، والتقدير: الذين يَبْخَلُون، والَّذين يُنْفِقُون أموالهم، [رئاء النَّاسِ] {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] ، [أو مثقال ذرة] لَهُم، وإليه ذَهَب الزَّجَّاج وهذا متكَلَّف جدًّا؛ لكثرة الفَواصِل ولقَلَقِ المَعْنَى أيضاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 376 الخامس: أنه خبر مُبْتَدَ مُضْمَر، أي: هم الذين. السادس: أنه بَدَلٌ من الضَّميرِ المستكن في {فَخُوراً} ذكره أبو البَقَاء، وهو قلق. السابع: أنه صِفَة ل «مَنْ» ؛ كأنه قيل: لا يُحِبُّ المختالَ الفَخْور البَخِيل. وفي البخل أرْبَع لُغاتٍ: فتح الخَاءِ والبَاء مثل الكَرَم، وبها قرأ حَمْزَةُ والكسائي، وبِضمِّهَا ذكره المُبرِّد، وبها قرأ الحَسَنُ وعِيسَى بن عُمَر، وبفتح البَاءِ وسُكُون الخَاء، وبها قرأ قتادةُ وابن الزبير، وبضم الباء وسكون الخاء، وبها قرأ الجمهور. والبُخْلُ والبَخَلُ؛ كالحُزْنِ والحَزَن، والعُرْبِ والعَرَبِ. قوله: {بالبخل} فيه وجْهَان: أحدهما: أنه متَعلِّق ب «يَأمُرُونَ» ، فالبَاء للتَّعْدِية على حَدّ أمرتك بِكَذَا. والثَّاني: أنها باء الحاليّة والمأمور مَحْذُوف، والتَّقْدير: ويأمرون النَّاسَ بشكرهم مع التباسِهِم بالبُخل، فيكون في المعنَى؛ لقولا الشَّاعر: [البسيط] 1795 - أجْمَعْتَ أمْرَيْنِ ضَاعَ الحَزْمُ بَيْنَهُمَا ... تِيهَ المُلُوكِ وأفْعَالَ المَمَالِيكِ فصل قال الواحدي: البُخْلُ في كلامِ العَرَب عبارة عن مَنْع الإحْسَان، وفي الشَّرِيعَةِ عبارة عن مَنْعِ الوَاجِبِ. قال ابن عبَّاس: نزلت في اليَهُود، بخلوا بِبَيَان صِفَة محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكَتمُوها. وقال سعيد بن جبير: هَذَا في كِتْمَان العِلْمِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 377 وقال ابن عبَّاسٍ وابن زيد: نَزَلَتْ في كردم بن يزيد، وحُيَيٍّ بن أخْطَب، ورِفَاعة بن التَّابُوت وأسَامة بن حَبِيبٍ، ونَافِع بن أبِي نافع، وبحري بن عمرو، وكانُوا يأتُون رجالاً من النْصَارِ يُخَالِطُونَهُم، فيقولون: لا تُنْفِقُوا أموالكُم، فإنّا نَخْشَى عليكم الفَقْرَ ولا تَدْرُون مَا يَكُون، فأنزل هذه الآية. وقيل: إنها عَامَّة في البُخْلِ بالعِلْم والدِّين والمَالِ: لأن البخل مَذْمُومٌ واللفظ عامٌّ. قال القرطبي: والمراد بهذه الآيَةِ في قَوْل ابن عبَّاس وغيره: اليَهُود؛ لأنهم جمَعُوا بين الاختيال والتَّفاخر، والبخل بالمَالِ، وكِتْمَان ما أنْزَل الله في التَّوْرَأة من صِفَةِ محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقيل المراد: المُنَافقُون الذي كان إنْفاقهم وإيمانهم تقية. قوله: {وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ} يعني المال، وقيل: يَبْخَلُون بالصَّدَقَة، وقوله: {مِن فَضْلِهِ} ، يجوز أن يتعلَّق ب {آتَاهُمُ} أو بمَحْذُوف على أنه حالٌ من «مَا» ، أو من العَائِد عَلَيْها. قال تعالى {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} فصَّل الله - تعالى - تَوعُّدَ المؤمنين البَاخِلين من تَوَعُّد الكَافِرِين، بأن جعل الأوَّل عدم المَحبَّة، والثّضاني عذاباً مُهِيناً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 قوله: {والذين يُنْفِقُونَ} فيه ثلاثة أوْجُه: أحدها: أن يكون مَرْفُوعاً عطفاً على {الذين يَبْخَلُونَ} ، والخبر: أن الله لا يَظْلِم كما تقدم وصفه. والثاني: مجرور عَطْفاً على {االكافرين} أي: أعْتَدْنا للكافِرِين، والذين يُنْفِقُون أموالهم رئاء النَّاسِ، قاله ابن جَرِير. الثالث: أنه مُبْتَدأ، وخبره مَحْذُوف، أي: معذَّبُون أو قَرِينُهم الشَّيْطَان، فعلى الأوَّلَيْن يكون من عَطْف المُفردات، وعلى الثالث من عَطْفِ الجُمَل. قوله: {رِئَآءَ الناس} فيه ثلاثة أوْجُه: أحدُها: أنه مَفْعُول من أجْلِه، وشُرُوط النَّصْبِ متوفِّرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 378 الثاني: أنه حَالٌ من فَاعل «ينفقون» يعني: مصْدراً واقعاً مَوْقع الحالِ، أي: مرائين. والثالث: أنه حَالٌ من نَفْس المَوْصُول، ذكره المَهْدَوي، و «رئاء» مصدر مُضَافٌ إلى المَفْعُول. فصل قال الوَاحِدِي: نزلت في المُنَافِقِين وهو الوَجْه لذكر الرِّيَاء، وهو ضرْب من الإنْفَاقِ، وهو قول السدي، وقيل: نزلتْ في اليَهُود وقيل: نزلَتْ في مُشْرِكِي مكَّة المُنْفِقِين على عَداوَة الرَّسُول - عليه السلام -. قال ابن الخَطِيب: والأوْلَى أن يُقَال: إنه - تعالى - لمَّا أمر بالإحْسَان إلى المُحْتَاجِين، بين أن المُمْتَنِعِ من ذَلِكَ قِسْمَان: إما بألاّ يُعْطي شيئاً، وهو البُخْل فَذَكَرَهُ. وإما بأن يُعْطِي رياءً وسُمْعَةً؛ فهذا أيضاً مذمومٌ، فلم يَبْقَ إلا الإنْفَاق للإحْسَان. وقوله: {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مُسْتأنف. والثاني: أنه عَطْف على الصِّلة، وعلى هذين الوَجْهَيْن، فلا مَحَلَّ له من الإعْرَابِ. والثالث: أنه حالٌ من فاعل يُنْفِقُون، إلا أن هذين الوَجْهَيْن الأخيريْن، أعني: العطف على الصِّلة، والحالية مُمْتَنعان على الوجْه المَحْكِيّ عن المَهْدَوي، وهو كون «رئاء» حالاً من نَفْسِ المَوْصُول؛ لئلا يَلْزَم الفَصْل بين أبعاض الصِّلة، أو بين الصِّلة ومعمولها بأجْنَبِيّ، وهو «رِئَاءَ» ؛ لأنه حَالٌ من المَوْصُول لا تعلُّق له بالصِّلَة، بخلاف ماع إذا جَعَلْنَاه مَفْعُولاً [له] أو حَالاً من فَاعِل {يُنْفِقُونَ} فإنَّه على الوَجْهَين معمول ل {يُنْفِقُونَ} فليس أجْنَبِيّاً، فلم يُبَالَ بالفَصْل به، وفي جَعْلِ {وَلاَ يُؤْمِنُونَ} حالاً نَظرٌ؛ من حَيْث أن بَعْضهم نَصَّ على أنَّ المُضَارع المُنفِيّ ب «لا» كالمُثبت؛ في أنَّه لا يَدْخل عَليْه واو الحَال، وهو مَحَلُّ تَوَقُّف، وكرِّرت لا في قوله - تعالى -: {وَلاَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 379 يُؤْمِنُونَ [بالله وَلاَ] باليوم الآخر} ؛ وكذا الباء إشعاراً بأنَّ الإيمان مُنتفٍ عن كلِّ على حدته [كما] لو قُلت: لا أضرب زيداً أو عَمْرًا، احْتمل في الضَّرْب عن المَجْمُوع، ولا يَلْزَم منه نَفْي الضَّرْب عن كل وَاحِدٍ على انْفِرَادِه، [واحتمل نَفْيه عن كُلِّ واحِدٍ بالقرآنِ] . وإذا قُلْت ولا عَمْراً، تعيَّن هذا الثَّاني. قوله - تعالى -: {وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً} : قوله: {وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً} أي: صاحِباً وخَليلاً، والمَعْنى: أن الشَّيْطَان قَرين لأصْحَاب هذه الأفْعَالِ. قال القرطبي: في الكلام إضْمَار، تقديره: {وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} فَقَرينُهُم الشَّيْطَان {وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً} . قوله: {فَسَآءَ قِرِيناً} وفي «فساء» هذه احتمالان: أحدهما: أنَّها نقلت إلى الذَّمِّ، فجرت مُجْرى «بِئْسَ» ، ففيها ضَميرٌ فاعلٌ لها مُفَسِّر بالنكِرَة بعده، وهو {قِرِيناً} والمخصُوص بالذَّمِّ مَحْذُوف، أي: فَسَاءَ قريناً هُوَ، وهو عائد [إما] على الشَّيْطَان، وهو الظَّاهِر، وإمَّا على «مَنْ» ، وقد تَقَدَّم كم نِعْم وبِئْس. الثاني: على بابها، فهي مُتَعَدِّية، ومَفْعُولها مَحْذُوف، و «قريناً» على هذا مَنْصُوب على الحَالِ أو على القَطْعِ، والتَّقدير: فساءَهُ، أي: فساء الشَّيْطَان مُصَاحَبَة؟ قال القُرْطُبِي: {قِرِيناً} مَنْصوب على التَّمييز، واحتجُّوا للوجْه الأوَّل بأنَّه كان يَنْبَغِي أن يحذف الفَاءَ من «فَسَاءَ» ، أو تَقْتَرِن به «قَدْ» ، لأنه حينئذٍ فِعْل مُتَصرِّف ماض، وما كان كذلِك ووقع جواباً للشَّرْط، تَجَرَّد من الفَاءِ أو اقْتَرَن ب «قد» ، هذا معنى كَلاَم أبِي حيَّان. قال شهاب الدين: وفيه نَظَر؛ لقوله - تعالى -: {وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 90] {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27] مما يُؤوّل به هذا ونحوه يَتَأوّل به هذا، وممَّن ذَهَب إلى أن {قِرِيناً} منصوب على الحالِ ابن عَطِيَّة، ولكن يُحْتَمل أن يكُون قَائِلاً بأن «سَاءَ» متعدِّيَة، وأن يكون قَائِلاً برأي الكُوفيِّين، فإنَّهم يَنْصُبُون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 380 ما بَعْدَ [نِعْمَ] و «بِئْسَ» على الحَالِ. والقَرِين: المُصَاحِب [الملازِم] وهو فعيل بِمَعْنَى مُفَاعِل: كالخَليطِ والجَليسِ، والقَرَنُ: الحَبْل؛ لأنه يُقْرَنَ به بَيْنَ البعيريْن قال: [البسيط] 1796 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَابْنُ اللَّبَون إذَا مَا لُزَّ فِي قَرَنٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 قوله: «وماذا عليهم» . قد تقدم الكلام على نَظِيرتِها، و «ماذا عليهم» استفهام بمعنى الإنكار. قال القرطبي: «ما» : في موضع رفع بالابتداء، و «ذا» خبره، و «ذا» خبره، و «ذا» بمعنى الَّذِي، وهذا يحتمل أن يكُون الكلام قد تَمَّ هنا، ويجوز أن يكونُ «وماذا» اسماً واحداً، ويكون المَعنى أي: وأيُّ شيء عليهم في الإيمانِ باللهِ، أو ماذا عَلَيْهم من الوَبَال والعَذَابِ يَوْم القِيَامَة. ثم استأنف بقوله: {لَوْ آمَنُواْ} ويكُون جَوَابُهَا مَحْذُوفاً، أي: حصلت لهم السَّعَادة، ويحتمل أن يَكُون [تمام] الكَلاَمب «لو» ومَا بَعْدَها، وذلك على جَعْل «لو» مصدريَّة عند من يُثْبِتُ لها ذلك، أي: وماذا عليهم في الإيمان، ولا جَواب لها حينئذٍ، وأجاز ابن عطيَّة أن يَكُون {وَمَاذَا عَلَيْهِمْ} جواباُ ل «لَوْ» ، فإن أراد من جهة المَعْنَى فمُسلَّمٌ وإن أرادَ من جهة الصِّنَاعة فَفَاسِدٌ؛ لأن الجواب الصِّنَاعي لا يتقدّم عند البَصْرِيِّين، وأيضاً فالاستفهام لا يُجَاب ب «لو» ، وأجاز أبُو البَقَاء في «لو» أن تكُون بمعنى «إن» الشَّرطيّة؛ كما جاء في قوله: {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} [البقرة: 221] أي: وأيُّ شيءٍ عليهم إن آمَنُوا. قال الجبائي: ولو كانوا غَيْرَ قَادِرين، لم يجز أن يقُول الله ذلِك؛ كما لا يُقالُ لمن هُو في النَّار مُعَذِّب: ماذا عليهم لَوْ خَرَجُوا مِنْها، وصَارُوا إلى الجَنَّة، وكما لا يُقال للجَائِع الذي لا يَقْدِر على الطَّعام: ماذا عَلَيْه لو أكَل. [وقال الكعبي] لا يجوز أن يَمْنَعه القُدْرة، ثم يَقُول: ماذا عَلَيْه لو آمَنَ، كما [لا] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 381 يقال لمن بِه مَرَضٌ: ماذا عليه لَوْ كَانَ صَحِيحاً، ولا يُقَال للمرأة: ماذا عليها لو كَانَت رَجُلاً، وللقَبيح: ماذا عَلَيْه لو كان جميلاً كما لا يَحْسُن هذا القَوْل من العَاقِل، كذلك لا يَحْسُن من الله - تعالى -. وقال القَاضِي عبد الجَبَّار: لا يُجوز أن يأمر العاقل وكيله بالتَّصرُّف في الصَّفَقَة، ويَحْبِسهُ بحيث لا يتمكَّنُ من مُفارقة الحَبْس، ثم يقولُ لَهُ: مَاذَا عليك لو تصَرَّفْت، وإذا كان من يَذكر مثل هذا الكلام [سفيهاً] دل ذلك على أنَّه على الله - تعالى - غير جَائِزٍ واعلم أن مِمَّا تمسَّك به المُعْتَزِلة من المَدْح والذَّمِّ والثَّواب والعِقَاب، معارضتهم بمسْألة العِلْم والدَّاعِي. قال ابن الخَطِيب: قد يَحْسُن منه ما من غيره؛ لأن المُلْك مُلْكُه. ثم قال: {وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً} أي: عليم ببواطنِ الأمُور كما هو عَليمٌ بِظَاهِرِها، وهذا كالرَّدْع للمكلَّف عن القَبَائح من أفْعال القُلُوبِ؛ مثل النِّفاق والرِّيَاء والسُّمْعَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 لمّا بيَّن أنه عَلِيم ببَواطِنِهم وظَواهِرِهم، بيَّن أنَّه كما علمها، لا يَظْلِم مثقال ذرَّة منها. قوله: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} فيها وَجْهَان: أحدهما: أنه مَنْصُوب على أنه نَعءت لمصْدر مَحْذُوف، أي: لا يَظْلِم أحَداً ظُلْمَاً وَزْن ذَرَّة، فحذف المفْعُول والمَصْدر، وأقام نَعْتَه مَقَامه، ولمّا ذكر أبو البقاء هذا الوَجْه، قَدَّر قبله مُضَافاً مَحْذُوفَاً، قال تقْدِيره: ظلماً قَدْر مِثْقال ذرَّة، فحذفَ المَصْدر وصِفَتَه، وأقَام المُضَاف إلَيْه مَقَامَه، ولا حاجة إلى ذلك؛ لأن المثْقال نفسه هو قَدَرٌ من الأقْدَار، جُعِل مِعْيَاراً لهذا القَدَر المَخْصُوص. والثاني: أنه مَنْصُوب على أنه مفعول ثانٍ ل «يظلم» ، والأوّل، مَحْذُوف؛ كأنهم ضَمَّنُوا «يظلم» معنى «يغضب» أو «ينقص» فعَدُّوهُ لاثنين، والأصْل أن الله لا يَظْلِمُ أحَدَاً مِثْقَالَ ذَرَّة. والمِثْقَال مِفْعَال من الثِّقَل، يُقال: هذا على مثال هَذَا، أي: وَزْنه، ومعنى الآيَةِ: أنه - تعالى - لا يَظْلَمِ أحداً لا قَلِيلاً ولا كَثِيراً، وإنما أخْرَجَهُ على أصْغَر ما يتعارَفَه النَّاس، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 382 ويُؤيِّده قوله - تعالى -: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً} [يونس: 44] والذَّرَّة، قال أهل اللُّغَة: هي النَّمْلَة الحمراء، وقيل: رَأْسُها، وقيل: الذَّرَّة جُزْء من أجْزَاء الهَبَاء في الكوة، ولا يَكُون لها وَزْن. وروي أن ابْن عبَّاس أدْخَل يَدَه في التُّرَاب، ثم رَفَعَها، ثم نَفَخَ فيها، ثم قال: كل وَاحِدٍ من هَذِه الأشْيَاء. والأول هو المَشْهُور: لأن النَّمْلَةَ يُضْرب بها المثل في القِلَّة، وأصغر ما يَكُون إذا مرّ عليها حَوْل، وقالوا: لأنَّها حينئذٍ تَصْغُرُ جِدَّاً. قال حَسّان: [الخفيف] 1797 - لَوْ يَدِبُّ الحَوْليُّ مِنْ وَلَدِ الذَّرْ ... رِ عَلَيْهَا لأندَبَتْها الكُلُومُ وقال امْرُؤُ القَيْس: [الطويل] 1789 - مِنَ القَاصِرَاتِ الطَّرْفِ لَوْ دَبَّ مُحْوِلٌ ... مِنَ الذَّرِّ فَوْقَ الإتْبِ مِنْهَا لأثَّرَا فصل روي مُسْلِم عن أنس؛ قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا يَظْلِمُ اللهُ مُؤْمِناً حَسَنَة، يُعْطَى بها [في الدُّنْيَا] ويُجْزَى بها في الآخِرَة، وأما الكَافِر فَيُعْطى حسناتٍ ما عامل الله بِهَا في الدُّنْيَا، حتى إذا مَضَى إلى الآخِرَةِ، لم يَكُن له حَسَنَة يُجْزَى عَلَيْهَا» . فصل: دليل أهل السنة على خروج المؤمنين من النار واحتج أهْل السُّنَّة بهذه الآية، على أنَّ المُؤمنين يَخْرجُون من النَّار إلى الجَنَّة؛ قالوا: لأن ثَوَاب الإيمان والمُداوَمَة على التَّوْحيد، والإقْرَار بالعُبُودِيَّة مائة سَنَة، أعْظَم ثواباً من عِقَابِ شُرْب جَرْعَة من الخَمْر، فإذا حضر هذا الشَّارِبُ القيامَة وأسْقِط [عنه] قدر عِقَاب هذه المَعْصِية من ذلك الثَّواب العَظيم، فَضُل له من الثَّواب قَدْر عَظيم، فإذا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 383 دخل النار بسبب القَدْر من العِقَابِ، فلو بَقي هُنَاك، لكان ذَلِكَ ظُلْمَاً، فوجب القَطْع بأنه يَخْرُج إلى الجَنَّة. وقوله: {وَإِن تَكُ حَسَنَةً} حذفت النَّون تَخْفِيفاً، لكثرة الاستعمَال، وهذه قَاعِدَةٌ كُلِّية، وهو أنه يجوز حذْف نُون «تكُون» مجْزوُمة، بشرط ألاَّ يلِيهَا ضميرٌ متَّصل؛ نحو لم يَكُنْه، وألاَّ تُحرِّك النٌّون لالتقاء الساكنَين، نحو: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ} [البينة: 1] خلافاً ليُونُس؛ فإنه أجَازَ ذلك مستدلاً بقوله: [الطويل] 1799 - فَإنْ لَمْ تَكُ المِرْآةِ أبْدَتْ وَسَامَةً ... فَقَدْ أبْدَتْ [المِرْآةُ] جَبْهَةَ ضَيْغَمِ وهذا عند سيبويه ضرُورةٌ، وإنما حُذِفَت النَّون لغُنّتها وسُكُونِها، فأشْبهت الواو، وهذا بِخلاف سَائِرِ الأفْعال، نحو: لم يَضِنَّ، ولم يَهِنَّ؛ لكثرة اسْتِعْمال «كَانَ» ، وكان ينبغي أن تَعُودَ الواو عند حذف هذه النُّون؛ لأنها إنَّما حُذِفَت لالتقاء الساكنين، وقد زالَ ثانيهما وهو النُّونُ؛ إلاَّ أنَّها كالملفوظ بِهَا. واعلم أن النُّون السَّاكِنَة، إذا وقعت طرفاً تشبه حُرُوف اللِّين، وحُرُوف اللِّين إذا وقعت طرفاً سَقَطت للجزم، وقد جاء القُرْآن بالحَذْف والاثبات: أما الحَذْف: فهذه الآية. [وأما الإثبات] فكقوله: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً} [النساء: 135] . وقرأ الجمهور {حَسَنَةً} نصباً على خَبَر كان النَّاقِصة، واسْمُهَا مستَتِرٌ فيها يَعْود على مِثْقَال، وإنَّما أنْت ضميره حَمْلاً على المَعْنَى؛ لأنه بمعْنَى: وإن تَكُن زِنة ذَرَّة حَسَنة، أو لإضافته إلى مُؤنَّثِ، فاكتَسبَ منه التَّأنِيث. وقرأ ابن كثير ونافع: «حَسَنَةٌ» رفعاً على أنَّها التَّامَّة، أي: وإن تقع أو تُوجد حَسَنةٌ وقرأ ابن كثير وابن عامرٍ «يضعفها» بالتضعيف، والباقون: «يضاعفها» قال أبو عبيدة ضاعَفَهُ يقتضي مِرَاراً كثيرة، وضَعَّفَ يقتضي مَرَّتَيْن، وهذا عكس كَلاَم العَرب، لأن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 384 المُضَاعَفَة تقتَضِي زيادة المِثْل، فإذا شُدِّدت، دَلَّت البنية على التكثير، فيقْتَضي ذلك تَكْرِيرُ المُضاعفة، بحسبِ ما يكون من العَدَدِ. وقال الفَارِسِيّ: فيها لغتان بمعنى يدُلُّ عليه قوله: {يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً} [البقرة: 245] وقد تقدَّم ذلك، وقرأ ابن هُرْمُز: «نضاعفها» [بالنون، وقُرئ «يضعفها» ] بالتَّخْفيف من أضْعَفَه مثل أكْرَمَ. فصل قال أبو عُثْمَان لنَّهْدي: بلغني عن أبي هُرَيْرَة؛ أنه قال: إن الله بعطِي عبده المُؤمِن فقلت: بَلَغَني أنك تقول إن الله يُعْطِي عبده المُؤمِن بالحسنة ألف ألف حسنَة، قال أبو هريرة: لم أقُلْ ذلك، ولَكِن قُلْتُ: إن الحَسَنَة تُضاعف بألفي ضِعْف، ثم تلا هذه الآية؛ وقال: قال الله - تعالى: {وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً} لمن يَقْدر قَدْرَه. قوله: {مِن لَّدُنْهُ} فيه وجهان: أحدهما: أنه مُتَعَلِّق ب «يؤت» و «من» للابْتِدَاءِ مَجَازاً. والثاني: متعلّقٌ بمْذُوف على أنه حَالٌ من «أجراً» ، فإنه صِفَة نكرة في الأصْلِ، قُدِّم عليها فانْتَصَب حالاً. و «لدن» بمعنى عِنْد، إلا أن «لدن» أكثر تمكيناً، يقول الرَّجُل: عندي مَالٌ، إذا كان [مَالهِ] ببلَدٍ آخر، ولا يُقَال: لَدَيّ مالٌ في حالٍ، ولا لَدَيّ إلاَّ لما كان حَاضَراً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 «فكيف» فيها ثلاثة أقْوَال: أحدها: أنَّها في مَحَلِّ رفْع خَبَراً لمبْتَدأ مَحْذُوف، أي: فكيف [تكُون] حالهم أو صُنْعُهم، والعَامِل في «إذَا» هو هَذَا المُقَدَّر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 385 والثاني: أنها في مَحَلِّ نَصْب بِفِعْلٍ مَحْذُوف، أي: فكيف تكُونونُ أو تَصْنَعُون، ويَجْزِي فيها الوَجْهَان النَّصْب على التَّشْبِيه بالحَالِ؛ كما هو مَذْهَب سَيبويْه، أو على التَّشْبِيه بالظَّرفيّة؛ كما هو مذهب الأخْفَش، وهو العَامِل في «إذَا» أيْضَاً. والثالث: حكاه ابن عَطيّة عن مَكِّي أنها معمولة ل {جِئْنَا} ، وهذا غَلَطٌ فاحِشٌ. قوله {مِن كُلِّ} فيه وجْهَان: أحدهما: أنه مُتعلِّق ب {جِئْنَا} . والثاني: [أنه متعلِّقٌ] بمحذوفٍ على أنَّه حَالٌ من {شَهِيداً} ، وذلك على رَأي من يُجَوِّزُ تقديم حالِ المجرُور بالحَرْفِ عليْهِ، كما تقدَّم، والمشهود مَحْذُوف، أي: شهيد على أمَّتِه. فصل: معنى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} من عَادَى العرب أنَّهم يقُولُون في الشَّيء الذي يتوقَّعُونَهُ: كيف بك إذا كان كَذَا وكَذَا، ومعنى الكلام: كَيْفَ يرون [يَوْمَ] القيامة: إذا اسْتَشْهَد الله على كُلِّ أمَّة برسُولِهَا يشهد عليهم بما عَمِلُوا، {وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء} أي: شاهداً على جميع الأمَم. روى أبو مَسْعُود؛ «قال: قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» اقْرَأ عَلَيَّ «. فقلت: يا رسُول الله، اَقْرَأ عَلَيْكَ، وعَلَيْكَ أنْزِلَ؟ قال:» نَعَم، أحِبُّ أن أسْمَعَهُ من غَيْرِي «، فقرأت سُورة النِّسَاء حتى أتيْتُ إلى هذه الآيةِ، قال: حَسْبُك الآن، فالتَفَتُّ إلَيْه فإذا عَيْنَاهُ تَذْرِفان» . قوله {وَجِئْنَا بِكَ} في هذه الجُمْلَة ثلاثة أوجه: أظهرها: أنها في مَحَلِّ جرِّ عطفاً على {وَجِئْنَا} الأولى، أي: فكيف تصنعون في وَقْتِ المجيئين. والثاني: أنها في مَحَلِّ نصب على الحَالِ و «قَدْ» مُرَادةٌ معها، والعَامِلُ فيها {وَجِئْنَا} [الأولى، أي: جئنا] من كُلِّ أمَّة بشهيدٍ وقد جِئْنَا؛ وفيه نَظَر. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 386 الثالث: أنها مُسْتأنَفَة فلا مَحَل لها قال أُو البَقَاء ويجوز أن تكون مُسْتأنَفَة، ويكون المَاضِي بمعنى المُسْتَقْبَل انتهى. وإنما احْتَاج [إلى ذلك] ؛ لأن المَجِيءَ بعد لَمْ يَقَع فادّعى ذلك، والله أعْلَم. قوله: {على هؤلاء} متعلِّق ب {شَهِيداً} و «عَلَى» على بابها، وقيل: بمعْنَى اللام، وفيه بُعْدٌ [وأجيز أن يكُونَ «عَلَى» متعلِّقَة بمحذُوفٍ على أنَّها حالٌ من {شَهِيداً} وفيه بُعْدٌ] ، و {شَهِيداً} حالٌ من الكَافِ في «بِكَ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 قوله: {يَوْمَئِذٍ} فيه ثلاثة أوجُه: أحدها: أنه مَعْمُولٌ ل {يَوَدُّ} أي: يَوَدُّ الذين كَفَروا يَوْمَ إذ جِئْنَا. والثاني: أنه مَعْمُول ل {شَهِيداً} ، قاله أبو البَقَاء؛ قال وعلى هذا يكُون «يود» صفة ل «يوم» ، والعائد مَحْذُوفٌ، تقديره: فيه، وقد ذكر ذلك في قوله: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي} [البقرة: 48] ، وفيما قاله نظر. والثَّالث: أن «يوم» مَبْنِيٌّ، لإضافته إلى «إذْ» قاله الحُوفيّ، قال: لأنَّ الظرف إذا ضيفَ إلى غير مُتَمكِّنٍ، جَازَ بناؤهُ معه، و «إذْ» هنا اسْمٌ؛ لأن الظروف إذا أُضِيفَ إليها، خَرَجَتْ إلى مَعْنَى الاسميَّة، من أجل تَخْصِيص المُضَافِ إليْها، كما تخَصّص الأسْمَاء مع استحقَاقِها الجرّ، والجرُّ ليس من علامَاتِ الظُّروف، والتَّنْويِن في «إذْ» تنوين عوض على الصَّحيح، فقيل: عِوضٌ من الجُمْلَة الأولى، في قوله: {جِئْنَا مِن كُلِّ} أي: يومئذٍ جِئْنَا من كُلِّ أمَّة بشهيدٍ، وجئنا بِكَ على هؤلاء شهيداً، و «الرسول» على هذا اسْم جِنْسٍ، وقيل: عِوَضٌ عن الجُمْلَة الأخيرةَ وهي {وَجِئْنَا بِكَ} ، ويكون المُراد ب «الرسول» : محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكأن النَّظْم وعَصَوْك، ولكن أبرز ظاهراً بضفة الرِّسَالة تَنْوِيهاً بقدره وشرفِه. وقوله: {وَعَصَوُاْ} فيه ثلاثة أوْجُه: أحدها: أنها جُمْلَة معطوفة على {كَفَرُواْ} فتكون صِلَةً، فيكونون جَامِعِين بين كُفْرٍ ومَعْصِيَة؛ لأن العَطْفَ يقتضي المُغَايَرَة، وإذا كان ذَلِكَ، فَيُجْمل عصيان الرَّسُول على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 387 المعَاصِي المغايرة للكُفْر، وإذا ثبت ذلك، فالآيَةُ دالَّة على أنَّ الكُفَّار مخاطبُون بفُرُوع الإسلام. وقيل: هي صِلَةٌ لموصول أخَر، فيكون طَائِفَتَيْن، وقيل: إنها في مَحَلِّ نصبٍ على الحال من {كَفَرُواْ} ، و «قد» مُرَادَة، أي: وقد عَصَوا. قوله: {لَوْ تسوى} إن قيل إن «لو» على بابها كما هو قَوْل الجُمْهُور، فَمَفْعُول {يَوَدُّ} محذوفٌ، أي: يودُّ الَّذِين كَفَرُوا تَسْوية الأرْض بهم، ويدل عليه {لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض} ، وجوابها حينئذٍ مَحْذُوف، أي: لسُرُّوا بذلك. وإن قيل: إنها مصدريَّة، كانت وهي وما بَعْدَها في محلّ مَفْعُول {يَوَدُّ} ، ولا جواب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 388 لها حينئذ، وقد تقدَّم تحقيق ذلك في {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96] . قال أبو البقاءِ: «وعصوا الرسول» في موضع الحالِ، و «قد» مًُرَادةٌ، وهي معْتَرِضَة بين «يود» وبين مَفْعُولها، وهي «لو تسوى» و «لو» بمعنى المصدريَّة انتهى. وفي جَعْلِ الجنلة الحَاليَّة معترضة بين المَفْعُول وعامِله نَظَرٌ لا يَخْفَى؛ لأنها من جُمْلَة متعلِّقات العامِل الذي هو صِلَة للمَوْصُول؛ وهذا نظير قولك: ضَرَب الذين جَاءُوا مُسْرِعين زَيْداً، فكما لا يُقال: إن مُسْرِعين مُعْتَرض به، فكذلك هذه الجملة. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وعاصم: تُسَوَّى [بضم التَّاءِ، وتخفيف السّين مبنياً للمفعُول، وقرأ حمزة والكِسائي: «تَسَوَّى» ] بفتح التَّاء والتخفيف، ونافع وابن عامر: بالتَّثْقِيل. فأما القراءة الأولَى، فمعناها: أنَّهم يودُّون أن الله - سبحانه وتعالى - يُسَوِّي بهم الأرض: إمّا على أن الأرْض تَنْشَقُّ وتبتلِعُهم، وتكون البَاءُ بمعنى «عَلَى» ، وإما على أنَّهم يودُّون أن لو صارُوا تُرَاباً كالبَهَائِمِ، والأصْل يودُّون أن الله - تعالى - يُسَوِّي بهم الأرض، فَقٌلِبَت إلى هَذَا؛ كقولهم: أدْخَلْتُ القََلُنْسُوَة في رَأسِي، وإمذا على أنَّهم يودُّون لو يُدْفَنُون فيها، وهو كالقَوْلِ الأوَّل. وقيل: لو تُعْدَلُ بهم الأرْضُ، أي: يُؤْخَذ ما عَلَيْها منهم فِدْيَة. وأما القِرَاءة الثانية: فأصلها «تتسوى» [بتاءَيْن] ، فحذفت إحداهما، وأدغمت في السّين لقربها منها. وفي الثَّالِثَة حذفت إحداهما، ومعنى القراءتين ظاهرٌ ممَّا تقدَّم؛ فإن الأقوال الجاريةَ في القراءة الأولى، جاريةٌ في القراءتين الأخيرتَيْن غاية ما في البَابِ أنه نَسَب الفِعْل إلى الأرْض ظاهراً. قوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله} : وذلك أن هذه الواو تَحْتَمِل أن تكون لِلْعَطْف، وأن تكون للحالِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 389 فإن كانت للعَطْف، احْتمل أن تكُون من عطف المفرداتِ، [وأن تكون من عطف الجُمَلِ، إذا تقرر هذا] ، فقوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله} يجوزُ أن يكون عَطْفاً على مَفْعُول {يَوَد} أي: يودذُون تسوية الأرْضِ بهم، وانتفاء كتمان الحديُ، و «لو» على هذا مَصدريَّة، ويبعد جَعْلُها حرفاً لما سيَقَع لوُقُوع غَيْرِه، ويكون و «لا يكتمون» عطفاً على مَفعُول «يود» المحذُوف، فهذان وَجْهَان على تقدِير كَوِنِه من عطف المفردات. ويجوز أن سكون عَطْفاً على جُمْلة «يود» أخبر - تعالى - عنهم بخبرين: أحدهما: الودادةُ لِكَذَا. والثاني: أنهم لا يقدرُون على الكضتْمِ في مواطِنِ دون [مَوَاطِن] ، و «لو» على هذا مَصدريَّة، ويجوز أن تكون [لو] حرْفاً لما سيقع لوقُوع غيره، وجوابُهَا مَحْذوف، ومفعول «يود» أيضاً مَحْذُوف، ويكون «ولا يكتمون» عطفاً على «يود» وما في حيزها، ويكون - تعالى - قد أخبر عَنْهُم بثلاثِ [جمل] : الوَدَادَة، وجُمْلَة الشرط ب «لو» ، وانتفاء الكِتْمَان، فهذان أيضاً وَجْهَان على تقدير كونِه من عطفة الجُمَل، وإن كانت للحالِ، جاز أن تكُون حالاً من الضمير في «بهم» ، والعامِل فيها «تسوى» ، ويجوز في «لو» حينئذٍ ان تكون مصدريَّة، وأن تكون امتناعيَّة، والتقدير: يُريدُون تَسْوِيَة الأرْض بهم غير كَاتِمين، أو لَوْ تُسَوَّى بهم غير كَاتِمين لكان ذلك بُغْيَتهم، ويجوز أن تكون حالاً من «الذين كفروا» ، والعامل فيها «يود» ويكون الحالُ قيداً في الوَدَادَةِ، و «لو» على هذا مصدريَّة في [محل] مفعُول الوَدَادَة، والمعْنَى [يومئذٍ] يَودُّ الذين كفرُوا تسوية الأرْض بهم غّير كاتمين الله حَديثاً، ويَبْعد أن تكون «لو» على هذا الوجه امتناعِيَّة، للزوم الفَصْل بين الحَالِ وعامِلِها بالجُمْلَة، و «يكتمون» يتعدى لاثْنَيْن، والظَّاهِر أنه يَصِل إلى أحدهما بالحَرْف، والأصل: ولا يكتُمون من الله حديثاً. فصل قال عَطَاء: وَدُّوا لَوْ تُسوَّى بهم الأرْضُ، وأنهم لم يكُونوا امر مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا نعته، وقال آخرُون: بل هو كلامٌ مُسْتأنفٌ، يعني: ولا يكتثمون الله حديثاً؛ لن جضوَارحَهُم تَشْهَد عليهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 390 قال سعيد بن جُبَيْر: قال رَجُل لابن عبَّاس: إني أجد في القُرْآن أشياء تختلفُ عليّ، قال: هَاتِ ما اخْتَلَفَ عليك، قال: قال تعالى: {فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ} [المؤمنون: 101] {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} [الصافات: 27] وقال: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} ، و {قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فقد كتمُوا، وقال: {أَمِ السمآء بَنَاهَا} [النازعات: 27] إلى قوله: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] ، فذكر خَلْق السَّماء قبل خلق الأرْضِ، ثم قال {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ} [فصلت: 9] إلى «طائِعين» . فذكر في هذه الآية خَلْق الأرض قبل خَلْق السَّماء، وقال: «وكان الله غفوراً رحيماً» و «عزيزا حكيماً» فكأنه كان ثم مَضَى. فقال ابن عباس: فلا أنْسَابَ بَيْنَهم في النَّفْخَة الأولى، وقال - تعالى -: «ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض [إلا أن شاء الله] » فلا أنساب عند ذلك ولا يتساءَلُون، ثم في النَّفْخَة الأخيرَة أقْبَل بعضهم على بَعْض يتساءَلُون. وأما في قوله: ما كنا مشركين و «لا يكتمون الله حديثا» فإن الله يَغْفِر لأهْل الإخْلاَص ذُنُوبهم فيقول المُشْرِكُون: تعَالَوْا نقل: ما كُنا مُشركين، فيختم على أفواههم، وتنطقُ أيديهم وأرْجُلهم، فَعِنْدَ ذلك عَرَفُوا أنَّ الله لا يَكْتُم حَديثاً، وعنده «يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض» . وخلق الله الأرْضَ في يومين ثم خلق السَّماء، ثم اسْتَوَى إلى السَّمَاء فَسَوَّاهُن في يَوْمَيْن آخرَيْن، ثم دَحَى الأرض، وَدَحْيُها أن أخْرَج منها المَاءَ والمَرْعَى، وخلق الجِبَال والآكَامَ، وما بينهُمَا في يومين آخريْن؛ فقال «خلق الأرض في يومين [ثم دَحَى الأرض في يومين؛ فخلقت الأرْضُ وما فيها من شيء في أربعةِ أيام، وخلقت السماوات في يومين] » وكان الله غفوراً رحيماً «أي: لم يَزَلْ كَذَلِك، فلا يختلف عليك القُرْآن؛ فإن كُلاًّ من عَِنْد الله» . وقال الحسن: إنها مواطِنٌ: ففي مَوْطن لا يتكلَّمُون، ولا تَسْمَ إلا هَمْساً، وفي موطنٍ [يعترفون على أنفسهم فهو قوله: {فاعترفوا بِذَنبِهِمْ} [الملك: 11] ، و [في موطن يتكلّمون ويكذبون، ويقولون: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] ، و {مَا كُنَّا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 391 نَعْمَلُ مِن سوء} ] [النحل: 28] ، وفي مواطن لا يُتساءَلُون الرَّجعة، [وفي مَوْطِن يتساءلُون الرجْعَة] وآخر تلك المَوَاطِن، أن يُخْتَمَ على أفْوَاهِهم، وتتكلَّم جوارحُهم، وهو قوله: «ولا يكتمون حديثاً» . وقال آخرون: [قولهم] : {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] أي: على حَسْبِ ما توهَّمنا في أنْفُسِنَا، بل كُنَّا مُصيبين في ظُنُونِنَا حتى تَحقَّقْنا الآن. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 وجه اتِّصال هذه الآية بما قَبْلَها: أنه - تعالى - لما قال: «واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً» ذكر بعض الإيمان الصَّلاة التي هِيَ رأسُ العِبَادات، ولذلك يُقْتَل تارِكُها، ولا يَسْقُط فرضُهَا. قال ابن عباس: نزلت في جَمَاعةٍ من أكابر الصَّحَابَة، قبل تَحْرِيم الخَمْرِ، كانوا يَشْرَبُونَها ثم يأتُون المَسْجِد للصَّلاة مع النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنهوا لهذه الآية. وقال جماعة من المفسرين: إن عبد الرَّحْمن بن عَوْف صنع طَعَاماً وشراباً - حين كانت الخَمْر مُبَاحة - ودَعَا من أكَابِرِ الصَّحَابة، فأكَلُوا وشَرِبُوا، فلما ثَمِلُوا، جاء وقت صَلاَة المَغْرِب، فقدموا أحدهم لِيُصَلِّي بهم، فقرأ: «قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون» وحذف «لاَ» هكذا، إلى أخر السُّورة، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية، فكَانُوا يَجْتَنِبُونَ السُّكْر أوْقات الصَّلوات، فإذا صَلُّوا العشاء، [شربوها] ، فلا يُصْبِحُون إلا وقدْ ذَهَب عنهم السُّكْر، حتى نَزَل تَحْرِيم الخَمْرِ على الإطْلاَقِ في سورة المَائِدة. وعن عمر [بن الخطاب: رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -] ؛ أنه لما بلغَهُ ذلك قال: «اللهم إنَّ الخَمْر تضر بالعُقُولِ والأمْوَال، فأنزل فيها أمْرَكَ» قال: فَصَبَّحهم الوَحْي بآيَةِ المائِدَةِ. قوله: «لا تقربوا الصلاة» فيه وجهان: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 392 أحدهما: أن في الكَلاَمِ حذف مُضافٍ، تقديره: مواضع الصَّلاةِ والمراد بمواضعها المَسَاجد، ويؤيِّدُه قوله بعد ذلك: «إلا عابري سبيل» في أحد التَّأويلَيْن. والثاني: أنه لا حَذْف، والنَّهْي عن قُرْبَان نفس الصَّلاةِ في هذه الحالةِ. فصل قال بَعْضُهم: إن هذا يكون من باب إطْلاَق اسم الحَالِ على المَحَلِّ، وعلى الأوَّل: لمنع السَّكْرَان [والجُنْب] من المسْجِد إلا عابري سبيل، فيجوز للجُنُب العُبُور في المسْجِد. وعلى الثاني: أنه نَهْي للجنب عن الصَّلاة، إلا إذا كان عَابِر سبيلٍ وهو المُسَافِر عند العَجْزِ عن المَاءِ. ورجح أصْحَاب الشَّافعي الأول؛ بأن القُرْب والبعد حقيقةٌ في المسْجِد، مجَازٌ في الصَّلاة، والحقيقة أوْلَى من المجَاز؛ لأن الاسْتِثْنَاء يَصِحُّ عليه، ولا يَصِحُّ على الثَّاني؛ لأن غير العَابِري سبيل والعَاجِزَ عن المَاءِ، والتَّيَمُّم عقبيها، وقد استحب القُرَّاءُ الوقُوفَ عند قوله - تعالى -: «حتى تغتسلوا» ثم يسْتأنف «وإن كنتم مرضى» لأنه حُكم آخر. ورُجِّح ليس فيه قَوْل مَشْرُوع يمنع الشكْر، وأيْضاً سبب النُّزُول يرجِّحُه. قوله: «وأنتم سكارى» مُبْتَدأ وخبر في مَحَلِّ نصب على الحَالِ من فاعل «تقربوا» ، وقرأ الجُمْهُور «سُكارى» بضم السّين وألف بعد الكَافِ، وفيه قولان: أصحهما: أنه جَمْع تكسير نَصَّ عليه سيبويْه: قال: وقد يُكَسِّرُونَ بَعْضَ هذا «فُعَلَى» ؛ وذَلِك كقول بعضهم سُكَارَى وعُجَالَى. والثاني: أنه اسم جَمْع، وزعم ابن البَاذش أنه مذْهب سيبويْه؛ قال: وهو القياس؛ لأنه لم يَأتِ من أبْنِيَة الجمع شَيْءٌ على هذا الوَزْنِ، وذكر السَِّيرَافِي الخِلاف، ورجَّحَ كونه تَكْسِيراً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 393 وقرأ الأعْمَش: «سُكْرَى» بضم السِّين وسكُون الكَافِ، وتَوْجِيهها أنَّها صِفَة على «فُعْلَى» ؛ كحبلى، وقعت صِفَة لجماعةِ، أي: وأنتُم جماعَةٌ سُكْرى، وحكى جناح بن حبيش كُسْلَى وكَسْلَى، بضم الكَافِ، وتَوْجِيهها أنَّها صِفَة على فُعْلَى «؛ كحبلى، وقعت صِفَة لجماعة، أي: وأنتُم جماعَةٌ سُكْرى، وحكى جناح بن حبيش كُسْلى وكَسْلَى، بضم الكَافِ وفتحها؛ قاله الزمخشري. وقرأ النَّخْعي» سَكْرَى «بفتح السِّين وسكون الكَافِ، وهذه تَحْتَمِل وَجْهَيْن: أحدهما: ما تقدَّم في القراءة قبلها، وهو أنَّهَ صِفَة مُفْرَدة على» فَعْلَى «؛ كامرأة سَكْرَى، وصف بها الجمَاعة. والثَّاني: أنَّها جَمْع تكسير؛ كجَرْحى، ومَوْتى، وهَلْكى، وإنما جمع سَكْرَان على» فَعْلَى «حملاً على هذه؛ لما فيه من الآفَةِ اللاَّحِقَة للفِعْل، وقد تقدَّم شَيْء من هَذَا في قوله: {وَإِن يَأتُوكُمْ أسارى} [البقرة: 85] . وقرئ:» سَكارى «بفتح السين والألف، وهذا جمع تكسير، نحو: نَدْمَان ونَدَامى، وعَطْشَان، وعَطَاشَى، والسُّكْرُ: لُغَة السَّدِّ، ومنه قيل لما يَعرض للمرءِ من شُرْبِ المُسْكِر، لأنَّه يسد ما بين المَرْء وعَقْلِه، وأكثر ما يُقَال ذلك لإزالَتِه بغضب ونحوه، من عشق وغيره قال: [الكامل] 1800 - سُكْرَانِ سُكْرُ هَوَى وسُكْرُ مُدَامَةٍ ... أنَّى يُفيقُ فَتًى به سُكْرَانِ و» السكر «بالفتح وسكون اكَافِ: حبس الماءِ، وبكسر السِّين: نفس الموضع السْدُود، وأما» السَّكَر «بفتحيهما فما يسكر به من المشروب، ومنه: {سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً} [النحل: 67] وقيل السُّكْر: بضم السين وسكون الكاف [السّدّ] أي: الحَاجِز بين الشَّيْئَيْن، قال: [الهزج] 1801 - فمَا زِلنَا عَلَى السُّكْرِ ... نُدَاوِي السُّكْر بالسُّكْرِ والحاصل: أنَّ أصل المادة الدَّلالة على الانْسداد، ومنه: سَكرت عين البَازِي، إذا خَالَطَهَا نوم، وسكر النَّهر؛ إذا لم يَجْرِ، وسَكَرْتُه أنا، وقال - تعالى -: {إِنَّمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 394 سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} [الحجر: 15] ، أي: غُشيت، والسُّكْر من الشراب، وهو أن يَنْقَطِع عما عَلَيْه من النَّفَاذ حال الصَّحْو، فلا ينفذ رأيه كنَفَاذَه حَال الصَّحْو، وقال الضحَّاك: أراد به سُكْر النّوم نهى عن الصَّلاة عند غَلَبَة النَّوْم، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» إذا نَعسَ أحدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي، فَلْيَرْقُد حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ؛ فإنَّ أحَدَكُم إذا صَلَّى وهو يَنْعَسُ، لَعَلهُ يَذْهَبُ يستَغْفِرُ فَيَسب نَفْسَه «. والصحيح الأوَّل؛ لأن السكر حَقيقةً هو من شُرْب الخَمْرِ، فأمّا السّكر من الغَضَبِ أو العِشْقِ أو النَّوْمِ فَمَجَازٌ، إنما اسْتُعِْمِل مقيَداً؛ قال - تعالى -: {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ} [ق: 9] ، {وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى} الحج: 2] قال الفرزْدَق: [الطويل] 1802 - مِنَ السَّيْرِ وَالإسْآدِ حَتَّى كَأنَّمَا ... سَقَاهُ الَرَى فِي مَنْزِلَةٍ خَمْراً ولأن عند النَّوْم تمتلئ مَجَاري الرُّوح من الأبخرة الغليظَة، فلا ينفذ الروح للبَاصِر. قوله - تعالى -:» حتى تعلموا «» حتى «جارَّة بمعنى إلى، فهي مُتعلِّقَةٌ بفعل النَّهْي، والفعل بَعْدَها مَنْصوب بإضمار» أن «وتقدّم تَحْقِيقُه، وقال بَعْضُهم: إن حَتَّى هنا بمعنى [» كَيْ «] فهي» تَعْلِيلِيَّة «، والمَعْنَى: كي تَعْلَمُوا ما تَقُولُون. و «ما» يجوز فيها ثَلاَثَة أوْجُه: أن تكون بِمَعْنَى الَّذِي، أو نكرة مَوْصُوفة، والعَائِد على هَذَيْن القَوْلَيْن مَحْذُوف، أي: يَقُولُونَهُ، أو مصدرية، فلا حَذْف إلا عَلَى رأي ابن السَّرَّاج ومن تَبِعَهُ. فصل قول البعض بنسخ الآية قال بَعْضهم: هذه الآية مَنْسُوخة بآية المائدة. قال ابن الخَطِيب: والَّذي يمكن النَّسْخُ فيه، أنَّه - تعالى - نَهَى عن قُرْبَان الصَّلاةِ حَالَ السُّكْر مَمْدُوداً إلى غَايَة أن يَصير بِحَيْث يَعْلَم ما يَقُول، والحكم المَمْدُود إلى غاية، يَقْتَضِي انتهاء ذَلِك الحُكْم عند تلك الغَايَةِ، وهذا يَقْتَضِي جواز قُرْبَان الصَّلاة مع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 395 السُّكْر الذي يَعْلَمُ مِنْهُ ما يَقُول، ومعلوم أنَّ الله - تعالى - لما حرَّم الخَمْر بآية المائدَة، فقد رَفَع هذا الجوازَ، فثبت أن آية المائِدَة ناسِخَةٌ مَدْلُولات هذه الآية. والجواب: أن هَذَا نَهْي عن قُرْبَان الصَّلاة حَال السُّكْرِ، وتخصيصُ الشيء بالذِّكْرِ لا يَدُلُّ على نَفي الْحُكم عما عداه، إلا على سبيل الظَّنِّ الضَّعيف، ومثل هَذَا لا يَكُون نَسْخاً. فصل: التكليف بما لا يطاق قال بَعْضُهم: هذه الآية تَدُلُّ على جواز التَّكْليف بما لا يُطَاق؛ لأنه - تعالى - قال: «ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى» ، وهذه جملة حاليَّة، فكأنه - تعالى - قَالَ للسَّكْرَان: لا تُصَلِّ وأنْت سَكْرَان، وهذا خطاب للسكران. والجواب عنه: بأن هذا لَيْس خِطَاباً للسَّكْرَان، بَلْ هو خِطَاب للَّذِين آمَنُوا؛ فكأنه قال: يأيُّهَا الذين آمَنُوا لا تَسْكَرُوا، فقد نهى عن السُّكْر؛ ونظيره قوله - تعالى -: {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] وهو ليس نَهْياً عن المَوْت، وإنما هو أمْر بالمُدَاوَمَةِ على الإسْلامِ، حتى يَأتيهُ المَوْت وهو في تلك الحَالِ. قوله: «ولا جنباً» نصب على أنه مَعْطُوف على الحَالِ قبله، وهو قوله: «وأنتم سكارى» عطف المُفْرَد على الجُمْلَة لمّا كَانَتْ في تأويله، وأعاد معها «لا» تَنْبيهاً على أنَّ النَّهْي عن قُرْبَان الصَّلاة مع كل واحدٍ من هَذَيْن الحَالَيْن على انْفِدَادَهَما، فالنَّهي عنها مع الجزء: 6 ¦ الصفحة: 396 اجْتِمَاعِ الحَالَيْنِ آكَدَ وأوْلى، والجُنُبُ مشتقٌّ من الجَنَابَة وهو البُعْدُ؛ قال: [الطويل] 1803 - فَلا تَحْرِمَنِّي نَائِلاً عَنْ جَنَابَةٍ ... فَإنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ القِبَابِ غَريبُ وسمي الرَّجُل جُنُباً: لبعده عن الطَّهَارةِ؛ أو لأنهَّ ضَاجَع بِجَنْبِه وَمسَّ به، والمشْهُور أنه يستعمل بِلَفْظٍ واحدٍ كالمُفْرد والمُثَنَّى والمَجْمُوع، والمُضكَّر والمُؤنَّث، ومنه الآية الكَرِيمة. قال الزمخشري: لجريانه مَجْرَى المصدَرِ الذي هو الإجْنَابُ، ومن العَرَب من يُثَنِّيه فيَقول جُنُبَان ويجمعه جمع سَلاَمة فيقول: جُنُبُون، وتكْسِيراً فيقول: أجْنَاب، ومثله في ذلك شُلُل، وقد تقدَّم تحقيق ذلك. قوله: «إلا عابري سبيل» فيه وجهان: أحدهما: أنه مَنْصُوب على الحَالِ فهو استثْناء مُفَرَّغ، والعامِل فيها فِعْل النَّهْي، والتَّقْدير: «لا تقربوا الصلاة في حالة [الجنابة إلا في حال السفر] أو عُبُور المَسْجِد على حَسَب القَوْلَيْن. وقال الزَّمَخْشَريّ: «إلا عابري سبيل» استثنَاء من عامَّة أحوال المُخَاطبين، وانتصَابه على الحال. فإن قُلْت «كيف جَمَع بين هذه الحَال، والحَالِ التي قَبْلَها. قلت: كأنه قيل: لا تَقْرَبُوا الصَّلاة في حال الجَنابة: إلا ومَعَكُم حالٌ أخْرَى تَعْتَذِرون فيها: السَّفَر وعُبُور السًّبِيل عبارة عَنْه. والثَّاني: أنه مَنْصُوب على أنه صِفَةٌ لقوله» جنباً «ب» إلاَّ «بمعنى» غبر «، فظهر الإعْرَاب فيما بَعْدَهَا، وسيأتي لهذا مزيد بَيَانٍ عند قوله - تعالى -: {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] كأن قيل:» لا تقربوها جنباً غير عابري سبيل «، أي: جُنُباً مُقِيمين غير مَعْذُورين، وهذا معنى وَاضِحٌ على تَفْسير العُبُور بالسَّفر، وهذا قَوْل عَلِيّ وابن عبَّاس، وسَعيد بن جُبَيْرٍ، ومُجَاهِد قالوا: مَعْنَاه إلاَّ أن تكُونُوا مُسَافرين ولا تَجدُون المَاءَ فَتَيَمَّمُوا؛ مَنَع الجُنُب من الصَّلاة [حتى يَغْتَسِل، إلا أن يَكُونَ في سَفَر ولا يجدهَا فيصلّي بالتيمم وأمَّا من قدَّر مَوَاضِعَ الصَّلاة] فالمعنى عنده: لا تَقْرَبُوا المَساجِد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 397 جُنُباً إلا مُجْتَازين؛ لكونه لا مَمَرَّ سواه، وهو قول عبد الله بن مَسْعُود، وسعيد بن المسيَّب، والحسن، وعِكْرِمَة، والنَّخعِي، والزُّهري، وذلك أن قَوْماً من النْصار، كانت أبوابُهم في المَسْجِد، فتُصيبهم الجَنَابة، ولا مَاء عندهم، ولا مَمَرَّ لهم إلا في المَسْجِد، فَرُخِّصَ لهم في العُبُور، قالوا: والمُراد من الصَّلاةِ؛ لقوله - تعالى -: {وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40] والمعنى: لا تَقْرَبُوا المسجد وأنتم جُنُب، إلا مُجْتازين فيه للخُرُوجِ منه، مثل أن يَنَام في المَسْجِد، فَيَجْنُبُ أو تُصِيبُه جَنَابة والماءُ في المَسْجِد، والعُبُور الجَوَاز؛ ومنه:» نَاقَةٌ عُبْرُ الهَوَاجِر «قال: [الكامل] 1804 - عَيْرَانَةُ سُبُحُ اليَدَيْنِ شِمِلَّةٌ ... عُبْرُ الهَوَاجِرِ كالهِزَفِّ الخَاضِبِ وقوله:» حتى تغتسلوا «؛ كقوله:» حتى تعلموا «فهي مُتعلَّقة بفعل النَّهِي. فصل: حكم عبور المسجد للجنب اختلفوا في عُبُور المَسْجِد للجُنُب، فأبَاح الحَسَنُ ومَالِكٌ والشَّافِعِيُّ المُرور فيه على الأطلاقِ، وهو قَوْل أصْحَاب الرأي، وقال بَعْضُهم: يَتَيَمَّمُ للمرور فيه، وأما المُكْثُ فلا يجوز عند أكْثرِ العُلَمَاء؛ لقول النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» وَجَّهُوا [هذه البُيُوت عن المَسْجِد] فَإنِّي لا أُحِلُّ المَسْجِدَ لحائضٍ ولا جُنُبٍ «وجوّز أحْمَدُ المُكْثَ فيه، وضعَّف الحديث؛ لأن رَاويه مَجْهُول. قوله:» وإن كنتم مرضى «جمع مَريض، وأراد به مَرَضاً يَضُرُّه أساس الماء كالجُدَرِي والقُرُوح العَظيمَة، أو كان على مَوْضِع طَهَارته جِرَاح يخاف من اسْتِعْمَال الماء التَّلف، أو زيادة المَرَضِ، فإنه يُصَلِّي بالتَّيَمُّمِ وإن كان مَوْجُوداً، وإن كان بَعْض أعضاء طهارته صحيحاً والبَعْض جَريحاً، غسل الصَّحيحَ، وتيَمَّم عن الجَرِيح؛ لما رَوَى جَابر؛ قال: خَرَجْنَا في سَفَرٍ، فأصَابَ رَجُلاً منا حَجَرٌ، فَشَجَّهُ في رَأسِهِ فاحْتَلَم، فسَال أصْحَابَهُ هلْ تجدُون رُخْصَة في التَّيَمُّم؟ قَالُوا: ما نَجِدُ لك رُخْصَة في التَّيَمُّم، وأنت قَتَلَهُم اللهُ إلا سَألُوا إذ لَمْ يَعْلَمُوا، فإنما شِفَاء العيِّ السُّؤالُ، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعْصِر أو يَعْصِب - شك الراوي - على جُرْحِهِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 398 خِرْقَة، ثم يَمْسَح عليها ويَغْسِل سَائِر جَسَده. ولم يجوِّز أصْحَاب الرَّأي الجمع بين التَّيَمُّم والغُسْل، وقالوا: إن كَانَ أكْثَر أعْضَائه وصَحِيحاً، غسل الصَّحيحَ وكَفَاهُ، وإن كان الأكْثَر جَريحاً، اقْتَصر على التَّيَمُّم، والحديث حُجَّةٌ عليهم. قوله: «أو على سفر» في محلِّ نصبٍ عطفاً على خَبَر كان، وهو المَرْضَى؛ وكذلك قَولُه: «أو جاء أحد منكم» «أو لامستم النساء» ، وفيه دليلٌ على مجيء [خبر] كان فِعْلاً مَاضياً من غَيْر «قَدْ» ، وادِّعاء حَذْفها تكلُّفٌ لا حَاجَة إلَيْه؛ كذا اسْتَدَلَّ به أبو حيان، ولا دليل فيه؛ لاحْتِمَال أن يَكُون «أو جاء» عَطْفاً على «كنتم» تَقْديره: وإن جَاءَ أحَدٌ، وإليه ذهَب أبُو البَقِاء، وهو أظْهَر من الأوَّل والله أعلم. فصل أراد مُطْلق السَّفَر طويلاً كان أو قَصيراً، إذا عَدِمَ المَاءَ فإنه يُصَلِّي بالتَّيَمُّم، ولا إعادة عَلَيه؛ لما روي عن أبِي ذرٍّ؛ قال: قال النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ الصَّعيد الطَّيِّبَ وضُوء المسْلِمِ، وإن لم يَجد المَاءَ عَشْرَ سِنِين، فإذا وَجَد المَاءَ، فَلْيَمُسَّهُ بَشَرتهُ فإن لم يَكُن مَرِيضاً ولا في سَفَرِ، ولكنه عَدِم المَاءَ في مَوْضِع لا يُعْدَم فيه المَاءُ غَالِباً: كقرية انقطع مَاؤُهَا فقال بَعْضُهم يصلِّي بالتَّيَمُّم، ويُعيدُ إذا قدر على المَاءِ» ، وقال آخَرُون: لا إعَادة [عَلَيْه] وهو قول الأوْزَاعِي ومَالِكٍ، وقال أبو حَنيفَة: يؤخِّر الصَّلاة حتى يجد المَاءَ. وقوله: «أو جاء أحد منكم من الغائط» أراد به: إذا أحْدَث، وقوله: «أو جاء أحد» يدل على الانتقال من مَكَان الغائِط والانتقَال عنه. و «منكم» في مَحَلِّ رفع؛ لأنه صِفَة لأحد فَيَتعلَّق بمحذوف، و «من الغائط» متعلِّق ب «جَاءَ» فهو مَفْعُوله، وقرأ الجُمْهُور: «الغائط» بزنة «فَاعِل» وهو المكان المُطَمْئِن من الأرْضِ [وجَمْعُه الغيطان ثم عَبَّر عَن الحَدَثِ كِناية؛ للاستحْيَاء من ذِكْره، وفرَّقت] العرب بين الفِعْلَيْن منه، فقالت: غَاطَ في الأرض، أي: ذَهَب وأبْعَد إلى مَكَانِ لا يَراهُ فيه إلا من وَقَف عليه، وتَغَوَّط: إذا أحْدَث. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 399 وقرأ ابن مَسْعُود: «من الغيط» وفيه قَوْلاَن: أحدهما: وإليه ذهب ابن جني: أنه مُخَفَّف من «فَيْعِل» ؛ كهَيْن، ومَيْت [في هَيِّن ومَيِّت] . والثاني: أنه مَصْدر على وَزْن «فَعَل» قالوا: غَاطَ يَغيطُ غَيْطاً، وغَاطَ يَغُوطُ غَوْطاً. وقال أبو البَقَاء: هو مَصْدرَ «يغوط» فكان القياس «غوطاً» فقلبت الوَاوُ ياءً، و [إن] سُكِّنت وانْفتح ما قبلها لِخفَّتِها كأنه لم يطَّلِع على أنَّ فيه لُغَة أخْرَى من ذَوَات اليَاءِ حتى ادّعى ذَلِك. قوله: «أو لامستم المساء» قرأ الأخوان هنا، وفي المَائِدَة: «لمستم» ، والباقون: «لامستم» [فقيل] فَاعَلَ بمعنى فَعَل، وقيل لمس: جامع، ولامَس «لِما دُون الجِمَاع. قال ابن عباس والحسن ومُجَاهِد وقتَادَة: كُنِّي باللَّمْس عن الجِماع؛ لأن اللَّمْسَ يُوصِل إلى الجِمَاع، ولأن اللَّمْس والمَسَّ وردَا في القُرْآن كِناية عن الجَماع [في] قوله: {مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا} [المجادلة: 3] ، و {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] ولأن الحَدَثَ الأصْغر مَذْكُور في قوله:» أو جاء أحد منكم من الغائط «فلو حُمَل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 400 اللمس على الأصْغر، لم يَبْق للحدث الأكْبر ذِكْرٌ، وقال ابن مَسْعُود، وابن عُمَر، والشعبي، والنَّخعِي، هما التقاء البَشَرتَيْن سواءٌ كان بِجِماع أو غير جِمَاع؛ لأن حُكْم الجَنَابَة تقدَّم في قوله:» ولا جنباً «فلو حَمَلْنَا اللَّمس على الجَنَابةِ، لزم التّكْرَارُ. قوله:» فلم تجدوا «الفَاء عَطَفت ما بَعْدَها على الشَّرْط، وقال أبُو البَقَاءِ: على» جَاء «لأنه جَعَل» جَاء «عطفاً على» كنتم «، فهو شرْط عنده، والفاءُ في قَوْله:» فتيمموا «هي جَوَاب الشَّرط، والضَّمِير في» تيمموا «لِكُلِّ من تَقَدَّم؛ من مريض ومُسَافرٍ ومُتغوِّط ومُلامِس أوْ لامسِ، وفيه تَغْليبٌ للخطاب على الغَيْبَة؛ وذلك أنَّهُ تقدَّم غَيْبَة في قوله:» أو جاء أحد «وخطاب في» كنتم «، و» لمستم «فغلَّب الخطاب، في قوله:» كنتم «وما بَعْده عليه، وما أحْسَن ما أتي هُنا بالغَيْبَة، لأنه كِنَاية عما يُسْتَحْيَا منه فَلَم يُخَاطِبْهم به، وهذا من مَحَاسِنِ الكَلامِ؛ ونحوه قوله: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] [و» وجَد «هنا بمعنى» لقِيَ «] فتعدت لِوَاحِدٍ و» صعيداً «مفعول به لقوله» تيمموا «أي: اقْصدُوا. وقيل: هو على إسْقَاطِ حَرْفٍ، اي: بصعيدٍ، وليس بشيءٍ لعدم اقْتِيَاسه، والصَّعيد» فَعِيلٌ «بمعنى الصَّاعد، [قيل: الصَّعيد] : وَجْه الأرْضِ تراباً كَانَ أوْ غيره. فصل: الخلاف في وجوب تكرار طلب الماء في الصلاة الثانية قَال الشَّافِعِي: إذا دخل وَقْتُ الصلاة فَطَلَب المَاءَ ولم يجد النَاءَ، وتيمم وصلَّى، ثم دَخَل وقْتُ الصَّلاةِ الثَّانية، يجب عليه الطلب ثانياً؛ لقوله» فلم تجدوا «وهذا يشعر بسَبْق الطَّلَب. وقال أبو حنيفَة: لا يجب، واعْتَرض على الآيةِ بأن قوله:» فلم تجدوا «لا يُشْعر بسبق الطلب؛ قال - تعالى -: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102] {وَوَجَدَكَ ضَآلاًّ فهدى وَوَجَدَكَ عَآئِلاً} [الضحى: 7، 8] ، {وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً} [طه: 115] وهذا لا يَسْبِقُه طَلَبٌ؛ لاستِحَالَتِه على الله - تعالى -. فصل قال أبو حنيفَة: التيمم هو القَصْد، والصَّعيد وهو ما يَصْعَد من الأرْض؛ فقوله «فتيمموا صعيداً طيِّباً» أي: اقْصُدوا أرْضاً، وقال الشَّافعي: هذه الآيةُ مطْلَقَة، وآية المائدة مُقيَّدة بقَوْله: {مِّنْهُ} [المائدة: 6] وكلمة «مِنْ» للتَّبعيض، وهذا لا يَتَأتَّى في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 401 الصَّخْر الذي لا تُرَابَ علَيْه، فوجب حمل المُطْلَقِ على المُقَيَّد. فإن قيل: إن كَلِمَة «مِنْ» لابْتداء الغَايَة، قال صَاحِب الكَشَّاف لا يَفْهَم أحدٌ من العرب من قَوْل القائِل: مَسَحْتُ برأسِهِ من الدُّهْن ومن المَاءِ ومن التُّرَاب، إلا مَعْنى التَّبْعيض. ثم قال: والإذْعَان للحَقِّ أحقُّ من المِرَاء. وقال الوَاحِدي: إنه - تعالى - قال: «صعيداً طيباً» والأرْض الطَّيِّبَة التي تُنْبِتُ؛ لقوله - تعالى -: {والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] ، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «التُّرابُ طَهُور المُسْلمِ إذَا لَمْ يجدِ المَاءَ» . قوله: «فامحسوا بوجوهكم» هذا الجَارُّ متعلِّق ب «امسحوا» وهذه الباء يُحْتَمَل أن تكون زَائِدة، وبه قال أبُو البَقِاء، ويحتمل أن تكُون مُتعدِّية؛ لأن سيبويْه حكى: مَسَحْتُ رَاسه وبِرأسه، فيكون من بَابِ نَصَحْتُه ونَصَحْتُ له، وحذف المَسْمُوح به، وقد ظَهَر في آية المَائِدة، في قوله: {مِّنْهُ} [المائدة: 6] فحُمِلَ عَلَيْه هذا. ثم قال - تعالى -: «إن الله كان غفوراً رحيماً» وهو كِناية عن التَّرخيص والتَّيْسِير لأن من غَفَر للمذْنِبين، فبِأن يُرَخّص للعَاجِزين أوْلَى. فصل قال القرطبي: أجْمَع العلماءُ على أن التَّيَمُّم لا يَرْفعَ الجَنَابَة، ولا الحَدَث، وأن المُتَيِّمم لَهُما إذا وجد المَاءَ، عاد جُنُباً أو مُحْدِثاً كما كان؛ لقوله عليه السلام لأبي ذر: «إذَا وَجَدْت المَاءَ، فأمِسَّهُ جِلْدَكَ» . فصل قال القرطبي: والمَسْحُ لفظ مُشْتَرَك يكون بمعنى الجماع، يقال: مَسَح الرَّجُل المَرْأة، إذا جَامَعهَا، والمَسْحُ: مسْح الشيء بالسَّيْف وقَطْعه به، ومَسَحَت الإبل يَوْمَها إذا سَارَت، والمسْحَاءُ المرأة الرسماء التي لا أسْت لها، ولِفُلان مَسْحَة من جمالٍ، والمُرادُ هُنا بالمَسْحِ: عبارة عن مَرِّ اليد على المَمْسُوح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 لما ذكر - تعالى - أنْوَاع التَّكَالِيف من أوَّل السُّورة إلى هنا، ذكر أقَاصيص الجزء: 6 ¦ الصفحة: 402 المُتقدِّمين؛ لأن الانْتَقال من نَوْع من العُلُومِ إلى نَوع آخر كأنه يُنَشِّط الخَاطِر، وقد تقدَّم الكلام في قوله - تعالى - {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ} [البقرة: 258] والمراد ب «الذين أوتوا نصيباً من الكتاب» هم اليَهُود «. وقال ابن عبَّاس: نزلت هذه الآيةُ في حَبْرٍ من أحْبار اليَهُود، كانا يأتِيَان رَأس المُنَافِقِين عبد الله أبيّ [ابن سَلُول] ورَهْطه، يُثَبِّطُونهُم عن الإسْلاَم. وعن ابن عباس أيضاً؛ قال: نزلَتْ في رفاعة بن زَيْدٍ، ومالك بن دخشم، كَانَا إذا تَكَلم رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لوياً لِسَانَهُمَا، وعَابَاه، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية. قوله:» من الكتاب «فيه وَجْهَان: أحدهما: أنه مُتَعِّق بمحْذُوفٍ، إذ هو صِفَة ل» نصيباً «فهو في مَحَلِّ نصبٍ. والثاني: متعلَِّق ب» أوتوا «أي أُوتوا من الكِتاب نصيباَ، و» يشترون «: حالٌ، وفي صاحبها وَجْهَان: أحدهما: أنه واو» [أوتوا] «. والثاني: أنه المَوْصُول وهي على هذا حَالٌ مُقَدرة، والمُشْتَري به مَحْذُوف، أي: بالهُدَى، كما صرح به في مَوَاضِع، ومعنى» يشترون «: يستبدِلون الضَّلالة بالهُدَى. قوله:» ويريدون «عطف على» يشترون «. وقال النَّخْعِي:» وتريدون أن تضلوا «بتاء الخطاب، والمَعْنَى: تُرِيدُون أيها المؤمنون أن تدَّعو الصَّواب، وقرأ الحسن:» أن تَضِلُّوا «من أضل. وقرئ» أن تُضَلُّوا السبيل «بضم التَّاءِ وفتح الضَّادِ على ما لَمْ يُسَمّ فَاعِلُه، والسَّبيل مفعول به؛ كقولك: أخطأ الطَّريقَ، وليس بِظَرْف، وقيل: يتعدى ب» عن «؛ تقول: ضلَلْت السَّبيل، وعن السَّبيل، ثم قال:» والله أعلم بأعدائكم «أي: أعْلَم بما في قُلُوبهم وصدورهم من العَدَاوة والبَغْضاء. قوله:» وكفى بالله ولياً «تقدم الكلام عليه أوّل السُّورة، وكذا الكلام في المَنْصُوب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 403 بَعْده، والمعنى: أنه - تعالى - لما بيَّن شِدَّة عداوتِهم للمسْلِمين، بين أنه - تعالى - وليُّ المؤمِنين ونَاصِرُّهُم. فإن قيل: ولاية الله لعبده عِبَارةَ عن نُصْرَته، فَذَكْر النَّصِير بعد ذِكر الوَلِي تكْرَارٌ. فالجواب: أن الوَلِيَّ هو المُتَصرِّف في الشَّيْء، والمتصرِّف في الشَّيء يجب أن يكُونَ نَاصِراً. فإن قيل: ما الفَائِدة من تكْرار قوله:» وكفى بالله «. فالجواب: أن التِّكْرَا في مِثْل هذا المقَام يكون أشَد تَأثِيراً في القَلِب، وأكْثَر مُبَالَغَة. فإن قيل: ما فائدة تكرار الباء في قوله:» بالله «فذكروا وجوهاً: أحدها: لَوْ قيل: كفى الله، يتصل الفِعْل بالفَاعِل ثم ههُنا زيدَت البَاء إيذَاناً بأن الكفاية منالله لَيْسَت كالكِفَايَة من غَيْره. وثانيها: قال ابن السَّرَّاج: تقديره: كفى اكْتِفَاؤُه بالله وَليًّا، ولما ذكرت» كفى «دلَّ على الاكتفاءِ؛ كما تقول: من كذب كان شَرّاً له، أي: كان الكَذِبُ شرًّا له، فأضمرته لدلالة الفِعْل عليه. وثالثها: قال ابنُ الخَطيب: البَاءُ في الأصْل للإلْصَاقِ، وإنما يَحْسُن في المؤثِّر لذي لا وَاسِطَة بَيْنَهُ وبين التَّأثِير، فلو قيل: كَفَى اللهُ، دلَّ ذلك على كَوْنَهَ فاعلاً لهذه الكِفَايَةِ، ولكن لا يَدُلُّ [ذَلِك على أنَّهُ فعل] بِواسِطَة أو غير وَاسِطَة، فإذا ذَكَرْت البَاء، دلَّ على أنه - تعالى - يَفْعَل بغير واسِطَة، بل هو - تعالى - يتكفَّل به ابتداء من غير واسطَة؛ كقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 قوله تعالى: [ {مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} ] الآية. لما حكَى عنهم أنَّهم يَشْترون الضلالة، بيَّن تلك الضَّلالَةَ ما هي. قوله: «من الذين هادوا» فيه سَبْعَةُ أوْجُه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 404 أحدها: أن يكُون «من الذين» خبر مُقدم، و «يحرفون» جُمْلَة في محلِّ رفع صِفَة لموصُوف مَحْذوف هو مُبْتَدأ، تقديره: مِنَ الذين هَادُوا قومٌ يُحَرِّفون، وحَذْف الموْصُوف بَعْد «مِنَ» التَّبِعِيضيَّة جَائِزٌ، وإنْ كانت الصِّفَة فِعْلاً؛ كقولهم «مّنَّا ظَعَنَ، ومَنَّا أقَامَ» ، أي: فريقٌ أقام، وهذا مَذْهَب سيبويه والفارسِي؛ ومثله: [الطويل] 1805 - وَمَا الدَّهْرُ إلا تارتانِ فَمِنْهُمَا ... أمُوتُ وأخرى أبْتَغِي العَيْشَ أكدحُ أي: فمنهما تَارةٌ أمُوت فِيها. الثاني: قول الفرَّاء، وهو أن الجَارَّ والمجرور خَبَر مقدَّم أيضاً، ولكن المُبْتدأ المحذُوف يقدره مَوصولاً، تقديره: «من الذين هادوا من يحرفون» ، ويكون قد حمل على المَعنى في «يحرفون» قال الفرَّاء: ومِثْله [قول ذي الرِّمَّة] [الطويل] 1806 - فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعُهُ سَابِقٌ لَهُ ... وآخَرُ يَثْنِي دَمْعه العَيْنِ بِاليَدِ قال: تقديره، ومنهم [مَنْ] دَمْعه سَابِقٌ لَهُ، والبَصْرِيُّون لا يُجَوِّزُونَ حذف الموصُولِ؛ لأنه جُزْءُ كلمة، وهذا عِنْدَهم مؤولٌ على حَذْفِ موصوفٍ كما تَقَدَّمَ، وتأويلُهُم أولى لعطفِ النكرة عليه، وهو: آخر وأخْرَى في البَيْت قَبْلَه، فيكون في ذلك دلالةٌ على المَحْذُوفِ، والتقدير: فمنهم عَاشِقٌ سَابِقٌ دَمْعه لَهُ وآخَر. الثالث: أن «من الذين» خَبَر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: «هم الذين هادوا» ، و «يحرفون» على هذا حَالٌ من ضمير «هادوا» وعلى هذه الأوْجُه الثَّلاثة يكون الكلام قم تَمَّ عند قوله: «نصيراً» . الرابع: أن يكون «من الذين» حَالاً [من فاعل «يريدون» قاله أبو البقاء، ومنع أن يكُون حالاً] من الضَّمير في «أوتوا» ومن «الذين» أعنِي: في قوله - تعالى -: «ألم تر إلى الذين أوتوا: قال: لأنَّ الحال لا تكُون لِشَيْءٍ واحِدٍ، إلا بعطف بَعْضِها على بَعْضٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 405 قال شهاب الدين: في هذه المسْألة خلافٌ بين النحويين: منهم من مَنَعَ، وَمِنْهم من جَوَّزَ، وهو الصَّحيح. الخامس: أن {مِّنَ الذين} بيان للموصول في قوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ} لأنهم يهُود ونَصَارَى، فَبَيْنَهُم باليهُودِ، قاله الزمخشري، وفيه نظر من حَيْث إنَّه قد فُصِلَ بينهما بثلاثة جمل هي: {والله أَعْلَمُ} ، {وكفى بالله} ، {وكفى بالله} . وإذا كان الفَارِسيّ قد منع الاعتراض بجُمْلَتيْن، فما بالك بِثلاثٍ، قاله أبو حيان، وفيه نَظَرٌ؛ فإن الجُمَل هنا مُتَعَاطِفَة، والعَطْفُ يصير الشَّيْئيْن شيئاً واحِداً. السادس: أنه بَيَانٌ لأعْدَائِكُم، وما بَيْنَهما اعْتراض أيضاً، وقد عُرِف ما فيه. السابع: أنه متعلِّق ب {نَصِيراً} وهذه المادَّة تتعَدَّى ب» مِن «؛ قال - تعالى -: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم} [الأنبياء: 77] {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله} [غافر: 29] على أحد تأويلَيْن: إمَّا على تَضْمِين النَّصْر معنى المَنْع، أي: مَنَعْنَاهُ من القَوْم، وكذلك: كَفَى بالله مَانِعاً بِنصْره من الذين هَادُوا. وإمَّا: على جعل «مِنْ» بمعنى «عَلَى» ، والأوَّل مَذْهَب البَصْريين، فإذا جَعَلْنَا {مِّنَ الذين} بياناً لما قَبْلَهُ، فبِمَ يتعلَّق والظاهر [أنَّه يتعلَّقُ بمحذُوفٍ؛ ويدل على ذَلِك أنَّهُم قالوا في سقيا لك] ، إنه مُتعلِّق بمحذوف لأنه بَيَانٌ له، وقال أبو البقاء: [وقيل] وهو حَالٌ من أعْدَائِكُم، أي: [والله أعلم بأعْدَائِكُم] كائنين من الذين هادُوا، والفَصْل بينهما مُسَدَّد، فلم يمنع من الحَالِ، فقوله هذا يُعْطي أنه بَيَانٌ لأعْدَائِكُم مع إعْرَابه له حالاً، فيتعَلَّق أيضاً بمحذُوفٍ، لكن لا على ذلك الحَذْف المَقْصُود في البَيَان، وقد ظهر مِمَّا تقدم أن {يُحَرِّفُونَ} ، إما لا مَحَلَّ له، أو لَهُ مَحَلُّ رَفْع أو نَصْبٍ على حَسَب ما تقدَّم وقال أبو رَجَاءٍ والنَّخْعي: «الكَلاَم» وقُرئ: «الكِلْم» بكسر الكاف وسكون اللام، جمع «كَلِم» مخففة من كلمة، ومعانيها مُتَقَارِبَة. قوله: {عَن مَّوَاضِعِهِ} متعلِّق ب {يُحَرِّفُونَ} وذكر الضمير في {مَّوَاضِعِهِ} حملاً على {الكلم} ، لأنَّها جِنْس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 406 وقال الوَاحِدِي: هذا جمع حُرُوفه أقَلُّ من حُروف واحِده، وكل جَمْع يكون كذلِك، فإنه يجوز تَذْكِيرُه. وقال غيره: يمكن أن يُقال: كون هذا الجَمْعِ مؤنَّثاً ليس أمْراً حقيقيَّا، بل هو أمر لَفْظِيٌّ، فكان التَّذكير والتَّأنِيث فيه جَائِزاً. وجاء هُنَا «عن مواضعه» وفي المائدة: {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} [المائدة: 41] . قال الزَّمَخْشَرِي: أما {عَن مَّوَاضِعِهِ} فعلى ما فَسَّرْناه من إزالَتِه عن مواضِعِه، التي أوْجَبَت حِكْمَة الله وَضْعُه فِيهَا بما اقْتَضَت شَهَوَاتُهم من إبْدّال غيره مَكَانَه، وأما «من بعد مواضعه» ، فالمَعْنَى: أنه كَانَت له مواضعُ هو فمِنٌ بأن يكُون فيها فحين حَرَّفوه، تركُوهُ كالغَرِيب الذي لا مَوْضِع له بَعْد مَوَاضِعِه ومَقَارّه والمعنيان مُتَقَارِبَان. قال أبو حيَّان: وقد يُقَال: إنهما سِيَّان لكنه حذف هُنَا وفي أول المائدة [الآية 13] من بعد مواضعه؛ لأن قوله {عَن مَّوَاضِعِهِ} يدل على استِقْرَار مواضِع له، وحذف في ثَانِي المَائِدة «من مواضعه» ؛ لأن التَّحْرِيف «من بعد مواضعه» يدل على أنَّه تحريفٌ عن مَوَاضِعِه، فالأصل: يُحَرِّفون الكَلِم من بعد مَواضِعِه عنها. فحذف هنا البَعْدِيَّة، وهناك تَوَسُّعاً في العِبَارة، وكانت البَدْأة هنا بِقَوْله: «عن مواضعه» ؛ لأنه أخصر، وفيه تَنْصِيصٌ باللَّفْظ على «عَنْ» وعلى المَوَاضِع، وإشارة إلى البَعْدِيّة. وقال أيْضاً: والظَّاهِر أنهم حَيْثُ وُصِفُوا بشدة التَّمَرُّد والطُّغْيَان، وإظْهَار العَدَاوة، واشْتراء الضَّلالة، ونقص المِيثَاقِ، جاء «يحرفون الكلم عن مواضعه» كأنَّهم حَرَّفُوها من أوَّل وهْلَة قبل اسْتَقْرَارِها في مَوَاضِعِها، وبادَرُوا إلى ذلك، ولذلك جاء أوّل المَائِدة كهذه الآية؛ حَيث وَصَفَهمُ بِنَقْض المِيثَاقِ، وقسْوة القُلُوب، وحيث وُصِفوا باللّين وترديد الحُكْم إلى الرَّسُول، جاء «من بعد مواضعه» كأنهم لم يُبَادِرُوا إلى التَّحرِيف، بل عَرَضَ لهم بَعْد استِقْرَار الكَلِمِ في مواضِعِهَا، فهما سِيَاقان مُخْتَلِفَان. [وقوله:] {وَيَقُولُونَ} عَطْفٌ على {يُحَرِّفُونَ} وقد تَقَدَّم، وما بعده في محلِّ نَصْب به. فصل: الخلاف في كيفية التحريف اخْتَلَفُوا في كيْفِيَّة التَّحريف، فقيل: كانوا يُبْدِّلُون اللَّفْظَ بلفظ آخَرَ؛ كتحريفهم الرَّجْم [ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 407 ووضعُوا] موضِعَهُ الجَلْدَ؛ ونظيره {فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله} [البقرة: 79] . فإن قيل: كيف يُمْكن هَذَا في الكتاب الَّذي بَلَغَتْ آحَادُ حُرُوفه، وكلماته مَبْلَغَ التَّوَاتُر، واشتهر في الشَّرْق والغَرْب. فالجواب: لعل القَوْم كانوا قليلين، والعُلَمَاء بالكِتَاب كانوا في غَايَةِ من القِلَّة فَقَدَرُوا على ذَلِك. وقيل: المُرَاد بالتَّحْرِيفِ: إلْقاء الشُّبَه والتَّأويلاَتِ الفاسدَةِ لتلك النُّصًوصِ، وأما الآيَةُ التي في المَائِدة: فهي دالَّة على الجَمْع بين الأمْرَيْنِ، فكانوا يَذْكُرُون التَّأوِيلاَت الفاسِدَةِ، وكانوا يُحَرِّفُون اللَّفْظَ أيضاً من الكِتَابِ. فقوله: {يُحَرِّفُونَ الكلم} إشارة إلى التَّأويل الباطل. وقوله: «من بعد مواضعه» إشارة إلى إخراجه عن هذا الكِتَابِ. وقيل: المراد بالتَّحْرِيف: تغيير صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال ابن عبَّاس: كانت اليَهُود يأتون رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويسْألُونه عن الأمْر، فيُخْبِرهم، فيرى أنَّهُم يأخُذُون بِقَوْلِهِ، فإذا انصرفوا من عِِنْدِه، حرِّفوا كلامه {وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا} منك قولك {وَعَصَيْنَا} أمْرَك، وهو المُرَادُ بقوله: {سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا} . قوله: {واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ} ، في نصبِ «غَير» وجْهَان: أحدهما: أنه حَالٌ. والثاني: أنه مَفْعُول به، والمعنى، اسْمَع غير مُسْمَعٍ كلاماً ترضاه، فَسَمْعُك عنه نَابٍ. قال الزَّمَخْشَريّ، بعد حكايته نَصْبه على الحَالِ، وذكرهُ المعنى المتقدّم: ويجوزُ على هَذَا أن يكون «غير مسمع» مفعول اسْمَع، أي: اسْمَع كلاماً غير مُسْمَع إيَّاك؛ لأن أذُنَك لا تعيه نبُوّاً عنه، وهذا الكلام ذُو مُسْمَع مكْرُوهاً، فيكون قد حَذَفَ المَفْعُول الثَّاني؛ لأن الأوّل قَامَ مَقَام الفَاعِل. وبإرادة الذَّمِّ تقدّر «غير مسمع خيراً» وحذف المفعول الثاني: أيضاً [والمعنى: كانوا يَقُولُون للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اسْمع، ويقُولون في أنْفُسِهم: لا سَمِعْتَ] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 408 وقال أبو البقاء: وقيل: أرادُوا غير مَسْمُوع مِنْكَ، وهذا القَوْل نقله ابن عطيّة عن الطَّبَرِي، وقال: إنه حِكَايةٌ عن الحَسَن ومُجَاهِد. وقال ابن عطيَّة: ولا يُسَاعِده التَّصْريف، يَعْني: أنّ العَرَب لا تقُولُ أسْمَعْتُكَ بمعنى قَبِلْتُ منك، [وإنما تقول أسْمَعْتُه بمعنى: سَبَبْتُه، وسمعت منه بمعنى قَبِلْتُ ويعبرون بالسماع لا بالإسماع عن القبول مجازاً، وتقدم القولُ في {رَاعِنَا} [البقرة: 104] ، وفيها وجوه: أحدُها: أن هذه كلمةٌ كانت تجري بينهم على جهة الهزء والسخريةِ، وقيل معناها: أرِعْنَا سمْعَك، أيْ: اصرف سمْعَك إلى كلامنَا، وقيل: كانوا يقولُونَ: راعِناً، ويُوهِمُونَهُ في ظاهر الأمْر أنهم يُرِيدُونَ رَاعِنَا سَمْعَك، ومرادُهم التشبيهُ بالرعُونةِ في لُغَتِهم. وقيل: كانوا يَلْوُون ألْسِنَتهم، حتى يصيرَ قولُهم: {وَرَاعِنَا} : رَاعِينَا، ويُريدُون: أنَّك كُنْتَ تَرْعَى أغْنَاماً لَنَا. قال الفراءُ: كانوا يَقُولُونَ: رَاعِنَا [ويُهِمُونَهُ في ظاهر الأمْر أنهم يُرِيدُونَ سَمْعَك، ومرادُهم التشبيهُ بالرعُونة] ويريدون الشَّتْمَ، فذاك هو اللَّيُّ، وكذلك قولهم: {غَيْرَ مُسْمَعٍ} أرَادوا به، لا سَمِعْتَ فهذا هو اللَّيُّ. فإنْ قيلَ: كَيْفَ جاءُوا بقولٍ يحتملُ الوجهيْنِ بعد تَصْريحهم بقولهم: سَمِعْنَا وعَصَيْنَا؟ فالجوابُ: أنه قال بعضُ المفسَّرين: إنهم كانوا يقولون «وعصينا» سراً في نفوسهم. وقيل: كان بعضُهم يقولُه سِرًّا، وبعضهم يقول جَهْراً. قوله «لَيًّا بألسنتهم وطعناً» فيهما وجهانِ: أحدهما: أنَّهُمَا مفعول مِنْ أجْلهِ ناصبُهما «ويقولونَ» . والثَّاني: أنَّهُمَا مَصْدَرَانِ في موضع الحَالِ، أيْ: لاوين وطاعنينَ، وأصْلُ لَيًّا [ «لَوْيٌ] » من لَوَى يلْوي، فأدغِمَتِ الواوُ في الياءِ بعد قلبها ياءً، فهو مِثْلُ «طَيٍّ» مصدر طَوَى، يَطْوِي. و «بألسنتهم» ، و «في الدين» متعلّقان بالمَصْدَرَيْنِ قبلهما، وتقدَّم في البَقَرة على قَوْله: «ولو أنهم قالوا» . قوله: «لكان خيراً لهم» فيه قَوْلاَن: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 409 أظهرهما: أن يكُون بمعنى أفْعَل، ويكون المُفَضَّل عَلَيْه «محذوفاً، أي: لو قالُوا هذا الكلام، لكان خَيْراً من ذَلِك الكَلاَمِ. والثاني: أنه لا تَفْضِيل فيه] بل يَكُون بمعنى جيّد وفَاضِل، فلا حَذْف حينئذٍ، والباءُ في» بكفرهم «للسَّبَبية. قوله:» إلا قليلاً «فيه ثلاثة أوجُه: أحدها: أنه مَنْصُوب على الاستثنَاء من {لَّعَنَهُمُ} ، أي: لعنهم الله إلا قليلاً منهم، فإنَّهم آمنُوا فلم يَلْعَنْهُم. والثاني: أنه مستثْنى من الضَّمِير في» فلا يؤمنون «، والمراد بالقَلِيلِ عبد الله بن سَلاَم وأضرابه، ولم يَسْتَحسن مَكِّي هذيْن الوَجْهَيْن: أما الأوّل: قال: لأنَّ مَنْ كَفَرَ مَلْعُونٌ لا يُسْتَثْنَى منهم أحد. وأما الثاني: فلأن الوجْه الرَّفع على البَدَل؛ لأن الكَلامَ غير مُوجِبٍ. والثالث: أنَّه صِفَةٌ لمصدر محذُوف، أي: إلا إيماناً قَلِيلاً؛ وتعليله هو أنَّهُم آمنوا بالتَّوحيد وكَفَرُوا بمحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرِيعَته. وعبَّر الزَّمَخْشَري وابن عطيّة عن هذا التَّقليل بالعَدَم، يعني: أنَّهُم لا يؤمِنُون ألْبَتَّةَ كقوله: [الطويل] 1807 - قَلِيلُ التَّشَكِّي للمُهِمِّ يُصِيبُهُ ... كَثيرُ الهَوَى شَتَّى النَّوَى والمَسَالِك قال أبو حيان: وما ذكراهُ من أنَّ التقْليل يُرادُ به العَدَم صَحِيحٌ، غير أن هَذَا التَّرْكيب الاستثنائي يأباه، فإذا قُلت: لم أقُمْ إلاَّ قَلِيلاً، فالمعنى انْتفَاء القِيَامِ إلا القَلِيل، فيوجد منك إلا أنَّه دالٌّ على انْتِقَاءِ القِيَام ألْبَتَّةَ] ، بخلاف: قلَّما يقُول ذلك أحَدٌّ إلا زَيْد، وقَلَّ رَجُلٌ يفعل ذلك، فإنه يَحْتَمِل التَّقْليل المُقَابل للتكثيرِ، ويحتمل النَّفْي المَحْض، أما أنك تَنْفِي ثم تُوجِب، ثم تُريد بالإجَابِ بعد النَّفْي نَفْياً فلا؛ لأنه يَلْزَم أن تَجيء» إلاَّ «وما بَعْدَهَا لَغْواً من غير فائدةٍ؛ لأن انْتِفَاء القِيَام قد فُهِمَ من َوْلِكَ: لَمْ أقُمْ، فأيُّ فَائِدةٍ في استِثْنَاءٍ مُثْبَتٍ يرادُ به انْتِفَاء مَفْهُوم من الجُمْلَة السَّابِقة، وأيْضاً فإنَّه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 410 يُؤدِّي إلى ان يكُون ما بَعْدَ» إلاَّ «مُوافقاً لما قبلها في المَعْنَى، والاستِثْنَاء يَلْزَم أن يكُون ما بعد إلا مُخالفاً لما قبلها فيهِ. فصل: الخلاف في القليل الوارد في الآية معنى الكَلاَم «فلا يُؤمِن إلاَّ أقْوامٌ قَلِيلُون، واخْتَلَفُوا في ذلك القليل: فقال بعضُهم: هو عَبْد الله بن سَلاَم، ومن أسْلَم معه مِنْهُم. وقليل: القَلِيل صفة للإيمان، والتَّقدير: فلا يؤمِنوُن إلا إيماناً قليلاً، فإنَّهم كَانُوا يرمِنُون بالله والتَّوْرَاة [موسى] ، والتَّقْدِير: فلا يُؤمِنُون إلا بِمُوسَى، ولكنَّهم كانوا يَكْفُرون بسائِر الأنبياءِ، وَرَجَّحَ أبو عَلِيٍّ الفَارِسِيّ هذا القَوْل؛ قال: لأن {قَلِيلاً} لفظ مُفْرَد، والمُرَادُ به الجَمْع، قال - تعالى -: {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69] ، وقال: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً يُبَصَّرُونَهُمْ} [المعارج: 10، 11] فدلَّ عَوْد الذكر مَجْمُوعاً إلى الآيتيْن على أنَّه أريد بهما الكَثْرة. فصل: الاستدلال بالآية على جواز تكليف ما لا يطاق استدل بَعْضُ العُلماء بهذه الآيةِ مع الآيةِ التي بَعْدَهَا، على جَوازِ تكْلِيفِ ما لا يُطَاق؛ لأنه - تعالى - أخْبَرَ عَنْهُم في هذه الآية بأنَّهُم لا يُؤمِنُون، وخبرُهُ - تعالى - صِدْق وحَقٌّ، ثم أمرهم في الآيةِ التي بَعْدَها بالإيمانِ، فقال: {يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ} [النساء: 47] فأمرهم بالإيمان مع إخْبَارِه بأنَّهمُ لا يُؤمِنُون. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 «وذلك أن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَلَّم أحْبَارَ اليَهُود: عِبْد اللهِ بن صوريا، وكَعْب بن الأشْرَف، فقال: يا مَعْشَر اليَهُود، اتَّقُوا الله وأسْلِمُوا، والله إنكُم تَعْلَمُون أن الَّذِي جِئْتُم به الحَقّ، قالوا: ما نَعْرِفُ ذلك، وأصَرُّوا على الكُفْرِ؛» فَنَزَلَت هذه الآية. فإن قيل: كان يَجِبُ أن يأمُرهُم بالنَّظَرِ والتفكُّر في الدَّلاَئِل، حتى يكُون إيمانُهُم استِدْلاليّاً، فلما أمرهُم بالإيمان ابْتِداءً؛ فكأنه - تعالى - أمَرَهُم باٌيمَان على سَبِيل التَّقْليد. فالجوابُ: أن هذا خِطابٌ مع أهْلِ الكتاب، وكانُوا عَالِمين بِهَا في التَّوْراة؛ ولهذا قال: {مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ} أي: من الآيَاتِ الموْجُودَة فِي التَّوْرَاة الدَّالة على نُبُوَّة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 411 قوله: {مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ} متعلِّق بالأمْرِ في قوله: {آمِنُواْ} ونطمِسُ يكون متعدِّياً ومنه هذه الآية؛ ومثلها: {فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ} [المرسلات: 8] لبنائه للمَفْعُول من غير [حَرْف] جَرٍّ، ويكُون لازِماً، يقال: طَمَسَ المَطَرُ الأعلامَ، وطَمَسَت الأعْلامُ. قال كعب: [البسيط] 1808 - مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذَّفْرَى إذَا عَرِقَتْ ... عُرْضَتُهَا طَامِسُ الأعلامِ مَجْهُولُ وقرأ الجُمْهُور: {نَّطْمِسَ} بكسر الميم، وأبو رَجَاء بِضَمِّها، وهما لُغَتَان في المُضَارِع، وقدَّر بعضهم مُضافاً أي: «عيون وجوه» ويقوَّيه أن الطَّمْس للأعْيُن؛ قال - تعالى -: {لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ} [يس: 66] . فصل في معنى الطمس والخلاف فيه الطَمْسُ: المَحْوُ؛ تقول العرب في وصف المفَازَةِ: إنها طَامِسَةُ الأعلامِ، وطَمس الطَّرِيق إذا دَرَسَ، وقد طَمَسَ الله على بَصَرِه؛ إذا أزَالَهُ، وَطَمَست الرِّيحُ الأثَر: إذا مَحَتْهُ، وطَمَسْت الكِتَاب: إذا مَحَوْتَه، واخْتَلَفُوا في المراد بالطَّمْسِ هُنَا. فقال ابن عباس: نَجْعَلُهَا البَعِير. وقال قتادة والضَّحَّاك «نُعْميها. وقيل: نمحو آثارَهَا وما فيها من أعْيُن، وأنفُ، وَفَم، وحَاجِب. وقيل: نجعل الوُجُوه منابِتَ الشَّعَر، كوُجُوهِ القِرَدَةِ، وقيل: يجعلُ عَيْنَيْهِ في القَفَا؛ فَيَمْشِي القَهْقَرِى، وقيلَ: المرادُ ب» الوجوهِ «: الوجَهَاءُ، والرؤسَاءُ. ورُوِيَ: أنَّ عبد الله بْنَ سلامٍ، ولمّا سَمِعَ هذه الآية؛ جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أنْ يأتِيَ أهْلُهُ، ويدَهُ على وَجْهِهِ، وأسْلَم، وقال: يا رسُولَ الله، ما كنتُ أرَى أنْ أصِلَ إليْك؛ حَتَّى يتحولَ وَجْهِي إلى قَفَايَ؛ وكذلك كعبُ الأحْبَارِ، لَمَّا سَمِعَ هذه الآيةَ، أسْلَمَ في زَمَنِ عُمَرَ، فقال: يا رَبِّ، آمَنْتُ، يا رَبِّ، أسلمتُ؛ مخافَةَ أنْ يُصِيبَه - وعيدُ هذه - الآية. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 412 فإن قيلَ: قد أوعدهم بالطمْسِ إنْ لم يُؤمِنُوا، ولَمْ يَفْعَلْ ذلك بِهم؟ فالجوابُ: أنَّ الوَعِيدَ باقٍ، ويكونُ طَمْسٌ، ومَسخٌ في اليهود، قَبْلَ قِيَامِ السَّاعَةِ، وقيل: إنَّه جَعَل الوِعيدَ: إمَّا الطمسَ، وإمَّا اللَّعْنَ، وقد فَعَلَ أحَدَهُمَا، وهو اللَّعْنُ. وقيل: كان هذا وَعيداً بشرطٍ فلما أسْلَمَ عبد الله بن سلام، وأصحابُه، رفع ذلك عن الباقينَ، وقيل: أرَادَ بِهِ في القيامةِ. وقال مُجَاهِدٌ: أراد بقوله {نَّطْمِسَ وُجُوهاً} ، أيْ: يترُكهُم في الضَّلاَلَة، فيكون المرادُ طَمْسَ وَجْهِ القَلْبِ، والردَّ عن الهُدَى. وقال ابنُ زَيْدٍ: نَمْحُو آثَارَهُمْ مِنْ وجُوهِهِم، ونَوَاصيهم التي هم بها وقد لحقَ اليهودَ، ومضى، وتأويل ذلك في إجْلاءِ قُُرَيْظَةَ والنَّضِيرِ إلى الشَّام، فردَّ اللهُ وُجُوهَهُم على أدْبَارِهم، حين عادوا إلى أذْرِعَاتٍ، وأريحاء من الشامِ. قوله: {على أَدْبَارِهَآ} فيه وَجْهَانِ: أظهرهُمَا: أنَّهُ متعلقٌ ب {فَنَرُدَّهَا} . والثَّاني: أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من المفعولِ في «نلعنهم» يَعُودُ على الوُجُوهِ، على حَذْفِ مُضَاف إلَيْهِ: أيْ: وُجُوم قَوْم، أوْ عَلَى أن يُرادَ بِهمُ: الوُجَهَاءَ والرؤساءَ، أو يعودَ على الَّذين أوتُوا الكِتَابَ، ويطونُ ذلك التِفاتاً مِنْ خَطَابٍ إلى غَيْبَةٍ، وفيه اسْتِدْعاؤهُم للإيمانِ؛ حيثُ لم يُوَاجِهْهُمْ باللَّعْنَةِ بَعْدَ أن شَرَّفَهُم بكوْنِهم مِنْ أهْل الكتابِ. فصل في المراد باللعن قال مُقَاتِلٌ، وغَيْرهُ: المرادُ باللَّعْنِ: مَسْخُهُمْ قِرَدَةً، وخَنَازِير، فإنْ قيل: قد كان اللَّعْنُ حَاصِلاً قبل هذا الوعيد. فالجوابُ: إنَّ اللَّعْنَةَ بعد الوعيد، أزْيَدُ تأثيراً في الخِزْيِ، وقيل: المرادُ بهذا اللَّعْن، الطَّرْدُ، والإبْعَادُ [و] قولهُ {وَكَانَ أَمْرُ الله} : أمرٌ واحدٌ أُريدَ به الأمُورُ، وقيل: هو مصدرٌ واقعٌ موقعَ المفعولِ به، أيْ: مَأمُوره، أي: ما أوْجَدَه كائِنٌ لا مَحَالَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 413 قال ابنُ عبَّاس: يريدُ لا رَادَّ لِحُكْمَه، ولا ناقِضَ لأمْرِه، وعلى [مَعْنَى] أنه لا يَبْعُدُ عليه شَيءٌ [يُريدُ] أن يَفْعَلهُ، وإنَّما قال: {وَكَانَ} إخباراً عن جريان عادةِ اللهِ في الأنْبِياءِ المتقدَّمِينَ، أنَّه مَتَى أخْبَرَهم بإنْزَال العَذَابِ عليْهم فعل ذلك لا مَحَالة. فصل: دفع شبهة الجبائي احتجَّ الجُبَّائِيُّ بهذه الآيةِ على أنَّ كلامَ اللهِ مُحْدَثٌ؛ لأنَّ المفعولَ مَخْلُوقٌ. فالجوابُ: أنَّ الأمْرَ في اللُّغَةِ، جاءَ بمعنى الشَّأنِ، والطَّريقَةِ، والفِعْلِ؛ قال تعالى: {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 لما توعَّدَ الكُفْرُ، وبين أنَّ ذلك التقديرَ لا بُدَّ من وُقُوعِهِ، يَعْنِي: أنَّ ذلك إنَّما هو مِنْ خَواص الكُفْرِ، أمَّا سَائِرُ الذُّنُوبِ غيرَ الشِّرْكِ، فإنه يَغْفِرُها، إن شاءَ. قال الكَلْبِيُّ: نزلتْ في وَحْشِيّ بن حَرْبٍ، وأصحابه؛ وذلك أنَّه لما قُتِل حَمْزَةُ، كان قد جُعِلَ له على قَتْلِه أنْ يُعْتَقَ، فلم يُوفَّ له بذلك، فلما قَدمَ مَكَّةَ، نَدِمَ على صُنْعِهِ، هُوَ، وأصحابُهُ؛ فكَتَبُوا إلى رسولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّا قَدْ نَدِمْنَا على الذي صَنَعْنَا، وإنَّه لَيْسَ يَمْنَعُنَا عن الإسلامِ إلاَّ أنَّا سَمعناكَ تَقُولُ بِمَكَّةَ: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الفرقان: 68] الآياتِ، وقد دعونا مع الله إلهاً أخر، وقتلنا النفس التي حرم الله قتلها وزنينا، فلوْلا هذه الآياتُ، لاتَّبَعْنَاك؛ فنزلت: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً} [الفرقان: 70] ، الآيتين، فبعثَ بهما [رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] إليهم فلما قرءُوا، كتبوا إليْهِ: إنَّ هذا شَرْطٌ شَدِيدٌ نَخَافُ إلاَّ نَعْمَلَ عَمَلاً صالحاً فنزلَ: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} ، فَبَعَثَ بها إليهمْ، فبَعَثُوا إليه: إنَّا نَخَافُ ألاَّ نكون مِنْ أهْلِ المشيئةِ؛ فنزلتْ: {ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله} [الزمر: 53] فبعث بها إليهم؛ فَدَخَلُوا في الإسلامِ، ورجعُوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَبِل مِنْهم، ثم قال [عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ] لِوَحْشِي: «أخْبِرْنِي: كَيْفَ قَتَلْتَ حَمْزَةَ» ؟ فلَمَّا أخْبَرَهُ، قال: «وَيْحَكَ! غَيِّبْ وَجْهَكَ عَنِّي» ، فَلَحِقَ وَحْشِيٌّ بالشَّامِ، وكانَ بِهَا إلى أنْ ماتَ. وروى أبُو مِجْلَز، عن ابْنِ عُمَر: «لمَّا نزلت:» يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم « الجزء: 6 ¦ الصفحة: 414 الآية، قام رَجُلٌ، فقال: والشِّرْك يا رسُولَ الله، فَسَكَتَ، ثم قام إلَيْهِ مَرَّتَيْنِ، أو ثلاثاً؛ فنزلتْ:» إن الله لا يغفر أن يشرك به «الآية، قال مُطْرِّفُ بنُ الشَّخِّير: قال ابنُ عُمَرَ: كُنَّا على عهدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذَا مَاتَ الرجلُ على كَبِيرَةٍ، شَهِدًنَا أنَّه مِنْ أهْلِ النَّارِ، حتى نزلتْ هذه الآيةُ، فأمْسَكٍنَا عن الشَّهَادَاتِ. حُكِيَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ هذه الآيةَ أَرْجَى آيةٍ في القُرْآنٍ. قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} ، كلامٌ مُسْتأنفٌ، ولَيْسَ عَطْفاً على {َيَغْفِرُ} الأوَّلِ؛ لفسادِ المعنى، والفَاعِلُ في {يَشَآءُ} ضميرٌ عَائِدٌ على الله تعالى، ويُفْهَمُ مِنْ كلام الزَمخْشريّ: أنَّهُ ضميرٌ عائِدٌ على مَنْ في» لمنْ «لأنَّ المعنى عِنْدَه: إنَّ الله لا يغفرُ الشِّرْكَ لمن لا يشاء أن يغفر له؛ لِكَوْنِه مَاتَ على الشِّرْكِ، غَيْر تائِب مِنْه، ويغفرُ ما دُونَ ذَلِك لِمَنْ يشاءُ أنْ يغفرَ له، بكونه ماتَ تَائباً مِنَ الشِّرْكِ، و {لِمَن يَشَآءُ} متعلِّقٌ ب {َيَغْفِرُ} . قوله: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدِ افترى إِثْماً عَظِيماً} أيْ: اختلق ذَنْبتً غيرَ مَغْفُورٍ. يُقالُ: افْتَرَى فُلانٌ الكَذِبَ، إذا اعْتَمَلَهُ، واخْتَلَقَهُ، وأصْلُه: من الفَرْي، بمعنى القَطْعِ. رَوَى جَابرٌ قال: «أتى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رَجَلٌ، فقال: يا رسولُ الله، ما المُوجِبتان؟ قال مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بالله شيئاً، دَخَلَ الجَنَّة، ومَنْ مَاتَ يُشْرِكُ باللهِ شَيْئاً، دَخَلَ النَّارَ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 415 وقال ابنُ عبَّاسٍ: إنَّي لأرْجُو، كَمَا لا يَنْفَعُ مَعَ الشِّرْكِ عَمَلٌ؛ كَذلِكَ لا يَضُرُّ مَعَ التَّوحِيد ذَنْبٌ، ذَكَرَ ذلك عِنْدَ عُمَر بْنَ الخطَّابِ؛ فَسَكَتَ عُمَرُ. وروى أبُو ذَرٍّ، «قالَ: أتَيْتُ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وعليه ثَوْبٌ أبْيَض، وهو نَائِمٌ، ثُمَّ أتَيْتُهُ، وقد استَيْقَظَ؛ فقال:» مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لا إله إلا اللهُ، ثُمَّ مَاتَ على ذَلِكَ؛ إلاَّ دَخَلَ الجنَّة «. قُلْتُ: وَإنْ زَنا، وإنْ سَرَقَ {قَال:» وإنْ زَنَا، وإنْ سَرَقَ «. [قُلْتُ: وَإنْ زَنَا، وإنْ سَرَقَ} قَال:» وإنْ زَنَا، وإنْ سَرَقَ «، قُلْتُ: وَإنْ زَنا، وإنْ سَرَقَ! قَال:» وإنْ زَنَا، وإنْ سَرَقَ] ، عَلَى [أنْفِ] أبِي ذَرٍّ «، وكانَ أبُو ذَرٍّ إذا حدث بهذا، وإنْ رَغم أنْفُ أبِي ذَرٍّ. فصل قال القُرطُبِيُّ: قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} من المُحْكَمِ المتفقِ عليه، الذي لا خلاف فيه بَيْنَ الأمةِ، وقوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} ، من المُتَشَابَهِ، الَّذي قد تَكَلَّمَ العلماءُ فيه. فقال مُحَمدُ بن جَريرٍ الطَّبريّ: قد أبَانَتْ هذه الآيةُ كُلَّ صاحِبِ كَبيرةٍ، فَفِي مَشِيئةِ الله عَزَّ وَجَلَّ إن شاء [عفَا لَهُ، وَإنْ شَاءَ] ، عاقَبَه، مَا لَمْ تَكُنْ كَبِيرتُهُ شِرْكاً، وقالَ بعضُهُم: قد بين الله تعالى، بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء: 31] . فأعْلَمَ أنَّهُ: يُكَفِّرُ الصَّغَائِرَ لمن اجْتَنَبَ الكَبَائِرَ، لمنْ يشاءُ، ولا يَغْفِرُ الصغَائِرَ لمنْ أتَى الكَبَائِرَ. وقال بعضُهم: هذه الآيةُ ناسِخَةٌ للتي في آخرِ الفُرْقَانِ. قال زَيْدُ بنُ ثَابِتٍ: نزلتْ سُورةُ النِّسَاءِ بَعْدَ سُورَةِ الفُرقَانِ بِسِتَّةِ أشْهُرٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 416 قال القُرِطُبِيُّ: والصحيح أنَّهُ لا نَسْخَ، لأنَّ النَّسْخَ فِي الأخْبَارِ مُسْتَحِيلٌ، وسيأتي الجمعُ بَيْنَ الآي، في هذه السُّورةِ؛ وَفِي الفُرْقَانِ، إنْ شَاءَ اللهُ تعالى. فصل هل يسمى اليهودي مشركاً في الشرع؟ قال ابنُ الخطيب: دلتْ هذه الآيةُ على أنَّ اليَهُودِيِّ يُسَمَّى مُشْرِكاً في الشَّرْعِ؛ لأنها دالَّةٌ على أنَّ مَا سِوَى الشركِ من الكَبَائِرِ يُغْفَرُ، فَلَوْ كَانَتِ اليهوديَّةُ مُغَايِرة للشِّرْكِ، كَانَتْ] مَغْفُورَةً بحكم الآية، وهو خِلاَفُ الإجْمَاعِ، ولأنَّ هذه الآيةَ مُتَّصِلَةٌ بوعِيِدِ اليَهُودِ، فَلَوْلاَ دُخُوُل اليهوديةِ تحتَ اسْمِ الشِّرْكِ، لم يحْصُل الالتئامُ. فإنْ قيلَ: عَطْفُ» الذين أشركوا «على» الذين هادوا «في قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} [الحج: 17] ثُمَّ قَالَ [بعده] : «والذين أشركوا» يَقْتَضِي المُغَايَرَةَ. قُلْنَا: المغايرةُ في المفهومِ اللُّغَويِّ، والاتِّحاد في الشرعي؛ دَفْعَاً للتَّنَاقُضِ، ويتفرَّعُ عليه أنَّ المسلمَ لا يُقْتَلُ بالذِّمي؛ لأنَّ المشركَ مُبَاحُ الدَّكِ؛ لقوله تعالى: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] ، ومُبَاحُ الدَّمِ لا يُقْتَصُّ مِنْ قَاتِلِهِ، ولا يتوجَّهُ النَّهْيُ عن قَتْلِه، ترك العَمَلِ بهذا الدليلِ في حقِّ النهي فَبَقِيَ مَعْمُولاً به في سُقُوطِ القِصَاصِ عَنْ قَاتله. فصل في دلالة الآية على العفو عن أصحاب الكبائر هذه الآيةُ أقْوَى الدلائلِ على صِحَّة العَفْوِ عن أصْحَابِ الكَبَائِرِ، من وجوه: الأوَّلُ: أنَّ قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} أيْ لا يغفرُهُ فَضْلاً معَ عدمِ التوبةِ؛ لأنَّهُ يُغْفَرُ وُجُوباً عند التوبةِ بالإجماع؛ فيكون قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ} على سَبِيلِ الفَضْلِ، حَتَّى يتواردَ النَّفْيُ والإثباتُ على مَعْنَى واحدٍ؛ كما لو قال: إنَّ فُلاناً شَاءَ لا يُعْطِي على سبيلِ فَضْلِ الوُجُوبِ، كان رَكِيكاً، وحينئذٍ: يَجِبُ أنْ يكُونَ المرادُ أصْحابَ الكَبَائِرِ، قَبْلَ التَّوْبَةِ؛ لأنَّ عند المعتزِلَةِ، غُفْرَانَ الصَّغائِرِ، والكبائِرِ بَعْدَ التَّوْبَةِ - وَاجِبٌ عَقْلاً، فلا يُمْكن حَمْلُ الآيةِ عَلَيْهِ، فلم يَبْقَ إلاَّ الكَبَائِرُ قَبْلَ التَّوْبَةِ. الثّاني: أنَّ ما سِوَى الشِّرْكِ، يَدْخُلُ فيه الكبائرُ قَبْلَ التوبةِ، وبعدَهَا، ثُمَّ حَكَمَ على الشِّرْكِ بأنَّهُ غيرُ مَغْفُورٍ، وَعَلَى غَيْرِ الشِّرْكِ بأنَّهُ مَغْفورٌ لمنْ يشاءُ، فَوَجَبَ أنْ تكونَ الكبيرةُ قَبْلَ التوبةِ مَغْفُورةٌ. الثالثُ: أنَّه علَّقَ الغُفْرَان بالمشيئَةِ، وغُفْرَانُ الكَبِيرةِ بعد التوبةِ والصَّغِيرَةِ مَقْطُوعٌ به، فوجب أنْ يكونَ المعلَّق الكبيرة قبلَ التوبةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 417 فإن قيلَ: إنَّ تَعْلِقَهُ على المشِيئَةِ، لا يُنَافِي وُجُوبَهُ، كقوله تعالى: {بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} ، ثُمَّ إنَّا نَعْلَمُ أنَّه لا يُزَكِّي إلاّ مَنْ يكونُ أهْلاً للتَّزكِية، وإلاَّ فكانَتْ كَذِباً. واعلمْ: أنه ليس للمعتزلةِ في مُقَابلة هذه الوُجُوهِ كلامٌ يُلْتفتُ إليه، [إلا المعَارَضَة بآياتِ الوعِيدِ] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 قد تقدَّمَ الكلامُ على مِثْل قوله: «ألم تر» ، وقوله: «بل» ، إضْرَابٌ عَنْ تزكيتهم أنفُسَهُم، وقدّر أبُو البقاء قبل هذا الإضراب جُمْلَةً؛ قال: تقديرهُ: أخْطؤوا، {بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ} . [وقوله: «ولا يظلمون» ، يجوزُ أنْ يكونَ حَالاً ممَّا تقدَّم، وانْ يكون مُسْتَأنفاً، والضميرُ في «يظلمون» يجوزُ أنْ يعود على «من يشاء» ] أيْ: لا يُنْقِصُ مِنْ تزكيتهم شيئاً، وإنَّما جَمَعَ الضميرَ؛ حَمْلاً على مَعْنَى «من» وأنْ يَعُودَ على الذين يُزَكونَ، وأنْ يعُودَ على القَبِيليْن مَنْ زَكَّى نَفْسَهُ، وَمَنْ زَكَّاهُ الله، فَذَاكَ لاَ يُنْقِصُ من عقابه شَيْئاً، وهذا لا يُنْقِصُ مِنْ ثَوَابِهِ شَيْئاً، والأوَّلُ أظْهَرُ؛ لأن «من» أقَرْبُ مَذْكُورٍ، ولأنَّ «بل» إضرابٌ مُنْقطعٌ ما بَعْدَهَا عمَّا قَبْلَهَا. وقال أبُو البَقَاءِ: ويجوزُ أن يكُونَ مُسْتأنَفاً، أيْ: منْ زَكَّى نَفْسَه، ومَنْ زَكَّاهُ اللهُ. انتهى. فجعل عودَ الضميرِ على الفَريقَيْنِ؛ بِناءً على وَجْهِ الاسْتِئْنافِ، وهذا غيرُ لازِمٍ [بل] يجوزُ عودهُ عَلَيْهِمَا، والجملةُ حَالِيَّةٌ. و {فَتِيلاً} مَفعُولٌ ثانٍ؛ لأن الأولَ قامَ مَقَامَ الفاعِلِ، ويجوزُ أنْ يكونَ نَعْت مَصْدرٍ مَحْذُوفٍ، كما تقدَّمَ تقديره في: {مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} [النساء: 40] ، والفَتِيلُ: خَيْطٌ رَقيقٌ في شِقِّ النَّواة [يَضْرَبُ به المَثلُ في القِلَّةِ، قالَهُ ابنُ السّكيتِ، وغيرُهُ. وقيل: هو مَا خَرَجَ مِنْ بيْن إصْبَعَيْكَ، أو كَفَّيْكَ مِنَ الوَسَخ] حين تَفْتُلُهُمَا، فهو فَعِيلٌ بمعنى مَفْعُولٍ، وقد ضرب العَرَبُ المثلَ في القِلّةِ التافِهَةِ بأربَعةِ أشْيَاء، اجتمعْتَ في النواةِ، وهي: الفَتِيلُ، والنَّقِيرُ: وهو النُّقْرَةُ التي في ظهر النَّواةِ، والقِطْميرُ: هو القِشْرُ [الرقيقُ] فوقها [وهذه الثلاثةُ واردَةٌ في الكتابِ العزيز، والثُّفْروق: وهو ما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 418 بيْنَ النواةِ والقِمْع] الَّذِي يكوُنُ في رَأسِ التَّمرة كالعلاقَةِ بَيْنَهُمَا. فصل لما هَدّد اليهود بأنه تعالى لا يغفرُ أنْ يشركَ به، قالوا: لَسْنَا منَ المشركينَ، بل نحنُ مَنْ خَوَّاصِّ اللهِ. قال الكَلْبيُّ: «نزلت هذه الآيةُ في رِجَالٍ مِنْ اليهود: منهم» بَحْرى بنُ عُمَرَ «، و» النُّعْمانُ بنُ أوْفَى «، و» مَرْحَبُ بنُ زَيْدٍ «أتَوْا بأطْفالهم إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقَالُوا: يا محمدُ [هَلْ] على هَؤلاءِ مِنْ ذنْبٍ؟ فقال: لاَ، قالوا: ما نَحْنُ إلاَّ كَهَيْئتهم، ما عَمِلْنَا بالنهار، يُكَفِّر عنّا بالليل، وما علمنا بالليل، يكفرُ عنَّا بالنهار، يُكَفِّر عنّا بالليل، وما علّمنا بالليل، يكفرُ عنَّا بالنهارِ» ، فنزلت هذه الآيةُ. وقال مُجاهِدٌ، وعكْرمة: كانُوا يُقدِّمُونَ أطْفَالَهُم في الصلاةِ، يَزْعمُوَن أنَّهم لا ذُنُوبَ لَهُم، فتِلْكَ التزكيةُ. وقال الحَسنُ، والضحاكُ، وقتادةُ، ومقاتلٌ: نزلت في اليهود، والنصارى، حينَ قَالُوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] . قال عبدُ الله بنُ مسعودٍ: هو تزكيةُ بعضِهم لبَعضٍ. فصل التَّزْكِيَةُ - ها هنا - عِبارةٌ عنْ مَدْح الإنْسَانِ نَفْسَهُ. قال تعالى: {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} [النجم: 32] والتَّقْوَى: لا يَعْلَمُ حقيقتَها إلاَّ الله تعالى. فإن قيل: ألَيْسَ قد قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «واللهِ، إنّي لأمِينٌ في السَّماءِ، وأمِينٌ في الأرْضِ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 419 فالجوابُ: إنَّما قال ذلك حين قال المنافِقُون له: اعدِلْ في القِسْمَة؛ ولأنَّ الله تعالى لمَّا زكَّاه أوَّلاً بِقِيامِ المعْجزةِ، جاز له ذَلِكَ، خلافِ غيرِه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 {كَيفَ} منصوبٌ ب {يَفْتَرُونَ} وتقدم الخِلافُ فيه، والجملةُ في محلِّ نَصْبِ، بعد إسقاط الخَافِضِ؛ لأنَّها مُعلقةٌ ل «انظر» يتعدى ب «في» ؛ لأنها - هنا - ليستْ بَصريَّةً، و «على الله» مُتعلِّقٌ ب {يَفْتَرُونَ} ، وأجاز أبُو البَقَاءِ: أنْ يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من الكذبِ، قُدِّمَ عليه، قال: «ولا يجوز أن يتعلق بالكذب؛ لأن معمولَ المصْدَرِ لا يتقدَّمُ عليه، فإن جعل على التَّبيين جَازَ» ، وجوّز ابن عطيةَ: أن يكون «كيف» مُبْتدأ، والجملةُ مِنْ قوله {يَفْتَرُونَ} الخَبَرُ، وهذا فاسدٌ، لأن «كَيْفَ» لا تُرْفَعُ بالابتداءِ، وعلى تقدير ذلك، فأيْن الرَّابِطُ بينها وبَيْنَ الجملةِ الوَاقعَةِ خبراً عنها ولم تكن نفس المُبْتدأ، حتى تِسْتغْنِي عَنْ رَابِطٍ، و {إِثْماً} تمييزٌ، والضميرُ في «به» عائدٌ على الكذبِ، وقِيلَ: على الافْتِرَاءِ وجعلهُ الزمخشريُّ عَائِداً على زَعمهمْ، يعْنِي: من حَيْثُ التقديرُ. فصل في تعجيب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من اليهود هذا تَعْجيبٌ للنبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مِنْ فرْيتهم على الله، وهو تَزْكيتهُم أنْفسَهُمِ وافْتراؤهم، وهو قولهم: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] . فصل في معنى الكذب الكَذِبُ: هو الإخْبَارُ عَنِ الشيء على خلافِ المُخبرِ عَنْهُ، سَواءٌ عَلِمَ قَائِلُه كَوْنَهُ كذلك، أوْ لا يَعْلَمُ، وقال الجَاحِظُ: شَرْطُ كَوْنِهِ كَذِباً، أنْ يعلمَ القائِلُ كَوْنَه بِخلافِ ذلكِ، وهذه الآيةُ دليلٌ عليه؛ لأنَّهم كانُوا يَعْتَقدٌون في أنْفسهم الزِّكاءَ، والطَّهَارَةَ: وكذبهم الله فيه. وقوله: {وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً} يقالُ في المدْحِ، وفي الذَّمِّ، أمَّا فِي المدْحِ، فكقوله {والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وكفى بالله وَلِيّاً وكفى بالله نَصِيراً} [النساء: 45] وأمَّا في الذَّمِّ، فكما في هذا الموضع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 قال المُفسِّرون: خرج كَعْبُ بنُ الأشْرَفِ، وحُيَيّ بن أخْطَبَ، فِي سَبْعِينَ رَاكِباً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 420 من اليَهُودِ إلى مَكَّةَ بعد وَقْعَةِ أحُد؛ ليُحالفُوا قُرَيْشَاً، على مُحَارَبَةِ الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسلام - ويَنقُضُوا العهدَ الذي كان بينَهُم وبين النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فنزل كَعْبٌ علَى أبي سُفْيانَ؛ فأحْسَن مَثْوَاه، ونزلت اليهودُ في دُورِ قُرَيْشٍ، فقال أهْلُ «مكةَ» : إنكم أهل كتاب، ومُحَمَّدٌ صاحب كِتابٍ، ولا نأمَنُ أن يكُونَ هذا مَكراً مِنكم، فإن أرَدْتَ أن نخرجَ مَعَكَ، فاسْجُدْ لهذين الصَّنَمَيْنِ وآمنوا بهما، فَفَعلُوا ذلك؛ فذلك قوله تعالى: {يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت} . ثم قال كَعْبٌ لأهْلِ مَكَّةِ: ليجيء منكم [الآن] ثلاثُونَ ومِنَّا ثلاثُونَ فنلْزق أكْبَادنا بالكعبةِ؛ فنعاهد رَبَّ هذا البيتِ، لنجهدنَّ على قِتَالِ مُحَمَّدٍ؛ فَفَعلُوا، ثُمَّ قال أبُو سُفْيانَ لِكَعْبٍ: إنَّك امرؤٌ تَقْرَأُ الكِتَابَ، وتَعْلَمُ، ونحنُ أُمُّيُّون، ولا نَعْلَمُ، فَأُّنَا أهْدَى طَريقاً: نَحْنُ أم مُحَمَّدٌ؟ فقال كَعْبٌ لأبي سُفْيان: اعرضُوا عليَ دينكم، فقال أبُو سُفْيَانَ: نحن نَنْحَرُ للحَجِيج الكُومَاء، ونَسْقيهمُ [الماء] ونَقْري الضَّيْفَ، ونُقِلُّ العَانِ، ونَصِلُ الرَّحِمَ، ونعَمِّرُ بين رَبِّنَا، ونطوفُ به، ونحنُ أهْلُ الحَرَم، ومحمدٌ فارق دينَ آبَائِهِ، وقطعَ الرَّحمَ، وفارقَ الحَرَمُ، ودينُنَا القَديمُ، ودينُ محمدٍ الحديثُ، فقال كَعْبٌ: أنْتُمْ واللهِ أهْدَى سَبِيلاً مَمَّا عليه محمدٌ؛ فنزلتْ هذه الآيةُ. قوله: {يُؤْمِنُونَ} فيه وجهانِ: أحدُهُمَا: انه حَالٌ إمَّا من: «الذين» وإمَّا مِنْ واوِ «أوتوا» ، و «بالجبت» مُتعلِّقٌ به، و «يقولون» عطفٌ عليه، و «الذين» مُتعلِّقٌ ب «يقولون» ، واللامُ؛ إمَّا للتبيلغِ، وإمَّا لِلْعِلةِ؛ كنظائرها، و «هؤلاء أهدى» مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ في محل نَصْبٍ بالقول و «سبيلاً» تَميِيزٌ. والثَّانِي: أنَّ «يؤمنون» مُسْتأنَفٌ، وكأنَّه تعجَّبَ مِنْ حَالِهم؛ إذْ كَانَ يَنْبَغِي لِمَنْ أوتِيَ نَصيباً من الكتاب؛ إلاَّ يَفْعَلَ شَيْئاً مِمَّا ذُكِرَ، فَيكُونُ جواباً لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ؛ كأنَّهُ قيلَ: إلاَ تَعْجَبُ مِنْ حَالِ الذِين أوتُوا نَصِيباً من الكتاب؟ فقيل: وما حالُهم؟ فقالَ: يؤمِنُون [ويقولونَ، وهذان] منافيان لحالهم. والجِبْتُ: حَكَى القَفّضالُ، وغيرهُ، عَن بَعْضِ أهلِ اللُّغَةِ: وهو الجِبْسُُ، بِالسِّينِ المُهْمَلَةِ، أُبدلتْ تاءً، كالنَّات، والأكْيَاتِ، وست؛ في النَّاسِ، والأكياسِ، وسدس، قال [الرجز المشطور] 1809 - ... ... ... ... ... ... ... ..... الجزء: 6 ¦ الصفحة: 421 شِرَارَ النَّاتِ لَيْسُوا بِأجْوَادٍ ولاَ أكْيَاتِ والجبس: هو الذي لا خير عنده. يُقالُ رَجِلٌ جِبس، وجِبتٌ، أيْ: رَذْلٌ، قِيلَ: وإنما ادَّعَى قلبَ السِّين تاءً؛ لأنَّ مَادَةَ (ج ب ت) مُهْمَلَةٌ. قَالَ قُطْرُبٌ: وغيرهُ يَجْعَلُها مَادَّةً مُسْتَقِلَّةً، وقِيل: الجِبْتُ: السّضاحِرُ بلُغَةِ الحَبَشَةِ، والطَّاغُوتُ: الكَاهِنُ، قالهث سعيدُ بنُ جُبَيْر، وأبُو العَالِيَةِ، وقال عِكْرمَةُ: هما صَنَمانِ، وقال أبُو عُبَيْدَةَ: هُما كُلُّ مَعْبُودٍ يُعْبَدُ مِنْ دُونِ اللهِ. وقال عُمَر: الجِبْتُ: السِّحْرُ، والطاغُوتُ: الشَّيْطَانُ؛ وهو قَوْلُ الشَّعْبِيِّ، ومُجاهِدٍ، وقال مُحمدُ بنُ سيرينََ، ومَكْحُولٌ: الجِبْتُ: الكاهنُ، والطَّاغُوتُ: السَّاحِرُ، ورُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ: الجِبْتُ: - بلسانِ الحبَشَةِ -: شَيْطَانٌ، وقال الضَّحَّاكُ: الجبتُ: حُيَيُّ بنُ أخْطب، والطَّاغُوتُ: كَعْبُ بنُ الأشْرَف، وقِيل: الجبتُ كُلُّ مَا حَرَّمَ اللهُ، والطاغوتُ: كُلُّ ما يُطْغي الإنْسانَ. ورَوى قَبيصةُ: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: العِيَافَةُ: والطَّرْقُ، والطِّيرةُ: مِنَ الجِبْتِ. الطَّرْقُ: الزَّجْرُ، والعِيَافَة: الحط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 بَيَّنَ أنَّ عليهم اللَّعْنَ من الله، وهو الخِذْلانُ، والإبْعَادُ، لقوله: {مَّلْعُونِينَ أَيْنَمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 422 ثقفوا} [الأحزاب: 61] وإنَّما استَحقُّوا هذا اللَّعْن، لتفْضيلهمْ عَبَدَةَ الأوْثَانِ على المؤمِنينَ مبحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 لمَّا وصف [تعالى] اليهودَ بالجَهْلِ في الآية المتقدمة؛ لتفضيلهم عِبَادَةَ الأوْثَانِ على عبادَةِ الله تعالى، وصفَهُم في هذه الآية بالبُخْلِ والحَسَدِ، وهذا على سَبيلِ الإنْكَارِ. والبخلُ: ألاَّ يدفعَ إلى أحدٍ شَيْئاً مما أوتِيَ مِن النعمةِ، [والحَسَدُ: أنْ يتمنَى ألاَّ يُعْطِي اللهُ غيرَهُ شَيْئاً من النِّعَم] فها يَشْترِكَانِ في إرادةِ مَنْعِ النعمَةِ من الغَيْرِ، وإنما قدّم وَصْفَ الجَهْلِ علَى وصفِ البُخْلِ، والحَسَدِ؛ لأن الجهل سَبَبُهَا؛ وذلك لأنَّ البَخِيلَ، والحَاسِدَ يجهلانِ أنَّ الله تعالى هو الذي أعْطَى هذا، ومَنَعَ هذا. واعلمْ أنَّهُ تعَالَى جَعَل بُخْلَهم كالمانع مِنْ حُصُولِ الملْكِ لَهُم، وهذا يدلُّ على أنَّ الملكَ والبُخْلَ لا يَجْتَمِعَانِ؛ وذلك لأنَّ الانقيادَ [للغير مكروهٌ لِذَاته، وإنما يُحْمَلُ الإنْسَانُ على الانقيادِ لِلْغَيْر] بالإحسانِ الحسن؛ كما قيل: «بالبر يستعبد الحر» ، فمتى لم يُوجد الإحْسانُ، لَمْ يُوجد الانقيادُ، ثُمَّ قدْ يكونُ المُلْكُ على الظَّاهِرِ فَقَطْ؛ وهو مُلْكُ المُلُوكِ، وقد يكونُ الملكُ على البَاطِنِ فقط؛ وهو مُلْكُ العُلَمَاءِ وقد يكون الملكُ عَلَيْهمَا؛ وهو مُلْكُ الأنْبِيَاءِ، فوجب في الأنبياء أنْ يكُونُوا في غَايَةِ الجُودِ، والكَرَمِ، والرَّحْمَةِ، والشَّفَقَةِ؛ حَتَّى يحصلَ الانقيادُ بالبَاطنِ والظَّاهِرِ، وكمالُ هذه الصفاتِ كان حَاصِلاً لمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. و «أم» مُنقطعةٌ؛ لِفواتِ شَرْطِ الاتِّصال، كما تقدم أوَّل البقرةِ فتُقَدر ب «بَلْ» ، والهمزة التي يُرادُ بها الإنْكار، وكذلك هُو في قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس} وقال بعضُهم: الميمُ صلة، وتقديره: ألَهُمْ؛ لأنَّ حَرْفَ «أمْ» إذَا لَمْ يَسْبِقْهُ استفهامٌ، كانتِ الميمُ صِلَةً فيه، وقيل: «أمْ» هنا مُتصلةٌ، وقد سبقه - هاهنا - استفهامٌ على سَبيلِ المعْنَى؛ لأنَِّهُ لمَّا حَكَى قَوْلَهُمْ لِلمشرِكينَ بأنَّهم أهْدَى سَبِيلاً مِنَ المؤمنِينَ عطفَ عليه قوله {أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ} فكأنَّهُ قال: أمْنِ ذلك يتعجَّبُ؟ أمْ مِنْ كَوْنِهِم لَهُم نَصِيبٌ من الملك؛ مع أنَّهُ لَوْ كَانَ لَهُمْ مُلْكٌ، لَبَخِلُوا بأقلِّ القَلِيلِ؟ . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 423 فصل في معنى «الملك» اختلفوا في هذا {الملك} ، فقيل: إنَّ اليهودَ كانوا يقُولُونَ: نحنُ أوْلَى بالملكِ، والنُّبوةِ؛ فكَيْفَ نَتْبَعُ العَرَبَ؟ فأبطل اللهُ ذلك، بهذه الآيةِ. وقيل: كانوا يَزْعُمُونَ أنَّ الملكَ يعودُ إليهم، في آخرِ الزمانِ، فيخرجُ مِنَ اليهودِ مَنْ يُجَدِّدُ مُلْكَهُم؛ فَكَذَّبهم الله [تعالى] بهذه الآيةِ. وقيل [المرادُ] بالمُلْكِ - هاهنا - التَّمليكُ: يَعْنِي: أنَّهم إنَّما يَقْدِرُونَ على دفعِ نُبُوَّتِكَ؛ لو كان التمليكُ إليهم، [و] لو كان التمليكُ إلَيْهمْ؛ لبخلوا بالنَّقِير، والقِطْمِيرِ. فكيفَ يَقْدِرُونَ على النَّفْيِ والإثْبَاتِ. قال أبُو بَكْرٍ الأصَمّ: كَانُوا أصْحَابَ بَسَاتِينَ وأمْوَالٍ، وكانوا في عِزَّةٍ، ومَنَعَةٍ، وكانوا يَبْخَلُونَ على الفُقَراءِ بأقل القَلِيلِ؛ فنزلت هذه الآيةُ. قوله: «فإذن» حَرْفُ جَوَاب، [وجَزَاء] ونُونُها أصلية، قال مَكي [وحذاق النحويِّين على كتب نونها نوناً] وأجاز الفرَّاءُ أن تُكْتَبَ ألفاً، وما قاله الفرَّاءُ هو قِيَاسُ الخَطِّ؛ لأنه مَبْنيٌّ على الوَقْفِ [والوقف على نُونها بالألف، وهي حرفٌ يَنْصِبُ المضارع بِشُرُوطٍ تقدَّمَتْ] ، ولكنْ إذَا وَقَعَتْ بعد عَاطِفٍ، فالأحْسَنُ الإهمالُ وقد قرأ ابنُ مَسْعُودٍ، وابنُ عَبَّاسٍ - هنا - بإعْمَالِهَا، فَحَذَفَ النُّونَ مِنْ قَوْلِه: {لاَّ يُؤْتُونَ} . وقال أبُو البَقَاءِ: ولَمْ يَعْملْ - هنا - من أجْلِ حَرْفِ العَطْف وهُوَ الفَاء، ويجوزُ في غَيْرِ القُرْآنِ، أنْ يَعملَ مع الفَاءِ، وليس المبطل لا؛ لأنَّ «لا» يتخطَّاهَا العامِلُ، فظاهِرُ هذه العبارَةِ: أنَّ المانِعَ حَرْفُ العَطْفِ، وليس كذلك، بل المانِعُ التلاوةُ، ولذلك قال آخراً: ويجوزُ في غَيْرِ القُرْآنِ. قال سِيبَويْهِ: «إذن» في أصل الأفعالِ بمنزِلَةِ «أظن» في عَوَامِلِ الأسْمَاءِ، وتقريرهُ: أنَّ الظنَّ إذَا وَقَعَ أوَّلَ الكلام - نَصَبَ، لا غَيْرَ؛ كقولِكَ: أظُنُّ زَيْداً قائماً، وإنْ تَوَسَّطَ جَازَ إلْغَاؤه، وإعْمَالهُ تقول: زَيدٌ ظننْتُ مُنْطلِقٌ، ومنطلقاً، وإنْ تأخَّر، ألْغِيَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 424 والسببُ في ذلك؛ أن «ظن» وأخواتِهَا، عَلِمَ، وحَسِبَ، ضَعِيفةٌ في العملِ؛ لأنها لا تُؤثِّرُ في مَفْعُولاتِهَا، فإذا تَقَدَّمَتْ دلَّ تقدمُهَا على شِدَّةِ العِنَايَةِ فلغى، [وإنْ توسَّطَتْ، لا يكون في مَحَلِّ العنايةِ مِنْ كُلِّ الوُجُوهِ، ولا في مَحَلِّ الإهْمَالِ من كل الوجوه، فَلاَ جَرَمَ أوْجَبَ توسُّطُها الإعْمالَ] ، والإعْمالُ في حَالِ التوسطِ أحسنُ والإلغاءُ حَالَ التأخُّرِ، أحْسَنُ، وإذا عرفتَ [ذلك] فنقول: «إذن» على هذا الترتيبِ، [فإن تقدمَّتْ نَصَبَتِ الفعلَ، وإنْ توسَّطَتْ، أوْ تأخرتْ جاز الإلْغَاءُ] . والنَّقِيرُ: قال أهلُ اللغةِ: النَّقِيرُ: نُقْطَةٌ في ظَهْرِ النواةِ، ومنها تَنْبُتُ النخلةُ، وقال أبُو العَالِيَة: هو نَقْدُ الرجلِ الشَّيْئِ بِطَرفِ إصْبَعِهِ، كما يُنْقِرُ الدِّرْهَمَ، وأصْلُه: أنَّهُ فِعْلٌ مِنَ النَّقِرِ، يُقالُ للخشبِ الذي يُنْقَرُ فيه: إنَّهُ نَقِيرٌ؛ لأنه يُنْقَرُ، والنَّقْرُ: ضَرْبُ الحَجَرِ وغَيْرِه بالمِنْقِارِ، يُقَالُ: فلانٌ كَرِيمُ النَّقِيرِ، أي: الأصْلِ، والمِنْقِارُ: حَدِيدَةٌ كالفأسِ تُقْطَعُ بها الحِجَارَةُ، ومِنْهُ: مِنْقِارُ الطائِرِ؛ لأنه يَنْقُرُ بِهِ، وذكْرُ النَّقيرِ هُنَا تَمْثِيلٌ، والغَرَضُ منه، أنَّهم يَبْخَلُونَ بأقلِّ القَلِيلِ. قوله: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس} . قال قَتَادَة: المرادُ أنَّ اليهودَ يَحْسُدُونَ العَرَبَ على النُّبوةِ، وما أكْرَمَهُمُ اللهُ تعالى بِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. وقال ابنُ عَبَّاسٍ، والحَسَنُ، ومُجَاهدٌ {وجَمَاعَةٌ] : المراد ب «الناس» رسول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَسَدُوهُ على ما أحَلَّ اللهُ له من النِّساءِ، وقالوا: «ما له هم إلا النكاح» وهو المرادُ بقوله: «على ما آتاهم الله من فضله» ، وقيلَ حَسَدوهُ على النُّبوةِ، والشَّرفِ في الدينِ والدنيا، وهذا أقْربُ، وأوْلَى. وقيل: المرادُ ب {الناس} محمدٌ وأصحابه، ولمّا بيَّنَ [اللهُ] تعالى أنَّ كثرةَ نِعَمِ اللهِ [عليهِ] صَارَ سبباً لحَسَدِ هؤلاءِ اليهودِ، بَيَّنَ ما يدفع ذلك الحَسَدَ، [فقال] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 425 {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} ، أيْ أنَّهُ جَعَلَ فِي أوْلادِ [إبراهيم] جماعةً كثيرين، جمعُوا بَيْنَ النبوةِ، والملْكِ والحكمة، وأنْتُم لا تَعْجَبُونَ من ذلك، ولا تَحْسُدُونهم، فَلِمَ تَتَعَجَّبُونَ من حالِ محمد ولِمَ تَحْسُدُونهُ؟ والمرادُ ب {آلَ إِبْرَاهِيمَ} دَاوُدُ، وسُلَيْمانُ - عليهما السلام - وب {الكتاب} مَا أنْزَلَ عليهم وب {الحكمة} النبوةُ. فمن فَسَّر {الفضل} : بِكّثْرةِ النساءِ، والمُلْكِ العَظيمِ، والمعنى: أنَّ دَاوُدَ وسُلَيْمَانَ أوتيا مُلْكاً عَظِيماً، وكان لسُليمانَ صلوات الله وسلامه عليه ألفُ امرأةٍ: ثلاثُمائَةٍ مُهْرِيَّة، وسَبْعُمائة سُرِّيَّة، وكان لداود - عليه السلام - مائةُ امْرَأةٍ، ولم يكُنْ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلاَّ تِسْعُ نِسْوةٍ، فلمَّا قَالَ لَهُمْ ذَلِكَ، سَكتُوا. وقوله: «فمنهم من لآمن به» ، الضميرُ في به عَائِدٌ على «إبراهيم» أوْ على «القرآن» أوْ على الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، أوْ عَلَى ما أُوتيه إبراهيم - عليه السلام - فإنْ عَادَ غلى مُحَمدٍ، فالمرادُ بالذين آمنُوا به، الذين أُوتُوا الكتابَ؛ آمن بعضُهم كعبدِ اللهِ بنِ سلام، وأصْحَابه، وبَقِيَ بعضهم على الكُفْرِ والإنْكارِ، وكذلك إنْ عادَ إلَى مَا أُوتِيه إبراهيم - علّيه السلام - قال السديُّ: الهاءُ في «بِهِ» و «عنه» رَاجِعَةٌ إلى إبْرَاهِيم، وذلك أنَّهُ زَرَعَ ذَاتَ سَنَة، وزرع الناسُ [فِي تِلْكَ السَّنَةِ] فَهَلَكَ زَرْعُ الناسِ، وَزَكَا زَرْعُ إبْراهيمَ - عليه السلامِ - فاحتاج الناسُ إلَيْه، فكان يقولُ: «من آمن بي أعطيته» فمن آمَنَ، أعْطَاهُ مِنْه، [وَمَنْ لَمْ يُؤمِنْ، منعه مِنْه] ، وإنْ عاد إلى القُرْآنِ، فالمعنى: أنَّ الأنبياءَ - عليهم الصلاة والسلام - واتْباعَهمُ معهم، صَدَّقُوا بمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبما جاء به، وقال آخُرون: المرادُ [أنَّ] أولئِكَ الأنبياءَ مع ما خُصُّوا به مِنَ النُّبوةِ، والمُلْكِ، جَرَتْ عادَةُ أممِهمْ: أنْ آمَنَ بعضُهم، وكَفَرَ بعضُهم، فَلاَ تَتَعَجَّب يا محمدُ، مِنْ أمتِكَ، فإنَّ أحْواَلَ جَميعِ الأمَمِ هكذا، وذلك تَسْلِيةٌ له - عليه السلام -. قوله: «ومنهم من صد عنه» قَرَأ الجُمْهُورُ «صَدَّ» بفتح الصَّادِ، وقرأ ابنُ مسعودٍ، وابنُ عباسٍ، وعكرمةُ: «صُدًّ» بضمها، وقرأ أبُو رَجَاء، وأبو الجَوْزَاءِ: بِكَسْرِهَا، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 426 وكلتا القِرَائتين على البِنَاء للمفعولِ، إلا أنَّ المضاعَفَ الثُّلاثِيَّ، كالمعْتَلِّ العَيْنِ منه، فيجوزُ في أوله ثلاثُ لغاتٍ، إخْلاَصُ الضَّمِّ، وإخلاصُ الكَسْرِ، والإشمامُ. قوله: {وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً} ، أيْ: كَفَى بجهنَّمَ [في] عذابِ الكُفَّارِ سعيراً والسَّعيرُ: الوقودُ، وهو تَميِيزٌ، فإنْ كان بِمَعْنَى: مُسَعَّرِ، فلا يَحْتَاجُ إلى حَذْفٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 قرأ الجمهورُ: «نصليهم» بِضَمِّ النونِ مِنْ أصْلَى، وحُمَيْدٌ: بِفَتْحِهَا مِنْ صَلَيْتُ ثُلاثِيَّا. قال القَرْطُبِيُّ: ونَصْبُ: «ناراً» على هذه القراءةِ، بِنَزْعِ الخَافِضِ تقديرهُ: بنارٍ. وقَرأ سَلاَّم، ويَعْقُوبُ: «نصليهُم» بضَمِّ الهَاءِ، وَهِيَ لُغَةُ الحِجَازِ، وقد تَقَدَّمَ تَقْرِيرهُ. وقال سِيبويْهِ: «سوف» [كَلِمَةٌ] تُذكَرُ لِلتَّهديدِ، والوَعِيدِ: يُقَالُ: سَوْفَ أفْعَلُ، وَينوبُ عَنْهَا حرفُ السين؛ كقوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 26] وقد يردُ «سوف» و «السِّينُ» : في الوَعْدِ أيْضاً: قال تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى: 5] ، وقال: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47] ، وقال: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} [يوسف: 98] ، قِيلَ، أخَّرَهُ إلى وقْتِ السَّحر؛ تَحْقِيقاً للدعاءِ، وبالجملةِ، فالسَّينُ، وسَوْفَ: مَخْصُوصَتَانِ بالاسْتِقْبَالِ. فصل في معنى قوله «بآياتنا» يَدْخُلُ في الآيات كُلُّ مَا يَدُلُّ على ذاتِ اللهِ تعالى وصفته، وأفْعالِهِ، [وأسْمَائِه] ، والملائكةِ، والكُتُبِ، والرسُلِ؛ وكُفْرُهُم قدْ يكونُ بالجَحْدِ، وقد يكونُ بِعَدَمِ النَّظْرِ فيها، وقد يكونُ بإلقاءِ الشكُوكِ والشُّبُهَاتِ فيها، وقَدْ يكونُ بإنْكَارِهَا؛ عِنَاداً، أو حَسَدَاً. وقوله: «نَصْلِيهم» أيْ: نُدْخِلُهم النارَ، لكن قولُه: {نُصْلِيهِمْ} فيه زِيَادَةٌ على ذلك، فإنَّهُ بمنزلَةِ شَوَيتُهُ بالنارِ، يُقالُ شَاةٌ مَصْليَّةٌ، أيْ: مَشْوِيَّةٌ. قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} ، {كُلَّمَا} : ظَرْفُ زَمَانٍ، والعَامِلُ فيها {بَدَّلْنَاهُمْ} ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 427 والجملةُ في مَحَلِّ نصبٍ على الحَالِ، مِنَ الضميرِ المنْصُوبِ في {نُصْلِيهِمْ} ، ويجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً ل «ناراً» والعائِدُ محذوفٌ، ولَيْسَ بالقَوِيِّ، و «ليذوقوا» مُتعلِّقٌ ب «بدلناهم» . قال القُرْطُبِيُّ: يُقالُ: نَضِجَ الشَّيْءُ نُضْجاً ونَضجاً، وفلانٌ نَضِيجُ الرَّأي: أيْ: مُحْكَمُهُ. فصل في معنى قوله {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ} {كُلَّمَا نَضِجَتْ [جُلُودُهُمْ} أيْ:] كلما احْترقَتْ جُلودهم، بَدلنَاهُم جُلُوداً غيْرَ الجلودِ المُحْترقَةِ. قال ابنُ عَبَّاسٍ: يُبَدِّلُونَ جُلُوداً بِيضاً، كأمثالِ القَرَاطِيسِ. رُوي أنَّ هذه الآيةَ قُرِئَتْ عند عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال عُمرُ للقارئ: أعِدْهَا، فأعَادَهَا، وكان عِنْدَهُ مُعَاذُ ابنُ جَبَلٍ، فقال مُعَاذُ بنُ جَبَل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عِندي تَفْسِيرُها: تُبدَّلُ في الساعَةِ مائةَ مرَّةٍ، فقال عمرُ: هكذا سَمِعْتُ رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال الحَسَنُ: تأكُلُهمُ النارُ كُلَّ يومٍ سَبْعِينَ ألْفَ مرَّةٍ، كُلَّما أكَلَتْهُم، قِيلَ لَهُمْ: عُودُوا، فيعُودُونَ كَمَا كَانُوا. رَوَى أبُو هُرَيرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ما بَيْنَ مِنْكبي الكافِرِ مَسِيرةُ ثلاثَةِ أيَّامٍ، للرّاكِبِ المًسْرِعِ» . وعن أبي هُرَيْرة، قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ضِرْسُ الكَافِر، أو نابُ الكَافر، مِثْلُ أحُدٍ وغِلَظُ [جِلْدِه] مَسِيرةُ ثلاثَةَ أيَّامٍ» . فَإنْ قِيل: إنَّهُ تعالى قادِرٌ على إبْقَائِهِمْ أحْياء في النَّارِ أبَدَ الآبَادِ فَلِمَ لَمْ يُبْقِ أبْدانهمُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 428 في النَّارِ مَصُونةً عن النضْجِ، مع إيصالٍ الألم الشديد إليها، مِنْ غيْرِ تَبْدِيلٍ لَهَا؟ فالجوابُ: أنَّهُ لا يُسْألُ عما يفعلُ، بل نقولُ: إنَّهُ قَادِرٌ على أنْ يُوصِلَ إلى أبْدانِهم آلاماً عظيمةً، من غيرِ إدْخَالِ النَّارِ، مع أنه تعالى أدْخلَهم النَّارِ، فإنْ قِيلَ: كَيْفَ يُعَذَّبُ جُلُوداً لم تكن في الدنيا ولم تَعْصِهِ؟ فالجوابُ من وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنه يُعَادُ الأولُ في كُلِّ مَرَّةٍ، وإنَّما قال غيرَها، لتبدل صفتها، كما تقولُ: صَنَعْتُ مِن خَاتَمِي خَاتَماً غيرَهُ، فالخَاتَمُ الثَّانِي هُوَ الأولُ؛ إلاَّ أنَّ الصناعةَ، والصِّفَةَ تبدَّلتْ. الثاني: المعذَّبُ هو الإنسانُ في الجِلْدِ، لا الْجِلْدُ، بل الجِلْدُ كالشَّيءِ الملتَصِقِ به، الزَّائِدِ على ذَاتِهِ، فإذا جُدِّدَ الجِلْدُ، صَارَ ذلك الجلدُ سَبَباً لوصولِ العذاب إلَيْهِ، فالمعذبُ لَيْسَ إلاَّ العَاصِي؛ يدلُّ عليه قولُه تعالى: {لِيَذُوقُواْ العذاب} ولَمْ يَقُلْ: ليَذُوقَ. الثالثُ: قال السُّدِّيُّ: يُبَدَّلُ الجِلْدُ جِلْداً غَيرَهُ مِنْ لَحْمِ الكَافِرِ. الرابعُ: قال عَبْدُ الْعَزِيز بنُ يَحْيَى: إنَّ اللهَ - تعالى - يُلبِسُ أهْلَ النَّارِ جُلُوداً لا تألَّمُ، بل هي تُؤلِمُهُم: وَهِيَ السَّرَابِيلُ فكُلَّمَا [احترق] جِلْدٌ بدّلَهُم جِلْدَاً غَيْرَهُ. طعن القَاضِي في هذا فقال: إنه تَرْكٌ للظَّاهِرِ، وأيضاً السَّرَابِيلُ مِنَ القَطرَانَ لا تُوصَفُ بالنُّضْجِ، وإنما تُوصَفُ بالاحْتِراقِ. الخَامِسُ: يمكنُ أنْ يكونَ هذا استعارةً عن الدَّوَامِ، وعّدّمِ الانْقِطَاعِ؛ يُقالُ للموصوفِ بالدَّوام: كُلَّمَا انْتَهى فقد ابْتَدَأ، وكُلَّمَا وَصَلَ [إلى آخره] فقد ابتدَأ من أوله، فكذلك قوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} يَعْني: أنهم كُلّما ظَنُّوا أنهم نَضِجُوا واحْتَرقُوا وانتهوا إلى الهلاكِ، أعْطَيناهُم قُوَّةً جَديدةً من الحياة؛ بحيثُ ظنُّوا أنَّهم الآنَ وجدُوا، فيكونُ المقصودُ بيانَ دَوَام العَذَابِ. فإن قيل: قوله: «ليذوقوا العذاب» إنما يُقالُ: فلانٌ ذَاقَ الشَّيءَ، إذَا أدْرَكَ شَيْئاً قَلِيلاً منه، والله تعالى قَدْ وَصَفَهُمْ بأنهم كانوا في أشدِّ العذابِ، فكيْفَ يَحْسُنُ أن يذكرَ بعد ذلك أنَّهم ذَاقُوا العذابَ؟ فالجوابُ: المقصودُ مِنْ ذِكْرِ الذَّوْقِ، الإخبارُ بأنَّ إحساسَهُم بذلك العذابِ، في كُلِّ حالٍ، يَكُونُ كإحْسَاسِ الذَّائِقِ بالنذُوق من حيثُ إنه لا يَدْخُلُ فيه نُقْصَانٌ، ولا زَوَالٌ، بِسَبَبِ ذلك الاحتراقِ. ثُمَّ قال تعالى: {إِنَّ الله كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} ، فالعزيزُ: القادِرُ الغَالِبُ، والحَكِيمُ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 429 الذي لا يَفْعَلُ إلاَّ الصَّوابَ، وما تَقْتَضِيه الحكمةُ؛ لأنَّهُ قد يَقَعُ في القَلْبِ تَعَجُّبٌ مِنْ كَوْنِ الكريمِ الرَّحيمِ يُعَذِّبُ هذا الشخص الضَّعِيفَ إلى هذا الحدِّ العَظيمِ أبَدَ الآبادِ. فقيل: ليس هذا [بَعِجب] ؛ لأنه القادِرُ الغَالِبُ، فكما أنه رحيمٌ فهو أيضاً حَكِيمٌ، والحكمةُ تَقْتَضِي ذلك. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً} . تعلمْ أنَّ الوعْدَ والوعيدَ مُتلازِمَانِ في الذِّكْرِ غَالِباً، فإنَّ عَادَة القرآنِ إذا ذَكَرَ الوعِيدَ أنْ يذكر مَعَهُ الوَعْدَ. قوله: {والذين آمَنُواْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أظهرُهَا: أنه مبتدأٌ، وخبرُهُ {سَنُدْخِلُهُمْ} . والثاني: أنَّه في مَحلِّ نَصْبٍ؛ عَطْفاً على اسْمِ «إنَّ» وهُوَ {الذين كَفَرُواْ} ، والخَبَرُ أيْضاً: {سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ} ويصيرُ هذا نَظِير قولِكَ: إنَّ زَيْدَاً قَائِمٌ وعمراً قَاعِدٌ، فعطفتَ المنصُوبَ على المنصُوبِ، والمرفوعَ على المرفوعِ. والثالث: أنْ يكونَ في محلِّ رَفْع؛ عطفاً على مَوْضِعِ اسْم «إنَّ» ؛ لأن مَحَلَّهُ الرفعُ، قالهُ أبُو البَقَاءِ؛ وفيه نَظَرٌ، مِنْ حَيْثُ الصناعةِ اللَّفْظِيَّةِ، حَيْثُ يُقالُ: {والذين آمَنُواْ} في مَوْضِعِ نَصْبٍ؛ عطفاً على {الذين كَفَرُواْ} ، وأتى بجملةِ الوعيدِ مُؤكِّدةً ب «إن» ؛ تنبيهاً على شِدَّةِ ذلك، وبجملةِ الوَعْدِ حَاليَّةً مِنْه؛ لتحققها وأنه لا إنْكَارَ لذلك، وأتَى فيها بحرفِ التَّنْفِيسِ القَريبِ المدَّة تنبيهاً على قُرْبِ الوَعْدِ. فصل في أن الإيمان غير العمل دلت هذه الآيةُ، على أنَّ الإيمانَ غيرُ العَمَلِ؛ لأنه تعالى عَطَفَ العملَ على الإيمانِ، والمعطوفُ مُغَايِرٌ لِلْمَعطُوفِ عليه. قال القَاضِي: مَتَى ذُكِرَ لفظُ الإيمانِ وَحْدَهُ، دخل فيه العَمَلُ، ومَتى ذُكِرَ مَعَهُ العَمَلُ، كان الإيمانُ هو التَّصْديقَ، وهذا بعيدٌ، لأنَّ الأصْلَ عَدَمُ الاشتراك، وعدمُ التغييرِ ولوْلاَ أنَّ الأمْرَ كذلك، لخرج القرآنُ عن كونِهِ مُفيداً، فلَعَلَّ هذه الألفاظَ التي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 430 تَسْمَعُها في القرآنِ، يَكُون لِكُلِّ وَاحدٍ منها مَعْنَى سِوَى ما نَعْلَمُ، ويكونُ مرادُ الله [تعالى] ذلِكَ المعْنَى. قوله: «سندخلهم» قَرَأ النَّخعِيُّ: سَيْدخلُهم، وكذلك: «ويدخلهم ظلاً» بِيَاءِ الغَيْبَةِ؛ رَدَّا على قوله: «إن الله كان عزيزاً» ، والجمهورُ بالنون رَدَّاً على قوله: «سوف نصليهم» ، وتقدَّم الكلامُ على قوله: «جنات تجري من تحتها الأنهار» . وقوله: {خَالِدِينَ} يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُهَا: أنه حالٌ من الضمير المنصُوبِ في {سَنُدْخِلُهُمْ} . والثَّاني: وأجازَهُ أبُو البَقَاءِ: أنْ يكونَ حالاً من {جَنَّاتٍ} . [قال: لأن فيها ضميراً لكُلِّ واحدٍ منهما، يَعْنِي: أنه يجوزُ أنْ يكونُ حالاً من] مفعول {سَنُدْخِلُهُمْ} كما تقدَّمَ، أوْ «من جنات» ؛ لأنَّ في الحَالِ ضميريْنِ: أحدُهُمَا: مَجْرُورٌ ب «في» العائِدِ على {جَنَّاتٍ} فصح أنْ يُجْعَلَ حالاً مِنْ كُلٍّ واحدٍ؛ لوجودِ الرَّابِطِ، وهو الضميرُ، وهذا الذي قالُ فيه نظرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدُهُمَا: أنه يَصِيرُ المعنى: أنَّ الجناتِ خالداتٍ في أنفُسِهَا؛ لأنَّ الضَّميرَ في فيها عائذٌ عليْهَا. فكأنه قِيلَ: جناتٍ خَالِدَاتٍ في الجنَّاتِ أنفُسِهَا. والثَّاني: أنَّ هذا الجمعَ شَرْطُهُ العَقْلُ، ولد أُرِيد ذلك، لقيل: خَالِدَاتٍ. والثالثُ: أنْ يَكُونَ صِفَةً ل {جَنَّاتٍ} أيضاً. قال أبُو البَقَاءِ: على رَأي الكُوفيِّينَ يعْنِي أنَّهُ جَرَتْ الصِّفَةُ على غَيْرِ مِنْ هِيَ لَهُ في المعنى، ولم يَبْرُزُ الضَّمِيرُ، وهذا مَذْهَبُ الكوفيِّينَ، وهو انَّهُ إذَا جَرَتْ عَلَى غَيْرِ مَنْ هي له، وأمِنَ اللِّبْسُ، لم يَجبْ بُرُوزُ الضميرِ كهذه الآيةِ. ومَذْهَبُ البَصْرِيِّينَ: وُجُوبُ بروزِهِ مُطْلَقَاً، فكان يَنْبَغِي أنْ يُقَالَ عَلَى مَْهلِهمْ: «خالدين هم فيها» ، ولمّا لَمْ يَقُلْ كذلك، دَلَّ على فَسَادِ القَوْلِ، وقد تَقَدَّمَ تَحْقِيقُ ذلك. [فإن قُلْتَ:] فَلْتَكُنِ المسْألَةُ الأولَى كذلِكَ، أعني: أنَّكَ إذا جعلت {خَالِدِينَ} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 431 حالاً من {جَنَّاتٍ} ، فيكون حَالاً مِنْهَا لفظاً، وهي لغيرها مَعْنَى، ولم يَبْرُزْ الضَّميرُ على رَأي الكُوفيِّينَ، ويَصِحُّ قول أبي البَقَاءِ. فالجواب: أنَّ هذا، لو قيلَ به لَكَانَ جيِّداً، ولكن لا يَدْفَعُ الرَّدَّ عن أبِي البَقَاءِ، فإنَّهُ خَصَّصَ مَذْهبَ الكُوفيينَ بوجه الصِّفَةِ، دون الحالِ. فصل ذكر الخُلُودِ والتَّأبِيد: فيه ردٌّ على جَهْم بْنِ صفْوَانَ، حيث يقُولُ: إنَّ نَعِيمَ الجَنَّةِ وعَذَابَ الآخِرَةِ يَنْقَطِعَانِ، وأيضاً فَذِكْرُهُ الخُلُودَ مع التَّأبيد؛ يَدُلُّ على أنَّ الخُلودَ غَيْر التَّأبْيد وإلا لزم التكرارُ، وهو غير جَائِزٍ؛ فدَلَّ على أنَّ الخُلُودَ لَيْسَ عِبَارَة عن التَّأبيدِ، بلِ اسْتِدْلاَلُ المُعْتزِلَةِ بقوله تعالى: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] على أنَّ صاحب الكَبيِرَةِ يبقى في النَّارِ أبَداً، لأنَّ هذه الآية دَلَّتْ على أنَّ الخُلُودَ طولُ المُكْثِ لا التَّأبيدِ. قوله: {لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ [مُّطَهَّرَةٌ} ] مبتدأ وخبر، وَمَحَلُّ هذه الجُمْلَةِ، إمَّا النَّصْب أو الرَّفْعُ. فالنَّصْبُ إمَّا على الحَالِ مِنْ {جَنَّاتٍ} ، أو مِنْ الضَّميرِ في {سَنُدْخِلُهُمْ} وإما على كَوْنِهَا صِفَةً ل {جَنَّاتٍ} بعد صِفَةٍ. والرَّفْعُ على أنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ. فصل المُرَادُ: طَهَارتُهُنَّ من الحَيْضِ والنّفاسِ، وجميع أقْذَارِ الدُّنْيَا، كما تَقَدَّمَ في سُورةِ البَقَرَةِ. وقوله «وندخلهم ظلاَّ ظليلاً» . قال الوَاحِدِيُّ: الظَّلِيلُ ليس يُنبِئُ عن الفِعْلِ، حتى يُقالَ: إنَّهُ بمعنى: فاعِلٍ، أو مَفْعُولٍ، بل هو مُبَالَغةٌ في نَعْتِ الظِّلِّ، مثل قولهم: «لَيْلٌ ألْيَلٌ» . قال المُفَسْرُونَ: الظَّلِيلُ: الكَثيفُ الَّذِي لا تَنْسَخُهُ الشَّمْسُ، ولا يؤذيهم بَرْدٌ، ولا حَرٌّ. قال ابْنُ الخَطِيبِ: واعلَمْ أنَّ بلاد العَرَبِ كانت في غَايَةِ الحَرَارَةِ، وكانَ الظِّلُّ عندهم مِنْ أعْظَمِ أسْبَابِ الرَّاحَة، ولها المَعْنَى؛ جَعَلٌوه كِنَايَةً عن الرَّاحَةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 432 قال عليه الصَّلاة والسلامُ: «السُّلْطَانُ ظِلُّ الله فِي الأرْضِ» . وإذَا كان الظّل عِبَارَةً عن الرَّاحَة؛ كَانَ كِنَايَةً عن المُبَالَغَةِ العَظِيمَةِ في الراحة، وبهذا يَنْدَفِعُ سُؤالُ مَنْ يَقُولُ: إذا لم يَكُنْ شَمْسٌ تُؤْذِي بحرِّهَا، فما فائِدَةُ وَصْفِهَا بالظِّلِّ الظَّلِيلِ؟ وأيضاً نرى في الدُّنْيَا أنَّ المَوَاضِعَ الَّتِي يَدُومُ الظِّلُّ فيها، ولا يَصِلُ نُورُ الشَّمْسِ إليْهَا، يكُونُ هَوَواؤهَا فَاسِداً مُؤْذِياً فما معنى وَصْفِ الجَنَّةِ بذلك، فعلى هذا الوَجْهِ الَّذِي لَخَّصْنَاهُ تَنْدَفَعُ هذه الشُّبُهَاتِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 لما شَرَحَ أحوالَ الكُفَّارِ، وشرحَ وعِيدَهُم؛ عاد إلى التَّكْلِيف، وأيضاً لمّا حكى عن أهْل الْكِتابِ أنَّهُم كَتَمُوا الحَقَّ، حيث قالُوا للذين كَفرُوا {هَؤُلاءِ أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً} [النساء: 51] أمَرَ المُؤمنينَ في هذه الآيةِ بأداء الأمَانَاتِ في جميع الأمور، سواء كانَتْ دِينيَّةٌ، أو دُنْيَويَّة. قوله: {أَن تُؤدُّواْ} مَنْصُوبُ المحلّ، إمَّا على إسْقَاطِ حَرْفِ الجَرّ؛ لأن حذفه يطَّرِدُ مع «أنْ» ، إذَا أمِنَ اللَّبْس؛ لطولهما بالصِّلَةِ، وإما لأنَّ «أمر» يتعدى إلى الثَّاني بنفسه، نحو: أمَرْتُكَ الخَيْرَ، فعلى الأوَّل يَجْري [الخلاف في مَحَلَّها، أهي في مَحَلّ نصب، أم جر، وعلى الثَّاني هي في محلِّ نصب فقط، وقرئ «الأمانة» ] . فصل: فيمن نزلت الآية؟ نزلت في عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ بْنَ أبِي طَلْحَةَ الحجبي مِنْ بَني عبْدِ الدَّارِ، وكان سادِنَ الكَعْبَةِ، فلمَّا دَخَلَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَكَّةَ يَوْمَ الفَتْحِ أغْلَقَ عُثْمَانُ بْنُ طَلْحَةَ بَابَ الكَعْبَةِ، وصَعَدَ السَّطْحَ، فطلبَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المفتاح فقيلَ: إنَّه مع عثمان، فَطَلَبَهُ منه فأبى، وقال: او عَلِمْتُ أنَّهُ رسولُ اللهِ [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] لمْ أمْنَعْهُ المِفْتَاحَ، فَلَوَى عليُّ بن أبي طالب يده، وأخذ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 433 منه المفتاح، ودخل رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ البيت، وصلّى فيه ركعتين، فلمّا خَرَجَ سألَهُ العَبَّاسُ [المفتاحً] أن يعطيه، ويجمع له بين السِّقَايَةِ، والسِّدَانة، فأنزل اللهُ - تعالى - هذه الآية، فأمَرَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليّاً أنْ يردَّ المِفْتَاحَ إلى عُثْمَانَ، وَيَعْتَذِرَ إليه، ففعل ذلك عليٌّ، فقال عثمان: أكْرَهْتَ، وآذَيْتَ، ثم جئْتَ تَرْفُق، فقال: لقَدْ أنْزَلَ اللهُ في شأنِكَ، وَقَرَأ عليه الآية، فقال عُثْمَانُ: «أشْهَدُ [ألا إله إلاّ الله و] أنَّ مُحَمّداً رسُولُ اللهِ، وأسْلَمَ، وكانَ المِفْتَاحُ معه، فلما مَاتَ دفعه إلى أخيه شَيْبَةَ، فالمِفْتَاحُ والسِّدَانَةُ في أولادهم إلى يَوْمِ القِيَامَةِ. وقيل: المرادُ من الآية جميعُ الأمَاناتِ. واعْلمْ أنَّ معاملة الإنْسانِ إما أنْ تكُونَ مع رَبِّه، أو مع العِبَادِ، أوْ مع نفسه. فمعاملة الرَّبِّ فهو: فعل المأمُورَات، وترك المَنْهيَّاتِ. قال ابْنُ مَسْعُودٍ: الأمَانَةُ في كُلِّ شَيٍْ لازمةٌ؛ في الوُضُوءِ، والجَنَابَةِ، والصَّلاةِ، والزَّكَاةِ، والصَّوْم. [قال أبُو نُعِيْم الحَافِظُ في» الحِلْيَةِ «: ومِمَّنْ قال إنَّ الآية عامّة في الجميع: البَرَاءُ ابْنُ عَازِبٍ، وابْنُ مَسْعُودٍ، وابْنُ عَبَّاسٍ، وأبيُّ بْنُ كَعبٍ. قالوا: الأمَانَةُ في كُلِّ شَيءٍ لازمةٌ، في الوُضُوءِ، والجَنَابَة، والصّلاة، والزكاةِ، والصّوم، والكيل، والوزن، والودائع. قال ابْنُ عبَّاسٍ: لم يرخص اللهُ لمُعْسِرِ، ولا لمُؤمِنٍ أن يُمْسِكَ الأمَانَة] . وقال ابْنُ عُمَرَ:» إنَّهُ - تعالى - خَلَقَ فَرْجَ الإنسان، قال: «هذَا أمانةٌ [خَبَّأتُهَا] عِنْدَكَ، فاحْفَظْهَا إلاَّ بِحَقِّهَا» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 434 فأمانة اللِّسَانِ ألاّ يستعمله في الكذِبِ، والغيبةِ، والنَّميمَةِ، والكُفْرِ، والبدعةِ، والفُحْشِ، وغيرها. وأمانة العَيْنِ ألاّ يَسْتَعْمَلَهَا في النَّظَرِ الحَرَامِ، وأمَانَةَ السَّمْعِ ألاّ يَسْتَعْمِلَهُ في سَمَاعِ المَلاَهِي، والمَنَاهِي، وسماع الفُحْشِ، والأكاذيبِ، وغيرها. وكذا جميع الأعْضَاءِ، وأمَّا الأمَانَةُ مع سَائِرِ الخَلْقِ فلردِّ الوَدَائِعِ، وتركِ التَّطفيفِ في الكَيْلِ، والوزْنِ، وعدْلِ الأمرَاءِ في الرَّعِيَّةِ، وعدلِ العُلَمَاءِ في العَوَامِ: بأن يُرْشِدُوهم إلى الاعتِقَاداتِ، والأعْمَالِ الَّتي تنفعهم في دُنْيَاهُم وأخْرَاهُم، ولا يحملوهم عَلَى التَّعصُّبَات البَاطِلَةِ، وأمَانَةُ الزَّوْجَةِ للزَّوْجِ في حفظ فَرْجِهَا، وألا تُلْحِقَ به وَلَداً من غَيْرِهِ، وفي إخبارِها عن انْقِضَاءِ عدَّتها، ونهي اليهود عن كِتْمَانِ أمر محمد عليه الصَّلاة والسلام - وأما أمَانَته مع نفسه، فهو ألا يَخْتَارُ [لِنَفْسِهِ] إلاّ الأنْفَعَ، والأصْلَحَ، في الدِّين والدُّنْيَا، وألا يقدم بِسَبَبِ الشَّهْوَةِ، والغَضَبِ على مَا يَضُرُّهُ في الآخِرَةِ قال أنَسٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قلَّ ما خَطَبَنَا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا قال «لا إيْمَانَ لَمنْ لا أمَانَةَ لَهُ، وَلاَ دِينَ لمَنْ لا عَهْدَ لَهُ» ، وقال تعالى {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27] ، وقد عظَّم الله أمْرَ الأمَانَةِ فقال: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 72] . [ويروي أنَّ الله - تعالى - خَلَقَ الدُّنْيَا كالبُسْتَانِ، وزينها بخمسة أشْيَاء: عِلْمَ العُلَمَاءِ، وعَدْلِ الأمَرَاءِ، وعِبَادَةِ العُلَمَاءِ، ونَصِيحَةِ المُسْتَشَارِ، ودفع الخيانة] . فصل في الخلاف في ضمان الوديعة الأكْثَرُونَ على أنَّ الوديعةَ غير مضمونةٍ عند عَدَمِ التَّفْرِيطِ، وعن بعض السَّلَفِ أنَّهَا مَضْمُونَةٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 435 روى الشَّعْبِيُّ عن أنَسٍ قال: اسْتَحْمَلَنِي رَجُلٌ بضاعةً، فضاعت من بين ثيابي. فضمنني عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. وعن أنسٍ قال: كان لإنسان عندي وديعَةٌ سِتَّةُ ألاف درهَمٍ، فذهبت فقال عُمَرُ: «ذهب لك معها شيء» ؟ [قلت: لاَ] فألزمني الضَّمَان. وحجة الجُمْهُورِ ما رَوَى عمرة بنُ شُعَيْبٍ عن أبيه قال: قالَ رَسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لا ضَمَانَ عَلَى دَاع، ولا [على] مُؤتَمَنٍ» ، وأما فِعْلُ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -[فهو] محمولٌ على أنَّ المودع اعترف بفعل يوجب الضمان. فصل في الخلاف في ضمان العارية قال الشافعيُّ وأحمد: العاريةُ مَضْمُونَةٌ بعد الهَلاَكِ لقوله تعالى {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات [إلى أَهْلِهَا} ] والأمر لِلوُجُوبِ، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «على اليَد مَا أخَذْتْ حَتَّى تُؤديهُ» وخصت منه الوديعَةُ، فيبقى العامُّ بَعْدَ التَّخْصيصِ حجة، وأيضاً فإنَّا أجمعْنَا على أنَّ المستام مَضْمُونٌ، وأنَّ المودع غيره مَضْمونٍ والعَارِيَة وقعت في البين، ومشابهتها لِلْمُسْتَام أكثر؛ لأنَّ كلاّ منهما أخذه الأجنبي لغرض نفسه، والوديعة أخذها لِغَرَضِ المالِكِ، فظهر الفَْقُ بيْنَ العاريةِ والوديعة. وقال أبُو حنيفةَ: [العارية] ليست مضمونة كقوله عليه السلامُ «لاَ ضَمانَ عَلَى مُؤتَمنٍ» وجوابه مَخصوصٌ بالمستام، فكذا في العَارِيَةِ، ودليلنا ظاهِرُ الْقُرآنِ. قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} [فيكون] قوله {أَن تَحْكُمُواْ} الجزء: 6 ¦ الصفحة: 436 معطوف على {أَن تُؤدُّواْ} أي: يأمرُكُمْ بتَأدِيةِ الأمَانَاتِ والحكم بالعَدْلِ، فيكونُ قد فصل بَيْنَ حرف العَطْفِ، والمعطوف بالظَّرْفِ. وهي مسألة خلاف ذَهَبَ الفَارِسِيُّ إلى منعها لإلاّ في الشِّعْرِ. وذهب غَيرُهُ إلى جَوازِهَا مُطْلَقاً، ولنصححّ مَحَلّ الخلافِ أولاً: فنقولُ: إن حرف العطف إذا كان على حَرْفٍ واحدٍ كالواو، والفاء هل يجوزُ أن يفصل بينه، وبين ما عطفه بالظَّرف وشبهه أم لا؟ فَذَهَبَ الفَارسِيُّ إلى منعه مُسْتَدِلاً بأنَّهُ إذا كانَ على حَرْفٍ واحدٍ، فقد ضَعُفَ، فلا يتوسّط بينه، وبين ما عطفه إلاّ في ضَرُورةٍ كقوله: [المنسرح] 1810 - يَوْماً تَرَاهَا كَشِبْهِ أرْدِيَةِ الْ ... عَصْبِ وَيَوْماً أديمَهَا نَغِلاَ تقديره: وترى أديمها نغلاً يوماً، [ففَصَل ب «يَوْماً» ] ، وذَهَبَ غَيْرَهُ إلى جَوَازَهُ مُسْتَدِلاّ بقوله: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201] ، {فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] ، {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً [ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً] فَأغْشَيْنَاهُمْ} [يس: 9] {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] . {أَن تُؤدُّواْ الأمانات} [الآية] ، وقالَ صَاحِبُ هذا القول: إنَّ المَعْطُوفَ عليه إذَا كانَ مَجْرُوراً بِحَرْفِ، أُعيدَ ذلك الحَرْفُ المعطوف نحو: امرر بزيدٍ وغداً بِعَمْرو، وهذه الشَّواهدُ لا دَليلَ فيها. أمَّا «في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة» ، وقوله {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ} [يس: 9] ، فلأنه عطف على شَيْئَيْنِ: عطف الاخرة على الدُّنْيَا بإعَادَةِ الخافض وعطف حسنة الثانية على حَسَنة الأولى، وكذلك عطف «من خلفهم» على «من بين أيديهم» و «سدَّا» على «سدَّا» ، وكذلك البيت عطف فيه «أديمها» على المفعول الأوَّل ل «تَرَاها» ، و «نَغلاً» على الثاني وهو كشبه و «يوماً» الثَّاني على «يَوْماً» الأوَّلِ، فلا فصل فيه حينئذٍ، [وحينئذ] يقال: [ينبغي] لأبي عَلِيٍّ أنْ يمنعَ مطلقاً، ولا يستثنى الضَّرُورَةَ، فإن ما استشهده به مُؤوَّل على ما ذكرناه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 437 فإن قيل: إنَّما لم يجعله أبُو عَلِيّ من ذلك؛ لأنَّهُ يُؤدِّي إلى تخصيص الظَّرْفِ الثَّاني بما وقع في الأوَّلِ، وهو أنَّه تراها كشبه أردية العصب في اليوم الأوَّلِ والثاني؛ لأنَّ حُكْمَ [المعطُوف حكم] المعطوف عليه، فهو نَظِيرُ قولك: ضَرَبْتَ زَيْداً يَوْمَ الجُمْعَةِ، ويوم السَّبْت، ف «يَوْمَ» السَّبْت مُقيّدٌ بضرب [زيد كما يُقَيَّدُ به يَوْمَ الجٌمعة، لكن الغَرَضَ أنَّ اليومَ الثَّانِي في البيت مُقَيَّدٌ بِقَيْدٍ آخر] وهو رُؤيَةُ أديمها نغلاً. فالجوابُ: أنه لو تركنا [و] الظَّاهر من غير تَقْييدِ الظّرف الثَّاني بمعنى آخر كان الحكم كما ذكرت [لأن الظاهر كما ذكرت] في مثالك: ضربت زيداً يوم الجُمعَةِ [وعَمراً] يَوْمَ السَّبْتِ [أما إذا قيَّدته بشيءِ آخر، فقد تركت ذلِكَ الظَّاهِرَ لهذا النص، ألا تَرضاكَ تَقُولُ: ضربتُ زيداً يَوْمَ الجُمْعَة، وعمراً يوم السَّبت] ، فكذلك هَذَا، وهو مَوْضِعٌ يحتاجُ لِتَأمُّلِ. وأما «فبشرناها بإسحاق» ، فيعقوب ليس مجروراً عَطْفاً على إسْحَاق، بل منصوباً بإضْمَارِ فعل أي: ووهبنا لها يعقوبَ، وَيَدُلُّ عليه قراءةُ الرَّفِع، فإنَّهَا مؤذنة بانْقطَاعِهِ من البِشَارَة [به] ، كيف وقد تَقدَّم أنَّ هذا القائل يَقُولُ: إنَّهُ متى كان المَعْطُوفُ عليه مجروراً، أُعيدَ مع المَعْطُوفِ الجار. [و] أما «أن يؤدوا الأمانات» ، فلا دلالة فيها أيضاً؛ لأن «إذَا» ظرف لا بُدَّ من عامل، وعامله إما {أَن تَحْكُمُواْ} وهو الظَّاهِرُ من حيث المعنى، وإما {يَأْمُرُكُمْ} فالأوَّلُ ممتنع، وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ ما في حيز الموصول لا يتقدَّمُ عليه عند البصريين، وأمّا الكُوفِيُّون فيجوِّزونَ ذلك، ومنه الآية عِنْدَهُم، واستَدَلُّوا بقوله: [الرجز] 1811 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... كَانَ جَزَائِي بالْعَصَا أنْ أجْلَدَا وقد جاء ذلِكَ في المفعول الصَّريح في قوله: [الكامل] 1812 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وَشِفَاءُ غَيِّكِ خَابِراً أنْ تَسْألِي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 438 فكيف بالظرف وشبهه. والثاني ممتنعٌ أيضاً؛ لأنَّ الأمْرَ ليس واقعاً وَقْتَ الحكم، كذا قاله أبُو حَيَّان وفيه نَظَرٌ وإذا بَطَلَ هذا فالعامِلُ فيه مُقَدَّرٌ يُفَسَِرُهُ ما بَعْدَهُ تَقْدِيره: «وأن تحكموا إذا حكمتم» ، و «أن تحكموا» الأخيرة دالة على الأولى. قوله «بالعدل» يجوزُ فيه وجهان: أحَدُهُمَا: أنْ يتعلَّقَ ب «تحكموا» ، فتكونُ البَاء للتَّعدية، والثانية: أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من فاعل تحكموا، فتكونُ الباء للمصاحبة، أي: ملتبسين بالعَدْلِ مصاحبين له. والمعنيان مُتَقَارِبَان. فصل اعْلَمْ أن الأمانة عبارة عن أداء ما وَجَبَ عليك لِغَيْرِكَ، والحكم بالحق عما إذا وجب لإنْسَانٍ على غيره حق، فأمر من وَجَبَ عليه ذلك الحقّ بأن يدفعه إلى مَنْ له ذلك الحق. ولما كان التَّرْتيب الصَّحيحُ أن يبدأ الإنسان بِنَفْسِهِ في جلب المَنَافِعِ، ودفع المضار، ثم يشتغل بغيره، لا جَرَمَ أمر تعالى بِأدَاءِ الأمَانَةِ أوّلاً، ثم ذكر بعد الأمر الحكم بالحَقّ، وهذا من اللَّطَائِف المودعة في ترتيب القرآن. فصل في وجوب حكم الإمام بالعدل أجّمعُوا على أنَّهُ يَجِبُ على الحَكِمِ أنْ يَحْكُم بالعَدْلِ، لهذه الآية، ولقوله تعالى {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} [النحل: 90] وقوله {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا} [الأنعام: 152] وقوله {ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} [ص: 26] ، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا تَزَالُ هذه الأمَّةُ بخَيْرٍ ما إذَا قَالَتْ صَدَقَتْ، وإذَا حَكَمَتْ عَدَلَتْ وإذَا اسْترْحَمتْ رَحِمَتْ» وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ «المُقْسِطُونَ عِند اللهِ علَى منابر مِنْ نُورٍ عن يمينِ الرَّحمن، وكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ؛ هُمُ الذين يَعْدِلُونَ في حُكْمِهِمْ وأهْلِيهِمْ ما وُلُّوا» وقال عليه الصَّلاة والسلامُ «إنَّ أحَبَّ النَّاس إلى اللهِ يومَ الْقِيَامَةِ، وأقْرَبَهَمْ مِنْهُ مَجْلِساً إمامٌ عادِلٌ وإنَّ أبْغَضَ النَّاسِ إلى اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ وأشَدّهُمْ عَذَاباً إمامٌ جَائِرٌ» وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ «يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ القِيَامَةِ أيْنَ الظَّلَمَةُ، فَيُجْمَعُونَ عَلَيْهِ في النَّارِ» . يحقق ذلك قوله تعالى {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22] وقوله {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} [إبراهيم: 42] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 439 فصل فيما يجب على القاضي نحو الخصمين يجب على القاضي أن يسوِّي بَيْنَ الخصمين في الدُّخُول عيه، والجُلُوس بَيْنَ يَدَيْهِ، والإقبال عَلَيْهِمَا، والاستماعِ منهما، والحكم بَيْنهُمَا، وينبغي إلا يلقِّنَ أحدهُمَا حُجَّةً، ولا شاهداً شهادته، ولا يلقّن المدّعي الدَّعْوَى، والاستخلافَ، ولا يلقنَ المُدَّعى عليه الإقْرَارَ، ولا الإنْكارَ، ولا يَضِيفَ أحَد الخَصْمَيْنِ دُونَ الأخر، ولا يُجِيبَ هو إضَافَةَ أحدهِمَا، ولا إلى إضافتهما مَا دَاما مُتَخَاصِمَيْنِ، وعليه التَّسْوِيَة بينهما في الأفْعَالِ دون القلب؛ لأنَّهُ لا يمكنُ أنْ يتحرَّز من ميل قلبه. قوله: {إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ} قد تقدَّمَ الكلامُ على ما المتصلة ب «نعم» ، و «بئس» إلا أنَّ ابْن عَطِيَّة نقل هنا نَقْلاً لا يَبْعُدُ مِنْ وَهْمٍ! . قال: و «ما» المُرْدَفَةُ على نعم، وبئس إنَّمَا هي المُهيئَةُ لاتّصَالِ الفِعْلِ كما هي في رُبَّمَا، ومما في قوله: وكان رَسُولُ الله مما يحرك شَفَتَيْه وكقول الشَّاعر: [الطويل] 1813 - وإنَّا لَمِمَّا نَضْرِبُ الْكَبْشَ ضَرْبَةً ... عَلَى رَأسِهِ تُلْقِي اللِّسَانَ مِنَ الْفَمِ وفي هذا بمنزِلَةِ رُبَّمَا، ومنزلتها مخالفة في المَعْنَى؛ لأنَّ رُبَّمَا للتَّعْلِيلِ، ومما للتَّكْثِيرِ ومع إنما هي موطّئة، فهي بمعنى الَّذي، وما وطَّأتْ إلاّ وهي اسمٌ. ولكن المقصد إنما هو لا يليها من المَعْنَى الذي في الفِعْل. قال أبُو حَيَّان وهذا متهافتٌ؛ لأنه من حَيْثُ جعلها مُوَطِّئَةً مُهَيَّئَةً، لا تكونُ أسماء، ومن حَيْثُ جعلها بمعنى الَّذِي يَلْزَمُ أنْ يَكُونَ اسْماً، فتدافعا. فصل: في معنى قوله «نعما يعظكم» المعنى: نِعْمَ شَيئاً يعظكم به، أو نِعْمَ الشَّيء الذي يعظكُم بِه. والمخصوص بالمدح مَحْذُوفٌ، أي: نِعْمَ ما يَعِظُكُم بِهِ ذلك، وهو المأمور به: من أدَاءِ الأمَانَاتِ والحُكْمِ بالعَدْلِ، أي: بالقسط، ثم قال: {إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} ، أي: إذا حكمت بالعدل، فهو يَسْمَعُ ذلِكَ، لأنَّهُ سميعٌ لِكُلّ المَسْمُوعاتِ، وإنْ أدَّيْتَ الأمَانَةَ، فهو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 440 بَصِيرٌ بكُلِّ المبصرات يبصر ذلك، وهذا أعْظَمُ أسْبَابِ الوَعْدِ للمطيع، وأعظم أسْبَابِ الوعيدِ للعاصي. وإليه الإشارة بقوله - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - «اعْبُد اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ فإنْ لَمْ تكُنْ تَرَاهُ فإنَّهُ يَرَاكَ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 اعلم أنَّهُ تعالى لما أمر الولاة بالعَدْلِ، أمر الرعية بطاعة الوُلاَةِ. قال ابْنُ عَبَّاسٍ وجَابِرٌ: أولو الأمْرِ: [هُمُ] الفُقَهَاءُ، والعلماءُ الَّذِينَ يعلِّمُونَ النَّاسَ دينهم. وهو قَوْلُ الحَسَنِ، والضَّحاكِ ومُجاهِدٍ. لقوله تعالى «ولو ردوه إلى الرسول [وإلى] أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم» . وقال أبُو هُرَيرَة: هم الأمَرَاءُ والوُلاة، وقال عليُّ بْنُ أبي طالبٍ: حقٌّ على الإمام أن يَحْكُمَ بما أنْزَلَ اللهُ، ويُؤَدِّي الأمَانَة، فإذا فَعَلَ ذلك؛ حَقَّ علي الرَّعِيَّةِ أنْ يَسْمَعُوا، وَيُطِيعُوا. وروى أبُو هُرَيْرَة قال: قال رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ أطَاعَنِي؛ فَقَدْ أطَاعَ اللهَ، ومَنْ يَعْصِنِي، فَقَدْ عَصَى الله، ومَنْ يُطِعِ الأمِيرَ؛ فَقَدْ أطَاعَنِي ومن يعصي الأميرَ، فَقَدْ عَصَانِي» وقال عليه الصَّلاةُ والسلامُ «السَّمْعُ والطَّاعَةُ على المرءِ المُسْلِمِ فيما أحَبَّ وَكَرِهَ مَا لَمْ يُؤمَرْ بِمَعْصِيَةٍ فَإذَا أُمِرَ بِمَعْصِيَةٍ، فَلاَ سَمْعَ وَلاَ طَاعَةَ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 441 وروى عُبَادَةُ بْنُ الصَّامِتِ قال: بَايَعْنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على السَّمْعِ والطَّاعَةِ في اليُسْر، والعُسْر، والمَنْشَطِ، والمَكْرَه، وألاَّ نُنَازعَ الأمْرَ أهْلَهُ، وأنْ نَقُومَ، أوْ نَقُولَ بالحَقّ، حَيْثُ مَا كُنَّا، لا نَخَافُ فِي اللهِ لَوْمَةَ لائِمٍ. وعن أنَسٍ: أنَّ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأبي ذرّ: «اسْمَعْ، وأطِعْ وَلَوْ لِعَبْدٍ حَبَشِيّ كأنَّ رَأسَهُ زَبيبة» . وروى أبُو أمَامَةَ قال: «سَمِعْتُ رَسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَخْطِبُ في حجة الوَدَاعِ فقالَ:» اتَّقُوا اللهَ، وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ، وَصُومُوا شَهْرَكُمْ، وأدُّوا زَكَاةَ أمْوالِكُمْ، وأطِيعوا إذا أمَرَكُم؛ تَدْخُلُوا جَنَّةَ ربِّكُم «. وقال سعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ عن ابن عبَّاسٍ المُرادُ السَّرَايَا قال: نزلت هذه الآية في عبيد الله بن أبي حُذَافَةَ بْنِ قَيْس بْن عدِيّ السّهميّ إذ بعثه النّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [في سرية، وعن ابن عباس أنَّها نزلت في خَالدِ بْنِ الوَلِيدِ بَعَثَهُ] النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على سَرِيَّةٍ، وفيها عَمَّارُ بْنُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 442 يَاسِر فجرى بَيْنَهُمَا اخْتِلاف في شَيْءٍ، فَنَزَلَتْ هذه الآية. [و] قال عكْرمَة: أولو الأمْرِ أبُو بَكْر وعُمَر؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -» [اقتدوا] باللذيْنِ من بَعْدِي أبِي بكْرٍ وعُمَر «، وقيلَ: هم الخُلَفَاءُ الرَّاشِدُون. وقال عَطَاء: هم المُهَاجِرُون والأنْصَار، والتَّابِعُون لهم بإحْسَانٍ؛ لقوله - تعالى -: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار} [التوبة: 100] الآية، ولقوله - عليه السلام -:» مَثَلُ أصْحَابِي في أمَّتِي كالمِلْحِ في الطَّعَامِ، ولا يَصْلُح الطَّعَامُ إلا بالمِلْحِ «، وقال الحسَن: قد [ذهب] مِلحُنَا، فكيف نَصْلُحَ. ونُقِلَ عن الرَّوافِضِ أنَّ المُرَاد بأولي الأمْرِ: الأئِمُّة المَعْصُومون. فإن قيل: طَاعَةُ الرَّسُولِ هي طاعَةُ اللهِ، فالمعنى العَطْفُ. فالجواب: قال القَاضِي: الفَائِدَةُ في ذَلِكَ بَيَان الدِّلالَتَيْنِ، فلكتاب يَدُلُّ على أمْرِ الله، ثم يُعْلَم مِنْهُ أمر الرَّسُولِ لا مُحَالَة، والسُّنَّة تدلُّ على أمْرِ الرَّسُول، ثم يُعْلَم مِنْهُ أمر اللهِ لا محالة، فَدَلّ قوْلُه:» أطيعوا الله وأطيعوا الرسول «على وُجُوب مُتَابَعَة الكِتَابِ والسُّنَّةِ. فصل في معنى «الطَّاعَة» قالت المعتزلة: الطَّاعَة موافقَةُ الإرَادة، وقال أهْل السُّنَّة: الطَّاعَةُ مُوافقَةُ الأمرِ لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 443 مُوافَقَةُ الإرَادَةِ؛ لأنَّ الله قد يَأمُر ولا يُريدُ؛ كما أمر أبَا لَهَبٍ بالإيمَانِ مع انَّه لم يُرِدْهُ منه، إذ لو أرَادَهُ لا مَحَالَة. فصل استدلُّوا بقوله - تعالى -: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} على أن الأمَر للوُجُوب، [واعترض عليه المُتَكَلِّمُون؛ فقالوا: هذه الآيةُ لا تَدُلُّ على الوُجُوب إلا إذا ثَبَتَ أن الأمْرَ للوجُوبِ] ، وهذا يَقْتَضِي افْتَقَار الدَّليل إلى المَدْلُولِ. وأجيبُ بوَجْهَينِ: الأوَّل: أن الأمر الوَارِدَ في الوَقَائِع المخصُوصةِ على النَّدْبيَّة، فقوله: {أَطِيعُواْ الله} لو اقْتَضَى النَّدْبَ، لم يَبْقَ لِهَذِه الآيَةِ فائِدَةٌ. الثاني: أنه خَتَمَ الآيَةَ بِقَوْلِهِ: {إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} وهذا وعيد. قوله: «منكم» في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من «أولي الأمر» فيتعَلَّقُ بمَحْذُوفٍ، أي: وأُولِي الأمْرِ كائِنِينِ مِنكُم، و «مِنْ» تَبْعِيضية. قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} [اختلَفْتُم] ، {فِي شَيْءٍ} [أيْ:] من أمْرِ دينكُم، والتَّنَازُع: اخْتِلافَ الآرَاءِ. قال الزَّجَّاج: اشْتِقَاق المُنَازَعَة من النَّزْعِ الَّذِي هُوَ الجَذْب، والمُنَازَعَةُ: عبارة عن مُجَاذَبَةِ كُلِّ واحدٍ من الخَصْمَيْن، يَجْذِب بِحُجَّةٍ صَحِيحَةٍ. قوله: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} [أي: إلى الكِتَابِ والسُّنَّةِ] . وقيل: الرَّدُّ إلى الله والرَّسُول؛ أن يقُول لما لا يعْلَمُ: «الله ورسوله أعلم» . فصل في دلالة الآية على حجية القياس دلت هذه الآيةُ على أنَّ القياس حُجَّة؛ لأن قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} إمَّا أن يكُون المُرادُ منه «فإن اختلفتم في شيء» أي: حكم مَنْصُوصٍ عليه [في الكِتابِ أو السُّنَّةِ أو الإجْمَاعِ] ، [أو يكون المُرادُ: «فإن اختلفتم في شيء» حكمه غير مَنْصُوصٍ عليه في شَيء من هذه الثَّلاثة] . والأوَّل بَاطِلٌ: لأنَّ الطَّاعَة واجِبَةٌ، لقوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} فيَصِيرُ قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} إعادة لعين ما مَضَى، وذلك غيْر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 444 جَائِزٍ، فيتَعَيَّن أن يكُون المُرَادُ: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ} حكمه غير مَذْكُورٍ في الكِتَابِ والسُّنَّةِ والإجْمَاعِ، فيَجِبُ أن يُرَدّ حُكْمُه إلى الأحْكَامِ المَنْصُوصَةِ المُشَابِهَة له، وذلِك هُوَ القِيَاسُ. فإن قيل: لِمَ لا يَجُوزُ أن يكُون المرادُ بِقَوْلِهِ: {فَرُدُّوهُ} أي: فَوَّضُوا حُكْمَه إلى اللهِ ولا تَتَعرَّضُوا له، أو يكون المرادُ: رُدُّوا غيْر المَنْصُوصِ إلى المَنْصُوصِ؛ في أنَّه لا يُحْكَمً فيه إلاَّ بالنَّصِّ، أو فرُدُّوا هذه الأحْكَام إلى البَراءة الأصْلِيَّة. والجواب عن الأوَّل والثَّاني: أنه - تعالى - جعل الوَقَائِعَ قِسْمَيْن: منها ما هُو مَنْصُوصٌ علَيْه، ومِنْهَا ما لا يكُون كذلك، ثم أمر في القِسْمِ الأوَّلِ بالطَّاعةِ والانْقِيَادِ، وأمر في الثَّانِي بردِّه إلى الله وإلى الرَّسُول، ولا يجوزُ أن يكُونَ المُرادُ بِهَذَا الرَّدِّ السكوت؛ لأن الواقِعَةَ رُبَّمَا كانَت لا يَحِلُّ السُّكُوت فيها، بل لا بُدَّ من قطْعِ الخُصُومَةِ فيها، إما بِنَفْيٍ أو إثْبَاتٍ، فامْتَنَعَ حَمْلُ الرَّدِّ إلى اللهِ على السُّكُوتِ. وأما الثالث: فإنَّ البَرَاءَة الأصْلِيَّة مَعْلُومَةٌ بحكم العَقْلِ، فارَّدُّ إليها لَيْسَ رَدَّاً إلى الله، وإذا رَدَدْنا حكْمَ الواقِعَةِ إلى الأحْكامِ المَنْصُوص عليها، كان ذلك رَدّاً إلى أحْكام الله - تعالى -. فصل في تقديم الكتاب والسنة على القياس دَلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ الكِتَاب والسُّنَّة مُقدِّمان على القِياسِ مُطْلقاً، فلا نَتْرُك العَمَل بهما بِسَبَبِ القِياسِ، ولا يجوزُ تَخْصِيصُهَا ألْبَتَّة، سَوَاءً كان القِياسُ جَليَّا أو خَفيَّا، وسواءً كان ذلِكَ النَّصُّ مَخْصُوصَاً قبل ذَلِك أمْ لاَ؛ لأن الله - تعالى - أمَر بطاعَةِ الكِتَابِ والسُّنَّةِ في قوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} سواء حَصَلَ قياسٌ يُعَارِضُهمَا أو يُخَصِّصُهُمَا، أوْ لم يُوجَد؛ ولأن قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله} صريح بأنه لا يجوزُ العُدولُ إلى القياسِ، إلاَّ عند فُقْدان الأصُولِ الثلاثةَ، وأيضاً فإنَّهُ أخّر ذلك القياس عن ذِكْرِ الأصُولِ الثَّلاثَةِ، وذلك فُقْدان الأصُولِ الثلاثَةِ؛ ولأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اعْتَبَرَ هذا التَّرتيبَ في قِصَّةِ مُعَاذٍ، وأخر الاجتهاد عن الكِتَابِ والسُّنَّةِ، وعَلَّقَ جَوازَهُ على عدمِ وُجْدَانِهِمَا، ولمَّا عَارَضَ إبْليسُ عموم الأمْرِ بالسُّجُودِ بِقياسِهِ في قوله: «خلقتني من نار وخلقته من طين» فخصَّ العُمُوم بالقياس، وقدَّمه على النَّصِّ، فصَار بهذا السَّبَبِ مَلعُوناً، وأيضاً فغن القُرْآن مَقْطُوع بِمتْنِهِ، والقِيَاسُ مَظْنُون من جميع الجهاتِ، والمَقْطُوع راجحٌ على المَظْنُون، وأيضاً العَمَلُ بالظَّنِّ من صِفَاتِ الكُفَّارِ في قولهم: {مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 445 آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] . ثم قال {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} [النجم: 23] وقال - عليه السلام -: «إذَا رُوِي عَنِّي حَدِيثٌ، فاعْرِضُوهُ على كِتَابِ اللهِ، فإن وَافَقَهُ فاقْبَلُوهُ، وإلا فَرُدُّوهِ» فهذه النٌّصوصُ تَقْتَضِي، أن لا يجُوزُ العَمَلَ بالقِيَاسِ الْبَتَّةَ، وإنما عَمِلْنَا بالقِيَاسِ فيما لا نَصَّ فيه، ولا دلالة دَلَّت على وُجُوبِ العَمَلِ بالقِيَاسِ، جَمْعاً بَيْنَهَا وبين هذه الأدِلَّةِ. انتهى. فصل في دلالة الآية على أكثر علم الأصول دَلَّت هذه الآيةُ على أكْثَرِ أصُولِ الفِقْه؛ لأن أصُول الشَّريعَة هي الكِتَابُ والسُّنَّةُ والإجْماع والقياسُ، فقوله: [تعالى] «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول» إشارة للكِتَابِ والسُّنَّةِ، وقوله: «وأولي الأمر منكم» يدل على الإجماع؛ لأنه - تعالى - أوْجَب طَاعَةَ أولي الأمْر، وذلِك يَسْتَلْزمُ عِصْمَتَهُم عن الخَطَأ، وإلاَّ لَوجَبَ طاعَتُهُ عند كَوْنهِ مُخْطِئاً، واتِّبَاع الخَطَأ مَنْهِيٌّ عَنْه، فيجتمع الأمْرُ والنَّهْي [وهو مُحَالٌ] ؛ فَثَبتت العِصْمَةُ لأولِي الأمْرِ، إمَّا أن يكُونُوا جَميع الأمَرَاء، أو بَعْضَهُم، ولا يُمْكِنُ أنْ يَكُونُوا بعضهُم؛ لأن الأمْرَ بِطَاعَتِهِم مَشْروطٌ بمعْرِفَتِهِم، والقُدْرَةِ على الاسْتِفَادِةِ مِنْهُم، ونحن عَاجِزُونَ قَطْعاً عن مَعْرِفَةِ الإمام المَعْصُوم والوُصُول إليْه؛ فوجَبَ أن يكُونَ المُرَادُ من {َأُوْلِي الأمر} أولي الحَلِّ والعَقْدِ من هَذِه [الأمَّة] وهو الإجْمَاعُ. فإن قيلَ: المُرَادُ ب {َأُوْلِي الأمر} الخُلَفاء الرَّاشِدُون، او أمَرَاءُ السَّرايا أو العُلَماء المُفْتُون في الأحْكَامِ الشَّرعيَّة، أو الأئمَّةُ المعْصُومون عند الرَّوَافِضِ، فالقَوْلُ الذي اخْتَرْتُمُوهُ خارجٌ عن أقْوَالِ الأمَّة فيَكُون بَاطِلاً، أو تُحمَلُ الآيةُ على الأمَرَاءِ والسَّلاطين؛ لنفوذ أمرهم في الخَلْقِ، بخلاف أهل الإجْمَاع؛ ولقوله - عليه السلام -: «مَنْ أطَاعَنِي فَقَدْ أطَاعَ الله، [ومَنْ أطاعَ أمِيرِي فَقَدْ أطَاعَنِي] ، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله، ومَنْ عَصَى أمِيري فَقَدْ عَصَانِي» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 446 فالجواب عن الأوَّل: أنَّ جماعةً من الصَّحابَة والتَّابعين حَمَلُوا «أولي الأمر» على العلماء، فليْسَ قولُنَا خَارِجاً عَنْهُم. وعن الثَّاني: أنَّ الوُجُوه التي ذكرُوهَا ضَعِيفَةً، لا تعارض بالبُرْهَانِ القَاطِعِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مع أنَّهَا مُعَارَضَة بوجوهٍ: الأوَّل: أنَّ طاعَة الأمَراءِ إنَّما تَجِبُ فيما عُلِمَ بالدَّلِيلِ أنَّهُ حَقٌّ، وذلِك الدَّلِيلُ هُو الكِتَابُ والسُّنَّةُ؛ ليكُون هذا داخلاً في طَاعَةِ الله [ورسُولِهِ] كما أنَّ الوالِدَيْن والزَّوْج، والأستاذِ داخِلٌ في ذَلِكَ، وإذا حَمَلْنَاهُ على الإجْمَاعِ، لم يَدْخُل في ذلك؛ لأنَّهُ ربما ثبت بالإجْمَاعِ حكم ولا دليل في الكتاب والسُّنَّة عليه فَكَانَ أوْلَى. الثاني: أنَّ طاعَة المَرَاءِ إنما تَجِبُ إذا كانُوا على الحّقِّ فطاعتهم مَشْرُوعة بالاسْتَقَامَةِ. الثالث: قوله: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ} يُشْعِر بإجْمَاعٍ تَقَدَّمَ، وحدث بَعْدَه التَّنَازُع. الرابع: أنَّ طاعَةَ [أهْل] الإجْمَاعِ واجبَةٌ قَطْعاً، [وأمَّا طاعَة] الأمَرَاء والسَّلاطين فغير وَاجِبَةٍ قَطْعاً، بل الأكْثَر تكون مُحَرَّمة؛ لأنهم لا يَأمُرون إلاَّ بالظُّلْم، وفي الأقل تكون وَاجِبَةً [لهذا كَانَ حَمْل الآيَةِ على الإجْمَاعِ أولى] . الخامس: أوامِرُ السَّلاطِين مَوْقُوفَة على فَتَاوى العُلَمَاء؛ فالعُلَمَاءُ في الحَقِيقَةِ أمَرَاء، فَحَمْلُ أولي الأمْرِ عَلَيْهِم أوْلى، وأمَّا حَمْل الرَّوَافِض الآية على الإمَامِ المَعْصُوم، فَيُقَيَّد بما ذُكر من أنَّ طَاعَتَهُم تتوَقَّفُ على مَعْرَفَتهم، والقُدْرَة على الوُصُولِ إلَيْهِم، فَوُجُوبُها قَبْل ذلك تَكْلِيفُ ما لا يُطَاقُ، وأيضاً فَطَاعَتُهُم مَشْرُوطَةٌ وظاهر قوله: {أَطِيعُوا} يقتضي الإطْلاق، وأيضاً فَقَوْلُه: {فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} لو كان المُرادُ منه الإمام المَعْصُوم، لقيل: فردُّوهُ إلى الإمَام. فصل: من المعتبر في الإجماع؟ إذا ثَبَت أن الإجْماع حُجَّة، فاعلم: أن المُعْتَبَر إجْمَاعُهم هُمُ الذين يُمْكِنُهُم استِنْبَاط الأحْكَام الشَّرعيَّة من الكِتَابِ والسُّنَّة، و [هم] المُسَمَّون بأهْلِ الحَلِّ والعَقْدِ، فهم الَّذين يُمْتَثَلُ أمْرُهُم ونَهْيُهُم بِخلاف المُتَكَلِّم، والمُقْرِئ والمُحْدِّث والعَوَامّ لا يُمْكِنُهم الاسْتِنْبَاط. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 447 فصل: لا عبرة في الإجماع بالفرق الضالة دَلَّت الآيةُ على أنّ العِبْرَة بإجْمَاع المُؤمِنين، فأمَّا من يشكُّ في بإيمانِهِ من سائِرِ الفرقِ فلا عِبْرَةِ بِهِم. فصل: حصر الأدلة أربعة دَلَّت [هذه] الآيةُ على أنَّ ما سِوَى هذه الأصُولِ الأرْبَعَة، أعني: الكِتَابِ والسُّنَّة والإجْمَاعِ والقياسَ باطِلٌ؛ لأنه - تعالى - جعل الوَقَائِعِ قِسْمَيْن: أحدهما: مَنْصُوص عليه فأمر فيه بالطَّاعَةِ، بقوله [- تعالى -] : {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} . والثاني: غير مَنْصُوص عليه [وأمر فيه بالاجتهاد بقوله - تعالى -: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول} ] ، ولم يزد على ذَلِكَ؛ فدلَّ على أنه لَيْسَ للمكَلَّفِ أن يَتَمَسَّك بشَيْءٍ سِوَى هذه الأرْبَعَة، فالقَوْلُ بالاسْتِحْسَانِ الذي تَقُولُ به الحَنَفِيَّةُ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 448 والقول بالاسْتِصْحَابِ الذي تقُولُ به المالِكِيَّة قو بَاطِلٌ لهذه الآية. فصل: في الاقتداء بقول الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفعله المنْقُول عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن كان قَوْلاً، وَجَبَ طَاعَتُهُ؛ لقوله - تعالى -: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} وإن كان فِعْلاً، وجب الاقْتِدَاءُ بِهِ إلاّ ما خصَّه الدَّلِيل؛ لقوله - تعالى -: {واتبعوه} [الأعراف: 158] ، والمُتَابَعَةُ عِبارَةٌ عن الإتْيَانِ بمثل فِعْل الغَيْرِ؛ لأجْلِ أنَّ ذلك الغَيْر فَعَلَهُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 449 فصل: الأمر في الشرع يدل على التكرار ظَاهِر الأمْرِ في عُرْفِ الشَّرْع يدل على التِّكْرَارِ لوُجُوه: الأول: أن قوله: {أَطِيعُواْ الله} يَصِحُّ منه اسْتِثْنَاء أيِّ وقْتٍ كان، وحُكْمُ الاسْتِثْنَاء إخْرَاج ما لوْلاَهُ لَدَخَل؛ فوجَبَ أن يكُون قوله: {أَطِيعُواْ الله} مُتَنَاوِلاً لكُلِّ الأوْقَاتِ، وذلِك يَقْتَضِي التَّكْرَار. والقول الثاني: لو لَمْ يفدْ ذَلِك، لصارت الآيةُ مُجْمَلة؛ لأن الوَقْتَ المخصُوصَ والكيْفِيَّة المخْصُوصَة غير مَذْكُورة، فإذا حَمَلَنَاهُ على العُمُوم كانت مُبَيِّنة، وهو أوْلَى من الإجْمَالِ، أقصَى ما في البَابِ أنَّه يدخل التَّخْصيص، والتَّخْصيص خَيْرٌ من الإجْمَال. الثالث: أنه أضَاف لَفْظَ الطَّاعَةِ إلى لَفْظِ اللهِ، [وهذا] يَقْتَضِي أن مَنْشَأ وجوب الطَّاعَةِ هو العُبُودِيَّةُ والرُّبُوبِيَّةِ، وذلك يَقْتَضِي دوامَ وُجوبِ الطَّاعَةِ على المكَلَّفين إلى يَوْمِ القِيَامَة. فصل قال -[تعالى]- : «أطيعوا الله» فأفرَدَهُ بالذِّكْر [ثم] قال: «وأطيعوا الرسول وأولِي الأمر» وهذا تَعليمٌ من الله لنا الأدب، ولذلك «رُوِيَ أن رجلاً قال بِحَضْرَة الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» مَنْ أطَاعَ اللهَ والرَّسُولَ فَقَدْ رشَدَ ومَنْ يَعْصِهِمَا فقد غَوَى «، فقال - عليه السلام -: » بِئْس الخَطِيبُ أنْتَ هَلا قُلْتَ: مَنْ عَصَى اللهَ وعَصَى رَسُولَهُ «أو لفظ هذا مَعْنَاه؛ وذلك لأنَّ الجَمْعَ بينَهُمَا في اللَّفْظِ يوهِمُ نَوْع مُنَاسَبةٍ ومُجَانَسة، والله - تعالى - مُنَزَّهٌ عن ذلك. فصل: في فروع تتعلق بالإجماع دلَّ قوله - تعالى -: {وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ} على أن الإجْمَاع حُجَّة، وهَهُنا فروعٌ: الأوَّل: أن الإجْماع لا يَنْعَقِدُ إلا بقوْل العُلَمِاء، الذين يمكِنُهُم اسْتِنْبَاطُ أحْكَامِ الله - تعالى - من نُصُوص الكِتَابِ والسُّنَّةِ، وهؤلاء هم المُسَمَّون بأهْلِ الحَلِّ والعَقْدِ. الثاني: اخْتَلَفُوا في الإجماعِ الحَاصِلِ عَقِيب الخلافِ، هل هو حُجَّة أمْ لاَ، وهذه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 450 الآيةُ تَدُلُّ على أنَّه حُجَّة، لأنَّه قَوْلً جميعِ أهْل الحَلِّ والعَقْدِ من الأمَّةِ، فيدخُل في الآيةِ سَواءٌ وجد قَبْلَهُ خِلافٌ، أم لا. الثالث: اختلفُوا في انقِراض أهْل العَصْرِ، هل هو شَرْطٌ أم لا، وهذه الآية تَدُلُّ على انَّه لَيْسَ بِشَرْط؛ لأنَّها تَدُلُّ على وُجُوبِ طَاعَةِ المُجْمِعين، سَوَاء انْقِرض [أهْل] العَصْرِ أم لم يَنْقَرِضِ. الرابع: دَلَّت الآيَةُ على أن العِبْرَةِ بإجْمَاعِ المُؤمِنين؛ لقوله -[تعالى]- «يا أيّها [الذين آمنوا] ثم قال:» وأولي الأمر منكم «. قوله: إن كُنتُم» شرط، جوابُه مَحْذُوفٌ عند جُمْهُور البَصْريَّين، أي: فَرُدُّوه إلى اللهِ، وهو مُتقدِّم عند غيرهم. وهذا الوعِيدُ يحتمل أن يكُون مَخْصُوصاً بقوله: {فَرُدُّوهُ} ، ويُحْتَمل أن يكُون عَائِداً إلى قوله: «أطيعوا الله وأطيعوا الرسول» . فصل ظاهر قوله: {إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} يَقْتَضِي أنَّ من لم يُطِع الله والرَّسُول لا يَكُونُ مُؤمِناً، فيخرج المُذْنِب عن الإيمانِ، لكِنَّه مَحْمُولٌ على التَّهْديدَ، وقوله: {ذلك خَيْرٌ} أي: الَّذي أصْدُقُكم في هذه الآيَاتِ من الأحْكَام، والطَّاعَة، والردِّ إلى اللهِ والرَّسُول خيرٌ لكم، «وأحسن تأويلاً» ، أي: مآلاً؛ لأن التَّأوِيل عِبَارةٌ عن الشَّيْء ومرْجِعِه وعاقِبتهِ و {تَأْوِيلاً} نَصْب على التَّمْيِيز. فصل قال أبو العبَّاس المُقْرِي: ورَدَ التَّأويل في القُرْآنِ على أرْبَعَةِ أوْجُه: الأوَّل: بمعنى العَاقِبَة كَهَذِه الآيَة. الثاني: بمعنى المُنْتَهى؛ قال - تعالى -: {فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابتغاء الفتنة وابتغاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} [آل عمران: 7] أي: ما يَعْلَمُ مُنْتَهَى تأويلِهِ إلا الله. الثالث: بمعنى تَعبير الرُّؤيَا؛ قال - تعالى -: {أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ [فَأَرْسِلُونِ] } [يوسف: 45] أي: بعبَارتهِ؛ ومثله: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} [يوسف: 6] أي: تَعْبير الرُّؤيَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 451 الرابع: بمعنى التَّحقِيق؛ قال - تعالى -: {هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} [يوسف: 100] أي: تحقيق رُؤيَايَ؛ ومثل الوجه الأوَّل: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] أي: عاقبته، [ومثله: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} [يونس: 39] أي: عَاقبته. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 لما أوْجَبَ الطَّاعَة على جميع المُكَلَّفين في الآيةِ الأولَى، ذكر في هذه الآيةِ أن المُنَافقين والذين في قُلُوبهم مَرَضٌ لا يُطيعُون الرَّسولَ، ولا يَرْضُونَ بحُكْمِهِ، وإنما يُريدُون حُكْمَ غيره، و «الزَّعم» بفتح الزَّاي وضمها وكسرها مصدر زَعَم، وإنما يُريدُون به اعتِقادٌ ظَنِّيٌّ؛ قال: [الطويل] 1814 - فَإنْ تَزْعُمِيني كُنْتُ أجْهَلُ فِيكُمُ ... فَإنِّي شَرَيْتُ الْحِلْمَ بَعْدَكَ بِالجَهْلِ قال ابنُ دُرَيْد: أكثرُ ما يَقَعُ على البَاطِلِ، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا» . وقال الأعْشى: [المتقارب] 1815 - وَنُبِّئْتُ قِيْساً وَلَمْ أبْلُهُ ... كَمَا زَعَمُوا خَيْرَ أهْلِ الْيَمَنْ فقال المَمْدُوح: وما هُو إلا الزَّعْم، وحَرَمَهُ ولم يُعْطِهِ شَيْئاً، وذكر صَاحِبُ العين أنَّها تَقَع غَالِباً [على «انَّ» ] وقد تَقَعُ في الشِّعْر على الاسْمِ، وأنشد بيت أبي ذُؤيْب، وقول الآخر: [الخفيف] 1816 - زَعَمَتْنِي شَيْخاً وَلَسْتُ بِشَيْخٍ ... إنَّمَا الشَّيْخُ مَنْ يَدِبُّ دبِيبَا قيل: ولا يُسْتَعْمَل في الأكْثَرِ إلا في القَوْلِ الذي لا يَتَحَقَّقُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 452 قال الليث: أهْل العَرَبيَّةِ يَقُولُون: زَعم فُلانٌ؛ إذَا شَكَّوا فيه فلم يَعْرِفُوا أكذبَ أمْ صَدَق؛ وكذلك تَفْسِير قوله: {هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام: 136] أي: بقولهم الكَذِب. قال الأصْمَعِيّ: الزَّعُومُ من الغَنَم الذي لا يُعْرَفُ أبها شحم أم لا وقال ابن الأعْرابِيّ: الزَّعْم قد يُسْتَعْمل في الحَقِّ، وأنشد لأميَّة بن أبي الصَّلْت: [المتقارب] 1817 - وإنِّي أدينُ لَكُم أنَّهُ ... سَيَجْزيكُمُ رَبُّكُمُ مَا زَعَمْ وزعم [تكُون] بمعنى: ظَنَّ وأخَوَاتِهَا، فيعَدَّى لاثْنَيْنِ في هَذِه الآيةِ، و «أنَّ» سادَّةٌ مَسَدَّ مفْعُوليها، وتكون بمعْنًى «» كَفَل «فتتعدى لِوَاحِدٍ؛ ومنه: {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] ، وبمعنى رَأس، وكذب وسَمُن، وهَزُلَ، فلا تتعَدَّى، وقرأ الجمهور: {أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} مبنياً للمَفْعُول، وقُرِئا مبنيِّيْن للفاعِلِ، وهو الله - تعالى -. فصل: سبب نزول الآية روي في سبب النُّزُولِ وُجُوه: أحدُها: قال الشَّعْبِي: كان بَيْنَ رَجُلٍ من المُنَافِقِين خُصُومَة، فقال اليَهُودِيّ: نتحاكمُ إلى مُحَمَّد؛ لأنه عَرَفَ أنَّهُ عَرَفَ أنَّهُ لا يأخُذ الرَّشْوَة، ولا يَمِيلُ في الحُكْمِ، وقال المُنَافِقُ: نتحَاكمُ إلى اليَهُودِِ؛ لِعِلِمه أنَّهم يأخذُون الرَّشْوَة ويميلُون في الحُكْمِ، فاتَّفَقَا على أن يَأتِيَا كَاهِناً في جُهَيْنَةَ، فَيَتَحَاكَمَا إلَيْه، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآية. قال جابر: كَانَتِ الطَّواغِيتُ التي يَتَحَاكَمُون إليها واحدٌ في جُهَيْنَة، ووَاحِدٌ في أسْلَم، وفي كُلِّ حَيٍّ واحدٌ كَهَّان. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 453 وروى الكَلْبِي عن أبِي صَالِح عن ابن عبَّاسٍ: نَزَلَتْ في رَجُلٍ من المُنَافِقِين يُقال لَهُ: بشر، كان بَيْنَهُ وبَيْنَ يَهُودِيّ خُصُومَة، فقال اليَهُودِيّ: نَنْطَلِقُ إلى مُحَمَّد، وقال المُنَافِق: بل إلى كَعْبِ بن الأشْرَف، وهُوَ الذي سَمَّاهُ اللهُ طاغُوتاً، فأبَى اليَهُودِيُّ أن يُخَاصِمَه إلاَّ إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلما رَأى المُنَافِق ذَلِك، أتَى معه إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فَقَضَى رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لليهُوديِّ، فلما خَرجَا من عِنْدِه، قال المُنَافِقُ: لا أرْضَى [بهذا الحكم] فانْطلقْ بِنَا إلى أبِي بكْرٍ، فحكم لليَهُودِيُّ، فلم يَرْضَ، ذكره الزَّجَّاج. فَلَزِمَهُ المُنَافِقِ وقال: انْطلِقْ بَنَا إلى عُمَر، فَصَار إلى عُمَر، فقال اليَهُودِيُّ [لعمر] اخْتَصَمْتُ أنَا وهَذَا إلى محمَّدٍ، فقضى [لي] عليْهِ، فلم يَرْض بقَضَائِهِ، وزَعَم أنه يُخَاصِم إلَيْكَ، فقال عمر: [للمُنَافِقِ] أكذلك؟ قال: نَعَم؛ فقال لهما: رُوَيْدَكُمَا حتى أخْرُجَ إلَيْكَما. فدخَلَ عُمَرُ البَيْتَ وأخذَ السَّيْفَ واشْتَمل عَلَيْه، ثم خَرَجَ، فَضَرَبَ بِهِ المُنَافِقَ حَتَّى برد، وقال: هكذا أقْضِي بَيْن مَنْ لَمْ يَرْضَ بِقَضَاء الله ورسُولِهِ، فنَزَلَت هذه الآية. وقال جِبْريل - عليه السلام -: إن عُمَر فرّق بين الحقِّ والبَاطِلِ، فَسُمِّي الفَارُوق. وقال السُّدِّي: كان نَاسٌ من اليَهُود [قد] أسْلَمُوا ونَافَقَ بعضُهُم، وكانَتْ قُرَيْظَةُ والنَّضيرُ في الجَاهِليَّة، إذا قَتَلَ رَجُلٌ من بَنِي قُرَيْظَة [رَجُلاً من بني النضير قُتِل بِهِ، أو أخَذَ ديتهُ مئة وَسْقٍ من تَمْرٍ، وإذا قتل رَجُلٌ من بني النضير رَجُلاً من قُرَيْظة لم يُقْتَل بِهِ] وأعْطَى ديتهُ سِتِّين وسْقاً، وكانت النَّضِير وهم حُلَفَاءُ الأوْسِ أشْرَف وأكْثَر من قُرَيْظَة، وهم حُلَفَاءُ الخَزْرَج، فَلَمَّا جَاء الإسْلاَمُ، وهاجر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المَدِينَةِ قَتَل رجُلٌ من النَّضِير رَجُلاً من قُرَيْظَة، فاخْتَصَمُوا في ذَلِكَ، فقال بَنُو النَّضِير: كُنَّا وأنتم اصْطَلَحْنَا على أن نَقْتُل مِنكم ولا تَقْتُلُون مِنَّا، وديتُكُم سِتُّون وَسْقاً، وديَتُنَا مئةُ وَسْقٍ، فنحن نُعْطِيكُم ذَلِك. فقالت الخَزْرج: هذا شَيْءٌ كنتم فَعَلْتُمُوه في الجَاهِليَّةِ؛ لكَثْرَتِكُم وقِلَّتِنَا فَقَهَرتُمُونا، ونحن وأنْتُم اليَوْم إخوةٌ، ودينُنَا ودِينُكُم وَاحِدٌ، فلا فَضْلَ لكُم عَلَيْنَا، فقال المُنَافِقُون مِنْهم: انْطَلِقُوا بِنَا إلى أبِي بردة الكَاهِن الأسْلمِيّ، وقال المُسْلِمُون من الفَريقَيْن: لا بلْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 454 إلى النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأبى المُنافِقُونَ فانْطَلَقُوا إلى أبِي ليَحْكُمَ بَيْنَهُم، فقال: أعْطُوا اللُّقْمَة، يعني: الخطر، فقالوا: لَكَ عَشْرَة أوْسُق، فقال: لاَ بَلْ مئة وَسْقٍ ديَتِي، فأبَوْا أن يعطوهُ فوقَ عَشْرَة أوسْق، فأبَى أنْ يَحْكُمَ بيْنَهُم، فأنزَلَ الله - تعالى - آيتي القِصَاص، فدَعَا النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الكَاهِن إلى الإسْلامِ فأسْلَمَ، وعلى هذه الرِّوَايَة فالطَّاغُوتُ هو الكَاهِن. وقال الحَسَن: إن رَجُلاً من المُسْلِمِينِ كان لَهُ على رَجُلٍ من المُنَافِقِين حَقٌّ، فدَعَاهُ المُنَافِقُ إلى وَثَنٍ كان أهْلُ الجَاهِليَّةِ يَتَحَاكَمُون إلَيْهِ، ورَجُلٌّ قائِمٌ يترجَّم الأبَاطيلَ عن الوثَنِ، فالمُرادُ بالطَّاغُوتِ؛ هو ذَلِكَ الرَّجُل، وقيلَ: كانوا يَتَحَاكَمُون إلى الأوْثَانِ، وكانَ طَريقُهم أنهم] يَضْرِبُونَ القِدَاحَ بِحَضْرَةِ الوَثَنِ، فما خَرَجَ على القِدَاحِ حَكَمُوا بِهِ، وعلى هَذَا فالطَّاغُوتُ الوَثَنِ. قال أبو مُسْلِم: ظاهر الآيَةِ يَدُلُّ على أنه كان المُخَاصِمُ منافِقاً من أهْلِ الكِتَاب، كان يُظهر الإسْلامَ عَلَى سبيل النِّفَاقِ، لأن قوله - تعالى -: {يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} إنما يليقُ بمثل هذا المُنافِقِ. قوله: {يُرِيدُونَ} حال من فَاعِل [ {يَزْعُمُونَ} أو من {الذين يَزْعُمُونَ} . وقوله: {وَقَدْ أمروا} حال من فَاعِل] {يُرِيدُونَ} فهما حالان مُتَدَاخِلان، {أَن يَكْفُرُواْ} في مَحَلِّ نَصْب فقط إن قدَّرْت تعدية «أمر» إلى الثَّانِي بِنَفْسِه، وإلا ففيها الخِلاَفُ المَشْهُور، والضَّمِير في [بِهِ] عَائدٌ على الطَّاغُوتِ، وقد تقدَّم أنه يُذَكَّر ويُؤنَّث، والكلام عليه في البقرة. وقرأ عبَّاس بن الفضل: «أن يكفروا بهن» ، بضمير جَمْع التَّأنيث. فصل قال القاضي: يَجِبُ أن يَكُونَ التحَاكُم إلى الطَّاغُوتِ كالكُفرِ، وعدم الرِّضَى [بِحُكْمِ] مُحَمَّد - عليه السلام - كُفْرٌ؛ لوجوه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 455 أحدها: قوله: {يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت وَقَدْ أمروا أَن يَكْفُرُواْ بِهِ} فجعل التَّحاكم [إلى لطَّاغُوت] مقابلاً للكُفْر به، وهذا يَقْتَضِي أن التَّحَاكُم إلى الطَّاغُوت كُفْر بالله، كما أن الكُفْرَ بالطَّاغُون إيمانٌ باللهِ. ثانيها: قوله -[تعالى]- : {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} [النساء: 65] وهذا نَصٌّ في تكْفِير من لَمْ يَرْضَ بحُكْم الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. وثالثها: قوله - تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وهذه الآياتُ تَدُلُّ على أنَّ من رَدَّ شيئاً من أوَامِرِ الله والرَّسُول فهُو خَارِجٌ عن الإسْلام، سواءٌ رَدَّهُ من جِهَةِ الشِّرْكِ أو من جِهَةِ الشِّرْكِ أو من جَهَةِ التَّمَرُّد، وذلك يُوجِبُ صِحَّة ما ذَهَبَتْ إليه الصَّحَابَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - من الحُكْمِ بارْتِدَادِ مَانِعِي الزَّكاة، وقَتْلِهم، وسَبي ذراريهم. قوله: {أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} في {ضَلاَلاً} ثلاثة أقوال: أحدُها: أنه مصْدَرٌ على غير المَصْدَر، نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ، والأصْل «إضلالاً» و «إنباتاً» فهو [اسْم] مصدر لا مَصْدَر. والثاني: أنه مَصْدَر لمطَاوع {أَضَلَّ} أي: أضَلَّهُم فَضَلُّوا ضَلاَلاً. والثالث: أن يَكُون من وَضْعِ أحد المَصْدَرَيْن مَوْضِع الآخَر. فصل قالت المعتزِلَةُ: قوله - تعالى -: {وَيُرِيدُ الشيطان أَن يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً} يدُلُّ على أن كُفْر الكَافِرِ ليس بِخَْلق [الله - تعالى -] ولا بإرادَته؛ لأنه لو خَلَقَ الكُفْر في الكَافِرِ وأرَادَهُ منه، فأيُّ تأثيرٍ للشَّيْطَانِ فيه، وأيضاً فإنَّه ذَمَّ للشيطان؛ بسبب أنَّه يُريد هذه الضَّلالة، فلو كان - تعالى - مُرِيداً لها، لَكَانَ هُو بالذَّم أوْلى، لأن [كُلَّ] من عابَ شيئاً ثم فَعلَهُ، كان بالذَّمِّ أوْلَى به؛ قال - تعالى -: {كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 3] وأيضاً فإنَّه تعَجُّبٌ من تحاكُمِهِم إلى الطَّاغُوتِ، مع أنَّهمُ أمِرُوا أن يَكْفُرُوا به، ولو كَانَ ذلك التَّحاكُم بِخَلْقِ اللهِ، لما بقي التَّعَجُّب، فإنه يُقالُ: إنك خَلَقْتَ ذلك الفِعْلَ فيهم، وأرَدْتَهُ مِنْهُم، بل التَّعَجُّب من هذا التَّعَجُّب [هو] أولى. وجوابُهم المُعارضَة بالعِلْم والدَّاعِي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 456 لما بين -[تعالى]- رغبتَهُم في التَّحَاكُم إلى الطَّاغُوتِ [بين] نَفْرَتهم عن التَّحَاكُم إلى الرَّسُولِ، وقد تَقَدَّم الكَلاَمُ على {تَعَالَوْاْ} في آل عمران. قوله: {رَأَيْتَ} فيها وجهان: أحدهما: [أنها من رُؤيَة البَصَرِ، أي: مُجَاهَرَة وتصْرِيحاً] . [والثاني:] أنَّها من رُؤيَة القَلْب، أي عَِلِمْتَ؛ ف {يَصُدُّونَ} في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ على القَوْلِ الأوَّلِ، وفي مَحَلِّ المَفْعُول الثَّانِي على الثَّانِي. وقوله: {صُدُوداً} فيه وجهان: أحدهما: أنه اسْم مَصْدَرٍ، والمصْدَر إنما هو الصَّدُّ، وهذا اخْتِيَار ابن عطيَّة، وعزَاه مكِّي للخَلِيل بن أحمد. والثَّاني: أنه مَصْدر بِنَفْسِه؛ يقال: صَدَّ صَدَّا وصُدُوداً، وال بَعْضُهم: الصُّدُود مَصْدَرُ صَدَّ اللازم، والصَّدُّ مصدرُ صَدَّ المُتَعَدَّي، نحو: {فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل} [النمل: 24] والفعْل هنا مُتَعَد بالحَرْفِ لا بِنَفْسِه، فلذلك جاءَ مصدَرُه على «فُعُول» ؛ لأن «فُعُولا» غالباً اللازِم، وهذا فيه نَظَر؛ إذا لِقَائِل أن يقُول: هو هُنا مُتَعَدٍّ، غاية ما فيه أنه حَذَفَ المَفْعُول، أي: يَصُدُّون غيرَهُم، أو المُتَحاكِمين عنك صُدُوداً، وأما «فُعُول» فجاء في المُتَعَدِّي، نحو: لَزِمَهُ لُزُوماً، وفَتَنَهُ فُتُوناً. ومعنى الآية: يعرضون عنك، وذكر المَصْدَر للتَّأكيد والمُبَالَغَةِ؛ كأنه قال: صُدُوداً أيَّ صُدُودٍ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 457 في اتَّصال هذه الآيةِ بما قَبْلَهَا وَجْهَان: الأوَّل أنه اْعْتِرَاضٌ، وما قَبْلَ الآية مُتَّصلٌ بما بَعْدَهَا، والتَّقْدير: وإذا قيل لَهمُ: تعالَوْا إلى ما أنْزل اللهُ وإلى الرَّسُول رَأيْتَ المُنَافِقين يَصُدون صُدُوداً، ثُمَّ جاءُوك الجزء: 6 ¦ الصفحة: 457 يَحْلَفُون باللهِ إن لأردْنَا إلاَّ إحساناً وتوْفِيقاً، يعني: أنَّهُم في أوَّلِ الأمْر يصُدُّون عنك، ثم بَعْدَ ذلك يَجيئُونَك، ويَحْلِفُون باللهِ كَذِباً أنَّهُم ما أرَادُوا بِذَلِكَ إلا الإحْسَانَ والتَّوْفِيق، وشرط الاعتراضِ أن يَكُونَ لَهُ تَعَلُّق بذلك الكلامِ من بَعْضِ الوُجُوه؛ كقوله: [السريع] 1818 - إنَّ الثَّمَانِينَ وَبُلِّغْتَهَا ... قَدْ أحْوَجَتْ سَمْعِي إلى تَرْجُمَانْ فقوله: «وبُلِّغْتَهَا» [كلامٌ] أجْنَبِيٌّ اعْتَرِض به، لكنه دُعَاء للمُخَاطَبِ، وتَلَطُّفٌ في القَوْلِ مَعَهُ، وكذلك الآية؛ لأن أوّل الآيةِ وآخِرَهَا في شَرْحِ قبائِح المُنافقِين وكَيْدهم ومَكْرهم، فإنه - تعالى - حكى عنهم أنَّهُم يَتَحَاكمُون إلى الطَّاغُوتِ، مع لأنَّهم أمِرُوا بالكُفْرِ به، ويَصُدُّون عن الرَّسُول، مع أنَّهم أمِروا بطاعته، فذكر هُنَا ما يَدُلُّ على شِدَّة الأهْوَالِ عَلَيْهِم؛ بِسَبب هذه الأعْمَال القَبِيحَة في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، فقال: {فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} أي: فَكَيْفَ حالُ تِلْك الشِّدَّةِ وحَالُ تِلْك المُصِيبَةِ، قاله الحسن البَصْرِيّ، وهو اخْتِيَار الوَاحِدِيّ. الثاني: لأنه - تعالى - لما حَكَى عنهُم تحاكُمَهُم إلى الطَّاغُوت، وفِرارِهم من الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - دلَّ ذلك على شِدَّة نَفْرتهم من الحُضُورِ عندَ رسُول اللَّهِ والقُرْبِ مِنْهُ، فلمَّا ذكر ذَلِكَ، قال: {فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} يَعْني: إذا كانَت نَفْرتُهُم من الحُضُورِ عند الرسول في أوْقَاتِ السَّلامةِ هكذا، فكَيْفَ يكُون حَالُهُم في النُّفْرَة في شِدَّة الغمِّ والحُزْن، إذا أتَوُا بجنَايَةٍ خافُوا بسَبَبِها مِنْك، ثم جَاءُوك شَاءُوا أم أبَوْا، ويَحْلِفُونَ باللَّه كَذِباً ما أردْنا بتلك الجِنَايَة إلاَّ الخَيْر والمَصْلَحَة، والغَرَضُ من هَذا الكلامِ: بَيَانُ أنَّ نَفرتَهُم عن الرَّسُول لا غاية لَهَا سواءٌ غابُوا أم حَضَرُوا، ثم إنه - تعالى - أكَّدَ هذا المَعْنَى بقوله: {أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ} ومعناه: أنَّ من أرادَ المُبَالَغَة في شَيْءٍ، قال: هذا شَيْءٌ لا يَعْلَمُهُ إلا اللَّه يعني: لكَثْرَتهِ وقُوَّتِه لا يقْدرِ أحَدٌ على مَعْرَفَتهِ إلا اللَّه -[تعالى]- . قوله: {فَكَيْفَ} يجوز فيها وَجْهَان: أحدهما: أنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ، وهو قول الزَّجَّاج؛ قال: تقديره: فكَيْفَ تَرَاهُم؟ والثاني: أنها في مَحَلِّ رفع خبرٍ لمُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: فكيْف صنيعُهُم في وَقتِ إصَابَة المُصِيبَةِ إيَّاهُم؛ وإذا مَعْمُولَةٌ لذلك المُقَدَّر بَعْد كَيْف، والبَاءُ في «بِهَا» للسَّببيَّة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 458 و «مَا» يجوز أن تكون مَصْدَرِيَّة أو اسْمِيَّة، والعَائدُ مَحْذُوف. فصل في المقصُود بالمُصِيبَة في الآية قال الزَّجَّاج: [المراد] بالمُصِيبَة: قَتْل صَاحِبهم الَّذِي أقَرَّ أنَّه لا يَرْضَى بِحُكْم الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، جَاءُوا إلى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وطالَبُوا عُمَر بِهِ، وحَلَفُوا أنَّهُم ما أرَادُوا بالذَّهَاب إلى غير الرَّسُول إلا الخَيْرَ والمَصْلَحة. وقال الجُبَّائِيُّ: المُراد ب «المصيبة» هُنَا: ما أمر اللَّهُ - تعالى - نَبِيَّهُ من أنَّه لا يَسْتَصحبهُم في الغَزَوات، وأنَّه يَخُصُّهم بمزيد الإذْلاَل والطَّرْدِ عن حَضْرتِهِ، وهو قوله - تعالى -: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ} [الأحزاب: 60] ، إلى قوله: {وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً} [الأحزاب: 61] ، وقوله: {لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً} [التوبة: 83] ، وهذا يُوجِب لَهُم الذُّلَّ العَظيم، وإنما أصَابَهُم ذلك لأجْلِ نفاقهم. وقوله: «ثم جاءوك» أي: وقْتَ المُصِيبَةِ يحلفون ويعْتَذِرُون، وأنَّا ما أرَدْنَا بما كان مِنَّا إلا الإصْلاحَ، وكانوا كَاذِبين؛ لأنَّهُم أضْمَرُوا خِلاف ما أظْهَرُوهُ. وقال أبو مُسْلِم: إنه - تعالى - لمَّا أخْبَر عن المُنَافِقِين، ورغبتهم في حُكْمِ الطَّاغُوتِ، وكَراهتهم في حُكْمِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنه سَيُصيبُهم مَصَائِب تُلْجِئُهم إلَيْه وإلى أَن يُظْهِرُوا الإيمَانَ لَهُ، ويَحْلِفُون أنَّ مُرَادَهُم الإحْسَان والتَّوفِيق، قال: ومن عادَةِ العَرَبِ عند التَّبشير والإنْذَارِ أن يقُولُوا: كيف أنت إذا كان كَذَا وكَذا؛ ومثله قولُه - تعالى -: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] وقوله: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ} [آل عمران: 25] ، ثم أمرهُ - تعالى - إذا كان مِنْهُمُ ذلِك، أن يُعْرِضَ عَنْهُم ويَعظُهم. وقال غيره: المراد ب «المصيبة» : كُلُّ مُصِيبةٍ تُصيبُ المُنَافِقِين في الدُّنْيَا والآخِرَةِ. قال القُرْطُبِيّ: وقيل: إن قوله - تعالى -: {فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ} نزل في شَأنِ الذين بَنَوْا مَسْجِد الضِّرار، فلما أظهر اللهُ - تعالى - نِفَاقَهُم، وأمرهم بهَدْمِ المَسْجِد - حَلَفُوا للرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دِفَاعاً عن أنْفُسهم: ما أردنا بِبِنَاء المَسْجِد إلاَّ طاعة الله ومُوافَقَةِ الكِتَابِ. قوله: «يحلفون: حالٌ من فَاعِل جَاءُوك، و» إن «نافية، أي: ما أردْنَا و» إحساناً «مَفْعُول به، أو اسْتِثْنَاء على حَسَبِ القوْلَيْن في المسْألة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 459 فصل في تفسير الإحسان والمراد ب» الإحسان «قيل: ما أرَدْنَا بالتَّحاكُم إلى غَيْرِ الرَّسول إلاَّ الإحْسَان إلى خُصُومِنَا، واستِدَامة الاتِّفَاق والائتِلاف بَيْنَنَا. وقيل: ما أرَدْنَا بالتَّحَاكُم إلى عُمَر، إلا أنَّهُ يُحْسِنُ إلى صَاحِبنَا بالحُكْمِ والعَدْلِ، والتَّوْفيقِ بينَهُ وبين خَصْمِهِ، وما خَطَر بِبَالِنَا أنَّه يَحْكُمُ لهُ بِمَا حَكَمِ. وقيلَ: ما أرَدْنَا بالتَّحَاكُم إلى غَيْرك، إلا انَّك لا تَحْكُمُ إلاَّ بالحقِ، وغَيْرُك يُوَفَّقُ بين الخَصْمَيْن، ويأمُرُ كُلَّ واحدٍ بما ذَكَرْنَا ويقرب مراده من مُرَادِ صَاحِبهِ حتى تَحْصُل المُوافَقَة بَيْنَهُمَا. وقال الكَلْبي:» إلا إحساناً «في القَوْل» وتوفيقاً صواباً. وقال ابن كَيْسَان: حقَّا وعَدْلاً؛ نظيرُه: {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} [التوبة: 107] ، وقيل: هو تَقْرِيبُ الأمْر من الحقِّ، لا القَضَاءُ على أمْرِ الحُكم. ثم قال: «أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم» أي: من النِّفَاقِ والغَيْظِ والعَدَاوة. ثم قال: «فأعرض عنهم» وهذا يُفيدُ أمْرَيِن: الأوّل: أن لا يَقْبَل مِنْهُم العَذْر ويَصْبِر على سُخْطِهِ، فإن مَنْ لا يَقْبَلُ العُذْرَ فقد يُوصَفُ بأنه مُعْرِضٌ عَنْه، غير مُلْتَفِت إليه. الثاني: أن هذا يَجْرِي مُجْرَى قوله: اكْتَفِ بالإعْرَاضِ ولا تَهْتِك سَتْرَهُم، ولا تُظْهِر لَهُم علمك بما في بَوَاطِنهم، فإنَّ من هَتَكَ سَتْر عُدُوِّه وأَظهر عِلْمَه بما في قَلْبِهِ، فربما يُجَرِّئُهُ ألاَّ يُبَالِي بإظْهَارِ العَدَاوَة، فَيَزْدَاد الشَّرُّ، وإذا تركَهُ على حَالِهِ، بَقِيَ في خَوْف ووجَلٍ فَيَقِلُّ الشَّرُّ. ثم قال: «وعظهم» أي: ازجرهم عن النِّفَاقِ والمكْرِ والمكيدَة والحَسَد والكَذِبِ، وخَوِّفْهُم بعقاب الله - تعالى - في الآخِرَةِ، كما قال - تعالى -: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125] . ثم قال - تعالى -: «فقل لهم في أنفسهم قولاً بليغاً» . قوله تعالى: «في أنفسهم» فيه أوجه: الأول: أن يتعلّق ب «قل» ، وفيه معنيان: الأوّل: قُلْ لهم خالياً لا يكُونُ معهم احد؛ لأن ذلك أدعى إلى قبول النصيحة. الثاني: قل لهم في معنى أنفسهم المنطوية على النفاق قولاً يبلغ بهم ما يزجرهم عن العود إلى النفاق. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 460 الثالث من الأوجه: أن يتعلق ب «بليغاً» ، أي قولاً مؤثراً في قلوبهم يغتمون به اغتماماً، ويستشعرون به استشعاراً. قال معناه الزمخشري، ورد عليه أبو حيان بأن هذا مَذْهَبُ الكُوفيين؛ إذ فيه تقدِيم مَعْمُول الصِّفَةِ على المَوْصُوف، لو قُلْت: «جَاء زَيْداً رجلٌ يَضْرِبُ» ، لم يَجُزْ عند البَصْريين لأنه لا يتقدم المعْمُول إلا حَيْثُ يَجُوزُ تَقْدِيم العَامِل، والعَامِلُ هُنَا لا يجوزُ تَقْدِيمُه؛ لأن الصِّفَة لا تَتَقَدَّم على المَوْصُوف، والكُوفِيُّون يُجِيزُون تَقْديم مَعْمُول الصِّفَة على المَوْصُوف، وأمَّا قَوْل البَصْريَّين: إنه لا يَتَقدَّم المَعْمُول إلا حَيْثُ يَتَقدَّم العَامِل فيه بَحْثٌ؛ وذلك أنَّا وجدْنا هذه القَاعِدَة مُنْخَرمَة في نَحْوِ قوله: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 9، 10] ف «اليتيم» مَعْمُول ل «تقهر» و «السائل» مَعْمُول ل «تنهر» ، وقد تقدَّمَا على «لاَ» النَّاهِيَة والعَامِل فيهما لا يجوزُ تَقْدِيمُه عليهما؛ إذا المجْزُوم لا يتَقَدَّم على جَازِمِه، فقد تَقَدَّم المَعْمُول حيث لا يَتَقَدَّم العَامِل. وكذلك قَالُوا في قوله: [الطويل] 1819 - قنَافِذُ هَدَّاجُونَ حَوْلَ بُيُوتِهِمْ ... بِمَا كَانَ إيَّاهُمْ عَطِيَّةُ عَوَّدَا خَرَّجوا هذا البَيْتَ على أنَّ في «كان» ضَمِيرَ الشَّأنِ، و «عَطِيَّة» مبْتَدأ و «عَوَّدَ» خبره حتى لا يلي «كان» معْمُول خَبَرها، وهو غير ظَرْفٍ ولا شِبْهُه، فَلَزمَهُم من ذِلك تَقْديم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 461 المَعْمُول، وهو «إيَّاهُم» حيث لا يَتَقَدَّم العَامِل؛ لأن الخَبَر مَتَى كَانَ فِعْلاً رافعاً لضمِيرٍ مُسْتَتِرٍ، امْتَنَع تَقْدِيمه على المُبْتَدأ، لئلا يَلْتبس بالفَاعِلِ، نحو: زَيْد ضَرَب عَمْراً، وأصل مَنْشَأ هذا البَحْث تَقْدِيم خَبَر «لَيْس» عليها، أجازه الجُمْهُور؛ لقوله - تعالى -: {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] ووجه الدَّليل أن «يَوْم» مَعْمُولٌ ل «مصروفاً» وقد تَقَدَّم على «لَيْسَ» ، وتقديم المَعْمُول يؤذِنُ بتقديم العَامِلِ، فعورضوا بما ذَكَرْنَا. فصل في تفسير القول البليغ قيل المراد ب «القَوْل البَلِيغ» : التَّخْوِيف باللَّه - عزَّ وجَلَّ -، وقيل: تَوعَّدَهُم بالقَتْل إن لم يَتُوبُوا. وقال الحَسَن: القَوْلُ البَلِيغُ أن يَقُول لَهُم: إن أظْهَرْتم ما في قُلُوبكُم من النِّفَاقِ، قُتِلْتُم؛ لأنه يَبْلُغ في نُفُوسِهِم كُلَّ مَبْلَغٍ. وقال الضَّحَّاك: «فأعرضْ عَنْهُم وعِظْهُم» في المَلأ [الأعْلى] ، «وقل لهم في أنفسهم قولا بليغاً» في السِّرِّ والخَلاَء. وقيل: هذا مَنْسُوخٌ بآيةِ القِتَالِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 462 لما أمر -[تعالى]- بطاعَةِ الرَّسُول في الآيةِ الأولَى، رغَّب في هذه الآيةِ مَرَّة أخْرَى. قال الزَّجَّاج: كلمة «مِنْ» هَهُنَا صِلَة زَائِدَة، والتَّقْدِير: وَمَا أرْسلْنَا رَسُولاً. قوله: «ليطاع» هذه لاَمُ كي، والفِعْلُ بَعْدَها مَنْصُوب بإضْمَار «أن» ، وهذا استِثْنَاءٌ مُفَرَّغٌ من المَفْعُول لَهُ، والتَّقْدِير: ومَا أرسَلْنَا من رسُولٍ لشَيْءٍ من الأشْيَاءِ إلاَّ للطَّاعَةِ. و «بإذن الله» . فيه ثلاثَةَ أوْجُه: أحدها: أنه يَتَعَلَّق ب {لِيُطَاعَ} والبَاءُ للسَّبَبِيَّة، وإليه ذَهَب أبُو البَقَاءِ؛ قال: وقيل: مَفْعُولٌ به، أي: بِسَبَبِ أمْر اللَّه. الثاني: أن يَتَعَلَّق ب «أرسلنا» أي: وما أرسلنا بأمْرِ اللَّه، أي: بِشَرِيعَته. الثالث: أن يتعلَّق بِمحْذُوفٍ على أنه حالٌ من الضَّمِير في «يطاع» وبه بَدأ أبُو البَقَاء. وقال ابن عَطِيَّة: وعلى التَّعْلِيقَيْنِ؛ أي: تعليقُهُ ب «يطاع» أو ب «أرسلنا» ، فالكلام عَامٌّ واللَّفْظُ خاصٌّ، المعنى لأنَّا نَقْطَع أن اللَّه قد أرَاد من بَعْضِهِم ألاَّ يُطيعُوه، ولذلِك تأوَّل بَعْضُهم الإذْن بالعِلْمِ، وبعضهم بالإرْشَادِ. قال أبو حَيَّان: ولا يَحْتَاجُ لذلك؛ لأن قَوْلَه عامُّ اللَّفْظِ مَمْنُوع؛ وذلك أن «يطاع» مبني للمَفْعُول فيقدر ذَلِك الفَاعِل المَحْذُوف خَاصاً، وتقديره: إلاَّ ليُطيعَه من أراد [الله] طاعَتَهُ. فصل قال الجُبَّائِيّ: معنى الآية: وما أرْسَلْنَا من رسُول إلاّ وأنا مُريدٌ، أن يُطَاعَ ويُصَدَّق، ولم أرسِلْهُ لِيُعْصَى، [و] وهذا يَدُلُّ على بُطْلان مَذْهَب المجَبَّرة؛ لأنَّهُم يَقُولون: إنه - تعالى - أرْسَل رُسُلاً لتُعْصَى، والعَاصي من المَعْلُومِ أنَّهُ يَبْقَى على الكُفْرِ، وقد نَصَّ الله - تعالى - على كَذبِهِم في هَذِه الآيَة، وكان يَجِبُ على قَوْلِهِم أن يكُون قَدْ أرْسَل الرُّسُل لِيُطاعُوا وليُعْصُوا جَميعاً، فدلَّ ذلك على أنَّ مَعْصِيتَهُم للرُّسُل غير مُرَادةٍ لله - تعالى -، وأنَّه ما أرَادَ إلا أنْ يُطاعَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 463 والجواب من وُجُوه: الأول: أن قوله: «إلا ليطاع» يكفي في تحقيق مَفْهُومه أن يُطيعَهُ مُطِيعٌ واحِدٌ، لا أن يُطيعَه جميع النَّاسِ في جَمِيع الأوْقَاتِ، وعلى هذا فَنَحْنُ نَقُولُ بموجبه؛ وهو [أن] كُلَّ ما أرْسَلَهُ الله - تعالى] ، فقد أطَاعَهُ بَعْضُ النَّاسِ في بَعْضِ الأوْقَاتِ، اللَّهُم إلا أن يُقَالَ: تَخْصِيص الشَّيْء بالذِّكْر يَدُلُّ على نَفْيِ الحُكْمِ همَّا عدا، والجُبَّائِيّ لا يَقُول بِذَلِك، فَسَقَطَ هذا الإشْكَال. الثاني: يجُوز أن يكُون المُرادُ به: أن كُلَّ كافِرٍ لا بُدَّ وأن يُقرّ [به] عند مَوْتهِ؛ لقوله - تعالى -: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159] أو يحمل ذَلِكَ على إيمانِ الكُلِّ بهم يَوْم القِيَامَة، ومن المَعْلُوم أن الوَصْفَ في جَانِب الثُّبوتِ، يكْفي في حُصُول مُسَمَّاه في بَعْضِ الصُّوَر وفي بعض الأحْوَالِ. الثالث: أن العِلْمَ بعدم الطَّاعَةِ مع وُجُودِ الطَّاعَةِ مُتَضَادَّان، [والضِّدَّان] لا يَجْتَمِعَانِ، وذلك العلْم مُمْتَنِع العَدَم، فكانت مُمْتَنِعَة الوُجُود، والعَالِم بكون الشَّيءِ ممتنع الوُجُود لا يكُونُ مُرِيداً له؛ فثبت بهذا البُرْهَانِ القَاطِع أن يَسْتَحيلَ أن يُريدَ اللَّهُ من الكَافِرِ كَوْنَه مُطِيعاً، فوجَبَ تأويلُ هذه اللَّفْظَة؛ بأن يكون المُرَاد من الكَلاَمِ لَيْس الإرَادَةَ بل الأمْر، والتَّقْدِير: وما أرسَلْنَا من رسول إلا ليُؤمَر النَّاسَ بِطَاعَتِهِ. فصل استَدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّه لا يُوجَد شَيْءٌ من الخَيْرِ والشَّرِّ؛ والكُفْرِ والإيمانِ، والطَّاعَةِ والعِصْيَان، إلا بإرَادَة الله؛ لقوله: «إلا ليطاع بإذن الله» ولا يمكنُ أن يكُون المُرَادُ من هَذَا الإذْنِ: الأمْر والتَّكْليف؛ لأنَّه لا مَعْنَى لكونه رَسُولاً إلا أنَّ الله - تعالى - أمر بِطَاعته، فلو كان [المُرَادُ] من الإذْنِ هذا لصَارَ التَّقْدِير: وما أذِنَّا في طَاعَةِ من أرْسَلْنَاهُ إلا بإذْنِنَا، وهو تَكْرَاراٌ قَبِيحٌ؛ فوجب حمل الإذْنِ على التَّوْفِيقِ والإعَانَةِ، فيصير التَّقْدِير: وما أرْسَلْنَا من رسُولٍ إلا ليُطَاع بتَوْفِيقِنَا وإعانَتِنَا، وهذا تَصْرِيحٌ بأنه - تعالى - ما أرَادَ من الكُلِّ طاعة الرَّسُول، بل لا يُريدُ ذلك [إلا منَ الَّذِي وفَّقَهُ اللَّه لذلك وهم المؤمِنُون، فما من لم يُوَفِّقْهُ، فللَّهِ - تعالى - ما أرَادَ ذَلِكَ منهم] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 464 فصل دلَّت هذه الآيةُ على أن الأنْبِيَاء -[عليهم الصلاة والسلام]- مَعْصُومُون عن الذنُوبِ؛ لأنَّهَا دَلَّت على وُجُوبِ طاعَتِهِم مطلقاً، فلو أتَوْا بِمَعْصِيةٍ، لوجَبَ الاقْتدَاء بهم في تِلْكَ المعصِيَة، فتَصِيرُ وَاجِبةً علينا، وكَوْنُها معْصِيَةً يجب كوْنُهَا مُحَرَّمَةً عَلَيْنَا، فيلزم تَوَارُد الإيجَابِ والتَّحْرِيم على الشَّيْءِ الوَاحِدِ، وهو مُحَال. فإن قيل: ألَسْتُم في الاعْتِرَاض على الجُبَّائِيّ ذكَرْتُم أن قوله: «إلا ليطاع» لا يفيد العُمُوم، فَكَيْفَ تَمَسَّكتُم به في هَذِه المَسْألة، مع أن [هَذَا] الاسْتِدْلاَل لا يَتِمُّ إلا مَعَ القَوْلِ بأنَّهَا تفيد العُمُوم. فالجواب: ظاهر [هذا] اللَّفْظِ يُوهِمُ العُمُوم، وإنما تَرَكْنَاهُ في تلك المَسْألَةِ؛ للدَّلِيلِ القَاطِعِ الَّذِي ذكَرْنَاه، على أنه يَسْتَحِيلُ منه - تعالى - أن يُريدَ الإيمَان من الكَافِرِ، فلأجْل ذلك المُعَارِض القَاطِعِ صَرَفْنَا الظَّاهِر عن العُمُوم، ولَيْس هَهُنَا بُرْهَان قاطِعٌ عَقْلِيٌّ يوجب القَدْحَ في عِصْمَة الأنبياء - عليهم السلام -، فظهر الفَرْق. قوله: «ولو أنهم» قد تقدم الكلام على «أنَّ» الوَاقِعَة بعد «لَوْ» ، و «إذْ» ظَرْفٌ معمول لخبرِ «أنَّ» وهُو «جاءك» ، وقال: «واستغفر لهم الرسول» ، ولم يقل: واسْتَغْفَرْت، خُرُوجاً من الخِطَابِ إلى الغَيْبَة، لما فِي هذا الاسْمِ الظَّاهِر من التَّشْرِيف بوَصْفِ الرِّسَالة، إجْلالاً للرَّسُول - عليه السلام - و «وَجَدَ» هنا يُحْتَمِل أن تكُون العِلْمِيَّة، فتَتَعَدَّى لاثْنَيْن والثاني: «تواباً» ، وأن تكون غير العِلْميَّة، فتتعدى لِوَاحِدٍ، ويكون «تواباً» ويحتمل أن يَكُون خَبَراً ثَانياً في الأصْلِ، بنَاءً على تعَدُّد الخَبَر وهو الصَّحيح، فلما دَخَل النَّاسِخ، نَصَب الخَبَر المُتَعَدَّد، تقول: زَيْد فَاضِلٌ شاعِرٌ فَقِيهٌ عَالِمٌ، ثم تقول: علمت زَيْداً فَاضِلاً شَاعِراً فَقِيهاً عَالِمَاً، إلا أنَّهُ لا يَحْسُن أن يُقَال هُنا: شاعراً: مفعول ثالِث، وفَقِيهاً [مفعول] رابع، وعَالِماً: خامس. فصل: سبب نزول الآية في سَببِ النُّزُول وَجْهَان: الأول: أن مَنْ تقَدَّم ذِكْرُه مع المُنَافِقِين، عندما ظَلَمُوا أنْفُسَهُم بالتَّحَاكُمِ إلى الطَّاغُوت، والفِرَار من التَّحَاكُمِ إلى رسُولِ الله -[صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] ، [لو جَاءُوا] للرَّسُول، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 465 وأظْهَرُوا النَّدَم على ما فَعَلُوهُ، وتَابُوا عَنْهُ واسْتَغْفَرُوا عنه، واسْتَغْفَر لهم الرَّسُول بأن يَسْألَ اللَّه أن يَغْفر لَهُم، وجَدُوا اللَّه تَوَّاباً رَحِيماً. الثاني: قال الأصم: «إن قَوْماً من المُنَافِقِين اتَّفَقُوا على كَيْد الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ثمَّ دَخَلُ اعليه لأجْل [ذلك الغَرَضِ، فأتَاهُ جِبْرِيل - عليه السلام - فأخبرهُ بِه، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن قوماً] دَخَلُوا عليه لأجْل يُريدُون أمْراً لا ينَالُونَه، فليقُومُوا وليَسْتَغْفِرُوا اللَّه حَتَّى أسْتَغْفِر لهم، فلَمْ يَقُومُوا، فقال: ألا تَقُومُون؛ فلم يَفْعَلُوا، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قُمْ يا فُلانُ، قُمْ يا فُلاَنُ، حَتَّى عدَّ اثْنَيْ عَشَر رَجُلاً منهم، فقاموا وقَالُوا: كُنَّا عَزَمْنَا على ما قُلْتَ، ونَحْنُ نَتُوب إلى اللَّهِ من ظُلْمِنَا أنْفُسِنَا، فاسْتَغْفِرْ لَنَا. فقال: الآن اخْرُجُوا، أنا كُنْتُ في بَدْءِ الأمْرِ أقْرَبُ إلى الاسْتِغْفَارِ، وكان اللَّهُ أقْرَبُ إلى الإجَابَةِ، اخْرُجُوا عَنِّي» . فإن قيل: ألَيْسَ لِوَ اسْتَغْفَرُوا اللَّه وتَابُوا على وَجْهٍ [صَحِيحٍ] ، لكَانَت تَوْبَتُهم مَقْبُولة، فما فَائِدَة ضَمِّ اسْتَغْفَار الرَّسُولِ إلى اسْتِغْفَارِهِم؟ فالجواب من وُجُوهٍ: أحدُهَا: أن ذلك التَّحَاكُم إلى الطَّاغُوتِ كان مُخَالَفَةً لحُكْمِ اللَّه - تعالى -، وكانَ إسَاءَةً للرَّسُول - عليه السلام - وإدْخَالاً للغَمِّ في قَلْبِهِ، ومن كَانَ ذَنْبُهُ كَذَلِك، وجَبَ عليه الاعْتِذَارُ عن ذَلِك لِغَيْرِه؛ فلهذا المَعْنَى وَجَب عليهم إظهار طَلَب الاسْتِغْفَارِ [من الرَّسُولِ] . ثانيها: أنَّهُم لمَّا لم يَرْضوا بحُكْم الرَّسُول - عليه السلام -، ظهر مِنْهُم التمَرُّد، فإذا نَابُوا، وَجَبَ عليهم أن يَفْعَلُوا ما يُزيلُ عنهم ذلك التَّمَرُّد؛ بأن يَذْهَبُوا إلى الرَّسُول ويَطْلُبُوا مِنْهُ الاسْتِغْفار. وثالثها: أنهم إذا أتَوا بالتَّوْبَةِ أتوا بها على وجْهِ خَلَلٍ، فإذا انْضَمَّ إليها اسْتِغْفَارُ الرَّسُولِ، صارَتْ مُحَقَّقَة القَبُولِ، وهذه الآيَةُ تَدُلُّ على أن اللَّه - تعالى - يَقْبَلُ التَّوْبَة؛ لقوله: «لوجدوا الله تواباً رحيماً» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 466 في سَبَي النُّزُولِ قَوْلان: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 466 الأوّل: قال عَطَاء ومُجَاهِد والشَّعْبِي: نزلت في قِصَّة المُنَافِقِ واليَهُودِيّ اللَّذين اخْتَصَما إلى عُمر. الثاني: روي عن عُرْوَة بن الزُّبَيْر؛ «أنه رجُلاً من الأنْصَار قد شهد بَدْراً مع رسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في شِرَاجٍ مِنَ الحرَّة، وكانَا يَسْقِيَانِ به كلاهما، فقال رسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للزُّبَيْر: اسْقِ يا زُبَيْر، ثم أرْسِلْ إلى جَارِكَ، فغَضِب الأنْصَارِيُّ، وقال: أن كان ابنُ عَمَّتِكَ؟ فتلوّن وَجْهُ رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم قال للزُّبَيْر: اسْقِ ثُمَّ احْبِسِ المَاءَ حَتَّى يَرْجع إلى الجِدْرِ» واعلم [أن الحكم] أن مَنْ كَان أرْضُهُ أقْربَ إلى فَمِ الوَادِي، فهو أوْلَى [بأَوَّل] المَاءِ، وحَقُّهُ تَمَام السَّقْي، فالرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُِ أَذِن للزُّبَيْر في السَّقْي على وَجْهِ المُسَامَحَةِ [ابْتدَاء] ، فلما أسَاءَ خَصْمُهُ الأدَب، ولم يعرف حَقَّ ما أمَرَهُ به الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من المُسَامَحَةِ لأجْلهِ، أمَرَهُ النَّبِي - عليه السلام - باسْتِيفَاءِ حَقِّه على التَّمَامِ، وحَمْل خَصْمِهِ على مُرِّ الحَقِّ. قال عروة بن الزُّبَيْر: [أحسبُ هذه الآية نزلَتْ في ذلِك، وروي أن الأنْصَارِي الذي خاصَمَ الزُّبَيْر] كان اسْمُهُ حَاطِب بن [أبِي] بَلْتعة، فلما خَرَجَا مَرَّ على المِقْدَاد. فقال: لمن كان القَضَاءُ فقال الأنْصَارِيّ: قَضَى لابْن عَمَّتِهِ، ولَوَى شِدْقَيْه، فَفَطِنَ له يَهُودِيٌّ كان مع المِقْدَادِ، فقال: قَاتَل اللَّه هَؤلاء، يَشْهَدُون أنَّهُ رسول اللَّهِ ثم يتهمُونَهُ في قَضَاء يَقْضِي بَيْنَهُم، وأيْمُ اللَّه لقد أذْنَبْنَا ذَنْباً مَرَّة في حَيَاةِ مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فدعانا مُوسَى إلى التَّوْبَةِ مِنْهُ، فقال: فاقْتُلُوا أنفُسَكُم ففعلنا، فبلغ قَتْلاَنا سَبْعِين ألْفاً في طَاعَةِ رَبِّنا، حتىَّ رَضِيَ عَنَّا. فقال ثَابِت بن قَيْس بن شماس: أما واللَّه إنَّ الله لَيَعْلَمُ منّي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 467 الصِّدْق، ولو أمَرَنِي مُحَمَّد ن أقْتُل نَفْسِي، لَفَعَلْتُ، فأنزل اللَّه في شَأنِ حَاطِب بن أبِي بَلْتَعَة هَذِه الآية. قوله: «فلا وربك لا يؤمنون» فيه أربعة أقْوالٍ: أحدها: وهو قَوْلَ ابن جَرِير: أن «لا» الأولَى ردّ لِكَلاَم تَقَدَّمَها، تقديرُه: فلا تَعْقِلُون، أو لَيْس الأمْر كما يَزْعُمُون من أنَّهمُ آمَنُوا بما أنْزِل إلَيْك، وهُم يُخَالِفُون حُكْمَكَ، ثم اسْتأنَفَ قَسَماً بعد ذَلِك، فعلى هذا يَكُون الوَقْفُ على «لاَ» تَامّاً. الثاني: أن «لا» الأولَى قُدِّمت على القَسَمِ اهْتِمَاماً بالنَّفْي، ثم [كُرِّرت] توكيداً للنَّفْي، وكان يَصِحُّ إسقاط الأولى، ويَبْقَى مَعْنَى النَّفْي، ولكن تَفُوت الدَّلالة على الاهْتِمَامِ المذكور، [وَكَان يَصِحُّ إسْقَاطُ الثَّانِية ويبقى مَعْنَى الاهْتِمَامِ، ولكن] تفُوت الدَّلالةَ على النَّفْي، فَجَمَعَ بينهما لذلك. الثالث: أن الثَّانِية زَائِدةٌ، والقَسَم معْتَرِضٌ بين حَرْفَي النَّفْي والمَنْفِيّ، وكان التقدير: فلا يُؤمِنُون وَرَبُّك. الرابع: أن الأولى زائدةٌ، والثَّانِيَة غير زائدة، وهو اخْتِيَار الزَّمَخْشَرِي؛ فإنه قال: «لا» مزيدةٌ لتأكِيد مَعْنَى القَسَمِ؛ كما زِيدَتْ في {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29] لتأكِيد وُجُوب العِلْم، و «لا يؤمنون» جواب القَسَم. فإن قلت: هلاّ زَعَمْتَ أنَّها زَائِدة لتظاهر لا في لا يؤمنون؟ «. قلت: يَأبَى ذلك اسْتِوَاء النَّفْيِ والإثْبَات فيه؛ [وذلك لقوله: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} [الحاقة: 38 - 40] يعني: أنه قد جاءَت» لاَ «قبل القَسَمِ؛ حَيْثُ لم تكُن» لا «موجودة في الجَوَابِ] ، فالزَّمَخْشَرِي يرى: أن» لاَ «في قَوْلِهِ - تعالى -: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ} [الحاقة: 38] أنها زائدَة أيضاً لتأكيدِ مَعْنَى القَسَم، وهو أحَدُ القَوْلَيْن. والقول الآخر: كَقَوْلِ الطَّّبَرِي المتقَدِّم؛ ومثل الآيَةِ في التَّخَارِيج المَذْكُورة قول الآخر: [الوافر] 1820 - فَلاَ وَاللَّه لا يُلْفى لما بِي ... ولا لِلِمَا بِهِمْ أبَداً دَوَاءُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 468 قوله:» حتى يحكموك «غاية مُتَعلِّقَةٌ بقوله:» لا يؤمنون «أي: ينْتَفِي عنهم الإيمَانُ إلى هَذِه الغَايَةِ، وهي تَحْكِيمُك وَعَدم وُجْدَانِهِم الحَرَج، وتسليمهم لأمْرِك، والتَفَتَ في قوله:» وربك «من الغَيْبَةِ في قوله: واستغفر لهم [الرسول] رجُوعاً إلى قوله: {ثُمَّ جَآءُوكَ} [النساء: 62] . قوله: {شَجَرَ} قرأ أبو السَّمَّال:» شَجْرَ «بسكون الجيمِ هَرَباً من تَوَالِي الحَرَكَاتِ، وهي ضَعيفَةٌ؛ لأن الفَتْح أخو السُّكُون، و» بينهم «ظَرْفٌ مَنْصُوبٌ ب {شَجَرَ} ، هذا هو الصَّحيحُ. وأجاز أبو البَقَاءِ فيه: أن يكُون حالاً، وجعلَ في صَاحِب هذه الحَالِ احْتَمَالَيْنِ: أحدهما: أن يكون حالاً من» مَا «المْصُوَلَة. والثاني: أنه حَالٌ من فَاعِل {شَجَرَ} وهو نَفْس الموصُول أيضاً في المَعْنَى، فعلى هَذَا يتعلَّق بمَحْذُوفٍ. فصل في معنى التشاجر يقال: شَجَر يَشْجُرُ شُجُوراً وشَجْراً: إذا اخْتَلَف واخْتَلَطَ، وشَاجَرَهُ: إذا نَازَعَهُ، وذلك لتداخل [الكلام بعضه في بعض عند المُنازعةِ، ومنه يقال لخشبات الهَوْدج: شِجَار] ، لتَداخُل بعضها في بعض. قال أبو مُسلم: وهو مأخُوذٌ عندي من التِفَافِ الشَّجَرِ؛ فإن الشَّجَرَ يتداخلُ بَعضُ أغْصَانه في بَعْضٍ. قوله {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ} عطفُ على ما بَعْدَ» حتى «، و» يجدوا «يحتمل أن تكُون المُتعدِّية لاثْنَين [فيكون الأوَّل:» حَرَجاً «، والثاني: الجار قَبْلَه، فيتعلَّق بمحذُوفٍ، وأن تكُون المتعدِّية لوَاحِدٍ] فيجوز في {في أَنْفُسِهِمْ} وجْهَان: أحدهما: أنه مُتعلِّق ب {يَجِدُواْ} تعلُّق الفَضَلاتِ. والثاني: أن يتعلَّق بمَحْذُوفٍ على أنه حَالٌ من {حَرَجاً} ؛ لأن صِفَة النَّكِرَة لما قُدِّمَت عليها انْتَصَبت حَالاً. قوله {مِّمَّا قَضَيْتَ} فيه وجهان: أحدهما: نه مُتَعَلِّق بنفس {حَرَجاً} ؛ لأنَّك تقُول: خرجْتُ من كَذَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 469 والثاني: أنه متعلِّق بمحْذُوفٍ فهو في مَحَلِّ نَصْبٍ؛ لأنه صِفَةٌ ل {حَرَجاً} ، و» مَا «يجُوزُ أن تكون مصدريَّة [وأن تكُون بمَعْنى الَّذِي، أي: حَرَجاً من قَضَائِك، أو مِن الَّذي قضََيْتَهُ] ، وأن تكون [نكرة] موصُوفة، فالعَائِدُ على هَذَيْن القَوْلَيْن مَحْذُوفٌ. فصل أقْسَم الله - تعالى - على أنَّهُم لا يَصِيرُون مُؤمنين إلا عِنْد شَرِائِط: أولُها: {حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ من لَمْ يَرْض بحُكْم الرَّسُول، -[عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ]- لا يَكُون مؤمناً. وثانيها: قوله: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ [في أَنْفُسِهِمْ] حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ} . قال الزجاج: لا تضيقُ صُدورُهُم من أقْضِيَتِك، وقال مُجاهِد: شكّاً، وقال الضَّحَّاك: إثْماً، أي: يأثمُون بإنْكَارِهِم. وثالثها: قوله: {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} أي: ينقادوا للأمْرِ كحَالَ الانْقِيَادِ، واعلم أن قوله: {ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ} المراد منه: الانْقِيَاد في البَاطِنِ، وقوله {وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً} المُرَاد منه: الانْقِيَادُ في الظَّاهِرِ، والحَرَجُ على ثلاثة أوجه: الأول: بمعنى الشَّكّ؛ كهذه الآية، [و] مثله: {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} [الأعراف: 2] أي: شك. والثاني «بمعنى الضِّيق؛ قال - تعالى -: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] أي ضيقٍ. الثالث: بمعنى الإثْمِ؛ قال: - تعالى -: {وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] أي: إثْمٌ. فصل في عصمة الأنبياء دلَّت هذه الآيةُ على عِصْمَة الأنْبِيَاء - عليهم السلام - عن الخَطَإ في الفَتَاوى والأحْكَام؛ لأنه - تعالى - أوْجَبَ الانْقِيَاد لحُكْمِهِم، وبالغ في ذَلِك الإيَجابِ، وبيَّن أنه لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 470 بُدَّ من حُصُولِ الانْقِيَاد في الظَّاهِرِ والقَلْبِ، وذلك يَنْفِي صُدُورَ الخَطَإ عَنْهُم، فَدَلَّ ذلك على أنَّ قَولَه: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ، وفتواه في أسْرَى بَدْرٍ، وقوله: {لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1] ، وقوله: {عَبَسَ وتولى} [عبس: 1] كل ذلِكَ مَحْمُول على التَّأوِيل. فصل قالت المعتزلة: لو كانت الطَّاعَاتُ والمَعَاصِي بَقَضَاء الله - تعالى - لَزِم التَّنَاقُضُ؛ لأن الرَّسُول إذا حَكَم على إنْسَانٍ بأنه لا يَفْعلُ كَذَا، وجب على جَمِيع المكَلَّفين الرِّضَا بذلك؛ لأنه قضاءُ الرّسُول، والرِّضى بقَضَاءِ الرَّسُولِ وَاجِبٌ [لهذه الآية، ثم إن ذلك المكلَّف فعل ذَلِكَ بقَضَاءِ اللَّهِ، والرِّضَا بقضَاء اللَّه وَاجِبٌ] فيَلْزَمُ أن يَجِب على جَمِيع المكلَّفِين الرِّضَا بِذلِكَ الفِعْل، لأنه قضاء اللَّه، فوجب أن يَلْزَمَهُم الرِّضَا بالفِعْلِ والتَّرْكِ مَعاً، وذلك مُحَالٌ. والجوابُ: أن المُرَاد من قَضَاءِ الرَّسُول: الفَتْوى بالإيجَابِ والمُرَاد من قَضَاء الله: التكوِين والإيجَادِ، وهما مفهومان مُتغايَران، فالجَمْعُ بينهما لا يفضي إلى التَّنَاقُض. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 471 هذه الآيةِ مُتَّصِلَة بما تقدَّم من المُنَافَقِين، وترغيب لَهُم في تَرْكِ النِّفَاقِ، والمَعْنَى: أنَّا لو شَدَّدْنا التكلِيف على النَّاسِ؛ نحو أن نأمُرَهُم بالقَتْلِ، والخُرُوج عن الأوْطَانِ، لَصَعُبَ ذلك عليهم ولما فَعَلَهُ إلا قَلِيلٌ، وحينئذٍ يظهر كُفْرُهُم، فلم نَفْعَلْ ذلك رَحْمَةً مِنَّا على عِبَادِنا، بل اكْتَفَيْنَا بتكْلِيفِهِم في الأمُور السَّهْلَة، فَلْيَقْبَلُوهَا ولْيَترُكُوا التَّمرُّد. نزلت في ثَابت بن قَيْس بن شِمَاس، نَاظَر يهُودِيَّا. فقال اليَهُودِيّ: إن مُوسَى أمَرَنا بقَتِْ أنْفُسِنَا فَفَعَلْنَا ذَلِك، ومحمد يأمرُكُم بالقِتَال فتكْرَهُونَهُ. فقال ثابت بن قَيْس: لو أنَّ مُحَمَّداً أمَرَنِي بقَتْل نفسي، لفَعَلْت ذلك فنزلت الآيةُ، وهو من القَِيلِ الَّذِي اسْتَثْنَى اللَّهُ. وقال الحسن ومُقاتِل: لماّ نَزَلَت هذه الآيةُ، «قال عُمَر، وعمَّار بن يَاسِر، وعبد لله بن مَسْعُود، وناسٌ من أصْحَاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم القليلُ: واللَّه لَوْ أمَرَنَا لفعلنا، فالحَمْدُ للَّه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 471 الذي عَافَانا اللَّه فبلغ ذَلِك النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال» إنَّ مِنْ أمَّتِي لَرِجَالاً، الإيمانُ أثْبَتُ في قُلُوبِهِم مِنَ الجِبَالِ الرَّواسِي «. والضَّمِيرُ في قوله: {كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ} فيه قولان: الأوّل: قال ابن عبَّاسٍ ومُجَاهِد: إنه عَائِد إلى المُنَافِقين لأنه - تعالى - كَتَبَ على بَنِي إسرائيلَ أن يَقْتُلوا أنْفُسَهم، وَكَتَب على المُهَاجِرِين أن يَخْرُجُوا من ديارِهم، فقال: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا} على هؤلاءِ المُنَافِقِين القَتْل والخُرُوجَ، ما فَعلهُ إلا قَلِيلٌ ريَاءً وسُمْعَة، وهذا اخْتِيَار الأصَمِّ والقَفَّال. [القول] الثاني: المراد: لو كَتَب اللَّه على النَّاسِ ما ذَكَر، لم يَفْعَلْه إلا قَلِيلٌ منهم، فَيَدْخُل فيه المُؤمِنُ والمُنَافِق. قوله: {أَنِ اقتلوا} » أن «فيها وجهان: أحدهما: أنها المُفَسِّرة؛ لأنَّها أتت بعد ما هُو بمعنى القَوْلِ لا حَرُوفهِ، وهو أظْهَر. الثاني: أنها مَصْدَريَّة، وما بَعْدَها من فِعْل الأمْرِ صِلَتُها، وفيه إشْكَالٌ؛ من حيث إنَّه إذا سُبك منها ومِمّا بَعْدَها مَصْدرٌ، فأتت للدِّلالةَ [على الأمر، ألا تَرَى أنَّك إذا قُلْتَ: كتَبْتُ إلَيْه أنْ قُمْ فيه من الدَّلالَةِ] على طَلَبِ القِيَام بطريق الأمْرِ، ما لا في قَوْلِك: كَتَبْتُ إليه القِيَام، ولكنَّهمُ جَوَّزوُا ذلك واسْتَدَلُّوا بقولِهِم: كَتَبْتُ إليه بأن قُمْ. ووجه الدلالة: أن حَرْفَ الجَرِّ لا يُعَلَّق. وقرأ أبو عمرو: بكسر نُونِ» أن «وضَمّ واو» أو «، قال الزَّجَّاج: ولست أعرف لِفَصْل أبي عَمْروٍ بين هَذَيْنِ الحَرْفَيْنِ خَاصيَّة إلاّ أن يَكُون رِوَايَةً. وقال غيره: أمّا كَسْر النُّونِ؛ فلأن الكَسْرَ هُو الأصْلُ في التِقَاء السَّاكِنَيْن، وأما ضَمُّ الواو فللإتبَاعِ؛ لأن الضَّمَّة في الواوِ أحسن؛ لأنَّها تُشْبِه وَاوَ الضَّمِير، نحو: {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16] {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل} [البقرة: 237] وكَسَرَهُمَ حَمْزَة وعَاصِم؛ لالْتِقَاء السَّاكِنَيْن، وضَمَّهُمَا ابن كَثِير، ونَافِع [وابن عامر] والكسائي؛ للاتبَاعِ فيهما. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 472 قوله {مَّا فَعَلُوهُ} . الهاء يُحْتَمَلُ أن تكُون ضمير مَصْدر {اقتلوا} ، أو {اخرجوا} أي: ما فَعَلُوا القَتْل؛ أو ما فَعَلُوا الخُرُوج. وقال فَخْر الدِّين الرَّازي: تعود إلى القَتْلِ والخُرُوج معاً؛ لأنه الفِعْل جَنْسٌ وَاحِدٌ وإن اخْتَلَفَت ضُرُوبُه. قال شهاب الدِّين: وهذا بَعيدٌ لنُبُوّ الصِّنَاعة عَنْهُ، وأجَازَ أبو البقاء أن يَعُود على المكْتُوب ويَدُلُّ عليه: {كَتَبْنَا} . قوله: «إلاَّ قليلٌ» رفْعُه من وَجْهَيْن: أحدهما: أنه بَدَلٌ من فَاعِل {فَعَلُوهُ} وهو المخْتَار على النَّصْبِ؛ لأن الكلام غير مُوجِبٍ. الثاني: أنه مَعْطُوف على ذَلِكَ الضَّمِير المَرْفُوع، و «إلاَّ» حَرْف عَطْفٍ، وهذا رأي الكوفِيِّين. وقرا ابن عامر وجَماعة: {إلاَّ قَلِيلاً} بالنَّصْب، وكذا هُو في مَصَاحِفِ لأهْل الشَّامِ، ومصْحَف أنس بن مَالِكٍ، وفيه وَجْهَان: أشهرهما: أنه نَصْبٌ على الاسْتِثْنَاء وإن كان الاخْتِيَار الرَّفع؛ لأن المعنى موجُود [معه كما هُو مَوْجُود] مع النَّصْب، ويزيد عليه بمُوَافَقَة اللَّفْظِ. والثَّاني: أنه صِفَةٌ لمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، تقديره: إلا فِعْلاً قليلاً، قاله الزَّمَخْشَرِي وفيه نَظَرٌ؛ إذ الظَّاهر أن «منهم» صِفَةٌ ل {قَلِيلاً} ، ومَتَى حمل القَلِيل على غَيْر الأشْخَاصِ، يقلق هذا الترْكِيب؛ إذ لا فَائِدَة حينئذٍ في ذكر «منهم» . قال أبو علي الفَارِسي: الرَّفْع أقْيَس، فإن مَعْنَى ما أتَى أحَدٌ إلا زَيْد، [وما أتَانِي إلا زَيْد] واحِدٌ؛ فكما اتَّفَقُوا في قَوْلِهِم: ما أتَاني إلا زَيْدٌ، على الرَّفع، وجب أن يكُون قَوْلهُم: ما أتَانِي أحَدٌ إلا زَيْدُ بِمَنْزِلَتِهِ. قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ} تقدم الكَلاَم على نَظِيره، و «ما» في {مَا يُوعَظُونَ} [موصولة] اسميَّة. والباء في: «بِهِ» يُحْتَمل أن تكُون المُعَدِّية دَخَلَتْ على الموعُوظ به [والموعوظ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 473 به] على هَذَا هو التَّكَالِيفُ من الأوَامِرِ والنَّوَاهِي، وتُسَمَّى أوَامِر اللَّه [تعالى] ونَوَاهِيه مَوَاعِظ؛ لأنها مقْتِرَنَةٌ بالوَعْد والوَعيد، وأن تكون السَّبَبِيَّة، والتقدير: ما يُوعَظُون بسببه أي: بسبب تَرْكِهِ، ودلَّ على التَّرْكِ المحذوف قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ} [واسم «كان» ضمير عَائِدٌ على الفِعْل المفْهُومَ من قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ} ] أي: لكَان فِعْل ما يُوعظون به، و «خَيْراً» خبرها، و «شيئاً» تَمْييز ل «أشَدَّ» ، والمعْنَى: أشَدّ تَحْقِيقاً وتَصْديقً لإيمانهم. قوله: «وإذن» : حرف جَوَابٍ وجَزَاء، وهل هَذَان المعْنَيَانِ لازمَان لها، أو تكُون جَوَابَاً فَقَطْ؟ قولان: الأوّل: قَوْل الشلوبين تَبَعاً لظَاهِر قول سيبَويْه. والثاني: قول الفَارِسيِّ؛ فإذا قال القَائِلُ: أزُورُك غَدَا، فقلت: إذْن أكرِمُكَ، فهي عِنْدَهُ جَوَابٌ وجَزَاء، وإذا قُلْتَ: إذن جواب مُلْغَاة، فظاهر هذه العِبَارَةِ موافِقٌ لقَوْل الفَارسِيِّ [وفيه نَظَر؛ لأن الفارسيّ] لا يقُول في مِثْل هذه الآية إنَّها جَوابٌ فَقَطْ، وكَونهَا جَوَاباً يَحْتَاجُ إلى شيء مُقَدَّرٍ. قال الزَّمَخْشَرِيّ: «وإذن» - جواب لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ؛ كأنه قيل: وماذَا يكُون لَهُمْ بعد التَّثْبِيتِ أيضاً؟ فقيل: لو تَثَبَّتُوا لآتَيْنَاهُم؛ لأن «إذَنْ» جوابٌ وجَزَاءٌ. و {مِّن لَّدُنَّآ} : فيه وَجْهَان: أظهرهما: أنه مُتعلِّق [ب {وَءَاتَيْنَاهُمْ} . والثاني: أنه مُتَعَلِّق] بمحْذُوفٍ؛ لأنه حالٌ من «أجْراً» لأنَّه في الأصْلِ صِفَة نكرة قُدِّمَت عليها. و «أجْراً» مَفْعُول ثانٍ ل «ءَاتَيْنَاهُم» ، و {صِرَاطاً} مَفْعول ثانٍ ل {لَهَدَيْنَاهُمْ} . فصل قال الجُبَّائِي: دَلَّت هذه الآيَةُ على أنَّه - تعالى - لمَّا لم يُكَلِّفْهُم ما يَثْقُلُ عَلَيْهم، فبأن لا يَكَلِّفَهُم ما لا يُطِيقُونَ أوْلَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 474 والجواب: إنَّما لم يُكَلَّفُهم بهذه الأشْيَاءه الشَّاقَّة؛ لأنَّه لو كَلَّفَهُم بها لما فَعَلُوهَا، ولو لم يَفْعلُوهَا، لوقَعُوا في العَذَاب، ثم إنَّه - تعالى - عَلِم من أبِي جَهْلٍ وأبِي لَهَبٍ عدم الإيمانِ، وأنهم لا يسْتَفِيدُون من التَّكْلِيفِ إلاَّ العِقَاب الدَّائِم، ومع ذلِك فإنَّهُ كَلَّفَهُم الإيمَان فلمَّ كان جَوَاباً عن هَذَا، فهو جوابٌ عما ذكَرْت. فصل: دلالة الآية على عظم الآجر دلَّت هذه الآيةُ على عِظَمِ هذا الأجْرِ من وُجُوه: أحدُها: أنه ذَكَر نَفْسه بصيغة العَظَمَةِ، وهو قوله: {لآتَيْنَاهُمْ مِّن لَّدُنَّآ} والمُعْطِي الحكيم إذا ذكَر نَفْسَه (باللَّفْظِ الدَّالِّ على) العظمة، وهو قوله: {وَءَاتَيْنَاهُم} عند الوَعْد بالعَطِيَّة - دلَّ على عِظَم تَِلْك العَطِيَّة. وثانيها: قوله: {مِّن لَّدُنَّآ} هذا التَّخصيص يَدُلُّ على المُبَالَغَةِ، كما في قوله: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} [الكهف: 65] . وثالثها: أنه وَصَفَ الأجْرَ بكَوْنِهِ عَظِيماً، والذي وَصَفَهُ أعْظَم العُظَمَاء بالعَظَمَةِ، لا بد وأن يكُون في نِهَاية العِظَم، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: « [فيها] ما لاَ عَيْنٌ رَأتْ، ولا أذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَر على قَلْبِ بَشَر» . والمراد ب «الصراط المستقيم» : هو الدِّين الحَقّ؛ لقوله: «وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم» . وقيل: الصِّرَاط هو الطَّريق من عرصة القيامة إلى الجَنَّة؛ لأنه - تعالى - ذكَرَهُ بعد الثَّوابِ والأجْرِ، فكان حَمْلُه عليه في هَذَا الموضِع أولى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 475 لما أمر اللَّه بطَاعَةِ اللَّهِ وطاعَةِ رسُولِهِ بقوله: {أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول} [النساء: 59] ثم زيَّف طريقَةَ المُنَافِقِين، ثم أعَادَ الأمْر بطَاعَةِ الرَّسُول بقوله -[تعالى]- : {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ} ورغَّب في تِلْك الطَّاعَةِ بإيتَاءِ الأجْرِ العَظيمِ، وهداية الصِّرَاطِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 475 المُسْتَقِيم، أكد الأمْرَ بالطَّاعَة في هَذِه الآيَةِ مَرَّة أخْرَى، فقال: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول} الآية، وقال القُرْطبيّ: لما ذكر اللَّه - تعالى - الأمْر الذي لو فَعَلَهُ المُنافِقُون حِين وعظُوا به وأنَابُوا إليه، لأنْعَمَ عليهم، ذكر بعد ذَلِك ثَوابَ من يَفْعَلهُ. فصل: سبب نزول الآية قال جماعة من المفسِّرِين: «إن ثَوبَان مَوْلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانَ شَديد الحُبِّ لرسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قليل الصَّبْر عن فِراقِهِ، فأتَاهُ يَوماً وقد تَغَيَّر لًوْنُه، ونحلُ جسمُه، وعُرف الحُزْن في وَجْهِه، فقال [له] رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [ما غيَّر لَوْنَك؟ فقال: يا رسول الله] مَا بِي من وَجَع غيْرَ أنِّي إذا لمْ أرَكَ، اسْتَوْحَشْتُ وحْشَةً شَديدةً حَتَّى ألقاك، فَذَكَرْتُ الآخِرَة فَخِفْتُ إلاَّ أرَاكَ هُنَاكَ؛ لأنك تُرفعَ مع النبييِّن [والصِّدِّيقين] ، وإني إن أدخِلْتُ الجَنَّة، كنت في مَنْزَلةٍ أدْنَى من مَنْزِلَتِك، وإن لَمْ أدْخُلِ الجَنَّة، فلا أرَاكَ أبَداً» ، فنزلَتْ [هذه] الآيَةَ. وقال مُقَاتل: نَزَلَتْ في رَجُلٍ من الأنْصِارِ، قال للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يا رسُولَ الله، إذا خَرَجْنَا من عِنْدِك إلى أهْلِينَا اشْتَقْنَا إليك، فما يَنْفَعُنَا شيء حتَّى نَرْجع إلَيْك، ثم ذَكَرْتُ درجَتَكَ في الجَنَّة، فكيف لَنَا بِرُؤْيَتك إن دَخَلْنَا الجَنَّة، فنزَلتْ هذه الآيةُ، فلما تُوُفِّي النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: اللَّهُمَّ أعْمِنِي حّتَّى لا أرَى شَيْئاً بَعْدَهُ إلى أنْ ألقاه؛ فعَمِيَ مَكَانَهُ، فكان يُجِبُّ النبي حُبّاً شديداً، فجعله الله مَعَهُ في الجَنَّةِ. قال المُحَقِّقُون: لا تنكَرُ صحَّة هَذِهِ الرَّوَايَات؛ إلا [أن] سَبَب النُّزُّول يجب أن يكون شَيْئاً أعْظَم من ذَلِك، وهو الحَثُّ على الطَّاعَةِ والتَّرغِيب فيهَا، فإن خُصُوصَ السَّبَبِ لا يَقْدَحُ في عُمُوم اللَّفَظِ، فالآيةُ عامَّةٌ في حَقِّ جميع المكلَّفين، والمَعْنَى: ومَنْ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 476 يُطِع الله في أدَاءِ الفَرَائِضِ، والرَّسُولَ في السُّنَنِ. فصل ظاهر قوله: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول} يوجب الأكْثَر بالطَّاعَة الوَاحِدَة، لأنَّ اللَّفْظَ الدالَّ على الصِّفَةِ يكفي فقي جَانِبِ الثُّبُوتِ حُصُول ذَلِكَ المُسَمَّى مَرَّة وَاحِدَة. قال القَاضي: لا بد من حَمْلِ هَذَا على غير ظاهره، وأن تُحْمَل الطَّاعَة على فعل المأمُورَاتِ وتَرْك جَمِيع المنْهِيَّات؛ إذ لو حَمَلْنَاهُ على الطَّاعَةِ الوَاحِدَةِ، لدخل فيه الفُسَّاق والكُفَّار؛ لأنهم قد يأتُونَ الطَّاعَةِ الوَاحِدَةِ، لدخل فيه الفُسَّاق والكُفَّار؛ لأنهم قد يَأتونَ الطَّاعَةَ الوَاحِدَة. قال ابن الخَطِيب: وعِنْدِي فيه وَجْهٌ أخَرَ، وهو أنَّهُ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ، أن الحُكْمَ المَذْكُور عَقِيب الصِّفَةِ يُشْعِرُ بِكَوْنِ ذلك الحُكْمِ مُعَلِّلاً بذلك الوَصْفِ، وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُول: قوله: {وَمَن يُطِعِ الله} [أي: ومن يُطِع الله] في كَوْنِهِ إلهاً، وذَلِكَ هو مَعْرِفَتُه والإقْرَار بِجَلاَلَهِ وعِزَّتِه وكبْرِيَائِه [وقُدْرَته] ، ففيها تَنْبِيهٌ على أمْرَيْن عظيمين مِنْ أمُور المَعَاد: الأوّل: منشأ جَميع السَّعَاداتِ يوم القيامَة وهُو إشْرَاق الروح بأنْوَارِ معْرفته تعالى، وكل من كانت هذه الأنوار في قلبه أكْثَر، وصَفَاؤُهَا أقْوَى، وبُعْدُها عن التكَدُّر بعالم الأجْسَام، كان إلى الفَوْزِ بالنجاة أقرب. الثاني: قال ابن الخَطِيب: إنه - تعالى - وعد المُطيعين في الآيةِ المتقدِّمَة بالأجْر العَظِيم والهداية، ووعَدهُم هنا بِكَوْنِهِم مع النّبِيَّين [كما ذكر في] الآية، وهَذَا الذي خَتَمَ به أشْرُف ممَّا قَبْلَهُ، فليس المُرادُ مَنْ أطَاعَ الله وأطاعَ الرَّسُول مع النَّبِيِّين والصِّدِّيقين - كَوْن الكل في دَرَجَةٍ واحِدَةٍ؛ لأن هذا يقْتَضِي التسوية في الدَّرجة بين الفَاضِلِ والمَفْضُوُل، وأنَّه لا يجُوزُ، بل المُرادُ: كونُهم في الجَنَّةِ بحَيْثُ يتمكَّن كل واحدٍ مِنْهُم من رُؤيَة الأخَرَ، وإن بَعُد المَكَان؛ لأن الحِجَابِ إذَا زَالَ، شَاهدَ بَعْضُهم بَعْضَاً، وإذا أرَادُوا الزِّيَارَة والتَّلاقِي قَدَرُوا عَلَيْهِ، فهذا هُو المُرادُ من هَذِه المَعيَّة. قوله: {مِّنَ النبيين} فيه أربعة أوجه: أظهرها: أنه بَيَان ل «الذين أنعم الله عليهم» . الثاني: أنه حلٌ من لضمير في «عليهم» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 477 الثالث: أنه حالٌ من الموصُول، وهو في المَعْنَى كالأوَّل، وعلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْن فيتعلَّق بمحْذُوف، لأي: كَائِنين من النَّبِيِّين. الرابع: أن يَتَعلَّق ب «يُطِع» قال الرَّاغِب: [أي] : ومن يُطِع الله والرَّسُول من النَّبِيّين ومَنْ بَعْدَهُم، ويكون قوله: {فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} إشارةٌ إلى الملإ الأعْلَى. ثم قال: {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} ويُبيَّين ذلك قوله - عليه السلام - عند المَوْتِ: «اللهم ألحقني بالرفيق الأعلى» وهذا ظاهِر، وقد أفْسَدَهُ أبو حَيَّتن من جِهَةِ المَعْنَى، ومن جَهَةِ الصِّنَاعَة: أمَّا من جِهَة المَعْنَى: فلأن الرَّسُول هُنَا هو مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد أخْبَر - تعالى - أنَّه من يُطِع الله ورسُولَهُ، فهو مع مَنْ ذَكَرَهُ، ولو جَعَلَ «مع النبيين» متَعلِّقاً ب «يُطِع» ، لكان «من النبيين» تَفْسيراً ل «مَنْ» الشَّرطيَّة، فَيَلْزَم أن يَكُونَ في زَمَانِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -[أو بَعْدَهُ أنْبياء] . وأمَّا من جِهَةِ الصِّنَاعَةِ؛ فلأن ما قَبْلَ الفَاءِ [يُطيعُونَه، وهذا غَيْر ممْكِن؛ لقوله تعالى: {وَخَاتَمَ النبيين} وقوله]- عليه السلام -: «ولا نَبِيّ بَعْدِي» الوَاقِعَة جَوابَاً للشَّرْطِ لا يعمل فيما بَعْدَهَا، لو قُلْتُ، إن تَضْرِب يَقُم عَمْرو وزَيْداً لم يَجُزْ: وهل هذه الأوْصَاف الأرْبَعة لِصِنْفٍ واحدٍ أو لأصنَافٍ مختلفة؟ قولان. فصل في تفسير المراد بالنبي والصديق والشهيد قيل: المُرَاد بالنَّبِيَّين والصِّدِّيقين والشُّهَداء والصَّالِحِين: صِنْفٌ واحد من النَّاس، وقيل: المراد أصْنَاف مُخْتَلِفَة؛ لأن المَعْطُوف يَجبُ أن يكُون مُغَايِراً للمعْطُوف عَلَيْهِ، وقيل: الاخْتِلاَف في الأصْنَافِ الثَّلاثة غير النَّبِيِّين، فالصِّدِّيقُون هُمْ أصْحَابُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والصِّدِّيق: هو اسمٌ للمُبَالِغِ في الصِّدْقِ، ومن عادَته الصِّدْق. وقيل: الصِّدِّيق: هو اسمٌ لمن سَبَقَ إلى تَصْديق النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، [وعلى هذا فأبُو بكر أوْلَى الخَلق بهذا الاسْم؛ لأنَّهُ أول من سَبَقَ إلى تَصْديق النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] ؛ واشْتَهَرَت الرِّوَاية بذلك، وكان عَلَيَّ صَغِيراً واتَّفَقُوا على أنَّ أبا بَكْر لمَّا آمَنَ، جَاءَ بَعْدَ ذلك بِمُدَّة قَلِيلَة بِعُثْمَان بن عَفَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وطَلْحَة بن الزُّبَيْرِ، وسَعْد بن أبي وقَّاص، وعُثْمَان بن مَظْعُون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - حتى أسْلَمُوا، فكان إسْلامُه سَبَباً لاقْتِدَاء هؤلاء الأكَابِرِ بِهِ؛ فثبت أنَّه - رضوان الله عَلَيْه - كان أسْبَق النَّاس إسلاماً، وإن كان إسلامُه صَار سَبَباً لاقْتِدَاء الجزء: 6 ¦ الصفحة: 478 الصَّحَابَةِ في ذَلِكَ، فَكَانَ أحَقَّ الأمَّة بهذا الاسْم أبو بكر، وإذا كان كَذِلِكَ، كان أفْضَل الخَلْقِ بعد الرَّسُول [عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ] ، وجَاهَدَ في إسْلامِ أعْيَان الصَّحَابةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - في أوّل الإسْلام، حين كان النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غَايَةِ الضَّعْفِ، وَعَلَيَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إنما جاهدَ يَوْمَ أحُدٍ ويَوْمَ الأحْزابِ، وكان الإسْلامُ قَوِيَّاً، والجهاد وَقْتَ الضَّعْفِ أفْضَلَ من الجِهَادِ وقت القُوَّة؛ لقوله - تعالى -: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [الحديد: 10] ، ودلَّ تَفْسِير الصِّدِّيق بما ذَكَرْنَا، على أنَّهُ لا مَرْتَبَةَ بعْد النُّبُوَّة [أشْرَف] في الفَضْلِ إلا الصِّدِّيق، فإنه أينما ذُكِرَ النَّبِيُّ والصِّدِّيق لَمْ يُجْعَل بينهما وَاسِطَةِ، قال - تعالى - في صفة اسْماعيل: {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} [مريم: 54] ، وفي صِفَةِ إدْرِيس: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} [مريم: 41] ، وقال هُنَا، {مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ} وقال: {والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] ، فلم يجْعَل بَيْنَهُمَا وَاسِطَة، وقد وفَّقَ الله الأمَّة التِي هي خَيْر أمَّةِ، حتى جَعَلُوا الإمام بعد الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أبا بَكْر على سبيل الإجْمَاع، ولما تُوُفي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - دُفِنَ إلى جَنْبِ رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا دَليلٌ على أنَّ اللهَ - تعالى - رفع الواسِطَة بين النَّبِيِّين والصِّدِّيقين. وأمَّا «الشهداء» قيل: الذين استشهدوا يوم أُحُد، وقيل: الَّذِين استشهدُوا في سَبيل الله. وقال عكرمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: النَّبِيُّون هَهُنَا مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والصِّدِّيقُون أبُو بكر، والشُّهَدَاء، عُمَر وعُثْمَان وعَلِبّ، والصَّالِحُون: سائر الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم [أجمعين] . قال ابن الخطيب: لا يجُوزُ أن تكون الشَّهَادَةُ مُقَيَّدة بكون الإنْسَانِ مَقْتُول الكَافِر؛ [لأن مَرْتَبَةَ الشَّهَادَةِ مَرْتَبَة عَظيِمة في الدِّين، وكون الإنْسَان مَقْتُول الكَافِر] ليس زيَادة شَرَفٍ، لأنّ هذا القَتْل قد يَحْصُلُ في الفُسَّاق، وفِيمَن لا مَنْزِلَة له عِنْدَ الله. وأيضاً فإن المُؤمِن قد يَقُول: اللَّهُم ارْزُقْنِي الشَّهَادَة فلو كانت الشَّهَادَةُ عِبَارَة عن قَتْلِ الكَافِرِ إيَّاه، لكَان قد طَلَبَ من الله ذَلِكَ القَتْل، وهو غَيْر جَائِزٍ؛ لأنَّ صُدُور [ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 479 ذلك] القَتْلِ من الكَافِرِ كُفْرٌ، فَكَيْفَ يَجُوز أن يَطْلُب من الله ما هو كُفْرٌ، وأيضاً قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «المَبْطُونُ شَهِيدٌ، والغَرِيقُ شَهِيدٌ» ، فَعَلِمْنَا أن الشَّهَادَةَ لَيْسَت عِبَارَة عن القَتْل، بل نَقُول: الشَّهيدُ: «فَعِيلٌ» بمعنى «الفاعِل» ، وهو الَّذي يَشْهَدُ بِصِحَّةِ ديِن اللهِ تارةً بالحُجَّة والبَيَان، وأخْرَى بالسَّيْف والسِّنَان، فالشُّهَدَاءُ هم القَائِمُون بالقِسْط، وهم الَّذِين ذَكَرَهُم الله - تعالى - في قوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط} [آل عمران: 18] يُقَال للمَقْتُول في سَبِيلِ الله: شَهِيدٌ؛ من حَيْثُ إنَّه بذل نَفْسَهُ في نُصْرَة دِين الله، وشَهَادَتهِ له بأنَّه هو الحَقُّ، وما سِوَاهُ هو البَاطِل. وأمّا الصَّالِحُون: فقد تَقَدَّم قول عِكْرِمَة: إنهم بَقِيَّة الصحابة وقيل: الصَّالِحُ من كان صَالِحاً في اعْتِقَادِه وفي علمه. قوله: {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} في نصب رَفيقاً قَوْلان: أحدُهُمَا: أنه تَمْيِيزٌ. والثاني: أنه حَالٌ، وعلى تَقْدِير كَوْنِهِ تَمْييزاً، فيه احْتِمَالاَن: أحدهما: أن يكون مَنْقُولاً من الفَاعِلِيَّة، وتَقْديره: وَحَسُن رَفيِقُ أولَئِك، فالرَّفِيقُ على هَذا هذا غير لمُمَيَّز، ولا يجُوزُ دُخُولُ «مِنْ» عليه. والثاني: ألاَّّ يكون مَنْقُولاً، فيكون نَفْسُ المُمَيَّز، وتدخل عليه «مِنْ» ، وإنَّمَا أتَى به هُنَا مفرداً؛ لأحَد مَعْنَيَيْن: إما لأن الرَّفِيق كالخَلِيطِ والصَّدِيقِ والرَّسُولِ والبريد، تذهب به العَرَي إلى الوَاحِدِ والمُثَنَّى والمَجْمُوع؛ قال - تعالى -: {إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين} [الشعراء: 16] وهذا إنَّما يَجُوز في الاسْم الّذي يكُون صِفَةً، أمَّا إذا كَانَ اسماً مُصَرَّحاً كرَجُلِ وامْرَأة لم يَجْزْ، وجوَّز الزَّجَّاج ذَلِك في الاسْمِ أيْضاً، وزعم أنه مَذْهَب سِيبَويْه. والمعنى الثَّاني: أن يكون اكْتَفَى بالوَاحِدِ عن الجَمْعِ لفهم المَعْنَى، وحَسَّن ذَلِكَ كَوْنِه فَاضِلة، ويَجُوز في «أولئك» أن يكون إشَارَة إلى [النبيين ومن بَعْدَهُم، وأن يكُون إشارَةً إلى] مَنْ يُطِع الله وِرسُوله، وإنما جُمِعَ على مَعْنَاهَا؛ كقوله [تعالى] : {نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [الحج: 5] وعلى هذا فَيُحْتَمَل أن يُقال: إنه رَاعَى لَفْظُ [ « الجزء: 6 ¦ الصفحة: 480 مِنْ» ] فأفْرَد في قوله «رفيقاً» ، ومَعْنَاها فجمع في قوله: «أولئك» إلا أن البَدَاءَة في ذلك بالحَمْل على اللَّفْظِ أحسن، وعلى هذا فيكون قد جَمَعَ فِيهَا بين الحَمْل على اللَّفْظِ في «يَطِعْ» ثم على المَعْنَى في «أولئك» والجمهُور على فتح الحَاءِ وضمّ السّين من «حَسُنَ» . وقرأ أبو السَّمَّال: بفتحها وسُكُون السِّين تَخْفِيفَاً، نحو: عَضْد في: عَضُد، وهي لُغَةُ تَمِيم، ويَجُوز «حُسْ» ، بضم الحَاءِ وسُكُون السين، كأنهم نَقَلُوا حركة العَيْنِ إلى الفَاءِ بعد سَلْبِهَا حَرَكَتِها، وهذه لُغَة بَعْضِ «قَيْس» ، وجعل الزَّمَخْشَرِيّ هذا من بَابِ التَّعَجُّيَّ؛ فإنه قال: فيه معنى التَّعَجُّب، كأنه قيل: وما أحْسَنُ أولَئِكَ رَفِيِقَاً، ولاسْتِقْلاَلَه بمعنى التَّعَجُّب. وقُرئ: «وحَسْن» بسُكون السِّين؛ يقول المتعجب: حَسْنَ الوَجْهِ وَجْهُك، وحَسْنُ الوَجْه وجْهك بالفَتْح والضَّمِّ مع التَّسْكِين. قال أبو حَيَّان: وهو تَخْلِيط وتَرْكِيبُ مذْهب على مَذْهَبٍ، فنقول اخْتَلَفُوا في فِعْلٍ المراد به المَدْح. فذهب [الفارسي] وأكثر النُّحَاةِ: إلى جَوازِ إلْحَاقه ببَابِ «نِعْم» و «بِئْسَ» [فقط، فلا يكُون فَاعِلُهِ إلا مَا يكُون فَاعِلاً لَهُمَا] . وذهب الأخْفَش والمُبَرِّد إلى جَوازِ إلْحَاقِه بِبَابِ «نَعْمَ» و «بِئْسَ» ] ، فيُجْعَل فَاعِله كَفَاعِلَهمَا، وذلك إذا [لم] يَدْخُلُه مَعْنَى التَّعَجُّب [وإلى جَوَازَ إلْحَاقِه بَفِعْل التَّعَجُّب] فلا يجري مُجْرَى «نعم» و «بِئْس» في الفَاعِل، ولا في بَقِيَّة أحْكَامِهما، فَتَقُول: لَضَرُبَتْ يدك ولضرُبَت اليَدْ، فأخذ التَّعَجُّبَ من مَذْهَب الأخْفَش، والتمثيل من مَذْهَب الفارسيّ، فلم يَتَّبع مَذْهَباً من المَذْهَبَيْن، وأما جَعْله [التَّسكِين] والنَّقْل دلِيلاً على كَوْنِهِ مُسْتَقِلاً بالتَّعَجُّب، فغير مُسَلَّم؛ لأن الفَرَّاء حَكَى في ذلك لُغَةً في غير مَا يُرَادُ به التَّعَجُّب. و «الرَّفِيقُ» في اللُّغَة مأخُوذ من الرِّفْق، وهو لينُ الجَانِبِ ولطافة الفِعْل، وصَاحِبه رَفِيقٌ، ثم الصَّاحِبُ يسمى رَفِيقاً؛ لارْتفَاقِكَ به وبِصُحْبَتِه، ومن هذا قِيل للجَمَاعة في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 481 السَّفَر: رُفْقَة؛ لارتفاق بَعْضِهِم بِبَعْض، والمَعْنَى: أن هَؤلاَءِ رُفَقَاء في الجَنَّة. روى أنَس: بن مالِك قال: قال رجُل: يا رسُولَ الله مَتَى السَّاعة؟ قالَ ومَا أعْدَدْتَ لَهَا؛ فلم يَذْكُر كَثيراً إلا أنَّهُ يُحِبُّ الله ورسُوله. قال: فأنْتَ مع مَنْ أحْبَبْت. قوله: {ذلك الفضل مِنَ الله} «ذَلِكَ» مُبْتَدأ، وفي الخَبَر وَجْهَان: أحدهما: أنه «الفضل» والجَار والمَجْرُور في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحَالِ، والعَامِلُ فيها مَعْنَى الإشَارَة. والثاني: أنه الجَارُّ، و «الفضل» صِفَة لاسْم الإشَارَة، ويجوز أن يكُون «الفضل» والجار بَعْدَه خَبَرَيْن [ل «ذَلِك» ] على رَأي من يجيزُه. فصل: في دفع شُبه المعتزلة القائلين بوجوب الثواب «ذلك» [اسم] إشَارَة إلى ما تَقَدَّم ذكْرُه من الثَّوَابِ، وقد حكم عليه بأنَّه فَضْل من اللهِ، وهذا يَدُلُّ على أن الثواب غير وَاجِبٍ على الهِ - تعالى -، وَيَدُلُّ عليه من جِهَة العَقْلِ أيْضاً وُجُوه: أحدها: أن القٌدْرَة على الطَّاعَةِ إن كَانَت لا تَصْلُح إلا للطَّاعَةِ، فَخَالِقُ تلك القُدْرَةِ هو الَّذِي أعْطَى الطَّاعَة، فلا يَكُون فعْلُه مُوجباً شَيْئاً، وإن كانت صالحة للمَعْصِيَة أيْضاً، لم يترجَّحْ جَانِب الطَّاعة [لله] على جَانِب المَعْصِيَة إلا بِخَلْقِ الدَّلعِي إلى الطَّاعَة، ويصِيرُ مَجْمُوع القُدْرَةِ والدَّاعِي موجِباً للفِعْل، فخالق هذا المَجْمُوعِ، هو الَّذِي أعْطَى الطَّاعة، فلا يَكُون فِعْلُه مُوجِباً عليه شَيْئاً. وثانيها: أنَّ نِعم الله على العَبْدِ لا تُحْصَى، وهي مُوجِبةٌ للطَّاعَة والشُّكْر، فإذا وَقَعَتْ في مُقَابَلَة النِّعَم السَّالِفَة، امتنع كَوْنُها مُوجِبَة للثَّوَابِ في المُسْتَقْبَل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 482 وثالثها: أن الوُجُوب يَسْتَلْزِم [اسْتِحْقاق] الذَّمِّ عند التَّرْك، وهذا الاسْتِحْقَاقُ يُنَافِي الإلَهِيَّة، فيمتنع حُصُولُه في حَقِّ الإلَه -[سبحانه وتعالى]- ؛ فَثَبَت أنَّ ظاهر الآيَة كَمَا دَلَّ على أنَّ الثَّواب فَضْل من الله - تعالى - فالبَرَاهيِنُ العقْلِيّة القَاطِعَة دَالَّةٌ على ذَلِكَ أيْضَاً. فصل يحتمل أن يكُون معنى الآية: ذَلِكَ الثَّوَاب لِكَمَالِ درجَتِه هو الفَضْلُ من الله، وأن ما سِوَاهُ ليس بِشَيء، ويُحْتَمَلُ أن يكوُون ذلك الفَضْلُ المَذْكُور والثَّواب المَذكُور هو من اللهِ لا مِنْ غَيْرِه. {وكفى بالله} أي: بثَوابِ الآخِرَة، وقيل: لمن أطاع الله ورسوله وأحبه وفيه بَيَان أنَّهم لم ينالوا تلك الدَّرَجَة بطَاعَتِهم، إنَّما نالوها بِفَضْلِ الله - عَزَّ وَجَلَّ -. روى أبو هُريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قَارَبُوا وسَدَّدُوا واعْلَمُوا أنَّه لا يَنْجُو أحَدٌ مِنْكُم بِعَمَلِهِ» قالُوا: ولا أنتَ يا رسُول الله؟ قال: «ولا أنا إلاَّ أنْ يَتَغَمَّدَني الله بِرَحْمَةٍ منه وفَضْل» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 483 قال القًرْطُبِي: إنه - تعالى - لمّا ذكر طاعة لله وطَاعَة رسُولِهِ، أمر أهْل الطَّاعة بالقِيَام بإحْيَاء دينهِ وإعْلاءِ دَعْوَته، وأمَرَهُم ألاَّ يقْتَحِمُوا على عُدوِّهِم على جَهَالةٍ، حتى يَتَحَسَّسُوا إلى ما عِنْدَهُم ويَعْلَمُون كيف يَرُدُّون عَلَيْهم، لأن ذَلِكَ أثْبَت لَهُم. وقال ابن الخطيب: لما رغَّب في طاعة الهِ وطاعةِ رسُوله، عَادَ إلى ذِكْرِ الجِهَاد؛ لأنه أشَقُّ الطَّاعَات، وأعْظَم الأمُور الَّتِي بها يَحْصُل تَقْوِية الدِّين، والحِذْر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 483 بمعنى؛ كالأثر والإثْر؛ والمَثَل والمِثْل، والشَّبَه والشِّبْه. قيل: ولم يُسْمَه في هذا التَّرْكِيب إلا خُذْ بالكَسْرِ لا حَذَرَك. يقال: أخَذَ حِذْرَهُ؛ إذا تَيَقَّظَ واحْتَرَزَ من المَخُوفِ؛ كأنه جَعَلَ الحِذْرَ آلَتَهُ التي يقي بها نَفْسَه، والمَعْنَى: احْذَرُوا واحْتَذِروا من العَدُّوِّ، ولا تمكَّنُوه من أنفُسِكم. وقال الوَاحِدِيُّ: فيه قَوْلاَنِ: أحدهما: المُرَاد بالحِذْرِ [ها] هُنَا السِّلاح، والمعنى: خُذُوا سِلاَحَكُ، والسِّلاح يسمى حِذْراً؛ لأنَّه يُتَّقَى ويُحْذَر. والثاني: «خذوا حذركم» بمعنى: احْذَرُوا عَدُوَّكن، فعلى الأوَّل: الأمر بأخذ السِّلاح مُصَرَّحٌ به، وعلى الثَّانِي: أخذ السَّلاح مَدْلُول عليه بِفَحْوَى الكَلامِ. فإن قيل: إنَّ الَّذِي أمَر الله - تعالى - بالحذْرِ عَنْهُ إن كان يُقْضَى إلى الوُجُودِ، لم يَنْعَدِم، وإن كانَ الحذْر يُفْضِي إلى العَدَمِ، فلا حَاجَة إلى الحذْر، فعلى التَّقْديرَيْن الأمْر بالحذْر عَبَث، قال - عليه السلام -: «المَقْدُورُ كَائِنٌ» وقيل: الحذر لا يُغْنِي عن القَدَر. فالجوابُ: أن هذا الكَلاَم يُبْطِل القَوْل بالشَّرَائِع؛ فإنه يُقَالُ: إن كان الإنْسَان من أهْل السَّعَادة في قَضَاءِ الله وقدرِه، فلا حَاجَة إلى الإيمَانِ، وإن كان من أهْل الشَّقَاءِ، لم ينْفَعْه [الإيمانُ و] الطَّاعَة، فهذا يفضي إلى سُقُوط التَّكْلِيف بالكُلِّيّة. واعلم أنه لما كَان الكُلُّ بِقَضَاء الله - تعالى - كان الأمْر بالحَذَرِ أيْضاً دَاخلاً بالقَدَر، وكان قَوْل القَائِل: أي فَائِدة بالحَذَر كَلاَماً مُتَنَقِضاً؛ لأنه لما كان هذا الحَذَر مُقَدَّراً، فأيُّ فائدة في هَذَا السُّؤال الطَّاعِن في الحَذَرِ. قوله: «فانفروا [ثبات] » يقال: نَفَر القَوْم يَنْفِرُون نَفْراً ونَفِيراً، إذا نَهَضُوا لِقِتَال عَدُّوِّ، وخَرَجُوا للحَرْبِ، واستنْفَر الإمَامُ النَّاس لجِهَاد العَدُوّ، فَنَفَرُوا يَنْفِرُون: إذا حَثَّهُم على النَّفِير وَدَعَاهُم إلَيْه؛ ومنه قوله - عليه السلام -: « [و] إذا اسْتُنْفِرْتُم فانفرُوا» والنَّفِير: اسم للقَوْمِ الَّذِين يَنْفِرُون؛ ومنه يُقال «فلان فِي العِيرِ ولا فِي النَّفِيرِ. وقال النُّحَاة: أصْلُ هذا الحَرْفِ من النُّفُور والنِّفَارِ؛ وهو الفَزَع، يقال: [ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 484 نَفر] إليه؛ ونَفَر مِنْهُ؛ إذا فَزع منه وكَرِهَهُ، وفي مُضَارعه لُغَتَان» ضمُّ العَيْنِ وكَسْرِهَا، وقيل: يُقَال: نَفر الرَّجُل يَنْفِرُ بالكَسْرِ، ونَفَرَت الدَّابَّة تَنْفُر بالضَّمِّ [ففرَّقُوا بَيْنَهُما في المُضَارع، وهذا الفَرْق يردُّه قِرَاءَة الأعْمَش: «فانفُروا» «أو انفُروا» بالضم] فيهما، والمَصْدَر النَّفِير، والنُّفُور، والنَّفْر: الجماعة كالقَوْم والرَّهْط. [قوله] : «ثبات» نصب على الحَالِ، وكذا «جميعاً» والمَعْنَى «انْفِرُوا جَمَاعَاتٍ [متفرِّقَة] [أي] سَرِيّة بعد سَرِيّة، أو مُجْتَمِعِين كَوْكَبَةً وَاحِدَة، وهذا المَعْنَى الَّذي أراد الشَّاعِر في قوله: [البسيط] 1821 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... طَارُوا إلَيْه زَرَافاتٍ وَوُحْدَانَا ومثله قوله: {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} أي: على أيّ الحَالَتَيْن كُنْتُم فَصَلُّوا. قال أبُو حَيَّان: ولم يُقْرَأ» ثبات «فيما عَلِمْت إلا بكَسْر التَّاء. انتهى. وهذه هي اللُّغَةُ الفَصيحَة، وبَعْض العَرَب يَنْصِب جَمْع المُؤنَّث السَّالم إذا كان مُعْتَلَّ اللام مُعوضاً منها تاء التأنيث بالفَتْحَة، وأنشد الفرَّاء: [الطويل] 1822 - فَلَمَّا جَلاَهَا بالأيَّام تَحَيَّزَتْ ... ثُبَاتاً عَلَيْهَا ذُلُّهَا واكْتئابُهَا وقرئ شاذاً: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} [النحل: 57] [بالفتحة] ، وحكي: سَمِعْتُ لغتَهُم، وزعم الفَارِسي أن الوَارِدَ مُفْردٌ لامه؛ لأن الأصْل» لُغَوَة «؛ فلما رُدَّت اللام، قُلِبَت ألفاً، وقد رُدَّ على الفَارِسي: بأنه يلْزَمُهُ الجَمع بين العِوَض الجزء: 6 ¦ الصفحة: 485 والمُعَوَّضِ مِنْه، ويَرُدُّ عليه أيْضاً القِرَاءة المتقَدِّمة في الثبات؛ لأن المُفْرَد منه مكْسُورُ الفَاءِ. [» وثبات «جَمْعُ ثُبَة، ووزنها في الأصْل: فُعَلَة، كَحُطَمة، و] إنما حُذِفَت لامُها وعُوض عنها تاءُ التَّأنِيثِ، وهل لامها واواً أو يَاء؟ قولان: حُجَّة القَوْل الأول: أنها مُشتقَّة من [ثَبَا يُثْبُو؛ كَخَلا يَخْلُو، أي: اجْتَمع. وحُجَّةُ القول الثاني: أنها مُشْتَقة من] ثبيت على الرجل إذا أثْنيت عليه؛ كأنك جمعت مَحاسنه، وتجمع بالألفِ والتَّاءِ، وبالوَاوِ والنَّونِ، ويجوز في فَائِهَا حين تُجْمَع على» ثُبين «الضَّم والكَسْر، وكذا ما أشبَهَهَا، نحو: قُلة، وبُرة، ما لم يُجْمَع جَمْع تكْسِير. والثُّبة: الجَمَاعة من الرِّجَال تكُون فَوْقَ العَشرة، وقيل: الاثْنَانِ والثَّلاثة، وتُصَغَّر على» ثُبْيَة «، بردِّ المَحْذُوف، وأما» ثُبة الحَوْضِ «وهي وَسطُهُ، فالمحذُوفُ عَيْنُها، لأنَّها من بابِ المَاء، أي: يَرْجِع، تُصَغِّر على» ثُوَيْبَةٍ «؛ كقولك في تَصْغيرِ سَنَة: سُنَيْهَة. فصل قال القرطبي: قيل إن هذه الآية مَنْسُوخة بقوله: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: 41] وبقوله {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [التوبة: 39] [ولأن يكُون {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: 41] مَنْسُوخاً بقوله: {فانفروا ثُبَاتٍ أَوِ انفروا جَمِيعاً} ، وبقوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122] اولى؛ لأن فرض الجِهَادِ على الكِفَايَة، فمتى سَدَّ الثُّغُورَ بَعْضَ المسْلِمِين، أسْقِطَ الفَرْضُ عن البَاقِينَ. قال: والصَّحِيحُ أن الآيَتَيْنِ محكْمَتَانِ، إحَدَاهما: في لوَقْتِ الذي يُحْتَاجُ فيه إلى تعيُّن الجَميع، والأخْرَى: عند الاكْتِفَاء بِطَائِفَةٍ دُون غَيْرِهَا. قوله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} » منكم «خبر مُقَدَّم ل» إنْ «واسمُها، و» لمَنْ «دخلت اللام على الاسْم تأكِيداً لما فَصَلَ بَيْنَه وبَيْنَهَا بالخَبَر، و» من «يجوزُ أن تكُونَ مَوْصُولة، [ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 486 أو نكرة مَوْصُوفة] واللاّم في» ليبطئن «فيها قَوْلان: أصحهما: أنها جَوَابُ قَسَم مَحْذُوف، تقديره أُقْسِمُ بالله لَيُبَطِّئنَّ، والجُمْلَتَان - أعْنِي - القَسَم وجَوابُه - صِلَة ل» مَنْ «، أو صِفَةٌ لَهَا على حَسَبِ القَوْلَيْن المُتَقَدِّمَيْن، والعَائِدُ على كِلاَ التَّقْدِيرَيْن هو الضَّمِير المرفُوع ب» ليبطئن «، والتَّقْدِير: وإنْ مِنْكُم لِلَّذِي، أو لَفَرِيقاً والله لَيُبَطِّئَنَّ. واسْتَدَلَّ بعض النُّحَاة بهذه الآيَةِ على أنَّه يجوز وَصْلُ المَوْصُولِ بجملة القَسَمِ وجوابه [إذا عَرِيَتْ جُمْلَةُ القَسَم من ضمير عَائِدٍ على الموصول نحو: «جاء الذي أحْلِفُ باللهِ لقد قام أبوه» وجعله] ردَّا على قدماء النحاة، حيث زَعَمُوا مَنْعَ ذلك [ولا دلالة على ذلك] ، إذ لقائل أن يقُول: ذلك القَسَم المَحْذُوفُ لا أقَدِّرُهُ إلا مُشْتَمِلاً على ضَمِيرٍ يَعُود على المَوْصُول. والقول الثاني: نقله ابن عَطِيَّة عن بَعْضِهِم: أنَّها لام التَّأكِيد بَعْدَ تأكيد، وهذا خطَأٌ من قَائله، والجُمْهُور على «ليبطئن» بتشديد الطَّاءِ. ومُجَاهد بالتَّخفيف: و [على] كلتا القِرَاءَتيْن يُحْتَمل أن يكُون الفِعْل لازماً ومُتَعَدِّياً، يقال: أبْطَأَ وبَطَّأ أي تَكَاسَلَ وتَثَبَّط، والتَّبْطِئَة: التَّأخُر عن الأمْرِ، فهذان لزِمَان، وإن قُدِّر أنهما مُتَعَدِّيانِ، فمعُمُولُهُمَا مَحْذُوفٌ، أي: ليُبَطِّئَنَّ غَيْرَه، أي: يُثَبِّطُه ويُجِبْنُه عن القَتَالِ، و «إذ لم أكن» ظرف، نَاصِبُهُ: «أنعم الله» . فصل في تفسير «منكم» قوله: «منكم» اختَلَفُوا فيه: فقيل: المُرادَ منه: المُنافِقُون وهم عبدُ الله بن أبّيِّ وأصحابه، كانوا يُثَبِّطُونَ النَّاس عن الجِهَادِ مع رسُولِ اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فإن قيل: تَقْدِير الكَلاَمِ يأيُّهَا الَّذِين آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُم وأن مِنْكُم لمن ليُبَطِّئَنَّ، فإذا كان عَذا المُبَطِّئ مُنَافِقاً، فكيف يُجْعَلُ قِسْماً من المُؤمِن في قوله «أن منكم» . فالجواب: أنه جعل المُنافقين من المُؤمنين من حَيْثُ الجِنْسِ والنَّسَبِ والاخْتِلاَطِ، أو من حيث الظَّاهِر؛ لتشبههم بالمُؤمنين، أو من حَيث زعمهم ودَعْواهُم، كقوله: {ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} [الحجر: 6] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 487 وقيل: المراد ضَعَفَهُ المؤمنين، وهو اخْتِيَار جَمَاعَةٍ من المُفَسِّرين، قالُوا: والتَّبْطِئَةُ بمعنى الإبْطَاء، وفَائِدَة هذا التِّشْديد تَكَرُّر الفِعْلِ مِنْهُ. حكى أهْل اللُّغَة أن العَرَبَ تَقُول: ما بَطأ بك يا فُلانُ عَنَّا، وإدْخَالهم البَاء يَدُلُّ على أنَّه في نَفْسِه غير مُتَعَدٍّ، فَعَلَى هذا مَعْنَى الآية: أن فيهم من يُبطئُ عن هذا الفَرْضِ ويتثاقل عن الجَهَادِ، وإذا ظَفِر المسْلِمُون، تَمنَّوْا أن يكُونُوا مَعَهُم ليَأخُذُوا الغَنِيمَة. قال: هؤلاء هُمُ الَّذيِن أرادَ الله بقوله: {ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ} [التوبة: 38] ، قال: ويَدُلُّ على أنَّ المُرَاد بقوله: «ليبطئن» الإبْطَاء منهم لا تَثْبِيطَ الغَيْرِ، لم يَكُن لِهَذا الكَلاَمِ مَعْنًى. وطعن القَاضِي في هذا القَوْلِ: بأنه - تعالى - حَكَى أن هؤلاَء المُبَطِّئِين، يقولون من الله - تعالى -، وهذا إنما يَلِيقُ بالمُنَافِقين، وأيضاً لا يَليق بالمُؤمنين أن يُقال لهم: {ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ} ، يعني الرَّسُول «مودة» ، ثم قال: وإن حُمِلَ «ليبطئن» على أنه من الإبْطَاءِ والتَّثَاقُل، صح في المُنَافِقِين، لأنهم كانوا يَثَاقَلُون. قوله: «فإن أصابتكم [مصيبة] أي: قَتْل وهَزيمَة» قال قد أنعم الله علي «بالقعود، و» إذ لم أكن معهم شهيداً «، أي: شَاهِداً حاضراً في تلك الغَزْوَةِ، فيُصِيبُنَي ما أصابَهُم، و» إذا لم أكن «طرف نَاصِبُه:» أنعم الله «،» ولئن أصابكم فضل من الله «أي: ظَفَرٌ وغَنِيمة،» ليقولن «هذا المنافق {كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ} [الآية] الجمهور على فَتْح لاَمِ» ليقولن «لأنَّه فِعْل مُسْنَد إلى ضَمِير» من «مبني على الفَتْحِ لأجل نُون التَّوكِيد، وقرأ الحَسن بِضَمِّها، فأسْند الفِعْل إلى ضَمِير» من «أيضاً [لكن] حملاً له على مَعْنَاها؛ لأن قوله:» لمن ليبطئن «في معنى الجماعة والأصْلُ: لَيَقُولُونَنَّ وقد تقدَّم تَصْرِيفُه. قوله: {كَأَن لَّمْ تَكُنْ} هذه» كأن «المُخَفَّفَةُ [من الثَّقيلَة] وعملُها باقٍ عند البَصْرِيّين، [وزعم الكُوفيُّون أنها حين تَخْفِيفها لا تَعْمَل كما لا تعملُ» لَكن «مُخَفَّفَة عند الجُمْهُور، وإعْمَالُها عند البَصْرِيِّين] غَالباً في ضَمِير الأمْرِ والشَّأن، وهو وَاجِبُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 488 الحَذْفِ، ولا تَعْمَل عِنْدَهُم في ضَمِير غَيْرِ؛ ولا فِي اسْم ظَاهِر إلا ضَرُورةً، كقوله: [الهزج] 1823 - وَصَدْرٍ مُشْرِقِ النَّحْر ... كَأنَّ ثَدْيَيْه حُقَّانِ وقول الآخر: [الطويل] 1824 - وَيَوْمَاً تُوَافِينَا بِوَجْهٍ مُقَسَّمٍ ... كأنْ ظَبْيَةً تَعْطُو إلَى وَارِقِ السُّلَمْ في إحْدى الرِّوَايات، وظَاهِرِ كلام سَيَبويْه: أنَّها تَعْمَل في غير ضميرِ الشَّأنِ في غير الضَّرُورَة، والجُمْلَة المنْفِيَّة بعدها في مَحَلِّ رَفع خَبَراً لَهَا، والجملة بَعْدَهَا إن كانت فِعليَّة فتكون مُبْدوءَة بِ» قَدْ «؛ كقوله: [الخفيف] 1825 - لا يَهُولَنَّكَ اصْطِلاؤُكَ لِلْحَرْ ... بِ فَمَحْذُورُهَا كَأنْ قَدْ ألَمَّا أو ب» لَمْ «كهذه الآية، وقوله: {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} [يونس: 24] وقد تُلُقِيتْ ب» لَمَّا «في قول عمَّار الكلبي: [الرمل] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 489 1826 - بَدَّدَتْ مِنْهَا اللَِّيَالِي شَمْلَهُمْ ... فَكَأنْ لَمّض يَكُونُوا قَبْلَ ثَمْ قال أبو حيَّان: ويحتاج مِثْل هذا إلى سَمَاعِ من العَرَبِ، وقال ابن عَطِيَّة:» وكأن «مُضَمَّنة مَعْنَى التَّشْبيه، ولكنها لَيْسَتْ كالثَّقِيلَةَ في الإحْتِيَاج إلى الاسْم والخَبَر، وإنما تَجيءُ بعدها الجُمَل، وظَاهِرِ هذه العِبَارَة: أنها لا تَعْمَلُ عند تَخْفِيفها، وقد تقدَّم أن ذَلِك قَوْل الكُوفيين لا البَصْرِييِّن، ويُحْتَمَل أنه أراد بذلك أن الجُمْلَة بعدها لا تَتَأثَّر بها لَفْظاً؛ لأن اسْمَهَا مَحْذُوف، والجُمْلَة خَبَرُها. وقرأ ابن كثير، وحفص من عاصم، ويعقوب: [يَكُنْ] بالياء؛ لأن المَوَدَّة في مَعْنَى الوُد [و] لأنه قد فُصِلَ بَيْنَها وبَيْن فِعْلِها، والبَاقُون: بالتَّاء اعْتِبَاراً بلَفْظِها. قال الواحدي: وكِلْتَا القراءَتَين قد جَاء التَّنْزِيل به؛ قال {قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} [يونس: 57] وقال: {فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ} [البقرة: 275] فالتأنيث هو الأصْلُ، والتَّذْكِير يَحْسُن إذا كان التَّأنِيثُ غير حَقِيقيّ، لا سيِّما إذا وقع فَاصِل بين الفِعْل والفَاعِل، و» يكُون «يحتمل أن تكُون تَامَِّةٌ، فيتعلق الظَّرْفُ بها، أو بِمَحْذُوفٍ، لأنَّه حالٌ ممن» مودة «إذ هو في الأصْلِ صِفَة نكرة قُدِّم عليها، وأن تكُون نَاقِصة، فيتَعَلَّق الظَّرْف بمحذوفٍ على أنه خَبرَهَا، واخْتَلَفُوا في هَذِه الجُمْلَة على ثلاثةِ أقْوَالٍ: الأوّل: أنها اعْتِرَاضيَّة لا مَحَلَّ لها من الإعْرَابِ، وعلى هَذَا فما المُعْترض بَيْنَهما؟ فيه وجهان: أحدهما: أنَّهَا مُعْتَرِضَة بين جُمْلَة الشَّرْطِ التي هِيَ {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ} وبين جُمْلَة القَسَم التي هي» وَلَئِنْ أصَابَكُمْ «، والتَّقْدير: {فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ} قال {قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً} كأن لم تكن بينكم [وبينه مودة، ولئن أصابكُم فَضْل. فأخرت الجُمْلَة المعترض بها أعني قوله] {كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ} والنية بها التوسط، وهذا قول الزجاج وتبعه الماتُريدي، وردَّ الرَّاغِب الأصْبَهاني هذا القَوْل بأنَّه مستَقْبَحٌ، لأنه لا يَفْصِل بين بَعْض الجملة [وبَعْض] ما يتعلَّق بِجُمْلة أخْرَى. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 490 قال شهاب الدين: وهَذَا من الزَّجَّاج كأنه تَفْسِير مَعْنَى لا إعْرَاب، على مَا يأتِي ذِكْرُه عَنْهُ في تفسير الإعْرَاب. الوجه الثاني: أنها مُعْتَرِضَة بين القَوْل ومَفْعُوله، والأصْل: ليقولنَّ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُم كأن لَمْ يكُن، وعلى هذا أكثر النَّاسِ، وقد اخْتَلَفَت عِبَاراتُهم في ذَلِك، ولا يَظْهَرُ المَعْنَى إلا بِنَقْل نصوصهم فَلْنَنْقُلْهَا. فقال الزَّمَخْشَري: اعْتِرَاضٌ بين الفِعْلِ الَّذي هو «ليقولن» وبين مَفْعُولِهِ وهو «يا ليتني» والمعنى: كأنَّه لم يتقدم له مَعَكُم مَوَدَّة؛ لأن المُنَافِقِين كانوا يُوادُّون المؤمنين في الظَّاهر أنَّه تَهكُّم؛ لأنهم كَانُوا أعْدَى عَدُوٍّ للمؤمِنِين، وأشدَّهم حَسَداً لهم، فكيف يُوصَفُون بالمَوَدَّة إلا على وَجْهِ العَكْسِ والتَّهَكُّم. وقال الزَّجَّاج: هذه الجُمْلَة اعْتِرَاضٌ، أخبر - تعالى - بذلك؛ لأنَّهُم كانوا يُوادُّون المؤمنين. وقال ابن عَطيّة: المنافق يُعَاطِي المؤمنين المَوَدَّة، ويُعَاهِدُ على الْتِزَامٍ حِلْفِ الإسْلاَمِ، ثم يَتَحلَّف نِفَاقاً وشَكّاً وكُفْراً بالله ورسُوله، ثم يَتَمَنَّى عِنْدَما ينكشف الغَيْبُ الظَّفْرُ لَلمُؤْمنينن فعلى هذا يَجِيءُ قَوْلُه: «كأن لم يكن» التفاتة بليغَة، واعْتِراضاً بين القَوْل والمَقُول بِلَفْظٍ يُظْهِر زيادَةً في قُبْحِ فِعْلِهِم. وقال الرازي: هو اعْتِراضٌ في غايَةِ الحُسْنِ؛ لأن من أحَبِّ إنْسَاناً فَرح لِفَرَحِه، وحَزِنَ لحُزْنِهِ، فإذا قَلَبَ القَضِيَّة فذلك إظْهَارٌ للعَدَاوَة، فحكى - تعالى - سُرُور المُنَافِقِ عند نَكْبَةِ المُسْلِمِين، ثم أرَادَ أن يَحْكِي حُزْنه عِنْدَ دَوْلَةِ المسْلِمِينِ بسبب فَواتِهِ الغَنِيمَة فقَبْل أن يَذْكُرَ الكَلاَم بتَمَامِهِ، ألْقَى قوله: {كَأَن لَّمْ تَكُنْ} والمراد التَّعَجُّب؛ كأنه يَقُول: انْظُرُوا إلى ما يَقُولَه هذا المُنَافِقُ كأن لَمْ تكن بَيْنَكُم وبَيْنَهُ مودَّة ولا مُخَالَطَة أصْلاً، والذي حَسَّن الاعتراض بهذه الجُمْلَة وإنْ كان محلها التَّأخِير، كوْنَ ما بَعْدَهَا فَاصِلَة وهيَ لَيْسَت بِفَاصِلَة. وقال الفَارِسِي: وهذه الجمْلَة من قَوْل المُنَافِقِين الَّذِين أقْعَدُوهُم عن الجِهَادِ؛ وخَرَجُوا هُمْ لم تكُنْ بَيْنَكُم وبَيْنَه أي: وبَيْن الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مودَّة، فيخرجكم مَعَهُ لتأخذوا من الغنيمة ليُبَغّضُوا بذلك الرَّسُولَ إليْهم، فأعاد الضَّمِيرَ في «بَيْنَهُ» على النَّبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 491 وتبع الفارسي في ذَلِكَ مُقَاتِلاً؛ مَعْنَاه: كأنه لَيْسَ من أهل [مِلَّتِكم] ، ولا مودَّة بَيْنَكُم يريد: أن المبطّئ قَالَ لمن تَخَلَّف بإذْنٍ كأن لَمْ تكُنْ بَيْنَكُم وبَيْن مُحَمَّدٍ مودَّة، فيُخْرِجَكُم إلى الجِهَادِ، فَتَفُوزُوا بما فَازَ. [القول الثاني: إنها في مَحَلّ نَصْبٍ بالقَوْلِ، فيكون - تعالى - قد حَكَى بالقَوْلِ جملتين: جُمْلة التَّشْبيه، وجملة التَّمَنِّي، وهذا ظَاهِرٌ على قَوْلِ مُقاتِل والفَارسيٍّ: حيث زعَمَا أن الضَّمِير في «بَيْنَه» للرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -] . القول الثالث: أنها في مَحَلّ نَصْبٍ على الحَالِ من الضَّمِير المستَتِر في «ليقولن» كما تقول: مررْتُ بزَيْد وكأن لم يكن بينك وبينه معرفة فضلاً عن مودَّة، ونقل هذا عن الزَّجَّاج، وتَبِعَهُ أبو البَقاءِ في ذلك. و «يا» فيها قَوْلاَن: أحدهما: وهُوَ قول الفَارسيِّ إنها لمًجَرد، التَّنْبِيه، فلا يقدَّر مُنادى مَحْذُوف، ولذلك بلإشَرَت الحَرْف. والثاني: أن المُنَادَى مَحْذُوف، تقديره: يا هؤلاء، لَيْتَنِي، وهذا الخلاف جَارٍ فيها إذا باشَرَت حَرْفاً أو فِعلاً؛ كقراء الكسائيّ {أَلاَّ يَسْجُدُواْ} [النمل: 25] وقوله: [الطويل] 1827 - ألاَ يَا اسْقِيَانِي قَبْلَ غَارَة سِنْجَال ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وقوله: [البسيط] 1828 - يا حَبَّذَا جَبَلُ الرَّيَّانِ من جَبَلٍ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... على القول بفعليّة «حَبَّذَا» ولا يُفعل ذَلِكَ إلاَّ ب «يَا» خَاصَّة، دون سائر حُرُوف النَّدَاء، لأنَّها أمُّ البَابِ، وقد كثرت مُبَاشرَتُها ل «لَيْتَ» دون سَائِرِ الحُرُوف. قوله: «فأفوز» الجمهور على نَصْبِه في جَوَاب التَّمَنِّي، والكُوفِيُّون يزْعمون نصبه بالخلافِ، والجرميّ يزعمُ نصبه بنفس الفَاءِ. والصحيح الأوَّل، لأن الفَاء تَعْطِف هذا المَصْدَر المؤوَّل من «أنْ» والفِعْل على الجزء: 6 ¦ الصفحة: 492 مَصْدَر مُتوهِّم، لأن التَّقْدِير: يا لَيْتَ لي كَوْنَاً معهم - أو مُصَاحَبَتهم - فَفَوْزاً. وقرأ الحسن: فأفُوزُ رفعاً على [أحدِ وجهيْن: إما] الاستئناف، أي: فأنا أفوزُ. أو عَطْفاً على «كُنْتُ» فيكون داخِلاً في حَيِّز التَّمَني أيضاً، فيكون الكَوْن معهُم، والفَوْزُ العَظيم مُتَمنين جَميِعاً، والمُرَاد بالفَوْزِ العظيم: النَّصِيب الوَافِر من الغَنِيمَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 493 فقوله: {الذين يَشْرُونَ الحياة} فاعل، «فليقاتل» و «يشرون» يحتمل وَجهيْن: أحدهما: أن يكون بمعْنَى: يَشْتَرُون. فإن قيل: قد تقرّر أن البَاء إنما تَدْخُل على المَتْرُوك، والظَّاهرُ هنا أنها دخَلَتْ على المأخُوذ: فالجواب: أن المراد ب «الذين يشترون» المُنَافقون المبطِّئون عن الجِهَادِ أمروا بأنْ يُغَيِّروا ما بهم من النفاقِ، ويُخْلِصُوا الإيمان بالله ورسُولِهِ ويُجَاهِدُوا في سَبِيل الله، فلم نَدْخُل إلا على المَتْرُوك؛ لأن المُنَافِقِين تاركون للآخِرَةِ آخِذُون للدُّنْيا، وتقدير الكَلام: فِلْيُقَاتِل الذين يَخْتَارُون الحياة الدُّنْيَا، وعلى هذا التقدير فلا، بل حَذْفٌ تقديره: آمِنُوا ثم قَتِلُوا؛ لاستحالة حُصُول الأمْرِ بشَرَائِعِ الإسْلام قبل حُصُول الإسْلامِ. الثاني: أن «يشرون» بمعنى: يَبِيعُون. قال ابْنُ مُفَرِّعٍ: [مجزوء الكامل] 1829 - وَشَرَيْتُ بُرْداً لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بُرْدٍ كُنْتُ هَامَهْ قالوا: وبَرْد هو غلامه، وشريتُه بمعنى: بِعْتُه، وتَمَنَّى الموت بعد [بَيْعِه] فيكُون المراد بالذين يَشْرُون: المؤمِنُون المُتَخَلِّفُون عن الجِهَادِ؛ المؤثِرُون الآجِلَة على العَاجِلَة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 493 وتصير هذه الآية في كَوْنِ شَرَى تحتمل الاشْتِرَاء والبَيْعِ باعْتِبَارَيْن؛ قوله - تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: 20] على ما سَيَأتِي - إن شاء الله تعالى - وقد تقدم شيء من هذا أوَّل البقرة [الآية 16] والجمهور على سُكُون لام «فليقاتل» لأنها وَقَعَتْ بعد الفَاءِ [والواو] فأشبهَت اللفظة اكتفاءً، وقرئ بكسرها، وهو الأصل وأجاز إسْكانَها وكَسْرَهَا كهذه الآية، وقوله - تعالى -: {وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق} [الحج: 29] وقد قرئ بهما. والجمهور على بناء «فيقتل» للمفعُول، ومحارب بن دثار ببنائه للفاعل. والأوَّل أظهر؛ لقوله: {أَو يَغْلِبْ} [ «ويقتل» ] «ويغلب» عطف على شَرْط، والفَاءُ في «فسوف» جوابُهُ لا يجُوزُ حَذْفُهَا والمشهور [إظهار] هذه الباء عند الفَاءِ، وأدْغَمَها أبُو عمرو والكسائي، وهِشَام وخلاد بخلاف عَنْه. والجمهور على «نؤتيه» بنون العظمة، وطَلْحَة بن مصرف والأعمش: بياء الغَيْبَة، وهما ظَاهِرَتَانِ. وقدم قوله «فيقتل» لأنها دَرَجَة شهادة وهي أعْظَم من غَيْرِهَا، وثنَّى بالغَلَبَة، وهي تَشْمَل نوعين: قتل أعْدَاء الله، والظَّفَر بالغَنِيمَة، والأولى أعْظَم من الثَّانِية. انتهى. فصل المعنى: أن من قَاتَل في سَبيل الهِ سواءٌ صار مَقْتُولاً لِلكُفَّار، أو غالباً، فسوف نُؤتيه أجْراً عظيماً، ولا واسطة بَيْن هَاتَيْن الحَالَتَيْنِ. [و] إذا كان الأجْر حَاصِلاً على كُلِّ تَقدِير، لم يكُن عملٌ أشْرَف من الجِهَادِ، وهذا يَدُلُّ على ان المُجاهِد لا بُدَّ وأنْ يُوطِّن نَفْسَهُ على أنَّه لا بُدَّ مِنْ أحد أمْرِيْن: إمَّا أن يَقْتُله العَدُّوُّ، وإمّا أن يغلبَ، فإذا غَيْر هذا [العَزْم] فما أسْرَعَ فِرَارَهُ. روى أبو هُرَيْرَة؛ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «تكَفَّل اله لِمَن جَاهَدَ في سبيل الله [لا يُخرِجُهُ إلا جِهَادٌ في سَبِيلِه] وتصدِيِق كلمته، بأن يُدخلَه الجَنَّة، أو يرجعه إلى مَسْكَنِه الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ مع ما نال من أجرٍ أو غَنِيمَةٍ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 494 وعن أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ أن رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مثلُ المُجَاهِد في سَبِيل الله؛ كمثل القَانِتِ الصَّائم الَّذي لا يَفْتُر من صلاةٍ ولا صيامٍ، حتى يُرجِعه الله إلى أهْلِهِ بما يرجعُه من غَنِيمَة وأجْرٍ، أو يتوفَّاه فَيَدْخُل الجنَّة» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 495 هذا استفْهام يرادُ به التَّحْرِيض، والأمر بالجِهَاد على سَبيلِ الوُجُوب، ومعناه: أنَّه لا عُذْر لَكُمْ في تَرْكِ المُقَاتلةِ، وقد بَلَغَ حال المُسْتَضْعَفِين من الرِّجَال والنِّسَاءِ والولْدَانِ من المُسْلِمِين إلى ما بلغ في الضَّعْفِ، فهذا الحَثُّ شديدٌ، وبيان العِلَّة التي صَار القِتَالُ لِهَا وَاجِباً، وهو مَا فِي القِتَال من تَخْلِيص هَؤلاء المُؤمِنين من لأيْدِي الكَفَرَة؛ لأنَّ هذا يَجْمَعُ مع الجِهَادِ ما يَجْرِي مُجْرى فكاك الأَسِير. و «ما» : مبتدأ، و «لكم» خَبَرُه، أي: أيّ شَيْءٍ استقرَّ لكم، وجُمْلَة قوله: «لا تقاتلون» فيها وجْهَان: أظهرُهُمَا: أنها في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ، أي: مَا لَكُمْ غير مُقاتِلِين، أنكر عليهِمْ أن يُكُونُوا على غير هذه الحَالَةِ، وقد صرَّح بالحَالِ بعد هذا التركيب في قوله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] وقال في مثل هذه الحال: إنَّها لازمة؛ لأنَّ الكلام لا يتمُّ دونَها، وفيه نَظَرٌ، والعَامِل في هذه الحالِ، الاستقرار المقدَّر؛ كقولك: ما لك ضاحِكاً. والوجه الثاني: ان الأصل: «وما لكم في ألا تقاتلوا» فَحُذِفَت «في» فبقي «ألا تقاتلوا» فجرى فيها الخِلاف المَشْهُور، ثم حُذِفَت «أنْ» النَّاصِبَة، فارْتَفَعَ الفِعْل بَعْدَهَا؛ كقولهم: تَسْمَعُ بالمُعَيْدِيِّ خَيرٌ من أنْ تَرَاهُ، وقوله: [الطويل] 1830 - أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الْوَغَى ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . في إحدى الروايتين، وهذا يؤيِّد كَوْنَ الحَالِ ليست بلازِمة. فصل قالت المُعتزلة: قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله} إنكار عليهم في تَرْكِ القِتَالِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 495 وبَيَان أن لا عُذْر ألْبَتَّة في تركه، ولو كان فِعْل العَبْد، بخلق الله - تعالى -، لبطل هذا الكلام؛ لأن من أعْظَم العُذْر أنَّ الله ما خَلَقَهُ وما أرادَهُ، وما قَضَى به، وجوابُه مذكورٌ. قوله: «والمستضعفين» فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه مَجْرورُ عطفاً [على اسْمِ الله، أي: وفي سَبيلِ المُسْتَضْعَفين. والثاني: وإليه ذَهَبَ الزجاج والمَبرِّد أن يكون مَجْرُوراً عطفاً] على نَفْسِ «سَبِيل» . قال أبو البَقَاء بعد أن حَكَاهُ عن المُبَرِّد وحده: لأن سَبِيل الله عامٌّ في كل خير؛ وخلاص المُسْتَضْعَفِين من المسْلِمِين من أيدي الكُفَّار من أعْظَم الخيور. والجُمْهُورُ على: «والمستضعفين» بواو العَطْفِ. وقرأ ابن شهاب: «في سبيل الله المستضعفين» وفيها تخريجان: أحدهما: أن يكُونَ حَرْفُ العَطْفِ مقدراً؛ كقولهم: «أكلت لَحْمَاً تَمْراً سَمَكاً» . والثاني: أن يكونَ بَدَلاً من «سبيل الله» أي: في سَبِيل الله سبيلِ المُسْتضْعَفِين؛ لأنَّ سَبِيلَهم سَبِيلُ الله - تعالى -. قوله: {مِنَ الرجال} فيه وجهان: أحدهما: أنه حالٌ من المُسْتضْعَفين. والثاني: أن «مِنْ» لِبَيَان الجنس، و «الولدان» : قيل: جَمْع «وليد» ؛ وهم المُسْلِمُون الَّذِين بَقُوا بمكَّة لصدِّ المُشْرِكين، أو ضعفهم عن الهَجْرَة مستنزلين ممتنعين. انتهى بيضاوي. فيكون المُرَاد بهم: العَبيد والإماءُ؛ لأن العَبْدَ والأمَةَ يقال لَهُما: الوَلِيدُ والوليدَةُ، وجمعهما: الوِلْدَان والوَلائِد، إلا أنَّه ههنا غلَّب الذكور، ويكون المُرادُ بالرِّجَال والنِّسَاء: الأحْرار، والحَرَائِر. وقيل: جَمْع وَلَد؛ كَوَرَل ووِرْلان وحَربٌ وحَرْبَان والمُرَاد بهم: الصِّبْيَان، [وقيل: العبيد والأمَاء، يقال للعبد: «وَليدٌ» ، وللامة: «وليدَةٌ» ، فغلَّب المُذكَّر على المُؤنَّث؛ اندراجه فيه] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 496 و «الذين يقولون: فيه وَجْهَان: أحدهًما: أن يكُونَ مجروراً على انَّه صفةٌ: إمَّا للمستَضعفِين، وإمَّا للرَّجَال ومن بعدهم، وغلَّب المُذَكَّرَ على المؤنَّثِ. وقال أبو البَقَاء:» الذين يقولون: في مَوْضِع جَرِّ صفة لِمَنْ عَقِل من المذكورين «كأنه تَوَهَّم أنَّ الولدَان الصبيانُ، والصبيانُ لا يعقلُون؛ فَجَعَله نعتاً لِمَنْ عقل من المذْكُورين وهُم الرِّجَال والنِّسَاء دونَ الولدان، لأنَّ جَمْعَ السَّلامَة في المُذَكَّر يُشْترط فيه العَقْلُ، و» الذين «جَارٍ مُجْرَاه. قال شهاب الدين: وهذه غَفْلةً؛ لأنَّ مرادَ النَّحْويين بالعَاقِلِ: ما كان من جنْس العُقَلاَء وإنْ كان مسلوبَ العَقْلِ؛ ويدُلُّ عليه قوله - تعالى -: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} [النور: 31] فالمُرادُ بالطفل هنا: الصِّبْيَان الصِّغار، ومع ذلك وَصَفهم بالذين. والثاني: أن يكُونَ منصوباً على الاخْتِصَاصِ. فصل المُرَاد بالمُستضعفين من الرِّجال والنِّسَاء والولْدَان: قومٌ من المُسْلِمِين بقُوا بمكَّة، عَجَزُوا عن الهِجْرَة إلى المَدِينَةِ، وكانوا يَلْقُون من كُفَّار مكَّة أذى شَديداً. قال ابن عبَّاس: كنت أنَا وأمِّي من المُستضعفين من النِّسَاء والولدان، وكانُوا يدعُون ويقولُون في دُعائِهِم:» ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها «وكانوا يُشْرِكُون معهم صِغَارَهمُ في الدُّعَاء؛ لأن الصِّغَار لم يُذْنِبُوا؛ كما وَرَدَت السُّنَّة في إخْرَاجِهِم في الاسْتِسْقَاءِ، إنما ذكر الولدان؛ مُبَالَغةً في شَرْحِ ظُلْمِهِم. حيث بَلَغَ أذاهُم غير المُكَلَّفِين، وأجْمَعُوا على أنَّ المراد من هذه القرية الظَّالِمِ أهلها [مكة] وكون أهْلِهَا موصُوفِين بالظُّلْمِ: يُحْتَمل أن يكُون لأجْل لأنَّهُم مُشْرِكُون؛ قال - تعالى -: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ويحتمل أن يكون لأجْل أنَّهم كانوا يُؤذُون المُسْلِمين. قوله:» الظالم أهلها «» الظالم «: صفةُ للقرية، و» أهلها «: مرفوعٌ به على الفاعلية. و» أل «في» الظالم «موصولةٌ بمعنى التي، أي: التي ظَلَمَ أهْلُهَا. فالظلمُ جَازَ على القَرْيَةِ لفظاً، وهو لِما بَعْدَها معنى، ومثلهُ:» مررْتُ برجلٍ حَسَنٍ غلامُه «. قال الزمخشري: فإن قلت: لِمَ ذكَّر» الظالم «وموصُوفُه مؤنث؟ قلت: هو الجزء: 6 ¦ الصفحة: 497 وصْفٌ للقرْية إلا أنَّه مستَنِدٌ إلى أهْلِهَا، فأعْطِي إعْراب» القرية «لأنها صفتها، وذُكِرَ لإسناده إلى الأهْل؛ كما تقول: من هذه القرية التي ظلم أهلُها، ولو أنْتَ فقيل:» الظَّالمةُ أهْلُها «لجَاز، لا لتأنيث الموصُوف؛ بل لأنَّ الأهلَ يُذَكَّرُ ويؤنَّثُ. فإن قلت: هل يجُوزُ: مِنْ هذه القريةِ الظَّالِمين أهْلُها؟ قلت: نَعَمْ، كما تقُول: «التي ظلموا أهلها» على لغة: «أكلوني البراغيث» ومنه: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] انتهى. وهذه قاعدةٌ كُلية: أنَّ الصِّفة إذا جَرَتْ على غيرِ مَنْ هِيَ له سواءً كَانَتْ خبراً، أم نعتاً، أم حالاً يُنْعَتُ ما قَبْلَها في اثنين من خَمْسَة: واحدٍ من ألْقَابِ الإعْراب، وواحدٍ من التَّنْكير والتَّعْرِيف، وأمَّا بالنِّسْبَةِ إللى التَّذْكير، والتَّأنيث، والإفراد، وضدَّيه فَيُحْسَبُ المرفُوعُ بها كالفِعْلِ، وقد تقدَّم تحقيقُه، ويجبُ أيضاً إبرازُ الضَّمير منها مُطْلَقاً - أعني: سواءٌ ألْبس أم لم يُلْبَس - وأمَّا إذا كان المَرْفُوع بها اسْماً ظَاهِراً، فلا حاجة إلى رَفعها الضَّمِيرَ، إلا أنه لا بُدَّ من رَاجِع يرْجع إلى الاسْمِ الموْصُوف بها لَفْظاً كهذه الآية، وه ذا بِخِلافِ الفِعْلِ إذا وُصِف به، أو أُخْبِر به، أو وَقَعَ حالاً لِشَيْء لفظاً وهو لغيره مَعْنىً، فإن الضَّمِيرَ لا يُبْرَزُ منه بل يَسْتَتِرُ، نحو: «زيدٌ هِنْدٌ يَضْرِبُها» و «هند زيدٌ تَضْرِبُه» من غيرِ ضميرٍ باروٍ، لقوة الفِعْل وضَعْفِ الاسم في العَمَلِ، وسواءً لم يُلْبِس - كما تقدَّم تَمْثِيله - أو ألْبَسَ، نحو: «زيدٌ عَمْرو يضربه» إذا قصدْتَ أن زيداً هو الضَّارِبُ لِعَمْرو، هذا مُقْتَضَى مذهب البصْريِّين، نصَّ عليه مَكي وغيره، إلا أنَّه قال قبل ذَلِكَ: «إلا أنَّ اسْمَ الفَاعِل إذا كان خَبَراً أو صِفَةً لغيره مَنْ هو له، لم يَسْتَتِرْ فيه ضَمِيرٌ، ولا بد من إظْهَارِهِ، وكذلك إنْ عُطِف على غَيْرِ مَنْ هُوَ لَهُ» . قال شهاب الدين: هذه الزِّيادةُ لمْ يذكُرْها النَّحْويُّون وتمثيلُها عَسِرٌ، وأمَّا ابنُ مالِكٍ: فإنه سَوَّى بين الفِعْل والوَصْف، يعني: إن ألْبس، وجَب الإبْرازُ حتى في الفِعْل، نحو: زيدٌ عَمْرٌو يَضْرِبُه هو «وإن لم يُلْبس جَاز، نحو:» زَيْد هِنْدٌ يضْرِبُها «وهذا مقتضى مذهَبِ الكوفيين؛ فإنهم عَلَّلوا باللبس، وفي الجُمْلَة ففي المَسْألة خِلافٌ. قوله: {واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً} قال ابن عبَّاسٍ: يريدون: اجهل علينا رجُلاً من المُؤمنين يُوَالينا، ويقوم بِمَصالِحِنا، ويحفظ عَلَيْنَا دِيننا وشرْعَنا؛ فأجَابَ اللهُ دعاءَهُم؛ لأن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لما فَتَح مكَّة، جعل عتَّاب بن أسَيْد وَالِياً عليهم، فكان يُنْصِف الضَّعيفَ من القويِّ، والمَظْلوم مِنَ الظَّالِم. وقيل: المُرَاد: واجْعَل لَنَا من لدُنْك ولاية ونُصْرة، أي: كُنْ أنْتَ لنا وليَّاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 498 لما بيَّن وجوبَ الجهاد، بيَّن أنه لا عِبْرة بصُورة الجِهَادِ، بل العِبْرَة بالقَصْد والدَّاعِي، فالمُؤمِنُون يقاتلون في سبيل الله، أي: في طاعَةِ الله ونُصرة دينه، والَّذين كَفَرُوا يُقَاتِلُون في سَبيلِ الطَّاغُوت، أي: في طَاعَةِ الشَّيْطَان. قال أبو عُبَيْدة والكسَائي: الطَّاغُوت يُذَكَّر ويُؤنَّث، قال أبو عُبَيْد: وإنَّما ذكر وأنث؛ لأنَّهم [كانوا يُسَمّون الكاهن والكاهِنة طاغُوتاً. قال جابر بن عبد الله وقد سُئِل عن الطَّاغُوت التي] كانوا يَتَحَاكَمُون إليْها - قال: كان في جُهَيْنة واحِدةٌ، وفي أسْلم واحِدَةٌ، وفي كل حَيٍّ واحدة. قال أبو إسْحاق: والدَّلِيل على أنَّه الشَّيْطَان، قوله - تعالى -: {فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً} أي: مَكْرَهُ وَ [مَكْرَ] من اتَّبَعَهُ، وهذه الاية كالدَّالة على أنَّ كلَّ من كان غَرَضُه في فِعْل رضَى [غير] الله - تعالى -[فهو في سبيل الطاغُوت، لأنه - تعالى - ذكر هذه القِسْمَة؛ وهي أن القِتَال إمَّا أن يكون في سبيل الله] ، أو في سبيل الطَّاغُوتِ، وجب أن يكُون ما سِوَى الله طاغُوتاً، ثم إنَّه - تعالى - أمر المُقَاتِلين في سَبيل الله أن يُقَاتِلُوا أوْلِيَاء الشَّيْطَان؛ فقال: «فقاتلوا أيها المؤمنون أولياء الشيطان» : حزبه وجُنودَهُ؛ وهم الكُفَّار، ثم بيَّن أن كَيْد الشَّيْطان [كان ضعيفاً لأن الله ينصر أوْلِيَاءَهُ، والشَّيْطان ينصر أولياءَه، ولا شَكَّ أن نُصْرَة الشَّيْطَانِ لأوليائه] أضعف من نُصْرة الله، وكيد الشَّيْطَان: مكره، «كان ضعيفاً» : كما فعل يوم بَدْرٍ لما رأى الملائكِة، خاف أن يأخذوه فَهَرَب وخَذَلَهُم، وفائِدَة إدْخَال «كان» في قوله: «كان ضعيفاً» التَّأكيد لِضَعْف كَيْدهن يعني: أنه مُنْذُ كان مَوْصوفاً بالضَّعْف والذِّلَّةِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 499 قال الكَلْبِي: «نزلت في عَبْد الرَّحْمن بن عَوْف الزُّهرِيِّ، والمقدَادِ بن الأسْود الكندي، وقدامة بن مَظْعُون الجُمَحِي، وسَعْد بن أبِي وَقَّاصٍ، وجَمَاعة كانوا مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 499 قَبْل أن يهاجروا إلى المَدِينَةِ، ويَلْقُون من المُشْرِكِين أذًى شَديداً، فَيَشْكُون ذلك إلى الرَّسُول، ويقولون: ائْذَن لَنَا في قِتَالِهِم، ويقول لَهُم الرَّسُول: كُفُّوا أيْدِيَكُم، فإني لَمْ أومَر بقتالهِمْ، واشْتَغِلُوا بإقَامَة دينكُم من الصَّلاة والزَّكَاة، فلمَّا هَاجَر رسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينَةِ، وأُمِرَ بقتالهم في وَقْعَة بَدْرٍ، كرهه بَعْضُهم وشقَّ عَلَيْه،» فأنزل اللَّه - تعالى - هذه الآية. فَذَهَب بَعْضُهم إلى أنَّهَا نَزَلَت في المُؤمَِنين، واحتجُّوا: بأنَّ الَّذَين يَحْتَاج الرَّسُول إلى أن يَقُولَ لهم كَفُّوا عن القِتَال، هُم الرَّاغِبُون في القِتَالِ؛ وهم المُؤمِنُون. ويمكن الجوابُ عنه: بأنَّ المُنَافِقِين كانوا يُظْهِرُون أنَّهم مؤمِنُون، وأنَّهم يريدُونَ قِتال الكُفَّار، فلما أمر اللَّهُ بقتالِهم الكُفَّار، أحجم المُنَافِقُون عَنْه، وظهر مِنْهُم خِلاف ما كَانُوا يَقُولُونَهُ. وقيل: نزلت في المُنَافِقِين، واحتجُّوا بأنَّ الله - تعالى - وَصَفَهم بأنَّهم {يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} ، وهذا الوصف لا يَلِيقُ إلا بالمُنَافِقِ؛ لأن المُؤمِن لا يَخَاف من النَّاسِ اشَدَّ من خوفِهِ من اللَّه، وأيضاً قولهم: «ربنا لم كتبت علينا القتال» اعتراضٌ على اللَّه - تعالى -، وذلك من صِفَة الكُفَّار والمُنَافِقِين، وأيضاً قوله - تعالى - للرَّسُول: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى} وهذا الكلام إنَّما يذكر لمن كانت رَغبتهُ في الدُّنْيَا أكْثَر من رَغْبَته في الآخِرة، وذلك من صِفَاتِ المُنَافِقِين. وأجاب القَائِلُون بالقَوْل الأوَّل: بأن حُبَّ الحياة والنَّفرة عن القَتْلِ من لَوَازِمِ الطَّبْع؛ فهذه الخَشْيَة مَحْمُولة على هذا المَعْنَى، وقولهم: «لِمَ كتبت علينا القتال» محمولة على التمَنِّي بتخفيف التَّكْلِيف، لا على وَجْه إنْكَار [لإيجَابِ] اللَّه - تعالى -. وقوله [- تعالى -] : {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} ذكره ليهَوِّن على القَلْبِ أمر هذه الحَيَاةِ؛ لكي تزول عن قَلْبِه نَفْرَة القِتَالِ وحُبُّ الحَيَاة، ويُقْدِمُون على الجِهَاد بقلب قَوِيٍّ، لا لأجْل الإنْكَار. وقيل: قاله جماعة من المؤمنين لم يكونوا رَاسِخين في العِلْم، قالوه خوفاً وجُبْناً لا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 500 اعتقاداً ثم تابوا، وأهْلُ الإيمان يتفاضَلُون في الإيمَانِ. وقيل: كانوا مُؤمنين، فلما كُتِبَ [عليهم] ، أي: فرض عليْهِم القِتَال، تلفقوا من الجُبْنِ، وتخلَّفُوا عن الجِهَاد، والأوْلى حَمْل الآية على المُنَافِقِين، لأنه - تعالى - ذكر بَعْد هذه الآية قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ} [النساء: 78] ولا شَكَّ أنَّ هذا من كَلاَم المُنَافِقِين. فصل دلَّت الآيَة على أن إيجَاب الصَّلاة والزَّكاة، كان مُقَدَّماً على إيجَاب الجِهَاد. قوله {إِذَا فَرِيقٌ} : «إذا» هنا فُجَائِيَّة، وقد تقدَّم أن فيها ثلاثة مَذَاهِب: أحدُها - وهو الأصَحُّ: أنها ظَرْف مكان. والثَّاني: أنها زمان. والثَّالث: أنها حَرفٌ. قيل في «إذا» هَذِه: إنها فجَائِية مَكَانِيَّة، وأنها جوابٌ ل «لَمَّا» في قوله: {فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ} ، وعلى هَذَا فَفِيها وَجْهَان: أحدُهُما: أنها خَبَر مقدَّمٌ، و «فريق» : مبتدأ، و «منهم» : صفةٌ ل «فَرِيقٌ» ، وكذلك «يَخْشَون» ، ويجُوزُ أن يكونَ «يَخْشَون» حالاً من «فريق» لاختصاصه بالوَصْفِ، والتَّقْديرُ: «فبالحضرة فريق [فهو] كائن منهم خَاشُون أو خَاشِين» . والثاني: أن يكون «فريقٌ» مُبْتَدأ، و «منهم» : صفته، وهو المُسَوِّغُ للابْتِداء به، و «يَخْشَوْن» : جملة خبريةٌ وهو العَامِلُ في «إذا» ، وعلى القَوْلِ الأوَّلِ: العَامِلُ فيها مَحْذُوفٌ على قَاعِدة الظُّرُوف الوَاقِعة خبراً. وقيل: إنَّها هنا ظَرْفُ زمانٍ، وهذا فَاسِدٌ؛ لأنها إذْ ذَاك لا بُدَّ لها من عَامِلٍ، وعامِلُها إمَّا ما قَبْلَها، وإمَّا ما بَعْدَها، لا جائز أن يكُون ما قَبْلَها لأن ما قبلها وهو «كُتب» ماضٍ لفظاً ومعنى، وهي للاسْتِقْبال، فاستحال ذلك. فإن قيل: تُجْعَلُ هنا للمُضِيِّ بمعنى «إذا» . قيل: لا يجُوز ذلك؛ لأنه يصيرُ التقدير: فلمَّا كُتِب عَلَيْهم القِتَال في وَقْتِ خَشْيةِ فَرِيقٍ مِنْهُم، وهذا يفتقرُ إلى جَوَابِ «لَمَّا» ولا جَوابَ لها، ولا جَائزٌ أن يَكُونَ ما بَعْدها؛ لأنَّ العَامِل فيها إذا كان بعدها، كان جواباً لها، ولا جَوابَ لها هُنَا، وكان قد تَقَدَّم أوَّلَ البقرة أنَّ في «لَمَّا» قولين: قولَ سيبويه: أنَّها حَرْف وجوب لوُجُوب، وقول الفَارِسي: إنها ظَرْفُ زمانٍ بِمَعْنى «حين» وتقدَّم الردُّ عليه، بأنَّها أُجيبت ب «مَا» النَّافِية وإذا الفُجَائِية، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 501 وأنَّ ما بَعْدَها لا يَعْمَل فيما قَبْلَها، فأغْنى عن إعادته، ولا يجُوزُ أن يعمل ما يَلِيها فيها؛ لأنه في مَحَلِّ خَفْض بالإضَافَةِ على زَعْمِه، والمُضَافُ إليه لا يَعْمَل في المُضَافِ. وقد أجابَ بعضهم، بأنَّ العامل فيها هنا مَعْنى «يخشون» ؛ كأنه قيل: جَزِعوا، قال: «وجزعُوا هو العَامِلُ في» إذا «، وهذا الآية مُشكلةٌ؛ لأنَّ فيها ظَرْفَيْن: أحدُهما لما مَضَى، والآخرُ لِما يُسْتَقْبَل» . قوله: «كخشية الله» فيه ثلاثةُ أوجه: أحَدُها - وهو المَشْهُور عند المُعْربين: أنها نَعْتُ مصدرٍ مَحْذُوفٍ، أي: خشيةٌ كخَشْيِة الله. والثاني: - وهو المُقَرَّر من مذهب سيبويه غيرَ مرة -: أنَّها في مَحَلِّ نصب على الحَالِ من ضَمِير الخَشْيَة المَحذُوف، أي: يَخْشَوْنها النَّاسَ، أي: يَخْشون الخَشْيَة الناس مشبهةً خَشْيَة الله. والثالث: أنَّها في مَحَلِّ نصبٍ على الحال من الضمير في «يخشون» أي: يَخْشَون النَّاسَ مثلَ أهل خَشْيَة الله، أي: مُشْبهين لأهل خَشْيَة الله أو أشدَّ خشية، أي: أشدَّ خَشْيَةً من أهل خَشْيَة الله. و «أشدَّ» مَعْطُوف على الحَالِ؛ قاله الزمخشري، ثم قال: «فإنْ قُلْتَ: لِمَ عَدَلْتَ عن الظَّاهِر، وهو كَوْنُه صِفة للمَصْدَر ولم تُقَدِّرْه: يَخْشون خَشْية مثل خَشْيَة الله، بمعنى: مثل ما يَخْشَى الله. قلت: أبَى ذلك قوله:» وأشد خشية «؛ لأنه وما عُطِفَ عليه في حُكْمٍ واحدٍ، ولو قلت:» يخشون الناس أشد خشية «لم يكن إلا حَالاً من ضَمِير الفريقِ، ولم ينتَصِب انتِصَابَ المَصْدَر؛ لأنك لا تَقُول:» خَشِي فُلانٌ أشَدَّ خشيةً «فتنْصِبُ» خشية «وأنْتَ تريد المَصدر، إنَّما تَقَول:» أشدَّ خَشْيةٍ «فتجرُّها، وإذا نَصَبْتَها لم يكن» أشدَّ خشيةً «إلا عِبَارةً عن الفاعل حالاً منه، اللَّهم إلا أن تجعل الخَشْيَة خَاشِيةً على حدِّ قولهم:» جَدَّ جَدُّه «فتزعم أنَّ مَعْنَاه: يخشون الناسَ خَشْيَةً مثل خشيةٍ أشدَّ خَشْيَة من خَشْيَة الله، ويجُوز على هذا أن يكُون مَحَلُّ» أشدَّ «مَجْرُوراً، عطفاً على» خشية الله «تريد: كَخَشْيَة الله، أو كَخَشْيَةٍ أشدَّ منها» . انتهى. ويجوز نصبُ «خشيةً» على وجْه آخَر؛ وهو العَطْف على مَحَلِّ الكَافِ، وينتصب «أشدَّ» حينئذ على الحَالِ من «خَشْيَة» ؛ لأنه في الأصْلِ نعتُ نكرةٍ قُدِّم عليها، والأصل: يَخْشَوْن النَّاسَ مثلَ خَشْيَةِ الله أو خَشْيَةً أشدَّ منها، فلا ينتصب «خَشيَة» تمييزاً، حتى يَلْزَم منه ما ذكره الزَّمَخْشَرِي ويُعْتذر عنه، وقد تقدَّم نحو من هذا عِنْد قوله: {أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} [البقرة: 200] . والمصدرُ مُضَاف إلى المَفْعُول والفَاعِل مَحْذُوف، أي: كَخشيتهم اللَّهَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 502 فإن قيل: ظاهر قوله: {أَوْ أَشَدَّ} يوهم الشَّكَّ، وذلك محالٌ على الله - تعالى -. فالجواب: يحتمل الأوْجُه المذكورة في قوله {أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ويجوز أن تكون للتنويع، يعني: أن منهم من يخشاهم كخشية الله، ومنهم من يخشاهم أشد خشية من خشية الله. قال ابْنُ الخَطِيب: وفي تأوِيله وُجُوهٌ: الأوَّل: المُراد مِنْه: الإبْهَام على المُخَاطَب، بمعنى أنَّهم على أحَد الصِّفَتَيْن من المُسَاواة والشدّة؛ وذلك لأنَّ كُلَّ خَوْفَيْن فأحدُهُما بالنِّسْبة إلى الآخَر: إمَّا أن يكُون مُسَاوِياً، أو أنْقَص، وأزيد، فَبيَّن - تعالى - بهذه الآية أن خَوْفَهم من النَّاس ليس أنْقَص من خَوْفِهم من الله - تعالى -، بل إمَّا أن يكون مُسَاوِياً أوْ أزْيَد، وذلك لا يُوجِب كَوْنه - تعالى - شاكَّا، بل يُوجِب إبْقاء الإبْهَام في هَذَيْن القِسْمَيْن على المُخَاطَب. والثاني: أن يكون «أو» بمعنى الوَاوِ، والتَّقْدِير: يخْشَوْنهم كَخَشْيَة اللَّه وأشَد خشية، ولَيْس بَيْن هذيْن القِسْمَيْن مُنَافَاة؛ لأنَّ من هُو أشَدّ خَشْية، فَمَعَه من الخشية مِثْل خَشْية اللَّه [وزيادة] . الثَّالث: أن هذا نظير قوله: {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [الصافات: 147] يعني: أنَّ من يُبْصِرهم يَقُول هذا الكلام؛ فكذا ههنا. قوله: {لولاا أَخَّرْتَنَا} أي: هَلاَّ أخرْتَنَا إلى أجَلٍ قَرِيبٍ، يعني: الموْت أي: هلاّ ترَكْتنا حَتَّى نَمُوت بآجَالِنَا، وهذا كالعِلَّة لكَرَاهَتِهم إيجَاب القِتَالِ عليْهم، ثم إنَّه - تعالى - أجَابَهُم بقوله: قلْ يا مُحَمَّد: {مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} أي: مَنْفعَتُها والاستِمْتَاعُ بها قَلِيلٌ، «والآخرة» أي: وثواب الآخِرة خَيْر وأفْضَل لمن اتَّقَى الشِّرْك ومَعْصِية الرَّسُول، وإنَّما كانت الآخِرَة خَيْرٌ؛ لأن نِعَم الدُّنْيَا قليلة [فَانِيَةٌ] ونعم الآخِرَة كَثِيرَة بَاقِيَةٌ ونِعَم الدُّنيا مُنْقَطِعة، ونِعَم الآخِرَة مؤبَّدة، ونِعَم الدُّنْيَا مشوبَةٌ بالهُمُومِ والمَكَاره، ونِعَم الآخِرَة صَافية من الكُدُورَات. روى المستورد بن شَدَّادِ؛ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا الدُّنْيَا في الآخِرَة إلاَّ مِثْل مَا يَجْعَل أحَدُكُم أصْبُعَهُ في اليَمِّ، فَلْيَنْظُرْ بمَ يَرْجِع» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 503 ثم قال: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} . قرأ ابن كَثيرٍ، وأبُو جعفَر، وحمْزَة، والكسَائِي: باليَاء رُجوعاً إلى قَولِه - تعالى -: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ} والباقُون: بتاء الخِطَاب؛ كقوله: {مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} والمعنى {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} [النساء: 49] ، أي: لا يُنْقَصُون من ثَوَابِ أعْمَالِهِم مثل فَتِيل النَّوَاةِ، وهو ما تفلته بيدِكَ ثم تُلْقِيه احْتِقَاراً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 504 لما حَكَى عنهم أنَّهم يَخْشَون النَّاسَ عند فَرْضِ القِتَالِ بَكَّتهُم هَهُنَا؛ فقال: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت} أي: لا خلاص لكُم من المَوْت، والجِهَاد مَوْتٌ يستعقبه سَعَادة أخْرَوِيَّة، فإذا كان لا بُدَّ من المَوْتِ، فبأن يَقَع على وَجْهٍ يستَعْقِب السَّعَادة الأبَدِيَّة، أوْلى من ألاَّ يكُون كَذَلِكَ. قوله: {أَيْنَمَا تَكُونُواْ} : «أين» اسْم شَرْك يجزم فِعْلَين، و «ما» زائدة على سَبِيل الجَوَازِ مؤكِّدة لها، و «أين» ظَرْف مَكَان، و «تكونوا» مَجْزومٌ بها، و «يدرككم» : جوابُه. والجمهُور على جزمه؛ لأنه جواب الشرط، وطلحة بن سليمان: «يدركُكم» برفعه، فخرَّجه المُبَرِّد، على حَذْفِ الفَاءِ، أي: فيدرككم المَوْت. ومثلُه قول الآخر: [الرجز] 1831 - يَا أقْرَعُ بْنَ حَابِسٍ يَا أقْرَعُ ... إنَّكَ إنْ يُصْرَعْ أخُوكَ تُصْرَعُ وهذا تَخْرِيج المُبَرِّد، وسيبويه يَزْعم أنه ليْس بجَوَابٍ، إنَّما هو دالٌّ على الجَوَاب والنِّيةُ به التقديمُ. وفي البَيْت تَخْرِيجٌ آخر: وهو أنْ يكُون «يَصْرَعُ» المرفُوعُ خبراً ل «إنك» ، والشَّرطُ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 504 معترِضٌ بينهما، وجَوَابُه ما دَلَّ عليه قوله: «إنك تصرع» ؛ كقوله: {وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] وخَرَّجه الزَّمخشري على التوهُّم؛ فإنه قال: ويجُوزُ أن يُقال: حُمِل على ما يَقَع مَوْقعَ «أينما تَكُونوا» وهو «أينما كُنْتُم» كما حُمِل على ما يقع موقع «ليسوا مصلحين» وهو «ليسوا بمصلحين» فرفع كما رفع زهير «ولا ناعب» : [البسيط] 1832 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... يَقُولُ لاَ غَائِبٌ مَالِي وَلاَ حَرِمُ وهو قولُ نحويّ سِيبيّ، يعني منسوب لسيبويه، فكأنه قال: «أينما كنتم» ، وفعلُ الشرط إذا كان ماضياً لفظاً جازَ في جوابه المضارعِ الرفعُ والجزمُ كقول زهير: [البسيط] 1833 - وَإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألَةٍ يَقُولُ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وفي رَفْعِهِ الوَجْهَان المَذْكُوران عن سيبويه والمُبرِّد. ورَدَّ عليه أبو حَيّان: بأن العطفَ على التوَهُّم لا يَنْقَاس؛ ولأنَّ قوله يؤدِّي إلى حَذْفِ جواب الشَّرْط، ولا يُحْذَفُ إلاَّ إذا كان فِعْل الشَّرْط ماضياًن لو قُلْت: «أنت ظَالمٌ إنْ تفعل» لم يَجُز. وهذا - كَمَا رَأيتَ - مضارعٌ، وفي هذا الردِّ نَظَرٌ لا يَخْفَى. «ولو كنتم» قالوا: هي بِمَعْنى: «إنْ» وجوابُها مَحْذُوف، أي: لأدْرَكَكُمْ، وذكر الزَّمَخْشري فيه قَوْلاً غَرِيباً عن عِنْدَ نَفْسِه، فقال: «ويجوزُ أن يَتَّصِل بقوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} أي: لا تُنْقَصُون شيئاً مِمَّا كُتِب من آجَالِكُم أيْنَمَا تَكُونوا في مَلاَحمِ حُروبٍ أو غيرها، ثم ابتدأ بِقَوله: {تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ} ، والوَقْفُ على هذا الوَجْه على {أَيْنَمَا تَكُونُواْ} انتهى. ورَدَّ عليه أبو حيَّان، فقال: هذا تَخْريجٌ ليس بِمُسْتَقيمٍ، لا من حيث المعنى ولا من حيث الصِّنَاعةِ النَّحوية: أمَّا من حَيْثُ المعنى: فإنه لا يُناسِبُ أن يكون مُتَّصلاً بقوله: {لاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً} ؛ لأنَّ انتفاءَ الظُّلْم ظاهِراً إنما هو في الآخرة؛ لقوله - تعالى -: {قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى} . وأمَّا من حَيْث الصِّنَاعةُ النَّحويّة: فإنَّ ظاهر كلامه يَدُلُّ على أنَّ «أينما تكونوا» متعلِّقٌ بقوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ} بمعنى ما فسّره، وهذا لا يجُوزُ؛ لأن أسْمَاءَ الشَّرْط لها صَدْرُ الكَلاَم، فلا يَتَقَدَّم عَامِلُها عليها، فإنْ وَرَد مثلُ: «اضْربْ زيداً متى جَاءَ» قُدِّر له عَاملٌ يدلُّ عليه «اضرب» لا نفسُ «اضْرِب» المتقدِّم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 505 فإن قيل: فكذلك يُقَدِّر الزَّمَخْشَرِيّ عاملاً يدلُّ عليه {وَلاَ تُظْلَمُونَ} تقديره: «أينما تكونوا فلا تظلمون» فحذف «فلا تظلمون» ، لدلالةِ ما قبله عليه، فيخلُصُ من الإشْكَال المَذْكُور. قيل: لا يُمْكِن ذلك؛ لأنه حينئذ يُحذفُ جَواب الشَّرط وفعلُ الشرط مُضَارعٌ، وقد تقدم أنَّه لا يَكُون إلا ماضياً «. وفي هذا الردِّ نظرٌ؛ لأنه أرادَ تَفْسِير المَعْنَى. قوله: ولا يناسب أن يكون مُتَّصِلاَ بقوله: {وَلاَ تُظْلَمُونَ} مَمْنُوعٌ، بل هُو مُنَاسِب، وقد أوضَحَهُ الزَّمَخْشَرِي بما تقدَّم احْسَنَ إيضَاحٍ. والجُمْلَة الامتنَاعِيَّة في مَحَلَّ نصبٍ على الحَالِ، أي: أينما تَكُونوا من الأمكنة، يدركْكم المَوْت، ولو كانت حَالُكم أنَّكم في هذه البُرُوج، فيُفْهَمُ أن إدراكه لهم في غَيْرِها بطريق الأوْلى والأخْرى، وقريبٌ منه:» أعْطُوا السَّائِل ولو على فَرَسٍ «. والجملةُ الشَّرطِيَّة تحتمل وَجْهَيْن: أحدهمت: أنها لا مَحَلَّ لها من الإعراب؛ لأنها استِئْنَافُ إخبارٍ؛ اخبر - تعالى - أنَّه لا يفُوتُ الموتَ أحَدٌ، ومنه قولُ زُهَيْر: [الطويل] 1834 - وَمَنْ هَابَ أسْبَابَ الْمَنَايَا يَنَلْنَهُ ... ولَوْ رَامَ أسْبَابَ السَّمَاءِ بِسُلَّمِ والثَّاني: أنها في مَحَلِّ نَصبٍ بالقَوْل قَبْلَها أي: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَبِيلٌ، وقُلْ أيضاً: أينما تَكُونُوا. والجُمْهُور على» مشيدة «بفتح الياء اسم مَفْعُول. ونعيم بن ميْسَرة بِكَسْرِها، نسَبَ الفعلَ إليها مَجَارزاً؛ كقولهم:» قَصِيدَةٌ شَاعِرَة «، والموْصُوفُ بذلك أهْلُها، وإنما عَدَلَ إلى ذلك مُبَالغةً في الوَصْفِ. والبُرُوج: الحُصُونُ مَأخُوذةٌ من» التَّبرُّج «وهو الإظْهَارُ، ومنه:» غير مُتبرِّجَات بزينة «، والبَرَجُ في العين: سَعَتُها، ومنه قولُ ذي الرُّمَّة: [البسيط] 1835 - بَيْضَاءُ فِي بَرَجٍ صَفْرَاءُ فِي غَنَجٍ ... كَأنَّهَا فِضَّةٌ قَدْ مَسَّهَا ذَهَبُ وقولُهُم:» ثَوْبٌ مُبَرَّجٌ «أي: عليه صُورُ البُرُوج؛ كقولهم:» مِرْطٌ مُرَجَّل «أي: عليه صُورُ الرِّجَال، يروى بالجيم والحاء، والمشيَّدة: المَصْنُوعة بالشِّيدِ؛ وهو الجِصُّ، ويقال:» شَادَ البِنَاء وشيَّدَهُ «كرَّر العَيْن للتَّكْثِير؛ ومن مجيء» شاد «قولُ الأسود: [الخفيف] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 506 1836 - شَادَهُ مَرْمَراً وجَلَّلَهُ كِلْ ... سَاً فَِلِلطَّيْرِ فِي ذَرَاهُ وُكُورُ ويقال:» أشاد «أيْضاً، فيكون فَعَل وأفْعَل بِمَعْنًى. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: شاد القَصْرَ إذا رَفَعَهُ أو طَلاَه بالشِّيد، وهو الجِصُّ وهذا قَوْل عِكْرمَة، وقال قتادة [معناه:] في قُصُورٍ محصَّنةٍ، وقال السُّدِّيُّ في بُرُوجِ في سَمَاءِ الدُّنْيَا مَبْنِيَّة، وهي بُرُوج الفلك الاثْنَي عشر، وهذا القَوْل مَحْكِيٌّ عن مَالِك، ومعنى مشيدة، [أي] مادّة من الرَّفْع؛ وهي الكَوَاكِبُ العِظَام. وقيل: للكَواكِب: بُرُوجٌ، لظُهُورِها من بَرِجَ يَبْرِج إذا ظَهَر وارْتَفَع، ومِنْهُ: {} . وخلقها الله - تعالى - في مَنَازِل للشَّمْس والقَمَر، وقدّره فِيهَا، ورتَّب الأزمِنَة عَلَيْهَا. قوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله} نزلت في المُنَافِقينَ واليَهُود؛ وذلك أنَّهم قَالُوا لما قَدِم رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدِينَةَ: ما زلنا نَعْرِف النَّقْصَ في ثِمَارِنَا ومَزَارِعِنَا مذ قِدَم هَذا الرَّجُل وأصْحَابهُ. قال الله - تعالى - «وإن تصبهم» يعني: اليهود «حسنة» أي: خصب ورُخص في السِّعْر، «يقولوا هذه من عندنا» لنا {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} يعني: الجَدْب وغَلاَء الأسْعَار، «يقولوا من عندك» أي: من شُؤْم محمَّدٍ وأصْحَابه، وكَيْفِيَّة النَّظم: أنَّه - تعالى - لما حَكَى [عنهم] كونهم [متثاقلين عن اجهاد خائفين من الموت راغبين في متاع الدنيا، حكى عنهم] في هَذِه الآية خَصْلَة أخْرَى أقبَح من الأولى. وفي النَّظْم وَْه آخَر؛ وهو أنَّ الخَائِفِين من المَوْت، المُتَثَاقِلِين في الجِهَادِ من عَادَتِهِم أنَّهم إذا جَاهَدُوا وقَاتَلُوا، فإن أصَابُوا ظَفَراً أو غَنِيمةً، قالوا: هَذِه من عِنْد الله، وإن أصَابَهُم مَكْرُوه، قالوا: هذه من شُؤْمِ مُصَاحَبة محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فعلى هذا يكُون المُرَادُ ب «الحسنة» : الظفر والغَنِيمَة يوم بَدْر، وب «السيئة» : القَتْل والهَزِيمة يوم أُحُد، وهذا نَظير قَوله: {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 507 قال القاضي: القول بأن الحَسَنَة هي الخصب، وأن السَّيِّئَة هي الغلاء، [هذا] هو المعتبر، لأن إضافة الخصب والغلاء وكثرة النِّعم وقلَّتِها إلى الله جَائِزَةٌ وأمَّا إضافة النَّصْر والهزيمةِ إلى الله - تعالى -، وهَذَا على مَذْهَبِه] أمَّا على مَذْهَب أهْل السُّنَّة، فالكل بِقَضَاءِ الله وقدَرِه. فصل في تفسير الحسنة والسيئة اعلم أن السِّيِّئَة تَقَع على البَلِيَّة والمَعْصِيَة، والحَسَنة على النِّعْمَة والطَّاعَة؛ قال تعالى: {وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 168] وقال -[تعالى -: {إِنَّ] الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] ، وإذا ثبت هذا؛ فنقو: قَوْله: {وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ} ، وقوله: {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} يفيد العُمُوم في كُلِّ الحَسَنَات والسَّيِّئات، ثم قال بَعْدَه: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله} . فهُنَا تصريحٌ بأنَّ جميع الحَسَنات والسَّيِّئات من الله - تعالى -، ولمَّا ثَبَتَ بما ذكرنا أنَّ الطَّعات والمَعَاصِي دَاخِلَتَانِ تحت اسْم الحَسَنَةِ والسَّيِّئَة، كانت [الآية] دالَّة على [أنَّ] جميعَ الطَّاعاتِ والمَعَاصي من الله تعالى، وهو المَطْلُوبُ. [فإن قيل] : المرادُ من الحَسَنة والسَّيِّئَة هُنا: لَيْس هو الطَّاعَة والمَعْصِيَة؛ لاتِّفَاق الكُلِّ على أنَّ هذه الآية نَزَلت في الخَصب والجَدْب، فاخْتُصَّتْ بِهِمَا، وأيضاً فالحَسَنة التَّي يُرَاد بها الخَيْر والطَّاعَة [لا يقال فيها: أصابَتْنِي، إنما يُقَال: أصَبْتُها، وليس في كَلاَم العَرَب أصَابَ فُلان حَسَنَة] ، [بمعنى: عَمِلَ خَيْرٍ أو أصَابَتْهُ سيِّئة] بمعنى: عمل مَعْصِيَةٍ، فلو كان المُرَاد ما ذَكَرْتُم، لقَالَ: إن أصَبْتُم حَسَنَةً. وأيضاً: لفظ الحَسَنَة وَاقِعٌ بالاشْتِرَاك على الطَّاعَةِ وعلى المنفعة، وهَهُنا أجْمَع المفسِّرون على أنَّ على الطَّاعضةِ وعلى المنفعة، وهَهُنَا أجْمَع المفسِّرون على أنَّ المَنْفَعَة مُرَادة، [فيمتنع كَوْن الطَّاعَة مرادة] ، لأنَّه لا يجوز اسْتِعْمضال المُشْتَرَك في مَفْهُومَيْه مَعاً. والجواب عن الأوَّل: [أن] خصوصَ السَّبَب لا يَقْدَحُ في عُمُوم اللَّفْظ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 508 وعن الثَّانِي: أنه يَصِحُّ أن يُقَال: أصَابَنِي تَوْفِيقٌ من الله، وَعَوْن من الله، وأصابه خُذْلاَنَ من الله، ويكون المُراد [من ذلك التَّوفِيق والعَوْن: تلك الطَّاعة، ومن الخُذْلان: تلك المَعْصِيَة. وعن الثَّالث: أن كل] ما كَانَ مُنْتَفِعاً به فهو حَسَنة، فإن كان نَفْعه في الآخِرَة، فهو في الطَّاعةِ، وإن كان نفعه في الدُّنْيا فهو السَّعَادة الحَاضِرة، فاسْم الحَسَنَة بالنِّسْبَة إلى هَذَيْنِ القِسْمَيْن مُتَوَاطئُ الاشْتِرَاك، فزال السُّؤال، ويؤيد ذَلِك: أن البَدِيهَة قَاطِعَةٌ بأنَّ كل مَوْجُود مُمْكِنٌ لِذَاته، مستندٌ للحقِّ بذاته وهُوَ الله - تعالى -، فلو استَغْنَى المُمْكن بذَاتِهِ [عن الحَقِّ] ، لزم نَفْيَ الصَّانع، وهذا الحُكْمُ لا يخْتَلِفُ كَيْف كان المُمْكن؛ حيواناً، أو جماداً، أو فعلاً، أو صِفَةً، وهذا بُرْهَانٌ كالشَّمْس، مُصَرِّح بأن الكُلَّ من عِنْد الله؛ كما قال - تعالى -: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله} . قوله: {فَمَا لهؤلاء القوم} وقف أبو عمرو والكسائي - بخلاف عَنْه - على «مَا» في قوله: «فما لهؤلاء» وفي قوله: {مَالِ هذا الرسول} [الفرقان: 7] وفي قوله: {مَا لهذا الكتاب} [الكهف: 49] وفي قوله: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ} [المعارج: 36] . والبَاقُون: على اللام التي للجرِّ دونن مَجْرُورهخا اتِّباعاً للرَّسم، وهذا ينبغي إلاّض يَجُوز - أعني: الوَقْفَيْن - لأنَّ الأوَّل يُوقَف فيه على النُبْتَدَأ دونَ خَبرِه، والثاني يُوقِف فيه على حَرْفِ الجَرِّ دونَ مَجْرُورِه، وإنما يجُوزُ ذلك؛ لضَرُورةِ قَطْعِ النَّفْسِ أو ابْتِلاَءٍ. قال الفرَّاء: كثرت في الكَلاَم هذه الكَلِمَة، حتى تَوهَّمُوا أنَّ اللاَّم متصلة بِهَا، وأنَّهُمَا حَرْف وَاحِدٌ، ففصَلُوا اللاَّمَ بما بَعْدَها في بَعْضِه، وَوَصَلُوها في بَعْضِه، والقراءة الاتِّصَالُ، ولا يجُوزُ الوَقْفُ على اللامِ؛ لأنَّها لامٌ خافضة. لمَّا دلَّ الدَّلِيل على أنَّ كل ما سِوَى الله مستندٌ إلى الله، وكان ذَلِكَ الدَّليل في غاية الظُّهُور، قال - تعالى -: {فَمَا لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} وهذا يَجْرِي مُجْرَى التَّعَجُّبِ؛ لعدم وُقُوفِهم على صِحَّةِ هَذَا الكَلاَمِ مع ظُهُورِهِ. قالت المُعْتَزِلَةُ: هذه الآيَة تدلُّ على صِحَّة قَوْلِنا؛ لأنه لو كَان حُصُول الفَهْمِ والمعرفة بِتَخْلِيق الله - تعالى -، لم يَبْق لِهذا التَّعَجُّب مَعْنًى ألْبَتَّة؛ لأن السَّبَب في عَدَمِ حُصُول هذه المَعْرِفة، هو أن الله - تعالى - لم يَخْلُق ذلك فِيهم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 509 وهذا تمسُّكٌ بطريقة المَدْح والذَّمِّ؛ وهي معارَضَةٌ بالعِلْمِ والدَّاعي. والمراد ب «هؤلاء القوم» : المنافقون واليَهُود، «لا يكادون يفقهون حديثاً» أي: قَوْلاً. وقيلأ: الحديث هاهنا: القُرْآن: أي: لا يَفْقَهُون مَعَانِي القُرْآن، والفِقْه: الفَهْم، يُقَال: فَقِهَ بكسر القَافِ؛ إذا فَهِم، وفَقَهَ بِفَتْحِ القَافِ: إذا غَلَب غَيْرَه، وفَقْه بِضَمِّ القَافِ، ومنه ما قال عليه السَّلام لابن عبَّاس «اللَّهُمَّ فَقِّههُ في التَّأوِيل» أي: فَهِّمْهُ تأويلَهُ، فعلى هَذَا التَّأوِيل قالت المُعْتَزِلَةُ: هذه الآية تَقْتَضِي وَصْف القُرْآنِ بأنَّهُ حَادِثٌ، والحَدِيث: فعيل بِمَعْنَى مَفْعُول مِنْه أن يَكُون القُرْآن مُحْدَثاً. والجَوَابُ: إن كان مُرادُكم بالقرْآنِ هذه العِبَارات، فَنَحْنُ نُسَلِّم كَوْنَها مُحْدَثَةً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 510 في «ما» هذه قَوْلان: أحدهما: قال أبو البقاء: إنها شَرْطِيةٌ: وضَعَّف أن تكونَ مَوْصُولةً قال: «ولا يَحْسُن أن تكُونَ بِمَعْنَى الذي؛ لأنَّ ذلك يَقْتَضِي أن يكون المُصيبُ لهم مَاضِياً مخصَّصاً، والمعنى على العُمُومِ والشَّرْطيةُ أشْبَهُ، والمرادُ بالآيةَ: الخِصْب والجَدْب، ولذلك لم يَقُلْ: ما أصَبْت» . انتهى، يَعْنِي أنّض بَعْضَهم يَقُول: إنَّ المرادَ بالحَسَنة الطَّاعةُ، وبالسَّيِّئةِ المَعْصِيَةُ، ولو كان هَذَا مُرَاداً، لقال: «ما أصَبْتُ» ؛ لأنَّه الفَاعِلُ للحَسَنَةِ والسَّيِّئة جَمِيعاً، فلا تُضَاف إليه إلا بِفعْلِهِ لَهُمَا. والثاني: أنها مَوْصُولةٌ بمعنى الَّذِي، وإليه ذَهَب مكِّي، ومَنَع أن تَكُونَ شَرْطِيَّة، قال: «وليسَتْ للشرطِ؛ لأنَّها نزلت في شَيْءٍ بِعَيْنِه، وهو الجَدْب والخِصْب، والشَّرطُ لا يكون إلا مُبْهَماً، يجوزُ أنْ يَقَع وألاَّ يقعَ، وإنَّما دخلت الفَاءُ للإبْهَام الَّذِي في» الَّذِي «مع أن صِلَتهِ فِعْلٌ، فدلَّ على أنَّ الآية لَيْسَت في المَعَاصِي والطَّاعَات كَمَا قال أهْلُ الزَّيْغ، وأيْضاً فإنَّ اللَّفْظَ» ما أصابَكَ «، ولم يَقُل:» ما أصَبْتَ «. انتهى. والأوَّلُ أظهرُ؛ لأنَّ الشرطيةَ أصْلٌ في الإبْهام كنما ذكره أبُو البَقَاء، والموصولوُ فبالحَمْل عَلَيْها، وقولُ مكيّ:» لأنها نَزَلَتْ في شيء بعينه «هذا يقتضي ألاَّ يُشَبَّه الموصولُ بالشرطِ؛ لأنه لا يُشَبَّه بالشَّرْط فلم تَدْخُلِ الفَاءُ في خَبَره، نَصَّ النَّحْويُّون على ذلك، وفي المَسْألَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 510 خلافٌ: فَعَلَى الأوَّل:» أصابَك «في محلِّ جَزْم بالشَّرْط، وعلى الثَّاني: لا مَحَلَّ له؛ لأنه صِلَة. و» من حسنة «الكلامُ فيه كالكَلامِ في قَوْله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] وقد تقدَّم، والفاءُ في» فمن الله «جَوَابُ الشَّرْط على الأولِ وزائدةٌ على الثَّّاني، والجارُّ بَعْدَها خبرٌ لمبتدأ مَحْذُوف، تقديرُه: فَهُو من الله، والجُمْلَةُ: إمَّا في محلِّ جَزْمٍ أوْ رَفْعٍ على حَسَبِ القَوْلين. واختلِفَ في كافِ الخِطَابِ: فقيل: المرادُ كلُّ أحدٍ، وقيل: الرَّسُول والمُرادُ أمتهُ، وقيل: الفَرِيقُ في قوله: {إِذَا فَرِيقٌ} ، وذلك لأنَّ» فريقاً «اسمُ جَمْعٍ فله لَفْظٌ ومَعْنًى، فراعَى لفظه فأفْرَدَ؛ كقوله: [الطويل] 1837 - تَفَرَّقَ أهْلاَنَا بِبَيْنٍ فَمِنْهُمُ ... فَرِيقٌ أقَامَ واسْتَقَلَّ فَرِيقُ وقيل في قوله: {فَمِن نَّفْسِكَ} : إنَّ همزَة الاسْتفْهَام مَحْذوفة، تقديره: أفمِنْ نفسِك، وهو كَثِيرٌ؛ كقوله - تعالى -: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا} [الشعراء: 22] وقوله - تعالى -: {بَازِغاً قَالَ هذا رَبِّي} [الأنعام: 77] . ومنه: [الطويل] 1838 - رَفَوْنِي وَقَالُوا يَا خُوَيْلدُ لا تُرَع ... فَقُلْتُ وأنْكَرْتُ الْوُجُوه هُمُ هُمُ وقوله: [المنسرح] 1839 - أفْرَحُ أنْ أرْزَأ الْكِرَامَ وأنْ ... أورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبْلاً تقديره: وأتِلْكَ، وأهَذا رَبِّي، وأهمُ هُم، وأفرحُ، وهذا لم يُجْزءه من النُّحَاةِ إلا الأخفش، وأمَّا غيره فلك يُجِزْهُ إلا قَبْل» أمْ «؛ كقوله: [الطويل] 1840 - لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي وَإنْ كُنْتَ دَارِياً ... بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الْجَمْرَ أمْ بِثَمَانِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 511 وقيل: ثَمَّ قولٌ مقدَّر، أي: لا يكَادُونَ يَفْقهون حَدِيثاً يَقُولون: ما أصَابَكَ. وقرأت عائشة: «فَمَنْ نَفْسُكَ» بفتح ميم «من» ورفع السِّين، على الابتداء والخَبَر، أيّ شيءٍ نَفْسُك حَتَّى يُنْسَب إليها فِعْلٌ؟ . قوله: «رسولاً» فيه وَجْهَان: أحدُهُما: أنه حالٌ مؤكِّدة. والثاني: أنه مَصْدر مؤكِّدٌ بِمَعْنَى إرسال، وِمنْ مَجِيء «رَسُول» مَصْدراً قوله: [الطويل] 1841 - لَقَدْ كَذَبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلاَ أرْسَلْتُهُمْ بِرَسُولِ أي: بإرسال، بمعنى رِسَالة. و «للناس» يتعلق ب «أرسلناك» ، واللاَّم للعِلَّة، وأجاز أبو البقاء أن يكونَ حَالاً من «رسولاً» كأنه جَعَله في الأصْلِ صِفَةً للنَّكِرَة، فقُدِّم عليها، وفيه نَظَر. فصل قال الجُبَّائِيُّ: قد ثَبتَ أنَّ لَفْظَ السِّيِّئَة يقع على البَلِيَّةِ والمِحْنَة، وتارة يقع على الذَّنْب والمَعْصِيَة، ثم إنَّه - تعالى - أضَافَ السِّيِّئَة إلى نَفْسِهِ في الآية الأولَى بقوله: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله} ، وأضَافَها في هذه الآيَةِ إلى العَبْد بِقَوْله: {وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} ولا بُدَّ من التَّوْفِيقِ بين الآيَتَيْنِ؛ فنقول: لمَّا كانت السَّيِّئَةُ بمكعنى البَلاَءِ والشِّدَّة مُضَافَة إلى الله، وجب أن تَكُون السِّيِّئَةُ بمعْنَى المُصِيبَة مُضَاَفة إلى العَبْدِ؛ ليزُول التَّنَاقُضُ بين هَاتَيْنِ الآيَتَيْن المُتَجَاوِرَتَيْن، وقد حَمَل المُخَالِفُون أنْفُسَهم على تَغْيِير الآيَةِ، وقرأوا: «فمن نفسك» فَغَيَّروا القُرْآن، وسلَكُوا مثل طريقَةِ الرَّافِضَة في ادِّعاءِ التَّغْيير في القُرْآن. فإن قيل: إن الحسَنَة وإن كَانَت من فِعْل العَبْد، فإنَّما وَصَل إلَيْهَا بتسْهِيله وألْطَافِه، فصَحَّت الإضَافَةُ إلَيْه، وأمَّا السَّيِّئة، فَهِي غير مُضَافَةٍ إلى الله - تعالى - بأنَّه [مَا] فَعَلَها، ولا أرَادَهَا، ولا أمَرَ بِهَا، ولا رَغَّبَ فيهَا. فلا جَرَم انْقَطَعَتْ هذه النِّسْبَة إلى الله تعَالى من جَمِيعِِ الوُجُوهِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 512 قال ابن الخَطِيبِ: والجَوابُ: أن هذه الآيَةَ دلَّت على أنَّ الإيمَان حَصَل بتَخْلِيق الله - تعالى -: لأن الإيمَان حَسنَةٌ [والحَسَنَة] هي الغِبْطَةَ الخَالِيَةُ عن جَمِيعِ جِهَاتِ القُبْحِ، والإيمان كَذَلِكَ؛ فوجب أن تكُون حَسَنة؛ لأنَّهم اتَّفَقُوا على أنَّ قوله {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله} [فصلت: 33] أن المُرادَ به: كلمة الشَهَادة، وقيل في قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} [النحل: 90] قيل: هو قَوْل لا إلَه إلاَّ الله؛ فَثَبت أنَّ الإيمان حَسَنَة، وإنما قُلْنَا: إن كل حَسَنَةَ من الله؛ لقوله - تعالى -: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله} وهذا يفيد العُمُوم في جَميع الحَسَنَاتِ، وإذا ثَبَت أنَّ الإيمان حَسَنة، وكُلُّ حسنة من الله، وجب القَطْع بأنَّ الإيمَان من اللهِ. فإن قيل: لم لا يجُوز أن يكون المُرَادُ من قوله: «من الله» هو أنَّ الله قدَّرَه عَلَيْه، وهَدَاه إلى مَعْرَفَة حُسْنهِ، وإلى مَعْرِفَة قُبْحِ ضِدّه الذي هو الكُفر. قُلْنَا: جميع الشَّرَائِطِ مُشْتَرَكَةٌ بالنِّسْبَة إلى الإيمَانِ والكفر عندكم ثمَّ إنَّ العَبْد باخْتِيَار نَفْسِه أوْجد الإيمان، ولا مَدْخل لِقُدْرة الله وإعانَتِه في نَفْس الإيمَانِ، فكان الإيمَانُ مُنْقَطِعاً عن الله -[تعالى]- من كل الوُجُوهِ، فكذا هَذَا مُنَاقِضاً لقوله: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله} ؛ فثبت لدلاَلَة هذه الآية أن الإيمان من الله، والخُصُوم لا يَقُولُون به، وأمَّا بيان أنَّ الكُفْر من اللهِ فَلوُجُوه: أحدُهَا: أن كُلَّ من قَالَ: الإيمانُ من الله قال الكُفْر من الله؛ فالقَوْل بأحَدِهِمَا من الله - تعالى - دُون الآخَرِ - مخالِفٌ لإجْمَاع الأمَّةِ. وثانيها: أن العَبْد لو قَدَر على تَحْصِيل الكُفْرِ، فالقُدْرَة الصَّالِحة لإيجَادِ الكُفْر: إمَّا أن تكُون صَالِحة لإيجَادِ الإيمان، أو لا، فإن كانت صَالِحَةً لإيجَادِ الإيمانِ، [فحينئذٍ] يَعُود القول في أنَّ إيمان العَبْدِ مِنْهُ، [وإن لَمْ تَكُنْ صَالِحةٌ لإيجَادِ الإيمَانِ، فيكُونُ القَادِر على الشَّيْءِ غير قَادِر على ضِدَّه، وذلك عندهُم مُحَالٌ؛ فثبت أنَّهُ لَمْ يَكُنْ الإيمَان مِنْه، وجَب ألاّ يكُونَ الكُفْر مِنْهُ] . وثالثها: أنَّه لمَّا يكُن العَبْد مُوجداً للإيمَانِ فبأن لا يكون موجداً للكفر أوْلى؛ وذلك لأنَّ المُسْتَقِلَّ بإيجَادِ الشَّيْءِ هو الَّذي يُمْكِنُه تَحْصِيلُ مُرَادِهِ، ولا نَرَى في الدُّنْيَا عَاقِلاً، إلاَّ يُريدُ أن يكُون الحَاصِل في قَلْبهِ هو [الإيمان والمَعْرِفَة والحقّ، وإن أحداً مِنِ العُقَلاء لا يُرِيدُ أن يكُونَ الحَاصِلُ في قلبه هو] الجَهْل والضَّلال والاعْتِقاد المُطابق، وَجَب إلاَّ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 513 يتحصَّل في قَلْبه إلاَّ الحَقَّ، وإذا كَانَ الإيمانُ الَّذي هو مَقْصُوده ومَطْلُوبه ومُرَادُه، لم يقع بإيجادِه، فبأن يكُون الجَهْلُ الَّذِي لم يُرده وما قَصَد تَحْصيله، وهو في غَايَة النَّفْرَة [عَنْهُ] غير وَاقِع بإيجَادِه أوْلَى، وأما الجَوَابُ عن احْتجاجه بقوله: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} فَمِنْ وَجْهَيْن: الأوَّل: أنَّه - تعالى - قال حكاية عن إبْراهيم - عليه السلام -: {وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ} [الشعراء: 80] ، أضاف المرَض إلى نَفْسِهِ، والشِّفَاء، وإنما فصل بَيْنَهُمَا رِعَايةً للأدَبِ، فكذا يَقْدَح ذَلِك في كونه - تعالى - خَالِقاً للمَرَضِ والشِّفَاء، وإنما فصل بَيْنَهُمَا رِعَايةً للأدَبِ، فكذا ههنا؛ فإنه يُقَالُ: يا مُدَبِّر السَمَوات والأرْضِ؛ ولا يُقالُ: «يا مدبِّر القَمْل والصِّبيان والخَنَافِس. .» فكذا ههنا. الثاني: قال أكثر المُفَسِّرين في قَوْل إبْراهيم - عليه السلام -: «هذا رَبِّي» إنه ذَكَر هذا اسْتِفْهَاماً على سَبِيل الإنْكَارِ؛ كما قدمناه فكذا هَهُنَا؛ كأنَّهُ قِيلَ: الإيمَان الَّذِي وقع على وَفْقِ قَصْدِه، قد بَيَّنَّا أنَّه ليس وَاقِعاً مِنْهُ، بل من الله - تعالى - فهذا الكُفْر [ما] قَصَدَهُ، وما أرَادَهُ، وما رَضِي به ألْبَتَّةَ، فكيف يَدْخُل في العَقْل أن يُقال إنَّه وقع بِهِ. د وأما قِرَاءة: «فمن نفسك» فنَقُول: إن صح أنه قرأ بها أحدٌ من الصَّحَابَة والتَّابِعين، فلا طعن فيه، وإن لم يَصِحَّ ذلك، فالمراد أن من حَمَل الآية على أنَّها وردتْ على سَبِيل الاستفهام على وَجْه الإنْكَارِ، قال: لأنَّه لما أضاف السيئة إلَيْهم في مَعْرض الاسْتِفَهَام على سَبيلِ الإنْكَارِ، كان المُرادُ أنَّها غير مُضَافةٍ إليهم، فذكر [قوله] : «فمن نفسك» كقولِنَا: إنه استِفْهَامٌ على سَبيلِ الإنْكَارِ. [فصل] قوله: «ما أصابك من حسنة» أي: من خَيْر ونَعْمَةٍ، «فمن الله، وما أصابك من سيئة» أي: بليَّةٍ أو أمر «تكْرَهُهُ» فمن نفسك «أي: بذُنُوبِكَ، الخِطَاب للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمُرَاد غيره، نظيرُه قوله - تعالى -: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] . قال البَغَوِيُّ: وتعلَّق أهْل القَدَر بِظَاهر هذه الآية؛ فقالوا: نَفَى الله - عَزَّ وَجَلَّ - السَّيِّئَة عن نَفْسِه، ونَسَبَهَا إلى العَبْد؛ فقال:» وما أصابك من سيئة فمن نفسك «ولا مُتَعلِّق لهم فيه؛ لأنَّه ليس المُرادُ من الآيةِ حَسَنات الكَسْبِ ولا سيِّئاتِه] من الطَّاعَاتِ والمَعَاصِي، بل المُراد مِنْه: ما يُصيبُهُم من النِّعَم والمِحَنِ، وذلك ليس من فَعْلِهِم؛ بدليل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 514 أنَّه نَسَبَها إلى غَيْرِهم ولم يَنْسِبْهَا إلَيْهِم، فقال» ما أصابك «ولا يقال في الطَّاعَة والمَعْصِيَة: أصَابَنِي، إنَّما يقال: أصَبْتُهَا، ويُقَال في المِحَن: أصَابَنِي؛ بدليل أنه لَمْ يَذْكُر عليه ثَوَاباً ولا عِقَاباً؛ فهو كقوله - تعالى -: {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} [الأعراف: 131] ولما ذكر حَسَنَات الكَسْب وسيِّئَاته نسبها إلَيْه، ووعد عليها الثَّوَابَ والعِقَاب؛ فقال {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] . وقيل: مَعْنى الآية:» ما أصابك من حسنة «: من النَّصْر والظَّفَرِ يوم بَدْرٍ،» فمن الله «أي: من فَضْلِ الله، و» ما أصابك من سيئة «: من القَتْلِ والهَزِيمَةِ يوم أحُدٌ،» فمن نفسك «أي: يعني: فبذنوب أصْحَابِك وهو مُخَالفتهم لَكَ. فإن قيل: كَيْف وَجْه الجَمْع بين قوله:» قل كل من عند الله « [وبين قوله: فمن نفسك» . قيل: قوله: {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله} أي: الخِصْب والجَدْب، والنَّصْر والهَزِيمَة كلُّها من عِنْد الله، وقوله «فمن نفسك» أي: ما أصابك من سيئة فمن الله بذنب نفسك؛ عقوبة لك كما قال: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ} [الشورى: 30] ؛ يدل عليه مَا روى مُجَاهدٌ عن ابن عبَّاسٍ؛ أنه قرأ: «وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأنا كتبتها عليك» . ثم قال [- تعالى -] : «وأرسلناك للناس رسولاً» . قوله: «رسولاً» فيه وجهان « أحدهما: أنه حال مؤكدة. والثاني: أنه مصدر مؤكِّدٌ بمعنى إرسال، ومن مجيء» رسول «مصدراً قوله: [الطويل] 1842 - أ - لَقَدْ كَذبَ الْوَاشُونَ مَا بُحْتُ عِنْدَهُمْ ... بِسِرٍّ وَلاَ أرْسَلْتُهمْ بِرَسُولِ أي بإرسال، بمعنى رسالة. و» للناس «يتعلق ب» أرسلناك «، واللام للعلة. وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من» رسولاً «كأنه جعله في الأصل صفةً للنكرةَ فَقُدِّم عليها، وفيه نظر. فصل وهذا يدلُّ على أن المُرَاد من هَذِه الآيات إسناد جميع الأمُور إلى الله - تعالى -؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 515 لأنَّ المَعْنَى: ليس لك إلاَّ الرِّسَالة والتَّبْلِيغ، وقد فَعَلْت وما قصَّرت، «وكفى بالله شهيداً» على جَدِّك وعَدَم تَقْصِيرك في أدَاء الرِّسَالة وتَبْليغ الوَحْي، فأمَّا حُصُول الهِدَايَة فليس إلَيْك، بَلْ إلى الله؛ ونظيره قوله - تعالى -: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ} [آل عمران: 128] ، وقوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] . وقيل المَعْنَى: وكفى بالله شهيداً على إرْسالِك وصدْقَك، وقيل: وكَفَى بالله شهيداً على أنَّ الحسنة والسَّيِّئة كُلَّها من الله. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 516 وذلك أن النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقُول: «مَنْ أطَاعَنِي فَقَدْ أطاعَ الله، ومن أحَبَّنِي فقد أحَبَّ الله» فقال بَعْضُ المُنَافِقِين: ما يُريدُ هذا الرَّجُلُ إلا أن نَتَّخِذَهُ ربّاً؛ كما اتَّخَذَتِ النَّصَارى عِيسَى ابن مَرْيمَ ربّاً؛ فأنزل الله - عَزَّ وَجَلَّ -: «من يطع الرسول» فيما أمَرَهُ [الله] «فقد أطاع الله» ، «ومن تولى» : عن طاعته «فما أرسلناك» يا محمَّد «عليهم حفيظاً» أي: حَافِظاً ورَقِيباً، بل كل أمُورهم إلى الله - تعالى -، ولا تغتم بسبب تولِّيهم ولا تَحْزَن، والمُرَادُ: تسلِيَة الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسلام -. قيل: نَسَخَ الله - عَزَّ وَجَلَّ - هذه الآية بآية السَّيْف، وأمره بِقتال من خَالَفَ الله ورسُوله. قوله: «حفيظاً» : حالٌ من كَافِ «أرسلناك» و «عليهم» مُتعلِّق ب «حفيظاً» ، وأجاز فيه أبُو البَقَاءِ ما تقدَّم في «للنَّاسِ» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 516 في رفع «طاعة» : وجهان: أحدهما: أنه خبرُ مُبْتَدأ مضمَرٍ، تقديره: «أمر طاعة» ولا يجُوز إظهارُ هذا المُبْتَدأ؛ لأن الخَبَر مَصْدَر بدلٌ من اللَّفْظِ بفعله. والثاني: أنه مُبْتَدأ والخَبَر مَحْذُوف، أي: مِنَّا طَاعَة، أو: عَنْدنا طَاعَةٌ، قال مكي: «ويجُوز في الكَكَم النَّصْبُ على المَصْدَر» . قوله: «فإذا برزوا» [وأخْرِجُوا] ، من عندك بيت طائِفَةٌ مِنْهُم غير الَّذي تَقُولُ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 516 أدغم أبو عَمْرو وحمزة: تاء «بَيَّت» في طَاءِ «طائفة» لتقاربهما، ولم يَلْحَقِ الفِعْلَ علامةُ تأنيث؛ لكونه مَجَازياً، و «منهم» : صِفَةٌ ل «طائفة» ، والضَّمِير في «تَقُول» يحتمل أن يكُون ضَمير خِطَاب للرَّسُول - عليه السلام -، أي «غيرَ الذي تَقُولُه وترسم به يا مُحَمَّد، ويؤيِّده قِرَاءة عبد الله:» بيَّتَ مُبَيِّتٌ مِنْهُم «، وأن يكون غَيْبَة للطَّائفة، أي: تقول هي. وقرأ يَحْيَى بن يَعْمر:» يقول «بياء الغَيْبَة، فيحتمل أن يَعُود الضَّمِيرُ على الرَّسُول بالمَعْنَى المُتقدِّم، وأن يَعُود على الطَّائِفَةِ، ولم يرنِّث الضَّمِيرَ؛ لأن الطِّائِفَة في معنى الفَرِيق والقوم. قال الزَّمَخْشَرِيُّ:» بيت طائفة «أي: زوَّرت وسوَّت» غير الذي تقول «: خلاف ما قُلْت ومَا أمَرْت به، أو خَلاَف ما قَالَتْ ومَا ضَمِنَت من الطَّاعَة؛ لأنَّهم أضْمَرُوا الرَّدَّ لا القَبُول. قال الزَّجَّاج: كل أمر تفكر فيه وتُؤوِّل في مصالحه ومفاسده كثيراً، قيل: هذا أمْر مُبَيَّتٌ؛ قال - تعالى -: {إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول} [النساء: 108] ، وقال قتادَةُ والكَلْبِيُّ: بَيَّت، أي: غيَّر وبَدَّل الَّذِي عَهِدَ إليهم النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويكون التَّبْييتُ بمعنى: التَّبْدِيل. وقال أبُو عُبَيْدَة: والتَّبييتُ معناه: قالُوا وقَدَّرُوا لَيْلاً مَا أعطوك نهاراً، وكل ما قُدِّر بلَيْل فهو مُبَيَّتٌ. وقال أبو الحَسَن الأخْفَش: تقول العَرَب للشَّيْءِ إذا قُدِّرَ: بَيْتٌ، يُشَبِّهُونَهُ بتقدير بُيُوت الشِّعْر، وفي اشْتِقَاقه وَجْهَان: أحدهما: أم أصْلح الأوْقَات للفكْر أن يَجْلِس الإنْسَان في بَيْتِهِ باللَّيل، فهناك تكُون الخَوَاطِر أجْلى والشَّواغل أقَل، فلما كان الغَالِبُ أنَّ الإنْسَان وقت اللَّيْل يكون في البَيْتِ، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 517 والغَالِبُ أنه إنَّما يَسْتَقْصِي في الأفْكَار في اللَِّيْلِ، فلا جَرَم سُمِّي ذلك فيس الفِكْر مبيِّتاً. والثاني: أن التَّبْييتَ والبَيَات: أن يَأتِي العَدُوُّ ليلاً، وبات يَفْعَل كذا: إذا فَعَلَه لَيْلاً؛ كما يُقَال: ظلَّ بالنَّهار، وبَيَّتَ بالشيء، قَدَّره، وإنما خَصَّ هذه الطَّائِفَة من جُمْلَة المُنَافِقِين لوجهين: أحدهما: أنه - تعالى - ذكر من عَلِم أنَّه يَبْقى على كُفْرِه ونِفَاقِه، فأمَّا من عَلِمَ أنَّه يرجع عن ذَلِك فإنَّه لم يَذْكُرْهُم. والثَّاني: أنَّ هذه الطَّائِفَة كانوا قد سَهِرُوا لَيْلَهُم في التَّبْيِيتِ، وغيرهم سَمِعُوا وسَكَتُوا ولم يُبَيِّتُوا، فلا جَرَم لم يُذْكَرُوا. وفي الآيَة دليل على أن مُجَرَّدَ القَوْل لا يُفيد شيئاً، فإنَّهُمْ قَالُوا ططائفة «ولَفَظُوا بِهَا، ولم يحقِّق الله طاعتهم. ثم قال: {والله يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} ذكر الزَّجَّاج [فيه] وجْهَيْن: أحدهما: [معناه] : ينزل إلَيْك في كِتَابِه. والثَّّاني: يكُتَبُ ذلك في صَحضائِف أعْمَالهم؛ ليجَازوا بهز وقال الضَّحاك عن ابن عبَّاسٍ، يعني: ما يُسِرُّون من النِّفَاق. و» مَا «في» ما يبيتون «يجوز أن تكون مَوْصُولة أو مَوْصُوفة أو مَصْدَرية.» فأعْرِض عَنْهم «يا مَحَمَّد، ولا تفضحهم ولا تُعَاقِبْهُم ولا تُخْبَر بأسْمَائِهِم؛ فأمر الله - تعالى - بستْر [أحْوَالِ] المُنَافِقين إلى أن لمن توكَّلَ عليه. قال المُفَسِّرون: كان الأمْر بالإعْراض عن المُنَافِقِين في ابْتِداء الإسْلاَم، ثم نُسِخ ذلك بقوله: {جَاهِدِ الكفار والمنافقين} [التوبة: 73] . وهذا فيه نَظَر؛ لأن الأمْر بالصَّفْح مُطْلَق، فلا يفيد إلاّض المَرَّة الوَاحِدَة، فورودُ الأمْر بعد ذَلِك بالجَهِادِ لا يكون نَاسِخاً له. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 518 قرأ ابن محيْصن: «يَدَّبَّرون» : بإدغام التَّاء في الدَّال، والأصْل: يَتَدبرون، وهي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 518 مخالفةٌ للسَّوَاد والتَّدْبير والتَّدَبُّر عبارة عن النَّظَر في عَوَاقِب الأمُور وأدْبَارِهَا، ودُبُرُ الشَّيْء آخره، ومنه قوله: إلامَ تدبَّروا أعْجَاز أمُورٍ قَدْ ولت صُدُورَها، ويقال في فَصِيح الكَلاَم: لو استَقبلتُ من أمري ما اسْتَدْبَرْت، أي: لو عَرَفَت في صَدْرِي ما عَرَفْتَ [من] عاقِبَتِهِ، لامْتَنَعْت. فصل: وجه النظم في الآية ووجه النظم أنه - تعالى -[لمَّا] حكى أنواعَ مكر المُنَافِقِين وكَيْدِهم؛ لأجل عَدَم اعتِقَادِهم صحَّة دَعْوَى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للرِّسَالَة، فلا جَرَم أمرهم [الله] تعالى بأن يَنْظُروا ويتفكروا في الدَّلائِل [الدَّالَّة] على صِحَّة النُّبوَّة؛ فقال [- تعالى -] «أفلا يتدبرون القرآن» والعلماء قَالُوا: دلالة القُرْآنِ على صِدْق نُبُوَّةِ محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من ثلاثة أوْجُه: أحدُها: فصاحَته. وثانيها: اشْتِمَاله على الإخْبَارِ عن الغُيُوبِ. والثالث: سلامَتُه عن الاخْتِلاَف، وهاذ هو المذكُور في هَذِهِ الآية، وذكروا في تَفْسِير سَلاَمَتِه عن الاخْتِلاَف ثلاثة أوْجُه: الأول: قال أبو بَكر الأصَم: معناه أنَّ هؤلاء المُنَافِقِين كانوا يَتَواطَئُون في السَِّرِّ على أنْواع كَثِيرةٍ من العُلُوم، فلو كَان ذَلِك مِنْ عِنْد غَيْر الله، لوقع فيه أنْواعٌ من الكَلِمَات المُتَنَاقِضَة؛ لأن الكِتَاب الكَبِير لا ينْفَكُّ من ذَلِكَ، ولمّا لم يثوجد فيه ذلك، عَلِمْنَا: أنه لَيْس من عِنْد غَيْر الله؛ قاله ابن عبَّاسٍ. فإن قيل: أليس أنَّ قوله: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23] كالمناقض لقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} [الأنعام: 103] ، وآيات الجِبْرِ كالمناقِضَةِ لآيات القَدَرِ، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 92] كالمناقَضِ لقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 519 فالجواب أنا بَيَنَّا أنه لا مُنَافَاة ولا مُتَنَاقَضَةَ بَيْن شَيْءٍ مِنْهَا. الثالث: قال [أبُو] مسلم الأصْفَهَانِي: المراد منه عدم الاخْتِلاف في رُتب الفَصَاحَةِ فيه من أوَّله إلى آخره على نَهْج وَاحدٍ، ومن المَعْلُوم أن الإنْسَان وَإنْ كان في غَايَة البَلاغَة ونهاية الفَصَاحَة، إذا كَتَبَ كِتَاباً طويلاً مُشْتَمِلاً عَلَى المعاني الكثيرة، فلا بُدَّ وأن يقع التَّفَاوُت في كَلاَمه، بحيْث يكون بَعْضُه قريباً مُبَيِّناً وبَعْضُه سَخِيفاً نازلاً. ولما لم يكُن القُرآن كَذلِك، علمنا أنه مُعْجِزٌ من عِنْد الله - تعالى -. والضمير في «فِيه» يُحتمل أن يعودَ على القُرْآن، وهو الظَّاهِر، وأن يعُود على ما يُخْبره الله - تعالى - به ممَّا يُبَيِّتُون ويُسِرُّون، يعني: أنه يُخْبِرُهم به عَلَى حَدٍّ ما يَقَع. فصل في دلالة الآية دلت الآية على أن القُرْآن معلوم المَعْنَى، خلافاً لِمَنْ يَقُول: إنَّه لا يَعْلَم مَعْنَاه إلا النَّبي والإمَام المَعْصُوم؛ [لأنه] لو كان كَذَلِك، لما تَهَيَّأ للمنافقين مَعْرِفة ذلِك بالتَّدَبُّر، ودلت الآية أيْضاً على إثْبات القياسِ، وعلى وُجُوب النَّظَرِ والاستِدْلال، وعلى فَسَاد التَّقْليد، [و] لأنه - تعالى - أمر المُنَافقِين بالاستِدْلال بهذا الدَّليل على صِحَّة نُبُوَّته فيه، فبأن يَحْتَاج إلى مَعْرِفَة ذَاتِ الله - تعالى - وصِفَاته إلى الاستدْلال أوْلى. فصل قال أبو علي الجُبَّائي: دلت الآية على أن أفْعَال العِبَاد [غَيْر] مَخْلُوقة لله تعالى لأن قوله - تعالى -: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} يقتضي أن فعل العَبْد لا يَنْفَكُّ عن التَّفَاوُت والاختلاف وفِعْل الله - تعالى - لا يوجد فيه التَّفَاوُت؛ لقوله - تعالى -: {مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ} [الملك: 3] ، فهذا يَقْتَضِي أن فِعْل العَبْد لا يكُون فِعْلاً على الإطْلاقِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 520 وهذا نوع آخر من أعْمَال المُنَافِقِين الفَاسِدة، وذَلِك أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يَبْعَث السَّرايا فإذا غَلَبُوا أو غَُلبُوا بَادَرَ المُنَافِقون يستَخْبِرونَ عن حَالِهَم، فَيُفْشُون ويُحَدِّثُون به قَبْل أنْ يُحْدِّثَ به رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَيُضْعِفُون به قُلُوبَ المُؤمِنين، فأنْزَل الله - تعالى - {وَإِذَا جَآءَهُمْ} يعني: المُنَافِقِين «أمر من الأمن» أي: الفَتْح والغَنِيمَة «أو الخوف» أي: القتل والهزيمَة «أذاعوا به» أشاعُوه وأفشوْه، وذلك سَبَبٌ للضَّرر من وُجُوهٍ: أحدها: ان مَثْل هذه الإرْجَافَات لا تنفَكُّ عن الكَذِب. وثانيها: إن كان ذلك الخَبَر من جَانِبِ الأمْن زَادُوا فيه زِيَادات كَثِيرة، [فإذا لَمْ تُوجد تلك الزَّيَادات، أوْرَث ذلك شُبْهَة للضُّعَفَاءِ في صدق الرَّسول - عليه السلام -] ؛ لأن المنافِقِين كانوا يروون تلك الإرْجَافَات عن الرسُول، وإن كان ذَلِك الخَبَر خَوْفاً، تشوَّشَ المر على ضُعَفَاء المُسْلِمين بسبَبِه، ووقعوا في الحَيْرَة والاضْطراب، فكان ذلك سَبَباً للفِتْنَة. وثالثها: أن العَداوَة الشَّدِيدة كانت قَائِمَةً بين المُسْلِمين وبين الكُفَّار، فكان كلّ وَاحِد من الفريقين مُجدًّا في إعْداد آلات الحَرْب وانْتِهَاز الفُرْصَة، فكل ما كان [أمْناً] لأحد الفَرِيقَيْن، كان خَوْفاً للفَريقِ الثَّانِي، وإن [وقع خَبر الأمْن للمُسْلِمين، أرجَفَ بذلك المُنَافِقُون، فوصل الخَبَر في أسْرَع مُدَّة إلى الكُفَّار؛ فاحارزوا وتحصَّنُوا من المُسْلمين، وإن] وَقَعَ خبر الخَوْف للمُسْلِمِين بالَغوا في ذلك وزادوا فيه، وألْقوا الرُّعب في قُلُوب الضَّعْفَة، فظهر أن الإرْجَافَ مَنْشَأ الفِتَنِ والآفَاتِ. قوله: {أَذَاعُواْ بِهِ} : جواب إذا، وعَيْنُ أذَاعَ ياء؛ لقولهم: ذاع الشَّيء يذِيع، ويُقال: أذاع الشَّيْء، أيضاً بمعنى المُجَرَّد، ويكونُ متعدِّياً بنفسه وبالبَاءِ، وعليه الآيةُ الكريمة، وقيل: ضَمَّن «أذاع» مَعْنَى «تَحَدَّثَ» فعدَّاه تعديتَه، أي: تحدَّثوا به مُذيعين له، والإذاعة: الإشاعةُ، قال أبو الأسْوَد: [الطويل] 1842 - ب - أذَاعُوا بِهِ فِي النَّاسِ حَتَّى كَأنَّهُ ... بِعَلْيَاءَ نَارٌ أوقِدَتْ بِثُقُوبِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 521 والضَّمِيرُ في «به» يجُوزُ أن يعودَ على الأمْر، وأن يعُودَ على الأمن أو الخَوْفِ؛ لأنَّ العَطْفَ ب «أو» والضَّميرُ في «رَدُّوهُ» للأمْر. قوله: «لو ردوه» أي الأمْر، «إلى الرسول» أي: [لَمْ] يحدِّثوا به حَتَّى يكُون النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذِي يُحدِّث به، و «إلى أولي الأمر [منهم] » أي: ذَوِي الرأي من الصَّحَابة؛ مثل أبي بكْر وعُمر وعُثْمَان وعلي، وقيل: أمَرَاء السَّرَايا؛ لأنَّهم الَّذِين لَهُم أمر على النَّاس، وأهل العِلْم لَيْسوا كذلِك. وأجيب عن هَذَا: بأن العُلَمَاء يجبُ على غَيْرِهم قُبُول قولِهِم؛ لقوله - تعالى -: {لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122] فأوجب الحَذَر بإنْذَارِهِم، وألزَم المُنْذرين قُبُول قولهم، فجاز لهذا المَعْنَى إطْلاق اسم أولي الأمْرِ عَلَيهم. قوله: {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أي: يستخْرِجُونه، وهُم العُلَماء عَلِمُوا ما يَنْبَغِي أنْ يُكْتَم، وما يَنْبَغِي أن يُفْشَى، والاسْتِنْبَاط في اللُّغَةِ: الاستِخْراج، وكذا «الإنباط» يقال: استَنْبَطَ الفَقِيهُ: إذا استَخْرَجَ الفِقْهَ البَاطِنَ باجْتِهَادِهِ وفهمه، وأصله من النّبط وهو الماءُ الذي يَخْرج من البَئْرِ أوّلَ حَفْرها قال: [الطويل] 1843 - نَعَمْ صَادِقاً والفَاعِلُ القَائِلُ الذي ... إذَا قَالَ قَوْلاً أنْبَطَ المَاءَ في الثَّرَى ويقال: نَبَطَ المَاءُ يَنْبطُ بفتحِ البَاءِ وضمها. والنبط أيضاً: جِيلٌ من الناس سُمُّوا بذلك؛ لأنهم يستخرجون المياه والنبات. ويقال في الرَّجُل الذي يكُونَ بعيد العِزِّ والمنعة: «ما يجِدُ عَدُوُّه لَهُ نَبَطاً» . قال كَعْبٌ: [الطويل] 1844 - قَرِيبٌ ثَرَاهُ مَا يَنَالُ عَدُوُّهُ ... لَهُ نَبَطاً، آبِي الْهَوَانِ قَطُوبُ و «منهم» حَالٌ: إمَّا من الَّذِين، أو من الضَّمير في «يَسْتَنْبِطُونه» فيتعلق بمَحْذُوفٍ. وقرأ أبو السَّمال: «لَعَلْمه» بسُكُون اللام، قال ابن عَطِيَّة: هو كتَسْكِين {فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] وليس مِثْله؛ لأنَّ تسْكِين فعل بكَسْر العين مَقِيسٌ، وتسكينَ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 522 مَفْتُوحها شاذٌّ؛ ومثلُ تسكين «لَعَلْمَهُ» قوله: [الطويل] 1845 - فَإنْ تَبْلُهُ يَضْجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ ... مِنَ الأدمِ دَبْرَتْ صَفْحَتَاهُ وغَارِبُهْ أي: دَبِرت، فِسَكَّن. فصل معنى «يستنبطونه» [قيل المراد ب «يستنبطونه» : يَسْتَخْرِجونَهُ، وقال عِكْرمة: يَحْرِصُون عليه ويسألون عنه] ، وقال الضَّحَّاك: يتتبّعونه، يريد: الذين سَمِعُوا تلك الأخْبَار من المُؤمنين والمُنَافِقين، لو رَدُّوه إلى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإلى ذَوِي الرَّأي والعِلْم، لعلمه الذين يَسْتَنْبِطُونه، أي: يُحِبون أي يَعْلَمُوه على حَقِيقَتِهِ كما هُو. وقيل: المُراد ب «الذين يستنبوطه» أولئك المُنَافِقُون المُذِيعُونَ، والتقدير: ولو أن هؤلاء المُنَافِقِين المُذِيعِينَ رَدُّوا أمر الأمْنِ والخَوْف إلى الرَّسُول وإلى أولي الأمْر، وطلبوا مَعْرِفَة الحَالِ [فيه] من جهتِهم، لعلمه الَّذين يستَنْبِطُونه مِنْهُم و [هم] هؤلاء المُنَافِقُون المُذِيعُون منهم، أي: من جَانب أولي الأمْر [منهم] . فإن قِيلَ: إذا كَان الَّذين أمَرَهُم الله - تعالى - برد هذه الأخْبَارِ إلى الرَّسُول وإلى أولي [الأمر مِنْهُم وهم المُنَافِقُون، فكَيف جَعَل أولي الأمْر منهم في قوله: {وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ} . الجواب: إنما جَعَل أولي] الأمْر مِنْهُم على حَسَب الظَّاهِر؛ لأن المُنَافِقين يظْهِرُون من أنفسهم أنَّهم مؤمِنُون، ونَظِيرُه: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] وقوله: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66] . قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً} قال أبو العَباس [المُقْرِئ] : وَرَدَت الرَّحْمَة [في القُرْآن] عَلَى سَبْعَة أوجه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 523 الأوّل: القُرْآن، قال - تعالى -: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أراد بالفَضْلِ الإسْلام، وبالرَّحْمَة القُرْآن. الثاني: بمعنى الإسْلام؛ قال - تعالى -: {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان: 31] أي: في الإسلام [ومثله {ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الشورى: 8] أي: في دين الإسلام] . الثالث: [بمعنى] : الجنة؛ قال - تعالى -: {أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي} [العنكبوت: 23] أي: من جَنَّتِي. الرَّابع: المَطَر؛ قال - تعالى -: {يُرْسِلُ الرياح بُشْرًى بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف: 57، النمل: 63] . الخامس: النِّعمة؛ قال - تعالى -: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} . السادس: النبوة؛ قال - تعالى -: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] ، أي: النُّبُوَّة. السابع: الرِّزْق؛ قال - تعالى -: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2] : من الرِّزْقِ؛ ومثله {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا} [الإسراء: 28] أي: رِزْقاً. فصل اعلم: أن ظَاهِر هذا الاسْتِثْنَاء يوهِمُ أنَّ ذلك القليل وَقَع لا بِفَضْل الله ولا بِرَحْمَتِه، وذلك محال. قوله: «إلا قليلاً» ذكر المفسَِّرُونَ فيها عشرة أوجه: الأول: قال بعضهم: إنه مُسْتَثْنَى من فَاعِل «اتبعتم» أي: لاتَّبعتم الشيطان إلا قليلاً منكم، فإنه لم يتَّبع الشَّيْطَان، على تقدِير كَوْن فَضْل الله لم يأته، ويكونُ أرادَ بفضل الله الإسلام وإرسَالَ محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويكون قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان} كلام تامٌّ، [وذلك القَلِيلُ؛ كقِسٍّ بن سَاعِدة الإيَادِي، وزَيْد بن عَمْرو بن نُفَيْل، وورقة بن نوفل، وجماعة سِوَاهم مِمَّن كان على دِين المَسِيحِ قَبل بَعْثَةِ الرسول] . وقال أبو مُسْلم: المراج بِفَضْل الله ورحمته في هذه الآية: هو نُصْرتهُ ومعُونتهُ اللَّذان تمنَّاهُما المُنَافِقُون؛ بقولهم: {فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً} [النساء: 73] بيَّن - تعالى - أنّضه لولا حُصُول النَّصْر والظّفَرِ على سبيل التَّتَابُع، لاتَّبَعْتُم الشَّيْطَان وتركتم الدين إلاَّ قليلاً مِنْكُم، وهم أهْل البَصَائِر النَّافِذة، والنِّيَّات القويَّة، والعَزَائم المُتَمكِّنَةِ من أفَاضِل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 524 المُؤمِنِين، الذين يَعْلَمُون أنه لَيْس من شَرْطِ كونه حَقّاً هو الدَّوْلَة في الدُّنْيَا، فلأجل تَوَاتُر الفَتْح والظَّفر في الدُّنْيَا يدل على كَوْنه حَقاً؛ ولأجل تواتر الهَزِيمَة والانكِسَار يدلُّ على كونه بَاطِلاً، بل الأمْر في كونه حَقاً وباطلاً على الدَّلِيل، وهو أحْسَن الوُجُوه. [وقيل: المُرَادُ مَنْ مَنْ لم يَبْلغ التكْلِيف، وعلى ذها التَّأويل قيل: فالاستثْنَاء مُنْقَطِع؛ لأن المُسْتَثْنَى لم يَدْخُل تحت الخِطَاب، وفيه نظر يظهر في الوَجْهِ العَاشِر. الثاني: أنه مُسْتَثْنى من فَاعِل «عَلِمه» أي: لعلمه المُسْتَنْبِطُون منهم إلا قَلِيلاً] . قال الفرَّاء والمبرد: [وأما] القَوْل بأنَّه مستَثْنى من فاعل «أذاعوا» أوْلى من هَذَا؛ لأن ما يُعْلَم بالاسْتِنْبَاطِ؛ فالأقلُّ يعلمُه والأكْثَر يجهله، وصرف الاسْتشثْنَاء إلى المسْتَنْبِطِين يَقْتَضِي ضِدَّ ذَلِك. قال الزَّجَّاج: هذا غَلَطٌ؛ لأنه لَيْسَ المراد من هَذَا الاستِثْنَاء شيئاً يَسْتَخْرِجُه بنظر دَقيق وفكْرٍ غَمِضٍ، إنما هو اسْتِنْبَاط خَبَر، وإذا كَانَ كَذَلِك فالأكثرون يَعْرِفُونه إنَّما البالغ في البَلاَدة والجَهَالة هُو الَّذي لا يَعْرِفُه، ويمكن أن يُقَال: كلام الزَّجَّاج إنما يَصِحُّ لو حَمَلْنا الاسْتِنْبَاطَ على مُجَرَّد تعرُّف الأخْبَارِ والأرَاجِيف، [أمَّا] إذا حملناه على الاسْتِنْبَاطِ في جَميع الأحْكَام، كان الحَقُّ ما ذكره الفَرَّاء والمُبرِّد. الرابع: أنه مُسْتَثْنَى من فاعل «لوجدوا» أي: لوجدوا فيما هَو من عِنْد غير الله التناقض إلا قليلاً مِنْهُم، وهو مَنْ لم يُمْعِنِ النَّظَرَ، فيظنُّ البَاطِلَ حقاً والمتناقضَ مُوَافِقاً. الخامس: أنه مُسْتَثْنى من الضَّمِير المَجْرُور في «عَلَيْكُم» ، وتأويلُه كتأويل الوَجْه الأول. السادس: أنه مُسْتَثْنى من فاعل «يستنبطونه» ، وتأويله كتأويل الوجه الثَّالث. السابع: أنه مُسْتَثْنَى من المَصْدَر الدالّ عليه الفعْلُ، والتقدير: لاتَّبَعْتُم الشيطانَ إلا اتِّباعاً قليلاً؛ ذكر ذلك الزَّمَخْشَري. الثَّامن: أنه مُسْتَثْنَى من المتَّبع فيه، والتقدير: لاتَّبَعْتُم الشيطانَ إلا اتِّباعاً قليلاً؛ ذكر ذلك الزَّمَخْشَري. الثَّامن: أنه مُسْتَثْنَى من المتَّبع فيه، والتقدير: لاتبعتم الشَّيْطَان كلكم إلا قليلاً من الأمُور كُنْتم لا تتَّبِعُون الشًّيْطَان فيها، فالمعنى: لاتبعتم الشَّيْطان في كل شَيْء إلا في قَليلٍ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 525 من الأمُور، فإنكم كُنْتُم لا تتَّبِعُونه فيها، وعلى هَذَا فهو استِثْناء مفرَّغ؛ ذكر ذلك ابن عَطِيَّة، إلا أنَّ في كلامه مناقشةً: وهو أنَّه قال «أي: لاتَّبعتُم الشَّيْطَان كلّكم إلا قَلِيلاً من الأمور كنتم لا تتبعون الشيطان فيها» ، فجعله هنا مُسْتَثْنَى من المتَّبعِ فيه المَحْذُوف على ما تَقَدَّم تقريره، وكان تَقَدَّم أنه مُسْتَثْنى من الاتِّباع، فتقديره يؤدِّي إلى اسْتِثْنَائِه من المتَّبَع فيه، وادِّعاؤه أنه استثنَاء من الاتباع، وهما غيران. التاسع: أن المُرَاد بالقلة العدمُ، يريد: لاتَّبعْتُم الشَّيْطان كلكم وعدمَ تخلُّفِ أحَدٍ منكم؛ نقله ابن عطية عن جَمَاعةٍ وعن الطَّبِري، ورَدَّه بأن اقْتِران القِلَّة بالاسْتِثْنَاء يقتضي دُخُولَها؛ قال: «وهذا كَلاَمٌ قَلِقٌ ولا يشبه ما حَكَى سيبَويْه من قَوْلِهِم:» هذه أرضٌ قَلَّ ما تُنْبِتُ كذا «أي: لا تُنْبِتُ شيئاً» . وهذا الذي قاله صَحيحٌ، إلا أنه كان تَقَدَّم له في البَقَرَةِ في قوله - تعالى -: {بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88] أن التَّقْليل هنا بِمَعْنَى العدم، وتقدَّم الردُّ عليه هُنَاك، فَتَنَبَّهَ لهذا المَعْنَى هُنَا ولم ينتبه له هناك. العاشر: أن المُخَاطب بقوله: «لاتبعتم» جميعُ النَّاس على العُمُوم، والمُرَادُ بالقَلِيل: أمةُ محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاصةً، وأيَّد صَاحِبُ هذا القَوْلِ قوله بقوله - عليه السلام -: «ما أنْتُم في سِوَاكُم من الأمَمِ إلاَّ كالرَّقْمَة البَيْضاء في الثَّور الأسود» . فصل دلالة الآية على حجية القياس دلت هذه الآية على أنَّ القياس حُجَّة؛ لأن قوله: {الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} صفة لأولي الأمْر، وقد أوْجَبَ الله على الذين يجيئُهُم أمْرَيْن: الأمن، أو الخوف أن يَرْجَعُوا في مَعْرِفَتِه إليهم ولا يَخْلُو إمَّا أن يَرْجِعُوا إليهم في مَعْرِفَة هذه الوَقَائِع مع حُصُول النَّصِّ فيها أوْ لا، والأوَّل باطل؛ لأن من استدلَّ بالنَّصِّ في واقِعَةٍ لا يُقَال: إنه استنبط الحكم؛ فثبت أنه - تعالى - أمَر المكَلَّف بِرَدِّ الوَقِعة إلى من يَسْتَنْبِط الحُكْم فيها، ولَوْلاَ أن الاسْتِنبَاط حُجَّة، لما أمَر المُكَلَّف بذلك؛ فَثَبَت أن الاستِنْبَاط حُجَّة، وإذا ثبت ذلك فَنَقُول: دلت الآيَةُ على أمُورٍ: منها: أن في الأحْكَام ما لا يُعْرَف بالنَّصِّ، بل بالاستِنْبَاطِ. ومنها: أنَّ الاستنباط حُجَّة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 526 ومنها: أن العَامِيِّ يجِب عليه تَقْلِيد العُلَمَاء في أحْكَام الحَوَادِث. ومنها: أن النَّبِي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان مُكَلَّفاً باستِنْبَاط الأحْكَام؛ لأن الله - تعالى - أمَر بالرَّدِّ إلى أولي الأمْرِ، ثم قال: {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} ولم يخصّص أولي الأمْر دون الرَّسُول، وذلك يُوجِب الرَّسُول وأولي الأمْر كلهم مُكَلَّفُون بالاسْتِنْبَاط. فإن قيل: لا نُسَلَّم أن المراد ب {الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} أولي الأمْر، لكن هذه الآيَة إنَّما نزلت في بَيَان الوَقَائِع المُتَعَلِّقة بالحُرُوب والجِهَاد، فهَبْ أن الرُّجُوع إلى الاستنبَاط جَائِزٌ فيها، فَلِمَ قُلْتُم بجوازِه في الوَقَائِع الشَّرْعِيَّة؛ فإن قِيْسَ أحد البَابَيْن على الآخَر، كان ذَلِك إثْبَاتاً للقِيَاس الشَّرْعِيِّ بالقِياس، وأنَّه لا يجُوز أن الاسْتِنْبَاط في الأحْكَام الشَّرْعِيَّة داخل تحت الآية فلمَّا قُلْتُم يلزم أن يُكون القِيَاس حُجَّة، فإنَّه يمكنُ أن يكُون المُرادَ بالاسْتِنْبَاط: استخراج الأحْكَام من النُّصُوص الخَفِيَّة، أو مِنْ تركيبَات النُّصوصِ، أو المراد منه استخراج الأحكام من البَرَاءة، الأصليَّة، أو مما ثَبَت بحكم العَقْلِ، كما يقول الأكَثُرون إن الأصْل في المَنَافِع الإبَاحَة، وفي المَضَارِّ الحُرْمَة. سلمنا أنَّ القِيَاس الشَّرْعِي داخلٌ في الآية، لكن بِشَرْط أن يكون القياسُ مُفِيداً للعِلْم؛ لقوله - تعالى -: {لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} . فاعتبر حُصُول العِلْم من هذا الاستِنْبَاط، ونِزَاع في مثل هذا القِيَاس، إنما النِّزاع في القِياس الَّذِي يفيد الظَّنَّ: هل هو حُجَّة في الشرع، أمْ لا. والجواب: أمَّا الأوَّل فلا يصح؛ لأنَّه يَصِيرُ التقدير: أو رَدُّوه إلى الرَّسُول وَإلى أولِي الأمْر مِنْهُم لَعَلِمُوه، وعَطْف المظهر على المُضْمَر، وهو قوله: «ولو ردوه» قَبِيح مستكره. وأما الثَّاني فَمَدْفُوع من وَجْهَيْن: أحدهما: أن قوله: {وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف} حاصل في كل ما يتعلَّق بباب التَّكْلِيف، فَلَيْس في الآيَة ما يوجِبُ تَخْصِيصها بأمر الحُرُوبِ. وثانيها: هَبْ أن الأمْر كما ذكرْتم، لكن لمَّا ثَبَت تَعَرُّف أحْكَام الحروب بالقِيَاس الشَّرْعِي، وجب أن يتمسَّك بالقِيَاس الشَّرْعِيِّ في سَائِر لوَقَائِع، لأنه لا قائل بالفَرْق. وأما الثَّالث: وهو حَمْل الاستِنْبَاط على اسْتِخْرَاج النُّصُوص الخَفِيَّة أو على تَرْكيبات النُّصوص الخَفِيَّة أو على تَرْكِيبات النُّصُوص، فكلُّ ذلك لا يُخْرِجُه عن كونه مَنْصُوصاً، والتَّمَسُّك بالنَّصِّ لا يُسَمَّى استِنْبَاطاً. وأما قوله: لا يجوزُ حَملُه على التَّمسُّكِ بالبَرَاءة الأصْلِيَّة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 527 قلنا: لَيْسَ هذا استِنْبَاطاً، بل هذا إبقاء لما كان على ما كان، ومثل هذا لا يُسَمَّى استِنْبَاطاً. وأما الرابع: وهو أن هذا الاستِنْبَاط إنَّما يجُوز عند حُصُول العِلْم، والقياس الشَّرْعِيِّ لا يفيد العِلْم. فنقول: جوابُه من وجهين: أحدُهُما: أنَّه عندنا يُفِيدُ العِلْم؛ أن ثُبُوت إن القِيَاسَ حجَّة يقطع بأنَّه مهما غَلَب على الظَّنِّ أنَّ حُكْم الله في الأصْل معلَّل بكذا، ثمَّ غَلَب على الظَّنِّ أنَّ ذلك المَعْنَى قَائِمٌ في الفَرْع، فهنا يحصل ظنُّ أنَّ حُكم الله في الفَرْعِ مُسَاوٍ لحُكْمِه في الأصْل، وعند هذا الظَّنِّ يُقْطَع بأنَّه مكَلَّفٌ بأن يعمل على وَفْق هذا الظَّنِّ؛ فالحاصل: أن الظَّنَّ واقع في طَرِيق الحُكْم، وأما الحُكْمُ فمقطوع به، وهو يجري مَجْرَى ما إذا قَالَ الله - تعالى -: مهما غَلَب عَلى ظنِّك كذَا، فاعلم أنَّ حُكْمِي في الوَاقِعَة كذا، فإذا غَلَب الظَّنُّ قَطَعْنَا بثُبُوت ذلك الحُكْمِ. وثانيهما: أن العِلْم قد يُطْلَق ويراد به الظَّنَّ؛ وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إذَا عَلِمْتَ مِثْلَ الشَّمْسِ فاشْهَد» شَرَطَ العِلْمَ في جواز الشَّهَادَةِ، وأجْمَعْنَا على أنَّ عند الظَّنِّ تُجُوزُ الشَّهَادة؛ فثبت أنَّ الظَّنِّ قد يُسَمَّى بالعِلْمِ. فصل في رد شبهة للمعتزلة دلَّت [هذه] الآية على أنَّ الذين اتَّبعوا الشَّيْطَان، قد مَنَعَهُم الله فَضْلَه ورحمته وإلا ما كان يتبع، وهذا يَدُلُّ على فَسَادِ قول المُعْتَزِلَة: في أنَّه يجب على الله رعاية الصْلَحِ في الدِّين. أجابُوا: بأن فَضْلَ اللهِ ورَحْمَتَه [عامَّات في حق الكُلِّ، لكن المُؤمِنين انْتَفَعُوا به، والكَافِرِين لم ينْتَفِعُوا به فَصَحَّ عَلَى سبيل المجاز أنه لم يَحْصًل للكَافِرين فَضْل الله ورَحْمَته] في الدِّين. والجواب: أن حَمْل الَّفظ على المَجَاز خِلاف الأصْل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 528 قوله - تعالى -: «فقاتل» : في هذه الفَاءِ خَمْسَةُ أوجه: أحدها: أنَّها عاطفةٌ هذه الجُمْلَة على جُمْلة قوله: {فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله} [النساء: 74] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 528 الثاني: أنها عاطفتها على جُمْلَةِ قوله: {فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان} [النساء: 76] . الثالث: أنَّها عاطِفتُها على جُمْلَة قوله: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ} [النساء: 75] . الرابع: أنها عاطفتها على جملة قوله: {فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً} [النساء: 74] . الخامس: أنها جوابُ شرط مُقَدَّر، أي: إنْ أرَدْت فقاتل، وأولُ هذه الأقْوَال هو الأظْهَر. فصل لما أمر بالجِهَاد في الآيات المُتقدِّمة ورغب فيه، وذكر قِلَّة رغبة المُنَافِقِين في الجِهَاد، عاد [إلى] الأمْر بالجِهَاد في هَذِه الآية. قوله: {لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ} في هذه الجُمْلَة قولان: أحدهما: أنها في محلِّ نَصْب على الحَالِ من فاعل «فقاتِلْ» أي: فقاتِلْ غير مُكّلِّفٍ إلا نَفْسُك وحدها. والثاني: أنها مُسْتأنفة أخْبَرَه - تعالى - أنه لا يكلِّف غَيْرَ نَفْسِه. والجمهور على «تُكَلَّفُ» بِتَاء الخِطَاب ورفْع الفعل مبنيّاً للمفعُول، و «نفسك» هو المفعُول الثاني، وقرأ عبد الله بن عُمَر: «لا تُكَلِّفْ» كالجَمَاعة إلا أنه جزمه، فقيل: على جَواب الأمْرِ، وفيه نظرٌ، والذي يَنْبَغِي أن يكُون نَهْيَاً، وهي جملة مُسْتأنفة، ولا يجُوز أن تكون حَالاً في قراءة عبد الله؛ لأنَّ الطَّلَب لا يكون حالاً، وقرئ «لا نكلف» بنُون العَظَمَة ورفع الفِعْل، وهو يَحْتَمِل الحال والاستئنَاف المُتقدِّمَيْن. فصل في سبب نزول الآية روي أن رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واعد أبا سُفيان بعد حَرْب أحد موسم بدر الصُّغْرى في ذِي القَعْدَة، فلما بلغ المِيعَاد دعَا النَّاس إلى الخُرُوج فكرهه بَعْضُهُم؛ فأنزل الله: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ} أي: لا تَدَع جِهَاد العَدُوِّ ولو ودك، فإن الله قد وعدك بالنُّصْرة، و {حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} [الأنفال: 65] أي: حثَّهُم ورغَّبْهم في الثَّواب، فَخَرَج رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في سَبْعِين رَاكِباً فَكَفَاهُم الله القِتَالَ. والتَّحْرِيض: الحَثُّ على الشيءِ، قال الرَّاغِب: كأنه في الأصْل إزالةُ الحَرَض، نحو: «قَذَيْتُه» أي: أزَلْت قَذَّاهُ وأحْرَضْتُه: أفسَدْتُه كأقذيته، أي: جَعَلْتُ فيه القَذَى، والحَرَضُ في الأصْل: ما لا يُعْتَدُّ به ولا خَيْر فيه، ولذلك يقال للمُشْرِف على الهَلاكِ؛ « الجزء: 6 ¦ الصفحة: 529 حَرَض» ؛ قال - تعالى -: {حتى تَكُونَ حَرَضاً} [يوسف: 85] وأحرصه كذا، قال: [البسيط] 1846 - إنِّي امْرؤٌ هَمٌّ فأحْرَضَنِي ... حَتَّى بلِيتُ وَحَتَّى شَفَّنِي السَّقَمُ فصل دلَّت الآية على أنَّه لو لم يُساعده على القِتَالِ غيره، لم يجز له التَّخَلُّفُ عن الجِهَادِ ألْبَتَّة، والمعنى: لا تؤاخذ [إلا] بفعلك دون فِعْل غَيْرِك، فإذا أدَّيْت فرضك لا تُكَلِّف بِفَرْض غَيْرِك، واعْلَم: أنَّ الجِهَاد في حَقِّ الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واجِبٌ، فإنه على ثِقَة من النَّصْر والظَّفْرِ؛ لقوله -[تعالى]- : {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] ، وقوله هَهُنَا: {والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} وعسى من الله: جَزْمٌ وَاجِبٌ فلزمه الجِهَاد وإن كان وحده بِخِلاف أمَّته، فإنه فَرْضُ كِفَايَة، فما لَمْ يَغْلِب على الظَّنِّ أنه يُفيد، لم يَجِبْ. وقوله: {عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ} أي: قِتَال المُشْركين والبَأس أصله المكرُوه، يقال: ما عَلَيْكَ من هذا الأمْر بَأسٌ، أي: مَكْرُوه، ويقال: والعَذَاب قد يُسَمَّى بأساً؛ لكونه مَكْرُوهَاً؛ قال - تعالى -: {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا} [غافر: 29] ، {فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ} [الأنبياء: 12] {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 84] قوله: {والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً} «بأساً و» تنكيلاً «: تمييز، والتَّنْكِيل تفعيل من النَّكْل وهو القَيْد، ثم اسْتُعْمِل في كُلِّ عذاب يقال: نَكَلْت فُلاناً؛ إذا عَاقَبْتُه عقوبَةً تَنْكِيل غَيْره عن ارتِكَابِ مِثْله، من قَوْلِهِم: نَكَل الرَّجُل عن الشَّيءِ، إذا جَبُن عَنْه وامْتَنَع منه؛ يُقَال: نَكَلَ فلان عن اليَمين؛ إذا خَافَه ولم يُقْدِم عَلَيْه، قال - تعالى -: {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا} [البقرة: 66] وقال في حَدِّ السَّرقَة: {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله} [المائدة: 38] ، فقوله: {والله أَشَدُّ بَأْساً} أي: أشد صَوْلَةً وأعظم سُلْطَاناً، يَدُوم، وعذاب الله لا يَقْدِر أحدٌ على التَّخَلُّص مِنْهُ، وعذاب غَيْره يتخلَّص مِنْه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 530 في تعلُّق هذه الآية بما قَبْلَها وجوه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 530 أحدها: أنه - تعالى - لمَّا أمَر الرَّسُول -[عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ]- بأن يحرَّض الأمَّة على الجِهَاد، وهو طاعَةٌ حَسَنةٌ، بيَّن في هذه الآية أنَّ من يَشْفَع شَفَاعَة حَسَنَة يَكُنْ له نَصِيبٌ مِنْهَا، والغَرَض مِنْه: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يستَحِقُّ بالتَّحْرِيضِ على الجِهَاد أجْراً عَظِيماً. وثانيها: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يوصِيهم بالقِتَال، ويبالِغُ في تَحْرِيضهم عليه، فكان بَعْضُ المُنَافِقِين يَشْفَع إلى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أن يأذَن لَهُم في التَّخَلُّف عن الغَزْوِ، مَعْصِيَةٍ، كانت مُحَرَّمَة. وثالِثُها: أنَّه يجُوز أن يَكُون بعض المُؤمِنين راغباً في الجِهَاد، ولا يَجِد أهْبَة الجِهاد، فصار غَيْرُهُ من المُؤمِنين شَفِيعاً له إلى مُؤمِنٍ آخر؛ ليعيِنه على الجِهَاد، وهو طاعَةٌ حَسَنةٌ، بيَّن في هذه الآية انَّ من يَشْفَع شَفَاعة حَسَنَة يَكُنْ له نَصِيبٌ مِنْها، والغَرَض مِنْه: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يستَحِقُّ بالتَّحْرِيضِ على الجِهَاد أجْراً عَظِيماً. وثانيها: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يوصِيهم بالقِتَال، ويبالِغُ في تَحْرِيضهم عليه، فكان بَعْضُ المُنَافِقِين يَشْفَع إلى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أن يأذَن لَهُم في التَّخَلُّف عن الغَزْوِ، فنهى [الله] عن مثل هَذِه الشَّفَاعَة، وبيَّن أن [هَذِه] الشَّفاعة إذا كَانَت وَسِيلَة إلى مَعْصِيَةٍ، كانت مُحَرَّمَة. وثالِثُها: أنَّه يجُوز أن يَكُون بعض المُؤمنِين راغباً في الجِهَاد، والشَّفَاعَة مأخُوذَةٌ من الشَّفْع وهو الزَّوْج من العَدَد، ومنه الشَّفِيع، [وهو] أن يَصِير الإنْسَان [نفسه] شَفْعاً لِصَاحب الحَاجَة؛ حتى يجْتَمِع معه على المسألة فِيهَا، [ومنه نَاقَةٌ شَفُوعٌ: إذا جمعت بين مِحْلَبَيْن في حَلبةٍ واحدةٍ، وناقة شَفِيعٌ: إذا اجْتَمع لها حَمْلٌ وولَدٌ يَتْبَعُها، والشُّفْعَةُ: ضم مِلْكِ الشَّريك إلى ملكك، والشَّفَاعة إذا ضَمَّ غَيْرك إلى جاهك، فهي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 531 على التَّحقِيق إظهار لمنزلة الشَّفِيع عند المُشْفِّع، وإيصَال المَنْفَعَة إلى المَشْفُوع له] فيكون المُرَادُ: تَحْرِيض النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إيَّاهم على الجِهَاد؛ لأنه إذا أمَرهُم بالغدو، فقد جَعَل نَفْسَهُ شَفْعاً في تَحْصِيل الأغْرَاضِ المتعلِّقةِ بالجِهَادِ، والتَّحْرِيض على الشَّيءِ عبارة عن الأمر به على وجْه الرِّفْقِ والتَّلَطُّفِ، وذلك يَجْرِي مُجْرَى الشَّفَاعة. وقي: المُرَاد ما تَقَدَّم من شفاعة بَعْض المُنَافِقِين النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في أن يَأذن لِبَعْضِهِم في التَّخَلُّف. ونقل الوَاحِديُّ عن ابن عبَّاس؛ ما معناه: أن الشَّفَاعة الحَسَنَة هَهُنا، وهي أن يَشْفَع إيمانهُ بالله بقِتَال الكُفَّار، والشفاعة السَّيِّئَة: أن يَشْفَع كفره بِمُوالاَةِ الكُفَّار، وقيل: الشَّفَاعة الحَسَنَة: ما تقدَّم في أن يَشْفَع مؤمِنٌ لمؤمِنٍ [عند مُؤمِنٍ] آخَرِ؛ في أن يُحَصَّلَ له آلات الجِهَاد، ورُوي عن ابن عبَّاس؛ أن الشفاعة الحَسَنة [هي الإصلاح بين النَّاس، والشَّفَاعة السَّيِّئة، هي النَّمِيمة بين النَّاسِ. وقيل] : هي حُسْنُ القول في النَّاسِ يُنَال به الثَّوَاب والخير، والسَّيِّئَة هي الغَيْبة والقَوْل السيئ في النَّاسِ يُنَال به الشَّرُّ. والمراد بالكفل: الوِزْر. قال الحَسَن مُجَاهِد والكَلْبي وابن زَيْدٍ: المراد شَفَاعة النَّاسِ بَعْضهم لِبَعْض، فإن كان في ما يَجُوز، فهو شَفَاعة حَسَنَة، وإن كان فِيمَا لا يجُوز، فهو شَفَاعَة سَيِّئَة. قال ابن الخَطيب: هذه الشَّفَاعة لا بُدَّ وأن يكُون لها تَعَلُّقٌ بالجِهَاد، وإلاَّ صَارَت الجزء: 6 ¦ الصفحة: 532 الآية مُنْقَطِعَةِ عما قَبْلَهَا، فإن أرَادُوا دُخُول هذه الوُجُوهِ في اللَّفْظِ العَامِ فيجوز؛ لأن خُصوص السَّبَبِ لا يَقْدَح في عُمُوم اللَّفْظِ. «والكفل» : النَّصِيب، إلا أنَّ استعماله في الشَّرِّ أكثرن عكس النصيب، وأنْ كان قد استُعْمِل الكِفْلُ في الخَيْرِ، قال تعالى: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} [الحديد: 28] وأصلُه قالوا: مُسْتَعَارٌ مِنْ كِفْلِ البَعير، وهو كساء يُدَارُ حَوْلَ سِنَامِهِ ليُرْكَبَ، سُمِّي بِذَلِك؛ لأنَّه لم يَعُمَّ ظهرهَ كُلَّه بل نَصِيباً منه، ولغلبةِ استِعْمَالِه في الشَّرِّ، واستعمال النَّصِيب في الخير، غاير بَيْنَهُمَا في هذه الآيَة الكَريمة؛ إذ أتى بالكِفْل مع السَّيِّئَة، والنَّصِيب مع الحَسَنة، و «منها» الظَّاهِر أن «مِنْ» هنا سَببيَّة، أي: كِفْلٌ بِسَبِبها [ونَصِيب بسبِبها] ، ويجُوز أن تكُون ابتدائِيةٌ، والمُقِيت: المُقْتَدَر [قال: ابن عباس: مقتدراً مجازياً] ، قال: [الوافر] 1847 - وَذِي ضِغْنٍ كَفَفْتُ الْوُدَّ عَنْهُ ... وَكُنْتُ عَلَى إسَاءَتِهِ مٌقِيتًا أي: مقتدراًن ومنه: [الخفيف] 1848 - لَيْتَ شِعْرِي وأشْعُرَنَّ إذَا مَا ... قَرَّبُوهَا مَنْشُورَةً وَدُعِيتُ ألِيَ الْفَضْلُ أمْ عَلَيَّ إذَا حُو ... سِبْتُ «أنَّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ وأنشد نَضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ: [الطويل] 1849 - تَجَلَّد ولا تَعْجَزْ وَكُنْ ذَا حَفِيظَةٍ ... فَإنِّي عَلَى مَا سَاءَهُمْ لَمُقِيتُ قال النَّحَّاس:» هو مُشْتَقٌ من القُوتِ، وهو مِقْدَارُ ما يَحْفَظ به بَدَنُ الإنْسَانِ من الهَلاَك «فأصل مُقيت: مُقْوِت كَمُقِيم. [و] يقال: قُتُّ الرَّجُلَ؛ إذا حَفِظْتَ عليه نَفْسهُ» وكفى بالمرء إثماً أن يضيع من يقيت «وفي رواية من رَوَاه هَكَذَا، أي: مَن هو تَحْت قُدْرَته وفي قَبْضَتِه من عِيَالٍ وغيره؛ ذكره ابن عَطِيَّة: يقول: [منه: قُتُّهُ] أقوته قُوتاً، وأقَتُّهُ أقِيتُهُ إقَاتَةً، فأنا قَائِتٌ ومُقِيتٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 533 وأمَّا قول الشَّاعِرِ: [الخفيف] 1850 - ... ... ... ... ... ... ..... ... إنِّي عَلَى الْحِسَابِ مُقِيتُ فقال الطَّبَرِي: إنه من غَيْر هَذا [المعنى المتقدِّم، فإنه بمَعْنَى الموقوفِ،] فأصْل مُقِيت: مُقْوِت كمُقِيم. وقال مُجَاهِدٌ: معنى مُقِيتاً: شاهداً وقال قتادة: حَفِيظاً، وقيل معناه: على كل حيوان مُقِيتاً، أي: يُوصِل القُوت إلَيْه. قال القَفَّال: وأي هَذَيْن المعنيين كان فَالتَّأوِيل صَحِيحٌ، وهو أنه - تعالى - قادر على إيصَال النَّصِيب والكفيل من الجَزَاءِ إلى الشَّافِع؛ مثل ما يُوصِلُه إلى المَشْفُوع، إن خيراُ فَخَيْرٌ، وإن شَرَّاً فَشَرٌّ، ولا ينتَقِص بسبَب ما يَصِل إلى الشَّافِع [شيء] من جَزاء المَشْفُوع، وعلى الوَجْه الآخر: أنَّه تعالى - حَافِظُ الأشْيَاء شَاهِدٌ عليها، لا يَخْفَى عليه شَيْءٌ من أحْوَالِهَا، فهو عَالِمٌ بأن الشَّافِع يَشْفَع في حَقِّ [أو في] بَاطِل، حَفِيظٌ عليهم فَيُجَازِي كلاًّ بما عَلِمَهُ منه. وقوله: {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً} وَلَمْ يقتيه بوقتٍ، والحالُ يدلُّ على أن هذه الصِّفَةِ كانت ثَابِتَة له من الأزَلِ إلى الأبَدِ وليست مُحْدَثة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 534 في النَّظْم وجْهَان: أحدهما: أنَّه لما أمَرَ المُؤمِنِين بالجهاد، أمَرَهُمْ أيضاً بأن الأعْدَاء لو رَضُوا بالمُسَالَمَةِ فكونوا أنْتُم [أيضاً] رَاضِين بها، فقوله: {وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} كقوله - تعالى -: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} [الأنفال: 61] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 534 والثَّانِي: أن الرَّجُل [في الجِهَاد] كان يلْقَّاهُ الرَّجُل في دَارِ الحَرْبِ أو ما يُقارِبُها، فَيُسَّلمُ عليه لا يَلْتَفِتُ إلى سلامِهِ [ويقتله] ، وربَّمَا ظَهَرض أنَّهُ كان مُسْلِماً، فأمرهم بأن يُسَلِّم عليهم أو يُكْرِمهم، فإنهم يقابلونه بمثل ذَلِكَ الإكْرَام أو أزْيَد، فإن كان كَافِراً، لم يَضُرَّ المسلم مُقَابَلَة إكْرَام ذلك الكَافِر بنوع من الإكْرَام، وإن كان مسلماً فَقَتَلَه، ففيهِ أعْظَم المَضَارِّ والمفَاسِدِ، ويقال: التحية [في الأصْلِ] : البَقَاءِ والمِلْكُ. قال القُرْطُبِي: قال عبد الله بن صالح العِجْليّ: سألت الكسَائِيُّ عن قوله: «التحيات لله» ما مَعْنَاهَا؟ فقال: التَّحِيَّاتُ مثل البَرَكَاتِ، قلت: ما معنى «البركات» ؟ فقالك ما سَمِعْت فيها شيئاً، وسألْت عنها مُحَمَّد بن الحسن [فقال] : هو شَيْءٌ تعبدّ الله به عبادَهُ، فقدِمْتُ الكُوفَة فلقيت عَبْدَ الله بن إدْرِيس: إنه لا عِلْم لهما بالشَّعْرِ وبهذه الأشْيَاءِ، التَّحِيَّة: المُلك وأنْشَدَهُ: [الوافر] 1851 - أؤمُّ بِهَا أيَا قَابُوسَ حَتى ... أُنِيحَ عَلَى تَحِيَّتِهِ بجنْدِي وقال آخَرَ: [مجزوء الكامل] 1852 - وَلِكُلِ مَا نَالَ الفَتَى ... قَدْ نِلْتُهُ إلاَّ التَّحِيّيهْ ويقال: التَّحِيَّة: البَقَاء والملك، ومنه: «التحيات لله» ، ثم استُعملت في السلام مَجَازاً، ووزنها، تَفْعِلَ من حَيَّيْت، وكان في الأصْل: تحيية؛ مثل «: تَوْصية وتَسْمِيَة، والعرب تؤثر التَّفْعِلة على التَّفْعيلِ [فيٍ ذَوَاتِ الأرْبَع؛ نحو قوله: {وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [الواقعة: 94] . والأصل: تَحْيِيَة فأدغمت، وهذا الإدغَامُ واجبٌ خِلافاً للمَازِني، وأصْل الأصْل تَحْيِيُّ؛ لأنه مَصْدَر حَيّا، وحَيّا: فَعَّل مَصْدره على التَّفْعِيل، إلا أن يَكُون مُعْتَلَّ اللامِ؛ نحو: زكَّى وغَطَّى، فإنه تحذف إحْدَى اليَاءَيْن ويعوَّض منها تَاء التَّأنيثِ؛ فيقال: تَزْكِيه وتغْطِيَة، إلا ما شَذَّ من قوله: [الرجز] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 535 1853 - بَاتَتْ تُنَزِّي دَلْوَهَا تَنْزِيًّا ... كَمَا تُنَزِّي شَهْلَةٌ صَبِيَّا إلا أن هذا الشُّذُوذَ لا يجوزُ مثلُه في نحو:» حَيّا «لاعتلالِ عَيْنه ولامه باليَاءِ، وألحق بعضُهم ما لامُه هَمْزَةٌ بالمُعْتَلِّها، نحو:» نَبّأ تَنْبئةً «و» خَبَّأ تَخْبِئَةً «؛ ومثلها: أعيِيَة وأعيَّةٌ، جمع عَيِيّ. وقال الرَّاغِب: وأصلُ التَّحِيَّة من الحياة، ثم جُعِلَ كلُّ دُعَاءٍ تحيَّة؛ لكون جميعه غير خَارجٍ عن حُصُولِ الحياة أو سَبَبِ الحَيَاةِ، وأصل التحية أن تَقُول:» حياك الله «ثم اسْتُعْمِل في الشَّرْعِ في دُعَاءٍ مَخْصُوصٍ. وجعل التحيَّة اسْماً للسَّلام؛ قال: - تعالى -: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} [الأحزاب: 44] ، ومنه قول المُصَلِّي:» التحيات لله «أي: السَّلامة من الآفاتِ لله. قال [الكامل] 1854 - أ - حُيِّيت مِنْ طَلَلٍ تَقَادَمَ عَهْدُهُ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وقال آخر: [البسيط] 1854 - ب - إنَّا مُحَيُّوك يا سَلْمَى فَحيِّينَا ... ... ... ... ..... ... ..... . فصل في أفضلية «السلام عليكم» واعلمْ أن قول القائِل لغيْره: السَّلام عليك، أتم من قوله: «حَيَّاك الله؛ لأن الحَيَّ إذا كان حليماً كان حَيَّا لا محالة، وليس إذا كان حَيَّا كان سَلِيماً؛ لأنَّه قد تكون حَيَاتُه مقرونَة بالآفاتِ، وأيضاً فإن السلام اسم من أسْمَاء الله - تعالى -، فالابْتِدَاء بِذِكْر الله - تعالى - أجْمَل من قوله: حيَّاك الله، وأيضاً: فَقَوْل الإنْسَان لغيره: السلام عَلَيْكَ، بشارة لَهُ بالسَّلام، وقوله حيَّاك الله لا يُفِيد ذَلِكَ، قالوا: ومَعنى قوله: السلام عليك، أي: أنْت سَلِيمٌ مِنِّي فاجعلني سَلِيماً مِنْك، ولهذا كَانَت العَرَبُ إيضا أسَاء بعضهم لم يَردُّوا السلام، فإن ردُّوا عليهم السلام، أمِنُوا من شرِّهم، وإن لم يَرُدُّوا عليهم السلام، لم يؤمنوا شَرَّهُم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 536 فصل في الوجوه الدَّالة على أفضلية السّلاَم ومما يدل على أفْضَلِيَّة السلام: أنَّه من أسْمَاء الله - تعالى، وقوله -[تعالى]- {يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا} [هود: 48] ، وقوله: {سَلاَمٌ هِيَ} [القدر: 5] ، وقوله: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} [طه: 47] ، وقوله: {قُلِ الحمد لِلَّهِ وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ} [النمل: 59] وقوله: {وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} [الأنعام: 54] ، وقوله: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملاائكة طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ} [النحل: 32] ، وقوله: {وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} [الواقعة: 90، 91] ، [وقوله] : {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} [الزمر: 73] ، وقوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23] وقوله: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} [الأحزاب: 44] ، وقوله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] . وأمَّا الأخْبَار: فرُوِي أن عبد الله بن سلام قال:» لمَّا سَمِعْت بقدوم الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، دخَلْتُ في غِمَار النَّاسِ، فأوَّل ما سَمِعْتُ مِنْهُ: «يا أيها الذين آمنوا، أفْشُوا السَّلاَمَ وأطْعِمُوا الطَّعَامَ وَصِلُوا الأرْحَامَ وصَلُّوا باللَّيْلِ والنَّاس نِيَامٌ تدخلون الجنة بسلام» . وأما المَعْقُول: قال القتبي: إنما قال: «التحيات» على الجَمْعِ؛ لأنَّه كان في الأرْضِ ملوك يُحَيُّون بِتَحيِّاتٍ مختَلِفَات، [فيقال] لبعضهم: أبيْت اللَّعْنَ، ولبعضهم: اسْلَم وانْعَم، ولبعضهم: عِش ألْفَ سَنَةٍ، فقيل لَنَا: قولوا: التَّحِيَّات لله، أي: الألْفَاظ الَّتِي [تدلُّ] على امُلْك، ويكْنَى بها عن الله - تعالى -: قالوا: تحية النَّصِارى وَضْع اليَدِ على الفَمِ، وتَحِيّةُ اليهود بعضهم لبعض: الإشارَةُ بالأصَابع، وتحيةُ المجُوس: الانْحِنَاء، وتحيَّةُ العرب بعضهم لِبَعْض قَوْلهم حَيَّاك الله، وللمُلوك أن يَقُولوا: انْعَمْ صَبَاحاً، وتحيَّةُ المُسْلِمين أن يقولوا: السلام عَلَيْكُم ورَحْمَة الله وبركاته؛ وهذه أشرف التَّحِيَّاتِ، ولأن السَّلام مشعِرٌ بالسَّلامة من الآفَاتِ، والسَّعْيُ في تَحْصِيل الصَّون عن الضَّرر أوْلى من السَّعْي في تَحْصِيل النَّفْع. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 537 وأيضاً فإن الوَعْد بالنَّفْع قد يقدر الإنْسَان على الوَفَاءِ به وقَدْ لا يَقْدِر، وأما الوَعْد بترْك الضَّرَر، فإنه يكون قَادِراً عليه لا مَحَالة، والسَّلام يدلُّ عليْهِ. فصل من الناس من قال: السلامُ واجبٌ؛ كقوله - تعالى -: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ [على أَنفُسِكُمْ} ] [النور: 61] ، ولقوله - عليه السلام -: «أفْشُوا السلام» والأمر للوُجُوب والمَشْهُور أنه سُنَّة. قال بعضهم: السلام سُنَّة على الكِفَايَة. قوله: «فحيوا» أصل حيُّوا: حَييوا فاستثقلت الضَّمَّةُ على اليَاءِ، فحُذِفَت الضَّمةُ فالتقى ساكنان: الياءُ والواو، فحُذِفَتْ اليَاءُ، وضُمَّ ما قبل الوَاوَ. وقوله: {بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} أي: بتحيَّةٍ أحْسَن من تِلْك التَّحِيَّة الأوْلَى. وقوله: {أَوْ رُدُّوهَآ} أي رُدُّوا مِثْلَها؛ لأن رَدَّ عينها مُحالٌ فَحذفَ المُضَافُ، نحو: {واسأل القرية} [يوسف: 82] . فصل في كيفية السلام مُنْتَهى الأمْر في السَّلام أن يُقَال: السَّلام عليْكُم ورَحْمَة الله وبركاته؛ بدليل أن هَذَا القَدْر هو الوَارِدُ في التَّشَهُّد. قال العلماء: الأحْسَن أن المُسْلِم إذا قَال: السلام علَيك، رَدَّ في جوابه بالرَّحْمَة، وإذا ذكر السلام والرَّحْمة في الابْتِدَاءِ، زِيدَ في جَوابِه البَرَكَة وإذا ذكر الثلاثة في الابتداء، أعادها في الجَوَاب. رُوي: «أن رَجُلاً قال للنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ السلام عليك يا رسُول الله، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: وعَلَيك السلام ورحْمَة الله وبركاته، وجاء ثَالثٌ وقال: السَّلام عليك وَرحْمَة الله وبركَاتُه: فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» وعَلَيْك السلام ورَحْمَة الله وبَرَكَاتُه «فقال الرَّجل: نقصتني فأين قول الله: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} فقال: عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» ما تَرَكْتَ لِي فَضْلاً فَرَدَدْنَا عَلَيْكَ مَا ذَكَرْت «. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 538 وقيل: معنى قوله: {فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ} إذا كان الذي يُسَلِّم مُسْلِماً،» أو ردوها «رُدُّوا مثلها إذا كان غَيْر مُسْلِمٍ. فصل يقول المُبْتَدِئ: السلام عليكم، والمجيب يَقُول: وعليْكُم السلام، وإن شاء المُبْتَدِئُ قال: سلامٌ عَلَيْكم؛ لأن التَّعْرِيف والتَّنْكير ورد في ألفاظِ القْرآن كما تَقَدَّم، لكن التَّنْكِير أكْثَر والكل جَائِزٌ، وأما في التَّحْليل من الصَّلاة، فلا بُدَّ من الألف واللامِ بالاتِّفَاقِ. فصل قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» السُّنَّة أن يُسلِّم الرَّاكِب على المَاشي، وراكب الفَرَسِ على رَاكِب الحِمَارِ، والصَّغير على الكَبِير، والٌلُّ على الأكْثَر، والقَائِم على القَاعِد «والسُّنَّةُ الجَهْر بالسَّلام؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» أفْشُوا السَّلام «قال أبو يوسف: من قال لأخَرٍ: أقْرئ فلاناً مِنِّي السلام وَجَب عليه أنْ يَفْعَل. فصل السُّنة: إذا اسْتَقْبلك رَجَلٌ واحد فقل: سلامٌ عليْكُم، واقْصِد الرَّجُل والملكَيْن؛ فإنهما يَرُدَّان السلام عليك، ومن سَلَّم عليه المَلَكُ فقد سَلِمَ من عَذَابِ الله - تعالى -، وإذا دَخَلت بَيْتاً خَالِياً، فَسَلَّم على من فيه من مُؤْمِني الجِنِّ، والسُّنَّة أن يَكون المُبْتَدِئ بالسَّلام على طَهَارَةٍ وكذلك المُجِيبُ. روي أن رجلاً سلَّم على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو على قَضَاء الحَاجَةِ، فقام وتَيَمَّمَ ثم رَدَّ السلام، والسُّنَّةُ إذا الْتَقَى الرَّجُلاَن المبادرة بالسَّلام. فصل: المواضع التي لا يُسلَّم فيها فأما المواضع التي لا يسَلَّم فيها ثمانيةٌ: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 539 الأوَّل: قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» لا تبدَءُوا اليَهُود بالسَّلام «، ورخَّصَ بَعْضَ العُلَمَاءِ في ذلك إذا دَعَت إليه حَاجَة، وأما إذا سَلَّمُوا علينا، فقال أكْثَر العُلَمَاءِ: ينبغي أن يُقَال: وعليْكَ؛ لأنَّهم كانوا يَقُولون عِنْد الدُّخُولِ على الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - السَّامُ عَلَيْك، فكان - عليه السلام - يَقُول: وعَلَيْكُم، فجرت السُّنَّةُ بذلك، فإذا قُلْنَا: وعليْكُم السَّلام، فهل يجوز ذِكْر الرَّحْمَة؟ قال الحَسَن: يجُوز أن يُقال للكافِرِ: وعَلَيْكُم السلامَ، ولكن لا يُقَال: ورَحْمَة اللهِ؛ لأنها اسْتِغْفَارٌ. وعن الشَّعبيّ؛ أنه قال لِنَصْرانيّ وعليْك السَّلام ورَحمة الله، فقيل له فيه، فقال: ألَيْس في رَحْمَة الله [يَعِيشُ] . الثاني: إذا دَخَل الحَمَّام [فرأى] النَّاس متَّزرين يُسَلِّم عليهم، وإن لم يكُونُوا متَّزرين، لم يُسَلِّم عليهم. الرابع: ترك السَّلام على القَارِئ؛ لأنه يقطع عليه التِّلاوة؛ وكذلك روايَة الحَدِيث. الخَامِس: لا يُسَلَّم على المُشْتَغِل بالأذَان والإقَامَةِ. السادس: لا يسَلَّم [على] لاعب النَّرْدِ، ولا المغَنِّي، ولا مُطَيِّر الحَمَامِ، ولا المستغل بِمَعْصِيَة اللهِ. السَّابِع: لا يُسَلَّم على المُشْتَغِل بقضاء الحَاجَةِ؛ لما تقدَّم من الحَدِيث، وقال في آخِرِه: «لَولاَ أنِّي خَشِيتُ أنْ يَقُول: سلَّمْت علَيْه فَلَمْ يَرُدَّ الجَوَاب، وإلا لَمَا أجِبْتُك، إذا رَأيْتَنِي على هذه الحَالَةِ، فلا تُسَلِّم، فإنك إن سلَّمْت لم أرُدَّ عَلَيْك» . الثَّامن: إذا دخل الرَّجُل بَيْتَه فَيُسَلِّم على امْرأته، وإن حَضَرت أجْنَبِيَّة، [لم] يسلم عَلَيْهِمَا. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 540 قال القرطبي: ولا يُسَلِّم على النِّسَاء الشَّابات الأجَانِب؛ خوف الفِتْنَة من مُكَالَمَتِهِن بنزعة شَيْطَانٍ أو خائنة عَيْنٍ، وأما المَحَارِمُ والعجائز فَحَسَنٌ. فصل والرَّدُّ فرض كِفَايَة؛ إذا قام به البَعْض سَقَطَ عن البَاقِين، والأوْلى للكُلِّ أن يحيُّوا؛ إذ الرد وَاجِبٌ [على الفَوْر] فإن أخَّر حتى انْقَضى الوَقْت، وأجابه بعد فَوْت [الوقت] ، كان ابْتِداء سَلاَمٍ ولا جَوَاباً، وإذا وَرَد السلام في كِتَاب، فجوابه وَاجِبٌ بالكِتَاب أيْضاً للآية، وإذا سَلَّمت المَرْأة الأجْنَبيَّة عَلَيْه، وكان في رد الجَوَابِ عليها تُهْمَةٌ أو فِتْنَةٌ، لم يجب الردّ، بل الأوْلَى إلا يفعل وحيث قُلْنَا: لا يُسَلِّم، فلو سَلَّم لم يجب الرَّدُّ؛ لأنه أتَى بِفِعْل منهِيٍّ عَنْه، فكان وجوده كَعَدَمِه. قوله: {إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} قيل: الحِسيب بمعنى المُحَاسِبِ على العَمَل؛ كالأكيل والشَّرِيب والجَليسِ، بمعنى: المؤاكِل والمُشَارِب والمُجَالِس، أي: على كل شَيْءٍ من ردِّ السلام بِمِثلِه وبأحْسن مِنْهُ، «حسيباً» : أي: مُحَاسِباً ومُجَازِياً، وقيل: بمعنى الكَافِي من قَوْلهم: حَسْبي كَذَا، أي: كافياً، قاله أبُو عُبَيْدَة؛ ومنه قوله تعالى: {حَسْبِيَ الله} [التوبة: 129] ، وقال مُجَاهِد: حَفِيظاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 541 وجه النَّظْمِ أنه - تعالى - يقول: من سَلَّم عليْكُم وحيَّاكم، فاقبلوا سَلامَهُ وأكْرِمُوه وعامِلُوه بناءً على الظَّاهِر، وأما البَوَاطِن فلا يعْلَمُها إلا اللهُ الذي لا إله إلا هُو، وإنما تَنْكَشِفُ بواطن الخَلْقِ في يَوْم القِيَامَة. قوله: «ليجمعنكم» جواب قَسَم مَحْذُوف. [قال القُرْطُبِيُّ: اللامُ في قوله: «ليجمعنكم» ] لام قَسَم، نزلت في الَّذِين شَكُّوا في البَعْثِ، فأقْسَمَ الله - تعالى - بنفسه، وكلُّ لامٍ بعدها نُونٌ مشَدَّدَةٌ فهي لامُ القَسَم وفي جملةِ هذا القَسَمِ مع جوابه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنها قي مَحَل رفعٍ خَبَراً ثانياً لقوله: «الله» ، و «لا إله إلا هو» : جُمْلَةُ خَبَر أوّل. والثاني: أنها خَبَر لقوله: «الله» أيضاً، و «لا إله إلا هو» : جملة اعتراضٍ بين المُبْتَدأ وخبره. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 541 والثالث: أنها مُسْتَأنَفةٍ لا محلَّ لها من الإعْرَاب، وقد تقدم إعْرَاب {الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [البقرة: 255] و {لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] في البقرة. قوله: {إلى يَوْمِ القيامة} فيه ثلاثةُ أوجه: أحدُها: أنها على بابها من انتهَاءِ الغَايَة، قال أبو حيان: ويكونُ الجَمْع في القُبُور، أو تُضمِّن «ليجمعنكم» معنى «ليحشركم» فيُتَعَدَّى ب «إلى» ، يعني: أنه إذا ضُمِّن الجَمْعُ معنى الحَشْر لم يَحْتج إلى تقدير مَجْمُوع فيه. وقال أبو البقاءِ - بعد أن جوَّز فيها أن تكون بمَعْنَى «في» -: «وقيل: هي على بابها، أي: ليجمعَنَّكم في القُبُور؛ فعلى هذا يَجُوز أن يكُون مَفْعُولاً به، ويجُوز أن يكون حَالاً، أي: ليجمَعَنَّكم مُفْضين إلى حِسَاب يوم القيامة» يريد بقوله «مفعولاً به» : أنه فَضْلَةٌ كَسَائِر الفضلات، نحو: «سرتُ إلى الكُوفَةِ» ولكن لا يَصِحُّ ذلك إلا بأنْ يُضَمَّنَ الجمعُ مَعْنَى الحَشْرِ كما تقدَّم، وأمَّا تقديره الحَالَ ب «مفضين» فغيرُ جَائزٍ؛ لأنَّه كونٌ مقيَّدٌ. والثاني: أنَّها بمعنى «فِي» أي: في يوم القِيَامَةِ، ونظيره قولُ النَّابغة: [الطويل] 1885 - فَلاَ تَتْرُكَنِّي بِالوَعِيدِ كَأنَّنِي ... إلَى النَّاسِ مَطْلِيٌّ بِهِ القَارُ أجْرَبُ أي: في النَّاسِ. والثالث: أنها بِمَعْنَى «مَعَ» ، وهذا غيرُ وَاضِح المَعْنَى. قال القُرْطِبي: وقيل: «إلى» وصلة في الكلام، والمَعْنَى: «ليجمعنكم» يوم القيامة والقيامة بمعنى القِيام كالطَّلابة والطِّلاب؛ قالوا: ودخلت التاءُ فيه للمُبَالَغَة، كعلاَّمة ونَسَّابَة؛ لِشِدَّةِ ما يَقَعُ فيه من الهَوْل، وسُمِّي بذلك لقيام الناس فيه للحساب؛ قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين} [المطففين: 6] . وقال الزَّجَّاج: يجُوز أن يُقال: سمِّيت القِيَامَة قِيَامة؛ لقيام الناس من قبورهم؛ قال - تعالى -: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث} [المعارج: 43] . والجُمْلَة من قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ} فيها وجهان: أحدهما: أنّضها في مَحَلِّ نَصْبٍ نعتاً لمصدرٍ مَحْذُوف دَلَّ عليه «ليجمعنكم» أي: جمعاً لا رَيْبَ فيه، والضميرُ يعود عليه والأولُ أظهرُ، «ومن أصدق» ، تقدَّم نظيرُ هذه الجُمْلَة، و «حديثاً» نصبٌ على التَّمييز. وقرأ الحُمْهُور: «أصدق» بصاد خَالِصَة، وحمزة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 542 والكسائي: بإشمامها زاياً، وهكذا كلُّ صَادٍ ساكِنَةٍ بعدها دالٌ، نحو: «تصدقون» و «تصدية» ، وهذا كما فعل حَمْزَة في {الصراط} [الفاتحة: 6] و {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 22] ، للمجانسة قصد الخِفَّةِ. فصل قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً} أي: قولاً ووَعْداً، وهذا اسْتِفْهَام على سبيل الإنْكَار، والنَقْصُود منه: وجُوب كَوْنه - تعالى - صادقاً، وأن الكَذِب والخُلْفَ في قوله مُحَالٌ. قال ابن الخَطِيب: ظاهر الآيةِ يدُلُّ على أنَّه - تعالى - أثْبَت أن القِيَامة ستُوجَد لا مَحَالَة، وجعل الدَّلِيل على ذلك مُجَرَّد إخْبَار الله - تعالى - عنه، وهذا حَقٌّ؛ لأن المَسَائل الأصُولِيَّة على قِسْمَين: منها ما العلم بِصِحَّة النبُوَّة يَحْتَاج إلى العِلْم بِصِحَّتِه، ومنها ما لا يكُون كَذَلِك. فالأوَّل: مثل عِلْمَنا بافتقار العَالِم إلى صَانِعِ عالم بالمَعْلُومَات قادرٍ على كل الممُكِنَات، فإنَّا ما لم نَعْلَم ذلك، لا يمكننا العِلْمُ بصدقِ الأنْبِيَاء، فكل مَسْألة، هذا شَأنُها، فإنه يَمْتَنِعُ إثباتُها بالقُرْآن وإخْبار الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام - وإلا وقع الدَّوْر. وأما القسم الثَّاني: وهو جملة المَسَائِل التي لا يَتَوَقَّف العِلْم بِصَحَّة النُّبُوَّة على العِلْم بصحَّتِها، فكل ذلك مِمَّا يمكن إثْبَاتُه بالقُرْآنِ وبكلام الله - تعالى -، فثبت أن الاستدلالَ على قِيَامِ القِيَامَةِ بإخْبَار الله - تعالى - عنه اسْتِدلال صَحِيحٌ. انتهى. فصل استدلت المُعْتَزِلَة بهذه الآية على أنَّ كلام الله - تعالى - مُحْدَثٌ، قالوا: لأنَّهُ تعالى وَصَفَهُ بكونه حَدِيثاً في هذه الآيَةِ وفي قَوْله - تعالى -: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً} [الزمر: 23] ، والحديث: هو الحَادِثُ والمُحْدِث. والجواب: أنكم تَحْكُمُون بحدُوثِ الكلام الذي هو الحَرْف والصَّوْت، ونحن لا نُنَازعُ في حُدُوثِهِ، إنما [الَّذِي] نَدَّعِي قدمه شَيْء آخَر غير هذه الحُرُوف والأصْوَات، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 543 والآيَةُ لا تدل على حُدُوث ذلك الشَّيْء ألْبَتَّةَ بالاتِّفَاقِ منَّا ومنْكُم؛ أمَّا مِنَّا: فظاهِر، وأما منكم: فإنَّكُم تَنْكِرُون وُجُود كلامٍ سوى هذه الحُرُوف والأصْوات، فكَيْف يُمْكِنكُم أن تَقُولوا بدلالة هذه الآية على حُدُوثه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 544 قوله - تعالى -: «فما لكم» : مبتدأ وخَبَر، و «في المنافقين» فيه ثلاثة أوجُه: أحدها: انه متعلِّقٌ بما تعلَّق الخَبَرُ، وهو «لكم» ، أي: أيُّ شَيْءٍ كائنٌ لكم - أو مُسْتَقِرٌّ لكم - في أمْر المُنَافِقِين. والثاني: أنه مُتَعَلِّق بمعنى فئتين، فإنَّه في قُوَّة «مال كم تفترقون في أمور المنافقين» فحُذِف المُضافُ، وأُقيم المُضَافُ إليه مقامه. والثالث: أنه مُتَعَلِّقٌ بمَحْذُوفٍ على أنه حالٌ من «فئتين» ؛ لأنه في الأصْل صفةٌ لها، تقديرُه: فئتين مُفْترِقَتَيْن في المُنَافِقِين، وصفةُ النكرة إذا قُدِّمت عليها، انتصبَتْ حَالاً. وفي «فئتين» وجْهَان: أحدُهما: أنها حالٌ من الكافِ والميم في «لَكُم» ، والعَامِلُ فيها الاستقرارُ الذي تعلَّق به «لَكُم» ؛ ومثله: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] وقد تقدَّم أنَّ هذه الحَالُ لازمةٌ؛ لأن الكلامَ لا يَتِمُّ دونَها، وهذا مذهبُ البَصْرِيَِّين في كل ما جَاءَ من هذا التَّرْكِيب. والثاني - وهو مذهب الكوفيين -: أنه نَصْبٌ على خَبَر «كان» مُضْمَرةً، والتقدير: ما لَكُم في المُنَافِقِين كنتم فئتين، وأجَازوا: «ما لك الشاتم» أي: ما لك كُنْتَ الشَّاتِمَ، والبَصْرِيُّون لا يُجِيزُون ذلك؛ لأنه حالٌ والحالُ لا تتعرَّف، ويدلُّ على كَوْنِهِ حالاً التزامُ مَجِيئه في هذا التَّركِيب نَكِرةً، وهذا كما قالُوا في «ضَرْبِي زَيْداً قَائِماً» : إنَّ «قائماً» لا يجُوز نصبُه على خَبَر «كان» المُقَدَّرةِ، بل على الحَالِ؛ لالتزامِ تَنْكيره. وقد تقدَّم اشتِقَاقُ «الفِئَة» في البقرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 544 فصل قال قوم: نَزَلت في الذين تخَلَّفُوا يَوْمَ أحُد من المُنَافِقِين، وقالوا: {لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ} [آل عمران: 167] . فاختلف أصْحَاب الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: فقالَتْ مَنْهُم فرقة: كَفَرُوا، وآخَرُون قالوا: لَمْ يَكْفُرُوا، فنزلت الآية؛ وهو قول زَيْد بْنِ ثَابِت وطُعِن في هذا الوَجْهِ: بأن في نَسَقِ الآية ما يَقْدَحُ فيه وأنَّهم من أهْل مكَّة؛ وهو قوله: {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ} . وقال مُجَاهِد: هم قَوْم خَرَجُوا إلى المَدِينَة، وأسْلَمُوا ثم ارْتَدُّوا، واسْتَأذَنُوا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى مَكَّة؛ ليأتوا بِبِضَائِع لَهُم يتَّجِرُون فيها، فَخَرَجُوا وأقَامُوا بمكَّة، فاختلف المسلمون فيهم: فقائل يَقُول: هم مُنَافِقُون، وقائل يَقُول: هُمْ مُؤْمِنُون. وقيل: نزلت في نَاسٍ من قُرَيْش قَدِمُوا المَدِينَةَ، وأسْلَمُوا ثم نَدِمُوا على ذلك، فَخَرَجُوا كهيئة المُتَنَزِّهِين حتى بَعُدوا عن المدينة، فكتَبُوا إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّا عَلَى الَّذِي وافقْنَاك عليه من الإيمَانِ، ولَكِنَّا اجتوينا المدينة واشْتَقْنَا إلى أرْضِنا، ثم إنَّهُم خرجوا في تجارةٍ لَهُم نحو الشَّامِ فَبَلَغَ ذَلِك المُسْلِمِين، فقال بَعْضُهم: نخرج إليْهم فنقتلهم ونأخذ ما مَعَهُم؛ لأنَّهم رَغِبُوا عن دِيننَا، وقالت طَائِفة: كيف تَقْتُلون قوماً على دينكُم إن لَمْ يَذَرُوا دِيَارَهم، وكان هَذَا بِعَيْن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو سَاكِتٌ لا يَنْهَى واحداً من الفَرِيقَيْن؛ فنزلت الآية. وقيل: هم العرنيون: وقال ابْن زَيْد: نزلت في أهل الإفكِ، وقال ابن عبَّاسٍ وقتادة: هم قَوْمٌ أسْلَمُوا بمكَّة ثم لم يُهَاجِرُوا وكانُوا يُظَاهِرُون المُشْرِكين، فاختلف المُسْلِمُون فيهم وتشاجروا، فنزلت: «فما بالكم» يا معشر المؤمنين {فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} أي: صرتم فيهم فئتين، {والله أَرْكَسَهُمْ} أي: نكَّسَهُم ورَدَّهم إلى الكُفْرِ وأحْكَامه من الذُّلِّ والصِّغَار والسَّبْي والقَتْل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 545 قال الحسن: وإنما سَمَّاهم مُنَافِقِين وإن أظْهَرُوا الكُفْر؛ لأنهم وُصِفُوا بالصِّفَةِ التي كَانُوا عَلَيْهَا من قَبْل. قوله: {والله أَرْكَسَهُمْ} مبتدأ وخبر، وفيها وجهان: أظهرهما: أنها حالٌ، إمَّا من المُنَافِقِين - وهو الظَّاهِرُ -، وإمَّا من المُخَاطبين، والرابطُ الواوُ، كأنه أنكرَ عليهم اختلافهم في هؤلاء، والحالُ أنَّ الله قد ردَّهم إلى الكُفْر. والثاني: أنها مُسْتَأنفةٌ أخبر - تعالى - عنهم بذلك. و «بما كسبوا» مُتَعَلِّقٌ ب «أركسهم» والبَاءُ سَبَبِيَّة، أي: بسبب كَسْبِهِم، و «ما» مصدريَّةٌ أو بمعنى الَّذِي، والعائدُ مَحْذُوفٌ على الثَّانِي، لا على الأوَّلِ على الصَّحِيح. والإركاس: الردُّ والرَّجْعُ، ومنه الرِّكْس، قال - عليه السلام - في الرَّوْثة لمَّا أُتِيَ بها: «إنها ركس» . وقال أمَيَّة بن أبِي الصَّلت: [البسيط] 1856 - فَأرْكِسُوا في جَحِيمِ النَّارِ إنَّهُمُ ... كَانُوا عُصَاةً وَقَالُوا الإفْكَ وَالزَّورَا أي: رُدُّوا، وقال الرَّاغِب: «الرِّكْس والنِّكْس: الرَّذْلُ، إلا أنَّ الرِّكْس أبلغُ؛ لأن النِّكْسَ: ما جُعِل أعلاه أسْفَله، والرِّكْسَ: ما صَارَ رَجِيعاً بعد أن كَانَ طعاماً» . وقال النَّضْر بن شميل والكَسَائي: الرَّكْس والنِّكْس: قلب الشَّيْء على رَأسِه، أو رَدِّ أوَّلِهِ على آخِره، والمَرْكُوس والمنكُوسُ وَاحِدٌ. وقيل: أرْكسه أوْبقَه، قال: [المتقارب] 1857 - بِشُؤْمِكَ أرْكَسْتَنِي فِي الخَنَا ... وأرْمَيْتَنِي بِضُرُوبٍ الْعَنَا وقيل: الإركاس: الإضلال، ومنه: [المتقارب] 1858 - وأرْكَسْتَنِي عَنْ طَرِيقِ الْهُدَى ... وصَيَّرتَنِي مَثَلاً لِلْعِدَى وقيل: هو التنكيسُ، ومنه: [الرمل] 1859 - رُكِّسُوا في فِتْنَةٍ مُظْلِمَةٍ ... كَسَوَادِ اللَّيْلِ يَتْلُوهَا فِتَنْ وارتكَس فُلانٌ في أمْر كَانَ، أي: نَجَا مِنْهُ والرُّوكُوسِيَّةُ: قوْمٌ بين النَّصَارى والصَّابِئِين، والرَّاكِس: الثَّور وسْط البَيْدَر والثيران حوالَيه وقت الدياس. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 546 ويقال: أرْكس ورَكَّس بالتَّشْدِيد ورَكَّس بالتَّخْفِيف: ثلاث لُغَات بمعنى واحد، وارتكَس هو، أي: رجع. وقرأ عبد الله: «ركسهم» ثلاثياً، وقرئ «ركَّسهم - ركَّسوا» بالتشديد فيهما. وقال أبو البقاء: «وفيه لُغَةٌ أخرى:» ركسه الله «من غير همز ولا تشديد، ولا أعلم أحَداً قرأ به» . قلت: قد تقدَّم أن عبد الله قَرَأ «والله ركسهم» من غير همز ولا تشديد [ونقل ابن الخطيب أنَّها قراءة أبيِّ أيْضاً] وكلام أبي البَقَاءِ مُخْلِّصٌ؛ فإنه إنما ادَّعى عَدَمَ العلمِ بأنَّها قِرَاءةٌ، لا عدمَ القراءة بها. قال الرَّاغب:: إلا أن «أركسه» أبلغُ من «ركسه» ؛ كما أنَّ أسْفَلَه أبلغُ من سُفْلَه «وفيه نظر. فصل قوله: {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} قالت المُعْتزِلة: المُرَاد من قوله:» أضل الله «ليس أنَّه هو خلق الضَّلال فيه للوُجُوه المَشْهُورة؛ لأنه قال قبل هذه الآية: {والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا} فبيَّن - تعالى -[أنه] إنَّمَا رَدَّهُم وطَرَدَهُم بسبب كَسْبِهِم وفِعْلِهِم، وذلك يَنْفِي القَوْل بأنَّ ضلالَهُم حصل بِخَلْق الله، وعند هذا حَمَلُوا قوله:» ومن أضل [الله] «على وُجُوه: أحدُها: المُرَاد أنَّ الله حَكَم بضلالهم وكُفْرِهم؛ كما يُقَال: فلان يكفر فُلاناً ويضَلِّلُه، بمعنى: أنه حَكَم به وأخبر عنه. وثانيها: أن المَعْنَى: أتُريدون أن تَهْدُوا إلى الجَنَّةِ من أضَلَّه الله عن طريق الجَنَّةِ؛ وذلك لأنَّه - تعالى - يُضِلُّ الكُفَّار يوم القيامَة عن الاهْتِدَاء إلى طريق الجَنَّةِ. وثالثها: أن يُفَسَّر الإضْلال بمعنى الألْطَاف، وقد تقدَّم ضَعْفُ هذه الوُجُوه، ثُمَّ نقول: هَبْ أنَّها صحيحة، ولكِنَّه - تعالى - أخْبَر عن كُفْرِهِم وضلالِهِم، وأنَّهم لا يَدْخُلون الجَنَّة، فقد تَوَجَّه الإشْكَال؛ لأن انْقِلاب علم الله - تعالى - جهلا مُحَالٌ، والمُفْضِي إلى المُحَالِ مُحَالٌ، ويدل على أنَّ المُرَاد أنه - تعالى - أضَلَّهُم عن الدِّين - قوله - تعالى -: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} والمَعْنى: أنه - تعالى - لمَّا أضلَّهُم عن الإيمَانِ امتنع أن يجد المَخْلُوق سَبِيلاً إلى إدْخَالِه في الإيمَانِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 547 قوله - تعالى -: {وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ} الآية. يجوز في» لو «وجهان: أحدهما: أن تكون مصدريَّة. والثاني: أنها على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوُقُوعِ غيره. فعلى الأوَّل: تتقدَّر مع ما بعدها بمصدر، وذلك المصدرُ في محل المفعول ل» ودوا «وحينئذٍ فلا جَوَابَ لها، والتقدير: وَدُّوا كُفْرَكُم. وعلى الثاني: يكون مَفْعُولُ» وَدَّ «مَحْذُوفاً، وجوابُ» لو «أيْضاً محذوف؛ لدلالة المَعْنَى عليهما، والتقدير: وَدُّوا كُفْرَكم، لو تَكْفُرون كما كَفَرُوا لسُرُّوا بذلك. و» كما كفروا «: نعتٌ لمَصْدِر محذوف، تقديره: كُفراً مثل كُفْرِهم، أو حالٌ من ضَمِير ذلك المَصْدر كما هو مَذْهَب سيبويْه. و» فتكونوا «: عطف على» تكفرون «والتقدير: وَدُّوا كفرَكُم، وكونكم مُسْتَوين معهم في شَرْعِهم؛ كقوله: {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] ، أي: ودُّوا لو تُدْهنون، والفَاءُ عَاطِفَة. قال الزَّمَخشَريّ:» ولو نُصِب على جَوَاب التَّمَنِّي؛ لجاز «قال أبو حيَّان: فيه نظر: من حَيْث إن النَّصْبَ في جواب التَّمَنِّي إذا كان التَّمَنِّي بلفظ الفِعْل، يحتاج إلى سَمَاع من العَرَب، بل لو جَاءَ، لم تتحقَّقَ فيه الجَوابِيةُ، لأنَّ» ودَّ «التي بِمَعْنَى التمني، متعلِّقُها لا الذَّوَات، فإذا نُصِب الفِعْل بعد الفَاءِ، لم يَتَعَيَّنْ أن تكون فَاءَ جواب؛ لاحتمال أن يَكُون من بَابِ عَطْف المَصْدر المقدَّر على المَصْدَر المَلْفُوظ به، فيكون من بَابِ: [الوافر] 1860 - لَلًبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . يعني: كَأنَّ المَصْدَر المَفْعُولَ ب «يود» ملْفُوظٌ به، والمصدرُ المقدَّرُ ب «أن» والفِعْلِ، وإلاَّ فالمصْدرُ المَحْذُوفُ ليس مَلْفوظاً به، إلا بِهَذَا التَّأويلِ المذكُورِ، بل المَنْقُولُ أنَّ الفِعلَ ينْتَصِبُ على جَوَابِ التَّمنِّي، إذا كان بالحَرْفِ، نحو: «ليت» ، و «لو» و «ألا» إذا أشْرِبتا مَعْنَى التَّمنِّي. وفيما قاله أبُو حَيَّان نظر؛ لأن الزَّمَخْشَرِيَّ لم يَعْنِ ب «التمني» المفهوم من فِعْل الودادة، بل المَفْهُومَ من لفظ «لو» المُشعرةِ بالتمني، وقد جاء النَّصْب في جوابها؛ كقوله: {فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ} [الشعراء: 102] ، وقد قدَّمْتُ تَحْقِيقَ هذه المَسْألَةِ، فظهر قول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 548 الزَّمَخْشَرِي من غير توقُّفٍ، و «سواء» : خبر «تكونون» وهو في الأصْل مَصْدرٌ واقعٌ مَوْقعَ اسْمِ الفَاعِلِ، بمعنى مُستوبن؛ ولذلِك وُحّد، نحو: «رجال عدل» . لمَّا اسْتَعْظَم قولهم: {أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله} على سَبِيل الإنْكَارِ عَقب ذِكْر الاسْتبعاد، بأن قال: إنَّهم بلغُوا في الكُفْر إلى أنَّهم يَتَمنُّون أن تَصِيرُوا أيُّها المُسْلِمُون كُفَّاراً، فلما بَلَغُوا في تعصُّبهم في الكُفْر إلى هذا الحَدّ، فكيف تَطْمَعُون في إيمانِهِم. ثم قال: {فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله} مَعَكُم. قال عكرمة: هي هِجْرة أخرى والهِجْرة على ثَلاثَة أوْجُه: هجرة المُؤمنين في أوَّلِ الإسْلام، وهي قوله: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] وقوله: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] ونحوهما. وهجرة المؤمنين وهي الخُرُوجُ في سَبِيلِ اللهِ مع رسُول الله صَابِراً محتَسِباً، كما حكى هَهُنَا، مَنَعَ من مُوالاتهم حَتَّى يُهَاجِرُوا في سَبِيل الله. وهجرة سَائر المُؤمنين: وهي ما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «المُهَاجِر من هجر مَا نَهَى الله عَنْه» . قال أبو بكر الرَّازِي: التقدير: حتى يُسْلِمُوا ويُهَاجِرُوا؛ لأن الهِجْرَة في سَبِيل الله لا تكون إلا بَعْد الإسْلاَم، فدلَّت الآيَةُ على إيجَاب الهِجْرة بعد الإسْلام، وأنَّهم وإن أسلَمُوا لَمْ يكُن بينَنَا وبَيْنَهم موالاةٌ إلا بَعْد الهِجْرَة؛ لقوله -[تعالى]- : {مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} [الأنفال: 72] وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنَا بَرِيءٌ من كل مُسْلِم أقَامَ بَيْن أظْهُر المُشْرِكِين» وهذا التَّكْلِيفُ إنَّما كان لازِماً حَيْث كانَت الهِجْرة وَاجِبَةٌ مَفْروضة، فلمَّا فتحت مَكَّة، نُسِخ ذلك، قال رسُول الله صلى الله يوم فتح مكة: «لا هِجْرَة [وَاجِبَة مَفْرُوضة] بعد الفَتْح، ولَكِنْ جِهَادٌ ونِيَّةٌ» . ورُوي عن الحَسَن: أن حُكْم الآيَة ثَابِتٌ [في كُلِّ] من أقَام في دَارِ الحَرْب. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 549 قال ابن الخَطِيب: الهِجْرَة تحصل تارةً بالانْتِقَالِ من جَارِ الكُفْرِ إلى دَارِ الإسْلام، وأخْرَى تَحْصُل بالانْتِقَال عن أعْمَال الكُفَّار إلى أعْمَال المُسْلِمين، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «المُهَاجِر مَنْ هجر ما نَهَى اللهُ عَنْهُ» وقال المُحَقِّقُون: الهِجْرة في سَبِيل الله عِبَارة عن الهِجْرة عن تَرْك منهيَّاته وفِعْل مأموراته، والآية عامَّة في الكُلِّ، وقَيَّدَ الهجرة بِكَوْنِها في سَبِيلِ الله؛ لأنه رُبَّمَا كَانَت الهِجْرَة لِغَرض من أغْرَاض الدُّنْيا فلا تكُونُ مُعْتَبَرة. قال القُرْطُبِي: والهِجْرة أنْوَاع: منها الهِجْرة إلى المَدِينَة؛ لنُصرة النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الغَزَوات، وكانت هذه وَاجِبَة أوَّل الإسْلام، حتى قال: «لا هِجْرَة بعد الفَتْح» وكذلك هِجْرَة المُنَافِقِين مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [وهجرة مَنْ أسْلم في دَارِ الحرب فإنها وَاجِبَة، وهجرة المسلم ما حَرَّم الله عَلَيْه] كما قال - عليه السلام -: «والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَر مَا حَرَّم الله عليه» وهاتان الهِجْرَتان ثابتَتَان الآن، وهجرة أهل المَعَاصِي؛ ليرجعوا عمَّا هُم عليه تأدِيباً لهم، فلا يُكَلَّمُون ولا يُخَاطَبُون ولا يُخَالَطون حتى يَتُوبُوا؛ كما فعل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع كَعْب وصاحِبَيْه. قوله: {فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} أي: فإن أعْرَضُوا عن التَّوْحيد والهجْرَة «فخذوهم» إذا قَدَرْتُم عليهم أسَارَى، ومنه يُقَال للأسِير: أخيذٌُ، {واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} في الحِلِّ والحَرَم {وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ} في هذه الحَالِ «ولياً» يتولى شَيْئاً من مُهماتكم «ولا نصيراً» لينصركم على أعْدَائِكُم، ثم استَثْنَى منهم وهو قوله: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} . قوله: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ} : في هذه الاستثناء قولان: أظهرهما: أنه استثناء مُتَّصِلٌ، والمستثنى منه قوله: {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم} في الأخذ والقتل لا في المُوالاة؛ لأن موالاة الكُفَّار والمنافقين لا يجوز بحال. والمُسْتَثْنَوْنَ على هذا قَوْمٌ كُفارٌ، ومَعْنَى الوَصْلَةِ هنا الوَصْلَةُ بالمُعَاهَدَةِ والمُهَادَنَةِ. وقال أبُو عبيد: «هو اتِّصَالُ النَّسَب» ، وغلَّطه النَّحَّاس بأن النَّسَب كان ثابتاً بين النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والصَّحابة، وبين المُشْرِكين، ومع ذلك لم يمنعهم ذلك من قتالهم. وقال ابن عبَّاس: يريد: ويلْجَئُون إلى قوم {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} أي: عهد، وهم الأسْلَميُّون، وذلك أنَّ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وادَعَ هِلال بن عُوَيْمر الأسْلَمِيّ عند خُرُوجه إلى مَكَّة، على ألاَّ يُعينَهُ ولا يُعين عليْه، ومن وَصَل إلى هِلالٍ من قَوْمهِ وغيرهم ولجأ إليه، فلهم من الجواز مثل ما لِهِلالٍ. وقال الضَّحَّاك عن ابن عبَّاسٍ: أراد بالقَوْم الَّذين بالقَوْم الَّذِين بَيْنكم وبَينهم ميثَاقٌ: بني بَكْرٍ بن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 550 زَيْد بن مَنَاة، وكانوا في الصُّلْح والهُدْنَة، وقال مُقَاتِل: هم خُزَاعَة. والقَوْل الثاني: أنه منقطعٌ - وهو قول أبِي مُسْلم الأصْفَهَانِيِّ، واختيار الرَّاغب -. قال أبو مُسْلم: «لَمَّا أوجبَ اللهُ الهِجْرَةَ على كُلِّ مَنْ أسلم، استثنى مَنْ له عُذْرٌ فقال: {إِلاَّ الذين يَصِلُونَ} وهم قوم قَصَدُوا الهِجْرَة إلى الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ونصرته، وكان [بينهم وبَيْنَه في الطَّريق كُفَّار يخافونهم، فَعَهِدُوا إلى كُفَّارٍ كان] بينهم وبين المُسْلمين عَهْدٌ، فأقاموا عَنْدَهُم إلى أنْ يُمْكِنهُمُ الخلاصُ، واستثنى بعد ذلك مَنْ صَار إلى الرَّسُول وأصْحَابه؛ لأنه يخافُ اللهَ فيه، ولا يقاتِلُ الكُفَّار أيضاً لأنهم أقاربُه؛ أو لأنه يَخَافُ على أولاده الذين هُمْ في أيديهم» ، فعلى هذا القَوْلِ يكون استثناءً مُنْقَطِعاً؛ لأن هؤلاء المُسْتَثنين لم يَدْخُلوا تحت قوله: {فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ} والمُسْتَثنوْن على هَذَا مُؤمِنُون. قوله: {بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} يجوز أن يكونَ جملةً من مُبْتَدَأ وخَبر في مَحَلِّ جرِّ صفة ل «قوم» ، ويجوز أن يكُونَ «بينكم» وحْدَه صفةً ل «قوم» ، فيكون في محلِّ جَرٍّ ويتعلَّقُ بِمَحْذُوفٍ، و «ميثاق» على هذا رفعٌ بالفَاعِليَّة؛ لأنَّ الظَّرف اعتمد على مَوْصُوفٍ، وهذا الوَجْهُ أقربُ؛ لأنَّ الوَصْفَ بالمُفْرَدِ أصْلٌ للوصف بالجُمْلَة. قوله: «أو جاءوكم» فيه وجهان: أظهرهما: أنه عطف على الصِّلَة؛ كأنه قيل: أو إلا الذين جَاءُوكُم حَصِرَتْ صُدُورُهُم، فيكون التقدير: «إلا الذين يصلون بالمعاهدين، أو الذين حصرت صدورهم فليقاتلوكم» فيكون المُسْتَثْنَى صِنْفَيْن من النَّاس: أحدهما: واصلٌ إلى قومٍ مُعاهدين، والآخر مَنْ جَاءَ غَيْرَ مقاتِلٍ للمسلمين ولا لِقَوْمه. والثاني: أنه عضطْفٌ على صِفَةِ «قوم» وهي قوله: {فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ} بعد قوله: {فَخُذُوهُمْ واقتلوهم} فقرَّر أنَّ كفَّهُم عن القِتَال أحدُ سَبَبَي اسْتِحقَاقِهم لنفي التعرُّض لهُم، وتَرْكِ الإيقاع بهم، فإن قُلْت: كلُّ واحد من الاتِّصالين له تأثيرٌ في صحة الاستِثْنَاء، واستحقاقِ تَرْكِ التَّعرضِ للاتصال بالمُعَاهدين والاتصال بالْكَافِّين، فهلا جَوَّزْت أن يَكُونَ العَطْفُ على صفةِ «قوم» ، ويكون قوله: «فإن اعتزلوكم» تقريراً لحكم اتِّصالهم بالكافِّين واختلاطهم بهم، وجَرْيهم على سُنَنِهم؟ قلت: هو جَائِزٌ، ولكن الأوَّلَ أظهرُ وأجْرى على أٍلوب الكلام «. انتهى. وإنما كان أظهر لوجهين: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 551 أحدهما: من جِهَة الصِّنَاعة، والثاني: من جهة المَعْنَى. أمَّا الأوَّلُ: فلأنَّ عطفَه على الصِّلة لكون النِّسْبَة فيه إسْنَادِيةً، وذلك أن المُسْتَثْنَى مُحَدَّثٌ عنه مَحْكُومٌ له، بخلاف حُكْم المُسْتَثْنَى منه، فإذا قدَّرْتَ العَطْفَ على الصَِّلَة، كان مُحَدَّثاً عنه بما عَطَفْتَه، بِخِلاَف ما إذا عَطَفْتَه على الصِّفَة، فإنه يكونُ تَقْيِيداً في» قوم «الذين هم قيدٌ في الصِّلَةِ المُحَدَّثِ عن صَاحِبها، ومتى دار الأمْر بين أن تكُون النِّسْبَة إسْنَاديّة وبين أن تكون تقييدية، كان جَعْلها إسناديةً أوْلى لاسْتِقلالها. والثاني من جهة المَعْنَى: وذلك أنَّ العَطْفَ على الصِّلَةَ يؤدِّي أن سَبَبَ تَرْكِ التَّعرُّض لهم تَرْكُهُم القتالَ ونَهْيُهُم عنه، وهذا سَبَبٌ قريب، والعَطْفُ على الصِّفَة يؤدي إلى أنَّ سَبَبَ تركِ التعرُّضِ لهم، وصُولُهم إلى قَوْم كافِّين عن القِتَال، وهذا سببٌ بعيدٌ، وإذا دَارَ الأمرُ بين سَبَبٍ قريب وآخر بعيدٍ، فاعْتِبَارُ القرِيبِ أوْلَى. والجمهورُ على إثبات «أو» ، وفي مُصْحَفِ أبَيٍّ: «جاءوكم» من غير «أوْ» ، وخَرَّجها الزَّمَخْشَرِيُّ على أحَدِ أرْبَعة أوْجُه: إمَّا البيان ل «يصلون» ، أو البَدَلِ منه، أو الصِّفة لقَوْم بعد صِفَة، أو الاستئنافِ. قال أبو حيان: «وهي وجوهٌ مُحْتَمَلَةٌ وفي بعضها ضعفٌ، وهو البيانُ والبدلُ؛ لأن البيانَ لا يَكُون في الأفْعَالِ؛ ولأن البدل لا يتأتَّى لكونه ليس إيَّاه، ولا بعضه، ولا مُشْتَمِلاً عليه» . انتهى، ويحتاج الجَوَابُ عنه [إلى] تأمُّلٍ ونظرٍ. قوله: {حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} فيه سبعة أوجُه: أحدها: أنه لا مَحَلَّ لهذه الجُمْلَة، بل جِيءَ بها للدُّعاء عليهم بضيق صُدُورهم عن القَتَالِ، وهذا مَنْقثولٌ عن المُبَرِّد، إلاَّ أنَّ الفَارسِيَّ رضدَّ عيله بأنا مَأمُورون بأنْ نَدْعُوَ على الكُفَّارِ بإلقاءِ العَدَاوَة بينهم، فَنَقُولُ: «اللَّهُم أوْقِعِ العَدَاوَةَ بين الكُفَّار» لكن يكُونُ قوله: {أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ} نفياً لما اقْتَضَاهُ دعاءُ المُسْلِمين عليهم. وقد أجَابَ عن هذا الردِّ بعضُ النَّاس؛ فقال بن عضطِيَّة: «يُخَرَّجُ قولُ المُبَرِّد على أن الدُّعَاء عليهم بألاَّ يقاتلوا المُسْلِمِين تعجيزٌ لَهُم، والدعاءُ عَلَيْهم بألاَّ يقاتلوا قومهم تَحْقيرٌ لَهُمْ، أي: هُمْ أقلُّ وأحْقَرُ ومُسْتَغْنى عَنْهُم، كما تقول إذا أردت هذا المَعْنَى:» لا جعل الله فُلاناً عليَّ ولا مَعِي «بمعنى: أسْتَغْنِي عنه وأستَقِلُّ دونَه» . وأجاب غيرُه بأنَّه يجُوزَ أن يكونَ سُؤالاً لقومهم، على أنَّ قوله: «قومهم» قد يُحْتمل أن يُعَبَّر به عَمَّنْ لَيْسُوا منهم، [بل عن مُعاديهم «. الثاني: أنَّ» حصرت «حالٌ من فاعل» جاءوكم «وإذا وَقَعت الحَالُ فعلاً مَاضِياً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 552 ففيها] خلافٌ: هل يَحْتاج إلى اقْتِرانه ب» قَدْ «والراجِحُ عدمُ الاحْتِياج؛ لكثرة ما جاء منه، فَعَلى هذا لا تُضْمَرُ» قد «قَبْلَ» حصرت «، ومَنِ اشْتَرَط ذلك، قَدَّرها هنا. والثالث: أنَّ» حصرت «صفةٌ لحَالٍ محذوفةٍ، تقديرُه: أو جاءُوكم قوماً حَصِرَتْ صُدُورُهُم رجالاً حصرت صُدُورهم، فنصب لأنَّه صفة مَوْصُوف مَنْصُوب على الحال، إلاَّ أنه حذف المَوْصُوف المنْتَصب على الحَالِ، وأقيمت صِفته مَقَامَه وسَمَّاها أبو البقاء حالاً مُوَطِّئَة، وهَذَا الوجُه يُعْزَى للمُبرِّد أيضاً. الرابع: أن يَكُون في مَحَلِّ جَرِّ صفةً لِقَوْم بعد صِفَة، و» أو جاءوكم «مُعْتَرِضٌ. قال أبُو البَقَاءِ: يَدُلُّ عليه قِرَاءةُ مَنْ أسْقَط» أو «وهو أبَيٌّ، كذا نَقَلَهُ عنه أبو حيَّان والذي في إعْرَابِه إسقاطُ» أو جاءُوكم «جميعه، وهذا نَصُّه قال:» أحَدُهُما: هو جَرٌّ صِفَةً لقومِ، وما بَيْنَهُمَا صفة أيضاً، و «جاءوكم» هذا نَصُّه، وهو أوفق لهذا الوَجْهِ. الخامس: أن يكون بدلاً من «جاءوكم» بدلَ اشْتِمَال؛ لأن المَجِيء مشتمِلٌ على الحَصْر وغيره، نَقَلَه أبو حيان عن أبي البقاء أيضاً. السادس: أنه حبرٌ بعد خَبَر، وهذه عِبَارة الزَّجَّاج، يعني: أنها جملة مُسْتَأنفَة، أخْبر بها عن ضِيق صُدُورِ هَؤلاَء عن القِتَال بعد الإخْبَار عَنْهُم بما تَقَدَّم. قال انب عطية بعد حِكَاية قولِ الزَّجَّاج: «يُفَرَّق بين الحَالِ وبين خَبَرٍ مستأنفٍ في قولك:» جاء زَيْد رَكِبَ الفَرَسَ «أنك إذا أرَدْتَ الحَالَ بقولك:» ركب الفَرَس «قدَّرْتَ» قد «، وإن أرَدْت خَبَراً بعد خَبَر، لم تَحْتَجْ إلى تقدِيرها» . السَّابع: أنه جَوَاب شَرْطِ مُقَدَّر، تقديره: إن جاءُوكُن حصرت [صدورهم] ، وهو رأي الجُرجَانِيِّ، وفيه ضَعْفٌ؛ لعدم لدَّلاَلة على ذَلِك. وقرأ الجُمْهُور: «حصرت» فعلاً ماضياً، وقرأ الحَسَن، وقتادة، ويعقوب: «حصرة» نَصْباً على الحَالِ بوزن «نبقة» ، وهي تؤيِّد كونَ «حصرت» حالاً، ونقلها المَهْدَوِي عن الجزء: 6 ¦ الصفحة: 553 عَاصِمٍ في رواية حَفْص، ورُوي عن الحَسَن أيضاً: «حصرات» و «حاصرات» . وهاتان القراءتان تَحْتَمِلان أن تكُونَ «حصرات» و «حاصرات» نَصْباً على الحال، أو جَرّاً على الصِّفَة ل «قوم» ؛ لأنَّ جَمْع المُؤنَّث السَّالمِ يستوي جَرُّه ونَصْبُه، إلا أنَّ فيهما ضَعْفاً؛ من حيث إنَّ الوَصْفَ الرَّافع لظاهرٍ الفَصيحُ فيه أن يُوَحد كالفِعْلِ، أو يُجمَعَ جَمْعَ تَكْسِير ويَقِلُّ جمعُه تَصْحِيحاً، تقول: مررت بِقومٍ ذاهب جَوَاريهم، أو قيام جواريهم، ويَقِلُّ: «قائِمَاتٍ جَوَاريهم» . وقرئ: «حصرةٌ» بالرفع على أنه خَبَر مُقَدَّم، و «صدورهم» مبتدأ، والجُمءلَة حال أيضاً. وقال أبو البقاء: «وإن كان قد قُرِئ:» حصرة «بالرَّفْع، فعلى أنَّه خَبَر، و» صدورهم «، مُبْتَدأ، والجُمْلَةٌُ حال» . قوله: «أن يقاتلوكم» أصلُه: عن أنْ: فلمَّا حُذِف حَرْف الجَرِّ، جرى الخِلاف المَشْهُور، أهي في مَحَلِّ جَرٍّ أو نَصْب؟ والحَصْرُ: الضِّيق، وأصلُه في المكان، ثم تُوُسِّع فيه [فأطْلِق على حَصْر القَوْل: وهو الضيق في الكلام على المُتَكلِّم والحصر: المكتوم] قال: [الكامل] 1861 - وَلَقَدْ تَسَقَّطَنِي الْوُشَاةُ فَصَادَفُوا ... حَصِراً بِسِرَِّكِ يَا أمَيْمُ ضَنينا فصل اخْتَلَفُوا في الَّذِين اسْتَثْنَاهُم الله - تعالى -: فقال الجُمْهُور [هم] من الكُفَّار والمَعْنَى: أنه - تعالى - أوجَبَ قتل الكَافِر، إلاَّ إذا كان مُعَاهِداً أوْ تَارِكاً للقِتَال، فإنَّه لا يَجُوز قَتْلَهم، وعلى هذا التَّقْدِير فالقول بالنَّسْخ لازم؛ لأنَّ الكافر وإن تَرَكَ القِتَال؛ فإنه يَجُوز قَتْله. وقال أبُو مُسْلم الأصْفَهَاني: هم قوم من المُؤمِنين، وذكر ما تقدَّم عنه في كَوْن الاستِثْنَاءِ مُنْقَطِعاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 554 قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ} التَّسْليط في اللغة مأخوذ من السَّلاطة؛ وهي الحدَّة، والمقصود: أنَّ الله تعالى منَّ على المُسْلِمين بِكَفِّ بَأسِ المُعَاهِدِين. قال [بعض] المفسِّرين: معنى الآية: أن القَوْم الَّذين جَاءوكُم بنو مُدْلج، كانوا عَاهَدُوا ألاَّ يُقَاتِلُوا المُسْلِمين، وعاهَدُوا قُرَيْشاً ألاَّ يقاتِلُوهم وحصرَت: ضاقَتَ صُدُورُهُم، {أَن يُقَاتِلُونَكُمْ} أي: عن قتالِكُم للعَهْد الذي بَيْنَكُم، {أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ} يعني: مَنْ أمِنَ منهُم، ويجُوز أن يكُون مَعْنَاه: أنَّهم لا يُقَاتِلُونَكُم مع قَوْمِهِم، يعني: قُرَيشاً قد ضاقَتَ صُدُورُهم لِذَلِك. وقال بَعْضُهم: «أو» الوَاوِ؛ كأنه قال: إلى قَومٍ بَيْنَكُم وبَيْنَهُم مِيثَاقٌ، جاءُوكُم حصرت صُدورُهم عن قَتَالِكُم والقشتَال مَعَكُم وهم - قَومُ هلالٍ - الأسْلميُّون وبنو بكر، نهى الله - سُبْحَانَهُ - عن قتل هؤلاء المُرْتَدِّين إذا اتَّصَلُوا بأهل عَهْدٍ للمُؤمِنين؛ لأن من انْضَمَّ إلى قَوْمٍ ذَوي عَهْد فله حُكْمهم في حَقْن الدَّمِ. فصل المَعْنَى: أن ضيق صدورهم عن قِتَالِكُم؛ إنَّما هو لأن الله - تعالى - قَذَفَ الرُّعْب في قُلُوبِهِم، ولو أنه - تعالى - قَوَّى قُلُوبَهُم على قِتَال المُسْلِمِين، لتَسَلَّطُوا عليهم، وهذا يدُلُّ على أنَّه لا يَصِحُّ من الله تَسْلِيط الكَافِر على المُؤمِن وتَقْويته [عَلَيْه] . وأجاب المُعْتَزِلَةُ بوجهين: الأول: قال الجُبَّائِي: قد بينَّا أنَّ الَّذِين اسْتَثْنَاهُم الله - تعالى - قومٌ مؤمِنُون لا كَافِرُون، وعلى هذا فَمَعْنَى الآيَة: ولو شَاءَ الله لَسَلَّطهم عليكم بِتَقْوية [قُلُوبِهِم] ليدْفَعُوا عن أنْفُسِهِم، إن أقدمتم على مُقَاتَلتِهِم على سَبيل الظُّلْمِ. الثَّاني: قال الكَلْبِي: إنه - تعالى - أخبر أنَّه لو شاء لَفَعَل، وهذا لا يُفِيدُ إلاَّ أنه - تعالى - قَادِرٌ على الظُّلْم، وهذا مَذْهَبُنَا، إلا أنَّا نقول: إنه - تعالى - لا يَفْعَلُ الظُّلْمَ. قوله: «فلقاتلوكم» اللام جَوَاب «لو» على التَّكْرِيرِ أو البَدَلِيَّة، تقديره: ولَوْ شَاءَ الله لِسَلَّطَهُم عليكم، ولو شَاءَ الله لَقَاتَلُوكُم. وقال ابن عطيّة: هي لامُ المُحَاذَاة والازْدِوَاجِ بِمَثَابَة الأولَى، لو لم تَكن الأولى كنت تقول: «لقاتلوكم» . وهي تَسْمِيةٌ غريبة، وقد سَبَقَهُ إليها مَكِّي، والجُمْهُور على: « الجزء: 6 ¦ الصفحة: 555 فلقاتلوكم» من المُفاعَلة. ومُجَاهِد، وجماعة: «فلقتَّلوكم» ثُلاثياً، والحَسَن والجَحْدَري: «فلقتَّلوكم» بالتَّشديد. قوله: «فإن اعتزلوكم» أي: فإن لم يتعرضوا لكم لقتالكم، وألْقُوا إليْكُم السَّلَم، أي: الانقياد والاستسلام وقرأ الجَحْدَرِي: «السَّلْمَ» بفتح السِّين وسُكُون اللام، وقرأ الحسن بِكَسْر السِّين وسكون اللام {فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} أي: طريقاً بالقَتْل والقِتَالِ. [قوله: {لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً} «لكم» متعلِّق ب «جعل» ، و «سبيلاً» مَفْعُولُ «جعل» ، و «عليهم» حالٌ من «سبيلا» ؛ لأنه في الأصل صفةُ نكرةٍ قُدِّم عليها، ويجُوز أن تكونَ «جعل» بمعنى «صير» ، فيكون «سبيلا» مَفْعُولاً أوّلَ، و «عليهم» مَفْعُولٌ ثانٍ قُدِّم] . قال بعضهم: هذه الآية منْسُوخة بآية السَّيْف، وهي قوله: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] ، وقال آخرون: إنَّها غير مَنْسُوخة، أمَّا الَّذِين حملوا الاسْتِثْنَاء على المُسْلِمين، فهو ظاهِرٌ على قولهم، وأمَّا الذين حَمَلُوه على الكَافِرِين؛ فقال الأصَمُّ: إذا حَمَلْنَا الآية على المُعَاهدين، فَكَيْفَ يمكن أن يُقَال إنها مَنْسُوخَةٌ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 556 السِّين في «ستجدون» للاسْتِقْبَال على أصلها، قالوا: ولَيْسَت هنا للاسْتِقْبَال، بل للدَّلالة على الاسْتِمْرَار، وليس بِظَاهِرٍ. قال الكَلْبِي عن أبي صَالٍِ، عن ابن عبَّاس: هم أسَد وغطَفَان كانوا حَاشِرِي المَدِينَة، تَكَلَّموا بالاسْلام رياءً، وهم غير مُسْلِمِين، فكان الرَّجُل مِنْهُم يقول له قَوْمُه: بماذا أسْلمت؟ فيقول: آمَنْتُ بربِّ القِرْدِ، وبرب العَقْرب والخُنْفُسَاء، وإذا لقوا أصحاب النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا: إنَّا على دينِكُم، يريدون بذلك الأمْن في الفَرِيقَيْن، وقال الضَّحَّاك عن ابن عبَّاس: هم بَنُو عَبْد الدَّار، كانوا بهذه الصِّفَةِ. {يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ} فلا تتعرَّضُوا لَهُم، {وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ} فلا يَتَعرَّضُوا لَهُم، {كُلَّ مَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 556 ردوا إِلَى الفتنة} دعوا إلى الشِّرْك، {أُرْكِسُواْ فِيِهَا} أي: رَجَعُوا وعادوا إلى الشِّرْك. وقرأ عبد الله: «ركسوا فيها» ثلاثيَّا مُخَفَّفاً، ونقل ابْنُ جنيٍّ عنه: «ركَّسوا» بالتَّشْديد. وقرأ ابن وثابِ والأعْمِشُ: «رِدوا» بِكَسْر الرَّاء؛ لأن الأصْل: «رددوا» فأدْغِم، وقلبت الكَسْرة على الرَّاء. وقوله: «إلى الفتنة» إلى الكُفْر {أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ} أي: فإن لَمْ يكفُّوا عن قِتَالِكُم حَتَّى تسيروا إلى مَكَّة: {ويلقوا إِلَيْكُمُ السلم} أي: المفاداة والصُّلْح، «ويكفوا أيديهم» ولم يقبضوا أيديهُم من قتالكم، «فخذوهم» ، أسرى {واقتلوهم حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ} أي: وجدتموهم، «وأولئكم» أي: أهل هذه الصِّفة {جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} أي: حُجَّة بيِّنة ظاهرة بالقَتلِْ والقِتَال، وهذه الآيَة تَدُلُّ على أنَّهُم إذا اعْتزلوا قِتَالَنا وطَلَبُوا الصُّلحِ مَنَّا، وكفوا أيْديهُم عن إيذائِنا، لم يَجُزْ لنا قِتَالهم، ونَظِيرُه قوله تعالى: {لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ} [الممتحنة: 8] ، وقوله: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 557 كما رَغَّب في مُقَاتَلة الكُفَّار، ذكر بَعْدَهَا ما يتعلَّق بالمُحَارَبَة، ولا شَكَّ أنَّه قد يَتَّفِقُ أن يرمي الرَّجُلُ رجُلاً يَظُنُّه كافراً حَرْبِيَّا فيقْتُلهُ، ثم يتبين أنَّه مُسْلِمٌ، فذكر الله - تعالى - حكْم هَذِهِ الوَاقِعَة. قوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن} . قد تقدَّم الكلام في نَظِير هذا التَّركيب عند قوله - تعالى -: {مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ} [البقرة: 114] . وقوله: {إِلاَّ خَطَئاً} فيه أرْبَعة أوجُه: أحدُها: أنه اسْتثنَاء منقَطِع - وهو قولُ الجُمْهُور - إنْ أُريد بالنَّفِي معناه، ولا يجُوزُ أن يكُون مُتَّصِلاً، إذ يصير المَعْنَى: إلا خَطَأ فله قَتْلُه. والثاني: أنه مُتصلٌ إنْ أُريد بالنَّفْي التحريمُ، ويَصِير المَعْنَى: إلا خطأ بأن عَرَفَه أنَّه كَافر فَقَتَله، ثم كَشَف الغيبُ أنه كان مؤمناً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 557 الثالث: أنه استِثْنَاء مُفَرَّغ، ثم في نَصْبِه ثلاثة احْتِمَالاتٍ: الأوَّل: أنه مَفْعُول له، أي: ما يَنْبَغِي له أن يَقْتُلَه [لعلَّه من الأحْوَالِ، إلا في حَالِ الخَطَأَ. الثالث: أنه نَعْتُ مَصْدَرٍ محذُوف، أي: إلا قَتْلاً خَطَأ، ذكر هذه الاحْتِمَالات الزَّمَخْشَرِيُّ. الرابع: من الأوْجه: أن تكون «إلا» بمعنى «ولا» والتقدير: وما كان لمُؤمِنٍ أن يَقْتُلَ مُؤمِنَاً عَمْداً ولا خَطَا، ذكره بعضُ أهْلِ العِلمُ، حكى أبُو عُبَيْدة عن يُونُس قال: سألتُ رُؤبة بن العَجَّاج عن هَذِهِ الآيَةِ، فقال: «ليس أنْ يَقْتُلَهُ عَمْداً ولا خَطَا» فأقام «إلاَّ» مقامَ الوَاوِ؛ وهو كقول الشَّاعِر: [الوافر] 1862 - وَكُلُّ أخٍ مُفَارِقُهُ أخُوهُ ... لَعَمْرُ أبِيكَ إلاَّ الْفَرْقَدَانِ إلا أن الفَرَّاء ردَّ هَذا القَوْلَ؛ بأن مثل ذلك لا يجوزُ، إلا إذا تقدَّمه استِثْنَاءٌ آخر، فيكونُ الثَّانِي عطفاً عليه: كقوله: [البسيط] 1863 - مَا بِالمَدِينَةِ دَارٌ غَيْرُ وَاحِدَةٍ ... دَارُ الْخَلِيفَةِ إلاَّ دَارُ مَرْوَانَا وهذا رأي الفراء، وأمَّا غَيْرُه، فيزعم أنَّ «إلا» تكون عَاطِفَة بمعنى الوَاو من غَيْر شَرْطِ، وقد تقدَّم تَحْقِيقُ هذا في قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 150] . وقرأ الجُمْهُور: «خطأ» مهموزاً بوزْنِ «نبأ» ، والزهري: «خَطَا» بوزن «عَصَا» ، وفيها تخريجان: أحدُهُمَا: أنه حَذَفَ لام الكَلِمَة تَخْفِيفاً بإبدالها ألفاً، فالتقت مع التَّنْوين؛ فَحُذِفَت لالتِقَاء السَّاكِنَيْن، كما يُفْعَل ذلك بِسَائِر المَقْصُور، والحسن قرأ: «خَطَاءً» بوزن «سَمَاء» . فصل ذكر المُفسِّرون في سَبَبِ النَّزُول وُجُوهاً: أحدها: روى عُرْوَة بن الزُّبَيْر: أن حُذِيْفَة بن اليَمَان قَاتَل مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَوْمَ أُحُد فأخْطَأ المُسْلِمَون، وظَنُّوا أن أبَاهُ اليَمَان وَاحداً من الكُفَّار، فضَرَبُوه بأسْيَافِهم، وحُذَيْفَة الجزء: 6 ¦ الصفحة: 558 يَقُول: إنَّه أبي، فلم يَفْهَمُوا قولَه إلا بعد أنْ قَتَلُوه، فقال حُذَيْفة: يَغْفِر الله لكم وهو أرحم الرَّاحمين، فلما سَمِعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك، أزْدَاد وَقْع حُذَيْفَة عِنْدَه، فَنَزَلَت هَذِه الآية. وثانيها: أن أبا الدَّرْدَاءِ كان في سَرِيَّة، فَعدل إلى شَعْبٍ لحاجة [فوجد] رجُلاً في غَنَم لَهُ، فحمل [عليه] بالسَّيْف، فقال الرَّجُل لا إله إلا الله، فقتلَه وسَاقَ غَنَمَهُ، ثم وَجَد في نَفْسِه شَيْئاَ فذكر الوَاقِعة للرَّسُول - عليه الصَّلاة والسلام - فقال النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «هَلاَّ شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِه» وندم أبُو الدَّرْدَاءِ، فنزلت الآية. ثالثها: عيَّاش بن أبي رَبِيعَة المَخْزُومِيَّ، وكان أخَاً أبِي جَهْل من أمّه: أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكة قبل الهجرة فأسلم ثم خاف أن يُظهر إسلامَه لأهله فخرج هارباً إلى المدينة، وتحصّن في أطم من آطامِها، فجزعت أمه لذلك جزعاً شديداً وقالت لابنها الحارث وأبي جهل بن هشام وهما أخواه لأمه: والله لا يظلني سقف ولا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى تأتوني به، فخرجا في طلبه وخرج معهما الحارث بن زيد بن أبي أنيسة حتى أتوا المدينة، فأتوا عياشاَ وهو في الأطم، قالا له: إنزل فإنّ أمك لم يُؤوها سقف بيت بعدك، وقد حلفت ألاّ تأكل طعاماً ولا تشرب شراباً حتى ترجع إليها ولك عهد الله علينا أن لا نكرهك على شيء ولا نحول بينك وبين دينك، فلما ذكروا له جزع أمه وأوثقوا له بالله نزل إليهم فأخرجوه من المدينة ثم أوثقوه بنسعةٍ فجلده كل منهم مائة جلدة، ثم قدموا به إلى أمّه فلما أتاها قالت: والله لا أُحِلّكَ من وثاقك حتى تكفر بالذي آمنت به، ثم تركوه موثقاً مطروحاً في الشمس ما شاء الله فأعطاهم الذي أرادوا فأتاه الحارث بن زيد فقال: يا عياش أهذا الذي كنت عليه فوالله لئن كان هُدى لقد تركت الهدى، ولئن كان ضلالة لقد كنت عليها، فغضب عياش من مقالته، وقال: والله لا ألقاك خالياً أبداً إلا قتلتك، ثم إن عياشاً ألم بعد ذلك وهاجر ثم أسلم الحارث بن زيد بعده وهاجر إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: يا رسول الله قد كان من أمري وأمر الحارث ما قد علمت، وإني لم أشعر بإسلامه حتى قتلته فنزلت الآية. فصل تفسير قوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ} قوله: {وَمَا كَانَ [لِمُؤْمِنٍ} ] قيل: معناه: ما كانَ لَهُ فيما أتاه من رَبَّه وعهد الجزء: 6 ¦ الصفحة: 559 إلَيْه، وقيل: ما كَانَ لَهُ في شَيْءٍ من الأزمِنة ذلك، والمَقْصُود: بَيَان أنّ حُرْمَة القَتْل كانت ثَابِتَة من أوَّل زمان التَّكْلِيف. وقوله: «إلا خطأ» فعلى القَوْل بأنَّهُ مُتَّصِلٌ؛ ذكروا وُجُوهاً: أحدها: أن هذا الاستِثْنَاء مَعْنَاه: أن الإنْسَان يُؤاخذ عن القَتْل، إلا إذا كان القَتْل قتْل خَطَأ، فإنَّه لا يُؤاخَذُ به. وثانيها: أنه استْثْنَاء صَحِيحٌ على ظاهر اللِّفْظِ، والمعنى: ليس لِمُؤمِنٍ أن يَقْتُل مُؤمِناً ألْبَتَّةَ إلا عند الخَطَأ، وهو ما إذا رأى عليه شِعَار الكُفَّار، أو وَجَدهُ في عَسْكَرِهِم فظنه مُشْرِكاً. فَحيِنئذٍ يَجُوز قَتلُه. ثالثها: أن في الكَلاَم تَقْدِيماً وتأخِيراً، والتقدير: ومَا كَانَ لِمُؤمِن أن يَقْتُل مُؤمِناً إلا خَطَأ؛ كقوله - تعالى -: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35] أي: وما كان الله ليتَّخِذَ من وَلَدٍ؛ لأنَّه - تعالى - لا يُحَرِّم عليه شَيْءٌ، إنَّما يُنْفَى عنه ما لا يَلِيقُ بِهِ. قال القُرْطُبِي: قوله: {وَمَا كَانَ} لَيْس على النَّفِي، وإنَّما هو على التَّحْرِيم والنَّهِي؛ كقوله: {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الأحزاب: 53] ولو كانت على النَّفِي، لما وُجِد مُؤمِنٌ قَتل مُؤمِناً [قط] ؛ لأن ما نفاه الله لا يجُوز وُجُودهُ؛ كقوله {مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا} [النمل: 60] ، معناه: ما كُنْتُم لِتُنْبِتُوا؛ لأنه - تعالى - لم يُحرَّم عليهْم أنْ يُنْبِتُوا الشجر، إنما نَفَى عَنْهُمْ أن يمكنهم إنْبَاتُهَا، فإنه - تعالى - هو القَادشرُ على إنْبَاتِ الشَّجَرِ. ورابعها: أن وجْه الإشْكَال في اتِّصَال هذا الاستِثْنَاء أن يُقَال: الاستثناء من النَّفْي إثْبات، وهذا يَقْتَضِي الإطْلاق في قَتْل المُؤمِن في بَعْضِ الأحْوالِ، وذلك محَالٌ؛ لأن ذلِكَ الإشْكَال إنَّما يَلْزَمُ إذا سَلَّمْنا أنَّ الاستثناء من النَّفْيِ إثْبَات، وذلك مُخْتَلف فيه بين الأصُوليِّين، والصَّحيحُ أنَّهُ لا يَقْتَضِيه؛ لأن الاستِثْنَاء يَقْتَضِي نَفْيَ الحُكْمِ عن المُسْتَثْنَى، لا صَرْف المحكوم عليه، لا بالنَّفْيِ ولا بإثْبَات، وحينئذ يَنْدَفِع الإشْكَال، وممَّا يَدُلُّ على أنَّ الاستثناء في المَنْفِيِّ ليس بإثْبَاتٍ، قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا صَلاَةَ إلاَّ بطَهُورٍ ولا نِكَاحَ إلاَّ بولِيِّ» ويقال: لا مُلْكَ إلا بالرِّجَالِ، ولا رِجَال إلاَّ بالمَالِ، والاستثناء في هذه الصور لا يُفيد أن يكون الحُكْم المُسْتَثْنَى من النَّفْي إثْبَاتاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 560 وخامسها: قال أبُو هَاشِم: وتقدير الآيَة: وما كان لِمُؤمِنٍ أنْ يَقْتُل مُؤمِناً [إلاَّ] أن يَكُون خَطَأ، فإنَّه لا يُخْرِجُه عن كَوْنِه مُؤمناً، وهذا بِنَاء على أصْلِهِم، وهو أنَّ الفَاسِق عند المُعْتَزِلةِ لَيْسَ بمُؤمِن، وهو أصْلٌ [فاسدٌ] وباطل. وإن قُلنا: إنه استِثْنَاء مُنْقطعٌ، فهو لمعنى لكن، ونظائره كثيرة، قال - تعالى -: {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً} [النساء: 29] . وقال: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم} [النجم: 32] وقال: {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً} [الواقعة: 25، 26] . فصل قال القُرْطُبِي: ذهب دَاوُد إلى وُجُوب القِصَاصَ بين الحُرِّ والعِبْد، في النَّفْس وفي الأعْضَاءِ، لقوله - تعالى -: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة: 45] إلى قوله: {والجروح قِصَاصٌ} [المائدة: 45] ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «المُؤمِنُون تتكَافَأ دِمَاؤُهُم» ولم يفرق بَيْنَ حُرٍّ وعَبْدِ. قال أبُو حنِيفَة [وأصْحَابُه] : لا قِصَاص بين الأحْرَار والعَبِيد إلا [في] النَّفْسِ، فيُقتل الحُرُّ بالعَبْدِ كما يقتل العَبْدُ بالْحُرِّ، ولا قِصَاص بينهما في الجِرَاح والأعْضَاء، وأجمع العُلَمَاءُ على أنَّ قوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً} لأنَّه لم يَدْخُل فيه العَبِيدُ، وإنما أريد به: الأحْرار؛ فكذلك قوله - عليه السلام: - «المُؤمِنُون تَتَكَافَأ دِمَاؤُهُم» أريد به الأحْرَار خَاصَّة، والجُمْهُور على ذلك، وإذا لم يَكُن قِصَاصٌ بين العَبيد والأحْرار فيما دُونَ النَّفْسِ، فالنفس أحْرَى بذلك، وقد مَضَى هذا في البَقَرَةِ. قوله: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} «خطأ» إما مَنْصُوب على المَصْدَر، أي: قتلاً خطأ، وإما على [أنَّه] مصدرٌ في مَوْضِع [الحال] أي ذا خَطَأٍ أو خاطئاً والفَاء في قوله: «فتحرير» جوابُ الشَّرْطِ، أو زائِدَةٌ في الخَبَر إن كَانَت «من» بمعنى الَّذِي، وارتِفَاعُ «تحرير» : إمَّا على الفَاعِليَّةِ، أي: فيجبُ عليْه تَحْرِير، وإمَّا على الابتدائِيَّة، والخبر مَحْذُوف أي: فعليه تحرير أو بالعكس، أي: فالوَاجِبُ تَحْرِيرُ، والتحرير عبارةٌ عن جَعْلِهِ حُرَّا والحُرُّ هو الخَالِصُ، ولما كان الإنْسَان في أصْلِ الخلقة خُلِقَ لِيَكُون مالكاً الجزء: 6 ¦ الصفحة: 561 للأشْيَاءِ، لقوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} [البقرة: 29] فكونه مَمْلُوكاً صفة تُكَدَّر مقتضى الإنْسَانِيَّة، فسميت إزالة المُلْكِ تَحْرِيراً، أي: تخليصاً لذلك الإنْسَان عما يُكَدِّر إنْسَانيَّتَهُ، والرَّقبة عبارَةٌ عن النَّسَمَة في قولهم: «فُلان يَمْلِك كَذَا رَأساً من الرَّقِيق» . والدِّيَةُ في الأصْلِ مَصْدر، ثم أطلَقَ على المالِ المَأخُوذ في القتل، ولذلك قال: {مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} ، والفعلُ لا يُسَلَّمُ بل الأعٍيَان، تقول: وَدَى يَدِي دِيَةً ووَدْياً، كوشَى يَشِي شِيَةٌ، فحذفت فَاءُ الكَلِمَة، ونَظِيرُه في الصَّحيح اللام: «زِنة» و «عِدة» ، و «إلى أهله» متعلَّق ب «مسلمة» تقول: سَلَّمت إليه كَذَا، ويجُوز أن يكون صِفَةً ل «مسلمة» وفيه ضَعْفٌ. فصل الخلاف في القصاص للقتل العمد معنى [الآية] فِعلية رقبة مُؤمِنَة كَفَّارة وَدِية كَامِلَة {مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} أي: إلأى أهْل القتيل الذين يَرِثُونه، «إلا أن [يصدقوا» . أي:] يتصدَّقُوا بالدِّيَة فيَعفوا ويَتْرُكُوا الدِّيَة، واختلفوا في قتل العمد: فقال أبو حنيفة: لا يُوجِب الكَفَّارة؛ لهذه الآيَة فقال: «ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير [» رقبة «] شرط لوجوب الكَفَّارةِ كونه خطأ، وعند انتفاء الشَّرْط لا يَحْصل المَشْرُوط. وقال الشَّافِعِيُّ: تجب الكفَّارة؛ لما رَوَى واثِلة بن الأسْقَع، قال: أتَيا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صَاحِب لَنَا أوجب النَّار بالقَتْلِ، فقال: أعْتِقُوا عنه يَعْتِقُ الله بِكُلِّ عُضْوٍ منه عَضْواً منه [من النَّار] ولأن الكَفَّارة في قَتْل الصَّيْد في الحَرَمِ والإحْرَام، يستوي فيه العَامِدُ والخَاطِئُ [إلا] في الإثْمِ فَكَذَا في قَتْل المُؤمِنِ. فصل قال ابن عبَّاس، والحَسَن، والشَّعْبي، والنَّخْعِي: لا تجزئ الدِّيَة إلا إذا صًام وصَلَّى، لأنه وَصَفَها بالإيمَانِ، والإيمانً: إمَّا التَّصْديقُ، وإمَّا العَمَلُ، وإمَّا المجْمُوع والكل فائِت عن الصَّبي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 562 وقال الشَّافِعِي ومالك والأوزاعِي وأبُو حنيفة: يُجْزئ الصَّبِي إذا كَانَ أحَد أبويه مُسْلِماً، لأنَّ قوله: «ومن قتل مؤمناً [خطأ] » يَدْخُل فِيه الصَّغير فَكَذَا قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} يدخل فيه الصَّغيرُ. فصل قال أبو بَكْر الأصم: وجمهور الخَوَارج: الدِّيَة واجبةٌ على القَاتِلِ لوجُوهٍ: الأوَّل: لأنَّ قوله: «فتحرير رقبة» والمراد: إيجَابُها على القَاتِل لا عَلَى غَيْره بالإجْمَاعٍ فكذا الدِّيَّة؛ لأن اللَّفْظَ في الموضعَيْن وَاحِدٌ. الثاني: أن الجِنَايَة إنَّما صَدَرت مِنْهُ، والضَّمَان لا يَجِبُ إلاَّ على المُتْلِفِ، أقصى ما في البَاب أنَّ هذا الفِعْل صَدَر عنه على سَبيل الخَطَأ، والفِعْل الخَطَأ في قِيم المُتْلَفَاتِ وأروش الجنايَاتِ، قائم مقام العَمْد، وتلك لا تَجِب إلا على المُتْلِف فكذا هَهُنَا. الثالث: أن العَاقِلَة لم يصْدر عَنْهم خيانة، فلا يَجبُ عليْهم شَيْء؛ لقوله - تعالى -: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} [الأنعام: 164] وقال: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة: 286] «ورُوِيَ أنَّ أبا رَمْثه دَخَل على النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومَعَهُ ابْنُه، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من هذا؟ فقال ابْني، فقال:» إنَّه لا يَجِنِي عَلَيْك ولا تَجْنِي عليه «ومَعْلُوم أنَّه ليس المَقْصُود الإخْبَار عن نَفْسِ الجِنَايَة، إنَّما المَقْصُود: بيان [أن] أثر جَنَايتكَ [لا] يَتَعَدَّى إلى وَلَدِكَ وبالعكس. الرابع: إن النُّصُوص تدلُّ على أن مالَ الإنْسَان مَعْصُوم [وأنه] لا سبيل لأحَدٍ أن يأخُذَه منه، قال - تعال -: {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} [النساء: 29] . وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» كُلُّ امْرِئ أحَقُّ بِكَسْبِه «وقال:» حرمة مال المسلم كحرمة دمه «وقال:» لا يحل مال امرئ مسلم إلا عن طيب نفس «تركنا هذه النُّصُوص في الأشْيَاءِ الَّتِي عرفنا بنصّ القُرْآن كَوْنَها مُوجِبَة لجوازِ الأخذ كالذَّكَوَات، وأخذ الضَّمَانات، وأمّا الدِّيَة على العَاقِلَة، فالمُعْتَمَد فيه عَلَى خَبَرِ الواحِدِ، وتَخْصِيصُ عُمُوم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 563 القُرْآنِ بخير الوَاحِدِ لا يجُوزُ؛ لأن القُرآن مَعْلُوم وخبر الوَاحِدِ مَظْنَون، ولا يَجُوزُ تقديم المَظْنُونِ على المَعْلُومِ؛ ولأن هذا خَبَر وأحِدٍ وَرَدَ فيما تَعُمُّ به البَلْوَى؛ ولأنَّه خبر وَاحِدٍ ورد على مُخَالَفَةِ أصُولِ الشَّرِعةِ فوجب رَدُّه، واحتجَّ الفُقَهَاءِ بما» رُوِيَ [عن] المُغيرةِ أنَّ امْرَأة ضَرَبَتْ بَطْنَ امْرَأةٍ، فالقَت جَنباً ميّتاً، فَقَضَ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على عَاقِلَة الضَّارِبَة بالغِرَّة، فقام حَمْل بن مَالِك فقال: كَيْفَ نَدِي من لا شَرِبَ ولا أكَل، ولا صَاحَ ولا اسْتَهَلَّ، ومثل ذَلِكَ يُطِل، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: هذا من سَجْع الجاهلية «. وعن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقُضِيَ عَلَى عَليَّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بأن يعقل عن مَوْلَى صَفية بنت عَبْد المُطَّلِب حين جَنَى موْلاَهَا، وعَلِيٌّ كان ابْن أخِي صَفِيَّة وقضى للزُّبَيْر بمِيِيراثِهَا، وهذا يَدلُلُّ على أنَّ الدِّيَة إنَّما تِجِبُ عَلَى العَاقِلَة. فصل مذهب الفُقَهَاء أنَّ دِيَة المرأة نِصْف دِيَة الرَّجُل، وقال الأصَمُّ وابن عَطِيّة: ديتُها مِثْلُ دِيَةِ الرَّجُل، واحْتَجَّ الفقهاء بأن عَليَّا، وعُمَر، وابن مَسْعُود قَضَوْا بذلك؛ ولأن المرأة في المِيراث والشَّهَادَةِ على النِّصْفِ من الرَّجُلِ، فكذلك في الدِّيَة، واستدل الأصَمُّ بهذه الآيَة قوله - تعالى -: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ} وأجْمَعُوا على أنَّ هذه الآية دَخَلَ فيها حُكْم الرَّجُل والمرأة فوجب أن يكون الحُكْم ثَابِتاً فِيَها بالسويّة. قوله: {إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} فيه قولان: أحدهما: أنه اسْتِثْنَاء مُنْقَطِع. والثاني: أنه متصلٌ. قال الزمخشري: «فإن قُلْتَ: بِمَ تَعَلَّق» أن تصدقوا «وما مَحَلُّه؟ قلت: تَعَلَّق ب» عليه «أو ب» مسلمة «كأنه قِيلَ: وتَجِبُ عليه الديَّة أو يًسَلِّمُهَا إلا حِين يتصدَّقُون عليه، ومَحَلُّها النَّصْب على الظَّرْف، بتقدير حذف الزَّمَانِ، كقولهم:» اجلس ما دام زَيْدٌ جالِساً «، ويجُوز أن يكُون حَالاً من» أهله «بِمَعْنَى إلا مُتصدِّقين» . وخطَّأه أبو حيَّان في هذين التَّخْرِيجين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 564 أما الأوّل: فلأنَّ النَّحْويَّين نَصُّوا على مَنْع قِيَام «أنْ» وما بعدها مقامَ الظَّرْف، وأنَّ ذلك ما تَخْتَصُّ به «ما» المَصْدَرِيّةُ، لو قلت: «آتيك أن يَصِيحَ الدِّيكُ» أي: وقت صِيَاحه، لم يَجُز. وأما الثَّانِي: فنصَّ سِيبوَيْه على مَنْعِه أيضاً، قال في قَوْلِ العرب: «أنْت الرَّجُل أن تُنَازِلُ، أو أنْ تُخَاصِم» أي: أنْتَ الرَّجُل نزالاً ومُخَاصَمَة: «إنَّ انْتِصَابِ هذا انْتِصَابُ المَفْعُول من أجْلِه، لأنَّ المُسْتَقْبَل لا يَكُون حالاً» فكونُه مُنْقَطعاً هو الصَّوابُ. وقال أبو البَقَاءِ: «وقيل: هو مُتَّصِلٌ، والمَعْنَى: فعليه دِيَةٌ في كُلِّ حَالٍ، إلا في حال التَّصَدُّق عَلَيْه بِهَا» . والجُمْهُور على «يصدقوا» بتشديد الصَّاد، والأصل: يتصدَّقوا، فأدْغمت التَّاء في الصَّاد، ونُقِل عن أبيِّ هذا الأصل قِرَاءةٌ، وقرأ أبو عمرو في رِوَاية عَبْد الوَارِثِ - وتُعْزى للحَسَن وأبي عَبْد الرَّحْمَن: - «تصدقوا» بِتَاءِ الخِطَاب، والأصل: تتصَدَّقُوا بتَاءَيْن، فأدغمت الثَّانِية، وقُرئ: «تَصْدُقوا» بتاء الخِطَاب وتَخْفِيف الصَّاد، وهي كالَّتِي قَبْلَها، إلا أنَّ تَخْفِيفَ هذه بِحَذْفِ إحْدَى التَّاءَيْن: الأولَى أو الثَّانِية على خِلاف في ذلك، وتَخْفيف الأولَى بالإدْغَام. قوله [- تعالى -] : {فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} لما ذكر أوَّلاً أنَّ قتل المُؤمِن خَطَأ [فيه] تحرِيرُ رَقَبَة، وتَسْلِيم الديَّة، ذكر هُنَا أنَّ من قَتَل خَطَأ من قَوْم عَدُوٍّ لنا فَعَلَيْه تَحْرِير الرقبة، وسَكَت عن الدِّيَة، ثم ذَكَر بعده إنْ كان من قَوْمٍ بَيْنَكُم وبَيْنَهُم ميثَاقٌ، وجَبت الدِّيَةُ، فالسُّكُوت عن إيجَاب الدِّيَة، ثم ذَكَر بعده إنْ كان من قًوْمٍ بَيْنَكُم وبَيْنَهُم ميثاقٌ، وجَبت الدِّبَةُ، فالسُّكُوت عن إيجَاب الدِّيَة هنا وإيجَابُها فِيمَا [قبل هذه الآية] وفيما بعد يدُلُّ على أنَّ الدِّيَة غير وَاجِبَة في هَذِه الجزء: 6 ¦ الصفحة: 565 الصُّورَة، وإذا ثبت هذا، فَنَقُولُ: قوله - تعالى -: {مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ} إمَّا أن يَكُون المُرادُ مِنْهُ كَوْن هذا المَقْتُول من سُكَّان دَارِ الحَرْب، أو كَوْنه ذا نَسَبٍ منْهُم. والثاني بَاطِلٌ؛ لانعقاد الإجْمَاع على أن المُسْلِمَ السَّاكن في دَارِ الإسْلام، وجَميع أقارِبِه كُفَّار، فإذا قُتِلَ خَطَأ، وجبت الدِّيَة في قَتْلِه، فتعيَّن الأوَّل، وهو كَوْن المَقْتُولِ خَطأ من سُكَّان دَارِ الحَرْبِ وَهُو مُؤمِنٌ، فتجب [فيه] كَفَّارة بلا دِيَة. قال الشَّافِعِي: كما دَلَّت هذه الآيَةُ على هَذَا المَعْنَى، فالقياس يُقَوِّيه فأمَّا أنَّه لا تَجِبُ الدِّية، فلأنَّا لو أوْجَبْنا الدِّيَة في قَتْل المُسْلِم السَّاكِن في دَارِ الحَرْب، لاحْتَاج مَنْ يريدُ غَزْوَ دَارِ الحَرْب، إلى أنْ يَبْحَث عَنْ كُلِّ أحدٍ أنه هَلْ هُوَ من المُسْلِمِيِن أمْ لا، وذَلِكَ مما يَصْعب وَيشقُّ، فيفضي إلى اْحترازِ النَّاسِ عن الغَزْوِ، فالأوْلَى سُقُوط الدِّيَة عن قاتِله؛ لأنَّه الذي أهْدَرَ دَمَ نَفْسِه باخْتِيَار السُّكْنَى في دَارِ الحَرْب، وأمَّا الكَفَّارة فإنَّها حَقُّ الله - تعالى -؛ لأنَّه قَتَل إنْسَاناً مُؤمِناً مُواظِبَاً على عِبَادة الله - تعالى -، وقيل: المُرادُ منه: إذا كان المَقْتُولُ مُسْلِماً في دَارِ الإسلامِ، وهو من نَسَبِ قوم كفارٍ، [وأقاربه] في دار الحرب - حرب المسلمين - ففيه الكَفَّارةُ بِلا دِيَة [لأهله] ، وكان الحَارِثُ بن زَيْد من قوم كُفَّار حربٍ للمسلمين، وكان فيه تَحْرِير رَقَبة، ولم يَكُن فيه دِيّة؛ لأنَّه لم يَكُن بين قَوْمِه وبَيْن المُسْلِمِين عَهْد. قوله: {وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً} فيه قولان: أحدهما: أن المُرادَ مِنْه: المُسْلِم؛ لأنَّه - تعالى - ذكر أوّلاً حال المُسْلِم القَاتِل خَطَأ، ثم ذكر حال المُسْلِم المَقْتُول خَطَأ إذا كان بَيْنَ أهْل الحَرْب، ثم ذكر حال المُسْلِم [المَقْتُول خَطَأ] إذا كان بين أهْلِ العهد وأهْل الذِّمَّة، ويؤكَّدُه قوله: «وإن كان» فلا بُدَّ من إسْنادِه إلى شَيْء تقدَّم ذِكْرُه وهو المُؤمِنُ المَنْقُول خَطَأ. الثاني: أن المُرَاد منه: الذمي أو المُعاهد، وهؤلاء طَعَنُوا في القَوْل الأوَّل من وُجُوه: أحدها: أن المُسْلِم المَقْتُول خَطَأ سواءٌ كَانَ من أهْل الحَرْب أو من أهل الذِّمَّة، فهو دَاخِلٌ تحت قوله: «ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة [مؤمنة] ودية مسلمة إلى أهله» فلو كان المُراد من هذه الآية هو المُؤمِن المَقْتُول من سُكَّان دَارِ الحَرْبِ، فإنه - تعالى - إنما الجزء: 6 ¦ الصفحة: 566 أعَادَهُ لبَيَانِ أنَّه لا تَجِبُ الدِّيَة في قَتْلِه، فأمَّا هَهُنَا فَقَدْ أوْجَبَ الدِّيَة والكَفَّارة، فلو كان المُرادُ هو المُؤمِن، لكان تِكْرَاراً من غير فَائِدَةٍ، وأنه لا يجُوزُ. ثانيها: لو كان المُرادُ ما ذكَرْتُم لما كانَت الدِّيَة مُسَلَّمَة إلى أهله؛ لأنَّ أهْلَه كُفَّار لا يَرِثُونَهُ. ثالثها: أن قوله: [ «وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق» ] يقتضي أن يكُونوُا مِنْ ذلك القَوْم في الوَصْفِ الذي وقع التَّنْصيص عليه، وهو حُصُول المِيثاقِ بَيْنَهُمَا، فإن كَوْنَه منهم مُجْمَل، لا يَدْرِي أنَّه مِنْهُم في أيَّ الأمُور، وإذا حَمَلنَاه على كَوْنِهِ مُعَاهداً، [وجب أن يكون مُعَاهداً أو ذمِّيّاً] مثلهم، ويمكن أن يُجَابَ عن هَذِه الأوجه: أمَّا الأوَّل: فلأن الله - تعالى - ذكر حُكْم المُؤمِن المَقْتُول خَطَأ السَّاكِن في دَارِ الحَرْبِ، وبيَّن أنَّ أهْلَ الذِّمَّة، وبيَّن وُجُوب الدِّيَة، وذكر القِسْم الثَّانِي، وهو المُؤمِنُ المَقْتُول خَطَأ السَّاكن بين أهْلِ الذِّمَّة، وبيَّن وُجُوب الدِّيَة، والكَفَّارة في قَتْلِه، والغَرَضُ منه: إظْهَار الفرق بَيْنَهُ وبين القِسْم الذي قَبْلَه. والجَوَابُ عن الثَّاني: أن أهْلَه هم المُسْلِمُون الَّذِين تُصْرف الدية إليهم. وأما الثالث: فإن كَلِمَة «من» صَارَت مُفَسرة في الآيَة السَّابِقة؛ بمعنى «في» ، يعن: في قوم عَدُوٍّ لكم، فكذا هَهُنَا، وفائِدَة هذا البَحْث تَظْهَر في مَسْألة شرعِيّة، وهي أنَّ أبَا حَنِيفَة يرى أنَّ دِيَة الذِّمِّي مثل ديَة المُسْلِم. وقال الشافعي: دية اليَهُودِيّ والنَّصْرَاني ثُلْث دِيَة المجوسي، وقال غيره: نِصْف دِيَة المُسْلِم. واحتج أبُو حَنيفَة بقوله: «وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق» والمرادُ به: الذِّمِّي، ثم قال: «فدية» فأوْجَبَ فيهم تمام الدِّيَة. وجَوَابُه: أن نَقُول: هذه الآية نَزَلَت في المُؤمِنِين كما بَيَّنَّا فَسَقط استدلاَلُه، وبتقدير أن تَكُونَ نَزَلَت في أهْل الذِّمَّة، فإنما وَجَبَ [فيها] مسمَّى دِيَة، ولكن لم يُبَيِّن مِقْدَارَها، فلم قُلْتُم بأنَّ الدِّية التي أوجَبَها في حَقِّ المُسْلِمِ، بل لِكُلِّ دَيةٍ مقدارٌ مُعَيَّن، فإن الدِّية هي المالُ المأخوذ الَّذي يؤدِّى في مقابَلَةِ النَّفْسِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 567 فإن قيل: لِمَ قدَّم تَحْرِير الرَّقَبَة على الدِّيَة في الأولى، وهَهُنا عَكَسَ؟ الجواب: أن الوَاوَ لا تُفِيد الترْكيب، فتصيرُ كَقَوْله: {وادخلوا الباب سُجَّداً [وَقُولُواْ حِطَّةٌ} ] [البقرة: 58] ، وفي آية أخرى، {وَقُولُواْ حِطَّةٌ وادخلوا الباب سُجَّداً} [الأعراف: 161] . فصل والكفَّارة تكُون بإعْتَاق رَقَبَةٍ مؤمِنةٍ سواء كان المَقْتُول مُسْلِماً أو مُعاهِداً، رجلاً أو امْرأةً، حرًّا كان أو عَبْداً، وتكُون في مَالِ القاتِل. قوله - تعالى -: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ الله وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} . قوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} مفعولُه مَحْذُوفٌ: أي: فَمَنْ لم يَجِدْ رَقَبة، وهي بِمَعْنَى وجدان الضَّالِّ، فلذلك تَعَدَّتْ لِوَاحِدٍ، وقوله: {فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} ارتفاعه على أحَدِ الأوْجه المذكُورة في قوله: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقد مَرَّ، أي: فعليه صِيَامُ، أو: فيجبُ عليه صِيَامُ، أو فواجبه صِيَام. قال أبُو البَقَاءِ، ويجُوزُ في غَيْر القُرْآنِ النَّصْبُ على «فليصم صوم شهرين» . وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الاسْتِعمَال المعروفَ في ذَلِكَ أنْ يُقَالَ: «صمت شهرين ويومين» ، ولا يَقولون: صُمْتُ صومَ - ولا صِيَامَ - شَهْرَين. فصل إذا كان وَاجِداً للرقبة، أو قادراً على تَحْصِلَها بِثَمَنِها، فاضِلاً عن نَفَقَتِه ونَفَقَة عِيَاله وحاجته من مَسْكَنٍ ونحوه، فعليه الإعْتَاق، ولا يَجُوز له الصَّوْم، أو نَوَى صَوْماً أخَر، وجب عليه الاستِئْنَاف، فإن أفْطَرَ بعُذْرٍ مُرَخَّصٍ، أو سَفَرٍ، أو حيض: فقال النَّخْعِيُّ، والشافعي في أظهر قَوْليه: يَنْقَطِع التَّتابُع، وعليه الاستِئْنَاف. وقال سعيد بن المسيَّب، والحَسَن، والشَّعْبِي: لا يَنْقَطِع، ولو حَاضَت المَرْأة، لم ينقطع التَّتَابُع، لأنَّه لا يُمْكِنُ الاحتِرَازُ عنه؛ قال مَسْروقُ: فإن الصَّوْم بدلٌ من مَجْمُوع الكَفَّارَةِ والدِّيَة. فصل: فيما إذا عجز عن الصوم هل يطعم؟ إذا عَجَز عن الصَّوْم هل يُطْعِم ستِّين مِسْكِيناً فيه قولان: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 568 أحدهما: يطعم كالظِّهَار. والثاني: لا؛ لأن المُشَرِّع لم يذكر له بَدَلاً. أحدها: أنه مَفْعُول من أجْلِه، تقديره: شَرَعَ ذلك توبةً منه. قال أبو البَقَاءِ: ولا يجُوز أن يَكُون العَامِل: «صوم» إلا على حَذْف مُضَافٍ، أي: لوقوعِ تَوْبَة [من الله] أو لحُصُول توبة [من الله] . يعني: أنه إنما احْتَاج إلى تَقْدِير ذلك المُضَافِ، ولم يقل إن العَامِل هو الصِّيَام؛ لأنه اختلَّ شَرْطٌ من شروطِ نَصْبه؛ لأنَّ فاعلَ الصِّيَام غيرُ فاعل التَّوبَة. الثاني: أنها مَنْصُوبةٌ على المَصْدَر أي: رجُوعاً منه إلى التَّسْهِيل، حيث نَقَلكم من الأثْقَلِ إلى الأخَفِّ، أو توبة مِنْه، أي: قَبُولاً منه، مِنْ تاب عَلَيْه، إذا قبل تَوْبَته، فالتقدير: تابَ عليكم تَوْبَةً [مِنْه] . الثالث: أنها مَنْصُوبةٌ على الحَالِ، ولكن على حَذْفِ مُضَافٍ، تقديره: فَعَليه كذا حالَ كَوْنِهِ صَاحِبَ توبةٍ، ولا يجُوز ذلك من غَيْر تَقْدِير هذا المضاف؛ لأنك لو قُلْتَ: «فعليه صِيَامُ شهريْنِ تَائِباً من الله» لم يَجُزْ، و «من الله» في مَحَلِّ نَصْب؛ لأنه صِفَةٌ ل «توبة» فيتعلَّقُ بمحْذُوف. فإن قيل: الخَطَأ لا يَكُون مَعْصِية، فما مَعْنَى قوله: {تَوْبَةً مِّنَ الله} . فالجواب من وجوه: الأول: أنَّ فيه نَوْعاً من التَّقْصِير، فإنَّ الظَّاهِر أنَّه لو بَالَغ في الاحْتِيَاطِ والاسْتِكْشَافِ لما تعذر عليه الفعل، ألا تَرَى أن من قَتَل مُسْلِماً يظنه حَرْبيَّا، فلو بالغ في الاستكشافِ، فالظَّاهر أنَّه لَمْ يقَعْ فيه، ومن رمى صَيْداً فأصَاب إنْسَاناً، فلو احتاطَ ولم يَرْمِ إلاَّ في مَوْضع يَقْطَع بأنه ليس هُناك إنْسَان، فإنَّه لا يقع في تلك الواقعة؛ فقوله: {تَوْبَةً مِّنَ الله} تنبيه على أنه كَانَ مُقَصِّراً في ترك الاحْتِيَاطِ. وثانيها: أن قوله: {تَوْبَةً مِّنَ الله} راجعٌ إلى أنَّه - تعالى - أذِن لهُ في إقَامة الصَّوم مقامَ الإعْتَاقِ عند العَجْزِ عنه؛ لأن الله - تعالى - إذا تَابَ على المُذْنِبِ، فقد خَفَّفَ عَنْه، فلما كان التَّخْفِيف من لَوَازِم التَّوْبَة، أطلف لَفْظَ «التوبة» لإرادة التَّخْفِيف؛ إطلاقاً لاسْمِ المَلْزُوم على اللاَّزِم. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 569 وثالثها: أن المُؤمِن إذا اتَّفق له مِثْل هذا الخَطِأ، فإنه يَنْدَم ويتمنَّى ألاَّ يكون ذلك ممَّا وقَع، فسمَّى الله ذلك النَّدم والتَّمنِّي تَوْبَة. ثم قال - تعالى -: {وَكَانَ الله عَلِيماً} بأنَّه لن يقْصِد «خطأ» لما حَكَم بِهِ عَلَيْه، ولم يؤاخِذُهُ بذلك الفَعْل الخَطَأ، فإن الحَكْمَة تقتضي ألاّ يُؤاخذ الإنْسَان إلا بما يَتَعَمَّد. قال أهل السُّنَّة: أفعال الله - تعالى - غير معلَّلَةٍ برعاية المَصَالِحِ، ومعنى كونه «حكيماً» : كونه عَالِماً بعواقِبِ الأمُور. قال المعتزلة: هذا باطِلٌ؛ لأنه - تعالى - عطف الحَكيم على العَلِيم، فَلَو كان الحَكِيم هو العَليم، لكان عَطْفَاً للشَّيْء على نَفْسِه، وهو مُحَالٌ. الجواب: أن كل موضع في القُرْآن [ورد فيه] الحكِيم معْطُوفاً على العَلِيم - كان المُراد من الحَكِيم: كونه مُحْكَماً في الفِعْل، فالإتقان، والإحْكَام، عائدٌ إلى كيفيَّة الفعلِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 570 لما ذكر القتْل الخَطَأ، ذكر بعده بيان حُكم قتل العَمْدِ، وله أحكام مِثْل وُجُوب القِصَاص والديَّة، وقد ذُكر في سُورة البَقَرة عند قوله -[تعالى]- {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] لا جرم اقْتَصَر هَهُنَا على بَيَان الإثْمِ والوَعِيد. وقوله: «معتمداً» : حالٌ من فَاعِل «يقتل» ، وروي عن الكَسَائِيّ سكون التَّاء؛ كأنه فَرَّ من تَوالِي الحَرَكات، و «خالداً نصْبٌ على الحَالِ من محْذُوف، وفيه تقديران: أحدهما:» يجزاها خالداً فيها «فإنْ شِئْتَ جَعَلْتَه حالاً من الضَّمِير المَنْصُوب أو المَرْفُوع. والثاني:» جازاه «، بدليل {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} فعطفَ المَاضِي عليه، فعلى هذا هي حَالٌ من الضَّمِير المنصوب لا غيرُ، ولا يجُوزُ أن تكون حالاً من الهَاءِ في» جزاؤه «لوجهين: أحدهما: أنه مُضَافٌ إليه، [ومَجِيْ الحَالِ من المُضَاف إليه] ضعِيفٌ أو مُمْتَنع. والثاني: أنه يُؤدِّي إلى الفَصْلِ بين الحَالِ وصاحبها بأجْنَبِيٍّ، وهو خبرُ المبتدأ الذي هو» جهنم «. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 570 فصل: سبب نزول الآية نَزَلَت [هذه الآية] في مقيس بن ضبابة الكِنْدِي، وكان قد أسْلَم هو وأخُوه هِشَامٌ، فوجد أخَاه هِشَاماً قَتِيلاً في بَنِي فهر إلى بَنِي النَّجَّار، فأتى رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكر له [ذلك] ، فأرسل رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معه رَجُلاً من بَنِي النَّجَّار؛ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأمُرُكم إن عَلِمْتُم قاتل هِشَام بن ضبابة [أن تدفَعُوه] إلى مقيس فيقتصَّ منه، وإن لم تَعْلَمُوه أن تَدْفَعُوا إليْه ديته، فأبلغهم الفِهري ذلك: فَقَالوا: سمعاً وطاعَةً لله ولرسُولِه، ما نَعْلَم له قَاتِلاً ولكنَّا نُؤدِّي ديته، فأعطوه مِائة من الإبل، ثم انْصَرَفَا راجِعَيْن إلى المّدِينَة، فأتَى الشَّيْطَان مقيساً فوسْوَس إليه، فقال: تقبل دِيَّة أخيك فَتَكُون عليك مَسَبَّة، اقْتُل الذي ركب بَعِيراً منها وسَاقَ بقيَّتِها راجعاً إلى مَكَّة [كَافِراً] فنزل فيه:» ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها «بكفره وارتداده، وهو الَّذِي استثْنَاه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم فَتْح مَكَّة عَمَّنْ أمَّنَهُ، فَقُتِل وهو مُتَعَلِّق بأستار الكَعْبَة، {وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ} [أي: طَرَدَهُ عن الرَّحْمَة] {وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} . فصل: اختلاف العلماء في شبه العمد قال القرطبي: ذكر الله - عَزَّ وَجَلَّ - في كتابه العَمْد والخطأ، ولم يذكر شِبْهَ العَمْد، وقد اختلف العُلَمَاءِ في القَوْل به: فقال ابن المُنْذِر: وأنكر ذَلِكَ مَالِك؛ وقال: ليس في كِتاِ الله إلا العِمْدَ والخَطَأ وذكره الخَطَّابي أيضاً عن مَالِك، وزاد: أما شبه العَمْد فلا نَعْرِفُه. قال أبو عمرو: أنكر مَالِك واللَّيْث بن سَعْد شبه العَمْد، فمن قُتِلَ عِنْدَهُمَا بما لا يَقْتُل مثلُه غَالِباً؛ كالعضَّة واللَّطْمة، وضرب السَّوْط ونحوه؛ فإنه عَمْد وفيه القَوَد، قال: وهو قول جَمَاعَةٍ من الصَّحَابة والتَّابعين، وذهب جُمْهُور فقهاءِ الأمْصَار إلى أن هذا كُلّه شبع العًمْد. قال ابن المُنْذِر: شبْه العمد يُعْمَل به عِنْدَنا، وممن أثبت شِبْه العَمْ الشَّعْبيُّ، والحَكَم، وحمَّاد، والنَّخعِيُّ، وقتادَةُ، وسُفْيَان الثَّوْريُّ، وأهل العِرَاقِ والشافعي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 571 وأحمد، وذُكِرَ عن مالكٍ، ورُوِيَ عن عُمَر بن الخَطَّاب، وعن عَلِيّ بن أبي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين -. فصل فيمن تلزمه دية شبه العمد أجَمعُوا على أن دِيَة العَمْد في مالِ الجَانِي، ودية الخَطَأ على عاقِلَتِه، واختلفُوا في دية شبه العَمْد: فقال الحَارِث العُكْلِي، وابن أبي لَيْلَى، وابن شُبْرُمة، وقتادة، وأبو ثَوْر [هي] في مال الجَانِي. وقال الشَّعْبي، والنَّخْعِيّ، والحَكَم، والشَّافِعِيّ، والثَّوْرِيّ، ومحمد، وأحْمَد، وإسْحق، وأصحاب الرَّأي: [هي] على العاقلة. قال ابن المُنْذِر: وهو الصَّحِيحُ: لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جعل الجَنِين على عاقِلة الضَّارِبَة. فصل اخْتَلَفُوا في حُكْم هذه الآية: [فَرُوِي] عن ابن عبَّاس أن قاتِل المرمن عَمْداً لا توبةَ لَهُ، فقيل له: أليْس قد قال الله - تعالى - في سورة الفُرْقَان: {وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} [الفرقان: 68] إلى قوله {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلاَّ مَن تَابَ} [الفرقان: 68 - 70] فقال: كانت هذه الآيةُ في الجاهِليَّة وذلك أن أناساً من أهْل الشِّرْك [كانوا] قد قَتَلُوا وزَنوا، فأتَوا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقالوا: إن الذي تدعُو إليه لَحَسنٌ، لو تخبرنا أنَّ لما عَلِمْنَا كَفَّارَة، فنزلت: {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الفرقان: 68] ، إلى قوله {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ} [الفرقان: 70] فهذه لأولَئِك، وأما الَّتي في النِّسَاء؛ فالرَّجل الذي إذا عرف الإسْلام وشرائِعَه، ثم قتل مُسْلماً متعمداً فجزاَؤُه جَهَنَّم. وقال زيْد بن ثابت: لما نزلت الآيةُ التي في الفُرْقَان {والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ} [الفرقان: 68] ، عجبنا من لينها، فلبثْنَا سبْعَة أشْهر ثم نزلت الغَلِيظَة بعد اللَّيِّنَة، [ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 572 فنزلت] فَنَسَخَتْ الليِّنة، وأراد بالغَلِيِظَة هذه الآية، وبالَّيِّنَة أية الفُرقان. وقال ابن عبَّاسٍ: تلك آية مكِّيَّة، وهذه مَدَنيِّة نزلت ولم يَنْسَخْهَا شيء. وذهب أهل السُّنَّة إلى أن قَاتِل المُسْلِم عَمْداً توبته مَقْبُولة؛ لقوله - تعالى - {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً} [طه: 82] ، وقال: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] ، وما رُوي عن ابن عبَّاسٍ؛ فهو تَشديد ومُبَالغَة في الزَّجْرِ عن القَتْلِ، وليس في الآيَة متعلِّق لمن يَقُول بالتَّخْليد في النَّار بارتكاب الكبائر؛ لأن الآية نزلَتْ في قَاتِل [وهو] كَافِرٌ، وهو مقيس بن صبابة، وقيل: إنَّه وعيد لمن قَتَل كافراً مُخَلّداً في النَّارِ. حكي أنَّ عمرو بن عُبَيْد جاء إلى عمرو بن العَلاءِ، فقال: هل يُخْلِف الله وعده؟ فقال: لا، فقال: ألَيْسَ قد قال - تعالى -: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} فقال أبو عَمْرو: من العَجَم أتَيْت يا أبا عُثْمان: إن العرب لا تَعُدُّ الإخلاف في الوعيد خُلْفاً وذمَّا وإنَّما تَعُدُّ إخلاف الوَعْد خُلْفاً، وأنشد [شعراً] : [الطويل] 1864 - وأنَّي مَتَى أوْعَدْتُهُ أوْ وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إيعَادِي وَمُنْجِزُ مَوْعِدي والدَّليل على أن غير الشِّرْك لا يُوجِب التَّخْلِيد في النَّارِ، قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «مَنْ مَاتَ لا يُشْرِكُ بالله شَيْئاً، دخل الجنة» وروي [عن] عبادة بن الصَّامِتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لَيْلَة العَقَبَة - وحوله عِصَابة من أصْحَابِه -:» بايِعُوني على ألاَّ تُشْرِكُوا بالله شَيئاً، ولا تَسْرِقُوا ولا تَزْنُوا، ولا تَقْتُلُوا أوْلادكم، ولا تأتُوا بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونه بين أيْدِيكُم وأرْجُلِكُم، ولا تَعْصُوا في مَعْرُوفٍ، فَمَنْ وفَّى مِنْكُم، فأجْرُه على الله، ومن أصابَ من ذَلِكَ [شيئاً] فعُوقِبَ في الدُّنْيَا، فهو كَفَّارة له، ومن أصَابَ من ذَلِكَ شَيْئاً ثم سَتَرهُ الله عَلَيْه، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه، وإن شاء عَاقَبَه «فبايَعْنَاه على ذَلِكَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 573 وذكر الوَاحِدِي: أن الأصْحَاب سلكوا في الجَوَابِ عن هَذِه الآيَة طُرُقاً كَثِيرة، قال: وأنَا لا أرْتَضِي شَيْئاً منها؛ لأنّ الذي ذَكَرُوا إما تَخْصِيصٌ، وإما معَارَضَة، وإما إضْمار، واللَّفظ لا يَدُلُّ على شيء من ذَلِك، قال: والَّذي اعْتَمَدُوه وجهان: الأول: إجْماع المفسِّرين على أن الآيَة نزلت في كَافِرٍ قتل مُؤْمِناً، ثم ذكر تِلْك القِصَّة. والثاني: أن قوله: {فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} معناه الاسْتِقْبَال، والتقدير: إنه سيجزى بجهنم، وهذا وعيد، قال: وخُلْفُ الوَعِيد كَرَم. قال ابن الخَطِيب: والوَجْه ضعيفٌ؛ لأن العِبْرة بعُمومِ اللَّفْظ لا بخصوص السَّبَبِ، وأيضاً ثَبَتَ في أصُول الفِقْهِ؛ أن [ترتيب] الحُكْم على الوَصْفِ المُنِاسِب، يدلُّ على كَوْن ذلك الحُكْم علَِّة لذلِك؛ كقوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، و {الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا} [النور: 2] ، دلَّ ذَلِك على أن المُوجِبَ لهذا الوَعِيد هو الكُفْر دون القَتْلِ العَمْد، وإن كَان المُوجبُ هو الكُفْر، وكان الكُفْر حَاصِلاً قبل هذا القَتْل، فحينئذ لا يَكُون للقَتْل أثراً ألْبَتَّة في هذا الوَعِيد، ويكُون هذا الكلام جَارياً مُجْرَى قوله من [يتعمد قَتْل] نفس فجزاؤه جَهَنم خَالِداً فيها؛ لأن القَتْل العَمْد ما لم يكُن له أثر في الوَعِيد، وذلك بَاطِل، وإن كان المُوجِب لهذا الوعيد [كونه] قَتْلاً عَمْداً، فلزم أن يُقَال: أيْنَمَا حصل القَتْل العَمْد، حصل هذا الوعيد؛ فثبت أن هذا الوَجْه الذش ارتَضَاه الوَاحِدِيّ ليس بِشَيْء. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 574 وأما الوجه الثاني: فهو في غَايَة الفَسَادِ؛ لأن الوعيدَ قَسْمٌ من أقْسَام الخَبَر، فإذا جَوَّزْنا الخُلْف فيه على الله، فقد جَوَّزْنا الكَذِب على الله - تعالى - يوصِلُ هذا الجَزَاءَ إلَيْه أم لا، وقد يقُول الرَّجُل لعَبْدِه: جزاؤُكَ أن أفْعَلَ بك كَذَا وكَذَا، إلا أنِّي لا أفعَلُ، وهذا الجوابُ أيضاً ضَعِيفٌ، لأنَّه ثبت بهذه الآيةِ أن جزاء القَتْل العَمْد هو ما ذُكِر، وثبت بسَائر الآيَاتِ أنه - تعالى - يوصل الجَزَاء إلى المسَحِقِّين؛ قال - تعالى -: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] ، وقال: {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 8] . قال ابن الخطيب: واعلم أنّا نَقُول [أن] هذه الآيَة مَخْصُوصة في مَوْضِعَيْن: أحدهما: أن يكون القَتْل [العَمْد] غير عُدْوان؛ كما في القِصَاص، فإنه لا يَحْصُل فيه هذا الوعِيد ألْبَتَّة. والثاني: القتل العَمْد العثدْوَان إذا تَاب عنه لا يَحْصُل فيه هذا الوعيد، وإذا ثبت دُخُول التَّخْصِيص فيه في هاتني الصُّورتَيْن فيدخُلُه التَّخْصيص فيما إذا حَصَل العفو فيه؛ بدليل قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 575 لما نهى عن قتل المُؤمِن، أمر المُجَاهِدِين بالتَّثَبُّت في القتل؛ لئلاَّ يسْفَكُوا دماً حَرَاماً بتأويل ضَعِيفٍ، والَّرْب في الأرْض مَعْنَاه: السَّيْر فيها بالسَّفر للتِّجَارة والجِهَاد، وأصْله من الضَّرْب باليَدِ، وهو كِنَايَة عن الإسْرَاع في السَّيْر، فإن من ضَرَب إنْساناً، كانت حَرَكة يَدِهِ عند ذلك الضَّرْب سَرِيعَة. قال الزَّجَّاج: معنى «ضربتم في سبيل الله» : إذا غَزَوْتُم وسِرْتُم إلى الجِهَاد. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 575 قال القُرْطُبي: تقول العَرَب: ضَرَبْتُ في الأرْضِ، إذا سِرْتَ لِتِجَارَةٍ أو غزوٍ أو غيره مُقْتَرِنَة بفي، وتقول: ضَرَبْت الأرْض دون «في» إذا قَصَدْت قَضَاء حَاجَة الإنْسَان؛ ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا يَخْرُجُ الرَّجُلان يضربان الغَائِطَ يتحدَّثَان، كَاشِفين عن فَرْجَيْهما، فإن الله يَمْقُتُ على» ذَلِكَ «وفي» إذا «مَعْنَى الشَّرْط، فلذلك دَخَلَت الفَاءُ في قوله:» فتبينوا «وقد يُجَازى بها كقوله: [الكامل] . 1865 - أ - ... ... ... ... ... ... ..... وإذا تُصِبْكَ خَصَاصَةٌ فَتَجَمَّلِ والجيِّد ألا يُجَازى بها لقول الشَّاعر: [الكامل] 1865 - ب - والنَّفْسُ رَاغِبَةٌ إذَا رَغَّبْتَهَا ... وإذَا تُرَدُّ إلَى قَلِيلٍ تَقْنَعُ قوله:» فتبينوا «: قرأ الأخوان من التَّثبُّت، والباقُون من البَيَان، هما متقاربان؛ لأن مَنْ تَثبت في الشَّيْء تَبَيَّنه، قاله أبو عبيد، وصحَّحه ابن عطيَّة. وقال الفَارِسيّ:» التثبُّت هو خَلاَف الإقْدَام والمُراد التَّأنِّي، والتَّثَبُّت أشد اخْتِصَاصاً بهذا المَوْضِع؛ بدل عليه قوله: {وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً} [النساء: 66] أي: أشدٌّ وَقْعَاً لهم عَمَّا وُعِظُوا به بألاَّ يُقْدِمُوا عليه «فاختار قراءة الأخوين. وعكس قومٌ فرجَّحوا قراءة الجماعة، قالوا: لأن المتثبِّت قد لا يَتَبيَّن، وقال الرَّاغب: لأنه قلَّ ما يكون إلا بَعْدَ تثبُّت، وقد يَكُون التَّثبُّت ولا تبيُّنَ، وقد قُوبِل بالعَجَلَة في قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» التبيُّن من الله والعَجَلُة من الشيطان «وهذا يُقَوِّي قراءة الأخَوَيْن أيضاً، و» تَفَعَّل: في كلتا القراءتين بمعنى الدال على الطَّلب، أي: اطلبوا التثّبُّت أو البيان. وقوله: «لمن ألقى» اللام للتَّبْلِيغ هنا، و «من» مَوْصُولة أو مَوْصُوفة، و «ألقى» هنا ماضي اللَّفْظِ، إلا أنه بمعنى المُسْتقبل، أي: لمن يُلْقَى، لأنَّ النهيَ لا يكونُ عمّا وقع وانْقَضَى، والمَاضِي إذا وقع صِلَة، صَلح للمُضِيِّ والاسْتِقْبَال. وقرأ نافع وابن عَامِر وحَمْزة: «السَّلَم» بفتح السِّين واللام من غير ألف، وباقي الجزء: 6 ¦ الصفحة: 576 السَّبْعَة: «السَّلام» بألف، ورُوي عن عَاصِمٍ: «السَّلْم» بكسر السِّين وسكون اللام، فأما «السَّلام» فالظَّاهِر أنه التَّحيّة. والمعنى: لا تُقُولوا لمن حَيَّاكم بهذه التَّحِيّة إنه إنَّما قَالَها تَعَوُّذَاً فتُقْدِمُوا عليه بالسَّيْف لتأخذوا مَالَه، ولكن كُفُّوا عَنْهُ، واقْبَلُوا منه ما أظْهَرَهُ. وقيل: مَعْنَاه: الاستسْلام والانْقِياد، والمعنى: لا تَقُولوا لمن اعْتَزَلَكُم ولم يقاتلكم: لَسْتَ مُؤمِناً، وأصْل هذا من السَّلامة؛ لأن المعتزل عن النَّاس طالبٌ للسَّلامة. والسّلامةُ والسَّلَمُ - بفتحهما - الانقِيَاد فقط، وكذا «السَّلْم» بالكسر والسُّكُون، وقرأ الجَحْدري بفتحها وسُكُون اللام، وقد تَقَدَّم [القول فيها] في البقرة، والجُمْلَة من قوله: «لست مؤمناً» في محل نَصْب بالقَوْل؛ والجُمْهُور على كَسْر الميم الثَّانِية من «مؤمناً» اسم فاعل، وأبو جعفر بفتحها اسم مَفْعُول، أي: لا نُؤمِّنك في نَفْسِك، وتُرْوَى هذه القِرَاءَة عن عَلِيٍّ وابن عبَّاس ويَحْيَى بن يَعْمُر. قوله: «تبتغون» في محل نَصْبٍ على الحَالِ من فَاعِل «يقولوا» أي: لا تَقُولوا ذلك مُبْتَعِين. فصل ذَكُروا في سَبَب النُّزُول روايتين: الأولى: أن الآية نزلت في «رجُلٍ من بَنِي مُرَّة بن عَوْف، يقال له: مرداس بن نهيك رَجُل من أهْل فدك، أسْلَم ولم يُسْلِم من قومِهِ غيره، فَسَمِعُوا [بسرية] رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تُريدهم، وكان على السَّريَّة رجُلٌ يقال له: غَالِبُ بن فَضَالَة اللَّيْثي، فهربوا وأقَام الرَّجُل؛ لأنَّه كان مُسْلِماً، فلما رأى الخيل خَافَ أن يكُونُوا من غَيْر أصْحَاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [فألْجأ غَنَمَه إلى عاقُول من الجَبَل وصعد هو الجبل، فلمَّا تلاحَقُوا وكثروا، سَمِعَهُم يكَبِّرون، فلما سمع التكبير، عَرَف أنهم من أصْحَاب رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكَبَّر ونَزَل] وهو يقول: لا إله إلا الله [محمد رسُول الله] ، السلام عليكم، فتغشّاه أسَامةُ بن زيْدٍ فَقَتَلَهُ واسْتاق غَنَمه، ثم رَجَعُوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبروه، فوجَدَ عليه وَجْداً شديداً، وقد [كان] سَبَقَهُم قبل ذلك الخَبَر، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» قتلتموه إرادة ما معه؟ «ثم قرأ الآية على أُسَامَة بن زَيْد، فقال: يا رسول الله، اسْتَغْفِرْ لي، فقال: فكيف تَصْنَعُ بلا إله إلا الله؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 577 قال أسامة: فما زال يُعِيدُها حتى وَدِدْت أنِّي لم أكُنْ أسْلَمت إلاّ يَومْئذٍ، ثم استَغْفَر لي وقال:» أعتق رقبة «. ورَوَى أبو ظبيان عن أسَامة؛ قال: قلت يا رسُول اللهِ؛ إنما قَالَها خوْفاً من السِّلاح، قال:» أفَلا شَقَقْتَ عن قَلْبِه، حَتَّى تَعْلَم أقالَهَا أمْ لا «. الثانية: روى عِكْرمة عن ابن عبَّاسٍ؛ قال: مرَّ رجلٌ من بَنِي سليم على نَفَرٍ من أصْحَاب رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومعه غَنَمٌ له فسلَّم عليهم، قالوا: ما سلَّم عليكم إلا ليتعوذ مِنْكُم، فقاموا فقتلُوه وأخَذُوا غَنَمَه، فأتَوْا بها إلى رسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل اللَّهُ هَذِه الآيَة: الثالثة:» أن المِقْدَاد بن الأسْوَد وقعت له وَاقِعَة مثل وَاقِعَة أُسَامة، قال: فقلت يا رسول اللَّه، أرأيت إن لَقِيتُ رجُلاً من الكُفَّار يقاتِلُنِي، فَضَربَ إحْدَى يَدَيَّ بالسَّيْف، ثم لازمني بشجرةٍ، ثم قال: أسْلَمْتُ لله - تعالى -، أفأقاتِلُه يا رسُول الله بَعْد ذَلِك؟ فقال رسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا تَقْتُلْهُ، فقال: يا رسُول الله إنه قَطَعَ يَدِي، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: لا تَقَتْلُه، فإن قَتَلْتَهُ، فإنه بمنزِلَتِك بعد أن تَقْتُلَهُ، وأنت بِمَنْزِلَِتِه قبل أن يَقُول كَلِمَتَهُ التي قَالَها «. فصل قال أكثر الفُقَهاء: لو قال اليَهُودِي والنَّصْرَاني: أنا مُؤمِنٌ أو أنا مُسْلِمٌ، لا يحكم بإسلامهِ بهذا القَدْرِ، لأن مَذْهَبَه أن الَّذِي هو عليه هو الإسْلام وهو الإيمانِ، ولو قال: لا إله إلا اللَّه محمَّدٌ رسُول الله، فعِنْد قوم [لا يحكَمُ بإسلامهِ] ؛ لأن فيهم من يَقُول: إنه رسُولُ الله إلى العَرَب لا إلى الكُلِّ، وفيهم من يَقُول: إنَّ محمَّداً الذي هو الرسُول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 578 الحَقُّ لم يجىء بَعْدُ وسيجيء بَعْد ذَلِك؛ بل لا بُد بأن يعْتَرِف بأنَّ الَّذِي كان عَلَيْه بَاطِلٌ، وأن الدِّين الموْجُود بين المُسْلِمِين هو الحَقُّ والفَرْضُ. قال أبُو عبيدة جميع متاع الدُّنْيَا عَرَضٌ بفتح الرَّاء، يقال: إن الدُّنْيَا عَرَضٌ حاضر يأخُذُ منها البَرُّ والفَاجِرُ، والعَرْض بسُكُون الرَّاءِ ما سِوَى الدَّرَاهِم والدَّنَانِير، وإنما سُمي مَتَاعُ الدُّنْيا عَرَضاً؛ لقلة لَبْثهِ. قوله - تعالى -: {فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ} يعني: ثواباً كثيراً، وقيل: مغانم كثيرة لِمَنِ اتَّقى قَتْلَ المُؤمِن، والمَغَانِم: جمع مَغْنَم، وهو يصلح للمَصْدَر والزَّمَان والمَكَان، ثم يُطْلَق على ما يُؤخَذُ من مال العَدُوِّ في الغَزْوِ؛ إطلاقاً للمَصْدَر على اسْمِ المَفْعُول، نحو: «ضَرْب الأمِير» . قوله: «كذلك» هذا خبر ل «كان» قُدِّم عليها وعَلَى اسْمِها، أي: كُنتم من قَبْل الإسْلام مثلَ مَنْ أقْدَمَ ولم يَتَثَبَّتْ، وهذا يقتضي تشبيه هؤلاء المُخَاطبين بأولَئِك الَّذِين ألْقوا السَّلم، وليس فيه بَيَانٌ للمُشَبَّه فيما إذا قِيلَ: المُرَادُ أنكم أوَّل ما دَخَلْتُم في الإسْلام، فبمجرّد ما سُمعَتْ من أفْواهِكم كَلِمة الشَّهَادة، حقنت دماؤكم وأمْوالُكُم من غير تَوقِيفٍ ذلك على حُصُول العِلْمِ بأن قَلْبكُم موافِقٌ لما في ضمائِركم فعليكُم بأن تَفْعَلُوا بالدَّاخلين في الإسْلامِ كمَا فُعِل بكم، وأن تَعْتَبروا ظَاهِر القَوْل، وألاَّ تقولوا إن إقْدامَهُم على الإسلام لأجْلِ الخَوْف من السَّيف، هذا إخْبَار أكثر المُفسِّرين، وفيه إشْكَالٌ؛ لأن لهم أن يَقُولوا: ما كان إيمانُنَا مثل إيمان هَؤلاء؛ لأنا آمَنَّا عن الطواعِيَة والاخْتِيَار، وهؤلاء أظْهَرُوا الإيمَان تحت ظلال السُّيُوف، فكيف يُمْكِن تشبيه أحَدهما بالآخر! . قال سعيد بن جُبَيْر: المُرَاد أنكم كُنْتُم تكْتُمون إيمانَكُم عن قَوْمِكم؛ كما أخْفَى هذا الدَّاعِي إيمانَهُ عن قومه، ثم مَنَّ الله عَلَيْكُم بإعْزَازكم حتى أظْهَرْتُم دينكم، فأنتُم عامِلُوهم بمثل هذه المُعَامَلَة، وهذا أيضاً فيه إشْكَالٌ؛ لأن إخْفَاء الإيمَانِ ما كان عامّاً فيهم. قال مُقاتل: المراد كذلك كُنْتُم من قبل الهِجْرَة حين كُنْتُم فيما بين الكُفَّار، تأمَنُون الجزء: 6 ¦ الصفحة: 579 من أصْحَاب رسُول الله بكَلِمَة «لا إله إلا الله» فأقْبَلُوا منهم مثل ذلِك. وهذا يتوجه عليه الإشكال الأول. [قال ابن الخطيب] والأقْرَبُ أن يُقَال: إنَّ من يَنْتَقِل من دينٍ إلى دينٍ، فَفِي أول الأمْر يَحْدُث ميلٌ قليل بسبب ضعيفٍ، ثم لا يَزَال ذلك المَيْل يتأكد ويتَقَوَّى إلى أن يَكْمُل ويستحكم ويَحْصُل الانْتِقَال؛ فكأنه قيل لهم: كُنْتم في أول الأمْرِ إنما حَدَث فِيكُم ميلٌ ضعيف بأسْبَابٍ ضعيفةٍ إلى الإسْلام، ثم مَنَّ الله عَلَيْكُم بالإسْلام بتَقْوِيَة ذلك المَيْل وتأكِيد النَّفْرة عن الكُفْر؛ فكذلك منهم هذا الإيمَان، فإن الله - تعالى - يؤكد حلاوة الإيمَانِ في قُلُوبهم، ويقوِّي تلك الرَّغْبَة في صُدُورهم. قوله - تعالى -: {قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ} الظَّاهِر أن هذه الجُمْلَة من تَتِمَّة قوله: «كذلك كنتم من قبل» فهي مَعْطُوفة على الجُمْلَة قَبْلَها، والمعنى: إيمانُكُم كان مِثْل إيمانِهِم، في أنَّه إنَّما عرف منكم بِمُجَرَّد القَوْل اللِّسَاني، دون ما في القلب، أو [في] أنه كان في ابْتِدَاء الأمْرِ حاصلاً بِسَببٍ ضَعِيفٍ، ثم مَنَّ الله عَلَيْكم: حيث قوى نُورَ الإيمَانِ في قُلُوبِكُم، وحَبَّبَه لكم وأثابكم عَلَى العَمَل بِهِ. وقلي: بل هي من تَتِمَّة قوله: «تبتغون» عَرَض الحَيَاةِ الدُّنْيَا؛ وذلك لأنَّ القَوْم لما قَتَلُوا من تكَلَّم بلا إله إلا الله، ثم إنَّه - تعالى - نهاهُم عن هذا الفِعْل وبيَّن أنه من العَزَائِم؛ قال بَعْدَه: «فمن الله عليكم» أي: منَّ عليكم بأن قَبِل تَوْبَتَكُم من ذَلِك الفعْلِ المنكَر، ثم أعَاد الأمْر بالتَّبْيين؛ مبالَغَة في التَّحْذِير، فقال: «فتبينوا» قُرِئت كالتي قَبْلَها، فقيل: هي تأكيد لَفْظِي للأولى. وقيل: ليست للتأكيد؛ لاخْتِلاَف متعلّقهما، فإنَّ تقدير الأوّل: «فتبيَّنوا في أمْر مَنْ تَقْتُلُونَه» ، وتقدير الثَّانِي: فتبينوا نِعْمَة الله أو تثبَّتوا فيها، والسِّيَاقُ يدل على ذلك، ولأنَّ الأصل عدم التأكيد. قوله: «إن الله كان بما تعملون خبيراً» والجُمْهُور على كَسْرِ هَمْزة «إن الله» ، وقرئ بفَتْحها على أنَّها معمُولة ل «تبينوا» ، أو على حذْف لاَم العِلَّةِ، وإن كان قد قُرِئ بالفَتْح مع التَثَبُّت، فيكونُ على لام العِلَّة لا غير. والمُرادُ منه: الوَعِيد والزَّجْر عن إظْهَار خلافِ ما في الضَّمِير. فصل: فيما إذا دخل الغزاة بلداً ووجدوا شعار الإسلام إذا رأى الغُزَاةُ في بلد أو قرية شعارَ الإسلام، فعليهم أن يَكُفُّوا عنهم، فإنّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 580 كان إذا غَزَا قوماً، فإن سَمِع أذاناً كفّ عنهم، وإن لم يَسْمَع، أغار عليهم. وَروي عن ابن عِصَام عن أبيه؛ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا بَعَثَ سرِيّةً قال: «إذا رَأيْتُم مسْجِداً أو سَمِعْتُم أذاناً، فلا تَقْتُلُوا أحداً» . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 581 كما رَغَّبَ في الجِهَادِ، أتْبَعَ ذلِك ببَيَانِ أحْكَام الجِهَاد، ومن أحْكَامه: التَّحْذِير عن قَتْل المُسْلِمِين على سبيل العَمْدِ والخَطَأ وعلى تأويل الخَطَأ، ثم أتْبَعَهَ بحُكْم آخر؛ وهو بَيان فَضْل المُجَاهِد على غَيْرِه. وقيل: لما عاتبهم على قَتْل المتكَلِّم بالشَّهادة، فلعَلَّه وَقَعَ في قُلُوبهم أن الأوْلى الاحْتِرَاز عن الجِهَادِ؛ للوقوع في مِثْل هذا المَحْذُورِ فذكر عَقِبه فَضْل المُجَاهد على غَيْره؛ إزالَة لهذه الشُّبْهَة. قوله «غير أولي الضرر» قرأ ابن كثير وأبو عَمْرو وحَمْزَة وعَاصِم: «غير» بالرفع، والباقون: بالنَّصْب، والأعْمَش: بالجرِّ. والرَّفع على وجهَيْن: أظهرهما: أنه على البَدَل من «القاعدون» وإنما كان هذا أظْهَر؛ لأن الكَلاَم نفي، والبدلُ معه أرْجَحُ؛ لما قُرِّر في علم النَّحْو. والثاني: أنه رَفْعٌ على الصِّفَة ل «القاعدون» ، ولا بد من تأويل ذلك؛ لأن «غير» لا تتعَرَّفُ بالإضَافَة، ولا يَجُوز اختِلاَفُ النَّعت والمَنْعُوت تعريفاً وتنكيراً، وتأويله: إمَّا بأن القاعِدِين لَمَّا لم يَكُونوا نَاساً بأعْيَانِهِم، بل أُرِيد بهم الجَنْسُ، أشْبَهوا النَّكِرة فَوُصِفوا كما تُوصَف، وإمَّا بأن «غير» قد تَتَعَرَّف إذا وقَعَت بين ضِدَّين، وهذا كما تَقَدَّم في إعْرَاب {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] في أحَد الأوْجُه، وهذا كلُّه خُرُوج عن الأصُول الجزء: 6 ¦ الصفحة: 581 المقرَّرة، فلذلك اخْتِير الأوّل؛ ومثله: [الرمل] 1866 - وَإذا أقْرِضْتَ قَرْضَاً فَاجْزِهِ ... إنَّمَا يَجْزِي الْفَتَى غَيْرُ الْجَمَلْ برفع «غير» كذا ذكره أبو عَلِيّ، والرِّوَاية: «لَيْسَ الجَمَلْ» عند غَيْره. وقال الزَّجَّاج: ويجُوزُ أن يكُون «غير» رفعاً على جِهَة الاستِثْنَاءِ، والمعنى: لا يَسْتَوِي القَاعِدُون من المُؤمنين والمُجَاهِدُون، إلا أولي الضَّرَر فإنَّهم يساوون المُجَاهِدِين، أي: الذين أقعدهم عن الجِهَاد الضَّرر، والكَلامُ في رفع المُسْتَثْنَى بعد النفي قد تقدم عِند قوله: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66] . والنَّصْب على [أحد] ثلاثة أوْجُه: [الأوّل] : النَّصْبُ على الاستِثْنَاء من «القاعدون» [وهو الأظهر؛ لأنه المحدَّثُ عَنْهُ، والمعنى: لا يَسْتَوِي القَاعِدُون] إلا أولِي الضَّرَر، وهو اخْتِيَار الأخْفَش. والثاني: من «المؤمنين» وليس بِوَاضِح. والثالث: على الحَالَ من «القاعدون» [والمعنى: لا يستوي القاعدون] في حَالِ صِحَّتهم والمُجَاهِدون؛ كما يُقَال: جاءَني زيد غير مَرِيضٍ، أيك جاءني زَيْد صَحِيحاً، قاله الزَّجَّاج والفراَّء؛ وهو كقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصيد} [المائدة: 1] . والجرُّ على الصفَة للمؤمنين وتأويله كما تقدم في وجه الرفع على الصفة. قال الأخْفَش القراءة بالنَّصْب على الاستثنَاء أوْلَى؛ لأن المَقْصُود منه استِثْنَاء قوم لم يَقْدرُوا على الخُروج؛ كما روي في التَّفْسير أنه لما ذكر الله - تعالى - فضيلة المُجَاهِدِين، جاء قَوْمٌ من أولي الضرر، فقالوا للنَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: حالتنا كما تَرَى، ونحن نَشْتَهِي الجَهِاد، فهل لنا من طَرِيقٍ؟ فنزل {غَيْرُ أُوْلِي الضرر} فاستثناهم الله - تعالى -. وقال آخرون: القِرَاءة بالرَّفع أولى؛ لأن الأصْل في كلمة «غَيْر» أن تكون صفة، كانت القراءة بالرَّفْع أوْلَى. فالضَّرر النُّقْصَان، سواء كان بالعَمَى أو العَرَج أو المَرَض، أو بسبب عَدَمِ الأهْبَة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 582 فصل روى ابن شهاب عن سَهْل بن سعد السَّاعِدِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ أنه قال: «رأيتُ مَرْوَان بن الحكم جَالِساً في المَسْجِد، فأقَبْلت حَتَّى جلست إلى جَنْبِه، فأخبرنا أن زَيْد بن ثَابتٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أخبره؛ أن رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أملَى عَلَيه» لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله «، قال: فجاء ابنُ أمِّ مَكْتُوم وهو يُمْلِيها عليَّ، فقال: يا رسُول الله، لو أستطيعُ الجِهَاد لجَاهَدتُ، وكان رجلاً أعْمَى، فأنزل الله - تعالى - عليه وفخذُهُ على فَخْذِي، فثقلتْ عليّ حَتَّى خشفْتُ أن ترضَّ فَخذِي، ثم سري عنه» ، فأنزل الله: «غير أولي الضرر» في فضل الجهاد والحثِّ عليه. روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ «أنَّ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمّا رَجَع من غَزْوَة تَبُوك، فَدَنَا من المَدِينَة فقال:» إن في المَدِينَة لأقْوَاماً ما سرتُمْ من مسيرٍ ولا قَطَعْتُم من وَادٍ وإلا كَانُوا مَعَكُم فيه، قالوا: يَا رسُول الله وَهُم بالمَدِينَة؟ قال: نعم وهم بالمدينة حبَسهم العذر «، وروى مقسم عن ابْن عبَّاس؛ قال:» لا يستوي القاعدون من المؤمنين «عن بَدْر، والخَارِجُون إلى بدر. وقوله:» في سبيل الله بأموالكم «كلا الجارَّيْن متعلِّق ب» المُجَاهِدُون «و» المُجَاهِدُون «عَطْف على القَاعِدُون. فصل اخْتَلَفُوا في هذه الآية: هل تَدُلُّ على أن المُؤمنين القَاعِدِين الضْراء، يُسَاوُون المجاهدين أم لا؟ . قال بعضهم: لا تدل؛ لأنا إن حملنا لفظ» غَيْر «على الصفَة، وقلنا: [إن] الجزء: 6 ¦ الصفحة: 583 التَّخْصِيص باصِّفَة لا يدل على نَفْي الحُكْم عمّا عَدَاه، لم يلزم ذلك، وإن حَمَلْنَاه على الاستِثْنَاء، وقلنا: [إن] الاستثناء من النَّفي ليس بإثْبَات، لم يلزم ذلك، أمَّا إذا حَمَلْنَاه على الاستثناء وقلنا: الاستثناء من النَّفْي إثبات، لزم القَوْل بالمُسَاوَاة. واعلم أن هذه المُسَاواة في حق الأضْرَاء، عند من يَقُول بها مَشْرُوطة بشَرْط آخر ذكره الله - تعالى - في سُورة التَّوْبة، وهو قوله: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى} [التوبة: 91] إلى قوله: {إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 91] ، ويدل على المُسَاواة ما تقدَّم في حَدِيث غزوة تَبُوكٍ. وتقرير ذلك قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» إن بالمدِينَةِ قَوْماً ما سلكتُم وادِياً إلاَّ كَانُوا مَعَكُم «، وقال عليه السلام:» إذا مَرِضًَ العَبْدُ قال الله - تعالى -: اكتبوا لعبدي ما كان يعمله في الصحة إلى أن يبرأ «. وقال المُفَسَِّرون في قوله - تعالى -: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [التين: 5، 6] ؛ أن من صَار هرماً، كتب له أجْر عمله قبل هرمه غير مَنْقُوص، وقالوا في تَفْسِير قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «نِيَّة المُؤْمَن خَيْرٌ من أجْر عَمَلِهِ» إن المُؤْمِن يَنْوِي الإيمان والعمل الصَّالح، لو عاش لهذا لا يحصَّل له ثواب تلك النِّيَّة أبداً. قوله - تعالى -: {فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً} لما بيَّن [تعالى] أن المُجاهدين والقاعِدين لا يَسْتَويان، ثم إن عَدَم الاسْتِوَاء يَحْتَمل الزِّيَادة والنُّقْصَان، لا جرم بَيَّنَه الله - تعالى -. قوله: «درجةً» في نصبه أربعة [أوْجُه:] أحدها: أنها مَنْصُوبة على المَصْدر؛ لوقوع «درجة» موقع المَرَّة من التَّفْضِيل؛ كأنه قيل: فَضَّلهم تَفْيلة، نحو: «ضَرَبْتُه سَوْطاً» وفائدة التنكير التَّفْخِيم. الثاني: أنها حَالٌ من «المُجَاهِدِين» أي: ذوي درجة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 584 الثالث: مَنْصُوبة انتصابَ الظَّرْف، أي: في دَرَجَةٍ ومَنْزِلة. الرابع: انْتِصَابها على إسْقَاط الجَارِّ أي: بِدَرَجة. فلما حُذِف الجَارُّ، وَصَل الفِعْل فعَمِل، وقيل: نُصِب على التَّمْيييز. قوله: «وكلاًّ وعد الله الحسنى» «كلاًّ» مَفْعُول أول ل «وَعَد» مُقَدماً عليه، و «الحُسْنَى» مفعول ثان، وقرئ: «وكُلٌّ» على الرَّفْع بالابتداء، والجُمْلَة بعده خبره، وتالعَائشد مَحْذُوف، أي: وعده؛ وهذه كَقِرَاءة ابن عامر في سورة الحديد: {وَكُلٌّ وَعَدَ الله الحسنى} [الحديد: 10] . والمعنى: كلاًّ من القاعِدِين والمُجاهِدِين، فقد وَعَدَه الله الحُسْنَى. قال الفُقَهِاء: وهذا يَدُلُّ على أن الجِهَاد فرض كِفَايَةٍ، وليس على كُلِّ واحدٍ بِعَيْنِه؛ لأنه - تعالى - وعد القاعِدِين الحُسْنَى كما وعَد المُجَاهِدِين، ولو كان الجِهَادُ واجِباً على كلِّ أحدٍ على التَّعْيين، لما كان القَاعِدُ أهْلاً لوعد الله إيَّاه الحُسْنَى. وقيل: أراد ب «القَاعِدِين» هنا: أولِي الضَّرَر، فضَّل الله المُجَاهشدِين عليهم دَرَجَة؛ لأن المُجَاهِد باشَر الجِهَاد مع النِّيَّة، وأولُوا الضَّرر لهم نِيَّة بلا مُبَاشَرة، فنزلوا عَنْهُم درجَة وعلى هذا نزول الدَّلالة. قوله - تعالى -: {وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً} في انتصاب «أجراً» أربعة أوجُه: أحدها: النَّصْب على المَصْدَر من مَعْنَى الفِعْل الذي قَبْلَه لا من لَفْظَه؛ لأن مَعْنَى «فَضَّلَ الله» : آجرَ؛ فهو كقوله: أطْرُهُم أجْرٌ، ثم قوله - تعالى -: {دَرَجَاتٍ مِّنْهُ [وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً} بدل من قوله: «أجْراً» . الثاني: أنه انْتَصَب على إسْقَاط الخافِضِ، أي: فضلهم بأجْر. الثالث: النَّصْب على أنَّه مَفْعُول ثاني؛ لأنه ضَمَّن فضَّل معنى أعْطَى، أي: أعْطَاهُم أجراً تفضلاً مِنْه. الرابع: أنه حالٌ من درجات] . قال الزمخشري: «وانتصب» أجْراً «على الحَالِ من النّكرة التي هي» دَرَجَاتٍ «مقدَّمةًعليها» وهو غير ظَاهِر؛ لأنه لو تأخَّر عن «دَرَجَاتٍ» لم يَجُز أن يَكُون نعتاً ل «دَرَجَاتٍ» لعدم المطابقة؛ لأنَّ «درجات» جَمْع، و «أجْراً» مفرد، كذا ردَّه بعضهم، وهي غَفْلَة؛ فإنَّ «أجراً» مَصْدرٌ، والأفْصَح فيه يُوَحَّدَ ويُذَكَّر مكلقاً، [وقيل: انتصب على التَّمْيِيز، و «دَرَجَاتٍ» عَطْف بَيَان] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 585 قوله - تعالى - «درجات» فيه سِتَّة أوجه: الأربعة المذكورة في «دَرَجَة» . والخامس: أنه بدلٌ من «أجْراً» . السادس ذكره ابن عَطِيَّة أنه منصوبٌ بإضْمَار فعلٍ، على أن يكون تَأكِيداً للأجْرِ، كما تقول: «لك عليَّ ألفُ دِرْهَمٍ عُرْفاً» كأنك قُلْت: أعْرِفُها عُرْفاً، وفيه نظر، و «مغفرة ورحمة» عطف على «دَرَجَاتٍ» ، ويجُوز فيهما النَّصْب بإضْمَار فِعْلِهِمَا [تَعْظِيماً] ، أي: وغَفَرَ لهم مَغْفِرَةً، ورحِمَهُم رَحْمَةً. فأن قيل: إنه - تعالى - لِمَ ذَكَرَ أولاً «دَرَجَة» وهَهُنَا «دَرَجَاتٍ» ؟ فالجواب من وُجوه: أحدها: ليس المُراد بالًَّدرجة الوَاحِدَةَ بالعَدَدِ، بل الوَاحِدِ بالجِنْسِ، فيدْخُل تحته الكَثير بالنَّوْعِ. وثانيها: أن المُجَاهِد أفضَل [بالضَّروُرة] من القَاعِد المَضْرُور [بدرجَةِ] ومن القَاعِدِ الصَّحيح [بدَرَجَات] وهذا على القَوْل بعدم المُسَاواةِ بينَ المُجَاهِدِين والأضِرَاءِ. وثالثها: فضَّلَ المُجَاهِدين في الدُّنَيَا بدرجَة واحدة، وهي الغَنِيمَة، وفِي الآخِرة بدرجَات كَثيِرة في الجَنَّة. ورابعها: أن المُراد ب «المُجَاهِدين» في الأولى: المُجَاهِدِين بأمْوَالِهِم وأنفُسِهِم، وههنا المراد ب «المُجَاهِدين» : من كان مُجَاهِدَاً على الإطْلاق في كُلِّ الأمُور، وأعنِي: في عمل الظَّاهِرِ؛ كالجهاد بالنفس والمَالِ والحج، وعلى العباداتِ كُلِّها، وفي أعْمَال القلُوب وهو أشرف أنْوَاعِ الجِهَاد؛ لأنه صَرْف القَلْبِ من الالْتِفَات إلى غَيْر الله إلى الاستغَراقِ في طَاعَةِ الله. فصل ذكر المفسِّرون معنى «الدرجات» . قال ابن جبير في هذه الآيةِ هي سَبْعُونَ دَرَجَة، ما بَيْن كل دَرَجَتَيْن عَدْو الفَرَسِ الجَوَادِ المضمر سَبْعين خريفاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 586 وقيل: الدَّرَجَاتِ هي الإسْلام والهِجْرَةِ والجِهَادِ والشَّهَادَة، فاز بها المُجَاهدُِون. فصل: في حكم الجهاد والجهاد في الجُمْلَةِ فَرضٌ، غير أنه يَنْقَسِم إلى فَرْضِ العَيْنِ وفَرْضِ الكِفَاية، ففرض العَيْنِ أن يَدْخُلَ العَدُوُّ دارَ قوم من المُؤمِنِيِن، فيجب على كُلِّ مكَلَّفِ من الرِّجَالِ ممن لا عُذْرَ له مِنْ أهْلِ تلك البَلْدَةِ الّخُرُوج إلى عَدِّهم، حراً كان او عبداً، غنياً كان أو فقيراً، دفعاً عن أنفسهم وعن جِيِرانِهِم، وهو في حَقِّ من بَعُد مِنْهُم من المُسْلِمين عَوْنُهم، وإن وقعت الكِفَايَة بالنَّازِِلين بهم، فلا فرضَ على الأبْعَدين، ولا يَدْخُل في هذا القِسْم العَبيد والفُقَراء، فإذا كان الكُفَّار قَادِرِين في بِلادهم، فعلى الإمَام ألا يُخَلَّي كلَّ سَنَة عن غَزْوَة يغزوها بِنَفْسِه أو بسَراياه، حتى لا يكُون الجِهَاد مُعَطلاً. فصل: رد شبهة الشيعة قال الشِّيعة: عَلِيُّ كان مِن المُجَاهِدِين، وأبو بكر من القَاعِدِين، فيكون عَلِيٌّ أفْضَل، للآية، فيُقَالُ لهم: مباشَرَة علي للقِتَالِ أكثر مُبَاشَرَةً من النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيكون أفْضَل منه، وهذا لا يَقُولُه عَاقِلٌ، فإن قالوا: جِهَاد النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنه في إظْهَارِ الدِّين بتَقْرير [الأدلة] قُلْنَا: وكذلك أبُو بَكْر، سعى في إظْهَارِ الدِّين في أوّل الإسْلام وضَعْفِه، وجِهَاد عَلِيَّ كان وهو في الدِّين بعد ظُهُور الإسْلام وقُوَّتِه، والأوّل أفضل، وأيضاً: فجهَاد أبِي بكر كان بالدَّعْوَةِ إلى الدِّين، وأكثر أفاضل العَشْرَة أسْلَمُوا على يَدِهِ، وذلك حِرْفَة النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجهاد عَلِيٍّ كان بالقَتْل، والأوّل أفضل. فصل: رد شبهة المعتزلة [قالت المعتزلة] لما كان التَّفَاوُت في الثواب بحسب التَّفاوُت في العَمَل، دَلَّ على أن عِلَّة الثَّوابِ هو العَمَل، وأيضاً لو لم يكن العَمَل مُوجِباً للثَّوَاب، لكان الثَّوَاب هِبَةً لا أجراً، والله - تعالى - سمَّاه أجراً. فالجواب: أن العملَ عِلَّةُ الثَّوابِ، بجعل الشَّارع لا بِذَاتِه. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 587 فصل: الاشتغال بالنوافل أفضل من النكاح قال الشَّافِعِيّة: دَلَّت الآية على أن الاشتغال بالنَّوافِل، أفْضَل من الاشتغال بالنكاح، لأن من أقَام بالجِهَادِ، سقط الفَرْضُ عن البَاقِين، فلو أُقيموا عليه كان من النَّوافِل، والآية تَقْتَضِي تَفْضِيل جميع المُجَاهِدين من مُفْتَرَضٍ و [من] مُتنَفَّل على القَاعِدِين والمتنقل بالنِّكَاح قاعِد عن الجِهَاد، فثبت أن الاشتَغال بالمَنْدُوب إليه من الجِهَاد أفْضَل من الاشْتِغَال بالنِّكاح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 588 لما ذَكَر -[تعالى]- ثواب من أقْدَم على الجِهَاد، أتْبَعَه بِعِقَاب من قَعَدَ عَنْهُ ورضي بالسُّكُون في دَارِ الحَرْبِ. قوله: «توفَّاهم» يجوز أن يكون مَاضِِياً، وإنما لم تَلْحَق علامة التَّأنيث للفعل؛ لأن التأنيث مَجَازِيّ؛ ويدلُّ على كونه فعلاً مَاضِياً قِرَاءَةُ «تَوَفتهُم» بتاء التأنيث. قال الفرَّاء: ويكون مثل قوله: {إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا} [البقرة: 70] فيكون إخْبَاراً عن حَالِ أقْوَام معيَّنين، انْقَرَضُوا ومضوا ويجوز أن يَكُون مُضَارعاً حُذِفَتْ إحدى التَّاءَيْن تَخفيفاً والأصل: تتوَفَّاهُم، وعلى هذا تكُون الآيةُ عامَّة في حقِّ كلِّ من كان بهذه الصِّفَة. و «ظَالِمي» حالٌ من ضَمِير «تَوَفَّاهُم» والإضَافة غير محضة؛ إذ الأصْل ظَالِمين أنفسُهِم؛ إلا أنَّهم لما حَذَفُوا [النُّون] طلباً للخَفة، واسْم الفَاعِل سواء أُرِيد به الحَالُ أو الاستِقْبَال، فقد يكُون مفصُولاً في المَعْنَى وإن كان مَوْصُولاً في اللَّفْظِ؛ فهو كقوله - تعالى -: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] ، و {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] ، {ثَانِيَ عِطْفِهِ} [الحج: 9] والتقدير: مُمْطِر لَنَا وبَالِغاً للكَعْبَةِ وثانِياً عِطْفه، والإضافة في هَذِهِ المَوَاضِع لَفْظِيَّة لا مَعْنَوِيَّة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 588 وفي خبر «إنَّ» هذه ثلاثة أوْجُه: أحدها: أنه مَحْذُوفٌ، تقديُره: إنَّ الذين توفَّاهُم الملائكةُ هَلَكُوا، ويكون قوله: «قالوا: فيم كنتم» مبيِّناً لتلك الجُمْلَةِ المَحْذُوفة. الثاني: أنه «فأولئك مأواهم جهنم» ودخلت الفَاءُ زائدة في الخَبَر؛ تشبيهاً للموصُول باسم الشَّرْط، ولم تمنع «إنَّ» من ذَلِكَ، والأخْفَش يَمْنَعُه، وعلى هذا فَيَكُون قوله: «قالوا: فيم كنتم» إمَّا صفةً ل «ظَالِمِي» ، أو حالاً للملائكة، و «قد» مَعَه مقدَّرَةٌ عند مَنْ يشتَرِط ذلك، وعلى القول بالصِّفَة، فالعَائِد محذوف، أي: ظالمين أنْفُسَهم قَائِلاً لهم المَلاَئِكَة. والثالث: أنه «قالوا فيم كنتم» ، ولا بد من تَقْدِيرِ العَائِد أيْضاً، أي: قالوا لَهُم كذا، و «فيم» خَبَرَ «كُنْتُم» ، وهي «ما» الاستِفْهَامِيَّة حُذِفَت ألِفُها حين جُرَّتْ، وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك عند قوله: {فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله} [البقرة: 91] ، والجُملة من قوله: «فيم كنتم» في مَحَلِّ نَصْبٍ بالقَوْلِ، و «في الأرض» متعلقٌ ب «مُسْتَضْعَفِين» ، ولا يجوز أن يكُون «في الأرْضِ» هو الخَبَر، و «مُسْتَضْعَفِين» حالاً، كما يَجُوز ذلك في نَحْو: «كان زيدٌ قائَماً في الدَّارِ» لعدمِ الفَائدة في هذا الخَبَر. فصل في معنى التَّوَفِّي في هذا التَّوفِّي قولان: الأول: قول الجُمْهُور، معناه تُقْبَض أرْوَاحهم عند الموْتِ. فإن قيل: كيف الجَمْع بَيْنَه وبين قوله - تعالى -: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] ، {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] وبين قوله {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] . فالجواب: خالق الموت هو الله - تعالى -، والمُفَوَّض إليه هذا العمل هو مَلك المَوْت وسَائِر الملائكة أعْوانه. الثاني: توفَّاهم الملائِكة، يعني: يَحْشُرونهم إلى النَّار، قاله الحَسَن. فصل الظُّلْم قد يُراد به الكُفْر؛ كقوله - تعالى -: {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، وقد يرادُ به المَعْصِيَة؛ كقوله: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} [فاطر: 32] ، وفي المراد بالظُّلْمِ هَهُنَا قَوْلان: الأول: قال بَعْضُ المُفَسِّرين: نزلت في نًاسٍ من أهْلِ مَكَّة، تكلَّمُوا بالإسْلام ولم الجزء: 6 ¦ الصفحة: 589 يُهَاجِرُوا منهم: قَيْس بن الفاكه بن المُغيرَة، وقَيْس بن الوَليد وأشْبَاهُهُمَا، فلما خَرَج المُشْرِكُون إلى بَدْر، خرجوا مَعَهُم، فقاتَلُوا مع الكُفَّار وعلى هذا أراد بِظُلْمِهِم أنْفُسَهُم: إقامَتَهُم في دَارِ الكُفْرِ، وقوله - تعالى -: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملاائكة} أي: ملك المَوْتِ وأعْوَانِهِ، أو أراد مَلَك المَوْتِ وَحْدَه؛ لقوله - تعالى -: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] والعَرَبُ قد تُخَاطِب الوَاحِد بلَفْظ الجَمْع. الثاني: أنها نَزَلَت في قَوْم من المُنَافِقِين، كانوا يُظْهِرُون الإيمان للمُؤمِنِين خوفاً، فإذا رَجَعُوا إلى قَوْمِهِم، أظْهَرُوا لهم الكُفْر، ولا يُهَاجِرُون إلى المَدِينَةِ. وقوله: «قالوا فيم كنتم» من أمْرِ دينكُم، وقيل: فيم كُنْتُم من حَرْب أعْدَائه، وقيل: لما تركتم الجِهَادَ ورَضِيتُم بالسُّكُون دَارِ الكُفَّار؛ لأن الله - تعالى - لم يَكُن يَقْبَل الإسلام بعد هِجْرَةَ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا بالهِجْرَة، ثم نَسَخَ ذلك بَعْدَ فَتْحِ مكَّة بقوله «لا هِجْرَة بَعْدَ الفَتْح» وهؤلاء قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وضربَتَ الملائكةُ وجوهَهم وأدْبَارَهُم، وقَالُوا لهم: فيم كُنْتُم؟ [ «قالوا كُنَّا» ] أي: في ماذا كُنْتُم أو في أيِّ الفَرِيقَيِن كنتم؟ أفي المُسْلِمين أو في المُشْرِكِين؟ سُؤال توبيخ وتَقْرِيع، فاعتذروا بالضَّعْف عن مُقَاوَمَة المُشْرِكِين، «وقالوا كنا مستضعفين» عَاجِزين، «في الأرْضِ» يعني «أرْض مَكَّة. فإن قيل: كان حَقُّ الجَوَاب أن يَقُولوا: كنا في كَذَا وكذا، ولم نكُنْ في شَيْء. فالجَوَاب: أن مَعْنَى» فِيمَ كُنْتُم «: التَّوْبِيخ، بأنهم لم يَكُونُوا في شَيْءٍ من الدِّين، حَيْثُ قَدَرُوا على المُهَاجَرَة ولم يُهَاجِرُوا فقالوا: كُنَّا مستَضْعَفِين اعْتِذاراً عمَّا وبَّخُوا بِه، واعتِلالاً بأنَّهم ما كَانُوا قادِرِينِ على المُهَاجَرة، ثم إنّ المَلاَئِكَة لم يَقْبَلُوا منهم هذا العُذْر؛ بل ردُّوه عَلَيْهِم، فقالوا: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} يعني أنكم كنتم قادرين على الخُرُوجِ من مَكَّة إلى بَعْضِ البِلاَدِ التي لا تُمْنَعُون فيها من إظْهَار دِينكُم، فبقيتم بين الكُفَّار لا للعجز عن مُفَارَقَتِهِم، بل مع القُدْرَة على المُفَارَقَة. فصل وقد ورد لَفْظُ الأرْض على ثَمَانِية أوْجُه: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 590 الأول: الأرض المَعْرُوفة. الثاني: أرْضُ المَدِينة، قال الله - تعالى -: {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} . الثالث: أرض مَكَّة؛ قال - تعالى -[ {قَالُواْ] كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض} أي: بمكة. الرابع: أرْض مِصْر؛ قال - تعالى - {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض} [الإسراء: 103] . الخامس: أرض الجَنَّة؛ قال تعالى {وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ} [الزمر: 74] . السادس: بُطُون النِّساء؛ قال - تعالى -: {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا} [الأحزاب: 27] يعني: النساء. السابع: الرحمة؛ قال - تعالى -: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ} [الزمر: 10] ، وقوله - تعالى -: {ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} [العنكبوت: 56] أي رحْمَتِي. الثامن: القَلْب؛ قال - تعالى -: {اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: 17] ، أي: يحيى القُلُوب بعد قَسْوَتِها. قوله: «فتُهاجِرُوا» مَنْصُوبٌ في جَوَابِ الاسْتِفْهَام. وقال أبو الببَقَاء: «ألَمْ تَكُنْ» استِفْهام بمعنى التَّوْبِيخ، «فتُهَاجِرُوا» مَنْصُوبٌ على جواب الاستفهام؛ لأنَّ النَّفْي صار إثْبَاتاً بالاستفهَام «. انتهى. قوله:» لأنَّ النَّفْي «إلى آخره لا يَظْهَر تَعْلِيلاً لقوله:» مَنْصُوبٌ على جواب الاستِفْهَام «؛ لأن ذلك لا يَصِحُّ، وكذا لا يَصِحُّ جَعْلُه عِلّةً لقوله:» بمَعْنَى التَّوْبيخ «، و [» ساءت «] : قد تَقَدَّم القول في» سَاء «، وأنها تَجْرِي مَجْرى» بِئْس «فيُشْترط في فاعلها ما يُشْتَرَك فَاعِلِ تيك، و» مصيراً «: تَمْيِيز. وكما بَيَّن عَدَم عُذْرِهِم، ذكر وعيدَهُم، فقال:» فأولئك مأواهم جَهَنَّم، ثم استَثْنى فقال: «إلا المستضعفين» : في هذا الاستثناءِ قولان: أحدُهُما: أنه متصلٌ، والمسْتَثْنَى منه قوله: «فأولئك مأواهم جهنم» ، والضمير يعودُ على المُتوفِّيْن ظَالِمِي أنْفُسِهم، قال هذا القَائِل: كأنه قيل: فأولئك في جَهَنَّم إلا المُسْتَضْعَفين، فعلى هذَا يَكُون هذا استِثْنَاء مُتَّصلاً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 591 والثاني - وهو الصَّحيح: - أنه مُنْقَطِعٌ؛ لأن الضَّمير في «مَأواهُم عائدٌ على قوله:» إن الذين توفاهم «، وهؤلاء المُتوفَّوْن: إمَّا كُفَّارٌ أو عُصَاة بالتَّخَلُّف، على ما قال المفَسِّرون، [وهم] قادرون على الهِجْرَة، فلم يندرجْ فيهم المُسْتَضْعَفُون فكان مُنْقَطِعاً، و» مِنْ الرِّجَال «حالٌ من المُسْتَضْعَفِين، أو من الضَّمِير المستتر فيهم، فيتعلَّقُ بمَحْذُوف. قوله:» لا يستطيعون حيلة «في هذه الجُمْلَة أرْبَعة أوجه: أحدها: أنَّها مستأنفةٌ جوابٌ لسؤالٍ مقدَّرٍ، كأنه قيل: ما وَجْهُ استِضْعَافِهم؟ فقيل: كذا. والثاني: أنها حالٌ. قال أبو البَقَاء:» حالٌ مبينَّة عن مَعْنَى الاستِضْعَاف «، قال شهاب الدين: كأنَّه يُشِير إلى المَعْنَى المتقدِّم في كونها جَوَاباً لسُؤال مُقَدِّر. الثالث: أنها مفسِّرةٌ لنفسِ المُسْتَضْعَفِين؛ لأنَّ وجوه الاستِضْعَاف كثيرة، فبيَّن بأحد مُحْتَمَلاته، كأنه قيل: إلا الذين استُضْعِفُوا بسبب عَجْزِهِم عن كذا وكذا. الرابع: أنها صِفَة للمُسْتَضْعَفِين أو للرِّجَال ومن بَعْدَهم، ذكره الزمخشري، وعبارة البيضاوي أنه صِفَة للمُسْتَضْعَفِين؛ إذ لا تَرْقِية فِيِهِ، أي: لا تعيُّن فيه، فكأنه نكِرةٌ، فَصَحَّ وَصْفُهُ بالجُمْلَة. انتهى ما ذكرنا. واعتذر عن وصف ما عُرِّف بالألف واللام بالجُمَل التي ي حُكم النَّكِرَات، بأن المُعَرَّف بِهِمَا لمَّا لم يكن مُعَيَّناً، جاز ذلك فيه، كقوله: [الكامل] 1867 - وَلَقَدْ أمُرُّ عَلَى اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ..... ... ... ... ... ... ... وقد قَدَّمتُ تَقْرير المَسْألةِ. فصل في معنى الآية المعنى: لا يقدرون على حِيلَةٍ ولا نَفَقَةٍ، إذا كان بِهِم مَرَضٌ، أو كانوا تَحْتَ قَهْر قَاهِرٍ يَمْنَعُهم من المُهَاجَرَة. وقوله: « [و] لا يهتدون سبيلاً» أي: لا يَعْرِفُونَ طريق الحقِّ، ولا يَجِدُون من يَدُلُهم على الطَّرِيق. قال مُجَاهد والسُّدِّي وغيرهما: المرادُ بالسَّبيل [هنا:] سبيل المَدِينَة. قال القُرْطُبِيّ: والصَّحِيح إنَّه عامٌّ في جَمِيع السُّبُل. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 592 روى أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بَعَثَ بهذه الآيَة [إلى] مسلمي مَكَّة، فقال جندب بن ضمرة لِبنيه: احْمِلُونِي فإني لَسْت من المُسْتَضْعَفِين، ولا أنِّي لا أهْتَدِي الطَّرِيق، والله لا أبيتُ اللَّيْلَة بمكّة، فحملُوه على سَرِير مُتَوجِّهاً [إلى] المدينة، وكان شيخاً كبيراً فَمَات في الطَّريق. فإن قيل: كيفَ أدْخَل الوِلْدَان في جملة المسْتَثْنين من أهْل الوَعِيد، فإن الاستِثْنَاء إنَّما يَحْسُن لو كانُوا مستحِقِّين للوَعِيد على بَعْضِ الوُجُوه. قلنا: سُقُوط الوعيدِ إذا كان بِسَبَبِ العَجْزِ، والعَجْزُ تارة يَحْصُل بسبَبِ عَدَمِ الأهْبَةِ، وتارةً [يًحْصُل] بسبَبِ الصِّبَا، فلا جرم حَسُن هذا الاستِثْنَاء، هذا إذَا أريد بالوِلْدَان الأطْفَال، ويجُوز أن يُرَاد المُرَاهِقُون منهم، الَّذيِن كَمُلَت عُقُولُهم، فتوجَّه التَّكْلِيف نَحْوَهُم فيما بَيْنَهُم [وبين الله] ، وإن أريد العَبِيدُ والإمَاءُ البَالِغُون، فلا سُؤال. قوله: «فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم» وفيه سُؤالان: أحدهما: أن القَوْمَ [لما] كانوا عَاجِزِين عن الهِجْرَة، والعَاجِز عن الشَّيْء غير مُكَلَّف له، وإذا لم يَكُن مُكَلَّفاً، لم يكن عَلَيْهِ في تَرْكِهِ عُقُوبَة، فلم قال: «عسى الله أن يعفو عنهم» والعفو لا يتصوَّر إلاَّ مع الذَّنْبِ، وأيضاً: «عَسَى» كلمة إطْمَاع، وهذا يَقْتَضِي عدم القَطْعِ بحُصُول العَفْوِ. فالجواب عن الأول: أن المُسْتَضْعَف قد يكُون قَادِراً على ذَلِكَ الشَّيْء مع ضرْبٍ من المَشَقَّة، وتمييز الضَّعْف الذي يَحْصُل عنده الرُّخْصة عند الحَدِّ الذي لا يَحْصُل عنده الرُّخْصَة شاقٌّ، فربما ظَنَّ الإنْسَان أنَّه عاجز عن المُهَاجَرة، ولا يكون كَذَلِكَ، ولا سِيَّمَا في الهِجْرَة عن الوَطَنِ؛ فإنها شَاقَّة على النَّفْس، وبسبب شِدَّة النَّفْرَة قد يظن الإنْسَان كونه عَاجِزاً، مع أنَّه لا يُكون كذلك، فلهذا المَعْنَى كانت الحَاجَة في العَفْو شَدِيدة في هَذَا المقَامِ. السؤال الثاني: ما فَائِدة ذكْر لَفْظَة «عَسَى» هَهُنا؟ فالجواب: لأن فيها دَلاَلَة على [أن] ترك الهِجْرَة أمر مُضَيّق لا تَوْسِعة فيه، حتى أن المُضْطَر البَيِّن الاضْطِرَار من حَقِّه أن يقُول: عسى الله أن يَعْفُو عني، فكيف الحال في غَيْرِه، ذكره الزَّمَخْشَرِي. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 593 قال ابن الخَطِيب: والأولى أن يكون الجَوَاب ما تَقَدَّم من أن الإنْسَان لشدة نُفْرَته عن مُفارقَة الوَطَن، رُبًَما ظَنَّ نَفْسَه عَاجِزاً عنها مع أنه لا يَكُون كَذَلِكَ، فلهذا المَعْنَى ذكر العَفْوَ بكلمة «عَسَى» لا بالكَلِمَة الدَّالَّة على القَطْع. قال المفَسِّرُون: «وكلمة» عَسَى «من الله وَاجِبٌ؛ لأنه للأطْمَاع، والله - تعالى - إذا أطْمَعَ عَبْدَه أوْصَلَه إليه. ثم قال:» وكان الله غفوراً رحيماً «. ذكر الزَّجَّاج في كان ثلاثة أوجه: الأول:» كان «قَبْلَ أن خلق الخَلْق مَوْصُوفَاً بِهَذِه الصِّفَةِ. الثاني: كان مع جَمِيع العِبَاد بِهذه الصِّفَة، والمقصود بَيَان أن هذا عَادَة الله أجْرَاهَا في حَقِّ خلقه. الثالث: أنه - تعالى - لو قال:» عفو غفور «كان هذا إخْبَارَاً عن كَوْنِهِ كذلك فقط، ولمَّا قال: إنَّه كان كَذَلِكَ، فهذا إخْبَار وقع بِخَبَرِه على وَقْفِهِ، فكان ذلك أدلَّ على كونه صِدْقاً [وحَقّاً] ومُبَرَّأ عن الكَذِب. وقال ابن عباس: كُنْتُ أنا وأمِّي ممن عَذَرَ اللهُ [يعني] : من المستضَعْفَيِن، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدْعُو لهؤلاءِ المسْتَضْعَفين. روى أبو هُرَيْرَة؛ قال كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا فقال: سَمِع الله لِمَنْ حَمِدَه في الرُّكْعَة الأخيرة [من صَلاَةِ العِشَاء] قنت: اللَّهمُ أنْجِ عيَّاش بن أبي رَبِيعَة، اللَّهُم أنْجِ الوليدَ بن الوليدَ، اللَّهُمَّ أنْج المستَضْعَفين من المؤمنين، اللهم اشْدُدْ وطْأتَكَ على مُضَر، اللهم اجْعَلْهَا عليهم سِنين كسِنِي يُوسُف. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 594 لما رَغَّبَ في الهِجْرَةِ، ذكر السَّبَب الذي يَمْنَع الإنْسَان من الهِجْرَة ثم أجَابَ عَنه، وذلك المَانِعُ أمْرَان: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 594 الأوّل: أن يكون في وَطَنِه في راحةٍ وَرَفَاهِية فيظن لأنه بِمفَارَقَتِه للوَطَن يقع في الشِّدَّة وضيق العَيْش، فأجاب الله عن ذلك بقوله: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً} . قال القرطبي: قوله: {وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} شرط، وجَوَابُه: {يَجِدْ فِي الأرض} . واشتِقاق المُرَاغَم من الرغَام وهو التُّرَاب؛ يقولون: رغم أنفه، ويريدون أنه وَصَل إلى شَيْء يَكْرَهُه؛ لأن الأنْفَ لا يجد ذلك [البَلَد] من النِّعْمَة والخَيْر، ما يكون سَبَباً لرغم أنفِ أعدَائِه الَّذِين كَانُوا معه في بلدته الأصْلِيّة، فإنه إذا اسْتَقَام حَالُه في تِلْكَ البَلَد الأجْنَبِيَّة، وَوَصَل خَبَرُه إلى أهْل بَلْدَتِه، خجلوا من سُوءِ معامَلَتِهم له، وزعمت أنُوفُهم بذلك وَهَذَا أوْلَى الوُجُوه. وأمَّا المَانِعِ الثاني عن الهجرة: فهو أن الإنْسَان يَقُول: إن خَرَجْت عن بَلَدِي لطلب هذا الغَرَضِ، فربما وَصَلْتُ إليه، وربَّما لم أصِلْ إليه، فالأولى ألا أُضِيعَ الرَّفَاهِيَة الحَاضَرة بسبب طَلَبِ شَيء قد يَحْصُل، فأجَابَ الله - تعالى - عن ذَلِك بقوله: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} . والمراد ب «السِّعَة» : سعة الرِّزْق، وقيل: سَعَة من الضَّلال إلى الهُدَى. قوله - تعالى -: {وَمَن يَخْرُجْ [مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} ] . روي أنه لما نَزَلَت هذه الآيَةِ، سَمِعَهَا رجلٌ من بَنِي لَيْث شَيْخٌ كبير مَرِيضٌ يقال له: جُنْدَعُ بن ضَمْة، فقال: والله ما أنَا ممَّن استَثْنَى الله - عَزَّ وَجَلَّ -، وإني لأجِدُ حِيلَة، الجزء: 6 ¦ الصفحة: 595 ولي من المَالِ ما يُبَلِّغُنِي المَدينَةَ وأبعد مِنْهَا، والله لا أبِيتُ اللَّيلة بمكَّة، أخرِجُوني، فخرجوا به يَحْمِلُونَه على سَرير حتى أتَوْا به التَّنْعِيم، فأدركه المَوْت، فصفَّق بيمِينِه على شِمَالِه، فقال: اللَّهُم هذه لك وهذه لِرَسُولِك، أبَايعُك على ما بَايَعَك عليه رَسُولُك، فمات فَبَلَغَ خَبَرُه أصْحَابَ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقالوا: لو وَافَى المَدِينَة لكان أتمَّ أجْراً. وضَحِكَ المُشْرِكُون وقالوا: ما أدْرَك هذا ما طَلَب، فأنْزَلَ الله تعالى -: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت [فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} ] أي: قبل بُلُوغه إلى مهاجره، «فقد وقع أجْرُه على الله» . أي: وجَب بإيجَابِه على نفسه فَضْلاً مِنْه. فصل قال بَعْضُهم: إن من قَصَد طاعَةً وعجز عن إتْمَامِهَا، كتب الله ثَوابَ تِلْكَ الطَّاعَة؛ كالمرِيض يَعْجَزُ عما كان يَعْمَلُه في حال صِحَّتِه من الطَّاعَة، فيكتب الله [له] ثواب ذلك العَمَل؛ هكذا رُوِي عن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال آخَرُون: يُكْتَب له: أجر قَصْدِه، وأجْر القَدْرِ الذي أتَى به من ذَلِكَ العَمَل، أما أجْرُ تَمَام العَمَلِ، فذلك مُحَالٌ. والقول الأوَّل أوْلى؛ لأنه - تعالى - ذكر هذه الآيَةِ في مَعْرِض التَّرْغِيب في الهَجْرَة، وهو أنَّ من خرج للرَّغْبَة في الهِجْرَة، فقد وجد ثَوَاب الهِجْرَة، والتَّرْغِيب إنما يَحْصُل بهذا المَعْنَى، فأما القَوْل بأنّ معنى الآيةِ هو أن يَصِل إليه ثَوَابُ ذَلِكَ القَدْر من العَمَل، فلا يَصْلُح مرغِّباً؛ لأنه من المَعْلُوم أن كُلَّ من أتَى بِعَمَلٍ فإنه يَجِدُ الثَّوَاب المرتَّبَ على قَدْرِ ذلك العَمَل. فصل: شبه المعتزلة في وجوب الثواب على الله والرد عليها قالت المُعْتَزِلَة: هذه الآية تَدُلُّ على أن العمل يُوجِب الثَّواب على الله - تعالى -؛ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 596 لقوله: {فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله} ، وذلك يدلُّ على قَوْلِنَا من ثلاثة أوجُه: الأول: حقيقة الوُجُوب هو الوُقُوع والسُّقُوط؛ قال - تعالى -: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} [الحج: 36] أي وقعت وسَقَطَت. وثانِيها: أنه ذَكَرهُ بلفظ الأجْر، والأجر عبارة عن المَنْفَعَة المسْتَحقِّة، فأمَّا الذي لا يكُون مُسْتَحقاً، فلا يُسَمَّى أجْراً، بل يُسمَّى هِبَةً. وثالثها: قوله: «على الله» وكلمة «عَلَى» للوُجُوب؛ قال - تعالى -: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت [مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} ] [آل عمران: 97] . والجواب: أنا لا نُنَازعُ في الوُجُوب، لكن بِحُكْم الوَعْد والتَّفْضُّل والكرم، لا بحكم الاسْتِحْقَاق الذي لو لم يفْعَل لخَرَج عن الإلهيَّة. فصل نقل القُرْطُبِي عن مالكٍ؛ أنه قال: هذه الآية تدلُّ على أنَّهُ ليس لأحَدٍ لمُقَامُ بأرض يُسَبُّ فيها السَّلَف ويَعْمَلُ فيها بِغَيْر الحَقِّ. فصل استدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ الغَازِي إذا مَاتَ في الطَّرِيقِ، وَجَبَ سهْمُهُ في الغَنِيمَةِ، كما وَجَبَ أجْرُه، وفيه ضَعْفٌ؛ لأن لَفْظَ الآيَةِ مَخْصُوص بالأجْر، وأيضاً فاسْتِحْقَاق السَّهم من الغَنِيمَة مُسْتَحقٌّ بحيازَتِها، إذ لا يُكُون ذلك إلا بَعْدَ حِيَازَتِها. قوله - تعالى -: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ} قال عِكْرمَة مَوْلَى ابْن عبَّاس: طَلَبْتُ اسم هذا الرَّجُل أرْبَع عَشْرَة سَنَة حتى وَجَدْتُه، وفي قول عِكْرمة [هذا] دَلِيلٌ على شَرَفِ هذا العِلْمِ، وأنَّ الاعْتِنَاء به حَسَنٌ والمَعْرِفَة به فَضْلٌ؛ ونحوه قول [ابن عبَّاس] : مكثت سِنين أريد أن أسْأل عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن المَرْأتَيْن اللَّتَيْن تظاهرتا على رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فما يَمْنَعُنِي إلا مَهَابَتُه، والذي ذَكَرَه عِكْرِمَة هو قَوْل ضمرة بن العِيص، أو العيص بن ضمرة بن زِنْبَاع، حَكَاه الطَّبَري عن سَعِيد بن جُبَيْر، ويقال فيه ضُمَيْرة أيضاً، ذَكَرَ أبُو عمرو أنَّه قد قِيلَ فيه: خَالِد بن حزام بن خُوَيْلد ابن أخِي خَدِيجَة [خرج] مُهَاجراً إلى لأرْض الحَبَشَة، فَهَتَفَتْهُ حيَّة في الطَّرِيق، فمات قبل أن يَبْلُغ أرْض الحَبَشَة؛ فأنزل الله فِيه الآية، وحكى ابْن الحَوْزِيّ أنه حَبيبُ بن ضَمْرة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 597 وقال السُّدِّيُّ: ضَمْرة بن جُنْدب الضمريّ. وحكى المَهْدَويّ أنه ضمرة بن ضمرة بن نُعَيم، وقيل ضمرة بن خُزاعة. وروى معمر عن قتادة: لما نَزَل قوله - تعالى -: {إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملاائكة} [النساء: 97] قال رَجُل من المُسْلِمِين وهو مَرِيضٌ: والله - تعالى - ما لي عُذْرٌ: إني لَدَلِيل في الطَّرِيق وإني بمُوسِرٌ، فاحْمِلُوني فأدْركه المَوْتُ في الطَّرِيق، فقال أصْحَاب النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لو بَلَغَ إلَيْنَا لتَمَّ أجْرُه، وقد مات بالتَّنْعِيم، وجاء بَنُوه إلى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأخبروه بالقِصَّة، فنزل قوله: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً [إِلَى الله وَرَسُولِهِ} ] الآية. قوله: «ثم يدركه» الجُمْهُور على جَزْم «يدركْه» عَطْفَاً على الشَّرْطِ قبله، وجوابه: «فقد وقع» وقرأ الحَسَن البصري بالنَّصْب. قال ابن جِنِّي: «وهذا لَيْسَ بالسَّهْل، وإنما بَابُه الشَّعْر لا القُرْآنُ، وأنشد [الوافر] 1868 - سَأتْرُكُ مَنْزِلِي لِبَنِي تَمِيم ... وَألْحَقُ بِالْحِجَازِ فَأسْتَرِيحَا والآيةُ أقْوَى من هذا؛ لتقدُّم الشرط قَبْلَ» المَعْطُوف «، يعني: أن النَّصْب بإضْمَار» أن «في غَير تِلك المَوَاضِع ضَرُورَةٌ؛ كالبيتِ المتقدم؛ وكَقوْل الآخر: [الطويل] 1869 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وَيَأوِي إلَيْهَا المُسْتَجِيرُ فَيُعْصَمَا وتبع الزَّمَخْشَرِي أبا الفَتْح في ذلك، وأنْشَدَ البَيْت الأوَّل. وهذه المَسْألة جَوَّزها الكُوفيُّون لمدركٍ أخرَ، وهو أن الفِعْلَ الواقِع بين الشَّرْط والجَزَاء، يجوز فيه الرَّفْع والنَّصْب والجَزْمُ إذا وَقَعَ بعد الواوِ والفَاءِ؛ واستدَلُّوا بقول الشاعر: [الطويل] 1870 - ومَنْ لا يُقَدِّمْ رِجْلَهً مُطْمَئِنَّةً ... فَيُثْبِتَهَا فِي مُسْتَوى الْقَاعِ يَزْلَقِ وقول الآخر: [الطويل] 1871 - ومَنْ يَقْتَرِب مَنِّا ويَخْضَعَ نُؤوِه ... ولا يَخْشَ ظُلْماً مَا أقَامَ وَلاَ هَضْمَا الجزء: 6 ¦ الصفحة: 598 وإذا ثَبَتَ ذلك في الواوِ والفضاءِ، فليَجُزْ في» ثُمَّ «؛ لأنها حَرْف عَطْفٍ. وقرأ النَّخعيُّ، وطَلْحَة بن مُصَرِّف برفع الكَاف، وخَرَّجَها ابن جنِّي على إضْمَار مُبْتَدَأ، أي:» ثم هو يُدْرِكُه المَوْتُ «فعطَ جُمْلَةً اسمِيّةً على فِعْلِيَّةً، وهي جُمْلَة الشَّرْطِ: الفعلُ المَجْزُومُ وفاعلُه، وعلى ذلك حَمَل يُونُس قولَ الأعْشَى: [البسيط] 1872 - إنْ تَرْكَبُوا فَرُكُوبُ الخَيْلِ عَادَتُنَا ... أوْ تَنْزِلُون فَإنَّا مَعْشَرٌ نُزُلُ أي: وأنتم تنزلون، ومقله قول الآخر: [البسيط] 1873 - إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأتِيِنِي بَقِيَّتُكُمْ ... فَمَا عَلّيَّ بِذَنْبٍ عِنْدَكُمْ حُوبُ أي: ثم أنتم تَأتيني، وهذا أوْجهُ من أن يُحْمَل على أن يَأتِيني. قلتُ: يريدُ أنه لا يُحْمَلُ على إهْمَالِ الجَازِمِ، فيُرْفَعُ الفعل بعده، كما رفع في: 1874 - ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لاَقَتْ لَبُونُ بَنِي زِيَادِ فلم يَحْذِفِ اليَاء، وهذا البَيْت أنشده النَّحويُّون على أنَّ عَلاَمَةَ الجَزْم، حَذْفُ الحَرَكَةِ المُقَدَّرة في حَرْفِ العِلَّة، وضَمُّوا إليه أبياتاً أخَرَ، أمَّا أنَّهم يَزْعُمُون: أنَّ حَرْف الجَزْم يُهْمَل، ويَسْتدلون بهذا البَيْت فَلا. ومنهم مَنْ خَرَّجَهَا على وَجْه أخَر؛ وهو أنه أراد الوَقْفَ على الكلمة، فنقلَ حَركَة هاءِ الضَّمِير إلى الكَافِ السَّاكِنَة للجَزْمِ، كقولِ الآخَر: [الرجز] 1875 - عَجِبْتُ والدَّهْرُ كَثِيرٌ عَجَبُه ... مِنْ عَنَزِيٍّ سَبَّنِي لَمْ أضْرِبُهْ يريد: «لم أضْرِبْه» بسكون البَاء للجَازِم، ثم نَقَل إليها حَرَكَة الهاءِ، فصار اللَّفْظُ «ثم يُدْرِكُهْ» ثم أجْرََى الوصْلَ مُجْرى الوَقْفِ، التقى ساكنان، فاحْتاجَ إلى تَح~رِيك الأوَّلِ وهو الهَاءُ، فَحَرَّكها بالضَّمِّ؛ لأنه الأصلُ، وللإتباع أيضاً. ثمَّ قالَ الله - تعالى -: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} أي: ويَغْفِرُ [الله] ما كَانَ مِنْهُ [مِنِ القُعود] إلَى أنْ خَرَجَ. فصل قال ابن العَرَبِيَّ: قَسَّمَ العُلَمَاءُ الذِّهَاب في الأرْض [إلى] قسمين: هَرباً، وطلباً. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 599 والأول ينْقَسِم سِتَّة أقْسَام: أحدها: الهِجْرَة: وهي الخُروج من دَارِ الحرب إلى دَار الإسْلام، وكانت فَرْضَاً في أيَّام النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذه الهِجْرَةِ باقيةٌ مفروضَةىٌ إلى يَوْمِ القِيَامَة، والَّتِي انقطعت بالفَتْح: حي القَصْد إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَيْثُ كَانَ، فإنْ بَقِيَ في دَارِ الحَرْب، عصى ويختلف في حَالِه. وثانيها: الخُرُوج من أرْض البِدْعَة؛ كما تقَدَّم نَقْلُه عن مالك؛ فإنه إذا لم يَقْدِر على أزَالة المُنْكَر يَزُولُ عَنْهُ، قال [الله]- تعالى -: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] . وثالثها: الخُرُوج من أرض غلب عليها الحرامُ؛ لأن طَلَبَ فَرْضٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ. ورابعها: الفِرَار من الأذِيَّة في البَدَن، وذلك فَضْل من الله ورُخًصَةٌ؛ كما فَعَلَ إبْراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا خَاف من قَوْمِه وقال: {إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي} [العنكبوت: 26] ، وقال: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] ، وقال - تعالى - حكاية عن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: 21] . وخامسها: خَوْف المَرَضِ في البلاد الوَخْمَة، فيخرج إلى أرْضِ النزهة؛ لأن النِّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أذن للرُّعاة حين استَوْخَمُوا المدينة، أن يَخْرُجُوا إلى المَسْرَح فيكونوا فيه؛ حتى ما يَصحُّوا، وقد استُثْني من ذلك الخُروُج من الطَّاعُون، بِمَا في الحَدِيث الصَّحيح. وسادسها: الفِرَار خَوْف الأذِيَّة في المَالِ، فإن حُرْمة مال المُسْلِم؛ كَحُرْمَة دَمِه. وأما الطَّلَبُ فينقسم قِسْمَيْن: طلب دِين وطَلَب دُنْيَا. فأمَّا طَلَب الدِّين فينقسم إلى تِسْعَةِ أقْسَام: الأول: سَفَر العِبْرة، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ [كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} ] [الروم: 9] . يقال: إنَّ ذا القَرْنَيْنِ إنَّما طَافَ الأرْضَ؛ ليرى عَجَائِبَهَا، وقيل: ليُنْفِذَ الحَقَّ فيها. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 600 الثاني: سفر الحَجِّ، فالأوَّل نَدْب، وهذا فَرْضٌ. الثالث: الجهاد [وله أحكامُه] . الرابع: سَفَر المعاش؛ إذا تَعَذَّر على الرَّجُل مَعَاشُه مع الإقامة، فيخرج في طَلَبِه لا يزيد عَلَيْه؛ من صَيْد، أو احتِطَابٍ، أو احتشَاسٍ، فهو فَرْضٌ عَلَيْه. الخامس: سَفَر التِّجَارة والكَسْب الزَّائِد على القُوتِ، وذلك جَائزٌ بفضل الله تعالى؛ قال - تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: 198] يعني: التِّجَارة، وهو نَعْمَة مَنَّ الله بِهَا في سَفَر الحَجِّ، [فكيف إذَا انْفَرَدَتْ] . السَّادس: طلب العِلْم. السَّابِع: قصد البِقَاع الشَّرِيفة؛ قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا تُشَدُّ الرِّحَال إلاَّ إلى ثَلاثَةِ مَسَاجِد» . الثَّامن: الثُّغُور للر! ِبَاط بها. التاسع: زيارة الإخْوَان في الله - تعالى -؛ قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «زارَ رجُلٌ أخاً لَهُ في قَرْيَة، [فأَرْصَدَ الله له مَلَكَاً على مدرجته، فقال: أيْن تُرِيدُ، قال: أريد أخاً لِي في هَذِهِ القَرْيَة] ، فقال: هل له عَلَيْكَ من نِعْمَةٍ تَرُّبُّها عَلَيْه، قال: إني أحْبَبْتُه في الله، قال: فإني رسُول الله إلَيْك، بأنَّ الله قد أحَبَّك كَمَا أحْبَبْتَهُ فيه» [رواه مسلم، وغيره] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 601 لما ذَكَرَ الجِهَاد ذَكَرَ أحد الأمُور التي يَحْتَاج إليها المُجَاهِد، وهو مَعْرِفَة كَيْفِيَّة أداء الصَّلاةِ في الخَوْف، والاشْتِغَال بمُحارَبَة العَدوِّ. «أن تقصروا» : هذا على حَذْفِ الخَافِضِ، أي: في أن تَقْصُرُوا، فيكونُ في مَحَلِّ «أنْ» الوَجْهَان المَشْهُوران، وهذا الجَارُّ يتعلَّقُ بلفظِ «جُنَاح» أي: فََليْسَ عَلَيْكُم جُنَاحٌ في قَصْرِ الصَّلاة. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 601 قال الوَاحِدِيُّ: يُقَال: قَصَرَ فلان صَلاَتهُ، وأقصرها وقَصَّرَها، وكُلُّ جَائِزٌ. والجمهور على «تَقْصُروا» من «قَصَرَ» ثلاثياً، وقرأ ابن عبَّاس: «تُقْصِروا» من «أقْصر» ، وهما لُغَتَان: قَصَر وأقْصَر، حكاهما الأزْهَرِيُّ، وقرأ الضَّبِيُّ عن رجاله بقراءة ابن عبَّاسٍ، وقرأ الزُّهري: «تُقَصِّروا» مشدِّداً على التَّكْثِيرِ. قوله: «من الصَّلاة» في «مِنْ» وَجْهَان: أظهرهُما: إنها تَبْعِيضيَّةٌ، وهذا مَعْنَى قول أبي البقاء، وزعم أنه مَذْهَب سيبويه، وأنَّها صفةٌ لمَحْذُوفٍ، تقديرُه: شيئاً من الصلاة. والثاني: أنَّها زائدةٌ، وهذا رأيُ الأخْفَش فإنه لا يَشْتَرِطُ في زِيَادتها شيئاً، و «أن يَفْتِنَكم» : مفعُول «خفِْتُم» . وقرأ عبد الله بن مَسْعُود، وأبَيُّ: «من الصَّلاة أن يفتنكُم» بإسقاط الجُمْلة الشَّرْطيّة، و «أن يفتنكُم» على هذه القراءة مَفْعُولٌ من أجْله، ولغةُ من أجْله، ولغةُ الحِجَاز: «فَتَنَ» ثُلاثياً، وتميم وقَيْس: «أفْتَن» رُبَاعياً. فصل لفظ القَصْر مُشْعِرٌ بالتَّخْفِيف؛ لأنه لَيْس صريحاً في أنَّ المُرادَ: هو القَصر في عَدَدِ الركَعَات، أي: في كيْفِيَّة أدائِها، فلا جَرَم حصل في الآيَة قولان: الأوّل: قَوْل الجُمْهُور أنَّ المراد مِنْه: القَصْر في عدد الرَّكِعَات والقَائِلُون بهذا القَوْلِ اختلفُوا على قَوْلَين: الأوَّل: أن المراد مِنْهُ: صلاة المُسَافِر؛ وهو أنَّ كُلَّ صَلاَةٍ تكُونُ في الحَضَر أرْبَع رَكَعَاتٍ، فإنها تَصِير في السَّفَرِ رَكْعَتِيْنِ، وعلى هَذَا إنَّما يَدْخُل القَصْر في الرُّبَاعِيَّة خاصَّة. الثاني: أنَّ المراد: صرةَ الخَوْفِ في السَّفَر، وهو قَوْل ابن عبَّاسٍ، وجَابِر بن عبد الله، وجماعة، قال ابن عبَّاس: فَرَضَ الله صلاة الحَضَر أرْبَعَاً، وصلاة [السَّفر ركعتين] ، وصلاة الخَوْفِ رَكْعَةً على لسان نَبِيِّكُم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 602 القول الثاني: أن المُرادَ من القَصْر: التَّخْفِيف في كيفية أداء الرَّكَعَات، وهو أن يُكتفى في الصَّلاة بالإيمَاءِ والإشَارَة بدل الرُّكُوع والسُّجُود، وأن يَجُوز المَشْيُ في الصَّلاة، وأن تجُوز الصلاة عند تلَطُّخ الثَّوْب بالدَّمِ وهو الصَّلاة حال التِحَام القِتَال، [وهو مَرْوِيٌّ عن ابْن عَبَّاسِ وطاووس، واحتَجُّوا: بأنَّ خوف فِتْنَة العَدُوِّ لا تَزُول فيمَا يُؤتَى بِرَكْعَتِيْن على تَمَامِ أوْصَافِهَا، وإنما عَيَّن ذَلِكَ فيما يَشْتَدُّ فيه الخَوْف حَالَ التِحام القِتَال] ، وهذا ضَعِيفٌ؛ لأنه يُمْكِنُ أن يُقَال: إن المُسَافر إذا كانَت الصَّلاة قَلِيلَة الرَّكَعَات، فيمكنه أنْ يَأتِيَ بَهَا على وَجهِ لا يَكُون خَصْمُه عَالِماً بَِكَوْنِهِ مُصَلِّياً أما إذا كثُرت الرَّكَعَات، طالَت الصَّلاة، ولا يُمْكِنُه أن يَأتِي بها على حين غَفْلَةٍ مع العَدُوِّ، وحَمْل لفظِ القصْر على إسْقَاط [بَعْض] الرَّكَعَاتِ أوْلَى لوجوه: أحدُها: ما رُوِيَ عن يعلى بن أمّيَّة أنَّه قال: «قلت لعمر بن الخَطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كيف نَقْصُر وقد أمِنَّا، وقد قال الله - تعالى -: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} فقال: عَجِبْتُ مِمَّا عَجِبْتَ مِنْهُ؛ فَسَأَلْتُ الرَّسُولَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فَقَالَ:» صَدَقَةٌ تَصَدَّقَ اللهُ بِهَا عَلَيْكُم، فاقْبَلُوا صَدَقَتَهُ «، وهذا يدلُّ على أن القَصْر المذكُور في الآية، وهو القصْرُ في عَدَدِ الركَعَاتِ. الثاني: أن القَصْر عبارةٌ عن أن يؤتى بِبَعْض الشَّيْء ويقتصر عَلَيْه، فإمَّا أن يُؤتَى بشَيٍْ آخَرَ، فذلك لا يُسَمَّى قَصراً، ومعْلُوم: أن إقامَة الإيماء [مَقَامَ] الرُّكُوع والسُّجُود، وتَجويز المَشِي في الصَّلاة، وتَجْوِيز الصَّلاة مع الثَوْب المُلَطَّخ بالدَّم، ليس شيء من ذلك قَصْراً؛ بل كُلُّها إثباتٌ لأحْكَامِ جديدةٍ، وإقَامَة لشَيْءٍ مَقَامَ شَيْء آخَرَ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 603 الثالث: أن» مِنْ في قوله: «مِنَ الصّلاة» للتَّبْغيضِ، وذلك يُوجِبُ جَوازَ الاقْتِصَارِ على بَعْضِ الصَّلاة. الرابع: أن لَفْظَ القَصْر كان في عُرْفِهِم مَخصُوصاً بتنْقِيصِ عددِ الرَّكَعَاتِ، ولهذا بمَّا صلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الظُّهر رَكْعِتَيْنِ، قال ذو اليَدَيْنِ: «اقصُرَتِ الصلاةُ أم نَسِيت؟» . الخامس: القَصْر بمعنى: تغير هَيْئَةٍ [الصَّلاة] المَذْكُورة في الآيةِ الَّتِي بَعْدَهَا توجب أن يكُون المُراد من هذه الآيَة بَيَان القَصْر، بمعنى حذف بَعْض الرَّكعَات، لئلا يَلْزَم التَّكْرار. فصل هل الأفضل الإتمام أم القصر؟ قصر الصَّلاة في السَّفر جَائِز بالإجْمَاعِ، واخْتَلَفُوا في جواز الإتْمَام. فذهب أكْثَرُهُم إلى أن القَصْرَ واجِبٌ، وهو قَوْل عُمَر وعَلِيِّ، وابن عُمَر، وجابر، وابن عبَّاس، وبه قال الحَسَن وعُمَر بن عَبْد العَزِيز، وقتادة، وهو قول مالِكٍ وأصحاب الرأي بما روت عائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -، قالت: «الصَّلاةُ أوَّل ما فُرِضَت [رَكْعَتَيْن في الحَضَر والسَّفَر فأقِرَّتْ] صَلاَة السَّفَر، وأتِمَّت صَلاةُ الحَضَر» . وذهب قَومٌ إلى جواز الإتْمَام، رُوِيَ ذلك عن عُثْمَان [وسَعْد] بن أبِي وَقَّاصٍ، وبه قال الشَّافِعِيُّ إن شاءَ أتَمَّ، وإن شاءَ قَصَر، والقَصْر أفْضَل. فصل قال أهل الظَّاهِر: قَلِيلُ السَّفَر وكَثِيرُه سَوَاء؛ بِظَاهِر الآية، فإن الآيَة مرتَّبةٌ من شَرْطِ وجَزَاء، فإذا وُجِدَ الشَّرْط وهو الضَّرْب في الأرْض، ترتَّب عَلَيْه [الجزاء] سواء كَانً طَويلاً أوْ قَصِيراً، وذلك مَرْوِيٌّ عن أنَسٍ، وقال عَمْرُو بن دِينَار: قال لي جَابر بن زَيد: أقْصِر بعَرَفَة. فإن قيل: هذا يَقْتَضِي حُصُول الرُّخْصَة عند انْتِقَال الإنْسَان من مَحَلَّة إلى مَحَلَّة. فالجواب: لا نُسَلِّم أنَّ هذا ضَرْب في الأرْضِ، وإن سُلَّم، فنقول: الإجْمَاع مُنْعَقِدٌ على أنَّه غير مُعْتَبَر، فَهَذا تَخْصِيصٌ بالإجْمَاع، والعامُّ بعد التَّخْصيص حُجَّة. وقال الجُمْهُور: إن السَّفر مات لم يتقدَّر مَخْصُوصٍ، لم تَحْصُل فيه الرُّخْصَة، وقالوا: أجْمَع السَّلَف على أنَّ أقَل السَّفِر مقدَّرٌ، لأنه رُوِيَ عن عُمَر أنَّه يَقْصِر الجزء: 6 ¦ الصفحة: 604 في يَوْم تامٍّ؛ وبه قَالَ الزُّهرِي والأوْزَاعِيُّ. وقال ابْن عَبَّاس: يَقْصرُ إذا زَادَ علي يَوْم ولَيْلَة. قال أنَس: المُعْتَبَر خَمْسَة فَرَاسِخ، وقال الحَسَن: مَسِيرة لَيْلَتَيْن. وقال الشَعْبِي، والنَّخعِي، وسعيد بن جُبَيْر: من الكُوفَة إلى المَدَائِن مسيرة ثلاثةَ أيّام، وهو قول أبِي حَنِيفَة، وروى الحَسَن بن زِيَاد، عن أبي حنيفة: أنَّهُ إذا سَافَر إلى موضع يكون مَسيرة يَوْمَيْن، وأكثر اليوم الثَّالِث، جاز القَصْر، وهكذا رَوَاهُ ابن سماعة، عن أبِي يُوسُف ومحمَّد. وقال مَالِكٌ: أمْيَال هَاشِم جَدَّ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو الذي قدَّر أمْيَال البَادِية؛ كل ميلٍ اثْنَا ألف قدم، وهي أرْبَعَةٌ آلاف خطوة، فإن كل ثَلاثَة أقْدَام خُطْوة، قالوا: واختِلاَف النَّاس يدل على انْعِقَاد الإجْمَاع، على أن الحُكْمَ غير مَرْبُوط بِمُطْلَق السَّفَر. قال أهل الظاهر: اضْطِرابُهم يَدُلُّ على أنَّهم لم يَجِدُوا دَلِيلاً في تَقْدِير المُدَّة، إذ لو وَجَدُوه لما حَصَل الاضْطِرَاب، وأما سُكُوت [سَائِر] الصَّحَابَة؛ فلعلَّه كان لاعْتِقَادِهم أنّ الآية دَالَّة على ارتِبَاط الحُكْمِ بِمُطْلَقِ السَّفَر، وإذا كان الحُكْم مَذْكُوراً في نَصِّ القُرْآن، لم يكن بِهِم حَاجَةٌ إلى الاجْتِهَاد والاستِنْبَاطِ؛ فلهذا سَكَتُوا ثَلاَثَة أيّامٍ «؛ وهو يدل على أنَّه إذَا لَمْ يَحْصُل المَسْح ثلاثة أيَّام، لا يسَمَّى مسافِراً. واستدل الشَّافيَّة بما رَوَى مُجَاهِدٌ وعطاء، عن ابن عبَّاس، عن النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» يا أهْل مَكَّة، لا تَقْصُروا في أدْنَى من أرْبَعَة بُرُد من مَكَّة إلى عُسْفَان «قال أهل الظَّاهِر: وهذا تَخْصِيص لعُمُوم القُرْآن بخَيْر الوَاحِد، وهو لا يَجُوز؛ لأن القُرْآن مَقْطُوع به والخَبَر مَظْنُونٌ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» إذا رُوِيَ عَنِّي حديثٌ فاعْرِضُوه على كِتَاب الجزء: 6 ¦ الصفحة: 605 الله -[تعالى] ، فإن وَافق، فَاقْبَلُوه، وإلا فَرُدُّوهُ «وهذا مُخَالِفٌ لعموم الكِتَاب، وأيْضَاً فإنها أخْبَار وردَتْ في وَاقِعَةٍ تَعُمُّ الحاجَةُ إلى مَعْرفتها؛ لأن الصَّحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - كانُوا في أكْثَر الأوْقَات في السَّفَر والغَزْو، فلو كَانَت الرُّخْصَة مَخْصُوصَة بِسَفَرٍ، مقدَّر، لعرفوها ونَقَلُوها نقلاً متواتراً، لا سِيَّمَا وهو عَلَى القُرْآن، وأيضاً: فدلائل الشَّافِعيَّة ودلائل الحَنَفِيَّة مُتَدافعة فسقَطَت ووجبَ الرُّجُوع لِظَاهِرِ القُرْآنِ. فصل خصَّ أهلُ الظَّاهر جواز القصر بِحَال الخَوْف؛ لقوله - تعالى -: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} والمَشْرُوط بالشَّيْءِ عدمٌ، عند عَدَمِ ذلك الشَّيءِ، ولا يَجُوز دفع هذا الشَّرط بأخْبَار الآحَاد؛ لأن نَسْخَ القُرْآنِ بِخَبر الوَاحِدِ لا يَجُوز. قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} فقيل: إن يَفْتِنُوكم عن إتْمَام الرُّكُوع [والسُّجُود] ، وقيل:» أن يفتنكم «أي يغلبكم الَّذين كَفَرُوا في الصَّلاة، ونَظِيرُه قوله: [تعالى] : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} عن الصلاة؛ لأن كُلَّ مِحْنَة، وبَلِيّة، وشِدَّة فهي فِتْنَة، وجَواب الشَّرْط مَحْذُوف يَدُلُّ عليه ما قَبْلَه. وقيل: الكَلاَم تَمَّ] عند قوله: «مِنَ الصَّلاة» ] والجملة الشَّرْطيةُ مُسْتَأنَفةٌ حتى قيلَ: إنها نَزَلَت بعد سَنَةٍ عن نُزُول ما قَبْلَها، وجوابُه حينئذٍ أيْضاً مَحْذُوف، ولكن يُقَدَّرُ من جِنْسِ ما بَعْدَه، وهذا قَوْلٌ ضَعِيفٌ، وتأخير نُزُولِهَا لا يَقْتَضِي استِئْنَافَهَا. فصل اخْتَلَفُوا متى يَقْصُر: فالجُمْهُور على أنَّ المُسَافِرَ لا يَقْصُر حتَّى يَخْرُج من بُيُوت القَرْيَة [وحينئذٍ] هو ضَارِبٌ في الأرْضِ، وهو قول مَالِكٍ في المُدَوَّنة، وروي عنه: أنَّه إذا كَانَت قَرْيَة تَجمع أهْلَهَا لا يَقْصُرُ حتى يُجَاوِزَها بثلاثَةِ أمْيَالٍ، وكذلك في الرُّجُوع، وعن الحَارِث بن أبي رَبيعة: إذا أرادَ السَّفَر، يَقْصُرُ في مَنْزِلِه؛ فيكون مَعْنَى قوله -[تعالى]- : {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} معناه] : إذا أرَدْتُم السَّفَر. وعن مجاهد: لا يَقْصُر يَوْمَه الأوَّل حتى اللَّيْل، وهذا شَاذٌّ؛ لأن النَّبِيَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلى الظُّهْر بالمَدِينَة [أرْبعاً] ، وصلَّى العَصْرَ بذي الحُلَيْفَةِ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 606 رَكْعَتَيْن، وبين المَدِينَة وذي الحُلَيْفَة سِتَّة أمْيالٍ، أو سَبْعَة. فصل وعلى المَسَافِر أن يَنْوِي القَصْرَ حين الإحْرَام، فإن افْتَتَحَ الصَّلاة بنيَّة القصر، ثُمَّ عزم على المُقَام في أثناء الصَّلاة، جعلها نَافِلَةً، فإن كان ذَلِكَ بَعْدَ أنْ صَلَّى منها رَكْعَةً [واحِدَة] ، أضَاف إليها أخْرى [وسلَّم] ثم صلى صلاة مُقِيم، وقال الأبْهَرِيّ، وابن الجَلاَّب: هذا - والله أعْلم - اسْتِحْبَابٌ، ولو بَنَى على صَلاَتِه وأتمّها، أجْزأتْهُ. قوله: {إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} [و] المعنى: إن العدَاوَةَ بَيْنَكُم وبَيْنَ الكَافِرين قَديمَةٌ، والآن قد أظْهَرْتُم خلافَهُم في الدِّين فازْدَادَت عَدَاوتُهم لَكُم، فمن شِدَّة العَدَاوة، حارَبُوكم وقَصَدُوا إتلافكُم إن قَدَرُوا، فإن طَالَتْ صَلاتُكُم، فرُبَّمَا وَجَدُوا الفُرْصَة في قَتْلِكُ؛ فلهذا رَخَّصْتُ لَكُم في قَصْر الصَّلاة. قوله «لكم» متعلّقٌ بمَحْذُوف: لأنه حالٌ من «عَدُوّاٍ» ، فإنه في الأصْل صِفَةُ نَكِرَةٍ، ثم قُدِّم عَلَيْها، وأجاز أبُو البَقَاء أن يتعلَّق ب «كَان» ، [وفي المِسْألة] كَلاَمٌ مرٍّ تَفْصِيلُه. وأفْرد «عَدُوّاً: وإن كَانَ المُرَادُ به الجَمْعَ لأنَّ العدُوَّ يسْتَوِي فيه الوَاحِد والجمع؛ قال - تعالى -: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي} [الشعراء: 77] وقد تقدّم تَحْقِيقُه في البَقَرة. فصل في معنى الآية قوله: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا} متَّصِل بما بَعْدَه من صَلاَةِ الخَوْفِ، منفصل عَمَّا قَبْلَه، رُوِيَ عن أبي أيُّوبٍ الأنْصَارِي، أنَّه قال: نَزل قَوْلُه: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} هذا القَدْر، ثمَّ بعد حَوْلٍ سألُوا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن صَلاَةِ الخَوْفِ؛ فنزل:» إن خفتم «أي: وإن خِفْتُم» أن يفتنكم الَّذِينَ كَفَرُوا إنَّ الكَافِرِينَ كَانُوا لكُمْ عَدُوّاً مُبِيناً، وإذا كنت فيهم «. ومثله في القُرْآن كَثِيرٌ [أن] يجيء الخبر بِتَمَامِه، ثم يُنسق عَلَيْه خبرٌ آخًر، وهو في الظَّاهِر كالمُتَّصِل به، وهو مُنْفَصِلٌ عنه؛ كقوله - تعالى -: {الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} [يوسف: 51] هذه حكاية عن امْرَأة العَزِيز، وقوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] ، إخبارٌ عن يُوسُف - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 607 كما بيَّن قَصْر الصَّلاة بحَسبِ الكَمِيَّة في العَدَِ، بين في هذه الآيَة كِيْفِيَّتَها، والضَّمِير في «فِيهِم» يعُود كما بيَّن قَصْر الصَّلاة يَحسبِ الكَمِيَّة في العَدَِ، بين في هذه الآيَة كَيْفِيَّتَها، والضَّمِير في «فِيهِم» يعُود على الضَّاربين في الأرضِ، وقيل على الخَائِفَين. روى الكَلْبِيُّ، عن أبِي صَالح؛ عن ابن عبَّاس، وجابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: أن المُشْرِكِين لَمَّا رأوْا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصْحَابَهُ قاموا في الظُّهْر يُصَلُّون جميعاً، نَدِمُوا ألاّ كَانُوا أكبُّوا عليهم، فقال بَعْضُهم لبعضٍ: دَعْهم فإنَّ لهم بَعْدَها صَلاةَ هي أحَبُّ إليهم من آبائِهِم وأبْنَائِهِم، يعني: صَلاَة العَصْر، فإذا قَامُوا فيها فَشَدُّوا عليهم، فاقْتُلُوهم؛ فنزل جِبْرِيل فقال: يا محمَّد إنَّها صلاة الخَوْفِ، وإن الله - عَزَّ وَجَلَّ - يقُول: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة} فعلَّمه صَلاَةَ الخَوْفِ. فصل: هل صلاة الخوف خاصة بالرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال أبُو يُوسف، والحَسَن بن زِيَاد: صلاة الخَوْف كانت خَاصَّة للرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ولا تجُوز لغيره؛ لقوله - تعالى -: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} . وقال المُزَني: كانت ثَابِتَةً ثم نُسِخَتْ، ومذهب الجُمْهُور: ثُبُوتُها في حقِّ كل الأمَّة؛ لقوله - تعالى -: {واتبعوه} [الأعراف: 158] وأن حكمها باقٍن وقد ورد كيفيَّة صَلاَة الخَوْفِ على سِتَّة أوْجُه مذكُورة في كُتُبِ الفِقْهِ. قال أحْمد بن حَنْبَل: كُلُّ حَدِيثٍ رُوِيَ في أبًواب صَلاةِ الخَوْفِ، فالعَمَل به جَائِزٌ، روي فيه سِتَّةُ أوْجُه مذكورة في كُتُبِ الفِقْهِ. قوله: {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ} أي: شَهِيداً مَعَهُم في غَزَواتهم، {فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ مَّعَكَ} أي: فَلْتَقِف؛ كقوله - تعالى -: {وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ} [البقرة: 20] أي: وَقَفُوا، والمعنى: فاجْعَلْهم طَائِفَتَيْن، فَلْتَقُم طَائِفة منهم مَعَك، فَصَلٍّ بهم. وقرأ الحسن «فَلِتَقُمْ» بِكَسْر لاَمِ الأمْر وهو الأصْل، «وليأخذوا أسلحتهم» والضَّمير: إمَّا للمُصَلِّين، أو لغيرهم، فإنَ كان للمُصَلِّين، [فقالوا] : يأخُذُون من الجزء: 6 ¦ الصفحة: 608 السِّلاح ما لا يَشَعلُهُم عن الصَّلاة؛ كالسَّيْف والخنجَر؛ لأن ذلك أقْرَب إلى الإحْتِيَاط، وأمْنَع للعدُوِّ من الإقْدَام عَلَيْهِم، وإن كان لِغَيْر المُصَلِّين، فلا كَلاَمَ. واحتار الزَّجَّاج عَوْدَه على الجَميع، قال: «لأنه أهيْيَب للعَدُوَِّ» . والسِّلاح: ما يُقَاتَل به، وجمعه أسْلِحَة وهو مُذكَّر، وقد يُؤنَّث باعْتِبَار الشَّوْكَة، قال الطِّرمَّاحُ: [الطويل] 1876 - يَهُزُّ سِلاحاً لَمْ يَرِثْهَا كَلاَلَةً ... يشُكُّ بِهَا مِنْهَا غُمُوضَ المَغَابِنِ فأعاد الضَّمير عليه كَضَمير المؤنِّثة، ويقال: سلاح كحِمَار، وسِلْخٌ كضِلْع، وسُلَح كصُرَد، وسُلْحَان كسُلَطَان؛ نقله أبو بكر دُرَيْد. والسَّلِيحُ: نبت إذا رَعَتْه الإبل، سَمِنَتْ وغَزُرَ لبنُها، وما يُلْقِيه البَعِيرُ من جَوْفِه، يقال له: «سُلاحٌ» بزنة غُلام، ثم عُبِّر عن كُلِّ عَذِرة، حتى قيل في الحُبَارَى، «سِلاحُه [سُلاحُه] » ثم قال - تعالى -: {فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ} يعني: غير المُصَلِّين من وَرَائِكُم يَحْرُسُونكم يريد: مكان الَّذِين هم تجاه العَدُو، ثم قال -[تعالى]- : {وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أخرى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ} وهم الَّّذِين كانُوا في تجاه العَدُوِّ، وقرأ أبو حَيْوة: «وليأتِ» بناء على تذكيرِ الطَّائِفَةِ، ورُوِيَ عن أبِي عَمْرو: الإظْهَارُ والإدْغَامُ في «ولتأتِ طَائَفَةٌ» . قوله: «لم يصلوا» الجُمْلة في محلِّ رَفْع؛ لأنها [صفة ل «طَائِفة» بعد صِفَةٍ، ويجُوز أن يكُون في مَحَل نَصْب على الحَال؛ لأن النَّكِرَة] قَبْلَهَا تخصَّصت بالوَصْفِ بِأخْرى. ثم قال {وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} والمعْنَى: أنه - تعالى - جعل الحَذَر: الَّذِي هو التحذُّر والتَّيَقُّظ آلة يِسْتَعْمِلُهَا الغازي؛ فَلِذَلِكَ جمع بينَه وبين الإسْلِحَةِ في الأخْذِ؛ وجُعِلاَ مأخُوذَيْن، وهذا مَجَازٌ؛ كقوله: {تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] في أحَد الأوْجُه. قال الوَاحِدِيِ: رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وفيه رُخْصَة للخَائِفِ في الصَّلاة، بأن يَجْعَل بَعْضَ فكْره في غَيْرِ الصَّلاةِ. فإن قيل: لِمَ ذَكَرَ في الآيَةِ الأولى: «أسْلِحَتُهم» فقط، وفي هذه الآيَة ذكر «حِذْرَهُم وأسلحتهم» ؟ الجزء: 6 ¦ الصفحة: 609 فالجوابُ: أن في أوَّل الصلاة قلَّما يَتَنَبِهُ العَدُوُّ: لكون المُسْلِمِين في الصَّلاة، بل يظُنُّون كونهمُ قَائِمين لأجْل المُحَارَبة، وأما في الرُّكْعَة الثَّانِيَة، فقد يَظْهَرُ للعَدُوِّ كونهم في الصَّلاة، فَهُهُنا يتنهزُون الفُرصة في الهُجُوم عليهم، فلذلك خَصَّ الله [- تعالى -] هذا المَوْضِع بزِيَادَة تَحْذِير. ثم قال: «ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم» قد تقدم الكلام في [ «لو» ] الواقعة بعد «وَدَّ» في البَقَرَة [آية: 109] . وقرئ: «وأمتعاتكم» وهو في الشُّذُوذِ من حَيْث إنَّه جَمْع الجَمْعِ، كقولهم: أسْقِيَات وأعْطِيَات. {فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَّيْلَةً وَاحِدَةً} أي: يتمنَّون لو وَجدُوكُم عَافِلِين عن أسْلِحَتِكُم، فيقْصِدُونكم ويَحْمِلُون عَلَيْكُم حملة وَاحِدَة. رُوِيَ عن ابْن عَبَّاس: وجابر: أن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلَّى بأصْحَابِه الظُّهْر، ورأى المُشْرِكُون ذَلِكَ، فَقَالُوا بعد ذلك: بِئْسَ ما صَنَعْنا، حيث ما أقْدَمْنا عليهم، وعَزَمُوا على ذَلِكَ عند الصَّلاة الأخْرَى، فأطْلَعَ اللهُ نبيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أسْرَارِهِم بِهَذِهِ الآيَةِ. فصل قال الإمامُ أحمد - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - «صحَّ عن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلاة الخَوْفِ من خمْسة أوْجُه أوْ سِتَّة [أوْجُه] ، كل ذلك جَائِزٌ. الأول: إذا كان العَدُوُّ من جهة القِبْلَة، صف الإمَامُ المُسْلِمِين خَلْفَه صَفَّيْن، فصلّى بهم جميعاً إلى أن يَسْجُد؛ فَيَسْجُد معه الصَّف الذي يَلِيهِ، ويَحْرُس الآخَر، فإذا قَامَ الإمَامُ إلى الثَّانِيَةِ سجد الآخَرَ ولَحِقَهُ، فإذا سَجَدَ لثَّانِيةِ، سجد معه الصَّفُّ الذي حَرَس، وحَرَس الأوَّل، فإذا جَلَس للتَّشَهُّد، سجد الأوَّل، ولحقه في التَّشَهُّد ويسلم بهم. الثاني: إذا كان العَدُوُّ في غَيْرِ جهة طَائِفَة [تجاه، العَدُوِّ، وطائفةً] تُصَلِّي مَعَهُ رَكْعَة، فإذا قَامَ إلى الثَّانِيةِ ثَبَت قَائِماً وأتمَّت لأنفُسِها أخْرى، [وسلمت ومضت إلى العَدُوِّ، وجاءت الأخْرَى، فَصَلَّت معه الثَّانِية، فإذا جَلَس، أنهت لأنفُسِهَا أخْرَى] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 610 وتشهدت ثم سَلَّم بهم، وإن كانَت الصَّلاةُ مَغْرباً، صلّى بالأولى رَكعتين وبالثَّانية ركعة، وإنْ كانت رُباعيَّة، صَلَّى بكل طائِفَةً ركْعَتَيْن وأتمَّت الأولَى، بالحَمْد لله في كل رَكْعَة، والأخرى تتم بالحَمْد لله وسُورة، وهل تُفَارِقُه الأولَى في التِّشَهُّدِ، أوْ في الثَّانِيَة على وَجْهَيْن، وإن فَرَّقَهُم أرْبَعاً، فصلى بكلِّ طَائَفَةٍ ركْعَة، صحَّت صلاة الأولَى وبَطَلَت صَلاَةُ الأمَامِ والآخرين وإن عَلموا بطلان صَلاَة الآخرين؛ فلأنهم ائتمُّوا بمن صلاته بَاطِلَة، فأمَّا إذَا لم يعلموا، فهم مَعْذُورُونَ. الثالث: أن يُصَلِّي بطائِفَةٍ رَكْعَة، ثم تمْضِي إلى العَدُوِّ، وتأتي الأخْرَى، فيُصلي بها رَكْعَةً ويسلم وَحْدَه وتمضي، ثم تأتي الأخرى فتتم صلاتها وتمْضِي هي: ثم تأتي الأولى فتتم صلاتها. الرابع: أن يُصَلَّي بِكُلِّ طائفة صَلاَةً، ويُسَلِّم بِهَا. الخامس: أن يُصَلِّي [بكلِّ] الرُّباعيَّة تامَّة، وتصلي مَعَهُ كل طَائِفةِ رَكْعَتَيْن ولا يَقْضِي شَيْشاً، فتكون له تامَّة ولَهُم مَقْصُورَة. فصل إذا اشْتَدَّ الخَوْف عند التحام الحَرْب، يصلي كَيْفَما أمْكَن رِجَالاً ورُكْبَاناً إلى القِبْلَة وإلى غيرها يؤمِنُون إيماءً بالرُّكوع والسُّجود، وكَذَلِك كلّ خَائِفٍ على نَفْسِه فإن لم يَقْدِ على الإيمَاءِ أخَّروا الصَّلاة إلى انْكِشَاف الحَالَةِ. قال مَالِكٌ وجماعة: يصلي الطَّالِب والمَطْلُوب كُلُّ واحد منهما على دَابَّتِهِ؛ كالخائف سَوَاء. وقال الأوْزَاعِيّ، والشَّافِعي، وفُقَهَاء المُحَدّثين، وابن عَبْد الحكم: ولا يصَلِّي الطَّالِب إلاَّ بالأرْضِ. قال القُرْطُبِي: وهو الصَّحيحُ؛ لأنَّ الطَّلب تَطَوُّعٌ، والمكْتُوبَة فَرْضٌ، والفرض إنَّما يُصَلَّى بالأرْض حَيْثُ ما أمْكَن. [ثم] قال - تعالى -: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ} فقوله: «أنْ تَضَعُوا» ؛ كقوله «أنْ تَقْصُرُوا» وقد تقدم، «وخُذوا حِذْرَكُم» رَخَّصَ في وَضْع السِّلاح في حَالِ المَطَر والمَرَضِ؛ لأن السِّلاح [يثْقُل حَمْلُه في الجزء: 6 ¦ الصفحة: 611 هَاتين الحَالَتَيْن، أو لأن حدته تَفْسُد بالبَلَلِ، ولمّا رَخَّص في وَضْعَ السِّلاح] حالَ المَطَرِ والمَرَضِ، أمر بالتَّيَقُّظ والحَذِر؛ لِئَلاَّ يَهْجُم العَدُو عليهم. روى الكَلْبِيُّ: عن أبي صَالِح، عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - نزلت في رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، «وذَلِكَ أنَّه غَزا مُحَارِباً وبني أنمارٍ، فنزلوا ولا يَرون من العَدُوِّ أحداً، فوضع النَّاس أسْلِحَتَهُم، وخرج رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لِحَاجَة له قد وضع سِلاحه، حتى قطع الوَادِي والسَّماء تَرُشُّ، فَحَالَ الوادي بَيْنَ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين أصْحَابَه؛ فجلس رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ظلِّ شجرة، فَبَصُر بِهِ غوْرَث بن الحَارِث بما شئت، ثم أهْوَى بالسَّيف إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليضْرِبَه، فانكب لوجِهِهِ من زَلْخَةٍ زُلخَها بَيْنَ كَتِفَيْه، وندر سَيْفَه، فقام رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخذه، ثم قال: يا غَوْرَث، من يَمْنَعُك مِنِّي الآن؟ قال: لا ولكن أشهد ألا أقاتِلك أبَداً ولا أعينُ عليك عدوّاً، فأعطاه رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سَيْفَه، فقال غَوْرَث: والله أنْتَ خَيْرٌ مِنِّي، فقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أجلْ أنا أحَقُّ بذلك مِنْك، فرجَعَ غَوْرَث إلى أصْحَابِه، فقالوا: ويْلَكَ ما مَنَعَك مِنْهُ، قال: لقد أهْوَيتُ إليه بالسَّيْف لأضربه فوالله ما أدْرِي من زَلَخَنِي بين كَتفي فخررت لوجِْهي، وذكر حَالَه قال: وسكن الوادي، فقطع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الوادي وأصْحَابه فأخبرهم الخبر» ، وقرأ هذه الآية: {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ} أي: من عدُوِّكم، وقال سعيدُ بن جُبَير عن ابن عبَّاس في هذه الآية: كان عَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عَوْف جَرِيحاً. فصل أمر أولاً بأخذ الحَذَر والأسلحة، فَدَلَّ على وُجُوبِهِ، ويؤكِّدُه قوله ههنا: لا جناح عليكم إن كانَ بَكُمْ أذَى من مَطَرٍ أَوْ كنتم مَرْضَى [أن تضعوا أسلحتكم] فخصَّ رفع الجُنَاح في وَضْع السِّلاح بهاتين الحَالَتين، وذلك يَدُلُّ على أنَّ ما عَدَا هَاتَيْن الحَالَتَيْن، يكون الأثْم والجناحُ حَاصِلاً بسبب وضع السِّلاحِ. وقال بعضُهم: إنه سُنَّة مؤكَّدة، ثم الشَّرط: ألاَّ يحمل الجزء: 6 ¦ الصفحة: 612 سِلاحاً نجساً إن أمْكَنة ولا يَحْمِل الرُّمح إلاَّ في طَرَف الصَّفِّ، بِحَيْثُ لا يَتَأذَّى به أحَد. فصل دَلَّت الآيَة على وُجُوب الحَذَر من العَدُوِّ، فتدلُّ على وُجُوب الحَذَرِ عن جَمِيع المَضَارِّ المظْنُونة؛ كالعِلاَج بالدَّوَاء والاحترازِ عَنِ الوَبَاءِ وعن الجُلُوس تَحْتَ الجِدَارِ المَائِل. فصل قالت المُعتَزِلَة: الأمر بالحَذَر يدلُّ على كَوْن العَبْدِ قادراً على الفِعْل والتَّرْكِ، وعلى جميع وجوه الحَذَر، وذلك يَدُلُّ على أنَّ فِعل العَبْد لَيْسَ مَخْلُوقاً لله - تعالى -. وجوابه: المُعَارَضَة بِمَسْألة العِلْمِ والدَّاعي. ثم قال - تعالى -: {إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} أخْبر [- تعالى -] بأنه يُهِينهم ويَخْذُلهم؛ تقوية لقُلُوب المُسْلِمِين. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 613 أي: وإذا فَرَغْتُم، قضيتم صلاة الخوف أي: فرغتم من الصَّلاة، وهذا يَدُلُّ على أن القَضَاء، يستَعْمَلُ فيما فُعِلَ في وَقْتِهِ، ومنه قوله: [- تعالى -] : {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] ، ثم قال: {فاذكروا الله} أي: صَلُّوا لله «قياماً» في حال الصِّحَّة و «قُعُوداً» في حال المَرَضِ «وعلى جُنُوبِكُ» عند الجروح والزِّمَانَة، وقيل: قِيَاماً: حال المسايفة، وقعوداً: حال اشتِغَالكُم بالرَّمي وعلى جُنُوبكم: حالٌ سُقُوطكم على الأرْض مَجْروحين فقوله «قِياماً [وقعودا] » حالان من فَاعِل «اذكُرُوا» وكذلك «وعلى جُنُوبِكُم» فإنه في قُوَّة: مُضطَجِعِين؛ فيتعلَّق بِمَحْذُوفٍ. «فإذا أطْمَأنَنْتُم» أي: أمِنْتُم، فالطُّمأنينة: سكُون النَّفس من الخَوْفِ حين تضع الحَرْبُ أوزارها، «فأقِيموا الصَّلاة» أي: أتمُّوها بأرْكَانِها وقد تقدَّم الكَلاَم في البَقرة [آية: 260] على قوله اطمأننتم، وهل هيَ مَقْلُوبَةٌ أمْ لا؟ وصرح أبو البَقَاءِ هنا بأنَّ الهَمْزَة أصْلٌ وأنَّ وَزْن الطُّمأنينة: فُعَلَّيلية، وأن «طَأمَن» أصل أخَرَ برأسه، وهذا مَذْهَبُ الجَرْمِي. واعلم أنَّه قد تَقَدَّم حُكْمان: الجزء: 6 ¦ الصفحة: 613 أحدهما: قَصْر صلاة المُسَافِر. والثَّاني: صَلاة الخَوْفِ؛ فقوله: {فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة} [يحتمل أنكُم صِرْتم مقمين غير مُسَافِرين من الاطْمئْنَان فأقيموا الصَّلاة] أي: أتمُّوها أرْبَعاً، ويحتمل أن يَكُونَ المُراد من الاطْمِئْنَان ألاَّ يَبْقَى الإنْسَان مضْطَرب القَلْب، بل يَصِير سَاكِن القَلْبِ؛ بسبب زَوَالِ الخَوْفِ، فعلى هذا فالمراد بإقامَة الصَّلاة: فعلها في حَالَةِ الأمْن. ثم قال {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} أي: فَرْضَاً موقوتاً، قال مُجَاهِد: وَقَّتَه الله عَلَيْهم، وقيل: واجِباً مَفْروضاً مقدراً في الحَضَر أرْبَعِ رَكَعَاتٍ، وفي السَّفَر ركْعَتَيْن، والمراد بالكتاب هَهُنَا: المكْتُوب؛ كأنه قيل: مكْتُوبَة مؤقتة و «مَوْقُوتاً» : صِفَة ل «كتاباً» بمعنى: مَحْدُوداً بأوقات، فهو مِن: وَقَتَ مُخَفَّفاً؛ كَمضروبٍ من ضَرَبَ، ولم يَقُل: «مَوْقُوتَة» بالتَّاء مُرَاعاة ل «كتاب» فإنَّه في الأصْل مَصْدَر، والمَصْدَر مُذَكَّر، ومَعْنَى الموْقُوت: أنها كُتِبَت عَلَيْهِم في أوْقَات مؤقتة، يقال: وقَّته وَوَقَتَه مخففاً، وقُرِئ: {وَإِذَا الرسل وُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] بالتَّخْفِيفِ. فصل دلَّت هذه الآيَة على أنَّ وُجُوب الصَّلَواتِ مقدَّر بأوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، إلاَّ أنَّه - تعالى - أجْمَل الأوْقَات هَهُنَا وبَيَّنَها في مَوَاضِع أخر، وهي خَمْسَة. أحدُها: قوله [- تعالى -] {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] فقوله: «الصَلَوَات» يدل على ثَلاثِ صَلَواتٍ، وقوله: « [و] الصَّلاة الوُسْطَى» يَمْنَع أن يَكُون أحد تِلْكَ الثَّلاث، وإلا يَلْزَم التِّكْرَار، فلا بُدَّ وأن تَكُون زَائِدَة على الثَّلاث ولا يُمْكِن أن يكونُ الوَاجِبُ أرْبَعَة؛ لعدم حُصُول الوُسْطَى فِيَهَا، فلا بُدَّ من جَعْلِها خمْسَةً؛ لتحصل الوُسْطَى، وكما دَلَّت هَذِهِ الآيَة على وُجُوب خمس صلواتٍ، دلت على عَدَمِ وجُوبِ الوتْر، وإلا لَصَارَت الصَّلَواتُ الوَاجِبَة سَتَّة، وحينئذٍ لا تَحْصُل الوُسْطَى، فهذه الآية دَلَّت على وُجُوب الصَّلَواتِ، لا على بَيَانِ الأوْقَاتِ، وأما الآيَات الأرْبَع البَاقِيَة، فَمَذْكُورة [في البقرة] عند قوله: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات} [البقرة: 238] . الجزء: 6 ¦ الصفحة: 614 لما ذكر بَعْض الأحْكَام الَّتِي يحتَاج المُجَاهِد إلى مَعْرِفتها، عاد مَرَّة أخرى إلى الجزء: 6 ¦ الصفحة: 614 الحَثِّ على الجِهَاد، فقال: «وَلا تَهِنُوا: أي: ولا تَضْعُفُوُا، ولا تَتَوانَوْا، الجمهورُ: على كَسْر الهاء، والحَسن: على فتحها من» وَهِن «بِالكَسْر في الماضِي، أو من» وهَن «بالفَتْح، وإنما فُتِحَت العَيْن؛ لكونها حَلْقِيةً، فهو نحو: يَدَع. وقرأ عُبَيْد بن عُمَيْر:» تُهَانَوْا «من الإهانة مبنيَّاً للمَفْعُول، ومعناه: لا تَتَعاطَوا من الجُبْنِ والخَوَر، ما يكون سَبَباً في إهَانتكم؛ كقولهم:» لا أرَيَنَّك هَهُنَا «. وقوله: {فِي ابتغآء القوم} أي: في طَلَبِهِم، وسبب نزولها: أنَّ أبا سُفْيَان وأصْحَابَهُ لمَّا رَجَعُوا يوم أُحُد، بعث رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [طائفة] في آثارِهِم، فَشَكُوا ألَم الجِرَاحِ، فقال - تعالى -: {وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم} أي لا تَضْعُفُوا في طلب أبِي سُفْيَان وأصْحَابَهُ، {إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ} : تتوجَّعُون من الجِرَاح،» فإنَّهُمْ يَألَمُون «أي: يتوجَّعُونَ كما تألمون، والمَعْنَى: أنَّ حصُول الألمِ قدر مُشْتَركٌ بينكم وبَيْنَهُم، فلمَّا لم يَكُن خوف الألَمِ مانِعَاً لَهُم عن قَتَالِكُم، فكيف يَصير مَانِعاً لكم عن قِتَالِهِم. قرأ يَحْيَى بن وَثَّاب، ومنصور بن المُعْتَمِر:» تِئلمون فإنهم يِئلمون كما تِئلمون «بكسر حَرْفِ المُضارَعَةِ، وابن السَّمَيْفَع: بكسر تَاءِ الخطَاب فقط، وهذه لُغةٌ ثَابِتَة، وقد تقدم في الفَاتِحَة أنَّ مَنْ يَكْسِرُ حَرفَ المُضَارعة يَسْتَثْنِي التَّاء، وتقدم شُذُوذ» تِيجَل «ووجْهه، وزاد بُو البقاء في قِرَاءة كَسْر حَرْف المُضَارعة قَلْبَ الهَمْزَة ياءً، وغيرُه أطلق ذلك. وقرأ الأعْرَج:» أن تَكُونُوا تألَمون «بفتح هَمزة» أنْ «والمعنى: ولا تَهِنُوا لأنْ تَكُونوا تألمون. وقوله: {فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ} تعليل قوله: {وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ} [أي: وأنتم مع ذَلِكَ تأمَلُون من الأجْر والثواب في الآخرة، والنَّصَر في الدُّنْيَا ما لا يَرْجُون] ، فأنتم أوْلَى بالمُصَابَرةِ على القِتَال من المُشْرِكين؛ لأن المُؤمِنِين مُقِرُّون بالثَّواب والعِقَابِ، والحَشْر والنَّشر، والمُشْرِكون لا يقرون بذلِك، فإذا كانُوا مع إنْكَارِهِم ذلك مُجِدِّين في القِتَال، فأنتم أيُّهَا المؤمِنُون المُقِرُّون بأنَّ لكم في الجِهَادِ ثَواباً، وعليكم في تَرْكِهِ عِقَاباً أوْلَى بالجِدَّ في الجَهَادِ. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 615 وقال بَعْض المُفَسَّرين: المراد بالرَّجَاء: الخَوْف؛ لأنَّ كل رَاج خَائِفٌ ألاَّ يُدْرِك مأمُولَة، ومعنى الآيَة وترجُونَ، أي: تَخَافُون من عَذَاب اله ما لا يَخَافُون. قال الفرَّاء: ولا يكون الرَّجَاء بمعنى الخَوْف إلا مع الجدّ؛ كقوله - تعالى -: {قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله} [الجاثية: 14] ، [أي: لا يَخَافُون] ، وقال - تعالى -: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] أي: لا تَخَافُون لله عِظَة، ولا يجُوز: رَجَوْتُك، يَعْنِي: خِفْتُك، وأنت تُرِيد: رَجَوْتُك. قال ابن الخَطِيب: ويُحْتَمَل أنَّكم تَعْبُدون الإله، العَالِم القَادِر، السَّمِيع، البَصِير، فيصحُّ منكم أنْ تَرْجُوا ثَوَابَه، وأما المُشْرِكُون: فإنَّهم يَعبدون الأصْنَام وهي جَمَادات؛ فلا يَصِحٌّ منهم أنْ يَرْجُوا منها ثَوَاباً، أو يَخَافُوا منها عِقَاباً. ثم قال: {وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً} أي: لا يُكَلِّفُكُم إلاَّ ما يَعْلَم أنَّه سَبَب لِصَلاحِ دِينكُم ودُنْيَاكُم، وقد تقدم [أنَّه إذا] ذكر» الحَكِيم «بعد قوله:» العَلِيم «فالمرادَ بالحَكيم: أنه العَالِمُ بَعَواقِب الأمُور، وقالت المُعْتَزِلَةُ: المُرادُ بالحَكِيم: هو الَّذِي يضع الأسْبَاب للمصَالِح. الجزء: 6 ¦ الصفحة: 616 في كيفية النَّظم وجُوهٌ: أحدُها: أنَّه - تعالى - لما شَرَح أحْوَال المُنافِقِين وأمْر بالمُحَارَبَة، وما يتَّصِل بها من الأحْكَام الشَّرْعِيَّة، مثل قَتْل المسلم خَطَأ وصَلاَة المُسَافِر، وصلاة الخَوْف، رجع بَعْد ذَلِك إلى بَيَان أحْوَال المُنَافِقِين؛ لأنَّهم كانوا يُحَاوِلُون [حَمْل] الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على أنْ يَحْكُم بالبَاطِل ويترك الحكمَ بالحَقِّ، فأمره الله - تعالى - بألاَّ يلتَفِت إليْهِم في هذا البَابِ. وثانيها: أنه - تعالى - لمَّا بيَّن الأحْكَام الكَثِيرة في هذه السُّورة، بيَّن أنَّها كلها إنَّما عُرِفَت بإنْزَال الله - تعالى -، وأنَّه ليس للرَّسُول أن يَحِيد عَنْ شَيْءٍ منها؛ طلباً لِرِضا القَوْمِ. وثالثها: أنَّه - تعالى - لما أمَر بالمجاهدة مَعَ الكُفَّار، بَيَّن أن الأمْر وإن كَانَ كَذَلِك، لكنه لا يَجُوزُ الخِيَانَة مَعَهُم ولا إِلْحَاق ما لَمْ يَفْعَلُوا بهم، وأنَّ كُفْر الكَافِر لا يصحُّ المُسَامَحة له، بل الوَاجِبُ في الدِّين: أن يحْكم له وعَلَيْه بِمَا أنْزَل اللَّه على رسُولِهِ، وإن كان لا يَلْحَق الكَافِر حَيْفٌ؛ لأجْل رِضَى المُنَافِق [قول: «بالحَقِّ» : في محلِّ نصبٍ على الحَالِ المُؤكِّدة، فيتعلَّق بمحذوفٍ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 3 وصاحبُ الحَالِ هو الكِتَابُ، أي: أنزلنا مُلْتسباً بالحَقِّ، و «لتحكمْ» : متعلِّق ب «أنْزلنا» ، و «أراك» متعدٍّ لاثنين: أحدهما: العائدُ المَحْذُوفُ، والثاني: كافُ الخطَابِ، أي: بما أراكَهُ الله. والإراءةُ هنا: يجوزُ أن تَكُون من الرَّأي؛ كقولك: «رأيتُ رَأيَ الشَّافِعِي» ، أو من المَعْرِفة، وعلى كلا التَّقْدِرين؛ فالفعلُ قبل النَّقْل بالهَمْزة متعدٍّ لواحد، وبعدَه مُتَعَدٍّ لاثنين] . وقال أبو عَلِيٍّ الفَارِسِي: [قوله] «أرَاكَ اللَّهُ» إمّا أن يَكُون مَنْقُولاً بالهَمْزَة من «رَأيْت» ، الَّتِي يُرَاد بها رُؤْيَةُ البَصَر، أو من «رَأيْت» [الَّتِي] تتعدَّى إلى مَفْعُولَيْن، أو من «رأيْتُ» الَّتِي يُرَاد بها الاعْتِقَاد. والأوَّل: بَاطِلٌ؛ لأنَّ الحُكْمَ في الحَادِثَةِ لا يُرَى بالبَصَر. والثاني: أيضاً بَاطِلٌ؛ لأنَّه يَلْزَم أن يَتَعَدَّى إلى ثَلاَثَة مَفَاعِيل بسبب التعدية ومعلوم: أنَّ هذا اللَّفْظ لم يَتَعَدَّ إلاَّ إلى مَفْعُولين: أحدُهُما: كاف الخِطَابِ، والآخر المَفْعُول المقدَّر، وتقديره: بما أرَاكَهُ الله، ولمَّا بَطَل القِسْمَان، بقي الثَّالِث، وهو أنَّ المُرَاد مِنْه: «رأيت» بمعنى: الاعْتِقَاد. فصل في معنى الآية معنى الآيَةِ: بما أعْلَمَكَ اللَّه، وسُمِّي ذلك العِلْم بالرُّؤيَة؛ لأن العِلْم اليَقِينيِّ المُبَرَّأ عن الرَّيْب يكون جَارِياً مُجْرَى الرُّؤية في القُوَّة والظُّهُور، وكان عُمَر يقُول: لا يَقُولَنَّ أحدُكُم قَضيتُ بما أرَانِي [اللَّه] ، فإن اللَّه - تعالى - لم يَجْعَلْ ذلك إلا لِنَبِيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأما الوَاحِد منَّا فرأيُهُ يَكُون ظَنّاً، ولا يكون عِلْماً. وإذا ثَبَت ذَلِكَ قال المحققون: دَلَّت هذه الآيَةِ على أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما كان يَحْكُم إلا بِالوَحْي والنَّصِّ، وإذا كان كَذَلِك، فيتفَرَّعُ عليه مَسْألتانِ: الأولَى: أن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يَجُز لَهُ الاجْتِهَاد. والثانية: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إذا لم يَجُز له أنْ يحكم إلا بالنَّصِّ، وجَبَ أن تكُونَ أمَّتُهُ كَذَلِكَ؛ لقوله - تعالى - {واتبعوه} [الأعراف: 158] وإذا كان كَذَلِك، حَرُمَ العَمَلُ بالقِيَاس. والجَوَابُ: أنه لما قَامَت الدَّلاَلَة على أنَّ القِيَاس حُجَّة، كان العَمل بالقِيَاسِ عَمَلاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 4 بالنَّصِّ في الحَقِيقَةِ؛ لأنَّه يَصِير التَّقْدير: أنه - تعالى - قال: مَتَى غَلَب على ظَنِّك أن حكم الصُّورَة المَسْكُوت عنها، مثل حُكُم الصُّورَة المَنصُوص عَلَيْها، بسبب أمرٍ جامعٍ [فاعْلم: أنَّه تكليفي في حَقِّك أن تَعْمَل] بِمُوجِبِ ذلكِ الظَّنِّ، وإذا كان كَذَلِك، كان العَمَل بالقِيَاسِ عَمَلاً بالنَّصِّ. قوله: «للخائنين» متعلِّق ب «خَصِيماً» واللامُ: للتَّعْلِيل، على بَابِها، وقيل: هي بِمَعْنى: «عن» ، ولَيْسَ بشيء؛ لصِحَّة المَعْنَى بدون ذَلِك، ومفعولُ «خصيماً» : محذوفٌ، تقدِيرُه: «خَصِيماً البُرَآء» ، وخَصِيمٌ: يجو أن يَكُون مِثَال مبالغةٍ، كضريبٍ، وأن يكون بمعنى: مُفاعل، نحو: خَلِيط وجَلِيس بمعنى: مُخاصِم ومُخالِط ومُجالِس. قال الوَاحِدِي: خَصْمُك الذي يُخَاصِمُك، وجمعه: الخُصَمَاء، وأصْلُه من الخصْم: وهُو ناحية الشَّيْءِ، والخصْم: طَرْف الزَّاوِيَة، وطَرَف الأشْفَار، وقيل للخَصْمَين: خَصْمَان؛ لأنَّ كل واحدٍ منهما في نَاحِيَةٍ من الحُجَّة والدَّعْوى، وخُصُوم السَّحَابة: جَوَانِبها. فصل: في سبب نزول الآية روى الكلبي، عن أبي صَالح، عن ابن عبَّاسٍ، قال: نزلت هذه الآية في رَجُل من الأنْصَار، يقال له: طعمة بن أبَيْرِق من بني ظَفر بن الحارث، سرقَ دِرْعاً من جَارٍ له يُقَال له: قتادة بن النُّعْمَان، وكانت الدِّرْع في جراب له فيه دَقِيقٌ، فجعل الدَّقِيق يَنْتَثِر من خِرْق في الجِرَاب، حتى انْتَهَى إلى الدَّار، ثم خَبَّأها عند رَجُلٍ من اليَهُود، يُقال له: زَيْد ابن السَّمِين، فالتُمِسَتِ الدِّرْع عند طعمة، فحَلَف بالله ما أخَذَها وما لَهُ بها من علم، فقال أصْحَابُ الدِّرْع: لقد رَأينا أثر الدقيق حتى دخل دَارَه، فلما حَلَف، تركوه واتَّبَعُوا أثر الدقيق إلى مَنَزِل اليَهُودِيِّ؛ فأخذوه منه، فقال اليَهُودِيُّ: دفعها إليّ طعمة بن أبَيْرِق، فجاء بنو ظفر وهم قوم طُعْمَة إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وسألُوه أن يُجادل عن صَاحِبِهم، وقالوا له: إنك إن لم تَفْعَل، افْتَضَحَ صَاحِبُنا، فهمَّ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُعاقِب اليَهُودِي. ويروى عن ابن عبَّاسٍ رضي الله عَنْهُما في رواية أخْرى: أن طعمة سَرَق الدِّرْع في جِرَابٍ فيه نخالة، فخرق الجِرَاب حَتَّى كان يَتَنَاثر منه النُّخَالة طُول الطَّرِيق، فجاء به إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 5 دَارِ زيْد السَّمِين وتركه على بابه، وحَمَل الدِّرْع إلى بَيْتِه، فلما أصْبَح صاحِبُ الدِّرْع، جاء على أثَر النُّخَالة إلى دار زَيْدٍ السَّمين، فأخذه وحمله إلى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فهم النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يَقْطع يد زَيْد اليَهُودي. وقال مقاتل: إن زيداً السَّمين أوْدَع درعاً عند طعمة فَجَحَدَها طعمة، فأنْزَل الله تعالى قوله: {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق} بالأمْر، والنَّهْي، والفَصْل، {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} : بما علّمَكَ الله وأوْحَى إليْك، {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ} : طعمة، «خصيماً» : مُعيناً مُدَافِعاً عنه. وهذه القِصَّة تَدُلُّ على أن طعمة وقوْمَه كانوا مُنَافِقِين؛ لأنهم طلبوا البَاطِل، ويؤكِّدُه قوله - تعالى -: {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} [النساء: 113] . ثم رُوي: أن طعمة هَرَب إلى مَكَّة وارتَدَّ، وثَقَب حَائِطَاً؛ ليَسْرِق، فسقط الحَائِط عَلَيْه فمات. فصل قال الطَّاعِنُون في عِصْمة الأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام -: دلَّت هذه الآيةُ على صُدُور الذَّنْب من الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فإنَّه لَوْلاَ أن الرسُول -[عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ] أراد أن يُخَاصِم لأجْل الخَائِن ويذب عنه، وإلاّ لما وَرَدَ النَّهْي عَنْه. والجوابُ: أنه لمَّا ثَبَتَ في الرِّواية: أنَّ قوم طعمة لما التمسُوا من الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يَذُبَّ عن طعمة، وأنْ يُلْحِق السَّرقة باليَهُودِيِّ توقف وانتظر الوَحْي، فنزلت الآيَة، وكان الغَرَضُ من هذا النَّهْي: تَنْبيه النبيّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على أنَّ طعمة كَذَّابٌ، وأن اليَهُودِيَّ بريءٌ من ذَلِك الجُرْمِ. فإن قيل: الدَّليل على أنَّ الجُرْم قد وَقَعَ من النَّبِي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قوله بعد ذلك: {واستغفر الله إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} والأمر بالاسْتِغْفَار، يدل على صُدُور الذَّنْبِ. فالجواب: من وجوه: الأوَّل: لعله مَالَ طَبْعُهُ، إلى نُصْرة طعمة؛ بِسَبَبِ أنه كَانَ في الظَّاهِر من المُسْلِمِين؛ فأمر بالاسْتِغْفَار لهذا القَدْر، وحَسَنَاتُ الأبْرَار سَيِّئَات المُقَرَّبين. الثَّاني: أن القَوْم لما شَهِدُوا بِبَراءة طعمة، وعلى اليَهُودِيِّ بالسَّرِقَة، ولم يَظْهَر للرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما يُوجِب القَدْح في شَهَادَتِهم، هَمَّ بأن يَقْضِي بالسَّرِقة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 6 عَلَى اليهودي، ثمَّ لما أطْلَعَهُ اللَّه على كَذِب أولَئكَ الشُّهُود، عَرَف أنَّ ذلك القَضَاء لو وَقَعَ، لكان خَطَأ في نَفْسِه، وإن كَانَ مَعْذُوراً عند اللَّه [- تعالى -] [فيه] . الثالث: قوله: «واستغفر الله» يُحْتَمل أن يكُون المُرادُ: واستغفر الله لأولئك الَّذين يَذُبُّون عن طعمة، ويُرِيدون أن يُظْهِرُوا بَرَاءَته. الرابع: قيل: الاسْتِغْفَار في حَقِّ الأنْبِياء بعد النُّبُوَّة على أحَدِ الوُجُوه الثَّلاثة: إما لِذَنْب تَقَدَّم قبل النُّبُوَّة، أو لِذُنُوب أمَّته وقَرَابتِه، أو لِمُبَاح جاء الشَّرْع بتحريمِهِ، فيتركه بالاسْتِغْفَار، والاسْتَغْفَار يَكُون مَعْناه: السَّمع والطَّاعة لحُكْمِ الشَّرْع. ثم قال: {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ} أي: يَظْلمون أنفُسَهُم بالخِيَانَة والسَّرقة وقِبَلها. أمر بالاسْتِغْفَار على طَرِيق التَّسْبِيحِ؛ كالرجل يَقُول: أسْتَغْفِر اللَّه، على وجْه التَّسْبِيح من غَيْر أن يَقْصِد تَوْبةً من ذَنْبٍ. وقيل: الخِطَاب للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمراد: ابن أبَيْرقِ؛ كقوله: {ياا أَيُّهَا النبي اتق الله} [الأحزاب: 1] [وقوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} [يونس: 94] والمراد بالذين يختانون طعمة ومن عاوَنَهُ من قَوْمِه، والاخْتِيَان: كالخِيَانَةِ؛ يقال: خَانَهُ واخْتَانَهُ، وقد تقدَّم عِنْد قوْله: {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 187] ، [وإنما قال لطعمة وللذَّابِّين عنه: إنهم يختَانُون أنفُسَهُم] ؛ لأن مَنْ قدم على المَعْصِيَة، فقد حَرَمَ نفسه الثَّوَابَ، وأوصَلَهَا إلى العِقَاب، فكان ذلك مِنْهُ خِيَانة لِنَفْسِهِ؛ ولِهَذا المَعْنَى، قيل لِمَن ظَلَم غيره: إنَّه ظلم نَفْسَه، وفي الآيَة تهديدٌ شَدِيدٌ على إعانَة الظَّالِم؛ لأن الله - تعالى - عاتب النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على همِّه بإعَانَة طعمة، مع أنَّه لم يَكُن عَالِماً بظُلْمِهِ، فكيف حَالُ من يَعْلم ظلم الظَّالِم، ويعينُه عَلَيْه. ثم قال: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ} أي: لا يَرْضى عن {مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} يريد: خَوَّاناً في الدِّرْع، أثيماً في رَمْيه اليَهُوديَّ. وقيل: إنَّه خطابٌ مع النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد به: غيره؛ كقوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} [يونس: 94] . فإن قيل: قوله - تعالى -: {مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً} صيغة مُبالَغَة تَدُلُّ على تَكْرَار ذَلِكَ [الفِعْل مع أن الصَّادِر عَنْه خِيَانة وَاحِدَة، وإثمٌ واحدٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 7 فالجواب: أنَّ الله - تعالى - عَلِم أنه] كَانَ في طَبْعَ ذَلِكَ الرَّجُل الخيانة الكَثِيرة والإثْمِ الكَبِير، فذكر اللَّفظ الدَّالَّ على المُبَالَغَة؛ بسبَبِ ما كان في طَبْعِهِ من المَيْل إلى ذَلِكَ، ويدُلُّ عليه: ما ذَكر [أنَّه] بعد هذه الوَاقِعَة هَرَبَ إلى مَكَّة، وارتدّ ونَقَبَ حائِط إنْسَان، لأجْلِ السرقة، فسقط الحَائِطُ عليْه ومات، ومن كانت خَاتِمَتُه كَذَلِك، لم يُشَكّ في حَالِه، وأيضاً: فإنَّه طَلَبَ من النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنْ يرفَعَ السَّرِقَةَ عَنْه، ويُلْحِقَها باليَهُودِيِّ، وهذا يُبْطِل رِسَالة الرَّسُول، ومن حَاوَل إبْطَال رسَالة الرَّسُول وأراد كذبَهُ، فقد كَفَر؛ فلهذا المَعْنَى وَصَفَهُ اللَّه [- تعالى -] بالمُبَالَغَة في الخِيَانة والإثْمِ. وقد قيل: إذا عَثْرت من رَجُلٍ على سَيِّئَةٍ، فاعلم أنَّ لها أخَوَاتٍ. وعن عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنَّه أخذ يَقْطَع يَدَ سَارِق، فجاءَتُهُ أمُّه تَبْكِي وتقُول هذه أوّل سَرِقة سرقها فاعْفُ عنه، فقال: كَذَبْت إنّ الله لا يؤاخِذُ عَبْدَه في أوّل الأمْر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 «يَسْتَخفُون» : وجهان: أظهرُهُمَا: أنها مَستأنفة لمجرد الإخْبَار بأنهم يَطْلُبون التستُّر من الله - تعالى - بجهلهم. والثاني: أنها في مَحَلِّ نَصبٍ صفة ل «مَنْ» في قوله: {لا يحبُّ مَنْ كان خَواناً} [النساء: 107] وجُمِع الضَّمِير اعتباراً بمعناها إن جعلت «مَنْ» نكرةً موصوفة، أو في مَحَلِّ نصب على الحَالِ مِنْ «مَنْ» إن جَعَلْتَها مَوصُولة، وجُمِعَ الضميرُ باعتبار مَعْنَاها أيضاً. والاستخفاء الاستتار، يقال استَخْفَيْت من فُلان: أي: توارَيْتُ منه واسْتَتْرتُ؛ قال الله - تعالى -: {وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل} [الرعد: 10] أي: مُسْتَتر، ومعنى الآيَة: يَسْتَتِرُون من النَّاسِ، ولا يَسْتَتِرُونَ من اللَّه. قال ابن عبَّاسٍ يَسْتَحْيُون من النَّاس، ولا يَسْتَحيون من اللَّه. قال الواحِدِي: هذا مَعْنًى وليس بِتَفْسير؛ وذلك أنَّ الاستحْيَاء من النَّاس هو نفس الاسْتِخْفَاء، فَلَيْس الأمْر كذلك. قوله: «وَهُو مَعَهُم» جملة حالية إمَّا من اللَّه - تعالى -، أو من المُسْتَخْفِينَ، وقوله: «معهم» أي: بالعِلْم، والقُدْرَة، والرُؤيَة، وكَفَى هذا زاجراً للإنْسَان، و «إذْ» منصوبٌ [بالعامل - في] الظَّرْفِ - الوَاقِعِ خبراً، وهو «مَعَهُم» ومعنى: يُبَيِّتُون: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 8 يَتَقَوَّلون، ويُؤلِّفُون، ويضمرون في أذْهَانِهِم، والتبييتُ: تدبير الفِعْل لَيْلاً، والذي لا يَرْضَاه اللَّه من القَوْل؛ هو أنَّ طعمة قال: أرمي اليَهُودي بأنَّه هو الَّذِي سرق الدِّرْع، وأحْلِفُ أنِّي لمْ أسْرِقْها، ويَقْبَل الرَّسُول يميني؛ [لأني] على دِينهِ، ولا يَقْبَل يَمين اليَهُودِي. فإن قيل: لِمَ سَمَّى التَّبْييت قولاً، وهو مَعْنى في النَّفْسِ؟ . فالجواب: أن الكلام الحَقِيقي هو المَعْنَى القَائِم بالنَّفْسِ، وعلى هذا فلا إشْكَال، ومن أنْكَر كلام النَّفْس، قال: إن طعمة وأصْحَابه أجْمَعُوا في اللَّيْل، ورَتَّبُوا كيْفِيَّة الحِيلة والمَكْر؛ فسمَّى الله - تعالى - كلامَهُم ذلك بالقَوْل المُبَيَّت الذي لا يَرْضَاه، ثم قال: {وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} والمُراد به: الوَعِيد؛ لأنهم وإن كانُوا يُخْفُون كَيْفيَّة المكر والخداع عن النَّاس، فإنها ظَاهِرَة في عِلْم اللَّه؛ لأنَّه - تعالى - مُحِيطٌ بجميع المَعْلُومات لا يَخْفَى عليه منها شيء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 «هَا» للتَّنْبِيه في «أنْتُم» ، و «هؤلاءِ» : مُبْتَدأ وخَبَر «جَادَلْتُم» جُمْلَة مبينة لِوُقُوع «أولاء» خبراً؛ كما تَقُول لِبْعضِ الأسْخِيَاءِ: أنْتَ حَاتِمٌ تجود بِمَالِك، وتُؤثِر على نَفْسك، ويجُوز أن يكون «أولاء» اسماً مَوْصُولاً، بمعنى: الَّذِين، و «جادلْتُم» صلة وتقدَّم الكَلاَم على نَحْو {هَا أنْتُم هؤلاءِ} ، والجِدَال في اللُّغَة [عبارة] عَنْ شِدَّة المخَاصَمَةِ من الجَدَل وهو شدة الفتل، وجَدْل الحَبْل: شدَّة فتله، ورَجُل مَجْدُول كأنه فُتل، والأجْدَل: الصَّقر؛ لأنَّه [من] أشَدِّ الطُّيُور قُوَّة؛ هذا قَوْل الزَّجَّاج، والمَعْنَى: أن كل وَاحِدٍ [من الخَصْمَيْن] يريد فَتْل خَصْمه عن مَذْهَبه، وصَرْفَه عن رَأيه بِطَريق الحجاج، وقيل: الجِدَال من الجِدَالةِ، وهذا خِطَاب مع قَوْم من المُؤمنين، كانوا يذبُّون عن طعمة وَعن قوْمِهِ: بسبب أنهم كَانُوا في الظَّاهِرِ مسلِمين، والمعنى: هَبُوا أنَّكم خَاصَمتُم عن طعمة وقَوْمِهِ في الدُّنْيَا، فمن يُخَاصِم عَنْهم في الآخِرة إذَا أخَذَهم اللَّه بِعَذَابِه. وقرأ أبيُّ بن كَعْب، وعَبْد الله بن مَسْعُود: «وجَادَلْتُم عَنْه» يعني: طعمة. وقوله: {فَمَن يُجَادِلُ الله عَنْهُمْ يَوْمَ القيامة} : استفهام تَوْبيخٍ وتَقْريعٍ، و «من» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 9 استِفْهَامِيَّة في محلِّ رفع بالابتداء، و «يُجَادِلُ» : خبره، وقوله: {أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} أم: مُنقَطِعَة وليست بعاطِفَةِ، وظاهر عِبَارَة مَكِّي: أنها عاطفة، فإنَّه قال: و «أمَّنْ يكُونُ» مثلها [عطف عليها، أي: مثل «مَنْ» في قوله: «فَمَنْ يُجَادِلُ» وهو في محَلِّ نظرٍ؛ لأن في المنقطعة خِلافاً، هل تُسمَّى عاطِفَة أم لا] ، والوكيل الكفيل الذي وُكِّلَ إليه الأمْرُ في الحفظ والحماية و «على» هنا بمعنى اللام والمعنى: أمَّنْ يكون لهم وكيلاً، أي من النبي يذب عنهم، ويتولّى أمرهم، ويحميهم من عَذَاب الله يوم القيامة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 لما ذكر الوعيد أتبعه بالدعوة إلى التوبة فقال: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا} يعني: السَّرِقَة، {أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} بِرَمْيه البَرِيء، وقيل: السُّوء: الشِّرْكُ، وظلم النَّفْسِ: ما دون الشِّرْكِ، وقيل: المراد بالسُّوء: ما يَتَعَدَّى إلى الغَيْر، وظلم النَّفْس: ما يَخْتَصُّ به الإنْسَان؛ كالحَلْف الكَاذِب، وإنما خَصَّ ما يتعدى إلى الغَيْر باسم السُّوء؛ لأنَّ ذلك يكون في الأكْثَر إيصَالاً للضَّرَر إلى الغَيْر، والضَّرَرُ سوءٌ حَاضِرٌ. فأمَّا الذَّنْبُ الذي يَخُصُّ الإنْسَان: فذلك لا يَكُون في الأكثر ضَرَراً حَاضِراً. وقوله: {ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله} أي: يَتُبْ إلى الله ويَستغفرهُ {يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً} وهذه الآيَة دَلَّت على أنَّ التَّوْبَةَ مَقْبُولَةٌ عن جميع الذُّنُوبِ سواءً كانت كُفْراً، أو قَتْلاً عَمْداً، أو غَصْباً للأمْوَال؛ لأن السُّوء [و] ظلم النَّفْسِ يَعُمُّ الكلُّ، وظاهر الآية يَقْتَضِي أنَّ مجرد الاسْتِغْفَار كَافٍ. وقال بعضهم: إنَّه مقيَّد بالتَّوْبَة؛ لأنَّه لا يَنْفَع الاسْتِغْفَارُ مع الإصرار. وقوله: {غَفُوراً رَّحِيماً} معناه: غفوراً رحيماً له، وحُذِفَ هذا القَيْد؛ لدلالة الكَلاَم عَلَيْه. قال الضَّحَّاك: نَزَلَت هذه الآية في وَحْشي قاتلِ حمْزة، أشْرك باللَّه، وقتل حَمْزَة، ثم جاء إلى الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: إني لَنَادِمٌ، فهل لي من تَوْبَةٍ؟ . فنزلت هذه الآية. وروى سُفْيَانُ عن ابن مَسْعُودٍ، قال: من قرأ هَاتَيْن الآيَتين من سُورة النِّسَاء، ثم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 10 اسْتَغْفَرَ، غُفِرَ له وقرأ: {وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ} [النساء: 110] الآية، {وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله} [النساء: 64] الآية. وعن عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: حدَّثَنِي أبُو بكر، وصدق أبُو بكر قال: ما من عَبْدٍ يُذْنِب ذَنْباً، ثم يَتَوَضَّأُ، ويُصَلِّي رَكْعَتَيْن، ويستغفر الله، إلا غَفَرَ له، ثم تَلاَ هذه الآيَة [ {ومن يعمل سوءاً أو يظلم نفسه} الآية قال ابن عَطيَّة: قوله: «يَجِدِ اللَّه» أي: يجد عِنْدَه المَغْفِرة والرَّحْمَة، فجعل المَغْفِرَة كالمورد يرده التَّائِب] المُستْغَفِر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 والكَسْبَ عِبَارة عمَّا يفيد جرَّ مَنْفَعَةٍ، أوْ دَفع مَضَرَّة، ولِذلك لَم يَجُزْ وَصْف البَارِي - تعالى - بذلك، وقِيلَ: المُرَاد بالإثْم: يعني يَمِين طعمة بالبَاطِل، أي: ما سَرَقْتَه، إنَّما سرقه اليَهُودِيُّ، {فإنَّما يكسبُه على نَفْسِهِ} فإنَّما يضرُّ به نَفْسَه، {وَكَانَ الله عَلِيماً} بما في قَلْب التَّائِب عند إقْدَامه على التَّوبة [ «حكيماً» ] تقتضي حكْمَتهُ ورَحْمَتُهُ أن يَتَجَاوَزَ عن التَّائِب، والمَقْصُود منه: تَرْغِيبُ العَاصِي في الاسْتِغْفَار، وألا يَيْأس من قبول التَّوْبَةِ والاسْتِغْفَارِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 قيل: المراد بالخَطِيئَةِ: سَرِقَةُ الدِّرْع، وبالإثْمِ: يَمينه الكَاذِبَة. وقيل: الخَطِيئَةُ: الصَّغيرة، والإثْم: الكَبِيرة. وقيل: الخَطِيئَة: ما لا يَنْبَغِي فِعْلُه سواءً كان بالعَمْد أو بالخَطَأ، والإثْم: ما يَحْصُل بسبب العَمْد؛ لقوله في الَّتِي قَبْلَها: {وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ} [النساء: 111] فبيَّن أن الإثْم ما يَسْتَحِقُّ به العُقُوبَة. وقيل: هُما بمَعْنَى وَاحِد، كرر لاخْتِلاَف اللَّفْظ تَأكِيداً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 11 وقال الطَّبَرِيّ: الخَطِيئَة تكون عن عَمْد، وعَنْ غَيْر عمد، والإثْم لا يكون إلا عن عَمْد، وقيل: الخَطِيئَة مَا لَمْ يُتَعَمَّد خاصَّة؛ كالقَتْل الخَطَأ. قوله: {ثُمَّ يَرْمِ بِهِ} : في هذه الهَاءِ أقوالٌ: أحدُها: أنها تعود على «إثماً» لأنه الأقْرب، والمتعاطفان ب «أو» : يجُوز أن يعودَ الضَّمير على المَعْطُوف كهذه الآية، وعلى المعطوف عليه؛ كقوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا} [الجمعة: 11] . والثاني: أنها تعودُ على الكَسْبِ المدْلُول عليه بالفعل، نحو: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] أي العدل. الثالث: أنها تعودُ على أحد المذكُورَيْن الدَّالِّ عليه العَطْفُ ب «أو» فإنه في قُوَّة «ثم يَرْمِ بأحَدِ المذكُورَيْن» . الرابع: أنَّ في الكَلاَم حَذْفاً، والأصْل: {ومن يكسب خطيئة ثم يرم بها} ؛ وهذا كما قيل في قوله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا} [التوبة: 34] أي: يَكْنزِون الذَّهب، ولا ينفقونه. الخامس: أن يعُود على معنى الخَطِيئة، فكأنَّه قال: ومن يَكْسِب ذَنْباً ثم يَرْم بِهِ، وقيل: جَعَل الخَطِيئَة والإثْم كالشَّيْء الوَاحِد، و «أو» هنا لتَفْصِيل المُبْهَمِ، وتقدَّم له نَظَائرُ. وقرأ مُعاذُ بن جَبَل: «يَكسِّبْ» بِكسْر الكاف وتَشْدِيد السِّين، وأصْلُها: يَكْتَسِبْ، فأدغمت تَاءُ الافْتعال في السِّين، وكُسِرت الكافُ إتباعاً، وهذا شَبيهٌ ب «يَخِطِّف» [البقرة: 20] ، وقد تقدَّم تَوْجِيههُ في البقرة، وقرأ الزهري: «خَطِيَّة» بالتَّشديدِ، وهو قياسُ تَخْفِيفها. وقوله: {يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً} أي: يقْذِفُ بما جَنَى «بَريئاً» منه كما نُسِبَتِ السَّرِقَة إلى اليَهُودِي. [قوله] : {فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً} البهتان: هو البهْت، وهو الكَذِب الَّذي يتحيَّر في عِظمهِ؛ لأنَّهُ إذا قيل للإنْسَان، بُهت وتَحَيَّر. رَوَى مُسْلِمٌ، عن أبِي هُرَيْرة، «قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: تَدْرُون ما الغيبة؟ قالُوا: الله ورسُولُه أعْلَم، قال:» ذِكْرُكَ أخَاكَ بما يَكْرَهُ «. قيل: أفَرَأيْت إن كَانَ في أخي ما أقول؟ قال:» إن كان فيه ما تَقُول، فَقَدِ اغْتَبْتَهُ، وإن لم يَكُن فِيهِ، فقد بَهَتَّهُ «؛ فرمْيُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 12 البَرِيءِ بَهْتٌ له، يقال: بَهَتَهُ بَهْتاً وَبُهْتَاناً، إذا قَالَ عَنْه ما لم يَقُل، وهو بَهَّاتٌ، والمَفْعُول له: مَبْهُوتٌ، ويُقَال: بَهِتَ الرَّجُل بالكَسْر، إذا دُهشَ وتَحَيَّر، وبَهُتَ بالضَّمِّ مثله، وأفْصَحُ منها: بُهِتَ؛ كقوله - تعالى -: {فَبُهِتَ الذي كَفَرَ} [البقرة: 258] لأنَّه يُقَال: رَجُل مَبْهُوتٌ، ولا يُقَال: باهِت، ولا بَهِيتٌ؛ قال الكسائي، و» إثْماً مُبِيناً «أي: ذَنباً بَيِّناً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 قال القُرْطُبِي: ما بَعْد «لَوْلاَ» مرفوعٌ بالابْتِدَاء عند سِيبَويْه، والخَبَر مَحْذُوف لا يَظْهَر، والمَعْنَى: ولولا فَضْلُ اللَّه عَليكَ ورَحْمَتُه بأن نبَّهك على الحَقِّ، وقيل: بالنُّبُوءة والعِصْمَة، {لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ} عن الحق. قال شهاب الدين: في جواب «لولا» وجهان: أظهَرُهُمَا: أنه مَذْكُورٌ، وهو قوله: «لَهَمَّتْ» . والثاني: أنه مَحْذُوفٌ، أي: لأضلُّوك، ثم اسْتأنَفَ جُمْلة فقال: «لَهَمَّتْ» أي: لقد هَمَّتْ. قال أبو البقاء في هذا الوَجْه، ومثلُ حذفِ الجَوابِ هنا حَذْفُه في قوله: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله تَوَّابٌ حَكِيمٌ} [النور: 10] وكأنَّ الذي قَدَّر الجوابَ مَحْذُوفاً، استشكل كَوْنَ قوله: «لهمتْ» جواباً؛ لأنَّ اللَّفْظ يقتضي انْتِفَاء هَمِّهم بذلك، والغرضُ: أنَّ الواقع كوْنُهم همُّوا على ما يُرْوَى في القصَّة؛ فلذلك قدَّره مَحْذُوفاً، والذي جَعَلَه مثبتاً، أجَابَ عن ذلك بأحَدِ وَجْهَيْن: إمَّا بتَخْصيص الهَمِّ، أي: لَهَمَّتْ هَمّاً يؤثِّر عندك. وإمَّا بتخصيص الإضْلال، أي: يُضِلُّوك عن دينك وشريعتك، وكلا هذيْن الهمَّيْن لم يقع. و «أَن يضلُّوك» على حَذْف الباء، أي: بأن يُضِلُّوك، ففي مَحَلِّها الخِلافُ المَشْهُور، و «مِنْ» في «مِنْ شَيء» زائدةٌ، و «شَيْء» يراد به المَصْدرُ، أي: وما يَضُرُّونك ضَرَراً قليلاً، ولا كثيراً. فصل هذا قول للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لَوْلا أن خَصَّكَ الله بالنُّبُوَّة والرَّحمة، «لهمت طائفة» : لقد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 13 هَمَّتْ طائفة، أي: أضْمَرَت طَائِفَة منهم، يعني: قَوْم طعمة، «أَن يضلوك» أي: يُخَطِّئُوك في الحُكْم، ويُلْبِسُوا عليك الأمْر؛ حَتَّى تدافع عن طعمة، {وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ} يعني: يرجع وَبالُهُ عليهم، {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} فيه وَجْهَان: الأوَّل: قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وما يضُرُّونك في المُسْتَقْبل، فوعده - تعالى - بإدَامَة العِصْمَة لما يُرِيدُون من إيقَاعِه في البَاطِل. الثَّاني: المَعْنَى: أنَّهم وإنْ سَعوْا في إلْقَائك فأنْتَ ما وقَعْتَ في البَاطِل: لأنَّك بنيت الأمر على ظَاهِر الحَال، وأنت ما أمرت إلا بِبِنَاءِ الأحْكَام على الظَّاهِر. ثم قال: {وأنزل عليك الكتاب والحكمة} وهذا مؤكد لذلك الوَعْد إن فَسَّرْنا قوله: {وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ} بالوَعْد والعِصْمَة في المُسْتَقْبل، يعني: لما أنْزَل عليك الكتاب والحكمة، وأمر بِتَبْلِيغ الشَّريعة إلى الخَلْقِ، فكيف يَلِيقُ بحكمته ألاَّ يَعْصِمَك عن الوُقُوع في الشُّبُهَات، وإن فَسَّرْنا الآية بأنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان مَعْذُوراً في بناء الحُكْم على الظَّاهر، كان المَعْنَى: وأنزل عليك الكتاب والحكمة، وأوْجَبَ فيها بِنَاء أحكام [الشَّرْع] على الظَّاهر، فكيف يَضُرُّك بناء الأمْر على الظَّاهِر. قال القُرْطُبِي: قوله [تعالى] : {وأنزل عليك الكتاب والحكمة} ابْتِداء كلام. وقيل: «الواو» للحال؛ كقوله «جئتك والشمس طالعة» ، والكلام مُتَّصِلٌ، أي: [ما يَضُرُّونك من شَيْء مع إنْزَال اللَّه عليك] القُرْآن، «والحِكْمَة» : القَضَاء بالوَحْي. ثم قال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} . قال القَفَّال: هذه الآيَة تَحْتَمِلُ وَجْهَيْن: أحدهما: أن يكُون المُراد [ما يتعَلَّق] بالدِّين؛ كما قال: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] فيكون تَقْدِير الآيَة: أنْزَل عليك الكتاب والحِكْمة، وأطْلَعَك على أسْرَارِهَا، مع أنَّك قبل ذَلِك لم تكن عَالِمَاً بشيء منهما، فكَذَلِكَ يفْعَل بك في مُسْتَأنف أيَّامك، لا يَقْدِر أحدٌ من المُنَافِقِين على إضلالك. الثاني: أن المُراد: وعَلَّمك ما لم تكُن تَعْلَم من أخْبَار الأولِين؛ فكذلك يُعَلِّمك من حِيَل المُنَافِقِين وَوُجوه كَيْدِهِم، ما تَقْدِر [به] على الاحتراز عن كَيْدهم ومَكْرِهِم. {وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً} . وهذا يَدُلُّ على أنَّ العِلْم أشْرَف الفَضَائِلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 14 والمَنَاقِب؛ لأنَّ الله - تعالى - ما أعْطَى الخَلْق من العِلْم إلا القَلِيل؛ لقوله - تعالى -: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85] ثم إنَّه سمَّى ذلك القَلِيل عَظِيماً، وسمَّى جَمِيع الدُّنْيَا قَلِيلاً، لقوله [- تعالى -] : {أقُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ} [النساء: 77] وذلك يَدُلُّ على شَرَف العِلْم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 قال الوَاحِدِي: النَّجْوى في اللُّغَة سر بين اثْنَيْن، يُقَال: ناجَيْت الرَّجل مُنَاجَاة ونِجَاء، ويقال: نجوت الرَّجُل أنْجُو بِمَعْنَى: نَاجَيْتُه، والنَّجْوى قد تكون مَصْدراً بمنزلة المُنَاجَاةِ، قال - تعالى -: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] وقد يُطْلَق على الأشْخَاص مَجَازاً، قال - تعالى -: {وَإِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47] ومَعْنَاها: المُسَارّة، ولا تكون إلا مِن اثْنَيْن فأكثَر. وقال الزَّجَّاج: [النَّجْوى] ما تفرَّد به الاثْنَان فأكْثر، سِرًّا كان أو ظَاهِراً. وقيل: النَّجْوى جمع نَجِيّ؛ نقله الكَرْمَاني، والنَّجْوى مشتقَّةٌ من نَجَوْتُ الشيء، أنْجُوه، إذا خَلَّصْتَه وأفْرَدْتَه، والنَّجْوة المُرْتَفِعُ من الأرْضِ؛ لانْفِرَاده بارتفاعه عمَّا حَوْله. فصل فيمن المقصود بالآية؟ والمراد بالآية: قَوْم طعمة. وقال مُجَاهد: الآية عَامَّة في حَقِّ جميع النَّاسِ، والنَّجْوى: هي الإسْرَار في التَّدْبِير. وقيل: النَّجْوى: ما يَنْفَرِدُ بِتَدْبِيرِه قَوْمٌ، سِرّاً كان أوْ عَلاَنِيَة، ومَعْنَى الآيَة: لا خَيْر في كَثِيرٍ مما يُدَبِّرُونه بَيْنَهُم، إلاَّ من أمَرَ بِصَدَقَة، أوْ معروفٍ، أو إصلاحٍ بين النَّاسِ فالاستِثْنَاء يكون مُتَّصِلاً، وقيل: هو استِثْنَاء مُنْقَطِع بمعنى: لكن من أمر بِصَدقَةٍ، وهذان القَوْلان مبنيّان على أن النَّجْوى يجوز أن يراد بها: المَصْدرُ كالدَّعْوى؛ فتكون بِمعنَى: التناجي، وأنْ يُرادَ بها: القَوْمُ المتناجُون إطلاقاً للمَصْدرِ على الوَاقِع منه مجازاً، نحو: «رجلٌ عَدْلٌ وصَوْمٌ» . فعلى الأول يكون مُنْقَطِعاً؛ لأنَّ مَنْ أمَر لَيْس تَنَاجِياً؛ فكأنه قيل: لكنْ مَنْ أمَر بصدَقةٍ، ففي نَجْوَاه الخيرُ، والكوفِيُّون يقدِّرون المُنْقَطع ب «بل» ، وجعل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 15 بعضهم الاستِثْنَاء متَّصِلاً، وإنْ أُريد بالنَّجْوى: المصدرُ، وذلك على حَذْفِ مُضَافٍ؛ كأنه قيل: إلا نَجْوَى مَنْ أمر وعلى هذا يَجُوز في مَحَلٍّ «مِنْ» وجهان: أحدهما: الخَفْضُ بدل من «نَجْوَاهُم» ؛ كما تقول: «ما مَرَرْتُ بأحد إلا زَيْدٌ» . والثاني: النَّصْب على الاستِثْناء [كما تقول: «مَا جَاءني أحَدٌ إلا زَيْدٌ، على الاستثناء؛] لأنَّ هذا استِثْنَاء الجِنْس من الجِنْس وإن جعلنا النَّجْوى بِمَعنى: المُتناجين، كان مُتَّصِلاً، وقد عَرَفْتَ مِمَّا تقدَّم أن المنقطع مَنْصُوبٌ أبداً في لغة الحِجاز، وأنَّ بَنِي تَمِيم يُجرونه مُجْرى المُتَّصِل، بشرط توجُّه العَامِل عليه، وأنَّ الكَلاَمَ إذا كان نفياً أو شبهه، جاز في المُسْتَثْنَى الإتباعُ بدلاً، وهو المختار، والنَّصْبُ على أصْل الاستِثْنَاء، فقوله» إلا مَنْ أمَر «: إما مَنصُوبٌ على الاستِثْنَاء المُنْقَطِع، إنْ جَعَلْتَه مُنْقطعاً في لغة الحِجَاز، أو على أصْلِ الاستِثْنَاء إن جعلته مُتَّصلاً، وإمَّا مَجْرورٌ على البَدَلِ من» كثير «، أو من» نجواهم «، أو صِفَةٌ لحدهما؛ كما تقُول:» لا تَمُرُّ بجماعة من القَوْم إلا زيد «إنْ [شئت] جَعلْتَ زَيْداً تَابِعاً للجماعةِ أو للقوم، ولم يجعله الزَّمَخْشَرِي تَابِعاً إلا» لِكَثير «قال: إلا نَجْوَى مَنْ أمَر، على أنَّه مَجْرورٌ بَدَلٌ من» كَثِيرٍ «؛ كما تقُولُ:» لا خير في قِيامهم إلا قيام زيدٍ «وفي التَّنْظِير بالمثال نظرٌ لا تَخْفَى مباينته للآية، هذا كُلُّه إن جعلنا الاستِثْناء مُتصِلاً بالتَّأويلين المَذْكُورين، أو مُنْقَطِعاً على لغة تميم، وتلخَّص فيه سِتَّة أوْجُه: النَّصبُ على الانقطاع في لغة الحجاز، أو على أصْلِ الاستثناءِ، والجرُّ على البَدَل من» كَثِير «، أو من» نَجْوَاهُم «، أو على الصِّفَةِ لأحدهما. و «مِنْ نَجْوَاهُمْ» متعلقٌ بمحذُوفٍ؛ لأنه صِفَةٌ ل «كثير» في مَحَلِّ جَر. فصل إنَّما ذكر - تعالى - هذه الأقْسَام الثَّلاثة؛ لأن عَمَل الخَيْر، إمَّا أن يكُون بإيصَال المَنْفَعَةِ، أو بدفع المَضَرَّة، وإيصال الخَيْر: إمَّا أن يكُون من الخَيْرَات الجسْمَانِيَّة، وهو إعْطاء المَالِ، وإليه الإشارة بقوله: «إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ» . وإمَّا أن يكُون من الخَيْرَات الرُّوْحَانية، وإليه الإشارة بقوله: «أَوْ مَعْرُوفٍ» . وإمَّا إزالة الضَّرَرِ وإليه الإشارة بقوله: {أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس} . قوله «بَيْن» يجُوز أن يكون مَنْصُوباً بِنَفْس إصْلاح، تقول: أصْلَحْت بَيْن القَوْم، قال - تعالى -: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] ، وأن يتعلَّق بِمَحْذُوف على أنَّه صِفَة لإصلاح. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 16 [و] قوله: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} أي: هذه الأشْيَاء، {ابتغآء مَرْضَاتِ الله} أي: طَلَب رِضَاه، و «ابْتِغَاء» مَفْعُول من أجْله، وألِفُ «مَرْضَاتِ» عن وَاوٍ، وقد تقدَّم تَحْقِيقُه. فإن قِيلَ: كَيْف قال: {إِلاَّ مَنْ أَمَرَ} ثم قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك} . فالجواب: أنَّه ذكر الأمْرَ بالخير، ليَدُل به على فَاعِلِه؛ لأنَّ الآمِرَ بالخَيْر لما دَخَل في زُمْرَة الخَيِّرين، فبأن يَدْخل فَاعِل الخَيْر فيهم أوْلى، ويجوز أن يُرَاد: ومن يأمُر بذلك، فعبر عن الأمْر بالفعل؛ لأنَّ الأمْر أيضاً فِعْل من الأفعال. ثم قال: «فسوف يُؤتيه» بالياء نظراً إلى الاسْمِ الظَّاهر في قوله: «مَرْضَات الله» ، وقرئ بالنُّون؛ نظراً لِقَوله بعدُ: «نُولِّه، ونُصْلِه» وهو أوقعُ للتَّعْظِيم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 تقدّم في آل عمران أن المُضَارعَ المَجْزُوم، والأمْرَ من نحو: «لم يَرْدُدْ» و «رَدَّ» يجُوزُ فيه الإدغامُ وتركُه، على تَفْصيلٍ في ذلك وما فيه من اللُّغَات وتقدم الكلام في المَشَاقَّةِ والشِّقَاقِ في البقرة، وكذلك حُكمُ الهَاء في قوله: «نُؤته» و «نُصْلِه» . وهذه الآيَة [نَزَلَتْ] في طعمة بن أبَيْرِق، وذلك أنَّه لمَّا ظهرت عليه السَّرِقَةُ، خاف على نَفْسِهِ من قَطْع اليد والفضيحة، فهربَ مرتَدّاً إلى مَكَّة. فقال - تعالى -: {وَمَن يُشَاقِقِ الرسول} أي: يُخَالِفُه، {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى} : من التَّوحيد والحُدُودِ، {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين} أي: غير طَرِيق المُؤمِنِين، { [نُوَلِّهِ] مَا تولى} أي: نَكِلُه [فِي الآخِرَة] إلى مَا تولَّى في الدُّنيا {وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً} فانْتَصب مَصِيراً على التَّمْيِيز؛ كقولهم: «فُلانٌ طَابَ نَفْساً» . رُوِيَ أن طعمة نَزَل على رَجُل من بني سليم من أهْل مكَّة، يُقال له: الحجَّاج بْن علاط، فَنَقب [بَيْتَ الحَجَّاج، لِيَسْرِقَه،] فسقط عليه حَجَرٌ فلم يَسْتَطِع أن يَدْخُل، ولا أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 17 يَخْرُج، فأخذ لِيُقْتَل، فقال بَعْضُهُم: دَعُوه، فقد لَجَأ إلَيْكُم، فتركوه، وأخْرَجُوه من مكة، فَخَرَج مع تُجَّار من قُضاعة نَحو الشَّام، فنزلوا مَنْزِلاً، فَسَرقَ بَعْضَ مَتَاعِهِم وهرب، فَطَلَبُوه، وأخَذُوه ورموه بالحِجَارة؛ حتَّى قتلوه، فَصَار قبره تِلْك الحِجَارة، وقيل: إنه رَكِبَ سفينةً إلى جدة، فسرق فيها كِيساً فيه دَنَانِير فأُخِذَ، وألْقِي في البَحْر، وقيل: إنه نزل في حَرَّة بني سَليم، وكان يَعْبُد صَنَماً لهم إلى أنْ مَاتَ، فأنزل الله - تعالى -: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} أي: ذَهَب عن الطَّرِيق، وحُرِمَ الخَيْر كُلَّه. وقال الضَّحَّاك عن ابْن عبَّاسٍ: إنَّ هذه الآيَة نَزَلت في شَيْخٍ من الأعْراب، جَاءَ إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: يا نَبِيَّ الله، إنِّي شيخٌ مُنْهَمِكٌ في الذُّنُوب، إلاَّ أني لَمْ أشْرِكْ باللَّه شيئاً منذ عَرَفْتُه وآمنت به، ولمْ أتَّخِذْ من دُونِه ولِيّاً، ولَمْ أواقع المَعَاصِي جُرْأة على اللَّه، وما توهَّمْت طَرْفَة عَيْن أنِّي أعجِزُ اللَّه هَرَباً، وإنِّي لَنَادِمٌ تَائِبٌ، مستغفرٌ، فما حالي؟ فأنزل اللَّه هذه الآية. فصل في استدلال الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بهذه الآية على حجية الاجماع رُوِيَ أن الشَّافِعِي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سُئِلَ عن آيَة في كِتَاب اللَّه - تعالى - تدلُّ على أنَّ الإجْمَاع حجَّة، فقرأ القُرآن ثلاثمِائَة مرَّة، حتَّى وَجَد هذه الآيَة، وتقرير الاسْتِدْلال، أن اتِّباع غَيْر سَبِيل المُؤمِنين حَرَامٌ [فوجب أن يكُون اتِّباع سَبِيل المؤمنين وَاجِباً] بيان المقدِّمة الأولى: أنه - تعالى - ألحق الوَعِيد بمن يُشَاقِقُ الرَّسُول، ويتَّبع غير سَبِيل المُؤمنين، ولو لم يَكُن ذلك مُوجِباً، لكان ذلك ضمّاً لما لا أثَر لَهُ في الوَعِيد إلى مَا هُو مُسْتَقِلٌّ باقْتِضَاء ذَلِك الوَعِيد، وإنَّه غير جَائز، وإذا كان اتِّبَاعُ غير سَبيل المُؤمنين حَرَاماً، لزم أن يَكُون اتِّباع سَبيلِ المؤمنين وَاجباً، وإذا كان عَدَم اتِّبَاعهم حَرَاماً، كان اتِّباعُهُم وَاجباً، لأنَّه لا خُرُوجَ عن طَرفَي النَّقِيضِ. فإن قيل: لا نُسَلِّم أنَّ عدم اتِّبَاعِ سَبيل المؤمنين، يصدق عَليْه أنَّه اتِّباعٌ لغير سَبِيل المُؤمِنين، فإنه [لا يَمتنِع ألاَّ] يتَّبع لا سبيل [المؤمنين] ولا غير سَبِيل المُؤمنين. الجوابُ: أنَّ المتابعة عِبَارةٌ عن الإتْيَان بِمثْل ما فعل الغَيْر، وإذا كَانَ من شَأن غير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 18 المُؤمنين ألاَّ يَتَّبِعُوا سبيل المؤمنين، فكُلُّ من لَمْ يَتَّبع سَبِيل المؤمنين، فقد أتَى بِمِثْل ما فعل غَيْر المُؤمنين؛ فوجب كَوْنُه مُتَّبِعاً لهم. ولقائل أن يَقُول: الاتِّبَاع ليس عِبَارة عن الإتْيَان بِمِثْل فِعْل الغَيْر، وإلا لزم أن يُقَال: الأنْبِيَاءُ والملائِكةُ يتبعون لآحَاد الخَلْق من حَيْثُ إنَّهُم يوحِّدُون اللَّه [- تعالى -] لما أن كُلَّ واحد من آحَاد الأمَّة يوحِّد اللَّه - تعالى -، ومعلوم أنَّ ذلك لا يُقَال، بل الاتِّباع عِبَارة عن الإتْيَان بمثل فِعْل الغَيْر، لأجْل أنه فِعْل ذلك الغَيْر، ومن كان كذلك فمن تركَ مُتابعَة سبيل المؤمنين؛ لأجل أنَّه ما وَجَد على وُجُوب مُتَابَعَتِهم دَلِيلاً، فلا جَرَم لم يَتَّبِعْهُم، فهذا شَخْصٌ لا يكون مُتَّبِعاً لغير سَبِيل المُؤمنين. وقال ابن الخَطِيب: وهذا سُؤال قَوِيٌّ على هذا الدَّلِيل، وفيه أبْحَاث أخَر دَقِيقَةٌ ذكرناها في كِتَاب المَحْصُول. فصل قوله - تعالى -: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ} الآية قد تقدَّم بيان سَبَبِ نُزُولها، والفائِدَةُ في تكرارها؛ أن اللَّه - تعالى - ما أعَاد آيَةً من آيَاتِ الوعيد بِلَفْظِ واحدٍ مرَّتَيْن، وقد أعَادَ هذه الآيَة بِلَفْظ واحِدٍ، وهي من آيات الوَعْد، فدل ذلك على أنَّه - تعالى - خصَّ جَانِبَ الوَعْد والرَّحْمَة بمزيد التَّأكيد. فإن قيل: لمَ خَتَم تلك الآية بقوله: «فَقَدِ افْتَرَى» وهذه بقوله: «فَقَدْ ضَلَّ» . فالجوابُ: أنَّ ذلك في غَاية المُنَاسَبة، فإن الأولى في شأن أهْل الكِتَاب من أنَّهم عِنْدَهم علمٌ بصِحَّة نبوته - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وأن شريعته ناسَخَةٌ لجَمِيع الشَّرائعِ، ومع ذلك فقد كَابَرُوا في ذلك، فافْترُوا على الله - تعالى -، وهذه في شأنِ قَوْمٍ مُشْركين غير أهْلِ كِتَابٍ ولا عِلْمٍ، فناسَب وَصْفُهم بالضَّلال، وايضاً: فقد تقدَّم ذكر الهُدَى، وهو ضدُّ الضلال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 «إن» هُنَا مَعْنَاها: النَّفْي؛ كقوله - تعالى -: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 19 مَوْتِهِ} [النساء: 159] «ويَدْعُون» : بمعنى: يَعْبُدُون، نزلت في أهْل مَكَّة، أي: يَعْبُدُون، كقوله [- تعالى -] : {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعوني} [غافر: 60] فإنَّ مَنْ عَبَد شَيْئاً، فإنَّه يدعوه عِنْد احْتِيَاجِهِ إليْه، وقوله: «مِن دُونِهِ» أي: من دُونِ اللَّه. قوله: «إلا إناثاً» : في هذه اللَّفْظَةِ تِسْعُ قراءاتٍ. المشهُورةُ: وهي جَمْع أنْثى، نحو: رباب جمعُ رُبَّى. والثانية: وبها قَرَأ الحسن: «أنْثَى» بالإِفْرَاد، والمرادُ به الجَمْع. والثالثة: - وبها قَرَأ ابن عبَّاسٍ، وأبو حَيْوَة، وعَطَاء، والحَسَن أيْضاً، ومعاذ القَارِئ، وأبو العَالِيَة، وأبُو نُهَيْك -: «إلا أنُثاً» كرُسُل، وفيها ثلاثةُ أوجه: أحدها: -[وبه] قال ابن جَرِيرٍ - أنه جمعُ «إناث» ؛ كثِمار وثُمُر، وإناثٌ جمع أنْثَى، فهو جَمْع الجَمْع، وهو شَاذٌّ عند النحويِّين. والثاني: أنه جَمْع «أنيثٍ» كَقَلِيب وقُلُب، وغَدِير وغُدُر، والأنيثُ من الرِّجَال: المُخَنَّثُ الضَّعِيفُ، ومنه «سَيْف أنِيثٌ، ومئنَاث، ومئنَاثَة» أي: غَيْر قَاطِعٍ قال صخر: [الوافر] 1877 - فَتُخْبِرهُ بأنَّ العَقْلَ عِنْدِي ... جُرَازٌ لا أفَلُّ وَلاَ أنِيثُ والثَّالث: أنه مُفْرَدٌ أي: يكون من الصِّفات التي جاءت على فُعُل، نحو: امرأة حُنُثٌ. والرابعة: وبها قَرَأ سَعْدُ بن أبِي وقَّاصٍ، وابْن عُمَر، وأبو الجَوْزَاء - «وثنا» بفتحِ الواوِ والثَّاء على أنَّه مفردٌ يراد به الجَمْع. والخامسة - وبها قَرَأ سعيد بن المُسَيب، ومُسْلم بن جُنْدُب، وابن عبَّاسٍ أيْضاً - «أثُنا» بضم الهمزة والثاء، وفيها وجهان: أظهرهما: أنه جَمْع وثَن، نحو: «أسَد وأُسُد» ثم قَلَب الوَاوَ همزةً؛ لضمِّها ضمّاً لازماً، والأصْلُ: «وُثُن» ثم أُثُن. والثاني: أن «وَثَناً» المُفْردَ جمع على «وِثانٍ» نحو: جَمَل وجمال، وجَبَل وجِبال، ثم جُمِع «وثان» على «وُثُن» نحو: حِمَار وحُمُر، ثم قُلبت الواوُ همزةً لما تقدَّم؛ فهو جمعُ الجَمْعِ. وقد رَدَّ ابن عَطِيَّة هذا الوجه بأنَّ فِعَالاً جمعُ كثرة، وجُمُوعُ الكَثْرة لا تُجْمَع ثانياً، إنما يُجْمَعُ من الجُمُوعِ ما كان من جُمُوعِ القِلَّة. وفيه مُنَاقَشَةٌ من حَيْثُ إنَّ الجَمْع لا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 20 يُجْمَع إلا شَاذّاً، سواءً كان من جُمُوعِ القِلَّة، أم من غيرها. والسادسة - وبها قَرَأ أيُوب السَّختياني -: «وُثُناً» وهي أصْل القراءة التي قبلها. والسَّابعة والثَّامنة: «أُثْنا ووُثْنا» بسُكُونِ الثَّاء مع الهَمْزة والوَاوِ، وهي تَخْفِيفُ فُعُل؛ كسُقُف. والتاسعة - وبها قرأ أبو السوار، وكذا وُجِدَتْ في مُصْحَفِ عَائِشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «إلا أوْثاناً» جَمْعَ «وَثَن» نَحْو: جَمَل وأجْمال، وجَبَل وأجْبال. فصل وسُمِّيَتْ أصْنَامهم إناثاً؛ لأنهم كانوا يُلْبسُونها أنواع الحُلِيِّ، ويسمونها بأسْمَاءِ المُؤنثات، نحو: اللاَّت، والعُزَّى، ومناةَ، وقد ردَّ هذا بَعْضُهم بأنَّهم كانوا يُسَمُّون بأسْمَاء الذُّكُور، نحو: هُبَل، وذِي الخَلَصَة، وفيه نظر؛ لأن الغَالِب تَسميتُهُم بأسماء الإناثِ، و «مُرِيداً» : فَعِيل من «مَرَدَ» أي: تَجرَّد للشَّرِّ، ومنه «شَجَرَة مَرْداء» أي: تناثر وَرَقُها، ومنه: الأمْرَدُ؛ لتجرُّدِ وَجْهِه من الشَّعْر، والصَّرْحُ الممرَّد: الذي لا يَعْلُوه غُبَارٌ من ذَلِك فاللاَّت: تَأنيث اللَّه والعُزَّى: تأنيث العَزِيز. قال الحَسَن: لَمْ يكن حَيٌّ من أحْيَاء العَرَب إلا وَلَهُم صَنَمٌ يعبُدُونه، ويسمى أنْثَى بَنِي فُلان، ويدُلُّ عليه قِرَاءة عَائِشَة. وقال الضَّحَّاك: كان بعضهم يَعْبُد الملائِكَة، وكانوا يقُولُون: المَلاَئكة بَنَاتُ اللَّه، قال - تعالى -: {الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الأنثى} [النجم: 27] . وقال الحسن: قوله «إلاَّ إناثاً» أي: إلا مَوْتاً، وفي تسمية الأمْوَات إنَاثاً وجهان: الأوَّل: إن الإخْبَار عن الموات يكُون على صِيغَة الإخْبَارِ عن الأنْثَى، تقُول: هذه الأحْجَار تُعْجِبُنِي، كما تقُول: هذه المَرْأة تُعْجِبُني. الثَّاني: الأنْثَى أخسّ من الذَّكر، والمَيِّت أخسُّ من الحَيِّ، فلهذهِ المُنَاسَبة أطْلَقُوا اسمْ الأنْثَى على الجَمَادَات المَوَاتِ، والمَقْصُود هل إنسان أجهل ممن أشرك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 21 قوله: {وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً} فعيلٌ من مَرَدَ إذا عَتَا، ومنه: شَجَرةٌ مَرْدَاء، أي: تَنَاثَر وَرَقُها، ومنه: الأمْرَد؛ لتجرّد وجهه من الشَّعْر، والصَّرْح الممرَّدُ: الذي لا يَعْلُوه غُبَار، وقرأ أبو رَجَاء ويُرْوى عن عاصِمٍ «تَدْعُونَ» بالخِطَاب. فصل قال المفُسِّرون: كان [في] كُلُّ واحدٍ من تِلْك الأوثَان شَيْطَان يَتراءى للسَّدَنَة والكَهَنَة يُكَلِّمْهُم. وقل الزَّجَّاج: المُرادُ بالشَّيْطَان هَاهُنَا: إبْلِيس؛ لقوله - تعالى -: بعد ذلك: {لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} . وهذا قول إبْلِيس، ولا يَبْعُد أنّ الذي يتراءى للسَّدنة، هو إبْلِيس. قوله: «لَعَنَهُ الله» فيه وجهان: أظهرهما: أنَّ الجُمْلَة صِفَةٌ ل «شيطاناً» ، فهي في مَحَلِّ نَصْب. والثاني: أنها مُسْتأنفةٌ: إمَّا إخْبَار بذلك، وإمَّا دُعَاء عليه، وقوله: «وقال» فيه ثلاثة أوجه: قال الزَّمَخْشَرِيُّ: قوله لَعَنَهُ «وقال لأتَّخِذَنَّ» صِفَتَان، يعني: شيطاناً مَرِيداً جَامِعاً بين لَعْنَة اللَّه، وهذا القَوْل الشَّنِيع. الثاني: الحالُ على إضْمَار «قد» أيْ: وقد قَالَ. الثالث: الاستئناف. و «لأتخِذَنَّ» جوابُ قسم مَحْذُوف، و «مِنْ عبادك» يجوزُ أن يتعلَّق بالفعل قبله، أو بمحذوفٍ على أنَّه حَالٌ من «نَصِيباً» ؛ لأنه في الأصْلِ صِفَةُ نكرةٍ قُدِّم عليها. فصل النَّصِيب المَفْرُوض: أي: حظاً مَعْلُوماً، وهم الذين يَتَّبِعُون خُطُواته، والفَرْضُ في اللغة، التَّأثِير، ومنه: فرض القَوْس للجُزْء الذي يُشَدُّ فيه الوَتَر، والفريضة: ما فَرَضَهُ اللَّه على عِبَادِهِ حَتْماً عليهم. رُوِي عنه النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه قال: «من كُلِّ ألْفٍ واحدٌ للَّه، والبَاقِي للشَّيْطَان» . فإن قيل: العَقْل والنَّقْل يدلاَّن على أنَّ حِزْب اللَّه أقلُّ من حِزْب الشَّيطان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 22 أما النَّقْل: فقوله - تعالى -: {فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 249] ، وحُكِيَ عن الشيطان قوله {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62] ، وقوله: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [الحجر: 39، 40] ، ولا شك أن المُخْلَصِين قليلُون. وأمَّا العَقْل: فهو أنّ الفُسَّاق والكُفَّار كُلَّهم حِزْب إبليس. إذا ثَبَت هذا، فلفظ النَّصِيب إنَّما يتناول القِسْم الأوّل. فالجواب: أنَّ هذا التَّفَاوُت إنَّما يَحْصُل في نَوْع من البَشَر، أمَّا إذا ضَمَمت زُمْرَة الملائِكَة مع غَاية كَثْرَتِهِم إلى المُؤمنين، كانت الغَلَبَة للمُؤمِنِين. وأيضاً: فالمُؤمِنُون وإن كانُوا قَلِيلين في العَدَدِ، إلاَّ أن مَنْصِبَهُم عَظِيم عند الله، والكُفَّار، والفُسَّاق وإن كانُوا أكْثَر في العددِ، فهم كالعَدَم؛ فلهذا وقع اسم النَّصِب على قَوْم إبْلِيس. قوله: «ولأضِلَّنَّهُم» يَعْنِي: عن الحَقِّ، أو عن الهُدَى، وأراد به: التَّزْيين، وإلا فليْس إليه من الإضْلال شَيْء. ولأمَنِّيَنَّهم: بالباطل، ولآمُرَنَّهم: بالضلال، كذا قدَّره أبو البقاء، والأحْسَنُ أن يُقَدَّر المحذُوفُ، من جنس المَلْفُوظِ به، أي: ولآمُرَنَّهم بالبَتْكِ، ولآمُرَنَّهم بالتَّغْيير. وقرأ أبو عمرو فِيما نَقَل عنه ابْن عَطِيَّة: «ولامُرَنَّهم» بغيرِ ألفٍ، وهو قصرٌ شاذٌّ لا يُقاسُ عليه، ويجُوز ألاَّ يُقَدَّر شَيءٌ من ذلك؛ لأنَّ القَصْدَ: الإخْبَارُ بوقوعِ هذه الأفْعَال من غيرِ نَظَرٍ إلى مُتعلَّقاتِها، نحو: {كُلُواْ واشربوا} [الطور: 19] . فصل قالت المُعْتَزِلَة: قوله: «ولأضِلَّنَّهُم» يدل على أصْلَيْن عظيمين: أحدهما: أن المُضِلَّ هو الشَّيْطَان، وليس المُضِلُّ هو اللَّه - تعالى -؛ لأنَّ الشيطان ادَّعى ذَلِك، والله - سبحانه وتعالى - ما كذَّبَهُ فيه، فَهُو كقوله: {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] وقوله: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62] وقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] ، وأيضاً: فإنه - تعالى - وَصَفَه بكونه مُضِلاًّ [للنَّاسِ] في معرض الذَّمِّ له، وذلك يَمْنَع من كون الإله مَوْصُوفاً بذلك. [الثاني: أن أهْل السُّنَّة يقُولُون: الإضْلال عِبَارة عن خَلْق الكُفْر والضَّلال، ونَحْنُ نَقُول: لَيْس الإضلال عِبَارة عن خَلْقِ الكُفْرِ والضَّلال] ؛ لأن إبْلِيس وَصَفَ نَفْسَه بأنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 23 مُضِلٌّ، مع أنه بالإجْمَاعِ لا يَقْدِر على خلق الضَّلال. والجواب: أن هذا كلامُ إبليس، فلا يكون حُجَّةً، وأيضاً: فكلامه في هذه المسألة مُضْطَرِبٌ جِدّاً. فتارةً يَمِيل إلى القَدَرِ المَحْض، وهو قوله: «لأغويَنَّهُم» وأخرى إلى الجبْرِ المَحْضِ، وهو قوله: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] يَعْني: أنه قال هؤلاء الكُفَّار: نحن أغْويْنَا، فمن الذي أغْوَانا عن الدِّين؟ فلا بُدَّ من انْتِهَاء الكلِّ في الآخِرة إلى اللَّه. قوله: «ولأمَنِّيَنَّهُم» قيل: أمَنِّينَّهُم ركوب الأهْوَاء. وقيل: أمَنِّيَنَّهُم إدْرَاك الآخِرَة مع ركوب المَعَاصِي. قوله: {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام} أي: يَقْطَعُونها، ويَشقُّونها، وهي البَحِيرة، والبتكُ: القَطْعُ والشّقُّ، والبِتْكَة: القطعة من الشيء، جَمْعُها: بِتَك، قال: [البسيط] 1878 - حَتَّى إذَا مَا هَوَتْ كَفُّ الغُلاَمِ لَهَا ... طَارَتْ وَفِي كَفِّهِ مِنْ رِيشِهَا بِتَكُ ومعنى ذلك: أنَّ الجاهليَّة كانوا يَشُقُّون أذُن النَّاقَة إذا ولدت خَمْسَة أبْطُن، آخرُها ذَكَر، وحرَّمُوا على أنْفُسِهِم الانتفاع بها، وقال آخرون: كانوا يَقْطَعُون آذَان الأنْعَام نُسُكاً في عِبَادَة الأوْثَان، ويَظُنُّون أنَّ ذلك عِبَادة، مع أنَّه في نفسه كُفْرٌ وفِسْقٌ. قوله: {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} هذه اللاَّمات كلها للقَسَم. قال ابن عبَّاسٍ: والحَسَن [ومُجَاهِدٌ] وسعيد بن جُبَيْر، وسَعِيد بن المسيَّب والسُّدِّي، والضَّحاك، والنَّخْعِيُ: دِينُ الله، كقوله {لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله} [الروم: 30] أي: لدين اللَّه، وفي تَفْسير هذا القَوْل وَجْهَان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 24 الأول: أن اللَّه - تعالى - فطر الخَلْقَ على الإسْلام يَوْم أخْرَجَهُم من ظَهْر آدَم كالذَّرِّ، وأشْهَدَهُم على أنْفُسِهم، ألَسْتُ بِربِّكم؛ قالوا بَلَى، فمن كَفَر به، فقد غيَّر فِطْرَة اللَّه تعالى؛ يؤيده قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «كل مَوْلُود يُولَدُ على الفِطْرَة، فأبواه يُهوِّدَانه، ويُنَصِّرانه، ويُمَجِّسانه» . والثاني: أن التَّغْيير: تَبْدِيل الحَلالِ حَراماً، والحرام حَلاَلاً. وقال الحسن، وعكرمة، وجماعة من المُفسِّرين: التَّغْيِير: ما روى عبد اللَّه [بن مَسْعُود] عن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [أنَّه] قال: «لَعَن اللَّه الوَاشِمَاتِ والمُسْتَوشِمَات» . قالوا: لأنَّ المرأة تَتَوصَّل بهذه الأفعال إلى الزِّنا، ولَعَن رسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «النامِصَة والمُتَنَمِّصَة، والوَاصِلَة والمُتَوَصِّلة، والوَاشِمة والمُتَوَشِّمَة » . قال القرطبي، قال مَالِك، وجماعة: إن الوَصْل بكل شَيء، من الصُّوفِ والخِرق وغَيْر ذَلِك في مَعْنَى وصله بالشَّعْر، وأجازه اللَّيْث بن سَعْد، وأباح بَعْضُهم وَضْع الشَّعْر على الرَّأس من غير وَصْل، قالوا: لأن النهي إنما جَاءَ في الوَصْل، والمُتَنمِّصَةُ: هي التي تَقْطَع الشَّعْر من وَجْهِهَا بالنِّمَاص، وهو الذي يقلع الشَّعْر. قال ابن العرَبيِّ: وأهلْ مِصر يَنْتفُون شَعْر العانَة، وهو منه، فإن السُّنَّة حَلْق العَانَة، ونَتْفُ الإبط، فأما نَتْفُ الفَرْج فإنه يُرخيه ويؤذِيه ويُبْطل كَثِيراً من المَنْفَعَةِ فيه. وأمَّا الوَاشِمَة والمُسْتَوْشِمَة، فهي الَّتِي تغرز ظَهْر كَفَّها ومِعْصَمَها، ووجْههَا بإبْرَةٍ، ثُمَّ يحشى ذلك المكانُ بالكُحْل أو بالنؤر، فيخْضَرّ، وفي بعض الروايات «الواشية، والمُسْتَوْشِيَة» باليَاء مكان المِيم، والوَشْي: التَّزَيُّن، مأخوذ من نَسْج الثَّوْب على لونين، وثورٌ مُوشَّى: في وَجْهِه وقوائِمِه سوادٌ، وأما الوشْمٌ فجائز في كل الأعْضَاء غير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 25 الوَجْه؛ لأن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «نهى عن الضَّرْب في الوَجْه وعن الوَشْم في الوجْهِ» ، ورُوي عن أنس، وشهر بن حَوْشَب، وعِكْرِمَة، وأبِي صالح: التَّغْيير هَهُنَا هو الإخْصَاء، وقطع الآذان، وفَقْأ العُيُون؛ لأن فيه تَعْذِيب للحَيَوان، وتَحْريم وتَحْلِيل بغير دليلٍ، والآذَان في الأنْعَام جمالٌ ومَنْفَعة، وكذلِك غيرها من الأعْضَاء، فَحَرّم عليهم الشَّيْطَان ما أحلَّه اللَّه لهم، وأمرَهُم أن يشركوا باللَّه ما لم يُنَزِّل به سُلْطَاناً، ولما كان هذا من فِعْل الشَّيْطَان، أمرنا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن نستشرف العَيْن والأذُن، ولا نُضَحِّي بَعْورَاءَ، ولا مُقَابَلة، ولا مُدَابرة؛ ولهذا كان أنَس يكره إخْصَاء الغَنَم، وحرمه بَعْضُهم. قال القُرْطُبِي: فأما خِصاء الآدمِيِّ، فمصيبَةٌ، فإنَّه إذا خُصِي، بَطَل قلبه وقُوَّته، عَكْس الحَيَوان، وانْقَطع نَسْلُه المأمُور به في قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «تَنَاكَحُوا تَنَاسَلُوا» ثم إن فيه ألَماً عَظِيماً، ربما يُفْضِي بَصَاحِبهِ إلى الهلاكِ، فيكون [فيه] تضْييع مالٍ، وإذْهَابُ تَفْسٍ، وكل ذلك مَنْهِيٌّ عنه، ثم هذه مُثْلَةٌ، وقد نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن المُثْلَةِ، وجوَّز بَعْضُهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 26 في البَهَائِم؛ لأن فيه غَرَضاً، وكانت العَرَب إذا بَلغَتْ إبلُ أحَدِهِمْ ألْفاً عوَّرُوا عَيْنَ فَحْلِها. وحكى الزَّجَّاج عن بعضهم: التَّغْيير هو أن اللَّه - تعالى - خلق الأنْعامَ للرُّكُوب والأكْل، فحربوها، وخَلَق الشَّمْس، والقَمَر، والنُّجُوم، والأحْجَار لمنفعة العِبَاد، فعبدوها من دُونِ اللَّه. وقيل: التَّغْيير هو التَّخَنُّث؛ وهو عِبَارَةٌ عن الذكر يُشْبِهُ الأنْثَى والسُّحْق؛ عِبَارة عن تَشَبُّه الأنْثَى بالذّكر. ثم قال: {وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مِّن دُونِ الله} أي: ربًّا يطيعه، {فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً} لأن طاعة اللَّه تعالى تُفِيد المَنَافِع العَظِيمة، الدّائِمة، الخَالِصَة عن شَوائب الضَّرَر، وطاعَة الشَّيْطَان تفيد المَنَافِع القَلِيلَة، المُنْقَطِعة، المشوبة بالغموم والأحزان، ويعمها العَذَاب الدَّائِم، وهذا هُو الخسَار المُطْلَق. قال أبُو العبَّاس المُقْرِي: ورد لَفْظُ الخُسْرَان [قي القرآن] على أربَعَة أوْجُه: الأوَّل: بمعنى الضَّلالة؛ كهذه الآيَة. الثَّاني: بمعنى العَجْز؛ قال - تعالى -: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} [يوسف: 14] أي: عَاجِزُون ومثله: {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} [الأعراف: 90] . الثَّالث: بمعنى الغَبْن؛ قال - تعالى -: {الذين خسروا أَنفُسَهُمْ} [المؤمنون: 103] أي: غبنوا أنْفُسَهم. الرابع: بمعنى: المُخسِرُون؛ قال - تعالى -: {خَسِرَ الدنيا والآخرة ذلك هُوَ الخسران [المبين] } [الحج: 11] . قوله: «يُعدُهُمْ وَيُمَنِّيهمْ» ، قُرِئَ: «يَعدْهُمْ» بسُكون الدَّال تَخْفِيفاً؛ لتوالي الحَرَكات، ومَفْعُولُ الوَعْد مَحْذُوفٌ، أي: يعدُهُم البَاطِل أو السلامة والعافية ووعدُه وتمْنِيَتُهُ: ما يُوقعه في قَلْب الإنْسَان من طُول العمر، ونَيْل الدُّنْيَا، وقد يكون بالتَّخْوِيف بالفَقْر، فيَمْنَعُه من الإنْفَاقِ، وصِلَة الرَّحِم؛ كما قال - تعالى -: {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر} [البقرة: 268] و «يُمنيهِم» بأنْ لا بَعْثَ، ولا جنَّةَ، {وَمَا يَعِدُهُمْ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً} أي: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 27 بَاطِلاً؛ لأنَّ تلك الأمَانِي لا تُفِيدُ إلا المَغْرُور؛ وهو أن يَظُنَّ الإنْسَان بالشيء أنه نَافِعٌ لدينه، ثم يَتَبَيَّن اشْتِمَالُه على أعْظَم المَضَارِّ. قوله «إِلاَّ غُرُوراً» يُحْتمل أن يكونَ مَفْعولاً ثانياً، وأن يكُون مفعولاً من أجْله، وأن يكون نعت مَصْدرٍ محذوفٍ، أي: وعْداً ذا غُرور، وأنْ يكونَ مَصْدراً على غير الصَّدْرِ؛ لأنَّ «يَعِدُهم» في قوة يَغُرُّهم بوعْدِهِ. ف {أولئك مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} «أولئك» : مبتدأ، و «مأواهم» : مبتدأ ثانٍ، و «جهنم» : خبر الثَّانِي، [والجُمْلَة خبر الأوَّل] وإنما قال: «مأواهُم جَهَنَّم» ؛ لأن الغُرُور عِبَارة عن الحَالَةِ التي يُسْتَحْسَنُ ظَاهِرُهَا، ويَحْصُل النَّدَم عند انْكِشَاف الحَالِ فيها، والاستِغَراق في طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا، وفي مَعَاصِي الله - تعالى -، وإن كان في الحَالِ لَذِيذٌ، إلا أن عَاقِبَتَهُ جَهَنَّم، وسُخْطُ الله [- تعالى -] ، وهذا معنى الغُرُور. ثم قال {وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً} ، فقوله «عَنْهَا» : يجُوز أن يَتعلَّق بِمَحْذُوف: إمَّا على الحَالِ من «مَحِيصاً» لأنَّه في الأصْلِ صِفَةٌ نكرةٍ قُدِّمَتْ عليها، وإمَّا على التَّبْيين أي: أعني عنها، ولا يجوزُ تعلُّقُه بمحْذُوفٍ؛ لأنه لا يتعدَّى ب «عَنْ» ولا ب «مَحِيصاً» ، وإنْ كان المَعْنَى عليه لأنَّ المَصْدَر لا يتقدَّمُ معمولُه عليه، ومَنْ يَجوِّزُ ذلك، يُجَوِّزُ تعلُّق «عن» به، والمَحِيصُ: اسمُ مَصْدر من حَاصَ يَحِيص: إذا خَلَص ونَجا، وقيل: هو الزَّوَغَان بنُفُور، ومنه قولُه: [الطويل] 1879 - وَلَمْ نَدْرِ إنْ حِصْنا مِنَ المَوْتِ حَيْصَةً ... كَمِ الْعُمْرُ بَاقٍ والمَدَى مُتَطَاوِلُ ويروي: «جِضْنا» بالجيم والضَّاد المعجمة، ومنه: «وَقَعُوا في حَيْصَ بَيْصَ» ، وحَاصَ بَاص، أي: وقعوا في أمْرٍ يَعْسرُ التَّخلُّص منه، ويقال: مَحِيص ومَحَاص، قال: [الكامل] 1880 - أتَحِيصُ مِنْ حُكْمِ الْمَنِيَّةِ جَاهِداً ... مَا لِلرِّجَالِ عِنِ المَنُونِ مَحَاصُ ويقال: حاصَ يَحُوص حَوْصاً وحِيَاصاً أي: زَايَل المكانَ الذي كان فيه، والحَوْصُ: ضِيقُ مُؤخر العين، ومنه: الأحْوَصُ. قال الواحِدِي: الآية تَحْتَمِل وَجْهَيْن: أحدهما: أنه لا بُدَّ لهم من وُرُودِ النَّارِ. والثَّاني: الخُلُود الذي هو نَصِيبُ الكُفَّار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 28 ولما فرغ من الوعيد، أتبعه بذكر الوَعْد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 يجوز في {والذين آمَنُواْ} : وجهان: الرفع على الابتداءِ، والخبر: «سَنُدْخِلُهم» . والنَّصْبُ على الاشْتِغَال، أي: سَنُدْخِل الذين آمَنُوا سَنُدخِلهم، وقرئ: «سيُدْخِلُهم» بياء الغيبة. واعلم: أنه - تعالى - في أكْثَر آيَاتِ الوَعْدِ ذَكَرَ {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} ولو كان الخلودُ يفيد التأبيدَ والدوامَ، لزم التكْرَار وهو خلافُ الأصْل، فعلمنا أن الخُلُود عبارة عن طول المُكْثِ لا عن الدَّوَام، وأما في آيات الوَعِيد، فإنه يذكُر الخُلُودَ، ولم يذكُرِ التَّأبِيدَ إلاَّ في حَقِّ الكفارِ، وذلك يَدلُّ على أن عِقابَ الفساقِ منقطعٌ. قوله: {وَعْدَ الله حَقّاً} هما مَصْدَران، الأول مُؤكِّد لنفسه؛ كأنه قال وَعَد وَعْداً، وهو قوله: «سندخلهم» و «حقَّاً» : مصدر مؤكِّد لغيره، وهو قوله: «وَعْد اللَّه» أي: حُقَّ ذلك حَقّاً. قوله: {وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً} وهو توكيد ثَالثٌ، و «قيلاً» : نَصْبٌ على التَّمْييز، والقِيلُ، والقَوْل، والقَالُ، مَصَادِرٌ بمعنًى واحدٍ؛ ومنه قوله - تعالى -: {وَقِيلِهِ يارب} [الزخرف: 88] . وقال ابن السِّكِّيت: القِيلُ والقَالُ: اسمَان لا مَصْدَران، وفِائِدَة هذه التَّوْكِيدَات: معارضةُ ما ذَكَرَهُ الشَّيْطَان من المواعيد الكَاذِبَة والأماني الباطِلَةِ، والتنْبِيهُ على أن وَعْدَ اللَّه أولى بالقُبُول، وأحقُّ بالتَّصْدِيق من قوْلِ الشَّيْطَان. وقرأ حَمْزة، والكَسَائِيُّ: بإشْمَام الصَّادِ، وكل صاد سَاكِنة بَعْدَها دال في القُرْآن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 قرأ أبو جَعْفَر المَدَنِي { [لَّيْسَ] بِأَمَانِيِّكُمْ ولاا أَمَانِيِّ} بتخفيف الياء فيهما جميعاً، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 29 واعلم: أن «لَيْسَ» فعْلٌ، فلا بد من اسْمٍ يكون هو مُسْنداً إليه، وفيه خلافٌ: فقيل: يَعُود ضَمِيرُها على مَلْفُوظٍ به، وقيل: يَعُود على ما دَلَّ عليه اللَّفْظُ من الفِعْل وقيل: يَدُلُّ عليه سَبَبُ الآيَةِ. فأمَّا عَودْهُ على مَلْفُوظٍ بِهِ فقيل: هو الوَعْدُ المتقدِّم في قوله: «وعد الله» وهذا اختيار الزَّمَخْشَرِي؛ قال: «في لَيْس ضَمِيرُ وعدِ الله أي: لَيْس يُنالُ ما وعد الله من الثَّواب بأمانِيِّكم ولا بأمَاني أهل الكِتَابِ، والخطابُ للمُسْلِمين؛ لأنَّه لا يُؤمن بوعِد الله إلا مَنْ آمَن بِهِ» . وأمَّا عَوْدُه على ما يَدُلُّ عليه اللَّفْظ، فقيل: هو الإيمان المَفْهُومُ من قوله: «والذين آمنوا» وهو قولُ الحسن، وعنه: «ليس الإيمانُ بالتَّمَنِّي» . وأمَّا عودُه على ما يَدُلُّ عليه السَببُ، فقيل: يعودُ على مُجَاوَرةِ المُسْلِمين مع أهلِ الكِتَابِ، وذلك أنَّ بعضهم قال: «دينُنا قبل دينِكُم، ونبيُّنَا قبل نَبيِّكم؛ فنحن أفضلُ» ، وقال المُسْلِمُون: «كتابُنا يَقْضِي على كِتابِكم، ونبينا خَاتَمُ الأنْبِياء» فنزلت. وقيل: يعودُ على الثَّوابِ والعِقَاب، أي: ليس الثَّوَابُ على الحَسَنَاتِ، ولا العقابُ على السيّئات بأمانيكم. وقيل: قالت اليهودُ {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ، ونحن أصْحَاب الجَنَّة، وكذلك النَّصَارى، وقالت كُفَّار قُرَيْش: لا نُبْعَثُ؛ فنزلت، أي: ليس ما ادَّعَيْتُمُوه يا كُفَّارَ قريش بأمانيِّكم. وقرأ الحسن، وأبُو جَعْفَر، وشَيْبةُ بن نصاح، والحَكَم، والأعْرَج: «أمانيكم» ، «ولا أمَانِي» بالتَّخْفِيف كأنَّهم جَمَعُوه على فَعَالِل دون فَعَالِيل؛ كما قالوا: قَرْقُور وقراقير وقراقِر، والعرب تُنْقِصُ من فَعَالِيل اليَاء، كما تزيدُها في فَعَالِل، نَحْو قوله: 1881 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ..... ... ... ... ... . تَنْقادَ الصَّيَارِيفِ فصل قال مَسْرُوق، وقتادة، والضَّحَّاك: أراد: ليس بأمَانِيِّكم أيها المُسْلِمُون ولا أمَانيِّ أهل الكِتَاب، يعني: اليَهُودَ والنَّصارى؛ وذلك أنَّهم افْتَخَرُوا، فقال أهْلُ الكتاب: نَبِيُّنَا قَبْل نبِيِّكُم، وكِتَابُنَا قبل كِتَابِكُم، فنحن أوْلَى باللَّه مِنْكُم. وقال المُسْلِمُون: نبينا خاتمُ الأنْبِيَاء، وكتابُنَا يَقْضِي على الكُتُب وقد آمَنَّا بكتابِكُم، ولم تُؤمنوا بِكتابِنَا؛ فنحن أولى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 30 وقال مُجَاهِد: الآية خطاب لِعَبَدَة الأوْثان، يعني: مُشرِكِي أهل مَكَّة، وذلك أنَّهم قالوا: لا بَعْث ولا حِسَابَ، وقال أهل الكِتَاب: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] ، و {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 111] ، فأنزل اللَّه الآية، وإنما الأمْر بالعَمَل الصَّالِح. قوله: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} : جملة مُسْتأنفة مؤكِّدةٌ لحكم الجُمْلَة قبلها. قالت المُعْتَزِلَةُ: هذه الآية دالَّة على أنَّه [- تعالى -] لا يعفُو عن شَيْءٍ من السَّيِّئَات. وليس لِقَائِل أن يقُول: هذا يُشْكِلُ بالصَّغَائِر، فإنها مَغْفُورَةٌ. فالجواب عنه من وَجْهَيْن: الأول: أن العَامَّ بعد التَّخْصِيص حُجَّة. والثاني: أن صاحب الصَّغِيرة قد حَبَط من ثَوَابِ طَاعته بِمقْدَار عِقَاب تلك المَعْصِيَة، فههنا قد وَصَل خبر تلك المَعْصِيَة إليه. وأجابوا بأنه لِمَ لا يجُوز أن يَكُون المُرَادُ من هَذَا الجَزَاء ما يَصل إلى الإنْسَان [في الدُّنْيَا] من الهُمُوم والآلاَم والأسْقَام؛ ويَدُلَّ على ذلك قوله: {والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا جَزَآءً بِمَا كَسَبَا} [المائدة: 38] سمَّى القطع جَزَاءً. ورُوِي: «أنَّه لما نَزَلت هذه الآيَة قال أبو بكر الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كيف الصَّلاح بعد هَذِه الآيَة؟ ، فقال -[عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ]- غفر اللَّه لكَ يا أبَا بَكْرٍ، ألست تَمْرَض؟ ألَيْس تُصِيبُكَ الآلام؟ فهو ما تُجْزَوْن به» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 31 وعن عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - « [أن] رجلاً لما قَرَأ هذه الآيَة. فقال: [إن كان] الجَزَاء بكلِّ ما نَعْمَل، لقد هَلَكْنا، فبلغ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَلاَمُهُ؛ فقال: يُجْزَى المُؤمِنُ في الدنيا بِمُصِيبَةٍ في جَسَدِه وما يُؤذِيه» . وعن أبي هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «لمَّا نَزَلَت هذه الآية بَكَيْنَا، وحِزِنا، وقلنا: يا رسول الله، ما أبْقَت هذه [الآية] لنا شَيْئاً، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» أبشروا فإنَّه لا يُصِيبُ أحداً منكم مُصِيبَةٌ في الدُّنْيَا، إلا جَعَلَهَا الله له كَفَّارة؛ حتَّى الشَّوْكَة التي تَقَع في قَدَمِه «. وأيضاً: هَبْ أن ذَلِك الجَزَاء إنَّما يصل إلَيْهم يوم القِيَامة، لكن لم لا يَجُوز أن يَصِل الجَزَاء بتنقِيص ثَوَابِ إيمانِه، وسائر طَاعَاتِه؛ كقوله - تعالى -: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 114] . ولما رَوَى الكلبي، عن أبِي صَالح، عن ابن عبَّاسٍ، أنَّه قال:» لمّا نَزَلت هَذِه الآيَة شقت على المُؤمِنِين مَشَقَّة شَدِيدة، قالوا: يا رسُول الله، وأيُّنَا لم يعمل سُوءاً، فكيف الجَزَاءُ؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: إنَّه - تعالى - وعد على الطَّاعَةِ عَشْر حَسَناتٍ، وعلى المَعْصِيَة الوَاحِدة عُقُوبَة واحدة، فمن جُوزي بالسَّيِّئة، نَقَصَت وَاحِدة من عَشْرَة، وبقيت له تِسْع حَسَناتٍ، فويل لمن غلب آحَادُه أعْشَارَهُ «. وأيضاً: فَهَذِه الآيَةُ إنَّما نزلت في الكُفَّار؛ لقوله [- تعالى -] بعدها: {وَمَن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 32 يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة} . فالمؤمن الذي أطَاعَ اللًّه سَبْعِين سَنَةً، ثم شَرِب قَطْرةً من الخَمْر، فهو مؤمِنٌ قد عَمِل الصَّالِحَات؛ فوجب القَطْع بأنَّه يدخل الجَنَّةَ. وقولهم: خرج عن كوْنه مُؤمِناً، فهو باطل؛ للدلالة الدَّالَّة على أنَّ صَاحِب الكَبِيرة مُؤمِن؛ لقوله - تعالى -: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] إلى قوله: {فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى} [الحجرات: 9] سَمَّى البَاغِي حَالَ كَوْنه باغياً: مُؤمِناً، وقوله {ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] سَمَّى [قَاتِل العمد العُدْوَان مُؤمِناً] ، وقوله {ياأيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم: 8] سَمَّاه مُؤمِناً حال مَا أمَره بالتَّوْبَة، وإذا ثَبَت أنَّ صَاحِب الكَبِيرَة مُؤمِنٌن كان قوله [- تعالى -] {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} حُجَّةً في أنَّ المُؤمِن صاحب الكَبِيرَة من أهْلِ الجَنَّةِ؛ فوجبَ أن يكُون قوله: {مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} مخصوصاً بأهْل الكُفْر. وأيضاً: فهَبْ أنَّ النَّصَّ يَعُمُّ المؤمِن والكَافِر، لكن قوله: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] أخص مِنْه، والخاصُّ مقدَّم على العَامِّ، والكَلاَمُ على العُمُومات قد تَقدَّم فِي قوله: {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً} [البقرة: 81] . فصل في دلالة الآية على أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة دلت الآيَة على أنَّ الكُفَّار مخاطبون بفروع الإسْلام؛ لأن قوله - تعالى -: {مَن يَعْمَلْ سواءا} يتناول جَمِيع المُحَرًّماتِ، فيَدْخل فيه ما صَدَر عن الكُفَّار مما هو مُحَرَّم في دين الإسلام، وقوله: «يُجْزَ بِهِ» يدلُّ على وُصُولِ جَزَاء كُل ذلك إلَيْهم. فإن قِيلَ: لم [لا] يجُوز أن يَكُون ذَلِكَ الجَزَاء، عِبَارَة عمَّا يصل إليهم من الهُمُوم والغُمُوم في الدُّنْيَا. فالجَوَابُ أنَّه لا بُدَّ وأن يَصِل جَزَاء أعْمَالِهم الحَسَنة إليْهِم في الآخِرَة، وإذا كان كَذَلِك، اقْتَضَى أن يكُون تَنَعُّمُهم في الدُّنْيَا أكثر؛ ولذلك قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤمِن وجَنَّةُ الكَافِرِ» ؛ فامْتَنَع القَوْل بأنَّ جزاء أفْعَالِهِم المَحْظُورة تَصِلُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 33 إليْهِم في الدُّنْيَا؛ فوجب القول بِوُصُول ذلك الجَزَاء [إليْهِم] في الآخرة. فصل في شبهة المعتزلة وردِّها قالت المُعْتَزِلَة: دلت [هذه] الآيَة على أنَّ العَبْد فَاعِلٌ، وعلى أنَّه بعملِ السُّوء يستحِقُّ الجَزَاء، وإذا كَانَ كَذَلِك، دلَّت على أنًّ اللَّه غير خَالِق لأفْعَال العِبَاد من وَجْهَيْن: أحدُهُما: أنه لما كان عَمَلاً للعبد، امْتَنَعَ كَوْنه عَمَلاً للَّه؛ لامتناع حُصُول مَقْدُورٍ واحدٍ بِقَادِرَيْن. والثاني: أنه لَو حَصَل بخلق اللَّه، لما استَحَقَّ العَبْد جَزَاءً ألْبَتَّة، وذلك بَاطِل؛ لأن الآيَة دلَّت على أن العَبْد يستحِقُّ الجزَاءَ على عملِهِ، وقد تقدَّمَ الجوابُ عن هذا الاسْتِدْلالِ. قوله: {وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} قرأ الجمهور بجزم «يَجِدْ» ، عطفاً على جواب الشرط، وروي عن ابن عامر رفعه، وهو على القطع عن النسق. ثم يُحْتمل أن يكون مستأنفاً وأن يكونَ حالاً، كذا قيل، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ المضارع المنفي ب «لا» لا يقترن بالواوِ إذا وقع حالاً. فصل في شبهة المعتزلة بنفي الشفاعة وردها قالت المُعْتَزِلَة: [دلت] الآية على نَفْي الشَّفَاعة، وأجَابُوا بوجهين: أحدهما: أنا بيَّنا أن هذه الآيَة في حقِّ الكُفَّار. والثَّاني: أن شفاعة الأنْبِيَاء والمَلاَئِكَة في حقِّ العُصَاة، إنَّما تكُون بإذن الله - تعالى -، وإذا كان كَذلِك، فلا وَلِيَّ لأحَدٍ ولا نصير، إلا اللَّه - سبحانه وتعالى -. قوله: « [وَمَن يَعْمَلْ] مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ» «من» الأولَى: للتَّبعيضِ؛ لأنَّ المكلَّف لا يطيق عَمَل كل الصَّالِحَات. وقال الطَّبَرِي: «هي زائدةٌ عند قَوْم» وفيه ضعفٌ، لعدم الشَّرْطَيْن، و «مِنْ» الثانية للتبيين، وأجاز أبو البقاء أن تكُونَ حالاً، وفي صَاحِبها وجهان: أحدهما: أنه الضَّميرُ المَرْفُوع ب «يَعْمَل» . والثاني: أنه الصَّالحات، أي: الصالحات كَائِنةً من ذكر أو أنثى، وقد تقدَّم إيضاح هذا في قوله: {لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} [آل عمران: 195] والكلامُ على « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 34 أوْ» أيضاً، وقوله: «وَهُوَ مُؤْمِنٌ» جملة حَالِيّة من فَاعِل «يَعْمَل» . [قوله «يدخلون» ] قرأ أبو عَمْرو، وابن كَثير، وأبُو بَكْر عن عَاصِم: «يُدْخَلون» هُنَا، وفي مَرْيم، وأوَّل غَافِر بضم حَرْف المُضَارَعة، وفتح الخَاء مبنياً للمَفْعُول، وانفردَ ابنُ كَثِيرٍ وأبو بكْرٍ بثانية غَافِر، وأبو عمرو بالتي في فَاطِر، والبَاقُون: بفتحِ حَرْفِ المُضَارعة، وضمِّ الخَاءِ مبنياً للفاعِل، وذلك للتفنُّنِ في البلاغَةِ. والأوّل أحْسن؛ لأنَّهُ أفْخَم، ولِكَوْنه مُوافقاً لقوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} . وأما القِرَاءة الثَّانية: فهي مُطَابِقَةٌ لقوله: {ادخلوا الجنة أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ} [الزخرف: 70] ، ولقوله {ادخلوها بِسَلامٍ} [الحجر: 46] . والنقير: النَّقْرَة في ظَهْر النَّوَاة، مِنْها تَنْبُت النَّخْلَة، والمَعْنَى: أنَّهم لا يُنْقَصُون قدر مَنْبَت النَّوَاة. فإن قِيلَ: لم خصَّ اللَّه الصالِحينَ بأنَّهم لا يُظْلَمُونَ، مع أنَّ غيرهم كَذَلِك؛ كما قال: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] ، وقوله {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108] . فالجواب: من وجهين: الأول: أن يَكُون الرَّاجع في قوله: «ولا يُظْلَمُونَ» عائداً إلى عُمَّال السُّوءِ، وعُمَّال الصَّالِحَات جَمِيعاً. والثَّاني: أن من لا يُنْقِصُ من الثَّواب، أولى بأن لا يَزِيدَ في العِقَابِ. روى الأعْمَش، عن أبي الضُّحَى عن مَسْرُوقٍ، قال: لمَّا نَزَل {لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ} قال أهْل الكِتَاب: نَحْنُ وأنْتُم سَوَاءٌ، فَنَزَلتْ: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات} الآية، ونزل أيْضاً: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ} [النساء: 125] . فصل: صاحب الكبيرة لا يخلد في النار وهذه الآية من أدَلِّ الدَّلائِل على أن صَاحِبَ الكَبِيرَة لا يُخَلَّد [في النَّارِ] بل ينقل إلى الجَنَّة؛ لأنَّا بينَّا أن صاحِبَ الكبِيرَة مؤمن، وإذا ثَبَتَ ذَلِك، وكان قد عَمِلَ الصَّالِحَات، وجب أنْ يدْخُل الجَنَّة، لهذه الآية، ولزم بِحُكْم الآيَات الدَّالَّة على وَعِيد الفُسَّاق أن يَدْخُل النَّار، فإمَّا أن يدْخُل النَّار، ثم يَنْتَقِل إلى النَّارِ، وذلك بَاطِلٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 35 بالإجْماع، أو يَدْخُل النَّار، ثم ينتقل إلى الجَنَّة، وذلك هُو المَطْلُوب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 لما شرط في حُصُول النَّجاة والفَوْزِ بالجنَّة كون الإنْسَان مُؤمِناً، شَرَح هَهُنَا الإيمَان، وبَيَّن فَضْلَه من وَجْهَين: أحدهما: أنَّه الدِّين المشتمل على العُبُودِيَّة والانْقِيَاد لله - تعالى -. والثاني: أنه دينُ إبْرَاهيم - عليه السَّلام -، وكل واحدٍ من هَذَيْن الوَجْهَيْن سَبَبٌ مستقِلٌّ في التَّرْغِيب في دِينِ الإسْلاَم. أما الأوّل: فإن دِين الإسْلام مَبْنيٌّ على الاعْتِقَاد والعَمَل. أما الاعتقاد: فإليه الإشارَة بقوله: {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} لأن الإسْلام هو الانْقِيَاد، والاسْتِسْلام، والخُضُوعُ، وذكر الوَجْه؛ لأنه أحسن الأعْضَاء الظَّاهِرَة، فإذا عَرَفَ ربه بِقلبه، وأقَرَّ بِرُبُوبِيَّتِهِ، وبعبُودِيَّة نفسه، فقد أسْلَم وجهه للَّه. وأمَّا العَمَل فإليه الإشَارةُ بقوله: «وَهُوَ مُحْسنٌ» فيدخل فيه فِعْلُ الحِسَنَات وتَرْكُ السَّيِّئَات، فاحتوت هذه اللَّفْظَة على جَمِيع الأغْرَاض، وفيها تَنْبِيهٌ على فَسَادِ طَرِيقَةِ من اسْتَعان بغير اللَّهِ؛ فإن المُشْرِكِين يستعينُونَ بالأصْنَام، ويَقُولُون: هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْد اللَّه، والدهرية والطَّبِيعيُّون يَسْتعِينُونَ بالأفْلاكِ، [والكَواكِبِ] ، والطبائع، وغيرها، واليَهُود ثَلاَثَة، وأما المُعْتَزِلَة: فهم في الحَقِيقَةِ ما أسْلَمَت وَجُوهُهم للَّه؛ لأنهم يَرون [أنَّ] الطاعة المُوجِبَة لِثَوَابِهِم من أنْفُسِهِم، والمَعْصِية الموجِبَة لِعِقَابِهم من أنْفُسِهم، فهم في الحَقِيقَة لا يَرْجُون إلا أنْفُسَهُم، ولا يَخَافُون إلا أنْفُسَهم، وأهل السُّنَّة: فَوَّضُوا التَّدْبِير، والتَّكْوِين والخَلْق، والإبْدَاع إلى اللَّه - تعالى -، واعتَقَدُوا أن لا مُوجِدَ ولا مُؤثِّر إلا اللَّه [تعالى] فهم الذِين أسْلَمُوا وجوههم للَّه. وأما الوَجْه الثَّاني: وهو أنَّ محمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنما دَعَى الخَلْق إلى دين إبْرَاهِيم -[عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وإبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -] إنَّما كان يَدْعُو إلى اللَّه - تعالى -، لا إلى [عِبَادة] فَلَكٍ ولا طاعة كَوْكَب، ولا سُجُود لِصَنَمٍ، ولا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 36 اسْتِعَانَة بطبيعة؛ بل كانت دَعْوَتُه إلى اللَّه - تعالى - كما قال: {إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] ودعوة مُحَّمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كانت قَرِيبَة من شَرْع إبْرَاهيم - عليه السلام - في الخِتَان، وفي الأعْمَال المُتَعَلِّقَة بالكَعْبَة؛ كالصَّلاة إليها، والطَّوَاف [والسَّعْي] والرَّمْي، والوُقُوف، والحَلْق، والكَلِمَات العَشْر المَذْكُورة في قوله: {وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ} [البقرة: 124] . وإذا ثبت أنَّ شَرْع مُحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان قَريباً من شَرْع إبراهيم [ثم إنَّ شَرْع إبْرَاهِيم] مقبولٌ عند الكُلِّ لأن العَرَب لا يَفْتَخرُون بشيءٍ كافتخارهم بالانْتِساب إلى إبْرَاهيم -[عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ]- ، وأما اليَهُود والنَّصارى فلا شَكَّ في كَوْنِهِم مُفْتَخِرين بِهِ، وإذا ثَبَت هذا، لَزِم أن يكون شَرْع مُحمَّد -[صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ]- مَقْبُولاً عند الكُلِّ. قوله: {مِمَّنْ أَسْلَمَ} : متعلِّقٌ ب «أحْسَنُ» فهي «مِنْ» الجَارَّة للمَفْضُول، و «لله» متعلِّقٌ ب «أسْلَم» ، وأجَازَ أبُو البقاء أن يَتَعَلَّق بَمَحْذُوف على أنَّه حَالٌ من «وَجْهه» وفيه نظرٌ لا يَخْفَى، «وهو مُحْسِنٌ» ، حالٌ من فَاعِل «أسْلَم» . ومعنى {أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله} : أخْلَصَ عمله للَّه، وقيل: فَوض أمْرَه إلى اللَّه، «وهو مُحْسِن» أي: مُوَحِّد. و «اتَّبع» يجُوز أن يكون عَطْفاً على «أسْلَمَ» وهو الظَّاهِر، وأن يكونَ حالاً ثانية من فَاعِل «أسْلَم» بإضمار «قَدْ» عند مَنْ يشترط ذَلِك، وقد تقدَّم الكَلاَم على «حَنيفاً» في البَقَرة، إلا أنَّه يَجُوزُ هنا أن يكُون حالاً من فَاعِل «اتبع» . فصل «ملَّة إبْرَاهِيم» دين إبراهيم، «حَنِيفاً» أي: مسلِماً مُخْلِصاً. فإن قيل ظَاهِر هذه الآيَة يَقْتَضِي أنَّ شرع مُحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - نفس شَرْع إبْرَاهيمَ، وعلى هَذَا لم يَكُن لمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - شريعة مُسْتقِلَّة، وأنتم لا تَقُولُون بِذلِك. فالجوابُ: أن شَريعَة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تُشْبِه أكثر شَرِيعَة إبْرَاهِيمَ. قال ابن عبَّاسٍ: ومن دينِ إبراهيم: الصَّلاة إلى الكَعْبَة، والطَّواف بها، ومَنَاسِك الحَجِّ، وإنما خصَّ بها إبْراهيم -[عليه والصلاة والسلام]- ؛ لأنه كان مَقْبُولاً عند جَمِيع الأمَمِ، وقيل: إنَّه بُعِثَ على مِلَّة إبْرَاهِيم، وزِيدَت له أشْيَاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 37 قوله: {وَاتَّخَذَ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} فيه وجهان وذلك أنَّ «اتَّخذ» إن عَدَّيْناها لاثنين، كان مَفْعُولاً ثانياً، وإلا كان حالاً، وهذه الجُمْلَة عَطْف على الجُمْلَة الاستِفْهَاميةِ التي مَعْنَاها الخَبَرُ، نَبَّهَتْ على شَرَف المَتْبُوعِ وأنه جَدِيرٌ بأن يُتَّبَع لاصْطِفَاءِ الله له بالخُلّة، ولا يَجُوز عَطْفُها على ما قَبْلَها لِعدم صلاحيَّتِها صلةً للموصول. وجعلها الزَّمَخْشَرِي جملة مُعْتَرِضَة، قال: «فإنْ قلت ما مَحَلُّ هذه الجُمْلةِ؟ قلت: لا محلَّ لها من الإعْرَاب؛ لأنَّها مِنْ جُمل الاعْتِرَاضَاتِ، نحو ما يجيء في الشِّعر من قَوْلهم:» والحَوَادِثُ جَمَّةٌ «فائدتُها تَأكيدُ وجوب اتِّباع ملّته؛ لأنَّ مَنْ بَلَغَ من الزُّلْفَى عند الله أن اتَّخَذَه خَلِيلاً، كان جديراً بأن يُتَّبع» فإنْ عنى بالاعْتِرَاضِ المُصْطَلحَ عليه، فَلَيْس ثَمَّ اعْتِراضٌ؛ إذ الاعْتِرَاضُ بين مُتلازِمِيْن؛ كفِعْل وفَاعِلٍ، ومُبْتَدأ وخَبَر وشَرْط وجَزَاء، وقَسَم وَجَواب، وإن عَنَى غير ذلك احتُمِل، إلا أنَّ تنظيرَه بقولهم: «والحَوَادِثُ جَمَّةٌ» يُشْعِر بالاعْتِرَاض المُصْطَلح عليه؛ فإن قولهم: «والحَوَادِثُ جَمَّةٌ» وَرَدَ في بَيْتَيْنِ: أحدهما: بين فِعْل وفَاعِل؛ كقوله: [الطويل] 1822 - وَقَدْ أدْرَكَتْنِي وَالحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... أسِنَّةُ قَوْمٍ لا ضِعَافٍ ولا عُزْلِ والآخر يَحْتَمِل ذلك، على أن تكُونَ الباءُ زائدةً في الفَاعِل؛ كقوله: [الطويل] 1883 - ألاَ هَلْ أتَاهَا والحَوَادِثُ جَمَّةٌ ... بأنَّ امْرَأ القَيْس بنَ تَمْلِكَ بَيْقَرا ويُحْتَمل أن يكونَ الفَاعِلُ ضميراً دلَّ عليه السِّياق، أي: هل أتاها الخَبَر بان أمْرأ القيس، فيكون اعْتِرَاضاً بين الفِعْل ومَعْمُوله. والخليلُ: مشتق من الخَلَّة بالفَتْح، وهي الحَاجَة، أو من الخُلَّة بالضَّمِّ، وهي المودة الخالصة. وسُمِّي إبْرَاهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خليلاً أي: فَقِيراً إلى اللَّه؛ لأنَّه لم يَجْعَل فَقْره وفَاقَتَه إلاَّ إلى اللَّه. قال القُرْطُبيُّ: الخَلِيلُ فعيل، بِمَعنى: فَاعِل؛ كالعَلِيم، بمعنى: عالم، وقيل: هو بِمَعْنَى المَفْعُول؛ كالحَبِيب بِمَعْنَى: المَحْبُوب، وإبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان مُحبًّا للَّه، وكان مَحْبُوباً للَّه. أو من الخلل. قال ثَعْلَب: «سُمِّي خليلاً؛ لأن مَوَدَّته تَتَخَلَّلُ القَلْبَ» وأنشد: [الخفيف] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 38 1884 - قَدْ تَخَلَّلْتَ مَسْلَكَ الرُّوحِ مِنِّي ... وَبِهِ سُمِّي الْخَلِيلُ خَلِيلا وقال الرَّاغِب: «الخَلَّة - أي بالفتح - الاختلالُ العَارِضُ للنَّفْس: إمَّا لشَهْوَتِها لِشَيْء، أو لحاجتهَا إليه، ولهذا فَسَّر الخَلَّة بالحاَجَة، والخُلَّة - أي بالضم -: المودة: إما لأنَّها تتَخَلَّل النَّفْس، أي: تتوسَّطُها، وإما لأنَّها تُخِلُّ النَّفْسَ؛ فتؤثِّر فيها تأثيرَ السَّهْم في الرَّمِيَّة، وإمَّا لفَرْطِ الحَاجَة إليْها» . وقال الزَّجَّاج: معنى الخليل: الذي لَيْس في مَحبَّتِه خَلَل، وقيل: الخلِيلُ هو الذي يُوافِقُك في خلالِك. قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «تَخَلقوا بأخلاق اللَّه» فلما بلغ إبْرَاهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في هذا البَابِ مبلَغاً لم يَبْلُغْه أحَدٌ ممَّن تقدَّمَه، لا جَرَم خصَّه اللَّه بهذا الاسْمِ. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: الخَلِيلُ: [هو] الذي يُسَايِرُك في طَرِيقك، من الخَلِّ: وهو الطَّريق في الرَّمْل، وهذا قَرِيبٌ من الذي قَبْلَه، وقيل: الخَلِيْلُ: هو الذي يسد خللك كما تسُدُّ خَلَله، وهذا ضَعِيف؛ لأن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لا يقال: إنه يَسُدُّ الخَلَلَ. وأما المُفَسِّرُون: فقال الكلبيُّ: عن أبي صَالحٍ، عن ابن عبَّاس: كان إبْرَاهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أبا الضِّيفان، وكان مَنْزِلُه على ظَهْر الطِّرِيق يُضِيفُ من مَرَّ بِه، فأصاب الناس سنَةٌ فَحشِرُوا إلى بَابِ إبْراهيم يَطْلُبون الطَّعَام، وكانت الميرة له كل سَنَةٍ من صديقٍ له ب «مصر» ، فبعث غِلْمَانه بالإبل إلى خَلِيلِه ب «مصر» ، فقال خلِيلُه لِغلمانه: لو كان إبراهيم إنَّما يريده لنفْسِه، لاحْتَمَلْنَا ذلك لهُ؛ فقد دَخَلَ عَلَيْنَا ما دَخَلَ على النَّاس من الشِّدَّة، فرجع رُسُل إبْراهيم - عليه السلام - فمرُّوا بِبَطْحاء [سهلة] فقالوا: لو أنَّا حملنا من هذه البَطْحَاء؛ ليرى النَّاسُ أنا قد جِئْنَا بميرة، فإنَّا نَسْتَحِي أن نمرّ بِهِم، وإبلنا فَارِغَةٌ، فملأوا لتك الغرائر سهلة ثم أتَوْا إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فأعْلَمُوهُ [بذلك] و [سارةُ نَائِمَةٌ] ، فاهْتَمَّ إبْرَاهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمكان النَّاسِ بِبَابِه، فَغَلَبته عَيْنَاه فَنَام، واستيقظت سَارة و [قد] ارتفع النَّهَار، فقَالَت: سُبْحَان الله! ما جَاءَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 39 الغِلْمَان؟ قالوا: بَلَى، [قالت: فما جَاؤُوا بِشَيْءٍ؟ قالوا: بَلَى،] فَقَامَت إلى الغَرَائِر. فَفَتَحَتْهَا، [فإذا] هِي مَلأى بأجْودِ دَقِيق حوارٍ يكون، فأمرت الخَبَّازِين، فَخَبَزُوا وأطْعَمُوا النَّاسَ، فاسْتَيْقَظ إبْرَاهِيمُ، فوجد ريحَ الطَّعَامِ، فقال: يا سَارة مِنْ أيْن هذا؟ فقالت: من عند خَلِيلِك المصْرِيِّ، فقال: هذا من عِنْد خَلِيلِيَ اللَّه، قال: فيومَئِذٍ اتَّخَذَهُ [الله] خَلِيلاً. وقال شَهْر بن حَوْشَب: هبط مَلَكٌ في صورة رَجُلٍ، وذكر اسْمَ اللَّه بِصَوتٍ رَخيمٍ شَجِيٍّ، فقال إبْرَاهِيم - عليه السلام -: اذكره مَرَّة أخْرَى، فقال: لا أذْكُرُه مَجَّاناً، فقال: لك مَالِي كُلُّه، فذكره المَلَكُ بِصَوتٍ أشْجَى من الأوَّل، فقال: اذكره مرَّة ثَالِثَة ولك أوْلاَدِي، فقال المَلَك: أبْشِر، فإنِّي ملكٌ لا أحْتَاج إلى مَالِكَ وَوَلَدِكَ، وإنَّما كان المَقْصُود امتْحَانُك؛ فلما بَذَل المَال والوَلَد على سَمَاعِ ذكر الله [- تعالى -] لا جرم اتَّخذه اللَّه خَلِيلاً. وروى طاوُس، عن ابن عبَّاس: أن جبريل - عليه السَّلام - والملائِكَة، لما دَخَلُوا على إبْراهيم - عليه [الصلاة و] السلام - في صُورة غِلْمَان حِسَان الوُجُوه، ظنَّ الخليل - عليه السلام - أنهم أضْيَافُه، وذَبَح لهم عِجْلاً سَمِيناً، وقرَّبَهُ إليْهِم، وقال: كلوا على شَرْطِ أن تُسَمُّوا اللَّه - تعالى - في أوَّلِه، وتَحْمَدُونَهُ في آخِرِه، فقال جِبْرِيل: أنت خَلِيلُ اللَّه. قال ابن الخَطِيب: وعندي فيه وَجْهٌ آخَر، ومعناه: إنما سُمِّي خَلِيلاً، لأن مَحَبَّة اللَّه تخلَّلت في جَمِيع قُوَاه؛ فصار بحيث لا يَرَى إلا اللَّه، ولا يَتَحَّرك إلاَّ للَّه، [ولا يَسْكن إلا لِلَّه] ، ولا يسمع إلا باللَّه، ولا يَمْشِي إلا للَّه، فكان نُور [جلال] اللَّه قد سرى في جَمِيع قُوَاه الجُسْمَانِيَّة، وتخلَّلَ وغاصَ في جَوَاهِرِها، وتوغل في ماهِيَّاتها، ومثل هذا الإنْسَان يوصَفُ بأنه خَلِيلٌ، وإليه أشار - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بقوله [في دعَائِهِ] : «اللهم اجْعَل في قَلْبِي نُوراً، [وفي سَمْعِي نُوراً] ، وفي بَصَرِي نُوراً، وفي عَصَبِي نُوراً» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 40 فصل قال بَعْض النّصَارى: لما جاز إطلاق اسم الخَلِيل على إنْسَانٍ معيَّنٍ على سبيل الإعْزَازِ والتَّشْرِيف فلم لا يَجُوز إطْلاق الابْن في حَقِّ عيسى - عليه السلام - على سبيل الإعزاز والتشريف؟ وجوابُهم: أن الفَرْق بَيْنَهُما: بأن الخليل عِبَارةٌ عن المَحَبَّة المُفْرِطَةِ، وذلك لا يَقْتَضِي الجِنْسِيَّة، وأما الابْنُ: فإنه يُشْعِر بالجِنْسِيَّة، وجلَّ الإله عن مُجَانَسَة المُمْكِنات، ومشَابهة المُحْدَثَات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 في تعلُّق الآيَة بما قَبْلَها وُجُوه: أحدها: [أن المعنى] أن الله لم يَتَّخِذْ إبْرَاهِيم خليلاً لاحتياجه إلَيْه في شَيْءٍ كخلةِ الآدميِّين، وكيف يُعْقَل ذلك، وله مُلْك السَّموات والأرض، وإنما اتَّخَذَهُ خليلاً لمحض الكَرَم. وثانيها: أنَّه - تعالى - ذكر من أوَّل السُّورة إلى هذا المَوْضِع أنْواعاً كَثِيرَة من الأمر والنَّهْي، والوعْد والوَعيد، وذكر في هَذِه الآيَة أنَّه إلَه المُحْدَثَاتِ، وموجِدُ الكائِنَاتِ، ومن كان مَلِكَاً مطاعاً، وجب على كُلِّ عاقلٍ أنْ يَخْضَعَ لتكاليفه، ويَنْقَادَ لأمْرِه. وثالثها: أنه - تعالى - لما ذكر الوَعْدَ والوَعِيدَ، ولا يمكن الوَفَاءُ بهما إلا بأمْرَيْن: أحدهما: القُدْرةُ التَّامَّة [المتعلِّقة] بجميع الكَائِنَات والمُمْكِنَات. والثاني: [العِلْم] المتعلِّق بجميع الجُزْئِيَّات والكُلِّياتِ؛ حتى لا يَشْتَبِه عليه المُطِيعُ، والعَاصِي، والمحسن والمُسِيءُ؛ فدلَّ على كَمَال قُدْرَته بِقَوْله: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ، وعلى كَمَال عِلْمِهِ بقوله: {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً} . ورابعها: أنه - تعالى - لمّا وصَفَ إبْراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بأنه خَلِيلُه، بين أنَّه مع هذه الخُلَّة عَبْدٌ لَهُ، وذَلِك أنَّ له مَا فِي السَّمواتِ ومَا في الأرْض، ونَظِيرُه قوله تعالى: {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً} [مريم: 93] ويجري مُجْرَى قوله: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملاائكة المقربون} [النساء: 172] يعني: أنَّ الملائكة مع كَمَالِهِم في صِفَةِ القُدرةِ، والقوَّة في صِفَة العِلْم والحِكْمَة، لم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 41 يَسْتَنْكِفُوا عن عِبَادة اللَّه؛ كذا هَهُنا، يعني: إذا كَانَ كل من في السَّموات والأرْض مِلْكُه في تَسْخِيره، فكيْفَ يعْقَل أن يُقَالَ: إن اتِّخَاذ اللَّه إبْراهيم خَلِيلاً، يخرجه عن عُبُودِيَّة اللَّه. فصل إنما قال: {مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ولم يقل «مَنْ» لأنه ذَهَب به مَذْهَبَ الجِنْس، والذي يُعْقَل إذا ذُكِر وأريد به الجنْسُ، ذكر ب «مَا» . قوله: {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً} فيه وَجْهَان: أحدهما: المُرَاد مِنْهُ: الإحاطة في العِلْم. والثاني: الإحَاطَة بالقُدْرَة؛ كقوله: {وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا} [الفتح: 21] . قال القَائِلُون بهذا القَوْل: وليس لِقَائِلٍ أن يَقُولَ: لمَّا دل قوله: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} على كمال القُدْرَةِ، لزم التَّكْرَار؛ لأنَّا نقول إنَّ قوله {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [لا يفيد ظاهره] إلا كونه قَادِراً على ما يَكُون خَارِجَاً عَنْهُمَا، ومغايراً [لهما] ، فلما قال: {وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً} دلَّ ذلك على كَوْنه قَادِراً على ما لا نهاية له من المَقْدُورَات خَارِج هذه السَّمَواتِ والأرْضِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 أي: يستَخْبِرُونك في النِّسَاء. قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الاستِفْتَاء: طَلَب الفَتْوَى، يقال: اسْتَفْتَيْتُ الرَّجل في المَسْألة؛ فأفْتَاني إفتاءاً وفُتْياً وفَتْوًى، [وهما] اسمْان وُضِعَا موضع الإفْتَاء، ويُقَال: أفْتَيْت فُلاناً في رؤيا رآهَا إذا عَبَّرها، قال - تعالى -: {يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ} [يوسف: 46] ، ومعنى: أفتنا: إظْهار المُشْكِل، وأصْلُه: من الفَتَى: وهو الشَّابُّ القَوِي، فالمعنى: كأنَّه يَقْوى بِفتيانِه، والمُشْكِل إذا زَالَ إشْكَالُه بِبيَانِهِ مَا أشْكِل، يصيرُ قويّاً فَتِيّاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 42 واعلم: أنَّ عَادَة اللَّه فِي ترتيب هذا الكِتَابِ الكَرِيمِ، أنْ يَذكُر الأحْكَام، ثَمَّ يذْكُرُ عَقِيبه آياتِ الوَعدِ والوَعِيدِ، والتَّرغِيب والتَّرهيب، ويخلط بها آياتٍ دَالةً على كِبْرِياء اللَّه - تعالى - وجلالِ قُدْرَتِه، ثم يَعُود إلى بَيَان الأحْكَام، وهذا أحْسَن أنواع التَّرْتِيب، وأقوى تَأثِيراً في القُلُوب؛ لأن التَّكْلِيف بالأعْمَال الشَّاقَّةِ لا يقع مَوْقِعِ القُبُول، إلا إذا اقْتَرن بالوَعْد والوَعِيد، وذلك لا يُؤثِّر إلا عند القَطْع بِغَايَةِ كَمَال من صَدَر عنه الوَعْد والوَعِيد. قوله [تعالى] : {قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} الآية اعلم: أن الاستِفْتَاء لا يقع عن ذَوات النِّساء، وإنَّما يقع عن حَالةٍ من أحْوَالِهِنّ، وصفة من صِفاتِهِن، وتلك الحَالَة غير مَذْكُورة في الآية، فكانت مُجْمَلة غير دَالَّة على الأمْر الذي وقع عَنْه الاستِفْتَاءِ. فصل في سبب نزول الآية قال القُرْطُبِي: هذه الآية نَزَلَت بسبب قَوْم من الصَّحَابة، سألوا عن أمر النِّسَاء وأحْكَامِهِن في المِيرَاث وغير ذَلِك، فأمَر اللَّه نبيَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يَقُول لَهُم: {الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} أي: يبيِّن لكم حُكْم ما سَألْتُم عَنْه، وهذه الآيَة رُجوعٌ إلى ما افْتُتِحَتْ به السُّورة من أمْر النِّسَاءِ، وكانَ قد بَقِيتْ لهم أحْكَام لم يَعْرِفُوها، فسألوا؛ فقيل لهُم: [إن] الله يُفْتيكُم فيهنَّ. [وروي عن مَالِكٍ قَالَ: كان رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يسأل فلا يُجيبُ حتى ينزل عليه الوحي، وذلك في كِتَاب الله: {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ} ] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى} [البقرة: 220] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} [البقرة: 219] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} [طه: 105] و {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] . «وما يُتْلى» : فيه سَبْعَة أوْجه، وذلك أن مَوْضع «ما» يحتمل أن يكُون رفعاً، أو نصباً، أو جراً، فالرَّفْعُ من ثَلاَثة أوْجُه: أحدها: أن يكون مرفوعاً، عَطْفاً على الضَّمِير المستكِنِّ في «يُفتيكم» العائد على الله - تعالى -، وجاز ذلك للفَصْل بالمَفْعُول والجَارِّ والمَجْرُور، مع أن الفَصْلَ بأحدهما كافٍ. والثَّانِي: أنه مَعْطُوفٌ على لَفْظِ الجلالة فَقَطَ؛ ذكره أبو البقاء وغيرُه، وفيه نَظَر؛ لأنه: إمَّا أنْ يُجْعَلَ من عَطْف مفردٍ على مُفْردٍ، فكان يَجِبُ أن يُثَنَّى الخَبرُ، وإن توسَّط بين المُتَعَاطفين، فيقال: «يُفْتِيانِكُم» ، إلاَّ أنَّ ذلك لا يجُوز، ومَنِ ادَّعى جَوازَه، يَحْتاج إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 43 سَمَاع من العَرَب، فيقال: «زيد قَائِمَان وعَمْرو» ، ومثلُ هذا لا يجُوز، وإمَّا أن يُجْعَلَ من عَطْف الجُمَل، بمَعْنَى: أنَّ خبرَ الثَّاني محذوفٌ، أي: وما يُتْلَى عَلَيْكُم، يُفْتيكم، فيكون هذا هو الوَجْه الثَّالث - وقد ذكروه - فَيَلْزَم التَّكْرَار. والثالث من أوْجُه الرَّفع: أنه رَفْع بالابْتِدَاء، وفي الخبَر احْتِمَالان: أحدهما: أنه الجَارُّ بعده، وهو «فِي الكِتَابِ» والمرادُ ب «ما يتلى» القرآنُ، وب «الكتاب» : اللوحُ المحفوظ، وتكُونُ هذه الجُمْلَة معترضةً بين البدل والمُبْدَل منه، على ما سيأتي بَيَانُه، وفائدةُ الإخْبَار بذلك: تَعْظِيمُ المَتْلوِّ، ورفعُ شأنه؛ كقوله: {وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 4] . والاحتمال الثاني: أن الخبر مَحْذُوفٌ، أي: والمتلوُّ عَلَيْكم في الكتاب يُفْتيكم، أو يبيِّن لَكُم أحْكَامَهُن. وذلك المَتْلُوّ في الكِتَاب هو قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} [النساء: 3] وحَاصِل الكلام: أنَّهم قد سألُوا عن أحْوَال كَثِيرةٍ من أحْوالِ النِّسَاء، فما كان مِنْهَا غير مُبَيَّن الحُكْم، ذَكر أن اللَّه يُفْتِيهم فيها، وما كان فِيهَا مُبَيَّن الحُكْم في الآيات المُتَقَدِّمَةِ، ذكر أن تِلْك الآيَات المَتْلُوة تُفْتيهم فيها، وجعل دَلاَلة الكِتَاب على الحُكْم إفتاء من الكتاب؛ كما يُقَال في المَجَازِ المَشْهُور: كِتَاب اللَّه يُبَيِّن لنا هَذَا الحُكْم، وكلام الزَّمخشري يحتمل جَمِيع الأوْجُه، فإنه قال: «ما يُتْلى» في مَحَلِّ الرفع، أي: اللَّهُ يُفْتِيكُم، والمتلوُّ في الكِتَاب في مَعْنَى: اليتامى، يعني قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} [النساء: 3] . وهو من قَوْلِك: «أعْجَبَنِي زَيْدٌ وكَرَمُه» انتهى، يعني: أنَّه من باب التَّجْريد؛ إذ المقصودُ الإخْبَارُ بإعجَاب كَرَم زيدٍ، وإنما ذُكِر زَيْدٌ؛ ليُفيدَ هذا المَعْنَى الخاصَّ لذلك المَقْصُود أنّ الذي يُفْتيهم هو المَتْلُوُّ في الكِتَابِ، وذُكِرت الجَلاَلةُ للمعنى المُشَار، وقد تقدَّم تَحْقِيق التَّجْرِيد في أوَّل البَقَرة، عند قوله: {يُخَادِعُونَ الله} [البقرة: 9] . والجَرُّ من وَجْهَيْن: أحدهما: أن تكُون الواوُ للقَسَم، وأقسمَ اللَّهُ بالمَتْلُوِّ في شأن النِّساء؛ تَعْظِيماً له، كأنه قيل: وأقْسِمُ بما يُتْلى عَلَيْكُم في الكِتاب؛ ذكره الزمخشري. والثاني: أنه عَطْفٌ على الضَّمِير المَجْرُور ب «في» أي: يُفْتِيكُمْ فيهنَّ وفيما يُتْلَى، وهذا مَنْقُولٌ عن محمَّد بن أبي مُوسَى، قال: «أفتاهم الله فيما سألُوا عنه، وفيما لَمْ يَسْألوا» ، إلا أنَّ هذا ضَعِيفٌ من حَيْث الصِّنَاعةُ؛ لأنه عطفٌ على الضمير المَجْرُورِ من غير إعَادَة الجَارِّ؛ وهو رأي الكُوفيِّين، وقد تقدَّم مذاهب النَّاسِ فيه عند قوله: {وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة: 217] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 44 قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «ليس بِسَديدٍ أن يُعْطَفَ على المَجْرُورِ في» فيهنَّ «؛ لاخْتِلاله من حيث اللَّفْظِ والمَعْنَى» وهذا سَبقَه إليه أبُو إسْحاق. قال [الزجاج] : وهذا بَعِيدٌ بالنِّسْبَة إلى اللَّفْظِ وإلى المَعْنَى: أمَّا اللَّفْظُ؛ فإنه يقتضي عَطْفُ المُظْهَر على المُضْمَرِ، وأما المَعْنَى: فلأنه ليس المُرادُ أنَّ اللَّهَ يُفْتيكم في شَأنِ ما يُتْلَى عليكم في الكِتَاب، وذلك غيرُ جَائزٍ؛ كما لم يَجُزْ في قوله {تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام} [النساء: 1] يعني: من غير إعادةِ الجَارِّ. وقد أجَابَ أبو حيَّان عما ردَّ به الزَّمَخَشريُّ والزجاج؛ بأن التَّقْدِيرَ: يُفْتيكم في مَتْلُوِّهِنَّ، وفيما يُتْلَى عليكم في الكِتَاب في يتامى النِّسَاء، وحُذِف لدلالة قوله: {وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ} ، وإضافةُ «مَتْلُو» إلى ضمير «هُنَّ» سائغةٌ، إذ الإضافة إليهنَّ، كقوله: {مَكْرُ الليل والنهار} [سبأ: 33] لمَّا كان المَكْرُ يقع فيهما، صَحَّتْ إضافتُه إليْهِمَا، ومثله قول الآخر: [الطويل] 1885 - إذَا كَوْكَبُ الخَرْقَاءِ لاَحَ بِسُحْرَةٍ ... سُهَيْلٌ أذَاعَتْ غَزْلَهَا في الغَرَائِبِ [قال شهاب الدين: وفي هذا الجواب نظرٌ. والنَّصْبُ بإضمار فِعْل، أي: ويبيِّن لَكُم ما يُتْلى [عليكم] ؛ لأنَّ «يُفْتيكُم» بمعنى يبيِّن لكم، واختار أبو حيَّان وجْهَ الجرِّ على العَطْفِ على الضَّمير، مختاراً لمَذْهَبِ الكوفيِّين قال: لأنّ الأوْجُه كلَّها تؤدِّي إلى التَّأكيد، وأمَّا وَجْهُ العَطْفِ على الضمير [المَجْرُور] ، فيجعلُه تأسِيساً، قال: «وإذا دار الأمْرُ بينهما؛ فالتَّأسيس أوْلى» ، وفي إفْرَادِ هذا الوَجْهِ بالتَّأسيس دُونَ بَقِيَّةِ الأوْجُه نظرٌ لا يَخْفى. قوله: «فِي الكِتَابِ» يجوزُ فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ: أحدها: أنه مُتَعَلِّقٌ ب «يُتْلى» . والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحْذُوفٍ على أنه حَالٌ من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في «يُتْلى» . والثالث: أنه خَبَر «مَا يُتْلى» عَلَى الوَجْه الصَّائِر إلى أنَّ «مَا يُتْلى» مبتدأ، فيتعلق بمَحْذُوف أيضاً، إلاَّ أنَّ مَحَلَّه على هذا الوجهِ رفعٌ، وعلى ما قَبْلَه نصبٌ. قوله: «فِي يَتَامَى النسآء» يجوزُ فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ: أحدُها: أنه بَدلٌ من «الكِتَاب» وهو بدلُ اشْتِمَالٍ، ولا بد مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ، أي: في حُكْم يَتَامَى، ولا شك أن الكِتابَ مشتملٌ على ذِكْرِ أحكامِهِن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 45 والثاني: أن يتعلَّق ب «يُتْلَى» . فإن قيل: كيف يجُوزُ تعلُّقُ حَرْفَيْ جرٍّ بلفظ وَاحِدٍ، ومعنى واحِدٍ؟ فالجوابُ أنَّ مَعْنَاهما مُخْتَلفٌ، لأن الأولى للظَّرْفية على بابها، والثانية بمعنى البَاءِ، للسببية مَجَازاً، أو حقيقةً عِنْد مَنْ يقولُ بالاشتراك. وقال أبو البقاء: كما تَقُولُ: «جئتُك في يوم الجُمْعَة في أمْرِ زَيْدٍ» . والثالث: أنه بَدَل من «فِيهِنَّ» بإعادة العَامِل، ويكون هذا بَدَل بَعْض من كُلٍّ. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «فإنْ قُلْت: بِمَ تعلَّق قوله: {في يتامى النِّسَاء؟} قلت: في الوَجْه الأوَّل هو صِلَةُ» يُتْلى «أي: يُتْلى عَلَيْكُم في مَعنَاهُنَّ، ويجُوز أن يكُون» في يتامى «بَدَلاً من» فيهنَّ «، وأما في الوَجْهَيْن الأخِيرَيْن فبدلٌ لا غير» انتهى، يَعْنِي بالوجْه الأول: أن يكون «مَا يُتْلَى» مَرْفُوعَ المَحَلِّ. قال أبو حيَّان: «أمَّا ما أجازه في وجه الرفع من كونه صلة» يتلى «فلا يجُوزُ إلاَّ أنْ يكونَ بَدَلاً مِنْ» فِي الكِتَابِ «أو تكون» في «للسَّبَبية، لئلا يتعلّق حَرْفا جر بلفظٍ واحد، ومعنى واحد، بعاملٍ واحدٍ، وهو ممتنعٌ إلاَّ في البَدَل والعَطْفِ، وأمَّا تجويزُه أنْ يكونَ بَدَلاً من» فيهن «فالظاهرُ أنه لا يجُوز؛ للفَصْلِ بين البَدَلِ والمُبْدَلِ منه بالمَعْطُوف، ويصير هذا نظير قولك:» زيدٌ يقيمُ في الدَّارِ، وعمرو في كِسْرٍ مِنْهَا «فَفَصَلْتَ بين» فِي الدَّارِ «وبين» في كِسْرِ «ب» عمرو «، والمَعْهُودُ في مثل هذا التَّرْكيب:» زيدٌ يقيمُ في الدَّارِ في كِسْرٍ منها وعمرو «. الرابع: أنْ يتعلَّق بنفس الكِتَاب أي: فيما كَتَب في حُكْم اليَتَامَى. الخامس: أنه حَالٌ فيتعلَّق بمَحْذوفٍ، وصاحبُ الحالِ هو المَرْفُوعُ ب» يُتْلى «أي: كائناً في حُكْم يتامَى النِّسَاء، وإضافةُ» يَتَامى «إلى النِّساء من باب إضافةِ الخاصِّ إلى العَامَّ؛ لأنهن يَنْقَسمْن إلى يتامَى وغَيْرِهِن. وقال الكُوفيُّون: هو من إضافة الصِّفَة إلى المَوْصُوف؛ إذا الأصلُ: في النِّساء اليتامى كقولك: يوم الجمعة وحق اليقين، وهذا عند البَصْريِّين لا يجُوزُ، ويُؤوِّلُون ما وَرَدَ من ذَلِك؛ ولأن الصفة والموصُوف شيء واحدٌ، وإضافة الشيء إلى نفسه محَالٌ. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإنْ قُلْت: إضافة اليَتَامَى إلى النِّسَاء ما هِيَ؟ قلت: هي إضافةٌ، بمَعْنَى:» مِنْ «نحو: سُحْقِ عِمَامةٍ. قال أبو حيًّان:» والذي ذكره النَّحوِيُّون من ذلك [إنَّما هُو] إضافة الشَّيْء إلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 46 جِنْسِه، نحو: «خاتمُ حَدِيدٍ» ويجوزُ الفَصْل: إمَّا بإتباع، نحو: «خاتمٌ حديدٌ» ، أو تنصبَه تَمْييزاً، نحو: «خاتمٌ حديداً» ، أو بجره ب «مِنْ» نَحْو: خاتم من حَديدٍ «، قال:» والظَّاهِر أن إضافة «سُحْقِ عِمَامةٍ» و «يَتامَى النِّساء» بمعنى: اللام، ومعنى اللام: الاخْتِصَاص «. وهذا الردُّ لَيْس بشيء، فإنهم ذَكَروا [في] ضَابِط الإضَافة التي بِمَعْنى» مِنْ «أن تكونَ إضَافَة جُزْءٍ إلى كُلٍّ، بشرطِ صِدْقِ اسمِ الكُلِّ على البعْضِ، ولا شك أن» يَتَامَى «بَعْض من النِّسَاء، والنِّسَاء يَصْدُق عَلَيْهِنَّ، وتحرَّزْنَا بقولنا:» بشرط صِدْقِ الكُلِّ على البَعْض «من نحو:» يَدُ زَيْد «فإنَّ زيداً لا يَصْدُقُ على اليَدِ وحْدَها. وقال أبو البقاء: {في يتامى النِّساء} [أي:] في اليتَامَى مِنْهُنَّ» وهذا تَفْسِيرُ معنى لا إعْرَابٍ. والجُمْهُور على «يَتَامَى» جمع: يَتيمَة. وقرأ أبو عَبْد الله المَدَنِي: «ييامى» بياءيْن مِنْ تَحْتُ، وخرَّجه ابن جِنِّي: على أن الأصْل «أيامَى» فأبْدَلَ من الهَمْزَة ياءً، كما قَالُوا: «فلانٌ ابنُ أعْصُر ويَعْصُر» ، والهَمْزَةُ أصلٌ، سُمِّي بذلك لقوله: [الكامل] 1886 - أبُنَيَّ إنَّ أبَاكَ غَيَّرَ لَوْنَهُ ... كَرُّ اللَّيَالِي واخْتِلاَفُ الأعْصُرِ وهم يُبْدِلُون الهَمْزة من اليَاء، كقولهم: «قَطَع الله أدَهُ» يريدون: يدَهُ، فلذلك يُبْدِلون منها اليَاءَ، و «أيامى» : جَمْع «أيِّم» بوزن: فَيْعِل، ثم كُسِّر على أيَايِم، كسيِّد وسَيَايِد، ثم قُلِبَتِ اللاَّم إلى مَوْضِع العَيْنِ، والعَيْن إلى مَوْضِعِ اللاَّم، فصار اللَّفْظ «أيامى» ثم قُلِبت الكَسْرَةُ فتحةً؛ لِخفَّتِها، فتحركت الياءُ وانفتح ما قَبْلَها، فقلبت ألفاً؛ فصار: «أيامى» فوزنه فَيَالِع. وقال أبو الفَتْحِ أيضاً: ولو قيل إنه كُسِّر أيِّمٌ على فَعْلَى، كسَكْرَى، ثم كُسِّر ثانياً على «أيامى» لكان وجهاً حسناً، وسيأتي تَحْقيق هذه اللَّفْظَةِ [إن شاءالله تعالى] عند قوله: {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ} [النور: 32] . وقرئ: «ما كَتَبَ اللَّهُ لَهُنَّ» بتسمية الفَاعِلِ. فصل في سبب نزول الآية ذَكَرُوا في سَبَبِ نُزُول الآية قَوْلَيْن: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 47 الأوّل: أن العَرَب كانت لا تُورثُ النِّساء والصِّبْيَان شيئاً من المِيراثِ؛ كما ذكرنا في أوَّلِ السُّورَةِ، فنزلت هذه الآية في تَوْريثهم، قال ابن عبَّاسٍ: يريد ما فَرَضَ لَهُنَّ من المِيرَاثِ. الثاني: أن الآية نزلت في تَوْفِية الصَّداق لَهُنَّ، وكانت اليتيمَةُ تكون عند الرَّجُلِ، فإن كانت جَمِيلةً ومَالَ إلَيْهَا، تزوَّجَ بها وأكَلَ مالها، وإن كانت ذَمِيمَةً، منعها الأزْوَاجَ حتى تَمُوتَ، فأنزل اللَّه هذه الآية. قوله: «وتَرْغبون» فيه أوْجُه: أحدُها: - وهو الظاهر - أنه مَعْطُوفٌ على الصِّلةِ، عطف جملةٍ مُثْبَتةٍ على جُمْلةٍ منفية، أي: اللاَّتي لا تُؤتُونَهُنَّ، واللاًّتي ترغبُون أن تَنْكحوهُنَّ؛ كقولك: «جاء الَّذِي لا يَبْخَلُ، ويُكْرِم الضِّيفَان» . والثاني: أنه مَعْطُوفٌ على الفَعْلِ المَنْفِيِّ ب «لا» أي: لا تؤتُونَهُن ولا تَرْغَبُون. والثالث: أنه حَالٌ من فاعِل «تؤتونهن» أي: لا تؤتُونَهُنَّ، وأنتم رَاغِبُون فِي نِكاحِهِنَّ، ذكر هذين الوجْهَيْن أبو البقاء، وفيهما نَظَر: أمّا الأولُ: فلخلافِ الظَّاهِر، وأما الثَّانِي: فلأنه مُضَارع فلا تَدْخُل عليه الواوُ إلا بِتَأويلٍ لا حَاجَة لنا بِهِ هَهُنَا. و «أن تَنْكِحُوهُنَّ» على حَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ، ففيه الخلاف المَشْهُور: أهي في محل نَصْب أم جر؟ واختُلِفَ في تَقْدير حرف الجَرِّ. فقيل: هو «في» أي: تَرْغبُون في نِكَاحِهِنَّ؛ لقُبْحهن وفَقْرهنَّ، وكان الأوْلِيَاء كذلك: إن رَأوها جَمِيلَةً مُوسِرَةً، تزوجها وَليُّها، وإلاَّ رغبَ عَنْها، والقَوْل الأوَّل مَرْوِيٌّ عن عَائِشَة وطَائِفَة كَبِيرةٍ. قال أبو عُبَيْدَة: هذه الآية [تَحْتَمِل] الرَّغْبَة والنَّفْرَة. فإن حَمَلْته على الرًّغبة، كان المعنى: وتَرْغَبُون أن تَنْكِحُوهُنَّ. وإن حملته على النَّفْرة، كان المَعْنَى: وترغبون عن أن تنكحوهن؛ لدمامتهن. فإن قيل: إن النحاة ذكروا أن حَرْف الجَرِّ يجوز حذفُه باطِّرادَ مع «أنْ» و «أنَّ» بِشَرْط أمْنِ اللَّبْس، يعني: أن يكون الحَرْفُ متعيّناً، نحو: «عَجبْت أن تَقُوم» أي: من أن تَقُوم، بخلاف «مِلْتُ إلى أنْ تَقُوم» أو «عَنْ أنْ تَقُوم» والآيةُ من هذا القَبِيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 48 فالجواب: أن المَعْنَييْن هُنا صَالِحَان؛ يدل عليه ما ذَكَرْت لك من سَبب النُّزُولِ، فصار كلٌّ من الحَرْفَيْن مراداً على سَبِيل البَدَل. فصل مذهب الأحْنَاف فيمَن له ولاية الإجبار استدل الحَنَفِيَّة بهذه الآيَة، على أنَّه يَجُوز لغير الأب والجَدِّ تزويج الصَّغيرة، ولا حجَّة لهم فيها؛ لاحْتِمَال أن يكون المُرَادُ: وتَرْغَبُون أن تُنْكِحُوهُن إذا بَلَغْن، ويدل على صِحَّة قَوْلِنا: إن قُدَامة بن مَظْعُون زَوَّج ابْنَة أخيه عُثْمَان بن مَظْعُون من عَبْد الله بن عُمَر، فخطبها المُغِيرَة بن شُعْبَة، ورغَّب أمَّهَا في المَالِ، فجاءوا إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال قُدَامَةُ: أنا عَمُّهَا وَوَصِيُّ أبيهَا، فقال النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّها صَغِيرة ولا تُزَوَّج إلا بإذْنِها» وفرَّق بَيْنَها وبين ابْن عُمر، وليس في الآيَة أكْثَرُ من رغْبَة الأوْلِيَاء في نِكَاحِ اليَتِيمَةِ، وذلك لا يَدُلُّ على الجَوَازِ. [قوله: «والمستضعفين» فيه ثلاثة أوْجُه: أظهرُهَا: - أنه مَعْطُوفٌ على «يَتَامَى النِّسَاء» أي: ما يُتْلَى عَلَيْكُم في يَتَامَى النِّسَاء وفي المُسْتَضْعَفِين، والذي تُلِي عَلَيْهِم فيهم قوله: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ} [النساء: 11] ، وذلك أنَّهُم كانوا يَقُولون: لا نُوَرِّثُ إلا مَنْ يَحْمِي الحَوْزَة، ويَذُبُّ عن الحَرَمِ، فيَحْرِمُون المَرْأةَ والصَّغِيرَ؛ فنزلت] . {والمُسْتضعَفِين من الوِلْدَان} وهم الصِّغَار، أن تُعْطُوهم حُقُوقَهُم؛ لأنَّهم كانوا لا يُورثون الصِّغَار، يريد ما يُتْلَى عليكم في باب «اليَتَامَى» من قوله: {وَآتُواْ اليتامى أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 2] ، يعني: إعطاء حقوق الصِّغار. والثَّاني: أنَّه في مَحَلِّ جر، عَطْفاً على الضَّمِير في «فيهن» ؛ وهذا رأيٌ كوفِيّ. والثالث: أنه مَنْصُوبٌ عطفاً على مَوْضِع «فيهن» أي: ويبيِّن حال المستضعفين. قال أبو البقاء: «وهذا التَّقْدِيرُ يَدْخُلُ في مَذْهَب البَصريِّين مِنْ غيرِ كَلَفَةٍ» يعني: أنه خَيْرٌ من مَذْهَب الكُوفيين، حيث يُعْطَفُ على الضَّمِير المَجْرُور مِنْ غَيْرِ إعادَةِ الجَارِّ. قوله: «وأنْ تقوموا» فيه خَمْسَةُ أوجه: الثلاثة المتقدمة قَبْله، فيكون هو كَذَلِك لِعطْفِه على ما قَبْلَه، والمتلوُّ عليهم في هذا المَعْنَى قوله: {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] . والرابع: النَّصْبُ بإضمار فعل. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «ويجوزُ أنْ يكون مَنْصُوباً بإضْمار» يأمُرُكُم «، بمعنى: ويأمركم أن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 49 تقُومُوا، وهو خِطَابٌ للأئمة بأنْ يَنْظُروا إليْهِم، ويَسْتَوْفُوا لهم حُقُوقَهم، ولا يَدَعُوا أحداً يَهْتَضِمُ جَانِبَهُم» ، فهذا الوَجْه من النَّصْب غيرُ الوَجْهِ المذْكُور قَبْلَه. والخامس: أنه مُبْتدأ، وخبره مَحْذُوفٌ، أي: وقيامُكم لليتامَى بالقِسْطِ خيرٌ لَكُم، وأولُ الأوجُهِ أوجَهُ، والمعنى: أن تقوموا لليتَامَى بالقِسْطِ، أي: بالعَدْل فِي مُهُورِهِن، ومواريثهِن. ثم قال: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً} يجازِيكُم به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 وقوله: «وَإِنِ امرأة» : «امرأةٌ» فاعلٌ بِفعْلٍ مضمر واجب الإضْمَار، وهذه من باب الاشْتِغَال، ولا يجُوز رَفْعُها بالابْتداء، لأنَّ أداةَ الشَّرْطِ لا يَلِيها إلا الفِعْلُ عند جُمْهُور البَصْرِيِّين، خلافاً للأخفش، والكُوفيِّين، والتقديرُ: «وإنْ خافت امْرأةٌ خَافَتْ» ، ونحوهُ: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك} [التوبة: 6] ، واستدلَّ البَصْرِيُّون على مَذْهَبهم: بأن الفعل قد جَاءَ مَجْزُوماً بعد الاسْمِ الوَاقِع بعد أداة الشَّرْط في قَوْل عديٍّ: [الخفيف] 1887 - وَمَتَى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو ... هُ وَتُعْطَفْ عَلَيْه كَأسُ السَّاقِي قال بعضهم: خافت، أي: عَلِمَت، وقيل: ظَنَّت. قال ابن الخطِيب: ولا حَاجَة لِتَرْك الظَّاهر؛ لأن الخَوْف إنَّما يكون عند ظُهُور أماراتٍ [تدلُّ عليه] من جِهَة الزَّوْجِ، إمَّا قَوْلِيَّةٌ أو فِعْلِيَّةٌ. قوله «مِن بَعْلِها» يجوزُ أن يَتَعَلَّق ب «خَافَت» وهو الظَّاهِر، وأن يتعلَّق بمَحْذُوف على أنه حَالٌ من: «نُشوزاً» إذ هو في الأصْل صِفَةُ نكرةٍ، فلمَّا قُدِّم عَلَيْها، تعذَّر جَعْلُه صِفَةً، فنُصِب حالاً، و «فلا» جَوَابُ الشَّرْطِ، والبَعْل: يطلق على الزَّوْج، وعلى السَّيِّد. قوله «أَن يُصْلِحَا» قرأ الكوفيون: «يُصْلِحا» من أصْلَح، وباقي السَّبْعة «يَصَّالحا» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 50 بتشديد الصَّاد بعدها ألف، وقرأ عثمان البتي والجَحْدَري: «يَصَّلِحا» بتشديد الصَّاد من غَيْر ألفٍ، وعبيدة السَّلَمَانِيّ: «يُصالِحا» بضمِّ الياءِ، وتخفيفِ الصَّادِ، وبعدَها ألفٌ من المُفَاعَلَة، وابن مَسْعُود، والأعْمش: «أن اصَّالحا» . فأمّا قراءةُ الكوفيين فَوَاضِحَةٌ. وقراءةُ باقي السَّبْعَة، أصلُهَا: «يتصالحا» ، فأُريد الإدْغَام تَخْفِيفاً؛ فأبْدِلت التَّاءُ صاداً وأدْغِمت، كقوله: «ادّاركوا» . وأمَّا قراءةُ عُثْمَان، فأصلُها: «يَصْطَلِحا» فَخُفِّفَ بإبْدَالِ الطَّاء المُبْدَلةِ من تاءِ الافْتِعَال صَاداً، وإدغامها فيما بَعْدَها. وقال أبو البقاء: «وأصله:» يَصْتَلِحا «فأبْدِلت التاء صَاداً وأدْغِمت فيها الأولَى» وهذا ليس بِجَيِّدٍ، لأنَّ تاءَ الافْتِعَال يجبُ قَلْبُها طاءً بعد الأحْرُف الأرْبَعَة؛ كما تقدَّم تَحْقِيقُه في البَقرة، فلا حَاجَة إلى تَقْديرهَا تاءً؛ لأنه لو لُفِظ بالفِعْلِ مظهراً لم يُلْفظ فيه بالتَّاء إلا بَياناً لأصْلِه. وأمَّا قراءةُ عُبَيْدة فواضحةٌ؛ لأنها من المُصَالَحة. وأما قِرَاءة: «يَصْطَلِحَا» فأوضحُ، ولم يُخْتَلَفْ في «صُلْحاً» مع اختلافِهِم في فِعْلِهِ. وفي نصبه أوجهٌ: فإنه على قِرَاءة الكوفيين: يَحْتمل أن يكُونَ مَصْدَراً، وناصبُه: إمَّا الفِعْلُ المتقدِّمُ وهو مَصْدَرٌ على حَذْف الزَّوَائِد، وبعضُهم يعبِّر عنه بأنه اسْمُ مَصْدرٍ كالعَطَاءِ والنَّبَات، وإمَّا فِعْلٌ مقدرٌ أي: فيُصْلِحُ حَالَهُما صُلْحاً. وفي المَفْعُولِ على هذين التَّقْدِيرين وَجْهَان: أحدُهما: أنه «بَيْنَهُمَا» اتُسِّع في الظَّرْف فجُعِل مَفْعُولاً به. والثاني: أنه مَحْذُوف و «بينهما» ظرفٌ أو حَالٌ مِنْ «صلحاً» فإنه صِفةٌ له في الأصْلِ، ويُحْتمل أن يكُونَ نصبُ «صُلْحاً» على المَفْعُول به، إن جَعَلته اسماً للشيء المُصْطَلح عليه؛ كالعَطَاء بِمَعْنَى: المُعْطى، والثبات بِمَعْنَى: المُثْبَت. وأمَّا على بقيةِ القِراءاتِ: فيجوزُ أنْ يكونَ مَصْدَراً على أحدِ التَّقْديرين المتقدمين: أعني: كونَه اسمَ المصدرِ، أو كونَه على حَذْفِ الزَّوَائِد، فيكون وَاقِعاً موقع «تَصَالَحَا، أو اصْطِلاَحاً، أو مصالحةً» حَسْبَ القِرَاءات المتقدِّمة، ويجوزُ أنْ يكون مَنْصُوباً على إسْقَاطِ حرفِ الجَرِّ، أي: بصُلْحِ، أي: بشيء يَقعُ بسببِ المُصَالَحة، إذا جَعَلْناه اسْماً للشَّيْءِ المُصْطَلَح عليه. والحاصلُ أنه في بَقِيَّة القراءات يَنْتَفي عنه وَجْهُ المَفْعُولِ به المَذْكُورِ في قِرَاءة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 51 الكوفِيِّين، وتَبْقَى الأوْجُهُ البَاقِيةُ جَائِزةً في سائر القِراءاتِ. قوله: «والصُّلْحُ خيرٌ» : مبتدأ وخبر، وهذه الجُمْلَة قال الزمخشري فيها وفي التي بعدها: «إنهما اعْتِرَاضٌ» ولم يبيِّنْ ذلك، وكأنه يُريد أنَّ قوله: «وإنْ يتفرَّقا» مَعْطُوفٌ على قوله: «فَلاَ جُنَاْحَ» فجاءت الجُمْلَتانَ بينهما اعْتِرَاضاً؛ هكذا قال أبو حيَّان. قال شهاب الدين: وفيه نظر، فإن بَعْدهما جُمَلاً أخَرَ، فكان ينبغي أن يَقُول الزَّمَخْشَرِي في الجَمِيع: إنها اعْتِرَاضٌ، ولا يَخُص: «والصُّلْح خَيْر» ، وأُحْضِرَت الأنفسُ [الشُّح] بذلك، وإنما يُرِيد الزَّمَخْشَرِيُّ بذلك: الاعتراض بَيْن قوله: «وإن امْرَأةٌ» وقوله: «وَإِن تُحْسِنُواْ» فإنهما شَرْطَان متعاطفانِ، ويَدُلُّ عليه تَفْسِيرُه له بما يُفِيدُ هذا المَعْنَى، فإنه قال: «وإن تحسنُوا بالأقَامَة على نِسَائِكُم، وإن كَرِهْتُموُهن وأحببتم غَيْرَهُن، وتتقوا النُّشوزَ والإعْرَاض» انتهى. فصل والألِف واللاَّم في الصُّلح يَجُوز أن تكون للجِنْس، وأن تكونَ للعهْد؛ لتقدُّمِ ذكره، نحو: {فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 16] . فعلى الأوَّل وهو أنه مُفْرَد محلًّى بالألِف واللاَّم فهل يُفيدُ العُمُومَ، أم لاَ؟ فإن قُلْنَا: يفيد العُمَوم؛ فإذا حصل هُنَاك مَعْهُود سِابِقٌ، فهل يُحْمَل على العُمُوم، أم على المَعْهُود السِّابق؟ [و] الأوْلى: حَمْله على المَعْهُود السَّابِق، لأنا إنَّما حَمَلْنَاهُ على الاسْتِغْرَاق ضَرُورَة أنَّا لو لم نَقُل ذلك لخرج عن الإفَادَة، وصار مُجْمَلاً، فإذا حَصَل مَعْهُود سَابِقُ، اندفع هذا المَحْذُور، فوجب حَمْلُه عليه. وإذا عَرَفْت هذه المُقَدِّمة: فمن حَمَلَهُ على المَعْهُود السَّابِق، قال: الصُّلْح بين الزَّوْجَيْن خير من الفُرْقَة، ومن حَمَلَهُ على الاسْتِغْرَاقِ، تمسَّك به في أنَّ الصُّلْح على الإنْكَار جَائز، وهُمُ الحَنفيَّة و «خير» : يُحْتمل أن تَكُون للتَّفْضِيل على بَابِها، والمفضَّلُ عليه مَحْذُوفٌ، فقيل: تقديرُه: من النُّشُوز، والإعْرَاض، وقيل: خيرٌ من الفُرْقَة، والتَّقْدِير الأولُ أوْلى؛ للدلالة اللَّفْظِيَّة، ويُحْتمل أن تَكثون صِفَةً مجرَّدَةً، أي: والصُّلَحُ خيرٌ من الخُيُور؛ كما أنَّ الخُصُومة شرٌّ من الشُّرُور. فصل في سبب نزول الآية هذه الآية نزلت في عمرة ويُقَال: خَولة بِنْت محمَّد بن مَسْلَمة، وفي زَوْجَها سَعْد ابن الرَّبِيع، ويقال: رَافِع بن خُدَيْج تزوَّجَهَا وهي شَابَّة، فلما علاَهَا الكِبَر، تزوَّجَ عليها الجزء: 7 ¦ الصفحة: 52 امْرَأة شابَّةً، فآثرها عليها، وجَفَا ابْنَه محمَّد بن مسلمة، فأتت رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فشكت ذلك إلَيْه، فنزلت الآية. وقيل: نزلت في سَوْدَة بنت زمْعَة، حين أرَادَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُطَلِّقها، فالتمست أن يُمْسِكَها وتَجْعَل نَوْبَتَها لِعَائِشَة، فأجازَه النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يطلقها. وروي عن عَائِشَة، أنها قَالَت: نزلت في المَرْأة تكون عند الرَّجُل، ويُرِيد أن يَسْتَبْدِلَ [بها] غيرها، فتقول: أمْسِكْنِي، وتزوج بِغَيْري، وأنت في حِلٍّ من النَّفَقَةِ [والقَسْم] . وقال سَعِيد بن جُبَير: نزلت في أبِي السَّائِب، كان له امْرَأةٌ قد كَبِرت، وله مِنْهَا أوْلاد، فأراد أن يُطَلِّقَها ويتزوَّجَ بِغَيْرِها، فقالت: لا تطلِّقْنِي، ودعنِي على وَلَدِي، فاقْسم لي مِنْ كلِّ شَهْرَيْن إن شِئْتَ، وإن شئِتْ فلا تَقْسِم لي، فقال: إن كَانَ يصلحُ ذَلِك؛ فهو أحَبُّ إليّ، فأتَى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكر لَهُ ذَلِك. فأنزل الله {وإن امْرأةٌ خافت} أي: علمت قيل: وظَنَّتْ، وقيل: مُجَرَّد الخَوْف عِنْد [ظُهُور] أمارات النُّشُوز، وهو البُغْضُ والشِّقَاق، من النَّشْز: وهو ما ارتفع عَنِ الأرْض. قال الكَلْبِيُّ: نشوز الرَّجُل: ترك مُجَامَعَتِها، وإعراضُهُ بوجْهه عَنْها، وقلة مُجَالَسَتِها، {فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ} أي: على الزَّوج والمَرْأة أن يتصالَحَا، والصُّلْحُ إنَّما يحصُلُ في شَيْءٍ يكون حَقًّا له، وحقُّ المرأة على الزَّوْج: إما المَهْر، أو النَّفَقَة، أو القَسْم. فهذه الثلاثة هي التي تَقْدِر المرأة على طلبها من الزَّوْجِ، شاء أم أبَى، وأما الوَطءُ فلا يُجبرُ عليه إلاَّ في بعض الصُّوَر، وإذا كَان كَذَلك، فإذا كَانَتْ هي المُحْسِنَة، ولا تُجْبَر على ذلك، وإن لم تَرْضَ، كان على الزَّوْج أن يُوَفِّيها حقها من القَسْم والنَّفقة [أو يُسَرِّحها بإحْسَان، فإن أمْسَكها ووفَّاها حقَّها مع كَراهِيَّتهِ، فهو المُحْسِن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 53 وروى سُليْمَان بن يَسَار، عن ابن عبَّاسٍ: فإن صَالَحَتْهُ عن بَعْضِ حقها من القَسْم والنَّفَقَةِ،] فذلك جائز ما رَضِيت، فإن أنْكَرَت بعد الصُّلْح، فذلك لَهَا، ولها حَقُّهَاِ. ثم قال: «والصُّلْح خَيْر» [يعني: إقَامَتَهَا] بعد تَخْييره إيَّاهَا، والمُصَالَحة على تَرْك بَعْضِ حَقِّها، خَيْر من الفُرقَة. كما رُوِي أن سَوْدة كانت امْرأةً كبِيرةً، أراد النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُفَارِقَهَا، فقالت: لا تطلِّقْنِي، وكفاني أن أبْعَث في نِسَائِكَ، وقد جَعَلْتُ نوبتي لِعَائِشَة، فأمْسَكَها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكان يَقْسِمُ لِعائِشَة يَوْمَها ويَوْمَ سَوْدَة. فصل قال - تعالى -: {فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا} ، وذلك يُوهِمُ أنَّه رخصة، والغايةُ فيه: ارْتِفَاع الإثْم، فبين - تعالى - أنَّ هذا الصُّلح كما أنَّه لا جُنَاح فيه ولا إثْم، ففيه خَيْر عَظِيمٌ. قوله: {وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح} «حَضَر» يتعدى إلى مَفْعُول، واكتسب بالهمزة مفعُولاً ثانياً، فلمَّا بُني للمفعُول، قامَ أحدهما مقام الفاعل، فانتصب الآخرُ، والقائمُ مقام الفاعِلِ هنا يَحْتمل وجهين: أظهرهما - وهو المشهُورُ من مذاهب النُّحَاة -: أنه الأول وهو «الأنْفُسُ» فإنه الفاعِل في الأصْلِ، إذ الأصْل: «حَضرت الأنْفُسُ الشُحَّ» . والثاني: أنه المفعُول الثاني، والأصل: وحضر الشُحُّ الأنْفُسَ، ثم أحْضَر اللَّهُ الشُحَّ الأنْفُسَ، فلما بُنِيَ الفِعْل للمفعُول أقيم الثانِي - وهو الأنْفُسُ - مقامَ الفَاعِلِ، فأخِّر الأوَّل وبقي منصوباً، وعلى هذا يَجُوز أن يُقَال: «أُعْطِي درهمٌ زَيْداً» و «كُسِي جُبَّة عَمراً» ، والعَكْس هو المشهُورُ كما تقدَّم، وكلامُ الزَّمَخْشَرِي يَحْتمل كَوْنَ الثاني هو القَائِم مقام الفاعل؛ فإنه قال: «ومعنى إحْضَارِ الأنْفُس الشُحَّ: أنَّ الشُحَّ جُعِل حَاضِراً لها، لا يَغِيب الفاعل؛ فإنه قال:» ومعنى إحْضَارِ الأنْفُسِ الشُحَّ: أنَّ الشُحَّ جُعِل حَاضِراً لها، لا يَغِيب عنها أبداً ولا يَنْفَكُّ «يعني: أنها مَطْبُوعةٌ عليه، فأسْنِد الحضور إلى الشُحِّ كما ترى، ويحتمل أنه جعله من باب القلْب، فنسب الحُضُورَ إلى الشُحِّ، وهو في الحقيقة مَنْسُوبٌ إلى الأنْفس. وقرأ العَدَوِي:» الشِّحَّ «بكسر الشين وهي لُغَة، والشُّحُّ: البُخْل مع حرص؛ فهو أخَصُّ من البُخْل. قال القرطبي: وهذه الآية إخبار في كُلِّ أحدٍ، وأنَّ الإنْسَان لا بُد أن يشح بِحُكْم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 54 خِلْقَتِه، وجبلَّته، حتى يَحْمِل صَاحِبَه على بَعْض ما يَكْرَه، ويقال: الشُحُّ: هو البُخْل، وحقيقته: الحِرْص على مَنْع الخَيْر. والمُرادُ به ههنا: شُح كل واحدٍ من الزَّوْجَيْن بِنَصِيبهِ من الآخَر، فَتَشِحُّ المرأة: ببذل حقِّها، ويَشِحُّ الزَّوْج: بأن يَنْقَضِي عمره مَعَهَا مع دَمَامَة وَجْهِها، وكبر سِنِّها، وعدم حُصُول اللَّذَّة بِمُجَالَسَتِها. فصل قال القرطبي: والشُّحُّ: الضبط على المُعْتَقَدَات والإرادَة، وفي الهِمَمِ والأمْوال، ونحو ذلك، فما أفْرِط منه على الدِّين، فهو محمود، وما أفْرِطَ منه في غَيْرِهِ، ففيه بَعْض المذمَّة. وهو قوله - تعالى -: {وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ} [التغابن: 16] الآية، وما صَار مِنْه إلى حَيِّز مَنْع الحُقُوقِ [الشَّرعيَّة] أو الَّتِي تَقْتَضِيهَا المُرُوءة، فهو البُخْلُ؛ [و] هي رذيلة، وإذا آلَ البُخْل إلى هَذِه الأخْلاَق المَذْمُومَةِ، لم يبق [معه] خيرٌ ولا صَلاَحٌ. روى الماوَرْدِيُّ:» أن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال للأنْصَار: من سَيِّدُكُم؟ قالوا: الجَدُّ بن قَيْس على بُخْلٍ فيهه؛ فقال النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وأي داء أدْوَى من البُخْل» قالوا: وكيف ذَاكَ يا رسُولَ اللَّه؟ قال: إنَّ قوماً نزلوا بسَاحِل، فكرهوا لِبُخْلِهِم نُزُولَ الأضْيَافِ بِهِم، فقالوا: ليَبْعد [الرِّجَال] منَّا عن النِّساء؛ حتى يَعْتَذِر الرَّجَال إلى الأضْيَافِ ببعد النِّسَاء، ويعتَذِر النِّسَاء ببُعْد الرَّجَالِ، ففعلوا وطال ذَلِكَ فِيهِمْ، فاشْتَغَل الرَّجَال بالرَّجَال، والنِّسَاء بالنِّسَاء «. ثم قال:» وإنْ تُحْسِنُوا «أي: تُصْلِحُوا» وتَتَّقوا «: الجور. وقيل: هذا خِطَابٌ مع الأزواج، أي: وإن تُحْسِنُوا بالإقَامَة مَعَها مع الكَرَاهَةِ، وتتقوا ظُلْمَها بالنُّشُّوزِ والإعْرَاض. وقيل [هو] خِطاب لغيرهما، أي: تُحْسِنُوا في الصُّلْح بينهما، وتَتَّقُوا المَيْل إلى وَاحِدٍ مِنْهُمَا، فإن اللَّه كان بما تَعْمَلُون خَبِيراً، فيجزيكم بأعْمَالِكُم. حكى صَاحِب الكَشَّاف: أن عِمْرَان بن حطَّان الخَارِجيَّ كان من أذَمِّ بني آدَم، وامرأته من أجْمَلِهِم، فَنَظَرَت إليه يَوْماً، ثم قالت: الحَمْدُ للَّهِ، فقال: مَا لَكِ؟ فقالت حَمَدْتُ اللَّه على أنِّي وإيَّاك من أهْل الجَنَّة؛ لأنك رُزِقْتَ مِثْلِي، فشكَرْت، ورُزِقْتُ مِثْلك؛ فَصَبَرْتُ، وقد وَعَد اللَّه بالجَنَّة الشَّاكرين والصَّابرين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 55 وفيه قولان: الأول: لن تَقْدِرُوا في التَّسْوِية بَيْنَهُنَّ في مَيْل الطِّبَاع، من الحُبِّ ومَيْل القلب، وإذا لم تَقْدِرُوا عليه، لَمْ تكُونوا مكَلَّفين به. قالت المُعْتَزَلَة: هذا يدلُّ على أن تَكْلِيفَ ما لا يُطَاق، غيْر وَاقِع ولا جائز الوُقُوع، وقد تَقَدَّم إلزامهم في العِلْمِ والدَّاعِي، وقد يُجَاب أيْضاً: بأنه - تعالى - إنما نَفَى الاسْتِطَاعة الَّتي هي من جِهَة المكَلَّفِ، ولَمْ يَنْفِ التَّكْلِيف الَّذِي هو من جهة الشَّارع، فالآيَة لا تَدُلُّ على نَفْيِ التَّكْلِيفِ، وإنما تَدُلُّ على نفي اسْتِطَاعة المكَلَّف. الثاني: لا يستطيعون التَّسْوِيَةَ بينهن في الأقْوَال والأفْعَال؛ لأن التَّفَاوُت في الحُبِّ، يوجِبُ التَّفَاوُت في نتائِجِ الحُبِّ؛ لأن الفِعل بدون الدَّاعِي، [و] مع قيام الصَّارف مُحَالٌ. ثم قال: «فَلاَ تَمِيلُواْ» أي: إلى التي تُحِبُّونها، «كُلَّ المَيْل» في القِسْمة، واللَّفْظ والمَعْنَى: أنكم لَسْتُم تَحْتَرِزُون عن حُصُول التَّفَاوُت في المَيْل القَلْبِي؛ لأن ذَلِك خَارِجٌ عن وُسْعكُم، ولكنكم مَنْهِيُّون عن إظْهَار ذلك [التفاوت] في القَوْل والفِعْل. «روي عن رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [أنه] كان يَقْسِم، ويقول:» هذا قَسَمِي فيما أمْلِكُ، وأنْت أعْلَم بما لا أمْلِكُ «. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 56 قوله:» كُلَّ المَيْلِ «: نصبٌ على المَصْدرية، وقد تقرر أن» كل «بحسَبِ ما تُضَاف إليه، إنْ أضيفَت إلى مَصْدرٍ - كانت مَصْدَراً - أو ظرفٍ، أو غَيْرِه؛ فكذلك. قوله:» فَتَذَرُوهَا «فيه وجهان: أحدهما: أنه مَنْصُوب بإضْمَارِ» أنْ «في جَوابِ النَّهْي. والثاني: أنه مَجْزُوم عَطْفاً على الفِعْل قبله، أي: فلا تَذرُوها، ففي الأوَّل نَهْيٌ عن الجمع بينهما، وفي الثاني نهيٌ عن كلٍّ على حِدَتِه وهو أبلغُ، والضَّميرُ في» تَذَرُوها «يعود على المُميلِ عنها؛ لدلالة السِّياق عليها. قوله:» كالمُعلَّقة «: حال من» ها «في» تَذَروها «فيتعلَّق بمَحْذُوف، أي: فتذُروها مُشْبِهةً المُعَلَّقة، ويجُوز عندي: أن يَكُون مفعولاً ثانياً؛ لأن قولك:» تَذَر «بمعنى: تَتْرك، و» تَرَك «يتعدَّى لاثْنَيْن إذا كان بِمَعْنَى: صيَّر. والمعنى: لا تَتَّبِعُوا هَوَاكُم، فَتَدَعُوا الأخْرى كالمُعَلَّقَة لا أيِّماً، ولا ذَات بَعْل؛ كما أن الشَّيء المُعَلَّق لا [يَكُون] على الأرْضِ، ولا على السَّماءِ، وفي قِرَاءة أبَيِّ:» فَتَذَرُوها كالمَسْجُونَة «، وفي الحَدِيث:» من كَانَت له امْرأتَانِ يميلُ مع إحْدَاهُمَا، جاء يَوْم القِيَامة وأحدُ شِقَّيْه مَائِلٌ «. قوله:» وإن تُصْلِحُوا «بالعدل في القَسْم، و» تَتَّقُوا «: الجور {فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً} لما حَصَل في القَلْبِ من المَيْلِ إلى بَعْضِهِنَّ دون بَعْضٍ. وقيل المعنى: وإن تُصْلحوا ما مَضَى من مَيْلِكُم، وتَتَدَارَكُوه بالتَّوْبَة، وتَتَّقُوا في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 57 المُسْتَقْبَل عن مِثْلِه، غفر اللَّه لكم ذَلِكَ، وهذا أوْلَى؛ لأن التَّفَاوُت في المَيْل القَلْبي ليس في الوُسْع، فلا يحتاج إلى المَغْفِرَة. قوله «وَإنْ يَتَفَرَّقا» يعني: الزَّوْج والمَرْأة بالطَّلاق، {يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} : من رزقه، يعني: المَرْأة بِزَوْج آخر، والزَّوْج بامرأة أخْرى. وقيل: يُغْنِي اللَّه كل واحِدٍ منهما عن صَاحِبِه بعد الطَّلاقِ، {وَكَانَ الله وَاسِعاً حَكِيماً} وصف نفسه بِكَوْنه وَاسِعاً؛ ولم يُضِفْه إلى شَيْء؛ لأنه - تعالى - وَاسِعُ الفَضْل، واسع الرِّزْقِ، واسع النِّعْمَةِ، واسع الرَّحْمَةِ، واسع القُدْرَةِ، واسِعُ العِلْمِ، واسعٌ في جميع الكمالات، فلو قالَ: واسِعٌ في كذا، لاخْتَصَّ بذلك المَذْكُور، وقوله: «حكيماً» قال ابن عبَّاسٍ: يريد فيما أمرَ ونَهَى، وقال الكلبيُّ: فيما حَكَم على الزَّوْج من إمْسَاكِهَا بمعرُوفٍ، أوْ تسريحٍ بإحْسَانٍ. فصل حُكْم الرَّجلِ إذا كان تَحْتَهُ امْرأتَان أوْ أكْثَر، يجِبُ عليه التَّسْوِيَة بَيْنَهُنَّ في القَسْم، فإن ترك التَّسْوِيَة بَيْنَهُنَّ في القَسْم، عَصَى اللَّه - تعالى -، وعليه القَضَاءُ للمَظْلُومة، والتَّسْوِيَة شَرْط في البَيْنُونَةِ أمَّا في الجِمَاع فَلاَ؛ لأنه يَدُور على النَّشَاطِ وليس ذَلِكِ إليه، ولو كانت تَحْتَه حُرّةٌ وأمَةٌ فإنَّه يَبِيتُ عِنْد الحُرَّة لَيْلَتَيْن، وعند الأمَة لَيْلَة، وإذا تَزَوَّج جَدِيدَةً على قَدِيمَة، يخص الجَدِيدَة بأن يَبِيت عِنْدَهَا سَبْعَ لَيَالٍ على التَّوالِي إن كانت بِكْراً، وإن كانت ثَيِّباً، فثلاث لَيَالٍ، ثم يُسَوِّي بعد ذَلِك بين الكُلِّ، ولا يجب قَضَاء هذه الثلاث للقَدِيمَات؛ لقول أنسٍ: من السُّنَّةِ إذا تزوَّج البكر على الثَّيِّب أن يُقِيم عِنْدَها سَبْعَةً، وإذا تزوَّج الثَّيِّب على البِكْرِ، أن يُقِيم عندها ثلاثاً، فإن أحبَّت الثَّيِّبُ أن يُقِيم عِنْدَها سبْعاً، فعل، ثم قَضَاه للبَوَاقِي؛ لأن «النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما تَزَوَّج أمَّ سَلَمَة أقام عِنْدَها سَبْعاً، ثم قال: لَيْس بك هَوانٌ على أهْلِكِ، إن شِئْت سَبَّعْت لَكِ، وإن سَبَّعْت لك سَبَّعْت لِنِسَائي» ، وإذا أرادَ الرَّجُل سفرَ حَاجَةٍ، فيجُوزُ له أنْ يحمل بَعْضَ نِسَائِه [معه بالقُرْعَة بَيْنَهُنَّ] ، ولا يَجِبُ عليه [أن] يَقْضِي للبَاقِيَات مُدَّة سَفَرِه وإن طَالَتْ إذا لَمْ يزدْ مَقَامُهُ في بَلْدة على مُدَّة المُسَافِرِين؛ لأن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذا أراد سَفَراً، أقْرَعَ بين نِسَائِه، فأيّتهن خَرَج سهُمُهَا، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 58 خرج بِهَا مَعَهُ، أما إذا أرَادَ سَفَرَ نَقْلةٍ، فَلَيْسَ له تَخْصِيصُ بَعْضِهِن، لا بِقُرْعَة ولا بِغَيْرها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 في تعلُّق هذه الآيَة بما قَبْلَها وجهان: الأوَّل [أنه - تعالى - لمّا] قال: {يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ} [النساء: 130] أشار إلى ما هُو كالتَّفْسير لكونه وَاسِعاً؛ فقال: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} يعني: من كَانَ كَذَلِكَ، [فإنه] يكون وَاسِع العِلْم، والقُدْرَة، والجُود، والفَضْل، والرَّحمة. الثاني: أنه - تعالى - لمَّا أمر بالعَدْل، والإحْسَان إلى اليَتَامي والنِّسَاء، بَيَّنَ أنه مَا أمر بِهَذِه الأشْيَاء لاحتياجه لأعْمَال العِبَادِ، لأن من كَانَ لَهُ ما في السَّموات ومَا فِي الأرْض، كيف يَكُون مُحْتَاجاً إلى عَمَل الإنْسَان مع ضَعْفِهِ وقُصُوره، وإنما أمَر بِها رِعَاية لما هو الأحْسَن لَهُم في دُنْيَاهم وأخْرَاهُم. ثم قال {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} يعني: أهْل التَّوْرَاةِ، والإنْجِيلِ، وسائر الأمم المُتَقَدِّمَة في كُتُبِهِم، والكِتَاب: اسم جِنْس يتناول الكُتُب السَّمَاوِيَّة، «وإيَّاكم» : يا أهل القُرْآن في كتابكم، {أَنِ اتقوا الله} أي: وَحِّدُوه وأطِيعُوه، وتَقْوى اللَّه مَطْلُوبَة من جَمِيع الأمَمِ، في سائر الشَّرَائِعِ لم تُنْسَخ، وَهِي وَصِيَّة اللَّه في الأوَّلِين والآخِرين. قوله: «مِنْ قَبْلِكُم» فيه وجهان: الأول: أنه مُتَعَلِّق ب «وصَّيْنَا» يعني: ولقد وصَّيْنَا من قَبْلكُم [الذين أُوتُواْ الكتاب. والثاني: أنه متعلِّق ب «أوتُوا» يَعْني: الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ] ، وصيناهم بذلك، والأوَّل أظْهَر. قوله: «وإيَّاكم» : عَطْف على {الذين أُوتُواْ الكتاب} وهو واجبُ الفَصْل هُنَا؛ لتعذُّرِ الاتِّصَال، واستدلَّ بَعْضُهم على أنَّه إذا قُدِر عَلى الضمير المُتَّصِل يجُوز أَن يُعْدَلَ إلى المُنْفَصِل بهذه الآية؛ لأنه كان يُمْكِنُ أن يُقَال: «ولقد وَصِّيْنَاكُم والَّذِين أوتُوا الكِتاب» ، وكذلك استُدِلَّ بقوله - تعالى -: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] ، إذ يمكن أن يُقَالَ: يخرجُونَكُم والرَّسُولَ، وهذا ليس يدلّ له: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 59 أمَّا الآيةُ الأولى: فلأنَّ الكَلامَ فيها جَاءَ على التَّرتِيب الوُجُودِي، فإنَّ وَصِيَّة مَنْ قبلَنا قبلَ وَصيَّتنا، فلمَّا قَصَدَ هذا المَعْنَى، استحال - والحالةُ هذه - أن يقُدْرَ عليه مُتَّصِلاً. وأما الآية الثَّانية: فلأنَّه قصد فيها تَقَدُّمَ ذِكْرِ الرَّسُول؛ تشريفاً له، وتشنيعاً على مَنْ تَجاسَر على مِثْلِ ذلك الفِعْل الفَظِيع، فاسْتَحَال - والحالة هذه - أن يُجَاء به مُتَّصِلاً، و «مِنْ قبلكم» : يَجُوزُ أنْ يتعلَّق ب «أوتُوا» ، ويجُوز أنْ يتعلَّق ب «وَصَّيْنَا» ؛ والأولُ أظهرُ. قوله: «أن اتَّقُوا» يجوزُ في «أن» وَجْهَان: أحدُهُمَا: أن تكون مصدرِيّة على حَذْفِ حَرْفِ الخَفْضِ، تقديرُه: بأن اتَّقوا، فلما حُذِف الحَرْفُ جَرَى فيها الخِلافُ المَشْهُور. والثاني: أن تكُون المُفَسِّرة؛ لأنها بَعْد ما هُو بِمَعْنَى القَوْل، لا حروفه وهو الوصيّة، والظاهر أن قوله: «وإن تَكْفُرُوا» جملة مُسْتأنفة؛ للإخبار بأن هذه الحَالِ ليست داخلة في مَعْمُول الوصِيّة. وقال الزَّمَخْشَرِي: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ} عطفٌ على «اتَّقُوا» لأنَّ المَعْنَى: أمرناهم، وأمَرْنَاكم بالتَّقْوَى، وقُلْنا لهم ولكم: «إِن تَكْفُرُواْ» وفي كلامه نظرٌ، لأنَّ تقديره القَوْلَ، ينفي كون الجُمْلة الشرطية مُنْدرجةً في حَيِّزِ الوصيَّة بالنِّسْبَة إلى الصِّناعة النَّحْوية، وهو لم يقصد تفسير المعنى فقط، بل قصده هو وتفسير الإعراب؛ بدليل قوله: عطف على «اتَّقُوا» ، و «اتَّقُوا» داخلٌ في حيِّز الوصيَّةِ، سواءً أجعلت «أن» مصدريَّةً أم مُفسِّرة. فصل ومعنى [قوله:] {أَنِ اتقوا الله} ؛ كقولك: أمَرْتُكَ الخَيْرَ، قال الكَسَائِيُّ: يقال: أوصَيْتُك أن افْعل كذا، وأن تَفْعَل كذا، ويُقال: ألْم آمُرَك أن ائت زيداً، وأن تأتِي زَيْداً؛ كقوله - تعالى -: [و] {أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} [الأنعام: 14] ، وقوله: {إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبِّ هَذِهِ البلدة} [النمل: 91] وتقدَّم الكلام على «وَإِن تَكْفُرُواْ» . قوله: {فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي} في تعلُّقِه وجهان: الأول: أنه - تعالى - خالقُهُم ومالِكُهُم، والمُنْعِم عليهم بأصْناف النِّعَم كلِّها، فَحَقَّ على كل عَاقلٍ أن يَنْقَاد لأوَامِرِه ونَوَاهِيهِ، ويَرْجُوا ثوابه، ويَخَاف عِقَابَهُ. والثاني: {وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} من أصناف المَخْلُوقات من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 60 الملائِكَة وغيرها أطوع مِنْكُم يَعْبُدوه ويتَّقُوه، وهو مع ذَلِكَ غَنِيٌّ عن عِبَادَتِهم، و «حَمِيداً» مُسْتَحِقٌّ للحَمْد؛ لكثرة نِعمِه، وإن لم يحمده أحَدٌ منهم؛ لأنه في ذَاتِه مَحْمُود، سواء حَمَدُوه أوْ لَمْ يَحْمَدُوه. قوله: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً} ، قال عكرمة، عن ابن عبَّاسٍ: يعني: شهيداً أنَّ فيها عَبِيداً. وقيل: دَافِعاً ومُجِيراً. فإن قيل: ما فَائِدة التَّكْرَار في قوله: {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} . فالجواب: أنَّ لكل منها وجه: أما الأول: معناه: للَّه مَا فِي السماوات وما فِي الأرض، وهو يُوصِيكم بالتَّقْوى، فاقْبَلُوا وصِيَّتَه. والثاني: [يقول:] لله ما في السماوات وما في الأرض، وكان الله غَنِيّاً، أي: هو الغَنِيُّ، وله المُلْكُ، فاطْلُبَوا منه ما تَطْلُبُون. والثالث: يقول {وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً} ، أي: له المُلْك؛ فاتَّخِذُوه وَكِيلاً، ولا تتوكَّلُوا على غَيْرِه. [و] قال القُرْطُبِي: وفائدة التَّكْرَار من وجهين: الأول: أنه كَرَّر تأكيداً؛ لتنبيه العِبَاد، ولينظروا في مُلْكه ومَلكُوته، أنه غَنِيٌّ عن خَلقهِ. والثاني: أنه كرَّر لفوائد: فأخبر في الأوَّل، أنَّ الله يُغْنِي كُلاًّ من سَعَتهِ؛ لأن لَهُ مَا في السماوات وما في الأرض، [فلا تَنْفدُ خَزَائِنُه، ثم قال: أوْصيْناكُم وأهْلَ الكِتَاب بالتَّقْوى، وإن تَكْفُروا، فإنَّه غَنِيٌّ عنكم؛ لأنَّ له ما في السماوات وما في الأرض] ثم أعْلم في الثَّالث: بحفظ خَلْقِه، وتدبيره إيَّاهُم بقوله: {وكفى بالله وَكِيلاً} ؛ لأن له ما في السماوات وما في الأرض، ولم يَقُل: مَنْ في السَّموات؛ لأن في السَّموات والأرض من يَعْقِل، ومَن لا يَعْقِل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 والمعنى: أنه تعالى قادرٌ على الإفْنَاء والإيجادِ، فإن عَصَيْتُموه فإنه قادر على إفنائكم [ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 61 وإعدامكم] بالكُلِّيَّة، وعلى أنْ يوجِدَ قَوْماً آخَرِين، يشتغلون بِعبَادَته وتَعْظِيمه، وكان اللَّه على ذَلِك قَدِيراً. قوله: «بآخرين» : آخرين صِفَةٌ لموصوفٍ محذُوف من جنسِ ما تقدَّمه تقديرُه: بناسٍ آخرين يعبدون الله، ويجُوز أن يكونَ المَحْذُوف من غير جنس ما تقدَّمه. قال ابن عطية: «يُحْتَمل أن يكون وَعِيداً لجميع بني آدم، ويكونُ الآخرُون من غير نَوْعِهم، كما رُوي: أنه كان ملائكةٌ في الأرْضِ يَعْبدُون الله» . وقال الزَّمخْشَرِي: «أو خلقاً آخرين غير الإنس» وكذلك قال غيرهما. وردّ أبو حيان هذا الوجه: بأنَّ مدلولَ آخر، وأخْرَى، وتَثْنِيتَهُمَا، وجَمْعهُمَا، نحو مدلول «غير» إلا أنه خاصٌّ بجنسِ ما تقدَّمه. فإذا قلت: «اشتريت فرساً وأخرَ، أو: ثوباً وآخر، أو: جاريَة وأخْرى، أو: جاريتين وأخريين، أو جواري وأُخَرَ» لم يكن ذلك كُلُّه إلا من جِنْس ما تقدم، حتى لو عنيت «وحماراً آخر» في الأمثلة السابقة لم يَجُزْ، وهذا بخلاف «غير» فإنَّها تكون من جِنْسِ ما تقدَّم ومن غيره، تقول «اشتريْتُ ثوباً وغيره» لو عَنَيْت: «وفرساً غيره» جاز. قال: «وقَلَّ مَنْ يَعْرِف هذا الفرق» . وهذا الفرقُ الذي ذكره وردَّ به على هؤلاء الأكابر غيرُ موافقٍ عليه، لم يستند فيه إلى نَقْل، ولكن قد يُرَدُّ عليهم ذلك من طريقٍ أخْرَى، وهو أنَّ «آخرين» صِفَةٌ لموصوف محذوف، والصِّفَةُ لا تقوم مقام موصوفها، إلا إذا كانت خاصَّة بالموصوف، نحو: «مررت بكاتبٍ» ، أو يدلُّ عليه دَلِيل، وهنا ليست بِخَاصَّةٍ، فلا بد وأن تكونَ من جِنْسِ الأوَّلِ؛ لتحصُلَ بذلك الدِّلالةُ على الموصُوفِ المَحْذُوف. وقال القرطبي: وهذا كقوله في آية أخرى: {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] وفي الآية تَخويفٌ، وتنبِيه لمن كان له ولايةٌ وإمَارَةٌ، أو رياسةٌ فلا يعدل في رعيته، أو كان عَالِماً فلا يَعْمَل بعلْمهِ، ولا يَنْصَح النَّاسَ، {وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً} ، والقُدْرَة: صِفَة أزليَّة لا تَتَنَاهَى مَقْدُوراته، كما لا تتناهى مَعْلُومَاته، والمَاضِي والمُسْتقبل في صِفَاتِه بمعنًى واحدٍ، وإنما خصَّ الماضِي بالذكر؛ لئلا يُتوهَّم أنَّه يحدث في صِفَاتِه وذاته، والقُدْرَة: هي التي يكُون بها الفِعْل، ولا يجوزُ وُجُود العَجْزِ مَعها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 يجُوز في «مَنْ» وجهان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 62 أظهرهما: أنها شرطيَّة، وجوابُها قوله: «فعند الله» ، ولا بد من ضميرٍ مقدَّرٍ في هذا الجواب يعُودُ على اسم الشَّرْطِ؛ لما تقرر قبل ذلك، والتقدير: فعند الله ثوابُ الدنيا والآخرِة له إن أراده، وهذا تقدير الزَّمَخْشَرِيِّ، قال [الزمخشري] «حتَّى يتعلقَّ الجزاءُ بالشَّرْطِ» . وأوردهُ ابن الخِطِيب على وَجْه السُّؤال قال: فإن قيل: كَيْفَ دخلتِ الفاءُ في جواب الشَّرْط، وعنده - تعالى - ثوابُ الدُّنْيَا والآخِرِة، سواءً حصلت هذه الإرادة أم لا. قلنا: تقدير الكلام: فعند الله ثوابُ الدُّنْيَا والآخِرَة له إن أرَادَهُ، وعلى هذا التَّقْدِير يتعلَّق الجَزَاءُ بالشَّرْط. وجَوَّز أبو حيَّان - وجعله الظَّاهر - أنَّ الجواب مَحْذُوفٌ، تقديره: من كان يريد ثواب الدُّنيا فلا يَقْتَصِر عليه، وليَطْلُبِ الثَّوابَيْن، فعند الله ثوابُ الدَّارَيْن. والثاني: أنها موصولةٌ ودخلت الفاءُ في الخَبَر؛ تشبيهاً له باسم الشَّرْط، ويُبْعِده مُضِيُّ الفِعْلِ بعده، والعائدُ مَحْذُوفٌ؛ كما تقرَّر تَمْثِيلُه. فصل ومعنى الآية: أن هؤلاء الَّذِين يُريدُون بِجِهَادِهم الغَنِيمَة فقط مُخْطِئون؛ لأنَّ عند اللَّه [ثَوَابَ] الدُّنيا والآخِرَة، فلم اكْتَفَى بطلَبِ ثَوَابِ الدُّنْيا، مع أنه كَانَ كالعَدَمِ بالنِّسْبَة إلى ثَوَاب الآخِرَة، ولو كان عَاقِلاً، لطلب ثواب الآخِرَة؛ حتى يَحْصُل له ذلك، ويَحْصُل له ثوابُ الدُّنْيَا تَبَعاً. قال القُرْطُبِيُّ: من عَمِل بما افْتَرَضَهُ [اللَّه] عليه طلباً للآخِرَة، آتاه اللَّه ذلك في الآخِرَة، ومن عمل طَلَباً للدُّنْيَا، آتاه ما كُتِب له في الدُّنْيَا، وليس لَهُ في الآخِرَة من نَصِيبٍ؛ لأنه عَمِل لغير اللَّه لقوله - تعالى -: {أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار} [هود: 16] وهذا على أن يكون المُرَاد بالآية: المُنافِقُون والكُفَّار، {وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً} : يسمع كَلاَمَهُم أنهم لا يَطْلُبون من الجِهَاد سِوَى الغَنِيمَةِ، ويرى أنَّهم لا يَسْعوْن في الجِهَاد، ولا يَجْتَهِدُون فيه، إلا عِنْد توقُّعِ الفَوْزِ بالغنيمَةِ، وهذا كالزَّجْرِ عن هَذِه الأعْمَالِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 63 في اتِّصال [هذه] الآية وُجُوهٌ: أحدها: لما تقدَّمَ ذكر النِّساء والنُّشُوز، والمُصَالحَةِ بينهُنَّ وبين الأزْوَاج عَقبه بقيام أدَاءِ حقوق اللَّه - تعالى -، وفي الشَّهَادَةِ إحياء حقوقِ اللَّه؛ فكأنه قِيل: وإن اشْتغَلْتَ بتحصيلِ شهواتِكَ، كنت لِنَفْسِكَ، لا لِلَّه، [وإن اشتغَلْتَ بِتحْصِيل مأمُوراتِ اللَّه كنت للَّه، لا لِنَفْسِكَ] ، وهذا المقام أعلَى وأشْرَف، فكانت هَذِه الآية تأكيداً لِمَا تقدَّم من التَّكَالِيفِ. الثاني: أن اللَّه - تعالى - لمَّا منَع النَّاس عن اقْتِصَارِهم على ثَوَابِ الدُّنْيَا، وأمرهُم أنْ يَطْلُبوا ثواب الآخِرَة، عَقِّبَه بهذه الآيَةِ، وبَيَّنَّ أنَّ كمال سَعَادَة الإنْسَان، في أنْ يكون قولُه وفِعْلُه للَّه، وحركَتهُ للَّه، وسُكُونهُ للَّه؛ حتى يصير من الَّذِين يكُونُون في آخِر مَرَاتِب الإنْسَانِيّة، وأوَّل مراتب الملائِكَة، فإذا عَكَس القضيّة، كان مِثْل البَهِيمَة الَّتِي مُنْتهَى أمْرِها وُجْدَان عَلَفِها والشَّبَع. الثالث: أنه تقدَّم في هذه السُّورَة تَكَالِيفُ كَثِيرةٌ، فِأمرَ النَّاس بالقِسْط بقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى} [النساء: 3] ، وأمرهم بالإشْهَاد عِنْد دَفْع أمْوَال اليَتَامَى إليْهِم، وأمَرَهُم ببَذْلِ النَّفْسِ والمَالِ في سَبيلِ اللَّه، وذكر قِصَّة طعمة بن الأبَيْرِقِ، واجتماع قوْمه على الذَّبِّ عنه [بالكذب] والشَّهَادة على اليَهُودي بالبَاطِل، وأمر بالمُصَالَحَة مع الزَّوْجَة، وكلُّ ذلك أمْر من اللَّه لعبادِه بالقِيَام بالقِسْط، والشَّهَادَة [فيه] [للَّه] على كُلِّ أحَدٍ، فكانت هذه الآية كالمُؤكِّد لما تقدَّم من التَّكَالِيفِ. القَوَّامُ: مُبَالغة من قَائِم، والقِسْط: العَدْل، وهذا أمْر مِنه - تعالى - لجميع المكَلَّفِين، بأن يُبَالغُوا في العَدْل، والاحْتِرَازِ عن الجَوْر والمَيْل. قوله: «شُهَداءَ لِلَّه» فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه خَبرٌ ثَانٍ لكان، وفيه خِلاَف تقدَّم ذِكْرهُ. والثاني: أنه حَالٌ من الضَّمير المُسْتَكِنِّ في: «قوَّامينَ» فالعَامِل فيها: «قوَّامين» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 64 وقد ردَّ أبو حيَّان [هذا الوجه: بأنَّه يَلْزَم منه تقييدُ كونهم قوَّامين بحال الشَّهادَةِ، وهم مأمُورُون بذلك مُطْلَقاً] . وهذا الردُّ ليْس بِشَيْءٍ؛ فإن هذا المَعْنَى نَحَا إلَيْه ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: كُونُوا قوَّامِين بالعَدْل في الشَّهَادَة على من كانت، وهذا هُو مَعْنَى الوَجْه الصَّائِر إلى جَعْل شُهَداء حالاً. الثالث: أن يكون صِفَة ل «قوَّامين» ، ومَعْنَى قوله: «للَّه» أي: لِذَات اللَّه، ولوجْهِه ولمرْضَاتِه، وثَوَابِه. قوله: {وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ} «لو» هذه تَحْتَمل أنْ تَكُونَ على بَابِها من كَوْنِها حرفاً لما كان سَيَقعُ لوقُوعِ غَيْرِه، وجوابُها مَحْذُوفٌ، أي: ولو كُنْتثم شُهَدَاءَ على أنْفُسكم، لوجب عَلَيْكُم أن تَشْهدوا عليها. وأجاز أبو حيَّان أن تَكُونَ بمعنى: «إن» الشَّرطِيّة، ويتعلَّق قوله: «عَلَى أنْفُسِكُم» بمحذوفٍ، تقديرُه: وإن كنتم شُهَدَاء على أنْفُسِكم، فكونوا شُهَدَاءَ لله، هذا تَقْدِيرُ الكلام، وحذفُ «كان» بعد «لو» كَثِيرٌ، تقول: ائتِني بِتَمْر، ولو حَشَفاً، أي: وإن كان التَّمْر حشفاً، فأتني به. انتهى. وهذا لا ضرورةَ تدْعُوا إليه، ومجيءُ «لو» بِمَعْنى: «إنْ» شَيْء أثبته بعضهم على قِلَّة، فلا يَنْبَغي أن يُحْمَل القُرآنُ عليه. وقال ابْن عَطِيَّة: «عَلى أنْفُسِكُم» متعلِّقٌ ب «شهداء» . قال أبو حيان «فإنْ عَنَى ب» شُهَدَاءَ «المَلْفُوظ به، فلا يَصِحُّ، وإن عَنَى به ما قَدَّرْناه نَحْن، فيصِحُّ» يعني: تقديره: «لو» بمعنى: «إنْ» وحَذْفَ «كان» ، واسمِها، وخبرها بَعْد «لو» ، وقد تقدَّم أن ذَلِك قَلِيلٌ، فلم يبق إلا انَّ ابن عَطِيّة يريد «شُهَداءَ» مَحْذُوفةً؛ كما قَدَّرْتُه لك أولاً، نحو: «ولو كُنْتُم شُهَدَاء» على أنفسكم، لوجَبَ عليْكُم أن تَشْهَدُوا. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: «ولو كَانَتِ الشَّهَادةُ على أنفسكُم» فجَعَل «كَان» مُقَدَّرةً وهي تَحْتَمِلُ في تَقْدِيره التَّمَام والنُّقْصَان: فإنْ قدَّرْتَها تَامةً، كان قوله «على أنْفُسِكُم» متعلِّقاً بنفسِ الشَّهَادة، ويكون المَعْنَى: «ولو وُجِدَتِ الشهادةُ على أنْفُسِكُم» وإن قدَّرْتَها نَاقِصَةً، فيجوزُ أنْ يكون «على أنْفُسِكُم» متعلِّقاً بمَحْذُوفٍ على أنَّه خَبرُهَا، ويجُوز أن يكُون متعلِّقاً بنفس الشَّهادة، وحينئذ يكُون الخَبَر مقدَّراً، والمَعْنَى: «ولو كَانَتِ الشَّهَادةُ على أنْفُسِكُم موجُودةً» إلا أنَّه يلزمُ مِنْ جَعْلِنا «على أنْفُسِكُم» متعلِّقاً بالشَّهادة، حذفُ المَصْدرِ وإبقاءُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 65 معْمُولِه، وهو قليل أو مُمْتَنِع، وقال أيضاً: «ويجُوز أن يكُون المَعْنَى: وإن كانتِ الشَّهَادة على أنْفُسِكُم» . ورَدَّ عليه [أبو حيَّان] هَذَيْن الوجْهَيْنِ فقال: «وتقديرُه: ولو كانت الشَّهادة على أنْفُسِكُم ليس بجيِّد؛ لأن المحْذُوفَ إنما يكون من جِنْس المَلْفُوظ به؛ ليدلَّ عليه، فإذا قُلْت:» كن مُحْسِناً، ولو لمَنْ أساء إليك «، فالتقدير: ولو كنت مُحْسِناً لمَنْ أساء، ولو قَدَّرْتَه:» ولو كان إحْسَانُك «لم يكن جَيِّداً؛ لأنك تَحْذِف ما لا دلالة عليه بِلَفْظٍ مُطَابِقٍ» . وهذا الردُّ لَيْس بشيء، فإن الدِّلالة اللَّفظِيّة موجودةٌ؛ لاشتراكِ المَحْذُوفِ والمَلْفُوظ به في المَادَّة، ولا يَضُرُّ اختلافُهما في النَّوْع. وقال في الوجه الثاني: «وهذا لا يجُوز؛ لأن ما تعلَّق به الظَّرْف كونٌ مقيدٌ، والكونُ المُقَيَّد لا يجُوز حَذْفُه، بل المُطْلَقُ، لو قلت: كَان زَيْد فِيك، تعني: مُحِبّاً فيك، لَمْ يَجُز» . وهذا الرَدُّ أيضاً لَيْس بِشَيْءٍ؛ لأنه قصد تَفْسير المَعْنَى، ومبادئُ النَّحْو لا تَخْفَى على آحادِ الطَّلبة، فكيف بِشَيْخِ الصِّنَاعَة. فصل شَهَادة الإنْسَان على نَفْسِه لها تَفْسِيران: أحدُهما: أن يُقِرَّ عَلَى نَفْسه؛ لأن الإقْرَار كالشَّهَادَةِ في كونه مُوجِباً إلْزَام الحَقِّ. الثاني: أن يكون المُرَادُ: ولو كَانَت الشَّهَادة وبالاً على أنْفُسِكُم، أو على الوالدين والأقْرَبين، فأقِيمُوها عليْهم، ولا تُحابُوا غَنِيّاً لِغِنَاهُ، ولا ترحموا فقيراً لِفَقْرِهِ، وهو قوله: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} أي: أقِيمُوا على المَشْهُود عليه وإن كان غَنِيّاً وللمَشْهُود له وإن كان فقيراً، فاللَّه أوْلى بِهِمَا منكم، أي: كِلُوا أمْرَهُم إلى اللَّه - تعالى -. وقال الحَسَن: اللَّه أعْلَم بهما. قال القُرْطُبِيُّ: «قَوَّامين» بناء مُبَالَغَة، أي: ليتكَرَّر منكم القِيَام بالقِسْط وهو العَدْل في شَهَادَتِكُم على أنْفُسِكُم، وشهادة المَرْء على نفْسِه: إقرَارهُ بالحُقُوق عليها، ثم ذكر الوالِدَيْن؛ لوجوب بِرِّهِما، وعظم قَدْرِهمَا، ثم أتَى بالأقْرَبين؛ إذْ هُم مَظَنَّة المَودَّة والتَّعَصُّب، وجاءَ الأجْنَبِيُّ الآخر؛ لأنه أحْرَى أن يَقُوم [عليه] بالقِسْطِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 66 فصل إنما قدَّم الأمْر بالقِيَام بالقسط على [الأمْر] بالشَّهادة لِوُجُوه: أحدُهَا: أن أكْثَر النَّاس عادتهم أنَّهم يَأمُرُون غَيْرَهُم بالمَعْرُوفِ، فإذا آل الأمْر إلى أنْفُسِهِم، تركوه حتى إنَّ قُبْحَ القَبِيحِ إذا صَدَر عنهم، كان في مَحَلِّ المُسَامَحَة وأحْسَنَ الحُسْن، إذا صَدَرَ عن غَيْرِهم، كان في مَحَلِّ المُنَازَعة، فاللَّه - تعالى - نبّه في هذه الآية على سُوءِ الطَّرِيقَة، بأنْ أمره بالقِيَام [بالقِسْطِ] أوّلاً، ثم أمَرَهُ بالشَّهَادة على غَيْرِه ثَانِياً، تنبيهاً عَلَى أن الطَّرِيقَة الحَسَنة هي أن تكُون مُضَايَقَة الإنْسَان مع نَفْسِه [فَوْق] مُضايقته مع الغَيْر. وثانيها: أنَّ القِيام بالقِسْط: هو دَفْع ضَرَر العِقَاب عن النَّفْسِ، وإقَامَة الشَّهَادة، سعي في دَفْع ضَرَر العِقَاب عن الغَيْر، وهو الَّذِي عَلَيْه الحَقُّ، ودفع الضرر عن النَّفْسِ مُقَدَّم على دَفْع الضَّرَر عن الغَيْرِ. وثالثها: أن القِيَام بالقِسْطِ فعل، والشَّهادة قول [والفِعْل أقْوى من القَوْل] . فإن قِيل: فقد قدَّم الشَّهادة على القِيام بالقسْطِ في قوله: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط} [آل عمران: 18] . فالجواب: أنَّ شهادَةَ الله عبارَةٌ عن كونه مُرَاعِياً للعَدْل، ومُبَايِناً للجَوْر، ومعلوم: أنَّه ما لم يكن الإنْسَان كذلك، لم يُقْبَل شَهَادتُهُ على الغَيْر؛ فلهذا كان الوَاجِبُ في قوله: «شَهِدَ اللَّه» ] أن يقدِّم تلك الشَّهادة على القِيَامِ بالقِسْطِ، والواجِبُ هُنَا: أن تكُون الشَّهادة متأخِّرَة عن القِيَامِ بالقِسْطِ. قوله: {إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فالله أولى بِهِمَا} إذا عُطِف ب «أوْ» كان الحُكْمُ في عَوْدِ الضَّمِير، والإخْبَارِ، وغيرهما لأحدِ الشَّيْئَيْن أو الأشياء، ولا يجُوزُ المُطابَقَةُ، تقول: «زَيْد أو عَمْروا أكْرمتهُ» ولو قُلْتَ: أكرمتهُمَا، لم يَجُز، وعلى هذا يُقال: كيف ثَنَّى الضَّمِير في الآية الكَرِيمَةِ، والعطف ب «أو» ؟ لا جَرَم أن النَّحْويِّين اختلَفُوا في الجواب عن ذلك على خَمْسَةِ أوْجُه: أحدُها: أنَّ الضَّمِير في «بهما» ليس عَائِداً على الغَنِيِّ والفقير المَذْكُورين أولاً، بل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 67 على جنْسَي الغني والفَقِير المدلُولِ عليهما بالمَذْكُورَيْن، تقديرُه: وإنْ يكنِ المشهُودُ عليه غَنِيًّا أو فقيراً، فليشْهَد عليه، فاللَّهُ أوْلى بجنْسَي الغنيِّ والفقيرِ؛ ويَدُلُّ على هذا قِراءة أبَيِّ: «فاللَّه أوْلَى بِهِمْ» أي: بالأغنياء والفقراءِ مراعاةً للجِنْسِ على ما قَرَّرته لَك، ويكون قوله: «فالله أولى بِهِمَا» ليس جواباً للشرط، بل جَوابُه مَحْذُوفٌ كما قَدْ عَرَفْتَه، وهذا دالٌّ عليه. الثاني: أنَّ «أو» بمعنى: الواو؛ ويُعْزى هذا للأخْفش، وكنت قدَّمْتُ أوّلَ البقرة: أنه قولُ الكوفيين، وأنه ضعيفٌ. الثالث: أن «أو» : للتَّفْضِيل أي: لتفصيلِ ما أبْهِم، وقد أوضح ذلك أبُو البقاء، فقال: «وذلك أنَّ كلَّ واحدٍ من المَشْهُود عليه والمشهود له، قد يكُون غنيًّا، وقد يكُون فقيراً، وقد يكونان غَنِيَّيْنِ، وقد يكونان فَقَيرَيْن، وقد يكون أحَدُهُمَا غنيّاً والآخر فَقِيراً؛ فلما كَانتِ الأقسام عند التَّفْصِيل على ذلك، أُتِي ب» أو «، لتَدُلَّ على التَّفْصِيل؛ فعلى هذا يكون الضَّمِير في» بهِما «عائداً على المَشْهُود له والمشهود عليه، على أيِّ وصفٍ كانا عليه» انتهى؛ إلا أنَّ قوله: «وقد يكون أحَدهُمَا غنيّاً والآخر فَقِيراً» مكرَّرٌ؛ لأنه يُغْني عنه قوله: «وذَلِك أنَّ كلَّ وَاحِد» إلى آخره. الرابع: أنَّ الضَّمِير يعود على الخَصْمَيْن، تقديره: إن يكُن الخصمان غنيّاً أو فقيراً، فالله أوْلى بِذَينك الخصمين. الخامس: أن الضَّمير يعود على الغَني والفَقير المدْلُول عليهما بلَفْظ الغنّي والفقير، والتقديرُ: فاللَّهُ أولى بغنى الغني وفقر الفقير، وقد أساء ابن عصْفُور العِبَارة هنا بما يُوقفُ عليه في كلامه، وعلى أربعة الأوجهِ الأخيرة يكونُ جوابُ الشَّرط ملفوظاً به، وهو قوله: {فالله أولى بِهِمَا} بخلاف الأوَّل؛ فإنه مَحْذُوفٌ. وقرأ عبد الله بن مسعود: «إن يَكُنْ غنيٌّ أو فقيرٌ» برفعهما، والظَّاهرُ أنَّ «كان» في قراءته تامةٌ، أي: وإنْ وجِد غِنِيٌّ أو فقير، نحو: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ} [البقرة: 280] . قوله: {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى} أي: اتركُوا متابعة الهَوَى؛ حتى توصَفُوا بالعَدْل؛ لأنَّ العدل عِبارة عن تَرْك مَتَابعة الهَوَى، ومن تَرَك أحَد النَّقِيضَيْن، فقد حَصَل له الآخَر. قوله: «أنْ تَعْدِلُوا» فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدُها: أنه مَفْعُولٌ مِنْ أجله على حَذْفِ مضافٍ، تقديره: فلا تتَّبِعُوا الهوى محبةَ أنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 68 تَعْدِلوا، أو إرادةَ أنْ تَعْدِلوا، أي: تَعْدِلوا عن الحَقِّ وتجُوروا. وقال أبو البقاء في المضافِ المحذوف: «تقديره: مخافة أن تَعْدلوا عن الحَقِّ» . وقال ابن عَطِيَّة: «يُحْتمل أن يكُونَ مَعْناه: مخافة أن تَعْدِلوا، ويكُون العَدْلُ هنا بِمَعْنى: العُدول عن الحَقِّ، ويُحْتمل أن يكُونَ معناه: مَحَبة أنْ تُقْسِطُوا، فإنْ جعلْتَ العَامِل» تَتَّبِعُوا «فيحتمل أن يكونَ المَعْنَى: محبةَ أنْ تجُوروا» انتهى؛ فتحصَّل لنا في العَامِل وجهان: الظاهرُ منهما أنه نَفْسُ «تتبعوا» . والثاني: أنه مُضْمَر، وهو فعلٌ من مَعْنَى النهي؛ كما قدَّره ابنُ عطيَّة، كأنه يزْعمُ أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله: {فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى} ثم أضْمَرَ عَامِلاً، وهذا ما لا حَاجَة إليه. الثاني: أنه على إسْقَاطِ حرْفِ الجَرِّ، وحذْفِ «لا» النَّافِية، والأصْل: فلا تتَّبعوا الهَوَى في ألاَّ تَعْدِلوا، أي: في تَرْكِ العَدْل، فحذف «لا» لدلالة المَعْنَى عَلَيْهَا، ولمَّا حَذَف حَرْفَ الجر من «أنْ» جرى القَوْلان الشَّهِيرَان. الثَّالث: أنه عَلَى حَذْفِ لام العِلَّة، تقديرُه: فلا تتبعوا الهوى؛ لأن تَعْدِلوا. قال صَاحِب هذا القول: «والمعنى: لا تتبعُوا الهوى؛ لتكونوا في اتِّباعِكُمُوه عدُولاً، تنبيهاً على أن اتباعَ الهوى وتَحَرِّي العدالةِ مُتَنَافيان لا يجتمعان» وهو ضَعِيفٌ في المَعْنَى. قوله: «وَإِن تَلْوُوا» قرأ ابن عامرٍ، وحمزة: «تَلُوا» بلامٍ مَضْمُومةٍ وواوٍ ساكنة، والبَاقُون: بلامٍ ساكنةٍ وواوَيْن بعدهَا، أولاهُمَا مَضْمُومة. فأمَّا قراءةُ الوَاوَيْن، فظاهرةٌ؛ لأنه من لَوَى يَلْوي، والمعْنَى: وإنْ تَلْووا ألسِنَتِكُم عن شهادةِ الحَقِّ أو حكومَةِ العَدْل، والأصْلُ: تَلْوِيُون كتَضْرِبون، فاستُثْقِلَت الضَّمَّةُ على اليَاءِ فحُذفت، فالتقى سَاكِنَان: الياء وَوَاو الضَّمِير، فحُذِف أوّلُهما - وهو الياء - وضُمَّت الواوُ المكْسُورةُ التي هِيَ عَيْن لأجْل واوِ الضميرِ، فصار: تَلْوُون، وتصريفُه كتصريف «تَرْمُونَ» . فإن كان عَنِ الشَّهادة، فالمَعْنَى: يحرِّفُوا الشَّهادة؛ ليُبْطِلُوا الحقَّ، من قولهم: لوى الشيء، إذا فتله، ومنه يُقَال: التَوَى هذا الأمْر، إذا تَعَقَّد وتعسَّرَ، تشبيهاً بالشَّيْءِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 69 المُنْفَتِل، أو تُعْرِضُوا عنها فَتَكْتُمُوهَا، أو يُقَال: تَلْوُوا في إقامة الشَّهَادة إذا تَدَافَعُوا، يقال: لَوَيْتُه حَقَّه؛ إذا دَفَعْتَه وأبْطلْتَه. وإن كان عَنَى الحُكْم بالعَدْل، فهو خِطَاب للحُكَّام في لَيِّهم الأشداق، يقول: «وَإِن تَلْوُواْ» أي: تميلُوا إلى أحَدِ الخَصْمَيْن، أو تُعْرِضُوا عنه. وأما قراءة حمزة وابنِ عامرٍ، ففيها ثلاثة أقوال: أحدُها: وهو قول الزَّجَّاج، والفراء، والفارسي في إحدى الرِّوايَتَيْن عنه - أنه من لَوَى يَلْوي؛ كقراءة الجماعة، إلاَّ أنَّ الوَاوَ المَضْمُومةَ قُلِبَتْ هَمْزةً؛ كقلبها في «أجُوه» و «أُقِّتَتْ» ، ثم نُقِلت حركةُ هذه الهَمْزةِ إلى السَّاكن قَبْلَها وحذفت، فصار: «تَلُون» كما ترى. الثاني: أنه من لَوَى يَلْوي أيضاً، إلا أن الضَّمَّة استُثْقِلَتْ على الواو الأولى فنُقِلت إلى اللام السَّاكِنَة تَخْفِيفاً، فالتقى ساكِنَان وهما الواوان، فحُذِف الأوَّل مِنْهُما، ويُعْزى هذا للنَّحَّاسِ، وفي هَذَيْن التخريجَيْن نظرٌ؛ وهو أنَّ لامَ الكَلِمَة قد حُذِفَتْ أولاً كما قَرَّرْته، فصار وَزْنُه: تَفْعُوا، بحذف اللاَّم، ثم حُذِفت العَيْنُ ثانياً، فصار وزنه: تَفُوا، وذلك إجْحَافٌ بالكلمة. الثالث: ويُعْزى لجَمَاعةِ منهم الفَارسيُّ - أن هذه القِرَاءة مأخُوذة من الولاية، بمعنى، وإنْ وُلِّيتم إقَامة الشَّهَادة أو وُلِّيْتُم الأمرَ، فتَعْدِلُوا عنه، والأصل: «تَوْلِيُوا» فحذفت الواوُ الأولى لِوُقُوعِها بين حَرْفِ المُضَارَعَةِ وكسرةٍ، فصار: «تَلِيُوا» كتَعِدُوا وبَابِه، فاستثقلت الضَّمَّةُ على الياءِ، ففُعِل بها ما تَقَدَّم في «تَلْوُوا» ، وقد طَعَنَ قومٌ على قِرَاءة حَمْزة وابن عامرٍ - منهم أبو عُبَيْد - قالوا: لأنَّ معنى الوِلاَية غيرُ لائقٍ بهذا المَوْضِع. قال أبو عبيد: «القراءةُ عندنا بوَاوَيْن مأخوذةٌ من:» لَوَيْتُ «وتحقيقه في تفسيرِ ابن عبَّاسٍ: هو القَاضِي، يكُونُ لَيُّه وإعراضُه عن أحد الخَصْمَيْن للآخر» وهذا الطعنُ ليس بِشَيْء؛ لأنها قراءةٌ متَواتِرَةٌ ومعناها صَحيحٌ؛ لأنَّه إن أخَذْناها من الوِلاَية كان المَعْنَى على ما تقدَّم، وإن أخذناها مِنَ الليِّ، فالأصلُ: «تَلْوُوا» كالقراءة الأخْرى، وإنما فُعِل بها ما تَقَدَّم من قَلْبِ الوَاوِ هَمْزةً ونَقْل حركتها، أو من نَقْلِ حَرَكَتِها من غير قَلْبٍ، فتتَّفِقُ القراءَتَان في المَعْنَى. ثم قال: {فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً} وهذا تهديدٌ ووعيدٌ للمذنِبِين، ووعد بالإحْسَان للمُطِيعينَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 70 في اتَّصال هذه الآية بما قَبْلَها وَجْهَان: أحدُهما: أنَّها مُتِّصِلةٌ بقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط} [النساء: 135] لأن الإنْسان لا يكون قَائِماً بالقِسْط، إلا إذا كان راسخاً في الإيمان بالأشْيَاء المَذْكُورة في هَذِه الآيَة. الثاني: أنه - تعالى - لمَّا بين الأحْكَام الكَثِيرة في هَذِه السُّورة، ذكر عَقِيبَهَا الأمر بالإيمانِ، وفي هذا الأمْر وُجُوه: أحدُها: قال الكَلْبِيُّ، عن أبِي صَالح، عن ابن عبَّاسٍ: نزلت هذه الآيَة في عَبْد اللَّه ابن سلام، وأسد وأسَيْد ابْنَيْ كَعْب، وثَعْلَبَة بن قَيْس، وسلام ابن أُخْت عَبْد الله بن سلام، وسلَمة ابن أخِيه، ويامِين بن يَامِين، فَهُؤلاء مُؤمِنُوا أهْل الكِتَاب أتوا رسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقالوا: إنَّا نُؤمِنُ بك، وبِكتابِك، وبِمُوسى، [والتَّوْرَاة] وبِعُزَيْر، ونكفر بما سِوَاه من الكُتُب والرُّسُل، فقال لهم النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بل آمِنُوا باللَّه، ورسُوله محمَّد، والقُرْآن، وبكل كِتَابٍ قَبْلَه» فقالوا: لا نَفْعَل «، فأنزل اللَّه: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} يعني: بمحمّد [والقُرآن] وبموسى والتَّوْرَاة، {آمنوا بالله ورسوله} : محمد {والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ} : من التَّوْراة، والإنْجِيل، والزَّبُور، وسائر الكُتُب؛ لأن المراد بالكِتَاب الجنس. وقيل: الخِطَاب مع المُنَافِقِين، والتَّقْدير: يأيُّهَا الذين آمَنُوا باللِّسان، آمنوا بالقَلْب، ويؤيده قوله - تعالى -: {مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} [المائدة: 41] . وقيل: خِطَاب مع الَّذِين آمَنُوا وَجْه النَّهَار، وكَفَرُوا آخِره، والتقدير: يأيُّهَا الَّذِين آمَنُوا وجْه النَّهارِ، آمنوا آخِره. وقيل: الخطاب للمُشْرِكين، تقديره: يأيُّها الذين آمَنُوا باللاَّتِ والعُزَّى، آمِنُوا. وقيل: المعنى: يأيها الذين آمَنُوا، دُومُوا على الإيمان، واثْبُتُوا عليْه، أي: يأيُّها الذين آمَنُوا في المَاضِي والحَاضِر، آمِنُوا في المُسْتَقْبَل؛ كقوله: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلأ الله} [محمد: 19] مع أنه كان عَالِماً بذلك. وقيل: المُراد ب» الذين آمَنُوا «: جميع النَّاس، وذلك يوم أخذ عَلَيْهم المِيثَاق. وقيل: يا أيُّها الَّذِين آمَنُوا على سبيل التَّقْلِيدِ، آمِنُوا على سبيل الاسْتِدْلاَل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 71 وقيل: يا أيها الَّذِين آمَنُوا بِحَسَب الاسْتِدْلاَلات الإجْمَاليَّةِ، آمِنُوا بحسَبِ الدَّلائل التَّفْصيليَّة. وقرأ نافعُ والكوفيون:» والكتاب الَّذِي نزَّل على رَسُوله والكِتَاب الذي أنْزل من قبل «على بناء الفِعْليْن للفَاعِل، وهو الله - تعالى -، [وابن كثير، وابن عامر، وأبو عمرو:] على بنائهما للمَفْعُول، والقائمُ مقامَ الفَاعِل ضَمِير الكِتَاب. وحُجَّة الأوَّلِين: قوله - تعالى -: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9] ، وقوله {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر} [النحل: 44] ، وحجة الضم: قوله - تعالى -: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، وقوله: {يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ [مِّن رَّبِّكَ بالحق] } [الأنعام: 114] . قال بعض العلماء: كلاهما حَسَن، إلا أن الضَّمَّ أفْخَمُ، كقوله: {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ} [هود: 44] . وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قُلْتَ [لِمَ] قال: {نَزَّلَ على رَسُولِهِ} ، و {أَنَزلَ مِن قَبْلُ} ؟ . قلت: «لأنَّ القرآن نَزَل مُنَجَّماً مفرَّقاً في عِشْرِين سَنَة، بخلاف الكُتُب قَبْله» ، وقد تَقَدَّم البَحْث معه في ذَلِكَ، عند قوله - تعالى -: {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التوراة} [آل عمران: 3] وأن التَّضْعِيف في «نزَّلَ» للتَّعْدِية، مرادفٌ للهَمْزَة لا للتَّكْثِير. فصل اعلم: أنه [تعالى] أمَرَ في هذه الآيَة بالإيمَانِ بأرْبَعة أشْيَاء: أوّلها: بالله. وثانيها: برسوله. وثالثها: بالكتاب الذي نزَّل على رسُوله. ورابعها: [الكتاب الَّذِي أنْزَل من قَبْل. وذكر في الكُفْر أمُوراً خَمْسةً: أولها: الكُفْر باللَّه. وثانيها: الكُفْر بملائِكَتِهِ. وثالثها: الكُفْر بكُتُبِه] . ورابعها: الكُفْر برسُله. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 72 وخامسها: الكُفْر باليوم الآخر. ثم قال: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} وهاهنا سُؤالات: السُّوال الأوَّل: لِمَ قدَّم في مراتب الإيمانِ ذكر الرَّسُول على ذكر الكِتَابِ، وفي مراتب الكُفْر قَلَب القضيَّة؟ . والجواب: لأن في مرتبة النُّزُول من الخَالِق إلى الخَلْق كان الكتاب مقدماً على الرسول، وفي مرتبه العُرُوج من الخَلْق إلى الخَالِقِ، يكُون الرَّسُول مُقَدَّماً على الكِتَاب. السُّؤال الثَّاني: لِمَ ذكر في مراتب الإيمان أموراً ثلاثة: الإيمان بالله، وبالرسل، وبالكتب، وذكر في مَرَاتِب الكُفْر [أموراً خَمْسَة: الكُفْر] باللَّه، وبالملائكة، وبالرُّسُل، [وبالكُتُب] ، وباليَوْم الآخِر؟ . والجواب: لأنَّ الإيمان [باللَّه و] بالرُّسُل، وبالكُتُب متى حَصَل، فقد حَصَل الإيمان بالملائِكَة، وباليوم الآخر لا مَحَالَة، إذ رُبَّما ادّعى الإنْسَان أنه يُؤمِن باللَّه، وبالرُّسُل، وبالكُتُب، ثم إنَّه يُنْكِرُ الملائكة، وينكر اليَوْم الآخر، ويزعم أنَّ الآيات الوَارِدَة في المَلائكة وفي اليوم الآخر، مَحْمُولَة على التَّأوِيل. فلما احتمل هذا؛ لا جرم نصَّ على أن مُنْكِر المَلاَئِكَة، ومنكر اليَوْم الآخِر، كافرٌ باللَّه. السؤال الثالث: كيف قِيلَ لأهلِ الكِتَاب: {والكتاب الذي أَنَزلَ مِن قَبْلُ} مع أنهم كانوا مُؤمنين بالتوراة والإنجيل؟ . والجواب: ما تقدَّم من أن المراد بالكِتَاب: الجنس، فأمِرُوا أن يُؤمِنُوا بكل الكُتُب؛ لأنَّهم لم يُؤمِنُوا بكُلِّها؛ كما قالوا: نُؤمِنُ بِبَعْضٍ ونكْفُر ببعضٍ، وأما قوله: {فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} ليس جواباً للأشياء المَذْكُورة، بل المعنى: ومنْ يكْفُرْ بواحدٍ مِنْهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 لما أمر بالإيمان، ورغَّب فيه، بَيَّن فساد طَرِيقة من يَكْفُر بعد الإيمَان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 73 قال قتادة: هم اليَهُود؛ آمَنُوا بِمُوسى، ثم كفروا من بعد بعبادتهم العجل، [ثم آمَنُوا بالتَّوْراة] ، ثم كَفَرُوا بعيسى - عليه السلام -، ثم ازدادُوا كُفْراً بمحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: هو في جَمِيع أهْل الكِتَاب آمَنُوا بِنَبِيِّهم، ثم كَفَرُوا به، وآمَنُوا بالكِتَاب الذي نُزِّل عليه، ثم كَفَرُوا به، وكفرهم به: تركهم إيَّاه، أي: ثم ازْدَادُوا كفراً بمحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: هذا في قَوْم مُرْتَدِّين، آمَنُوا ثم ارتَدُّوا، ومثل هذا هل تقبل تَوْبتهُ؟ حُكِي عن عَلِيٍّ: أنه لا تُقْبَل تَوْبَته، بل يُقْتَل؛ لقوله - تعالى -: {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} وذلك لأن تَكْرَار الكُفْر منهم بعد الإيمان مراتٍ، يدلُّ على أنَّه لا وَقْع للإيمَانِ في قُلُوبهم، إذ لو كان للإيمان وَقْعٌ في قُلُوبهم، لما تركُوهُ بأدْنى سَبَب، ومن كان كَذَلِك، فالظَّاهر أنَّه لا يُؤمِن إيماناً صَحِيحاً، فهذا هُو المُرادُ بقوله: {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} وليس المُرَادُ، أنه لو أتى بالإيمَان الصَّحِيح، لم يكُن مُعْتَبَراً، بل المراد مِنْهُ: الاستِبْعَاد، وأكثر أهْل العِلْم على قُبُول تَوْبَتِه. وقال مُجَاهِدٌ: {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} أي: مَاتُوا عليه، {لم يكن الله ليغفر لهم} : ما أقامُوا على ذلك، {ولا ليهديهم سبيلا} أي: طريقاً إلى الحَقِّ. وقيل: المُراد طائِفَة من أهل الكِتَاب، قَصَدوا تَشْكِيك المُسْلِمينَ، فكانوا يُظْهِرونَ الإيمانَ تارةً والكُفْر تارةً أخْرى، على ما أخْبَر اللَّه - تعالى - عنهم قولهم: {آمِنُواْ [بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ] وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [آل عمران: 72] وقوله: {ثُمَّ ازدادوا كُفْراً} أن بَلَغُوا في ذلك إلى حدِّ الاسْتِهْزَاء، والسُّخْرية بالإسْلامِ. فصل دلَّت الآية على أنَّ الكُفْر يقبل الزِّيادة والنُّقْصَان؛ فوجَب أنْ يَكُونَ الإيمان كَذلك؛ لأنهما ضِدَّان متنافِيَانِ؛ فإذا قَبِلَ أحدُهُما التَّفَاوُت، فكذلك الآخَر. فإن قيل: الحُكْم المَذْكُور في هذه الآية: إمَّا أن يكون مَشْرُوطاً بما قبل التَّوبة، أو بما بَعْدَها. والأوَّل: باطِلٌ؛ لأن الكُفْر قبل التَّوْبَة غير مَغْفُور على الإطْلاق، وحينئذٍ تضيع الشُّروطُ المَذْكُورَة. والثاني: باطل؛ لأن الكُفْر [يُغْفَر] بعد التَّوْبَة، ولو كَانَ بعد ألْفِ مَرَّة، فعلى التَّقْديرين يلزم السُّؤالُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 74 والجوابُ من وُجُوه: أحدها: ألا نَحْمِل قوله: «إنَّ الَّذين» على الاسْتِغْرَاق، بل على المَعْهُود السَّابق، وهم أقْوام مُعَيَّنُون علم الله أنَّهم يَمُوتون على الكُفْر، ولا يَتُوبون عَنْه، فقوله: {لَّمْ يَكُنْ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} إخبار عن مَوْتِهِم على الكُفْر. وثانيها: أن الكلام خَرَج على الغَالِب المُعْتَاد، فإن كان كَثِير الانْتِقَال من الإِسْلاَم إلى الكُفْر، لم يكن للإيمان في قَلْبِه وَقْع، ولا وَجَد حلاوَةَ الإيمان كما تقدَّم، والظَّاهِر ممن حاله هذا أنَّه يمُوت كَافراً. وثالثها: أن الحُكْم على المَذْكُورِ في الآية مَشْرُوطٌ بعدم التَّوْبة عن الكُفْر، وقول السائل إنَّه على هذا التَّقْدير تَضْييعُ الصِّفات المَذْكُورَة. قلنا: إنَّ إفْرادَهُ بالذِّكْر يدلُّ على أن كُفْرَهُم أفْحَش، وخيانتهم أعْظَم، وعُقُوبتهم في القِيَامَة أوْلَى، فجرى مُجْرَى قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] خصَّهُما بالذِّكر لأجل التشريف، وكقوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . فإن قيل: اللاَّم في قوله: «لِيَغْفِرَ لَهُم» : للتأكيد، وهو غَيْر لائقٍ بهذا المَوْضِع، وإنَّما اللائِق به تَأكيد النَّفْي. فالجواب: إن نفي التَّأكيد على سَبِيل التَّهَكُم مُبَالَغَة في تَأكِيد النَّفْي، وهذه اللاَّم تُشْبِه اللاَّم في قوله: {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين} [آل عمران: 179] ، تقدَّم الكلام فيه، ومَذَاهب النَّاس، وأن لاَمَ الجحود تُفِيد التَّوْكِيد، والفرق بَيْن قَوْلك: «مَا كَانَ زَيْد يَقُوم» ، و «ما كانَ لِيَقُوم» . قوله: {ولا ليهديهم سبيلاً} يدلُّ على أنه - تعالى - لم [يَهْدِ] الكافرين إلى الإيمَانِ. وقالت المُعْتَزِلَةُ: هذا مَحْمُول على زِيَادة الألْطَاف، أو عَلَى أنَّه لا يَهْدِيهم إلى الجَنَّة في الآخِرة. قوله {بشر المنافقين بأن لهم عذاباً أليماً} البشارة: كل خبرٍ تتغيَّرُ به بشرَةُ الوجْهِ، سارّاً كان أو غَيْر سَارٍّ. وقال الزَّجَّاج: مَعْنَاه: اجعل في مَوْضع بِشَارتك لَهُم العَذَاب، كما تقول العرب: «تحيتك الضَّرْبُ وعِتَابُكَ السَّيْفُ» ، أي: بَدَلاً لكُم من التَّحِيَّةِ، ثم وصَفَ المُنَافِقِين، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 75 فقال: {الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين} يعني: يتَّخذون اليَهُود والنَّصَارى أولياء، وأنْصاراً، وبِطَانة من دُون المُؤمنين، كان المُنَافقُون يوادُّونَهُم، ويقول بَعْضهم لبَعْضٍ: إن أمر محمَّد لا يَتِمُّ. قوله: «الَّذِين» يجُوز فيه النَّصْب والرَّفْع، فالنصب من وَجْهَيْن: أحدهما: كونه نعتاً للمُنَافِقِين. والثاني: أنه نَصْب بفعلٍ مُضْمَر، أي أذمُّ الَّذِين، والرَّفْع على خَبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: هم الَّذِين. فصل قال القُرْطُبِيُّ: وفي الآيَة دَلِيلٌ على أنَّ من عَمِل مَعْصِيَةً من الموحّدين، ليس بمنافِقٍ؛ لأنَّه لا يتولّى الكُفَّار، وتضمنت المَنْع من مُوالاة الكُفَّار، وأنْ يتَّخِذُوا أعْواناً على الأعْمال المُتَعَلِّقة بالدِّين، وفي الصَّحيح عن عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «أنّ رجلاً من المُشْرِكين لحق بالنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُقَاتِل مَعَه، فقال: ارجعْ، فإنَّنا لا نَسْتَعِين بِمُشْرِكٍ» . قوله: {أيبتغون عندهم العزة} أي: المَعُونة، والظُّهور على محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه، وقيل: أيطلبون عندهُم القُوَّة، والغَلَبة، والقُدْرة. قال الواحدي: أصَلُ العِزَّة في اللُّغَة: الشِّدَّة، ومنه: قيل: للأرْضِ [الصَّلْبَة] الشَّديدة: عزَاز ويقال: قد استَعَزَّ المرضُ على المَرِيضِ: إذا اشتدَّ مَرَضُه وكاد أن يَهْلَكَ وعَزَّ الهَمُّ إذا اشْتَدَّ، ومنه: [عَزَّ] عليَّ أن يكُون كذا بِمَعْنَى: اشتَدَّ، وعز الشَّيْء: إذا قلَّ حتى لا يَكُادُ يُوجَد؛ لأنه اشتدَّ مطلبُهُ، واعتز فلانٌ بفلان: إذا اشتَدَّ ظَهْرُه به، وشاةٌ عَزُوزٌ: إذا اشتَدَّ حَلْبُها، والعِزَّة: القُوَّة، منقولة عن الشِّدَّة؛ لتقارب مَعْنَيْهما، والعَزِيز: القوي المَنِيع بخلاف الذَّلِيل، فالمُنَافِقُون كانوا يَطْلبون العِزَّة والقُوَّة، بسبب اتِّصالهم باليَهُود، فأبطل اللَّه عَلَيْهم هذا الرَّأي بقوله: {فإن العزة لله جميعاً} . والثاني: قوله: «فإن العزة» لِما في الكلام من معنى الشَّرْط، إذ المَعْنَى: إن إن تَبْتَغُوا من هَؤلاء عِزَّةً {فإن العزة لله جميعاً} ، «جَمِيعاً» : حال من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في قوله: «لِلَّه» لوُقُوعهِ خَبَراً، [والمعنى: أنَّ العِزَّة ثبتَتْ لِلَّه - تعالى - حالة كونها جَمِيعاً] . فإن قيل: هذا كالمُنَاقض لقوله: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 76 فالجواب: أن القُدْرة الكامِلَة للَّه، وكل من سِوَاه فبإقداره صَار قادراً، وبإعْزَازه صارَ عَزِيزاً، فالعِزَّة الحَاصِلة للرسُول وللمُؤمنين لم تحصل إلا من اللَّه - تعالى -، فكان الأمْر عند التَّحْقِيقِ: أنَّ العِزَّة للَّه جَمِيعاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 قرأ الجماعة: «نُزِّل» مبنياً للمفعول، وعاصم ويعقوب قَرَآه «نَزَّلَ» مبنياً للفاعِل، وأبو حَيْوة وحُميد: «نَزَل» مخففاً مَبْنياً للفاعِل، والنخعي: «أُنْزِل» بالهَمْزَة مبنياً للمفعُول. والقائمُ مقامَ الفاعِل في قراءة الجَمَاعة والنَّخعي، هو «أنْ» وما في حيِّزها، أي: وقد نَزَّل عليْكُم المَنْعَ من مُجَالستِهِم عند سَماعِكم الكُفْر بالآيَات، والاسْتِهْزَاء بها. وأمّا في قراءة عاصمٍ: ف «أنْ» مع ما بعدها في مَحَلِّ نصبٍ مفعولاً به ب «نزَّل» ، والفاعل ضميرُ الله - تعالى - كما تقدَّم. وأما في قِرَاءة أبي حَيْوة وحمَيد: فمحَلُّها رفعٌ بالفاعِليّة ل «نزل» مخففاً، فمحَلُّها: إمّا نَصْب على قِرَاءة عَاصِمٍ، أو رَفْع على قِراءة غيره، ولكن الرَّفْع مختلف. فصل قال المفسِّرون: المَعْنَى: وقد نَزَّل عليكم يا معشر المُؤمنين، {أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله} يعني: القُرْآن {يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم} يعني: مع المُسْتَهْزِئين {حتى يخوضوا في حديث غيره} ، وذلك أنَّ المُشركِينَ كانُوا يخوضُونَ في مُجَالَسَتِهم في ذِكْر القُرْآن، يستَهْزِئُون به، فأنْزَل الله - تعالى - {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68] وهذه الآية نَزَلَتْ في مَكَّة. ثم إن أحْبَار اليهُود بالمدينَة، كانوا يَفْعَلُون فعل المُشْرِكِين، وكان المُنافِقُون يَقْعُدون معهُم، ويُوافِقُونهم على ذلك، فقال - تعالى - مُخَاطِباً لَهُم: «أنه قد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها» والمعنى: إذا سَمِعْتُم الكُفْر بآيَات اللَّه والاستهزاء بِهَا، لكنَّه أوْقع فعل السماع على الآية، والمُراد بها: سَمَاع الاسْتِهْزَاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 77 قال الكسَائِيُّ: هو كما يُقَال: سَمِعْت عَبْد اللَّه يُلاَم. قال ابن الخطِيب: وعندي فيه وَجْه آخَر: وهو أنْ يَكُون المَعْنَى: إذا سَمِعْتُم آيَاتِ اللَّه حَالَ ما يُكْفَر بها ويستهزأ بها، وعلى هذا فلا حَاجَة لما قاله الكسَائيُّ. قوله: «أنْ إذَا» «أن» هذه هي المُخَفَّفةُ من الثَّقيلة، واسمُهَا: ضِمِير الأمْر والشَّأن، أي: أنَّ الأمْر والشأن إذا سَمعْتُم الكُفْر والاسْتهْزَاء، فلا تَقْعُدُوا. قال أبو حيان: وما قَدَّره أبو البقاء من قوله: «أنَّكُم إذا سَمِعْتُم» ليس بجَيِّد، لأن «أن» المخففة لا تَعْمَل إلاَّ في ضِمِير الشَّأن، إلا في ضرورةٍ؛ كقوله: [الطويل] 1888 - فَلَوْ أنْكِ فِي يَوْمِ الرَّخَاءِ سألْتِني ... طَلاَقَكِ لَمْ أبْخَلْ وَأنْتِ صَدِيق قال شهاب الدين: هكذا قال، ولم أره أنا في إعراب أبِي البَقَاءِ إلا أنَّه بالهَاءِ دون الكَافِ والمَيم، والجملةُ الشَّرْطِية المُنْعَقدةُ من «إذا» وجوابها في مَحَلِّ رَفْع، خَبَراً ل «أنْ» ، ومن مَجِيء الجُمْلة الشرطيَّة خبراً ل «أنْ» المُخَفَّفَة: قوله: [الكامل] 1889 - فَعَلِمْتُ أنْ مَا تَتَّقُوهُ فَإنَّهُ ... جَزْرٌ لِخَامِعَةٍ وفَرْخ عُقَابِ ف «مَا» شَرْطيةٌ، و «فإنه» جَوابُها، والجُمْلَةُ خبرٌ ل «أنْ» المخفَّفَةِ. قوله: «يُكَفَرُ بِهَا» في محلِّ نَصْب على الحَالِ من الآيات، و «بها» في محلِّ رفع؛ لقيامِه مقامَ الفاعلِ، وكذلِك في قوله: «يُسْتَهْزَأُ بِهَا» والأصل: يكفر بها أحدٌ، فلمَّا حُذِف الفاعلُ، قام الجارُّ والمَجْرُورُ مقامَه، ولذلك رُوعِي هذا الفَاعِلُ المَحْذُوف، فعاد عليه الضَّمِيرُ من قوله: {مَعَهُمْ حتى يخوضوا} كأنه قِيل: إذا سَمِعْتُم آياتِ الله يَكْفرُ بها المُشْرِكُون، ويَسْتَهزِئُ بها المُنَافِقُون، فلا تَقْعدوا مَعَهُم حتى يخُوضُوا في حَديثٍ غيره، أي: غير حَدِيث الكُفْر والاستهزاء، فعاد الضَّمير في «غيره» على ما دَلَّ عليه المَعْنَى. وقيل: الضَّمير في «غيره» يجُوزُ أنْ يعودَ على الكُفْر والاستِهْزَاء المفهُومَيْن من قوله: «يُكَفَر بِهَا» و «وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا» ، [وإنما أفْرَد الضَّمِير وإن كان المُرَاد به شَيْئين؛ لأحد أمرين:] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 78 إمَّا لأنَّ الكُفر والاستِهْزَاء شيءٌ واحدٌ في المعْنَى: وإمَّا لإجراءِ الضَّميرِ مُجْرى اسم الإشَارةِ، نحو: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . وقوله: [الرجز] 1890 - كَأنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهَق ... وقد تقدَّم تَحْقِيقُه في البقرة، و «حتى» : غايةٌ للنَّهْي، والمعنى: أنه يجُوز مُجَالستهم عند خَوْضِهم في غير الكُفْر والاستِهْزَاء. قال الضَّحاك: عن ابن عبَّاسٍ: دخل في هذه الآية كل مُحْدِث في الدِّين، وكل مُبْتَدِع إلى يَوْم القِيَامَةِ. قوله: {إنكم إذاً مثلهم} «إذاً» هنا: مُلغَاةٌ؛ لوقوعها بين مُبْتَدأ وخبر، والجمهور على رفعِ اللام في «مثلُهم» على خَبَرِ الابتداء، وقرئ شاذاً بفتحها، وفيها تَخْريجَان: أحدهما: - وهو قولُ البصْريِّين - أنه خبر أيضاً، وإنما فُتِح لإضافته إلى غير مُتَمَكِّن؛ كقوله - تعالى -: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23] بفتح اللاَّم، وقول الفرَزْدَق: [البسيط] 1891 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ....... ... وإذْ مَا مِثْلَهُمْ بَشَرُ في أحدِ الأوجه. والثَّاني: - وهو قولُ الكُوفيِّين - إن «مِثْل» يَجُوز نصبها على المَحَلِّ، أي: الظرف، ويُجيزُون: «زيد مِثْلَك» بالنَّصب على المحلِّ أي: زيدٌ في مثل حالك، وأفرد «مثل» هُنَا، وإن أخْبَرَ به عن جَمْع ولم يُطابق به كما طابق ما قبله في قوله: {ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] ، وقوله: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ} [الواقعة: 22، 23] . قال أبُو البقاء وغيره: لأنه قصد به هُنَا المصدر، فوحَّد كما وحَّد في قوله: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 47] . وتحرير المَعْنَى: أن التقدير: إنَّ عصيانكم مثل عصيانهم، إلا أنَّ تقدير المصدريّة في قوله: «لِبَشَريْنِ مِثْلِنَا» قلق. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 79 فصل في معنى الآية والمعنى: أنكم إذاً مِثْلُهُم، إن قعدْتُم عندهم وهُم يَخُوضُون ويَسْتهزِئُون، ورضيتم بِهِ، فأنتم كُفَّار مِثْلُهم، وإن خَاضُوا في حَدِيث غَيْرِه، فلا بأس بالقُعُود مَعَهم مع الكَرَاهَة. قال الحَسَن: لا يجوز القُعُود معهم وإن خَاضُوا في حَدِيث غَيْره؛ لقوله - تعالى -: {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى مَعَ القوم الظالمين} [الأنعام: 68] والأكثرون على الأوَّل، وآية الأنعام مَكِّية وهذه مَدَنِيَّة، والمتأخِّر أوْلَى. فصل قال بعض العُلَمَاء: هذا يدل على أنَّ من رَضِي بالكُفْرِ، فهو كافِرٌ، ومن رَضِيَ بمنكر يَرَاه، وخالط أهْلَه وإن لَمْ يُبَاشِر ذلك، كان في الإثْمِ بمَنْزِلة المُبَاشِر لهذه الآية، وإن لم يَرْض وحَضَر خَوْفاً وتقية، فلا. قوله: {إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً} أي: كما اجتمعوا على الاسْتِهْزَاء بآيَاتِ اللَّه في الدُّنْيا، فكذلك يَجْتِمَعُون في العَذَاب يوم القِيَامَةِ، وأراد: جامعٌ بالتنوين؛ لأنَّه بعدما جَمَعَهُم حذف التَّنْوِين؛ استخفافاً من اللَّفْظ، وهو مرادٌ في الحَقِيقَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 في: «الذين يتربَّصُون» : ستَّة أوجه: أحدُها: أنه بدلٌ من قوله: «الذين يتَّخِذُون» ، فيجيء فيه الأوْجُه المذْكُورة هناك. الثاني: أنه نَعْتٌ للمنافِقِين على اللَّفْظِ، فيكون مَجْرورَ المَحَلِّ. الثالث: أنه تابعٌ لهم على المَوْضِع، فيكونُ مَنْصُوبَ المَحَلِّ، وقد تقرَّر أنَّ اسم الفاعل العامِل إذا أُضيفَ إلى مَعْمُوله، جاز أن يُتْبَعَ مَعْمُولُه لفظاً وموضعاً، تقول: «هذا ضاربُ هندٍ العاقلةِ والعاقلةَ» بجرِّ العاقلة ونصبها. الرابع: أنه منصوبٌ على الشَّتْم. الخامس: أنه خَبَر مبتدأ مُضْمَر، أي: هُمُ الذين. السادس: - وذكره أبو البقاء - أنه مُبْتَدأ، والخبرُ قوله: {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ} ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 80 وهذا ضَعِيفٌ؛ لنبوِّ المَعْنَى عنه ولزيادةِ الفاءِ في غير مَحَلِّها؛ لأنّ هذا الموصُولَ غيرُ ظاهر الشَّبهِ باسْمِ الشرط. فصل في معنى الآية ومعنى «يتربَّصُون بِكُم» : ينتظرون بكُم الدَّوَائِر، يعنى: المُنَافِقِين، ينتظرون ما يَحْدُث من خَيْر وشَرٍّ، {فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله} أي: ظهورٌ على اليَهُود، وظَفر، وغَنَيِمة، {قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ} على دينكُم وفي الجِهَاد كنَّا معَكُم، فأعْطُونا قِسْماً من الغَنِيمَةِ، {وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ} يعني: ظَفرٌ على المُسْلِمِين، «قَالُوا» : يعني: المُنَافِقِين للكافرين: {أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ} والاستحواذ: الاستيلاء والغَلَبة على الشَّيْء، ومنه: {استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان} [المجادلة: 19] ، ويقال: حَاذَ وأحَاذَ بِمَعْنًى؛ والمصدر: الحَوْذ، وفي المَعْنَى وُجُوهٌ: الأول: أن المَعْنَى: ألم نَغْلِبكُم، ونتمكَّن من قَتْلِكُم وأسركُم، ثم لم نَفْعَل شَيْئاً من ذَلِك، {وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين} أي: نَدْفَع عَنْكُم صولة المُؤمِنين بِتَخْذِيلهم، وتوانينا في مُظاهَرَتِهم، فأعطونا نَصِيباً ممَّا أصَبْتُم. الثاني: قال المُبَرِّد: يقول المُنَافِقُون للكفَّار: ألم نَغْلِبْكُم؛ فإن المُنَافِقِين بالغُوا في تَنْفِير الكَافِرِين، وأطْمَعُوهم أنه سَيضْعُفُ أمر محمَّدٍ، وسَيَقْوى أمركم، فإذا اتَّفَقَتْ للكفَّار دَوْلةٌ على المُسْلِمين، قال المُنَافِقُون: ألَسْنَا غلبناكم على رَأيِكُم في الدُّخُول في الإسْلام، ومَنَعْنَاكُم منه، فلمَّا شاهَدْتُم صِدْق قَوْلِنا، فأعْطُونا نَصِيبَنَا ممَّا أخَذْتُمْ، ومرادُ المُنافقين: إظْهَار المِنَّة على الكَافِرِين بهذا الكلامِ. الثالث: ألم نُخْبِرْكم بِعَزِيمَةِ محمَّدٍ وأصحابه، ونُطْلِعْكُم على سِرِّهِم. فإن قيل: لِمَ سَمَّى ظَفر المُسْلِمين فتحاً، وظفر الكُفَّار نَصِيباً. فالجواب: أنه تعظيم لشأن المُؤمنين، وتحقير لحظِّ الكَافِرِين؛ لأن ظَفر المُسْلِمين أمر عظيم، يفتح الله لَهُ أبْوَاب السَّمَاء؛ حتى تَنْزل الرَّحْمَة على أوْلِيَاء اللَّه، وأما ظَفر الكَافِرِين: فما هُوَ إلا حَظٌّ دنيويٌّ يَنْقَضِي، ولا يَبْقَى منه إلا اللَّوْم في الدُّنْيَا، والعُقُوبة في الأخْرَى. قوله: «ونمنعكم» الجمهورُ على جَزْمه، عطفاً على ما قبله. وقرأ ابن بي عَبْلَة بنصب العَيْن وهي ظَاهِرَةٌ؛ فإنه على إضْمَار «أنْ» بعد الوَاوِ المقتَضِيَة للجَمْع في جواب الاستفهامِ؛ كقول الحُطيْئَة: [الوافر] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 81 1892 - ألَمْ أكُ جَارَكُم ويَكُونَ بَيْنِي ... وَبَيْنَكُمُ الْمَوَدَّةُ والإخَاءُ وعَبَّر ابنُ عَطِيَّة بعبارة الكوفيين، فقال: «بفتحِ العَيْن على الصَّرْف» ويعنون بالصَّرْف: عدمَ تَشْريكِ الفِعْلِ مع ما قَبْلَه في الإعْرَاب. وقرأ أبيّ: «ومنعناكم» فعلاً ماضياً، وهي ظاهرةٌ أيضاً؛ لأنه حُمِلَ على المَعْنَى، فإنَّ معنى «أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ» : إنَّا قد اسْتَحْوَذْنا، لأنَّ الاستفهامَ إذا دخل على نَفْي قَرَّره، ومثلُه: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا} [الشرح: 1، 2] لَمَّا كان «أَلم نَشْرَحْ» في معنى: «قد شَرحْنَا» عُطِفَ عليه «ووضَعْنا» . ونَسْتَحْوِذُ واستحوذ مِمَّا شَذَّ قياساً، وفَصُحَ استعمالاً؛ لأنَّه مِنْ حقِّه نَقْلُ حركةِ حَرْفِ علَّتِه إلى السَّاكِن قبلها، وقَلْبها ألفاً؛ كاسْتَقَام واسْتَبَان وبابه، وقد قدمت تَحْقِيق هذا في قوله - تعالى - في الفاتحة: «نَسْتَعين» ، وقد شذَّت معه ألفاظٌ أخَرُ، نحو: «أغْيَمَتْ وأغيلت المرأة وأخيَلت السَّماء» قصرها النَّحْوِيُّون على السَّماع، وقاسها أبُو زَيْد. قوله: {فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} قيل: هنا مَعْطوفٌ مَحْذُوف، أي: وبينهم؛ كقوله: [الطويل] 1893 - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أبُو حُجُرٍ إلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ أي: وبيني، والظَّاهرُ أنه لا يحتاج لذلك؛ لأن الخِطَاب في «بَيْنَكُم» شاملٌ للجَميع، والمرادُ: المُخَاطَبُون والغَائِبُون، وإنما غَلَّبَ الخطاب؛ لما عَرَفْتَ من لُغَة العرب. فالمعنى: أنَّ الله يَحْكُم بين المُؤمنين والمُنَافقين يوم القيامةِ، ولم يَضِع السَّيْف في الدُّنْيَا عن المُنَافِقِين، بَلْ أخّر عِقَابِهِم إلى يَوْم القِيَامَةِ. قوله: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} . قال عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: في الآخِرة، قال يُسَيْع الحضرمِيّ: كُنْتُ عند عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، فقال [له] رجُلٌ يا أمير المُؤمنين: أرأيْت قوله - تبارك وتعالى -: {ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً} . كيف ذَلِك، وهم يُقَاتِلُوننَا ويَظْهَرُون علينا أحْيَاناً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 82 فقال عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: معنى ذلك: يَوْم القيامة؛ وهو مَرْوِيٌّ عن ابن عبَّاسٍ، وقيل: لا يجعل الله للكافرين على المُؤمنين سَبِيلاً، إلا أنْ يتواصوا بالبَاطِل، ولا يَتَنَاهَوْا عن المُنْكَر، ويتقاعَدُوا عن التَّوْبة، فيكون تَسْلِيطُ العدُوِّ من قبلهم؛ كما قال: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] . قال ابن العَرَبِيِّ: وهذا نَفِيسٌ. وقيل: ولَنْ يَجْعَل اللَّه للكَافِرِين على المُؤمنين سَبِيلاً شَرْعاً، فإنْ وُجِد، فَبِخلاف الشَّرْع. وقال عِكْرمة، عن ابن عبَّاسٍ: حُجَّة في الدُّنْيَا، وقيل: ظُهُوراً على أصْحَاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقيل: عَامٌّ في الكُلِّ، إلا ما خصَّه الدَّلِيلُ. قوله: على المُؤمنين يَجُوز أن يتعلَّق بالجَعْلِ، ويجُوز أن يتعلَّق بِمَحذُوفٍ،؛ لأنه في الأصْل صِفَة ل «سَبِيلاً» ، فلما قُدِّم عليه، انْتَصَبَ حالاً عَنْهُ. فصل استدّلُّوا بهذه الآية على مَسَائِلَ: منها: استيلاء الكَافِر على مال المُسْلِمِ بدَارِ الحَرْب، لم يَمْلِكْه. ومنها: أن الكَافِر ليس لَهُ أن يَشْتَرِي عَبْداً مسلماً. ومنها: أنَّ المُسْلِم لا يُقْتَل بالذِّمِّيِّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 قد تقدَّم تفسير الخِدَاع واشتقاقه أوّل البقرة، ومعنى المُفَاعَلة فيه. قال الزَّجَّاج: مَعْنَاه: يُخَادِعُون الرَّسُول، أي: يظهرون لَهُ الإيمَان ويبطنون الكُفْرَ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 83 كقوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] ، وسمّي المُنَافِق مُنَافِقاً؛ أخذاً من: نَافِقَاء اليَرْبُوع؛ وهي جُحْره؛ فإنه يَجْعَلُ له بَابَيْن، يَدْخُلُ من أحدهما ويَخْرُجُ من الآخَر؛ كذلك المُنَافِق، يَدْخُل مع المؤمنين بقوله: أنا مُؤمِنٌ، [ويدخل مع الكَافِر بقوله: أنا كَافِر] ، وجُحْرُ اليَرْبُوعِ يُسَمَّى النَّافِقَاء، والسَّاميَاء والدَّامياء، [فالسَّامِيَاء] : هو الجحر الذي تلد فيه الأنْثَى، [والدامياء: هو الذي يَكُون] فيه. قوله: «وَهُوَ خَادِعُهُمْ» فيه ثلاثة أقْوَالٍ: أحدها: ذكرَه أبُو البقاء: أنه نَصْبٌ على الحَالِ. والثاني: أنَّها في مَحَلِّ رفعٍ عطْفاً على خَبَر «إنَّ» . الثالث: أنَّها استِئْنَاف إخْبَار بِذَلك. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «وخادعٌ: اسم فاعِل من خَادعْتُه، فَخَدَعْتهُ إذا غَلَبْتهُ، وكنت أخْدَع مِنْه» . قوله: «وَهُوَ خَادِعُهُم» أي: مُجَازيهم بالعِقَاب على خِدَاعِهم. قال ابن عبَّاس: إنهمَ يُعْطَوْن نوراً يَوْم القِيَامةِ كالمؤمنين، فيَمْضِي المُؤمِنُون بنورهم على الصِّراطِ، ويُطْفَأ نور المُنَافِقِين، يدلُّ عليه قوله: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] . قوله: «وإذا قَامُوا» عطفٌ على خَبَر «إنَّ» أخبر عَنْهم بِهَذِه الصِّفَاتِ الذَّميمة، و «كُسَالى» : نصبٌ على الحَالِ من ضَمِير «قَامُوا» الواقع جواباً، والجُمهورُ على ضمِّ الكاف، وهي لُغة أهل الحِجاز [جمع كَسْلان: كسَكَارَى] ، وقرأ الأعرج بفتحها، وهي لُغَةُ تميم وأسَدٍ، وقرأ ابن السَّمَيْفع: «كَسْلى» وصَفَهم بِمَا تُوصف به المُؤنَّثَة المفردةُ، اعْتِبَاراً بمعنى الجماعة؛ كقوله: «وتَرَى الناسَ سَكْرى» ، والكسلُ: الفُتُورُ والتواني، وأكْسَل: إذا جَامَعَ وفَتَر ولم يُنْزل. والمعنى: أن المُنَافِقِين إذا قامُوا إلى الصَّلاةِ، قاموا مُتَثَاقِلِين، لا يُرِيدُون بها الله - تعالى -، فإن رَآهم أحَدٌ، صلَّوا، وإلا انْصَرَفُوا فَلَمْ يُصَلُّوا. قوله: «يُراؤون [النَّاسَ] » في هذه الجُمْلَةِ ثلاثةُ أوجه: أحدُها: أنها حَالٌ من الضَّمير المُسْتَتر في «كُسَالى» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 84 الثاني: أنها بَدَلٌ من «كُسَالَى» ؛ ذكره أبو البقاء، فيكونُ حالاً من فاعل «قَامُوا» وفيه نظر، لأنَّ الثَّاني ليس الأوَل ولا بَعْضَه ولا مُشْتَمِلاً عليه. الثالث: أنها مُستأنفةٌ أخْبر عَنْهم بذلك، وأصلُ يُراؤون: يُرائِيُون، فأعِلَّ كَنَظائره، والجمهور على: «يُراؤون» من المُفاعلةِ. قال الزَّمْخْشَرِيُّ: فإنْ قلت: ما مَعْنَى المراءاة، وهي مُفاعَلَة من الرُّؤيَة؟ قلت: لها وجهان: أحدهما: أنَّ المُرَائِيَ يُريهم عَمَلَه، وهم يُرُونه الاسْتحْسَانَ. والثاني: أن تكُونَ من المُفاعلة بمعنى: التَّفْعِيل، يقال: نعَّمه وناعَمَهُ، وفَنَّقه وفَانَقَه، وعيش مُفَانِق، وروى أبو زَيْد: «رأَّت المَرْأةُ المِرْآة [الرَّجُل] » إذا أمْسكَتْها له ليرى وَجهَه؛ ويدل عليه قراءةُ ابن أبي إسحاق: «يُرَؤّونَهُم» بهمزةٍ مُشَدَّدةٍ مثل: يُدَعُّونهم، أي: يُبَصِّرونهم ويُرَاؤونهم كذلك، يعني: أن قراءةَ: «يُرَؤُّنهم» من غير ألفٍ، بل بهمزةٍ مَضْمُومةٍ مشدَّدَةٍ توضِّح أنَّ المُفاعَلَة هنا بِمَعْنَى التفعيل. قال ابن عَطِيَّة: «وهي - يعني هذه القراءة - أقْوَى من» يُرَاؤُونَ «في المعنى؛ لأنَّ مَعْنَاها يَحْمِلُون النَّاسَ على أنْ يَرَوْهم، ويتظاهَرُون لهم بالصَّلاة ويُبْطنُون النِّفَاقَ» وهذا منه ليس بجيِّد؛ لأنَّ المُفَاعَلة إنْ كَانَت عَلَى بابها، فهي أبْلَغُ لِما عُرِفَ غيرَ مرَّة، وإنْ كانت بِمَعْنَى التفعيل، فهي وَافِيةٌ بالمَعْنَى الذي أرَادَه، وكأنه لم يَعْرِف أنَّ المفاعلة قد تَجِيءُ بمعنى التَّفْعِيل. ومتعلَّقُ المُرَاءاةِ محذُوفٌ؛ لِيَعُمَّ كلَّ ما يُراءى به، والأحْسَن أن تُقَدِّر: يُراؤون النَّاسَ بأعْمَالِهم. قوله: {وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً} «ولا يَذْكُرُون» ، يجوز أن يكون عَطْفاً على «يُرَاؤُون» ، وأن يكون حالاً من فاعِل «يُراؤُون» وهو ضعيفٌ؛ لأن المُضارع المَنْفِيَّ ب «لا» كالمُثْبَتِ، والمُثْبَتُ إذا وَقَع حالاً، لا يَقْترِنُ بالوَاوِ، فإنْ جَعَلها عَاطِفَةً، جَازَ. وقوله: «قليلاً» : نعتٌ لمصدرٍ محذُوفٍ، أو لزمان مَحْذوفٍ، أي: ذكْراً قليلاً أو زمناً قليلاً، والقلةُ هُنَا على بابها، وجَوَّز الزَّمَخْشَرِيُّ وابن عطِيَّة: أن تكون بِمَعْنَى العَدَم، ويأباه كَوْنُه مُسْتَثْنى، وقد تقدَّم الردُّ عليهمَا في ذَلِكَ. فصل قال ابنْ عبَّاسٍ، والحسن: إنَّما قال ذَلِك؛ لأنَّهمُ يَفْعَلُونها رِيَاءً وسُمْعَة، ولو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 85 أرَادُوا بذلك القَلِيل وَجْهَ اللَّه، لكان كَثِيراً، وقال قتادة: إنَّما قلَّ ذكرُ المُنَافِقِين؛ لأنَّ الله لم يَقْبله، وكلّ ما قَبِلَ اللَّه، فهو كَثِيرٌ. وقيل: المعنى: لا يصلّون إلا قَليلاً، [والمُرادُ ب «الذكر» الصَّلاة] ، وقيل: لا يَذْكُرُون اللَّه في جَمِيع الأوقات، سواءً كان وَقْت الصَّلاة أوْ لَمْ يكُن إلاَّ قَلِيلاً نادراً. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: [وترى] كثيراً من المُتَظَاهِرِين بالإسْلام، لو صِحِبْتَهُ الأيَّام واللَّيَالي، لَمْ تسمع منه تَهْلِيلَةً، ولكن حَدِيث الدُّنْيَا يَسْتَغْرِقُ به أوْقاته، لا يَفْترُ عَنْه. قوله: «مُذَبْذَبِينَ» : فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنه [حالٌ] من فاعل «يراءون» . الثاني: أنه حالٌ من فاعل «وَلاَ يَذْكُرُون» . الثالث: أنه منصوبٌ على الذَّمِّ، والجمهور على «مُذَبْذَبينَ» بميم مضمومة وذَالَيْن معجمتَيْن، ثانيتهما مفتوحةٌ على أنه اسم مفعول، من ذَبْذَبْتُهُ، فَهُوَ مُذَبْذَبٌ، أي: مُتَحَيِّرٌ، وقرأ ابن عبَّاس وعمرو بنُ فائدٍ بكَسْر الذال الثانيةِ اسمَ فاعلٍ، وفيه احتمالان: أحدهما: أنه من «ذَبْذَب» متعدِّياً، فيكونُ مفعولُه محذوفاً، أي: مُذَبْذَبينَ أنْفُسَهُمْ أو دينهُمْ، أو نحو ذلك. الثاني: أنه بمعنى تَفَعْلَل، نحو: «صَلْصَلَ» فيكون قاصراً؛ ويَدُلُّ على هذا الثاني قراءةُ أبَيٍّ، وما في مصحف عبد الله «مُتَذَبْذِبِينَ» فلذلك يُحْتَمَلُ أن تكونَ قراءةُ ابن عبَّاس بمعنى مُتَذَبْذبين، وقرأ الحَسَنُ البصريُّ «مَذَبْذَبِين» بفتح الميم. قال ابن عطيَّة: «وهي مردودةٌ» وقال غيره: لا ينبغي أن تَصِحَّ عنه، واعتذر أبو حيان عنها لأجْلِ فصاحة الحَسَن، واحتجاجِ الناس بكلامه بأنَّ فتْح الميم لأجل إتباعها بحركة الذال؛ قال: «وإذا كانُوا قد أتبعوا في» مِنْتِنٍ «حركة الميم بحركة التاء، مع الحاجز بينهما، وفي نحو» مُنْحَدُر «أتبعوا حركة الدال بحركة الراء حالة الرفع، مع أنَّ حركة الإعراب غيرُ لازمة؛ فلأنْ يُتْبِعُوا في نحو» مَذَبْذَبِينَ «أوْلَى» . [قال شهاب الدين:] وهذا فاسدٌ؛ لأن الإتباع في الأمثلة التي أوردها ونظائِرَها إنما هو إذا كانت الحركةُ قويةً، وهي الضمةُ والكسرةُ، وأمَّا الفتحةُ فخفيفةٌ، فلم يُتْبِعُوا لأجْلها، وقرأ ابن القعقاع بدَالَيْن مُهْملتَيْنِ من الدُّبَّة، وهي الطريقة [الَّتي يُدَبُّ فيها] يقال: «خَلِّني وَدُبَّتِي» أي: طريقَتِي؛ قال: [الطويل] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 86 1894 - طَهَا هُذْرُبَانٌ قَلَّ تَغْمِيضُ عَيْنِهِ ... عَلَى دُبَّةٍ مِثْلِ الْخَنِيفِ المُرَعْبَلِ وفي حديث ابن عبَّاس: «اتَّبِعُوا دُبَّةَ قُرَيْشٍ» ، أي: طَريقَهَا، فالمعنى على هذه القراءة: أن يأخُذَ بهم تارةً دُبَّةً، وتارة دُبَّةً أخرى، فَيَتْبَعُونَ متحيِّرين غيرَ ماضينَ على طريقٍ واحدٍ. ومُذَبْذَبٌ وشبهُه نحْوُ: مُكَبْكَبٍ ومُكَفْكَفٍ؛ مِمَّا ضُعِّفَ أولُه وثانيه، وصَحَّ المعنى بإسقاط ثالثه - فيه مذاهبٌ: أحدها: - وهو قولُ جمهور البصريين -: أنَّ الكلَّ أصولٌ؛ لأنَّ أقلَّ البنية ثلاثةُ أصولٍ، وليس أحدُ المكرَّرين أوْلَى بالزيادةِ من الآخر. الثاني - ويُعْزَى للزجَّاج -: أنَّ ما صَحَّ إسقاطُه زائدٌ. الثالث - وهو قول الكوفيين -: أن الثالث بدلٌ من تضعيف الثاني، ويزعُمُون أن أصل كَفْكَفَ: كَفَّفَ بثلاث فاءات، وذَبْذَبَ: ذَبَّبَ بثلاث ياءات، فاستُثْقِل توالي ثلاثةِ أمثالٍ، فأبْدَلُوا الثالثَ من جنْس الأوَّل، أمَّا إذا لم يَصِحَّ المعنى بحذفِ الثالث، نحو: سِمْسِم وَيُؤيُو وَوَعْوَعٍ؛ فإنَّ الكلَّ يزعمون أصالةَ الجميعِ، والذَّبْذَبَةُ في الأصل: الاضطرَابُ والحركة ومنه سُمِّي الذُّباب؛ لكَثْرة حركَتِه. قال - عليه السلام -: «من وُقي شر قَبْقَبه وذبذبه ولَقْلَقِه وجبت له الجَنَّة» يعني: الذكر يُسَمَّى بذلك لتَذَبْذُبِه، أي: حركته، وقيل التَّذَبْذُب: التَّرَدُّد بين حَالَيْن. قال النابغة: [الطويل] 1895 - ألَمْ تَرَ أنَّ اللَّهَ أعْطَاكَ سُورَةً ... تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دُونَهَا يَتَذَبْذَبُ وقال آخر: [الطويل] 1896 - خَيَالٌ لأمِّ السَّلْسَبِيلِ وَدُونَهَا ... مَسِيرَةُ شَهْرٍ للْبَعيرِ المُذَبْذِبِ بكسر الذال الثانية، قال ابنُ جنِّي: «أي: القَلق الذي لا يستقرُّ» ؛ قال الزمخشريُّ: « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 87 وحقيقةُ المذبذب الذي يُذَبُّ عن كلا الجانبين، أي: يُذاد ويُدْفع، فلا يقرُّ في جانبٍ واحدٍ، كما يقال:» فُلانٌ يُرْمَى به الرَّحَوانِ «، إلا أنَّ الذبذبة فيها تكريرٌ ليْسَ في الذَّبِّ، كأنَّ المعنى: كلَّما مالَ إلى جانبٍ ذَبَّ عنه» . قال ابن الأثير في «النهاية» وأصْلُه من الذَّبِّ وهو الطَّرْدُ؛ ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «تزوَّجْ وإلاَّ فأنْتَ مِنَ المُذَبْذَبِينَ» أي: المَطْرُودين عن المؤمنين لأنَّكَ لم تَقْتَدِ بهم، وعن الرُّهْبَانِ؛ لأنك تَرَكْتَ طَريقَتَهُم، ويجُوز أن يكُونَ من الأوّل. و «بَيْنَ» معمولٌ لقوله: «مُذَبْذَبِينَ» و «ذَلِكَ» إشارةٌ إلى الكُفْر والإيمانِ المدلولِ عليهما بذكْرِ الكافرين والمؤمنين، ونحو: [الوافر] 1897 - إذا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إليه ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... أي: إلى السَّفَهِ؛ لدلالة لفظ السفيه عليه، وقال ابن عطية: «أشر إليه، وإن لم يَجْرِ له ذِكْرٌ؛ لتضمُّن الكلام له؛ نحو: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32] {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] يعني توارتِ الشمسُ، وكُلُّ من على الأرْضِ؛ قال أبو حيان» وليس كذلك، بل تقدَّم ما يدُلُّ عليه «وذكر ما قدَّمْتُه، وأشير ب» ذَلِكَ «وهو مفردٌ لاثنين؛ لما تقدَّم في قوله {وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . قوله: {لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} » إِلَى «في الموضعيْنِ متعلقةٌ بمحْذُوف، وذلك المحذوف هو حالٌ حُذِفَ؛ لدلالة المعنى عليه، والتقدير: مُذَبْذَبينَ لا مَنْسُوبينَ إلى هؤلاء ولا منسوبين إلى هؤلاء، فالعاملُ في الحال نَفْسُ» مُذَبْذَبينَ «، قال أبو البقاء:» وموضعُ {لا إلى هؤلاءِ} نصبٌ على الحالِ من الضمير في مذبذبين، أي: يتذبذبون مُتَلَوِّنينَ «وهذا تفسير معنًى، لا إعراب. فصل قال قتادة: معنى الآيَة: ليْسُوا مُؤمِنين مُخْلصِينَ، فَيَجِبُ لَهُم مَا يجِبُ للمُؤمنين، ولا مُشْرِكين مُصَرِّحِين بالشِّرْكِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 88 وروى نَافعٌ عن ابن عمر، عن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» مثَلُ المُنَافِقِ كمثلِ [الشَّاةِ] العَائِرَةِ بين الغَنَمَيْن تَعِيرُ إلى هذه مَرَّةً وإلى هَذِه مَرَّة «. فصل في أن الحيرة في الدين بإيجاد الله تعالى استدلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ الحِيرَة في الدِّينِ إنَّما تَحْصُل بإيجَادِ اللَّه - تعالى -؛ لأن قوله:» مُذَبْذَبِينَ «يقتضي فَاعِلاً قد ذَبْذَبَهُم، وصَيَّرَهُم مُتَردِّدِين، وذلك ليس باخْتِيَار العَبْدِ، فإن الإنْسَان إذا وَقَع في قلبه الدَّوَاعِي المُتعَارِضَة، المُوجِبَة للتَّحَيُّر والتَّرَدُّد، فلو أرَادَ أن يَدْفَع ذلك التَّرَدُّد عن نَفْسِه، لم يَقْدِر عليه أصْلاً، ومن تأمَّل في أحْوَالِهِ عَلِمَ ذلك، وإذا ثَبَت أنَّ تِلْكَ الذَّبْذَبَة لا بُدَّ لها من فاعلٍ، وأن فاعِلَها لَيْس هو العَبْدُ؛ ثبت أنَّ فَاعِلَهَا هو اللَّه - تعالى -. فإن قيل: قوله - تعالى -: {لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء} يقتضي ذَمَّهُم على تَرْكِ طَريقَةِ المُؤمنين، وطريقَة الكُفَّار؛ والذَّمُّ على تَرْكِ طريقِ الكُفَّارِ غير جَائِزٍ. فالجواب: أنَّ طريقة الكُفَّار وإن كانت خَبِيثَةً، إلا أن طريقَةَ النِّفَاقِ أخْبَثُ منها؛ ولذلك فإن الله - تعالى - ذم الكُفَّار في أوَّل سُورَةِ البَقَرَةِ في آيتين، وذمَّ المُنافِقِين في تِسْعَ عَشْرَة آية، وما ذَلِك إلا لأن طَرِيقَة النِّفَاقِ أخْبَثُ من طَرِيقَةِ الكُفَّارِ، فهو - تعالى - لم يَذُمَّهم على تَرْكِ الكُفْرِ، بل لأنَّهُم عَدَلُوا عن الكُفْرِ إلى مَا هُو أخْبَثُ من الكُفْرِ. قوله: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً} أي: طَرِيقاً إلى الهُدَى. واسْتَدَلوا بهذه الآيَة على مَسْألتيْنِ: الأولَى: أن تلك الذَّبْذَبَة من اللَّه - تعالى -، وإلا لَمْ يتَّصِلْ هذا الكلام بما قَبْلَهُ. الثانية: أنه صَريحٌ في أن اللَّه - تعالى - أضَلَّهُم عن الدِّينِ. قالت المعتزلة: فمعنى هذا الإضلالِ: أنه عِبَارةٌ عن حُكْم اللَّه - تعالى - عَلَيْهِ بالضَّلالِ، أو أنَّه - تعالى - يُضِلُّه يوم القيامة عن طريق الجَنَّة، وقد تقدَّم مثل ذَلِك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 لما ذَمَّ المُنَافِقِين بأنَّهُم لم يَسْتقِرُّوا مع أحَد الطَّريقَين، نَهَى المُسْلِمِين أن يَفْعَلُوا فِعْل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 89 المُنَافِقِين؛ فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين} والسبب فيه: «أن الأنْصَار بالمدينَةِ كانت لَهُمْ [في قُرَيْظَة] رِضَاع وحِلْفٌ ومَوَدَّة، فقالُوا: يا رسول الله، مَنْ نَتَولَّى؟ فقال:» المُهَاجِرِين «، فَنَزَلَتْ هذه الآية. وقال القَفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: هذا نَهْيٌ للمُسلِمِين عن مُوالاةِ المُنافِقِين، يقول: قد بَيَّنْتُ لكم أحْوَال هؤلاء المُنَافِقِين ومَذَاهِبهم، فلا تَتَّخِذُوا مِنْهُم أوْلِيَاء. ثم قال: {أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} ، [فإن حَمَلْنَاه على الأوَّلِ وهو نَهْي المُؤمنين عن مُوالاَةِ الكُفَّارِ، كان المَعْنَى: أتُرِيدُونَ أن تَجْعَلُوا للَّه عليكم سُلْطَاناً مُبِيناً] على كَوْنِكُم مُنَافِقِين، المُرَاد أتُرِيدُون أن تجعلُوا لأهْلِ دين اللَّه وهم الرَّسُول وأمته، وإن حَملْناهُ على المُنَافِقِين، كان المَعْنَى: أتريدُون أن تَجْعَلُوا للَّه عليكم في عقَابِكُم حُجَّة؛ بِسببِ مُوالاتِكُم مع المُنافِقِين. قوله:» سُلْطَاناً «: السلطان يُذكَّرُ ويؤنث، فتذكيرُه باعتبار البرهان، وتأنيثه باعتبار الحُجَّة، إلا أن التأنيثَ أكثرُ عند الفُصَحاء، كذا قاله الفرَّاء، وحكى:» قَضت عليْكَ السُّلطَانُ «و» أخذتْ فلاناً السُّلْطَانُ «وعلى هذا فكيف ذُكِّرت صفته، فقيل: مبيناً دون: مبينة؟ والجوابُ: أن الصفة هنا رأسُ فاصلة، فلذلك عدلَ إلى التذكير، دون التأنيث، وقال ابن عطية ما يخالِفُ ما حكاه الفراء؛ فإنه قال:» والتذكيرُ أشهرُ، وهي لغةُ القرآنِ؛ حيث وقع «. و» عَلَيْكُمْ «يجوزُ تعلُّقه بالجَعْلِ، أو بمحذوفٍ على أنه حال من» سُلْطَاناً «لأنه صفة له في الأصل، وقد تقدَّم نظيره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 الدَّرْك: قرأ الكوفيُّون - بخلاف عن عاصمٍ - بسكون الراء، والباقون بفتحها، وفي ذلك قولان: أحدهما: أنَّ الدَّرْك والدَّرَكِ لغتان بمعنى واحدٍ، كالشَّمْعِ، والقَدْرِ والقَدَرِ. والثاني: أن الدَّرَكَ بالفتح جمعُ «دَرَكَة» على حدِّ بَقَر وبَقَرة. وقال أبو حاتم: جَمْع الدَّرْكِ: أدْرَاك؛ مثل حَمْل وأحْمَال، وفَرْس وأفراس وجمع الدرك: أدْرُك؛ مثل أفْلُس وأكْلُب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 90 واختار أبو عُبيد الفتح، قال: لأنه لم يَجِئْ في الآثار ذكرُ «الدَّرَك» إلا بالفتح، وهذا غيرُ لازمٍ مجيء الأحاديثِ بإحدى اللغتين، واختار بعضهم الفتح؛ لجمعه علَى أفعال قال الزمخشريُّ: «والوجهُ التحريكُ؛ لقولهم: أدْرَاكُ جَهَنَّمَ» ، يعني أنَّ أفْعَالاً منقاسٌ في «فَعَلٍ» بالفتحِ، دونَ فَعْل بالسكون، على أنه قد جاء أفعالٌ في فعْلٍ بالسكون؛ نحو: فَرْخٍ وأفراخ، وزنْدٍ وأزنَادٍ، وفَرْدٍ وأفْرَادٍ، وقال أبو عبد الله الفاسيُّ في شرحِ القصيدِ: «وقال غيرُه - يعني غيرَ عاصم -؛ محتجاً لقراءة الفتحِ؛ قولهم في جمعه:» أدْرَاك «يدُلُّ على أنه» دَرَكٌ «بالفتح، ولا يلزمُ ما قال أيضاً؛ لأن فعلاً بالتحريك قد جُمِعَ فعلٌ بالسكون على أفعالٍ نحو: فَرْخٍ وأفْرَاخٍ، كما ذكرته لك، وحُكِيَ عن عاصم أنه قال:» لو كان «الدَّرَكُ» بالفتح، لكان ينبغي أن يقال السُّفْلى لا الأسفل «قال بعض النحويِّين: يعني أنَّ الدَّرَك بالفتح جمع» دَرَكَة «؛ كبَقَرٍ جمع بقَرَةٍ، والجمعُ يُعامَلُ معاملةَ المؤنثة، وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّ اسم الجنس الفارقُ بين واحده وجمعه تاءُ التأنيث يجوز تذكيرُه وتأنيثه، إلا ما استُثني وجوبُ تذكيره أو تأنيثه، والدَّرَكُ ليس منه، فيجوزُ فيه الوجهان، هذا بعد تسليم كون» الدَّرْكِ «جمع» دَرَكَةٍ «بالسكون كما تقدم، والدَّرَكُ مأخوذٌ من المُداركة، وهي المتابعةُ، وسُمِّيَتْ طبقاتُ النارِ» دَرَكَاتٍ «؛ لأنَّ بعضها مَدَارِكُ لبعض، أي: متتابعة. قوله:» من النَّارِ «في محلَّ نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان: أحدهما: أنه» الدَّرْك «، والعامل فيها الاستقرار. والثاني: أنه الضميرُ المستتر في» الأسْفَل «؛ لأنه صفةُ، فيتحمل ضميراً. قال الليث: الدَّرْكُ أقْصَى قعْر الشيء؛ كالبَحْر ونحوه، فعلى هذا المُرَاد بالدَّرْكِ الأسْفَل: أقْصَى قعر جَهَنَّم، وأصْلُ هذا من الإدْرَاكِ بمعنى اللُّحُوق، ومنه إدراكُ الطَّعَام وإدْراكُ الغُلاَمِ، قال الضحاك: [الدَّرج] إذا كان بَعْضُها فوقَ بَعْضٍ، والدَّرك إذا كانَ بعضها أسْفَل مِنْ بَعْضٍ. فصل في معنى الدرك قال ابن مَسْعُود: الدَّرْكُ الأسْفَل من النَّارِ: توابِيت من حديدٍ مُقْفَلَة في النَّارِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 91 وقال أبُو هُرَيْرَة: بَيْتٌ يُقْفَل عليهم، تتوَقَّد فيه النَّارُ من فوقهم ومن تَحْتِهِم. فصل قال ابن الأنْبَارِيّ: قال - تعالى - في صِفَةِ المُنَافِقِين: إنَّهُم في الدَّرْكِ الأسْفَلِ من النَّارِ، وقال في آلِ فِرْعَوْن: {أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر: 46] فأيُّهُمَا أشَدُّ عَذَاباً: المُنَافِقُون، أم آل فِرْعوْن؟ وأجَابَ: بأنَّهُ يحتمل أنَّ أشَدَّ العذاب إنَّما يكُون في الدَّرْكِ الأسْفَلِ، وقد اجْتَمَع فيه الفَريقَانِ. فصل لماذا كان المنافقون أشد عذاباً من الكفار؟ إنَّما كان المُنَافِقُون أشَدّ عَذَاباً من الكُفَّارِ؛ لأنَّهم مِثْلهم في الكُفْر، وضَمُّوا إليه نَوْعاً آخَرَ من الكُفْرِ، وهو الاسْتِهْزَاء بالإسْلامِ [وأهْلِه أيضاً فإنّهم يُظْهِرُون الإسْلاَم] ؛ ليَتَمَكَّنُوا من الاطِّلاعِ على أسْرَار المُسْلِمِين ثُمَّ يُخْبِرُون الكُفَّار بذلك فتتضاعف المِحْنَة. قوله: {وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً} مانعاً من العذاب. واحْتَجُّوا بهَذِهِ الآيَةِ على إثْبَات الشَّفَاعةِ للفُسَّاقِ من المُسْلِمِين؛ لأنه - تعالى - خَصَّ المُنَافِقِين بهذا التَّهْدِيدِ، ولو كَانَ ذلك حَاصِلاً لِغَيْر المُنَافِقِين، لم يَكُنْ ذلك زَجْراً عن النِّفَاقِ من حَيْثُ إنَّه نِفَاقٌ، ولَيْس هذا اسْتِدْلاَلاً بِدَلِيلِ الخِطَابِ، بل وجْه الاستدلالِ فيه؛ أنه - تعالى - ذَكَرَهُ في مَعْرِضِ الزَّجْرِ عن النِّفَاقِ، فلو حَصَل ذلك مع عَدَمِهِ، لم يَبْقَ زَجْراً عَنْه من حَيْث إنَّه نِفَاقٌ. قوله: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} : فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه منصوبٌ على الاستثناء من قوله: «إِنَّ المُنَافِقِينَ» . الثاني: أنه مستثنىً من الضمير المجْرُورِ في «لَهُمْ» . الثالث: أنه مبتدأ، وخبرُه الجملةُ من قوله: {فأولئك مَعَ المؤمنين} ، قيل: ودَخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ؛ لشبه المبتدأ باسم الشرط، قال أبو البقاء ومكي وغيرُهما: «مَعَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 92 المُؤمنينَ» خبرُ «أولَئِكَ» ، والجملةُ خبر «إِلاَّ الَّذِينَ» ، والتقدير: فأولئك مؤمنون مع المُؤمِنِينَ، وهذا التقديرُ لا تقتضيه الصناعةُ، بل الذي تقتضيه الصناعةُ: أن يُقَدَّر الخبرُ الذي يتعلَّق به هذا الظرف شيئاً يليقُ به، وهو «فأولئِكَ مُصَاحِبُونَ أو كائِنونَ أو مستقرُّون» ونحوه، فتقدِّرُه كوناً مطلقاً، أو ما يقاربه. فصل معنى الآية {إِلاَّ الذين تَابُواْ} : من النِّفَاقِ وآمَنُوا، «وأَصْلَحُوا» أعْمَالَهُم، «واعْتَصَمُوا باللَّهِ» ووثِقُوا باللَّهِ، {وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ} وأراد الإخلاَصِ بالقَلْبِ؛ لأن النِّفَاقَ كُفْر القَلْبِ، فَزَوالُهُ يكُونُ بإخلاصِ القَلْبِ، فإذا حَصَلَت هذه الشُّروط، فِعنْدَها قال: {فأولئك مَعَ المؤمنين} ، ولم يَقُلْ: فأولئَك مُؤمِنُون. قال الفَرَّاء: معناه: فَأولَئِك من المُؤمِنِين. قوله: «وَسَوْفَ يُؤْتِ الله [المؤمنين أَجْراً عَظِيماً» ] رُسِمَتْ «يُؤتِ» دون «يَاءٍ» وهو مضارعٌ مرفوع، فحقُّ يائه أن تثبت لفظاً وخَطَّاً، إلا أنها حذفتْ لفظاً في الوصل؛ لالتقاء الساكنين [وهما اليَاءُ في اللفظ واللام في الجلالة] فجاءُ الرسمُ تابعاً للفظ، وله نظائرُ تقدَّم بعضها، والقراءُ يقفون عليه دون ياءٍ اتِّباعاً للرسْمِ، إلا يعقوب، فإنه يقف بالياء؛ نظراً إلى الأصل، ورُوي ذلك أيضاً عن الكسَائيِّ وحمزة، وقال أبو عَمْرو: «ينبغي ألاَّ يُوقفَ عليها؛ لأنَّه إنْ وُقِفَ عليها كما في الرسْمِ دون ياء خالَفَ النحويين، وإن وقف بالياء خالَفَ رسْم المصْحَف» ، ولا بأسَ بما قالَ؛ لأن الوقْفَ ليس ضروريًّا، فإن اضْطُرَّ إليه واقفٌ؛ لقَطْعِ نفس ونحوه، فينبغي أن يُتابعَ الرسمُ؛ لأنَّ الأطرافَ قد كَثُر حَذفُهَا، ومِمَّا يشبه هذا الموضع قوله: {وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ} [غافر: 9] فإنه رسم «تَقِ» بقافٍ، دون هاءِ سكت، وعند النحويين: أنه أنه إذا حُذِفَ من الفعل شيءٌ؛ حتى لم يَبْقَ منه إلا حرفٌ واحدٌ، ووُقِفَ عليه، وجَبَ الإتيانُ بهاء السكت في آخره؛ جَبْراً له؛ نحو: «قِهْ» و «لَمْ يَقِهْ» و «عِهْ» و «لَمْ يَعِهْ» ، ولا يُعتَدُّ بحرف المضارعة؛ لزيادته على بنية الكلمة، فإذا تقرَّر هذا، فنقول: ينبغي ألاَّ يُوقَفَ عليه؛ لأنه إن وُقِفَ بغير هاءِ سكتٍ، خالف الصناعةَ النحويةَ، وإنْ وُقِفَ بهاء خالف رَسْمَ المُصْحف. والمراد: «يؤتي الله المؤمنين» في الآخِرَةِ، «أَجْراً عَظِيماً» [يعني: الجَنَّة] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 في «مَا» وجهان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 93 أحدهما: أنها استفهامية، فتكون في محل نصب ب «يَفْعَل» وإنما قُدِّم؛ لكونه له صدر الكلام، والباءُ على هذا سببيةٌ متعلقةٌ ب «يَفْعَلُ» ، والاستفهام هنا معناه النفيُ، والمعنى: أن الله لا يفعلُ بعذابِكُمْ شيئاً؛ لأنه لا يجلبُ لنفسِه بعذابكم نفعاً، ولا يدْفَعُ عنها به ضُرًّا، فأيُّ حاجة له في عذابكُمْ؟ [والمقصودُ منه حمل المكلَّفين على فعل الحَسَن والاحتراز عن القبيح] . والثاني: أن «مَا» نافية؛ كأنه قيل: لا يُعذِّبُكُمُ الله، وعلى هذا: فالباء زائدة، ولا تتعلَّق بشيءٍ. [قال شهاب الدين:] وعندي أن هذين الوجهين في المعنى شيءٌ واحدٌ، فينبغي أن تكون سبييةٌ في الموضعين أو زائدة فيهما؛ لأن الاستفهام بمعنى النفْيِ، فلا فرق. وقال البَغَوِي: هذا اسْتِفْهَام بمعْنَى التَّقْرير معناه: إنه لا يُعَذِّبُ المؤمِنَ الشَّاكِر، فإن تَعْذِيبَهُ عِبَادهُ لا يَزِيدُ في مُلْكِهِ، وتَرْكَهُ عُقُوبَتَهُم على فعلهم لا يُنْقصُ من سُلطانِه [والشُّكْرُ ضد الكُفر، والكُفْر سَتْر النِّعْمَة والشُّكْرُ إظهَارُهَا] ، والمصدر هُنا مُضَاف لمفْعُولِهِ. وقوله «إِن شَكَرْتُمْ» جوابُهُ مَحْذُوفٌ؛ لدلالةِ ما قبله عليه، أي: إن شَكَرْتُم وآمَنْتُم فما يَفْعَلُ بعَذابكُم. فصل لِمَ قدَّم الشُّكر على الإيمان في الآية؟ وفي تَقْدِيم الشُّكْرِ على الإيمانِ وُجُوه: الأول: على التَّقْدِيم والتَّأخير، أي: آمَنْتُم وشكرْتُم؛ لأن الإيمان مقدَّمٌ على سَائِر الطَّاعَاتِ، ولا يَنْفَعُ الشكْرُ مع عَدَمِ الإيمَانِ. الثاني: أن الوَاوَ لا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ. الثالث: أن الإنْسَانَ إذا نَظَر إلى نَفْسِهِ، رَأى النِّعْمَة العَظيمَة في تَخْلِيقهَا وتَرْتيبها، فيْشكُر شُكْراً مُجْمَلاً بِهَا، ثُمَّ إذا تَمَّمَ النَّظَر في مَعْرِفَة المُنْعِم، آمَنَ به ثُمَّ شكَر شُكْراً مُفَصَّلاً، فكان ذلك الشكْرُ المُجْمَل مُقَدَّماً على الإيمانِ؛ فَلِهذَا قُدِّمَ عليه في الذِّكْرِ. فصل اسْتَدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّهُ لا يُعَذَّبُ أصْحَاب الكَبَائِرِ؛ لأنا نفرض الكلام فيمن شَكَر وآمن، ثم أقْدَم على الشُّرْبِ أو الزِّنَا، فهذا يَجِبُ ألاَّ يُعَاقَبَ؛ لقوله - تعالى -: {مَّا يَفْعَلُ الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 94 بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} وقد تقدَّم الاسْتِدْلاَل على أنَّ صَاحِب الكَبِيرَةِ مُؤمِنٌ. فصل قالت المُعْتَزِلَة: دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّه - سبحانه [وتعالى]- ما خَلَق خَلْقاً ابْتِدَاءً لأجْلِ التَّعْذِيب والعِقَابِ؛ لأن قوله: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} صريحٌ في أنَّه - تعالى - لَمْ يَخْلُق أحْداً لِغَرَضِ التَّعْذِيبِ. ودلَّت أيضاً على أنَّ فاعل الشُّكْرِ والإيمانِ هو العَبْد، وليس ذلك فِعْلاً للَّه تعالى وإلا لَصَار التَّقْدِير: ما يَفْعَلُ اللَّه بعذَابِكُم بعد أن خَلَقَ الشُّكْرَ والإيمَانَ فِيكُم، وذلك غير مُنْتَظِم. وتقدَّم الجوابُ عن مِثْلِ ذلك. ثم قال {وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً} أمرَهُمْ بالشُّكْرِ، وسَمَّى الجَزَاءَ شُكْراً، على سَبيلِ الاسْتِعَارةِ، فالشُّكْرُ من اللَّهِ هو الرِّضَا بالقَلِيلِ من عِبَادِهِ، وإضْعَافِ الثَّوَابِ عَلَيْه، والشُّكْر من العَبْدِ الطَّاعَة، والمُراد من كونه عَلِيماً: أنَّهُ عَالِمٌ بِجَميع الجُزْئيَّات، فلا يَقَعُ لَهُ الغَلَطُ ألْبَتَّة، فلا جَرَمَ يُوصلُ الثَّوَابَ إلى الشَّاكِرِ، والعِقَابَ إلى المُعرِضِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 في كيفيَّة النَّظْمِ وجهانِ: أحدهما: أنه - تعالى - لمَّا فَضَح المُنَافِقِين وهَتَك سِتْرَهُم، وكان هَتْكُ السِّتْر غَيْرَ لائقٍ بالرَّحِيم الكريم، ذكر - تعالى - ما يَجْري مَجْرَى العُذْرِ من ذَلِك؛ فقال: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ} يعني: لا يُحبُّ إظهارَ الفَضَائِحِ، إلاَّ في حقِّ من عَظُمَ ضَرَرُه وكَثُر كَيْدُه ومَكْرُه، فَعِنْد ذلك يَجُوز إظْهَار فَضَائِحِه؛ ولهذا قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «اذْكُرُوا الفَاسِقَ بِمَا فِيهِ كَيْ يَحْذَرَهُ النَّاسُ» والمُنافِقُون قد كَثُر كيْدهُم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 95 ومَكْرهُم وظُلْمهُم، وضَرَرهُم على المُسْلمِين؛ فلهذا ذَكَر اللَّه فَضَائِحَهُم وكَشَفَ أسْرَارَهُم. وثانيهما: أنَّه - تعالى - قال في الآية الأولى: أن المُنافِقِين إذا تَابُوا وأخْلَصُوا، صارُوا من المُؤمنين، فيُحْتَمَلُ أن يتُوبَ بَعْضُهم ويُخْلصَ تَوْبَته، ثم لا يَسْلمُ من التَّغير والذَّمِّ من بَعْضِ المُسْلِمِين؛ بسبب ما صَدَر عَنْهُ في المَاضِي من النِّفَاقِ، فبين - تعالى - في هذه الآية أنَّه لا يُحِبُّ الجَهْرَ بالسُّوءِ مِنَ القول، إلا مَنْ ظَلَم نَفْسَه وأقَامَ على نِفَاقِهِ، فإنه لا يُكْرَه. قوله: «بالسُّوء» متعلق ب «الجَهْر» ، وهو مصدر معرف ب «أل» استدلَّ به الفارسيُّ على جواز إعمالِ المصدر المعرَّف ب «أل» . قيل: ولا دليلَ فيه؛ لأنَّ الظرفَ والجارَّ يعمل فيهما روائحُ الأفعال، وفاعل هذا المصدر محذوفٌ، أي: الجَهْر أحد، وقد تقدم أن الفاعل يَطَّردُ حذفُه في صُورٍ منها المصْدرُ، ويجوز أن يكون الجهرُ مأخوذاً من فعلٍ مبنيٍّ للمفعول على خلافٍ في ذلك، فيكون الجارُّ بعده في محلِّ رفعٍ لقيامه مقام الفاعل؛ لأنك لو قلْتَ: لا يحبُّ الله أن يُجْهَرَ بالسوء، كان «بِالسُّوءِ» قائماً مقام الفاعل، ولا تعلُّقَ له حينئذٍ به، و «مِنَ القَوْلِ» حال من «السُّوء» . قوله: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} في هذا الاستثناء قولان: أحدهما: أنه متصل. والثاني: أنه منقطع، وإذا قيل بأنه متصل، فقيل: هو مستثنى من «أحَد» المقدَّرِ الذي هو فاعلٌ للمصدر، فيجوز أن تكون «مَنْ» في محلِّ نصبٍ على أصل الاستثناء، أو رفعٍ على البدل من «أحَد» ، وهو المختار، ولو صُرِّح به، لقيل: لا يُحِبُّ الله أنْ يَجْهَرُ أحَدٌ بالسُّوء إلا المَظْلومُ، أو المظلومَ رفعاً ونصباً، ذكر ذلك مكي وأبو البقاء وغيرُهما، قال أبو حيان: «وهذا مذهبُ الفراء، أجاز في» مَا قَامَ إلاَّ زيدٌ «أن يكون» زَيْد «بدلاً من» أحَد «، وأمَّا على مذهب الجمهور، فإنه يكون من المستثنى الذي فُرِّغ له العاملُ، فيكون مرفوعاً على الفاعليَّة بالمصدر، وحسَّن ذلك كونُ الجَهْر في حيِّز النفي، كأنه قيل: لا يَجْهَرُ بالسُّوءِ من القولِ إلا المظلومُ» انتهى، والفرقُ ظاهرٌ بين مذهب الفراء وبين هذه الآية؛ فإن النحويِّين إنما لم يَرَوْا بمذهب الفراءِ، قالوا: لأن المحذوف صار نَسْياً مَنْسِيًّا، وأما فاعل المصْدر هنا، فإنه كالمنطوقِ به ليس منسياً، فلا يلزمُ من تجويزهم الاستثناء من هذا الفاعل المقدَّر أن يكونوا تابعين لمذْهَب الفرَّاء؛ لما ظهر من الفرق، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 96 وقيل: هو مستثنى مفرَّغٌ، فتكون «مَنْ» في محلِّ رفع بالفاعلية؛ كما تقدَّم في كلام أبي حيان، والتفريغُ لا يكون إلا في نفي أو شبهه، ولكنْ لَمَّا وقع الجهْرُ متعلَّقاً للحُبِّ الواقعِ في حيِّز النفْي ساغ ذلك، وقيل: هو مستثنىً من الجَهْر؛ على حذف مضافٍ، تقديرُه: إلا جَهْرَ من ظُلِمَ، فهذه ثلاثة أوجه على تقدير كونه متَّصِلاً، تحصَّل منها في محل «مَنْ» أربعةُ أوجه: الرفع من وجهين، وهما البدلُ من «أحَد» المقدَّر، أو الفاعليَّة؛ على كونه مفرَّغاً، والنصبُ؛ على أصلِ الاستثناء من «أحد» المقدَّر، أو من الجهر؛ على حَذْفِ مضاف. والثاني: أنه استثناءٌ منقطعٌ، تقديرُه: لكنْ مَنْ ظُلِمَ له أن ينتصفَ من ظالمه بما يوازِي ظُلامته، فتكون «مَنْ» في محلِّ نصب فقط على الاستثناء المنقطع. والجمهورُ على {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} مبنياً للمفعول قال القرطبي: ويجوز إسْكان اللاَّم، وقرأ جماعة كثيرة منهم ابن عبَّاس وابن عمر وابن جبير والضحاك وزيد بن أسلم والحسن: «ظَلَمَ» مبنيًّا للفاعل، وهو استثناء منقطعٌ، فهو في محلِّ نصب على أصْل الاستثناء المنقطع، واختلفتْ عبارات العلماء في تقدير هذا الاستثناء، وحاصلُ ذلك يرجعُ إلى أحد تقديرات ثلاثة: إمَّا أن يكون راجعاً إلى [الجملة الأولى؛ كأنه قيل: لا يحبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بالسوء، لكنَّ الظالمَ يُحِبُّهُ، فهو يَفعلُهُ، وإما أنْ يكون راجعاً] إلى فاعل الجَهْر، أي: لا يحبُّ اللَّهُ أن يَجْهَرَ أحدٌ بالسُّوء [لأحَدٍ] ، لكن الظالِمَ يَجْهَرُ به، [وإمَّا أن يُجْهَرَ بالسُّوء لأحدٍ، لكن الظَّالِمَ يُجْهَرُ لَهُ به] ، أي: يُذكر ما فيه من المساوئ في وجهه، لعلَّه أن يرتدع، وكونُ هذا المستثنى في هذه القراءة منصوبَ المحلِّ على الانقطاع هو الصحيحُ، وأجاز ابن عطية والزمخشريُّ أن يكون في محلِّ رفع على البدلية، ولكن اختلف مدركهما. فقال ابن عطية: «وإعرابُ» مَنْ «يحتملُ في بعض هذه التأويلاتِ النَّصْبَ، ويحتملُ الرفع على البدل من» أحَد «المقدَّر» يعني أحداً المقدَّر في المصدر؛ كما تقدَّم تحقيقه. وقال الزمخشريُّ: ويجوز أن يكون «مَنْ» مرفوعاً؛ كأنه قيل: لا يحبُّ اللَّهُ الجهرَ بالسُّوء إلا الظالِمُ، على لغةِ من يقولُ: «مَا جَاءَنِي زَيْدٌ إلاَّ عَمْرو» بمعنى: ما جَاءني إلاَّ عَمْرو «بمعنى: ما جَاءني إلاَّ عَمرٌو، ومنه {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} [النمل: 65] ، ورد أبو حيان عليهما فقال: «وما ذكره - يعني ابن عطية - من جواز الرفع على البدل لا يَصِحُّ؛ وذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 97 أن المنقطع قسمان: قسمٌ يتوجَّه إليه العامل؛ نحو:» ما فِيهَا أحَدٌ إلاَّ حِمَارٌ «فهذا فيه لغتان: لغة الحجاز وجوبُ النصب، ولغةُ تميم جوازُ البدل، وإن لم يتوجه عليه العامل، وجب نصبُه عند الجميع؛ نحو:» المالُ ما زَادَ إلاَّ النَّقْصَ «، أي: لكن حصل له النقصُ، ولا يجوز فيه البدل؛ لأنك لو وجهت إليه العامل، لم يصحَّ» ، قال: والآيةُ من هذا القسم؛ لأنك لو قلت: «لا يُحِبُّ اللَّهُ أن يَجْهَرَ بالسُّوءِ إلا الظالمُ» - فتسلطُ «يَجْهَر» على «الظَّالِمَ» [فتسليط يجهر على الظالم يصح] . قال: «وهذا الذي جَوَّزه - يعني الزمخشريَّ - لا يجوز؛ لأنه لا يمكن أن يكون الفاعلُ لَغْواً، ولا يمكنُ أن يكون الظالمُ بدلاً من» الله «، ولا» عَمْرو «بدلاً من» زَيْد «؛ لأنَّ البدلَ في هذا البابِ يَرْجِع إلى بدل بعضٍ من كلٍّ حقيقة؛ نحو:» مَا قَامَ القَوْمُ إلاَّ زَيدٌ «، أو مجازاً؛ نحو:» مَا فِيهَا أحدٌ إلاَّ حِمَارٌ «، والآيةُ لا يجوز فيها البدلُ حقيقةً، ولا مجازاً، وكذا المثالُ المذكور؛ لأن الله تعالى عَلَمٌ، وكذا زيدٌ، فلا عموم فيهما؛ ليتوَهَّمَ دخولُ شيءٍ فيهما فيُستثنى، وأمَّا ما يجوزُ فيه البدلُ من الاستثناء المنقطع؛ فلأنَّ ما قبله عامٌّ يُتوهَّم دخولُه فيه، فيُبْدلُ ما قبله مجازاً، وأمَّا قوله على لغة من يقول:» مَا جَاءنِي زَيْدٌ إلا عمرٌو «، فلا نعلم هذه لغة إلا في كتاب سيبويه، بعد أن أنشد أبياتاً في الاستثناء المنقطع آخرها: [الطويل] 1898 - عَشِيَّةَ مَا تُغْنِي الرِّمَاحُ مَكَانَهَا ... ولا النَّبْلُ إلاَّ المَشْرِفِيُّ المُصَمِّمُ [ما نصُّه:] » وهذا يُقَوِّي: «ما أتَانِي زَيْدٌ إلا عَمرٌو، ومَا أعانهُ إخْوَانكُم إلاَّ إخْوانُه» ؛ لأنها معارفُ ليست الأسماء الآخرة بها ولا بعضها «ولم يصرِّح، ولا لَوَّحَ أن» مَا أتَانِي زَيدٌ إلاَّ عمرٌو «من كلام العرب، قال من شرح كلام سيبويه: فهذا يُقَوِّي» مَا أتَانِي زَيْدٌ إلا عمرٌو «، أي: ينبغي أن يَثْبُتَ هذا من كلام العرب؛ لأن النبل معرفةٌ ليس بالمشرفيِّ، كما أن زيداً ليس بعمرو، كما أنَّ إخوة زيدٍ ليسوا إخوتَكَ، قال أبو حيان:» وليس «مَا أتَانِي زَيدٌ إلاَّ عمرٌو» نظير البيت؛ لأنَّه قد يُتَخَيَّلُ عمومٌ في البيت؛ إذ المعنى: لا يُغْنِي السلاح، وأمَّا «زَيْد» فلا يتوهَّم فيه عمومٌ؛ على أنه لو ورد من كلامهم: «مَا أتَانِي زَيدٌ إلاَّ عمرٌو» ، لأمكن أن يصحَّ على «مَا أتَانِي زَيدٌ ولا غَيرُهُ إلاَّ عمرٌو» ، فحذف المعطوفُ؛ لدلالة الاستثناء عليه، أمَّا أن يكون على إلغاء الفاعل، أو على كون «عَمْرو» بدلاً من «زَيْد» ، فإنه لا يجوز، وأمَّا الآية فليست ممَّا ذكر؛ لأنه يحتمل أن تكون «مَنْ» مفعولاً بها، و «الغَيْبَ» بدلٌ منها بدلُ اشتمال، والتقديرُ: لا يعلم غيب من في السماوات والأرض إلاَّ اللَّهُ، أي: سِرَّهُمْ وعلانيتَهُمْ لا يَعْلَمُهُم إلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 98 الله، ولو سُلِّم أن «مَنْ» مرفوعةُ المحلِّ، فيتخيلَّ فيها عمومٌ، فيُبدل منها «الله» مجازاً؛ كأنه قيل: لا يعلمُ المَوْجُودُونَ الغَيْبَ إلاَّ اللَّهُ، أو يكونُ على سبيل المجازِ في الظرفيَّة بالنسبة إلى الله تعالى؛ إذ جاء ذلك عنه في القرآن والسنة نحو: {وَهُوَ الله فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} [الأنعام: 3] {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله} [الزخرف: 84] ، قال «أيْنَ الله» قالت: «فِي السَّماءِ» ، ومن كلام العرب: «لا وَذُو في السَّمَاءِ بَيْتُهُ» يعنون اللَّه، وإذ احتملت الآيةُ هذه الوجوه، لم يتعيَّنْ حملُها على ما ذكره «انتهى ما رَدَّ به عليهما. [وقال شهاب الدين:] أمَّا ردُّه على ابن عطية، فواضحٌ، وأمَّا ردُّه على الزمخشريِّ، ففي بعضه نَظَرٌ، أما قوله:» لا نعلمُهَا لغة إلا في كتاب سيبويه «، فكفى به دليلاً على صحة استعمال مثله، ولذلك شَرَح الشُّرَّاحُ لكتاب سيبويه هذا الكلام؛ بأنه قياسُ كلام العرب لما أنشد من الأبيات، وأمَّا تأويله» مَا أتَانِي زَيْدٌ إلاَّ عمرٌو «ب» مَأ أتَانِي ولا غَيْرُهُ «، فلا يتعيَّنُ ما قاله، وتصحيحُ الاستثناء فيه أنَّ قول القائل:» مَا أتَانِي زَيْدٌ «قد يوهِمُ أن عمراً ايضاً لم يَجِئْهُ، فنفى هذا التوهُّمَ، وهذا القدْر كافٍ في الاستثناء المنقطع، ولو كان تأويلُ» مَا أتَانِي زَيْدٌ إلاَّ عَمْرٌو «على ما قال، لم يكن استثناءً منقطعاً بل متصلاً، وقد اتفق النحويُّون على أن ذلك من المنقطِعِ، وأمَّا تأويلُ الآية بما ذكره، فالتجوُّزُ في ذلك أمرٌ خَطِرٌ، فلا ينبغي أن يُقْدَمَ على مِثْله. فصل قال المفسرون: معنى {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء} : القَوْل القَبِيح، {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} فيجوز للمَظْلُوم أن يُخْبِر عن ظُلْمِ الظَّالِمِ، وأن يَدْعُو عليه؛ قال -[تعالى]- : {وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ} [الشورى: 41] . قال الحسن دُعَاؤه عليه أن يقول:» اللهُمَّ أعِنِّي عليه، اللَّهُمَّ استَخْرِج حَقِّي [اللهم حُل بَيْنِي وبَيْن ما يُرِيد ونحوه من الدعاء] . وقيل: إن شُتم جَازَ أن يَشْتُمَ بمثلِهِ، ولا يَزِيد عَلَيْه. قال ابن عبَّاس وقتادة: لا يُحِبُّ الله رفْعَ الصَّوْتِ بما يَسُوء غيْرَه، إلا المَظْلُوم فإنَّ له أنْ يَرْفَع صوْتَهُ بالدُّعَاءِ على ظَالمِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 99 وقال مُجَاهِد: إلا أنْ يَجْهَرَ بِظُلْمِ ظالِمِه لَهُ. وقال الأصَمُّ: لا يَجُوزُ إظهَار الأحْوَال المستُورَة؛ لأن ذَلِكَ يصير سَبَباً لِوُقُوع النَّاسِ في الغيبَةِ؛ ووُقُوع ذلك الإنْسَان في الرِّيبَةِ، ولكن من ظَلَمَ فيجوز إظْهَارُ ظُلْمِهِ؛ بأن يُذْكَر أنَّه سَرَق أوْ غَصَب. وقيل: نزلت في أبِي بكرٍ الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «فإنَّ رَجُلاً شَتَمَهُ، فسَكَت مِرَاراً ثُمّ رَدّ عليه، فقام النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فقال أبُو بَكْر: شَتَمَنِي وأنت جَالِسٌ، فلَّما رَدَدْتُ عليه قُمْتَ. قال: إن ملكاً كان يَرُدُّ عَنْك، فلما رَدَدْتَ [عليه] ذهَبَ المَلَكُ وجاء الشَّيْطَانُ، فلم أجْلِسْ عند مَجِيء الشَّيْطَانِ» ، فنزلَت الآية. وقيل: نَزَلَتْ في الضيفِ؛ روى عُقْبَة بن عَامِرٍ قال: «قُلْنَا يا رسُول الله: إنك تَبْعَثُنا فَنَنْزِلُ على قومٍ لا يُقرُونا فما تَرَى؟ فقال النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إن نَزَلْتُمْ بِقَومٍ فأمَرُوا لَكُم بما ينْبَغِي للضَّيْفِ، فاقْبَلُوهُ، فإنْ لَمْ يَفْعَلُوا، فَخُذُوا مِنْهُم حَقَّ الضَّيْف الذي يَنْبَغِي لَهُم «. وقيل: معنى الآيةِ إلا من أكْرِهَ [على] أنْ يَجْهَر بسُوءٍ من القولِ كُفْراً كان أو نحوه، فذلك مُبَاحٌ فالآيَةُ على ذَلِك في الإكْرَاه. قال قُطْرب: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} يريد: المُكْرَه؛ لأنه مَظْلُومٌ، قال: ويجُوز أنْ يكون المَعْنَى إلا من ظُلِمَ على البَدَلِ؛ كأنه قال: لا يُحِبُّ الله إلا مَنْ ظُلِمَ، أي: لا يُحِبُّ الظَّالِمَ؛ كأنه يقُول: يُحِبُّ من ظُلِم [أي: يَأجُرُ من ظُلِمَ] ، والتقدير على هذا القَوْلِ: لا يُحِبُّ الله ذَا الجَهْرِ بالسُّوءِ إلا مَنْ ظُلِمَ على البَدَلِ. قال القُرْطُبِيُّ: وظاهر الآيَةِ يَقْتَضِي أنَّ للمَظْلُومِ أن يَنْتَصِر من ظَالمِهِ ولكن مع اقْتِصَادٍ إن كان مُؤمِناً، كما قال الحسن، فأمَّا أن يُقَابِلَ القَذْفَ بالقذف ونحوه فلا، وإن كان كَافِراً فأرْسِلْ لِسَانَك وادْعُ بِمَا شِئْتَ؛ كما فعل النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حيث قال:» اللَّهُمَّ اشْدُدْ وَطْأتَكَ على مُضَر، واجْعَلْهَا عَلَيْهِم سنين كَسِني يُوسُف «. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 100 فصل: لا يحب الله الجهر بالسوء ولا غير الجهر قال العُلَمَاء: إنه - تعالى - لا يُحِبُّ الجَهْرَ بالسُّوءِ من القَوْلِ ولا غَيْر الجَهْر، وإنما ذكر هذا الوصف؛ لأن كيفيَّة الواقِعَة أوْجَبَتْ ذلك؛ كقوله - تعالى -: {إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ} [النساء: 94] والتَّبَيُّن واجِبٌ في الظَّعْنِ والإقَامَة، فكذا هَهُنَا. فصل شبهة المعتزلة وردها قالت المعتزلةُ: دلت الآيةُ على أنَّهُ لا يُرِيدُ من عِبَادِهِ فِعْلَ القَبَائِحِ ولا يَخْلُقُها؛ لأن مَحَبَّة الله عِبَارةٌ عن إرادته، فلما قال: {لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول} . علمنا أنه لا يُرِيدُ ذلك، وأيْضاً لو كَانَ خَالِقاً لأفْعَالِ العِبَادِ، لكان مُرِيداً لَهَا؛ ولو كان مُريداً لَهَا، لكان قَدْ أحَبَّ إيجَادَ الجَهْرِ بالسُّوءِ من القَوْلِ، وهو خِلاَفُ الآيَةِ. والجواب: المَحبَّة عِبَارَةٌ عن إعْطَاء الثَّوَابِ على القَوْلِ، وعلى هذا يَصِحُّ أن يُقال: إنَّه - تعالى - أرادَهُ ولكِنَّهُ ما أحَبَّهُ. ثم قال: {وَكَانَ الله سَمِيعاً عَلِيماً} وهو تَحْذِيرٌ من التَّعَدِّي في الجَهْرِ المأذُونِ فيه، يعني: فَلْيتَّقِ اللَّه ولا يَقُل إلاَّ الحقَّ، فإنه سَمِيعٌ لما تقوله، عليم بما تُضْمِرُه، وقيل: سَمِيعٌ لِدُعَاءِ المَظْلُوم، عَلِيمٌ بعِقَابِ الظَّالِمِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 قيل: «تُبْدُواْ خَيْراً» أي: حَسَنَةً فيَعْمَل بها، كُتِبَتْ عَشْرَةٌ، وإن هَمَّ بِهَا ولم يَعْمَلْهَا، كُتِبَتْ له حَسَنةٌ واحدةٌ، وهو قوله: «أَوْ تُخْفُوهْ» . وقيل: المُراد مِنَ الخَيْرِ: المَال؛ لقوله: {إِن تُبْدُواْ خَيْراً} والمَعْنَى: إن تُبْدُوا صَدَقَةً تُعطُونَها جَهْراً، أو تُخْفُوها فتُعْطُوها سِرّاً، {أَوْ تَعْفُواْ عَن سواء} أي: عن مَظْلَمةٍ والظاهر أن الضَّمِير المَنْصُوب في «تُخْفُوه» عائِدٌ على «خَيْراً» ، والمُراد به: أعْمَالُ البرِّ كُلُّها، وأجَازَ بَعْضُهم أن يعُودَ على «السُّوءِ» أي: أو تُخْفُوا السُّوءَ، وهو بَعِيد. ثم قال: {فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً} . قال الحسن: يَعْفُو عن الجَانِبَيْن مع قُدرَتِهِ على الانْتِقَامِ، فعَلَيْكُم أن تَقْتَدُوا بِسُنَّةِ اللَّهِ، وقال الكْلَبِي: اللَّهُ أقْدَرُ على عَفْوِ ذُنُوبكُم مِنْكَ على عَفْوِ صَاحِبِك، وقيل: عَفُوًّا لمن عَفَى، قَدِيراً على إيصَالِ الثَّوَابِ إليْه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 101 لما تكلم على طَرِيقَة المُنَافِقِين، أخَذَ يتكَلَّم على مَذَاهَب اليَهُودِ والنَّصَارى ومناقضاتهم، وذكر في آخِرِ هذه السُّورَةِ من هذا الجِنْسِ أنْوَاعاً: أولها: إيمَانهم ببعْضِ الأنبياءِ دون بعضٍ؛ لأنهم كَفَرُوا بمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فبيَّن أن الكُفْرَ به كُفْرٌ بالكُلِّ؛ لأن ما مِنْ نَبِيٍّ إلا وقد أمَر قَوْمَه بالإيمانِ بمُحَمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وبجميع الأنْبِيَاء. قال المُفَسِّرون: نزلت هذه الآيةٌ في اليَهُودِ، وذلِك أنَّهُم آمَنُوا بمُوسَى، والتَّوْرَاة، وعُزَيْر، وكَفَرُوا بعيسى، والإنْجِيل، وبمُحَمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، والقرآن، {وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} أي: بين الإيمانِ بالكُلِّ وبَيْن الكُفْرِ بالكُلِّ سَبِيلاً، أي: وَاسِطَة، وهي الإيمانُ بالبَعْضِ دُون البَعْضِ، وأشير ب «ذلك» وهو للمُفْرَد، والمُرَادُ به: البَيِّنَة، أي: بين الكُفْرِ والإيمانِ، وقد تَقَدَّم نظيرها في البَقَرَة، وفي خَبَرِ «إنَّ» قولان: الأول: أنه مَحْذُوف، تقديره: جمعوا المخازي. والثاني: هو قوله: {أولئك هُمُ الكافرون} والأوَّل أحْسَن لوجهين: أحدهما: أنه أبْلَغُ؛ لأن الجواب إذا حُذِفَ ذهب الوَهْمُ كُلَّ مَذْهَبٍ، فإذا ذكر بَقِي مُقْتَصِراً على المَذْكُورِ. والثاني: أنه رأسُ آيةٍ، والأحْسَن ألا يكون الخَبَرُ مُنْفَصِلاً عن المُبْتَدأ، و «بَيْنَ» يجوزُ أن يكونَ مَنْصُوباً ب «يَتَّخِذُوا» ، وأن يكُون مَنْصُوباً بمحْذُوفٍ؛ إذ هو حَالٌ من «سَبيلاً» . قوله: «حَقّاً» فيه أوجه: أحدها: أنه مصدر مؤكِّد لمضْمُون الجُمْلَة [قَبْلَه] ، فيَجِبُ إضْمَارُ عَامِلِه وتأخيرُه عن الجُمْلَة المؤكِّد لَهَا، والتقدير: أحُقُّ ذلك حَقاً، وهكذا كُلُّ مَصْدَر مؤكِّدٍ لِغَيْره أو لِنَفْسِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 102 قال بعضهم: انْتَصَبَ «حَقّاً» على مِثْلِ قولك: «زَيْدٌ أخُوك حَقّاً» ، تقديره: أخْبَرْتُك بهذا المَعْنَى إخْبَاراً حَقّاً. والثاني: أنه حالٌ من قوله: «هُمُ الكَافِرُونَ» قال أبو البقاء: أي: «كَافِرُون غير شَكٍّ» وهذا يشبه أن يكونَ تفسيراً للمصْدر المؤكد، وقد طعن الواحديُّ على هذا التوجيه؛ فقال: «الكُفْرُ لا يكُونُ حَقًّا بوجْهٍ من الوجوه» ، والجوابُ: أنَّ الحقَّ هنا ليس يرادُ به ما يقابلُ الباطلَ، بل المرادُ به أنه ثابتٌ لا محالةَ، وأنَّ كفرهم مقطوعٌ به. الثالث: أنه نعتٌ لمصدر محذوف، أي: الكافرون كُفْراً حَقًّا، وهو أيضاً مصدر مؤكِّد، ولكن الفرق بينه وبين الوجه الأول، أنَّ هذا عاملُه مذكورٌ، وهو اسمُ الفاعل، وذاك عاملُه محذوف. فصل أي: كانوا كَافِرين حَقّاً لوجْهَيْن: الأول: أن الدَّليلَ الذي يدُلُّ على نُبُوَّة البَعْضِ، ألزم مِنْه القطع بأنَّه حَيْث حصلت المُعْجِزَة حصلت النُّبُوَّة، فإن جَوَّزْنَا في بَعْضِ المواضِع حُصُول المُعْجِز بدُون الصِّدْق، تعذَّر الاستدلال بالمُعْجِزِ على الصِّدْق، وحينئذٍ يَلْزَم الكُفْرُ بِجَميعِ الأنْبِيَاءِ، فَثَبت أنَّ من لَمْ يَقْبَل نُبُّوة أحدٍ من الأنْبِيَاء، لَزِمَهُ الكُفْرُ بجَميعِ الأنْبِيَاءِ. فإن قيل: هَبْ أنه يَلْزَم الكُفْرُ بكل الأنْبِيَاءِ، ولكن لَيْسَ إذا توجَّه بَعْضُ الإلْزَامَاتِ على إنسانٍ، لزِمَ أن يكُون ذَلِك الإنْسَان قَائِلاً به، فإلْزَامُ الكُفْرِ غَيْر [والتزام الكفر غير] فالقَوْمُ لمَّا لمْ يَلْتَزِمُوا ذلك، فكَيْفَ يَقْضِي عَلَيْهم بالكُفْرِ. فالجواب: [الإلْزَامُ] إذا كان خَفِيّاً بحَيْث يُحْتَاج فيه إلى فِكْرٍ وتأمُّلٍ، كان الأمْرُ كما ذَكَرْتم، أمَّا إذا كان جَلِيّاً وَاضِحاً، لم يَبْقَ بَيْن الإلْزَامِ والالْتِزَام فَرْقٌ. الوجه الثاني: هو أنّ قَبُولَ البَعْضِ دون الكُلِّ إن كان لِطَلَبِ الرِّيَاسَة، كان ذلك في الحقيقة كُفْراً بكل الأنبياء [عليهم السلام] . {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً} [ «وأعتدنا» أي: هَيَّأنَا] {لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِينا} ولمَّا ذكر الوعيد، أتْبَعَهُ بذِكْرِ الوَعْدِ؛ فقال: {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ} الآية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 103 قد تقدَّم الكلامُ على دخول «بَيْنَ» على «أحَد» في البقرة فأغنَى عن إعادته، وقرأ الجمهور: «سَوْفَ نُؤتيهم» بنونِ العظمة؛ على الالتفات، ولموافقةِ قوله: «وأعْتَدْنَا» ، وقرأ حفصٌ عن عاصمٍ بالياء، أعاد الضمير على اسْمِ الله تعالى في قوله: {والذين آمَنُواْ بالله} . وقول بعضهم: قراءة النون أولى؛ لأنها أفْخَمُ، ولمقابلة «وأعْتَدْنَا» ليس بجيِّد لتواتُرِ القراءتَيْنِ. والمعنى: آمَنُوا باللَّه ورَسُلِهِ كُلِّهِم، ولَمْ يُفَرِّقُوا بين أحد من الرُّسُلِ، يقولون: لا نُفَرِّق بين أحدٍ من رُسُلِه، {أولئك سوف نؤتيهم أجورهم} بإيمانِهِم باللَّهِ وكُتُبِهِ ورسُلِهِ، {وَكَانَ الله غَفُوراً} : يغفر سَيِّئاتهم، «رحيماً» بهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 وذلك أن كَعْبَ بنَ الأشْرَف، وفنحَاصَ بن عَازُورَاء من اليَهُودِ قالا لِرَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن كُنْتَ نَبِيّاً فأتِنَا بكِتَابٍ جُمْلةً من السَّماءِ؛ كما أتَى [به] مُوسى - عليه السلام -، فأنزل الله - تعالى -: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء} . وكان هذا السُّؤال مِنْهُم تَحَكُّماً واقْتِرَاحاً، لا سُؤال انْقِيَادٍ، واللَّه - تعالى - لا يُنَزِّل الآيَاتِ على اقْتِرَاحِ العِبَادِ، والمَقْصُود من الآيَةِ: بيان ما جَبِلوا عليه من التَّعنَّتِ؛ كأنه قِيلَ: إن مُوسَى لمَّا نزلَ عليه كِتَابٌ من السَّمَاءِ، لم يكْتَفُوا بِذلكَ القَدْر، بل طَلَبُوا مِنْهُ الرُّؤيَة على سَبِيلِ المُعَايَنَةِ، فكان طَلَبُ هؤلاءِ الكِتَاب لَيْس لأجْلِ الاسْتِرْشَادِ، بل لمَحْضِ العِنَادِ. قوله: «فَقَدْ سَأَلُوا» : في هذه الفاءِ قولان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 104 أحدهما: أنها عاطفةٌ على جملة محذوفة، قال ابن عطيَّة: «تقديره: فلا تبال، يا محمَّد، بسؤالِهِم، وتشطيطهم، فإنها عادُتُهمْ، فقد سألوا موسى أكبر من ذلك. والثاني: أنها جوابُ شرطٍ مقدَّر، قاله الزمخشريُّ أي: إن استكْبَرْتَ ما سألوه منْكَ، فقد سَألُوا» ، و «أكْبَرَ» صفةٌ لمحذوف، أي: سؤالاً أكْبَرَ من ذَلِكَ، والجمهور: «أكبرَ» بالباء الموحدة، والحسن «أكْثَرَ» بالثاء المثلثة. ومعنى «أكْبَر» أي: أعْظَم من ذَلِك، يعني: السَّبْعِين الَّذِين خَرَجَ بِهِمْ [مُوسَى] إلى الجَبَلِ، {فقالوا: أَرِنَا الله جَهْرَةً} أي: عِياناً، فقولهم: «أرِنَا» جُمْلَة مفَسِّرة لِكبَرِ السُّؤال، وعِظَمِه. [و «جَهْرَةَ» تقدَّم الكلام عليها، إلا أنه هنا يجوز أن تكون «جَهْرَةً» من صفةِ القوْلِ، أو السؤالِ، أو مِنْ صفةِ السائلين، أي: فقالوا مجاهِرِين، أو: سألوا مجاهرينَ، فيكونُ في محلِّ نَصْبٍ على الحال، أو على المَصْدر، وقرأ الجمهور «الصَّاعِقَةُ» . وقرأ النَّخَعِيُّ: «الصَّعْقَةُ» وقد تقدَّم تحقيقه في البقرة والباء في «بِظُلْمِهِمْ» سببيةٌ، وتتعلَّق بالأخْذ] . قوله: {ثُمَّ اتخذوا العجل} يعنى: إلهاً، {مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات} وهي الصَّاعِقَة، وسمَّاها بَيِّنَاتٍ - وإن كَانَتْ شَيْئاً وَاحِداً؛ لأنها دالَّةٌ على قُدْرَة الله - تعالى -، وعلى عِلْمهِ وعلى قدمِهِ، وعلى كَوْنهِ مُخَالِفاً للأجْسَامِ والأعْرَاضِ، وعلى صِدْق مُوسَى. وقيل: «البَيِّنَات» إنْزَال الصَّاعِقَةِ وإحْيَاؤُهُم بعد إمَاتِتِهم. وقيل: المُعْجِزَاتُ التي أظْهَرَها لِفِرْعَوْن، وهي العَصَا، واليَدُ البَيْضَاءُ، وفَلْقُ البَحْرِ، وغيرها من المُعْجِزَات القاهرة. ثم قال: {فَعَفَوْنَا عَن ذلك} ولم نَسْتَأصِلْهُم. قيل: هذا اسْتِدْعَاءٌ إلى التَّوْبَة، مَعْنَاه: أن أولئك الَّذِين أجْرَمُوا تَابُوا، فَعَفَوْنَا عَنْهُم، فتُوبوا أنْتُم حتى نَعْفُوا عَنْكُم. وقيل: مَعْنَاه: أن قَوْم مُوسَى - وإن كَانُوا قَدْ بَالَغُوا في اللِّجَاجِ والعِنَادِ، لكنا نَصَرْنَاهُ وقَرَّبْنَاهُ فعَظم أمْرُه وضَعُفَ خَصْمُه، وفيه بِشَارَةٌ للرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على سبيلِ التَّنْبِيهِ والرَّمْزِ، وهو أنَّ هؤلاء الكُفارِ وإن كانوا يُعَانِدُونه - فإنَّه بالآخِرَة يَسْتَوْلي عَلَيْهم ويَقْهَرُهُم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 105 ثم قال [- تعالى -] : {وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً} أي: حُجَّة بَيِّنَة، وهي الآيات السَّبْع. قوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بِمِيثَاقِهِمْ} [في «فوقهم» : وجهان: أظهرهما أنه متعلق ب «رَفَعْنا» ، وأجاز أبو البقاء وجهاً ثانياً وهو أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ لأنه حالٌ من الطور. و «بميثاقهم» متعلقٌ أيضاً بالرفع، والباءُ للسببية، قالوا: وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ تقديرُه: بنقض ميثاقهم] . [و] قال بَعْضُ المفَسِّرين: إنهم امْتَنَعُوا من قُبُول شَرِيعَة التَّوْرَاةِ، ورفع الله الجَبَل فَوْقَهُم حَتَّى قَبِلُوا، والمعنَى: ورفَعْنَا فَوْقَهُم الطُّورَ؛ لأجْلِ أن يُعْطُوا المِيثَاقَ بقُبُول الدِّين. وقال الزمخشريُّ: «بِمِيثَاقِهِمْ: بسبب ميثاقهم؛ ليخافوا فلا ينقضُوه» وظاهر هذه العبارة: أنه لا يُحْتَاجُ إلى حذْفِ مضاف، بَلْ أقول: لا يجُوزُ تقدير هذا المضافِ؛ لأنه يقتضي أنهم نقضوا الميثاق، فرَفَعَ اللَّهُ الطُّورَ عليهم؛ عقوبةً على فعلِهِمُ النقضَ، والقصةُ تقتضي أنَّهم هَمُّوا بنقضِ الميثاق، فرفعَ اللَّهُ عليهم الطُور، فخافُوا فلم يَنْقُضُوهُ، [وإن كانوا قد نَقَضُوه] بعد ذلك، وقد صَرَّحَ أبو البقاء بأنهم نقضوا الميثاقَ، وأنه تعالى رفع الطُّور عقوبةً لهم فقال: «تقديرُه: بنَقْضِ ميثاقِهِمْ، والمعنى: ورَفَعْنَا فوقَهُمُ الطُّور؛ تخْويفاً لَهُمْ بسبب نقْضِهِم الميثاق» ، وفيه ذلك النظرُ المتقدِّم، ولقائلٍ أن يقول: لمَّا هَمُّوا بنقْضه وقاربوه، صحَّ أن يقال: رَفَعْنَا الطُّورَ فوقهم؛ لنقضهم الميثاق، أي: لمقاربتهم نقضَهُ، لأنَّ ما قارب الشيء أعْطِيَ حكمَه؛ فتصِحُّ عبارةُ مَنْ قدَّر مضافاً؛ كأبي البقاء وغيره. وقال بَعْضُ المُفَسِّرين: إنَّهُم أعْطوا المِيثَاقَ على أنهم إن هَمُّوا بالرُّجُوع عن الدِّينِ، فاللَّهُ - تعالى - يُعَذِّبهم بأيِّ أنْواعِ العذابِ، أراد: فَلَمَّا هَمُّوا بَتَرْكِ الدِّينِ، أظَلَّ اللَّهُ الطُّورَ عَلَيْهِم. والميثاق مصدر مضاف لمفعوله، وقد تقدَّم في البقرة الكلام على قوله {ادخلوا الباب سُجَّداً} ، و «سُجَّداً» حالٌ من فاعل «ادْخُلُوا» . قوله: «لاَ تَعْدُوا» قرأ الجمهور: «تَعْدُوا» بسكون العين، وتخفيف الدال مِنْ عَدَا يَعْدُو، كَغَزَا يَغْزُو، والأصل: «تَعْدُوُوا» بواوين: الأولى لام الكلمة والثانية ضمير الفاعلين، فاستثقلتِ الضمة على لام الكلمة، فحُذِفَتْ، فالتقى بِحَذْفِها ساكنان، فحُذِفَ الأوَّل، وهو الواو الأولى، وبقيتْ واو الفاعلين، فوزنه: تَفْعُوا ومعناه: لا تعْتَدُوا ولا تَظْلِمُوا باصْطِيَاد الحِيتانِ فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 106 قال الوَاحِدِي: يُقال: عَدَا عليه أشَدَّ العَدَاءِ [والعَدْو] والعُدْوَان، أي: ظَلَمَه، وجَاوَز الحَدَّ؛ ومنه قوله: {فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] وقيل: {لاَ تَعْدُواْ فِي السبت} من العَدْوِ بمعْنَى الحُضْرِ، والمُرَادُ به النَّهْي عن العَمَل والكَسْبِ يَوْم السَّبْتِ؛ كأنه قِيل: اسْكُنُوا عَنِ العَمَلِ في هَذَا اليَوْم واقْعُدوا في مَنَازِلِكُم [فأنا الرَزَّاق] . وقرأ نافع بفتح العين وتشديد الدال، إلا أن الرواة اختلفوا عن قالون عن نافع: فرَوَوْا عنه تارةً بسكون العين سكوناً محضاً، وتارةً إخفاء فتحة العين، فأما قراءة نافع، فأصلها: تَعْتَدُوا، ويدلُّ على ذلك إجماعُهُمْ على: {اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت} [البقرة: 65] كونه من الاعتداء، وهو افتعالٌ من العدوان، فأُريد إدغامُ تاء الافتعال في الدالِ، فنُقِلتْ حركتُها إلى العين، وقُلبت دالاً وأدغمت. وهذه قراءةٌ واضحةٌ، وأما ما يُروَى عن قالون من السكُون المحْضِ، فشيءٌ لا يراه النحْويُّون؛ لأنه جَمْعٌ بين ساكنينِ على غير حَدِّهما، وأمَّا الاختلاسُ فهو قريب للإتيان بحركة ما، وإن كانت خفيَّةً، إلا أنَّ الفتحة ضعيفةٌ في نَفْسِهَا، فلا ينبغي أن تُخْفَى لِتُزادَ ضعفاً؛ ولذلك لم يُجز القراءُ رَوْمَهَا وقْفاً لضعفِها، وقرأ الأعمش: «تَعْتَدُوا» بالأصل الذي أدغَمُه نافع. ثم قال {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} قال القفال: المِيثَاقُ الغَلِيظُ: هو العَهْدُ المؤكَّدُ غَايَة التَّوْكِيدِ. قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ} : في «مَا» هذه وجهان: أحدهما: أنها زائدةٌ بين الجارِّ ومجروره تأكيداً. والثاني: أنها نكرة تامَّة، و «نَقْضِهِمْ» بدلٌ منه، وهذا كما تقدَّم في [قوله] {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله} [آل عمران: 159] . و «نَقْضِ» مصدرٌ مضاف لفاعله، و «مِيثَاقَهُمْ» مفعوله، وفي متعلَّق الباءِ الجارةِ ل «مَا» هذه وجهان: أحدهما: أنه «حَرَّمْنَا» المتأخِّر في قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا} [النساء: 160] وعلى هذا، فيقال: «فَبِظُلْمٍ» متعلِّق ب «حَرَّمْنَا» أيضاً، فيلزم أن يتعلق حرفاً جَرٍّ متحدانِ لفظاً ومعنًى بعاملٍ واحدٍ؛ وذلك لا يجوز إلا مع العطف أو البدل، وأجابوا عنه بأن قوله «فَبِظُلْمٍ» بدل من قوله «فبمَا» بإعادة العامل، فيقال: لو كان بدلاً لما دخلَتْ عليه فاءُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 107 العطف؛ لأن البدل تابعٌ بنفسه من غير توسُّطِ حرفِ عطفٍ، وأُجيبَ عنه بأنه لمَّا طالَ الكلام بين البدل والمبدلِ منه، أعادَ الفاءَ للطُّولِ، ذكر ذلك أبو البقاء والزَّجَّاج والزمخشريُّ وأبو بَكْرٍ وغيرهم. ورَدَّه أبو حيان بما معناه أنَّ ذلك لا يجوز لطُول الفصْل بين المبدَلِ والبدل، وبأنَّ المعطوفَ على السببِ سببٌ، فيلزمُ تأخُّرُ بعضِ أجزاءِ السبب الذي للتحريم في الوقتِ عن وقت التحريم؛ فلا يمكنُ أن يكون سبباً أو جزء سببٍ إلا بتأويلٍ بعيدٍ، وذلك أن قولهم: {إِنَّا قَتَلْنَا المسيح} وقولهم على مريم البهتان إنما كان بعد تحْريم الطيبات، قال: «فالأوْلَى أن يكونَ التقدير: لَعَنَّاهُمْ، وقد جاء مصرَّحاً به في قوله: فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم» . والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف، فقدَّره ابنُ عطيَّة: لعنَّاهُمْ وأذْلَلْنَاهُمْ وختمنا على قلُوبهم، قال: «وحَذْفُ جواب مثْلِ هذا الكلام بليغٌ» ، وتسميةُ مثل هذا «جَوَاب» غيرُ معروف لغةً وصناعةً، وقدَّره أبو البقاء: «فَبِمَا نَقْضِهِمْ ميثاقَهُمْ طُبعَ على قُلُوبِهِمْ، أوْ لُعِنُوا، وقيل: تقديرُه: فبما نقضهِمْ لا يُؤمِنُونَ، والفاءُ زائدةٌ» . [أي: في قوله تعالى {فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} ] . انتهى. وهذا الذي أجازه أبو البقاء تَعَرَّضَ له الزمخشريُّ، وردَّه، فقال: «فإن قلْتَ: فهلاَّ زَعَمْتَ أنَّ المحذوفَ الذي تعلَّقَتْ به الباء ما دَلَّ عليه قوله» بَلْ طَبَعَ اللَّهُ، فيكون التقديرُ: فبمَا نقضِهِمْ طَبَعَ اللَّهُ على قُلُوبِهِمْ، بل طَبَعَ الله عَلَيْهَا بكُفْرهِمْ قلت: لم يصحَّ لأن قوله: {بل طبع الله عليها بكفرهم} ردٌّ وإنكارٌ لقولهم: «قُلُوبُنَا غُلْفٌ» ، «فكانَ متعلِّقاً به» ، قال أبو حيان: «وهو جوابٌ حسنٌ، ويمتنعُ من وجهٍ آخر، وهو أنَّ العطفَ ب» بَلْ «للإضرابِ، والإضرابُ إبطالٌ، أو انتقالٌ، وفي كتاب الله في الإخبار لا يكون إلا للانتقالِ، ويُسْتفادُ من الجملةِ الثانية ما لا يُسْتفاد من الأولى، والذي قَدَّره الزمخشريُّ لا يَسُوغُ فيه الذي قرَّرناه؛ لأنَّ قوله: فَبِمَا نَقْضِهِم ميثَاقَهُمْ وَكُفْرهِمْ بآياتِ الله وقوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا [هو مدلولُ الجمْلة التي صَحبتها» بَلْ «، فأفادت الثانِيَة ما أفَادَتِ الأولَى، ولو قُلْت: مرَّ زَيْد بِعَمْرو، بل مَرَّ زَيْدٍ بعمرو، لم يَجُزْ» . وقَدَّرَهُ الزمَخْشَرِي: فَعَلْنَا بِهِم ما فَعَلْنَا، وتقدَّم الكَلاَم على الكُفْرِ بآيَاتِ اللَّهِ، وقَتْلِهِم الأنْبِياءَ بغَيْرِ حَقٍّ في البَقَرة. وأمَّا قولُهم: {قُلُوبُنَا غُلْفٌ} جمع غِلاَفٍ، والأصل «غُلُفٌ» بتحريك اللاَّم، وخُفِّفَ كما قِيلَ بالتَّسْكِين؛ ككُتْب وَرُسْل بتَسْكِين التاءِ والسِّين والمَعْنَى على هذا: أنهم قالوا: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 108 قُلُوبُنَا غُلْف، أي: أوْعِيَةٌ للعِلْمِ، فلا حَاجَة بِنَا إلى عِلْمٍ سِوَى ما عِنْدَنَا، فكَذَّبُوا الأنْبِيَاء بهَذَا القَوْلِ. وقيل: إن غُلْفاً جَمْع أغْلَف وهو المغَطَّى بالغلافِ، أي: بالغِطَاءِ، والمَعْنَى على هذا: أنَّهمُ قالُوا: قُلُوبُنَا في أغْطِيَةٍ، [فَهي] لا تَفْقَهُ ما تَقُولُون؛ نظيره قولُهُم: {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] . قوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا} هذا إضرابٌ عن الكلام المتقدِّم، أي: ليس الأمرُ كما قالوا من قولهم: «قُلُوبُنَا غُلْفٌ» ، وأظهرَ القرَّاءُ لامَ بَلْ في «طَبَعَ» إلا الكسائي، فأدغم من غيرِ خلاف، وعن حمزة خلاف، والباء في «بِكُفرهِمْ» يُحتمل أن تكون للسببية، وأن تكون للآلة؛ كالباء في «طَبَعْتُ بالطِّينِ على الْكِيسِ» يعني أنه جعل الكُفْر كالشيء المطْبُوع به، أي: مُغَطِّياً عليها، فيكونُ كالطابع، وقوله: «إِلاَّ قَلِيلاً» يحتملُ النصبَ على نعت مصدر محذوف، أي: إلا إيماناً قليلاً وهو إيمانُهُم بمُوسَى والتَّوراة فقط، وقد تقدم أن الإيمَانَ بالبَعْضِ دُونَ البَعْضِ كُفْرٌ، ويُحْتَمل كَوْنُه نَعْتاً لِزَمَانٍ مَحْذُوفٍ، أي: زَمَاناً قَلِيلاً، ولا يجُوزُ أن يكُون مَنْصُوباً على الاسْتِثْنَاءِ من فَاعِل «يؤمنُونَ» أي: إلاَّ قَلِيلاً مِنْهُم فإنَّهُم يُؤمِنُون؛ لأنَّ الضَّمِير في «لاَ يُؤْمِنُونَ» عائدٌ على المَطْبُوعِ على قُلُوبهم، ومن طُبعَ على قَلْبِه بالكُفْرِ، فلا يَقَعُ مِنْهُ الإيمانُ. [والجواب أنَّه مِنْ إسنادِ مَا للبعض للكُلِّ، أي: في قوله: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} فتأمّل] . وقال البغوي: «إِلاَّ قَلِيلاً» يعني: ممَّن كَذَّب الرُّسُل [لا] من طُبِعَ على قَلْبِهِ؛ لأنَّ من طَبَعَ الله على قَلْبِه، لا يُؤمِنُ أبَداً، وأرَادَ بالقَلِيلِ: عَبْد الله بن سَلاَم وأصْحَابه. قوله: «وبكُفْرهِمْ» : فيه وجهان: أحدهما: أنه معطوفٌ على «مَا» في قوله: «فَبِمَا نَقْضهِمْ» فيكونُ متعلِّقاً بما تعلَّق به الأول. الثاني: أنه عطفٌ على «بِكُفرِهِمْ» الذي بعد «طَبَعَ» ، وقد أوضح الزمخشريُّ ذلك غايةَ الإيضاح، واعترضَ وأجابَ بأحسنِ جواب، فقال: «فإنْ قلْتَ: علامَ عَطَفَ قوله» وَبكُفْرِهِمْ «؟ قلتُ: الوجهُ أن يُعْطَفَ على» فَبِمَا نَقْضِهمْ «، ويُجْعَلَ قولُه: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 109 بِكُفْرِهِمْ} كلاماً يَتْبَع قوله: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ} على وجه الاستطراد، ويجوزُ عطفه على ما يليه من قوله» بِكُفْرِهِمْ «، فإن قلت: فما معنى المجيءِ بالكُفْر معطوفاً على ما فيه ذِكْرُهُ؟ سواءٌ عطف على ما قبل الإضْراب، أو على ما بعده، وهو قوله: {وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله} ، وقوله» بِكُفْرِهمْ «؟ قُلْتُ: قد تكرر منهم الكُفْر؛ لأنهم كفروا بموسَى، ثم بعيسى، ثم بمحمدٍ، فعطف بعض كُفْرِهِمْ على بعض، أو عَطَفَ مجموعَ المعطوفِ على مجموعِ المعطوف عليه؛ كأنه قيل: فبجمْعِهِمْ بين نقضِ الميثاقِ، والكُفْرِ بآيات الله، وقتلِ الأنبياء، وقولهم: قُلُوبُنَا غُلْفٌ، وجمعهم بين كفرِهمْ وبَهْتِهِمْ مريم وافتخارهم بقتلِ عيسى؛ عاقبناهم، أو بلْ طَبَع الله عليها بكفرهم وجمعهم بين كفرهم كذا وكذا» . قوله: [ {وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ} ] «بُهْتَاناً [عظيماً] » في نصب [ «بُهْتَاناً» ] خمسةُ أوجه: أظهرُها: أنه مفعولٌ به؛ فإنه مُضَمَّنٌ معنى «كَلاَم» ؛ نحو: قُلْتُ خُطْبَةٌ وشِعْراً. الثاني: أنه منصوبٌ على نوع المصدر، كقولهم: «قَعَدَ القُرْفُصَاءَ» يعني: أن القول يكون بُهتاناً وغير بهتان. الثالث: أن ينتصبَ نعتاً لمصدر محذوف، أي: قولاً بُهْتَاناً، وهو قريبٌ من معنى الأول. الرابع: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ من لفظه، أي: بَهَتُوا بُهْتَاناً. الخامس: أنه حال من الضميرِ المجْرور في قولهم، أي: مُبَاهِتينَ، وجازَ مجيءُ الحال من المضاف إليه؛ لأنه فاعلٌ معنًى، والتقديرُ: وبأن قالوا ذلك مباهتين. فصل في المقصود بالبهتان والمراد بالبُهْتَانِ: أنَّهُم رموا مَرْيَم بالزِّنَا، لأنَّهم أنكَرُوا قُدْرَة الله - تعالى - على خَلْقِ الوَلَدِ من غير أبٍ، ومُنْكِرُ قُدْرَةِ الله على ذلك كَافِرٌ؛ لأنه يَلْزَمُ أن يقُول: كُلُّ ولَدٍ مَسْبُوقٍ بوَالِدٍ لا إلى أوَّل، وذَلِك يُوجِبُ القَوْل بِقِدَم العَالَمِ والدَّهْرِ، والقَدْحُ في وجُود الصَّانِعِ المُخْتَار، فالقَوْمُ أولاً أنكَرُوا قُدْرَة الله - تعالى - علَى خَلْقِ الوَلَدِ من غَيْر أبٍ، وثانياً: نَسَبُوا مَرْيَم إلى الزِّنَا. فالمراد بقوله: «وَبِكُفْرِهِم» هو إنْكَارُهُم قُدْرَة الله - تعالى -، وبقوله: {وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً} نِسْبَتُهُم إيّاهَا إلى الزِّنَا، ولمَّا حَصَل التغَيُّر حسن العَطْف، وإنما صار هذا الطَّعْنُ بُهْتاناً عَظِيماً؛ لأنه ظَهَر عند ولادَةَ عِيسَى - عليه السلام -[من] الكَرَامَاتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 110 والمُعْجِزَاتِ، ما دَلَّ على بَرَاءَتِها من كُلِّ عَيْبٍ، نحو قوله: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً} [مريم: 25] وكلام عيسى -[عليه السلام]- طفْلاً مُنْفصِلاً عن أمِّهِ، فإنَّ كُلَّ ذلك دَلاَئِل قاطِعَةٌ على بَراءة مَرْيَم -[عليها السلام]- من كل رِيبَةٍ، فلا جَرَم وَصَف اللَّهُ -[تعالى]- [طَعْنَ] اليهُود فيها بأنَّهُ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. واعلم أنَّه لما وَصَفَ طَعْن اليَهُود في مَرْيم بأنَّه بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، ووصَفَ طَعْن المُنَافِقِين في عَائِشَةَ بأنَّهُ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ، حَيْثُ قال: {سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} [النور: 16] ؛ دلَّ ذلك على أنَّ الرَّوَافِضَ الَّذِين يَطْعَنُون في عَائِشَةَ، بمَنْزِلَة اليَهُودِ الَّذِين يَطْعَنُون في مَرْيم - عليها السلام -. قوله: «وَقَوْلُهُم» عَطْف على «وَكُفْرِهِم» ، وكُسِرت «إنَّ» لأنَّها مُبْتَدأ بعد القَوْلِ وفَتْحهَا لُغَة. و «عِيسَى» بدلٌ من «المَسِيح» ، أو عطفُ بيان، وكذلك «ابن مَرْيَم» ، ويجوز أن يكونَ صفةً أيضاً، وأجاز أبو البقاء في «رَسُول الله» هذه الأوجه الثلاثة، إلا أنَّ البدل بالمشتقات قليلٌ، وقد يُقال: إنَّ «رَسُول الله» جرَى مَجْرَى الجوامدِ، وأجاز فيه أن يَنْتصبَ بإضمار «أعني» ، ولا حاجةَ إليه. قوله «شُبِّهَ لَهُمْ» : «شُبِّهَ» مبني للمفعول، وفيه وجهان: أحدهما: أنه مسند للجارِّ بعده؛ كقولك: «خُيِّلَ إليه، ولُبِّسَ علَيْهِ» [كأنَّه قيل: ولكن وقع لهم التشبيه] . والثاني: أنه مسندٌ لضمير المقْتُول الَّذِي دَلَّ عليه قولهم: «إِنَّا قَتَلْنَا» أي: ولكن شُبِّه لهم من قتلُوه، فإن قيل: لِمَ لا يَجُوز أن يعودَ على المسيحِ؟ فالجوابُ: أن المسيحَ مشبَّه به [لا مشبَّه] . فصل وهذا القَوْلُ مِنْهُم يَدُلُّ على كُفْرٍ عَظِيمٍ مِنْهُم؛ لأن قَولَهُم، فَعَلْنَا ذَلِك، يدل على رَغْبَتِهِم في قَتْلِهِ [بجدٍّ واجْتِهَادٍ] ، وهذا القَدْرُ كُفْر عَظِيمٌ. فإن قِيلَ: اليَهُود كَانُوا كَافِرِين بِعيسَى - عليه السلام - أعداء لَهُ، عَامِدِين لِقَتْلِه، يسَمُّونَهُ السَّاحِرَ ابن السَّاحِرَة؛ والفاعِل ابْنَ الفاعِلة، فكيف قَالُوا: إنّا قَتلْنَا المَسيح [عيسى] ابن مَرْيَم رسُول الله؟ . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 111 فالجوابُ من وَجْهَيْن: الأول: أنهم قَالُوهُ على وَجْه الاسْتِهْزَاءِ؛ كقول فِرْعَوْن: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] وقول كُفَّار قُرَيْش لمحمد - عليه السلام -: {ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} [الحجر: 6] . الثاني: أنه يجُوزُ أن يَضَعَ الله الذِّكْرَ الحَسَنَ مَكَانَ ذِكْرِهم القَبِيح في الحِكَايَةِ عَنْهُم؛ رفعاً لعِيسى ابن مَرْيَمِ - عليه السلام - عمَّا كَانُوا يَذْكُرُونَه به. ثم قال - تعالى -: {وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ} . واعلم أن اليَهُودَ لمَّا زعموا أنَّهُم قتلوا المسيحَ، كذَّبَهم الله في هَذِه الدَّعْوَى، فقال ... الآية. فإن قيل: إذا جَازَ أن يُلقي الله - تعالى - شِبْه إنْسَانٍ على إنْسَانٍ آخر، فهذا يَفْتَحُ بابَ السَّفْسَطَة، فإذا رَأيْنَا زَيْداً فَلَعَلَّهُ لَيْس بِزَيْدٍ، ولَكِنَّه ألْقَى شِبْهَ زيْد عليه، وعِنْد ذلك لا يَبْقَى الطَّلاقُ والنِّكَاحُ والمِلْكُ مَوْثُوقاً بِهِ، وأيضاً يُفْضِي إلى القَدْحِ في التَّوَاتُرِ؛ لأن خَبَر التَّواتُر إنَّما يُفِيد العِلْمَ بِشَرطِ انْتِهائِهِ إلى المَحْسُوسِ، فإذا جَوَّزْنَا حُصُول مِثْل هَذَا الشِّبْهِ في المَحْسُوسَاتِ، يُوَجَّهُ الطَّعْن في التَّوَاترُ، وذلكِ يُوجِبُ القَدْح في جَمِيع الشَّرَائع، ولَيْسَ لمُجِيبٍ أن يُجِيبَ عَنْهُ؛ بأن ذَلِك مُخْتَصٌّ بزمان الأنْبِياء -[عليهم الصلاة والسلام]- ؛ لأنا نَقُول: لو صَحَّ ما ذَكَرْتُم، فذلِكَ إنَّما يُعْرَفُ بالدَّليلِ والبُرْهَانِ، فمن لَمْ يَعْلَمْ ذلك الدَّلِيلَ وذلِك البُرْهَان، وجَبَ ألاَّ يَقْطَع بِشَيءٍ من المَحْسُوسَاتٍ، فَتوَجَّه الطَّعْن في التَّوَاتُر، ووَجَبَ ألاَّ يُعْتَمدُ على شَيءٍ مِنَ الأخْبَارِ المُتَوَاتِرَة. وأيضاً: ففي زَمانِنا إن انْسَدَّتِ المُعْجِزَات، فطَريقُ الكَرَامَاتِ مَفْتُوحٌ، وحينئذٍ يعُود الاحْتِمَال المَذْكُور في جَمِيعِ الأزْمِنَةِ، وبالجُمْلَة فَفَتْحُ هذا الباب يُوجِبُ الطَّعْنَ في التَّواتُر، والطَّعْنُ في التَّوَاتُرِ يوجب الطَّعْنَ في نُبُوَّة [جميع] الأنْبِياء - عليهم الصلاة والسلام -، وإذَا كان هذا يُوجِبُ الطَّعْنَ في الأصُولِ، كان مَرْدُوداً. فالجوابُ: قال كَثِيرٌ من المتَكَلِّمين: إن اليَهُود لمَّا قَصَدُوا قَتْلَه، رفَعَهُ الله على السَّمَاءِ، فخَافَ رُؤسَاءُ اليَهُودِ من وُقُوعِ الفِتْنَةِ بَيْن عَوامِّهِم، فأخَذُوا إنْسَاناً وقَتَلُوه وصَلَبُوهُ، وألْبَسُوا على النَّاسِ أنَّه هُوَ المَسِيحُ، والنَّاسُ ما كَانُوا يَعْرِفُون المسيح إلا بالاسْمِ؛ لأنه كَانَ قَلِيلَ المُخَالطَةِ للنَّاسِ، وإذا كان اليَهُود هُم الَّذِين ألْبَسُوا على النَّاسِ، زال السُّؤالُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 112 ولا يُقالُ: إن النَّصَارى يَنْقُلُون عن أسْلافِهِم أنهم شَاهَدُوهُ مَقْتُولاً؛ لأن تَوَاتُرَ النَّصَارى يَنْتَهِي إلى أقْوَام قَلِيلين، لا يبْعُد اتِّفَاقُهُم على الكَذِب، وقيل غَيْر ذلِكَ، وقد تقدَّم بَقِيَّة الكلام على الأسئِلَة الوارِدَة هُنَا عِنْد قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} في سورة آل عمران [الآية: 55] . ثم قال: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} هذا الاختلافُ فيه قولان: الأول: أنَّهم هم النصَارى كُلُّهُم مُتَّفِقُون على أنَّ اليَهُودَ قَتَلُوهُ، إلا أنهم ثلاث فِرقٍ: نَسْطُورِيَّة، ومَلْكَانِية، ويعقوبية: فالنَّسْطُوريَّة: زعموا أن المَسِيحَ صُلِبَ من جِهَةِ ناسُوتهِ، لا مِنْ جهة لاهُوتِه، وهو قَوْل أكْثَر الحُكَمَاء؛ لأن الإنْسَان لَيْس عِبَارَةٌ عن هذا الهَيْكَل، بل هُوَ إمَّا جِسْمٌ شَرِيفٌ في هذا البَدَنِ، وإمَّا جَوْهَرٌ رَوْحَانِيٌّ مُجَرَّدٌ في ذاتِهِ، وهُو مُدَبِّر لهَذَا البَدَن، والقَتْلُ إنَّما وَرَدَ هلى هذا الهَيْكَل، وأمَّا حَقيقَةُ نَفْس عِيسَى، فالقَتْلُ ما وَرَدَ عَليْهَا، ولا يُقَال: كُلُّ إنْسَانٍ كَذَلِك، فما وَجْه هَذَا التَّخْصِيص؟ لأنَّا نَقُول إن نَفْسَه كَانَت قُدِسيَّةً عُلْوِيَّة سَمَاوِيَّة، شديدة الإشْرَاقِ بالأنْوَارِ الإلهِيَّة، وإذا كانت كَذَلِكَ، لَمْ يَعْظُم تَألُّمُهَا بِسَبَبِ القَتْلِ وتَخْرِيب البدن، ثم إنَّها بعد الانْفِصَالِ عن ظُلْمَةِ البَدَنِ، تَتَخَلَّصُ إلى فُسْحَة السَّمواتِ وأنوار عَالَم الجلالِ، فَتَعْظُم بَهْجَتُهَا وسَعَادَتُها هُنَاكَ، وهذه الأحْوَال غَيْرُ حَاصِلةٍ لكُلِّ النَّاسِ، وإنما حَصَلَت لأشْخَاصٍ قَلِيلِين من مَبْدَإ خَلْق آدَمَ إلى قِيَامِ القِيَامَةِ، فهذا فَائِدَةُ التَّخْصِيصِ. وأما الملْكَانِيَّة فَقَالُوا: القَتْل والصَّلْبُ وصَلاَ إلى اللاَّهُوت بالإحْسَاسِ والشُّعُور، لا بالمُبَاشَرَةِ. وقالت اليعقوبية: القَتْلَ والصَّلْبُ وقعا بالمسيح الذي هو جَوْهرٌ مُتَوَلِّدٌ من جَوْهَرَيْن. فهذا شرح مَذَاهِب النَّصَارَى في هذا البَابِ، وهو المُرَاد من قوله: {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ} . والمنزل الثاني: أن المُراد ب {الذين اختلفوا فِيه} اليَهُود، وفيه وجهان: الأوَّل: أنهم لمَّا قَتَلُوا الشَّخْص المُشَبَّه به، كان المُشَبَّهُ قد ألْقِي على وَجْهِه، ولم يُلْقَ على جَسَدِهِ شِبْه جَسَد عِيسَى، فلما قَتَلُوه ونَظَرُوا إلى بَدَنِهِ، قالوا: الوجْهُ وجْهُ عِيسَى والجَسَدُ جسد غَيْرِه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 113 والثاني: قال السُّدِّي: إن اليَهُود حَبَسُوا عِيسى - عليه السلام - مع عَشَرَةٍ من الحَوَارِييّن في بَيْتٍ، فَدَخَلَ عَلَيْه رَجُلٌ من اليَهُودِ ليُخْرِجَهُ ويَقْتلهُ، فألقى الله شِبْه عِيسَى - عليه السلام - على ذَلِك الرَّجُلِ، ورَفَع عيسى إلى السَّماء، فأخذوا ذلك الرَّجُل فَقَتَلُوهُ على أنَّه عيسى - عليه السلام -، ثم قالوا [إن كان هذا عِيسَى فأيْن صَاحِبُنَا، وإن كان صَاحِبُنَا فأيْن عيسى] ، فَذَلِكَ اخْتِلافُهُم فِيه. قوله: «لَفِي شَكٍّ مِّنْه» : «مِنْهُ» في محلِّ جرِ صفة ل «شَكٍّ» يتعلَّقُ بمحذوف، ولا يجوز أن تتعلَّق فَضْلةٌ بنفس «شَكٍّ» ؛ لأن الشكَّ إنما يتعدَّى ب «في» لا ب «مِنْ» ، ولا يقال: إنَّ «مِنْ» بمعنى «في» ؛ فإن ذلك قولٌ مرجوحٌ، ولا ضرورة لنا به هنا. وقوله: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ} يجوز في «مِنْ عِلْمٍ» وجهان: أحدهما: أنه مرفوع بالفاعليَّة، والعاملُ أحد الجارَّيْنِ: إمَّا «لَهُمْ» وإما «به» ، وإذا جُعِلَ أحدُهما رافعاً له، تعلَّق الآخرُ بما تعلَّق به الرافِعُ من الاستقرار المقدَّر، و «مِنْ» زائدةٌ لوجودِ شرطي الزيادة. والوجه الثاني: أن يكون «مِنْ عِلْمٍ» مبتدأ زيدت فيه «مِنْ» أيضاً وفي الخبر احتمالان: أحدهما: أن يكونَ «لَهُم» فيكون: «به» : إمَّا حالاً من الضمير المستكنِّ في الخبر، والعاملُ فيها الاستقرارُ المقدَّر، وإمَّا حالاً من «عِلْمٍ» ، وإنْ كان نكرةً؛ لتقدُّمها عليه، ولاعتمادِه على نَفْي، فإن قيل: يلزمُ تقدُّمُ حالِ المجرورِ بالحرفِ عليه، وهو ضرورةٌ، لا يجوزُ في سَعة الكَلاَم. فالجوابُ: أنَّا لا نُسَلِّم ذلك، بل نقل أبو البقاء وغيره؛ أنَّ مذْهَب أكثر البصريين جوازُ ذلك، ولئِنْ سلَّمْنَا أنه لا يجوز إلا ضرورةً، لكن المجرور هنا مجرورٌ بحرف جرٍّ زائدٍ، والزائدٌ في حكْم المُطَّرَح، وأمَّا أن يتعلَّق بمحذوفٍ على سبيل البيانِ، أي: أعْني به، ذكره أبو البقاء، ولا حاجةَ إليه، ولا يجوزُ أن يتعلق بنفس «عِلْم» ؛ لأن معمول المصدر لا يتقدم عليه. والاحتمال الثاني: أن يكون «به» هو الخبر، و «لَهُمْ» متعلق بالاستقرار؛ كما تقدم، ويجوز أن تكون اللام مبيِّنةً مخصَّصة كالتي في قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] . وهذه الجملةُ المنفية تحتمل ثلاثة أوجه: الجرّ على أنها صفةٌ ثانية ل «شَكٍّ» أي: غير معلوم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 114 الثاني: النصب على الحال من «شَكٍّ» ، وجازَ ذلك، وإنْ كان نكرةً لتخصُّصِه بالوصف بقوله «مِنْه» . الثالث: الاستئنافُ، ذكره أبو البقاء، وهو بعيدٌ. قوله: {إِلاَّ اتباع الظن} في هذا الاستثناء قولان: أصحهما: ولم يذكر الجمهورُ غيره: أنه منقطع؛ لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم، [قال شهاب الدين:] ، ولم يُقْرأ فيما علمتُ إلا بنصبِ «اتِّباع» على أصل الاستثناء المنقطِعِ، وهي لغةُ الحجاز، ويجوزُ في تميم الإبدالُ من «عِلْم» لفظاً، فيجرُّ، أو على الموضع، فيُرفَعُ؛ لأنه مرفوع المحلِّ؛ كما قدَّمته لك، و «مِنْ» زائدةٌ فيه. والثاني - قال ابن عطية -: أنه متصِلٌ، قال: «إذ العلْمُ والظنُّ يضمهما جنسُ أنهما من معتقدات اليقين، يقول الظانُّ على طريق التجوُّز:» عِلْمِي في هذا الأمْرِ كَذَا «إنما يريدُ ظَنِّي» انتهى، وهذا غيرُ موافقٍ عليه؛ لأن الظنَّ ما ترجَّحَ فيه أحد الطرفَيْن، واليقينُ ما جُزِم فيه بأحدهما، وعلى تقدير التسليم فاتباعُ الظنِّ ليس من جنس العلم، بل هو غيره، فهو منقطع أيضاً، أي: ولكنَّ اتباع الظنِّ حاصلٌ لهم. ويُمْكِنُ أن يُجَابَ شهاب الدِّين عما رَدَّ به عَلَى ابن عَطِيَّة: بأن العِلْمَ قد يُطْلَقُ على الظَّنِّ، فيكون من جِنْسِهِ؛ كقوله - تعالى - {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] وأراد: يَعْلَمُون، وقوله: {حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} [يوسف: 110] أي: تَيَقَّنُوا، وقوله: {وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} [الكهف: 53] وإذا كان يَصِحُّ إطلاقُهُ عليه، صار الاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلاً. فصل في دفع شبهة لمنكري القياس احتَجَّ نُفَاةُ القِيَاسِ بهذه الآيَةِ، وقالوا: العَمَلُ بالقياسِ من اتِّبَاع الظَّنِّ، وهو مَذْمُومٌ؛ لأن الله - تعالى - ذكر اتِّبَاعَ الظَّنِّ في مَعْرِضِ الذَّمِّ هَهُنَا، وذَمِّ الكُفَّار في سُورَةِ الأنْعَامِ بقوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116] وقال: {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} [يونس: 36] فدَلَّ ذلك على أنَّ اتِّبَاع الظَّنِّ مَذْمُومٌ. والجوابُ: لا نُسَلِّمُ أن العَمَلَ بالقِيَاسِ [من اتِّبَاع الظَّنَّ؛ فإن الدَّلِيلَ القَاطِعَ لمَّا دَلَّ على العَمَلِ بالقِيَاسِ] ، كان الحُكْمُ المُسْتَفَاد من القِياسِ مَعْلُوماً لا مَظْنُوناً. قوله: {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً} الضمير في «قَتَلُوهُ» فيه أقوال: أظهرها: أنه ل «عيسى» ، وعليه جمهور المفسرين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 115 والثاني - وبه قال ابن قتيبة والفراء -: أنه يعودُ على العلم، أي: ما قتلوا العلم يقيناً، على حدِّ قولهم: «قَتَلْتُ العِلْمَ والرأي يقييناً» و «قَتَلتهُ عِلْماً» ، ووجْه المجاز فيه: أن القتلَ للشيء يكون عن قَهْرٍ واستعلاءٍ؛ فكأنه قيل: وما كان علْمُهُم علْماً أُحيطَ به، إنما كان عن ظن وتخمين. الثالث - وبه قال ابن عباس والسُّدِّيُّ وطائفة كبيرة -: أنه يعود للظنِّ تقول: «قَتَلْتُ هَذَا عِلْماً وَيَقِيناً» ، أي: تحقَّقت، فكأنه قيل: وما صَحَّ ظنُّهم عندهم وما تحقَّقوه يقيناً، ولا قطعوا الظنَّ باليقين. قوله: «يَقيناً» فيه خمسة أوجه: أحدها: أنه نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: قتلاً يقيناً. الثاني: أنه مصدر من معنى العامل قبله؛ كما تقدم مجازه؛ لأنه في معناه، أي: وما تيقَّنوه يقيناً. الثالث: أنه حال من فاعل «قَتَلُوهُ» ، أي: وما قتلوه متيقنين لقتله. الرابع: أنه منصوبٌ بفعلٍ من لفظه حُذِفَ للدلالة عليه، أي: ما تيقَّنوه يقيناً، ويكون مؤكِّداً لمضمون الجملةِ المنفيَّة قبله، وقدَّر أبو البقاء العامل على هذا الوجه مثبتاً، فقال: «تقديره: تيقَّنوا ذلك يَقِيناً» ، وفيه نظر. الخامس - ويُنْقَل عن أبي بَكْر بن الأنباريِّ -: أنه منصوبٌ بما بعد «بَلْ» من قوله: «رَفَعَهُ الله» ، وأن في الكلام تقديماً وتأخيراً، أي: بَلْ رفعه الله إليه يقيناً، وهذا قد نَصَّ الخليلُ، فمَنْ دونه على منعه، أي: أن «بَلْ» لا يعمل ما بعدها فيما قبلها؛ فينبغي ألا يَصِحَّ عنه، وقوله: {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} رَدٌّ لما ادَّعَوْهُ مِنْ قتله وصلبه، والضمير في «إلَيْه» عائدٌ على «الله» على حَذْفِ مضاف، أي: إلى أسمائه ومحلِّ أمره ونهيه. فصل: إثبات المشبهة للجهة ودفع ذلك احتَجَّ المُشَبِّهَةُ بقوله - تعالى -: {بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ} في إثْبَات الجِهَةِ. والجوابُ: أن المُراد الرَّفْعُ إلى موضعٍ لا يَجْرِي فِيهِ حُكْمُ غير الله - تعالى -؛ كقوله تعالى {وإلى الله تُرْجَعُ الأمور} [آل عمران: 109] وقوله - تعالى -: {وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ} [النساء: 100] ، وكانت الهِجْرَة في ذلك الوَقْت، إلى المَدِينَةِ. وقال إبراهيمُ: {إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] . فصل: دلالة الآية على رفع عيسى عليه السلام دلت [هذه] الآيةُ على رفع عيسى - عليه السلام - إلى السَّمَاءِ، وكذلك قوله: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 116 {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} [آل عمران: 55] . ثم قال: {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} ، والمراد بالعِزَّة: كَمَال القُدْرَة، ومن الحِكْمَة: كمال العلم، نَبَّه بهذا على أنَّ رَفْعَ عيسى - عليه السلام - إلى السَّموات وإن [كَانَ] كالمتَعَذِّر على البَشَرِ، لَكِنَّه لا بُدَّ فيه من النِّسْبَةِ إلى قُدْرَتِي وحِكْمَتِي؛ كقوله - تعالى -: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} [الإسراء: 1] فإنّ الإسْرَاء وإن كان مُتَعذِّراً بالنِّسْبَةِ إلى قُدْرَةِ مُحَمَّدٍ، إلا أنَّه سهل بالنسْبَة إلى قُدْرة الله - تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 لما ذكر فَضَائِح اليَهُود وقبحَ أفْعَالِهِم، وأنَّهم قَصَدُوا قَتْل عِيسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وأنَّه لم يَحْصُل لهم ذَلِكَ المَقْصُود، وأنَّ عيسى - عليه السلام - حَصَل له أعْظَمُ المَنَاصِبِ، بَيَّن أن هؤلاء اليهُود الذين بَالَغُوا في عَدَاوَتِهِ، لا يَخْرُجُ أحَدٌ مِنْهُم من الدُّنْيَا إلا بَعْدَ أن يُؤمِنَ به، فقال: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} ، «إنْ» هنا نافيةٌ بمعنى «مَا» ، و «مِنْ أهْلِ» يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه صفة لمبتدأ محذوف، والخبرُ الجملةُ القسمية المحذوفة وجوابها، والتقدير: وما أحدٌ من أهل الكتاب إلاَّ واللَّهِ ليُؤمِننَّ به، فهو كقوله: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] ، أي: ما أحدٌ مِنَّا، وكقوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} [مريم: 71] أي: مَا أحَدٌ مِنْكُمْ إلاَّ وَارِدُها، هذا هو الظاهر. والثاني - وبه قال الزمخشري وأبو البقاء -: أنه في محلِّ الخبر، قال الزمخشري: «وجملة» لَيُؤْمِنَنَّ به «جملةٌ قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف، تقديره: وَإنْ مِنْ أهْلِ الكِتاب أحَدٌ إلاَّ ليُؤمِنَنَّ بِهِ، ونحوه: {وما منا إلا له مقام معلوم} {وإن منكم إلا واردها} ، والمعنى:» وما من اليهود أحَدٌ إلاَّ ليُؤمنَنَّ «، قال أبو حيان:» وهو غلطٌ فاحشٌ؛ إذ زعم أن «لَيُؤْمِنَنَّ بِه» جملة قسمية واقعةٌ صفةً لموصوف محذوف إلى آخره، وصفة «أحَد» المحذوف إنما الجار والمجرور؛ كما قَدَّرناه، وأمَّا قوله: «لَيُؤْمِنَنَّ بِه» ، فليستْ صفةً لموصوف، ولا هي جملة قسمية، إنما هي جملة جواب القَسَم، والقسم محذوفٌ، والقسمُ وجوابُه خبر للمبتدأ، إذ لا ينتظم من «أحَد» ، والمجرور إسناد؛ لأنه لا يفيد، وإنما ينتظم الإسنادُ بالجملة القسمية وجوابها، فذلك هو مَحَطُّ الفائدةِ، وكذلك أيضاً الخبرُ هو {إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ} ، وكذلك «إِلاَّ وَارِدُهَا» ؛ إذ لا ينتظم مما قبل «إلاَّ» تركيب الجزء: 7 ¦ الصفحة: 117 إسناديٌّ «. [قال شهاب الدين] وهذا - كما تَرَى - قد أساء العبارة في حق الزمخشريِّ؛ بما زعم أنه غلط، وهو صحيح مستقيم، وليت شعري كيف لا ينتظم الإسنادُ من» أحَد «الموصوفِ بالجملة التي بعده، ومن الجارِّ قبله؟ ونظيرُه أن تقول:» مَا فِي الدَّارِ رَجُلٌ إلاَّ صَالِحٌ «فكما أن» فِي الدَّار «خبر مقدَّم، و» رَجُلٌ «مبتدأ مؤخر، و» إلاَّ صَالِحٌ «صفته، وهو كلامٌ مفيد مستقيمٌ، فكذلك هذا، غايةُ ما في الباب أنَّ» إلاَّ «دخلت على الصفة؛ لتفيدَ الحصْر، وأما ردُّه عليه حيث قال: جملةٌ قسميَّة، وإنما هي جوابُ القسَم، فلا يَحْتاجُ إلى الاعتذار عنه، ويكفيه مثلُ هذه الاعتراضاتِ. واللام في «ليُؤمِنَنَّ» جوابٌ قسمٍ محذوف، كما تقدَّم. وقال أبو البقاء: «ليُؤمِنَنَّ جواب قسم محذوفٍ، وقيل: أكَّدَ بها في غير القسَم؛ كما جاء في النفي والاستفهام» ، فقوله: «وقيل ... إلى آخره» إنما يستقيم ذلك، إذا أعَدْنا الخلاف إلى نونِ التوكيد؛ لأنَّ نون التوكيد قد عُهِد التأكيدُ بها في الاستفهام باطِّرادٍ، وفي النفي على خلاف فيه، وأما التأكيدُ بلام الابتداء في النفي والاستفهام، فلم يُعْهَد ألبتة، وقال أيضاً قبل ذلك: وما مِنْ أَهْلِ الكتاب أحدٌ، وقيل: المحذوفُ «مَنْ» وقد مرَّ نظيره، إلا أنَّ تقديرَ «مَنْ» هنا بعيدٌ، لأن الاستثناء يكون بعد تمام الاسْمِ، و «مَنْ» الموصولة والموصوفةُ غيرُ تامَّة «، يعني أن بعضهم جعل ذلك المحذوفَ لفظَ» مَنْ «، فيقدِّر: وإنْ مِنْ أهْلِ مَنْ إلاَّ ليُؤمِنَنَّ، فجعلَ موضع» أحَد «لفظ» مَنْ «، وقوله:» وقَدْ مرَّ نظيره «، يعني قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله} [آل عمران: 199] ومعنى التنظير فيه أنه قد صرَّح بلفظ» من «المقدَّرةِ ههنا. وقرأ أبَيٌّ:» ليُؤمِنُنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِمْ «بضم النون الأولى مراعاة لمعنى» أحَد «المحذوف، وهو وإن كان لفظه مفرداً، فمعناه جمع، والضمير في» به «لعيسى - عليه السلام -، وقيل: لله تعالى، وقيل: لمحمَّد - عليه السلام -، وفي» مَوْته «لعيسى، ويُروى في التفسير؛ أنه حين ينزل إلى الأرض يُؤمِنُ به كلُّ أحدٍ، حتى تصيرَ المِلّةُ كلُّها إسلامية وهو قَوْلُ قَتادَة، وابن زَيْدٍ وغيرِهِما، وهو اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. وقيل: يَعُود على» أحَد «المُقدَّر، أي: لا يَمُوت كِتَابِيٌّ حتى يُؤمن بعيسى قبل مَوْتِهِ عند المُعَايَنَةِ حين لا يَنْفَعُهُ. ونُقِل عن ابن عَبَّاسٍ ذلك، فقال له عِكْرِمة، أفَرأيْتَ إن خَرَّ بَيْتٌ أو احْتَرَق أو أكَلَهُ سَبُعٌ؟ قال: لا يمُوتُ حَتَّى يُحَرِّكَ بها شَفَتَيْهِ، أي: بالإيمَانِ بعيسى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 118 وروى شَهْر بن حَوْشب [عن الحَجَّاج؛ أنه] قال يا شهر آية في كتاب الله ما قَرأتُهَا إلاَّ في نفسي مِنْهَا شَيْءٌ، يعني: هذه الآيَةَ؛ فإني أضْرِبُ عُنُقَ اليَهُودِي، ولا أسْمَعُ منه ذلِك، فقُلْتُ: إن اليَهُودِي إذا حَضَرَهُ المَوْتُ ضَرَبَت الملائِكَة وَجْهَهُ وَدبُرَهُ، وقالوا: يا عَدُوَّ اللَّهِ، أتاك عِيسَى نَبِيّاً فكَذَّبْت [به، فيقُولُ:] آمنْتُ أنه عَبْدُ الله، فأهْلُ الكِتَابِ [يؤمِنُون] به، ولكن حَيْثُ لا يَنْفَعُهُم ذَلِك الإيمانُ، فاسْتَوَى الحَجَّاج جَالِساً فقال: مِمَّن نَقَلْتَ هذا؟ فقال: حَدَّثَنِي [به] محمد بن عَلِيّ ابن الحَنفِيَّة، فأخذ يَنْكُتُ في الأرْضِ بِقَضيبٍ، ثم قال: أخَذْتهَا من عَيْنٍ صَافِيَةٍ. وقرأ الفَيَّاض بن غزوان» وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب «بتشديد» إنَّ «، وهي قِرَاءةٌ مَرْدُودَةٌ لإشْكَالِهَا. فصل رَوَى أبُو هُرَيْرَة عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يُوشِكُ أنْ يَنْزِلَ فِيكُمُ ابن مَرْيَمَ حَكَماً عَدْلاً، يَكْسِرُ الصَّلِيبَ، ويَقْتُلُ الخِنْزِيرَ، ويَضَعُ الجزْيَةَ، ويَفِيضُ المَالُ حَتَّى لا يَقْبَلُه أحَدٌ، وتميلُ في زَمَانِهِ المِلَلُ كُلُّهَا إلى الإسْلامِ، ويَقْتل الدَّجَّال، فيمْكُثُ في الأرْضِ أرْبَعين سَنَةً، ثم يُتَوَفَّى فيُصَلّى عليه المُسْلِمُون» وقال أبو هريرة اقْرَءُوا إن شِئْتُم: {وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} أي: قبل مَوْتِ عيسى ابن مريم -[عليه السلام]- ثم ليعيدها أبو هُرَيْرَة ثلاث مَرَّاتٍ. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: والفَائِدَةُ في إخْبَارِ الله - تعالى - بإيمانِهِم بعِيسَى قَبْلَ مَوْتِهِم - أنَّهُم متى عَلِمُوا أنه لا بُدَّ لهم من الإيمَانِ به لا مَحَالَة، مع كَوْنِه لا يَنْفَعُهُم الإيمانُ في ذَلِك الوَقْتِ، فلا يُؤمِنُوا به حَالَ ما يَنْفَعُهُم ذلك الإيمَانُ. قوله سبحانه {وَيَوْمَ القيامة} العالم فيه «شَهِيداً» وفيه دليلٌ على جوازِ تقدُّم خبر « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 119 كان» عليها؛ لأنَّ تقديمَ المعمولِ يُؤذِن بتقديمِ العامل، وأجاز أبو البقاء أن يكون منصوباً ب «يكُون» وهذا على رأي مَنْ يجيز ل «كَان» أن تعمل في الظرفِ وشبهه، والضميرُ في «يكُون» لعيسى يعني: يكُون عيسى عليهم شَهيداً: أنه قد بَلَّغَهُم رِسَالة رَبِّه، وأقَرَّ بالعُبُودِيَّة على نفْسِهِ مُخْبِراً عنهم {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ} [المائدة: 117] وكل نَبِيٍّ شَاهِدٌ على أمَّتِهِ، وقيل: الضَّميرُ في «يكُونُ» لمحمَّدٍ - عليه السلام -. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 قوله - تعالى -: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ} الآية لمَّا ذكر قَبَائِح أفْعَالِ اليَهُودِ، ذكر عَقِيبَهُ تشديدَهُ - تعالى - عليْهِم في الدُّنْيَا والآخِرَةِ، أما تَشْدِيدُه في الدُّنْيَا، فهو تَحْرِيمُ الطَّيِّبَاتِ عليهم وكانتْ مُحَلَّلَةً لهم قَبْل ذلك؛ لقوله - تعالى -: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] إلى قوله [- تعالى -] : {ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] وقيل: لمحمد عليه السلام. قوله سبحانه: «فَبِظُلمٍ» : هذا الجارُّ متعلِّق ب «حَرَّمْنَا» والباء سببية، وإنما قُدِّم على عاملِه؛ تنبيهاً على قبح سبب التحريمِ، وقد تقدَّم أنَّ قوله: «فَبِظُلْمٍ» بدلٌ من قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ} ، وتقدَّم الردُّ على قائله أيضاً فأغْنَى عن إعادته، و «مِنَ الذِينَ» صفة ل «ظُلْم» أي: ظُلْمٍ صادر عن الذين هادُوا، وقيل: ثَمَّ صفةٌ للظلم محذوفةٌ للعلْمِ بها، أي: فبظُلْمٍ أيِّ ظُلْمٍ، أو فبِظُلْمٍ عَظِيمٍ؛ كقوله: [الطويل] 1900 - فَلاَ وَأبِي الطَّيْرِ المُرِبَّةِ بِالضُّحَى ... عَلَى خَالِدٍ لَقَدْ وَقَعْتِ عَلَى لَحْمِ أي: لَحْمٍ عظيمٍ. قوله جلَّ وعلا: «أُحِلَّتْ لَهُمْ» هذه الجملةُ صفةٌ ل «طَيِّبَات» فمحلُّها نصبٌ، ومعنى وصفها بذلك، أي: بما كانَتْ عليه مِنَ الحِلِّ، ويوضِّحه قراءة ابن عباس: «كانَتْ أُحِلَّتْ لَهُم» والمُرَادُ من ظُلْمِهِم: ما تقدَّم ذِكْرُه من نَقْضِ الميثاقِ، وكُفْرِهِم بآيَاتِ اللَّهِ، وبُهْتَانِهِم على مَرْيَمَ، وقولهم: «إنا قتلنا المسيح» {حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} وهو ما ذُكِرَ في سُورَةِ الأنْعَامِ [الأنعام: 146] «وبصَدِّهِمْ» وبصرْفِهِم أنْفُسهم وغيرهم {عَن سَبِيلِ الله} عن دين اللَّهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 120 قوله: «كثيراً» فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه مفعول به، أي: بصدِّهم ناساً، أو فريقاً، أو جمعاً كثيراً، وقيل: نصبُه على المصدرية، أي: صَدّاً كثيراً، وقيل: على ظرفية الزمان، أي: زماناً كثيراً، والأوَّل أوْلَى؛ لأنَّ المصادر بَعْدها ناصبةٌ لمفاعليها، فيجري البابُ على سَنَنٍ واحدٍ، وإنما أعيدتِ الباءُ في قوله: «وَبِصَدِّهِمْ» ولم تَعُدْ في قوله: «وأخْذِهِمْ» وما بعده؛ لأنه قد فُصِلَ بين المعطوف والمعطوف عليه بما ليس معمولاً للمعطوف عليه، بل بالعامل فيه وهو «حَرَّمْنَا» وما تعلَّق به، فلمَّا بَعُد المعطوف من المعطوف عليه بالفصْلِ بما ليس معمولاً للمعطُوف عليه، أعيدت الباءُ لذلك، وأمَّا ما بعده، فلم يُفْصَلْ فيه إلا بما هو معمولٌ للمعطُوفِ عليه وهو «الرِّبَا» . {وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} في التوراة. والجملةُ من قوله تعالى: {وَقَدْ نُهُواْ عَنْه} : في محلِّ نصب؛ لأنها حاليةٌ، ونظيرُ ذلك في إعادة الحرفِ وعدمِ إعادته ما تقدَّم في قوله: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ} [الآية 155] الآية. [وبِالبَاطِلِ «يجوز أن يتعلق ب» أكْلِهِم «على أنها سببيةٌ أو بمحذوفٍ على أنها حال من» همْ «في» أكْلِهِمْ «، أي: ملتبسين بالباطل. وأمَّا التَّشْدِيدُ في الآخِرَة، وهو قوله: {وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} لما وصَفَ طَريقَةَ الكُفَّارِ والجُهَّال من اليَهُودِ، وصَفَ طَريقَة المُؤمِنِين المُحِقِّين مِنْهُم، فقال: {لكن الراسخون فِي العلم} جيء هنا ب «لَكِنْ» لأنها بين نقيضين، وهما الكفارُ والمؤمنون، و «الرَّاسِخُونَ» مبتدأ، وفي الخبر احتمالان: أظهرهما: أنه «يُؤمِنُونَ» . والثاني: أنه الجملة من قوله: «أولَئِكَ سنؤتيهم» ، و «فِي العِلْمِ» متعلقٌ ب «الرَّاسِخُونَ» . و «منْهُمْ» متعلِّق بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من الضميرِ المستكنِّ في «الرَّاسِخُونَ» . فصل مَعْنَى الكلام: لَيْسَ أهْلُ الكِتَابِ كُلُّهُم بهذه الصِّفَةِ، لكنِ الرَّاسِخُونَ المُبَالِغُون في العِلْمِ مِنْهُم أولُو البَصَائِر، وأراد به: الذين أسْلَمُوا؛ كعَبْد الله بن سلام وأصْحَابه. قوله تعالى: {والمؤمنون} عطفٌ على «الرَّاسِخُونَ» ، وفي خبره الوجهان المذكوران في خبر «الرَّاسِخُونَ» ولكن إذا جَعَلْنا الخبرَ «أولَئِكَ سَنُؤتِيهِمْ» ، فيكون يؤمنون ما محلُّه؟ والذي يَظْهر أنه جملة اعتراض؛ لأنَّ فيه تأكيداً وتسديداً للكلام، ويكون الضَّمير في «يُؤمِنُونَ» يعود على «الرَّاسِخُونَ» و «المُؤمِنُونَ» جميعاً، ويجوز أن تكون حالاً منهما؛ وحينئذٍ لا يُقال: إنها حال مؤكِّدة لتقدُّم عاملٍ مشاركٍ لها لفظاً؛ لأنَّ الإيمانَ فيها مقيَّدٌ، والإيمانُ الأولُ مُطْلَقٌ، فصار فيها فائدةٌ، لم تكُنْ في عاملها، وقد يُقَالُ: إنها مؤكِّدة بالنسبةِ لقوله: «يُؤمِنُونَ» ، وغيرُ مؤكِّدة بالنسبة لقوله: «الرَّاسِخُونَ» ، والمراد ب «المُؤمِنُونَ» المهاجُرونَ والأنْصار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 121 قوله سبحانه: «والمُقِيمينَ الصَّلاةَ» قرأ الجمهورِ بالياء، وقرأ جماعة كثيرة: «والمُقِيمُونَ» بالواو؛ منهم ابن جُبَيْر وأبو عَمْرو بن العلاء في رواية يونُسَ وهارُونَ عنه، ومالك بن دينار وعصمة عن الأعمش، وعمرو بن عبيد، والجَحْدَرِي وعيسى بن عُمَر وخلائق. فأما قراءةُ الياء، فقد اضطربَتْ فيها أقوالُ النحاة، وفيها ستةُ أقوال: أظهرها - وعزاه مكيٌّ لسيبويه، وأبو البقاء، للبصريين -: أنه منصوبٌ على القَطْع، يعني المفيد للمدْحِ؛ كما في قطع النعوتِ، وهذا القطعُ في قوله «والمُؤتُونَ الزَّكَاةَ» على ما سيأتي هو لبيانِ فَضْلِها أيضاً، لكنْ على هذا الوجه يجبُ أن يكونَ الخبرُ قوله: «يُؤمِنُونَ» ، ولا يجوز قوله «أولَئِكَ سنُؤتِيهِمْ» ، لأن القطع إنما يكون بعد تمامِ الكلام، قال مكي: «ومَنْ جَعَلَ نَصْبَ» المُقِيمِينَ «على المدح جعل خبرَ» الرَّاسِخِينَ «:» يُؤمِنُونَ «، فإنْ جَعَل الخبر» أولَئِكَ سنُؤتِيهِمْ «لم يجز نصب» المُقِيمِينَ «على المدح، لأنه لا يكون إلا بعد تمام الكلام» . وقال أبو حيان: «ومن جَعَلَ الخبرَ: أولَئِكَ سَنُؤتيهِمْ فقوله ضعيفٌ» قال شهاب الدين: وهذا غيرُ لازمٍ؛ لأن هذا القائل لا يَجْعَلُ نصب «المُقِيمينَ» حينئذٍ منصوباً على القطع، لكنه ضعيفٌ بالنسبةِ إلى أنه ارْتَكَبَ وجْهاً ضعيفاً في تخريج «المقيمين» كما سيأتي. وحكى ابنُ عطية عن قوم مَنْعَ نصبه على القَطْع من أجلِ حرف العطف، والقطعُ لا يكونُ في العطف، إنما ذلك في النعوت، ولما استدلَّ الناسُ بقول الخرنِقِ: [الكامل] 1901 - لا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الذينَ هُمُ ... سُمُّ العُدَاةِ وآفَةُ الْجُزْر النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ ... والطَّيِّبُونَ مَعَاقِدَ الأزْرِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 122 على جواز القَطْع، فرَّق هذا القَائِلُ بأنَّ البيت لا عَطْفَ فيه؛ لأنها قطعت «النَّازِلِينَ» فنصبته، و «الطَّيِّبُونَ» فرفعتْه عن قولِها «قَوْمِي» ، وهذا الفرقُ لا أثرَ له؛ لأنه في غير هذا البيت ثَبَت القَطْع مع حرف العطف، أنشد سيبويه: [المتقارب] 1902 - وَيَأوي إلَى نِسْوَةٍ عُطَّلٍ ... وَشُعْثاً مَرَاضِيعَ مِثْلَ السَّعَالِي فنصب «شُعْثاً» وهو معطوف. الثاني: أن يكون معطوفاً على الضمير في «مِنْهُمْ» ، أي: لكن الراسخُونَ في العلْمِ منهم، ومن المقيمين الصلاة. الثالث: أن يكون معطوفاً على الكاف في «إلَيْكَ» ، أي: يؤمنون بما أُنزل إليك، وإلى المقيمين الصَّلاة، وهم الأنبياء. الرابع: أن يكون معطوفاً على «مَا» في «بِمَا أُنزِلَ» ، أي: يؤمنون بما أُنْزِلَ إلى محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبالمقِيمينَ، ويُعْزَى هذا للكسائيِّ، واختلفت عبارة هؤلاء في «المُقِيمينَ» ، فقيل: هم الملائكةُ، قال مكي: ويؤمنون بالملائكة الذين صفتُهم إقامةُ الصلاة؛ كقوله: {يُسَبِّحُونَ الليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] ، وقيل: هم الأنبياء، وقيل: هم المسلِمُون، ويكون على حَذْفِ مضافٍ، أي: وبدين المقيمين: الخامس: أن يكون معطوفاً على الكاف في «قَبْلِك» أي: ومِنْ قَبْلِ المُقيمينَ، ويعني بهم الأنبياءَ أيضاً. السادس: أن يكون معطوفاً على نفسِ الظَّرْفِ، ويكون على حَذْفِ مضاف، أي: ومن قبل المقيمين، فحُذِف المضافُ، وأُقيمَ المضافُ إليه مُقَامَهُ، فهذا نهايةُ القولِ في تخريجِ هذه القراءةِ. وقد زَعَمَ قومٌ أنها لَحْنٌ، ونقلوا عن عائشة وأبَانِ بْنِ عثمانَ أنها خطأٌ من جهةِ غلَطِ كاتبِ المصْحَفِ. قالوا: وحِكِيَ عن عَائِشَةَ وأبان بن عُثْمَان؛ أنه من غَلَط الكَاتِب، وهذا يعني أنْ يَكْتُبَ: «والمُقِيمُون الصَّلاة» ، وكذلك في سُورة «المائِدة» : {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئون} [المائدة: 69] ، وقوله: {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] ، قالوا: هذا خطأ من الكَاتِبِ. وقال عُثْمَان: «إن في المُصْحَفِ لَحْناً سَتُقِيمُه العَرَب بألْسِنَتِها» فقيل له: إلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 123 تُغَيِّرُه، فقال: دَعُوه؛ فإنَّه لا يُحِلُّ حَرَاماً، ولا يُحَرِّم حلالاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 124 وقالوا: وأيضاً فهي في مصحْفِ ابن مسعودٍ بالواو فقط نقله الفراء، وفي مصحفِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 125 أبَيٍّ كذلك وهي قراءة مالك بن دينار والجَحْدَرِي وعيسى الثقفيِّ، وهذا لا يَصِحُّ عن عائشة ولا أبَانَ، وما أحْسَنَ قول الزمخشريِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «ولا يُلتفتُ إلى ما زعموا من وقوعه لَحْناً في خط المصْحَف، وربما التفت إليه مَنْ لم ينظر في الكتاب، ومَنْ لم يعرف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 126 مذاهبَ العَرَبِ وما لهم في النصْبِ على الاختصاص من الافتنانِ، وغَبِيَ عليه أنَّ السابقين الأولين الذين مَثَلهُم في التوراة ومثلُهم في الإنجيل، كانوا أبعدَ همةً في الغَيْرَةِ عن الإسلام وذَبِّ المَطَاعِن عنه من أن يقولوا ثُلْمَةً في كتاب الله؛ ليسُدَّها من بَعْدَهم، وخَرْقاً يَرْفُوهُ مَنْ يلحَقُ بهم» . وأمَّا قراءةُ الرفْعِ، فواضحةٌ. قوله تعالى: {والمؤتون} فيه سبعةُ أوجهٍ أيضاً: أظهرها: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 127 أنه على إضمار مبتدأ، ويكون من باب المدحِ المذكورِ في النصب وهذا أوَّل الأوجه. الثاني: أنه معطوفٌ على «الرَّاسِخُون» ، وفي هذا ضَعْفٌ؛ لأنه إذا قُطِعَ التابعُ عن متبوعه، لم يَجُزْ أن يعود ما بعده إلى إعراب المتبوعِ، فلا يُقالُ: «مَرَرْتُ بِزَيْدٍ العَاقِلَ الفَاضلِ» بنصب «العَاقِل» ، وجر «الفاضل» ، فكذلك هذا. الثالث: أنه عطفٌ على الضمير المستكنِّ في «الرَّاسِخُونَ» ، وجاز ذلك للفصل. الرابع: أنه معطوفٌ على الضمير في «المُؤمِنُونَ» . الخامس: أنه معطوفٌ على الضمير في «يُؤمِنُون» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 128 السادس: أنه معطوفٌ على «المُؤمِنُونَ» . السابع: أنه مبتدأ وخبره «أولئك سَنُؤتيهمْ» ، فيكون «أولئك» مبتدأ، و «سُنؤتِيهِمْ» خبره، والجملةُ خبرُ الأوَّلِ، ويجوزُ في «أولَئِكَ» أن ينتصِبَ بفعلٍ محذوفٍ يفسِّرهُ ما بعده، فيكون من باب الاشتغال، إلا أنَّ هذا الوجه مرجوحٌ من جهةِ أنَّ «زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ» بالرفع أجودُ من نصبه؛ لأنه لا يُحْوِجُ إلى إضمار؛ ولأنَّ لنا خلافاً في تقديم معمول الفعل المقترن بحرف التنْفِيسِ في نحو «سأضْرِبُ زَيْداً» منع بعضهم «زَيْداً سَأضْرِبُ» ، وشرطُ الاشتغالِ جوازُ تسلُّط العامل على ما قبله، فالأولى أن نَحْمِلَهُ على ما لا خلاف فيه، وقرأ حمزة: «سَيُؤتيهِمْ» بالياء؛ مراعاةً للظاهر في قوله: «والمُؤمِنُونَ بالله» ، والباقون بالنون على الالتفات تعظيماً، ولمناسبةِ قوله: «وأعْتَدْنَا» ، فصل والعُلَمَاءُ على ثلاثةِ أقسام: [الأوَّل] : علماءٌ بأحْكَام اللَّهِ فقط. [الثاني] : عُلماءٌ بِذاتِ اللَّه وصفاته فقط. [الثالث] : عُلَمَاء بأحْكام اللَّه، وبِذاتِ اللَّهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 129 والله [- تعالى -] وصف العُلَمَاءَ أوَّلاً: بِكَوْنِهِم رَاسخين في العِلْمِ، ثم شَرَح ذلك مُبيِّناً: أولاً: كَوْنهم عالِمِين بأحْكَامِ الله، وعَامِلِين بِهَا. أما عِلْمُهُم بأحْكَامِ الله، فهو قوله [- تعالى -] : {والمؤمنون يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ} . وأما عَمَلُهُم بِهَا، فهو قوله: {والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة} وخصَّهُمَا بالذِّكْر؛ لِكونهما أشْرَف الطَّاعَاتِ البَدَنِيَّة والماليَّة. ولمَّا شرح كَوْنَهُم عالِمِينَ بالأحْكَامِ وعَامِلِين بها، شَرَح بَعْدَهُ كونَهُم عالمين بالله. وأشرف المعارف العلم بالمبدأ، والمعاد؛ فالعلم بالمَبْدَأ قوله - تعالى -: {والمؤمنون بالله} ، والعلم بالمعاد قوله: {واليوم الآخر} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 لما حَكَى أن اليَهُود يَسْألُون الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنْ يُنَزِّل عَلَيْهِم كِتَاباً من السَّمَاءِ؛ وذكر - تعالى - بَعْدَهُ أنَّهُم لا يَطْلُبُون ذَلِك اسْتِرشاداً، ولكن عِناداً، وحَكَى أنْواع فَضَائِحِهم وقَبَائِحِهم، فلما وصل إلى هذا المَقَامِ، شرع الآن في الجواب عن تلك الشُّبْهَة؛ فقال: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ} . والمَعْنَى: أنّا تَوافَقْنَا على نُبُوَّة نُوحٍ وإبراهيمَ وإسماعيل وجميع المَذْكُورين، على أنَّ الله - تعالى - أوحَى إليهم، ولا طَريقَ إلى العِلْم بكَوْنِهِم أنْبِيَاء الله وَرُسُلِهِ إلا المُعْجِزَاتِ، ولكُلِّ واحدٍ مِنْهُم نوْعٌ من المُعْجِزَة مُعَيَّنَة، وأما أنْزلَ الله على كُلِّ وَاحِدٍ من هؤلاء المذكورين [كِتَاباً بتَمَامِهِ؛ مثل ما أنْزَلَ على مُوسَى، فلما لم يَكُن عَدَمُ إنْزَالِ الكِتَابِ على هؤلاء] دفْعَةً واحِدَةً قَادِحاً في نُبُوَّتِهِم، بل كفى في ظُهُور نُبُوَّتِهم نَوْعٌ واحدٌ من أنْوَاعِ المُعْجِزَاتِ، عَلِمْنَا أن هذه الشُّبْهَة زَائِلَة، وأن إصْرَار اليَهُود على طَلَبِ المُعْجِزَةِ باطِلٌ؛ لأن إثْبات المدْلُولِ يَتَوَقَّفُ على إثبَاتِ الدَّلِيل، فإذا حَصَل الدَّليلُ وتَمَّ، فالمُطَالَبَةُ بِدَلِيل آخر يَكُون تَعَنُّتاً ولَجَاجاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 130 قوله سبحانه: {كَمَآ أَوْحَيْنَآ} : الكافُ نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: إيحاءً مثْلَ إيحَائِنَا، أو على أنه حالٌ من ذلك المصدر المحذوف المقدَّرِ معرَّفاً، أي: أوحينَاهُ، أي: الإيحاءَ حال كونه مُشْبِهاً لإيحَائِنَا إلى مَنْ ذكر، وهذا مذهبُ سيبويه، وقد تقدَّم تحقيقه، وفي «ما» وجهان: أن تكون مصدريةً؛ فلا تفتقر إلى عائدٍ على الصحيح، وأن تكون بمعنى «الذي» ، فيكون العائدُ محذوفاً، أي: كالذي أوحيناهُ إلى نوح، و «مِنْ بعْدِهِ» متعلقٌ ب «أوْحَيْنَا» ، ولا يجوز أن تكون «مِنْ» للتبيين؛ لأنَّ الحالَ خبرٌ في المعنى، ولا يُخْبَرُ بظرفِ الزمانِ عن الجثَّة إلا بتأويلٍ، وأجاز أبو البقاء أن يتعلَّق بنفس «النَّبيِّينَ» ، يعني أنه في معنى الفعل؛ كأنه قيل: «وَالَّذِينَ تَنَبَّئُوا من بَعْدِهِ» وهو معنى حَسَنٌ. فصل لماذا ذكر نوح - عليه السلام - أولاً قالوا: إنَّما بَدَأ - تعالى - بذِكْرِ نُوحٍ؛ لأنه كان أبا البَشَرِ مِثْل آدم - عليه السلام -، قال: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين} [الصافات: 77] ؛ ولأنَّه أول نَبِيٍّ شرحَ الله على لِسَانِه الأحْكَام، وأوَّل نَذِيرٍ على الشِّرْك، وأوَّل من عُذِّبَتْ أمَّته لردِّهم دَعْوَتَه، وأهْلِك أهْلُ الأرْضِ بدُعَائِهِ، وكان أطْوَل الأنْبِيَاءِ عُمُراً، وجُعِلَت مُعْجِزَتُه في نَفْسِهِ، لأنَّه عمر ألْفَ سَنَةٍ، فلم تَنْقُص له سِنٌّ، ولم تَشِبْ له شَعْرَةٌ، ولم تَنْتقصْ له قُوَّة، ولم يَصْبِر أحَدٌ على أذَى قَوْمِهِ مِثْل ما صَبَر هُو على طُولِ عُمُرِه. فصل قوله [- تعالى -] {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ} ثم خصَّ بعض النَّبِييِّن بالذِّكْرِ؛ لكونهم أفْضَلَ من غَيْرهم؛ كقوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . واعْلَم أنَّه ذكر في هذه الآية اثْنَا عشرة نَبِيًّا، ولَمْ يذكُر مُوسَى مَعَهُم؛ لأن اليَهُود قالُوا: إنْ كُنْتَ يا مُحَمَّد نَبِيًّا [حَقًّا] ، فأتِنَا بكتابٍ من السَّماءِ دَفْعَةً واحِدَةً؛ كما أتى موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بالتَّوْرَاةِ دفعةً واحدةً؛ فأجَابَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَة بأنَّ هؤلاء الأنْبِيَاءِ الاثْنَي عشر، كانوا أنْبِيَاءَ وَرسُلاً، مع أنَّ واحداً منهم لم يأتِ بكتاب مثل التَّوْراةِ دفْعَةً واحِدَةً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 131 وإذَا كَانَ المَقْصُود من تعديده هؤلاءِ الأنْبِيَاء هذا المَعْنَى، لم يجز ذِكْر مُوسَى مَعَهُم. وفي «يُونُس» ستُّ لغاتٍ؛ أفصحُها: واوٌ خالصةٌ، ونون مضمومة، وهي لغةُ الحجاز، وحُكِيَ كسرُ النونِ بعد الواو، وبها قرأ نافع في رواية حبَّان، وحُكِي أيضاً فتحها منقولَتَيْنِ من الفعل المبنيِّ للفاعل أو للمفعول، جعل هذا الاسم مشتقاً من الأنْسِ، وإنما أبُدلَتِ الهمزةُ واواً؛ لسكونها وانضمام ما قبلها؛ ويدلُّ على ذلك مجيئه بالهمزةِ على الأصل في بعض اللغات؛ كما سيأتي، وفيه نظرٌ، لأن هذا الاسم أعجميٌّ، وحُكِي تثليث النون مع همز الواو؛ كأنهم قلبوا الواوَ همزةً؛ لانضمام ما قبلها؛ نحو: [الوافر] 1903 - أحَبُّ المُؤْقِدِينَ إليَّ مُؤْسَى ..... ... ... ... ... ... ... . قال شهاب الدين: وقد تقدَّم تقريرُه، وحُكِيَ أنَّ ضمَّ النون مع الهمز لغةُ بعض بني أسدٍ، إلا أني لا أعْلَمُ أنه قُرِئَ بشيء من لغات الهمز، هذا إذا قلنا: إن هذا الاسمَ ليْسَ منقولاً من فِعْل مبنيٍّ للفاعل أو للمفعول حالةَ كَسْر النون أو فتحها، أمَّا إذا قلنا بذلك، فالهمزةُ أصليةٌ غيرُ منقلبةٍ من واو؛ لأنه مشتق من الأنس، وأمَّا مع ضمِّ النونِ، فينبغي أن يُقال بأن الهمزة بدلٌ من الواو؛ لانتفاء الفعلية مع ضم النون. قوله تعالى: {زَبُوراً} قرأ الجمهورُ بفتح الزاي، وحمزة بضَمِّها، وفيه ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنه جمعُ «زَبْرٍ» قال الزمخشريُّ: جمع «زَبْرٍ» ، وهو الكتابُ، ولم يَذْكر غيره، يعني أنه في الأصْل مصدرٌ على فعلٍ، ثم جُمِعَ على فُعُولٍ، نحو: فَلْسٍ وفُلُوسٍ، وقَلْسٍ وقُلُوسٍ، وهذا القول سبقه إليه أبو علي الفارسيُّ في أحد التخريجَيْنِ عنه، قال أبو عَلِيٍّ: «ويحتمل أن يكون جمع زَبْرٍ وقع على المَزْبُور، كما قالوا: ضَرْبُ الأميرِ، ونَسْجُ اليَمَنِ فصار اسماً، ثم جُمِعَ على زُبُور كشُهُود وشهد؛ كما سُمِّي المكتوبُ كِتَاباً» ، يعني أبو عليٍّ؛ أنه مصدرٌ واقعٌ موقع المفعول به؛ كما مثَّله. والثاني: أنه جمع «زَبُورٍ» في قراءة العامة، ولكنه على حَذْفِ الزوائد، يعني حُذِفت الواوُ منه، فصار اللفظ: زَبُر، وهذا التخريجُ الثاني لأبي عليٍّ، قال أبو عليٍّ: «كما قالوا: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 132 ظَرِيفٌ وظُرُوفٌ، وكَرَوَان وكِرْوان، وَوَرَشَان ووِرْشَان على تقدير حذف الياء والألف» ، وهذا لا بأس به؛ فإنَّ التكسير والتصغير يَجْريان غالباً مجرى واحداً، وقد رأيناهُمْ يُصَغِّرونَ بحذفِ الزوائد نحو: «زُهَيْرٍ وحُمَيْدٍ» في أزْهَرَ ومَحْمُودٍ، ويسميه النحويون «تصْغير التَّرخيم» ، فكذلك التكسيرُ. الثالث: أنه اسمٌ مفردٌ، وهو مصدرٌ جاء على فُعُول؛ كالدُّخُول، والقُعُود، والجُلُوس، قاله أبو البقاء وغيره، وفيه نظرٌ؛ من حيث إن الفُعُولَ يكون مصدراً للازم، ولا يكون للمتعدِّي إلا في ألفاظ محفوظةٍ، نحو: اللُّزُومِ والنُّهُوكِ، وزَبَرَ - كما ترى - متعدٍّ، فيضعفُ جَعْلُ الفُعُولِ مصدراً له. قال أهل اللُّغَة: الزَّبُور الكِتَاب، وكُلُّ كِتَاب زَبُور، وهُو «فَعُولٌ» بمعنى «مَفْعُول» ؛ كالرَّسُولِ والرَّكُوبِ والحَلُوب، وأصْلُه من زَبَرْتُ بمعنى كَتَبْتُ، وقد تقدَّم مَعْنَى هذه المادّة في آل عمران [آية 184] . فصل في معنى الآية معنى {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} أي: صُحُفاً وكُتُباً مَزْبُورَة، أي: مَكْتُوبَة، وكان فيها التَّحْمِيدُ والتَّمْجِيدُ والثَّناءُ على اللَّهِ تعالى. قال القُرْطُبيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الزَّبُورُ كِتَابُ داود - عليه السلام - مائة وخمسين سُورة، لَيْسَ فيها حُكْمٌ، ولا حَلالٌ، ولا حَرَامٌ، وإنَّما هي حِكمٌ وموَاعِظٌ، والأصل في الزَّبْرِ التَّوْثِيقُ؛ فَيُقَال: بِئْرٌ مَزْبُورَة، أي: مَطْوِيَّةٌ بالحِجَارَةِ، والكِتَاب يُسَمَّى زَبُوراً؛ لقوَّة الوثِيقَةِ بِه. وكان داوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حَسَن الصَّوْتِ؛ وإذا أخَذَ في قِرَاءةِ الزَّبُورِ، اجتمع عليه الإنْسُ والجنُّ والطَّيْر والوحشُ؛ لحُسْنِ صوتِهِ، وكان مُتَواضِعاً يأكُلُ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ في الخوصِ، فكان يَصْنَعُ الدُّرُوعَ، فكان أزْرَقَ العَيْنَيْن، وجَاءَ في الحديث: «الزُّرْقَةُ في العَيْن يُمْنٌ» . قوله - عزَّ وجلَّ -: {وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ {عَلَيْكَ} ] الجمهور على نَصْب «رُسُلاً» ، وفيه ثلاثةُ أوجُه: أحدها: أنَّه مَنْصُوب على الاشْتِغَالِ؛ لوجود شُرُوطِهِ، أيْ: وقَصَصْنا رُسُلاً. قال القُرْطُبيُّ: ومثلهُ مما أنْشد سِيبَويْهِ: [المنسرح] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 133 1904 - أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا ... أمْلِكُ رَأسَ البَعيرِ إنْ نَفَرَا والذِّئْبَ أخْشَاهُ إنْ مَرَرْتُ بِهِ ... وَحْدِي وَأخْشَى الرِّيَاحَ والمَطَرَا أي: وأخْشَى الذِّئْبَ، والمعنى على حَذْف مضاف، أي: قصصنَا أخبارَهُمْ، فيكون «قَدْ قَصَصْنَاهُمْ» لا محلَّ له؛ لأنه مفسِّرٌ لذلك العاملِ المضمَرِ، ويُقَوِّي هذا الوجه قراءةُ أبَيٍّ: «وَرُسُلٌ» بالرفع في الموضعين، والنصبُ هنا أرجحُ من الرفع؛ لأن العطف على جملة فعلية، وهي: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} . الثاني: أنه منصوب عطفاً على معنى {أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ} ، أي: أرْسَلْنَا ونَبَّأنَا نُوحاً وَرُسُلاً، وعلى هذا فيكون «قَدْ قَصَصْنَاهُمْ» في محلَّ نصب؛ لأنه صفةٌ ل «رُسُلاً» . الثالث: أنه منصوب بإضمار فعلٍ، أي: وأرسلنا رُسُلاً؛ وذلك أنَّ الآية نزلَتْ رادَّة على اليهود في إنكارهم إرسال الرسل، وإنزالَ الوحْيٍ، كما حكى اللَّهُ عنهم في قوله: {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 91] والجملةٌ أيضَاً في محل الصفة. وقيل: نصب على حذف حر الجرِّ، والتقدير: كما أوحَيْنَا إلى نُوحٍ، وإلى رُسُل. وقرأ أبيُّ: «وَرُسُلٌ» بالرفع في الموضعين، وفيه تخريجان: أظهرهما: أنه مبتدأ وما بعده خبرُه، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرةِ؛ لأحدِ شيئين: إمَّا العطفِ؛ كقوله: [البسيط] 1905 - عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتِلَتِي ... فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امرُؤٌ سَمِعَا وإما التفصيل؛ كقوله: [المتقارب] 1906 - فَأقْبَلْتُ زَحْفاً على الرُّكْبَتَيْنِ ... فَثَوْبٌ لَبِسْتُ وَثَوْبٌ أجُرْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 134 وكقوله: [الطويل] 1907 - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَهُ ... بِشِقٍّ وَشِقٌّ عِنْدَنَا لَمْ يُحَوَّلِ والثاني - وإليه ذهب ابن عطيَّة -: أنه ارتفع على خبر ابتداء مضمر، أي: وهم رُسُلٌ، وهذا غير واضح، والجملة بعد «رسُل» على هذا الوجه تكونُ في محلِّ رفع؛ لوقوعها صفةً للنكرة قبلها. قوله: {وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ} كالأول. وقوله: {وَكَلَّمَ الله موسى} الجمهور على رفع الجلالة، وهي واضحةٌ. و «تَكْلِيماً» مصدرٌ مؤكد رافعٌ للمجاز. قال الفرَّاء: العَرَبُ [تُسَمِّي] ما يُوصَلُ إلى الإنْسَانِ كلاماً بأيِّ طَرِيقٍ وَصَلَ ولكِنْ لا تُحَقِّقُه بالمصْدَرِ، فإذا حُقِّق بالمصْدَرِ، لم يَكُنْ إلاَّ حَقِيقَةَ الكلامِ؛ كالإرادَةِ، يُقال: أراد فُلانٌ إرادَةً، يريد: حَقيقةَ الإرَادَة. قال القُرْطُبِي: «تَكْلِيماً» يقدر مَعْنَاه بالتَّأكِيدِ، وهذا يَدُلُّ على بُطْلانِ قول من يقُولُ: خَلَق [اللَّه] لِنَفْسه كَلاَماً في شَجَرةٍ، فَسَمِعَهُ مُوسَى -[عليه السلام]- ، بل هو الكلامُ الحقيقيُّ الذي يكُون به المُتَكَلِّم مُتَكَلِّماً. قال النَّحَّاس: وأجمع النَّحوِيُّون على أنَّك إذا أكَّدْت الفِعْلَ بالمصْدَر، لم يَكُنْ مجازاً، وأنَّه لا يجُوزُ في قول الشاعر: [الرجز] 1908 - امْتَلأ الْحَوْضُ وقال قَطْنِي ... الجزء: 7 ¦ الصفحة: 135 أن يقول: قال قولاً فكذا لمَّا قال: «تَكْلِيماً» وجَبَ أن يكُون كلاماً على الحَقِيقَةِ. ومعنى الآية: أنَّ الله - تعالى - ذكر هَؤلاء الأنْبِيَاء والرُّسُل [وخص مُوسَى] بالتكْلِيم مَعَهُ ولم يَلْزَم مِنْ تَخْصِيصِ مُوسَى عليه السلام بهَذَا التَّشْرِيف، الطَّعْن في نُبُوة الأنْبِيَاء - عليهم السلام -، فكَذَلِك لا يلزم من إنْزَالُ التَّوْرَاة دفْعَةً واحِدَةً الطَّعْن فيمن أُنْزِل عليه الكِتَاب مُفَصَّلاً. وقرأ إبْراهيم ويَحْيَى بن وَثَّاب: بنَصْبِ الجلالة. وقال بعضُهُم: {وَكَلَّمَ الله [موسى تَكْلِيماً] } معناه: وجَرَحَ اللَّهُ مُوسَى بأظْفَار المحن ومَخَالِب الفَتن، وهذا تَفْسِيرٌ بَاطِلٌ. وقد جاء التأكيد بالمصدر في ترشيح المجاز؛ كقول هند بنت النعمانِ بن بشير في زوْجِها رَوْحِ بْنِ زِنْبَاعٍ وزيرِ عبد الملِكِ بْنِ مَرْوَانَ: [الطويل] 1909 - بَكَى الْخَزُّ مِنْ رَوْحٍ وأنْكَرَ جِلْدَهُ ... وَعَجَّتْ عَجِيجاً مِنْ جُذَامَ المَطَارِفُ تقول: إنَّ زوْجَها رَوْحاً قد بكَى ثيابُ الخَزِّ مِنْ لُبْسِهِ؛ لأنه ليس من أهل الخَزِّ، وكذلك صرخَتْ صُرَاخاً من جُذَام - وهي قبيلة رَوحٍ - ثيابُ المطارِفِ، تعني: أنهم ليسوا من أهل تلك الثياب، فقولها: «عَجَّتِ المَطَارِفُ» مجازٌ؛ لأن الثياب لا تعجُّ، ثم رَشحَتْهُ بقوله عَجِيجاً، وقال ثَعْلَبٌ: لولا التأكيد بالمصدر، لجاز أن يكونَ كما تقول: «كَلَّمْتُ لك فُلاناً» ، أي: أرسلْتُ إليه، أو كتبتُ له رُقْعةً. قوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ} : فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه بدل من «رُسُلاً» الأول في قراءة الجمهور، وعبَّر الزمخشريُّ عن هذا بنصبه على التكْريرِ، كذا فهم عنه أبو حيان. الثاني: أنه منصوبٌ على الحال الموطِّئة؛ كقولك: «مَرَرْتُ بِزَيْدٍ رَجُلاً صَالِحاً» ، ومعنى الموطِّئة، أي: أنَّها ليست مقصودةً، إنما المقصودُ صفتُها؛ ألا ترى أن الرجوليَّة مفهومة من قولك «بِزَيْدٍ» ، وإنما المقصودُ وصفه بالصلاحية. الثالث: أنه نُصِبَ بإضمار فعل، أي: أرْسَلْنا رُسُلاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 136 الرابع: أنه منصوبٌ على المَدْح، قدَّره أبو البقاء ب «أعني» ، وكان ينبغي أن يقدِّره فعلاً دالاًّ على المدْح، نحو: «أمْدَح» ، وقد رجَّح الزمخشريُّ هذا الأخير، فقال: «والأوجَهُ أن ينتصِبَ» رُسُلاً «على المدح» . قوله: «لِئَلاَّ» هذه لام كَيْ، وتتعلَّقُ ب «مُنْذِرِينَ» على المختار عند البصريِّين، وب «مُبَشِّرِينَ» على المختار عند الكوفيِّين؛ فإن المسألةَ من التنازُع، ولو كان من إعمالِ الأول، لأضمرَ في الثاني من غير حذفٍ، فكان يُقال: مُبَشِّرينَ ومُنْذِرينَ [له] لئلا، ولم يَقُل كذلك، فدلَّ على مذهب البصريِّين، وله في القرآن نظائرُ تقدَّم منها جملة صالحة، وقيل: اللامُ تتعلَّقُ بمحذوف، أي: أرسلْنَاهُم لذلك، و «حُجَّةٌ» اسمُ «كانَ» ، وفي الخبر وجهان: أحدهما: هو «عَلَى الله» و «لِلنَّاسِ» حال. والثاني: أن الخبر «للنَّاسِ» و «عَلَى الله» حال، ويجوز أن يتعلَّق كُلٌّ من الجارِّ والمجرور بما تعلَّق به الآخرُ، إذا جعلناه خبراً، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ على الله ب «حُجَّة» ، وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ معمول المصدر لا يتقدم عليه، و «بَعْدَ الرُّسُلِ» متعلقٌ ب «حُجَّة» ، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه صفةٌ ل «حُجَّة» ؛ لأنَّ ظروف الزمان تُوصفُ بها الأحداثُ؛ كما يخْبر بها عنها؛ نحو: «القِتَالُ يَوْمُ الجُمُعَةِ» . فصل في جواب الآية عن شبهة اليهود هذه الآيةُ جوابٌ عن شُبْهَة اليهُودِ، وتقريرُه: أن المقْصُود من بَعْثَةِ الرُّسُلِ أن يُبَشِّرُوا ويُنْذِرُوا، وهذا المَقْصُود حَاصِلٌ سواءٌ كان الكِتَاب نَازِلاً دَفْعَةً واحدةً أو مُنَجَّماً، ولا يَخْتَلِفُ هذا الغرضُ بِنزُول الكِتَابِ مُنَجَّماً أو دفعةً واحدةً. بل لو قِيلَ: إن إنْزَال الكِتَاب مُنَجَّماً مُفَرَّقاً أقْرَبُ إلى المصْلَحَة، لكان أوْلَى؛ لأن الكِتَاب إذا نَزَل دَفْعَةً واحِدَة، كثُرت التَّكَالِيفُ على المكَلَّفِ، فيَثْقُل فِعْلُهَا؛ ولهذا السَّبَب أخَذ قومُ مُوسَى - عليه السلام - على التمرُّدِ، ولم يَقْبَلُوا تلك التَّكَالِيف. أمَّا إذا نَزَل الكتابُ مُنَجَّماً مُفَرَّقاً، سَهُل قُبُولُه للتَّدرِيجِ، فحينئذٍ يَحْصُل الانْقِيَادُ والطَّاعةُ من القَوْمِ، فكان اقْتِرَاحُ اليَهُودِ إنْزَالَ الكِتَابِ دفعَةً واحِدَة اقْتِراحاً فاسِداً ثم قال: {وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً} يعني: هذا الذي تَطْلُبُونَه من الرسول أمْر هَيِّنٌ في القُدْرَةِ، وإنما طَلَبْتُمُوه على سَبِيلِ اللِّجَاجِ، وهو - تعالى - عَزِيزٌ، وعِزَّتُهُ تَقْتَضِي ألا يُجَابَ المُتَعَنِّتُ إلى مَطْلُوبِه، وكذَلِك حِكْمَتُه تَقْتَضِي هذا الامْتِنَاع؛ لِعلْمِهِ - تعالى - بأنَّهُ لو فَعلَ ذلك لبَقَوْا مُصرِّين على اللِّجَاج؛ لأنه - تعالى - أعْطَى مُوسى -[عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ]- الجزء: 7 ¦ الصفحة: 137 هذا التَّشْرِيف، ومع ذلك أصَرُّوا على المُكَابَرة واللِّجَاج. فصل احْتَجُّوا بهذه الآيةِ على أنّ معرِفَة اللَّهِ - تعالى - لا تثبت إلا بالسَّمْع؛ لأن قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} يدلُّ على أنَّ قَبْل البَعْثَةِ يكُونُ للنَّاسِ حُجَّة في تَرْك الطَّاعَاتِ، ويؤيِّدُه قوله - تعالى -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ، وقوله: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى} [طه: 134] . فصل شبهة للمعتزلة وردها قالت المعتزلة: دلَّت هذه الآيةُ على أن العَبْد قد يَحتَجُّ على الربِّ - سبحانه وتعالى - وأنَّ الذي يَقُولُه أهْل السُّنَّةِ من أنَّهُ تعالى لا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ في شَيْءٍ، وأنَّه يَفْعَلُ ما يَشَاءُ كما شَاءَ لَيْس بِشَيْءٍ؛ لأن قوله: {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} يَقْتَضِي أنَّ لَهُم حُجَّة على الله قَبْلَ الرُّسُل، وذلك يُبْطِل قول أهْلِ السُّنَّة. والجواب: أن المُرادَ {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله} أي: فيما يُشْبِهُ الحُجَّة فِيمَا بَيْنَكُم. فصل شبهة للمعتزلة وردها قالت المُعْتَزِلَةُ: دلَّت الآيةُ على أنَّ تكْلِيفَ ما لا يُطَاق غَيْر جَائِزٍ؛ لأن عدم إرْسَالِ الرُّسُلِ إذا كان يَصْلُح عُذْراً، فبأن يَكُون عدمُ المُكْنَةِ والقُدْرَة صَالِحاً لأنْ يكُونَ عُذْراً أولى. والجواب: بالمُعَارَضَةِ بالعِلْمِ. قوله تعالى : {لكن الله يَشْهَدُ} هذه الجملة الاستدراكية لا يبتدأ بها، فلا بدَّ من جملة محذوفة، وتكون هذه الجملةُ مستدركةً عنها، والجملة المحذوفةُ هي ما رُويَ في سبب النزول؛ أنه لَمَّا نَزَلَت: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} [الآية: 163 النساء] ، قالوا: ما نشهد لك بهذا أبداً، فنزلت: {لكن الله يَشْهَدُ} ، وقد أحسن الزمخشريُّ هنا في تقدير جملةٍ غيرِ ما ذكرتُ، وهو: «فإنْ قلْتَ: الاستدراكُ لا بُدَّ له من مُسْتدركٍ، فأيْنَ هو في قوله: {لكن الله يَشْهَدُ} ؟ قلتُ: لمَّا سأل أهلُ الكتاب إنزال الكتاب من السماء، وتعنَّتوا بذلك، واحتجَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 138 عليهم بقوله: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} قال: {لكن الله يَشْهَدُ} بمعنى أنهم لا يشهدون، لكن اللَّهُ يَشْهَدُ» ، ثم ذكر الوجه الأول. وقرأ الجمهور بتخفيفِ «لَكِن» ورفعِ الجلالة، والسُّلَمِيُّ والجرَّاح الحكمي بتشديدها ونَصْب الجلالة، وهما كالقراءتين في {ولكن الشياطين} [البقرة: 102] وقد تقدَّم، والجمهورُ على «أنْزَلَهُ» مبيناً للفاعل، وهو الله تعالى، والحسن قرأه «أُنْزِلَ» مبنيًّا للمفعول، وقرأ السلميُّ «نَزَّلَهُ بِعِلْمِهِ» مشدَّداً، والباء في «بعلْمِهِ» للمصاحبة، أي: ملتبساً بعلمه، فالجارُّ والمجرور في محلِّ نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان: أحدهما: الهاءُ في «أنْزَلَهُ» . والثاني: الفاعل في «أنْزَلَهُ» أي: أنزله عالماً به، و «والمَلائِكةُ يَشْهَدُونَ» مبتدأ وخبر، يجوز أن تكون حالاً أيضاً من المفعول في «أنْزَلَهُ» ، أي: والملائكة يَشْهَدُونَ بصدْقه، ويجوزُ ألاَّ يكونَ لها محلٌّ، وحكمه حينئذٍ كحُكْم الجملة الاستدراكيّة قبله، وقد تقدَّم الكلامُ على مِثْلِ قوله: {وكفى بالله شَهِيداً} [النساء: 166] . فصل قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: إن رُؤسَاء مكَّةَ أتوا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشَرَّف وكَرَّم ومَجَّد وعَظَّم وقالوا: يا مُحمَّد، إنا سَألْنَا عنْكَ اليَهُودَ، عن صفتِك في كِتَابِهِم، فَزَعَمُوا أنَّهُم لا يَعْرِفُونَك ودخل عليه جَمَاعَةٌ من اليَهُودِ، فقال لَهُم: «والله إنَّكُمْ لتَعَلمُن أنِّي رَسُولُ اللَّهِ» فقالوا: ما نَعْلَمُ ذلك واللَّهِ، فأنزلَ الله - تعالى -: {لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ [أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ} ] إن جحدوك وكَذَّبُوك، وشهادَةُ الله عُرِفَتْ بإنْزَالِ هذا القُرآنِ البَالِغ في الفَصَاحَةِ إلى حَيْثُ عَجَز الأوَّلُون والآخِرُون عن مُعَارَضَتِهِ، فكان ذَلِكَ مُعْجِزاً، وإظْهَارُ المُعْجِزَة شهادَةٌ بكَوْن المُدَّعِي صَادِقاً، ولما كانت شهادتُهُ إنما عُرِفَتْ بإنْزَالِهِ بواسِطَة القُرْآنِ، قال: {لكن الله يَشْهَدُ} لك بالنُّبُوَّةِ، بواسِطَة إنْزَالِ هذا القُرْآنِ عليك، ثم بيَّن صفَة هذا الإنْزَال، وهو أنَّه - تعالى - أنْزَلَهُ بِعِلْمٍ تَامٍّ، وحِكْمَةٍ بَالِغَة. فقولُهُ بغايَةِ الحُسْن ونهاية الكَمَالِ؛ كما يُقالُ في الرَّجُل المَشْهُور بكَمَالِ الفَضْل والعِلْم، إذا صَنَّف كتاباً واسْتَقْصَى في تحْريره: إنَّه إنما صنَّفَ هذا بكَمَالِ عِلْمِه وفَضْلِه، يعني: أنه اتَّخَذَ جُمْلَة عُلُومه وسِيلَةً إلى تَصْنِيفِ هذا الكِتَابِ، فيدُلُّ ذَلِك عَلَى وَصْفِ ذلك التَّصْنِيف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 139 بِغَايَةِ الجَوْدَةِ والحُسْنِ، فكذا هَهُنَا دلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ لله - تعالى - عِلْماً؛ لأنَّها أثْبَتتِ العلم للَّه - تعالى - ولو كان عِلْمُهُ نَفْس ذَاتِهِ، لزم إضافَةُ الشَّيْء إلى نَفْسِهِ، وهُوَ مُحَال. وقوله - تعالى -: {والملاائكة يَشْهَدُونَ} إنَّما تُعْرَفُ شَهَادَةُ المَلاَئِكَة له بذلك؛ لأن إظهار المُعْجزة على يَدِهِ، لمَّا دلَّ على أنَّ اللَّه - تعالى - شَهِد بذلك، فالمَلاَئِكَة [أيضاً] يشهدُون لا مَحَالَة، لأنَّهُم لا يَسْبِقُونَهُ بالقَوْلِ، فكأنَّهُ قيل: يا محمد إن كَذَّبَكَ هؤلاء [اليَهُود] ، فلا تُبَالِ بِهِم، فإنَّ إله العَالمِينَ يُصَدِّقُك، وملائِكَةُ السَّمَوات يُصَدِّقُونَك في ذلك، ومن صَدَّقَهُ ربُّ العَالَمِين، وملائكةُ العَرْشِ والكُرْسِيّ، والسَّمواتُ السَّبْع أجْمَعِين، لم يَلْتَفِتْ إلى تكْذِيب أخَسِّ النَّاسِ. ثُمَّ قال: {وكفى بالله شَهِيداً} [وقد تقدَّم الكلامُ فيه] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 قوله - تعالى -: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} الآية والجمهورُ على «وَصَدُّوا» مبنيًّا للفاعل، وقرأ عكرمة وابن هُرْمُزٍ: «وَصُدُّوا» مبنيًّا للمفعول، وهما واضحتانِ، وقد قرئ بهما في المتواترِ في قوله: {وَصُدُّواْ} [الرعد: 33] في الرعْد، و {وَصُدَّ عَنِ السبيل} [غافر: 37] في غافر. والمراد كَفَرُوا بقوْلِهِم: لو كان رَسُولاً، لأتى بِكِتَابٍ دَفْعَةً واحِدَةً من السَّماءِ؛ كما أنْزِلَت التوراة على مُوسَى؛ وقولهم: إنَّ الله - تعالى - ذكر في التَّوْرَاةِ؛ أنَّ شَريعَة موسى لا تُبَدَّلُ ولا تُنْسَخُ إلى يَوْمِ القيامَةِ، وقولهم: إنَّ الأنبْيِاءَ لا يَكُونُون إلاَّ مِنْ وَلَد هَارُونَ وَدَاوُد، وصَدِّهم عن سَبيلِ اللَّهِ: بِكِتْمَان نَعْت مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. {قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاَ بَعِيداً} ، إلا أنَّ أشدَّ النَّاس ضلالاً من كَان يَعْتَقِدُ في نَفْسِهِ أنَّه مُحِقٌّ، ثم يَتَوَسَّلُ بذلك الضَّلال إلى اكْتِسَابِ المالِ والجَاهِ، ثم يَبْذُلَ جَهْدَهُ في إلْقَاءِ غيره في مِثْلِ ذلِك الضَّلالِ، فهذا قَدْ بَلَغَ في الضَّلاَلِ إلى أقْصَى الغَايَاتِ. ولمَّا وصف الله ضلالهُم، ذكر وعيدَهُم؛ فقال: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ} بِكِتْمَان نَعْتِ مُحمَّد [صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] ، وظلموا أتْبَاعَهُم بإلْقَاءِ الشُّبُهَاتِ {لَمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ} ، وقد تقدَّم الكلامُ على قوله «لِيَغْفِر لَهُم» وأن الفِعْلَ مع هَذِهِ اللاَّم أبْلَغُ مِنْهُ دُونَهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 140 واعلم أنَّا إن حَمَلْنَا قوله: «إِنَّ الذينَ» على المَعْهُود السَّابِقِ لم يَحْتَجْ إلى إضْمَارِ شَرْطٍ في هذا الوَعِيد على أقْوَامٍ علِمَ اللَّهُ منْهُمْ أنَّهُم يمُوتُون على الكُفْرِ. وإنْ حَمَلْنَاهُ على الاسْتِغْرَاقِ، أضَمَرْنَا فيه شَرْطَ عَدَم التَّوْبَةِ. قوله سبحانه: {وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ} في هذا الاسْتِثْنَاء قولان: أحدهما: أنه اسْتِثْنَاء مُتَّصِلٌ، لأن [المُرَادَ] بالطَّرِيق الأوَّلِ: العُمُوم، فالثَّانِي من جِنْسِهِ. والثاني: انه مُنْقَطِعٌ إن أُريد بالطَّرِيق شَيْءٌ مَخْصُوصٌ؛ وهو العمل الصَّالِحُ الذي يَتَوَصَّلُون به إلى الجَنَّة، وانْتَصَب «خَالِدِين» على الحَالِ، والعَامِلُ فيه مَعْنَى «لا يهديهم اللَّه» ؛ لأنه بِمَنْزِلَةِ: يُعَاقِبهُم خَالِدِين، وانْتَصَب «أبَداً» على الظَّرْفِ، {وَكَانَ ذلك عَلَى الله يَسِيراً} أي: لا يتعذَّر عليْه شيءٌ. قوله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 - تعالى -: {ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ} الآية لما أجَابَ عن شُبْهَة اليَهُودِ، [و] بين فَسَادَ طِرِيقهِم، ذَكَر خِطَاباً عَامّاً يَعُمُّهُم ويَعُمّ غَيْرُهم في الدَّعْوةِ إلى الإسلامِ. قوله سبحانه: {بالحق} : فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلِّق بمحذوفٍ، والباءُ للحال، أي: جاءكُمُ الرسولُ ملتبساً بالحقِّ، أو متكلِّماً به. والثاني: أنه متعلقٌ بنفس «جَاءَكُمْ» ، أي: جاءكم بسبب إقامةِ الحقِّ، والمراد بهذا الحق القرآنُ، وقيل: الدعوة إلى عبادة الله، والإعراض عن غيره، و «مِنْ ربِّكُمْ» فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلقٌ بمحذوف؛ على أنه حال أيضاً من «الحَقِّ» . والثاني: أنه متعلقٌ ب «جاء» ، أي: جاء من عند الله، أي: أنه مبعوثٌ لا متقوَّلٌ. قوله تعالى: {فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ} في نصبه أربعة أوجه: أحدها - وهو مذهب الخليل وسيبويه -: أنه منصوب بفعلٍ محذوفٍ واجب الإضمار، تقديره: وأتُوا خيراً لكم؛ لأنه لمَّا أمرهم بالإيمان فهو يريدُ إخراجهم من أمرٍ، وإدخالهم فيما هو خيرٌ منه، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره؛ قال: «وذلك أنه لمَّا بعثَهم على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 141 الإيمان وعلى الانتهاءِ عن التثْلِيثِ، علم أنه يَحْمِلُهم على أمر، فقال: خيراً لكُمْ، أي: اقصِدوا وأتُوا أمراً خيراً لكم مما أنتم فيه من الكُفْر والتثليث» . الثاني - وهو مذهب الفراء -: أنه نعت لمصْدر محذوف، أي: فآمنوا إيماناً خيراً لكم، وفيه نظر؛ من حيث أنه يُفْهِمُ أنَّ الإيمان منقسم إلى خير وغيره، وإلاَّ لم يكنْ لتقييده بالصفةِ فائدةٌ، وقد يُقالُ: إنه قد يكون لا يقولُ بمفهوم الصفة؛ وأيضاً: فإن الصفة قد تأتي للتأكيد وغير ذلك. الثالث - وهو مذهب الكسائي وأبي عبيد -: أنه منصوب على خبر «كَانَ» المضمرة، تقديرُه: يكنِ الإيمانُ خيراً، وقد ردَّ بعضُهم هذا المذهب؛ بأنَّ «كَانَ» لا تُحْذَف مع اسمها دون خبرها، إلا فيما لا بدّ له منه، ويزيد ذلك ضعفاً أنَّ «يَكُن» المقدرة جوابُ شرطٍ محذوف، فيصيرُ المحذوفَ الشرطُ وجوابُه، وهو «يَكُن الإيمَانُ» وأبقيتَ معمولَ الجواب، وهو «خَيْراً» ، وقد يقال: إنه لا يحتاج إلى إضمار شرطٍ صناعيٍّ، وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّا ندَّعِي أن الجزْم الذي في «يَكُنِ» المقدرةِ، إنما هو بنفس جملة الأمر التي قبله، وهو قوله: «فآمِنُوا» من غير تقدير حرفِ شرطِ، ولا فعلٍ له، وهو الصحيحُ في الأجوبة الواقعة لأحد الأشياء السبعة، تقول: «قُمْ أكْرِمْكَ» ، ف «أكْرِمْكَ» جواب مجزومٌ بنفس «قُمْ» ؛ لتضمُّن هذا الطلب معنى الشرط من غير تقدير شرط صناعيٍّ. الرابع - والظاهرُ فساده -: أنه منصوبٌ على الحال، نقله مكي عن بعض الكوفيِّين، قال: «وهُوَ بعيدٌ» ، ونقله أبو البقاء أيضاً، ولم يَعْزُه. «وإنْ تَكْفُرُوا» فإنَّ الله غَنِيٌّ عن إيمَانِكُم؛ لأنه مَالِك السَّمَاوات والأرضِ وخَالِقُهَا، ومن كان كذلِك، لم يكن مُحْتَاجاً إلى شَيْءٍ، ويكون التَّقْدِير فإنَّ للَّه ما فِي السَّماوات ومَا فِي الأرْضِ، ومن كان كَذَلِك، قَادِراَ على إنْزَالِ العَذَابِ عَلَيْكُم لو كَفَرْتُم، أو يكون المرادُ: إن كَفَرْتُم، فلَهُ مُلْكُ السَّمَاواتِ والأرْضِ، ومن كان كذلِك فله عَبيدٌ يَعْبُدُونَهُ ويَنْقَادُون لأمْرِهِ، فيُجَازِي كُلاًّ بِفِعْلِه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 لمَّا أجابَ عن شُبَهَاتِ اليَهُودِ، تكلَّم بعد ذَلِك مع النَّّصَارَى، والتَّقْدِير: يا أهل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 142 الكتابِ من النَّصَارَى لا [تغلُوا في دينكم] ، اي: تُفْرطوا في تَعْظِيم المَسيحِ، والغُلُوُّ: تجاوُز الحدِّ، ومنه: غلْوَة السَّهْم، وغَلاَء السِّعْرِ. واعلم أنه - تعالى - حَكَى عن اليَهُودِ مُبَالَغَتَهُم في الطَّعْنِ في المَسِيحِ، وهنا حَكَى عن النَّصَارَى مُبَالَغَتَهُم في تعظِيمِه، وهم أصْنَاف اليَعْقُوبِيَّة، والملْكَانِيَّةَ، والنَّسْطُورِيَّة والمُرْقُسِيَّة. فقالت اليَعْقُوبيَّة: عِيسَى هو اللَّه، وكَذَلِك الملْكَانِيَّة. وقالت النَّسْطُوريَّة: عيسى ابْنُ اللَّهِ. وقالت المرقسيّة: ثَالِثُ ثلاثةٍ، فأنْزَل الله هذه الآية. ويُقالُ: إن المْلكانِيَّة تقُولُ: عيسَى هُو اللَّهُ، واليَعْقُوبِيَّة يقُولُون: ابْنُ الله، والنَّسْطُوريَّة يقُولُون: [ثَالِث] ثلاثة عليهم رَجُلٌ من اليَهُود يُقَال لَهُ: بُولُص، وسيأتِي في سُورةِ التَّوْبَةِ - إن شاء الله تعالى -. وقال الحسن: يَجُوزُ أن تكُون نزلت في اليَهُود والنَّصَارَى؛ فإنهم جَمِيعاً غَلَواْ في أمْرِ عيسى - عليه السلام - فاليَهُود بالتَّقْصِير، والنَّصَارى بمُجَاوَزَةِ الحدّ، وهو في الدِّين حَرَامٌ. {وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} وتَصِفُوا اللَّهَ بالحُلُولِ والاتَّحَادِ في بدَنِ الإنْسَانِ أوْ رُوحِهِ. وقيل: لا تَقُولُوا إنَّ لَهُ شَرِيكاً أوْ وَلْداً، ونزِّهُوهُ عن هَذِه الأحْوَالِ. قوله: «إلاَّ الحَقَّ» هذا استثناء مُفَرَّغٌ، وفي نصبه وجهان: أحدهما: أنه مفعول به؛ لأنه تضمَّن معنى القول؛ نحو: «قُلْتُ خُطْبَةً» . والثاني: أنه نعتُ مصدر محذوف، أي: إلا القولَ الحَقَّ، وهو قريب في المعنى من الأوَّل. قوله [- سبحانه -] : {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله} . قرأ جعفر بن محمَّد: «المِسِّيح» بوزن «السِّكِّيت» ؛ كأنه جعله مثال مبالغة؛ نحو: «شِرِّيب العَسَل» ، و «المسيح» مبتدأ بعد «إنَّ» المكفوفة، و «عِيسَى» بدلٌ منه، أو عطف بيان، و «ابنُ مَرْيَمَ» صفته و «رَسُولُ الله» خبر المبتدأ، و «كَلِمَتُهُ» عطف عليه. و «ألْقَاها» جملةٌ ماضية في موضع الحال، و «قَدْ» معها مقدرةٌ، وفي عاملِ الحال ثلاثةُ أوجه نَقَلها أبو البقاء: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 143 أحدها: أنه معنى «كَلِمة» ؛ لأنَّ معنى وصْفِ عيسى بالكلمة: المُكَوَّنُ بالكلمة من غير أبٍ، فكأنه قال: وَمَنْشَؤُهُ ومُبْتَدَعُهُ. والثاني: أن يكون التقدير: إذ كان ألقاها، ف «إذْ» ظرفُ زمانٍ مستقبل، و «كان» تامَّة، وفاعلها ضمير الله تعالى، و «ألقاها» حالٌ من ذلك الفاعل، وهو كقولهم: «ضَرْبِي زَيْداً قَائِماً» . والثالث: أن يكون حالاً من الهاء المجرورة، والعاملُ فيها معنى الإضافة، تقديره: وكلمةُ اللَّهِ مُلْقياً إيَّاهاَ. انتهى. أمَّا جعله العامل معنى «كلمة» فصحيحٌ، لكنه لم يبين في هذا الوجه من هو صاحبُ الحال؟ وصاحبُ الحال الضميرُ المستتر في كَلِمَتُهُ «العائدُ على عيسى؛ لما تضمَّنَتْهُ من معنى المشتقِّ؛ نحو:» مُنْشَأ ومُبْتَدَع «، وأمَّا جعلُهُ العاملَ معنى الإضافة، فشيءٌ ضعيفٌ، ذهب إليه بعض النحويِّين، وأمَّا تقديرُه الآية بمثل» ضَرْبِي زَيْداً قَائِماً «، ففاسدٌ من حيث المعنى، والله أعلم. فصل في تفسير الكلمة قد تقدَّم في تَفْسِير «الكَلِمَةِ» في قوله: {يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ ا} [آل عمران: 45] ، والمعْنَى: أنَّهُ وُجِدَ بكَلِمَةِ اللَّهِ وأمْرِه، من غَيْرَ وَاسِطَة [أب] ولا نُطْفَة؛ لقوله [تعالى] : {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن [فَيَكُونُ] } [آل عمران: 59] . قوله تعالى {وَرُوحٌ} عطفٌ على «كَلِمَة» ، و «مِنْهُ» صفة ل «رُوح» ، و «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً، وليست تبعيضيَّةً، ومن غريب ما يحكى أن بعض النصارى ناظَرَ عليَّ بْنَ الحُسَيْنِ بن واقدٍ المَرْوزِيَّ، وقال: «في كتاب الله ما يَشهدُ أنَّ عيسى جُزْءٌ مِنَ الله» ، وتلا: «وَرُوحٌ مِنْهُ» ، فعارضه ابنُ واقدٍ بقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ} [الجاثية: 13] ، وقال: «يلزمُ أنْ تكونَ تلك الأشياءُ جزءاً من الله تعالى، وهو محالٌ بالاتفاقِ» ، فانقطع النصرانيُّ وأسْلم. فصل قيل: معنى «رُوحٌ مِنْهُ» [هي] رُوحٌ كسَائِرِ الأرْواحِ، وإنَّما أضَافَها الله - تعالى - إلى نَفْسِهِ تَشْرِيفاً. وقيل: الرُّوحُ هو النَّفْخُ الذي نَفَخَهُ جِبْريل في دِرْعِ مَرْيم -[عليها السلام]- الجزء: 7 ¦ الصفحة: 144 فَحَمَلَتْ بإذْنِ اللَّه، سُمِّي النَّفْخُ «رُوحاً» ؛ لأنَّه ريحٌ يخْرُجُ من الرُّوح، وأضافَهُ إلى نَفْسِهِ؛ لأنه كان بأمْرِهِ. والرُّوح والرِّيحُ مُتَقَارِبَانِ، فالرُّوحُ: عِبَارَةٌ عن نَفْخِ جِبْرِيلٍ - عليه السلام -، وقوله: «مِنْهُ» يعني: أنَّ ذلِك النَّفْخَ من جِبْرِيل كان بأمْر الله وإذْنه، فَهُو مِنْهُ؛ وهكذا قولُه: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 12] . وقيل: «رُوحٌ مِنْهُ» أي: رَحْمَةً مِنْهُ، فكان - عليه السلام - رحْمَة لمن تبعَهُ، وآمَن بِهِ، من قوله -[تعالى]- : {وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ} [المجادلة: 22] . أي: برحْمَةٍ مِنْهُ وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّما أنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ» . وقيل: الرُّوحُ الوَحِي، أوْحَى إلى مَرْيَمَ بالبشَارَة، وإلى جِبْرِيلَ بالنَّفْخِ، وإلى عيسى أن كُنْ فكان؛ كقوله -[تعالى]- : {يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [النحل: 2] . يعني: بالوَحْي؛ وقال - تعالى - في صِفَةِ القُرْآنِ: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] . وقيل: أراد بالرُّوح: جِبْريل، مَعْنَاهُ: كَلِمتهُ ألْقَاهَا إلى مَرْيَمَ، وألْقَاها - أيضاً - رُوحٌ مِنْهُ بأمْرِهِ، وهو جِبْرِيلُ [- عليه السلام -] ؛ كقوله: {تَنَزَّلُ الملائكة [والروح فِيهَا] } [القدر: 4] يعني: جِبْرِيل فيها، وقال: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} [مريم: 17] يعني: جِبْرِيل. وقيل: لما جَرْت عادَةُ النَّاسِ أنَّهُم إذا وَصَفُوا شيئاً بِغَايَة الطَّهارَة والنَّظَافة، قالوا: إنَّه روحٌ، فلما كان عيسَى لَمْ يتكوَّن مِنْ نُطْفَةٍ، وإنما من نَفْخَة جِبْرِيل - عليه السلام - لا جَرَم وُصِفَ بأنَّهُ روحٌ، والمراد من قوله: «مِنْهُ» التَّشْرِيف والتَّفْضِيل؛ كما يقال: هذه نِعْمَةٌ من الله، أي: تلك النِّعْمَة الكَامِلَة الشَّريفَة. وقيل: إنه كان سَبَباً لحياة الخَلْقِ في أدْيَانهم، [فوُصِفَ أنَّه رُوحٌ؛ كما وُصِف القُرْآن في قوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] ، سمَّاه رُوحاً؛ لمَّا كان سَبَباً لحياةِ الخَلْق في أدْيَانِهِم] . وقيل: لما أدْخَل التَّنْكِير في لفظِ «رُوحٌ» أفاد التَّعْظِيم، فكان المَعْنَى: رُوحٌ من الأرْوَاح الشَّريفَة القُدسِيَّة العَالِيَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 145 وقوله: «مِنْهُ» أضاف ذلك الرُّوح إلى نَفْسِهِ تَشْرِيفاً، ثم قال: {فآمنوا بالله ورسله} أي: أنَّ عيسَى من رسُلِ اللَّهِ، فآمِنُوا به كإيمَانِكُم بسَائِر الرُّسُل، ولا تَجْعَلُوه إلهاً. قوله - تعالى -: {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ} ، أي: لا تَقُولُوا آلهتُنَا ثلاثة، ف «ثَلاَثةٌ» خبر مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ من هذا المبتدأ والخبر في محلِّ نصب بالقول، أي: ولا تقولوا: «آلهتنا ثلاثةٌ» قال الزَّجاج: ويدلُّ عليه قوله بعد ذلك: {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ} ، وقيل: تقديره: الأقَانِيمُ ثلاثةٌ، أو المعبودُ ثلاثةٌ، وقال الفارسيُّ: تقديره: الله ثالثُ ثلاثةٍ، ثم حُذف المضافُ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامَهُ، يريدُ بذلك موافقةَ قوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73] . قال الفرَّاء: تقديره: ولا تقُولُوا هم ثلاثة؛ كقوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} [الكهف: 22] وكانت النَّصارى [يقُولُون:] أبٌ، وابنٌ، ورُوحُ القُدس. فصل في بيان تفسير النصارى للتثليث قال القُرْطُبي: فرقُ النَّصارى مجتمعُون على التَّثْلِيثِ، ويقولون: إن الله جوهرٌ واحدٌ، وله ثلاثةٌ أقَانِيمَ، فَيَجْعِلُون كُلَّ أقْنُوم إلهاً، ويَعْنون بالأقانِيم: الوُجُود والحياة والعِلْم، وربما يُعَبِّرون [عن] الأقانِيمِ بالأبِ، والابْنِ، وروح القُدُسِ، فَيَعْنُونَ بالأبِ الوُجُود، وبالرُّوح الحياة، وبالابْن المسيح، في كلامٍ لهم فيه تَخْبِيطٌ. ومحصول كلامهم يَئُولُ إلى التَّمَسُّكِ بأنَّ عيسَى إلهٌ؛ بما كان يُجْرِي اللَّه على يَديه من خَوَارِق العَادَاتِ على حَسَبِ دواعِيه وإرادَتِهِ. قالوا: قد عَلِمْنَا خروجَ هذه الأمُورِ من مَقْدُور البَشَرِ، فينْبَغِي أن يكون المُقْتَدِر عليها مَوْصُوفٌ بالإلهيّة. فيقال لَهُم: لو كان ذَلِك من مَقْدُوراتِهِ وكان مسْتَقِلاًّ به، كان تَخْليصُ نفسه من أعْدَائِه، ودفع شرِّهم عَنْهُ من مقدُورَاتِهِ، وليس كذلك؛ فإن اعْتَرَفُوا بذل سَقَطَ اسْتِدْلالهم وقولهم: إنه كان يَفْعَلُهَا، وإن لَمْ يُسَلِّموا فلا حُجَّة لهم - أيضاً -؛ لأنَّهم معَارضُون بمُوسى - عليه السلام -، وما كان يُجْري الله - تعالى - على يديه من الأمور العِظَامِ؛ كفلق البَحْر، وقَلْبِ العَصَا ثُعْباناً، واليد البَيْضَاء، وضَرْب الحَجَر فانْفَجَرَت مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَة عَيْناً، وإنْزال المنِّ والسَّلْوَى وغير ذَلِك، وكَذَلِك ما جَرَى على أيْدِي الأنْبِياء - عليهم الصلاة والسلام -، فإن أنْكَرُوا ذَلِك، فيُنكَر ما يدَّعُونَهُ في ظُهُورِه على يَدٍ عيسى - عليه السلام -، ولا يُمْكِنُهم إثْبَات شَيْءٍ من ذلك [لعيسى؛ فإن إثْبَاتَهُ عندنا بِنَصِّ القُرآنِ، وهم يُنْكِرُون القُرْآن ويكذِّبُون من أتى به] ، ولا يُمْكِنُهم إثْبَاتُ ذلك بأخْبَارِ التَّواتُر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 146 [و] قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} نصب «خيْراً» لِنَصْبه فيما تقدَّم في جَمِيع وُجُوهِهِ، ونِسْبته إلى قَائِلِيه، ثم أكَّدَ التَّوْحِيد بقوله: {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ} ثم نزَّه نَفْسَه عن الولد بقوله: {سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} وتقدِيرُه: من أنْ يكُونَ، أو: عن أنْ يكُون؛ لأنَّ مَعْنى: «سُبْحَان» : التَّنْزِيه: فكأنَّهُ قيل: نَزِّهُوه عن أن يكُون، أو مِنْ أنْ يكُونَ لَهُ ولد، فيجيء في مَحَلِّ «أنْ» الوجهان المَشْهُورَانِ، وقد تقدَّمَتْ دَلاَئِل تَنْزيه اللَّه عن الوَلَدِ في سُورَة «آل عمران» و «واحدٌ» نعت على سبيل التوكيد، وظاهر كلام مكي أنه نعتٌ لا على سبيل التوكيد، فإنه قال: و «الله» مبتدأ، و «إلهٌ» خبره، و «واحدٌ» نعت، تقديره: «إنَّمَا الله مُنْفَرِد في إلهيَّتِهِ» ، وقيل: «وَاحِدٌ» تأكيدٌ بمنزلة {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} [النحل: 51] ، ويجوز أن يكون «إله» بدلاً من «الله» ، و «وَاحِدٌ» خبره، تقديره: إنَّما المعبُودُ وَاحِدٌ، وقوله: {أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} تقديم نظيره [في الآية 47 آل عمران] . وقرأ الحسن: «أَن يَكُونَ» بكسر الهمزة ورفع «يكُونُ» على أنَّ «إنْ» نافية، أي: ما يكونُ له ولدٌ، فعلى قراءته يكونُ هذا الكلامُ جملتَيْنِ، وعلى قراءةِ العامة يكون جملة واحدة. ثم قال - تعالى -: {لَّهُ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} . واعلم أنَّه - تعالى - في كل مَوْضِعٍ نَزَّه نَفْسَه عن الولد ذكر كَوْنَه مَلِكَاً ومالِكاً لما في السموات وما في الأرضِ؛ فقال في «مَرْيَم» : {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً} [مريم: 93] ، والمعنى: أن من كان مَالِكاً لما في السَّموات وفي الأرْضِ، ولكُلِّ ما فيها، كان مَالِكاً لعِيسَى ولمَرْيم؛ لأنهما كانا في السَّموات وفي الأرْضِ، ولما هُو أعْظَم مِنْهُمَا في الذَّاتِ والصِّفَات، وإذا كان مَالِكاً لما هُوَ أعْظَم مِنْهُمَا، فبأنْ يكُون هُو أعْظَم مِنْهُمَا في الذَّاتِ والصِّفَاتِ، وإذا كان مَالِكاً لما هُوَ أعْظَم مِنْهُمَا، فبأنْ يكُون مَالِكاً لهُمَا أوْلَى، وإذا كَانَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ، فكَيْفَ يَعْقِلُ مع هذا تَوَهُّم كَونهما وَلَداً وزَوْجَةً. ثم قال - تعالى -: {وكفى بالله وَكِيلاً} أي: إن الله - تعالى - كَافٍ في تَدْبِير المَخْلُوقَاتِ، وفي حِفْظِ المحْدَثَاتِ، فلا حَاجَة مَعَهُ إلى القَوْلِ بإثْبَاتِ آله آخرَ، وهو إشارَةٌ إلى ما يَذْكُرُه المتَكَلِّمُون؛ من أنَّهُ لمَّا كَانَ [- تعالى -] عالماً بِجَميع المَعْلُومَاتِ قَادِراً على كل المَقْدُورَاتِ، كان كَافِياً في الإلهِيَّة، فلو فَرَضْنَا آلهاً آخَر، كان مُعَطَّلاً لا فَائِدَة فيه، وذلك نَقْصٌ، والنَّاقِص لا يَكُون إلهاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 147 قوله: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملاائكة المقربون} الآية لمَّا أقام الحُجَّة القَاطِعَة على أنَّ عيسى عَبْدُ الله، لا يَجُوز أن يكُون ابْناً لَهُ، أشَارَ بَعْدَه إلى حِكَايَةِ شُبْهَتِهِم، وأجَابَ عَنْهَا؛ لأنَّ الشُّبْهَة التي عَوَّلُوا عَلَيْها في إثْبَاتِ أنَّهُ ابن اللَّهِ؛ هو [أنَّه] كان يُخْبِرُ عن الغيبيّات، ويأتي بِخَوارقِ العاداتِ من الإبْرَاء والإحْيَاء، فكأنَّهُ - تعالى - قال: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح} بسبب القَدْرِ من العِلْم والقُدْرَة عن عِبَادةِ الله -[سبحانه] وتعالى -، فإن الملائِكَة المقَرَّبينَ أعْلَى حَالاً مِنْهُ في اَلقُدْرَة؛ لأن ثَمَانِيةً منهم حَمَلةُ العَرْشِ على عَظَمَتِهِ، ثم [إنّ] الملائكة مع كمالهم في العُلُوم، لمْ يَسْتَنْكِفُوا عن عُبُودِيَّة الله، فكيف يَسْتَنْكِفُ المَسِيحُ عن عُبُوديَّته بسبب هذا القَدْرِ القَلِيلِ الذي كان مَعَهُ من العِلْمِ والقُدْرَة. والاسْتنْكَافُ: استفعالٌ من النَّكْفِ، والنَّكْفُ: أن يُقال [له] سوء، ومنه: «وما عليه في هذا الأمْرِ نَكْفٌ ولا وَكْفٌ» ، قال أبو العباس: «واسْتَفْعَلَ هنا بمعنى دفع النَّكْفَ عَنْه» ، وقال غيره: «هو الأنَفَةُ والتَّرفُّع» ، ومنه: «نَكَفْتُ الدَّمْعَ بإصْبَعِي» ، إذا منعته من الجَرْي على خَدِّك، قال: [الطويل] 1910 - فبَانُوا فُلُولاً ما تَذَكَّرُ مِنْهُمُ ... مِنَ الحِلْفِ لَمْ يُنْكَفْ لِعَيْنَيْكَ مَدْمَعُ فصل رُوِيَ أن وَفْدَ نَجْرَان قالُوا: يا مُحَمَّد، إنك تَعِيبُ صَاحِبَنَا، فتقول: إنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ليْسَ بعارٍ لعيسى - عليه السلام - أنْ يكُونَ عَبْداً لِلَّهِ» فنزلَت هذه الآية. وقرأ عَلِيٌّ: «عُبَيْداً» على التَّصْغِير، وهو مُنَاسِبٌ للمَقَام، وقرأ الجمهورُ «أن يكُون عَبْداً لِلَّهِ» بفتح همزة «أنْ» ، [فهوُ في موضعِ نَصْبٍ، وقرأ الحسن: «إنْ» بكَسْر الهمزة على أنَّها نَفيٌ بمعنى] : ما يكون له ولدٌ، فينبغي رفع «يكونُ» ، ولم يذكره الرواة؛ نقله القرطبيّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 148 وقوله تعالى: {وَلاَ الملاائكة} عطف على «المَسِيح» ، أي: ولَنْ يَسْتَنْكِفَ الملائكةُ أن يكُونُوا عَبيداً لله، وقال أبو حيان ما نصُّه: «وفي الكلام حَذْفٌ، التقدير: ولا الملائكةُ المقرَّبون أن يكونُوا عبيداً لله، فإن ضُمِّن» عَبْداً «معنى» مِلْكاً لله «، لم يَحْتَجْ إلى هذا التقدير، ويكونُ إذ ذاك {وَلاَ الملاائكة} من باب عطف المفردات، بخلاف ما إذا لُحِظَ في» عَبْد «معنى الوَحْدَة، فإن قوله: {وَلاَ الملاائكة} يكون [من] عطف الجملِ؛ لاختلاف الخبر، وإنْ لُحِظَ في قوله: {وَلاَ الملاائكة} معنى:» ولا كلُّ واحدٍ مِنَ الملائِكَةِ «كان من باب عطف المفردات» ، وقال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: علام عُطِفَ» والمَلاَئِكَةُ «؟ قلت: إمَّا أن يُعْطَفَ على» المَسِيحُ «، أو اسم» يَكُونُ «، أو على المستتر في» عَبْداً «لما فيه من معنى الوصْف؛ لدلالته على العبادة، وقولك:» مَرَرْتُ بِرَجُلٍ عَبْدٍ أبُوهُ «فالعطفُ على المسيحِ هو الظاهرُ؛ لأداء غيره إلى ما فيه بعضُ انحرافٍ عن الغرضِ، وهو أن المسيحَ لا يأنَفُ أن يكون هو ولا من فَوقَهُ موصوفين بالعبودية، أو أن يعبُدَ الله هو ومن فوقه» ، قال أبو حيان: «والانحراف عن الغرضِ الذي أشارَ إليه كونُ الاستنكَافِ يكون مختصًّا بالمسيحِ، والمعْنَى التامُّ إشراكُ الملائكة مع المسيح في انتفاء الاستنكَافِ عن العبوديَّة، ويظهرُ أيضاً مرجوحيَّةُ الوجهين من وجه دخُول» لاَ «؛ إذ لو أُريدَ العطفُ على الضمير في» يكُون «أو في» عَبْداً «لم تَدْخُل» لا «، بل كان يكون التركيبُ بدونها، تقول:» ما يريدُ زيدٌ أن يكُونَ هُو وأبُوهُ قَائِمَيْن «و» ما يُريدُ زيدٌ أنْ يَصْطَلِحَ هُوَ وعَمْرٌو «، فهذان التركيبان لَيْسَا من مَظَنَّةِ دخولِ لا، وإن وُجد منه شيءٌ، أوِّل» . انتهى، فتحصَّل في رفع «المَلاَئِكَةُ» ثلاثة أوجه، أوجَهُهَا الأوَّل. فصل اسْتَدَلَّ الجُمهور بهذه الآية: على أنَّ الملكَ أفْضَلُ من البَشَر، وقد تقدَّم الكلام عَلَيْه، في البقرة [آية 34] . وقال ابن الخطيب: والذي نقُولُه هَهُنَا: إنَّا نُسَلِّم أنَّ اطِّلاع الملائِكَة على المُغَيِّبَاتِ أكْثَرُ من اطلاع البَشَرِ عليهما، ونُسَلِّم أن قُدْرَة الملائِكَة على التَّصرُّفِ في هذا العَالم أشَدُّ من قُدْرة البَشَر، إنما النِّزاعُ في أنَّ ثوابَ طاعَاتِ الملائِكَة أكْثَرُ، أمْ ثوابُ طاعَاتِ البَشَرِ وهذه الآيَةُ لا تَدُلُّ على ذلك؛ وذلك أن النَّصَارَى إنَّما أثْبَتُوا إلهيَّة عِيسَى؛ لأنه أخْبَر عن الغَيْب، وأتى بخَوَارِقِ العَادَاتِ، فإيرادُ الملائِكَة لأجْلِ إبْطَال هذه الشُّبْهَة، إنما يَسْتَقِيم إذا كانت الملائِكَةُ أقْوَى حالاً في هذا العَالَمِ، وفي هذه القُدْرَة من البَشَرِ، ونحن نَقُول بمُوجبهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 149 فأما أن يُقَالَ: المُرادُ من الآية تَفْضِيل الملائِكَة على المَسيحِ في كَثْرَةِ الثَّوَابِ على الطَّاعَاتِ، فذلك ممَّا لا يُنَاسِب هذا الموضعَ، ولا يَليقُ به. فظهر أنَّ هذا الاستدْلاَل إنَّما قَوِي في الأوْهَام؛ لأن النَّاسَ ما لخّصوا مَحَلَّ النِّزَاع. وأجاب البغوي عن استدلالهم بهذه الآية؛ فقال: ولا حُجَّة لهم فِيهِ؛ لأنه لم يَقُلْ ذَلِك رَفْعاً لمقامِهِم على مَقَامِ البَشَرِ، بل رَدّاً على الذين يَقُولُون: الملاَئِكَة آلِهَةٌ، لما ردَّ على النَّصَارَى قولهم: المَسِيحُ ابْنُ اللَّه، وقال ردّاً على النَّصارَى بزَعْمِهِم؛ فإنَّهُم يقُولُون بتَفْضِيل الملائِكَة، وهذه الآيَةُ تدُلُّ على أنَّ طبقات المَلاَئكة مُخْتَلِفةٌ؛ لقوله - تعالى -: {وَلاَ الملاائكة المقربون} . قوله تعالى {فَسَيَحْشُرُهُمْ} الفاءُ يجوز أن تكون جواباً للشَّرْط في قوله: {وَمَن يَسْتَنْكِفْ} ، فإن قيل: جوابُ «إن» الشرطية وأخواتها غير «إذا» لا بدَّ أن يكون محتملاً للوقُوعِ وعدمه، وحشرُهُمْ إليه جميعاً لا بُدَّ منه، فكيف وقعَ جَواباً لها؟ فقيل في جوابه وجهان: أصحهما: أن هذا الكلام تضمَّن الوعد والوعيد؛ لأنَّ حَشْرَهُمْ يقتضي جزاءَهم بالثوابِ أو العقاب، ويَدُلُّ عليه التفصيلُ الذي بعده في قوله: «فَأَمَّا الذِينَ» إلى آخره، فيكونُ التقديرُ: ومن يَسْتَنْكِفْ عن عبادته ويَسْتَكْبِرْ، فيعذبُهُ عند حَشْرِهِ إليه، ومن لم يستنكفْ ولم يستكبر، فيثيبه. والثاني: أنَّ الجوابَ محذوف، أي: فيجازيه، ثم أخبر بقوله: {فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً} ، وليس بالبيِّن، وهذا الموضوعُ محتملٌ أن يكون مِمَّا حُمِلَ على لفظةِ «من» تارة في قوله: «يَسْتَنْكِف» [و «يَسْتَكْبِر» ] فذلك أفرد الضمير، وعلى معناها أخرى في قوله: «فَسَيحْشُرُهُم» ولذلك جمعهُ، ويحتمل أنه أعاد الضمير في «فَسَيحْشُرُهُم» على «مَنْ» وغيرها، فيندرجُ المستنكفُ في ذلك، ويكون الرابطُ لهذه الجملةِ باسم الشرط العمومَ المشارَ إليه، وقيل: بل حَذَفَ معطوفاً لفَهْم المعنى، والتقديرُ: فسيحشُرُهُمْ، أي: المُسْتنكفينَ وغيرَهُمْ، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ، أي: والبَرْدَ. و «جَميعاً» حالٌ، أو تأكيد عند مَنْ جعلها ك «كُلّ» وهو الصحيح، وقرأ الحسن: «فَسَنحْشُرهُمْ» بنونِ العظمة، وتخفيف باء «فَيُعَذِبُهُمْ» ، وقرئ «فَسَيَحْشِرُهُمْ» بكسر الشين، وهي لغةٌ في مضارع «حَشَرَ» . وقوله تعالى: {فَأَمَّا الذين} : قد تقدَّم الكلامُ على نظيرتها، ولكن هنا سؤالٌ حسنٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 150 قاله الزمخشريُّ وهو: «فإن قلت: التفصيل غير مطابقٍ للمفصَّلِ؛ لأنه اشتمل على الفريقين، والمفصَّلُ على فريق واحد، قلتُ: هو مثلُ قولك:» جَمَعَ الإمَامُ الخوارجَ: فمن لم يخرجْ عليه، كساه حُلَّةً، ومن خَرَجَ عليه، نَكَّلَ به «وصحةُ ذلك؛ لوجهين: أحدهما: أن يحذف ذكرُ أحد الفريقين؛ لدلالةِ التفصيل عليه؛ ولأنَّ ذكرَ أحدهما يدلُّ على ذكر الثاني؛ كما حذف أحدهما في التفصيل في قوله عَقِيبَ هذا: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ} [النساء: 175] . والثاني: وهو أن الإحسانَ إلى غيرهم مما يَغُمُّهُم؛ فكان داخلاً في جملة التنكيلِ بهم، فكأنه قيل: ومن يَسْتَنْكِف عن عبادته ويَسْتكبرْ فسيعذبُهُم بالحَسْرة، إذا رأوْا أجُورَ العاملين، وبما يصيبُهُم من عذاب الله» . انتهى، يعني بالتفصيل قوله: «فأمَّا» و «أمَّا» ، وقد اشتمل على فريقين، أي: المثابين والمعاقبين، وبالمفصَّل قوله قبل ذلك: «وَمَن يَسْتَنْكِفْ» ، ولم يشتمل إلا على فريقٍ واحدٍ هم المعاقَبُون. فصل بيَّن ثواب الَّذِين آمَنُوا وعَمِلُوا الصَّالِحَات أنه يُوَفِّيهم أجُورَهم، ويزيدهُم من فَضْلِه من التَّضعِيف ما لا عيْنٌ رأتْ، ولا أذنٌ سَمِعَت، ولا خطر على قَلْب بَشَر. قوله: {وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا} عن عبادته {فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} . وقدم ثواب المُؤمنين على عقاب المسْتَنْكِفِ لأنَّهم إذا رَأوْا ثواب المُطيعين، ثم شَاهَدُوا بعده عقاب أنفسهم، كان ذلك أعْظَم في الحسرة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 لما أوْرَد الحُجَّة على جميع الفرق من المُنَافِقِين والكُفَّار واليَهُودِ والنَّصَارَى، وأجَابَ عن شُبُهَاتِهِم عمم الخطاب، ودعا جميع النَّاس إلى الاعْتِرَافِ بِرِسَالةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ن والمراد بالبُرْهَان: محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وسُمِّي بُرْهَاناً؛ لأن حِرْفَتَهُ إقامَة البُرْهَان على تحْقِيق الحقِّ، وإبْطَال البَاطِل، والنُّور المُبينُ هو القُرآن؛ لأنه سَبَبٌ لوُقُوع نُور الإيمانِ في القَلْبِ. قوله تعالى: {مِّن رَّبِّكُمْ} فيه وجهان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 151 أظهرهما: أنه مُتَعَلِّق بمَحْذُوفٍ، لأنه صِفَةٌ ل «بُرْهَان» أي: بُرْهَانٌ كائِنٌ من ربكم، و «مِنْ» يجُوز أن تكُون لابتداء الغَايَةِ مَجَازاً أو تَبْعِيضيَّة، أي: من بَرَاهِينِ رَبِّكُم. والثاني: أنه مُتَعَلِّقٌ بنفس «جَاءَ» ، لابتداء الغَايَةِ كما تقدَّم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 فالمُراد: أنهم امتنعُوا به من زَيْغِ الشَّيْطَانِ، {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ} . فصل قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: المراد بالرَّحْمَةِ الجَنَّة، وبالفَضْلِ: ما يَتَفَضَّل به عليْهِم بمَا لا عَين رَأتْ، ولا أذُن سَمِعَتْ، [ولا خَطَرَ على قَلْبِ بَشر] . {وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً} . قوله عزَّ وجَّل: {صِرَاطاً} : مفعولٌ ثان ل «يَهْدِي» ؛ لأنه يتعدَّى لاثنين؛ كما تقدم تحريره، وقال جماعةٌ منهم مَكِّيٌّ: إنه مفعولٌ بفعْلٍ محذوف دلَّ عليه «يَهْدِيهم» ، والتقدير: «يُعَرِّفُهُمْ» . وقال أبو البقاء قريباً من هذا إلا أنه لم يُضْمِرْ فعلاً، بل جعله منصوباً ب «يَهْدِي» على المعنى؛ لأنَّ المعنى يُعرِّفُهُم، قال مكيٌّ في الوجه الثاني: «ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً ل» يَهْدِي «، أي: يَهْدِيهِم صِرَاطاً مستقيماً إلى ثوابه وجزائه» قال شهاب الدين: ولم أدْرِ لِمَ خَصَّصُوا هذا الموضِعَ دُونَ الذي في الفاتِحَةِ [الآية: 3] ، واحتاجوا إلى تقدير فعل، أو تضمينه معنى «يُعَرِّفُهُمْ» ؟ وأجاز أبو عليٍّ أن يكون منصوباً على الحال من محذوف؛ فإنه قال: «الهاءُ في» إليه «راجعةٌ إلى ما تقدَّم من اسم الله، والمعنى: ويَهْديهم إلى صراطه، فإذا جعلنا» صِرَاطاً مُسْتَقِيماً «نصباً على الحالُ، كانت الحالُ من هذا المحْذُوفِ» . انتهى، فتحصَّل في نصبه أربعةُ أوجه: أحدها: أنه مفعول ب «يَهْدِي» من غير تضمين معنى فعل آخر. الثاني: أنه على تضمين معنى «يُعَرِّفُهُمْ» . الثالث: أنه منصوبٌ بمحذوفٍ. الرابع: أنه نصبٌ على الحال، وعلى هذا التقدير الذي قدَّره الفارسيُّ تقْرُبُ من الحالِ المؤكِّدة، وليس كقولك: «تَبَسَّمَ ضَاحِكاً» ؛ لمخالفتِها لصاحبها بزيادة الصفةِ، وإن وافقته لفظاً، والهاءُ في «إلَيْهِ» : إمَّا عائدةٌ على «الله» بتقدير حذفِ مضافٍ؛ كما تقدَّم من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 152 نحو: «ثواب» أو «صِرَاطه» ، وإمَّا على الفضلِ والرحمة؛ لأنهما في معنى شيء واحد، وإما عائدةٌ على الفضل؛ لأنه يُراد به طريقُ الجنان. قوله تعالى: {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد فإن كانتا اثنتين فلهما الثلثان مما ترك وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين يبين الله لكم أن تضلوا والله بكل شيء عليم} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 قوله - جل وعلا -: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} إلى آخر السورة لما تكَلَّم [في] أوَّل السُّورَة [في] أحْكَام الأمْوَالِ، خَتَمَها بذلِك الآخِرِ مشاكلاً للأوَّل، ووسَطُ السُّورةِ مُشْتَمِلٌ على المُنَاظَرَة مع الفرقِ المُخَالِفِين في الدِّينِ. قال المفسرون: نزلت في جابر بن عبد الله، قال: عَادَني رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [وشرف وكرم وعظم] ، وأنا مَرِيضٌ لا أعْقِل، فَتَوَضَّأ وصبَّ من وُضوئه عليَّ، فعَقَلْتُ، فَقُلْت: يا رسُول الله، لِمن المِيرَاثُ، إنَّهُما يَرِثُنَي كلالة، فنزلت {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} . ومعنى: يَسْتفتُونَك: يَسْتَخْبِرُونَك، قال البَرَاء بن عَازِب: هذه آخر آية نَزَلَتْ من القُرْآن. قال القرطبي: كذا قال في مُسْلم، وقيل أنزلَتْ في النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله سبحانه وتعالى: {فِي الكلالة} : متعلق ب «يُفْتيكُم» ؛ على إعمال الثاني، وهو اختيار البصريّين، ولو أعْمَلَ الأولَ، لأضمرَ في الثاني، وله نظائرُ في القرآن: {هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] . {آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً} [الكهف: 96] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله} [المنافقون: 5] {والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ} [البقرة: 39] ، وقد تقدَّم الكلامُ فيه في البقرة، وتقدَّم الكلام في اشتقاق الكلالة في أوَّل هذه السُّورة [النساء: 12] ، وقوله: {إِن امرؤ} كقوله: {وَإِنِ امرأة} [النساء: 128] . و «هَلَكَ» جملةٌ فعليةٌ في محلِّ رفع صفة ل «امْرُؤٌ» . و {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} جملةٌ في محلِّ رفعِ أيضاً صفةً ثانية، وأجاز أبو البقاء أن تكون هذه الجملةُ حالاً من الضمير في «هَلَكَ» ، ولم يذكر غيره، ومنع الزمخشريُّ أن تكون حالاً، ولم يبيِّن العلةَ في ذلك، ولا بيَّن صاحب الحال أيضاً، هل هو «امْرُؤٌ» أو الضميرُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 153 في «هَلَكَ» ؟ قال أبو حيان: «ومنع الزمخشريُّ أن يكون قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} جملةً حالية من الضمير في» هَلَكَ «، فقال: ومحلُّ {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} الرفع على الصفةِ، لا النصبُ على الحال» . انتهى، قال شهاب الدين: والزمخشريُّ لم يَقُلْ كذلك، أي: لم يمنعْ كونها حالاً من الضمير في «هَلَكَ» ، بل منع حاليتها على العموم، كما هو ظاهر قوله، ويحتملُ أنه أراد منع حاليتها من «امْرُؤٌ» ؛ لأنه نكرةٌ، لكنَّ النَكرة هنا قد تخصَّصَتْ بالوصف، وبالجملةِ فالحالُ من النكرَةِ أقلُّ منه من المعرفة، والذي ينبغي امتناعُ حاليتها مطلقاً؛ كما هو ظاهر عبارته؛ وذلك أنَّ هذه الجملة المفسِّرة للفعل المحذوف لا موضعَ لها من الإعراب؛ فأشبهت الجمل المؤكِّدة، وأنت إذا أتبعت أو أخبرت، فإنما تريدُ ذلك الاسم المتقدِّم في الجملة المؤكِّدة السابقة، لا ذلك الاسم المُكَرَّرَ في الجملة الثانية التي جاءت تأكيداً؛ لأن الجملة الأولى هي المقصودة بالحديث، فإذا قلت: «ضَرَبْتُ زَيْداً، ضربْتُ زَيْداً الفَاضِل» ، ف «الفَاضِل» صفةُ «زَيْداً» الأوَّلِ؛ لأنه في الجملة المؤكدة المقصودُ بالإخبار، ولا يضُرُّ الفصلُ بين النعتِ والمنعوت بجملة التأكيد، فهذا المعنى يَنْفِي كونها حالاً من الضمير في «هَلَكَ» ، وأما ما ينفي كونها حالاً من «امْرؤٌ» فلما ذكرته لك من قلَّةِ مجيء الحال من النكرةِ في الجملة، وفي هذه الآية على ما اختارُوهُ من كون «لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ» صفة - دليلٌ على الفصْلِ بين النعت والمنعوت بالجملة المفسرة للمحذوف في باب الاشتغال، ونظيرُه: «إنْ رَجُلٌ قام عَاقِلٌ فأكْرِمْهُ» ف «عَاقِلٌ» صفةٌ ل «رَجُلٌ» فُصِل بينهما ب «قَامَ» المفسِّر ل «قام» المفسَّر. فصل قال القُرطبيُّ: معنى قوله - تعالى -: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} أي: ليس لَهُ ولدٌ ولا وَالِدٌ، فاكْتَفَى بِذْكِرِ أحدهما. قال الجُرْجَانِيُّ: لفظ الولد يَنْطَلِقُ على الوالدِ والموْلُود، فالوالدُ يُسَمَّى والداً؛ لأنه وَلد، والمَوْلُود يسَمَّى ولداً؛ لأنه [وُلد] ؛ كالذُّرِّيَّة [فإنَّهَا من ذَرَأ] ثم تُطْلَقُ على الولد، وعلى الوَالِدِ؛ قال - تعالى -: {وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون} [يس: 41] وقوله - سبحانه -: {وَلَهُ أُخْتٌ} ؛ كقوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} ، والفاء في «فَلَهَا» جوابُ «إنْ» . فصل في تقييدات ثلاثة ذكرها الرازي في الآية قال ابن الخطيب: ظَاهِرُ هذه الآية فِيهِ تَقْيِيداتٌ ثلاثة: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 154 الأول: أن ظاهرهَا يَقْتَضِي أن الأخْتَ إنَّما تأخُذ النِّصْفَ عند عدم الولد فأما عند وجود الولد، فإنها لا تأخذ النصف، وليس الأمر كذلك بل شرط كون الأخت تأخذ النصف ألاَّ يكون للميت ولد ابن، وهذا لا يرد على ظاهر الآية؛ لأن المقصُودَ من الآيَةِ بيانُ أصْحَاب الفُرُوضِ ومُسْتَحقِّيها، وفي هذه الصُّورَة إنما تأخذ النِّصْف بالتعصيب لا بكونه مَفْروضاً أصالة، بل لِكَوْنه ما بَقِي بدليل أنه لو كان معها بنتان، فإن لها الثلث الباقي بعد فرض البنتين. الثاني: ظاهر الآية يَقْتَضِي أنَّه إذا لم يَكُن للميت ولد ولا والِدٌ؛ لأن الأخْت لا ترثُ مع الوالِدِ بالإجْمَاعِ، وهذا لا يرد - أيضاً - على ظاهرِ الآية في الكلالةِ، وشَرطُها عدم الولدِ والوَالِد. الثالث: أن قوله: «وله أخت» المراد منه الأخت من الأبَوَيْن، ومن الأبِ؛ لأن الأخْتَ من الأم، والأخَ من الأمِّ قد بَيَّن الله حُكْمَه في أوَّل السُّورَة. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَهُوَ يَرِثُهَآ} لا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب؛ لاستئنافها، وهي دالةٌ على جواب الشرط، وليست جواباً؛ خلافاً للكوفيِّين وأبي زيد، وقال أبو البقاء: «وقد سدَّتْ هذه الجملةُ مَسَدَّ جواب الشرط» ، يريد أنها دالةٌ كما تقدَّم، وهذا كما يقول النحاة: إذا اجتمع شرطٌ وقسم، أُجِيبَ سابقهما، وجعل ذلك الجوابُ سادّاً مسدَّ جواب الآخر، والضَّميران من قوله: «وهو يَرِثُهَا» عائدان على لفظ امرئ وأخت دون معناهما، فهو من باب قوله: [الطويل] 1911 - وَكُلُّ أُنَاسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... وَنَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهْوَ سَارِبُ وقولهم: «عنْدي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ» ، وقوله تعالى: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر: 11] ، وإنما احتيج إلى ذلك؛ لأنَّ الحيةَ لا تُورثُ، والهالكَ لا يرثُ، فالمعنى: وامْرَأ آخَرَ غيرَ الهَالِكِ يَرِثُ أختاً له أخْرَى. فصل المعنى: إن الأخَ يَسْتغْرِق ميراث الأخْتِ، إن لم يكُن للأخْتِ ولدٌ، فإن كان لها ابْنٌ، فلا شيء للأخ، وإن كان ولدُهَا أنْثَى، فللأخِ ما فضُل عن فَرْضِ البَنَاتِ، وهذا في الأخ للأبَوَيْنِ أو [الأخِ] للأب، فأما الأخ للأمِّ؛ فإنه [لا يَسْتَغْرِقُ الميراثَ، ويَسْقُط بالوَلَدِ] . قوله تعالى: {فَإِن كَانَتَا اثنتين} الألف في «كَانَتَا» فيها أقوال: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 155 أحدهما: أنها تعود على الأختين يدلُّ على ذلك قوله: «ولَهُ أختٌ» ، أي: فإن كانت الأختان اثنتين، وقد جَرَتْ عادةُ النحويّين أن يسألوا هنا سؤالاً، وهو أنَّ الخبر لا بُدَّ أن يفيد ما لا يفيدُهُ المبتدأ، وإلاَّ لم يكنْ كلاماً، ولذلك منعُوا: «سيِّدُ الجَارِيَةِ مالِكُهَا» ؛ لأن الخبر لم يَزِدْ على ما أفاده المبتدأ، والخبرُ هنا دَلَّ على عدد ذلك العدد مستفادٌ من الألف في «كَانَتَا» ، وقد أجابوا عن ذلك بأجْوبَةٍ منها: ما ذكره أبو الحسن الأخْفشُ وهو أنَّ قوله «اثْنَتَيْن» يدلُّ على مجرَّد الاثْنَيْنيَّة من غير تقييدٍ بصغير أو كبير أو غير ذلك من الأوصاف، يعني أن الثُّلثين يستحقَّان بمجرَّد هذا العدد من غير اعتبار قيدٍ آخر؛ فصار الكلام بذلك مُفِيداً، وهذا غيرُ واضحٍ؛ لأنَّ الألفَ في «كَانَتَا» تدلُّ أيضاً على مجرَّد الاثْنينيَّة من غير قيد بصغير أو كبير أو غيرهما من الأوصاف، فقد رجع الأمرُ إلى أنَّ الخبر لم يُفِدْ غير ما أفادَهُ المبتدأ، ومنها: ما ذكرَهُ مكي عن الأخْفَشِ أيضاً، وتبعه الزمخشريُّ وغيره؛ وهو الحَمْلُ على معنى «مَنْ» ، وتقريرُه ما ذكره الزمخشريُّ؛ قال رَحِمَهُ اللَّهُ: «فإن قلت: إلى مَنْ يرجعُ ضميرُ التثنية والجمع في قوله:» فإنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ، وإنْ كَانُوا إخْوة «؟ قلتُ: أصلُه: فإن كان مَنْ يَرِثُ بالأخوَّة اثْنتين، وإن كان من يرثُ بالأخوَّة ذكوراً وإناثاً، وإنما قيل:» فإنْ كَانَتَا، وإن كَانُوا «كما قيل:» مَنْ كَانَتْ أمَّكَ «، فكما أنَّث ضمير» مَنْ «لمكان تأنيث الخبر كذلك ثَنَّى وجمع ضميرَ مَنْ يرث في» كَانَتَا «و» كَانُوا «؛ لمكانِ تثنية الخبر وجمعه» ، وهو جوابٌ حسن. إلا أن أبا حيان اعترضَهُ، فقال: «هذا تخريجٌ لا يَصِحُّ، وليس نظيرَ» مَنْ كانَتْ أمَّكَ «؛ لأنه قد صَرَّح ب» مَنْ «، ولها لفظٌ ومعنًى، فمن أنَّث، راعى المعنى؛ لأن التقدير: أيةُ أمٍّ كانَتْ أمكَ» ومدلولُ الخبر في هذا مخالفٌ لمدلولِ الاسمِ؛ بخلافِ الآية؛ فإن المدلولَيْنِ واحد، ولم يؤنِّث في «مَنْ كَانَتْ أمكَ» ؛ لتأنيث الخبر، إنما أنَّث لمعنى «مَنْ» ؛ إذ أراد بها مؤنَّثاً؛ ألا ترى أنك تقول: «مَنْ قَامَتْ» ، فتؤنث مراعاة للمعنَى؛ إذ أردْتَ السؤال عن مؤنَّث، ولا خبر هنا؛ فيؤنَّثَ «قَامَتْ» لأجله «. انتهى. قال شهاب الدين: وهذا تحاملٌ منه على عادته، والزمخشريُّ وغيره لم يُنْكِرُوا أنه لم يُصَرِّحُ في الآية بلفظ» مَنْ «؛ حتَّى يُفَرِّقَ لهم بهذا الفرقِ الغامِضِ، وهذا التخريجُ المذكورُ هو القولُ الثاني في الألف. والظاهرُ أنَّ الضمير في» كَانَتَا «عائدٌ على الوَارِثَتَيْنِ، و» اثْنَتَيْنِ «خبرُه، و» لَهُ «صفةٌ محذوفة بها حصلتِ المغايرةُ بين الاسْم والخبر، والتقديرُ: فإن كانت الوارثَتَانِ اثنتَيْن من الأخَوَاتِ، وهذا جوابٌ حسنٌ، وحذفُ الصفةِ لفهمِ المعنى غيرُ مُنْكَرٍ، وإن كان أقلَّ من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 156 عكْسه، ويجوز أن يكون خبرُ» كَانَ «محذوفاً، والألفُ تعودُ على الأختين المدْلُولِ عليهما بقوله:» وَلَهُ أُخْتٌ «؛ كما تقدَّم ذكره عن الأخفش وغيره؛ وحينئذٍ يكونُ قوله:» اثْنَتَيْن «حالاً مؤكِّدة، والتقديرُ: وإنْ كانت الأختانِ له، فحذفَ» لَهُ «، لدلالةِ قوله:» وَلَهُ أُخْتٌ «عليه. فهذه أربعةُ أقوال. فصل أرادَ اثْنَتَيْن فَصَاعِداً، وهو أنَّ من مَاتَ له أخواتٌ فَلَهُنَّ الثُلُثَانِ. قوله تعالى: {وَإِن كانوا} في هذا الضمير ثلاثة أوجه: أحدها: أنه عائد على معنى» مَنْ «المقدرة، تقديرُه:» فإنْ كَانَ مَنْ يَرِثُ إخْوَة «؛ كما تقدَّم تقريره عن الزمخشريِّ وغيره. الثاني: أنه يعود على الإخْوَة، ويكون قد أفاد الخبر بالتفصيل؛ فإنَّ الإخوة يشمل الذُّكُورَ والإنَاث، وإن كان ظاهراً في الذكور خاصَّة، فقد أفاد الخبر ما لم يُفِدْه الاسم، وإن عاد على الوارث، فقد أفاد ما لم يُفِدْه الاسم إفادةً واضحةً، وهذا هو الوجهُ الثالثُ، وقوله:» فَلِلذَّكَرِ «، أي: منهم، فحُذِفَ لدلالةِ المعنَى عليه. فصل هذه الآيةُ دَالَّةٌ على أنّ الأخْتَ المَذْكُورة لَيْسَت هي الأخْت للأمِّ. رُوِي أن الصِّديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال في خُطْبَتهِ: ألا إنّ الآية الَّتِي أنْزَلَهَا الله - تعالى - في سُورة النِّسَاء في الفَرَائِض؛ فأولها: في الوَلَدِ والوَالِدِ، وثانيها: في الزَّوْج والزَّوْجَة والإخْوَة من الأمِّ، والآية التي ختم بها السُّورة في الإخْوَة والأخَوَاتِ، والآيَةُ التي خَتَم بها في سُورة الأنْفَالِ أنْزَلَها في أولي الأرْحَامِ. قوله - تعالى -: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أظهرها: أن مفعول البيان محذوفٌ، و «أن تَضِلُّوا» مفعولٌ من أجله؛ على حذفِ مضاف، تقديره: يُبَيِّنُ اللَّهُ أمْرَ الكلالةِ كراهة أنْ تَضِلُّوا فيها، أي: في حُكْمِهَا، وهذا تقديرُ المبرِّد. والثاني - قول الكسائي والفراء وغيرهما من الكوفيين -: أنَّ «لا» محذوفةٌ بعد «أنْ» ، والتقدير: لئلاَّ تَضِلُّوا، قالوا: وحذفُ «لا» شائعٌ ذائعٌ؛ كقوله: [الوافر] 1912 - رَأيْنَا مَا رَأى البُصَراءُ فِيهَا ... فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أنْ تُبَاعَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 157 أي: ألاَّ تُبَاعَ، وقال أبو إسحاق الزَّجاج: «هو مثل قوله تعالى: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ} [فاطر: 41] أي: لئلا تَزُولا، وقال أبو عبيد:» رَوَيْتُ للكسائيِّ حديث ابن عُمَر وهو: «لا يَدْعُونَّ أحدُكُمْ على وَلَدِهِ أن وَافَقَ مِنَ الله إجَابَة» فاستحسنه، أي: لئلاَّ يوافق. قال النَّحَّاس: المعنى عند أبي عُبَيْد: لئلا يُوافِق من اللَّه إجابة، وهذا القَوْلُ عند البصريِّين خطأ؛ لأنهم لا يُجِيزُون إضْمَار «لا» ، والمعنى عندهُم: يبيِّن الله لَكُم كرَاهَة أنْ تَضِلُّوا، ثم حذف؛ كما قال: { [واسأل القرية] } [يوسف: 82] ، وكذا معنى الحديث، أي كَراهَة أن يُوافِقَ من اللَّه إجَابَة. ورجَّح الفارسيُّ قول المبرِّد؛ بأنَّ حذفَ المضاف أشيعُ من حذف «لا» النافية. الثالث: أنه مفعول «يُبَيِّنُ» ، والمعنى: يبيِّن الله لكُمُ الضلالة، فتجتنبونَها؛ لأنه إذا بيَّن الشر اجتُنِبَ، وإذا بيَّن الخيرَ ارتُكِب. فصل اعلم أن في هذه السُّورَة [الشَّرِيفَة] لَطِيفَة عَجِيبة، وهي أن أوَّلَها مشتمل على بيان كمال قُدْرَة الله - تعالى -؛ لقوله: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} [النساء: 1] وهذا دَالٌّ على سِعَة القُدْرَة، وآخِرَهَا مُشْتَمِلٌ على بيان كَمَالِ العِلْمِ، وهو قوله تعالى: {والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وهذا الوَصْفَان؛ أعني: العِلْم والقُدْرَة بهما تثبت الرُّبُوبِيَّة والإلهِيَّة والجلال والعِزَّة، وبهما يَجب على العَبْد أن يكُون مُطِيعاً للأوامر والنَّواهِي، مُنقَاداً للتَّكَالِيف. رُوِي عن البَرَاء [بن عَازِب] قال: آخِرُ سُورَة [نَزَلت] كَامِلَة {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله} [التوبة: 1] وآخر آية نزلت، آخر سُورة النِّسَاءِ: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} . وروي [عن] ابن عباس؛ [أنَّ] آخِر آية نزلت آية الرِّبَا، وآخر سُورة نزلت: {إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1] . ورُوي بعدمَا نَزَلَتْ سُورة «النصْر» عاشَ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بَعْدَهَا سِتَّة أشْهُر، ثم نَزَلَتْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 158 في طَرِيق حجَّة الوداع: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} فسمِّيت آية الصَّيْف، لأنها نَزَلَتْ في الصَّيْف، ثم نَزَلَتْ وهو وَاقِفٌ بعَرَفَات: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً] } [المائدة: 3] ، فعاش بَعْدَها إحْدَى وعِشْرِين يوماً. عن أبيٍّ قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ النِّساء فَكَأنَّمَا تَصَدَّقَ على كلِّ مَنْ وَرِثَ مِيرَاثاً، وأعْطِي مِنَ الأجْرِ كَمَنِ اشْتَرى مُحرّراً، وبَرِئ مِنَ الشِّرْك، وَكَانَ في مَشِيئةَ اللَّهِ - تعالى - مِنَ الَّذِين يَتَجَاوَزُ عَنْهُمْ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 159 سورة المائدة مدنية كلها إلا قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} [الآية: 3] فإنها نزلت ب " عرفات ". قال القرطبي: روي أنها نزلت منصرف الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من " الحديبية ". وذكر النقاش عن أبي سلمة أنه قال: لما رجع رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من " الحديبية " قال: يا علي، أشعرت أنه نزلت علي سورة المائدة، ونعمت الفائدة. قال ابن العربي: هذا حديث موضوع [لا يحل لمسلم اعتقاده] أما إنا نقول: سورة المائدة، ونعمت الفائدة، فلا نؤثره عن أحد، ولكنه كلام حسن. وقال ابن عطية: وهذا عندي لا يشبه كلام النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وروي عنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أنه] قال: " سورة المائدة تدعى في ملكوت الله المنقذة، تنقذ صاحبها من أيدي ملائكة العذاب ". ومن هذه السورة ما نزل في حجة الوداع، ومنها ما أنزل عام الفتح، وهو قوله: {ولا يجرمنكم شنئان قوم} [الآية: 2] ، وكل ما أنزل من القرآن بعد الهجرة فهو مدني، سواء نزل ب " المدينة " أو في سفر. والمكي [هو] ما نزل قبل الهجرة، وهي مائة وعشرون آية وألفان وثمانمائة وأربع كلمات، وإحدى عشر ألف وتسعمائة وثلاثون حرفا. روي عن أبي ميسرة، قال: المائدة آخر ما نزل، ليس فيها منسوخ. قال أبو ميسرة: أنزل الله تعالى في هذه السورة ثمانية عشر حكما، لم ينزلها في غيرها، [وهي] قوله سبحانه: {والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع} ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 160 {وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام} ، {وما علمتم من الجوارح مكلبين} ، {وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم} ، {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} . وتمام الطهر في قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة} ، {والسارق والسارقة} و {لا تقتلوا الصيد وأنتم حرم} إلى قوله: {عزيز ذو انتقام} الآية، و {ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام} [وقوله تعالى: {شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت} قال القرطبي: وفريضة تاسعة عشرة وهي قوله عز وجل:] {وإذا ناديتم إلى الصلاة} ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه السورة. أما ما جاء في سورة " الجمعة " مخصوص بالجمعة، وهو في هذه السورة عام في جميع الصلاة. روي عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [أنه] قرأ [سورة] المائدة في حجة الوداع، وقال: " يا أيها الناس، إن سورة المائدة من آخر ما نزل، فأحلوا حلالها، وحرموا حرامها ". وقال الشعبي: لم ينسخ من هذه السورة غير قوله: {ولا الشهر الحرام ولا الهدي ولا القلائد} الآية. وقال بعضهم: نسخ منها: " وآخران من غيركم ". بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} بالعقود أي: بالعهود، ويقال: وَفَّى بالعهد، وأوفى به. قال الزَّجَّاج: هي أوكد العهود، ويقال: عاقدت فلاناً، وعقدت عليه، أي: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 161 ألزمته ذلك باستيثاق، وأصله من عقد الشيء بغيره، ووصله به كما يعقد الحبل بالحبل. فالعهد إلزام، والعقد التزام على سبيل الإحكام، ولما كان الإيمان هو المعرفة بالله تعالى وصفاته وأحكامه، وكان من جملة أحكامه أنه يجب على الخَلْقِ إظهار الانقياد لله تعالى في جميع تكاليفه وأوامره ونواهيه - أمر بالوفاء بالعقود، أي: أنكم التزمتم بإيمكانكم أنواع العقود والطاعة بتلك العقود. فصل في الكلام على فصاحة الآية قال القرطبي: هذه الآية مما تلوح فصاحتها وكثرة معانيها على قلة ألفاظها، لكل بصير بالكلام؛ فإنها تضمنت خمسة أحكام: الأول: الأمر بالوفاء بالعقود. الثاني: تحليل بهيمة الأنعام. الثالث: استثناء ما يلي بعد ذلك. الرابع: استثناء حال الإحرام فيما يُصَادُ. الخامس: ما تقتضيه الآية من إباحة الصيد لمن ليس بمحرم. وحكى النقاش أن أصحاب الكندي، قالوا له: أيها الحكيم اعمل لنا مثل هذا القرآن، فقال: نعم أعمل مثل بعضه فاحتجب أياماً كثيرة، ثم خرج، فقال: والله ما أقدر، ولا يطيق هذا أحد، إني فتحت المصحف فخرجت سورة «المائدة» ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء، ونهى عن النكث، وحلل تحليلاً عاماً، ثم استثنى استثناء بعد استثناء، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين [ولا] يقدر أحد أن يأتي بهذا إلا في أجلاد. فصل في الخطاب في الآية واختلفوا في هذه العقود، فقال ابن جريج: هذا خطاب لأهل الكتاب، يعني: {يا أيها الذين آمنوا} بالكتب المتقدمة أوفوا بالعهود، التي عهدتها عليكم في شأن محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهو قوله: {وَإِذَ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ} [آل عمران: 187] . وقال آخرون: هو عام. وقال قتادة: أراد بها الحِلْفَ الذي تعاقدوا عليه في الجاهلية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 162 وقال ابن عباس: هي عهود الإيمان والقرآن. قال ابن عباس: «أوفوا بالعقود» أي: بما أحل وبما حرم، وبما فرض، وبما حَدَّ في جميع الأشياء كذلك، قاله مجاهد وغيره. وقال ابن شهاب [الدين] : قرأت كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الذي كتبه لعمرو بن حَزْم حين بعثه إلى «نجران» ، وفي صدره: هذا بيان للناس من الله ورسوله، {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} الآية، فكتب الآيات فيها، إلى قوله: {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} ، والمقصود أداء التكاليف فعلاً وتركاً. وإنما [سميت التكاليف عقوداً لأنه - تعالى - ربطها بعبادته كما يربط الشيء بالشيء بالحبل] الموثق. وقيل: هي العقود التي يتعاقدها الناس بينهم. فصل في فقه الآية قال الشافعي: إذا نذر صوم [يوم] العيد، أو نذر ذبح الولد لغى. وقال أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ: بل يصح، واحتج بقوله: «أوفوا بالعقود» وبقوله: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] ، وبقوله: {يُوفُونَ بالنذر} [الإنسان: 7] {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} [البقرة: 177] ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أوفِ بنَذْرِكَ» . وقال الشافعي: هذا نذر معصية، فيكون لغواً؛ لقوله عليه السلام: «لا نذر في معصية الله» . وقال أبو حنيفة: خيار المجلس غير ثابت؛ لأن البيع والشراء قد انعقدا، فحرم الفسخ لقوله تعالى: {أَوْفُواْ بالعقود} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 163 وقال الشافعي: يثبت؛ لأن هذا العموم [قد خص بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «المتبايعان بالخيار كل واحد منهما ما لم يتفرقا» . وقال أبو حنيفة: الجمع بين الطلقات] حرام؛ لأن النكاح عقد، فوجب أن يحرم رفعه لقوله تعالى: {أَوْفُواْ بالعقود} تُرك العمل به في الطلقة الواحدة بالإجماع، فيبقى فيما عداها على الأصل. وقال الشافعي: ليس بحرام لتخصيص هذا العموم بالقياس، وهو أنه لو حرم الجمع لما نفذ، وقد نفذ فلا يحرم. قوله سبحانه: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} لما قرر أولاً جميع التكاليف من حيث الجملة، شرع في ذكرها من حيث التفصيل. والبهيمة كل ذات أربع في البر والبحر [وقيل: ما أبهم من جهة نقص النطق والفهم. قالوا وأصله: كل حي لا عقل له فهو بهيمة] من قولهم: استبهم الأمر على فلان إذا أشكل، وهذا البابُ مُبْهم، أي: مسدود الطريق، ثم اختص هذا الاسم بذوات الأربع، وكل ما كان على وزن «فعيل» أو «فعيلة» حلقي العين، جاز في فائه الكسر إتباعاً لعينه، نحو: بهيمة، وشعيرة، وصغيرة، وبحيرة. والأنعام هي الإبل والبقر والغنم، قال تعالى: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ} [النحل: 5] إلى قوله: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا} [النحل: 8] وقال تعالى: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً} [يس: 71] إلى قوله: {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} [يس: 72] وقال: {وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً} [الأنعام: 142] . وقال الواحدي: لا يدخل في اسم الأنعام الحافر؛ لأنه مأخوذ من نعومة الوطء، وقد تقدم في «آل عمران» . فإن قيل: البهيمة اسم جنس، والأنعام اسم نوع، فقوله: «بَهِيمَةُ الأنعام» يجري مجرى قول القائل: حيوان الإنسان، فالحيوان إن قلنا إن المراد بالبهيمة وبالأنعام شيء واحد، فإضافة البهيمة إلى الأنعام [إما للبيان] فهو كقولك: خاتم فضّة، أي: من فضّة، ومعناه [أنَّ] البهيمة من الأنعام، أو للتأكيد كقولنا: نفس الشيء وذاته وعينه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 164 وإن قلنا: المراد بالبهيمة شيء، والأنعام شيء آخر، ففيه وجهان: أحدهما: أن المراد من بهيمة الأنعام الظباء وبقر الوحش ونحوها، كأنهم أرادوا ما يماثل الأنعام، ويدانيها من جنس البهائم في الاجترار، فأضيف الاجترار إلى الأنعام لحصول المشابهة. والثاني: أن المراد ببهيمة الأنعام أجنة الأنعام، روي عن ابن عباس [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -] أن بقرة ذبحت، فوجد في بطنها جنين، فأخذ ابن عباس بذنبه، وقال: هذا من بهيمة الأنعام. وعن ابن عمر أنها أجنة الأنعام، وذكاته ذكاة أمه، ومثله عن الشعبي. وذهب أكثر اهل العلم إلى تحليله؛ لما روى أبو سعيد، «قال: قلنا: يا رسول الله:» نَنْحَرُ الناقة، ونذبح البقرة والشاة، فنجد في بطنها الجنين، أنلقيه أم نأكله «؟ قال:» كُلُوهُ إنْ شِئْتُمْ، فإنَّ ذكاتَه ذكاة أمِّهِ «وشرط بعضهم الإشعار. فإن قيل: لو قال: أحلت لكم الأنعام، لكان الكلام تاماً؛ كقوله تعالى في آية أخرى: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام} [الحج: 30] فما فائدة زيادة لفظ» البهيمة «هنا؟ [الجواب: إن قلنا: إن بهيمة الأنعام هي الأجنة] فالجواب: ما تقدم من الإضافة، أعني إضافة بهيمة الأنعام. فإن قيل: لِمَ أفرد» البهيمة «وجمع لفظ» الأنعام «؟ فالجواب: إرادة للجنس. فصل في الرد على شبهة الثنوية قالت الثنوية: ذبح الحيوان إيلامٌ، والإيلام قبيح، والقبيح لا يرضى به الإله الرحيم الحكيم، فيمتنع أن يكون الذبح حلالاً مباحاً بحكم الله، وتحقيق ذلك أن هذه الحيوانات ليس لها قدرة على الدفع عن أنفسها، ولا لها لسان تحتج به على من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 165 قصد إيلامها، وإيلام من بلغ في العجز إلى هذا الحد أقبح. وعند هذه الشبهة افترق المسملون فرقاً كثيرة: فقالت المكرمية: لا نسلم أن هذه الحيوانات تتألم عند الذبح، بل لَعَلَّ تعالى يرفع عنها ألم الذبح، وهذا مكابرة للضروريات. وقالت المعتزلة: لا نسلم أن الإيلام قبيح مطلقاً، بل إنما يقبح إذا لم لم يكن مسبوقاً بجناية، ولا ملحوقاً بعوض. وهاهنا الله تعالى عوض هذه الجنايات بأعواض شريفة، فخرج هذا الذبح عن كونه ظُلْماً. ويدلُّ على صحة ما قلناه أن ما تقرر في العقول أنه يحسن تحمل ألَم الفَصْد والحجامة لطلب الصحة، فإذا حَسُنَ تحمُّل الألم القليل لأجل المنفعة العظيمة، فكذا القول في الذبح. وقال أهل السُّنة: إن الإذن في ذبح الحيوانات تصرف من الله تعالى في ملكه والمالك لا اعتراض عليه إذا تصرف في ملك نفسه، والمسألة طويلة. فصل قال بعضهم: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} مجمل؛ لأن الإحْلال إنما يضاف إلى الأفعال، وهاهنا أضيف إلى الذات، فتعذر إجراؤه على ظاهره، فلا بُدَّ من إضمار فعل، وليس إضمار الأفعال أولى من بعض، فيحتمل أن يكون المراد إحلال الانتفاع بجلدها، أو بعظمها، أو صوفها، أو لحمها، أو المراد إحلال الانتفاع بالأكل، فصارت الآية مجملة، إلا أن قوله تعالى: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} [النحل: 5] دل على أن المراد بقوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} إباحة الانتفاع من كل هذه الوجوه، والله أعلم. [قوله {إلا ما يتلى عليكم} هذا مستثنى من» بهيمة الأنعام «والمعنى: ما يتلى عليكم تحريمه] وذلك قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] إلى قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] . وفي هذا الاستثناء قولان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 166 أحدهما: أنه متصل. والثاني: أنه منقطع حسب ما فُسر به المتلوُّ عليهم، كما سيأتي بيانه. وعلى تقدير كونه [استثناء] متصلاً يجوز في محلّه وجهان: أظهرهما: أنه منصوب؛ لأنه استثناء متصل من موجب، ويجوز أن يرفع على أنه نعت ل «بهيمة» على ما قرر في علم النحو. ونقل ابن عطيَّة عن الكوفيين وجهين آخرين أحدهما: أنه يجوز رفعه على البدل من «بهيمة» . والثاني: أن «لا» حرف عطف، وما بعدها عطف على ما قبلها، ثم قال: وذلك لا يجوز عند البصريين إلا من نكرة أو ما قاربها من أسماء الأجناس، نحو: جاء الرجال إلا زيد، كأنك قلت: غير زيد، وقوله: وذلك ظاهره أنه مُشارٌ به إلى الوجهين: البدل والعطف. وقوله: إلا من نكرة غير ظاهرة؛ لأن البدل لا يجوز ألبتة من موجب عند أحد من الكوفيين [والبصريين. ولا يُشترط في البدل التوافقُ تعريفاً وتنكيراً وأما العطف فذكره بعض الكوفيين] . وأما الذي اشترط البصريون فيه التنكير، أو ما قاربه، فإنما اشترطوه في النعت ب «إلاَّ» فيُحتمل أنه اختلط على أبي محمد شرط النعت، فجعله شرطاً في البدل، هذا كله إذا أريد بالمتلوِّ عليهم تحريمه في قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] إلى آخره. وإن أريد به الأنعامُ والظباء وبقرُ الوحش وحُمره، فيكون منقطعاً بمعنى «لكن» عند البصريين، وبمعنى «بل» عند الكوفيين. وسيأتي بيان هذا المنقطع [بأكثر من هذا] في نصب «غير» . قوله: «غَيْرَ» في نصبه خمسة أوجه: أحدها: أنه حال من الضمير المجرور في «لكم» ، وهذا قول الجمهور، وإليه ذهب الزمخشري، وابن عطية وغيرهما. وقد ضعف هذا الوجه بأنه يلزم منه تقييدُ إحلال بهيمة الأنعام لهم بحال كونهم غَيْرَ محلِّي الصيد، وهم حرم؛ إذْ يصير معناه: {أحلت لكم بهيمة الأنعام} [في حال كون انتفاء كونكم تحلون الصيد، وأنتم حرم، والغرض أنهم قد أحلت لهم بهيمة الأنعام] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 167 في هذه الحال وفي غيرها، هذا إذا أريد ببهيمة الأنعام نفسها. وأما إذا عني بها الظباء، وحُمُر الوحش، وبقره على ما فسَّره بعضهم، فيظهر للتقييد بهذه الحالة فائدة؛ إذ يصير المعنى «أحلّت لكم» هذه الأشياء حال انتفاء كونكم تحلُّون الصيد وأنتم حرم، فهذا معنى صحيح، ولكن التركيب [الذي قدرته لك] فيه قَلَقٌ ولو أريد هذا المعنى من الآية الكريمة لجاءت به على أحسن تركيب وأفصحه. القول الثاني: وهو قول الأخفش وجماعة أنه حال من فاعل «أوفوا» ، والتقدير: أوفوا بالعقود في حال انتفاء كونكم محلِّين الصيد وأنتم حُرم، وقد ضعفوا هذا المذهب من وجهين: الأول: أنه يلزم [منه] الفَصْلُ بين الحال وصاحبها بجملة أجنبية، ولا يجوز الفَصْل إلا بجمل الاعتراض، وهذه الجملة وهي قوله: {أحلَّت لكم بهيمة الأنعام} ليست اعتراضية، بل هي منشئة أحكاماً ومبينة لها. وجملة الاعتراض إنما تفيد تأكيداً وتسْديداً. والثاني: أنه يلزم تقييد الأمر بإيفاء العقود بهذه الحالة، ويصير التقدير؛ كما تقدم، فإذا اعتبرنا مَفْهُومه يصير المعنى: فإذا انتفت هذه الحال فلا توفوا بالعقود، والأمر ليس كذلك فإنهم مأمورون بالإيفاء بالعقود على كل حال من إحرام وغيره. الوجه الثاني: أنه منصوب على الحال من الضمير المجرور في «عليكم» [أي] : لا [ما] يتلى عليكم، حال انتفاء كونكم محلّين الصيد، وهو ضعيف أيضاً بما تقدم من أن المتلو عليهم لا يتقيد بهذا الحال دون غيرها، بل هو متلو عليهم في هذه الحال، وفي غيرها. الوجه الرابع: أنه حال من الفاعل المقدر يعني الذي حُذِفَ، وأقيم المفعول مقامه في قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} ، فإن التقدير عنده: أحل الله لكم بهيمة الأنعام غير محلي لكم الصيد وأنتم حرم، فحذف الفاعل، وأقام المفعول مقامه، وترك الحال من الفاعل باقية. وهذا الوجه فيه ضعف من وجوه: الأول: أن الفاعل المنوب عنه صار نَسْياً مَنْسياً غير ملتفت إليه، نَصُّوا على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 168 ذلك، لو قلت: أنزل الغيث مجيباً لدعائهم، وتجعل مجيباً حال من الفاعل المنوب عنه؛ فإن التقدير: أنزل الله الغيث حال إجابته لدعائهم، لم يجز، فكذلك هذا، ولا سيما إذا قيل: بأن بنية الفعل المبني للمفعول بنية مستقلة غير محلولة من بنية مبنية للفاعل كما هو قول الكوفيين، وجماعة من البصريين. الثاني: أنه يلزم منه [التقييد بهذه الحال إذا عُني بالأنعام الثمانية الأزواج، وتقييد إحلاله تعالى لهم هذه الثمانية الأزواج بحال انتفاء إحلاله الصيد وهم حرم والله تعالى قد أحل لهم هذه مطلقاً] . الثالث: أنه كتب «مُحلّي بصيغة الجمع، فكيف يكون حالاً من الله تعالى، وكأن هذا القائل زعم أن اللفظ» محل «من غير ياء، وسيأتي ما يشبه هذا القول. الوجه الخامس: أنه منصوب على الاستثناء المكرر، يعني أنه هو وقوله:» إِلاَّ مَا يتلى [عَلَيْكُمْ] «مستثنيان من شيء واحد، وهو بهيمة الأنعام. نقل ذلك بعضهم عن البصريين، قال: والتقدير: إلا ما يتلى عليكم إلا الصيد، وأنتم محرمون، بخلاف قوله تعالى: {إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} [الذاريات: 32] على ما سيأتي بيانه. قال هذا القائل: ولو كان كذلك لوجب إباحة الصيد في الإحرام؛ لأنه مستثنى من الإباحة، وهذا وجه ساقط، فإذاً معناه: أحلت لكم بهيمة الأنعام غير محلِّي الصيد وأنتم حرم إلا ما يتلى عليكم سوى الصيد. انتهى. وقال أبو حيان: إنما عرض الإشكال من جعلهم غير محلّي الصيد حالاً من المأمورين بإيفاء العقود، أو من المحلّل وهو الله تعالى، أو من المتلو عليهم وغرَّهم في ذلك كونه كتب «مُحِلِّي» بالياء، وقدروه هم أنه اسم [فاعل] من «أحَلَّ» وأنه مضاف إلى «الصيد» إضافة اسم الفاعل المتعدي إلى المفعول، وأنه جمع حذف منه النون للإضافة، وأصله غير محلِّين الصيد، إلا في قول من جعله [حالاً] من الفعل المحذوف، فإنه لا يقدر حذف نون، بل حذف تنوين، وإنما يزول الإشكال ويتضح المعنى بأن يكون قوله: «مُحِلِّي الصيد» من باب قولهم: حِسَان النِّسَاء، والمعنى: النساء الحسان، فكذلك [هذا] أصله غير الصيد المُحلّ، [والمحل] صفة للصيد لا للناس، ولا للفاعل المحذوف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 169 ووصف الصيد أنه «محل» على وجهين: أحدهما: أن يكون معناه دخل في الحل، كما تقول: أحَلَّ الرجل إذا دخل في الحِلِّ، وأحرم إذا دخل في الحرمِ. والوجه الثاني: أن يكون معناه صار ذا حلٍّ أي: حلالاً بتحليل الله تعالى، وذلك أن الصيد على قسمين: حلال وحرام. ولا يختص الصيد في لغة العرب بالحلال، لكنه يختصُّ به شرعاً، وقد تجوزت العرب، فأطلقت الصيد على ما لا يُوصَفُ بحلّ ولا حُرْمة. كقوله: [البسيط] 1913 - لَيْثٌ بِعَثَّرَ يَصْطَادُ الرِّجَالَ إذَا ... مَا اللَّيْثُ كَذَّبَ عَنْ أقْرَانِهِ صَدَقَا وقول الآخر: [الطويل] 1914 - وَقَدْ ذَهَبَتْ سَلْمَى بِعَقْلِكَ كُلِّهِ ... فَهَلْ غَيْرُ صَيْدٍ أحْرَزَتْهُ حَبَائِلُهْ وقول امرئ القيس: [المتقارب] 1915 - وَهِرٌّ تَصِيدُ قُلُوبِ الرِّجَالِ ... وَأفْلَتَ مِنْهَا ابْنُ عمْرٍو حُجُرْ ومجيءُ «أفْعَلَ» على الوجهين المذكورين كثيرٌ في لِسَانِ العربِ، فَمِنْ مجيءِ «أفْعَلَ» لبلوغ المكان، ودخوله قولُهم: أحْرَم الرجلُ، وأعْرَقَ، وأشْأمَ، وأيْمَنَ، وأتهم، وأنْجَدَ، إذا بلغ هذه الأماكنَ، وحَلَّ بها. ومن مَجِيء «أفْعَل» بمعنى صار ذا كذا قولُهُمْ: أعْشَبَتِ الأرضُ وأبْقَلَتْ، وأغَدَّ البعير وألْبَنَتِ الشاة، وغيرُها، وأجْرَتِ الكلبُ، وأصْرَمَ النخل، وأتْلَتِ الناقةُ، وأحْصَدَ الزرعُ وأجْرَبَ الرجلُ، وأنْجبتِ المرأةُ. وإذا تَقَرَّرَ أنَّ الصيدَ بوَصْفٍ بكونه مُحلاً باعتبار أحد الوجهين المذكورين من كونه بلغ الحلّ أو صار ذا حِلٍّ، اتَّضَحَ كَوْنُهُ استثناءً ثانياً، ولا يكون استثناءً من استثناء؛ إذ لا يمكنُ ذلك لتناقضِ الحُكْم؛ لأنَّ المستثنى من المحلل مُحرَّمٌ، [والمستثنى من المحرم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 170 محلل] بل إنْ كان المعني بقوله: بهيمةَ الأنعامِ الأنعام أنفسها، فيكون استثناءً منقطعاً وإنْ كان المرادُ الظِّبَاءَ، وبَقَر الوحْشِ وحُمُرَهُ، فيكون استثناءً متصلاً على أحد تَفْسِيري المحل، استثنى الصَّيدَ الذي بلغ الحلّ في حالِ كونِهِم، مُحْرِمينَ. فإنْ قُلْتَ: ما فائدةُ هذا الاستثناء بَعْد بُلُوغِ الحل، والصيدُ الذي في الحرم لا يحلّ أيضاً؟ قُلْتُ: الصيدُ الذي في الحرمِ لا يَحِلُّ للمحرم ولا لِغَيْر المحْرِمِ، وإنَّما يحَلّ لِغَيْرِ المحرِمِ الصيدُ الذي في الحلّ، فنبَّهَ بأنَّهُ إذَا كَان الصيدُ [الذي] في الحّل يَحْرمُ على المُحْرم - وإنْ كان حَلالاً لِغَيْرِه - فأحْرَى أن يحرم عليه الصيدُ الذي هو بالحَرَمِ، وعلى هذا التفسير [يكون] قوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} إنْ كان المرادُ بِهِ ما جاء بعده مِنْ قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} [المائدة: 3] الآية استثناءً منقطعاً؛ إذْ لا تختصُّ الميْتَةُ وما ذُكِر معها بالظِّبَاءِ، وبقرِ الوحشِ وحُمُرِه، فيَصيرُ التقديرُ: لكِنْ ما يُتْلَى عَلَيْكُمْ أي: تحريمُهُ فهو مُحرَّمٌ وإنْ كانَ المُرادُ ببهيمة الأنْعامِ [الأنعام] والوحوش، فيكون الاستثناءانِ راجعيْن إلى المجموع على التَّفْصِيلِ، فيَرْجِع «مَا يتلى عَلَيْكُمْ» إلى «ثَمَانِيَة» الأزْوَاجِ، ويرجِعُ «غَيْرَ مُحِلِّي الصيد» إلى الوحوشِ؛ إذْ لا يمكنُ أنْ يكون الثَّانِي استثناءً من الاستثناءِ الأوَّلِ، وإذا لم يمكنْ ذلك، وأمْكَنَ رُجُوعُهُ إلى الأوّلِ بوجهٍ ما رجع إلى الأولِ. وقد نَصَّ النحويونَ: أنَّه إذا لَمْ يمكنْ استثناء بَعْضِ المستثنيات مِنْ بَعْض جُعِل الكُلّ مُسْتثنى من الأوَّل، نحو: قام القومُ إلا زيداً إلا عمْراً إلا بَكْراً، فإن قلت ما ذكرته من هذا التخريجِ الغريبِ، وهو كونُ المحلّ مِنْ صفة الصَّيْدِ، لا مِنْ صِفَة النّاسِ، ولا مِنْ صِفَة الفاعلِ المحذوفِ يَأبَاهُ رَسْمُهُ في المصْحَف «محلّي» بالياء، ولو كان مِنْ صِفَةِ الصَّيدِ دُونَ الناسِ لكُتبَ «مُحِلّ» من غير ياءٍ، وكون القُرَّاءِ وَقَفُوا عليه بالياء أيضاً يأبى ذلك. قلتُ: لا يعكّر ذلك على هذا التخريج؛ لأنَّهم قَدْ رَسَمُوا في المصحفِ الكريمِ أشياء تخالِفُ النُّطْقَ بها ككتابتهم: {لأَاْذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] ، {وَلأَوْضَعُواْ} [التوبة: 47] ، ألفاً بَعْد لامِ الألف [وكتابتهم {بِأَيْيْدٍ} [الذاريات: 47] بياءين بعد الهمزة وكتابتهم «أولئك» بزيادة واوِ ونَقْصِ ألف بَعْدَ اللاَّمِ، وكِتَابتِهِمْ: «الصَّالِحَاتِ» [ونحوه] بسُقُوطِ العَيْن إلى غير ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 171 وأمَّا وقْفُهم عليه بالياء فلا يجُوزُ؛ إذْ لا يُوقَفُ على المضافِ دُونَ المضافِ إليه. وإنْ وقف واقفٌ فإنَّما يكونُ بقَطْعِ نَفَسِ واختيار. على أنَّه يمكنُ تَوْجِبهُ كتابتِهِ بالياء والوقفِ عَلَيْه بها، وهو أن لُغَةَ «الأزْد» يَقفونَ فيها على «بزيدٍ، بزيدي» بإبدال التَّنْوين ياءً، فَكُتِبَ «مُحِلّي» على الوقف على هذه اللُّغَةِ - بالياءِ، وهذا توجيه شُذُوذٍ رَسْمِيّ، ورسمُ المصحفِ ممّا لا يقاسُ عليه، انتهى. قال شهابُ الدين: وهذا الذي ذَكَرَهُ، وأجازه، وغَلَّطَ النَّاسَ فيه لَيْسَ بشيء، وما ذكره من تَوجيه ثُبُوتِ الياءِ خَطّاً ووَقْفاً، فَخَطَأٌ محض؛ لأنه على تقدير تَسْلِيم ذلك في تلك اللُّغَةِ، فأيْنَ التنوينُ الذي في «مُحِلّ» ؟ وكيف يكونُ فيه تنوينٌ، وهو مضافٌ حَتّى يقول: إنَّه قد يُوجَّهُ بلُغَةِ «الأزْدِ» ؟ وما ذكره مِنْ كونه يَحْتَمِلُ مِمَّا يكونون قَدْ كتبوه كما كتبوا تلك الأمثلة المذكورة، فَشَيءٌ لا يُعَوَّلُ عليه؛ لأنّ خَطّ المصحفِ سُنَّة متبعة لا يقاسُ عليها، فكيفَ يقول: يحتمل أن يقاسَ هذا على تلك الأشياء؟ وأيضاً فإنهم لم يُعْرِبُوا [غَيْر] إلاَّ حالاً، حتّى نقل بعضُهم الإجْماعَ على ذلك. وإنما اختلفُوا في صاحِبِ الحالِ، فقوله: إنه استثناءٌ ثانٍ مع هذه الأوجه الضَّعيفةِ خَرْقٌ للإجماع إلا ما تقدَّم نقْلُهُ عن بعضهِم منْ أنَّه استثناءٌ ثانٍ، وعَزَاهُ للبصريين، لكِنْ لا على هذا المَدْرَكِ الذي ذكره الشيخ. وقديماً وحديثاً اسْتَشْكَلَ النَّاسُ هذه الآية. وقال ابن عَطِيَّة: وقد خلطَ الناسُ في هذا الموضع في نصب «غَيْرَ» وقدَّرُوا تَقْدِيماتٍ وتَأخِيراتٍ، وذلك كُلُّه غيرُ مُرضٍ؛ لأنَّ الكلام على اطّرادِهِ، فيمكنُ اسْتِثْناء بعد استثناءٍ. وهذه الآيةُ مِمّا اتضحَ لِلْفُصَحاء والبُلغَاءِ فَصَاحَتُها وبلاغَتُها، حتى يُحكَى أنَّهُ قِيلَ لِلْكنديّ: أيّها الحكيمُ، اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هذا القرآنِ، فقال: نَعَمْ أعمل لَكُمْ مِثْلَ بعضه، فَاحْتَجَبَ أيَّاماً كثيرةً، ثُمّ خرج فقال: والله لا يَقْدِرُ أحدٌ على ذلك، إنّني فتحتُ [سورة] من المصحف فخرجتْ سورةُ «المائدة» ، فإذا هو قَدْ نَطَقَ بالوَفَاءِ، ونَهَى عن النّكثِ، وحَلَّل تَحْلِيلاً عامّاً، ثم اسْتَثْنَى استثناءً بعد استثناءٍ، ثُمَّ أخبر عَنْ قُدْرتِهِ وحِكْمته في سَطْريْنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 172 والجمهورُ على نَصْبِ «غَيْرَ» ، وقرأ ابنُ أبي عَبْلَةَ برفعه، وفيه وجهان: أظهرُهُمَا: أنّه نعتٌ ل «بهيمة الأنعام» والمَوْصُوفُ ب «غير» لا يلزمُ فيه أنْ يكونَ مُمَاثِلاً لما بَعْدها [في جنسه] تقولُ: مررتُ بِرَجُلٍ غَيْرِ حِمَارٍ، هكذَا قالُوه، وفيه نظر، ولَكِنْ ظاهرُ هذه القراءةِ يَدُلُّ لهم. والثاني: أنَّهُ نعتٌ للضمير في «يُتلَى» . قال ابنُ عَطِيَّة: لأنَّ {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد} في المَعْنَى بمنزلةِ غَيْرِ مُسْتَحَلٍّ إذَا كان صَيْداً، وفيه تكلُّفٌ، والصيدُ في الأصلِ مصدرُ: صَادَ يَصِيدُ ويُصَاد، ويُطْلَقُ على المَصِيدِ، كدِرْهَم ضَرْبِ الأميرِ. وهو في الآية الكريمةِ يَحْتَملُ الأمرين أي من كونه بَاقِياً على مَصْدْرِيَّته، كأنَّهٌ قيل: أحِلّ لَكُمْ بهيمَةُ الأنْعَام، غَيْرَ مُحِلّينَ الاصْطِيادَ وَأنْتُم مُحْرِمُونَ، ومَنْ كونِهِ وَاقِعاً مَوْقِعَ المفعول أيْ: غَيْر مُحلِّينَ الشَّيْءَ [المصيد] وأنتم محرمون. وقوله: «وَأنْتُمْ حُرُم» مُبْتَدَأٌ وخَبَرٌ في محلِّ نَصْبٍ على الحال، وما هو صاحبُ هذه الحالِ؟ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ حَال عَنْ «محلّي الصيد» ، كأنه قِيلَ: أحْلَلْنَا لكم بعضَ الأنعامِ في حالِ امْتناعِكُم مِنَ الصيد، وأنْتُمُ مُحْرِمُونَ، لِئَلاّ نَتحرَّج عليكم. قال أبو حَيّان: وقد بَيَّنَا فسادَ هذا القولِ بأنَّ الأنعامَ مُبَاحَةٌ، مُطْلقاً لا بالتَّقْييدِ بهذا الحالِ. قال شهاب الدين: وهذا الرَّدُ لَيْسَ بشيءٍ؛ لأنَّه [إذا] أحَلَّ لهم بعضَ الأنعامِ في حالِ امتناعِهِمْ مِنَ الصيد، فأن يحلَّها لهم وهم غير مُحْرِمين بطريق الأوْلَى و «حُرُم» جمع «حَرَام» بمعنى مُحْرم. قال: [الطويل] 1916 - فَقُلْتُ لَهَا: فِيئي إليكِ فإنَّني ... حَرَامٌ وإنِّي بَعْدَ ذَاكَ لَبِيبُ أيْ: مُلَبٍّ، وأحْرَمَ إذا دَخَل في الحَرَمِ، أو في الإحْرَامِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 173 وقال مَكيُ بنُ أبي طالب: هو في موضع نَصْبٍ على الحال [من] المضمر في «مُحِلّي» ، وهذا هو الصحيحُ. و [أما] ما ذكره الزَّمَخْشَرِيُّ، فلا يَظْهَرُ فيه مجيءُ الحالِ من المضاف إليه في غير المواضع المستثناة. وقرأ يَحْيَى بنُ وثَّاب، وإبراهيم والحسن «حُرْم» بسكون الراء. وقال أبو الحسن البصريُّ: هي لغة «تَمِيم» يَعْنِي يُسَكِّنون ضمة «فُعُل» جمعاً، نحو: «رُسْل» . قد تقدم كلامُ المعربين في الآية الكريمة. قال المفسرون: معنى الآيةِ، أحِلَّتْ لَكُم الأنعامُ كُلُّها، إلا ما كان منها وَحْشِيًّا؛ [فإنه صَيْدٌ] لا يَحِلُّ لكم في حال الإحرامِ، وقوله: {لأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} استثناءٌ مُجْمل، واستثناءُ المجمل من الكلام المفصل يجعلُ ما بقي بعد الاستثناء مُجْملاً، إلاَّ أن المفسرِينَ أجْمعوا على أنّ المرادَ من هذا الاستثناءِ هو قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] ووجهُ هذا أن قوله {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام} يقتضي إحْلاَلَها لهم على جميع الوجوهِ، ثُمَّ بيَّن أنّها إنْ كانت مَيْتةً أو موقُوذةً أو مُتردِّيةً أو نَطيحةً أو افترسها السبعُ أو ذُبِحت على غير اسم الله فهي مُحرمةٌ. وقوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد} معناه: أنه لما أحلّ بهيمة الأنعام، ذكر الفرقَ بين صيدها وغيره، فبيَّن أنَّ كُلَّ ما كان صَيْداً، فإنّه حلالٌ في الإحلالِ دُونَ الإحرامِ، وما لم يكنْ صيداً فإنّه حلالٌ في الحاليْنِ جَمِيعاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 174 وظاهرُ هذه الآيةِ يَقْتضِي أنّ الصيد مُطْلقاً حَرَامٌ على المُحْرم، [إلاَّ أنَّه تعالى أباح في آيةٍ أخْرَى أنّ الصيدَ المحرَّمَ على المحْرِم] إنَّما هو صيدُ البَرِّ لا صيدَ البحرِ، بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] فبيَّن ذلك الإطلاق. ثم قال تعالى: {إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} أيْ أنَّ الله تعالى أباح الأنعامَ في جميع الأحوالِ، وأباح الصيد في بعضِ الأحوالِ دُون بعضٍ، فلو قال قائلٌ: ما السببُ في هذا التفصيل والتَّخْصيصِ، كان جوابهُ: أنَّه تعالى مالك الأشياءِ وخالقها فلا اعْتراضَ عليه في حُكْمه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} الآية لما حَرّم [الله] الصيد على المحرم نَهَى في هذه الآيةِ عن مخالفةِ تكاليفِ الله تعالى. قال المُفسِّرون: نزلتْ في الحطم، واسمُه: شُرَيْحُ بنُ ضُبَيْعَةَ البَكْرِيّ، «أتى المدينة، وخَلَّفَ خَيْلهُ خارجَ المدينةِ، ودخل وَحْدَه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال [له:] إلام تدعُو الناس إليه؟ ، فقال:» إلى شهادة أنْ لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاةِ «، فقال حسنٌ، إلاّ أنّ لي أمراء لا أقطعُ أمْراً دُونهم، ولَعَلِّي أسْلِمُ وَآتِي بهم، وقد كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأصحابه:» يدخلُ عليكم رجلٌ مِنْ رَبيعَة يتكلم بلسانِ شَيْطان «ثم خرج شُرَيْحٌ منْ عنده، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لَقَدْ دَخَلَ بوَجْهِ كَافِر، وخرج بِقَفَا غَادِرٍ، وما الرَّجُلُ بِمُسْلمٍ «، فمرّ بِسَرْحِ المدينة فاسْتاقَه وانْطلقَ، فتَبعُوه وَلَمْ يُدْرِكُوه، فلما كان العامُ المقبلُ خرج حَاجًّا في حُجاج بَكْر بن وائلٍ مِنْ اليمَامَةِ، ومعه تجارةٌ عظيمةٌ، وقد قَلَّدُوا الهَدْي، فقال المسلمونَ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هذا الحطم قد خرج حَاجًّا، فخلِّ بَيْنَنَا وبَيْنَهُ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنّه قَدْ قَلَّد الهديَ «، فقالوا: يا رسول الله هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 175 شيءٌ كنا نفعله في الجاهلية، فأبَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» فأنزل الله تعالى {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} الآية. قال ابن عباسٍ ومجاهدٌ: هي مناسِكُ الحج، وكان المشركون يَحُجُّونَ فيهدُونَ، فأراد المسلمون أن يُغِيرُوا عليهم فناههم الله عن ذلك. وقال أبُو عُبَيْدَة: «شَعَائِرَ الله» هي الهَدَايَا [المُشْعَرةُ لقوله تعالى: {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله} [الحج: 36] ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّه تعالى ذكر {شَعَآئِرَ الله} ] ثم عطف عليها الهدايا، والمعطوفُ يجبُ أنْ يكون مُغَايِراً للمعطوف [عليه] ، والإشعارُ من الشعار وهي العلامَةُ، وإشعارُهَا إعلامُهَا بما يُعْرَفُ أنَّها هَدْيٌ، والشَّعَائِرُ جَمْعٌ، والأكثرونَ على أنَّهُ جَمْعُ شَعيرَة. وقال ابنُ فارسٍ: واحِدَتُهَا شِعَارةٌ، والشَّعِيرةُ: فَعِيلَةٌ بِمَعنى مفعلة والمُشْعَرَةُ: المُعْلَمَةُ، والإشْعَارُ: الإعلامُ، وكُلُّ شَيْءٍ أشْعرَ فقد أعْلم، وهو هاهنا أنْ يُطْعَنَ في صَفحةِ سنَان البَعير بحديدةٍ حَتّى يَسِيلَ الدَّمُ، فيكونَ ذلك علامَةً أنها هَدْيٌ، وهي سنَّةٌ في الهدايا إذَا كانَتْ من الإبل. وقاسَ الشَّافِعِيُّ البَقَرَ على الإبل في الإشْعارِ، وأمّا الغنمُ فلا تُشْعَرُ بالجرح، فإنها لا تَحْتَمِلُ الجُرْحَ لِضَعْفِهَا. وعند أبي حَنِيفَةَ لا يُشْعَرُ الهَدْيُ. وروى عَطِيَّةُ عَنْ ابْنِ عباس: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} في أنْ تَصِيد وأنْتَ مُحْرم لقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} . وقال السُّدِّيُّ: أراد حرمَ الله، وقيل المرادُ النَّهْيُ عَنِ القتلِ في الحرمِ. وقال عطاءُ: «شَعَائِرَ اللَّهِ» حُرُمَاتِ اللَّهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 176 ثم قال: {وَلاَ الشهر الحرام} أي بالقتال فيه، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ الله يَوْمَ خَلَقَ السماوات والأرض مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} [التوبة: 36] فقيل هي: ذُو القَعْدَةِ وذُو الحَجَّةِ ومُحَرَّمٌ ورَجَب، فقوله: {وَلاَ الشهر الحرام} يجوزُ أنْ يكونَ المرادُ رجب، لأنَّه أكمل هذه الأشهرَ الأربعةَ في هذه الصفة. وقال ابنُ زَيْدٍ: هي النَّسِيءُ؛ لأنَّهُم كَانُوا يُحِلُّونَهُ عاماً ويُحَرِّمُونَه عَاماً. قال: «وَلاَ الْهَدْي» . قال الواحدي: الهدي ما أهْدِيَ إلى بَيْتِ اللَّهِ الحَرامِ مِنْ نَاقَةٍ أو بَقَرَةٍ أوْ شَاةٍ، وَاحِدُهَا هَدْيَةٌ بِتَسْكِينِ الدَّالِ، ويُقالُ [أيضاً] : هَدِيِّةٌ، وجمعها هَديّ قال الشاعر: [الوافر] 1917 - حَلَفْتُ برَبِّ مكَّة والمُصَلَّى ... وأعْنَاقِ الهديِّ مُقَلَّداتِ ونَظِيرُ هذِهِ الآيَةِ قولُهُ تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] ، وقولُهُ: {والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح: 25] . قَوْلُهُ سُبحانَهُ: {وَلاَ القلاائد} [أيْ: ولا ذَواتِ القَلاَئِد] عَطفٌ على الهَدْي مُبَالَغَةً في التوصية بها؛ لأنَّها أشَرَفُ الهَدْي، كَقَوْلِهِ تعالى: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] كأنَّهُ قِيلَ: وَذَواتِ القَلاَئِد] كأنَّهُ قِيلَ: وَذَواتِ القلائِدِ مِنْهَا خُصُوصاً. قال القُرْطُبِيُّ: فَمَنْ قَالَ المرادُ بالشَّعَائِرِ المناسِكُ، قال: ذَكَرَ الهَدْي تَنْبيهاً عَلَى تَخْصيصه، ومَنْ قَالَ: الشَّعَائِرُ الْهَدْي قال: الشَّعَائِرُ مَا كَانَ مُشْعَراً، أيْ: مُعْلَماً بإسَالَةِ الدَّمِ من سنامه، والْهَدْي ما لم يُشعَر، [اكْتَفَى فِيهِ بالتَّقْلِيدِ، وقيل: الشعائرُ هي البُدنُ مِنَ الأنْعامِ، والْهَدْيُ البقر والغَنَمُ والثِّيَابُ وكُلُّ ما يُهدى] . وقال الجُمْهُور: الهَدْيُ عامٌّ في كُلِّ ما يُتقرّبُ به من الذَّبَائحِ والصَّدَقَاتِ، ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «المُبَكِّرُ للجُمُعَةِ كالمُهْدِي بَدَنة» ، إلى أنْ قَالَ: «كالمُهْدِي بَيْضَة» فَسَمَّاهَا هَدْياً، وتسميةُ البَيْضَةِ هَدْياً إنَّمَا يُرَادُ بِهِ الصَّدَقَةُ وكذلك قال العلماءُ: إذَا قالَ جعلتُ ثَوْبِي هَدْياً فَعَلَيْهِ أنْ يَتَصَدَّقَ بِهِ؛ إلاَّ أنَّ الإِطْلاَقَ يَنْصَرِفُ إلى أحَدِ الأصْنَافِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 177 الثَّلاثَةِ مِنَ الإبِلِ والْبَقَرِ والْغَنَمِ، وسَوْقُها إلى الْحَرَمِ وَذَبْحُهَا فِيهِ، وهَذَا إنَّما يُلَقَّى مِنْ عُرْف الشَّرع. قال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي} [البقرة: 196] وأراد به الشَّاةَ، وقال: {هَدْياً بَالِغَ الكعبة} [المائدة: 95] ، وأقَلُّهُ شاةٌ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. وقال مَالِكٌ: «إذَا قَالَ: ثَوْبِي هَدْيٌ، يَجْعَلُ ثَمَنُهُ في هَدْيٍ» . ويجوز أنْ يكونَ المرادُ «والقَلاَئِدَ» حَقيقَةً، ويكونُ فِيهِ مبالغَةٌ في النَّهْيِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِلْهَدْي المَقلَّدِ بِهَا، كقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] ؛ لأنَّهُ نَهَى عَنْ إظْهارِ الزِّينةِ، فَمَا بالُكَ بِمَواضِعِهَا مِنَ الأعْضَاءِ، والقَلاَئِدُ: جَمْعُ قِلاَدَة وَهِيَ الَّتِي تُشَدُّ عَلَى عُنُقِ البَعيرِ. وقالَ عَطَاءٌ: أرَادَ أصْحَابَ القَلاَئِدِ، وذلِكَ أنَّهُمْ كَانُوا في الْجَاهِلِيَّةِ إذَا أرَادُوا الخُرُوج مِنَ الحرمِ قَلَّدُوا أنْفُسَهُم وإبلَهُمْ بِشَيْءٍ مِنْ لِحَاءِ شَجَرِ الحرمِ، كَيْلاَ يُتعرَّض لَهُمْ، فَنَهى الشَّرْعُ عَنِ اسْتِحْلاَلِ شَيْءٍ مِنْهَا. قوله تعالى: {ولاا آمِّينَ البيت الحرام} . أيْ: وَلاَ تُحِلُّوا قوماً آمين، أيْ: قَاصِدِينَ، ويَجُوزُ أنْ يكُونَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أيْ: لا تُحِلُّوا قِتَالَ قَوْم [أوْ أذَى] قَوْمٍ آمِّينَ. وقَرَأ عَبْدُ الله وَمَنْ تبعَهُ: «ولا آمِّي الْبَيْتِ الْحَرَامِ» بِحَذْفِ النّونِ، وإضَافَةِ اسْمِ الفَاعِلِ إلى مَعْمُولِهِ، والْبَيْتُ نُصِبَ على المفْعُولِ بِهِ ب «آمين» [أيْ:] قاصِدِينَ الْبَيْتَ، وَلَيْسَ ظَرْفاً. وَقولُهُ: «يَبْتَغُونَ» حالٌ مِنَ الضَّميرِ في «آمِّينَ» ، أيْ: حَالَ كَوْنِ «الآمِّينَ» مُبْتَغِينَ فَضْلاً، وَلاَ يَجُوزُ أنْ تكُونَ هَذِهِ الجملةُ صِفَةٌ ل «آمِّين» ؛ لأنَّ اسْمَ الفَاعِلِ مَتَى وُصِفَ بَطَلَ عَمَلُهُ على الصَّحيحِ. وخَالَف الكُوفيُّونَ فِي ذلِكَ. وأعْرَبَ مَكي هذه الجملة صِفَةً ل «آمين» ، ولَيْسَ بِجيِّدٍ لما تقدَّمَ، وكأنَّهُ تَبعَ في ذَلِكَ الكُوفِيِّين. وهَاهُنَا سُؤالٌ، وهَوَ أنَّهُ لم لا قيل بجوازِ إعْمَالِهِ قَبْلَ وَصْفِهِ كَمَا فِي هَذِهِ الآيَةِ قِيَاساً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 178 على المصْدَرِ، فإنَّه يعملُ قَبْلَ أنْ يُوصَفَ، نَحْو: يُعْجِبُنِي ضَرْبٌ زيداً شديدٌ. والجُمْهُورُ عَلى «يَبْتَغُونَ» بيَاءِ الْغَيْبَةِ، وقَرَأ حُمَيْدُ بنُ قَيْسٍ، والأعْرَجُ «تَبْتَغُونَ» بِتَاءِ الخِطَابِ، على أنَّه خطابٌ للمؤمنينَ، وهي قلقَةٌ، لقوله: «مِنْ ربِّهمْ» وَلَوْ أُريد خطَابُ المؤمنينَ، لكانَ تَمامُ المناسَبَةِ {تَبْتَغُون فَضْلاً مِنْ ربِّكُم} و «من ربِّهمْ» ، يجُوزُ أن يتعلَّقَ بِنَفْسِ الْفَعْلِ، وأنْ يتعلَّقَ بمَحْذُوفٍ على أنَّهُ صِفَةٌ ل «فَضْلاً» ، أيْ: فَضْلاً كَائِناً «مِنْ ربِّهِمْ» . وقد تَقَدَّمَ الخلافُ في ضَمِّ رَاءِ «رُضْوَان» في آلِ عمران. وإذا عَلَّقْنَا «مِنْ ربِّهمْ» بِمَحْذُوفٍ على أنَّهُ صِفَةٌ ل «فَضْلاً» ، فَيَكُون قَدْ حَذَفَ صِفَةَ «رِضْوَان» لِدلالَةِ ما قَبْلَهُ عَلَيْهِ، أيْ: وَرِضْوَاناً مِنْ رَبِّهِم. وَإذَا عَلَّقْنَاهُ بِنَفْسِ الفِعْلِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى ذَلِكَ. فصل قِيلَ: المرادُ ب «الفَضْل» الرِّزْقُ بالتِّجارَةِ و «الرِّضْوَانُ» ، أيْ: عَلَى زَعْمِهِمْ؛ لأنَّ الكَافِرَ لا نَصِيبَ لَهُ فِي الرِّضْوَانِ. قال الْعُلَمَاءُ: المشركون كَانُوا يَقْصدُونَ بِحَجِّهِمْ رضْوَان اللَّهِ، وَإنْ كانُوا لا يَنَالُونَ ذَلِكَ فَلا يَبْعُدُ أنْ يَحْصُلَ لَهُمْ بسَبَبِ ذَلِكَ القصدِ نَوْعٌ مِنَ الْحُرْمَةِ. وَقِيلَ: المرادُ بِفَضْلِ اللَّهِ الثَّوابُ، وبالرِّضْوانِ أنْ يَرْضَى اللَّهُ عَنْهم؛ وذَلِكَ لأنَّ الْكَافِرَ وإنْ كان لا ينَالُ الفضْل والرِّضْوَان لَكِنَّهُ يَظُنُّ [أنَّهُ بِفِعْلِهِ طَالبٌ لهما] فَوُصِفَ بذلِكَ بِنَاءً على ظَنهِ، كقوله: {وانظر إلى إلهك} [طه: 97] ، وقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] . فصل قال قَوْمٌ: هذه الآيةُ مَنْسُوخَةٌ؛ لأنَّ قوله تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام} يَقْتَضي حُرْمَةَ القِتَالِ [في] الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَذَلِكَ مَنْسُوخٌ يقُولُ اللَّهُ تعالى: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] ، وقوله: {ولاا آمِّينَ البيت الحرام} يَقْتَضِي حُرْمَة مَنْعِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 179 المُشْرِكِينَ عن المسْجِدِ الحرامِ، وذلك مَنْسُوخٌ بقوْلهِ: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام} [التوبة: 28] وهوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وُمجَاهِدٍ والحسَن وقتادَةَ. وقال الشَّعْبيُّ: لم يُنْسخْ مِنْ سورةِ المائدةِ إلاَّ هذهِ الآية، وقال آخرُون: هذه الآيةٌ غَيْرُ مَنْسُوخَةٍ، وهؤلاء لَهُم طَريقَانِ: الأوَّلُ: أنَّ الله تعالى أمَر في هذه الآية ألاَّ نُخيفَ مَنْ يَقْصُدُ بَيْتَهُ من المُسْلِمينَ، وحَرَّمَ عَلَيْنَا أخْذَ الْهَدْي مِنَ المُهْدين إذَا كَانُوا مُسْلِمِينَ لقوله أوّلِ الآية: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} وهذا إنَّما يَلِيقُ بنُسُكِ المسلمينَ لا بنُسُكِ الكُفَّار، وقولُهُ آخِرِ الآية: {يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} وهذا إنَّمَا يَلِيقُ بالمسلمِ لاَ بالْكافِرِ. والثاني: قال أبُو مُسْلِم: المرادُ بالآيةِ الكفارُ الذين كَانُوا في عَهْد النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَلَمَّا زَالَ [الْعَهْدُ زَالَ] الحَظْرُ، وَلَزِمَ المُرَادُ بقوله: {فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا} [التوبة: 28] . قوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} وقُرِئ «أحْلَلْتُم» وهي لُغَةٌ في «حَلَّ» ، يُقَالُ: أحلَّ مِنْ إحْرَامِهِ، كما يُقَالُ: حَلَّ. وَقَرَأَ الحَسَنُ بْنُ عِمْران وأبُو وَاقِدٍ والجَرَّاح بِكَسْرِ الْفَاءِ العَاطِفَةِ وهِيَ قَراءَةٌ ضَعِيفَةٌ مُشْكِلَةٌ. وَخَرَّجَهَا الزَّمَخْشَرِيُّ عَلَى أنَّ الكَسْرَ فِي الْفَاءِ بَدَلٌ مِنْ كَسْرِ الْهَمْزَةِ [في] الابْتِدَاءِ. وقال ابْنُ عَطِيَّةَ: هِيَ قِرَاءةٌ مُشْكِلَةٌ، وَمنْ توجيهها أنْ يكُونَ راعَى كَسْرَ ألف الوَصْلِ إذَا ابْتَدَأ فَكَسَر الْفَاءَ مُرَاعَاةً، وتَذَكُّراً لِكَسْرِ ألِفِ الْوَصْلِ. وقال أبُو حَيَّان: وليس هُو عِنْدي كَسْراً مَحْضاً، بَلْ هو إمالةٌ مَحْضَةٌ لتوهُّمِ وُجُودِ كَسْرِ هَمْزَةِ الْوَصْلِ، كَمَا أمَالُوا «فإذَا» لِوُجُودِ كَسْرِ الهَمْزَة. فصل هَذَا أمْرُ إبَاحَةٍ، أبَاحَ لِلْحُلاَّلِ أخْذَ الصَّيْدِ، وظَاهِرُ الأمْرِ وإنْ كَانَ لِلْوُجُوبِ فهو هنا للإبَاحَةِ، كقوله: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض} [الجمعة: 10] ، وهو كقول القائِلَ: «لا تَدخُلَنَّ هذِهِ الدَّارَ حَتّى تُؤدِّيَ ثَمَنَها، فإذَا أدَّيْتَ فادْخُلْهَا» أيْ: فإذا أدَّيْتَ فقد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 180 أبيحَ لك دُخُولُهَا، وحاصِلُ الكلام أنَّا إنَّما عَرَفْنَا أنَّ الأمرَ هُنَا لَمْ يُفد الوُجوبَ بِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ، وهذه الآيةُ مُتَعلِّقَةٌ بقوله {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] يعني [إذَا كَانَ الْمَانِعُ مِن] حل الاصطِيَادِ هُوَ الإحْرَامُ، فإذَا زَالَ الإحْرَامُ وَجَبَ أنْ يَزُول المنْعُ. قوله سبحانه وتعالى: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} قرأ الجمهور: «يَجْرمنكم» بفتحِ اليَاءِ مِنْ «جَرَمَ» ثُلاثياً، وَمَعْنَى «جَرَمَ» عِنْدَ الكِسَائِيِّ وثَعْلَبٍ «حَمَلَ» ، يقال: جَرَمَهُ على كَذا، أيْ: حَمَلَهُ علَيْهِ. قال الشاعر: [الكامل] 1918 - وَلَقَدْ طَعَنْت أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَة ... [جَرَمَتْ فَزَارَة] بَعْدَها أنْ يَغْضَبُوا فَعَلى هذا التَّفْسِير يتعدَّى «جَرَم» لِوَاحدٍ، وهو الكافُ والميمُ، ويكونُ قولُهُ: «أَن تَعْتَدُواْ» عَلَى إسْقَاطِ حَرْفِ الخَفْضِ، وهو «عَلَى» أيْ: وَلاَ يَحْمِلنَّكُمْ بُغْضُكُمْ لِقَوْمٍ على اعْتِدَائِكُم عليْهِم، فَيَجِيءُ في مَحَلِّ «أنْ» الخلافُ المشْهُورُ، وإلى هذا المعْنَى ذَهَب ابنُ عبَّاسٍ وقَتَادَةُ. ومَعْنَاهُ عِنْدَ أبِي عُبَيْدَةَ والفَرَّاءِ: كسب، وَمِنْهُ فُلانٌ جَريمةُ أهْلِهِ أيْ: كَاسِبُهُم. وعَنِ الكِسَائيّ - أيضاً - أنَّ جَرَمَ وأجْرَمَ بِمَعْنَى: كَسَبَ غَيْرَهُ فَالْجَرِيمَةُ والجَارِمُ بِمَعْنَى الْكَاسِبِ، وأجْرَمَ فُلانٌ أيْ: اكْتَسَبَ الإثْمَ، وَمِنْهُ قَوْلُهُ: [الوافر] 1919 - جرِيمَةُ ناهِضٍ في رَأْسِ نِيقٍ ... تَرَى العِظَام ما جَمَعتْ صَلِيبا أيْ: كَاسِبٌ قُوَّةً، والصَّلِيبُ الوَدَكُ. قال ابنُ فَارِسٍ: يُقَالُ جَرَمَ وأجْرَمَ، ولا جَرَمَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِكَ: لا بُدَّ وَلاَ مَحَالَةَ [وأصْلُه] مِنْ جَرَمَ أيْ: كَسَبَ، فَعَلَى هَذَا يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ: أحدهُمَا: أنَّهُ مُتَعَدٍّ لِوَاحِدٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 181 والثاني: [أنَّهُ] مُتَعَدٍّ لاثْنَيْنِ، [كما أنَّ «كَسَبَ» كَذلِكَ، وأمَّا في الآية الكريمة فلا يكون إلاَّ مُتَعَدِّياً لاثْنَيْن:] أوَّلُهمَا: ضَمِيرُ الْخطَابِ، والثَّانِي: «أنْ تَعْتَدُوا» أيْ: لا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغْضُكَمْ لقوم الاعْتِدَاءَ عَلَيْهِمْ. وَقَرَأ عَبْدُ الله «يُجْرِمَنَّكُمْ» بِضَمِّ الياءِ مِنْ «أجْرَمَ» رُبَاعِيّاً. وقيل: هو بمعنى «جَرَم» كما تقدم عن الكِسَائِي. وقيل: «أجْرَمَ» مَنْقُولٌ مِنْ «جَرَم» بهمزة التَّعْدِية. قال الزَّمَخْشَرِيّ: «جَرَمَ» ؛ يجري مَجْرَى «كَسَبَ» في تعْدِيَتهِ إلى مَفْعُولِ وَاحِدٍ وإلى اثْنَيْن، تقولُ: جَرَمَ ذَنْباً أيْ كَسَبَهُ، وجرَمْتَهُ ذَنْباً، أيْ كَسَبْتَهُ إيَّاهُ، ويقال أجْرَمْتُه ذَنْباً على نقل المُتَعَدِّي إلى مفعولٍ بالهمزةِ إلى مَفْعُولَيِْنِ كقولك: أكْسَبْتُهُ ذَنْباً، وعليه قراءةُ عبْدِ الله «وَلاَ يُجْرمَنَّكُمْ» وأوَّلُ المفعوليْنِ على القراءتين ضَمِيرُ المُخَاطَبِينَ. وثانيهما: «أَنْ تَعْتَدُوا» اه. وأصلُ هذه المادةِ - كما قال ابنُ عيسَى الرُّمَّانِي - القطعُ، فَجَرَمَ حُمِلَ عَلَى الشَّيءِ لِقَطْعِهِ عَنْ غيره، وجَرَمَ كَسَبَ لانْقِطَاعِهِ إلى الكَسْبِ، وجَرَمَ بِمَعْنَى حَقَّ؛ لأنَّ الحَقَّ يُقْطَعُ عَلَيْهِ. قَالَ الخَلِيلُ: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62] أيْ: لقد حَقَّ [هكذا] قاله الرُّمانيُّ، فجعل بين هذه الألفاظ قَدْراً مُشْتركاً، وليس عنده مِنْ باب الاشْتِراكِ اللَّفْظِيّ. و «شَنآن» [معناه] : بُغْض، وهو مَصْدَرُ شَنىءَ، أيْ: أبْغَضَ. وقرأ ابْنُ عَامِرٍ وأبُو بَكرٍ عَنْ عَاصِمٍ «شَنْآنُ» بسُكونِ النُّونِ، والباقون بِفَتْحِهَا، وجَوَّزُوا فِي كُلٍّ منهما أنْ يكونَ مَصْدراً، وأنْ يكُونَ وَصْفاً حَتَّى يُحْكى عَن أبِي عَلِيٍّ أنَّهُ قال: مَنْ زَعَمَ أنَّ «فَعلاَن» إذَا سُكِّنَتْ عَيْنُهُ لَم يكُنْ مَصْدَراً فَقَدْ أخْطَأ، لأنَّ «فَعْلان» بِسُكُونِ الْعَيْنِ قَلِيلٌ في المصَادِرِ، نحو: لَوْيتُه دَيْنَه لَيَّاناً، بَلْ هُوَ كَثير في الصِّفَاتِ نَحْوُ: سَكْرَان وَبَابُهُ و «فَعَلاَن» بالْفَتْحِ قليلٌ في الصفاتِ، قالُوا: حِمَارٌ قَطَوَان، أي: عَسِرُ السير، وتَيْسٌ عَدَوَان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 182 قال: [الطويل] 1920 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كَتَيْس ظِبَاءِ الْحُلَّبِ العَدَوَانِ ومِثْلُهُ قولُ الآخَرِ، أنْشَدَهُ أبُو زَيْدٍ: [الطويل] 1921 - وقَبْلَكَ مَا هَابَ الرِّجَالُ ظُلاَمَتي ... وَفَقَّأتُ عَيْنَ الأشْوَسٍ الأبَيَانِ بِفَتْحِ الباء واليَاء، بل الكثيرُ أنْ يكُونَ مَصْدَراً، نحو: الغَلَيَان والنَّزَوَان، فإن أريد ب «الشَّنْأنَ» السَّاكِن الْعَيْنِ الوصْفُ، فالمعْنَى: وَلاَ يَجرمنكُمْ بَغيضُ قَوْمٍ، وَبَغيضٌ بِمَعْنَى: مُبْغِضٍ، اسمُ فاعِلٍ من «أبْغَضَ» ، وهو مُتعدٍّ، فَفَعِيلٌ بمعنى الفاعِلِ كقَدِير ونَصِير، وإضافَتُه ل «قوْمٍ» على هذا إضَافَةُ بيانٍ، أيْ: إنَّ البغيض مِنْ بَيْنِهم، وليس مَضَافاً لفاعِل ولا مَفْعولٍ، بخلاف ما إذَا قَدَّرْتَهُ مَصْدراً فإنه يكون مُضَافاً إلى مَفْعُولِهِ أوْ فَاعِلِه كما سيأتي. وقال صاحبُ هذا القول: يُقَالُ: رَجُلٌ شَنْآنُ، وآمْرأةٌ شَنْآنَةٌ، كنَدْمَانَ، ونَدْمَانَةٍ، وقياسُ هذا أنْ يكونَ مِنْ فِعْلٍ متعد [وحكي: رجل شَنْآن، وامرأة شَنْأى ك «سكران وسكرى» وقياس هذا أن يكون من فعل لازم] ، ولا بُعْدَ في ذلك، فإنَّهم قد يشتقُّون من مادَّةٍ واحدةٍ القَاصِرَ والمتعدِّي، قالُوا: فَغَرْتُ فاه، وفَغَرَ فوه أيْ: فَتَحته فانفتح، [وإنْ] أُرِيدَ بِه المصدَرُ فَوَاضِحٌ، ويَكُونُ مُضَافاً إلى مفعُولِه، أيْ: بُغضكم لِقَوْم، فحذف الفاعل، ويجوزُ أنْ يكونَ مُضَافاً إلى فاعلِهِ، أيْ بُغْضُ قَوْمٍ إيَّاكُمْ، فحذف مَفْعُولَهُ. والأوَّلُ أظْهَرُ في المعنى، وحُكْمُ شَنَآنَ بِفَتْحِ النُّونَ مَصْدَراً وَصِفَةُ حُكْم إسْكَانِهَا، وقد تقدَّم تقريرُ ذلك، ومِنْ مَجِيءِ شَنْآن السَّاكِنِ الْعَيْنِ مَصْدَراً قَوْلُ الأحوصِ: [الطويل] 1922 - وَمَا الْحُبُّ إلاَّ مَا تَلَذُّ وتَشْتَهِي ... وإنْ لاَمَ فيه الشَّنَانِ وَفَنَّدَا أرَادَ الشَّنْآنَ بِسُكُونِ النُّونِ فنقل حركة الهمزة إلى النُّونِ السَّاكنة، وحذف الهمزة [ولَوْلاَ سُكُونُ النُّونِ لما جَازَ النَّقْلُ ولو قال قَائِلٌ: إنَّ الأصْلَ الشَّنَآنُ بفتح النون] وخَفَضَ الهَمْزَةَ بحَذْفِهَا رَأساً، كما قُرِئ {إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر} [المدثر: 35] بحذفِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 183 همزة «إحْدَى» لكانَ قَوْلاً يَسْقُطُ به الدليلُ لاحتماله، و «الشَّنآن» بالفتح عَمَّا شذَّ عن القاعدةِ الكُلِّيَّةِ. قال سِبَوَيْه: كُلُّ بِنَاءٍ مِنَ المصادِرِ على وَزْنِ «فَعَلاَن» بِفَتْحِ الْعَيْنِ لَم يتعدَّ فِعْلُهُ إلاَّ أنْ يَشذَّ شيءٌ كالشَّنَآنِ، يَعْنِي أنَّه مصدرٌ على «فَعَلاَن» بالفتح، ومع ذلك فعْلُهُ مُتَعِدّ، وفعلهُ أكثرُ الأفعالِ مَصَادِر سُمِعَ لَهُ سِتَّةَ عَشَرَ مَصْدراً، قالُوا: شَنِئَ يَشْنَأُ [شَنْئاً] وشَنآناً مُثَلَّثي الشِّين، فهي سِتُّ لُغَاتٍ. وَقَرَأ ابْنُ وُثَّابٍ، والحسنُ، والوليدُ عَنْ يَعْقُوبَ «يَجْرِمَنْكُمْ» بِسُكُونِ النُّون جعلوها نون التوكيد الخَفِيفةِ، والنَّهيُ في اللَّفْظِ للشَّنْآنِ، وهو في المعنى للمُخَاطبينَ نحو: «لا أريَنَّكَ هاهُنَا» و {وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ} [آل عمران: 102] قالَهُ مَكِّيٌّ. فصل قال القَفَّالُ: هذا معطوفٌ على قوله: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} إلى قوله: {ولاا آمِّينَ البيت الحرام} يعني: لا يَحْمِلَنكمْ عَدَاؤُكُمْ لِقَوْمٍ مِنْ أجْلِ أنَّهُمْ صَدُّوكُمْ عن المسْجِد الحَرَامِ أنْ [تَعْتَدوا فَتَمْنَعُوهُمْ] عَنِ المسْجِد الحرامِ، فإنَّ البَاطِل لا يَجُوز أنْ يعتدَى به. قال محمدُ بنُ جَرِير: هذه السورةَ نزلتْ بعد قِصَّةِ «الحُدَيْبِيَةِ» ، فكان الصَّدُّ قد تقدّمَ، وليس للناس أنْ يُعِينَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً على العُدْوانِ، حتى إذا تَعَدَّى واحدٌ منهم على الآخر [تَعَدَّى ذلك الآخرُ] عليه، لكنَّ الواجبَ أنْ يُعِينَ بَعْضُهُم بَعْضاً على ما فيه البِرُّ والتَّقْوَى. قوله سبحانه وتعالى: {أَن صَدُّوكُمْ} . قرأ أبُو عَمرو، وابْنُ كَثِيرٍ، بِكَسْرِ «إنْ» ، والباقُون بِفَتْحِهَا، فَمَنْ كَسَرَ فعلى أنَّها شَرْطِيَّةٌ، والْفَتْحُ على أنها عِلَّةٌ للشنآنِ، أيْ لا يَكْسبَنَّكُمْ أوْ لا يَحْمِلَنَّكُمْ بُغْضُكُمْ لِقَوْم لأجْلِ صَدِّهِمْ إيَّاكُم عن المسْجِد الحرامِ، وَهِيَ قِراءةٌ واضِحَةٌ، وقد اسْتَشْكَلَ [الناسُ] قراءةَ الأخَويْن مِنْ حَيْثُ إنَّ الشَّرْطَ يَقْتَضِي أنَّ الأمْرَ المشروطَ لَمْ يَقَعْ والغَرضُ أن صَدَّهُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 184 عنِ البيت الحَرَامِ كان قَدْ وَقَعَ، ونزولُ هذه الآيةِ مُتَأخرٌ عنه بمدّةٍ، فإنَّ الصَّدَّ وقع عَامَ «الحُدَيْبِيَة» وَهِيَ سَنَةُ سِتٍّ، والآيةُ نزلَتْ سَنَةَ ثَمَانٍ. وأيضاً، فإنَّ «مَكَّةَ» كانت عامَ الفتحِ في أيْدِيهم، فكيف يُصَدُّونَ عَنْها. قال ابنُ جُرَيْج والنَّحاسُ وغيرُهما: هذه القراءةُ مُنْكَرَةٌ، واحْتَجُّوا بما تقدَّمَ مِنَ الإشْكَالِ. قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: ولا إشْكَالَ في ذَلِكَ، والجوابُ عَمَّا قَالُوه مِنْ وَجْهَيْنِ: أحدهما: ألاَّ نُسَلم أن الصَّدَّ كان قبلَ نُزولِ الآية؛ فإنَّ نُزُولَهَا عامَ الفتح ليس مُجْمَعاً عليه. وذكر اليزيدِيُّ أنَّها نزلتْ قبل الصَّدِّ، فصاد الصدُّ أمراً مُنْتَظَراً. والثاني: أنَّهُ وَإنْ سَلَّمْنَا أنَّ الصَّدَّ [كان مُتقَدِّماً على نُزُولِها، فيكون المَعْنَى: إنْ وقع صَدٌّ مِثْلُ ذلك الصدِّ] الذي وقع زمن «الحديبية» «فَلاَ يَجْرِمَنكُم» . قال مَكِّي: ومثلُه عند سيبويْهِ قَوْلُ الفَرَزْدَقِ: [الطويل] 1923 - أتَغْضَبُ إنْ أذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتَا ..... ... ... ... ... ... ... . [وذلك شَيْء قد كان وقع، وإنما معناهُ:] إنْ وقع مِثْلُ ذلِكَ الغَضَبِ، وجوابُ الشَّرْطِ ما قَبْلَهُ، يَعْنِي: وجوابُ الشرطِ ما دَلَّ عليه ما قَبْلَهُ؛ لأنَّ البَصْرِيِّينَ يَمْنَعُونَ تَقْدِيمَ الْجَواب إلاَّ أبَا زَيْدٍ. وقال مَكِّي - أيضاً -: ونظيرُ ذلك أنْ يقولَ الرجلُ لامْرأتِهِ: أنْتِ طَالقٌ إنْ دَخَلْتِ الدَّارَ، بِكَسْر «إنْ» لَمْ تُطَلَّقْ بِدُخُولِهَا الأوَّلِ؛ لأنَّه أمْرٌ يُنْتَظَرُ، وَلَوْ فَتَحَ لَطُلِّقَتْ عَلَيْه؛ لأنَّه أمرٌ كَانَ وَوقَعَ، فَفَتْحُ «أنْ» لما هو عِلّةٌ لما كان ووقع، وكسرُهَا إنَّما هو لأمرٍ مُنتظر، والوَجْهَانِ حَسَنانِ على معنييهما وهذا الذي قاله مَكِّي فَصَّل فيه الفقهاءُ بين مَنْ يعرفُ النحوَ، وبين مَنْ لا يعرِفُهُ، وَيُؤيِّدُ هذه القراءةَ قراءةُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ: «إنْ يَصُدُّوكُمْ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 185 قال أبُو عُبَيْدَة: حدثنا حَجَّاجٌ عَنْ هَارُونَ، قَالَ: قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ فذكرها قال: وهذا لا يَكُونُ إلاَّ عَلَى اسْتِئْنَافِ الصَّدِّ، يعني إنْ وقع صَدٍّ آخر، مِثْلُ ما تَقَدَّمَ في عام «الحُدَيْبِيَة» . ونَظْمُ هذه الآياتِ على ما هِيَ عَلَيْهِ مِنْ أبْلَغِ مَا يَكُونُ وأفْصَحه، وليس فيها تقديمٌ ولا تأخيرٌ كما زعم بعضُهم، فقال: أصلُ تركيب الآية الأولى {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] فإذا حَلَلْتُمْ فاصْطَادُوا. وأصلُ تركيب الثَّانِيَة: {ولاا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً} {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} . ونَظَّرَه بآيةِ البقرةِ يَعْنِي: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] ، وهذا لا حاجة إليه مع أنَّ التقديمَ والتَّأخيرَ عند الجمهورِ مِنْ ضَرَائِرِ الشِّعْرِ، فَيَجِبُ تَنْزيهُ القرآنِ عَنْه، ولَيْست الجملةُ - أيضاً - مِنْ قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} مُعْتَرِضَةً بَيْن قوله: {ولاا آمِّينَ البيت الحرام} وبَيْنَ قوله: {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} ، بَلْ هي مؤسِّسةٌ ومُنْشِئَةٌ حُكْماً، وهو حِلُّ الاصْطيادِ عند التَّحَلُّلِ مِنَ الإحْرَامِ، والجملة المُعْتَرِضَةٌ إنَّما تُفِيدُ تَوْكيداً وتَسْديداً، وهذه مفيدةٌ حُكْماً جَدِيداً كما تقدم. وقوله: «أنْ تَعْتَدُوا» قَدْ تقدم أنَّه مِنْ مُتعلقاتِ {وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} على أنَّه مَفْعُولٌ ثانٍ، أوْ عَلَى حَذْفِ حَرْفِ الجر، فمَنْ كَسَرَ {إنْ صَدُّوكُمْ} يكُون الشرطُ وجوابُه المقدَّرُ في مَحَلِّ جرٍّ صِفَةً ل «قَوْم» ، أيْ: شَنَآنُ قَوْمٍ هذه صِفَتُهُم ومَنْ فتحها فمحلُّها الجَرُّ والنَّصْبُ، لأنَّها على حَذْفِ لامِ الْعِلَّةِ كما تقدم. قال الزَّمخْشَرِيُّ: والمعنى: ولا يَكْسِبَنَّكُمْ بُغضُ قَوْمٍ؛ لأنَّ صدوكم الاعتداء ولا يحملنكم عليه. قال أبو حيّان: وهذا تفسيرُ مَعْنًى لا تفسير إعْراب؛ لأنّه يمتنعُ أنْ يكون مدلولُ «جرم» حمل وكسب في استعمالٍ واحدٍ لاختلاف مُقتضاهما، فَيَمْتَنِعُ أنْ يكُون [أنْ تَعْتَدوُا] في مَحَلِّ مفعول به، ومحلُّ مفعولٍ على إسْقاطِ حَرْف الجر. قال شهابُ الدِّين: هذا الذي قاله لا يتصَوَّرُ أنْ يتوهمه من له أدْنَى بَصَرٍ بالصِّنَاعةِ حتى ينبِّهَ عليه. وقد تقدم قراءةُ البَزِّي في نحو: «ولا تَعاوَنُوا» وأنَّ الأصَل: [ «تتعاونوا» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 186 فأدغم] وحذف الباقون إحْدَى التاءيَنْ عند قوله تعالى: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} [البقرة: 267] . قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى} أيْ: ليعن بعضُكم بَعْضاً على البر والتقوى. قِيلَ: البِرُّ: متابعةُ الأمْرِ، والتَّقْوَى مُجانَبَةُ النَّهْيِ. وقيل: البرُّ: الإسلامُ، والتقوى: السُّنةُ. {وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} . قيل الإثُم: الكفرُ، والعُدْوانُ: الظلمُ. وقيل: الإثمُ: المعصيةُ والعُدوان: البِدْعَةُ. وقال النَّواسُ بْنُ سَمْعان الأنْصَارِيّ: «سُئِلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن البر والإثْمِ، فقال:» البرُّ حُسْنُ الخلقِ، والإثمُ ما حَاكَ في [صَدْرِك] ، وكَرِهْتَ أنْ يَطَّلِعَ عليه الناسُ «، ثم قال تعالى: {واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ آلْعِقَابِ} ، والمرادُ منه التهديدُ والوعيدُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير} الآية. وهذا هو المُسْتَثْنَى مِنَ الإبَاحَةِ في قوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] وهو أحَدَ عَشَرَ نَوْعاً، وقد تقدم إعرابُ: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة} وأصْلُهَا. واعلمْ أنَّ تحريمَ الميتةِ موافقٌ للمعقولِ؛ لأنَّ الدمَ جوهرٌ لَطِيفٌ جِداً فإذا ماتَ الحيوانُ حَتْفَ أنْفِهِ احْتَبَسَ الدمُ في عُرُوقِهِ وتعفَّن وفَسَدَ؛ وحصل من أكْلِهِ مَضَرَةٌ. وأمَّا الدمُ فقال الزَّمَخْشَرِيُّ: كانوا يَمْلَؤُونَ المِعَى مِنَ الدَّمِ وَيَشْوونَهُ ويُطْعمُونَه للضيفِ، فحرّم الله ذلك عليهم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 187 وأما الخنزيرُ فقال العلماءُ: الغذاءُ يصيرُ جُزْءاً من جوهرِ المتغذِّي ولا بُدَّ أنْ يَحْصُلَ لِلْمُتغذِي أخلاقٌ وصفاتٌ مِنْ جِنْسِ ما كان حَاصِلاً في الغذاء، والخنزيرُ مَطْبوعٌ على حِرْصٍ عَظيمٍ ورغبة شديدةٍ في المُشْتهياتِ، فحرَّمَ اللَّهُ أكلهُ على الإنسانِ لِئلاَّ يَتَكيّفَ بِتلْكَ الكيفيّةِ؛ وذلك لأنَّ الفرنج لما وَاظَبُوا على أكْلِ لَحْمِ الخنزيرِ أوْرَثَهُمُ الحرص العظيم والرغبة الشديدة في المُشْتهياتِ، وأورثهم عدم الغيرةِ، [فإنّ الخِنْزِيرَ يَرَى الذّكرَ من الخنزيرِ يَنْزُو على الأنْثَى التي لَهُ لا يتعرض إليه؛ لعدم الغَيْرةِ، وقد] تقدمَ الكلام على الخنزيرِ واشتقاقِهِ في سورة البقرة. وأمَّا الشاةُ فإنها حيوانٌ في غَايَةِ السَّلاَمَةِ، وكأنَّها ذَاتُ عَارِيَةٍ عَنْ جَمِيعِ الأخْلاقِ، فلذلك لا يَحْصُلُ للإنسانِ بِسَبَبِ أكْلِها كَيْفِيَّةٌ أجْنَبِيَّةٌ عن أحوالِ الإنسانِ. وأمَّا ما {أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} ، والإهلالُ رَفْع الصوتِ، ومنه يقالُ: فلانٌ أهَلَّ بالحجِّ إذَا لَبَّى، ومِنْهُ استهلالُ الصَّبِي وهو صراخُهُ إذا وُلِد، وكانوا يقولُونَ عند الذَّبْح باسم اللاَّتِ والعُزَّى، فحرم الله ذلك، وقدِّمَ هنا لَفْظُ الجلالةِ في قوله: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} وأخِّرتْ في البقرة [آية 173] ؛ لأنَّها هناك فاصلةٌ، أو تُشْبِهُ الفاصِلَةَ بخلاف هاهنا، فإنَّ بَعْدَها مَعْطُوفاتٍ. والمنخنِقَةُ وهي التي تموتُ خَنْقاً، وهو حَبْسُ النَّفَسِ سَواءٌ فعل بها ذلك [آدمِيٌّ أو] اتفق لها ذلك في حَبْلٍ أوْ بين عُودَيْنِ أو نحوه. وذكر قتادةُ أنَّ أهل الجاهليةِ كانوا يَخْنُقُونَ الشاةَ وغيرَها، فإذا ماتَتْ أكَلُوها، وذكر نحوه ابنُ عباسٍ. والمَوْقُوذَةُ: وهي التي وُقذَتْ أي: ضُربَتْ حتى ماتت من وَقَذَه أيْ ضَرَبَهُ حتى اسْتَرْخَى، ومنه وَقَذََهُ النُّعَاسُ أيْ: غلبه ووقذه الحُلُم: أيْ: سكنه وكأنَّ المادة دالَّةٌ على سُكُونٍ واسْتِرخاءٍ، ويدل في الموقوذةِ ما رُمِيَ بالبندقِ فماتَ، وهي - أيضاً - في مَعْنى الميتةِ وفي معنى المنخنقةِ، فإنها ماتَتْ ولم يَسِلْ دَمُهَا. والمتردِّيَةُ: من تَرَدَّى، أي: سَقَطَ مِنْ عُلُوٍّ فَهَلَكَ، ويُقالُ: ما يُدْرَى أين «ردَى» ؟ أيْ: ذَهَبَ، ورَدَى وتَرَدَّى بمعنى هَلكَ. قال تعالى: {وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى} [الليل: 11] ، والمتردِّي أنْوَاعٌ: فالمترديةُ هي التي تسقطُ مِنْ جَبَلٍ أو مَوْضِعٍ مُشْرِفٍ أو في بِئْر فتموت، فهذه مَيْتَةٌ، لأنَّها ماتَتْ وما سَال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 188 منها الدمُ، ويدخل فيه إذا أصابه سَهْمٌ وهو في الجبل فَسَقَطَ على الأرض؛ فإنه يُحَرَّمُ أكْلُه؛ لأنَّه لا يُعْلَمُ ماتَ بالتَّرَدِّي أوْ بالسَّهْم. ودخلتِ الهاءُ في هذه الكلمةِ؛ لأنّ المنخنقةَ هي الشاةُ المنخنقةُ، كأنه قِيلَ: حُرِّمَتْ عليكم الشاةُ المنخنقةُ والموْقوذَةُ والمترديةُ، وخَصَّ الشاة؛ لأنَّها من أعَمِّ [ما يَأكُلُ] الناسُ، والكلامُ يُخَرَّجُ على الأعَمِّ الأغْلَبِ، ويكُونُ المرادُ هو الكُلَّ. و «النَّطِيحَةُ» «فَعيلَة» بمعنى «مَفْعُولة» ، وكان مِنْ حَقِّها ألاَّ تَدْخُلَها تاءُ التأنيثِ كقَتِيل وجَريح، إلاَّ أنَّها جَرَتْ مَجْرَى الأسماءِ، أوْ لأنَّها لم يُذْكَرْ مَوصُوفُها؛ لأنك إنْ لَمْ تُدْخِل الهاءَ لَمْ يُعرَفْ أرَجُلٌ هُوَ أمِ امْرَأةٌ، ومثلُهُ: الذَّبِيحَةُ والنَّسيكَةُ. كذا قاله أبُو البَقاءِ، وفيه نظر؛ لأنَّهُم [إنَّما] يلحقون التاءَ إذا لم يذكر الموصوفُ لأجل اللَّبْسِ، نَحْوَ: مررت بِقَتيلةِ بَنِي فُلانٍ، لئلا يلتبس بالمؤنثِ وهنا اللَّبْسُ مُنْتفٍ، وأيضاً فحكم الذكرِ والأنْثَى في هذا سَوَاءٌ. والنَّطِيحَةُ هي التي تَنْطَحُها الأخْرَى فتموت، وهذه - أيضاً - لأنها ماتت من غير سَيَلانِ الدَّم. قوله تعالى: {وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} «مَا» الأولى بمعنى «الَّذِي» ، وعائِدُهُ محذُوفٌ، أيْ: وما أكلَهُ السّبُعُ، ومحلُّ هذا الموصولِ الرفعُ عَطْفاً على مَا لَمْ يُسَمَّ فَاعِلُه، وهذا غيرُ ماشٍ على ظاهره؛ لأنَّ ما أكله السبعُ وفرغ منه لا يُذَكَّى، فلا بُدَّ من حذف. ولذلك قال الزَّمَخْشَرِيُّ: وما أكَلَ بَعْضَهُ السبعُ. وقرأ الحسنُ والفياض وأبو حَيْوة: «السَّبْعُ» بسكون الباءِ، وهو تسكين المضموم، ونقل فتح السين والباء معاً. والسَّبُعُ: كُلُّ ذِي نَابٍ ومخْلب كالأسدِ والنَّمرِ، ويطلقُ على ذِي المِخْلب من الطيور قال: [الخفيف] 1924 - وسبَاعُ الطَّيْر تَغْدُو بِطَاناً ... [تَتَخَطَّاهُمُ فَمَا تَسْتقلُّ] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 189 فصل معنى الكلام ما يُريدُ ما بَقِيَ مما أكل السبعُ. قال قتادةُ: كان أهْلُ الجاهلية إذا جَرَحَ السبعُ شَيْئاً فقتله وأكل بعضَه أكلُوا ما بَقِيَ، فحرمه الله. قوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} فيه قولان: أحدهما: أنه استثناءٌ متصلٌ، والقائلون بهذا اختلَفُوا، فقال عَلِيٌّ، وابنُ عباسٍ، والحسنُ وقتادةُ: هو مُسْتَثْنَى من قوله: «والمُنْخَنِقَة» إلى قوله: {وَمَآ أَكَلَ السبع} وعلى هذا إن أدْرَكْتَ ذكَاتَهُ بأنْ وَجَدْتَ عَيْناً تَطْرِفُ، أوْ ذَنَباً يَتَحرَّكُ، أوْ رجلاً تَرْكُضُ فاذْبَحْ فإنَّهُ حلالٌ، فإنَّ هذه الحالَ تدلُ على بقاءِ الحياةِ فيه بتمامها. وقال أبُو البَقاءِ: والاستثناءُ راجعٌ على المتردِّيةِ، والنَّطِيحَةِ وأكيلة السبُع، وليس إخراجُه المُنْخَنِقَة [منه بجَيِّدٍ] . ومنهم من قال: هو مستثنى مما أكل السبعُ خاصَّة. والقولُ الثاني: أنَّه منقطعٌ، أيْ: ولكنْ ما ذَكيْتم مِنْ غيرها فحلالٌ، أو فكُلُوه، كأنَّ هذا القائِلَ رأى أنَّها وَصَلَتْ بهذه الأسبابِ إلى الموتِ، أو إلى حالةٍ قَرِيبةٍ فلم تُفِدْ تَزْكِيتَها عِنْدَه شيئاً. والتَّذْكِيَةُ: الذَّبْحُ، وذَكَتِ النَّارُ: ارتفعتْ، وأصلُ الذَّكاةِ تمامُ الشيء ومنه الذَّكاءُ في الفهمِ، وهو تمامُهُ [والذكاء] في السِّن، وهو النهايةُ في الشباب، ذَكَى الرجُل أيْ: أسَنَّ، قال: [الوافر] 1925 - عَلَى أعْرَاقِهِ تَجْرِي الْمَذَاكِي ... وَلَيْسَ عَلَى تَقَلُّبِهِ وجُهْدِهْ وقيل: الاستثناءُ من التحريم لا مِنَ المحرماتِ، يَعْنِي، حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ما مَضَى إلاَّ مَا ذَكَّيْتُم فإنه لكم حلالٌ، فيكون الاستثناءُ منقطعاً - أيضاً -. وإذا قيل: أصلُ التذكيةِ الإتمامُ، فالمرادُ ههنا إتمامُ فَرْي الأوَداجِ وإنْهارِ الدَّم. قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَا أنْهَرَ الدَّمَ، وَذُكِرَ اسْمُ اللَّه عَلَيْهِ فَكُلْ لَيْسَ السِّنَّ وَالظُّفُرَ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 190 قال القُرْطُبِيُّ: جمهورُ العلماءِ على أنَّ كلَّ ما أفرى الأوْدَاجَ فأنْهَر الدمَ فهو مِنْ آلاتِ الذَّكاةِ ما خلَى السِّنَّ والظُّفُرَ والعَظْمَ، وعلى هذا تَوَاترتِ الأخبارُ. وقال به فقهاءُ الأمصارِ، والسنُّ والظُّفُرُ المنهيُّ عنهما في التذكية هما غَيْرُ المنزوعَيْنِ؛ لأنَّ ذلك يَصيرُ خَنْقاً، ولذلك قال ابنُ عباسٍ: ذلك الخنقُ. فأمّا المنزُوعانِ إذا فَرَيا الأوْدَاجَ فالذكاةُ جائِزَةٌ بِهِمَا عِنْدَهُمْ. وكره قومٌ السنَّ والظفرَ والعظمَ على كُلِّ حالٍ مَنْزُوعانِ كانا أو غَيْر منزُوعَيْنِ، منهم إبراهيمُ والحسنُ واللّيْثُ بنُ سَعْدٍ، وهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ الشَّافِعي. وأقلُّ الذَّكاةِ في الحيوانِ المقدُورِ عليه قطعُ الحُلْقُومِ والمري، وكمالهُ أن يقطعَ الودجيْنِ معهما، ويجوزُ بكل محدَّدٍ يجرح من حَديدٍ أو قصبٍ أو زجاجٍ أو حجرٍ أو غيره إلاَّ السِّنَّ والظفرَ للحديث المتقدم. وإنَّما يحلُّ ما ذكيته بعدما جرحه السبعُ فأكل منه شيئاً إذا أدْرَكْتَهُ والحياةُ فيه مستقرةٌ فذبحتَهُ، فأمَّا ما يجرحُ السبعُ فيخرجه إلى حالةِ المذبوحِ فهو في حُكمِ الميتَةِ فلا يكونُ حَلاَلاً، والمُترديةُ والنَّطيحةُ إذا أدركتهما حيَّةً، قَبْلَ أنْ تصيدَ إلى حالة المذبُوحِ فذبحتها تكونُ حلالاً، ولو رُمِي صيدٌ في الهواءِ فأصابَهُ فسقَطَ على الأرضِ [وماتَ كانَ حلالاً؛ لأنَّ الوقوعَ على الأرضِ ضرورتُهُ، فإنْ سقَطَ على شجرٍ أو جَبَلٍ فتردَّى منه] فمات فلا يَحِلُّ؛ لأنَّه من المتردية، إلاَّ أنْ يكونَ السهمُ ذَبَحَهُ في الهواءِ فيَحِلّ كيفما وقع؛ لأنَّ الذبحَ قد حصل قبل التردِيَةِ. فصل واختلفُوا [فيمنْ رَفَعَ] [يَدَهُ] قبل تمامِ الذَّكاةِ ثُم رجع [على الفور] وأكْمَلَ الذَّكَاة فقيل: يُجْزِئُهُ، وقيل: لا يُجْزِئه. فالأولُ أصَحُّ؛ لأنَّه جَرَحَهُ ثُم ذَكَّاهُ بعدُ وحياته مُسْتَجْمعةٌ فيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 191 قوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} رَفْعٌ - أيضاً - عطفاً على «الميتةِ» . واختلفُوا في النُّصُبِ، فَقِيل: هي حجارةٌ، كانوا يَذْبَحُون عليها، ف «على» هنا وَاضِحَةُ. وقيل: هي الأصنَامُ؛ لأنَّها تُنْصَبُ لتُعْبَد، فعلى هذا في «على» وَجْهانِ: أحدُهما: أنها بمعنى اللام، أيْ: وما ذُبِحَ لأجْلِ الأصنامِ، كذا ذكره أبُو البقاءِ وفيه نَظَرٌ، وهو كونُه قَدَّرَ المتعلَّق شيئاً خاصاً. والجمهورُ على «النُّصب» بضَمتين، فقيل: هو جمعُ «نِصاب» . وقيل: هو مُفْردٌ ويدل له قَوْلُ الأعْشَى: [الطويل] 1926 - وَذَا النُّصُبَ المَنْصُوبَ لا تَقْربَنَّهُ ... ولا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ واللَّهَ فاعْبُدَا وفيه احتمالٌ. وقرأ طلحةُ بنُ مُصَرِّفٍ بضم النُّونِ وإسْكَانِ الصَّادِ، وهو تخفيفُ القراءة الأولى. وقرأ عيسى بنُ عُمَرَ: «النَّصَب» بِفَتْحتين. قال أبُو البقاء: وهو اسمٌ بمعنى: المنصُوبِ، كالقَبْضِ والنَّقَصِ، بمعنى: المقبُوض والمنقُوصِ. والحسنُ النَّصْب بفتح النون وسكُون الصادِ، وهو مَصْدَرٌ واقعٌ مَوْقِع المفعولِ به، ولا يجوزُ أنْ تكونَ تخفيفاً كقراءة عِيسَى بنِ عُمر؛ لأنَّ الفتحةَ لا تُخَفَّفُ. فصل «النُّصُب» يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ جَمْعاً وأنْ يكونَ واحداً، فإنْ كان جَمْعاً ففي واحدِه وُجُوهٌ: أحدها: أنَّ واحدَهُ نصابٌ ونُصُبٌ، كحِمار وحُمُر. وثانيها: أنَّ وَاحِدَهُ نَصْبٌ فقولُكَ: نَصْبٌ ونُصُب كسَقْفٍ وسُقُف، وهو قولٌ لابْن الأنْبَارِي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 192 وثالثها: أنَّ واحدهُ النَّصْبَةُ. قال اللَّيْثُ: [النَّصْبُ] جمعُ النَّصْبَةِ، وهي علامةٌ تُنْصَبُ للقومِ، وإنْ قُلْنا: النصبُ وَاحِدٌ، فجمعُهُ أنْصَابٌ، مثل عُنُق وأعْنَاق. قال الأزْهَرِيُّ: وقد جعل الأعْشَى النُّصُبَ واحداً، وذكر البيتَ المُتَقَدِّم لَكِنْ رَوَاهُ عَلَى وَجْهٍ آخر، قال: [الطويل] 1927 - وَلاَ النُّصُبَ المَنْصُوبَ لا تَعْبُدَنَّهُ ... لِعَافِيَةٍ واللَّهَ رَبَّكَ فَاعْبُدَا فصل قال بَعْضُهمْ: النُّصُبُ الأوْثانُ، واسْتَبْعَدَهُ قَوْمٌ؛ لأنَّ هذا مَعْطُوفٌ على قولِهِ: {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} وذلك هو الذَّبْحُ على اسمِ الأوْثانِ، والمعطوفُ يَجِبُ أنْ يكُونَ مُغَايِراً للمعطوفِ عَلَيْهِ. وقال ابنُ زَيْدٍ: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} ، {وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} هُمَا وَاحِدٌ. وقال مُجاهدٌ وقتادةُ وابن جُرَيح: كانَتْ حولَ البيتِ ثلاثمائة وستُّونَ [حَجَراً مَنْصُوبَة] كان أهلُ الجاهِليّةِ يَعْبُدُونَها وَيُعَظِّمُونها ويَذْبَحُونَ لها وليست هي بأصْنامٍ، وإنَّما الأصنامُ هي المصَوَّرةُ المنقوشَةُ، وكانوا يُلَطِّخُونَها بتلك الدماءِ، ويضعُون اللحومَ عليها. فقال المسلمون يا رسول الله: كان أهلُ [الجاهلية] يُعظمون البيتَ بالدَّمِ، فنحنُ أحَقُّ أنْ نُعَظِّمَهُ، وكأن النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم يكَره ذلك، فأنزل اله تعالى: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا} [الحج: 37] . وقوله: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} . [فيه وجهان: أحدهما: وما ذبح على الاعتِقادِ وتَعْظِيم النُّصب] . والثاني: ومَا ذُبِح لِلنُّصبِ، و «اللاَّمُ» و «عَلَى» يتعاقَبَانِ. قال تعالى: {فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} [الواقعة: 91] [أي: فَسَلامٌ عَلَيْكَ] ، وقال: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أي فعليها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 193 قولُه سبحانَهُ: {وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام} «أنْ» وما في حَيِّزهَا في مَحَلِّ رَفْعٍ عَطْفاً على «الميْتَةِ» . والأزْلامُ: القِدَاحُ، واحدُها: زَلْم، وزُلْم بِفَتْح الزَّاي وضَمِّها ذكره الأخْفَشُ. وإنَّما سُمِّيتِ القِدَاحُ بالأزلامِ؛ لأنَّها زُلِمَتْ أي: سُوِّيَتْ، ويقال: رجلٌ مُزْلِمٌ، وأمرأةٌ مُزْلِمَةٌ إذَا كان خَفِيفاً قَلِيلَ العلائِقِ، ويقال: قَدَحٌ مُزْلَمٌ وزَلْم إذا حُرِّرَ وأُجِيدَ قَدُّهُ وَصِفَتُهُ، ومَا أحْسَنَ ما زلم سهمه، أيْ: سَوَّاهُ، ويقالُ لِقَوائمِ البَقَرِ: أزْلاَمٌ شُبِّهَتْ بالقِدَاحِ لِلَطَافَتِهَا. وَفِي الاسْتِقْسامِ بالأزلامِ قولانِ: الأوَّلُ: كان أحدُهُم إذا أراد سَفَراً أو غَزْواً أو تِجَارَةً [أو نِكَاحاً] أو أمْراً آخَرَ ضرب بالقِدَاحِ، وكانوا قد كتبوا على بعضها أمَرَنِي رَبِّي، وعلى بعضها نَهَانِي رَبِّي، وتركوا بَعْضَهَا خَالِياً عن الكِتَابَةِ، فإنْ خرجَ الأمرُ أقدْمَ على العملِ، وإنْ خرجَ النَّهْيُ أمْسَكَ وأعادَ، وإنْ خرج الغَفْل أعاد العملَ مَرَّةً أخْرَى. وذكر البَغَوِيُّ أنَّ أزلامَهم كانت سبعةَ أقْدَاحٍ مُسْتَوِيةً مِنْ شوحط يكونُ عند [سادن] الكعبة، مكتوب على واحدٍ منها: نَعمْ، وعلى واحد: لاَ، وعلى واحدٍ منها: مِنْكم، وعلى واحدٍ مِنْ غَيْرِكم، وعلى واحد: مُلْصَق، وعلى واحد: العَقْل، وواحد غفل ليس عليه شيءٌ، وكانوا إذا أرادُوا أمْراً أو تداوَرُوا في نَسَبٍ أو اختلفوا في تَحَمُّلِ عَقْلٍ جاءوا إلى هُبَل، وهو أعظمُ أصْنامِ قُرَيشٍ، وجاءوا بِمائَةِ دِرْهَمٍ وجَزُورٍ فأعطَوْها صاحبَ القِداح حتى يُجيلَ القومُ ويقولُون: يا إلَهنَا إنَّا أرَدْنَا كذا وكذا، فإنْ خرج نَعَمْ فعلُوا، وإنْ خرج: لا، لمْ يَفْعَلُوا ذلك، ثُم عادُوا إلى القِدَاح ثانيةً، وإذا أجالُوا على نسبٍ، فإنْ خرج منكُم [كان وسيطاً منهم، وإن خرج من غيركم كان حليفاً، وإن خرج مُلْصقٌ كان على منزلته لا] نسب له ولا حِلْفَ، وإذا اختلفُوا في عَقْلٍ فمن خرج عليه قَدَحُ العَقْلِ حَمَلَهُ، وإنْ خَرَجَ الغَفْل أجَالُوا ثانياً حتى يخرج المكتوبُ فنهى اللهُ تعالى عن ذلك وحرَّمهُ. قال القُرطبيُّ: وإنّما قِيل لهذا الفعلِ اسْتِقْسام؛ لأنَّهُمْ كانوا يَسْتَقْسِمُون به [الرِّزْقَ] فِيما يُريدون، كما يُقال: الاستقسامُ في الاستدعاءِ للسقي، ونظيرُ هذا الذي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 194 حرَّمه [اللَّهُ] قولُ المنَجِّم: لا يخرج من أجل نجم كذا، وأخرج من أجل نَجْم كذا. وقال المؤرِّجُ وكثيرٌ مِنْ أهْلِ اللُّغَةِ: الاستقسامُ هاهنا هو المَيْسِرُ والقمارُ، ووجهُ ذِكْرِها مع هذه المطاعِمِ أنَّها كانت تقعُ عند البيتَ مَعَها. وقال سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ: الأزلامُ حَصًى بيضٌ يَضْرِبُونَ بها، وقال مُجاهِدٌ هي كعابُ فارسٍ والرُّومِ التي يَتَقَامَرُونَ بها. وقال الشَّعْبِيُّ: الأزلامُ للعرب والكعابُ للعَجَمِ. وقال سُفيانُ بنُ وكِيع: هي الشَّطَرَنج، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ تَكَهَّنَ أو اسْتَقْسَمَ أو تَطَيَّرَ طيرةً تردّه عن سَفَرِهِ لَنْ يَلِجَ الدرجاتِ العُلَى مِنَ الجنَّةِ» . قوله: «ذَلِكُمْ فِسْقٌ» مُبْتَدأ وخَبَرٌ، واسمُ الإشارَةِ راجعٌ إلى الاستقسام بالأزلامِ خاصّةً، وهو مَرْوِيٌّ عن ابْنِ عبَّاسٍ؛ لأنَّ معناه: حَرَّمَ عليكم تَناوُلَ الميْتَة [وكذا] ، فرجع اسمُ الإشارةِ إلى هذا المُقَدَّرِ، فإنْ قيل: لم صار الاستقسامُ بالأزلامِ فِسْقاً والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يُحِبُّ الفَألَ [الحَسَن] ؟ فالجوابُ: قال الواحِدِي: إنَّما حرّم ذلك؛ لأنَّه طلبٌ لمعرفةَ الغَيْبِ، وذلك حرام لِقَوْلِه تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً} [لقمان: 34] وقوله تعالى: {لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله} [النمل: 65] ، والحديث المتقدم. قوله تعالى: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} «اليَوْمَ» ظرف مَنْصُوبٌ ب «يَئِسَ» ، والألفُ واللامُ فيه للْعَهْدِ. قيل: أراد به يَوْمَ «عَرَفَة» وهو يَوْمُ «الجُمُعَةِ» عام حَجَّةِ الوَدَاعِ نزلت هذه الآيةُ فيه بَعْد العَصْرِ. [وقيل: هو يوم] دخوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَكَّةَ» سنةَ تِسْعٍ. وقِيل: [سنة] ثَمَانٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 195 وقال الزَّجَّاجُ - وتبعه الزَّمَخْشَرِيُّ -: إنَّها لَيْسَتْ للْعَهْدِ، ولم يُرِدْ ب «اليوم» [يوماً] مُعَيَّناً، وإنَّما أراد به الزمانَ الحاضِرَ وما يُدانيه من الأزْمِنَةِ الماضِيَةِ والآتِيَةِ كقولك: كُنْتَ بالأمْس شابًّا، وأنْتَ اليومَ أشْيَب، لا تُرِيدُ بالأمسِ الذي قَبْلَ يَوْمِك، و [لا] باليومِ الزَّمَن الحاضِر فَقَطْ، ونحوه «الآن» في قَوْلِ الشَّاعِرِ: [الكامل] 1928 - الآنَ لَمَّا ابْيَضَّ مَسْرُبَتِي ... وعَضَضْتُ مِنْ نَابِي عَلَى جذْم ومثله أيضاً قوله زهير: [الطويل] 1929 - وأعْلَمُ مَا في اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ ... وَلكنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غدٍ عَمِ لم يُرِدْ بهذه حقائقها. والجمهورُ على «يَئسَ» بالهمزة، وقرأ يَزِيدُ بنُ القَعْقَاع «يَئسَ» بِيَاءيْنِ مِنْ غَيْرِ همزة. ورُوِيَتْ - أيضاً - عَنْ أبِي عَمْرو، ويقال: يَئِسَ يَيْئَسُ ويَئْيِسُ بفتح عَيْنِ المضارعِ وكسرها، فهو شاذّ. ويقال: أيس [أيضاً] مقلوبٌ من «يَئِسَ» فوزنُهُ «عَفِل» ويدلُ على القَلْبِ كَوْنُهُ لم يُعَلَّ، إذ لو لم يقدر ذلك لَلَزِمَ إلغاءُ المقتضى، وهو تَحَرُّكُ حَرْفِ العَلّة، وانفتاحُ ما قبله، لكنَّه لما كان في مَعْنَى ما لم يُعَلَّ صَحَّ. واليَأسُ: انقطاعُ الرَّّجاءِ، وهو ضدُّ الطَّمَعِ. «مِن دِينِكُمْ» مُتَعلقٌ ب «يئس» ، ومعناها ابتداءُ الغَايَةِ، وهو على حَذْفِ مُضَاف، أي: منْ إبْطَالِ أمْرِ دِينكم. فصل لَمَّا حَرَّم وحَلَّلَ فِيما تقدم، وخَتَمَ الكلام بقوله: «ذَلِكُمْ فِسْقٌ» ثُمَّ حَرَّضَهُم على التمسُّكِ بما شَرَع لهم، فقال: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون} أي: فلا تخافُوا المُشْرِكين في خلافكم لهم في الشَّرائعِ والأدْيَانِ، فإنِّي أنْعَمْتُ عليكم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 196 بالدولةِ القاهِرَةِ، وصارُوا مَقْهُورِينَ لكم ذَلِيلينَ عندكم، وحصل لهم اليأسُ مِنْ أنْ يَصِيروا قاهِرين لكم مُسْتَوْلِين عليكم، وإذا صار الأمرُ كذلك فيجبُ عليكم أنْ لا تَلْتَفِتُوا إليهم وأنْ تُقْبِلُوا على طاعَةِ اللَّهِ تعالى، والعملِ بشرائعِهِ. وفي قوله: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} قولان: الأولُ: يَئِسُوا مِنْ أنْ يُحَلِّلُوا الخبائِثَ بعد أنْ جعلها الله محرمةً. والثاني: يَئسُوا مِنْ أنْ يَغْلِبُوكم على دينكُم؛ لأنَّ الله تعالى قد وعد بإعلاء هذا الدين على كُلِّ الأديانِ بقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] فَحَقَّقَ ذلك النَّصْرَ، وأزالَ الخوفَ. واسْتَدَلُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ التقيَّةَ جائِزةٌ عِنْد الخوفِ؛ لأنَّ اللَّه تعالى أمرهم بإظهارِ الشَّرائعِ عند زوال الخَوْفِ مِنَ الكفَّارِ، فدلَّ على جوازِ تركِهَا عند الخوف. قوله سبحانه وتعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} في قوله: «الْيَوْمَ» [كالكلام في «اليوم» ] قبلَهُ. نزلت هذه الآيةُ يَوْمَ الجُمُعَةِ يَوْمَ عَرَفَةَ بعد العصر فِي حجَّةِ الوداع، والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [وشرف وكرم ومجد وعظم] وَاقِف بِعَرَفات على ناقَتِهِ العَضْبَاءِ فكاد عَضُدُ الناقةِ يَنْقَدُّ من ثِقلها، فَبَرَكَتْ. عن عُمَر بن الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ رَجُلاً من اليهودِ قال له: يا أميرَ المؤمِنينَ آيةٌ في كتابكم تقرؤونها، لو علينا مَعْشَرَ يَهُودٍ نَزَلَتْ لاتَّخَذْنَا ذلِكَ اليومَ عِيداً، قال: أيُّ آيةٍ؟ قال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} قال عُمَرُ: قَدْ عرفْنَا ذلك اليوم والمكانَ الذي أنْزِلَتْ فيه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قائِمٌ بِعَرَفَةَ يوم جمعة. أشار عُمَرُ إلى أن ذلك اليومَ كان لنا عِيداً. قال ابنُ عباسٍ: كان ذلك اليوم خمسةَ أعْيادٍ، جُمْعَةً وعَرفَةَ وعِيدَ اليَهُودِ والنَّصارَى والمَجُوسِ، ولم يَجْتَمِعْ أعيادُ أهْلِ المِلَلِ في يوم قبله ولا بعده. وروى هارونُ بنُ عنترةَ عن أبيه قال: «لما نزلت هذه الآيةُ بَكَى عُمَرُ فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» ما يُبْكِيكَ يا عُمَرُ؟ «فقال: أبْكانِي أنا كنا في زيادَةٍ مِنْ ديننَا، [فأما إذْ] كمُلَ فإنَّهُ لم يكمل شيءٌ إلا نَقَصَ، قال:» صَدَقْتَ «، فكانت هذه الآيةُ نَعْيَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 197 وعاش بعدها إحْدَى وثمانِينَ يَوْماً، ومات يَوْم الاثنَيْنِ بعدما زَاغَتِ الشمسُ لليلتين خَلَتَا من شهرِ ربيع الأوَّلِ سَنَة إحْدَى عَشَر مِنَ الْهِجْرَةِ، وقيل: يومَ الاثنين يَوْمَ الثاني عشر مِنْ ربيع الأولِ، وكانت هجرتُه في الثاني عشر مِنه. فقوله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} يَعْنِي يوم نُزولِ هذه الآيةِ أكملتُ لكُمْ دينكمْ الفَرائِضَ والسُّنَنَ، والحدُودَ والجهادَ، والحلالَ والحرامَ، فلم ينزل بعد هذه الآيةِ حلالٌ ولا حرامٌ ولا شيءٌ من الفرائِضِ، وهذا [معنى] قولِ ابْنِ عباسٍ. ورُوي عنه أنَّ آيةَ الرِّبَا نزلت بعدها، وقال سَعِيدُ بنُ جُبَيْر وقتادةُ: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} فلم يَحُجَّ معكم مشْرِكٌ، وقيل: أظهرت دينَكُمْ وأمَّنْتكم من العدُوِّ، وقوله تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} يَقْتَضِي أن الدين كان نَاقِصاً قَبْلَ ذلك، وذلك يُوجِب أنَّ الدينَ الذي كان عليه محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُواظِباً عليه أكْثَرَ عُمُرِه كان ناقصاً، وإنما وُجِدَ الدينُ الكامل في آخر عمرِهِ مُدَّةً قليلةً. وأجَابُوا عنه بوجُوهٍ: أحدها: أنَّ المرادَ ما تقدم من إزالةِ الخوفِ عنهم، كما يقولُ الملِكُ إذا اسْتَوْلى على عدوه وقَهَرَهُ قَهْراً كُلِّياً: كَمُلَ ملكُنَا، وهذا ضَعيفٌ؛ لأنَّ مُلْكَ ذلك المَلِك كان قبل قَهْرِ العدو ناقصاً فينبغي على هذا أن يُقال: إنَّ دينَ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان ناقصاً قبل ذلك اليوم. ثانيها: [أنَّ] المراد أكملتُ لكُم ما تَحْتَاجُون إليه في تكاليفكم من تعاليم الحلالِ والحرامِ، وهذا - أيضاً - ضعيفٌ؛ لأنه لو لم يُبَيّن قبل هذا اليوم ما كانوا مُحْتاجين إليه من الشرائعِ، كان ذلك تأخيراً للبيانِ عن وقت الحاجة، وأنه لا يَجُوزُ. وثالثها: وهو المختارُ ما ذكره القفَّالُ وهو أن الدينَ ما كان ناقصاً ألْبَتَّةَ، بل كان كامِلاً أبداً، وكانت الشرائِعُ النازِلةُ من عند الله تعالى في كل وقت كافية في ذلك إلا أنه تعالى كان عالماً في أوّل وقتِ المبعثِ في أن هذا اليوم ليس بكاملٍ في الغَدِ، ولا مَصْلَحَةَ فيه، فلا جَرَمَ كان يُنْسَخ بعد الثبوت، وكان ينزل بعد العدم، وأما في آخر زمانِ المبْعَثِ فأنزل الله شريعةً كامِلَةً، وحكم ببقائها إلى يوم الدِّين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 198 فالشرعُ أبداً [كَانَ] كامِلاً، إلاَّ أنَّ الأوّلَ كمال إلى زمان مَخْصُوصٍ والثاني: كمالٌ إلى يوم القيامة، فلهذا قال: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} . وأجاب القُرْطبي: يقال: لِمَ قُلتَ إن كل نقص فهو عَيْبٌ، أرَأيْتَ نُقْصانَ الشَّهْرِ عَيْباً؟ ونُقْصان صلاةِ المسافرِ أهُوَ عَيْبٌ ونقصان العمر الذي أراده الله بقوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ} [فاطر: 11] أهو عيب؟ وكذلك نُقصَانُ أيّامِ الحَيْضِ عن المعهود؟ ونقصان أيام الحمل؟ ونقصان المال بسرقَةٍ أو حَرِيقٍ أو غَرَقٍ إذا لم يَفْتقر صاحبه؟ فنقصان الدين في الشرع قَبْلَ أن يلحق الله الأجزاء الباقية في عِلْمِ الله تعالى لَيْسَ بعَيْبٍ، فمعنى قوله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} يخرج على وجهين: أحدهما: أن المراد بلَّغْتُه أقْصَى الحد الذي كان له عندي فيما قضيتُهُ وقدَّرْتُهُ، وذلك لا يُوجِبُ أنْ يكونَ ما قَبْلَ ذلك ناقصاً عما كان عند الله تعالى لكنه يُوصَفُ بنُقصان مُقَيّد، فيقال: أكمل الله ناقِصاً عما كان عند الله تعالى أنه مُلحِقه به وضامه إليه كالرجل يُبلغه الله تعالى مائةَ سَنَةٍ، فيُقالُ: أكمل الله عُمُرَهُ [فلا يلزم من ذلك أنْ يكون عُمُره] ناقصاً حِين كان ابْن ستِّين سنة نَقْصَ قُصُورٍ وخللٍ، فإن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَقُولُ: «مَنْ عمَّره الله سِتين سَنَةً فقد أعْذَرَ إليه في العُمُر» وقد بلغ الله بالظُّهر والعصر والعشاء أربع ركعات، فلو قيل: أكملها كان الكلامُ صحيحاً، ولا يَلْزَمُ من ذلك أنَّها حينَ كانت ركعتين كانت ناقصةً نَقْصَ قُصُورٍ وخللٍ، ولو قيل: كانت ناقصة عما عند الله أنه ضامَّه إليها وزائده عليها لكان ذلك صحيحاً، فهكذا هذا في شرائع الإسلام وما كان شرع منها شيئاً فشيئاً إلى أنْ أنْهى الله الدِّين مُنْتَهَاهُ الذي كان له عنده. الثاني: أنَّ المراد بقوله: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} أنَّهُ وفَّقَهُمْ إلى الحجِّ الذي لم يكن بقي عليهم مِنْ أرْكان دينهم غَيْرُه، فحَجُّوا فاستجمع لهم الدِّين أداء لأرْكَانِه، ولقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «بُنِيَ الإسلامُ على خَمْسٍ» الحديثَ، وقد كانُوا تشَهَّدُوا وصَلُّوا وزكوا وصامُوا وجاهَدُوا واعْتَمرُوا ولم يكونوا حجُّوا، فلما حجُّوا ذلك اليوم أنزل الله تعالى وهم بالموقف هذه الآية. فصل رد شبه الاستدلال بهذه الآية على بطلان القياس استَدلُّوا بهذه الآيةِ على بُطْلان القياسِ، لأنَّ الآيةَ دلت على أنه تعالى قد نَصَّ على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 199 الحُكْمِ في جميع الوقائعِ، [إذْ لَوْ بَقِيَ بَعْضُهَا غَيْرَ مُبَيَّنِ الحكم لم يكن الدينُ كامِلاً، وإذا حصلَ النص في جميع الوقائعِ] فالقياسُ إنْ كان [على] وفْقِ النصِّ كان عَبَثاً، وإنْ كان خلافَهُ كان باطِلاً. وأجيبُ بأن المرادَ بإكْمالِ الدينِ أنَّهُ تعالى بيَّن حُكْمَ جَميعِ الوَقَائِعِ بعضها بالنص، وبعضُها بيَّن طريقَ الحكمِ فيها بالقياسِ فإنَّهُ تعالى لما جَعَل الوقائع قِسْمَيْن: أحدهما: التي نَصَّ على أحكامهما. والثاني: أنواعٌ يمكنُ استنباطُ الحكمِ فيها بواسطةِ قياسِها على القسم الأولِ، ثم إنَّه تعالى أمَرَ بالقياسِ، وتعبَّد المُكَلفِين به فكان ذلك في الحقيقة بياناً لِكُل الأحْكامِ. قال نُفاةُ القياسِ: الطريقُ المقتضيةُ لإلحاقِ غَيْرِ المنصُوصِ بالمنصُوصِ، إمَّا أنْ تكونَ قَطْعِيَّةً أو غَيْرَ قَطْعِيَّةٍ. فإنْ كانت قطعيّةً فلا نِزاعَ في صحته، فإنَّا نسلم أن القياسَ المبنيّ على المقدمات اليَقِينيَّةِ حُجةٌ، وهذا القياسُ يكون المصِيبُ فيه واحداً، ومخالِفهُ يَسْتَحِقُّ العقاب وينْقَصُ به قضاءُ القاضِي، وأنتم لا تقولون بذلك، وإنْ كانت طريقة ظنية كان كل واحدٍ يُمْكِنُه أنْ يَحْكُمَ بما غلب على ظَنِّه مِنْ غَيْرِ أنْ يَعْلَم [هل] هو دين اللَّهِ أمْ لا؟ وهل هو الحكمُ الذي حكم [به الله] أم لا؟ ومثل هذا لا يكون إكْمالاً للدّين، بل يكون ذلك إلقاءً للخلقِ في وَرطَة الظُّنونِ، وأجيب بأنه إذَا كان كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُكَلَّفاً بالعمل بمقتضى ظَنِّه [كان] ذلك إكْمَالاً ويكون كُلُّ مكلفٍ قاطعاً بأنَّه عامل بحكم الله تعالى. قوله سبحانه: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} «عليكم» متعلقٌ ب «أتممت» ، فلا يجوزُ [تعلُّقهُ] ب «نعمتي» ، وإن كان فعلها يتعدَّى ب «على» نحو: {للذي أَنعَمَ الله عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 37] ؛ لأن المصدر لا يتقدَّمُ عليه معمولُه، إلا أن ينُوبَ مَنَابَهُ. قال أبُو البقاءِ: فإنْ جعلتهُ على التَّبِيين أيْ: «أتْمَمْتُ» أعْنِي «عَلَيْكُمْ» جاز ولا حاجة إلى ما ادّعَاهُ. ومعنى {أتممت عليكم نعمتي} أيْ: أنجزتُ وَعْدِي في قوله: {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 200 عَلَيْكُمْ} [البقرة: 150] ، وكان مِنْ تَمَامِ نعمته أنْ دَخَلُوا مكةَ آمنينَ، وعليها ظَاهِرِينَ، وحَجُّوا آمنين مُطْمَئِنِينَ لمْ يخالِطْهُمْ أحَدٌ من المشركين. قال ابنُ الخطيبِ: وهذا المعنى قد عُرِفَ بقوله: {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} فَحَمْلُهُ على هذا تَكْرِيرٌ، وإنما معنى قوله: {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} أي: بسبب ذلك الإكمالِ؛ لأنه لا نِعْمَةَ أتم مِنْ نعمة الإسلام. قوله سبحانه: {وَرَضِيتُ لَكُمُ الأسلام دِيناً} في «رَضِيَ» وجهان: أحدهما: أنه مُتعد لِواحدٍ، وهو «الإسلامَ» ، و «دِيناً» على هذا حال. وقيل: هو مُضَمَّنٌ معنى صَيَّرَ وجعل، فيتعدَّى لاثْنَيْن؛ أولهما: «الإسْلاَمَ» والثاني: «دِيناً» . «لكم» يجُوز فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلق ب «رَضَيَ» . والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه حالٌ من الإسلامِ، ولكنَّه قُدِّمَ عليه. ومعنى الكلام أنَّ هذا هو الدينُ المرضِيُّ عند الله، ويُؤكِّدُهُ قوله تعالى: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] . وقوله تعالى: {فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} قد تقدم الكلامُ عليها في البقرة [آية: 173] . و «فِي مَخْمَصَةٍ» متعلقٌ ب «اضْطُرَّ» ، [ومعنى: «اضْطُرَّ» ] أُصِيبَ بالضر الذي لا يمكنه الامتناعُ معه من الميتةِ. و «المخمصةُ» : المَجَاعَةُ؛ لأنها تَخْمُصُ [لها] البطونُ: أيْ: تَضْمُرُ. قال أهل اللُّغَةِ: الخَمْصُ والمَخْمَصَةُ: خَلاَءُ البطن من الطعام، وأصْلُهُ مِنَ الخَمْصِ الذي هو ضُمُور البَطْنِ. يقال: رجل خميصٌ وخُمْصَان، وامرأة خَمِيصَةٌ وخُمْصَانة، والجمع خَمَائِصُ وخُمْصَانَاتٌ، وهي صِفَةٌ مَحْمُودَةٌ في النساء. ويقال: رجل خُمْصَان وامرأة خُمْصَانة، ومنه أخْمَصُ القدمِ لدِقَّتِهَا، ويستعمل في الجوع والغَرْث. قال: [الطويل] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 201 1930 - تَبِيتُونَ في المَشْتَى مِلاءً بُطُونكُمْ ... وَجَارَاتُكُمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا وقال آخر: [الوافر] 1931 - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكُمُ تَعِفُّوا ... فإنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصٌ وُصِفَ الزمانُ بذلك مبالغةً كقولهم: نَهَارُهُ صَائِمٌ، ولَيْلُهُ قائم. و «غَيْرَ» نُصبَ على الحال. قال بعضُهم: يَنْتَصِبُ بمحذوفٍ مُقَدَّرٍ على معنى: فيتناول غَيْر مُتجانِفٍ، ويجوز أن يَنْتَصِبَ بقوله: «اضْطُرَّ» ويكونُ المقدرُ متأخراً. والجمهور على «مُتجَانِفٍ» بألف وتخفيف النون من «تَجَانَفَ» . وقرأ أبُو عبدِ الرحمن والنَّخَعِيُّ «مُتَجنِّفٍ» بتشديدِ النُّونِ دُونَ ألفٍ. قال أبو مُحمدِ بن عَطِية: وهي أبْلَغُ من «متجانف» في المعنى؛ لأنَّ شِدّةَ العينِ تدلُ على مُبالغةٍ وتوغُّلٍ في المعنى. و «لإثم» متعلّق ب «متجانف» ، واللام على بابها. وقيل: هي بمعنى «إلى» أي غَيْرَ مائِلٍ إلى إثْمٍ ولا حاجة إليه. وقد تقدم معنى هذا واشتقاقها عند قوله: {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً} [البقرة: 182] . قال القُرْطبي: هو معنى قوله: {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} [البقرة: 173] ، ومعنى «الإثم» هاهنا أنْ تأكُلَ فوق الشِّبَع تلذُّذاً في قولِ أهل «العراق» . وفي قولِ أهْلِ «الحجازِ» : أنْ تكُون عَاصِياً. قال قتادةُ: غَيْرَ مُتَعرِّضٍ لمعْصِية في مقصده. وقوله: {فَإِنَّ الله غَفُورٌ} جُمْلةٌ، إمَّا في محلِ جَزْمٍ، أو رفعٍ على حَسَبِ ما قيل في «مَنْ» ، وكذلك القول في الفاء إما واجبةٌ أو جائزةٌ، والعائدُ على كِلاَ التقديرين محذوفٌ، أيْ: «فَإِنَّ الله غَفُورٌ» له، [يعني] : يَغْفِرُ له أكْلَ المُحَرَّمِ عند الاضطرارِ «رَحِيمٌ» بعباده، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 202 حَيْثُ أحَلَّ لهم ذلك المحرمَ عند احتياجهم إلى أكْلِهِ، وهذا مِنْ تَمام ما تقدم ذكره في المطاعِمِ التي حَرَّمَها الله تعالى، يَعْنِي: إنها وإنْ كانت مُحرمةً إلا أنها تحل في حالِ الاضطرارِ، ومن قوله: «فِسْق» إلى هاهنا - اعتراضٌ وقع في النَّسَقِ، والغَرَضُ منه تأكيدُ ما ذُكِر مِنْ مَعْنى التحريم، فإن تحريم هذه الخبائثِ من جملةِ الدِّينِ الكاملِ والنعْمةِ الثابتةِ والإسلامِ الذي هو الدينُ المرضيُّ عند الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} الآية. وهذا أيضاً مُتَّصِلٌ بما قَبْلَهُ من ذِكْرِ المطعُومَاتِ، وقد تقدم الكلامُ على «مَاذَا» [وما قيل فيها فليلتفت إليه] . وقوله: «لَهُمْ» بلفظ الغَيْبَةِ لتقدمِ ضَميرِ الغَيْبةِ في قوله تعالى: «يَسْألُونَكَ» . ولو قيل في الكلام: ماذا أحِلَّ لنا؟ لكان جائزاً على حكايةِ الجملةِ، كقولك: أقْسَمَ زَيْدٌ ليَضرْبَنَّ ولأضربَنَّ، بلفظ الغيبة والتكلمِ، إلا أن ضمير المتكلّمِ يَقْتَضي حكايةَ ما قالوا: كما أن «لأضربن» يقتضي حكاية الجملة المقسم عليها، و «ماذا أحِلّ؟» هذا الاستفهامُ معلّق للسؤال، وإن لم يكن السؤالُ من أفعالِ القُلُوبِ إلاَّ أنَّهُ كان سبب العلم، والعلم يعلق، فكذلك سببهُ، وقد تقدم تحريره في «البقرة» . وقال الزمخشري هنا: في السؤال معنى القول، فلذلك وقع بعده ماذا أحل لهم، كأنه قيل: يقولون: ماذا أحل لهم، ولا حاجة إلى تضمين السؤال معنى القول؛ لما تقدم من أن السؤال يعلق بالاستفهام كمسببه. وقال ابن الخطيب: لو كان حكاية لكلامهم لكانوا قد قالوا: ماذا أحلَّ لهم، ومعلوم أن ذلك باطل لا يقولونه، وإنما يقولون ماذا أحِلَّ لنا، بل الصحيح أنه ليس حكاية لكلامهم، بل هو بيان كيفية الواقعة. قال القُرْطُبي: «مَا» فِي مَوْضِعِ رفعٍ بالابتداء، والخبرُ «أُحِلَّ لَهُمْ» ، و «ذَا» زَائِدَةٌ وإنْ شِئْتَ كانت بمعنى «الذي» ، ويكون الخبر {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات «. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 203 فصل في سبب نزولها قال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: نزلت هذه الآيةُ في عديّ بْنِ حَاتِم، وَزَيْدِ بْنِ المُهَلْهِلِ [الطائيين وهو] زَيْدُ الخيل الذي سمَّاه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ زيد الخيْرِ، فقال:» يا رسول الله، إنّا قَوْمٌ نَصِيدُ بالكِلاَبِ، والبزاةِ، فَمَاذَا يَحِلُّ لَنَا منها؟ «. فنزلت هذه الآية. وقيل: سببُ نزولِها أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما أمر بقتل الكلابِ، قالوا: يا رسول اللَّهِ، ماذا يحلُّ لنا من هذه الأمَّةِ التي أمرت بقتلها؟ فنزلت هذه الآية، فلما نزلت أذِنَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في اقتناءِ الكِلابِ التي يُنْتَفَعُ بها، وَنَهَى عن إمْسَاكِ مَا لاَ يُنْتَفَعُ بها. قوله تعالى: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} يعني: الذَّبَائح على اسم الله عزَّ وجلَّ. وقيل: كلُّ ما تستطيبه العرب وتستلذُّه من غير أن يراد بتحريمه نصٌّ من كتاب أو سنة، وكانت العرب في الجاهليةَ يحرمون أشياء [من الطيبات] كالبحيرَة والسَّائِبَةِ والوَصِيلَةِ، والحامِ، فهم كانوا يستطيبونها إلا أنَّهُم كانوا يحرِّمُونَ أكلها لِشُبُهَاتٍ ضعيفة، فذكر تعالى أن كلَّ ما يُسْتَطَابُ فهو حلال، وأكَّدَهُ بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} [الأعراف: 32] وبقوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} [الأعراف: 157] ، والطَّيب في لغةِ العرب هو المستلذُّ والحلالُ المأذُونُ، يصير - أيضاً - طَيّباً تشبيهاً بما هو مستلذ؛ لأنَّهُما اجتمعا في انتفاء الضَّرورة، ولا يمكن أن يكونَ المرادُ بالطيِّبَاتِ هنا المحللات وإلا لصار تقديرُ الآية: قل [أحِلَّ] لكم المحللات، وهذا ركيك، فوجب حمل الطيبات على المستلذِّ المشتهى. واعلم أن العبرة في الاستلذاذ والاستطابة بأهل المروءة والأخلاق الجميلة؛ فإنَّ أهل البادية يستطيبون أكلَ جميع الحيوانات، واعلمْ أنَّ قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} [البقرة: 29] يقتضي التَّمكن من الانتفاع بكل ما في الأرض، إلا أنَّهُ ورد تخصيصه بقوله: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} [الأعراف: 157] ، ونص في هذه الآية على إبَاحَةِ المستلذات والطيبات، وهذا أصل كبير في معرفة ما يحلُّ وما يحرمُ من الاطعمة. قوله سبحانه: {لطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ} في «ما» هذه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها موصولة بمعنى «الذي» ، والعائد محذوف، أي [ما] علمتموه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 204 ومحلها الرفع عطفاً على مرفوع ما لم يُسَمَّ فاعله أي: وأحل لكم صَيْدُ أو أخذ ما علمتم، فلا بد من حذف هذا المضاف. والثاني: أنَّهَا شرطيّة فمحلها رفع بالابتداء، والجوابُ قوله: «فَكُلُوا» . قال أبو حيان: وهذا أظهرُ؛ لأنَّه لا إضمار فيه. والثالث: أنَّهَا موصولة - أيضاً - ومحلُّها الرفع بالابتداء، والخبر قوله: «فَكُلُوا» وإنَّمَا دخلت الفاء تَشَبُّهاً للموصول باسْمِ الشَّرْطِ، وقوله: من الجَوَارِحِ في محَلِّ نصب، وفي صاحبها وجهان: أحدهما: أنَّهُ الموصول وهو «ما» . والثاني: أنَّهُ الهاء العائدة على الموصول، وهو في المعنى كالأوَّل. والجوارح: جمع جارحة، والهاء للمبالغة سميت بذلك؛ لأنَّهَا تجرح الصيد غالباً، أو لأنَّهَا تكسب والجرح الكَسْب. ومنه: {وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار} [الأنعام: 60] والجارحة صفة جارية مجرى الأسماء؛ لأنَّهَا لم تذكر موصوفها غالباً. وقرأ عبد الله بن عبَّاس، وابن الحنفية «عُلِّمْتُمْ» مبنياً للمفعول، وتخريجها: أن يكون ثَمَّ مضافٌ محذوف، أي: وما علّمكم الله من أمر الجوارح [ «مكلبين» : حال من فاعل «علمتم» ومعنى مكلبين: مؤدبين ومضرين ومعوِّدين، أي: حال تكليبكم] هذه الجوارح، أي: إغرائكم إياها على الصَّيد. قال أبو حيَّان: وفائدة هذه الحال، وإن كانت مؤكدة لقوله: «عَلَّمتم» - فكان يستغنى عنها - أن يكون المعلم ماهراً بالتعليم، حاذقاً فيه موصوفاً به اه. وفي جعله هذه الحال مؤكدةً نظر، بل هي مؤسسة. واشتُقَّت هذه الحالُ من لفظ «الْكَلْب» هذا الحيوان المعروف، وإن كانَتِ الجوارحُ يندرج فيها غيره حتى سِبَاعُ الطيور تغليباً له؛ لأنَّ الصَّيْدَ أكثر ما يكون به عند العَرَبِ. أو اشتقت من «الكَلَب» ، وهو الضَّراوة، ويقال: هو كَلِبٌ بكذا أي: حريص، وبه كَلَبٌ أي حِرْصٌ، وكأنه - أيضاً - مشتقّ من الكَلْبِ هذا الحيوان لحرصه أو اشتقت من الكَلْبِ، والكَلْبُ: يطلق على السَّبُع - أيضاً -. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 205 ومنه الحديث: «اللهُمَّ سَلِّطْ عليهِ كَلْباً مِنْ كِلابِكَ» فأكله الأسَدُ. قال أبو حيَّان: وهذا الاشتقاق لا يَصِحُّ؛ لأنَّ كونَ الأسَدِ كَلْباً هو وصف فيه، والتكليب من صفة المعلّم، والجوارح هي سِباعٌ بنفسها، وكلاب بنفسها لا بجعل المُعَلِمِّ، ولا طَائِلَ تحت هذا الرَّدِّ. وقرئ «مُكْلِبين» بتخفيف اللام، وفَعَّل وأفعل قد يشتركانِ في معنى واحد، إلا أنَّ «كَلَّب» بالتَّشْدِيدِ معناه: عَلَّمها وضَرَّاها، وأكْلب معناه صار ذا كِلاَب. على أن الزجاج قال: يقال: رجلُ مُكلِّب يعني بالتشديد، ومُكْلِب يعني [من] أكلب وكلاّب يعني بتضعيف اللام أي: صاحب كِلاَبٍ. وجاءت جملة الجواب هنا فعلية، وجملة السؤال هنا اسمية، وهي ماذا أحل؟ فهي جواب لها من حيث المعنى، لا من حيث اللفظ؛ إذ لم يتطابقا في الجِنْس. والكلاَّب والمكلِّب هو الذي يعلم الكلاب الصيد. فمكلِّب صَاحِب الكلابِ كمعلِّم: صاحبِ التَّعليم، ومؤدِّب: صاحب التّأديب. فصل معنى الآيةِ وأحِلَّ لكم صَيْدُ ما علمتم من الجوارحِ. واختلفُوا في هذه الجَوَارحِ، فقال الضَّحاكُ والسُّدِّيُّ: [هي] الكلاب دون غَيْرِها، ولا يحلُّ ما صاده غير الكلب إلا أن يُدرِكَ ذكاته، ولا عملَ على هذا، بل عامَّةُ أهلِ العلمِ على أنَّ المرادَ من الجَوَارِحِ الكواسب من سباع البَهَائِمِ كالفهد، والنمر، والكلب، ومن سباعِ الطَّيْر كالبازي والعُقابِ والصَّقْرِ ونحوها مما يقبل التعليم فيحلُّ صيد جميعها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 206 قوله سبحانه وتعالى: «تُعَلِّمُونَهُنَّ» فيه أربعةُ أوْجُهٍ: أحدها: أنَّهَا جُملةٌ مستأنَفَةٌ. الثاني: أنَّهَا جملة في محلِّ نصبٍ على أنَّها حال ثانية من فاعل «عَلَّمتُم» . ومنع أبُو البقاء ذلك؛ لأنَّه لا يجيز للعامل أنْ يعمل في حالين، وتقدَّم الكلامُ في ذلك. الثالث: أنَّها حال من الضَّميرِ المستكنِّ في «مكلِّبين» فتكونُ حالاً من حالٍ، وتُسمَّى المتداخلة وعلى كلا التقديرين المتقدمين فهي حال مؤكِّدة؛ لأن معناها مفهوم من «علمتم» ، ومِنْ «مُكَلِّبين» . الرابعُ: أن تكون جملةً اعتراضيةً، وهذا على جَعْلِ ما شرطيّة أو موصولة خبرها «فَكُلُوا» فيكونُ قد اعترض بين الشَّرْط وجوابه، أو بين المبتدأ وخبره. فإن قيل: هَلْ يجوز وجهٌ خَامِسٌ، وهو أن تكون هذه الجملة حالاً من «الجَوَارِحِ» ، أو من الجوارح حال كوْنِهَا تُعلمُونَهُنَّ؛ لأنَّ في الجملة ضمير ذِي الحلالِ؟ فالجوابُ: أنَّ ذلك لا يجوزُ لأنه يؤدِّي إلى الفَصْلِ بين هذه الحال وبين صاحبها بأجنبِيٍّ، وهو مُكَلِّبينَ الذي هو حال من فاعل «علمتم» . وأنث [الضمير في «تُعَلِّمُونَهُنَّ» ] مراعاة للفظِ الجوارحِ؛ إذْ هو جمع جارحةٍ، ومعنى «تُعَلِّمُونَهُنَّ» تؤدبونهن أدبَ أخذ الصَّيد، {مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله} أي من العلم الذي «عَلَّمَكُمُ اللَّهُ» . وقال السدي: أي كما علمكم الله، " من " بمعنى الكاف، والمقصود منه المبالغة في التعظيم. قوله تعالى: {فكلوا مما أمسكن عليكم} في " من " وجهان: أظهرهما: أنها تبعيضية؛ لأن الدم والريش لا يؤكل، كقوله: {كلوا من ثمره إذا أثمر} [الأنعام: 141] وهي صفة لموصوف محذوف هو مفعول الأكل، أي: فكلوا شيئا مما أمسكن عليكم. والثاني: أنها زائدة لا تزاد في الإثبات، وإنما تزاد في النفي والاستفهام، وهو قياس قول الأخفش. قال القرطبي: وخطأه البصريون فقالوا: " من " لا تزاد في الإثبات وإنما تزاد في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 207 النفي والاستفهام فعلى الأول تتعلق بمحذوف، وعلى الثاني لا تتعلق لها، و" ما " موصولة أو نكرة موصوفة، والعائد محذوف، على كلا التقديرين، أي: أمسكنه كما تقدم، والنون في " أمسكن " للجوارح، و" عليكم " متعلق ب " أمسكن "، والاستعلاء هنا مجاز. (فصل) معنى الكلام أن الجارحة المعلمة إذا خرجت بإرسال صاحبها فأخذت الصيد وقتلته حل، والتعليم هو أن يوجد فيه ثلاثة أشياء إذا أشليت استشلت، وإذا زجرت انزجرت، وإذا أخذت الصيد [أمسكت] ولم تأكل، فإذا وجد منها ذلك مرارا وأقله ثلاث مرات كانت معلمة، يحل قتلها إذا خرجت بإرسال صاحبها لما روي عن عدي بن حاتم عن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أرسلت كلبك المعلم وسميت فأمسك وقتل فكل وإن أكل فلا تأكل فإنما أمسك على نفسه، فإذا خالط كلابا لم يذكر اسم الله عليه فأمسكته وقتلته فلا تأكل، فإنك لا تدري أيها قتل وإذا رميت الصيد فوجدته بعد يوم، أو يومين ليس به إلا أثر سهمك فكل وإذا وقع في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري الماء قتله، أو سهمك ". واختلفوا فيما أخذت الصيد، وأكلت منه شيئا، فذهب أكثر العلماء إلى تحريمه. وروي [ذلك عن] ابن عباس، وهو قول عطاء وطاوس والشعبي، وبه قال الثوري وابن المبارك وأصحاب الرأي، واصح قولي الشافعي - رضي الله عنه - لقوله عليه الصلاة والسلام " فإن أكل فلا تأكل، فإنما أمسك على نفسه " ورخص بعضهم في أكله، روي ذلك عن ابن عمر وسلمان الفارسي وسعد بن أبي وقاص، وقال ماك: لما روي عن [أبي] ثعلبة [الخشني] قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل، وإن أكل منه ". وروي أن أبا ثعلبة الخشني قال: قلت يا نبي الله: إنا بأرض قوم من أهل كتاب، أفنأكل في آنيتهم؟ وبأرض صيد أصيد بقوسي وبكلبي الذي الذي ليس بمعلم، وبكلبي المعلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 208 فما يصلح لي؟ قال: " أما ما ذكرت من آنية [أهل الكتاب] فإن وجدتم غيرها فلا تأكلوا فيها، وإن لم تجدوا غيرها فاغسلوها، وكلوا فيها وما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل. وما صدت بكلبك المعلم فذكرت اسم الله عليه فكل، وما صدت بكلبك غير المعلم فأدركت ذكاته فكل ". قوله تعالى: {واذكروا اسم الله عليه} في هذه الهاء ثلاثة أوجه: أحدها: أنها عائدة على المصدر المفهوم من الفعل وهو الأكل، كأنه قيل: واذكروا اسم الله على الأكل، ويؤيده قوله عليه السلام: " سم الله وكل مما يليك ". والثاني: أنه يعود على " ما علمتم "، أي: اذكروا اسم الله على الجوارح عند إرسالها على الصيد، وقوله عليه الصلاة والسلام: " إذا أرسلت كلبك، وذكرت اسم الله عليه ". والثالث: أنها تعود على " ما أمسكن " أي: اذكروا اسم الله على ما أدركتم [ذكاته مما أمسكته] عليكم الجوارح، وحتى على هذا الإعراب وجوب اشتراط التسمية في هذه المواضع. ثم قال: {واتقوا الله إن الله سريع الحساب} . أي: واحذروا مخالفة أمر الله في تحليل ما حلله وتحريم ما حرمه. (فصل) قال القرطبي: دلت الآية على جواز اتخاذ الكلاب واقتنائها للصيد، وثبت ذلك في صحيح السنة، وزادت الحرث والماشية، وقد كان [في] أول الإسلام أمر بقتل الكلاب، وقال: " من اقتنى كلبا إلا كلب ماشية، أو صيد نقص من عمله كل يوم قيراطان ". الجزء: 7 ¦ الصفحة: 209 قال القرطبي: وهذا المنع إما لترويعه المسلمين وتشويشه عليهم بنباحه. أو لمنع دخول الملائكة البيت، أو لنجاسته على مذهب من يرى ذلك، وإما لاقتحام النهي على اتخاذ ما لا منفعة فيه. (فصل) قال القرطبي: وفي الآية دليل على أن العالم له من الفضيلة ما ليس للجاهل، لأن الكلب الملعم له فضيلة على سائر الكلاب، فالإنسان إذا كان له علم أولى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 قوله تعالى: [ {اليوم] أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} الآية. الكلامُ فيه كالكلام فيما قَبْلَهُ، وزعم قوم أنَّ المراد بالثلاثة أيام المذكورة هنا وقت واحد، وإنَّما كرره توكيداً، ولاختلاف الأحداث الواقعة فيه حَسُنَ تكريره، وليس بشيء. وادَّعَى بعضهم أنَّ في الكلام تَقْدِيماً وتأخيراً، وأنَّ الأصْلَ {فاذْكُرُوا اسم الله عليه} {وكُلُوا مِمَّا أمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} وهذا يشبه [قول] من يعيد الضمير على الجوارح المرسلة. قوله تعالى: {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب} فيه وجهان: أصحهما: أنَّهُ مبتدأ، وخبره «حِلٌّ لَّكُمْ» وأبرز الإخبار بذلك في جملة اسمية اعتناءً بالسؤال عنه. وأجاز أبُو البقاء أنْ يكون مرفوعاً عَطْفاً على مرفوع ما لم يسم فاعله وهو «الطيِّبَات» ، وجعل قوله: «حِلّ لَّكُم» خبر مبتدأ محذوف، وهذا ينبغي ألا يجوز البتة لتقدير ما لا يحتاج إليه مع ذهاب بلاغة الكلامِ. وقوله: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} مبتدأ وخبر، وقياس قول أبي البقاءِ أن يكون «طَعَام» عَطْفاً على ما قبله، «وحلّ» خبر مبتدأ محذوف، ولم يذكره، كأنه استشعر الثواب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 210 فصل ومعنى {أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} يعني الذّبائح على اسم الله عزَّ وجلَّ، وفي المراد ب {طعام الذين أوتُوا الكتاب} ثلاثة أقوال: الأوَّلُ: الذَّبائِحُ، يريد ذبائح اليهود والنّصارى ومن دخل في دينهم من سائر الأمَمِ قبل مبعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فأمَّا من دَخَلَ في دينهم بعد المبعث فلا تَحِلُّ ذبيحته، فلو ذبح يهوديٌّ أو نصرانيّ على اسم غير الله، كالنَّصراني يذبح على اسم المسيح، فاختلفوا فيه: فقال ابنُ عُمَرَ: لا يحلُّ، وهو قول ربيعةَ. وذهب أكثرُ العلماء إلى أنه يَحِلُّ، وهو قول الشَّعْبِيُّ وعطاء والزهريِّ ومكحولٍ. وسُئِلَ الشعبيُّ وعطاء عن النصراني يذبح باسم المسيح قالا: يحلُّ، فإن الله تعالى قد أحلَّ ذبائحهم وهو يعلم ما يقولُونَ. وقال الحسنُ: إذا ذبح اليهوديُّ والنصرانيُّ فذكر اسم غير الله وأنْتَ تسمع فلا تأكله، وإذا غَابَ عنك فَكُلْ، فقد أحَلَّ الله ذلك. وأما المجوسُ فقد سنَّ فيهم سنةَ أهلِ الكِتابِ في أخذ الجزيَةِ منهم دون أكْلِ ذبائحهم ونكاح نِسَائِهِم. وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّهُ استثنى نصارى بني تغلب، وقالوا: ليسوا على النَّصرانيَّة، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر، وبه أخَذَ الشافعيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وعن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّه سُئل عن ذبائح نصارى العَرَبِ، فقال: لا بأسَ به، وبه أخذ أبو حنيفة. والقول الثاني: أنَّ المرادَ بطعامهم الخبزُ والفاكِهَةُ، وما لا يحتاج فيه إلى الزكاة، وهو منقولٌ عن بعض أئمَّةِ الزَّيديَّةِ. القول الثالثُ: أنَّ المراد جميع المطعومات. وحجَّةُ القول الأوَّلِ: أنَّ ما سوى الذبائح حلال قبل أن كانت لأهل الكتاب، فلا يبقى للتَّخصيص بأهل الكتاب فائدةٌ، ولأن ما قبل هذه الآية في بيان الصيْدِ والذّبائح [ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 211 فحمل الآية على الذبائح أوْلَى] وهي التي تصير طعاماً بفعل الذّبائح [فحملُ الآية عليه أولى] وقوله: «وَطَعَامُكمْ» فإنْ قيل: كيف شُرِعَ لهم حلُّ طعامنا وهم كفَّارٌ ليسوا من أهل الشَّرْعِ؟ قال الزَّجَّاجُ: معناه حلالٌ لكم أنْ تطعموهم، فيكون خطاب الحلِّ مع المسلمين؛ وقيل: لأنَّه ذكر عقيبه حكم النِّسَاءِ، ولم يذكر حلَّ المسلمات لهم، فكأنه قال: حلالٌ لكم أنْ تطعموهم حرامٌ عليكم أن تزوّجوهم. فصل قوله: {والمحصنات مِنَ المؤمنات} في رفع «المُحْصَنَات» وجهان: أحدهما: أنَّهُ مبتدأ خبره محذوف، أي: والمحصنات حِلٌّ لكم أيضاً وهذا هو الظاهر. واختار أبُو البقاءِ أن يكون معطوفاً على «الطِّيبَاتِ» ، فإنَّهُ [قال:] «مِنَ المُؤمِنَاتِ» حال من الضَّميرِ في «المُحْصَنَات» أو من نفس «المُحْصَنَات» إذا عطفتها على «الطَّيِّبَاتِ» و «حلّ» مصدر بمعنى الحلال؛ فلذلك لم يؤنَّث ولم يُثنَّ، [ولم يجمع] لأنه أحسن الاستعمالين في المصادر الواقعة صفة للأعيان، ويقال في الإتباع، حِلٌّ بلٌّ وهو كقولهم: حَسَنٌ بَسَنٌ، وعَطْشَان نَطْشَان. و «مِنَ المُؤمِنَاتِ» حال كما تقدَّمَ، إما من الضمير في «المُحْصَنَات» ، أو من «المُحْصَنَات» ، وقد تقدَّم [الكلام في] اشتقاق هذه اللفْظَة، واختلاف القراء فيها في سورة النساء. فصل في معنى المحصنات هذا منقطع عن قوله: {وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ} وراجع إلى الأوَّلِ. واختلفوا في معنى «المُحْصَنَات» ، فذهب أكثر العلماء إلى أنَّ المراد الحَرَائِرُ، وأجازوا [نكاح] كل حَرَّة مؤمنة كانت أو كتابية فاجرة كانت أو عفيفة، وهو قول مجاهد. وقال هؤلاء: لا يجُوزُ للمسلم نكاح الأمة الكتابيّة لقوله: {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ} [النساء: 25] جَوَّز نكاح الأمة بشرط أنْ تكون مؤمنة ولقوله: {إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ، ومهر الأمة لا يدفع إليها بل إلى سيِّدها، وجوَّزَ أكثرهُم نِكَاحَ الأمة الكتابيّة الحربيّة لقوله: {فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم} [النساء: 25] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 212 وقال ابن عباس: لا يجوز، وقرأ: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} [التوبة: 29] إلى قوله: {حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] فمن أعطى الجزية حَلّ لنا نساؤهم، ومن لم يعط لم يحلّ لنا نساؤه. وذهب قومٌ إلى أنّ المراد من «المُحْصَنَات» في الآية العفائفُ من الفريقين حرائر كُنّ، أو إماءً. وأجازُوا نكاح الأمة الكتابيّة وحرّموا البَغَايا من المُؤمِنَاتِ والكتابيّات وهو قول الحسن، وقال الشعبيُّ: إحصان الكتابية أنْ تستعفَّ عن الزّنا، وتغتسل من الجنابة. وذهب ابْنُ عُمَرَ إلى أنَّهُ لا يجوز نكاح الذميّة لقوله تعالى: {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] ويقول: لا أعلم شِرْكاً أعظم من قولها: إنَّ [ربَّها] عيسى، وأجاب من قال بهذا القول عن التّمسك بقوله: {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} بوجوه: أحدُها: أنَّ المراد الذين آمنوا منهم، فإنَّهُ كان يحتمل أن يخطر ببال بعضهم أنَّ الكتابية إذا آمنت هل يجوزُ للمسلم التزويج بها أم لا؟ فبين اللَّهُ تعالى بهذه الآية جواز ذلك. وثانيها: ما روي [عن عطاء] قال: «إنَّما رخّص اللَّهُ - تعالى - في التزويج بالكتابيَّةِ في ذلك الوقت؛ لأنَّه كان في المسلمات قلّة، والآن ففيهن كثرة عظيمةٌ فزالت الحاجة، فلا جَرَمَ زالت الرُّخصة» . وثالثها: الآياتُ الدّالة على وُجوب مباينة الكفَّارِ، كقوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ} [الممتحنة: 1] وقوله {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ} [آل عمران: 118] ، ولأنَّ عند حصول الزَّوجيّة ربما قويت المحبَّة فيصير ذلك سبباً لميل الزوج إلى دينها. قوله سبحانه: {إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} ظرف العامل فيه أحد شيئين، إمَّا «أحَلَّ» وإما «حِلّ» المحذوف على حسب ما قُرِّر، والجملة بعده في محلّ خفض بإضافته إليها، وهي - هنا - لمجرَّد الظرفيَّة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 213 ويجوز أن تكون شرطيةً، وجوابها محذوف، أي: {إذا أتيتموهن [أجورهن] } حللن لكم. والأوَّلُ أظهرُ. و «مُحْصِنينَ» حال، وعاملها أحد ثلاثة أشياء: إما «آتيتمُوهُنَّ» ، وصاحب الحال الضمير المرفوع. وأما «أحِلّ» المبني للمفعول. وأما «حل» المحذوف كما تقدَّم. و «غَيْر» يجوز فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن ينتصب على أنَّهُ نعت ل «محصنين» . والثاني: أن ينصب على الحال، وصاحب الحال الضمير المستتر في «مُحْصنِينَ» . والثالث: أنهُ حال من فاعل «آتيْتُمُوهُنَّ» على أنَّهَا حال ثانية منه، وذلك عند من يجوز ذلك. فصل تقييد التحليل بإيتاء الأجور يدلّ على تأكيد وجوهاً، وأن من تزوَّج [امرأة] وعزَمَ أن لا يعطي الزوجة صداقها كان في صورة الزّاني، فتسمية المهر بالأجرة يدلُّ على أنَّ الصّداق لا يتقدر كما أنَّ أقل الأجل في الإجارات لا يتقدَّرُ. وقوله: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي غير معالنين بالزِّنَا {وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ} . قال الشعبِيُّ: الزِّنَا ضربان: السفاح [وهو الزِّنَا على سبيل الإعلان، واتَّخاذ الخدن] وهو الزّنا في السرِّ واللَّهُ تعالى حرّمهما في هذه الآية، وأباحَ التمتُّعَ بالمرأة على جهة الإحصان. قوله تعالى: {وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ} يجوز فيه الجَرُّ على أنه [عطف] على «مُسَافحينَ» ، وزيدت [ «لا» ] [تأكيداً للنَّفي] المفهوم من «غَيْر» ، والنَّصب على أنَّهُ عطف على «غير» باعتبار أوجهها الثلاثة، ولا يجُوز عطفها على «محصنين» ؛ لأنَّهُ [مقترن ب «لا» ] المؤكدة للنفي المتقدم، ولا نفي مع «مُحْصِنينَ» ، وتقدَّمَ معاني هذه الألفاظ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 214 وقوله تعالى: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان} تقدَّم له نظائر. وقيل: المراد بالإيمان المؤمن به، فهو مصدر واقع موقع المفعول به كدرْهم ضَرْب الأمير. وقيل: ثَمَّ مضاف محذوف، أي بموجب الإيمان، وهو الباري - تبارك وتعالى -. واعلم أنَّ الكَافِرَ إنَّمَا يكفر بالله ورسوله. وأمَّا الكفر بالإيمانِ فهو مُحَالٌ، فلذلك اختلف المفسرون، فقال ابن عباس ومجاهد قوله: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان} أي باللَّهِ الذي يجب الإيمان به، وإنَّما حَسُنَ هذا المجاز؛ لأنَّه يقال: رب الإيمان ورب الشيء قد يسمى باسم ذلك الشيء على سبيل المجاز. وقال الكلبيُّ: «بالإيْمان» بكلمة التَّوحيد، وهي شهادة أنْ لا إله إلاّ الله؛ لأن الإيمان من لوازمها، وإطلاق الشَّيء على لازمه مجازٌ مشهور. وقال قتادةُ: إنَّ ناساً من المسلمين، قالوا: كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا، فأنزل الله هذه الآية: {وَمَن يَكْفُرْ} أي بما [نزل] في القرآن، فهو كذا وكذا، فسمّى القرآن إيماناً؛ لأنَّهُ مشتملٌ على [بيان] كلِّ ما لا بُدَّ منه في الإيمان. وقيل: ومن «يَكْفُرْ بالإيمَانِ» أن يستحلَّ الحرامَ ويحرّم الحلالَ «فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ» . فصل القائِلَونَ بالإحْبَاطِ، قالوا: المراد بقوله: {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} فقد حبط، أي: عقاب كفره يزيل ما كان حاصلاً له من ثوابِ إيمانِهِ، والذين ينكرون القول بالإحباط قالوا: معناه أن عمله الذي أتى به بعد ذلك الإيمان فقد هَلَكَ وضاع، فإنَّهُ إنَّما يأتي بتلك الأعمال بعد الإيمان لاعتقاده أنها خير من الإيمان فإذا لم يكن الأمر كذلك، بل كان ضائعاً باطلاً كانت تلك الأعمال باطلة في نفسها. قوله تعالى: {وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} الظَّاهر أن الخبر قوله: «مِنَ الخَاسِرينَ» ، فيتعلَّق قوله: «فِي الآخرة» بما تعلَّق به هذا الخبر. وقال مَكِّيٌّ: العاملُ في الظَّرْفِ محذوفٌ تقديره: هو خاسر في الآخرة، ودَلَّ على المحذوف قوله: «مِنَ الخَاسِرِينَ» فإنْ جعلت الألف واللام في «الخَاسِرِينَ» ليستا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 215 بمعنى «الذين» جاز أن يكون العامل في الظَّرْفِ «مِنَ الخَاسِرِينَ» بمعنى أنَّه لو كانت موصولةً لامتنع أن يعمل ما بعدها فيما قبلها؛ لأنَّ الموصول لا يتقدم عليه ما في حَيِّزِهِ، وهذا كما قالوا في قوله: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين} [الشعراء: 168] ، {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} [يوسف: 20] . وتقدير مكيٍّ متعلّق هذا الظرف وهو خاسر، وإنَّما هو بناء على كون «أل» موصولة بدليل قوله: فإن جعلت الألف واللاَّم ليستا بمعنى «الذين» وبالجملة فلا حاجة إلى هذا التقديرِ، بل العامل فيه كما تقدَّمَ العامل في الظرف الواقع خبراً، وهو الكون المطلق، ولا يجوزُ أن يكون «في الإخِرَةِ» هو [الخبر و «من الخاسرين» متعلق بما تعلق به، لأنه لا فائدة في ذلك، فإن جعل] «من الخاسرين» حالاً من ضمير الخبر، ويكون حالاً لازمة جاز، وهو ضعيف في الإعْرابِ، وقد تقدَّم نظير هذه الآية في «البقرة» عند قوله: {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} [البقرة: 130] . فصل قوله: {وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين} مشروطٌ بشرط غير مذكور في الآية، وهو أنْ يموت على ذلك الكفر إذ لو تاب عن الكفر لم يكن في الآخرة من الخاسرين، ويدل على أنَّهُ لا بدَّ من هذا الشّرط قوله: {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فأولاائك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة} [البقرة: 217] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 قوله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} الآية اعلم أنَّ الله تعالى افتتح السورة بقوله: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] . فطلب الوَفَاءَ بعهد العبوديَّة، فكأنَّ العبد قال: يا إلهي، العهد نوعان: عهد الرُّبوبيّة منك، وعهد العبوديّة منا، فأنتَ أولى بأن تقدم الوفاء بعهد الرُّبوبية والكرم، [نعم أنا أوفي بعهد الربوبية والكرم] ومعلوم أنَّ منافع الدنيا محصورة في نوعين: لذات المطعم، ولذات المنكح، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 216 فبيَّن تعالى ما يحلُّ وما يحرم من المطاعم والمناكح، ولما كانت الحَاجَةُ [إلى] المطعوم فوق الحاجة إلى المَنْكُوحِ قدم بيان المطعوم على المنكوح، فلما تم هذا البيان فكأنه قال: قد وفيت بعهد الربوبية فيما يطلب من منافع الدُّنيا، فاشتغل أنت في الدُّنيا بالوفاء بعهد العبودية، فلما كان أعظم الطَّاعات بعد الإيمان الصَّلاة، ولا يمكن إقامتها إلا بالطَّهارة لا جَرَمَ بدأ اللَّهُ تعالى بذكر شرائط الوضوء. قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} . قالوا: تقديره: إذا أردتم القيامَ كقوله: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن فاستعذ} [النحل: 98] . وهذا من إقامَةِ المُسَبَّب مقام السبب، وذلك أنَّ القيام متسبِّبٌ عن الإرادة، والإرادة سَبَبُهُ. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قلت: لم جاز أن يعبر عن إرادة الفعل بالفعل؟ قلت: لأنَّ الفعل يوجد بقدرة الفاعِلِ عليه، وإرادته له، وهي قصده إليه وميله، وخلوص داعيته، فكما عبر عن القدرة على الفعل [بالفعل] في قولهم: الإنسان لا يطير، والأعمى لا يبصر، أي: لا يقدران على الطَّيران والإبصار؛ ومنه قوله تعالى: {نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 104] أي: قادرين على الإعادة، كذلك عبر عن إرادة الفعل بالفعل، وذلك لأنَّ [الفعل] مُسَبَّب عن القدرة، فأقيم [المسبب] مقام السبب للمُلاَبَسَةِ بينهما، ولإيجاز الكلام. وقيل: تقديره: إذا قصدتم الصلاة؛ لأنَّ من تَوَجَّه إلى شيء وقام إليه كان قاصداً له، فعَبَّر بالقيام عن القصد. والجمهورُ قدروا حالاً محذوفة من فاعل «قُمْتُمْ» ، أي: إذا قمتم إلى الصلاةِ مُحْدِثين؛ إذ لا وضوء على غير المحدث، وإن كان قال به جماعةٌ قالوا: وَيَدُلُّ على هذه الحال المحذوفة مقابلتها بقوله: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} ، فكأنه قيل: إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا كذا، وامْسَحُوا كذا، وإن كنتم محدثين [الحدث الأكبر] فاغْسِلُوا الجسد كُلَّهُ. قال شهابُ الدِّين: فيه نظر. فصل هل الأمر بالوضوء تكليف مستقل؟ قال قوم: الأمر بالوضوء ليس تكليفاً مستقلاً بنفسه، لأنَّ قوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 217 الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ} جملة شرطية، الشَّرط فيها القيام إلى الصلاة، والجزاء الأمر بالغسل، والمعلَّق على الشيء بحرف الشرط [يعدم عند] عدم الشَّرط، فاقتضى أن الأمر بالوضوء تبع للأمر بالصَّلاة. وقال آخرون: المقصُودُ من الوضوء الطَّهارة، والطَّهارة مقصودة بذاتها لقوله تعالى في آخر الآية: {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} ، ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: « [بُنِيَ] الدِّينُ على النَّظَافَةِ» ، وقال: «أمَّتِي غُرٌّ مُحَجَّلُونَ مِنْ أثَرِ الوُضُوء يَوْمَ القِيَامَةِ» . والأخبار الواردة في كون الوضوء سبباً لغفران الذنوب كثيرة. فصل قال دَاوُد: يجبُ الوضوء لكلِّ صلاة لظاهر الآية لأن قوله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} يقتضي العموم، [وقال أكثر الفقهاء: لا يجب] . قال الفقهاء كلمة «إذَا» لا تفيد العموم؛ لأنَّهُ لو قال لامرأته إذا دخلت الدار فأنت طالق، فدخلت مرة طُلِّقَتْ، فلو دخلت ثانية لم تطلق [ثانياً] وإذا قال السيِّد لعبده: إذا دَخَلْتَ السُّوقَ فادْخُلْ على فلان، وقل له كذا وكذا، فهذا لا يفيد الفعل إلا مرة واحدة. ويمكن أن يجاب بأنَّ التَّكاليف الواردة في القرآن مبناها على التَّكرير وليس الأمر كذلك في الصور التي ذكرتم فإن القرائن الظاهرة دلت على أنه ليس مبنى الأمر فيها على التكرير، وأما الفقهاء فاستدلوا على صحة قولهم بأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم الفتح صلّى صلوات كلّها بوضوء واحد، وجمع يوم الخندق بين أربع صلوات بوضوء واحد. وأجابَ داودُ بأنَّ خبر الواحد لا يَنْسَخُ القرآن، وقال قومٌ: هو أمر على طريق الجزء: 7 ¦ الصفحة: 218 النّدب، ندب من قام إلى الصلاة أن يجدِّدَ الطَّهَارَة وإن كان على طهرٍ لما روى عبد الله بن حنظلة بن عامر أنَّ رسُولَ الله - صلّى الله عليه وعلى آله وسلم - أمر بالوضوء عند كلِّ صلاة طاهراً، أو غير طاهر، فلما شقّ ذلك عليه أمر بالسّواك عند كل صلاة، وقال قوم: هو إعْلام من الله تعالى ورسوله أن لا وضوء عليه إلا إذا قام إلى الصَّلاة دون غيرها من الأعمال، فأذن له أن يفعل بعد الحدث ما بدا لَهُ من الأفعال غير الصلاة، كما روى ابن عبّاسِ «قال: كنا عند النّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرجع من الغائط، فأتي بطعام فقيل:» ألا تتوضأ، فقال: لَم أصَلِّ فأتَوضَّأ «. قوله سبحانه: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} . وحدُّ الوجه من [منابت الشَّعر] إلى منتهى الذقنِ طولاً، وما بين الأذنين عرضاً يجب غسل جميعه في الوُضوء، ويجب إيصال الماء إلى ما تحت الحاجبين، وأهداب العينين، والشّارب، والعذارِ، والعَنْفَقَةِ وإن كان كثيفه. وأما العَارِضُ واللِّحية وإن كانت كثيفة لا ترى البَشْرَة من تحتها لا يجب غسل باطنها في الوُضُوءِ، بل يجبُ غسل ظاهرها، وهل يجبُ إمرار الماء لما على ظاهر ما استرسل من اللحية عن الذَّقْنِ؟ . فقال أبُو حنيفة: لا يجب؛ لأنَّ الشَّعر النازل عن حدِّ الرَّأس لا يكون حكمه حكم الرأس في جواز المَسْحِ؛ كذلك النازِل عن حدِّ الوجه لا يكون حكمه حكم الوجه في وجوب غسله، وقال غيره: يجب إمرار الماء على ظاهره؛ لأنَّ الله تعالى أمَرَ بغسل الوَجْهِ، والوجهُ ما يقع به المواجهة، قال ابنُ عباسٍ: يجبُ غسل داخل العينين؛ لأنَّهُ من الوجه، وقال غيره: لا يجبُ للحرج. والمضمضة والاستنشاق يجبان في الوضوء. والغسلُ عند أحمد وإسحاق وعند الشَّافِعِيِّ لا يجبان بناء على أنهما من الباطِنِ، ولو نبت للمرأة لحية؟ وجب إيصال الماء إلى جلدَةِ الوجه، وإن كانت كثيفة. قوله [سبحانه] : {وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 219 في «إلى» هذه وجهان: أحدهما: أنَّها على بابها من انتهاء [الغاية] ، وفيها حينئذٍ خلاف. فقائل: إن ما بعدها لا يدخُلُ فيما قبلها. وقائل بعكس ذلك. وقائلٌ: لا تعرض لها في دخول ولا عدمه، وإنَّما [يدور] الدخول والخروج مع الدَّليل وعدمه. وقائل: إن كان ما بعدها من جنس ما قبلها [دخل] في الحكم، وإلاَّ فلا، ويُعْزَى لأبي العبَّاس. وقائل: إن كان ما بعدها من غير جنس ما قبلها لم يدخل، وإن كان من جنسه، فيحتمل الدخول وعدمه. وأوَّلُ هذه الأقوال هو الأصَحُّ عند النُّحاة. قال بعضهم: وذلك أنَّا حيث وجدنا قرينة مع «إلى» ، فإن تلك القرينة تقتضي الإخراج مما قبلها، فإذا ورد كلام مجرد عن القرائن، فينبغي أن يحمل على الأمر الفاشي الكثير، وهو الإخراج، وفرق هذا القائل بين «إلى» و «حتّى» فجعل «حتى» تقتضي الإدخال، و «إلى» تقتضي الإخراج بما تقدَّم من الدَّليل. [وهذه الأقوال دلائلها في غير هذا الكتاب، وقد أوضحتها في كتابي «شرح التسهيل» ] . والوجه الثاني: أنَّهَا بمعنى «مع» أي: مع المرافِقِ، وقد تقدَّمَ الكلامُ في ذلك عند قوله: «إلى أمْوالِكُمْ» . و «المرافِق» جمع «مَرْفِق» بفتح الميم وكسر الفاء على الفصيح من اللغة، وهو مِفْصَلٌ بين العَضُدِ والمِعْصَمِ. فصل ذهب أكثرُ العلماء إلى وجوب غسلِ اليديْنِ مع المرفقين والرجلين مع الكعبين. وقال مالكٌ والشعبيُّ ومُحمَّد بنُ جرير وزفَرُ: لا يجب غسلُ المرفقين والكعبين في اليد والرجّل؛ لأن حرف «إلى» للغاية، والحدّ لا يدخل في المحدود، وما يكون غاية للحكم يكون خارجاً عنه كقوله: {أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] . والجوابُ: أنَّ حدَّ الشيء قد يكون منفصلاً عن المحدود بمقطع محسوس، فها هنا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 220 يكون الحد خارجاً عن المحدود كقوله: {أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل} [البقرة: 187] فإنَّ النَّهار مُنفَصِلٌ عن الليل انفصالاً محسوساً، وقد لا يكون منفصلاً كقولك: «بعتك هذا الثوب من هذا الطرف إلى ذلك الطرف» ، فإن طرف الثوب غير منفصل عن الثوب بمقطع محسوس فإذا كان كذلك فامتياز المرفق عن السَّاعد ليس له مفصل معين؛ فوجب غسله. وثانياً: سلّمنا أنّ المرفق لا يجب غسله، إلاَّ أنَّ المرفقَ اسم لما جاوز طرف العظم؛ لأنَّهُ هو الذي يرتفق به أي يتَّكِئ عليه، ولا نِزَاع أنَّ ما وراء طرف العظم لا يجب غسله، قاله الزجاج. فصل في غسل ما أمكن مما هو دون المرفق فإن قطع ما دون المرفق؛ وجب غسل ما بقي؛ لأنَّ محل التكليف باقٍ وإن كان قطع مما فوق المرفق لم يجب؛ لأنَّ محلّ التّكليف زال، وإن كان قطع من المرفق؛ فقال الشافعي: يجب إمساسُ [الماء عند ملتقى العظمين؛ وجب مساس] لطرف العظم؛ لأنَّ غسل المرفق كان واجباً، وهو عبارة عن ملتقى العَظْميْنِ، فوجب إمساسُ الماء عند ملتقى العَظْمَيْنِ، وجب إمْسَاس لطرف العظم الباقي لا محالة. قوله عزَّ وعلا: {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} . في هذه «الباء» ثلاثةُ أوْجُه: أحدها: أنَّها للإلصاق، أي: ألصقوا المسح برؤوسكم. قال الزمخشريُّ: المرادُ إلصاق المَسْحِ بالرَّأسِ، وما مسح بعضه ومستوعبه بالمسح كلاهما مُلْصق المسح برأسه. قال أبو حيَّان: وليس كما ذكر، يعني أنَّهُ لا يطلق على [الماسح] بعض رأسه، أنَّهُ ملصق المسح برأسه، وهذا مُشَاحَّةٌ لا طَائِلَ تحتها. والثاني: أنها زائدة كقوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] . وقوله: [البسيط] 1932 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... لا يَقْرَأنَ بالسُّوَرِ وهو ظاهرُ كلام سيبويْهِ، فإنَّهُ حكى: خشَّنت صدره وبصدره، ومسحت رأسه وبرأسه، والمعنى واحد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 221 وقال الفرَّاءُ: تقول العربُ: خذ الخِطَامَ، و [خذ] بالخطام. وَهزَّ به، وخذ برأسه ورأسه. والثالث: أنَّها للتبعيضِ، كقوله: [الطويل] 1933 - شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ تَرَفَّعَتْ ..... ... ... ... ... ... . وهذا قول ضعيفٌ، وتقدَّم الكلامُ في ذلك في أول البسملة. فصل في ذكر الخلاف في القدر الواجب من مسح الرأس اختلف العلماء في قدر الواجب من مَسح الرَّأسِ، فقال مالكٌ وأحْمَدُ: يجب مسح جميع [الرأس كما يجب مسح جميع] الوجه في التيمم وقال أبو حنيفة: يجب مسح ربع الرَّأس. وقال الشافعيُّ: قدر ما يطلق عليه اسم المسح، واحتج الشافعيُّ بأنَّهُ لو قال مسحت بالمنديلِ، فهذا لا يصدق إلا عند مسحه بكلِّه، ولو قال: مسحتُ يدي بالمنديلِ، فهذا يكفي في صدقه مسح اليَدِ بجزء من أجْزَاءِ ذلك المنديل. فقوله [سبحانه] : {وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ} يكفي في العملِ به مَسْحُ اليد بجزء من أجْزَاء الرَّأسِ وذلك الجزء غير مقدّر في الآية، فإن قدَّرْناهُ بمقدار معين لم يتعين ذلك المقدار إلا بدليل غير الآية، فيلْزَمُ صيرورة الآية مجملة، وهو خلاف الأصل، وعلى ما قلناه تكونُ الآية مبينةٌ مفيدة، فهو أولى، ويؤيِّده ما روي عن المغيرة بن شُعْبَةَ «أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ توضأ فمسح بناصيته وعلى عمامته وخُفَّيْه» . وأجاز أحمد المسح على العمامَةِ، ووافقه الأوزاعيُّ [والنوويُّ] والثوريُّ، ومنعه غيره. وحمل الحديث على أنَّ فرض المسح سقط عنه بِمَسْحِ النَّاصية. فصل قال القرطُبِيُّ: لو غسل المتوضِّئ رَأسَهُ بدل المسح، قال ابن العربيِّ: لا نعلم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 222 خلافاً في أن ذلك يجزئه إلا ما نُقِلَ عن بعضهم أنَّ ذلك لا يجزئ. وهذا مَذهَبُ أهل الظَّاهر. فإن قيل: هذه زيادة خرجت عن اللَّفظ المتعبَّد به. قلنا: ولم يخرج عن معناه في إيصال الفعل إلى المحلّ، وكذلك لو مسح رأسه ثم حلقه لم يكن عليه إعادة المسح. قوله عزَّ وجلَّ: {وَأَرْجُلَكُمْ} . قرأ نافعٌ، وابن عامرٍ، والكسائيُّ، وحفص عن عاصم «أرْجُلَكُمْ» نَصْباً، وباقي السبعة «وَأرْجُلِكُمْ» جَرًّا. والحسن بن أبي الحسن «وَأرْجُلُكُمْ» رفعاً. فأمَّا قراءة النَّصْبِ ففيها تخريجان: أحدهما: أنها معطوفة على «أيْدِيكُم» ، فإن حكمها الغُسْل كالأوجه والأيدي. كأنه قيل: واغسلوا أرجلكم، إلا أن هذا التَّخريج أفسده بعضهم؛ بأنَّهُ يلزم منه الفصل بين المتعاطفين بجملة [غير] اعتراضية؛ لأنها منشئة حكماً جديداً، فليس [فيها] تأكيد للأول. وقال ابنُ عُصْفُورٍ - وقد ذكر الفصل بين المتعاطفين -: وأقبح ما يكون ذلك بالجمل، فدل [قوله] على أنه لا يجوز تخريج الآية على ذلك. وقال أبو البقاء عكس هذا، فقال: هو مَعْطُوفٌ على الوجوه، ثم قال: وذلك جائز في العربيّة بلا خلاف. وجعل السنّة الواردة بغسل الرِّجلين مقوية لهذا التخريج، فليس بشيء. فإنَّ لقائلٍ أن يقول: يجوز أن يكون النَّصب على محل المجرور [وكان حكمها المسح، ولكنه نسخ ذلك بالسُّنَّة، وهو قول مشهور العلماء. والثاني: أنه منصوب عطفاً على قبله] كما تقدم تقريره قبل ذلك. وأمَّا قراءة الجرِّ ففيها أربعة تخاريج: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 223 أحدها: أنها منصوب في المعنى عطفاً على الأيدي المغسولة، وإنَّمَا خفض على الجوار، كقولهم: هذا جُحْرُ ضَبٍّ خربٍ، بجر «خَربٍ» ، وكان حقه الرفع؛ لأنَّهُ صفة في المعنى ل «الجحر» لِصحة اتصافه به، والضَّب لا يوصف به، وإنما جره على الجوارِ. وهذه المسألة عند النَّحويين لها شرط، وهو أن يُؤمَنَ اللَّبْسُ كما تقدم تمثيله، بخلاف: قام غلامُ زَيْدٍ العاقِلُ، إذا جعلت العاقل نعتاً للغلام، امتنع جره على الجوارِ لأجل اللَّبْسِ. وأنشدوا - أيضاً - قول الشاعر: [البسيط] 1934 - كأنَّمَا ضَرَبَتْ قُدَّامَ أعْيُنِهَا ... قُطْناً بِمُسْتَحْصِدِ الأوْتَارِ مَحْلُوج وقول الآخر: [الوافر] 1935 - فإيَّاكُمْ وَحَيَّةَ بطنِ وَادٍ ... هَمُوزِ النَّابِ لَيْسَ لَكُمْ بِسِيِّ وقول الآخر: [الطويل] 1936 - كَأنَّ ثَبِيراً فِي عَرَانِينِ وَبْلِهِ ... كَبِيرُ أنَاسٍ في بِجَادٍ مُزَمَّلِ وقول الآخر: [الرجز] 1937 - كَأنَّ نَسْجَ العُنْكَبُوتِ المُرْمَلِ ... بجر «مَحْلُوج» وهو صفة ل «قطناً» المنصوب وبجر «هموز» ، وهو صفة ل «حية» المنصوب، وبجر «المُزَمِّل» وهو صفة «كبير» ؛ لأنَّه بمعنى المُلْتَف، وبجر «المُرْمَل» وهو صفة «نسج» ، وإنما جرت هذه لأجل المُجَاورة. وقرأ الأعمش: {إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين} [الذاريات: 58] بجر «المتين» مجاورة ل « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 224 القوة» وهو صفة ل «الرزاق» ، وهذا وإن كان وارداً إلا أن التخريج عليه ضعيفٌ لضعف الجوار من حيثُ الجملة. وأيضاً فإن الخفض على الجوار إنَّما وَرَدَ في النعت لا في العطف، وقد ورد في التوكيد قليلاً في ضرورة الشِّعْر. قال: [البسيط] 1938 - يَا صَاحِ بَلِّغْ ذَوِي الزَّوْجَاتِ كلِّهم ... أنْ لَيْسَ وَصْلٌ إذَا انْحَلَّتْ عُرَى الذَّنَب بجر «كلهم» وهو توكيدٌ ل «ذوي» المنصوب، وإذا لم يردا إلاَّ في النَّعت، وما شذَّ من غيره، فلا ينبغي أن يُخَرَّج عليه كتاب الله [تعالى، وهذا المسألة قد أوضحتها وذكرت شواهدها في «شرح التسهيل» ] ، وممن نص على ضعف تخريج الآية على الجوار مكي ابن أبي طالب وغيره. قال مكي، وقال الأخفشُ، وأبو عُبيدةَ: الخفضُ فيه على الجوارِ، والمعنى للغُسْلِ، وهو بعيد لا يُحْمَلُ القرآن عليه. وقال أبُو البقَاءِ: وهو الإعراب الذي يقال: هو على الجوار، وليس بممتنع أنْ يقع في القرآن لكثرته، فقد جاء في القرآن والشعر. فمن القرآن قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] على قراءة من جَرَّ وهو معطوف على قوله: {بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} [الواقعة: 18] وهو مختلف المعنى؛ إذ ليس المعنى يطوف عليهم ولدان مُخَلَّدون بحور عين. وقال النَّابِغَةُ: [البسيط] 1939 - لَمْ يَبْقَ إلاَّ أسيرٌ غَيْرُ مُنْفَلِتٍ ... أوْ مُوثقٍ في حِبَالِ الْقَوْم مَجْنُوبِ والقوافي مجرورة، والجِوَارُ مشهور عندهم في الإعراب [ثم ذكر أشياء كثيرة زعم أنها مقوية لمدّعاه منها قلب الإعراب] في الصفات كقوله تعالى: {عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} [ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 225 هود: 84] ، واليوم ليس بمحيطٍ، وإنَّما المحيط هو العذابُ. ومثله قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] ، وعاصف ليس من صفة اليوم بل من صفة الريح. ومنها قلب بعض الحُرُوفِ إلى بعض كقوله عليه السلام: «ارْجعْنَ مأزُورَاتٍ غَيْرَ مأجُورَاتٍ» ، والأصل: مَوْزُورات، ولكن أريد التَّوَاخي. وكذلك قولهم: [إنَّهُ] ليأتينا بالغدايا والعَشَايا، يعني أن الأصل بالغَدَاوى؛ لأنَّها من الغُدْوَة، ولكن لأجل ياء العشايا جاءت بالياء دون الواو. ومنها تأنِيثُ المذكَّرِ كقوله تعالى: {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] ، فحذف التاء من «عشر» ، وهي مضافة إلى «الأمْثَالِ» ، وهي مذكرة، ولكن لما جاورت الأمثال ضمير المؤنَّثِ أجري عليها حكمه، وكذلك قوله: [الكامل] 1940 - لمَّا أتَى خَبَرُ الزُّبَيْرِ تواضَعت ... سُورُ المدينَةِ والْجِبَالُ الْخُشَّعُ وقولهم: ذهبت بَعْضُ أصابعه يعني أن «سور» مذكرة، «وبعض» - أيضاً - كذلك، ولكن لما جَاوَرَوا المؤنث أعْطِيَا حكمه. ومنها: قامت هندُ لما لم يفصلوا، أتَوْا بالتَّاءِ، ولمَّا فصلوا لم يأتوا بها، ولا فَرْقَ إلا المجاورة وعدمها. [ومنها:] استحسانهم النَّصْبَ في الاشتغال بعد جملة فعليَّةٍ، في قولهم: قام زيد وعمراً كلمته لمجاورة الفعل. ومنها: قلبهم الواو المجاورة للظّرف همزة نحو: أوائل بخلاف طواويس لبعدها من مجاورة الظرف. قال: وهذا مَوضِعٌ يحتمل أن يكتب فيه أوراق من الشواهد، قد بوّب له النحويون له [باباً] ورتَّبُوا عليه مسائل، وأصَّلُوه بقولهم: هذا جُحْر ضبٍّ خَرِبٍ. [حتى] اختلفوا في جواز جرِّ التثنية والجمع، فأجاز الإتباع فيهما جماعة من حُذَّاقهم قياساً على المُفْرد المَسْمُوعِ، ولو كان لا وجه له بحال لاقتصروا فيه على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 226 المسموع فقطْ، ويتأيَّدُ ما ذكرناه أن الجرَّ في الآية قد أجيز غيره وهو الرّفع والنّصب، والرّفع والنّصب غير قاطعين ولا ظاهرين، على أن حكم الرِّجْلين المسح، فكذلك الجرّ يجب أن يكون كالنَّصْبِ والرفع في الحكم دون الإعراب. انتهى. قال شهاب الدين: أمَّا قوله: إنّ {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] من هذا الباب فليس بشيء؛ لأنَّهُ إمَّا أنْ يُقَدَّرَ عطفهما على ما [تقدَّم بتأويل] ذكره الناس كما سيأتي، أو بغير تأويل. وإما ألاَّ يعطفهما، [فإن عطفهما على ما تقدم، وجب الجر، وإن لم يعطفهما لم يجب الجر، وأمّا جرهما على ما ذكره الناس فقيل: لعطفهما] على المجرور بالياء قبلهما على تضمين الفعل المتقدم «يتلذّذون وينعمون بأكواب وكذا وكذا» . أو لا يُضَمَّن الفعل شيئاً، ويكون لطواف الولدان بالحور العين على أهل الجنَّةِ لَذَاذَةٌ لهم بذلك، والجوَارُ إنَّمَا يكون حيث يستحقُّ الاسم غير الجر، فيجر لمجاورة ما قبله، وهذا كما ترى قد صَرَّح هو أنَّهُ معطوف على «بأكواب» . غاية ما في الباب أنَّه جعله مختلف المعنى، يعني أن عنده لا يجوز عطفهما على «بأكْوَابٍ» إلا بمعنى آخر، وهو تضمين الفعل، وهذا لا يقدحُ في العطفية. وأمَّا البيتُ فجَرُّ «موثّق» ليس لجواره ل «منفلت» وإنَّما هو مراعاة للمجرور ب «غير» ؛ لأنَّهم نصوا على أنَّك إذا جئت بعد «غير» ومخفوضها يتابع جاز أن يتبع لفظ «غير» ، وأن يتبع المضاف إليه، وأنشدوا البيت، ويروى: [البسيط] 1941 - لَمْ يَبْقَ [فيها طَرِيدٌ] غَيْرُ مُنْفَلِتٍ ... أوْ موثقٍ في حِبَالِ الْقَوْمِ مَجْنُوبِ وأما باقي الأمثلة التي أوردها فليس من المجاورة التي تؤثر في التغيير، أي تغيير الإعراب، وقد تقدَّم أنَّ النَّحويين خصَّصوا ذلك بالنَّعت، وأنَّهُ قد جاء في التوكيد ضرورة. والتَّخْرِيج الثاني: أنَّهُ معطوف على «بِرءُوسِكُم» لفظاً ومعنى، ثم نسخ ذلك بوجوب الغسل، وهو حكم باقٍ، وبه قال جماعة، أو يحمل مسح الأرْجُلِ على بعض الأحوال، وهو لُبْسُ الخُفِّ، ويُعْزَى للشافعيِّ. التخريج الثالث: أنَّها جُرَّتْ مَنْبَهَةً على عدم الإسراف باستعمال الماء؛ لأنَّها مظنَّةٌ لصبِّ الماء [كثيراً] ، فعطفت على الممسوح، والمرادُ غسلها كما تقدّم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 227 وإليه ذهب الزمخشريُّ، قال: «وقيل: إِلَى الكعبين» فجيء بالغاية إمَاطَةً لظن ظَانٍّ يحسبهما مَمْسُوحَةً؛ لأنَّ المسح لم تُضْرَبْ له غاية في الشريعة. وكأنَّهُ لم يَرْتَض هذا القول الدافع لهذا الوَهْمِ، وهو كما قال. التخريج الرابع: أنها مجرورة بحرف جر مقدر، دَلَّ عليه المعنى، ويتعلّق هذا الحرف بفعل محذوفٍ أيضاً يليق بالمحلّ، فيُدَّعى حذف جملةٍ فعليةٍ وحَذْفُ حرف جر، قالوا: وتقديره: «وافعلوا بأرْجُلِكُم غَسْلاً» . قال أبُو البَقَاء: وحَذْفُ حرف الجَرِّ، وإبقاء الجرّ جائزٌ؛ كقوله: [الطويل] 1942 - مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرَةً ... وَلاَ نَاعِبٍ إلاَّ بِبَيْنٍ غُرَابُهَا وقال الآخر: [الطويل] 1943 - بَدَا لِيَ أنِّي لَسْتُ مُدْرِكَ مَا مَضَى ... ولا سَابِقٍ شَيْئاً إذَا كَانَ جَائِيَا فجر بتقدير الباء، وليس بموضع ضرورة. قوله: وإبقاء [الجرّ] ليس على إطلاقه، وإنَّما يطردُ منه مواضع نصَّ عليها أهل اللِّسَانِ ليس هذا منها. وأمَّا البيتان فالجرُّ فيهما عند النُّحَاةِ يسمَّى العطف على التوهُّم يعني كأنَّهُ توهم وجود الباء زائدة في خبر «لَيْسَ» ، لأنها يكثر زيادتها، ونظَّروا ذلك بقوله تعالى: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: 10] بجزْمِ «أكن» عَطْفاً على «فأصَّدقَ» على توهُّم سقوط الفاء من «فأصَدَّق» نص عليه سيبويه وغيره، فظهر فسادُ هذا التخريج. وأما قراءة الرَّفْع فعلى الابتداء، والخبرُ محذوفٌ، أي: وأرْجُلكم مغسولة، أو ممسوحة على ما تقدَّم في حكمها [والكلام] في قوله «إلى الكَعْبَيْنِ» كالكلام في «إلى المرفقين» . «والكَعْبَان» فيهما قولان [مشهوران] . أشهرهما: أنَّهُما العظمان الناتئان عند مفصل السَّاق والقَدمِ في كل رجل كعبان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 228 والثاني: أنَّهُ العظم النّاتئ في وجه القَدَمِ، حيث يجتمع شراك النَّعْلِ، ومراد الآية هو الأوَّل. والكَعْبَةُ، كُلُّ بيت مُرَبَّع، وسيأتي [بيانه] في موضعه إن شاء الله - تعالى -. فصل قد تقدَّم كلام النُّحاة في الآية. وقال المُفَسِّرون: من قرأ بالنصْب على تقدير: «فاغْسِلُوا وجوهكم، وأيديكم، واغسلوا أرجلكم» ومن قرأ بالجرِّ فذهب بعضهم إلى أنَّه يمسح على الرجلين. روي عن ابن عباس أنَّه قال: «الوُضُوء غَسْلتَانِ وَمَسْحَتَانِ» ، ويروى ذلك عن عكرمة وقتادةَ. قال الشَّعبيُّ: نزل جبريل بالمسحِ، وقال: ألا ترى التيمُّمَ ما كان غسلاً، ويلقى ما كان مسحاً. وقال مُحَمَّدُ بْنُ جرير: يتخيرُ المتوضئ بين المسح على الخفين وبين غسل الرجلين، وذهب جماعةُ من أهل العلم من الصحابَةِ والتابعين وغيرهم إلى وجوب غسل الرجلين، وقالوا: خفض اللام في الأرجل على مجاورة اللفظ لا على موافقة الحكم كقوله: {عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ} [هود: 26] ، فالأليم صفة العذاب، ولكنَّه جرّ للمجاورة كقولهم: «جُحْرُ ضَبٍّ خَرِب» . ويدلُّ على وجوب غسل الرِّجلين ما روى عبد الله بن عمرو، قال: «تخلفَ عنا رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في سفر سافرناهُ، فأدركناه وقد راهقتنا صلاة العصر ونحن نتوضّأ، فجعلنا نمسحُ على أرْجُلِنَا، فَنَادَانَا بأعلى صوته:» وَيْلٌ للأعْقَابِ مِنَ النَّار «. والأحاديثُ الواردة في صفة وضوء النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كثيرة، وكلهم وصفوا غسل الرجلين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 229 وقال بعضهم: أراد بقوله «وأرْجلكُم» : المسح على الخفين، كما رُوي أنَّ النَّبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - «كَانَ إذا رَكَع وضَعَ يَدَهُ على رُكْبَتَيْهِ» ، وليس المرادُ منه أنَّهُ لم يكن بينهما حائل، ويقالُ: قبَّلَ فلان رأس الأمير ويده، وإنْ كانت العمامة على رأسِهِ ويده في كمه فالواجب في غسل أعضاء الوضوء هذه الأربعة. فصل: حكم النيّة في الوضوء اختلفوا في وجوب النية فذهب أكثر العلماء إلى وجوبها لأن الوضوء عبادة فيفتقر إلى النية كسائر العباداتِ، ولقوله عليه السلام: «إنَّما الأعْمَالُ بالنيَّات» وذهب النووي وأصحاب الرّأي إلى عدم وجوبها. فصل [حكم الترتيب] واختلَفُوا في وجوب الترتيب وهو أن يغسل أعضاءه على التَّرْتيب المذكور في الآية فذهب مالكٌ والشافعيُّ، وأحمد وإسحاق إلى وجوبه، ويروى ذلك عن أبي هريرة، واحتجُّوا بقول الله تعالى: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} فاقتضى وجوب الابتداء بغسل الوجه؛ لأنَّ الفاء للتّعقيب، وإذا أوجب الترتيب في هذا العضو؛ وجب في غيره، إذ لا قائل بالفرق. [قالوا: فاء التعقيب إنما دخلت] في جملة هذه الأعمال، فجرى [الكلام] مجرى قوله: إذا قُمتمْ إلى الصلاةِ، فأتوا بمجموع هذه الأفعال. قلنا: فاء التّعقيب إنّما دخلت على الوجه لالتصاقها بذكر الوجه، وبواسطة دخولها على الوجْهِ، دخلت على سائر الأفعالِ، فكان دخولها على الوجه أصل، ودخولها على المجموع تبع لدخولها على غسل الوجه، فنحنُ اعتبرنا دلالة الفاء في الأصْلِ، واعتبرتموها في التبع، فكان قولنا أولى. وأيضاً فقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «ابْدَءوا بما بَدَأ اللَّهُ بِه» يقتضي العموم، وأيضاً فإهمال الترتيب في الكلام مستقبح فيجب تنزيه كلام الله تعالى عنه، وكونه تعالى أدرجَ ممسوحاً بين مغسولَيْن، وقطع النّظير عن النظير، يدلُّ على أنَّ التَّرتيب مراد. وأيضاً فإن وجوبَ الوضُوءِ غير معقول المعنى؛ لأنَّ الحدث يخرج من موضع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 230 والغسل يجب في موضع آخر، وأعضاء المحدث طَاهِرَةٌ، لأنَّ الميت لا ينجس حيّاً ولا ميتاً، وتطهير الطَّاهر محالٌ. وأقيم التيمم مقام الوضوء وهو ضدّ النظافة والوضاءة، وأقيم المَسْح على الخفين مقام الغسل، وذلك لا يفيدُ في نفس العُضْوِ نظافة ألْبَتَّةَ. والماء [العَفِن] الكَدِرُ يفيد الطَّهارة، وماء الورد لا يفيدها، وإذا كان غير معقول المعنى وجب الاعتماد فيه على مورد النَّصِّ لاحتمال أن يكون الترتيب المذكور إما لمحض التعبد، أو لحكمة خفية لا نعرفها، ولهذا السّبب أوجبنا الترتيب في أركان الصلاة، وذهب جماعة منهم أبو حنيفة إلى أن الترتيب ليس بواجب، قالوا: لأنَّ ذلك زيادة على النَّصِّ فلا يجوز؛ لأنَّه نَسخٌ. والواوات المذكورة [في الآية للجمع] لا للترتيب كالواوات في قوله: {إِنَّمَا الصدقات} الآية [التوبة: 60] . واتفقوا على أنه لا يجب الترتيب في صَرْفِ الصَّدقاتِ، فكذلك هنا. وأجيبوا بأن قولهم: الزيادة على النّص نسخٌ، ممنوع على قيد في علم الأصول. وأمَّا الصَّدقات: فلم يرو عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّهُ راعى التّرتيب فيها. وفي الوُضُوءِ لم ينقل أنَّهُ توضَّأ إلا مرتباً، وبيان الكتاب يؤخذ من السُّنَّةِ، قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] وقال [الله] تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ اركعوا واسجدوا} [الحج: 77] ، ولم ينقل عن النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أنه قدم السُّجود على الرُّكوع، بل راعى الترتيب، فكذلك هاهنا. فصل حكم المولاة الموالاة أوجبها مالكٌ وأحْمَدُ، وقال أبو حنيفة والشَّافِعيُّ [في الجديد] ليست شرطاً لصحة الوُضُوء. فصل لو كان على وجهه أو بدنه نجاسة فغسلها أو نوى الطَّهارة عن الحدث بذلك الغُسْلِ، فقال بعض العلماء: يكفي لأنَّه أمر بالغسل، وقد أتى به، فيخرج عن العهدة، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» فيجب أن يحصل له المنوي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 231 فصل لو وَقَفَ تحت ميزاب حتى سال عليه الماء، ونَوَى رفْع الحدثِ، فقيل: لا يَصِحُّ؛ لأنه أمر بالغسلِ، والغَسْلُ عملٌ وهو لم يَأتِ بالعَملِ، وقيل: يَصِحُّ؛ لأنَّ الغَسْلَ عِبارَةٌ عن الفِعْلِ المُفْضِي [إلى الانغسال] وُوُقُوفُهُ تَحْتَ الميزَابِ فعلٌ مُفْضٍ إلى الاغتسال، فكان غُسْلاً. فصل إذا غَسَلَ هذه الأعْضَاء ثم بعد ذلك تَقَشَّرَت الجلْدَة عنها، فَمَا ظَهَر من تحت الجلْدَة غير مَغْسُولٍ، فالأظْهَرُ وجُوب غَسْلِهِ؛ لأنَّه تعالى أمَرَ بِغَسْلِ هذه الأعْضَاءِ، وذلك الموْضِعُ غير مَغْسُول، إنَّما المغْسُول هو الجِلْدَة التي زَالَت. فصل لو أخَذَ الثَّلْج وأمَرَّه على هذه الأعْضَاءِ، فإن كان الهَوَاءُ حَارًّا يُذيبُ الثَّلْجَ ويُسِيلُهُ جاز وإلا فلا، خِلافاً للأوْزَاعِي. لنا: أنَّ هذَا لا يُسَمَّى غُسْلاً، فأُمِرَ بالغسْلِ. فصل في التسمية في الغسل التَّسْمِيَةُ في أوَّل الغسل والوُضُوءِ: قال أحْمَد وإسْحَاق: واجِبَةٌ. وقال غَيْرُهُما: هي سُنَّةٌ؛ لأنَّهَا لَيْسَت مَذْكُورة في الآيَةِ، واسْتَدلُّوا عليه بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا صَلاَة إلاَّ بِوُضُوءٍ، ولا وُضُوءَ لِمَن لم يَذْكُرِ اسْمَ الله عليْه» . قوله - سبحانه -: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} . قال الزَّجَّاج: مَعْنَاهُ تَطَهَّرُوا؛ لأن «التَّاء» تُدْغَمُ في «الطَّاءِ» ؛ لأنَّهُمَا من مَكَانٍ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 232 واحِدٍ، فإذا أدْغِمت «التَّاء» في «الطَّاء» سُكِّنَ أوَّلُ الكَلِمَة فَزيدَ ألِفُ وصْلٍ ليُبْتَدَأ بها، فَقِيل: «اطَّهَّرُوا» . ولمَّا ذَكَر تعالى كَيْفِيَّة الطَّهَارَةِ الصُّغْرَى، ذكر بعدَهَا الطَّهارة الكُبْرَى، وهي الغُسْلُ من الجَنَابَةِ. ولمَّا كانت الطَّهَارَةُ الصُّغْرى مَخْصُوصَة ببعض الأعْضَاءِ، لا جَرَم ذكر تِلْكَ الأعْضَاء على التَّعْيين، ولما كانت الطَّهَارَةُ الكُبْرَى في كُلِّ البَدَنِ أُمِرَ بها على الإطْلاَقِ. رَوتْ عَائِشَةُ أنَّ النَّبيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - كان إذا اغْتَسَل من الجَنَابَةِ بَدَأ فَغَسَل يَدَيْهِ، ثم تَوَضَّأ كما يتوَضَّأ للصَّلاة، ثم يُدْخِلُ أصَابِعَهُ في الماءِ فَيُخَلِّل بها أصُولَ شَعْرِهِ، ثم يَصُبُّ المَاءَ على رَأسِهِ ثلاثَ غَرْفَاتٍ بيدهِ، ثم يَفيضُ الماءَ عَلى جِلْدِهِ كُلِّهِ. فصل قال القُرْطُبِي: قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فاطهروا} أمر بالاغْتِسَالِ بالمَاءِ، وكذلك رأى عُمَرُ وابْنُ مَسْعُودٍ: أنَّ الجُنُبَ لا يَتَيَّممُ ألْبَتَّةَ، بل يَدَعُ الصَّلاة حتى يَجِد المَاءَ، وهذا يَرُدُّهُ قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «وجُعِلَ لِيَ الأرْضُ مَسْجِداً وتُرَابُها طهُوراً» وقوله: «التُّرَابُ طهُورُ المُسْلِمِ، ما لم يَجِدِ المَاءَ عَشْرَ سِنين» ، وحديثُ عُبَادة، وحديثُ عمرَان بن الحصين أنَّ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - رأى رَجُلاً معهُ ماء لم يصلّ في القومِ الحديث. فصل ولِحُصُولِ الجَنَابَةِ سَبَبَانِ: الأوَّلُ: نُزُول المَنِيِّ، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّما الماءُ من المَاءِ» . والثاني: في التِقَاءِ الختانَيْنِ، وقال زَيْدُ بن ثابتٍ، ومُعاذ [وأبو سعيد الخُدْرِي:] لا يَجِبُ الغُسْلُ إلاَّ عِنْد نُزُولِ المَاءِ. لنا: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إذا الْتَقَى الخِتَانَان وجَبَ الغُسْلُ وإنْ لَمْ يُنْزِلْ» ، وختانُ الرَّجُلِ: هو المَوْضِعُ الذي يقطع منه جِلْدَة القلفَةِ، وأما خِتَانُ المرْأةِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 233 فَشَفْرَان مُحِيطَانِ بِثَلاثَةِ أشْيَاء: ثُقْبَةٌ في أسْفَلِ الفَرْجِ وهو مَدْخَلُ الذَّكَرِ ومَخْرَجُ الحَيْضِ والولدِ، وثُقْبَةُ [أخْرَى] فَوْقَ [هذه] مثل إحْلِيلِ الذَّكَرِ وهي مَخْرجُ البَوْلِ لا غير، [وفوق] ثُقْبَة البَوْل مَوْضِعُ خِتَانِهَا، وهُنَاكَ جِلْدَةٌ رَقيقَةٌ قَائِمَةٌ مِثْل عُرْف الدِّيك، وقَطْعُ هذه الجِلْدةِ هُو خِتَانُها، فإذا غَابَتِ الحَشْفَةُ حتى حَاذَى خِتَانُهُ خِتَانها، فَقَدْ وَجَبَ الغُسْلُ. فصل في حكم الدلك الدَّلْكُ غير واجبٍ؛ لأنَّه لم يُذْكَر في الآيةِ، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما سُئِلَ عن الاغْتِسَالِ من الجنابَةِ - قال: «أمَّا أنَا فأحْثِي على رَأسِي ثلاثَ حَثَيَاتٍ فأنَا قد طَهُرْت» ولم يَذْكُر الدَّلْك. قال مالكٌ: هُوَ وَاجِبٌ. فصل والمَضْمَضَةُ والاسْتِنْشَاقُ واجبانِ في الغُسْلِ عِنْد أبِي حَنِيفَة وأحْمد، وقال الشَّافِعِيُّ: لا يَجِبَانِ؛ لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «أمَّا أنَا فأحْثِي على رَأسِي ثلاثَ حَثَيَاتٍ» ولمْ يَذْكُرْهُمَا، واحتَجَّ الأوَّلُون بقوله: «فاطَّهَّرُوا» فأمر بِتَطهِير جَمِيع الأجْزَاءِ وترك العَمَل به في الأجْزَاء البَاطِنَة لتعذُّرِ تَطْهِيرها، وداخِلِ الأنْفِ والفَمِ يُمْكِنُ تَطْهِيرُها فدخَلا تَحْتَ النَّصِّ، وبِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «بلُّوا الشَّعْرَ وانْتِفُوا البَشَرة، فإنَّ تَحْتَ كلِّ شَعْرةٍ جَنَابَة» ، فيدخل الأنْفُ؛ لأنَّ في داخِلِهِ شَعْرٌ، وقوله: «وانتفِوا البَشَرة» يَدْخُلُ فيه جِلْدَة داخل الفَمِ؛ لأنَّ حُكْمَهَا حُكْمُ الظَّاهِرِ بحيث لَوْ وُضِعَ في فَمهِ لم يفطر، ولوْ وضع فيه خَمْراً لم يُحَدَّ. والأكثَرُون على عَدَمِ وُجُوبِ التَّرْتيبِ في الغُسْلِ، وقال إسحاق: يَجِبُ البَدَاءَةُ على البَدَنِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 234 قوله تعالى: {وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} . قال مَكِّي: من جعل الصَّعيد: الأرْضَ، أو وَجهَ الأرْضِ نصب «صعيداً» على الظَّرْف، ومنْ جَعَل الصَّعيد: التُّرَاب نَصَبَ على أنَّهُ مَفْعُولٌ به، حذف مِنْهُ حرف الجَرِّ: بِصَعِيدٍ، و «طَيِّباً» نَعْتُهُ، أي: نَظِيف. وقيل: طيِّباً مَعْنَاهُ: حَلالاً، فَيَكُون نَصْبُهُ على المَصْدَرِ، أو على الحَالِ. فصل وهذا يَدُلُّ على جَوَازِ التَّيَمُّم للمَرِيضِ، ولا يُقَال: إنَّه شَرَط فيه عَدَمَ المَاءِ؛ لأنَّ عدم المَاءِ يُبِيحُ التَّيَمُّمَ بِغَيْرِ مَرَضٍ، وإنَّما يَرْجِع قوله: {فَلَمْ [تَجِدُواْ] مَآءً فَتَيَمَّمُواْ} إلى المُسَافِر. والمَرضُ ثلاثةُ أقْسَامٍ: أحدها: أن يَخَافَ الضَّرَر والتَّلَفَ باسْتِعْمَال الماءِ، فهذا يجُوزُ له التَّيَمُّم بالاتِّفَاقِ. والثاني: ألاَّ يخافَ الضَّرَرَ [ولا] التَّلَفَ، فقال الشَّافِعِيُّ: لا يجُوزُ له التَّيَمُّمُ، وقال مالِكٌ وأبُو حَنِيفَة: يجُوزُ لِقَوْلِهِ: {وَإِن كُنتُم مرضى} . الثَّالِثُ: أنْ يَخَافَ الزِّيَادَةَ في العِلَّةِ، وبُطْءَ البرءِ، فيجوزُ لَهُ التَّيَمُمُ عند أحْمد، وفي أصَحِّ القَوْلَيْن للشَّافِعِيِّ، وبه قال مالكٌ وأبو حنيفة، فإن خَافَ بقاء شين في العُضْوِ، فقال بَعْضُهُم: لا يَتَيممُ، وقال آخَرُون: يتَيممُ وهو الصَّحِيحُ. فصل يجوز التيمم في السَّفَرِ القَصِيرِ، للآيَة، وقال بَعْضُهُم: لا يجوزُ؛ إذا كان مَعَهُ مَاءٌ وحيوانٌ مُشْرِفٌ على الهَلاك جَازَ له التَّيَمُّمُ، ووَجَب صَرْفُ المَاء إلى [ذَلِكَ] الحَيَوان. فصل فإن لَمْ يكنْ مَعَهُ ماءٌ، وكان مع غيره، ولا يُمْكِنه أن يشْتَرِيَهُ إلاَّ بالغَبْنِ الفَاحِشِ جَازَ لَهُ التَيمُّم، لقوله: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ} [الحج: 78] ، فإن وَهَبَ منه ذلك الماء، فقيل: لا يَجِبُ قُبُولُه لِمَا فِيهِ مِن المنَّة، فإن أُعِير [منه] الدَّلْو والرشاء، فقال الأكْثَرُون: لا يَجُوزُ لَهُ التَّيَمُّمُ لِقِلَّةِ المِنَّة في هَذِه العَادَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 235 فصل إذا جَاءَ من الغَائِط وَجَب عَلَيْه الاستنْجَاءُ، إمَّا بالحَجَارَةِ، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «فليَسْتَنْجِ بِثَلاثَةِ أحْجَارٍ» . وقال أبُو حَنِيفَة: لا يَجِبُ؛ لأنَّهُ تعالى أوْجَبَ عِندَ المَجِيءِ مِن الغَائِطِ الوُضُوءَ والتَّيَمُّمَ؛ ولم يُوجِبْ غُسْلَ مَوْضِعِ الحَدَثِ. [فصل انتقاض وضوء اللامس والملموس ظاهِرُ قوله {أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء} يَدلُّ على انتقاضِ وضوء اللاَّمس، وأمَّا انتقاض وضوء الملمُوس فَغَيْرُ مَأخُوذٍ من الآيَة، وإنَّما أُخِذَ من الخَبَرِ أو مِن القياسِ الجَليِّ] . فصل يَجُوزُ الوُضُوءُ بِمَاء البَحْرِ، وقال عَبْدُ الله بن عَمْرو بن العاصِ: «لا يَجُوزُ بل يَتَيممُ» . ولنَا: أنَّ التَيَمُّمَ شَرْطُهُ عدم المَاءِ، ومن وَجَدَ مَاءَ البَحْرِ فإنَّهُ واجِدٌ لِلمَاءِ. فصل قال أكثرُ العُلَمَاء: لا بُدَّ في التَّيَمُّمِ من النِّيَّةِ؛ لأنَّ التَّيَمُّمَ عِبَارَةٌ عن القَصْدِ، وقال زفر: لا تَجِبُ. فصل في الخلاف في حد تيمم المرفقين قال الشَّافِعِيُّ وأبو حنيفة: [التيمُّمُ] في اليَدَيْن إلى المِرْفَقَيْنِ، وعن عَلِيٍّ وابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - إلى الرُّسْغَيْنِ، وعن مَالِكٍ وغيرِهِ إلى الكُوعَيْن، [وعن] الزُّهرِي إلى الآبَاطِ. فصل في وجوب استيعاب العضو بالتراب يجب اسْتِيعَابُ العُضْوين في التَّيَمُّمِ، ونَقَل الحسنُ بنُ زِيادٍ عن أبِي حنيفة: إذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 236 يَمَّمَ الأكْثَر جَازَ؛ لأن «البَاء» في قوله: «بِرُؤوسِكُمْ» يَقْتَضِي مَسْحَ البَعْضِ، فكذا هَاهُنَا. فصل في صفة التراب إذا لَمْ يَكُن لِلتُّرابِ غُبَارٌ يَعْلَقُ بالْيَدِ لم يَجُزِ التَّيَممُ به وهو قَوْل الشَّافِعِيِّ وأبي يُوسُف، وقال أبُو حَنيفَة ومالِكٌ: [يجزئه، وقال الشافعي: لا يجُوزُ التِّيَمُّمُ إلا بالتُّرَابِ الخَالِصِ، وقال أبو حنيفَة] : يَجُوزُ بالتُّرَاب وبالرَّمْلِ وبالخَزَفِ المَدْقُوقِ والجَصِّ والمدر والزَّرنِيخ. لنا: ما روى ابْنُ عبَّاسٍ أنه قال: «الصَّعِيدُ هُو التُّرَابُ» . فصل لو وَقَفَ في مَهَبِّ الرِّيَاحِ، فَسَفَتْ عليه التُّرابَ وأمَرَّ يَدَهُ [عليه] أوْ لَمْ يُمِرَّهَا، فظَاهِرُ مَذْهَب الشَّافِعِيّ أنَّهُ لا يَكْفي. وقالَ بَعْضُ المُحَقِّقين: إنَّهُ لا يَكْفِي؛ لأنَّهُ قَصَدَ اسْتِعْمال الصَّعيدِ في أعْضَائِهِ. فصل قال الشَّافِعِيُّ وأحمَد: لا يجُوز التَيَمُّمُ إلا بَعْدَ دُخُول الوَقْتِ، لقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} [والقِيَامُ إلى الصلاة] لا يكُونُ إلاَّ بَعْدَ دُخُولِ وقتها. فصل إذَا ضَرَب ثَوْباً فارْتَفَع مِنْهُ غُبَارٌ، فقال أبُو حنيفة: يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِهِ، وقال أبُو يُوسف: لا يَجُوزُ. فصل لا يُجُوزُ التَّيَمُّمُ بتُرَابٍ نَجِسٍ، لقوله تعالى: {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} والنَّجِسُ لا يكُونُ طيِّباً. وفُرُوع [التَّيَمُّم] كثيرة مَذْكُورَةٌ في كُتُبِ الفِقْهِ. قوله - سبحانه - «مِنْهُ» في مَحَلِّ نَصْبٍ مُتَعَلِّقاً ب «امْسَحُوا» ، و «مِنْ» فيها وجهان: أظْهَرُهُمَا: أنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 237 والثاني: أنَّها لابْتِدَاء الغَايَةِ، ولهذا لا يُشْتَرَطُ عند هؤلاءِ أنْ يتعلَّقَ [باليَدِ] غُبَارٌ. وقوله تعالى: «لِيَجْعَلَ» : الكلام في هذه «اللاَّم» كالكلام عَلَيْهَا في قوله {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] ، إلا أنَّ مَنْ جَعَل مَفْعُولَ الإرَادَةِ مَحْذوفاً، وعلَّق به «اللاَّم» من «لِيَجْعَلَ» زاد «من» في الإيجَابِ في قوله: «مِنْ حَرَجٍ» ، وسَاغَ ذَلِكَ؛ لأنَّهُ في حَيِّزِ النَّفْي، وإنْ لَمْ يَكُنِ النَّفْي واقعاً على فِعل الحَرَجِ، و «مِنْ حَرَجٍ» مَفْعُولٌ «لِيَجْعَلَ» . و «الجَعْلُ» : يحتمل أنَّهُ بمعنى الإيجَادِ والخَلْقِ، فَيَتَعَدَّى لواحد وهو «مِنْ حَرَجٍ» و «من» مزيدة فيه كما تقدَّم، ويتعَلّق «عَلَيْكُم» حينئذٍ بالجَعْلِ، ويجُوزُ أن يتعلَّق ب «حَرَجٍ» . فإن قِيلَ: هُو مَصْدَرٌ، والمَصْدَرُ لا يَتَقَدَّم معمولُه عليه، قيل: ذلك في المَصَدرِ المُؤوَّلِ بحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وفعل، لأنه بِمَعْنَى المَوْصُول، وهذا لَيْسَ مُؤوَّلاً بِحَرْف مَصْدَرِيٍّ، [ويجُوز أن يكون الجَعْلُ بِمَعْنَى التَّصْيير] ، فَيَكُون «عَلَيْكُم» هُوَ المَفْعُول الثَّانِي. فصل في معنى الآية المَعْنَى {مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم} : بما فَرَضَ من الوُضُوء والغُسْلِ والتَّيَمُّمِ، «من حَرَجٍ» : من ضِيق، «ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ» : من الأحْدَاثِ والجَنَابَات والذُّنُوبِ. فصل قالت المعتزِلَةُ: دلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ الأصْلَ في المضارِّ ألاَّ تكون مَشْرُوعَةً، فإنَّه تعالى ما جعل عَلَيْنَا في الدِّين مِنْ حَرَجٍ، وقال تعالى: {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة: 185] ، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا ضَرَرَ ولا ضِرَارَ في الإسلام» وأيْضاً فَدَفْع الضَّررِ مُسْتَحْسَنٌ في العُقُول، فوجَبَ أن يَكُونَ كَذَلِكَ في الشَّرع. قوله - سبحانه -: {ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} . اخْتَلَفُوا في تَفْسِير هذا التَّطْهِير، قال جُمْهُور الحَنفيَّةِ: إنَّ عند خُرُوجِ الحَدَثِ تنجس الأعْضَاءُ نَجاسَةً حُكْمِيَّةً، والمَقْصُود من هذا التَّطْهِير إزَالَةُ [تلك] النجاسَةِ الحُكْمِيَّةِ، وهذا بَعِيدٌ لِوُجُوه: إحداها: قوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] ، وكَلِمَةُ «إنَّما» للِحَصْر، وهذا يَدُلُّ على أنَّ المُؤمن لا تَنْجُسُ أعْضَاؤُه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 238 وثانيها: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «المُؤمِنُ لا تَنْجُسُ أعْضَاؤُه لا حَيَّا ولا مَيِّتاً» . وثالثها: أجمَعَتِ الأمَّةُ على أنَّ بَدَن المُحْدِثِ لو كَانَ رَطْباً، فأصَابَهُ ثَوْبٌ لَمْ يَنْجس الثَّوْب، ولَوْ حَمَلَهُ إنْسَانٌ وصَلَّى به لم تفسد صلاتُه. ورابعها: لو كان الحدثُ يُوجِبُ نجاسَةُ الأعْضَاءِ، ثم كَانَ تَطْهِيرُ الأعْضَاءِ الأرْبَعَة يُوجِبُ طَهَارة كُل الأعْضَاء، لوَجَبَ ألاَّ يَخْتَلِفَ ذَلِكَ باخْتِلاَف الشَّرَائِعِ، والأمْرُ لَيْس كذلِكَ. وخامسها: أنَّ خُروج النَّجَاسَةِ من مَوْضِع، كيف يُوجِبُ تَنَجُّسَ مَوضِعٍ آخَر؟ . وسادسها: أنَّ المَسْح على الخُفَّيْنِ قَائِمٌ مقَامَ غَسْلِ الرِّجْلَيْن، ومَعْلُومٌ أنَّ هذا لا يُزِيلُ شَيْئاً ألْبَتَّةَ عن الرِّجْلَين. وسابعها: أنَّ الذي يُرَاد زوالُهُ إنْ كانَ جِسْماً، فالحسّ يَشْهَدُ ببُطْلاَن ذلك، وإنْ كان عَرَضاً فَهُوَ مُحَالٌ، لأنَّ انتِقَالَ الأعْرَاضِ مُحَالٌ. القولُ الثاني: أنَّ المُرَادَ به التَّطْهِير من المَعَاصِي والذُّنُوب، وهو المُرَادُ بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إذَا تَوَضَّأ العَبْدُ خَرَجَتْ خَطَايَاهُ من وَجْهِهِ وكذا يَدَيْهِ ورَأسِهِ ورِجْلَيْه» . وقوله تعالى: {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} . قال مُحَمَّد بن كَعْبٍ: إتمَامُ النِّعْمةِ تَكْفِيرُ الخَطَايَا بالوُضُوءِ، وهَذَا الكَلاَمُ مُتَعَلِّق بما ذَكَرَهُ أوَّل السّورةِ من إبَاحَةِ الطَّيِّبَاتِ من المَطَاعِم والمَنَاكِح، ثُمَّ بَيَّن بَعْدَه كَيْفِيَّة فَرْضِ الوُضُوءِ، كأنَّهُ قال: إنَّما ذَكَرْت ذلِكَ لتتمَّ النَّعْمَة المَذْكُورَةُ أوَّلاً، وهِيَ نِعْمَةُ الدُّنْيَا، وهذه النِّعْمَةُ المَذْكُورة الثَّانِيَةُ وهي نِعْمَة الدِّين. وقيل: المُرادُ {لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} بالرخص بالتِّيَمُم، والتَّخْفِيفِ في حالِ المَرَضِ والسَّفَر، فاسْتَدَلُّوا بذلك على أنَّه تعالى يُخَفِّفْ عَنْكُمْ يَوْمَ القيامةِ، بأنْ يَعْفُوَ عَنْ ذُنُوبِكُمْ. ويَتَجَاوَز عَن سَيِّئَاتِكُمْ. قوله - جلا وعلا -: «عَلَيْكُم» فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ: أظهرُهَا: أنَّهُ مُتَعلِّقٌ ب «يُتِمّ» . والثاني: أنَّهُ مُتعلِّق ب «نِعْمَتِهِ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 239 والثالث: أنَّهُ مُتَعلِّقٌ بمحذُوفٍ على أنَّهُ حالٌ من «نِعْمَتِهِ» . ذكر هَذَيْن الوَجْهَيْنِ الأخِيرَيْن أبُو البَقَاءِ، وهَذِه الآيَةُ بِخِلاف التي قَبْلَها [في قوله] : {وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: 3] ، حَيْثُ امْتَنَعَ تَعَلُّقُ الجَارِّ بالنِّعْمَةِ؛ لتَقَدُّم مَعْمُول المصْدَر [عليه] كما تَقَدَّم بَيَانُهُ. قال الزَّمَخشَرِيُّ: وقُرِئَ «فأطْهِرُوا» أي: أطْهِرُوا [أبْدَانَكُمْ] ، وكَذِلِكَ «لِيُطْهِرَكُمْ» ، يعني: أنَّهُ قُرِئَ «أطْهِرُوا» أمْرٌ من «أطْهِرْ» رُبَاعِيّاً ك «أكْرِمْ» ، ونسب النَّاسُ القِرَاءَةَ الثَّانِية، أعني قوله: «لِيُطْهِرَكُم» لسَعِيدِ بن المُسَيِّب. ثم قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، والكَلاَمُ في لَعَلَّ مَذْكُور في البقرة عند قوله {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 قوله - سبحانه -: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} الآية. لما ذَكَر التَّكَالِيفُ أرْدَفَهُ بما يُوجِبُ عَلَيْهِمْ القبُول والانْقِيَاد، وذلك مِن وَجْهَيْن: الأوَّلُ: كَثْرَةُ نِعَم اللَّهِ عَلَيْهِم؛ لأنَّ كَثْرَة النِّعَمِ تُوجِبُ على المُنْعِمِ عَلَيْه الاشْتِغَالَ بِخِدْمَةِ المُنْعمِ، والانْقِيَاد لأوَامِرِه ونَوَاهِيه. وقال: «نِعْمَةَ اللَّه» ولمْ يَقُلْ «نِعَم اللَّهِ» ؛ لأنَّ هذا الجِنْسَ لا يَقْدِرُ عَلَيْه غير اللَّه؛ لأنَّ نِعْمَة الحَيَاةِ، والصِّحَّة، والعَقْل، والهِدَايَةِ، والصَّوْن من الآفَاتِ، وإيصَال الخَيْرَاتِ في الدُّنْيَا والآخِرَة شيء لا يَعْلَمُهُ إلاَّ الله تعالى، وإنَّما المُرادُ [التَّأمُّل] في هذا النَّوْع مِن حَيْثُ إنَّهُ مُمْتَازٌ عن نِعْمَةِ غَيْرِهِ. والوجه الثاني في السببِ المُوجبِ للانْقِيَادِ للتَّكَالِيفِ: هُوَ المِيثَاقُ الذي واثَقَكُمْ بِهِ. فإن قِيلَ: [قوله] {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} مشعِرٌ بسَبْقِ النِّسْيَان: وكَيْفَ يُمْكِن نِسْيَانُها [مع أنها] مُتَوَاتِرَةٌ متَوالِيَةٌ [علينا] في جَميعِ السَّاعَاتِ والأوْقَاتِ؟ فالجَوابُ: أنَّها لِكَثْرتها وتعاقُبها صارتْ كالأمْرِ المُعْتَاد، فصارت غَلَبَةُ ظُهُورِهَا وكَثْرتها سَبباً لِوُقوعِهَا مَحَلَّ النِّسْيَان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 240 فصل في تفسير الميثاق اختَلَفُوا في تَفْسِير هذا الميثاقِ، فقال أكْثَرُ المُفَسِّرين: هو العَهْدُ الذي عَاهَدَ اللَّه عَلَيْه المُؤمنين حين بَايَعُوا رَسُول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم وشرَّف وكرم - تَحْتَ الشَّجَرَةِ وغَيْرها على أن يكُونُوا على السَّمْعِ والطاعَةِ في [المَحْبُوبُ والمكروه] ؛ وأضَافَ الميثاقَ الصَّادِر عن الرَّسُول إلى نَفْسِهِ، كقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] ، وأكَّدَ ذَلِكَ بأنَّهم التزمُوا وقالُوا: «سَمِعْنَا وأطَعْنَا» ، ثم حذَّرَهم عن نَقْضِ تِلْك العُهُود فلا تَعْزِمُوا بقلوبكم على نَقْضِهَا، فاللَّهُ يَعْلَم ذلك، وكَفَى به مُجَازِياً. وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: هو المِيثاقُ الذي أخذه اللَّه على بَنِي إسْرائِيل حين قالُوا: آمَنَّا بالتَّوْرَاة وبكُلِّ ما فيها، وكان من جُمْلة ما في التَّوْرَاةِ البِشَارَةُ بمقدم مُحَمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. وقال مُجَاهِدٌ والكَلْبِي ومقاتلٌ: هو المِيثَاقُ الذي أخَذَهُ منهم حِين أخْرَجَهم من ظَهْر آدَم، وأشْهَدَهُمْ على أنْفسِهم {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ، قَالُوا: ْ بلى} [الأعراف: 172] . وقال السّديّ: المُرَاد بالمِيثاقِ: الدَّلائل العَقْلِيَّة والشَّرْعِية التي نَصَبَها اللَّهُ على التَّوْحِيدِ والشَّرائعِ. قوله تعالى: {إِذْ قُلْتُمْ [سَمِعْنَا] } ، في «إذْ» ثلاثةُ أوْجُه: أظهرها: أنَّهُ مَنْصوب ب «وَاثَقَكُمْ» . الثاني: أنَّهُ مَنْصَوبٌ على الحَالِ من الهَاءِ في «بِهِ» . الثالث: أنَّهُ حال من [ «ميثاقِهِ» ] ، وعلى هذَيْن الوَجْهَيْن الأخيريْن يتعلَّقُ بمحذُوفٍ على القاعِدَة المُقَرَّرَةِ. و «قُلْتُم» في محلّ خَفْضٍ بالظَّرْف، و «سَمِعْنَا» في محلِّ نَصْبٍ بالقَوْلِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 241 قوله تعالى: {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط} الآية. لما حثَّهُم على الانْقِيَاد للتَّكَالِيف، وهي مع كثرتها مَحْصُورَةٌ في نَوْعين: التَّعْظِيم لأمر اللَّه، والشَّفقة على خَلْقِ اللَّه. قوله: {كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ} إشارةٌ على التَّعْظيم لأمر اللَّه، ومعنى القيام للَّه: هو أن يَقُومَ للَّه بالحقِّ في كلِّ ما يَلْزَمه، وقوله: «شُهَدَاء بالقسطِ» إشارةٌ إلى الشَّفقة على خَلْقِ اللَّه، فيه قولان: الأوَّل: قال عطاءُ: لا تُحاب من شهادتِكَ أهْل وُدِّك وقَرابتِك، ولا تمنع شهادتك أعداءَك وأضْدَادَك. الثاني: أمرهم بالصِّدْق في أفْعالهم وأقوالهم، وتقدَّم نَظِيرُها في «النِّسَاء» ، إلاَّ أنَّ هناك قدَّم لَفْظَة «القِسْط» وهنا أخِّرَت، وكأنَّ الغَرَضَ في ذلك - والله أعلم - أنَّ آية «النِّسَاء» جِيء بها في مَعْرِض الإقْرَارِ على نَفْسِهِ ووالِدَيْه وأقَارِبِه، فَبُدِئ فيها بالقِسْطِ الذي هو العَدْلُ من غير مُحَابَاة نَفْسٍ، ولا والِدٍ، ولا قَرَابَةٍ، والَّتِي هنا جِيءَ بها في [مَعْرِض] ترك العداوة، فبُدِئ فيها [بالأمْر] بالقِيام لِلَّه، لأنَّهُ أرْدَعُ لِلْمُؤمنين، ثم ثُنِّي بالشَّهادة بالعَدْلِ، فَجِيءَ في كُلِّ مَعْرضٍ بما يُنَاسِبُه. وقوله: «وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ» تقدَّم مثله، وكذلك «شَنَآنُ قَوْمٍ» . قوله تعالى: {على أَلاَّ تَعْدِلُواْ} . أي لا يحملَنَّكُم بُغْضُ قومٍ على أن لا تَعْدلُوا، وأراد: لا تَعْدِلوا فيهم فَحُذِفَ لِلْعِلْم به، وظُهُور حرف الجرِّ هنا يرجحُ تَقْدِيرهُ. قيل: والمعنى: ولا يَحْمِلَنَّكُم [بُغْضُ] قوم على أن تجُورُوا عَلَيْهم، وتتَجاوزُوا الحدَّ، بل اعْدِلُوا فيهم، وإن أسَاءُوا إلَيْكم، وهذا خِطَابٌ عامٌّ، وقيل: إنَّها مُخْتَصَّةٌ بالكُفَّار، فإنَّها نزلت في قُرَيْشٍ لما صَدُّوا المُسْلِمين عن المَسْجِد الحَرَام. قوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} . نهاهم أوَّلاً عن أن يَحْمِلَهُم البَغْضَاءُ على ترك العدلِ، ثم اسْتَأنَفَ فصرَّح لهم بالأمْر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 242 بالعدْل تأكِيداً، ثم ذكر عِلَّة الأمْر بالعَدْل وهو قوله: {هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} ، والمَعْنَى: أقْرَبُ إلى الاتِّقَاء من مَعَاصِي اللَّه، وقيل: أقْرَبُ إلى الاتِّقَاء من عَذَابِ اللَّه. و «هُوَ» ضمير المَصْدرِ المَفْهُوم من الفِعْلِ أي: العدل، وفيه تَنْبِيهٌ على أنَّ وجوب العَدْلِ إذا كان مع الكُفَّار الذين هُمْ أعداءُ اللَّه بهَذِه الصِّفَة من القُوَّة، فَكَيْفَ بوجُوبِهِ مع المُؤمنين الذين هم أوْلِيَاؤُه وأحِبَّاؤُه، ثم ذكر كلاماً كالوعد للمُطِعين والوعيد للمُذْنِبِين، وهو قوله: {اواتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} ، يعني: [أنَّه] عالم بجميع المَعْلُومَات، لا يَخْفَى عليه شَيْءٌ من أحْوَالِكُمْ. ثم ذَكَرَ وعْدَ المُؤمنين فقال: «وَعْدَ اللَّه. .» الآية. واعلم أن «وَعْد» يتعدَّى لاثْنَيْن: أوَّلهما: الموْصُولُ. والثاني: [مَحْذُوف] أي الجنَّة. وقد صرَّح بهذا المَفْعُول في غير هذا المَوْضِع، وعلى هذا فالجُمْلَةُ من قوله: «لَهُم مَغْفِرَةٌ» لا مَحَلَّ لها؛ لأنَّها مُفَسِّرة لذلك المَحْذُوف تَفْسِير السَّبَب للمُسَبّبِ، فإن الجَنَّة مسببة عن المَغْفِرَة، وحُصُول الأجْرِ العَظِيم، والكلام قبلها تَامٌّ بِنَفْسه. وذكرَ الزَّمَخْشَرِيُّ في الآيَة احْتِمالاتٌ [أخَر] . أحدها: أنَّ الجملة من قوله «لَهُم مَّغْفِرَةٌ» [بيان للوعد] ، كأنَّه قال: قدم لهم وَعْداً، فَقِيلَ: أيُّ شيء وَعَدَهُ؟ فقال: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} ، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لها أيضاً، وهذا أوْلَى من الأوَّل؛ لأنَّ تفسير المَلْفُوظِ به أوْلَى من ادِّعاء تَفْسِير شَيْءٍ مَحْذُوف. الثاني: أنَّ الجملة مَنْصُوبةٌ بقول محذوف، كأنَّه قيل: وعدهُم، وقال لهم: «مَغْفِرَة» . الثالث: إجراء الوَعْدِ مجرى القَوْل؛ لأنَّه ضَرْبٌ منه، ويَجْعَل «وَعَدَ» واقعاً على الجُمْلَةِ الَّتِي هي قوله: «لَهُمْ مَغْفِرَةٌ» ، كما وقع «تَرَكْنَا» على قوله تعالى: {سَلاَمٌ على نُوحٍ} [الصافات: 79] كأنه قيل: وعدهَمُ هذا القَوْل، وإذا وَعَدَهُمْ من لا يَخْلِفُ المِيعاد فَقَدْ وعدهم مَضْمُونَهُ من المَغْفِرَة والأجْرِ العَظِيم، أي: وعدهُم بهذَا المَجْمُوع، وإجراء الوَعْدِ مَجْرى القَوْل مذهب كُوفِيٌّ. ثم ذكر وَعِيدَ الكُفَّار فقال: {والذين كَفَرُواْ} الآية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 243 «الذين كفروا» مبتدأ، و «أولَئِكَ» مُبْتَدأ ثانٍ، و «أصْحَابُ» خبره، والجُمْلَة خَبَرُ الأوَّل، وهذه الجُمْلَة مُسْتَأنَفَةٌ، آُتِي بها اسمية دلالة على الثُّبُوتِ والاسْتِقْرَارِ، ولم يُؤتَ بِها في سِيَاقِ الوعيد، كما أتى بالجُمْلَةِ قَبْلَها في سِيَاقِ الوَعْدِ حَسْماً لرَجَائهم، وأجاز بَعْضُهُمْ أن تكون هذه الجُمْلَة داخِلَةً في حَيِّز الوَعْد على ما تقدم تقريره في الجُمْلَةِ قبلها. قال: لأنَّ الوعيدَ اللاَّحِقَ بأعْدائِهم ممَّا يَشْفِي صُدورهُمْ، ويُذْهِب ما كانوا يَجِدُونَهُ من أذَاهُمْ، ولا شَكَّ أن الأذى اللاَّحقِ للعَدُوِّ، مما يَسُرُّ، ويفرح ما عند عَدُوِّهِ، وفيه نظر، فإن الاسْتِئنَاف وافٍ بهذا المَعْنَى، فإن الإنْسَان إذا سَمِعَ خبراً يَسُوء عَدُوَّهُ سُرَّ بذلك، وإن لم يُوعد به، وقد يتقوى [صاحب] هذا القول المُتقدِّم بأن الزَّمَخْشَرِيَّ قد نحَا إلى هذا المَعْنَى في سورة {سُبْحَانَ} [الإسراء: 9، 10] . قال: فإن قُلْتَ، علام عَطَف {وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} [الإسراء: 10] . قلت: على {أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء: 9] على أنه بُشرى للمؤمنين ببشارتيْن بثوابِهِم، وبعقَابِ أعْدَائهم، فجعل عِقاب أعدائِهِم داخِلاً في حَيِّز البشارَة فالبشارة هناك كالوَعْدِ هُنَا. وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الخُلود في النَّار لَيْس إلا للكُفَّار؛ لأنَّ قوله: {أولئك أَصْحَابُ الجحيم} يفيدُ الحَصْر، والمُصَاحَبَةُ تَقْتَضِي المُلازَمَةَ، كما يقال: أصْحَاب الصَّحراء، أي: المُلازِمُون لها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} الآية. قتال قتادة: نزلت هذه الآية ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ببطن نخل فأراد بنو ثعلبة وبنو محارب أن يفتكوا به وبأصحابه إذا اشتغلوا بالصلاة فأطلع الله تبارك وتعالى نبيه على ذلك، وأنزل الله صلاة الخوف، وقال الحسن: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ محاصراً غطفان بنخل، فقال رجل من المشركين: هل لكم في أن أقتل محمداً؟ قالوا: وكيف تقتله؟ قال: أفتك به، قالوا: وددنا أنك قد فعلت ذلك، فأتى النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ متقلد سيفه، فقال: يا محمد أرني سيفك فأعطاه إيّاه فجعل الرجل يهزّ السيف وينظر مرة إلى السيف ومرة إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 244 وقال: من يمنعك مني يا محمد؟ قال: الله فتهدده أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فشام السيف ومضى، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقال مجاهد وعكرمة والكلبي وابن يسار عن رجاله: «بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المنذر بن عمرو الساعدي وهو أحد النقباء ليلة العقبة في ثلاثين راكباً من المهاجرين والأنصار إلى بني عامر بن صعصعة فخرجوا فلقوا عامر بن الطفيل على بئر معونة وهي من مياه بني عامر واقتتلوا فقتل المنذر بن عمرو وأصحابه إلا ثلاثة نفر كانوا في طلب ضالة لهم أحدهم عمرو بن أمية الضمري فلم يرعهم إلا الطير يحوم في السماء يسقط من بين خراطيمها علق الدم فقال أحد النفر: قتل أصحابنا ثم تولى يشتد حتى لقي رجلاً فاختلفا ضربتين فلما خالطته الضربة رفع رأسه إلى السماء وفتح عينيه وقال الله أكبر الجنة وربِّ العالمين، فرجع صاحباه فلقيا رجلين من بني سليم وكان بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين قومهما موادعة، فانتسبا لهما إلى بني عامر فقتلاهما وقدما قومهما إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يطلبون الدية فخرج ومعه أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة وعبد الرحمن بن عوف رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم، حتى دخلوا على كعب بن الأشرف وبني النضير يستعينهم في عقلهما، وكانوا قد عاهدوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ترك القتال وعلى أن يعينوه في الديات، قالوا: نعم يا أبا القاسم قد آن لك أن تأتينا وتسألنا حاجة اجلسْ حتى نعطمك ونعطيك الذي سألته، فجلس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه، فخلا بعضهم ببعض وقالوا: إنكم لن تجدوا محمداً أقرب منه الآن فمن يظهر على هذا البيت فيطرح عليه صخرة فيريحنا منه؟ فقال عمر بن جحاش: أنا، فجاء إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه فأمسك الله تعالى يده وجاء جبريل وأخبره، فخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ راجعاً إلى المدينة ثم دعا علياً فقال: لا تبرح مكانك فمن خرج عليك من أصحابي فسألك عني فقل: توجه إلى المدينة، ففعل ذلك علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه حتى تناهوا إليه ثم تبعوه» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية وقال: {فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ واتقوا الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} [المائدة: 11] . قوله تعالى: «عَلَيْكُم» يجُوزُ أن يَتعَلَّقَ ب «نِعْمَة» ، وأن يتعلَّق بمَحْذُوفٍ على أنَّه حَالٌ مِنْها. و «إذْ [هَمَّ] » ظرف ناصبه «النِّعْمة» أيضاً، أي: اذْكُروا نِعمتَهُ عليْكم في وقت هَمِّهم [عليكم] . ويجُوزُ أن يتعلَّق هذا الظَّرف بما يتعلَّق به «عَلَيْكُم» ، إذا جَعَلته حالاً من «نِعْمَة» ، ولا يجُوز أن يكُون مَنْصُوباً ب «اذْكُرُوا» لتَّنافي زَمَنيهما، فإن «إذْ» للمُضيّ، و «اذْكُرُوا» مُستقبل، و «أن يَبْسُطُوا» على إسْقَاطِ البَاءِ أي هَمُّوا بأنْ يَبْسطوا، ففي موضع «أنْ» الخلاف المشهور. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 245 ومعنى بسط اليَد مدَّها إلى المَبْطُوش به كقولِهِم: فلان بَسِيطُ البَاعِ، ومديدُ البَاعِ بمعنًى واحد، يُقال: بَسَط إليه لِسَانه إذا شَتَمَهُ، وبَسَطَ إليه يَدَهُ إذا بَطَشَ به، {فكف أيديهم عنكم} أي: مَنعَها أن تَصِل إليْكم. ثم قال: {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أي: كُونُوا مواظبين على طاعة الله، ولا تخافوا أحداً في إقامة طاعَةِ اللَّه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 قوله جلا وعلا: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ} الآية في اتِّصال هذه الآية بما قَبْلَها وجُوه: أحدُهَا: أنه لما ذكر في الآية الأولى، وهو قوله: {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا} [المائدة: 7] ، ذكر بَعْدَهُ أخذ الميثاق من بَنِي إسرائيل لكنَّهُم نَقَضُوه، وتَركُوا الوَفَاء به، أي فلا تكُونُوا مثل أولَئِك من اليَهُود في هذا الخُلُق الذَّمِيم، فَتَصِيروا مِثْلَهُم فيما نزل بهم. وثانيها: لما قال تعالى: {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] ، وقد تقدَّم في بعض رواياتِ أسْبَاب النُّزُول أنَّها نزلت في اليَهُود، وأنَّهم أرادوا إيقاع الشَّرِّ برسُول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ - فلما ذكر اللَّه تعالى [ذلك] أتْبَعَهُ بِذِكْرِ فَضَائِحِهمْ، وبيان أنَّهُم [أبداً] كانوا مُواظبِين على نَقْضِ الموَاثيق. ثالثها: أنَّ الغَرض من الآيات المُتقدِّمة ترغِيبُ المكلَّفِين في قُبُول التكاليف وترك العصيان، فذكر تعالى أنَّه كلَّفَ من كان قَبْلَكُم كما كلَّفكم؛ لِتَعْلَموا أنَّ عادة الله في عِبَادِه أن يُكَلِّفَهُم، فليس التَّكْليف مَخْصوصاً بكم أيُّهَا المُؤمِنُون، بل هي عَادَةٌ جَارِيَةٌ له مع جَمِيع عِبَادِه. قوله سبحانه: {وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً} . [ «منهم» ] يجُوزُ أن يتعلَّق ب «بَعَثْنَا» ، ويجُوزُ أن يتعلَّق بِمَحْذُوف على أنَّهُ حال من « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 246 اثْنَيْ عَشَرَ» ، لأنه في الأصْلِ صفةٌ لَهُ فلما [قُدِّم نصب] حالاً، وقد تقدَّم الكلامُ في تركيبِ «اثني عَشَرَ» وبنائه، وحَذْفِ نُونهِ في «البَقَرة» [البقرة 60] . [ «وميثاقٌ» يجُوز أن يكُونَ مُضافاً إلى المَفْعُول - وهو ظاهر - أي: إنَّ الله - تعالى - واثَقَهُم، وأن يكونَ مُضَافاً إلى فاعله، أي: إنِّهم واثَقُوه تعالى. والمُفَاعَلَة: يجوز نِسْبَة الفَعْل فيها إلى كلٍّ من المَذْكَورين] . «والنَّقِيب» فعيلٌ، قيل: بمعْنَى فاعل مُشْتَقّاً من النَّقْب وهو التَّفْتِيش، ومنه: {فَنَقَّبُواْ فِي البلاد} [ق: 36] ، وسُمِّي بذلك؛ لأنَّهُ يُفَتِّشُ عن أحْوَال القَوْمِ وأسْرارِهِم. قال الزَّجَّاج: أصْلُهُ النَّقبُ، وهو الثُّقْبُ الواسِعُ، ومنه المَناقِبُ، وهي الفضَائِل؛ لأنَّها لا تظهر إلا بالتَّنْقِيب عنها، ونَقَبْتُ الحَائِطَ أي: بلغت في النَّقب إلى آخره، ومنه: النَّقْبَةُ من الجرب؛ لأنه داءٌ شديد الدُّخُول؛ لأن البَعِير يطلى بالهناء فهو حَدُّ طعم القطران في لَحْمِه، والنَّقبَة في السَّراويل بغير رِجْلَيْن؛ لأنَّه قد يُولَع في فتحها، ونقبها ويقال: كَلْبٌ نَقِيبٌ، وهو كَلْبٌ ينقب حنجرته لِئلاَّ يرتفع صوت نُبَاحه، يفعله البُخَلاءُ من العرب لِئلاَّ يظفر بهم ضيْفٌ. وقيل: هو بمعنى مَفْعُول، كأنَّ القَوْمَ اختاروه على عِلْمٍ منهم، وتَفْتِيشٍ على أحْواله. وقيل: هو للمبالغة كَعَليم وخبير. وقال الأصَمّ: هو المَنْظُور إليه المُسْنَدُ إليه أمُور القوم وتَدْبير مَصَالِحهم. فصل قال المُفَسِّرون: إن بَنِي إسرائيل كانوا اثْنَيْ عشر سِبْطاً، واختار الله من كل سِبْط رجلاً يكون نَقِيباً لهم وحَاكِماً فيهم. وقال مجاهد: إن النقبَاء بعثوا إلى مدينة الجَبَّارين الذين أمر مُوسى بالقتال مَعَهُمْ ليقفُوا على أحْوَالِهِمْ، ويرجعوا بذلك إلى نَبيّهم. قال القُرْطُبِي: ذكر مُحمَّدُ بن حَبيبٍ في «المحبر» أسماء نُقَبَاءِ بني إسرائيل، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 247 فقال: من سبط روبيل: شموع بن رَكُوب، ومن سِبْط شَمْعون: شوقوط بن حوري، ومن سِبْط يَهُوذا: كالب بن يوقنا، ومن سِبْط السَّاحر: يُوغول بن يُوسُف، ومن سِبْط أفرائيم ابن يوسف: يوشَع بن النون، ومن سِبْط بِنيَامِين: يلظى بن روقو، ومن سِبْطِ ربالون: كرابيل بن سودا، ومن سِبْط منشا بن يوسف كدى بن سوشا، ومن سِبْط دَان: عمائيل بن كسل، ومن سِبْط كاذ كوال بن موخى، ومن سِبْط نَفْتَال: يُوحنَّا بن قوشا، ومن سِبْط شير ستور بن ميخائيل، فلَّما ذهبُوا إليهم رأوا أجراماً عظيمة وقوَّة وشَوْكةً فَهَابُوهم ورجعوا، وحدَّثُوا قومهم وقد نَهَاهُم موسى - عليه السلام - أن يحدِّثُوهم، فنكثوا الميثاقِ إلا كَالب ابن يوقنا من سِبْطِ يَهُوذا، ويوشَع بن نون من سبط أفرائيم بن يوسف، وهما اللذان قال الله تعالى فيهما: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ} [المائدة: 23] . فصل قال القُرْطُبِي: دلَّت هذه الآيةُ على قُبُول خبَرِ الواحِدِ فيما يَفْتَقِرُ إليه المَرْءُ، ويحتاج إلى اطِّلاعه من حاجاته الدينِيَّة والدُّنْيَويَّة، فترتب عليه الأحْكَام، ويربط به الحلال والحرام، وفيها - أيضاً - دليلٌ على اتِّخاذ الجَاسُوس، وقد بَعَثَ رسُول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - بَسْبَسَة عيناً، أخرجه مسلم. وسيأتي حُكْمُ معاني الجَاسُوس في المُمْتَحنة إن شاء الله تعالى. قوله سبحانه: {وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة} في الكلام حذف، والتقدير: وقال الله لهم إنِّي مَعَكُم؛ إلاَّ أنَّه [حذف] ذلك لاتِّصال [الكلام] بِذكْرِهِم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 248 وقوله: «إنِّي مَعَكُمْ» قيل: هذا خِطَابٌ للنُّقَبَاء، وقيل: [خطاب] لكلِّ بَنِي إسْرائيل، والأوَّل أوْلَى؛ لأنَّه أقْرَبُ إلى الضمير. قوله تعالى: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة} هذه هي اللاَّم الموطِّئة للقَسَم، والقسم معها مَحْذُوف، وقد تقدَّم أنَّه إذا اجْتَمَع قَسمٌ وشرط أجيب سابقُهمَا، إلا أن يتقدَّم ذُو خبر، فيُجَابُ الشَّرْط مُطْلقاً. واعلم أنَّ الكلام قد تَمَّ عند قوله: {وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ} أي: بالعلم والقُدْرة، فأسمع كلاَمَكم، وأرى أفْعَالَكم، وأعْلَمُ ضَمَائِرَكم، وهذه مقدِّمة مُعْتَبرة في التَّرْغيب والتَّرهيب، ثم ابْتَدأ بعدها جُمْلَة شَرْطية، والشَّرْط مركَّبٌ من خمسة أمور، وهي قوله: {لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمْ الزكاة وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} . قوله عز وعلا: «لأكَفِّرَنَّ» هذه «اللاَّم» هي جوابُ القسم لسبقه، وجواب الشَّرْط محذوفٌ لدلالةِ جواب [القسم] عليه، وهذا معنى قول الزَّمَخْشَرِيِّ: أن [معنى] قوله: «لأكَفِّرَنَّ» سادٌّ مَسَدّ جوابَي القَسَم والشَّرط، لا كَما فَهِمَهُ بَعْضُهم وردّ عليه ذلك. ويجُوزُ أن يكون «لأكَفِّرَنَّ» جواباً لقوله تعالى قبل ذلك: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ} لما تضمَّنه الميثاق [من] معنى القَسَمِ، وعلى هذا فتكُون الجُمْلتان، أعني قوله: «وَبعثْنَا» «وقال اللَّهُ» فيهما وجهان: أحدهما: أنَّها في محلِّ نَصْب على الحال. الثاني: أن تكونا جملتي اعتراضٍ، والظَّاهر أنَّ قوله: «لَئِن أقَمْتُم» جوابه «لأكَفِّرَنَّ» كما تقدَّم، وجملة هذا القسم المَشْروط وجوابه مُفسرة لذلِكَ المِيثَاق المتقدم. والتَّعْزِيرُ التَّعْظيم. قال: [الوافر] 1944 - وَكَمْ مِنْ ماجِدٍ لَهُمُ كَرِيمٍ ... وَمِنْ لَيْثٍ يُعزَّرُ في النَّدِيِّ وقيل: هو الثَّناء بخير قاله يونس، وهو قريب من الأوَّل. وقال الفرَّاء: هو الردَّ عن الظُّلْم. وقال الزَّجَّاج: هو الرَّدْعُ والمَنْعُ، فعلى القَوْلَين الأوَّليْن يكون المعنى: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 249 وعظَّمْتُموهم [وأثنيت] عليهم خيراً، وعلى الثَّالث والرابع يكون المعنى: وَرَدَدْتُمْ وَرَدعْتُمْ عنهم سُفَاءَهُم. قال الزَّجَّاج: عَزَّرْت فُلاناً فعلتُ به ما يردعه عن القَبِيح [مثل نكلت] ، فعلى هذا يكون «عزَّرْتُمُوهُمْ» رددتم عنهم أعْدَاءَهُم. وقرأ الحَسَنُ البَصْرِي «بِرُسْلِي» بسُكُونِ السِّين حيث وَقَع. وقرأ الجَحْدَرِيُّ: «وَعَزَرْتُمُوهم» خفيفَةَ الزَّاي، وهي لغة. وقرأ في [الفتح: 9] [ «وَتَعْزُرُوه» ] بفتح عين المضارعةِ، وسكون العين، وضم الزَّاي، وهي موافقة لقراءته هنا، وتقدَّم الكلام في نَصْب «قَرْضاً» في [البقرة: 245] . فإن قيل: لم أخَّر الإيمان بالرُّسُل عن إقامة الصلاة وإيتاء الزَّكاة، مع أنه مُقدَّم عليهما؟ . فالجواب: أنَّ اليهود كانوا مُقرِّين بأنَّه لا بد في حُصُول النَّجاة من إقَامَةِ الصلاةِ، وإيتاء الزَّكاة، إلاَّ أنَّهم كانوا مُصرِّين على تكذيب بعض الرُّسلِ، فذكر بعد إقامة الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة أنَّه لا بد من الإيمان بجميع الرُّسل حتى يحصُلَ المَقْصُود، وإلاَّ لم يكن لإقامة الصلاة وإيتاء الزَّكاة تأثير في حُصول النَّجاة بدون الإيمان بجميع الرُّسُل. فإن قيل: قوله: {وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً} دخل تحت إيتاء الزَّكاة، فما فائدة الإعَادة؟ . فالجواب: أنَّ المراد بالزَّكاة الواجبة، وبالقرض الصَّدقة المندوبة، وخصَّها بالذِّكر تنبيهاً على شَرَفها. قال الفرَّاء: ولو قال: وأقرضتم الله إقراضاً حسناً، لكان صَوَاباً، إلا أنَّه قد يقام الاسْمُ مقام المَصْدَر، ومثله {فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ} [آل عمران: 37] ، ولم يقل: يتَقَبَّل، وقوله: {وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً} [آل عمران: 37] ولم يقل إنباتاً. قوله سبحانه: {فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل} . أي: أخطأ الطَّرِيق المسْتَقِيم الذي هو الدِّين المَشْرُوع لهم، وقد تقدَّم الكلامُ على سَوَاءِ السَّبِيل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 250 فإن قيل: من كفر قبل ذلك أيضاً فقد ضَلَّ سواء السَّبيل؟ فالجوابُ: نعم، ولكن الضَّلال بعده أظْهر وأعْظَم؛ لأنَّ الكُفْرَ إنما عَظُم قُبْحُه لعظم النِّعْمَة المَكْفُورة، فإذا زادت النِّعْمة زاد قُبْحُ الكُفْرِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 قوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ} الآية. قد تقدَّم الكلامُ على نَظِيره. قال القُرْطُبِي: والمعنى: فبنقضهم ميثاقهم، و «مَا» زائدة للتَّوْكيد. قال قتادةُ وغيرُه: وذلك أنَّها تؤكِّد الكلام بمعنى تمكنه في النَّفْس من جهة حسن النَّظْم، ومن جهة تَكْثِيرِه [للتَّوْكِيد] ، كقوله [الوافر] 1945 - ... ... ... ... ... ..... لِشَيْءٍ مَّا يُسَوَّدُ مَنْ يَسُودُ وقيل: نَقْضُ الميثاق تكْذيبُ الرُّسل، وقيل: الأنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام، وقيل: كِتْمَانهم صفة مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقيل: المَجْمُوع. وقال عطاء: «لَعَنَّاهم» أبعدناهم من رحمتنا، وقال الحسن ومُقاتل: مسَخْنَاهم قِرَدة وخنازير. وقال ابن عبَّاس: ضربنا الجِزْية عَلَيْهِم. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} . قرأ الجمهور «قَاسِيَة» اسم فاعل من قَسَا يَقْسُو. وقرأ الأخوان وهي قراءة عَبْد الله «قَسِيَّة» بفتح القاف وكَسْرِ السِّين وتشديد اليَاء، واختلف الناس في هذه القراءة. فقال الفَارِسي: لَيْسَت من ألْفَاظِ العرب [في الأصل] ، وإنَّما هي كَلِمَةٌ أعْجَمِيَّةٌ معرَّبة، يعني أنها مأخوذَةٌ من قولهم: درهم قَسِيّ، أي: مَغْشُوش، شبَّه قلوبهم في كونها غير صَافِية من الكَدَرِ بالدَّراهم المَغْشوشة غير الخَالِصَة، وأنْشَدُوا قول أبي زُبَيْد: [البسيط] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 251 1946 - لها صَوَاهِلُ فِي صُمِّ السِّلامِ كَمَا ... صَاحَ القَسِيَّاتُ في أيْدِي الصَّيَارِيفِ وقول الآخر: [الطويل] 1947 - وَمَا زَوَّدُونِي غَيْرَ سَحْقِ عمَامَةٍ ... وَخَمْسِ مِىءٍ مِنْهَا قَسِيٌّ وَزَائِفُ وقال الزَّمَخْشَرِي، وقرأ عبد الله «قسيَّة» ، أي: رديئة مغشوشة من قولهم: «درهم قَسيّ» ، وهو من القَسْوة؛ لأن الذَّهَبَ والفضَّةَ الخالِصَيْن فيهما لين، والمغشوش فيه صلابةٌ ويُبْسٌ والقَاسِي والقاسِح بالحاء المهملة أخوان في الدَّلالة على اليُبْس. وهذا القول سبقه إليه «المُبَرِّد» ، فإنه قال: «يسمى الدِّرْهم المَغْشُوش قَسِيًّا لصلابته وشدَّتهِ للغِشِّ الذي فيه» ، وهو يرجعُ للمعنى الأوَّل، والقاسِي والقَاسِح بمعنى واحد. وعلى هذين القَولَيْن تكون اللَّفظة عَرَبيَّةً. وقيل: بل هذه القِرَاءَةُ توافق قِراءَة الجَمَاعَة في المعنى والاشْتِقَاق؛ لأنَّه «فَعِيل» للمُبَالغة ك «شاهد» ، و «شهيد» ، فكذلك قاسٍ وقَسِيّ، وإنما أنِّث على معنى الجماعةِ في المعنى والاشْتِقَاق. وقرأ الهَيْصَم بن شداخ: «قُسِيَّة» بضم القَافِ وتشديد اليَاء. وقرئ «قِسِيَّة» بكسر القاف إتْبَاعاً، وأصْلُ القراءَتَيْن: «قاسِوَة» ، و «قَسِيوة» لأن الاشْتِقَاق من القَسْوة. فصل والمعنى أنَّ قلوبهم ليست بخالصة الإيمان، بل إيمانُهُم مشوبٌ بالكُفْرِ والنِّفَاق، وقيل: نائيةٌ عن قُبُول الحقِّ، مُنْصَرِفة عن الانقيادِ للدَّلائل. وقالت المُعْتَزِلَة: أخْبِرْنا عنها بأنَّها صارت قَاسِيَة، كما يُقَال: فلانٌ جعل فُلاناً قاسِياً وعدْلاً. ثم إنَّه تعالى ذكر بَعْضَ نتائج تلك القَسْوَة، فقال: {يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ} وهذا التَّحْرِيفُ هو تَبْدِيلُهم نعت النَّبيِّ - صلَّى الله عليه وآله وسلَّم -، وقيل: التَّأويل البَاطل. والجملة من قوله: «يُحَرِّفُونَ» فيها أرْبَعَةُ أوْجُه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 252 أحدها: أنَّها مستأنَفَةٌ بيان لِقَسْوة قُلُوبهم؛ لأنَّه لا قَسْوَةَ أعظم من الافتراء على اللَّه تعالى. والثاني: أنَّها حَالٌ من مَفْعُول «لَعَنَّاهُمْ» أي: لَعَنَّاهم حال اتِّصافهم بالتَّحْريف. والثالث: قال أبو البقاء: أنَّها حال من الضَّمِير المسْتَتِر في «قَاسِيَة» . وقال: ولا يجُوزُ أن يكون حَالاً من «القُلُوب» ؛ لأنَّ الضَّمير في «يُحَرِّفُون» لا يرجع إلى «القُلُوب» ، وفي هذا نَظَرٌ من حيث جواز أن يكون حَالاً من الضَّمِير في «قَاسِيَة» ، يَلزَمُهُ أن يُجوِّزَ أن يكون حَالاً من «القُلُوبِ» ، لأنَّ الضَّمير المستتر في «قَاسِيَة» يعود على «القُلُوبِ» ، فكما يمتَنِعُ أن يكون حالاً من ظاهره [يمتنع أن يكون حالاً من ضميره] ، وكأنَّ المانع الذي توهمه كون الضَّمير وهو الواو في «يُحَرِّفُون» إنَّما يعُود على اليَهُودِ بِجُمْلَتِهِم لا على قُلُوبهم خاصَّةً، فإن القُلُوب لا تحرَّف، إنما يُحرَّف أصْحَابُ القُلوب، وهذا لازِمٌ له في تجويزه الحالِيَّة من الضَّمِير في «قَاسِيَة» . ولقائِل أن يَقُول: المراد ب «القُلُوب» نفس الأشْخَاص، وإنما عبَّر عنهم بالقُلُوب؛ لأن هذه الأعضاء هي محلُّ التَّحْريف، أي: إنَّه صَادِرٌ عَنْها بتَفَكُّرِها فيه، فيجُوزُعلى هذا أن يكُون حَالاً من «القُلُوب» . والرابع: أن يكون حالاً من «هم» في «قُلُوبِهم» . قال أبو البَقَاء: وهو ضعيف يعني: لأنَّ الحال من المُضَاف إليه لا تَجُوزُ، وغيره يجوِّزُ ذلك في مثل هذا الموضع؛ لأن المُضافَ بَعْضُ المُضَافِ إليه. وقرأ الجمهور بفتح الكاف وكَسْرِ اللاَّم، وهو جمع «كَلِمَة» . وقرأ أبو رجاء «الكِلْم» بكَسْرِ الكَافِ وسُكُون اللاَّم، وهو تَخْفيفُ قِرَاءة الجَمَاعَة، وأصْلُها أنَّه كَسَرَ الكاف إتْبَاعاً، ثم سكن العَيْنَ تَخْفِيفاً. وقرأ السُّلمي والنَّخْعي: «الكَلاَم» بالألف، و «عَنْ مَوَاضِعهِ» وتقدَّم مثله في «النِّسَاء» [النساء: 46] . قوله تعالى: {وَنَسُواْ حَظَّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} . قال ابن عباسٍ: تركوا نَصِيباً ممَّا أمِرُوا بِهِ من الإيمَان بِمُحَمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 253 قوله - سبحانه -: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} . في «خَائِنَةٍ» [ثَلاثةُ أوْجُه] : أحدها: أنَّها اسم فاعل، والهاء لِلْمُبَالغة ك «راوية وعلاَّمة [ونسَّابة] » ، أي: على شخص خائن. قال الشَّاعر: [الكامل] 1948 - حَدَّثْتَ نَفْسَكَ بِالْوَفَاءِ وَلَمْ تَكُنْ ... لِلْغَدْرِ خَائِنَةً مُغِلَّ الإصْبَعِ الثاني: أن التَّاء للتَّأنيث، وأنِّث على معنى: طائفة أو فرقة أو نفس أو فَعْلة خائنة. قال ابن عبَّاسٍ: «على خَائِنَةٍ» ، أي: على مَعْصِية، وكانت خِيَانَتُهُم نقض العَهْدِ، ومظاهرتُهمْ المُشْرِكين على حَرْبِ رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وهَمّهم بِقَتْلِهِ وسمه ونحوها من الخِيَانَاتِ الَّتي ظَهَرَتْ منهم. الثالث: أنها بمعنى المَصْدَرِ ك «العافِيَة والعَاقِبَة والكاذِبَة واللاغية والواقِيَة» ، قال تعالى: {فَأُهْلِكُواْ بالطاغية} [الحاقة: 5] أي: بالطُّغيان، وقال: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} [الواقعة: 2] أي كذب، وقال: {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} [الغاشية: 11] أي: لغواً. وتقول العرب: سمعت رَاغِيَة الإبل، وثاغية الشاء، يعنون رُغَاءَها وثُغَاءَها. قال الزَّجَّاج: [ويقال] عافاه اللَّهُ عافِيَةً، ويؤيِّد هذا الوجْهُ قراءة الأعمش «على خِيَانَة» وأصل «خَائِنة» خاوِنَة وخِيَانة وخوانة [لقولهم: تَخوَّنَ، وخَوَّان] وهو [أخْوَن، وإنما أُعِلاَّ إعلال «قائمة» ، و «قيام» ] . و «مِنْهُم» صفة ل «خَائِنة» إن أُرِيد بها الصِّفَة، وإن أُرِيد بها المَصْدر قُدِّر مضَاف، أي: من بَعْض خيَانَاتِهِم. قوله تعالى: «إلاَّ قَلِيلاً» منصُوب على الاسْتِثْنَاء، وفي المُسْتَثْنَى منه أربَعَةُ أقْوال: أظهرُهَا، أنَّه لفظ «خَائِنة» ، وهُمَ الأشخاص المَذْكورُون في الجُمْلَةِ قَبْلَه، أي: لا تَزالُ تطَّلِع على مَنْ يَخُون منهم إلاَّ القليل، فإنَّه لا يَخُون فلا تَطلعْ عليه، وهم الذين أسْلَمُوا من أهْلِ الكِتَاب كعَبْدِ الله بن سلام وأصْحَابه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 254 قال أبُو البَقَاء: «ولو قُرئ بالجَرِّ على البَدَلِ لكان مُسْتَقِيماً» ، يعني على البَدَل من «خَائِنَة» ، فإنَّهُ في حيز كلامٍ غير مُوجب. والثاني ذكره ابْنُ عطيَّة: أنَّهُ الفعل أي: لا تَزَالُ تَطَّلِعُ على فِعْلِ الخيانة إلا فَعْلاً قَلِيلاً، وهذا واضِحٌ إن أُريد بالخِيَانَة أنَّها صِفَةٌ لِلْفَعْلَةِ المقدَّرَة كما تقدَّم، ولكن يبْعد ما قاله ابنُ عطيَّة قوله بعده: «مِنْهُم» ، وقد تقدَّم لَنَا نَظِيرُ ذلك في قوله: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66] من حَيْث جَوَّز الزَّمَخْشَرِيّ فيه أنْ يكون صِفَةً لمَصْدرٍ مَحْذُوفٍ. الثالث: أنَّه «قُلُوبهُم» في قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً} ، قال صاحب هذا القول: والمُرادُ بِهِمْ: «المُؤمِنُون؛ لأنَّ القَسْوَة زالت عن قُلُوبِهِم» ، وهذا بَعِيدٌ جدًّا؛ لقوله: «لَعَنَّاهُمْ» . الرابع: أنَّهُ الضَّمِير في «مِنْهُم» من قوله: {على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} قال مَكيّ. قوله [تعالى] : {فاعف عَنْهُمْ واصفح} . قيل: «العَفْوُ» نُسِخَ بآية السَّيْف، وقيل: لَمْ يُنْسَخُ، وعلى هذا فيه وجهان: أحدهما: معناه: فاعْفُ عن مُؤمنيهم، ولا تُؤاخِذْهُم بما سلَفَ منهم. الثاني: أنَّا إن حملنا القَلِيل على الكُفَّار [منهم الذين بَقُوا على الكُفْر] ، فالمعنى: أنَّ الله تعالى أمر رسوله بالعَفْوِ عنهم في صَغَائِر زَلاَّتِهِم ما داموا بَاقِين على العهد، وهو قَوْل أبِي مُسْلِم. ثم قال تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} . قال ابنُ عبَّاسٍ: إذا عَفَوْت فأنْتَ مُحْسِنٌ، وإذا كنْتَ مُحْسناً فقد أحبَّك اللَّه. وقيل: المراد بهؤلاء المُحْسنين: هم المَعْنيّون بقوله تعالى: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمُ} وهمْ الذين ما نَقَضُوا الْعَهْد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 قوله سبحانه: {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى} الآية. في قوله: {وَمِنَ الذين قَالُواْ} خمسَة أوْجه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 255 أظهرها: [أنَّ «مِنَ» ] مُتعلِّق بقوله: «أخَذْنَا» ، والتَّقدير الصَّحيح فيه أنْ يُقال: تقديره: وأخْذَنا مِن الذين قالُوا: إنَّا نَصَارى ميثاقَهُمْ، فَتُوقعُ «الَّذِين» بعد «أخَذْنَا» وتُؤخر عنهم «ميثاقَهُمْ» ، ولا يجُوز أن تُقدِّر: «وأخَذْنَا مِيثاقَهُمْ» مِن «الَّذين» فيتقدَّم «ميثاقُهم» على «الذيِن قَالُوا» . وإن كان ذَلِكَ جَائِزاً من حيث كَوْنِهمَا مَفْعُولَيْنِ، كلٌّ منهما جَائِز التَّقْديم والتَّأخير؛ لأنَّه يلزم عَوْدُ الضَّمير على مُتَأخِّر لَفْظاً ورتْبة وهو لا يجُوز إلا في مَوَاضِع مَحْصُورة، نصَّ على ذَلِك جماعة منهم مَكِّي وأبُو البَقَاء. والثاني: أنَّهُ متعلِّق بمَحْذُوف على أنَّهُ خبر لمُبْتَدأ مَحْذُوف، قامت صِفَتُهُ مقامَهُ، والتَّقْدِير: {وَمِنَ الَّذِين قالوا إِنَّا نَصَارى قَوْمٌ أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ} ، فالضَّمير في «مِيثَاقَهُم» يعودُ على ذلك المَحْذُوف. والثالث: خَبرٌ مقدَّم - أيضاً - ولكن قَدَّرُوا المُبْتدأ مَوْصُولاً حُذِف، وبقيت [صِلَتُه] والتقدير: ومِن الَّذِين قالوا: إنَّا نَصَارَى مَنْ أخذْنَا ميثَاقَهُم فالضمير في «مِيَثاقَهُم» عائد على «مِنْ» ، والكوفِيُّون يُجِيزُونَ حذفَ الموصول، وقد تقدم لنا معهم البَحْثُ في ذلك، ونقل مَكِّي مذهب الكُوفيِّين هذا، [وقدَّره عندهم: «ومن الذين قالوا إنَّا نصارى من أخذنا» ] ، وهذا التَّقدير لا يُؤخَذُ مِنْه أنَّ المحذوف مَوْصُولٌ فقط، بل يَجُوز أن تكون «مِنْ» المُقَدَّرة نكرةٌ موصُوفَةٌ حذفت وَبقِيَت صِفَتُها، فيكون كالمَذْهَبِ الأوَّل. الرابع: أن تتعلَّق «من» ب «أخذنا» كالوجه الأوَّل، إلا أنَّه لا يلْزَمُ فيه ذلك التَّقْدير، وهو أن توقع «من الَّذين» بعد «أخذنا» وقبل: «مِيثَاقَهُم» ، بل يجُوزُ أن يكون التَّقْدير على العَكْسِ، بمعنى: أنَّ الضَّمير في «مِيثاقَهُم» يعود على بَني إسْرائيل، ويكون المَصْدَرُ من قوله: «مِيثَاقَهُم» مصدراً تشبيهيًّا، والتَّقْدير: أخذنا من النَّصَارى مِيثَاقاً مثل مِيثاق بَنِي إسْرَائيل، كقَوْلك: أخَذْتُ من زيد ميثاقَ عَمْرو، أي [ميثاقاً مثل ميثاق عمرو] ، وبهذا الوَجْه بدأ الزَّمَخْشَري، فإنَّه قال: أخَذْنَا من النَّصَارى مِيثَاق من ذكر قَبْلَهم من قَوْم مُوسَى، أي: مِثْل مِيثَاقِهم بالإيمَان باللَّه والرُّسُل. والخامس: أن «مِن الَّذين» معطوفٌ على «مِنْهُم» في قوله: {وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ} [المائدة: 13] أي: من اليَهُود [والمعنى: ولا تزال تَطَّلِع على خَائِنَةٍ من اليَهُودِ] ، ومن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 256 الذين قالوا إنَّا نَصَارَى، ويكون قوله: «أخَذْنَا مِيثَاقَهُم» على هذا مُسْتأنفاً، وهذا يَنْبَغِي ألاَّ يَجُوز لِوَجْهَيْن: أحدهما: الفَصْلُ غير المُغْتَفَر. والثاني: أنَّه تهيئَةٌ للعامِل في شيء، وقَطْعه عنه، وهو لا يَجُوز. فصل إنما قال: {وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى} ولم يقل: «ومن النَّصارى» ؛ لأنَّهم سمُّوا أنْفُسَهم بهذا الاسْمِ ادَّعاءً لِنُصْرة الله، بِقَوْلهم لعيسى: {نَحْنُ أَنْصَارُ الله} [آل عمران: 52] ، وليسوا مَوْصُوفِين بِهِ. قال الحسن: فيه دَلِيلٌ على أنَّهُم نَصَارى بتَسْمِيَتِهِم لا بتَسْمِيَة اللَّه وقيل: أراد بِهِم اليَهُود والنَّصارى، فاكْتَفَى بذكر أحدهما، والصَّحيح الأوَّل، والمراد ب «مِيثَاقَهُم» أنَّه مكتُوب في الإنْجِيل أن يُؤمِنُوا بِمُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - {فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ} وذلك الحَظُّ هو الإيمانُ بمحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتنكير «الحَظّ» يدلُّ على أنَّ المراد به حَظٌّ واحد، وهو الإيمانِ بِمُحَمَّد، وإنما خَصَّ هذا الواحد بالذِّكْر مع أنَّهُم تَرَكُوا كثيراً ممَّا أمرهم به، لأنَّ هذا هو المُهِمُّ الأعْظَم. وقوله: {فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة} بالأهواء المختلفة والجِدَال في الدِّين، فقيل: بَيْن اليَهُود والنَّصَارى، وقيل: بين فِرَقِ النَّصَارى، وأن بعضهم يُكَفِّر بَعْضاً إلى يوم القِيَامة. وقوله: {وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} وعيد لهم. قوله: «بَيْنَهُمْ» فيه وجهان: أحدهما: أنَّه ظَرْف ل «أغْرَيْنَا» . والثاني: أنَّهُ حال من «العَدَاوَةِ» ، فيتعلَّق بِمَحْذُوف، ولا يَجُوز أن يَكُون ظَرْفاً لِلْعَدَاوةَ؛ لأنَّ المصدر لا يتقدَّم مَعْمُولُه عليه. و {إلى يَوْمِ القيامة} أجاز فيه أبُو البَقَاء أن يتعلَّق ب «أغْرَيْنَا» ، أو ب «العَدَاوة» أو ب «البَغْضَاء» أي: أغرينا إلى يَوْمِ القيامة [بينهم العداوة والبغضاء، أو أنهم يتعادون إلى يوم القيامة] أو يتباغضُون إلى يومِ القيامة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 257 وعلى ما أجَازَهُ أبو البَقَاء أن تكون المَسألَةُ من باب الإعْمَال، ويكون قد وجد التَّنَازع بين ثلاثةِ عوامِلٍ، ويكون من إعْمَال الثَّالِث للحَذْفِ من الأوَّل والثَّاني، وتقدَّم تَحْرِير ذلك. و «أغْرَيْنَا» من أغْرَاه بكذا أي: ألزمه إياه، وأصْلُه من الغِرَاء الذي يُلْصَقُ به، ولامُهُ وَاوٌ [فالأصلُ] أغْرَوْنَا، وإنما قلبت الواوُ ياءً؛ لوقوعها رابعَةٌ [ك «أغْوَيْنَا» ،] ، ومنه قولهم: سَهْمٌ مغروٌّ أي: معمول بالغِرَاء، يقال: غَرِيَ بكذا يغْرى غَرًى وغرَاء، فإذا أريد تَعْدِيته عُدِّي بالهمزة، فقيل: أغْرَيْتُه بكذا. والضمير في «بَيْنَهُم» يحتمل أن يعُود على {الذين قَالُواْ: إِنَّا نصارى} ، وأن يعود على اليَهُود المتقدمين الذِكْر، وبكلٍّ قال جماعَةٌ كَمَا [قَدَّمْنَا] وهذا الكلامُ مَعْطُوفٌ على الكلام قَبْلَه من قوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ} [المائدة: 12] أي: ولقد أخَذَ الله ميثاقَ بني إسْرَائيل، وأخَذْنا من الَّذين قالوا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 لما حكى عن اليهود والنَّصارى نَقْضَ العَهْد، دَعَاهُم بعد ذلك إلى الإيمان بِمُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: {يَا أَهْلَ الكتاب} وأراد اليَهُود والنَّصَارى، وَوَحَّد «الكِتَاب» إرادة للْجِنْس. ثم قال: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ} . قال ابن عباس: أخْفُوا آية الرَّجْمِ من التَّوْراة وبَيَّنَها الرَّسُول - عليه السلام - لهم، وهو لَمْ يَقْرأ [كتاباً] ولم يتعلَّم علماً من أحَد، وهذه مُعْجِزة، وأخفوا صِفَةَ مُحَمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الإنْجِيلِ، وغير ذَلِك. قوله: «يُبَيِّن» في محلِّ نَصْب على الحَال من «رَسُولُنَا» ، أي: جَاءَكم رسولُنا في هذه الحالة، و «ممَّا يتعلَّق بَمْحذُوف؛ لأنَّه صِفَة ل» كَثيراً «، و» مَا «موصولةٌ اسميَّة، و» تُخْفُون «صلتُهَا، والعائد مَحْذُوفٌ، أي: من الذين كُنْتُم تُخْفُونَهُ، و» مِن الكِتَابِ «متعلِّق بِمَحْذُوف على أنَّه حالٌ من العَائِد المَحْذُوف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 258 وقوله: {وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} ، أي: لا يُظْهِر كثيراً مما كُنْتُم تُخْفُون من الكِتَاب، فلا يتعرَّض لكم، ولا يُؤاخذكم به؛ لأنَّه لا حاجةَ له إلى إظْهَارِهِ، والفَائِدةُ في ذلك: أنهم علموا كَوْنَ الرَّسُول عالماً بكُلِّ ما يُخْفُونَه، فيصير ذلك داعياً لهم إلى تَرْكِ الإخْفَاء، لئلا يفتضح أمرهم. والضَّمِير في» يُبَيِّنُ «و» يَعْفُو «يعود على الرَّسُول. وقد جوَّز قومٌ أن يعود على الله تعالى، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لِقَوْلِهِ:» يُبَيِّنُ «من الإعراب، ويمتنعُ أن يكون حَالاً من» رَسُولُنَا «لعدم الرَّابِط، وصِفَةُ» كَثِير «محذوفة لِلْعِلْمِ بها، وتَقْدِيرُه: عن كثير من ذُنُوبِكُمْ، وحذف الصِّفَة قَلِيلٌ. قوله: {قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ} لا محلَّ له [من الإعراب] لاستئنَافِه، و» من اللَّه «يَجُوز أن يتعلق ب» جاء «، وأن يتعلَّق بمحذُوف على أنَّه حَالٌ من» نُورٌ «، قدِّمت صفة النَّكرة عليها، فنُصِبَتْ حالاً. فصل في معنى الآية والمراد بالنُّور: محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وبالكتاب: القُرْآن، وقيل: المراد بالنُّور: الإسلام، وبالكِتَاب القُرْآن، وقيل: النُّور والكتاب والقُرْآن، وهذا ضعيفُ؛ لأنَّ العَطْفَ يوجبُ التَّغَاير. قوله تعالى:» يَهْدِي «فيه خَمْسَة أوجه: أظهرها: أنَّه في محلِّ رفْع؛ لأنَّهُ صفة ثَانِيَةٌ ل» كِتَاب «، وصفَهُ بالمفرد ثم بالْجُمْلَة، وهو الأصْلُ. الثاني: أن يكون صِفَةً أيضاً لكن ل» نُورٌ «، وصَفَهُ بالمُفْرَد ثم بالجُمْلَة، ذكره أبو البقاء وفيه نظر، إذ القَاعِدَةُ أنَّه إذا اجْتَمَعَتِ التَّوابع قُدِّم النَّعْت على عَطْف النَّسَق، تقول جاء زَيْدٌ العَاقِل وعَمْرو، ولا تقُولُ: جاء زيْدٌ وعمرو العَاقِل؛ لأنَّ فيه إلباساً أيضاً. الثالث: أن يكون حالاً من «كِتَاب» ، لأن النَّكرة لما تخصَّصَت بالوَصْف قَرُبت من المَعْرِفة. وقياس قول أبي البقاء أنَّه يجوز أن يكون [حالاً من «نُورٌ» ، كما جاز أن يكُون] صِفَة لَهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 259 الرابع: أنَّهُ حال من «رسُولُنا» بدلاً من الجُمْلَة الواقِعَة حالاً له، وهي قوله: «يُبَيِّنُ» . الخامس: أنَّهُ حالٌ من الضَّمير في «يُبَيِّن» ذكرهما أبُو البقاء، ولا يَخْفَى ما فيهما من الفَصْلِ؛ ولأن فيه ما يُشْبِهُ تَهْيِئَة العَامِل للعَمَلِ، وقَطْعه عنه، والضَّمِير في «بِهِ» يعُودُ على من جعل «يَهْدي» حالاً منه، أو صِفَة لَه. قال أبو البقاء: فَلِذَلِكَ أفْرِدَ، أي: إن الضمير في «بِهِ» أُتِي به مُفْرداً، وقد تقدَّمه شيئان وهُمَا: «نُورٌ» و «كِتَابٌ» ، ولكن لما قصد بالجُمْلَة من قوله: «يَهْدي» الحال، أو الوصف من أحدهما، أُفْرِد الضَّمير. وقيل: الضمير في «بِهِ» يعود على الرَّسُول [وقيل: يَعُودَ على «السَّلام» ] ، وعلى هذين القَوْلَيْن لا تكون الجُمْلَةُ من قوله: «يَهْدِي» حالاً ولا صِفَةً لعدم الرَّابط. و «مَنْ» موصولةٌ أو نكرةٌ موصوفةٌ، ورَاعَى لَفْظَها في قولِهِ: «اتَّبَع» فلذلك [أفرد الضَّمِير، ومَعْناها، فَلِذَلك] جمعه في قوله: «وَيُخْرِجُهُم» . وقرأ عُبَيْد بن عُمَيْر، ومُسْلِم بن جُنْدُب، والزُّهَري «بهُ» بضم الهاء حيث وقع، وقد تقدَّم أنَّه الأصْل. وقرأ الحسن «سُبْلَ» بسكون الباء، وهو تخْفيفٌ قياسي به كقولهم في عُنُق: عُنْق، وهذا أوْلَى لِكَوْنه جمعاً، وهو مَفْعُول ثانٍ ل «يَهْدِي» على إسقاط حَرْفِ الجرِّ، أي إلى «سُبْل» ، وتقدَّمَ تحقيق نظيره، ويجُوزُ أن يَنْتَصِبَ على أنَّهُ بدَل من «رِضْوَانَهُ» إما بَدَل كُل من كلّ لأن سبل السلام [هي رضوان الباري تعالى، وإما بدل اشتمال؛ لأن الرضوان مشتمل على سبل السلام؛ أو لأنها مشتملة على رضوان الله تعالى، وإما بدل] بعض من كل؛ لأن سبل السلام بعض الرضوان. فصل معنى {يَهْدِي بِهِ الله} أي: بالكِتَاب المُبِين {مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} أي: كان مطلوبُهُ من طلب الدِّين اتِّباع الدِّين [الذي] يَرْتَضِيه اللَّه، «سُبُلَ السلام» [أي: طُرُق السَّلامَة] وقيل: السلام هو الله عزَّ وجلَّ، و «سُبُلَهُ» : دينَهُ الذي شرع لِعبَادِه، ويجُوزُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 260 أن يكون على حَذْفِ مُضَافٍ، أي: سُبُل دار السلام، ونظيره قوله: {والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ} [محمد: 4 - 5] ومعلومٌ أنَّه ليس المُرادُ هِدَايَة الاسْتِدْلاَل، بل الهدايَةُ إلى طَرِيق الجَنَّة. ثم قال: {وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ} أي: من ظُلمات الكُفْر إلى نورِ الإيمان «بإذْنِهِ» بتوفيقه و «بإذنِهِ» متعلِّق ب «يُخْرِجُهُم» أي: بتَيْسِيره أو بأمْره، و «البَاءُ» للحال أي: مُصَاحِبِين لِتَيْسِيرِه أو للسَّبَبِيَّة، أي: بسبب أمْرِه المُنَزَّل على رسوله. وقيل: «الباء» تتعلق بالاتِّبَاع، أي: يتَّبع رِضْوَانه بإذْنِه. قال ابنُ الخَطِيب: ولا يجُوزُ أن تتعلَّق بالهِدَاية، [ولا بالإخْرَاج؛ لأنَّه لا مَعْنَى له، فَدَلَّ ذلك على أنَّه لا يتبع رضوان الله إلا من أرَادَ اللَّه منه ذَلِكَ] . ثم قال: {يَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} وهو الدِّين الحقُّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 وهمُ اليَعْقُوبيَّة من النَّصارى، يقولون: المَسِيحُ هو الله، وهذا مذهب الحُلوليَّة، فإنَّهُم يَقُولُون: إنَّ الله تعالى قد يَحِلُّ في بدن إنْسَان معيَّن أو في رُوحِهِ، ثم إنَّه تعالى احَتَّج على فَسَادِ هذا المذْهَب بقوله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً} . قوله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ} [الفاء عاطِفةٌ هذه الجملة على جُمْلة مقدَّرة قبلها، والتقدير: قل كَذَبُوا، أو ليس الأمْر ذكلك فَمَن يَمْلِك؟] وقوله: «مِنَ الله» فيه احتمالان: أظهرهما: أنَّه متعلِّقٌ بالفِعْلَ قَبْلَه. والثاني: ذكره أبُو البقاء: أنَّه حالٌ من «شَيئاً» ، يعني: من حَيْثُ إنَّه كان صِفَةً في الأصْلِ للنَّكرة، فقدَّم عليها [فانْتَصَب حالاً] ، وفيه بُعْدٌ أو مَنْعٌ. وقوله «فَمَنْ» استفهامُ تَوْبِيخٍ وتقرير وهو دالٌّ على جواب الشَّرْط بعدَهُ عند الجُمْهُور. قوله: {إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً} الجزء: 7 ¦ الصفحة: 261 وهذه جُمْلَةٌ شرطيَّةٌ قُدِّم فيها الجزاءُ على الشَّرْط، والتَّقْدير: إن أرَاد أن يَهْلِكَ المسيحَ ابن مَرْيَم وأمَّهُ ومن في الأرض جميعاً فمن الذي يقدر أن يَدْفَعَهُ عن مُرَادِهِ ومَقْدُوره. وقوله: {فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً} أي: فَمَنْ يَمْلِكُ من أفْعَال الله شَيْئاً، والمُلْكُ هو القُدْرة، أي: فمن الذي يَقْدِر على دَفْعِ شَيْءٍ من أفْعال الله. وقوله {وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً} ، يعني: أنَّ عيسى مُشَاكِلٌ من في الأرْض في القُدْرة والخِلْقَة والتَّركيب وتغْيِير الأحوال والصِّفات، فلما سلّمتم كَوْنَهُ تعالى خَالِقاً للكُلِّ، وَجَبَ أن يكون خَالِقاً لِعيسى. قوله: {وَمَن فِي الأرض} من باب عَطْفِ التَّامِّ على الخاصِّ، حتى يبالغ في نفي الإلهيَّة عنهما، فكأنَّه نَصَّ عليهما مَرَّتَيْن؛ مرَّة بذِكْرِهما مُفْرَدَيْن، ومرَّة بانْدِرَاجِهما في العُمُوم. و «جميعاً» : حالٌ من المسيحِ وأمّه ومَنْ في الأرض، أو مِنْ «مَنْ» وحدَهَا لعُمُومها. ويجُوز أن تكون مَنْصُوبَةً على التَّوْكِيد مثل «كل» ، وذكرهَا بعض النُّحاة من ألْفَاظ التوكيد. ثم قال: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض} ثم قال: «ومَا بَيْنَهُمَا» ، ولم يقل: بَيْنَهُنَّ؛ لأنَّه ذهب بذلك مذهب الصِّنْفَيْن والنَّوْعَيْن. وقوله: {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} جُمْلَة لا مَحَلَّ لها من الإعْراب لاسِئْنَافِها، وفي مَعْنَاها وجْهان: الأول: يَخْلُقُ ما يشاء، فتارة يخلق الإنسان من ذكر وأنْثَى كما هو مُعْتَاد، وتارة لا من الأب والأم كما في [حقِّ آدم] ، وتارة من الأمِّ لا من الأب كما في حقِّ عيسى - عليه السلام -. والثاني: {يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ} يعني: أنَّ عيسى إذا قدر صور الطير من الطِّين، فالله يَخْلُق فيه الحَيَاة والقُدْرَة مُعْجِزةً لِعيسَى، وتارَةً يُحْيِي المَوْتَى، وتارة يُبْرِئ الأكْمَهَ والأبْرَص مُعْجِزةٌ لَهُ، [ولا اعتراض على الله] في شيء من أفْعْالِهِ، {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 واعلم: أنَّ اليَهُود والنَّصَارى لا يقُولُون ذلك؛ فَلِهَذا ذكر المُفَسِّرُون وُجُوهاً: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 262 أحدها: أنَّ هذا من باب حَذْفِ المُضَاف، أي: نحن أبناءُ رُسُلِ الله، كقوله: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] . الثاني: أن لَفْظَ الابْنِ كما يُطلَقُ على ابن الصَّلْب، قد يُطْلَق - أيضاً - على من يتَّخِذُ أبْنَاء، بمعنى تَخْصِيصه بِمَزيدِ الشَّفقة والمحبَّة، فالْقَوْم لما ادَّعَوْا عِنَاية الله بِهِم، ادَّعَوْا [أنَّهُمْ أبْنَاءُ لِلَّه] . الثالث: أنَّ اليهود زَعَمُوا أنَّ العُزَيْرَ [ابْن اللَّه] ، والنَّصَارى زَعَمُوا أنَّ المسيح ابن الله، ثم زَعَمُوا أنَّ العُزَيْرَ والمسيحَ كانَا مِنهُم كأنَّهمُ قالوا: نَحْنُ أبْنَاء الله، ألا تَرَى أنَّ أقارِبَ المَلكِ إذا فاخَرُوا أحَداً يقولون: نَحْنُ مُلُوك الدُّنْيَا، والمُرادُ: كَوْنهُم مُخْتَصِّينَ بالشَّخْصِ الذي هو الملك، فكذا هَا هُنَا. الرابع: قال ابن عبَّاسٍ: إن النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا جماعَةً من اليَهُودِ إلى دين الإسْلام، وخوَّفهم بِعِقَاب اللَّه تعالى، فقَالُوا كيف تُخَوِّفُنَا بِعِقَاب الله ونَحْنُ أبْنَاء الله وأحِبَّاؤُه، فهذه الرِّواية [إنما] وقعت عن تلك الطَّائِفَة. وأما النَّصارى فإنَّهُم يتلون في الإنجيل أنَّ المسيح قال لَهُم: أذهب إلى أبِي وأبيكُمْ، وقيل: أرَادُوا أن اللَّه تعالى كالأبِ لنا في الحُنُوِّ والعَطْفِ، ونحن كالأبْنَاء [له] في القُرْبِ والمَنْزِلَة. وقال إبْراهيم النَّخْعِي: إنَّ اليَهُود وجدوا في التَّوْرَاة، يا أبناء [أحْبَاري، فَبَدَّلوا يا أبناء] أبْكَارِي فمن ذلك قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} ، وجملة الكلام أنَّ اليهود والنَّصارى كانوا يَرَوْنَ لأنْفُسِهِم فَضْلاً على سَائِر الخَلْقِ، بسبب أسْلافِهِم الأنْبِيَاء إلى أن ادَّعَوْا ذلك. قوله تعالى: «فَلِمَ يُعَذِّبكُمْ» هذه الفاء جوابُ شرط مقدَّر، وهو ظاهرُ كلام الزَّمَخْشَرِي، فإنَّهُ قال: فإن صَحْ أنكم أبْنَاء اللَّه وأحِبَّاؤُه فلم تُذْنِبُون وتُعذَّبُون؟ ويجُوزُ أن يكُون الكلامُ كالفَاءِ قَبْلَها في كَوْنِها عَاطِفَة على جُمْلةٍ مُقَدَّرة، أي: كَذَبْتُم فلم يُعَذِّبكُم، و «الباءُ» في «بِذُنُوبِكُم» سببية، و «مِمَّنْ خَلَقَ» صِفَة ل «بَشَر» فهو في مَحَلِّ رفع مُتعلِّق بِمَحْذُوف. فإن قيل: القَوْمَ إما أن يدعُوا أنَّ الله عَذَّبَهُم في الدُّنْيَا أو يدَّعُوا أنَّه سيُعَذِّبُهُم في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 263 الآخِرَة، فإن كان مَوْضِع الإلْزَامِ عَذَاب الدُّنْيَا، فهذا لا يقْدَحُ في ادِّعَائِهِم كونهم أحِبَّاءُ الله؛ لأنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يدعى هو وأمَّتهُ أحِبَّاء الله، ثم إنَّهُم ما خَلَوْا عن مَحِنِ الدُّنْيَا كما في وَقْعَةِ أحُد وغَيْرها، وإن كان مَوْضِعُ الإلْزَام هو أنَّهُ تعالى سيُعَذِّبُهُم في الآخِرة، فالقَوْمُ يُنْكِرُون ذلك، ومجرد إخْبَارِ مُحَمَّد - عليه السلام - ليس بكافٍ في هذا البَابِ، فكان هذا اسْتِدْلالاً ضَائِعاً. الجواب: من وُجُوه: أحدُها: أنَّ موضع الإلْزَام هو عَذَابُ الدُّنْيَا، والمعارَضَةُ بِيَوم أُحُدٍ غير لازِمَة؛ لأنَّا نَقُول: لو كانوا أبْنَاء الله وأحِباءهُ، لِمَ عذَّبَهُم في الدُّنيا؟ ومَحَمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنَّما ادَّعى أنَّه من أحِبَّاء الله ولم يَدَّع أنَّهُ من أبْنَاء اللَّه. الثاني: أنَّ موضع الإلْزَام عذاب الآخِرَة، واليَهُود والنَّصَارى كانوا مُعْتَرِفِين بِعَذَاب الآخِرَة، كما أخْبَر اللَّه عَنْهُم أنَّهُم قالوا: {وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] . الثالث: أن قوله: «فَلِمَ يُعَذِّبُكُم» أي: لِمَ عَذَّبَ من قَبْلَكُمْ بذنوبهم فَمَسَخَهُمْ قِرَدَةً وخَنَازِير، إلاَّ أنَّهُم لما كانوا من جِنْسِ أولَئِكَ المُتَقَدِّمِين، حسنت هذه الإضَافَةُ وهذا أوْلَى؛ لأنَّهُ تعالى لم يَكُنْ لِيَأمُر رسُوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يحتَجَّ عليهم بِشَيءٍ لم يَدْخُل بَعْدُ في الوُجُود. قال تعالى: {بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ} كسائر بَنِي آدَم يُجْزَوْنَ بالإحْسَان والإسَاءَة، {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ} : فضلاً، {وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} : عدلاً، ليس لأحَد عليه [حقٌّ يوجبُ عليه] أن يغفر له، يَفْعَلُ ما يَشَاءُ، ويَحْكُم ما يُرِيدُ. ومذهب المُعْتَزِلَة: أنَّ كُلَّ من أطَاعَ الله واحْتَرَز عن الكَبَائِرِ، فإنَّه يجب على الله عقلاً إيصال الرَّحْمة والنِّعْمة إليه أبدَ الآبَاد، ولو قطع عَنْه تلك النِّعْمة لحظةً واحِدَة لبَطَلَتِ الإلهيَّة، وهذا أعْظَمُ من قول اليَهُود والنَّصَارى نَحْنُ أبْنَاءُ الله وأحِبَّاؤُه. كما أنَّ قوله: {يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ} إبطالاً لِقَوْلِ اليَهُود، فبأن يكون إبْطَالاً لِقَوْل المُعْتَزِلَة أوْلَى. ثم قال تعالى: {وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} يعني: من كان هكذا أو قُدْرَته هكذا، كيف يستحق البَشَرُ الضَّعِيفُ عليه حقاً واجباً؟ وكيف يَمْلِكُ عليه الجَاهِلُ بعبادته النَّاقِصَة دَيْناً لازِماً؟ {كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً} [الكهف: 5] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 264 ثم قال: «وَإلَيْه المَصِيرُ» أي: وإليه يَؤُول أمْر الخَلْقِ؛ لأنَّه لا يملك الضَّرَّ والنَّفْع هُنَاك إلاَّ هو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 قوله: «يبيّنُ لكم» فيه وجهان: أحدهما: إن المبين هو الدِّين والشَّرائع، وإنما حَسُن حَذْفُهُ؛ لأنَّ كل أحد يَعْلَم أنَّ الرَّسُول إنَّما أُرْسِل لبيان الشَّرَائع؛ لدلالة اللَّفْظِ عليه. الثاني: أن يكون التَّقْدِير: يُبَيِّن لكم البَيَان، وحَذْفُ المَفْعُول أكمل؛ لأنَّهُ يصير أعمَّ فائدة، وتقدَّمَ الكلام في «يُبَيِّن» . قوله: «عَلَى فَتْرَة» فيه ثلاثةُ أوجه: أظهرها: أنَّهُ متعلِّق [ب «جاءكم» ] أي: جاءكم على حين فُتور من إرسَالِ الرَّسُل، وانْقطِاع من الوَحْي ذكره الزَّمَخْشَرِيُّ. والثاني: أنَّه حال من فاعل «يُبَيِّن» أي يُبَيِّن في حَالِ كَوْنِهِ على فَتْرَة. والثالث: أنَّهُ حال من الضَّمير المَجْرُور في «لَكُم» ، فيعلَّق على هَذَيْن الوجْهَيْن بمحذوف، و «مِنَ الرُّسُل» صِفَة ل «فَتْرة» ، على أن معنى «مِنْ» : ابتداءُ الغاية، أي: فَتْرَة صادرة من إرْسَالِ الرُّسُلِ. فصل قال ابنُ عبَّاسٍ: يريد على انْقِطَاعٍ من الأنْبِيَاء، يقال: فَتَر الشَّيْ يَفْتُر فُتُوراً إذا سَكَنَتْ حَرَكَتُه، فَصَارَ أقَلَّ ما كان عليه، وسمِّيَت المدَّة بين الأنْبِيَاء فَتْرة؛ لفُتُور الدَّوَاعي في العمل بِتَرْك الشَّرَائع. واخْتَلَفُوا في مُدَّة الفَتْرَة بين عِيسَى ومُحَمَّد - عليهما الصلاة والسلام - قال أبُو عُُثْمان النهدي: ستمائة سَنَة، وقال قتادَة: خمسمائة سنة وسِتُّون سنة، وقال مَعْمَرُ والكَلْبِيُّ: خمسمائة سَنة وأرْبعُون سنة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 265 وعن الكَلْبِيِّ بين مُوسى وعيسى ألْفٌ وسبعمائة سنة وألفا نبيّ، وبَين عيسى ومحمد أربعةٌ من الأنبياء؛ ثلاثةٌ من بني إسرائيل، وواحدٌ من العرب وهو خالد بن سِنَان العَبْسي. والفائدة في بَعْثَة مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على فَتْرَةٍ من الرُّسُلِ؛ لأنَّ التَّحْريف والتَّغْيِير قد تَطَرَّق إلى الشَّرَائِع المُتقدِّمة، لتقَادُم عَهْدِهَا وطول أزْمَانِها، ولهذا السَّبَب اخْتَلط الحقُّ بالبَاطِل، والصِّدق بالكَذِبِ، فصار عذْراً للخَلْقِ في إعْرَاضِهِم عن العِبَادَات. وسُمِّيت فَتْرة؛ لأنَّ الرُّسل كانت تَتْرَى بعد مُوسى - عليه السلام - من غير انْقِطَاع إلى عيسى، ولم يَكُنْ بعد عيسى سِوى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا ما تقدَّم عن الكَلْبِي. قوله: «أنْ تَقُولُوا» مَفْعُولٌ من أجْلِهِ، فَقَدَّره الزَّمَخْشَرِي «كَراهَة أن تَقُولُوا» . وأبُو البقاء «مخَافَة أن تَقُولُوا» ، والأوَّل أوْلَى وقوله: «يُبَيِّن» يجوز ألاَّ يُرادَ له مفعولُ ألْبَتَّة، والمعنى: يبذل لكم البيان، ويجُوز أن يكُون مَحْذُوفاً إمَّا لدلالة اللَّفظ عليه، وهو ما تقدَّم من قوله: {يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً} [المائدة: 15] وإمَّا لدلالة الحَالِ أي: يُبَيِّن لكم ما كُنْتم تَخْتَلِفُون فيه. و «مِنْ بَشيرٍ» فاعل زيدَت فيه «مِنْ» لوجود الشَّرْطين، و «لا نَذِيرٍ» عطف على لفظه، ولو قُرِئ برفعه مُراعَاةً لوضْعِه جَازَ. وقوله: «فَقَدْ جَاءَكُمْ» عطف على جُمْلَةٍ مُقَدَّرة، أي: لا تعتذروا فقد جَاءَكُم، وما بعد هذا من الجُمَلِ واضِحُ الإعْرَاب لما تقدَّم من نَظَائِرِهِ. ثم قال: {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} ، والمعنى: [أنَّ] حصول الفَتْرَة يوجِبُ احْتِياجَ الخَلْقِ إلى بَعْثَة الرُّسُلِ عليهم السلام، والله قَادِرٌ على البَعْثَة؛ لأنَّهُ رحيمٌ كريمٌ قادرٌ على البَعْثَة، فوجَبَ في رَحْمَتِه وكَرَمه أن يَبْعَثَ إليهم الرُّسُل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 266 الواو في قوله: «وَإذْ قَالَ» واو عَطْفٍ، وهو مُتَّصِلٌ بقوله: {وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ} [المائدة: 12] ، كأنَّهُ قيل: أخَذَ عَليْهِم الميثاق، وذكر مُوسى نِعَم الله وأمَرَهُم بمحارَبةِ الجَبَّارين، فَخَالَفُوا المِيثَاقَ، وخالَفُوا في مُحَارَبَة الجَبَّارين. واعلم: أنَّه تعالى مَنَّ عليهم بثلاثَةِ أمُورٍ: أوَّلها: جعل فيهم أنْبيَاء؛ لأنَّه ما بَعَثَ في أمَّة ما بَعَث في بَنِي إسْرائيل من الأنْبِيَاء، فمنهم السَّبْعُون الذين اخْتَارَهُم مُوسَى من قَوْمِه فانْطَلَقُوا مَعَهُ إلى الجَبَلِ، وكانوا من أوْلاَدِ يَعْقُوبَ بن إسْحَاق بن إبراهيم، وهؤلاءِ الثَّلاثةُ من أكَابِر الأنْبِياء بالاتِّفَاق، وأوْلاَدُ يَعْقُوب - أيضاً - كانوا أنْبِيَاء على قَوْل الأكْثَرِين، والله تعالى أعلم مُوسَى أنَّهُ لا يَبْعَثُ من الأنْبِيَاء إلا من وَلَدِ يَعْقُوب ومن وَلَدِ إسْمَاعيل، [فهذا الشَّرَفُ] حَصَلَ بمن مَضَى من الأنْبِيَاء، وبالَّذِين كانوا حَاضِرِين مع مُوسَى، وبالَّذين أخْبر الله مُوسَى أنَّه يَبْعَثُهُم من وَلَدِ يَعْقُوب وإسْمَاعِيلَ بعد ذَلِك. وثانيها: قوله «وَجَعلَكُمْ مُلُوكاً» ، قال ابن عبَّاس: أصْحَاب خدم وحَشَمٍ. قال قتادةُ: كانوا أوَّل من مَلَك الخدم، ولم يَكُنْ قَبْلَهم خَدَمٌ، وعن أبي سعيدٍ الخُدْرِيّ عن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كان بنو إسرائيل إذا كان لأحَدٍ خَادِمٌ وامْرَأةٌ ودَابَّة يُكْتَبُ مَلِكاً» . وقال أبُو عَبْد الرَّحْمَن السُّلَمي: سَمِعْتُ عَبْدَ الله بْن عمرو بن العَاصِ، وسأله رَجُل فَقالَ: ألَسْنََا فُقَراء المُسْلمين المُهَاجِرِين؟ فقال لَهُ عَبْدُ الله: «ألَكَ امْرَأةٌ تَأوِي إلَيْهَا؟ قال: نَعَمْ، قال: ألَكَ سَكَنٌ تَسْكُنُه؟ قال: نَعَمْ، قال: فأنْتَ من الأغْنِيَاء، قال: لِي خَادِمٌ، قال: فأنت من المُلُوكِ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 267 وقال السديُّ: وجَعَلكُمْ [مُلُوكاً] أحراراً تَمْلِكُون أمْرَ أنفُسِكُمْ، بَعْدَما كُنْتُم في أيْدِي القبطِ يَسْتَعْبِدُونَكُمْ. وقال الضَّحَّاك: كانت مَنَازِلُهُمْ واسِعَة، فيها مِيَاهٌ جَارِيَةٌ، فمن كان مَسْكَنُهُ واسِعاً وفيه نهرٌ جارٍ، فهو مَلِكٌ. وقيل: إنَّ كل من كان رسُولاً ونَبِيّاً كان مَلِكاً؛ لأنَّه يَمْلِكُ أمْر أمَّتِهِ وكان نافِذَ الحُكْم عليهم فكان مَلِكاً، ولهذا قال تعالى: {فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً} [النساء: 54] . وقيل: كان في أسْلافِهِم وأخلافِهِم المُلُوكُ والعُظْمَاءُ، وقد يُقَال لمن حصل فيهم المُلُوك: أنْتُم ملوكٌ على سَبِيل الاسْتعارَة. قال الزَّجَّاج: المَلِكُ من لا يَدْخُل علَيْه أحدٌ إلا بإذْنِهِ. وثالثها: قوله تعالى: {وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين} وذلك لأنَّه تعالى خَصَّهم بأنْوَاع عَظِيمَة من الإكْرَامِ، فلق البَحْرَ لهم وأهْلك عَدُوَّهم وأوْرَثهُمْ أمْوَالهم، وأنْزَل عليهم المَنَّ والسَّلْوَى، وأخرج لهم المياه الغَزِيرَة من الحَجَرِ، وأظلَّ فَوْقَهُم الغَمام، ولَمْ يَجْتَمِع المُلْكُ والنُّبُوَّة لِقَومٍ كما اجْتَمَعَا لَهُم، وكانوا في تِلْكَ الأيَّام هُمُ العُلَمَاءُ باللَّه، وهم أحْبَابُ اللَّهِ وأنْصَار دينِهِ. ولما ذَكَر هذه النِّعَمَ وشرحَها لهم أمَرَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ بِجَهَاد العَدُوِّ، فقال: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} . وقرأ ابن مُحَيْصِن هنا وفي جميع القُرْآن «يَا قَوْمُ» مضموم الميم. وتروى قراءة عن ابن كثيرٍ [ووَجْهُهَا أنَّها] لُغَةٌ في المُنَادى المضاف إلى يَاءِ المُتَكَلِّم كَقِرَاءة { [قَالَ] رَبِّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112] ، وقد تقدَّمَت هذه [المسألة] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 268 وقرأ ابن السمَيْفع: {يَاقَوْمِ ادْخُلُوا} بفتح الياء، ورُوِيَ أنَّ إبراهيم - عليه السلام - لما صعد [جَبَل لبنان] ، فقال اللَّهُ تعالى له: «انظر فما أدركه بصرك فهو مقدس، وهو ميراث لذريتك» . والأرضُ المقدَّسَةُ هي الأرْضُ المطهَّرَةُ من الآفات؛ لأنَّ التَّقْدِيس هُو التَّطْهِيرُ، وقال المُفَسِّرُون طهِّرَت من الشِّرك، وجُعِلَت مَسْكَناً وقَرَاراً للأنْبِيَاء، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ تلك الأرْض لما أمَرهُمْ مُوسى بِدُخُولها ما كانَتْ مقدَّسة عن الشِّرْك، وما كَانَتْ مَقرًّا للأنْبيَاء، وقد يُجَابُ عَنْهُ بأنَّها كَانَتْ كذلك فيما قَبْل. واختلفُوا في تلك الأرْض، فقال عِكْرِمَةُ، والسديُّ، وابنُ زَيْد: هي أريحا. وقال الكَلْبِيُّ: هي دمشق وفلسْطِين وبعض الأرْدُن، وقال الضَّحَّاك: هي إيليَا وبَيْتُ المَقْدِسِ، وقال مُجَاهِد: هي الطُّور وما حَوْلَه. وقال قتادةُ: هي الشَّامُ كُلُّها. وقال كَعْبٌ: وجَدْتُ في كتاب اللَّه المُنَزَّل [أنَّ الشَّام] كَنْزُ الله من أرْضِه، وبِها كَثْرَةٌ من عِبَادِه. وقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} يعني: في اللَّوْح المَحْفُوظِ أنَّها لكم مَسَاكِن. وقال ابن إسحاق: وهب اللَّهُ لكم، وقيل: جعلها لكم [قال السديّ: أمَرَكُم الله بِدُخُولها] . فإن قيل: لم قال {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ، ثم قال {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} [المائدة: 26] . فالجوابُ: قال ابنُ عبَّاس: كانت هِبَةً ثُمَّ حرَّمها عليهم بشُؤم تَمَرُّدِهِم وعِصْيَانِهم، وقيل: اللَّفْظ وإن كان عامًّا لكنَّ المرادُ به الخُصُوصُ، فكَأَنَّها كُتِبَتْ لِبَعْضِهِم، وَحُرِّمَتْ على بَعْضِهِم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 269 وقيل: إنَّ الوَعْد بقوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} مشروطٌ بقَيْد الطَّاعة، فلما لم يُوجَد الشَّرْط لم يُوجَد المَشْرُوط. وقيل: إنَّها مُحَرَّمةٌ عليهم أرْبَعِين سَنَة، فلما مَضَى الأرْبَعُون حصل ما كتَبَ. وفي قوله: {كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} فَائِدَة، وهي أنَّ القوم وإن كانُوا جبَّارِين، إلاَّ أنَّ الله تعالى لمَّا وعد هؤلاءِ الضُّعَفَاء بأنَّ تلك الأرْضَ لهم، فإن كانوا مُؤمنين مُقَرَّبين بصدْق الأنْبِيَاء، عَلِمُوا قَطْعاً أنَّ اللَّه يَنْصُرهم عليهم، فلا بُدَّ وأن يَعْزِمُوا على قتالهم من غير خَوْفٍ ولا جُبْن. قوله: {وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ} فالجار والمجرور [حال من فاعل «تَرتَدوا» أي: لا ترتدوا مُنقلبين، ويجُوزُ أن] يتعلَّق بِنَفْسِ الفَعْل قَبْلَهُ. وقوله: «فَتَنْقَلِبُوا» فيه وجهان: أظهرُهُمَا: أنَّهُ مَجْزُومٌ عَطْفاً على فِعْل النَّهْي. والثاني: أنَّهُ منصُوبٌ بإضْمَار «أنْ» بعد الفَاءِ في جواب النَّهي. و «خَاسِرِين» حالٌ. وفي المَعْنَى وجهان: أحدهما: لا يَرْجِعُوا عن الدِّين الصَّحيح في نُبُوَّة مُوسَى؛ لأنَّهُ - عليه السلام - لما أخْبَرَ اللَّه تعالى جعل تِلْكَ الأرْضَ لَهُم، [أو] كان هذا وعْداً بأنَّ الله يَنْصُرهم عليهم، فلو لَمْ يقْطعُوا بِهَذِه النُّصْرَة، صارُوا شاكِّين في صِدْق مُوسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فيصيروا كافرين بالنُّبُوَّة والإلهِيَّة. والثاني: لا ترجِعُوا عن الأرْضِ التي أمرتُم بِدُخُولِها إلى الأرْض الَّتِي خَرَجْتُم عنها، يُرْوَى أنَّهُم عَزَمُوا على الرُّجُوعِ إلى مِصْر. وقوله: «فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِين» أي: في الآخِرَة يَفوتُكُم الثَّواب ويَلْحَقُكُم العِقَابُ. وقيل: تَرْجِعُون إلى الذِّلَّة، وقيل: تُمَزَّقُون في التِّيه، ولا تَصِلُون إلى شَيْءٍ من مَطَالبِ الدُّنْيَا ومَنَافِع الآخِرَة. قوله: {قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} والجبَّارُ: فعَّالٌ من جَبرهُ على الأمْرِ، بمعنى: أجْبَرهُ عليه، وهو الذي يُجْبِرُ النَّاس على ما يُرِيدُ، وهذا اخْتِيَارُ الفَرَّاء والزَّجَّاج. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 270 قال الفرَّاء: لا أسْمَع فعَّالاً من أفعل إلاَّ في حَرْفَيْن وهما: جَبَّارٌ من أجْبَر، ودَرّاك من أدْرَكَ. وقيل: مأخوذٌ من قَولِهِم: نَخْلةٌ جَبَّارَةٌ، إذا كانت طَويلَةً مُرْتَفِعَةً لا تَصِلُ الأيْدِي إلَيْها، ويُقَال: رَجُلٌ جَبَّارٌ، إذا كان طَوِيلاً عَظِيماً قويّاً تَشْبِيهاً بالجبَّار مِن النَّخْلِ، والقَوْمُ كانوا في غَايَةِ القُوَّة وعِظَمِ الإجْسَامِ، بِحَيْثُ ما كَانَتْ أيْدِي قوم مُوسَى تَصِلُ إليهم، فَسَموهم جَبَّارِين لِهذَا المَعْنى. فصل قال المُفَسِّرُون: لما خَرَجَ مُوسَى من مِصْر، وعدَهُم الله - تعالى - إسكان أرْضِ الشَّام، وكان بَنُوا إسرائِيل يُسَمُّون أرْضَ الشَّام أرْضَ المَوَاعِيد، ثم بَعَثَ مُوسى - عليه السلام - اثْنَي عَشَر نَقِيباً من الأنبياء، يَتَجسَّسُون لَهُمْ أحْوَال تلك الأرَاضي. فلمَّا دَخَلُوا تلك الأمَاكِن رَأوْا أجْساماً عَظِيمَة، قال المُفَسِّرُون: فأخذَهُم أحَدُ أولئك الجبَّارِين، وجَعَلَهُم في كُمّهِ مع فَاكِهَةٍ كان قد حَمَلَها من بُسْتَانِه، وأتى بهم المَلِك فَنَثَرَهُم بين يديه، وقال مُتَعجباً للملك: هؤلاء يُرِيدُون قِتالَنا، فقال المَلِكُ: ارْجِعُوا إلى صاحِبِكُم، وأخْبِرُوه بما شَاهَدْتُم. قال ابْنُ كَثِير: وهذه هذياناتٌ من وضْعِ جُهَّالِ بني إسائيل، ولو كان هذا صَحِيحاً لكَان بَنُوا إسرائيل معذُورين في امْتِنَاعِهِم عن القتال، وقد ذَمَّهُمُ اللَّهُ تعالى على مُخَالَفَتِهِم وتَرْكِ جِهَادِهِم، وعَاقَبَهُم بالتِّيهِ، ثمَّ انْصَرَف أولَئِكَ النُّقَبَاءُ إلى مُوسَى وأخْبَرُوه بالوَاقِعَة، وأمَرَهُم أنْ يَكْتُمُوا ما شَاهَدُوهُ، فلم يَقْبَلُوا قوله إلا رَجُلان مِنْهُم، وهم: يُوشَعُ ابن نُون، وكَالِب بن يُوقنا فإنهما سَهَّلا الأمْر، وقالا: هي بلادٌ طَيِّبَةٌ كثيرة النعم والأقوام، وإن كانت أجْسَامُهُم عَظِيمَة، إلاَّ أنَّ قلوبَهُم ضَعِيفَةٌ. وأما العَشْرُة البَاقِية فإنَّهم أوْقَعُوا الجُبْن في قُلُوب النَّاسِ حتَّى أظْهَرُوا الامْتِنَاع من غَزْوِهِم، وقالُوا لِمُوسَى: {إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا، فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} ، فدَعا عَلَيْهم مُوسَى، فعاقَبَهُم الله تعالى بأن أبْقَاهُم في التِّيهِ أرْبَعِين سنة. وقالوا: وكَانَتْ مُدَّة غَيْبَة النُّقَبَاءِ المُتَجَسِّسِين أرْبعين يَوْماً، فعُوقِبُوا بالتِّيهِ أرْبَعِين سنة. قالوا: ومَاتَ أولَئِك العُصَاةُ بالتِّيهِ، وأهْلِكَ النُّقَبَاءُ العَشْرَة في التِّيهِ بعُقُوبَةٍ غَلِيظَةٍ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 271 وقال بَعْضُهُم: إنَّ مُوسَى وهَارُون مَاتَا - أيضاً - في التِّيهِ. وقال آخرون: إنَّ مُوسَى بَقِي، وخرج مَعَهُ يُوشَعُ بن نُون وكَالِب، وقاتَلَ الجبَّارِين وغَلَبَهُم، ودَخَلُوا تلك البِلاَد. ورُويَ أنَّهُ لم يَخْرُجْ من التِّيه [أحدٌ] ممن دَخَلهُ، [بل] ماتوا كُلُّهُم في مُدَّةِ أربعين سنة، ولَمْ يَبْقَ إلا ذَرَارِيهم يُوشعُ بن نُون وكالِب - عليهما الصلاة والسلام -. قال المُفَسِّرُون: إنَّ بَني إسْرَائيل دَخَلُوا البريَّة عند سيناء في الشَّهْرِ الثالث من خُرُوجهم من «مِصْر» ، وكان خُرُوجُهُمْ في أوَّلِ السَّنَة التي شُرِعَت لَهُمْ، وَهِيَ أوَّل فَصْلِ الرَّبيع، فكأنَّهُم دَخَلُوا التِّيهَ في أوَّل فَصْلِ الصَّيْف. قوله تعالى: {وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} . قالُوا هذا القول على سبيل الاسْتِبْعَاد، كقوله تعالى: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط} [الأعراف: 40] . وقوله: «فإنَّا دَاخِلُون» أي: فإنَّا دَاخِلُون الأرْضَ، فحذف المَفْعولَ لِلدلالَةِ عَلَيْه. قوله: {قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ} هذا الجارُّ والمَجْرُور في محلِّ رَفْع صَفَةٍ ل «رَجُلاَن» ، ومَفْعُول «يَخَافُونَ» محذوفٌ تَقْدِيرُهُ: «يَخَافُون الله» ، أو يخافُون العَدُوّ [ولكن ثَبَّتَهُمَا اللَّهُ تعالى] بالإيمَان والثِّقَةِ به، حتى قَالُوا هَذِه المَقَالة، ويُؤيِّد التَّقْدير الأوَّل التَّصْرِيح بالمَفْعُول في قِرَاءة ابْن مَسْعُود «يَخَافُون اللَّه» ، وهذان [التَّأوِيلاَن] بِنَاء على ما هُوَ المَشْهُور عِنْد الجُمْهُور، من كَوْنِ الرَّجُلَين القَائِلَيْن ذلك من قَوْمِ موسى، وهما: يُوشَعُ بن نُون بن أفرائيم بن يُوسُف فتى مُوسَى، والآخَر: كَالِب بن يوفنا خَتَنُ مُوسَى على أخْتِه مَرْيَم بِنْت عِمْران، وكان من سِبْط يَهُوذَا. وقيل: الرَّجُلان من الجَبَّارين، ولكن أنْعَمَ اللَّه عَلَيْهِما بالإيمَانِ حَتَّى قَالاَ هذه المقَالَة يُحَرِّضُونَهُم على قَوْمِهِم لِمُعَادَاتِهِم لهم في الدِّينِ وعلى هذا القَوْل فَيُحْتَمَل أن يكون المَفْعُولُ «يَخَافُون» كما تقدَّم، أي: يَخَافُون اللَّه أو العَدو، والمعنى كما تقدَّم ويُحْتَمَل أنَّ في المَفْعُول ضَمِيراً عَائِداً على المَوْصُولِ، ويكون الضَّمِير المَرْفُوع في «يَخَافُون» ضَمِير بَنِي إسْرَائيل، فالتَّقْدير: [من] الَّذِين يَخَافُهُمْ بُنُوا إسْرَائِيل. وأيَّدَ الزَّمَخْشَرِيُّ هذا التَّأوِيل بِقرَاءة مَنْ قرأ «يُخافون» مَبْنِيًّا للمَفْعُول [وبِقَوْلِه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 272 أيْضاً] {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} ، فإنَّه قال: «وقراءة مَنْ قَرأ» يُخَافُون «بالضَّمِّ شاهدة له، ولذلك أنْعَم الله عَلَيْهِما، كأنَّه قيل: من المُخَوفين» انتهى. والقِرَاءةُ المَذْكُورة مَرْوِيَّة عن ابْن عبَّاسٍ، وابن جُبَيْر، ومُجاهد، وأبدى الزَّمَخْشَرِي - أيضاً - في هذه القِرَاءة احْتِمَالاً آخَر، وهو أن تكُون من الإضَافَةِ ومعناه: من الَّذين يَخُوَّفُون من اللَّه بالتَّذْكِرة والمَوْعِظَة، أو يُخَوِّفهم وَعِيد الله بالعقَابِ. وتَحْتَمِلُ القِرَاءةُ - أيضاً - وجْهاً آخَر، وهو: أن يكُون المَعْنَى: يُخَافون، أي: يُهَابُون [ويُوَقَّرُون، ويُرْجَعُ] إليهم لِفَضْلِهِم وخَيْرِهِم. ومع هَذَيْن الاحْتِمَالين الأخِيرَيْن، فلا تَرْجِيحَ في هذه القراءة لِكَون الرَّجُلَيْن من الجبَّارين [أما قوله كذلك: {أنعم الله عليهما} ، أي: في كونه مرجّحاً أيضاً لكونهما من الجبارين] فَغَيْرُ ظاهر، لكون هذه الصِّفَة مُشْتَرَكَة بَيْن يُوشَع وكالب، وبين غيرهما مِمَّن أنْعَمَ اللَّهُ عليه. قوله: {أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا} في هذه الجُمْلَة خَمْسَة أوجُه: أظهرها: أنَّها صِفةٌ ثانية فمحَلُّها الرَّفْع، وجيءَ هنا بِأفْصَحِ الاسْتِعْمَالَيْنِ من كونه قدَّمَ الوَصْفَ بالجَارِّ على الوَصْفِ بالجُمْلَةِ لِقُرْبِهِ من المُفْرَد. والثاني: أنها مُعْتَرَضَةٌ وهو - أيضاً - ظَاهِر. الثالث: أنَّهَا حالٌ من الضَّمِير في «يَخَافُون» قال مَكِّي. الرابع: أنَّها حالٌ من «رَجُلانِ» ، وجاءت الحالُ من النَّكِرَة، لأنَّها تخصّصت بالوَصْف. الخامس: أنَّها حال من الضَّمِير المُسْتَتِر في الجَارِّ والمَجْرُور، وهو «مِن الَّذِين» لوُقُوعِهِ صِفَةً لموصُوف، وإذا جَعَلْتَها حَالاً فلا بُدَّ من إضمار «قَدْ» مع المَاضِي، على خلافٍ سلف [في المسألة] . فصل قوله: {ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب} مُبَالغةٌ في الوَعْدِ بالنَّصْر والظفر؛ كأنَّه قيل: مَتَى دَخَلْتُم باب بَلَدِهِم انْهَزَمُوا، ولَمْ يَبْق منهم أحَدٌ، وإنَّما جَزَمَ هذان الرَّجُلان في قولهما: {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} ؛ لأنَّهما كان عَارِفَيْن صِدْق مُوسى - عليه السلام -، فلمَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 273 أخْبَرَهُم مُوسَى بأنَّ الله قال: {ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} [فقد تبيّن أنَّهُ أوْعَدَهُم] بأنَّ النُّصْرَة والغَلَبَةَ لَهُمْ، ولِذَلك خَتَمُوا كلامَهُم بقولهم: {وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، يعني: توكَّلُوا على اللَّه تعالى في حُصُول هذا النصر لكم إن كُنْتُم مُؤمنين بوجود الإله القَادِرِ، ومُؤمِنِين بِنُبُوَّةِ مُوسَى - عليه السلام -. قوله: {قَالُواْ: ياموسى، إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا} [ «ما» ] مصْدَريَّة ظرفية و «دَامُوا» صِلَتُهَا، وهي «دَامَ» النَّاقصة، وخبرها الجارُّ بعدها، وهذا الظَّرْفُ بَدَلٌ من «أبداً» وهُوَ بَدَلُ بَعْض من كُلّ؛ لأنَّ الأبَدَ يعمُّ الزَّمَن المُسْتَقْبَل كله، ودوام [الجَبَّارين] فيها بَعْضه، وظَاهِرُ عِبَارَة الزَّمَخْشَرِيِّ يُحْتَمَلُ أن يكُون بَدَلُ [كُلٍّ] من كُلٍّ أو عَطْف بَيَان، والعَطْفُ قد يَقَعُ بَيْن النَّكِرَتَيْن على كلام فيه تقدَّم. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «وأبَداً» تعليق للنَّفْي المُؤكَّد بالدَّهْر المُتَطَاولِ، {مَّا دَامُواْ فِيهَا} : [بيانُ الأمْر] ، فهذه العَبَارَةُ تَحْتَملُ أنَّهُ بَدَلُ بَعْضٍ من كُلٍّ، لأنَّ بَدَل البَعْضِ من الكُلِّ مُبَيِّنٌ للمُرَاد، نحو: «أكَلْتُ الرَّغِيفَ ثُلُثَهُ» ، ويحتَملُ أن يكُون بَدَلَ كُلٍّ من كُلٍّ، فإنَّه بيانٌ أيضاً للأوَّل، وإيضَاحٌ له، نحو: رَأيْتُ زَيْداً أخَاك، ويحتمل أن يكُون عَطْفَ بَيَانٍ. قوله: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ} [في «وَرَبُّكَ» ] أرْبَعَةُ أوجه: أحدها: أنَّه مرفوع عَطْفاً على الفاعِل المُسْتَتِر في «اذْهَبْ» ، وجازَ ذلِك للتَّأكِيد بالضَّمِير. الثاني: أنَّه مَرفوع بِفَعْل مَحْذُوف، أي: ولْيَذْهَبْ رَبُّكَ، ويكون من عَطْفِ الجُمَل، وقد تقدَّم [لي نَقْلُ] هذا القَوْل والرَّدُّ عليه، ومُخَالَفَتُهُ لنَصِّ سِيبَويْه عند قَوْلِهِ تعالى: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [البقرة: 35] . الثالث: أنَّهُ مُبْتَدأ، والخبَرُ محذُوفٌ، و «الواوُ» لِلْحَال. الرابع: أنَّ «الواوَ» لِلْعَطْفِ، وما بَعْدَها مُبْتَدَأ محذوفٌ والخَبَرُ - أيضاً - ولا مَحَلَّ لهذه الجُمْلَة من الإعْرَاب لِكَوْنِها دُعَاءً، والتَّقْدِير: وَرَبُّكَ يُعِينُكَ. قوله: {هَاهُنَا قَاعِدُونَ} «هُنَا» وَحْدَه الظَّرْفُ المَكَانِي الَّذِي لا يَنْصَرِفُ إلا بِجَرِّه؛ ب «مِنْ» و «إلَى» ، و «هَا» قَبْلَهُ للتَّنْبِيه كسَائِرِ أسْمَاء [الإشارة] وعامله «قَاعِدُون» ، وقد أجيز أن يكُون خَبَر [ «إنَّ» ] و «قاعدُون» خَبر ثانٍ، [وهُو بَعِيدٌ] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 274 وفي غير القُرْآن إذا اجْتَمَع ظَرْفٌ يَصِحُّ الإخْبَارُ بِهِ مع وَصْفٍ آخَر، ويَجُوزُ أن يُجْعَل الظَّرْفُ خَبَراً، والوَصْفُ حالاً، وأن يَكُون الخَبَرُ الوَصْفَ، والظَّرْف مَنْصُوبٌ به كَهَذِه الآية. فصل قولهم: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ} فيه وُجُوهٌ: أحدُهَا: لعلَّ القَوْم كانُوا مُجَسِّمَةً، يجوِّزُون الذَّهَاب والمَجِيءَ على الله تعالى. وثانيها: يُحْتَمَلُ ألاَّ يَكُون المُرَادُ حَقِيقَة الذهَاب، بَلْ كَما يُقَالُ: كَلَّمْته فذهَبَ يُجِيبُنِي، أي: يُريدُ أن يُجِيبَنِي، فكأنَّهُم قالوا: كُن أنْتَ وَربُّكَ مُريدين لقتَالِهِمْ. ثالثها: التَّقْدِير اذْهَبْ أنْتَ وَربُّكَ مُعِينٌ لَكَ بِزَعْمِكَ فأضْمَر خَبَر الابْتِدَاء. فإن قيل: إذَا أضْمَرنا الخَبَرَ فَكَيْفَ يَجْعَل قوله: «فَقَاتِلا» خبراً أيضاً. فالجَوَابُ: لا يَمْتَنِعُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَر. رابعها: أرَادَ بقوله: «وَرَبُّكَ» أخُوه هَارُون، وسمُّوه [ربًّا] لأنَّهُ كان أكبر من مُوسَى. قال المُفَسِّرُون: قولهم: {اذهب أَنتَ وَرَبُّكَ} ، إن قَالُوهُ على وَجْهِ الذهَاب من مَكَانٍ إلى مَكَانٍ فهو كُفْرٌ، وإن قَالُوهُ على وَجْهِ التَّمَرُّدِ عن الطَّاعَةِ فهو فِسْقٌ، ولقَدْ فَسَقُوا بهذَا الكلامِ لقوله تعالى في هذه القصة: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} [المائدة: 26] . والمقْصُودُ من هذه القِصَّة: شَرْحُ حال هؤلاءِ اليَهُودِ، وشِدَّة بُغْضِهِم [وَغُلُّوهِمِ] في المَنَازَعَةِ مع الأنْبِيَاءِ قَدِيماً، ثُمَّ إنَّ مُوسى - عليه السلام - لمَّا سَمِع مِنْهُم هذا الكلام قال: {رَبِّ إِنِّي لاا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} في إعْرَاب «أخي» سِتَّةُ أوْجُه: أظهرها: أنَّهُ مَنْصُوبٌ عَطْفاً على «نَفْسِي» ، والمعنى: لا أمْلِكُ إلاَّ أخِي مع مِلْكِي لِنَفْسي دُونَ غَيْرنَا. الثاني: أنَّّهُ مَنْصُوبٌ عَطْفاً على اسْمِ «إنَّ» ، وخَبَرُهَا محذوفٌ للدَّلالة اللَّفْظِيَّة عَلَيْه، أي: وإنَّ أخِي لا يَمْلِكُ إلا نَفْسَه. الثالث: أنَّهُ مرفوع عَطْفاً على مَحَلِّ اسم «إنَّ» ؛ لأنَّه يُعَدُّ استكمال الخَبر على خلافٍ في ذَلِك، وإن كان بَعْضُهم قد ادَّعى الإجْمَاعَ على جَوَازه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 275 الرابع: أنَّهُ مَرْفُوع بالابْتِدَاء، وخَبَرُهُ مَحْذُوفٌ للدَّلالة المتقدِّمَة، ويكون قد عَطفَ جُمْلَة غَيْرَ مُؤكَّدَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ مُؤكَّدَة [ب «إنَّ» ] . الخامس: أنَّه مَرْفُوعٌ عَطْفاً على الضَّمير المُستكِنِّ في «أمْلك» ، والتَّقْدير: ولا يَملِكُ أخي إلا نَفْسَه، [وجاز ذلك لِلْفَصْل بقوله: «إلاَّ نَفْسِي» ] وقال بهذا الزَّمَخْشَرِيُّ، ومَكِّي، وابنُ عطيَّة، وأبُو البقاء ورَدّ أبُو حَيَّان هذا الوَجْهَ، بأنَّه يلزم منه أنَّ مُوسَى وهَارُون لا يَمْلِكَان إلاَّ نَفْسَ مُوسَى فَقَطْ [وَلَيْس المَعْنَى على ذَلِك] ، وهذا الرَّدُّ لَيْس بِشَيْءٍ؛ لأنَّ القائِل بهذا الوَجْهِ صَرَّح بِتَقْديرِ المفعول بَعْد الفاعِلِ المَعْطُوف. وأيضاً اللَّبْسُ مأمُونٌ، فإن كلَّ أحِدٍ يَتَبادَرُ إلى ذِهْنِهِ أنَّهُ يَمْلِكُ أمْرَ نَفْسِهِ. السادس: أنَّه مَجْرُورٌ عطفاً على «اليَاء» في «نَفْسِي» ، أي: إلاَّ نَفْسِي ونَفْس أخِي، وهو ضعيفٌ على قَوَاعِدِ البَصْريِّين لِلْعَطْفِ على الضَّمِير المَجْرُور من غَيْر إعادَةِ الجَارِّ، وقد تقدَّم ما فيه. والحَسَن البَصْرِيُّ يقرأ بِفَتْح [ياء] «نَفْسِي» ، و «أخِي» . وقرأ يوسُف بن دَاوُد وعُبَيْد بن عُمَيْر «فَافْرِق» بِكَسْرِ الرَّاء، وهي لُغَةٌ: فَرَقَ يَفْرِق ك «يضرب» قال الراجز: [الرجز] 1949 - يا رَب فَافْرِقْ بَيْنَهُ وبَيْنِي ... أشَدَّ ما فَرَّقْت بَيْنَ اثْنَيْنِ وقرأ ابن السَّمَيْفَع «فَفَرِّقْ» مُضَعَّفاً، وهي مُخَالِفَةٌ للرَّسْم و «بَيْنَ» معمولة ل «افْرُق» ، وكان من حَقِّها ألا تكرَّرَ في العَطْفِ، تقُولَ: المَالُ بَيْن زَيْدٍ وعَمْرو، وإنَّما كرِّرَت للاحْتِيَاج إلى تكررِ الجارِّ في العَطْفِ على الضِّمِير المَجْرُور، وهو يُؤيِّد مَذْهَب البَصْريِّين. فإن قيل: لم قال: {لاا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي} وكان مَعَهُ الرَّجُلان المَذْكُورَان؟ . فالجواب: كأنَّه لم يَثِقْ بِهِمَا كُلَّ الوُثُوق لِمَا رَأى [من] إطباقِ الأكْثَرِين على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 276 التَّمَرُّد، ولَعَلَّهُ إنَّما قَالَ ذَلِكَ تَقْلِيلاً لمن وَافَقَهُ، أو يكُون المُرَادُ بالأخِ مَنْ يُؤاخِيهِ في الدِّين، وعلى هذا يَدْخل الرَّجُلان. والمُرادُ بقوله: {فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين} أي: افْصِلْ بَيْنَنَا وبَيْنَهُم، بأنْ تَحْكُم لَنَا بما تَسْتَحِقُّ وتحْكُم عَلَيْهِم بما يَسْتَحِقُّون، وهُوَ في مَعْنَى الدُّعَاء عَلَيْهِم، أو يكون المَعْنَى: خَلِّصْنَا من صُحْبَتِهِم، وهو كقوله: {نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين} [القصص: 21] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 قوله: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ} أي الأرْضَ المقدسة مُحَرَّمة عَلَيْهم أبَداً، لم يرد تَحْريم تَعَبُّد، وقيل تَحْرِيم مَنْع. [في] قوله: «أرْبَعين سَنَةً» وجهان: أظهرهما أنَّه منْصُوب ل «مُحَّرَمة» ، فإنَّه رُوِي في القِصَّة أنهم بعد الأرْبَعين دخلوها، فيكون قد قَيّد تَحْريمها عَلَيْهم بهذه المُدَّة، وأخْبَر أنَّهم «يَتيهُون» ، ولم يُبَيِّنْ كَميَّة التِّيه، وعلى هذا فَفِي «يَتيهُون» احتمالان: أحدهما: أنه مستَأنَفٌ. الثاني: أنَّه حالٌ من الضَّمِير في «عَلَيْهِم» . الوجه الثَّاني: أن «أرْبَعين» مَنْصُوب ب «يتيهُون» ، فيكون قَيّد التِّيه [ب «الأرْبَعين» ] . [وأمَّا] التَّحْريم فمطلق، فيحتمل أن يكُون مُسْتَمِراً، أو يكون مُنقْطِعاً وأنَّهَا أحلت لهم. وقد قيل بِكُلٍّ من الاحتمالين، رُوِي أنَّه لم يدخُلْها أحَدٌ ممَّن كان في التِّيهِ، ولم يَدْخُلْها إلا أبْناؤُهُمَ [وأمَّا الآبَاءُ فماتُوا، وما أدْرِي ما الَّذي حَمَل أبَا مُحَمَّد بن عَطِيَّة على تَجويزه أن يكُون العَامِلُ في «أربعين» مُضْمَراً يفسره] «يتيهُون» المتأخر، ولا ما اضْطَرَّه إلى ذَلِك من مَانِعِ صِنَاعِي أو مَعْنَوِي، وجَوَاز الوَقْف والابْتِدَاء بقوله: «عَلَيْهِمْ» ، و «يَتِيهُون» [مفهوما ممَّا] تقدم من الإعراب. والتِّيه: الحَيْرة، ومنه: أرْضٌ تَيْهَاء [لِحَيرةٍ سَالكها] قال: [الطويل] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 277 1950 - بتَيْهاءَ قَفْرٍ وَالمَطِيُّ كَأنَّهَا ... قَطَا الحَزْنِ قَدْ كَانَتْ فِرَاخاً بُيُوضُها ويقال: «تَاهَ يتيه وهو أتْيَهُ منه، وتَاهَ يَتُوه وهو أتْوَهُ مِنْه» [فقول من قال: يتيه، وتوهْتُهُ] من التَّدَاخل، ومثله: «طَاحَ» في كونه سُمِع في عَيْنيه الوجهان، وأن فيه التَّدَاخُلَ - أيضاً - فإنَّ من قال: «يَطِيحُ» قال: «طَوَّحْتُه» ، وهو «أطْوَحُ منه» . واختَلفُوا في التِّيه، قال [الرَّبيع:] مقدار ستة فَرَاسِخ، وقيل: تِسْعة فَرَاسِخ في ثلاثين فَرْسخاً، وقيل: سِتَّة فَرَاسِخ في اثْنَيْ عشر فرسخاً. وقيل: كانوا ستمائة ألْفِ فارس. فإن قيل: كيف يعقل بَقَاءُ هذا الجَمْع العظيمِ في هذا القَدْر الصَّغِير من المفَازَة أرْبَعِين سنة بحيث لا يَتَّفِقُ لأحدٍ منهم أن يَجِد طَرِيقاً إلى الخُرُوج عنها؟ ولو أنهم وضعُوا أعينَهُم على حركة الشَّمس أو الكواكب لَخَرجوا منها، ولو كانُوا في البَحْر العَظِيم فكيف في المفازة الصغيرة؟ . فالجواب فيه وَجْهَان: الأوَّل: أن انخراق العَادَات في زمن الأنْبِياء غير مُستبعد، إذ لو فَتَحْنَا باب الاسْتِبْعَاد لزم الطَّعن في جميع المُعْجِزات، وهو باطِلٌ. الثاني: إذا جعلْنَا ذلك التَّحْريم تحريم تعبد، زال السَّؤال؛ لأن الله تعالى حرَّم عليهم الرُّجوع إلى أوْطَانِهِم، وأمرهم بالمكْثِ في تلك المفَازةِ أرْبعين سنة مع المشقة والمحنة جَزَاءً لهم على سُوء صنِيعِهم. قال القُرْطُبِي: [قال] أبو علي: قد يكونُ ذلك بأن يحول الله الأرْضَ التي هم عليها إذا نَامُوا فيردَّهم إلى المكان الذي ابْتَدؤوا منه، وقد يَكُون بغير ذلك من الاشتباه والأسْبَاب [المَانِعَة من] الخُرُوج عنها على طَريق المُعْجِزة الخارجة عن العَادَة. قال بعضهم: إنَّ هارون وموسى لم يكُونَا فيهم، والصَّحِيح: أنَّهما كانا فيهم، ولم يكن لهما عُقُوبة لكن كما كَانَت النَّار على إبْرَاهيم بَرْداً وسَلاَماً وإنما كانت العقوبة لأولَئِك الأقْوام، ومات في التِّيه كل من دَخَلها ممن جاز عشرين سنة غير يُوشَع وكالب، ولم يدخل أريحاء أحَدٌ ممَّن قالوا: {إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ [أَبَداً] } [المائدة: 24] فلما هَلَكُوا وانْقَضت الأربعون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 278 سنة، وَنَشَأت [النَّواشئ] من ذراريهم ساروا إلا حرب الجبَّارِين، واخْتَلَفُوا فيمن تولَّى الحرب وعلى يدي من كان الفتح فقيل: إنَّما فَتَح أريحاء موسى، وكان يُوشع على مقدمته، فسار موسى عليه السلام إليهم فيمن بقي من بني إسرائيل فدخلها يوشع، فقالت الجَبَابِرَة ثم دَخَلَها موسى، وأقام فيها ما شاء الله، ثم قَبَضَهُ اللَّه إليه، ولا يعلم قبره أحد، وهذا أصَحُّ الأقوال. وقيل: إنما قاتل الجبَّارين يُوشع، ولم يَسِر إليهم إلا بعد موت موسى - عليه السلام -، وقالوا: مات مُوسى وهارون جميعاً في التِّيه. قال القُرْطُبِيُّ: روى مُسْلِمٌ عن أبِي هُرَيْرَة قال: «أرْسَلَ اللَّهُ ملك المَوْتِ إلى مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فلما جاءَهُ، صَكَّهُ وفَقَأ عَيْنَه، فرجع إلى رَبِّه فقال:» أرْسَلْتَنِي إلى عَبْدٍ لا يُريد الموْتَ «، قال: فَرَدَّ الله إلَيْه عَيْنَهُ، وقال: ارجع إلَيْه وقل له: يضع يده على مَتْن ثور فله بما غطت يده بكل شعرة سَنَة. قال:» أي رب ثم مَهْ «، قال:» ثم الموت «قال:» فالآن «؛ فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدّسة رمية بحجر؛ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» فلو كنتُ ثَمَّ لأريتُكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثِيب الأحمر «فهذا نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد علم قبره ووصف موضعه، ورآه فيه قائماً يصلي كما في حديث الإسراء، إلا أنه يحتمل أن يكون أخفاه الله عن الخلق سواه ولم يجعله مشهوراً عندهم؛ ولعل ذلك لئلا يُعبد، والله أعلم. ويعني بالطريق طريق بيت المقدس. ووقع في بعض الروايات إلى جانب الطُّور مكان الطريق. واختلف العلماء في تأويل لَطْم موسى عين مَلك الموت وفَقْئها على أقوال؛ منها: أنها كانت عيناً متخيلة لا حقيقة، وهذا باطل، لأنه يؤدّي إلى أن ما يراه الأنبياء من صور الملائكة لا حقيقة له. ومنها: أنها كانت عيناً معنوية وإنما فقأها بالحجة، وهذا مجاز لا حقيقة. ومنها: أنه عليه السلام لم يعرف ملك الموت، وأنه رأى رجلاً دخل منزله بغير إذنه يريد نفسه فدافع عن نفسه فلطم عينه ففقأها؛ وتجب المدافعة في هذا بكل ممكن. وهذا وجه حسن؛ لأنه حقيقة في العين والصّك؛ قاله الإمام أبو بكر بن خزيمة، غير أنه اعترض عليه بما في الحديث؛ وهو أن ملك الموت لما رجع إلى الله تعالى قال: «يا رب أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت» فلو لم يعرفه موسى لما صدق القول من ملك الموت؛ وأيضاً قوله في الرواية الأخرى: «أجب ربك» يدلّ على تعريفه بنفسه. والله أعلم. ومنها: أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان سريع الغضب، إذا غضب طلع الدّخان من قَلَنْسُوته ورفع شعرُ بدنه جبّته؛ وسرعة غضبه كانت سبباً لصَكِّه مَلَك الموت. قال ابن العربي: وهذا كما ترى، فإن الأنبياء معصومون أن يقع منهم ابتداء مثل هذا في الرضا والغضب. ومنها وهو الصحيح من هذه الأقوال: أن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 279 وَالسَّلَام ُ عرف ملك الموت، وأنه جاء ليقبض روحه لكنه جاء مجيء الجازم بأنه قد أُمِر بقبض روحه من غير تخيير، وعند موسى ما قد نص عليه نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من «أن الله لا يقبض روح نبي حتى يخيِّره» فلما جاءه على غير الوجه الذي أُعلم بادر بشهامته وقوة نفسه إلى أدبه، فلطمه ففقأ عينه امتحاناً لملك الموت؛ إذ لم يصرح له بالتخيير. ومما يدل على صحة هذا، أنه لما رجع إليه ملك الموت فخيره بين الحياة والموت اختار الموت واستسلم، والله بغيبه أحكم وأعلم. هذا أصح ما قيل في وفاة موسى عليه السلام. وقد ذكر المفسرون في ذلك قصصاً وأخباراً الله أعلم بصحتها؛ وفي الصحيح غُنْيَة عنها. انتهى. فصل وكان عمر موسى مائة وعشرين سنة، فيروى أن يوشع رآه بعد موته في المنام فقال له: كيف وجدت الموت؟ فقال: «كشاة تسلخ وهي حية» . وقوله: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين} أي لا تحزن. [والأسى: الحُزْن، يقال: أسِي - بكسر العين - يَأسَى، بفتحها، ولامُ الكلمة تحتمل أن تكونَ من واوٍ، وهو الظاهرُ لقولهم: «رجل أسْوان» بزنة سكران، أي: كثير الحزن، وقالوا في تثنية الأسى: أسوان، وإنما قُلبت الواوُ في «أسِيَ» يَاءً لانكسار ما قبلَها، ويُحْتمل أن تكون ياءً فقد حُكي «رجل أسْيان» أي كثيرُ الحزن، فتثنيتُه على هذا «أسَيان» . والله أعلم بغيبه] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 واتل عليهم نبأ ابني آدم الآية. في تعَلُّقِ هذه الآية بما قبلها وُجُوهٌ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 280 أحدها: أنه تعالى قال فيما تَقدَّمَ: {يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ} [المائدة: 11] فذكر أنَّ الأعْدَاءَ يُرِيدُونَ إيْقَاعَ الْبَلاَء بِهِمْ، لَكِنَّهُ تعالى يَحْفَظُهُمْ [بِفَضْلِهِ] ويمنع أعداءهم من إيصالِ الشَّرِّ إلَيْهِمْ، ثم ذكر قِصَصاً تَدُلُّ في أنَّ كُلَّ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ به - تعالى - من النِّعَمِ العظيمة في الدِّينِ والدُّنْيَا فإنَّ الناس يتنازعونه حسداً، فَذَكَرَ قِصةَ النُّقَبَاءِ الاثْنَيْ عَشَرَ، وأخذ الميثاق منهم، ثم إنَّ اليهود نقضوا ذلك الميثاق حتى وقعوا في اللَّعْنِ والقساوة، وذكر بعد شِدَّة إصْرَارِ النصارى على الكفر، وقولهم ب «التَّثْلِيث» بعد ظهور الدَّلاَئِل الواضحة القاطعة على فساد اعْتِقَادِهِمْ، وما ذلك إلا حسداً لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما آتاه الله من الدِّينِ الْحَقِّ ثم ذكر قصَّة ابْنَيْ آدم، وأنَّ أحدهما قتل الآخر حسداً على قَبُولِ قُرْبَانِهِ، وكل هذه الْقَصَصِ دالَّةٌ على أنَّ كل ذي نِعْمَة محسود، فلما كانت نِعَمُ الله على محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعْظَمَ النعم لم يبعد اتِّفَاق الأعداء على كَيْدِهِ، فكان ذكر هذه القصص تسلية له فيما هدّده به اليَهُود من المكر والكَيد. ثانيها: أنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بقوله: {يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ} [المائدة: 15] . وهذه القصص مَذْكورة في التَّوْراة. وثالثها: أنَّها متعلِّقَة بقصة [محاربة] الجبَّارين، أي: ذكِّروا اليَهُود بحديث ابْنَيْ آدم؛ ليعلموا أن سَبِيل أسْلاَفهم في النَّدامة والحسرة الحاصلة بسبب إقدامهم على المعاصي، مثل سَبِيل ابْنَيْ آدم في نَدَامة أحَدهما على قَتْلِ الآخَر. رابعها: أنه مُتَّصِل بحكاية قول اليَهُود والنَّصَارَى: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] أي: لا ينفعهم كَوْنُهُم أولاد الأنْبِيَاء مع كُفْرِهِم، كما لم يَنْتَفِع ولد آدم بقَتْلِ أخيه بكون أبيه نَبِيّاً معظماً عند الله - تعالى -. وخامسها: لما كَفَرَ أهل الكِتَاب بمحمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حَسَداً أخْبَرَهُم الله - تعالى - بخبر ابْنَيْ آدم، وأنَّ الحسد أوْقَعَهُ في سُوءِ الخَاتِمة، والمقصود منه التَّحْذِير عن الحَسَدِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 281 الضَّمِير في «عَلَيْهِم» فيه قولان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 282 أحدهما: واتل على النَّاس. والثاني: واتْلُ على أهل الكِتَاب. وفي «ابْنَيْ آدَمَ» قولان: أحدهما: أنها ابْنَا آدم لِصُلْبِهِ، وهما: قَابِيل، وهَابِيل، وفي سبب [وقوع] المُنَازَعة بينهما قولان: أحدهما: أنَّ هَابِيلَ كان صاحب غَنَمٍ، وقابيلَ صاحب زَرْع فقرَّب كل واحد منهما قُرْبَاناً، فطلب هابيل أحْسَنَ شاة كانت في غنمه وجعلها قرباناً، وطلب قابيل شَرَّ حِنْطة كانت عنده وجعلها قُرْبَاناً، فنزلت نارٌ مِنَ السَّمَاءٍ فَاحْتَمَلَتْ قُرْبَانَ هَابيلَ ولم تَحْتَمِل قُرْبان قابيل، فعلم قابيل أنَّ الله تعالى قبل قُرْبَان أخِيهِ ولم يقبل قُرْبَانه، فحَسَده وقصد قَتْلَهُ. قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: ولم يُحْتَمَلْ قربان قَابيل، فَعَلِمَ قَابِيلُ أنَّ الله قَبِلَ قربان أخيه ولم يقبل قربانه؛ لأنَّه كان كافراً فقال قابيل لأخيه هابيل - وكان مُؤمِناً -: أتَمْشِي على الأرض يراك النَّاس أفْضَلَ مِنِّي به، فَحَسَدَه وَقَصَدَ قَتْلَهُ. وثانيهما: رُوِيَ أنَّ آدم - عليه السلام - كان يُولَدُ له [في كل بطن] غلام وجارية وكان يزوِّج [تلك] البِنْت من البَطْن بالغلام من بَطْن آخر، فولد له قَابِيل [وتوأمته،] قال الْكَلْبيُّ: وكان اسْمُهَا «إقْلِيمِياء» -، وبعدهما هَابِيل وتَوْأمَته وكانت تَوْأمَةُ قابيل أحْسَنَ النَّاسِ وجهاً، فأراد آدَم - عليه السلام - أن يُزَوِّجَهَا من هَابِيل، فأبى قَابِيل وقال: أنا أحَقُّ بِهَا وهو أحق بأخته وليس هذا من اللَّه وَإنَّمَا هو رَأيُكَ، فقال آدمُ - عليه السلام - لهما: قَرِّبَا قرباناً فأيُّكُمَا قبل قُرْبانه زَوَّجْتُها منه، فَقَرَّبَا قُرْبَانَيْن، فَقَبِلَ اللَّهُ قُرْبَانَ هَابِيلَ بأن أنْزل على قُرْبَانه ناراً فازداد قابيل حَسَداً له. قال القُرْطُبِيُّ: وَرُوِيَ عن جَعْفَرٍ الصَّادِقِ - رَضي الله عَنْهُ - «أنَّ آدم - عليه السلام - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 283 لم يكن يُزَوِّجُ ابنته من ابنه، ولو فعل ذلك ما رَغِبَ عنه النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا كان دين آدم عليه السلام إلاَّ دين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ... » ، وذكر قَصَّته. قال القُرْطُبِيُّ: وهذه القِصَّة عن جَعْفَرٍ ما أظُنُّهَا تَصِحُّ، وأنه يزوِّجُ غلام هذا البَطْنِ إلى البَطْن الآخر، بدليل قوله تعالى: {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً} [النساء: 1] ، وهذا كالنصِّ ثم نسخ ذلك على ما تقدم بيانه في «سورة البقرة» وكان جميع ما ولدته حَوَّاءُ أربعين ولداً ذكراً، وأنثى: عِشْرين بطناً أوَّلُهُم قابيل، وتوأمته إقليمياء وآخرهم عَبْدُ المُغِيثِ، ثم بارك الله في نسل آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. وعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لم يمت آدم - عليه السَّلام - حتى بلغ ولده وولد ولده أربعين ألْفاً. والقول الثاني: وهو قول الْحَسَنِ والضَّحَّاك: أنَّ ابْنَيْ آدَمَ اللذين قَرَّبا القربان ما كانا ابْنَيْ آدم لِصُلْبِهِ، وإنما كانا رَجُلَيْن من بني إسرائيل [كانت بينهما خُصُومة، ولم تكن القرابين إلا في بني إسرائيل] ؛ لقوله تعالى في آخر القصَّة: {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} [المائدة: 32] . وصدور الذنب من ابني آدم، لا يصلح أن يكون سَبَباً لإيجاب القِصَاص عليهم زَجْراً لهم عن المُعَاودَة إلى مثل هذا الذَّنب، ويَدُلُّ عليه أيضاً أنَّ المقصود من هذه القِصَّة: بيان أنَّ اليَهُود من قديم الدَّهر مُصِرُّونَ على التَّمَرُّدِ والحسد حتى بلغ بهم هذا الحَسَد إلى أن أحدهما لما قَبِلَ اللَّهُ قربانه حَسَدَه الآخر وقتله، ولا شكَّ أن هذا ذَنْبٌ عَظِيمٌ. فإنَّ قَبُولَ الْقُرْبَانِ ممَّا يدل [عليه أن صَاحِبَه] حسن الاعتقاد [وأنه] مقبول عند اللَّه - تعالى - فَتَجِبُ المُبَالَغَةُ في تَعْظِيمه، فلما أقدم على قَتْلِهِ [وَقَتَلَهُ] مع هذه الحالة دَلَّ ذلك على أنَّهُ قد بَلَغَ في الحَسَد أقصى الغايات، وإذا كان المرادُ أنَّ الحسَد داءٌ قديمٌ في بَنِي إسْرَائِيلَ، وجب أن يقال: [هذان الرَّجلان] كانا من بَنِي إسْرَائيلَ، والصَّحيح الأول؛ لأنَّ القاتل جهل ما يَصْنَع بالمقَتُول، حتى تعلَّم ذلك من عَمَل الغراب ولو كان من بَنِي إسرائيلَ لما خَفِي عليه هذا الأمْر - والله سبحانه أعلم -. فصل قوله تعالى: «بالحقِّ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 284 أحدُها: أنه حَالٌ من فاعل «اتْلُ» أي: اتلُ ذلك حال كونك مُلْتَبساً بالحقِّ أي: بالصِّدق، وموافقاً لما في التَّوْراة والإنْجِيل. والثاني: أنه حال من مَفْعُوله وهي «نَبَأ» ، أي: اتلُ نبأهُمَا مُلْتَبساً بالصِّدْقِ مُوافِقاً لما في كُتُب الأوَّلين لتثبت عليهم الحُجَّةُ برسالتك. الثالث: أنه صِفَةٌ لمصدر «اتْلُ» ، أي: اتْلُ ذلك تلاوةً مُلْتَبِسة بالحقِّ والصِّدٌ كافَّة. وَالزَّمَخْشَرِيُّ به بدأ، وعلى الأوْجُهِ الثلاثة ف «البَاءُ» للمُصَاحبة وهي متعلِّقَة بمحذُوف. وقَرَأ أبُو عَمْرٍو بتسكين الميم من «آدَم» قبل بَاءِ «بالْحَقِّ» ، وكذا كل مِيمٍ قبلها مُتَحرك، وبعدها بَاء، ومعنى الكلام: واتْلُ عليهم نبأ ابْنَيْ آدم بالغَرض [الصحيح] ، وهو تَقْبِيح الحسد، والبَغْي وقيل: لِيَعْتَبِرُو به لا لِيَحمِلُوهُ على اللَّعِبِ، كالأقاصيص التي لا فائدة فيها، وهذا يَدُلُّ على أنَّ المقصود من ذكر القصص العبرةُ لا مجرَّد الحكاية، لقوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} [يوسف: 111] . قوله تعالى: {إِذْ قَرَّبَا [قُرْبَاناً] } فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: وبه بدأ الزَّمخشريُّ، وأبو البقاء: أن يكون متعلِّقاً بنفس النَّبأ، أي: قصّتُهما، وحديثهما في ذلك الوَقْت، وهذا وَاضِح. والثاني: أنه بَدلٌ من «نبأ» على حَذْف مضافٍ، تقديره: «واتْلُ» عَلَيْهِم النَّبأ ذلك الوقت، كذا قدَّره الزَّمَخْشَرِيُّ. قال أبُو حَيَّان: «ولا يجُوز ما ذكر؛ لأن» إذْ «لا يُضَاف إليها إلا الزَّمانُ و» نبأ «ليس بزمان. الثالث: ذكره أبُو البَقَاءِ [أنه حال من» نبأ « [وعلى هذا فيتعلق بِمَحذُوف، لكنَّ هذا الوجه غَيْر وَاضِح. قال أبو البَقَاء:] ولا يجوز أن يكون ظرفاً ل» اتْلُ «؛ قلت: لأنَّ الفعل مستقبل، و» إذ «وقت ماضٍ، فكيف يَتلاقَيَان؟ و» الْقُرْبَانُ «فيه احْتِمَالان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 285 أحدهما: وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ:» أنه اسم لما يُتَقَرَّبُ به، كما أنَّ الْحُلْوَانَ اسم ما يُحَلَّى أو يُعْطى «. يقال: «قَرَّبَ صَدَقةً وتقرَّب بها» ؛ لأن «تقرَّب» مطواع «قرَّب» . قال الأصْمَعِيُّ: [تقربوا] «قِرْفَ القَمع» فيعدَّى بالباء حتى يكون بمعنى: قَرَّبَ، أي: فيكون قوله: {إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً} يَطْلُبُ مُطَاوِعاً له، والتَّقْدِير إذْ قَرَّبَاهُ، فتقرَّبا بِهِ وفيه بُعْدٌ. قال أبُو حَيَّان: «وليس تقرَّب بصدقة مطاوع» قَرَّب صدقة «لاتحاد فاعل الفعلين، والمُطاوَعَةُ يَخْتَلِفُ فيها الفاعل يكونُ من أحدهما فعل، ومن الآخَرِ انفعال، نحو: كَسَرْتُه فانكسر، وفَلَقْتُه فانْفَلَق، فليس قَرَّبَ صَدَقَةً، وتقرَّبَ بها، من هذا البَابِ، فهو غلط فَاحِشٌ» . قال شهاب الدِّين: وفيما قاله الشَّيْخ نظر؛ لأنَّا نُسَلِّم هذه القاعدة. والاحتمال الثاني: أن يكون في الأصْل مَصْدراً، ثم أطلق على الشيء المُتقرّب به، كقولهم «نَسْج اليَمَن» ، و «ضَرْب الأمير» . ويُؤيِّد ذلك أنه لم يُثَنِّ، والموضعُ موضعُ تَثْنِية؛ لأنَّ كلاً من قَابيل وهَابيل له قُرْبان يَخُصُّه، فالأصل: إذ قَرَّبا قُرْبَانين ولأنه لم يُثَنِّ [لأنه مصدر في الأصل، وللقائل بأنه اسم ما يتقرّب به لا مصدر أن يقول: إنما لم يُثَنِّ] ؛ لأن المعنى - كما قاله أبو عَلِيّ الفَارسيّ -: إذ قَرَّبَ كلُّ واحدٍ منهما قُرْبَاناً، كقوله تعالى: {فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً} [النور: 4] أي: كل واحد منهم. قال ابن الخطيب: جَمَعَها في الفِعْل، وأفرد الاسْم ليستدل بِفِعْلهما على أنَّ لكلِّ واحدٍ منهما قُرْباناً. وقيل: إنَّ القُرْبَان اسم جنس فهو يَصْلُح للوَاحِد والعَدَد. وقوله تعالى: {فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخر} . قال أكثر المُفَسِّرِين: كان علامَةُ القبول أن تأكله النَّار، وقال مُجَاهد: علامة الردِّ أن تأكله النَّار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 286 وقيل: لم يكن في ذلك الوَقْتِ فقير يُدفَع إليه ما يتقرَّب به إلى الله - تعالى -، فكانت تَنْزِلُ من السَّمَاء نار تأكلُهُ. وإنما صار أحد القُرْبَانَيْن مقبولاً والآخر مردوداً؛ لأنَّ [حصول] التَّقوى شرط في قُبُول الأعْمَال لقوله تعالى هاهنا حِكَاية عن المُحِقِّ {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} ، وقوله تعالى فيما أمَرنا به من القُرْبان بالبدن: {لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ} [الحج: 37] فأخبر أنَّ الذي يصل إليه لَيْس إلاَّ التَّقوى، والتَّقْوى من صفات القُلُوبِ؛ لقوله - عليه السلام -: «التَّقْوى هَاهُنَا» وأشار إلى القَلْب. وحقيقة التَّقْوى: أن يكون على خَوْف ووَجَل من تقصير نَفْسه في تلك الطَّاعَة. وأن يكون في غَايَةِ الاحْتِرَاز من أن يَأتِي بتلك الطَّاعَة لغرض سوى مَرْضَاة الله تعالى. وألاَّ يكون فيه شركة لِغَيْر الله تعالى. قيل: إن قابيل جعل قُرْبَانه أرْدَأ ما كان عِنْده، وأضْمَر في نفسه ألاَّ يُبَالي قُبِلَ أو لم يُقْبَلْ، وأنه لا يزوِّج أخْتَه من أخِيه أبَداً. وقيل: كان قابيل لَيْس من أهل التَّقْوى والطَّاعة فلذلك لم يَقْبَل اللَّهُ قُرْبانه. قوله تعالى: «قال لأقْتُلَنَّك» ، أي: قال الذي لم يتقبل منه للمَقْبُول منه. وقرأ الجمهور «لأقْتُلَنَّك» ، أي: قال الذي لم يتقبل منه للمَقْبُول منه. وقرأ الجمهور «لأقتلنَّك» بالنون الشديدة، وهذا جوابُ قسم مَحْذُوف وقرأه زيدٌ بالخفيفة. قال أبُو حَيَّان: [إنما يتقبل الله مَفْعُوله مَحْذُوف] ، لدلالة المعنى عليه، أي: قرابينهم وأعمالهم ويجُوزُ ألاَّ يراد له مَفْعُول، كقوله تعالى {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى} [الليل: 5] ، هذه الجُمْلَة قال ابن عطيَّة: «قبلها كلام محذوف، تقديرُه: لِمَ تَقْتُلني وأنا لم أجْنِ شيئاً، ولا ذَنْبَ لي في تَقَبُّلِ الله قرباني بدون قربانك» ؛ وذكر كلاماً كثيراً. وقال غيرُه: «فيه حذفٌ يَطُول» وذكر نحوه: ولا حَاجَة إلى تقدير ذلك كلّه؛ إذ المعاني مفهومَةٌ من فَحْوَى الكلام إذا قُدِّرَتْ قَصِيرةً كان أحْسَن، والمعنى هنا: لأقْتُلَنَّك حَسَداً على تَقَبُّل قُرْبَانك، فَعَرَّضَ له بأن سَبَبَ التَّقَبُّل التَّقْوى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 287 وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: «فإن قلت: كيف [كان] قوله: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} جوباً لقوله:» لأقْتُلَنَّكَ «؟ . قلت: لمَّا كان الحَسَدُ لأخيه على تَقَبُّل قربانه هو الذي حَمَلَهُ على توعُّده بالقَتْل، قال: إنَّما أتَيْت من قبل نفسك لانْسِلاَخها من لِبَاسِ التَّقْوَى» انتهى. وهذا ونَحْوه من تَفسِير المَعْنَى لا الإعْرَاب. وقيل: إن هذه الجملة اعْتِرَاض بَيْن كلام القَاتِل وكلام المَقْتُول والضَّمِير [في «قال» ] إنَّما يعود إلى الله تعالى، أي: قال الله ذلك لِرَسُوله، فَيَكُون قد اعْتَرض بقوله {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله} بين كلام قابيل وهو: «قال لأقْتُلَنَّكَ» ، وبين كلام هَابِيل وهو: «لَئِنْ بَسَطْتَ» إلى آخره، وهو في غاية البُعْد لِتَنافُر النَّظْم. و «اللاَّم» في قوله: «لَئِنْ بَسَطْتَ» هي المُوَطِّئة. وقوله: {مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ} جوابُ القسم المَحْذُوف، وهذا على القاعِدَة المُقَرَّرةِ من أنَّه إذا اجْتَمَع شَرْطٌ وقسمٌ أجِيبَ سابقُهما إلا في صُورة تَقدّم التَّنْبِيه عليها. وقال الزَّمَخْشَرِي: «فإن قلت: لِم جاء الشَّرْط بلفظ الفِعْل، والجزاء بلفظ اسم الفاعل، وو قوله» لَئِنْ بَسَطْتَ «، {مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ} ؛ قلت: ليفيد أنه لا يفعلُ هذا الوَصْفَ الشَّنِيع، ولذلك أكَّدَهُ ب» الباء «المفيدة لِتَأكِيد النَّفْي» . وناقَشَهُ أبُو حيَّان في قوله: [إنَّ] {مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ} جزاء للشَّرْط. قال: لأنَّ هذا الجواب لِلقَسَم لا للشَّرط قال: «لأنه لو كان جواباً للشَّرط للزمته الفاء لِكَوْنه منفيًّا ب» ما «والأداة جَازِمة، وللزِمَهُ أيضاً تلك القَاعِدة، وهو كَوْنه لم يجب الأسْبَق منهما» وهذا ليس بشيء؛ لأن الزَّمَخْشَرِيَّ سماه جزاء للشَّرط لما كان دالاًّ على جزاء الشَّرْط، ولا نَكِيرَ في ذلك [ولكنه مُغْرى بأن يقال: قد اعترض على الزَّمَخْشَرِي] . وقال أيضاً: وقد خالف الزمخشريّ كلامه هنا بما ذكره في «البَقَرة» في قوله تعالى {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين} [البقرة: 145] ، من كونه جعله جواباً للقسم سادًّا مسدّ جوابِ الشَّرْط، وقد تقدَّم بحثه مَعَهُ هناك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 288 فصل في معنى الآية ومعنى قوله «بَسَطْتَ» أي: مَددْتَ إليَّ يدكَ لِتَقْتُلَنِي ما أنَا بباسطٍ يدي إليْكَ لأقْتُلَكَ إنِّي أخافُ الله ربَّ العالمِين «قال عبدُ الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: وايمُ الله إن كان المَقْتُول أشدَّ الرَّجُلَين، ولكن مَنَعَهُ التَّحَرُّج أن يَبْسُطَ إلى أخيه يده، وهذا في الشَّرْعِ جَائِز لمن أُريد قَتْلُهُ أن يَنْقَاد ويَسْتَسْلِم طلباً للأجْر، كما فعل عُثْمان - رضي الله تعالى عنه - وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمحمَّد بن مسلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -» ألق كمك على وجهك وكن عبد الله المَقْتُول ولا تكن عبد الله القاتِل «. وقال مجاهد:» كتب عليهم في ذلك الوَقْتِ إذا أراد رَجُلٌ قَتْلَ رجل أنَّه لا يَمْتَنِع ويصْبر «. قوله تعالى: {إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي} ، فيه ثلاثة تأوِيلات: أحدها: على حَذْفِ همزة الاستفهام تقديره: أإنِّي أريد؛ وهو استفهام إنكَار؛ لأن إرادة المَعْصِيَة قبيحَةٌ، ومن الأنْبِيَاء أقبح؛ فهم معْصُومُون عن ذلك، ويؤيِّد هذا التَّأويل قراءة من قرأ» أنَّى أريد «بفتح النون، وهي» أنَّى «التي بمعنى» كَيْفَ «، أي: كيف أريد ذلك. والثاني: أنَّ» لا «محذوفةٌ تقديره: إني أريدُ أن لا تَبُوء، كقوله تعالى: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] ، وقوله تعالى: {رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] ، أي ألاّ تضلّوا وألا تميد وهو مستَفِيضٌ وهذا أيضاً فرار من إثْبَات الإرَادَة له، وضعَّفَ بعضهم هذا التَّأويل بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» لا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْماً إلاَّ كانَ على ابْنِ آدمَ الأوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِها؛ لأنَّهُ أوَّلُ مَنْ سَنَّ القَتْلَ «. فثبت بهذا أن الإثْمَ حاصلٌ، وهذا الَّذي ضعَّفه به غير لاَزِم؛ لأن قائِل هذه المقالة يقول: لا يلزم من عَدَمِ إرادَته الإثْم لأخيه عَدَم الإثم، بل قد يريد عدمه ويَقَع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 289 الثالث: أن الإرادة على حَالها، وهي: إمَّا إرادة مَجَازية، أو حقيقيَّة على حَسَبِ اختلاف المُفسِّرين في ذلك، وجَاءَت إرادة ذلك به لمعانٍ ذكرُها، من جملتها: أنَّه ظهرت له قَرائِن تدلُّ على قرب أجلهِ، وأنَّ أخاه كافر، وإرادة العُقُوبَة بالكافر حَسَنة. وقوله:» بِإثْمِي «في مَحَلِّ نصبٍ على الحال من فاعل» تبُوء «أي: ترجعُ حاملاً له ومُلْتبساً به، وقد تقدم نَظِيرُه في قوله {فَبَآءُو بِغَضَبٍ} [البقرة: 90] وقالوا: لا بُدَّ من مُضافٍ، فقدَّره الزَّمَخْشَرِيُّ» بمثلَ إثمي «قال:» على الاتِّسَاع في الكلام، كما تقول: قرأت قراءة فلان، وكتبت كِتَابَته «. وقدَّره بعضهم «بإثْمِ قَتْلِي، وإثم معصِيَتك التي لم يُقبل لأجلها قُرْبَانك، وإثْم حسدك» . وقيل: معناه إنِّي أريد أن تَبُوءَ بعقاب قَتْلي فتكون إرادة صَحِيحَة؛ لأنَّها موافقة لِحُكم الله - عزَّ وجلَّ -، ولا يكون هذا إرادة للقَتْل، بل لموجِبِ القتل من الإثْم والعِقَاب رُوِي أن الظَّالم إذا لم يَجِد يوم القِيَامة ما يرضي خَصْمَه، أُخِذَ من سيِّئَات المَظْلُوم وحمل على الظَّالم، فعلى هذا يَجُوز أن يُقَال: إنِّي أُريد أن تَبُوء بإثْمي في قَتْلِك، وهذا يَصْلُح جواباً. قوله «فَطَوَّعَتْ» الجمهورُ على «طَوَّعَتْ» بتشديد الواو من غير ألف بمعنى «سَهلت وبعثت» أي: جَعَلْته سهلاً، تقديره: بعثت له نفسه أنَّ قتل أخيه طَوْعاً سهل عليه. قال الزَّمَخْشَرِي: «وسَّعَتْه ويسَّرَتْه من طاعَ له المرْتَعُ إذ اتَّسع» انتهى. وقال مجاهد: شجّعْتُه. وقال قتادة: زيَّنْتُ له نفسه، والتَّضْعيف فيه للتَّعْدِية؛ لأنَّ الأصل: طَاعَ له قَتْلُ أخيه، أي: انْقَادَ من الطَّواعِية، فعُدّي بالتَّضعيف، فصار الفاعلُ مَفْعُولاً كحاله مع الهَمْزَة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 290 وقرأ الحسن، وزَيْد بن علي وجماعة كثيرة «فَطَاوعتْ» ، وأبدى الزَّمَخْشَرِيُّ فيها احتِمَالَيْن: أحدهما: أن يكُون ممَّا جاء فيه «فَاعَلَ» لغير مُشاركة بين شَيْئيْن، بل بمعنى «فَعَّل» نحو: ضَاعَفْتُه وضَعَّفْته، وناعَمْتُهُ ونَعَّمْتُه، وهذان المثالان من أمثلة سِيبويه. قال: «فجاءوا به على مثال عاقَبْتُه» . قال: وقد تجيء: «فاعَلْتُ» لا تريدُ بها عمل اثْنَيْن، ولكنَّهم بَنَوْا عليه الفِعْل كما بَنَوْه على «أفْعَلْتُ» ، وذكر أمْثِلَة منها: «عَافَاهُ اللَّه» ، وقَلَّ مَنْ ذكر أن «فَاعَل» يجيءُ بمعنى «فعّلْتُ» . والاحتمال الثاني: أن تكون على بَابِهَا من المُشَاركة، وهو أنَّ قَتْل أخيه كأنه دَعَا نَفْسَه إلى الإقْدَام عليه فَطَاوعته انتهى. وإيضاحُ العبارة في ذلك أنْ يُقَال: جعَل القَتْل يدعو إلى نفسه لأجل الحسد الذي لَحِقَ قَابِيل، وجعلت النَّفسُ تَأبى ذلك وتَشْمَئِزُّ منه، فكُلٌّ منهما - أعني القَتْلَ والنَّفْسَ - كأنه يريد من صاحِبِه أن يُطِيعَه إلى أن غَلَبَ القَتْلُ النَّفسَ فطاوعته، و «له» مُتعلِّق ب «طوَّعت» على القِرَاءتَيْن. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: و «له» لزيادة الرَّبْط، كقولك: حَفِظْتُ لزيْد ماله. يعني أنَّ الكلام تامٌّ بِنَفْسه. ولو قيل: فَطَوَّعَتْ نفسُه قَتْل أخيه، كما كان كَذَلك في قولك «حَفِظْتُ مالَ زَيْد» فأتى بهذه «اللاَّم» لقوة رَبْط الكلام. قال أبو البقاء: وقال قوم: طاوَعَتْ تتعدَّى بغير «لاَم» ، وهذا خَطَأٌ؛ لأنَّ التي تتعدى بغير اللاَّم تتعدى لِمَفْعُول واحد، وقد عَدَّاهُ إلى قَتْلِ أخِيه. وقيل: التَّقْدِير: طاوَعَتْه نفسه قَتْل أخيه، فزاد «اللاَّم» وحذف «عَلَى» ، أي: زاد اللاَّم في المفعول به وهو «الهَاء» ، وحذف [ «على» الجارَّة ل «قَتْل أخِيه» ] . قالت المُعْتَزِلَةُ: لو كان خالق الكلِّ هو الله لكان ذلك التَّزيين والتَّطْويع مُضافاً إلى الله - تعالى - لا إلى النَّفْس. والجواب: أنَّ الأفعال لما استَنَدَت إلى الدَّوَاعي، وكان فاعل تِلْك الدواعي هو الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 291 فكان فاعل الأفْعَال كلها هو الله - تعالى - ثم قال تعالى «فَقَتَلَهُ» ، قيل: لم يَدْر قابيل كيف يَقْتُل هَابِيل. قال ابن جُرَيْج: فتمثَّل له إبليس، فأخذ طَائِراً ووضَع رأسَه على حَجَرٍ، ثم شَدَخَ له حجرًا آخر، وقَابيل يَنْظُر إلَيْه فعلَّمه القتل، فرضَخَ قابيل رَأسَ هَابِيل بين حَجَرَيْن، قيل: قتله وهو مُسْتَسْلِمٌ، وقيل: اغْتَالَه وهو نَائِمٌ. وكان لهابيل يوم قُتل عشرون سنة، واخْتَلَفُوا في موضع قَتْله قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - على جبل ثَوْر، وقيل: عند عقبة حراء، وقيل: بالبَصْرَة عند موضع المَسْجد الأعْظَم، فلمَّا قتله تركه بالعَرَاء ولم يدر ما يصنع به؛ لأنَّه كان أول ميِّت على وَجْهِ الأرْض من بَنِي آدم، وقصده السِّباع فَحَمَلَه في جراب على ظَهْرِه أرْبَعِين يَوْماً. وقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: سَنَة حتى أروح، وعَكَفَت عليه الطَّيْر والسِّبَاع تَنْظُر متى يرمي به فَتَأكله ثم قال: {فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين} : الحائرين. قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - خسر دُنْيَاه وآخِرته أما الدُّنْيَا: فإنه أسْخَطَ والديه، وَبقِي مذمُوماً إلى يوم القِيَامة، وأما الآخِرة: فهي العِقَابُ الدَّائِم العَظِيم. قيل: إنَّ قابيل لما قتل أخاه [هابيل] ، هرب إلى عدن من أرْضِ اليمن، فأتاه إبْليس فقال له: إنَّما أكلت النَّارُ قُرْبَان هَابِيل؛ لأنَّه كان يَخْدُم النَّار ويعبُدُها، فإن عَبدت أنت أيضاً النَّار حصل مَقْصُودك، فبنى بيت نَارٍ وهو أوَّل من عبد النَّار، ورُوِي أنَّه لما قَتَلَهُ اسْوَدَّ جَسَدُهُ وكان أبْيَض، فَسَألَهُ آدم عن أخِيه، فقال: ما كُنْت عليه وَكِيلاً، فقال: بل قَتَلْته، ولذلك اسوَدَّ جَسَدُك، ومكث آدَمُ بَعْدَه مائة سنة لم يضَحْكَ قطّ. قال الزمخشري: روي أنَّه رَثَاهُ بِشِعْر، وهو كَذِب بحت والأنبياء معْصُومون عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 292 الشِّعر روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «سئل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن يوم الثلاثاء فقال:» يوم الدَّم فيه حاضَت حَوَّاء، وفيه قتل ابنُ آدم أخَاه «. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 قوله تعالى {فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي [سَوْءَةَ أَخِيهِ] } . هذه «اللامُ» يجوز فيها وجهان: أحدهما: أنَّها متعلِّقة ب «يبحث» ، أي: يَنْبُشُ ويُثِيرُ التُّراب للإراءة. الثاني: أنها متعلِّقة ب «بَعَثَ» ، والمعنى: لِيُريَه الله، أو ليريه الغراب، و «كَيْفَ» معمُولة ل «يُوارِي» ، وجملة الاستفهام معلقة للرُّؤْية البَصَرية، فهي في محلِّ المَفْعُول الثَّانِي سادةٌ مسدَّه؛ لأن «رأى» البصرية قبل تعدِّيها بالهَمْزة مُتَعَدِّية لواحد، فاكتسبت بالهمزة آخر، وتقدَّم نَظِيرُها في قوله تعالى: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260] ومعنى: «يَبْحَثُ» أي: يُفَتِّش في التُّرَاب بمنقارِه ويثيره، ومنه سُمِّيت سورة «بَراءَة» البحوث؛ لأنها فَتَّشَت على المُنَافقين، والسَّوْءَةُ المراد بها: ما لا يجُوز أن يَنْكَشِفَ من جَسَده، وهي الفضيحة أيضاً، قال: [الخفيف] 1951 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... يَا لَقَوْمِي لِلسَّوْءَة السَّوآءِ ويجوز تخفيفها بإلقاء حَرَكَة الهَمْزة على الواو، وهي قراءة الزُّهري، وحينئذٍ لا يجوزُ قَلْبُ هذه الواو ألِفاً، وإن صدق عليها أنَّها حرْف علّةٍ متحرك مُنْفَتِحٌ ما قبله؛ لأنَّ حركتها عَارِضة، ومثلُها «جَيَل» و «توم» مُخَفَّفَيْ «جَيْألَ» و «تَوْءَم» ، ويجوزُ أيضاً قلبُ هذه الهمزة واواً، وإدغامُ ما قبلها فيها تَشبيهاً للأصلي بالزَّائِد [وهي لُغة] يَقُولون في «شَيْء» و «ضَوْء» : شَيّ وضوّ، قال الشَّاعر: [البسيط] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 293 1952 - وإنْ يَرَوْا سَيَّةً طَارُوا بِهَا فَرَحاً ... مِنِّي ومَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا وبهذا قرأ أبُو جعفر. قوله تعالى: «يَا ويْلَتَا» قلب يَاء المُتَكلم ألِفاً، وهي لغة فاشيةٌ في المُنَادى المضاف إليها، وهي إحدى اللُّغات السِّت، وقد تقدم ذكرُها. وقُرِئ كذلك على الأصْلِ وهي قِرَاءة الحسن البَصْرِيِّ. والنِّدَاء وإن كان أصلُه لِمَنْ يتأتَّى منه الإقْبَالُ وهم العقلاءُ، إلا أنَّ العرب تتجوَّز فتُنَادِي ما لا يَعْقِلُ. وهذه كلمة تُسْتَعمل عند وُقُوعِ الدَّاهِيَة العظيمة ولفظُهَا لفظ النِّداء، كأن الوَيْل غير حَاضِر عِنْده، والمعنى يا وَيْلَتَى احضُري، فهذا أوانُ حُضُورك، ومثله: {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30] ، {ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ} [الزمر: 56] ، وأمال حمزة، والكسائي، وأبُو عمرو في رواية الدَّوْري ألف «حَسْرَتَا» ، والجمهور قرأ «أعَجَزْتَ» بفتح الجيم، وهي اللُّغة الفَصِيحَة، يقال: «عََجَزْت» بالفتح في الماضي، «أعْجِزُ» بِكَسْرها في المُضَارع. وقرأ الحسن، وابن عبَّاس، وابنُ مسعُود، وطلحة بكسرها وهي لغة شاذَّة، وإنَّما المشهور أن يُقَال: «عَجِزت المرأة» بالكَسْر أي كَبُرت عَجِيزتُهَا، و «أن أكون» على إسْقَاط الخَافِض، أي: عَنْ أنْ أكونَ، فلما حُذِف جَرَى فيها الخلاف المَشْهُور. قوله تعالى: «فَأوَارِيَ» . قرأ الجمهورُ بنصب الياء، وفيها تَخْرِيجان: أصحهما: أنه عطف على «أكون» المنصوبة ب «أنْ» منتظماً في سِلْكِهِ، أي: أعجَزْت عن كوني مُشْبِهاً للغُرَاب فَمُوَارياً. والثاني: قاله الزمخْشَريُّ، ولم يذكر غيره أنَّه منْصوب على جواب الاستفهام في قوله: «أعجَزْتُ» ، يعني: فَيَكونُ من باب قوله: {فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ} [الأعراف: 53] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 294 ورده أبو البقاء بعد أن حَكَاهُ عن قَوْمٍ، قال: وذكر بعضهم: أنه يجُوزُ أن يَنتصب على جواب الاستفهام؛ وليس بِشَيء، إذ ليس المَعْنى: أيكون منِّي عجز فَمُواراة، ألا ترى أن قولك: «أين بَيْتُكَ فأزُوركَ» معناه: لو عَرَفْتُ لزرتُ ليس المَعْنَى هنا «لو عَجَزت لوَاريت» . قال شهاب الدين: وهذا الرَّدُ على ظاهره صَحِيحٌ. وبَسْطُ عبارة أبي البَقَاء: أنَّ النُّحاة يَشْتَرِطون في جواز نَصْب الفعْلِ بإضمار «أنْ» بعد الأشياء الثمانية - غير النَّفْي - أن يَنحلَّ الكلامُ إلى شرطٍ وجَزَاء فإن انعقد منه شَرْط وجزاء صَحَّ النَّصْبُ، وإلاَّ امتنعَ، ومنه «أيْن بيتُك فأزُورَك [أي] إن عَرّفتني بَيْتَك أزُورَك» . وفي هذا المقام لو حَلَّ منه شرط وجَزَاء لفسد المعنى؛ إذ يصير التَّقْدِيرُ: إنْ عَجَزْت وارَيْت، وهذا ليس بِصَحِيح؛ لأنه إذاعَجز كيف يُوَارِي. وردَّ أبو حيَّان على الزَّمخشريِّ بما تقدَّم، وجعله غَلَطاً فاحِشاً وهو مَسْبُوقٌ إليه كما رأيت، فأساءَ عليه الأدبَ بشيء نَقَلَهُ عن غيره الله أعلمُ بصحَّتِهِ. وقد قرأ الفَيَّاض بن غَزْوَان، وطلحة بن مصرف «بسكون الياء» ، وخرَّجها الزمخشري على أحد وجهين: إمَّا القَطْع، أي: فأنا أوَاري، وإمَّا على التَّسْكِين في موضع النصب تخفيفاً. وقال ابنُ عطيَّة: «هي لغة لتوالي الحركات» . قال أبو حيَّان: «ولا يصلح أن تعلَّلَ القِرَاءة بهذا ما وُجِد عنه مندُوحَةٌ؛ إذ التَّسْكينُ في الفَتْحَة لا يجُوز إلاَّ ضرورة، وأيضاً فلم تتوالَ حركات» . وقوله «فَأَصْبَحَ» بمعنى «صَارَ» . قال ابن عطيَّة: قوله: «أصْبَح» عبارة عن جميع أوْقَاتِه قيم بَعْض الزَّمان مكان كله، وخُصَّ الصَّباحُ بذلك [لأنه] بَدْءُ النهار، والانبعاث إلى الأمُور، ومَظَنَّةُ النَّشَاط، ومنه قولُ الرَّبِيع: [المنسرح] 1953 - أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 295 وقول سعد بن أبي وقَّاص: ثم أصَبْحَت بنو [أسد تعزرني على] الإسلام إلى غير ذلك. قال أبو حيَّان: وهذا التَّعْليل الذي ذكره؛ لكون «أصْبَح» عبارة عن جميع أوْقاته، وإنما خصَّ الصَّبَاح لكونه بَدْءُ النَّهَار ليس بِجَيّد؛ لأن العرب اسْتَعْمَلَت «أضْحَى» و «بَاتَ» و «أمْسَى» بمعنى «صَار» ، وليس شيء منها بَدْء النَّهَار. قال شهاب الدين: وكيف يُحْسِن أن يردَّ على أبي محمد بِمِثْل هذا، وهُوَ لم يَقُل: إنها لمَّا أُقِيمَت مقام أوْقَاته للعلَّةِ الَّتي ذكرها تكونُ بمعنى «صَار» ، حتَّى يلزمَ بأخواتها نَاقِصة عليه، وسيأتي الكلام على ذلك في «الحُجُرَات» عند قوله تعالى {فَتُصْبِحُواْ على مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الآية: 6]- إن شاء الله تعالى -. فصل فإن قيل: فِعْل الغُرَابِ صار سنَّة في دفن الخَلْقِ فَرْضاً على جميع النَّاس على الكِفَاية. فالجواب: قال بعض المُفَسِّرين: لمَّا قتله ولم يدر ما يَصْنَع به بَعَثَ اللَّه غرابين فاقْتَتَلا، فقتل أحدُهما الآخر فحفَر له بِمِنْقَاره ورجليه، ثمَّ ألقاه في الحُفْرَة فتعلَّم قابيل ذلك، وعَلِمَ أن الغُرَاب أكثر عِلْماً منه، وعلم أنَّه إنما أقدم على قَتْل أخيه [بسبب] جهله وقلَّة معرفته فَنَدِم وتلهف. وقال الأصمُّ: لما قتله وتركه فَبَعَث اللَّه غُرَاباً يحثو التَّراب على المقْتُول، فلما رأى القَاتِل أنَّ المقتول كيف يُكرمُهُ اللَّه بعد موته نَدِم وقال: يا وَيْلَتا، وقال أبو مُسْلم: عادة الغُرَاب دفن الأشْيَاء فجاء غرابٌ ودفن شيئاً؛ فتعلَّم ذلك منه. وقيل: إنَّه كان عالماً بكيْفِيَّة الدَّفن، وأنه يبعد في الإنْسَان العَاقِل ألاَّ يُهْدَى إلى هذا القدر من العمل، إلاَّ أنه لما قَتَلَهُ تركه بالعَرَاء، فلما رَأى الغُرابَ يدفن الغُرابَ رقَّ قلبه، وقال: إن هذا الغُراب لما قتل ذلك الآخر فبعد أن قَتَلَهُ أخْفَاه تحت الأرْض، أفأكون أقلَّ شَفَقَة من هذا الغُراب؟! فجاء وحَثَى التُّراب على المَقْتُول، فلما رأى أنَّ الله تعالى أكرمه حال حياته بقبول قُرْبَانه، وأكرمه بعد مماته بأن بعث الغُراب ليدفنه تَحْتَ الأرْض، علم أنَّه عظيم الدَّرجة عند الله تعالى؛ فتلهَّف على فِعْله، وعَلِمَ أن لا قدرة له على التَّقَرُّب إلى أخيه إلاَّ بأن يَدْفِنَه في الأرض فلا جرم قال: {يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 296 الْغُرَابِ} . فإن قيل: لفظ النَّدَم وضع للزُوم، ومنه سُمِّي النَّدِيم نَدِيماً لأنه يُلازِمُ المَجْلس. فالجواب أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: {النَّدم تَوْبَة} وأجابوا عنه بوجوه: أحدها: أنه لما تعلَّم الدَّفن من الغُرَاب صار من [النَّادِمين على كونه حَمَلَهُ على ظهره سنة. وثانيها: أنه صار من النَّادمين] ؛ لأنَّه لم ينتفع بقتله، وسخطَ عليه بسببه أبواه وإخوته، وكان نَدمُه لهذه الأسْباب لا لِكَونِهِ مَعْصِية. وثالثها: أنَّ ندمه كان لأجْل تركه بالعَرَاء استِخْفافاً به بعد قَتْله، لأنَّ الغُرَاب لما قتل الغُرَاب ودفنه، نَدِم على قساوة قَلْبه، وقال: هذا أخِي وشقيقي ومَنْ لحمه مختلط بِدَمي، فإذا ظهرت الشَّفَقَة من الغُرَاب ولم تظهر منِّي على أخِي، كنت دون الغراب في الرَّحْمَة والشَّفَقة والأخْلاق الحميدة، فكان نَدَمُه لهذه الأسْبَاب، لا للخوف من الله - تعالى -، فلذلك لَمْ يَنْفَعه النَّدم. قال المُطَّلِب بن عَبْد اللَّه بن حِنْطَب: لمَّا قتل ابن آدَم أخَاهُ، وجفَّت الأرض سَبْعَة أيَّام بما عليها، ثمَّ شَرِبت الأرْضُ دَمَهُ كما تشرب الماء، فنادَاه [آدم] : أين أخُوكَ هَابِيلُ؟ قال: ما أدري ما كنت عليه رَقِيباً. فقال آدم: إن دم أخيك ليُنَادِيني من الأرْضِ. فلم قَتَلْتَ أخاكَ؟ قال: فأيْنَ دَمُه إن كنت قتلته؟ فحرّم اللَّه - عزَّ وجل - على الأرْض أن تَشْرَب بعده [دماً] أبداً، وقيل لقابيل: اذْهَب طَرِيداً شريداً فزعاً مَرْعُوباً لا تأمَن من تراه، فأخَذَ بيد أخته «إقْلِيما» وهَرَب بها إلى اليَمَن، فأتاه إبليس فقال له: إنَّما أكَلَت النَّار قربان أخيك هَابيل؛ لأنَّه كان يعبُد النَّار فانْصِبْ أنت أيضاً ناراً، وهو أوَّل من عَبَد النَّار قال مُجَاهد: فعلقت إحدى رِجْلَيْ قَابِيل إلى فخذهَا وسَاقِهَا، وعلقت من يَوْمئذٍ إلى يومِ القِيَامة، ووجهه إلى الشمس حيث ما دارت عليه، في الصَّيْف حَظِيرةٌ من نار، وفي الشِّتَاء حظيرةٌ من ثَلْج، واتَّخَذَ أولاد قَابِيل آلات اللَّهْو، وانهمكوا في اللَّهْو وشُرْبِ الخَمْر وعِبَادة النار والزِّنا والفَواحِش، حتَّى غرقهم اللَّه بالطُّوفان أيَّام نوح - عليه السلام - وبقي نَسْلُ شِيث. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 297 قوله: [ {مِنْ أَجْلِ ذلك} ] فيه وجهان: أظهرهما: أنه متعلِّق ب «كَتَبْنَا» وذلك إشارةٌ إلى القَتْل، و «الأجْل» في الأصْل هو: الجناية، يقال: «أجَل الأمْر يأجل [إجْلاً] وأجْلاً وإجْلاَء، وأجْلاَء» بفتح الهمزة وكسْرِها إذا جَنَاهُ وحْدَه، مثل: أخَذَ يَأخُذُ أخْذاً. ومنه قول زُهَيْرٍ: [الطويل] 1954 - وَأهْلِ خِبَاءٍ صالحٍ ذَاتُ بَيْنهمْ ... قَدِ احْتَرَبُوا فِي عَاجِلٍ أنَا آجِلُهْ أي: جَانِيه. ومعنى قول النَّاس «فَعَلْتُه من أجْلِك ولأجلك» أي: بِسببك، يعني: مِنْ أنْ جَنَيْتَ فِعْلَه وَأوْجَبْته، وكذلك قولهم: «فَعَلْتُه مِنْ جَرَّائك» ، أصْلُهُ من أن جَرَرْتَهُ، ثم صار يستعمل بمعنى السَّبَب. ومنه الحديث «مِن جَرَّاي» أي: من أجْلِي. و «من» لابتداء الغاية، أي: نَشَأ الكَتْبُ، وابتدى من جناية القَتْلِ. ويجُوزُ حَذْفُ «مِنْ» واللاَّم وانتصاب «أجْل» على المَفْعُول له إذا استكمل الشُّروط له. قال: [الرمل] 1955 - أجْلَ أنَّ اللَّهَ قَدْ فَضَّلَكُمْ ..... ... ... ... ... ... . والثاني: أجَازَ بعض النَّاس أن يكون مُتعلِّقاً بقوله: «من النَّادمين» أي: ندم من أجْلِ ذلك، أي: قَتْلِهِ أخاه قال أبو البقاء: ولا تتعلَّقُ ب «النَّادمين» ؛ لأنَّه لا يحسن الابتداء ب « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 298 كَتَبْنَا» هنا، وهذا الردُّ غير وَاضِح، وأين عَدَمُ الحُسْنِ [بالابتداء] بِذَلك؛ ابتدأ الله - تعالى - إخْبَاراً بأنَّه كتب ذلك، والإخْبَار مُتعلِّق بقصة ابْنَيْ آدم إلا أنَّ الظَّاهر خلافه كما تقدَّم. [والجمهور على فتح همزة «أجل» ، وقرأ أبو جعفر بكسرها، وهي لغة كما تقدم] ورُوي عنه حذفُ الهمزة، وإلقاءُ حركتها وهي الكسرة على نون «مِنْ» ، كما يَنْقِل وَرْش فتحتها إليها، والهاء في «أنَّه» ضمير الأمْر والشَّأن، و «منْ» شرطيَّة مبتدأة، وهِيَ وخَبَرُها في مَحَلِّ رفعٍ خبراً ل «أن» ، فإن قيل: قوله {مِنْ أَجْلِ ذلك} أي: من أجْل ما مَرَّ من قصَّة قَابِيل وهَابِيل كَتَبْنَا على بَنِي إسْرَائيل القصاص وذلك مُشْكِلٌ، لأنه لا مُنَاسَبَة بين واقِعَة قَابِيل وهَابِيل، وبين وُجُوب القِصَاص على بَنِي إسْرائيل. فالجواب من وجهين: أحدهما: ما تقدَّم نَقْلُهُ عن الحسن، والضَّحَّاك: أنَّ هذا القَتْل إنما وقع في بَنِي إسْرَائيل، لا بَيْنَ ولديْ آدم لصُلْبِه. الثاني: أن «مِنْ» في قوله {مِنْ أَجْلِ ذلك} ليس إشارة إلى قصَّة قَابِيل وهَابِيل بَلْ هُو إشَارَةٌ إلى ما ذكر في القِصَّة من أنْوَاع المَفَاسِدِ الحاصلة بِسَبَب القتل المحرَّم، كقوله «فأصْبَح من الخَاسِرين» ، و «أصْبَح من النَّادِمين» ، فقوله «أصبح من الخَاسِرِين» إشارةٌ إلى أنه حَصَل في قلبه أنْوَاع النَّدم والحسرة والحُزْن، مع أنَّه لا دَافِع لذلك ألْبَتَّة. فإن قيل: حُكْم القِصَاص ثَابتٌ في جميع الأمَم فما فَائِدَة تخْصِيصِه بِبني إسْرائيل؟ . فالجواب: أنَّ وجوب القِصَاص وإن كان عاماً في جميع الأمَمِ، إلا أنَّ التَّشْديد المَذْكور في حقِّ بَنِي إسْرائيل غير ثَابتٍ في جميع الأدْيَان؛ لأنَّه - تعالى - حكم هاهُنَا بأن قَتْل النفس جار مُجْرى قَتْل جَمِيع النَّاس، فالمقصود منه: المُبَالَغَة [في عقاب القتل العَمْد العدوان، والمقصود من هذه المُبَالَغَة: أنَّ اليهُود مع عِلْمهم بهذه المُبَالغة العَظِيمة] أقدَموا على قتل الأنبياء والرُّسل، وذلك يدُلُّ على غاية قَسَاوَة قُلُوبهم ونِهَاية بُعْدهم عن طَاعَة الله، ولما كان الغرض من ذكر هذه القصص، تَسْلية الرَّسول في الواقعة التي ذكرْنا، من أنَّهُم عزموا على الفتك برسُول اللَّه - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وبأكابر الصَّحابة، [فكان تَخْصِيص] بَنِي إسرائيل في هذه القِصَّة بهذه المُبَالغَة مُنَاسِباً للكَلاَم. فصل استدلَّ القَائِلُون بالقياس بهذه الآية على أنَّ أحْكَام الله تعالى قد تكون مُعَلَّلة؛ لأنَّه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 299 قال: {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا} وهذا تَصْرِيح بأن كتبه تلك الأحْكَام معلَّلٌ بتلك المَعَانِي المُشَار إليها بقوله {مِنْ أَجْلِ ذلك} . وقالت المُعتزلةُ: دَلَّت هذه الآيةُ على أنَّ أحْكَام اللَّه معلّلة بمصالح العِبَاد، وإذا ثَبَتَ ذلك امْتَنَع كونه خَالِقاً للكُفْر والقَبَائح، مُريداً وقوعها مِنْهم؛ لأنَّ خلق القَبَائح وإراداتها يمنع من كونه تعالى مُرَاعياً للمصالح، وذلك يُبْطِل التَّعْلِيل المَذْكُور في هذه الآية. وأجاب القَائِلُون بأنَّ تعلِيلَ أحْكَام اللَّه مُحَالٌ بوجوه: أحدها: أن العِلَّة إذا كانت قَدِيمة لزم قدم المَعْلُول، وإن كانت مُحْدَثة وجب تَعْلِيلُها بعلَّة أخرى ولزم التَّسَلْسُل. وثانيها: لو كان مُعَلَّلاً بِعِلَّة، فوجود تلك [العِلَّة] وعدمها بالنِّسْبَة إلى اللَّه تعالى إن كان على السَّوِيَّة امتنع كونه عِلَّة، وإن لم يَكُن فأحدهما به أوْلى، وذلك يَقْتَضِي كونه مُسْتَفِيداً تلك الأوْلويَّة من ذلك الفِعْلِ [فيكون ناقِصاً لذاته مُسْتَكْملاً بغيره وهو مُحَال. وثالثها: ثبت توقف الفعل] على الدَّوَاعي، ويمتنع وقوع التَّسَلْسُل في الدَّواعي، بل يجب انْتِهَاؤُها إلى الدَّاعية الأولَى التي حَدَثَت في العَبْد، لا مِن العَبْد بل من الله تعالى، وثبت أنَّ عند حُدُوث الدَّاعِية يجب الفعل. وعلى هذا التقدير: فالكُلّ من الله تعالى، وهذا يَمْتَنِع من تَعْلِيل أفْعَال اللَّه وأحكامه برعاية المصالح، وإذا ثبت امْتِنَاع تَعْليل أفعال اللَّه وأحكامه ثَبَتَ خلوّ ظاهر هذه الآية من المُتَشَابِهَات، ويؤكِّده قوله تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً} [المائدة: 17] ، وذلك نصٌّ صَرِيحٌ في أنَّه يحسن من اللَّه كُلُّ شيء، ولا يَتَوَقَّف خلقه وحُكْمُه على رعاية المَصْلَحة ألبتة. قوله تعالى «بِغَيْر نَفْسٍ» فيه وجهان: أحدهما: أنه مُتَعَلِّقٌ بالقتل قَبْلها. والثاني: أنَّه في مَحَلِّ حالٍ من ضمير الفاعل في «قتل» ، أي: قَتلها ظالماً، ذكره أبو البقاء. وقوله تعالى «أوْ فسادٍ» الجمهور على جَرِّهِ عَطْفاً على «نَفْس» المجرور بإضافة [ «غَيْر» إليها] ، وقرأ الحسن بنصبه، وفيه وجهان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 300 أظهرهُمَا: أنَّه منصوبٌ على المَفْعُول بعامل مضمر يَلِيقُ بالمَحَلِّ، أي: أو أتى أو عَمِل فََسَاداً. والثاني: أنه مصدرٌ، والتقدير: أو أفْسَد فَسَاداً بمعنى إفساد فهو اسْمُ مَصْدَر، كقوله: [الوافر] 1956 - وَبَعْدَ عَطَائِكَ المائَةَ الرِّتَاعَا ... ذكره أبو البَقَاء. و «في الأرض» متعلِّق بنفس «فَسَاد» ؛ لأنَّك تقول: «أفْسَد في الأرْض» إلاَّ في قراءة الحسن بنَصْبِه، وخرَّجناه على النَّصْب على المَصْدرية، كما ذكره أبُو البقاء، فإنه لا يتعلَّق به؛ لأنه مصدر مُؤكِّد، وقد نَصُّوا على أنَّ المؤكد لا يعمل، فيكُون «في الأرضِ» متعلِّقاً بمحذُوف على أنه صِفَة ل «فساداً» والفاءُ في «فَكَأنَّمَا» في الموضعين جواب الشَّرْط واجِبَة الدُّخول، و «ما» كافة لحرف التَّشْبيه، والأحْسَن أن تسمى هُنَا مهيِّئة لوقوع الفِعْل بَعْدَهَا، و «جَمِيعاً» : إمَّا حال أو تَوْكِيدٌ. فصل قال الزَّجَّاج: التقدير: من قتل نَفَساً بغير نَفْس أو فَسَاد في الأرْض، وإنَّما قال تعالى ذلك؛ [لأنَّ] القَتْل يحل لأسْبَاب كالقصاص، والكفر، والزِّنا بعد الإحْصَان، وقطع الطَّرِيق ونحوه، فجمع تعالى هذه الوُجُوه كُلَّها في قوله تعالى {أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض} ثم قال: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} . فإن قيل: كيف يكُون قتل النَّفْس الوَاحِدة مساوِياً للكُلِّ؟ فذكر المُفَسِّرُون له وُجُوهاً، وهي مَبْنِيَّة على مُقَدِّمة، وهي أنَّ تَشْبيه أحَد الشَّيْئَيْن بالآخَر، لا يَقْتَضِي الحُكْم بمُشَابَهَتِهما من كلِّ الوُجُوه، وإذا صحَّت المُقدِّمة، فنقُول: الجواب من وجوه: أحدها: [المقصُود من تَشْبيه] قَتْل النَّفْس الواحِدَة بقَتْل النُّفُوس: المُبَالغَة في تَعْظيم أمر القَتْل العَمْدِ العُدوان وتَفْخِيم شَأنه، يعني: كما أنَّ قَتْل كلِّ الخَلْق أمر مستَعْظمٌ عند كلِّ أحَدِ، فكَذَلِك يجب أن يكون قتل الإنْسَان الواحِد مستَعْظَماً منهياً، فالمَقْصُود بيان مُشاركتهمَا في الاستِعْظَام، لا بيان مُشاركتِهمَا في مقدار الاسْتِعْظام، وكيف لا يكُون مُسْتعْظَماً وقد قال - تعالى -: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ الله عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء: 93] . وثانيها: أنَّ جميع النَّاس لو عَلِمُوا من إنْسَان واحد أنَّه يقصد قَتْلَهم بأجْمَعِهِم، فلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 301 شكَّ أنهم يَدْفَعُونه دفعاً لا يُمْكِن تَحْصِيل مَقْصُوده، فكذلِكَ إذا عَلِموا منه أنَّه يقصد قَتْلَ إنْسَان واحد [مُعيَّن يجب أن] يَجِدُّوا في دَفْعِه، ويَجْتَهِدوا كاجْتِهَادهم في الصُّورة الأولى. وثالثها: أنه لمَّا أقدم على القَتْلِ العَمْدِ العُدْوان فقد رجَّح داعِية الشَّهْوة والغضب على دَاعِيَة الطَّاعة، ومتى كان الأمر [كَذَلِكَ] كانَ التَّرْجِيح حَاصِلاً بالنِّسبة إلى كلِّ واحد، فكان في قلبه أنَّ كلَّ أحد نازعه في شيءٍ من مَطَالبه؛ فإنَّه لو قدر عليه لقتَلَهُ، ونيَّة المؤمن في الخَيْرَات خَيْر من عَمَلِهِ، فكذلك [نِيَّة المؤمن في الشُّرور شرٌّ من عمله، فيصير المَعْنَى: من يَقْتُل إنساناً قَتْلاً عمداً عُدْوَاناً فكأنَّمَا قَتَل جَمِيع النَّاس] . ورابعها: قال ابْنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في رواية عِكْرِمة «مَنْ قتل نَبيّاً أو إمامَ عَدْلٍ، فكأنَّما قتل النَّاسَ جَمِيعاً ومن أحْيَاها: من سَلِمَ من قتلها، فكان كمن سَلِمَ من قَتْلِ النَّاس جَمِيعاً» . وخامسها: قال مُجَاهِد: من قتل نَفْساً محرَّمة يَصْلَى النَّار بقتلها، كما يصلاها لو قتل النَّاس جميعاً، ومَنْ أحْيَاها: من سلم من قتلها، فكان كمن سلم من قتْلِ النَّاس جَمِيعاً. وسادسها: قال قتادة: أعْظَم اللَّه أجرَهَا وعظَّم وزرَها، معناه: من استَحَلَّ قتل مُسْلِم بغير حَقِّه، فكأنَّما قتل النَّاس جميعاً في الإثْم لا يَسْلَمُون منه، ومن أحْيَاها وتورَّع عن قَتْلِها، فكأنَّما أحْيَا النَّاس جَمِيعاً في الثَّواب لسلامتِهم منه. وسابعها: قال الحسن: فكأنَّما قتل النَّاس جَمِيعاً، يعني: أنَّه يَجِبُ عليه من القِصَاص بِقَتْلِها، مثل الذي يجب عليه لو قتل النَّاسَ جَمِيعاً، ومن أحْيَاها، أي: عَفَا عَمَّنْ وَجَبَ عليه القِصَاص له، فَلَمْ يَقْتُلْه فكأنَّما أحيا النَّاس جَمِيعاً، قال سُليمان بن عَلِي: قلت للحَسَن: يا أبَا سَعِيد: أهِيَ لَنَا كما كانت لِبَني إسْرائيل؟ قال: والذي لا إله غيره ما كان دَمُ بَنِي إسرائيل أكرم على الله من دَمائِنا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 302 وإحْيَاء النَّفْس: هو تَخْلِيصُها من المُهْلِكَات كالحَرق، والغَرَقِ، والجُوعِ المُفْرط، والبرد والحرِّ المُفْرطيْن. ثم قال: {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك} ، أي: بعد مَجِيء الرُّسل وبعدما كَتَبْنَا عليهم تَحْريم القَتْل، «لمُسْرِفُون» الذي هو خَبَر «إن» ولا تَمْنَعُ من ذلك لام الابتداء فاصِلَة بين العامل ومعمُوله المتقدِّم عليه؛ لأنَّ دخولها على الخَبَر على خِلاف الأصْل؛ إذ الأصْل دُخولُها على المُبْتَدأ، [وإنَّما منع منه دخول «إنَّ» و «ذلِكَ» إشارة إلى مجيء الرُّسُل بالبيِّنات] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 لما ذكر تَغْلِيظ الإثْم في قَتْل النَّفس بغير حقٍّ ولا فساد في الأرض أتبعه بِبَيَان الفَسَاد في الأرْض. وقوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين} : مُبْتَدأ وخبره «أنْ يُقَتَّلُوا» وما عطف عليه، أي: إنَّما جَزاؤُهُمُ التَّقْتِيلُ، أو التَّصلِيب، أو النَّفْي. وقوله: «يُحارِبُون اللَّه» ، أي: يُحَارِبون أولِيَاءه كذا قدَّرَه الجُمْهُور. وقال الزَّمَخْشَريُّ: «يُحَارِبُون رسُول الله، ومحاربة المُسْلِمِين في حكم مُحَارَبَتِه» . يعني: أنَّ المقصود أنَّهم يُحَارِبون رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإنما ذكر اسْم الله - تبارك وتعالى - تَعْظِيماً وتَفْخِيماً لمن يُحَارَبُ، كقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك عند قوله تعالى: {يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا} [البقرة: 9] . فإن قيل: المُحَارَبة مع اللَّه - عزَّ وجل - غيْر مُمْكنة، فيجب حَمْلُه على المحاربة مع أولياء اللَّه، والمحاربةُ مع رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ممكِنَةٌ فلفظ {يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ} يَلْزَم أن يكون مَحْمُولاً على المجاز والحقيقة معاً فلفظ المحاربة بما نُسِبَت إلى الرَّسُول فلفظ المحاربة إذا نُسِبَت إلى اللَّه تعالى كان مَجَازاً، لأن المُراد منه مُحَاربة أوْلِيَاء اللَّه، وإذا نُسِبَتْ إلى الرَّسُول كانت حَقِيقَة، وذلك مُمْتَنِعٌ. فالجواب: إنَّما تحمل المُحاربة على مُخالفةِ الأمْرِ والتَّكْلِيفِ. والتقدير: إنَّما جزاء الذين يُخالِفُون أحْكامَ اللَّه تعالى وأحكام رسُولِه، ويَسْعَوْن في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 303 الأرْض فَسَاداً كذا وكذا، ومن يجز ذلك لم يَحْتَجْ إلى شيء من هذه التَّأوِيلات بل يقول تُحْمَلُ محاربتهم للَّه - تعالى - على مَعْنًى يَلِيق بها، وهي المُخالفةُ مَجازاً، ومحاربَتُهم لِرسُوله على المُقاتلةِ حَقِيقة. قوله: «فساداً» في نصبه ثلاثة أوجُه: أحدها: أنه مَفْعُول من أجله، أي يُحَاربُون ويسْعَون لأجل الفساد، وشروط النَّصْبِ موجُودة. الثاني: أنَّه مصدر وَاقع موقع الحَالِ: ويسْعَوْن في الأرْض مفسدين، أو ذوي فساد، أو جُعِلُوا نفس الفساد مُبالغةً، ثلاثة مذاهب [مشهورة] تقدَّم تَحْرِيرها. الثالث: أنه منْصُوب على المصدر، أي: إنَّه نَوْع من العامل قبله، فإنَّ معنى «يَسْعَوْن» هنا: يُفْسدُون وفي الحَقِيقة، ف «فسادٌ» قائم مقام الإفساد [والتقدير:] ، ويفسدون في الأرْض بسعيهم إفْساداً. و «فِي الأرْضِ» الظّاهر: أنه متعلِّق بالفِعْل قَبْلَه، كقوله: {سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ} [البقرة: 205] . وقد أجيز أن يكون في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحَالِ؛ لأنَّه يجُوز أن لو تأخَّر عنه أن يكون صِفَةً له. وأجيز أن يتعلَّق أيضاً بنَفْس «فساداً» ، وهذا إنَّما يَتمشّى إذا جعلْنَا «فَسَاداً» حالاً. أمَّا إذا جَعَلْنَاهُ مصدراً امتنع ذلك لِتَقَدُّمِهِ عليه، ولأنَّ المؤكد لا يَعْمَل. وقرأ الجمهور «أنْ يُقَتَّلُوا» وما بعده من الفِعْلَين بالتثقيل، ومعناه: التَّكْثير بالنِّسْبَة إلى من تقعُ به هذه الأفْعَال. وقرأ الحسن وابنُ مُحَيْصِن بِتَخْفِيفِهَا. قوله تعالى «مِن خِلافٍ» في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من «أيْدِيهِمْ» و «أرْجُلِهِمْ» أي: [تقطع مختلف] بمعنى: أن يقْطَع يَدَهُ اليُمْنَى، ورجله اليُسرى. والنَّفي: الطَّرْد. و «الأرض» المراد بها هاهُنَا «ما يُريدُون الإقامَة بها، أو يُراد من أرْضِهِمْ. و» ألْ «عوض من المضاف إليه عِنْد من يَرَاهُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 304 فصل قال الضَّحَّاك: نزلت في قوم مِنْ أهْل الكتاب، كان بَيْنهم وبين رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَهْدٌ، فَنَقَضُوا العَهْد وقطعُوا السَّبِيل وأفْسَدوا. وقال الكَلْبِي: نزلت في قَوْم هِلال بن عُوَيْمر، وذلك أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واعد هلال بن عُوَيْمِر وهو أبو بُرْدَة الأسْلَمي، على ألا يُعِينَهُ ولا يُعِين عليه، ومن مرَّ بهلال بن عويمر إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فهو آمِنٌ لا يُهَاجُ، فمرَّ قوم من بَنِي كِنَانَة يريدون الإسلام، بِنَاس من أسْلَم من قَوْم هلال بن عويمر، ولم يكن هلال شَاهِداً، فَشَدُّوا عليهم فَقَتَلُوهم وأخَذُوا أمْوالهم، فنزل جبريل بالقِصَّة. وقال سعيد بن جبير: نزلت في نَاسٍ من عُرَيْنَة وعكل أتَوا النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وبايعوه على الإسلام وهم كَذَبة، فَبَعَثَهُم النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - إلى إبل الصَّدقةِ فارْتَدُّوا، وقتلوا الرَّاعِي واسْتَاقُوا الإبِل، فبعث النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - من رَدَّهم وأمر بِقَطْع أيديهم وأرجُلهم، وسَمْل أعْيُنِهم بمَسَامِير وكحلهم بها، وطَرحهم في الحَرِّ يَسْتَسْقُون فلا يُسْقَون حتى ماتُوا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 305 قال أبو قِلابَة: هؤلاء قَتَلُوا وسَرَقُوا، وحاربُوا الله ورسُولَهُ وَسَعَوْا في الأرْضِ فساداً، فنزلت هذه نَسْخاً لِفْعِل النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فصارت السُّنَّة مَنْسُوخة بهذا القُرْآن العظيم، ومن قال إنَّ السُّنَّة لا تُنْسَخُ بالقُرْآن قال: إنما كان النَّاسِخ لتلك السُّنَّة سُنَّة أخْرى: ونزل هذا القُرْآن العَظِيم مُطَابِقاً للسُّنَّة النَّاسخة. وقال بعضهم: حُكُمُهم ثَابِت إلا السَّمل والمُثْلَة، وروى قتادةُ عن ابن سيرين أنَّ ذلك قَبْل أن تَنْزِل الحُدُود. قال أبو الزَّنَاد: ولما فعل رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ذلك بهم أنْزل اللَّه الحُدُود، ونَهَاهُ عن المُثْلة فلم يَعُد، وعن قتادةُ قال: بَلَغَنَا أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [بعد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 306 ذلك كان يحثّ على الصَّدَقة ويَنْهَى عن المُثْلة، وقال سليمان التَّيْمِي عن أنس: إنَّما سَمَل النبي - صلَّى الله] عليه وعلى آله وسلَّم - أعْيُن هؤلاء؛ لأنَّهم سَمَلُوا أعْيُنَ الرُّعَاة. وقال الليث بن سَعْد: نزلَت هذه الآيَةُ مُعَاتِبَةً لِرسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وتَعْلِيماً له عُقُوبَتهم وقال: إنَّما جَزَاؤهم لا المُثْلَة، ولذلك ما قَامَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - خَطِيباً إلا نَهَى عن المُثْلَة. وقيل: نزلت هذه الآية في الَّذِين حُكي عنهم من بَنِي إسرائيل - أنَّهُم بعد أنْ غلظ عليهم عِقَابُ القَتْلِ العَمْدِ العُدْوان، فهم مُسْرِفون في القَتْلِ ويُفْسِدون في الأرْض، فمن أتى منهم بالقَتْلِ والفَسَادِ في الأرْضِ فَجَزَاؤهُم كذا وكذا. وقيل: نزلت هذه الآية في قطَّاعِ الطَّرِيق من المُسْلِمين [وهذا قول] أكثر الفقهاء قالوا: والذي يدل على أنَّهُ لا يَجُوز حَمْلُ الآية على المُرْتَدِّين من وجوه: أحدها: أنَّ قطع المرتدِّ لا يقف على المُحَاربة، ولا على إظهار الفَسَاد في دار الإسلام، والآية تَقْتَضِي ذلك. وثانيها: لا يجوز الاقتصَار في المرتدِّ على قَطْعِ اليَدِ، ولا على النَّفْي، والآية تقتضي ذلك. وثالثها: أن الآية تَقْتَضِي سقوط الحد بالتَّوْبة قبل القُدْرة؛ لقوله تعالى {إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ} . والمرتَدُّ يسقط حَدُّه بالتَّوبة قبل القُدْرة وبعدها، فدلَّ على أن الآية لا تعلُّقَ لها بالمُرْتَدِّين. ورابعها: أن الصَّلْب غير مشْرُوع في حق المُرْتَدِّ، وهو مشروع هاهنا فوجَب ألا تكون الآية مُخْتَصَّة بالمرتدِّين. وخامسها: أنَّ قوله تعالى: {الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً} يتناول كل من يُوصَف بهذه سواءً كان مُسْلِماً أو كافراً، ولا يُقالَ: الآية نزلت في الكُفَّار؛ لأن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 307 العبرة بعُمُوم اللَّفْظ لا خُصوص السَّبَب، فإن قيل: المُحَارِبُون هم الذين يَجْتَمِعُون ولهم مَنَعَةٌ، ويَقْصدون المُسْلِمين في أرواحهم ودِمَائهم، واتَّفَقُوا على أنَّ هذه الصِّفَة إذا حصلت في الصَّحَراء كانوا قُطَّاع الطَّريق، وأما إن حصلت في الأمْصار، فقال الأوْزَاعيُّ ومالِكٌ واللَّيْث بن سَعْد والشَّافِعِيّ: هم أيضاً قُطَّاع الطَّريق، هذا الحدُّ عليهم، قالوا: وإنَّهم في المُدُن يكونون أعْظَم ذَنْباً فلا أقَلَّ من المُسَاوَاة، واحتَجُّوا بالآية وعُمُومها، ولأنَّ هذا حدّ فلا يَخْتَلِفُ كَسَائِر الحدود [وقال أبو حنيفة ومُحَمَّد: إذا حصل ذلك في المِصر لا يُقام عَلَيْه الحُدُود] لأنه لا يلحقه الغَوْثُ في الغالِبِ فلا يتمكَّن من المغالبة، فصار في حكم السَّارِق. فصل قوله تعالى في الآية {أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} . اختلف العلماء في لفظة «أوْ» : فقال ابن عبَّاس في رواية الحسن، وسعيد بن المسيب، ومُجاهد، والنَّخْعِي: إنَّها للتَّخْيير، والمعنى: أنَّ الإمام مخيَّر في المُحَاربين، إن شاء قَتَلَ، وإن شَاء صَلَب، وإن شاء قَطَعَ الأيْدِي والأرجل، وإن شاء نَفَى، وقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في رواية عطاء: «أوْ» هاهنا [لَيْسَت] للتَّخيير، بل لبيانِ الأحْكَام وتَرْتِيبهَا. قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - في قُطَّاع الطريق إذا قتلوا وأخَذُوا المال: قُتِلُوا وصُلِبُوا، وإذا قَتَلُوا ولم يأخُذُوا المال، قُتِلُوا ولم يُصْلَبُوا، وإذا أخَذُوا المال ولم يَقْتُلُوا؛ قُطِعَتْ أيْدِيهم وأرْجُلُهم، وإذَا قَتَلُوا ولم يَأخذُوا المالَ قُتِلُوا وَلَمْ يُصْلَبُوا، وإذا أخَذُوا المال ولم يَقْتُلُوا؛ قُطِعَتْ أيديهم وأرْجُلُهم من خلافٍ، وإذا أخافُوا السَّبيل، ولم يأخُذُوا مالاً؛ نُفُوا من الأرض، وهذا قول قتادة [والشَّافعي، والأوْزَاعِيِّ] ، وأصحاب الرَّأي. واختَلَفُوا في كَيْفِيَّة القَتْلِ والصَّلْب، فظاهر مَذْهَبِ الشَّافعيّ: أنه يُقْتَل ثم يُصْلَب، وقيل: يُصْلب حيّاً ثم يُطْعَن حتى يموت مصْلُوباً، وهو قول اللَّيْث بن سَعْد، وقيل: يُصْلَب ثلاثة أيَّام، ثم ينزل ثم يُقْتَل، وإذا قَتَلَ يُقْتَلُ حتماً، لا يسقط بعَفْو وَلِيّ الدَّم. واختُلِفَ في النَّفْي: فقال سعيد بن جُبَيْر، وعُمَرُ بن عَبْد العزِيز: أنَّ الإمام يطلبه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 308 ففي كُلِّ بلد يُوجَد ينفى عنه، وقيل: يُطْلَبُون ليُقَام عليهم الحُدُود، وهو قول ابن عبَّاس، واللَّيث بن سَعْد، وبه قال الشَّافعي، وإسْحَاق. وقال أبو حنيفة: النَّفْي هو: الحبس، وهو اخْتِيَار أهْل اللُّغَة. قالوا: لأن قوله {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} : إمَّا أن يكُون المُرَادُ به النَّفي من جميع الأرْضِ، وذلك غير مُمْكِن مع بَقَاءِ الحياة، [وإمَّا] أن يكون المُرَاد إخراجه من تلك البلدة إلى بَلْدَةٍ أخرى وهو غَيْر جَائِزٍ، لأنَّه إمَّا أن يُنْفَى من بِلاد الإسْلام فَيُؤذيهم، أو إلى بِلاد الكُفْر فيكون تَعْرِيضاً له بالرِّدَّة، وذلك غَيْرُ جَائِزٍ، فلم يَبْقَ إلاَّ أنْ يكُون المُراد من النَّفْي نَفْيهُ عن جميعِ الأرْض إلى مكانِ الحَبْس قالوا: والمَحْبُوس: قد يُسَمَّى منفياً من الأرض لأنه لا يَنْتَفِع بشيء من طَيِّبَات الدُّنيا ولذَّاتها، ولا يرى أحَداً من أحبابه، فصار منفياً عن اللَّذات والشَّهَوات والطَّيِّبات فكان كالمَنْفِي في الحقيقةِ، ولما حَبَسُوا صالح بن عبد القُدُّوس على تُهْمَة الزَّندقة في حبس ضيقٍ وطال لَبْثه هُنَاك ذكر شِعْر منه: [الطويل] 1957 - خَرَجْنَا مِنَ الدُّنْيَا وَنَحْنُ مِنَ اهْلِهَا ... فَلَسْنَا مِنَ الأمْوَاتِ فِيهَا ولا الأحْيَا وقال - سامَحه اللَّه وعفا عنه وعنَّا - قوله: [الطويل] 1958 - إذا [جَاءنَا] السَّجَّانُ يَوْماً لِحَاجَةٍ ... عَجِبْنَا وَقُلْنَا: جَاءَ هَذَا مِنَ الدُّنْيَا قوله تعالى: {ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا} . «ذلك» إشارةٌ إلى الجزاء المُتقدِّم، وهو مُبْتَدأ. وقوله: «لَهُمْ خِزْيٌ» فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكُون «لهم» خبراً مُتقدِّماً، و «خِزْي» مُبْتَدأ مُؤخَّر، و «فِي الدُّنْيا» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 309 صِفَةٌ له، فيتعلق بمحذُوف، أو يتعلَّق بنفس «خِزْي» على أنَّه ظَرْفيَّة، والجُمْلَة في محلِّ رفع خبر ل «ذَلِكَ» . الثاني: أن يكون «خِزْي» خبراً ل «ذلك» ، و «لهم» مُتعلِّق بمحذُوف على أنَّه حال من «خِزْي» ؛ لأنَّه في الأصْل صِفَةٌ له، فلمَّا قُدِّم انْتَصَب حالاً. وأمَّا «في الدُّنْيَا» فيَجُوز فيه الوجهان المتقدِّمان من كونهِ صِفَةً ل «خزي» أو مُتعلِّقاً به، ويجُوزُ فيه أن يكون مُتعلِّقاً بالاسْتِقْرَار الذي تعلَّق به «لَهُم» . الثالث: أن يكون [ «لَهُمْ» ] خبراً ل «ذلك» و «خِزْي» فاعل، ورفع الجار هنا الفاعل لمَّا اعْتَمَد على المُبْتدأ، و «فِي الدُّنْيَا» على هذا فيه الأوْجُه الثلاثة. فصل في شبهة للمعتزلة وردها المراد بالخِزْي في الدُّنْيَا: الفَضِيحة والهَوَان والعَذَاب، ولَهُمْ في الآخرة عَذَابٌ عَظِيم. قالت المُعْتَزِلَةُ: دلَّت الآية [على القَطْعِ بوَعِيد] الفُسَّاق من أهْل الصَّلاة وعلى أنَّ عِقَابَهم قد أحْبَطَ ثوابهم؛ لأنَّه تعالى حَكَم بأنَّ ذلك لَهُمْ خِزْيٌ في الدُّنْيا وذلك يدل على أن اسْتِحْقَاقهم للذمِّ في الحَالِ، وإذا اسْتَحَقُّوا الذَّم في الحالِ امْتَنَع اسْتِحْقَاقهم للمَدْح والتَّعْظيم؛ لأنَّ ذلك جَمْعٌ بين الضِّدِّيْن، وإذا كان كذلِك ثَبَتَ القَطْع بوعيد الفُسَّاق، وثَبَتَ القول بالإحْبَاط. والجوابُ: لا نِزَاع بيننا وبَيْنَكم أنَّ هذا إنَّما يكون وَاقِعاً على جِهَة الخِزْي والاسْتِحْقَاقِ، إذَا لَمْ يَتقدَّمه تَوْبة، وإذا جازَ لكم [أن تَشْتَرِطُوا هذا الحُكْم بِعَدَم التَّوْبة] لِدَليل دَلَّ على اعْتِبَار هذا الشَّرْط، فنحن أيضاً نشترط لهذا الحُكْم عدم العَفْو، وحينئذٍ لا يَبْقَى الكلام إلاّ في أنَّهُ هل دَلَّ [على أنَّه - تعالى -] يَعْفُو عن الفُسَّاق أم لا؟ وقد تقدَّمت هذه المسْألة في سُورة البقرة عند قوله تعالى {بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته} [البقرة: 81] . قوله تعالى: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} فيه وجهان: أحدهما: أنَّه مَنْصُوب على الاسْتِثْنَاء من المحاربين، وللعُلَماء خلافٌ في التَّائِب من قُطَّاع الطَّريق، هل تَسْقط عنه العُقُوبات كُلُّها، أو عقوبة قَطْع الطَّريق فقط؟ . وأما ما يتعَلَّق بالأمْوَال وقتل الأنْفُس، فلا تسقط، بل حُكْمُه إلى صاحِبِ المال، وَوَلِيّ الدَّم، والظَّاهر الأوّل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 310 الثاني: أنَّه مرفوع بالابْتِدَاء، والخبر قوله: «فإنَّ الله غَفُورٌ رحيم» والعَائِد مَحْذُوف، أي: غفور له؛ ذكر هذا الثَّاني أبُو البقاء. وحينئذٍ يكون استثناءً مُنْقَطِعاً بمعنى: لكن التَّائِب يُغْفَر لَهُ. فصل من ذَهَب إلى أنَّ الآية نَزَلَت في الكُفار قال: {إِلاَّ الذين تَابُواْ} : من شركهم: وأسْلَموا قبل أن تَقْدِروا عليهم فَلاَ سَبِيل عليهم بِشَيْءٍ من الحدُود ولا تَبِعَة عليهم فيما أصَابُوا في حال الكُفْر من دَمٍ أوْ مَال. أما المُسْلِمُون المحاربون: فمن تاب منهم قبل القُدْرَة عَلَيْه، وهو قبل أنْ يَظْفَر بِهِمُ الإمَام تَسْقُط عَنْهُ كل عُقُوبة وجبت حقاً لله تعالى، ولا يَسْقُط ما كان من حُقُوق العِبَاد، فإذا كان قد قَتَل في قَطْعِ الطَّريق يسقُطُ عنه بالتَّوْبة [قبل القُدْرَة عليه] تحتُّم القَتْل، ويبقى عليه القِصَاصُ لولي القَتِيل إن شَاءَ عفا عنه، وإن شَاءَ اسْتَوْفَاه، وإن كان قد أخَذَ المال يَسْقُط عنه القَطْع، وإن كان جمع بَيْنَهُما يسقط عنه تحتُّم القَتْل والصَّلْب، ويجب ضَمَان المال. وقال بعضهُم: إذا جاء تَائباً قبل القُدْرَة [عليه لا يكون لأحد عليه تبعة في دم ولا مال إلاّ أن يوجد معه مال بعينه فيردّه إلى صاحبه. روي عن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في حارثة بن زيد كان خرج محارباً فسفك الدماء، وأخذ الأموال ثم جاء تائباً قبل أن يقدر عليه فلم يجعل له عليه تبعة. أما من تاب بعد القدرة] فلا يَسْقُط عنه شيء منها. وقيل: كُلُّ عقُوبة تجب حقاً لِلَّه - تعالى - من عُقُوبَات قَطْع الطَّريق، وقطع السَّرقة، وحدِّ الزنا، والشُّرب تَسْقُط بالتَّوْبة بكل حال كما تقدَّم والأكْثَرُون على أنَّها لا تَسْقُط. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 في كيفيَّة النَّظْمِ وجهان: أحدهما: أنَّه لما أخبر رسُولَه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن قوماً من اليَهُود هَمُّوا أن يَبْسُطُوا أيديهم إلى الرَّسُول وإلى أصحابه بالغدر والمكر، ومَنَعَهُم الله تعالى من مُرَادهم، وشرح للرَّسُول شدَّة تَعَصُّبِهم على الأنْبِيَاء وإصْرَارهم على إيذَائهم، وامتدَّ الكلامُ إلى هذا الموضع، فعند هذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 311 رَجَع إلى المَقْصُود الأوَّل وقال {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اتقوا الله وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة [وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ] } ، كأنه قيل: قد عَرَفْتُمْ كمال جَسَارَةِ اليَهُودِ على المَعَاصِي والذُّنُوب، وبُعْدهم عن الطَّاعَات الَّتِي هي الوَسَائِلُ للعبد إلى الرَّبِّ، فكُونُوا يا أيُّها المُؤمِنُون بالضَّدِّ من ذلك فاتَّقوا معَاصِي اللَّه، وتوسَّلُوا إليه بالطَّاعات. والثاني: أنهم لما قالوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] . أي: أبْنَاء أنبياء الله فكان افتخارهم بأعْمَال آبَائِهِم كأنَّه تعالى قال: «يا أيها الذين آمنوا [اتّقوا الله] ولتكن مفاخرتكم بأعمالكم لا بشرف آبائكم وأسلافكم، فاتّقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة» . في قوله تعالى: «إليه» ثلاثةُ أوجُه: أحدها: أنه مُتعلِّق بالفِعْل قبله. الثاني: أنه متعلِّق بنفس «الوَسيلَة» . قال أبو البقاء: لأنَّها بمعنى المتوسَّل به، فلذلك عَمِلَت فيما قبلها. يعني: أنَّها ليست بِمَصْدَر، حتى يمتَنِع أن يتقدَّم مَعْمُولها عليها. الثالث: أنه مُتعلِّق بِمَحْذُوف على أنَّه حال من «الوَسِيلَة» ، وليس بالقَوِي. و «الوسيلة» أي: القُرْبة، فَعِيلَة مِنْ توسَّل إليه فلانٍ بكذا إذا تقرَّب إليه، وجمعها: وَسَائِل. قال لبيد: [الطويل] 1959 - أرى النَّاسَ لا يَدْرُونَ ما قَدْرُ أمْرِهِمْ ... ألاَ كُلُّ ذِي لُبٍّ إلى الله وَاسلُ أي: متوسّل، فالوسِيلة هي التي يتوسَّلُ بها إلى المَقْصُودِ. فصل قال ابن الخطيب: التَّكْلِيفُ نوعان: ترك المَنْهِيَّات: وهو قوله تعالى «اتَّقُوا الله» ، وفعل الطَّاعات: وهو قوله {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} ، والتَّرك مُقَدَّم على الفِعْل بالذَّات؛ لأنه بَقَاء على العَدَم [الأصلي] ، والفعل إيجاد وتَحْصِيل، والعَدَمُ سابق، ولذلك قُدِّمَت التَّقْوى فإن قيل: لِمَ اختصّت الوسِيلَة بالفعل، مع أنَّ ترك المَعَاصي قد يكون وَسِيلة؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 312 فالجوابُ: أن التَّرك بقاء على العدم، وذلك لا يُمْكِن التَّوَسُّل به، بل من دَعَتْهُ الشهْوة [إلى فعل القَبِيح] ، فتركه مرضاة اللَّه حصل التَّوسُّل إلى اللَّه بذلك الامْتِنَاع، لكنَّه من باب الأفْعَال، ولذلك قال المُحَقِّقُون: تَرْك [الشَّيء] عبارة عن فعل ضِدِّه. ثم قال - تعالى -: {وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، لمّا أمر بِتَرْك ما لا يَنْبَغِي بقوله: «اتَّقُوا اللَّه» وفعل ما يَنْبَغِي بقوله {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} وكل واحد منهما شاقٌّ ثَقِيل على النَّفْس فإن النَّفْس تَدْعُو إلى اللَّذَّات المَحْسُوسَة، والعَقْل يدعو إلى خِدْمَة اللَّه وطاعتهِ والإعْرَاض عن المَحسُوسَات؛ فكان بَيْن الحَالَتيْن تضَادٌّ وتناف، وإذا كان الأمْر كذلك فالانْقِيَادُ لقوله تعالى {وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة} من أشقِّ الأشْيَاء على النَّفْس وأشدها ثقلا على الطَّبع، فلهذا أرْدَف ذلك التَّكْليف بقوله {وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ، ولمّا أرشد المُؤمِنِين في هذه الآية إلى معاقدِ الخَيْرَات ومَفَاتِح السَّعاداتِ، أتْبَعَهُ بشرح حَالِ الكُفَّار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 قد تقدم الكلام على «أنَّ» الواقعة بعد «لو» على أنَّ فيها مَذْهَبيْن. و «لَهُمْ» خبر ل «أنَّ» ، و {مَّا فِي الأرض} اسمها، و «جميعاً» توكيد لهُ، أو حال منه و «مِثلَه» في نَصْبِه وجهان: أحدهما: عطف على اسم «أن» وهو «مَا» الموصولة. والثاني: أنه منصُوب على المَعِيَّة، وهو رأي الزَّمخْشَرِي، وسيأتي ما يرد على ذلك والجوابُ عنه. و «معهُ» ظرف واقع موقع الحال. [ «واللام» ] متعلِّقة بالاستِقْرَار الذي تعلَّق به الخبر، وهو «لَهُمْ» . و «به» و «مِنْ عذاب» متعلِّقان بالافْتِدَاء، والضَّمير في «بِهِ» عائدٌ على «مَا» الموصولة، وجيء بالضَّمِير مُفْرَداً وإن تقدَّمه شَيْئَان وهما {مَّا فِي الأرض} و «مِثْلَهُ» ، إما لتلازُمهمَا فهما في حُكْم شيء واحد؛ وإما لأنَّه حذف من الثَّانِي لدلالة ما في الأوَّل عليه، كقوله رحمة الله عليه: [الطويل] 1960 - ... ... ... ... ... ... ... . ... الجزء: 7 ¦ الصفحة: 313 فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ أي: لو أنَّ لهم ما في الأرض لِيَفْتَدُوا به، ومثله معه ليفْتَدُوا به وإما لإجراء الضمير مُجْرَى اسم الإشارة، كقوله: [الرجز] 1961 - ... ... ... ... ... ... . ... كَأنَّهُ فِي الجِلْدِ ... ... ... . . وقال بعضهم: ليفْتَدُوا بذلك المَال. وقد تقدم في «البقرة» . و «عذاب» بمعنى: تَعْذِيب بإضافته إلى «يَوْم» خرج «يَوْم» عن الظرفية، و «مَا» نَافِية وهي جواب «لَوْ» ، وجاء على الأكْثَر من كونِ الجواب النَّفي بغير «لام» ، والجملة الامْتِنَاعية في محل رفع خبراً ل «إن» ، وجعل الزَّمَخْشَرِيُّ توحيد الضَّمير في «بِهِ» لمَدْرك آخر، وهو أنَّ «الوَاو» في «ومِثْلَهُ» [واو «مع» قال بعد أن ذكر الوجهين المتقدمين: ويجُوزُ أن تكُونَ الواوُ في «ومِثله» ] بمعنى «مَعَ» فيتوحد المَرْجُوع إليه. فإن قُلْتَ: فبم يُنْصب المَفْعُول معه؟ . قلت: بما تسْتَدْعِيه «لَوْ» من الفعل؛ لأن التَّقدير: لو ثبت أنَّ لَهُمْ ما في الأرض، يعني: أنَّ حكم ما قبل المفعُول معه في الخَبَرِ والحَالِ، وعود الضَّمِير حكمه لو لم يكن بعده مفعول معه، تقول: «كُنْتُ وَزَيْدَاً كالأخِ» قال الشاعر: [الطويل] 1962 - فَكَانَ وَإيَّاهَا كَحَرَّانَ لَمْ يُفِقْ ... عَنِ المَاءِ إذْ لاقَاهُ حَتَّى تَقَدَّدَا فقال: «كَحَرَّان» بالإفْرَاد ولم يقُلْ: «كحرَّانَيْن» ، وتقول: «جَاءَ زَيْدٌ وهنْداً ضاحِكاً في داره» . وقد اختار الأخْفَشُ أن يُعطى حُكْم المُتَعَاطفين، يعني: فَيطَابق الخبر، والحَال، والضمير له ولما بَعْده، فتقول: «كُنْتُ وَزيْداً كالأخوين» . قال بعضهم: والصَّحِيح جوازه على قِلِّة. وقد رد أبُو حيَّان على الزمخشري، وطوَّل معه. قال شهاب الدِّين: ولا بد من نَقْل نصِّه؛ قال: وقول الزمَخْشَرِي ويجُوزُ أن تكون «الواو» بمعنى «مع» ليس بِشَيْء؛ لأنَّه يصير التقدير: مع مثله معه، أي: مع مِثْل ما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 314 في الأرْضِ [مع ما في الأرض] إن جعلت الضَّمِير في «مَعَه» عائِداً على «مَا» يكون معه حَالاً من «مِثْله» . وإذا كان مَا في الأرض مع مثله كان مثله معه ضرورة، فلا فائدة في ذكر «معه» لملازمة معيّة كل منهما للآخر. وإن جعلت الضمير عائداً على «مثله» ، أي: مع مثله مع ذلك المثل، فيكون المعنى مع مِثْلَيْنِ، فالتَّعْبِير عن هذا المَعْنَى بتلك العِبَارة عَيِيٌّ؛ إذ الكلام المُنْتَظِم أن يكون التَّركيب إذا أُريد ذلك المعنى مع مِثْلَيْهِ. وقول الزَّمَخْشَرِي: «فإن قُلْت» إلى آخِر الجواب [هذا السؤال] لا يرد؛ لأنَّا قد بَيَّنَّا فسادَ أن يكون «الوّاو» واو «مَعَ» ، وعلى تقدِير وُرودِه فهذا بناء منه على أنَّ [ «أن» ] إذا جاءت بعد «لَوْ» كانت في مَحَلِّ رفع بالفاعليّة، فيكون التقدير على هذا لو ثَبَتَ كينونة ما في الأرْضِ مع مثله لهم لِيَفْتَدُوا به، فيكون الضَّمِير عائِداً على «مَا» فقط. وهذا الذي ذكره هو تَفْريعٌ منه على مذهَب المُبَرِّد في أنَّ «أن» بعد «لَوْ» في محل رفع على الفاعليَّة، وهو مذهب مرجُوحٌ، ومذهب سيبويه: أن «أنَّ» بعد «لَوْ» في محلِّ رفع مُبْتَدأ. والذي يظهر من كلام الزَّمخْشَرِي هنا وفي تصانيفه أنَّهُ ما وَقَفَ على مذهب سيبويْه في هذه المسألة. وعلى المفرع على مذهَب المُبَرِّد لا يجوز أن تكون «الوَاوُ» بمعنى «مَعْ» والعامِلَ فيها «ثَبَتَ» المقدَّرة لما تقدم من وجود لفظة «مَعَهُ» ، وعلى تقديره سُقُوطها لا يصحُّ؛ لأن «ثَبَتَ» ليس رَافِعاً ل «مَا» العائد عليها الضمير وإنما هو رَافِعٌ مصدراً مُنْسَبكاً من «أن» وما بعدها، وهُو كونُ؛ إذ التقدير لو ثَبَتَ كون ما في الأرض جَمِيعاً لهم ومِثْله معه لِيَفْتدُوا به، والضمير عَائِد على [ما] دُون الكوْنِ، فالرَّافِع الفاعِل غير النَّاصب للمفعُول معه، إذ لو كان إيَّاه للزم من ذلك وجود الثُّبُوت مُصَاحباً للمثل [والمعنى على كينونة ما في الأرض مُصاحباً للمثل، لا على ثُبُوت ذلك مُصَاحِباً للمثل،] وهذا فيه غُمُوض. وبيانُهُ: أنَّك إذا قلت: «يُعْجِبُني قيام زَيْد وعَمْراً» ، جعلت «عمراً» مفعُولاً معه، والعامِلُ فيه «يُعْجُبني» [لزم] من ذلك أن «عَمْراً» لم يَقُمْ، وأعجبك القِيَامُ وعمرو. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 315 وإن جَعَلْتَ العامل فيه القِيَام: كان عمرو قَائِماً، وكان الإعْجَاب قد تعلَّق بالقيام مصاحباً لقيام عَمْرو. فإن قلت: هلاّ كان «ومِثْلَهُ مَعَهُ» مفعولاً معه، والعامِلُ فيه هو العَامِلُ في «لَهُمْ» ؛ إذ المَعْنَى عليه؟ . قلت: لا يَصِحُّ ذلك لِمَا ذكرْنَاه من وجود «مَعَهُ» في الجُمْلَة، وعلى تقديرِ سُقُوطِهَا لا يصحُّ؛ لأنَّهُم نَصُّوا على أنَّ قولك: «هَذَا لَكَ وأبَاك» ممنوع في الاختيار. قال سيبويْه: وأما «هَذَا لَكَ وأبَاك» فَقَبيحٌ؛ لأنَّه لم يذكر فِعْلاً ولا حَرْفاً فيه معنى فعل حتى يَصِير كأنَّه قد تكلَّم بالفعل، فأفْصَح سيبويه بأن اسْم الإشَارَة وحرف الجر المتضمن [المعنى الاستقرار لا يعملان في المفعول معه وقد أجاز بعض النحويين في حرف الجر والظرف أن يعملا] نحو «هذا لك وأباك» . فقوله: «وأبَاكَ» يكون مفعُولاً مَعَهُ، والعَامِلُ الاستِقْرَار في «لَكَ» . انتهى. ومع هذا الاعتراض الذي ذكره، فقد يَظْهر عنه جوابٌ، وهو أنَّا نقول: نختار أن يكون الضَّمِير في قوله: «مَعَهُ» عائداً على «مِثْله» ويَصِيرُ المعنى: مع مِثْلَين، وهو أبْلَغُ من أن يكون مع مِثْل واحد. وقوله: «تَرْكِيبٌ عَيِيٌّ» فَهْم قَاصِرُ، ولا بُدَّ من جُمْلَةٍ محذُوفَة قَبْل قوله: {مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ} تقديره: وَبذَلُوه، أو وافْتَدُوا به، ليصِحَّ التَّرْتيب المذكُور؛ إذ لا يترتَّب على اسْتِقْرَار ما فِي الأرْض جَمِيعاً ومثله معه لهم عدم التَّقبُّل، إنما يترتَّب عدم التَّقَبُّل على البَذلِ والافْتِدَاء والعامَّة على «تُقُبِّل» مبنياً [للمفعول حذف فاعله لعظمته وللعلم به. وقرأ يزيد بن قطيب: «ما تقبَّل» مبنياً للفاعل] وهو ضميرُ البَارِي تبارك وتعالى. قوله [تعالى] «ولَهُمْ عَذابٌ» مبتدأ وخبرُهُ مُقَدَّمٌ عليه، و «ألِيمٌ» صفته بمعنى: مُؤلِمٌ، وهذه الجُمْلَة أجَازُوا فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون حالاً، وفيه ضَعْفٌ من حيث المعنى. المعنى الثاني: أن تكون في مَحَلِّ رفع عَطْفاً على خَبَرِ «أن» أخبر عن الذين كفروا بخبرين لو استقرَّ لَهُمْ جَمِيعُ ما في الأرضِ مع مثله فَبَذلُوه، لم يُتَقَبَّلْ مِنْهُم وأنَّ لهم عَذَاباً أليماً. الثالث: أن تكون مَعْطُوفة على الجُمْلَة من قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} ، وعلى هذا فلا مَحَلَّ لها؛ لِعَطْفها على ما لا مَحَلَّ له. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 316 وقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ} كقوله تعالى: {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] وقد تقدَّم. والجُمْهُور على «أن يَخرُجُوا» مَبْنيّاً للفاعل وقرأ يحيى بن وثَّاب، وإبْرَاهيم النَّخْعي «يُخْرجُوا» مبنياً للمفعُول وهما واضحتان، والمقصُود من هذا الكلام لُزُوم العذابِ لَهُمْ، وأنَّهُ لا سَبيلَ لهُمْ إلى الخلاصِ مِنْهُ وإرادتهم إلى الخُرُوجِ تحْتَمِلُ وجهيْن: الأوَّل: أنهم قصدوا وطلبُوا المخرج مِنْها، كقوله تعالى {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا} [السجدة: 20] . قيل: إذا [لَفَحَتْهُم] النَّار إلى فوق فهُنَاك يتمنُّون الخُرُوج. وقيل: يَكادُون أن يخْرُجُوا من النَّار؛ لِقُوَّة النَّارِ ورفعها للمُعَذَّبين. والثاني: أنهم يتمَنُّون ذلك ويريدُوه بِقُلُوبهم. فصل احتجَّ أهْلُ السُّنَّة بهذه الآية على أن الله تعالى يُخْرِج من النار من قال: لا إله إلا الله مُخْلِصاً؛ لأنَّه تعالى جعل هذا المعنى من تَهْديدات [الكُفَّار، وأنواع ما خَوَّفهم به، ولولا أنَّ هذا المعنى يختصُّ بالكفار وإلا لم يكن لِتخصيص] الكُفَّار به معنى، ويؤكده قوله {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} ، وهذا يفيد الحصر، فكان المعنى: ولهم عذابٌ مقيمٌ لا لِغَيْرهم كما أن قوله {لَكُمْ دِينُكُمْ} [الكافرون: 6] لا لغيركم، فها هُنَا كذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 «و» في اتِّصالها وجهان: الأوَّل: أنه لما أوْجَبَ في الآية المتقدِّمة قَطْع الأيْدي والأرْجُل عند أخذ المالِ على سبيل [المحاربة، بيَّن في هذه الآية أن أخذ المال على سبيل] السَّرِقَة يُوجبُ قطع الأيدي، والأرجُل أيضاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 317 الثاني: أنَّهُ لما ذكر تَعْظِيم أمْر القَتْلِ حيث قال: {قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ [أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض] فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} [المائدة: 32] ذكره بعد الجنايات التي تُبيحُ القَتْلَ والإيلام فذكر: أولاً: قطع الطريق. وثانياً: من السَّرقة. قوله تعالى: «والسَّارقُ والسَّارقَةُ» قرأ الجمهور بالرفع. وعيسى بن عُمَر وابن أبي عبلة بالنَّصْبِ. ونقل عن أبيّ: «والسُّرَّق والسُّرَّقة» بضم السِّين وفتح الرَّاء مُشَدَّدَتَيْن؛ قال الخَفَّاف: «وجدته في مُصْحَفِ أبَيّ كذلك» . وممن ضبطهما بما ذكرت أبو عمرو، إلاَّ أن ابن عطيَّة جعل هذه القِراءة تَصْحيفاً [فإنَّه قال: «ويُشبهُ أنْ يكُون هذا تَصْحِيفاً] من الضابط» . لأن قراءة الجماعة إذا كتبت: «والسّرق» : بغير ألف وافقت في الخط هذه، قلت: ويمكن توجيه هذا القِرَاءة بأنَّ «السرق» جمع «سَارِق» ، فإنَّ فُعَّلا يَطّرد جَمْعاً لفاعِل صِفَةً، نحو ضارِب وضُرَّب. والدَّليل على أنَّ المراد الجمع قراءة عبد الله «والسَّارقون والسَّارقَات» بصيغتي جمع السلامة، فدلَّ على أنَّ المُرَاد الجَمْع، إلا أنه يَشْكُل في أنّ «فُعَّلا» يكُون من جمع: فاعِل وفاعلة تقول: نِسَاءٌ ضُرَّب، كما تقول: رِجَالٌ ضُرَّب، ولا يُدْخِلُون عليه تاء التَّأنِيث حيث يُرادُ به الإنَاثُ، والسُّرَّقة هنا - كما رأيت - في هذه القراءة بِتَاءِ التَّأنيث، حيث أُرِيد ب «فُعَّل» جمع فاعلة، فهو مُشْكِلٌ من هذه الجِهَة لا يقال: إن هذه التَّاء يجوز أن تكُون لِتَأكِيد الجمع؛ لأنَّ ذلك محفُوظٌ لا يُقَاس عليه نحو: «حِجَارة» وأمَّا قِرَاءَةُ الجُمْهُور فَفِيهَا وجهان: أحدهما: هو مذهَبُ سيَبوَيْه، والمشهُور من أقوال البَصريِّين أن «السَّارِق» مبتدأ مَحْذُوف الخَبَر تقديرُهُ: «فِيمَا يُتْلَى عَلَيْكُم» أو فيما فَرَضَ - «السَّارِق» و «السَّارِقَة» أي: حُكم السَّارِق، وكذا قوله: {الزانية والزاني فاجلدوا} [النور: 2] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 318 ويكون قوله: «فَاقْطَعُوا» بياناً لذلك الحُكم المقدَّر، فما بعد الفاء مُرْتَبِطٌ بما قَبْلَها، ولذلك أتى بها فيه؛ لأنَّهُ هُوَ المَقْصُود. ولو لم يَأتِ بالفَاءِ لَتوهّم أنه أجْنَبِيّ والكلامُ على هذا جُملتان: الأولى: خَبَريَّة، والثَّانية: أمْرِيَّة. والثاني: وهو مذهب الأخْفَش، ونُقِلَ عن المُبَرِّد وجماعة كثيرة أنَّهُ مُبْتَدأ أيضاً، والخبر الجُمْلَةُ الأمْرِية من قوله: «فاقْطَعُوا» ، وإنَّما دخلت الفاء في الخَبَر؛ لأنه يُشْبِهُ الشَّرْط؛ إذ الألِفُ واللاَّم فيه موصُولة، بمعنى «الَّذِي» و «الَّتِي» والصفَةُ صلتُهَا، فهي في قُوَّةِ قولك: «والذي سرق والتي سَرَقَت فاقْطَعُوا» ، وهو اختيار الزَّجَّاج. وما يدلُّ على أنَّ المراد من الآيَة الشَّرْط والجزاء وُجُوه: الأوَّل: أنه تعالى صَرَّح بذلك في قوله تعالى {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا} . وهذا يدلُّ على أنَّ القَطْع جزاءٌ على فِعْل السَّرِقة، فوجَبَ أن يَعُمَّ الجَزَاء لعُموم الشَّرط. والثاني: أن السَّرِقة جناية، والقطع عُقُوبة، فربط العُقُوبة بالجناية مناسب، وذكر الحُكم عَقِيب الوَصْف المُنَاسب يدلُّ على أنَّ الوصْفَ عِلَّة لذلك الحُكم. الثالث: أنّا إذا حملنا الآيَة على هذا الوجه كانت [الآية] مُفِيدة، ولوْ حملْنَاها على سَارِقٍ مُعَيَّن صَارَت مُجْمَلة غير مفيدة، فالأوَّل أوْلى. وأجاز الزمَخْشَري الوجهَيْن، ونسب الأوَّل لسيبَويه، ولم يَنْسِبِ الثَّانِي، بل قال: وَوَجْهٌ آخر، وهو أن يَرْتفعَا بالابْتداء، والخبر: «فَاقْطَعُوا» . وإنما اخْتَارَ سيبوَيْه أنَّ خبره مَحْذوف كما تقدَّم تقديرُه دون الجُمْلَة الطَّلَبِيَّة بعده لوجْهَيْن: أحدهما: النَّصْب في مثله هو الوجه في كلام العرب، نحو: «زَيْداً فاضْرِبْهُ» لأجل الأمْرِ بعده. قال سيبويه في هذه الآية: الوجْهُ في كلام العرب النَّصب، كما تقول «زَيْداً فاضْرِبْه» ، ولكن أبتِ العَامَّةُ إلاَّ الرَّفع. والثاني: دخول الفَاءِ في خَبَره، وعنده أنَّ «الفَاء» لا تدخل إلا في خبر الموصُول الصَّرِيح ك «الذي» ، و «من» ، بشُرُوط أخر مذكورة في كُتُبِ النَّحْو، وذلك لأنَّ الفَاء إنَّما دَخَلَتْ لِشَبَهِ المُبْتَدأ بالشَّرْط، واشْتَرَطُوا أن تَصْلُح لأداة الشَّرْط من كَوْنِهَا جُمْلَة فعلية مستقبلة المَعْنَى، أو ما يقوم مقامَها من ظَرْفٍ وشِبْهِهِ، ولذلك إذا لم تَصْلُح لأداة الشَّرْط، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 319 لم يَجُزْ دخول الفَاء في [الخبر، وصِلَةُ «أل» لا تَصْلُح لِمُبَاشرة أدَاةِ الشَّرْط فلذلك لا تدخل الفاء في] خبرها، وأيضاً ف «ألْ» وصلَتُها في حكم اسْمٍ واحدٍ، ولذلك تَخَطَّاهَا الإعْرَاب. وأما قِرَاءة عِيسى بن عمر، وإبراهيم: فالنَّصْب بفعل مُضْمَرٍ يُفَسِّره العَامِل في سببيهما نحو: «زَيْداً فأكْرِمْ أخاهُ» ، والتقدير: «فعاقِبُوا السَّارِق والسَّارِقَة» تقدِّره فِعْلاً من معناه، نحو «زَيْداً ضَرْبتُ غُلامه» ، أي: «أهَنْتُ زَيْداً» . ويجُوز أن يقدَّر العامِل موافقاً لَفْظاً؛ لأنَّه يُسَاغ أن يُقَال: قطعت السَّارِق وهذه قراءة واضِحَة لمكان الأمر بعد الاسم المُشْتَغِل عَنْهُ. قال الزَّمَخْشَرّيُّ: وفَضَّلها سيبوَيْه على قِرَاءَة العامَّة؛ لأجل الأمْر؛ لأن «زَيْداً فاضْرِبْه» أحْسَن من «زيدٌ فاضْرِبه» . وفي نقله تَفْضيل النَّصْب على قراءة العامَّة نظر، ويظهر ذلك بنصِّ سيبويه. قال سيبويه: الوجْهُ في كلام العرب النَّصْب، [كما تقُول: «زيداً اضْرِبْه» ؛ ولكن أبت العامَّة إلا الرَّفع، وليس في هذا ما يَقْتَضِي تَفْضِيل النَّصْب بل مَعْنى] كلامه أن هذه الآية لَيْسَتْ من الاشتِغَال في شَيْء؛ إذ لو كان من باب الاشْتِغَال لكانَ الوَجْهُ النَّصب، ولكن لم يقْرَأها الجُمْهُور إلا بالرَّفْع، فَدَلَّ على أنَّ الآيَة محمولة على كلامين كما تقدَّم، لا على كلامٍ واحد، وهذا ظَاهِرٌ. وقد رد ابن الخَطِيب على سيبويه بِخَمْسَةِ أوْجُه، وذلك أنه فهم كما فهم الزَّمَخْشَرِيُّ من تفضيل النًّصْب، فقال: الذي ذهب إليه سيبويه ليس بِشَيْء، ويدل على فَسَادِه وُجُوه: الأول: أنه طعنٌ في القِرَاءة المُتَوَاتِرَة المَنْقُولة عن الرَّسُول وعن أعْلام الأمَّة، وذلك بَاطِلٌ قَطْعاً، فإن قال سيبويه: لا أقُول: إنَّ القراءة بالرَّفْع غير جَائِزة، ولكنِّي أقُول: قِرَاءة النَّصْب أوْلَى، فنقول: رَدِيءٌ أيْضاً؛ لأن تَرْجِيح قِرَاءة لم يَقْرَأ بِها إلاَّ عيسَى بن عمر على قِرَاءَة الرَّسُول وجميع الأمَّة في عَهْد الصَّحابة والتَّابعين أمر مُنْكَر، وكلام مَرْدُودٌ. الثاني: لو كانت القراءة بالنَّصْب أوْلَى، لَوَجَبَ أنْ يكون في القُرَّاء من يَقْرأ: {واللّذين يَأتيَانها مِنكُمْ فآذُوهُمَا} [النساء: 16] ، بالنَّصْب، ولمَّا لم يوجد في القُرَّاء من يقرأ كذلك، عَلِمْنا سقوط هذا القَوْل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 320 الثالث: أنَّا إذا جَعَلْنَا «السَّارِق والسَّارِقة» مُبْتَدأ، وخبره مُضمَر وهو الذي يقدِّره «فيما يُتلَى عليْكُم» بقي شيءٌ آخر يتعلَّق به الفاء في قوله: «فَاقْطَعُوا» . فإن قال: الفاء تتعلَّق بالفعل الذي دلَّ عليه قوله: «والسَّارِق والسَّارِقَةُ» ، يعني: أنَّه إذا أتى بالسَّرِقة فاقْطَعُوا يَدَهُ. فنقول: إذا احْتجت في آخِر الأمْر أنْ تَقُول: السَّارِق والسَّارِقة تقديره: «مَنْ سَرَقَ» ، فاذكر هذا أوَّلاً، حتى لا تَحْتَاج إلى الإضْمَار الذي ذكرته. الرابع: أنا إذا اخْتَرْنَا القراءة [بالنصب لم يَدُلَّ ذلك على أنَّ السَّرِقة علةٌ لوجُوب القَطْع، وإذا اخْتَرْنَا القِرَاءة بالرَّفْع] أفادتِ الآيةُ هذا المَعْنَى ثم إنَّ هذا المعنى مُتأكد بقوله تعالى: {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا} ، فثَبَت أنَّ القراءة بالرَّفْعِ أوْلَى. الخامس: أنَّ سيبويه قال: «وَهُم يُقَدِّمُون الأهَمَّ، والذي هم بِبَيَانه أعْنَى» فالقِرَاءة بالرَّفْع تَقْتَضِي تقْديم ذكر كَوْنه سَارِقاً على ذِكْرِ وُجُوبِ القَطْع، وهذا يَقْتَضِي أن يكُون أكبر العِنَايَةِ مَصْرُوفاً إلى شَرْح ما يتعلَّق بِحَال السَّارِق مِنْ حَيْثُ إنَّه سَارِقُ. وأمَّا قراءة النَّصْبِ، فإنها تَقْتَضِي أنْ تكُون العِنَايَةُ بِبَيانِ القَطْع أتم من العِنايَة بكونه سَارِقاً، ومَعْلُوم أنَّه لَيْسَ كذلك، فإنَّ المَقصُود في هذه الآية تَقْبِيحُ السَّرِقَة، والمُبَالَغة في الزَّجْر عنها، فثبت أنَّ القراءة بالرَّفْع هي المُتعينَة. انتهى ما زعَم أنه رَدّ على إمَام الصِّنَاعة، والجواب عن الوجْهِ الأوَّل ما تقدَّم جواباً عمَّا قالهُ الزَّمَخْشَرِي [وقد تقدَّم] ، ويُؤيِّدُه نصُّ سيبويه، فإنَّه قال: وقد يَحْسُن ويستَقِيمُ: «عَبْدُ الله فاضْرِبْه» ، إذا كان مَبْنِيّاً على مُبْتدأ مُظْهر أو مُضْمَر. فأمَّا في المُظْهَر، فقوله: «هَذَا زَيْدٌ فاضْرِبْه» وإن شِئْتَ لم تُظْهِر هذا، ويعمل كعملِهِ إذا كان مُظْهراً، [وذلك] قولُك: «الهِلال والله فانْظُرْ إليه» ، فَكَأنَّك قُلْت: «هذا الهِلالُ» ، ثُمَّ جِئْت بالأمْر. ومن ذلك قول الشَّاعِر: [الطويل] 1963 - وقَائِلَةٍ: خَوْلانُ فَانِكحْ فَتَاتَهُمْ ... وَأكْرُومةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كَمَا هِيَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 321 هكذا سُمِعَ من العربِ تُنْشِدُهُ، يعني بِرَفْعِ «خَوْلان» ، فمع قوله: «يَحْسُن ويستقيم» كيف [يكون] طاعِناً في الرَّفْع؟ . وقوله: «وإن قَالَ سيبويه ... » الخ فسِيبَويْه لا يقول ذَلِكَ، وكَيْفَ يَقُولُهُ، وقد رَجح الرَّفع بما أوْضَحْتُهُ. وقوله: «لَمْ يَقْرأ بها إلاَّ عيسى» لَيْس كما زَعَمَ بل قَرَأ بها جماعةٌ كإبْراهيم بن أبي عَبْلَة. وأيضاً فهؤلاء لم يَقْرءُوهَا من تِلْقَاءِ أنْفُسِهِم، بل نَقَلُوهَا إلى أنْ تَتّصل بالرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، غاية ما في البَابِ أنَّها لَيْسَت في شُهْرَةِ الأولى. وعن الثاني: أنَّ سيبويه لم يَدَّعِ تَرْجيحَ النَّصْب حتى يُلْزَم بما قَاله، بل خَرَّج قراءة العامَّة على جُملتَيْن، لما ذكرت لَكَ فيما تقدَّم من دُخُول الفاءِ، ولذلك لمَّا مثَّل سيبويه جُمْلَة الأمْرِ والنَّهْي بعد الاسْمِ مثلهما عاريَتَيْن من الفَاء، قال: وذلِكَ قولك: «زَيْداً اضْربْه» و «عَمْراً امرُر به» . [وعن] الثالث: ما تقدَّم من الحِكْمَة المُقْتَضِيَة للْمَجِيء بالفاء، وكونها رَابِطَةٌ للحكم بما قَبْلَه. وعن الرابع: بالمنع أن يكون بَيْن الرَّفْع والنَّصب فَرْق، بأنَّ الرَّفع يَقْتَضِي العِلَّة، والنَّصْب لا يَقْتَضِيه، وذلك أنَّ الآيَة من باب التَّعْلِيل بالوَصْفِ المرتَّب عليه الحُكْم، ألا ترى أن قولك: «اقطع السَّارق» يفيد العِلَّة، [أي: إنَّه] جعل عِلَّة القَطْع اتِّصافه بالسَّرِقة، فهذا يُشْعِر بالعِلَّة مع التصريح بالنصب. الخامس: أنهم يُقَدِّمون الأهَمَّ، حيث اخْتَلَفَتِ النِّسْبَةُ الإِسْنَادية كالفاعل مع المفعول، ولنسرد نصّ سيبويه ليتبين ما ذكرْنَاه. قال سيبَوَيْه: فإن قدَّمْت المَفْعُول، وأخَّرْت الفاعل جرى اللَّفظ كما جَرَى في «الأوَّل» ، يعني في «ضَرَب عَبْدُ الله زَيْداً» قال: «وذلك: ضَرَبَ زيداً عبد الله لأنَّك إنَّما أردت به مُؤخَّراً ما أرَدْت به مُقَدَّماً، ولم تُرِدْ أن يَشْتَغِل الفِعْل بأوَّل منه، وإن كان مُؤخَّراً في اللَّفْظ، فمن ثَمَّ كان حَدُّ اللَّفْظِ أن يكون فيه مُقَدَّماً، وهو عربي جيد كثير، لأنهم يُقَدِّمُون الذي بَيَانُه أهَمُّ لهم، وهم ببيانهِ أعْنَى، وإن كانا جَمِيعاً يُهِمَّانِهم ويعنيانهم» . والآيَةُ الكَريمَةُ لَيْسَت من ذلك. قوله: «أيْدِيهمَا» جمع واقعٌ موقِع التَّثْنِية: لأمْن اللَّبْس، لأنَّهُ معلُوم أنَّه يقطع من كل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 322 سَارِق يَمِينه، فهو من باب {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، ويدلُّ على ذلك قراءة عبد الله: «فاقْطَعُوا أيْمَانَهُمَا» واشْتَرَط النَّحْوِيُّون في وُقُوع الجَمْعِ موقع التَّثْنِية شُرُوطاً، من جملتها: أنْ يكون ذلك الجُزْء المُضَاف مُفْرَداً من صاحِبِه نحو: «قُلُوبكما» و «رُوس الكَبْشَيْنِ» لأمْنِ الإلْبَاس، بخلافِ العَيْنَيْنِ واليَدين والرِّجليْن، لو قلت: «فَقَأت أعينهما» ، وأنت تعني عينيهما، و «كتَّفْت أيديهمَا» ، وأنت تعني «يديهما» لم يَجْزْ للَّبْسِ، فلوْلاَ أنَّ الدَّلِيل دَلَّ على أنّ المُرَاد اليَدَان اليُمْنَيَان لما ساغَ ذلك، وهذا مُسْتَفِيض في لِسانِهم - أعني وُقُوع الجَمْع مَوْقِع التَّثْنِيَة بِشُرُوطه - قال تعالى: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، ولنذكر المسْألة، فنقول: كُلُّ جزْأين أضيفا إلى كِليْهِما لفظاً أو تقديراً، وكانا مُفْرَدَيْن من صَاحبيْهِمَا جاز فيهما ثلاثة أوجُه: الأحسن: الجمع، ويليه الإفْرَاد عند بَعْضِهم، ويليه التَّثْنِية، وقال بعضهم: الأحْسَنُ الجَمْع، ثم التَّثْنِية، ثم الإفْرَاد، نحو: «قَطَعْتُ رُءُوس الكَبْشَيْن، ورَأس الكَبْشَيْن ورَأسَي الكَبْشَين» . وقال سامَحَهُ اللَّهُ وعَفَا عَنْهُ: [السريع أو الرجز] 1964 - ومَهْمَهَيْنِ قَذَفَيْنِ مَرْتَيْن ... ظَهْرَاهُمَا مِثْلُ ظُهُورِ التُّرْسَيْنْ فقولنا: «جزآن» تَحَرُّز من الشَّيئين المُنْفَصِلَيْن، لو قلت: «قَبَضت دَرَاهِمكُمَا» تعني: دِرْهَمَيْكُما لم يَجُزْ لِلَّبْسِ، فلو أمِنَ جَازَ، كقوله: «اضْرِبَاه بِأسْيَافِكُمَا» «إلى مَضَاجِعِكُمَا» ، وقولنا: «أُضِيفَا» تحرُّز من تفرُّقِهِمَا، كقوله: {على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى} [المائدة: 78] ، وقولنا: «لَفْظاً» ، تقدَّم مِثَاله، فإنَّ الإضافَة فيه لَفْظِيَّة. وقولُنا: «أو تَقْدِيراً» نحو قوله: [الطويل] 1965 - رَأيْتُ بَنِي البَكْرِيِّ فِي حَوْمَةِ الوَغَى ... كَفَاغِرَي الأفْوَاهِ عِنْدَ عَرينِ فإن تقديره: كَفَاغِرين أفَواهَهُمَا. وقولنا: «مُفَرَدَيْن» تحرُّز من العَيْنَين ونحوهما، وإنما اخْتِير الجَمْعُ على التَّثْنِية، وإن كان الأصْل لاسْتِثْقَال تَوَالي تَثْنِيَتَيْنِ، وكان الجَمْع أوْلَى من المُفْرَد لِمُشَارَكَة التَّثْنِية، وإن كان الأصْل لاسْتِثْقَال تَوَالي تَثْنِيَتَيْنِ، وكان الجَمْع أوْلَى من المُفْرَد لِمُشَارَكَة التَّثْنِيَةِ في الضَّمِّ، وبعده المُفْرد لعدم الثِّقَلِ، هذا عِنْد بَعْضِهِم قال: لأنَّ التَّثْنِيَة لم ترد إلا ضرورةً، كقوله - رحمةُ الله عليه -[الطويل] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 323 1966 - هُمَا نَفَثَا فِي فِيَّ مِنْ فَمَويْهمَا ... عَلَى النَّابحِ العَاوِي أشَدَّ رِجَامِ بخلاف الإفْرَاد فإنَّه ورد في فَصِيح الكلام، ومنه: «مَسَحَ أذنَيْهِ ظَاهِرَهُمَا وبَاطِنَهُمَا» . وقال بعضهم: الأحسنُ الجَمْعُ، ثم التَّثْنِيَة، ثُمَّ الإفراد كقوله: [الطويل] 1967 - حَمَامَةَ بَطْنِ الوَادِيَيْنِ تَرَنَّمِي ... سَقاكِ مِنَ الغُرِّ الغَوَادِي مَطِيرُهَا وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: أيْدِيَهُمَا: يَدَيْهُمَا، ونحوُهُ: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] اكْتَفَى بتثنيةِ المضافِ إليه عَنْ تَثنيةِ المضافِ، وأُريد باليدين اليُمْنَيَان بدليلِ قراءةِ عبد الله: «والسَّارِقُونَ والسَّارِقَاتُ فاقْطَعُوا أيْمَانَهُمْ» وردَّ عليه أبو حيَّان بأنهما لَيْسا بِشَيْئَيْنِ، فإن النوعَ الأوَّلَ مُطّرد فيه وضْعُ الجمعِ مَوْضِعَ التَّثْنِيَةِ، بخلافِ الثاني فإنه لا يَنْقَاسُ، لأن المتبادر إلى الذِّهْنِ من قولك: «قَطَعْتُ آذانَ الزَّيْدَيْن» : «أربعة الآذان» وهذا الردّ ليس بشيء؛ لأنَّ الدليل دَلَّ على أنَّ المرادَ اليمنيان. فصل من أول من قطع في حد السرقة؟ قال القُرْطُبي: أولُ مَنْ حُكم بقطع [اليد] في الجاهليةِ ابنُ المُغِيرةِ، فأمر الله بقطعِهِ في الإسلام، فكان أول سارقٍ قطعه رسولُ الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - في الإسلامِ، مِنَ الرِّجَالِ الخِيَارَ بْنش عَدِيِّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَاف ومن النساء مُرَّة بنت سُفْيَانَ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، وقطع أبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يَدَ الْفَتَى الذي سَرَقَ العِقْد، وقطع عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يدَ ابن سَمُرَة أخِي عَبْد الرَّحْمن بن سَمُرَة. فصل لماذا بدأ الله بالسارق في الآية؟ قال القرطبيّ: بَدَأ الله بالسارقِ في هذه الآيةِ قَبْلَ السَّارقةِ، وفي الزِّنَا بدأ بالزانيةِ، والحكمةُ في ذلك أنْ يُقالَ: لما كان حُبُّ المالِ على الرجالِ أغلبُ، وشهوةُ الاستمتاعِ على النساءِ أغْلَبُ بدأ بهما في الموضعين. قوله تعالى: «جَزَاءً» فيه أرْبعةُ أوجُهٍ: أحدُها: أنه منصوب على المصدر بفعلٍ مُقدَّرٍ، أيْ: جازُوهما جزاء. الثاني: أنَّهُ مصدرٌ [أيضاً] لكنه منصوبٌ على معنى نوعِ المصدرِ؛ لأنَّ قوله: «فاقْطَعُوا» في قُوَّةِ: جَازُوهما بقطع الأيْدِي جَزَاءً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 324 الثالث: أنَّه منصوبٌ على الحالِ، وهذه الحال يحتملُ أن تكونَ من الفاعل، أي: مجازين لهما بالقطع بسبب كسبهما، وأنْ تكون من المضافِ إليه في «أيْدِيَهُمَا» ، أي: في حال كونهما مُجَازَيْن، وجاز مجيء الحال من المضاف إليه، لأنَّ المضاف جُزْؤهُ، كقوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الحجر: 47] . الرابع: أنَّهُ [مفعولٌ] مِنْ أجْلِهِ، أيْ: لأجْلِ الجزاءِ، وشروطُ النصب موجودة. و «نَكَالاً» منصوبٌ كما نُصِب «جَزَاءً» ولم يذكر الزمخْشريُّ فيهما غيرَ المفعولِ مِنْ أجْلِهِ. قال أبُو حيان: «تبع في ذلك الزَّجَّاج» ، ثم قال: «وليس بجيِّدٍ إلاَّ إذا كان الجزاءُ هو النَّكالَ، فيكون ذلك على طريقِ البدلِ، وأمّا إذا كانا مُتَبَاينين، فلا يجوزُ ذلك إلا بوَسَاطَةِ حَرْفِ العطفِ» . قال شهابُ الدِّين: النَّّكالُ: نَوْعٌ من الجزاء فهو بدلٌ منه، على أنّ الذي يَنْبغي أن يُقَال هنا إنَّ «جَزَاءٌ» مفعول من أجله، العامل فيه «فاقْطَعُوا» ، فالجزاءُ عِلةٌ للأمر بالقطع، و «نَكَالاً» مفعولٌ مِن أجْله أيضاً العامل فيه «جَزَاءً» ، والنَّكَالُ عِلّةٌ للجزاءِ، فتكون العلةُ مُعَلَّلةً بِشَيْءٍ آخرٍ، فتكون كالحال المتداخِلَةِ، كما تقول: «ضربتُه تَأدِيباً له إحْسَاناً إلَيْه» ، فالتأدِيبُ علَّة للضرب، والإحسانُ علة للتأديب، وكلامُ الزمخشريِّ والزَّجاج لا يُنَافِي ما ذكرنا فإنَّه لا منافاة بين هذا وبين قولهما: «جزاءً» مفعولٌ مِنْ أجلْه، وكذلك «نَكَالاً» فتأمّله، فإنه وجه حسنٌ، فطاح الاعتراض على الزمخشري والزَّجَّاج، والتفصيلُ المذكورُ في قوله: «إلا إذا كان الجزاءُ هو النَّكَالَ» ، ثم ظفرتُ بعد ذلك بأنه يجوز في المفعول له {أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ الله بَغْياً} [البقرة: 90] أن يكون «بَغْياً» مفعولاً له، ثم ذكروا في قوله: {أَن يُنَزِّلُ الله} [البقرة: 90] أنه مفعولٌ له ناصبُه «بَغْياً» ، فهو علةٌ له، صَرَّحُوا بذلك فَظَهَرَ ما قلت ولله الحمد. و «بما» متعلق ب «جَزَاءً» ، و «ما» يجوزُ أنْ تكونَ مصدرية، أي: بكسبهما، وأنْ تكونَ بمعنى «الذي» ، والعائدُ محذوفٌ لاستكمالِ الشروطِ أي: بالذي كسباه، والباءُ سَبَبِيَّةٌ. فصل قال بعضُ الأصُوليِّين: هذه الآيةُ مُجْمَلَةٌ مِنْ وُجُوهٍ: أحدها: أنَّ الحكمَ مُعلّق على السرقةِ، ومطلقُ السرقَةِ غيرُ مُوجِب القطع، بَلْ لا بد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 325 أنْ تكونَ هذه السرقةُ سرقَةً لمقدارٍ مَخْصُوصٍ من المالِ، وذلك القَدْرُ مذكورٌ في الآية، فكانت الآيةُ مُجْملةً. وثانيها: أنَّهُ تعالى أوْجب قطع الأيمانِ والشمائِلِ وبالإجماع لا يجبُ قطعُهما معاً فكانت الآيةُ مجملةً. وثالثها: أن اليدَ اسمٌ يتناولُ الأصابعَ وحدها، ويقعُ على الأصابع مع الكفِّ، والسَّاعِدِ إلى المِرْفَقَيْنِ، ويقعُ على كل ذلك إلى المنْكِبينِ، وإذا كانَ لَفْظُ اليدِ مُحْتَمِلاً لِكُلِّ هذه الأقسامِ والتعيينُ غَيْر مذكورٍ في هذهِ الآيةِ فكانتْ مُجْمَلةً. ورابعها: أن قوله: «فاقْطَعُوا» خطابٌ مع قومٍ، فيحتملُ أنْ يكونَ هذا التكليفُ واقِعاً على مَجْموعِ الأمَّةِ، وأنْ يكونَ واقعاً على طائِفَةٍ مَخْصُوصَةٍ منهم، وأنْ يكونَ على شَخْص مُعَين منهم، وهو إمامُ الزمانِ كما ذهب إلَيْه الأكثرُون، ولمّا لم يكن التعيينُ مَذْكوراً في الآية كانتْ مُجْملةً، فثبتَ بهذه الوجُوهِ أنَّ هذه الآية مُجملةٌ على الإطلاقِ. وقال قومٌ من المُحَقِّقِين: إنَّ الآية ليستْ مُجْمَلةً ألْبَتَة، وذلك لأنَّا بَيَّنَّا أنَّ الألفَ واللامَ في قوله تعالى «والسارقُ والسارقةُ» قائمانِ مقام «الذي» والفاءُ في قوله «فاقْطَعُوا» للجزاءِ، وكما أنَّ التقدير: الذي سَرَقَ فاقْطَعُوا يَدَهُ، ثُمَّ تأكّدَ هذا بقوله تعالى: {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا} وذلك أنَّ الكَسْبَ لا بُدَّ وأنْ يكونَ المرادُ به ما تقدم ذِكرُهُ، وهو السَّرِقَةُ، فصار هذا الدليلُ على مَنَاطِ الحُكم [ومتعلقه] هو ماهية السرقة، ومقتضاهُ أنْ يَعُمَّ الجزاءُ أينما حصل الشرطُ. اللهَّم إلاّ إذا قام دليلٌ مُنْفصِلٌ يَقْتَضِي تخصيصَ هذا العامِّ، وأمّا قوله: «الأيْدِي» عامَّة، فنقول: مُقْتضاه قطعُ الأيدي، لكنَّه لما انعقَدَ الإجماعُ على أنه لا يجبُ قطعهُما معاً، ولا الابتداءُ [باليد] اليُسْرى، أخرجناه مِنَ الْعُمُومِ. وأمَّا قوله: «لفظُ اليَدِ دَائرٌ بَيْنَ أشياء» . فنقولُ: لا نُسَلِّمُ، بل اليَدُ اسمٌ لهذا العُضْو إلى المنْكِبِ ولهذا السَّبَبِ قال تعالى: {فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق} [المائدة: 6] ولولا دخولُ العَضُديْنِ في هذا الاسم، وإلاَّ لما احتيج إلى التَّقييدِ بقوله «إلى المرَافِقِ» . فظاهرُ الآيةِ: يُوجِبُ قَطْعَ اليديْنِ من المنكِبَيْنِ كما هو قولُ الخوارج: إلاَّ أنَّا تركنا ذلكِ لدليلٍ مُنْفصل وأما قوله «رَابِعاً» يَحْتَمِلُ أن يكُونَ الخطابُ مع واحدٍ مُعَيَّنٍ. قُلْنا: ظاهِرُه أنَّهُ خطابٌ مع [كُل أحدٍ] ، تُرِكَ العملُ بِهِ، فلما صار مَخْصُوصاً بدليلٍ مُنْفَصِل فَيَبْقَى مَعمولاً به في الْبَاقِي فالحاصلُ أنَّا نقُولُ: الآيةُ عامةٌ صارت الجزء: 7 ¦ الصفحة: 326 مَخْصُوصَةً بدلائِلَ مُنْفَصِلَة في بعضِ الصُّوَرِ، فيبقى حُجَّة فيما عداهَا، وهذا القولُ أوْلَى من القول بأنها مُجْملة لا تُفِيدُ فائدَةً أصْلاً. فصل لماذا لم يحد الزاني بقطع ذكره؟ قال القُرطبي: جعل الله حدَّ السرقة قطعَ اليدِ لتناوُلها المالَ، ولم يجعلْ حدَّ الزِّنَا قطعَ الذَّكرِ مع مُوافقَةِ الفاحشة به لأمورٍ: أحدها: أن للسارقِ مثلَ يدِهِ التي قُطِعت، فإن انْزَجَرَ بِها اعتاضَ بالباقية، وليس للزَّانِي مثلُ ذكره، إذا قُطِعَ ولم يعتض بغيره لو انْزَجَرَ بقطعِهِ. الثاني: أنَّ الحدَّ زجرٌ للمحدودِ ولغيره، وقطعُ يدِ السَّارقِ ظاهرٌ، وقطعُ الذكرِ في الزنا باطنٌ. الثالث: أنَّ قطع الذكرِ إبطال للنَّسْلِ وليس في قطع اليد إبطالٌ للنسلِ. فصل قال جمهورُ الفقهاءِ: لا يجبُ القطعُ إلا بشرطيْن: قدرُ النصابِ، وأنْ تكونَ السرقةُ من حِرْزٍ. قال ابن عباسٍ وابنُ الزُّبيْرِ والحسنُ البصريُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - القدرُ غيرُ مُعْتبرٍ، والقطعُ واجبٌ في القليلِ والكثيرِ، والحرزُ أيضاً غَيْرُ مُعْتبرٍ، وهذا قولُ داود الأصْفهاني وقولُ الخوارجِ، وتمسكوا بعمومِ الآيةِ، فإنَّه لم يُذْكَرْ فيها النصابُ ولا الحرزُ، وتَخْصِيصُ عُمُومِ القرآنِ بخبرِ الواحدِ، وبالقياسِ غيرُ جائزٍ، واحتج الجمهورُ بأنه لا حاجة إلى القول بالتخصيصِ، بل نقولُ إنَّ لفظ السرقةِ لفظٌ عربيٌّ، ونحنُ بالضرورة، نعلمُ أنَّ أهْلَ اللغَةِ لا يقُولُونَ لِمَنْ أخذَ حَبَّةً مِنْ حِنْطَة الغَيْرِ أو تبنةً واحدةً أو كِسْرةً صغيرةً أنَّهُ سرق مالهُ، علمنا أنَّ أخذ مالِ الغيْرِ كيفما كان لا يُسَمَّى سرقَةً، وأيْضاً فالسرقةُ مُشْتَقَّةٌ مِنْ مُسارقَةِ عيْنِ المالِكِ [وإنَّما يُحْتَاجُ إلى مُسارقةِ عيْنِ المالِكِ] لَوْ كان المسروقُ أمْراً يتعلقُ به الرغبةُ في مَحَلّ الشُّحِّ والضِّنَّةِ حتَّى يَرْغَب السارقُ في أخذِهِ ويتضَايَقُ المسروقُ مِنْه فِي دَفْعِهِ إلى الغَيْرِ، ولهذا الطريق اعتبرنا في وُجوبِ القطعِ أخْذ المالِ مِنْ حِرْزِ المثل، لأنَّ مَا لا يكُونُ موضُوعاً في الْحِرْزِ لا يُحْتَاجُ في أخْذِه إلى مُسَارقَة الأعْيُنِ، فلا يُسَمَّى أخْذُه سَرِقَةً. قال داودُ: نحن لا نُوجِبُ القطعَ في سرقة الجبَّةِ الواحدةِ، بل في أقَلِّ شَيْءٍ يُسَمَّى مالاً، وفي أقَلِّ شَيْءٍ يجري فيه الشُّحُّ والضِّنَّةُ، وذلك لأن مقاديرَ القِلَّةِ والكثْرة غيرُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 327 مَضْبُوطَةٍ، فربَّما اسْتَحْقَر الملكُ الكبيرُ آلافاً مُؤلَّفَةً، وربما اسْتَعْظَمَ الفقيرُ طسُّوجاً، ولهذا قال الشافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لو قال: لِفُلانٍ عليَّ مالٌ عَظِيمٌ، ثم فسره بالحبةِ، يقبل قوله فيه لاحتمالِ أنَّه كان عظيماً في نظره، أو كان عظيماً عنده لغاية فَقرِهِ وشدةِ احتياجِهِ إليه، ولما كانت مقاديرُ القِلَّةِ والكَثْرةِ غيْرَ مَضْبُوطةٍ، وَجَبَ بِنَاءُ الحكمِ على أقل ما يُسَمَّى مالاً. وليس لقائلٍ أنْ يَسْتَبْعِدَ ويقُولَ: كيف يجوزُ [القطعُ في سرقةِ] الطسوجة الواحدةِ، فإنَّ الملحد قد جعلَ هذا طَعْناً في الشريعةِ فقال: اليدُ لما كانت قيمَتُها خَمسمائَةِ دينارٍ من الذَّهَبِ، فكيف تُقْطَعُ لأجل القليلِ من المالِ؟ ثُم إنْ أجَبْنَا عن هذا الطعنِ، بأنَّ الشرعَ إنما قطعَ يدهُ بسبب أنه تَحمَّل الدناءَةَ والخساسَةَ في سرقَةِ ذلك القدرِ القليلِ، فلا يَبْعُدُ أنْ يعاقبه الشرعُ بسبب تلك الدناءَةِ بهذه العُقُوبةِ العظيمةِ، وإذاً كَانَ هذا الجوابُ مَقْبُولاً مِنَّا في إيجابِ القطْعِ في القليلِ والكثيرِ، قال: ومِمَّا يدلُ على أنَّهُ لا يجوزُ تخصيصُ عمومِ القرآنِ هَاهُنَا بخبرِ الواحدِ، وذلك لأن القائلينَ بتخصيصِ هذا العمومِ اختلفُوا على وجوهٍ: قال الشافعيُّ: يجبُ القطعُ في رُبْعِ دينارٍ، وروى فيه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «لا قَطْعَ إلاَّ في رُبْعِ دينارٍ» وقال أبُو حنيفَةَ: لا يجبُ إلاَّ في عشرةِ دراهم مضرُوبة، وروى قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «لا قطع إلا في ثَمنِ المجَنِّ» قال: والظاهر أنَّ ثمن المجَنّ لا يكون أقلَّ من عشرة دراهم. وقال مالكٌ وأحْمدُ وإسحاقُ: يُقدر بثلاثةِ دراهم أو رُبْعِ دينار وقال ابنُ أبِي لَيْلَى: مُقَدَّرٌ بخمسةِ دراهمَ، وكلُّ واحدٍ من هؤلاءِ المجتهدين يطعنُ في الخبرِ الذي يرويه الآخرُ، فعلى هذا التقدير: فهذهِ المُخَصصَاتُ صارتْ متعارِضةً، فوجب ألاَّ يُلْتَفَتَ إلى شَيْءٍ مِنْها: ويُرْجع في معرفةِ حُكْمِ الله تعالى إلى ظاهرِ القرآنِ. قال: وليس لأحدٍ أنْ يقول: إن الصحابة أجْمَعُوا على أنَّه لا يجبُ القطعُ إلاّ في مقدار مُعَيَّنٍ، قال: لأنَّ الحسنَ البصريَّ كان يُوجِبُ القطعَ بمجردِ السَّرِقَةِ، وكان يقولُ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 328 احذر من قطع درهم، ولو كان الإجماعُ مُنْعَقِداً لما خالف الحسنُ البصري فيه مع قربه من زمنِ الصحابةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، وشدةِ احتياطِهِ فيما يتعلقُ بالدينِ، فهذا تقريرُ مذهَبِ الحسنِ البصْرِيِّ ومذهبِ داوُدَ الأصْفَهانِي، وأمَّا الفقهاءُ فقالوا: لا بُدَّ فِي وجوبِ القطعِ مِنَ الْقَدْرِ. فقال الشافعيُّ: القطعُ في رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِداً وهو نِصابُ السرقةِ، وسائِرُ الأشياءِ تُقَوَّمُ بِهِ، وقال أبُو حَنِيفَةَ والثَّوْرِيُّ لاَ يَجِبُ القطعُ في أقَل مِنْ عَشَرةِ دراهم مَضْرُوبة. ويُقَوَّم غيرُها به، وقال مالكٌ وأحمدُ: رُبْعُ دينارٍ [أو] ثلاثةُ دَرَاهِمَ، وقال ابنُ أبِي لَيْلَى: خَمْسةُ دراهِم، وحجةُ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ما رُوِي عن عائشةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أن رسولَ الله صلى الله عليه وعلى وآله وسلم قال: «القَطْعُ فِي رُبْعِ دينارٍ فَصَاعِداً» . وحُجَّةُ مالكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ما رُوِيَ عَنْ نافعٍ عن ابن عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم قَطَعَ سارِقاً في مِجَنٍّ ثَمَنُهُ ثلاثةُ دَرَاهِمَ. ورُوِيَ عَنْ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّهُ قطعَ السارقَ في أتْرُجَّةٍ قُوِّمَتْ بثلاثةِ دراهِمَ من صرف اثني عشر دينار، واحْتَجّ أبو حَنيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بأنَّه قول ابن مسعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وبأن المجَنّ قيمتُهُ عَشَرةُ دراهِمَ، واحتج ابنُ أبِي لَيْلَى - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِما روى أبُو هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم - قال: «لَعَنَ اللَّهُ السَّارِقُ يَسْرِقُ الْبَيْضَةَ فَتُقْطَعُ يَدُهُ، ويَسْرِقُ الْحَبْلَ فَتُقْطَعُ يَدهُ» . قال الأعْمَشُ: كانوا يَرَوْنَ أنَّهُ بيضُ الحديد والحبلُ، يرون أنه منها تُساوِي ثلاثةَ دراهم، ويحتج بهذا مَنْ يرى القطع في الشيء القليلِ، وعند الأكثرينَ محمولٌ على ما قاله الأعْمَشُ لحديثِ عائشةَ - رضي الله تعالى عنها -. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 329 فإنْ قيل: إذا سرَقَ المالَ مِنَ السَّارِقِ، فقال الشافِعيُّ: لا يُقْطَعُ لأنَّهُ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ مالكٍ ومِنْ غَيْرِ حِرْزٍ. وقال أصحابُ مالكٍ: حُرْمةُ المالِكِ عليه لم تَنْقَطِعْ عنه، وَيَدُ السارقِ كلا يد كالغاصب إذا سُرِقَ منه المالُ المغصُوب قُطع، فإنْ قيل: حِرْزُهُ كَلاَ حِرْزٍ. فالجوابُ: الحرْزُ قائمٌ والمالِكُ قائمٌ، ولم يَبْطُلِ الملك فيه. فصل المذاهب فيما إذا كرر السارق السرقة قال الشافعي: الرجل إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى، وفي الثانية رجله اليسرى وإذا سرق في الثالثة تقطع يده اليسرى، وفي الرابعة: رِجْلُهُ اليُمْنَى؛ لأنَّ السرقةَ عِلّةُ القطعِ وقد وُجدت وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وأحْمَدُ والثَّوْرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: لا يُقْطَع في الثالثةِ والرابعةِ، بلْ يُحْبَسُ. فصل قال أبُو حَنِيفَة والثَّوْرِيُّ: لا يُجْمَعُ بَيْنَ القَطْعِ والغُرْمِ، فإن غُرّم فلا قَطْعَ، وإن قُطِعَ سَقَطَ الغُرْمُ، وقال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - يُغرّم إنْ تلف المسروقُ، وإنْ كان بَاقِياً رَدَّهُ. وقال مَالِكٌ: يُقْطَع] بِكُلِّ حالٍ، ويُغرّم إنْ كان غَنِياً، ولا يَلْزَمُه إن كان فقيراً، واستدل الشافعي بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «على الْيَدِ مَا أخَذَتْ حَتَّى تُؤدِّيَهُ» ، ولأنَّ المسروقَ لَوْ كان بَاقِياً وَجَبَ رَدُّهُ بالإجْماعِ، ولأنَّ حق الله لا يَمْنَعُ حَقَّ العبادِ، بِدليلِ اجتماع الجزاءِ والقِيمةِ في الصَّيْدِ المَمْلُوكِ، ولأنَّه بَاقٍ على مُلْكِ مالِكِه إلى وقْتِ القطع. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 330 فإنْ قيل: الحِرْزُ عادة ما نُصِبَ لِحفْظِ الأموالِ، وهو يَخْتَلِفُ في كُلِّ شَيْءٍ بحسبِ عَادَتِهِ. قال ابنُ المُنْذرِ: لَيْسَ فِيهِ خَبَرٌ ثَابتٌ. فالجوابُ: وإنْ سَرَقَ مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ لا قَطْعَ لقولِهِ عليه الصلاةُ والسلامُ: «لا قَطْعَ فِي ثَمَرٍ مُعَلَّقٍ وَلاَ فِي حريسة جَبَلٍ، وإذَا آواها المراحُ والحرزُ فالقطعُ فيما بلغ ثمنَ المجَنّ» وقال عليه الصلاةُ والسلامُ: «ليسَ على خائنٍ ولا مُنْتَهبٍ ولا مُخْتلِس قطعٌ» . وإذا سَرَقَ من مالٍ فيه شُبْهَةٌ، كالعبدِ المسروقِ في مالِ سَيِّده، والولدِ من مال والدِهِ، والوالدِ من مالِ ولدِهِ، وأحدِ الشريكيْنِ من مالِ المشتركِ لا قَطْعَ عليه. فصل فيما إذا اشترك جماعة في سرقة إذا اشترك جماعةٌ في سرقَة نصابٍ مِنْ حِرْزٍ، فلا يَخْلُو: إمَّا أنَّ بعضهم يَقْدِرُ على إخراجه أوْ لا يَقْدِرُ إلا بمعاونِتِهم، فإنْ كان الأول فَقِيل: يُقْطَعُ، وقيل: لا يُقطعُ، وهو قولُ أبِي حَنيفَةَ والشافعي، فإذا نَقَبَ واحدٌ الحِرْزَ وأخَذَ الآخرُ، فإنْ كانَ انفردَ كل واحدٍ بِفعلِهِ دُونَ اتفاقٍ منهما، فلا قطْع على واحدٍ منهما، وإنْ تفاوتَا في النَّقْبِ وانفردَ أحدهما بالإخراجِ خاصةً، فإنْ دخل أحدُهما وأخرجَ المتاعَ إلى باب الحرْزِ فأدخل الآخرُ يدَهُ فأخذه، فعليه القطعُ ويُعاقبُ الأولُ، وقيل: يُقْطعانِ وإنْ وضعه خارج الحِرْز فعليه القطعُ لا على الآخذِ. فصل في حكم النبّاش والقبرُ والمسجدُ حِرْزٌ فَيُقْطَعُ النَّباشُ عند الجمهور، وقال أبُو حنيفةَ: لا يقطعُ؛ لأنَّه سرق مِنْ غَيْرِ حِرْزٍ مالاً مُعَرَّضاً لِلتَّلفِ لا مالِكَ لَهُ؛ لأنَّ الميِّتَ لا يملِكُ. فصل قال الشافعي: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لِلْمَوْلى إقَامةُ الحدِّ على ممَالِيكِه، وقال أبُو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لا يَمْلِكُ ذلكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 331 فصل في وجوب نصب إمام احْتَجُّوا بهذه الآيةِ على أنَّهُ يجبُ على الأمَّة أن يُنَصِّبوا لأنفسهم إماماً مُعَيَّناً، لأنَّهُ تعالى أوْجبَ بهذه الآيَة إقامَةَ الحدِّ على السُّرَّاق والزُّنَاةِ فلا بُدَّ مِنْ شَخْصٍ يكُونُ مُخَاطَباً بهذا الخطابِ، وأجْمعتِ الأمةُ على أنَّه ليسَ لآحادِ الرعيَّةِ إقامةُ الحدودِ على الأحْرارِ الجُنَاةِ إلاَّ الإمامَ، فلمَّا كان هذا تَكْلِيفاً جازِماً، ولا يمكنُ الخروجُ مِنْ عُهْدَتِه، إلا بِوُجودِ وجبَ نَصْبُهُ؛ لأنَّ ما لا يَأتي الواجبُ إلا به، وكانَ مقدوراً للمُكلَّفِ فهو واجبٌ. فصل قالتِ المعتزلةُ: قوله تعالى: {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا} يَدُلُّ على تَعْلِيلِ أحْكامِ الله تعالى؛ لأنَّه صَريحٌ في أنَّ القطعَ إنَّما وجبَ مُعَلّلاً بالسرقَةِ. وجوابُهُ ما تقدمَ في قوله {مِنْ أَجْلِ ذلك كَتَبْنَا} [المائدة: 32] . قوله تعالى {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} والمعنى: عَزيزٌ في انْتِقامِهِ، حكِيمٌ في شرائِعِهِ وتكالِيفِه، قال الأصْمَعِيُّ: كنتُ أقرأُ سورةَ المائدة ومعي أعرابيٌّ. فقرأتُ هذه الآيَةَ فقلْتُ: واللَّه غفورٌ رحيمٌ، سَهْواً فقال الأعرابيُّ: كلامُ من هذا، فقلتُ: كلامُ الله، فقال: أعِدْ، فأعَدْتُ: والله غفور رحيمٌ ثُمَّ تَنَبَّهْتُ فقلتُ: «والله عزيزٌ حكيمٌ» فقال: الآنَ أصَبْتَ. قُلْتُ: كيف عرفتَ؟ فقال: يا هذا، عَزَّ فحكم فأمر بالقطْعِ، فلَوْ غَفر ورحِمَ لما أمر بالقَطْعِ. قوله تعالى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} الجارُّ [والمجرور في قوله: {مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ} ] متعلِّقُ ب «تاب» و «ظُلْم» مصدرٌ مضافٌ إلى فاعله، أيْ: مِنْ بعد أنْ ظلمَ غَيْرَهُ بأخْذِ ماله. وأجاز بعضُهم أنْ يكونَ مُضافاً للمفعولِ، أيْ: مِنْ بعد أنْ ظلم نَفْسَهُ، وفي جوازِ هذا نَظَرٌ؛ إذْ يصيرُ التقديرُ: مِنْ بَعْد أنْ ظلمه، ولو صرَّحَ بهذا الأصل لم يجز؛ لأنَّهُ يؤدِّي إلى تَعَدِّي فعل المضمرِ إلى ضَمِيره المتصلِ، وذلك لا يجوزُ إلا في بابِ: «ظَنّ وفَقَدَ وعدِمَ» ، كذلك قاله أبُو حيان. وفي نظرِه نَظَرٌ؛ لأنَّا إذا حللنا المصدر لحرفٍ مَصْدرِيٍّ وفِعْلٍ، فإنَّما يأتِي بعد الفعلِ بما يَصِحُّ تقديرُه، وهو لفظُ النَّفْسِ، أيْ: مِنْ بَعْد أنْ ظَلَمَ نَفْسه. انتهى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 332 فصل في معنى الآية المعنى: {فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ} سرقته «وَأصْلَحَ» العملَ، «فإنَّ اللَّهَ» تعالى {يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} هذا فيما بينَهُ وبَيْنَ الله تعالى، فأمَّا القطعُ فلا يَسْقُطُ بالتَّوْبةِ عند الأكْثرينَ. قال مُجاهِدٌ: السارقُ لا توبة له، فإذا قُطِعَ حصلتِ التوبةُ، والصحيحُ: أن القطعَ جزاءٌ على الجِنايةِ لقوله تعالى: {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله} فلا بُدَّ مِنَ التَّوْبَةِ بَعْدُ، وتوبَتُه الندمُ على ما مضَى والعزمُ على تركِهِ في المستقبلِ، وهذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ مَنْ تاب من بعد ظلمه وأصْلح، فإنَّ الله تعالى يقبلُ توبَتَهُ. فإن قيل: قوله «وأصْلَحَ» يدلُّ على أنَّ مجردَ التوبةِ غيرُ مقبولٍ. فالجوابُ: المرادُ وأصلح التوبة بنيةٍ صادقةٍ وعزيمةً صحيحةً خاليةٍ عن سائرِ الأغْرَاضِ. فصل في أن قبول التوبة غير واجب على الله تعالى دَلَّتِ الآيةُ على أنَّ قبولَ التوبة غيرُ واجبٍ على الله تعالى، لأنَّهُ يُمْدحُ بقبول التوبةِ، والتمدُّحُ إنما يكونُ بفعل التَّفَضُّلِ والإحْسَانِ لا بأدَاءِ الوَاجِبَاتِ. قوله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} الآية. لما ذكر عقابَ السَّارِقِ، ثُمَّ ذَكرَ أنَّهُ يقبلُ توبتَهُ إنْ تاب أرْدَفَهُ ببيان أنه يفعلُ ما يشاء ويَحْكُم ما يريدُ فيُعَذبُ من يشاءُ، ويغفرُ لِمَنْ يشاءُ وإنَّما قدم التعذيبَ على المغفرةِ، لأنَّهُ في مقابلةِ السرقةِ، والسرقةُ مقدمةٌ على التوبةِ. قال السديُّ والكَلْبِيُّ: يعذبُ مَنْ يشاءُ ممَّنْ ماتَ على كُفْرِهِ، وقال ابنُ عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يعذبُ مَنْ يشاءُ على الصَّغيرةِ، ويغفرُ لِمَنْ يشاءُ الكبيرةَ والله غفورٌ رحيمٌ. قال القُرْطُبِيُّ: هذه الآيةُ خطابٌ للنبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - أيْ: لا قرابة لأحدٍ بينه وبين الله تُوجِبُ المحاباةَ حتى يقول قائلٌ: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] ، والحدودُ تقامُ على كُلِّ مَنْ قارف حدًّا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 333 قد تقدم أنَّ «يَحْزُن» يُقْرأ بفتح الياءِ وضمِّها وأنهما لُغتانِ، وهل هما بمعنًى، أو بينهما فَرْقٌ. والنَّهْيُ للنبيّ في الظاهرِ، وهو مِنْ بابِ قوله: «لا أرَيَنَّك هاهُنَا» ، أي: لا تَتَعَاطَ أسباباً يحصلُ لك بها حُزْنٌ من جهتِهم، وتقدم لك تحقيقُ ذلك مِرَاراً. وقولُ أبي البقاءِ في «يَحْزُنْكَ» : «والجيدُ فتحُ الياءِ وضمُّ الزَّاي، ويُقْرأ بِضَمِّ الياءِ، وكسر الزَّاي مِنْ: أحْزَنَنِي وهي لغةٌ» - لَيْسَ بجيِّدٍ؛ لأنها قراءةٌ متواترةٌ، وقد تقدَّم دليلُها في آل عمران [الآية 76] . و «يسارعون» من المسارعة، و «فِي الكفر» متعلقٌ بالفعل قبلهُ، وقد تقدم نظيرُها في آل عمران. واعلمْ أنه تعالى خاطب النبيَّ عليه الصلاةُ والسلام بقوله تعالى: {ياا أَيُّهَا النبي} في مواضِعَ كثيرةٍ، ولم يخاطِبْهُ بقوله: {ياأيها الرسول} إلاّ في موضِعَيْنِ في هذه السورة. أحدهما: هاهُنا، والثانية: {ياأيها الرسول بَلِّغْ} [المائدة: 67] وهذا خطابُ تشريفٍ وتعظيمٍ. واعلمْ أنه تعالى لما بيَّن بعضَ التكاليف والشرائعِ، وكان قد علم من بعضِ النَّاسِ المسارعةَ إلى الكفرِ لا جَرَمَ صبَّر رسول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - على تَحَمُّلِ ذلك، وأمرهُ بأنْ لا يَحْزنَ لأجلِ ذلك أيْ: لا تَهْتَمَّ ولا تُبَالِ بمسارعةِ المنافقينَ في الكفرانِ في موالاةِ الكُفارِ، فإنهم لَنْ يُعْجِزُوا اللَّه شيئاً. قوله تعالى: {مِنَ الذين قالوا} يجوزُ أنْ يكُون [حالاً من] الفاعل في «يسارِعُون» أيْ: يُسارعون حال كونهم بعضَ الذينَ قالُوا، ويجوزُ أنْ يكون حالاً من نفسِ الموصُول، وهو قريبٌ من مَعْنى الأولِ، ويجُوزُ أن يكُونَ «منْ» بياناً لجنسِ الموصُولِ الأولِ، وكذلك «من» الثانية، فتكون تَبْييناً وتَقْسِيماً للذين يُسارعون في الكُفْرِ، ويكون «سمَّاعُون» على هذا خَبَر مُبْتَدأ محذُوفٍ و «آمنَّا» منصوبٌ ب «قالوا» [و «أفْواهِهمْ» متعلقٌ ب «قالوا» لا ب «آمَنَّا» ] بمعنى أنه لم يُجاوزْ قولهم أفْواهَهُمْ، إنَّما نَطَقُوا بِهِ غير مُعْتقدِين له بقلوبهم. وقوله: {وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} جملةٌ حاليَّةٌ. قال بعضُ المفسِّرين: فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، والتقديرُ: مِنَ الذينَ قالُوا: آمَّنا بأفْواهِهمْ ولَمْ تُؤمِن قُلُوبُهُم، وهؤلاءِ هُم المنافِقُونَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 334 قوله تعالى: {وَمِنَ الذين هِادُواْ} فيه وجهانِ: أحدهما: ما تقدَّم، وهو أنْ يكونَ مَعْطُوفاً على {مِنَ الذين قالوا} بَيَاناً وتَقْسِيماً. والثاني: أن يكونَ خبراً مُقَدماً، و «سمَّاعُونَ» مُبْتدأ، والتقديرُ: {ومِنَ الذين هادُوا قومٌ سمَّاعُون} ، فتكونُ جملةً مستأنفة، إلاَّ أن الوجه الأول مُرجَّح بقراءةِ الضَّحَّاكِ: «سمَّاعِينَ» على الذَّمِّ بِفِعْل محذوفٍ، فهذا يدلُّ على أن الكلام لَيْسَ جُملةً مُسْتقلةً، بل قوله: {مِنَ الذين قالوا} عطفٌ على {مِنَ الذين قالوا} . وقوله «سماعُون» مِثالُ مُبالغَةٍ، و «للْكَذِب» فيهِ وجهانِ: أحدهما: أنَّ «اللامَ» زائدةٌ، و «الكَذِبِ» هو المفعولُ، أي: سمَّاعون الكذبَ، وزيادةُ اللام هُنا مُطَّردة لكوْنِ العامل فَرْعاً، فقوي باللام، ومثلُه {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] . والثاني: أنَّها على بابها مِنَ التعليلِ، ويكونُ مفعولُ «سمَّاعُونَ» مَحْذُوفاً، أيْ: سَمَّاعُون أخْبَارَكُم وأحَادِيثَكُمْ لِيَكْذِبُوا فيها بالزيادَةِ والنَّقْصِ والتَّبْديلِ، بأنْ يُرْجفُوا بِقَتْلِ المؤمنينِ في السَّرَايَا كما نقل من مخازيهم. وقوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ} يجوزُ أنْ تكون هذه تكْرِيراً للأولى، فعلى هذا يجوزُ أنْ يتعلَّق قوله: «لِقَومٍ» بنَفْس الكذبِ، أيْ: يَسْمَعُونَ ليَكْذبُوا لأجْل قوْم [ويجوزُ أن تتعلق اللامُ بنفس «سمَّاعون» أي: سمَّاعُونَ لأجل قومٍ لم يأتوك؛] لأنهم لبُغضِهِمْ لا يقربُونَ مَجْلِسكَ، وهم اليهودُ، و «لم يأتُوك» في محَلِّ جرٍّ؛ لأنَّها صفةٌ ل «قوم» . فصل ذكر الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ هاهُنَا وَجْهَيْنِ. الأول: أنَّ الكلامَ إنَّما يتمُّ عند قوله «ومِنَ الَّذِينَ» ثُم يُبْتَدأ الكلامُ من قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} [وتقديرُ الكلامِ: لا يحْزُنْكَ الذين يُسارعُونَ في الكفر من المنافِقِينَ ومن اليهُود، ثم بعد ذلك وصفَ الكل بكونهم سمَّاعين لقوم آخرين] . الوجهُ الثاني: أن الكلام تَمَّ عند قوله: {لَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ} ثم ابْتَدَأ فقال: {وَمِنَ الذين هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} وعلى هذا التقدير: فقوله: «سمَّاعُون» صفةُ محذوفٍ والتقديرُ: ومن الذين هادُوا قومٌ سماعُون، وقيل: خبرُ مُبتدأ محذوفٍ، تقديرُه: هُم سمَّاعُونَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 335 وحَكَى الزَّجَّاجُ في قوله تعالى «سمَّاعُون لِلْكذبِ» وجهين: الأوَّلُ: معناه: قَائِلُون لِلْكَذبِ، فالسمعُ يُستعملُ، والمراد منه القبولُ كما تقول: لا تَسْمعْ من فلانٍ، أيْ: لا تقبَلْ مِنْه، ومِنه: «سَمِعَ الله لِمَن حمدَهُ» ، وذلك الكذبُ الذي يُقْبَلُونَهُ هو ما يقوله رؤساؤهُمْ من الأكاذِيبِ في دينِ الله تعالى، وفي تحريفِ التوراةِ، وفي الطعنِ في سيدنا محمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -. والوجه الثَّانِي: أنَّ المرادَ مِنْ قوله «سَمَّاعُون» نَفْسُ السَّمَاعِ، واللامُ في قوله «لِلْكَذِبِ» لامُ كَيْ أي: يَسْمعُون مِنْك لِكَيْ يَكذِبُوا علَيْكَ، وذلك أنَّهُم كانوا يَسْمَعُون مِنَ الرَّسُولِ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - ثُم يَخْرُجون ويقُولونَ: سمعْنَا منه كذا وكذا، ولم يَسْتَمِعُوا ذلك منه، وأمَّا {لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ} والمعنى أنهم أعْيُنٌ وجواسِيسُ لِقَوْم آخرينَ لَمْ يأتُوك، ولم يحضرُوا عندَك لِيُبَلِّغُوا إليهم أخبارَك، وهم بَنُوا قُرَيْظَةَ والنَّضِير. قوله تعالى: «يُحَرِّفُونَ» يجوزُ أن يكونَ صِفَة لِ «سمَّاعُون» ، أيْ: سمَّاعون مُحَرِّفُونَ، ويجوزُ أن يكونَ حالاً من الضميرِ في «سماعون» ويجوزُ أن يكون مُسْتأنَفاً لا مَحَلَّ لَهُ. ويجوزُ أنْ يكونَ خَبَرَ مُبْتَدأ مَحْذُوفٍ أيْ: هُمْ مُحَرِّفُونَ. ويجُوز أن يكُونَ في مَحَلِّ جَرِّ صِفَةً ل «قَوْمٍ» ، أيْ: لقوْمٍ مُحَرِّفِينَ. و {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} تقدم في النِّساءِ [الآية 46] . و «يَقُولُون» ك «يُحَرِّفُونَ» ويجوزُ أنْ يكُونَ حالاً من ضمير «يُحرِّفُونَ» ، والجملةُ شَرْطِيَّةٌ مِنْ قوله: «إنْ أوتيتُمْ» [مفعولة بالقول، و «هذا» مفعول ثان ل «أوتيتم» ] فالأول قائمُ مقامَ الفاعل، و «الفاء» جوابُ الشرطِ، وهي واجِبة لعدمِ صلاحيَّةِ الجزاءِ لأنْ يكونَ شَرْطاً، وكذلك الجملة من قوله: {وإن لم تؤتوه} . فصل في معنى الآية ومعنى {يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أي: من بعد أن وضعه اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - في مواضعه، أي فرض دينهُ، وأحلَّ حلالهُ وحرَّم حرامهُ. قال المفسرون: «إِنَّ رجُلاً وامرأةً من أشراف خيبرٍ زنيا، وكان حدُّ الزِّنا في التوراة الرَّجم، فكرهت اليهودُ رجمهما لشرفهما، فأرسلوا قوماً إلى رسول اللَّهِ - صلى اللَّهُ عليه وعلى آله وسلم - عن حُكمه في الزَّانيين إذا أُحصنا وقالوا: إن أمركم بالجلد فاقبلوا، وإن أمركُم بالرَّجم فلا تقبلوا. فلمّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 336 سألوا الرسول - عليه الصلاةُ والسلامُ - عن ذلك فنزل جبريل بالرجم فأبوا أن يأخُذُوا به، فقال جبريلُ: اجعل بينك وبينهم ابن صوريَّا ووصفه له. فقال لهم رسولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وآله وسلم -: [هل] تعرفون شاباً أمردَ أبيض أَعوَرَ يسكن فدك يقال له: ابنُ صوريَّا؟ . قالُوا: نَعَمْ، قال: فأيُّ رَجُلٍ هو فيكُم قالوا: هو أعْلَمُ يَهُودِيٍّ بَقِيَ على وجه الأرضِ بما أنْزَل الله على موسى بن عمران في التَّوْرَاةِ قال: فأرْسلوا إليه. ففعلُوا فأتاهُمْ، فقال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم: أنْتَ ابنُ صُوريَّا قال: نَعَمْ، فقال له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُُ:» أنْشُدُك الله الذي لا إلَهَ إلاَّ هُوَ الذي أنْزَل التوراةَ على مُوسَى، وأخرجكم من مِصْرَ، وفلق لكم البحرَ، وأنجاكُمْ، وأغْرقَ آل فِرْعوْنَ، وظلل عليكم الغمامَ، وأنزلَ عليكُمُ المَنَّ والسَّلْوَى، ورفعَ فوْقَكُم الطُّور، وأنْزَلَ عَلَيْكُم كتابَهُ فيه حلالُه وحرامُه هل تجدُون في كتابِكُم الرَّجْمَ على مَنْ أحْصِن. قال ابن صُوريّا: نَعَمْ، والذي ذَكَّرْتَنِي به لَوْلاَ خشيةُ أنْ تحرقنِي التوراةُ إنْ كذبتُ أو غيَّرت [أو بدلتُ] ما اعترفتُ لك، ولكن كيفَ هي في كتابكم يا مُحمدُ؟ قال: إذا شَهدَ أربعة رَهْطٍ عُدُول، أنَّهُ قد أدْخَلَ فيها ذكرهُ كما يدخُلُ المِيلُ في المُكْحُلَةِ وجب عليه الرَّجْمُ، فقال ابنُ صوريَّا: والَّذِي أنزلَ التوراةَ على مُوسى هكذا أنزلَ الله التوراة على موسى فقال له صلى الله عليه وعلى آله وسلم: [فماذا كان] أوَّل ما تَرَخّصْتُم به أمر الله عزَّ وجلَّ قال: كُنَّا إذا أخذنَا الشريفَ تركْنَاهُ، وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحدَّ: فكثُرَ الزِّنَا في أشْرَافِنَا حتى زَنَى ابنُ عَمِّ [مَلِكٍ] لنا فلم نَرْجُمْهُ، ثُم زَنَا رجلٌ آخرُ في أسوةٍ من النَّاس، فأراد ذلك الملكُ رَجْمَه، فقام دُونَه قَوْمُه، فقالوا: واللَّه لا نرجُمُه حتى نرجُم فُلاناً ابن عَمِّ الملكِ. فقُلْنا: تعالَوْا نَجْتَمِعُ فنضعَ شَيئاً دون الرجمِ يكونُ على الشَّريفِ والوضيعِ، فوضعْنَا الجلْدَ والتَّحْميمَ؛ وهو أنْ يُجْلَدَا أربعينَ جلْدةً بِحَبلٍ مَطْلِيٍّ بالقارِ، ثم يُسَوَّد وُجُوهُهُمَا، ثُمَّ يُحملا على حِمَاريْنِ وجوهُهُما من قبلِ دُبر الحمار، ويطافُ بِهَما، فجعلوا هذا مكان الرجم. فقال اليهودُ [لابن صوريا] : ما أسرع ما أخبرتَهُ به، وما [كُنتَ لما أثْنَيْنَا] عليك بأهل، ولكِنَّكَ كُنْتَ غائباً، فكرهنا أن نَغْتَابَك، فقال لهم ابن صوريا: إنَّه قد أنْشَدَني بالتوراةِ، ولولا خشيةُ التوراةِ أنْ تُهلكني لما أخبرته، فأمر بهما النبيُّ - صلى الله عليه وعلى وآله وسلم - فَرُجِمَا عند بابِ المسجدِ، وقال: اللهم، إنَّي أوَّلُ مَنْ أحْيَا أمرَكَ إذْ أمَاتُوهُ « ، فأنزل الله عزَّ وجل: {ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 337 فقولُه تعالى: {يُحَرِّفُونَ الكلم} جمع كَلِمَةٍ، وذكر الكِنايةَ رَدّاً على لَفظها الكلم {مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ} أيْ: وضعُوا الجلدَ مكان الرجمِ. وقيل: سببُ نزول هذه الآيةِ: أنَّ بَنِي النضير كان لهم فضلٌ على بَنِي قريظةَ، فقال بَنُوا قريظةَ: يا محمدُ إخْوَانُنا بنو النضير وأبُونا واحدٌ وديننا واحدٌ ونبينا واحدٌ، وإذا قتلُوا مِنَّا قتيلاً لم يقيدونَا، وأعطونا ديتَهُ سَبْعينَ وَسْقاً من تَمْرٍ. وإذا قتلنا منهم قتلُوا القاتلَ، وأخذوا مِنّا الضِّعْفَ مائةً وأربعين وسْقاً مِنْ تَمْرٍ. وإنْ كان القتيلُ امرأةً قتلُوا بها الرجُلَ مِنَّا، وبالرجل منهم الرجليْن مِنّا، وبالعبد حُراً مِنَّا، وجراحاتُهم على الضَّعْفِ مِنْ جراحاتِنَا فاقْضِ بَيْننا وبينهم، فأنزل الله هذه الآية، والأولُ أصحُ لأنَّ الآية في الرَّجْمِ. فصل قال القرطبي: الجمهورُ على ردِّ شهادةِ الذِّمِّيِّ؛ لأنَّهُ ليس مِنْ أهلِهَا فلا تقبلُ على مسلم، ولا على كافرٍ وقبِلَ شهادتهُم جماعة مِنَ الناسِ إذا لم يُوجدْ مسلمٌ، على ما يأتي في آخر السورة. فإنْ قِيل: قد حَكَمَ بشهادَتِهمْ ورجمَ الزَّانِيَيْنِ. فالجوابُ: أنَّهُ إنَّما تقدم عليهم بما علم أنَّهُ حكمُ التَّوْراةِ، وألزمهُم العملَ بِهِ على نحو ما عملت به بَنُو إسرائيلَ؛ إلْزَاماً للحجةِ عليهم، وإظْهَاراً لتحريفهم وتغييرهم، فكان منفذاً لا حَاكِماً. قوله تعالى: {إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا} أيْ: إنْ أمرَكُم بحدِّ الجلدِ فاقبلوا، وإنْ أمركُم بالرجم فلا تقبلُوا. قوله تعالى: {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ} «مَنْ» مفعولٌ مقدمٌ، وهي شرطيةٌ. وقوله: «فَلَنْ تَمْلِكَ» جوابُه، و «الفاء» أيضاً واجبةٌ لما تقدم. و «شيئاً» مفعولٌ به، أو مصدرٌ، و «مِنَ اللَّهِ» متعلقٌ ب «تَمْلكَ» . وقيل: هو حالٌ من «شَيْئاً» ؛ لأنَّهُ صفتُه في الأصْلِ. فصل قوله تعالى: {وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ} أي: كفْرَهُ وضلالَهُ، وقال الضحاكُ: هلاكَهُ. وقال قتادةُ: عذابَهُ. ولمّا كان لفظُ الفتنةِ مُحتملٌ لجميعِ أنواعِ المفاسدِ، وكان هذا اللفظُ مذكُوراً عُقَيْبَ أنْواع كفرِهم التي شرحَها الله تعالى وجب أن يكُون المرادُ من هذه الفتنةِ تلك الكُفْرياتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 338 المذكُورة، ويكونُ المعنى: ومَنْ يُرد الله كفره وضلالتهُ، فلَنْ يقدِرَ أحدٌ على دفع ذلك عنه، ثُمَّ أكَّدَ ذلك بقوله: {أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} . قال أهلُ السُّنَّةِ: دلّت هذه الآيةُ على أن الله تعالى غيرَ مُريدِ إسلامِ الكافرِ، وأنَّه لم يُطهرْ قلبَهُ مِنَ الشِّرْكِ، ولوْ فعل ذلك لآمن. وذكر المعتزلةُ في تعبير هذه الفِتْنَة وجوهاً: أحدها: أنَّ الفتنة هي العذابُ. قال تعالى: {عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات: 13] أيْ: يُعَذَّبُونَ، فالمرادُ هنا: يُريد عذابَهُ لِكُفْره. وثانيها: ومَنْ يُردِ الله فضيحتَهُ. وثالثها: المرادُ الحكمُ بضلالهِ، وتَسْمِيتِهِ ضَالاًّ. ورابعها: الفتنَةُ: الاختبارُ؛ والمعنى: مَنْ يُرِدِ الله اختبارهُ [فِيمَا يَبْتَليه] من التكاليف فيتركُهَا ولا يقومُ بأدائِها، فلَنْ تملِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ ثواباً ولا نفعاً. وأمَّا قوله تعالى: {أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ} فذكروا فيه وجوهاً: أحدها: لم يردِ الله أنْ يهدي قلوبَهُم بالألطافِ؛ [لأنه تعالى عَلِم أنه لا فائدةَ في تلكَ الألطافِ لأنَّها لا تنجحُ في قُلُوبِهم] . ثانيها: لم يُرد الله أن يطهرَ قلوبَهُم مِنَ الحَرَجِ والغَمِّ والوحشةِ الدَّالةِ على كُفْرِهم. وثالثها: أنَّ هذه الاستعارةَ [عبارةٌ] عَنْ سُقوطِ وقْعَهِ عند الله، وأنَّه غيرُ مُلتفتٍ إلَيْهِ بسببِ قُبْحِ أفعالِهِ، وقد تقدم [الكلامُ] على هذه الوجوه. قوله تعالى: «أولَئِكَ» : مبتدأ، و {لَمْ يُرِدِ الله} جملةٌ فعليةٌ خبرُهُ. ثُم قال تعالى: {لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ} وخزيُ المُنافقينَ الفَضيحةُ، وهَتْكُ السَّتْرِ بإظْهَارِ نفاقِهمْ، وخَوفِهم مِن القتْلِ، وخزيُ اليهودِ: الجزْيَةُ، وفَضِيحتُهم، وظهورُ كذبِهِمْ، في كِتْمانِ نَصِّ الله تعالى في إيجابِ الرَّجْمِ. قوله تعالى {وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ} وهو الخلودُ في النَّارِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 قوله: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ} : يجُوزُ أن يكُونَ مُكَرَّراً للتَّوْكيدِ إنْ كان مِنْ وصف المنافقينَ، وغَيْرَ مُكرَّرٍ إنْ كانَ مِنْ وصف بَنِي إسْرائيلِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 339 وإعْرَابُ مفرداتِهِ تقدَّم، ورفْعُه على خبرِ ابْتَداءٍ مُضْمَرٍ، أيْ: هُمْ سمَّاعون. وكذلك «أكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» في «اللاَّمِ» الوجهانِ المذكورانِ في قوله: «لِلْكَذِبِ» . و «السُّحْتُ» الحَرَامُ، سُمِّي بذلك؛ لأنَّه يُذْهِبُ البَرَكَةَ ويَمْحَقُها، يُقالُ: سَحَتَهُ اللَّهُ، وأسْحَتَهُ: أيْ: أهْلكهُ وأذهَبَهُ. قال الزَّجَّاجُ: أصلُهُ مِنْ: سَحَتُّهُ إذ اسْتَأصَلته، قال تعالى: {فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} [طه: 62] أيْ: يَسْتأصلهمْ، أوْ لأنَّه مَسْحوتُ البَرَكَةِ. قال الله تعالى: {يَمْحَقُ الله الربا} [البقرة: 276] . وقال اللَّيْثُ بنُ سَعْدٍ: إنَّهُ حرامٌ يحصلُ مِنْه العار. وعن الفرَّاءِ: «السُّحْتُ» : شدَّةُ الجُوعِ، يُقال: رجلٌ مَسْحُوتُ المعدة إذا كان أكُولاً، لا يُلْفَى إلاَّ جائعاً أبداً وهو راجعٌ إلى الهلكة. وقد قُرِئ قوله تعالى: «فَيُسْحِتَكُمْ» بالوجهين: مهن سَحَتُّهُ، وأسْحَتُّهُ. وقال الفرزدقُ: [الطويل] 1968 - وعَضُّ زَمَانٍ يَا بْنَ مَرْوَانَ لَمْ يَدَعْ ... مِنَ المَالِ إلاَّ مُسْحَتاً أوْ مُجَلَّفُ وقرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ، وعاصمٌ، وحمزةُ: «السُّحْت» بضَمِّ السِّينِ وسكون الحاء، والباقون بضمهما، وزيد بن علي، وخارجة بن مصعب عن نافع بالفتح وسكون الحاء، وعبيد بن عمير بالكسر والسكون وقُرئ بفَتْحتيْنِ، فالضمتانِ: اسمٌ للشيء المسحُوتِ، والضمةُ والسكونُ تخفيفُ هذا الأصْلِ، والفتحتانِ والكَسْرِ والسُّكُونِ اسمٌ له أيضاً. وأمَّا المفتوحُ السينِ السَّاكن الحاءِ، فمصدرٌ أُريدَ بِهِ اسمُ المفعولِ، كالصَّيْد بمعنى المصيدِ، ويجوزُ أنْ يكُونَ تَخْفِيفاً مِنَ المَفتُوحِ، وهُوَ ضعيفٌ. والمرادُ بالسُّحْتِ: الرَّشْوَةُ في الحُكْمِ، ومَهْرُ البَغِيّ، وعَسِيبُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 340 الفَحْلِ، وكَسْبُ الحجامِ، وثَمنُ الكَلْبِ، وثمنُ الخمرِ، وثمنُ المَيْتَةِ، وحُلوانُ الكَاهِنِ، والاستعجالُ في المعصية، رُوِيَ ذلك عَنْ عُمَرَ وعَليٍّ وابن عباسٍ وأبِي هُريرةَ ومجاهدٍ، وزاد بعضهُم، ونقص بعضهم. وقال الأخْفَش: السُّحْتُ كُلُّ كَسْبٍ لا يَحقُّ. فصل قال الحسنُ: كان الحاكِمُ منهم إذا أتاهُ أحَدٌ برشْوَةٍ جعلها في كُمِّهِ، فَيُريها إيَّاهُ، وكان يَتَكلَّمُ بحاجتِهِ، فَيُسْمعُ مِنْه، ولا ينظرُ إلى خَصْمهِ، فَيَسْمَعُ الكذبَ، ويأكُلُ الرشْوَةَ. وقال أيضاً: إنَّما ذلك في الحُكْم إذا رشوتَهُ ليحقَّ لك باطلاً، أو يُبْطل عنك حقاً، فأمَّا أنْ يُعْطِيَ الرجلُ الوالِيَ يَخافُ ظُلْمَهُ لِيَدْرَأ به عَن نفسه فلا بأسَ، والسُّحْتُ هو الرَّشْوَةُ فِي الحكمِ على قول الحسن وسُفيانِ وقتادةَ والضَّحَّاكِ. وقال ابنُ مسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - هو الرشوةُ في كُلِّ شيْءٍ، مَنْ يشفعُ شفاعَةً ليَرُدَّ بِهَا حَقًّا أو يدفَعَ بها ظُلْماً، فأهدي له فَقَبِلَ، فهو سُحْتٌ. فقيل له: يا أبَا عَبْد الرَّحْمنِ، ما كُنَّا نَرَى ذلك إلاَّ الأخْذَ على الحُكْمِ، فقال: الأخذُ على الحُكْمِ كُفْرٌ؛ قال الله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] . وقال بَعْضُهُم: كان فقراؤهُم يأخُذُونَ مِنْ أغْنِيائِهم مالاً ليقيمُوا على ما هُمْ عليه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 341 من اليَهُوديَّة، فالفقراءُ كانُوا يسمعُونَ أكاذيبَ الأغنياءِ، ويأكُلُونَ السُّحْتَ الذي يأخذوه مِنْهُم. وقيل: سمَّاعُون للأكاذِيبِ التي كانوا يَنْسِبُونَها إلى التوراةِ، أكَّالُونَ لِلرِّبَا لقوله تعالى: {وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ} [النساء: 161] . وقال عمرُ بن الخطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - رَشْوَةُ الحاكم من السُّحْتِ. وعن رسُولِ الله صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم أنَّه قال: «كُلُّ لَحْمٍ نبتَ بالسُّحْتِ فالنَّارُ أوْلَى به» قالُوا: يا رسولَ الله، ومَا السُّحْتُ؟ قال: «الرشوةُ في الحُكْمِ» . وعن ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أيْضَاً أنَّهُ قال: السحتُ أنْ يَقْضِيَ الرجلُ لأخيه حَاجَةً، فيُهْدِي إلَيْهِ هديَّةً فَيَقْبَلهَا. وقال بعضُ العلماءِ: من السحتِ أنْ يأكلَ الرجلُ بجاهِهِ، بأنْ يكون للرجل حاجةٌ عند السلطانِ، فيسألَهُ أنْ يَقْضِيَها له، فلا يَقْضِيَها له إلاَّ بِرشْوَةٍ يأخُذُها. انتهى. وقال أبُو حَنيفَةَ [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -] : إذا ارْتَشَى الحاكمُ انعزَلَ في الوقْتِ، وإنْ لم يُعزلْ بطلَ كُلُّ حُكْمٍ حَكَمَ به بَعْدَ ذلك. قال القرطُبي: وهذا لا يجوزُ أن يُخْتلفَ فيه إنْ شاء الله؛ لأنَّ أخْذَ الرشوة فِسْقٌ والفاسِقُ لا يَنْفُذُ حُكْمُهُ. قوله تعالى: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} . خيَّره تعالى بَيْنَ الحُكْمِ وبَيْنَ الإعراضِ عنهم، واختلفُوا فيه على قولَيْنِ: الأولُ: أنَّهُ في أمرٍ خاصٍّ، ثُم اختلف هؤلاءِ. فقال ابنُ عباسٍ، والحسنُ، والزهريُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: إنَّهُ في أمر زنا المُحْصَنِ، وقيل: في قَتيلٍ قُتل من اليهودِ في بَنِي قُرَيْظَةَ والنَّضِير كما تقدم، فتحاكمُوا إلى النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - فجعل الدِّيَّةَ سَواءً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 342 وقيل: هذا التخييرُ مُخْتص بالمعاهدينَ الذين لا ذمَّةَ لهم، فإن شاء حكم بينهم، وإنْ شاء أعْرض عنْهُم. والقول الثاني: أنَّ الآيةَ عامةٌ في كل مَنْ جاء من الكُفار، ثم اختلفُوا: فمنهم من قال: إنَّ الحُكمَ ثابتٌ في سَائِرِ الأحكامَ غيرُ منسُوخٍ وهو قولُ النَّخَعِيِّ والشَّعْبِيِّ وقتادة، وعطاء، وأبِي بَكْرٍ الأصَمِّ، وأبِي مُسْلِمٍ. وحكامُ المسلمينِ بالخيارِ في الحُكم بين أهْل الكتابِ، ومنهم مَنْ قال: إنه منسوخٌ بقوله تعالى: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله} [المائدة: 49] وهو قولُ ابن عباسٍ، والحسنِ، ومجاهد، وعكرِمَة [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم] ، ومذهبُ الشافعيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه يجبُ على حاكمِ المسلمينَ أنْ يحكمَ بينَ أهْل الذِّمَةِ إنْ تَحاكمُوا إليه، لأنَّ في إمضاء حُكْمِ الإسلام علَيْهم صَغَاراً لَهُم. فأمَّا المعاهدُ إلى مُدَّةٍ، فلا يجبُ على الحاكمِ أنْ يحكمَ بينهم، بل يتخيَّرُ في ذلك. قال ابنُ عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لم يُنْسَخْ مِنَ المائِدَةِ إلاَّ آيتَانِ: قوله تعالى: {لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله} [المائدة: 2] نسخَهَا قوله: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] . وقوله تعالى: {فَإِن جَآءُوكَ فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ} نسخها قوله تعالى: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله} [المائدة: 49] فأمَّا إذا تحاكَمَ مسلمٌ وذميٌّ يجبُ علينا الحكمُ بَيْنَهُمَا بلا خلافٍ، لأنَّهُ لا يجُوزُ للمسلم الانقيادُ لحكم أهْلِ الذِّمَّةِ. ثُمَّ قال: {وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً} والمعنى أنهم كانوا لا يتحاكمون إليه إلا لطلب الأسهل والأخف كالجلد مكان الرجم، فإذا لم يحكم بينهم وأعرض عنهم شق عليهم، وصاروا أعداءً لَهُ، فبين تعالى أنَّهُ لا تَضره عداوتُهُمْ له. ثُمَّ قال تعالى: {وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط} أيْ بالعَدْلِ: {إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين} أيْ: العادِلينَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 قوله تعالى: {وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ} كقوله: {كَيْفَ تُحْيِي الموتى} [البقرة: 260] وقد تقدم. [قولُه:] «وعنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ» «الواوُ» للحالِ، و «التوراة» يجوزُ أن تكون مُبْتدأ والظرفُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 343 خَبَرُه، ويجوزُ أنْ يكونَ الظرفُ حالاً، و «التوراةُ» فاعلٌ بِهِ لاعتمادِهِ على ذِي الحالِ. والجملةُ الاسميَّةُ أو الفعليَّةُ في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ. وقوله: {فِيهَا حُكْمُ الله} ، «فيها» خَبَرٌ مقدمٌ، و «حُكْمُ» مبتدأ، أو فاعِلٌ كما تقدم في «التوراةِ» ، والجملةُ حالٌ من «التوراةِ» ، أو الجار وحدَهُ، و «حُكْمُ» مصدرٌ مضافٌ لفاعلِهِ. وأجاز الزمخشريُّ: ألاَّ يكون لها مَحَل من الإعراب، بل هي مُبَيِّنةٌ؛ لأنَّ عندَهُم ما يُغنيهم عن التحكيمِ، كما تقولُ: «عندك زيدٌ يَنْصَحُك، ويُشيرُ عليك بالصَّوابِ، فما تصنعُ بِغَيْره؟» . وقولُه تعالى: «ثُمَّ يَتولّونَ» معطوفٌ على «يُحَكِّمونَكَ» ، فهو في سياقِ التعجُّب المفهُومِ مِن «كَيْفَ» وذلك إشارةٌ إلى حُكْمِ الله الذي في التوراة، ويجوزُ أن يَعُودَ إلى التحكيم والله أعلم. فصل هذا تعجُّبٌ من اللَّهِ لنبيه [عليه الصلاةُ والسلامُ] مِنْ تحكيمِ اليهُودِ إياهُ بعد علمهم بما في التوراةِ مِنْ حدِّ الزَّانِي، ثُم تركِهِمْ قبولَ ذلك الحُكْم فيتعدلُونَ عما يعتَقدُونَه حُكْماً [حقاً] إلى ما يعتقدُونه باطِلاً طلباً للرخْصةِ فظهر جهلهم وعنادهُم من وُجُوه: أحدُها: عُدُولُهُمْ عن حُكْمِ كتابِهِم. والثاني: رجوعُهم إلى حكمِ مَنْ كانوا يعتقدون أنه مُبطلٌ. والثالث: إعراضُهم عن حكمه بعد أن حكَّموه، فبينَ الله تعالى حال جهلهم وعنادهم؛ لَئِلا يَغْتَرَّ مُغْترٌّ أنهم أهلُ كتابِ الله ومن المحافظِينَ على أمْر الله. ثُمَّ قال تعالى: {وَمَآ أولئك بالمؤمنين} أيْ بالتوراةِ وإنْ كانوا يُظْهِرُون الإيمانَ بها، وقِيلَ: هذا إخبارٌ بأنهم لا يُؤمنونَ أبَداً، وهو خَبَرٌ عن المستأنفِ لا عَنِ الماضِي. وقِيلَ: إنَّهمَ وَإنْ طلبُوا الحكمَ مِنْك فما هُم بمؤمِنينَ بِكَ، ولا بالمعتقدينَ في صِحّةِ حُكْمكَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 قوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ} الآية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 344 قوله سبحانه: {فِيهَا هُدًى} يحتملُ الوجهَيْن المذكورَيْنِ في قوله: «وعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ» ، ف «هُدًى» مبتدأ أو فاعلٌ، والجملةُ حالٌ من «التَّوْرَاةِ» . وقوله: «يَحْكُمُ بِهَا» يجَوزُ أنْ تكونَ جُمْلةً مستأنفةً، ويجوزُ أنْ تكونَ منصوبة المحلِّ على الحالِ، إمَّا مِنَ الضَّمير في «فِيهَا» ، وإمَّا مِن «التَّوْرَاةِ» . وقوله: «الَّذِينَ أسْلَمُوا» صِفَةٌ ل «النَّبِيُّونَ» ، وصفَهُم بذلك على سبيلِ المَدْح، والثَّنَاء، لا عَلى سبيلِ التَّفْصِيل؛ فإنَّ الإنبياءَ كُلَّهُمْ مُسْلِمُونَ، وإنَّما أثْنَى عليهم بذلك، كما تَجري الأوْصَافُ على أسماء الله تعالى. قال الزَّمخشريُّ: أجْرِيَتْ على النَّبِيِّينَ على سبيلِ المدْحِ كالصفات الجارية على القديم - سبحانه - لا للتفصلة والتوضِيحِ، وأُريدَ بإجرائها التَّعْرِيضُ باليهُودِ، وأنَّهم بُعداءُ من مِلَّةِ الإسلامِ الذي هو دينُ الأنبياءِ كُلِّهم في القديم والحديثِ، فإن اليهود بمعْزَلٍ عنها. وقوله تعالى: {الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ} منارٌ على ذلك، أيْ: دليلٌ على ما ادَّعَاهُ. فإن قُلْتَ: «هُدًى ونُورٌ» العطفُ يقتضِي المغايَرَة، فالهُدَى مَحْمُولٌ على بيانِ الأحْكامِ والشرائع والتكالِيف، والنُّورُ بيانُ التَّوْحيدِ، والنُّبُوَّةِ، والمَعَادِ. وقال الزَّجَّاج: الهُدَى بيانُ الحُكْمِ الذي يستفتُونَ فيه النبيَّ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، والنورُ بيانُ أنَّ أمرَ النبيِّ [صلى الله عليه وعلى آله وسلم] حَقٌّ. وقوله: {يَحْكُمُ بِهَا النبيون} يُريدُ الذين كانوا بعد مُوسى [عليه السلام] . وقوله «الَّذِين أسْلَمُوا» أيْ: سلَّموا وانْقَادُوا لأمر الله كما أخبرَ عَنْ إبْرَاهِيم [عليه السلامُ] : {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 131] ، وكقوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} [آل عمران: 83] . وأراد بالنبيِّينَ الذين بُعِثُوا بعد مُوسى [عليه وعليهم السلام] لِيحكُمُوا بما في التوراةِ [وقد أسلمُوا لحُكْمِ التوراةِ وحكمُوا بها، فإنَّ من النبيين مَنْ لمْ يحكم بحكم التوراةِ منهم] عيسى [عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ] قال تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} [المائدة: 48] . وقال الحسنُ والزهري وعكرمةُ، وقتادةُ والسديُّ: يحتملُ أنْ يكونُ المرادُ بالنبيين هُمْ مُحَمَّدٌ [صلى الله عليه وعلى آله وسلم] حَكَمَ على اليهُودِ بالرجْمِ، وكان هَذَا حُكْمَ التَّوْرَاةِ، وذكره بلفْظِ الجمعِ تَعْظِيماً له كقوله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} [النحل: 120] وقوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ الناس} [النساء: 54] لأنه كان قد اجتمعَ فِيه من خِصالِ الخيْرِ ما كان حَاصِلاً لأكثرِ الأنْبياء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 345 قال ابنُ الأنْبَارِي: هذا ردٌّ على اليهُود والنَّصارى [لأنَّ بعضُهم كانوا يقولون: الأنبياءُ كلُهم يهودٌ أو نصارى، فقال تعالى:] {يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ} يَعْنِي: أنَّ الأنبياء ما كانوا مَوصُوفينَ باليهوديةِ والنصرانيَّةِ بَلْ كانوا مُسْلِمين لِلَّهِ مُنْقَادينَ لتكالِيفهِ. وقولُه تعالى: {لِلَّذِينَ هَادُواْ} فيه وجهانِ: أحدهما: أن النبيين إنما يحكُمون بالتورَاةِ لأجْلِهِمْ، وفِيمَا بَيْنَهُم، والمَعْنَى: يحكمُ بها النبيونَ الذين أسْلموا على الذين هَادُوا؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] أيْ: فعليْهَا: وكقوله: {أولئك لَهُمُ اللعنة} [الرعد: 25] أيْ: عليهم. وقيل: فيه حَذْفٌ كأنه قال: للذين هادُوا وعلى الذين هَادُوا فحذَفَ أحدهما اخْتِصَاراً. والثاني: أنَّ المعنى على التقديم والتأخِيرِ، أيْ: إنَّا أنزلنَا التوراةَ فيها هُدًى ونُورٌ للذين هَادُوا يحكُمُ بها النبيونَ الذين أسْلَمُوا. وتقدم تفسيرُ الربانيِّينَ، وأمَّا الأحبارُ فقال ابنُ عباس وابن مسعود [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما] : هُمُ الفُقَهاءُ. واختلفَ أهْلُ اللُّغَةِ في واحِدِهِ قال الفرَّاءُ: إنَّه «حِبْرٌ» بكسر الحاءِ وسُمِّيَ بذلك لمكان الحِبر الذي يُكْتَبُ به؛ لأنَّه يكونُ صاحبَ كُتُبٍ، وقال أبُو عُبَيْد: «حَبْر» بفتحِ الحاءِ، وقال اللَّيْثُ: هو «حَبْرٌ» ، و «حِبْر» بفتح الحاء وكسرِهَا. ونقل البَغوِيُّ: أنَّ الكسرَ أفْصَحُ، وهو العالِمُ المُحكِمُ للشَّيْء. وقال الأصمعِيُّ: لا أدْرِي أهُوَ الحِبْرُ أو الحَبْرُ، وأنكرَ أبُو الهَيْثَمِ الكَسْرَ، والفراءُ «الفَتْحَ» ، وأجاز أبُو عُبَيْد الوجْهَيْنِ، واختار الفَتْحَ. قال قُطْربٌ: هو مِنَ الحبر الذي هو بمَعْنَى الجمالِ بفتح الحَاءِ وكسْرِهَا وفي الحديث «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ رَجُلٌ ذَهَبَ حَبَرهُ وسَبَرهُ» أي حُسْنُهُ وهَيْئَتُهُ، ومنه التَّحْبِيرُ أي: التحسينُ قال تعالى: {وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ} [الزخرف: 70] أي: يَفْرَحُون ويزينونَ، وسُمِّيَ ما يكتبُ حبراً لتحْسِينهِ الخطَّ، وقيل: لتأثيره وقال الكِسَائِيُّ، والفرَّاءُ، وأبُو عُبَيْدَةَ: اشتقاقُهُ من الحِبْرِ الذي يُكْتَبُ به. وقيل: الرَّبَّانِيُّونَ هاهُنَا مِنَ النَّصَارَى، والأحبارُ مِن اليهُودِ وقِيل: كلاهُمَا من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 346 اليُهودِ، وهذا يقتضي كون الربانيِّينَ أعْلَى حالاً مِنَ الأحبار، فيُشْبهُ أنْ يكونَ الربانِيُّون كالمجتهدينَ والأحبارُ كآحادِ العُلَماءِ. قوله: «لِلَّذين هَادُوا» في هذه «اللاَّم» ثلاثةُ أقوالٍ: أظهرُهَا: أنَّها متعلِّقةٌ ب «يَحْكُمُ» ، فعلى هذا مَعْنَاها الاخْتِصَاصُ، وتشمل مَنْ يحكمُ لَهُ، ومن يحكمُ عليْه، ولهذا ادَّعَى بعضُهم أنَّ في الكلامِ حَذْفاً تقديرُه: «يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ للَّذينَ هَادُوا وعليْهِمْ» ذكره ابنُ عطيَّة وغيرُه. والثاني: أنها متعلقة ب «أنْزَلْنَا» ، أيْ: أنزلْنَا التوراةُ للَّذين هادُوا يحكم بها النَّبِيُّونَ. والثالثُ: أنها متعلقةٌ بِنَفْس «هُدًى» أيْ: هُدى ونُورٌ للذين هادُوا، وهذا فيه الفَصْلُ بين المصَدْرِ ومعمُولِهِ، وعلى هذا الوجْهِ يجوزُ أنْ يكونَ «للذين هَادُوا» صفة لِ «هُدًى ونُورٌ» ، أيْ: هُدًى ونُورٌ كائِنٌ للذين هادُوا وأوَّلُ هذه الأقوالِ هو المقصودُ. قوله تعالى: «والرَّبَّانِيُّون» عطفٌ على «النبيُّونَ» أيْ: [إنَّ الرَّبَّانِيِّين وقد تقدم تفسيرهم في آل عمران] يحكمُونَ أيْضاً بمقْتضَى مَا فِي التَّوْرَاةِ. قال أبُو البقاءِ: «وقِيل: الرَّبَّانيون» مَرْفُوعٌ «بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، أي: ويحكُمُ الربانيونَ والأحبار بِمَا اسْتُحْفِظُوا» انتهى. يَعْنِي أنَّه لما اختلفَ متعلِّقُ الحكمِ غاير بَيْنَ الفعلينِ أيضاً، فإن النبيينَ يحكُمُونَ بالتوراةِ، والأحبارُ والربانيونَ يحكُمونَ بما استحفَظَهُمُ الله تعالى، وهذا بعيد عن الصَّوَابِ؛ لأنَّ الذي استحَفَظَهُمْ هو مُقْتَضَى ما في التَّوْرَاةِ، فالنبيُّونَ والربانِيُّون حاكِمُونَ بشيء واحدٍ، على أنَّه سيأتي أنَّ الضَّمير في «اسْتُحْفِظُوا» عَائِدٌ على النَّبِيين فَمَنْ بعدهم. قال ابنُ عبَّاسٍ وغيرُه: الربانيون يُرْشِدُونَ الناسَ بالعلمِ، ويربونهم للصغارِ قَبْل كبار. وقال أبُو رَزِين: الرَّبَّانِيُّونَ العلماءُ، والحكماءُ، وأمَّا الأحبار: فقال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: هُمُ الفقهاء والحَبرُ والحِبرُ بالفتح والكسر: الرجلُ العالِمُ، مأخُوذٌ من التَّحِبِيرِ، والتَّحبر؛ فَهُمْ يُحبِّرون العِلْمَ ويُزَيِّنُونَهُ، فهو مُحَبَّرٌ في صُدُورهم. قال الجوهَرِيُّ: والحِبَر والحَبر واحد أحبار اليهود، وهو بالكسْرِ أفْصحُ؛ لأنَّهُ يُجَمعُ على أفْعَالٍ دُونَ الفُعُولِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 347 قال الفرَّاءُ: هُو حِبْرٌ بالكسْرِ، يُقالُ ذلك للعَالِمِ. وقال الثَّوْرِيُّ: سألْتُ الفرَّاءَ: لِمَ سُمِّيَ الحبْرُ حِبْراً؟ فقال: يُقال للعالم حِبرٌ وحَبرٌ، فالمعنى مدادُ حبرهم، ثم حذف كما قال: {واسأل القرية} [يوسف: 82] [أيْ أهْلَ القَريةِ] . قال: فسألتُ الأصمعيَّ، فقال: لَيْسَ هذا بشْيءٍ، إنما سُمِّي حبْراً لِتَأثيرِه، يُقالُ: على أسْنَانِهِ حِبْرٌ، أيْ: صُفْرَةٌ أو سوادٌ. وقال المبرِّدُ: وسُمِّيَ الحِبرُ الذي يُكْتَبُ به حِبْراً؛ لأنه يُحَبَّرُ به، أيْ: يُحقَّقُ بِهِ. وقال أبُو عُبَيْد: والذي عندي في واحدِ الأحبارِ أنَّه للحَبر بالفتح، ومعْنَاه العالمُ بِتَحبِير الكلامِ، والعلم تحسينه، والحِبرُ بالكسر: الذي يُكْتَبُ به. قوله تعالى: {بِمَا استحفظوا} أجازَ أبُو البقاءِ فيه ثلاثةُ أوْجهٍ: أحدها: أنَّ «بِمَا» بدلٌ من قوله: «بِهَا» بإعادة العامل لِطُول الفَصْل، قال: «وهو جائزٌ وإنْ لَمْ يَطُل» أيْ: يجوزُ إعادةُ العامِلِ في البَدَلِ، وإن لم يَطُل. قلتُ: وإنْ لم يُفْصَلْ أيضاً. الثاني: أنْ يكُونَ مُتعلّقاً بفعْلٍ محذوفٍ: أيْ: وَيَحْكُم الربانيونَ بما اسْتُحفِظُوا، كما قدمتُه عنه. والثالث: أنَّه مفعولٌ به، أيْ: يحكُمُونَ بالتوراة بسببِ اسْتِحْفَاظِهِمْ ذلك، وهذا الوجهُ الأخيرُ هو الذي نَحَا إليه الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «بِمَا اسْتُحْفِظُوا بِمَا سألَهُمْ أنبياؤهم حِفْظَهُ من التوراةِ، أيْ: بسبب سُؤالِ أنبيائِهِمْ إيَّاهم أن يحفظُوه من التَّبْدِيلِ والتَّغْييرِ» ، وهذا على أنَّ الضميرَ يعُودُ على الربانِيين، والأحبارِ، دُونَ النَّبِيِّين، فإنَّهُ قدَّرَ الفاعِلَ المحذُوفَ «النبيين» ، وأجاز أن يعودَ الضميرُ في «استحفِظُوا» على النبيينَ والربانيينَ والأحْبار، وقدَّر الفاعل المنوبَ عنه: البَارِيَ تعالى، أيْ: بِمَا اسْتَحْفَظَهُم اللَّه تعالى، يعني: بما كَلَّفَهُمْ حِفْظَهُ. وقوله تعالى: {مِن كِتَابِ الله} ؛ قال الزمخشريُّ: و «مِنْ» فِي {مِن كِتَابِ الله} للتَّبْيينِ، يَعْنِي أنَّها لِبَيانِ جِنْس المُبْهَمِ في «بِمَا» فإنَّ «مَا» يجوزُ أنْ تكونَ موصُولَةً اسمِيَّةً بمعْنَى «الَّذِي» ، والعائِدُ محذوفٌ، أيْ: بِمَا اسْتحْفظُوه، وأنْ تكونَ مَصدريَّةً، أيْ: باسْتِحْفَاظِهِمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 348 وجوَّزَ أبُو البقاءِ: أنْ تكونَ حالاً مِنْ أحَدِ شَيْئَيْنِ: إمَّا مِنْ «مَا» الموصُولَةِ، أو مِنْ عَائِدها المحذُوفِ، وفيه نظرٌ من حيثُ المعنى. وقولُه: «وكانُوا» داخِلٌ في حَيِّز الصِّلةِ أيْ: وبكونِهِم شُهداءَ عليه، أيْ: رُقَبَاءَ لئلاَّ يُبدل، ف «عَلَيْهِ» متعلقٌ ب «شُهداءَ» ، والضميرُ في «عَلَيْه» يعودُ على «كِتابِ الله» وقيل: على الرسول عليه الصلاةُ والسلامُ، أيْ: شُهداء على نُبُوَّتِهِ ورسالته. وقيل: على الحُكْمِ، والأوَّلُ هو الظاهِرُ. قوله تعالى: {بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله} أي: استُودعوا. وحفظ كتاب الله على وجهين: أحدهما: أن يُحفَظ فلا ينسى. والثاني: أن يحفظ فلا يُضيع، فإن كان استحفظوا من صلة الأحبار، فالمعنى: العلماء بما استحفظوا. وقال الزجاج: يحكمون بما استحفظوا. قوله تعالى {وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ} أي: هؤلاء النبيون والربانيون والأحبار كانوا شهداء على أن كل ما في التوراة حق وصدق من عند الله تعالى فلا جرم كانوا يمضون أحكام التوراة، ويحفظونها عن التحريف والتغيير. ثم قال تعالى: {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون} لمَّا قرر أن النبيين والربانيين والأحبار، كانوا قائمين بإمضاء أحكام التوراة من غير مبالاة، خاطب اليهود الذي كانوا في عصر النبي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم -، ومنعهم من التحريف والتغيير. واعلم أن إقدام القوم على التحريف لا بد وأن يكون لخوف أو رهبة أو لطمع ورغبة، ولما كان الخوف أقوى تأثيراً من الطمع قدم تعالى ذكره فقال: {فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون} والمعنى لا تحرفوا كتابي للخوف من الناس، ومن الملوك والأشراف، فتسقطوا عنهم الحدود الواجبة عليهم، وتستخرجوا الحيل في إسقاط تكاليف الله عنهم، ولما ذكر أمر الرهبة أتبعه بالرغبة فقال تعالى: {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} أي: كما نهيتكم عن تغيير أحكامي لأجل الخوف والرهبة فكذلك أنهاكم عن التغيير والتبديل لأجل الطمع في الجاه والمال والرشوة، فإن متاع الدنيا قليل. ولما منعهم من الأمرين أتبعه بالوعيد الشديد، فقال تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون} وهذا تهديد لليهود في افترائهم على تحريف حكم الله في حد الزاني المحصن، يعني أنهم لما أنكروا حكم الله المنصوص عليه في التوراة، قالوا: إنه غير واجب فهم كافرون على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 349 الإطلاق بموسى والتوراة وبمحمد والقرآن وبعيسى ابن مريم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. فصل قالت الخوارج: من عصى الله فهو كافر، واحتجوا بهذه الآية، وقالوا: إنها نص في أن كل من حكم بغير ما أنزل الله فهو كافر، وكل من أذنب فقد حكم بغير ما أنزل الله، فوجب أن يكون كافراً، وقال الجمهور: ليس الأمر كذلك، وذكروا عن هذه الشبهة أجوبة منها أن هذه الآية نزلت في اليهود فتكون مختصة بهم. قال قتادة والضحاك: نزلت هذه الآيات الثلاث في اليهود دون من أساء من هذه الأمة. وروى البراء بن عازب: أن هذه الثلاثة آيات في الكافرين، وهذا ضعيف؛ لأن الاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب وقال آخرون: المراد {من لم يحكم بما أنزل الله} كلام أدخل كلمة «من» في معرض الشرط فيكون للعموم، وقولهم: من الذين سبق ذكرهم، زيادة في النص، وذلك غير جائز. وقال عطاء: هو كفر دون كفر. وقال طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة، ولا بكفر بالله واليوم الآخر. فكأنهم حملوا الآية على كفر النعمة لا على كفر الدين، وهو أيضاً ضعيف، لأن إطلاق لفظ الكافر إنما ينصرف إلى الكفر في الدين وقال ابن الأنباري: يجوز أن يكون المعنى ومن لم يحكم بما أنزل الله فقد فعل فعلاً يضاهي أفعال الكفار، وهذا أيضاً ضعيف لأنه عدول عن الظاهر. وقال عبد العزيز: قوله «بما أنزل» صيغة عموم، ومعنى «أنزل الله» أي: نص الله، حكم الله في كل ما أنزله، والفاسق لم يأت بضد حكم الله إلا في القليل من العمل، أما في الاعتقاد والإقرار فهو موافق، وهذا أيضاً ضعيف، لأنه لو كانت هذه الآية [وعيداً مخصوصاً] لمن خالف حكم الله تعالى، في كل ما أنزله الله لم يتناول هذا الوعيد الجزء: 7 ¦ الصفحة: 350 اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في الرجم، وأجمع المفسرون أن هذا الوعيد يتناول اليهود بسبب مخالفتهم حكم الله في واقعة الرجم، فدلَّ على سقوط هذا الجواب. وقال عكرمة: قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله} إنما يتناول من أنكر بقلبه وجحد بلسانه، أما من عرف بقلبه كونه حكم الله إلا أنه أتى بما يضاده، فهو حاكم بما أنزل الله، ولكنه تارك له فلا يلزم دخوله تحت هذه الآية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 قوله تعالى {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قِصَاصٌ} . أي كتبنا عليهم في التوراة حكم أنواع القصاص وهو أن حكم الزاني المحصن «الرجم» فغيَّروه وبدَّلوه، وبيَّن أيضاً في التوراة: أن النفس بالنفس فغيَّروا هذا الحكم ففضلوا بني النضير على بني قريظة، وخصصوا إيجاب القود ببني قريظة دون بني النضير فهذا أوجه النظم، ومعنى «كتبنا» أي: فرضنا، وكان شر القصاص أو العفو، وما كان فيهم الدية والضمير في «عليهم» ل «الذين هادوا» . قوله تعالى: {أَنَّ النفس بالنفس} : «أن» واسمها وخبرها في محل نصب على المفعولية ب «كتبنا» ، والتقدير: وكتبنا عليهم أخْذَ النفس بالنفس. وقرأ الكسائي «والعَيْنُ» وما عُطِفَ عليها بالرفع، وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب الجميع. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير، وابن عامر بالنصب فيما عد «الجُرُوح» فإنهم يرفعونها. فأما قراءة الكسائي فوجَّهَهَا أبو علي الفارسي بثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون «الواو» عاطفة جملة اسمية على جملة فعلية، فتعطف الجمل كما تعطف المفردات، يعني أن قوله: «والعين» مبتدأ، و «بالعين» خبره، وكذا ما بعدها، والجملة الاسمية عطف على الفعلية من قوله: «وَكَتَبْنَا» وعلى هذا فيكون ذلك ابتداء تشريع، وبيان حكم جديد غير مندرج فيما كتب في التوراة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 351 قالوا: وليست مشركة للجملة مع ما قبلها لا في اللفظ ولا في المعنى. وعَبَّرَ الزمخشري عن هذا الوجه بالاستئناف قال: «أو» للاستئناف، والمعنى: فرضنا عليهم أن النفس مأخوذة بالنفس مقتولة بها، إذا قتلها بغير حقٍّ، وكذلك العين مَفْقُودة بالعين، والأنف مَجْدُوع بالأنف، والأذن مَصْلُومة أو مقطوعة بالأذن والسِّنّ مقلوعة بالسن، والجُرُوح قصاص وهو المُقَاصَّة، وتقديره: أن النفس مأخوذة بالنفس، سبقه إليه الفارسي، إلا أنه قدر ذلك في جميع المجرورات، أي: والعين مأخوذة بالعين إلى آخره، والذي قدَّرَه الزمخشري مناسب جداً، فإنه قدر متعلَّق كل مجرور بما يناسبه، فالقَقْء للعين، والقَلْع للسن، والصَّلْمُ للأذن، والجَدْع للأنف، إلا أن أبا حيّان [كأنه] غضَّ منه حيث قدَّر الخبر الذي تعلَّق به المجرور كوناً مقيداً، والقاعدة في ذلك إنما يقدَّر كوناً مُطْلَقاً. قال: «وقال الحوفي:» بالنفس «يتعلّق بفعل محذوف تقديره: يجب أو يستقر، وكذا العين بالعين وما بعدها، فقدَّر الكون المطلق، والمعنى: يستقر قتلها بقتل النفس» ، إلا أنه قال قبل ذلك: «وينبغي أن يُحْمَلَ قول الزمخشري على تفسير المعنى لا تفسير الإعراب» ثم قال: فقدَّر - يعني: الزمخشري - ما يقرب من الكون المطلق، وهو: «مأخوذ» ، فإذا قلت: «بعت الشياه شاةً بدرهم» ، فالمعنى: مأخوذة بدرهم، وكذلك الحر بالحر أي: مأخوذ. والوجه الثاني من توجيه الفارسيّ: أن تكون «الواو» عاطفة جملة اسمية على الجملة من قوله: {أن النفس بالنفس} . [لكن من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، فإن معنى {كتبنا عليهم أن النفس بالنفس} قلنا لهم: إن النفس بالنفس] فالجمل مندرجة تحت الكتب من حيث المعنى لا من حيث اللفظ. وقال ابن عطية: «ويحتمل أن تكون» الواو «عاطفة على المعنى» وذكر ما تقدم، ثم قال: ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ} [الصافات: 45] يُمْنَحُون عطف «وحوراً عيناً» عليه، فنظَّر هذه الآية بتلك لاشتراكهما في النظر إلى المعنى، دون اللفظ وهو حَسَنٌ. قال أبو حيان: وهذا من العطف على التوهم؛ إذ توهم في قوله: {أنَّ النفس بالنفس} : النفسُ بالنفسِ، وضعَّفه بأن العطف على التوهم لا ينقاس. والزمخشري نحا إلى هذا المعنى، ولكنه عبَّر بعبارة أخرى فقال: [الرفع للعطف] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 352 على محلِّ «أن النفس» ؛ لأن المعنى: «وكتبنا عليهم النفسُ بالنفسِ» ، إما لإجراء «كتبنا» «مجرى» قلنا، وإما أن معنى الجملة التي هي «النفس بالنفس» مما يقع عليه الكَتْبُ، كما تقع عليه القراءة تقول: كتبتُ: الحمدُ لله وقرأت: سُورةٌ أنزلناها، ولذلك قال الزَّجَّاج: «لو قرئ إن النفس بالنفس بالكسر لكان صحيحاً» . قال أبو حيان: هذا الوجْهُ الثاني من توجيه أبي عليٍّ، إلا أنه خرج عن المصطلح، حيث جعله من العطف على المحل وليس منه، لأن العطف على المحلِّ هو العطف على الموضعِ، وهو محصور ليس هذا منه، ألا ترى أنا لا نقول: {أن النفس بالنفس} في محل رفع؛ لأن طالبه مفقود، بل «أن» وما في حيِّزهَا بتأويل مصدر لفظه وموضعه نَصبٌ؛ إذ التقدير: «كتبنا عليهم أخذ النفس» ، قال شهاب الدين: والزمخشري لم يَعْنِ أن «أن» وما في حيِّزهَا في محل رفع، فعطف عليها المرفوع حتى يلزمه أبو حيان بأن لفظها ومحلَّها نصب، إنما عَنى أن اسمها محلُّه الرفع قبل دخولها، فراعَى العطف عليه كما راعاه في اسم «إن» المكسورة وهذا الرد ليس لأبي حيّان، بل سبقه إليه أبو البقاء، فأخذه منه. قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون معطوفاً على» أنّ «وما عملت فيه في موضع نصب» انتهى. وليس بشيء لما تقدم. قال أبو شامة: فمعنى الحديث: قلنا لهم: النَّفْسُ بالنفسُ، فحمل «العين بالعين» على هذا، لأنَّ «أنَّ» لو حذفت لاستقام المعنى بحذفها كما استقام بثبوتها، وتكون «النفس» مرفوعة، فصارت «أن» هنا ك «إن» المكسورة في أن حذفها لا يُخلُّ بالجملة، فجاز العَطْفُ على محل اسمها، كما يجوز على محلِّ اسم المكسورة، وقد حُمِلَ على ذلك: {أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} [التوبة: 3] . قال ابن الحاجب: «ورسوله» بالرفع معطوف على اسم «أنَّ» وإن كانت مفتوحة لأنها في حكم المكسورة، وهذا موضع لم ينبه عليه النحويون. قال شهاب الدين: بلى قد نَبَّه النحويون على ذلك، واختلفوا فيه، فجوَّزه بعضهم، وهو الصحيحُ، وأكثر ما يكون ذلك بعد «علم» أو ما في معناه كقوله: [الوافر] 1969 - وإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ ... بُغَاةٌ ما بَقِينَا فِي شِقَاقِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 353 وقوله تعالى: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله} [التوبة: 3] الآية؛ لأن «الأذان» بمعنى الإعلام. الوجه الثالث: أن «العين» عطف على الضمير المرفوع المستتر في الجار الواقع خبراً؛ إذ التقدير أنَّ النفس بالنفس هي والعينُ، وكذا ما بعدها، والجار والمجرور بعدها في محل نصب على الحال مبنيةً للمعنى؛ إذ المرفوع هنا مرفوع بالفاعلية لعطفه على الفاعل المستتر وضَعِّفَ هذا بأن هذه أحوال لازمة، والأصل أن تكون منتقلةً، وبأنه يلزم العَطْفُ على الضمير المرفوع المُتصل من غير فَصْلٍ بين المتعاطفين، ولا تأكيدٍ ولا فَصْلٍ ب «لا» بعد حرف العطف كقوله: {مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] وهذا لا يجوز عند البصريين إلا ضرورةً. قال أبو البقاء: وجاز العطفُ من غير توكيد كقوله: {مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] قال شهاب الدين: قام الفصْل ب «لا» بين حرف العطف، والمعطوف مقام التوكيد، فليس نظيره. وللفارسي بحث في قوله: {مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148] مع سيبويه، فإن سيبويه يجعل طول الكلام ب «لا» عوضاً عن التوكيد بالمنفصل، كما طال الكلام في قولهم: «حضر القاضِيَ اليومَ امرأةٌ» . قال الفارسي: «هذا يستقيم إذا كان قبل حرف العطفِ، أما إذا وقع بعده فلا يَسُدُّ مسدَّ الضمير، ألا ترى أنك لو قلت:» حضر امرأة القاضي اليوم «لم يُغْنِ طُولُ الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه» . قال ابن عطية: «وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي، وإن كان الطول قبل حرف العطف أتَمَّ، فإنه بعد حرف العطف مؤثر، لا سيما في هذه الآية، لأن» لا «ربطت المعنى؛ إذ قد تقدمها نفي، ونفت هي أيضاً عن» الآباء «فيمكن العطف. واختار أبو عبيد قراءة رفع الجميع، وهي رواية الكسائي؛ لأن أنَساً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - رواها قراءة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وروى أنس عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أيضاً» أن النَّفسُ بالنَّفسِ «بتخفيف» أنْ «ورفع» النفس «، وفيها تأويلان: أحدهما: أن تكون» أنْ «مخفّفة من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشأن محذوف، و» النفس بالنفس «مبتدأ وخبر، في محل رفع خبراً ل» أن «المخففة، كقوله: {أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] فيكون المعنى كمعنى المشدّدة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 354 والثاني: أنها «أنْ» المفسرة؛ لأنها بعد مَا هو بمعنى القول لا حروفه وهو «كتبنا» ، والتقدير: أي النفسُ بالنفس، ورُجِّح هذا على الأول بأنه يلزم من الأول وقوع المخففة بعد غير العلم، وهو قليل أو ممنوع، وقد يقال: إن «كتبنا» لمّا كان بمعنى «قضينا» قَرُبَ من أفعال اليَقينِ. وأما قراءة نافع ومن معه فالنَّصْبُ على اسم «أنَّ» لفظاً، وهي النفس، والجار بعده خبرُه. و «قصاصٌ» خبر «الجروح» ، أي: وأن الجروح قصاص، وهذا من عطف الجُمَلِ، عطفت الاسم على الاسم، والخبر على الخبر، كقولك «إنَّ زيداً قائمٌ وعمراً منطلق» عطفت «عمراً» على «زيداً» ، و «منطلق» على «قائم» ، ويكون الكَتْبُ شاملاً للجميع، إلاَّ أنَّ في كلام ابن عطية ما يقتضي أن يكون «قصاص» خبراً على المنصوبات أجمع، فإنه قال: وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كلِّه، و «قصاص» خبرُ «أنَّ» ، وهذا وإن كان يصدقُ أن أخْذَ النفس بالنفسِ والعين بالعينِ قصاص، إلا أنه صار هنا بقرينة المقابلة مختصاً بالجروح، وهو محل نظر. وأما قراءة أبي عمرو ومن معه، فالمنصوب كما تقدم في قراءة نافع، لكنهم لم ينصبوا «الجروح» قطعاً له عما قبله، وفيه أربعة أوجه: الثلاثة المذكورة في توجيه قراءة الكسائي، وقد تقدم إيضاحه. والرابع: أنه مبتدأ وخبره «قصاص» ، يعني: أنه ابتداء تشريعٍ، وتعريف حكم جديد. قال أبو علي: «فأمّا» والجروح قصاص « [فمن رفعه يقْطَعُهُ عما قبله، فإنه يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي ذكرناها في قراءة من رفع» والعين بالعين «، ويجوز أن يستأنف» والجروح قصاص «] ليس على أنه مما كُتب عليهم في التوراة، ولكنه على الاستئناف، وابتداء تشريع» انتهى. إلا أن أبا شامة قال - قبل أن يحكي عن الفارسي هذا الكلام -: «ولا يستقيم في رفع الجروح الوجه الثالث، وهو أنه عطف على الضمير الذي في خبر» النفس «وإن جاز فيما قبلها، وسَبَبُهُ استقامة المعنى في قولك: مأخوذة هي بالنفس، والعين هي مأخوذة بالعين، ولا يستقيم، والجروحُ مأخوذة قصاص، وهذا معنى قولي: لما خلا قوله:» الجروح قصاص «عن» الباء «في الخبر خالفَ الأسماءَ التي قبلها، فخولف بينهما في الإعراب» . قال شهاب الدين: وهذا الذي قاله واضح، ولم يتنبه له كثير من المُعرِبين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 355 وقال بعضهم: «إنما رُفِعَ» الجروح «ولم يُنْصَبْ تَبَعاً لما قبله فَرْقاً بين المجمل والمفسر» . يعني أن قوله: «النَّفْسَ بالنفسِ، والعينَ بالعينِ» مفسّر غير مجمل، بخلاف «الجروح» ، فإنها مجملة؛ إذ ليس كل جرح يجري فيه قصاصٌ؛ بل ما كان يعرف فيه المساواة، وأمكن ذلك فيه، على تفصيل معروف في كتب الفقه. وقال بعضهم: خُولِفَ في الإعراب لاختلاف الجراحات وتفاوتها، فإذن الاختلاف في ذلك كالخِلافِ المُشَارِ إليه، وهذان الوجهان لا معنى لهما، ولا ملازمة بين مُخَالَفَةِ الإعراب، ومخالفةِ الأحكام المُشَارِ إليها بوجهٍ من الوُجُوهِ، وإنما ذكرتها تنبيهاً على ضعفها. وقرأ نافع: «والأذْن بالأذْن» سواء كان مفرداً أم مثنى، كقوله: {كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً} [لقمان: 7] بسكون الذال، وهو تخفيف للمضموم ك «عُنْق» في «عُنُق» والباقون بضمهما، وهو الأصل، ولا بد من حذف مضاف في قوله: «والجروحُ قصاص» : إمَّا من الأول، وإمَّا من الثاني، وسواء قُرئ برفعه أو بنصبه، تقديره: وحكم الجروح قصاص، أو: والجروح ذات قصاص. والقِصَاصُ: المقُاصَّةُ، وقد تقدم الكلام عليه في «البقرة» [الآية 178] . وقرأ أبيّ بنصب «النفس» ، والأربعة بعدها و «أن الجُرُوحُ» بزيادة «أن» الخفيفة، ورفع «الجُرُوح» ، وعلى هذه القراءة يَتعيَّنُ أن تكون المخففة، ولا يجوز أن تكون المفسرة، بخلاف ما تقدَّم من قراءة أنس عنه عليه السلام بتخفيف «أن» ورفع «النفس» حيث جوزنا فيها الوجهين، وذلك لأنه لو قدرتها التفسيرية [وجعلتها معطوفة على ما قبلها فسد من حيث إن «كتبنا» يقتضي أن يكون عاملاً لأجل أنّ «أن» المشدّدة غير عامل لأجل «أنْ» التفسيرية] . فإذا انتفى تسلّطه عليها انتفى تشريكها مع ما قبلها؛ لأنه إذا لم يكن عمل فلا تشريك، فإذا جعلتها المُخَفَّفَةَ تسلَّطَ عمله عليها، فاقتضى العمل التشريك في انصباب معنى الكَتْبِ عليهما. فصل قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أخبر الله تعالى بحكمه في التوراة، وهو أن النفس بالنفس. الخ، فما بالهم يقتلون بالنفس النفسين، ويفقأون بالعين العينين، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 356 والمعنى أن من قتل نفساً بغير قود قتله، ولم يجعل الله لهم دية في نفس ولا جرح، إنما هو العفو أو القصاص، وأما الأطراف فكل شخصين جرى القصاص بينهما في النفس جرى القصاص بينهما في جميع الأطراف إذا تماثلا في السلامة، وإذا امتنع القصاص في النفس امتنع أيضاً في الأطراف، ولما ذكر حكم بعض الأعضاء ذكر الحكم في كلها فعمَّ بعض التخصيص فقال: «والجروح قصاص» ، وهو كل ما يمكن أن يختص فيه مثل الشفتين والذكر والأنثيين والألْيتيْنِ والقدمَيْنِ واليدين وغيرهما، فأما ما لا يمكن القصاص فيه من رضّ لحم أو كسر عظم أو جرح يخاف منه التلف، ففيه أرش؛ لأنه لا يمكن الوقوف على نهايته. وقرأ أبيّ: «فهو كفارته له» ، أي: التصدق كفارة، يعني الكفارة التي يستحقها له لا ينقص منها وهو تعظيم لما فعل كقوله: {فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: 40] . قوله تعالى: {فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ} أي: بالقصاص المتعلق بالنفس، أو بالعين أو بما بعدها، فهو أي: فذلك التصدقُ، عاد الضمير على المصدر لدلالة فعله عليه، وهو كقوله تعالى: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] . والضمير في «له» فيه ثلاثة أوجه: أحدها: وهو الظاهر: أنه يعود على الجاني، والمراد به وَلِيّ القصاص أي: فالتصدق كَفَّارة لذلك المتصدق بحقه، وإلى هذا ذهب كثير من الصحابة فمن بعدهم [ويؤيده قوله تعالى في آية القصاص في البقرة وأن تعفوا أقرب للتقوى] . والثاني: أن الضمير [يراد به] الجاني، [والمراد بالمتصدق كما تقدم مستحق القصاص، والمعنى أنه إذا تصدق المستحق على الجاني] ، كان ذلك التصدق كفارة للجاني حيث لم يُؤاخذ به. قال الزمخشري: «وقيل: فهو كفارة له أي: للجاني إذا تجاوز عنه صاحب الحق سقط عنه ما لزمه في الدنيا والآخرة» فأمّا أجر العافي فعلى الله قال الله تعالى: {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله} [الشورى: 40] وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ تَصدَّقَ مِنْ جسدِهِ بِشَيءٍ كَفَّرَ اللَّهُ عَنْهُ بِقدرِهِ مِنْ ذُنُوبِهِ» وإلى هذا ذهب ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في آخرين. الثالث: أن الضمير يعود على المتصدق أيضاً، لكن المراد الجاني نفسه، ومعنى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 357 كونه متصدقاً، أنه إذا جنى جناية، ولم يعرف به أحد، فعرف هو بنفسه، كان ذلك الاعتراف بمنزلة التصدق الماحي لذنبه وجنايته قال مجاهد. وَيُحْكَى عن عروة بن الزبير أنه أصاب إنساناً في طوافه، فلم يعرف الرجل من أصابه، فقال له عروة: «أنا أصبتك، وأنا عروة بن الزُّبَيْرِ، فإن كان يعنيك شيء فَهَا أنَا ذَا» وعلى هذا التأويل يحتمل أن يكون «تصدَّق» من الصدقة، وأن يكون من الصِّدْق. قال شهاب الدين: فالأول واضح، والثاني معناه أن يتكلف الصدق؛ لأن ذلك مما يشق. وقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم} يجوز في «مَنْ» أن تكون شرطية، وهو الظاهر، وأن تكون موصولةً، والفاء في الخبر زائدة لشبهه بالشرط. و «هم» في قوله: «هم الكافرون» ونظائره فصل أو مبتدأ، وكله ظاهر مما تقدَّم في نظائره. فإن قيل: إنه ذكر أولاً قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] وثانياً: «هم الظالمون» والكفر أعظم من الظلم. فلماذا ذكر أعظم التهديدات، ثم ذكر بعده الأخف فأيُّ فائدة في ذلك؟ فالجواب: أن الكفر من حيث إنه إنكار لنعمة المولى وجحود لها، فهو كفر، ومن حيث إنه يقتضي إلقاء النفس في العقاب الدائم الشديد فهو ظلم للنفس في الآية الأولى ذكر ما يتعلق بتقصيره في حق نفسه والله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 قوله تعالى: {وَقَفَّيْنَا على آثَارِهِم} الآية، قد تقدم معنى «قفينا» وأنه من قَفَا يَقْفُو أي: تبع قفاه في البقرة [الآية 87] وقوله تعالى: {على آثَارِهِم بِعَيسَى} كِلاَ الجارَّيْنِ متعلق به على تضمينه معنى «جئنا به على آثارهم قافياً لهم» . وقد تقدم أيضاً أن التضعيف فيه ليس للتعدية لعلّة ذُكِرَتْ هناك، وإيضاحها أنَّ «قَفَا» متعدٍّ لواحد قبل التضعيف، قال تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] ف «ما» موصولة بمعنى «الذي» هي مفعول، وتقول العرب: «قفا فلان أثر فلان» أي: تبعه، فلو كان التضعيف للتعدّي لتعدى إلى اثنين، فكان التركيب يكون: «ثم قفيناهم عيسى ابن مريم» ف «هم» مفعول ثانٍ، و «عيسى» أول، ولكنه ضُمِّن كما تقدم، فلذلك تعدى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 358 بالباء، و «على» قال الزمخشري «» قَفَّيْتُهُ «مثل: عَقَّبْتُهُ إذا أتبعته، ثم يقال:» قَفَّيتُهُ بفلان «مثل: عَقَّبْتُه به: فتعديه إلى الثاني بزيادة» الباء «. فإن قلت: فأين المفعول الأول؟ قلت: هو محذوف، والظرف الذي هو» على آثارهم «كالسَّادِّ مسدَّه؛ لأنه إذا قَفَّى به على أثره، فقد قَفَّى به إياه، فكلامه هنا ينحو إلى أنَّ» قفَّيته «مضعفاً ك» قفوته «ثلاثياً ثم عدَّاهُ بالباء، وهذا وإن كان صحيحاً من حيث إنَّ» فعَّل «قد جاء بمعنى» فعل «المجرد ك» قدَّرَ وقَدَرَ «، إلا أنّ بعضهم زعم أن تعدية المتعدي لواحد لا يتعدَّى إلى ثانٍ بالباء، لا تقول في» طعم زيد اللحم «:» أطعمت زيداً باللحم «ولكن الصواب أنه قليل غير ممتنع، جاءت منه ألفاظ قالوا:» صَكَّ الحَجَرُ الحَجَرَ «ثم يقولون: صككت الحَجَر بالحجر، و» دَفَعَ زيدٌ عَمْراً «ثم: دَفَعْتُ زيداً بعمرو: أي: جعلته دافعاً له، فكلامه إما ممتنع، أو محمول على القليل، وقد تقدم في البقرة الإشارة إلى منع ادِّعاء حذف المفعول من نحو» قَفَّيْنَا «في البقرة [الآية 87] . وناقشه أبو حيان في قوله:» فقد قَفَّى به إياه «من حيث إنه أتى بالضمير المنفصل مع قدرته على المتصل، فيقول:» قفيته به «. قال:» ولو قلت: «زيدٌ ضربْتُ بسوط إياه» لم يَجُزْ إلا في ضرورة شعر، بل ضربته بسوط «، وهذا ليس بشيء، لأن ذلك من باب قوله: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممحنة: 1] {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131] وقد تقدَّم تحقيقه. والضمير في «آثارهم» : إمَّا للنبيين؛ لقوله: {يَحْكُمُ بِهَا النبيون} [المائدة: 44] وإمَّا لِمَنْ كُتِبَتْ عليهم تلك الأحْكَامُ، والأول أظهر؛ لقوله في موضع آخر: {برسلنا وقفَّينا بعيسى ابن مريم} . و «مصدقاً» حال من «عيسى» . قال ابن عطية: وهي حال مؤكّدة، وكذلك قال في «مصدقاً» الثانية، وهو ظاهرٌ فإن مَنْ لازم الرَّسول والإنجيل الذي هو كتاب إلهي أن يكونا مصدِّقَيْن. و «لما» متعلّق به. وقوله: «من التوراة» حال: إما من الموصول، وهو «ما» المجرورة باللام، وإما من الضمير المستكنّ في الظرف لوقوعه صِلَةً، ويجوز أن تكُون لبيان جِنْسِ الموصول. قوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ الإنجيل} يجوز فيها وجهان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 359 أحدهما: أن تكون عطفاً على قوله: «وَقَفَّيْنَا» فلا يكون لها مَحَلٌّ، كما أن المعطوف عليه لا مَحَلَّ له، ويجوز أن تكون في مَحَلِّ نصب على الحال عَطْفاً على «مصدقاً» الأوَّل إذا جعل «مصدقاً» الثاني حالاً من «عيسى» أيضاً كما سيأتي، [ويجوز أن تكون الجملة حالاً] وإن لم يكن «مصدقاً» الثاني حالاً من «عيسى» . قوله تعالى: «فيه هدى» يجوز أن يكون «فيه» وحده حالاً من الإنجيل، و «هدى» فاعل به؛ لأنه لما اعتمد على ذِي الحَالِ رفع الفاعل ويجوز أن يكون «فيه» خبراً مقدّماً، «وهدى» مبتدأ مؤخر، والجملة حال، و «مصدقاً» حال عَطْفاً على محل «فيه هدى» بالاعتبارين أعني اعتبار أن يكون «فيه» وَحْدَهُ هو الحال، فعطفت هذه الحال عليه، وأن يكون «فيه هدى» جملة اسمية محلُّها النصب، و «مصدقاً» عطف على محلِّهَا، وإلى هذا ذَهَبَ ابن عطية، إلاّ أن هذا مرجوحٌ من وجهين: أحدهما: أن أصل الحال أن تكون مفردة، والجار أقرب إلى المفرد من الجمل. الثاني: أن الجملة الاسمية الواقعة حالاً، الأكثر أن تأتي فيها بالواو، وإن كان فيها ضميرٌ - حتى زعم الفراء - وتبعه الزمخشري أن ذلك لا يجوز إلا شاذّاً، وكونُ «مصدقاً» حالاً من «الإنجيل» هو الظاهر. وأجاز مكي بن أبي طالب - وتبعه أبو البقاء - أن يكون «مصدقاً» ، الثاني حالاً أيضاً من عيسى «كُرِّرَ توكيداً. قال ابن عطية:» وهذا فيه قَلَقٌ من جهة اتساق المعاني «. قال شهاب الدين: إذا جعلنا» وآتيناه «حالاً منه، وعطفنا عليها هذه الحال الأخرى، فلا أدْرِي وجْه القلقِ من الحيثية المذكورة؟ وقوله:» وهدى «الجمهور على النَّصْبِ، وهو على الحال: إمَّا من» الإنجيل «، عطفت هذه الحال على ما قبلها، وإمَّا من» عيسى «أي: ذا هُدًى وموعظة، أو هادياً، أو جعل نفس الهدى مبالغة. وأجاز الزمخشري أن ينتصبا على المفعُولِ من أجْلِهِ، وجعل العامل فيه قوله تعالى: «آتيناه» ، قال: وأنْ ينتصبا مفعولاً لهما لقوله: «وليحكم» كأنه قيل وللهدى وللموعظة آتيناه الإنجيل وللحكم. وجوز أبو البقاء وغيره أن يكون العامل فيه «قَفَّيْنَا» أي: قفينا للهدى والموعظة، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 360 وينبغي إذا جعلا مفعولاً من أجله أن يُقدَّر إسنادهما إلى الله - تعالى - لا إلى الإنجيل ليصح النصب، فإن شرطه اتحاد المفعول له مع عامله فاعلاً وزماناً، ولذلك لما اختلف الفاعل في قوله: {وليحكم أهل الإنجيل} عُدِّي إليه باللام، ولأنه خالفه أيضاً في الزمان، فإن زمن الحكم مستقبل وزمن الأنبياء ماضٍ، بخلاف الهداية والموعظة، فإنهما مقارنان في الزمان للإيتاء. و «للمقيمين» يجوز أن يكون صفة ل «موعظة» ، ويجوز أن تكون «اللام» زائدة مقوية، و «المتقين» مفعول ب «موعظة» ، ولم تمنع تاءُ التأنيث من عمله؛ لأنه مبنيٌّ عليها؛ كقوله: [الطويل] 1970 - ... ... ... ... ... ... وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ ... ... ... ... ... ... ... . . وقد تقدم الكلام على «الإنجيل» واشتقاقه وقراءةُ الحسن فيه بما أغنى عن إعادته. وقرأ الضَّحَّاك بن مزاحم: «وهُدًى وموعِظَةٌ» بالرفع، ووَجْهُهَا أنها خبر ابتداء مضمر، أي: وهو هدى وموعظة. فصل قال ابن الخَطيبِ: هنا سؤالات: الأول: أنه - تعالى - وَصَفَ عيسى ابن مريم بكونه مصدقاً لما بين يديه من التوراة، وإنما يكون كذلك، إذا كان [عمله على شريعة التوراة، ومعلوم أنه لم يكن] كذلك فإن شريعة عيسى كانت مغايرة لشريعة موسى عليهما السلام، ولذلك قال تعالى في آخر هذه الآية: {وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ} [المائدة: 47] فكيف الجمع بينهما؟ والجواب: كون عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مصدقاً للتوراة، أقر بأنه كتاب منزل من عند الله تعالى، وأنه كان حقًّا واجب العمل به قبل وُرُودِ النَّسْخِ. الثاني: لم كرر كونه مصدقاً لما بين يديه؟ والجواب: ليس فيه تكْرَارٌ، إلا أنَّ في الأول أنَّ المسيح يصدق التوراة، وفي الثاني: الإنجيل يصدق التوراة. الثالث: ما معنى وصفه الإنجيل بهذه الصفات الخمسة فقال « [فيه] هدى ونور، ومصدقاً لما بين يديه من التوراة وهدى وموعظة للمتقين» ؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 361 والجواب: [أن قوله] «هدى» بمعنى أنه اشتمل على الدلائل الدَّالة على التوحيد والتنزيه، وبراءة الله عن الصاحبة والولد، والمثل والضد، وعلى النبوة والمعاد فهذا هو المراد بكونه هدى. وأما كونه نوراً [فالمراد به كونه بياناً للأحكام الشرعية ولتفاصيل التكاليف] . وأما كونه هدى مرة أخرى، فلأن اشتماله على البشارة بمحمد - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - سبب لاهتداء الناس إلى نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، ولمّا كان أشد وجوه المنازعة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى في ذلك لا جرم أعاده الله مرة أخرى تنبيهاً على أن الإنجيل يدل دلالة ظاهرة على نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم. فكان هدى في هذه المسألة التي هي أشد المسائل احتياجاً إلى البيان والتقرير. وأما كونه موعظة فلاشتمال الإنجيل على النصائح والمواعظ والزواجر البليغة المتأكدة، وإنما خصها بالمتقين، لأنهم هم الذين ينتفعون بها كقوله {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 قوله تعالى: {وَلْيَحْكُمْ} قرأ الجمهور بسكون «اللام» وجزم الفعل بعدها على أنها لام الأمر سُكِّنَتْ تشبيهاً ب «كَتْف» وإن كان أصلها الكسر، وقد قرأ بعضهم بهذا الأصل. وقرأ حمزة والأعمش، بكسرها ونصب الفعل بعدها، جعلها لام «كي» ، فنصب الفعل بعدها بإضمار «أن» على ما تقرر غير مَرّة، فعلى قراءة الجمهور والشاذ تكون جملة مستأنفة. وعلى قراءة حمزة يجوز أن تتعلق «اللام» ب «آتينا» ، أو ب «قفَّيْنَا» إن جعلنا «هدى وموعظة» مفعولاً لهما، أي: قَفَّينا للهدى والموعظة وللحكم، أو آتيناه الهدى والموعظة والحكم، وإن جَعَلْنَاهما حالين معطوفين على «مصدقاً» تعلَّق «وليحكم» في قراءته بمحذوف دلَّ عليه اللفظ، كأنه قيل: «وللحكم آتيناه ذلك» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 362 قال الزمخشري: فإن قلت: فإن نظمت «هدى وموعظة» في سِلْكِ «مصدقاً» فما تصنع بقوله: «وليحكم» ؟ قال شهاب الدين: أصنعُ به ما صنعت ب «هدى وموعظة» حيث جعلتهما مفعولاً لهما فأقدِّر: «وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله آتيناه إياه» . وقال ابن عطية قريباً من الوجه الأول، أعني كون «وليحكم» مفعولاً له عطفاً على «هدى» والعامل «آتيناه» الملفوظ به، فإنه قال: وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق، وليحكم أهل الإنجيل. قال أبو حيان: فعطف «وليحكم» على توهّم علةٍ، ولذلك قال: «ليتضمن» وذكر أبو حيان قول الزمخشري السَّابق، وجعله أقرب إلى الصواب من قول ابن عطية. قال: لأنَّ الهدى الأول، والنور والتصديق لم يؤت بها على أنها علّة، إنما جيء بقوله: {فيه هدى ونور} على معنى كائناً فيه ذلك ومصدقاً، وهذا معنى الحَالِ، والحالُ لا تكون علةً، فقوله: «ليتضمَّن كَيْتَ وكَيْتَ وليحكم» بعيد. واختلف المفسرون في هذه الخواتم الثلاثة أعني: الكافرون الظالمون الفاسقون. فقال القفال: صفات لموصوف واحد، وليس في إفراد كل واحد من هذه الثلاثة باللفظ ما يوجب القدح في المعنى، بل كما يقال: مَنْ أطاعَ اللَّهَ فَهُوَ البَرُّ، ومن أطاعَ الله فهو المؤمنُ، ومن أطاعَ الله فهو المُتَّقِي؛ لأنَّ كُلَّ ذلك صفاتٌ مُخْتَلِفَةٌ حاصِلةٌ لموْصُوفٍ واحدٍ وقال آخرون: الأوَّلُ في الْجَاحِدِ، والثاني والثالث: في المُقِرِّ التاركِ، وقال الأصم: الأوَّلُ والثاني في اليهُودِ، والثالثُ في النَّصارى. وقال الشَّعْبِيُّ: الأولى في المسلمين والثانيةُ في اليهودِ، والثالثةُ: في النصارى، لأنَّ قبلَ الأولى «فإنْ جَاءُوك فاحْكُم» ، و «كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ» ، و «يَحْكُمُ بها النَّبِيُّونَ» وَقَبْلَ الثانيةِ «وَكَتَبْنَا عَلَيْهِم» وهم اليهودُ، وقَبل الثَّالِثَةِ «وَلْيَحكُمْ أهْلُ الإنجِيلِ» وهمُ النَّصارى، فكأنَّه خَصَّ كُلَّ واحدةٍ بما يليه وهذا أحْسَنُهَا. وقرأ أبَيٌّ: «وَأن ليحكُم» بزيادة «أنْ» وليْسَ موضِعَ زيادَتِهَا. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 363 فصل مَنْ قَرَا بِكَسْرِ اللامِ وفتحِ الميمِ جعل اللاَّم مُتعلقةً بقوله: «وآتيْنَاهُ الإنجيلَ» فيكونُ المعْنَى: آتيناهُ الإنجيلَ ليحكُم، ومن قرأ بِجَزْمِ اللام والميمِ على سبيلِ الأمْرِ ففيه وجهان: أحدهما: أن يكون التقديرُ: وقُلْنا: لِيَحْكُمْ أهْلُ الإنجيلِ، فيكونُ هذا إخباراً عمَّا فرض الله عليهم في ذلك الوقْتِ، وحذفُ القولِ كثيرٌ كقوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23 - 24] أيْ: يَقُولُونَ سلامٌ عليْكُم. والثاني: أن يكونَ قوله: «وَلَيَحْكُمْ» ابتَدأ الأمْرَ للنَّصارى بالحُكْمِ بما في الإنجيلِ. فإنْ قِيل: كيف يجُوزُ أن يُؤمَرُوا بالحُكْمِ بِمَا فِي الإنجيلِ بعد نزولِ القرآنِ؟ فالجوابُ من وُجُوه: [الأول: ليحكم أهلُ الإنجيل بما أنزل الله فيه من الدلائل الدالة على نبوة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الثاني: وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه مما لم يصر منسوخاً بالقرآن. الثالث: المرادُ وليحكمْ أهلُ الإنجيلِ بما أنزل الله فيه] زجرهم عَنْ تحريفِ ما فِي الإنجيل وتَغْييرهِ كما فعله اليهودُ مِنْ إخفاءِ أحكامِ التَّوراةِ، والمعنى: وَلْيُقِرّ أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه على الوجْهِ الذي أنزلَهُ من غَيْرِ تحريفٍ ولا تبديلٍ، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن أمر الله عَزَّ وَجَلَّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 وهذا خطابٌ مع النَّبِي - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - والمرادُ بالكتابِ القرآن العظيم. والباءُ [في «بالحَقِّ» ] يجوزُ أن تكونَ لِلْحَالِ مِنَ «الكتابِ» أيْ: مُلْتَبِساً بالحقِّ والصِّدْقِ، وهي حالٌ مؤكدة، ويجوزُ أن تكون حالاً من الفاعلِ أيْ: مُصَاحبينَ للحقِّ، أو حالاً من «الكافِ» في «إليْكَ» أيْ: وأنت مُلْتَبِسٌ بالحَقِّ. و «مِنَ الكتابِ» تقدم نظيرُه، و «ألْ» في الكتابِ الأولِ للعَهْدِ، وهو القرآنُ بلا خلافٍ، وفي الثاني: يحتملُ أن تكونَ للجنْسِ، إذ المُرادُ الكُتُبُ السماويَّة [كما تقدم] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 364 وجوَّز أبُو حيان: أنْ تكُون لِلْعَهد؛ إذ المرادُ نوعٌ معلُومٌ من الكتابِ، لا كُل ما يقعُ عليه هذا الاسمُ، والفرقُ بَيْنَ الوجهيْنِ أنَّ الأولَ يحتاجُ إلى حَذْفِ [صفة] أيْ: مِنَ الكتابِ الإلهِي، وفي الثاني لا يحتاجُ إلى ذلِكَ؛ لأن العَهْدَ فِي الاسْمِ يتضمنُه بجميعِ صِفَاتِهِ. قوله تعالى: «وَمُهَيْمِناً» الجمهورُ على كَسْرِ الميمِ الثانيةِ، اسمُ فاعلٍ، وهو حالٌ من «الكتاب» الأول لعطفِهِ على الحالِ منه وهو «مُصدِّقاً» ، ويجوزُ في «مُصَدِّقاً» و «مُهَيْمِناً» أنْ يَكُونَا حاليْنِ مِنْ كافِ «إلَيْكَ» ، وسيأتي تحقيقُ ذلك عند قراءةِ مجاهد رَحِمَهُ اللَّهُ. «وعليْهِ» متعلقٌ ب «مُهَيْمِن» . و «المهيمنُ» : الرَّقيبُ قال حسَّان: [الكامل] 1971 - إنَّ الكتابَ مُهَيْمِنٌ لِنَبِيِّنَا ... والحَقُّ يَعْرِفُهُ ذَوُو الألْبَابِ والحافِظُ أيْضاً قال: [الطويل] 1972 - مَلِيكٌ عَلَى عَرْشِ السَّمَاءِ مُهَيْمنٌ ... لِعزَّتِهِ تَعْنُو الوُجُوهُ وتَسْجُدُ وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «شاهِداً» وهو قولُ مُجاهدٍ وقتادَةَ والسديِّ والكِسَائِي، وقال عِكْرِمَةُ: دالاً، وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وأبُو عُبيدَةَ: مُؤتَمناً عليه. وقاله الكسائيُّ والحسنُ. واختلفوا: هل هو أصل بِنَفْسِهِ، أيْ: أنه ليس مُبْدَلاً مِنْ شيءٍ، يقالُ: «هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فَهُو مُهَيْمِن» ك «بَيْطَرَ يُبَيْطِرُ فهو مُبَيْطر» . وقال أبُو عُبَيْدة: لم تَجِئْ في كلامِ العرب على هذا البِنَاءِ إلا أربعةُ ألفاظٍ: «مُبَيْطِر، ومُسَيْطِر، ومُهَيْمن، ومُحَيْمِر» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 365 وزاد أبُو القاسِمِ الزَّجَّاجيُّ في شرحه لخُطْبَةِ «أدَبِ الكاتبِ» لفظاً خامساً، وهو مُبَيْقِر، اسم فاعل من: بيقَر يُبَيْقِر أيْ: خرج من أفُقٍ إلى أفُقٍ، أو لعب البُقَّيْرى وهي لعبةٌ مَعْرُوفةٌ للصِّبْيَان. وقيل: إنَّ هاءَهُ مُبْدلةٌ من همزة، وأنه اسمُ فاعلٍ من آمن غيرهُ مِنَ الخوفِ، والأصْلُ «مُأَأْمِن» بهمَزْتَيْنِ أبدلَتِ الثانيةُ ياءً كراهِيةَ اجتماعِ همزتين، ثُمَّ أبْدِلَتِ الأولَى هاءً ك «هراق وهراح، وهَبرتُ الثوب» في: «أراق وأراح وأبرتُ الثوبَ» و «أيهاتَ وهَيْهَات» ونحوها، وهذا ضعيفٌ فيه تكلُّفٌ لا حاجة إليه، مع أنَّ له أبْنِيَةً يُمْكِن إلحاقهُ بها ك «مُبَيْطِر» وإخوانه، وأيضاً فإنَّ هَمْزَةَ «مُأَأْمِن» اسمُ فاعلٍ من «آمَنَ» قاعدتُها الحذفُ فلا يُدَّعى فيها أنها أثبتت، ثم أبدلت هاءً، هذا ما لا نظيرَ له. وقد سقط ابنُ قَُتَيْبَة سقطةً فاحِشَةً حيث زعم أن «مُهَيْمِناً» مُصَغَّرٌ، وأنَّ أصلهُ «مُؤيْمِنٌ» تصغيرُ «مُؤمِن» اسمُ فاعلٍ، ثُم قُلبتْ همزتهُ هاءً ك «هَرَاق» ، ويُعْزَى ذلك لأبِي العبّاس المُبَرّدِ أيضاً، إلاَّ أنَّ الزَّجَّاج قال: «وهذا حسنٌ على طريق العربية [وهُو مُوافقٌ لِمَا جَاءَ فِي التفسيرِ مِن أنَّ معنى» مُهَيْمِن «: مُؤمِنٌ» . وهذا الذي قالَهُ الزَّجَّاجُ واسْتَحْسَنَهُ] أنكره الناسُ عليه، وعلى المبرِدِ، وعلى مَنْ تَبِعَهُما. ولما بلغ أبَا العباسِ ثَعْلَباً هذا القولُ أنكرَهُ أشدَّ إنْكَارٍ، وأنحى على ابن قُتَيْبَة، وكتب إليه: أن اتَّقِ الله فإن هذا كُفرٌ أوْ ما أشبههُ، لأنَّ أسماءَ الله - تعالى - لا تُصَغَّر، وكذلك كل اسمٍ مُعَظَّم شَرْعاً. وقال ابنُ عطيَّة: «إنَّ النقَّاش حَكَى أنَّ ذلك لمَّا بلغ ثعلباً فقال: إنَّ ما قال ابنُ قُتَيْبَة رَدِيءٌ باطِلٌ، والوُثُوب على القرآنِ شديدٌ، وهو ما سَمِعَ الحديثَ مِنْ قويٍّ ولا ضعيفٍ، وإنَّما جمع الكتُبَ من هَوَسٍ غلبه» . وقرأ ابنُ مُحيصن ومُجاهد: «وَمُهَيْمَناً» بفتح الميمِ الثانيةِ على أنَّه اسمُ مفعولٍ. وقال أبُو البقاءِ: وأصلُ «مُهَيْمن» : مُؤيمنٌ؛ لأنه مُشْتَقٌّ من «الأمانة» ؛ لأنَّ المهيمنَ الشاهدُ، وليس في الكلام «هَيْمَنَ» حتى تكُون «الهاء» أصْلاً، وهذا الذي قالهُ ليس بِشَيءٍ لما تقدَّمَ مِنْ حِكايةِ أهْلِ اللُّغَةِ «هَيْمَنَ» ، وغايةُ مَا في البابِ أنهم لم يستعمِلُوه إلاَّ مَزِيداً فيه الياءُ ك «بَيْطَر» وبابِهِ، بمعنى أنَّه حُوفِظَ عليه من التَّبْدِيلِ والتَّغْييرِ، والفاعلُ هو الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] أو الحافظُ لهُ في كُلِّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 366 بلدٍ، حتَّى إنَّه إذا غيَّرْتَ مِنْه الحَرَكَةَ تَنَبَّهَ لها الناسُ، ورَدُّوا على قارئها بالصوابِ. والضميرُ في «عَلَيْه» على هذه القراءةِ عائدٌ على الكتابِ الأولِ، وعلى القراءة المشهورةِ عائدٌ على الكتاب الثاني. وروى ابنُ أبِي نَجيح عَنْ مُجاهدٍ قراءتَهُ بالفتحِ، وقال: «معناه: مُحَمدٌ مؤتمنٌ على القرآنِ» . قال الطَّبرِيُّ: فعلى هذا يكون «مُهَيْمِناً» حالاً من «الكَافِ» في «إليْك» ، وطعنَ على هذا القولِ لوجود «الواو» [في] «ومهيمناً» ؛ لأنها عطفٌ على «مُصدِّقاً» ، و «مُصدِّقاً» حالٌ مِنَ «الكِتاب» لا حَالٌ مِنَ «الكَافِ» ؛ إذْ لَوْ كان حالاً مِنْها لكان التركيبُ: «لِمَا بَيْنَ يَدَيْكَ» بالكَافِ. قال أبُو حيّان: وتأويلُه على أنَّه من الالتفات من الخطاب إلى الغَيْبَةِ بعيدٌ عَنْ نظم القرآن، وتقديرُ: «وَجَعلْنَاكَ يا مُحمَّدُ مُهَيْمِناً» أبعدُ يعني: أنَّ هذيْنِ التَّأويلَيْنِ يَصْلُحَانِ أنْ يكُونَا جَوَابَيْنِ عن قول مجاهد، لكنَّ الأولَ بعيد، والثَّانِي أبعدُ مِنْه. وقال ابن عطيَّة هنا بَعْدَ أن حَكَى قراءةَ مُجاهِدٍ وتفسيرَهُ محمداً - عليه السلام - أنَّه أمينٌ على القرآنِ: قال الطبريُ وقوله: «ومُهَيْمناً» على هذا حالٌ مِنَ «الكَافِ» في قوله: «إلَيْكَ» قال: «وهذا تأويلٌ بعيدُ المفهومِ» قال: «وغلط الطبرِيُّ في هذه اللَّفْظَةِ على مُجاهدٍ، فإنه فَسَّرَ تأويلَهُ على قراءةِ النَّاسِ» مُهَيْمناً «بِفَتْحِ الميمِ الثانيةِ، فَبَعُدَ التأويلُ، ومجاهدٌ رَحِمَهُ اللَّهُ إنَّما يَقْرأ هو وابنُ مُحَيْصِن:» مُهَيْمَناً «بِفَتْحِ الميمِ الثَّانِيَةِ فهُوَ بناءُ اسم المفعولِ، وهو حالٌ من» الكِتَابِ «معطوفٌ على قوله:» مُصَدِّقاً «، وعلى هذا يتجه أنَّ المؤتَمَنَ عليه هو محمد - عليه السلام -» . قال: «وكذلك مشى مَكيّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -» . قال شهابُ الدِّين: وما قاله أبُو محمدٍ ليس فيه ما يَرُدُّ على الطَّبريِّ، [فإنَّ الطبري] اسْتَشْكَلَ كَوْنَ «مُهَيْمِناً» حالاً من «الكافِ» على قراءة مجاهدٍ، وأيضاً فقد قال ابنُ عطية بعد ذلك: ويُحْتَملُ أنْ يكونَ «مُصدِّقاً ومُهَيْمِناً» حاليْنِ مِنَ «الكافِ» في «إلَيْكَ» ، ولا يخص ذلك قراءةَ مُجاهدٍ وحده كما زعم مَكّي، فالناسُ إنما اسْتَشْكَلُوا كَوْنَهُمَا حالين من كافِ «إليك» لِقَلَقِ التركيبِ، وقد تقدم ما فيه وما نقله أبُو حيَّان مِنَ التَّأويلينِ. وقوله: «ولا يخص ذلك» كلامٌ صَحِيحٌ، وإنْ كان مكِّيٌّ التَزَمَهُ، وهو الظَّاهِرُ. و «عَلَيْهِ» في مَوْضِعِ رَفْعٍ على قراءةِ ابنِ مُحَيْصن، ومجاهدٍ لقيامِهِ مُقَامَ الفاعلِ، كذا قاله ابنُ عَطِيَّةً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 367 قال شهاب الدين: هذا إذا جعلنا «مُهَيْمناً» حالاً من «الكتاب» ، أمَّا إذا جعلناه حالاً من كاف «إلَيْكَ» ، فيكون القائمُ مقام الفاعلِ ضَمِيراً مُسْتَتِراً يعُود على النبي - عليه السلام -، فيكون «عليه» أيضاً في مَحَلِّ نَصْب، كما لو قُرِئ به اسمُ الفاعل انتهى. فصل معنى أمانة القرآن ومعنى أمانةِ القرآنِ ما قال ابنُ جُرَيج: القرآنُ أمين على ما قبله من الكُتُبِ، فما أخبر أهْلُ الكتابِ عن كِتَابِهِمْ، فإنْ كان في القرآن فصدِّقوه، وإلاَّ فَكَذِّبُوه. قال سعيدٌ بن المُسيَّب والضَّحاك: قَاضِياً، وقيل: إنَّما كان القُرْآن مُهَيْمِناً على الكُتُب؛ لأنه الكِتَاب الذي لا يَصِير مَنْسُوخاً ألْبَتَّةَ، ولا يَتَطَرَّقُ إلَيْه التَّبْديل والتَّحْريف؛ لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . وإذا كان كذلك كان شهادَة القُرْآن على التَّوْرَاة والإنْجيل والزَّبُور حقٌّ وصدقٌ باقيةٌ أبداً، [وكانت حقيقة هذه الكُتُب مَعْلُومة أبداً] . ومن قَرَأ بفتح الميمِ الثَّانِية، فالمعنى أنه مشهودٌ عليه من عِنْد الله تعالى بأنَّه يَصُونُه عن التَّحْرِيف والتَّبْدِيلِ لقوله تعالى: {لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} [فصلت: 42] ، والآيات المتقدِّمة. قوله تعالى {فاحكم بَيْنَهُم} : يا محمد {بِمَآ أَنزَلَ الله} بين أهْلِ الكتاب إذا ترافعُوا إليك بالقُرآن، والوَحْي ينزل عليك، {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ} ، أي: ولا تتحَرِفْ، ولذلك عدَّاه ب «عَنْ» كأنَّه قيل: ولا تنحرف عمَّا جاءك من الحقِّ مُتَّبِعاً أهواءَهم. روي أنَّ جماعة من اليهُود قالوا: تعالوا [نذهب] إلى محمد لعلَّنا نَفْتِنهُ عن دينه، ثمَّ دَخَلُوا عليه وقالوا: يا مُحَمَّد قد عَرَفْتَ أنّا أحبار اليَهُود وأشْرَافُهم، وأنّا إن اتَّبَعْنَاك اتَّبَعَك كلُّ اليَهُود، وإنَّ بَيْنَنَا وبين خصُومِنا حُكُومة فَنُحَاكِمهم إلَيْكَ، فاقْضِ لنا ونحْنُ نُؤمِنُ بك فأنزل الله تعالى هذه الآية - والله أعلم -. فصل تمسَّك من طعن في عِصْمَة الأنْبِيَاء عليهم الصلاة والسلام بهذه الآيةِ، وقال: لولا جواز المَعْصِيَة عليهم لما قال الله تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 368 والجوابُ: أنَّ ذلِكَ مَقْدورٌ له، ولكِنَّهُ لا يَفْعَله لمكان النَّهْي، وقيل: الخِطَابُ له والمُرَاد غيره. قوله تعالى: «عَمَّا جاءَك» فيه وجهانِ: أحدهما - وبه قال أبو البقاء - أنَّهُ حال، أي: عَادِلاً عمَّا جَاءَك، وهذا فيه نَظرٌ من حيث إنَّ «عَنْ» حرف جرٍّ ناقِص لا يقع خَبَراً عن الجُثَّةِ، فكذا لا يَقَعُ حالاً عنها، وحرف الجر النَّاقِص إنَّما يتعلَّق بكَوْنٍ مُطْلق لا بكَون مُقَيَّد، لكن المقيَّد لا يجوز حَذْفُهُ. الثاني: أن «عَنْ» على بابِها من المُجَاوَزَةِ، لكن بتضمين [ «تَتَّبعْ» ] معنى «تَتَزَحْزَحْ وتَنْحَرِفْ» ، أي: لا تَنْحَرِفْ مُتَّبِعاً كما تقدم. قوله تعالى: «مِن الحقِّ» فيه أيْضاً وجهان: أحدهما: أنَّه حالٌ من الضَّمِير المرفُوع في «جاءَك» . والثاني: أنَّهُ حالٌ من نفس «مَا» الموصُولة، فيتعلّق بمحذوفٍ، ويجُوزُ أن تكون للبيان. قوله [تعالى] : «لِكُلّ» : «كُلّ» مضافة لشيء محذوفٍ، وذلك المَحذُوف يُحتمل أن يكون لَفْظَة «أُمّة» ، أي: لكل أمة، ويراد بِهِم: جميعُ النَّاسِ من المُسْلِمِين واليَهُود والنَّصارى. ويحتمل أن يكُون ذلك المَحْذُوف «الأنْبِيَاء» أي: لكلِّ الأنْبِياءِ المقدَّم ذِكْرُهم. و «جَعَلْنَا» يُحْتَمل أن تكون مُتعدِّية لاثْنَين بمعنى صَيَّرْنَا، فيكون «لكلِّ» مفعولاً مقدَّماً، و «شِرْعَةً» مفعول ثانٍ. وقوله: «مِنْكم» متعلِّق بمحذُوفٍ، أي: أعْني مِنْكم، ولا يجُوز أن يتعلَّق بمَحْذُوف على أنَّهُ صِفَة ل «كُلٍّ» لوجهين: أحدهما: أنَّهُ يلزم منه الفَصْلُ بين الصِّفَة والموصُوف بقوله: «جعلنا» ، وهي جُمْلة أجْنَبيَّة ليس فيها تَأكِيد ولا تَسْدِيدٌ، وما شأنه كذلِكَ لا يجُوزُ الفَصْلُ به. والثاني: أنه يَلْزَمُ منه الفَصْلُ بين «جَعَلْنَا» ، وبين مَعْمُولها وهو «شرعة» قاله أبو البقاء، وفيه نظر، فإنَّ العامِلَ في «لِكُلٍّ» غير أجْنَبِيّ، ويدلُّ [على ذلك] قوله: {أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ} [الأنعام: 14] ، ففصل بين الجلالة وصِفَتِها بالعامِل في المَفْعُول الأوّل، وهذا نَظِيرُهُ. وقرأ إبراهيم النَّخعي، ويَحْيى بن وثَّاب: «شَرْعَةً» بفتح الشِّين، كأن المكسور للهيئَة، والمفْتُوح مَصْدر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 369 والشِّرْعَةُ في الأصْل «السُّنَّة» ، ومنه: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين} [الشورى: 13] ، أي: سن [لكم وبيَّنَ ووَضَّحَ] . والشَّارع: الطريق، وهو من الشَّريعة التي هي في الأصْلِ: الطَّريق المُوصِّلُ إلى الماء، وقال ابن السِّكِّيت: الشَّرْع مصدر شَرَعْت الإهَاب، أي: شَقَقْتُهُ وسَلَخْتُه، وقيل: مأخوذٌ من الشُّروع في الشَّيء: وهو الدُّخُول فيه. ومنه قول الشاعر: [البسيط] 1973 - وفِي الشَّرَائِعِ مِنْ جلاَّنَ مُقْتنِصٌ ... بَالِي الثِّيَابِ خَفِيُّ الصَّوْتِ مُنْزَرِبُ والشَّريعة: فَعِيلة بمعنى المَفْعُولة: وهي الأشيَاءُ التي أوْجب اللَّه تعالى على المكلَّفِين أن يشرعوا فيها، والمِنْهاجُ مشتقٌّ من الطَّريق النَّهْج وهو الوَاضِح. ومنه قوله: [الرجز] 1974 - مِنْ يَكُ ذَا شَكٍّ فَهَذَا فَلْجُ ... مَاءٌ رَوَاءٌ وطريقٌ نَهْجُ أي: وَاضِح، يقال: طَرِيق مَنْهَج ونَهْج. وقال ابن عطية: منهاج مثال مُبالغة، يعني قولهم: «إنَُّه لَمِنْحَارٌ بَوَائكَهَا» وهو حسنٌ، [وهل الشِّرْعَة] والمنهاج بمعنى كقوله: [الطويل] 1975 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وَهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونِهَا النَّأيُ والبُعْدُ [الوافر] 1976 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وَألْفَى قَوْلَهَا كَذِباً وَمَيْنا أو مُخْتَلفَان؟ فالشِّرْعَةُ: ابتداءُ الطَّريق، والمِنْهَاج الطَّريق المستمِرُّ، قاله المبرِّد، أو الشِّرْعةُ: الطَّرِيق وَاضِحاً كان أو غَيْر وَاضِح، والمنْهَاجُ: الطريق الوَاضِحُ فقط، فالأوَّل أعمُّ. قاله ابن الأنباري، أو الدِّين والدَّلِيل؟ خلافٌ مشهور. فصل في معنى الآية قال ابنُ عبَّاس، ومُجَاهِد، والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - معنى قوله: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 370 مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً} أي: سَبِيلاً وسُنَّة، وأراد بهذا أن الشَّرَائع مختلِفَةٌ ولكلِّ أمَّة شرِيعة. قال قتادة: الخِطَاب للأمُمِ الثَّلاث: أمَّة مُوسَى، وأمَّة عيسى، وأمَّة محمد - صلوات الله وسلامُهُ عليهم - لتقدُّم ذِكرهم. فإن قيل: قد وردتْ آياتٌ تدلُّ على عدم التَّبَايُن في طريقة الأنبياء - عليهم السلام - كقوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13] إلى قوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ} [الشورى: 13] وقال تعالى {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] ، وآياتٌ دلَّت على التَّبَايُن في هذه الآية فكيف الجَمْع؟ فالجواب: أنَّ الأوَّل يَنْصَرِفُ إلى أصُول الدِّيَانَاتِ. والثاني ينصرف إلى الفُرُوع. واحتجَّ أكثر العُلَمَاء بهذه الآية على أنَّ شرع من قبلنا لا يلزمنا؛ لأنَّها تدلُّ على أنَّ لكلِّ رَسُولٍ شريعَةٌ خاصَّةٌ. قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} ، أي: جماعة مُتَّفِقَة على شريعة واحِدة، أو ذَوِي أمة واحدة، أو دِين واحد لا اخْتِلاَف فيه. قال أهل السُّنَّة: وهذا يدلُّ على أن الكُلَّ بِمَشِيئَةِ الله - تعالى -، والمعتزِلَة: حَمَلُوهُ على مَشِيئَة الإلْجَاء. قوله تعالى: «ولَكِنْ لِيَبْلُوكُمْ» متعلِّق بِمَحْذُوف، فقدَّرَهُ أبو البقاء: «ولكن فرَّقكم لِيَبْلُوَكُم» . وقدَّره غيره «ولكن لم يَشْأ جَعْلكم أمَّة واحِدة» . قال شهاب الدين: وهذا أحْسَن؛ لدلالة اللَّفْظ والمعنى عليه. ومعنى «لِيَبْلُوكُمْ» : ليختبركم، «فِيمَا آتَاكُم» : من الكُتُب وبيَّن لكم من الشَّرائع، فبيّن المُطِيع من العَاصِي، والمُوَافِق من المُخَالِف، «فاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ» فبادروا إلى الأعْمَال الصَّالحة قوله تعالى: {إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} استئناف في معنى التَّعْليل لاستِبَاقِ الخَيْرَاتِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 371 وهذه الجُملة تحتمل أن تكُون من بَابِ الجملة الفعليَّة أو الجملة الاسميَّة، كما تقدَّم في نظائره. و «جَمِيعاً» حال من «كُمْ» في «مَرْجِعُكُمْ» ، والعامل في هذه الحال، إمَّا المصْدر المضاف إلى «كُمْ» ، فإنَّ «كُمْ» يحتمل أن تكون فاعِلاً، والمصدر يَنْحَلُّ لحرف مصدريٍّ، وفعلٍ مبنيٍّ للفاعل، والأصْلُ: «تُرْجَعُون جَمِيعاً» ، ويحتمل أن تكون مفعُولاً لم يُسَمَّ فاعِلُه، على أنَّ المصدر يَنْحَلُّ لفعل مَبْني للمفعول، أي: «يُرْجِعُكُم الله» ، وقد صرَّح بالمعْنَييْن في مواضع. وإما أن يعمل فيها الاسْتِقْرارُ المقدَّر في الجارِّ وهو «إلَيْه» [و «إليه مَرْجِعُكُمْ» يحتمل أن يكون من باب الجُمَل الفعليَّة، أو الجُمل الاسميَّة، وهذا واضح بما تقدَّم في نَظَائِره] و «فَيَنَبِّئُكم» هنا من «نَبَّأ» غير مُتَضَمِّنَة معنى «أعْلَم» ، فلذلك تعدَّتْ لواحد بِنَفْسِها، وللآخر بحرف الجرَّ. والمعنى: فَيُخْبِركم بما لا تَشُكُّونَ معه من الجَزَاءِ الفاصِلِ بين محقكم ومُبْطِلِكُم، والمُراد: أنَّ الأمر سيؤول إلى ما يُزِيل الشُّكُوك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 قوله تعالى: {وَأَنِ احكم} : فيه أربعةُ أوجه: أحدها: أنَّ محلَّها النَّصب عَطْفاً على «الكِتَاب» ، أي: «وأنزلنا إليكم الحكم» . والثاني: أنَّها في محلِّ جرٍّ عَطْفاً على «بالحقِّ» ، أي: «أنزلناه بالحق وبالحكم» وعلى هذا الوجْهِ فيَجُوزُ في محلِّ «أنْ» النَّصْب والجرّ على الخلافِ المَشْهُور. والثالث: أنَّها في محلِّ رفع على الابتداء، وفي تقدير خَبَرهِ احتمالان: أحدهما: أن تقدِّره مُتَأخِّراً، أي: حكمك بما أنْزَل اللَّه أمْرُنا أو قولنا. والآخر: أن تقدِّره متقدِّماً أي: ومِن الواجِبِ أن احكُم أي: حُكْمُك. والرابع: أنَّهَا تَفْسِيريَّة. قال أبُو البقاء: «وهو بعيدٌ؛ لأنَّ» الواو «تَمْنَع من ذلك، والمعنى يفسد ذلِك؛ لأنَّ» أن «التَّفْسِيريَّة يَنْبَغِي أن يَسْبِقَها قولٌ يُفسَّر بِهَا» ، أما ما ذَكَرَهُ من مَنْع «الواو» أن تكُون «أنْ» تَفسيريَّة فَوَاضِحٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 372 وأمَّا قوله: «يَسْبِقُها قوْل» إصلاحُهُ أن يقول: «مَا هُو بمعنى القَوْل لا حُرُوفه» ، ثم قال: ويمكن تَصْحِيحُ هذا القول بأن يكون التَّقدير: وأمَرْنَاك، ثم فسَّر هذا الأمْر ب «احْكُمْ» ، ومنع الشَّيْخ من تصحيح هذا القَوْل بما ذكرهُ أبو البقاء، قال: لأنَّه لم يُحْفَظ من لِسَانهم حذف الجُمْلَة المُفسَّرَة ب «أن» وما بعدها، وهو كما قال. وقراءتَا ضمِّ نُونِ «أن» وكَسْرِهَا واضحتَان ممَّا تقدَّم في البَقَرَة: الضمَّة للإتبَاع، والكَسْر على أصْل التِقَاء السَّاكِنَيْن. والضَّمِير في «بَيْنَهُم» : إمَّا لليهُود خَاصَّة، وإمَّا لِجَمِيع المُتَحَاكِمين. فإن قيل: قالوا: هذه الآية نَاسِخَةٌ للتَّخْيِير في قوله: {فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ} [المائدة: 42] ، وأعَادَ ذِكْر الأمْر بالحُكْمِ بعد ذِكْرِه أوَّلاً: إما للتَّأكيد، وإمَّا لأنَّهما حُكْمَان أمَر بهما جَمِيعاً؛ لأنَّهمُ احْتَكموا إليه في زِنَا المُحْصَن، ثُمَّ احْتَكَمُوا إليه في قتلٍ كائنٍ فيهِم. قوله تعالى: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ} قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما -: يردُّوكَ إلى أهْوائِهِم. وقد ذكرنا أنَّ اليهُود اجْتَمَعُوا وأرادُوا إيقاعَهُ في تَحْرِيفِ دينهِ فعصمَهُ اللَّه عن ذلك، فإن كلَّ من صُرِفَ من الحقِّ إلى الباطِلِ فقد فُتِن، ومنه قولُهُ تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} [الإسراء: 73] والفِتْنَةُ هاهنا: المَيْلُ عن الحقِّ والإلْقَاء في الباطِل، وكان - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يقول: «أعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ المَحْيَا» ، قال: هو أن يَعْدِلَ عن الطَّرِيق. قال العُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: هذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الخَطَأ والنِّسْيَان جائِزٌ على الرُّسُل؛ لأن الله قال: {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ} ، والتَّعَمُّد في مثل هذا غير جائز على الرُّسل فلم يَبْقَ إلا الخَطَأ والنسيان. قوله تعالى: «أن يفْتِنُوكَ» فيه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ مفعول من أجلِهِ، أي: احْذَرْهُمْ مخافةَ أن يَفْتِنُوك. والثاني: أنَّها بدل من المفعُول على جهة الاشْتِمَال، كأنَّه [قال] : واحذرهُم فِتْنَتَهُمْ، كقولك: «أعجَبني زَيْدٌ عِلْمُه» . وقوله تعالى: «فإن تَوَلَّوْا» . قال ابنُ عطيَّة: قبله محذُوفٌ يَدُلُّ عليه الظَّاهِر، تقديره: «لا تَتَّبعْ واحْذَر، فإن حكَّمُوك مع ذَلِك، واسْتقامُوا لك فَنِعمَّا ذلك وإن تولَّوا فاعْلَمْ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 373 ويحسُنُ أن يقدَّر هذا المحذُوف المعادل بعد قوله: «لَفَاسِقُون» ، والذي يَنْبَغِي ألاَّ يُقَال: في هذا النَّوْع ثَمَّ حذف؛ لأنَّ ذلك من بَابِ فَحْوَى الخِطَابِ، والأمْر فيه واضِحٌ. فصل المعنى: «فإن تَولَّوْا» : أعرضوا عن الإيمَان ولَمْ يَقْبَلُوا حُكْمَكَ، {فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم} أي: فاعْلَم أن إعْراضهم من أجْلِ أن يُرِيد الله أن يعجِّل لهم العُقُوبَة في الدُّنْيَا، بأن يُسَلِّط عَلَيْهِم ويُعذِّبَهُم في الدُّنْيَا [بالقَتْلِ والجَلاَء] ، وخصَّ تعالى بَعْضَ الذُّنُوب؛ لأنَّ القَتْل جُوزُوا به في الدُّنْيَا بِبَعْضِ ذُنُوبهم، وكانت مُجَازَاتهم بالبعض كَافِياً في إهلاكهم، {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس} ، يعني: اليَهُود. «لفاسقون» لمتمردّون في الكُفْرِ ومُعْتَدُون فيه. قوله تعالى: «أفَحُكْمَ» : الجمهور على ضمِّ الحاء، وسُكُون الكَافِ ونَصْبِ الميم، وهي قِرَاءَة واضِحَةٌ. و «حُكْمَ» مَفْعُول مقدَّم، و «يَبْغُون» فعل وفاعل، وهو المْستفْهَم عَنْه في المَعْنَى. و «الفاء» فيها القَوْلان المشهوران: هل هي مُؤخَّرة عن الهَمْزة وأصلُهَا التَّقدِيم، أو قَبْلَها جملة عَطَفَتْ ما بعدها عليها تقديره: أيعدِلُون عن حُكْمِكَ فَيَبْغُونَ حُكْمَ الجاهليَّة؟ وقرأ ابن وثَّاب، والأعْرج، وأبو رجَاء، وأبو عبد الرَّحمن برفع الميمِ، وفيها وجهان: أظهرهما - وهو المَشْهُور عند المُعربين -: أنه مُبْتَدأ، و «يَبْغُون» خبره، وعائِدُ المبتدأ محذُوفٌ تقديرُه: «يَبْغُونَهُ» حَمْلاً للخبر على الصِّلَة، إلا أنَّ بعضهُم جَعَلَ هذه القِرَاءة خَطَأ، حتى قال أبُو بكر بن مُجَاهِد: «هذه القراءةُ خَطَأ» ، وغيره يَجْعَلُهَا ضَعِيفَة، ولا تَبْلُغ دَرَجَةَ الخَطَأ. قال ابن جنِّي في قول ابن مُجاهد: لَيْس كذلك، ولكنَّه وَجْهٌ غَيْرُه أقْوى منه، وقد جَاءَ في الشِّعْر، قال أبو النَّجْم: [الرجز] 1977 - قَدْ أصْبَحَتْ أمُّ الخِيَارِ تَدَّعِي ... عَلَيَّ ذَنْباً كُلُّهُ لَمْ أصْنَعِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 374 أي: لم أصْنَعْهُ. قال ابن عطيَّة: وهكذا الرِّواية، وبها يَتِمُّ المَعْنى الصَّحِيح؛ لأنَّه أراد التبَرُّؤ من جَمِيع الذُّنُوبِ، ولو نَصب «كُل» لكان ظَاهِر قوله أنَّه صنع بَعْضَه، وهذا الذي ذكره ابن عطيَّة معنى صَحيح نصَّ عليه أهل علم المعاني والبيان، واستَشْهَدُوا على ذلك بقوله - عليه السلام - «حين سأله ذُو اليَديْن، فقال:» أقصرت الصَّلاةُ أمْ نَسِيتَ؟ فقال: «كُلُّ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ» أراد - عليه السلام - انتفاء كلِّ فردٍ فردٍ، وأفَادَ هذا المَعْنَى تقديم «كُلّ» ، قالوا: ولو قال: «لَمْ يَكُن كُلُّ ذَلِك» لاحتمل الكلام أنَّ البعض غير مَنْفِي، وهذه المَسْألَةُ تُسَمَّى عموم السَّلْب، وعكسها نحو: «لَمْ أصْنَع كلَّ ذلك» يُسمَّى سَلْبَ العُمُوم، وهذه مسألة مُفِيدَةٌ، وإن كان بَعْضُ النَّاسِ قد فَهِم عن سيبويه غير ما [ذكرت لك] . ثُمَّ قال ابن عطيَّة: وهو قَبِيحٌ - يعني: حذف العَائِد من الخَبَرِ - وإنَّما يُحْذَف الضَّمِير كثيراً من الصِّلَةِ، ويحذف أقَلّ مِنْ ذلك من الصِّفَة، وحذْفُه من الخبر قَبِيحٌ. ولكنَّه رجَّح البَيْتَ على هذه القِرَاءةِ بِوَجْهَيْنِ. أحدهما: أنَّه ليس في صَدْرِ قوله [ألِف] استفهام تَطْلُب الفعل، كما هي في «أفَحُكْمَ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 375 والثاني: أن في البيت عِوَضاً من «الهَاء» المحذُوفَة، وهو حَرْف الإطلاَق أعني «اليَاء» في «اصنَعِي» ، فتضعف قِرَاءة من قَرَأ «أفحكمُ الجاهلِيَّة يَبْغُونَ» ، وهذا الَّذي ذكره ابن عطيَّة في الوجهِ الثَّانِي كلام لا يُعْبَأ به. وأمَّا الأوَّل فَقَرِيبٌ من الصَّواب، لكنه لم يَنْهَضْ في المنع ولا في التَّقْبِيح، وإنَّمَا يَنْهَضُ دليلاً على الأحْسَنِيّةِ، أو على أنّ غَيْرَه [أوْلى] . وهذه المسألَةُ ذكر بعضُهُم الخِلاف فيها بالنِّسْبَة إلى نَوْع، ونفي الخِلاف عنها، بل حكي الإجْمَاع على الجوازِ بالنِّسْبَة إلى نوع آخر، فحكي الإجْمَاع فيما إذا كان المُبْتَدأ لفظ «كل» ، أو ما أشبَهَهَا في العُمُوم والافْتِقَار، فأمَّا «كُل» فنحو: «كلُّ رَجُلٍ ضَرَبْت» ، ويقوِّيه قراءة ابن عَامِر: «وكُلٌّ وَعَدَ اللَّهُ الحُسْنَى» [النساء: 95] ويريد بما أشْبَه «كُلاًّ» نحو: «رَجُلٌ يَقُولُ الحَقَّ انْصُرْ» ، أي: انْصُرْهُ، فإنه عامٌّ يفتَقِرُ إلى صِفَة، كما أنَّ «كلاً» عامة، وتَفْتَقِرُ إلى مُضَافٍ إلَيْه. قال: «وإذا لم يكن المُبْتَدأ كذلك، فالكُوفِيُّون يَمْنَعُون حذْفَ العَائِد، بل يَنْصُبُون المتقدِّم مَفْعُولاً به، والبصريُّون يُجِيزُون:» زَيْدٌ ضَرَبْتُ «أي: ضربْتُهُ» ، وذكر القراءة. وتعالى بعضهم فقال: «لا يجُوزُ ذلك» ، وأطلق، إلا في ضرورةِ شِعْر كقوله: [السَّريع] 1978 - وخَالِدٌ يَحْمَدُ سَادَاتُنَا ... بِالحَقِّ، لا يُحْمَدُ بِالبَاطِلِ قال: «لأنَّهُ يُؤدِّي إلى تَهْيِئَةِ العامل لِلْعَمَل، وقطعه عَنْهُ» . والوجه الثاني من التوجيهين المتقدِّمَيْن: أن يكون «يَبْغُون» ليس خبراً لِلْمُبْتَدأ، بل هو صِفَةُ لموصُوفٍ محذُوفٍ، وذلك المحذوفُ هو الخَبَرُ، والتَّقْدير: «أفحكم الجاهلية حُكمٌ يَبْغُون» ، وحذفُ العَائِد هنا أكثر، لأنه كما تقدَّم يكثر حذفُه من الصِّلة، ودونَهُ من الصِّفَةِ، ودونَهُ من الخَبَرِ، وهذا ما اخْتَارَهُ ابن عطيَّة، وهو تَخْرِيجٌ مُمْكن، ونظَّرَهُ بقوله تعالى: {مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ} [النساء: 46] ، أي: «قومٌ يُحَرِّفُون» يعني: في حذف موصوف، وإقامة صِفَته مُقَامه وإلا فالمَحْذُوف في الآية المُنَظَّرِ بها مُبْتَدأ، ونظَّرها أيْضاً بقوله: [الطويل] 1979 - وَمَا الدَّهْرُ إلاَّ تَارتَانِ: فَمِنْهُمَا ... أمُوتُ وأخْرى أبْتَغِي العَيشَ أكْدَحُ أي: تارةً أمُوت فيها. وقال الزَّمَخْشَرِي: وإسقاطُ الرَّاجع عنه كإسْقاطِهِ في الصِّلة، كقوله: {أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً} [الفرقان: 41] ، وعن الصِّفَةِ «في النَّاس رجلان: [رجُلٌ] أهنْتُ، ورجُلٌ أكرمت» أي: رجل أهَنْتُهُ ورجل أكرمْتُه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 376 وعن الحال في نحو: «مررتُ بِهِنْد يَضْرِبُ زَيْدٌ» . قال أبو حيَّان: «إنْ عنى التَّشْبيه في الحَذْفِ والحُسْن، فليس كذلك لما تقدَّم [ذكره] ، وإن عنى في مُطْلَقِ الحَذف فَمُسَلَّم» . وقرأ الأعمش وقتادة: «أفَحَكَمَ» بفتح الحَاء والكاف، ونصب الميم، وهو مفردٌ يُرَادُ به الجِنْس؛ لأنَّ المعنى: أحُكَّامَ الجاهليَّة، ولا بدَّ من حذفِ مُضافٍ في هذه القراءة، هو المصرَّح به في المُتواتِرة تقديره: أفَحْكْمَ حُكَّامِ الجاهليَّة. والقُرَّاءُ غير ابن عَامِرٍ على «يَبْغُونَ» بياء الغَيْبَةِ نَسَقاً على ما تقدَّم من الأسْمَاء الغَائِبَة، وقرأ هو بِتَاءِ الخِطَاب على الالتِفَاتِ؛ ليَكُون أبلغ في زَجْرِهِمْ وردْعِهِمْ ومُبَاكتتهِ لهم، حيث واجهَهُم بهذا الاستفهام الذي يأنَفُ منه ذَوُو البَصَائِر. والمعنى أنَّ هذا الحُكْم الذي يَبْغُونَه إنَّما يحكم به حُكَّام الجاهليَّة. فصل وفي الآية وجهان: الأول: قال مُقَاتِل: «كان بَيْنَ قُرَيْظَة والنَّضِير دَمٌ في الجاهليَّة، فلما بُعِثَ النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - واحتكَمُوا إليه، فقال بَنُوا قُرَيْظَة [يا رسُول الله إن] بني النَّضِير إخْوَانُنَا، أبُونا واحِدٌ وكِتَابُنَا واحِدٌ ونبيُّنا واحد، فإن قتل بنُو النَّضِير منَّا قَتِيلاً، أعطونا سَبْعِين وَسقاً من تَمْرٍ، وإنَّا إن قتلْنَا وَاحِداً أخَذُوا منَّا مائة وأربعين وسقاً، وأرُوش جِرَاحَاتِنَا على النِّصْف من أرُوش جراحاتِهِم، فاقضِ بَيْنَنا وبَيْنَهُم، فقال - عليه السلام -:» وإنِّي أحْكُم [أنَّ دِمَاء القرظي] وفاءٌ من دم النَّضَري، والنَّضَري وفاءٌ من دمِ القُرظِي، ليْسَ لأحدهمَا فَضْل على الآخر في دم ولا عَقْلٍ ولا جراحةٍ «فَغَضِبَ بنُو النَّضِير وقالُوا: لا نرضى بِحُكْمِكَ فإنَّك عَدُوٌّ لَنَا، فَأنْزَل اللَّه تعالى هذه الآية. وقيل: إنَّهُمْ كانوا إذا وَجَبَ الحكمُ على ضُعَفَائِهِم ألْزَمُوهُم إيَّاه، وإذَا وجبَ على أقْوِيَائِهِم لم يَأخُذُوهُم به فَمَنعهم اللَّه من ذلِكَ بهذه الآية. والثاني: أنَّهُم يَبْغُون حُكْمَ الجاهليَّة، الَّتِي هي محضُ الجهل وصريح الهوى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 377 ثم قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} ، فقوله - سبحانه وتعالى -:» حُكْماً «نصب على التَّمْييزِ، و» اللاَّم «في قوله تعالى:» لِقَوْم «فيها ثلاثةُ أوجُه: أحدها: أن يتعلّق بنفس» حُكْماً «؛ إذ المعنى: أنَّ حكم الله للمؤمن على الكَافِر. والثاني: أنَّها للبيان فتتعلَّق بمحْذُوف، كَهِي في «سقياً لَكَ» و «هَيْتَ لَكَ» ، وهو رأي الزَّمَخْشَرِي، وابنُ عطيَّة قال شيئاً قَرِيباً منه، وهو أنَّ المعنى: «يُبَيِّنُ ذلِكَ ويُظْهِره لِقَوْم» . الثالث: أنَّها بمعنى «عِنْد» ، أي: عند [قَوْمٍ] ، وهذا لَيْسَ بِشَيْء. ومتعلَّقُ «يُوقِنُون» يجُوزُ أن يُرادَ، وتقديرُه: يُوقِنُونَ باللَّهِ وبحُكْمهِ، أو بالقُرْآن، ويجُوزُ ألاَّ يُرَاد على مَعْنَى [وقُوع الإيقان] ، وإليه مَيْلُ الزَّجَّاج، فإنَّهُ قال: «يُوقِنُون» : «يَتَبَيَّنُون عدل اللَّهِ في حُكْمِهِ» فإنَّهم [هم الذين] يَعْرِفُون أنَّه لا أحَد أعْدَل من اللَّهِ حُكْماً، ولا أحْسَن مِنْهُ بَيَاناً. فصل قال القرطُبِيّ: روى سُفْيَان بن عُيَيْنَة، عن ابن أبِي نُجَيْح، عن طَاوُوس قال: كان إذا سألُوه عن الرَّجُل يُفَضِّل بعض ولده على بَعْضِ يَقْرأ هذه الآية {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} ، فكان طاووس يقول: لَيْس لأحدٍ أنْ يُفَضِّل بَعْضَ ولدِه على بعضٍ، فإن فعل لا ينفذُ ويفسخ، وبه قال أهْلُ الظَّاهِرِ، وهو مَرْوِيٌّ عن أحْمد بن حَنْبَل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وكرهه الثَّوْري، وابن المُبَارَك وإسْحَاق فإن فَعلَ ذلك أحد نُفِّذَ ولم يُرَدّ، وأجاز ذلك مَالِك والثَّوْرِي، وابن المُبَارَك وإسْحَاق فإن فَعلَ ذلك أحد نُفِّذَ ولم يُرَدّ، وأجاز ذلك مَالِك والثَّوْرِي واللَّيْث والشَّافِعِي وأصحاب الرَّأي، واستَدَلُّوا بِفِعْلِ الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في نَخْلَةِ عائِشَةٍ دون سائر ولدِه، واستدَلَّ الأوَّلُون بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لبَشِير: [ «ألَكَ ولد سِوَى هذا» ؟ قال: نعم، فقال «أكُلّهم وهَبْتَ لهُ مِثْلَ هذا» ، فقال: لا، قال] «فلا تُشهدْني إذَنْ فإنِّي لا أشْهَدُ على جَوْرٍ» ، وفي رِوَاية «إنِّي لا أشْهَدُ إلاَّ على حَقٍّ» . قالُوا: ومَا كان جَوْراً وغير حقٍّ فهو بَاطِل لا يجُوز، وقوله: «أشْهِدْ على هذا غَيْرِي» ليس إذْناً في الشَّهَادَة، وإنَّما هُوَ زَجْرٌ عَنْهَا؛ لأنَّه - عليه السلام - قد سمَّاها [جَوْراً] وامتنع من الشَّهَادَة فيه، فلا يُمْكِن أن يَشْهَد أحَدٌ من المُسْلِمين، وأمَّا فعل أبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فلا يُعَارضُ به قول النَّبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ولعلَّه كان [قد] نحل أولادهُ كُلَّهم مثل ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 378 فإن قيل: الأصْلُ تصرُّف الإنْسَان في مَالِهِ مُطْلَقاً، قيل له: الأصل الكُلِّي والواقِعَة المُعَيَّنَةُ المُخَالِفَة لذلك الأصل لا تعارض بَيْنَهُمَا كالعُمُوم والخُصُوصِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 اختلفوا في نُزُول هذه الآية، وإن كان حُكمُهَا عامًّا لجميع المؤمنين، فقال قومٌ: نزلت في عبادة بن الصَّامتِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وعبد الله بن أبي ابن سلُول - لعنهُ الله -، وذلك أنَّهما اخْتَصَما، «فقال عُبَادة: إن لي أوْلِيَاء من اليَهُود كثير عَدَدَهُم شديدةٌ شوْكَتُهُم، وإنِّي أبرأ إلى الله - تعالى - وإلى رسُوله من ولايتهِم وولايَة اليَهُود، ولا مولى لي إلا الله - عزَّ وجلَّ - ورسوله. فقال عبدُ الله - لعنه الله -: لكنِّي لا أبرأ مِنْ ولايَة اليَهُود لأنِّي أخاف الدَّوَائر ولا بُدَّ لِي مِنْهُم فقال النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -: يا أبا الحُبَاب ما نفذت من ولاية اليَهُود على عُبَادة بن الصَّامِت فهو لك دُونه قال: إذْن أقْبَل» فأنزل اللَّه - تعالى - هذه الآية. وقال السُّدِّيُّ: لمَّا كانت وقعة [أُحُد] اشتدَّتْ على طائِفَةٍ من النَّاس، وتَخوَّفُوا أن يُدَال عليهم الكُفَّار، فقال [رَجُلٌ] من المُسْلِمين: أنَا ألْحَقُ بِفلانٍ اليهُودِيّ، وآخذ منه أماناً إنِّي أخافُ أن يُدالَ علينا اليَهُود. وقال رجُل آخَر: أما أنا فألْحَقُ بفُلانٍ النَّصْرَانِيِّ من أهْلِ الشَّام، وآخُذ منه أمَاناً، فأنْزَل الله هذه الآية نَهْياً لَهُمَا. وقال عكرمة: نزلت في أبِي لُبَابة بن عبد المُنْذِر بَعَثَهُ النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - إلى بني قُرَيْظَة حين حَاصَرَهُم، فاسْتَشَارُوه في النُّزول، وقالوا: ماذا يَصْنَعُ بنا إذا نَزَلْنَا فجعل إصْبَعَهُ على حَلْقِه أنَّه الذَّبح، أي: يَقْتُلكُمْ، فنَزَلَتْ هذه الآية؛ ومعنى لا تتَّخِذُوهُمْ أي: لا تَعْتَمِدُوا على اسْتِنْصَارِهِم، ولا تتودَّدُوا إلَيْهِم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 379 قوله: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} مُبْتَدأ وَخَبَر، وهذه الجُمْلَة لا مَحَلَّ لها؛ لأنها مُسْتَأنفة، سيقَتْ تعليلاً للنَّهْي المتقدِّم. وزعم الحوفيّ أنها في محلِّ نصب نعتاً ل «أَولياء» ، والأوَّل هو الظّاهر، والضَّمير في «بَعْضِهِم» يعود على اليهُود والنَّصارى على سَبِيل الإجْمَالِ، والقرينة تبين أن بعض اليهود أولياء بعض، وأن بعض النصارى أولياء بعض [وبهذا التقرير لا يحتاج كما زعم بعضهم إلى تقدير محذوف يصح به المعنى، وهو: بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض] . قال: لأن اليهود لا يتَوَلَّوْنَ النصارى، والنصارى لا يتولَّوْن اليهود، وقد تقدم جوابه. قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ} فيوافقُهُم ويُعينُهم، «فإنَّهُ مِنْهُم» قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما -: يعني كانوا مِثْلَهُم فهذا تَغْلِيظٌ من الله وتشديدٌ في [وجوب] مجانبة المُخالِفِ في الدِّين، ونَظِيره قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي} [البقرة: 249] ، وهذه الآية تدلُّ على مَنْع إثْبَات المِيرَاث للمُسْلِم من المرتَدِّ. ثم قال تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} رُوِي عن أبي مُوسى الأشْعَري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه قال: قُلْتُ لعمر بن الخَطّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إن [لي كاتباً] نَصْرانياً. قال: مَا لَكَ قاتلَك اللَّه؟ ألا اتَّخْذَت حَنِيفاً، أما سَمِعْت قول الله - تعالى -: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} . قلت: لَهُ دينُهُ ولي كِتَابتُه قال: لا أكرمُهم إذ أهَانَهُم الله، ولا أعزُّهُم إذ أذَلَّهُم، ولا أدْنِيهِمْ إذ أبْعدَهَمُ الله. قلت: لا يَتِمُّ النُّصْرة إلاَّ به، فقال: مَاتَ النَّصْرَانِيُّ والسَّلام، يعني: هَبْ أنَّهُ مات فَمَا تَصْنَعَ بَعْدَهُ، فما تعمله بعد موْتِهِ فاعْمَلْهُ الآنَ، واستعن عنهُ بِغيْرِه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 قوله تعالى: {فَتَرَى الذين} : الجمهورُ على «تَرَى» بتاء الخطاب، و «الذين» مفعُول، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 380 فإن كانت الرُّؤيَة بَصَرِيَّةً أو عرفانية - فيما نقله أبُو البقاء وفيه نظر - فتكون الجُمْلَة من «يُسَارِعُون» في محلِّ نصبٍ على الحال من الموصُول، وإن كانت قَلْبِيَّةً، فيكون «يُسَارِعُون» مفعولاً ثانياً. وقرأ النَّخْعِي، وابن وثَّاب «فَيَرَى» باليَاء وفيها تَأويلان: أظهرهما: أنَّ الفاعِل ضمير يَعُود على الله تعالى، وقيل: على الرَّأي من حيث هُو: و «يُسَارِعون» بحالتها. والثاني: أن الفاعل نفس الموصُول، والمفعول هو الجملة من قوله: «يسارعون» ، وذلك على تأويل حذْفِ «أنْ» المصدريَّة، والتقدير: ويرى القوم الذين في قُلُوبهم مَرَضٌ أن يُسَارِعُوا، فلما حُذِفَتْ: «أنْ» رُفِعَ الفِعْلُ؛ كقوله: [الطويل] 1980 - ألاَ أيُّهَذَا الزَّاجِرِي أحْضُرُ الوَغَى ..... ... ... ... ... ... ... . فصل أجاز ابْنُ عطيَّة حذف «أن» المصدريّة، إلا أنَّ هذا غير مَقِيسٍ؛ إذ لا تُحْذَفُ «أن» عند البصريين إلا في مواضع مُحفُوظة. وقرأ قتادةُ والأعْمش: «يُسْرِعُونَ» من أسْرَعَ. و «يَقُولُون» في محل نَصْب [على الحالِ من فاعل «يُسَارِعُون» ، و «نَخْشَى» في محل نَصْبٍ بالقَوْل، و «أنْ تُصِيبنَا» في محلِّ نَصْبٍ] بالمفعُول أي: «نَخْشَى إصابَتَنَا» ، والدَّائرة صفة غَالِبة لا يذكر موصُوفها، والأصل: دَاوِرَة؛ لأنَّها من دار يَدُور. قال الواحدي: الدَّائرة من دَوَائِر الزَّمن، كالدَّولة والدَّوَائِل تَدُولُ قال الشاعر: [الرجز] 1981 - يَرُدُّ عَنْكَ القَدَرَ المَقْدُورَا ... أوْ دَائِرَاتِ الدَّهْرِ أنْ تَدُورَا يعني بدور الدَّهر: هو الدَّائِرة من قَوْم إلى قَوْم. فصل المُرَاد بقوله تعالى {الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} هم المُنَافِقُون يعني: عبد الله بن أبَيّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 381 وأصحابه - لعنهم الله - «يُسَارِعُون [فيهم» أي: في] مودَّة اليَهُود ونَصَارى نَجْران؛ لأنَّهم كانوا أهل ثرْوَة، وكانوا يُعِينُونَهُم على مُهِمَّاتِهِم، ويُقْرِضُونَهُم. ويقول المَنَافِقُون: إنَّما نُخَالِطُهم لأنّا نَخْشَى أن تُصِيبنَا دَائِرَةٌ قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - والزَّجَّاج: أي: نَخْشَى ألا يَتِمَّ الأمْرُ - لمحمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فيدُور الأمْر كما كان قبل ذلك. وقيل: نَخْشَى أن يدُور الدَّهْر علينا بِمَكْرُوه من جَدْب أو قَحْط، فلا يُعْطُون المِيَرة والقَرْض. قوله: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} ، «أن يَأتِي» في محلِّ نَصْبٍ إمَّا [على] الخبر ل «عسى» ، وهو رأي الأخْفَش، وإمَّا على أنَّهُ مَفْعُول به، وهو رأيُ سيبوَيْه لئلاَّ يلزم الإخْبَار عن الجُثَّةِ بالحدَثِ في قولك: «عَسَى زَيْدٌ أن يَقُوم» . وأجاز أبو البقاء أن يكون «أنْ يأتِي» في محلِّ رفعٍ على البَدَلِ من اسْمِ «عسى» ، وفيه نظر. فصل قال المُفَسِّرُون - رحمهم الله -: عسى من اللَّه واجِب؛ لأنَّ الكَرِيم إذا طَمِعَ في خَيْر فعله، وهو بِمَنْزِلَةِ الوَعْدِ؛ لتعلُّق النَّفْسِ به ورَجَائِها له، قال قتادةُ ومُقَاتِل: فَعَسَى اللَّه أن يَأتِي بالقَضَاء الفَصْل من نَصْر مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم - على من خَالَفَهُ. وقال الكَلْبِي والسُّدِّيُّ: فتح «مَكَّةَ» ، وقال الضَّحَّاك: فتح قُرَى اليَهُود مثل خَيْبَر وفدك. {أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ} . قال السُّدِّي: هي الجِزْيَة، وقال الحَسَن: إظْهَار أمر المُنَافِقِين والأحبار بأسْمَائهم والأمر بِقَتْلِهِم، وقيل: الخَصْبُ والسَّعَة للمُسْلِمِين، وقيل: إتْمَام أمْر محمَّد - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وقيل: {هذا عذابٌ أليم} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 382 وقيل: إجْلاء بَنِي النَّضِير، «فَيُصْبِحُوا» أي: هؤلاء المُنَافِقِين {على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ} مِنْ مُوالاة اليَهُود ودسِّ الأخْبَار إليْهم «نَادِمِين» وذلك لأنهم كانوا يشكُّون في أمْرِ رسُول اللَّه - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، ويقولون: الظَّاهِر أنَّهم لا يتمُّ لهم أمْر، وأن الدولة والغلبَة تصير لأعْدَائه. قوله تعالى: «فَيُصْبِحُوا» فيه وجهان: أظهرهما: أنَّه منصوب عَطْفاً على «يأتي» المَنْصُوب ب «أنْ» ، والذي يُسَوِّغُ ذلك وُجُود «الفَاء» السَّبَبِيَّة، ولولاَهَا لم يَجُزْ ذلك؛ لأن المعطُوف على الخبر خبر، و «أنْ يَأتِي» خبر «عَسَى» ، وفيه راجعٌ عائِدٌ على اسْمِهَا. وقوله: «فَيُصْبِحُوا» ليس فيه ضَمِيرٌ يَعُود على اسْمِهَا، فكان من حَقِّ المسألة الامْتِنَاع، لكن «الفَاء» للسسببِيَّة، فجعلت الجُمْلَتَيْن كالجملة الواحِدة، وذلك جَارٍ في الصِّلة نحو: «الذي يطير فيَغْضَبُ زَيْدٌ الذُّبابُ» . والصِّفة نحو: «مررت بِرَجُلٍ يَبْكِي فَيَضْحَكُ عَمْرو» ، والخبر نحو: «زيدٌ يبكي فيضحَكُ خالد» ، ولو كان العَاطِفُ غير «الفَاء» لم يجُزْ ذلك. والثاني: أنه منْصُوب بإضْمَار «أنْ» بعد الفَاءِ في جواب التَّمَنِّي قالوا: «لأن» عَسَى «تَمَنٍّ وتَرَجٍّ في حَقّ البَشَر» . {على مَآ أَسَرُّواْ} متعلِّق ب «نَادِمِين» ، و «نَادِمِين» خَبر «أصْبَح» . قوله تعالى: «ويَقُولُ» : قرأ أبُو عمرو، والكُوفِيُّون بالواو قَبْلَ «يَقُول» والباقُون بإسْقَاطِها، إلا أنَّ أبا عمرو نَصَب الفِعْلَ بعد «الوَاوِ» ، وروى عنه عَلِيُّ بن نَصْر: الرَّفع كالكُوفِيِّين، فتحصَّلَ فيه ثلاث قراءات: «يَقُولُ» من غير واو [ «ويقول» بالواوِ والنَّصْب،] «ويقول] بالواو والرَّفع، فأمَّا قِرَاءة من قرأ» يَقُول «من غير واوٍ فهي جُمْلَة مُسْتأنَفَةٌ سِيقَتْ جواباً لِسُؤالٍ مُقَدَّر، كأنه لمَّا تقدَّم قوله تعالى: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} إلى قوله» نَادِمِين «، سأل سَائِلٌ فقال: ماذا قال المُؤمِنُون حِينَئِذْ؟ فأجيب بِقَوْله تعالى: {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ} إلى آخره، وهو واضح، و» الواو «سَاقِطَةٌ في مصاحِفِ» مَكَّةَ «و» المدينَةِ «و» الشَّام «، والقارئُ بذلك هو صاحِبُ هذه المصاحِف، فإن القَارِئين بذلك ابن كَثِير المَكِّي، وابنُ عَامِر الشَّاميُّ، ونافع المدنِي، فقراءتُهُمْ موافقة لَمصَاحِفِهم [وليس في هذا أنهم إنما قرأوا كذلك لأجل المصحف فقط، بل وافقت روايتهم مصاحفهم] على ما تَبيَّن غير مَرَّة، وأما قِرَاءة» الواو «والرَّفع فواضحةٌ أيْضاً؛ لأنَّها جملة ابْتُدِئَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 383 بالإخْبَارِ بِهَا، فالواو اسْتِئنَافِيَّة لمجرَّدِ عَطْفِ جُمْلة على جُمْلة، و» الواو «ثابِتَةٌ في مصاحِفَ» الكُوفَة «و» المشرق «، والقارئُ بذلك هو صَاحِبُ ذلك المُصْحف، والكلام كما تقدَّم أيضاً. قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وحَذْف «الواو» هاهنا كإثباتها، وذلك أنَّ في الجُمْلَة المعطُوفَة ذكراً من المَعْطُوف عليْهَا، فإن الموصُوفيه بِقَوْله تعالى «يُسَارِعُونَ فِيهِمْ» ، هم الَّذِين قال فيهم المُؤمِنُون: {أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله} ، فلما حَصَل في كل وَاحِدَة من الجُمْلَتَيْن ذكر من الأخْرَى حسن العَطْفُ بالواوِ وبِغَيْرِ الواو، ونَظِيرُه قوله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] لما كان في كلِّ واحدةٍ من الجُمْلَتيْن ذِكْر ما تقدَّم، عنى ذلك أن حَذْفَ الواوِ وذكرهَا جائِزٌ. وأمَّا قِرَاءة أبي عَمْرو فهي الَّتِي تَحْتَاج إلى فَضْل نظر. واخْتَلَفُوا في ذلك على ثلاثةِ أوجُه: أحدُهَا: أنه منصُوب عَطْفاً على «فَيُصْبِحُوا» على أحد الوَجْهَيْن المذكُوريْن في نَصْب «فَيُصْبِحُوا» ، وهو الوجهُ الثَّاني، أعْني: كَوْنَهُ مَنْصُوباً بإضْمَار في جواب التَّرَجِّي بعد «الفَاء» ، إجراءً للتَّرَجِّي مُجْرَى التَّمَنِّي، وفيه خلافٌ بين البَصْرِيِّين والكوفيِّين، فالبَصريُّون يَمْنَعُونَهُ، والكوفِيُّون يجيزُونَهُ مستدِلِّين على ذلك بقراءة نَافِع {لَعَلَّهُ يزكى أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى} [عبس: 3: 4] بِنَصبِ «تَنْفَعَهُ» وبقراءة عَاصِم في رواية حَفْصٍ: {لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ} [غافر: 36، 37] بنصب «فأطَّلِع» ، وسيأتي الجوابُ عن الآيتين في مَوْضِعِه. وهذا الوجه - أعني: عَطْفَ «ويقُول» على «فَيُصْبِحوا» - قاله الفَارِسيُّ وجماعة، ونقله ابن عطيَّة، وذكره أبو عَمْرو بن الحَاجِب. قال شهاب الدِّين أبُو شَامة بعد ذِكْرِه الوجهَ المُتقدِّم: «وهذا وجه جَيِّد أفادنيهِ الشَّيْخ أبو عَمْرو بن الحَاجِب، ولم أره لِغَيْره، وذكروا وُجُوهاً كلها بعيدة مُتعسِّفة» انتهى. قال شهاب الدِّين: وهذا - كما رأيت - مَنْقُول مَشْهُود عن أبي عَلِيّ الفارسيِّ، وأمَّا ما استجاد به هذا الوجْهَ فإنما يتَمشَّى على قَوْل الكُوفيِّين، وهو مرْجوحٌ كا تقرَّر في علم النَّحْو. الثاني: أنه منصُوب عَطْفاً على المصدر قبْله، وهو الفَتْح كأنَّه قيل: {فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح} ، وبأن يقول، أي: {وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ} ، وهذا الوجْه ذكره أبُو جعفر النَّحَّاس، ونَظَّرُوه بقوْل الشاعر: [الوافر] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 384 1982 - للبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقَرَّ عَيْنِي ... أحَبُّ إليَّ مِنْ لُبْسِ الشُّفُوفِ وقول الآخر: [الطويل] 1983 - لَقَدْ كَانَ في حَوْلٍ ثَوَاءٍ ثَوَيْتُهُ ... تَقَضِّي لُبانَاتٍ وَيَسْأمَ سَائِمُ وهذا مردودٌ من ثلاثةِ أوْجُه: أحدها: أنه يُؤدِّي ذلك إلى الفَصْل بين أبْعَاض الصِّلةِ بأجْنَبِيٍّ، وذلك لأنَّ الفَتْحَ على قول مَؤوَّل ب «أن» والفعل تقديره: أن يَأتِي بأن يفتح، وبأنْ يقول، فيقعُ الفصلُ بقوله «فَيُصبِحُوا» وهو أجنبي؛ لأنَّه مَعْطُوف على «يأتي» . الثاني: أن هذا المصْدر - وهو الفَتْح - ليس يُرادُ به انحلاله لحرفٍ مصدري وفعل، بل المراد به مَصْدَر غير مُرادٍ به ذلك، نحو: يُعْجِبُنِي ذكاؤك وعِلْمُك. الثالث: أنه وإن سُلِّمَ انحِلاله لحرف مَصْدري وفعل، فلا يكون المعنى على: «فعسى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ الذين آمنوا» ، فإنه نابٍ عنه نُبُوّاً ظاهراً. الثالث - من أوجُه نَصْب «ويقول» -: أنه منصوبٌ عَطْفاً على قوله: «يَأتي» أي: فَعَسَى اللَّه أن يأتي بأنْ يقولَ، وإلى هذا ذهب الزَّمَخْشَرِي، ولم يَعْتَرِض عليْه بِشَيْء. وقد رُدَّ ذلك بأنَّهُ يلزَمُ عَطفُ ما لا يجُوزُ أن يكُون خبراً على ما هُوَ خَبَر، وذلك أن قوله: «أن يأتي» خبر «عَسَى» وهو صحيحٌ؛ لأن فيه رابطاً عائِداً على اسم «عَسَى» [وهو ضمير الباري تعالى، وقوله: «ويقول» ليس فيه ضمير يعود على اسم «عسى» ] فكيف يَصِحُّ جعلُهُ خبراً؟ وقد اعتذر من أجاز ذَلِك عنه بثلاَثَةِ أوْجُه: أحدها: أنه من بَابِ العَطْف على المَعْنَى، والمعنى: فَعَسى أنْ يأتي الله بالفَتْح، وبقولِ الذين آمَنُوا، فتكون «عَسَى» تامَّة؛ لإسنادها إلى «أنْ» وما في حَيِّزهَا، فلا تحتاجُ حينئذٍ إلى رابطٍ، وهذا قرِيبٌ من قولهم: «العطْفُ على التَّوهُّم» نحو: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: 10] . الثاني: أنَّ «أنْ يَأتِيَ» بَدَلٌ من اسْمِ الله - تعالى - لا خبر، وتكون «عَسَى» حينئذٍ تامَّة، وكأنه قِيل: فعسَى أن يَقُول الذين آمَنُوا، وهذان الوَجْهَان مَنقُولان عن أبِي عَلِيٍّ الفارسيّ، إلا أنَّ الثَّاني لا يَصحُّ؛ لأنهم نَصُّوا على أن «عَسَى» و «اخْلَوْلَق» و «أوْشَكَ» من بين سَائِر أخَوَاتِهَا يجُوزُ أن تَكُون تامّةً، بشرط أن يكُون مَرْفُوعُها: «أنْ يَفعل» ، قالوا: ليُوجَدَ في الصُّورة مُسْندٌ ومُسْنَدٌ إليه، كما قالوا ذَلِكَ في «ظَنّ» وأخواتها: إنَّ «أنْ» و «أنَّ» تسدُّ مَسدَّ مَفْعُوليها. والثالث: أن ثَمَّ ضميراً مَحْذُوفاً هو مُصَحِّحٌ لوُقُوع «وَيَقُول» خبراً عن «عَسَى» ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 385 والتقدير: ويقول الذين آمَنُوا به، أي: بِاللَّه، ثم حذف للعلْم به، ذكر ذلك أبو البقاء. وقال ابن عطيَّة بعد حكايته نَصْبَ «ويقُولَ» عَطْفاً على «يَأتيَ» : «وعندي في مَنْع» عسى الله أنْ يقُول المُؤمِنُون «نظرٌ؛ إذ اللَّه - تعالى - يُصَيِّرهم يقولون ذلك بِنَصْرهِ وإظْهَارِ دينه» . قال شهاب الدِّين: قول ابن عطيَّة في ذلك، قول أبِي البَقَاء في كونه قدَّره ضَمِيراً عائداً على اسم «عَسَى» يَصِحُّ به الرَّبط، ويعضُ النَّاس يكثرُ هذه الأوْجُه، ويُوصِلُهَا إلى سَبْعَة وأكثر، وذلك باعْتِبَار تَصْحيح كُلِّ وَجْه من الأوَّجُه الثلاثة التي تقدَّمت، ولكن لا يَخْرج حاصلها عن ثلاثة، وهو النَّصْب: إما عطفاً على «أنْ يَأتِي» ، وإما على «فَيُصْبِحُوا» ، وإمَّا على «بالفَتْح» وقد تقدم تَحقِيقُهَا. قوله - تعالى -: {جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} في انتصَابِه وجهان: أظهرهما: أنَّه مصدر مؤكدٌ ناصبُهُ «أقْسَمُوا» فهو مِنْ مَعْناه، والمعنى: أقْسَمُوا إقسامَ اجتهادٍ في اليَمِين. والثاني: - أجازه أبو البقاء وغيره - أنه منصُوب على الحَالِ كَقَوْلهم: «افعل ذلك جَهْدَك» أي: مُجْتَهِداً، ولا يُبَالي بِتَعْرِيفه لَفْظاً، فإنه مُؤوَّل بِنَكِرة على ما تقدَّم ذكره، والمعنى هُنَا: «وأقسموا بالله مجتهدين في أيمانهم» . قوله تعالى: «إنَّهُم لمَعَكُمْ» هذه الجُمْلَة لا مَحَلَّ لها من الإعراب، فإنها تَفْسِيرٌ وحكاية لِمَعْنَى القَسَم لا لألْفَاظِهِم؛ إذ لو كانَت حِكَاية لألْفَاظِهِم لَقِيلَ: إنَّا مَعَكُم، وفيه نَظَرٌ؛ إذ يجُوز لك أن تقول: «حَلَفَ زيد لأفْعَلَن» أو «ليفْعَلَنَّ» ، فكما جَازَ أنْ تقول: ليفعلن جاز أن يقال: «إنَّهُمْ لَمَعكُم» على الحِكَاية. فإن قيل: الفائدة في أنَّ المؤمنين يقولون هذا القول: هو أنَّهم يتعجَّبُون من حال المُنَافِقِين، عندما أظهروا المَيْل إلى مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى، وقالوا: إنَّهم كانوا يُقسِمُون باللَّه جَهْدَ أيْمانهم أنَّهُم مَعَنَا ومن أنْصَارنا، والآن كيف صاروا مُوالِين لأعْدَائِنَا مُحِبِّين للاختلاط بهم والاعتضاد بهم؟ قوله تعالى: {حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} فيها أوجه: حدها: أنَّها جملة مُسْتَأنَفَة، والمقصُود بِهَا الإخْبَار من البَارِي - تعالى - بذلك. الثاني: أنها دُعَاءٌ عليهم بذلك، وهو قولُ الله - تعالى - نحو: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 386 الثالث: أنها في محلِّ نَصْبٍ؛ لأنَّها من جملة قوْلِ المُؤمنين، ويحتمل معنييْن كالمَعْنَيَيْن في الاسْتِئْنَاف، أعني: كونَهُ إخْبَاراً أو دُعَاءً. الرابع: أنَّها في محلِّ رفع على أنَّها خبر المُبْتدأ، وهو «هؤلاء» ، وعلى هذا فيحتمل قوله «الَّذين أقْسَمُوا» وَجْهَيْن: أحدهما: أنَّه صفة لاسْم الإشارة، والخبر: «حَبِطَتْ أعْمَالُهُمْ» . والثاني: أن «الَّذِين» خَبَر أوَّل، و «حَبِطَتْ» خبر ثانٍ عند من يُجِيزُ ذلك، وجعل الزمخْشَرِيّ «حَبِطَت أعمَالهم» مفهمة للتَّعجُّب. قال: وفيه معنى التَّعجُّب كأنَّه قيل: «ما أحَبَطَ أعْمَالَهُم ما أخْسَرَهُمْ» ، وأجاز مع كونه تعجُّباً أن يكون من قولِ المؤمنين، فيكون في محلِّ نَصْب، وان يكون من قَوْلِ الباري - تعالى - لكنَّه أوَّل التَّعَجُّبَ في حقِّ الله - تعالى - بأنه تَعْجِيبٌ، قال: «أوْ مِنْ قول الله - عَزَّ وَجَلَّ َّ - شهادة لهم بِحُبُوطِ الأعْمَال، وتعْجِيباً من سُوءِ حالِهِمْ» والمعنى: ذهب ما أظْهَرُوه من الإيمان، وبطل كُلُّ خَيْرٍ عَمِلُوه؛ لأجل أنَّهم الآن أظْهرَوا مُوالاة اليَهُود والنَّصَارى فأصْبَحوا خَاسِرِين في الدُّنْيَا والآخرة، [أمَّا في الدُّنْيا فلذهَاب ما عَمِلُوا ولم يَحْصُل لهم شيء من ثَمَرتِهِ، وأمَّا في الآخرة] فلاسْتِحْقَاقِهم اللَّعْن والعذاب الدائم، وقرأ أبُو واقد والجرَّاح «حَبَطت» بفتح «الباء» ، وهما لُغَتَان، وقد تقدَّم ذلك. وقوله تعالى: «فأصْبَحُوا» وجه التسبب في هذه الفاء ظاهر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 قوله: «مَنْ يَرْتَدَّ» «مَنْ» شرطيَّة فقط لِظُهُور أثَرِها. وقوله تعالى: «فَسَوْفَ» جوابها وهي مُبْتَدأة، وفي خَبَرِها الخِلافُ المَشْهُور وبظاهره يتمسَّكُ مَنْ لا يَشْتَرِطُ عَوْدَ الضَّمِير على اسْمِ الشَّرْط من جُمْلَة الجواب، ومن الْتَزَم ذلك قدَّر ضَمِيراً مَحْذُوفاً تقديره: «فسوْفَ يأتي الله بِقَوْم غَيْرهم» ، ف «هُمْ» في «غَيْرهم» يعُود على «مَنْ» على مَعْناها. وقرأ ابنُ عامرٍ، ونافع: «يَرْتَدِد» بداليْن. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 387 قال الزَّمَخْشَري: «وهي في الإمَام - يعني رسم المُصْحَفِ - كذلك» ، ولم يتبين ذلك، ونَقَل غَيْرُهُ أنَّ كل قَارِئ وافَق مُصْحَفَه، فإنَّها في مَصَاحِف «الشَّام» و «المدينة» : «يَرْتَدِدْ» بدالين، وفي البَاقِية: «يَرْتَدَّ» ، وقد تقدَّم أنَّ الإدغام لغة «تمِيم» ، والإظهَار لغة «الحِجاز» ، وأن وجه الإظْهَار سكون الثَّانِي جَزْماً أو وَقْفاً، ولا يُدْغَمُ إلا في مُتَحَرِّك، وأنَّ وجه الإدْغَام تحْرِيك هذا السَّاكن في بَعْضِ الأحْوَال نحو: رُدَّا، ورُدُّوا، ورُدِّي، ولم يَرُدَّا، ولم يَرُدُّوا، واردُدِ القوم، ثم حُمِل «لم يَرُدَّ» ، و «رُدَّ» على ذلك، فَكَأنَّ التَميميّين اعتبروا هذه الحركة العارضة، والحِجازيِّين لم يَعْتَبِرُوها. و «مِنْكُم» في محلِّ نصب على الحال من فاعل «يَرْتَدّ» ، و «عَنْ دينهِ» متعلِّق ب «يَرْتدَّ» . قوله: «يحبُّهم» في محلِّ جر؛ لأنها صفةٌ ل «قَوْم» ، و «يُحِبُّونه» فيه وجهان: أظهرهما: أنه معطوف على ما قَبْلَهُ، فيكُون في محلِّ جرِّ أيضاً، فوصفهم بِصفتين: وصفهم بكونه تعالى يُحِبُّهم، وبكوْنِهِم يُحِبُّونَه. والثاني: أجازه أبُو البقاءِ أن يكُون في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضَّمِير المنصُوب في «يُحِبُّهم» ، قال: تقديره: «وهُمْ يُحِبُّونَهُ» . قال شهاب الدِّين: وإنما قدَّر أبُو البقاءِ لفظة «هُمْ» ليخرج بذلك من إشْكال، وهو أنَّ المُضارع المُثْبَت متى وَقَعَ حالاً، وجبَ تجرُّدُه من «الواو» نحو: «قُمْتُ أضْحَكُ» ولا يجوز: «وأضْحَكُ» وإن وَرَدَ شيءٌ أوِّلَ بما ذَكَرَهُ أبُو البقاء، كقولهم: «قُمْتُ وأصُكُّ عَيْنَه» . وقوله: [المتقارب] 1984 - ... ... ... ... ... ... ... نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكَا أي: وأنَا أصُكُّ، وأنا أرهَنُهم، فتؤوَّل الجملة إلى جُمْلة اسميَّة، فيصحُّ اقترانها بالواو، ولكن لا ضَرُورةَ في الآيَة الكريمَة تدعو إلى ذلك حتَّى يُرْتَكَب، فهو قولٌ مَرْجُوحٌ. وقدمت محبَّة الله - تعالى - على مَحبتهم لشرفِها وسَبْقِهَا؛ إذ مَحَبَّتُهُ - تعالى - لهم عِبَارة عن إلْهامهم فِعْلَ الطَّاعةِ، وإثابته إيَّاهُم عليها. فصل روى الزَّمخشري: أنَّه كان أهْلُ الرِّدَّة إحدى عشرة فرقة في عهد رَسُول الله - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 388 صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم - بنو مدُلج [ورئِيسُهم] وهو «عَيْهَلة بن كعب» لقبه «ذُو الخِمَار» وهو الأسْوَد العَنْسي وكان كاهِناً - ادّعى النُّبُوّة باليمن، واستولى [على بلادِها] وأخرج عُمَّال رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - مثل مُعَاذِ بن جَبَل وساداتِ اليمن، فأهلكه الله على يد «فَيْرُوز الدَّيْلَمِي» ، فقتله وأخبر رسُول الله - صلى الله عليه وعلى آله وسلَّم -] من الغد، وأتَى خَبَرُه في آخِر رَبِيع الأوَّل، وبنو حنيفَة: قوم «مُسَيْلِمَة الكَذَّاب» ادَّعى النُّبُوَّة، وكتب إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -: «من مسيلمة رسُول الله إلى محمَّد رسول الله، أما بعد: فإن الأرْض نصفُهَا لك ونِصْفُها لِي» ، فأجاب - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - من محمَّد إلى مُسَيْلمة الكذَّاب أما بعد: {إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] فحارَبَهُ أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بجُنُود المُسْلِمين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وقُتل على يَدِ وَحْشِيٍّ قاتل حَمْزة وقال: قَتَلْتُ خير النَّاسِ في الجاهليَّة، وشرَّ النَّاسِ في الإسلام أراد في جاهليَّته وفي إسلامه. وبنو أسَد: قوم طُلَيْحة بن خُوَيْلِد ادّعى النُّبوة، فبعَثَ رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - خالداً فانْهَزَم بعد القِتَال إلى الشَّام، ثمَّ أسْلَم، وحَسُن إسلامه في عَهْد أبِي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وفِزَارة: قوم عُيَيْنَة بن حِصْن، وغَطَفَان: قوم قُرَّة بن سلمة القُشَيْري، وبنو سَلِيم: قوم فُجاءَة بن عبد يَالِيل، وبنو يَرْبُوع: قوم مَالِك بن نُوَيْرة، وبعض بني تَمِيم: قوم سجاح بِنْت المُنْذِر التي ادَّعت النُّبُوَّة، وزوجت نفسها من مُسَيْلمة الكَذَّاب، وكِنْدة: قوم الأشعَث بن قَيْس، وبنو بكر بن وَائِل ب «البحرين» ، وقوم الحَطْم ابن زَيْد، وكُفِيَ أمْرُهم على يد أبِي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وفرقةَ واحدةُ على عهد عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - غسان قوم جبلة بن الأيْهَمِ، وذلِك أنَّ جبلة أسلم على يد عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كان يَطُوفُ ذاتَ يومٍ جارًّا رداءَهُ، فوطئ رَجُلٌ طرَفَ رِدائِه فغَضِبَ فَلَطَمُه، فتظلَّم إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، فقضى بالقِصَاص عليه، فقال: أنّا أشْتَرِيها بألْفٍ، فأبي الرَّجُل، فلم يَزَل يزيد في الفِدَاءِ حتى بلغ عَشْرَة آلاَف فأبى الرجل إلا القِصَاص، فاسْتَنْظَره [عُمر] فأنْظَرَهُ فَهَرَب إلى الرُّوم وارتد. ومعنى الآية: يا أيُّها الذين آمنُوا من يتول منكم الكُفَّار، فَيَرْتَدَّ عن دينه، فليعلم: أنَّ الله تعالى يأتي بِقَوْم آخَرِين يتدينوا بهذا الدِّين على أبْلَغ الوُجُوه. وقال الحسن: عَلِمَ اللَّهُ أنَّ قوماً يَرْجِعُون عن الإسْلام بعدَ مَوْت نَبِيِّهِم، فأخْبَرَهُم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 389 بأنه سَيَأتِي الله بِقَوْم يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَهُ. وعلى هذا التقدير: تكون هذه الآيَةُ إخْباراً عن الغَيْبِ، وقد وقع المخبر على وِفْقِه، فيكون مُعْجِزاً. واخْتَلَفُوا في القَوْم مَنْ هُم؟ فقال علي بن أبي طالب والحسن وقتادة والضَّحَّاك وابن جُرَيْج: أبو بكر وأصحابه - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - الَّذين قاتلوا أهْلَ الرِّدَّة، قالت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - مات رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وارتدَّ من العرب قوم [واشْتَهَر] النِّفَاق، ونزل بِأبي ما لوْ نزل بالجبال الرَّاسِيَات لهاضها، وذلك بأن النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - لما قبض ارتدَّ عامَّة العرب إلا أهْل مَكَّة والمدِينَة. والبَحْرين من عَبْد القَيْس، ومنع بعضهم الزَّكاة، وهمَّ أبُو بَكْر بقتالهم، فكره ذلك أصْحَاب رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -. وقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كيف نُقَاتِلُ النَّاس، وقد قال رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -: «أمرت أنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولوا: لا إله إلا الله محمُّد رسولُ الله، فمن قَالَهَا فقدْ عَصَم مِنَّي ماله ونَفْسَهُ، إلا بحقِّه، وحِسَابُهُ على اللَّه» فقال أبُو بكر - رضي الله تعالى عنه -: «واللَّهِ لأقَاتِلنَّ من فرق بين الصَّلاة والزَّكاة، فإن الزَّكاة حقُّ المَال، واللَّه لَوْ مَنَعُونِي عنَاقاً كانُوا يُؤدُّونَها إلى رسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقاتَلْتُهُم على مَنْعِها» . قال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كَرِهَت الصَّحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - قتال مانِعِي الزَّكاة، وقالوا أهْل القِبْلة، فتقلَّد أبُو بكر سَيْفَهُ، وخرج وحده، فلم يَجِدُوا بُدًّا من الخروج على أثره. قال ابن مسعود: كَرِهْنَا ذلك في الابتدَاء، ثم حَمِدْناهُ عليه في الانتهاء، قال أبو بكر ابن عيَّاش: سمعت أبا حُصَيْن يقول: ما وُلِدَ بَعْد النَّبِيِّين مَوْلُود أفْضَل من أبِي بَكْر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، لقد قام مَقَامَ نَبَيٍّ من الأنْبِيَاء في قتال أهْلِ الرِّدَّة. وقال السُّديُّ: نزلت الآية في الأنْصَار؛ لأنَّهُم الذين نَصَرُوا الرَّسُول وأعانُوه على إظْهَار الدِّين. وقال مُجَاهِد: نزلتْ في أهل «اليَمَن» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 390 وقال الكلبي: هُمْ أحْيَاء من اليمن، ألْفان من النَّخْع، وخمسة آلافٍ من كِنْدة وبجيلة، وثلاثة آلاف من أفناء النَّاس، فجَاهَدُوا في سَبِيل الله يوم القَادِسيَّة في أيَّام عُمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وروي مَرْفوعاً أن النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - «لما نزلَتْ هذه الآية، أشار إلى أبِي مُوسَى الأشْعَرِيّ وقال:» هُمْ قَوْمُ هَذَا «، وقال آخَرُون: هم الفُرْسُ؛ لأنه رُوِي أنَّ النَّبِيَّ - صلًّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - لمّا سُئِلَ عن هذه الآية ضَرَبَ يَدَهُ على عَاتِق سَلْمَان الفارسيِّ وقال: هذا وَذَوُوُه، ثمَّ قال: لو كان الدِّين معلَّقاً بالثُّرَيَّا لنالَهُ رِجَالٌ من أبْنَاء فَارِس» . وقال قوم: إنَّهَا نزلت في عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ لأنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «لما دفع الراية إلى عَلِيّ قال: لأدْفَعَنَّ الرَّاية إلى رَجُلٍ يحبُّ الله ورسُوله» . قوله تعالى: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} . هاتان أيضاً صِفَتَان ل «قَوْم» ، واستدلَّ بعضُهم على جواز تَقْدِيم الصِّفَة غير الصَّريحة على الصِّفَة الصَّريحة بهذه الآية، فإن قوله تعالى: «يُحِبُّهم» صِفةٌ وهي غير صَرِيحةٌ؛ لأنَّها جملة مؤوَّلة بمفْرَد، وقوله: «أذلّة - أعزّة» صِفتَان صريحَتَان؛ لأنَّهُمَا مفردتان، وأما غيره من النَّحْوِيِّين فيقول: متى اجْتَمَعَت صِفَةٌ صَرِيحة، وأخرى مؤوَّلة وَجَبَ تقدِيم الصَّريحة، إلاَّ في ضرورة شِعْرٍ، كقول امْرِئ القيس: [الطويل] 1985 - وَفَرْعٍ يُغَشِّي الْمَتْنَ أسْوَدَ فَاحِم ... أثيثٍ كقِنْوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 391 فقدَّم قوله: «يُغَشِّي» - وهو جملة - على «أسْوَد» وما بعده، وهُنَّ مفردات، وعِند هذا القَائِل أنه يُبْدَأ بالمُفْرَد، ثم بالظَّرْف أو عديله، ثم بالجُمْلة، وعلى ذلك جاء قوله تعالى: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} [غافر: 28] {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 155] . قال أبو حيَّان: وفيها دليل على بطلان من يَعْتَقِد وجوب تَقْديم الوصْفِ بالاسْمِ على الوَصْف بالفِعْل إلا في ضَرُورَة، ثُمَّ ذكر الآية الآخرى. قال شهاب الدين: وليْسَ في هاتين الآيتين الكَرِيمتين ما يَرُدُّ قول هذا القَائِل، أمَّا هذه الآية فيحتمل أن يكون قوله تعالى: «يُحِبُّهُم ويُحِبُّونَه» جملة اعتراض، لأنَّ فيها تأكيداً وتَشدِيداً للكلام. وجملة الاعْتِرَاض تقع بين الصِّفة ومَوْصُوفها، كقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} [الواقعة: 76] ف «عَظِيم» صفة ل «قَسَم» ، وقد فصل بينهما بقوله: «لَوْ تَعْلَمُون» ، فكذلك فصل هنا بين «بِقَوْم» ، وبين صفتهم وهي «أذِلَّة - أعِزَّة» بقوله: «يُحِبُّهم ويُحِبُّونه» ، فعلى هذا لا يكون لها مَحَلٌّ من الإعراب. وأمَّا {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 155] فلا نسلّم أن «مباركٌ» صفة، ويجوز أن يكون [خبر مبتدأ محذوف، أي: هو مُبارك] ولو استدلَّ على ذلك بآيتين غير هاتَيْن لكان أقْوى، وهما قوله تعالى: {مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ} [الأنبياء: 2] ، {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ} [الشعراء: 5] فقدَّم الوصف بالجار على الوَصْفِ بالصَّرِيح، وكذا يحتمل أن يُقَال: لا نسلِّم أن «مِنْ رَبِّهم» و «مِنَ الرَّحْمن» صفتان لجواز أن يكونا حاليْنِ مُقدَّمين من الضَّمِير المسْتَتِر في «مُحْدَث» أي: مُحَدث إنزالهُ حال كَوْنه من رَبِّهِم. و «أذلَّة» جمع ذَلِيل بمعنى متعطّف؛ ولا يُرَادُ به الذليل الذي هو ضعيف خَاضِعٌ مُهَان: ولا يجوز أن يكُون جمع «ذَلُول» ؛ لأن ذَلُولاً يجمع على «ذُلُل» لا على أذِلَّة، وإن كان كلام بَعْضِهِم يوهِمُ ذلك. قال الزَّمَخْشَرِي: ومن زَعَم أنَّه من «الذُّل» الذي هو نَقِيضُ الصُّعُوبة، فقد غَبِيَ عن أن «ذَلُولاً» لا يُجْمَع على «أذِلَّة» . و «أذلَّة» و «أعِزَّة» جمعان ل «ذلل» و «عَزِيز» وهما مِثَالا مُبَالَغَة، وعدَّى «أذلّة» ب «على» وإن كان أصْلُه أن يتعدّى باللاَّم لما ضُمِّن من معنى الحُنُوِّ والعطف، والمعنى: عَاطِفين [على المؤمنين] على وجه التَّذَلُّل والتَّواضُع، ويجُوزُ أن يكون المعنى أنَّهُم مع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 392 شَرَفِهم وعلو طَبَقَتِهِم وفَضْلِهِم على المُؤمنين خافِضُون لهم أجنحتهم؛ كقوله تعالى: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] ذكر هَذَيْن الوَجْهَيْن الزَّمخْشَري. قال أبو حيَّان: قيل: «أو لأنَّه على حَذْفِ مضافٍ، التَّقدير: على فَضْلِهِم على المُؤمِنِين، والمعنى: أنَّهُمْ يَذِلُّون، ويَخْضَعُون لمن فُضِّل عَلَيْه مع شَرَفِهِم وعلو مَكَانتهم» . وذكر آيَة الفَتْح، وهذا هو قَوْلُ الزَّمَخْشَرِي بعينه، إلا أن قوله: «عَلى حَذْفِ مُضَافٍ» يوهم حَذْفه، وإقامَةِ المُضَاف إليه مَقَامَه، وهنا حَذفَ «عَلَى» الأولى، وحذف المُضَاف إليه، والمُضَاف معاً. قال شهابُ الدِّين: ولا أدْرِي ما حَمَلَهُ على ذلك؟ ووقع الوصف في جانب المَحبَّة بالجُمْلَة الفِعْلِيَّة، لأنَّ الفِعْل يَدُلُّ على التَّجَدد والحُدُوثِ وهو مُنَاسِب، فإن مَحَبَّتَهُمْ لله - تعالى - تَجَدُّدُ طاعَاتِه وعبادَتِه كُلَّ وقت، ومحبَّةُ اللَّه إياهم تجد ثوابه وإنْعامه عليهم كُلَّ وَقْت، ووقع الوَصْفُ في جَانِبِ التَّواضُع للمُؤمنين والغِلْظَةِ على الكَافِرين بالاسْمِ الدَّال على المُبَالَغة، دلالة على ثُبُوتِ ذَلِك واسْتِقْرَاره، وأنه عَزِيزٌ فِيهِم، والاسْم يدلُّ على الثُّبُوت والاسْتِقْرار، وقدم الوصْفَ بالمحبَّة مِنْهم المتعلّق بالمؤمنين على وَصْفِهم المتعلِّق بالكَافرين؛ لأنه آكَدُ وألْزَمُ منه، ولِشَرفِ المُؤمِن أيْضاً، والجُمْهُور على جَرِّ «أذلَّةٍ» - «أعِزَّةٍ» على الوصف كما تقدَّم. قال الزَّمَخْشري: «وقُرِئ» أذِلَّةً وأعِزَّةً «بالنَّصْب على الحَالِ» . قلت: الذي قرأ «أذلَّةً» ، هو عبد الله بن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، إلا أنَّه قرأ بَدَل «أعِزَّة» : «غُلظَاءَ على الكَافِرِين» وهو تفسيرٌ، وهي حال من «قَوْم» ، وجازَ ذلك، وإنْ كان «قَوْم» نَكِرة لقُرْبِهِ من المَعْرِفة؛ إذ قد تُخَصَّصُ بالوَصْف. فصل معنى «أذِلَّة» أي: أرقَّاء رحماء، كقوله تعالى: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} [الإسراء: 24] من قولهم دابَّه ذَلُولٌ، أي: تَنْقَادُ سَهْلةً، وليْسَ من الذُّل في شَيْءٍ {أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} يُعَادُنهم ويُغَالِبُونهم، من قولهم: عَزَّه إذا غَلَبَه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 393 قال عطاء: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين} كالولد لِوَالده والعَبْد لسَيِّدِه: أعزَّة على الكَافِرِين كالسَّبُع على فَرِيسَتِه. قوله تعالى: «يُجَاهِدُون» يحتمل ثلاثة أوْجُه: أحدها: أن يكُون صِفَةً أخرى ل «قوم» ، ولذلك جاء بِغَيْر واو، كما جاءت الصِّفَتان قَبْلَهُ بِغَيْرها. الثاني: أنه في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في «أعِزَّة» ، أي: يَعُزُّون مُجَاهِدِين. قال أبُو البقاء: وعلى هذا فيجُوز أن تكون مِنَ الضَّمير في «أذلَّة» ، أي: يَتَواضَعُون للمُؤمنين حال كَوْنِهِم مُجاهدين، أي: لا يَمْنَعُهم الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّه من التَّواضُع للمُؤمِنِين، وحاليَّتُهَا من ضمير «أعِزَّة» أظْهَرُ من حاليَّتها ممَّا ذكرت، وذلك لَمْ يَسُغْ أن يَجْعَل المسْألة من التَّنازُع. الثالث: أن يكون مُسْتَأنفاً، سِيقَ للإخْبار بأنّهم يُجَاهِدُون في نُصْرَةِ دينِ اللَّه تعالى. قوله تعالى: «ولا يَخَافُون» فيه أوجه: أحدها: أن يكُون مَعْطُوفاً على «يُجَاهِدُون» فتجري فيه الأوْجُه السَّابقة فيما قَبْله. الثاني: أن تكُون «الواوُ» للحَالِ، وصاحب الحال فاعل «يُجَاهِدُون» ، قال الزَّمَخْشَرِي: «أي: يُجَاهِدُون» وحالهم في المُجَاهَدَةِ غَيْرُ حَالِ المُنافِقِين «. وتَبِعَهُ أبو حيَّان ولم يُنْكِر عليه، وفيه نَظَر؛ لأنهم نَصُّوا عَلَى أن المُضَارع المَنْفِي ب» لاَ «أو» مَا «كالمُثْبَتِ في أنَّه [لا يجوزُ أن] تباشِرَه واو الحَال، وهذا كما تَرَى مضارع مَنْفِيٌّ ب» لاَ «، إلاَّ أن يُقَال: إن ذلك الشَّرْط غير مُجْمَعٍ عليه، ولكن العِلَّةَ التي مَنَعُوا لها مُبَاشَرة» الواو «للمُضَارع المُثْبت موجودة في المُضَارع المَنْفِي ب» لاَ «و» مَا «، وهي أنَّ المُضَارع المُثْبَتَ بِمَنْزِلة الاسْمِ الصَّرِيح، فإنَّك إذا قُلْتَ:» جاء زَيْد يَضْحَكُ «كان في قُوة» ضَاحِكاً «و» ضَاحِكاً «لا يجوز دخول» الوَاو «عليه، فكذلكَ ما أشْبَهَه وهُوَ في قُوَّتِهِ، وهذه مَوْجُودة في المَنْفِي، فإن قولك:» جَاءَ زَيْدٌ يَضْحَكُ «في قوَّة» غَيْر ضَاحِكٍ «و» غيْر ضاحك «لا تَدْخل عليه الواو [إلاَّ أنَّ هذا يُشْكِلُ بأنَّهم نَصُّوا على أنَّ المنفي ب» لَمْ «و» لَمَّا «يجُوز فيه دخول الواو، مع أنَّه في قولك:» قَامَ زيدٌ لَمْ يَضْحَكْ «بمنزلة» غَيْرِ ضَاحِك «] ومن دخول الواو، وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم} [البقرة: 214] ونحوه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 394 الثالث: أن تكون» الواوُ «للاستِئْنَاف، فيكون ما بَعْدَها جُمْلةً مُسْتَأنَفَةً مُسْتَقِلَّة بالإخْبار، وبهذا يَحْصُلُ الفَرْق بين هَذَا الوَجْهِ، وبين الوَجْهِ الذي جُوِّزَت فيه أن تكون» الوَاو «عَاطِفَةً، مع اعْتِقَادِنا أن» يُجَاهِدُون «مستَأنفٌ، وهو وَاضِح. و «اللَّوْمَةُ» : المرَّة من اللَّوْمِ. قال الزمخشري: «وفيها وفي التَّنْكِير مبالغتان، كأنَّه قيل:» لا يخافُون شيئاً قط من لَوْم أحَد من اللُّوَّام «، و» لومة «مصدر مُضاف لِفاعِلِه في المعنى. فإن قِيلَ: هل يجُوزُ أن يكُونَ فاعِلُهُ مَحْذُوفاً، أي: لا يَخَافُون لَوْمَة لائِمٍ إيَّاهم؟ فالجوابُ أنَّ ذلك لا يجُوز عند الجُمْهُور؛ لأنَّ المصدر المحدُودَ بتاء التَّأنيثِ لا يَعْمَل، فلو كان مَبْنيّاً على التَّاء عمل، كقوله: [الطويل] 1986 - فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا بِالْموَارِدِ فأعمل» رَهْبَة «؛ لأنه مَبْنِيٌّ على» التَّاء «، ولا يجُوز أن يعمل المَحْدُود بالتَّاءِ إلا في قَليلٍ في كلامهم؛ كقوله: [الطويل] 1987 - يُحَايِي بِه الْجَلْدُ الَّذِي هُوَ حَازِمٌ ... بِضَرْبَةِ كَفَّيْهِ المَلاَ وَهْوَ رَاكِبُ يصف رَجُلاً سقى رَجُلاً مَاءً فأحْيَاهُ به، وتيمّم بالتُّراب. والمَلاَ: التُّراب، فنصب» المَلاَ «ب» ضَرْبة «، وهو مصدر محدُود بالتَّاء وأصل» لاَئِم «: لاَوِم؛ لأنه من اللَّوْم، فَأعِلَّ ك» قََائِم «. فصل في معنى الآية المعنى لا يخافُون في نُصْرة دِين اللَّه لَوْمة النَّاس، وذلك [أنَّ] المُنافِقِين يُرَاقِبُون الكفَّار ويَخَافُون لَوْمَهُم. وروى عُبَادة بن الصَّامِت، قال: بايَعنا رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - على السَّمْع والطَّاعة، وأن نَقُوم للَّه وأن نقُول الحَقَّ حيث ما كُنَّا لا نخاف في اللَّهِ لَوْمَة لائِم. قوله تعالى:» وذلك «في المُشَار إليه ثلاثةُ أوجه: أظهرُها: أنه جَمِيع ما تقدَّم من الأوْصَاف التي وُصِفَ بها القَوْم، من المحبّةِ، والذِّلَّة، والعِزَّة، والمُجَاهدة في سبيل الله، وانتِفَاء خوف اللاَّئِمَة من كل أحَدٍ، واسْمُ الإشارَة يَسُوغُ فيه ذلك، أعْنِي: أنه يقع بِلَفْظِ الإفْرَاد مُشَاراً به لأكثر مِنْ وَاحدٍ، وقد تقدَّم تَحْقِيقُهُ في قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 395 والثاني: أنَّه مشار به إلى حُبِّ اللَّه لهم، وحُبِّهم لَهُ. والثالث: أنَّه مشارٌ به إلى قوله:» أذِلَّةٍ «، أي: لِينُ الجَانِب، وترك التَّرَفُّع، وفي هذين تَخْصِيصٌ غير وَاضِح، وكأنَّ الحَامِل على ذلك من مَجِيء اسمِ الإشَارَةِ مُفْرَداً. و» ذَلِك «مبتدأ، و» فَضْلُ الله «خبرُه. و» يُؤتِيهِ «يحتمل ثلاثة أوجُه: أظهرُهَا: أنه خَبَرٌ ثانٍ. والثاني: أنه مُسْتَأنف. والثالث: أنَّه في مَحَلِّ نصب على الحَالِ، كقوله تعالى: {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] . فصل ومعنى الكلام: أنَّ الوصف بالمحبَّة، والذلَّة، والعِزَّة، والمُجاهَدَةِ، وانتِفَاء خَوْفِ اللاَّئمة حصل بِفَضْل اللَّه - تعالى -، وهذا يدلُّ على أنَّ طاعَات العِبَاد مَخْلُوقة للَّه تعالى، والمعْتَزِلَةُ يَحْمِلُونه على فِعْل الألْطَاف وهو بعيد؛ لأنَّ فعل الألْطَاف عامٌّ في حقِّ الكُلِّ، فلا بدَّ في التَّخْصِيصِ من مَزِيدِ فَائِدة. ثم قال - عزَّ وجلَّ -: {والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ} ، قالوا: فالوَاسِع إشَارَة إلى كمال المُقْدرة. والعَلِيم إشارةٌ إلى كمال العِلْم، ومن هذا صِفَتُه - سُبْحَانه وتعالى -، فلا يُعْجِزُه أنَّه سيجيء بأقْوَام هذا شأنْهُم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 لمَّا نَهَى عن مُوالاةِ الكُفَّار في الآيَات المُتقدِّمة بيَّن هاهُنَا من يجب مُوالاته. قوله {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله} مُبْتَدأ وخبر. و «رَسُولُه» و «الَّذين» عَطْف على الخبر. قال الزَّمَخْشَرِي: قد ذُكِرَتْ جماعةُ فهلاَّ قيل: «إنَّما أوْلِياؤُكم» ؟ وأجاب أنَّ الولاية بِطَرِيق الأصَالَة للَّه - تعالى - ثم نظم في سلك إثْباتها لِرَسُوله وللمُؤمِنين، ولَوْ جِيءَ به جَمْعاً، فقيل: «إنَّما أوْلِيَاؤُكم» لم يكن في الكلام أصْل وتبع. قال شهاب الدِّين: ويحتمل وَجْهاً آخر، وهو أن «وَلي» بِزِنَةِ «فَعِيل» ، و «فَعِيل» قد نصَّ عليه أهْلُ اللِّسَان أنَّهُ يقع لِلْواحد والاثْنَين والجماعة تَذْكيراً وتأنِيثاً بلفظ واحدٍ، يُقَال: «الزَّيْدُون صَدِيق» و «هِنْد صَدِيق» ، وهذا مِثْله غاية ما فِيهِ أنَّهُ مقدَّم في التَّرْكِيب، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 396 وقد أجَابَ الزَّمَخْشَرِي وغَيْره في قوله تعالى: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} [هود: 89] وذكر وَجْهَ ذلك، وهو شَبَهُهُ بالمصادر، وسَيَأتِي تحقِيقُه - إن شَاء اللَّه تعالى -. وقرأ ابُن مسعُود: «إنَّما مولاكم الله» ، وهي تَفْسِير لا قِرَاءة. فصل في سبب نزول الآية روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّها نَزَلت في عُبَادَة بن الصَّامِت - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وعبد الله بن أبيِّ ابن سلُول - لَعَنَهُ اللَّه -، حين تَبَرأ عُبَادة من اليَهُود وقال: أتوَلَّى الله ورسوله والذين آمَنُوا، فنزل فِيهِم من قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ} [المائدة: 51] ، إلى قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} يَعْني: عُبَادة بن الصَّامِت وأصْحَاب رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وقال جَابِر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: جاء عَبْدُ الله بن سلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فقال: يا رسول الله: «إن قَوْمنا قُرْيَظَة والنَّضِير قد هَجَرُونا وفَارَقُونا وأقْسَمُوا ألاَّ يُجَالِسُونا» فنزلت هذه الآية الكريمة، فَقَرأهَا عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فقال: يا رسول الله رَضِينا باللَّه وبرسُوله وبالمُؤمنين أوْلياء، وعلى هذا التَّأويل أراد بقوله - تعالى -: «وَهُمْ رَاكِعُون» صلاة التَّطَوُّع باللَّيْل والنَّهَار. قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - والسُّديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} ، أراد به على بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - مرَّ به سَائِلٌ وهو رَاكِعٌ في المَسْجِد فأعطاه خاتمه، وقال جُوَيْبِر عن الضَّحَّاك في قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ} [قال: هم المُؤمِنُون بعضهم أوْلِيَاء بعض، وقال أبو جعفر محمد بن علي البَاقِر: {إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا} نزلت] في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 397 المُؤمنين، فقيل له: إن ناساً يقولون: إنَّها نزلت في عَلِيٍّ - رضي الله تعالى عنه - قال: هو من المُؤمنين. قوله تعالى: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة} فيه خَمْسَة أوْجُه: أحدها: أنَّهُ مَرْفُوع على الوَصْف، لقوله تعالى: «الَّذِين آمَنُوا» . وصف المؤمنين بإقام الصلاة، وإيتاء الزَّكاة، وذكر هَاتَيْن العبادَتيْن دون سَائِر فُروع الإيمان؛ لأنَّهما أفْضَلُهُمَا. الثاني: أنَّه مرفوع على البَدَل من «الَّذِين آمَنُوا» . الثالث: أنه خَبَرُ مُبْتَد مَحْذُوف، أي: هُمُ الذين. الرابع: أنه عَطْف بَيَان لما قبله؛ فإنَّ كل ما جاز أنْ يَكُون بدلاً جاز أن يكون بَيَاناً، إلا فيما اسْتُثْنِيَ كما تقدَّم. الخامس: أنه مَنْصُوب بإضمار فِعْل، وهذا الوجه والَّذِي قَبْله من باب القَطْعِ عن التَّبِعيَّة. قال أبو حيَّان - بعد أن نَقَل عن الزَّمَخْشَرِي وَجْهَي البدل، وإضمار المُبْتَدأ فقط -: «ولا أدْرِي ما الَّذِي مَنَعَهُ من الصِّفة، إذ هو المُتَبَادَرُ إلى الذِّهن، ولأنَّ المُبْدَلَ منه على نِيَّةِ الطَّرْح؛ وهو لا يصحُّ هنا؛ لأنَّه هو الوَصْف المترتِّبُ عليه صحّة ما بعده من الأوْصَاف» . قال شهاب الدِّين: لا نسلِّم أنَّ المتَبَادر إلى الذِّهْنِ الوَصْف، بل البَدَل هو المُتبَادر، وأيضاً فإن الوَصْف بالموصول على خِلاف الأصْل؛ لأنَّه مؤوَّل بالمُشْتَقِّ وليس بمُشْتَقٍّ، ولا نُسلِّم أن المُبْدَل مِنْه على نِيَّة الطَّرْح، وهو المَنْقُول عن سِيبوَيْه. قوله: «وَهُمْ رَاكِعُون» في هذه الجُمْلَة وجهان: أظهرهما: أنَّها معطوفة على ما قَبْلَها من الجُمَلِ، فتكون صِلَةً للمْوصُول، وجاء بهذه الجملة اسميَّةً دون ما قَبْلَها، فلم يَقُلْ: «يَرْكَعُون» اهتماماً بهذا الوَصْف، لأنَّه أظهر أرْكَان الصلاة. والثاني: أنَّها «واو» الحال، وصاحبُها هو واو «يُؤتُون» . والمراد بالرُّكُوع الخُضُوع أي: يُؤتُون الصَّدَقة، وهم مُتُواضِعُون للفُقَراء الَّذين يتصَدَّقُون عليهم. ويجُوز أن يُراد به الرُّكُوع حَقِيقةً؛ كما تقدَّم عن عَلِيّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 398 وقال أبو مُسلمِ: المراد من الرُّكوع: الخُضُوع، أي: يُصَلُّون ويَركَعُون وهم مُنْقَادُون خَاضِعُون لجميع أوَامِرِ اللَّه ونواهيه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 «ومن يَتَولَّ» «مَن» شَرْط في محلِّ رفع بالابْتداء. وقوله تعالى: {فَإِنَّ حِزْبَ الله} جُمْلَة واقعة خبر المُبْتَدأ، والعائد غير مَذْكُور لكوْنِهِ مَعْلُوماً، والتَّقْدِير: فهو غَالِبٌ لكونه من جُنْدِ الله، فيحتملُ أن يكُون جواباً للشَّرْط، وبه يحتجُّ من لا يَشْتَرِط عَوْد ضَمِير على اسْمِ الشَّرْط إذا كان مُبْتَدأ. ولقائل أن يقول: إنَّما جاز ذَلِك؛ لأنَّ المُرَاد بحزب الله هو نَفْسُ المُبْتَدأ، فيكون من بَابِ تكْرَار المُبْتَدأ بمعناه، وفيه خِلاف، فالأخْفَش يُجِيزُهُ، فإن التقدير: ومن يَتَولَّ اللَّه ورسُولَهُ والذين آمنوا فإنه غالب، فوضع الظَّاهر موضع المُضْمَر لفائدة، وهي التَّشْرِيف بإضافة الحِزْب إلى اللَّه - تعالى -، ويحتملُ أن يكُون الجوابُ مَحْذُوفاً، لدلالة الكلام عَلَيْه، أي: ومن يتولَّ اللَّه ورسوله والَّذِين آمنُوا يَكُنْ من حِزْب الله الغَالِب، أو يُنْصَر ونحوه ويكون قوله: {فَإِنَّ حِزْبَ الله} دالاًّ عليه، وعلى هَذَيْن الاحتمَالَيْن، فلا دِلَة في الآية على عدم اشْتِرَاط عَوْدِ ضمير على اسْم الشرط. وقوله: {فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون} في محلِّ جَزْم إنْ جَعَلْناه جواباً للشَّرْط، ولا محلَّ له إن جعلْنَاهُ دالاًّ على الجواب. وقوله «هُمْ» يحتمل أنْ يكُون فَصلاً، وأن يكُون مُبْتَدأ. و «الغَالِبُون» خبره والجُمْلَةُ خبر «إن» ، وقد تقدَّم الكلام على ضَمِير الفَصْل. و «الحِزْب» : الجماعة فيها غِلْظَةٌ وشدَّة، فهو جماعة خَاصَّة، وهو في اللّغَة: أصْحَاب الرَّجُل الَّذين يكُونُون معه على رَأيه، وهم القَوْم الَّذِين يَجْتَمِعُون لأمر حَزَبَهُمْ، وللمُفسرين فيه عِبَارات، فقال الحَسَن: جُنْدُ الله وقال أبو رَوْق: أوْلِيَاء الله، وقال أبو العَالِية: شِيعَتُه، وقال بعضهم: أنْصَار الله، وقال الأخْفَش: حِزْب الله الذين يَدِينُون بدينِهِ ويُطيعُونَه ويَنْصُرُونه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 لما نهى في الآية الأولى عن اتَّخَاذِ اليَهُود والنَّصَارى أوْلِيَاء، نهى هُنَا عن جَمِيع الجزء: 7 ¦ الصفحة: 399 مُوالاَةِ الكُفَّار على العُمُوم، ف «الَّذِين» وصلتُهُ هو المَفْعُولُ الأوّلِ لقوله «لا تتَّخِذُوا» ، والمفعُول الثاني: هو قوله «أولِيَاء» ، و «دِينُكُم» مَفْعُول ل «اتَّخذُوا» ، و «هُزُواً» مفعول ثان، وتقدَّم ما في «هُزْءاً» من القِراءَات والاشْتِقَاق. قوله تعالى: {مِّنَ الذين أُوتُواْ} فيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ، وصاحِبُها فيه وجهان: أحدها: أنَّهُ الموصول الأوَّل. والثاني: أنَّه فاعل «اتَّخَذُوا» والثاني من الوَجْهَيْن الأوَّلين: أنه بيانٌ للموصُول الأوَّل، فتكون «مِن» لِبَيَان الجِنْس. وقوله تعالى: «مِنْ قَبْلكم» متعلِّق ب «أوتُوا» ؛ لأنَّهم أوتُوا الكِتَاب قَبْلَ المُؤمِنين، والمُرَاد بالكِتَاب: الجِنْس. وقوله تعالى: «مِنْ قَبْلكم» متعلِّق ب «أوتُوا» ؛ لأنَّهم أوتُوا الكِتَاب قَبْلَ المُؤمِنين، والمُرَاد بالكِتَاب: الجِنْس. فصل قال ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - كان رِفاعة بن زَيْد بن التَّابُوت، وسُوَيْد بن الحَارِث قد أظهرا الإسْلام ثم نافَقَا، وكان رِجَالٌ مِنَ المُسْلِمين يوادُّونَهُما، فأنْزل اللَّه - تعالى - هذه الآية، ومعنى تَلاَعُبِهم واستهْزَائِهِم، إظْهَار ذلك باللِّسَان مع الإصْرَارِ على الكُفْر في القَلْبِ، ونَظِيرُه قوله في ذَلِك في سُورة «البقرة» : {وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا} [آية: 14] إلى قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [آية: 14] ، والمعنى: أنَّ القَوْم لمَّا اتَّخَذُوا دينكُمْ هُزُواً ولَعِباً وسُخْرِية، فلا تتَّخِذُوهم أوْلِيَاء وأنْصَاراً وأحْبَاباً، فإن ذلك الأمْرَ خَارجٌ عن العَقْلِ والمرُوءَة. قوله تعالى: «والكُفَّار» قرأ أبُو عَمْرو والكِسَائي: «والكُفَّارِ» بالخَفْض، والباقُون بالنَّصْب، وهما واضِحَتَانِ، فَقِرَاءة الخَفْضِ عَطْفٌ على المَوْصُول المَجْرُور ب «مِنْ» ، ومعناها: أنَّه نَهَاهم أن يتَّخِذُوا المُسْتَهْزِئين أوْلِيَاء، وبَيَّنَ أن المُسْتَهْزِئين صِنفان: أهلُ كتاب متقدِّم، وهم اليَهُود والنَّصارى، وكفارٌ عَبَدة أوْثَان، وإن كان اسم الكُفْر ينطلقُ على الفَرِيقين، إلا أنَّه غَلَبَ على عَبَدَةِ الأوْثان: الكُفَّار، وعلى اليهُود والنَّصارى: أهْل الكِتَاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 400 وقال تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب} [البينة: 1] ، وقال تعالى: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين} [البقرة: 105] ، اتَّفقوا على جر «المُشْركين» عَطْفاً على أهْل الكِتَاب، ولم يَعْطف على العَامِل الرَّافع قاله الواحدي. يعني [بذلك] : أنَّه أطلق الكُفَّار على أهْلِ الكِتَاب، وعلى عبدةِ الأوْثَانِ المُشْرِكِين، ويدلُّ على أنَّ المُرَاد بالكُفَّار في آية المَائِدة «المُشْرِكُون» ، قراءة عبد الله «ومِنَ الَّذِين أشْرَكُوا» ورُجِّحت قراءة أبِي عَمْرو أيضاً بالقُرْب، فإن المَعْطُوف عليه قرِيب، ورُجِّحَتْ أيضاً بقراءة أبَيّ «وَمِنَ الكُفَّار» بالإتْيَان ب «مِنْ» . وأما قراءة البَاقِين، فوَجْهُهَا أنَّه عطف على المَوْصُول الأوَّل، أي: لا تَتَّخذُوا المُسْتَهْزِئين، ولا الكُفَّار أوْلِيَاء، فهو كقوله تعالى: {لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين} [آل عمران: 28] ، إلاَّ أنه ليس في هذه القراءة تَعَرُّضٌ للإخْبَار باسْتِهْزَاء المُشْرِكين، وهم مُسْتَهْزِئُون أيْضاً، قال تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين} [الحجر: 95] فالمراد به: مُشْرِكوا العرَب، ولوضوح قِرَاءة الجرِّ قال مَكي بن أبِي طالب: «ولولا اتِّفَاقُ الجماعةِ على النَّصْب، لاخترتُ الخَفْض لقوَّته في المَعْنى، ولِقُرْب المَعْطُوف من المَعْطُوف عليه» . ثم قال تعالى: {اتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} ، والمعنى ظاهِر. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 [الضَّمير في «اتَّخَذُوها» يجُوزُ] أن يعودُ على الصَّلاة وهو الظَّاهِر، ويجُوز أن يَعُود على المَصْدَرِ المفهُوم من الفِعْل، أي: اتَّخَذُوا المُنَاداة، ذكره الزَّمَخْشَرِي، وفيه بُعْدٌ؛ إذ لا حاجة مع التَّصْريح بما يَصْلُح أن يَعُود عليه الضَّمِير، بخلافِ قوله تعالى: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] . فصل قال الكلبي: كان مُنَادِي رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، إذا نَادَى إلى الصَّلاة وقام المُسْلِمُون إليها، قالت اليَهُود: قاموا لا قَامُوا، وصلُّوا لا صلُّوا على طريق الاسْتهْزَاء وضَحِكوا، فأنْزَل اللَّه هذه الآية الشَّرِيفة، وقال السُّدِّي: نزلت في رَجُلٍ من النَّصَارى بالمدِينة، كان إذا سَمِعَ المُؤذِّن يقول: أشْهَدُ أن محمَّداً رسُول الله - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 401 قال: حُرق الكَاذِبُ، فدخل [خادمه] ذاتَ لَيْلَة بنارٍ وهو وأهْله نِيَام فتطايَرَتْ منها شَرارة، فاحْتَرَق البَيْتُ وأهْلُه. وقال آخَرُون: إن الكُفَّار لما سَمِعُوا الأذَان حَسَدُوا المُسْلِمين، فَدَخلُوا على رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وقالُوا: يا محمَّد: لقد ابتدَعْتَ شَيْئاً لم يُسْمَع به فيما مَضَى من الأمَمِ، فإن كنت تَدَّعي النُّبُوة فقد خَالَفْت فيما أحْدَثَت الأنبياء قَبْلَك، ولو كان فيه خَيْراً لكان أولى النَّاس به الأنبياء، فمن أين لك صياحٌ كصياحِ العير، فما أقبح من صوت، وما أسْمَج من أمْر، فأنْزَل الله هذه الآية، ونزل: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله} [فصلت: 33] قالوا: دلَّت هذه الآيةُ على ثُبُوت الأذَان بِنَصِّ الكِتَاب لا بالْمَنام وحْدَه. قال القُرْطُبِي: قال العُلَمُاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ولم يكن الأذَانُ بمكَّة قَبْل الهِجْرة، وإنما كانوا يُنَادُون «الصَّلاة جَامِعَة» ، فلما هَاجَر النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وصُرفت القِبْلَة إلى الكَعْبَة أمِرَ بالأذَان، وبقي «الصَّلاة جَامِعَة» للأمر، وكانَ النبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - قَدْ أهمَّه أمر الأذانِ حتى أُرِيَهُ عبد الله بن زَيْد، وعُمر بن الخطاب وأبُو بكر الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وقد كان النبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - سمع الأذَان ليلة الإسْرَاء إلى السَّمَاء، وأما رُؤيا عبد اللَّه بن زَيْد وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فمشهورة، وأمر النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - بلالاً فأذَّن بالصَّلاة أذانَ اليَوْم، وزَادَ بلالٌ في الصُّبْح «الصَّلاة خَيْرٌ من النَّوْمِ» ، فأقرَّها رسولُ الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وليست فيما رَآه الأنْصَاري، ذكره ابن سعْد عن بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -، ثمَّ ذكر الدَّارَقُطْنِيُّ؛ أن الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أري الأذان، وأنَّه أخبر النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وأنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أمر بِلالاً بالأذَانِ قَبْل أن يُخْبِرَه عَبد الله بن زَيْد، ذكره الدَّارقُطْنِي في كتاب «المدبج» لَهُ في حَدِيث النَّبِي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - عن أبِي بَكْر الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. قوله تعالى: «ذَلِكَ بأنَّهُم» مُبْتَدأ وخبر، أي: ذَلِك الاسْتِهْزَاء مُسْتِقِرٌّ؛ بسبب عدم عَقْلِهِم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 لما حكى عنهم أنهم اتَّخَذُوا دِين الإسلام هُزُواً ولعِباً، فقال: ما الذي تَجِدُون فيه ممَّا يُوجِب اتَّخَاذه هُزُواً ولعباً؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 402 قوله تعالى: «هل تَنْقِمُون» : قراءة الجُمْهُور بكسر القَافِ، وقراءة النَّخْعي، وابن أبي عَبْلَة، وأبي حَيْوَة بِفَتْحها، وهاتان القِرَاءتَانِ مفرَّعَتَان على المَاضِي، وفيه لُغَتَان: الفُصْحَى، وهي التي حَكَاهَا ثَعْلَب في «فَصِيحه» : نَقَم بفتح القَاف، يَنْقِم بِكَسْرها. والأخرى: نَقِم بكسر القاف يَنْقَمُ بفَتْحِها، وحكاها الكَسَائي، ولم يَقْرأ في قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ} [البروج: 8] إلا بالفتح. قال الكسّائِي: «نقِم» بالكسر لُغَةً، ونَقَمْتُ الأمْر أيضاً، وَنَقِمْتُهُ إذا كَرِهْته، وانْتَقَم اللَّه منه إذا عَاقَبَه، والاسم منه: النِّقْمة، والجمع نَقِمَاتٌ ونَقِمٌ مثل كَلِمة وكَلِمَات وكَلِم، وإن شِئْت سَكَّنت القَافَ، ونَقَلْت حَرَكَتَها إلى النُّون فقلت نِقْمة، والجَمْع: نِقَم، مثل نِعْمة وَنِعَم، نقله القرطبي وأدغم الكسَائِي لام «أهَلْ» في تَاء «تَنْقِمُون» ، وَلِذَلِكَ تُدْغَمُ لام «هَلْ» في التَّاء والنُّون ووافقه حَمْزة في التَّاء والثَّاء وأبُو عَمْرٍو في «هَلْ تَرَى» في موضعَيْن. فصل قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أتى رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - نَفَرٌ من اليَهُود: أبو يَاسِر بن أخْطَب، ورَافِع بن أبي رَافِع وغيرهما، فَسَألُوه: عمَّن يُؤمِن به من الرُّسُل، فقال: {اا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} [البقرة: 136] ، إلى قوله: {وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} [البقرة: 136] فلما ذكر عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - جَحَدُوا نُبُوتَهُ، وقالُوا: والله ما نَعْلَمُ أهْلَ دِينٍ أكْثَر خَطَأ في الدُّنْيَا والآخِرَة مِنْكُم، ولا دِيناً شرًّا من دينكُمْ، فأنْزَل الله هذه الآية الكريمة. قوله تعالى: {إِلاَّ أَنْ آمَنَّا} ، مفعول ل «تَنْقِمُون» بمعنى: تَكْرَهُون وتَعِيبُون، وهو استِثْنَاء مُفَرَّغٌ. و «مِنَّا» متعلِّق به، أيْ: ما تَكْرَهُون من جِهَتِنَا، إلاَّ الإيمَان وأصل «نَقَمَ» أن يتعدَّى ب «عَلَى» ، نقول: «نَقَمْتُ عليْهِ كذا» وإنَّما عُدِّيَ هُنَا ب «مِنْ» لِمَعْنًى يَأتي. وقال أبُو البَقَاء: و «منَّا» مفعول «تَنْقِمُون» الثَّاني، وما بَعْد «إلاَّ» هو المَفعُول الأوَّل، ولا يجُوز أن يكُون «منَّا» حالاً من «أنْ» والفِعْل لأمْرين: أحدهما: تقدُّمُ الحالِ على «إلاَّ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 403 والثاني: تقدم الصِّلَة على الموْصُول، والتَّقْدِير: هل تَكْرَهُون مِنَّا إلاَّ إيماننا. انتهى. وفي قوله: مَفْعُول أوَّل، ومفعول ثَان نَظَر؛ لأنَّ الأفْعَال الَّتِي تتعدَّى لاثْنَيْن إلى أحدهما بِنَفْسِها، وإلى الآخَرِ بحَرْف الجرِّ مَحْصُورة ك «أمر» ، و «اخْتَار» ، و «استغْفَرَ» ، و «صَدَّق» و «سَمَّى» ، و «دَعَا» بمعناه، و «زَوَّج» ، و «نَبَّأ» ، و «أنْبَأ» ، و «خَبَّر» ، و «أخْبَر» ، و «حَدَّث» غير مُضَمَّنَةٍ معنى «أعْلَم» ، وكلُّها يَجُوز فيها إسْقَاط الخَافِضِ والنَّصب، ولَيْسَ هذا مِنْها. وقوله: «ولا يجُوز أن يكُونَ حالاً» يعني: أنَّه لو تَأخَّر بعد «أن آمَنَّا» لَفْظَة «مِنّا» ، لجاز أن تكون حَالاً من المصْدر المؤوَّل من «أنْ» وصلَتِها، ويَصِير التَّقْدِير: هل تكرهون إلاَّ الإيمان في حال كونه «منا» ، لَكِنَّهُ امتنع من تقدُّمِهِ على «أنْ آمنَّا» للوجهين المذكورين. أحدهما: تقدُّمه على «إلاّ» ويعني بذلك: أن الحال لا تتقدم على «إلاَّ» . قال شهابُ الدِّين: ولا أدري ما يمنع ذلك لأنه إذا جعل «مِنَّا» حالاً من «أن» و «ما» في حيزها كان حال الحال مقدراً، ويكونُ صاحب الحال محصوراً، وإذا كان صاحب الحال محصوراً وَجَبَ تقديم الحال عليه، فيقال: «مَا جَاءَ رَاكِباً إلاَّ زَيْدٌ» ، و «ما ضَربْتُ مَكْتُوفاً إلا عَمْراً» ، ف «راكباً» و «مكتوفاً» حالان مقدمان وجوباً لحصر صاحبيهما فهذا مثله. وقوله: « [والثاني: تقدُّم الصلة على الموصول] لم تتقدَّم صلة على موصول. بيانه: أنَّ الموصول هو» أنْ «، والصلة» آمَنَّا «، و» منَّا «ليس متعلّقاً بالصلة، بل هو معمول لمقدَّر، ذلك المقدر في الحقيقة منصوب ب» تنقمون «، فَمَا أدْرِي ما توهمه حتى قال ما قال؟ على أنه لا يجوز أن يكون حالاً، لكن لا لما ذكر؛ بل لأنه يؤدي إلى أنه يصير التقدير:» هَلْ تَنْقِمُونَ إلا إيماننا منا «فمن نفس قوله:» إيماننا «فهم أنَّه منَّا، فلا فائدة فيه حينئذٍ. فإن قيل: تكون حالاً مؤكدة. قيل: هذا خلاف الأصل، وليس هذا من مَظَانِّهَا، وأيضاً فإنَّ هذا شبيه بتهيئة العامل للعمل، وقطعه عنه، فإن» تَنْقِمُونَ «يطلب هذا الجار طلباً ظاهراً. وقرأ الجمهور» وما أنزل إلَيْنَا وما أنزل [مِنْ قَبْل] «بالبناء للمفعول فيهما، وقرأ أبو نهيك:» أنْزل، وأنْزل «بالبناء للفاعل، وكلتاهما واضحة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 404 فصل المعنى: قُلْ لأهل الكتاب: لِمَ اتخذتم هذا الدين هزواً ولعباً، ثم قال على سبيلِ التعجب: هل تجدون في هذا الدين إلا الإيمان بالله؟! فهو رَأسُ جميع الطاعات، وإلاَّ الإيمان بمحمد، وبجميع الأنبياء فهو الحق والصدق؛ لأنه إذا كان الطريق إلى تصديق بعض الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في ادعاء الرسالة والنبوة هو المعجزة. ثم رأينا أن المعجز حصل على يدي محمد - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فوجب الإقرار بكونه رسولاً، فأمَّا الإقرار بالبعض وإنكار البعض فذلك تناقض ومذهب باطل. قوله تعالى: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} قرأ الجمهور: «أنَّ» مفتوحة الهمزة. وقرأ نعيم بن ميسرة بكسرها. فأمَّا قراءة الجمهور فتحتمل «أنَّ» فيها أن تكون في محل رفع، أو نصب، أو جر، فالرفع من وجه واحد، وهو أن تكون مبتدأ، والخبر محذوف. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «والخبر محذوف، أي: فسقكم ثابت معلوم عندكم؛ لأنكم علمتم أنَّا على الحق، وأنْتُمْ على الباطل، إلا أن حب الرئاسة، وجمع الأموال لا يدعكم فتنصفوا» . فقدر الخبر متأخراً. قال أبُو حيَّان: ولا ينبغي أن يُقَّدَرَ الخبر إلا مقدماً؛ لأنه لا يبتدأ ب «أن» على الأصح إلا بعد «أمَّا» انتهى. ويمكن أن يقال: يُغْتَفَرُ في الأمور التقديرية ما لا يغتفر في اللفظية، لا سيما أنَّ هذا جارٍ مجرى تفسير المعنى، والمراد إظهار ذلك الخبر [كيف] يُنْطَقُ به؛ إذْ يقال: إنه يرى جواز الابتداء ب «أنَّ» مطلقاً، فحصل في تقدير الخبر وجهان بالنسبة إلى التقديم والتأخير. وأمَّا النَّصْبُ فمن ستَّةِ أوجه: أحدها: أن يُعْطَفَ على «أن آمنَّا» واستشكل هذا التخريج من حيث إنه يصير التقدير: هل تكرهون إلا إيماننا، وفسق أكثركم، وهم لا يعترفون بأن أكثرهم فاسقون حتى يكرهونه. وأجاب الزمخشري وغيره عن ذلك بأن المعنى: «وما تنقمون منا إلا الجمع بين إيماننا، وبين تمرُّدكم، وخروجكم عن الإيمان، كَأنَّه قِيلَ: وما تنكرون منا إلا مخالفتكم حَيْثُ دخلنا في دين الإسلام وأنتم خارجون منه» . ونقل الواحدي عن بعضهم أن ذلك من باب المُقَابَلَة والازدواج، يعني أنه لما نقم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 405 اليهود عليهم الإيمان بجميع الرسل، وهو مما لا يُنْقَمُ ذَكَرَ في مُقَابلته فسقَهُمْ، وهو مما يُنْقَم، ومثل ذلك حَسًنٌ في الازدواج، يقول القائل: «هل تنقم مني إلا أن عفوت عنك، وأنَّكَ فاجر» فيحسن ذلك لإتمام المعنى بالمقابلة. وقال أبُو البقاء: والمعنى على هذا: إنكم كرهتم إيماننا وامتناعكم، أي كرهتم مخالفتنا إياكم وهذا كقولك للرجل: «ما كرهت مني إلا أني مُحَبَّبٌ للناس، وأنك مبغض» ، وإن كان لا يعترف بأنه مبغض. وقال ابن عطية: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} هو عند أكثر المتأوِّلين معطوف على قوله: «أنْ آمنَّا» ، فيدخل كونهم فاسقين فيما نَقَمُوهُ وهذا لا يتجه معناه. ثم قال بعد كلام: «وإنَّمَا يَتَّجِهُ على أن يكون معنى المحاورة: هل تنقمون منا إلا مجموع هذه الحال من أنا مؤمنون وأنتم فاسقون، ويكون {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} مما قرره المخاطب لهم، وهذا [كما] يقول لمن يخاصم:» هل تنقم عليَّ إلا أن صدقت أنا، وكذبت أنت «، وهو لا يُقِرُّ بأنه كاذب، ولا ينقم ذلك، لكن معنى كلامك: هل تنقم إلا مجموع هذه الحال» وهذا هو مجموع ما أجاب به الزَّمَخْشَرِيُّ والواحِديُّ. الوجه الثاني من أوجه النصب: أن يكون معطوفاً على «أنْ آمنَّا» أيضاً، ولكن في الكلام مضاف محذوف لصحة المعنى، تقديره: «واعتقاد أنَّ أكثركم فاسقون» وهو معنى واضح، فإنَّ الكفار ينقمون اعتقاد المؤمنين أنهم فاسقون. الثالث: أنه منصوب بفعل مقدر، تقديره: هل تنقمون منا إلا إيماننا، ولا تنقمون فسق أكثركم. الرابع: أنه منصوب على المعيَّة، وتكون «الواو» بمعنى «مع» تقديره: «وما تنقمون منا إلا الإيمان مع أن أكثركم فاسقون» . ذكر جميع هذه الأوجه أبُو القَاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. الخامس: أنه منصوب عَطْفاً على «أنْ آمنَّا» ، و «أن آمنَّا» مفعول من أجله فهو منصوب، فعطف هذا عليه، والأصل: «هل تنقمون إلا لأجل إيماننا، ولأجل أن أكثركم فاسقون» ، فلمَّا حذف حرف الجر من «أنْ آمنَّا» بقي منصوباً على أحد الوجهين المشهورين، إلا أنه يقال هنا: النصب هنا ممتنع من حيث إنَّهُ فُقِد شرطٌ من المفعول له، وهو اتحاد الفاعل، والفاعل هنا مختلف، فإن فاعل الانتقام غير فاعل الإيمان، فينبغي أن يُقَدَّر هنا محلُّ «أنْ آمنَّا» جراً ليس إلاَّ، بعد حذف حرف الجر، ولا يجري فيه الخلاف المشهور بين الخَلِيلِ وسيبَويْهِ في محل «أنْ» إذَا حذف منها حرف الجر، لعدم اتحاد الفاعل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 406 وأجِيبَ عن ذلك بأنَّا وإنْ اشترطنا اتحاد الفاعل فإنَّا نجوِّزُ اعتقادَ النصب في «أنْ» و «أنَّ» إذا وقعا مفعولاً من أجله بعد حذف حرف الجر لا لكونهما مفعولاً من أجله، بل من حيث اختصاصهما من حيث هما بجواز حذف حرف الجر لطولهما بالصلة وفي هذه المسألة بخصوصها خلاف مذكور في بابه، ويدُلُّ على ذلك ما نقله الواحدي عن صاحب «النَّظْم» ، فإنَّ صاحب «النظم» ذكر عن الزجاج معنًى، وهو: هل تكرهون إلا إيماننا على دينكم، وهذا معنى قول الحسنِ: نقمتم علينا. قال صاحب «النَّظْمِ» : فعلى هذا يجب أن يكون موضع «أن» في قوله: {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} نَصْباً بإضمار «اللام» على تأويل «ولأنَّ أكْثَرَكُمْ» ، والواو زائدة، فقد صرح صاحب النظم بما ذكرناه. الوجه السادس: [أنه] في محل نَصْب على أنه مفعول من أجله ل «تنقمون» والواو زائدةٌ كما تقدَّم تقريره عن الزمخشري. [وهذا الوجه الخامس يحتاج إلى تقرير] ليفهم معناه، قال أبُو حيَّان بعد نقله الأوجه المتقدمة: «ويظهر وجه آخر [لعلَّه] يكون الأرجح، وذلك أن» نَقَمَ «أصله أنْ يتعدى ب» على «تقول:» نَقَمْتُ عَلَيْه «، ثم تبني منه [افتعل إذ ذاك] ب» من «ويضمَّن معنى الإصابة بالمكروه، قال تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] ، ومناسبة التضمين فيها أنَّ مَنْ عاب على شخص فعله، فهو كاره له، ومصيبه عليه بالمكروه، فجاءت هنا» فَعَل «بمعنى» افْتَعَل «ك» قدر «و» اقتدر «، ولذلك عُدِّيت ب» من «دون» على «التي أصلها أن تتعدى بها، فصار المعنى: وما تنالون منا، وما تصيبوننا بما نكره، إلا أنْ آمَنَّا، [أي: إلاَّ لأنْ آمنا،] فيكون» أن آمنَّا «مفعولاً من أجله، ويكون {وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} معطوفاً على هذه العلة، وهذا - والله أعلم - سبب تعديته ب» من «دون» على «انتهى ما قاله، ولم يصرح بكون حينئذٍ في محلِّ نصب أو جرٍّ، إلاَّ أن ظاهر حاله أن يُعتقَدَ كونه في محل جرٍّ، فإنه إنَّمَا ذكر في أوجه الجر. وأمَّا الجَرُّ فمن ثلاثة أوجه: أحدها: أنه عطف على المؤمن به. قال الزَّمَخْشَرِيُّ:» أي: وما تنقمون منَّا إلا الإيمان بالله، وما أنزل، وبأن أكْثرَكُمْ فِاسِقُونَ «وهذا معنى واضح، قال ابن عطية:» وهذا مستقيمُ المعنى؛ لأن إيمان الجزء: 7 ¦ الصفحة: 407 المؤمنين [بأنَّ] أهل الكتاب المستمرين على الكفر بمحمدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فَسَقَةٌ هو مما ينقمونه «. الثاني: أنَّهُ مجرورٌ عَطْفاً على علّةٍ محذوفة، تقديرها: ما تنقمون منا إلا الإيمان لقلة إنصافكم وفسقكم، واتباعكم شهواتكم، ويدلُّ عليه تفسير الحسن البصري» لفسقكم نقمتم علينا، ويروى لفسقكم تنقمون علينا الإيمان «، [ويروى» لفسقهم نقموا علينا الإيمان «. عطفاً على محل» أن آمنا «إذا جعلناه مفعولاً من أجله، واعتقدنا أن» أن «في محل جر] . الثالث: أنَّهُ في محل جر بعد حذف الحرف وقد تقدم ذلك في الوجه الخامس، فقد تحصَّل في قوله تعالى:» وأن أكثركم «أحد عشر وجهاً وجهان في حالة الرفع بالنسبة إلى تقدير الخبر، هل يُقَدَّرُ مُقدَّماً وجوباً أو جوازاً؟ وقد تقدم ما فيه، وستة أوجه أنها على الاستئناف، أخبر أن أكثرهم فاسقون، ويجوز أن تكون منصوبة المحلِّ لعطفها على معمول القول، أمر نبيه - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أن يقول لهم: {هل تنقمون منا} إلى آخره، وأن يقول لهم: إنَّ أكثركم فاسقون، وهي قراءة [جليَّة] واضحة. فصل وتفسير المعنى على وجوه الإعْرَاب المتقدمة. قال ابن الخطيب فإن قيل: كيف تنقم اليهود على المسلمين وكون أكثرهم فاسقين. فالجواب أنه كالتعريض؛ لأنهم لم يتبعوهم على فسقهم أي: أنْ آمَنَّا، وما فسقنا مثلكم وهو كقولهم: «ما تنقم مني إلا أنِّي عفيف، وأنت فَاجِرٌ» ، على وجه المقابلة، أو لأن أحد الخصمين إذا كان متصفاً بصفات حميدة وخصمه بضد ذلك كان ذكر صفات الخير الحميدة مع صفات خصمه الذميمة أشد تأثيراً ونكاية مِنْ ألاَّ يذكر الذميمة، فتكون الواو بمعنى «مع» أو هو على حذف مضاف أيْ: واعتقاد أن أكثركم فاسقون، والمعنى: بأن أكثركم فاسقون نقمتم الإيمان علينا. أو تعليل معطوف على محذوف كأنه قيل: نقمتم لقلة إنصافكم ولأن أكثركم فاسقون. فصل اليهود كلهم فُسَّاقٌ وكُفَّارٌ فَلِمَ خُصَّ الأكثر بوصف الفسق؟ فالجواب من وجهين: الأول: يعني أنْ أكثركم إنَّمَا يقولون [ما يقولون] ويفعلون ما يفعلون طلباً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 408 للرياسة، والجاه وأخذ الرشوة، والتقرب إلى الملوك، فإنَّهُمْ في دينهم فُسَّاقٌ لا عُدولٌ، فإن الكافر المبتدع قد يكون عادلاً في دينه، وفاسقاً في دينه، ومعلومٌ أن كلهم ما كانوا كذلك فلهذا خص أكثرهم بهذا الحكم. الثاني: ذكر أكثرهم لِئلاَّ يظن أن من [آمن منهم داخل في ذلك] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 قوله تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} : قرأ الجمهور، «أنَبِّئُكُمْ» بتشديد الباء من نبأ، وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب «أنْبِئُكُمْ» بالتخفيف من أنبأ وهما لغتان فصيحتان والمخاطب في «أنبئكم» فيه قولان: أحدهما: وهو الذي لا يعرف أهل التفسير غيره - أن المراد به أهل الكتاب الذين تقدم ذكرهم. والثاني: أنه للمؤمنين. قال ابن عطية: ومشى المفسرون في هذه الآية على أن الذين أمرَ أن يقول لهم: «هل أنبئكم» هم اليهود والكفار، والمتخذون ديننا هُُزُواً ولعباً. قال ذلك الطبري، ولم يسند في ذلك [إلى] متقدم شيئاً، والآية تحتمل أن يكون القول للمؤمنين. انتهى. فعلى كونه ضمير المؤمنين واضحٌ، وتكون «أفْعَلُ» التفضيل أعني «بِشَرّ» على بابها؛ إذ يصير التقدير: قل هل أنبئكم يا مؤمنون بشر من حال هؤلاء الفاسقين، أولئك أسلافهم الذين لعنهم الله، وتكون الإشارة بذلك إلى حالهم، كذا قدره ابن عطية، وإنما قدَّرَهُ مضافاً، وهو حال ليصح المعنى، فإن ذلك إشارة للواحد، ولو جاء من غير حذف مضاف لقيل: بشر من أولئكم بالجمع. قال الزمخشري: «ذلك» إشارة إلى المنقوم، ولا بد من حذف مضاف قبله أو قبل «من» تقديره: بِشَرٍّ من أهل ذلك، أو دين من لعنه [الله] انتهى. ويجوز ألاَّ يقدر مضاف محذوف لا قَبْلُ ولا بَعْدُ، وذلك على لغة من يشير للمفرد والمثنى والمجموع تذكيراً وتأنيثاً بإشارة الواحد المذكر، ويكون «ذلك» إشارة إلى الأشخاص المتقدمين الذين هم أهل الكتاب، كأنه قيل: بشرٍّ من أولئك، يعني أن السَّلف الذي لهم شرٌّ من الخَلَفِ، وعلى هذا يجيء قوله: «مَنْ لَعَنَه» مفسراً [لنفس «ذلك» وإن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 409 كان ضمير أهل الكتاب وهو قول عامة المفسرين فيشكل ويحتاج إلى جواب] ووجه الإشكال أنه يصير التقدير: هل أنبئكم يا أهل الكتاب بِشَرٍّ من ذلك، و «ذلك» يرادُ به المنقوم، وهو الإيمان، وقد علم أنه لا شَرَّ في دين الإسلام ألبتة، وقد أجاب الناس عنه، فقال الزمخشري عبارةً قرر بها الإشكال المتقدم، وأجاب عنه بعد أن قال: فإن قلت: المثوبة مختصة بالإحسان، فكيف وقعت في الإساءة؟ قلت: وضعت موضع عقوبة، فهو كقوله: [الوافر] 1988 - ... ... ... ... ... ..... تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ ومنه {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] ، وتلك العبارة التي ذكرتها [لك] هي أن قال: «فإن قلت: المُعَاقب من الفريقين هم اليهود، فلمَ شورك بينهم في العقوبة؟ قلت: كان اليهود - لعنوا - يزعمون أن المسلمين ضالُّون مستوجبون للعقوبة، فقيل لهم: مَنْ لعنه الله شَرٌّ عقوبة في الحقيقة، فاليقين لأهل الإسلام في زعمكم ودعواكم» . وفي عبارته بعض علاقة وهي قوله: «فَلِمَ شورك بينهم» أي: بين اليهود وبين المؤمنين. وقوله: «من الفريقين» يعني بهما أهل الكتاب المخاطبين ب «أنبئكم» ، ومَنْ لعنه الله وغضب عليه، وقوله: «في العقوبة» ، أي: التي وقعت المثوبة موقعها، ففسرها بالأصل، وفسَّر غيره المثوبة هنا بالرجوع إلى الله - تعالى - يوم القيامة، ويترتب على التفسيرين فائدة تظهر قريباً. قال القرطبي: المعنى فبشِّر من نقمكم علينا، وقيل: من شر ما تريدون لنا من المكروه، وهذا جواب لقولهم: «ما نعرف ديناً أشرَّ من دينكم» . و «مَثُوبَةً» نصبٌ على التمييز، ومميَّزُها «شَرٌّ» ، وقد تقدَّم في البقرة الكلامُ على اشتقاقها ووزنها، فَلْيُلْتَفَتْ إليه. قوله تعالى: «عِنْدَ الله» فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلقٌ بنفس «مَثُوبَةٌ» ، إن قُلْنا: إنها بمعنى الرجوع؛ لأنك تقول: «رَجَعْتُ عِنْدَهُ» ، والعندية هنا مجازية. والثاني: أنه متعلِّق بمحذوف؛ لأنه صفة ل «مَثُوبَةً» ، وهو في محلِّ نصبٍ، إن قلنا: إنها اسمٌ مَحْضٌ وليستْ بمعنى الرجوعِ، بل بمعنى عقوبة. وقرأ الجمهورُ: «أنَبِّئُكُمْ» بتشديد الباء من «نَبَّأ» ، وقرأ إبراهيم النَّخَعِيُّ ويحيى بْنُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 410 وثَّابٍ: «أنْبِئُكُمْ» بتخفيفها من «أنْبَأَ» ، وهما لغتان فصيحتان، والجمهور أيضاً على «مَثُوبَة» بضم الثاء وسكون الواو، وقرأ الأعرَجُ وابن بُرَيْدَة ونبيح وابن عمران: «مَثْوبة» بسكون الثاء وفتح الواو، وجعلها ابن جِنِّيّ في الشذُوذِ؛ كقولهم «فَاكِهَةٌ مَقْودَةٌ للأذَى» ، بسكون القاف وفتح الواو، يعني: أنه كان من حقِّها أن تُنْقَلَ حركةُ الواو إلى الساكن قبلها، وتُقْلب الواوُ ألفاً، فيقال: مَثَابَة ومقادَة كما يقال: «مَقَام» والأصل: «مَقْومٌ» . قوله تعالى: «مَنْ لَعَنَهُ» في محلِّ «مَنْ» أربعةُ أوجه: أحدها: أنه في محلِّ رفع على خبر مبتدأ مضمرٍ، تقديره: هُوَ مَنْ لَعنَهُ الله فإنه لما قال: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك} ، فكأنَّ قَائِلاً قال: من ذلك؟ فقيل: هو من لَعَنَهُ الله. ونظيرُهُ قوله تعالى: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار} [الحج: 72] أي: هو النار. وقدَّر مكيٌّ قبله مضافاً محذوفاً، قال: «تقديرُه: لَعْنُ مَنْ لَعَنَهُ الله» ، ثم قال: وقيل: «مَنْ» في موضعِ خَفْضٍ على البدلِ من «بِشَرٍّ» بدلِ الشيء من الشَّيْء، وهو هو، وكان ينبغي له أن يقدِّرَ في هذا الوجه مضافاً محذوفاً؛ كما قدَّره في حالة الرفع؛ لأنه إنْ جَعَلَ «شَرًّا» مراداً به معنًى، لزمه التقديرُ في الموضعين، وإن جعله مراداً به الأشخاصُ، لزمَهُ ألاَّ يُقَدَّر في الموضعَيْن. الثاني: أنه في محل جر، كما تقدَّم بيانُه عن مكيٍّ والمعنى: أنبئكم عن من لَعَنَهُ الله. الثالث: أنه في محلِّ نصبٍ على البَدَل من محل «بِشَرٍّ» . الرابع: أنه في محلِّ نصبٍ على أنه منصوبٌ بفعل مقدَّر يدل عليه «أنَبِّئُكُمْ» ، تقديره: أعَرِّفُكُمْ من لَعَنَهُ الله، ذكره أبو البقاء، و «مَنْ» يُحْتَملُ أن تكون موصولةً، وهو الظاهرُ، ونكرةً موصوفةً، فعلى الأوَّل: لا محلَّ للجملة التي بعدها، وعلى الثاني: لها محلٌّ بحسب ما يُحْكَمُ على «مَنْ» بأحد الأوجه السابقة، وقد حمل على لفظها أولاً في قوله «لَعَنَهُ» و «عَلَيْهِ» ، ثم على معناها في قوله: «مِنْهُمُ القِرَدَة» ، ثم على لفظها في قوله: «وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ» ثم على لفظها في قوله: «أولَئِكَ» ، فجَمَع في الحمل عليها أربعَ مرَّاتٍ. و «جَعَلَ» هنا بمعنى «صَيَّرَ» فيكون «مِنْهُمْ» في محل نصب مفعولاً ثانياً، قُدِّم على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 411 الأول فيتعلق بمحذوف، أي: صَيَّر القردةَ والخنازيرَ كائِنِينَ منهم، وجعلها الفارسيُّ في كتاب «الحُجَّة» له بمعنى «خَلَقَ» ، قال ابن عطية: «وهذه منه - رَحِمَهُ اللَّهُ - نزعةٌ اعتزاليَّة؛ لأن قوله:» وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ «، تقديره: ومن عَبَد الطَّاغُوت، والمعتزلةُ لا ترى أن الله تعالى يُصَيِّرُ أحَداً عابد طاغُوتٍ» انتهى، والذي يُفَرُّ منه في التَّصْييرِ هو بعينه موجودٌ في الخَلْق. وجعل أبو حيان قوله تعالى {مَن لَّعَنَهُ الله} إلى آخره - مِنْ وَضْعِ الظاهرِ موضعَ المضْمَر؛ تنبيهاً على الوصف الذي به حصل كونهم شرًّا مثوبةً، كأنه قيل: قل هَلْ أنبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلك عند الله مَثُوبَةً؟ أنتم، أيْ: هُمْ أنْتُمْ، ويَدُلُّ على هذا المعنى قوله بعدُ: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا} [المائدة: 61] ، فيكون الضميرُ واحداً، وجعل هذا هو الذي تقتضيه فصاحةُ الكلام، وقرأ أبيُّ بْنُ كَعْبٍ وعبد الله بْنُ مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «من غضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَجَعَلهُمْ قِرَدَةً» وهي واضحةٌ. فصل المُرادُ {مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ} يعني: اليَهُودَ، {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة} : وهم أصْحَابُ السَّبْتِ، و «الخَنَازِير» : وهم كُفَّارُ مائِدة عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ورُوِي [عن] عَلِيّ بن أبي طَلْحَة عن ابن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّ الممسُوخِين مِنْ أصْحَاب السَّبْت فشبابُهُم مُسِخُوا قِرَدَةً، وَمَشَايِخُهُمْ مُسِخُوا خَنَازِيرَ. قوله تعالى: «وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ» في هذه الآية أربعٌ وعشرون قراءة، اثنتان في السَّبْعِ، وهما «وعَبَدَ الطَّاغُوت» على أنَّ «عَبَدَ» فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ للفاعل، وفيه ضميرٌ يعودُ على «مَنْ» ؛ كما تقدَّم، وهي قراءة جمهور السَّبْعة [غيرَ حَمْزة] أي: جعل منهم من «عَبَدَ الطَّاغُوتَ» أي: أطَاعَ الشَّيْطَان فيما سَوَّل له، ويؤيده قراءة ابن مسعُودٍ «وَمَنْ عَبَدُوا الطَّاغُوتَ» . والثانية: «وَعبُدَ الطَّاغُوتِ» بضم الباء، وفتح الدال، وخَفْض الطاغوتِ، وهي قراءةُ حمزة - رَحِمَهُ اللَّهُ - والأعْمَشِ ويحيى بْنِ وثَّاب؛ وتوجيهُها كما قال الفارسيُّ وهو أن « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 412 عَبُداً» واحدٌ يُرادُ به الكَثْرةُ، كقوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} [النحل: 18] وليس بجَمْعِ «عَبْدٍ» ؛ لأنه ليس في أبنيةِ الجَمْعِ مثلُه، قال: «وقد جاءَ على فعُلٍ؛ لأنه بناءٌ يُرَادُ به الكثرةُ والمبالغةُ في نحْوِ يَقُظٍ وندُسٍ؛ لأنه قد ذهب في عبادة الطاغوت كلَّ مذْهَبٍ، وبهذا المعنى أجاب الزمخشريُّ أيضاً، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: معناه الغُلُّو في العبوديَّة؛ كقولهم:» رَجُلٌ حَذُرٌ وفَطُنٌ «للبليغ في الحَذَر والفطْنة؛ وأنشد لِطَرَفَة: [الكامل] 1989 - أبَنِي لُبَيْنَى، إنَّ أمَّكُم ... أمَةٌ، وَإِنَّ أبَاكُمُ عَبُدُ قد سَبَقُهمَا إلى هذا التوجيهِ أبو إسْحَاق، وأبو بَكْر بنُ الأنْبَارِيِّ، قال أبو بَكْرٍ:» وضُمَّتِ الباءُ للمبالغةِ؛ كقولهم للفَطِن: «فَطُنٌ» وللحَذِر: «حَذُرٌ» ، يَضُمُّون العين للمبالغةِ؛ قال أوس بن حُجْرٍ: [الكامل] 1990 - أبَنِي لُبَيْنَى، إنَّ أمَّكُمُ ... أمَةٌ، وإنَّ أبَاكُمُ عَبُدُ بضمِّ الباء «. ونَسَب البيت لابن حُجْر، وقد تقدَّم أنه لطرفة، ومِمَّنْ نَسَبه لطرفة الشيخُ شهابُ الدينِ أبو شَامَةَ. وقال أبو إسحاق: ووجْهُ قراءةِ حمزة: أنَّ الاسم بُني على» فَعُلٍ «؛ كما تقول:» رَجُلٌ حَذُرٌ «، وتأويلُه أنه مبالغٌ في الحَذَرِ، فتأويلُ» عَبُدٍ «: أنَّه بلغَ الغايةَ في طاعة الشيطانِ، وكأنَّ هذا اللفظ لفظٌ واحدٌ يَدُلُّ على الجَمْعِ؛ كما تقول للقوم» عَبُدُ العَصَا «تريدُ: عَبيدَ العَصَا، فأخذ أبو عليّ هذا، وبَسَطَهُ. ثم قال» وجاز هذا البناءُ على عَبْدٍ؛ لأنه في الأصلِ صِفَةٌ، وإن كان قد استُعْمِلَ استعمالَ الأسماءِ، لا يُزيله ذلك عن حُكْمِ الوصْفِ، كالأبْطَحِ والأبْرَقِ استُعْمِلاَ استعمال الأسماء حتَّى جُمِعَا جَمْعَهَا في قولهم: أبَارِق وأبَاطِح كأجَادِل، جَمْع الأجْدَل، ثم لم يُزِلْ ذلك عنهما حكم الصفة؛ يَدُلُّكَ على ذلك مَنْعُهم له الصَّرْف؛ كأحْمَرَ، وإذا لم يَخْرج العبدُ عن الصفة، لم يمتنعْ أنْ يُبنَى بناءَ الصفات على فَعُلٍ، نحو: يَقُظٍ «. وقال البَغَوِي: هُمَا لُغَتَانِ:» عَبْد «بجزم الباء، و» عَبُد «بضمها، مثل سَبْع، وَسَبُع. وطعن بعض الناس على هذه القراءة، ونسب قارئها إلى الوهْم؛ كالفراء، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 413 والزجاج، وأبي عُبَيْدٍ، ونصيرٍ الرازيِّ النحويِّ صاحب الكسائيِّ؛ قال الفرَّاء:» إنما يجوز ذلك في ضرورةِ الشِّعْرِ - يعني ضمَّ باء «عَبُدٍ» - فأمَّا في القراءة فَلاَ «، وقال أيضاً:» إنْ تكنْ لغةً مِثْلَ حَذُرٍ وعَجُلٍ، جاز ذلك، وهو وجهٌ، وإلاَّ فلا تجوزُ في القراءة «، وقال الزَّجَّاج:» هذه القراءةُ ليستْ بالوجهِ؛ لأنَّ عَبُداً على فَعُلٍ، وهذا ليس من أمثلةِ الجَمْعِ «، وقال أبو عُبَيْدٍ:» إنما معنى العَبُدِ عندهم الأعْبُدُ، يريدون خَدَم الطَّاغوتِ، ولم نجدْ هذا يَصِحُّ عند أحدٍ من فصحاء العرب أن العَبْدَ يقال فيه عَبُدٌ، وإنما عَبْدٌ وأعْبُدٌ «، وقال نصيرٌ الرزايُّ:» هذا وَهْمٌ مِمَّن قرأ به، فليتَّق الله مَنْ قرأ به، وليسألْ عنه العلماء حتى يُوقَفَ على أنه غير جائز «. قال شهاب الدين: قد سألوا العلماءَ عن ذلك ووجدوه صحيحاً في المعنى بحمد الله تعالى، وإذا تواتر الشيءُ قرآناً، فلا التفاتَ إلى مُنْكِره؛ لأنه خَفِيَ عليه ما وَضَح لغيره. وقَدْ ذَكَرُوا في تَوْجِيه هذه القِرَاءة وُجُوهاً: مِنْهَا ما تقدَّمَ [من أنَّهم] ضَمُّوا البَاءَ للمبالَغَة، كقولِهِم: «حَذُر» و «فَطُن» ومنها ما نقله البَغَوِي وغيره: أنَّ «العبْد» و [ «العبُد» ] لغتان كقولهم سَبْع، وسَبُع. ومنها: أن العَبْد جمعه عِبَاد، والعِبَادُ جَمْعُ عُبُد، كثِمَار وَثُمُر، فاستثقلوا ضَمَّتَيْن مُتَواليتيْن فأبْدِلت الأولى فَتْحَة. ومنها: يحتمل أنهم أرادوا أعْبُد الطَّاغُوت، مثل فَلْسٍ وأفْلُسٍ ثم [حُذِفَتِ «الهَمْزَةُ» ونقلت حَرَكَتُها إلى «العَيْن» . ومنها: أنه أراد: وعبدةَ الطَّاغُوت، ثم] حذفت الهاء وضم الباء لِئَلاَّ يُشْبِه الفِعْلَ. وأمَّا القراءاتُ الشاذَّةُ فقرأ أبَيٌّ: «وعَبَدُوا» بواو الجمع؛ مراعاةً لمعنى «مَنْ» ، وهي واضحةٌ، وقرأ الحسنُ البصريُّ في رواية عبَّادٍ: «وعَبْدَ الطَّاغُوتَ» بفتح العين والدال، وسكون الباء، ونصب التاء من «الطَّاغُوتَ» ، وخرَّجها ابن عطية على وجهيْنِ أحدهما: أنه أراد: «وعَبْداً الطَّاغُوتَ» ، فحذف التنوينَ من «عَبْداً» ؛ لالتقاء الساكنين؛ كقوله: [المتقارب] 1991 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وَلاَ ذَاكِرِ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا والثاني: أنه أراد «وعَبَدَ» بفتح الباء على أنه فِعْلٌ ماضٍ؛ كقراءة الجماعة، إلا أنه سكَّن العينَ على نحوِ ما سكَّنها في قول الآخر: [الطويل] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 414 1992 - وَمَا كُلُّ مَغْبُونٍ وَلَوْ سَلْفَ صَفْقُهُ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... بسكون اللام، ومثله قراءةُ أبي السَّمَّال: {وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ} [المائدة: 64] بسكون العين، قال شهاب الدين: ليس ذلك مثل «لُعْنُوا» ؛ لأنَّ تخفيف الكسْرِ مقيسٌ؛ بخلاف الفتح؛ ومثلُ «سَلْفَ» قولُ الآخر: [الرمل] 1993 - إنَّمَا شِعْرِيَ مِلْحٌ ... قَدْ خُلِطْ بجُلْجُلاَنِ من حيث إنه خَفَّف الفَتْحة. وقال أبو حيان - بعد أن حكى التخريج الأوَّل عن ابن عطية -: لا يَصِحُّ؛ لأنَّ عَبْداً لايمكنُ أن ينصبَ الطاغوتَ؛ إذ ليس بمصدرٍ ولا اسمِ فاعلٍ، فالتخريجُ الصحيحُ أن يكون تخفيفاً من «عَبَدَ» ك «سَلْفَ» في «سَلَفَ» ، قال شهاب الدين: لو ذكر التخريجَيْن عن ابن عطيَّة، ثم استشكل الأولَ، لكان إنصافاً؛ لئلا يُتَوَهَّم أن التخريج الثاني له، ويمكن أن يقال: إنَّ «عَبْداً» لِما في لفظه من معنى التذلل والخضوعِ دَلَّ على ناصبٍ للطاغوت حُذِفَ، فكأنه قيل: مَنْ يعبدُ هذا العَبْدَ؟ فقيل: يَعْبُدُ الطاغوتَ، وإذا تقرَّر أنَّ «عَبْدَ» حُذِفَ تنوينُه فهو منصوبٌ عطْفاً على القِردَةِ، أي: وجعلَ منْهُمْ عَبْداً للطَّاغوتِ. وقرأ الحسنُ أيضاً في روايةٍ أخرى كهذه القراءة، إلا أنه جَرَّ «الطَّاغُوت» وهي واضحةٌ، فإنه مفرد يُرادُ به الجنسُ أضيفَ إلى ما بعده، وقرأ الأعْمَشُ والنخَعِيُّ وأبو جعفر: «وعُبِدَ» مبنيًّا للمفعول، «الطَّاغُوتُ» رفعاً، وقراءة عبد الله كذلك، إلا أنَّه زاد في الفعل تاء التأنيث، وقرأ: «وعُبِدَتِ الطَّاغُوتُ» والطاغوتُ يذكَّر ويؤنَّث؛ قال تعالى: {والذين اجتنبوا الطاغوت أَن يَعْبُدُوهَا} [الزمر: 17] وقد تقدَّم في البقرة [الآية: 25] ، قال ابن عطية: «وضَعَّفَ الطبريُّ هذه القراءةَ، وهي متجهةٌ» ، يعني: قراءةَ البناءِ للمفعولِ، ولم يبيِّنْ وجهَ الضعفِ، ولا توجيهَ القراءة، ووجهُ الضعْفِ: أنه تخلو الجملة المعطوفة على الصِّلَةِ من رابطٍ يربُطُها بالموصولِ؛ إذ ليس في «عُبِدَ الطَّاغُوتُ» ضميرٌ يعودُ على «مَنْ لَعَنَهُ الله» ، لو قلت: «أكْرَمْتُ الذينَ أهَنْتَهُمْ وضُرِبَ زَيْدٌ» على أن يكون «وضُرِبَ» عطفاً على «أكْرَمْتُ» لم يَجُزْ، فكذلك هذا، وأمَّا توجيهُها، فهو كما قال الزمخشريُّ: إنَّ العائدَ محذوفٌ، تقديرُه: «وعُبِدَ الطَّاغُوتُ فِيهِمْ أوْ بِيْنَهُمْ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 415 وقرأ ابن مسعُود في رواية عبد الغفَّار عن علقمة عنه: «وعَبُدَ الطَّاغُوتُ» بفتح العين، وضمِّ الباء، وفتحِ الدالِ، ورفعِ «الطَّاغُوتُ» ، وفيها تخريجان: أحدهما: - ما ذكره ابن عطية - وهو: أن يصيرَ له أنْ عُبِدَ كالخُلُقِ والأمْرِ المعتاد المعروفِ، فهو في معنى فَقُهَ وشَرُفَ وظَرُفَ، قال شهاب الدين: يريد بكونه في معناه، أي: صار له الفِقْهُ والظَّرْفُ خُلُقاً معتاداً معروفاً، وإلاَّ فمعناه مغايرٌ لمعاني هذه الأفعال. والثاني: - ما ذكره الزمخشري - وهو: أنْ صارَ معبوداً من دونِ الله ك «أمُرَ» ، أي: صَارَ أميراً، وهو قريبٌ من الأوَّلِ، وإنْ كان بينهما فرقٌ لطيفٌ. وقرأ ابن عبَّاس في رواية عِكْرِمة عنه ومُجَاهِد ويحيى بن وثَّاب: «وَعُبُدَ الطَّاغُوتِ» بضم العين والباء، وفتح الدال وجر «الطَّاغُوتِ» ، وفيها أقوال: أحدها: - وهو قول الأخفش -: أنَّ عُبُداً جمع عَبِيدٍ، وعَبِيدٌ جَمْعُ عَبْدٍ، فهو جمعُ الجمعِ، وأنشد: [الرمل] 1994 - أنْسُبِ الْعَبْدَ إلى آبَائِهِ ... أسْوَدَ الْجِلْدَةِ مِنْ قَوْمٍ عُبُدْ وتابعه الزمخشريُّ على ذلك، يعني أنَّ عَبِيداً جمعاً بمنزلة رَغيفٍ مفرداً فيُجْمَعُ جمعُه؛ كما يُقال: رَغِيفٌ ورُغُفٌ. الثاني - وهو قولُ ثَعْلَب -: أنه جمعُ عَابِدٍ كشَارِفٍ وشُرُفٍ؛ وأنشد: [الوافر] 1995 - ألاَ يَا حَمْزَ للشُّرُفِ النِّوَاءِ ... فَهُنَّ مُعَقَّلاتٌ بِالْفِنَاءِ والثالث: أنه جَمْعُ عَبْدٍ؛ كسَقْفٍ وسُقُفٍ ورَهْنٍ ورُهُنٍ. والرابع: أنه جمع عبادٍ، وعبادٌ جمعُ «عَبْدٍ» ، فيكونُ أيضاً جمعَ الجَمْع؛ مثل «ثِمَار» هو مع «ثَمَرَةٍ» [ثم يُجْمَعُ على «ثُمُرٍ» ] ، وهذا؛ لأنَّ «عِباداً» و «ثِمَاراً» جمعَيْن بمنزلة «كِتَابٍ» مفرداً، و «كِتَاب» يجمع على «كُتُب» فكذلك ما وازَنَه. وقرأ الأعمَشُ: «وعُبَّدَ» بضمِّ العين وتشديد الباء مفتوحةً وفتحِ الدَّال، «الطَّاغُوتِ» بالجرِّ، وهو جمع: عَابدٍ؛ كضُرَّبٍ في جمعِ ضَاربٍ، وخُلَّص في جمع خالصٍ. وقرأ ابنُ مسعود أيضاً في رواية علقمة: «وعُبَدَ الطَّاغُوتِ» بضمِّ العين وفتحِ الباء والدالِ، و «الطَّاغُوتِ» جَرًّا؛ وتوجيُهها: أنه بناءُ مبالغةٍ، كحُطَمٍ ولُبَدٍ، وهو اسْمُ جِنْسٍ مفردٍ يُرَادُ به الجَمْعُ، والقولُ فيه كالقول في قراءةِ حمزة، وقد تقدَّمَتْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 416 وقرأ ابن مَسْعُودٍ في رواية عَلْقمَةَ أيضاً: «وعُبَّدَ الطَّاغُوتَ» بضمِّ العين، وبشد الباء مفتوحة، وفتح الدال، ونصب «الطَّاغُوت» ؛ وخرَّجها ابن عطية على أنها جمعُ عَابِدٍ؛ كضُرَّبٍ في جمع ضارِبٍ، وحَذَف التنوين من «عُبَّداً» ؛ لالتقاء الساكنين؛ كقوله: [الطويل] 1996 - ... ... ... ... ... ... ... وَلاَ ذَاكِر اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ قال: «وقد تقدَّمَ نَظِيرُهُ» ، يعني قراءةَ: «وَعَبْدَ الطَّاغُوتَ» بفتح العين والدال، وسكونِ الباءِ، ونصبِ التاء، وكان ذَكَر لها تخريجَيْن، أحدُهما هذا، والآخرُ لا يمكنُ، وهو تسكينُ عين الماضي، وقرأ بُرَيدة الأسلَمِيُّ فيما نقلَه عنه ابنُ جريرٍ «وعَابِدَ الشَّيْطَان» بنصب «عَابِدَ» وجَرِّ «الشَّيْطَانِ» بدلَ الطَّاغُوتِ، وهو تفسيرٌ، لا قراءةٌ، وقرأ أبو واقدٍ الأعْرَابِيُّ: «وعُبَّادَ» بضمِّ العين وتشديد الباءِ بعدها ألف ونصبِ الدال، والطَّاغُوتِ بالجرِّ، وهي جمعُ عابدٍ؛ كضُرَّابٍ في ضاربٍ. وقرأ بعضُ البصْريِّين: «وعِبَادَ الطَّاغُوتِ» بكسر العين، وبعد الباء المخفَّفة ألف، ونصْبِ الدال، وجَرِّ «الطَّاغُوتِ» ، وفيها قولان: أحدهما: أنه جمعُ عابدٍ؛ كقَائِمٍ وقيَامٍ، وصَائِمٍ وصيَامٍ. والثاني: أنها جمعُ عَبْد؛ وأنشد سيبَوَيْهِ: [الوافر] 1997 - أتُوعِدُنِي بِقَوْمِكَ يَا بْنَ حَجْلٍ ... أُشَابَاتٍ يُخَالُونَ الْعِبَادَا قال ابن عطية: «وقد يجوزُ أن يكونَ جَمْعَ» عَبْدٍ «، وقلَّما يأتي» عِبَاد «مضافاً إلى غير الله تعالى، وأنْشَد سيوَيْهِ:» أتُوعِدُنِي «البيتَ، قال أبو الفتْحِ: يريد عبادَ آدم - عليه السلام - ولو أراد عِبَاد [الله] فليس ذلك بشَيْءٍ يُسَبُّ به أحدٌ، فالخَلْقُ كُلُّهُمْ عِبَادُ الله» قال ابن عطيَّة: «وهذا التعليقُ بآدَمَ شاذٌ بعيدٌ، والاعتراضُ باقٍ، وليس هذا مِمَّا تَخَيَّلَ الشاعرُ قَصْدَهُ، وإنما أرادَ العَبِيدَ، فساقَتْه القافيةُ إلى العِبَادِ؛ إذ قد يُقَالُ لِمَنْ يملكه مِلْكاً مَّا، وقد ذكر أن عربَ الحِيرةِ سُمُّوا عِبَاداً؛ لدخولهم في طاعةِ كِسْرَى، فدانَتْهم مملكتُه» ، قال شهاب الدين: قد اشْتَهَرَ في ألسنةِ الناسِ أن «عَبْداً» المضافَ إلى الله تعالى يُجْمَعُ على «عِبَاد» وإلى غيره على «عَبِيد» ، وهذا هو الغالبُ، وعليه بَنَى أبو محمَّد. وقرأ عَوْنٌ العقيليُّ في رواية العبَّاس بْنِ الفَضْل عنه: «وعَابِدُ الطَّاغُوتِ» بضمِّ الدالِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 417 وجَرِّ الطاغوت؛ كضَاربِ زَيْدٍ، قال أبو عمرو: تقديرُه: «وهُمْ عَابِدُ الطَّاغُوتِ» ، قال ابن عطية: «فهو اسمُ جنْسٍ» ، قلت: يعني أنه أرادَ ب «عابد» جماعةً، قلتُ: وهذه القراءةُ يجوز أن يكونَ أصلُها «وَعَابِدُو الطَّاغُوتِ» جَمْعَ عابد جمع سلامةٍ، فلمَّا لَقِيتِ الواوُ لامَ التعريفِ، حُذِفَتْ لالتقاء الساكنين، فصار اللفظُ بدالٍ مضْمُومةٍ؛ ويؤيِّدُ فَهْمَ هذا أنَّ أبا عَمْرو قدَّر المبتدأ جَمْعاً، فقال: «تقديرُه: هُمْ عَابِدُو» ، اللهم إلا أنْ ينقلُوا عن العقيليِّ أنه نَصَّ على قراءتِه أنها بالإفراد، أو سمعُوهُ يقف على «عَابِد» ، أو رَأوْا مصحفَه بدالٍ دونَ واوٍ؛ وحينئذٍ تكونُ قراءته كقراءةِ ابن عبَّاس: «وعَابِدُوا» [بالواو] ، وعلى الجملة، فقراءتُهما متَّحِدةٌ لفظاً، وإنَّما يَظْهَرُ الفَرْقُ بينهما على ما قالُوه في الوقْفِ أو الخَطِّ. وقرأ ابن عبَّاس في روايةٍ أخرى لعكْرِمَةَ: «وعَابِدُوا» بالجمْعِ، وقد تقدَّم ذلك، وقرأ ابن بُرَيْدَةَ: «وعَابِدَ» بنصب الدالِ؛ كضَارِبِ زَيْدٍ، وهو أيضاً مفرد يُرادُ به الجِنْسُ، وقرأ ابن عبَّاس وابن أبي عَبْلَة: «وعبدَ الطَّاغُوت» بفتحِ العينِ والباءِ والدالِ، وجَرِّ «الطَّاغُوتِ» ؛ وتخريجُها: أنَّ الأصلَ: «وَعَبَدَةَ الطَّاغُوتِ» وفاعِل يُجْمَعُ على فَعَلَة، كَفَاجِرٍ وفَجَرَةٍ، وكَافِرٍ وكَفَرةٍ، فحُذِفَتْ تاءُ التأنيثِ للإضافة؛ كقوله: [الرجز] 1998 - قَامَ وُلاَهَا فَسَقوْهُ صَرْخَدَا ... أي: وُلاتُهَا؛ وكقوله: [البسيط] 1999 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وأخْلَفُوكَ عِدَ الأمْرِ الذِي وَعدُوا أي: عدةَ الأمرِ، ومنه: {وَإِقَامَ الصلاة} [الأنبياء: 73] أي: إقامةِ الصلاة، ويجوزُ أن يكون «عبد» اسم جنسٍ لعابدٍ؛ كخَادِمٍ وخدمٍ، وحينئذ: فلا حَذْفَ تاء تأنيثٍ لإضافة، وقُرِئ: «وعبَدَةَ الطَّاغُوتِ» بثبوت التاء، وهي دالَّةٌ على حَذْفِ التاء للإضافة في القراءةِ قبلها، وقد تقدَّم توجيُهها أنَّ فَاعِلاً يُجْمَعُ على «فَعَلَةٍ» كَبَارٍّ وبررَةٍ، وفَاجِرٍ وفَجَرَةٍ. وقرأ عُبْيدُ بْنُ عُمَيْر: «وأعْبُدَ الطَّاغُوتِ» جمع عَبْدٍ، كفَلْسٍ وأفْلُس، وكَلْبٍ وأكْلُبٍ، وقرأ ابن عبَّاس: «وعَبِيدَ الطَّاغُوتِ» جمعَ عَبْدٍ أيضاً، وهو نحو: «كَلْبٍ وكَلِيبٍ» قال: [الطويل] 2000 - تَعَفَّقَ بِالأرْطَى لَهَا وَأرَادَهَا ... رِجَالٌ فَبَذَّتْ نَبْلَهُمْ وَكَلِيبُ وقُرئ أيضاً: «وعَابِدِي الطَّاغُوتِ» ، وقرأ عبد الله بن مسعُود: «ومَنْ عَبَدُوا» ، فهذه أربعٌ وعشرون قراءة، وكان ينبغي ألاَّ يُعَدَّ فيها: «وعَابِدَ الشَّيْطَانِ» ؛ لأنها تفسيرٌ، لا قراءة. وقال ابن عطيَّة: «وقد قال بعضُ الرواة في هذه الآية: إنها تجويزٌ، لا قراءة» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 418 يعني: لَمَّا كَثُرت الرواياتُ في هذه الآية، ظَنَّ بعضُهم؛ أنه قيل على سبيلِ الجَوَاز، لا أنها منقولةٌ عن أحَدٍ، وهذا لا ينبغي أنْ يُقال، ولا يُعْتقدَ؛ فإنَّ أهلَها إنما رَوَوْهَا قراءةً تَلَوْهَا على مَنْ أخَذُوا عنه، وهذا بخلاف و «عَابِدَ الشَّيْطَانِ» ، فإنَّه مخالفٌ للسَّوَاد الكريم. وطريقُ ضبْطِ القراءةِ في هذا الحَرْفِ بعدما عُرِفَ القُرَّاء: أن يقال: سبع قراءاتٍ مع كَوْنِ «عَبَدَ» فعلاً ماضياً، وهي: وعَبَد، وعَبَدُوا، ومَنْ عَبَدُوا، وعُبِدَ، وعُبِدَت، وعَبُدَ، وعَبْدَ في قولنا: إنَّ الباء سَكَنَتْ تخفيفاً، ك «سَلْفَ» في «سَلَفَ» ، وتِسْعُ قراءاتٍ مع كونه جمعَ تكسِيرٍ، وهي: وعُبُدَ، وعُبَّدَ، مع جَرِّ الطاغوتِ، وعُبَّدَ مع نصبه، وعُبَّاد، وعَبَدَ على حَذْفِ التاءِ للإضافةِ، وعَبَدَةَ، وأعْبُد، وعَبِيدَ، وستٌّ مع المفْرَدِ: وعَبُدَ، وعُبَدَ، وعَابِدَ الطَّاغُوتِ، وعَابِدُ الطاغوتِ بضم الدال، وعَابِدَ الشيطانِ، وعَبْدَ الطَّاغُوتِ، وثِنتان مع كونه جمع سلامة: وعَابِدُوا بالواو، وعَابِدِي بالياء، فعلى قراءةِ الفِعْلِ يجُوزُ في الجملةِ وجهان: أحدهما: أن تكون معطوفةً على الصِّلة قبلها، والتقدير: مَنْ لَعَنَهُ الله وعَبَدَ الطَّاغُوتَ. والثاني: أنه ليس داخلاً في حَيِّز الصلةِ، وإنما هو على تقديرِ «مَنْ» ، أي: ومن عَبَدَ؛ ويدُلُّ له قراءةُ عبد الله بإظهارِ «مَنْ» ، إلاَّ أنَّ هذا - كما قال الواحديُّ - يؤدِّي إلى حَذْفِ الموصولِ وإبقاءِ صلتِه، وهو ممنوعٌ عند البصريِّين، جائزٌ عند الكوفيين، وسيأتي جميعُ ذلك في قوله تعالى: {وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ} [العنكبوت: 46] ، أي: وبالذي أُنْزِلَ، وعلى قراءةِ جمع التكسير، فيكون منصوباً عطفاً على القِرَدَةِ والخَنَازِيرِ، أي: جَعَل منهمُ القِرَدَةَ وعِبَادَ وعُبَّادَ وعَبِيدَ، وعلى قراءةِ الإفراد كذلك أيضاً، ويجوزُ النصبُ فيها أيضاً من وجهٍ آخر، وهو العطفُ على «مَنْ» في {مَن لَّعَنَهُ الله} ، إذا قلنا بأنه منصوبٌ على ما تقدَّم تحريرُه قبلُ، وهو مرادٌ به الجنْسُ، وفي بعضها قُرئ برفعه؛ نحو: «وعَابِدُ الطَّاغُوتِ» ، وتقدَّم أن أبا عمرو يُقَدِّر له مبتدأ، أي: هُمْ عَابِدُو وتقدَّم ما في ذلك. قال شهاب الدين: وعندي أنه يجوزُ أن يرتفع على أن معطوفٌ على «مَنْ» في قوله تعالى {مَن لَّعَنَهُ الله} ؛ ويَدُلُّ لذلك: أنهم أجازوا في قراءةِ عبد الله: «وَعَابِدُوا» بالواوِ هذين الوجهَيْن، فهذا مثله، وأما قراءة جمع السلامة، فمن قرأ بالياء، فهو منصوبٌ؛ عطفاً على القردةِ، ويجوزُ فيه وجهان آخران: أحدهما: أنه منصوبٌ عطفاً على «مَنْ» في {مَن لَّعَنَهُ الله} إذا قلنا: إنَّ محلَّها نصبٌ كما مَرَّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 419 والثاني: أنه مجرورٌ؛ عطفاً على {مَن لَّعَنَهُ الله} أيضاً، إذا قُلْنا بأنَّها في محلِّ جرٍّ بدلاً من «بِشَرٍّ» ؛ كما تقدَّم إيضاحُه، وهذه أوجهٌ واضحةٌ عَسِرةُ الاستنباطِ، والله أعلمُ. ومَنْ قرأ بالواو فرفعه: إمَّا على إضمار مبتدأ، أي: هُمْ عَابِدُوا الطَّاغُوتِ، وإمَّا نَسَقٌ على «مَنْ» في قوله تعالى: {مَن لَّعَنَهُ الله} كما تقدَّم. فصل قِيلَ: الطَّاغُوتُ الْعِجْل، وقيل: الأحْبَارُ، وكلُّ مَنْ أطاعَ أحَداً فِي مَعْصِيَةٍ فَقَدْ عَبَدَه. واحْتَجُّوا بهذه الآية على أنَّ الكُفْرَ بِقَضَاءِ اللَّهِ، قالُوا: لأنَّ تقديرَ الآيَة: وجَعَلَ اللَّهُ منهم من عَبَدَ الطَّاغُوت، وإنَّما يُعْقَلُ معنى هذا الجَعْل، إذا كانَ هُوَ الذي جعل فيهم تِلْكَ العِبَادَةَ، إذْ لوْ كَانُوا هُمُ الجَاهِلُون لكَانَ اللَّهُ تعالى [ما] جعلهم عَبَدَة الطَّاغُوت، بلْ كَانُوا هُمُ الذين جعلوا أنْفُسَهُم كذلك وذلك خِلافُ الآية. قالتِ المُعْتَزِلَة: مَعْنَاه أنَّهُ تعالى حَكَمِ عليهم بذلك كَقوْلِهِ تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] وقد تقدَّمَ الكلامُ فيه. [قوله تعالى: «أولئك شَرٌّ» مبتدأ وخبر، و «مكاناً» نصب على التمييز، نَسَب الشَّر للمكان وهو لأهله، كنايةً عن نهايتهم في ذلك] كقولهم: فلانٌ طَوِيلُ النِّجَادِ كَثِيرُ الرَّمَادِ، وحَاصِلُهُ يرجع إلى الإشَارَةِ إلى الشَّيْءِ بذكرِ لوَازِمِه وتَوَابِعِهِ و «شَرّ» هنا على بابه من التفضيل، والمفضَّلُ عليه فيه احتمالان: أحدهما: أنهم المؤمنون، فإن قيل: كيف يُقال ذلك، والمؤمنون لا شَرَّ عنْدَهُمْ ألبتة؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: - ما قاله النحاس - أنَّ مكانَهم في الآخرة شَرٌّ مِنْ مكانِ المؤمنين في الدُّنيا؛ لِمَا يلحقُهم فيه من الشَّرِّ، يعني: من الهمومِ الدنيويةِ، والحاجةِ، والإعسارِ، وسماعِ الأذَى، والهَضْمِ من جانبهم، قال: «وهذا أحسنُ ما قيل فيه» . والثاني: أنه على سبيلِ التنازُلِ والتسليم للخَصْم على زعمه؛ إلزاماً له بالحُجَّة، كأنه قيل: شَرٌّ من مكانِهِمْ في زعْمِكُمْ، فهو قريبٌ من المقابلة في المعنى. والثاني من الاحتمالين: أنَّ المفضَّل عليه هم طائفةٌ من الكفارِ، أي: أولئكَ الملعونَون المغضُوبُ عليهم المجعُولُ منهم القردةُ والخنازيرُ العابدُونَ الطَّاغوت - شرٌّ مكاناً من غيرهم مِنَ الكفرة الذين لم يَجْمَعُوا بَيْنَ هذه الخصَالِ الذَّميمة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 420 قوله تعالى: {وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل} أي: طريق الحقِّ. قال المُفَسِّرون: لمَّا نزلت هذه الآيَةُ عيَّر المسلمُون أهْلَ الكِتَاب، وقالُوا: يا إخْوَان القِرَدَةِ والخَنَازِير، فافْتَضَحُوا ونَكَّسُوا رؤُوسَهم قال الشَّاعِر: [الرجز] 2001 - فَلَعْنَةُ اللَّهِ على اليَهُودِ ... إنَّ اليَهُودَ إخْوَةُ القُرُودِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 قوله تعالى: {وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا} : الضميرُ المرفوعُ لليهودِ المعاصرينَ؛ فحينئذ: لا بُدَّ من حذفِ مضافٍ، أي: وإذا جاءَكُمْ ذريتُهم، أو نَسْلُهم؛ لأنَّ أولئك المجعولَ منهم القردَةُ والخنازيرُ، لم يَجِيئُوا، ويجوزُ ألاَّ يقدَّر مضافٌ محذوفٌ؛ وذلك على أن يكونَ قولُه {مَن لَّعَنَهُ الله} [المائدة: 60] إلى آخره عبارةً عن المخاطَبِينَ في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الكتاب} [المائدة: 19] ، وأنه مِمَّا وُضِع فيه الظاهرُ موضعَ المضْمَرِ، وكأنه قيل: أنْتُمْ، كذا قاله أبو حيان، وفيه نظرٌ؛ فإنه لا بدَّ من تقدير مضافٍ في قوله تعالى: {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة} [المائدة: 60] ، تقديره: وجعل من آبائِكُمْ أو أسْلافِكُمْ، أو مِنْ جِنْسِكُمْ؛ لأن المعاصِرِينَ ليسوا مجعولاً منهم بأعيانِهِم، فسواءٌ جعله مِمَّا ذكر أم لا، لا بُدَّ من حذف مضاف. قوله تعالى: {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر} هذه جملةٌ حاليةٌ، وفي العامل فيها وجهان: أحدهما - وبه بدأ أبو البقاء -: أنه «قَالُوا» ، أي: قالُوا كذا في حَالِ دخولهم كفرةً وخُرُوجهم كفرةً، وفيه نظرٌ؛ إذ المعنى يأبَاهُ. والثاني: أنه «آمَنَّا» ، وهذا واضحٌ، أي: قالوا آمنَّا في هذه الحالِ، و «قَدْ» في «وَقَدْ دَخَلُوا» «وَقَدْ خَرَجُوا» لتقريب الماضِي من الحال، وقال الزمخشريُّ: «ولمعنى آخرَ، وهو: أنَّ أماراتِ النفاقِ كانَتْ لائحةً عليهم؛ فكان الرسولُ - عليه السلام - متوقِّعاً لإظهار الله تعالى - ما كتموه، فدَخَلَ حرفُ التوقُّعِ، وهو متعلِّقٌ بقوله» قَالُوا آمَنَّا «، أي: قالوا ذلك وهذه حالهم» ، يعني بقوله: «وهُو متعلِّقٌ» ، أي: والحال، وقوةُ كلامه تُعْطِي: أنَّ صاحبَ الحالِ وعاملَها الجملةُ المَحْكِيَّة بالقَوْل، و «بالكُفْرِ» متعلقٌ بمحذُوفٍ؛ لأنه حالٌ من فاعلِ «دَخَلُوا» ، فهي حال من حال، أي: دَخَلُوا ملتبسين بالكُفْر، أي: ومعهُمُ الكُفْرُ؛ كقولهم: «خَرَجَ زَيْدٌ بِثيَابِهِ» ، وقراءةِ من قرأ: {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] ، أي: وفيها الدُّهْنُ؛ ومنه ما أنشدَ الأصمعيُّ: [الطويل] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 421 2002 - وَمُسْتَنَّةٍ كَاسْتِنَانِ الْخَرُو ... فِ قَدْ قَطَعَ الحَبْلَ بِالْمِرْوَدِ أي: ومِرْوَدُهُ فيه، وكذلك «بِهِ» أيضاً حالٌ من فاعل «خَرَجُوا» . فالبَاءُ في قوله تعالى: {دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} ، يُفيدُ أنَّ الكُفْرَ معهم حالةَ الدُّخُولِ والخُرُوجِ من غيْرِ نُقْصَانٍ، ولا تَغْيِير ألْبَتَّة، كما تَقُولُ: «دَخَلَ زَيْدٌ بِثَوْبِهِ وخَرَجَ» أي: ثوْبُهُ حال الخُرُوجِ، كما كَانَ حَالَ الدُّخُول. وقوله: «وَهُمْ» مبتدأ، و «قَدْ خَرَجُوا» خبرُه، والجملةُ حالٌ أيضاً عطفٌ على الحالِ قبلَها، وإنما جاءتِ الأولَى فعليَّةً والثانيةُ اسميةً؛ تنبيهاً على فرطِ تهالِكهم في الكُفْرِ؛ وذلك أنهم كان ينبغي لهم، إذا دخلُوا على الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنْ يُؤمنُوا؛ لِما يَرَوْن من حُسْنِ شيمته وهَيْبَته، وما يظهرُ على يديهِ الشريفة من الخوارقِ والمعجزاتِ؛ ولذلك قال بعض الكَفَرَةِ: «رَأيْتُ وَجْهَ مَنْ لَيْسَ بِكَذَّابٍ» ، فلمَّا لم يَنجَعْ فيهم ذلك، أكَّد كفرهم الثاني بأنْ أبْرَز الجملة اسميةً صدْرُها اسمٌ، وخبرها فعلٌ؛ ليكون الإسنادُ فيها مرتين، وقال ابن عطية: «وقوله:» وَهُمْ «تخليصٌ من احتمالِ العبارةِ أن يدخُلَ قومٌ بالكُفْرِ، ثم يؤمنوا، ويخرجَ قومٌ، وهم كَفَرَة، فكان ينطبِقُ على الجميع، وهم قد دخلوا بالكفر، وقد خَرَجوا به، فأزال اللَّهُ الاحتمال بقوله: {وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} ، أي: هُمْ بأعيانهم» ، وهذا المعنى سبقه إليه الواحديُّ، فبسطه ابن عطيَّة، قال الواحديُّ: {وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} أكَّد الكلام بالضَّمير، تعييناً إياهم بالكفر، وتمييزاً لهم عن غيَرِهِمْ، وقال بعضهم: معنى «هُم» التأكيدُ في إضافة الكُفْر إليهم، ونَفْيِ أن يكون من الرسولِ ما يوجبُ كفرَهُمْ؛ مِنْ سوءِ معاملته لهم، بل كان يلطفُ بهم ويعاملُهم أحسنَ معاملةٍ، فالمعنَى: أنهم هم الذين خَرَجُوا بالكُفْر باختيار أنفُسِهِمْ، لا أنَّكَ أنْتَ الذي تسبَّبْتَ لبقائِهم في الكُفْر، وقال أبو البقاء: «ويجوز أن يكون التقديرُ: وقد كانوا خرجُوا به» ، ولا معنى لهذا التأويلِ، والواوُ في قوله تعالى: {وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون عاطفةً لجملةِ حالٍ على مثلها. والثاني: أن تكونَ هي نفسُها واوَ الحال؛ وعلى هذا: يكونُ في الآية الكريمة حجةٌ لمن يُجِيزُ تعدُّدَ الحال لذي حالٍ مفردٍ من غير عطف، ولا بدل إلا في أفعلِ التفضيل، نحو: «جَاءَ زَيْدٌ ضَاحِكاً كَاتِباً» ؛ وعلى الأول: لا يجوزُ ذلك إلا بالعطفِ أو البدلِ، وهذا شبيهٌ بالخلاف في تعدُّد الخبر. قوله تعالى: «وإذا جَاءُوكم» يعني: هؤلاء المُنَافِقِين وقيل: هُم الذين آمَنُوا بالذي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 422 أنْزِلَ على الَّذِين آمَنُوا وجْهَ النَّهار، دَخَلوا على النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، وقالوا: آمَنَّا بِكَ وصدَّقْنَاك فيما قُُلْتَ، وهُمْ يُسِرُّون الكُفْر. {وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} أي: دخلوا كافِرِين وخرَجُوا كافِرِين، واللَّه أعلَمُ بما يَكْتُمُون، والغرض منه: المُبَالَغَةُ فِيمَا في قُلُوبِهِم من الجدِّ والاجتِهَادِ في المكر بالمُسْلِمِين، والكَيْدِ والبُغْضِ والعَداوَةِ لهم. قالت المُعْتَزِلَةُ: إنَّه تعالى أضَافَ الكُفْرَ إليْهِم حالَتَي الدخُول والخُرُوج على سبيل الذَّمِّ، وبالَغَ في تَقْرِيرِ تِلْكَ الإضَافَةِ بقوله: {وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} ، فدلَّ هذا على أنَّه من العَبْدِ لا من اللَّه تعالى. والجوابُ: المُعارضَةُ بالْعِلْمِ والداعي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 قوله: «وترى» : يجوز أن تكون بصريَّةً، فيكون «يُسَارِعُونَ» حالاً، وأن تكون العلميَّةَ أو الظنيَّة، فينتصب «يُسَارعُونَ» مفعولاً ثانياً، و «مِنْهُمْ» في محلِّ نصب؛ على أنه صفةٌ ل «كَثِيراً» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، أي: كائناً منهم، أو استقرَّ منهم، وقرأ أبو حيوة: «العِدْوان» بالكسر، و «أكْلِهِمُ» هذا مصدرٌ مضافٌ لفاعله، و «السُّحْتَ» مفعولُه، وقد تقدَّمَ ما فيه. فصل الضَّميرُ في «مِنْهُمْ» لليهُود، والمُسَارعة في الشَّيْءِ الشُّرُوعُ فيه، والمُراد بالإثْمِ الكذِب، وقيل: المَعَاصِي، والعُدْوَان الظُّلْم، وقيل: الإثْمُ ما يخْتَصُّ بهم، والعُدْوانُ ما يتعدَّاهُمْ إلى غيرهم، وقيل: الإثْمُ ما كتمُوا من التَّوْراة، والعُدْوان ما زَادُوا فيها، «وأكْلِهِمُ السُّحْتَ» الرِّشْوَة. وقوله تعالى: «كَثِيراً مِنْهُم» لأنَّهمُ كُلُّهُمْ ما كانُوا يَفْعَلُون ذَلِكَ، لَفْظ المُسارعة إنما [يُسْتَعْمَلُ] في أكْثَرِ الأمْر في الخَيْرِ، قال تعالى: {وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات} [آل عمران: 114] وقال تعالى: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات} [المؤمنون: 56] فكان اللاَّئِقُ بهذا الموضِعِ لفظ العَجَلَةِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 423 فإن قيل: إنَّه تعالى ذكر المُسارعة [الفائدة؛ وهي أنَّهم] كانوا يُقْدِمُون على هَذِهِ المُنْكَرَات [كأنهم مُحِقُّون] فيها وقد تقدَّم حُكْمُ «مَا» مع بِئْسَ ونِعْمَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 و «لولا» : حرفُ تحضيض ومعناه التوبيخ أي: هلاَّ، وقرأ الجَرَّاحُ وأبُو وَاقِدٍ: «الرِّبِّيُّونَ» مكان الرَّبَانِيِّين، قال الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «الرَّبَانِيُّون عُلَمَاءُ أهل الإنجيل، والأحْبَار عُلَمَاءُ أهْل التَّوْرَاة» ، وقال غيره: كُلُّهُم في اليهُود؛ لأنَّه مُتَّصِل بذكرهم، والمعنى: أنَّ اللَّه اسْتَبْعَدَ من عُلَمَاءِ أهْلِ الكتاب أنَّهُمْ ما نهوا سَفَلتهم وعَوامَّهُم عن المَعَاصِي، وذلك يُدُلُّ على أنَّ تَرْكَ النَّهْي عن المنكر بمنزلة مُرْتَكِبِهِ؛ لأنَّهُ تعالى ذَمَّ الفَرِيقَيْنِ في هَذِهِ الآيَةِ على لَفْظٍ واحدٍ، بل نقُول: أنَّ ذَمَّ تَارِك النهي عن المُنْكَر أقْوَى؛ لأنَّه قال في المُقْدِمِين على الإثْمِ والعُدْوان وأكلهم السُّحْت: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [المائدة: 62] وقال في العُلَمَاء التَّاركِين للنَّهْي عن المنكر: {لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} والصُّنْعُ أقوى مِنَ العَمَلِ؛ فإنَّما العمل يُسَمَّى صِناعَةً، إذا صَارَ مُسْتَقِرّاً راسخاً مُتَمَكِّناً، فجعل [حُرْمَ] العامِلين ذَنْباً غير رَاسخٍ، وذنب التَّارِكِين للنهْي المُنْكر ذَنْباً راسِخاً، والأمْرُ في الحقيقَة راسخاً كذلك؛ لأنَّ المعْصِيَة مرضُ الرُّوح، وعلاجُه العِلْمُ باللَّه وبصفَاتِهِ وبأحْكَامِه، فإذا حَصَل هذا العِلْم ولم تزل المعْصِيَة، كان كالمَرِيض الذي يعالج بأدويته، قَلَّ فيها الشِّفَاءُ، ومثل هذا المرض صَعْبٌ شديد لا يَكَادُ يَزُولُ، وكذلك العَالِمُ إذا أقْدَم على المعْصِيَة دَلّ على أنَّ مرض فَقْد الإيمَان في غايَةِ القُوَّةِ والشِّدَّةِ. رُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: هِيَ أشَدُّ آية في القُرْآن، وعَنِ الضَّحَّاك: ما في القُرآن آية أخْوَفُ عِنْدِي مِنْهَا. وقرأ ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «بِئْسَمَا» بغير لام قسم، و «قَوْلِهِمْ» مصدرٌ مضافٌ لفاعلِه، و «الإثْمَ» مفعولُه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 424 والظاهر أن الضمير في «كانُوا» عائدٌ على الأحْبَار والرُّهْبَان، ويجوز أن يعودَ على المتقدِّمين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 في هذه الحكاية قولان: أحدهما: أنه خبر محض، وزعم بعضهم أنه على تقدير همزة استفهام، تقديره: «أيد الله مغلُولة» ؟ قالوا ذلك لمَّا قَتَّر عليهم معيشتهم، ولا يحتاج إلى هذا التقدير. قال ابنُ الخطيب: في هذا الموْضِع إشكَالٌ، وهُو أنَّ اللَّه تعالى حكى عن اليَهُودِ أنَّهُمْ قالوا ذَلِك، ولا شَكَّ في أنَّ اللَّهَ تعالى صَادِقٌ في كُلِّ ما أخْبَر عنه، ونرى [اليهُود] مُطبقِين مُتَّفِقِين على أنَّا لا نَقُولُ ذلكَ ولا نعْتَقدهُ، والقولُ: بأنَّ {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} باطل بِبَديهَةِ العَقْل؛ لأنَّ قَوْلَنَا: اللَّهَ اسمٌ لموْجُودٍ قديم، قادرٍ على خَلقِ العَالم وإيجَادِه وتكوينه، وهذا الموجُود يَمْتَنِعُ أن تكون يدُهُ مَغْلُولة مُقيَّدة قَاصِرَة، وإلاَّ فَكَيْفَ يُمْكِنُه ذلك مع قُدْرته النَّاقِصَة حِفْظ العَالم وتدبيره. إذا ثَبَتَ هذا فقد حَصَل الإشْكال في كَيْفِيَّة تَصْحيح هذا النَّقْل وهذه الرِّواية فَنَقُول فيه وُجُوهٌ: الأوَّل: لَعَلَّ القَوْم إنَّما قالوا هذا القَوْل على سَبِيلِ الالتزام؛ فإنَّهُم لمَّا سَمِعُوا قوله تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] قالوا: لو احْتَاج إلى القَرْضِ لكَانَ فَقِيراً عاجِزاً [فلما حكموا بأنَّ الذي يسْتَقْرِضُ من عبادهَ شَيْئاً فقيرٌ مُحْتَاج مَغْلُولُ اليديْن، لا جرم حكى اللَّهُ عَنْهُم هذا الكلام] . الثاني: لعَلَّ القوم لمَّا رأوا أصْحَاب الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في غَايَةِ الشِّدَّةِ والفَقْرِ والحَاجَةِ، قالُوا ذلك على ذلك سَبيلِ السُخْرِيَةِ والاسْتِهزاء. قالوا: إنَّ إله مُحَمَّدٍ فَقِير مَغْلُولُ اليَدِ، فَلما قالوا ذلك حَكَى اللَّه تعالى عَنْهُمْ هذا الكلام. الثالث: قال المُفَسِّرُون - رحمهم الله -: كانُوا أكثر النَّاسِ مالاً وثَرْوَة، فلما بَعَثَ اللَّهُ محمداً - صلَّى اللَّه عليه وعلى آله وسلم - فكذبَّوُه ضَيَّقَ اللَّهُ عليهم المَعيشَةَ، فعند الجزء: 7 ¦ الصفحة: 425 ذلك قالت اليَهُود: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} أي: مَقْبُوضَةٌ من العَطَاءِ على جِهَةِ الصِّفَةِ بالبُخْلِ، والجاهلُ إذا وقع في البلاءِ والشِّدَّة والمِحْنَة يقول مثل هَذِه الألْفَاظ. الرابع: لعلَّه كان فيهم مِمَّن كان على مَذْهَبِ الفَلْسَفَة، وهو أنَّهُ مُوجِبٌ لذاتِه، وأنَّ حدوث الحوادث عنه لا يمكن إلا على نَهْجٍ واحدٍ وهو أنَّهُ تعالى غير قادر على إحْداثِ الحوادِثِ على غير الوُجُوه الَّتِي عليها تقع، فَعَبَّرُوا عن عَدَمِ الاقْتِدَار على التَّغْيِير والتبْدِيل بغلِّ اليَد. الخامس: قال بعضهم: المراد منه - هو قَوْلَ اليَهُود أنَّ اللَّه تعالى لا يعذِّبُنَا إلا قدْرَ الأيَّامِ التي عَبدْنَا فيها العِجْلَ - إلاَّ أنهم عبَّروا على كونه تعالى غير مُعَذِّبٍ لهم إلاَّ هذا القدر من الزمان بهذه العبارة الفاسدة، واسَتْوجَبُوا اللَّعن بِسَبَبِ فساد العِبَادَة، وعدم رِعَايَة الأدَب، وهذا قول الحسن. قال البغوي بعد أن حَكَى قولَ المُفَسِّرين، ثم بعده قول الحَسَن: والأوَّلُ أوْلَى لمعنى قول المفسرين لِقَوْله تعالى بَعْدَ ذلك: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} . وقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ} يحتمل الخبرَ المَحْضَ، ويحتمل أن يُرادَ به الدعَاءُ عليهم أي: أمْسَكَتْ أيْديهم عن الخَيْرَات، والمعنى: أنَّه - تعالى - يُعَلِّمُنَا الدُّعَاءَ عليهم، كما عَلَّمَنَا الدُّعَاءَ على المُنافقين في قوله تعالى: {فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً} [البقرة: 10] فإن قيل: كان يَنْبَغي أن يُقَال: «فَغُلَّتْ أيديهم» . فالجَوَاب: أنَّ حَرْفَ العَطْف وإنْ كان مُضْمَراً إلا أنَّهُ حُذِفَ لفائدة، وهي أنَّه لما حُذِفَ كان قوله «غُلَّتْ أيْدِيهم» كالكلام المبتدأ به ففيه [زيادة] قُوَّة؛ لأنَّ الابْتِدَاء بالشَّيْء يَدلُّ على شِدَّةِ الاهْتِمَام به وقُوَّة الاعْتِنَاء، ونَظِيرُه في الحَذْفِ والتَّعْقِيب قوله تعالى {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً} [البقرة: 67] ولَمْ يَقُل: فقالوا أتَتَّخِذنَا. وقيل: هو من الغلِّ يوم القِيَامَةِ في النَّار كقوله تعالى: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل} [غافر: 71] . «ولُعِنُوا» عُذِّبوا «بما قالوا» فَمِنْ لَعْنِهم - أنَّهُ مَسَخَهُمْ قردة وخَنَازِير، وضُرِبَت عليهمُ الذِّلَّة والمَسْكَنَة في الدُّنْيا، وفي الآخِرَة بالنَّار. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 426 قوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} . وفي مصحف عبد الله: «بُسُطَانِ» يقال: «يَدٌ بُسُطٌ» على زنة «نَاقَةٌ سُرُحٌ» ، و «أحُدٌ» و «مِشْيَةٌ سُجُحٌ» ، أي: مبسوطة بالمعروف، وقرأ عبد الله: «بَسِيطَتَانِ» ، يقال: يَدٌ بسيطةٌ، أي: مُطْلَقَةٌ بالمَعْرُوف. [وغَلُّ] اليدِ وبَسْطُهَا هنا استعارةٌ للبُخْل والجودِ، وإن كان ليس ثَمَّ يدٌ ولا جارحة، وكلامُ العربِ ملآنُ من ذلك، قالتِ العربُ: «فلانٌ يُنْفِقُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ» ؛ قال: [الطويل] 2003 - يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ، فَكَفٌّ مُفِيدَةٌ ... وَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالْمَالِ تُنْفِقُ وقال أبو تمام: [الطويل] 2004 - تَعَوَّدَ بَسْطَ الكَفِّ حَتَّى لَوَ أنَّهُ ... دَعَاهَا لقَبْضٍ لَمْ تُطِعْهُ أنَامِلُهْ وقد استعارت العربُ ذلك حيثُ لا يدَ ألبتة، ومنه قولُ لبيدٍ: [الكامل] 2005 - ... ... ... ... ... ... . ... إذْ أصْبَحَتَ بِيَدِ الشَّمَالِ زِمامُهَا وقال آخر: [الكامل] 2006 - جَادَ الحِمَى بَسْطُ اليَدَيْنِ بوابِلٍ ... شَكَرَتْ نَدَاهُ تِلاعُهُ ووِهَادُهُ وقالوا: «بَسَطَ اليأسُ كفَّيْهِ في صَدْرِي» ، واليأسُ معنًى، لا عينٌ، وقد جعلوا له كفَّيْنِ مجازاً، قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: لِم ثُنِّيَتِ اليدُ في {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، وهي في {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} مفردةٌ؟ قلتُ: ليكونَ ردُّ قولهم وإنكارُه أبْلَغ وأدلَّ على إثبات غايةِ السَّخَاءِ له، ونَفْيِ البُخْلِ عنه، وذلك أنَّ غايةَ ما يبذله السَّخِيُّ مِنْ ماله بنفسِه: أن يعطيَه بيديه جميعاً، فبنى المجازَ على ذلك» . فصل اعلم أنه قد وَرَدَ في القرآن آياتٌ كثيرة ناطِقَةٌ بإثْبَات اليد، فتارَةً ذكر اليد من غير الجزء: 7 ¦ الصفحة: 427 بيان عددٍ كقوله تعالى: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] ، وتارةً ذكر اليدين كما في هذه الآية، وفي قوله تعالى لإبليس عليه اللعنة {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] ، وتارة أثْبَت الأيْدي قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً} [يس: 71] ، وإذا عرف هذا فَنَقُولُ: اختفت الأمَّةُ في تَفْسِير يد اللَّه تعالى. فقالت المُجَسِّمَةُ: إنَّها عُضْو جُسْمَانِيٌّ كما في حقِّ كُلِّ أحدٍ، واحتَجُّوا بقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} [الأعراف: 195] ذكر ذلك قد جاء في إلاهيَّةِ الأصنامِ، لأجل أنَّهُ ليْسَ لَهَا شيءٌ من هذه الأعْضَاء، فلو لم يَحْصُل لِلَّهِ هذه لزمَ القَدْحُ في كونه إلهاً، فلما بَطُل ذلك، وَجَبَ إثْبَات هذه الأعْضَاء له، قالوا: واسمُ اليد موضوع لِهَذا العُضْو، فَحَمْلُه على شيء آخر ترك للُّغَة، وإنَّه لا يجُوزُ. والجوابُ عنه: أنَّه تعالى ليس بِجِسْمٍ؛ لأنَّ الجسم لا ينفَكُّ عن الحَرَكَةِ والسُّكُون وهما مُحْدَثَانِ، وما لا يَنْفَكُّ عن المُحْدَثِ فَهُو مُحْدَثٌ، ولأنَّ كُلَّ جسم فهو مُتَنَاهٍ في المِقْدَار، وكلّ ما كان متناهياً في المقدار فهو محدثٌ، ولأنَّ كلَّ جسم فهو مؤلَّفٌ من الأجزاء، وكلّ ما كان كذلك افتقر إلى ما يؤلِّفُهُ ويُركِّبُهُ، وكلّ ما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ، فَثَبت بهذه الوجوه أنَّه يمتنع كونه تعالى جِسْماً، فيمتَنِعُ أنْ يكون عُضْواً جُسْمَانِياً. وأما جمهور المُوَحِّدين فلهُمْ في لَفْظِ اليَدِ قولان: أحدهما: قول من يقول: إنَّ القرآن لمَّا دلَّ على إثْبَات اليد للَّه آمنَّا باللَّه، والعقْل دلَّ على أنَّه يمتنع أن يكون يدُ الله عبارة عن جِسْم مخْصُوصٍ وعضو مُرَكَّب من الأجزاء والأبْعَاض آمنَّا به، فأمَّا أنَّ اليد ما هي وما حَقِيقَتُهَا، فقد فَوَّضْنَا مَعْرِفَتَها إلى الله تعالى، وهذه طَرِيقَةُ السَّلَفِ. [وثانيهما: قَوْلٌ المُتكَلِّمِين فقالوا: اليدُ تذكر في اللُّغَة على وُجُوهٍ: أحدُها: الجَارِحَة] . وثانيها: النِّعْمَةُ: نقول: لفلان يد أشكُرُه عليها. وثالثها: القُوَّةُ: قال تعالى: {أُوْلِي الأيدي والأبصار} [ص: 45] فسَّرُوهُ بِذِي القُوَّةِ والعُقُول. وحكى سيَبَويْه أنَّهُم قالوا: «لا يَدَ لَكَ بِهَذا» والمعنى: سلب كمال القُدْرَة. رابعها: المِلْك فقال في هذه الصِّفَة: في يَدِ فُلان، أي: في مِلْكِه قال تعالى: {الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} [البقرة: 237] أي: يملِكُ ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 428 وخامسها: شِدَّةُ العِنَايَة والاخْتِصَاص، قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75] ، والمراد: تخصيص آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بهذا التَّشْرِيف، فإنَّه تعالى الخالق لجميع المخلوقات، ويُقَال: «يدي رَهْنٌ لك بالوَفَاء» إذا ضمنت له شَيْئاً. وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُول: اليد في حقِّ اللَّه تعالى مُمْتَنِعٌ أن تكون الجارِحَة، وأما سائر المعاني فكُلُّهَا حَاصِلَة. وها هنا قَوْلٌ آخر: وهو أنَّ أبا الحسن الأشْعَرِي زعم في بَعْضِ أقواله: أنَّ اليد صِفَةٌ قائِمَةٌ بِذَاتِ اللَّه تعالى، وهي صِفَةٌ سِوى القُدْرَة، ومنْ شَأنِها التَّكْوِين على سَبِيل الاصْطِفَاءِ. قال: ويدلُّ عليه أنَّه تعالى جعل وقوع خلق آدم بيده عِلة الكَرَامة لآدم واصْطِفَائه، فلو كانت اليدُ [عبارة] عن القُدْرَةِ لامْتَنَع كونُه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - اصطُفِيَ؛ لأنَّ ذلِكَ في جَميعِ المخْلُوقَات، فلا بُدَّ من إثْبَاتِ صِفَةٍ أخْرى وراءَ القُدْرة يقع بها الخَلْقُ والتَّكْوين على سبيلِ الاصْطِفَاء، وأكْثَرُ العُلَمَاء زَعَمُوا: أنَّ اليد في حقِّ اللَّه تعالى عِبَارَة عنِ القُدْرة وهذا مُشْكِلٌ؛ لأنَّ قُدْرةَ اللَّه واحِدَةٌ، ونصُّ القُرْآن نَاطِقٌ بإثْبَات اليدين تارَةً وبإثْبَاتِ الأيْدي تارةً أخْرَى، وإن فَسَّرْتُمُوها بالنِّعْمة، فَنَصُّ القُرْآن ناطِقٌ بإثبات اليديْن، ونعم الله غير محدُودَةٍ، لقوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} [النحل: 18] . والجوابُ: إن اخْتَرْنَا تفسير اليد بالقُدْرَة، كان الجوابُ عن الإشْكَال المذكُور: أنَّ القوْم جعلوا قولهم: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} كناية عن البُخْلِ، فأجيبوا على وِفْقِ كلامهم، فقيل: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، أي: ليس الأمْرُ على ما وَصَفْتُمُوه من البُخْلِ، بل هو جوادٌ على سَبيلِ الكمال، وأنَّ من أعْطَى بيده فَقَدْ أعْطَى عطاءً على أكْمَل الوُجُوهِ. وأمَّا إن اخترنَا تفسير اليد بالنِّعْمَةِ، كان الجوابُ عن الإشْكَال المذْكُور من وجهين: الأول: أنَّ التَّثْنِيَةَ بحسَبِ الجِنْسِ يُدخِلُ تحت كُلِّ واحدٍ من الجِنْسَيْنِ أنْوَاع لا نِهَاية لها نِعْمَة الدنيا ونعمة الدين، ونعمة الظاهر ونعمة الباطن، ونعمة النفع ونعمة الدفع، ونعمة الشدة ونعمة الرخاء. الثاني: أنَّ المُرادَ بالتَّثْنِيَةِ المُبَالَغَةُ في وَصْفِ النِّعْمة، ألا ترى قولك «لَبَّيْكَ» ، معناه: مُساعدةٌ بعد مُسَاعَدة، وليس المراد [منه طاعتين] ولا مُساعدتَيْن، فكذلك الآيَة معناها: أنَّ النِّعْمَة مُتَظَاهِرَةٌ مُتَتَابِعَةٌ، ليْسَت كما ادَّعَى اليَهُودُ أنَّهَا مَقْبُوضَةٌ مُمْتَنِعَة. قوله: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} في هذه الجملة خمسةُ أوجه: أحدها - وهو الظاهر -: أنْ لا محلَّ لها من الإعراب؛ لأنها مستأنفة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 429 والثاني: أنها في محلِّ رفع؛ لأنها خبر ثان ل «يَدَاهُ» . والثالث: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضميرِ المستكنِّ في «مَبْسُوطَتَانِ» ؛ وعلى هذين الوجهين؛ فلا بُدَّ من ضمير مقدَّرٍ عائدٍ على المبتدأ، أو على ذي الحال، أي: ينفقُ بهما، وحذفُ مثل ذلك قليلٌ، وقال أبو البقاء: {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} مستأنفٌ، ولا يجوزُ أن يكون حالاً من الهاء - يعني في «يَدَاهُ» -؛ لشيئين: أحدهما: أنَّ الهاءَ مضاف إليها. والثاني: أنَّ الخبر يفْصِل بينهما، ولا يجوز أن تكون حالاً من اليدين؛ إذ ليس فيها ضمير يعود إليهما. [قال شهاب الدين] : قوله: «أحدهما: أنَّ الهاء مضاف إليها» ليس ذلك بمانع؛ لأن الممنوع إنما هو مجيءُ الحَالِ من المضافِ إليه، إذا لم يكن المضافُ جزءاً من المُضافِ إليه، أو كجزئه أو عاملاً فيه، وهذا من النوع الأول، فلا مانع فيه، وقوله: «والثاني: أن الخبر يفصلُ بينهما» هذا أيضاً ليس بمانعٍ، ومنه: {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] إذا قلنا: إن «شَيْخاً» حالٌ من اسم الإشارة، والعامل فيه التنبيه. وقوله: «إذْ ليسَ فيها ضميرٌ» قد تقدَّم أن العائِدَ يُقَدَّر، أي: ينفق بهما. الرابع: أنها حالٌ من «يدَاهُ» وفيه خلافٌ - أعني مجيءَ الحالِ من المبتدأ - ووجه المنع: أنَّ العامل في الحالِ هو العالمُ في صاحبهَا، والعاملُ في صاحبها أمرٌ مَعْنَوِيٌّ لا لفظيٌّ، وهو الابتداء، وهذا على أحد الأقوال في العاملِ في الابتداء. الخامس: أنها حالٌ من الهاء في «يَدَاهُ» ، ولا اعتبارَ بما منعه أبو البقاءِ؛ لما تقدَّم من تَصْحيح ذلك. و «كَيْفَ» في مثل هذا التركيب شرطيةٌ؛ نحو: «كيْفَ تكُونُ أكُونُ» ومفعولُ المشيئة محذوفٌ، وكذلك جوابُ هذا الشرط أيضاً محذوفٌ مدلولٌ عليه بالفعل السابق ل «كَيْفَ» ، والمعنى: يُنْفِقُ كما يشاءُ أنْ يُنْفِقَ يُنْفِقُ، ويبسطُ في السَّماء، كَيْفَ يشاء أنْ يَبْسُطَهُ يَبْسُطُهُ، فحذف مفعول «يَشَاءُ» وهو «أنْ» وما بعدها، وقد تقدَّم أن مفعول «يشَاء» و «يُريد» لا يُذْكران إلا لغرابتهما، وحذفَ أيضاً جواب «كَيْفَ» وهو «يُنْفِقُ» المتأخرُ ولا جائزٌ أن يكون «يُنْفِق» المتقدمُ عاملاً في «كَيْفَ» ، لأنَّ لها صدر الكلامِ، وما له صدرُ الكلام لا يعمل فيه إلا حرفُ الجر أو المضاف. وقال الحوفيُّ: «كَيْفَ» سؤالٌ عن حال، وهي نصبٌ ب «يَشَاء» ، قال أبو حيان: «ولا يُعْقَلُ هنا كونُها سُؤالاً عن حال» ، وقد تقدم الكلامُ عليها مشبعاً عِنْدَ قوله: {يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ} [آل عمران: 6] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 430 فصل ومعنى {يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} أي: يَرْزُق كيف يُريد وكيف يشاءُ، إن شاء قَتَّر، وإن شاء وَسَّعَ. وقال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ} [الشورى: 27] . وقال تعالى: {يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} [الرعد: 26] . وقال عزَّ وجلَّ: {قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير} [آل عمران: 26] ، وهذه الآية ردّ على المعتزلة؛ لأنَّهُم قالوا: يَجِبُ على اللَّه إعْطَاء الثَّوَاب للمُطِيع، ويجبُ عليه ألاَّ يُعاقِبَهُ، فَهَذَا المَنْعُ والقَيْدُ يَجْري مُجْرَى الغلّ، فهم في الحقيقة [قائلون بأنَّ يَدَ الله مَغْلُولة] . وأمَّا أهْلُ السُّنَّةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -[فهُمُ] القَائِلُونَ: بأنَّ المُلْكَ مُلْكُهُ، وليس لأحدٍ عليه اسْتِحْقَاقٌ ولا اعتِرَاضٌ، كما قال تعالى: {قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً} [المائدة: 17] فقوله تعالى: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ} لا يسْتَقِيم إلا على هذا المَذْهَبِ. قوله تعالى: {وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} والمراد بالكثير: علماء اليهود، يعني: ازدَادُوا عند نُزُولِ ما أنْزِل إليك من رَبِّكَ من القرآنِ والحُجَجِ غُلُواً في الكُفْرِ والإنكَار، كما يُقال: «ما زادَتْكَ الموْعِظَةُ إلا شَرّاً» ، وهم كُلَّما نزلت آيةٌ كَفَرُوا بها فازْدَادُوا طُغْيَاناً وكُفْراً. وقيل: إقامَتُهُمْ [على الكُفْر] زِيَادَةٌ مِنْهُمْ في الكُفْر. قوله تعالى: «ما أنْزِلَ» «مَا» هنا موصولةٌ اسميَّة في محلِّ رفع؛ لأنها فاعل بقوله: «ليزِيدَنَّ» ، ولا يجوزُ أن تكون «مَا» مصدريةً، و «إلَيْكَ» قائمٌ مقام الفاعل ل «أُنْزِلَ» ، ويكون التقديرُ: «وليَزِيدَنَّ كَثِيراً الإنْزَالُ إلَيْكَ» ؛ لأنه لم يُعْلَمْ نفسُ المُنَزَّلِ، والذي يزيدُهُمْ إنما هو المُنَزَّلُ، لا نفسُ الإنزال، وقوله: «مِنْهُمْ» صفةٌ ل «كَثِيراً» فيتعلَّقُ بمحذوفٍ، و «طًغْيَاناً» مفعولٌ ثان ل «يَزيد» . فصل دلّ هذا الكلامُ على أنَّه تعالى لا يُرَاعى مصالح الدِّين والدُّنيا؛ لأنَّه تعالى عَلِمَ أنَّهم يَزْدَادُون عند إنْزالِ تِلْك الآيَاتِ، [كفراً وضلالاً، فلو كانَتْ أفعَالُه مُعَلَّلَة برعاية المصالِحِ للعباد، لامْتَنَع عليه إنْزَال تلك الآيات] فلما أنْزَلَهَا عَلِمْنَا أنَّهُ تعالى ما يُرَاعي مصالح الجزء: 7 ¦ الصفحة: 431 العِبَادِ، ونظيرُه قوله تعالى: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] ، فإن قالوا: عَلِمَ اللَّه تعالى من حَالِهِم سواءً أنْزَلَهَا أو لم يُنْزِلْها، فإنَّهُم يأتون بتلكِ الزِّيَادة من الكُفْرِ، فلهذَا حَسُن منه تعالى إنْزَالُها. قلنا: فَعلى هذا التَّقْدير لم يكن ذلك الازْديَادُ لأجل تِلكَ الآيات، وهذا يقتضي أن تكون إضافة ازدِيَاد الكفر إلى إنْزال تِلْكَ الآياتِ بَاطِلاً، وذلِكَ تكذيبٌ لنَصِّ القُرْآن. قوله تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء} الضمير في «بَيْنَهُم» يجوز أن يعود على اليَهُود والنَّصَارى؛ لتقديم ذكرهم، ولاندراج الصِنْفَيْن في قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الكتاب} [المائدة: 19] ، ويجُوزُ أن يعُودَ على اليَهُود وحْدَهُم، لأنَّهُم فِرَقٌ مُخْتَلِفَةٌ، فعلى هذين قال الحسن ومجاهد: يعني بين اليَهُود والنَّصارى، لأنَّ ذكرهم جرى في قوله: {لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى} [المائدة: 51] ، وقيل: بين فِرَق اليهُود، فإنَّ بعضهم جَبْرِيَّةٌ، وبعضَهم قَدَرِيَّةٌ، وبعضهم [مُوَحِّدَة] وبعضهم مُشَبِّهَة، وكذلك بين فرقِ النَّصَارى كالمَلْكَانِيَّة والنَّسْطُوريَّةِ واليَعْقُوبِيَّةِ. فإن قيل: فهذا المعنى حَاصِلٌ بين فرقِ المُسْلمين، فكيف يمكن جعلهُ عَيْباً في اليَهُودِ والنَّصَارى؟ فالجواب: أنَّ هذه البدَعَ إنَّما حدثَتْ بعدَ عصر الصَّحَابةِ والتَّابعين، أما في ذلك الزَّمَانِ فلم يكن شَيءٌ من ذَلِك، فلا جَرَمَ حَسُنَ جَعْل ذلك عَيْباً في اليَهُود والنَّصَارى. ووجْهُ اتِّصَال هذا الكلام بما قَبْلَهُ: أنَّه تعالى بيَّن أنَّهُم إنَّما يُنْكِرُون نُبُوَّتَه بعد ظُهُور الدَّلائِلِ على صِحَّتِها لأجل الحَسَدِ، ولأجل حُبِّ الجَاه والمال والسَّعادة، فلمَّا رجَّحُوا الدُّنْيَا على الآخِرَة لا جَرَم حَرَمهم سعادَة الدِّين، فلذلك حَرمَهم سَعَادةَ الدُّنْيَا؛ لأنَّ كُلَّ فَرِيقٍ مِنْهُم مُصِرٌّ على مذهبه، ومُبَالِغٌ في نصرته، ويَطْعَنُ في كل ما سِوَاه من المذاهِب تَعْظِيماً لِنَفْسِه وتَرْويجاً لمذهَبِهِ، فصار ذلك سَبَباً لوقوع الخُصُومَة الشَّدِيدَة بين فرقِهم، انْتَهى الأمر فيه إلى أنَّ بَعْضَهُم يُكَفِّر بَعْضاً. وقوله تعالى: {إلى يَوْمِ القيامة} متعلِّقٌ ب «ألقَيْنَا» ، ويجوز أن يتعلَّق بقوله: «والبغْضَاءَ» ، أي: إنَّ التباغُضَ بينهم إلى يوم القيامة، ولا يجوزُ أن يتعلَّقَ بالعداوةِ؛ لئلا يَلْزَم الفصْلُ بين المصدَرِ ومعموله بالأجنبيِّ، وهو المعطوفُ؛ وعلى هذا: فلا يجوزُ أن تكون المسألةُ من التنازُع؛ لأن شرطه تسلُّطُ كلٍّ من العاملَيْن، والعاملُ الأولُ هنا لو سُلِّط على المتنازع فيه، لم يَجُزْ للمحذورِ المذكور، وقد نَقَل بعضُهُمْ: أنه يجوز التنازُعُ في فعلي التعجُّبِ مع التزامِ إعمال الثاني؛ لأنه لا يُفْصَل بين فعْلِ التعجُّبِ ومعموله، وهذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 432 مثلُه، أيْ: يُلْتَزَمُ إعمالُ العامل الثاني، وهو خارجٌ عن قياسِ التنازُعِ، وتقدَّم لك نظيره، والفرقُ بين العداوة والبغضاء: أن العداوَةَ كلُّ شيء مشتهرٌ يكون عنه عَمَلٌ وحَرْبٌ، والبغضاءُ لا تتجاوزُ النفُوسَ، قاله ابن عطيَّة وقال أبو حيان: «العداوة أخَصُّ من البغضاء؛ لأنَّ كلَّ عَدُوٍّ مُبْغَضٌ، وقد يُبْغَضُ مَنْ لَيْس بعدُوٍّ» . قوله تعالى: {كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله} ، وهذا نوْع آخر من أنْوَاع المِحَنِ في اليهُود، وهو أنَّهُم كلّما همُّوا بأمر من الأمُور جُعِلوا فيه خَاسِرِين خَائِبِين مَقْهُورين مَغْلُوبين. قال المفسرون: يعني اليهود أفسدوا وخَالَفُوا حُكْمَ التَّوْراة، فبعث الله عليْهم بُخْتَنَصَّرَ ثُمَّ أفْسَدُوا فَبَعَثَ عَلَيْهَم طيطوس الرُّومِي، ثم أفْسَدُوا فَسَلَّطَ اللَّهُ عليهمُ المجُوسَ، ثم أفسدوا فبعث الله عليهمُ المُسْلِمين. وقيل: كُلَّمَا أجْمَعُوا أمْرَهُمْ ليُفْسِدوا أمْرَ محمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - وأوْقَدُوا ناراً لِمُحاربته أطْفَأهَا اللَّهُ، فردَّهم وقَهَرَهُم ونصر دينَهُ ونبيَّهُ، وهذا قول الحَسَن وقال قتادة: هذا عامٌّ في كل حرب طَلَبْتَهُ اليهود، فلا تَلْقَى اليهود في بلد إلا وجَدْتَهُم من أذَلِّ النَّاسِ. قوله تعالى: «لِلْحَرْبِ» فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلقٌ ب «أوْقَدُوا» ، أي: أوقدوها لأجْلِ الحرب. والثاني: أنه صفة ل «نَاراً» فيتعلَّق بمحذوف، وهل الإيقادُ حقيقةٌ أو مجازٌ؟ قولان. و «أطْفَأهَا الله» جواب «كُلَّمَا» ، وهو أيضاً حقيقةٌ أو مجازٌ؛ على حسب ما تقدَّم، والحربُ مؤنثةٌ في الأصل مصدر وقد تقدَّم الكلام عليها في البقرة، وقوله: «فَسَاداً» قد تقدَّم نظيره [الآية 33 من المائدة] ، وأنه يجوز أن يكون مصدراً من المعنى؛ وحينئذ لك اعتباران: أحدهما: ردُّ الفعل لمعنى المصدر، والثاني: ردُّ المصدر لمعنى الفعْلِ، وأن يكون حالاً، أي: يَسْعَوْن سعيَ فسادٍ، أو: يُفْسِدُونَ بسعيهم فَسَاداً، أو: يَسعوْن مُفْسِدين، وأن يكون مفعولاً من أجله، أي: يَسْعَوْنَ لأجْلِ الفساد والألف واللام في «الأرض» يجوزُ أن تكون للجنس وأن تكون للعهد. ثم قال: {والله لاَ يُحِبُّ المفسدين} ، وهذا يدُلُّ على أنَّ السَّاعي في الأرْضِ بالفَسَاد مَمْقُوتٌ عِنْدَ اللَّهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 433 وقد تقدَّم الكلام على نَظِير قوله: «وَلَوْ أنَّ» . واعلم أنَّهُ تعالى لما بالغَ في ذَمِّهِمْ وتهجين طريقهِم، بيَّن أنهم لو آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وعلى آله وسلم - واتقَوْا لكفَّرنَّا عنهم سَيِّئاتِهِمْ، ولأدْخلْنَاهُمْ جَنَاتِ النَّعِيم. فإن قيل: الإيمانُ وحدهُ سبب مسْتَقِلٌّ [باقتضاء تكفير] السَّيِّئَاتِ، وإعْطَاء الحَسَناتِ، فلم ضمَّ إلَيْه شَرْطٌ آخر وهُو التَّقْوَى. فالجوابُ: أنَّ المُراد كَوْنه آتياً الإيمان لِغَرَض التَّقْوى، والطَّاعة لا لغرضٍ آخر من الأغْرَاض العَاجِلَة كما يفعله المُنَافِقُون. قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل} الآية لما بيَّن تعالى في الآية الأولى أنَّهُم لو آمَنُوا لفَازُوا بسَعَادة الآخِرة، بيَّن في هذه الآية أيْضاً، أنَّهُمْ لو آمَنُوا لفَازُوا بسَعَادةِ الدُّنْيَا ووجدُوا طَيِّبَاتِهَا وخَيْرَاتِها، وفي إقَامَةِ التَّوْرَاةِ والإنْجِيل ثلاثةُ أوْجُه: أحدها: أن يعملوا بما فيهما من الوَفَاءِ بالعُهُودِ، ومن الإقْرَار باشْتِمَالهما على الدَّلائل الدَّالَّة على بَعْثَةِ محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -. وثانيها: أنَّ المراد إقامَةُ أحْكَامِهِمَا وحُدُودِهمَا، كما يُقَال: أقامَ الصَّلاة إذا قام بِحُدُودِهَا وحُقوقِهَا، ولا يُقَال لمن لم يُوَفِّ بشَرَائِطها أنَّهُ أقَامها. وثالثها: [أنَّ المراد] جعلوهما نصْبَ أعيْنِهِم، لئلاَّ يَزِلُّوا في شَيْء من حدُودِهِمَا. وقوله تعالى: {وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ} يعني: القُرْآن وقيل: كتب أنبياء بني إسرائيلَ مثل كُتُبِ شُعَيْبٍ، وكتاب حَيقُوق، وكتاب دَانْيَال، فإنَّ هذه الكتب مملوءة من البشَارَة بِمَبْعَثِ محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -. قوله تعالى: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ} : مفعولُ الأكْلِ هنا محذوفٌ اقتصاراً، أيْ: لوُجِدَ منهم هذا الفعلُ، و «منْ فوقِهِمْ» متعلِّقٌ به، أي: لأكَلُوا من الجهَتَيْنِ، وقال أبو البقاء: «إنَّ» مِنْ فوْقِهِمْ «صفةٌ لمفعول محذوفٍ، أي: لأكَلُوا رِزْقاً كَائِناً مِنْ فَوْقِهِمْ» . فصل اعلم أنَّ اليهود لما أصَرُّوا على تَكْذِيب سيِّدنا محمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - أصابَهُمُ القَحْطُ والشِّدَّةُ، وبلغُوا إلى حيث قالوا: {يَدُ الله مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64] ، فبيَّن اللَّه لَهُمْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 434 أنَّهُم لو تركوا ذَلِك الكُفْر لانْقَلَب [الأمر] وحصل الخَصْبُ والسَّعَة. قوله تعالى: {لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} . قيل: المراد منه المُبالغُة في شرْحِ السَّعَةِ والخَصْب، والمعنى: لأكلوا أكلاً مُتَّصِلاً كثيراً، كما يُقال: «فلان في الخَيْرِ مِنْ فَوْقِهِ إلى قَدَمِهِ» يريدُ كَثْرَةَ الْخَيْرِ عنده؛ قالَهُ الفَرَّاءُ. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: المراد «مِنْ فَوْقِهِمْ» نُزُول المَطَرِ، و {وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم} خرُوج النَّبَات كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض} [الأعراف: 96] ، وقيل: الأكل من فَوْقٍ كَثْرَة الأشْجَار المُثْمِرة، ومن تَحْتِ الأرْجُل الزُّروع المغلة، وقيل: يَرْزُقُهم الله تعالى الجِنَانَ البَالِغَةَ الأشْجَار المُثْمِرة، ومن تَحْتِ الأرْجُل الزُّروع المغلة، وقيل: يَرْزُقُهم الله تعالى الجِنَانَ البَالِغَةَ الثِّمَار ما يَنْزِلُ مِنْهَا من رُؤوس الشَّجر، ويلتقطون ما تساقَطَ على الأرض مِنْ تَحْت أرجلهم، وهذا إشارة إلى ما جَرَى على اليَهُود من بَني قُرَيْظَة وبني النَّضِير، من قطع نَخِيلهِمِ، وإفساد زُرُوعهم وقوله تعالى: «مِنْهُمْ» خبر مقدَّم، و «أمَّةٌ» فاعلاً بالجار، وقوله: « {مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ} تنويعٌ في التفصيل، فأخبر في الجملة الأولى، بالجارِّ والمجرور، ووصف المبتدأ بالاقتصادِ، ووصف المبتدأ في الجملة الثانية ب» مِنْهُمْ «، وأخبر عنهم بأنَّهم من جملة أهل الكتاب؛ فإنَّ الوصف ألزمُ من الخبر؛ فإنهم إذا أسلموا، زالَ عنهم هذا الاسمُ، وأما الطائفة الثانية، فإنهم وصفوا بكونهم من أهْلِ الكتاب؛ فإنَّ الوصفَ ألزمُ، وهم كفَّار فهم منهم، وأخبر عنهم بالجملة الذَّمِّيَّة، فإنَّ الخبر ليس بلازمٍ، وقد يُسْلِمُ منهم ناسٌ، فيزول عنهم الإخبارُ بذلك. فصل المُراد بالأمَّة المُقْتَصِدَة: مؤمِنُو أهْلِ الكِتَاب، كعَبْدِ اللَّهِ بنْ سلام من اليَهُود والنَّجَاشِيِّ من النَّصَارى، «مُقْتَصِدَة» أي: عادِلَةٌ غير غَالِية ولا مقصِّرة، والاقتصادُ في اللُّغَة: الاعتِدَال في العمل من غير غُلُوِّ ولا تَقْصِير. وقيل: المُرَاد بالأمَّةِ المقْتَصِدَةِ: كُفَّارُ أهل الكتاب الذين يكنون عُدُولاً في دينهِم، ولا يكون فيهم عِنَادٌ شديدٌ ولا غِلْظَةٌ، كما قال تعالى: {وَمِنْ أَهْلِ الكتاب مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 435 قوله تعالى: {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ} ، وفيه معنى التعجُّبِ، كأنَّه قيل [كثير] منهم ما أسْوَأ عََمَلَهم. والمراد بهم: الأجْلاف المُبْغِضُون، مثل كَعْبِ بن الأشْرفِ وأصحابه و «سَاءَ» هذه يجوزُ فيها ثلاثةُ أوجه: أحدها: أن تكون تعجباً؛ كأنه قيل: ما أسوأ عملهُمْ، ولم يذكُرِ الزمخشريُّ غيره، ولكن النحاة لمَّا ذكروا صيغَ التعجُّبِ لم يَعُدُّوا فيها «سَاءَ» ، فإن أراد من جهةِ المعنى، لا من جهة التعجُّب المبوبِ له في النحوِ فقريبٌ. الثاني: أنها بمعنى «بِئْسَ» فتدلُّ على الذَّمِّ؛ كقوله تعالى: {سَآءَ مَثَلاً القوم} [الأعراف: 177] . وقال البَغَوِي: بئس ما يَعْمَلُون، بِئْس شَيْئاً عملهم. قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: عملوا بالقَبِيحِ مع التَّكْذِيب بالنَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -. وعلى هذين القولين ف «سَاء» غيرُ متصرِّفة، لأن التعجُّب وباب المدح والذمِّ لا تتصرَّفُ أفعالُهما. الثالث: أن تكون «سَاء» المتصرِّفة؛ نحو: سَاءَ يَسُوءُ، ومنه: {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} [الإسراء: 7] {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [تبارك: 27] ، والمتصرِّفةُ متعديةٌ؛ قال تعالى: {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} [الإسراء: 7] فإن قيل فأيْنَ مفعولُ هذه؟ قيل: هو محذوفٌ، تقديرُه: ساء عَملُهُم المؤمنين، والَّتِي بمعنى «بِئْسَ» لا بدَّ لها من مميِّز، وهو هنا محذوفٌ، تقديره: سَاءَ عَمَلاً الذي كَانُوا يَعْمَلُونَهُ. قوله تعالى : {ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} الآية: ناداه المولى سبحانه بأشْرَفِ الصِّفَات البشرية، وقوله: {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} [وهو قد بَلَّغَ!!] فأجابَ الزمخشريُّ بأن المعنى: جميعَ ما أُنزِلَ إليْكَ، أي: أيَّ شيءٍ أُنْزِلَ غير مُرَاقِبٍ في تبليغِهِ أحَداً، ولا خائفٍ أنْ يَنَالَكَ مَكْرُوهٌ، وأجاب ابن عطية بقريبٍ منه، قال: «أمَر الله رسوله بالتبليغِ على الاسْتِيفَاءِ والكمالِ؛ لأنه كان قَدْ بَلَّغَ» ، وأجاب غيرُهما بأنَّ المعنى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 436 على الديمومة؛ كقوله: {ياا أَيُّهَا النبي اتق الله} [الأحزاب: 1] {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ} [النساء: 136] . وقوله: «مَا» يحتمل أن تكون اسميةً بمعنى «الَّذِي» ولا يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً؛ لأنه مأمورٌ بتبليغ الجميعِ كما مَرَّ، والنكرةُ لا تَفِي بذلك؛ فإن تقديرها: «بَلِّغْ شَيْئاً أُنْزِلَ إليْكَ» ، وفي «أُنْزِلَ» ضميرٌ مرفوعٌ يعودُ على ما قام مقام الفاعلِ، وتحتملُ على بُعْدٍ أن تكون «مَا» مصدريَّةً؛ وعلى هذا؛ فلا ضمير في «أُنْزِلَ» ؛ لأنَّ «مَا» المصدرية حرفٌ على الصَّحيح؛ فلا بُدَّ من شيءٍ يقومُ مقامَ الفاعلِ، وهو الجارُّ بعده؛ وعلى هذا: فيكونُ التقديرُ: بَلِّغِ الإنْزَالَ، ولكنَّ الإنزالَ لا يُبَلَّغُ فإنه معنى، إلا أن يُراد بالمصدر: أنه واقعٌ موقع المفعول به، ويجوز أن يكون المعنى: «اعلم بتبليغ الإنْزَالِ» ، فيكونُ مصدراً على بابه. والمعنى أظهر تَبْلِيغَهُ، كقوله تعالى: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] . فصل روي عن مَسْروق [قال] : قالتْ عائِشَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «من حدَّثَكَ أنَّ مُحَمَّداً - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - كتَم شَيئاً ممّا أنْزل الله، فقد كذب» وهو سبحانه وتعالى يقول: {ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ} الآية. ورُوِيَ عن الحسن: أنَّ الله لمَّا بَعَثَ رسولَهُ، وعرف أنَّ مِنَ النَّاس من يُكَذِّبُه، فَنَزَلَتْ هذه الآية، وقيل: نَزَلَتْ في عيب من اليَهُود وذلك أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - دَعَاهُم إلى الإسلام، فقالوا: أسْلَمْنَا قَبْلَكَ، وجعلوا يَسْتهْزِئُون بِهِ فَيَقُولُون: تريد أن نَتَّخِذَكَ حَنَاناً كما اتَّخَذَ النَّصَارى عِيسى حَنَاناً، فلمَّا رأى النَّبيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - ذلك سَكَت، فنزَلَتْ هذه الآية، فأمَرَهُ أنْ يقُولَ لأهْلِ الكِتَاب: {لَسْتُمْ على شَيْءٍ} [المائدة: 68] الآية. وقيل: بلِّغ الإنْزَال ما أُنْزِلَ إليك من الرَّجْمِ والقِصَاصِ في قصَّةِ اليهود، وقيل: نَزَلَتْ في أمرِ زَيْنَب بِنْتِ جَحْشٍ ونِكَاحها. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 437 وقيل: نزلت في الجِهَاد وذلك أنَّ المُنَافِقِين كَرِهوه، كما قال تعالى: {فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت} [محمد: 20] فكرهَهُ بَعْضُ المُؤمِنين. قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ} [النساء: 77] الآية، وكان النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يمسك في بعض الأحَايِين عن الحثِّ عن الجهاد لِمَا يَعْلمُ من كَرَاهَةِ بعضهم فأنزَلُ اللَّهُ تعالى هذه الآية، والمَعْنَى: بَلِّغْ واصْبِر على تَبْلِيغ ما أنْزَلَهُ إلَيْك من كَشْفِ أسْرَارهم وفَضَائحِ أفعالهم، فإنَّ الله تعالى يَعْصِمُك من كَيْدِهِم ومَكْرِهِم، وقيل: نزلتَ في حجَّة الوَدَاع، لمَّا بيَّن الشَّرائِع والمَنَاسِكَ قال: هل بلَّغْتُ؟ قالُوا: نَعَمْ قال: اللَّهُم فاشْهَدْ، وقِيلَ: لمَّا نزلَتْ آيَة التَّخْيِير وهِيَ قوْلُه تعالى: {ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] فلم يَعْرِضْهَا عليهنَّ خَوْفاً من اختيارِهِنَّ للدُّنْيَا فنزلت. قوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} ، أي: وإنْ لم تفعل التبليغ، فحذف المفعول به، ولم يقل: «وإن لم تبلّغْ فما بلّغتَ» لما تقدَّم في قوله تعالى: {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ} في البقرة [آية: 24] ، والجوابُ لا بُدَّ أن يكون مغايراً للشرط؛ لتحصُل الفائدةُ، ومتى اتَّحدَا، اختلَّ الكلامُ، لو قلتَ: «إنْ أتَى زيدٌ، فقدْ جَاءَ» ، لم يَجُزْ، وظاهرُ قوله: «وإنْ لَمْ تَفْعَلْ، فما بَلَّغْتَ» اتحادُ الشرطِ والجزاء، فإن المعنى يَئُولُ ظاهراً إلى قوله: وإن لم تفعل، لم تفعل، وأجاب الناسُ عن ذلك بأجوبةٍ؛ أسَدُّها: ما قاله الزمخشريُّ، وقد أجاب بجوابَيْنِ: أحدهما: أنه إذا لم يمتثلْ أمر اللَّهِ في تبليغِ الرِّسالاتِ وكتَمَها كُلَّها؛ كأنه لم يُبْعَثْ رَسُولاً - كان أمراً شنيعاً لا خَفَاء بشناعته، فقيل: إنْ لم تُبَلِّغْ أدنَى شيء، وإن كلمةً واحدةً، فكنْتَ كمَنْ رَكِبَ الأمر الشنيعَ الذي هو كتمانُ كُلِّهَا، كما عَظَّمَ قَتْلَ النفْسِ في قوله: {فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً} [المائدة: 32] . والثاني: المراد: وإنْ لَمْ تَفْعَلْ ذلك، فلك ما يُوجِبُ كتْمَانَ الوَحْي كلِّه من العقابِ، فوضَع السَّبَبَ مَوْضِعَ المُسَبِّبِ؛ ويؤيده: «فأوْحَى الله إليَّ: إنْ لَمْ تُبَلِّغْ رسَالاَتِي، عَذَّبْتُكَ» . وأجاب ابن عطية: أي: وإنْ تركْتَ شيئاً، فقد تركْتَ الكلَّ، وصار ما بَلَّغْتَ غيرَ معتدٍّ به، فمعنى «وإنْ لَمْ تَفْعَلْ» : «وإنْ لَمْ تَسْتَوْفِ» ؛ ونحوُ هذا قولُ الشاعر: [الطويل] 2007 - سُئِلْتَ فَلَمْ تَبْخَلْ، وَلَمْ تُعْطِ نَائِلاً ... فَسِيَّان لا حَمْدٌ عَلَيْكَ وَلاَ ذَمُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 438 أي: فلم تُعْطِ ما يُعَدُّ نَائِلاً، وإلاَّ يتكاذَبِ البيتُ، يعني بالتكاذُب أنه قد قال: «فَلَم تَبْخَلْ» فيتضمَّن أنه أعطى شيئاً، فقوله بعد ذلك: «ولَمْ تُعْطِ نَائِلاً» لو لم يقدِّر نَائِلاً يُعْتَدُّ به، تكاذَبَ، وفيه نظرٌ؛ فإن قوله «لَمْ تَبْخَلْ وَلَمْ تُعْطِ» لم يتواردا على محلٍّ واحد؛ حتَّى يتكاذَبا، فلا يلزمُ من عدمِ التقدير الذي قدَّره ابن عطية كَذبُ البيت، وبهذا الذي ذكرتُه يتعيَّنُ فسادُ قولِ مَنْ زعَمَ أنَّ هذا البيتَ مِمَّا تنازعَ فيه ثلاثةُ عواملَ: سُئِلْتَ وتَبْخَلْ وتُعْطِ، وذلك لأن قوله: «وَلَمْ تَبْخَلْ» على قولِ هذا القائلِ متسلِّطٌ على طائِل، فكأنه قيل: فلم تَبْخَلْ بطائلٍ، وإذا لم يبخَلْ به، فقد بذله وأعطاه، فيناقضُه قوله بعد ذلك «ولَمْ تُعْطِ نَائِلاً» . وقد أفسد ابنُ الخطيب جواب ابنِ عطيَّة فقال: «أجَابَ الجمهُور ب» إنْ لَمْ تُبَلِّغْ وَاحِداً مِنْهَا، كُنْت كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ شَيْئاً «، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ مَنْ ترك البعضَ وأتَى بالبعض، فإن قيل: إنه ترك الكلَّ، كان كذباً، ولو قيل: إن مقدار الجُرْمِ في ترك البعْضِ مثلُ الجرم في ترك الكل، فهذا هو المُحالُ الممتنعُ؛ فسقط هذا الجوابُ، والأصحُّ عندي: أن يقال: خرج هذا الجوابُ على قانون قوله: [الرجز] 2008 - أنَا أبُو النَّجْمِ وشِعْرِي شِعْرِي ... ومعناه: أنَّ شِعْرِي قد بلغَ في الكمالِ والفصَاحَةِ والمتانَةِ إلى حيْثُ متى قيل: إنه شِعْري، فقد انتهى مدحُه إلى الغايَةِ التي لا يُزَادُ عليها، وهذا الكلامُ يفيد المبالغةَ التامَّةَ من هذا الوجهِ، فكذا هنا، كأنه قال: فإن لم تبلِّغْ رسالاتِه، فما بلَّغْتَ رسالاته، يعني: أنه لا يمكنُ أن يوصَفَ ترْكُ التبليغِ بتهديدٍ أعظمَ من أنه ترك التبليغ، فكان ذلك تنبيهاً على غايةِ التهديد والوعيد» . قال أبو حيان: «وما ضعَّفَ به جوابَ الجُمْهور لا يُضَعَّفُ به؛ لأنه قال:» فإنْ قيل: إنه تركَ الكُلَّ، كان كذباً «، ولم يقولوا ذلك، إنما قالوا: إنَّ بعضها ليس أوْلَى بالأداء مِن بعضٍ، فإن لم تُؤدِّ بعضها، فكأنَّك أغْفَلْتَ أداءَها جميعَها، كما أن مَنْ لم يؤمِنْ ببعضها كان كَمَنْ لم يؤمنْ بكلِّها؛ لإدلاءِ كلٍّ منها بما يُدْلِي به غيرُها، وكونُها كذلك في حكْمِ شيءٍ واحدٍ، والشيءُ الواحدُ لا يكون مبلَّغاً غير مبلَّغ، مُؤمَناً به غيرَ مؤمنٍ به؛ فصار ذلك التبليغُ للبعضِ غير معتدٍّ به» ، قال شهاب الدين: وهذا الكلام الأنِيقُ، أعني: ما وقع به الجواب عن اعتراضِ الرَّازِيِّ كلامُ الزمخشري أخَذَه ونقله إلى هنا، وتمامُ كلام الزمخشريِّ: أن قال بعد قوله: «غَيْرَ مُؤمَنٍ» ، وعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «إنْ كَتَمْتَ آيَةً لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالاَتِي» ، وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «بَعَثَنِي الله بِرِسَالاتِهِ، فَضِقْتُ بِهَا ذَرْعاً، فأوْحَى الله إلَيَّ: إنْ لَمْ تُبَلِّغْ رِسَالاتِي، عَذَّبْتُكَ وضَمِنَ لِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 439 العِصْمَةِ؛ فقَوِيتُ» ، قال أبو حيَّان: «وأما ما ذكر من أن مقدار الجُرْمِ في تَرْكِ البعْضِ مثلُ الجُرْم في ترك الكلِّ مُحالٌ ممتنعٌ، فلا استحالة فيه؛ لأن الله تعالى أن يرتِّب على الذنْبِ اليسيرِ العقابَ العظيمَ، وبالعكس، ثم مَثَّلَ بالسارقِ الآخِذِ خفيةً يُقْطَعُ ويُرَدُّ ما أخَذَ، وبالغاصبِ يُؤخَذُ منه ما أخذ دونَ قَطْعٍ» . وقال الواحديُّ: أي: إنْ يَتْرُك إبلاغَ البعْضِ، كان كَمَنْ لَمْ يُبَلِّغْ؛ لأنَّ تَرْكه البعضَ مُحْبِطٌ لإبلاغِ ما بلَّغَ، وجُرْمَهُ في كتمانِ البعضِ كجُرْمِهِ في كتمان الكلِّ؛ في أنه يستحقُّ العقوبة من ربِّهِ، وحاشا لرسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يكتُمَ شيئاً مِمَّا أوْحَى الله تعالى إليه، وقد قالت عائشةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «مَنْ زَعَمَ أنَّ رسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَتَمَ شَيْئاً من الوحْي، فقَدْ أعْظَمَ عَلى الله الفِرْيَةَ، والله تعالى يقول: {ياأيها الرسول بَلِّغْ} ، ولو كَتَم رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شَيْئاً من الوحْيِ، لَكَتَمَ قولَهُ تعالى: {وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ} [الأحزاب: 37] الآية» ، وهذا قَريبٌ من الأجوبة المتقدِّمة؛ ونظيرُ هذه الآيةِ في السؤالِ المتقدِّم الحديثُ الصحيحُ عن عُمر بن الخطَّاب - رضي الله تعالى عنه -: «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتَهُ إلى الله ورسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلى الله ورسُولِه» فإنَّ نفس الجواب هو نفسُ الشرطِ، وأجابوا عنه بأنه لا بد من تقديرٍ تحْصُلُ به المغايرةُ، فقالوا: «تقدِيرُهُ: فمنْ كانَتْ هجرتُهُ إلى الله ورسُولِهِ نيَّةً وقصْداً فهجرتُه إلى الله ورسُولِهِ حُكْماً وشَرْعاً، ويمكنُ أن يأتِيَ فيه جوابُ الرَّازِيِّ الذي اختاره. وقرأ نافعٌ وابن عامر وعاصمٌ في رواية أبي بَكْر:» رِسَالاَتِهِ «جَمْعاً، والباقون:» رِسَالَتَهُ «بالتوحيد، ووجهُ الجمْع: أنه عليه السَّلام بُعِثَ بأنْواعٍ شتَّى من الرسالة؛ كأصول التوحيد، والأحكام على اختلاف أنواعها، والإفرادُ واضحٌ؛ لأنَّ اسمَ الجنس المضافَ يَعُمُّ جميعَ ذلك، وقد قال بعض الرسُلِ: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي} [الأعراف: 62] ، وبعضُهم قال: {رِسَالَةَ رَبِّي} [الأعراف: 79] ؛ اعتباراً للمعنيين. قوله تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} أي: يَحْفَظُكَ، ويمنعُكَ من النَّاسِ. » رُوِيَ أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - نزل تَحْتَ شَجَرَةٍ في بَعْضِ أسْفَارِه وعلق سَيْفَه عليها، فأتَاه أعْرَابِيٌّ - وهو نَائِمٌ -، فأخذ سَيْفَهُ واخْتَرَطَهُ، وقال: يا مُحَمَّدُ من يَمْنَعُك مِنِّي؟ فقال: «اللَّهُ» فرعدت يَدُ الأعْرَابِيِّ، وسقطَ من يده، وضرب برأسه الشَّجَرة حتى انْتَثَر دِمَاغُهُ «، فأنزل اللَّهُ تعالى {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 440 فإن قيل: كيْفَ الجَمْعُ بين هذه الآية وبين ما رُوِيَ أنَّه شُجَّ في وجْهِه يوم أحد وكسرت رَبَاعِيَّتُهُ، وأوذي بِضُرُوبٍ من الأذَى. فالجواب من وجوه: فقيل: يَعْصِمُك من القَتْلِ، فلا يَصِلُوا إلى قَتْلِك. وقيل: نزلَتْ هذه الآية بعدمَا شُجَّ رَأسُهُ يَوْم أُحُدٍ؛ لأنَّ سورة المائدة من آخر ما نزل من القُرْآن. والمُراد ب» النَّاس «هاهنا: الكفار لقوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} . وعن أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: » كان رسُول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يَحْرُسُه سَعْدٌ وحُذَيْفَة حتى نَزَلتْ هذه الآية، فأخْرَجَ رَأسَهُ مِنْ قُبَّةِ أديمٍ فقال: «انْصَرِفُوا أيُّهَا النَّاسُ فَقَدْ عَصَمَنِي مِنَ النَّاسِ» . وقيل: المُراد والله يَخُصُّكَ بالعِصْمَة من بين النَّاسِ؛ لأنَّ النَّبيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - معصُومٌ {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 لمَّا أمره الله بالتَّبْلِيغ فقال: قل يا أهْلَ الكِتَابِ من اليَهُود والنَّصَارى لَسْتُمْ على شَيْءٍ من الدِّين، ولا في أيْدِيكم شَيْءٌ من الحقِّ والصَّوَاب، كما تقول: هذا لَيْسَ بِشَيْءٍ، إذا أرَدْتَ تَحْقِيره. وقوله تعالى: {حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً} ، وقد تقدَّم الكلام على نظيرِه، والتَّكْريرُ للتَّأكيد. وقوله: {فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين} فيه وجهان: أحدهما: لا تأسَفْ عليهم بسبب طغيانهم وكُفْرِهم، فإنَّ ضرر ذلك راجعٌ إليهم، لا إلَيْكَ ولا إلى المُؤمنين. والثاني: لا تأسَفْ بسبب نُزُولِ اللَّعْن والعذابِ عليهم فإنَّهُمْ من الكَافِرِين المُسْتَحِقِّين لِذَلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 441 وروى ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله تعالى عنهما - «أنَّ جماعَةً مِنَ اليَهُود قالوا: يا مُحَمَّد ألَسْتَ تُقِرُّ أنَّ التَّوْرَاة حَقٌّ مِنْ عند اللَّهِ تَعَالى؟ قال: بلى، قالُوا: فإنَّا مُؤمِنُون بها، ولا نُؤمِن بِغَيْرها» ، فنَزَلَتْ هذه الآية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 قرأ الجمهور: «والصَّابئُونَ» بالواو، وكذلك هو في مصاحِفِ الأمْصَار، وفي رفعه تسعة أوجه: أحدها: وهو قول جمهورِ أهلِ البصرة: الخليل وسيبويه وأتباعهما أنه مرفوعٌ بالابتداء وخبرُه محذوفٌ؛ لدلالةِ خبر الأول عليه، والنيةُ به التأخيرُ، والتقديرُ: إنَّ الذينَ آمَنُوا والذينَ هَادُوا مَنْ آمَنَ منهم إلى آخره والصَّابِئُونَ كذلك، ونحوه: «إنَّ زَيْداً وعمرٌو قائمٌ» ، [أي: إنَّ زَيْداً قائِم وعمرٌو قائمٌ] ، فإذا فعَلْنا ذلك، فهل الحذفُ من الأول أي: [يكونُ] خبرُ الثاني مثبتاً، والتقديرُ: إنَّ زَيْداً قائِمٌ وعمرٌو قائمٌ، فحذف «قائمٌ» الأول، أو بالعكس؟ قولان مشهوران، وقد وَرَد كلٌّ منهما؛ قال: [المنسرح] 2009 - نَحْنُ بِمَا عِنْدَنَا وَأنْتَ بِمَا ... عِنْدَكَ رَاضٍ والرَّأيُ مُخْتَلِفُ أي: نحنُ راضُونَ، وعكْسُه قوله: [الطويل] 2010 - فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمدِينَةِ رَحْلُهُ ... فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ التقدير: وقيارٌ بها كذلِكَ، فإن قيل: لِمَ لا يجوزُ أنْ يكونَ الحذفُ من الأول أيضاً؟ فالجوابُ: أنه يلزم من ذلك دخولُ اللامِ في خَبَر المبتدأ غيرِ المَنْسُوخِ ب «إنَّ» ، وهو قليلٌ لا يقع إلا في ضَرُورة شِعْرٍ، فالآيةُ يجوزُ فيها هذا التقديران على هذا التخْريج، قال الزمخشريُّ: «والصَّابئُونَ: رفعٌ على الابتداء، وخبرُه محذوفٌ، والنيةُ به التأخير عمَّا في حَيِّز» إنَّ «من اسمها وخبرها؛ كأنه قيل: إنَّ الذين آمَنُوا والذينَ هَادُوا والنَّصارى حُكْمُهُمْ كَذَلِكَ والصَّابِئُونَ كذلكِ؛ وأنشد سيبويه شاهداً على ذلك: [الوافر] 2011 - وَإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ ... بُغَاةٌ مَا بَقِينَا في شِقَاقِ أي: فاعلموا أنَّا بُغاةٌ وأنْتُمْ كذلك» ثم قال بعد كلامٍ: «فإنْ قلْتَ: فقوله» والصَّابئُونَ «معطوفٌ لا بدَّ له من معطوفٍ عليه، فما هو؟ قلت: هو مع خبره المحذوفِ جملةٌ معطوفة على جملة قوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} إلى آخره، ولا محلَّ لها؛ كما لا محلَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 442 للتي عطفتْ عليها، فإن قلتَ: فالتقديمُ والتأخيرُ لا يكون إلا لفائدةً، فما هي؟ قلتُ: فائدتُه التنبيهُ على أن الصابئين يُتابُ عليهم، إنْ صحَّ منهم الإيمانُ والعملُ الصالحُ، فما الظنُّ بغيرهم؟ وذلك أنَّ الصابئين أبينُ هؤلاءِ المعدُودِينَ ضَلاَلاً وأشدُّهم عِتِيّاً، وما سُمُّوا صابئين إلا أنهم صَبَئُوا عن الأديان كلِّها، أي: خَرَجُوا؛ كما أن الشاعر قدَّمَ قوله:» وأنْتُمْ «؛ تنبيهاً على أن المخاطبينَ أوغلُ في الوصْفِ بالبغْيِ من قومِه، حيثُ عاجلَ به قبل الخبر الذي هو» بُغاةٌ «؛ لئلا يدخُلَ قومُه في البغيِ قبلهم مع كونهم أوغلَ فيه منهم وأثبتَ قدماً، فإن قُلْتَ: فلو قيل:» والصَّابئينَ وإيَّاكُمْ «، لكان التقديمُ حاصلاً، قلت: لو قيل هكذا لم يَكُنْ من التقديم في شيء؛ لأنه لا إزالةَ فيه عن موضعه، وإنما يُقال مقدَّمٌ ومؤخَّرٌ للمُزَالِ لا للقارِّ في مكانه، وتجْرِي هذه الجملة مَجْرَى الاعتراض» . الوجه الثاني: أنَّ «إنَّ» بمعنى «نَعَمْ» فهي حرفُ جوابٍ، ولا محلَّ لها حينئذ، وعلى هذا فما بعدها مرفوعُ المحلِّ على الابتداء، وما بعده معطوفٌ عليه بالرفعِ، وخبرُ الجميعِ قوله: «مَنْ آمَنَ» إلى آخره، وكونُها بمعنى «نَعَمْ» قولٌ مرجوحٌ، قال به بعضُ النحْويِّين، وجعل من ذلك قوله تعالى: {إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ} [طه: 63] في قراءةِ من قرأهُ بالألف، وفي الآية كلامٌ طويلٌ يأتي - إنْ شاء الله تعالى - في موضعه، وجعل منه أيضاً قول عبد الله بْنِ الزُّبَيْر: «إنَّ وصاحبهَا» جواباً لمنْ قال له: «لَعَنَ الله ناقَةً حَمَلَتْنِي إلَيْكَ» ، أي: نَعَمْ وصاحِبهَا، وجعل منه قول الآخر: [الكامل] 2012 - بََرَزَ الغَوَانِي فِي الشَّبَا ... بِ يَلُمْنَنِي وألُومُهُنَّهْ ويَقُلْنَ شَيْبٌ قَدْ عَلاَ ... كَ وَقَدْ كَبِرْتَ فَقُلْتُ إنَّهْ أي: نَعَمْ، والهاءُ للسكْتِ، وأجيبَ: بأنَّ الاسم والخبر محذوفان في قول ابن الزُّبَيْرِ، وبقي المعطوفُ على الاسمِ دليلاً عليه، والتقديرُ: إنَّها وصاحِبُهَا ملعونَانِ، وتقدير البيتِ: إنَّهُ كذلِكَ، وعلى تقدير أَنْ تكون بمعنى «نَعَمْ» ، فلا يَصِحُّ هنا جعلُهَا بمعناها؛ لأنها لم يتقدَّمْها شيءٌ تكونُ جواباً له، و «نَعَمْ» لا تقعُ ابتداءَ كلامٍ، إنما تقع جواباً لسؤالٍ، فتكونُ تصديقاً له، ولقائل أن يقول: يجوزُ أن يكُونَ ثَمَّ سُؤالٌ مقدَّرٌ، وقد ذَكرُوا ذلك في مواضِعَ كثيرةٍ منها قوله تعالى: {لاَ أُقْسِمُ} [القيامة: 1] {لاَ جَرَمَ} [هود: 22] ، قالوا: يُحتملُ أن يكونَ ردّاً لقائلِ كَيْتَ وكَيْتَ. الوجه الثالث: أن يكون معطوفاً على الضَّميرِ المستكنِّ في «هَادُوا» أي: هَادُوا هم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 443 والصَّابئُونَ، وهذا قول الكسائيِّ، ورَدَّه تلميذُهُ الفرَّاء والزَّجَّاج. قال الزَّجَّاج: «هو خطأٌ من جهتَيْن» : إحداهما: أن الصابئ في هذا القولِ يشاركُ اليهوديَّ في اليهوديَّة، وليس كذلك، فإن الصابئ هو غيرُ اليهوديِّ، وإن جُعِلَ «هَادُوا» بمعنى «تَابُوا» من قوله تعالى: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} [الأعراف: 156] لا من اليهوديَّة، ويكون المعنى: تابوا هم والصابئون، فالتفسيرُ قد جاء بغير ذلك؛ لأنَّ معنى «الَّذِينَ آمَنُوا» في هذه الآية؛ إنما هو إيمانٌ بأفواهِهِم؛ لأنه يريد به المنافقين؛ لأنه وصفُ الذين آمَنُوا بأفواههمْ ولم تؤمِنْ قلوبُهُمْ، ثم ذكر اليهودَ والنصارى، فقال: مَنْ آمَنَ منهُمْ بالله، فله كذا، فجعَلَهُمْ يهوداً ونصارى، فلو كانوا مؤمنين، لم يحتجْ أنْ يقال: «مَنْ آمَنَ، فَلَهُمْ أجْرُهُمْ» ، وأُجِيبَ بأن هذا على أحدِ القولينِ، أعني: أنَّ «الَّذِينَ آمَنُوا» مؤمنُونَ نفاقاً، ورَدَّهُ أبو البقاء ومكي بن أبي طالبٍ بوجه آخر، وهو عدمُ تأكيدِ الضمير المعْطُوفِ عليه، قال شهاب الدين: هذا لا يلزمُ الكسائيَّ من حيث إنه قال بقولٍ تردُّه الدلائلُ الصحيحةُ، والله أعلم، وهذا القولُ قد نقله مكيٌّ عن الفرَّاء، كما نقله غيره عن الكسائيِّ، وردَّ عليه بما تقدَّمَ، فيحتملُ أن يكونَ الفرَّاء كان يوافق الكسائيَّ، ثم رجَع، ويحتمل أن يكون مخالفاً له، ثم رجع إليه، وعلى الجُمْلةِ، فيجوز أن يكونَ له في المَسْألة قولان. الوجه الرابع: أنه مرفوعٌ نسقاً على محلِّ اسم «إنَّ» ؛ لأنه قبل دخولها مرفوعٌ بالابتداء، فلمَّا دخلَتْ عليه، لم تُغَيِّر معناه، بل أكدَتْهُ، غايةُ ما في الباب: أنها عَمِلَتْ فيه لفظاً، ولذلك اختصَّتْ هي و «أنَّ» بالفتح، ولكن على رأي بذلك، دون سائر أخواتها؛ لبقاء معنى الابتداء فيها، بخلاف «لَيْتَ ولعلَّ وكَأنَّ» ، فإنه خرج إلى التمنِّي والتَّرَجِّي والتشبيه، وأجرى الفراء الباب مُجْرًى واحداً، فأجاز ذلك في لَيْتَ ولعلَّ، وأنشد: [الرجز] 2013 - يَا لَيْتَنِي وأنْتِ يَا لَمِيسُ ... فِي بَلَدٍ لَيْسَ بِهَا أنِيسُ فأتى ب «أنْتِ» ، وهو ضميرُ رفع نسقاً على الياء في «لَيْتَنِي» ، وهل يَجْري غيرُ العطْفِ من التوابع مَجْرَاهُ في ذلك؟ فذهَبَ الفرَّاء ويونُسُ إلى جوازِ ذلك، وجعلا منه قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق عَلاَّمُ الغيوب} [سبأ: 48] فرفعُ «علاَّم» عندهما على النعْتِ ل « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 444 رَبِّي» على المحلِّ، وحكوا «إنَّهُمْ أجْمَعُونَ ذَاهِبُونَ» ، وغلَّط سيبويه مَنْ قال من العرب: «إنَّهُمْ أجْمَعُونَ ذَاهِبُونَ» ، وأخذ الناس عليه في ذلك من حيْثُ إنه غَلَّط أهْلَ اللسان، وهم الواضعُون أو المتلقُّون من الواضعِ، وأجيبَ بأنهم بالنسبة إلى عامَّة العرب غالطُونَ، وفي الجملة: فالناسُ قد رَدُّوا هذا المَذهبَ، أعني: جواز الرفع عطفاً على محلِّ اسم «إنَّ» مطلقاً، أعني قبل الخبر وبعده، خَفِيَ إعرابُ الاسم أو ظهر، ونقل بعضهم الإجماع على جوازِ الرفْعِ على المحلِّ بعد الخبر، وليس بَشْيء، وفي الجملة: ففي المسألةِ أربعةُ مذاهبَ: مذهبُ المحقِّقين: المنعُ مطلقاً، مذهبُ بعضهم: التفصيلُ قبل الخَبَر؛ فيمتنعُ، وبعده؛ فيجوز، ومذهب الفراء: إنْ خَفِيَ إعرابُ الاسمِ، جاز ذلك؛ لزوال الكراهية اللفظية، وحُكِيَ من كلامهم: «إنَّكَ وَزَيْد ذَاهِبَانِ» ، الرابع: مذهب الكسائيِّ: وهو الجوازُ مطلقاً؛ ويستدلُّ بظاهر قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} الآية، وبقول ضَابِىءٍ البُرْجُمِيِّ: [الطويل] 2014 - فَمَنْ يَكُ أمْسَى بالمَدينةِ رَحْلُهُ ... فَإنِّي وَقَيَّارٌ بِهَا لَغَرِيبُ وبقوله: [البسيط] 2015 - يَا لَيْتَنَا وَهُمَا نَخْلُو بِمَنْزِلَةٍ ... حَتَّى يَرَى بعْضُنَا بَعْضاً وَنَأتَلِفُ وبقوله: [الوافر] 2016 - وَإلاَّ فاعْلَمُوا أنَّا وأنْتُمْ ..... ... ... ... ... ... . . وبقوله: [الرجز] 2017 - يَا لَيْتَنِي وأنْتِ يَا لَمِيسُ ... وبقولهم: «إنَّكَ وَزَيْدٌ ذَاهِبَانِ» ، وكلُّ هذه تَصْلُحُ أن تكونَ دليلاً للكسائيِّ والفراء معاً، وينبغي أن يُوردَ الكسائيُّ دليلاً على جوازِ ذلك مع ظهور إعراب الاسم؛ نحو: «إنَّ زَيْداً وعَمْرو قائِمَانِ» ، وردَّ الزمخشريُّ الرفع على المحلِّ؛ فقال: «فإنْ قلتَ: هلاَّ زَعَمْتَ أن ارتفاعه للعطْفِ على محَلِّ» إنَّ «واسمها، قلتُ: لا يَصِحُّ ذلك قبل الفراغ من الخَبَرِ، لا تقول:» إنَّ زَيْداً وعمرٌو مُنْطَلِقَانِ «، فإنْ قلتَ: لِمَ لا يَصِحُّ والنيةُ به التأخيرُ، وكأنك قلتَ: إنَّ زَيْداً مُنْطلقٌ وعمرٌو؟ قلتُ: لأني إذا رفعته رفعتُه على محلِّ» إنَّ «واسمها، والعاملُ في محلِّهما هو الابتداء، فيجب أن يكون هو العاملَ في الخَبَرِ؛ لأنَّ الابتداء الجزء: 7 ¦ الصفحة: 445 ينتظم الجزأيْنِ في عمله، كما تنتظِمُها» إنَّ «في عملها، فلو رَفَعْتَ» الصَّابِئُونَ «المنويَّ به التأخيرُ بالابتداء، وقد رفعت الخبر ب» إنَّ «، لأعْمَلْتَ فيهما رافعيْن مختلفين» ، وهو واضحٌ فيما رَدَّ به، إلاَّ أنه يُفْهِمُ كلامُه أنه يُجيزُ ذلك بعد استكمال الخَبَر، وقد تقدَّم أنَّ بعضهم نقل الاجماع على جوازه. وضعَّف ابنُ الخطيب ما قاله الزَّمَخْشَرِيُّ، قال: هذا الكلام ضَعِيفٌ وبَيَانُه من وجوه: الأوَّل: أنَّ هذه الأشْيَاء التي يُسَمِّيها النَّحْويُّونَ: رَافِعَةً وناصبةً، ليس معناهُ أنَّهَا كذلك لذَوَاتها ولأعْيَانِها، فإنَّ هذا لا يقوله عاقل، بل المراد أنَّهُمَا مُعَرَّفانِ بحسَبِ الوضْعِ والاصْطِلاَح لهذه الحركات، واجْتِمَاع المُعَرَّفَات الكَثيرَة على الشَّيْءِ والوَاحِدِ غير مُحَالٍ، ألا ترى أنَّ جَمِيع أجْزَاء المُحْدَثَاتِ دَالَّةٌ على وُجُودِ اللَّه تعالى؟ الثاني: أنَّ هذا الجواب بناءٌ على أنَّ كلمة «إنَّ» مُؤثِّرة في نَصْبِ الاسْم ورفْعِ الخبر، والكُوفِيُّونَ يُنْكِرون ذلك، ويقولون: لا تَأثِير لهذا الحَرْفِ في رَفْعِ الخَبَرِ ألْبَتَّةً. الثالث: أنَّ الأشْيَاء الكَثِيرة إذا عُطِفَتْ بَعْضُهَا على بَعْض، فالخَبَرُ الوَاحِدُ لا يكُونُ خَبَراً عنهم؛ لأنَّ الخبر عن الشَّيْءِ إخبارٌ عن تَعْريف حالِهِ وبيان صِفَتِهِ، ومن المُحَال أن يكون حالُ الشَّيء وَصِفَتُهُ عينُ حَالِ الآخَرِ وعيْنُ صفتِهِ، لامتناع قيام الصِّفة الواحدة للذَّوات المُخْتَلِفَة، وإذا ثَبَتَ هذا ظهر أنَّ الخَبَر، وإنْ كان في اللَّفْظِ واحِداً، لكنَّه في التقدير مُتَعَدِّدٌ، وإذا حصل التَّعَدُّدُ في الحقيقةِ، لم يمتنع كَوْنُ البَعْضِ مرتَفِعاً بالخَبَر، وبَعْض بالابْتِدَاء بهذا التَّقْدير، ولم يلزم اجْتِمَاعُ الرَّافِعَيْن على مَرْفُوعٍ واحدٍ. والذي يُحَقِّقُ ذلك أنَّهُ سَلَّم أنَّ بعد ذَكْرِ الاسْمِ وخَبَرهِ جَازَ الرَّفْعُ والنَّصْبُ في المَعْطُوفِ عليه، ولا شكَّ أنَّ هذا المَعْطُوفَ إنَّما جَازَ ذَلِكَ فيه؛ لأنَّا نُضْمِرُ له خَبَراً، وحَكَمْنَا بأنَّ ذلك الخَبَرَ المُضْمَر مُرْتَفِعٌ بالابْتِدَاء. وإذا ثَبَت هذا فَنَقُول: إن قبل ذكر الخبر إذا عَطَفْنَا اسماً على اسم، حكم صَريح العَقْل، بأنَّهُ لا بُدَّ من الحُكْمِ بتقدير الخَبَرِ، وذلك إنَّما يحصل بإضمار الأخْبَار الكَثِيرَة، وعلى هذا التقديرِ يَسْقُطُ ما ذكر من الإلْزَام. الوجه الخامس: قال الواحديُّ: «وفي الآية قولٌ رابعٌ لهشام بن معاوية: وهو أنْ تُضْمِرَ خبرَ» إنَّ «، وتبتدئ» الصَّابِئُونَ «، والتقدير:» إنَّ الذينَ آمَنُوا والذين هَادُوا يُرْحَمُونُ «على قولِ من يقولُ: إنَّهم مسْلِمُونَ، و» يُعَذِّبُونَ «على قولِ من يقول: إنهم كفَّار، فيُحْذَفُ الخبرُ؛ إذ عُرِف موضِعُه؛ كما حُذِف من قوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر} [فصلت: 41] ، أي: يُعَاقَبُونَ «ثم قال الواحديُّ: وهذا القولُ قريبٌ من قولِ البصريِّينَ، غيرَ أنَّهم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 446 يُضْمِرُون خبر الابتداءِ، ويجعلُونَ» مَنْ آمَنَ «خبرَ» إنَّ «، وهذا على العكْسِ من ذلك؛ لأنه جعل» مَنْ آمنَ «خبر الابتداء، وحذفَ خبرَ» إنَّ «، قال شهاب الدين: هو كما قال، وقد نَبَّهْت على ذلك في قَوْلِي أولاً: إنَّ مِنْهُم مَنْ يُقَدِّر الحذف من الأوَّلِ، ومنهم مَنْ يَعْكِسُ. الوجه السادس: أنَّ» الصَّابِئُونَ «مرفوعٌ بالابتداء، وخبرُه محذوفٌ؛ كمذهب سيبويه والخليلِ، إلا أنه لا يُنْوى بهذا المبتدأ التأخيرُ، فالفرقُ بينه وبين مذهب سيبويه نيةُ التأخيرِ وعدمُها، قال أبو البقاء:» وهو ضعيفٌ أيضاً؛ لما فيه من لزومِ الحذْفِ والفصلِ «، أي: لِما يلزمُ من الجَمْع بين الحذفِ والفَصْلِ، ولا يَعْنِي بذلك؛ أنَّ المكان من مواضع الحذف اللازمِ؛ لأنَّ القرآن يلزمُ أنْ يُتْلَى على ما أُنْزِلَ، وإنْ كان ذلك المكان في غيره يجوزُ فيه الذكرُ والحذفُ. الوجه السابع: أنَّ» الصَّابِئُونَ «منصوبٌ، وإنما جاء على لغةِ بني الحرثِ وغيرهمُ الذين يَجْعَلون المثنَّى بالألفِ في كل حال؛ نحو:» رأيْتُ الزَّيْدَانِ، ومَرَرْتُ بالزَّيْدَانِ «نقل ذلك مكي بن أبي طالب وأبو البقاء، وكأنَّ شبهةَ هذا القائلِ على ضَعْفِها؛ أنه رأى الألف علامةَ رفعِ المثنَّى، وقد جُعِلَتْ في هذه اللغةِ نائبةً رفعاً ونصباً وجرًّا، وكذا الواو هي علامةُ رفعِ المجموعِ سلامةً، فيبقى في حالةِ النصْب والجرِّ؛ كما بَقِيت الألفُ، وهذا ضعيفٌ، بل فَاسدٌ. الوجه الثامن: أنَّ علامةَ النصب في» الصَّابِئُونَ «فتحةُ النون، والنونُ حرفُ الإعراب، كهي في» الزَّيْتُونِ «و» عُرْبُونٍ «، قال أبو البقاء:» فإنْ قيلَ: إنما أجاز أبو عليٍّ ذلك مع الياءِ، لا مع الواوِ، قيل: قد أجازه غيرُه، والقياسُ لا يدفعُهُ «، قال شهاب الدين: يشير إلى مسألة، وهو: أن الفارسيَّ أجازَ في بعضِ جموعِ السَّلامة، وهي ما جَرَتْ مجرى المكسَّرِ كَبنينَ وسِنينَ؛ أن يَحُلَّ الإعرابُ نونها؛ بشرطِ أن يكونَ ذلك مع الياءِ خاصَّةً دونَ الواوِ، فيقال:» جاءَ البَنِينُ «؛ قال: [الوافر] 2018 - وَكَانَ لَنَا أبُو حَسَنٍ عَلِيٌّ ... أباً بَرًّا ونَحْنُ لَهُ بَنِينُ وفي الحديث:» اللَّهُمَّ، اجْعَلْهَا عَلَيهِمْ سِنيناً كَسِنين يُوسُفَ «؛ وقال: [الطويل] 2019 - دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سنينَهُ ... لَعِبْنَ بِنَا شِيباً وَشَيَّبْنَنَا مُرْدَاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 447 فأثْبَتَ النونَ في الإضافةِ، فلمَّا جاءت هذه القراءةُ؛ ووجِّهتْ بأن علامة النصب فتحةُ النونِ، وكانَ المشْهُورُ بهذا القولِ إنما هو الفارسيُّ، سأل أبو البقاء هذه المسألة، وأجاب بأنَّ غيره يُجيزُهُ حتَّى مع الواو، وجعل أنَّ القياسَ لا يأباه، قال شهاب الدين: القياسُ يأباه، والفرقُ بين حال كونه بالياء وبين كونه بالواوِ ظاهرٌ قد حَقَّقْته في» شَرْحِ التَّسْهِيلِ «، نعم، إذا سُمِّي بجمعِ المذكرِ السالمِ، جاز فيه خمسةُ أوجه: أحدها: أنْ يُعْرَبَ بالحركاتِ مع الواوِ، ويصيرَ نظيرَ» الذون «، فيقال:» جَاءَ الزَّيْدُونُ ورَأيْتُ الزَّيْدُونَ ومَرَرْتُ بالزَّيْدُونِ «، ك» جَاءَ الذُونُ ورَأيْتُ الذونَ ومَرَرْتُ بالذونِ «، هذا إذا سُمِّيَ به، أمَّا ما دام جمعاً، فلا أحْفَظُ فيه ما ذكره أبو البقاءِ، ومن أثْبَتَ حجةٌ على مَنْ نَفَى، لا سيما مع تقدُّمِه في العلمِ والزمان. الوجه التاسع: قال مكيٌّ: «وإنما رفع» الصَّابِئُونَ «؛ لأن» إنَّ «لم يظهر لها عملٌ في» الَّذينَ «فبقي المعطوفُ على رفعه الأصليِّ قبل دخول» إنَّ «على الجملة» ، قلت: وهذا هو بعينه مذهَبُ الفراء، أعني: أنه يجيز العطف على محلِّ اسم «إنَّ» إذا لم يظهر فيه إعرابٌ، إلا أن عبارة مَكيٍّ لا توافق هذا ظاهراً. قال ابنُ الخطيبِ مُعَلِّلاً قول الفرَّاء: أن «إنَّ» ضعيفةٌ في العَمَلِ هاهنا، وبيانُهُ مِنْ وجوه: الأوَّلُ: أنَّ كلمة «إنَّ» لم تَعْمَلْ إلاَّ لكوْنِهَا مُشابِهَة للفِعْل، ومعلُومٌ أنَّ المشابَهَة بين الفِعْلِ والحَرْفِ ضَعِيفَةٌ. الثاني: أنَّها، وإن كانَت تَعْمَل في الاسمِ فقط، أمَّا الخَبَر، فإنَّه يبقى مَرْفُوعاً، لِكَوْنِه خَبَرَ المُبْتَدَأ، وليس لهذا الحرف في رَفْعٍ الخَبَرِ تَأثيرٌ، وهذا مَذْهَبُ الكُوفيِّين. والثالث: أنَّهَا إنما يَظْهَرُ أثَرُهَا في تَغْيير الأسْمَاءِ أمَّا الأسماءُ الَّتِي لا تَتَغيَّرُ عند اختلافِ العوامل، فلا يظهر أثَرُ هذا الحرف فيها، والأمر هاهُنا كذلك؛ لأنَّ الاسمَ هاهُنَا هو قوله «الَّذِين» وهذه الكَلِمَةُ لا يظهر فيها أثَرُ النَّصْبِ والرَّفْعِ والخَفْضِ. وَإذا ثبت هذا فَنَقُولُ: إذَا كان اسم «إنَّ» بحيث لا يَظْهَرُ فيه أثَرُ الإعراب، فالَّذِي يُعْطَفُ عليه يجُوز النَّصْبُ فيه على إعْمَال هذا الحَرْفِ، والرَّفْعُ على إسْقَاطِ عَمَلِه، فلا يَجُوز أن يُقَال: «إنَّ زيداً وعَمْراً قَائِمَان» لأنَّ زيْداً ظهر فِيهَا أثَرُ الإعراب، ويجُوزُ أن يُقَال: «إنَّ هؤلاءِ إخْوتكَ يُكْرِمُونَنَا، وإنَّ قَطَامَ وهِنْد عِنْدنَا» والسَّبَبُ في جَوَازِ ذلك أنَّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 448 كَلِمَة «إنَّ» كانَتْ في الأصْلِ ضعيفَةُ العَمَل، فإذَا صارت بِحَيْثُ لا يَظْهَرُ لَهَا أثَرٌ في اسمهَا صَارَتْ في غاية الضَّعفِ، فجاز الرَّفْعُ بِمُقْتَضَى الحُكْم الثَّابِتِ قبل دخول هذا الحَرْفِ عليه، وهو كَونُهُ مُبْتَدأ، فهذا تَقْرِير قول الفرَّاء، وهو مَذْهَبٌ حَسَنٌ، وأولى من مذهَبِ البصْرِيِّين؛ لأن الَّذي قالوه يَقْتَضِي أنَّ كلام الله على التَّرْتِيب الَّذِي وردَ عليه ليس بصحيح، وإنَّمَا تَحصُل الصِّحَّة عند تَفْكيكِ هذا النَّظْمِ، وعلى قوْلِ الفرَّاءِ فلا حاجَةَ إليه، فكَانَ ذلك أوْلَى. وقرأ أبيُّ بن كعْبٍ، وعثمان بنُ عفان، وعائشةُ، والجحْدَرِيُّ وسعيدُ بن جُبَيْرٍ، وجماعة: «والصَّابئينَ» بالياء، ونقلها صاحب «الكَشَّاف» عن ابن كثيرٍ، وهذا غير مشهُور عنه، وهذه القراءةُ واضحةُ التخريج؛ عطفاً على لفظِ اسْم «إنَّ» ، وإن كان فيها مخالفةٌ لسوادِ المصْحَفِ، فيه مخالفةٌ يسيرةٌ، ولها نظائرُ كقراءة قُنْبُلٍ عن ابن كثيرٍ: {سراط} [الفاتحة: 5] وبابه بالسين، وكقراءة حمزة إيَّاهُ في روايةٍ بالزَّاي، وهو مرسومٌ بالصَّاد في سائر المصاحِف، ونحو قراءة الجميع: {إيلافهم} [قريش: 1] بالياء، والرسم بدونها في الجميعِ، وقرأ الحسن البصريُّ والزهريُّ: «والصَّابيُون» بكسر الباء بعدها ياءٌ خالصة، وهو تخفيف للهمزة، كقراءة من قرأ: { «يستهزيون} [الأنعام: 5] بخلوص الياء، وقد تقدَّم قراءة نافعٍ في البقرة [الآية 62] . وأما» النَّصَارى «، فهو منصوب عطْفاً على لفظ اسمِ» إنَّ «، ولا حاجة إلى ادِّعاء كونه مرفوعاً على ما رفع به» الصابئُونَ «؛ لكلفةِ ذلك. قوله تعالى:» مَنْ آمَنَ «يجوز في» مَنْ «وجهان: أحدهما: أنها شرطيةٌ، وقوله:» فلا خَوْفٌ «إلى آخره جوابُ الشرط، وعلى هذا ف» آمَنَ «في محل جزمٍ بالشرط، و» فلا خَوْفٌ «في محلِّ جزمٍ بكونه جوابه، والفاءُ لازمةٌ. والثاني: أن تكون موصولةً والخبر» فلا خوفٌ «، ودخلت الفاءُ لشبهِ المبتدأ بالشرطِ، ف» آمَنَ «على هذا لا محلَّ له؛ لوقوعه صلةً، و» فَلا خَوفٌ «محلُّه الرفعُ لوقوعه خبراً، والفاءُ جائزةُ الدخولِ، لو كان في غير القرآن، وعلى هذين الوجهين، فمحلُّ» مَنْ «رفعٌ بالابتداء، ويجوز على كونها موصولةً: أن تكون في محلِّ نصب بدلاً من اسم» إنَّ «وما عُطِف عليه، أو تكون بدلاً من المعطوفِ فقط، وهذا على الخلافِ في» الَّذِينَ آمَنُوا «: هل المرادُ بهم المؤمنونَ حقيقةً، أو المؤمنونَ نِفَاقاً؟ وعلى كلِّ تقدير من التقادير المتقدِّمة، فالعائدُ من هذه الجملة على» مَنْ «محذوفٌ، تقديرُه:» مَنْ آمن مِنْهُمْ «؛ كما صَرَّح به في موضعٍ آخر، وتقدَّم إعرابُ باقي الجُمْلَةِ فيما مَضَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 449 فصل في معنى الآية معنى قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ} ، أي: باللِّسَان وقوله تعالى: {مَنْ آمَنَ} بالقَلْبِ، وعلى هذا فالمُرَادُ بِهِم: المنافقون، وقيل: إنَّ الذين على حقيقةِ الإيمان {مَنْ آمَنَ بالله} أي: ثبتَ على الإيمان باللَّه واليومِ الآخر وعمل صالحاً فلا خَوْفٌ عليهم ولا هم يَحْزَنُون. ولهذا التكرير فائدتان: الأولى: أن المُنَافِقِين كانوا يَزْعُمُون أنَّهُم مُؤمِنُون، فأخْرَجَهُمْ بهذا التكرير عن [وعد] عدمِ الخَوْف، وعدمِ الحزن. والثاني: أنَّهُ تعالى ذكر لَفْظَ الإيمان، والإيمانُ يدخل تحته أقسامٌ: فأشرفُها: الإيمان باللَّهِ واليوم الآخر، فكرره تنبيهاً على أنَّ هذيْنِ القسمَيْن أشْرَف أقْسَام الإيمان. وقد تقدَّمَ في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} [المائدة: 35] كلامٌ يناسب هذا الموضع. واعلم أنَّه لما بَيَّنَ أن أهل الكِتاب ليسُوا على شَيء ما لم يُؤمِنُوا بيَّن أنَّ هذا الحُكْمَ عامٌّ في الكُلِّ، وأنَّهُ لا يَحْصُلُ لأحدٍ فضيلة إلاَّ إذا آمَنَ باللَّهِ واليَوْمِ الآخَرِ، وعَمِلَ صَالِحاً. قالت المُعَتزِلَة: إنَّه تعالى شرَطَ عدمَ الخَوْفِ والحُزْن بالإيمان والعَمَلِ الصَّالح، والمشروط بالشَّيء عدم عند عدمِ الشَّرْطِ، فإنْ لم يَأتِ مع الإيمان بالعملِ الصَّالِح، فإنَّه يحصل له الخَوْفُ والحزن، وذلكَ يَمْنَعُ من العَفْوِ عن صاحبِ الكَبيرَة. والجواب: أنَّ صاحِبَ الكَبيرَةِ لا يقطعُ بأنَّ الله يَعْفُو عنه لا مَحَالَة، فكان الخَوْفُ والحزن حاصِلاً قبل إظهَارِ العَفْو والله أعلم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 والمقصودُ: بيان عُيُوب بني إسرائيل، وشدَّة تَمَرُّدهم عن الوفاءِ بِعَهْدِ اللَّهِ، وهذا مُتعلِّقٌ بأوَّلِ السُّورة، وهو قولُه تعالى: {أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] . قوله تعالى: {كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ} : قد تقدَّم الكلامُ [الآية 20 من البقرة] على «كُلَّمَا» مشبَعاً، فأغْنَى عن إعادته، وقال الزمخشريُّ: «كُلَّمَا جاءَهُمْ رسولٌ» جملةٌ شرطيةٌ وقعت صفةٌ ل «رُسُلاً» ، والراجعٌ محذوفٌ، أي: «رسولٌ منهُمْ» ، ثم قال: «فإنْ قلتَ: أينَ جوابُ الشرط، فإنَّ قوله: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} ناب عن الجواب؛ لأنَّ الرسولَ الواحدَ لا يكون فريقَيْن؛ ولأنه لا يحسُن أن تقول:» إنْ أكْرَمْتَ أخِي، أخَاك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 450 أكْرَمْتُ «؟ قلتُ: هو محذوفٌ؛ يَدُلُّ عليه قوله: {فَرِيقاً كَذَّبُواْ، وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ} ، كأنه قيل: كلما جاءهم رسولٌ، ناصَبُوه، وقوله:» فَرِيقاً كَذَّبُوا «جوابٌ مستأنفٌ لقائلٍ يقول: كيف فعلُوا برسُلِهِمْ؟» قال أبو حيان: «وليس» كُلَّمَا «شرطاً، بل» كُلَّ «منصوبٌ على الظرف و» مَا «مصدريةٌ ظرفيةٌ، ولم يجزم العربُ ب» كُلَّّمَا «أصلاً، ومع تسليم أن» كُلَّمَا «شرط؛ فلا يمتنع؛ لما ذكر، أمّا الأول؛ فلأنَّ المرادَ ب» رَسُول «الجنسُ لا واحدٌ بعينه، فيصحُّ انقسامُه إلى فريقَيْن؛ نحو:» لا أصْحَبُكَ ما طَلَع نَجْمٌ «أي: جنس النجوم، وأما الثاني؛ فيعني أنه لا يجوزُ تقديمُ معمولِ جوابِ الشرط عليه» . وهذا الذي منعه إنما منعه الفرَّاءُ وحدَه، وأما غيرُه، فأجاز ذلك، وهذا مع تسليم أنَّ «كُلَّمَا» شرط، وأمَّا إذا مشينا على أنَّها ظرفيةٌ، فلا حاجة إلى الاعتذارِ عن ذلك، ولا يمتنعُ تقديمُ معمولِ الفعلِ العاملِ في «كُلَّمَا» تقول: «كُلَّمَا جِئْتَنِي أخَاكَ أكْرَمْتُ» ، قال شهاب الدين: هذا واضحٌ من أنها ليستْ شرطاً، وهذه العبارةُ تكثُرُ في عبارة الفقهاءِ دُونَ النُّحَاةِ، وفي عبارة أبي البقاء ما يُشْعر بما قاله الزمخشريُّ، فإنه قال: «وَكَذَّبُوا» جواب «كُلَّمَا» و «فَرِيقاً» مفعول ب «كَذَّبُوا» ، و «فَرِيقاً» منصوب ب «يَقْتُلُونَ» ، وإنما قدَّمَ مفعول «يَقْتُلُونَ» لتواخي رؤوس الآي، وقدَّم مفعولَ «كَذَّبُوا» مناسبةً لما بعده. قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: لِمَ جِيءَ بأحد الفعلَيْن ماضياً، وبالآخر مضارعاً؟ قلتُ: جِيء ب» يَقْتُلُونَ «على حكايةِ الحالِ الماضية؛ استفظاعاً للقتلِ، واستحضاراً لتلْكَ الحالِ الشنيعةِ؛ للتعجُّبِ منها» . انتهى، وقد يقال: فلِمَ لا حُكِيَتْ حالُ التكْذيبِ أيضاً، فيُجَاءُ بالفعْلِ مضارعاً لذلك؟ ويجَابُ بأنَّ الاستفظاع في القتلِ وشناعَتِهِ أكثرُ من فظاعةِ التكذيبِ، وأيضاً؛ فإنه لمَّا جيء به مضارعاً ناسب رؤوس الآي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 قرأ حمزةُ والكسائيُّ وأبو عمرو «تَكونُ» برفع النون، والباقون بنصبها، فمنْ رفع ف «أنْ» عنده مخفَّفةٌ من الثقيلة، واسمها ضميرُ الأمرِ والشأنِ محذوفٌ، تقديرُه، أنهُ، و «لاَ» نافية، و «تَكُونُ» تامة، و «فِتْنَةٌ» فاعلها، والجملةُ خبر «أن» ، وهي مفسِّرةٌ لضميرِ الأمرِ والشأن، وعلى هذا، ف «حَسِبَ» هنا لليقين، لا للشكِّ؛ ومن مجيئها لليقين قولُ الشاعر: [الطويل] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 451 2020 - حَسِبْتُ التُّقَى والْجُودَ خَيْرَ تِجَارةٍ ... رَبَاحاً إذَا مَا المَرْءُ أصْبَحَ ثَاقِلا أي: تيقَّنْتُ؛ لأنه لا يليقُ الشكُّ بذلك، وإنما اضْطُرِرْنَا إلى جعلها في الآية الكريمة بمعنى اليقين؛ لأنَّ «أن» المخففةَ لا تقع إلا بعد يقينٍ، فأمَّا قوله: [البسيط] 2021 - أرْجُو وَآمُلُ أنْ تَدْنُوْ مَوَدَّتُهَا ... وَمَا إخَالُ لَدَيْنَا مِنْكَ تَنْوِيلُ فظاهرُه: أنها مخفَّفةٌ؛ لعدم إعمالها، وقد وقعت بعد «أرْجُو» و «آمُلُ» وليسا بيقينٍ، والجوابُ من وجهين: أحدهما: أنَّ «أنْ» ناصبةٌ، وإنما أُهْمِلَتْ؛ حَمْلاً على «مَا» المصدريَّة؛ ويَدُلُّ على ذلك أنها لو كانت مخفَّفَةً، لفُصِلَ بينها وبين الجملة الفعليةِ بما سنذكره، ويكون هذا مثل قولِ الله تعالى: {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} [البقرة: 233] ؛ وكقوله: [البسيط] 2022 - يَا صَاحِبَيَّ فَدَتْ نَفْسِي نُفُوسَكُمَا ... وَحَيْثُمَا كُنْتُمَا لُقِّيتُمَا رَشَدَا أنْ تَحْمِلا حَاجَةً لِي خَفَّ مَحْمَلُهَا ... تَسْتوَجِبَا نِعْمَةً عِنْدِي بِهَا وَيَدَا أنْ تَقْرَآنِ عَلَى أسْمَاءَ وَيْحَكُمَا ... مِنِّي السَّلامَ وألاَّ تُشْعِرا أحَدَا فقوله: «انْ تَقْرآنِ» بدلٌ من «حَاجَة» ، وقد أهْمَلَ «أنْ» ؛ ومثلُه قوله: [مجزوء الكامل] 2023 - إنِّي زَعِيمٌ يَا نُوَيْ ... قَةُ إنْ نَجَوْتِ مِنَ الرَّزَاحِ وَنَجَوْتِ مِنْ وَصَبِ الْعَدْوْ ... وِ مِنَ الغُدُو إلى الرَّوَاح أنْ تَهْبِطِينَ بِلاَدَ قوْ ... مٍ يَرْتَعُونَ مِنَ الطِّلاحِ وكيفما قُدِّر فيما ذكرته من الأبيات، يلزم أحد شذوذَيْنِ قد قيل باحتمال كلٍّ منهما: إمَّا إهمالُ «أنْ» ، وإمَّا وقوعُ المخفَّفة بعد غير علمٍ، وعدمُ الفصل بينها، وبين الجملة الفعليَّة. والثاني من وجهي الجواب: أنَّ رجاءَهُ وأملَهُ قويَا حتَّى قربا من اليقينِ، فأجراهما مُجْراهُ في ذلك. وأما قول الشاعر: [الخفيف] 2024 - عَلِمُوا أنْ يُؤمَّلُونَ فَجَادُوا ... قَبْلَ أنْ يُسْألُوا بأعْظَمِ سُؤلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 452 فالظاهرُ أنها المخفَّفة، وشَذَّ عدمُ الفصْلِ، ويحتملُ أن تكون الناصبة شذَّ وقوعُها بعد العلْمِ، وشذَّ إهمالُها، ففي الأوَّلِ شذوذٌ واحدٌ، وهو عدم الفصلِ، وفي الثاني شذوذَانِ: وقوعُ الناصبةِ بعد العلمِ، وإهمالُها حَمْلاً على «مَا» أختِها. وجاءَ هنا على الواجب - عند بعضهم - أو الأحسنِ - عند آخرين - وهو الفصلُ بين «أن» الخفيفةِ وبين خبرها، إذا كان جملة فعليةً متصرفةً غير دعاءٍ، والفاصلُ: إمَّا نفي كهذه الآية، وإمَّا حرفُ تنفيس؛ كقوله تعالى: {عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى} [المزمل: 20] ، ومثله: «عَلِمْتُ أنْ سوْفَ تقُومُ» ، وإمَّا «قَدْ» ؛ كقوله تعالى: {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: 113] ، وإمَّا «لَوْ» - وهي غريبةٌ -؛ كقوله: {وَأَلَّوِ استقاموا} [الجن: 16] {أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الغيب} [سبأ: 14] . وتحرَّزْتُ بالفعلية من الاسمية؛ فإنها لا تحتاج إلى فاصل؛ كقوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] ، وكقوله: [البسيط] 2025 - فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْد قَدْ عَلِمُوا ... أنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ وبالمتصرِّفةِ من غيرِ المتصرِّفة؛ فإنه لا تحتاج إلى فاصلٍ؛ كقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ} [الأعراف: 185] ، وبغير دعاءٍ من الواقعةِ دعاءً؛ كقوله تعالى: {أَنَّ غَضَبَ الله} [النور: 9] في قراءة نافعٍ. ومَنْ نصب «تَكُونَ» ف «أنْ» عنده هي الناصبة للمضارعِ، دخلت على فعلٍ منفيٍّ ب «لاَ» ، و «لاَ» لا يمنعُ أن يعملَ ما قبلها فيما بعدها من ناصبٍ، ولا جازم، ولا جارٍّ، فالناصبُ كهذه الآية؛ والجازم كقوله تعالى: {إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ} [الأنفال: 73] {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} [التوبة: 40] ، والجارُّ نحو: «جِئْتُ بِلا زادٍ» . و «حَسِبَ» هنا على بابها من الظَّنِّ، فالناصبة لا تقعُ بعد علْم، كما أنَّ المخففة لا تقع بعده غيرِه، وقد شَذَّ وقوعُ الناصبةِ بعد يَقِينٍ، وهو نصٌّ فيه كقوله: [البسيط] 2026 - نَرْضَى عَنِ النَّاسِ إنَّ النَّاسَ قَدْ عَلِمُوا ... ألاَّ يُدانِيَنَا مِنْ خَلْقِهِ بَشَرُ وليس لقائلٍ أن يقول: العلمُ هنا بمعنى الظَّنِّ؛ إذ لا ضرورة تدعو إليه، والأكثرُ بعد أفعالِ الشكِّ النصبُ ب «أنْ» ، ولذلك أُجْمِع على النصْب في قوله تعالى: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا} [العنكبوت: 2] ، وأمَّا قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} [طه: 89] فالجمهورُ على الرفع؛ لأن الرؤية تقعُ على العلْمِ. والحاصل أنه متى وقَعَتْ بعد علْمٍ، وجبَ أن تكونَ المخفَّفةَ، وإذا وقعت بعد ما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 453 ليس بعلمٍ ولا شكٍّ، وجَبَ أن تكونَ الناصبةَ، وإن وقعت بعد فعْلٍ يحتملُ اليقينَ والشك جاز فيها وجهان باعتباريْنِ: إنْ جعلناه يقيناً، جعلناها المخففةَ ورفعنا ما بعدها، وإن جعلناه شكّاً جعلناها الناصبةَ ونصبْنَا ما بعدها، والآيةُ الكريمةُ من هذا الباب، وكذلك قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} [طه: 89] وقوله: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا} [العنكبوت: 2] لكن لم يُقرأ في الأولى إلا بالرفعِ، ولا في الثانية إلا بالنصْب، لأن القراءة سنةٌ متبعة، وهذا تحريرُ العبارة فيها، وإنما قلنا ذلك؛ لأن بعضهم يقول: يجوزُ فيها بعد أفعال الشكِّ وجهان، فيوهمُ هذا أنه يجوزُ فيها أن تكونَ المخفَّفةَ، والفعلُ قبلها باقٍ على معناه من الشكِّ، لكن يريد ما ذكرتُه لك من الصلاحيةِ اللفظيةِ بالاعتبارين المتقدمَيْن، ولهذا قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلْتَ: كيف دخَلَ فعلُ الحُسْبَانِ على» أن «التي هي للتحْقِيق؟ قلْتُ: نَزَّل حسبانَهم؛ لقوَّته في صدورِهِمْ منزلةَ العلْمِ» والسببُ المقتضي لوقوعِ المخفَّفةِ بعد اليقين، والناصبةِ بعد غيره، وجواز الوجهَيْن فيما تردَّد بين الشَّكِّ واليقينِ: ما ذكروه، وهو «أن» المخفَّفة تَدُلُّ على ثباتِ الأمر واستقراره؛ لأنها للتوكيدِ كالمشدَّدة، والعلمُ وبابُه كذلك، فنَاسَبَ أنْ تُوقِعَها بعد اليقين للملائمةِ بينهما، ويدلُّ على ذلك وقوعُها مشدَّدةً بعد اليقين؛ كقوله تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين} [النور: 25] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106] {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} [البقرة: 107] إلى غير ذلك، والنوعُ الذي لا يدلُّ على ثبات واستقرارٍ تقع بعده الناصبة؛ كقوله تعالى: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي} [الشعراء: 82] {نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ} [المائدة: 52] {فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا} [الكهف: 80] {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ} [المجادلة: 13] إلى غير ذلك، والنوعُ المحتملُ للأمرين تقع بعده تارة المخففةُ، وتارةً الناصبةُ؛ كما تقدَّم من الاعتبارَيْنِ، وعلى كلا التقديرين، أعني: كونها المخففةَ أو الناصبةَ، فهي سادَّةٌ مسدَّ المفعوليْنِ عند جمهورِ البصْريين، ومسدَّ الأولِ، والثاني محذوفٌ عند أبي الحسن، أي: حَسِبُوا عدمَ الفتنةِ كائناً أو حاصلاً، وحكَى بعض النحويِّين أنه ينبغي لِمَنْ رفع أن يَفْصِلَ «أنْ» من «لاَ» في الكتابة؛ لأنَّ الهاء المضْمَرة حائلةٌ في المعنى، ومن نصب، لم يَفْصِلْ لعدمِ الحائل بينهما، قال أبو عبد الله: «هذا ربَّما ساغَ في غير المُصْحفِ، أمَّا المُصْحَفُ، فلَم يُرْسَمْ إلا على الاتِّصَال» . انتهى، وفي هذه العبارة تجوُّزٌ؛ إذ لفظُ الاتصالِ يُشْعِرُ بأنْ تُكْتَبَ «أنلا» فتوصل «أنْ» ب «لاَ» في الخطِّ، فينبغي أن يقال: لا تُثْبَتُ لها صورةٌ، أو تُثْبتُ لها صورةٌ منفصلة. فصل اختَلَفُوا في الفِتْنَةِ فقِيلَ: هِيَ العَذَابُ أي: وظنُّوا ألا يكون عذابٌ، وقيل: هي الابْتِلاءُ والاخْتِبَارُ بالقَحْطِ، والوَبَاء، والقَتْلِ والعَدَاوَةِ، والبَغْضَاءِ فيما بَيْنَهُم، وكُلُّ ذلك قد وقعَ بِهِم، وكُلُّ واحدٍ من المُفَسِّرين حَمَل الفِتْنَةَ على واحدٍ من هذِهِ الوُجُوه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 454 واعلم أنَّ حُسْبَانَهُمْ ألاَّ تقع فِتْنَةٌ يحتمل وجهين: إمَّا أنهم كانوا يَعْتقدُون أنَّ الواجِبَ عليْهِم في كل رَسُول جَاءَ بِشَرْعٍ آخَر؛ أنَّه يجب عَلَيْهِم قَتْلُه وتَكْذِيبُه. وإمَّا أنهم وإن اعْتَقَدُوا في أنْفُسِهِم كَوْنهم مُخْطِئِين في ذلك التَّكْذِيب والقَتْلِ، إلاَّ أنَّهُم كانوا يَقُولُون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] وكانوا يعتقدون أنَّ نُبُوَّةَ أسْلاَفهم وآبَائِهم تَدْفَعُ عَنْهُم العذاب الذي يَسْتَحِقُّونَهُ بِسَببِ ذلِكَ القَتْلِ والتَّكْذِيب. قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} أي: فَعَمُوا عن الحقِّ فلم يُبْصِرُوا «وصَمُّوا» بعد مُوسَى {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ} ببعْثَ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وقيل: عَمُوا وَصمُّوا في زَمَان زَكريَّا، ويحيى، وعيسى - عليهم الصلاة والسلام -، ثم تاب اللَّهُ على بعضهم، حيْثُ آمَنَ بعضُهُم به ثمَّ عمُوا وصمُّوا كثيرٌ منهم في زَمَانِ مُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، بأنْ أنْكَرُوا نُبُوَّتَه ورِسَالَتَهُ، وإنَّما قال «كثيرٌ مِنْهُم» ؛ لأنَّ أكثرَ اليهُود وإنْ أصَرُّوا على الكفر بمُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، إلاَّ أنَّ جَمْعاً آمَنُوا به كَعَبْدِ اللَّه بن سلام وأصحَابِه. وقيل: عَمُوا حين عَبَدُوا الْعِجْلَ، ثمَّ تَابُوا عَنْهُ فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِم، ثمَّ عَمُوا وصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُم بالتعَنُّتِ، وهو طَلَبُهُم رُؤيَةَ اللَّهِ جَهْرَةً، ونُزُولَ الملائِكة. وقال القَفَّال: ذَكَرَ اللَّهُ تعالى في سُورةِ بَنِي إسْرائيل ما يجُوزُ أنْ يكُونَ تَفْسيراً لِهَذِه الآية، فقالَ تعالى: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً} [الإسراء: 4، 5، 6] ، فهذا في معنى «فَعَمُوا وصمَّوا» ثم قال تعالى {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} [الإسراء: 7] فهذا في معنى قوله «فَعَمُوا وصَمُّوا» . قوله تعالى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} في هذا التركيب خمسة أوجه: أحدها: أنَّ الواوَ علامةُ جمع الفاعلِ، كما يَلْحق الفعل تاءُ التأنيث؛ ليدلَّ على تأنيثِ الفاعل، ك «قَامَتْ هِنْدٌ» ، وهذه اللغة جاريةٌ في المثنى وجمع الإناث أيضاً، فيقال: «قَامَا أخَواكَ، وقُمْنَ أخَوَاتُكَ» ؛ كقوله: [الطويل] 2027 - ... ... ... ... ... ... . ... وَقَدْ أسْلَمَاهُ مُبْعَدٌ وحَمِيمُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 455 وقوله: [الطويل] 2028 - ولَكِنْ دِيَافِيٌّ أبُوهُ وأمُّهُ ... بِحَوْرَانَ يَعْصِرْنَ السَّليطَ أقَارِبُهْ واستدلَّ بعضُهم بقوله - عليه السلام -: «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ ملائِكَةٌ» ، ويعبِّر النحاة عن هذه اللغةِ بلغةِ «أكَلُونِي البَرَاغِيثُ» ، ولكنَّ الأفصحَ ألاَّ تلحقَ الفعلَ علامةٌ، وفرَّق النحويُّون بين لحاقِهِ علامةَ التأنيث، وعلامةَ التثنية والجمع؛ بأنَّ علامةَ التأنيث ألزمُ؛ لأن التأنيث في ذاتِ الفاعلِ بخلافِ التثنيةِ والجمعِ؛ فإنه غيرُ لازمٍ. الوجه الثاني: أنَّ الواوَ ضميرٌ عائدٌ على المذكورينَ العائد عليهم واو «حَسِبُوا» ، و «كَثِيرٌ» بدلٌ من هذا الضمير، كقولك: «إخْوَتُكَ قَامُوا كَبِيرُهُمْ وصَغِيرُهُمْ» ونحوه. والإبْدَال كَثيرٌ في القُرْآنِ قال تعالى: {الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} [السجدة: 7] . وقال تعالى: {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] . الوجه الثالثك أن الواو ضمير أيضاً، و «كَثِيرٌ» بدلٌ منه، والفرقُ بين هذا الوجه والذي قبله: أن الضمير في الوجْهِ الأوَّلِ مفسَّرٌ بما قبلَه وهم بنو إسْرائِيلَ، وأمَّا في هذا الوجه، فهو مفسَّرٌ بما بعده، وهذا أحدُ المواضع التي يُفَسَّر فيها الضميرُ بما بعده، وهو أن يُبْدَلَ منه ما يفسرهُ، وهي مسألةُ خلافٍ، وقد تقدَّم تحريرها. الوجه الرابع: أن الضمير عائدٌ على مَنْ تقدَّم، و «كَثِيرٌ» خبر مبتدأ محذوف، وقدَّره مكي تقديرين: أحدهما: قال: «تقديرُه العُمْيُ والصُّمُّ كثيرٌ منهم» ، والثاني: العَمَى والصَّمَمُ كثيرٌ منهم؛ ودلَّ على ذلك قوله: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} ، فعلى تقديره الأوَّل: يكون «كَثِيرٌ» صادقاً عليهم و «مِنْهُمْ» صفة ل «كَثِير» ؛ وعلى التقدير الثاني: يكون «كَثِيرٌ» صادقاً على العَمَى والصَّمَمِ لا عليهِمْ، و «مِنْهُمْ» صفةٌ له بمعنى أنه صادرٌ منهم، وهذا الثاني غيرُ ظاهرٍ، وقدَّره الزمخشريُّ فقال: «أولَئِكَ كَثِيرٌ منهم» . الوجه الخامس: أنَّ «كَثيرٌ» مبتدأ والجملةُ الفعليَّة قبله خبرٌ، ولا يُقالُ: إنَّ الفعلَ متى وقع خبراً، وجبَ تأخيرُه؛ لأنَّ ذلك مشروطٌ بكونِ الفاعل مستتراً؛ نحو: «زَيْدٌ قَامَ» ؛ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 456 لأنه لو قُدِّم، فقيل: «قَامَ زَيْدٌ» ، لألبس بالفاعل، فإن قيلَ: وهذا أيضاً يُلْبِس بالفاعلِ في لغة «أكَلُونِي البَراغيثُ» ، فالجواب: أنها لغةٌ ضعيفةٌ لا نبالي بها، وضعَّفَ أبو البقاء هذا الوجه بمعنًى آخَرَ، فقال: «لأنَّ الفعل قد وقَعَ في موضِعِه، فلا يُنْوَى به غيرُه» ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّا لا نُسَلِّم أنه وقع موقعه، وإنما كان واقعاً لو كان مجرَّداً من علامةٍ، ومثلُ هذه الآيةِ أيضاً قوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] . والجمهورُ على «عَمُوا وصَمُّوا» بفتح العين والصاد، والأصل: عَمِيُوا وصَمِمُوا؛ كَشَرِبُوا، فأعِلَّ الأولُ بالحذفِ، والثَّاني بالإدغامِ، وقرأ يحيى بن وثَّاب وإبراهيم النخعي بضم العين والصاد وتخفيف الميم من «عَمُوا» ، قال الزمخشريُّ: «على تقدير عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ، أي: رَمَاهُمْ وضَرَبَهُمْ بالعَمَى والصَّمَمِ؛ كما يقال: نَزَكْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بالنَّيْزَكِ، وركَبْتُهُ إذا ضَرَبْتَهُ بِرُكْبَتِكَ» ، ولم يعترضْ عليه أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وكان قد قال قبل ذلك بعد أن حكى القراءة: «جَرَتْ مَجْرَى زُكِمَ الرجُلُ، وأزْكَمَهُ الله، وحُمَّ وأحَمَّه الله، ولا يقال: زَكَمَهُ الله ولا حَمَّهُ؛ كما لا يقال: عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُه، وهي أفعالٌ جاءت مبنيَّةً للمفعول الذي لم يُسَمَّ فاعلُه، وهي متعدِّيةٌ ثلاثيةٌ، فإذا بُنيتْ للفاعلِ، صارتْ قاصرةً، فإذا أردت بناءَها للفاعلِ متعدِّيةً، أدخَلْتَ همزة النقْلِ، وهي نوعٌ غريبٌ في الأفعال» . انتهى، فقوله: «كمَا لا يُقَالُ عَمَيْتُهُ ولا صَمَمْتُهُ» يقتضي أن الثلاثيَّ منها لا يتعدَّى، والزمخشريُّ قد قال على تقدير: «عَمَاهُمُ الله وصَمَّهُمْ» فاستعملَ ثلاثيَّةُ متعدِّياً، فإن كان ما قاله أبو حيان صحيحاً، فينبغي أن يكون كلام الزمخشريِّ فاسداً أو بالعكس. وقرأ ابن أبي عَبْلة «كَثِيراً» نصباً؛ على أنه نعتٌ لمصدر محذوف، وتقدم غيرَ مرَّة أنه عند سيبويه حالٌ، وقال مكي: «ولو نَصَبْتَ» كَثِيراً «في الكلام، لجازَ أن تجعله نعتاً لمصدر محذوف، أي: عَمى وصَمَماً كثيراً» ، قلت: كأنه لم يطَّلِعْ عليها قراءةً، أو لم تَصِحَّ عنده؛ لشذُوذها. وقوله: «فَعَمُوا» عطفَه بالفاء، وقوله: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ} عطفه ب «ثُمَّ» ، وهو معنى حسنٌ؛ وذلك أنهم عَقِيبَ الحُسْبَانِ، حصل لهم العمى والصَّمَمُ من غير تَرَاخٍ، وأسند الفعلين إليهم، بخلافِ قوله: {فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ} [محمد: 23] ، لأنَّ هذا فيمن لم يَسْبِقْ له هدايةٌ، وأسند الفعل الحسنَ لنفسِه في قوله: {ثُمَّ تَابَ الله عَلَيْهِمْ} ، وعطف قوله: «ثُمَّ عَمُوا» بِحَرْفِ التراخِي؛ دلالةً على أنهم تمادَوْا في الضَّلال إلى وقْتِ التوبة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 457 فصل في معنى العمى والصّمم المُرَادُ بهذا العمى والصّمم الجَهْلُ والكُفْرُ، وإذا كان كذلِكَ فنقول: فَاعِلُ هذا الجَهْلِ إمَّا أن يكون هو اللَّهُ - تعالى - أو العَبْدُ. فالأول: يُبْطِلُ قول المُعْتَزِلَةِ. والثاني: بَاطِل؛ لأنَّ الإنسان لا يَخْتَارُ ألْبَتَّةَ تَحْصِيلَ الجَهْلِ والكُفْرِ لِنَفْسِهِ. فإن قيل: إنَّمَا اختاروا ذلك؛ لأنَّهُمْ ظَنُّوا أنَّهُ علمٌ. قلنا: هذا الجَهْلُ يسبقه جَهْلٌ آخَر، إلاَّ أنَّ الجهالات لا تتَسَلْسَلُ، بل لا بد من انْتِهائِهَا إلى الجَهْلِ الأوَّل، ولا يجوز أنْ يَكُون هو العَبْدُ لِما ذَكَرْنَا فوَجَب أن يكون فاعله هو اللَّهُ تعالى. ثُمَّ قال تعالى: {والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} أي: مِنْ قَتْل الأنْبيَاء وتكْذِيب الرُّسُلِ المقصود منه التَّهْدِيد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 لمَّا تكلم مع اليهود شَرَعَ في الكلام هَاهُنا مع النَّصارى. فحكى عَنْ فَريقٍ مِنْهُم أنَّهُمْ قالوا: {إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ} وهذا قول المَلْكَانِيَّة واليَعْقُوبِيَّة؛ لأنهم يَقُولُون: إنَّ مَرْيم ولدَت إلهاً، ولعلَّ معنى هذا المَذْهَب أنَّهُمْ يقولون: إنَّ الله تعالى حَلَّ في ذَاتِ عيسى واتّحد بِذاتِ عيسى، ثم حكى - سبحانه وتعالى - عن المسيح أنَّهُ قال: {يا بني إِسْرَائِيلَ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ} ، وهذا تنبيه على ما هُوَ الحُجَّةُ القَاطِعَةُ على فسَاد قول النَّصَارى؛ وذلك لأنَّه - عليه الصَّلاةُ والسلام - لم يُفَرِّقْ بينه وبين غيره، في أنَّ دلائل الحُدُوثِ ظَاهِرَةٌ عليه، ثم قال تعالى: {إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة وَمَأْوَاهُ النار وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} ومعْنَاهُ ظاهرٌ واحتَجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بهذا على أنَّ عِقَابِ الفُسَّاقِ لا يكون مُخَلَّداً قالوا: لأنَّه تعالى جَعَل أعظم أنواع الوعيدِ والتَّهْديد في حَقِّ المُشْرِكينِ، وهو أنَّ اللَّه - تعالى - حَرَّم عليهم الجَنَّة ومأوَاهُمُ النَّار، وأنَّهُ ليس لهم نَاصِرٌ يَنْصُرهُم، ولا شَافِعٌ يَشْفَعُ لهُمْ، فلو كان حال الفُسَّاقِ من المُؤمنين كَذَلِك لما بَقِي لتهْدِيدِ المُشركين على شِرْكِهِم بهذَا الوعيد فائدة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 458 معناه أحدُ الثلاثةِ، ولذلك منع الجمهورُ أن يُنْصَبَ ما بعده، لا تقولُ: ثَالِثٌ ثلاثةً، ولا رَابعٌ أربعةً؛ قالوا: لأنه اسمُ فاعلٍ، ويعملُ عَمَلَ فعله، وهنا لا يقع موقعَه فعلٌ؛ إذ لا يقال: رَبَّعْتُ الأرْبَعَةَ، ولا ثَلَّثْتُ الثلاثةَ، وأيضاً: فإنه أحدُ الثلاثة؛ فيلزم أن يعمل في نَفْسِهِ، وأجاز النصْبَ بمثلِ هذا ثَعْلَبٌ، وردَّه عليه الجمهورُ بما ذُكِرَ، أمَّا إذا كان من غيرِ لَفْظِ ما بعده، فإنه يجوزُ فيه الوجْهَان: النصبُ، والإضافة؛ نحو: رَابعٌ ثلاثةً، وإن شئْتَ: ثَلاثَةٍ، واعلم: أنه يجوز أن يُشتقَّ من واحد إلى عَشَرَةٍ صيغةُ اسمِ فاعلٍ؛ نحو: «وَاحِد» ، ويجوز قلبه فيقال: حَادِي وثَانِي وثالِث إلى عَاشِر، وحينئذٍ: يجوز أن يستعملَ مفرداً؛ فيقال: ثَالِثٌ ورَابعٌ؛ كما يقال: ثلاثةٌ وأربعةٌ من غير ذكرِ مفسِّرٍ، وأن يستعمل استعمالَ أسماءِ الفاعلينَ؛ إنْ وقع بعده مغايرُهُ لفظاً، ولا يكونُ إلا ما دونهُ برتْبةٍ واحدةٍ؛ نحو عَاشِرُ تِسْعَةٍ، وتَاسِعُ ثَمَانِيَةٍ، فلا يجامعُ ما دونَه برتبتين؛ نحو: عَاشِرُ ثمانِيَةٍ، ولا ثَامِنُ أرْبَعَةٍ، ولا يُجامِعُ ما فوقه مطلقاً، فلا يقال: تَاسِعُ عشرةٍ ولا رَابعُ ستَّةٍ. إذا تقرَّر ذلك فيعطى حكم اسم الفاعل؛ فلا يعملُ إلا بشروطه، وأمَّا إذا جامع موافقاً [له لفظاً] وجبتْ إضافتُه؛ نحو: ثَالثُ ثلاثةٍ، وثَاني اثْنَيْنِ، وتقدَّم خلاف ثَعْلَبٍ، ويجوز أن يُبْنَى أيضاً من أحَدَ عشر، إلى تِسْعَة عشر، فيقال: حَادِي عشرَ وثالثَ عشرَ، ويجوز أنْ يُستعمل مفْرداً؛ كما ذكرنا، ويجوز أن يُسْتَعْمَل مجامعاً لغيره، ولا يكونُ إلا موافقاً، فيقال: حَادِي عشر أحدَ عشرَ، وثالثَ عشرَ ثلاثةَ عشرَ، ولا يقالُ: ثالثَ عشرَ اثْنَيْ عشرَ، وإن كان بعضُهم خالفَ، وحكمُ المؤنثِ كحكْمه في الصفَاتِ الصريحةِ، فيقال: ثَالِثَة ورابعة، وحادية عشْرَةَ، وثَالِثَة عشْرَةَ ثلاثَ عَشْرَة، وله أحكامٌ كثيرة مذكورة في كُتب النَّحْو. فصل في تفسير قول النصارى «ثالث ثلاثة» هذا قول المَرْقُوسِيَّة: وفيه طريقان: أحدهما: قول المُفَسِّرين: وهو أنَّ النَّصَارى يقولون: الإلهِيَّة مشتركة بَيْنَ اللَّه ومرْيَم وعيسَى، وكُلُّ واحد من هؤلاء إله. ويؤكد ذَلِكَ قوله تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] فقوله: «ثَالِثُ ثلاثَةٍ» أي: أحَد ثلاثة، وواحد من ثلاثةِ آلهةٍ، يَدُلُّ عليه قوله تعالى في الرَّدِّ عليهم: {وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله وَاحِدٌ} . قال الواحديُّ والبَغَوِي: من قال: إنَّ اللَّه تعالى ثَالِثُ ثلاثةٍ، هُو لَمْ يُرِدْ ثالثُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 459 ثلاثةِ آلهة، فإنَّه ما مِنْ شَيْءٍ إلاَّ واللَّه ثالثُهُ بالعِلْم، قال تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} [المجادلة: 7] . وقال النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - لأبي بكرٍ: «ما ظَنُّكَ باثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهُمَا» . الطريق الثاني: أنَّ المُتَكَلِّمين حكوا عن النَّصَارى أنَّهُمْ يقولون: جَوْهَرٌ واحدٌ: ثلاثةُ أقْسَام: أبٌ، وابْنٌ، ورُوحُ القُدُس، وهذه الثَّلاثَةُ إلهٌ واحِدٌ، كما أنَّ الشَّمْس اسمٌ يتناوَلُ القُرْصَ والشُّعَاع والحَرَارَة، وعنُوا بالأبِ الذَّات، وبالابْنِ الكَلِمَة، وبالرُّوحِ الحَيَاة، وأثْبَتُوا الذَّاتَ والكَلِمَة والحَيَاة. وقالوا: إنَّ الكَلِمَة التي هي كلامُ اللَّه اخْتلطَتْ بِجِسْمِ عيسَى اخْتِلاطَ الماءِ بالخَمْر، واختلاط الماءِ باللَّبْن. وزعمُوا أنَّ الأبَ إلهٌ، والابْنَ إله، والرُّوح إلهٌ، والكُلُّ إلهٌ وهذا بَاطِلٌ بيديهَةِ العقْلِ، فإنَّ الإلهَ لا يكونُ إلاَّ واحِداً، والواحِدُ لا يكونُ ثلاثةٌ، وليس في الدُّنْيا مقالةٌ أشَدَّ فَسَاداً، وأظْهَر بُطْلاناً من مقالَةِ النَّصارى - لعنهُمُ اللَّهُ تعالى -. قوله تعالى: {وَمَا مِنْ إله} «مِنْ» زائدةٌ في المبتدأ؛ لوجود الشرطين، وهما كونُ الكلام غير إيجابٍ، وتنكيرُ ما جرَّتْهُ، و «إلهٌ» بدل من محلِّ «إلهٍ» المجرورِ ب «مِنْ» الاستغراقية؛ لأن محلَّه رفعٌ كما تقدَّم، وما إلهٌ في الوجُودِ إلاَّ إلهٌ مُتَّصِفٌ بالوحْدَانية، قال الزمخشريُّ: «مِنْ» في قوله: «مِنْ إلهٍ» للاستغراقِ، وهي المقدَّرةُ مع «لاَ» التي لنفي الجنْسِ في قولك: «لا إلَهَ إلاَّ اللَّهُ» والمعنى: وما مِنْ إلهٍ قَطُّ في الوجُود إلاَّ إلهٌ مُتَّصِفٌ بالوحدانيَّة، وهو الله تعالى «، فقد تحصَّل مِنْ هذا أنَّ» مِنْ إلهٍ «مبتدأ، وخبرُه محذوفٌ، و» إلاَّ إلَهٌ «بدلٌ على المحلِّ، قال مكي:» ويجوزُ في الكلام النصبُ: «إلاَّ إلهاً» على الاستثناء «، قال أبو البقاء:» ولو قُرئَ بالجرِّ بدلاً من لَفْظ «إلهٍ» ، لكان جائزاً في العربيَّة «، قال شهاب الدين: ليس كما قال؛ لأنه يلزمُ زيادةُ» مِنْ «في الواجبِ؛ لأن النفي انتقضَ ب» إلاَّ «، لو قلت:» ما قَامَ إلاَّ مِنْ رَجُلٍ «، لم يَجُزْ فكذا هذا، وإنما يجوزُ ذلك على رأي الكوفيين والأخفش؛ فإنَّ الكوفيين يشترطون تنكيرَ مجرورها فقط، والأخفشُ لا يشترط شيئاً، قال مكي» واختار الكسائيُّ الخفضَ على البدل من لفظ «إلهٍ» ، وهو بعيدٌ؛ لأنَّ «مِنْ» لا تُزَاد في الواجبِ «، قال شهاب الدين: ولو ذهبَ ذاهبٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 460 إلى أنَّ قوله» إلاَّ إلهٌ «خبر المبتدأ، وتكونُ المسألةُ من الاستثناءِ المفرَّغِ، كأنه قيل: ما إلَهٌ إلاَّ إلَهٌ مُتَّصِفٌ بالواحدِ، لما ظهر له منعٌ، لكنِّي لم أرَهُمْ قالوه، وفيه مجالٌ للنظر. ثم قال تعالى: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قال الزَّجَّاجُ: معناه: ليمسن الذين أقامُوا على هذا الدِّين؛ لأنَّ كثيراً منهم تَابُوا عن النَّصْرانيَّةِ، فخصَّ الذين كفروا لِعِلْمهِ أنَّ بعضَهُمْ يُؤمِنُ. قوله: «لَيَمَسَّنَّ» جوابُ قَسَم مَحْذُوفٍ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ؛ لدلالةِ هذا عليه، والتقديرُ: واللَّهِ، إنْ لَمْ يَنْتَهُوا لَيَمَسَّنَّ، وجاء هذا على القاعدَةِ التي قَرَّرْتُهَا: وهو أنه إذا اجتمعَ شرطٌ وقَسَمٌ أُجيبَ سابقُهما ما لم يسبقْهُمَا ذو خَبَرٍ، وقد يجابُ الشرطُ مطْلقاً، وقد تقدَّم أيضاً: أن فعلَ الشرطِ حينئذٍ لا يكون إلا ماضياً لفظاً ومعنًى لا لفظاً كهذه الآية، فإنْ قيلَ: السابقُ هنا الشرطُ؛ إذ القسمُ مقدَّرٌ، فيكونُ تقديرُه متأخِّراً، فالجوابُ أنه لو قُصِدَ تأخُّرُ القسَمِ في التقدير، لأجيبَ الشرْطُ، فلمَّا أُجِيبَ القسمُ، عُلِمَ أنه مقدَّرُ التقديمِ، وعبَّر بعضهم عَنْ هذا، فقال: لامُ التوطئةِ للقسمِ قد تُحْذَفُ ويُراعَى حكمُها؛ كهذه الآيةَ؛ إذ التقدير: «ولَئِنْ لَمْ» كما صرَّح بهذا في غير موضع؛ كقوله: {لَّئِن لَّمْ يَنتَهِ المنافقون} [الأحزاب: 60] ؛ ونظيرُ هذه الآية قوله: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ} [الأعراف: 23] {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} [الأنعام: 121] ، وتقدَّم أنَّ هذا النوع من جواب القسمِ يجبُ أن يُتلقَّى باللام وإحدى النونَيْنِ عند البصريِّين، إلاَّ ما استثني، كما تقدَّمَ، قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: فهلاَّ قيل: لَيَمسُّهُمْ عذابٌ، قلتُ: في إقامة الظاهر مقامَ المضْمَرِ فائدةٌ، وهي تكريرُ الشهادة عليهم بالكُفْر» . وقوله: «مِنْهُمْ» في محلِّ نصبٍ على الحال، قال أبو البقاء: إمَّا من «الَّذِينَ» ، وإمَّا من ضمير الفاعل في «كَفَرُوا» ، قلتُ: لم يتغيَّر الحكمُ في المعنى؛ لأن الضميرَ الفاعِلَ هو نَفْسُ الموصُولِ، وإنما الخلافُ لفظيٌّ، وقال الزمخشريُّ: «مِنْ» في قوله تعالى: {لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ} للبيان كالتي في قوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] قال شهاب الدين: فعلى هذا يتعلقُ «مِنْهُمْ» بمحذوفٍ، فإن قلتَ: هو على جعله حالاً متعلقٌ أيضاً بمحذوف، قلت: الفرقُ بينهما أنَّ جَعْلَهُ حالاً يتعلَّقُ بمحذوفٍ، ذلك المحذوفُ هو الحالُ في الحقيقة، وعلى هذا الوجه يتعلَّقُ بفعلٍ مفسِّرٍ للموصولِ الأول، كأنه قيل: أعني منهُمْ، ولا محلَّ ل «أعْنِي» ؛ لأنها جملةٌ تفسيريةٌ، وقال أبو حيان: «و» مِنْ «في» مِنْهُمْ «للتبعيض، أي: كائناً منهُمْ، والربطُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 461 حاصلٌ بالضمير، فكأنه قيل: كَافرُهُمْ، وليسوا كلهم بَقُوا على الكُفْر» . انتهى، يعني: هذا تقديرٌ لكونها تبعيضيةً، وهو معنى كونها في محلِّ نصبٍ على الحال. وقوله تعالى: «أفَلا يَتُوبُونَ» : تقدَّم نظيره مراراً، وأنَّ فيه رأيين: رأيُ الجمهور: تقديمُ حرفِ العطف على الهمزة تقديراً، ورأيُ أبي القاسِمِ: بقاؤه على حاله وحذفُ جملةٍ معطوفٍ هذا عليها، والتقديرُ: أيثبُتُونَ على كُفرِهِمْ، فلا يتُوبُونَ، والاستفهامُ فيه قولان: أظهرهما: أنه للتعجب من حالهم: كَيْفَ لا يتوبُونَ ويستغفُرونَ من هذه المقالةِ الشَّنعاء؟ والثاني: أنه بمعنى الأمر، وهو رأي ابن زياد الفَرَّاء؛ كأنه قال: تُوبُوا واسْتَغْفِرُوا من هاتيْنِ المقالتيْنِ؛ كقوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] . وكلامُ ابن عطيَّة يُفْهِم أنه للتحضيضِ، قال: «رَفَقَ جَلَّ وعلا بهمْ بتحضيضهِ إياهُمْ على التوبة وطلب المغفِرَةِ» ، يعني بذلك من حيث المعنى، وإلاَّ فَفَهْمُ التحضيض من هذا اللفظ غيرُ مُسَلَّم، وكيف يُعْقَلُ أنَّ حرف العطفِ فصلَ بين الهمزة و «لا» المفهمةِ للتحضيض؟ [فإنْ قلت] : هذا إنما يُشْكِلُ على قولنا: إنَّ «ألاَ» التحضيضية بسيطةٌ غيرُ مركَّبةٍ، فلا يُدَّعى فيها الفصلُ بحرفِ العطف، أما إذا قلنا: إنها همزةُ الاستفهام دَخَلَتْ على «لا» النافيةِ، وصارَ معناهما التحضيضَ، فلا يَضُرُّ الفصلُ بحرف العَطْف؛ لأنه عُهِد في «لا» النافيةِ الداخلِ عليها همزةُ الاستفهام، فالجواب: أنه لا يجوزُ مطلقاً؛ لأنَّ ذلك المعنى قد انسلخ وحدثَ معنى آخرُ، وهو التحضيضُ؛ فلا يلزم من الجوازِ في الأصْلِ الجوازُ بعد حدوثِ معنى جديد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 وهذا كقوله تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ} [آل عمران: 144] . و «قَدْ خَلَتْ» صفةٌ له كما في الآيةِ الأخرى، وتقدَّم معنى الحصر أي: ما هُو إلاَّ رسول من جنسِ الذين مَضَوْا من قَبْلِهِ، وليْسَ بإله، كما أنَّ الرُّسُل الذين مَضَوْا لم يكونوا آلهَةً، وجاء بالبَيِّنَات من اللَّهِ كما أتَوْا بأمْثَالِهَا، وإنَّ إبراءَ عيسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام الأكْمَهَ والأبْرَصَ، وإحْيَاء الموتى فبإذْنِ اللَّهِ على يدهِ من اللَّه، كما أحيا مُوسَى العَصَا، وجعلها حَيَّة تَسْعَى، وفُلِقَ له البحر، وضرب الحَجَرَ فانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً، وإن كان خلقَهُ من غير ذكرٍ، فقد خلق اللَّهُ - تعالى - آدَمَ من غَيْرِ ذكرٍ ولا أنْثَى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 462 وقوله تعالى: «وأمُّهُ صدِّيقةٌ» ابتداءٌ وخبرٌ، ولا محلَّ لهذه الجملة من الإعراب، و «صِدِّيقةٌ» تأنيثُ «صدِّيق» ، وهو بناءُ مبالغةٍ ك «فعَّال» و «فَعُول» ، إلا أنه لا يعملُ عمل أمثلةِ المبالغة، فلا يقال: «زَيْدٌ شِرِّيبٌ العسلَ» ؛ كما يقال: «شرَّابٌ العَسَل» ، وإن كان القياس إعماله، وهل هو مِنْ «صَدَقَ» الثلاثيِّ، أو من «صَدَّقَ» مضعَّفاً؟ القياسُ يقتضي الأولَ، لأنَّ أمثلةَ المبالغةِ تطَّرِدُ من الثلاثي دون الرباعيِّ، فإنه لم يَجيء منه إلا القليلُ، وقال الزمخشري: «إنه من التَّصْديقِ» ، وكذا ابنُ عطية، إلا أنَّه جعله محتملاً، وهذا واضحٌ لقوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا} [التحريم: 12] ، فقد صرَّح بالفعل المسند إليها مضعَّفاً، وعلى الأول معناه أنَّها كثيرةُ الصِّدْقِ. وقوله تعالى: {كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام} لا محلَّ له؛ لأنه استئنافٌ وبيان لكونهما كسائر البشرِ في احتياجهما إلى ما يحتاج إليه كلُّ جِسْمٍ مُولدٍ، والإلهُ الحقُّ سبحانه وتعالى منزَّهٌ عن ذلك، وقال بعضهم: «هو كنايةٌ عن احتياجهما إلى التَّغَوُّطِ» وهُو ضعيفٌ مِنْ وُجُوه: الأول: أنَّهُ ليْسَ كُلُّ من أكل أحْدَث، فإنَّ أهل الجَنَّةِ يأكلون ولا يُحْدِثُون. الثاني: أنَّ الأكْلَ عبارةٌ عن الحاجَةِ إلى الطَّعَامِ وهذه الحاجَةُ من أقْوى الدَّلائلِ على أنَّهُ ليس بإله، فأي حَاجَةٍ إلى جَعْلِهِ كِنَايَةً عن شَيْءٍ آخر؟ الثالث: أنَّ الإله هو القادِرُ على الخَلْقِ والإيجَادِ، فلو كانَ إلهاً لقدر على دَفْعِ ألَم الْجُوعِ عن نَفْسِهِ بِغَيْرِ الطَّعَامِ، فلمَّا لم يقدر على دَفْعِ الضَّررِ عن نَفْسِه، كيف يُعْقَلُ أن يكُون إلهاً للعالمين؟! والمقصودُ من هذا: الاستِدلاَلُ على فَسَادِ قَوْلِ النَّصَارَى، فإنّ من كان له أمٌّ فقد حَدَثَ بَعْدَ أن لَمْ يكُنْ، وكلُّ من كان كذلك كان مَخْلُوقاً لا إلهاً، وكُلُّ من احْتَاجَ إلى الطَّعَام أشَدَّ الحاجَةِ لَمْ يكن إلهاً؛ لأنَّ الإله هُوَ الَّذِي يكونُ غَنِيّاً عن جَمِيعِ الأشْيَاء، وبالجُمْلَةِ فسادُ قولِ النَّصَارى أظْهَرُ من أن يُحْتَاجَ فيه إلى دَليلٍ. قوله تعالى: «كَيْفَ» منصوب بقوله: «نُبَيِّنُ» بعده، وتقدم ما فيه في قوله تعالى: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] وغيره، ولا يجوز أن يكون معمولاً لما قبله؛ لأن له صدر الكلام، وهذه الجملة الاستفهامية في محلِّ نصبٍ؛ لأنها معلِّقةٌ لفعل قبلها، وقوله: {ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ} كالجملةِ قبلَها، و «أنَّى» بمعنى «كَيْفَ» ، و «يُؤفَكُونَ» ناصبٌ ل «أنَّى» ويُؤفَكُونَ: بمعنى يُصْرَفُونَ. وفي تكرير الأمر بقوله: «انْظُرْ» «ثُمَّ انْظُرْ» دلالةٌ على الاهتمام بالنظرِ، وأيضاً: فقد اختلف متعلَّقُ النظريْنِ؛ فإنَّ الأولَ أمرٌ بالنظَرِ في كيفية إيضاح الله تعالى لهم الآياتِ، وبيانها؛ بحيث إنه لا شكَّ فيها ولا ريب، والأمرُ الثاني بالنَّظَر في كونهم صُرِفُوا عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 463 تدبُّرها والإيمان بها، أو بكونِهِم قُلِبُوا عمَّا أريدَ بهم، قال الزمخشريُّ: «فإنْ قلت: ما معنى التراخي في قوله:» ثُمَّ انْظُرْ «؟ قلت: معناه ما بين التعجُّبَيْنِ، يعني: أنه بيَّن لهم الآياتِ بياناً عجباً، وأنَّ إعراضهم عنها أعْجَبُ منه» . انتهى، يعني: أنه من باب التراخِي في الرُّتَبِ، لا في الأزمنةِ، ونحوه {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} [الأنعام: 1] وسيأتي. فصل في معنى الإفك يُقَالُ: أفَكَهُ يأفِكُهُ إفْكاً إذا صَرَفَهُ، والإفْكُ: الكَذِبُ؛ لأنَّهُ صَرْفٌ عَنِ الحَقِّ، وكُلُّ مَصْرُوفٍ عَنِ الشَّيْء مأفوكٌ عنه. وقد أفَكَت الأرْضُ، إذا صُرِفَ عَنْهَا المَطَرُ. والمعنى: كَيْف يصرفون عن الحَقِّ؟ قال أهْلُ السُّنَّةِ: دلَّتِ الآيَةُ على أنَّهُمْ مَصْرُوفُون عن تَأمُّلِ الحَقِّ، والإنْسَان يمتنع أن يَصْرِفَ نَفْسَهُ عن الحقِّ والصِّدْق إلى البَاطِلِ والجَهْلِ والْكَذِب، لأنَّ العاقل لا يختار لِنَفْسِه ذلك، فَعَلِمْنَا أنَّ الله تعالى صَرَفَهُمْ عن ذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 وهذا دَلِيلٌ أيضاً على فَسَادِ قول النَّصارَى وذلك من وُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ اليَهُود كانوا يعادُونَ عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ويَقْصُدُونَهُ بالسُّوءِ، فما قَدرَ على إضْرَارِهِمْ، وكان له أيضاً أنْصَارٌ وصَحَابَةٌ يُحِبُّونَهُ، فما قَدَرَ على إيصَالِ نَفْعٍ من منَافِعِ الدُّنْيَا إليْهِمْ، والعاجِزُ عن الإضْرار والنَّفْعِ كَيْفَ يُعْقَلُ أن يكُون إلهاً؟ { الثاني: أن مذْهَبَ النَّصَارى - لعنهم اللَّهُ -: أنَّ اليهود صَلَبُوه ومَزَّقُوا أضْلاَعَهُ، ولما عَطِشَ وطلبَ الماءَ مِنْهُم صبُّوا الخَلَّ فِي مَنخريْهِ، ومن كان في الضَّعْفِ هكذَا، كَيْفَ يُعْقَل أن يكُون إلهاً؟} الثالث: أنَّ إلهَ العالم يَجِبُ أنْ يكُون غَنِيًّا عن كل ما سواهُ مُحْتَاجاً إليه، فلو كان عيسَى كذلك لامْتَنَعَ كَوْنُهُ مَشْغُولاً بعبادة الله تعالى؛ لأنَّ الإله لا يَعْبُدُ شَيْئاً، إنَّمَا العبد هو الذي يَعْبُدُ الإله، فلما عُرِفَ بالتَّوَاتُرِ أنَّهُ كانَ مُوَاظِباً على الطَّاعَات والعبادَاتِ، عَلِمْنَا أنَّهُ كان يفعلها لكونه مُحْتَاجاً في تَحْصِيل المَنَافِعِ، ودفْعِ المضَارِّ إلى غيره، ومن كان كذلك كيْفَ يَقْدِرُ على إيصال المَنَافِعِ إلى العِبَادِ، ودَفْعِ المضارّ عنهم؟! وإذَا كان كذِلكَ كان عَبْداً كَسَائِرِ العَبيدِ، وهذا هو عَيْنُ الدَّليلِ الذي حَكَاهُ اللَّهُ تعالى عن إبراهيم - عليه السلام - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 464 حيث قال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42] . قوله تعالى: {مَا لاَ يَمْلِكُ} : يجوزُ أن تكون «مَا» بمعنى «الَّذِي» ، وأن تكون نكرةً موصوفةً، والجملةُ بعدها صلةٌ، فلا محلَّ لها، أو صفةٌ، فمحلُّها النصبُ، وفي وقوع «مَا» على العاقلِ هنا؛ لأنه أُريد به عيسَى وأمُّه وجوهٌ: أحدها: أنه أُتِي ب «مَا» مراداً بها العاقلُ؛ لأنها مبهمةٌ تقعُ على كل شيء، كذا قاله سيبويه، أو أُريد به النوعُ؛ كقوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] ، أي: النوع الطَّيِّبَ، أو أُريدَ به العاقلُ مع غيره؛ لأنَّ أكثر ما عبد من دون اللَّهِ غيرُ عاقلٍ؛ كالأصنامِ والأوثانِ والكواكبِ والشَّجَرِ، أو شبهُهُ على أولِ أحواله؛ لأنه في أولِ حاله لا يُوصفُ بعقلٍ، فكيف يُتَّخَذ إلهاً معبوداً؟ قوله تعالى: {والله هُوَ السميع العليم} «هو» : يجوزُ أن يكون مبتدأ ثانياً، و «السَّميعُ» خبرُه، و «العَلِيمُ» خبرٌ ثانٍ أو صفةٌ، والجملة خبرُ الأوَّل، ويجوزُ أن يكون فَصْلاً، وقد عُرِفَ ما فيه، ويجوزُ أن يكونَ بدلاً، وهذه الجملةُ الظاهرُ فيها: أنها لا محلَّ لها من الإعراب، ويحتمل أن يكون في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ من فاعلِ «تَعْبُدونَ» ، أي: أتعبُدُونَ غير الله، والحالُ أن الله هو المستحقُّ للعبادة؛ لأنه يَسْمَعُ كلَّ شيء ويعلمه، وإليه ينحو كلامُ الزمخشريِّ؛ فإنه قال: {والله هُوَ السميع العليم} متعلِّق ب «أتَعْبُدُونَ» ، أي: أتشركون بالله ولا تَخْشَوْنَهُ، وهو الذي يسمَعُ ما تقولُونَ ويعلَمُ ما تعتقدُونَ؟ أتعبدون العاجزَ، واللَّهُ هو السميعُ العَلِيم؟ . انتهى، والرابطُ بين الحالِ وصاحبها الواوُ، ومجيء هاتين الصفتين بعد هذا الكلام في غاية المناسبة؛ فإنَّ السميع يسمع ما يُشْكَى إليه من الضُّرِّ وطلب النفْعِ، ويعلم مواقعهما كيف يكُونَانَ؟ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 465 لما تكلَّمَ أوَّلاً على أباطيلِ اليهُودِ، ثم تكلَّم ثانياً على أباطيلِ النَّصَارى، وأقَامَ الدَّلائل على بُطْلانِها وفسادِهَا، فعند هذا خاطب مجمُوعَ الفريقَيْنِ، فقال تعالى: {ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ} ، أي: لا تتجاوَزُوا الحَدَّ، والغُلُوَّ نَقيضُ التَّقْصِير، ومعْنَاهُ: الخُرُوجُ عَنِ الحَدِّ. قوله تعالى: «غَيْرَ الحَقِّ» : فيه خمسة أوجه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 465 أحدها: أنه نعت لمصدر محذوف، أي: لا تَغْلُوا في دينكُمْ غُلُوًّا غَيْرَ الحقِّ، أي: غُلُوًّا باطلاً، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره. الثاني: أنه منصوبٌ على الحال من ضمير الفاعلِ في «تَغْلُوا» ، أي: لا تَغْلُوا مُجاوِزينَ الحَقَّ، ذكره أبو البقاء. الثالث: أنه حالٌ من «دينكُمْ» ، أي: لا تغلُوا فيه وهو باطلٌ، بل اغْلُوا فيه وهُوَ حَقٌّ؛ ويؤيِّد هذا ما قاله الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «لأنَّ الغُلُوَّ في الدين غُلُوَّانِ: حقٌّ؛ وهو أنْ يُفْحَصَ عن حقائقه، ويُفَتَّشَ عن أباعدِ معانيه، ويُجْتَهَد في تحصيله حُجَجه، وغُلُوٌّ باطلٌ؛ وهو أن يتجاوز الحقَّ ويتخطَّاه بالإعْرَاضِ عن الأدلَّة» . الرابع: أنه منصوبٌ على الاستثناء المتَّصل. الخامس: على الاستثناء المنقطع، ذكر هذين الوجهين أبو حيان عن غيره، واستبعدَهُما؛ فإنه قال: «وأبعد من ذهب إلى أنها استثناءٌ متَّصِلٌ، ومن ذهب إلى أنها استثناءٌ منقطعٌ، ويقدِّره ب» لَكِنَّ الحقَّ فاتَّبِعُوهُ «قال شهاب الدين: والمستثنى منه يَعْسُرُ تعيينُه، والذي يظهر فيه: أنه قوله تعالى:» في دينكُمْ «؛ كأنه قيل: لا تَغْلُوا في دينكُم إلا الدِّينَ الحقَّ، فإنه يجوز لكم الغلوُّ فيه، ومعنى الغلُوِّ فيه ما تقدَّم من تقرير الزمخشريِّ له. وذكر الواحديُّ فيه الحالَ والاستثناء، فقال: وانتصابُ» غَيْرَ الحَقِّ «من وجهين: أحدهما: الحالُ والقَطْعُ من الدِّينِ؛ كأنه قيل: لا تَغْلُوا في دينِكُمْ مخالِفيَن للحَقِّ؛ لانهم خالَفُوا الحقَّ في دينهمْ، ثم غلوْا فيه بالإصْرارِ عليه. والثاني: أن يكون منصوباٌ على الاستثناء، فيكون» الحَقّ «مستثنًى من المَنْهِيِّ عن الغلوِّ فيه؛ بأنْ يجوزَ الغلوُّ فيما هو حقٌّ على معنى اتباعه والثبات عليه، وهذا نصٌّ كما ذكرنا من أنَّ المستثنى هو» دِينُكُمْ «. وتقدَّم معنى الغُلُوِّ في سورة النساء [الآية 171] فظاهرُ هذه الأعاريب المتقدِّمةِ: أنَّ» تَغْلُوا «فعلٌ لازمٌ، وكذا نصَّ عليه أبو البقاء، إلا أن أهل اللغةِ يفسِّرونهُ بمعنى متعدٍّ؛ فإنهم قالوا: معناه لا تتجَاوَزُوا الحدَّ، قال الراغب: الغُلُوُّ تجاوزُ الحَدِّ، يقال ذلك إذا كان في السِّعْرِ» غَلاَءً «، وإذا كان في القَدْرِ والمنزلةِ» غُلُوًّا «، وفي السهم» غَلْواً «، وأفعالها جميعاً غَلاَ يَغْلُو؛ فعلى هذا: يجوز أن ينتصب» غَيْرَ الحَقِّ «مفعولاً به، أي: لا تتجاوَزُوا في دينكُمْ غير الحقِّ، فإنْ فسَّرنا» تَغْلُوا «بمعنى تتباعَدُوا من قولهم:» غَلاَ السَّهْمُ «، أي: تباعدَ كان قَاصِراً، فيحتمل أن يكون من قال بأنه لازمٌ، أخذه من هذا لا من الأوَّل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 466 فصل في معنى الآية قال بعضُ المُفَسِّرين: معنى قوله «غَيْرَ الحَقِّ» أي: في دينِكُمُ المُخالِف للحَقِّ؛ لأنَّهُمْ خَالَفُوا الحقَّ في دينهِمْ، ثُمَّ غَلَوْا فيه بالإصْرَار عَليْه. وقال ابْنُ الخَطيبِ: مَعْنَى الغُلُّو الباطل: أن تَتَكَلَّفَ الشُّبَهَ وإخْفَاءَ الدَّلائلِ، وذلك الغُلُوُّ أنَّ اليهُودَ - لعنُهُم اللَّهُ - نَسَبُوا سَيِّدنَا عيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى الزِّنَا وإلى أنَّهُ كَذَّابٌ والنَّصارى - لعنهم اللَّهُ - ادَّعَوا فيه الإلَهِيَّةِ. قوله تعالى: {وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ} الآية. الأهْوَاء: جمْعُ الهَوَى، وهو ما تَدْعُو إلَيْه شهوةُ النَّفْسِ. والمراد هَاهُنَا: المذاهِبُ الَّتِي تدعو إليها الشَّهْوةُ دُونَ الحُجَّة. قال الشَّعْبِيُّ: ما ذكر اللَّهُ بلفظ الهوى في القُرآن إلاَّ ذَمَّهُ. قال تعالى: {وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله} [ص: 26] ، {واتبع هَوَاهُ فتردى} [طه: 16] ، {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى} [النجم: 3] ، {أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الفرقان: 43] . قال أبُو عُبَيْدٍ: لم نجدِ الهوى يوضع إلا في مَوْضِعِ الشَّرِّ، لا يقال: فلانٌ يَهْوَى الخَيْر، إنما يقال: يريدُ الخَيْر ويُحِبُّهُ. وقال بعضُهم: الهَوَى إلهُ يعبدُونَهُ من دُونِ اللَّهِ. وقيل: سُمِّي الهَوَى هَوى؛ لأنَّهُ يَهْوِي بَصَاحِبِه في النَّارِ وأنْشَدُوا في ذَمِّ الهَوَى قوله: [الكامل] 2029 - إنَّ الهَوَى لَهُوَ الْهَوَانُ بِعَيْنِهِ ... فَإذَا هَوِيتَ فَقَدْ لَقِيتَ هَوَانَا وقالَ رَجُلٌ لابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -: الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَل هَوَايَ على هواك، فقال ابنُ عبَّاس: «كُلَّ هوى ضلالةٌ» . قوله تعالى: {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً} في نصب «كثيراً» وجهان: أحدهما: أنه مفعولٌ به، وعلى هذا أكثرُ المتأوِّلين؛ فإنهم يفسِّرونه بمعنى: وأضلُّوا كَثِيراً مِنْهُمْ أو مِنَ المُنَافِقِينَ. والثاني: أنه منصوبٌ على المصدرية، أي: نعت لمصدرٍ محذوف، أي: إضلالاً كثيراً، وعلى هذا، فالمفعولُ محذوف، أي: أضَلُّوا غَيْرَهُمْ إضْلالاً كَثِيراً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 467 فصل اعلم أنَّهُ تعالى وَصَفَهُمْ بثلاثِ دَرَجَات في الضَّلالِ، فَبَيَّنَ أنَّهُم كانوا ضَالِّين من قبل. والمراد رُؤسَاء الضَّلالةِ من فَرِيقَيِ اليهُود والنَّصَارى لِمَا تَبَيَّنَ، والخطاب لِلَّذِين في عَصْرِ النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، نُهُوا عن اتِّباعِ أسلافِهِم فيما ابْتَدَعُوه بأهْوَائِهِم، فتبيَّن أنهم كانوا مُضِلِّينَ لغيرهم، ثم ذكروا أنَّهُمْ استَمَرُّوا على تلك الحَالَةِ، حتى أنَّهم الآن ضَالُّون كما كَانُوا، ولا نجد حالةً أقْرَبَ إلى البُعْدِ من اللَّه تعالى، والقُرْب من عِقَابِ اللَّهِ من هذه الحالة - نعُوذُ باللَّه منها -. ويحتَملُ أن يكُون المُرَاد أنَّهُم ضَلُّوا وأضَلُّوا، ثمَّ ضلُّوا بسبب اعتقادِهِمْ في ذلك الإضلال أنَّهُ إرشادٌ إلى الحقِّ، ولمَّا خَاطَبَهُمْ بهذَا الخطابِ وصَفَ أسلافهم، فقال تعالى: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ} . قال أكثر المفسِّرِين: يعني أهْلَ «أيلة» لمَّا اعْتَدُوا في السَّبْتِ قال داوُدُ: «اللَّهُمَّ الْعَنْهُم واجْعلْهُم آيَةً» فَمُسِخُوا قِرَدَةً، وأصحاب المائدة لما أكلُوا من المائدة، ولم يُؤمِنُوا، قال عيسى - عليه السلام -: اللَّهُمَّ العَنْهُم كما لَعَنْتَ أصْحَابَ السَّبْتِ، فأصْبَحُوا وقد مسخوا خنازير، وكانوا خمسَةَ آلافِ رَجُلٍ ما فيهمُ امْرأةٌ ولا صَبِيٌّ. قال بعضُ العُلَماء: إنَّ اليَهُود كانُوا يفْتَخِرُون بأنَّهُم من أوْلاد الأنْبِيَاء، فَذَكَر اللَّهُ هذه الآيَة؛ لتَدُلَّ على أنَّهُمْ مَلْعُونِين على ألْسِنَةِ الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام -. وقيل: إنَّ داوُد وعيسى - عليهما الصلاة والسلام - بَشَّرَا بِمُحَمَّدٍ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -، ولعنَا من يُكَذِّبُه وهو قولُ الأصَمِّ. قوله تعالى: {مِن بني إِسْرَائِيلَ} : في محلِّ نصْبٍ على الحال، وصاحبُها: إمَّا «الَّذينَ» وإمَّا واو «كَفَرُوا» وهما بمعنى واحدٍ، وقوله: {على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى} المرادُ باللسانِ الجارحةُ، لا اللغةُ، كذا قال أبو حيان، يعني: أنَّ الناطِقَ بلعْنِ هؤلاء لسانُ هذيْن النبيَيْنِ، وجاء قوله «عَلَى لِسَانِ» بالإفرادِ دون التثنيةِ والجَمْعِ، فلم يَقُلْ: «عَلَى لِسَانَيْ» ولا «عَلَى ألْسِنَةِ» لقاعدةٍ كليةٍ، وهي: أن كلَّ جزأيْنِ مفردَيْنِ من صاحبيهما، إذا أُضِيفَا إلى كليهما من غير تفريقٍ، جازَ فيهما ثلاثةُ أوجه: لفظُ الجمعِ - وهو المختارُ -، ويليه التثنيةُ عند بعضهم، وعند بعضهم الإفرادُ مقدَّمٌ على التثنية، فيقال: «قطَعْتُ رُءُوسَ الكَبْشَيْنِ» ، وإنْ شئْتَ: رَأسَي الكَبْشَيْن، وإن شئْتَ: رَأسَ الكَبْشَيْنِ، ومنه: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] . فقولي «جُزْأيْن» : تحرُّزٌ من شيئين ليْسَا بجزأيْن؛ نحو: «دِرْهَمَيْكُمَا» ، وقد جاء: « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 468 مِنْ بُيُوتِكُمَا وعَمَائِمِكُمَا وأسْيَافِكُمَا» لأمْنِ اللَّبْسِ. وبقولي: «مُفْردَيْنِ» : من نحو: «العَيْنَيْنِ واليَدَيْنِ» ، فأمَّا قوله تعالى: {فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ففُهِم بالإجْماعِ. وبقولي: «مِنْ غَيْرِ تَفريقٍ» : تحرُّزٌ من نحو: قطعْتُ رَأسَ الكَبْشَيْنِ: السَّمِين والكَبْشِ الهَزيلِ؛ ومنه هذه الآية، فلا يجوزُ إلا الإفرادُ، وقال بعضهم: «هُوَ مُخْتَارٌ» ، أي: فيجوز غيرُه، وقد مضى تحقيقُ هذه القاعدةِ. قال شهاب الدين: وفي النفسِ من كونِ المرادِ باللسان الجارحةَ شيءٌ، ويؤيِّد ذلك ما قاله الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «نَزَّلَ اللَّهُ لَعْنَهُمْ في الزَّبُورِ على لسانِ دَاوُدَ، وفي الإنجيلِ على لسانِ عيسى» ، وقوةُ هذا تأبَى كونه الجارحةَ، ثم إنِّي رأيتُ الواحديَّ ذكر عن المفسِّرين قولين، ورجَّح ما قلته؛ قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وقال ابن عبَّاس: يريد في الزَّبُور وفي الإنجِيلِ، ومعنى هذا: أنَّ اللَّهَ تعالى لَعَنَ في الزَّبُور من يكْفُرُ مِنْ بني إسرائيل، وكذلك في الإنجيلِ، وقيل: على لسان دَاوُدَ وعيسَى؛ لأنَّ الزبورَ لسانُ داوُدَ، والإنجيلَ لسانُ عيسى» ، فهذا نصٌّ في أن المراد باللسانِ غيرُ الجارحَةِ، ثم قال: «وقال الزَّجَّاج:» وجائزٌ أن يكون داوُدُ وعيسَى عَلِمَا أنَّ محمَّداً نَبِيٌّ مبعوثٌ، وأنهما لَعَنَا من يَكْفُرُ به «، والقول هو الأوَّل، فتجويزُ الزجَّاجِ لذلك ظاهرٌ أنه يرادُ باللسانِ الجارحةُ، ولكن ليس قولاً للمفسِّرين، و» عَلَى لسانِ «متعلِّقٌ ب» لُعِنَ «قال أبو البقاء:» كما يُقال: جَاءَ زَيْدٌ على فَرَسٍ «، وفيه نظرٌ؛ إذ الظاهر أنه حالٌ، وقوله:» ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا «قد تقدَّم نظيره، وقوله:» وَكَانوا يَعْتَدُونَ «في هذه الجملةِ الناقصةِ وجهان: أظهرهما: أن تكون عطفاً على صلةِ» مَا «وهو» عَصَوْا «، أي: ذلك بسبب عصيانِهم وكونهم معتدين. والثاني: أنها استئنافيةٌ، أي: أخبر الله تعالى عنهم بذلك، قال أبو حيان:» ويُقَوِّي هذا ما جاءَ بعده كالشَّرْحِ له، وهو قولُه: كانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ «. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 469 قوله تعالى: {كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ} التَّنَاهِي هاهُنَا له مَعْنَيَانِ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 469 أحدهما: الذي عَلَيْه الجُمْهُور أنَّهُ تَفَاعُل من النَّهي أي: كان لا ينهى بَعْضُهُم بَعْضاً. روى ابنُ مسعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - قال: «كَانَ فِيمَنْ كانَ قَبْلَكُم مِنْ بَني إسْرَائِيلَ إذا عَمِلَ العَامِلُ بالخَطِيئَةِ نَهَاهُ النَّاهِي تعذيراً، فَإذَا كَانَ مِنَ الغَدِ جَاءَ لَهُ وواكلَهُ وشَارَبَهُ، كَأنَّهُ لَمْ يَرَهُ على الخَطِيئَةِ بالأمْسِ، فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنْهُم ضَرَبَ قُلُوبَ بَعْضِهِم عَلَى بَعْضِ، وجَعَلَ مِنْهُم القِرَدَةَ والخَنَازِيرَ، ولَعَنَهُمْ على لِسَانِ دَاوُدَ وعيسَى ابْنِ مَريمَ، ذَلِكَ بِمَا عَصوْا وكانُوا يَعْتَدُونَ والَّذِي نَفْسِي بِيَدهِ لَتَأمُرُنَّ بالمَعْرُوفِ ولَتَنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكر ولتأخُذُنَّ عَلَى يَدِ السَّفِيهِ ولَتأطرنَّه على الحقِّ أطْراً أوْ لَيَضْرِبَنَّ اللَّهُ قُلُوبَ بَعْضِكُمْ عَلَى بَعْضٍ وَيَلْعَنُكُم كَما لَعَنَهُم» . المعنى الثاني: التَّنَاهِي بمعنى الانتِهَاء، يُقَال: انْتَهَى الأمر، وتَنَاهَى عَنْهُ إذا كَفَّ عَنْه. وقوله تعالى: {عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ} : متعلِّقٌ ب «يَتَناهَوْنَ» و «فَعَلُوهُ» صفةٌ ل «مُنْكَرٍ» ، قال الزمخشريُّ: «ما معنى وصفِ المنكرِ ب» فَعَلُوهُ «، ولا يكونُ النَّهْيُ بعد الفِعْلِ؟ قلتُ: معناه لا يتناهَوْنَ عن معاودةِ منْكَرٍ فعَلُوهُ، أو عن مِثْلِ مُنْكَر فَعلُوهُ، أو عن منْكرٍ أرادُوا فِعْلَهُ، كما ترى أماراتِ الخَوْضِ في الفسْقِ وآلاتِه تُسوَّى وتُهَيَّأُ، ويجوز أن يُرادَ: لا ينتهون ولا يمتنعونَ عن مُنْكَرٍ فعلُوه، بل يُصِرُّونَ عليه ويُداوِمُونَ، يقال: تناهَى عن الأمر وانتهى عنه، إذا امتنع منه» . وقوله تعالى: «لَبِئْسَمَا» : و «بِئْسَمَا قَدَّمَتْ» قد تقدَّم إعرابُ نظيرِ ذلك [الآية 9 في البقرة] ؛ فلا حاجة إلى إعادته، وهنا زيادةٌ أخرى؛ لخصوصِ التركيب يأتي الكلامُ عليها. قوله تعالى: {ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ} قيل: مِنَ اليَهُود كَعْبُ بنُ الأشْرَف، {يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ} مُشْرِكي مَكَّةَ حين خَرَجُوا إليهم يجيشون على النَّبِي - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -. وقال ابنُ عبَّاس والحَسَنُ ومُجَاهِد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: «مِنْهُمْ» يعني المُنَافِقِين يَقُولُون لِلْيَهُود: «لِبِئْسَ ما قدَّمَتْ لَهُمْ أنْفُسُهُمْ» ، بِئسَ مَا قَدَّموا من العَملِ لمعَادِهِم في الآخِرَة. قوله تعالى: {أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} في محلِّه أوجهٌ: أحدها: أنه مرفوعٌ على البدلِ من المخصُوصِ بالذمِّ، والمخصوصُ قد حُذِفَ، وأُقيمَتْ صفتُه مقامه، فإنك تُعْرِبُ «مَا» اسماً تامّاً معرفةً في محلِّ رفعٍ بالفاعلية بفعلِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 470 الذمِّ، والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ، و {قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ} جملةٌ في محلِّ رفع صفةً له، والتقديرُ: لَبِئْسَ الشيءُ شَيءٌ قَدَّمَتْهُ لَهُمْ أنْفُسُهمْ، ف {أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} بدلٌ من «شَيْء» المحذوفِ، وهذا هو مذهبُ سيبويه؛ كما تقدَّم تقريرُه. الثاني: أنه هو المخصوصُ بالذمِّ، فيكونُ فيه الثلاثةُ أوجه المشهورة: أحدها: أنه مبتدأٌ، والجملةُ قبله خبرُه، والرابطُ على هذا العمومُ عند مَنْ يَجْعَلُ ذلك، أو لا يحتاج إلى رابط؛ لأن الجملةَ عينُ المبتدأ. الثاني: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ؛ لأنك لمَّا قلت: «بِئْسَ الرَّجُلُ» قيل لك: مَنْ هو؟ فقلتَ: فلانٌ، أي: هُوَ فلانٌ. الثالث: أنه مبتدأ، خبرُه محذوفٌ، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك، وإلى كونه مخصوصاً بالذمِّ ذهب جماعةٌ كالزمخشريِّ، ولم يذكر غيره، قال: {أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ} هو المخصوصُ بالذمِّ؛ كأنه قيل: لبِئْسَ زادُهُمْ إلى الآخرة سخطُ اللَّهِ تعالى عليْهِمْ، والمعنى: مُوجِبُ سُخط الله «، قال شهاب الدين: وفي تقدير هذا المضاف من المحاسنِ ما لا يَخْفَى على متأمِّلِهِ؛ فإنَّ نفسَ السُّخْطِ المضاف إلى الباري تعالى لا يقالُ هو المخصوصُ بالذمِّ، إنما المخصوصُ بالذمِّ أسبابُه، وذهبَ إليه أيضاَ الواحديُّ ومكي وأبو البقاء، إلاَّ أنَّ أبا حيان بعد أنْ حكى هذا الوجه عن أبي القاسم الزمخشريِّ قال:» ولَمْ يَصِحَّ هذا الإعرابُ إلا على مذهبِ الفرَّاءِ والفارسيِّ في جَعْلِ «مَا» موصولةً، أو على مذهب من يجعلُ «مَا» تمييزاً، و «قَدَّمَتْ لَهُمْ» صفتها، وأمَّا على مذهبِ سيبويه، فلا يتأتَّى ذلك «ثم ذكر مذهبَ سيبويه. والوجه الثالث من أوجه» أنْ سَخِطَ «: أنه في محلِّ رفع على البدلِ من» مَا «، وإلى ذلك ذهب مكي وابنُ عطية، إلا أن مكِّيًّا حكاه عن غيره، قال:» وقيل: في موضعِ رفع على البدلِ من «مَا» في «لَبِئْسَ» على أنها معرفةٌ «، قال أبو حيان - بعد ما حكى هذا الوجه عن ابن عطيَّة -:» ولا يَصِحُّ هذا، سواءٌ كانت «مَا» تامَّةً أو موصولةً؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدل منه، و «أنْ سَخِطَ» لا يجوزُ أنْ يكونَ فاعلاً ل «بِئْسَ» ؛ لأنَّ فاعل «بِئْسَ» لا يكونُ أن والفِعْلَ «وهو إيرادٌ واضحٌ كما قاله. الوجه الرابع: أنه في محلِّ نصْبٍ على البدلِ من» مَا «، إذا قيل بأنها تمييزٌ، ذكر ذلك مكي وأبو البقاء، وهذا لا يجوزُ ألبتة؛ وذلك لأنَّ شرطَ التمييز عند البصريين الجزء: 7 ¦ الصفحة: 471 أن يكون نكرةً، و» أنْ «وما في حيِّزها عندهم من قبيل أعرف المعارفِ؛ لأنَّها تُشْبِهُ المُضْمَرَ، وقد تقدم تقريرُ ذلك، فكيف يَقعُ تمييزاً؛ لأنَّ البدلَ يَحُلُّ محلَّ المبدَلِ منه؟ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك؛ لأنَّهم لا يُجيزون التمييزَ بكلِّ المبدَلِ منه؛ وعند الكوفيين أيضاً لا يجوزُ ذلك؛ لأنَّهم لا يجيزون التمييزَ بكلِّ معرفةٍ خُصُوصاً أنْ والفعل. الخامس: أنه في محلِّ نصبٍ على البدل من الضمير المنصوب ب «قَدَّمَتْ» العائدِ على «مَا» الموصولةِ أو الموصوفة؛ على حسبِ ما تقدَّم، والتقديرُ: قدَّمَتْهُ سُخْطَ الله؛ كقولك: «الذي رَأيْتُ زَيْداً أخُوكَ» وفي هذا بحثٌ يذكَرُ في موضعه. السادس: أنه في موضع نصب على إسقاط الخافض؛ إذ التقديرُ: لأنْ سخطَ، وهذا جارٍ على مذهب سيبويه والفراء؛ لأنهما يَزْعُمان أنَّ محل «أنْ» بعد حذْفِ الخافض في محلِّ نصب. السابع: أنه في محلِّ جرٍّ بذلك الخافضِ المقدَّرِ، وهذا جارٍ على مذهبِ الخليلِ والكسائيِّ؛ لانهما يَزْعُمان أنَّها في محل جرٍّ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك غيرَ مرَّةٍ، وعلى هذا، فالمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ، أي: لَبِئْسَمَا قدَّمَتْ لَهُمْ أنفُسُهُمْ عَملُهُمْ أو صُنْعُهُمْ، ولامُ العلَّةِ المقدَّرة معلَّقَةٌ إمَّا بجملةِ الذمِّ، أي: سببُ ذَمِّهِمْ سُخْطُ اللَّهِ عليهم، أو بمحذوفٍ بعده، أي: لأنْ سخطَ اللَّهُ عليْهِمْ كَانَ كَيْتَ وكَيْتَ. و «تَرَى» يجوز أنْ تكونَ مِنْ رؤية البَصَر، ويكونُ الكثيرُ المعاصرين لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأن تكونَ العلميَّةَ، والكثيرُ على هذا أسلافُهم، فمعنى «تَرَى» : تَعْلَمُ أخبارَهم وقصَصَهم بإخبارنا إيَّاك، فعلى الأوَّل يكون قوله «يَتَوَلَّوْن» في محلِّ نصبٍ على الحال، وعلى الثَّاني يكون في محلِّ نصبٍ على المفعول الثاني. قوله تعالى: «ولو كانوا» : الظاهرُ أنَّ اسم «كَانَ» وفاعل «اتَّخَذُوهُمْ» عائدٌ على «كَثِيراً» من قوله: « {ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ} ، والضميرُ المنصوب في» اتَّخَذُوهمْ «يعودُ على» الَّذِينَ كَفَرُوا «في قوله: {يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ} . والمعنى: لوْ كانُوا يُؤمِنُون باللَّه، والنَّبِيِّ، وهو مُوسَى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وما أُنْزِلَ إليهِ ما اتَّخَذُوا المُشْركين أوْلِيَاء؛ لأنَّ تَحْريمَ ذلك مُتَأكدٌ في التَّوْرَاة، وفي شَرْع مُوسَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلمَّا فَعَلُوا ذلك، ظَهَرَ أنَّهُ لَيْسَ مُرَادُهُمْ تَقْرِير دين مُوسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بل مرادُهُمُ الرِّياسَةُ والجَاهُ، ويسعونَ في تَحْصيلهِ بأيِّ طريقٍ قدروا عليه، وبهذا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بالفِسْقِ، فقالَ تعالى: {ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} . وأجاز القفَّالُ أن يكون اسم» كَانَ «يعودُ على» الَّذِينَ كَفَروا «، وكذلك الضميرُ المنصوبُ في» اتَّخَذُوهُمْ «، والضميرُ المرفوعُ في» اتَّخَذُوهُمْ «يعودُ على اليهود، والمرادُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 472 بالنبيِّ [محمدٌ] صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتقديرُ: ولو كان الكافرون المُتَولَّوْنَ مؤمنينَ بمحمَّدٍ والقرآنِ، ما اتخذَهُمْ هؤلاء اليهودُ أولياءَ، والأولُ أوْلَى؛ لأن الحديثَ عن كثيرٍ، لا عن المتولَّيْنَ، وجاء جواب» لَوْ «هنا على الأفصحِ، وهو عدمُ دخولِ اللام عليه؛ لكونه منفيًّا؛ ومثله قول الآخر: [البسيط] 2030 - لَوْ أنَّ بالعْلمِ تُعْطَى مَا تَعِيشُ به ... لَمَا ظَفِرْت مِنَ الدُّنْيَا بِثُفْرُوقِ وقوله تعالى: {ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ} هذا الاستدراكُ واضحٌ بما تقدَّم، وقوله تعالى:» كَثِيراً «هو من إقامةِ الظاهرِ مقام المضمر؛ لأنه عبارةٌ عن» كَثِيراً منهم «المتقدِّم؛ فكأنه قيل: تَرَى كثيراً مِنْهُمْ، ولكنَّ ذلك الكَثِيرَ، ولا يريدُ، ولكنَّ كثيراً من ذلك الكَثِيرِ فَاسِقُون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 473 لما ذكرَ عداوةَ اليهُودِ للمُسْلِمِين، فلذَلِكَ جَعَلَهُمْ قُرناءَ للمشركين في شدَّةِ العداوةِ، بل نَبَّه على أنَّهُمْ أشدُّ في العداوةِ من المُشْركين، لكونه - تعالى - قدَّم ذكرَهُم على ذِكْر المُشْرِكِين. وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «ما خَلاَ يَهُودِيانِ بِمُسْلِمٍ إلاَّ هَمَّا بِقَتْلِهِ» ، وذكر تعالى أنَّ النَّصارى ألَيْنَ عِرِيكَة مِنَ اليهُودِ، وأقْرَبَ إلى المُسْلِمِين منهم، والمقصود من بَيَانِ هذا التَّفَاوُتِ تَخْفِيفُ أمْرِ اليَهُود على الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - و «اللاَّمُ» في قوله: «لتَجدنَّ» هي لامُ القسم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 473 وقد تقدّم إعْرَابُ هذا في نحو قوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ} [البقرة: 96] ، فأغْنَى عن إعادته وقال ابنُ عطيَّة: «اللامُ للابْتداءِ» ، وليس بشيء، بل هي لامٌ يُتلَقَّى بها القسمُ، و «أشدَّ النَّاسِ» مفعولٌ أوَّل، و «عَدَاوَةً» نصب على التمييز، و «لِلَّذِينَ» متعلِّقٌ بها، قَوِيَتْ باللامِ؛ لمَّا كانت فَرْعاً في العمل على الفعل، ولا يَضُرُّ كونُها مؤنثةً بالتاء؛ لأنها مبنيةٌ عليها؛ فهي كقوله: [الطويل] 2031 - ... ... ... ... ... ... . وَرَهْبَةٌ ... عِقَابَكَ ... ... ... ... ... ... . ويجوزَ أن يكون «لِلَّذِينَ» صفةً ل «عَدَاوَةً» فيتعلَّقَ بمحذوف، و «اليَهُودَ» مفعولٌ ثانٍ، وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أن يكون» اليهُودَ «هو الأولَ، و» أشَدَّ «هو الثاني» وهذا هو الظاهرُ؛ إذ المقصودُ أنْ يخبرَ الله تعالى عن اليهودِ والمشركينَ بأنَّهم أشدُّ الناسِ عداوةً للمؤمنين، وعن النصارى بأنهم أقربُ الناس موَدَّةً لهم، وليس المرادُ أنْ يخبرَ عن أشدِّ الناسِ وأقْرَبِهِمْ بكَوْنِهِم من اليهودِ والنصارى، فإنْ قيل: متى استوَيَا تعْرِيفاً وتنْكيراً، وجبَ تقديمُ المفعولِ الأول وتأخيرُ الثاني؛ كما يجب في المبتدأ والخبرِ، وهذا من ذاك، فالجوابُ: أنه إنما يجب ذلك حيث ألْبَسَ، أما إذا دَلَّ دليلٌ على ذلك، جاز التقديمُ والتأخيرُ؛ ومنه قول: [الطويل] 2032 - بَنُونَا بَنُو أبْنَائِنَا، وبَنَاتُنَا ... بَنُوهُنَّ أبْنَاء الرِّجَالِ الأبَاعِدِ ف «بَنُو أبْنَاء» هو المبتدأ، و «بَنُونَا» خبره؛ لأنَّ المعنى على تشبيهِ أولادِ الأبناء بالأبناء؛ ومثلُه قول الآخر: [البسيط] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 474 2033 - قَبِيلَةٌ الأمُ الأحْيَاءِ أكْرَمُهَا ... وَأَغْدَرُ النَّاسِ بالجِيرَانِ وَافِيهَا «أكْرمُهَا» هو المبتدأ و «الأمُ الأحْيَاءِ» خبرُه، وكذا «وَافِيهَا» مبتدأ و «أغْدَرُ النَّاس» خبره، والمعنى على هذا، والآيةُ من هذا القبيلِ فيما ذكرنا وقوله: «والذينَ أشْرَكُوا» عطفٌ على اليَهودِ، والكلامُ على الجملة الثانيةِ كالكلام على ما قبلها. فصل تَقْدِيرُ الكلام قَسَماً: إنَّكَ تَجِدُ اليَهُودَ والمُشْرِكينَ أشَدّ عَدَاوةً مع المُؤمنين، وقدْ شَرَحْتُ لك أنَّ هذا التَّمَرُّدَ والمَعْصِيَة عادةٌ قَدِيمَةٌ، ففرِّغْ خَاطِرَك عنهم، ولا تُبَالِ بمكْرِهِم وكيْدهِم. وقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى} . قال ابُن عباسٍ وسعيد بن جبير وعطاء والسُّدِّيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - المُرادُ به: النَّجَاشِي وقومه الذين قَدِمُوا من الحَبَشَةِ، وآمَنُوا به، ولم يُرِدْ جَمِيعَ النَّصارى؛ لأنَّهُمْ في عَداوتِهِم للمُسْلِمين، كاليَهُودِ في قَتْلِهمْ المُسْلِمِين وأسْرِهِمْ، وتَخْريبِ بلادِهِمْ، وهَدْمِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 475 مَسَاجِدِهِمْ، وإحْرَاقِ مَصَاحِفِهِمْ، ولا كَرَامَةَ لَهُمْ، بَل الآيَةُ فيمَنْ أسْلَمَ مِنْهُم. وقال آخرون: مَذْهَبُ اليَهُود الفَاسِد، أنَّهُ يَجِبُ إيصَالُ الشّرِّ إلى من يُخَالِفُهُمْ في الدِّين بأيِّ طريقٍ كان، فإن قَدَرُوا على القَتْل فذلِكَ، وإلاَّ فنهب المالِ والسَّرِقَة، أو بِنَوْع من المَكْرِ والكَيْدِ والحِيلَةِ، وأمَّا النَّصَارى فليس مذهبهم ذلك، بل الإيذَاءُ في دينهم حَرَامٌ فهذا وَجْهُ التَّفاوُتِ، ثمَّ ذكر - سبحانه - سَبَبَ التَّفَاوُتِ، فقال {اذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} . فإن قِيلَ: لِم أسند تسمية النَّصَارى إليهم، بقوله تعالى: {الذين قالوا إِنَّا نصارى} ؛ ولمَّا ذكر اليهود سمَّاهم بقوله تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود} ولم يُسْنِدِ التَّسْمِيّةَ إلَيْهم. فالجوابُ: لأنَّ تسميتهم باليَهُود إن كانت لِكَوْنِهِمْ من أوْلادِ يَهُوذَا بْنِ يَعقُوبَ فَهِيَ تسْمِيَةٌ حَقِيقَةٌ أيضاً، وإن كانت من التَّحَرُّكِ في دِرَاسَتِهِمْ، فكذلك أيْضاً، والنَّصَارَى فَهُم الذين سَمُّوا أنفُسَهُمْ حين قال لهم عيسَى - عليه الصَّلاة والسَّلام -: {مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنصَارُ الله} [الصف: 14] ، فلذلك أسْنَدَ التَّسْمِيَة إليْهِم، وإنْ كانوا إنَّمَا سُمُّوا نصارَى؛ لأنَّهُمْ كانوا يَسْكُنُون قَرْيَةً يقال لها: «نَاصِرَة» ، فكُلُّهُمْ لمْ يكُونُوا سَاكِنِين فيها، بَلْ بعضُهُم أوْ أكثرُهُمْ، فالحقيقة لم تُوجَدْ فيهم. وقد تقدَّمَ الكلامُ في تَسْمِيَتهِم عند قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ} [الآية: 62] في البقرة. قوله تعالى: «ذَلِكَ بأنَّ» مبتدأ وخبرٌ، وتقدم تقريره، و «مِنْهُمْ» خبر «أنَّ» ، و «قِسِّيسِينَ» اسمها، وأن واسمُها وخبرها في محلِّ جرِّ بالباء، والباءُ ومجرورُها ههنا خبر «ذَلِكَ» ، والقِسِّيسِينَ جمع «قِسِّيس» على فَعِّيلٍ، وهو مثالُ مُبالغة ك «صدِّيقٍ» ، وقد تقدَّم، وهو هنا رئيسُ النصارى وعابدُهُمْ، وأصلُه من تَقَسَّس الشَّيْء، إذا تَتَّبَعَهُ وطلبَهُ باللَّيْلِ، يقال: «تَقَسَّسْتُ أصْواتَهُم» ، أي: تَتَبَّعْتهَا باللَّيْلِ، ويُقال لرئيس النصارى: قِسٌّ وقِسِّيسٌ، وللدليلِ بالليلِ: قَسْقَاسٌ وقَسْقَسٌ، قاله الراغب، وقال غيرُه: القَسُّ بفتح القاف تَتَبُّعُ الشيءِ، ومنه سُمِّيَ عالم النصارى؛ لتتبُّعِه العِلْمَ، قال رُؤبَةُ بْنُ العَجَّاجِ: [الرجز] 2034 - أصْبَحْنَ عَنْ قَسِّ الأذَى غَوَافِلاَ ... يَمْشِينَ هَوْناً خُرُداً بَهَالِلا ويقال: قَسَّ الأثَرَ وقصَّهُ بالصَّاد أيضاً، ويقال: قَسٌّ وقِسٌّ بفتح القاف وكسرها، وقِسِّيس، وزعم ابن عطية أنه أعجميٌّ مُعَرَّبٌ، وقال الواحديُّ: «وقد تكلَّمتِ العربُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 476 بالقسِّ والقِسِّيسِ» وأنشد المازنيُّ: [الرجز] 2035 - لَوْ عَرَفَتْ لأيْبُلِيِّ قَسِّ ... أشْعَثَ في هَيْكَلِهِ مُنْدَسِّ ... حَنَّ إليها كَحَنين الطَّسِّ ... وأنشد لأميةَ بْنِ الصَّلْتِ: [البسيط] 2036 - لَوْ كانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ ... يُحْييهِمُ اللَّهُ فِي أيْديهِمُ الزُّبُرُ هذا كلامُ أهل اللغة في القِسِّيسِ، ثم قال: «وقال عروةُ بْنُ الزُّبيرِ: ضَيَّعَتِ النصارى الإنجيلَ وما فيه، وبَقِيَ منهمْ رَجُلٌ يقالُ له قِسِّيسٌ» يعني: بقي على دينه لم يُبَدِّلْهُ، فمَنْ بَقِيَ على هديه ودينه ومذهبه، قيل له: «قِسِّيسٌ» ، وقال قطربٌ: القَسُّ والقِسِّيسُ: العَالِمُ بلغة الرُّوم؛ قال وَرَقَةُ: [الوافر] 2037 - أ - بِمَا خَبَّرْتَنا مِنْ قَوْلِ قَسٍّ ... مِنَ الرُّهْبَانِ أكْرَهُ أنْ يَبُوحَا فعلى هذا: القَسُّ والقِسِّيسُ مما اتفق فيه اللغتان، قلتُ: وهذا يُقَوِّي قول ابن عطيَّة، ولم ينقلْ أهلُ اللغة في هذا اللفظ «القُسّ» بضم القاف، لا مصدراً ولا وصْفاً، فأما قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ الإيَادِيُّ، فهو عَلَمٌ، فيجوز أن يكون مِمَّا غُيِّرَ بطريق العلمية، ويكون أصلُه «قَسٌّ» أو «قِسٌّ» بالفتح أو الكسر؛ كما نقله ابن عطية، وقُسُّ بْنُ ساعدَةَ كان أعلم أهْلِ زمانِهِ، وهو الذي قال فيه عليه السلام: «يُبْعَثُ أمَّةً وَحْدَهُ» ، وأمَّا جمعُ قِسِّيسٍ، فجمعُ تصحيحٍ؛ كما في الآية الكريمة، قال الفراء: «ولو جُمِعَ قَسُوساً» ، كان صواباً؛ لأنهما في معنًى واحدٍ «، يعني: قِسًّا» و «قِسِّيساً» ، قال: ويُجْمَعُ القِسِّيسُ على «قَسَاوِسَة» جمعوه على مثال المَهَالبَة، والأصلُ: قَسَاسِسَة، فكثُرت السِّينَاتِ فأُبْدِلت إحداهُنَّ واواً، وأنشدوا لأميَّة: [البسيط] 2037 - ب - لَوْ كَانَ مُنْفَلِتٌ كَانَتْ قَسَاوِسَةٌ ..... ... ... ... ... ... ... ... . . قال الواحديُّ: «والقُسوسَة مصدرُ القِسِّ والقِسِّيس» ، قلت: كأنه جعل هذا المصدر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 477 مشتقًّا من هذا الاسْمِ؛ كالأبُوَّة والأخُوَّة والفُتُوَّة من لفظ أبٍ وأخٍ وفَتًى، وتقدم أن القَسَّ بالفتحِ في الأصْل هو المصدرُ، وأنَّ العالِمَ سُمِّيَ به مبالغةً، قال شهاب الدين: ولا أدري ما حملَ مَنْ قال: إنه معرَّب مع وجودِ معناه في لغة العربِ كما تقدم؟ . والرُّهْبَانُ: جمعُ رَاهِبٍ؛ كَرَاكِبٍ ورُكْبَانٍ، وفَارِسٍ وفُرْسانٍ، وقال أبو الهيثمِ: «إنَّ رُهْبَاناً يكُونُ واحِداً ويكون جَمْعاً» ؛ وأنشد على كونه مفرداً قول الشاعر: [الرجز] 2038 - لَوْ عَايَنَتْ رُهْبَانَ دَيْرٍ في القُلَلْ ... لأقْبَلَ الرُّهْبَانُ يَعْدُو ونَزَلْ ولو كان جمعاً، لقال: «يَعْدُونَ» و «نَزَلُوا» بضمير الجمع، وهذا لا حُجَّة فيه؛ لأنه قد عاد ضميرُ المفْرَدِ على الجَمْعِ الصريحِ؛ لتأوُّله بواحدٍ؛ كقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] ، فالهاء في «بُطُونِهِ» تعود على الأنعامِ؛ وقال: [الرجز] 2039 - وَطَابَ ألْبَانُ اللِّقَاحِ وَبَرَدْ ... في «بَرَدَ» ضميرٌ يعودُ على «ألْبَان» ، وقالوا: «هو أحْسَنُ الفِتْيَانِ وأجملُه» ؛ وقال الآخر: [الرجز] 2040 - لَوْ أنَّ قَوْمِي حِينَ أدْعُوهُمْ حَمَلْ ... على الجِبَالِ الشُّمِّ لانْهَدَّ الْجَبَلْ إلى غير ذلك مِمَّا يطولُ ذكرُه، ومن مجيئه جمعاً الآيةُ، ولم يَرِدْ في القرآنِ الكريمِ إلا جَمْعاً؛ وقال كثيرٌ: [الكامل] 2041 - رُهْبَانُ مَدْيَنَ والَّذِينَ عَهِدتهُمْ ... يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ العِقَابِ قُعُودَا لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلاَمَهَا ... خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وَسُجُودَا قيل: ولا حُجَّة فيه؛ لأنه قال: «والَّذِينَ» فيُحتمل أنَّ الضمير إنما جُمِعَ؛ لأجلِ هذا الجمعِ، لا لكونِ «رُهْبَانٍ» جمعاً، وأصرحُ من هذا قولُ جريرٍ: [الكامل] 2042 - رُهْبَانُ مَدْيَنَ لَوْ رَأوْكِ تَنَزَّلُوا ... والعُصْمُ مِنْ شَعَفِ العَقُولِ الفَادِرِ قال أبو الهيثم: وإنْ جُمِعَ الرُّهْبَانُ الواحدُ «رَهابين ورَهَابَنَة» ، جاز، وإنْ قلت: رَهَبانِيُّونَ كان صواباً؛ كأنك تَنْسُبُه إلى الرَّهْبَانِيَّة، والرَّهْبَانِيَّةُ من الرَّهْبَةِ، وهي المخافةُ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 478 وقال الراغب، «والرُّهْبَانُ يكون واحداً وجمعاً، فمنْ جعلهُ واحداً، جَمعه على رَهَابِينَ، ورهابِنَةُ بالجمع أليقُ» ، يعين: أن هذه الصيغةَ غَلَبَتْ في الجمع كالفَرَازِنَة والمَوَازِجَة والكَيَالِجَة، وقال الليث: «الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرُ الراهبِ والتَّرَهُّب: التعبُّد في صَوْمَعَة» ، وهذا يُشْبِهُ الكلام المتقدِّم في أن القُسُوسَة مصدرٌ من القَسِّ والقسِّيس، ولا حاجةَ إلى هذا، بل الرَّهْبَانِيَّةُ مصدرٌ بنفسِها من الترهُّبِن وهو التعبُّد أو من الرَّهَبِ، وهو الخوفُ، ولذلك قال الراغب: «والرهبانيَّةُ غُلُوُّ مَنْ تحمَّلَ التعبُّدَ مِنْ فَرْطِ الرَّهْبة» ، وقد تقدَّم اشتقاقُ هذه المادة في قوله: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] . وعِلَّةُ هذا التَّفَاوُتِ: أنَّ اليَهُودَ مخْصُوصُون بالحِرْصِ الشَّديد على الدُّنْيَا، قال: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ وَمِنَ الذين أَشْرَكُواْ} [البقرة: 96] لِقُرْبِهِمْ في الحِرْصِ بالمُشرِكِين المنكِرينَ للمَعَادِ، والحِرْصُ مَعْدِنُ الأخلاقِ الذَّمِيمَةِ، لأن من كان حَرِيصاً على الدُّنيا طرح دينه في طَلَبِ الدُّنْيا، وأقدمَ على كل مَحْظُورٍ مُنْكَرٍ بسببِ طلبِ الدُّنْيَا، فلا جَرَم تشْتَدُّ عداوَتُهُ مع كُلِّ مَنْ نَالَ مَالاً وَجَاهاً، وأمَّا النَّصَارى، فإنَّهُمْ في أكْثَرِ الأمْرِ مُعْرِضُون عَنِ الدُّنْيَا، مُقْبِلُون على العِبَادَةِ، وتَرْكِ طلبِ الرِّياسة والتكبُّرِ والتَّرفُّعِ، وكُلُّ مَنْ كان كذلِكَ، فإنَّه لا يَحْسُدُ النَّاس ولا يُؤذِيهم، بل يكون ليِّن العَرِيكَة في طلبِ الحقِّ، سَهْل الانقِيَاد له، فَهَذَا هو الفَرْقُ بين هذيْنِ الفرِيقَيْن، وهو المرادُ بقوله تعالى: {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} . وفيه دقِيقَةٌ نافِعَةٌ في طَلب الدِّينِ، وهو أنَّ كُفْرَ النَّصَارى أغْلَظ من كُفْرِ اليَهُود؛ لأنَّ النَّصَارى يُنَازِعُون في الإلهيَّات والنُّبُوَّاتِ، واليَهُودُ: لا ينازِعُون إلاَّ في النُّبُوَّاتِ، ولا شَكَّ أن الأوَّل أغْلَظَ؛ لأنَّ النَّصَارى مع غِلَظِ كُفْرِهم، لم يشْتَدَّ حِرْصُهُم على طلبِ الدُّنْيَا، بل كان في قَلْبِهِم شَيْءٌ من المَيْلِ إلى الآخِرَة، شَرَّفَهُم اللَّه بقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى} . وأمَّا اليهودُ مع أنَّ كُفْرَهُم أخفُّ مِنْ كُفْرِ النَّصَارى، طردهم اللَّهُ وخصَّهُم بمزيدِ اللَّعْنَة، وما ذلِكَ إلاَّ بسببِ تَهَالُكِهِمْ على الدُّنيا، ويُؤيِّد ذلِكَ قولُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «حُبُّ الدُّنيا رَأسُ كُلِّ خَطِيئةٍ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 479 فإن قيل: كيف مدَحَهُم اللَّه تعالى بذلك، مع قوله تعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} [الحديد: 27] ، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا رَهْبَانِيَّة في الإسلام» ؛ فالجواب: أنَّ ذَلِكَ صار مَمْدُوحاً في مُقابلةِ اليهُودِ في القَسَاوَةِ، والغِلْظَةِ، ولا يَلْزَمُ من هذا كونُهُ مَمْدُوحاً على الإطلاق. قوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} نسقٌ على «أنَّ» المجرورةِ بالباء، أي: ذلك بما تقدَّم، وبأنَّهم لا يستكبرون. فصل المراد بقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى} يَعْنِي: وفْدَ النَّجَاشِي الذين قدمُوا مع جعفر، وهم السَّبْعُون، وكانوا أصْحاب الصَّوامعِ. وقال مُقَاتِل والكَلْبِي: كَانُوا أرْبَعينَ رَجُلاً، اثنَانِ وثلاثُون من الحَبَشَةِ، وثمانِيَةٌ من الشَّام. وقال عطاء: كانوا ثَمَانِين رجُلاً، أرْبَعُون مِنْ أهْلِ نَجْرَان من بَنِي الحارثِ بن كَعْب، واثنان وثلاثُون من الحَبَشَةِ، وثمانِيَة رُومِيُّون مِنْ أهْلِ الشَّام. وقال قتادة: نزلت في ناسٍ من أهْلِ الكتابِ، كانُوا على شَرِيعَةٍ من الحقِّ مِمَّا جَاءَ بِه عيسى - عليه السلام -، فلمَّا بُعِثَ محمَّدٌ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - صَدَّقوه، وآمَنُوا به، فأثْنَى اللَّهُ عليهم بقوله: تعالى: {ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً} أي: عُلَمَاء. قال قُطْرُب: القِسُّ والقِسِّيسُ: العَالِمُ بِلُغَةِ الرُّومِ. قوله تعالى: «وإذَا سَمِعُوا» «إذَا» شرطيةٌ جوابُها «تَرَى» ، وهو العاملُ فيها، وهذه الجملةُ الشرطيةُ فيها وجهان: أظهرهما: أنَّ محلَّها الرفعُ؛ نسقاً على خبر «أنَّهُم» الثانية، وهو «لا يَسْتَكْبِرُونَ» ، أي: ذلك بأنَّ منهم كذا، وأنهم غيرُ مستكْبرينَ، وأنهم إذا سمعُوا: فالواو عطفتْ مُفْرَداً على مثله. والثاني: أنَّ الجملةَ استئنافية، أي: أنه تعالى أخْبَرَ عنهم بذلك، والضميرُ في «سَمِعُوا» ظاهرُه: أنْ يعود على النصارى المتقدِّمين؛ لعمومهم، وقيل: إنما يعودُ لبعضِهمْ، وهم مَنْ جاء من «الحبشةِ» إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 480 قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في روايَةِ عطاء: يريد النَّجاشي وأصحابه، قرأ عليْهِمْ جَعفرُ بالحبَشَةِ «كهيعص» فأخَذَ النجاشِيُّ نَبْتَةً من الأرض، وقال: واللَّه ما زَادَ على ما قال في الإنْجِيلِ مِثْل هذه مثلاً، فما زالوا يَبْكُون، حتى فََرَغَ جَعْفَرُ من القراءة، واختارَه ابْنُ عَطِيَّة، قال: «لأنَّ كل النصارى ليسوا كذلك» . و «مَا» في «مَا أنْزِلَ» تحتملُ الموصولةَ، والنكرةَ الموصوفة، وقوله تعالى: «تَرَى» بصَريَّةٌ، فيكون قوله {تَفِيضُ مِنَ الدمع} جملةً في محلِّ نصبٍ على الحالِ. وقرئ شاذًّا: «تُرَى» بالبناء للمفعول، «أعْيُنُهُمْ» رفعاً، وأسند الفيض إلى الأعين؛ مبالغةً، وإن كان الفائضُ إنَّمَا هو دمعها لا هِيَ؛ كقول امرئِ القيسِ: [الطويل] 2043 - فَفَاضَتْ دُمُوعُ العيْنِ مِنِّي صَبَابَةً ... عَلَى النَّحْرِ حَتَّى بَلَّ دَمْعِيَ مِحْمَلِي والمرادُ: المبالغةُ في وصفهم بالبكاءِ، أو يكونُ المعنى أنَّ أعينَهُمْ تمتلئُ حتى تفيضَ؛ لأنَّ الفيضَ ناشئٌ عن الامتلاءِ؛ كقوله: [الطويل] 2044 - قَوَارِصُ تَأتِينِي وَتَحْتَقِرُونَهَا ... وَقَدْ يَمْلأ المَاءُ الإنَاءَ فَيُفْعَمُ وإلى هذين المعنَيَيْن نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «فإنْ قلت: ما معنى {تَفِيضُ مِنَ الدمع} ؟ قلتُ: معناه تَمْتَلِئُ من الدمْع حتَّى تفيضَ؛ لأنَّ الفيضَ أنْ يتملئَ الإناءُ حتَّى يَطْلُعَ ما فيه من جوانبه، فوضَعَ الفيضَ الذي هو من الامتلاءِ موضعَ الامتلاء، وهو من إقامةِ المسبَّب مُقام السَّبَب، أو قصدت المبالغةَ في وصفهم بالبكاء، فجعلْتَ أعينهم، كأنها تفيضُ بأنفسها، أي: تسيلُ من الدمعِ؛ من أجلِ البكاءِ، من قولك، دَمَعتْ عَيْنُهُ دَمْعاً» . قوله تعالى «مِنَ الدَّمْعِ» فيه أربعةُ أوجه: أحدها: أنه متعلِّقٌ ب «تَفِيضُ» ، ويكون معنى «مِن» ابتداء الغاية، والمعنى: تَفِيضُ من كثرة الدمع. والثاني: أنه متعلِّقٌ بمحذوف؛ على أنه حالٌ من الفاعلِ في «تَفِيضُ» قالهما أبو البقاء، وقَدَّر الحالَ بقولك: «مَمْلُوءَةً من الدَّمْعِ» ، وفيه نظر؛ لأنه كونٌ مقيَّدٌ، ولا يجوزُ ذلك، فبقيَ أن يُقَدَّرَ كوناً مطلقاً، أي: تفيضُ كائنةً من الدمْعِ، وليس المعنى على ذلك، فالقولُ بالحاليةِ لا ينبغي، فإن قيل: هل يجوزُ عند الكوفيين أن يكون «مِنَ الدَّمْعِ» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 481 تمييزاً؛ لأنهم لا يَشْترطُونَ تنكيرَ التمييز، والأصل: تفيض دمعاً؛ كقولك: «تَفَقَّأ زَيْدٌ شَحْماً» ، فهو من المنتصب عن تمام الكلام؟ قيل: إن ذلك لا يجوزُ، لأنَّ التمييز، إذا كان منقولاً من الفاعلية، امتنع دخولُ «مِنْ» عليه، وإن كانت مقدَّرة معه، فلا يجوز: «تَفَقَّأ زَيْدٌ من شَحْمٍ» ، وهذا - كما رأيت - مجرورٌ ب «مِنْ» ؛ فامتنع أن يكون تمييزاً، إلا أن الزمخشريَّ في سورة براءة [الآية 92] جعله تمييزاً في قوله تعالى: {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} ، ولا بدَّ من نقلِ نصِّه لتعرفه؛ قال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: {تَفِيضُ مِنَ الدمع} كقولك: «تَفِيضُ دَمْعاً» ، وهو أبلغُ من قولِك: يفيضُ دَمْعُها؛ لأنَّ العينَ جُعِلَتْ كأنها دمعٌ فائضٌ، و «مِنْ» للبيان؛ كقولك: «أفديكَ مِنْ رَجُلٍ» ، ومحلُّ الجارِّ والمجرور النصبُ على التمييز «؛ وفيه ما قد عرفْتَه من المانِعَيْنِ، وهو كونُه معرفةً، وكونُه جُرَّ ب» مِنْ «وهو فاعلٌ في الأصْل، وسيأتي لهذا مزيدُ بيانٍ؛ فعلى هذا: تكونُ هذه الآية الكريمةُ كتلك عنده، وهو الوجهُ الثالث. الرابع: أنَّ» مِنْ «بمعنى الباء، أي: تفيضُ بالدمْعِ، وكونُها بمعنى الباء رأيٌ ضعيفٌ، وجعلوا منه أيضاً قوله تعالى: {يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ} [الشورى: 45] أي: بِطَرْفٍ؛ كما أنَّ الباءَ تأتي بمعنى» مِنْ «؛ كقوله: [الطويل] 2045 - شَرِبْنَ بِمَاءِ البَحْرِ ثُمَّ ترفَّعَتْ ... مَتَى لُجَجٍ خُضْرٍ لَهُنَّ نَئِيجُ أي: مِنْ مَاء البَحْرِ. قوله: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} «مِنْ» الأولَى لابتداءِ الغاية، وهي متعلقةٌ ب «تَفِيضُ» ، والثانيةُ يُحْتملُ أن تكونَ لبيانِ الجنس، أي: بَيَّنَتْ جنس الموصولِ قبلَها، ويُحتملُ أن تكون للتبعيضِ، وقد أوضح الزمخشريُّ هذا غايةَ الإيضاح؛ قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «فإنْ قلتَ: أيُّ فَرْقٍ بين» مِنْ «و» مِنْ «في قوله: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} ؟ قلتُ: الأولَى لابتداء الغاية؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ، وكان من أجله وبسببه، والثانيةُ: لبيان الموصول الذي هو» ما عَرَفُوا «، وتحتمل معنى التبعيض؛ على أنهم عرفوا بعض الحقِّ، فأبكاهم وبلغ منهم، فكيف إذا عرفوه كلَّه، وقرَءُوا القرآن، وأحاطُوا بالسنة» . انتهى، ولم يتعرَّض لما يتعلَّق به الجارَّان، وهو يمكن أنْ يُؤخَذَ من قوةِ كلامه، ولْنَزِدْ ذلك إيضاحاً، و «مِن» الأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ؛ على أنها حال من «الدَّمْع» ، أي: في حالِ كونه ناشئاَ ومبتدئاً من معرفةِ الحقِّ، وهو معنى قول الزمخشريِّ؛ على أنَّ الدمع ابتدأ ونشأ من معرفة الحقِّ، ولا يجوزُ أن يتعلَّق ب «تَفِيضُ» ؛ لئلا يلزم تعلُّقُ حرفَيْن مُتَّحِدَيْن لفظاً ومعنًى بعامل واحد؛ فإنَّ «مِنْ» في «مِنَ الدَّمْعِ» لابتداءِ الغاية؛ كما تقدَّم، اللهم إلا أن يُعتقد كونُ «مِنْ» في «مِنَ الدَّمْعِ» للبيانِ، أو بمعنى الباء، فقد يجوز ذلك، وليس معناه في الوضُوحِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 482 كالأول، وأمَّا «مِنَ الحَقِّ» فعلى جعله أنها للبيان تتعلَّقُ بمحذوف، أي: أعْنِي من كذا، وعلى جعله أنَّها للتبعيض تتعلَّق ب «عَرَفُوا» ، وهو معنى قوله: «عَرَفُوا بَعْضَ الحقِّ» . وقال أبو البقاء في «مِنَ الحَقِّ» : إنه حالٌ من العائد المحذوف على الموصولِ، أي: مِمَّا عرفوه كائناً من الحق، ويجوزُ أن تكون «مِنْ» في قوله تعالى: «مِمَّا عَرَفُوا» تعليليةً، أي: إنَّ فَيْضَ دمعهم بسبب عرفانِهِمُ الحقَّ؛ ويؤيِّدُه قول الزمخشري: «وكان من أجله وبسببه» ، فقد تحصل في «من» الأولى أربعةُ أوجه، وفي الثالثةِ ضعفٌ، أو منعٌ؛ كما تقدَّم، وفي «مِن» الثانية أربعةٌ أيضاً: وجهان بالنسبة إلى معناها: هل هي ابتدائية أو تعليليةٌ؟ ووجهان بالنسبة إلى ما تتعلًَّق به: هل هو «تَفِيضُ» ، أو محذوفٌ؛ على أنها حالٌ من الدمع، وفي الثالثة: خمسةٌ: اثنان بالنسبة إلى معناها: هل هي بيانيةٌ أو تبعيضيةٌ؟ وثلاثةٌ بالنسبة إلى متعلَّقها: هل هو محذوفٌ، وهو «أعْنِي» ، أو نفسُ «عَرَفُوا» ، أو هو حالٌ، فتتعلَّق بِمَحْذُوفٍ أيضاً؛ كما ذكره أبو البقاء. وقوله تعالى: {ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} ، يَدُلُّ على أنَّ الإخلاصَ والمعرفةَ بالقَلْبِ مع القولِ تكُونُ إيماناً. قوله تعالى: «يَقُولُون» الآية. فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنه مستأنفٌ، فلا محلَّ له، أخبر الله تعالى عنهم بهذه المقالةِ الحسنةِ. الثاني: أنها حال من الضمير المجرور في «أعْيُنَهُمْ» ، وجاز مجيءُ الحال من المضاف إليه؛ لأنَّ المضافَ جزؤهُ؛ فهو كقوله تعالى: {مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً} [الحجر: 47] . الثالث: أنه حالٌ من فاعل «عَرَفُوا» ، والعاملُ فيها «عَرَفُوا» ، قال أبو حيان لمَّا حكى كونه حالاً: «كذا قاله ابن عطية وأبو البقاء، ولم يُبَيِّنا ذا الحال، ولا العامل فيها» ، قال شهاب الدين: أمَّا أبو البقاء، فقد بَيَّنَ ذا الحال، فقال: «يَقُولُونَ» حالٌ من ضمير الفاعل في «عَرَفُوا» ، فقد صرَّح به، ومتى عُرِفَ ذو الحال، عُرِفَ العالمُ فيها؛ لأنَّ العامل في الحال هو العامل في صاحبها، فالظاهرُ: أنه اطَّلع على نسخةٍ مغلوطةٍ من إعراب أبي البقاءِ سَقَطَ منها ما ذكرته لك، ثم إنَّ أبا حيان ردَّ كونها حالاً من الضمير في «أعْيُنَهُمْ» ؛ بما معناه: أن الحالَ لا تَجيءُ من المضافِ إليه، وإن كان المضافُ جُزْأهُ، وجعله خطأ، وأحال بيانه على بعضِ مصنَّفاته، ورَدَّ كونها حالاً أيضاً من فاعل «عَرَفُوا» ؛ بأنه يلزمُ تقييدُ معرفتهم الحقَّ بهذه الحال، وهم قد عرفوا الحقَّ في هذه الحالِ وفي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 483 غيرِها، قال: «فالأوْلَى: أن يكون مستأنفاً» ، قال شهاب الدين: أمَّا ما جعله خطأ، فالكلام معه في هذه المسألة في موضوعٍ غَيْرِ هذا، وأمَّا قوله: «يَلْزَمُ التَّقييدُ» ، فالجوابُ: أنه إنما ذُكِرَتْ هذه الحالُ؛ لأنَّها أشرفُ أحوالهم، فَخَرَجَتْ مخرجَ المدحِ لهم، وقوله تعالى: «رَبَّنا آمَنَّا» في محلِّ نصب بالقول، وكذلك: «فاكْتُبْنَا» إلى قوله سبحانه: «الصَّالِحِينَ» . فصل المعنى: يَقُولُون ربَّنَا آمنَّا بما سَمِعْنَا وشَهِدْنَا بأنَّهُ حقٌّ، {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} يريد: أمَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لقوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} [البقرة: 143] . وقيل: كُلُّ مَنْ شَهِدَ من أنْبِيَائِك ومُؤمِنِي عِبَادك بأنَّكَ لا إله غَيْرك. قوله تعالى: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَآءَنَا مِنَ الحق وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين} : «مَا» استفهاميَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء، و «لَنَا» جارٌّ ومجرورٌ خبرهُ، تقديرُه: أيُّ شيءٍ اسْتَقَرَّ لنا، و «لا نُؤمِنُ» جملة حالية، وقد تقدَّم الكلام على نظير هذه الآية، وأنَّ بعضهم قال: إنها حالٌ لازمةٌ لا يتمُّ المعنى إلا بها؛ نحو: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] ، وتقدَّم ما قلتُه فيه، فأغْنَى ذلك عن إعادته، وقال أبو حيان هنا: «وهي المقصودُ وفي ذكرهَا فائدةُ الكلامِ؛ وذلك كما تقول:» جَاء زَيْدٌ رَاكِباً «لِمَنْ قال: هَلْ جَاءَ زَيْدٌ مَاشِياً أو رَاكِباً؟» . فصل قوله: «وَمَا جَاءَنَا» في محلِّ «مَا» وجهان: أحدهما: أنه مجرور نسقاً على الجلالة، أي: بالله وبِمَا جَاءَنَا، وعلى هذا فقوله: «مِنَ الحَقِّ» فيه احتمالان: أحدهما: أنه حالٌ من فاعل «جَاءَنَا» ، أي: جاء في حال كونه من جِنْسِ الحقِّ. والاحتمال الآخر: أن تكونَ «مِنْ» لابتداء الغاية، والمرادُ بالحقِّ الباري تعالى، وتتعلَّقُ «مِنْ» حينئذ ب «جَاءَنَا» ؛ كقولك: «جَاءَنَا فلانٌ مِنْ عِنْدِ زَيْدٍ» . والثاني: أنَّ محلَّه رفعٌ بالابتداء، والخبر قوله: «مِنَ الحَقِّ» ، والجملةُ في موضع الحال، كذا قاله أبو البقاء، ويصيرُ التقدير: وما لَنَا لا نُؤمِنُ بالله، والحالُ أنَّ الذي جاءنا كَائِنٌ من الحَقِّ، و «الحقُّ» يجوز أن يُرادَ به القرآنُ؛ فإنه حقٌّ في نفسه، ويجوزُ أن يُرادَ به الباري تعالى - كما تقدمَ - والعاملُ فيها الاستقرارُ الذي تَضَمَّنَهُ قولُه «لَنَا» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 484 قوله: «وَنَطْمَعُ» في هذه الجملة ستَّة أوجه: أحدها: أنها منصوبة المحلِّ؛ نسقاً على المحكيِّ بالقول قبلها، أي: يقولُونَ كذا ويقولون نطمعُ وهو معنًى حسنٌ. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ على الحال من الضمير المستتر في الجارِّ الواقعِ خبراً وهو «لَنَا» ؛ لأنه تضمَّنَ الاستقرارَ، فرفع الضمير وعملَ في الحال، وإلى هذا ذهب الزمخشري؛ فإنه قال: «والواوُ في» ونَطْمَعُ «واوُ الحال، فإن قلتَ: ما العاملُ في الحال الأولى والثانية؟ قلتُ: العاملُ في الأولى ما في اللام من معنى الفعلِ؛ كأنه قيل: أيُّ شيءٍ حَصَل لنا غَيْرَ مؤمِنينَ، وفي الثانية معنى هذا الفعل، ولكن مقيَّداً بالحال الأولى؛ لأنك لو أزَلْتَها، وقلت:» مَا لَنَا وَنَطْمَعُ «، لم يكنْ كلاماً» . قال شهاب الدين: وفي هذا الكلام نظرٌ، وهو قولُه: «لأنَّكَ لَوْ أزَلْتَه ... إلى آخره» ؛ لأنَّا إذا أزَلْنَاها وأتَيْنَا ب «نَطْمَعُ» ، لم نأتِ بها مقترنةً بحرفِ العطف، بل مجرَّدة منه؛ لنحلَّها محلَّ الأولى؛ ألا ترى أنَّ النحويين إذا وضَعُوا المعطوفَ موضعَ المعطُوف عليه، وضعوه مجرَّداً من حرفِ العطف، ورأيتُ في بعض نسخ الكشَّافِ: «مَا لَنَا نَطْمَعُ» من غير واوٍ مقترنةٍ ب «نَطْمَعُ» ولكن أيضاً لا يَصِحُّ؛ لأنك لو قلت: «مَا لَنَا نَطْمَعُ» كان كلاماً؛ كقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] ، ف «نَطْمَعُ» واقعٌ موقعَ مفردٍ هو حال، كما لو قلت: مَا لَكَ طَامِعاً، وما لَنَا طَامِعِين، وردَّ عليه أبو حيان هذا الوجه بشيئينِ: أحدهما: أن العامل لا يقتضي أكثر من حالٍ واحدة، إذا كان صاحبُه مفرداً دون بدل أو عطف، إلا أفعل التفضيل على الصَّحيح. والثاني: أنه يلزم دخولُ الواو على مضارعٍ مُثْبَتٍ. وذلك لا يجُوز إلا بتأويل تقدير مبتدأ، أي: ونحْنُ نَطْمَعُ. الثالث: أنها في محل نصبٍ على الحال من فاعل «نُؤمِنُ» ، فتكون الحالان متداخلَتَيْنِ، قال الزمخشريُّ: «ويجوز أن يكون» ونَطْمعُ «حالاً من» لا نُؤمِنُ «على معنى: أنهم أنْكَرُوا على أنفسهم؛ أنهم لا يوحِّدون الله، ويطمعُون مع ذلك أن يَصْحَبُوا الصالحين» ، وهذا فيه ما تقدَّم من دخول واو الحال على المضارع المثْبَت، وأبو البقاء لمَّا أجاز هذا الوجْهَ، قدَّر مبتدأ قبل «نَطْمَعُ» ، وجعل الجملةَ حالاً من فاعل «نُؤمِنُ» ؛ ليخلصَ من هذا الإشكال؛ فقال: ويجوزُ أن يكون التقديرُ: «ونَحْنُ نَطْمَعُ» ، فتكون الجملةُ حالاً من فاعل «لا نُؤمِنُ» . الرابع: أنها معطوفةٌ على «لا نُؤمِنُ» ، فتكون في محلِّ نصبٍ على الحال من ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 485 الضمير المستترِ في «لَنَا» ، والعاملُ فيها هو العاملُ في الحال قبلها. فصل فإن قيل: هذا هو الوجه الثاني المتقدِّم، وذكرت عن أبي حيان هناك؛ أنه منع مجيء الحالين لِذِي حالٍ واحدةٍ، وبأنه يلزمُ دخولُ الواو على المضارع، فما الفرقُ بين هذا وذاك؟ فالجوابُ: أنَّ الممنوع تعدُّدُ الحالِ دُونَ عاطف، وهذه الواوُ عاطفةٌ، وأنَّ المضارع إنما يمتنعُ دخولُ واوِ الحال عليه، وهذه عاطفةٌ لا واوُ حالٍ؛ فحَصَلَ الفرقُ بينهما من جهة الواو؛ حيثُ كانت في الوجه الثاني واوَ الحال، وفي هذا الوجه واو عطف، ولَمَّا حكى الزمخشريُّ هذا الوجه، أبدى له معنيين حسنين؛ فقال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وأن يكون معطوفاً على» لا نُؤمِنُ «على معنى: وما لنا نَجْمَعُ بَيْنَ التثْليثِ وبين الطَّمَع في صُحْبَةِ الصَّالحينَ، أو على معنى: ومَا لَنَا لا نَجْمَعُ بينهما بالدُّخُولِ في الإسلام؛ لأنَّ الكَافِرَ ما ينبغي له أن يطمعَ في صُحْبَة الصَّالحِينَ» . الخامس: أنها جملة استئنافية، قال أبو حيان: الأحسنُ والأسهلُ: أن يكون استئناف إخبارٍ منهم؛ بأنهم طامعون في إنعام الله عليهم؛ بإدخالهم مع الصالحين، فالواوُ عطافةٌ هذه الجملة على جملة {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ} ، قال شهاب الدين: وهذا المعنى هو ومعنى كونها معطوفةً على المَحْكيِّ بالقول قبلها - شيءٌ واحدٌ - فإن [فيه] الإخبار عنهُمْ بقولهم كَيْتَ وكَيْتَ. السادس: أن يكون «وَنَطْمَعُ» معطوفاً على «نُؤمِنُ» ، أي: وما لنا لا نَطْمَعُ، قال أبو حيان هنا: «ويظهر لي وجهٌ غيرُ ما ذكرُوه، وهو أن يكون معطوفاً على» نُؤمِنُ «، التقديرُ: وما لَنَا لا نُؤمِنُ ولا نَطْمَعُ، فيكونُ في ذلك إنكارٌ لانتفاءِ إيمانهمْ وانتفاءِ طمعهِمْ مع قدرتهم على تحصيل الشيئين: الإيمان والطَّمع في الدخول مع الصالحين» ، قال شهاب الدين: قوله: «غَيْرُ ما ذَكَرُوهُ» ليس كما ذَكَرَهُ، بل ذكر أبو البقاء فقال: «ونَطْمَعُ» يجُوزُ أن يكون معطوفاً على «نُؤمِنُ» ، أي: «وما لَنَا لا نَطْمَعُ» ، فقد صرَّحَ بعطفه على الفعل المنفيِّ ب «لاَ» ، غايةُ ما في الباب أن الشيخَ زاده بَسْطاً. والطَّمَعُ قال الراغب: «هو نزوعُ النَّفْسِ إلى الشَّيْءِ شَهْوَةً له» ، ثم قال: «ولَمَّا كَانَ أكْثَرُ الطَّمَعِ من جهةِ الهوى، قيل: الطَمَعُ طَبعٌ والطمعُ يدنِّسُ الإهَابَ» ، وقال أبو حيان: «الطمعُ قَرِيبٌ من الرَّجَاءِ يقال منه طَمِعَ يَطْمَعُ طَمعاً» ؛ قال تعالى: {خَوْفاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 486 وَطَمَعاً} [السجدة: 16] وطماعةً وطماعيةً كالكراهِيَة؛ قال: [الطويل] 2046 - ... ... ... ... ... ... ... ..... طَمَاعِيَةً أنْ يَغْفِرَ الذَّنْبَ غَافِرُهْ فالتشديدُ فيها خطأٌ، واسمُ الفاعِلِ منه طَمِعٌ ك «فَرِحٍ» و «أشرٍ» ، ولم يَحْكِ أبو حيان غيرَه، وحكى الراغب: طَمِعٌ وطَامِعٌ، وينبغي أن يكون ذلك باعتبارين؛ كقولهم «فَرِحٌ» لمن شأنه ذلك، و «فَارِحٌ» لمن تجدَّد له فَرَحٌ. قوله: «أنْ يُدْخِلَنَا» ، أي: «في أنْ» فمحلُّها نصبٌ أو جرٌّ؛ على ما تقدَّم غير مرة. و «مَعَ» على بابها من المصاحبة، وقيل: هي بمعنى «في» ولا حاجة إليه؛ لاستقلال المعنى مع بقاءِ الكلمة على موضوعها. فصل قال المُفَسِّرُون -[رحمهم الله]- إنَّ اليَهُودَ عَيَّرُوهم، وقالُوا لَهُمْ: لِمَ آمَنْتُم؟ فأجابُوهُم بِهَذا. والمراد: يدْخِلُنَا ربُّنَا مع القَوم الصَّالحِيِنَ جَنَّتَهُ، ودارَ رِضوانه قال - تعالى -: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} [الحج: 59] ، إلا أنه حَسُنَ الحَذْف لِكَوْنه مَعْلُوماً. قوله تعالى: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} [المائدة: 85] . وقرأ الحسن: «فآتاهُمُ اللَّهُ» : من آتاه كذا، أي: أعطاهُ، والقراءةُ الشهيرةُ أوْلَى؛ لأنَّ الإثابةَ فيها مَنْبَهَةٌ على أنَّ ذلك لأجْلِ عملٍ؛ بخلاف الإيتاء؛ فإنه يكونُ على عملٍ وعلى غيره، وقوله تعالى: «جَنَّاتٍ» مفعولٌ ثانٍ ل «أثَابَهُمْ» ، أو ل «آتاهُمْ» على حسب القراءتَيْنِ. و {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} في محلِّ نصبٍ صفةً ل «جَنَّاتٍ» . و «خَالِدِينَ» حالٌ مقدرةٌ. فإن قيل: ظَاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ على أنَّهُم إنَّما اسْتَحَقُّوا ذلك الثَّوابَ بمُجَرَّدِ القوْلِ؛ لأنَّهُ - تعالى - قال: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ} ، وذَلِكَ غير مُمْكِن؛ لأنَّ مُجَرَّدَ القَوْلِ لا يُفيدُ الثَّوَابَ. فالجوابُ مِنْ وجهين: الأوَّلُ: أنَّهُ قد سَبَقَ من وَصْفِهِم مَا يدلُّ على إخلاصِهِمْ فيما قالوا وهُو المعرفَةُ، وذلك قوله - تعالى -: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} ، وكُلَّما حصلتِ المعْرِفَةُ والإخْلاصُ وكمَال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 487 الانْقِيَادِ، ثُمَّ انْضَافَ إليْه القَوْلُ، لا جَرَمَ كمل الإيمان. الثاني: روى عطاءُ عن ابْن عبَّاس - رضي الله تعالى عنهما - أنَّه قال: قوله - تعالى -: «بِمَا قَالُوا» يُرِيدُ بما سَألُوا، يعني قولهُمْ: «فاكتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِين» . فصل دَلَّتِ الآيَةُ على أنَّ المُؤمِنَ الفَاسِقَ لا يُخَلَّدُ في النَّارِ من وجْهَيْن: أحدهما: أنَّهُ - تعالى - قال: {وذلك جَزَآءُ المحسنين} ، وهذا الإحْسَانُ لا بُدَّ وأنْ يكُونَ هُوَ الذي تقدَّم ذِكْرُه من المَعْرِفَةِ، وهُوَ قوله - تعالى -: {مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق} ، ومِنَ الإقْرَارِ به، وهو قولُهُ - تعالى -: {فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ} ، وإذا كَانَ كَذَلِك فإمَّا أنْ يُقال: إنَّ هذه الآيَةُ دالَّةٌ على أنَّ المعرفة، وهُوَ إقرارٌ يوجِبُ هذا الثَّواب، فإمَّا أنْ يُنقل من الجَنَّةِ إلى النَّارِ، وهذا بَاطِلٌ بالإجْمَاع، أو يُقَال: يُعاقَبُ على ذَنْبِهِ، ثمَّ يُنْقَلُ إلى الجَنَّةِ، وهُوَ المَطْلُوب. الثاني: أنَّهُ - تعالى - قال: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجحيم} ، فقولُهُ تعالى: {أولئك أَصْحَابُ الجحيم} يُفِيدُ الحصر، أي: أولَئِكَ أصْحَابُ الجحيمِ لا غَيْرهِم، والمُصَاحِبُ للشَّيءِ المُلازِم له الذي لا يَنْفَكُّ عَنْهُ، وهذا يقتضي تَخْصِيصُ الكُفَّارِ بالدَّوَام. قوله تعالى: «وذَلِكَ جَزَاءُ» مبتدأ وخبرٌ، وأُشِيرَ ب «ذَلِكَ» إلى الثواب أو الإيتاء، و «المُحْسنين» يُحتمل أن يكون من باب إقامةِ الظاهرِ مُقامَ المضمرِ، والأصل: «وذَلِكَ جَزَاؤهُمْ» ، وإنما ذُكِر وصفُهم الشريفُ مَنْبَهَةً على أن هذه الخَصْلَةَ محصِّلة جزائِهِمْ بالخَيْرِ، ويُحْتَمَلُ أن يرادَ كلُّ مُحْسِنٍ، فيندرجُون اندراجاً أوليًّا. والمُرَادُ بالمُحْسِنينَ: المُوَحِّدين المُؤمِنِين. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 488 لما اسْتَقْصَى في المُنَاظَرَةِ مع اليَهُودِ والنَّصَارى، عَادَ إلى بيان الأحْكَامِ، وذكر منها جُمْلَةً: أوَّلُهَا: ما يتعلَّقُ بالمطَاعِمِ والمَشَارِب واللَّذَاتِ، وهي هَذِه الآيَةُ، والمراد بالطَّيِّبَاتِ: ما تَشْتَهِيهِ النُّفُوسُ، وتميلُ إلَيْه القُلُوب وفيه قولان: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 488 الأول: قال المُفَسِّرون -[رحمهم الله]- «ذكَّرَ النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - النَّاسَ يَوْماً في بَيْتِ عُثْمَانَ بنِ مَظْعُونٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فوَصَفَ القِيَامَة، وبالغ في الإنْذَارِ والتَّحْذِيرِ، فَرَقَّ له النَّاسُ وبَكَوْا، فاجْتَمَعَ عَشْرَةٌ مِنَ الصَّحَابَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين - وهُمْ: أبُو بَكْر، وعَلِيُّ بنُ أبِي طالبٍ، وعبْدُ الله بن مَسْعُود، وعَبْدُ الله بن عُمَر، وأبُو ذَرٍّ الغِفَاري، وسَالِم مَوْلى أبِي حُذَيْفَة والمِقْدَادُ بنُ الأسْوَد، وسَلْمَان الفَارِسِي، ومَعْقِلُ بنُ مقرّن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، وتَشاوَرُوا على أنْ يَتَرَهَّبُوا، ويَلْبِسُوا المُسُوحَ، ويُجْبُوا مَذَاكِيرهِمْ، ويصُومُوا الدَّهْرَ، ويقُومُوا اللَّيْل، ولا ينَامُونَ على الفُرُش، ولا يَأكُلُونَ اللَّحْمَ والوَدَكَ، ولا يَقْرَبُون النِّسَاء والطِّيب، ويَسِيحُوا في الأرْض، وحَلَفُوا على ذَلِكَ، فَبَلَغ النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -[ذلك] ، فأتَى دَارَ عُثْمَانَ بن مَظْعُونٍ الجُمحِي، فَلَمْ يُصَادِفْهُ، فقالَ لامْرَأتِهِ أمِّ حَكِيم بِنْت أبِي أمَيَّة - واسمُهَا» الحَوْلاَء «، وكانت عطَّارَة -: أحقٌّ ما بَلَغَنِي عن زَوْجِكِ وأصْحَابِه؟ فَكَرِهَتْ أنْ تَكْذِبَ، وكَرِهَتْ أنْ تُبْدِيَ على زَوْجِهَا، فَقَالَتْ: يا رسُول اللَّهِ: إن كانَ أخْبَرَكَ عُثْمَانُ فَقَدْ صَدَقَ، فانْصَرَفَ رسُول اللَّهِ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فلَّما دَخَلَ عُثْمَانُ أخْبَرَتُهُ بذلك، فأتى رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - هُوَ وأصْحَابهُ، فقالَ لَهُمُ رسُولُ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم -: ألَمْ أُنَبَّأْ أنَّكُم اتَّفَقْتُمْ على كَذَا وكَذَا، قَالُوا: بَلَى يا رسُول اللَّهِ، ما أرَدْنَا إلا الخَيْرَ، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: إنِّي لَمْ أؤمَرْ بِذلِكَ، ثُمَّ قال: إنَّ لأنْفُسِكُمْ عَلَيْكُمْ حقًّا، فصُومُوا وأفْطِرُوا، وقُومُوا ونَامُوا، فَإنِّي أقُومُ وأنَامُ، وأصُومُ وأفْطِر، وآكُل اللَّحْم والدَّسم، وآتِي النِّسَاء، فَمَنْ رَغِب عن سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي. ثمَّ جمع إليه النَّاس وَخَطَبَهُمْ فقَالَ: ما بَالُ أقْوَامٍ حَرَّمُوا النِّساء والطَّعام، والطِّيب والنَّوم، وشهوات الدُّنيا؟! أما إنِّي لَسْتُ آمُرُكُمْ أنْ تكُونُوا قِسِّيسِينَ ورُهْبَاناً، فإنَّه ليْسَ في دِينِي تَرْكُ اللَّحْمِ، ولا اتِّخاذ الصَّوَامِعِ، وأنَّ سِيَاحةَ أمَّتِي الصَّومُ، ورهبَانِيَّتُهُمُ الْجِهَادُ، اعبُدُوا اللَّه ولا تُشْرِكُوا به شَيْئاً، وحجُّوا واعتَمِرُوا وأقِيموا الصَّلاة وآتُوا الزَّكاة، وصُومُوا رمضَانَ، واستَقِيمُوا يستقمْ لَكُمْ، فإنَّمَا هَلَكَ من كان قَبْلَكُم بالتَّشْديدِ، شَدَّدُوا على أنْفُسِهِم، فَشَدَّدَ اللَّهُ عَلَيْهِم، فأُولَئِكَ بَقَايَاهُمْ فِي الدِّيَار والصَّوَامِعِ» ، فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَة. وعن عُثْمَانَ بنِ مَظْعُون - رضي الله تعالى عنه «- أنَّه أتَى النَّبِيَّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - فقال: ائْذَنْ لنا في الاخْتِصَاء، فقال رسول اللَّهِ صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم: ليس منا من خَصَى أو اخْتَصَا، إنَّ خِصَاءَ أمَتِّي الصِّيَامُ، فقال يا رسُولَ اللَّه: ائْذَنْ لنا في السِّيَاحَةِ، فقال: إنَّ سِيَاحَةَ أمَّتِي الجِهَادُ في سَبيلِ اللَّه، قال يا رسُول اللَّه: ائْذَنْ لنا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 489 في التَّرَهُّبِ فقال: إنَّ تَرَهُّبَ أمَّتِي الجُلُوسُ في المَسَاجِدِ، وانْتِظَار الصَّلاة» . وعلى هذا ظَهَر وجه النَّظْم بين هذه الآية، وبَيْنَ ما قَبْلَها، وذلك أنَّهُ تعالى مدحَ النَّصَارى، بأنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِين ورُهْبَاناً، وعادَتُهُم الاحْتِرَازُ عَنْ طَيِّبَاتِ الدُّنْيَا ولذَّاتِها، فلمَّا مَدَحَهم أوْهَمَ ذلك المدحُ ترغيب المسلمين في مِثْلِ تِلْكَ الطَّريقَةِ، فَذَكَرَ تعالى عَقِيبَهُ هذه الآيَة، إزالةً لذلك الوَهْمِ؛ ليظْهَرَ لِلْمُسْلِمِين أنَّهُمْ ليْسُوا مَأمُورين بِتِلْكَ الطَّرِيقَةِ؛ واللَّه أعلم. فإن قيل: ما الحكْمَةُ في هذا النَّهْي؟ ومن المعْلُومِ أنَّ حبَّ الدُّنْيَا مُسْتَوْلٍ على الطَّبَاع والقُلُوبِ، فإذا تَوَسَّع الإنْسَانُ في اللَّذَّاتِ والطَّيِّبَاتِ: اشتدَّ مَيْلُهُ إليها وعَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فيها، وكُلَّمَا أكْثر التَّنْعِيم ودَامَ كان ذلك المَيْلُ أقْوَى وأعْظَم، وكُلَّمَا ازدَادَ المَيْلُ قوَّةً ورغْبَةً، ازدَادَ حِرْصُهُ في طَلَبِ الدُّنْيَا، واسْتِغْرَاقُهُ في تحصيلهَا، وذلك يمنعه عن الاستغراقِ في مَعْرِفَةِ اللَّهِ - تعالى - وطاعَتِهِ، ويمنَعُهُ عن طلب سَعَادَات الآخِرَةِ، وأمَّا إذا أعْرَضَ عن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 490 لَذَّاتِ الدُّنيا وطيِّبَاتها، فكُلَّمَا كَانَ ذَلِكَ الإعْرَاض أتَمَّ وأدْوَمَ، كان ذلك المَيْلُ أضْعَف، وحينئذٍ تتفرَّغُ النَّفْسُ لطَلَبِ مَعْرِفَةِ اللَّه تعالى، والاسْتِغْرَاق في خدمَتِهِ، وإذا كان الأمْرُ كَذَلِكَ فما الحكمة في نَهْيِ اللَّهِ تعالى عَنِ الرَّهْبَانِيَّة؟ . فالجواب من وجوه: الأولُ: أنَّ الرَّهْبَانِيَّة المفرطة، والاحتِرَاز التَّامَّ عن الطَّيِّبَاتِ واللَّذَّاتِ، ممَّا يوقع الضَّعْفَ في الأعْضَاء الرَّئِيسيَّة - التي هي القَلْبُ والدِّمَاغُ -، وإذا وَقَعَ الضَّعْفُ فيهما اخْتلت الفِكْرَة وتَشَوَّش العَقْلُ. ولا شَكَّ أنَّ أكْمَل السَّعَاداتِ وأعظمَ القُرُبَات، إنَّما هو مَعْرِفَةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، فإذَا كانتِ الرَّهْبَانِيَّةُ الشَّديدةُ مِمَّا يوقع الخَلَلَ في ذلِكَ، لا جَرَمَ وقعَ النَّهْي عَنْهُ. الثاني: سَلَّمنَا أنَّ اشْتِغَال النَّفْسِ باللَّذاتِ يَمْنَعُهَا عن الاشْتِغَال بالسَّعَادَاتِ العَقْلِيَّة، ولكن في حقِّ النُّفُوسِ الضَّعِيفَةِ أمَّا النُّفُوسُ المسْتَعْلِيَةُ الكامِلَةُ، فإنَّه لا يَكُونُ اشتِغَالُها في اللَّذاتِ الحِسِّيَّةِ مانِعاً من الاشْتِغَالِ بالسَّعَادَات العَقْلِيَّة، فإنَّا نُشَاهِدُ بعض النُّفُوس قد تكون ضَعِيفَة، بِحَيْثُ متى اشْتَغَلَتْ بِمُهِمٍّ امْتَنَعَ عليها الاشْتِغَالُ بِمُهِمٍّ آخر، وكُلَّما قَويَتِ النَّفسُ كانت هذه الحَالَةُ أكْمَل، وإذا كانَ كذَلِكَ، فالمرادُ الكَمَالُ في الوَفَاءِ بالجهَتَيْنِ. الثالث: أنَّ من اسْتَوْفَى اللَّذَاتِ الحِسِّيَّةَ، وإن غرضُهُ بذلك الاسْتِعَانَة على استِيفَاء اللَّذَّاتِ العَقْلِيَّةِ، فإنَّ مجاهَدَتَهُ أتَّمُّ مِنْ مُجَاهَدَة من أعْرَض عَنِ اللَّذَاتِ الحِسَّيَّةِ. الرابع: أنَّ الرَّهْبَانِيَّةِ مع المُواظَبَةِ على المَعْرِفَةِ والمَحَبَّةِ والطَّاعة، فإنَّه عِمَارةُ الدُّنْيَا والآخِرَة، فكانَتْ هَذِهِ الحال أكْمَل القول. الثاني في تفْسِير هذه الآية ذَكَرَهُ القَفَّال -[رَحِمَهُ اللَّهُ]- وهو أنَّهُ تعالى قال في أوَّل السُّورةِ: {أَوْفُواْ بالعقود } [المائدة: 1] فبيَّنَ أنَّهُ لا يجُوزُ استحلاَلُ المُحرَّمِ، كذلك لا يجُوزُ تَحْرِيمُ المُحَلَّلِ، وكانت العرب تُحرِّمُ من الطَّيِّبَاتِ ما لَمْ يُحَرِّمْهُ اللَّهُ تعالى، وهو: البَحيرة، والسَّائِبَةُ، والوَصِيلةُ، والحامُ، وكانُوا يُحَلِّلُون المَيْتَةَ والدَّمَ وغيْرهما، فأمَرَ اللَّه تعالى أن لا يُحرِّمُوا ما أحَلَّهُ اللَّهُ، ولا يُحَلِّلُوا ما حَرَّمهُ اللَّهُ، حتى تَدْخُلوا تَحْتَ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] . فقوله تعالى: {لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ} يحتمل وُجُوهاً: الأول: ألا تَعْتَقِدُوا تَحْرِيمَ ما أحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ. وثانيها: لا تُظْهِرُوا باللِّسان تَحرِيمَ ما أحلَّ الله لَكُمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 491 وثالثها: لا تَجْتَنِبُوهَا اجْتِنَاباً يُشبِهُ الاجْتِنَابَ عن المُحَرَّمَاتِ، فهذه الوُجُوه الثلاثَةُ مَحْمُولَةٌ على الاعتِقَاد والقول والعَملِ. ورابعها: لا تُحَرِّمُوا على غَيْرِكم بالفَتْوَى. وخامسها: لا تَلْتَزِمُوا تحريمها بِنَذْرٍ أو يَمِينٍ، ونَظِيرُهُ قوله تعالى: {ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ} [التحريم: 1] . وسادسها: أن يخلطَ المغصُوبَ بالمَمْلُوكِ اختِلاَطاً لا يُمْكِنُهُ التَّمْيِيزُ، وحينئذٍ يَحْرُمُ الكُلُّ، ذلك الخَلْطُ سببٌ لتحريم ما كان حلالاً، وكذلِكَ إذا خَلَطَ النَّجِسَ بالطَّاهِر، فالآيَةُ مُحْتَمِلَةٌ لكُلِّ هذه الوجوه، ولا يَبْعُدُ حَمْلُهَا على الكُلِّ. قوله - تعالى -: {وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} فقيل: لا تجاوزُوا الحلال إلى الحرام، وقيل: لا تُسْرِفُوا وقيل: هو جَبُّ المذاكيرِ، وجعل تَحْرِيم الطَّيِّبَات اعتِدَاءً وتَعَدٍّ عما أحلَّهُ اللَّهُ، فنهى عن الاعتِدَاء؛ ليدخل تَحْتَ النَّهْيِ عن تحريمهَا. قوله تعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً} . في نصب «حَلاَلاَ» : ثلاثة أوجه: أظهرُها: أنه مفعولٌ به، أي: كُلُوا شَيْئاً حلالاً، [وعلى هذا الوجه، ففي الجَارِّ، وهو قوله: «مِمَّا رَزَقَكُمْ» وجهان: أحدهما: أنه حالٌ من «حَلاَلاً» ؛] لأنه في الأصل صفةٌ لنكرَةٍ، فلمَّا قُدِّم عليها، انتصبَ حالاً. والثاني: أنَّ «مِنْ» لابتداء الغاية في الأكْل، أي: ابتدِئُوا أكْلَكُمْ الحلالَ من الذي رزَقَهُ الله لكُمْ. الوجه الثاني من الأوجه المتقدِّمة: أنه حالٌ من الموصول أو من عائده المحذوف، أي: «رَزَقَكُمُوهُ» فالعاملُ فيه «رَزَقَكُمْ» . الثالث: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: أكْلاً حلالاً، وفيه تجوُّزٌ. وقال: {كلوا مما رزقكم الله} ولَمْ يَقُلْ: ما رزقكم؛ لأنَّ «مِنْ» للتَّبْعِيضِ، فكأنَّه قال: اقْتَصِرُوا في الأكْلِ على البَعْضِ واصرفُوا البَقِيَّةَ إلى الصَّدقَاتِ والخَيْرَاتِ، وأيضاً إرْشَاد إلى تَرْكِ الإسْرَاف، كقوله: {وَلاَ تسرفوا} [الأعراف: 31] . قال عبدُ الله بن المُبَارَك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الحَلاَلُ ما أخَذْتَهُ من وجهه، والطَّيِّبُ: ما غُذِيَ وأنْمِي. فأمَّا الجَوَامِدُ: كالطِّينِ والتُّرَابِ وما لا يُغذِّي، فمكرُوه إلاَّ على وجْهِ التَّدَاوِي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 492 قالت عَائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: «كان النَّبِيُّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - يُحِبُّ الحَلْوَاءَ والعَسَلَ» . قوله تعالى: «اتَّقُوا اللَّهَ» تأكيد للوصيَّةِ بما أمَرَ به، وزادَهُ تَأكِيداً بقوله تعالى: {الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ} ؛ لأنَّ الإيمان به يُوجِبُ التَّقْوَى في الانْتِهَاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 493 وهذا النَّوْعُ الثَّانِي من الأحْكام المذْكُورَةِ، ووَجْهُ المُنَاسَبَةِ بَيْنَ هذا الحُكْم والَّذِي قَبْلَهُ حتى حَسُنَ ذِكْرُهُ عَقِيبَهُ، أنَّا ذكرنَا أنَّ سبب نزول الآية: أنَّ قوماً من الصَّحابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين - حرَّموا على أنْفُسِهِمُ المطاعِمَ والمَلاَذَّ، واخْتَارُوا الرَّهْبَانِيَّةَ، وحَلَفُوا على ذلك، فلما نَهَاهُمُ اللَّهُ تعالى عنْ ذلك قالُوا: يا رسُول اللَّه، فَكَيْفَ نَصْنَعُ بأيْمَانِنَا؟ فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَة، وقدْ تقدَّم إعرابُ نَظيرهَا في البَقَرةِ واشْتِقَاق مُفْرَدَاتِها. قوله تعالى: {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان} . قرأ حمزة والكسائيُّ وأبو بكْرٍ عن عاصم: «عَقَدتُمْ» بتخفيف القاف دون ألف بعد العين، وابن ذَكْوَان عن ابن عامر: «عَاقَدتُّمْ» بزنة «فاعَلْتُمْ» والباقون: «عَقَّدتُّمْ» بتشديد القاف، فأمَّا التخفيفُ، فهو الأصل، وأمَّا التشديدُ، فيحتمل أوجهاً: أحدها: أنه للتكثير؛ لأنَّ المخاطبَ به جماعةٌ. والثاني: أنه بمعنى المجرَّدِ، فيوافِقُ القراءة الأولى، ونحوه: قَدَّرَ وقَدَرَ. والثالث: أنه يَدُلُّ على توكيد اليمين، نحو: «واللَّهِ الَّذِي لا إلهَ إلاَّ هُوَ» . والرابع: أنه يدلُّ على تأكيد العزم بالالتزام. الخامس: أنه عِوَضٌ من الألف في القراءة الأخرى، وقال شهاب الدين: ولا أدري ما معناه ولا يجوز أن يكون لتكرير اليمين، فإنَّ الكفارةَ تَجِبُ ولو بمَرَّةٍ واحدةٍ. وقد تَجَرَّأ أبو عُبَيْدٍ على هذه القراءةِ وزيَّفَها، فقال: «التشديدُ للتكريرِ مرةً من بعد مرَّة، ولستُ آمَنُ أن تُوجِبَ هذه القراءةُ سقوطَ الكفَّارةِ في اليمينِ الواحدة؛ لأنها لم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 493 تُكَرَّرْ» . وقد وَهَّموه الناسُ في ذلك، وذكروا تلك المعاني المتقدِّمة. وأجَاب الواحِدِي بوجْهَيْن: الأول: أنَّ بعضَهُم قال: عَقَدْتُم بالتَّخفيفِ وبالتَّشْديدِ واحدٌ في المعنى. والثاني: هَبْ أنَّها تُفِيدُ التكرير، كَمَا في قوله تعالى: {وَغَلَّقَتِ الأبواب} [يوسف: 23] ، إلاَّ أنَّ هذا التكريرَ يحصل بأن يَعْقِدَهَا بقَلْبِهِ ولِسَانِه، ومتَى جَمَعَ بَيْنَ القَلْبِ واللِّسَانِ فَقَدْ حَصَلَ التَّكْرِيرُ، أمَّا لَوْ عُقِدَ اليَمِينُ بأحَدِهِمَا دُونَ الآخَر لَمْ يَكُن منعقداً لَهَا فَسَلِمَتِ القِرَاءَةُ تِلاوَةً ولِلَّهِ الحَمْدُ. وأمَّا «عَاقَدَتْ» ، فيُحتملُ أن تكون بمعنى [المجرَّد نحو] : «جَاوَزْتُ الشَّيْءَ وَجُزْتُهُ» ، وقال الفارسيُّ: «عَاقَدتُمْ» يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون بمعنى «فَعَلَ» ، كطَارَقْتُ النَّعْلَ، وعَاقَبْتُ اللِّصَّ. والآخر: أن يُرَادَ به «فاعَلْتُ» التي تقتضي فاعلين؛ كأن المعنى: بما عَاقَدتُّمْ علَيْهِ الأيْمَانَ، عَدَّاه ب «عَلَى» لمَّا كان بمعنى عَاهَدَ، قال: {بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ الله} [الفتح: 10] ؛ نحو: {نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة} [المائدة: 58] ب «إلَى» ، وبابُها أن تقول: نَادَيْتُ زَيْداً؛ نحو: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور} [مريم: 52] لمَّا كانت بمعنى دَعَوْتُ إلى كذا، قال: {مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله} [فصلت: 33] ثم اتُّسِعَ فحُذِفَ الجارُّ، ونُقِلَ الفعلُ إلى المفعْول، ثم حُذِفَ من قوله: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] ، قال شهاب الدين: يريد - رَحِمَهُ اللَّهُ - أن يبيِّنَ معنى «المُفَاعَلَةِ» ، فأتى بهذه النظائر للتضمين، ولحذفِ العائدِ على التدريج، والمعنى: بِمَا عَاقَدتُّمْ عليه الأيْمَانَ، وعاقَدَتْكُمُ الأيْمَانُ عليه، فنَسَبَ المعاقَدَةَ إلى الأيْمَانِ مجازاً، ولقائل أن يقول: قد لا نَحْتَاجُ إلى عائدٍ حتَّى نحتاجَ إلى هذا التكلُّفِ الكثير، وذلك بأن نجعل «مَا» مصدريةً، والمفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: بِمَا عَاقَدتُّمْ غيْرَكُمُ الأيْمَانَ، أيْ: بمُعَاقدتِكُمْ غيرَكُمُ الأيْمَانَ، ونخلُصُ من مجازٍ آخر، وهو نسبةُ المعاقدةِ إلى الأيمان؛ فإنَّ في هذا الوجه نسبة المعاقَدَةِ للغَيْرِ، وهي نسبةٌ حقيقية، وقد نَصَّ على هذا الوجه - جماعةٌ. قالُوا: «مَا» مَعَ الفِعْلِ بِمَنْزِلةِ المصْدَرِ، ولكِن يُؤاخِذُكُم بِعَقْدِكُمْ، أوْ بِتَعْقِيدِكُمْ، أو بِمُعَاقَدَتِكُم الأيْمَان إذا خنتم، فحذف وقتاً لمؤاخَذَة؛ لأنَّه مَعْلُومٌ، أو يَنْكُثُ ما عَاقَدْتُمْ، فَحَذَفَ المُضَافَ. وقد تعقَّبَ أبو حيان على أبي عليٍّ كلامَهُ؛ فقال: «قوله: إنَّه مثل» طارَقْتُ النَّعْلَ «و» عَاقَبْتُ اللِّصَّ «، ليس مثله؛ لأنَّك لا تقول: طَرَقْتُ ولا عَقَبْتُ، وتقول: عاقدتُّ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 494 اليمينَ، وعقدُّهَا» ، وهذا غيرُ لازم لأبي عليٍّ؛ لأنّ مرادَه أنه مثلُه من حَيْثُ إنَّ «المُفَاعَلَةَ» بمعنى أن المشاركة من اثنين منتفيةٌ عنه؛ كانتفائها من عاقَبْتُ وطارَقْتُ، أمَّا كونُه يقالُ فيه أيضاً كذا، فلا يضُرُّه ذلك في التشبيه، وقال أيضاً: «تقديرُه حذف حَرْفِ الجرِّ، ثم الضمير على التدرُّج - بعيدٌ، وليس بنظيرِ: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] ؛ لأن» أمَرَ «بتعدَّى بنفسِه تارةً، وبحرف الجرِّ أخرى، وإن كان الأصلُ الحَرْفَ، وأيضاً ف» مَا «في» فَاصْدَعْ بِمَا «لا يتعيَّن أن تكون بمعنى» الَّذي «بل الظاهر أنها مصدريَّةٌ، [وكذلك ههنا الأحسنُ: أن تكون مصدريةً] لمقابلتها بالمصْدرِ، وهو اللَّغْوُ» . قال الوَاحِدِي: يُقَالُ: عَقَدَ فلانٌ اليمينَ والعهدَ والحبلَ عَقْداً، إذَا وكَّده وأحْكَمَهُ، ومثل ذلك أيضاً «عَقَّدَ» بالتَّشْديد إذا وكَّدَ، ومثله: عَاقَد بالألفِ. وقد تقدم الكلامُ في سورة النِّساء عند قوله تعالى: {والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ} [الآية: 33] و «عاقَدت» ، وذُكِرَ في هذه ثلاثُ قراءاتٍ في المشْهُور، وفي تِيكَ قراءتانِ، وقد تقدم في النساء أنه رُوِيَ عن حمزة: «عَقَّدَتْ» بالتشديد فيكون فيها أيضاً ثلاثُ قراءاتٍ، وهو اتفاقٌ غريبٌ، فإنَّ حمزة من أصحابِ التخفيفِ في هذه السورة، وقد رُوِيَ عنه التثقيلُ في النساء. والمرادُ بقوله: «عقَّدتم، وعاقَدْتُم» أي: قَصَدْتُم وتَعمَّدْتُم، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في سُورةِ البَقَرةِ. قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ} مبتدأ وخبر، والضميرُ في «فَكَفَّارتُهُ» فيه أربعةُ أوجه: أحدها: أنه يعودُ على الحِنْثِ الدَّالِّ عليه سياقُ الكلام، وإنْ لم يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ، أي: فكفَّارةُ الحِنْثِ. الثاني: أنه يعود على «مَا» إنْ جَعَلْنَاهَا موصولةً اسميَّةً، وهو على حذف مضافٍ، أي: فكفارة نُكْثِهِ، كذا قدَّره الزمخشريُّ. والثالث: أنه يعودُ على العَقْدِ؛ لتقدُّمِ الفعْلِ الدالِّ عليه. الرابع: أنه يعود على اليمين، وإن كانت مؤنثة؛ لأنها بمعنى الحَلْفِ، قالهما أبو البقاء، وليسا بظاهَرْين. و «إطْعَامُ» مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، وهو مقدَّرٌ بحرفٍ وفعلٍ مبنيٍّ للفاعل، أي: فكفَّارته أن يُطْعِمَ الحَانِثُ عشرة، وفاعلُ المصدرِ يُحْذَفُ كثيراً، ولا ضرورة تدعو إلى تقديره بفعلٍ مبنيٍّ للمفعولِ، أي: أن يُطْعَمَ عشرةٌ؛ لأنَّ في ذلك خلافاً تقدَّم التنبيه عليه؛ فعلى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 495 الأول: يكونُ محلُّ «عشرة» نصباً؛ وعلى الثاني: يكون محلُّها رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُهُ، ولذلك فائدةٌ تَظْهر في التابع، فإذا قلت: «يُعْجِبُنِي أكْلُ الخُبْزِ» فإن قدَّرته مبنياً للفاعل، فتتبع «الخُبْز» بالجرِّ على اللفظ، والنَّصْبِ على المحلِّ، وإنْ قَدَّرْتَه مبنيًّا للمفعول، أتْبَعْتَهُ جرًّا ورفعاً، فتقول: «يُعْجِبُني أكْلُ الخُبْزِ والسَّمْنِ والسَّمْنَ والسَّمْنُ» ، وفي الحديث: «نَهَى عن قَتْلِ الأبْتَرِ وذُو الطُّفَيَتَيْنِ» برفع «ذُو» على معنى: أنْ يُقْتَلَ الأبْتَرُ، قال أبو البقاء: «والجَيِّدُ أن يُقَدَّرَ - أي المصدرُ - بفعلٍ قد سُمِّي فاعلُه؛ لأنَّ ما قبله وما بعده خطاب» ، يعني: فهذه قرينةٌ تُقَوِّي ذلك؛ لأنَّ المعنى: فكفَّارَتُهُ أنْ تُطْعِمُوا أنْتُمْ أيها الحَالِفُونَ، وقد تقدم أنَّ تقديره بالمبنيِّ للفاعلِ هو الراجحُ، ولو لم تُوجَدُ قرينةٌ؛ لأنه الأصلُ. قوله تعالى: «مِنْ أوسطِ» فيه وجهان: أحدهما: أنه في محلِّ رفعِ خبراً لمبتدأ محذوفٍ يبيِّنه ما قبله، تقديرُه: طعامُهُمْ مِنْ أوسطِ، ويكون الكلامُ قد تَمَّ عِنْدَ قوله: «مَسَاكِينَ» ، وسيأتي له مزيد بيان قريباً إن شاء الله تعالى. والثاني: أنه في موضعِ نصْبٍ؛ لأنه صفةٌ للمفعول الثاني، والتقديرُ: قوتاً أو طعاماً كائناً من أوسطِ، وأما المفعولُ الأوَّل فهو «عَشَرَة» المضافُ إليه المصدرُ، و «مَا» موصولةٌ اسميَّةٌ، والعائدُ محذوفٌ، أي: من أوْسَطِ الذي تطعمُونَهُ، وقَدَّره أبو البقاء مجروراً ب «مِنْ» ، فقال: «الَّذِي تُطْعَمُونَ مِنْهُ» ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ من شرط العائد المجرورِ في الحذف: أنْ يتَّحِدَ الحرفانِ والمتعلَّقانِ، والحرفان هنا، وإن اتفقا وهما «مِنْ» و «مِنْ» إلا أنَّ العامل اختلف؛ فإنَّ «مِن» الثانيةَ متعلِّقةٌ ب «تُطْعِمُون» ، والأولى متعلِّقةٌ بمحذوفٍ، وهو الكون المطلقُ؛ لأنها وقعت صفة للمفعول المحذوف، وقد يقالُ: إنَّ الفعلَ لَمَّا كان مُنْصَباً على قوله: «مِنْ أوْسَطِ» ، فكأنه عاملٌ فيه، وإنما قدَّرْنَا مفعولاً لضرورة الصِّناعة، فإن قيل: الموصولُ لم ينجرَّ ب «مِنْ» إنما انجرَّ بالإضافةِ، فالجوابُ: أنَّ المضافَ إلى الموصول كالموصولِ في ذلك؛ نحو: «مُرَّ بِغُلامٍ الَّذي مَرَرْتُ» . و «أهلِيكُمْ» مفعولٌ أول ل «تُطْعِمُونَ» ، والثاني محذوفٌ؛ كما تقدم، أي: تُطْعِمُونَهُ أهْلِيكُمْ، و «أهْلِيكُمْ» جمعُ سلامةٍ، ونَقَصَهُ من الشروط كونُه ليس عَلَماً ولا صفةً، والذي حسَّن ذلك: أنه كثيراً ما يُستعملُ استعمال «مُسْتَحِقٌّ لِكَذَا» في قولهم: «هُوَ أهْلٌ لِكَذَا» ، أي: مُسْتَحِقٌّ له، فأشبه الصفاتِ، فجُمِعَ جمعَها، وقال تعالى: {شَغَلَتْنَآ أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا} [الفتح: 11] {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً} [التحريم: 6] ، وفي الحديث: «إنَّ لله أهلينَ» قيل: يا رسُول الله: مَنْ هُمْ؟ قال: «قُرَّاء القرآن هم أهلُو الله وخاصَّتُه» ، فقوله: «أهلُو الله» جمعٌ حُذِفَتْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 496 نونُه للإضافة، ويُحتمل أن يكون مفرداً، فيكتب: «أهْلُ الله» ، فهو في اللفظِ واحدٌ. وقرأ جَعْفَرٌ الصَّادقُ: «أهَالِيْكُمْ» بسكونِ الياء، وفيه تخريجانِ: أحدهما: أنَّ «أهَالِي» جمعُ تكسيرٍ ل «أهْلَة» ، فهو شاذٌّ في القياس؛ ك «لَيْلَةٍ وليالٍ» ، قال ابنُ جِني: «أهَالٍ» بمنزلةِ «لَيَالٍ» واحدها أهلاَة ولَيْلاَة، والعربُ تقول: أهْلٌ وأهْلَة؛ قال الشاعر: [الطويل] 2047 - وَأهْلَةِ وُدٍّ سُرِرْتُ بِوُدِّهِمْ ..... ... ... ... ... ... ... وقياسُ قولِ أبي زيدٍ: أن تجعله جمعاً لواحدٍ مقدَّرٍ؛ نحو: أحَادِيث وأعَارِيض، وإليه يشير قولُ ابن جنِّي: «أهالٍ بمنزلة ليالٍ واحدُها أهلاة وليْلاَة» ، فهذا يحتمل أن يكونَ [بطريق] السماعِ، ويحتملُ أن يكون بطريقِ القياس؛ كما يقول [أبو زيد. والثاني: أنَّ هذا اسمُ جمعٍ ل «أهْلٍ» قال الزمخشريُّ: «كَالليالي في جمع لَيْلَة والأرَاضِي في جمع أرْضٍ» ] . قوله «في جَمْعِ لَيْلَةٍ، وجمعِ أرضٍ» أرادَ بالجمعِ اللغويَّ؛ لأنَّ اسمَ الجمع جمعٌ في المعنى، ولا يريد أنه جمعُ «لَيْلَة» و «أرْض» صناعةً؛ لانه قد فَرَضَه أنه اسمُ جمعٍ، فكيف يجعلُه جمعاً اصطلاحاً؟ . وكان قياسُ قراءةِ جعفرٍ تحريكَ الياءِ بالفتحة؛ لخفَّتها، ولكنه شَبَّه الياء بالألف، فقدَّر فيها الحركةَ، وهو كثيرٌ في النظْمِ؛ كقول النابغة: [البسيط] 2048 - رَدَّتْ عَلَيْهِ أقَاصِيهِ وَلَبَّدَهُ ... ضَرْبُ الوَلِيدَةِ بِالْمِسْحَاةِ في الثَّأدِ وقول الآخر: [الرجز] 2049 - كَأنَّ أيْديهِنَّ بِالْقَاعِ القَرِقْ ... أيْدِي جَوَارٍ يَتَعَاطَيْنَ الوَرِقْ وقد مضى ذلك. فصل اختَلَفُوا في قَدْرِ هذا الإطعامِ، فقالَ قَوْمٌ: يُطْعِمُ كُلَّ مِسْكِينٍ مُداً من طعام بمُدِّ النَّبِيِّ - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 497 صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وهو رَطلٌ وثُلُثٌ مِنْ غالبِ قُوتِ البَلْدَة، وكذَلِكَ في جَمِيعِ الكفَّارَاتِ، وهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ ثابتٍ، وابْن عبَّاس، وابن عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، وبه قال سعيدُ بْنُ المُسَيِّب والحَسَن والقَاسِم، وسُلَيْمَان بنُ يَسَار، وعطاء، والشَّافِعيُِّ - رضي الله تعالى عنهم - وقال أهْلُ العِرَاقِ: عليه لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدَّانِ - وهو نصف صاع، ويُرْوَى ذلِكَ عَنْ عُمَرَ وعَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -. وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه -: إنْ أطعم من الحِنْطَةِ فنِصْفُ صَاعٍ، وإنْ أطعم من غيرها فصاعٌ، وهو قول الشَّعْبِيِّ، والنَّخْعِيِّ، وسعيد بن جُبَيْرٍ، ومُجَاهِد، والحكم - رحمهم الله - ولو غدَّاهم وعشَّاهُمْ لا يجُوزُ، وجوَّزهُ أبُو حنيفةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، ويُروَى ذَلِكَ عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، ولا يَجُوزُ الدَّرَاهِمُ والدَّنَانِيرُ، ولا الخُبْزُ، والدَّقِيقُ، بل يَجِبُ إخْرَاجُ الحَبِّ إليْهِم، وجوَّز أبُو حنيفةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كُلَّ عشرةٍ إلى مسكينٍ واحدٍ في عشرة أيام ولا يَجُوزُ أن يُصرَف إلا إلى مُسْلِمٍ حر مُحْتَاج، فإن صُرِفَ إلى ذِمِّيٍّ أوْ عَبْدٍ أو غَنِيٍّ لَمْ يَجُزْ، وجوَّز أبُو حنيفةَ صرْفَهُ إلى أهْلِ الذَّمَّةِ، واتَّفَقُوا على أنَّ صَرْفَ الزَّكَاةِ إلى أهْلِ الذَّمَّة لا يَجُوزُ. فصل واختلفُوا في الوسط. فقيل: مِنْ خَيْر قُوتِ عيالِكُمْ، والوسَطُ: الخُبْزُ [وتقدم في البقرة في] قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] . وقال عَبِيدَةُ السَّلْمَانِيُّ: الأوْسَطُ الخُبْزُ والْخَلُّ، والأعلى الخُبْزُ واللَّحْم، والأدْنَى الخُبْزُ البحْتُ، والكُلُّ يُجْزِئُ. قوله تعالى: «أوْ كِسْوَتُهُمْ» فيه وجهان: أحدهما: أنه نَسَقٌ على «إطْعَام» ، أي: فكفارتُه إطعامُ عشرةٍ أو كسْوَة تلك العشرة. والثاني: أنه عطفٌ على محلِّ «مِنْ أوْسَط» [وهو أن يكون «مِنْ أوسط» خبراً لمبتدأ محذوفٍ يدُلُّ عليه ما قبله، تقديرُه: طعامُهُمْ مِنْ أوْسَط] ، فالكلامُ عنده تامٌّ على قوله «عَشرةِ مساكِينَ» ، ثم ابتدأ إخباراً آخر بأن الطعام يكونُ من أوسط كذا وأمَّا إذا قلنا: إنَّ «مِنْ أوْسَطِ» هو المفعولُ الثاني، فيستحيل عطف «كِسْوَتُهُمْ» عليه؛ لتخالفهما إعراباً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 498 وقرأ الجمهور: «كِسْوتُهُمْ» بكسر الكاف. وقرأ إبراهيمُ النخعيُّ وأبو عبد الرحمن السُّلَمِيُّ وسعيدُ بنُ المُسَيِّب بضمِّها، وقد تقدَّم في البقرة [الآية 233] أنهما لغتان في المصدر، وفي الشيء المَكْسُوِّ، قال الزمخشريُّ: «كالقِدْوَة في القُدْوَة، والإسْوَة في الأسْوَة» إلا أن الذي قرأ في البقرة بضَمِّها هو طلحة فلم يذكُرُوه هنا، ولا ذكَرُوا هؤلاء هناك. وقرأ سعيدُ بن جُبَيْر وابنُ السَّميفع: «أوْ كأسْوتِهِمْ» بكاف الجر الداخلة على «أُسْوَة» قال الزمخشريُّ: «بمعنى: أو مِثْلُ ما تُطْعِمُونَ أهْلِيكُمْ، إسْرَافاً أو تَقْتيراً، لا تُنْقصونَهُمْ عن مقْدارِ نفقتِهِمْ، ولكنْ تواسُونَ بينهم، فإنْ قُلْتَ: ما محلُّ الكافِ؟ قلتُ: الرفعُ، تقديرُه: أو طعَامُهُمْ كأسوتِهِمْ، بمعنى: كَمِثْلِ طعامهم، إن لَمْ يُطْعِمُوهُم الأوْسَطَ» . انتهى، وكان قد تقدم أنه يجعل «مِنْ أوسَطِ» مرفوع المحلِّ خبراً لمبتدأ محذوف، فتكونُ الكاف عنده مرفوعةً؛ عطفاً على «مِنْ أوْسَطِ» ، وقال أبو البقاء قريباً من هذا؛ فإنه قال: «فالكاف في موضعِ رفعٍ أي: أو مِثْلُ أسْوَةِ أهْلِيكُمْ» ، وقال أبو حيان: «إنه في موضع نصْبٍ عطفاً على محلِّ: مِنْ أوْسطَ» ؛ لأنه عنده مفعولٌ ثان، إلاَّ أنَّ هذه القراءة تنفي الكسْوةَ من الكَفَّارةِ، وقد أجمعَ الناسُ على أنها إحدى الخصَالِ الثلاثِ، لكن لصاحب هذه القراءة أن يقول: «اسْتُفيدتِ الكسْوةُ من السُّنَّةِ» ، أمَّا لو قام الإجماعُ على أن مستندَ الكسْوَة في الكفَّارة من الآية؛ فإنه يَصِحُّ الردُّ على هذا القارئ. والكِسْوَةُ في اللُّغَةِ معناهُ اللِّبَاسُ، وهو كُلُّ ما يُكْتَسَى بِه. فصل كُلُّ مَنْ لَزمتْهُ كَفَّارَةُ يمينٍ فهُوَ مُخَيَّرٌ إنْ شَاءَ أطْعَمَ عشْرَة مساكين، وإن شاءَ كَسَاهُم، وإن شاء أعْتَقَ رقبَةً، فإن اخْتَارَ الكِسْوَة، فاخْتَلَفُوا في قدرهَا، فذهبَ قَوْمٌ إلى أنَّهُ يَكْسُوا كُلَّ مِسْكينٍ ثوباً واحداً مِمَّا يَقَعُ عليه اسم الكِسْوَةِ، إزَارٌ، أوْ رِدَاءٌ، أو قميصٌ، أو سراويل، أو عمامة مقَنَّعَة، أو كِسَاء أو نَحْوها، وهُو قولُ ابن عبَّاس والْحَسَن ومُجاهد وعطاء وطاوُس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، وإليه ذهبَ الشَّافِعيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. وقال مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يَجِبُ لِكُلِّ إنسان ما يجُوزُ فيه صلاتُهُ، فيكْسُوا الرجُلَ ثَوْباً والمرْأةُ ثَوْبَيْن دِرْعاً وخِمَاراً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 499 وقال سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبُ: «لِكُلِّ مِسْكِينٍ ثَوْبَان» . قوله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} عطف على «إطعامُ» وهو مصدر مضاف لمفعوله، والكلامُ عليه كالكلام على [ «إطعامُ] عشرَةِ» من جوازِ تقديره بفعلٍ مبنيٍّ للفاعل أو للمفعول وما قيل في ذلك، [وقوله: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} كقوله في النساء: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} [النساء: 92]] ، وقد تقدَّم ذلك. فصل المُرَادُ بالرَّقَبَةِ الجملة. قيل: الأصْلُ في هذا المجازِ، أنَّ الأسِير في العربِ كان يجمع إلى رقبتِهِ بحبْلٍ، فإذا أطلقَ حلَّ ذلك الحَبْل، فسُمِّيَ الإطلاقُ مِنَ الرَّقبَةِ فَكُّ رقبة، وأجازَ أبُو حنيفَةَ والثَّوْرِي إعْتَاقُ الرَّقَبَةِ الْكَافِرَة في جَميعهَا، إلاَّ كَفارَة القَتْل؛ لأنَّ اللَّه تعالى قَيَّدَ الرَّقَبة فيها بالإيمان، قُلْنَا: المُطْلَقُ يُحْمَلُ على المُقَيَّدِ، كما أنَّ اللَّهَ تعالى قَيَّدَ الشَّهَادَة بالعَدَالَةِ في موضعٍ فقال تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2] ، وأطلق في موضعٍ فقال تعالى: {واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ} [البقرة: 282] ، ثم العدالةُ مشروطةٌ في جميعها حَمْلاً للمُطْلَقِ على المُقَيَّدِ، كذلك هذا. ولا يجُوزُ إعْتَاقَ المُرْتَدِّ بالاتِّفَاقِ عن الكَفَّارة، ويُشْتَرَطُ أن يكونَ سليمَ الرِّقِّ، حتَّى لو أعْتَقَ عن كَفَّارتِهِ مُكَاتباً، أوْ أمَّ ولدٍ، أوْ عبداً اشْتَراه بِشَرْطِ العَتْقِ، أو اشْتَرَى قَرِيبَهُ الذي يُعْتَقُ عليه بِنيَّةِ الكَفَّارة يعتق، ولا يجُوزُ عن الكفَّارة. وجوَّز أصْحَابُ الرَّأي عِتْق المُكَاتِبِ إذَا لَمْ يَكُنْ أدَّى شيئاً من النُّجُومِ، وعِتْق القَرِيبِ عن الكَفَّارة. ويُشترطُ أن تكُون الرَّقَبَةُ سليمةً من كُلِّ عَيْبٍ يَضِرُّ بالعمل ضَرَراً بَيِّناً، حتَّى لا يجُوزُ مَقْطُوع إحْدَى اليَدَيْنِ، أو إحْدَى الرِّجْلَيْن، ولا الأعمَى، ولا الزَّمِن، ولا المجْنُونُ المُطْبَقُ، ويجُوزُ الأعْوَرُ، والأصَمُّ والمقْطُوعُ الأُذَنَيْنِ، والأنْفِ؛ لأنَّ هذهِ العُيُوبَ لا تَضِرُّ بالعَمَلِ إضْرَاراً بَيِّناً وعند أبي حنيفَة - رضي الله تعالى عنه - كُلُّ عَيْبٍ يُفَوَّتُ جِنْساً من المَنْفَعَةِ يَمْنَعُ الجَوازَ، حَتَّى جوَّزَ مَقْطُوعَ إحْدَى اليَدَيْن، ولم يجوِّز مَقْطُوعَ إحْدى الأذُنَيْنِ. فصل معنى الواجب المخيَّر: هُوَ أنَّهُ لا يَجِبُ عليه الإتْيان بكُلِّ واحدٍ من هذه الثلاثةِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 500 ولا يجُوزُ له تَرْكُ جَميعها، ومتى أتى بأيِّ واحدٍ من هذه الثلاثةِ خَرَجَ عن العُهْدَة، فإذا اجْتَمَعَتْ هذه القُيُود الثلاثةُ، فذلك هو الواجِبُ المُخَيَّرُ. وقال بعض الفُقَهَاءِ: الواجِبُ واحدٌ لا بِعَيْنِه، وهذا الكلامُ يَحْمِلُ أمْرَيْن: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 501 الأوَّلُ: أنْ يُقَال: الواجِبُ عليه أن يُدخِلَ واحداً من هذه الثلاثة لا بِعَيْنِهِ، وهذا مُحَالٌ في العُقُولِ؛ لأنَّ الشَيْء الذي يَكُونُ مُعَيَّناً في نَفْسِه يَكُونُ مُمْتَنِع الوُجُودِ لذاتِهِ، وما كان كذلك، فإنَّهُ لا يَرِدُ به التَّكْلِيف. والثاني: أن يُقَال: الوَاجِبُ عليه واحدٌ مُعَيَّنٌ في نَفْسِهِ وفي عِلْم الله تعالى، إلاَّ أنَّهُ مَجْهُولُ العيْنِ عند الفاعلِ، وذلك أيْضاً مُحَالٌ؛ لأنَّ كون ذلك الشَّيْء واجباً بِعَيْنِه في عِلْم الله تعالى هو أنَّهُ لا يجُوزُ تَرْكُهُ بِحَالٍ، واجْتَمَعتِ الأمَّةُ على أنَّهُ يجُوزُ له تركُهُ بتَقْييدِ الإتْيَان بِغَيْرِه، والجَمْعُ بَيْنَ هذيْنِ القوْلَيْن جمعٌ بين النَّفي والإثْبَات، وهُو مُحَال، وتمامُ هذا البَحثِ مَذْكُورٌ في أصُولِ الفِقْه. فإنْ قِيلَ: أيُّ فائدةٍ لِتَقْدِيمِ الإطعامِ على العِتْقِ مع أنَّ العتقَ أفْضَلُ؟ فالجوابُ من وُجُوه: أحدها: أنَّ المقصُودَ مِنْهُ التَّنْبِيه على أنَّ هذه الكَفَّارَة وَجَبَتْ على التَّخْيِير لا عَلَى التَّرْتيب، لأنها لوْ وَجَبَتْ على التَّرْتِيبِ لوجَبَتِ البدَايَةُ بالأغْلَظِ. وثانيها: قدَّم الإطعام؛ لأنَّه أسْهَلُ، ولكَوْنِ الطَّعامِ أعمّ وُجُوداً، والمقْصُودُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ على أنَّهُ تعالى يُراعِي التَّخْفِيفَ والَّسْهِيلَ في التَّكالِيفِ. وثالثها: أنَّ الإطعامَ أفْضَلُ؛ لأن الحُرَّ الفَقِيرَ قَدْ لا يَجِدُ طعاماً، ولا يكونُ هُنَاكَ مَنْ يُعْطِيه الطَّعام، فَيقعَ في الضُّرِّ. وأمَّا العَبدُ فَيَجِبُ على مَولاَهُ إطعامُهُ وكِسْوَتُهُ. قوله تعالى: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ} إذا عَجزَ الذي لَزِمَتْهُ كفَّارةُ اليمينِ عَنِ الإطْعَامِ، أو الْكِسْوَةِ، أو تَحْرِيرِ رقبةٍ، يجبُ عليهِ صوْمُ ثلاثةِ أيَّامٍ، والعاجزُ ألا يَفْضُل من مالهِ عن قُوتِهِ، وقُوتِ عيالِهِ وحاجَتِهِ ما يُطْعِمُ، أو يَكْسُو، أو يَعْتِقُ، فإنَّهُ يصومُ ثلاثة أيام، وقال بعضهم: إذا مَلكَ ما يمكنه الإطْعَامُ، وإنْ لم يَفضُل عن كِفَايتِهِ، فليس له صِيَامٌ، وهو قوْلُ الحَسَن، وسعيد بن جُبَيْر. واختلفُوا في وجوب التَّتَابعُ في هذا الصِّيَام، فذهب جماعةٌ إلى أنَّه لا يجب فيه التَّتَابُعُ، بل إنْ شاء تابع وإن شاء فرَّقَ، والتَّتَابعُ أفْضَلُ، وهُو أحد قولي الشَّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. وذهب قوم إلى وُجوبِ التَّتَابع فيه، قِيَاساً على كَفَّارةِ القَتْلِ والظِّهَارِ، وهو قَوْلُ الثَّوْرِي وأبي حنيفةَ - رضي الله تعالى عنهما - وتدلُّ عليه قِرَاءة ابن مَسْعُود - رضي الله تعالى عنه - «فصِيَام ثلاثةِ أيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 502 وأُجِيبُ: بأنَّ القراءةَ الشَّاذَّةَ مردُودَةٌ، إذ لَوْ كانَتْ قُرْآناً، لنُقِلَتْ نَقْلاً مُتَوَاتراً، ولو جوَّزنا في القُرْآن ألا ينقل متواتراً، لَزِمَ طَعْن الرَّوَافِضِ والملاحِدَة في القُرْآن، وذلك بَاطِلٌ، فعِلمْنَا أن القراءة الشَّاذَّة مردُودةٌ، فلا تَصْلحُ أنْ تكون حُجَّةً. وأيضاً نُقِلَ عن أبَيِّ بن كعب أنَّهُ قرأ: «فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر مُتَتَابِعَات» ، مع أنَّ التَّتَابع هُناكَ ما كان شَرْطاً وأجابُوا عَنْهُ أنَّهُ رُوِي عن النَّبِيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - «أنَّ رَجُلاً قال لَهُ: عَلَيَّ أيَّامُ رمضانَ أفَأقْضِيهَا مُتفَرِّقاتٍ، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» أرأيْتَ لوْ كَانَ عَلَيْكَ دَيْنٌ فَقَضَيْتَ الدِّرْهِمَ بِالدِّرْهَم أمَا كان يُجْزِيك؟ قال: بلَى قال: فاللَّه تعالى أحَقُّ أن يَغْفِرَ ويَصْفَحَ «وهذا الحَدِيثُ وإن وَقَعَ جواباً عن هذا السُّؤال في صَوْم رمضان، إلاَّ أنَّ لَفْظَهُ عامٌّ، وتَعْلِيلُهُ عَامٌّ في جَميعِ الصِّيَامَاتِ، وقد ثبتَ في الأصُولِ أنَّ العِبْرة بعُمُوم اللَّفْظِ لا بِخُصُوصِ السبب، فهذا من أقوى الدَّلائلِ على جَوازِ التَّفْرِيق هاهُنَا. قوله تعالى: {ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} ، ذلك إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الإطْعَام والكِسْوَة، وتحْرِيرِ الرَّقَبَة يُكفِّر عنكم حِنْثَ اليَمِين وقْتَ حَلْفِكُمْ و» إذَا حَلَفْتُمْ «قال أبو البقاء:» منصوبٌ على الظَّرْف وناصبُه «كَفَّارة» ، أي: ذلك الإطعامُ، أو ما عُطِفَ عليه يُكَفِّر عنْكُمْ كَفَّارةُ «، لكان صحيحاً بمعنى تلك الأشياء، أو التأنيث للكفَّارة، والمعنى:» إذَا حَلَفْتُمْ حَنْثْتُم، فترك ذِكْرَ الحِنْثِ؛ لوقوع العلْمِ بأن الكفَّارة، إنما تَجِبُ بالحِنْثِ بالحَلِفِ لا بنَفْسِ الحَلِفِ، كقوله تعالى: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 184] أي: فأفْطَرَ «.؟ ولا بد من هذا الذي ذكره الزمخشريُّ، وهو تقديرُ الحِنْثِ، ولذلك عِيبَ على أبي البقاء قوله:» العَامِلُ في «إذَا» كفارةُ أيْمانِكُمْ؛ لأن المعنى: ذلك يُكَفِّرُ أيْمَانكُمْ وَقْتَ حَلْفِكُمْ «، فقيل له: الكفَّارةُ ليستْ واقعةً في وقْتِ الحَلْفِ، فكيف يَعْمَلُ في الظرْفِ ما لا يقعُ فيه؟ وظاهرُ الآية أنَّ» إذَا «متمحِّضَة للظرفيَّةِ، وليس فيها معنى الشرطِ، وهو غيرُ الغالبِ فيها، وقد يجوزُ أن تكون شرطاً، ويكونُ جوابُها محذوفاً على قاعدةِ البصريِّين يدُلُّ عليه ما تقدَّم، أو هو نفسُ المتقدِّم عند أبي زَيْدٍ والكوفيين، والتقدير: إذا حَلَفْتُمْ وحَنِثْتُم، فذلك كفارةُ إثْمِ أيْمَانِكُمْ؛ كقولهم:» أنْتَ ظَالِمٌ إنْ فَعَلْتَ «. فصل اخْتَلَفُوا في تقديم الكَفَّارة على الحنْثِ؛ فذَهَبَ قَوْمٌ إلى جَوَازِهِ لقَوْل النَّبِيِّ - صلَّى الجزء: 7 ¦ الصفحة: 503 الله عليه وعلى آله وسلَّم -: «من حَلَفَ بِيَمِينٍ، فَرأى غَيْرَهَا خَيْراً مِنْهَا، فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ، وَلْيَفْعَل الذي هُو خَيْر» وهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَر، وابْنِ عبَّاس وعائِشَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وبه قال الحَسَنُ وابنُ سيرين، وإليه ذهبَ مالِكٌ، والأوْزَاعِيُّ، والشَّافعيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، إلاَّ أنَّ الشَّافعيَّ يقُولُ: إن كَفَّرَ بالصَّوْمِ قبل الحنْثِ لا يَجُوزُ، لأنه بدَنِيٌّ، إنَّمَا يجوزُ الإطْعَامُ والكسْوَة والعِتْقُ؛ لأنَّه مَالِيٌّ، فأَشْبَه تَعْجِيلَ الزَّكَاةِ، كما يجُوزُ تَقْدِيمُ الزَّكَاةِ على الحَوْل، ولا يجُوزُ تَعْجِيلُ صَوْمِ رمضانَ. قالوا: وقوله: «إذَا حَلَفْتُم» فيه دَقِيقَةٌ، وهو التَّنْبِيهُ على أنَّ تقْدِيم الكَفَّارة قبْل اليَمِين لا يجُوز، وأمَّا بعد اليمين وقبل الحنْثِ فيجُوز، لانعِقَادِ سببها وهو اليمينُ، فصارت كمِلْكِ النِّصاب. وقال أبو حنيفةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لا يجُوزُ تقديم الكَفَّارَة على الحنْثِ. قوله تعالى: {واحفظوا أَيْمَانَكُمْ} قيل: المرادُ به تَرْكُ الحَلْفِ، أي: لا تحلِفُوا، وقِيل: المُرَادُ تَقْلِيلُ الأيْمان، أي: لا تُكثِروا مِنْهَا. قال الشَّاعر: [الطويل] 2050 - قَليلُ الأَلايَا حَافِظٌ لِيَمِينِهِ ... فإنْ سَبَقَتْ مِنْهُ الألِيَّةُ بَرَّتِ والصحيحُ: أنَّ المُرَادَ: حِفْظُ اليمينِ على الحنْثِ، هذا إذا لم يكن حلف بِيَمينِهِ على ترْكِ مَنْدُوبٍ أو فعلٍ مكرُوهٍ، فإن حَلَفَ على تَرْكِ مَنْدُوبٍ أو فِعْلِ مَكْرُوهٍ، فالأفْضَلُ أن يُحنِثَ نَفْسَهُ ويُكَفِّر للحَدِيثِ المُتقدِّم. قوله تعالى: «كَذِلِكَ» هذه الكاف نعتٌ لمصدر محذوف عند جماهير المُعْربين، أي: يبيِّن الله آياته تبييناً مثل ذلك التبيين، وعند سيبويه أنه حالٌ من ضميرِ ذلك المصْدَرِ على ما عُرِفَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 504 هذا هو النَّوْعُ الثَّالثُ من الأحْكَامِ المذكُورَةِ هُنَا، ووجهُ اتِّصاله بما قبله، أنَّه - تعالى - قال: {ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ} [المائدة: 87] ، إلى قوله تعالى: {وَكُلُواْ مِمَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 504 رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً} [المائدة: 88] ، ثم كان من جُمْلَةِ الأمُورِ المستَطَابَة للجُمْهُورِ الخَمْرُ والمَيْسِرُ، فبيَّن الله - تعالى - أنَّهُمَا غير دَاخِلَيْن في المُحَلَّلات، بل في المُحرَّمَات، وقد تقدَّم بَيَانُ الخَمْرِ والمَيْسِر في سُورة البَقرَة [البقرة 219] ، وبيان الأنْصَاب والأزلام في أوَّل هذه السُّورة [المائدة 3] . وفي اشتِقَاقَ الخَمْرِ وجهان: أحدهما: سُمِّيَ خَمْراً لِمُخَامَرَته العقل، أي: خَالَطَتْهُ فَسَتَرَتْهُ. الثاني: قال ابنُ الأعْرَابِي: تُرِكَتْ فاخْتَمَرَتْ، أي: تَغَيَّر رِيحُهَا. فصل قال القُرْطُبِي: تحريمُ الخَمْرِ كان بالتَّدْرِيج ونَوازِلَ كَثِيرة، لأنَّهُمْ كانوا مُولَعِينَ بشُرْبِهَا، وأوَّلُ ما نزلَ في أمْرِهَا: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219] ، أي: في تِجَارَتِهِم، فلما نَزلَتْ هذه الآيةُ تركَهَا بَعْضُ النَّاس، وقالُوا: لا حَاجَةَ لنا فِيمَا يَشْغَلُنَا عَنِ الصلاة، وشَرِبَهَا بَعْضُهُمْ في غَيْرِ أوقاتِ الصَّلاة، حتى نَزَلَتْ هذه الآيَةُ، فصارتْ حَرَاماً عَلَيْهم، وذلك في ستة ثلاث من الهِجْرَة بعد وَقْعَةِ أُحُد. قوله تعالى: «رجسٌ» : خبرٌ عن هذه الأشياء المتقدِّمة، فيقال: كيف أخبر عن جَمْع بمفردٍ؟ فأجاب الزمخشريُّ بأنه على حَذْف مضافٍ، أي: إنما شأنُ الخَمْرِ، وكذا وكذا، ذكر ذلك عند تعرُّضِه للضَّميرِ في «فاجْتَنِبُوهُ» كما سيأتي، وكذا قدَّره أبو البقاء، فقال: «لأنَّ التقدير: إنما عَمَلُ هذه الأشياء» . قال أبو حيان بعد حكايته كلامَ الزمخشريِّ: ولا حاجة إلى هذا، بل الحكم على هذه الأربعة نفسها أنَّها رِجْسٌ أبلغُ من تقدير هذا المضاف؛ كقوله: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] ، وهو كلامٌ حسن، وأجاب أبو البقاء أيضاً بأنه يجوزُ أن يكونَ «رِجْسٌ» خبراً عن «الخَمْر» ، وحُذِفَ خبرُ المعطوفاتِ؛ لدلالةِ خبر الأولِ عليها، قال شهاب الدين: وعلى هذا: فيجوزُ أن يكونَ خبراً عن الآخر، وحُذِفَ خبرُ ما قبله؛ لدلالةِ خبر ما بعده عليه؛ لأنَّ لنا في نحو قوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] هذين التقديرين، وقد تقدَّم تحقيقُهما مراراً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 505 والرجسُ قال الراغب: «هو الشيْءُ القَذِرُ، رجلٌ رِجْسٌ، ورِجَالٌ أرْجَاسٌ» ، ثم قال: «وقيل: رِجْسٌ ورِجْزٌ للصَّوْت الشديد، يقال: بَعِيرٌ رَجَّاسٌ: شديدُ الهدير، وغمامٌ راجِسٌ ورجَّاسٌ: شديدُ الرعْد» ، وقال الزجَّاج: هو اسمٌ لكلِّ ما استُقْذِرَ من عمل قبيحٍ، يقال: رَجِسَ ورَجَسَ بكسر الجيم وفتحها يَرْجُسُ رِجْساً إذا عمل عملاً قبيحاً، وأصله من الرَّجْسِ بفتح الراء، وهو شدة صوت الرعد؛ قال: [الرجز] 2051 - وَكُلُّ رَجَّاسٍ يَسُوقُ الرَّجْسَا ... وفرَّق ابن دُرَيْدٍ بين الرِّجْسِ والرِّجْزِ والرِّكْسِ، فجعل الرِّجْسَ: الشرَّ، والرِّجْزَ: العذابَ، والرِّكْسَ: العَذِرةَ والنَّتْنَ، ثم قال: «والرِّجْسُ يقال للاثْنَيْنِ» ، فتحصَّلَ من هذا؛ أنه اسمٌ للشيءِ القَذِرِ المنتنِ، أو أنه في الأصل مصدرٌ. وقوله تعالى: {مِّنْ عَمَلِ الشيطان} في محلِّ رفعٍ؛ لأنه صفةٌ ل «رِجْس» . وهذا أيْضاً مُكَمِّلٌ لكونِهِ رجْساً؛ لأنَّ الشَّيطان نَجْسٌ خَبِيثٌ؛ لأنه كَافِرٌ، والكَافِرُ نَجسٌ لقوله تعالى {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] والخبيث لا يَدْعُو إلاَّ إلى الخَبِيثِ لقوله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ} [النور: 26] والهاء في «فَاجْتَنِبُوهَ» تعودُ على الرِّجْس، أي: فاجتنبُوا الرِّجْسَ الذي أخْبَرَ به مما تقدَّم من الخَمْر وما بعدها، وقال أبو البقاء: «إنها تعود على الفِعْلِ» ، يعني الذي قدَّره مضافاً إلى الخَمْر وما بعدها، وإلى ذلك نحا الزمخشريُّ أيضاً، قال: «فإنْ قلتَ: إلامَ يَرْجِعُ الضميرُ في قوله: فاجتنبُوهُ؟ قلت: إلى المضافِ المحذوفِ، أو تعاطيهمَا، أو ما أشبه ذلك، ولذلك قال: رِجْسٌ من عَمَلِ الشَّيْطَانِ» ، وقد تقدَّم أن الأحْسَنَ: أن هذه الأشياء جُعِلَتْ نفسَ الرِّجْسِ مبالغةً. قوله تعالى: «فِي الخَمْرِ» : فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه متعلق ب «يُوقِعَ» ، أي: يُوقعَ بينكم هذين الشيئينِ في الخمر، أي: بسبب شرْبها، و «في» تفيد السسببيةَ؛ كقوله عليه السَّلام: «إنَّ امرأةً دخلتِ النَّارَ في هِرَّةٍ» . الثاني: أنها متعلِّقة بالبغضاء؛ لأنه مصدر معرف ب «ألْ» . الثالث: أنه متعلقٌ ب «العداوة» ، وقال أبو البقاء: «ويجوزُ أن تتعلَّق» في «بالعداوة، أو ب» البَغْضَاء «، أي: [أنْ] تَتَعادَوْا وأنْ تَتَبَاغَضُوا بسبَبِ شُرْبِ الخَمْرِ» ؛ وعلى هذا الذي ذكره: تكونُ المسألةُ من باب التنازعِ، وهو الوجهُ الرابع، إلاَّ أنَّ في ذلك الجزء: 7 ¦ الصفحة: 506 إشكالاً، وهو أنَّ من حقِّ المتنازعين؛ أن يصلُحَ كلٌّ منهما للعملِ، وهذا العاملُ الأولُ، وهو العداوة، لو سُلِّط على المتنازعِ فيه، لزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بأجنبيٍّ وهو المعطوف، وقد يقال: إنه في بعضِ صُورِ التنازع يُلْتَزَمُ إعمالُ الثاني، وذلك في فِعْلَي التعجُّبِ، إذا تنازعا معمولاً فيه، وقد تقدَّمَ مُشْبَعاً في البقرة. فصل في مفاسد الأشياء المذكورة في الآية اعلم أنَّه تعالى لمّا أمَرَ باجْتِنَابِ هذه الأشياءِ، ذكر فِيهَا نوعَيْنِ من المَفْسَدَة: الأول: ما يتعلَّقُ بالدُّنْيَا وهُوَ قولُهُ تعالى {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر} . والثاني: المَفْسَدَةُ المُتعلِّقَةُ بالدِّين، وهو قولُهُ تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} . فأمَّا شَرْحُ هذه العداوة [والبغضاء أولاً في الخَمْر ثمَّ في المَيْسِر] : وأمَّا الخَمْرُ، فاعْلَم: أنَّ الظَّاهر فيمَنْ يَشْرَبُ الخَمْرَ، أنَّه يَشْرَبُهَا مع جَمَاعةٍ، ويكونُ غَرَضُهُ الاسْتِئْنَاس برُفَقَائِهِ، ويفرحُ بِمُحَادثَتِهمْ، ويكون بذلك الاجْتِمَاع تأكيدُ المَحَبَّةِ والألْفَةِ، إلاَّ أنَّ ذلِكَ في الأغْلَبِ ينقلبُ إلى الضِّدِّ؛ لأنَّ الخَمْرَ يُزيلُ العَقْلَ، وإذا أزَالَ العَقْلَ اسْتَوْلَتِ الشَّهْوَةُ والغَضَبُ من غير مُدَافَعَةِ العقل، وعند اسْتِلائِهما تَحْصُلُ المُنازَعَةُ بين أولَئِكَ الأحْبَاب، وتِلْكَ المُنَازَعَةُ رُبَّما أدَّتْ إلى الضَّرْبِ والقَتْلِ، والمُشافَهَةِ بالفُحْشِ، وذلك يُورِثُ أشَدَّ العداوةِ والبَغْضَاء، كما فعل الأنْصَارِيُّ الذي شَجَّ رأسَ سَعْد بن أبي وقّاص بلحي الجَمَل. ورُوِيَ أن قَبيلَتَيْنِ من الأنْصَارِ شَرِبُوا الخَمْرَ، وانْتَشَوْا فَعَبَث بعضُهم على بَعْض، فلما [صَحَوْا رأى بعضُهُم في وجْهِ] بعْضٍ آثَار ما فَعلُوا، وكانوا إخْوَةً ليْسَ في قُلُوبِهِمْ ضَغَائِن، فجعل بَعْضُهُم يقُولُ: لو كان أخي بي رَحيماً ما فعل بِي هذا، فحدثَتْ بَيْنَهُم الضَّغَائِنُ، فالشَّيطان يُسَوِّلُ أنَّ الاجتماعَ على الشُّرْبِ يوجِبُ تَأكِيدَ الألْفَةِ والمَحَبَّةِ بين الأخوة، فينْقَلِبُ الأمْرُ، وتحصُلُ العداوَةُ والبَغْضَاءُ. وأمَّا المَيْسِرُ، ففيه بإزَاءِ التَّوْسِعَةِ على المُحْتَاجِينَ من الإجْحَافِ بأرْبَابِ الأمْوالِ؛ لأنَّ من صارَ مَغْلُوباً في القُمَارِ مَرَّةً، دَعَاهُ ذلك إلى اللِّجَاحِ فيه، يَرْجُو بذلِكَ إلى أنْ يَصِيرَ غَالِباً، وقد يتَّفِقُ أنَّه لا يَحْصُلُ لَهُ ذلك، إلى أن لا يَبْقَى لَهُ شيءٌ من المَالِ، وإلى أن يُقَامِرَ على لحْيَتِهِ وأهْلِهِ وَوَلَدِهِ. قال قتادةُ: كان الرَّجُلُ يُقامِرُ على الأهْلِ والمالِ، ثم يَبْقَى مَسْلُوبَ الأهْل والمالِ، ولا شكَّ أنَّه يَبْقَى بعد ذلك فَقِيراً مِسْكِيناً، ويصيرُ من أعْدَى الأعْدَاءِ لأولئكَ الذين غلبُوه، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 507 فَظَهَر أنَّ الخَمْرَ والمَيْسِر سبَبَانِ عَظِيمَان في إثَارَةِ العَدَاءِ والبغْضَاءِ بين النَّاسِ، والعداوةُ والبَغضَاءُ تُفْضِي إلى أحْوالٍ مَذْمُومَةٍ من الهرَج والمَرجِ والفِتَنِ، وذلك مُضَادٌّ لمصالِحِ العِبَادِ. فلو قِيلَ: لما جمع الخَمْرَ والمَيْسر مع الأنْصَاب والأزلامِ، ثم أفرَدَهُمَا في آخر الآية. قلنا: لأنَّ لهذه الآيَةِ خِطَابٌ مع المُؤمنين، لقوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر} والمقصُودُ نَهْيُهُم عن الخَمْرِ والميْسِر، وإنَّما ضمَّ الأنْصَابَ والأزْلاَم إلى الخَمْرِ والميْسِرِ، إظهاراً أنَّ هذه الأرْبَعَة مُتَقَارِبةٌ في القُبْح والمفْسَدَة، فلما كان المَقْصُودُ من الآيَةِ النَّهْي عن الخَمْرِ والميْسِر، لا جَرَم أفَردهُمَا في آخِرِ الآيَةِ بالذِّكْرِ. قال شهاب الدين: ويظهرُ شيءٌ آخرُ، وهو أنه لم يُفْردِ الخَمْرَ والميْسِرَ بالذِّكْر [آخراً] ، بل ذَكَرَ مَعهُمَا شيئاً يَلْزَمُ منه عدمُ الأنصاب والأزلام [فكأنه] تكملة ذكر الجميع، بيانه أنه قال: «في الخَمْرِ والميسِرِ ويَصُدُّكُمْ عنْ ذِكْرِ الله» بعبادة الأنْصَاب أو بالذبحِ عليها للأصنام على ما علم تفسيره أوَّلَ السُّورة، و «عن الصلاةِ» باشتغالِكم بالأزْلام، وقد تقدَّم فَذِكْرُ الله والصَّلاة مُنَبِّهَانِ على الأنْصَاب والأزلام. وأمَّا النَّوع الثَّانِي من المفاسِد الموجُودة في الخَمْرِ والميْسِر: المفَاسِدُ المتعلِّقةُ بالدِّينِ، وهو قوله تعالى: {وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} ، أمَّا كَوْنُ شُرْبِ الخَمْرِ يَمْنَعُ عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة، فظاهرٌ؛ لأنَّ شُرْبَ الخَمْرِ يُورِثُ الطَّربَ واللَّذَّة الجُسْمَانيَّة، والنَّفسُ إذا اسْتَغْرَقَت في اللَّذَّات الجُسْمانِيَّة، غَفلَتْ عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة، وأمَّا كونُ الميْسِر مانِعاً عن ذكر اللَّه وعن الصلاة، إنْ كانَ غَالِباً صارَ استغراقُهُ في لذَّةِ الغلبَةِ من أنْ يَخْطُر بِبَالِه شيءٌ سِوَاه، وإن صَارَ مَغْلُوباً صار شِدَّة اهتمامِه بأنْ يحْتَال بحِيلَةٍ، حتَّى يَصِيرَ غَالِباً مَانِعاً من أنْ يَخْطُرَ بِبَالِهِ شَيءٌ سواه، ولا شكَّ أنْ هذه الحالةَ مما يَصُدُّ عَنْ ذِكرِ اللَّهِ وعن الصَّلاة، ولمَّا بيَّن تعالى اشْتِمَال شُرْبِ الخَمْرِ، واللَّعِب بالميْسِر على هذه المفاسِدِ العَظِيمَةِ في الدِّينِ، قال تعالى {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} . فصل قال القُرْطُبِي: فَهِمَ الجُمْهُورِ من تَحْرِيم الخَمْرِ، وإطلاقِ الرِّجْس عليها، والأمْر باجْتِنَابِهَا، الحكم بِنَجَاسَتِهَا، وخَالَفَهُمْ في ذلك رَبيعَةُ، واللَّيْثُ بنُ سَعْد، والمُزَنِيُّ، وبَعْضُ المُتَأخِّرِين من البَغْدَادِيِّين والقَرَويِّين، وقالُوا: إنَّها طَاهِرَةٌ وأنَّ المُحرَّمَ إنما هو شُربُهَا؛ لأنَّ المَيْسِر والأنْصَاب والأزْلامَ ليسوا بِنَجسٍ، فكذلِكَ الخَمْرُ، ولجواز سَكْبِهَا [ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 508 في] طُرُقِ المدينَةِ، مع نَهْيِ النبيِّ - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - عن التَّخَلِّي في الطريق. قوله تعالى: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} هذا الاستفهامُ فيه معنى الأمر، أي: انْتَهُوا. رُوِيَ أنَّه لمَّا نزلَ قوْلُ اللَّهِ تعالى: {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} [النساء: 43] قال عُمَر بنُ الخطَّابِ - رضي الله تعالى عنه -: «اللَّهُمَ بيِّن لَنَا في الخَمْرِ بَيَاناً شافياً» فلما نَزَلَتْ هذه الآيَةُ قال عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «انْتَهَيْنَا يا رَبِّ، انْتَهَيْنَا يَا ربِّ» ويدلُّ على أن المراد منه الأمر أيضاً: عطفُ الأمر الصَّريحِ عليه في قوله «وأطيعُوا» ، كأنه قيل: انتهوا عن شُرْبِ الخَمْرِ، وعن كذا، وأطِيعُوا، فمجيءُ هذه الجملةِ الاستفهاميةِ المصدَّرة باسْم مُخْبَرٍ عنه باسمِ فاعلٍ دالٍّ على ثبوتِ النهي واستقراره - أبلغُ من صريح الأمر. قال ابنُ الخطيب: وإنما حَسُنَ هذا المجازُ؛ لأنَّ الله تعالى ذمَّ هذه الأفعالَ، وأظْهَرَ قُبْحَهَا للمُخَاطَبِ، فلما استفهم بَعْدَ ذَلِكَ عن تَرْكِهَا، لم يَقْدِر المُخَاطبُ إلاَّ على الإقْرَارِ بالتَّرْكِ، وكأنَّه قِيلَ لَهُ: أتَفْعَلُه وقَدْ ظَهَر من قُبحهِ ما ظَهَر؛ فصار {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} ؛ جَارِياً مُجْرَى تنصِيصِ اللَّهِ تعالى على وُجُوبِ الانْتِهَاءِ، مَقْرُوناً بإقْرَارِ المُكَلَّفِ بوجوبِ الانْتِهَاءِ. واعلم: أنَّ هذه الآيةُ دالَّةٌ على وُجوبِ تحريم شُرْبِ الخَمْرِ من وُجُوهٍ: أحدها: تَصْدِيرُ الجُمْلَة ب «إنَّما» وهي لِلْحَصْرِ، فَكَأنَّهُ قال: لا رِجْسَ ولا شَيءَ من أعْمَالِ الشَّيْطَانِ إلاَّ هذِهِ الأربَعَةُ. وثانيها: أنَّهُ تعالى قَرَنَ الخَمْرَ والميْسِر بِعبَادةِ الأوْثَان، ومنه قولُهُ - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «شَارِبُ خَمْرٍ كَعَابدٍ وثَنٍ» . وثالثها: قال «لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون» ، جعلَ الاجْتِنَاب من الفلاحِ، وإذا كان الاجْتِناب فَلاَحاً، كان الارْتِكَابُ خَيْبَةً. ورابعها: ما تقدَّم من اشْتِمَال الاسْتِفْهَامِ على المَنْفِي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 509 وخامسها: قوله تعالى بعد ذلك: {وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول واحذروا} وظاهرُ الأمْرِ بالطَّاعَةِ، فيما تقدَّم ذكرُه من أمرهم بالاجْتِنَابِ عَنِ الخمْرِ والميْسِر. وقوله «واحْذَرُوا» أي: احْذَرُوا عن مُخَالَفتهِمَا في هذا التَّكْلِيفِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 509 وسادسها: قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فاعلموا أَنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ} ، وهذا تَهْدِيد عَظِيمٌ ووعيدٌ شَدِيدٌ في حقِّ من خَالَفَ في هذا التَّكْلِيفِ، وأعْرَضَ عن حُكْمِ اللَّهِ تعالى؛ لأنَّ مَعْنَاه إنْ تَوَلَّيْتُم فالحُجَّةُ قد قَامَتْ عَلَيْكُمْ، والرَّسُول قد خَرَجَ عن عُهْدَةِ التَّبْلِيغِ والإعْذَارِ، فأمَّا ما وراء ذلِكَ من عِقَابِ من خَالَفَ هذا التَّكْلِيف وأعرض، فذَلِكَ إلى اللَّهِ تعالى، وهذا تَهْديدٌ عظيمٌ، وهذا نصٌّ صَرِيحٌ في أنَّ كلَّ مُسكرٍ حرَامٌ؛ لاشْتِمَالِهِ على ما تَشْتَمِلُ عليه الخَمْرُ. قال - عليه الصَّلاة والسلام -: «كلّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ وإن حتماً على اللَّهِ أنْ لا يَشْرَبَهُ عبْدٌ في الدُّنيا إلاَّ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَة من طِينَةِ الخَبَالِ، هَلْ تَدْرُونَ مَا طِيْنَةُ الخَبَالِ؟» قلنا: لا. قال: «عَرَقُ أهْلِ النَّارِ» ، وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا حُرِمَهَا في الآخِرَةِ» . وعن ابن عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّهُ قال: أشْهَدُ أنِّي سَمِعْتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وعلى آله وسلَّم - وهو يقُولُ: «لَعَنَ اللَّهُ الخَمْرَ وشَاربَهَا وساقِيهَا وبَائِعَهَا ومُبْتَاعَهَا وعاصِرهَا ومُعْتَصِرهَا وحَامِلَهَا والمحمولةَ إلَيْه وآكِلَ ثَمَنِهَا» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 510 سبَبُ نزولِ هذه الآيَةِ: أنَّ الصَّحابَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أجمعين، لمَّا نزلَ تَحْريمُ الخَمْرِ، قالوا: يا رسُول اللَّهِ كَيْفَ بإخوَانِنَا الَّذِين مَاتُوا وهم يَشْرَبُونَ الخَمْرَ، ويأكُلُون من مالِ الميْسِر؛ فنزلت هذه الآيةُ، والمعنى لا إثْمَ عليْهم؛ لأنَّهُم شَرِبُوها حال ما كَانَتْ مُحَلَّلَةً، وهذه الآيةُ مُشَابِهَةٌ لقوله تعالى في نَسْخِ القِبْلَةِ من بَيْتِ المقْدِسِ لِلْكَعْبَةِ: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي: أنَّكُم حين اسْتَقْبَلْتُمْ بَيْتَ المَقْدِس، اسْتَقْبَلْتُمُوه بأمْرِي، فلا أضَيِّعُ ذلك. قوله تعالى: {إِذَا مَا اتقوا} : ظرفٌ منصوبٌ بما يُفْهَمُ من الجملة السابقة، وهي: «لَيْسَ» وما في حَيِّزها، والتقدير: لا يَأثَمُونَ، ولا يُؤاخَذُونَ وقْتَ اتِّقائهم، ويجوزُ أن يكون ظَرْفاً محْضاً، وأن يكونَ فيه معنى الشرط، وجوابه محذوفٌ، أو متقدِّمٌ على ما مَرَّ. فصل الطعَامُ في الأغْلَبِ من اللُّغَةِ خلاف الشَّرَاب، ولذلك يُقَالُ: الطعم خلافُ الشُّرْب، إلاَّ أن اسم الطعام يقعُ على المَشْرُوبات، كقوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني} [البقرة: 249] ، وعلى هذا يجُوزُ أن يكون قوله: «فِيمَا طَعِمُوا» أي: شَرِبُوا الخَمْرَ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 510 ويجوزُ أن يَكُونَ معنى الطَّعْمِ راجعاً إلى التَّلَذُّذِ بما يُؤكَلُ ويُشْرَبُ. وقد تقُولُ العربُ: تطعّم حتى تطعم أي: ذُق حتى تَشْتَهِيَ، فإذا كانَ مَعْنَى الكَلِمَة راجِعاً إلى الذَّوقِ، صَلُحَ لِلْمأكُولِ والمشْرُوبِ معاً. فإن قيل: إنهُ تعالى شَرَطَ نَفْيَ الجناح بِحُصُولِ التَّقْوَى والإيمان مرَّتَيْن، وفي المَرَّةِ الثَّالِثَةِ: بحُصُولِ التَّقْوَى والإحْسَان. وللنَّاس في هذا قولان: أحدهما: أنَّ هذا من باب التوكيد، ولا يَضُرُّ حرفُ العطف في ذلك؛ كقوله تعالى: {كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر: 3، 4] ، حتى إنَّ ابن مالكٍ جعل هذا من التوكيدِ اللفظيِّ المبوبِ له في النحو. والثاني: أنه للتأسيس، إلا أنَّه جعل التغايُرَ حاصلاً بتقديرِ المتعلّقاتِ. واختلفُوا في تَفْسِير هذه المراتبِ الثَّلاثةِ على وجوه: أحدها: قال الأكْثَرُونَ: الأوَّل: عَمَلُ الاتِّقَاء. والثاني: دوامُ الاتِّقاء والثبَات عليه. والثالث: اتقاء ظُلم العباد مع ضم الإحسان إليه. وثانيها: أن الأول اتِّقَاء جميع المعاصِي قَبْلَ نُزُول هذه الآيَة. والثاني: اتِّقَاء الخَمْرِ والميْسِر وما في هذه الآية. والثالث: اتِّقَاء ما يَجِبُ تَحْرِيمُهُ بعد هذه الآية [وهذا قول الأصَمِّ] . وثالثها: اتَّقُوا الكُفْرَ ثمَّ الكبائِر، ثُمَّ الصَّغَائر. ورابعها: قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: التَّقْوى الأولى عبارةٌ عن الاتقاء من القَدْحِ في صِحَّةِ النَّسْخِ؛ وذلك لأنَّ اليَهُود يقولُون: النَّسخ يدُلُّ على البداء، فأوْجَبَ على المُؤمنين عند سمَاع تَحْرِيم الخَمْر، بَعْدَ أنْ كانَتْ مُبَاحَة أنْ يَتَّقوا عن هذه الشُّبْهَةِ الفَاسِدَةِ. والتقوى الثانية: الإتْيَان بالعَمَلِ المُطَابِق لهذه الآيَة وهي الاحتِرَاز عن شُرْبِ الخَمْرِ. والتقوى الثالثة: عِبَارة عن المُداومةِ على التَّقْوى المَذْكُورَةِ في الأولى والثانِية، ثم يَضُمُّ إلى هذه التَّقْوى الإحسَان إلى الخَلْقِ. وخامسها: أنَّ المَقْصُود من هذا التَّكْرير التَّأكيدُ، والمُبالغَةُ في الحَثِّ على الإيمانِ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 511 فإن قيل: لِمَ شرطَ دَفْعِ الجُنَاحِ عن تناوُلِ المطْعُومات بِشَرْط الإيمان والتَّقْوى؛ مع أنَّ المَعْلُوم أن من لم يُؤمِن ومن لَمْ يتَّقِ، ثُمَّ تناول شَيْئاً من المُبَاحَاتِ فإنَّه لا جُناح عليْه في ذلك التَّنَاوُلُ، بل إنما عليه جُنَاحٌ في تَرْكِ التَّقْوى والإيمَان، إلاَّ أن ذلك لا تعلُّق له بِتَنَاوُل ذلِكَ المُبَاح، فذكرُ هذا الشَّرْط في هذا المَعْرِض غَيْرُ جَائِزٍ. فالجوابُ: لَيْسَ هذا اشْتِرَاطٌ، بل لِبَيَانِ أنّ أولَئِكَ الأقْوَام الذين نَزَلَتْ فيهِمْ هذه الآيَةُ، كَانُوا على هذه الصِّفَةِ ثَنَاءً عَلَيْهِم، وحَمْداً لأحْوَالهم في الإيمَان والتَّقْوَى والإحْسَان. ومثَالُهُ أنْ يُقال لك: «هَلْ عَلَى زَيْدٍ فيما فَعَل جُنَاحٌ» ، وقد عَلِمْتَ أنَّ ذلك الأمْرَ مُبَاحٌ؛ فتقول: ليس على أحَدٍ جُنَاح في المُبَاحِ إذا اتَّقَى المَحَارِمَ وكان مُؤمِناً مُحْسِناً، تريدُ أنَّ زَيْداً إنْ بَقِي مُؤمِناً مُحْسِناً، فإنَّه غير مُؤاخَذٍ بما فَعَل. فصل قال ابن الخطيب: زَعَم بَعْضُ الجُهَّال: أنَّ [اللَّه] تعالى لمَّا بيَّن في الخَمْرِ أنَّها مُحَرَّمَةٌ عِنْدَما تكُون مُوقِعَةً لِلْعَدَاوَة والبَغْضَاء، وصَادَّة عن ذِكْرِ اللَّه وعن الصَّلاة، بيَّن في هذه الآيَةِ أنَّه لا جُنَاح على من طَعمَها، إذا لم يَحْصُل مَعَهُ شَيْءٌ من تلك المفاسِدِ، بل حَصَّل أنْواع المَصَالِح من التَّقْوَى والطَّاعَة والإحْسَانِ إلى الخَلْقِ، قالوا: ولا يُمْكِنُ حَمْلُه على أحْوالٍ من شُرْب الخَمْرِ قبل نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيم؛ لأنه لو كان المُرَادُ ذلك لقالَ: ما كان جُنَاحٌ على الَّذِين طَعِمُوا، كما ذكر مِثْل ذلك في آيَة تحْويل القِبْلَةِ، فقال: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] ولكنه لم يَقُلْ ذلك، بل قال: {لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} ، إلى قوله تعالى: {إِذَا مَا اتقوا وَآمَنُواْ} ، وهذا للمُسْتَقْبَلِ لا لِلْمَاضِي، وهذا القولُ مردودٌ بإجْماعِ الأمَّةِن وقولهم: إنَّ كَلِمَة «إذَا» للمُسْتَقبلِ، فجوابه: ما رَوَى أبُو بَكْر الأصَمّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنَّه لمَّا نزل تَحْرِيم الخَمْرِ، قال أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يا رسُول الله كيف بإخْوانِنَا الَّذِين ماتُوا، وقد شَرِبُوا الخَمْرَ، وفَعَلُوا القُمَار، وكيف بالغائبين عَنَّا في البُلْدانِ لا يَشْعُرونَ أنَّ اللَّهَ حرَّم الخَمْرَ وهم يَطْعَمُونَهَا؛ فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآيَة، لكن في حَقِّ الغَائِبين الذين لَمْ يَبْلُغْهُم هذا النَّصُّ. قوله تعالى: {والله يُحِبُّ المحسنين} أي: أنَّه تعالى ما جَعَلَ الإحْسَان شَرْطاً في نَفْيِ الجُنَاح فقط، بل وَفِي أنْ يحبَّهُ اللَّهُ، وهذا أشْرَفُ الدرَجَات. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 512 اللام جواب قسم محذوفٍ، أي: واللَّهِ، ليَبْلُونَّكُمْ، وقد تقدَّم أنه تَجِبُ اللامُ وإحدى النونَيْن في مثل هذا الجواب واللام في «لَيْبلونَّكُمْ» مفتوحة لالتقاء الساكنين. قوله تعالى: «بِشَيءٍ» متعلِّقٌ ب «لَيَبلُونَّكُمْ» أي: لَيَخْتبرنَّكُمْ بشيءٍ؛ وقوله تعالى: «مِنَ الصَّيْدِ» : في محلِّ جرٍّ صفةً ل «شَيْء» فيتعلَّقُ بمحذوف، و «مِن» الظاهرُ أنها تبعيضيةٌ؛ لأنه لم يُحَرِّم صيدَ الحلال، ولا صيدَ الحِلِّ، ولا صيد البْحرِ، وقيل: إنها لبيان الجِنْسِ، وقال مكيٌّ: «وقيل» مِنْ «لبيان الجنس، فلما قال» بِشَيء «لم يُعْلَمْ من أي جنْسٍ هو: فبيَّن، فقال:» مِنَ الصَّيْدِ «؛ كما تقولُ: لأعْطِيَنَّكَ شَيْئاً مِنَ الذَّهَب» ، وبهذا الوجه بدأ أبو البقاء، ثم قال: «وقيل: إنَّها للتبعيض» ، وكونُها للبيان فيه نظرٌ؛ لأنَّ الصَّحيحَ أنها لا تكونُ للبيان، والقائلُ بأنها للبيان يُشْترطُ أنْ يكونَ المُبَيَّنُ بها معرَّفاً بألِ الجنسيَّة؛ كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ، وبه قال ابن عطيَّة أيضاً، والزَّجَّاج هو الأصل في ذلك، فإنه قال: وهذا كما تقولُ: «لأمْتَحِنَنَّكَ بِشَيْءٍ مِنَ الرِّزْقِ» ، وكما قال تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] . والمرادُ بالصَّيْد: المَصِيدُ، لقوله تعالى: {تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} والصَّيْدُ إذا كان بِمَعْنَى المصدرِ يكون حدثاً، وإنما يُوصفُ بِنَيْلِ الأيْدِي والرِّمَاحِ ما يكونُ عَيْناً. قوله تعالى: «تَنَالُهُ» في محلِّ جر؛ لأنَّه صفةٌ ثانيةٌ ل «شَيْء» ، وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً: إمَّا من الصَّيْد، وإمَّا من «شَيْء» ، وإن كان نكرة؛ لأنه قد وُصِفَ فتخصَّصَ، واستبعدَ أبو حيان جَعْلَه حالاً من الصَّيْد، ووجهُ الاستبعادِ: أنه ليس المقصودَ بالحديثِ عنه، وقرأ الجُمْهُور: «تَنَالُهُ» بالمنقوطةِ فوقُ؛ لتأنيثِ الجمع، وابنُ وثَّاب والنخعي بالمنقوطةِ من تحْتُ؛ لأنَّ تأنيثه غيرُ حقيقيٍّ. فإن قيل: نزلتْ هذه الآيةُ عام «الحُدَيْبِيَةِ» ، وكانوا مُحْرِمِينَ ابتلاهُمُ اللَّه بالصَّيْد، وكانت الوُحُوش تَغْشَى رحالَهُم من كَثْرَتِها، فهمُّوا بأخْذِهَا، فنَزَلَتْ هذه الآيَةُ أي: لَيَخْتَبِرَنَّكُمْ. وفائِدَةُ البَلْوَى: إظْهَارُ المُطِيعِ من العَاصِي، وإنَّما بَعَّضَ الصَّيْد؛ لأنه ابتلاهُم بِصَيْدِ البَرِّ خاصَّةً، وقيل: صَيْد الإحْرامِ دونَ صَيْدِ الإحلالِ. وقوله تعالى: «تَنَالُهُ أيْدِيكُمْ» يعني: الفَرْخَ والبَيْضَ، وما لا يَقْدِرُ أن يضِرَّ من صِغَارِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 513 الصَّيْدِ، و «رِمَاحُكُمْ» يعني: الكِبَار من الصَّيْدِ «لِيَعْلَمَ اللَّهُ» قاله الواحدي وغيره، وقال مُقَاتِل بن حيان: كانت الوُحُوشُ والطَّيْر تَغْشَاهُم في رِحَالِهِم، حتى يَقْدِرُون على أخْذِهَا بالأيدي، وصَيْدِهَا بالرِّمَاحِ. وقال بعضهم: هذا غَيْر جَائزٍ؛ لأن الصَّيْد المُتوحِّش هو المُمْتَنِعُ دون ما لاَ يَمْتَنِع. «ليَعْلَمَ اللَّهُ» قيل: اللامُ متعلِّقةٌ ب «لَيَبْلُونَّكُمْ» ، والمعنى: ليتميَّزَ أو ليظهر لكم، وقد مضى تحقيقُه في البقرة، وأنَّ هذه تسمَّى لام كي، وقرأ بعضهم: «لِيُعْلِمَ» بضم الياء وكسر اللام من «أعْلَمَ» ، والمفعول الأوَّل على هذه القراءة محذوفٌ، أي: لِيُعْلِمَ اللَّهُ عِبَادَهُ، والمفعول الثاني هو قوله: «مَنْ يَخَافُهُ» فَ «أعْلَمَ» منقولةٌ بهمزة التعدية لواحدٍ بمعنى «عَرَفَ» وهذا مجازٌ؛ لأنَّه - تعالى - عَالِمٌ لَمْ يَزَلْ ولا يَزَالُ، واخْتَلَفُوا في معناه، فَقِيلَ، يعامِلُكُم مُعَامَلَةَ من يَطْلُبُ أنْ يَعْلَمَ، وقيل: لِيظهر المَعْلُوم، وهو خَوْفُ الخَائِفِ، وقيل: هذا بِحَذْفِ المُضَافِ والتَّقْدِيرٌ: لِيَعْلَمَ أوْلِيَاءُ اللَّهِ من يَخَافُهُ بالغَيْبِ، وقِيلَ: ليرى اللَّه لأنَّهُ قَدْ عَلِمَهُ. وقوله تعالى: «بالغَيْبِ» أي: يَخَافُ اللَّه ولمْ يَرَه، كقوله تعالى: {الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب} [الأنبياء: 49] أي: يَخَافُون، فلا يَصْطَادُون في حال الإحرامِ، وكقوله تعالى: {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [البقرة: 3] ، وقيل: معنى يَخَافُهُ بالغَيْبِ أي: بإخلاصٍ وتحْقِيقٍ، ولا يختلف الحالُ بسِبَبِ حضُورِ واحدٍ أو غَيْبَتِهِ، كما في حقِّ المُنَافِقِين الذين {إِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكْمْ} [البقرة: 14] . قوله تعالى: «بالغَيْبِ» في محلِّ نصب على الحال من فاعل «يَخَافُهُ» ، أي: يخافُه مُلْتَبِساً بالغيبِ، وقد تقدَّم معناه في البقرة [الآية 3] . والمعنى: من يخافُهُ حال كونهِ غَائباً عن رُؤيتِهِ، كقوله تعالى: {مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب} [ق: 33] . وجوَّز أبو البقاء ثلاثة أوجه: أحدها: ما ذكرناه. والثاني: أنه حالٌ مِنْ «مَنْ» في «مَنْ يَخَافُهُ» . والثالث: أنَّ الباءَ بمعنى «في» ، والغيب مصدرٌ واقعٌ موقع غائبٍ، أي: يخافه في المكانِ الغائب عن الخَلْقِ، فعلى هذا يكونُ متعلِّقاً بنفْسِ الفعل قبله، وعلى الأوَّلَيْن يكونُ متعلِّقاً بمحذوفٍ على ما عُرِف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 514 قوله تعالى: {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: اصْطَادَ بعد تَحْرِيمِهِ، فله عذابٌ أليمٌ، والمراد: عذابُ الآخرة، والتَّعْزيرُ في الدُّنْيَا. قال ابنُ عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: هذا العذابُ هَوْ أنْ يُضَرب ظَهْرُهُ وبَطْنُهُ ضرباً وجيعاً، ويُنْتَزَع ثِيَابُه. قال القَفَّالُ: وهذا غير جائزٍ؛ لأن اسم العذابِ قد يقعُ على الضَّرْبِ، كما سُمِّيَ جَلْدُ الزَّانِيين عذاباً {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا} [النور: 2] ، وقال تعالى: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] وقال تعالى حَاكياً عن سُلَيْمان - عليه السلام - في الهُدْهُدِ {لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً} [النمل: 21] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 515 في المرادِ بالصَّيْدِ قولان: الأوَّلُ: الذي توحَّشَ، سواءً كان مَأكُولاً أو لم يَكُنْ، فعلى هذا المُحْرِم إذا قتل سَبُعاً لا يُؤكَلُ لَحْمُهُ ضَمِن، ولا يجاوزُ به قِيمَة شَاةٍ، وهو قولُ أبِي حنيفةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. وقال زُفَر: [يجب] قيمَتُهُ بَالِغاً ما بَلَغَ. الثاني: أنَّ الصَّيْدَ هو ما يُؤكَل لَحْمُهُ، فعلى هذا لا يجبُ الضَّمانُ ألْبَتَّةُ في قَتْلِ السَّبُع، وهو قولُ الشَّافعيِّ [- رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -] وغيره، وحكم أبو حنيفةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه لا يَجِبُ الجَزَاءُ في قَتْلِ الفواسِقِ الخَمْس، وفي قَتْل الذِّئْبِ، واسْتَدَلَّ الشافعيُّ بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً} [المائدة: 96] ، فأحلَّ الصَّيْدَ خَارِجَ الإحْرَام، فَثَبَت أنَّ الصيد هو ما أحِلَّ أكْلُهُ. وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «خَمْسٌ فواسقٌ يُقْتَلن في الحلِّ والحَرَم:» الغُرَابُ، والحدَأةُ، والحَيَّةُ، والعقرَبُ، والكَلْبُ العَقُورُ «وفي روايةٍ» والسَّبُع العَادِي «، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 515 فوصَفُوهَا بِكَوْنِهِا فواسق، فدل على أنّ كونهَا فواسِق عِلَّة لِحِلِّ قَتْلِها. ومعنى كونِها فواسِق كونُها مُؤذِيَة، والأذَى في السِّبَاع أقْوى مِنْهَا، فوجَبَ جَوَازُ قَتْلِهَا. قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} : في محلِّ نصب على الحال من فاعل» تَقْتُلُوا «، و» حُرُمٌ «جمع حرام، وحرامٌ يكون للمُحْرِمِ، وإنْ كان في الحلِّ، ولِمَنْ في الحرمِ، وإنْ كان حلالاً، وهما سيَّان في النهي عن قتل الصيد وهل يدخل فيه المحرمُ بالعُمْرة؟ فيه خلافٌ، وهذه الآيةُ نَزَلَتْ في رَجُلٍ يُقَالَ لَهُ: أبو اليَسَرِ شدَّ على حِمَارٍ وَحْشِيٍّ وهو مُحْرِمٌ فَقَتلَهُ، وهذا يَدُلُّ على المنْعِ من القَتْلِ ابتداء، والمَنْعُ مِنْه تَسَبُّباً، فَلَيْسَ لهُ أنْ يتعَرَّضَ للصَّيْد ما دامَ مُحْرِماً، لا بالسِّلاح ولا بالجَوارِحِ من الكلابِ والطَّيْرِ، سواء كان الصَّيْدُ صَيْد الحِلِّ أو الحَرَمِ، وأمَّا الحلالُ فلَهُ أنْ يَتَصيَّدَ في الحلِّ وفي الحَرَم. قوله تعالى:» مِنْكُمْ «في محل نصبٍ على الحال من فاعل» قَتَلَهُ «، أي: كائناً منْكُمْ، وقيل:» مِنْ «للبيان، وليس بشيء؛ لأنَّ كُلَّ من قتل صَيْداً حكمُه كذلك، فإن قُلْتَ: هذا واردٌ أيضاً على جعله حالاً، فالجواب: لم يُقْصَدْ لذلك مفهومُ؛ حتَّى إنه لو قتله غيرُكُمْ، لم يكن عليه جزاءٌ؛ لأنَّه قصد بالخطابِ معنًى آخرَ، وهو المبالغةُ في النهي عن قَتْلِ الصيد. قوله:» مُتَعَمِّداً «حالٌ أيضاً من فاعل» قَتَلَهُ «، فعلى رأي مَنْ يُجَوِّز تعدُّدَ الحال، يُجيز ذلك هنا، ومن منع يقول: إنَّ» مِنْكُمْ «للبيانِ؛ حتَّى لا تتعدَّد الحالُ، و» مَنْ «يُجَوِّزُ أنْ تكونَ شرطيةً، وهو الظاهرُ، وموصولةً، والفاءُ لشبهها بالشرطيةِ، ولا حاجةَ إليه وإنْ كانوا فعلوه في مواضع. قوله تعالى: «فَجَزَاءٌ» الفاءُ جوابُ الشرطِ أو زائدةٌ؛ لشبه المبتدأ بالشرط؛ فعلى الأوَّل: الجملةُ بعدها في محلِّ جزمٍ؛ وعلى الثاني: في محلِّ رفعٍ، وما بعد «مَنْ» على الأولِ في محلِّ جزمٍ؛ لكونه شرطاً؛ وعلى الثاني: لا محلَّ له لكونه صلةً، وقرأ الكوفيُّون: «فَجَزاءٌ مثلُ» بتنوين «جَزَاء» [ورفعه] ورفع «مِثْلُ» ، وباقي السبعة برفعه مضافاً إلى «مِثْل» ، ومحمَّد بن مُقاتِل بتنوين «جَزَاءً» ، ونصبه، ونصب «مِثْلَ» ، والسُّلَمِي برفع «جَزَاءٌ» منوناً، ونصب «مِثل» ، وقرأ عبد الله «فَجَزَاؤهُ» برفع «جَزَاء» مضافاً لضمير «مِثْل» رفعاً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 516 فأمَّا قراءةُ الكوفيِّين فواضحةٌ لأنَّ «مِثْل» صفةٌ ل «جَزَاء» ، أي: فعليْه «جَزَاءٌ» موصوفٌ بكونه «مِثْلَ ما قَتَلَهُ» أي مماثله. قالوا: ولا يَنْبَغِي إضافَةُ جزاءٍ إلى المثْلِ، ألا ترى أنَّهُ ليْسَ عليْه جَزَاءُ مثل ما قتلَ في الحقيقَةِ، إنَّمَا عليه جَزَاءُ المقْتُولِ لا جَزَاء مثل المقَتُول الذي لم يَقْتُلْه. وجَوَّز مكي وأبو البقاء وغيرُهما أنْ يرتفعَ «مِثْل» على البدلِ، وذكر الزجَّاج وجْهاً غريباً، وهو أن يرتفع «مِثْلُ» على أنه خبرٌ ل «جَزَاءٌ» ، ويكونُ «جزَاءٌ» مبتدأ، قال: «والتقديرُ: فجزاءُ ذلك الفعلِ مِثْلُ ما قتل» ؛ قال شهاب الدين: ويؤيِّد هذا الوجه قراءةُ عبد الله: «فَجَزَاؤُهُ مِثْلُ» ، إلاَّ أن الأحسنَ أن يقدِّر ذلك المحذوف ضميراً يعودُ على المقتول، لا أنْ يُقَدِّره: «فَجَزَاءُ ذلك الفِعْلِ» و «مِثْلُ» بمعنى مماثل قال مكيٌّ: قاله الزمخشريُّ، وهو معنى اللَّفْظِ، فإنَّها في قُوَّةِ اسم فاعل، إلاَّ أنَّ مَكِّيًّا تَوَهَّم أن «مِثْلاً» قد يكون بمعنى غير مماثل؛ فإنه قال: «ومثل» في هذه القراءة - يعني قراءة الكوفيين - بمعنى مُمَاثِل، والتقديرُ: فَجَزَاءٌ مُمَاثِلٌ لما قَتَل، يعني في القيمةِ، أو في الخِلْقَةِ؛ على اختلافِ العلماء، ولو قَدَّرْتَ مِثْلاً بعيْنِهِ لا جَزَاءٌ مِثْلُه؛ لأنه إذا ودى جزاءً مثل المقْتُولِ، صار إنما ودى جزاء ما لم يُقْتَلْ؛ لأنَّ مثل المقتولِ لم يَقْتُلْهُ، فصَحَّ أن المعنى: فعليه جزاءٌ مماثِلٌ أبداً، فكيف يقول «ولَوْ قَدَّرْتَ مِثْلاً على لفْظه؟» وأيضاً فقوله: «لصار المعنى إلى آخره» هذا الإشكالُ الذي ذكره لا يُتَصَوَّرُ مجيئُه في هذه القراءة أصْلاً، وإنما ذَكَرَهُ الناسُ في قراءةِ الإضَافَة؛ كما سيأتي، وكأنه نَقَلَ هذا الإشكالَ من قراءةِ الإضافةِ إلى قراءةِ التنوين. وأمَّا قراءة باقي السَّبْعة، فاستبعَدَهَا جماعةٌ، قال الواحِدِيُّ: «ولا ينبغي إضافةُ الجزاءِ إلى المثلِ؛ لأنَّ عليه جزاءَ المقتولِ لا جزاءَ مِثلِه، فإنه لا جزاءَ عليه لَمَّا لم يقتلْه» . وقال مكيٌّ بعد ما تقدَّم عنه: «ولذلك بَعُدَت القراءةُ بالإضافة عند جماعةٍ؛ لأنها تُوجِبُ جزاءً مثلَ الصيْدِ المقْتُولِ» ولا التفاتَ إلى هذا الاستبعادِ؛ فإنَّ أكثر القراء عليها، وقد أجاب الناسُ عن ذلك بأجْوبةٍ سديدةٍ، لمَّا خفيتْ على أولئكَ طَعنُوا في المُتَوَاتِرِ، منْها: أنَّ «جَزَاء» مصدرٌ مضافٌ لمفعوله؛ تخفيفاً، والأصلُ: فعليه جزاءٌ مِثْلُ ما قَتلَ، أي: أن يَجْزِيَ مثل ما قتلَ، ثم أُضيفَ، كما تقول: «عَجِبْتُ مِنْ ضَرْبٍ زَيْداً» ثم «مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 517 ضَرْبٍ زَيْدٍ» ذكر ذلك الزمخشريُّ وغيره، وبَسْطُ ذلك؛ أنَّ الجزاءَ هنا بمعنى القضاء، والأصلُ: فعليه أن يُجْزَى المقتولُ من الصيْدِ مثله من النَّعَمِ، ثم حُذِف المفعولُ الأوَّلُ؛ لدلالة الكلامِ عليه، وأُضيفَ المَصْدَرُ إلى ثانيهما؛ كقولك: «زَيْدٌ فَقِيرٌ ويُعْجِبُنِي إعْطَاؤُكَ الدِّرْهم» ، أي: إعطاؤكَ إيَّاه، ومنها: أنَّ «مِثْل» مُقْحَم؛ كقولهم: «مِثْلُكَ لا يَفْعَلُ ذَلِكَ» ، [أي: أنْتَ لا تفعَلُ ذلك] وأنَا أكْرِمُ مثلك أيْ: أنا أكْرِمُكَ، ونحو قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] أي: بِمَا آمَنْتُمْ به، وكقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ، والتقديرُ ليس كهو شيءٌ ف «مِثْل» زائدةٌ. وقوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات} [الأنعام: 122] ، ومِنْهَا أن يكونَ المعنى «فَجَزَاءٌ من مِثْلِ ما قَتَلَ من النَّعَم» كقولك: «خَاتِمُ فضَّة» أي: «خاتمٌ من فضةٍ» ، وهذا خلاف الأصْلِ فالجوابُ ما تقدَّم و «مَا» يجوزُ أن تكون موصولةً اسميَّة، أو نكرةً موصوفةً، والعائدُ محذوفٌ على كلا التقديرين، أي: مثلُ ما قَتَلَهُ من النَّعَمِ. فَمَنْ رفع «جَزَاء» ففيه أربعة أوجه: أحدها: أنه مرفوع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ، تقديرُه: فعليه جزاء. والثاني: أنه خبرٌ لمبتدأ محذوف، تقديرُه: فالواجبُ جزاء. والثالث: أنه فاعلٌ بفعل محذوف، أي: فيلزَمُه الجزاءُ، أو يَجِبُ عليه جزاءٌ. الرابع: أنه مبتدأ وخبره «مِثْل» ، وقد تقدَّم أن ذلك مذهبُ أبي إسْحَاق الزجَّاج، وتقدم أيضاً رفع «مِثْل» في قراءة الكوفيين؛ على أحدِ ثلاثةِ أوجه: النعْتِ، والبدلِ، والخبرِ؛ حيث قلنا: «جَزَاء» مبتدأٌ عند الزجَّاج. وأمَّا قراءةُ «فَجَزَاؤه مِثْلُ» ، فظاهرةٌ أيضاً، وأمَّا قراءة «فَجَزَاءٌ مِثْلَ» برفع «جَزَاءٌ» وتنوينه، ونصب «مِثْل» ، فعلى إعمال المصدر المنوَّنِ في مفعوله، وقد تقدَّم أنَّ قراءة الإضافة منه، وهو نظيرُ قوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14 - 15] وفاعلُه محذوف، أي: فجزاءُ أحدِكُمْ أو القاتلِ، أي: أنْ يُجْزَى القاتلُ للصَّيْدِ، وأما قراءة: «فَجَزَاءً مِثْلَ» بنصبهما ف «جَزَاءً» منصوبٌ على المصدر، أو على المفعول به، و «مِثْلَ» صفتُه بالاعتبارين، والتقدير: فَلْيَجْزِ جَزَاءً مِثْلَ، أو: فَلْيُخْرِجْ جَزاءً، أو فليُغَرَّمْ جَزَاءً مِثْلَ. قوله: «مِنَ النَّعَمِ» فيه ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنه صفةٌ ل «جَزَاء» مطلقاً، أي: سواءً رُفِعَ أم نُصِبَ، نُوِّن أم لم يُنَوَّنْ، أي: إنَّ ذلك الجزاءَ يكونُ من جنسِ النَّعَمِ، فهذا الوجهُ لا يمتنع بحالٍ. الثاني: أنه متعلق بنفسِ «جَزَاء» ؛ لأنه مصدرٌ، إلا أنَّ ذلك لا يجوزُ إلا في قراءة من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 518 أضاف «جَزَاء» إلى «مثْل» ، فإنه لا يلزمُ منه محذورٌ؛ بخلافِ ما إذا نَوَّنْتَهُ، وجعلتَ «مِثْلَ» صفته، أو بدلاً منه، أو خبراً له؛ فإنَّ ذلك يمتنع حينئذ، لأنَّك إنْ جَعلْتَه موصوفاً ب «مِثْل» كان ذلك ممنوعاً من وجهين: أحدهما: أنَّ المصدرَ الموصوفَ لا يعملُ، وهذا قد وُصِفَ. والثاني: أنه مصدر، فهو بمنزلةِ الموصولِ، والمعمولُ من تمامِ صلته، وقد تقرَّر أنه لا يُتْبَعُ الموصولُ إلا بعد تمام صلته؛ لئلا يلزمَ الفصلُ بأجنبيٍّ، وإنْ جعلْتَه بدلاً، لَزِم أن يُتْبَعَ الموصولُ قبل تمام صلته، وإنْ جَعَلْتَه خبراً، لزم الإخبارُ عن الموصولِ قبل تمامِ صلته، وذلك كلُّه لا يجوزُ. الثالث: ذكره أبو البقاء وهو أنْ يكون حالاً من عائدِ الموصولِ المحذوفِ؛ فإنَّ التقدير: فجزاءً مثل الذي قتله حالَ كونه من النَّعَم، وهذا وَهْمٌ؛ لأن الموصوف بكونه من النَّعم، إنما هو جزاءُ الصيد المقتولِ، وأمَّا الصيد نفسُه، فلا يكونُ من النعم، والجمهورُ على فَتْحِ عَيْن «النَّعَم» ، وقرأ الحسن بسكُونها، فقال ابنُ عطيَّة: «هي لغةٌ» ، وقال الزمخشريُّ: استثقَلَ الحركةَ على حرفِ الحلق، كما قالوا: «الشَّعْرُ» في «الشَّعَرِ» . فصل اخْتَلَفُوا في هذا العَمْد: فقال قَوْمٌ: هو تَعَمُّدُ قتْل الصَّيْد مع نسْيَان الإحْرَام، أمَّا إذا قَتَلَهُ عَمْداً وهو ذَاكِرٌ لإحْرَامِهِ، فلا حُكْمَ عليه، وأمْرُهُ إلى اللَّهِ تعالى؛ لأنَّه أعْظَمُ مِنْ أنْ يكون له كفَّارةٌ، وهو قوْلُ مُجَاهِد والحَسَن. وقال آخَرُون: هُنَاكَ فَرْقٌ بين أن يَعْمَدَ المُحْرِمُ قَتْلَ الصَّيْد ذاكراً لإحْرَامِهِ، فعليه الكَفَّارَةُ، واخْتَلَفُوا فيمَا لو قَتَلَهُ خَطَأً، فذهَبَ أكْثَرُ الفُقَهَاء إلى أنَّ العَمْدَ والخَطَأ وَاحِدٌ في لُزُومِ الكَفَّارَةِ. قال الزُّهرِي: على المُتَعَمِّدِ بالكِتَاب، وعلى المُخْطِئ بالسُّنَّةِ وقال سَعِيدُ بن جُبَيْر: لا تجبُ كفَّارةُ الصَّيْد بِقَتْلِ الخَطَأ، وهُوَ قول دَاوُد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 519 فصل المُرَادُ بالمِثْلِ ما يَقْرُبُ من الصَّيدِ المقْتُولِ شَبَهاً من حيث الخِلْقَةِ، لا من حَيْثُ القِيمَة. وقال محمَّدٌ بنُ الحسنِ: الصَّيدُ ضرْبَانِ: مَا لَهُ مِثلٌ، وما لا مِثْلَ له. فما له مثلٌ يُضْمَنُ بِمِثْلِه من النَّعَمِ، وما لا مِثْلَ لَهُ يُضْمَنُ بالقِيمَة. وقال أبو حَنيفَةَ وأبو يُوسُف: المِثْلُ الواجبُ هو القِيمَةُ. فصل إذا قَتَل المُحْرِمُ الصَّيْدَ وأدَّى جَزاءَه، ثم قتل صَيْداً آخَر لَزِمَه جَزَاء آخَر، وقال دَاوُدُ: لا يَجِبُ، وحجَّةُ الجُمْهُورِ هذه الآيَةُ، فإنَّ ظَاهِرَهَا يقْتَضِي أن يكُون علَّةُ وُجُوب الجَزَاءِ هو القَتْلُ، فوجَبَ أنْ يتكرَّر الحُكْمُ بِتكْرَارِ العِلَّةِ، فإن قيل: إذا قَالَ الرَّجُل لِنِسَائِهِ من دَخَلَتْ مِنْكنَّ الدَّارَ فِهِي طَالِقٌ، فدخلت واحِدَةٌ مرَّتَيْنِ، لم يقع الطَّلاق مرَّتَيْن. فالجوابُ أنَّ القَتْلَ عِلَّة لوُجُوبِ الجَزَاء، فيلْزَمُ تكْرَار الوُجُوبِ لِتكْرارِ العِلَّةِ، وأمَّا دُخُولُ الدَّارِ فهو شَرْطٌ لوُقُوعِ الطَّلاق، فلَمْ يَلْزَم تكْرَارُ الحُكْم عند تكْرارِ الشَّرْط، واحْتَجَّ داوُدُ بقوْلِهِ تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} فجَزَاءُ العَائِدِ الانْتِقَامُ لا الكَفَّارةُ. قوله: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ} في موضع نصْبٍ على الحال منه، أو على النَّعْتِ ل «جَزَاء» فيمَنْ نَصَبه، وخصَّصَ أبو البقاء كونه صفةً بقراءةِ تنوين «جَزَاء» ، والحالَ بقراءةِ إضافته، ولا فرقَ، بل يجوزُ أنْ تكون الجملةُ نعتاً أو حالاً بالاعتبارين؛ لأنه أذا أُضيفَ إلى «مِثْل» ، فهو باقٍ على تنكيرِه؛ لأنَّ «مِثْلاً» لا يتعرَّفُ بالإضافة، وكذا خَصَّصَ مكي الوصفَ بقراءةِ إضافةِ الجزاء إلى «مِثْل» فإنه قال: «ومِنَ النَّعَم في قراءةِ مَنْ أضافَ الجَزَاء إلى» مِثْل «صفةً ل» جَزَاء «، ويَحْسُنُ أنْ تتعلَّق» مِنْ «بالمصدر، فلا تكونُ صفةً، وإنما المصدرُ مُعَدى إلى» مِنَ النَّعَمِ «، وإذا جعلته صفةً، ف» مِنْ «متعلِّقةٌ بالخبرِ المحذوف، وهو فَعَلَيْهِ» ، وفي هذا الكلامِ نظرٌ مِنْ وجهَيْن: أحدهما: قد تقدَّم، وهو التخصيصُ بقراءةِ الإضافة. والثاني: أنه حين جعل «مِنَ النَّعَم» صفةً عَلَّقها بالخبرِ المحذوفِ لِمَا تضمَّنه من الاستقرار؛ وليس كذلك؛ لأنَّ الجارَّ، إذا وقعَ صفةً تعلَّقَ بمحْذوفٍ، ذلك المحذوفُ هو الوصفُ في الحقيقةِ، وهذا الذي جعله متعلَّقاً لهذه الصفةِ ليس صفةً للموصوف في الحقيقةِ، بل هو خبرٌ عنه؛ ألا ترى أنك لو قلت: «عِنْدِي رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ» أنَّ «مِنْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 520 بَنِي» متعلِّقٌ بوصفٍ محذوفٍ في الحقيقة، لا بقولِكَ «عِنْدِي» ، ويمكن أن يُقال - وهو بعيدٌ جِدًّا - إنه أراد التعلُّقَ المعنويَّ؛ وذلك أنَّ العاملَ في الموصوفِ عاملٌ في صفته، و «عَلَيْهِ» عاملٌ في «جَزَاء» ، فهو عاملٌ في صفته، فالتعلُّقُ من هذه الحَيْثِيَّةِ، ولكن إنما يتأتَّى ذلك حيث جعلنا الخبرَ عاملاً في المبتدأ، أو قلنا: إنَّ الجارَّ يرفع الفاعلَ، ولو لم يعتمدْ وإنما ذكر هنا التوجيهاتِ؛ لأنَّ القائلين بذلك مِمَّنْ لا يُلْغَى قولهم بالكلية. والألفُ في «ذَوَا» علامةُ الرفع؛ لأنه مثنى، وقد تقدَّم الكلامُ في اشتقاق هذه اللفظةِ وتصاريفها [الآية 177 البقرة] ، وقرأ الجمهورُ: «ذَوَا» بالألف، وقرأ محمد بن جعفر الصادق: «ذُو» بلفظِ الإفراد، قالوا: ولا يريدُ بذلك الوَحْدة، بل يريدُ: يحكُمُ به مَنْ هو مِنْ أهْلِ العدل، وقال الزمخشريُّ: «وقيل: أراد الإمام» فعلى هذا تكونُ الوحْدَةُ مقصودةً، و «مِنْكُمْ» في محلِّ رفع صفةً ل «ذَوَا» ، أي: إنهما يكونان من جنْسِكُمْ في الدِّين، ولا يجوزُ أن تكونَ صفةً ل «عَدْل» ؛ لأنه مصدرٌ قاله أبو البقاء، يعني: أن المصدرَ ليس مِنْ جنْسِهِمْ، فكيف يُوصَفُ بكونه منهم؟ فصل المعنى يَحْكُمُ للجِزْاءِ رَجُلان عَدْلان قال ابنُ عبَّاسٍ: يريد يَحُكم به في جَزَاءِ الصَّيْدِ رجُلانِ صالِحَان مِنْكُم، مِنْ أهلِ قِبْلَتِكُم ودينِكُمْ، فَقيهان عدْلان، فَيَنْظُرَان إلى أشْبَه الأشْيَاءِ من النَّعَم، فَيَحْكُمَان به، ومِمَّن ذَهَبَ إلى إيجَابِ المِثْلِ من النَّعَمِ: عُمَرُ، وعُثمَانُ، وعَلِيٌّ، وعَبْدُ الرَّحْمنِ بنُ عَوْف، وابنُ عُمَرَ، وابنُ عبَّاسٍ، وغَيْرِهِمْ من الصَّحَابَة حَكَمُوا في بُلْدَان مخْتَلِفَة، وأزْمان شَتَّى بالمِثْل من النَّعَمِ، فحكمَ حَاكِمُهُم في النَّعَامةِ بِبدَنَة، وهي لا تُسَاوي بَقَرَةً، وفي الضَّبعِ كَبْشٌ وهو لا يساوي كَبْشاً، فدلَّ على أنهم نَظَرُوا إلى ما يَقْرُب من الصَّيْد شَبَهاً من حَيْث الخِلْقَة. ورُوِي عن عُمرَ، وعُثْمَان، وابن عباس: أنَّهم قَضَوْا في حَمَامِ مَكَّةَ بِشَاةٍ. ورَوَى جَابِر بنُ عبد اللَّه: أنَّ عُمَرَ بن الخَطَّابِ قَضَى في الضَّبعِ بكَبْشٍ، وفي الغَزَالِ بِعَنْزٍ، وفي الأرْنَبِ بِعنَاقٍ، وفي اليَرْبُوعِ بِجَفْرَةٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 521 وقال مَيْمُونُ بن مَهْرَان: جاءَ أعْرَابيٌّ إلى أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق - رضي الله تعالى عنه - فقال: إنِّي أصيْتُ من الصَّيْد كَذَا وكَذَا، فسَألَ أبُو بكرٍ أبَيَّ بن كَعْبٍ، فقال الأعْرَابِيُّ: أتَيْتُكَ أسْألُكَ، وأنْتَ تَسألُ غَيْرَك، فقال أبُو بَكْرٍ: وما أنكَرْت من ذلك؟ قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} فشاوَرْتُ صَاحِبي، فإذا اتَّفَقْنَا على شَيءٍ أمَرْناكَ بِهِ. وعن قُبَيْصَة بن جَابِرٍ؛ أنه كان مُحْرِماً، فضرب ظْبياً فماتَ، فسأل عُمَرَ بن الخَطَّابِ، وكان إلى جَنْبِهِ عَبْدُ الرَّحْمَن بنُ عَوْف، فقال عُمَرُ لِعَبْدِ الرَّحْمَن: ما ترى، قال: عليه شاةٌ، قال: وأنا أرى ذَلِكَ، قال اذْهَبْ فأهْدِ شاةً، قال قُبَيْصَةُ: فَخَرَجْتُ إلى صَاحِبِي، وقُلْتُ: إنَّ أمير المُؤمنين لم يَدْرِ ما يقُولُ، حتى سألَ غَيْرَهُ. قال فَفَجَأنِي عُمَرُ، وعلانِي بالدرَّة، وقال: أتَقْتُلُ في الحَرَمِ وتُسَفِّهُ الحُكْمَ؟ قال تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} فأنا عُمَرُ، وهذا عَبْدُ الرحمن بنُ عوف. واحْتَجَّ أبُو حنيفَة في إيجَابِ القيمة بأنَّ التَّقْوِيمَ هو المُحْتَاجُ إلى النَّظَرِ والاجتِهَادِ، وأما الخِلْقَةُ والصُّورةُ فَظَاهِرةٌ لا يُحْتَاجُ فيها إلى الاجتهاد. وأجيبُ: بأنَّ المُشَابَهَة بَيْنَ الصَّيْد وبين النَّعَمِ مخْتَلِفَةُ وكَثِيرة، فلا بد من الاجْتِهَادِ في تَمْييزِ الأقْوَى عن الأضْعَفِ. فصل الذي له مِثْل ضربان: فما حكمت فيه الصَّحَابَةُ بِحُكْمٍ، لا يُعْدَلُ إلى غَيْرِه؛ لأنَّهم شَاهَدُوا التَّنْزِيلَ وحَضرُوا التَّأويل، وما لَمْ يَحْكُمْ فيه الصحابة، يُرْجَعُ إلى اجْتِهَادِ عَدْلَيْن. وقال مَالِكٌ: يجب التَّحكيمُ فيما حَكَمَتْ به الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -، وفيما لم تَحْكُمْ فِيهِ. فصل يجُوزُ أنَّ القَاتِلَ أحَدُ العَدْلَيْن، إن كان أخْطَأ فيه، فإنْ تَعمَّدَ فلا يجُوزُ؛ لأنه يُفَسَّقُ به. وقال مالكٌ: لا يجُوزُ في تَقْويم المُتْلَفَاتِ، وأجيب: بأن اللَّه تعالى أوْجَبَ أن يَحْكُمَ به ذَوَا عدلٍ، وإذا صدرَ عَنْهُ القَتْلُ خَطَأ كان عدْلاً، فإذا حكمَ هُوَ وغَيْرُهُ، فَقَدْ حكمَ به ذوا عَدْل. وقد رُوِيَ أنَّ بعضَ الصَّحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - أوْطَأ فرسهُ ظَبْياً، فسأل عُمَرَ عَنْهُ، فقال عُمَرُ: احْكُمْ، فقال: أنْتَ أعْدَلُ يا أمِيرَ المُؤمنين، فاحْكُمْ، فقال عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 522 عَنْه - إنَّما أمرتُكَ أنْ تَحْكُمَ، وما أمَرْتُكَ أن تُزَكِّيني، فقال: أرى فيه جَدْياً جمع الماء والشَّجَر، فقال: افْعَل ما تَرَى. فصل لو حكم عَدْلان بِمِثْلٍ، وحكم عدلان آخران بِمِثْلٍ آخر ففيه وجهان: أحدهما: يَتَخَيَّرُ. والثاني: يأخُذُ بالأغْلَظِ. فصل استدلَّ بهذه الآيَةِ بَعْضُ مُثْبِتِي القِيَاس، قالوا: لأنَّه تعالى فرضَ تَعْيِين المِثْل إلى اجْتِهَاد النَّاسِ وظنهم، وهذا ضَعِيفٌ؛ لأن الشَّارع تَعَبَّدنا بالعملِ بالظَّنِّ في صُورٍ كثيرة: منها الاجْتِهادُ في القِبْلَةِ، والعَمَلُ بِتَقْويمِ المُقَوِّمِين في قِيم المُتْلَفَاتِ، وأرُوشِ الجِنايَاتِ، والعملُ بِحُكْمِ الحَاكِمِين في مِثْلِ جَزَاءِ الصَّيْد، وعَمَلُ القَاضِي بالفَتْوى، والعملُ بِمُقْتَضَى الظَّنِّ في مصالحِ الدُّنْيَا، إلاَّ أنَّا نَقُولُ: إذا دُعِيتُم إلى تَشْبيهِ صورةٍ بصُورةٍ شرعيَّةٍ في الحُكْمِ الشَّرْعِيِّ، وهو عينُ هذه المسائِلِ الَّتي عدَدْنَاهَا، فذلك باطلٌ في بَديهَةِ العَقْل، فإذا سَلَّمْتُمُ المُغَايَرة، ولمْ يلزم من كَوْنِ الظَّنِّ حُجَّةً في تلك الصُّوَر؛ كونهُ حُجَّةً في مَسْألةِ القياسِ، إلاَّ إذا قِسْنَا هذه المسألة على تِلْكَ المسائِل، وذلك يقتضي إثْبَات القياس بالقياس، وهو باطلٌ، وأيضاً فالفَرْقُ ظَاهِرٌ بين البَابَيْنِ؛ لأنَّ في جميع الصُّور المَذْكُورة الحُكْمُ إنَّما ثبت في حقِّ شَخْصٍ واحدٍ، في زمان واحدٍ، في واقِعَةٍ واحِدة. وأمَّا الحُكْمُ الثَّابِتُ بالقياسِ، فإنه شَرْعٌ عامٌّ في جَمِيع المُكَلَّفين، باقٍ على وجْهِ الدَّهْر، والتَّنْصِيصُ على أحْكَامِ الأشخاص الجُزْئيَّةِ مُتَعذرٌ. أمَّا التَّنْصِيصُ على الأحْكام الكُلِّيَّةِ العامَّةِ، البَاقِيَةِ إلى آخر الدَّهْر غير مُتعذّر، فظهر الفَرْقُ. قوله: «هَدْياً» فيه ستةُ أوجهٍ: أظهرُها: أنه حالٌ من الضمير في «به» قال الزجاج: «هو منصوبٌ على الحالِ، المعنى: يحكم به مقدَّراً أن يُهْدَى» يعني أنه حال مقدَّرةٌ، لا مقارنةٌ، وكذا قال الفارسيُّ كقولك: «مَعَهُ صَقْرٌ صَائِداً به غداً» ، أي مُقَدَّراً الصَّيْدَ. الثاني: أنه حالٌ من «جَزَاء» سواءٌ قُرئَ مرفوعاً أم منصوباً، منوناً أم مضافاً، وقال الزمخشريُّ: «هدْياً» حالٌ من «جزَاء» فيمَنْ وصفه ب «مِثل» ؛ لأنَّ الصفةَ خَصَّصَتْه، فقرُبَ من المعرفة، وكذا خصَّصه أبو حيان، وهذا غير واضحٍ، بل الحاليةُ جائزةٌ مطلقاً؛ كما تقدَّم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 523 الثالث: أنه منصوبٌ على المصدْرِ، أي: يُهْدِيهِ هَدْياً، ذكره مكي وأبو البقاء. الرابع: أنه منصوبٌ على التَّمْييزِ، قال أبو البقاء ومكيٌّ، إلا أنَّ مَكِّياً، قال: «على البيانِ» ، وهو التمييزُ في المعنى، وكأنهما ظَنَّا أنه تمييزٌ لِما أبْهِمَ في المِثْلية؛ إذ ليس هنا شيءٌ يَصْلُحُ للتمييزِ غيرَها، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّ التمييزَ إنما يَرْفَع الإبهامَ عن الذَّواتِ، لا عن الصفاتِ، وهذا كما رأيْتَ إنما رفع إبهاماً عن صفة؛ لأنَّ الهدي صفةٌ في المعنى؛ إذ المرادُ به مُهْدى. الخامس: أنه منصوبٌ على محلِّ «مِثْل» فيمَنْ خَفَضه؛ لأنَّ محلَّه النصبُ بعملِ المصدرِ فيه تقديراً؛ كما تقدَّم تحريرُه. السادس: أنه بدلٌ من «جَزَاء» فيمن نصبه. و «بَالِغَ الكَعْبَةِ» صفةٌ ل «هَدْياً» ، ولم يتعرَّفْ بالإضافة؛ لأنه عاملٌ في الكعبة النصبَ تقديراً، ومثله: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] وقولُ الآخَرِ: [البسيط] 2025 - يَا رُبَّ غَابِطِنَا لَوْ كانَ يَطْلُبُكُمْ ... لاقَى مُبَاعَدَةً مِنْكُمْ وحِرْمَانَا في أنَّ الإضافة فيها غيرُ مَحْضَةٍ، وقرأ الأعْرج: «هَدِيًّا» بكسر الدال وتشديد الياء. فصل المعنى: يَحْكُمَانِ بِهِ هَدْياً يُسَاقُ إلى الكَعْبَة، فَيُنْحَرُ هُنَاك، وهذا يُؤيِّد قول من أوْجَبَ المِثْلَ من طريق الخِلْقَةِ؛ لأنه تعالى لَمْ يَقُلْ: يَحْكُمَان به شَيْئاً يُشْتَرى به هَدْيٌ، وإنَّما قال: يَحْكُمان به هَدْياً، وهذا صَرِيحٌ في أنَّهما يَحْكُمَان به شَيْئاً يُشْتَرى به هَدْيٌ، وإنَّما قال: يَحْكُمَان به شيئاً يُشْتَرى به ما يَكُونُ هَدْياً وهذا بعيد عن الظَّاهِر. وسمِّيت الكَعْبَةُ كَعْبَةً لارتفاعها، والعَرَبُ تُسَمِّي كل بَيْتٍ مرتفعٍ كَعْبَةً، والكَعْبَةُ هنا إنَّما أُريدَ بها كلُّ الحَرَم؛ لأنَّ الذبْحَ والنَّحْر لا يُفعَلان في الكَعْبَة، ولا عندها ملاصِقاً لها، ونَظِيرُهُ قوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج: 33] ، والمُرَادُ بِبُلُوغِهِ للكَعْبة: أنْ يَذْبَح بالحرم، ويتصدَّق باللَّحْمِ على مساكينِ الحَرَمِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 524 وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: له أنْ يتصدَّق به حيث شاءَ، كما أنَّ لَهُ أن يصُومَ حيْثُ شاء، وحجَّةُ القولِ الأوَّل: أنَّ الذَبْحَ إيلامٌ، فلا يجُوزُ أن يكُون قُرْبَةً، بل القُرْبَةُ إيصَالُ اللَّحْم إلى الفقَراءِ. قوله: «أو كَفَّارةٌ» عطفٌ على قوله: «فَجَزَاءٌ» ، و «أوْ» هنا للتخيير، ونُقِل عن ابن عباس؛ أنها ليسَتْ للتخيير، بل للترتيب، وهذا على قراءةِ مَنْ رفع «فَجَزَاءٌ» ، وأمَّا مَنْ نصبه، فقال الزمخشريُّ: جعلها خَبَرَ مبتدأ محذوفٍ؛ كأنه قيل: أو الواجبُ عليه كفَّارةٌ، ويجوزُ أن تُقَدَّرَ: فعليه أن يجْزِي جزاءً، أو كفارةً، فتعطفَ «كَفَّارة» على «أنْ يَجْزِيَ» ، يعني أنَّ «عليه» يكونُ خبراً مقدَّماً، و «أن يَجْزِيَ» مبتدأ مؤخَّراً، فعطفت «الكفَّارة» على هذا المبتدأ، وقرأ نافع وابنُ عامرٍ بإضافة «كَفَّارة» لما بعدها، والباقون بتنوينها، ورفع ما بعدها. فأمَّا قراءةُ الجماعةِ، فواضحةٌ، ورفعُ «طَعَامُ» على أحد ثلاثة أوجه: أحدها: أنه بدل من «كَفَّارةٌ» ؛ إذ هي من جنسه. الثاني: أنه بيانٌ لها؛ كما تقدَّم، قاله الفارسيُّ. وردَّه أبو حيان؛ بأنَّ مذهبَ البصريِّين اختصاصُ عطفِ البيانِ بالمعارفِ دون النكرات، قال شهاب الدين: أبو عَلِيٍّ يُخالِفُ في ذلك، ويستدلُّ بأدلَّة، منها قوله تعالى: {شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35] ، ف «زَيْتُونَةٍ» عنده عطفُ بيان ل «شَجَرَة» ، وكذا قوله تعالى: {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} [إبراهيم: 16] ، ف «صَدِيد» عنده بدلٌ من «مَاءٍ» ، والبدلُ فيهما محتملٌ؛ فلا حُجَّةَ له، والبدل قد يجيء للبيان. الثالث: أنه خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هي طعام، أي: تلك الكفارة. وأمَّا قراءة نافع وابن عامرٍ، فوجهها: أنَّ الكفارة، لمَّا تنوَّعَتْ إلى تكفير الطعام، وتكفير بالجزاء المماثل، وتكفير بالصيام، حسُنَ إضافتها لأحَدِ أنواعها تبييناً لذلك، والإضافةُ تكون بأدْنَى ملابسة؛ كقوله: [الطويل] 2053 - إذَا كَوْكَبُ الخَرْقَاءِ لاحَ بِسُحْرةٍ ... سُهَيْلٌ أذَاعَتْ غَزْلَهَا فِي القَرَائِبِ أضاف الكوكبَ إليها؛ لقيامها عند طلوعه؛ فهذا أولى، ووجَّهَها الزمخشريُّ فقال: «وهذه الإضافةُ مبيِّنةٌ، كأنه قيل: أو كفارةٌ من طعامِ مساكين؛ كقولك:» خَاتَمُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 525 فِضَّةٍ «بمعنى مِنْ فِضَّةٍ» ، قال أبو حيان: «أمَّا ما زعمه، فليْسَ من هذا الباب؛ لأنَّ» خَاتَم فِضَّةٍ «من باب إضافة الشيء إلى جنْسه، والطعامُ ليس جنساً للكفارةِ، إلا بتجَّوزٍ بعيدٍ جدًّا» . انتهى، قال شهاب الدين: كان مِنْ حَقِّه أن يقول: والكفَّارةُ ليستْ جنْساً للطَّعامِ؛ لأنَّ الكفارةَ في التركيب نظيرُ «خَاتَم» في أنَّ كلاًّ منهما هو المضافُ إلى ما بعده، فكما أن «خَاتَماً» هو المضافُ إلى جنسه ينبغي أن يُقالَ: الكفَّارةُ ليستْ جنْساً للطعام؛ لأجل المقابلةِ، لكنْ لا يمكنُ أن يُقال ذلك، فإنَّ الكفارةَ كما تقدَّم جنسٌ للطعامِ، والجزاءِ، والصَّومِ، فالطريقُ في الردِّ على الزمخشريِّ أن يُقال: شرطُ الإضافةِ بمعنى «مِنْ» : أن يُضاف جزءٌ إلى كلٍّ بشرطِ صدقِ اسم الكلِّ على الجزءِ؛ نحو: «خَاتَمُ فِضَّةٍ» ، و «كَفَّارةُ طعَامٍ» ليس كذلك، بل هي إضافة «كُلّ» إلى جزء، وقد استشكل جماعةٌ هذه القراءة؛ من حَيْثُ إنَّ الكفارةَ ليست للطعامِ، إنما هي لقتلِ الصيدِ، كذا قاله أبو عليٍّ الفارسيُّ وغيره، وجوابُه ما تقدَّم. ولم يختلف السبعةُ في جمع «مَسَاكِينَ» هنا، وإن اختلفوا في البقرة، قالوا: والفرقُ بينهما أنَّ قَتْلَ الصَّيْدِ لا يُجْزئُ فيه إطعامُ مِسْكِينٍ واحدٍ، على أنه قد قرأ عيسى بْنُ عُمَرَ والأعْرَجُ بتنوين «كَفَّارة» ، ورفع «طَعَامُ مسْكِينٍ» بالتوحيد، قالوا: ومرادُهما بيانُ الجِنْسِ، لا التوحيدُ. قوله: «أوْعَدْلُ» نسقٌ على «فَجَزاءٌ» ، والجمهورُ على فتحِ العين، وقرأ ابن عباس وطلحة بن مُصَرِّف والجَحْدَرِي بكَسْرِهِا. قال الفرَّاءُ: «العِدْل» بالكسر: ما عادَل الشَّيْء من جِنْسِهِ، والعدل: المِثْلُ، تقول: عندي عِدلُ غُلامِكَ أو شَاتِكَ إذا كان غلامٌ بِعِدْل غُلامه، أو شاةٌ تَعْدِلُ شَاتَهُ، أمَّا إذا أرَدْتَ قِيمَتَهُ من غير جِنْسِه نَصَبْتَ العَيْن، فقُلْت: عَدْل. وقال أبو الهَيْثَم: العدل: المِثْل، والعِدْل: القِيمَةُ، والعَدْلُ: اسم مَعْدُولٌ بحمل آخر مُسَوى به، والعَدْل: تَقْوِيمُك الشَّيْء بالشيء من غير جِنْسِهِ. وقال الزَّجَّاج، وابنُ الأعْرَابِيّ: العَدل والعِدْل سواءٌ، وقد تقدَّم الكلام عَلَيْه في البَقَرة: عند قوله: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [الآية: 48] . قوله: «صِيَاماً» نصْبٌ على التميز كقولك: «عندي رَطلان عَسَلاً» لأنَّ المعنى: أو قَدْرُ ذلك صِياماً، والأصْلُ فيه إدْخَالُ حَرْفَيْنِ تقُولُ: رطلانِ من العَسَلِ، وعَدْلُ ذلك من الصِّيَام. [وأصل «صِياماً» : «صِوَاماً» فأعِلَّ كما تقدَّم مراراً] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 526 فصل معنى الآية: أنَّه في جَزَاءِ الصَّيْد مُخَيَّرٌ بَيْن أن يَذْبَح المِثْلَ من النَّعَمِ، فيتَصدَّق باللَّحْم على مَساكِينِ الحَرَم، وبيْنَ أنْ يُقَوِّم المِثْلَ بِدَرَاهِم ويَشْتَرِي بالدَّرَاهِم طَعَاماً، فيتصدَّق بالطَّعَام على مساكينِ الحَرَمِ، لِكُلِّ مِسْكِينٍ مُدٌّ من طعام، أو يَصُوم عن كُلِّ مُدٍّ يَوْماً، وله أنْ يَصُومَ حَيْث شَاءَ؛ لأنَّه لا نَفْعَ فيه لِلْمَسَاكِين. وقال مَالِكٌ: إنْ لم يخْرِجِ المثلَ يُقَوَّمُ الصَّيدُ، ثمَّ تُجْعَلُ القِيمَةُ طَعَاماً، فيتصَدَّقُ به أوْ يَصُوم. وقال أبُو حَنِيفَةَ: لا يَجِبُ المِثْلُ مِنَ النَّعَم، بل يُقَوَّمُ الصَّيْدُ، فإن شاء صَرَفَ تلك القِيمَةَ إلى شَيء مِنَ النَّعَمِ، وإن شَاءَ إلى الطَّعَام فيتَصَدَّق بِهِ، وإنْ شَاءَ صَامَ عَنْ كلِّ نِصْفِ صَاعٍ من بُرٍّ أو صَاعٍ من غَيْرِه يَوْماً. وقال الشَّعْبِي، والنَّخْعِي: جَزَاءُ الصَّيْدِ على التَّرْتِيب، والجُمْهُور على التَّخْيير، وأنَّ قاتلَ الصَّيْدِ مُخَيَّرٌ في تَعْيين أحَدِ هذه الثلاثة، وقال مُحَمَّد بن الحسن: التَّخْيِير إلى الحَكَمَيْن، لقوله تعالى: {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً} أي: كَذَا، أوْ كَذَا. وجوابُه: أن اللَّه أوْجَبَ على قَاتِلِ الصَّيْدِ أحَدَ هذه الثلاثة على التَّخْييرِ، فوجَبَ أنْ يكونَ قَاتِلُ الصَّيْدِ مُخيَّراً بَيْن أيِّها شاء، وأمَّا الذي يَحْكُمُ بِه ذوا العَدْل، فهو تَعْيينُ المِثْلِ الخِلْقَة أو القِيمَة. قوله: «لِيَذُوقَ» فيه ستةُ أوجهٍ: أحدها: أنه متعلقٌ ب «جزاء» قاله الزمخشريُّ، وقال أبو حيان: إنما يتأتَّى ذلك حيثُ يضاف إلى «مِثْل» ، أو يُنَوَّن «جَزَاء» ، ويُنْصَبُ «مِثْل» ، وعَلَّلَ ذلك بأنه إذا رَفَعَ مثلاً، كان صفةً للمصْدَرِ، وإذا وُصِفَ المصدرُ، لم يعمل إلا أن يتقدَّم المعمولُ على وصْفِه؛ نحو: «يُعْجِبُنِي الضَّرْبُ زَيْداً الشَّديدُ» ، فيجوز: قال شهاب الدين: وكذا لو جعله بدلاً أيضاً أو خبراً؛ لما تقدَّم من أنه يلزمُ أن يُتْبَعَ الموصولُ أو يُخْبَر عنه قبل تمامِ صلته، وهو ممنوعٌ، وقد أفْهَمَ كلامُ الشيخِ بصريحِهِ؛ أنه على قراءةِ إضافة الجزاءِ إلى «مِثْل» يجوزُ ما قاله الزمخشري، وأنا أقول: لا يجوزُ ذلك أيضاً؛ لأنَّ «لِيَذُوقَ» مِنْ تمامِ صلةِ المصدرِ، وقد عُطِفَ عليه قولُه «أوْ كفَّارَةٌ أو عَدْلٌ» ؛ فليزمُ أنْ يُعْطَفَ على الموصُولِ قبل تمام صلته؛ وذلك لا يجوزُ لو قلْتَ: «جَاءَ الذي ضربَ وعَمرٌو زَيْداً» لم يَجُزْ للفصْلِ بين الصِّلَة - أو أبعاضِهَا - والموصوُلِ بأجنبيٍّ، فتأمَّلْه. الثاني: أنه متعلِّقٌ بفعلٍ محذوفٍ يَدُلُّ عليه قُوَّةُ الكلامِ؛ كأنه قيل: جُوزيَ بذلِكَ لِيَذُوقَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 527 الثالث: أنه متعلِّقٌ بالاستقرارِ المقدَّرِ قبل قوله: «فَجَزَاء» ؛ إذ التقديرُ: فعليهِ جزاءٌ لِيَذُوقَ. الرابع: أنه متعلِّقٌ ب «صِيَام» ، أي: صَوْمُهُ لِيَذُوقَ. الخامس: أنه متعلِّقٌ ب «طَعَام» ، أي: طعام لِيَذُوقَ، ذكر هذه الأوجه الثلاثة أبو البقاء، وهي ضعيفةٌ جدًّا، وأجودُها الأولُ. السادس: أنها تتعلَّقُ ب «عَدْلُ ذَلِكَ» ، نقله أبو حيان عن بعضِ المُعْرِبين، قال: «غَلَطٌ» . والوَبَالُ: سوءُ العاقبةِ وما يُخاف ضَرَرُهُ، قال الراغبُ: والوَابِلُ: المطرُ الثقيلُ القَطْرِ، ولمراعاة الثِّقَلِ، قيل للأمرِ الذي يُخاف ضَرَرُه: وَبَال، قال تعالى: ف {ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ} [الحشر: 15] ، ويقال: «طَعَام وَبِيلٌ» ، و «كَلأٌ وَبِيلٌ» يُخافُ وبالُه؛ قال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً} [المزمل: 16] ، وقال غيره: «والوبَالُ في اللغةِ؛ ثِقَلُ الشيءِ في المْكُروهِ، يقال:» مَرْعى وبَيلٌ «، إذا كان يُسْتَوْخَمُ، و» مَاءٌ وَبِيلٌ «إذا كان لا يُسْتَمْرَأ، واسْتَوْبَلْتُ الأرضَ: كرهتُها خَوْفاً من وبالِها» . والذَّوْقُ هنا استعارةٌ بليغةٌ. وإنَّما سمَّى اللَّهُ تعالى ذلك وبالاً؛ لأنَّه خيَّره بين ثلاثةِ أشياء، اثْنَانِ منها تُوجبُ تَنْقيصَ المالِ، وهو ثَقِيلُ على الطَّبْعِ، وهما الجَزَاءُ بالمِثْلِ والإطْعَام، والثَّالِثُ يُوجِبُ إيلامَ البَدَنِ وهو الصَّوْم، وذَلِك أيْضاً يَثْقُلُ على الطَّبْع، وذلك حتَّى يَحْتَرِز عَنْ قَتْل الصَّيْد في الحَرَمِ، وفي حَالِ الإحْرَام. قوله: {عَفَا الله عَمَّا سَلَف} يَعْنِي: قَبْلَ التَّحْرِيم، ونُزُولِ الآيَة وقال السدِّيُّ: عَمَا سَلَفَ في الجاهِليَّةِ. وقيل: هذا إبْدَال على قَوْلِ من لا يُوجِبُ الجزاءَ، إلاَّ في المرَّةِ الأولَى، أمَّا في المرَّةِ الثَّانِية: فإنه لا يُوجِبُ الجَزَاءَ عليْه، ويقول: إنَّه أعْظمُ من أنْ يُكَفِّره التَّصَدُّق بالجَزَاءِ، فعلى هذا المُراد عَفَا اللَّهُ عما سَلَفَ في المرَّة الأولى بِسبَبِ أداءِ الجَزَاءِ، ومن عادَ إليه مرَّةً ثَانِية، فلا كفَّارة لجُرْمِهِ، بل اللَّهُ يَنْتَقِمُ منه، وحُجَّةُ هذا القول: أنَّ «الفاءَ» في قوله: {فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} فاءُ الجزَاءِ، والجَزَاء هو الكَافِي، فهذا يَقْتَضِي أنَّ هذا الانْتِقَامَ كما في هذا الذَّنْبِ، وكونهُ كَافِياً يَمْنَع من وجوبِ شَيْءٍ آخَر، فلا يَجِبُ عليه الجَزَاءُ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 528 قوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} «منْ» يجوز أن تكون شرطيةً، فالفاءُ جوابُها، و «يَنْتَقِمْ» خبرٌ لمبتدأ محذوفٍ، أي: فهو يَنْتَقِمُ، ولا يجوز الجزمُ مع الفاءِ ألبتة، قال: سيبويه: «الفَاءُ» في قوله: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} ، وفي قوله: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ} [البقرة: 126] ، و {فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً} [الجن: 13] إنَّ في هذه الآيات إضْمَاراً مُقَدَّراً، والتَّقدير: ومَنْ عادَ فهو ينتَقِمُ اللَّه منه ومن كفر فأنا أمتِّعُهُ، ومن يُؤمِن بربه فهو لا يَخَافُ، وبالجُمْلَةِ فلا بد من إضْمَارِ مبتدأ يكونُ ذَلِكَ الفِعْلُ خَبَراً عنه؛ لانَّ الفِعْلَ يَصِيرُ بِنَفْسِهِ جزاءً، فلا حاجَةَ إلى إدْخَال حَرْفِ الجزاءِ عليه، فيَصِيرُ إدْخال حَرْفِ «الفَاءِ» على الفِعْلِ لَغْواً، أما إذَا أضْمَرْنا المُبْتَدَأ، احْتَجْنَا إلى إدخال «الفَاءِ» عليه؛ ليَرْتَبِطَ بالشَّرْط فلا تَصِير «الفَاء» لَغْواً. ويجُوزُ أن تكون «مَنْ» موصولةً، ودخلتِ الفاءُ في خبر المبتدأ، لَمَّا أشبه الشرطَ، فالفاءُ زائدةٌ، والجملةُ بعدها خبرٌ، ولا حاجَةَ إلى إضمارِ مبتدأ بعد الفاء؛ بخلافِ ما تقدَّمَ. قال أبو البقاء: «حَسَّنَ دُخُولَ الفاءِ كونُ فِعْلِ الشرطِ مَاضِياً لَفْظاً» . فصل معنى الآية: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} : في الآخِرَة {والله عَزِيزٌ ذُو انتقام} . واعلمْ: أنَّه إذا تَكرَّرَ من المُحْرِمِ قَتْلُ الصَّيْدِ، فيتكرر عليْه الجزاء عند عامَّةِ أهْلِ العِلْمِ. قال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: إذا قتلَ المُحْرِمُ صَيْداً مُتَعَمِّداً، يُسألُ هل قَتَلْتَ قَبْلَها شَيْئاً من الصَّيْد؟ فإنْ قال: نَعْم، لم يُحْكَمْ عليه، ويقالُ: اذْهَبْ فينتقم اللَّهُ مِنْك. وإنْ قال: لم أقْتُل قَبْلَهُ شَيْئاً حُكِمَ عليه [فإن عاد بعد ذلك، لم يُحْكَمْ عليه] ، ولكن يُمْلأ ظَهْرُهُ وصدْرُه ضَرْباً وجيعاً، وكذلك حكم رسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صيد «وَجٍّ» - وهو وادٍ بالطَّائف -، واخْتَلَفُوا في المُحْرِمِ، هل يُجُوزُ لَهُ أَكْلُ لَحْمِ الصَّيْدِ؟ فذهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّه لا يَحِلُّ لَهُ بِحَالٍ، يُرْوَى ذَلِكَ عن ابنِ عبَّاسٍ، وهو قولُ طاوُس، وبه قال سُفْيَانُ الثَّوْرِي، لما روى عبدُ الله بن عبَّاس عن الصَّعْب بن جُثَامَة اللَّيْثِيِّ: «أنَّهُ أهْدَى لرسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حِمَاراً وحْشيّاً، وهُوَ في الأبْوَاءِ أو بودان، فردَّه رسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال: فلَمَّا رَأى رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، مَا في وَجْهِي، قال:» إنَّا لم نَرُدَّهُ عَلَيْك إلاَّ أنَّا حُرم «. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 529 وذهب الأكْثَرُون إلى أنَّهُ يجُوزُ لِلْمُجْرِم أكْلُهُ، إذا لَمْ يَصْطَدْ بِنْفِسه، ولا صِيدَ لأجْلِه أو بإشَارَتِه، وهو قولُ عُمَرَ، وعُثَمَان، وأبِي هُرَيْرَةَ، وبه قالَ عَطَاء، ومُجَاهِد، وسعيدُ بنُ جُبَيْر، وهو مذهَبُ مالكٍ، والشَّافِعيِّ، وأحْمَد، وإسْحاق، وأصحاب الرَّأي، وإنَّما رَدَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الصَّعبِ بن جُثَامة؛ لأنَّه ظَنَّ أنَّه صِيد من أجْله. ويدلُّ على الجوازِ، ما روى نَافِعٌ - مولى أبِي قتادة بن ربْعِيٍّ الأنْصَارِي: «أنَّه كان مع رسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتَّى إذا كان بِبَعْضِ طريقِ مَكَّةَ، تَخلَّف مع أصْحَابٍ لَهُ مُحْرِمِين - وهو غير مُحْرِم -، فرأى حِمَاراً وحْشياً، فاسْتَوى على فرسهِ، فسأل أصْحَابَهُ أنْ يُنَاوِلُوهُ سَوْطاً فَأبَوْا، فَسَألَهُمْ رُمْحَهُ فأبَوا، فأخَذه، ثُمَّ شَدَّ على الحِمَار فَقَتَلَهُ، فأكل مِنْهُ بَعْضُ أصحابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأبَى بعضُهُمْ، فلمَّا أدْرَكوا رسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسألُوه عن ذلك فقال: إنَّما هي طُعْمَةٌ أطْعَمَكُمُوها اللَّهُ» وروى جَابِرُ بن عَبْدِ اللَّهِ: أنَّ رسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لَحمُ الصَّيْدِ لَكُمْ فِي الإحْرَامِ حلالٌ، مَا لم تَصِيدُوه أو يُصَاد لَكُمْ» . فصل وإذَا أتْلَفَ المُحْرِمُ شَيْئاً من الصَّيْدِ لا مِثْلَ لهُ مِن النَّعَمِ، مثل بَيْضٍ أو طَائرٍ دُون الجزء: 7 ¦ الصفحة: 530 الحمامِ، ففيه قيمَتُهُ يَصرفُهَا إلى الطَّعامِ، فيتصَدَّق به، أو يَصُوم عَنْ كُلِّ مُدٍّ يَوْماً، واخْتَلَفُوا في الجَرَادِ: فَرَخَّصَ فيه بَعْضُهُمْ، وقال: هُو صَيْد البَحْرِ، والأكثرون على تَحْرِيمهِ، وإنْ أصابَهَا فَعَليْهِ صَدَقَةٌ، قال عُمَرُ: في الجَرَادَةِ تَمْرَةٌ. ورُوِيَ عنه، وعن ابْنِ عَبَّاس: قَبْضَة من طَعَامٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 531 والمرادُ بالبَحْر: جَمِيعُ المِيَاهِ، قال عُمَرٌ: صَيْدُه ما اصْطِيدَ، وجَميعُ ما يُصْطَادُ من البَحْرِ ثلاثةُ أجْنَاسٍ: الحِيتَانُ وجَمِيعُ أنْوَاعِها حلالٌ، والضَّفَادِعُ وجميع أنواعها حَرَامٌ، واختلَفُوا فيما سِوَى هَذَيْنِ. فقال أبو حنيفة: إنَّه حَرَامٌ، وقال الأكثرُون: إنَّه حلالٌ لِعُمُومِ هذه الآيَة. قوله: «وطعَامُهُ» : نسقٌ على «صَيْدُ» ، أي: أحِلَّ لكمُ الصيدُ وطعامُهُ، فالصَّيْدُ الاصْطِيَادُ، والطَّعامُ بمعنى الإطعامِ، أي: إنه اسمُ مصدرٍ، ويُقَدَّرُ المفعولُ حينئذٍ محذوفاً، أي: إطعامُكُمْ إياه أنفسكُمْ، ويجوز أن يكون الصَّيْدُ بمعنى المَصِيد، والهاءُ في «طَعَامُهُ» تعودُ على البَحْر على هذا أي: أُحِلَّ لكُمْ مَصِيدُ البَحْرِ وطعامُ البَحْر؛ فالطعامُ على هذا غَيْرُ الصَّيْدِ وعلى هذا ففيهِ وجوهٌ: أحسنها ما ذكرهُ أبو بَكْر الصِّدِّيق، وعُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أنَّ الصَّيدَ ما صِيدَ بالْحِيلَةِ حال حِيَاتِهِ - والطَّعَامُ ما رَمَى بِهِ البَحْرُ، أو نضبَ عَنْهُ المَاءُ مِنْ غَيْرِ مُعَالَجَةٍ. وقال سعيدُ بنُ جُبَيْر، وسعيدُ بنُ المُسَيِّب، ومُقَاتِلُ، والنَّخْعِي، وعِكْرِمَةُ، وقتادَةُ: صَيْدُ البَحْرِ هو الطَّرِيُّ، وطعامَهُ هُو المُمَلَّحُ مِنْهُ، وهو ضَعِيفٌ؛ لأنَّ المملَّحُ كان طَرِيّاً وصَيْداً في أوَّلِ الأمْرِ فَيَلْزَمُ التكْرَارُ. وأيضاً: فإنَّ الاصْطِيَادَ قد يَكُون للأكْل، وقد يَكُون لِغَيْرِه كاصْطِيَادِ الصَّدف لأجْلِ اللُّؤلُؤِ، واصْطِيَاد بَعْضِ الحيواناتِ البَحرِيَّة لأجل عِظَامِها وأسْنَانِهَا، فَحَصَل التَّغَايُر بين الاصْطِيَاد من البَحْرِ، وبين الأكْل مِنْ طعامِ البَحْر. رُوِيَ عن ابن عبَّاس - وابن عُمَرَ، وأبي هُرَيْرَة: طَعَامُهُ ما قَذَفَهُ المَاءُ إلى السَّاحِل الجزء: 7 ¦ الصفحة: 531 مَيْتاً، ويجوزُ أن تعود الهاءُ على هذا الوجهِ أيضاً على الصيْدِ بمعنى المصيدِ، ويجوز أن يكون «طعام» بمعنى مَطْعُوم، ويَدُلُّ على ذلك قراءة ابن عبَّاس وعبد الله بن الحارث: «وطَعْمُهُ» بضم الميم وسكون العين. قوله تعالى: «متاعاً لَكُمْ» في نصبه وجهان: أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدر، وإليه ذهب مكي وابن عطيَّة وأبو البقاء وغيرهم، والتقدير: مَتَّعَكُمْ به متاعاً تَنْتَفِعُونَ وتَأتَدِمُونَ به، وقال مكيٌّ: لأنَّ قوله: «أُحِلَّ لَكُمْ» بمعنى أمْتَعْتُكُمْ به إمْتَاعاً؛ كقوله: {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] . والثاني: أنه مفعول من أجله، قال الزمخشري: «أي: أحلَّ لكُمْ تمتيعاً لكم، وهو في المفعول له بمنزلة قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] في باب الحال؛ لأنَّ قوله» مَتَاعاً لكُمْ «مفعولٌ له مختصٌّ بالطعام؛ كما أنَّ» نَافِلَةً «حالٌ مختصٌّ بيعقوب، يعني أُحِلَّ لكم طعامُه تمتيعاً لتَنَائِكُمْ تأكلونه طَرِيًّا ولسيَّارَتِكُمْ يتزوَّدونه قديداً» . انتهى، فقد خصَّصَ الزمخشريّ كونه مفعولاً له بكون الفعْلِ، وهو «أُحِلَّ» مسنداً لقوله: «طَعَامهُ» ، وليس علَّةً لحِلِّ الصيدِ، وإنما هو علَّةٌ لحِلِّ الطعام فقط، وإنما حملهُ على ذلك مذهبُهُ - وهو مذهبُ أبي حنيفةَ -؛ من أنَّ صيدَ البَحْرِ مُنْقَسِمٌ إلى ما يُؤكَلُ، وإلى ما لا يُؤكَلُ، وأن طعامه هو المأكُولُ منه، وأنه لا يقع التمثيلُ إلا بالمأكُول منه طريًّا وقَدِيداً، وقوله «نَافِلَةً» ، يعني أنَّ هذه الحالَ مختصةٌ بيعقوبَ؛ لأنه ولدُ ولدٍ؛ بخلافِ إسحاقَ، فإنه ولدُه لصُلْبه، والنافلةُ إنما تُطْلَقُ على ولد الولدِ، دونَ الولد، فكذا «متاعاً» ، إلاَّ أنَّ هذا يؤدِّي إلى أنَّ الفعل الواحدَ يُسْنَدُ لفاعلين متعاطفَيْن [يكونُ] في إسناده إلى أحدهما معلَّلاً وإلى الآخر ليْسَ كذلك، فإذا قلت: «قَامَ زَيْدٌ وعَمْرٌو إجلالاَ لَكَ» ، فيجوز أن يكون «قِيَامُ زيدٍ» هو المختصَّ بالإجلال، أو بالعكْسِ، وهذا فيه إلباسٌ، وأمَّا ما أورده من الحالِ في الآية الكريمة، فَثمَّ قرينةٌ أوْجَبَتْ صرْفَ الحالِ إلى أحدهما، دون ما نحْنُ فيه من الآية الكريمة، وأمَّا غيرُ مذهبه؛ فإنه يكونُ مفعولاً له غير مختص بأحدِ المتعاطفيْنِ وهو ظاهرٌ جَلِيٌّ، و «لَكُمْ» إنْ قلنا: «مَتَاعاً» مصدرٌ، فيجوز أن يكونَ صفةً له، ويكونُ مصدراً مبيِّناً لكونه وُصِفَ، وإن قلنا: إنه مفعولٌ له، فيتعلَّقُ بفعلٍ محذوفٍ، أي: أعني التقديرُ: لأنْ أمَتِّعَكُمْ، ولأنْ أمَتِّعَكُمْ، ولأنْ أجلَّكَ، وهكذا ما جاء من نظائره. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 532 فصل معنى «مَتَاعاً لَكُمْ» أي: منْفَعَةً لكم، وللسَّيَّارة يعني: المَارَّة، وجُمْلَةُ حيواناتِ الماءِ على قسْمَيْن: سمك، وغيره، أمَّا السَّمَكُ فَمَيْتَتُهُ حلالٌ مع اخْتِلاَف أنْوَاعِهَا، لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «أُحِلَّتْ لَنَا مَيْتَتَانِ السَّمَكُ والجَرَادُ» ، ولا فرق بين أنْ يَمُوتَ بِسَبَبٍ أو بِغَيْرِ سَبَبٍ. وعِنْدَ أبي حنيفةَ: لا يحلُّ إلا أن يمُوت بِسبَبٍ من وُقوع على حَجَرٍ، أو انحِسَارِ المَاءِ عَنْهُ، ونحو ذلك. وأمَّا غير السَّمكِ فَقِسْمَان: قِسْمٌ يَعيشُ في البَرِّ، كالضفْدَعِ والسَّرطان، فلا يحل أكْلُهُ. وقال مالِكٌ، وأبو مجلز، وعطاء، وسعيدُ بن جُبَيْر، وغَيْرهم: كُلُّ ما يعيشُ في البَرِّ، وله فيه حَيَاةٌ، فهو صَيْدُ البَرِّ إنْ قتلهُ المُحْرِمُ ودَاهُ، وزادَ أبو مجْلَز في ذَلِكَ الضفْدعَ، والسَّلاحِفَ، والسَّرَطَان. وقسم يعيشُ في المَاءِ، ولا يَعِيشُ في البَرِّ إلاَّ عَيْشَ المَذْبُوح، فاخْتُلِفَ فيه، فقيل: لا يَحِلُّ شيءٌ منْهُ إلاَّ السَّمَك، وهو قولُ أبِي حَنِيفَة. وقيل: إنَّ مَيْتَ المَاءِ كُلّها حَلالٌ، لأنَّ كُلَّهَا سَمَكٌ، وإن اخْتَلَفَتْ صورَتُهَا كالجرِيثِ، يُقَال: إنَّه حَيَّةُ المَاء، وهو على شَكْلِ الحَيَّةِ، وأكْلُهُ مُبَاح بالاتِّفَاقِ، وهو قولُ أبي بَكْرٍ، وعُمَر، وابنِ عبَّاسٍ، وزَيْدِ بن ثَابِت، وأبِي هُرَيْرَة، وبه قال شُرَيْحٌ، والحسنُ وعطاء، وهو قولُ مالكٍ، وظَاهِرُ مَذْهَبِ الشَّافعي. وذهبَ قومٌ إلى أنَّ ما لَهُ نظير في البرِّ يُؤكَل، فَمَيْتَتُهُ من حيوانَاتِ البَحْرِ حلالٌ، مثل بقر الماءِ ونحْوِه، وما لا يُؤكلُ نَظِيرُهُ في البرِّ لا تَحِلُّ ميْتَتُهُ من حيواناتِ البَحْر، مثل كَلْبِ المَاءِ والخِنْزِيرِ والحِمَارِ ونحْوهَا. وقال الأوزَاعِيُّ: كلُّ شَيْءٍ عَيْشُهُ في المَاءِ فَهُوَ حلالٌ قيل: والتِّمْسَاحُ؟ قال نَعَمْ. وقال الشِّعْبِي: لَوْ أنَّ أهْلِي أكَلُوا الضَّفَادِعَ لأطعمتهم. وقال سُفْيانُ الثَّوْرِي: أرجو ألاَّ يَكُونَ بالسَّرَطَان بَأسٌ، وظاهِرُ الآيَةِ حُجَّةٌ لِمَنْ أبَاحَ جَمِيعَ حَيَوانَاتِ البَحْرِ، وكذلك الحَدِيثُ، وهو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «هُوَ الطَّهُورُ ماؤهُ والحِلُّ مَيْتَتُهُ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 533 وقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ذكر تعالى تَحْرِيم الصَّيْدِ على المُحْرِم في ثلاثة مواضع من هذه السُّورة، وهي قوله: {غَيْرَ مُحِلِّي الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 1] إلى قوله: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا} [المائدة: 2] ، وقوله: {لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95] ، وقوله: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً} ، واتَّفَقَ المُسْلِمُون على تَحْرِيم الصَّيْدِ على المُحْرِم، وهو الحيوان الوَحْشِيُّ الذي يَحِلُّ أكلُهُ، فأمَّا ما لا يَحِلُّ أكْلُهُ، فلا يَحْرُم بالإحْرَامِ، ويَحْرُمُ أخْذُه وقَتلُهُ، ولا جَزَاء على من قَتَلَه، لقوله - عليه الصَّلاة والسَّلام -: «خَمْسٌ من الدَّوَابِّ لَيْسَ على المُحْرِمِ في قَتْلِهِنَّ جُنَاحٌ: الغُرَابُ، والحدَأةُ، والعَقْرَبُ، والفَأرَةُ، والكَلْبُ العَقُورُ» . وقال - عليه السلام -: «يَقْتُلُ المُحْرِمُ السَّبُعَ العادِي» . وقال سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَة: الكَلْبُ العَقُورُ: كلُّ سَبُع يعْقر ومِثْلُه عن مَالِكٍ، وذهبَ أصْحَابُ الرَّأي إلى وُجُوبِ الجَزَاءِ في قَتْلِ ما لا يُؤكَل لَحْمُهُ، كالفَهْدِ، والنمرِ، والخِنْزِيرِ، ونحوها إلاَّ الأعيان المَذكُورة في الخَبَرِ، وقَاسُوا عليْهَا: الذِّئْبَ، ولَمْ يوجِبُوا فيه الكَفَّارَة. فأمَّا المُتَولِّد من المأكُولِ وغيره، فَيَحْرُمُ أكْلُهُ، ويَجِبُّ فيه الجَزَاءُ؛ لأنَّ فيه جَزَاءً من الصَّيْدِ، واختَلَفُوا في الصَّيْدِ الذي يَصِيدُه الحلالُ هل يُحَرَّمُ على المُحْرِمِ؟ فقال عليٌّ، وابنُ عباسٍ، وابنُ مَسْعُود، وسعيدُ بنُ جُبَيْرٍ، وطاوُسٌ: إنَّه حرامٌ على المُحْرِم بكُلِّ حالٍ، وهو قولُ الثَّوْرِي وإسْحَاق، لظاهِرِ الآية. ورُويَ: أنَّ الحَارِثَ كان خَليفَة عُثْمَان على الطَّائِفِ، فَصَنَعَ لِعُثْمَان طَعاماً وصنع فيه الحَجَلَ: واليَعَاقِيبَ، ولُحُومَ الوُحُوشِ، فبعَثَ إلى عليٍّ بن أبي طالبٍ، فجاءه الرَّسُولُ فقال عَلِيٌّ: أطعمُونا قُوتاً حلالاً [فإنا حُرُم] ، ثم قال علي: أنْشِدُ اللَّهَ من كان هَا هُنَا مِنْ أشْجَع، أتعلَمُون أنَّ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أهْدَى إليه رجلٌ حِمَاراً وَحْشياً، وهو مُحْرِمٌ فأبَى أن يأكُلَهُ، فَقَالُوا: نعم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 534 وقال الشَّافِعِيُّ: لَحْمُ الصَّيدِ حَلاَلٌ لِلْمُحْرِم بِشَرْط ألاَّ يَصْطَادَهُ المُحْرِم، ولا يُصْطَادُ لَهُ، كقوله - عليه السلام -: «صَيْدُ البَرِّ لَكُم حلالٌ مَا لَمْ تصيدُوهُ أوْ يُصَاد لَكُم» . وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «إذا صِيْدَ للمُحْرِمِ بغير إعانتهِ وإشارته حَلَّ له؛ لأنَّ أبا قتادةَ اصْطَاد حِمَاراً وحشيّاً، وهو حَلاَلٌ في أصحابِ مُحْرِمينَ، فَسَألُوا رسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: فيكم أحَدٌ أَمَر أن يحْمِل عَلَيْهَا أو أشَارَ إلَيْهَا، قالوا: لا. قال: فَكُلُوا ما بَقِي مِنْ لَحْمِهَا» . وفي رِوَايَةٍ: «هَلْ بَقِي مَعَكُم منه شَيءٌ؟» قالوا: نَعَمْ، فَنَاولْتُهُ العَضُدَ فأكَلَهَا «، وهذا يَدُلُّ على تَخْصِيصِ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ. قوله: {مَا دُمْتُمْ حُرُماً} » ما «مصدريةٌ، و» دمتم «صلتها وهي مصدريةٌ ظرفيةٌ أي: حُرِّم عليكم صيدُ البر مدةَ دوامِكم مُحْرمين. والجمهور على ضمِّ دال» دمتم «من لغة من قال: دام يدوم. وقرأ يحيى:» دِمتم «بكسرها من لغة من يقول: دام يدام كخاف يخاف، وهما كاللغتين في مات يموتُ ويمات، وقد تقدَّم [الآية 57 آل عمران] . والجمهورُ على» وحُرِّم «مبنياً للمفعول،» صيدُ «رفعاً على قيامه مقام الفاعل، وقرئ:» وحَرَّم «مبنياً للفاعل،» صيدَ «نصباً على المفعول به. والجمهورُ أيضاً على» حُرُماً «بضم الحاء والراء جمعُ» حَرام «بمعنى مُحْرِم ك» قَذَال «و» قُذُل «. وقرأ ابن عباس» حَرَماً «بفتحهما، أي: ذوي حَرَم أي إحرام، وقيل: جعلهم بمنزلة المكان الممنوع منه، والأحسنُ أن يكون من باب» رجل عدل «جعلهم نفسَ المصدرِ فإنَّ» حَرَما «بمعنى إحرام، وتقدم أن المصدر يقع للواحدِ فما فوقُ بلفظٍ واحد. والبَرُّ معروفٌ، قال الليث:» ويستعمل نكرة يقال: جلست بَرَّا، وخرجْتُ برًّا «. قال الأزهري:» وهو من كلام المولدين «وفيه نظر لقول سلمان الفارسي:» إنَّ لكلِّ امرئ جَوَّانِيًّا وبَرَّانياً «أي باطنٌ وظاهرٌ، وهو من تغيير النسب، وقد تقدم استيفاء هذه المادة في البقرة [الآية 44] ثمَّ قال: {واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} والمقصُودُ مِنْهُ التَّهْديدُ، ليكون المَرْءُ موَاظِباً على الطَّاعَة مُحْتَرِزاً عن المَعْصِيَة وقدَّم» إليه «على» تُحْشرون «للاختصاص أي: تُحشرون إليه لا إلى غيره، أو لتناسُبِ رؤوس الآي. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 535 لمَّا حرَّم الله تعالى الاصْطِيَاد على المُحْرِمين، وبيَّن أنَّ الإحْرَام سَبَب لأمْنِ الوَحْشِ والطَّيْر، بيَّن هاهُنَا أنَّ ذلِكَ التَّحْرِيم الذي حَرَّمَهُ الإحرام؛ إنَّما سببُه حُرْمَة هذا البيت الحرامِ، فكما أنَّه سَبَبٌ لأمْنِ الوَحْشِ والطَّيْر، فكذلك هُوَ سَبَبٌ لأمْن النَّاسِ عن الآفات والمخافات. قوله: «جَعَلَ اللَّهُ» : فيها وجهان: أحدهما: أنها بمعنى «صَيَّرَ» فتتعدَّى لاثنين، أولهما «الكَعْبَة» والثاني «قِيَاماً» . والثاني: أن تكون بمعنى «خَلَقَ» ، فتتعدَّى لواحد، وهو «الكَعْبَة» ، و «قِياماً» نصبٌ على الحال، وقال بعضُهُمْ: إنَّ «جَعَلَ» هنا بمعنى «بَيَّنَ» و «حَكَمَ» ، وهذا ينبغي أن يُحْمَلَ على تَفْسير المعنى لا تفسير اللغة؛ إذ لم ينقل أهلُ العربية؛ أنها تكونُ بمعنى «بَيَّنَ» ولا «حَكَمَ» ، ولكن يلزمُ من الجَعْلِ البيانُ، وأمَّا «البَيْتَ» ، فانتصابُه على أحد وجهين: إما البدلِ، وإما عطفِ البيان، وفائدةُ ذلك: أن بعض الجاهليَّة - وهم خَثْعَم - سَمَّوْا بيتاً الكعبة اليمانية، فجيء بهذا البدلِ، أو البيانِ، تبييناً له من غيره، وقال الزمخشريُّ: «البَيْتَ الحَرَامَ» عطف بيانٍ على جهة المدحِ، لا على جهة التوضيحِ؛ كما تجيء الصفةُ كذلك «، واعترض عليه أبو حيان بأن شرط البيانِ الجمودُ، والجمودُ لا يُشْعِرُ بمَدْحٍ، وإنما يُشْعِرُ به المشتقُّ، ثم قال:» إلاَّ أنْ يُريد أنه لَمَّا وُصِفَ البيْتُ بالحرامِ اقْتَضَى المجموعُ ذلك فيمكنُ «. والكَعْبَةُ لغةً: كلُّ بيْتٍ مربَّعٍ، وسُمِّيَت الكعبةُ كَعْبَةً لذلك، وأصل اشتقاق ذلك من الكعبِ الذي هو أحَدُ أعضاءِ الآدميِّ، قال الراغب:» كَعْبُ الرَّجُلِ «العَظْم الذي عند مُلْتَقى الساق والقَدَم، والكَعْبةُ كُلُّ بَيْتٍ على هَيْئَتِهَا في التَّرْبِيع، والعربُ تُسَمِّي كلَّ بَيْت مُرَبَّع كَعْبةً؛ لانفرادها من البِنَاءِ. وقيل: سُمِّيَت كَعْبَةً لارتفَاعِهَا من الأرْض، وأصْلُها من الخُرُوج والارتِفَاع، وسُمِّيَ الكعبُ لِنُتُوئِهِ، وخُرُوجه من جَانِبي القَدم، ومنه قِيلَ لِلْجَارية إذا قاربتِ البُلُوغَ وخَرَجَ ثَدْياهَا تكعَّبَتْ والكعبة لمَّا ارتفع ذِكْرُها سُمِّيَتْ بهذا الاسْم، ويقولون لِمَنْ عَظُمَ أمْرُه» فلانٌ عَلاَ كَعْبُهُ «وذُو الكعبات: بيتٌ كان في الجاهلية لبني ربيعة، وتقدَّم الكلام في هذه المادةِ أول السورة [آية 6] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 536 فصل قَالُوا: بُنِيَتِ الكَعْبةُ الكَريمَةُ خَمْسَ مَرَّاتٍ: الأولى: بناءُ الملائِكَة قبلَ آدَمَ - عليه السلام -. والثانية: بِنَاءُ إبراهيم - عليه السلام -. والثالثة: بناءُ قُرَيْشٍ في الجاهليَّة، وحضر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذا البِنَاء. والرابعة: بناءُ ابنُ الزُّبَيْرِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. والخامسة: بناءُ الحَجَّاج وهو البِنَاءُ الموجُودُ اليَوْمَ، وهكذا كانَتْ في زمَنِ الرَّسُولِ - عليه السلام - قال المارودي في» الأحْكَام السُّلطَانِيَّة «: كانت الكَعْبَةُ بَعْدَ إبراهيم - عليه السلام - مع» جُرْهُم «والعمَالِقَة إلى أن انْقَرَضُوا، وخلفتهم فيها قريشُ بعد استيلائِهِم على الحَرَمِ لِكَثْرتِهِم بعد القِلَّةِ، وعِزهِم بَعْدَ الذِّلَّةِ، فكان أوَّلُ من جَدَّدَ بِنَاءَ الكَعْبَةِ بعد إبْراهيمَ - عليه السلام - قُصَيّ بن كِلاَب، وسَقَّفَها بخَشَبِ الدومِ وجريد النَّخْل، ثُمَّ بَنَتْهَا قُرَيْشٌ بَعْدَهُ، ورسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابنُ خمْسٍ وعشرين سَنَةً، وشَهِدَ بِنَاءَهَا، وكان بابُها بالأرْض، فقال أبُو حُذَيْفَة بنُ المُغِيرة: يا قَوْمُ، ارفعُوا باب الكَعْبَةِ حتَّى لا يَدْخُلَ [أحدٌ] إلاَّ بسُلَّمِ، فإنَّه لا يدخلها حينئذٍ الآنَ إلاَّ ما أَرَدْتُمْ، فإن جاء أحَدٌ ممن تَكْرَهُون، رَمَيْتُم به فَسَقَطَ، وصار نكالاً لمن يَرَاهُ، ففعلت قُرَيْشُ ذلك، وكان سببُ بِنَائها أنَّ الكَعْبَة استُهْدِمَتْ وكانَتْ فَوْقَ القَامَةِ، فأرَادُوا تَعْلِيَتَهَا. قوله: «قِياماً» [قراءة الجمهورُ بألفٍ بعد الياء، وابنُ عامرٍ: «قِيَماً» دون ألف بزنة «عِنَبٍ» ، والقيامُ هنا يحتملُ أن يكون مصدراً ل «قَامَ - يَقُومُ» ، والمعنى: أنَّ اللَّهَ جَعَلَ الكعبةَ سَبَباً لقيام النَّاسِ إليها، أي: لزيارتها والحجِّ إليها، أو لأنَّها يَصْلُح عندها أمرُ دينهِمْ ودُنْيَاهُمْ، فيها يَقُومُونَ، ويجوزُ أنْ يكونَ القيامُ بمعنى القوامِ، فقُلِبَتِ الواوُ ياءً؛ لانكسارِ ما قبلها، كذا قال الواحديُّ، وفيه نظرٌ؛ إذ لا موجبَ لإعلاله؛ إذ هو: «السِّوَاكِ» ، فينبغي أن يقال: إنَّ القيامَ والقوامَ بمعنًى واحدٍ؛ قال: [الرجز] 2054 - قِوَامُ دُنْيَا وقِوَامُ دِينِ ... فأمَّا إذا دخلها تاءُ التأنيث، لَزِمَتِ الياءُ؛ نحو: «القِيَامَة» ، وأمَّا قراءةُ ابن عامر، فاستشكلها بعضُهم بأنه لا يَخْلُو: إمَّا أنْ يكون مصدراً على فعلٍ، وإما أن يكون على الجزء: 7 ¦ الصفحة: 537 فعالٍ، فإن كان الأوَّل، فينبغي أن تصِحُّ الواوُ ك «حِوَلٍ» و «عوَرٍ» ، وإن كان الثاني، فالقصر لا يأتي إلا في شِعْرٍ، وقرأ الجَحْدَرِيُّ: «قَيِّماً» بتشديد الياء، وهو اسمٌ دالٌّ على ثبوت الصفة، وقد تقدَّم تحقيقُه أوَّلَ النساء [الآية 5]] . فصل في معنى الآية معنى كونه قِيَاماً للنَّاسِ أي: سَبَبٌ لقوَامِ مصالِح النَّاسِ في أمر دينهم ودُنيَاهم أمَّا الدِّين؛ فلأنَّ به يقوم الحَجُّ والمَنَاسِكُ، وأمَّا الدُّنْيَا: فبما يُجْبَى إليه من الثَّمَرَات، وكانوا يَأمَنُونُ فيه من النَّهْبِ والغَارَةِ، فلا يتعرَّضُ لهم أحَدٌ من الحرمِ، فكأنَّ أهلَ الحرمِ آمِنين على أنْفُسِهِم وأمْوَالِهِم، حتَّى لو لَقِيَ الرَّجُلُ قَاتِل أبيه وابنِهِ لم يتعرَّضْ لَهُ، ولو جَنَى الرَّجُلُ أعظم الجِنَايَاتِ ثُمَّ التَجَأ إلى الحَرَمِ، لُمْ يُتعَرَّضْ له، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] . والمرادُ بقوله: «قِيَاماً للنَّاس» أي: لِبَعْضِ النَّاسِ وهم العرب، وإنَّما حَسُنَ هذا المجازُ؛ لأنَّ أهْلَ كلِّ بَلَدٍ إذا قالُوا: النَّاسُ فَعَلُوا [وصنعُوا] كذا «، فهُم لا يُرِيدُون إلاَّ أهْلَ بلدِهمْ، فلهَذَا السَّبَب خُوطِبُوا بهذا الخطاب على وفقِ عادَتِهِم. قوله: {والشهر الحرام والهدي والقلائد} عطف على «الكَعْبَة» ، والمفعول الثاني أو الحال محذوفٌ، لفهم المعنى، أي: جعل الله أيضاً الشَّهْرَ والهَدْيَ والقلائِدَ قِيَاماً. واعلم: أنَّه تعالى جعل هذه الأرْبَعَةَ أشْيَاء أسْبَاباً لِقِيام النَّاسِ وقوامِهِم، فأحَدُهَا: الكَعْبَةُ كما تقدَّم بيَانُهُ. وثانيها: الشَّهْرُ الحرامُ، ومعنى كونه سَبَباً لِقيامِ النَّاسِ: هو أنَّ العرب كان يَقْتُلُ بعضهم بعضاً، ويُغِير بعضُهُمْ على بعضٍ في سائرِ الأشْهُرِ، فإذا دخلَ الشَّهْرُ الحرامُ زال الخَوْفُ، وسافَرُوا للتِّجاراتِ، وأمِنُوا على أنْفُسِهِمْ وأمْوَالِهِم، وحَصَّلوا في الشَّهْرِ الحرامِ قُوتَهُمْ طُول السَّنةِ، فلولا الشَّهْرُ الحرام لفَنَوْا وهَلَكُوا من الجُوعِ والشِّدَّةِ، فكان الشَّهْرُ الحَرَامُ سَبَباً لِقوَامِ مَعيشَتِهِمْ. والمُرادُ بالشَّهْرِ الحرامِ: الأشْهُرُ الحُرُمُ وهي: ذُو القعْدَةِ وذُو الحِجَّة ورَجَب. وثالثها: الهَدْيُ، ومعنى كونه سَبَباً لقيام النَّاس: لأنَّ الهدْيَ ما يُهْدَى إلى البيتِ، ويُذْبَحُ هُناكَ ويُفَرَّقُ لَحْمُهُ على الفُقَراءِ فيكُونُ ذلِكَ نُسُكاً للمهدي، وقواماً لمعيشَة الفُقراء. ورابعها: القلائِدُ، ومعنى كونها قواماً للناس: أنَّ من قصدَ البَيْتَ في الشَّهْرِ الحرامِ أوْ فِي غيرِ الشَّهْرِ الحرامِ، معه هديٌ قد قلَّدَه، وقلَّدَ نَفْسَهُ من لِحَاءِ شَجَرِ الحرمِ، لم يتعرَّضْ لَهُ أحَدٌ، حتَّى إنَّ أحَداً من العرب يلقَى الهديَ مُقلَّداً، وهو يموتُ من الجُوعِ فلا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 538 يتعرَّضُ له ألْبتَّةَ، ولم يتعرَّضْ لها صاحِبُها أيضاً، وكلُّ ذلِكَ إنَّما كان؛ لأنَّ اللَّهَ تعالى أوْقَعَ في قُلُوبِهم تَعْظيمَ البيْتِ الحَرَامِ. فصل قال القُرْطُبِي: ذكر العُلمَاءُ في جعل اللَّه تعالى هذه الأشياء قِيَاماً للناس، أنَّ اللَّه تعالى خلق الخَلْقَ على سَليقَةِ الآدَميِّين، من التَّحَاسُدِ، والتَّنَافُرِ، والتَّقَاطُعِ، والتدابر، والسَّلْبِ، والغَارَةِ، والقَتْل، والثَّأرِ، فلم يكن بُدٌّ في الحِكْمَة الإلهيَّة أنْ يكُونَ مع الحالِ وازعٌ يُحْمَد معهُ المآلُ، فقال تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30] فأمرهُم الله تعالى بالخلافَةِ، وجعل أمُورهُمْ إلى واحدٍ يَمْنَعُهُم من التَّنَاوشِ، ويَحْملُهُم على التَّآلُف من التَّقَاطُعِ، وردِّ المظالِمِ عن المَظْلُومِ، ويقَرِّر كلَّ يدٍ على ما تَسْتَوْلي عليه. واعلم: أنَّ جوْرَ السُّلطان عام واحِدٌ أقَلُّ أذاه كونُ النَّاسِ فَوْضَى لحظَةً واحدة، فأنْشَأ اللَّهُ تعالى الخَليقَةَ لهذه الفَائِدَة، لتجرِيَ على رأيه الأمُور، ويَكُف اللَّهُ تعالى به عاديَة الأمُورِ فعظَّم اللَّهُ تعالى في قُلُوبِهِم البَيْتَ الحرامَ، [وأوقع في قُلُوبهم هَيْبَتَه] وعظَّم بينهم حُرْمَتَهُ، فكان من لجأ إليه مَعْصُوماً قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ} [العنكبوت: 67] . قوله «ذَلِكَ» فيه ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنه خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: الحُكْمُ الذي حكمْنَاهُ ذلك لا غيرُه. والثاني: أنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي ذلك الحكمُ هو الحقُّ لا غيره. الثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ يدُلُّ عليه السِّياقُ، أي: شَرَعَ اللَّهُ ذلك، وهذا أقواها؛ لتعلُّقِ لام العلَّة به، و «تَعْلَموا» منصوبٌ بإضمار «أنْ» بعد لام كَيْ، لا بها، و «أنَّ اللَّه» وما في حَيِّزها سادَّةٌ مَسَدَّ المفعولينِ أو أحدهما على حسبِ الخلافِ المتقدِّم، و {وَأَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} نسقٌ على «أنَّ» قبلها. فإن قيل: أيُّ اتِّصَالٍ لهذا الكلامِ بمَا قَبْلَهُ. قيل: لمَّا عَلِمَ في الأزَل أنَّ مُقْتَضَى طِبَاعِ العَرَب الحرص الشَّديد على القَتْلِ والغارَةِ، وعلمَ أنَّ هذه الحالة لو دَامَتْ بهم، لَعَجَزُوا عن تَحْصيلِ ما يَحْتَاجُونَ إليه، وأدَّى ذلك إلى فَنَائِهِم وانْقِطَاعِهِم بالكُلِّيَّة، دَبَّرَ في ذلك تَدْبِيراً لَطِيفاً، وهو أنَّه تعالى ألْقى في قُلُوبِهمْ تَعْظيمَ البَيْتِ الحَرَامِ وتَعْظِيمَ مَنَاسِكهِ، فصار ذلك سبباً لحصُول الأمْن في البلدِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 539 الحرامِ وفي الشَّهْر الحرام، فلمَّا حصل الأمْنُ في هذا المكانِ، وفي هذا الزَّمَانِ، قَدَروا على تَحْصِيلِ ما يَحْتَاجُون إليه في هذا المكانِ، فاسْتَقَامَتْ مصالح مَعَايِشهم، وهذا التَّدْبِيرُ لا يُمكن إلاَّ إذا كان في الأزَلِ عالماً بِجَمِيع المعلُومَاتِ من الكُلِّيَّاتِ والجُزْئِيَّاتِ، وأنَّهُ بِكُلِّ شَيء عليم. وقيل في الجوابِ: أنَّ الله جعل الكَعْبَة قياماً للنَّاسِ، لأنَّه يَعْلَمُ صلاح العِبَاد، كما يَعْلَمُ ما في السَّماءِ وما في الأرْضِ. وقال الزَّجَّاج: وقد سبق في هذ السُّورةِ الإخْبَارُ عن الغُيُوبِ، والكَشْف عن الأسْرَارِ، مثل قوله تعالى: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ} [المائدة: 41] ، ومثلُ إخبارِهِ بِتَحْرِيفِهم الكُتُبَ فقوله ذلك ليَعْلَمُوا أنَّ اللَّه يعلمُ ما في السَّموات وما في الأرْض راجِعٌ إليه. وقوله تعالى: {اعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، لمَّا ذكر تعالى أنواع رَحْمَتِه لعبادِه، ذكر بَعْدَهُ شِدَّة العقابِ؛ لأنَّ الإيمان لا يَتِمٌُّ إلا بالرَّجَاء والخَوْفِ. قال - عليه السلام -: «لو وُزِنَ المُؤمِنِ ورَجَاؤُهُ لاعتدَلاَ» ، ثُمَّ ذكر بعدهُ ما يَدُلُّ على الرَّحْمَةِ، وهو كونُهُ غَفُوراً رَحِيماً، وهذا يَدُلُّ على أنَّ جانبَ الرَّحْمَةِ أغْلَبُ؛ لأنَّهُ تعالى ذكر فيما قَبْلُ أنْواع رَحْمَتِهِ وكرمِهِ، ثُمَّ ذكرَ أنَّه شَدِيدُ العِقَابِ، ثُمَّ ذكر عَقِيبَهُ وصْفَيْنِ من أوْصَافِ الرحمةِ، وهُوَ كَوْنُهُ غَفُوراً رحيماً، وهذا يَدُلُّ على تَغْلِيبِ جانبِ الرَّحمَةِ على جَانِب العذابِ. قوله تعالى: {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} لما قدَّم التَّرْغيبَ والتَّرْهيبَ بقوله: {أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب وَأَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، أتبعه بذِكْرِ التَّكْليفِ، فقال تعالى: {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} يَعْنِي: أنَّهُ مُكَلَّفٌ بالتَّبليغِ، فلما بلَّغ خرجَ عن العُهْدَةِ، وبَقِيَ الأمْرُ من جانِبِنَا، وإذا عَلِمَ بما تُبْدُونَ وما تَكْتُمُونَ فإن خَالَفْتُمْ، فاعلموا أنَّ اللَّهَ شديدُ العقاب، وإنْ أطَعْتُمْ فاعلمُوا أنَّ اللَّه غفورٌ رحيمٌ. قوله: «إلاَّ البلاغُ» : في رفعه وجهان: أحدهما: أنه فاعلٌ بالجارِّ قبله؛ لاعتماده على النفي، أي: ما استقرَّ على الرَّسُول إلا البلاغُ. والثاني: أنه مبتدأ، وخبره الجارُّ قبله، وعلى التقديرين، فالاستثناء مفرَّغٌ. والبلاغُ يُحْتَمَلُ أن يكون مصدراً [ل «بَلَّغَ» مشدَّداً، أي: ما عليه إلا التبليغُ، فجاء على حذفِ الزوائدِ، ك «نَبَات» بعد «أنْبَتَ» ، ويحتمل أن يكون مصدراً] ل «بَلَغَ» مُخَفَّفاً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 540 بمعنى البُلُوغ، ويكون المعنى: ما عليه إلا البُلُوغُ بتبليغه، فالبلوغُ مُسْتلزمٌ للتبليغِ، فعبَّر باللاَّزمِ عن الملزوم. قوله تعالى: {لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب} لمَّا رغَّب - سبحانه وتعالى - في الطَّاعةِ، والتَّنَزُّهِ عن المَعْصِيَةِ بقوله: {اعْلَمُواْ أَنَّ اللهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، ثمَّ أتْبَعَهُ بالتَّكليفِ بقوله تعالى: {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} ، أتْبَعَهُ بِنَوْعٍ آخَر من التَّرْغيبِ في الطَّاعَةِ وتَرْكِ المعْصِيَةِ، فقال: {قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب} . قال المُفَسِّرُون: أي: الحَلالُ والحرَامُ. وقال السدِّيُّ: المُؤمِنُ والكَافِرُ، وقيل: المُطِيع والعَاصِي، وقيل: الرَّدِيءُ والجيِّد. قال القرطبي: وهذا على ضَرْبِ المثال، والصَّحِيحُ أنَّهُ عَامٌّ، فيتَصَوَّر في المكاسبِ، والأعمالِ، والنَّاس، والمعارف من العُلُومِ وغيْرِها، فالخَبِيثُ [من هذا كُله لا يُفلح ولا يُنجِبُ، ولا تَحْسن له عَاقِبةٌ] وإنْ كثُرَ، والطَّيِّبُ وإنْ قَلَّ نافعٌ. [قوله تعالى] : {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث} . نزلت في شُرَيْج بن ضُبَيْعَة البَكْري، وحجَّاجِ بن بكرِ بن وائل، «فاتَّقُوا اللَّه» ولا تتعرَّضُوا للحجَّاج وإنْ كانُوا مُشرِكِين، وقد مَضَتِ القِصَّةُ أوَّلَ السُّورَة {ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وجواب {وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ} : محذوفٌ، أي: ولو أعْجبكَ كَثْرةُ الخبيثِ، لَما استوى مع الطَّيِّبِ، أو: لما أجْدَى شيئاً في المساواة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 541 في اتِّصال [هذه الآية] بما قَبْلَها وجوه: أحدها: أنَّه تعالى لمَّا قال {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} [المائدة: 99] كأنَّه قال: ما بلَّغَهُ الرَّسُول إلَيْكُم، فَخُذُوهُ وكونوا مُنْقَادِين لَهُ، وما لم يُبَلِّغْهُ إليكم، فلا تسْألوا عنه، ولا تخُوضُوا فيه، فإنَّكُم إن خضتم فيما لا تكليف فيه عَلَيْكم، فربَّما جَاءَكُمْ بسبب ذلك الخَوْضِ من التَّكْلِيف ما يَثْقُل عليْكم ويَشُقُّ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 541 وثانيها: أنَّه تعالى لما قال {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} [المائدة: 99] وهذا ادعَاءٌ منهُ للرِّسالةِ، ثُمَّ الكُفَّار كانوا يُطالِبُونَهُ بعدَ ظُهُورِ المُعْجِزاتِ بمُعْجِزاتٍ أُخَر على سبيلِ التَّعَنُّتِ، كما حَكَى عَنْهُم قولهمُ: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] ، إلى قوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَرًا رَّسُولاً} [الإسراء: 93] ، والمعنى: أنِّي رسولٌ أمِرْتُ بتبْليغِ الشَّرائِعِ والأحْكَام إلَيْكُم، واللَّه تعالى قد أقامَ الدلالة على صِحَّةِ دعْوَى الرِّسالة بإظْهَارِ أنواعٍ كثيرةٍ من المُعْجِزَات، وطلبُ الزِّيادة بَعْدَ ذلك من بابِ التَّعَنُّتِ، وذلك لَيْس في وُسْعِي، ولعلَّ إظْهَارَها يوجبُ ما يَسُوؤكُم، مثل أنَّها لو ظَهَرَتْ فكُلُّ من خالفَ بعد ذلك، اسْتَوْجَبَ العِقَابَ في الدُّنيا، ثُمَّ إنَّ المُسْلِمِينَ لمَّا سَمِعُوا مُطالبَةَ الكُفَّار للرَّسُولِ بهذه المُعْجِزَات، وقع في قُلوبِهِم مَيْلٌ إلى ظُهُورها، فَعَرفُوا في هذه الآية أنَّهم لا يَنْبَغِي أن يُطالِبُوا ذلك، فربما كان ظُهُورها يُوجبُ ما يَسُوؤهُم. وثالثها: أنَّ هذا مُتَّصِلٌ بقوله: {والله يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} [المائدة: 99] ، فاتركُوا الأمُورَ على ظَوَاهِرِهَا، ولا تَسْألُوا عن أحْوال مُخِيفَةٍ إنْ تُبْدَ لَكُم تَسُؤكُمْ. قوله تعالى: «عَنْ أشْيَاءَ» : متعلق ب «تَسْألُوا» . واختلف النحويُّون في «أشْيَاء» على خمسة مذاهب: أحدها - وهو رأي الخليل وسيبويه والمازنيِّ وجمهور البصريين -: أنها اسمُ جمعٍ من لفظ «شَيْء» ، فهي مفردةٌ لفظاً جمعٌ معنًى؛ ك «طَرْفَاء» ، و «قَصْبَاء» ، وأصلها: «شَيْئاًء» بهمزتين بينهما ألفٌ، ووزنها فعلاء؛ ك «طَرْفَاء» ، فاستثقلوا اجتماع همزتين بينهما ألفٌ، لا سيما وقد سبقها حرفُ علَّة، وهي الياءُ، وكَثُر دورُ هذه اللفظةِ في لسانهم، فقلبوا الكلمةَ بأنْ قَدَّمُوا لامَها، وهي الهمزةُ الأولى على فائها، وهي الشين؛ فقالوا «أشْيَاء» فصارَ وزنُها «لَفْعَاء» ، ومُنِعَتْ من الصرف؛ لألف التأنيث الممدودة، ورُجِّح هذا المذهبُ بأنه لم يلزمْ منه شيءٌ غيرُ القَلْب، والقلبُ في لسانهم كثيرٌ ك «الجَاهِ، والحَادِي، والقسيِّ، وناءَ، وآدُرٍ، وآرَامٍ، وضِئَاء في قراءة قُنْبُل، وأيِسَ» ، والأصل: «وَجهٌ، وواحِدٌ، وقُووسٌ، ونَأى، وأدْوُرٌ، وأرَامٌ، وضِيَاء، ويَئِسَ» ، واعترضَ بعضُهم على هذا بأن القلْبَ على خلافِ الأصْلِ، وأنه لم يَرِدْ إلا ضرورةً، أو في قليلٍ من الكلام، وهذا مردودٌ بما قدَّمْتُه من الأمثلةِ، ونحن لا نُنْكِرُ أنَّ القلبَ غير مُطَّردٍ؛ وأما الشاذُّ القليلُ، فنحو قولهم: «رَعَمْلِي» في «لَعَمْرِي» ، و «شَوَاعِي» في «شَوَائع» ؛ قال: [الكامل] 2055 - وكَأنَّ أوْلاَهَا كِعَابُ مُقَامِرٍ ... ضُرِبَتْ على شُزُنٍ فَهُنَّ شَوَاعِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 542 [يريد شَوَائِع] . وأمَّا المذاهبُ الآتية، فإنه يَرِدُ عليها إشكالاتٌ، هذا المذهبُ سالمٌ منها؛ فلذلك اعتبره الجُمْهُور دون غيره. وقال ابنُ الخطيبِ: منعَ الصَّرْفُ لثلاثة أوجهٍ: أحدها: ما تقدَّم، وهو أنَّ هذه الكلمةَ لمَّا كانَتْ في الأصْلِ على وزن «فَعْلاء» مثل «حَمْرَاء» ، فلم يتَصَرَّفْ كَحَمْرَاء. وثانيها: لمَّا كانَتْ في الأصْل «شيآء» ، ثُمَّ جُعِلَت أشْيَاء مَنَعَ ذَلِكَ الصَّرْف. وثالثها: أنَّا لمَّا قَطَعْنَا الحَرْفَ الأخِيرَ منهُ، وجَعَلْنَاهُ أوَّلَه، والكَلِمَةُ إذا قُطِع منها الحرْفُ الأخيرُ صارت كنصْفِ كَلِمَة، ونِصْفُ الكلمةِ لا تَقْبَلُ الإعراب، ومن حيث إنَّ ذلك الحَرْفَ الذي قَطَعْنَاهُ، لم نحذِفْهُ بالكُلِّيَّة، بل ألصَقْنَاهُ بأوَّلِ الكَلِمَةِ، فَكَأنَّها بَاقِيَةٌ بِتَمامِهَا، فلا جرم مَنْعْنَاهُ في بَعْضِ وُجُوه الإعراب دون البَعْض. الثاني - وبه قال الفراء -: أن «أشْيَاء» جمع ل «شَيْء» ، والأصل في «شَيْء» : «شَيِّئ» على «فَيْعِلٍ» ك «لَيِّن» ، ثم خُفِّفَ إلى «شَيْء» ؛ كما خففوا لَيناً، وهَيِّناً، وميِّتاً إلى لَيْنٍ، وهيْنٍ، وميْتٍ، ثم جمعه بعد تخفيفه، وأصله «أشْيِئَاء» بهمزتين بينهما ألفٌ بعد ياءٍ بزنة «أفْعِلاء» ، فاجتمع همزتان: لامُ الكلمة والتي للتأنيث، والألف تشبهُ الهمزة والجَمْعُ ثقيلٌ، فخَفَّفُوا الكلمة؛ بأن قلبوا الهمزة الأولى ياءً؛ لانكسار ما قبلها، فيجتمع ياءان، أولاهما مكسورةٌ، فحذفوا الياء التي هي عينُ الكلمة تخفيفاً، فصارت «أشْيَاء» ، ووزنها الآن بعد الحذف «أفْلاء» فمَنْعُ الصرف؛ لأجْلِ ألفِ التأنيثِ، وهذه طريقةُ بعضهم في تَصْريف هذا المذهب؛ كمكي بن ابي طالب، وقال بعضهم كأبي البقاء: لمَّا صارت إلى أشْيِئَاء، حُذِفَتِ الهمزة الثانيةُ التي هي لام الكلمة؛ لأنَّها بها حصل الثِّقَلُ، وفُتِحَتِ الياءُ المكسورةُ؛ لتسلمَ ألف الجَمْعِ، فصار وزنُها: أفْعَاء. المذهب الثالث - وبه قال الأخفش -: أنَّ أشْياء جمعُ «شَيْءٍ» [بزنة فَلْسٍ، أي: ليس مخفَّفاً من «شَيِّئ» ، كما يقوله الفرَّاء، بل جمع «شَيْء» ] ، وقال: إنَّ فَعْلاً يجمعُ على أفْعِلاَء، فصار أشْيِئَاء بهمزتَيْنِ بينهما ألفٌ بعد ياء، ثم عُمِلَ فيه ما عُمِلَ في مذْهَب الفرَّاء، والطريقانِ المذْكُوران عن مَكِّيٍّ وأبي البقاء في تصريف هذا المذهب جاريان هنا، وأكثر المصنِّفين يذكرون مذهب الفرَّاء عنه وعن الأخفش، قال مكي: «وقال الفرَّاء والأخفش؛ والزياديُّ:» أشْيَاء «وزنها» أفْعِلاء «، وأصلها» أشْيِئَاء «؛ ك» هَيِّنٍ وأهْوِنَاء «، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 543 لكنه خُفِّفَ» . ثم ذكر تصريفَ الكلمةِ إلى آخره، وقال أبو البقاء: «وقال الأخفشُ والفراء: أصلُ الكلمةِ» شَيِّئ «مثل» هَيِّنٍ «، ثم خُفِّف بالحذف» ، وذكر التصريف إلى آخره، فهؤلاء نقلوا مذهبهما شيئاً واحداً، والحقُّ ما ذكرته عنهُما؛ ويدلُّ على ما قلته ما قاله الواحديُّ؛ فإنه قال: «وذهبَ الفرَّاء في هذ الحرف مذهب الأخفش» ، غير أنه خلطَ حين ادَّعى أنها كهَيْنٍ وليْنٍ حين جمعا على أهْوِنَاء وألْيِنَاء، وهَيْنٍ تخفيف «هَيِّن» ؛ فلذلك جاز معه على أفْعِلاء، وشَيْء ليس مخفَّفاً من «شَيِّئ» حتى يُجْمَعَ على أفْعِلاء، وهذان المذهَبَان - أعني مذهب الفراء والأخفشِ - وإن سَلِمَا من منع الصَّرْف بغير علَّة، فقد ردَّهُمَا الناس، قال الزجَّاج: «وهذا القَوْلُ غَلَطٌ؛ لأنَّ» شَيئاً «فعلٌ، وفعلٌ لا يجمعُ على أفْعِلاء، فأما هَيِّنٌ وليِّنٌ، فأصلُه: هَيِينٌ ولَيِينٌ، فجُمِعَ على أفعلاء، كما يُجْمَعُ فَعِيلٌ على أفعلاء؛ مثل: نَصِيب وأنْصِبَاء» قال شهاب الدين: وهذا غريبٌ جدًّا، أعني كونه جعل أنَّ أصلَ «هيِّن» «هَيِين» بزنة فعيلٍ، وكذا ليِّنٌ ولَيِينٌ، ولذلك صرح بتشبيههما بنصيبٍ، والناسُ يقولون: إنَّ هَيِّناً أصله هَيْونٌ، كميِّتٍ أصله مَيْوتٌ، ثم أعِلَّ الإعلال المعروف، وأصل ليِّنٍ: لَيْينٌ بياءين، الأولى ساكنة والثانية مكسورةٌ، فأدغمتِ الأولى، والاشتقاقُ يساعدُهم؛ فإن الهيِّنَ من هانَ يَهُونُ، ولأنَّهم حين جمعوه على أفعلاء أظْهَرُوا الواو، فقالوا: أهْوِنَاء. وقال الزجَّاج: «إنَّ المازنيَّ ناظر الأخفش في هذه المسألة، فقال له: كيف تُصَغِّرُ أشْيَاء؟ قال: أقول فيها أُشيَّاء. فقال المازنيُّ: لو كانت أفعالاً، لرُدَّتْ في التصغير إلى واحدهَا، وقيل: شُيَيْئَات، مثل شُعَيْعات، وإجماعُ البصريِّين أن تصغير» أصدقَاء «إن كان لمؤنث» صُدَيِّقَات «، وإن كان لمذكر:» صُدَيقُونَ «فانقطع الأخْفَشُ» ، وبَسْطُ هذا أنَّ الجمع المُكَسَّرَ، إذا صُغِّرَ: فإمَّا أن يكون من جموع القلَّة، وهي أربعٌ على الصحيح: أفْعِلَةٌ وأفْعُل وأفْعَالٌ وفِعْلَةٌ، فيُصَغَّرُ على لفظه، وإن كان من جموع الكثرة فلا يُصغَّر على لفظه على الصحيح، وإنْ وردَ منه شيءٌ، عُدَّ شَاذًّا ك «أصَيْلان» تصغير «أصْلاَن» جمع «أصيل» ، بل يُرَدُّ إلى واحده؛ فإن كان من غير العقلاء، صُغِّرَ وجُمِعَ بالألف والتاء، فتقول في تصغير حُمُرٍ جمع حِمارٍ: «حُمَيْرات» ، وإن كان من العقلاء صُغِّرَ وجمع بالواو والنون، فتقول في تصغير «رِجَال» : «رُجَيْلُونَ» ، وإن كان اسم جمعٍ ك «قَوْم» و «رَهْط» أو اسم جنسٍ، ك «قَمَر» و «شَجَر» صُغِّر على لفظه كسائر المفردات، رجعنا إلى «أشْيَاء» ، فتصغيرُهم لها على لفظها يَدُلُّ على أنها اسمُ جمع؛ لأنَّ اسم الجمع يُصَغَّر على لفظه، نحو: «رُهَيْط» و «قُوَيْم» ، وليس بجمعِ تكسيرٍ؛ إذ هي من جموعِ الكثرة، ولم تُرَدَّ إلى واحدها، وهذا لازمٌ للأخفشِ؛ لأنه بصريٌّ، والبصريُّ لا بدَّ وأن يفعل ذلك، وأصَيْلان عنده شاذٌ، فلا يقاسُ عليه، وفي عبارة مَكِّيٍّ قال: «وأيضاً فإنه الجزء: 7 ¦ الصفحة: 544 يلزمُهُم أن يُصَغِّروا» أشْيَاء «على» شُوَيَّات «، أو على» شُيَيْئَات «، وذلك لم يَقُلْه أحد» . قال شهاب الدين: قوله «شُوَيَّات» ليس بجيِّد؛ فإن هذا ليس موضع قلب الياء واواً، ألا ترى أنك إذا صغَّرْتَ بيتاً، قلت: بُيَيْتاً لا بُوَيْتاً، إلاَّ أنّ الكوفيِّين يُجيزُونَ ذلك، فيمكنُ أن يُرَى رأيهم، وقد ردَّ مكيٌّ أيضاً مذهب الفراء والأخفش بشيئين: أحدهما: أنه يلزمُ منه عدمُ النظير؛ إذ لم يقع «أفْعِلاء» جمعاً ل «فَيْعِل» فيكون هذا نظيرهُ، وهَيِّن وأهْوِنَاء شاذٌّ لا يقاس عليه. والثاني: أن حذفه واعتلاله مُجْرى على غير قياسٍ، فهذا القولُ خارجٌ في جمعه واعتلاله عن القياس والسَّماع. المذهب الرابع - وهو قول الكسائي وأبي حاتم -: أنها جمعُ شيءٍ على أفعالٍ ك «بَيْتٍ» و «أبْيَاتٍ» و «ضَيْفٍ» و «أضْيَافٍ» ، واعترض الناس هذا القول؛ بأنه يلزم منه منعُ الصرفِ بغير علته؛ إذ لو كان على «أفْعَال» ، لانصرفَ كأبْيَاتٍ، قال الزجَّاج «أجمع البصريُّون وأكثر الكوفيِّين على أن قول الكسائيِّ خطأ، وألزموه ألاَّ يصرفَ أنْبَاء وأسْمَاء» . قال شهاب الدين: والكسائيُّ قد استشعر بهذا الردِّ، فاعتذر عنه، ولكن بما لا يُقْبَلُ، قال الكسائيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «هي - أي أشياء - على وزن أفعالٍ، ولكنها كَثُرَتْ في الكلام، فأشبهَتْ فعلاء، فلم تُصْرَف كما لم يُصْرَفْ حَمْرَاء» ، قال: «وجَمَعُوهَا أشَاوَى، كما جمعوا عذرَاء وعَذارَى، وصَحْرَاء وصَحَارى، وأشْيَاوَات كما قيل حَمْرَاوَات» ، يعني أنهم عاملوا «أشْيَاء» ، وإن كانت على أفعالٍ معاملةَ حَمْرَاء وعَذْرَاء في جمعي التكسير والتصحيح، إلا أن الفرَّاء والزجَّاج اعترضا على هذا الاعتذار، فقال الفرَّاء: «لو كان كما قال، لكان أملكَ الوجهين أنْ تُجْرَى؛ لأن الحرْفَ إذا كَثُرَ في الكلام، خَفَّ وجاز أن يُجْرَى كما كَثُرَتِ التسميةُ ب» يَزِيدَ «، وأجروه في النَّكرة، وفيه ياءٌ زائدةٌ تَمْنَعُ من الإجراء» . والمراد بالإجراء الصرْفُ، وقال الزجَّاج: «أجمع البصريون وأكثر الكوفيِّين» وقد تقدَّم آنفاً، وقال مكي: «وقال الكسائيُّ وأبو عُبَيْد: لم تَنْصَرِفْ - أي أشياء -؛ لأنها أشبهت» حَمْرَاء «؛ لأن العرب تقول:» أشْيَاوَات «كما تقول:» حَمْرَاوَات «قال:» ويلزمُهما ألاَّ يَصْرِفَا في الجمْعِ أسْمَاء وأبْنَاء لقول العرب فيهما: أسْمَاوَات وأبْنَاوَات «، وقد تقدَّم شرح هذا، ثم إنَّ مَكِّيًّا - رَحِمَهُ اللَّهُ - بعد أن ذكر عن الكسائيِّ ما تقدَّم، ونقل مذهب الأخفشِ والفرَّاء، قال:» قال أبو حاتم: أشياء أفعال جمع شَيءٍ كأبياتٍ «فهذا يُوهِمُ أن مذهب الكسائيِّ المتقدِّمَ غيرُ هذا المذهب، وليس كذلك، بل هو هو، وقد أجاب بعضهم عن الكسائيِّ بأن النحويِّين قد اعتبروا في باب ما لا يَنصرِفُ الشبه اللفظيَّ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 545 دون المعنويَّ، يَدُلُّ على ذلك مسألةُ» سَراويلَ «في لغةِ مَنْ يمنعُه؛ فإنَّ فيه تأويليْن: أحدهما: أنه مفردٌ أعجميٌّ، حُمِلَ على مُوازنِهِ في العربيَّة، أي صيغة مصابيح مثلاً؛ ويدُلُّ له أيضاً أنهم أجروا ألف الإلحاقِ المقْصُورة مُجْرَى ألف التأنيث المقْصُورة، ولكن مع العلميَّة، فاعتبروا مُجَرَّدَ الصُّورة. المذهب الخامس: أنَّ وزنها «أفْعِلاء» أيضاً جَمْعاً ل «شَييءٍ» بزنة «ظَرِيفٍ» ، وفعيلٌ يجمع على أفْعِلاء، ك «نَصِيبٍ وأنْصِبَاء» ، و «صَديقٍ وأصْدِقَاء» ، ثم حُذِفت الهمزة الأولى التي هي لامُ الكلمة، وفُتحتِ الياءُ؛ لتسلمَ ألفُ الجمع؛ فصارت أشياء، ووزنُها بعد الحذف أفْعَاء، وجعله مَكِّيٌّ في التصريف كتصريف [مذهب] الأخفشِ؛ من حيث إنه تُبْدَلُ الهمزة ياءً، ثم تُحْذفُ إحدى الياءين، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وحَسَّنَ الحذفَ في الجمع حَذْفُها في الواحد، وإنما حُذِفَتْ من الواحد؛ تخفيفاً لكثرة الاستعمال؛ إذ» شَيْء «يقعُ على كل مُسَمًّى من عرضٍ، أو جوهرٍ، أو جسمٍ، فلم ينصرفْ لهمزةِ التأنيثِ في الجمع» ، قال: «وهذا قولٌ حسنٌ جارٍ في الجَمْعِ، وتُرِكَ الصرفُ على القياس، لولا أنَّ التصغير يعترضُهُ، كما اعترض الأخْفَش» . قال شهاب الدين: قوله «هذا قول حسن» ، فيه نظر؛ لكثرة ما يَرِدُ عليه، وهو ظاهر ممَّا تقدَّم، ولمَّا ذكر أبو حيان هذا المذهب، قال في تصريفه: «ثمَّ حذفتِ الهمزة الأولى، وفتحت ياءُ المدِّ؛ لكون ما بعدها ألفاً» ، قال: «وَزْنُهَا في هذا القولِ إلى» أفْيَاء «، وفي القول قبله إلى» أفْلاء «، كذا رأيته» أفْيَاء «، بالياء، وهذا غلطٌ فاحشٌ، ثم إنِّي جوَّزتُ أن يكون هذا غلطاً عليه من الكاتبِ، وإنما كانت» أفْعَاء «بالعين، فصحَّفها الكاتب إلى» أفْيَاء «، وقد ردَّ الناس هذا القول: بأنَّ أصل شَيْء:» شَيِيءٌ «بزنة» صديقٍ «دعوى من غير دليل، وبأنه كان ينبغي ألاَّ يُصَغَّر على لفظه، بل يُرَدُّ إلى مفرده؛ كما تقدم تحريره. وقد تلخص القول في «أشْيَاء» : أنها هَلْ هي اسمُ جمعٍ، وأصلها «شَيْئَاء» ؛ كطَرْفَاء، ثم قُلِبت لامُها قبل فائِها، فصار وزنُها «لَفْعَاء» أو جمعٌ صريحٌ؟ وإذا قيل بأنها جمعٌ صريحٌ، فهل أصلها «أفْعِلاء» ثم تحذفُ، فتصير إلى «أفْعَاء» أو «أفْلاَء» ، أو أنَّ وزنها «أفْعَال» ؛ كأبْيَات. قوله تعالى: «إنْ تُبْدَ» شرط، وجوابه «تَسُؤكُمْ» ، وهذه الجملة الشرطية في محلِّ جرِّ صفةً ل «أشْيَاء» ، وكذا الشرطيَّة المعطوفة أيضاً، وقرأ ابن عبَّاس: «إنَّ تَبْدُ لَكُمْ تَسُؤكُمْ» ببناء الفعليْنِ للفاعلِ، مع كون حرف المضارعةِ تاءً مثنَّاةً من فوقُ، والفاعل ضميرُ «أشْياء» ، وقرأ الشعبي - فيما نقله عنه أبو محمَّد بن عطيَّة: «إنْ يَبْدُ» بفتح الياء من الجزء: 7 ¦ الصفحة: 546 تحتُ، وضم الدال، «يَسُؤكُمْ» بفتح الياء من تحتُ، والفاعل ضميرٌ عائدٌ على ما يليق تقديره بالمعنى، أي: إنْ يَبْدُ لكُمْ جوابُ سؤالكُمْ أو سُؤلُكُمْ، يَسُؤكُمْ، ولا جائزٌ أن تعود على «أشْيَاء» ؛ لأنه جارٍ مجرَى المؤنَّث المجازيِّ، ومتى أسند فعلٌ إلى ضمير مؤنَّثٍ مطلقاً، وجبَ لَحَاقُ العلامة على الصحيح، ولا يُلتفتُ لضرورة الشعر، ونقل غيره عن الشعبيِّ؛ أنه قرأ: «يُبْدَ لَكُمْ يَسُؤكُمْ» بالياء من تحت فيهما، إلا أنه ضمَّ الياء الأولى وفتح الثانية، والمعنى: إن يُبْدَ - أي يُظْهَر - السؤالُ عَنْهَا، يَسُؤكُمْ ذلك السُّؤالُ، أي: جوابُهُ، أو هُوَ؛ لأنه سببٌ في ذلك والمُبْدِيه هو اللَّهُ تعالى، والضميرُ في «عَنْهَا» يحتمل أن يعود على نوعِ الأشياءِ المنهِيِّ عنها، لا عليها أنفسها، قاله ابن عطيَّة، ونقله الواحديُّ عن صاحب «النَّظمِ» ، ونظَّرهُ بقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] يعني آدم، «ثُمَّ جعلْنَاهُ» قال «يعني ابنَ آدَمَ» فعاد الضميرُ على ما دلَّ عليه الأول، ويحتملُ أن يعود عليها أنْفُسِها، قاله الزمخشريُّ بمعناه. قوله: {حِينَ يُنَزَّلُ القرآن} في هذا الظرفِ احتمالان: أظهرهما: أنه منصوبٌ ب «تسْألُوا» ، قال الزمخشريُّ: «وإنْ تَسْألُوا عنها: عن هذه التكاليفِ الصعبةِ، حين يُنَزَّلُ القرآنُ: في زمانِ الوحي، وهو ما دام الرسولُ بين أظْهُرِكُمْ يُوحَى إليه تَبْدُ لكم تلك التكاليفُ التي تَسُؤكُمْ وتُؤمَرُوا بتحمُّلِها، فَتُعَرِّضُوا أنفسكُمْ لِغَضَبِ اللَّهِ؛ لتفريطكم فيها» ، ومن هنا قلنا: إنَّ الضمير في «عَنْهَا» عائدٌ على الأشياءِ الأولِ، لا على نوعها. والثاني: أنَّ الظرف منصوبٌ ب «تُبْدَ لَكُمْ» ، أي: تَظْهَرْ لكم تلك الأشياءُ حين نُزُولِ القرآنِ، قال بعضهم: «في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ؛ لأنَّ التقدير: عن أشياءَ، إنْ تُسْألوا عَنْهَا، تُبْدَ لكم حين نُزولِ القرآنِ، وإن تُبْدَ لَكُمْ، تَسُؤكُمْ» ، ولا شك أن المعنى على هذا الترتيب، لا أنه لا يقالُ في ذلك تقديمٌ وتأخيرٌ، فإنَّ الواو لا تقتضي ترتيباً، فلا فرق، ولكن إنما قُدِّم هذا أولاً على قوله: «وإنْ تَسْألُوا» ؛ لفائدةٍ، وهي الزجرُ عن السؤالِ؛ فإنه قدَّم لهم أنَّ سؤالهم عن أشياء متى ظهرتْ، أساءتهم قبل أن يُخْبِرَهم بأنهم إنْ سألُوا عنها، بدتْ لهم لينزجرُوا، وهو معنًى لائقٌ. قوله: {عَفَا الله عَنْهَا} فيه وجهان: أحدهما: أنه في محلِّ جرٍّ؛ لأنه صفةٌ أخرى ل «أشياء» ، ولا حاجة إلى ادِّعاء التقديم والتأخيرِ في هذا؛ كما قاله بعضهم، قال: «تقديرُه: لا تَسْألُوا عن أشْيَاءَ عفا الله عَنْهَا إنْ تُبْدً لَكُمْ إلى آخر الآية» ؛ لأنَّ كلاًّ من الجملتين الشرطيَتَيْنِ وهذه الجملة صفةٌ ل «أشْيَاء» ، فمِنْ أين أنَّ هذه الجملةَ مستحقةٌ للتقديمِ على ما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 547 قبلها؟ وكأنَّ هذا القائل إنَّما قدَّرَها متقدِّمةً؛ ليتضحَ أنها صفةٌ لا مستأنفةٌ. والثاني: أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، والضميرُ في «عَنْهَا» على هذا يعودُ على المسألةِ المدُلولِ عليها ب «لا تَسألُوا» ، ويجوزُ أنْ تعودَ على «أشْيَاء» ، وإنْ كان في الوجه الأولِ يتعيَّن هذا؛ لضرورةِ الربطِ بين الصفةِ والموصوف. فصل في سبب نزول الآية في سببِ نزولِ الآية: ما روى [قتادة] عن أنسْ: «سألوا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتَّى أحفوه بالمسْئَلَةِ، فغضِبَ فصَعَد المِنْبَر، قال:» لا تَسْألُونِي اليَوْمَ عن شَيْءٍ إلاَّ بَيَّنْتُهُ لكم «، فجعلتُ أنظر يميناً وشمالاً، فإذا كلّ رَجُل لاف رأسَهُ في ثوبِه يَبكِي، فإذا [رَجُلٌ] كان [إذا] لاقى الرِّجالَ يُدْعَى لغير أبيه، فقال: يا رسُول اللَّهِ، من أبِي؟ قال:» حُذافَةُ «، ثم أنشأ عُمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال: رضينا باللَّه رَبًّا وبالإسْلام ديناً، وبمُحَمَّدٍ رسُولاً، نعوذُ باللَّه من الفِتَنِ، فقال رسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ما رأيتُ في الخَيْرِ والشَّرِّ كاليَوْمِ قَطّ، إنه صُوِّرتْ لي الجنَّةُ والنَّارُ حتَّى رَأيْتُهُمَا ورَاءَ الحَائِطِ «وكان قتادةُ يَذْكُر عِنْدَ هذا الحديثِ هذه الآية. وقال يونُسُ عن [ابن] شهابٍ: أخْبَرَنِي عُبَيْد الله بن عبد الله قال: قالتْ أمُّ عبد الله بن حُذافةَ لعبد الله بن حُذافَة: ما سمعت بابْن قَطُّ أعقَّ منك أأمنت أن تكُونَ أمُّكَ قد فارقت بعْضَ ما يُفارق نساء الجاهليَّةِ، فتَفْضَحَهَا على أعْيُنِ النَّاسِ؟ قال عبد الله بن حُذَافة:» واللَّهِ لَوْ ألْحَقَنِي بعبْدٍ أسْوَد [لَلَحِقْتُه] «. ورُوِيَ أنَّ عُمَر قال: «يا رسُول الله، أنا حَدِيثُ عُهْدٍ [بجاهلية] ، فاعفُ عنَّا يَعْفُ اللَّهُ عَنْكَ، فسكَنَ غَضَبُهُ» . وروى ابْنُ عبَّاسٍ قال: كان قومٌ يَسْألُون رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استهْزَاءً، فيقول الرجل مَنْ أبِي؟ ويقولُ الرَّجُلُ تَضِلُّ نَاقَتُهُ أين نَاقَتِي؟ فأنْزَلَ اللَّهُ تعالى هذه الآية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 548 ورُوِيَ عن عَلِيٍّ بن أبِي طالبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: لمَّا نزلت {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران: 97] ، قال سُرَاقَةُ بن مالكٍ: - «ويروى عكاشَةُ بن محصن - يا رسُول اللَّهِ أفي كُلِّ عامٍ؟ فأعْرَضَ عنهُ، فعاد مَرَّتَيْنِ أوْ ثلاثاً، فقال رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» مَا يُؤمنكَ أنْ أقُولَ: نَعَمْ، واللَّهِ لو قُلْتُ: نَعَمْ لوَجَبَتْ، وَلَو وَجَبَتْ ما استطعْتُم، فاتْركُونِي ما تَرَكْتُكُمْ، فإنَّمَا هَلَكَ مَنْ كان قَبْلَكُمْ بِكَثْرَةِ سُؤالِهِم، واخْتِلافِهِم على أنْبِيَائِهم، فإذا أمَرْتُكُمْ بأمْرٍ فأتُوا مِنْهُ ما اسْتَطعْتُمْ، وإذا نَهَيْتُكُم عَنْ شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ «فأنْزَل اللَّهُ هذه الآية. فإنَّ من سألَ عن الحَجِّ لَمْ يَأمَنْ أنْ يُؤمَرَ به في كُلِّ عامٍ فَيَسُوؤه، ومن سألَ عن نَسَبِهِ لمْ يَأمَنْ أن يُلْحِقَه بِغيرِهِ، فَيَفْتَضِحَ. وقال مُجَاهِد: نزلت حين سَألُوا رسُول اللَّهَ إنْ أحَلَّ أحِلُّوا، وإن حرَّمَ اجْتَنِبُوا، ولو تَرَكَ بين ذلك أشياءَ لم يُحَلِّلْهَا ولمْ يُحَرِّمها، فذلك عَفْوٌ من اللَّهِ، ثمَّ يَتْلُو هذه الآية. وقال أبُو ثَعْلَبَة الخشني: إنَّ اللَّه إنْ أحَلَّ تعالى بيَّنَ في الآية الأولى فرضَ فرائِضَ فلا تُضَيِّعُوهَا، ونَهَى عن أشياء فلا تَنْتَهِكُوهَا، وحَدَّ حُدُوداً فلا تَعْتَدُوها، وعَفَا عن أشْيَاءَ من غير نِسْيَانٍ فلا تَبْحَثُوا عنها، ثم إنَّ تلك الأشياء التي سألُوا عنها ظهر لهم ما يسوؤهم. وقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -:» إن من أعْظَمِ المُسْلِمين في المُسْلِمين جُرْماً، من سألَ عن شَيْءٍ لَمْ يُحرَّم فَحُرِّم من أجْلِ مَسْألَتِهِ «. وقوله: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ} معناه: إن صَبَرْتُمْ حتَّى [ينزل] القرآنُ بحكم من فرضٍ أو نهيٍ، وليسَ في ظاهرهِ شَرْح ما بكم فيه حَاجَةٌ، ومَسَّتْ حَاجَتُكُمْ إليه، فإذَا سَألْتُم عَنْهَا حينئذْ تُبْدَ لَكُم {عَفَا الله عَنْهَا والله غَفُورٌ حَلِيمٌ} . واعلم أنَّ السُّؤالَ على قسمَيْن: أحدهما: السُّوالُ عن شَيْءٍ لَمْ يَجْرِ ذكْرُه في الكتابِ والسُّنَّة بوجه من الوُجُوه، فهذا السُّؤالُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ لهذه الآية. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 549 والقسم الثاني: السُّؤال عن شيء نزل به القُرآنُ، لكنَّ السَّامِع لَمْ يَفْهَمْهُ كما يَنْبَغِي، فَههُنَا يَجِبُ السُّؤالُ عنه، وهُوَ مَعْنَى قوله: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ} . والفائِدَةُ في ذِكْرِ هذا القسْمِ؛ أنَّه لما منعَ في الآيَةِ الأولَى من السُّؤالِ، أوْهَمَ أنَّ جَمِيع أنْوَاع السُّؤال مَمْنُوع منه، فذكرَ ذلك تَمْيِيزاً لهذا القِسْمِ عن ذَلِكَ. فإن قيل: قوله: {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا} ، هذا الضَّمِيرُ عائدٌ إلى الأشياء المذكُورَة في قوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ} ، فكيف يُعقلُ في» أشْياء «بأعْيَانِهَا أن يكون السُّؤال عنهَا مَمْنُوعاً وجَائِزاً معاً؟ . فالجوابُ من وَجْهَيْن: الأول: جاز أن يكون السُّؤالُ عنها مَمْنُوعاً قَبْلَ نُزُولِ القُرْآنِ بِهَا، ومأمُوراً بها بَعْدَ نُزُولِ القُرْآنِ بها. الثاني: أنَّهُمَا وإن كانا نَوْعَيْن مُخْتلِفَين، إلاَّ أنَّهُمَا في كوْنِ كلٍّ منهما واحدٌ مَسْؤولٌ عنه شَيْءٌ واحِدٌ، فلهذا الوجه حَسُنَ اتِّحَاد الضَّمِير، وإن كان في الحَقيقَةِ نَوْعَيْنِ مُخْتَلِفَيْن. فإن قيل: ما ذكر من كراهةِ السُّؤالِ والنَّهْي عنْهُ يُعَارِضُهُ قوله تعالى: {فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء: 7] فالجواب: هذا الذي أمَرّ اللَّهُ به عِبَادَهُ، هو ما تَقرَّرَ وثَبَتَ وُجُوبُهُ، مِمَّا يَجِبُ عليهم العملُ به، والَّذِي نَهَى عنه هو ما لَمْ يَقْصِد اللَّهُ به عِبَاده، ولم يَذْكُرْهُ في كِتَابِهِ. قوله: «قَدْ سَألَهَا» : الضميرُ في «سَألَهَا» ظاهرُه يعود على «أشْيَاء» ، لكن قال الزمخشري: «فإن قلتَ: كيف قال: لا تَسْألُوا عنْ أشْيَاء، ثم قال:» قَدْ سَألَهَا «ولم يقل سأل عنها؟ قلت: ليس يعودُ على أشياء؛ حتى يتعدَّى إليها ب» عَنْ «، وإنما يعودُ على المسألةِ المدلولِ عليها بقوله:» لا تَسْألُوا «، أي: قد سأل المَسْألَةَ قومٌ، ثم أصبحُوا بها - أي بمَرْجُوعِهَا - كافِرِين» ، ونحا ابن عطية منْحَاهُ، قال أبو حيان: «ولا يتَّجِه قولُهما إلا على حذفِ مضافٍ، وقد صَرَّحَ به بعضُ المفسِّرين، أي: قد سأل أمثالها، أي: أمثالَ هذه المسألةِ، أو أمثال هذه السؤالاتِ» ، وقال الحُوفِيُّ في «سَألَهَا» : «الظاهرُ عَوْدُ الضَّميرِ على» أشْيَاء «ولا يتّجه حَمْلُه على ظاهره، لا من جهة اللفظ العربيِّ، ولا من جهةِ المعنى، أمَّا من جهة اللفظ: فلأنه كان ينبغي أن يُعَدَّى ب» عَنْ «كما عُدِّيَ في الأوَّل، وأمَّا من جهة المعنى، فلأنَّ المسئُول عنه مختلفٌ قَطْعَاً؛ فإنَّ سؤالهم غيرُ سؤالِ من قبلهم؛ فإنَّ سؤال هؤلاء مثلُ من سَألَ: أيْنَ نَاقَتِي، وما فِي بَطْنِ نَاقَتِي، وأيْنَ أبِي، وأيْنَ مَدْخَلِي؟ وسؤالُ أولئك غيرُ هذا؛ نَحْو: {أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً} [المائدة: 114] {أَرِنَا الله الجزء: 7 ¦ الصفحة: 550 جَهْرَةً} [النساء: 153] {اجعل لَّنَآ إلها} [الأعراف: 138] وسؤال ثمود الناقة، ونحوه» . وقال الواحديُّ - ناقلاً عن الجرجانيِّ -: وهذا السؤالُ في هذه الآيات يخالفُ معنى السؤال في قوله: {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ} {وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا} ؛ ألا ترى أنَّ السؤال في الآية الأولى قد عُدِّيَ بالجارِّ، وها هنا لم يُعَدَّ بالجارِّ؛ لأن السؤالَ ها هنا طلبٌ لعينِ الشيء؛ نحو: «سَألْتُكَ دِرْهَماً» أي طلبته منْكَ، والسؤالُ في الآية الأولى سؤالٌ عن حالِ الشيء وكيفيَّتِهِ، وإنما عطف بقوله {قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ} على ما قبلَها وليستْ بمثلِها في التأويل؛ لأنه إنما نهاهم عن تكليف ما لم يُكَلَّفُوا، وهو مرفوعٌ عنْهم فهُمَا يَشْتَرِكَانِ في وصفٍ واحدٍ، وهو أنَّه خوضٌ في الفُضُولِ، وفيما لا حَاجَةَ إلَيْه. وقيل: يجوز أن يعود على «أشْيَاء» لفظاً لا معنًى؛ كما قال النحويُّون في مسألة: «عِنْدِي دِرْهَمٌ ونِصْفُهُ» ، أي: ونِصْفُ دِرْهَمٍ آخَرَ، ومنه: [الطويل] 2056 - وَكُلُّ أُناسٍ قَارَبُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... ونَحْنُ خَلَعْنَا قَيْدَهُ فَهُوَ سَارِبُ فصل وقرأ النَّخَعِيُّ: «سَالَهَا» بالإمالة من غير همزٍ وهما لغتان، ومنه يتساولان فإمالتُه ل «سَألَ» كإمالة حمزة «خَافَ» ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرةِ عند قوله {فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} [البقرة: 61] و {سَلْ بني إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 211] . قال المُفَسِّرُون: يَعْنِي قوْمَ صَالِح، سَألُوا النَّاقَةَ ثُمَّ عَقَرُوهَا، وقومَ مُوسى، قالوا: أرنَا اللَّهَ جَهْرةً، فصارَ ذلِكَ وَبَالاً عليهم، وبَنُوا إسْرَائيل قالوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ: {ابعث لَنَا مَلِكاً نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [البقرة: 246] وقالوا: {أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ} [البقرة: 247] فسَألُوا ثمَّ كَفَرُوا، فكأنَّه تعالى يَقُول: أولَئِكَ سَألُوا، فلما أعْطُوا سُؤلَهُم ساءَهُم ذلك، فلا تَسْألوا شيئاً فَلَعَلُّكم إنْ أعطيتُمْ سُؤلكم، ساءكم ذلك. قوله: «مِنْ قَبْلِكُمْ» متعلق بقوله: «سَألَهَا» ، فإنْ قيل: هَلْ يجوزُ أن يكون صفةً ل «قوم» ؟ فالجواب: منعَ من ذلك جماعة معتلِّين بأنَّ ظَرْفَ الزمان لا يقعُ خبراً، ولا صفةً، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 551 ولا حالاً عن الجُثَّة، وقد تقدَّم نحوُ هذا في أوَّلِ البقرة عند قوله: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] ، فإنَّ الصلةَ كالصفة، و «بِهَا» متعلِّق ب «كَافرينَ» ، وإنما قُدِّم لأجْلِ الفواصل. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 552 لمَّا منع النَّاسَ من البَحْثِ عن أمُورٍ لَمْ يُكَلَّفُوا بالبَحْثِ عنها، كذلك مَنعَهُم من التزامِ أمُورٍ لَمْ يُكَلَّفُوا بالتِزَامِهَا، ولمَّا كان الكُفَّار يحرِّمُون على أنْفُسِهِم الانْتِفَاعَ بهَذِهِ الحيوانات، وإنْ كَانُوا في غاية الحَاجَة إلى الانْتِفَاع بها، بيَّنَ اللَّهُ - تعالى - أنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ. «جَعَلَ» يجوز أن يكون بمعنى «سَمَّى» ويتعدَّى لمفعولَيْن، أحدهما محذوف، والتقدير: ما جَعَلَ - أي ما سَمَّى - اللَّهُ حيواناً [بَحِيرَةً] . قاله أبو البقاء. وقال ابن عطيَّة والزمخشريُّ وأبو البقاء: «إنَّها تكونُ بمعنى شرَعَ ووضَعَ، أي: ما شَرَعَ اللَّهُ ولا أمَرَ» ، وقال الواحديُّ - بعد كلامٍ طويلٍ - «فمعنى ما جعل اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ: ما أوْجَبَهَا ولا أمَرَ بِهَا» ، وقال ابنُ عطيَّة: «وجَعَلَ في هذه الآيةِ لا تكُونُ بمعنى» خَلَقَ «؛ لأنَّ الله خَلَقَ هذه الأشياء كلَّها، ولا بمعنى» صَيَّرَ «؛ لأن التصْييرَ لا بُدَّ له من مفعولٍ ثانٍ، فمعناه: ما سَنَّ الله ولا شَرَعَ» . ومنع أبو حيان هذه النقولاتِ كلَّها بأنَّ «جَعَلَ» لم يَعُدُّ اللغويُّون من معانيها «شَرَعَ» ، وخرَّجَ الآية على التَّصْييرِ، ويكونُ المفعولُ الثاني محذوفاً، أي: ما صيَّّر الله بَحِيرَة مَشْرُوعَةً، وفي قوله لم يَعُدَّ اللغويُّون في معانيها «شَرَعَ» نظرٌ؛ لأن الآية المتقدمة تدل على ذلك وهي قوله: {جَعَلَ الله الكعبة البيت الحرام قِيَاماً لِّلنَّاسِ} [المائدة: 97] . والبَحِيرَة: فعيلَةٌ بمعنى مفعُولَة، فدخولُ تاءِ التأنيثِ عليها لا ينقاس، ولكن لَمَّا جَرَتْ مَجْرَى الأسماءِ الجَوَامِد أُنِّثَتْ، وقد تقدم إيضاح هذا في قوله {والنطيحة} [المائدة: 3] ، واشتقاقُها من البَحْرِ، والبَحْرُ: السَّعَةُ، ومنه «بَحْرُ المَاءِ» لِسَعَتِه وَهِيَ النَاقَةُ المَشْقُوقَةُ الأُذُنِ، يُقَالُ: بَحَرتُ أذن النَّاقَة إذَا شَقَقْتهَا شقّاً واسعاً، والنَّاقَةُ بَحِيرةٌ ومَبْحُورَةٌ. واختلف أهلُ اللغة في البحيرةِ عند العرب ما هي اختلافاً كثيراً، فقال أبو عُبَيْدٍ: «هي الناقةُ التي تُنْتَجُ خمسةَ أبطنٍ في آخِرِهَا ذكرٌ، فتُشَقٌّ أذُنُهَا، وتُتْرَكُ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ عن مَرْعىً ولا ماءٍ، وإذا لَقِيَهَا المُعْيي لم يركبْهَا» ورُوِيَ ذلك عن ابن الجزء: 7 ¦ الصفحة: 552 عبَّاس، إلا أنه لم يذكُرْ في آخرها ذَكَراً، وقال بعضُهُمْ: «إذَا أُنْتِجَتِ الناقَةُ خَمْسَةَ أبْطُنٍ، نُظِر في الخامس: فإن كان ذَكَراً، ذبحوه وأكَلُوه، وإن كان أنثى، شَقُّوا أذنها وتركُوها تَرْعَى وتَرِدُ ولا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ فهذه هي البَحِيرَةُ» ، ورُوِيَ هذا عن قتادة، وقال بعضهم: «البحيرَةُ: الأنثى الَّتِي تكونُ خَامِسَ بطنٍ؛ كما تقدَّم بيانُه، إلاَّ أنها لا يَحِلُّ للنساءِ لَحْمُها ولا لَبَنُها، فإن ماتَتْ حَلَّتْ لهن» ، وقال بعضُهُم: «البَحِيرَةَ: بِنْتُ السَّائبة» ، وسيأتي تفسيرُ «السَّائِبَة» ، فإذا ولدَتِ السائبةُ أنْثَى شقُّوا أذنها وتركُوها مع أمِّها ترعى وتَرِدُ ولا تُحْلَبُ ولا تُرْكَبُ حتَّى لِلْمُعْيِي، وهذا قولُ مجاهدٍ، وابنِ جُبَيْر، وقال بعضُهُمْ: «هِيَ التي مُنِعَ دَرُّهَا - أي لَبَنُهَا - لأجْلِ الطَّواغِيتِ، فلا يَحْلِبُهَا أحَدٌ» وقال بهذا سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ، وقيل: هي التي تُتْرَكُ في المَرْعَى بلا راعٍ، قاله ابنُ سيدة، وقيل: إذا ولدَتْ خَمْسَ إنَاثٍ شَقُّوا أذُنَهَا وتَرَكُوهَا. نَقَلَ القُرْطِبِي عن الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، أنَّهُ قال: إذا أنْتَجَتِ النَّاقَةُ خَمْسَةُ أبْطُنٍ إناثٍ بُحِرَتْ أذُنُهَا، فحَرُمَتْ، قال: محرمة لا يَطْعمُ النَّاسُ لَحْمَها وقال بعضُهُمْ - ويُعْزَى لِمَسْرُوقٍ -: «إنَّهَا إذا وَلَدَتْ خَمْساً، أو سَبْعاً، شَقُّوا أذُنَهَا» ، وقيل: «هي الناقةُ تَلِدُ عَشرةَ أبْطُنٍ، فَتُشَقُّ أذنُها طُولاً بنصْفَيْن، وتُتْرَك؛ فلا تُرْكَبُ ولا تُحْلَبُ ولا تُطْرَدُ عن مرعى ولا ماءٍ، وإذا ماتَتْ، حَلَّ لحمها للرجالِ دون النساء» ، نقله ابن عطية، وكذا قاله أبو القاسم الرَّاغب، وقيل: البَحِيرَةُ السَّقْبُ، إذا وُلِدَ، نَحَرُوا أذنه، وقالُوا: اللَّهُمَّ، إنْ عاشَ، فَقَنِيٌّ، وإن مات، فَذَكِيٌّ، فإذا مات، أكلُوه، ووجه الجمع بين هذه الأقوالِ الكثيرة: أنَّ العربَ كانت تختلفُ أفعالُها في البحيرة. والسائبةُ قيل: كان الرَّجُل إذا قَدِمَ من سفرٍ أو شُكْرِ نعمةٍ، سَيَّبَ بعيراً فلم يُرْكَبْ ويفعل به ما تقدَّم في البحيرَة، وهذا قول أبي عُبَيْد، وقيل: هي الناقة تُنْتَجُ عَشْرَة إناثٍ، قال القرطبيُّ: ليْس بينهن ذكرٌ؛ فلا تُرْكبُ ولا يَشْرَب لبنهَا إلا ضَيْفٌ أو ولدٌ، قاله الفراء، وقيل: ما تُرِكَ لآلهتهم، فكان الرجُلُ يجيء بماشيتهِ إلى السَّدنة فيتركه عندهم ويسيل لبنه، وقيل: هي الناقَةُ تُتْرَكُ ليُحَجَّ عليها حَجَّة، ونُقِلَ ذلك عن الشافعيِّ، وقيل: هو العبدُ يُعْتَقُ على ألاَّ يَكُونَ عليه ولاءٌ، ولا عَقْلٌ ولا ميراثٌ قاله عَلقَمَةُ. والسَّائِبَةُ هنا: فيها قولان: أحدهما: أنها اسمُ فاعلٍ على بابه، من سَابَ يَسِيبُ، أي يَسْرَحُ، كسَيَّبَ المَاءَ، وهو مطاوعُ سَيَّبْتُهُ، يقال: سَيَّبْتُهُ فَسَابَ وانْسَابَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 553 والثاني: أنه بمعنى مفعُول؛ نحو: «عِيشَة رَاضِيَة» ، ومجيءُ فاعل بمعنى مفعول قليلٌ جدًّا؛ نحو: «ماء دافق» ، والذي ينبغي أن يُقال: إنه فاعلٌ بمعنى ذي كذا، أي: بمعنى النَّسَب، نحو قولهم: لابنٌ، أي: صَاحِبُ لبنِ، ومنه في أحدِ القولَيْن: «عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ، ومَاءٌ دَافِقٌ» ، أي: ذاتُ رِضاً، وذو دَفْقٍ، وكذا هذا، أي: ذَاتُ سَيْبٍ. والوصِيلَةُ هنا فعليةٌ بمعنى فاعلةٍ على ما سيأتي تفسيرُهُ، فدخولُ التاءِ قياسٌ، واختلف أهلُ اللغةِ فيها، هَلْ هي من جنْسِ الغَنَم، أو من جنْسِ الإبلِ؟ ثم اختلَفُوا بعد ذلك أيضاً، فقال الفرَّاء: «هي الشَّاةُ تُنْتَجُ سبعةَ ابطُنٍ عَناقَيْنِ عَناقَيْنِ، فإذا ولدتْ في آخرِهَا عَنَاقاً وجَدْياً، قيل: وصلتْ أخَاهَا، فجَرَتْ مَجْرَى السَّائبة» ، وقال الزجَّاج: «هي الشَّاة إذا ولدتْ ذكراً، كان لآلهتهمْ، وإذا ولدتْ أنثى، كانت لهم» ، وقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «هِيَ الشَّاةُ تُنْتَجُ سبْعَةَ أبْطُنٍ، فإذا كان السابعُ أنْثَى، لم تنتفعِ النساء منها بشَيْء، إلا أنْ تموتَ فيأكُلَهَا الرجَالُ والنِّسَاء، وإنْ كانَتْ ذَكَراً ذبحُوه وأكلُوه جميعاً، وإنْ كان ذكراً وأنثى، قالوا: وصلتْ أخَاهَا، فيتركُونَها معهُ لا تُذْبَحُ ولا ينتفعُ بها إلا الرجالُ، دون النِّساء، فإن ماتتِ، اشتركْنَ مع الرجالِ فيها» ، وقال ابن قُتَيْبَةَ: إن كان السابعُ ذَكَراً، ذُبِحَ وأكله الرجال، دون النساء، وقالوا: {خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] وإنْ كانَتْ أنثى، تُرِكَتْ في الغنمِ، وإن كان ذَكَرَاً وأنْثَى فكقَوْلِ ابن عبَّاس، وقيل: «هي الشَّاةُ تنتجُ عشْرَ إناثٍ متوالياتٍ في خَمْسة أبطنٍ، ثم ما ولدتْ [بعد ذلك، فللذكورِ دون الإناث» وبهذا قال أبو إسحاق، وأبو عُبَيْدَة، إلا أن أبا عُبَيْدَة قال: «وإذَا وَلَدَتْ] ذكراً وأنثى معاً، قالوا: وَصَلَتْ أخَاهَا، فلم يذبَحُوه لمكانِهَا» ، وقيل: هي الشَّاة تُنْتَجُ خَمْسَةَ أبطنٍ أو ثلاثةً، فإن كان جَدْياً ذَبَحُوه، وإن كان أنثى أبْقَوْهَا، وإن كان ذَكراً وأنثى، قالوا: وصلَتْ أخاها، هذا كلُّه عند من يَخُصُّها بجنْسِ الغَنَمِ، وأما من قال: إنها من الإبل فقال: «هي النَّاقَةُ تبتكرُ، فتلدُ أنثى، ثم تُثَنِّي بولادةِ أنثى أخرى، ليس بينهما ذكَرٌ، فيتركونها لآلهتهم، ويقولون: قد وصلتْ أنثى بأنثى، ليس بينهما ذكرٌ» . والحَامِي: اسمُ فاعلٍ من حَمَى يَحْمِي أي: مَنَعَ، واختلف فيه أهلُ اللغة، فعن الفرَّاء: «هو الفحْلُ يُولَدُ لولدِ ولدِه، فيقولون: قد حَمَى ظهرَه، فلا يُرْكبُ ولا يُستعملُ ولا يُطْرَدُ عن ماءٍ ولا شجرٍ» ، وقال بعضهم: «هو الفحْلُ يُنْتجُ من بَيْن أولاده ذكُورَها وإناثَهَا عشْر إنَاثٍ» ، روى ذلك ابن عطيَّة. وقال بعضهم: هو الفحْلُ يُولَدُ مِنْ صُلْبهِ عَشَرَةُ أبْطُنٍ، فيقولون قد حَمَى ظهرَهُ، فيتركونَهُ كالسائبةِ فيما تقدَّم، وهذا قول ابن عبَّاس الجزء: 7 ¦ الصفحة: 554 وابنِ مسْعُود، وإليه مال أبو عُبَيْدَة والزجَّاج، ورُوِيَ عن الشافعيِّ: أنه الفَحْلُ يَضْرِبُ في مال صاحبِهِ عَشْرَ سنينَ، وقال ابن زَيْدٍ: هو الفحلُ يُنْتَجُ له سَبْعُ إناثٍ متوالياتٍ، فيَحْمِي ظهره، فيُفْعَلُ به ما تقدَّم، فهذا منشأ خلاف أهْلِ اللغة في هذه الأشياءِ؛ أنه باعتبار اختلافِ مذاهب العرب وآرائهم الفاسِدَة فيها، وقد أنشد أهل اللغة في كلِّ واحدٍ من هذه الألفاظ معنًى يخُصُّه؛ فأنْشَدُوا في البحيرةِ قوله: [الطويل] 2057 - مُحَرَّمَةٌ لا يَطْعَمُ النَّاسُ لَحْمَهَا ... ولا نَحْنُ فِي شيءٍ كَذاكَ البَحَائِرُ وأنشدوا في السَّائبةِ قوله: [الطويل] 2058 - وَسَائِبَةٍ لله مالِي تَشَكُّراً ... إن اللَُّ عَافَى عَامِراً أوْ مُجَاشِعَا ونشدوا في الوصيلةِ لتَأبَّطَ شَرًّا: [الطويل] 2059 - أجِدَّكَ أمَّا كُنْتَ فِي النَّاسِ نَاعِقاً ... تُرَاعِي بأعْلَى ذِي المَجَازِ الوَصَايلا وأنشدوا في الحَامِي قوله: [الطويل] 2060 - حَمَاهَا أبُو قَابُوسَ فِي عِزِّ مُلْكِهِ ... كَمَا قَدْ حَمَى أوْلادَ أولادِهِ الفَحْلُ فصل قال سعيدُ بن المُسَيِّبِ: البَحِيرَةُ الَّتِي دَرُّها للطَّواغِيتِ، فلا يَحْلِبُها أحدٌ من النَّاسِ، والسَّائِبَةُ كانوا يسيبّونها لآلهتهم لا يُحْمَلُ عَلَيْهَا شيء. قال أبو هُرَيْرَة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رَأيْتُ عَمْرو بن عَامرٍ الخُزَاعِي يجر قُصْبَهُ في النَّار؛ وكان أوَّل من سَيَّبَ السَّوَائِبِ» . وروى أبو هريرة قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأكثم بن الجون الخُزَاعِي «يَا أكثَمُ، رَأيْتُ عَمْرو بن لحي بن قمعة بن خِنْدف يَجُرُّ قصبَهُ في النَّار؛ فما رَأيْتُ من رَجُلٍ أشْبَه من رَجُلٍ مِنْكَ به، ولا بِه مِنْكَ؛ وذلك لأنَّه أوَّل من غَيَّر دينَ إسْمَاعيل، ونَصَبَ الأوْثَانِ، وبَحَر البَحَائِر، وسَيَّبَ السَّائِبَة، ووصلَ الوصِيلَةَ، وحمى الحَامِي، ولقد رَأيْتُه في النَّار الجزء: 7 ¦ الصفحة: 555 يؤذِي أهْلَ النَّار بريح قصبِهِ» فقال أكْثَم أيَضُرُّنِي شَبَهُهُ يا رسُول اللَّهِ؟ قال: «لا. إنَّك مُؤمِنٌ وهو كَافِرٌ» . فإن قيل: إذا جَاز إعْتَاقُ العَبيدِ والإماء، فَلِمَ لا يجوزُ إعْتَاقُ هذه البهائِمِ من الذَّبْحِ والإيلامِ؟ فالجوابُ من وجهين: الأوَّل: إنَّ الإنسانَ مَخْلُوقٌ لِخِدْمة اللَّه وعُبُودِيَّتِهِ، فإذا تمرَّد عن الطَّاعَةِ، عُوقِبَ بضَرْب الرِّقِّ عَلَيْه، فإذا أُزِيلَ الرِّقُ عنه تَفَرَّغَ لعِبَادة اللَّهِ تعالى، وكان ذَلِكَ عِبَادَة مُسْتَحْسَنَة، وأمَّا هذه الحيوانَات، فإنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافعِ المُكَلَّفين، فَتَرْكُهَا وإهمالُها يَقْتَضِي فوات مَنْفَعَةٍ على مَالِكَها، مِنْ غير أنْ يَحْصُلَ في مُقَابلَتِهَا فَائِدة. والثاني: أنَّ الإنْسَان إذا أُعْتِق، قدَر على تَحْصِيل مَصَالِح نَفْسِه، والبَهِيمَةُ إذا عُتِقَتْ وتُرِكَت، لم تَقْدِرْ على تَحْصِيل مَصَالِحِ نَفْسِها، بل تَقَعُ في أنْواعٍ من المِحْنَة أشَدّ وأشَقّ مما كانت فيها حَالَ ما كانَتْ مَمْلوكةً، فافْتَرقَا. فصل قال القرطبي: تَعَلَّقَ أبُو حنيفَةَ في منعه الأحْبَاس وردِّ الأوْقَافِ، بأنَّ اللَّه تعالى عَابَ على العَرَبِ أفْعَالَهُم في تَسييب البَهَائِم وحِمَايتهَا، وحَبْس أنْفسها عَنْهَا، وقاسَ ذَلِكَ على البَحِيرَةِ والسَّائِبَةِ. قال القُرْطُبِيُّ: والفرْقُ بَيِّنٌ، قال عَلْقَمَةُ لمن سألَهُ عن هَذِه الأشْيَاء، ما تُريدُ إلى شَيْء كان من عَمَلِ الجاهلية؟! وقد ذهب جُمْهُور العُلَمَاءِ على جَوَازِ الأحْبَاسِ والأوْقَاف، لما رَوَى نَافِعٌ، عن ابن عُمَر: «أنَّه اسْتَأذَنَ رسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بأن يَتَصَدَّق بسَهْمِه بِخَيْبَر، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» احْبِسِ الأصْل أو سبل الثَّمَرَة «. ثم قال تعالى {ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب} . قال ابنُ عبَّاس: يريدُ عَمْرو بن لُحَيّ وأعوانه، {يَفْتَرُونَ على الله} هذه الأكَاذِيب، ويقولون: أمرْنا بِهَا، قالُوا: وساءَ ما يَفْتَرُون على اللَّهِ الكذب، والأتْبَاعُ والعوام أكَثرهُمُ لا يَعْقِلُون. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 556 قوله {وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول} أي] في تحليل الحَرْثِ والأنعامِ، وبيان الشرائع والأحكام، قالُوا: حَسْبُنَا ما وجدنَا عليه آباءَنَا أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون وهذا رد على أصحاب التقليد. قوله تعالى: {حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} «حَسْبُنَا» مبتدأ، وقد تقدَّم أنه في الأصلِ مصدرٌ، والمرادُ به اسمُ الفاعل، أي: كَافِينَا، وتفسيرُ ابن عطية له ب «كَفَانَا» تفسيرُ معنًى، لا إعراب، و «مَا وَجَدْنَا» هو الخبر، و «مَا» ظاهرُها أنها موصولة اسميةٌ، ويجوز أن تكون نكرةً موصوفةً، أي: كَافِينَا الذي وجدنا، و «وَجَد» يجوز أن يكون بمعنى المُصَادفة، ف «عَلَيْهِ» يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلق ب «وَجَدْنَا» وأنه متعدٍّ لواحد. والثاني: أنه حال من «آباءَنَا» ، أي: وجدناهم مُسْتَقِرينَ عليه، ويجوز أن يكون بمعنى العلْمِ، فيتعدَّى لاثنين ثانيهما «عَلَيْهِ» . وقوله: {أَوَلَوْ كَانَ} قد تقدَّم إعراب هذا في البقرة [الآية 170] ، وأنَّ «لَوْ» هنا معناها الشرط، وأنَّ الواوَ للحال، وتقدَّم تفسيرُ ذلك كلِّه؛ فأغنى عن إعادته، إلاَّ أنَّ ابن عطيَّة قال هنا: «ألِفُ التوقيفَ دخلَتْ على واو العَطْف» قال شهاب الدين: تسميةُ هذه الهَمْزةِ للتوقيفِ فيه غرابةٌ في الاصطلاحِ، وجعلَ الزمخشريُّ هذه الواو للحالِ، وابنُ عطيَّة جعلها عاطفةً، وتقدَّم الجمعُ بين كلامهما في البقرة، واختلافُ الألفاظِ في هاتين الآيتينِ - أعْنِي آيةَ البقرةِ، وآية المائِدَة - مِنْ نَحْو قوله هناك: «اتَّبِعُوا» وهنا «تَعَالَوْا» وهناك «ألْفَيْنَا» وهنا «وَجَدْنَا» من باب التفنُّن في البلاغة. واعلم: أنَّ الاقْتِدَاء إنَّما يَجُوزُ بالعالِمِ المُهْتَدِي، وهو الذي قولُهُ مَبْنِيٌّ على الحُجَّةِ والدَّليل، فإن لمْ يكُنْ كذلِكَ لم يَكُنْ عالماً مهتدياً، فلا يَجُوزُ الاقْتِدَاءُ به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 557 لمَّا بين أنَّ هؤلاء الجُهَّالِ لم ينتَفِعُوا بِشَيءٍ ممَّا تقدَّم من التَّرْغِيبِ والتَّرْهِيبِ، بل بَقُوا مُصِرِّين على جَهْلهم وضَلالِهم، قال: فَلا تُبَالوا أيّها المُؤمِنُون بجهالاتِهِم، بل كُونُوا مُنْقَادِين لتَكَالِيفِ اللَّهِ تعالى، فلا يضُّرُّكم ضلالَتُهُم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 557 قوله: «عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ» : الجمهورُ على نَصْب «أنْفُسَكُمْ» وهو منصوب على الإغْرَاء ب «عَلَيْكُمْ» ؛ لأنَّ «عَلَيْكُمْ» هنا اسمُ فعلٍ؛ إذ التقديرُ: الزمُوا أنْفُسَكُمْ، أي: هَدايَتَهَا وحِفْظَهَا مِمَّا يُؤذِيَها، ف «عَلَيْكُمْ» هنا يرفعُ فاعلاً، تقديره: عَلَيْكُمْ أنْتُمْ؛ ولذلك يجوز أن يُعْطَفَ عليه مرفوعٌ؛ نحو: «عَلَيْكُمْ أنْتُمْ وزَيْدٌ الخَيْرَ» ؛ كأنك قُلْتَ: الزَمُوا أنتم وزَيْدٌ الخَيْرَ، واختلف النحاةُ في الضميرِ المتصلِ بها وبأخواتها؛ نحو: إلَيْكَ ولدَيْكَ ومَكَانَكَ، فالصحيحُ أنه في موضع جرٍّ؛ كما كان قبلَ أن تُنْقَلَ الكلمةُ إلى الإغراء، وهذا مذهب سيبويه، واستدلَّ له الأخفشُ بما حكى عن العرب «عَلَى عَبْدِ الله» بجرِّ «عَبْدِ الله» وهو نصٌّ في المسألة، وذهب الكسائيُّ إلى أنه منصوبُ المحلِّ، وفيه بُعْدٌ؛ لنصبِ ما بعدهما، أعني «عَلَى» وما بعدها كهذه الآية، وذهب الفرَّاء إلى أنه مرفوعُه. وقال أبو البقاء - بعد أن جعل «كُمْ» في موضع جرّ ب «عَلَى» بخلافِ «رُوَيْدَكُمْ» -: «فإن الكاف هناك للخطَابِ، ولا موضع لها، فإن» رُوَيْد «قد استُعملتْ للأمر المواجه من غير كافِ الخطابِ، وكذا قوله تعالى: {مَكَانَكُمْ} [يونس: 28] » كُمْ «في محل جَرٍّ» ، وفي هذه المسألة كلامٌ طويلٌ، صحيحُه أنَّ «رُوَيْد» تارةً يكون ما بعدها مَجْرُورَ المحلّ وتارةً منصوبَهُ، وقد تقدَّمَ في سورةِ النساءِ الخلافُ في جواز تقديمِ معمُولِ هذا البابِ عليه. قال ابنُ الخطيب: قال النَّحْوِيُّونَ: «عَلَيْك، وعِنْدَك، ودُونَك» من جُمْلة أسْماءِ الأفْعَال، فَيُعدُّونَهَا إلى المَفْعُول، ويُقِيمُونَهَا مقامَ الفِعْلِ، وينصِبُون بِهَا، فإذا قال: «عَلَيْك [زيداً] » كأنه قال: خُذْ زيْداً [فقد عَلاَك، أي أشْرَفَ عليْك] ، وعِنْدَك زَيْداً، أي: حَضَرَك فَخُذْهُ، و «دُونَك» أي: قَرُبَ مِنْكَ فَخُذْهُ، فهذه الأحرف الثلاثَةُ لا خِلاَف بَيْن النُّحَاة في جوازِ النَّصْب بِهَا. وقرأ نافعُ بن أبي نُعَيْمٍ: «أنْفُسُكُمْ» رفعاً فيما حكاه عنه صاحبُ «الكشَّاف» ، وهي مُشْكَلِةٌ، وتخريجُها على أحد وجهين: إمَّا الابتداء، و «عَلَيْكُمْ» خبره مقدَّم عليه، والمعنى على الإغْراء أيضاً؛ فإنَّ الاغراء قد جاء بالجملة الابتدائيَّة، ومنه قراءةُ بعضهم {نَاقَةَ الله وَسُقْيَاهَا} [الشمس: 13] ، وهذا تحذيرٌ نظيرُ الإغراء. والثاني من الوجهين: أن تكون توكيداً للضميرِ المُستترِ في «عَلَيْكُمْ» ؛ لأنه كما تقدَّم تقديره قائمٌ مقام الفعْلِ، إلا أنه شَذَّ توكيدُه بالنفس من غير تأكيدٍ بضمير منفصلٍ، والمفعولُ على هذا محذوفٌ، تقديرُه: عَلَيْكُمْ أنْتُمْ أنْفُسُكُمْ صَلاحَ حالِكُمْ وهدايَتَكُمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 558 قوله: «لا يَضُرُّكُمْ» قرأ الجمهور بضمِّ الراء مشددة، وقرأ الحسن البصريُّ: «لا يَضُرْكُمْ» بضم الضادِ وسكُونِ الراء، وقرأ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ: «لا يَضِرْكُمْ» بكسر الضادِ وسكون الراءِ، وقرأ ابو حيوة: «لا يَضْرُرُكُمْ» بسكون الضاد وضم الراء الأولى والثانية. فأمَّا قراءةُ الجمهور: فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الفعلُ فيها مَجْزُوماً على جوابِ الأمر في «عَلَيْكُمْ» ، وإنما ضُمَّتِ الراءُ إتباعاً لضمَّةِ الضَّادِ، وضمةُ الضادِ هي حركةُ الراء الأولى، نُقِلَتْ للضَّادِ [لأجلِ] إدغامها في الراء بعدها، والأصْلُ: «لا يَضْرُرْكُمْ» ، ويجوز أن يكون الجزمُ لا على وجه الجواب للأمرِ، بل على وجهِ أنه نهي مستأنفٌ، والعملُ فيه ما تقدَّم؛ وينصُرُ جواز الجزمِ هنا على المعنيين المذكورينِ من الجواب والنهْيِ: قراءةُ الحسنِ والنخَعِيِّ؛ فإنهما نَصٌّ في الجزْمِ، ولكنهما محتملتان للجَزْمِ على الجوابِ أو النهي. والوجه الثاني: أن يكون الفعلُ مرفوعاً، وليس جواباً ولا نهياً، بل هو مستأنفٌ سِيقَ للإخبار بذلك، وينصرُه قراءةُ أبي حَيْوَةَ المتقدِّمةُ. وأمَّا قراءةُ الحسن: فَمِنْ «ضَارَهُ يَضُورُهُ» كصَانَهُ يَصُونُهُ، وأما قراءة النخَعِيِّ فمِنْ «ضَارَهُ يَضِيرُهُ» كَبَاعَهُ يبيعُهُ، والجزم فيهما على ما تقدَّم في قراءة العامة من الوجهين، وحكى أبو البقاء: «لا يَضُرَّكُمْ» بفتح الراء، ووجهها على الجزم، وأن الفتح للتخفيفِ، وهو واضح، والجزم على ما تقدَّم أيضاً من الوجهين، وهذه كلُّها لغاتٌ قد تقدَّم التنبيهُ عليها في آل عمران [الآية 144] . و «مَنْ ضَلَّ» فاعلٌ، و «إذَا» ظرفٌ محضٌ ناصبه «يَضُرُّكُمْ» ، أي: لا يَضُرُّكُمُ الذي ضَلَّ وقتَ اهْتِدَائِكُمْ، ويجوز أن تكون شرطية، وجوابُها محذوفٌ؛ لدلالةِ الكلام عليه، وقال أبو البقاء: «ويبعُدُ أن تكون ظرفاً ل» ضَلَّ «؛ لأنَّ المعنى لا يَصِحُّ معه» ، قال شهاب الدين: لأنه يصير المعنى على نفي الضرر الحاصل مِمَّنْ يضلُّ وقْتَ اهتدائهم، فقد يُتَوَهَّم أنه لا ينتفي عنهم ضَرَرُ من ضلَّ في غيرِ وقْتِ اهتدائِهِمْ، ولكنَّ هذا لا ينفي صِحَّة المعنى بالكليةِ كما ذكره. فصل في سبب نزول الآية في سببِ نُزُولِ الآيَةِ وُجُوهٌ: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 559 أحدها: رَوَى الكَلْبِيُّ عن أبِي صالح عن ابْنِ عبَّاسٍ: أنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما قَبِلَ من أهْلِ الكِتَابِ الجِزْيَة، من بَعْضِ الكُفَّار دُون بَعْض، نزلتْ هذه الآية، والمعنى: لا يَضُركُم ملامة اللاَّئِمِين إذا كُنْتُم على الهُدى. وثانيها: أنَّ المُؤمنين كان يشْتَدُّ عليهم بَقَاءُ الكُفَّارِ على كُفْرِهمْ وضَلاَلتِهِم، فقيل لَهُم: عَلَيْكُم أنْفسكُم بإصلاحِهَا، والمَشْي بها في طريقِ الهُدَى، لا يَضُرُّكُم ضلال الضَّالِّين، ولا جَهْلُ الجَاهِلِين. وثالثها: أنَّهُم كانوا يَغْتَمُّونَ لِعَشَائِرِهمْ لمَّا مَاتُوا على الكُفْرِ، فَنُهُوا عن ذلك. قال ابن الخَطيبِ: والأقربُ عِنْدِي، أنَّه تعالى لما حَكَى عَنْ بَعْضِهم أنَّه إذا قِيلَ لَهُمْ: {تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ} [المائدة: 104] بيَّن تعالى بهذه الآية، أنَّه لا يَنْبَغِي للمُؤمِنِينَ أنْ يَتَشَبَّهُوا بِهِمْ في هذه الطَّريقَةِ الفَاسِدَةِ، بل يَنْبَغِي أنْ يَصْبِروا على دينهِم، وأنْ يَعْلَمُوا أنَّه لا يَضُرُّهُمْ جَهْلُ أولَئِك. فصل رُوِي عن أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه قال: يا أيُّهَا النَّاسُ، إنَّكُمُ تَقْرَؤُون هذه الآية {ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم} فإنِّي سَمِعْتُ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إنَّ النَّاس إذا رَأوا مُنْكَراً فَلَمْ يُغيّروه، يُوشِكُ أن يَعُمَّهُمُ اللَّهُ بِعِقَابِه» . وفي رواية: «لَتَأمُرُنَّ بالمعرُوفِ، ولتنْهَوُنَّ عَنِ المُنْكَرِ، أو لَيُسَلِّطَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ شِرَارَكُمْ فليَسُومُونكمْ سُوءَ العذابِ، ثُمَّ ليَدْعون اللَّه خيارُكُمْ فَلاَ يُسْتَجَابُ لَكُمْ» . قال أبُو عُبَيْدة: خاف الصِّدِّيق أن يتأوَّل النَّاسُ الآية غير مُتَأوّلها، فيَدْعُوهم إلى تَرْكِ الأمْرِ بالمعرُوف، فأعْلَمَهُم أنَّها لَيْسَتْ كذلك، وأنَّ الذي أذِنَ في الإمْسَاكِ عن تَغْييرِه من المُنْكر، هو الشِّرْكُ الذي يَنْطِقُ به المُعَاهدُون من أجل أنَّهُم يَتَديَّنُون به، وقد صُولِحُوا عليه، فأمَّا الفُسُوق والعِصْيَان والذَّنْبُ من أهْل الإسلام، فلا يَدْخُلُ فيه. وعن ابن مسعودٍ قال في هذه الآية: مُرُوا بالمعْرُوف وانْهَوْا عن المُنْكَرِ ما قُبِلَ مِنْكُم، فإن رُدَّ عَلَيْكم فَعَليْكُم أنْفُسَكُمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 560 ثُمَّ قال: إنَّ القُرآنَ نزلَ مِنْهُ آيٌ قد مضى تَأويلهُنَّ قَبْلَ أن يَنْزِلْن، ومِنْهُ آي: وقعَ تَأويلُهُنَّ على عَهْد رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ومِنْهُ آيٌ: وقعَ تَاوِيلُهُنَّ بَعْدَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِيَسِيرٍ، ومنه آي: وقعَ تأويلهن في آخِرِ الزَّمَانِ، ومنه آي: وقعَ تَأويلُهُنَّ يوم القيامة، وهو ما ذُكِرَ من الحِسَابِ والجَنَّةِ والنَّارِ، فما دَامَتْ قلوبُكُمْ وأهْوَاؤكُمْ وَاحِدَةٌ، ولم تلْبسُوا شِيَعاً، ولم يَذُقْ بَعْضُكم بأسَ بَعْض، فأمُرُوا وانْهَوْا، فإن اخْتَلَفت القُلُوبُ والأهْوَاء وألْبِسْتُم شيعاً، وذاقَ بَعْضُكم بأسَ بعض، فامرؤ ونفسهُ، فعِنْدَ ذَلِكَ جَاءَنَا تَأوِيلُ هذه الآيَة. قال ابنُ الخَطيبِ: وهذا التَّأويلُ عندي ضَعِيفٌ؛ لأنَّ الآيَةَ خِطَابٌ عامٌّ لِلْحَاضِرِ والغَائِبِ، فكيف يُخرجُ الحَاضِر، ويُخَصُّ الغَائِب. ورَوى أبُو أمَيَّة الشَّعبانِيِّ قال: «أتَيْتُ أبا ثَعْلَبَة، فقُلْتُ: كيف نَصْنَعُ في هذه الآية؟ فقال: أيُّ آيةٍ؟ قلت: قَوْلُ الله - عزَّ وجلَّ -: {عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} ، فقال: أمَا واللَّهِ لَقَدْ سألْتَ عنها خَبِيراً، سألتُ عَنْهَا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: بَلْ ائتَمِرُوا بالمَعْرُوفِ وتَنَاهوا عن المُنْكَر، حتَّى إذَا رَأيْتَ شُحَّاً مُطَاعاً وهَوًى مُتَّبَعاً، ودُنْيا مُؤثرة، وإعْجَاب كُلِّ ذِي رأيٍ برأيِهِ، ورَأيتَ أمْراً لا بُدَّ لَكَ مِنْهُ، فَعَلَيْكَ نَفْسَكَ ودَعْ أمْرَ العَوَامِّ، وإنَّ وراءَكُم أيام الصَّبر، فَمَنْ صَبَرَ فيْهنَّ قبض على الجَمْر للعامل فيهنَّ مِثْلُ أجر خَمْسِين رجلاً يعملون مثله» ، قال ابن المبارك: وزادني غيره، قالوا: يا رسول الله أجر خمسين منهم؟ قال: أجرُ خمسين منكم. فإن قيل: ظَاهِرُ الآيةِ يُوهِمُ أنَّ الأمر بالمَعْرُوفِ، والنَّهْي عن المُنْكَرِ غَيْرُ وَاجِبٍ. فالجَوَابُ من وُجُوهٍ: أحدها: أنَّ الآيَةَ لا تَدُلُّ على ذلك، بل تَدلُّ على أنَّ المُطِيعَ لا يُؤاخَذُ بِذُنُوبِ العَاصِي، وأمَّا وُجُوب الأمْرِ بالمَعْرُوفِ، فَثَبت بما تقدَّم من الدَّلائلِ وغَيْرِها. وثانيها: أنَّ الآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بالكُفَّار المُصرِّين على الكُفْرِ، ولا يَتْرُكُون الكُفْر بسببِ الأمْر بالمَعْرُوفِ، فَهَهُنَا يَجِبُ على الإنْسَانِ مُخَالَفَةُ الأمْرِ بالمَعْرُوفِ. وثالثها: أنَّ الآيَةَ مَخْصُوصَةٌ بِمَا إذا خَافَ الإنْسَانُ عند الأمْرِ بالمَعْرُوفِ، والنَّهْي عَنِ المُنْكَرِ على نَفْسِهِ وعِرضه وماله. ورابعها: المعنى: لا يَضُرُّكُمْ إذا اهْتَدَيْتُم، فأمَرْتُمْ بالمَعْرُوف ونَهَيْتُم عَنِ المُنْكَر ضلالُ مَنْ ضَلَّ، فَلَمْ يقبَل ذَلِكَ. وخامسها: أنَّه تعالى قال لرسوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 561 إِلاَّ نَفْسَكَ} [النساء: 84] ، وذَلِكَ لم يَدُلَّ على سُقُوطِ الأمْرِ بالمَعْرُوف عن الرَّسُولِ، فَكَذَا هَاهُنَا. ثم قال تعالى: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} ، أي: الضَّال والمُهْتَدِي {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي يُجَازيكُمْ بأعمالِكُمْ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 562 لَمَّا أمَر اللَّه تعالى بِحِفْظِ النَّفْسِ في قوله «عَلَيْكُمْ أنْفُسَكُمْ» ، أمر بِحفْظِ المالِ في هذه الآية. قال القُرْطُبِي: وردَ لَفْظُ الشَّهَادة في القُرآنَ على أنْوَاع مُخْتَلِفَةٍ: الأول: بِمَعْنَى الحُضُور، قال تعالى: {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] . الثاني: بمعنى قَضَى، أي: أعلم قال تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ} [آل عمران: 18] . قال أبو عُبَيْدَة: الثالث: بمعنى أقرَّ، قال تعالى: {والملاائكة يَشْهَدُونَ} [النساء: 166] . الرابع: شَهِدَ بمعنى حَكَم، قال تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} [يوسف: 26] . الخامس: شَهِدَ بمعنى حَلَف، قال تعالى {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ} [النور: 6] أي: أنْ يَشْهَدَ أرْبَع شَهَادَاتٍ باللَّهِ. السادس: شَهِدَ بمعنى وصَّى، قال تعالى: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} ، وقيل مَعْنَاهَا هنا الحُضُور للوصيَّة، يقال: «شَهِدْتُ وصيَّةَ فلانٍ» أي: حَضَرْتُ، وذهَب الطَّبَري إلى أنَّ الشَّهَادةَ بِمَعْنَى اليمين، فيكُونُ المَعْنَى: يَمِينُ مَا بَيْنَكُم أنْ يَحْلِفَ اثْنَان، ويَدُلُّ على ذَلِك، أنَّهُ يُعْلَمُ للَّه حُكْم يَجِبُ فيه على الشَّاهِدِ يَمِينٌ، وهذا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 562 القَوْلُ اخْتَارَهُ القَفَّال، وسُمِّيتِ اليَمِينُ شَهَادَة؛ لأنَّها يثبت بِهَا الحُكْمُ بِمَا يَثْبُتُ بالشَّهَادَةِ، واخْتَارَ ابْنُ عَطِيَّة هُنَا أنَّهَا الشَّهَادة التي تُحْفَظُ فَتُؤدَّى. فصل في سبب نزول الآية وسبَبُ نُزُولِها مَا رُوِي: أنَّ تَمِيمَ بن أوْسٍ الدَّارِيِّ وعَدِيّ بن زَيْدٍ كَانَا نَصْرانيينِ، خرجا من المدينةِ إلى الشَّامِ للتِّجَارَة، ومَعهُمَا بديل مَوْلَى عَمْرو بن العَاص، وكان مُسْلِماً مُهَاجراً، فلمَّا قَدِمُوا إلى الشَّام مَرِضَ بَدِيل، فكَتَبَ كِتَاباً فيه جَمِيعُ ما مَعَهُ من المَتَاعِ، وألْقَاهُ في جَوَالِق، ولم يُخبِر صَاحِبَيْه بِذلِك، فلمَّا اشْتَدّ مَرَضُهُ، أوْصَى إلى تَميم وعَدِيّ، وأَمَرَهُمَا أن يَدْفَعَا مَتَاعهُ إذا رجعا إلى أهْلِهِ، ومات «بَدِيل» فَفَتَّشَا متَاعَهُ، وأخَذَا مِنْهُ إناء فضَّةٍ مَنْقُوشاً بالذَّهَبِ، فيه ثلاثمائَةِ مِثْقَالٍ من فِضَّةٍ فغيَّبَاه، ثم قَضَيَا حَاجَتَهُمَا وانْصَرَفا إلى المدينةِ، فَدَفَعا المتاع إلى أهْلِ البَيْتِ، فَفَتَّشُوا وأصَابُوا الصَّحِيفَة، فيها تَسْمِيَةُ ما كان مَعَهُ، فَجَاءوا تَمِيماً وعَدِيًّا، فقالُوا: هل باع صَاحِبُنَا شَيْئاً من مَتَاعِهِ؟ قالاَ: لاَ، قالوا: فهل اتَّجَرَ تِجَارَةً؟ قَالاَ: لاَ، قالُوا: فَهَلْ طَالَ مَرَضُهُ فأنْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ؟ قالاَ: لاَ، فقالُوا: إنَّا وَجَدْنَا في متاعِهِ صَحِيفَةً فيها تَسْمِيَةُ ما مَعَهُ، وإنَّا قَدْ فَقَدْنَا منها إنَاءً من فِضَّةٍ مُمَوَّهاً بالذَّهِبِ، فيه ثلاثمائَةِ مِثْقَالٍ فِضَّة فقالا: ما نَدْري، إنَّما أوْصَى لنا بِشَيْء، وأمَرَنَا أن نَدْفعه إلَيْكم فَدَفَعْنَاه، وما لنا عِلْمٌ بالإنَاء، فاخْتَصَمُوا إلى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأصَرَّا على الإنْكَار، وحَلَفَا فأنْزَلَ اللَّهُ هذه الآية. قوله تعالى: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} : هذه الآية وما بعدها من أشْكَلِ القُرآنِ حُكْماً وإعْراباً وتَفْسيراً، ولم يَزَلِ العلماءُ يستشكلُونَها حتى قال مكيُّ بنُ أبي طالبٍ في كتابه المسمَّى ب «الكشف» : «هذه الآيةُ في قراءاتها وإعرابها وتفسيرها ومعانيها وأحكامها من أصْعَب آي في القُرْآن وأشْكلِها، قال: ويحتملُ أن يُبْسَطَ ما فيها من العلوم في ثلاثينَ ورقةً أو أكثر» ؛ قال: «وقد ذكرنَاهَا مشروحةً في كتاب مفردٍ» ، وقال ابن عطية: «وهذا كلامُ من لم يَقَعْ له الثَّلَجُ في تَفْسيرها، وذلك بَيِّنٌ من كتابه» ، وقال السَّخَاوِيُّ: «لم أر أحداً من العلماء تَخَلَّصَ كلامُه فيها من أولها إلى آخرها» ، وقال الواحديُّ: «وهذه الآية وما بعدها من أعوص ما في القرآن معنًى وإعراباً وتفسيراً» قال شهاب الدين: وأنا أستعينُ الله تعالى في توجيه إعرابها واشتقاق مفرداتها وتصريف كلماتها وقراءاتها ومعرفةِ تأليفها مِمَّا يختصُّ بهذا الموضوع، وبالله الحول والقوة. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 563 قرأ الجمهورُ «شَهَادَة بَيْنِكُمْ» برفع «شَهَادةُ» مضافةً ل «بَيْنِكُمْ» ، وقرأ الحسنُ والأعرجُ والشَّعْبِيُّ برفعها منوَّنةً «بَيْنَكُمْ» نصباً، والسُّلَميُّ والحسنُ والأعرجُ - في رواية عنهما -: «شَهَادَةً» منونَّةً منصوبة، «بَيْنَكُمْ» نصباً، فأمَّا قراءة الجمهور، ففي تخريجها خمسةُ أوجه: أحدها: أنها مرفوعةٌ بالابتداءِ، وخبرُها «اثْنَانِ» ، ولا بدَّ على هذا الوجه من حذفِ مضافٍ: إمَّا من الأوَّل، وإمَّا من الثاني، فتقديرُه من الأول: ذَوَا شَهَادَةِ بَيْنكُمُ اثنانِ، أي صَاحِبَا شهادةِ بينكم اثنانِ، وتقديرُه من الثاني: شهادةُ بينكم شهادةُ اثنين، وإنما اضطررْنا إلى حذفٍ من الأول أو الثاني ليتصادقَ المبتدأ والخبرُ على شيءٍ واحدٍ؛ لأنَّ الشهادة معنًى، والاثنان جُثَّتَانِ، ولا يجيء التقديران المذكورانِ في نحو: «زَيْدٌ عَدْلٌ» وهما جعله نفس المصدرِ مبالغةً أو وقوعُه موقع اسم الفاعل؛ لأنَّ المعنى يَأبَاهُمَا هنا، إلا أنَّ الواحديَّ نقل عن صاحب «النَّظْم» ؛ أنه قال: «شَهَادَة» مصدرٌ وُضِع مَوْضِعَ الأسْمَاء. يريدُ بالشهادة الشهود؛ كما يقال: رَجُلٌ عَدْلٌ ورِضاً، ورجالٌ عَدْلٌ ورِضاً وزَوْر، وإذا قَدَّرْتها بمعنى الشُّهُود، كان على حذف المضاف، ويكون المعنى: عدَّة شهودٍ بينكم اثنانِ، واستشهد بقوله: {الحج أَشْهُرٌ} [البقرة: 197] ، أي: وقتَ الحجِّ، ولولا ذلك لنصب أشهراً على تأويل: «الحَجُّ في أشْهُرٍ» ، فعلى ظاهر هذا أنه جعل المصدر نفس الشهود مبالغةً، ولذلك مثله ب «رِجَال عَدْل» ، وفيه نظر. الثاني: أن ترتفع على أنها مبتدأ أيضاً، وخبرها محذوفٌ يَدُلُّ عليه سياقُ الكلام، و «اثْنَان» على هذا مرتفعان بالمصدر الذي هو «شهادة» ، والتقدير: فيما فَرَضَ عليْكُمْ أن يشهد اثْنَانِ، كذا قدَّره الزمخشريُّ وهو أحد قولي الزَّجَّاج، وهو ظاهرٌ جدًّا، و «إذَا» على هذين الوجهين ظرف ل «شَهَادَةُ» ، أي ليُشْهَد وقتُ الموت - أي أسبابه - و «حِينَ الوصيَّةِ» على هذه الأوجه؛ فيه ثلاثة أوجه: أوجهها: أنه بدلٌ من «إذَا» ، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره، قال: «وفي إبداله منه دليلٌ على وجوب الوصية» . الثاني: أنه منصوبٌ بنَفْسِ الموت، أي: يقع المَوْتُ وقْتَ الوصية، ولا بُدَّ من تأويله بأسباب الموت؛ لأنَّ وقتَ الموتِ الحقيقيِّ لا وصيةَ فيه. الثالث: أنه منصوبٌ ب «حَضَرَ» ، أي: حَضَر أسباب الموتِ حين الوصيَّة. الثالث: أنَّ «شَهَادَةُ» مبتدأ، وخبره: «إذَا حضَر» ، أي: وقوعُ الشهادة في وقتِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 564 حضُورِ الموتِ، و «حِينَ» على ما تقدَّم فيه من الأوجه الثلاثة آنفاً، ولا يجوزُ فيه، والحالةُ هذه: أن يكون ظرفاً للشهادة؛ لئلا يلزمَ الإخبارُ عن الموصول قبل تمامِ صلته، وهو لا يجوزُ؛ لما مرَّ، ولمَّا ذكر أبو حيَّان هذا الوجه، لم يستدركْ هذا، وهو عجيبٌ منه. الرابع: أنَّ «شَهَادَةُ» مبتدأ، وخبرُها «حِين الوصيَّةِ» ، و «إذَا» على هذا منصوبٌ بالشَّهَادَةِ، ولا يجوز أن ينتصب ب «الوصيَّة» ، وإن كان المعنى عليه؛ لأنَّ المصدر المؤوَّلَ لا يَسْبقه معمولُه عند البصريِّين، ولو كان ظرفاً، وأيضاً: فإنه يلزمُ منه تقديمُ المضافِ إليه على المضافِ؛ لأن تقديم المعمول يُؤذِنُ بتقديمِ العامل، والعاملُ لا يتقدَّم، فكذا معمولُه، ولم يجوِّزوا تقديم معمُولِ المضافِ إلَيْه على المضاف إلا في مسألة واحدة، وهي: إذا كان المضافُ لفظةَ «غَيْر» ؛ وأنشدوا: [البسيط] 2061 - إنَّ امْرَأ خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتَهُ ... عَلَى التَّنَائِي لِعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ ف «عِنْدِي» منصوبٌ ب «مَكفُور» ؛ قالوا: لأنَّ «غَيْر» بمنزلة «لاَ» ، و «لاَ» يجوزُ تقديمُ معمولِ ما بعدها عليها، وقد ذكر الزمخشريُّ ذلك آخرَ الفاتحةِ، وذكر أنه يجوزُ «أنَا زَيْداً غَيْرُ ضَارِبٍ» دون «أنَا زَيْداً مِثْلُ ضَارِبٍ» ، و «اثنان» على هذين الوجهين الأخيرين يرتفعان على أحد وجهين: إمَّا الفاعلية أي: «يَشْهَدُ اثْنَانِ» يدل عليه لفظ «شَهَادة» ، وإمَّا على خبر مبتدأ محذوف مدلولٍ عليه ب «شهادة» أيضاً أي: الشاهدان اثنان. الخامس: أنَّ «شهَادَةُ» مُبْتدأ، و «اثْنَانِ» فاعلٌ سدَّ مَسدَّ الخبَر، ذكره أبُو البقاء وغيره، وهو مذهبُ الفرَّاء، إلا أنَّ الفرَّاء قدَّر الشَّهادةَ واقِعةً موقعَ فِعْلِ الأمْر؛ كأنه قال: «لِيَشْهَدِ اثْنَانِ» ، فجعلُه من باب نِيَابةِ المصْدَرِ عن فِعْل الطَّلَبِ، وهو مثل «الحَمْدُ لله» و {قَالَ سَلاَمٌ} [هود: 69] ؛ من حيث المعنى، وهذا مذهبٌ ضعيفٌ ردَّه النَّحْوِيُّون، ويخصُّون ذلك بالوصْفِ المعتمد على نَفْيٍ أو استفهامٍ؛ نحو: «أقَائِمٌ أبَواكَ» وعلى هذا المذهب ف «إذَا» و «حِينَ» ظرفان مَنْصُوبان على ما تقرَّر فيهمَا في غير هذا الوجه؛ وقد تَحَصَّلْنا فيما تقدَّم أنَّ رفع «شَهَادَةُ» من وجْهِ واحدٍ؛ وهو الابتداءُ، وفي خبرها خَمْسَة أوجه تقدَّم ذكرُها مُفَصَّلَةً، وأنَّ رفع «اثْنَان» من خَمْسة أوْجُه: الأول: كونه خَبَراً ل «شَهَادَةُ» بالتَّأويل المذكُور. الثاني: أنه فاعلٌ ب «شَهَادَةُ» . الثالث: أنه فاعلٌ ب «يَشْهَدُ» مقدَّراً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 565 الرابع: أنه خبر مُبْتدأ، أي: الشَّاهدان اثْنَانِ. الخامس: أنه فاعلٌ سَدَّ مسدَّ الخبر، وأنَّ في «إذَا» وجهين: إمَّا النَّصْبَ على الظرفيَّة، وإمَّا الرفع على الخَبَرِيَّة ل «شَهَادَةُ» ، وكل هذا بَيِّنٌ مما لَخَّصْتُه قبلُ، وقراءةُ الحسن برفعها منونةً تتوجه بما تقدَّم في قراءة الجُمْهور من غير فَرْقٍ. وأمَّا قراءةُ النصبِ، ففيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها - وإليه ذهب ابن جنِّي -: أنها منصوبةٌ بفعل مضمرٍ، و «اثْنَان» مرفوعٌ بذلك الفعل، والتقدير: ليُقِمْ شهادةَ بَيْنكُمُ اثْنَانِ، وتبعه الزمخشريُّ. وقد ردَّ أبو حيان هذا؛ بأن حذف الفعل وإبقاء فاعله، لم يُجِزْهُ النحويون، إلا أن يُشْعِرَ به ما قبله؛ كقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} [النور: 36 - 37] في قراءة ابن عامر وأبي بَكْرٍ، أي: يُسَبِّحُهُ رجال؛ ومثله: [الطويل] 2062 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ وفيه خلافٌ: هل يَنْقاسَ أو لا؟ أو يُجَابَ به نَفْيٌ؛ كقوله: [الطويل] 2063 - تَجَلَّدْتَ حَتَّى قِيلَ: لَمْ يَعْرُ قَلْبَهُ ... مِنَ الوَجْدِ شَيْءٌ قُلْتُ: بَلْ أعْظَمُ الوَجْدِ أي: بَلْ عراه أعظمُ الوجْدِ، وما نحْنُ فيه ليس من الأشياء الثلاثة. الثاني: أن «شَهَادَةً» بدل من اللفظ بفعل، أي: إنها مصدر ناب مناب الفعلِ، فيعملُ عملَه، والتقدير: لِيَشْهد اثْنَانِ، ف «اثْنَانِ» فاعل بالمصدر، لنيابته منابَ الفعلِ، أو بذلك الفعلِ المحذوفِ، على حسبِ الخلاف في أصل المسألة، وإنما قدَّرْتُه «لِيَشْهَدِ اثْنَانِ» ، فأتيتُ به فعلاً مضارعاً مقروناً بلام الأمر، ولم أقدِّرْهُ فِعْلَ أمر بصيغة «افْعَلْ» ؛ كما يُقَدِّرُه النحويُّون في نحو: «ضَرْباً زَيْداً» ، أي: «اضْرِبْ» لأنَّ هذا قد رفع ظاهراً وهو «اثنانِ» ، وصيغةُ «افْعَلْ» لا ترفع إلا ضميراً مستتراً إن كان المأمور واحداً؛ ومثلُه قوله: [الطويل] 2065 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... فَنَدْلاً زُرَيْقُ المَالَ نَدْلَ الثَّعَالِبِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 566 ف «زُرَيْقُ» يجوز أن يكون منادًى، أي: يا زُرَيْقُ، والثاني: أنه مرفوع ب «نَدْلاً» على أنه واقعٌ «لِيَنْدَلْ» ، وإنما حُذِف تنوينه؛ لالتقاء الساكنين؛ على حَدِّ قوله: [الطويل] 2066 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا الثالث: أنَّ «شَهَادَةً» بدل من اللفظ بفعلٍ أيضاً، إلا أنَّ هذا الفعل خبريٌّ، وإن كان أقلَّ من الطلبيِّ، نحو: «حَمْداً وشُكْراً لا كُفْراً» ، و «اثْنَانِ» أيضاً فاعلٌ به، تقديرُه: يَشْهَدُ شَهَادَةً اثنانِ، وهذا أحسنُ التخاريجِ المذكُورة في قولِ امرئ القيس: [الطويل] 2067 - وُقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَلَيَّ مَطِيَّهُمْ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... «وُقُوفاً» مصدرٌ بدلٌ من فعلٍ خبريٍّ رفع «صَحْبِي» ونصب «مَطِيَّهُمْ» تقديره: وقف صَحْبِي، وقد تقدَّم أنَّ الفرَّاء في قراءة الرفع قدَّرَ أن «شَهَادَة» واقعةٌ موقع فعلٍ، وارتفع «اثْنَان» بها، وقد تقدم أنَّ ذلك يجوز أن يكون مِمَّا سَدَّ فيه الفاعل مسدَّ الخبر، و «بَيْنَكُمْ» في قراءةِ مَنْ نوَّن «شَهَادَة» نصبٌ على الظرف، وهي واضحةٌ. وأمَّا قراءةُ الجرِّ فيها، فَمِنْ باب الاتِّساعِ في الظُّروفِ، أي: بجعل الظرفِ كأنه مفعولٌ لذلك الفعلِ، ومثله: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] وكقوله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] فيمن رفع، قال أبو حيان: «وقال الماتُرِيديُّ - وتبعه الرازيُّ -: إنَّ الأصلَ» مَا بَيْنَكُمْ «فحذف» مَا «، قال الرازيُّ: و» بَيْنَكُمْ «كنايةٌ عن التنازُعِ؛ لأنه إنما يُحْتَاجُ إلى الشهود عند التنازع، وحَذْفُ» مَا «جائزٌ عند ظهوره؛ ونظيرُه كقوله تعالى: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] في قراءة مَنْ نصب» قال أبو حيان: «وحَذفُ» مَا «الموصولةِ غيرُ جائز عند البصريِّين، ومع الإضافة لا يَصِحُّ تقديرُ» مَا «ألبتة، وليس قوله {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] نظيرَ {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] لأن هذا مضافٌ، وذلك باقٍ على ظرفيته فيُتَخَيَّلُ فيه حَذْفُ» مَا «؛ بخلاف {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] و» شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ «؛ فإنه لا يُتَخَيَّلُ فيه تقديرُ» مَا «؛ لأنَّ الإضافة أخْرَجَتْهُ عن الظرفيَّة وصَيَّرَتْهُ مفعولاً به على السَّعَة» ، قال شهاب الدين: هذا الذي نقله الشيخ عنهما قاله أبو عليٍّ الجُرْجَانِيُّ بعينه، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} ، أي: ما بَيْنكُمْ، و «مَا بَيْنَكُمْ» كنايةٌ عن التنازُع والتشاجر، ثم أضافَ الشهادة إلى التنازعِ؛ لأن الشهودَ إنَّما يُحْتَاجُ إليهم في التنازُعِ الواقعِ فيما بين القوم، والعربُ تُضيفُ الشيْءَ إلى الشيءِ، إذا كان منه بسبب؛ كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46] ، الجزء: 7 ¦ الصفحة: 567 أي: مقامه بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ، والعربُ تَحْذِفُ كثيراً ذكر «مَا» و «مَنْ» في الموضِعِ الذي يُحْتَاجُ إليهما فيه؛ كقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ} [الإنسان: 20] أي: ما ثَمَّ، وكقوله: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] و {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] أي ما بَيْنِي، ومَا بَيْنَكُمْ، وقول أبي حَيَّان «لا يُتَخَيَّل فيه تقديرُ» مَا «إلى آخره» ممنوعٌ؛ لانَّ حالة الإضافة لا تَجْعَلُها صلةً للموصول المحذوف، ولا يَلْزمُ من ذلك: أنْ تُقَدِّرَها من حيث المعنى، لا من حيث الإعرابُ؛ نظراً إلى الأصْلِ، وأمَّا حَذْفُ الموصُولِ، فقد تقدَّم تحقيقُه. فصل واخْتَلَفُوا في هَاتَيْن الآيتين، فقالَ قَوْمٌ: هما الشَّاهِدِانِ يَشْهَدَان على وِصيَّةٍ. وقال غَيْرُهُم: هُمَا الوصيَّان؛ لأنَّ الآيَة نَزَلَتْ فيهما؛ ولأنَّه قال: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ} ، ولا يَلْزَمُ الشَّاهِدُ يَمِين، وجَعَلَ الوَصِيَّ اثْنَيْن تَأكيداً، فعلى هذا تكُونُ الشَّهَادَةُ بِمَعْنَى: الحُضُور، كقولك: «شَهِدْتُ وصيَّة فُلانٍ» ، بِمَعْنَى: حَضَرتُ وشَهِدْتُ العَيْن، وقوله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] يُريدُ الحُضُور. فصل وقوله: «ذَوا» صفةٌ لاثنين، أي: صاحِبَا عدْلٍ، وكذلك قوله «مِنْكُمْ» صفة أيضاً لاثنين، وقوله: «أوْ آخَرَانِ» نسقٌ على اثنين، و «مِنْ غَيْرِكُمْ» صفةٌ لآخَرَيْنِ، والمراد ب «مِنْكُمْ» من قرابتكم وعترَتِكُم، ومن غيركم من المسلمين الأجانب، وقيل: «مِنْكُمْ» من أهل دينكم، و «مِنْ غَيْرِكُمْ» من أهل الذمة، ورجَّح النحَّاسُ الأولَ، فقال: «هذا يَنْبَنِي على معنًى غامضٍ في العربية، وذلك أنَّ معنى» آخَرَ «في العربية من جنْسِ الأوَّلِ تقولُ:» مَرَرْتُ بِكَرِيمٍ وكَرِيمٍ آخَرَ «ولا يجوز» وخَسِيسٍ آخَرَ «ولا:» مَرَرْتُ بِحِمَارٍ ورَجُلٍ آخَرَ «، فكذا هاهنا يجب أن يكون» أو آخَرَانِ «: أو عَدْلاَن آخَرَان، والكفارُ لا يكونونَ عُدُولاً» وردَّ أبو حيان ذلك؛ فقال: «أمَّا ما ذكرَهُ من المُثُلِ، فصحيحٌ؛ لأنه مثَّل بتأخير» آخَرَ «، وجعله صفةً لغير جنسِ الأوَّل، وأمَّا الآيةُ، فمن قبيل ما يُقدَّم فيه» آخَر «على الوصف، واندرج» آخَر «في الجنْس الذي قبله، ولا يُعْتَبَرُ وصْفُ جنس الأول، تقول:» مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ وآخَرَ كَافِرٍ، واشْتَرَيْتُ فَرَساً سَابِقاً، وآخَرَ بَطِيئاً «، ولو أخَّرْتَ» آخَرَ «في هذين المثالين، فقلت:» مَرَرْتُ بِرَجُلٍ مُسْلِمٍ كَافِرٍ آخَرَ «، لم يَجُزْ، وليس الآيةُ من هذا؛ لأن تركيبها {اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ف» آخَرَانِ «من جنسِ قوله» اثْنَانِ «، ولا سيما إذا قَدَّرْته:» رَجُلانِ اثْنَانِ «ف» آخَرَانِ «هما من جنْس قوله» رَجُلانِ اثْنَانِ «، ولا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 568 يُعْتَبَرُ وصف قوله: {ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} ، وإن كان مغايراً لقوله» مِنْ غَيْركُمْ «، كما لا يُعتبر وصفُ الجنْسِ في قولك:» عِنْدِي رَجُلانِ اثْنَانِ مُسْلِمَانِ وآخَرَانِ كَافِرَانِ «؛ إذ ليس من شرطِ» آخَرَ «إذا تقدَّم أن يكون من جنْس الأول بقيدِ وصفه، وعلى ما ذكرته جاء لسانُ العربِ؛ قال الشاعر: [البسيط] 2068 - كَانُوا فَرِيقَيْنِ يُصْفُونَ الزِّجَاجَ عَلَى ... قُعْسِ الكَوَاهِلِ في أشْدَاقِهَا ضَخَمُ وآخرِينَ تَرَى المَاذِيَّ فَوْقَهُمُ ... مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ أوْ مَا أوْرَثَتْ إرَمُ التقديرُ: كانوا فريقين: فريقاً - أو ناساً - يُصْفُونَ الزجاج، ثم قال: «وآخرين تَرَى الماذِيَّ، ف» آخَرِينَ «من جنْس قولك» فَرِيقاً «، ولم يعتبره بوصفه بقوله» يُصْفُونَ الزِّجاج «؛ لأنه قَسَّم من ذكر إلى قسمين متباينين بالوصف متحدين بالجنْسِ» ، قال: «وهذا الفرقُ قَلَّ مَنْ يَفْهَمُهُ؛ فَضْلاً عَمَّنْ يَعْرفُهُ» . وقوله: «أو» الظاهرُ أنها للتخْيير، وهو واضحٌ على القول بأن معنى «مِنْ غَيْرِكُمْ» : مِنْ غير أقارِبكُمْ من المسلمين، يعني: المُوصِي مُخَيَّرٌ بيْنَ أنْ يُشْهِدَ اثنَيْنِ من أقاربه، أو من الاجانب المسلمين وقيل: «أوْ» للترتيب: أي: لا يُعْدَلُ عن شاهدين منْكُمْ إلا عِنْدَ فَقْدِهِمَا، وهذا لا يجيءُ إلا إذا قلنا: «مِنْ غَيْرِكُمْ» : من غير أهْلِ مِلَّتِكُمْ. قوله: «إن أنْتُمْ» «أنْتُمْ» مرفوعٌ بمحذوفٍ يفسِّره ما بعده، وهي مسألة الاشتغالِ، والتقديرُ: إنْ ضَرَبْتمْ، فلما حُذِفَ الفعلُ، انفصلَ الضميرُ، وهذا مذهبُ جمهور البصريِّين، وذهب الأخْفَشُ منهم والكوفيُّون إلى جواز وقوعِ المبتدأ بعد «إن» الشرطيَّةِ؛ كما أجازوه بعد «إذَا» أيضاً، ف «ضَرَبْتُمْ» لا محلَّ له عند الجمهور؛ لكونه مفسِّراً، ومحلُّه الرفعُ عند الكوفيين والأخفش؛ لكونه خبراً؛ ونحوه: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك} [التوبة: 6] ، {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] . وجوابُ الشرط محذوفٌ يدلُّ عليه قوله تعالى: {اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ} ، ولكنَّ تقدير هذا الجوابِ يتوقَّف على خلافٍ في هذا الشرط: هل هو قيدٌ في أصْلِ الشهادة، أو قيدٌ في {آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} فقط؟ بمعنى: أنه لا يجوزُ العدولُ في الشهادة على الوصيَّة إلى أهلِ الذمةِ، إلا بشَرْطِ الضرب في الأرض، وهو السفر، فإن قيل: هو شرطٌ في أصْلِ الشهادةِ، فتقديرُ الجواب: إنْ ضَرَبْتُمْ في الأرْضِ، فليشهد اثنانِ منْكُمْ أو من غَيْرِكُمْ، وإنْ كان شرطاً في العدُولِ إلى آخَرَيْنِ من غير الملَّة، فالتقدير: فأشْهِدُوا آخَرَيْنِ من غَيْركم، أو فالشاهِدُ آخَرَانِ من غَيْرِكُمْ، فقد ظهر أنَّ الدَّالَّ على جوابِ الشرط: إمَّا مجموعُ قوله: «اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ ... إلى آخره» على القولِ الأوَّل، وإمَّا {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} فقط على القولِ الثاني. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 569 والفاء في «فَأصَابتكم» عاطفةٌ هذه الجملة على نَفْسِ الشرط، وقوله تعالى: {تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة} فيه وجهان: أحدهما: أنها في محلِّ رفع صفة ل «آخَرَانِ» ؛ وعلى هذا: فالجملةُ الشرطيةُ وما عُطِفَ عليها معترضةٌ بين الصفةِ وموصوفها؛ فإنَّ قوله «تَحْبسُونَهُمَا» صفةٌ لقوله «آخَرَانِ» ، وإلى هذا ذهب الفارسيُّ، ومكِّي بنُ أبِي طالبٍ، والحُوفيُّ، وأبو البقاء، وابن عطيَّة، وقد أوضحَ الفارسيُّ ذلك بعبارةٍ خاصَّةٍ، فقال: «تَحْبِسُونَهُمَا» صفة ل «آخَرَانِ» واعترض بقوله: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} ، وأفاد الاعتراضُ: أنَّ العُدولَ إلى آخرين من غير المِلَّة، أو القرابة حَسَبَ اختلافِ العُلَمَاء فيه؛ إنما يكون مع ضرورة السَّفَر، وحلول المَوْت فيه، واستغني عن جواب «إنْ» ؛ لِما تقدَّم في قوله {آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ، فقد ظهر من كلامه: أنه يجعلُ الشرط قيداً في {آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} فقط لا قيداً في أصْلِ الشهادة، فتقديرُ الجوابِ على رأيه؛ كما تقدَّم: «فاسْتَشْهِدُوا آخَرَيْن مِنْ غَيْرِكُمْ» أو «فالشَّاهِدَانِ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» . والثاني: أنه لا محلَّ له؛ لاستئنافهِ، وإليه ذهب الزمخشريُّ؛ قال: «فإنْ قلت: ما موقعُ قوله:» تَحْبِسُونَهُمَا «؟ قلتُ: هو استئنافُ كلام، كأنه قيل بعد اشتراطِ العدالةِ فيهما: فكيفَ نَعْمَلُ، إن ارتَبْنَا فيهمَا؟ فقيل: تَحْبِسُونَهُمَا» ، وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ أوفقُ للصناعة؛ لأنه يلزمُ في الأوَّل الفصْلُ بكلام طويلٍ بين الصفة وموصوفها، وقال: «بعد اشتراط العدالة» ؛ بناءً على مختاره في قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ، أي: أو عَدْلانِ آخرانِ من الأجانب. قال أبو حيان: «في قوله:» إنْ أنْتُمْ ضَرَبْتُْ «إلى آخره التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، إذ لو جرى على لفظ {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} ، لكان التركيب: إنْ هو ضَرَبَ في الأرْضِ، فأصابته، وإنما جاء الالتفاتُ جمعاً؛ لأنَّ» أحَدَكُمْ «معناه: إذا حضَرَ كُلَّ واحدٍ منكم المَوْتُ» ، وفيه نظرٌ؛ لأن الخطاب جارٍ على أسلوب الخطابِ الأوَّل من قوله: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} إلى آخره، وقال ابن عبَّاس: «في الكلام حذفٌ، تقديرُه: فأصابتْكُمْ مصيبةُ الموتِ، وقد أشهدتُموهُمَا على الإيصاء» ، وعن سعيد بن جُبير: تقديره «وقد أُوصيتُم» ، قال بعضُهُم: «هذا أوْلَى؛ لأنَّ الوَصِيَّ يَحْلِفُ، والشَّاهدَ لا يَحْلِفُ» . والخطابُ في «تَحْبِسُونَهُمَا» لولاةِ الأمور لا لِمَنْ خُوطِبَ بإصابته المَوْتَ؛ لأنه يتعذَّر ذلك فيه، و «مِنْ بَعْدِ» متعلِّق ب «تَحْبِسُونَهُمَا» ، ومعنى الحَبْسِ: المنعُ، يقال: حَبَسْتُ وأحْبَسْتُ فَرَسِي في سبيلِ الله، فَهُوَ مُحْبَسٌ وحَبِيسٌ، ويقال لمصْنَعِ الماءِ: « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 570 حَبْسٌ» ؛ لأنه يمنعه، ويقال: «حَبَّسْتُ» بالتشديد أيضاً بمعنى وقَفْتُ وسَبَلْتُ؛ وقد يكون التشديدُ للتكثير في الفعل؛ نحو: «حَبَّسْتُ الرِّجَالَ» ، والألف واللام في «الصَّلاة» فيها قولان: أحدهما: أنها للجنْس، أي: بعد أيِّ صلاة كانت. والثاني - وهو الظاهر - أنها للعَهْد كما سيأتي - إن شاء الله تعالى -. فصل معنى الآية: أنَّ الإنْسَان إذا حَضَرَهُ المْوتُ، أنْ يُشهِدَ اثنين ذَوَيْ عدلٍ أي: أمَانةٍ وعَقْلٍ. ومعنى قوله: «مِنْكُم» أي: أهْل دِينكُمْ يا مَعْشَر المُؤمنين، {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ، من غَيْر دِينكُمْ قول أكثر المُفَسِّرين، قاله ابْنُ عبَّاس، وأبُو مُوسى الأشْعَرِي، وهو قَوْلُ سعيد بن المُسَيِّبِ، وإبراهيمِ النَّخْعِي، وسعيد بنِ جُبَيْرٍ [وشريح] ، ومُجَاهِد، وعُبَيْدة، ثُمَّ اختلفَ هؤلاءِ في حُكْمِ الآيَةِ. فقال النَّخْعي، وجماعةٌ: هي منسوخَةٌ، وكانَتْ شَهَادةُ أهْلِ الذَمَّةِ مَقْبُولَةً في الابْتِدَاء، ثُمَّ نُسِخَتْ، وذَهَبَ قَوْمٌ إلى أنَّهَا ثَابِتَة، وقالُوا: إذا لم يَجِدْ مُسْلمَيْنِ يُشهِدُ كَافِريْنِ قَالَ شُرَيْح: مَنْ كان بِأرْض غُرْبَةٍ، ولم يَجِدْ مُسْلِماً يَشْهدُ على وصِيَّتِهِ، فأشْهَدَ كَافِرَيْنِ على أيِّ دينٍ كَانَا من أهْلِ الكتابِ، أوْ عَبَدَةِ الأوْثان، فَشَهَادَتُهُم جَائِزةٌ، ولا تَجُوزُ شَهَادَةُ كافرٍ على مُسْلمٍ إلاَّ على وَصِيَّةٍ في سَفَرٍ. وعن الشَّعْبِيِّ: أنَّ رَجُلاً من المُسْلِمين حَضَرَتُهُ الوَفَاةُ بدقوقا، ولم يَجِدْ مُسْلِماً يُشْهِدُه على وصِيَّتِهِ، فأشْهَدَ رجُلَيْنِ من أهْلِ الكِتَابِ، فقدِمَا الكوفَةَ بتَرِكَتهِ وأتَيا أبَا مُوسَى الأشْعَرِي. فقال الأشْعَرِيُّ: هذا أمْرٌ لَمْ يَكُنْ بَعْدَ الذي كان على عَهْد رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأحْلَفَهُمَا باللَّه ما خَانَا ولا كَذبَا، ولا بَدَّلا، ولا غيَّرا، وأنَّها لوصيَّة الرَّجُل وتركتِهِ، وأمْضَى شَهَادتَهُمَا وقال آخرُون: قوله: {ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} أي: من حَيّ المُوصِي، {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ، أي: من غَيْرِ حَيِّكُمْ وعَشِيرَتِكُمْ، وهو قول الحَسَن والزُّهرِي وعِكْرِمَة [ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 571 وجُمْهُور الفُقَهَاء] ، وقالوا: لا يجوز شَهَادةُ كَافِرٍ في شَيْءٍ من الأحْكَامِ. وقوله تعالى: {إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} ، أي: إنْ وَقَعَ المَوْتُ في السَّفَرِ، ولم يَكُنْ مَعَكَمْ أحَدٌ من المُسْلِمِين، أوْ من أقَارِبُكُمْ، فاسْتَشْهِدُوا أجْنَبِيَّيْن على الوصيَّة، إمَّا من مِلتِكُم، أو من غَيْرِ مِلَّتِكُمْ على الخِلاف. واحتَجَّ من قال: المُرَادُ بقوله: «مِنْ غَيْرِكُم» : الكُفَّار؛ بأنَّه تعالى قال في أوَّل الآيةِ: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ} فعمَّ بهذا الخِطَابِ جَمِيعَ المُؤمنينَ، فلما قال بعده «مِنْ غَيْرِكُم» كان المُرادُ غَيْرَ المُؤمنين. وأيضاً كما شَرَطَ هذا الاسْتِشْهَاد بحَالَة السَّفَرِ عَلِمْنَا أن المُراد بالآية: الكُفَّار؛ لأنَّ جواز الاسْتِشْهَادِ بالمُسْلِمِ غير مَشْرُوطٍ بالسَّفْر. وأيضاً فالآية تَدُلُّ على وُجُوبِ تَحْلِيف الشَّاهدين بَعْد الصلاة، والإجْمَاع على أنَّ الشَّّاهِد المُسْلِم، لا يَجِبُ عَلَيْه الْحَلْفُ، فعَلِمْنَا أنَّ هذَيْن الشَّاهدَيْنِ ليسا من المُسْلِمين وأيضاً بسَببِ النُّزُول، ما ذكرنا من شَهَادَةِ النَّصْرَانِيَّيْن، وقِصَّة أبِي مُوسى الأشْعَرِي، إذ قَضَى بِشَهَادَةِ اليَهُوديَّيْن، ولَمْ يُنْكِرْ عليه أحَدٌ من الصَّحَابَة، فكان إجْماعاً، فهذه حالةُ ضَرُورَةٍ، والضَّرُورَاتُ قد تُبِيحُ المَحْظُورات، كَجَوازِ التَّيَمُّمِ، والقَصْرِ، والفِطْرِ في رمضان، وأكلِ المَيْتَةِ في حالِ الضَّرُورَة، والمُسْلِمُ إذا حَضَرَهُ المَوْتُ في السَّفرِ، ولم يجِدْ مُسْلِماً يُشْهِدُه على وصِيَّتهِ، ولم تكنْ شَهَادةُ الكافِرِين مَقْبُولَةٌ، فإنَّه يُضَيِّع أكثر مُهِمَّاتِه، ورُبَّما كان عِنْدَهُ ودَائِع ودُيُونٌ في ذِمَّتِهِ. كما تُجُوزُ شَهادَةُ النِّساء فيما يتعلَّقُ بأحْوَالِهِنَّ، كالحَيْضِ والحَبَلِ والولادَةِ والاستِهْلاَلِ؛ لِعَدَم إمْكَانِ وقُوفِ الرِّجَال على هذه الأحْوَال، فاكتُفي بِشَهادةَ النِّسَاء فيها للضَّرُورة، فكَذَا هَاهُنَا، والقَوْلُ بأنَّ هذا الحُكْمَ صَارَ مَنْسُوخاً بَعِيدٌ؛ لاتِّفَاقِ أكْثَرِ الأمَّةِ على أنَّ سُورة المَائِدَةِ من آخر ما نزل من القُرْآنِ، ولَيْسَ فيها مَنْسُوخٌ، واحْتَجَّ الآخَرون بقوله تعالى: {وَأَشْهِدُواْ ذَوَي عَدْلٍ مِّنكُمْ} [الطلاق: 2] ، والكَافِرُ لا يكون عَدْلاً. وأُجِيبَ بأنَّه لم لا يجُوز أنْ يكون المرادُ بالعَدْلِ مَنْ كَانَ عدْلاً في الاحْتَرازِ عَنِ الكذبِ، لا مَنْ كان عَدْلاً في الدِّين والاعتقاد؛ لإجْماعِنَا على قُبُول شَهَادِةِ أهْلِ الأهْوَاء والبِدَعِ، مع أنَّهم لَيْسُوا عُدُولاً في مَذَاهِبِهم عِنْدَنا لِكُفْرِهِم، [ولكنهم] لمَّا كانُوا عُدُولاً في الاحْتِرازِ عَنِ الكَذِبِ، قَبِلْنَا شَهَادَتَهُمْ، فكذا هَاهُنَا. سلَّمْنَا أنَّ الكَافِرَ لَيْسَ بعْدلٍ، إلاَّ أن قوله: {ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ} عامٌّ، وقوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض} خَاصٌّ؛ فإنَّه أوْجَبَ شهادَة العَدْلِ منَّا في الحَضَرِ، واكْتَفَى بِشَهَادَةِ مَنْ لا يَكُونُ منَّا في السَّفَرِ، فَهَذِه الآيَةُ خَاصَّةٌ، والآيةُ التي ذكرُوهَا عامَّةٌ، والخاصُّ مُقدَّم على العامِّ، لا سِيَّما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 572 إذا كان الخَاصُّ مُتَأخِّراً في النُزُولِ، والمائِدَةُ مُتَأخِرَّةٌ، فكان تَقْدِيمُ هذه الآيَةِ الخَاصَّةِ وَاجِبٌ بالاتِّفَاقِ. وقوله: «تَحْبِسُونَهُمَا» أي: تستوقفونهما مِنْ بعد صلاةِ أهْلِ دينهمَا. وقال عامَّةُ المُفَسِّرين: من بعدِ صلاة العَصْرِ، قالَهُ الشَّعْبِي، والنَّخْعِي، وسعيدُ بن جُبير، وقَتادَةُ وغَيْرِهم؛ لأنَّ جَمِيعَ أهْلِ الأدْيَان يُعَظِّمُونَ ذلك الوَقْت، ويَجْتَنِبُون فيه الحَلْفَ الكَاذِبَ. وقال الحَسَنُ: مِنْ بعد صلاة الظُّهْر. واحتَجَّ الجُمْهُور بما تقدَّم، وبأنَّه رُوِي أنَّهُ لمَّا نَزلَتِ هذه الآيَةِ، صلَّى رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلاة العَصْر، ودَعَا ب «عَدِيِّ» و «تَمِيمٍ» فأسْتَحلفَهُمَا عِنْد المِنْبَر. وقال بعضهم: بَعْدَ أداءِ أيِّ صلاةٍ كانتْ؛ لأنَّ الصَّلاة تَنْهَى عن الفَحْشَاءِ والمُنْكَر. قال بَعْضُ العلماء: الأيمانُ تُغَلَّظ في الدِّماءِ، والطَّلاقِ، والعِتَاقِ، والمال إذا بلغ مائَتَيْ دِرْهم بالزَّمَانِ والمكَان، فَيُحْلَفُ بعد صلاة العَصْرِ بِمَكَّةَ بين الرُّكْنِ والمقام، وفي المدينَة عند المِنْبَر، وفي بَيْتِ المقْدِسِ عند الصَّخْرَةِ، وفي سَائِر البُلْدَانِ في أشْرَف المَسَاجِد. وقال أبو حنيفة: لا يَخْتَصُّ الحَلفُ بِزَمَان ولا مكان. قوله: «فَيُقْسِمَانِ» في هذه الفاء وجهان: أظهرهما: أنها عاطفةٌ هذه الجملة على جملة قوله: «تَحْبِسُونَهُمَا» ، فتكون في محلِّ رفع، أو لا محلَّ لها حَسْبَمَا تقدَّم من الخلاف. والثاني: أنها فاءُ الجزاءِ، أي: جوابُ شرطٍ مقدَّرٍ، وقال الفارسيُّ: «وإنْ شئت، لَمْ تَجْعَلِ الفاء؛ لعطف جملة، بل تجعلُه جزاءً؛ كقول ذي الرُّمَّة: [الطويل] 2069 - وإنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ المَاءُ تَارَةً ... فَيَبْدُو، وتَارَاتٍ يَجُمُّ فَيَغْرَقُ تقديرُه عندهم: إذا حَسَرَ بَدَا، وكذا في الآية: إذا حَبَسْتُمُوهُمَا أقْسَمَا» . [وقال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 573 مكيٌّ نحوه؛ فإنه قال: «ويجوزُ أنْ تكونَ الفاءُ جواب جزاءٍ؛ لأن» تَحْبِسُونَهُمَا «معناه الأمْرُ بذلك، وهو جوابُ الأمْر الذي دَلَّ عليه الكلامُ؛ كأنه قيل: إذا حَبَسْتُمُوهُمَا أقْسَمَا» ] قال شهاب الدين: ولا حاجةَ داعيةً إلى شيء من تقدير شرطٍ محذوفٍ، وأيضاً: فإنه يُحْوجُ إلى حذفِ مبتدأ قبل قوله «فَيُقْسِمَان» ، أي: فهما يُقْسِمَانِ، وأيضاً ف «إنْ تَحْبِسُوهُمَا» تقدَّم أنها صفةٌ، فكيف يَجْعَلُها بمعنى الأمر، والطَّلَبُ لا يقع وصفاً؟ وأمَّا البيتُ الذي أنشده أبو عليٍّ، فَخَرَّجَه النحويُّون على أنَّ «يَحْسِرُ الماءُ تَارَةً» جملةٌ خبرية، وهي وإن لم يكنْ فيها رابطٌ، فقد عُطِفَ عليها جملةٌ فيها رابطٌ بالفاء السَّببية، وفاءُ السببية جَعَلَتِ الجملتَيْنِ شيئاً واحداً. و «بالله» متعلِّقٌ بفعل القسم، وقد تقدَّم أنه لا يجوز إظهارُ فعلِ القسمِ إلا معها؛ لأنها أمُّ الباب، وقوله: {لاَ نَشْتَرِي بِهِ} جوابُ القسم المضمرِ في «يُقْسِمَانِ» ، فتُلُقِّي بما يُتَلَقَّى به، وقوله: «إن ارْتَبْتُمْ» شرطٌ، وجوابه محذوفٌ، تقديرُه: إن ارتبتُمْ فيهما، فحلِّفُوهُمَا، وهذا الشرط وجوابه المقدَّرُ معترضٌ بين القسم وجوابه. والمعنى: إن ارْتَبْتُمْ في شَأنِهِمَا فَحَلِّفُوهُمَا، وهذا الشَّرطُ حُجَّةُ من يقول: الآيةُ نَازِلةٌ في إشْهَادِ الكُفَّارِ؛ لأنَّ تَحْلِيفَ الشَّاهِدِ المُسْلِم غير مَشْرُوعٍ. ومن قال: الآيةُ نازلةٌ في المُسْلِمِ قال: إنها مَنْسُوخَةٌ. وعن عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنَّهُ كان يُحَلِّفُ الشَّاهِدَ والرَّاوي عند التُّهْمَةِ. وليس هذه الآيةُ مِمَّا اجتمع فيه شرطٌ وقسمٌ، فأُجيب سابقُهما، وحُذِفَ جوابُ الآخرِ؛ لدلالةِ جوابه عليه؛ لأنَّ تلك المسألةَ شرطُها أن يكون جوابُ القسمِ صالحاً لأنْ يكون جواب الشرط؛ حتَّى يَسُدَّ مسدَّ جوابه؛ نحو: «والله إنْ تَقُمْ لأكْرِمَنَّكَ» ، لأنك لو قَدَّرْتَ «إن تَقُمْ أكْرَمْتُكَ» ، صَحَّ، وهنا لا يُقَدَّر جوابُ الشرط ما هو جوابٌ للقسَم، بل يُقَدَّر جوابُه قِسْماً برأسِه؛ ألا ترى أنَّ تقديره هنا: «إن ارْتَبْتُمْ، حَلِّفُوهُمَا» ولو قَدَّرْتَهُ: إن ارتبتُمْ، فلا نشتَرِي، لم يَصِحَّ، فقد اتفقَ هنا أنه اجتمع شرطٌ وقسمٌ، وقد أجيب سابقهما، وحُذفَ جوابُ الآخَرِ، وليس من تيكَ القاعدةِ، وقال الجُرْجَانِيُّ: «إنَّ ثَمَّ قولاً محذوفاً، تقديرُه: يُقْسِمَانِ بالله ويقولانِ هذا القَوْلَ في أيْمَانِهمَا، والعربُ تُضْمِرُ القولَ كثيراً؛ كقوله تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ} [الرعد: 23 - 24] أي: يقولُونَ سلامٌ عَلَيْكُمْ» ، قال شهاب الدين: ولا أدْرِي ما حمله على إضمارِ هذا القَوْلِ؟ . قوله: «بِهِ» في هذه الهاءِ ثلاثةُ أقوالٍ: أحدها: أنها تعودُ على الله تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 574 الثاني: أنها تعودُ على القسم. الثالث: وهو قول أبي عليٍّ -: أنها تعودُ على تحريفِ الشهادةِ، وهذا قوي من حيث المعنى، وقال أبو البقاء: «تعودُ على اللَّهِ، أو القَسَمِ، أو الحَلْفِ، أو اليمينِ، أو تحريفِ الشهادةِ، أو على الشهادة؛ لأنها قولٌ» ، قال شهاب الدين: قوله «أو الحَلْفِ أو اليمينِ» لا فائدةَ فيه؛ إذ هما شيءٌ واحدٌ، وكذلك قولُ من قال: إنها تعودُ على الله تعالى، لا بد أن يقدِّر مضافاً محذوفاً، أي: لا نَشْتَري بيمَينِ الله أوْ قسَمِه ونَحْوه؛ لأنَّ الذاتَ المقدَّسة لا يُقالُ فيها ذلك، وقال مكي: «وقيل: الهاءُ تعودُ على الشَّهادة، لكن ذُكِّرَتْ؛ لأنها قولٌ كما قال تعالى: {فارزقوهم مِّنْهُ} [النساء: 8] فردَّ الهاءَ على المقْسُومِ؛ لدلالة القسمة على ذلك «، والاشتراءُ هنا، هَلْ هو باقٍ على حقيقته، أو يُرَاد به البيع؟ قولان، أظهرهما الأول، وبيانُ ذلك مبنيٌّ على نصْب» ثَمَناً «، وهو منصوبٌ على المفعوليَّة، قال الفارسيُّ:» وتقديره: لا نَشْتَرِي به ذا ثَمَنٍ؛ ألا ترى أنَّ الثمن لا يُشْتَرى، وإنما يُشْتَرَى ذو الثمنِ «، قال:» وليس الاشتراءُ هنا بمعنى البيع، وإنْ جاء لغةً، لأنَّ البيع إبعادٌ عن البائع، وليس المعنى عليه، إنما معناه التمسُّكُ به والإيثارُ له على الحقِّ «، وقد نقل أبو حيان هذا الكلام بعينه ولم يعْزُه لأبِي عَلِيٍّ. وقال مكيٌّ:» معناه ذا ثَمَنٍ، لأنَّ الثمن لا يُشْتَرَى، إنما يُشْتَرى ذو الثمنِ، وهو كقوله: {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً} [التوبة: 9] ، أي ذا ثَمَنٍ «، وقال غيرُه:» إنه لا يَحْتاجُ إلى حذف مضاف «، قال أبو البقاء:» ولا حَذْفَ فيه؛ لأنَّ الثمنَ يُشْتَرَى كما يُشْتَرَى به، وقيل: التقديرُ: ذا ثَمَنٍ «، وقال بعضهم:» لا نَشْتَرِي: لا نبيعُ بعَهْدِ الله بغَرَضٍ نَأخُذُه؛ كقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً} [آل عمران: 77] ، فمعنى الآية: لا نَأخُذُ بعهد الله ثَمَناً؛ بأن نبيعَه بعَرَضٍ من الدنيا «قال الواحديُّ:» ويُسْتَغْنَى بهذا عن كثيرٍ من تكلُّفِ أبي عَلِيٍّ، وهذا معنى قول القُتَيْبِيِّ والجُرْجَانِيِّ «. قوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} الواوُ هنا كالتي سَبَقَتْ في قوله: {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 170] من أنها يحتمل أن يقال عاطفةٌ، أو حاليةٌ، وأنَّ جملة الامتناعِ حالٌ معطوفةٌ على حالٍ مقدَّرةٍ؛ كقوله:» أعْطُوا السَّائِلَ، ولوْ عَلَى فرسٍ «، فكذا هنا تقديرُه: لا نشتري به ثمناً في كلِّ حال، ولو كان الحالُ كذا، واسمُ» كَانَ «مضمرٌ فيها يعودُ على المشهُودِ له، أي: ولو كان المشهُودُ له ذَا قَرَابَةٍ. قوله: {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله} الجمهورُ على رَفْعِ ميمِ» نَكْتُمُ «على أنَّ» لا «نافية، والجملةُ تحتمل وجهين: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 575 أحدهما - وهو الظاهرُ -: كونُها نسقاً على جواب القسمِ، فتكونُ أيضاً مقسماً عليها. والثاني: أنه إخبارٌ من أنفسهم بأنهم لا يكتمُون الشهادة؛ ويتأيَّدُ بقراءة الحسن والشَّعْبيِّ:» وَلاَ نَكْتُمْ «على النهْي، وهذه القراءةُ جاءتْ على القليل؛ من حيث إنَّ دخولَ» لاَ «الناهيةِ على فعلِ المتكلِّم قليلٌ؛ ومنه: [الطويل] 2070 - إذا مَا خرَجْنَا مِنْ دمشْقَ فَلاَ نَعُدْ ... بِهَا أبَداً ما دَامَ فِيهَا الجَرَاضِمُ والجمهورُ على «شهادةَ الله» بالإضافة، وهي مفعولٌ بها، وأضيفَتْ إليه تعالى؛ لأنه هو الآمرُ بها وبحفظها، وألاَّ تُكْتَمَ، ولا تُضَيَّعَ، وقرأ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ونعيمُ بْنُ مَيْسَرَة والشَّعْبِيُّ في رواية: «شهادةً الله» بتنوين شهادة، ونصبها، ونصب الجلالة، وهي واضحةٌ، ف «شَهَادَةً» مفعول ثان، والجلالةُ نصبٌ على التعظيم وهي الأوَّل، والأصلُ: ولا نَكْتُمُ اللَّهَ شهادةً؛ وهو كقوله: {وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً} [النساء: 42] وإنما قُدِّمَتْ هنا للاهتمامِ بها؛ فإنها المحدَّثُ عنها، وفيها وجهُ ثانٍ - نقله الزهراويُّ - وهو: أن تكون الجلالةُ نَصْباً على إسقاطِ حرفِ القسم، والتقديرُ: ولا نَكْتُمُ شهادةً واللَّهِ، فلمَّا حُذِف حرفُ الجر، نُصِب المُقْسَمُ به، ولا حاجةَ إليه؛ لأنه يَسْتَدْعِي حذف المفعولِ الأوَّل للكتمان، أي: ولا نَكْتُمُ أحداً شهادةً والله، وفيه تكلُّفٌ وإليه ذهب أبو البقاء أيضاً قال: «على أنه منصوبٌ بفعْلِ القسم محذوفاً» . ويُروَى عن أبِي جَعْفَر «شَهادةً» مُنَونةً «أَللَّهِ» بِقَطْعِ الألف وكسَرْ الهَاءِ، من غير اسْتِفْهَام على ابْتِدَاء اليَمينِ، أي: واللَّهِ {إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين} ، أي: إنْ كَتَمْنَاها نَكُونُ من الآثمين. وقرأ عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - والسُّلمِيُّ والحسن البصريُّ: «شَهَادَةً» بالتنوين والنصب، «آلله» بمدِّ الألفِ التي للاستفهام، دَخَلَتْ للتقرير، وتوقيف نفوسِ الخَلْق الحالفين، وهي عوضٌ عن حَرْفِ القسمِ المقدَّرِ ثمّ. وهل الجرُّ بها أم بالحَرْفِ المحذوفِ؟ خلافٌ. وقرأ الشعبيُّ في رواية وغيره: «شَهَادَهْ» بالهاء ويقف عليها، ثم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 576 يَبْتدئ «آللَّهِ» بقطع همزة الوصل وبمدِّ الهمزة على أنها للاستفهام بالمعنى المتقدِّم، وجَرِّ الجلالة، وهمزةُ القطعِ تكون عوضاً من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصة، تقول: يا زَيْدُ، أللَّهِ، لأفْعلَنَّ، والذي يُعَوَّض من حرف القسم في هذا الاسم الشريف خاصَّة ثلاثةٌ: ألفُ الاستفهام، وقطعُ همزة الوصلِ، وها التي للتنبيه؛ نحو: «ها اللَّهِ» ، ويجوزُ مع «هَا» قطعُ همزةِ الجلالة ووصلُها، وهل الجرُّ بالحرف المقدَّر، أو بالعوض؟ تقدَّم أنَّ فيه خلافاً، ولو قال قائلٌ: إن قولهم «الله، لأفْعَلَنَّ» بالجرِّ وقطع الهمزة؛ بأنها همزة استفهام لم يُرَدَّ قوله، فإن قيل: همزةُ الاستفهام، إذا دخلَتْ على همزة الوصْلِ التي مع لام التعريف، أو ايْمُن في القَسَم، وجب ثبوتُ همزة الوصل، وحينئذ إمَّا: أنْ تُسَهَّلَ، وإمَّا أنْ تُبْدَلَ ألفاً، وهذه لم تَثْبُتْ بعدها همزةُ وصل، فتعيَّن أن تكونَ همزة وصْلٍ قُطِعَتْ عوضاً عن حرف القسم، فالجواب: أنهم إنما أبْدلوا ألفَ الوصْلِ أو سَهَّلوها بعد همزةِ الاستفهام؛ فرقاً بين الاستفهام والخبر، وهنا اللَّبْسُ مأمونٌ فإنَّ الجرَّ في الجلالة يؤذِنُ بذلك؛ فلا حاجة إلى بقاءِ همزةِ الوصلِ مُبْدلةً أو مُسَهَّلةً، فعلى هذا قراءة: ألله، وآلله بالقصْر والمدِّ تحتمل الاستفهام، وهو تخريجٌ حسن، قال ابن جني في هذه القراءة: «الوقفُ على» شهَاده «بسكون الهاء، واستئنافُ القسم - حسنٌ؛ لأنَّ استئنافه في أولِ الكلامِ أوْجَهُ له وأشدُّ هيبةً مِنْ أنْ يدخُلَ في عرضِ القَوْل» ، ورُوِيَتْ هذه القراءةُ - أعني: «ألله» بقطع الألف من غير مدٍّ وجرِّ الجلالة - عن أبي بكرٍ عن عاصمٍ وتقدَّم أيضاً أنها رويتْ عن أبي جعفرٍ، وقرئ: «شَهَادَةً اللَّهِ» بنصب الشهادة منونة، وجرِ الجلالة موصولة الهمزة، على أن الجرَّ بحرفِ القسمِ المقدَّرِ من غير عوضٍ منه بقَطْعِ، ولا همزةِ استفهام، وهو مختصٌّ بذلك. وقوله تعالى: {إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين} هذه الجملةُ لا محلَّ لها؛ لأنها استئنافيةٌ، أخبروا عن أنفسهم بأنهم من الآثمين، إنْ كتموا الشهادة؛ ولذلك أتوا ب «إذَنِ» المُؤذِنَةِ بالجزاء والجواب، وقرأ الجمهور: «لَمِنَ الآثمينَ» من غير نقل، ولا إدغام، وقرأ ابن مُحَيصنٍ والأعمش: «لَمِلآّثمين» بإدغام نون «مِنْ» في لام التعريف، بَعْد أن نقل إليها حركة الهمزة في «آثمينَ» ، فاعتدَّ بحركة النقل فأدغَمَ، وهي نظيرُ قراءةِ مَنْ قرأ: {عَاداً لُّولَى} [النجم: 50] بالإدغام، على ما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. فصل في معنى الآية ومعنى الآية: إنكم إذا سَافَرْتُم في الأرْض، فأصَابَتْكُم مُصِيبَةُ الموت، فأوصَيْتم الجزء: 7 ¦ الصفحة: 577 إلَيْهما، ودَفَعْتُم إليهمَا مالك، فاتَّهَمَهُمَا بعضُ الورثة، وادَّعَوْا عليهما خِيَانَة فما الحُكْمُ فيه؟ «أن تَحبِسُونَهُمَا» أي: تَسْتَوقِفُونَهُمَا بَعْدَ الصَّلاة. قال السُّدي: بعد صلاةِ أهْلِ دينهمَا؛ لأنَّهُمَا لا يُبَالِيَان بِصلاةِ العَصْرِ، ولا صلاةِ الظُّهْرِ على ما تقدَّم، فيَحْلِفَان {بالله إِنِ ارتبتم} أي: شَكَكْتُم وَوقَعتْ لَكُم الرِّيبَةُ في قولِ الشَّاهدين وصدقهمَا، إذا كانا مِنْ غَيْرِ دينكُم، فإن كانا مُسْلِمَيْن فلا يَمِينَ عليهما {لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً} ، أي: لا نَحْلِفُ باللَّه كَاذِبين على عِوضٍ نأخُذُه، أو حَقٍّ نَجْحَدُهُ {وَلَوْ كَانَ ذَا قربى} ، ولو كان المَشْهُودُ لَهُ ذَا قَرابَةٍ مِنَّا. وقيل: لَوْ كان ذلك الشَّيْءُ حبوة في قُرْبى {وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله} وأضَافَ الشَّهادَةَ إلى اللَّهِ تعالى؛ لأنه أمَرَ بإقَامَتِها ونَهَى عن كِتْمَانها {إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين} ، إن كَتَمْنَا الشَّهَادَة. رُوِي لما نَزَلت هذه الآيَةُ، صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلاةَ العَصْرِ، ودعا تميماً وعِدياً، فاسْتَحْلَفَهُمَا عِنْدَ المِنْبَر باللَّه الذي لا إله إلاَّ هُو، أنَّهُمَا لم يَخْتَانَا شَيْئاً مما دُفع إليْهما، فَحَلَفا على ذَلِكَ، وخلَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سَبِيلَهُمَا. قوله تعالى: «فإنْ عُثِرَ» : مبنيٌّ للمفعول، والقائمُ مقامَ فاعله الجارُّ بعده، أي: فإن اطُّلِعَ على اسْتِحْقَاقِهِمَا الإثْم يقالُ: عَثَرَ الرَّجُلُ يَعْثُرُ عُثُوراً: إذا هَجَمَ على شيءٍ، لم يَطَّلِعْ عليه غَيْرُهُ، وأعْثَرْتُهُ على كذا أطلعتُه عليه؛ ومنه قوله تعالى: {أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21] ، قال أهلُ اللغة: وأصلُه من «عَثْرَةِ الرجْلِ» وهي الوقوعُ، وذلك أن العاثِرَ إنما يَعْثُرُ بِشَيْء كان لا يَرَاهُ، فإن عثر به، اطُّلَعَ عليه، ونظر ما هو، فقيل لكلِّ أمْرٍ كان خَفِيًّا، ثم اطُّلِعَ عليه: «عُثِرَ عَلَيْه» ، وقال الليْثُ: «عَثَرَ يَعْثُرُ عُثُوراً هَجَمَ على أمرٍ لم يهجُمْ عليه غيرُه، وعَثَر يَعْثُرُ عثْرةً وقع على شيء» ففرَّقَ بين الفعلَيْنِ بمصدَرَيْهما، وفرَّق أبو البقاء بينهما بغير ذلك؛ فقال: «عَثَرَ مصْدرُه العُثُور، ومعناه اطَّلَعَ، فأمَّا» عَثَرَ «في مَشْيهِ، ومنْطِقِهِ، ورأيه، فالعِثَارُ» ، والراغب جعَلَ المصدَرَيْنِ على حدٍّ سواء؛ فإنه قال: «عَثَر الرَّجل بالشيءِ يَعْثُرُ عُثُوراً وعِثَاراً: إذا سقطَ عليه، ويُتَجَوَّزُ به فيمَنْ يطَّلِعُ على أمرٍ من غيرِ طلبه، يقال:» عَثَرْتُ على كذا «، وقوله: {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} [الكهف: 21] ، أي: وَقَّفْنَاهُمْ عليهم من غَيْرِ أنْ طَلَبُوا» . قوله تعالى: «فآخَرَانِ» فيه أربعةُ أوجه: الجزء: 7 ¦ الصفحة: 578 الأول: أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمرٍ، تقديره: فالشَّاهدانِ آخرانِ، والفاء جوابُ الشرط، دخلت على الجملة الاسمية، والجملةُ من قوله: «يَقُومَانِ» في محلِّ رفعٍ صفةً ل «آخَرَانِ» . الثاني: أنه مرفوعٌ بفعلٍ مضمرٍ، تقديرُه: فَلْيَشْهَدْ آخَرَانِ، ذكره مكيٌّ وأبو البقاء، وقد تقدَّم أن الفعل لا يُحْذَفُ وحْدَهُ إلاَّ في مواضعَ ذكَرْتُها عند قوله: {حِينَ الوصية اثنان} [المائدة: 106] . الثالث: أن خبرٌ مقدَّم، و «الأوْلَيَانِ» مبتدأٌ مؤخَّرٌ، والتقديرُ: فالأوْليانِ بأمْرِ الميِّتِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا، ذكر ذلك أبو عَلِيٍّ، قال: «ويكُونُ كقولك: تَمِيميٌّ أنَا» . الرابع: أنه مبتدأٌ، وفي الخبر حينئذ احتمالاتٌ: أحدها: قوله: {مِنَ الذين استحق} ، وجاز الابتداءُ به؛ لتخصُّصِه بالوصْفِ، وهو الجملة من «يَقُومَانِ» . والثاني: أنَّ الخبر «يَقُومَانِ» و {مِنَ الذين استحق} صفةُ المبتدأ، ولا يََضُرُّ الفصْلُ بالخبر بين الصفة وموصوفها، والمسوِّغُ أيضاً للابتداء به: اعتمادُه على فاءِ الجزاء، وقال أبو البقاء، لمَّا حَكَى رفعه بالابتداء: «وجازَ الابتداءُ هنا بالنَّكِرَة؛ لحصولِ الفائدةِ» ، فإن عنى أنَّ المسوِّغَ مجرَّدُ الفائدةِ من غير اعتبار مسوِّغٍ من المُسَوِّغات التي ذكرتُها، فغيرُ مُسَلَّم. الثالث: أنَّ الخبرَ قوله: «الأوْلَيَانِ» نقله أبو البقاء، وقوله «يَقُومَانِ» و {مِنَ الذين استحق} كلاهما في محلِّ رفعٍ صفةً ل «آخَرَانِ» ، ويجوزُ أن يكون أحدُهما صفةً، والآخرُ حالاً، وجاءتِ الحالُ من النكرةِ؛ لتخصُّصِهَا بالوصفِ، وفي هذا الوجهِ ضَعْفٌ؛ من حيث إنه إذا اجتمع معرفةٌ ونكرةٌ، جَعَلْتَ المعرفةَ محدَّثاً عنها، والنكرةَ حديثاً، وعكسُ ذلك قليلٌ جدًّا أو ضرورةٌ؛ كقوله: [الوافر] 2071 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... يَكُونُ مِزَاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ وكقوله: [الطويل] 2072 - وَإنَّ حَرَاماً أنَّ أسُبَّ مُجَاشِعاً ... بَآبَائِيَ الشُّمِّ الكِرَام الْخََضَارِمِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 579 وقد فُهِمَ مِمَّا تقدَّم أنَّ الجملة من قوله «يَقُومَانِ» والجارَّ من قوله: «مِنَ الَّذِينَ» : إمَّا مرفوعُ المحلِّ صفةً ل «آخَرَانِ» أو خبرٌ عنه، وإمَّا منصوبُهُ على الحالِ: إمَّا من نَفْسِ «آخَرَانِ» ، أو مِنَ الضَّمِير المستكنِّ في «آخَرَانِ» ، ويجوزُ في قوله «مِنَ الَّذِين» أنْ يكون حالاً من فاعلِ «يَقُومَانِ» . قوله: «استحقّ» قرأ الجمهور «استُحِقَّ» مبنيًّا للمفعول، «الأولَيَانِ» رفعاً، وقرأ حفص عن عاصم: «اسْتَحَقَّ» مبنيًّا للفاعل، «الأوليَانِ» كالجماعة، وهي قراءة عبد الله بن عبَّاس وأمير المؤمنين عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - ورُوِيَتْ عن ابن كثيرٍ أيضاً، وحمزة وأبو بكرٍ عن عاصمٍ: «استُحِقَّ» مبنيًّا للمفعول كالجماعة، «الأوَّلِينَ» جمع «أوَّل» جمع المذكر السَّالِم، والحسن البصريّ: «اسْتَحَقَّ» مبنيًّا للفاعل، و «الأوَّلانِ» مرفوعاً تثنية «أوَّل» ، وابن سيرين كالجماعة، إلا أنه نَصَبَ الأوْلَيْينِ تثنية «أوْلَى» ، وقرئ: «الأوْلَيْنَ» بسكون الواو وفتح اللام، وو جمع «أوْلَى» كالأعْلَيْنَ في جمعِ «أعْلََى» ، ولما وصل أبو إسحاق الزجاج إلى هذا الموضوع، قال: «هذا موضعٌ من أصْعَبِ ما في القرآن إعراباً» . قال شهاب الدين: ولعَمْرِي، إنَّ القولَ ما قالَتْ حَذَامِ؛ فإن الناس قد دارَتْ رؤوسُهم في فَكِّ هذا التركيب، وقد اجتهدْتُ - بحمد الله تعالى - فلخَّصْتُ الكلام فيها أحسن تَلْخِيصٍ، ولا بدَّ من ذِكْرِ شَيْءٍ من معاني الآية؛ لنستعين به على الإعْراب؛ فإنه خادمٌ لها. فأمَّا قراءةُ الجُمهورِ، فرفعُ «الأوْلَيَان» فيها أوجه: أحدها: أنه مبتدأ، وخبره «آخرَانِ» ، تقديره: فالأوْلَيَانِ بأمر الميِّت آخَرَانِ، وتقدَّم شرحُ هذا. الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: هما الأوْليانِ؛ كأنَّ سائلاً يسأل فقال: «من الآخَرَانِ» ؟ فقيل: هما الأوْلَيَانِ. الثالث: أنه بدلٌ من «آخَرَان» ، وهو بدلٌ في معنى البيان للمبدلِ منه؛ نحو: «جَاءَ زَيْدٌ أخُوكَ» وهذا عندهم ضعيفٌ؛ لأنَّ الإبدالَ بالمشتقَّاتِ قليلٌ. الرابع: أنه عطفُ بيان ل «آخَرَانِ» بيَّن الآخَرَيْنِ بالأوْلَيَيْنِ، فإن قلت: شرطُ عطفِ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 580 البيانِ: أن يكون التابعُ والمتبوعُ متفقينِ في التعريفِ والتنكيرِ، على أنَّ الجمهور على عدم جريانه في النكرةِ؛ خلافاً لأبي عَليّ، و «آخَرَانِ» نكرةٌ، و «الأوْلَيَانِ» معرفةٌ، قُلْتُ: هذا سؤالٌ صحيحٌ، ولكنْ يَلْزَمُ الأخفشَ، ويلزمُ الزمخشريَّ جوازُه: أمَّا الأخفشُ فإنه يُجيزُ أنْ يكون «الأوْلَيَانِ» صفةً ل «آخَرَانِ» بما سأقرره عنه عند تعرُّضِي لهذا الوجهِ، والنعتُ والمنعوتُ يُشترط فيهما التوافُقُ، فإذا جاز في النعْتِ، جاز فيما هو شبيهٌ به؛ إذْ لا فرق بينهما إلا اشتراطُ الاشتقاقِ في النعت، وأمَّا الزمخشريُّ، فإنه لا يشترطُ ذلك - أعني التوافُقَ - وقد نَصَّ عليه هو في سورة آل عمران على أن قوله تعالى: {مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] عطفُ بيان؛ لقوله {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ} [آل عمران: 97] ، و «آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ» نكرةٌ؛ لكنها لَمَّا تخصَّصَتْ بالوصفِ، قَرُبَتْ من المعرفة، كما تقدَّم عنه في موضعه، وكذا «آخَرَانِ» قد وُصِفَ بصفَتيْنِ، فقُرْبُه من المعرفة أشدُّ من «آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ» ؛ من حيثُ وُصِفَتْ بصفةٍ واحدة. الخامس: أنه بدلٌ من فاعلِ «يَقُومَانِ» . السادس: أنه صفةٌ ل «آخَرَانِ» ، أجازَ ذلك الأخفشُ، وقال أبو عَلِيٍّ: «وأجازَ أبو الحسنِ فيها شيئاً آخَرَ، وهو أن يكُون» الأوْلَيَانِ «صفةً ل» آخَرَانِ «؛ لأنَّه لمَّا وُصِفَ، تخصَّصَ، فَمِنْ أجلِ وصفه وتخصيصه، وُصِفَ بوصف المعارف» ، قال أبو حيان: «وهذا ضعيفٌ؛ لاستلزامِه هَدْم ما كَادُوا أن يُجْمعوا عليه؛ من أنَّ النكرة لا تُوصفُ بالمعرفةِ، ولا العَكْس» ، قلتُ: لا شكَّ أن تَخَالُفَهُمَا في التعريفِ والتنْكيرِ ضعيفٌ، وقد ارتكَبُوا ذلك في مواضعَ، فمنها ما حكاه الخليلُ: «مَرَرْتُ بالرَّجُلِ خَيْرٍ مِنْكَ» في أحدِ الأوجه في هذه المسألةِ، ومنها {غَيْرِ المغضوب} [الفاتحة: 7] على القولِ بأنَّ «غَيْر» صفةُ {الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} [الفاتحة: 7] ، وقوله: [الكامل] 2073 - وَلَقَدْ أمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ لا يَعْنِينِي وقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 73] ، على أنَّ «يَسُبُّنِي» و «نَسْلَخُ» صفتان لما قبلهما؛ فإنَّ الجمل نكراتٌ، وهذه المُثُلُ التي أوردتها عكسُ ما نحن فيه، فإنها تُؤوَّلُ فيها المعرفةُ بالنكرة، وما نحن فيه جعلنا النكرة فيه كالمعرفةِ؛ إلاَّ أنَّ الجامعَ بينهما التخالفُ، ويجوز أن يكون ما نحْنُ فيه من هذه المُثُلِ؛ فاعتبار أنَّ «الأوْلَيَيْنِ» لمَّا لم يُقْصَدْ بهما شخصان معينان، قَرُبَا من النكرةِ، فوقعا صفةً لها مع تخصُّصِها هي؛ فصار في ذلك مسوِّغان: قُرْبُ النكرةِ من المعرفة بالتخصيصِ، وقُرْبُ المعرفةِ من النكرة بالإبهام؛ ويدلُّ لِما قلته ما قال أبو البقاء: «والخَامِسُ أن يكون صفة الجزء: 7 ¦ الصفحة: 581 ل» آخَرَانِ «؛ لأنه وإنْ كان نكرةً، فقد وُصِفَ، والأوْليانِ لم يَقْصِدْ بهما قَصْدَ اثنينِ بأعيانِهما» . السابع: أنه مرفوعٌ على ما لم يُسَمَّ فاعله ب «اسْتُحِقَّ» ، إلاَّ أنَّ كلَّ مَنْ أعربه كذا، قَدَّر قبله مضافاً محذوفاً، واختلفتْ تقديراتُ المُعْرِبينَ، فقال مكي: «تقديرُه: استُحِقَّ عليهمْ إثْمُ الأوْلَيَيْنِ» ، وكذا أبو البقاء وقد سَبقَهما إلى هذا التقدير ابنُ جريرٍ الطَّبَرِيُّ، وقدَّره الزَمَخْشَرِيُّ فقال: «مِنَ الَّذِينَ استُحِقَّ علَيْهِمُ انتدَابُ الأوْلَيَيْنِ منْهُمْ للشَّهادَةِ لاطِّلاعِهِمْ عَلَى حقيقةِ الحَالِ» ، ومِمَّن ذهب إلى ارتفاعِ «الأوْلَيَانِ» ب «اسْتُحِقَّ» أبو عليٍّ الفارسِيُّ، ثم منعه؛ قال: «لأنَّ المُسْتَحَقَّ إنَّمَا يكُونُ الوصيَّة أو شيئاً منها، وأمَّا الأوليَانِ بالمَيِّتِ، فلا يجوزُ أن يُسْتَحَقَّا، فيُسْنَدَ استُحِقَّ إليهما» ، قلتُ: إنما منع أبو عليٍّ ذلك على ظاهرِ اللفظِ؛ فإنَّ الأوْلَيَيْنِ لَمْ يستحقَّهما أحدٌ كما ذَكَر، ولكن يجوز أن يُسْنَدَ «اسْتُحِقَّ» إليهما؛ بتأويلِ حذف المضافِ المتقدِّم، وهذا [الذي] منعه الفارسيُّ ظاهراً هو الذي حمل النَّاس على إضمار ذلك المُضافِ، وتقديرُ الزمخشريِّ ب «انْتِدَاب الأوْلَيَيْنِ» أحسنُ من تقدير غيره؛ فإنَّ المعنى يُسَاعِدُهُ، وأمَّا إضمارُ «الإثْم» فلا يَظْهر إلا بتأويل بعيدٍ. وأجازَ ابن عطيَّة أن يرتفعَ «الأوْلَيَانِ» ب «استُحِقَّ» أيضاً، ولكن ظاهرُ عبارته؛ أنه لم يُقَدَّر مضافاً؛ فإنه استشعر بإستشكالِ الفارسيِّ المتقدِّم، فاحتالَ في الجواب عنه، وهذا نَصُّه، قال ما ملخَّصُه: إنَّه «حُمِلَ» اسْتُحِقَّ «هنا على الاستعارةِ؛ فإنه ليس استحقاقاً حقيقةً؛ لقوله:» اسْتَحَقَّا إثْماً «، وإنما معناه أنَّهم غَلَبُوا على المالِ بحُكْمِ انفرادِ هذا المَيِّت وعدمه؛ لقرابته أو أهل دينه؛ فجعل تسوُّرَهُمْ عليه استحقاقاً - مجازَاً، والمعنى: من الجماعة التي غابت، وكان منْ حَقِّها أنْ تُحْضِرَ وليَّها، فلمَّا غابَتْ وانفرد هذا الموصِي، استحقَّت هذه الحالَ، وهذان الشاهدانِ من غير أهْل الدِّين والولاية، وأمْرِ الأوْلَيَيْنِ على هذه الجماعة، فبُنِيَ الفعلُ للمفعولِ على هذا المعنى إيجازاً، ويُقَوِّي هذا الفرضَ تعديِّي الفعلِ ب» عَلَى «لمَّا كان باقتدارٍ وحَمْلٍ، هَيَّأتْهُ الحالُ، ولا يُقال: اسْتَحَقَّ منه أو فيه إلاَّ في الاسْتِحْقَاقِ الحقيقيِّ على وجههِ، وأمَّا» اسْتَحَقَّ عليْهِ «فالبحَمْلِ والغلبةِ والاستحقاقِ المُسْتَعَارِ» . انتهى، فقد أسند «اسْتَحَقَّ» إلى «الأوليان» من غير تقدير مضافٍ متأوِّلاً له بما ذكر، واحتملتُ طول عبارته؛ لتتَّضِحَ. واعلم أنَّ مرفوع «اسْتُحِقَّ» في الأوجهِ المتقدِّمة - أعني غيرَ هذا الوجهِ، وهو إسنادُه إلى «الأوْليانِ» - ضميرٌ يعودُ على ما تقدَّم لفظاً أو سياقاً، واختلفت عباراتُهم فيه، فقال الفارسيُّ، والحُوفيُّ، وأبو البقاء والزمخشريُّ: إنه ضميرُ الإثْمِ، والإثمُ قد تقدَّمَ في الجزء: 7 ¦ الصفحة: 582 قوله: «اسْتَحَقَّا إثْماً» ، وقال الفارسيُّ والحُوفِيُّ أيضاً: «اسْتُحِقَّ هو الإيصاءُ أو الوصيَّةُ» قال شهاب الدين: إضمارُ الوصيَّة مُشْكِلٌ؛ لأنه إذا أُسْنِدَ الفعلُ إلى ضمير المؤنَّثِ مطلقاً، وَجَبَتِ التاءُ إلاَّ في ضرورة، ويُونُسُ لا يَخُصُّه بها، ولا جائزٌ أن يقال أضْمَرَا لفظ الوصيَّة؛ لأنَّ ذلك حُذِفَ، والفاعلُ عندهما لا يُحْذَفُ، وقال النحَّاس مستحْسِناً لإضمارِ الإيصَاءِ: «وهذا أحسنُ ما قِيلَ فيه؛ لأنَّه لم يُجْعَلْ حرفٌ بدلاً من حرفٍ» ، يعني أنه لا يقُول: إنَّ «عَلَى» بمعنى «فِي» ، ولا بمعنى «مِنْ» كما قيل بهما، وسيأتي ذلك - إن شاء الله تعالى -. وقد جمع الزمخشريُّ غالبَ ما قُلْتُه وحَكَيْتُه من الإعْرَابِ والمعنى بأوجز عبارةٍ، فقال: «ف» آخَرَانِ «، أي: فشَاهِدَانِ آخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الذينَ اسْتُحِقَّ عليهِم، أي: استُحِقَّ عليْهِمُ الإثمُ، ومعناه: مِنَ الذين جُنِيَ عليهمْ، وهم أهلُ الميِّتِ وعشيرتُهُ والأوليانِ الأحقَّانِ بالشَّهادةِ لقَرَابَتهِمَا ومَعْرِفَتِهِمَا، وارتفاعُهُمَا على:» هُمَا الأوْلَيَانِ «؛ كأنه قيل: ومَنْ هُمَا؟ فقيل: الأوْلَيَانِ، وقيل: هما بدلٌ من الضَّمير في» يَقُومَانِ «أو من» آخَرَانِ «، ويجوزُ أنْ يرتفِعَا ب» اسْتُحِقَّ «، أي: من الَّذِينَ اسْتُحِقَّ عليْهِمُ انتدابُ الأوْلَيَيْنِ مِنْهُمْ للشهادة؛ لاطِّلاعهم على حقيقة الحَالِ» . وقوله «عَلَيْهِم» : في «عَلَى» ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنها على بابها، قال أبو البقاء: «كقولك: وَجَبَ عليهم الإثْمُ» ، وقد تقدَّم عن النحَّاس؛ أنه لمَّا أضْمَرَ الإيصاءَ، بَقَّاها على بابها، واستحْسَنَ ذلك. والثاني: أنها بمعنى «فِي» أي: استُحِقَّ فيهم الإثمُ، فوقَعَتْ «عَلَى» موقع «فِي» كما تقعُ «فِي» موقعها؛ كقوله تعالى: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] أي: على جُذُوعِ، وكقوله: [الكامل] 2074 - بَطَلٌ كَأنَّ ثِيَابَهُ فِي سَرْحَةٍ ... يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ لَيْسَ بِتَوْءَمِ أي: على سَرْحةٍ، وقدَّره أبو البقاء فقال: «أي: استُحِقَّ فيهم الوصيَّةُ» . والثالث: أنها بمعنى «مِنْ» أي: استُحِقَّ مِنْهُمُ الإثْمُ؛ ومثلُه قولُه تعالى: {إِذَا اكتالوا عَلَى الناس} [المطففين: 2] أي: مِنَ الناس، وقدَّره أبو البقاء فقال: «أي: استُحِقَّ منهم الأوْليَانِ» فحينَ جعلها بمعنى «فِي» قدَّر «اسْتُحِقَّ» مُسْنَداً للوصية؛ وحين جعلها بمعنى « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 583 مِنْ» ، قدَّره مُسْنِداً ل «الأوْلَيَانِ» ، وكان لَمَّا ذكر القائمَ مقامَ الفاعلِ، لم يذكر إلا ضميرَ الإثم و «الأوْلَيَانِ» ، وأجاز بعضهم أنْ يُسْنَدَ «اسْتُحِقَّ» إلى ضمير المالِ، أي: اسْتُحِقَّ عليْهِمُ المالُ المَوْرُوثُ، وهو قريبٌ. فقد تقرَّر أنَّ في مرفوعِ «اسْتُحِقَّ» خمسة أوجه: أحدُها: «الأوْلَيَانِ» . والثاني: ضميرُ الإيصاء. والثالث: ضميرُ الوصية، وهو في المعنى كالذي قبله وتقدَّم إشكالُه. والرابع: أنه ضميرُ الإثْمِ. والخامس: أنه ضميرُ المالِ، ولم أرَهُمْ أجازوا أن يكون «عَلَيْهِم» هو القائمَ مقامَ الفاعلِ؛ نحو: {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] كأنهم لم يَرَوْا فيه فائدةً. وأمَّا قراءةُ حَفْص ف «الأوْلَيَانِ» مرفوعٌ ب «اسْتَحَقَّ» ومفعولُه محذوفٌ، قدَّره بعضهم «وصِيَّتَهُمَا» ، وقدَّره الزمخشريُّ ب «أن يجرِّدُوهُمَا للقيامِ بالشَّهَادة» ؛ فإنه قال: «معناهُ من الورثةِ الذين استَحَقَّ عليْهِمُ الأوْلَيَانِ من بينهم بالشهادة: أن يجرِّدُوهُمَا للقيامِ بالشَّهَادة، ويُظْهِرُوا بها كذب الكاذبينَ» ، وقال ابنُ عطيَّة: «الأوْلَيَانِ» رفعٌ ب «اسْتَحَقَّ» ، وذلك أن يكون المعنى: مِنَ الَّذِينَ استحَقَّ عليْهِمْ مالَهُمْ وتركَتَهُمْ شَاهِدَا الزُّورِ، فَسُمِّيَا أوْلَيَيْنِ، أي: صَيَّرَهُمَا عَدَمُ الناس أوْلَيَيْنِ بالمَيِّت وتَرِكَتِهِ، فَخَانَا، وجَارَا فيها، أو يكونُ المعنى: من الذينَ حَقَّ عليهم أنْ يكون الأوليانِ منهم، فاستَحَقَّ بمعنى: حَقَّ، كاسْتَعْجَبَ وعَجِبَ، أو يكون استحقَّ بمعنى: سَعَى واستوجب، فالمعنى: من القوم الذين حَضَرَ أوْلَيَانِ مِنْهُمْ، فاستَحَقَّا عليهم، أي: استحقَّا لهُمْ وسعيا فيه، واستوجََبَاهُ بأيْمَانِهِمَا وقُرْبَانِهِمَا «، قال أبو حيان - بعد أنْ حكَى عن الزمخشريِّ، وأبي محمَّدٍ ما قدَّمْتُه عنهما -:» وقال بعضُهم: المفعولُ محذوفٌ، تقديرُه: الذين استحقَّ عليهمُ الأوليانِ وصيَّتَهُمَا «، قال شهاب الدين: وكذا هو محذوفٌ أيضاً في قولي الزمخشريِّ وابن عطيَّة، وقد بَيِّنْتُهما ما هما، فهو عند الزمخشريِّ قوله:» أنْ يُجَرِّدُوهما للقيامِ بالشَّهادة «، وعند ابن عطيَّة هو قوله:» مالَهُمْ وتَركَتَهُمْ «، فقوله:» وقال بعضهم: المفعولُ محذوفٌ «يُوهِمُ أنه لم يَدْرِ أنَّه محذوفٌ فيما تقدَّم أيضاً، وممن ذهبَ إلى أن» اسْتَحَقَّ «بمعنى» حَقَّ «المجرَّدِ - الواحديُّ فإنه قال:» واسْتَحَقَّ هنا بمعنى حَقَّ، أي: وَجَبَ، والمعنى: فآخَرَانِ مِنَ الذين وجب عليهمُ الإيصَاءُ بتوصيتِهِ بينهم، وهم وَرَثَتُه «وهذا التفسيرُ الذي ذكره الواحديُّ أوضحُ من المعنى الذي ذكره أبو محمَّد على هذا الوجه، وهو ظاهرٌ. وأمَّا قراءةُ حمزة وأبي بَكْرٍ، فمرفوع» استُحِقَّ «ضميرُ الإيصَاءِ، أو الوصيةِ، أو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 584 المالِ، أو الإثمِ، حَسْبما تقدَّم، وأمَّا» الأوَّلَيْنِ «فجمعُ» أوَّل «المقابل ل» آخِر «، وفيه أربعةُ أوجه: أحدها: أنه مجرورٌ صفةً ل» الَّذين «. الثاني: أنه بدلٌ منه، وهو قليلٌ؛ لكونه مشتقًّا. الثالث: أنه بدلٌ من الضميرِ في» عَلَيهم «، وحسَّنَه هنا، وإن كان مشتقًّا عدمُ صلاحَيةِ ما قبله للوصف، نقل هذَيْن الوجهَيْن الأخيرَيْنِ مكيٌّ. الرابع: أنه منصوبٌ على المَدْح، ذكره الزمخشريُّ، قال:» ومعنى الأوَّلِيَّةِ التقدُّمُ على الأجَانب في الشَّهَادة؛ لكونهم أحَقَّ بها «، وإنما فَسَّر الأوَّلِيَّةَ بالتقدُّمِ على الأجَانِب؛ جَرْياً على ما مَرَّ في تفسيره: أو آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ أنَّهُمَا من الأجانب لا من الكُفَّارِ وقال الواحديُّ:» وتقديرُه من الأوَّلينَ الَّذينَ اسْتُحِقَّ عليْهِمُ الإيصَاءُ أو الإثْمُ، وإنما قيل لهم «الأوَّلِينَ» من حيث كانوا أوَّلِينَ في الذِّكْرِ؛ ألا ترى أنه قد تقدَّم: {يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} وكذلك {اثنان ذَوَا عَدْلٍ} ذُكِرَا في اللفظ قبل قوله: {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} ، وكان ابنُ عباسٍ يختارُ هذه القراءة، ويقول: «أرأيتَ إنْ كان الأوْليانِ صغيريْنِ، كيف يَقُومَانِ مقامهما» ؟ أراد: أنهما إذا كانا صغيريْنِ لم يقُومَا في اليمين مقامَ الحانِثَيْنِ، ونحا ابن عطية هذا المنحَى قال: «معناه: من القوْمِ الذين استُحِقَّ عليهم أمرُهُمْ، أي: غُلِبُوا عليه، ثم وصفَهم بأنهم أوَّلون، أي: في الذكْرِ في هذه الآية» . وأمَّا قراءةُ الحَسَن فالأوَّلانِ مرفُوعَانِ ب «استَحَقَّ» فإنه يقرؤهُ مبنيًّا للفاعل، قال الزمخشريُّ: «ويَحْتَجُّ به مَنْ يَرَى ردَّ اليمينِ على المُدَّعِي» ، ولم يبيِّن مَنْ هما الأوَّلاَنِ، والمرادُ بهما الاثْنَانِ المتقدِّمَانِ في الذكْرِ؛ وهذه القراءةًُ كقراءةِ حَفْصٍ، فيُقَدَّرُ فيها ما ذُكِرَ، ثم مما يليقُ من تقديرِ المفْعُولِ. وأما قراءة ابن سيرينَ، فانتصابُها على المَدْحِ، ولا يجوزُ فيها الجَرُّ؛ لأنه: إمَّا على البدل، وإمَّا على الوصْف بجَمْعٍ، والأوْلَيَيْنِ في قراءته مثنًّى، فتعذر فيها ذلك، وأمَّا قراءة «الأوْلَيْنَ» كالأعلَيْنَ، فحكاها أبو البقاء قراءةً شاذَّة لم يَعْزُها، قال: «ويُقْرَأ» الأوْلَيْنَ «جمع الأوْلَى، وإعرابه كإعراب الأوَّلينَ» يعني في قراءة حمزة، وقد تقدَّم أن فيها أربعةُ أوجه، وهي جارية هنا. قوله: «فَيُقْسِمَانِ» نسقٌ على «يَقُومَانِ» والسببيَّةُ ظاهرٌة، و «لشَهَادَتُنَا أحَقُّ» : هذه الجملة جوابُ القسمِ في قوله: «فَيُقْسِمَانِ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 585 فصل في معنى الآية ومعنى الآية: فإن حصل العُثُور، والوقوف على أنَّهُمَا أتيا بِخِيَانة، استَحَقَّا الإثم بسبَبِ اليَمِينَ الكَاذِبَة، أو خِيَانَة في المَالِ، قام في اليَمِين مقَامَهُما رَجُلانِ من قرَابَة الميت، فَيَحْلِفَان باللَّهِ لقد ظَهَرْنا على خَبرِ الذِّمِّيَّين، وكذبهما وتَبْدِيلهما، وما اعْتَدَيَنْا في ذلك وما كَذبْنَا، وهو المُراد بقوله: {فآخران يقومان مقامهما من الذين استحق عليهم} ، والمُرَادُ به موالِي الميِّتِ، قال ابنُ الخطيب: وقد أكثر النَّاسُ في أنَّهُ لِمَ وصف موالِي الميِّتِ بهذا الوَصْفِ؟ والأصَحُّ عندي فيه وَجْهٌ: وهو أنَّهُمْ إنَّما وُصِفُوا بذلك؛ لأنَّهُ لمَّا أخَذَ منهم مَالَهُمْ، فَقَدْ استَحَقَّ عليهم مَالَهُمْ، فإن أخَذَ مال غيره، فقد حاولَ أن يكون تَعَلُّقُهُ بذلك المَالِ مُسْتَعْلِياً على تَعَلُّق مالكه به، فصحَّ أن يوصف المَالِكُ بأنَّه قد استَحَقَّ عليه ذلك المال، وإنما وَصَفهُمَا بأنَّهُما أولَيَان لِوَجْهَيْن: الأول: معنى الأوليان: الأقْرَبان إلى الميِّت. الثاني: يَجُوزُ أن يكُون المَعْنَى الأوليان باليَمينِ؛ لأن الوصِيَّيْن قد ادّعَيَا أنَّ الميِّت قد باعَ الإنَاء الفِضَّة، فانْتَقَلَتِ اليَمِينُ إلى موالي الميِّت؛ لأنَّ الوَصِيَّيْن قد ادّعَيَا أنَّ مُورثَهُمَا باعَ الإنَاء، وهما أنْكَرَا ذلك، فكان اليَمِينُ حقًّا لهما؛ لأنَّ الوَصِيَّ إن أخَذَ شيئاً من مال الميِّت، وقال: إنه أوْصَى لِي به حَلَف لِلْوَارِثِ إذا أنْكَرَ ذلك، وكذا لو ادّعَى رجُلٌ سِلْعَةً في يدِ رجلٍ فاعْتَرَفَ، ثمَّ ادَّعى أنَّهُ اشْتَراها من المدَّعِي، حلف المُدَّعِي أنَّه لم يَبِعْها منه، وهذا كما لو أنَّ إنْسَاناً أقَرَّ لآخر بِدَيْنٍ، ثم ادّعى أنه قَضَاهُ، حُكِمَ بِرَدّ اليمينِ إلى الذي ادّعى الدَّيْن أوَّلاً؛ لأنَّه صارَ مُدَّعىً عليه أنه قد اسْتَوْفَاه. فصل اختلفوا في كَيْفِيَّة ظُهُور الإنَاء، فَرَوَى سَعِيدُ بن جُبَيْرٍ عن ابن عبَّاسٍ: أنه وُجِدَ بمَكَّةَ، فقالوا: إنَّا اشْتَرَيْنَاه من تَمِيمٍ وعَدِيٍّ، وقيل: لما طَالَتِ المُدَّةُ أظهرُوهُ، فبلغ ذلك بني سَهْمٍ فَطَلَبُوهُمَا، فقالا: إنَّا كنا قد اشْتَرَيْنَاه منه، فقالُوا: ألم نَقُل لكم هَلْ بَاعَ صَاحِبُنَا شيئاً من مَتاعِهِ، فَقُلْتُمَا: لا، قالا: لم يَكُنْ عندنا بيِّنةٌ، فكرهنا أن نُقِرَّ لَكُم بِهِ، فكَتَمْنَا لذلك، فرفَعُوهُمَا إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأنزل اللَّهُ - عزَّ وجلَّ -: {فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا} الآية، فقام عَمْرُو بنُ العَاصِ والمطَّلِبُ بن أبي وَداعة السَّهْمِيَّان، فحلفا باللَّهِ بعد العَصْرِ، فَرَفَع رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الإنَاءَ لَهُما، وإلى أوْلِيَاء الميِّتِ، فكان تَمِيمٌ الداري يقول بعدما أسْلَمَ: صدقَ اللَّهُ ورسُولُه أنا أخَذْتُ فأنَا أتُوبُ إلى اللَّه تعالى. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 586 وعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّهُ بقيت تلك الوَاقِعَةُ مَخْفِيَّةً إلى أن أسْلَمَ تَمِيمٌ الدَّاري، فلما أسْلَمَ أخْبَرَ بذلك، فقال: حَلَفْتُ كاذباً أنا وصَاحِبِي، بعْنَا الإنَاءَ بألفٍ وقَسَّمْنَا الثَّمنَ، ثمَّ دَفَعَ خمسمائة دِرْهَم من نفسه، ونزعَ من صاحبه خمسمائةً أخرى، ودفع الألْفَ إلى مَوَالِي الميِّت، فكذلك قوله: {ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ} ، أي: ذلك الذي حَكَمْنَا به من رَدِّ اليَمينِ، أجدر وأحْرَى أن يَأتِي الوَصِيَّان بالشَّهَادَة على وجهها، وأدْنَى معناه: أقْرَبُ إلى الإتيان بالشَّهَادَة على ما كانت {أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي: أقْرَبُ إلى أن يَخَافُوا رَدَّ اليمينِ بعد يَمينهمْ على المُدَّعِي، فيحلفوا على خِيَانَتِهِم وكذبهم، فَيَفْتَضِحُوا ويغرمُوا، فلا يَحْلِفُون كَاذِبين إذا خَافُوا هذا الحُكْمَ، «واتَّقُوا اللَّهَ» : أنْ تَحْلِفُوا أيْماناً كَاذِبَةً، أو تَخُونُوا أمَانَةً، «واسْمَعُوا» : الموعظة، {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} ، وهذا تَهْديدٌ ووعيدٌ لِمنْ يُخَالِفُ حُكْم اللَّهِ وأوَامِرِهِ. روى الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في «البَسِيطِ» ، عن عُمَر بن الخطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّهُ قال: هذه الآية أعْضَلُ ما في هذه السُّورَةِ من الأحْكَامِ. ولنَرْجِع إلى إعرابِ بقيَّة الآيَة. قوله «ذلك أدْنَى» لا محلَّ لهذه الجملةِ؛ لاستئنافِها، والمشارُ إليه الحكمُ السابقُ بتفصيله، أي: ما تقدَّم ذكرُه من الأحْكَامِ أقربُ إلى حصولِ إقامةِ الشَّهادة على ما ينبغي، وقيل: المشارُ إليه الحَبْسُ بعد الصلاة، وقيل: تحليفُ الشاهدين، و «أنْ يَأتُوا» أصلُه: «إلى أنْ يأتُوا» ، وقدَّره أبو البقاء ب «مِنْ» أيضاً، أي: أدْنَى من أن يأتُوا، وقدَّره مكيٌّ بالباء، أي: بِأنْ يَأتُوا، قال شهاب الدين: وليْسَا بواضحَيْنِ، ثم حذفَ حرفَ الجر، فَنَشَأ الخلافُ المشهور، و «عَلَى وَجْهِهَا» متعلِّقٌ ب «يَأتُوا» ، وقيل: في محلِّ نَصْبٍ على الحال منها، وقدَّره أبو البقاء ب «محققة وصَحِيحَة» ، وهو تفسيرُ معنًى؛ لما عرفْتَ غير مرة من أنَّ الأكوانَ المقيَّدة لا تُقَدَّر في مثله. قوله: «أوْ يَخَافُوا» في نصبه وجهان: أحدهما: أنه منصوب؛ عطفاً على «يَأتُوا» ، وفي «أوْ» على هذا تأويلان: أحدهما: أنها على بابها من كونها لأحدِ الشيئين، والمعنى: ذلك الحكمُ أقربُ إلى حصول الشهادة على ما ينبغي، أو خوفِ رَدِّ الأيمانِ إلى غيرهم، فتسقطُ أيمانهم، والتأويلُ الآخر: [أن] تكون بمعنى الواو، أي: ذلك الحُكْمُ كله أقربُ إلى أنْ يَأتُوا، وأقربُ إلى أن يَخَافُوا، وهذا مفهومٌ من قول ابن عبَّاسٍ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 587 الثاني من وجهي النصب: أنه منصوبٌ بإضمار «أنْ» بعد «أوْ» ، ومعناها هنا «إلاَّ» ؛ كقولهم: «لألْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِيَني حَقِّي» ، تقديره: إلاَّ أنْ تَقْضِيني، ف «أوْ» حرفُ عطفٍ على بابها، والفعلُ بعدها منصوبٌ بإضمار «أنْ» وجوباً، و «أنْ» وما في حيِّزها مُؤوَّلةٌ بمصْدرٍ، ذلك المصدرُ معطوفٌ على مصدر متوهَّم من الفعلِ قبله، فمعنى: «لألْزَمَنَّكَ أوْ تَقْضِيَنِي حَقِّي» : لَيَكُونَنَّ منِّي لُزُومٌ لك أو قَضَاؤُكَ لِحَقِّي، وكذا المعنى هنا أي: ذلك أدنى بأن يأتوا بالشهادةِ على وجهها؛ وإلاَّ خَافُوا رَدَّ الإيمانِ، كذا قدَّره ابن عطية بواوٍ قبل «إلاَّ» ، وهو خلافُ تقدير النحاة؛ فإنَّهمْ لا يقدِّرون «أوْ» إلا بلفظ «ألاَّ» وحدها دون واو، وكأن «إلاَّ» في عبارته على ما فهمه أبو حيان ليسَتْ «إلاَّ» الاستئنائيةَ، بل أصلُها «إنْ» شرطيةً دخلتْ على «لاَ» النافيةِ فأدْغِمَتْ فيها، فإنه قال: «أو تكون» أو «بمعنى» إلاّ إنْ «، وهي التي عبَّر عنها ابن عطيَّة بتلك العبارةِ من تقديرها بشرطٍ - محذوفٍ فعلُه - وجزاءٍ» . انتهى، وفيه نظرٌ من وجهَيْن: أحدهما: أنه لم يَقُلْ بذلك أحدٌ، أعني كون «أوْ» بمعنى الشرط. والثاني: أنه بعد أنْ حَكَمَ عليْهَا بأنها بمعنى «إلاَّ إنْ» جعلها بمعنى شرطٍ حُذِفَ فعلُه. و «أنْ تُرَدَّ» في محلِّ نَصْبٍ على المفعُولِ به، أي: أو يَخَافُوا رَدَّ أيمانهم. و «بَعْدَ أيْمَانِهِمْ» : إمَّا ظرفٌ ل «تُرَدَّ» ، أو متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ على أنها صفةٌ ل «أيْمَان» ، وجُمِعَ الضميرُ في قوله «يَأتُوا» وما بعده، وإنْ كان عائداً في المعنى على مثنى، وهو الشاهدان، فقيل: هو عائدٌ على صنفي الشاهدين، وقيل: بل عائدٌ على الشهودِ من الناسِ كُلِّهِمْ، معناه: ذلك أولى وأجدرُ أنْ يحذرَ الناسُ الخيانةَ، فيَتَحَرَّوْا في شهادتهم؛ خَوْفَ الشناعةِ عليهم والفَضِيحةِ في رَدِّ اليمينِ على المُدَّعِي، وقوله: «واتَّقُوا الله» لم يذكر متعلَّق التقوى: إمَّا للعلْمِ به، أي: واتقوا اللَّهَ في شهادِتكُمْ وفي الموصينَ عليهم بأن لا تَخْتَلِسُوا لهم شيئاً؛ لأن القصَّةَ كانت بهذا السَّببِ، وإمَّا قَصْداً لإيقاع التقوى، فيتناولُ كلَّ ما يُتَّقَى منه، وكذا مفعولُ «اسْمَعُوا» إنْ شئتَ حذفته اقتصاراً أو اختصاراً، أي: اسْمَعُوا أوامِرَهُ من نَوَاهِيه من الأحكام المتقدِّمة، وما أفْصَحَ ما جيء بهاتَيْن الجملتَيْن الأمريتَيْن، فتباركَ اللَّهُ أصْدَقُ القائلِينَ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 588 اعلم: أنَّ عادةَ اللَّهِ تعالى في هذا الكِتَابِ الكَرِيم، أنَّه إذا ذَكَرَ أنْوَاعاً من الشَّرَائع والتَّكَالِيفِ والأحْكَام، أتْبَعها إمَّا بالإلهِيَّات، وإمَّا بشَرْح أحوَال الأنْبِيَاء، وإمَّا بِشَرْح أحوَال الجزء: 7 ¦ الصفحة: 588 القِيامَةِ، ليصير ذلك مُؤكداً لما ذكَرَهُ من التَّكَاليفِ والشَّرائع، فلا جَرَمَ ذكر هنا بعد ما تقدَّم من الشَّرائع أحْوالَ القِيامَةِ، ثمَّ ذكر أحْوالَ عيسى - عليه السلام -. فأمَّا أحْوالُ القِيَامَةِ، فَهُو قَوْلُه: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} : في نصب «يَوْمَ» أحدَ عشرَ وجهاً: أحدها: أنه منصوبٌ ب «اتَّقُوا» ، أي: اتَّقُوا اللَّهَ في يومِ جمعِهِ الرُّسُلَ، قاله الحُوفِيُّ، وهذا ينبغي ألاَّ يجوزَ؛ لأنَّ أمرهم بالتقوى في يوم القيامةِ لا يكون؛ إذ ليس بيومِ تَكْليفٍ وابتلاءٍ، ولذلك قال الواحديُّ: ولم يُنْصَبِ اليومُ على الظرْفِ للاتِّقاء؛ لأنَّهم لم يُؤمَرُوا بالتقوَى في ذلك اليوم، ولكنْ على المفعول به؛ كقوله: {واتقوا يَوْماً} [البقرة: 48] . الثاني: أنه منصوب ب «اتَّقُوا» مضْمَراً يدلُّ عليه «واتَّقُوا الله» ، قال الزَّجَّاج: «وهو محمولٌ على قوله:» واتَّقُوا الله «، ثم قال:» يَوْمَ يَجْمَعُ «، أي: واتقوا ذلك اليومَ» ، فدلَّ ذِكْرُ الاتقاءِ في الأوَّل على الاتقاء في هذه الآية، ولا يكونُ منصوباً على الظَّرْف للاتقاء؛ لأنهم لم يُؤمَرُوا بالاتقاء في ذلك اليَوْم، ولكنْ على المفعول به؛ كقوله تعالى: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 48] . الثالث: أنه منصوب بإضمار «اذْكُرُوا» . الرابع: بإضمار «احْذَرُوا» . الخامس: أنه بدلُ اشتمالٍ من الجلالة، قال الزمخشريُّ: «يَوْمَ يَجْمَعُ» بدلٌ من المنصوب في «واتَّقُوا الله» ، وهو من بدلِ الاشتمال، كأنه قيل: «واتقُوا الله يَوْمَ جَمْعِهِ» . انتهى، ولا بد من حذفِ مضافٍ على هذا الوجهِ؛ حتى تَصِحَّ له هذه العبارةُ التي ظاهرها ليْسَ بجيدٍ؛ لأنَّ الاشتمالَ لا يُوصَفُ به الباري تعالى على أيِّ مذهبٍ فَسَّرنَاهُ من مذاهب النحويين في الاشتمالِ، والتقديرُ: واتقوا - عقاب الله - يَوْمَ يَجْمَعُ رُسُلَهُ، فإنَّ العقابَ مشتملٌ على زمانِه، أو زمانُه مشتملٌ عليه، أو عامِلُهُمَا مشتملٌ عليهما على حسب الخلاف في تفسير البدلِ الاشتماليِّ، فقد تبيَّن لك امتناعُ هذه العباراتِ بالنسبةِ إلى الجلالةِ الشريفة، واستبعد أبو حيان هذا الوجه بطُولِ الفصْلِ بجملتين، ولا بُعْدَ؛ فإنَّ هاتين الجملتَيْنِ من تمامِ معنى الجملة الأولى. السادسُ: أنه منصوبٌ ب «لا يَهْدِي» قاله الزمخشريُّ وأبو البقاء؛ قال الزمخشريُّ: «أي: لا يهديهمْ طريقَ الجنَّة يومئذٍ كما يُفْعَلُ بغَيْرهِمْ» ، وقال أبو البقاء: « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 589 أي: لا يهدِيِهمْ في ذلك اليَوْمِ إلى حُجَّةٍ، أو إلى طريقِ الجنَّة» . السابع: أنه مفعولٌ به، وناصبُه «اسْمَعُوا» ، ولا بد من حذف مضاف حينئذٍ، لأنَّ الزمان لا يُسْمَعُ، فقدَّره أبو البقاء: «واسمعوا خَبَرَ يَوْمِ يُجْمَعُ» ، ولم يذكر أبو البقاء غير هذين الوجهَيْن، وبدأ بأولهما، وفي نصبه ب «لا يَهْدِي» نظرٌ؛ من حيث إنه لا يهديهم مطلقاً، لا في ذلك اليوم ولا في الدنيا، أعني المحْكُوم عليهم بالفسْقِ، وفي تقدير الزمخشريِّ «لا يَهْدِيهِمْ إلى طريقِ الجنَّة» نُحُوٌّ إلى مذهبه من أنَّ نَفْي الهداية المطلقة لا يجوزُ على الله تعالى؛ ولذلك خَصَّصَ المُهْدَى إليه، ولم يذكر غيره، والذي سَهَّلَ ذلك عنده أيضاً كونُه في يومٍ لا تَكْلِيفَ فيه، وأما في دار التكليفِ فلا يُجيزُ المعتزليُّ أن يُنْسَبَ إلى الله تعالى نَفْيُ الهدايةِ مطلقاً ألبتة. الثامن: أنه منصوبٌ ب «اسْمَعُوا» قاله الحُوفِيُّ، وفيه نظرٌ؛ لأنهم ليسوا مكلَّفين بالسَّماعِ في ذلك اليومِ؛ إذ المُرادُ بالسماعِ السماعُ التكليفيُّ. التاسع: أنه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ متأخِّرٍ، أي: يوم يَجْمَعُ اللَّهُ الرسلَ كان كيتَ وكَيْتَ، قاله الزمخشريُّ. العاشر: قال شهاب الدين: يجوز أن تكونَ المسألة من باب الإعْمَال؛ فإنَّ كُلاًّ من هذه العوامِلِ الثلاثةِ المتقدِّمة يَصِحُّ تسلُّطُه عليه؛ بدليل أنَّ العلماء جَوَّزوا فيه ذلك، وتكون المسألةُ مِمَّا تنازع فيها ثلاثةُ عوامل، وهي «اتَّقُوا» ، و «اسْمَعُوا» ، و «لا يَهْدِي» ، ويكونُ من إعمال الأخير؛ لأنه قد حُذِفَ من الأوَّلِينَ ولا مانعَ يمنع من الصناعة، وأمَّا المعنى فقد قَدَّمْتُ أنه لا يظهرُ نصْبُ «يَوْمَ» بشيء [من الثلاثة] ؛ لأنَّ المعنى يأباه، وإنما أجَزْتُ ذلك؛ جَرْياً على ما قالوه وجَوَّزوه، وكذا الحُوفِيُّ جَوَّز أن ينتصب ب «اتَّقُوا» وب «اسْمَعُوا» أو ب «لاَ يَهْدِي» ، وكذا الحُوفِيُّ جَوَّز أن ينتصب ب «اتَّقُوا» وب «اسْمَعُوا» . الحادي عشر: أنه منصوبٌ ب «قَالُوا: لا عِلْمَ لَنَا» أي: قال الرسُلُ يوم جمْعِهِمْ، وقول الله لهم ماذ أجِبْتُمْ، واختاره أبو حيان على جميع ما تقدَّم، قال: وهو نظيرُ ما قلناه في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ} [البقرة: 30] ، وهو وجه حسنٌ. قوله: «مَاذَا أجِبْتُمْ» فيه أربعةُ أقوال: أحدها: أنَّ «مَاذَا» بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ، فغلب فيه جانبُ الاستفهام، ومحلُّه النصبُ على المصدرِ بما بعده، والتقديرُ: أيَّ إجابةٍ أجِبْتُم [قال الزمخشريُّ: «مَاذَا أجِبْتُمْ» الجزء: 7 ¦ الصفحة: 590 منتصبٌ انتصابَ مصدره على معنى: أيَّ إجابةٍ أجِبْتُمْ] ، ولو أُريدَ الجوابُ، لقيل: بمَاذا أُجِبْتُمْ «، أي: لو أُريدَ الكلامُ المجابُ، لقيل: بماذا، ومِنْ مجيء» مَاذَا «كلِّه مصدراً قوله: [البسيط] 2075 - مَاذَا يَغِيرُ ابنَتَيْ رَبْعٍ عَوِيلُهُمَا ... لاتَرْقُدانِ وَلاَ بُؤسَى لِمَنْ رَقَدَا الثاني: أن «مَا» استفهاميةٌ في محلِّ رفع بالابتداء، و «ذَا» خبره، وهي موصولةٌ بمعنى «الَّذي» ؛ لاستكمال الشرطَيْن المذكورَيْن، و «أُجِبْتُمْ» صلتُها، والعائدُ محذوفٌ، أي: ما الَّذي أجِبْتُمْ به، فحذفَ العائد، قاله الحُوفِيُّ، وهذا لا يجوزُ؛ لأنه لا يجوزُ حذفُ العائدِ المجرورِ، إلا إذا جُرَّ الموصولُ بحرف مثلِ ذلك الحرفِ الجارِّ للعائد، وأنْ يَتَّحِدَ متعلَّقاهُمَا؛ نحو: «مَرَرْتُ بالَّذي مَرَرْتَ» ، أي: به: وهذا الموصولُ غير مَجْرُورٍ، لو قلتَ: «رَأيْتُ الذي مَرَرْتَ» ، أي: مررتَ به، لم يجُزْ، اللهم إلا أنْ يُدَّعى حَذْفُهُ على التدريج أن يُحْذَفَ حرفُ الجرِّ، فيصلَ الفعلُ إلى الضمير، فيحذفَ؛ كقوله: {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} [التوبة: 69] ، أي: في أحدِ أوجهه، وقوله: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] في أحد وجهيه، وعلى الجملةِ فهو ضيعف. الثالث: أنَّ «مَا» مجرورةٌ بحرفِ جَرٍّ مقدَّرٍ، لمَّا حُذِفَ بقيتْ في محلِّ نصبٍ، ذكره أبو البقاء وضعَّف الوجه الذي قبله - أي كون ذا موصولةً - فإنه قال: «مَاذَا في موضعِ نصْبٍ ب» أُجبْتُمْ «، وحرفُ الجرِّ محذوفٌ، و» مَا «و» ذَا «هنا بمنزلةِ اسْمٍ واحدٍ، ويَضْعُفُ أنْ تُجْعَلَ» مَا «بمعنى» الَّذِي «؛ لأنه لا عائد هنا، وحذفُ العائدِ مع حرفِ الجَرِّ ضعيفٌ» . قال شهاب الدين أمَّا جَعْلُه حذفَ العائدِ المجرورِ ضعيفاً، فصحيحٌ تقدَّم شرحُه والتنبيهُ عليه، وأمَّا حذفُ حرفِ الجر وانتصابُ مجرورِه، فهو ضيعفٌ أيضاً، لا يجوزُ إلاَّ في ضرورةٍ؛ كقوله: [الطويل] 2076 - فَبِتُّ كَأنَّ العَائِدَاتِ فَرَشْنَنِي ..... ... ... ... ... ... ... ... ... وقوله: [الطويل] 2077 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وأُخْفِي الَّذِي لَوْلاَ الأسَى لَقَضَانِي الجزء: 7 ¦ الصفحة: 591 وقوله: [الوافر] 2078 - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ وَلَمْ تَعُوجُوا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك، واستثناءُ المطَّرِد منه، فقد فرَّ من ضعيفٍ، ووقع في أضْعَفَ منه. الرابع: قال ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «معناه: ماذا أجابَتْ به الأممُ» ، فجعل «مَاذَا» كنايةً عن المُجَابِ به، لا المصدرِ، وبعد ذلك، فهذا الكلامُ منه محتملٌ أنْ يكونَ مثل ما تقدَّمَ حكايتُهُ عن الحُوفِيِّ في جعله «مَا» مبتدأ استفهاميةً، و «ذَا» خبره؛ على أنها موصولةٌ، وقد تقدَّم التنبيهُ على ضعفه، ويُحْتملُ أن يكون «مَاذَا» كلُّه بمنزلةِ اسمِ استفهامٍ في محلِّ رفع بالابتداء، و «أُجِبْتُمْ» خبرُه، والعائدُ محذوفٌ؛ كما قدَّره هو، وهو أيضاً ضعيفٌ؛ لأنه لا يُحْذَفُ عائدُ المبتدأ، وهو مجرورٌ إلا في مواضعَ ليس هذا منها، لو قلت: «زَيْدٌ مَرَرْتُ» لم يَجُزْ، وإذا تبيَّن ضعفُ هذه الأوجهِ، رُجِّح الأول. والجمهورُ على «أُجِبْتُمْ» مبنيًّا للمفعول، وفي حذفِ الفاعل هنا ما لا يُبْلَغُ كُنهُهُ من الفصاحة والبلاغة؛ حيث اقتصرَ على خطاب رسله غيرَ مذكورٍ معَهُم غيرُهم؛ رفْعاً من شأنهم وتشريفاً واختصاصاً، وقرأ ابن عبَّاس وأبو حيوة «أجَبْتُمْ» مبنيًّا للفاعل، والمفعول محذوف، أي: ماذا أجَبْتُمْ أمَمَكُمْ حين كَذَّبُوكُمْ وآذَوْكُمْ، وفيه توبيخٌ للأمَمِ، وليستْ في البلاغةِ كالأولى. فإن قيل: أيُّ فائِدَةٍ في هذا السُّؤال، فالجوابُ: توبيخُ قَوْلِهم كقوله: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9] ، المَقْصُودُ مِنْهُ تَوْبِيخُ من فعل ذَلِك الفِعْلَ. وقوله تعالى: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} ، كقوله: {إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم} في البقرة [32] . والجمهورُ على رفع «عَلاَّمُ الغُيُوبِ» ، وقرئ بنصبه، وفيه أوجهٌ ذكرها الزمخشريُّ وهي: الاختصاصُ، والنداءُ، وصفةٌ لاسم «إنَّ» ؛ قال: «وقُرئ بالنصْب على أنَّ الكلامَ قد تَمَّ عند قوله» إنَّكَ أنْتَ «، أي: إنَّكَ الموصوفُ بأوصَافِكَ المعرُوفة من العلمِ وغيره، ثم انتصَبَ» علاَّمَ الغُيُوبِ «على الاختصاصِ، أو على النداء، أو هو صفةٌ لاسْمِ» إنَّ «، قال أبو حيان:» وهو على حذفِ الخبر لفهم المعنى، فَتَمَّ الكلامُ بالمقدَّرِ في قوله «إنَّك أنْتَ» ، أي: إنَّك الموصوفُ بأوصافِكَ المعروفةِ من العلمِ وغيره «، ثم قال:» قال الزمخشريُّ: ثم انتصبَ، فذكره إلى آخره «فزعمَ أنَّ الزمخشريَّ قدَّر ل» إنَّكَ «خبراً الجزء: 7 ¦ الصفحة: 592 محذوفاً، والزمخشريُّ لا يريد ذلك ألبتة ولا يَرْتضيه، وإنما يريدُ أنَّ هذا الضمير بكونه لله تعالى هو الدالُّ على تلك الصفات المذكورة، لا انفكاكَ لها عنه، وهذا المعنى هو الذي تقتضيه البلاغةُ، والذي غاصَ [عليه] الزمخشريُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لا ما قدَّره أبو حيان مُوهِماً أنه أتى به من عنده، ويعني بالاختصاص النَّصْبَ على المدْحِ، لا الاختصاصَ الذي هو شبيه بالنداء؛ فإنَّ شرطه أن يكون حَشْواً، ولكنَّ أبا حيَّان قد ردَّ على أبي القاسمِ قوله» إنه يجوزُ أن يكون صفةً لاسم إنَّ «بأنَّ اسمها هنا ضميرُ مخاطبٍ، والضمير لا يوصفُ مطلقاً عند البصريِّين، ولا يوصَف منه عند الكسائيِّ إلا ضميرُ الغائبِ؛ لإبهامه في قولهم» مَرَرْتُ بِهِ المِسْكِينِ «، مع إمكان تأويله بالبدلِ، وهو ردٌّ واضحٌ، على أنه يمكن أن يقال: أراد بالصفةِ البدل، وهي عبارةُ سيبويه، [يُطْلِقُ الصفةَ ويريد البدل، فله أسْوَةٌ بإمامه، واللازمُ مشترك، فما كان جواباً عن سيبويه] ، كان جواباً له، لكن يَبْقَى فيه البدلُ بالمشتقِّ، وهو أسهلُ من الأول، ولم أرَهُمْ خرَّجُوها على لغةِ مَنْ ينصِبُ الجزأيْنِ ب» إنَّ «وأخواتِها؛ كقوله في ذلك: [الرجز] 2079 - إنَّ الْعَجُوزَ خَبَّةً جَرُوزَا ... وقوله: [الطويل] 2080 - ... ... ... ... ... ... ... ... ....... ... ... ... ... إنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا وقوله: [الكامل] 2081 - لَيْتَ الشَّبَابَ هُوَ الرَّجِيعَ عَلَى الْفَتَى ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . وقول الآخر: [الرجز] 2082 - كَأنَّ أُذْنَيْه إذَا تَشَوَّفَا ... قَادمَةً أوْ قَلَماً مُحَرَّفَا ولو قيل به لكان صواباً. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 593 و «علاَّمُ» مثالُ مبالغة، فهو ناصب لما بعده تقديراً، وبهذا أيضاً يُرَدُّ على الزمخشريِّ على تقدير تسليم صحَّة وصف الضمير من حيث إنه نكرةٌ؛ لأن إضافته غيرُ محضَةٍ وموصوفهُ مَعْرفةٌ. والجمهورُ على ضمِّ العينِ من «الغُيُوب» وهو الأصلُ، وقرأ حمزة وأبو بكر بكسرها، والخلافُ جارٍ في ألفاظٍ أُخَرَ نحو: «البُيُوت والجُيُوب والعُيُون والشُّيُوخ» وقد تقدَّم تحرير هذا كله في البقرة عند ذكر {البيوت} [البقرة: 189] ، وستأتي كلُّ لفظةٍ من هذه الألفاظِ مَعْزُوَّةً لقارئِها في سُورِهَا - إن شاء الله تعالى - وجُمِعَ الغيبُ هنا، وإنْ كان مصدراً لاختلافِ أنواعه، وإن اريدَ به الشيءُ الغائب، أو قلنا: إنه مخفَّفٌ من فَيْعِل؛ كما تقدم تحقيقه في البقرة [الآية 3] ، فواضح. فصل في معنى الآية مَعْنَى الآية الكَرِيمة: {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} ، وهو يَوْمُ القِيَامَةِ {فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ} أممكم، وما الذي رَدَّ عليكم قومكم حين دَعوْتُمُوهم إلى تَوْحِيدِي وطَاعَتِي؟ فَيَقُولُون: {لاَ عِلْمَ لَنَآ} بوجْهٍ من الحِكْمَةِ عن سُؤالِكَ إيَّانَا عن أمْرٍ أنْتَ أعْلَمُ بِهِ مِنَّا. قال ابنُ جُرَيْج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «لا عِلْمَ لنا بِعَاقِبَةِ أمْرِهِمْ، وبما أحدثوا من بعد يدلُّ عليه قولهم: {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} أيْ: أنْتَ الذي تَعْلَمُ ما غَابَ، ونحن لا نَعْلَمُ ما غابَ إلاَّ ما نُشَاهِدُ. فإن قيل: ظَاهِرُ قولهم: {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} يَدُلُّ على أنَّ الأنْبِيَاء لا يَشْهَدُون لأمَمِهِمْ، والجمعُ بَيْن هذا وبين قوله تعالى {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] مشكل، وأيضاً قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] ، فإذا كانت أمَّتُنَا تَشْهَدُ لسَائِر الأمَمِ، فالأنْبِيَاءُ أوْلَى بأنْ يَشْهَدُوا لأمَمِهِم. فالجواب من وجوه: أحدها: قال ابنُ عباسٍ، والحسن، ومُجَاهد، والسدِّيُّ: إنَّ القِيَامَة زَلاَزِل وأهوالٌ، بحيث تَزُولُ القُلُوبُ عن مواضِعِهَا عند مُشاهَدَتِهَا، والأنْبِيَاءُ - عليهم الصلاة والسلام - عند مُشَاهَدَةِ تلك الأهوال يَنْسُون أكْثَرَ الأمُور، فَهُنَالِكَ يَقُولُون: لا عِلْمَ لَنَا، فإن عادَتْ قلوبُهُمْ إلِيْهِم، فعند ذلك يَشْهَدُون للأمَمِ. قال ابنُ الخَطِيبِ: وهذا الجوابُ وإن ذَهَبَ إليه جَمْعٌ عَظِيمٌ من الأكَابِرِ فهو الجزء: 7 ¦ الصفحة: 594 عندي ضعيف؛ لأنه تبارك وتعالى قال في صِفَةِ أهْلِ الثَّوَاب: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] ، وقال: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38، 39] ، بل إنَّه تبارك وتعالى قال: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ والنصارى والصابئين مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 62] ، فكيف يَكُون حَالُ الأنْبِيَاء والرُّسُل أقَلّ من ذلك، ومَعْلُومٌ أنَّهُم لو خَافُوا لكَانُوا أقَلَّ من مَنْزِلَةِ هؤلاءِ الَّذِين أخْبَرَ اللَّهُ عنْهُم أنَّهُم لا يَخَافُون ألْبَتَّةَ. وثانيها: أنَّ المُرَاد مِنْه المُبَالغة في تَحِقيقِ فَضِيحَتِهِمْ، كمنْ يقول لِغَيْرِه: ما تقولُ في فُلانٍ؟ فَيَقُولُ: أنْتَ أعْلَمُ به مِنِّي، كأنَّه قيل: لا يَحْتَاجُ فيه إلى الشَّهادَة لِظُهُوره، وهذا أيضاً ليس بِقَوِيٍّ؛ لأنَّ السُّؤال إنَّما وقَع على كُلِّ الأمَّةِ، وكُلُّ الأمَّة ما كانوا كَافِرِين حتَّى يريدَ الرَّسُول بالنفي تَبْكِيتَهُمْ وفَضِيحَتهُم. وثالثها: وهو الأصَحُّ، وهو اخْتِيَارُ ابن عبَّاسٍ: أنَّهم إنَّما قَالُوا: لا عِلْمَ لَنَا؛ لأنَّك تَعْلَمُ ما أظْهَرُوا وما أضْمَرُوا، ونحنُ لا نَعْلَمُ إلاَّ ما أظْهَرُوا، فَعِلْمُك فيهم أقْوَى من عِلْمِنَا؛ فلهذا المَعْنَى نَفوا العِلْمَ عن أنْفُسِهِم؛ لأنَّ عِلْمهم عند الله تعالى كلا عِلْمٍ، وهذا يُرْوَى عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ورابعها: ما تقدَّم أنَّ قولَهُم: لا عِلْمَ لنا إلا أنَّا عَلِمْنَا جوابهم لَنَا وَقْتَ حَيَاتِنَا، ولا نَعْلَم ما كان منهم بَعْدَ وَفَاتِنَا. وخامسها: قال ابن الخطيب: ثَبَتَ في عِلْمٍ الأصُول أنَّ العِلْمَ غير، والظَّنَّ غَيْر، فالحَاصِلُ أنَّ عِنْدَ كُلِّ أحَدٍ من حالِ الغَيْرِ إنَّما هو الظَّنُّ لا العِلْم، وكذلك قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إليَّ، ولَعَلَّ بَعْضَكُمْ ألْحَنُ بِحُجَّتِهِ، فَمَنْ حَكَمْتُ لَهُ بِغَيْرِ حَقِّهِ فَكأنَّمَا قَطَعْتُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ» ، والأنْبِيَاءُ - عليهم الصلاة والسلام - قالُوا: لا عِلْمَ لَنَا ألْبَتَّة بأحْوالِهِم، إنَّما الحاصِلُ عِنْدَنا من أحوالهم هو الظَّنُّ، والظَّنُّ كانَ مُعْتَبراً في الدُّنيا لا في الآخِرَةِ، لأنَّ الأحْكَام في الدُّنْيَا كانت مَبْنِيَّةً على الظَّنِّ، أمَّا فِي الآخِرَة فلا التِفاتَ فيها إلى الظَّنِّ؛ لأنَّ الأحْكَام في الآخِرَة مَبْنِيَّةٌ على حَقائِقِ الأشْيَاء وَبَواطِنِ الأمُورِ، فلهذا السَّبَب قالوا: {لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ} [البقرة: 32] ولم يَذْكُرُوا ألْبَتَّة ما عندهم من الظَّنِّ؛ لأنَّ الظَّنَّ لا عِبْرَة به في القِيَامَةِ. وسادسها: أنهم لمَّا عَلِمُوا أنَّهُ تعالى عالمٌ لا يَجْهَل، حكيمٌ لا يَسْفَهُ، عَادِلٌ لا يَظْلِم، عَلِمُوا أنَّ قولهم لا يفيد خَيْراً ولا يدفعُ شراً، فرأوْا أنَّ الأدَبَ في السكوت، وفي تَفْويضِ الأمْرِ إلى العَدْل الحَي الذي لا يَمُوتُ. وسابعها: معناه: لا عِلْمَ لنا إلاَّ ما عَلَّمْتَنَا فحذف، وهذا مَرْويٌّ عن ابن عبَّاسٍ، ومُجَاهد. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 595 دَلَّت الآيَةُ الكَرِيمَةُ على جوازِ إطلاقِ لفظ العلاَّم عليه، كما جاز إطلاقُ لفظ الخلاَّقِ عليْه، وأمَّا العلاَّمة بالتاء فإنهم أجْمَعُوا على أنَّهُ لا يجوز إطلاقُها في حَقِّهِ، ولعلَّ السَّبَب ما فيه من لفظ التَّأنِيثِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 596 قوله تعالى: {إِذْ قَالَ الله} فيها أوجه: أحدها: أنه بدل من «يَوْمَ يَجْمَعُ» قال الزمخشريُّ: «والمعنى: أنه يوبِّخ الكافرين يومئذ بسؤال الرسُلِ عن إجابَتِهِمْ، وبتعديدِ ما أظْهَرَ على أيديهم من الآياتِ العظامِ، فكذَّبهم بعضُهم وسمَّوْهُم سحَرةً، وتجاوزَ بعضُهُمُ الحَدَّ، فجعله وأمَّهُ إلَهَيْنِ» ، ولمَّا ذكَر أبو البقاء هذا الوجه، تأوَّلَ فيه «قَالَ» ب «يَقُولُ» ، وأنَّ «إذْ» ، وإنْ كانت للماضي، فإنما وقعتْ هنا [على] حكاية الحال. يقولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِه: «كَأنَّكَ بِنَا وقد دخَلْنَا بلْدة كذا، وصَنَعْنَا فيه كذا» ، قال - تبارك وتعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ فَلاَ فَوْتَ} [سبأ: 51] ، وقال غيْرُهُ: معناه الدَّلالة على قُرْبِ القِيَامَةِ كأنَّها قَدْ قَامَتْ، وكُلُّ ما هو آتٍ آتٍ، كما يُقالُ: الجَيْشُ قد أتَى، إذا قَرُبَ إتْيَانهم قال - تبارك وتعالى -: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] . الثاني: أنه منصوبٌ ب «اذْكُرْ» مقدَّراً، قال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «ويجوزُ أن يكون التقديرُ: اذْكُرْ إذْ يَقُولُ» ، يعني أنه لا بد من تأويلِ الماضي بالمستقبلِ، وهذا كما تقرَّر له في الوجْهِ قبله، وكذا ابنُ عطيَّة تأوَّله ب «يَقُولُ» ؛ فإنه قال: «تقديرُه: اذْكُرْ يا محمَّد إذْ» ، و «قَالَ» هنا بمعنى «يَقُولُ» ؛ لأنَّ ظاهر هذا القولِ، إنما هو في يوم القيامة؛ لقوله بعده {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] . الثالث: أنه في محلِّ رفع خبراً لمبتدأ مضمرٍ، أي: ذلك إذْ قَالَ، ذكره الواحديُّ، وهذا ضعيفٌ؛ لأن «إذْ» لا يُتَصِرَّفُ فيها، وكذلك القولُ بأنها مفعولٌ بها بإضمار «اذْكُرْ» ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك، اللهم إلا أنْ يريد الواحديُّ بكون خبراً؛ أنه ظرفٌ قائمٌ مقام خبرٍ، نحو: «زَيْدٌ عِنْدَكَ» فيجوز. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 596 قوله: {يا عيسى ابن مَرْيَمَ} تقدَّم الكلامُ في اشتقاق هذه المفردات ومعانيها، و «ابْنَ مَرْيَمَ» صفة ل «عِيسَى» نُصِب؛ لأنه مضاف، وهذه قاعدةٌ كلية مفيدة، وذلك أنَّ المنادى المفردَ المعرفةَ الظاهرَ الضَّمَّةِ، إذا وُصِفَ ب «ابْن» أو «ابْنَة» ، ووقع الابنُ أو الابنةُ بين علمَيْنِ أو اسمَيْنِ متفقَيْنِ في اللفظِ، ولم يُفْصَل بين الابْنِ وبيْنَ موصوفه بشيء، تثبت له أحكامٌ منها: أنه يجوزُ إتْبَاعُ المنادى المضمومِ لحركةِ نُونِ «ابْن» ؛ فيُفتح؛ نحو: «يَا زَيْدَ [يا زَيْدُ] ابْنَ عَمْرٍو، ويَا هِنْدَ [يا هِنْدُ] ابْنَةَ بَكْرٍ» بفتح الدال من «زَيْد» و «هِنْد» وضمِّها، فلو كانت الضمةُ مقدَّرةً نحو ما نحن فيه، فإنَّ الضمة مقدَّرة على ألفِ «عيسَى» فهل يُقَدَّر بناؤُه على الفتْحِ إتباعاً كما في الضمَّة الظاهرة؟ فيه خلاف: الجمهورُ على عدمِ جوازه؛ إذْ لا فائدة في ذلك، فإنه إنما كان للإتباع، وهذا المعنى مفقودٌ في الضمَّة المقدرة، وأجاز الفراء ذلك؛ إجراءً للمقدَّر مُجْرَى الظاهرِ، وتبعه أبو البقاء؛ فإنه قال: «يَجُوزُ أن يكون على الألِفِ من» عيسَى «فتحةٌ؛ لأنه قد وُصِفَ ب» ابْن «وهو بين عَلَمَيْنِ، وأن يكونَ عليها ضمَّةٌ، وهو مثلُ قولك:» يَا زَيْدَ [يا زَيْدُ] بْنَ عَمْرٍو «بفتح الدال وضمِّها» ، وهذا الدي قالاه غيرُ بعيدِ، ويَشْهَدُ له مسألةٌ عند الجميع: وهو ما إذا كان المنادَى مبنيًّا على الكسرِ مثلاً؛ نحو: «يَا هَؤلاءِ» ، فإنهم أجازوا في صفته الوجهيْن: الرفع والنصب، فيقولون: «يا هَؤلاءِ العُقلاَءِ والعُقَلاءُ» بنصب العقلاء ورفعها، قالوا: والرفعُ مراعاةً لتلك الضمة المقدَّرة في الإتباع، وإنْ كان ذلك فائتاً في اللفظ، وقد يُفَرَّقُ بأنَّ «هؤلاءِ» نحن مضطُّرون فيه إلى تقدير تلْكَ الحركةِ؛ لأنه مفرد معرفةٌ، فكأنها ملفوظٌ بها بخلافِ تقديرِ الفتحة هنا. وقال الواحديُّ في «يَا عيسَى» ويجوزُ أن [يكونَ] في محلِّ النصب؛ لأنه في نية الإضافة، ثم جعل الابن توكيداً له، وكل ما كان مثل هذا؛ جَازَ فيه الوجهانِ؛ نحو: «يَا زَيْدَ [يا زَيْدُ] بْنَ عَمْرٍو» ؛ وأنشد: [الرجز] 2083 - يَا حَكَمَ ُ بنَ المُنْذِرِ بْنِ الجَارُودْ ... أنْتَ الجَوادُ ابْنُ الجَوَادِ ابْنُ الْجُودْ سُرَادِقُ المَجْدِ عَلَيْكَ مَمْدُودْ ... بنصب الأول ورفعه على ما بَيَّنَّا، وقال التبريزيُّ: الأظهرُ عندي أنَّ موضع «عِيسَى» نصب؛ لأنك تجعلُ الاسم مع نعتِه إذا أضفته إلى العلمِ كالشيء الواحد المضافِ، وهذا الذي قالاه لا يُشْبِهُ كلام النحاة أصلاً، بل يقولون: الفتحةُ للإتباعِ، ولم يُعْتَدَّ بالساكنِ؛ لأنه حاجزٌ غيرُ حَصِينٍ، كذا قال أبو حيان: قال شهاب الدين: الذي قد قاله الزمخشريُّ - وكونه ليس من النحاة مُكَابَرَةٌ في الضَّرُوريَّاتِ - عند قوله: {إِذْ قَالَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 597 الحواريون: يا عيسى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 112] : «عِيسَى في محل النصب على إتباع حركته حركة الابْنِ؛ كقولك:» يَا زَيْدَ بْنَ عَمْرٍو «، وهي اللغة الفاشيةُ، ويجوزُ أن يكون مضموماً؛ كقولك» يَا زَيْدُ بْنَ عَمْرٍو «، والدليل عليه قوله: [المتقارب] 2084 - أحَارُ بنَ عَمْرٍو كأنِّي خَمِرْ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . لأنَّ الترخيم لا يكونُ إلا في المضموم» . انتهى، فاحتاج إلى الاعتذار عن تقديرِ الضمة، واستشهد لها بالبيتِ؛ لمخالفتِها اللغة الشهيرة. وقولنا: «المُفْرَد» تحرُّزٌ من المُطَوَّل، وقولنا «المَعْرِفَة» تحرُّز من النكرة؛ نحو: [ «يا رَجُلاً ابْنَ رَجُلٍ» إذا لم تَقْصِدْ به واحداً بعينه، وقولنا: «الظاهر الضَّمَّةِ» تحرُّزٌ من نحو:] «يَا مُوسَى بْنَ فُلانٍ» ، وكالآية الكريمة، وقولنا ب «ابْن» تحرُّزٌ من الوصف بغيره؛ نحو: «يا زَيْدُ صَاحِبَنَا» ، وقولنا: «بين عَلَميْنِ أو اسمَيْن متفقين لفظاً» تحرُّزٌ من نحو: «يَا زَيْدُ [بْنَ أخِينَا» ] ، وقولنا: «غيرَ مَفْصُولٍ» تحرُّزٌ من نحو: «يَا زَيْدُ العَاقِلُ ابْنَ عَمْرٍو» ؛ فإنه لا يجوز في جميع ذلك إلا الضَّمُّ، وقولنا [ «وَصْفٌ» ] تحرُّزٌ من أن يكون الابْنُ خبراً، لا صفة؛ نحو: «زَيْدٌ ابْنُ عَمْرٍو» ، وهل يجوزُ إتباعُ «ابن» له فيُضمُّ نحو: «يا زيد بنُ عمرو» بضم «ابن» ؟ فيه خلافٌ. وقولنا: «أحْكَام» ، وقد تقدَّم منها ما ذكرنَاه من جوازِ فتحهِ إتباعاً، ومنها: حَذْفُ ألفه خَطًّا، ومنها: حَذْفُ تنوينه في غير النداء؛ لأنَّ المنادى لا تنوينَ فيه وفي قوله: «ابْنَ مريمَ» ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنه صفةٌ؛ كما تقدَّم، والثاني: أنه بدلٌ، والثالث: أنه بيانٌ؛ وعلى الوجهين الأخيرَيْن: لا يجوزُ تقديرُ الفتحة إتباعاً؛ إجماعاً، لأنَّ الابنَ لم يَقَعْ صفةً، وقد تقدَّم أنَّ ذلك شرطٌ. وأرَادَ بالنِّعْمَة: الجَمْع كقوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} [النحل: 18] ، وإنَّمَا جاز ذلك؛ لأنَّهُ مضافٌ يَصْلُح للجِنْسِ. فصل قال القُرْطُبِي: إنما ذَكَّرَ الله - تبارك وتعالى - عيسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 598 نَعْمَته عليه وعلى وَالِدَتِهِ، وإن كان لَهُمَا ذاكراً لأمرين: أحدهما: ليتلو على الأمَمِ بما خَصَّصَهَا به من الكرامةِ، ومَيَّزها به من عُلُوِّ المَنْزِلَة. والثاني: ليُؤكِّد به حُجَّتَه، ويردّ به جَاحِدَهُ، وفَسَّرَ نِعْمَتَهُ عليه بأمور: أوَّلُها: قوله تعالى: {إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس} في «إذْ» أربعةُ أوجه: أحدها: أنه منصوبٌ ب «نِعْمَتِي» ؛ كأنه قيل: اذكُرْ إذْ أنعمْتُ عليْكَ وعلى أمِّكَ في وقت تأييدي لك. والثاني: أنه بدلٌ من «نِعْمَتِي» بدلُ اشتمال، وكأنه في المعنى يفسِّر النعمة. والثالث: أنه حالٌ من «نِعْمَتِي» ، قاله أبو البقاء. والرابع: أن يكون مفعولاً به على السَّعَة، قاله أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - أيضاً قال شهاب الدين: هذا هو الوجهُ الثاني - أعني البدليةَ -، وقرأ الجمهور «أيَّدتُّكَ» بتشديد الياء، وغيرهم «آيدتُّكَ» وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك في سورة البقرة مُشْبَعاً، ومعنى الآية الكريمة: أي: قَوْمَك بِمَا يَجُوزُ من الأَيْدِ، وهو القُوَّة. فصل المرادُ بِرُوحِ القُدُسِ: جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، والقُدُس: هو اللَّهُ تعالى، كأنَّه أضافَهُ إلى نَفْسِهِ تَعْظِيماً، وقيل: إنَّ الأرْوَاحَ مُخْتَلِفَةٌ بالماهِيَّةِ: فمنها طَاهِرَةٌ نُورَانيَّةٌ، ومنها خَبِيثة ظُلْمانيَّة، ومنها: مُشْرِقَة ومنها كَدِرة، ومنها خَيِّرَةٌ ومنها نَذِلَةٌ؛ ولهذا قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «الأرْواح جُنُودُ مُجَنَّدةٌ» ، فاللَّهُ تعالى خصَّ عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بالرُّوح الطَّاهِرة النُّورَانِيَّة المُشْرقَة العُلويَّة الخيِّرةِ، ولقائل أن يقول: لما دلَّت هذه الآيَةُ على أنَّ تأييد عيسى إنَّما حَصَلَ من جِبْرِيل، أو بسبَبِ رُوحِهِ المُخْتَصَّةِ، وهذا يَقْدَحُ في دلالةِ المُعْجِزَات على صِدْقِ الرُّسُلِ - عليهم الصلاة والسلام -، ولم تُعْرفُ عِصْمَة الرُّسُل - عليهم السلام - قَبْلَ العِلْمِ بعصْمَةِ جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فيلزم الدَّوْر. فالجواب: قال ابن الخطيب: ثبت من أصْلِنَا أنَّ الخَالِقَ ليْسَ إلاَّ اللَّهُ، وبه يَنْدَفِعُ السُّؤال. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 599 قوله: {تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً} معناه: يُكَلِّمُ النَّاس في المَهْدِ صَبِيًّا، وكَهْلاً نبياً. قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أرسلهُ اللَّهُ وهو ابنُ ثلاثينَ فَمَكَث في رسالته ثلاثين شَهْراً، ثُمَّ إنَّ الله رَفَعَهُ إلَيْهِ. قال المُفَسِّرُون: يُكَلِّم النَّاسَ في المَهْد وكَهْلاً، في مَوْضِع الحال، والمعنى: يُكلِّمُ النَّاسَ طِفْلاً وكَهْلاً من غير أن يتفاوت كلامُهُ في هذين الوقْتَيْن، وهذه خَاصَّةٌ شَرِيفَةٌ لم تَحْصُلْ لأحدٍ من الأنْبِيَاء، وقد تقدَّم الكلام في [الآية 46] آل عمران، ما فائدة قوله: {فِي المهد وَكَهْلاً} . قوله: {وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} قيل: الكِتَابُ، الشَّريعةُ، وقيل: الخَطُّ، وأمَّا الكَلِمَةُ فقيل: هي العِلْمُ والفَهْمُ، وذكر التَّوْراة والإنجيلَ بعد الكِتَاب على سَبيلِ التَّشْرِيف، كقوله - تبارك وتعالى -: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] ، وقوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] ، فإنَّما ذكر التَّوراة والإنجيلَ بعد ذِكْرِ الكتابِ؛ لأنَّ الاطِّلاع على أسْرَار الكُتُبِ الإلهِيَّة لا يحصلُ إلاَّ لمن كانَ ثَابِتاً في أصْنَافِ العُلُوم الشَّرْعِيَّةِ والفِعْلِيَّة. فقوله: «التَّوْراة والإنْجِيلَ» : إشارةٌ إلى الأسْرَار التي لا يطَّلِعُ عليْهَا أحدٌ إلاَّ الأكَابِرَ من الأنْبِيَاء. قوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي} . قرأ ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «فَتَنْفُخُهَا» بحذف حرف الجر اتساعاً وقرأ الجمهور: «فتكونُ» بالتاء منقوطةً فوقُ، وأبو جعفر منقوطةً تحتُ، أي: فيكونُ المنفوخُ فيه، والضمير في «فِيهَا» قال ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «اضطربَتْ فيه أقوال المفسِّرين» ؛ قال مكيٌّ: «هو في آل عمران [الآية 49] عائدٌ على الطَّيْر، ولا على الطين، ولا على الهيئة؛ لأنَّ الطير أو الطائر الذي يَجِيء الطِّين على هيئته، لا يُنْفَخُ فيه ألبتة، وكذلك لا نفخَ في هيئته الخاصَّة به، وكذلك الطينُ إنَّما هو الطينُ العامُّ، ولا نفخَ في ذلك» ، وقال الزمخشريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «ولا يرجِعُ الضميرُ إلى الهيئةِ المضافِ إليها؛ لأنها ليست من خَلْقِه، ولا مِنْ نفخه في شيء، وكذلك الضميرُ في فَتَكُون» ، ثم قال ابنُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 600 عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «والوجهُ عودُ ضميرِ المؤنَّث على ما تقتضيه الآيةُ ضرورةً، أي: صُوَراً، أو أشكالاً، أو أجْساماً، وعودُ الضمير المذكَّر على المخلوقِ المدلولِ عليه ب» تَخْلُقُ «، ثم قال:» ولَكَ أن تعيدَهُ على ما تَدُلُّ عليه الكافُ من معنى المثل؛ لأنَّ المعنى: وإذ تَخْلُقُ من الطِّينِ مثل هيئته، ولك أن تعيده على الكاف نَفْسِهَا، فتكون اسماً في غيرِ الشِّعْر «. انتهى، وهذا القولُ هو عينُ ما قبله، فإنَّ الكافَ أيضاً بمعنى مثل، وكونُها اسماً في غير الشعرِ، لم يَقُلْ به غيرُ الأخْفَشِ. واستشكل الناسُ قولَ مكيٍّ المتقدِّمَ؛ كما قدَّمْتُ حكايته عن ابن عطية رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. ويمكنُ أن يُجابَ عنه بأنَّ قوله «عائدٌ على الطَّائِرِ» لا يريدُ به الطائِرَ الذي أُضيفَتْ إليه الهيئةُ، بل الطائرُ المُصَوَّرُ، والتقدير: وإذ تخلُقُ من الطِّينِ طائراً صورةَ الطائرِ الحقيقيِّ، فتنفخُ فيه، فيكونُ طائراً حقيقيًّا، وأنَّ قوله «عائدٌ على الهيئة» لا يريدُ الهيئةَ المجرورةَ بالكاف، بل الموصوفة بالكاف، والتقدير: وإذ تخلُقُ من الطِّينِ هيئةً مِثْلَ هيئةِ الطَّائر، فتنفخُ فيها، أي: في الموصُوفَة بالكاف الَّتِي نُسِبَ خَلْقُهَا إلى عيسى - عليه السلام - وأمَّا كونُه كيف يعودُ ضميرٌ مذكَّر على هيئةٍ، وضميرٌ مؤنثٌ على الطائرِ [لأنَّ قوله: «ويجُوزُ عكْسُ هذا» يؤدي إلى ذلك؟ فجوابُه أنه جازَ بالتأويل؛ لأنه تُؤوَّلُ الهيئةُ بالشكْل، ويُؤوَّل الطائرُ] بالهيئةِ؛ فاستقام، وهو موضعُ تَأمُّلٍ، وقال هنا «بإذْنِي» أربعَ مراتٍ عَقِيبَ أربع جمل، وفي آل عمران «بإذْنِ الله» مرتَيْن؛ لأنَّ هناك موضعَ إخبارٍ، فناسَبَ الإيجازَ، وهنا مقامُ تذكيرٍ بالنعمةِ والامتنانِ، فناسبَ الإسهابَ؛ وقوله «بإذْنِي» حالٌ: إمَّا من الفاعلِ، أو من المفعول. قوله: {وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي} قال الخَلِيلِيُّ: من وُلِدَ أعْمَى، ومَنْ وُلِدَ بصيراً ثُمَّ أعْمِي. قوله تعالى: {وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى} : من قُبُورِهِم أحْيَاء «بإذْنِي» ، أي: بفِعْلي ذلك عند دُعائِك، أي: عند قولِكَ للميِّت: اخْرُجْ بإذْنِ اللَّهِ، وذلك الإذْنُ في هذه الأفاعِيلِ، إنَّما هُو على مَعْنَى إضافَةِ حَقيقَةِ الفِعْلِ إلى الله - تبارك وتعالى - كقوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [آل عمران: 145] أي: إلاَّ بِخَلْقِ اللَّهِ الموْتَ فيها. قوله تعالى: {وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات} يعني: الوَاضِحَة والمُعْجِزَات الظَّاهِرَة، وقيل: المُرادُ بالبَيِّنات الظَّاهِرَةِ هذه البَيِّناتُ التي تقدَّم ذكرُها، فيكون الألفُ واللاَّمُ لِلْمَعْهُود. رُوِي أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا أظْهَرَ هذه المُعْجِزات العَجِيبَة، قَصَدَ اليهُود قَتْلَه، فخلَّصَهُ اللَّهُ تعالى مِنْهم، حَيْثُ رفَعَهُ إلى السَّمَاء. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 601 قوله: {فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} . قرأ الأخوانِ هنا وفي هودٍ [الآية 7] وفي الصَّف [الآية 6] «إلاَّ سَاحِرٌ» اسم فاعل، والباقون: «إلاَّ سِحْرٌ» مصدراً في الجميع، والرسمُ يحتمل القراءتَيْنِ، فأمَّا قراءةُ الجماعةِ، فتحتملُ أن تكون الإشارةُ إلى ما جاءَ به من البيِّنات، أي: ما هذا الذي جاء به من الآيات الخوارِق إلا سِحْرٌ، ويُحْتمل أن تكون الإشارةُ إلى عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - جَعَلُوه نفس السحْر مبالغةً؛ نحو: «رَجُلٌ عَدْلٌ» ، أو على حذفِ مضافٍ، أي: إلاَّ ذُو سِحْرٍ، وخَصَّ مكي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - هذا الوجه بكون المرادِ بالمشار إليه محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «ويجوزُ أن تكونَ إشارةً إلى النبيِّ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على تقدير حَذْفِ مضافٍ، أي: إنْ هذا إلاَّ ذُو سِحْرٍ» . قال شهاب الدين: وهذا غَيْرُ جائزٍ، والمرادُ بالمشار إليه عيسى عليه السلام، وكيف يكونُ المرادُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو لَمْ يكن في زَمَنِ عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والحواريِّين؛ حتى يشيروا إليه إلا بتأويلٍ بعيدٍ؟ وأمَّا قراءةُ الأخوَيْن، فتحتمل أن يكون «سَاحِرٌ» اسم فاعلٍ، والمشارُ إليه «عيسى» ، ويُحتمل أن يكونَ المرادُ به المصدرَ؛ كقولهم: عَائِذاً بِكَ وعَائِذاً بالله مِنْ شَرِّهَا، والمشارُ إليه ما جاء به عيسَى من البيِّنات والإنجيلِ، ذكر ذلك مَكي، وتبعَهُ أبو البقاء، إلا أنَّ الواحديَّ مَنَعَ مِنْ ذلك؛ فقال - بعد أنْ حَكَى القراءتَيْنِ -: وكلاهُمَا حَسَنٌ؛ لاستواءِ كلِّ واحدٍ منهما في أنَّ ذِكْرَهُ قد تقدَّم، غير أنَّ الاختيار «سِحْر» ؛ لجوازِ وقوعه على الحَدَثِ والشَّخْص، أمَّا وقُوعه على الحدث، فسهلٌ كثير، ووقُوعه على الشخْصِ يريدُ ذُو سحْرٍ؛ كقوله تعالى: {ولكن البر مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177] ، وقالوا: «إنما أنت سيرٌ» و «ما أنت إلا سيرٌ» ، و [البسيط] 2085 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فَإنَّما هِيَ إقْبَالٌ وإدْبَارُ قلتُ: وهذا يرجِّحُ ما قدَّمْتُه من أنه أطْلَقَ المصْدر على الشخص؛ مبالغةً؛ نحو: «رَجُلٌ عَدْلٌ» ، ثم قال: «ولا يجوزُ أنْ يُرادَ بساحرٍ السِّحْرُ، وقد جاء فاعل يراد به المصدرُ في حروفٍ ليست بالكثير، نحو:» عَائِذاً بالله من شَرِّهِ «، أي: عِيَاذاً، ونحو» العافية «ولم تَصِرْ هذه الحروفُ من الكثرة بحيثُ يسوغُ القياس عليها» . وإن قيل: إنَّهُ - تعالى - عدَّدَ هُنَا نِعمَ اللَّه تعالى على عيسى - عليه السلام -، وقولُ الكُفَّار في حقه {إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} ، ليس من النِّعَمِ، فكيف ذكره هنا؟ . فالجوابُ إنَّ كُلَّ ذِي نِعْمَةٍ مَحْسُودٌ، فَطَعْن الكُفَّار في عيسى - عليه السلام - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 602 بهذ الكلام، يَدُلُّ على أنّ نِعْمَةِ الله كانت في حقِّه عَظِيمَة، فَحَسُنَ ذِكْرُه عند تعديد النِّعم من هذا الوجه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 603 من قال: إنهم كانُوا أنْبِيَاء، قال: المُرَادُ هذا الوَحْيُ الذي يُوحَى إلى الأنبياء، ومن قال: إنَّهُمْ ما كانوا أنْبِيَاء، قال: المُرَادُ بذلك: الوَحْيُ والإلْهَام، كقوله: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى} [القصص: 7] وقوله: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] ، وإنما ذُكِرَ هذا في مَعْرضِ تَعْدِيدِ النِّعَمِ؛ لأنَّ صَيْرُورة الإنْسَان مقبُولَ القَوْل عِنْدَ النَّاسِ، محبوباً في قُلوبِهِم من أعْظَمِ نِعَمِ اللَّه - تبارك وتعالى - على الإنسان، وذكر - تبارك وتعالى - إنَّما ألْقَى ذلك الوحي في قلوبهم فآمَنُوا وأسْلَمُوا، وإنَّما قدَّم ذِكْرَ الإيمان على الإسْلام؛ لأنَّ الإيمان صِفَةُ القَلْبِ والإسلام عبارةٌ عن الانْقِيادِ والخُضُوع في الظَّاهِرِ، يعني: آمَنُوا بِقُلُوبِهِم وانْقَادُوا بِظَواهِرِهِم. فإن قيل: إنَّه تعالى ذكر في الآية: {اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ} [المائدة: 110] أنَّ جميعَ ما ذكر اللَّهُ - تعالى - من النِّعَمِ مُخْتَصٌّ بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وليس لأمِّهِ بشيء منها تَعَلُّقٌ. فالجوابُ: كُلّ ما حَصَلَ لِلْوَلَدِ من النِّعَمِ الجَلِيلَةِ، والدَّرَجَات العالِيةَ، فهو حَاصِلٌ للأمِّ على سبيلِ التضمّنِ والتَّبع، قال - تبارك وتعالى -: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ، فجعلهما معاً آيَةً واحِدَةً؛ لشِدَّةِ اتِّصَال كُلِّ واحدٍ مِنْهُما بالآخر. رُوِي أنَّهُ - تعالى - لمَّا قال لعيسى: {اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ} [المائدة: 110] من لِبْسِ الشَّعْرِ وأكْلِ الشَّجَرِ، لم يَدَّخِرْ شَيْئاً لِغَد، ويقول مع كل يومٍ رِزْقُهُ، ولم يَكُنْ له بَيْتٌ فَيُخَرَّب، ولا وَلدٌ فَيَمُوت، أيْنَمَا أمْسَى باتَ. قوله تعالى: {أَنْ آمِنُواْ بِي} : في «أنْ» وجهان: أظهرهما: أنها تفسيرية؛ لأنها وردت بعد ما هو بمعنى القولِ، لا حروفه. والثاني: أنها مصدريَّةٌ بتأويلٍ متكلَّف، أي: أوْجبْتُ إليهم الأمر بالإيمان، وهنا قالوا «آمَنَّا» ولم يُذْكَر المُؤمنُ به، وهناك {آمَنَّا بالله} [آل عمران: 52] فذكره، والفرق أنَّ هناك تقدَّم ذكرُ الله تعالى فقط، فأُعيدَ المؤمَنُ به، فقيل: «بالله» وهنا ذُكِرَ شيئان قبل ذلك، وهما: {أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي} ، فلم يُذْكَر؛ ليشمل المذكورين، وفيه نظرٌ، وهنا قال «بأنَّنَا» وهناك قال «بِأنَّا» بحذف «نَا» ، وقد تقدَّم غيره مرة: أنَّ هذا هو الأصل، وإنما جِيءَ هنا بالأصل؛ لأنَّ المُؤمنَ به متعدِّدٌ، فناسَبَه التأكيد. _ _ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 603 في «إذ» وجهان: أحدهما: أوحيتُ إلى الحواريِّين، إذ قال الحَوَارِيُّونَ. الثاني: اذكر إذْ قال الحوارِيُّون. قرأ الجمهورُ «يَسْتَطِيعُ» بياء الغيبة «رَبُّكَ» مرفوعاً بالفاعلية، والكسائيُّ: «تَسْتَطِيعُ» بتاء الخطاب لعيسى، و «رَبَّكَ» بالنصب على التعظيم، وقاعدتُه أنه يُدْغِمُ لام «هلْ» [في أحرف منها هذا المكان، وبقراءة الكسائيِّ قرأتْ عائشةُ، وكانت تقول: «الحواريُّونَ أعْرَفُ بالله] مِنْ أن يقولوا: هَلْ تَسْتَطِيعُ رَبُّكَ» وإنما قالوا: هَلْ تستطيعُ أن تَسْأل رَبَّكَ؛ كأنها - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - نَزهَتْهُمْ عن هذه المقالةِ الشنيعة أنْ تُنْسَبَ إليهم، وبها قرأ معاذٌ أيضاً وعليٌّ وابن عبَّاس وسعيدُ بنُ جُبَيْر قال معاذ رضي الله تعالى عنه: أقرأنِي رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «هل تَسْتَطِيعُ رَبكَ» بالتَّاء. وحينئذ فقد اختلفوا في هذه القراءة: هل تحتاجُ إلى حَذْفِ مضافٍ أم لا؟ فجمهور المُعْربين يقدِّرونَ: هل تستطيع سُؤال رَبِّكَ، وقال الفارسيُّ: «وقد يُمْكِنُ أنْ يُسْتغنَى عن تقدير» سُؤالَ «على أن يكون المعنى: هَلْ تستطيعُ أنْ يُنَزِّلَ رَبُّكَ بدُعَائِكَ، فيردُّ المعنى - ولا بد - إلى مقدَّر يدلُّ عليه ما ذُكِر من اللفظ» ، قال أبو حيان: «وما قاله غيرُ ظاهرٍ؛ لأنَّ فعله تعالى، وإنْ كان مسبَّباً عن الدعاءِ، فهو غيرُ مقدورٍ لعيسى» . واختار أبو عُبَيْد هذه القراءةَ، قال: «لأنَّ القراءة الأخرى تُشْبِهُ أن يكونَ الحواريُّون شَاكِّينَ، وهذه لا تُوهِمُ ذلك» ، قال شهاب الدين: وهذا بناء من الناسِ على أنهم كانوا مؤمِنينَ، وهذا هو الحَقُّ. قال ابن الأنباري: «لا يجوزُ لأحد أن يتوَهَّم على الحواريِّين؛ أنهم شَكُّوا في قُدْرة الله تعالى» ، وبهذا يَظْهَرُ أنَّ قول الزمخشريِّ أنهم ليسوا مؤمنينَ ليس بجيِّدٍ، وكأنه خارقٌ للإجْماعِ، قال ابن عطية: «ولا خلاف أحفظُه أنَّهم كانوا مُؤمِنِينَ» ، فأمَّا القراءةُ الأولى، فلا تَدُلُّ له؛ لأن الناس أجابوا عن ذلك بأجوبةٍ، منها: أنَّ معناه: هل يَسْهُلُ عليكَ أن تَسْألَ رَبَّكَ؛ كقولك لآخر: هَلْ تستطيعُ أن تَقُومَ؟ وأنت تعلمُ استطاعته لذلك، ومنها: أنهم سألُوهُ سؤال مستَخْبِرٍ: هل يُنَزِّلُ أم لا، فإن كان يُنَزِّلُ فاسأله لنا، ومنها: أنَّ المعنى هل يفعلُ ذلك، وهل يقع منه إجابةٌ لذلك؟ ومنه ما قيل لعبد الله بن زَيْدٍ، هَلْ تَسْتَطِيعُ أنْ تُرِيني كيف كان رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَتَوضَّأُ؟ أي: هل تُحِبُّ ذلك؟ وقيل المعنى: هل يَطْلُب ربُّكَ الطاعةَ من نُزُولِ المائدةِ؟ قال أبو شَامَة: «مثلُ ذلك في الإشْكال ما رواه الهَيْثَمُ - الجزء: 7 ¦ الصفحة: 604 وإن كان ضعيفاً - عن ثابتٍ عن أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عادَ أبا طالبٍ في مرض، فقال: يَا ابْنَ أخِي، ادعُ رَبَّكَ الذي تَعْبُدُهُ فَيُعَافيني، فقال: اللهُمَّ اشْفِ عَمِّي، فقام أبو طالبٍ، كأنما نَشِطَ من عقالٍ، فقال: يا ابْنَ أخِي، إنَّ ربَّكَ الذي تَعْبُدُ ليُطِيعُكَ، قال: وأنْتَ يا عَمَّاه، لو أطَعْتَهُ، أو: لَئِنْ أطَعْتَ اللَّهَ، لَيُطِيعَنَّكَ» ، أي: لَيجيبَنَّكَ إلى مقْصُودك، قال شهاب الدين: والذي حَسَّنَ ذلك المقابلةُ منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ للفْظِ عَمِّهِ، كقوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] وقيل: التقدير: هَلْ يُطِيعُ؟ فالسينُ زائدة؛ كقولهم: اسْتَجَابَ وأجَابَ، قال: [الطويل] 2086 - وَدَاعٍ دَعَا يا مَنْ يُجِيبُ إلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ وبهذه الأجوبةِ يُستغنى عن قولِ من قال: «إنَّ» يَسْتَطِيع «زائدةٌ» ، والمعنى: هل يُنَزِّلُ رَبُّكَ؛ لأنَّه لا يُزادُ من الأفعال إلاَّ [ «كَانَ» بشرطَيْنِ، وشَذَّ زيادةُ غيرها في مواضعَ عَدَدْتُها في غيرِ هذا الكتاب، على أنَّ الكوفيِّين يُجيزُون زيادةَ بعض الأفعال] مطلقاً، حَكَوْا: «قَعَدَ فلانٌ يَتَهَكَّمُ بِي» ؛ وأنشدوا: [الوافر] 2087 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتِمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزِيرٍ تَمَرَّغ فِي رَمَادِ وحكى البصريُّون على وجْه الشُّذُوذِ: «مَا أصْبَحَ أبْرَدَهَا، ومَا أمْسَى أدْفَأهَا» يعنون الدُّنْيَا. قال ابنُ الخطيبِ: وأمَّا القراءَةُ الثَّانِيَةُ ففيها إشْكَالٌ، وهو أنَّهُ تعالى حَكَى عنهُم أنَّهم قالُوا: «آمنَّا واشهدْ بأنَّا مُسْلمُون» ، وبعد الإيمانِ كَيْفَ يَجُوزُ أن يقال: إنهم بقوا شاكِّين في اقتدار اللَّهِ على ذلك؟ . والجوابُ عنه من وُجُوهٍ: الأول: أنَّهُ - تبارك وتعالى - ما وَصَفَهُم بالإيمان والإسلام بل حَكَى عنهم ادِّعَاءَهم لَهُمَا، ثمَّ تَبعَ ذلك بقوله - حِكَايةً عَنْهُم - {هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء} ؟ فدلَّ ذلك على أنَّهُم كَانُوا شاكِّين مُتَوقِّفِين، فإنَّ هذا اللَّفْظَ لا يَصْدُر مِمَّنْ كان كَامِلاً في الإيمان. وقالوا: {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} [المائدة: 113] ، وهذا يَدُلُّ على مَرَضٍ في القَلْب، وكذا قَوْلُ عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لهم: {اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} ، يَدُلُّ على أنَّهُم ما كانوا كامِلِين في الإيمان. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 605 الثاني: أنَّهُم كانوا مُؤمِنين إلاَّ أنَّهُم طَلَبُوا هذه الآية لِيحْصُلَ لهم مَزِيد الطمأنينة، فلهذا السَّبِب قالوا: «وتَطْمئنَّ قُلُوبنا» . الثالث: أنَّ مُرادَهُمُ استفهام أن ذلك هل هو كافٍ في الحِكْمةِ أم لا؟ وذلك لأنَّ أفْعَال اللَّهِ تعالى لمَّا كَانَتْ مَوْقُوفَةً على رِعايَةِ وجُوهِ الحكمة، فَفِي الموْضِع الَّذِي لا يَحْصُل فيه شَيْءٌ من وُجُوهِ الحِكْمَةِ يكونُ الفِعْلُ مُمْتَنِعاً، فإنَّ المُنَافيَ من جِهَةِ الحكمة كالمنافي جِهَة القُدْرَةِ، وهذا الجوابُ يَتَمَشَّى على قَوْلِ المُعْتَزِلَة. وأمَّا على قَوْلِنا فهو مَحْمُولٌ على أنَّه تَبارك وتعالى هل قَضَى بذلك؟ وهل عَلِمَ وُقُوعه؟ فإن لَمْ يَقْضِ به، ولَمْ يعلم وُقُوعه كان ذلك محالاً غيْرَ مَقْدُورٍ؛ لأن خلافَ المَعْلُوم غَيْرُ مَقْدُورٍ. الرابع: قال السديُّ: إن السِّين زَائِدةٌ، على أنَّ اسْتَطَاع بمعنى أطاعَ كما تقدَّم. الخامس: لعل المُرادَ بالرَّبِّ جِبْرِيل؛ لأنَّهُ كان يُرَبِّيهِ ويَخُصُّهُ بأنْوَاع الإعَانَةِ، لقوله - تبارك وتعالى - في أوَّلِ الآية {أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس} [المائدة: 110] ، والمعنى: أنَّك تَدَّعِي أنه يُرَبِّيك، ويَخُصُّكَ بأنْوَاع الكَرَامَةِ، فهل يقدر على إنْزَالِ مَائِدَةٍ من السَّمَاءِ عَلَيْك؟ . السادس: ليْسَ المَقْصُود من هذا السُّؤال كونَهُم شاكِّين فيه، بل المَقْصُود تَقْرِير أن ذلك في غاية الظُّهُور، كمن يَأخُذُ بِيَدِ ضعيفٍ، ويقول: هل يَقْدِر السُّلْطَان على إشْبَاع هذا، وبكون غَرَضُه أنَّ ذلكَ أمْرق واضِحٌ لا يجُوزُ للعَاقِل أن يَشُكَّ فيه. قوله «أن يُنَزِّلَ» في قراءةِ الجماعة في محلِّ نصب مفعولاً به، أي: الإنْزالَ، وقال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: والتقدير: على أن يُنَزِّلَ، أو في أن يُنَزِّلَ، ويجوزُ ألاَّ يحتاج إلى حرف جرٍّ على أن يكون «يَسْتَطِيع» بمعنى «يُطِيقُ» [قلت: إنما احتاج إلى تقدير حَرْفي الجَرِّ في الأول؛ لأنه حمل الاستطاعة على الإجابة، وأمَّا قوله أخيراً: إنَّ «يَسْتَطيعُ» بمعنى «يُطِيقُ» ] فإنما يَظْهرُ كلَّ الظهورِ على رأي الزمخشريِّ من كونهم ليسوا بمؤمنين، وأمَّا على قراءةِ الكسائيِّ، فقالوا: هي في محلِّ نصْبٍ على المفعولية بالسؤالِ المقدَّر، أي: هلْ تستطيعُ أنت أن تسألَ ربَّكَ الإنْزالَ، فيكون المصدرُ المقدَّرُ مضافاً لمفعوله الأوَّل، وهو «رَبُّكَ» ، فلمَّا حُذِفَ المصدرُ، انتصب، وفيه نظرٌ؛ من أنهم أعمَلُوا المصدر مضمراً، وهو لا يجوزُ عند البصريِّين، يُؤوِّلُونَ ما وردَ ظاهرُه ذلك، ويجوز أن يكون «أنْ يُنَزِّلَ» بدلاً من «رَبُّكَ» بدل اشتمالٍ، والتقديرُ: هل تستطيعُ، أي: هل تُطِيقُ إنزال الله تعالى مائدةً بسببِ دعائِكَ؟ وهو وجهٌ حسن. و «مَائِدَةً» مفعول «يُنَزِّلُ» ، والمائدة: الخِوانُ عليه طعامٌ، فإن لم يكن عليه طعامٌ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 606 فليست بمائدةٍ، هذا هو المشهور، إلا أن الراغب قال: «والمائدةُ: الطبقُ الذي عليه طعامٌ، ويقال لكلِّ واحدٍ منها مائدةٌ» ، وهو مخالفٌ لما عليه المعظمُ، وهذه المسألة لها نظائرُ في اللغة، لا يقال للخوانِ مائدةٌ إلا وعليه طعامٌ، وإلا فهو خوانٌ، ولا يقال كأسٌ إلا وفيها خَمْرٌ، وإلا فهي قدحٌ، ولا يقال ذنُوبٌ وسَجْلٌ إلا وفيه ماء، وإلا فهو دَلْو، ولا يقال جرابٌ إلا وهو مدبوعٌ وإلا فهو إهابٌ، ولا قَلَمٌ إلاَّ وهو مَبْريٌّ وإلا فهو أنْبُوبٌ، واختلف اللغويون في اشتقاقها، فقال الزجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «هي من مَادَ يَمِيدُ إذا تحرَّك، ومنه قوله: {رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِهِمْ} [الأنبياء: 31] ومنه: مَيْدُ البَحْرِ» ، وهو ما يُصِيبُ راكبَه، فكأنها تميدُ بما عليها من الطعام. وقال أهلُ الكوفة: لأنها تميدُ بالآكِلِينَ، قال الزجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «وهي فاعِلةٌ على الأصلِ» ، وقال أبو عُبَيْدٍ: «هي فَاعِلَةٌ بمعنى مفعُولَة مشتقَّةٌ من مادهُ بمعنى أعْطَاهُ، وامتادَهُ بمعنى اسْتَعْطَاهُ، فهي بمعنى مَفْعُولَة» ، قال: «كَعِيشَةٍ راضيةٍ» وأصلُها أنها ميدَ بها صاحبُها، أي: أعْطِيَهَا، والعربُ تقول: مَادَنِي فلانٌ يَمِيدُنِي، إذا أدَّى إليَّ وأعْطَانِي «وقال أبو بَكْرِ بنُ الأنباريِّ:» سُمِّيتْ مائدةً؛ لأنها غياثٌ وعطاءٌ، من قول العرب: مَادَ فلانٌ فُلاناً إذا أحْسَنَ إلَيْه «وأنشد: [السريع] 2088 - إلى أميرِ المُؤمِنِينَ المُمْتَادْ ... أي: المُحْسنِ لرعيَّته، وهي فاعلةٌ من المَيْدِ بمعنى مُعْطِيَةٍ، فهو قريبٌ من قولِ أبِي عُبَيْدٍ في الاشتقاقِ، إلا أنَّها عنده بمعنى فاعلةٍ على بابها، وابنُ قتيبة وافق أبا عُبَيْدٍ في كونها بمعنى مَفْعُولَة، قال:» لأنَّها يُمَادُ بها الآكلُونَ أي يُعْطَوْنَهَا «، وقيل: هي من المَيْدِ، وهو الميلُ، وهذا هو معنى قول الزجَّاج. قوله تعالى:» مِنَ السَّماءِ «يجوز أنْ يتعلَّق بالفعلِ قبله، وأنْ يتعلَّق بمحذوف؛ على أنه صفةٌ ل» مَائِدَة «، أي: مائدةً كَائِنَةً من السَّماءِ، أي: نازلةً منها. قوله تعالى: {اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ} : فلا تَشكُّوا في قُدْرَة الله - تعالى -. وقيل: اتَّقُوا الله أن تَسْألُوه شَيْئاً لَمْ تسْأله الأمَمُ السَّابِقَة من قَبْلِكُم، فَنَهَاهم عن اقْتِراحِ الآيَات بَعْدَ الإيمان. وقيل: أمَرَهُمْ بالتَّقْوى سَبَباً لِحُصُول هذا المَطْلُوب، كقوله - تبارك وتعالى -: أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهُ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ} [المائدة: 35] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 607 أي: أكْلُ تبرُّكٍ، لا أكْلُ حَاجَةٍ، وقال المارودِي: لأنَّهم لما احْتَاجُوا لم يُنْهَوا عن السُّؤال، وقيل: أرَادُوا الأكْلَ للحَاجَةِ. وقوله: «وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا» أي: إنَّا وإنْ عَلِمْنَا قُدْرةَ الله تعالى بالدَّليل، ولكنَّا إن شاهدنا نُزُولَ هذه المَائِدة ازداد اليقين، وقويت الطُّمَأنِينَةُ. وقيل: المَعْنَى إنَّا وإن عَلِمْنَا صِدْقَكَ بِسَائِر المُعْجِزَات، ولكن إذا شَاهَدْنَا هذه المُعْجِزَة ازدَادَ اليَقِينُ والعِرْفَان، وهذا مَعْنَى قوله: {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} : أنَّك رَسُولُ اللَّهِ. قيل: إنَّ عيسَى ابن مَرْيم أمَرَهُمْ أن يَصُومُوا ثلاثين يَوْماً، فإذا أفْطَرُوا لا يَسْألُون الله شيئاً إلاَّ أعْطَاهُمْ، ففعلوا وسألُوه المَائِدَةَ، وقالوا: {وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} في قولك: «إنَّا إذا صُمْنَا ثلاثين يَوْماً لا نَسْألُ الله شَيْئاً إلاَّ أعْطَانَا» . وقيل: إنَّ جميعَ المُعْجِزَات التي أوْرَدْتَهَا كانت مُعْجَزَات أرْضِيَّة، وهذه سَمَاوِيَّة، وهي أعْجَبُ وأعْظَمُ، {وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين} نَشْهَدُ عليها عِنْد الذين لم يَحْضُرُوها من بَنِي إسرائيل، ويَكُونُوا شَاهِدِين لله تعالى بِكَمَال القُدْرَة. وقرأ الجمهور: «وَنَعْلَمَ» : و «نَكُون» بنون المتكلم مبنيًّا للفاعل، وقرأ ابن جُبَيْر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فيما نقله عنه ابن عطيَّة - «وتُعْلَم» بضمِ التاء على أنه مبنيٌّ للمفعول، والضميرُ عائدٌ على القلوب، أي: وتُعْلَمَ قُلُوبُنَا، ونُقِلَ عنه «وَنُعْلَمَ» بالنون مبنيًّا للمفعول، وقرئ: «وَيُعْلَمَ» بالياء مبنيًّا للمفعول، والقائمُ مقام الفاعل: {أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} أي: ويُعْلَمَ صِدْقُكَ لنا، ولا يجوزُ أن يكُون الفعلُ في هذه القراءةِ مسنداً لضميرِ القلوبِ؛ لأنه جارٍ مَجْرَى المؤنَّثِ المجازيِّ، ولا يجوزُ تذكيرُ فِعْلِ ضميره، وقرأ الأعمشُ: [ «وتَعْلَمَ» ] بتاءٍ والفعلُ مبنيٌّ للفاعل، وهو ضمير القُلُوبِ، ولا يجوزُ أن تكون التاءُ للخطاب؛ لفسادِ المعنى، وروي: «وتِعْلَمَ» بكسر حرف المضارعة، والمعنى على ما تقدَّم، وقُرِئ: «وتكونَ» بالتاء والضمير للقلوب. و «أنْ» في {أَن قَدْ صَدَقْتَنَا} مخفَّفةٌ، واسمُها محذوفٌ، و «قَدْ» فاصلةٌ؛ لأنَّ الجملة الواقعةَ خبراً لها فعليةٌ متصرِّفةٌ غيرُ دُعَاءٍ، وقد عُرِفَ ذلك مما تقدَّم في قوله: {أَلاَّ تَكُونَ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 608 فِتْنَةٌ} [المائدة: 71] ، و «أنْ» وما بعدها سادَّةٌ مسدَّ المفعولَيْن، أو مَسَدَّ الأول فقط، والثاني محذوفٌ، و «عَلَيْهَا» متعلِّقٌ بمحذوفٍ يَدُلُّ عليه «الشَّاهدين» ، ولا يتعلَّقُ بما بعده؛ لأن «ألْ» لا يَعْمَلُ ما بعدها فيما قبلها عند الجمهور، ومنْ يُجِيزُ ذلك يقول: «هو متعلِّقٌ بالشاهدينَ، قُدِّم للفواصِل» . وأجاز الزمخشريُّ أن تكون «عَلَيْهَا» حالاً؛ فإنه قال: «أو نَكُونَ من الشاهدينَ لله بالوحدانيَّة، ولك بالنبوَّةِ عاكِفِينَ عليها، على أن» عَلَيْهَا «في موضع الحال» فقوله «عَاكِفينَ» تفسيرُ معنًى؛ لأنه لا يُضْمَرُ في هذه الأماكن إلا الأكوانُ المطلقة. وقرأ اليمانيُّ: «وإنَّهُ» ب «إنَّ» المشدَّدة، والضميرُ: إما للعيد، وإما للإنزال. وبهذا لا يَرِدُ عليه ما قاله أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - فإنه غابَ عليه ذلك، وجعله متناقِضاً؛ من حيث إنه لَمَّا عَلَّقَهُ ب «عَاكِفِينَ» كان غيْرَ حال؛ لأنه إذا كان حالاً، تعلَّقَ بكون مُطْلَقٍ ولا أدْرِي ما معنى التناقُض. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 609 «اللَّهُمَّ رَبَّنَا» تقدَّم الكلامُ عليه، قوله: «ربَّنا» نِدَاءٌ ثاني. قوله تعالى: {تَكُونُ لَنَا عِيداً} : [في «تَكُونُ» ضمير يعود على «مَائِدَة» هو اسمُها، وفي الخبر احتمالان: أظهرهما: أنه عيد] ، و «لَنَا» فيه وجهان: أحدهما: أنه حال من «عِيداً» ؛ لأنها صفة له في الأصل. والثاني: أنها حال من ضمير «تَكُونُ» عند مَنْ يُجَوِّزُ إعمالها في الحال. والوجه الثاني: أنَّ «لَنَا» هو الخبر، و «عِيداً» حال: إمَّا من ضمير «تَكُونُ» عند مَنْ يَرَى ذلك، وإمَّا من الضمير في «لَنَا» ، لأنه وقع خبراً فتحمَّل ضميراً، والجملةُ في محلِّ نَصْبٍ صفةً لمائدة. وقرأ عبدُ الله: «تَكُنْ» بالجزمِ على جوابِ الأمرِ في قوله: «أنْزَلَ» ، قال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهما نظيرُ» يَرِثُنِيَ [وَيَرِثُ «] يريد قوله تعالى: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} [مريم: 5، 6] بالرفع صفةً، وبالجزم جواباً، ولكن القراءتان هناك متواترتان، والجزمُ هنا في الشاذ. والعيدُ هنا مشتقٌّ من العود؛ لأنه يعود كلَّ سنة، قاله ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ، وقال ابن الأنباريِّ:» النحويُّون يقولون: يوم العيدِ؛ لأنَّه يعود بالفَرَحِ والسُّرورِ فهو يَوْمُ سُرُورِ الخَلْقِ كلهم، ألا ترى أنَّ المَسْجُونين في ذلك اليَوْم لا يُطَالَبُونَ ولا يُعَاقَبُون، ولا يُصادُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 609 الوَحْشُ ولا الطُّيُورُ، ولا تَغْدُو الصِّبْيَان إلى المَكَاتِب «. وقيل: هو عِيدٌ؛ لأنَّ كُلَّ إنْسَان يَعُودُ إلى قَدْرِ مَنْزِلَتهِ؛ ألا ترى إلى اختلافِ ملابِسهم وهَيْئَاتِهِم ومآكِلِهم، فمنهم من يُضيف ومنهم من يُضاف، ومنهم من يَرْحَم ومنهم من يُرْحَم. وقيل: سُمِّي بذلك؛ لأنَّهُ يَوْمٌ شريف، تَشْبيهاً بالعيدِ وهو فحلٌ كريم مشهور عند العربِ ويَنْسِبُون إليه، فيقالُ: إبل عيدية. قال الشاعر: [البسيط] 2089 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عِيدٌ بِهَا أزْهَرَتْ فِيهَا الدَّنَانِيرُ وقال الخليلُ: العيدُ كل يومٍ يَجْمَعُ، كأنَّهُم عَادُوا إلَيْه عند العرب؛ لأنه يعود بالفَرَح والحُزْن، وكلُّ ما عاد إليك في وقت، فهو عيد؛ حتَّى قالوا لِلطَّيْفِ عِيدٌ؛ قال الأعشى: [الطويل] 2090 - فَوَاكَبِدِي مِنْ لاعِجِ الحبِّ والهَوَى ... إذَا اعْتَادَ قَلْبِي مِنْ أمَيْمَةَ عِيدُهَا أيْ: طَيْفُهَا، وقال تأبَّطَ شَرًّا: [البسيط] 2091 - يَا عِيدُ مَا لَكَ مِنْ شَوْقٍ وإيرَاقِ ... وقال أيضاً: [الخفيف] 2092 - عَاد قَلْبِي مِنَ الطَّوِيلَةِ عِيدُ ..... ... ... ... ... ... ... ... . . وقال الراغبُ: والعيدُ حالةٌ تُعاوِدُ الإنسانَ، والعائدَة: كلُّ نفْعٍ يرجع إلى الإنسانِ بشَيْء، ومنه» العَوْدُ «للبعيرِ المُسِنِّ: إمَّا لمعاوَدَتِهِ السَّيْرَ والعمل فهو بمعنى فاعلٍ، وإمَّا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 610 لمعاوَدَةِ [السنين] إياه [ومَرِّهَا] عليه، فهو بمعنى مفعول، قال امْرُؤُ القَيْسِ: [الطويل] 2093 - عَلَى لاحِبٍْ لا يُهْتَدَى بِمَنَارِهِ ... إذا سَافَهُ العَوْدُ النَّبَاطِيُّ جَرْجَرَا وصَغَّروه على «عُيَيْدٍ» وكسَّروه على «أعْيَاد» ، وكان القياسُ عُوَيْد وأعْوَاد؛ لزوالِ مُوجِبِ قَلْبِ الواوِ ياء؛ لأنها إنما قُلبتْ لسكونها بعد كَسْرةٍ، ك «مِيزَانٍ» ، وإنما فعلوا ذلك؛ قالوا: فرقاً بينه وبَيْن عُودِ الخَشَبِ. قوله: «لأوَّلِنَا وَآخِرِنَا» فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنه وقع صفةً ل «عِيداً» . الثاني: أنه بدلٌ من «نَا» في «لَنَا» ، قال الزمخشريُّ: «لأوَّلِنَا وآخِرِنَا» بدلٌ من «لَنَا» بتكرير العالمِ «، ثم قال:» وقرأ زيدُ بنُ ثابتٍ، وابن مُحَيْصِنٍ والجَحْدَرِيُّ: «لأولاَنَا وَأخْرَانَا» بدل «لَنَا» ، والتأنيثُ على معنى الأمَّة «، وخَصّص أبو البقاء كلَّ وجْه بشيء؛ وذلك أنه قال:» فأمَّا «لأوَّلنَا وآخِرِنَا» ، فإذا جعلت «لَنَا» خبراً أو حالاً من فاعل «تَكُونُ» فهو صفةٌ ل «عِيداً» ، وإن جعلت «لَنَا» صفة ل «عِيد» ، كان «لأوَّلِنَا» بدلاً من الضمير المجرور بإعادة الجَارِّ «. قال شهاب الدين: إنما فعل ذلك؛ لأنه إذا جعل» لَنَا «خبراً، كان» عِيداً «حالاً، وإن جعله حالاً، كان» عِيداً «خبراً؛ وعلى التقديرين لا يمكنُه جَعْلُ» لأوَّلِنَا «بدلاً من» لَنَا «؛ لئلا يلزم الفصلُ بين البدلِ والمبدلِ منه: إمَّا بالحال، وإما بالخبر، وهو» عِيد «، بخلافِ ما إذا جُعِل» لَنَا «صفةً ل» عِيد «، [ولكن يُقالُ: قوله: فإن جعلت» لَنَا «صفةً ل» عيداً «] كان» لأوَّلِنَا «بدلاً مُشْكِلٌ أيضاً؛ لأنَّ الفصل فيه موجود، لا سيما أنَّ قوله لا يُحْمل على ظاهره؛ لأنَّ» لَنَا «ليس صفةً بل هو حالٌ مقدمة، ولكنه نَظَرَ إلى الأصل، وأنَّ التقدير: عيداً لَنَا لأوَّلِنَا؛ فكأنه لا فَصْلَ، والظاهرُ جوازُ البدل، والفصلُ بالخبر والحال لا يَضُرُّ؛ لأنه من تمامه، فليس بأجنبيٍّ. واعلم: أن البدل من ضمير الحاضر، سواءٌ كان متكلِّماً أم مخاطباً، لا يجوز عند جمهور البصريِّين في بدلِ الكلِّ من الكُلِّ، لو قلت:» قُمْتُ زَيْدٌ «تعْني نَفْسَكَ، و» ضَرَبْتُكَ عَمْراً «، لم يَجُزْ، قالوا: لأنَّ البدل إنما يؤتى به للبيانِ غالباً، والحاضِرُ متميِّزٌ بنفسه؛ فلا فائدةَ في البدلِ منه، وهذا يَقْرُبُ من تعليلهم في مَنْعِ وصفه، وأجازَ الأخفشُ ذلك مُطْلَقاً مستدِلاًّ بظاهر هذه الآية الكريمة؛ لقول القائل: [الوافر] 2094 - أنَا سَيْفُ العَشِيرَةِ فَاعْرِفُونِي ... حُمَيْداً قَدْ تَذَرَّيْتُ السَّنَامَا ف» حُمَيْداً «بدل من ياء» اعْرِفُوني «، وقولِ الآخر: [الطويل] الجزء: 7 ¦ الصفحة: 611 2095 - وَشَوْهَاءَ تَغْدُو بي إلى صَارِخ الوَغَى ... بِمُسْتَلْئِمٍ مِثْلِ الفَنِيقِ المُدَجَّلِ وقول الآخر: [البسيط] 2096 - بِكُمْ قُرَيْشٍ كُفِينَا كُلَّ مُعْضِلَةٍ ... وأمَّ نَهْجَ الهُدَى مَنْ كَانَ ضِلِّيلا وفي الحديث: «أتَيْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نَفَرٌ مِنَ الأشْعَرِيين» والبصريون يُؤوِّلونَ جميعَ ذلك، أمَّا الآية الكريمة فعلى ما تقدَّم في الوجه الأول، وأمَّا «حُمَيْداً» ، فمنصوبٌ على الاختصاص، وأمَّا «بِمُسْتَلئم» ، فمن باب التجريدِ، وهو شيءٌ يعرفه أهلُ البيانِ، يعني أنه جَرَّد من نفسه ذاتاً متصفةً بكذا، وأمَّا «قُرَيْشٍ» فالروايةُ بالرفع على أنه منادى نُوِّنَ ضرورةً؛ كقوله: [الوافر] 2097 - سَلاَمُ اللَّهِ يَا مَطَرٌ عَلَيْهَ ... وَلَيْسَ عَلَيْكَ يَا مَطَرُ السَّلامُ وأمَّا «نفرٌ» ، فخبر مبتدأ مضمرٍ، أي: نَحْنُ، ومنع ذلك بعضهم، إلا أنْ يُفيدَ البدلُ توكيداً، وإحاطة شمولٍ، واستدلَّ بهذه الآيةِ، وبقول الآخر: [الطويل] 2098 - فَمَا بَرِحَتْ أقْدَامُنَا فِي مُقَامِنَا ... ثَلاَثَتِنَا حَتَّى أزيرُوا المَنَائِيَا بجر «ثَلاَثِينَا» بدلاً من «نَا» ، ولا حُجَّة فيه؛ لأنَّ «ثَلاَثَتِنَا» توكيدٌ جارٍ مَجْرى «كُلّ» . قال القُرْطُبِي: وقرأ زَيْدُ بن ثابتٍ: «لأولَيْنَا وأُخْرَيْنَا» على الجَمْعِ قال ابنُ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يَأكُلُ منهما آخرُ النَّاس كما يَأكُل أوَّلهُم. قوله: «وآيةً» : عطف على «عيداً» ، و «منك» . فصل رُوِي أنَّ عيسى - عليه السلام - اغتسلَ ولبس المسْحَ، وصلَّى ركْعَتَيْن، فَطَأطَأ رَأسَهُ، وغضَّ بصرَهُ وبَكَى وقال: «اللهم ربنا أنزل علينا مائدة من السماء تكون لنا عيداً لأولنا وآخرنا» أي: عائِدَة من الله علينا حُجَّةً وبُرْهَاناً، والعيدُ يومُ السُّرورِ، سُمِّي به الجزء: 7 ¦ الصفحة: 612 لِلْعَوْدِ من التَّرَحِ إلى الفَرَح، وهو اسم لما اعتدته يَعُودُ إليك، وقد تَقدَّم. وقال السدي: مَعْنَاهُ يُتَّخَذُ اليومُ الذي أنْزِلَتْ فيه عِيداً لأوَّلنا لأهلِ زماننا، وآخرنا لمن يجيء بَعْدَنا. وقال ابنُ عباسٍ: يأكلُ منها آخِرُ النَّاسِ كما أكَلَ أوَّلُهُم. قوله: «وآيةً مِنْكَ» دِلاَلَةً وحُجَّةً. قيل: نَزَلَتْ يوم الأحد، فاتَّخَذَهُ النَّصَارى عِيداً. وقوله «وارْزُقْنَا» أي: طعاماً نَأكُلُه {وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين} . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 613 قرأ نافعٌ وابنُ عامرٍ وعاصمٌ: «مُنَزِّلُهَا» : بالتشديد، فقيل: إنَّ أنْزَلَ ونَزَّلَ بمعنًى، وقد تقدَّم تحقيق ذلك، وقيل: التشديدُ للتكثير، فإنها نزلت مرَّاتٍ متعددة. قوله: «بَعْدُ» : متعلِّق ب «يَكْفُرْ» ، وبُنِي؛ لقَطْعِه عن الإضافة؛ إذ الأصل: بَعْدَ الإنْزَالِ، و «مِنْكُمْ» متعلِّقٌ بمحذوفٍ؛ لأنه حال من فاعل «يَكْفُرْ» ، وقوله: «عَذَاباً» فيه وجهان: أظهرهما: أنه اسمُ مصدرٍ بمعنى التعذيب، أو مصدرٌ على حذفِ الزوائد؛ نحو: «عَطَاء ونَبَات» ل «أعْطَى» و «أنْبَتَ» ، وانتصابُهُ على المصدريَّة بالتقديرين المذكورين. والثاني - أجازه أبو البقاء -: أن يكون مفعولاً به على السَّعَة، يعني: جَعَلَ الحَدَثَ مفعولاً به على السَّعة؛ مبالغةً، وحينئذٍ يكون نصبه على التشبيه بالمفعول به، والمنصوبُ على التشبيه بالمفعول به عند النحاة ثلاثةُ أنواعٍ: معمولُ الصفةِ المشبهة، والمصدرُ، والظرفُ المتَّسَعُ فيهما: أمَّا المصدرُ، فكما تقدَّم، وأمَّا الظرفُ، فنحو: «يَوْمَ الجُمُعَةِ صُمْتُهُ» ، ومنه قوله في ذلك: [الطويل] 2099 - وَيَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً ... قَلِيلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نَوَافِلُهْ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 613 قال الزمخشريُّ: «ولو أُريدَ بالعذاب ما يُعَذَّبُ به، لكان لا بُدَّ من البَاءِ» قال شهاب الدين: إنما قال ذلك؛ لأنَّ إطلاقَ العذاب على ما يُعَذَّبُ به كثيرٌ، فخاف أن يُتوهَّمَ ذلك، وليس لقائلٍ أن يقول: كان الأصلُ: بِعَذَابٍ، ثم حذفَ الحرف؛ فانتصب المجرورُ به؛ لأنَّ ذلكَ لم يَطَّرِدْ إلاَّ مع «أنْ» و «أنَّ» بشرطِ أمْنِ اللَّبْسِ. قوله: «لاَ أعَذِّبُهُ» الهاءُ فيها ثلاثة أوجه: أظهرها: أنها عائدة على «عَذَاب» الذي تقدَّم أنه بمعنى التعْذِيب، والتقدير: فإنِّي أعَذِّبُهُ تَعْذِيباً لا أعَذِّبُ مِثْلَ ذَلِكَ التَّعْذيبِ أحَداً، والجملة في محلِّ نَصْبٍ صفةً ل «عَذَاباً» ، وهذا وجه سالمٌ من تَكَلُّفٍ ستَرَاهُ في غيره، ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا لوجه - أعني عودَها على «عَذَاباً» المتقدِّم - قال: «وفيه على هذا وجهان: أحدهما: على حَذْفِ حرف الجر، أي: لا أعَذِّبُ به أحداً، والثاني: أنه مفعولٌ به على السَّعة» . قال شهاب الدين: أمَّا قوله «حُذِفَ الحَرْف» ، فقد عرفْتَ أنه لا يجوز إلا فيما استثني. الثاني - من أوجه الهاء -: أنها تعودُ على «من» المتقدِّمة في قوله: «فَمَنْ يَكْفُرْ» ، والمعنى: لا أعَذِّبُ مِثْلَ عَذَاب الكَافِرِ أحَداً، ولا بُدَّ من تقدير هذين المضافَيْنِ؛ لِيَصِحَّ المعنى، قال أبو البقاء في هذا الوجهِ: «وفي الكلامِ حَذْفٌ أي: لا أعذِّبُ الكَافِرَ، أي: مثل الكافرِ، أي: مثل عذابِ الكَافر» . الثالث: أنها ضميرُ المصدرِ المؤكِّد؛ نحو: «ظَنَنْتُهُ زَيْداً قَائِماً» ، ولمَّا ذكر أبو البقاء هذا الوجه، اعترضَ على نفسه، فقال: «فإنْ قلْتَ:» لا أعَذِّبهُ «صفةٌ ل» عَذَاب «، وعلى هذا التقدير لا يعودُ من الصفة على الموصُوف شَيْءٌ، قيل: إنَّ الثانِيَ لما كان واقعاً موقعَ المصدر والمصدرُ جنْسٌ، و» عَذَاباً «نكرةٌ، كان الأوَّل داخِلاً في الثاني، والثاني مشتملٌ على الأوَّل، وهو مثل: زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ» . انتهى، فجعل الرابطَ العمومَ، وهذا الذي ذكرهُ من أنَّ الربْطَ بالعمومِ، إنما ذكره النحويُّون في الجملةِ الواقعةِ خبراً لمبتدأ، ولذلك نظَّره أبو البقاء ب «زَيْدٌ نِعْمَ الرَّجُلُ» ، وهذا لا ينبغي أن يُقاسَ عليه؛ لأن الربطَ يحصُلُ في الخبر بأشياءَ لا تجوز في الجملة الواقعةِ صفةً، وهذا منها، ثم هذا الاعتراضُ الذي ذكره واردٌ عليه في الوجه الثاني؛ فإنَّ الجملة صفةٌ ل «عَذَاباً» ، وليس فيها ضميرٌ، فإن قيل: ليست هناك بصفة، قيل: يَفْسُدُ المعنى بتقدير الاستئناف، وعلى تقدير صحَّته، فلتكنْ هنا أيضاً مستأنفةً، و «أحَداً» منصوبٌ على المفعُول الصريحِ، و «مِنَ العَالمِينَ» صفةٌ ل «أحداً» فيتعلَّق بمحْذُوف. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 614 فصل في معنى الآية معنى الآية الكريمة {فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ} أي: بَعْد إنْزَال المَائِدَة، {فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين} أي: جنس عذابٍ لا أعَذِّبُهُ أحَداً من العالمين - يعني: على زمانه - فَجَحَد القَوْمُ وكَفَرُوا بعد نُزُولِ المَائِدَة. قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: مُسِخُوا خَنَازِير، وقيل: قِرَدَةً، وقيل: جِنْساً من العَذَابِ، لا يُعذَّبُ به غَيْرُهُم. قال الزَّجَّاج: ويجُوزُ أن يكون ذَلِكَ العذابُ مُعَجَّلاً في الدُّنْيا، ويجُوزُ أن يكُون مُؤخَّراً في الآخِرَةِ. قال عَبْدُ الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «أنَّ أشَدَّ النَّاسِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ المُنَافِقُونَ، ومن كَفَر مِنْ أصْحَابِ المائدةِ وآلُ فِرْعَوْن» . واخْتَلَف العُلَماءُ - رضي الله تعالى عنهم - هَلْ نَزَلَتْ أمْ لا؟ . فقال مُجَاهِد، والحَسَن: لم تَنْزِلْ، فإنَّ الله تعالى لَمَّا أوْعَدَ على كُفْرِهم بَعْد نُزُولِ المائدة خافُوا أن يَكْفُر بَعْضُهُم، فاستعفوا وقالوا: لا نُرِيدُهَا؛ فلم تَنْزِلْ. وقوله: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} - يعني: إن سَألْتُم، والصَّحِيحُ الذي عَلَيْه الأكْثَرُون: أنَّها نَزَلَتْ لقوله تعالى: {إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ} ولا خُلْفَ في خبره، ولِتَوَاتُرِ الأخْبَارِ فيه عن رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّها نَزَلَت. وقيل لهم: إنَّها مُقِيمَةٌ لكم ما لم تَخُونُوا وتخبؤوا؛ فما مضَى يومها حتَّى خَانُوا وخَبُّئوا، فَمسخُوا قِرَدَةً وخَنَازير. قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: إنَّ عيسى - عليه السلام - قال لهم: صُومُوا ثلاثينَ يَوْماً، ثم سَلُوا اللَّه ما شِئْتُم يُعْطِيكُمْ، فَصَامُوا، فلمَّا فَرغُوا قالوا: يا عيسى: إنَّا لو عَمِلْنَا لأحدٍ قَضَيْنَا عَمَلَهُ لأطْعَمَنَا، وسَألُوا اللَّهَ المَائِدَة، فأقْبَلَتِ المَلائِكَةُ - عليهم الصَّلاة والسَّلام - بمائدةٍ يحمِلُونَهَا، عَلَيْهَا سَبْعَةُ أرْغِفَةٍ وسَبْعَة أخْوَان، حتَّى وضعتْهَا بين أيْدِيهِمْ، فأكَلَ مِنْهَا آخِرُ النَّاسِ كما أكَلَ أوَّلُهُم. قال كَعْبُ الأحْبار: نزلت مَنْكُوسَةً تطيرُ بها المَلائِكَةُ بين السماء والأرض، عليها كُلُّ الطَّعَامِ إلاَّ اللَّحْم. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 615 وقال سَعِيدُ بن جُبَيْر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -، عن ابنِ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أنْزَلَ على المَائِدَة كُلَّ شيءٍ إلاَّ الخُبْزَ واللَّحْمَ. قال قَتَادَةُ: كان عليها ثَمَرٌ من ثِمَار الجَنَّةِ. وقال عَطِيَّة العوفي: نَزَلَتْ من السَّمَاء سَمَكَةٌ فيها طَعْمُ كُلِّ شَيْء. وقال الكَلْبِيُّ: كان عَلَيْهَا خُبْزُ رُزٍّ، وبَقْلٌ. وقال وَهْبُ بن مُنَبِّه: أنْزَلَ اللَّهُ - تبارك وتعالى - قُرْصَةً من شَعِيرٍ وحِيتَاناً، فكان قَومٌ يأكُلُون ثم يَخْرجُون، ثُمَّ يَجِيءُ آخَرُون فَيَأكُلُون، حتَّى أكَل أجْمَعُهُم. وقال الكَلْبِيُّ ومُقَاتِل: أنْزَلَ اللَّهُ سَمَكاً وخَمْسة أرْغِفَةٍ، فأكَلُوا ما شاء اللَّهُ، والنَّاسُ ألْفٌ ونَيفٌ، فلمَّا رَجَعُوا إلى قُرَاهُم، ونَشَرُوا الحَديث، ضحكَ مِنْهُم مَنْ لم يَشْهَد؛ وقالُوا: ويْحَكُم، إنَّما سَحَر أعْيُنَكُم، فمن أرَادَ اللَّهُ به تعالى الخَيْرَ ثَبَّتَهُ على بَصِيرتِهِ، ومن أرادَ فِتْنَتَهُ رجَعَ إلى كُفْرِه، فَمُسِخُوا خَنِازِيرَ ليْسَ صَبِيٌّ ولا امْرَأةٌ، فَمَكَثُوا كَذَلِكَ ثلاثةَ أيَّامٍ، ثم هَلَكُوا، ولم يَتَوالَدُوا، ولم يَأكُلوا، ولَمْ يَشْرَبُوا، وكذلك كُلُّ مَمْسُوخٍ وقال قتادةُ: كانت تَنْزِلُ عليهم بُكرةً وعَشِيًّا، كالمَنِّ والسَّلْوى لِبَنِي إسْرَائِيل. وروَى عطاءُ بنُ أبي رباحٍ، عن سَلْمان الفَارِسِيّ: لما سَأل الحَوَارِيُّونَ المائدة، لَبِسَ عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - صُوفاً وبَكَى، وقال: «اللهم أنزل علينا مائدة من السماء» ، فنزلت سُفْرَةٌ حَمْراء بين غَمَامَتَيْنِ، غَمَامَة من تَحْتِهَا، وغَمَامَة من فَوْقِهَا وهُمْ يَنْظُرُون إلَيْهَا، وهي تَهْوي خَافِضَة، حتَّى سَقَطَتْ بين أيديهمْ، فَبَكَى عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقال: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي من الشَّاكرين، اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا رحْمَةً ولا تَجْعَلْهَا عُقُوبَةً، واليَهُود يَنْظُرون إلى شَيْء لم يَرَوا مِثْلَهُ قَطّ، ولم يَجِدُوا رِيحاً أطيب من ريحهِ، فقال عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -: لِيَقُمْ أحسَنُكُم عَمَلاً، فيكشف عنها، ويذكر اسم اللَّهِ تعالى، فقال شَمْعُون الصَّفَّار رَأسٌ من الحَواريِّين أنْتَ أوْلَى بذلك مِنَّا، فَقَامَ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فَتَوَضَأ وصلَّى وبكَى كَثِيراً، ثم كَشَفَ المِنْدِيل، وقال: بِسْم الله خير الرَّازِقين، فإذا سَمَكةٌ مشْويَّةٌ ليس عليها فلوسها ولا شَوْك تَسِيل من دَسِمِهَا، وعند رأسِها ملح وعنْد ذَنَبِها خلٌّ، وحولَهَا من أنْوَاع البُقُول مَا خَلاَ الكُرَّاث، وإذا خَمْسَةُ أرْغِفَةٍ على واحدٍ زَيْتُونٌ، وعلى الثَّاني عَسَلٌ، وعلى الثَّالِثَ سَمْن، وعلى الرَّابع جُبْنٌ، وعلى الخَامس: قَدِيدٌ، فقال شَمْعُون: يا رُوحَ اللَّه أمن طعامِ الدُّنْيَا هذا أوْ مِنْ طعامِ الآخِرة؟ قال: لَيْسَ مِنْهُمَا، ولكنَّهُ شَيْءٌ افْتَعَلَهُ اللَّهُ بالقُدْرَة العَالِيَة، كلوا ما سَألْتُم واشْكُرُوا اللَّه يُمْدِدكم ويَزِدْكُمْ من فَضْلِهِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 616 فقال الحَوَارِيُّون: يا رُوحَ الله كُنْ أوَّل من يَأكُلُ منها، فقال: مَعَاذ الله أنْ آكُلَ منها، ولكن يأكُلُ منها من سَألَهَا، فَخَافُوا أن يَأكُلُوا منها، فدَعَا أهْلَ الفَاقَةِ والمَرَضِ وأهْلَ البَرَصِ والجُذَامِ والمُقْعَدِين وقال: كُلُوا من رِزْقِ الله - عزَّ وجلَّ - لكم الهنَاءُ، ولِغَيْرِكُم البَلاَءُ، فأكَلُوا، وصدر عنها ألْفٌ وثلثمائة رَجُلٍ وامْرأةٌ من فَقِيرٍ، وزمن ومريضٍ، ومُبْتَلى كُل مِنْهُم شَبْعَان، وإذا السَّمَكَةُ كَهَيْئَتِهَا حين نزلت، ثُمَّ طارتِ المائدةُ صعداً وهم يَنْظُرُون إلَيْهَا حتَّى تَوَارَتْ، فلم يَأكُلْ منها زمنٌ ولا مَرِيضٌ ولا مُبْتَلى إلاَّ عُوفِي، ولا فَقِير إلاَّ اسْتَغْنَى، ونَدِمَ من لم يأكُلْ فلَبِثَتْ أرْبَعِين صَبَاحاً تَنْزِلُ ضُحًى، فإذا نَزَلَت اجْتَمَع الأغْنِيَاء والفُقَرَاء والصِّغَارُ والكبارُ والرِّجَال والنِّساءُ، ولا تزالُ منْصُوبةً يُؤكَلُ منها حتَّى إذا فاء الفيءُ طارت، وهم يَنْظُرُون في ظِلِّها حتى تَوَارَتْ عَنْهُم، فكانت تَنْزِلُ غِبّاً تَنْزِلُ يوماً ولا تَنْزِلُ يَوْماً كَنَاقَةِ ثَمُود، فأوْحى اللَّهُ - تبارك وتعالى - إلى عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -: اجعل مَائِدَتِي ورِزْقِي للفُقَرَاءِ دُون الأغْنِيَاء، فعظم ذلِكَ الأغْنِيَاء حتى شَكُّوا وشَككُوا النَّاسَ فيها، وقالُوا: تَرَوْن المائدةَ حقاً تَنْزِلُ من السَّمَاء؟ فأوْحَى الله - تبارك وتعالى - إلى عيسى: إنِّي شَرَطْتُ أنَّ من كَفَرَ بَعْد نُزُولِها، عَذَّبْتُهُ عَذَاباً لا أعَذِّبُهُ أحَداً من العالمِين، فقال - عليه السلام -: «إنْ تُعَذِّبْهُمْ فإنَّهُمْ عِبَادُكَ، وإن تَغْفِرْ لَهُم فإنَّك أنْتَ العَزيز الحَكِيمُ» فَمَسَخ اللَّهُ منهم ثلاثمائة وثلاثِين رجُلاً من لَيْلَتِهِمْ على فُرُشِهِم مع نِسَائِهِم، فأصْبَحُوا خَنَازِير يَسْعَون في الطُّرُقَات والكنَّاسَات، ويأكُلُون العُذْرَة في الحشُوشِ، وعاشُوا ثلاثة أيَّامٍ ثُمَّ هلكوا والعياذ باللَّه. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 617 اختلَفُوا في هذا القَوْلِ، هَلْ وقع وانْقَضَى، أو سيقع يوم القيامة؟ على قولين: الأول: قال بعضُهم: لمَّا رفعهُ إليه، قال له ذلك، وعلى هذا ف «إذْ» و «قَالَ» على موضوعهما منَ المُضِيِّ، وهو الظاهر، وقال بعضُهم: سيقولُه له يَوْمَ القيامة؛ لقوله - تبارك وتعالى قبله {يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل} [المائدة: 109] [الآية] ، وقوله بعد هذا: {يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ} [المائدة: 119] وعلى هذا ف «إذْ» ، و «قَالَ» بمعنى «يَقُولُ» ، وكونُها بمعنى «إذَا» أهونُ من قول أبي عُبَيْدٍ: إنها زائدةٌ؛ لأنَّ زيادةَ الأسماء ليْسَتْ بالسهلة. قوله: «أأنْتَ قُلْتَ» دخلت الهمزةُ على المبتدأ؛ لفائدةٍ ذكرها أهل البيان، وهو: أن الفعل إذا عُلِمَ وجودُهُ، وشُكَّ في نسبته إلى شخص، أولِيَ الاسْمُ المشكوكُ في نسبة الفعْلِ إليه للهمْزة، فيقال: «أأنْتَ ضَرْبٌ زَيْداً» ، فَضَرْبُ زَيْدٍ قد صدر في الوجود، وإنما الجزء: 7 ¦ الصفحة: 617 شُكَّ في نسبته إلى المخاطَبِ، وإنْ شُكَّ في أصل وقوعِ الفعلِ، أولِيَ الفعلُ للهمزة، فيقال: «أضَرَبْتَ زَيْداً» ، لم تَقْطع بوقوعِ الضرب، بل شَكَكْتَ فيه، والحاصلُ: أنَّ الهمزةَ يليها المشكوكُ فيه، فالاستفهامُ في الآية الكريمة يُراد به التقريعُ والتوبيخ لغير عيسى - عليه السلام - وهم المتَّخِذُون له ولأمِّه إلهَيْنِ، دخل على المبتدأ لهذا المعنى الذي ذكرناه؛ لأن الاتخاذَ قد وقع ولا بُدَّ، واللام في «للنَّاس» للتبليغِ فقط، و «اتَّخِذُوني» يجوز أن تكون بمعنى «صَيَّرَ» ، فتتعدَّى لاثنين، ثانيهما «إلَهَيْنِ» ، وأن تكونَ المتعدية لواحدٍ ف «إلَهَيْنِ» حالٌ، و {مِن دُونِ الله} فيه وجهان: أظهرهما: أنه متعلقٌ بالاتخاذ، وأجاز أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وبه بدأ - أن يكون متعلِّقاً بمحذوفٍ؛ على أنه صفةٌ ل «إلَهَيْنِ» . فإن قيل: كَيْفَ يَلِيقُ الاسْتِفْهَامُ بعلاَّمِ الغُيُوب؛ وأيضاً النَّصَارَى لا يَقُولُون بإلهِيَّة عيسى [- عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ومريم] . فالجوابُ عن الأول: أنَّه على سبيلِ الإنْكَارِ، وقَصْدُ هذا السُّؤال تَعْرِيفُهُ أنَّ قَوْمَهُ غيرُوا بعده، وادَّعَوْا عليه مَا لَمْ يَقُلْهُ. والجوابُ عن الثَّانِي: أنَّ النَّصَارى يَعْتَقِدُون أنَّ المُعْجِزَات الَّتِي ظَهَرَتْ على يَدِ عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - ومَرْيَم - عليها السَّلام - لم يَخْلُقْهَا الله تعالى، بل عيسى ابن مريم - عليهما الصَّلاة والسَّلام - فاللَّهُ ليس خَالِقُهمَا، فصحَّ أنهُم أثْبَتُوا في حَقِّ بَعْضِ الأشْيَاء كون عيسى - عليه السلام - ومريم إلهيْنِ من دُون الله، [مع أنَّ اللَّه لَيْس إلهاً لَهُ] ، فصحَّ بهذا التَّأويلِ هذه الحِكايَةُ. وقال القُرْطُبِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن قيل: النَّصَارَى لم يَتَّخِذُوا مَرْيَمَ إلهاً، فكَيْفَ قال ذَلِكَ فيهم؟ . فقيل: لمَّا كان من قَولِهِمْ أنَّهَا لَمْ تَلِدْ بَشَراً، وإنَّما وَلَدَتْ إلهاً، لَزِمَهُم أنْ يقُولُوا: إنَّها لأجْل البَعْضِيَّة بمثابة من ولدَتْه، فصارُوا حين لزمهُم ذلك بمثابَةِ القائِلين لهُ. فإن قيل: إنَّهُ - تبارك وتعالى - إن كان عَالِماً بعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - لم يَقُلْ ذلك، فلم خاطَبَهُ به؟ فإن قُلْتُم: الغَرَضُ مِنْهُ تَوْبِيخُ النَّصَارى وتَقْرِيعُهُم، فنقُولُ: إنَّ أحَداً من النَّصَارى لَمْ يَذْهَبْ إلى القَوْلِ بإلهيَّةِ عيسى ومريم مع القول بنَفْي إلهيَّةِ الله تعالى، فكيْفَ يجُوزُ أن يُنْسَبَ هذا القوْلُ إليْهِمْ، مع أنَّ أحَداً منهم لَمْ يَقُلْ به؟ . فالجوابُ: أنَّ الله تعالى أرَادَ أنَّ عيسى يُقِرُّ على نَفْسِهِ بالعُبُودِيَّةِ فَيَسْمع قَوْمُهُ، ويَظْهَرُ كذبُهُمْ عليه أنَّه أمَرَهُم بذلك. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 618 قوله: «سُبْحَانَك» أي: تنزيهاً لك، وتقدَّم الكلام عليه في البقرة [الآية: 32] ، ومتعلَّقُه محذوفٌ، فقدَّره الزمخشريُّ: «سُبْحانَكَ مِنْ أن يكُونَ لك شَرِيكٌ» ، وقدَّره ابن عطية: «عَنْ أنْ يُقالَ هذا، ويُنْطَقَ به» ورجَّحَهُ أبو حيان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لقوله بَعْدُ: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ} . قوله: «أنْ أقُولَ» في محلِّ رفع؛ لأنه اسمُ «يكُونُ» ، والخبرُ في الجارِّ قبله، أي: ما يَنْبَغِي لي قولُ كذا، و «مَا» يجوزُ أن تكون موصولةً أو نكرةً موصوفةً، والجملةُ بعدها صلةٌ؛ فلا محلَّ لها، أو صفةٌ، فمحلُّها النصبُ، فإنَّ «مَا» منصوبةٌ ب «أقُولَ» نصب المفعول به؛ لأنها متضمِّنةٌ لجملة، فهو نظيرُ «قُلْتُ كلاماً» ، وعلى هذا فلا يحتاج أن يؤوَّل «أقُولَ» بمعنى «أدَّعِي» أو «أذْكُرَ» ، كما فعله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ وفي «لَيْسَ» ضميرٌ يعودُ على ما هو اسمها، وفي خبرها وجهان: أحدهما: أنه «لِي» ، أي: ما لَيْسَ مستقرّاً لي وثابتاً، وأمَّا «بِحَقٍّ» على هذا، ففيه ثلاثةُ أوجه، ذكر أبو البقاء منها وجهين: أحدهما: أنه حالٌ من الضمير في «لي» . قال: والثاني: أن يكون مفعولاً به، تقديره: ما ليس يَثْبُتُ لي بسببِ حقٍّ، والباءُ متعلِّقةٌ بالفعلِ المحذُوف، لا بنفسِ الجارِّ؛ لأنَّ المعانِيَ لا تعملُ في المفعول به. قال شهاب الدين: وهذا ليْسَ بجيِّدٍ؛ لأنه قدَّر متعلَّقَ [الخبر كوناً مقيَّداً، ثم حذفه، وأبقى معموله. الوجه الثالث: أنَّ قوله «بحَقٍّ» متعلقٌ] بقوله: «عَلِمْتَهُ» ، ويكون الوقْفُ على هذا على قوله «لِي» ، والمعنى: فققد عَلِمْتَهُ بِحَقٍّ، [وقد رُدَّ] هذا بأنَّ الأصْل عدمِ التقديم والتأخير، وهذا لا ينبغي أن يُكتفى به في ردِّ هذا، بل الذي منه من ذلك: أنَّ معمول الشرط أو جوابه لا يتقدَّم على أداة الشرط، لا سيَّما والمَرْوِيُّ عن الأئمةِ القُرَّاءِ الوقفُ على «بِحَقٍّ» ، ويَبْتَدئُونَ ب {إِن كُنتُ قُلْتُهُ} ، وهذا مَرْوِيٌّ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجَبَ اتِّباعه. والوجه الثاني في خبر «لَيْسَ» : أنه «بِحَقٍّ» ، وعلى هذا، ففي «لِي» ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنه «يَتَبيَّنُ» ؛ كما في قولهم: «سُقْياً لَهُ» ، أي: فيتعلَّقُ بمحذوف. والثاني: أنه حالٌ من «بِحَقٍّ» ؛ لأنه لو تأخَّر، لكان صفةً له، قال أبو البقاء: «وهذا مُخَرَّجٌ على قول من يجُوِّزُ تقديم حال المجرُورِ عليه» [قلتُ: قد تقدَّم لك خلافُ النَّاسِ فيه] ، وما أوردوه من الشواهد، وفيه أيضاً تقديمُ الحالِ على عاملها المعنويِّ، فإنَّ « الجزء: 7 ¦ الصفحة: 619 بِحَقٍّ» هو العاملُ؛ إذ «لَيْسَ» لا يجوز أن تعمل في شيء، وإن قلنا: إنَّ «كان» أختها قد تعمل لأن «لَيْسَ» لا حدثَ لها بالإجماع. والثالث: أنه متعلِّقٌ بنفسِ «حَقّ» ؛ لأنَّ الباءَ زائدةٌ، و «حَقّ» بمعنى «مُسْتَحقّ» ، أي: ما لَيْسَ مستحِقًّا لي. فصل اعلم: أنَّه - تبارك وتعالى - لما سَألَ عيسى - عليه السلام - أنَّكَ هَلْ قُلتَ للنَّاسِ ذلك؟ لم يَقُلْ عيسى بأنِّي قُلْتُ، أو: ما قُلْتُ، بل قال: ما يكونُ لي أنْ أقُولَ هذا الكلام، وبدأ بالتَّسْبِيح قبل الجواب لأمرين: أحدهما: تَنْزِيهاً لَهُ على أنْ يُضيفَ إليه. والثاني: خُضُوعاً لِعِزَّتِه، وخَوْفاً من سَطْوتِهِ. ثُمَّ قال: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ} أي: أن أدَّعِي لِنَفْسِي بما ليس من حقِّها يعني: أنِّي مَرْبُوبٌ ولسْتُ بِرَبٍّ، وعَابِدٌ، ولسْتُ بِمَعْبُودٍ، ولمَّا بيَّن أنَّه ليس له أنْ يقول هذا الكلام، شَرَعَ في بيانِ أنَّهُ هَلْ وقع منه هذا القولُ أمْ لا؟ ولمْ يَقُلْ بأنِّي ما قُلْتُه، بل فوَّضَه إلى علمه تعالى المحيط بالكُلِّ، فقال: «إن كُنْتُ قُلْتُهُ فقدْ عَلِمْتَه بعلْمِكَ» ، وهذا مُبالغَةٌ في الأدبِ، وفِي إظهَارِ الذِّلَةِ والمَسْكَنَةِ في حَضْرَةِ الخلاَّقِ، وتَفْوِيض الأمْرِ بالكُلِّيَّةِ إلى الحقِّ - سُبحانَهُ وتعالى -. قوله: {إن كنت قلته} : «كنت» وإن كانت ماضية اللفظ فهي مستقبلة في المعنى، والتقدير: إن تَصِحَّ دعواي لما ذُكر، وقدَّره الفارسي بقوله: «إن أكن الآن قلتُه فيما مضى» لأنَّ الشرط والجزاء لا يقعان إلا في المستقبل. وقوله: «فقد عَلِمْتَ» أي: فقد تبيَّن وظهر علمُك به كقوله: {فَصَدَقَتْ} [يوسف: 26] و {فَكَذَبَتْ} [يوسف: 27] و {فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار} [النمل: 90] . قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} . قوله: {تعلمُ ما في نفسي} هذه لا يجوزُ أن تكونَ عرفانيةً، لأنَّ العرفان كما تقدم يستدعي سَبْقَ جهل، أو يُقْتَصَرُ به على معرفةِ الذات دونَ أحوالها حَسْبَ ما قاله الناس، فالمفعولُ الثاني محذوفٌ، أي: تعلمُ ما في نفسي كائناً موجوداً على حقيقته لا يخفى عليك منه شيءٌ، وأمَّا: «ولا أعلم» فهي وإن كان يجوزُ أن تكون عرفانيةً، إلا أنها لمَّا صارت مقابلةً لما قبلها ينبغي أن يكون مثلها، والمرادُ بالنفس هنا ما قاله الزجاج أنها تُطْلقُ ويُراد بها حقيقةُ الشيء، والمعنى في قوله {تعلم ما في نفسي} إلى آخره واضحٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 620 وقال: المعنى: تعلمُ ما أخفيه من سِرِّي وغيبي، أي: ما غابَ ولم أظْهِرْه، ولا أعلمُ ما تُخْفيه أنت ولا تُطْلِعُنا عليه، فذكر النفس مقابلةً وازدواجاً، وهذا منتزع من قول ابن عباس، وعليه حام الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه قال: «تعلمُ معلومي ولا أعلمُ معلومك» ، وأتى بقوله: {ما في نفسك} على جهةَ المقابلةِ والتشاكلِ [لقوله: «ما في نفسي» فهو] كقوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] ، وكقوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 14، 15] . وقيل: المعنى: تعلمُ ما عندِي ولا أعلمُ ما عندكَ. وقيل: تعلمُ ما في الدُّنْيَا، ولا أعلمُ ما يكونُ مِنْكَ في الآخِرَة. وقيل: تعلمُ بما أقُولُ وأفْعلُ، ولا أعْلَمُ بما تقول وتفعل {إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب} وهذا تأكيدٌ للجملتَيْنِ المُتقدِّمتَيْنِ. وتمسَّكتِ المُجسِّمَةُ بقوله «بِمَا في نفْسِكَ» ، وقالوا: النَّفْسُ إنَّما تكون في الشَّخْصِ. وأجيبُوا: بأنَّ النَّفْسَ عبارة عن الذاتِ، يقال: نَفْسُ الشَّيء وذاته بمعنى واحد، وأيضاً المراد: تعلم معْلُومِي ولا أعلم معلُومَك، ولكنَّه ذكر هذا الكلامَ على طريقِ المُقابلةِ والمُشاكلةِ. قال الزَّجاج: النَّفْسُ عبارةٌ عن جُمْلَةِ الشَّيء وحقيقتِهِ. قوله تعالى: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ} : هذا استثناءٌ مفرغ فإنَّ «ما» منصوبةٌ بالقول؛ لأنها وما في حيِّزها في تأويلِ مقول. وقدَّر أبو البقاء القول بمعنى الذكر والتأدية. و «ما» يجوزُ أن تكون موصولةً أو نكرةً موصوفةً. قوله تعالى: «أن اعبُدوا» في «أنْ» سبعةُ أوجهٍ: أحدها: أنها مصدرية في محلِّ جر على البدل من الهاء في «به» والتقديرُ: ما قلتُ إلا ما أمرتني بأن اعبدوا، وهذا الوجه سيأتي عليه اعتراض. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ بإضمار «أعني» ، أي: إنه فسَّر ذلك المأمور به. الثالث: أنه في محلِّ نصب على البدل من محلِّ «به» في {ما أمرتني به} لأن محلَّ المجرور نصب. الرابع: أن موضعها رفعٌ على إضمار مبتدأ وهو قريبٌ في المعنى من النصب على البدلِ. الخامس: أنها في محل جر لأنها عطف بيان على الهاء في به. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 621 السادس: أنها بدلٌ من «ما» نفسها أي: ما قلت لهم إلا أن اعبدوا. السابع: أنَّ «أنْ» تفسيرية، أجازه ابن عطية والحوفي ومكي. وممن ذهب إلى جواز أنَّ «أنْ» بدلٌ مِنْ «ما» فتكونُ منصوبة المحلِّ أو من الهاء فتكونُ مجرورته أبو إسحق الزجاج، وأجاز أيضاً أن تكون تفسيريةً لا محلَّ لها. وهذه الأوجهُ قد منع بعضها الزمخشري، وأبو البقاء منع منها وجهاً واحداً وهو أن تكون تفسيرية، أما الزمخشري فإنه منع أن تكون تفسيرية إلا بتأويل ذكره وسيأتي، وبدلاً من «ما» أو من الهاء في «به» . قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أنْ» في قوله: {أن اعبدوا الله} إنْ جعلتها مفسرةً لم يكن لها بُدٌّ من مفسِّر، والمفسِّر: إما أن يكون فعل القول أو فعل الأمر، وكلاهما لا وجه له؛ أما فعل القول فلأنه يُحْكى بعده الجمل ولا يتوسَّط بينه وبين محكيِّه حرفُ تفسير، وأما فعل الأمر فمستندٌ إلى ضمير الله تعالى، فلو فسَّرْتَه ب {اعبدوا الله ربي وربكم} لم يستقم لأن الله لا يقول: اعبدوا الله ربي وربكم، وإن جعلتها بدلاً لم يخلُ من أن تجعلها بدلاً من «ما» في {ما أمرتني به} ، أو من الهاء في «به» ، وكلاهما غيرُ مستقيم؛ لأنَّ البدل هو الذي يقوم مقام المبدلِ منه، ولا يُقال: ما قلتُ لهم إلا أن اعبدوا الله، أي: ما قلتُ لهم إلا عبادته لأنَّ العبادة لا تقال، وكذلك لو جعلتها بدلاً من الهاء، لأنك لو أقَمْتَ «أن اعبدوا» مقام الهاء [فقلت: إلا ما أمرتني بأن اعبدوا الله] لبقي الموصولُ بغير راجعٍ إليه من صلته، فإن قلت: كيف تصنع؟ قلت: يُحْمل فعلُ القول على معناه، لأنَّ معنى {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به} : ما أمرتُهم إلا بما أمرتني به، حتى يستقيم تفسيره ب {أن اعبدوا الله ربي وربكم} ، ويجوزُ أن تكون «أنْ» موصولةً عطفاً على بيانِ الهاء لا بدلاً. وتعقَّب عليه أبو حيان كلامه فقال: «أمَّا قوله وأمَّا فعلُ الأمر إلى آخر المنع [وقوله:» لأنَّ الله لا يقول اعبدوا الله ربي وربكم «فإنما لم يستقمْ لأنه جعل الجملة وما بعدها مضمومةً إلى فعل الأمر، ويستقيم أن يكون فعلُ الأمر مفسَّراً بقوله:» اعبدوا الله «ويكون» ربي وربكم «من كلام عيسى على إضمار» أعني «أي:» أعني ربي وربكم «، لا على الصفة التي فهمها الزمخشري فلم يستقم ذلك عنده، وأمّا] قوله:» لأن العبادة لا تُقال «فصحيحٌ، لكن يَصِحُّ ذلك على حذفِ مضاف أي: ما قلت لهم إلا القول الذي أمرتني به قول عبادة الله تبارك وتعالى أي: القولَ المتضمن عبادة الله تبارك وتعالى، وأمَّا قوله» لبقي الموصول بغير راجع إليه من صلته «فلا يلزمُ في كل بدل أن يَحُلَّ محلَّ المبدل منه، ألا ترى إلى تجويز النحويين:» زيد مررت به أبي عبد الله «ولو قلت:» زيدٌ مررتُ بأبي عبد الله «لم يجز إلا على رأي الأخفش. وأما قوله: «عطفاً على بيان الهاء» ففيه بُعْد، لأن عطفَ البيانِ أكثرُه بالجوامدِ الأعلامِ. وما اختاره الزمخشري وجوَّزه غيرُه لا الجزء: 7 ¦ الصفحة: 622 يَصِحُّ، لأنها جاءت بعد «إلا» ، وكلُّ ما كان بعد «إلا» المستثنى بها فلا بُدَّ أن يكون له موضعٌ من الإعراب، و «أن» التفسيرية لا موضعَ لها من الإعراب «. انتهى. قال شهاب الدين: أمَّا قوله:» إن ربي وربكم من كلام عيسى «ففي غاية ما يكون من البُعد عن الأفهام، وكيف يفهم ذلك الزمخشري والسياق والمعنى يقودان إلى أنَّ» ربي «تابعٌ للجلالة؟ لا يتبادر للذهن - بل لا يُقْبل - إلا ذلك، وهذا أشدُّ من قولهم» يؤدي إلى تهيئتة العامل للعمل وقطعه عنه «فآل قولُ الشيخ إلى أنَّ» اعبدوا الله «من كلام الله تعالى و» ربي وربكم «من كلام عيسى، وكلاهما مفسِّرٌ ل» أمرتَ «المسند للباري تعالى. وأمَّا قوله» يَصِحُّ ذلك على حذف مضاف «ففيه بعض جودة، وأما قوله:» إنَّ حلول البدل محلَّ المبدل منه غيرُ لازم «واستشهاده بما ذكر فغيرُ مُسَلَّم، لأنَّ هذا معارضٌ بنصِّهم، على أنه لا يجوز» جاء الذي مررت به أبي عبد الله «بجرِّ» عبد الله «بدلاً من الهاء، وعلَّلوه بأنه يلزمُ بقاءُ الموصول بلا عائدٍ، مع أنَّ لنا أيضاً في الربط بالظاهر في الصلة خلافاً قدَّمْتُ التنبيه عليه، ويكفينا كثرةُ قولهم في مسائل:» لا يجوزُ هذا لأن البدل يَحُلُّ محل المبدل منه «فيجعلون ذلك علةً مانعةً، يعرف ذلك من اطلع على كلامهم، قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ: فلولا خوفُ الإطالة لأوردْتُ منه مسائل شتى. وأمَّا قوله:» وكلُّ ما كان بعد «إلا» المستثنى به إلى آخره «فكلامٌ صحيح لأنها إيجابٌ بعد نفي فيستدعي تسلُّط ما قبلها على ما بعدها. ويجوز في» أنْ «الكسرُ على أصل التقاء الساكنين والضمُّ على الإتباع، وقد تقدَّم تحقيقُه ونسبتُه إلى من قرأ به في قوله:» فَمَنِ اضْطُرَّ «في البقرة [الآية 173] . و» ربي «نعت أو بدل أو بيان مقطوعٌ عن الإتباع رفعاً أو نصباً، فهذه خمسة [أوجهٍ] تقدَّم إيضاحُها. قوله: «شهيداً» خبر «كان» ، و «عليهم» متعلق به، و «ما» مصدريةٌ ظرفيةٌ أي: تتقدَّر بمصدر مضاف إليه زمان، و «دام» صلتها، ويجوز فيها التمامُ والنقصان، فإن كانت تامةً كان معناها الإقامة، ويكون «فيهم» متعلقاً بها، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنه حال، والمعنى: وكنتُ عليهم شهيداً مدة إقامتي فيهم، فلم يحتج هنا إلى منصوب، وتكون حينئذٍ متصرفةً، وإن كانت الناقصة لزمت لفظ المضيِّ ولم تكتفِ بمرفوع، فيكون «فيهم» في محلِّ نصب خبراً لها، والتقديرُ: مدة دوامي مستقراً فيهم، وقد تقدم أنه يقال: «دِمْتُ تدام» كخِفْتُ تخاف. قوله: {كنت أنت الرقيب عليهم} يجوز في «أنت» أن تكون فصلاً وأن تكون تأكيداً. وقرئ «الرقيبُ» بالرفع على أنه خبر ل «أنت» والجملةُ خبرٌ ل «كان» ، كقول القائل: [الطويل] 2100 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... الجزء: 7 ¦ الصفحة: 623 وُكُنْتَ عَلَيْهَا بِالمَلاَ أنْتَ أقْدَرُ وقد تقدَّم اشتقاق «الرقيب» . و «عليهم» معلَّقٌ به. و «على كلِّ شيء» متعلِّقٌ ب «شهيد» قُدِّمَ للفاصلة. فصل معنى الكلام {وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً} أي: كنتُ أشْهَدُ على ما يَفْعَلُون، ما دمتُ مُقِيماً فيهم، «فلمَّا تَوَفَّيْتَنِي» والمرادُ منهُ: الوفاةُ بالرَّفعِ إلى السَّماءِ من قوله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55] . و {كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ} ، قال الزجاج: الحَافِظُ عليهم بَعْد مُفارقَتِي عَنْهُم. فالشَّهِيدُ: المُشاهِد، ويجُوزُ حَمْلُه على الرُّؤيَة، ويجُوزُ حَمْلُهُ على العِلْمِ، ويجُوزُ حَمْلُه على الكلامِ بمعنى الشَّهَادَة، فالشَّهِيدُ من أسْمَاء الصِّفَاتِ الحَقِيقيَّةِ على جَمِيع التَّقْدِيرَاتِ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 624 فيه سؤالٌ: وهُو أنَّهُ كيف طلبَ المغفِرَة وهم كُفَّارٌ، واللَّهُ لا يغْفِرُ الشِّرْكَ؟ والجوابُ من وُجُوه: الأول: أنَّهُ تعالى لمَّا قال لعيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] ، عَلِمَ أنَّ قوماً من النَّصَارى حَكوا هذا الكلام عَنْهُ والحَاكِي هذا الكُفر لا يكُون كَافِراً، بل مُذْنِباً بكذبِهِ في هذه الحكايَةِ، وغُفْرَانُ الذَّنْبِ جَائِزٌ، فلهذا طلبَ المَغْفِرَة. والثاني: أنَّهُ يجُوزُ من الله - تعالى - أنْ يدخل الكُفَّارَ الجنَّة، ويدخل الزُّهَّاد النَّار؛ لأنَّ المُلْكَ مُلْكُهُ، ولا اعْتِرَاض لأحدٍ عليه، فكان غَرَضُ عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بهذا الكلامِ تَفْويض الأمُور كُلّها إلى الله - تعالى، وترك الاعْتِرَاض بالكُلِّيَّةِ، ولذَلِك ختم الكلام بقوله {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} أي: القادرُ على ما تُريدُ، الحكيم فيما تفعل لا اعتراض لأحد عليْكَ، وما أحسن ما قِيلَ: فإن أتَيْتُ ذَنْباً عظِيماً فأنْتَ للعَفْوِ أهْلٌ، فإن غَفَرْتَ، ففضلٌ، وإن جَزَيْتَ فعَدْلٌ. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 624 الثالث: معناهُ: «إن تُعذِّبْهُم» بإقامَتِهِم على كُفْرِهِمْ، و {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} بعد الإيمان، وهذا مستقيم على قَوْلِ السديِّ [رَحِمَهُ اللَّهُ] : إنَّ هذا السُّؤالَ عند رفعِهِ إلى السَّمَاءِ قَبْلَ يَوْمِ القِيَامَةِ؛ لأن الإيمان لا يَنْفَعُ في القِيَامةِ. الرابع: قيل هذا في فِرْقَتَيْنِ منهم، معناه: إن تُعذِّب مَنْ كفرَ مِنْهُم، وإن تغفر لِمَنْ آمَنَ منهم. قال القُرْطُبِي -[رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى]- في الجوابِ عن هذا السُّؤال، بأنَّه قال ذَلِكَ على وَجْهِ الاسْتِعْطَافِ لَهُمْ والرَّأفَة، كعطف السَّيِّد لِعَبْدِه، ولهذا لم يَقُلْ: فإنْ عَصَوْكَ. وقيل: قالهُ على وجْهِ التَّسليم لأمْرِه، والاسْتِجَارة من عَذَابه، وهو يَعْلَمُ أنَّهُ لا يَغْفِرُ لِكَافِرٍ. وأمَّا قول من قال: إنَّ عيسى - عليه السَّلام - لا يَعْلَمُ أنَّ الكَافِرَ لا يُغْفَرُ له، فقولُ من يَتَجَرَّأ على كتابِ الله - تبارك وتعالى -؛ لأن الأخْبَارَ من الله - تبارك وتعالى - لا تُنْسَخُ. وقيل: كان عند عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنَّهم أحْدَثُوا معَاصِي وعَمِلُوا بَعْدَهُ بما لم يأمُرْهُم به، إلاَّ أنَّهُم على عَمُودِ دينِهِ، فقال: {وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ} ما أحْدَثُوا بَعْدِي من المَعَاصِي. قوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} : تقدَّم نظيره [البقرة 32] ، وهي في قراءةِ الناس ومصاحفهم «العزيزُ الحكيم» ، وفي مصحف ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وقرأ بها جماعة: «الغفورُ الرحيم» ، وقد عبث بعض من لا يفهم كلام العرب بهذه الآية، وقال: «إنما كان المناسب ما في مصحف ابن مسعود» وخَفِي عليه أنَّ المعنى متعلق بالشرطين جميعاً، ويوضِّح هذا ما قاله أبو بكر بن الأنباري، فإنه نَقَلَ هذه القراءة عن بعض الطاعنين ثم قال: ومتى نُقِل إلى ما قاله هذا الطاعن ضَعُفَ معناه، فإنه ينفرد «الغفور الرحيم» بالشرط الثاني ولا يكون له بالشرط الأول تعلُّقٌ، وهو على ما أنزل الله وعلى ما أجمع على قراءته المسلمون معروف بالشرطين كليهما: أولهما وآخرهما، إذ تلخيصه: إنْ تعذبهم فإنك أنت العزيز الحكيم، وإن تغفرْ لهم فأنت العزيزُ الحكيم في الأمرين كليهما من التعذيب والغفران، فكأنَّ «العزيز الحكيم» أليقُ بهذا المكان لعمومه وأنه يجمع الشرطين، ولم يصلُحْ «الغفور الرحيم» أنْ يحتمل من العموم ما احتمله «العزيز الحكيم» . قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وكلامُه فيه دقةٌ، وذلك أنه لا يريد بقوله «إنه معروف بالشرطين إلى آخره» أنه جوابٌ لهما صناعةً، لأنَّ ذلك فاسدٌ من حيث الصناعةُ العربية؛ فإنَّ الأول قد أخذ جوابه وهو «فإنهم عبادُك» وهو جوابٌ مطابقٌ فإنَّ العبدَ قابل ليصرفه سيدُه كيف الجزء: 7 ¦ الصفحة: 625 شاء، وإنما يريد بذلك أنه متعلق بهما من جهة المعنى. فصل قوله: {فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} قيل: فيه تَقْدِيمٌ وتأخِيرٌ تقديرُهُ: وإنْ تغفِرْ لهم فإنَّهُم عبادُكَ، وإن تُعذِّبْهُم، فإنَّك أنْتَ العزيزُ في المُلْكِ، الحكيمُ في القضاءِ، لا يَنْقُصُ من عزِّك شَيءٌ، ولا يَخْرجُ عَنْ حُكْمِكَ، ويدخُلُ في حُكْمِهِ، وسِعَتْ رَحْمَتُهُ مَغْفِرةُ الكُفَّارِ، ولكِنَّه أخْبَرَ أنَّه لا يَغْفِرُ لَهُمْ، وهُوَ لا يُخلِفُ خَبَرهُ. روى عَمْرُو بنُ العَاصِ: «أنَّ النبيَّ - عليه الصَّلاة والسَّلام - تَلاَ قولَهُ تبارك وتعالى: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] الآية، وقول عيسى - عليه السَّلام:» إنْ تُعَذِّبْهُم فإنَّهُمْ عِبَادُك وإنْ تَغْفِرْ لَهُم فإنَّك أنْتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ «، فرفعَ يَديهِ وقال:» اللَّهُمَّ أمَّتِي، اللَّهُمَّ أمَّتِي «فقال اللَّهُ - عَزَّ وجَلَّ -: يا جِبْريلُ اذْهَبْ إلى مُحَمَّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام - وَرَبُّكَ أعْلَمُ، فسله ما يُبْكِيه، فأتَاهُ جِبْرِيلُ فسألَه، فأخْبَرَهُ رَسُولُ الله، فقال اللَّهُ: يا جبريلُ اذهبْ إلى رسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخْبِرْهُ وقلْ لَهُ إنَّا سَنُرْضِيكَ في أمَّتِكَ وَلاَ نَسُوءُكَ» . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 626 قرأ الجمهور «يومُ» بالرفع تنوين، ونافع بالنصب من غير تنوين واختاره أبو عبيدة ونقل الزمخشري عن الأعمش «يوماً» بنصبه منوناً، وابن عطية عن الحسن بن عياش الشامي: «يوم» برفعه منوناً، فهذه أربع قراءات. فأما قراءة الجمهور فواضحةٌ على المبتدأ والخبر، والجملةُ في محل نصب بالقول. وأمَّا قراءة نافع ففيها أوجه، أحدها: أنَّ «هذا» مبتدأ، و «يوم» خبره كالقراءة الأولى، وإنما بُنِي الظرفُ لإضافته إلى الجملة الفعلية وإن كانت معربةً، وهذا مذهب الكوفيين، واستدلُّوا عليه بهذه القراءةِ، وأمَّا البصريون فلا يجيزون البناء إلا إذا صُدِّرت الجملةُ المضافُ إليها بفعلٍ ماضٍ، وعليه قولُ النابغة: [الطويل] 2101 - عَلَى حينَ عَاتَبْتُ المشِيبَ على الصِّبَا ... فَقُلْتُ: ألَمَّا أصْحُ والشَّيْبُ وَازعُ الجزء: 7 ¦ الصفحة: 626 وخَرَّجوا هذه القرءاة على أن «يوم» منصوبٌ على الظرف، وهو متعلق في الحقيقة بخبر المبتدأ أي: هذا واقعٌ أو يقع في يوم ينفع، فيستوي هذا مع تخريج القراءة الأولى والثانية أيضاً في المعنى. ومنهم من خرَّجه على أنَّ «هذا» منصوبٌ ب «قال» ، وأشير به إلى المصدر فنصبه على المصدر، وقيل: بل أشير به إلى الخبر والقِصَص المتقدمةِ فيجري في نصبه خلافٌ: هل هو منصوبٌ نصب المفعول به أو نصبَ المصادر؟ لأنه متى وقع بعد القول ما يُفْهم كلاماً نحو: «قلت شعراً وخطبة» جَرَى فيه هذا الخلاف، وعلى كلِّ تقدير ف «يوم» منصوبٌ على الظرف ب «قال» أي: قال الله هذا القولَ أو هذه الأخبارَ في وقتِ نفع الصادقين، و «ينفع» في محلِّ خفضٍ بالإضافة، وقد تقدَّم ما يجوزُ إضافتُه إلى الجمل وأنه أحد ثلاثةِ أشياء. وأمَّا قراءة التنوين فرفعه على الخبريةِ كقراءة الجماعة، ونصبُه على الظرفِ كقراءة نافع، إلا أنَّ الجملةَ بعده في القراءتين في محل الوصفِ لما قبلها، والعائدُ محذوفٌ، وهي نظيرَُ قوله تعالى: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} [البقرة: 48] ، فيكونُ محلُّ هذه الجملة إما رفعاً أو نصباً. قوله: «صِدْقُهم» مرفوع بالفاعلية، وهذه قراءة العامة، وقُرِئ شاذاً بنصبه وفيه أربعة أوجه، أحدها: أنه منصوب على المفعول من أجله أي: ينفعهم لأجلِ صدقهم، ذكر ذلك أبو البقاء، وتبعه أبو حيان وهذا لا يجوزُ لأنه فات شرطٌ من شروط النصب، وهو اتحاد الفاعل، فإنَّ فاعلَ النفع غيرُ فاعل الصدقِ، وليس لقائلٍ أن يقول: «يُنْصب بالصادقين فكأنه قيل: الذين يَصْدُقون لأَجل صدقهم فيلزمُ اتحادُ الفاعل» لأنه يؤدي إلى أنَّ الشيء علة لنفسِه، وللقولِ فيه مجال. الثاني: على إسقاط حرف الجر أي: بصدقهم، وهذا فيه ما عرف من أن حذف الحرف لا يطَّرد. الثالث: أنه منصوب على المفعول به، والناصب له اسم الفاعل في «الصادقين» أي: الذين صدقوا صدقهم، مبالغةً نحو: «صدقْت القتال» كأنك وعدتَ القتالَ فلم تَكْذِبْه، وقد يُقَوِّي هذا نصبُه على المفعول له، والعامل فيه اسم الفاعل قبله. الرابع: أنه مصدرٌ مؤكد كأنه قيل: الذين يَصْدُقون الصدقَ كما تقول: «صَدَق الصدقَ» ، وعلى هذه الأوجه كلِّها ففاعلُ «ينفع» ضمير يعود على الله تعالى. فصل في معنى الآية أجْمَعُوا على أنَّ المُرادَ بِهَذَا اليَوْمِ هو يَوْمُ القِيَامةِ، والمَعْنَى: أنَّ صِدْقَهُم في الدُّنْيَا يَنْفَعُهُم في الآخِرَةِ؛ لأنَّ صِدْق الكُفَّار في القيامَةِ لا يَنْفَعُهُم، ألا ترى أنَّ إبْلِيس قال: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} [إبراهيم: 22] ، فَلَمْ يَنْفَعْهُ هذا الصِّدقُ، وهذا الكلامُ تَصْدِيقٌ من اللَّهِ تعالى لعيسى في قوله: {مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ} [المائدة: 117] . الجزء: 7 ¦ الصفحة: 627 وقيل: أرَادَ بالصَّادِقِين النَّبِيِّين. وقال الكَلْبِيُّ: يَنْفَعُ المُؤمنين إيمانُهُمْ. وقال قَتَادةُ: مُتَكَلِّمَان يَخْطُبَانِ يَوْمَ القيامةِ: عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وهو ما قَصَّ اللَّهُ عزَّ وجلَّ - وعَدُوُّ الله إبْلِيس، وهو قوله: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر} [إبراهيم: 22] فَصَدَقَ عَدُوُّ الله يومئذٍ، وكان قَبْلَ ذلك كَاذِباً، فلم يَنْفَعْهُ صِدْقُهُ، فأمَّا عيسى - عليه السَّلام - فكان صَادِقاً في الدُّنْيَا والآخِرَة فَنَفَعَهُ صِدْقُه. وقال بَعْضُهُمْ: المرادُ صِدْقُهُمْ في العملِ للَّهِ في يومٍ مِنْ أيَّامِ الدُّنْيَا؛ لأنَّ دَارَ الآخِرَة دارُ جَزَاءٍ لا دار عَمَلٍ. وقيل: المراد صِدْقُهُمْ في الآخِرَة وذلك في الشَّهادةِ لأنْبِيَائِهِم بالبلاغِ، وفيما شَهِدُوا به على أنْفُسِهِمْ كالعَدَمِ من أعْمالِهِمْ، ويكُونُ وجْهُ النَّفْع فيه أن يَكُفُّوا المُؤاخَذَة بِتَرْكِهِم كَتم الشَّهادَة، فيُغفَرُ لهم بإقْرَارِهِم لأنْبِيَائِهِم على أنْفُسِهِم، ثُمَّ بين ثَوَابَهُم، فقال: {لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} ، فبيَّن أنَّ ذلك النَّفْع هو الثَّوابُ، وهو حَقِيقَةٌ خالِصَةٌ دائِمَةٌ مَقْرُونَةٌ بالتَّعْظِيم. واعلم: أنَّه تبارك وتعالى إنَّما ذكر الثَّواب، قال: {خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً} ، فيذْكرُ معه لَفْظ التأبيد، وإنَّمَا ذكر عِقَابَ الفُسَّاقِ من أهْلِ الإيمان، فَيذْكرُ مَعَهُ لَفْظ الخُلُودِ، ولم يَذْكُرْ مَعَهُ لفظ التَّأبِيدِ وقوله: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ} معناه الدعاءُ. {وَرَضُواْ عَنْهُ ذلك الفوز العظيم} الجُمْهُور على أنَّ قوله: {ذلك الفوز العظيم} عائِدٌ إلى جُمَلةِ ما تقدَّم من قوله: «لَهُمْ جَنَّاتٌ» ، إلى قوله: «ورضُوا عَنْهُ» . قال ابنُ الخطيب: وعِنْدِي أنَّه يُحْتَمَل أنْ يكون مُخْتَصّاً بقوله: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} ؛ لأنَّه ثَبَتَ عند أربَابِ العُقُولِ، أن جُمْلة الجنَّة بما فِيهَا بالنِّسْبَةِ إلى رضوان الله - تبارك وتعالى - بالنِّسْبَةِ إلى الوُجُودِ، وكيْفَ والجنَّة مَرْغُوبُ الشَّهْوَة، والرِّضْوَان صفةُ الحقِّ، وأيُّ مُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا! ثم قال - تبارك وتعالى - مُعَظِّماً لِنَفْسِهِ: {للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . قيل: إنَّ هذا جواب عن سُؤالٍ مُقَدَّرٍ، كأنَّهُ قيل: من يُعْطِيهِمْ ذلك الفَوْز العَظِيم، فقيل: الذي لَهُ مُلْك السمواتِ والأرْضِ. قال القرطبي: جاء هذا عقب ما جرى من دعوى النصارى في عيسى أنه إله فأخبر الجزء: 7 ¦ الصفحة: 628 تعالى أن ملك السموات والأرض له دون عيسى ودون سائر المخلوقين، ويجوز أن يكون المعنى أن الذي له ملك السموات والأرض يعطي الجنات المتقدم ذكرها للمطيعين من عباده واعلم: أنَّهُ - تبارك وتعالى - قال: «ومَا فِيهِنَّ» ولم يَقُلْ: مَنْ فيهِنَّ، فَغَلَّبَ غَيْرَ العُقَلاَءِ على العُقَلاَءِ لفائِدَةٍ وهي: التنْبِيهُ على أنَّ كُلَّ المَخْلُوقَاتِ مُسَخَّرُون في قَبْضَةِ قَهْرِهِ وقُدْرَتِهِ وقَضَائِهِ وقدرِه، وهُمْ في ذلك التَّسْخِيرِ كالجَمَادَاتِ الَّتِي لا قُدْرَةَ لَهَا، وكالْبَهَائِمِ الَّتِي لا عَقْلَ لَهَا، فعلْمُ الكُلِّ بالنِّسْبَةِ إلى عِلْمِه كَلاَ عِلْم، وقُدْرَةُ الكُلِّ بالنِّسْبَةِ إلى قُدْرَتِهِ كَلاَ قُدْرَة. رُوِي أنَّ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ سُورة المائدةِ في خُطْبَتِهِ يَوْمِ حجَّة الوَدَاع، وقال: «يا أيُّهَا النَّاسُ: إنَّ سُورة المائدةِ من آخِرِ القُرْآنِ نُزُولاً، فأحِلُّوا حَلاَلَهَا وحَرِّمُوا حَرَامَهَا» . وقال عَبْدُ الله بنُ عُمَر: أنْزِلَتْ على رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سُورَةُ المَائِدةِ وهُو عَلَى راحِلَتِهِ، فَلمْ تَسْتَطِعْ أن تَحْمِلَهُ حَتَّى نَزَلَ عَنْهَا. وعن أبيِّ بن كَعْبٍ قال: قال رسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرأ سُورَةَ المائِدةِ أعْطِيَ مِنَ الأجْرِ بِعَدَدِ كُلِّ يَهُوديٍّ ونَصْرَانِيٍّ يَتَنَفَّسُ في دَارِ الدُّنْيَا عَشْرَ حَسَنَاتٍ، وَمُحِيَ عَنْهُ عَشْرُ سَيِّئَاتٍ، ورُفِعَ لَهُ عَشْرُ دَرَجَاتٍ» واللَّهُ - تبارك وتعالى - أعلمُ بالصَّوَاب. الجزء: 7 ¦ الصفحة: 629 سورة الأنعام وهي مائة وستون وخمس آيات، وكلماتها ثلاثة آلاف واثنتان وخمسون كلمة، وحروفها اثنا عشر ألفا وأربعمائة واثنان وعشرون حرفا. نزلت ب " مكة " [المشرفة] جملة ليلا، معها سبعون ألف ملك، قد سدوا الخافقين لهم، وهل بالتسبيح، والتحميد والتمجيد، فقال النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: سبحان ربي العظيم سبحان ربي العظلم [وبحمده الكريم] وخر ساجدا. وروي عنه مرفوعا " من قرأ سورة الأنعام يصلي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره ". وقال الكلبي - رحمه الله تعالى -: عن أبي صالح عن ابن عباس نزلت سورة الأنعام ب " مكة " إلا قوله: {وما قدروا الله حق قدره} [الأنعام: 91] إلى آخر ثلاث آيات، وقوله تعالى: {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم} [الأنعام: 151] إلى قوله تعالى: " تتقون " فهذه الست آيات مدنيات. وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " ما نزلت علي سورة من القرآن جملة واحدة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 3 غير سورة الأنعام " [وما جمعت الشياطين لسورة من القرآن جمعها لها، ولقد بعث بها إلي مع جبريل - عليه السلام - ومعه خمسون ملكا أو خمسون ألف ملك ترفعها أو تحفها حتى أقروها في صدري كما أقر ماء في الحوض، ولقد أعزني الله بها وإياكم بها عزا لا يذلنا بعده أبدا وبها دحض حجج المشركين وعد من الله لا يخلفه. وعن المنكدر لما نزلت سورة " الأنعام " سبح رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: " لقد شيع هذه السورة من الملائكة ما سد الأفق ". قال الأصوليون: وسبب هذه الفضيلة أنها اشتملت على دلائل التوحيد والنبوة والمعاد، وإبطال مذهب المبطلين والملحدين، وذلك يدل على أن علم الأصول في غاية الرفعة] . بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 قَالَ كَعْبُ الأحْبار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هذه الآيةُ [الكريمة] أوَّلُ آية في التوراة، وآخرُ آية في التوراة قوله تعالى: {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك} [الإسراء: 111] الآية الكريمة. قال ابنُ عَبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: فَتَحَ اللَّهُ بالحَمْدّ، فقال: «الحَمْدُ اللَّه الذي خلق السَّموات والأرضَ» ، وخَتَمَهُمْ بالحَمْدِ، فقال: «وقَّضَى بَيْنُمُ بالحقِّ» ، وقيل: {الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين} [الرمز: 75] . فقوله: «الحمدُ لِلِّهِ» فحمد اللِّهُ نَفْسَهُ تعليماُ لعباده، أي: احمدوا اللِّهَ الذي خَلَقَ السَّمواتِ والأرْضَ خصمها بالذِّكر؛ لأنَّهما أعْظَمُ المَخْلُوقَات فيما يرى العِبَادُ، وفيهما العبرةُ والمنافعُ للعباد. وأعلم أنَّ المَدْحَ أعَمُّ من الحَمْدِ، والحَمْدُ أعَمُّ من الشكرِ؛ لأنَّ المْدْحَ يَحْصُلُ للعاقل وغي العاقلِ، فكما يُمْدَحُ الرَّجُلُ العاقلُ بفضله، كذلِك يُمْدَحُ اللُّؤلُؤ لحُسْنِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 4 شَكْلِهِ، ولَطَافَة خِلْقَتِهِ، ويُمْدَحُ اليَاقُوتُ لِصَفَائه وضقَالِته. وأمَّا الحمْدُ فلا يحصلُ إلاَّ للفعال المُخْتَارِ على ما يَصْدُرُ عنه من الإنعام، وإنَّما كونُ الحَمْدِ أعم من الشُّكْر؛ فلأنَّ الحّمْد عبارة عن تعظيم الفاعل لأجل ما صدر عنه من الإنعام، سواء كان ذلك الإنعام واصلاً إليك أو إلى غيرك. وأمَّا الشُّكْرُ فهو عِبَارةٌ عن تعظيمه لأجل إنعام وصل إليكَ، وإذا عُرِفَ ذلك، فإنَّمَا لَمْ يَقُلْ: المَدْحُ لله تبارك وتعالى لأنَّا بَيَّنَّا أنَّ المَدحَ كما يَحَصُلُ للفاعل المختار، فقد يَحْصُلُ لغيره. وأمَّا الحَمْدُ فلا يَحْصُلُ إلا للفاعل المختار، وإنَّما لم يَقُلْ: «الشُّكر لِلَّهِ» لَمَا بَيَّنَّا أنَّ الشُّكْرَ عبارة عن تعظيم تسبب إنعام صدر منه، فيكون المطلوب الأصلي، وقبول النعمة إليه، وهذه دَرَجَةٌ حقيرةٌ. وقوله: «الحَمْدُ لِلَّهِ» يَدُلُّ على أنَّ العَبْدَ حَمَدَهُ لأجل كونه مستحقاً للحمدِ، لا لخصوص كونه - تعالى - أوْصَلَ النَّعْمَةَ إليه فَيَكُونُ الإخلاصُ. فصل في بيان لفظ الحمد قوله: «الحَمْدُ» لفظٌ محلَّى بالألف واللام، فيفيد أنَّ هذه الماهية للَّهِ، وذلك يَمْنَعُ من ثبوت الحَمْدِ لغير الله، وهذا يقتضي أنَّ جميع أقْسَام الحَمْدِ والثناء والتعظيم ليس إلاَّ للَّهِ تبارك وتعالى، فإن قيل: إنَّ شُكْرَ المُنْعِمِ واحب مِثلَ شُكْرِ الأسْتَاذِ على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 5 تعليمه، وشُكرِ السلطانِ على عَدْلَه، وشكر المُحسِن على إحسانه، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ لم يَشْكُرِ النَّاسَ لَمْ يَشْكُرِ اللَّهَ» فالواجبُ أنَّ المَحْمُودَ والمَشْكُورَ في الحقيقة هو اللَّهُ تعالى؛ لأنَّ صدور الإحسان من [قلب] العَبْدِ يتوقف على حُصُول داعية الإحسان في قلب العبد، وحصول تلك الدَّاعية في القلب ليس من العَبْدِ، وإلاَّ لافْتَقَرَ في حصولها إلى داعيةِ أخْرَى، ولَزِمَ التَّسلسُلُ، بل حصولها ليس إلاَّ من اللَّهِ تعالى، فتلك الدَّاعِيةُ عند حصولها يجب الفعلِ، وعند زوالها يَمْتَنعُ الفِعْلُ فيكون المحسنُ في الحقيقة لَيْسَ إلاَّ اللَّه تبارك وتعالى، فيكون المُسْتَحِقُّ لكُلِّ حَمْدٍ في الحقيقةِ هو اللَّه تعالى. وأيضاً فإنَّ إحْسَانَ العَبْدِ إلى الغَيْرِ لا يَكْمُلُ إلاَّ بواسطة إحْسَانِ اللهِ تعالى؛ لأنَّه لولا أنَّ اللَّهَ - تعالى - خَلَقَ أنواع النِّعَمِ، وإلاَّ لم يقدر الإنسانُ على إيصالِ تلك الحِنْطَةِ والفواكه إلى الغَيْرِ، فظهر أنَّه لا محسن في الحقيقة إلاِّ اللَّهُ تعالى، ولا مُسْتَحِقَّ للحمد في الحقيقة إلا الله، فلهذا قال: «الحمد لله» . فصل في بيان قوله: «الحمد لله» بالألف واللام وإنَّما قال: «الحَمْدُ للَّهِ» ولم يقل: أحْمَدُ اللَّهَ؛ لأنَّ الحَمْدَ صفةُ القلب، فرُبَّمَا احْتَاجَ الإنسان إلى أن يذكر هذه الَّفْظَة حال كونه غافلاً عند اسْتِحْضَارَ معنى الحَمْدِ، فلو قال وقت غَفْلَتِهِ: أحْمَدُ الله [تبارك وتعالى] كان كَاذِباً، واسْتَحقٌّ عليه الذَّنْب والعِقَاب حيثُ أخبر عن وجود شيءٍ لم يُوجَدْ، فإذا قال: الحَمْدِ لله، فمعناه أنَّ ماهيَّةَ الحَمْدِ مُسْتَحِقَّةٌ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ، وهذا حقٌّ وصدقٌ، سواء كان معنى الحَمْدِ حَاضراً في قَلْبِه، أو لم يَكُنْ، وكان الكلام عِبَادَةٌ شَرِيفةً وطاعةً، وظَهرَ الفَرْقُ، واللَّهُ أعلمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 6 فصل هذه الكلمة مذكورة في أوائل خَمْسَةٍ، أوَّلهَا سورةُ «الفاتحة» {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] . وثانيها: هذه السورة {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} [الأنعام: 1] والأول أعَمُّ، لأنَّ العالمَ عبارةُ عن كل موجود سوى اللُّه تعالى. وقوله: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} لا يَدْخُلُ فيه إلاَّ خَلْقُ السماوات والأرض، والظُّلُمَات والنور، ولا يدخل فيه سَائِرُ الكائنات، فكان هذا بَعْض الأقسام الداخلة تحت التَّحْمِيدِ المذكور في سورة «الفاتحة» . وثالثها: سورةُ الكَهْفِ: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} [الكهف: 1] . وهذا أيضاً تحميدٌ مخصوصٌ بنوع خاصٍ من النعمة وهي نعمة العلم والمعرفَةِ والهِدايَةِ والقرآن، وبالجملة النعمُ الحاصلةٌ بسَبَب بَعْنَةِ الرُّسُلِ عليهم الصلاة والسلام. وراربعها: «سبأ» : {الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [الآية: 1] . وهذا أيضاً تحميدُ على كَوْنِهِ مَالِكاً لِكُلِّ ما في السَّمواتِ والأرضِ، وهو قِسْمٌ من الأقسام الدَّاخِلَةِ في قوله: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] . وخامسها: سورةُ «فاطر» {الحمد للَّهِ فَاطِرِ السماوات والأرض} [الآية: 1] . وهو أيضاً قِسْمٌ من الأقسام الدَّاخِلَةِ تحتَ قوله تبارك وتعالى: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] . فإن قيل: ما الفرقُ بين الخالق وبين الفاطرِ والرَّبِّ. وأيضاً لم قال هَاهُنا: «خَلَق السَّمواتِ والأرْضَ» بصيغة فعل الماضي، وقال في سورة «فاطر» : «الحَمْدُ للَّهش فاطر السَّمواتِ» بصيغة اسم الفاعل؟ . فالجواب عن الأول، أنَّ الخَلْقَ عبارة عن التَّقديرِ، وهو في حقِّ الله - تعالى - عبارةٌ عن علمه النَّافِذِ في جميع الكُلِّيات والجزئيات، وأمَّا كونُه فاطراً فهو عبارةٌ عن الإيجاد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 7 والإبداع، فكونه تعالى خالقاً إشارة إلى صفة العلم، وكونه فاطراً إشارة إلى صفة القدرة، وكونه تعالى رَبَّا ومُرَبياً على الأمْرَيْنِ فكان ذلك أكمل. وأمَّا الجَوابُ عن الثَّاني، فالحق أن الخَلْقَ عبارة عن التَّقدير، وهو في حقِّ الله - تعالى عبارةٌ عن علمه بالمَعْلُومَاتِ، والعلم بالشيء يصحُّ تقدُّمُهُ على وجود المَعْلُومِ؛ لأنه لا يمكن أن يعلم الشيء قَبَلَ وجوده، وأمَّا إيجادُ الشيء، لا يَحْصُل إلاَّ حالَ وجوده. فصل في قوله: «الحمد لله» قوله: «الحَمْدٌ للَّهِ» فيه قولان: الأول: المرادُ احْمَدُوا اللَّهَ، وإنَّما جاء على صِفَةِ الخَبَرِ لوجوده: أحدهما: أن قوله: «الحَمْدُ للَّهِ» يفيد تَعْظِيم اللفظ والمعنى، ولو قال: «احمدوا» لم يحصل مجموع هاتين الفاَئدتَيْن. وثانيهما: أنه يُفيدُ كونه - تعالى - مُسْتحقّاً للحَمْدِ سَوَاءً حَمِدّهُ حَامدٌ أو لم يَحْمَدْهُ. وثالثها: أنَّ المَقْصُودَ منه ذِكْرُ الحُجَّة فّذكْرُهُ بصيغة الخَبَرِ أوْلَى. والقول الثاني: أن المراد منه تعليم العِبَادِ، وهو قولُ أكثره المفسرين. قوله: {الذي خَلَقَ السماوات والأرض} فيه ثلاث سؤالات: السؤال الأول: قوله: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} جار مجرى قولك: «جاءني الرَّجُلُ الفَقِيهُ» فإن هذا يدلُّ على وجود رَجُل آخر ليس لفقيه، وإلاَّ لم يكن لِذِكْر ذلك فَائِدةٌ، وكذا هاهنا قوله: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض} يوهم أن هناك إلهاً لم يَخْلُق السماوات والأرض، وإلاَّ فأيُّ فائدة في ذِكْرِ هذه الصِّفَةِ. والجواب: أنا بَيَّنَّا أن قوله: «الله» جِارٍ مجرى اسم العلم، فإذا ذكر الوصف لاسم العلم لم يكن المقصود من ذكر الوَصْفش التمييز، بل تعريف كون ذلك الُسَمَّى مَوْصُوفاُ بتلك الصِّفَةِ. مثاله: إذا قلنا: الرِّجُلُ اسمٌ للمَاهِيَّةِ، فيتناول الأشخاص الكثيرين، فكان المقصود هاهنا من ذِكر الوصفِ تَمْييز هذا الرجل عن سَائِرِ الرجال بهذه الصفة. أمَّا إذا قلنا: زيدٌ العالم، فلفظُ «زيد» اسم عَلَم، وهو لا يُفيد إلا هذه الذَّات المُعَيَّنَة؛ لأنَّ أسماء الأعلام قائمة مَقَام الإشَارَاتِ، فإذا وَصَفْنَاهُ بالعلمية امتنع أنْ يكون المقصودٌ منه تَمْييز ذلك الشخص عن غيره، بل المقصود منه تعريف كون ذلك المُسمى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 8 مَوْصُوفاً بهذه الصفة ولما كان لفظ «الله» من باب أسماء الأعلام لا جِرَم كان الأمر على ما ذكرناه. السؤال الثاني: لم قَدِّمَ «السَّمَاء» على «الأرضِ» مع أنَّ ظاهر التنزيل يَدُلُّ على أنَّ خَلْقَ الأرْضِ مُقدَّمٌ على خَلْقِ السماءِ. فالجواب: أنَّ السَّمَاءَ كالدَّائرة، والأرْض كالمركز، وحُصُولُ الدَّائرة يوجبُ تعيين المَرْكَزِ، ولا يَنْعَكِسُ، فإنَّ حصول المَرْكَزِ لا يوجبُ تعيين الدَّائرةِ لإمْكَانِ أنْ يُحيطَ بالمركز الواَحِدِ دَوَائِرُ لا نهاية لها، فلمَّا تَقَدَّمت السماءُ على الأرضِ بهذا الاعتبارِ، وجب تقديم ذِكْرِ السماءِ على الأرض، وعلى قوله من قالَ: إنَّ السمواتِ مَخْلُوقَةٌ قَبْلَ الأرضِ، وهو قول قتادَةَ، فالسُّؤال زائدٌ. السؤال الثالث لم ذكر السماء بصيغة الجَمْع، والأرض بصيغة الواحدِ، مع أنِّ الأرضِينَ أيضاً كثيرةٌ لقوله: {وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12] ؟ . فالجوابُ: أنَّ السَّماءَ جَارِيَةٌ مجرى الفاعل، والأرض مجرى القابل، فلو كانت السَّمَاءُ واحدةً لتَشَابَهَ الأمرٌ، وذلك يخلُّ بمصَالِح هذا العَالَمِ، فإذا كانت كثيرةٌ اخْتَلَفَتِ الاتِّصَالاَتُ الكَوْكَبِيَّةُ، فحَصَلَ بسببها الفُصُولُ الأرَبعة، وسائر الأحوال المختلفة، وحَصَلَ بسبب تلك الاختلافات مصالح [هذا] العالم. أمَّا الأرض فهي قابلة للأثَرِ، والقَابِلُ الوَاحدُ كافٍ في القبول. قوله: {وَجَعَلَ الظلمات والنور} . «جَعَلَ» هنا تتعدَّى لمعفول واحد؛ لأنها بمعنى «خَلَقَ» ، هكذا عِبَارةُ النحويين، ظاهرها أنهما مُتَرَادِفَانِ، إلاَّ أنَّ الزَّمخْشَرِيَّ فَرَّقَ بينهما فقال: «والفَرقُ بين الخَلْقِ والجَعْلِ أنَّ الخَلْقَ فيه معنى التقدير، وفي الجَعْلض معنى التَّصْييرِ كإنشاء شيء من شيء أو تَصْييرِ شيء شيئاً، أو نَقْلهِ فيه معنى التقدير، وفي الجَعْلُ التَّصْييرِ كإنشاء شيء أو تَصْييرِ شيء شيئاً، أو نَقْلِهِ من مكان إلى مكان، ومن ذلك {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [الأعراف: 189] ، {وَجَعَلَ الظلمات والنور} ؛ لأنَّ الظُلمَاتِ من الأجْرَامَ المُتَكَاثِفَةِ، والنُّور مِنَ النَّارِ» . وقال الطَّبرِيُّ: «جَعَلَ» هنا هي التي تتصَرَّفُ في طَرَفِ الكلام، كما تقول: «جَعَلْتُ أفعل كذا» . فكأنه قال: «جَعَلَ إظلامها وإنارتها» ، وهذا لا يُشبه كلام أهل اللسان، ولكونها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 9 عند الزمخشري لَيْست بمعنى «خَلَقَ» فسَّرها هُنا بمعنى «أحدث» و «أنشأ» . وكذا الراغب جعلها بمعنى «أوْجَدَ» . ثم إنَّ أبَا حيَّان اعْتَرَضَ عليه هنا لمَّا اسْتَطْرَدَ، وذكر أنها تكون بمعنى صَيَّر ومثل بقوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] . فقال وما ذكر من أن جعل بمعنى صَيَّر في قوله {وَجَعَلُواْ الملائكة} [الزخرف: 19] لا يصحُّ؛ لأنهم لم يُصَيِّروهم إناثاً وإنما بعضُ النحويين أنها هنا بمعنى «سمَّى» . قال شهابُ الدين: ليس المُرَادُ بالتصيير بالفعل، بل المُراد التصيير بالقول، وقد نصَّ الزمخشري على ذلك، على ما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى، وقد ظهر الفرقُ بين تخصيص السَّمواتِ والأرض بالخَلْقِ، والظُّلُمَاتِ والنور بالجَعْل بما ذكره الزمخشري. فصل قال أبو العباس المقري: ورد لفظ الجَعْل في القرآن على خمسة أوجه: الأول: بمعنى «خلق» قال تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة} ، وقوله {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا} [فصلت: 10] ، وقوله: {جَعَلَ الليل والنهار} [الفرقان: 62] . والثاني: بمعنى «بعث» قال تعالى: {وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرا} [الفرقان: 62] . والثالث: بمعنى «قدره» قال تعالى {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً} [الزمر: 8] وقوله تعالى: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاَّ} [الزخرف: 19] وقوله تعالى: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً} [فصلت: 9] أي تقولون. الرابع: بمعنى «بَيّن» قال تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ} [الزخرف: 3] أي: بَيَّنَّاه بحَلالِه وحَرَامِهِ. الخامس: بمعنى «صَيَّرَ» قال تعالى: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّة} [الإسراء: 46] أي: صيرنا، وقوله {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} [التوبة: 19] ، وقوله {وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين} [النمل: 61] ، وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِم} [يس: 8] . فإن قيل: لِم وَحًّد النُّور، وجمعَ الظُّلمَاتِ. فالجواب من وجوه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 10 أحدهما: إنْ قُلْنَا: إنَّ الظُّلُمَاتِ هي الكُفُرُ، والنُّور هو الإيمان فظاهرٌ؛ لأنَّ الحقَّ واحِدٌ، والباطِلُ كثيرٌ. وإنْ قٌلنا: إنَّ الظُّلْمَة الكيفية المحسوسة، فالنُّور [عبارة] عن تلك الكَيْفِيَّةِ الكَامِلَةِ القَويَّةِ وكذلك الظُّلْمةُ الكاملة القوية، ثمَّ إنَّها التَّناقٌض [قليلاً] وتلك المَرَاتَبُ كثيرة، فلهذا عَبَّرَ عن الظُّلُمَاتِ بصيغة الجَمْع. وثانيها: أنَّ النُّور من جِنْسٍ واحِدٍ، وهو النار، والظُّلُمَاتِ كثيرة، فإنَّ مَا مِن جرْمٍ إلاَّ وله ظِلٌّ وظُلْمَةٌ. وثالثها: أنَّ الصِّلَةَ التي قبلها تقدمَّ فيها جَمْعٌ ثُمَّ مفردٌ، فعطفت هذه عليها كذلك، وقَدْ تقَّدمَ في «البقرة» الحِكْمَةُ في جَمْع السماوات، وإفراد الأرض. فإنْ قيل: لِمَ قُدِّمت الظُّلُمات [على النور] في الذكر؟ . فالجوابُ: لأنه مُوَافِقٌ في الموجودِ؛ إذا الظُّلمة قَبْلَ النُّور عِنْدَ الجمهور. فصل في المراد بالظلمات والنور قال الوَاقِدِيُّ: كُلُّ مَا في القرآنِ من الظُّلُمَاتِ والنُّورِ هو الكُفْرُ والإيمان، إلاَّ في هذه الآية، فإنَّهُ يُريُد به اللَّيْلَ والنَّهَارَ. وقال الحسنُ: المُرَادُ الكُفْرُ والإيمان. وقيل: المرادُ بالظُّلمات الجَهْلُن وبالنُّور العِلْمُ. وقال قتادة: يعني الجَنَّةَ والنَّار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 11 وقيل: معناها خَلْقُ السموات والأرض، وقد دجَعَلَ الظلمات والنُّور؛ لأنه خلقَ الظُّلْمَة والنُّور قبل السموات والأرضِ. قال قتادة: خلق الله السَّمواتِ قَبْلَ الأرض، وخَلَقَ الظُّلْمَةّ قَبْلَ النُّورِ، والجنَّة قبل النَّار. وروى عبد الله بن عمرو بن العَاص أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إن الله خَلَقَ خَلْقَهُ في ظُلْمَةٍ، ثُمَّ عَلَيُهِم مَنْ ذّلِكَ اهْتَدَى، ومَنْ أخْطأهُ ضَلَّ» . قوله تعالى: {ثْمَّ الذين كَفَرُواْ} . «ثُمَّ» هذه ليست للتَّرْتِيبِ الزَّمَاني، وإنِّما هي للتَّراخي بين الرُّتبتينِ، والمُرَادُ اسْتِبْعَادُ أنْ يَعْدِلوا به غيره مع ما أوضحَ من الدِّلالاتِ، وهذه عطفٌ: إمَّا على قوله: «الحمدُ لله» ، وإمَّا على قوله: «خَلَقَ السَّمواتِ» . قال الزمخشري: «فإن فما معنى» ثم «؟ قلت: استبعاد أنْ يَعْدِلُوا به بعد وضوح آيَاتِ قُدْرَتِهِ، وكذلك» ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُونَ «استبعاد لأنْ يمتروا فيه بعدما ثبتَ أنَّهث مُحْييهمْ، ومُميتُهُمْ وباعثهم» . وقال ابن عطية: «ثُمَّ» دَالَّةٌ على قُبْحِ فَعْلِ الذين كَفَرُوا، فإنَّ خلْقَهُ للسموات والأرض وغيرهما قد تَقَرَّرَ، وآيَاتُهُ قَدْ سَطَعَتْ، وإنُعَامُه بذلك قد تَبيَّنَ، ثمَّ مع هذا كُلِّهِ يَعْدِلُون به غيره. قال أبو حيَّان: ما قَالاَهُ من أنَّها للتَّوبيخ والاسْتِبْعَادِ ليس بصحيح؛ لأنها لم تُوضع لذلك، والاسْتِبعَادُ والتَّوْبِيخُ مُسْتَفَادٌ من الَسِّيَاقِ لا من «ثُمَّ» ، ولم أعلم أحداً من النحويين ذكر ذلك، بل «ثمَّ» هنا للمُهْلَةٍ في الزَّمَانِ، وهي عَاطِفَةٌ جملةً اسميةً [على جملةٍ اسميةٍ] يعني على «الحَمْدُ للِّهِ» . ثُمَّ اعترض على الزمخشري في تَجْوِيزِه أن تكون معطوفةً على «خَلَقَ» [لأنَّ « الجزء: 8 ¦ الصفحة: 12 خَلَقَ» ] صِلَةٌ، فالمعطوف عليها يُعطى حكمها، ولكن ليس ثم رابطٌ يعودٌ [منها] على الموصول. ثُمَّ قال: «إلاَّ أنْ يكون على رَأي من يَرَى الرَّبْطَ بالظَّاهِرِ كقولهم:» أبو سعيدٍ الذي رَوَيْتُ عن الخدري «وهو قليلٌ جداً لا ينبغي أنْ يُحْمَلَ عليه كتابُ اللِّهِ» . قال شهابُ الدين: إنَّ الزمخشري إنَّما يريدٌ العَطْفَ ب «ثم» لتراخي ما بين الرتبتين، ولا يريدُ التَّرَاخي في الزَّمَانِ كما قد صَرَّحَ به هو، فكيف يلزمه ما ذكر من الخُلُوِّ عن الرابط؟ . وكيفَ يتخيل كونها لِلمُهْلَة في الزمان كما أبو حيان. قوله: «بربِّهمْ» يجوز أن يتعلَّق ب «كَفَرُوا» ، فيكون «يَعْدلُون» وقدِّم للفَوَاصِلِ، وفي «الباء» حينئذٍ احتمالان: أحدهما: أن تكون بمعنى «عن» و «يَعْدلون» مِنَ العدول أي: يعدلون عن ربهم إلى غيره. والثاني: أنها للتعدية ويعدلون من العَدْلِ وهو التسوية بين الشَّيْئَيْنِ، أي: ثُمَّ الذين كفروا يُسَوونَ بربَّهم غَيْرَه من المَخْلُوقِينَ، فيكون المَفْعُولُ محذوفاً. وقيل معنى الآية كقول الفائل «أنْعَمْتُ عليكم بكذا، وتَفَصَّلْتُ عليكم بكذا، ثُم تكفرون نعمتي» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 أعلم أنَّ هذا الكلام يحتمل أن يكون المراد منه ذكر دليل آخر من دلائل إثبات الصانع سبحانه وتعالى، ويحتمل أن يكون الماد منه ذكرُ الدليل على صحة المعاد وصحة الحَشْرِ. أمَّا الأول فتقريره: أنَّهُ - تعالى - لمَّا اسْتَدَلَّ بِخَلْقِهِ السَّمواتِ وتَعَاقُبِ الظُّلماتِ والنُّور على وجود الصَّانع الحكيم أتْبَعَهُ الاسْتِدلالِ بخلقه الإنسان على إثبات هذا المَطْلُوب، فقال: «هُو الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ» ، والمراد منه خلق آدم [الأن آدَمَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 13 خلق] من طِين، وهو أبو البَشَرِ، ويُحتملُ أنَّ [يكون] المراد كَوْنَ الإنسان مَخْلُوقاً من المَنيَّ، ومن دَمِ الطَّمْثِ، وهما يَتَولدَان من الدَّم، والدَّمُ وإنَّما يَتَولَّدث من الأغْذِية [والأغذية] إمَّا حيوانية أو نَبَاتيَّة، فإن كانت حَيوانِيَّةَ كان الحالُ في [كيفية] تولُّد ذلك [الحيوان كالحال في كيفية تَوَلُّدِ الإنسان مخلوفاً من الأغدية النباتية، ولا شك أنها متولدة من الطين، فثبت أن كل إنسان متولد من الطين. إذا عرفت هذا فتقول: هذا الطِّينُ قد تَوَلدُّت النُّطفة منه بهذا الطريق المذكور. ثم تولّد من النُّطفَة أنواع الأعضاء المختلفة في الصِّفة، والصورة، واللون، والشكل] مثل القلب والدِّماغ والكبد، وأنواع الأعضاء البسيطةِ كالعظام والغَضاريفِ والرِّبَاطَاتِ والأوتار تولد الصفات المختلفة في المادة المُتَشَابِهَةِ، وذلك لا يمكنُ إلاَّ بتقْدير مُقدِّرِ حكيم. وإن قلنا: المقصود من هذا الكلام تقرير أمر المعاد، فلأن خَلْقَ بَدَنِ الإنسان وترتيبه على هذه الصفات المختلفة إنَّما حَصَل بقُدْرَةِ فاعل حكيم، وتلك الحكمة والقدرة باقيةٌ بعد موت الحَيَوانِ، فيكون قادراً على إعَادتِهَاّ وإعَادَةِ الحياة فيها؛ لأنَّ القادِرَ على إيجادها من العَدَم قادرٌ على إعَادَتِهَا بطريق الأوْلَى. قوله: «مِنْ طينٍ» فيه وَجْهَان: أظهرهما: أنه متعلّق ب «خَلَقَكُمْ» ، و «مِنْ» لابتداء الغَايَةِ. أظهرهما: أنه متعلّقٌ بمحذوف على أنه حَالٌ، وهل يحتَاج في هذا الكلام إلى حذف مضاف أم لا؟ فيه خلاف. ذهب [جماعة] كالمهدويِّ ومكي، إلى أنه لا حَدْفَ، وأنَّ الإنسان مَخْلُوقٌ من الطين. وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا مِنْ مَولُودٍ يُولَدٌ إلاَّ ويُذّرُّ على النُّطْفَةِ مِنْ تُرَابِ حٌفْرَتِهِ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 14 وقيل: إنَّ النُّطْفَةَ أصْلُهَا الطِّينٌ كما تقدَّم. وقال أكْثرٌ المُفَسِّرينَ: ثَمَّ محذوفٌ، أي: خَلَقَ أصْلكم أو أباكم من طينٍ، يعنون آدم وقَصَّتُهُ مشهورة. وقال امرؤ القيس: [الوافر] 2102 - إلَي عِرْقِ الُّثرَى رَسَخَتْ عُرُوقِي ... وهَذَا المَوْتُ يَسْلُبُنِي شَبَابِي قالوا: أراد بعِرْقِ الثَّرى آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لأنَّه أصلُه. فصل في بيان معنى «خلقكم من طين» قوله: {خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ} [يعني أباكم] آدم خاطبهم به، إذ كانوا من ولدِهِ. قال السُّديُّ: بَعَثَ اللهُ جِبْرِيلَ إلى الأرض لِيأتِيَهُ بطَائفةٍ منها، فقالت الأرْضُ: إنِّي أعُوذُ باللُّهِ منك أنْ اتنقضي مني، فرجع جبريل، ولم يأخذن قال يَا رَبَّ: إنَّها عَاذَتْ بِكَ، فبعث مِيكَائيل فاسْتَعَاذَتْ، فرجع، فبعث ملك الموت، فَعَاذَتْ منه باللِّهِ، فقال: وأنا أعوذُ بالله أن أخالف أمره فأخذ من وجه الأرض فخلط الحمراء والسوداء والبيضاء فلذلك اختلفت ألوان بني آدم، ثُمَّ عَجَنَهَا بالماء العَذْبِ والمِلْح والمُرّ، فلذلك اختلفت أخلاقهم، فقال اللَّهُ لِمَلكِ الموت: «رحم جبريل وميكائيلُ الأرْضَ، ولم ترحمهما لا جَرَمَ أجعل أرواح من خُلِقَ من هذا الطِّين بَيَدِكَ» . وروي عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «خَلَقَ اللِّهُ آدَمَ من أرضِ يقالُ لها دَجْناء» . قال الحسن: «وخَلقَ حُؤجُؤهُ من ضَرِيَّة» قال الجوهري: «ضَرِيَّة» قرية لبني كِلاب على طريق «البصرة» ، وهي إلى «مَكَّةَ» أقربُ. وعن ابن مسعود قال: إنَّ الله بعث إبليس، فأخَذَ من أديم الأرْضِ عَذْبِها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 15 وملحها، فخلقَ منه آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فكلُّ شيء خلقه من عَذْبها، فهو صائرٌ إلى الجَنَّةِ، وإن كان ابن كافر، وكُلُّ شيء خَلَقَهُ من ملحها فهو صائرٌ إلى النَّارِ وإنْ كان ابن تِقيِ؛ فَمنْ ثمَّ قال إبليسُ: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61] ؛ لأنَّه جاء بالطينة؛ فسمي آدم، خُلِقَ من أديم الأرض. وعن عبد الله بن سلام قال: خلق الله آدم في آخر يوم الجمعة. وعن عبد الله بن عباس قال: «لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ آدَم كان رأسُه يَمَسْ السماءِ - قال - فوطده إلى الأرض حتَّى صار ستِّينَ ذِرَاعاً في سَبْعَةِ أذْرُعٍ عَرْضاً» . وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في حديث فيه طول: وحَجَّ آدمُ - عليه السلام - من «الهِنْد» أربعين حجَّةُ على رِجْلَيْهِ، وكان آدمُ حين أُهبط تمسح رأسه السَّمَاء فمن ثَمَّ صَلَعَ، وأوْرثَ ولَدُهُ الصَّلعَ، ونفَرَت من طوله دواب الأرض، فصارت وحشاً من يومئذٍ، ولَمْ يَمُتْ حتىَّ بلغ ولده وولدُ ولدِه أربعين ألفاً وتوفي على ثور الجَبَلَ الذي أنزل؛ فقال شيث لجبريل: «صَلَّ عَلَى آدَمَ» فقال له جبريلُ: تقدَّم أنْتَ فصلِّ على أبيك كبر عليه ثلاثين تكبيرة، فأما خمس فهي الصلاة، وخمس وعشرون تفضيلاً لآدم. وقيل: وكبِّرْ عليه أربعاً، فجعل أبو شيث آدم في مَغَارةٍ، وجَعَلوا عليها حافظاً لا يَقْربُهُ أحدٌ من بين قابيل، وكان الذين يأتونه ويَسْتَغْفِرُون له «بنو شيث» وكان عُمْرُ آدم تسعمائة سنة وستاً وثلاثين سنة. قوله: «ثُمَّ قَضَى» إذا كان «قَضَى» بمعنى أظهر ف «ثُمَّ» للترتيبِ الزماني على أصلها؛ لأنَّ ذلك متأخِرٌ عن خَلْقِنا، وهي صفة فعل، وإن كان بمعنى «كَتَب» و «قَدَّر» فهي للترتيب في الذِّكرِ؛ لأنَّها صِفَةُ ذاتٍ، وذلك مُقدَّمّ على خَلْقِنا. قوله: {وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} مبتدأ وخبر، وسوِّغَ الابتداء هنا شيئان: أحدهماك وَصْفُهُ، كقوله: {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِن} [البقرة: 221] . والثاني: عَطْفُهُ ب «ثمَّ» والعطفُ من المُسَوِّغَاتِ. قال الشاعر: [البسط] 2103 - عِنْدِي اصْطِبَارٌ وشَكْوَى عِنْدَ قَاتِلْتِي ... فَهَلْ بأعْجَبَ مِنْ هَذَا امْرُؤّ سَمِعَا؟ والتنكير في الأجلين لإبهام، وهنا مُسَوَّغُ آخر، وهو التفصيل كقوله: [الطويل] 2104 - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفِهَا انْصَرَفَتْ لَه ... ُ بِشِقِّ وَشِقٌ عِنْدّنَا لَمْ يُحَوَّل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 16 ولم يَجِبْ هُنا تقديمُ إن كان المبتدأ نكرةً، والخبرُ ظرفاً، قال الزمخشري: «لأنَّه تخصَّصَ بالصفة فقاربَ المعرفة» . قال أبو حيَّان: «وهذا الذي ذَكَر من كَوْنِهِ مُسَوِّغاً للابتداء بالنكرة لكونها وُصِفَتْ لا تتعيَّنُ، لجواز أنْ يكونَ المُسَوِّغُ التفصيلَ» ثُمَّ أنشد البيت: - 2105 إذَا مَا بَكَى ... ... ... ... ... ... . ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . قال شهابُ الدين: والمزخشري م يَقُلْ: إنَّهُ تعيَّن ذلك حتَّى يُلْزِمَهُ به، وإنَما ذكر أشْهَرَ المسَّوغات فإنَّ العطف والتفصيل قَلَّ مَنْ يذكرُهما في المسوِّغات. قال الزمخشري: «فإنْ قٌلت: الكلامُ السَّائِرُ أن يُقال:» عندي ثَوْبٌ جيَّدٌ، ولي عبدٌ كَيِّسٌ «فما أوجب التقديم؟ . قلت: أوجبه أنَّ المعنى: وأيُّ أجَلٍ مسمى عنده، تعظيماً لشأن الساعة، فلمَّا جرى فيها هذا المعنى أوجب التقديم» . قال أبو حيان: وهذا لا يجوز؛ لأنه إذا كان التقدير: وأيُّ أجلٍ مسمى عنده كانت «أي» صفة لموصوف محذوف تقديره: وأجل مسمى عنه ولا يجوز حذفُ الصفةِ إذا كانت «أيّا» ولا حَذْفٌ موصوفها وإبقاؤها. لو قلت: «مررتُ بأيِّ رجل» تريدُ برجلٍ أيِّ رجل م يَجُزْ. قال شهاب الدين: ولم أدْرِ كيف يؤاخَدُ من فَسَّر معنّى بلفظٍ لم يَدِّع أن ذلك اللًّفْظَ هُوَ أصْلُ كلام المفسر، بل قال: معناه كيت وكيت؟ فكيف يلزمه أنْ يكَون ذلك الكلام الذي فَسَّر به هو أصْل ذلك المُفَسِّر؟ على أنَّه قَدْ وَرَدَ حَذْفُ موضوف «أيّ» وإبقاؤها كقوله: [المتقارب] 2106 - إذا حَارَبَ الحَجَّاجُ أيَّ مُنَافِقِ ... عَلاَهُ بِسَيفٍ كُلمَّاً هَزَّ يَقْطَعُ قوله: «ثُمَّ» أنْتُم تَمْتَرُونَ «قد تقدَّم الكلامُ على» ثُمَّط هذه. و «تمترون» تَفْتَعُون من المِرْيَةِ، وتقدَّم معنها في «البقرة» عند قوله: {مِنَ الممترين} [البقرة: 147] . وجعل أبو حيَّان هذا من باب الاتْتِفَاتِ، أعني قوله: «خَلَقكُمْ ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُون» ، يعني أنَّ قوله: «ثُمَّ الذين كفروا» غائبٌ، فالْتَفَتَ عنه إلى قوله: «خَلَقكُمْ ثُمَّ أنْتُم» ثُمَّ كأنَّه اعترض على نفسه بأنَّ خَلْقَكم وقضاءَ الأجلِ لا يَخْتَصُّ به الكُفَّار، بل المؤمنون مِثْلُهم في ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 17 وأجاب بأنِّه إنَّما قَصَدَ الكُفَّار تَنْبِيهاً لهم على خَلْقِهِ لهم وقُدرَتِهِ وقضائه لآجالهم. قال: «وإنِّما جَعَلْتُه من الالِتفَاتِ؛ لأن هذا الخطابَ، وهو» ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُون «لا يُمِكن أنْ يَنْدَرجَ فيه مَن اصْطَفاَهُ الله تعالى بالنبوَّة والإيمان» وأجَلٌ مسمَّى «مُسَمَّو؛ لأنه من مادة الاسم، وقد تقدَّم ذلك، فقُلبت الواوُ ياءً، ثم الياء ألفاً» . وتمرتون أصله «تَمْتَرِيُون» فَأعِلَّ كنَظَائِرِه. فصل في معنى «قضى» والقضاء قد يَرِدُ بمعنى الحكم، والأمر قال تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] وبمعنى صفة الفعل إذا تَمَّ، قال تعالى: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب} [الإسراء: 4] وبمعنى صفة الفعل إذا تَمَّ، قال تعال: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَات} [فصلت: 12] ومنه قولهم: «قضى فلان حاجةَ فلانٍ» . وأمَّا الأجَلُ فهو في اللُّغَةِ عبارةٌ عن الوَقْتِ المضروب لإنقضاء المُدَّةِ، وأجَلُ الإنسان هو المؤقت المضروب؛ لانقضاء عُمْرِهِ. وأجَلُ الدَّيْنِ: مَحلُّهُ لانْقِضَاءِ التأخير فيه، وأصْلُهُ من التَّأخيرِ يُقال: أجلَ الشَّيء يَأجَلُ أجُولاً وهو آجلٌ إذا تأخَّرَ، والآجلُ نقيض العَاجِلِ، وإذا عُرِفَ هذا فقوله، «ثُمَّ قَضَى أجَلاً» معناه: أنَّهُ - تعالى - خَصَّصَ موت كُلَّ واحَد بوقتٍ مُعَيَّنٍ، «وأجلٌ مُسَمَّى عِنْدهُ» قال الحَسَنُ: وقتادة، والضحَّاكُ: الأجَلُ الأوّل من الولادَةِ إلى الموت. والأجَلُ الثاني: مِنَ الموتِ إلى البَعْثِ، وهو البَرْزَخُ وروي عن ابن عبَّاس، وقال: لِكُلِّ أحَدٍ أجلان أجل من الولادة إلى الموت أدنى البعث في أجل العُمر، فإن كان بالعكس قاطِعاً للرحَّمِ نُقِصَ من أجَل العُمر وزيد في أجَلِ البَعْثِ مخافة. [وقال مجاهد] وسعيد بن جُبَيْرٍ: الأجَلُ الأوَّلُ أجَلُ الدنيا، والثَّاني أجَلُ الآخرة. وقال عطيةُ عن ابن عبَّاس: الأجَلُ الأوَّل: النَّوم، والثاني: الموتُ. وقال أبو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 18 مُسلِم: المرادُ بالأجَلِ الأوَّلٍ: آجال الماضين من الخَلْقِ وقوله: «وأجَلٌ مُسَمَّى عِنْدَهُ» : المرادُ منه آجَالُ الباقين، فخضَّ هذا الأجل الثاني، بكونه مُسَمَّ عِندهُ؛ لأن الماضين لما ماتوا صارت آجالهُمْ معلومة، فلهذا المعنى قال: «وأجل مسمى عنده» وقيل: الأجَلُ الأوَّلُ: الموت، والأجَلُ المُسَمَّى عِنْدَ الله تعالى هو أجَلُ القيامة لأن مُدَّة حياتهم في الآخرة، لا آخِرَ لها ولا انْقِضَاءَ، ولا يَعْلَمُ أحد كيفية الحالِ في هذا الأجَلِ إلاَّ الله تعالى. وقيل: الأجَلُ مقدار ما يُقضى من عمر كُلّ واحدٍ، والثاني: مقدارُ ما بَقِيَ من عمر كُلِّ أحدٍ. وقيل: هما وَاحِدٌ - يعني «جعل لأعمارهم مُدَّة تنتهون إليها» . وقوله: «وأجَلٌ مُسَمَّى عنده» يعني: وهو أجلٌ مُسَمَّى عنده لا يعلمهم غيره. قال حكماءُ الإسلام: إنَّ لكل إنسان أجَلَيْنِ: أحدهما: الطبيعي. والثاني: الآجالُ الاخْتِرامِيَّةُ، فالطَّبيعيُّ هو الذي لو بَقِيَ ذلك المِزَاجُ مَصُوناً من العوَارض الخارجية، لانْتَهَتْ مدّةُ بَقَائِه إلى الأوْقَات الفلانية، وأمَّا الآجال الاخترامية فهي التي تحصلُ بسبب من الأسباب الخارجية كالغَرَقِ، والحَرْقِ، ولَدْغِ الحشرات وغيرها من الأمور المُعْضِلَةِ. وقوله: «ثُمَّ أنْتُم تَمْتَرُونَ» أي: تشكُّون في البَعْثِ. وقيل: تمترون في صحة التوحيد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 أعلم أنَّا إذا قلنا: المراد من الآية المُتقدِّمة إقَامَةُ الدليل على وجود الصَّانع القادر المُخْتَارِ، فالمُرادُ من هذه الآيَةِ إقامَةُ الدليل على كونه عَالِماً بجميع المَعْلُومَاتِ؛ لأنها تَدُلُّ على كمالِ العلم. وإن قلنا: المراد من الآية المُتقدِّمةِ إقامَةُ الدليل على صِحِّة المَعَادِ، فالمقصود من هذه الآية تكميل ذلك البيان؛ لأنَّ مُنكِري المعاد إنَّما يُنْكِرُونَهُ لأمرين: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 19 أحدهما: أنَّهم يَعْتَقِدُونَ أنَّ المؤثّر في حدوث بَدَن الإنسان هو امْتِزَاجُ الطَّبائِعِ، وإنْ سلَّموا كون المؤثّر فيه قَادِراً مختاراً، فإنَّهم يَقُولُونَ: إنِّهُ [غير] عالم بالجزئيات، فلا يمكنه تَمْييزث المُطيعِ من العَاصِيِ، ولا تمييز أجزاء بَدَنِ زيد عن أجْزاءِ بَدَن عن أجزاء بَدَنِ عمرو. قوله: «وهُوَ اللِّهُ في السَّمواتِ» في هذه الآية أقْوالٌ كثيرة، وقد لُخِصَّتْ في اثْنَيْ عشر وَجْهاً؛ وذلك أن «هو» فيه قولان: أحدهما: هو ضمير اسم الله - تعالى - يعودُ على ما عَادَتْ عليه الضَّمائِرُ قبله. الثاني: أنَّهُ ضميرُ القِصَّةِ، قال أبو عليَّ. قال أبو حيَّان: وإنَّما فرَّ إلى هذا؛ لأنه لو أعاد على اللِّهِ لَصَارَ التقديرُ: اللَّهُ اللَّهُ، فتركَّب الكلام من اسمين مُتَّحِدَيْنِ لفظاً ومعنى لا نِسْبَةَ بينهما إسنادية. قال شهاب الدين: الضَّميرُ إنما هو عَائِدٌ على ما تقدَّمَ من المَوْصُوفِ بتلك الصِّفات الجلية، وهي خَلْقُ السَّموات والأرض، وجعل الظُّلُماتِ والنُّور، وخَلْق النَّاس من طين إلى آخرها، فصَارَ في الإخبار بذلك فَائِدَةٌ من غير شَكِّ، فعلى قولِ الجُمْهُورِ يكون «هو» مبتدأ، و «اللَّهُ» خبره، و «في السَّمَوَات» متعلقٌ بنفس الجلالة لمَّا تَضمَّنّتْهُ من معنى العِبَادةِ، كأنَّهُ قيل: وهو المَعْبُود في السَّموات، وهذا قول الزَّجَّاج، وابن عطيَّة، والزمخشري. قال الزَّمخشري: «في السَّمَوَات متعلِّقٌ بمعنى اسم اللَّهِ، كأنَّهُ قيل: هو المَعْبُود فيها، ومنه: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله} [لزخرف: 84] أو هو المعروف بالإلهية والمتوحد بالإلهيّة فيها، أو الذي يُقَالُ له» اللَّه « [لا يشركه في هذا الاسم غيره] . وقال شهابُ الدين: إنما قال: أو هو المَعْرُوفُ، أو هو الذي يُقال له: اللَّهُ؛] لأنَّ الاسم الشَّريف تقدَّم فيه خلافٌ، هل هو مُشْتَقٌ أوْ لا؟ فإن كان مُشْتقاً ظَهَرَ تلُّق الجَارِّ بِهِ، وإنْ كان لَيْسَ بمشتقِّ، فإمَّا أن يكون يتأوّل ذلك على كل قول من هذه الأقوال الثلاثة. فقوله:» المَعْبُود «راجعٌ للاشتقاقِ، وقوله:» المَعْرُوف «راجع لكونه عَلماً مَنْقُولاً، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 20 وقوله:» الَّذي يُقَال له: اللَّهُ «راجع إلى كونه مُرْتجلاً، وكأنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتَشْعَرَ بالاعتراض المذكور. والاعْتِراضُ مَنْقُولٌ عن الفَارسيَّ. قال:» وإذا جَعَلْتَ الظَّرْفَ متعلّقاً بام اللِّهِ جَازَ عندي على قياس مَنْ يقول: إنَّ الله أصْلُه «الإله» ومن ذَهَبَ بهذا الاسم مذهب الأعلام وجب ألاَّ يتعلٌّق به «عنده» إلاَّ أنْ تُقدِّر فيه ضَرْباً من معنى الفِعْلِ «، نقل عن أبي عليّ أنه لا يتعلَّقُ» في «باسم اللَّهِ؛ لأنَّه صار بدخول الألف واللام، والتغيير الذي دخله كالعلم، ولهذا قال تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّا} [مريم: 65] فظاهرُ هذا النقل أنه بمنعُ التعلُّق به وإنْ كاني في الأصْل مُشْتَقاً. وقال الزَّجَّاج: «وهو مُتَعَلِّقٌ بما تَضَمَّنَهث اسْمُ من المَعاَاني، كقولك: أميرٌ المؤمنين الخَلِيفَة في المَشْرِق والمغْرِبِ» . قال ابن عطيّة: «هذا عندي أفْضَلُ الأقوالِ، وأكثرها إحْرَازاً لفَصَاحَةِ اللَّفْظِ، وجَزَالَةِ المعنى. وإيضاحُهُ أنَّهُ أراد أنْ يَدُلَّ على خَلْقِهِ وآثَارِ قُدْرتِهِ وإحاطتِهِ واستيلائه، ونحو الصفات، فجمع هذه كُلَّها في قوله:» وَهُوَ اللَّهُ «؛ أي: الذي له هذه كُلُّها في السَّموات، وفي الأرضِ كأنه قال: وهو الخالق، والرازق، والمحيي، والمحيط في السموات وفي الأرض كما تقول: زيد السُّلطانُ في» الشام «و» العراق «فلو قصدت ذات زَيْدٍ لكان مُحَالاً، فإذا كان مَقْصِدُ قولك [: زيد] الآمر النّاهي الذي يُوَلِّي ويَعْزلُ كان فَصِيحاً صَحِيحاً، فأقمت السَّلطَنَةَ مَقَامَ هذه الصِّفَاتِ، كذلك في الآية الكريمة أقَمْتَ» الله «مقام تلك الصِّفات» . قال أبو حيَّان: ما ذكره الزَّجَّاجُ، وأوضحه ابن عطيَّةَ صحيحٌ من حيث المعنى، لكنَّ صَنَاعَةَ النحو لا تُسَاعِدُ عليه؛ لأنهما زَعَمَا أن «في السموات» متعلِّقٌ باسم الله؛ لما تَضَمَّنَهُ من تلك المعاني، ولو صَرَحَّ بتلك المعاني لم تَعْمَلْ فيه جَمِيعُهَا، بل العَمَلُ من حيث اللفظُ لواحد منها، وإن كان «في السموات» متعلّقاً بجميعها من حيث المعنى، بل الأولى أن يتعلَّق بلفظ «الله» لما تَضَمَّنَهُ من معنى الألُوهِيَّة، وإن كان عَلَماً؛ لأن العَلَمَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 21 يَعْمَلُ في الظَّرْفِ لما يتضمنه من المعنى كقوله: [الزجر] 2107 - ... أنَا أبُو المِنْهَالِ بَعْضَ الأحْيَانْ لأنَّ «بَعْضَ» نُصَبَ بالعَلَمِ؛ لأنَّه في معنى أنا المشهور. عَمَلُهَا على سبيل التَّنَازُع، مع أنه لو سَكَتَ عن الجواب واضحاً. ولما ذكر أبو حيَّان ما قاله الزَّمخْشَريُّ قال: «فانظر كيف قدّرَ العامِلَ فيها واحِداً لا جميعها» . يعني: أنَّهُ اسْتنْصَرَ به فيما ردَّ على الزَّجَّاج، وابن عطية. الوجه الثاني: أن «في السَّمَوَات» متعّلق بمحذوفِ هو صِفَةٌ لله تعالى حُذِفت لفهم المَعْنَة، فقدَّرها بعضهم: وهو الله المعبود، وبعضهم: وهو اللَّهُ المُدَبِّرُ، وحذفُ الصِّفة قليلٌ جداً لم يَرِدْ منه إلاَّ مواضع يسيره على نَظَرٍ فيها، فمنها {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ} [الأنعام: 66] أي: المعاندون، {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] أي: النَّاجين، فلا ينبغي أن يُحْمَلَ هذا عليه. الوجه الثالث: قال النَّحَّاس - وهو أحْسَنُ ما قيل فيه -: إنَّ الكلام تَمَّ عند قوله: «وَهُوَ اللِّهُ» والمَجْرُور متعلِّقٌ بمفعول «يَعْلَمُ» ، وهو «سِرَّكم وجَهْرَكُم» أي: يَعْلَمُ سِرَّكُم، وجَهْرَكُم فيهما. وهذا ضعيفٌ جداً لما فيه من تَقْدِيمِ مَعْمُولِ المصجر عليه، وقد عرف ما فيه. الوجه الرابع: أنَّ الكلامَ تَمَّ أيضاً عند الجلالةِ، وتعلِّق الظرفُ بنفس «يَعْلَمُ» وهذا ظاهِرٌ، و «يَعْلَمُ» على هذين الوَجْهَيْنِ مُسْتَأنَفٌ. الوجه الخامس: أنَّ الكلامَ تَمَّ عند قوله: «في السموات» فيتعلَّق «في السموات» باسم الله على ما تقدَّمَ، ويتعلَّقُ «في الأرض» ب «يعلم» وهو قول الطَّبري. وقال أبو البقاء: «وهو ضعيفٌ؛ لأنِّ اللَّهَ - تعالى - مَعْبودٌ في السَّمَوات وفي الأرض، ويَعْلمُ ما في السَّموات، وما في الأرض، فلا تتخصَّصُ إحْدى الصِّفَتَيْنِ بأحَدِ الظرفين» . وهخو رَدٌ جميلٌ. الوجه السادس: أنَّ «في السموات» متعلِّقٌ محذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من «سِرَّكم» ، ثُمَّ قُدِّمَتِ الحالُ على صَاحبهَا، وعلى عاملها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 22 السابع: أنه متعلّق ب «يَكْسِبُونَ» ، وهذا فَاسِدٌ من جهة أنه يَلْزَمُ منه تقديم مَعْمُولِ الصِّلةِ على الموصول؛ لأن «ما» مَوْصُولةٌ اسمية، أو حرفيةٌ، وأيضاً فالمُخَاطبُونَ كيف يكيبون في السموات؟ ولو ذهب هذا القائلُ إلى أنَّ الكلام تَمَّ عند قوله: «في السموات» وعلّق «في الأرض» ب «يَكْسِبونَ» لسَهُل الأمْرُ من حيث المعنى لا من حَيْثٌ الصناعيةُ. الوجه الثامن: أنَّ «الله» خَبَرٌ أوَّلُ، و «في السموات» خبر ثانٍ. قال الزمخشري: «على معنى: أنَّه الله، وأنَّهُ في السموات وفي الأرض، وعلى معنى: أنَّهُ عالمٌ بما فيهما لا يَخْفَى عليه شيءٌ، كأنَّ ذَاتَهُ فيهما» . قال أبو حيَّان: «وهذا ضعيفٌ؛ لأن المجرور ب» في «لا يّدُلُّ على كونٍ مُقَيَّدٍ، إنما يَدُلُّ على كونس مُطْلَقٍ، وتقدَّم جوابه مراراً» . الوجه التاسع: أنْ يكون «هو» مبتدأ، و «اللَّهُ» بَدَلٌ منه، و «يَعْلَمُ» خبره و «في السموات» على ما تقدَّم. الوجه العاشر: أنْ يكون «اللًّهُ» بَدَلاً أيضاً، و «في السموات» الخبرُ بالعنى الذي قاله الزمخشري. الحادي عشر: أنَّ «هو» ضمير الشَّأنِ في مَحَلِّ رفع بالابتداء، والجلالةً مبتدأ ثانٍ، وخبرها «في السموات» بالمعنى المتقدَّمِ، أو «يَعْلَمُ» ، والجملة خبر الأول مفسرة له وهو الثاني عشر. وأمَّا «يَعْلَمُ» فقد عرفت من تَفَاصِيلٍ ما تقدَّمَ أنَّه يَجُوزُ أن يكون مُسْتَأنَفاً، فلا مَحَلَّ له، أو في مَحَلِّ رفع خبراً، أو في مَحَلِّ نَصْبِ على الحال، و «سِرَّكم وجَهْرَكم» : يجوز أن يَكُونَا على بابهما من المَصْدَرِيّة، ويكونان مضافين إلى الفاعل. وأجاز أبو البَقَاء أن يكونا وَاقِعَيْنِ المفعول به، أي: مُسَرَّكم ومجهوركم، واسْتَدَلَّ بقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77] ولا دَلَيلَ فيه، لأنه يجوز «ما» مصدرية وهو الألْيَقُ لمُنَاسَبَةِ المصدرين قبلها، وأن تكون بمعنى «الذي» . فصل في معنى الآية «وهو الله في السموات والأرض» كقوله: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله} [الزخرف: 84] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 23 وقيل: هو المعبود في السَّمواتِ والأرض. وقال محمد بن جرير: معنيان: وهو اللَّهُ يعلمُ سرّكم وجهركم في السموات والأرض، يعلمُ ما تَكْسِبُونَ من الخيرِ والشَّر. فصل في شبكة إنكار الفوقية استدلَّ القائلون بأنَّ الله في السموات بهذه الآية. قالوا: ولا [يلزمنا] أن يقال: فيلزم أن يكون في الأرض لقوله: «في الأرض» وذلك يقتضي حُصُولهُ في مكانين مَعاً، وهو مُحَالٌ؛ لأنَّا نقول: أجمعنا على أنه لَيْسَ مَوْجُوداً في الأرْضِ، ولا يَلْزمُ من ترك العَمَل بأحد الظَّاهرين ترك العمل بالظَّاهر الآخر من غير دليلٍ، فوجبَ أن يبقى قوله: {وَهُوَ الله فِي السماوات} على ظاهره ولأن من القراء من وقف عند قوله: {وَهُوَ الله فِي السماوات} ، ثم يبتدئ فيقول: «وفي السموات والأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وجَهْرَكُمْ» ، والمعنى أنه تعالى يعلمُ سَرَائِرَكُمْ الموجودة في الأرْضِ، فيكون قوله: «وَفي الأرْضِ» صِلَةٌ لقوله: «سِرَّكُمْ» . قال بان الخطيب: والجوابُ: أنَّا نُقِيمُ الِّدلالة أوّلاً على أنه لا يُمْكِنُ حَمْلُ هذا الكلام على ظَاهِرِهِ، وذلك من وجوه. أحدهما: أنَّهُ قال في هذه السورة: {قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض قُل للَّهِ} [الأنعام: 12] فَبَيَّن أنَّ كُلَّ ما في السموات والأرض، فهو مِلْكٌ لله تعالى ومملوك له فلو كان اله أحد الأشياء الموجودة في السموات لزم كونه ملك نفسه، وذلك مُحَالٌ وكذا قوله: في «طه» {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} [طه: 6] . فإن قالوا: كلمة [ «ما» ] مختصَّةٌ [بمن لا يعقل] فلا يدخل فيها ذاتُ اللَّهِ. قلنا: لا نُسَلِّمُ بدليل قوله: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا والأرض وَمَا طَحَاهَا وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} [الشمس: 5 - 7] . وقوله: {وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُد} [الكافرون: 3] والمراد بكلمة «ما» ها هنا «هو اللَّهُ تعالى» . وثانيها: أنَّ قوله: «وهُوَ الله في السمواتِ» إمَّا أنْ يكون المُرَادُ منه أنَّهُ مَوْجُودٌ في جميع السمواتِ، أو المراد أنَّهُ مَوْجُودٌ في سماء واحدة. والثاني ترك للظِّاهِر، والأوَّلُ على قسمين، لأنَّهُ إما أن يكون الحاصل منه - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 24 تعالى - في أحد السَّمواتِ عين ما حصل منه في سائ السَّمواتِ أو غيره، والأوَّل يقتضي حُصُكول المتحيّز الواحد [في مَكَانَيْنِ، وهو باطلٌ ببديهَةِ العَقْلِ] . والثاني يقتضي كونه - تعالى مُرَكَّباً من الأجْزَاءِ والأبْعَاضِ، وهو مُحَالٌ. وثالثها: أنَّهُ لو كان مَوْجُوداً في السَّموات لكان مَحْدُوداً متناهياً وكُلُّ ما كان كذلك كان قَبُولُهُ للزيادة والنُّقْصَانِ مُمْكناً، وكُلُّ ما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ. ورابعها: أنَّهُ لو كان في السَّمواتِ، فهل يَقْدرُ على خَلْقِ عالم آخر فوق هذه السموات أو لا يَقْدِر؟ وذلك من وجهين: والثاني يوجبُ وهو مُحَالٌ والأول يقتضي أنَّهُ - تعالى - لو فعل ذلك لحَصلَ تَحْتَ ذلك العالم، والقوم منكرون كونه تحت العالم. وخامسها: أنه تعالى قال: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} [الحديد: 84] وقال {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق: 16] . وقال: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض} [الزخرف: 84] وقال: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله} [البقرة: 115] وكُلُّ ذلك يُبْدِلُ القولَ بالمَكَانِ والجهة، وإذا ثبت بهذه الدَّلائلِ أنَّهُ لا يمكنُ حَمْلُ هذا الكلام على ظاهره، وجَبَ التَّأويلُ، وهو من وجوه: الأول: أنَّ قوله: {وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض} ، أي: في تدبير السمواتِ والأرض، كما يقال: «فلانٌ في أمْرِ كذا» أي: في تدبيره، وإصْلاحِ مُهِمَّاتِهِ، كقوله: {وَهُوَ الذي فِي السمآء إله} 84] . الثاني: أنَّ قوله: [تَمَ] عند قوله: «وهُوَ اللَّهُ» ثُمَّ ابتدأ، فقال: «في السَّمواتِ وفِي الأرْض يَعْلمُ سِرَّكم وجهْرَكُم» ، أي: يَعْلمُ ما في السَّمواتِ الملائكة، وفي الأرض يعلمُ سَرائِرَ البَشَرِ الإنْس والجن. الثالث: أنْ يكون الكلامُ على التقديم والتأخير، وهو «اللَّهُ يَعْلَمُ ما في السموات، وما في الأرض سِرَّكُم وجهركم» . فصل في بيان معنى «ما تكسبون» قوله: «ويَعْلمُ ما تكسبون» فيه سؤال، وهو أنَّ الأفعال إمَّا أفعال القُلُوبِ، وهو المُسَمَّى بالسِّرِّ، وإمِّا أعمال الجَوَارحِ، وهي المُسَمَّاةُ بالجَهْرِ، فالأفعالُ لا تخرجُ عن السِّرِّ والجهر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 25 فكان قوله: {وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُون} يقتضي عَطْفَ الشيء على نفسه، وإنَّهُ فاسدٌ. والجوابُ يجبُ حَمْلُ قوله: «مَا تَكْسِبُونَ» على ما يتسحقُّهُ الإنسانُ على فِعْلِه من ثوابٍ وعقابٍ. والحاصلُ أنَّهُ مَحْمُلٌ على المُكْتَسَبِ كما يُقَالُ: «هذا كَسْبُ فلان» ، أي: مُكْتَسَبُهُ، ولا يجوز حَمْلُهُ على نفس الكَسْبِ؛ لأنَّهُ يلزم منه عَطْفُ الشيء على نفسه والآية تدل على كون الإنسان مكتسباً للفعل، والكَسْبُ هو الفعلُ المُفْضِي إلى اجْتِلاَبِ نَفْع، أو دَفْع ضَرَرٍ، ولا يوصف فعلُ اللِّهِ بأنه كَسْبٌ لكونه - تعالى - مُنَزَّهٌ عن جَلْبِ النَّفْعِ، ودَفْعِ الضرر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 «فاعل زيدت فيه» مِنْ «لوُجُودِ الشرطين، فلا تَعَلُّقَ لها. و» من آيات «صفة ل» آية «، فهي في مَحَلِّ جرٍ على اللَّفْظِ، أو رفعٍ على الموضع. وقال الوَاحِدِيِّ:» مِنْ «في قوله:» مِنْ آية «صفةٌ ل» آية «أي: آية لاستغراق الجنْسِ الذي يقع في النَّفيِ، كقولك: ما أتاني من أحدٍ» . والثانية: في قوله: «من آياتِ رَبِّهِم» للتبعيض. والمعنى: وما يظهر لهم دَلِيلٌ قط من الدَّلائِل التي جيب فيها النَّظَرُ والاعتبار، إلاَّ كانوا عنها مُعْرِضينَ، والمُرادُ بهم أهل «مكة» ، والمرادُ بالآيات: إنْشِقاقُ القمر وغيره. وقال عطاء: يريد: من آيات القرآن. قوله: «إلاَّ كَانُوا» هذه الجملة الكَوْنِيَّةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال، وفي صاحبها وجهان: أحدهما أنَّهُ الضميرُ في «تأتيهم» . و «تأتيهم» يحتمل أن يكون ماضي المعنى لقوله: «كَانُوا» ، ويحتمل أنْ يكون مُسْتّقْبَلَ المعنى؛ لقوله «تَأتيهِمْ» . واعلم أنَّ الفعْلَ الماضي لا يَقَعُ بَعْدَ «إلاَّ» بأحد شَرْطَيْنِ: إمَّا وقوعه بَعْدَ فِعْلٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 26 كهذه الآية، أو يقترن ب «قد» نحو: «ما زيدٌ إلاَّ قد قام» وهنا الْتِفَاتٌ من خطاه بقوله «خلقكم» إلى آخره إلى الغيبةِ بقوله: «وَمَا تَأتِيهم» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 «الفاء» هنا للتَعْقِيب، يعني: أنَّ الإعْرَاض عن الآيات أعْقَبَهُ التَّكْذِيبُ. وقال الزمخشري: «فَقَدْ كَذَّبوا» مردودٌ على كلام محذوف، كأنه قيل: إن كانوا معرضين عن الآيات، فقد كذبوا بما هو أعظم آية وأكبرها. وقال أبو حيان: ولا ضرورة تدعو إلى في انتظام الكلام وقوله: «بالحق» من إقامة الظاهر مقام المُضْمَرِ، إذ الأصل: فقد كذبوا بها أي: بالآية. فصل في بيان المراد «بالحق» والمُرَادُ بالحقِّ ها هنا القرآن. وقيل: [محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل:] جميع الآيات. فصل واعلم أنَّهُ - تعالى - رتّبَ أمورَ هؤلاء الكُفَّارِ على ثلاث مراتب: أولها: كونهم معرضين عن التأمُّلِ والتَّفَكُّرِ في الدَّلائل [والبَيِّنَات] . والمرتبة الثانية: كونهم مكذّبين بها، وهذه أزْيّدُ مما قَبْلَهَا؛ لأنَّ المُعْرِضَ عن الشِّيء قد لا يكون مكذباً به، بل قد يكون غَفِلَ عنه؛ صَارَ مُكَذِّباً به، فقد زاد على الإعْرَاضِ. والمرتبة الثالثة: كونهم مُسْتَهْزِئينَ بها؛ [لأن المكذب] بالشيء قد لا يبلغ تكذيبه به إلى حدِّ الاسْتِهْزَاءِ، فإذا بلغ إلى هذا الحَدَّ، فقدْ بَلَغَ الغَايَة القُصْوَى في الإنكار، [ثُم] بَيَّن - تعالى أنَّ أولئك الكُفَّار وصلوا في هذه المراتب الثلاثة على هذا الترتيب. قوله تعال: {فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} . «الأنبياء جمع» نبأ «وهو ما يعظم وقعه من الأخبار، وفي الكلام حَذْفٌ، أي: يأتيهم مَضْمونُ الأنباء، و» به «متعلّق بخبر» كانوا «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 27 و» لمّا «حرف وجوب أو ظرف زمان، والعامل فيه» كذبوا « و» ما «يجوز أن تكون موصولةٌ اسميةً، والضميرُ في» به «عائد عليها، ويجوز أن تكون مصدرية. قال بان عطيّة: أي: أنباء كونهم مستهزئين، وعلى هذا فالضميرُ لا يعودُ عليها؛ لأنها حرفية؛ بل تعود على الحقِّ، وعند الأخفش يعود عليها؛ لأنها اسم عنده. ومعنى الآية: وسوف يأتيهم أخبارُ اسْتِهْزَائهِمْ وجَزَاؤهُ، أي: سيعلمون عاقبة اسْتهْزَائِهِمْ إذا عُذِّبُوا، فقيل: يوم» بدر «وقيل: يوم القيامة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 قوله تعالى: {َلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا} لمَّا منعهم من الإعراض والتَّكْذيب، والاسْتِهْزاءِ بالتهديد والوعيد، أتْبَعَهُ بما يجري المَوْعِظةِ، فوعظهم بالاعْتِبَار بالقُرُونِ الماضية. و «كم» يجوز أن تكون اسْتِفْهاميَّةً وخبَريَّةً، وفي كِلاَ التقديرين فهي معلقة للرؤية عن العَمَلِ، لأنَّ الخَبَريَّةَ تجري مجرى اسْتِفْهاميَّةِ في ذلك، ولذلك أعطيت أحكامها من وجوب التَّصْديرِ وغيره، والرُّؤيَةُ هنا عِلْميَّةٌ، ويضعف كونها بصرية، وعلى ككلا التقديرين فهي معلّقة عن العمل؛ لأنَّ البصرية تجر مجراها، فإن كانت عِلْمِيَّةً ف «كم» وما في حيَّزها سادَّة مسدَّ مفعولين، وإن كانت بَصَريَّةً فمسدّ واحد. و «كم» يجوز أن تكون عبارة عن الأشخاص، فتكون مفعولاً بها، نَاصِبُهَا «أهْلَكْنا» أي: إهلاكاً، و «من قرنٍ» على هذا صِفَةٌ لمفعول «أهَلكْنَا» أي: أهلكنا قوماً، أو فوجاً من القُرُونِ؛ لأنَّ قرناً يُرَادُ به الجَمْعُ، و «مِنْ» تبعيضية، والأولى لابتداء الغاية. وقال الحُوفي: «من» الثانية بَدَلٌ من «مِنْ» الأولى، وهذا لا يُعْقَلُ فهو وَهْمٌ بَيَّنٌ، ويحوز أن تكون «كم» عبارة عن الزَّمَانِ، فتنتصبُ على الظرف. قال أبو حيان: تقديره: كم أزمنةٍ أهلكنا فيها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 28 وجعل أبو البقاء على هذا الوجه «مِنْ قَرْن» هو المفعول به، و «منْ» مَزيدَةٌ فيه، وجاز ذلك؛ لأن الكلام غير موجب، والمجرور نكرة، إلاَّ أنَّ أبا حيَّان مَنَعَ ذلك بأنَّهُ لا يقع إذ ذاك المفرد موقع الجمع لو قلت: «كم أزماناً ضَرَبْت رجلاً» أو كم مرة ضربت رجلاً لم يكن مدلولُ رجلٍ رجلاً، لأنَّ السؤال إنما يَقَعُ عن عدد الأزمنة أو المَرَّاتٍ التي ضربت فيها، وبأن هذا ليس مَوْضَعَ زيادة «مِنْ» لأنَّها لا تُزَادُ في الاستفهام، إلاَّ وهو استفهامٌ مَحْضٌ أو يكون بمعنى النَّفي، والاستفهام هنا لَيْسَ مَحْضاً ولا مُرَاداً به النفي انتهى. قال شهابُ الدِّين: وجوابه لا يسلم. و «قَرْن» الجماعة من النَّاسِ وجمعه «قرون» . وقيل: القَرْنُ مُدَّة من الزمان، يقال: ثمانون سنةً، [ويقال: ستُّون سَنَةً] ويُقال: أربعون سَنَةً، ويقال: ثلاثون سَنَةً، ويقال: مائة سنة؛ لما روي أنَّه - عليه السلامُ - قال لعبد الله بن بشر المازني: «تَعِيْشُ قَرْناً» فعاش مائة سَنَةٍ، فيكون معنى الآية على هذه الأقَاوِيلِ من أهل قرنٍ؛ لأنَّ القَرْنَ الزمان، ولا حَاجَةَ إلى ذلك إلاَّ على [اعتقاد] أنه حقيقة فيه مَجَازٌ في النَّاسِ، وسيأتي بَقِيَّةُ الكلام عليه في الصَّفْحَةِ الثانية. قوله: «مَكَّنَّاهُمْ في الأرْضِ» في موضع جرِّ صفة ل «قرن» ، وعاد الضميرُ عليه جمعاً باعتبارِ معناه. قاله أبُو البقاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، والحوفي رَحِمَهُ اللَّهُ. وضعَّفه أبو حيان بأن «من قرن» تمييز ل «كم» ، ف «كم» هي المُحَدَّثُ عنا بالإهلاكِ، فهي المُحَدَّثُ عنها بالتَّمْكينِ لا ما بَعْدَهَا؛ إذ «من قرن» يجري مجرى التَّبْينِ، ولم يُحَدَّث عنه. وجوَّز أبو حيَّان - رحمه اللَّهُ تعالى - أنْ تكون هذه الجُمْلَةُ اسْتِئْنَافاً جواباً لسؤال مُقَدَّرِ، قال: كأنَّه قيل: ما كان من حَالِهِمْ؟ فقيل: مَكَّنَّاهم، وجعله هو الظَّاهر، وفيه نظرٌ، فإنَّ النكرة مُفْتِقِرةٌ للصِّفَةِ فَجَعْلُهَا صفة ألْيَقُ، والفَرْقُ بين قوله تبارك وتعالى: {مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض} وقوله: {مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ} [أن «مكنة في كذا] أثبته فيها، ومنه {وَلَقَدْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 29 مَكَّنَاهُمْ فِيمَآ} [الأحقاف: 26] وأما مكنَّا جعل له مكاناً، ومنه: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض} [الكهف: 84] {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ} [القصص: 57] . ومثله» أرضٌ له «أي: جعل له أرضاً، هذا قول الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وأما أبو حيَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فإنَّهُ يَظْهَرُ من كلامه التَّسْوِيّةُ بيهما، فإنَّهُ قال: وتعدِّي» مَكَّن «هنا للذَّوَات بنفسه وبحرف الجَرِّ، والأكْثَرُ تَعْدِيَتُهُ باللام [نحو] {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} [يوسف: 21] {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ} [الكهف: 84] ، {أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ} [القصص: 57] . وقال أبُو عُبَيْدَة:» مكَّنَّاهُمْ ومكَّنَّا لهم: لغتانِ فصيحتان، نحو: نَصَحْتُه، ونَصَحْتُ له «وبهذا قال أبو علي والجرحانيُّ. قوله:» ما لم نُمكِّنْ لكم «في» ما «هذه همسة أوجه: أحدهما: أنْ تكون مَوْصُولةَ بمعنى» الذِّي «، وهي حينئذٍ صفةٌ لموصوف محذوف، [والتقديرُ: التميكن الذين لم نُمَكِّنْ لكم، مَحْذُوفٍ تقديره: تمكيناً ما لم نُمَكِّنْهُ لَكُمْ. الثاني: أنها نكرةٌ صفةٌ لمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ تقديره: ما لم نُمَكِّنْهُ لكم، ذكرهما الحُوفِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى. وردَّ أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - الأوَّلَ بأنَّ» ما «بمعنى» الذي «لا تكون صِفَةً لمعرفةٍ، وإن كان» الذي «يقع صِفَة لها، لو قلت:» ضَرَبْتُ الضَّرْبَ ما ضَرَبَ زيدٌ «تريد الضربَ الذي ضربه زَيْدٌ، لم يَجُرْ، فإن قلت:» الضَّرْبَ الذي ضربه زيد «جاز. وَرَدَّ الثاني بأن» ما «النكرة التي تَقعُ صِفَةً لا يجوزُ حَذْفُ موضوفها، لو قلت:» قُمْتُ ما وضَربْتُ مَا «وأنت تعني: قُمْتُ قياماً ما وضربت ضرباً ما لم يَجُزْ. الثالث: أن تكون مَفْعُولاً بها ل» مَكَّنَ «على المعنى، لأنَّ معنى مكَّنَّاهُمْ: أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ، ذكره أبُو البقاءِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قال أبُو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ -:» هذا تَضْمِينٌ، لا يَنْقَاسُ «. الرابع: أن تكون» ما «مَصْدريَّةً، والزَّمَان محذوف، أي: مُدَّة ما لم نمكِّن لكم، والمعنى: مُدَّةَ انْتِفَاءِ التمكين لكم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 30 الخامس: أن تكون نكرةً موصُوفَةً بالجملة المنفيَّة بعدها، والعائد محذوف، أي: شيئاً لم نمكِّنه لكم، ذكرهما أيضاً أبو البقاء قال أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - في الأخير:» وهذا أقْرَبُ إلى الصَّوابِ «. قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ولو قدَّره أبو البقاءِ بخاصِّ لكان أحْسَنَ من تقديرِه بلفظ «شيء» ، فكان يقول: مَكَّنَّاهُمْ تمكيناً لم نمكّنه لكم. والضمير في «يروا» قيل: عائدٌ على المُسْتَهْزِئين، والخطابُ في «الكم» راجعٌ إليهم أيضاً، فيكون على هذا التِفَاتاً فائدتُهُ التَّعْريض بقلَّةِ تمكُّنِ هؤلاء، ونَقْصِ أحوالهم عن حَالِ أولئك، ومع تمكينهم وكثرتهم فقد حَلَّ بهم الهَلاَكُ، فكيف وأنتم أقَلُّ منهم تمكيناً وعدداً؟ . وقال ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «والمُخَاطَبَةُ في» الكم «هي للمؤمنين ولجميع المُعَاصرين لهم ولسائِرِ النَّاس كافَّةً، كأنه قيل: لم نُمَكِّن يا أهل هذا العَصْرِ لكم، ويحتمل أن يُقدَّر معنى القول لهؤلاء الكَفَرَةِ، كأنه قال: يا مُحَمَّدُ قُل لهم:» ألَمْ يَرَوا كَمْ أهْلَكْنَا «الآية، فإذا أخبرت أنك قُلْتَ - أو أمَرْتَ أن يُقال - فلك في فَصيح كلام العرب أن تحكي الألْفَاظَ المَقُولَةَ بعينها، فتجيءَ بلفظ المُخَاطبة، ولك أن تجيء بالمعنى في الألفاظ بالغَيْبَةِ دون الخطاب» انتهى. ومثاله: «قُلْتُ لزيد: ما أكرمك، أو ما أكرمه» . و «القَرْنُ» يقع على مَعَانٍ كثيرةن فالقرن: الأمَّةُ من النَّاس، سُمُّوا بذلك لاقُتِرَانهِمْ في مُدَّةٍ من الزَّمانِ، ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «خَيِْرُ القُرونِ قَرْنِي» وقال الشاعر [في ذلك المعنى:] [الطويل] - ... 2108أخَبِّرُ أخْبَارَ القُرُونِ التي مَضَتْ أدِبُّ كَأنِّي كُلَّمَا قُمْتُ رَاكِعُ ... وقال قَسُّ بنُ سَاعِدَةَ: [مجزوء الكامل] 2109 - ... فِي الذَّاهبينَ الأوَّلِي نَ مِنَ القُرُونِ لَنَا بَصَائِر ... وقيل: أصله الاتفاعُ، ومنه قَرْنُ الثَّوْرِ وغيره، فَسُمُّوا بذلك لارتفاع السِّنِّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 31 وقيل: لأنَّ بعضهم يُقْرَنُ ببعض، ويُجْعَلُ مجتمعاُ معه، ومنه القرنُ للحَبْلِ يُجْمَعُ به بين البَعيريْنَ، ويُطلَقُ على المُدَّة من الزَّمان أيضاً. وهل إطلاقُهُ على النَّاسِ والزَّمان بطريق الاشْتَرَاكِ، أو الحقيقة والمجاز؟ يُرَجَّعُ الثَّاني؛ لأنَّ المجَازَ خيرٌ من الاشْتِرَاكِ. وإذا قُلنا بالراجح، فإنها الحقيقة، الظاهر أنه القَوْمُ؛ لأنَّ غالب ما يُطْلَقُ عليهم، والغَلَبَةُ مُؤذِنّةٌ الأصَالَةِ غالباً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 32 وقال ابنُ عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: - القَرْنُ أنْ يكون وفاةُ الأشيخ وولادَةُ الأطفال، ويَظْهَرُ ذلك من قوله تعالى: {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِين} [الأنعام: 6] فجعله مَعْنّى، وليس بواضح وقيل: القَرْنُ: النَّاسُ المجتمعون كما تقدَّم، قلّت السِّنُون أو كثُرتْ، واستدلُّوا بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «خَيْرُ القُرونِ قَرْنِي» وبقوله: [مجزوء الكامل] 2110 - فِي الذَّاهبين الأوَّلي ... نَ مِنَ القُرُونِ لَنَا بَصَائِر وبقول القائل في ذلك: [الطويل] 211 - إذَا ذَهَبَ القَوْمُ الَّذِي كُنْتَ فِيهِمُ ... وَخُلِّفْتَ فِي قَرْنِ فَأنْتَ غَرِيبُ فأطلقوه على النَّاسِ ليفيد الاجتماع. ثم اختلفت النَّاسِ في كميةِ القَرْنِ حالة إطلاقه على الزَّمان، فالجمهور على أنَّهُ مائة سنة، واستدلُّوا له بقوله عليه السلام: «تَعيشُ قَرْناً» فعاش مائة سَنَةٍ، وقيل: مائة وعشرون سنة، قاله إيَاسُ مُعَاويَةَ، وزارة بن أبي أوفى. وقيل: ثمانون نقله أبو صالح عن ابن عبَّاسٍ. وقيل: سبعون؛ قاله الفرّاء. وقيل: ستُّون لقوله عليه السلام: «مُعْتَرَكُ المنَايَا ما بَيْنَ السِّتِّنَ إلى السِّبعينَ» وقيل: أربعُون، حكاه محمد بن سيرين، يرفعه إلى النَّبي عليه الصَّلاة والسَّلامُ، وكذلك الزَّهراوي أيضاً يرفعه إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل: ثلاثون حكاهُ النَّفَّاش عن أبي عُبَيْدة، كانوا يرون أن ما بين القرنين ثلاثون سنة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 33 وقيل: عشرون سنةً، وهو رأي الحَسَنِ البصري. وقيل: ثمانية عشر عاماً. وقيل: المقدار الوَسَطُ مثل أعمار أهل ذلك الزمان، واسْتُحْسِنَ هذا بأنَّ أهل الزَّمَنِ القديم كانوا يعيشون أربعمائة سَنَةً، وثلاثمائة سنة، وألفاً وأكثر وأقلَّ. ومعنى الآية: أعطيناهم ما لم نُعْطِكُمْ. وقال ابن عبَّاسٍ: أمهلناهم في العمر مثل قوم نوح وعادٍ وثمود. قوله: {وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مَّدْرَاراً} يعني المَطَرَ «مِنفْعَال» من الدَّرِّ و «مِدْرَاراً» حالٌ من «المساء» إنْ أُريد بها السحاب، فإن السحاب يوصف بكثرةِ التَّتَابُع أيضاً. قال ابنُ عبَّاسٍ: مِدْرَاراً مُتَتَبابِعاً في أوْقاتِ الحَاجَاتِ، وإن أُريَد بها الماء فكذلك، ويَدُلُّ على أنه يُرَادُ به المَاءُ قوله في الحديث: «في أثر سماءٍ كَانَتْ من اللَّيلِ» ويقولون: ما زلنا نَطَأُ السماء حتى أتيناكم، ومنه: [الوفر] 2112 - إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأرْضِِ قَوْم ... رَعَيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غِضَابا أي: رَعَيْنَا ما نيشأ عنه، وإن أُريدَ بها هذه المِظَلَّةُ، فلا بُدّ من حذف مُضافٍ حينئذٍ، أي: مَطَر السماء، ويكون «مِدْرّاراً» حالاً منه. و «مِدْرَاراً» مِفعال للمُبالغةِ كامرأة مِذْكارِ ومئناث. قالوا: وأصله من «دَرَّ اللَّبَن» وهو كَثْرةُ ورودِه على الحالِبِ. ومنه: «لا دَرَّ دَرُّهُ» في الدُّعَادءِ عليه بقلَّةِ الخير. وفي المَثَلِ «سَبَقَتْ درَّتُه غِزَارَهُ» وهي مثلُ قولهم: «سَبَقَ سَيْلُهُ مَطَرَه» و «استدَّرت المِعْزَى» كناية عن طلبها الفَحْلَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 34 قالوا: لأنَّها إذا طَلَبَتْهُ حَمَلَتْ فَوَلَدَتْ فَدَرَّتْ. قوله: {وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} إن جعلنا «جَعَلَ» تَصْييريةً كان «تجري» مفعولاً ثانياً، وإن جعلناها إيجادِيَّةً كان حالاً. و «من تحتهم» يجوز فيه أوجه: أن يكون متعلّقاً ب «تجري» ، وهو أظهرها، وأن كون حالاً، إمَّا من فاعل «تجري» ، أو من «الأنهار» ، وأنْ يكون مفعولاً ثانياً «جَعَلْنَا» و «تجري» على هذا حالٌ من الضمير في الجَازَّ، وفيه ضَعْفٌ لتقدُّمِهَا على العامل المَعْنَوِيّ، ويجوز أن يكون «من تحتهم» حالاً من «الأنْهَار» كما تقدَّم، و «تجري حالٌ من الضمير المُسْتَكِنِّ فيه، الضَّعْفُ المتقدّمُ. فصل المُرَادُ من قوله: {وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ} كَثْرَةُ البَسَاتيِن، والمعنى أنهم وَجَدُوا من مَنَافع الدُّنيا أكثر مما وَجَدَهُ أهلُ «مكَّة» المشرفة، ثُمَّ مع هذه الزيادة في العِزِّ، وكثرة العدد والبَسْطَةِ في المال والجِسْمِ لمَّا فجرى عليهم ما سمعتم من إهلاكهم، وهذا يوجب الاعتبار. فإن قيل: ليس في هذا الكلام إلاَّ أن الإهلاك غي مختصّ بهم، بل الأنبياء والمؤمنون كلهم أيضاً قد لهكوا فكيف يحسنُ إيرادُ هذا الكلام في مَعْرضِ الزَّجْرِ عن الكُفْرِ مع أ، هـ يشترك فيه الكَافِرُ والمؤمنُ؟ . فالجوابُ: ليس المقصود منه الزَّجْر بمجرد المَوْتِ، والهلاك، بل المُرَاد منه أنهم بَاعُوا الدَّينَ بالدنيا؛ فعوقبوا بسبب الامْتِنَاعِ عن الإيمان، وهذا المعنى مُشْتَرَكٍ بين الكافر والمؤمن. فإن قيل: كيف قال: «أوْ لَمْ يَرَوْا كَمْ أهْلَكْنَا» مع أنَّ القَوْمَ ماتوا مُقِرِّين بِصِدْقِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما يخبر به عنه، وأيضاً فهم لم يُشَاهدوا وقَائِعَ الأمم السَّالفة؟ فالجواب: أنَّ [أقَاصِيصَ المتقدمين مشهورة بين الخلق فيبعد أن يقال إنهم ما سمعوا أخبارهم، ومجرد سماعها يكفي في الاعتبار. فإن قيل: أي فائدة في ذكر إنشاء قرن آخرين بعدهم؟ فالجواب: أن] فائدته التَّنْبِيهُ أنَّه لا يَتَعَاظَمُهُ إهْلاكُهُمْ وإخْلاَءُ بلادهم منهم، فإنه قَادِرٌ على إنشاء آخرين مَكَانَهُمْ يُعِّمرُ بهم بلاده، كقوله: {وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا} [الشمس: 15] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 35 و «من بعدهم» متعلِّق ب «أنشأنا» . قال أبو البقاء: ولا يجوز أن يكون حَالاً من «قرن» ؛ لأنه ظَرفُ زمان يعني: أنه منه؛ لكنه منعن ذلك كونُهُ ظرف زمان والزَّمَانُ لا يُخْبَرُ به عن الحَدَثَ ولا يُوصَفُ، وقد تقدَّمَ أنه يصحُّ ذلك بتأويل في «البقرة» عند قوله تعالى: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] و «آخرين» صِفَةٌ ل «قَرْن» ؛ لأنه اسم جَمْع ك «قوم» و «رهط» ، فذلك اعْتُبِر معنها، ومن قال: إنَّهُ قدَّرَ مُضَافَاً، أي: أهل قرن آخرين، وقد تقدَّمَ أنَّهُ مرْجُوحٌ، واللَّهُ أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 قال الكلبي ومقاتل: تزلت هذه الآية في النَّضْرِ بن الحَرْثِ، وعبد الله بن أبي أميَّةَ، ونوفل بن خُوَيْلدٍ قالوا: يا محمد لَنْ نُؤمِنَ لَكَ حَتَّى تأتينا بكتاب من عندِ اللَّهِ، ومعه أربعةٌ من الملائكة يَشْهدُونَ معه أنَّهُ من عند الله، وأنَّك رسوله، فأنزل الله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} مكتوباً من عنده «فَلَمَسُوه بأيديهم» أي: عَايَنُوهُ ومَسُّوهُ بأيديهم، وذكر اللَّمْسَ ولم يذكر المُعَايَنَةَ، لأن اللَّمْسَ أبْلَغُ في إيقاع العِلْمِ من الرؤية، ولأنّ السِّحْر يجري على المرئي، ولا يجري على الملموس. قوله: «فِي قِرْطَاسٍ» يجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنه صِفَةٌ ل «كتاب» ، سواء أريد ب «كتاب» المصدرُ، أم الشيْ المكتوب، ومن مجيء الكتاب بمعنى مكتوب قوله: [الطويل] 2113 - ... ... ... ... ... ... صَحِيفَة ... ً أتَتْكَ مِنَ الحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا ومن النَّاس من جعل «كتاباً» في الآية الكريمة مَصْدَراً؛ لأن نَفْسَ الكُتُبِ لا تُوصَفُ والقِرْطاس: الصَّحِيفة يُكتبُ فيها تكُون من رقِّ وكَاغِدٍ، بكسر القاف وضمها، والفصيح الكسر، وقرئ بالضّم شاذّاً نَقَلَهُ أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 36 والقِرْطَاسُ: اسم أعْجِمِيُّ مُعَرَّبٌ، ولا يقال: قِرْطَاس إلاَّ إذا كان مكتوباً، وإلاَّ فهو طِرْسٌ وكَاغِدٌ، وقال زهير: [البسيط] 2114 - ... - لَهَا أخَادِيدُ مِنْ آثَارِ سَاكِنِها كَمَا تَردَّدِ فِي قِرْطَاسِهِ القَلَم ... قوله: «فَلَمَسُوهُ» الضمير المنصوب يجوز أن يَعُودَ على «القِرْطاس» ، وأن يعود على «كتاب» بمعنى مَكْتُوب. و «بأيديهم» متعلِّق ب «لَمَسَ» . و «الباء» للاستعانة كعملت بالقَدُّوم. و «لَقَال» جواب «لو» جاء على الأفصح من اقتران جوابها المُثْبَتِ باللام. قوله: «إنْ هذا» [و] و «إنْ» نافية، و «هذا» و «إلاَّ سحرٌ» خبره، فهو استثناء مُفَرَّغٌ، والجُمْلَة المَنْفِيَّةُ في مَحَلِّ نصب بالقولِ، وأوقع الظَّاهرَ مَوْقَعَ المضمر في قوله: «لَقَالَ الذين كَفَرُوا» شَهادَةً عليهم بالكُفْرِ، والجملة الامتنَاعِيَّةُ لا مَحَلَّ لها من الإعراب لاستئنافها. ومعنى الآية الكريمة: أنَّهُ لا يَنْفَعُ معهم شيءٌ لما سبق فيهم من علمي، واللَّهُ أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 وهذه شبهٌ ثالثةٌ من شُبَهِ النُّبوة، فإنهم يقولون: لو بَعَثَ اللَّهُ إلى الخَلْق رسولاً لوجب أن يكون ذلك الرَّسُولُ إذا أراد تحصيل مُهِّم، فإنما يَسْتعَعِينُ في تحصيله بمَنء هو أقْدّرُ على تحصيله، وإذا كان وقوع الشُّبُهَاتِ في نُبُوَّةِ الملائكة أقَلَّ وَجَبَ تعنُّتِهم وتَصَلُّبِهِم في كُفْرهم. قيل: ويجوز أن تكون مَعْطُوفة على جواب «لو» ، أي: لو نزَّلْنَا عليك كتاباً لَقَالُوا كذا وكذا، ولقالوا: لو أُنزِ عليه مَلَكٌ. وجيء بالجواب على أحد الجائزين، أعني حذف «اللام» من المثبت، وفيه بُعْد؛ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 37 لأن قولهم «لولا نُزِّلَ» ليس مُتَرَتِّباً على قوله: «لولا نَزَّلْنَا» و «لولا» هنا تخضيضِيَّةٌ، والضميرُ في «عَلَيْه» الظَّاهرُ عَوْدُهُ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: يجوز أن يَعُودَ على الكتاب أو القِرْطَاسِ. والمعنى: لولا أنْزِلَ مع الكتاب مَلَكٌ يشهدُ بِصحَّتِهِ، كما يُرْوَى في القِصَّةِ أنه قيل له: لن نؤمن لك حتى تَعْرُج فتأتي بكتاب، ومعه أربعة ملائكة يشهدون، فهذا يَظْهَرُ على رأي من يقولك إنَّ الجملة من قوله: «وقالوا: لولا أنْزِلَ» معطوفةٌ على جواب «لواء» ، فإنَّهُ تعلّق به من حيث المعنى حينئذٍ. فصل في دحض شبهة منكري النبوة واعلم أنَّ الله - تبارك وتعالى - أجاب عن هذه الشُّبْهَةِ بوجهين: أحدهما: قوله: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر} ومعنى القضاء: الإتمام والإلزام، والمعنى: ولو أنزلنا ملكاً لم يؤمنوا، وإذا لم يؤمنوا اسْتُؤصِلُوا بالعذاب، وهذه سُنَّةُ اللَّهِ تعالى في الكُفَّار. والوجه الثاني: أنَّهم إذا شاهدوا الملك زَهَقَتْ أرْوَاحُهُمْ من هَوْل ما يشاهدون؛ لأنَّ الآدمي إذا رأى الملك، فإمَّا أنْ يراه على صورتِهِ الأصْلِيَّةِ، أو على صورة البَشَرِ، فإن رآه على صورته الأصليَّةِ غُشِيَ عليه، وإنْ رآه على صورة البَشَرِ، فحينئذ يكونُ المَرْئيُّ شخصاً على صورة البشر عاينوا الملائكة في صورة البشر كأضياف إبراهيم وأضياف لوط، وخصَّهم دَاوُد وجبريل حيثُ تَخَيَّل لمريم بَشَراً سَوِياً. واعلم أنَّ عدم إرسال الملك فيه مصالح: أحدهما: إن رؤية إنزال الملكِ على البشرِ آية قاهرةٌ فبتقدير نزوله على الكُفَّارِ، فرُبَّما لم يؤمنوا، كا قال الله تبارك وتعالى {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة} [الأنعام: 111] إلى قوله: {مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الأنعام: 111] ، وإذا يؤمنوا وجب إهلاكهُمْ بعذاب الاسْتئِصَالِ. وثانيها: ما ذكرناه من عَدَمِ قُدْرِتِهِمْ على رية الملائكة. وثالثها: إنَّ إنزال الملك معجزةٌ قاهِرةٌ جاريةٌ مجرى الإلْجْاءِ، وإزالة الاختيار، وذلك يخلُّ بمصلحة التكليف. ورابعها: أنَّ إنزال المَلكِ وإن كان يّدْفَعُ الشُّبُهَاتِ من الوجوه المذكورة، لكنَّهُ يُقوِّي الشُّبْهَةَ من هذه الموجوه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 38 والمراد من قوله تعالى: {ثُمَّ لاَ يُنظَرُون} فالفائدة في «ثم» التنبيه على أنَّ عَدَمَ الإنظار أشدُّ مُضِيَّ الأمر؛ لأن المُفَاجَئَةَ أشَدُّ من نفس الشدة. قال قتادة: {وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً} ثمَّ لم يؤمنوا لعُجِّلَ لهم العذاب ولم يُؤخَّرْ طَرْفَةَ عَيْنِ. وقال مجاهد: «لقضي الأمر» ، أي: لقامت القيامة. وقال الضحَّاك: لو أتاهم ملكٌ في صورته لماتوا. قوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً} يعني: لو أرسلناه إليهم مَلَكاً لجعلناه رَجُلاً يعني في صورة رجلٍ آدمي؛ لأنهم لا يستطيعون النَّظَرَ إلى الملائكةِ، كان جبريل عليه السلام يأتي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في صورة دِحْية الكلبي وجاء الملكان إلى دَاوُد عليه السلام في صورةِ رَجُلّيْنِ، ولأن الجنس إلى الجنس أميلُ وأيضاً فإنَّ طَاعَة الملائكة قَوِيَّةٌ، فَيَسْتحْقِرُونَ طَاعَاتِ البَشَرِ، ورُبَّما لا يعذرونهم بالإقدام على المعاصي. قوله تعالى: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُون} في «ما» قولان: أحدهما: أنها مَوْصولةٌ بمعنى «الذي» ، أي: ولخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم، أو على غيرهم، قاله أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وتكون «ما» حينئذٍ مفعولاً بها. الثاني: أنَّها مَصْدَريَّةٌ، أي: ولَلَبْسنا عليهم مَثْلَ ما يلبسون على غيرهم ويسلكونهم، والمعنى شَبَّهوا على ضعفائهم فشُبِّهَ عليهم. قال ابن عباس: هُمْ أهْلُ الكتاب، فَرَّقُوا دينهم وحَرَّفُوا الكَلِمَ عن مَوَاضَعِه، فَلَيَسَ اللَّهُ عليهم ما يلبسون. وقرأ ابن مُخَيْصِن: «وَلَبَسْنا» بلام واحدة هي فاء الفَعْلِ، ولم يأت بلامٍ في الجواب اكْتِفَاءَ بها في المَعْطُوف عليه. وقرأ الزهري: «ولَلَبَّسْنا» بلامين وتشديد الفعل على التَّكْثيرِ. قال الواحدي: يقال لَبَّسْتُ الأمْرَ على القَوْمِ ألبَّسُهُ إذا شَبَّهْته عليهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 39 وجعلته مُشْكلاً، وأصله من التَّستُّرِ بالثوب، ومنه لُبْسُ الثوبِ، لأنه يُفيد سَتْرَ النفسِ، والمعنى: إذا جَعَلْنَا الملكَ في صيورة البَشَرِ، فهم يظنون أن ذلك المَلَكَ بَشَراً، فيعود سؤالهم أنَّا لا نرضى برسالة هذا الشَّخْصِ، واللَّهُ أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 قرأ حمزة، وعاصمٌ، وأبو عمرو بكشر الدَّال على أصل الْتِقَاءِ السَّكِنَيْنِ، والباقون بالضمن على الإتباع، ولم يبالِ بالساكن؛ لأنه حَاجِزٌ غير حصين وقد تَقَرَّرَتُ هذه القاعدة بدلائلها في سورة «البقرة» عند قوله تعالى: {فَمَنِ اضطر} [الآية: 173] و «برسلٍ» متعلّق ب «استهزئ» و «منْ قبلك» صفة ل «رسل» ، وتأويلُه ما تقدَّم في وقوع «من قبل» صلة. والمرادُ من الآية: التَّسْلية لِقَلْبِ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: أن هذه الأنواع الكثيرة التي يعاملونك بها كنت موجودة في سائِر القرون. قوله: «فحاق بالذين سخِروا» ن فاعل «حاق» : «ما كانوا» ، و «ما» يجوز أن تكون موصُولةٌ اسميةً، والعائد «الهاء» في «به» و «به» يتعلَّق ب «يستهزئون» ، و «يستهزئون» خبر ل «كان» ، و «منهم» متعلّق ب «سخروا» على أنَّ الضمير يعود على الرُّسل، قال تبارك وتعالى: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} [هود: 38] . ويجوز أن يتعدَّى بالباء نحو: سَخِرْت به، ويجوز أن يتعلّق «منهم» بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من فاعل «سَخِروا» والضمير في «منهم» يعود على الساخرين. وقال أبو البقاء: «على المستهزئين» . وقال: الحوفي: «على أمَمِ الرسل» . وقد رَدَّ أبو حيَّان على الحوفي بأنه يَلْزَمُ إعادته على غير مذكور. وجوابُهُ في قوة المذكور، وردَّ على أبي البقاء بأنه يصير المعنى: فحاق بالذين سَخِرُوا كائنين من المستهزئين، فلا حَاجَة إلى هذه الحال؛ لأنها مفهومةٌ من قوله: «سخروا» وجوَّزوا أن تكون «ما» مصدريَّةً، ذكره أبو حيَّانَ ولم يتعرض للضمير في «به» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 40 والذي يظهر أنه يعود على الرسول الذي يَتَضَمَّنُهُ الجَمْعُ، فكأنه قيل: فَحَاقَ بهم عَاقِبَةُ استهزائهم بالرسول المُنْدَرجِ في جملة الرُّسُلِ، وأمَّا على رأى الأخْفَشِ، وابن السراج فتعود على «ما» المصدريّة؛ لأنها اسم عندهما. و «حاق» ألفه مُنْقَلِبَةٌ عن «ياء» بدليل «يَحِيق» ن ك «باع» «يبيع» ، والمصدر حَيْق وحُيُوق وحَيَقان كالغَلَيان والنَّزَوان. وزعم بعضهم أنه من «الحَوْق» ، والمستدير بالشيء، وبعضهم أنه من «الحقّ» ، فأبدلت إحدى القافين ياءً كَتَظَنَّنتُ، وهذان لَيْسَا بشيء. أمَّا الأول فلاختلاف المَادَّةِ، إلاَّ أن يريدوا الاشتقاق الأكبر. وأما الثاني: فلأنها دَعْوَى مُجَرَّدَةٌ من غير دليلٍ، ومعنى «حاق» أحاط. وقيل: عاد عليه وبَالُ مَكْرهِ، قاله الفراء. وقيل: دَارَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 41 وقال الربيع بن أنس: نَزَلَ. وقال عطاء: حَلَّ، والمعنى يدور على الإحاطة والشمول، ولا تستعمل إلا في الشر. قال الشاعر: [الطويل] 2115 - ... - فأوْطَأ جُرْدَ الخَيْلْ عُقْرَ دِيَارِهِمْ وَحَاقَ بِهِمْ مِنْ بأسِ ضَبَّةَ حَائِقُ ... وقال الراغب: «قيل: وأصله: حَقَّ، فقلب نحو» زَلَّ وزَال «وقد قرئ» فأزلهما وأزلَهُمَا «وعلى هذا ذَمَّهُ وذّامه» . وقال الأزهري: «جعل أبو إسحاق» حاق «بمعنى» أحاط «، كأنَّ مَأخَذَهُ من» الحَوْق «وهو ما اسْتَدَارَ بالكَمَرَة» . قال: «وجائز أن يكون الحَوْق فِعْلاً من» حاق يحيق «، كأنه في الأصل: حُيْق، فقلبت الياء واواً لانْضِمَامِ ما قلبها» . وهل يحتاج إلى تقدير مضاف قبل «ما كانوا» ؟ نقل الوَاحِدِيُّ عن أكثر المفسرين ذلك، أي: عقوبة ما كانوا، أو جَزَاء ما كانوا، ثم قال: «وهذا إذا جعلت» ما «عبارة عن القرآن والشريعة وما جاء به النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإن جعلْتَ» ما «عبارة عن العذاب الذي كان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُوعدهم به إن لم يؤمنوا استَغْنَيْتَ عن تقدير المضاف، والمعنى: فَحَاقَ بهم العذابُ الذي يستهزئون به، وينكرونه» . والسُّخْرِيَةُ: الاسْتِهْزَاءُ والتهَكُّمُ؛ يقال: سِخِرَ منه وبه، ولا يُقَالُ إلاَّ اسْتَهْزَاءً به فلا يَتَعَدَّى ب «مِنْ» . وقال الراغب: «سَخَرْتُهُ إذا سِخَّرْتَهُ للهُزْءِ منه، يقال: رجل سُخَرَةٍ بفتح الخاء إذا كان يَسْخَرُ من غيره، وسُخْرَة بِسُكُونها إذا كان يُسْخَر منه ومثله:» ضُحَكة وضُحْكة «، ولا ينقاس» . وقوله: {فاتخذتموهم سِخْرِيّاً} [المؤمنون: 110] يحتمل أن يكون من التسخير، وأن يكون من السُّخْرية. وقد قرئ سُخْرياً وسِخْرياُ بضم السين وكسرها. وسيأتي له مزيدُ بيان في موضعه إن شاء اللَّهُ تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 42 قوله تعالى: {قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض} كما صبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الآية الأولى، حَذَّرَ القوم في الآية، وقال لرسوله: قل لهم: لا تغتروا بما وَصَلْتُمْ إليه من الدنيا ولذَّاتها، بل سيروا في الأرض لترعرفُوا صحة ما أخبركم الرسولُ عنه من نزول العذاب بمن كذب الرسل من الأمم السَّالفة قبلكم. يحذر كفار «مكّة» ، ويحتمل هذا السير أنْ يكون بالعقول والفِكَرِ، ويحتمل السَّيْرَ في الأرضِ. قوله: «ثُمَّ» انْظُرُوا «: عطف على» سِيرُوا «ولم يجئ في القرآن العطف في مثل هذا الموضوع إلاَّ بالفاء، وهنا جاء ب» ثم «فيحتاج إلى فَرْقٍ. فذكر الزمخشري الفرق وهو: أنْ جَعَل النَّظَرَ مُسَبَّباً عن السَّيْرِ في قوله:» فانْظُرُوا «كأنه قيل: سِيُروا لأجْلِ النظرِ، ولا تسيروا سَيْرَ الغافلين. وهنا معناه إبَاحَةُ السَيَّرِ في الأرض للتجارة وغيرها من المَنَافِع، وإيجاب النظر في آثار الهالكين، ونبَّه عل ذلك ب» ثمَّ «لِتَبَعُدِ ما بين الواجب والمباح. قال أبو حيَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: وما ذكر أوَّلاً مُتَنَاقض؛ لأنه جعل النظر مُتَسَبِّباً عن السَّيْرِ، فكان السَّيْرُ سبباً للنَّظَرِ، ثم قال: فكأنه قيل: سيروا لأجْلِ النَّظَرِ، فجعل السَّيْرَ مَعْلُولاً بالنَّظَرِ، والنَّظَرِ، سَبَبٌ له فَتَنَاقَضَا، ودعوى أن» الفاء «سببيةٌ دعوى لا دَلِيلَ عليها وإنَّما مَعْنَاها التَّعْقِبُ فقط، وأمَّا» زَنَى ماعِز فَرُجم «فَفَهْمُ السببية من قَرِينَةٍ غيرها. قال:» وعلى تقدير [تَسْلِيم] إفادتها السَّبَبَن فَلِمَ كان السيرُ هنا سَيْرَ إباحةٍ، وفي غيره سَيْرَ إيجاب؟ «. وهذا اعترض صحيح إلاَّ قوله:» إنَّ «الفاء» لا تفيد السَّبِبِيَّةَ «فإنه غيرُ مُرْضٍ، [ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 43 ودليله في غير هذا الموضع] ومثُل هذا المكان في كون الزَّمَخْشَرِيّ جعل شيئاً عِلَّةً، ثم جعله مَعْلولاً، كما سيأتي إن شاء الله - تعالى - في أوَّلِ» الفتح «ويأتي هناك جوابه. قوله:» كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ «كَيْفَ» خبرٌ مقدَّمٌ، و «عاقبة» اسمها، ولم يُؤنَّثْ، فعلْها؛ لأنَّ تأنيثها غير حقييقي؛ ولأنها بتأويل المآلِ والمُنْتَهَى، فإنَّ العاقبة مَصْدَرٌ على وزن «فاعلة» وهو محفوظ في ألْفَاظ تقدَّمَ ذِكْرُها وهي منتهى الشيء وما يَصيرُ إليه. والعاقبةُ إذا أطْلِقَتْ اختصت بالثواب قال تعالى: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ} [الأعراف: 128] وبالإضافة قد تستعمل في العُقُوبةِ كقوله تبارك وتعالى: {ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السواءى} [الروم: 10] ، {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار خَالِدِينَ فِيهَا} [الحشر: 17] فَصَحَّ أن تكون اسْتِعَارةً من ضدَّهِ كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] . و «كَيْفَ» مُعَلِّقة للنظر، فهي في مَحَلِّ نصبٍ على إسْقَاط الخافضح لأنَّ معناه هنا التَّفَكُّرُ والتدبُّرُ. والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 «لِمَنْ» خَبَرٌ مقدَّمٌ واجبُ التقديم، لاشْتِمَالهِ على مَا لهُ صَدْرُ الكلام، فإنَّ «مَنْ» استفهامية [والمبتدأ «ما» وهي بمعنى «الذي» ] ، والمعنى: لمن اسْتَقَرَّ الذي في السموات. وقوله: «قُلْ للَّهِ» قيل: إنَّمَا أمَرَه أن يجيب، وإن كان المقصود أن يُجِيبَ غيره؛ ليكون أوَّل من بَادرَ بالاعتراف بذلك. وقيل: لمَّا سِألَهُمْ كأنَّهم قالوا: لمن هو؟ فقال اللَّهُ: قُلْ للَّهِ، ذكره الجُرْجَانِيُّ فعلى هذا قوله: «قُلْ للِّه» جوابٌ للسؤال المُضْمَرِ الصَّادِرِ من جهة الكُفَّارِ، وهذا بَعِيدث؛ لأنهم لم يكونوا يَشكُّون في أنَّهُ للَّهِ، وإنما هذا سؤالُ تَبْكِيتٍ وتَوبِيخٍ، ولو أجابو الم يَسَمْهُمْ أن يُجيبوا إلاَّ بذلك. وقال ابن الخَطيبِ: إنَّ اللَّهَ - تبارك وتعالى - أمَرَهُ بالسُّؤالِ أوَّلاً، ثمَّ بالجواب ثانياً، وهذا إنَّما يَحْسُنُ في المَوْضِعِ الذي يكونُ جوابُهُ قد بَلَغَ في الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره مُنْكِرٌ، ولمَّا كانت آثار الحدوث والإمْكان ظاهرة في ذَوَاتِ جميع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 44 الأجْسَامِ، وفي جميع صفاتها، ولا جَرَمَ كان الاعْتِرَافُ بأنها بأسرها للَّه تعالى، ومِلْكٌ له، ومَحَلُّ تَصَرُّفِهِ وقُدرَتِهِ، لا جَرَمَ أمره بالسُّؤالِ أوّلاً، ثم بالجواب ثانياً لِيَدُلَّ ذلك على الإقْرَارَ بهذا المعنى ممَّا لا سبيل إلى دفعه ألْبَتَّةَ، كما قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] وقوله: «اللَّه» خبر مبتدأ محذوف أي: هو اللَّهُ. فصل في المراد بالآية والمقصودُ من هذه الآية الكريمة تَقْرِيرُ إثْبَاتِ الصَّانع، وتقرير المعاد، وتقرير النُّبُوَّةِ، أما تقدير إثبات الصَّانِع، فلأن أحوال العالم العُلْوِيّ والسُّفْلي تدلُّ على أنَّ جميع هذه الأجْسَام موضوفةٌ بصفات كان يجوز عليها اتَّصَافُها بأضْدَادِهَا، وإذا كان كذلك كان اخْتِصَاصُ كُلِّ جُزْسِ منها بصفة مُعَيَّنَةٍ لابُدَّ وأن يكون لأجل أنَّ الصانعَ الحكيم القَادِرَ المُخْتَارَ خَصَّهُ بتلك الصِّفَةِ المعنية، وهذا يَدُلُّ على أن العَالَم مع كل ما فيه مَمْلُوكٌ للَّهِ تعالى، وإذا ثَبَتَ كَوْنُهُ قَادٍراً على الإعَادَةِ والحَشْر والنَّشْرِ؛ لأن التركيب الأوَّل إنما حَصَلَ لكونه - تبارك تعالى - مَلِكٌ مُطَاع، والمَلِكُ المُطاع مَنْ لَهُ الأمْرُ والنهي على عَبِيدهِ، لا بُدَّ من مُبَلِّغ، وذلك يَدُلُّ على أن بعْثَةَ الأنبياء والرُّسُلِ عليهم الصّلاة والسَّلام من اللَّهِ إلى الخَلْقَ غير ممتنع، فدَلَّت هذه الآية الكريمة على هذه المطالب الثلاثة، ولما سَبَقَ ذِكْرُ هذه المَسَائِلِ الثلاثةً ذكر اللَّهُ - تبارك وتعالى - بعدها هذه الآية لتكون مَقْرُنةً بمجموع تِلْكِ المَطَالِبِ. قوله: «كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ» أي: قَضَى وأوْجَبَ إيجَابَ تَفَضُّلٍ، لا تضمَّن من معنى القَسَمِ، وعلى هذا فلا توقُّف على قوله: «الرَّحْمَة» . وقال الزجاج: إن الجملة في قوله: ليجمعنَّكم «في محل نصب على أنها بَدَلٌ من الرحمةِ؛ لأنه فسَّرَ قوله تعالى:» ليجمعنَّكم «بأنه أمْهَلَكم وأمَدَّ لكم في العُمْرِ والرِّزْقِ مع كُفْركم، فهو تفسيرٌ للرحمة. وقد ذكر الفَرَّاء هذين الوجهين: أعني أن الجملة تَمَّتْ عن قوله تعالى: «الرَّحْمَة» ، أو أنَّ «ليجمعنَّكُمْ» بَدَلٌ منها، فقال: إن شئت جعلت الرَّحْمَةَ غَايَة الكلام، ثم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 45 اسْتَأنَفْتَ بعدها «لَيَجْمَعَنَّكُمْ» وإن شئت جَعَلْتَهَا في موضع نصبٍ كما قال: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ} [الأنعام: 54] قال شهابُ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: واسْتِشْهَادَهُ بهذه الآية الكريمة حَسَنٌ جداً. ورَدَّ ابن عطيَّة هذا بأنه يَلْزَمُ دخول نون التوكيد [في الإيجاب قال: وإنما تدخل على الأمْر والنهي، وجواب القَسَمِ، ورد أبو حيان حصر ابن عطيَّة ورود نون التوكيد] فيما ذكر صحيحٌ، وردَّ كون «ليجمعنَّكم» بدلاً من الرحمة بِوَجْهٍ آخر، وهو أنَّ «ليجعنكم» جوابُ قَسَم، وجملةُ الجوابِ وَحْدَهَا لا موضوع لها من الإعراب، إنما يُحْكمُ على مَوْضع جملتي القَّسِمِ والجواب بمحلِّ الإعراب. قال شهابُ الدين: وقد خلط مَكِّي المَذْهَبَيْنِ، وجعلهما مذهباً واحداً، فقال: «لَيَجْمَعنَّكُمْ» في موضع نصبٍ على البَدَلِ من «الرحمة» واللام لام القَسَمِ، فهي جواب «كَتَبَ» ؛ أنه بمعنى: أوْجَبَ ذلك على نَفْسِهِ، ففيه معنى القَسَم، وقد يظهر جوابٌ عما أوْرَدَهُ أبُو حيَّانَ على غير مكي، وذلك أنهم جَعَلُوا «لَيَجْمَعَنَّكُم» بَدَلاً من الرَّحْمَةِ - يعني هي وقَسِيمها المحذوف، واستغنوا عن ذك القَسَمِ، لا سيما وهو غير مذكور. وأمَّا مكِّي فلا يظهر هذا جواباً له، لأنَّه نَصَّ على أنَّهُ جواب ل «كتب» ، فمن حَيْثُ جَعَله جَوَاباً ل «كَتَبَ» لا مَحَلَّ له، ومن حَيْثُ جعله بَدَلاً كان مَحَلُّه النَّصْبَ، فَتَنَافَيَا، والذي ينبغي في هذه الآيةِ الكريمةِ أنْ يكون الوَقْفُ عند قوله: «الرحمة» . وقوله: «ليجمعنَّكم» جوابُ قَسَم محذوف أي: «واللَّهِ ليجعنَّكُم» ، والجملة القَسِمِيَّةُ لا مَحَلَّ لها بما قبلها من حَيْثُ الإعْرَاب، وإنْ تعلَّقت به من حَيْثُ المعنى. و «إلى» على بابها، أي: ليجمعنَّكم منتهين إلى يوم القيامة. وقيل: هي بمعنى «اللاَّمط كقوله تعالى: {إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ} [آل عمران: 9] وقيل: بمعنى» في «أي: لَيَجمعنَّكُمْ في يوم القيامة. وقيل: هي زائدة، أي: ليجمعنكم يوم القيمامة، وقد يشهد له قراءة من قرأ {تهوي إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] بفتح» الواو «إلاَّ أنه لا ضرورةَ هنا إلى ذلك. وتقدَّمَ الكلامُ في {لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى} في أول» البقرة « [البقرة: 2] والجملة حالٌ من» يوم «والضمير في» فيه «يَعُودُ على» اليوم «. وقيل: يَعُودُ على الجَمْعِ المدلول عليه بالفَعْلِ؛ لأنه رَدٌّ على منكري القيامة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 46 فصل في الكلام على الآية قال بعضهم: هذا كلامُ لا تَعَلُّق له بما قبله، فيه تصريح بكمال إلهيته سبحانه تعالى بقوله: {قُل لِّمَن مَّا فِي السماوات والأرض قُل للَّهِ} ثم بَيَّن - تبارك وتعالى - أنه يرحمهم بالإمْهَالِ، ورفع عذاب الاستئصالن وبيَّنَ أنَّهُ يجمعهم إلى يوم القَيَامَةِ. فقوله: {كَتَبَ على نَفْسِهِ الرحمة} ، أي: يمهلمهم. وقوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} أنَّهُ لا يمهلهم بل يحشرهم ويُحَاسِبُهم بِكُلِّ ما فعلوا. وقال آخرون: إنه متعلّق [بما قبله] ، والتقدير: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحَمْةَ ليجمعنَّكم إلى يوم القيامة} . وقيل: إنه لمَّا قال: كتب ربكم على نفسه الرحمة، فكأنه قيل: وما تلك الرحمة؟ فقيل: إنَّهُ تبارك وتعالى «ليجمعنكم» [إلى يوم القيامة «وذلك لأنَّهُ خَوْفُ العذاب لحصل الهَرَجُ والمَرَجُ فصار يوم القيامة من أعظم أسْبَابِ الرحمة، فكان قوله: {لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة} . كالتفسير لقوله: {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 54] . فصل في المراد بهذه الآية اختلفوا في المُرادِ بهذه الرَّحْمَةِ، فقيل: إنَّهُ -[تبارك وتعالى]- يُمْهِلهُمْ مُدَّةَ عُمْرِهِمْ، ويدفعُ عنهم عَذَابَ الاسْتِئْصَالِ، ولا يعاجلهم بالعُقُوبَةِ [في الدنيا] . وقيل: المُرَادُ» كَتَبَ عَلَى نَفْسه الرَّحْمَةَ «لمن ترك التَّكْذِيِبَ بالرُّسُلِ، وقبل شريعتهم وتاب. فصل في الإخبار عن سعة رَحِمَهُ اللَّهُ ورى أبو هرير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ كَتَبَ كَتَاباً فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ العَرْشِ إنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي «. وروى أبو الزّنَادِ، عن الأعْرَجِ، عن أبي هريرة:» إنَّ سِبَقِتْ غَضَبي «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 47 وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رَسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّ للِّهِ مِائَة رَحْمةٍ وَاحِدةٌ منها بَيْنَ الجِنِّ والإنْس والبَهَائِم والطير والهَوَامِّ فِيْهَا يتعاطفون وبها يَتَراحَمُونَ، وبِهَا تَعْطِفُ الوُحُوشُ عَلَى أوْلادِهَا وأخَّر تِسْعاً وتسعين رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهاَ عِبَادةُ يَوْمَ القِيَامَةِ «. وعن عمر بن الخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال:» قَدِمَ على النَّبيِّ صلى الله عليه وسملم صَبِيُّ، فإن امرأةٌ من السَّبْي قَدْ تَحْلِبُ ثَدْيَهَا لِسَقْي إذ وَجَدَتْ صبياً في السَّبْي، فأخَذَتُهُ فألصَقَتْهُ بِبطْنِهَا وَأرْضَعتْهُ فَقَال لَنَا رَسُولُ اللِّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتَرَونَ هَذِهِ طَارحَةً وَلَدهَا في النَّارِ. قُلْنَا: لا وهِي تَقْدِرُ عَلَى أنْ تَطْرَحَهُ، فقالَ: لَلَّهُ أرْحَمُ بِعِباَدِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلدهَا «. قوله:» الَّذِينَ خَسِرُوا «فيه ستَّة أوجه: أحدهما: أنه مَنْصُوبٌ بإضمار» أذُمُّ «ن وقَدَّره الزَّمخشري ب» أريد «، وليس بِظَاهرٍ. الثاني: أنه مبتدأ أخْبِرَ عنه بقوله:» فهم لا يُؤمِنُون «، وزيدت الفاءُ في خبره لِمَا تَضَمَّنَ من معنى الشَّرْطِ، قاله الزجاج، كأنه قيل: مَنْ يَخْسَرْ نَفْسَهُ فهو لا يومن. الثالث: أنه مجرور على أنه نَعْتٌ للمكذِّبين. الرابع: أنه بَدَلٌ منهم، وهذان الوَجْهَانِ بعيدان. الخامس: أنه مَنْصُوبٌ على البَدَلِ من ضمير المُخَاطب، [وهذا] قد عرفت ما فيه غير مَرَّةٍ، وهو أنه يُبْدَل من ضمير الحَاضِر بَدَل كُلِّ من كل في غير إحاطة ولا شمول أم لا؟ ومذهبُ الأخفشِ جوازه، وقد تقدَّم دَلِيلُ الفَريقَيْنِ، وردَّ المبردُ عليه مَذْهَبَهُ، بأنَّ البَدَلَ من ضمير الخطابِ لا يجوز، كما لا يجوز: «مررتُ بَكَ زيد» وهذا عجيب؛ أنه اسْتِشْهَادٌ بمحلِّ النزاع، وهو «مَرَتُ بك زيدٍ» ، وردَّ ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - ردَّه فقال: «ما في الآية مُخَالِفُ للمثال؛ لأنَّ الفائدة في البدل مُتَرتِّبَةٌ من الثاني، فأمَّا في» مررتُ بك زيدٍ «فلا فائدة في الثاني. وقوله:» لِيَجمَعَنَّكُمْ «يَصْلُحُ لِمُخَاطَبةِ النَّاس كافَّةً، فيفيدنُا إبدال» الَّذينَ «من الضمير أنهم هم المختصُّون بالخِطَابِ، وخُصُّوا على جهة الوَعيدِ، ويجيءُ هذا إبْدال البعضِ من الكُلِّ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 48 قال أبو حيَّان: «هذا الرَّدُ ليس بِجَيِّدٍ؛ لأنه إذا جعلنا» لِيَجْمَعَنَّكُم «صالحاً لخِطَابِ جميع النَّاس كان» الَّذين «بَدَلَ بعض، ويحتاج إذا ذالك إلى ضميرٍ، تقديره: خَسِرُوا أنْفُسَهُمْ فِيْهُمْ وقوله:» فيفيدنا إبْدَال الذين من الضمير أنهم هم المُخْتَصُّون بالخَطَابِ، وخُصُّوا على جِهَةِ الوعيدِ «وهذا يقتضي أن يكون بدل كلّ، فتناقَضَ أوَّل كلامه مع آخره؛ لأنه من حَيْثُ الصَّلاحِيّةُ بدل بعض، ومن حيث اخْتِصاص الخِطَابِ بهم يكون بدلَ كُلّ، فَتَنَاقَضَا» . قال شهابُ الدِّينِ: ما أبْعَدَهُ عن التَّنَاقُضِ، لأن بدل البعض من الكُلِّ من حملةِ الخصِّصَات، كالتخصيص بالصِّفةِ والغاية والشرط، نصَّ العلماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 49 على ذلك فإذا تقرَّرَ هذا، فالمُبْدَلُ منه بالنسبة إلى اللَّفظِ في الظاهرِ عامُّ، وفي المعنى ليس المُرَادُ به إلاَّ ما أرَادَهُ المتكلِّم، فإذا وردَ: «واقتلوا المُشركين بين فلان» مثلاً، فالمشركون صالحٌ لكُلِّ مُشْرِكٍ من حيثُ اللَّفظِ، ولكنَّ المُرادَ به بَنُو فلان، فالعموم في اللفظ والخُصُوص في المعنى، فكذا قَوْلُ أبي مُحَمَّدٍ لمُخَاطَبةِ الناس، معناه أنه يَعُمُّهُمْ لَفْظاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 50 وقوله «فيفيدنا إبدال الضمير إلى آخره» هذا هو المُخَصِّص فلا يجيء تناقُقَ ألْبَتَّة، وهذا مقرر في «أصول الفقه» . السادس: أنه مَرْفُوعٌ على الذَّمِّ، قاله الزَّمخشري، وعبارته فيه وفي الوجه الأول: «نَصْبٌ على الذم أو رَفْعٌ، أي: أريد الذين خَسِرُوا أنفسهم، أو أنتم الذين خَسِرُوا أنفسهم» انتهى. قال شهابُ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «إنما قَدَّر المبتد» أنتم «ليرتبط مع قوله:» ليجمعنَّكم «، وقوله:» خسروا أنفسهم «من مُراعاةِ الموصول، ولو قال:» أنتم الَّذين خسروا أنفسكم «مُراعَاةً للخطابٍ لجَازَ، تقول: أنت الذي قَعَدَ وإن شئت: قَعَدْت» . فإن قيل: ظَاهِرُ اللَّفظِ يَدُلُّ على أنّ خُسْرَانهم سبب لعدم إيمانهم، والأمر على العكس؟ فالجواب: أنَّ هذا يَدُلُّ على أن سَبْقَ القضاء بالخُسْرَانِ والخِذْلانِ هو الذي حملهم على الامْتَنَاعِ من الإيمان، وهو مذهب أهْلِ السُّنَّة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 قوله: «ولَهُ مَا سَكَن» : جملة من مُبْتَدَأ وخبر، وفيها قولان: أظهرهما: أنها اسْتَئْنَافُ إخبار بذلك. والثاني: أنها في مَحَلّ نَصْبٍ نَسَقاً على قوله: «الله» ، أي: على الجملة المَحْكيَّةِ ب «قل» أي: قل: هو الله، وقل: له ما سَكَنَ. و «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، ولا يجوز غَيْرُ ذلك. و «سَكَنَ» قيل: معناه ثَبَتَ واسْتَقَرَّ، ولم يذكر الزمخشري غيره. كقولهم: فلان يسكنُ بَلْدَة كذا، ومنه قوله تبارك وتعالى {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُم} [إبراهيم: 45] . وقيل: هو مِنْ «سَكَنَ» مقابل «تَحَرَّك» ، فعلى الأوَّل لا حذف في الآية الكريمة. قال الزمخشري: وتعدِّية ب «في» كما في قوله: {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُم} [إبراهيم: 45] ، ورجَّع هذا التفسير ابن عطية. وعلى الثَّاني اخْتَلَفُوان فمنهم من قال: لا بُدَّ من محذوفٍ لِفَهْمِ المعنى، وقدَّر ذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 51 المحذوف معْطُوفاً، فقال: تقديره: لوه ما سَكَنَ وما تحرك، كقوله في موضع آخر: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبَرْد وحذف المعطوف فاشٍ في كلامهم، وأنشد القائل في ذلك: 2116 - كَأنَّ الحَصَى مِنْ خَلْفِهَا وَأمَامِهَا ... وإذَا نَجَلَتْهُ رِجْلُهَا خَذْفُ أعْسَرَا وقال الآخر: [الطويل] 2117 - فَمَا كَانَ بَيْنَ الخَيْرِ لَوْ جَاءَ سَالِماً ... أبُو حُجُرِ إلاَّ لَيَالٍ قَلاَئِلُ يريد: رِجْلَهَا ويدها، وبين الخير وبيني. ومنهم من قال: لا حَذْفَ؛ لأنَّ كُلَّ متحرك قد يسكن. وقيل: لأنَّ المُتَحرِّكَ أقَلُّ، والساكن أكثرُ، فلذلك أوثِرَ بالذِّكْرِ. وقيل: إنما خصَّ السُّكون بالذِّكْرِ، لأن النعمة فيه أكثر. فصل في نظم الآية قال أبو مسلم: وجه نَظْمَ الآية الكريمة أنه - تبارك وتعالى - ذَكَرَ في الآية الأولى: السَّمَوَات والأرضِ؛ إذ لا مكانَ سِوَاهُمَا، وفي هذه الآية الكريمة ذكر الليل والنَّهار، إذ لا زمان سواهما، فالزَّمَان والمكان ظرفان للمحدثات، فأخبر - تبارك وتعالى - أنه مَالِكٌ للمكان والمَكَانِيَّاتٍ، ومالك للزَّمانِ والزَّمانِيَّاتِ. قال محمد بن جرير: كُلُّ ما طلعت عليه الشَّمْسُ وغَرَبَتْ، فهو من مَسَاكن اللَّيل والنَّهَار، والمراد جميع ما في الأرض. وقيل: مَعْنَاه له ما يمرُّ عليه اللَّيْلُ والنَّهَارُ، وهو السميعُ لأصواتهم، العَلِيمُ بأسْرَارِهِمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 أغَيْرَ اللَّهِ «مفعول أوّل ل» أتَّخِذُ «و» لياً «مفعولٌ ثانٍ، وإنما قدَّم المفعول الأوَّل على فعله لمعنى، وهو إنكار أن يُتَّخَذَ غَيْرَ اللَّهِ وليّاً لا اتّخَاذ الوليّ، ونحوه قولك لمن يُهِينُ زيداً وهو مستحقٌّ للإكرام:» أزيداً أهّنْتَ «؟! أنْكَرْتَ أن يكون مَثْلَهُ مُهَاناً. وقد تقدَّم هذا موضحاً في قوله: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] ، ومثله: {أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً} [الأنعام: 164] ، {أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64] {ءَآللَّهُ أَذِنَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 52 لَكُمْ} [يونس: 59] {ءَآلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ} [الأنعام: 143] وهو كثيرٌ، ويجوز أن يكُونَ» أتخذ «متعدّياً لواحدٍ، فيكون» غير «مَنْصُوباً على الحال من» ولياً «؛ لأنه في الأصل صِفَةٌ له، ولا يجوز أن يكُونُ استثناءً ألْبَتَّةَ، كذا منعه أبو البقاء، ولم يُبَيَّنْ وجهه. والذي يظهر أنَّ المَانِعَ تقدُّمه على المستثنى منه في المعنى، وهو» وَلياً «. وأمَّا المعنى فلا يَأبى الاستثناء؛ لأن الاستفهام لا يُرَادُ به حقيقته، بل يُراد به الإنْكَار، فكأنه قيل: لا أتَّخذُ وليَّا غير اللَّه، ولو قيل كذا لكان صحيحاً، فظهر أنَّ المانع عنده إنما هو التَّقْديِمُ على المستثنى منه، لكن ذلك جائز وإن كان قليلاً، ومنه: [الطويل] 2118 - ومَا لِي إلاَّ آل أحْمَدَ شِيعَةٌ ... وَمَا لِيَ إلاَّ مَشْعَبَ الحَقَّ مشْعَبُ وقرأ الجمهور» فَاطرِ «بالجر، وفيها تخريجان: أحدهما - وبه قال الزخشريّ والحوفيّ وابن عطيّة -: صفة للجلالة المجرورة ب» غير «، ولا يَضُرُّ الفَضْلُ بين الصِّفَةِ، والموصوف بهذه الجملة الفعلية ومفعولها؛ لأنها ليست بأجنبيةٍ، إذ هي عاملةٌ في عامل الموصوف. الثاني - وإليه نَحَا أبو البقاء -: أنه بَدَلٌ من اسم اللَّهِ، وكأنه فَرَّ من الفَصْلِ بين الصٍّفةِ وموصوفها. فإن قيل: هذا لازمٌ له في البد، فإنه فَصَل بين التاَّبع ومتبوعه أيضاً، فيقال: إنَّ الفَصْلَ بين البدلِ والمبدل فيه أسهلح لأن البَدَلَ على نِيَّةِ تَكْرَارِ العمال، فهو أقربُ إلى الفَصْلِ، وقد يُرجَح تخريجه بوَجْهِ آخر، وهو أنَّ» فاطر «اسم فاعل، والمعنى ليس على المُضِيِّ حتى تكون إضافته غير مَحْضَةٍ، فيلزم وَصْفُ المعرفة بالنَّكرة؛ لأنه في نيَّةِ الانفصال من الإضافة، ولا يقال: اللَّهُ فَاطِرُ السموات والأرض فيما مضى، فلا يُرَادُ حالٌ ولا استقبالٌ؛ لأن كلام اللِّهِ - تبارك وتعالى - قديمٌ متقدّمٌ على خَلْقِ السموات، فيكون المراتد به الاسْتِقْبَال قطعاً، ويَدُلُّ على جواز كونه في نيَّة التَّنْوين ما يأتي ذكره عن أبي البَقَاءِ قريباً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 53 وقرأ ابن عَبْلَةَ برفعه، وتخريجه سَهْلٌ، وهو انه خبر مبتدأ محذوف. وخرَّجه ابن عطية على أنه مبتدأ، فيحتاج إلى تقدير خَبَرِ، والدلالَةُ عليه خفيَّةٌ بخلاف تقدير المبتدأ، فإنه ضمير الأول، أي:» هو فاطر «. وقرئ شاذاً بنصبه، وخرَّجه أبو البقاء على وجهين: أحدهما: أنه بَدَلٌ من» ولياً «قال:» والمعنى على هذا أجْعَلُ فاطر السموات والأرض غير اللِّهِ «، كذا قدَّرَهُ، وفيه نظر،؛ لأنه جعل المفعول الأول، وهو» غير الله «مفعولاً ثانياً، وجعل البدل من المفعول الثاني معفولاً أوَّل، فالتدقير عَكْسُ التركيب الأصلي. والثاني: أنه صِفَةٌ ل «ولياً» قال: ويجوز أن يكون صَفَةٌ ل «وَليّاً» والتنوين مُرَادٌ. قال شهاب الدين: يعني بقوله: «التنوين مُرَاد» أنَّ اسم الفاعل عاملٌ تقديراً، فهو في نِيَّةِ الانْفَصَالِ، ولذلك وقع وَصْفاً للنكرة كقوله: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] . وهذا الوجه لا يَكَادُ يَصِحُّ، إذ يصير المعنى: أأتَّخِدُ غير اللَّهِ وليّاً فاطر السموات الحال من الجلالةِ، كما كان «فاطر» صفتها في قراءة الجمهور. ويجوز على رأي أبي البقاءِ أن تكون صَفَةٌ ل «وليَّاً» ، ولا يجوز أن تكون صَفَةً للجلالة؛ لأن الجملة نكرةٌ. والفَطْرُ: الشَّقُّ مُطْلقاً، وقيَّدَهُ الرَّاغب بالشَّقِّ طولاً، وقيَّدّهُ الواحدي بشقِّ الشيء عند إبتدائه. والفطرُ: إبداع وإيجاد شيء على غير مثال، ومنه {فَاطِرِ السماوات والأرض} ، أي: أوجدها على غير مثال يُجْتدى. وعن ابن عبَّاس: ما كنتُ أدْرِي ما معنى فَطَر وفَاطِر، حتَّى اختصم إليَّ أعْرَابيَّان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 54 في بِئرِ، فقال أحدهما: «إنا فَطَرتُهَا» ، أي: أنْشَأتُهَا وابتدأتها. ويقال: فَطَرْتُ كذا فَطْراً وفَطَر هو فُطوراً، وانْفَطَرَ إنْفَطَاراً وفَطَرْتُ الشَّاة: حَلَبْتُهَا بأصْبُعَيْنِ، وفَطرْتُ العَجينَ: خبرْته في وَقْتِهِ. وقوله تبارك وتعالى: {فِطْرتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا} [الروم: 30] إشارة منه إلى ما فَطَرَ، أي: أبدع وركز الناس من معرفته [ما ركز] ، ففطرة اللِّهِ ما رُكِّز من القُوِّةِ المُدْرِكة لمعرفته، وهو المُشَارُ إليه بقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله} [الزخرف: 87] . وعليه: «كُلُّ مولودٍ يُوْلَدُ على الفِطْرَةِ» الحديث. وهذه الآية الكريمة نزلت حين دعا إلى الله آباءه فقال تعالى: يا محمد {قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} رباً معبوداً وناصراً ومعيناً. قوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} القراءة المَشْهُرة ببناء الأوَّل للفاعل، والثَّاني للمعفول، والضمير للِّهِ تعالى، والمعنى: وهو يَرْزَق، وهو موافق لقوله تعالى: {مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ} [الذاريات: 57] . وقرأ سعيد بن جبير، ومجاهد بن حبر، والأعمش، وأبو حيوة، وعمرو بن عبيد، وأبو عمرو العلاء في رواية عنه: وَلاَ يَطْعَمُ «بفتح الياء والعين، والضميرُ في ولا يُطْعِم للولِيّ. وقرأ يعقوب في رواية أبي المأمون:» وهو يُطْعَمُ ولا يُطْعِم «ببناء الأوَّل للمفعول، والثَّاني للفاعل، على عَكْسِ القراءة المشهورة، والضمائر الثلاثة أعني هو والمستترين في الفعلين للولي فقط أي: وذلك الولي يُطعمه غيره، ولا يُطْعِمُ هو أحداً لعَجْزِه. وقرأ الأشْهَبُ:» وهو يُطْعِمُ ولا يُطْعِم «ببنائهما للفاعل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 55 وذكر الزمخشري فيهما تخريجين ثانيهما لنفسه، فإنه قال بعد أن حَكَى القراءة: وفُسِّر بأنَّ معناه وهو يُطْعِم ولا يِسْتطْعمِ. وحكى الأزهري: أطعمت بمعنى اسْتَطْعِمْتُ، ونحوه: أفّدْت، ويجوز أن يكون المعنى: هو يُعطْعِمُ، تارةٌ، ولا يُطْعم أخرى على حسب المَصَالِحِ، كقولك: هو يعطي ويمنع، ويَقْدر ويبسط ويغني ويُفْقر. قال شهابُ الدين: هكذا ذكر أبو حيَّان هذه القراءات. وقراءةُ الأشهب هي كقراءة ابن أبي عَبْلَةَ والعماني سواء لا تَخَالُفَ بينهما، فكان ينبغي أن يذكر هذه القراءة لهؤلاء كُلِّهم، وإلاَّ يوهم هذا أنهما قِرَاءتانِ مُتغَايرَتَانِ، وليس كذلك. وقُرئَ شاذّاً: «يَطْعَمُ» يفتح الياء والعين، «ولايُطعم» بضم الياء وكسر العين، أي: وهو يأكل، ولا يطعم غيره، ذكره هذه القراءة أبو البقاء قال: «والضميرُ راجع على الوَليّ الذي غَيْرُ اللِّهِ» . فهذه ست قراءات، وفي بعضها - وهو تَخَالُفُ الفعلين - من صناعة البَديع تَجنيسُ التشكيل، وهو أن يكون الشَّكْلُ فارقاً بين الكلمتين، وسمَّاهُ أسَامةُ بن منقذ تجنيس التَّحْريفِ، وهو تَسْمِيَةٌ فَظِيعَةٌ، فتسميتهُ بتجنيس التَّشْكيل أوْلَى. قوله: {قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} يعني من هذه الأمَّةِ، والإسلامُ بمعنى الاسْتِسْلام لأمرِ اللِّهِ تعالى. وقيل: أسْلمَ أخْلَصَ، و «مَنْ» يجوز أن تكون نكرة موصوفةً واقعةً موقع اسم جمع أي: أوَّل فريق أسلم، وأن تكون موصولةً أي: أوَّل الفريق الذي أسْلَم، وأفرد الضمير في «أسلم» إمَّا باعتبار «فريق» المُقَدَّر وإمَّا باعتبار لَفْظِ «مَنْ» ، وقد تقدَّم الكلام على «أول» وكيف يُضَاف إلى مفرد بالتأويل المذكور في سورة البقرة. قوله: «ولا تَكُونَنَّ» فيه تأويلان: أحدهما: على إضمار القول، أي: وقيل لي: لا تكونن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 56 قال أبو البقاء: «ولو كان مَعْطُوفاً على ما قبله لَفظاً لقال: وأنْ لا أكون» وإليه نَحَا الزمخشري فإنه قال: «ولا تَكُونَنَّ: وقيل لي لا تكونَنَّ، ومعناه: وأُمرت بالإسْلامِ، ونُهيت عن الشِّرْكِ» . والثاني: أنه مَعْطُوفٌ على معلوم «قُلْ» حَمْلاً على المعنى، والمعنى: قل إني قيل لي: كُنْ مَنْ أسلمٍ، ولا تكوننَّ من المشركين، فهما جميعاً محمولان على القَوْلِ، لكن أتى الأوَّل بغير لفظ القول، وفيه معنهاه، فَحُمِلَ الثاني على المعنى. وقيل: هو عَطْفٌ على «قل» أُمِرَ بأن يقول كذا، ونهي عن كذا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 قوله: {قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} فعبدت غيره «عذاب يوم عطيم» أي عذاب يوم القيامة، و «إنْ عصيت» شرط حُذف جوابه لدلالة ما قبله عليه، ولذلك جيء بفعل الشرط ماضياً، وهذه الجملة الشرطية فيها وجهان: أحدهما: أنه معترضٌ بين الفِعْلِ، وهو «أخاف» وبين مفعوله وهو «عذاب» . والثاني: أنَّها في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال. قال أبو حيَّان: كأنه قيل: «إني أخافُ عَاصٍياً ربِّي» ن وفيه نظر؛ إذ المعنى يَأبَاهُ. و «أخَافُ» وما في حَيِّزِه خبر ل «إنَّ» ، وإنَّ وما في حيِّزِهَا في مَحَلّ نصب ب «قل» وقرأ ابن كثيرِ، ونافع «إنِّيَ» بفتح الياء، وقرأ أبو عمرو، والباقون بالإرسال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 «مَنْ» شرطيةٌ، ومَحَلُّها يحتمل الرَّفْع والنصب، كما سيأتي بيانه. وقرأ الأخوان، وأبو بكر عن عاصم: «يَصْرف» بفتح الياء وكسر الراء على تسمية الفاعل. والباقون بضمِّ الياء وفتح الراء على ما لم يُسَمَّ فاعله. فأمَّا في القراءة الأولى، ف «مَنْ» فيها تَحْتَمِلُ الرفع والنصب، فالرفعُ من وجهِ واحدٍ، وهو الابتداء، وخبرها فعل الشَّرطِ أو الجواب أو همان على حَسَبِ الخلاف، وفي مفعول «يَصْرِفط حينئذ احتمالان: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 57 أحدهما: أنه مَذْكُورٌ وهو» يومئذ «، ولا بُدَّ من حَذْفِ مَضَافٍ، أي: من يَصْرِفِ اللَّ عنه هَوْلَ يومئذ أو عذابَ يومئذ - فقد رحمه - فالضمير في» يَصْرِف «ن يعود على اللَّهِ تعالى، ويدلُّ عليه قراءة أبَيِّ بن كعبٍ» مَنْ يَصْرِف اللَّهُ «بالتصريح به. والضميران في» عنه «و» رحمه «ل» مَنْ «. والثاني: أنه محذوف لدلالِة ما ذكر عليه قَبْلَ ذلك، أي: مَنْ يَصْرف اللَّهُ عنه العذاب» يومئذ «منصوب على الظرِف. وقال مكيٌ:» ولا يَحْسُنُ أن تٌقَدَّر هاء؛ لأنها إنما تُحْذَفُ من الصِّلاتِ «. قتل شهابُ الدين: يعني أنه لا يُقَدَّر المَفْعُولُ ضميراً عائداً على عذاب يوم؛ لأن الجملة الشرطية عنده صِفَةٌ ل» عَذَاب «، والعائِدُ منها محذوف، لكنَّ الحَذْفَ إنما يكون الجملة الشرطية عنده صَفَةٌ ل» عَذَاب «، والعائِدُ منها محذوف، لكنَّ الحَذْفَ إنما يكون من الصِّلَةِ لا من الصِّفَةِ، وهذا معنى قول الواحديّ أيضاً، إلاَّ أنَّ قَوْلَ مَكي» إنما يُحْذّفُ من الصِّلاتِ «يريدُ في الأحسن، وإلاَّ فيحذف من الصِّفاتِ والأخبار والأحوال، ولكنَّه دون الصِّلة. والنصبُ من وجهين: أحدهما: أنَّه مفعول مُقَدَّمٌ ل» يَصْرِف «والضمير في» عنه ‘لى هذا يتعيَّنُ عودهُ على العذابِ المتقدمّ، والتقدير: أيَّ شخصٍ يصرفِ اللَّهُ عن العذاب. والثاني: أنه مَنْصُوبٌ على الاشْتِغَالِ بفعل مُضْمَرٍ لا يبرز، يفسره هذا الظَّاهِرُ من معناه لا من لَفْظِهِ، والتقدير: مَنْ نُكْرِمْ أو مَنْ نُنَجِّ يَصْرَف اللَّه. والضمير في «عنه» للشرطية. وأمَّا مفعول «يَصْرِفْ» على هذا فَيَحْتَمِلُ الوجهين المُتقدَّمينِ، أعني كونه مذكوراً، وهو «يومئذٍ» على حَذْفِ مُضافٍ، أو محذوفاً اختصاراً. وأمَّا القراءة الثَّانية ف «مِنْ» تحتمل وجهين: أحدهما: أنها في مَحَلّ رفع بالابتداء، وخبره ما بعده على ما تقدَّم والفاعل المَحْذُوفُ هو اللَّهُ - تعالى يَدُلُّ عليه قراءةُ أبّي المُتقدِّمةُ وفي القائم مقامه أربعة أوجه: أحدهما: أنه ضمير العذاب، والضمير في «عنهط يعود على» مَنْ «فقط، والظرف فيه حينئذ ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه منصوب ب» يصرف «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 58 والثاني: أنه منصوب بالعذاب، أي: الذي قام ضميره مقام الفاعل، قاله أبو البقاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ويلزم منه إعْمَالُ المصدر مضمراً، وقدر يقال: يُغْتَفَرُ ذلك في الظروف. الثالث: قال أبو البقاء: «إنه حالة من الضمير» - يعني الضمير الذي قامَ مقامَ الفاعل، وجازَ وقوع الحال ظَرْفَ زمان؛ معنّى لا عن جُثّة. الثاني من الأوجه الأربعة: أن القَائِمَ مقام الفاعل ضميره «مَنْ» والضمير في «عنه» يعُود على العذاب، والظَّرف منصوب، إمَّا ب «يُصْرف» وإمَّا على الحالِ من هاء «عنه» . الثالث: أنَّ القائم مقام الفاعل «يومئذ» إمَّا على حذف مضاف أي: من يُصْرَف عنه فَزَعُ أو هَوْلُ يومئذ، وإمَّا على قيام الظروف دون مضاف، كقولك: «سير يوم الجمعة» ، وإنما بُنِيَ «يومئذٍ» على الفَتْح لإضافته إلى غير مُتَمَكِّنِ، ولو قُرِئَ بالرفع لكان جِائَزاً في الكلام، وقد قرئ: {وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ} [هود: 66] فتحاً وجراً بالاعتبارين، وهما اعتبارانِ مُتَغَايِرَان. فإن قيل: يلزمُ على عدم تقدير حَذْفِ المضاف إقامةُ الظِّرْفِ غير التام مقام الفاعل، وقد نصُّوا على أنَّ الظَّرْفِ المقطُوعَ عن الإضافة لا يُخبَرُ به، ولا يقوم مقام فاعل، ولو قلت: «ضُرب قبلُ» لم يَجُزْ، والزرف هنا في حكم المقطوع عن الإضافة فلا يجوز هنا قيامه مقام الفاعل، إلاَّ على حَذْفِ مضاف، فالجواب أن هذا في قُوَّة الظَّرْفِ المضاف؛ إذ التنوين عِوَضٌ عنه، وهذا ينتهضُ على رَأي الجمهور أما الأخفش فلا، لأنَّ التنوين عنده تَنْوِنيُ صَرْفِ والكَسْرُ كَسْرُ إعراب. والرابع: أنَّ القائم مقامَهُ «عنه» ، والضميرُ في «عنه» يعودُ على «مَنْ» ، و «يومئذٍ» منصوب على الظَّرْفِ، والعامل فيه «يُصْرَفْ» ، ولا يجوز الوجهان الأخيران، أعني نَصْبَهُ على الحالِ، لأن الضمير لجُثَّة والزَّمَان لا يقع حالاً عنهما، كما لا يَقَعُ خبراً، وأعني كونه مَعْمُولاً للعذاب، إذ ليس هو قائماً مقام الفاعلِ. والثاني من وَجْهي «مِنْ» في مَحَلِّ نصب بفعل مُضْمَرٍ يفسّره الظاهرُ بعده، وهذا إذا جعلنا «عنه» في مِحَلِّ نصب بأنْ يُجْعَلَ القائم مقامَ الفاعل: إمَّا ضميرَ العذاب، وإمَّا «يومئذ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 59 والتقدير: مَنْ يكرم اللَّهُ، أو من يُنَجِّ يُصْرَفْ عنه العذابُ أو هولُ يومئذ، ونظيره: «زيدٌ به مُرُور حسن» ، أقمت المصدر فبقي «عنه» منصوب المَحَلّ. والتقدير: جاوزت زيداً مُرَّ به مُرُور حسن، وأمَّا جُعل «عنه» قائماً مقام الفاعل تعيَّنَ رفعهُ بالابتداء. وأعلم أنه متى قلت: مَنْصُوبٌ على الاشتغال، فإنما يُقدَّر الفعل بعد «مِنْ» ؛ لأن لها صدر الكلام، ولذلك لم أظْهِره إلاَّ مؤخّراً، ولهذه العِلَّةِ منع بعضهم الاشتغال فيما له صَدْرُ الكلام كالاسْتِفهَامِ والشرط. والتنوين في «يومئذٍ يكون الجزاء، وإنَّما قلنا ذلك؛ لأنه لم يتقدَّم في الكلام جملةٌ مُصَرَّحٌ بها يكون التنوين عَوَضاً منهان وقد تقدَّم خلافُ الأخفش. وهذه الجملة الشَّرطيَّةُ يجوز فيها وجهان: الاستئناف، والوصف ل» عذاب يوم «، فحيثُ جعلنا فيها ضميراً يعود على عذاب يوم، إمَّا مِنْ» يُصَرف «، وإمَّأ مِنْ» عنه «جاز أن تكون صفةٌ وهو الظَّاهر، وأن تكون مُسْتأنفةً، وحَيْثُ لم نجعلُ فيها ضميراً يعود عليه - وقد عرفت كيفية ذلك - تعيَّنَ أن تكون مُسْتَأنَفَةً، ولا يجوز أن تكون صِفَةً لخلوِّها من الضمير. وَرجَّع بعضهم إحْدى القراءَتَيْنِ على الأخرى، وذلك على عَادتِهِمْ، فقال أبو عَلِيِّ الفارسي: قراءة» يَصْرِف «يعني المبنيَّ للفاعل أحْسَنُ لمناسبة قوله:» رحمه «، يعني: أنَّ كُلاَّ منهما مَبْنيُّ للفاعل، ولم يقل:» فقد رُحِمَ «واختارها أبو حَاتِم، وأبو عُبَيْد، ورجَّعَ بعضهم قراءة المبنى للمفعول بإجماعهم على قراءة قوله: {لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] يعني في كونه أتى بصيفة اسم المَفْعُول المُسْنَدِ إلى ضمير العذابِ المذكور أوَّلاً. ورجَّحَهَا محمد بن جرير بأنها أقَلُّ إضماراً، ومكي - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَلَعْثَم في كلامه في ترجيحه لقراءة الأخوين، وأتى بأمثلةٍ فَاسِدَةٍ في كتاب» الهداية «له. قال ابن عطية:» وقد تقدَّمَ أوَّلَ الكتاب عن ثَعْلبٍ وغيره من العلماء أنَّ ترجيح إحدى القراءاتِ المتواترة على الأخرى بحيث تُضِعَّفُ الأخرى لا يجوز «. والجملة من قوله:» فقد رحمه «في محلّ جَزْمٍ على جواب الشرط والفاء واجبة. قوله:» وذلِكَ الفَوزُ «مبتدأ وخبر جيء بهذه الجُمْلَةِ مقرِّرةً لما تقدَّم من مضمون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 60 الجملة قبلها، والإشارَةُ ب» ذلك «إلى المَصْدَرِ المفهوم من قوله:» يُصْرف «، أي: ذلك الصرف. و» المبين «يحتمل أن يكون مُتَعَدِّياً، فيكون المفعول مَحْذُوفاً، أي: المبين غيرَه، وأن يكون قاصراً بمعنى يبين، وقد تقدَّمَ أنَّ» أبان «، يكون قاصراً بمعنى» ظَهَرَ «، ومتعدّياً بمعنى» أظهر «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 هذا دليل آخر في بَيَانِ أنه لا يجوز للعاقلِ أنْ يتّخذ ولياً غير الله. و «الباء» في قوله: «بِضُرِّ» للتعدية، وكذلك في «بخير» ، والمعنى: وإن يمسك اللَّهُ الضُّرَ، أي: يجعلك ماسَّاً له، وإذا مست الضر فقد مَسَّك، إلاَّ أن التَّعديَةَ بالباء في الفعل المُتَعَدِّي قليلةٌ جداً، ومنه قولهم: «صَكَكْتُ أحَدَ الحجرين بالآخر» . وقال أبو حيان: ومنها قولهك تعالى {وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} [البقرة: 251] . وقال الواحدُّ: - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «إن قيل: إن المَسَّ من صِفَةِ الأجَسْامِ فكيف قال: وإن يَمْسَسْكَ اللَّهُ؟ فالجواب» الباء «لتعدية، والباء والألف يتعاقَبَانِ في التَّعديَةَ، والمعنى: إن أمَسَّك اللَّهُ ضُرّاً، أي: جعله مَاسَّك، فالفعلُ للضُّرِّ، وإن كان في الظاهر قد أسند إلى اسمِ اللَّهِ تعالى، كقولك:» ذهبَ زيدٌ بعمرو «، وكان الذَّهابُ فِعْلاً لعمرو، غير أن زيداً هو المُسَبِّبُ له والحاملُ عليه، كذلك هنا الميسُّ للضُرِّ، والله - تعالى - جعله مَاسّاً» . قوله: «فلا كاشف له» : «له» «: خبر» لا «، وثمَّ مَحْذُوفٌ تقديره: فلا كاشف له عنك، وهذا المحذوف لي متعلِّقاً ب» كاشف «، إذ كان يلزمُ تنوينه وإعرابه، بل يتعلَّق بمحذوف، أي: أغني عنه. و» إلاَّ هو «فيه وجهان: أحدهما: أنه بدلٌ من مَحَلّ» كاشف «فإن مَحَلَّه الرفع على الابتداء. والثاني: أنه بَدَلٌ من الضمير المُسْتَكِنِّ في الخبر، ولا يجوز أن يرتفع باسم الفاعل، وهو» كاشف «؛ لأنه مطوَّلاً [ومتى كان مطوَّلاً] أعْرِبَ نَصْباً، وكذلك لا يجوز أن يكون بَدَلاً من الضمير المُسْتَكِنّ في» الكاشف «للعلَّةِ المتقدّمة؛ إذ يحلُّ مَحَلُّ مَحَلَّ المبدل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 61 فإن قيل: المقابل للخير هو الشَّر، فكيف عدل عن لَفْظِ الشَّرِّ؟ والجواب أنه أراد تَغْلِيبَ الرحمة على ضِدِّهَا، فأتى في جانب الشَّرِّ بأخَصَّ منه وهو الضُّرُّ، وفي جانب الرَّحْمَةِ بالعام الذي هو الخَيْرُ تعليباً لهذا الجانب. قال ابن عطية: نابَ الضُّرُ مَنَابَ الشِّرِّ، وإن كان الشِّرُّ أعَمَّ منه، فقابل الخير. وهذا من الفصاحةِ عُدُولٌ عن قانون التكليف والصيغة، فإن باب التكليف وترصيع الكلام أن يكون الشيء مُتءترناً [بالذي يختص به بنوع من أنواع الاختصاص موافقة أو مُضاهاة فمن ذلك] {إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى} [طه: 118 - 119] فجاءؤ بالجوع مع العُرْي، وبابه أن يكون مع الظَّمَأ. ومنه قوله امرئ القيس: [الطويل] 2119 - كَأنِّيَ أرْكَبْ جَواداً لِلَذَّةِ ... وَلَمْ أتَبَطَّنْ كَاعِباً ذَاتَ خَلْخَال وَلَمْ أسْبإ الزِّقَّ الرَّوِيَّ وَلَمْ أقُلْ ... لِخَيْلِيَ كُرِّي كرَّةً بَعْدَ إجْفَالِ ولم يوضّح ابن عطيَّة ذلكن وإيضاحه في آية «طه» اشْتَرَاكُ الجوع والعُرْي في شيء خاص وهو الخلُوُّ، فالجوع خُلُوُّ وفراغٌ من الباطن، والعُرْيُ خُلُوِّ وفراغٌ من الظَّاهرِ واشتراك الظَّمَأ والضِّحَي في الاحتراق، فالظَّمَأُ احترافي في الباطن، ولذلك تقول: «بَرَّدَّ الماءُ حَرارةَ كبدي وأوام عطشي» . والضَّحَى: احْتِرَاقُ الظَّاهر. وأمَّا البيتان، فالجامعُ بين الرُّكوب لِلذَّةِ وهو الصيد وتبطُّن الكَاعِب اشتراكهما في لَذَّةِ الاسْتِعْلاءِ، والقهر والاقْتِنَاصِ والظّفر بمثل هذا المركوب، ألا ترى إلى تسميتهم هَنَ المرأة «رَكَباً» ، بفتح الراء والكاف، وهو فَعَل بمعنى مَفْعُول كقوله: [الرجز] 2120 - إنَّ لَهَا لَرَكَباً إرْزَبَّا ... كَأنَّهُ جِبْهَةُ ذَرَّي حَبَّا وأمَّا البيت الثاني فالجامعُ بين سَبَأ الخمر، والرُّجوع بعد الهزيمة اشتراكهما في البذْل، فشراءُ الخَمْرِ بَذْلُ المال، والرجوع بعد الانهزام بَذْلُ الروح. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 62 وقدَّم تبارك وتعالى مَسَّ الضُّرِّ الخير لمناسبة اتِّصالِ مسِّ الضُّر بما قبله من التَّرْهيبِ المدلول عليه بقوله تعالى: «إنِّي أخَافُ» ، وجاء جواب الشَّرْط الأوَّل بالحَصْر إشارةً إلى اسْتِقلالِهِ بكشف الضُّرُ دون غيره، وجاء الثاني بقوله تعالى {فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُير} إشارةً قدرته الباهرة، فيندرج فيها المَسُّ بخير وغيره، على أنَّه لو قيل: إنَّ جواب الثاني مَحْذُوفٌ لكان وَجْهاً أي: وإن يمسك بخيرٍ فلا رَادَّ لِفَضْلِهِ، للتصريح بمثله في موضع آخر. فصل روى ابن عبَّاسٍ - رضي اله عنهما - قال: «أُهْدِيَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بَغْلَةٌ أهْدَاهَا لَهُ كِسْرَى، فَرَكِبَهَا بِحَبْلِ مِنْ شَعْرِ، ثُمَّ أرْدَفَنِي خَلْفَهُن ثُمَّ صَارَ بي مَلِيَّاً، ثُمَّ الْتَفَتَ إليَّ وقال: يا غُلامُ فَقُلتُك لَبَّيْكَ يَا رَسُولَ الله فقال احْفَظِ اللَّهَ يَحْفظْكَ، احَفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أمَامَكَ، تَعَرَّفْ إلى اللَّهِ فِي الرَّخَاءِ يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ، وإذا سَألْتَ فَأسْألِ اللَّهَ، وإن اسْتَعَنْتَ فاسْتَعِنْ باللَّهُ سبحانه لَكَ لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ، ولوْ جَهدُوا أنْ يَضُرُّوكَ عَمَّا لَمْ يَكْتُب اللَّهُ عَلَيْكَ ما قَدَرُوا عَلَيْهِن فإن اسْتَطَعْتَ أنْ تَعْمَلَ بالصَّبْرِ مَعَ اليَقيْنِ فافْعَلْ، فإنْ لَمْ تَسْتَطِعْ، فإنَّ في الصَّبْرِ على ما تَكْرَهُ خَيْرَاً كَثِيراً، واعْلَمْ أنَّ النَّصْر مَعَ الصَّبْرِ، وأنَّ مَعَ الكَرْبِ الفَرَجِ، وأنَّ مَعَ العُسْر يسْراً» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 والمرادُ بالقاهر الغالب، وفي «القاهِرِ» زيادَةُ معنى على القدرةِ وهو منع غيره من بلوغ المُرَادِ. وقيل: المنفرد بالتَّدْبير الذي يجبرُ الخَلْق على مُرَادِه. قوله: «فوق» فيه أوجه: أظهرها: أنه مَنْصُوبٌ باسم الفاعل قَبْلَهُ، والفوقيَّةُ هنا عبارةٌ عن الاسْتِعْلاءِ والغَلَبَة. أحدهما: أنه قاهرٌ. والثاني: أنه فوق عباده بالغَلَبَةِ. والثالث: أنه بَدَلٌ من الخبر. والرابع: أنه منصوبٌ على الحال من الضمير في «القاهرة» كأنهُ قيل: وهو القاهرُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 63 مُسْتَعْلِياً أو غالباً، ذكره المهدوي وأبو البقاء. الخامس: أنها زائدةٌ، والتقديرُ: وهو القَاهِرُ عِبَادَةُ. ومثله: {فاضربوا فَوْقَ الأعناق} [الأنفال: 12] وهذا مردود؛ لأن الأسماء لا تزاد. ثم قال «وهو الحكيم» أي في أمره، «الخبيرُ» بأعمال عباده. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 قال الكَلْبِيُّ: أتى أهْلُ «مكة» رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقالوا: أرِنَا من يشهد بأنك رسول اللَّهِ، فإنَّا لا نَرَى أحَداً يُصَدِّقك، ولقد سالنا عنك اليهود والنصارى، فزعموا أنه ليس لك عِنْدَهُمْ ذكرٌ، فأنزل الله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادة} أي: أعظم شهادة، فإن أجَابُوكَ، وإلاَّ فقل: {الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُم} على ما أقول لأني أوحي إليَّ هذا القُرْآن مُعَجزاً لأنكم أنتم البُلَغَاءُ والفصحاء، وقد عجزتم عن مُعَارضته، فكان مُعْجِزاً، وإذا كان مُعْجِزاً كان إظهار الله - تعالى - له على وَفْقِ دَعْواي شهادة من اللَّهِ على كوني صادقاً في دَعْوَاي. قوله تعالى: {أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ} مبتدأ وخبرٌ، وقد تقدَّمَ أن «أيَّا» بعض ما تضاف إليه، فإذا كانت استفهامية اقتضى الظَّاهِرُ أن يكون مُسَمَّى باسم ما أضيف إليه. قال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهذا يُوجِبُ أن يُسَمّى اللَّهُ تعالى» شيئاً «، فعلى هذا تكون الجلالةُ خبرَ مبتدأ محذوف [والتقدير: الله أكبر شَهَادَةً، و» شهيد «على هذين القولين خَبَرُ مبتدأ محذوف] أي: ذلك الشيء هو الله تعالى، ويجوز أن تكون الجلالة مبتدأ خبره محذوف أي: هو شهيدٌ بيني وبينكم، والجملةُ من قوله:» قل اللَّه «على الوَجْهَيْنِ المتقدمين جواب ل» أي «من حَيْثُ اللفظ والمعنى، ويجوز أن تكون الجلالةُ مبتدأ، و» شهيد «خبرها، والجملة على هذا جواب ل» أيّ «من حيث المعنى، أي: إنها دالّةٌ على الجواب، وليست به. قوله:» شَهَادَةً «نَصْبٌ على التمييز، وهذا هو الذي لا يَعْرَفُ النحاةُ غيره. وقال ابن عطية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ويَصِحُّ على المفعول بأن يُحْمَلَ» أكثر «على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 64 التشبيه بالصفة المشبهة باسم الفاعل وهذا ساقط جدّاً؛ إذ نصَّ النحويون على أان معنى شبهها باسم الفاعل في كونها تؤنّث وتُثَنَّى، وتُجْمَعُ، وأفعلُ مِنْ لا تُؤنَّثُ ولا تُثَنَّى ولا تُجْمَعُ، فلم يُشبه اسم الفاعل، حتَّى إنَّ أبا حيَّان نَسَبَ هذا الخِبَاطَ إلى النَّاسخِ دون أبي محمد. قوله:» بيني وبينكم «متعلِّقٌ ب» شهيد «، وكان الأصل: قل اللَّهُ شهيدٌ بيننا، فكُرِّرت» بين «توكيداً، وهو نظير قوله: [الوافر] 2121 - فَأيِّي ما وأيُّكَ كَانَ شَرًّا ... فَسيقَ إلى المَقَامَةِ لا يَرَاهَا وقوله: [الرجز] 2122 - يَا ربَّ مُوسَى أظْلَمِيَ وأْظْلَمِيَ وأظْلَمُه ... ْ أرسل عليه مَلِكاً لا يَرْحَمُهْ وقوله: [الكامل] 2133 - فَلَئِنْ لَقيتُكَ خَالِيَتْنِ لَتَعْلَمَنْ ... أيِّي وَأيُّك فَارِسُ الأحْزَابِ والجامع بينهما: أنَّهُ لمَّا أضاف إلى» الياء «وَحْدَها احتاج إلى تكرير ذلك المضاف. ويجوزُ أبو البقاء أن يكون» بيني «متعلّقاً بمحذوف على أنَّهُ صفة ل» شهيد «، فيكون في مَحَلّ رفع، والظاهر خلافُهُ. قوله: «وأوْحِيَ» الجمهور على بِنَائِهِ للمفعول، وحُذِف الفاعل للعمل به، وهو الله تبارك وتعالى. و «القرآن» رفع به. وقرأ أبو نهيك، والجحدري، وعكرمة، وابن السَّمَيْفَع: «وأوْحَىط ببنائه للفاعل،» القرآن «نَصْباً على المفعول به. و» لأنْذِرَكُمْ «متعلِّقٌ ب» أوحي «. قيل: وثمَّ مَعْطُوف حُذِفَ لدلالة الكلام عليه، أي: لأنذركم به وأبَشِّركم به، كقوله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 65 تعالى: {تَقِيكُمُ الْحَرَّ} [النحل: 81] ن وتقدم فيه نظائرُن وقيل: لا حاجة إليه، لأن المقام مَقَمامُ تخويف. فصل في بيان معنى الآية والمعنى: اللَّهُ شهيدٌ بيني وبينكم أنِّي قد أبلغكم وصدّقْتُ فيما قلته وادَّعْتُهُ من الرسالة، والقرآن أيضاً شَاهِدق بنبوتِّي لأنذركم به يا أهل» مكة «ن ومن بلغه القرآن العظيم. قوله تعالى:» ومَنْ بَلَغَ «فيه ثلاثةُ أقوال: أحدهما: أنه في مَحَلِّ نَصْبِ عطفاً على المنصوب في» لأنْذِرَكُمْ «، وتكون» مَنْ «موصولةٌ، والعائِدُ عليها من صِلَتِهَا مَحْذُوفٌ. أعني: ولأنذر الذي بلغه القرآن الكريم من العَرَبِ والعَجَمِ. وقيل: من الثَّقَلَيْنِ. وقيل: من بَلَغَهُ [من القرآن الكريم] إلى يوم القيامةِ. وعن سعيد بن جبير:» من بلغه من القرآن، فكأنما رأى مُحَمَّداً عليه الصَّلاة والسَّلامُ «. الثاني: أنَّ في» بَلَغَ «ضميراً مرفوعاً يَعُودُ على» مَنْ «، ويكون المفعول محذوفاً، وهو منصوب المَحَلّ أيضاً نَسَقاً على مَفْعُول» لأنذركم «والتقدير: ولأنذر الذي بَلَغَ الحُلُمَ، فالعَائِدُ هنا مُسْتَتِرٌ في الفعل. الثالث: أنّ» مَنْ «مرفوعةُ المحلِّ نَسَقاً على الضَّميرِ المرفوع في» لأنذركم «، وجاز ذلك؛ لأنَّ الفصل بالمفعول والجارِّ والمجرور أغْنَى عن تأكيده، والتقديرُ: لأنذركمن به، ولينذركم الذي بَلَغَهُ القرآن. قوله:» أإنًّكُمْ «الجمهور على القراءة بهمزتين: أولاهما للاستفهام، وهو استفهامُ تَفْريعٍ وتوبيخ. قال الفراء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ولم يَقُل آخر لأن الآلهة جمع، والجمع يقع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 66 عليه التأنيث، كقوله: {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى} [الأعراف: 180] وقوله: {فَمَا بَالُ القرون الأولى} [طه: 51] [ولم يقل الأوّل، ولا الأولينن وكل ذلك صوابٌ] وقد تقدَّم الكلامُ في قراءاتٍ مثل هذا. قال أبو حيَّان:» وبِتَسْهيلِ الثانية، وبإدخال ألف بين الهمزة الأولى والهمزة المُسَهَّلَة، روى هذه الأخيرة الأصمعي عن أبي عمرو، ونافع «انتهى. وهذا الكلام يؤذن بأنها قراءةٌ مُسْتَغْرَبَةٌ، وليس كذلك، بل المَرْوِيُّ عن أبي عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - المَدُّ بين الهَمْزَتَيْنِ، ولم يُخْتَلَفْ عن قالون في ذلك. وقرئ بهمزة واحدة وهي محتملةٌ للاستفهام، وإنَّما حُذِفَتْ لفهم المعنى، ودلالة القراءة الشهيرة عليها، وتحتمل الخبر المَحْضَ. ثم هذه الجملة الاستفهامية، يحتمل أن تكون مَنْصُوبَةَ المَحَلّ لكونها في حَيَّزِ القول، وهو الظَّاهرن كأنه أُمِرَ أن يقول: أيُّ شيء أكْبَرُ شَهَادً’ وأن يقول أإنكم لتشهدون. ويحتمل أن تكون داخلَةً في حيَّزه فلا مَحَلّ لها حينئذٍ، و «أخرى» صفةٌ ل «آلهة» ؛ لأن ما لا يَعْقِل يُعَامَلُ جَمْعُهُ مُعاملةَ الوحداةِ المؤنّثة، كقوله: {مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] ، و {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى} [الأعراف: 180] كما تقدَّم. قوله: «إنَّمَا هُوَ إلَهٌ واحِدٌ» [يجوز] في «ما» هذه وجهان: أظهرهما: أنها كافَّةٌ ل «إنَّ» عن عملها، و «هو» مبتدأ، و «إله» خبر، و «واحد» صفته. والثاني: أنها مَوْصُولَةٌ بمعنى «الذي» ، وهو مبتدأ، و «إله» خبره، وهذه الجملةُ صَلَةٌ وعائد، والموصول في مَحَلِّ نصب اسماً ل «إن» و «واحد» خبرها. والتقدير: إنَّ الذي هو إله واحد، ذكره أبو البقاء، وهو ضعيف، ويَدُلُّ على صِحَّةِ الوجه الأوَّلِ تعيُّنُه في قوله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ} [النساء: 171] ، إذ لا يجوز فيه أن تكون مَوْصُولَةً لخلوِّ الجملة عن ضمير الموصول. وقال أبو البقاء في هذا الوَجْهِ: وهو ألْيَقُ مما قبله. قال شهابُ الدِّين: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ولا أدري ما وجه ذلك؟ فصل فيما تفيده الآية أعملم أنَّ هذا الكلام دَلَّ على إيجاب التَّوحيدِ، والبراءةِ من الشِّرْكِ من ثلاثة أوجه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 67 أولها: قوله: «قُلْ لا أشْهَدُ» بما تذكرونه من إثبات الشّثرَكَاءِ. وثانيها: قوله: «قُلْ إنَّمَا هُوَ إلَهٌ وَاحِدٌ» ، وكلمة «إنَّمَا» تفيد الحَصْرَ، ولفظ الواحد صريحٌ في التوحيد، ونفي الشركاء. وثالثها: قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} ، وفيه تصريح بالبراءة عن إثبات الشُّرَكَاءِ. قال العلماء: يُسْتَحَبُّ لمن أسلم ابتداءً أن يأتي بالشهادتين، ويبرأ من كل دينٍ سوى دين الإسلام. ونصَّ الشَّافعي - رحمه اله تعالى - على استحباب ضَمَّ التَّبَرِّي إلى الشهادة، كقوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ} عقيب التّصريح بالتوحيد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 اعلم أنَّ الكُفَّار لمَّا سألوا اليهود والنَّصَارى عن صَفَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأنكروا دلالة التَّوْرَاةِ والإنجيل على نُبُوًّتِهِ بَيَّنَ اللَّهُ - تعالى - في الآية الأولى أنَّ شهادةَ اللَّه على صِحًّةِ نُبُوَّتِهِ كافيةٌ في ثبوتها، ثُمَّ بَيّن في هذه الآية أنهم كذبوا في قولهم: لا نعرف محمداً، لأنهم يعرفونه بالنُّبُوًّةِ والرسالة، كما يعرفون أبناءهم. روي أنه لما قدم رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «المدينة» قال عمر لعبد الله بن سلام: أنزل اللَّهُ على نبيِّه هذه الآية، فكيف هذه المعرفة؟ فقال: يا عمرُ لقد عرفته فيكم حين رَأيْتُهُ، كما أعرف ابني، ولأنا أشَدُّ معرفةٌ بمحمد منِّي بابني؛ لأني لا أدري ما صنعَ النساء وأشهدُ أنه حَقّ من الله تعالى. قوله: {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} الموصول مبتدأن و «يَعْرِفُونه» خبره، والضميرُ المَنْصُوبُ يجوز عَوْدُهُ على الرسول صلى اله عليه الصَّلاة والسَّلام، وعلى القرآن لتقدُّمهِ قوله: «وأوحِيَ إليَّ هذا القُرآنُ لأنذركُمْ بِهِ» أو على التوحيد لدلالة قوله: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} [الأنعام: 19] أو على كتابهم، أو على جميع ذلك، وأفرد الضمير باعتبار المَعْنَى، كأنَّهُ قيل: يعرفون ما ذكرنا وقَصَصْنَا. وقد تقدَّم إعْرَابُ هذه الجملة في «البقرة» . قوله: «الَّذينَ خَسِرُوا» في مَحَلّه أربعة أوجه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 68 أظهرها: أنه مبتدأ، وخبره الجملة من قوله: {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ، ودخلت «الفاء» لما تقدَّم من شهب الموْصُولِ بالشرط. الثاني: أنه نَعْت للذين آتياناهم الكتاب. قاله الزَّجَّاج. الثالث: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الذين خسروا. الرابع: أنه منصوبٌ على الذَّمِّ، وهذان الوجهان فَرْعَانِ على النعت؛ لأنهما مقطوعان عنه، وعلى الأقوال الثلاثة الأخيرة يكون {فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} من باب عطف جملة اسمية على مَثْلَهَا، ويجوز أن يكون عَطْفاً على «خَسِرُواط وفيه نَظَرٌ من حيث إنه يؤدِّي إلى ترتُّب عدم الإيمان على خسرانهم، والظاهر أنَّ الخُسْرَانَ هو المترتب على عدم الإيمان وعلى الوجه الأول يكون» الذين خسروا «أعمُّ من أهل الكتاب الجاحدين والمشركين، وعلى غيره يكون خَاصّاً بأهل الكتاب، والتقدير: الذين خسروا أنفسهم منهم، أي: من أهْلِ الكتاب. واسْتُشْكِلَ على كونه نَعْتاً الاستشهادُ بهم على كُفَّار قريش وغيرهم من العرب، يعني كيف يُسْتَشْهَدُ بهم، ويُذَمُّون في آيةٍ واحدة؟ فقيل: إنَّ هذا سيق للذَّم لا للاستشهاد. وقيل: بل سِيقَ للاستشهاد، وإن كان في بعض الكلام ذَمٌّ لهم، لأنَّ ذلك بوجهين واعتبارين. قال ابن عطية: فصَحَّ ذلك لاختلاف ما استشهد بهم فيه، وما ذُمُوا فيه، وأنَّ الذَّمَّ والاستشهاد ليسا من جِهِةٍ واحدةٍ. فصل في بيان المراد من ظاهر الآية ظَاهِرُ هذه الآية الكريمة يقتضي أن يكون علمهم بنُبُوَّةِ مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علمهم بأبنائهم، وهنا سُؤالٌ - وهو أن يُقَالَ: المكتوب في التَّوْرَاةِ والإنجيل مُجَرَّدُ أنه سيخرج نَبِيٌّ في آخر الزمان يدعو الخَلْقَ إلى الحَقِّ، أو المكتوب فيه ذه االمعنى مع تعيين الزَّمَانِ والمكان والنَّسَبِ والصِّفَةٍ والحِلْيَةِ والشَّكْلِ، فإن كان الأول، فذلك القدر لا يَدُلُّ على أنَّ ذلك الشَّخْصَ هو مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكيف يَصِحُّ أن يقال: علمهم بنوبته مثل علمهم ببنوَّةِ أبنائهم وإن كان الثاني وجب أن يكون [جميع] اليَهُودِ والنَّصَارَى عالمين بالضرورة بأنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نَبِيُّ من عِنْدِ الله، والكَذِبٌ على الجَمْعِ العظيم لا يجوز، ولأنَّا نَعْلَمُ بالضرورة أن التوراة والإنجيل ما كانا مُشْتَمِلَيْنِ على هذه التفاصيل التَّامَّةِ الكاملة؛ لأن هذا التفصيل إمَّا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 69 أن يُقَالَ: إنه كان بَاقِياً في التَّوْرَاةِ والإنجيل، أو كان مَعْدُماً في وَقْتِ طهوره، لأجل أن التَّحْريف قد تَطَرَّقَ إليهما قبل ذلك، والأول باطلٌ؛ لأنَّ إخْفاءَ مِثْلِ هذه التفاصيل التامة في كتاب وصل إلى أهل الشرق والغرب مُمْتَنِعٌ. والثاني: أيضاً باطل؛ لأن على هذا التقدير لم يكن يَهُودُ أهل ذلك الزمان، ونصارى ذلك الزَّمان عالمين بنبُوِّة مُحَمِّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ علهمهم بنبوِّةِ أنبيائهم، وحينئدٍ يَسْقُطُ هذا الكلام. والجوابُ ان يقالك المراد ب «الذين آتيناهم الكتاب» اليهود والنَّصارىن وهم كانوا أهْلاً للنَّظَرِ والاستدلال، وكانوا قد شاهدوا ظهور المعجزات على الرسول عليه الصَّلاةُ والسِّلامُ، فعرفوا بوساطة تلك المعجزات كونه رسولاً من عند اللَّهِ تعالى، والمقصود بمعرفتهم هي المعرفةُ من طريق النَّظرِ، والاستدلال من طري النَّقْلِ. فصل في المراد بالخسران قال المفسرون: معنى هذا الخُسْران أنَّ الله - تبارك وتعالى - جعل لكلِّ آدمي مَنْزِلاً في الجنِّةِ ومَنْزِلاً في النَّار، فإذا كان يوم القيامة جعل اللَّه تبارك وتعالى للمؤمنين مَنَازِلَ أهل النار في الجنة ولأهل النار منازل أهل الجنَّة في النَّار وذلك هو الخسران. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 لمَّا بَيَّنَ خُسْرَانَ المنكرين في الآية الأولى بَيَّنَ في هذه الآية الكريمة سَبَبَ ذلك الخسران وهو أمران. أحدهما: الافتراء على اللَّه كذباً، وهذا الافتراءُ يحتمل وجوهاً: أحدهما: أن كُفَّار «مكة» المشرفة كانوا يقولون: هذه الأصنام شركاء الله، اللَّهُ أمرهم بعبادتها، وكانوا يقولون: الملائكة بَنَاتُ اللَّهِ. وثانيها: أنَّ اليهود والنَّصارى كانوا يقولونك حصل في التَّوْراة والإنجيل أن هاتيْنِ الشريعيتين لا يَتَطَرَّقُ إليهما النَّسْخُ والتغييرُ. وثالثها: ما حكاه تعالى عنهم بقوله: {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا} [الأعراف: 28] . ورابعها: قوله اليهود: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُه} [المائدة: 18] وقولهم: {لَن تَمَسَّنَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 70 النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً} [البقرة: 80] وقول جُهَّالِهِمْ: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآء} [آل عمران: 181] ونحوه. الأمرُ الثاني من أسباب خسارتهم؛ تكذيبهم بآيات الله تعالى: وقدحُهُمْ في معجزات محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وإنكارهم كون القرآن العظيم معجزةً قاهرةً منه، ثم إنَّه لمَّا حكى عنهم سبب هذين الأمرين قال: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} ، أي: الكافرون - أي لا يَظْفَرُونَ بِمطَالِبهمْ في الدنيا ولا في الآخرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} فيه خمسة أوجه: أحدهما: أنه منصوبٌ بفعل مُضْمَرٍ بعده، وهو على ظرفيَّتِهِ، أي: يوم نحشرهم كان كيت وكيت، وحُذِف ليكون أبْلَغَ في التَّخْويفِ. والثاني: أنه معطوفق على ظرفٍ محذُوفٍ، ذلك الظرف معمول لقوله: {لاَ يُفْلِحُ الظالمون} [الأنعام: 21] والتقدير: أنه لا يفلح الظَّالمونَ اليوم في الدنيا، ويوم نحشرهم، قاله محمد ابن جَريرٍ. الثالث: أنه منصوبٌ بقوله: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ} [الأنعام: 24] وفيه بُعْدٌ لِبُعْدِهِ من عامله بكثرة الفواصِلِ. الرابع: أنه مفعولٌ به ب «اذكر» مقدَّراً. الخامس: أنه مفعولٌ به أيضاً، ونَاصِبُهُ: احذروا أو اتَّقُوا يوم نحشرهم، كقوله: {واخشوا يَوْماً} [لقمان: 33] وهو كالذي قبله فلا يُعَدُّ خامساً. وقرأ الجمهور «نَحْشرهم» بنون العظمة، وكذا «ثم نقول» ، وقرآ حميد، ويعقوب بياء الغَيْبَةِ فيهما، وهو أنه تبارك وتعالى. والجمهورعلى ضم الشين من «نَحْشُرهم» ، وأبو هريرة بكسرها، وهما لغتان في المُضَارع. والضمير المنصوب في «نحشرهم» يعود على المفترين الكَذِبَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 71 وقيل: على النَّاس كلهم، فيندرج هؤلاء فيهم، والتَّوْبيخُ مختصُّ بهم. وقيل: يعود على المشركين وأصنَامِهِمْ، ويدلُّ عليه قوله: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [الصافات: 22] . و «جَمِيعاً» حالٌ نم مفعول «نحشُرهم» ن ويجوز أن يكون توكيداً عند من أثْبَتَهُ من النحويين ك «أجمعين» . وعطف هنا ب «ثُمَّ» للتراخي الحاصل بين الحَشْر والقَوْلِ. ومفعولا «تزعمون» محذوفان للعلم بهما، أي: تزعمونهم شركاء، أو تزعمون أنهما شُفَعَاؤكم. وقوله: «ثُمَّ نَقُولُ للَّذينَ» إن جعلنا الضمير في «نَحْشُرهم» عائداً على المفترين الكذبَ، كان ذلك من باب إقامةِ الظَّاهرِ مقامَ المُضْمَرَ، إذ الأصل: ثم نقول لهم، وإنما أظْهِرَ تنبيهاً على قُبْحِ الشرك. وقوله: {أيْنَ شُرَكاؤكُمْ} ؟ سؤالُ تَقْريع وتوبيخ وتَبْكيتٍ. قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «كُلُّ زَعْمِ في كتاب الله فالمُرادُ به الكذبُ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 قرأ حمزة والكسائي: «يَكُنْ» بالياء من تحت، «فتنتهم» نَصْباً. وابن كثير، وابن عامر، وحفص عن عاصم: «تَكُنْ» بالتاء من فوق، «فَتْنَتُهُمْ» رفعاً. والباقون بالتاء من فوق أيضاً، «فِتنتَهم» نصباً. فأمَّا قراءة الأخويْنِ فهي أفْصَحُ هذه القراءات لإجرائِهَا على القواعد من غير تأويل، وَوَجْهُهَا أنَّ «فتنتهم» خبر مقدَّمٌ، وإن قالوا بتاويل اسم مؤخر. والتقدير: «ثم لم تكن فِتْنَتهُمْ إلاَّ قولُهم» . وإنما كانت أفصحٍ؛ لأنه إذا اجتمع اسْمَانِ: أحدهما أعرفُ، فالأحْسْنُ جعله اسماً مُحَدَّثاً عنه، والآخر خَبَراً حديثاً عنه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 72 و «أن قالوا» يشبه المضمر، والمضمر أعرف المعارف، وهذه القراءة جُعِلَ الأعرفُ فيها اسْماً ل «كان» وغير الأعرافِ خبرها، ولم يؤنّث الفعل لإسناده إلى مذكر. قال الواحدي: والاختبارُ قراءة من جعل «أن قالواط الاسم ذوي الخبر؛ لأنه إذا وصلت بالفعل لم تُوصَفْ، فأشبهت بامتناع وَصْفِهَا المُضْمَرِ، فكما أنَّ المُضْمَرَ، والمظهر إذا اجتمعا كان جَعْلُ المضمر اسماً أوْلَى من جعله خبراً، تقول: كنت القائم. وأما قراءة ابن كثير ومن معه ف» فتنتهم «اسْمُهَا، ولذلك أنِّثَ الفِعلُ لإسناده إلى مؤنُّ، و» إلاَّ أنْ قالوا «خَبَرُهَا، وفيه أنك جعلت غير الأعرف اسماًن والأعرف خبراً، فليست في قُوَّةِ الأولَى. وأمَّا قراءةُ الباقين ف» فتنتهم «خبر مقدمٌن و» إلاَّ أن قالوا «اسم مؤخَّرٌ، وهذه القراءةُ وإن كان فيها جَعْلُ الأعْرَفِ اسْماً - كالقراءة الأولى، إلا أنَّ فيها لِحَاقُ علامَةِ تأنيث في الفعل مع تذكير الفاعل، ولكنه بتأويل. فقيل: لأنه قوله:» إلاَّ أنْ قالوا «في قوة مقالتهم. وقيل: لأنه هو الفِتْنَةُ في المعنى، وإذا أخبر عن الشَّيءِ بمؤنَّثٍ اكتسب تأنيثاً، فعومل مُعامَلتهُ. وجعل أبو علي منه {فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] لمَّا كانت الأمْثَالُ هي الحَسَنَاتُ في المعنى عُومِلَ مُعَامَلَة المُؤنَّثِ، فسقطت» التاء «من عَدَدِهِ، ومثلُ الآية قوله: [الطويل] 2124 - ألَمْ يَكُ غَدْراً مَا فَعَلْتُمْ بسَمْعَلٍ ... وَقَدْ خَابَ مَنْ كَانَتْ سِرِيرتَه الغَدْرُ ف» كانت «مُسْند إلى» الغَدْرِ «وهو مذكَّر، لكن لما أخبر عنه بمؤنث أنَّث فِعلَه. ومثله قول لَبيدٍ: [الكامل] 2125 - فَمَضَ وَقَدَّمِهَا وَكَانَتْ عَادَةً ... مِنْهُ إذَا هِيَ عَرَّدَتْ إقْدَامُهَا قال أبو عَلِيّ: فأنَّث الإقدام لما كان كالعادة في المعنى قال: وقد جاء في الكلام:» ما جاءَتْ حَاجَتُكَ «فأنّث ضمير» ما «حيث كانت كالحاجة في المَعْنَى، ولذلك نصب» حاجتك «. وقال الزمخشري:» وإنما أنَّث « [أن] قالوا» لوُقُوعِ الخبر مؤنّثاً كقولهم: من كانت أمَّك «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 73 قال أبو حيَّان: وكلام الزَّمخشري ملفقٌ من كلام أبي عَلِيّ، وأمَّا» من كانت أمك «فإنه حَمَلَ اسمَ» كان «على معنى» مَنْ «ن فإنَّ لها لَفْظاً مُفرداً مذكّراً، ولها معنى بحسب ما تريد من إفراد وتَثنيٍة وجَمْعِ وتذكير وتأنيثٍ، وليس الحَمْلُ على المعنى لِمْرعَاةِ الخَبَرِ، ألا ترى أنه يجيء حيث لا خبر، كقوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] . وقوله: [الطويل] 2126 - ... - ... ... ... ... . . تكُنْ مَثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطَحِبَانِ ... قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ليت شِعْري، ولأي معنى خصَّ الزمخشري بهذا الاعتراض، فإنه وَارِدٌ على أبي عَلِيِّ أيضاً؟ إذ لقائل أن يقول: التأنيثُ في «جَاءَتْ» لحمل على معنى «ما» وإنْ لها هي أيضاً لفظاً ومعنى مَثْل «مَنْ» ن على أنه يقال: للتأنيث عِلَّتانِ، فذكر [إحداهما، ورجَّح] أبو عُبيدة قراءة الأخويْ ن بقراءة أبَيّ، وابن مسعود: «وما كان فتنتهم إلاَّ أن قالوا» فلم يُلْحِق الفعل علامة تأنيثٍ، ورجَّحها غيره بإجماعهم على نَصْبِ «حُجَّتهم» من قوله تبارك وتعالى: {كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الجاثية: 25] . وقرئ شاذاً «ثم لم يكن فتنتهم إلا أنه قالوا» بتذكير «يكنْ» ، ورفع «فتنتهم» . ووجه شُذُوذِهَا سقوط علامةِ التأنيث، والفاعل مؤنّث لَفْظاً، وإن كان غير حَقيقيِّ، وجَعْلُ غير الأعْرَفِ اسماً، والأعرف خبراً، فهي خبراً، فهي عَكْسُ القراءة الأولى، من الطَّرَفَيْنِ، و «أن قالوا» مما يجب تأخيره لِحصْرِهِ سواء أجُعِلَ اسماً أم خبراً. فصل في معنى الفتنة في الآية معنى قوله: «فتنتهم» ، أي: قولهم وجوابهم. وقال ابن عبَّاس، وقتادة: معذرتهم، والفِتْنَةُ التِّجْرِبةٌ، فلمَّا كان سؤالهم تَجْرِبَةً لإظهار ما في قلوبهم قيل: فَتْنَة. فصل في بيان لطيفة في الآية قال الزَّجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ - «لم تَكُنْ فتنتهم» معنى لَطِيفٌ، وذلك لأنَّ الله - تبارك وتعالى - بيَّن أنَّ المشركين مَفْتُونُونَ بِشِرْكِهِمْ متهالكين على حبّه، فأعلم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 74 في هذه الآية الكريمة أنه لم يَكُنْ افتتانهم بشركهم، وإقامتهم عليه إلاَّ أن تَبَرَّأوا عنه وتباعَدُوا، فَحَلفُوا أنهم ما كانوا مشركين، ومثاله أن ترى إنساناً ما يُحِبُّ طريقةً مذمومة، فإذا وقع في فِتْنَةٍ بسببه تَبَرَّأ منه، فيقال له: «ما كانت محبتك لفلان إلاَّ أن فَرَرْتَ منه» ، فالمُرَادُ بالفتنة هنا افْتَتَانُهُمْ بالأوْثَانِ، ويتأكد بما روى عَطَاءٌ عن ابن عباس أنه قال: «لم تكن فتنتهم» معناه: شركهم في الدنيا، وهذا القولُ راجعٌ إلى حذف المضاف؛ لأن المعنى ثُمَّ لم تكن عَاقِبَةُ أمرهم فتنتهم إلاَّ البَرَاءة. قوله: «واللَّهِ رَبَّنَا» قرأ الأخوان: «ربَّنا» نَصْباً، والباقون جراً. ونصبه: إمَّا على النِّداء، وإمَّا على النِّداء، وإمَّا على المَدْح، قاله ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ - وإمَّا على إضْمَار «أعني» ، قاله أبو البقاء، والتقدير: يا ربنا. وعلى كُلِّ تقدير فالجملة مُعْتَرضَةٌ بين القسم وجوابه، وهو قوله {مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وخفضه من ثلاثة أوجه: النعت، والبدل، وعطف البَيان. وقرأ عكرمة، وسلام بن مسكين: «واللَّهُ رَبُّنا» برفعهما على المبتدأ والخبر. قال ابن عطية: «وهذا على تَقدِيمٍ وتأخيرٍ، كأنهم قالوا: واللَّهِ ما كُنَّا مشركين واللَّهُ ربُّنَا» يعني: أن ثَمَّ قَسَماً مُضْمَراً. فصل في الكلام على الآية ظاهرُ الآية الكريمة يقتضي أنهم حَلَفُوا في القيامة أنهم كانوا مشركين، وهذا يقتضي إقْدَامَهُمْ على الكذب يوم القيامة، وللناس فيه قولان: الأول: وهو قول أبي عباس على الجبائي والقاضي -: أنه أهل القيامة لا يجوز إقدامهم على الكذب واحتج عليه بوجوه: الأول: أن أهل القيامة يعرفون الله بالاضطرار وأنهم لو عرفوه بالاستدلال لصار موقف القيامة دَاَرَ تكُليفٍ، وذلك باطلٌ، وإذا كانوا عارفين بالله على سبيل الاضطرار الجزء: 8 ¦ الصفحة: 75 وجب أنْ يكونوا مُلْجئين على ألاَّ يفعلوا القبيح، وذلك يقتضي ألاَّ يقدم أحَدٌ من أهل القيامة على الكذبِ، فإن قيل: لم لا يجوز أن يُقالَ: إنهم أقدموا على فعل القَبيح؛ لأنهم لمَّا عَايَنُوا أهْوَال يوم القيامة اضطربت عُقُولُهُمْ، فقالوا هذا الكذب عند اخْتِلاَلِ عقولهم، أو يقال: إنهم نسوا كونهم مشركين في الدنيا؟ فالجواب عن الأوَّل: أنه لا يجوزأن يحشرهم ويوبخهم بقوله: {أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُون} [الأنعام: 22] ثم يحكي اعتذارهم مع أنهم غي عُقلاء، هذا لا يليقُ بحمة اللِّه تعالى. وأيضاً فلا بُدَّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة ليعلموا أنهم فيما يعاملهم اللَّهُ به غير مظلومين. والجوابُ على الثاني: أنَّ نِسْيَانَهُمْ لما كانوا عليه طُول عمرهم في دار الدنيا مع كمال العقل [بعيدٌ] ، وإنما يجوز أن ينسى اليسير من الأمور. الوجه الثاني: أنَّ هؤلاء الذين أقْدَمُوا على الكذب إمَّا أن يُقال: إنهم عُقَلاءُ أو غيرعقلاء، فالثاني باطلٌ، لأنه لا يليق بحكمةه الله تعالى أن يحكي كلام المجَانين في معرض تميهيد العُذْرِ وإن كانوا عقلاء يعلمون أنَّ كانوا عقلاء يعلمون أنَّ اللَّهَ عالمٌ أحْوَالَهُمْ مُطَّلِعٌ على افعالهم، ويعلمون أنَّ تجويز الكذب على اللَّهَ - تعالى - مُحَالٌ، وأنهم لا يستفيدون بذلك الكذب إلاَّ زيادة المَقْتِ والغَضَبِ، وإذا كان كذلك امتنع إقدامهم في مثل هذه الحالة على الكذب. الوجه الثالث: أنهم لو كذبوا في مَوْقِفِ القيامة، ثُمَّ حَلَفُوا على ذلك الكذب لكانوا قد أقْدَمُوا على نوعين من القَبيح، فإن قلنا: إنهم يستحُّون بذلك العقابَ، صارت الدار الآخرة دَارَ تكليف، وأجمعوا على أنَّ الأمْرَ ليس كذلك. وإن قلنا: إنَّهم لا يستحقُّون على ذلك الكذب، ولا على ذلك الحلف الكاذب عَقَاباً، فهذا يقتضي حُصُول الإذن من اللَّهِ - تعالى - في ارتكاب القَبَائِِحِ، وذلك باطلٌ فثبت بهذه الوجوه أنه لا يجوز إقدَامُ أهل القيامة على القبيح والكذبِ، وإذا ثبت هذا فَيُحْمَلُ قولهم: «واللَّهِ ربَّنَا ما كنا مشركين» في اعتقادنا وظُنُوننا؛ لأن القوم يعتقدون ذلك. فإن قيل: فعلى هذا التقدير يكنون صادقين في قولهم، فماذا قال تبارك وتعالى {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ} فالجواب أنه ليس يجب من قوله: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ} انهم كذبوا فيها تقدَّم ذِكْرُهُ من قولهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِين} ، بل يجوز أن يكون المراد {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} في دار الدُّنْيَا في أمور يخبرون عنها بأنَّ ما هم عليه لَيْسَ بشرْكٍ، وأنهم على صواب ونحوه، فالمقصود من قوله تعالى: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ} اخْتِلافُ الحالتين، وأنهم كانوا في دار الدنيا يكذبون، وأنهم في الآخرة يتحرَّزُون عن الكذب، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 76 ولكن حيث لا ينفعهم الصِّدْقُ، فلتعلّق أحد الأمرين بالآخر، أظهر الله - تعالى - للرسول ذلك. القول الثاني: قول جمهور المفسرين -: أن الكفار يكذبون في القيامة واسْتَدلُّوا بوجوه: أحدهما: ما حكى اللَّهُ - تعالى - عنهم أنهم يقولون: {رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُون} [المؤمنون: 107] مع أنه - تعالى أخر عنهم بقول: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] . وثانيها: قوله تبارك وتعالى: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون} [المجادلة: 18] بعد قوله تعالى: {وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب} [المجادلة: 14] فَشَبَّهَ كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدينا. وثالثها: ما حَكَاهُ - تعالى - عنهم: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} [الكهف: 19] . والجوابُ عما قاله الجُبَّائي بان يُحْمَلَ قولهم ما كانوا مشركين في ظُنُونهم، هذا مُخَالفٌ للظَّاهرِ، ثّمَّ قوله بعد ذلك: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ} بأنه مَحْمُولٌ على كذبهم في الدنيا يوجبُ تفكيك نَظْمِ الآية، وصَرْفََ أول الآية إلى أحوال القيامة، وصَرْفَ آخرها إلى أحوال الدنيا، وهو في غاية البُعْدِ. وقولهم: كذبوا في حال كَمَالِ العَقْلِ، وحال نُقْصَانِهِ، فنقول: لا يبعد أنهم حَالَ ما عَايَنُوا أهوال القيامة، وشاهدوا مُوجِبَاتِ الخوف الشديد أخْتَلَّتْ عقولهم، فذكروا هذا الكلام. قولهم: كيف يَلِيقُ بحكمة اللَّهِ - تعالى - أن يحكي عنهم ما ذكروه في حال اضْطَرَابِ العقول؟ فالجوابُ: هذا يوجب الخوف الشديد وذلك في دار الدنيا وأمَّا قولهم: إنَّ المكلفين لا بُدَّ وأن يكونوا عقلاء يوم القيامة فنقو: اخْتلالُ عقولهم سَاعةً واحدة حالة ما يتكلمون بهذا الكلام لا يمنع من كمالِ عقولهم في سِائرِ الأوقات. قوله: {انظر كَيْفَ كَذَبُواْ} «كيف» مَنْصُوبٌ على حدِّ نصبها في قوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله} [البقرة: 28] وقد تقدَّم. و «كيف» وما بعدها في محل نصب ب «انظر» ؛ لأنها معلقةٌ لها عن العملِ، و «كّذَبُوا» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 77 وإن كان معناه مُسْتَقْبلاً، لأنه في يوم القيامة، فهو لَتحَقُّقِهِ أبرزه في صورة الماضي. وقوله: «وضَلَّ» يجوز أن يكون نَسَقاً على «كذبوا» ، فيكون داخلاً في حيَّز النَّظَرِ، ويجوز أن يكون اسْتِئنْافَ إخبارٍ، فلا يندرج في حيَّز المنظور إليه. قوله: ما كانُوا «يجوز في» ما «أن تكون مصدريةً، أي: وضَلَّ عنهم افتراؤهم، وهو قول ابن عطية ويجوز أن تكون موصولة اسمية أي: وضل عنهم الذي كانوا يفترونه، فعلى الأول يحتاج إلى ضمير عائدٍ على» ما «عند الجمهور، وعلى الثاني لا بُدَّ من ضمير عند الجميع. ومعنى الآية: انظر كيف كذبُوا على أنفسهم باعْتِذَارهم بالباطل وتَبرِّيهمْ عن الشرك. و» ضلَّ عنهم «: زَالَ وذهب ما كانوا يفترون من الأصنام، وذلك أنهم كانوا يَرْجُونَ شَفَاعَتَهَا نُصْرَتَهَا، فبطل ذلك كله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْك} راعى لفظ «مَنْ» فأفرد، ولو رَاعَى المعنى لجمع، كقوله في موضع آخر: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ} [يونس: 42] . وقوله: {على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} إلى آخره، حمل على معناها قوله: «وَجَعلْنَا» «جعل» هنا يحتمل أن يكون للتَّصْييرِ، فيتعدّى لاثنين، أوَّلُهُمَا: «أكنَّه» والثاني: الجار قبله، فيتعلّق بمحذوف، أي: صيَّرنا الأكِنَّة مستقرّة على قلوبهم، ويحتمل أن يكون بمعنى «خلق» ، فيتعدى لواحد، ويكنون الجار قبله حالاً فيتعلق بمحذوف؛ لأنه لو تأخر لوقع صفة ل «أكِنَّة» . ويحتمل أن يكون بمعنى «ألقى» فتتعلّق «على» بهان كقولك: «ألقيتُ على زيد كذا» {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} [طه: 39] . وهذه الجملة تحتمل وجهين: أظهرهما: أنها مُسْتأنَفَةٌ سيقت للإخبار بما تضَّمنَتْهُ من الخَتْمِ على قلوبهم وسمعهم. حال كونه مَجْعُولاً على قلبه كنانٌ، وفي أذنه وقرٌ، فعلى الأول يكون قد عطف جملة فعلية على اسمية، وعلى الثاني: تكون الواو للحال، و «قد» مضمرة بعدها عند مَنْ يُقَدِّرَها قبل الماضي الواقع حالاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 78 والأكِنَّةُ: جمع «كِنَان» ، وهو الوعَاءُ الجامع. قال الشاعر: 2127 - إذَا ما انْتَضَوْهَا فِي الوَغَى مِن أكِنَّةٍ ... حَسِبْتَ بُرُوقَ الغَيْثِ تَأتِي غُيُومُهَا وقال بعضهم: «الكِنُّ» - بالكَسْرِ - ما يُحْفَظُ فيه الشَّيء، وبالفتح المصدر. يقال: كَننْتهُ كِنّاً، أي: جعلته في كِنِّ، وجُمِعَ على «أكنان» قال تبارك وتعالى: {مِّنَ الجبال أَكْنَاناً} [النحل: 81] . والكِنَانُ: الغِطَاءُ السَّاتِرُ، والفعل من هذه المادة يُسْتعمل ثلاثياً ورُبَاعيَّاً، يقال: كَنَنْتُ الشَّيء، وأكنَنْتُه كنَّا وإكناناً، إلاَّ أن الراغب فَرَّق بين «فَعَلَ» و «أفْعل» ، فقال: «وخُصَّ كننت بما يستُر من بيت، أو ثوب، أو غير ذلك من الأجسام» ، قال تعالى: {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُون} [الصفات: 49] وأكننت بما يستر في النفس، قال تعالى: {أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 235] . ويشهد لما قال قوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} [الواقعة: 77 - 78] وقوله تعالى: {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [القصص: 69] . و «كِنَان» يُجمع على «أكِنَّة» في القِلٌّةِ والكَثْرَةِ لتضعيفه، وذلك أن فَعالاً وفِعالاً بفتح الفاء وكسرها يُجْمَعُ في القِلَّةِ على «أفْعِلة» ك «أحمرة» و «أقْذِلَة» ، وفي الكَثْرَةِ على فُعُل ك «حُمُر» ، و «قُذُل» ، إلاَّ أن يكون مُضاعفاً ك «بَتَات» وكِنَان «، أو معتل اللام ك» خباء و «قباء» ، فيلتزم جمعه على «أفْعِلَة» ، ولا يجوز على «فُعل» إلاَّ في قليلٍ من الكلام كقولهم: «غُنُن» ، و «حُجُج» في جمع «عِنان» و «حجاج» . قال القرطبي: والأكِنَّةُ: الأغْطِية مثل: الأسنَّة والسَّنَان، والأعنَّة والعِنَان، كَنَنْتُ الشيء في كِنَّةٍ إذا صُنْتهُ فيه، وأكْنَنْت الشَّيء أخْفَيْتُهُ، والكِنَانَةُ معروفة، والكَنَّة - بفتح الكاف والنون - امرأة أبيك، ويقال: امرأة الابن أو الأخ لأنها في كنة. قوله: «أنْ يَفْقَهُوهُ» في مَحَلِّ نَصْبٍ على المفعول من أجْلِهِ، وفيه تأويلان سَبَقَا. أحدهما: كَرَاهَةَ أن يفقهوه، وهو رأيُ البصريين. والثاني: حَذْفُ «لا» ، أي: أن لا يَفْقَهُوهُ، وهو رأيُ الكوفيين. قوله: «وَقْراً» عطفٌ على «أكِنَّة» فَيَنْتَسِبُ انْتَصَابَهُ، أي: وجعلنا في آذانهم وقرأ و «في آذانهم» كقوله: «عَلَى قُلُوبِهِمْ» . وقد تقدَّمَ أنَّ «جَعَل» يحتمل معاني ثلاثة، فيكون هذا الجار مبنيَّاً عليها من كونه مفعولاً ثانياً قُدِّمَ، أو متعلّقاً بها نفسها أو حالاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 79 والجمهور على فتح الواو من «وَقراً» . وقرأ طَلحةُ بن مُصَرفٍ بكسرها، والفرق بين «الوَقْر» و «الوِقْر» أنَّ المفتوح هو الثِّقَلُ في الأذُنِ، يُقال منه: وَقَرتْ أذنه يفتح القاف وكسرها، والمُضارع تَقِرُ وتَوْقَر، بحسب الفعلين ك «تعد» و «تَوْجَل» . وحكى أبو زيد: أذُنٌ مَوْقُورة، وهو جَارٍ على القياس، ويكون فيه دليلٌ على أنَّ «وَقَرَ» الثلاثي يكون متعدياً، وسُمِع «أذنٌ مَوْقُورةٌط والفعل على هذا» أوْقَرْتُ «رباعياً ك» أكرم «. و» الوِقْر «- بالكسر - الحِمْلُ للحمار والبَغْلِ ونحوهما، كالوَسْق للبعير. قال تعالى: {فالحاملات وِقْراً} [الذاريات: 2] فعلى هذا قراءة الجموهور واضحةٌ، أي: وجعلنا في آذانهم، ثِقَلاً، أي: صَمَاً. وأمَّا قراءة طَلْحَةَ، فكأنه جعل آذانهم وقَرَتْ من الصمم كما تُوقَرُ الدَّابَّةُ بالحِمْلِ، والحاصلُ أنَّ المادة تَدُلُّ على الثَّقَلِ والرَّرانة، ومنه الوَقَارُ للتُّؤدَةِ، والسَّكينة، وقوله تعالى: {وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} فيه الفَصْلُ بين حَرْفِ العَطْفِ وما عطفه بالجار مع كون العاطف [على حرف واحد] وهي مسألة خلاف تقدَّم تَحْقِيقُهَا في قوله: {أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا} [النساء: 58] . والظاهِرُ: أن هذه الآية ونظرئرها مثل قوله تعالى: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201] ليس مما فُصِلَ فيه بين العاطف ومعطوفه كما تقدَّم. فصل في بيان سبب نزول الآية قال الكَلْبِيُّ عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: اجتمع أبو سفيان بن حَرْبٍ، وأبو جهل بن هِشَام، والوليدُ بن المُغيرَةِ، والنضر بن الحارث، وعُتْبَةُ وشَيْبةَ ابنا رَبِيعة، وأميَّة وأبَىُّ ابنا خلفّ والحرث بن عامرٍ يستمعون القرآن العظيم، فقالوا للنضر: يا أبا قتيلة: ما يقول محمد؟ قال ما أدري ما يقول إلاَّ أنه يُحَرِّكُ لِسَانُه وشَفَتَيْهِ وَيَتَكَلَّمُ بأسَاطِير الأوَّلين مثل ما كنت أحَدِّيَكُم عن القرون الماضية، وكان النَّضر كَثِرَ الحديث عن القُرونِ وأخبارها، فقال أبو سفيان: أبي لأرى بَعْضَ ما يقول حقاً. فقال أبو جَهْلِ: كَلاّ، لا تقرّ من هذا، وفي رواية: للموتُ أهونُ علينا من هذا، فأنزل الله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ} أي: إلى كلامك، «وجَعَلْنَا علَى قُلُوبِهِمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 80 أكِنَّةً» أغْطِيَةً جمع «كِنَان» ، كالأعِنَّة جمع «عِنَان» «أنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانْهِمْ وَقْراً» أي: صَمَاً وثقلاً. فصل بيان الدلالة من الآية احتج أهْلُ السُّنةِ بهذه الآية الكريمة على أنه - تعالى - يَصْرِفُ عن الإيمان، ويَمْنَعُ منه؛ لأنه - تعالى - جعل القَلْبَ في الكِنَانِ الذي يمنعه عن الإيمان. قالت المعتزلة: لا يمكن إجْراءُ هذه الآية على ظَاهرِهَا لوجوهٍ. أحدهما: أنه - تبارك وتعالى - وإنَّما أنزل القرآن العظيم حُجَّةً للرُّسُلِ على الكُفَّارِ، لا ليكون حُجَّةً للكُفِّارِ على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولو كان المرادُ من هذه الآية الكريمة أنه - تعالى - منع الكُفَّارَ عن الإيمان، لكان لهم أن يقولوا لرسول عليه الصَّلاة والسَّلامُ لما حكم بأنه منعنا من الإيمان فلم يَذِمَّنَا على ترك الإيمان ولم يدعونا إلى فعل الإيمان. وثانيها: أنه تبارك وتعالى لو مَنَعَهُمْ من الإيمان، ثم دَعَاهُمْ إليه لكان ذلك تكليفاً لِلْعَاجِزِ، وهو مَنْفِيِّ بصريح العَقْلِ، وبقوله تبارك وتعالى: {لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286] . وثالثها: أنه - تعالى - حكى ذلك الكلام عن الكُفَّارِ في معرض الذَّم، فقال تعالى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] وقال في آية أخرى: {وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُون} [البقرة: 88] . وإذا كان قد حَكَى عنهم هذا المَذهَبَ في معرض الذَّم لهم امتنع أن يكون ذكره هنا في معرض التقريع والتوبيخ، وإلاَّ لَزِمَ التَّنَاقُضُ. ورابعها: أنه لا نَزَاعَ في أنَّ القَوْمَ كانوا يَفْقَهُوَن، ويَسْمَعُونَ، ويعقلون. وخامسها: أنَّ هذه الآية وَرَدَتْ في معرض الذَّمِّ على ترك الإيمان، وإذا كان هذا الصَّدُّ، والمَنْعُ من قِبَلِ الله - تعالى - لما كانوا مَذْمُمينَ، بل كانوا معْذُورينَ. وسادسها: أن قوله: {حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ} يَدُلُّ على أنهم كانوا يفقهون، ويُمَيِّزُونَ الحَقَّ من الباطل، وعند هذا فلا بُدَّ من التأويل وهو من وُجُوه: الأول: قال الجُبَّائِيُّ: إنَّ القوْمَ كانوا يَسْتَمِعُونَ قِراءةَ الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، لِيَتَوَصَّلُوا بسمامع قراءته إلى مَعْرِفةِ مكانه باليل، فيقصدوا قَتْلَهُ وإيذَاءهُ، فكان اللَّهُ - تبارك وتعالى - يلقي في قلوبهم النوم وهو المراد من الأكنَّةِ ويثقل أسْماعَهُمْ عن استماع تلك القراءة بسبب ذلك النَّوْمِ، وهو المراد من قوله: {وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 81 الثاني: أن الإنسان الذي عَلِمَ الله - تعالى - منه أنه لا يؤمن، وأنه يموت على الكُفْرِ، فإنه - تبارك وتعالى - يَسِمُ قَلبهُ بعلامة مَخْصُوصَةٍ يستدلُ الملائكة برؤيتها على أنهم لا يُؤمِنُونَ، فلا يَبْعُدُ تلك العلامةِ بالكَنَانِ والغَطاءِ المانع، وتلك العلامَةُ في نفسها ليست مَانِعَةً عن الإيمان. الثالث: أنَّهم لمَّا أصًرُّوا على الكُفْرِ، وصَمَّمُوا عليه صار عدولهم عن الإيمان، والحالة هذه كالكِنَانِ المانِعِ عن الإيمان، فذكر الله تبارك وتعالى الكَنَانَ كِنَايَةٌ عن هذا المعنى. الرابع: إنه تعالى لما منعهم الألطاف التي يفعل بمَنْ اهتدى، فأخْلاهُمْ منها، وفوَّضَ أمورهم إلى أنفسهم لِسُوءِ صَنِيعِهِمْ، لم يبعد أن يضيف ذلك إلى نفسه بقوله: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} . الخامس: أن يكون الكلامُ وَرَدَ حِكَاية لما كانوا يذكرونه من قولهم: «قلوبنا غُلْفٌ» ، وقالوا: {قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ} [فصلت: 5] . فالجواب: أن العَبْدَ الذي أتى بالكُفْرِ إن لم يقدِرْ على الإتيان بالإيمان فقد صَحَّ قولنا: بأنه تبارك وتعالى - هو الذي حمله على الكُفْرِ [وصَدَّهُ عن الإيمان، وإن كان القادر على الكُفْر قَادراً على الإيمان فيمتنع صيرورة تلك القدجرة مَصْدراً للكُفْرِ] دون الإيمان إلاَّ عند انْضْمَام تلك الدَّاعية، وقد تقدَّم أنَّ مجموع القُدْرَةِ مع الدَّاعي يوجب الفِعْل، فيكون الكُفْرُ علَى هذا التقدير من اللَّهِ تعالى، وتكون الدَّاعية الجارة إلى الكُفر كِنَاناً للقلب عن الإيمان، ووقراً للسَّمع عن اسْتِمَاع دَلائِلَ الإيمان، فإذا ثبت في الدَّليلِ العَقْليِّ صِحَّةُ ما دَلَّ عليه ظَاهِرُ الآية الكريمة وجب حَمْلُهَا عليه عَمَلاً بالبرهان، وظاهر القرآن. قوله: {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَة} أي من المُعْجِزَاتِ والدَّلالاتِ {لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} وهذا يَدُلُّ على فَسَادِ تأويل الجُبَّائي؛ لأنه لو كان المراد بالأكِنَّةِ إلْقاء النوم على قلوب الكُفَّار لئلا يمكنهم التَّوصُّل بسمامع صوْتِهِ إلى وجدان مكانه، لما كان قوله: {وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَة لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا} لائقاً بذلك الكلام، ولوجب أن يُقالَ: وجعلنا على قلوبهم أكنَّةً أنْ يسمعوه؛ لأن المقصود الذي ذكره الجُبَّائي إنما يَحْصُلُ بالمَنْعِ من سماع الصَّوتِ، أمَّا المَنْعُ من الفِقْهِ لكلامه فلا تعلُقَ له بما ذكره الجبائي. قوله: «حَتَّى إذَا جَاءُوكَ» قد تقدَّم الكلامُ في «حتَّى» الداخلة على «إذا» في أول «النساء» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 82 وقال: أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: هنا «إذا» في موضع نَصْبٍ بجوابها، وهو «يقول» وليس ل «حتَّى» غايةٌ و «يجادلونك» حال، و «يقول» جواب «إذا» ، وهو العامل في «إذا» . وقال الزمخشري: [وهي] «حتى» التي تقع بعدها الجُمَلُ، والجملة قوله: «إذا جَاءُكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ» ، و «يُجَادِلُونَكَ» في موضع الحَالِ، ويجوزُ أن تكون الجارةَ، فيكون «إذا جاءوك» في مَحَلِّ الجر، بمعنى «حتَّى» وقت مجيئهم، و «يجادلونك» حالٌ،. وقوله: {يَقُولُ الذين كَفَرُوا} تفسيرٌ له، والمعنى أنه بلغ تكذيبهم الآيات إلى أنهم يجادلونك ويُنَاكِرُونَكَ. وفسَّرَ مُجَادَلَتَهُمْ بأنهم يقولون: {إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} قال أبو حيَّان: «وقد وُفَّقَ الحوفي، وأبو البقاء، وغيرهما للصواب في ذلك» ثمَّ ذكر عِبَارَةَ أبي البقاء والحوفي، وقال أيضاً: و «حتى» إذا وقع بعدهما «إذا» ، يُحْتمل أن تكون بمعنى «الفاء» ، ويحتمل أن تكون بمعنى «إلى أن» ، فيكون التقديرُ: فإذا جَاءُوك يُجَادِلُونَكَ يقول، أو يكون التقدير: وجعلنا على قلوبهم أكنَّة، وكذا إلى أن قالوا: إن هذا إلاَّ أساطير الأوَّلين، وقد تقدَّم أن «يُجَادِلُونك» حالٌ من فاعل «جَاءُوكَ» ، و «يقول» : إمَّا جواب: «إذا» وإمَّا مفسَّرةٌ للمجيء، كما تقدَّم تقريره. و «أساطير» فيه أقوال: أحدهما: أنه جمع لواحد مُقَدَّرٍ، واخْتُلِفَ في ذلك المُقَدَّرٍ، فقيل: أسْطُورة، وقيل: أسْطَارة، وقيل أسْطُور، وقيل: أسْطَار، وقيل إسْطِيرة وقال بعضهم: بل لُفِظَ بهذه المفردات. والثاني: أنه جَمْعٍ ف «أساطير» جمع «أسْطار» ، و «أسطار» جمع «سَطَر» بفتح الطاء، وأمَّا «سَطْر» بسكونها فَجَمْعُهُ في القِلَّةِ على «أسْطُر» ، وفي الكثرة على «سطور» ك «فَلْس» و «أفْلُس» و «فُلُوس» . والثالث: أنه جَمْعُ الجَمْعِ ف «أساطير» جمع «أسْطَار» ، و «أسطار» جمع «أسْطُر» ، و «سَطْر» جمع «سَطر» وهذا مرويُّ عن الزَّجَّاج، وليس بشيء فإنَّ «أسْطَار» ليس جمع «أسْطر» ، بل هما مِثَالاً جَمْع قلَّة. الرابع: أنه اسم جمع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 83 قال: ابن عطية: «هو اسمُ جمع لا واحد له من لفظه» وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ النحويين قد نَصُّوا على أنه كان على صيغةٍ تَخُصُّ الجُمُوع لم يُسمُّوه اسم جمع، بل يقولون: هو جمع ك «عَبَاديد» و «شَمَاطِيط» ، فظاهر كلام الرَّاغب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: أن «أساطير» جمع «سَطَر» بفتح الطاء، فإنه قال: وجمع «سَطَر» - يعين بالفتح - «أسطار» و «أساطير» . وقال المُبَرَّد - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: هي جمع «أسْطُورة» نحو: «أرْجُوحَة» و «أراجيح» و «أحْدُوثَة» و «أحاديث» . ومعنى «الأساطير» : الأحاديث الباطلة والُّرَّهَات ممَّا لا حَقيقَةَ له. وقال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: - أصلُ «الأسَاطير» من «السَّطْر» وهو أن يجعل شيئاً ممتداً مُؤلَّفاً، ومنه سَطْرُ الكتاب، وسطر من شجر مفروش. قال ابن السكيت: يقال سَطْرٌ وسِطْرٌ، فمن قال: «سَطْر» فجمعه في القليل «أسْطُر» ، والتكثير «سْطُور» ، ومن قال: «سِطْر» فجمعه «أسْطَار» ، و «الأساطير» جمع الجمع. وقال الجبائي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: واحدُ الأساطير «أسْطُور» و «أسطورة» و «إسطيرة» . قال جمهور المفسرين: أساطير الأولين ما سَطَّرَهُ الأوَّلون. وقال ابن عباس: معناه أحاديث الأولين التي كانوا يسطرونها، أي: يَكْتُبُونَهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 قوله: {وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ} في الضميرين - أعني «هم» وهاء «عنه» - أوجه: أحدهما: أن المرفوع يعود لعى الكُفَّارِ، والمجرور يعود على القرآن الكريم، وهو أيضاً الذي عَادَ عليه الضَّميرُ المَنْصُوب من «يَفْقَهُوه» ، والمُشَارُ إليه بقولهم: «إنْ هَذَا» . والثاني: أنَّ «هم» يعود على من تَقدَّمَ ذكرهم من الكُفَّار، وفي «عنه» يعود على الرسول، وعلى هذا ففيه الْتَفَاتٌ من الخطاب إلى الغَيْبَةِ، فإن قوله: {جَاءُوَكَ يُجَادلونك} خطابٌ للرسول عليه الصَّلاةُ والسَّلام، فخرج من هذا الخطاب إلى الغَيْبَةَ. وقيل: يعود المرفوع على أبي طالب وأتْبَاعِهِ. وفي قوله: «يَنْهَوْنَ» و «يَنْأوْنَ» تَجْنِيسُ التصريف، وهو عِبَارةٌ عن انفراد كل كلمة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 84 عن الأخرى بحرف ف «ينهون» انفردت بالهاء، و «يَنْأوْن» بالهمزة، ومثله قوله تعالى: {وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} [الكهف: 104] {بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُون} [غافر: 75] . وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الخَيْلُ مَعْقُودٌ في نَوَاصِيْهَا الخَيْرُ» ، وبعضهم يسميه «تجنيس التَّحْريف» وهو الفرق بين كلمتين بحرف وأنشدوا في ذلك قول القائل: [الكامل] 2128 - إنْ لَمْ أشُنَّ عَلَى ابْنِ حَرْبٍ غَارَةً ... لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نِهابِ نُفُسِ وذكر غيره أن «تجنيس التحريف» هو أن يكون الشَّكْلُ، فرقاً بين كلمتين، وجعل منه «اللُّهِى تفتح اللَّهى» وقد تقدَّم تحقيقه. وقرأ الحسن و «يَنَوْن» بإلقاء حركة الهمزة على النونه وحذفها، وهو تخفيف قياسي. و «النَّأيُ» : البُعْدُ، قال: [الطويل] 2129 - إذَا غَيَّرَ النَّأيُ المُحِبِّينَ لَمْ يَزَل ... ْ رَسِيسُ الهَوَى مِنْ حُبِّ مَيَّةً يبْرَحُ وقال الآخر في ذلك، فأجَادَ، [الطويل] 2130 - ألاَ حَبَّذا هِنْد وأرْضٌ بِهَا هِنْدُ ... وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونِهَا النَّايُ والبُعْدُ عطف الشيء على نفسه للمُغَايَرَةَ اللَّفْظيَّة يقال: نَأي زيد يَنْأى نَأياً، ويتعدَّى بالهمزة، فيقال: أنْأيْتُهُ، ولا يُعَدِّى بالتضعيف، وكذا كل ما كان عينه همزةً. ونقل الواحدي أنه يقال: نَأيْنُهُ بمعنى نَأيْتُ عنهُ. وأنشد المُبَرِّدُ: [الطويل] 2131 - أعَاذِلُ إنْ يُصْبِحْ صَدَاي بِقَفْرَةٍ ... بَعيداً نآنِي صَاحِبِي وَقَريبِى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 85 أي: نَأى عَنَّي. وحكى اللَّيْثُ: «نَأيْثُ الشيء» ، أي: أبْعَدْتُهُ، وأنشد: [الطويل] 2132 - إذَا مَا الْتَقَينا سَالض مِنْ عَبَرَاتِنَا ... شَآبيبُ يُنْأى سِيْلُهَا بالأصَابِع فَبَنَاهُ للمفعول، أي: يُنَحِّى ويُبْعَدُ. والحاصلُ أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على البُعْدِ، ومنه أتَنَأى أي: أفْعَلُ النَّأيَ. والمَنْأى: الموضع البعيدُ. قال النابغة: [الطويل] 2133 - فَإنَّكَ كالمَوْتِ الَّذِي هُوَ مُدْرِكِي ... وَإنْ خِلْتُ أنَّ المُنْتَأى عَنْكَ وَاسِعُ و «تَنَاءَى» أي: تباعد، ومنه النُّؤيُ للحُفَيْرَةِ التي حول الخِبَاءِ لتبعد عنه الماء. وقُرِئ: {وَنَأَى بِجَانِبِهِ} [فصلت: 51] وهو مَقْلُوبٌ من «نأى» ، ويَدُلُّ على ذلك أنَّ الأصل هو المَصْدَرُ وهو «النَّأيُ» بتقديم الهمزة على حرق العِلِّة. فصل في المراد بالآية وسبب نزولها معنى الآية الكريمة أنهم يَنْهَوْنَ النَّاسَ عن اتِّبَع مُحَمَّدِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويَنْأوْنَ عنه، أي: يبتاعدون عنه بأنفسهم نزلت هذه الآية في كُفَّار «مكة» المشرفة، قال محمد بن الحَنَفِيَّةِ والسُّدي والضَّحاك، وقال قتادةُ: يَنْهَوْنَ عن القرآن، وعن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويتباعدون عنه. واعلم أنَّ النهي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مُحَلٌ فلا بد أن يكون النهي عن فعل يتعلَّقُ به، فذكروا فيه قولين: الأول: ينهون عن تَدَبُّرِ القُرْآنِ واستمامعه، وعن التَّصديقِ بنبوة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والإقرار برسالته. الثاني: قال ابن عبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ومقاتل: نزلت في أبي طالب كان ينهى النَّاس عن أذَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويمعنهم ويَنْأى عن الإيمان به أي: يَبْعَدُ، حتى روي أنه اجتمع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 86 إليه رؤوس المشركين، وقالوا: تَخَيَّرْ من أصْبَحِنَا وَجْهاً وادْفَعْ إلينا محمداً، فقال أبو طالب: ما أنْصَفْتُمُونِي أدْفَعُ إليكم ولدي لِتَقْتُلُوهُ وأرَبِّي وَلَدَكُمْ. وروي أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دَعَاهُ إلى الإيمان فقال: لولا أن تُعِيِّرُني قُرَيْشٌ لأقرت بها عَينكَ، ولكن أذُبُّ عنك ما حييتُ، وقال فيه أبياتاً: [الكامل] 2134 - واللَّهِ لَنْ يَصِلُوا إلَيْكَ بجَمْعِهِم ... ْ حَتّى أوَسَّدَ فِي التُّرابِ دَفِينَا فَاصْدَعْ بأمْرِكَ مَا عَلَيْكَ غَضَاضَةٌ ... وابْشِرْ وَقَرَّ بِذاكَ مِنْكَ عُيُونَا وَدَعَوْتَنِي وَعَرفْتُ أنَّكَ نَاصِحي ... وَلَقَدْ صَدَقْتَ وَكُنْتَ ثَمَّ أمِينَا وَعرَضْتَ دِنيا قَدْ عَلِمْتُ بأنَّهُ ... مِنْ خَيْرِ أدْيَانِ البَرِيَّةِ دِينَا لَوْلاَ الملامَةُ أو حذارُ مَسَبَّة ... ٍ لَوَجَدْتَنِي سَمْحاً بِذَاكَ مُبِينَا واعلم أنَّ القول الأوَّلَ أشبه لوجهين: د أحدهما: أنَّ جميع الآيات المتقدمة في ذَمِّ طريقتهم، فلذلك كان يبغي أن يكون قولهم: «وهم ينهون عنه» مَحْمُولاً على أمْرٍ مذموم، وإذا حملناه على أنَّ أبا طالبٍ كان ينهى عن إيذائه لما حصل هذا النَّظْمُ. وثانيهما: قوله تبارك وتعالى بعد ذلك: {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم} يعني به ما تقدم ذكره، ولا يَليقُ ذلك النهي عن أذِنَّيِهِن لأن ذلك حسن لا يوجب الهلاك. فإن قيل: إنَّ {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم} يرجع إلى قوله: {يَنْأوْنَ عَنْهُ} لا قوله: «ينهون عنه» ؛ لأن المراد بذلك أنهم يبعدون عنه بمُفَارَقَةِ دينه وترك موافقته وذلك ذَمٌّ. فالجوابُ أن ظاهر قوله: {وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم} يرجعُ إلى كل ما تقدَّمَ ذِكْرُهُ، كما يقال: «فلان يبعد عن الشيء الفلاني وينفر عنه، ولا يَضُرُّ بذلك إلاَّ نفسه» ، فلا يكون هذا الضرر متعلّقاً بأحد الأمرين دون الآخر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 87 قوله: «وإن يهلكون» «إنْ» نافية كالتي في قوله: {إِنْ هاذآ} [الأنعام: 25] و «أنفسهم» مفعولٌ، وهو استثناءُ مُفَرَّغٌ، ومفعول «يَشْعرون» محذوف: إمَّا اقتصاراً، وإمّا اختصاراً، أي: وما يشعرون أنهم يهلكون أنفسهم بتماديهم في الكُفْرِ وغُلُوِّهِمْ فيه، قاله ابن عباس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 لمَّا بيَّن أنهم يهلكون أنْفُسَهُمْ شَرَحَ كَيْفِيَّة ذلك الهلاك فقال: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} ، وبجواب «لو» محذوف لفهم المعنى، والتقدير: «لرأيت شيئاً عظيماً وَهَوْلاً مُفْظَعْاً» . وحذف الجواب كثر في التَّنْزِيلِ، وفي النظم كقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً} [الرعد: 31] . وقول الآخر [في ذلك:] [الطويل] 2135 - وَجَدِّكَ لَوْ شَيءٌ أتَانَا رَسُولُهُ ... سِوَاكَ ولَكِنْ لَمْ نَجَدْ لَكَ مَدْفَعاَ وقوله: [الطويل] 2136 - ... - فَلَوْ أنَّهَا نَفْسٌ تَمُوتُ جَمِيعَة َ ولَكنَّهَا نَفْسٌ تَسَاقَطُ أنْفُسَا ... وقله الآخر فأجاد: [الكامل] 2137 - كَذَبَ العَوَاذِلُ لَوْ رَأيْنَ مُنَاخَا ... بِحَرْيزِ رَامَهض والمَطِيُّ سَوَامِي وحذفُ الجواب أبْلِغُ [قالوا:] لأن السَّامِعَ تذهب نَفْسُهُ كل مذهب، ولو صرَّح له بالجواب وطَّنَ نفسه عليه فلم يحسن منه كثيراً، ولذلك قال كثير في ذلك: [الطويل] 2138 - فَقُلْتُ لَهَا يَا عَزُّ كُلُّ مُصِيبَةٍ ... إذَا وطِّنَتْ يَوْماً لَهَا النَّفْسُ ذَلَّتِ وقوله: «ترى» يجوز أن تكون بصريسةً، ومفعولها محذوف، أي: ولو ترى حالهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 88 ويجوز أن تكون القَلْبِيَّةَ، [والمعنى:] ولو صرفتع فكرك الصحيح لأنْ تَتَدَبَّرَ حَالَهُمْ لازْدَدْتَ يقيناً. وفي «لو» [هذه] وجهان: أظهرهما: أنها الامتناعية، فينصرف المُضَارعُ بعدها للمُضِيَّ، ف «إذا» باقيةٌ على أصلها من دلالتها على الزَّمِنِ الماضي، وهذا وإن كان لم يقع بعدُ؛ لأنه سيأتي يوم القيامة، إلاَّ أنه أبرز في صورة الماضي لتحقُّقِ الوَعْدِ. والثاني: أنها بمعنى «أنْ» الشَّرطيَّة، و «إنْ» هنا تكون بمعنى «إذا» ، والذي حمل [هذا] القائل على ذلك كَوْنُهُ لم يقع بعد وقد تقدَّمَ تأويله. وقرأ الجمهور - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: - «وُقِفُوا» مبنيَّا للمفعول من «وقف» ثلاثياً [و «على» يحتمل أن تكون على بابها وهو الظاهر أي: حبسوا عليها، أو عرضوا عليها، وقيل: يجوز] أن تكون بمعنى «في» ، أي في النَّار، كقوله: «» عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ «، اي: في ملك سليمان. وقرأ ابن السَّمَيْفَعِ، وزيد بن علي:» وَقَفُوا «مبيناً للفاعل. و» وَقَفَ «يتعدَّى ولا يتعدَّىن وفرَّقَتِ العَرَبُ بينهما بالمَصْدَرِ، فمصدر اللازم على» فُعُول «، ومصدر المُتعدِّي على» فَعْل «ولا يقال: أوْقَفْتُ. قال أبو عمرو بن العلاء:» لم أسْمَعْ شيئاً في كلام العرب: «أوقفت فُلاناً» ، إلاَّ أنِّي لو رأيت رَجُلاً وافقاً فقلت له: «ما أوقفك هاهنا» لكان عندي حَسَناً «وإنما قال كذلك؛ لأنَّ تعدِّي الفِعْل بالهمزة مقيسٌ نحو: ضحك زيدٌ وأضحكته أنا، ولكن سَمِعَ غيره في» وقف «المتعدي أوقفته. قال الراغب:» ومنه - يعني من لفظِ وقفتُ القوم - اسْتُعِيرَ وقفت الدَّابَّة إذا سَبلْتَهَا «فجعل الوقف حقيقةٌ في مَنْع المشي، وفي التَسْبِيلِ مَحَازاً على سبيل الاسْتِعَارَةِ، وذلك أن الشَّيْءَ المُسْبَلَ كأنه ممنوعٌ من الحركةن والوقف لفظٌ مشترك بين ما تقدَّمَ وبين سوارٍ من عاجٍ، ومنه: حمار مُوقَّفٌ بأرْسَاغِهِ مِثْلُ الوقْفِ من البَيَاضِ. فصل في معنى الوقوف على النار وقال الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ومعنى وقفوا على النَّار يحتمل ثلاثة أوجه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 89 الأول: يجوز أن يكون قد وفقوا عندها وهم يُعَاينُوها فهم موقوفون على أن يدخلوا النار. الثاني: يجوز أن يكون وقفوا عليها وهي تحتهم بمعنى أنهم وقفوا فوق النَّار على الصِّراطِ، جِسْرٌ فوق جَهَنَّمَ «على النَّار» . [الثالث:] معناه: أنهم عرفوا حقيقتها تعريفاً من قولك: «وقَّفْتُ فلاناً على كلام فلان» أي: عَلَّمتُهُ معناه وعرَّفته، وفيه الوجه المتقدِّم، وهو أن يكون «على» بمعنى «» في «، والمعنى أنهم يكونون غَائِصينَ في النَّارِ، وإنَّما صحَّ على هذا التقدير أن يقول: وقفوا على النَّار، لأن النَّار دَرَكَاتٌ وطَبَقَاتٌ بعضها فوق بعض، فيصح هناك معنى الاسْتِعْلاَء. قوله:» يا لَيْتنا «قد تقدَّم الكلام في» يا «المُبَاشرة للحرف والفعل. وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن كثير، والكسائي» ولا نثكَذِّبُ «و» نكون «برفعهما وبنَصْبهمَا حمزة، وحفصُ عن عاصم، وبرفع الأول ونصب الثاني ابن عامر، وأبو بكر. ونقل أبو حيَّان عن ابن عامرٍ أنَّهُ نصب الفعلين، ثم قال بعد كلام طويل: عن ابن عامر:» ولا نكذِّب «بالرفع، و» نكون «بالنصب، فأمَّا قراءة الرفع فيهما، ففيها ثلاثةُ أوجه: أحدهما: أن الرفع فيهما على العَطْفِ على الفِعْلِ قبلهما، وهو» نُرَدُّ «، ويكونون قد تَمَنَّوا ثلاثة أشياء: الرَّدّ إلى دار الدنيا، وعدم تكذيبهم بآيات ربهم، وكونهم من المؤمنين. والثاني: أن» الواو «واو الحال، والمضارع خبر مبتدأ مُضْمَرٍ، والجُمْلَةُ الاسمية في مَحَلِّ نصب على الحال من مرفوع» نُرَدُّ «. والتقدير: يا ليتنا نُرَدُّ غيرَ مكذَّبين وكائنين [من المؤمنين فيكون تمني الرد مقيداً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 90 بهاتين الحالين، فيكون الفعلان] أيضاً داخلين في التمنّي. وقد اسْتَشْكَلَ الناسُ هذهين الوجهين، بأن التَّمَنِّي إنشاءن والإنْشَاءُ لا يدخله الصِّدْقُ ولا الكذب، وإنما يدخلان في الأخبار، وهذا قد دَخَلَهُ الكَذِبُ لقوله تعالى: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] وقد أجابوا عن ذلك بثلاثة أوجه: أحدهما: ذكره الزمخشري - قال: هذا تَمَنِّ تضمَّنَ معنى العِدَة، فجاز أن يدخله التَّكْذِيبُ كما يقول الرَّجُلُ:» ليت اللَّه يرزقني مالاً فأحْسِن إليك، وأكَافِئَكَ على صَنيعِكَ «فهذا مُتَمَنِّ في معنى الواعد، فلو رُزِقَ مالاً ولم يُحْسِنَ إلى صاحبه، ولم يكافئه كذب، وصَحَّ أن يقال له كاذب، كأنه قال: إن رزقني اللَّهُ مالاً أحسنتُ إليك. والثاني: أن قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الأنعام: 28] ليس متعلّقاً بالمتمني، بل هو مَحْضُ إخبار من الله تبارك وتعالى، بأنهم دَيْدَنهم الكَذِبُ وهجيراهم ذلك، فلم يَدْخُلِ الكذبُ في التمنِّي، وهذان الجوابان واضحان، وثانيهما أوضح. والثالث: أنَّا لا نُسَلِّمُ أنَّ التمنِّي لا يدخله الصِّدْقُ ولا الكذب، بل يدخلانه، وعُزِيَ ذلك إلى عيسى بن عُمَرَ، واحتج على ذلك بقول الشاعر [حيث قال] : [الطويل] 2139 - مُنَى إنْ تَكُنْ حَقَّا تَكُنْ أحْسنَ المُنَى ... وإلاَّ فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَنا رَغْدَا قال: «وإذا جاز أن تُوصَفَ المُنَى بكونها حَقّاً جاز أن تُوصَفَ بكونها باطلاً وكذباً» . وهذا الجواب سَاقِطٌ جداً، فإن الذي وُصِفَ بالحَقِّ إنما هو المُنَى، و «المنى» : جمع «مُنْيَة» و «المُنْيَةُ» تُوصَفُ بالصِّدقِ والكذب مجازاً، لأنها كأنها تَعِدُ النَّفْسَ بوقوعها، فيقال لما وقع منها: صَادِق، ولِمَا يَقَعْ منها: كاذب، فالصِّدْق والكذب إنما دَخَلا في المُنْيَةِ لا في التمني. والثالث من الأوجه المتقدمة: أن قوله: «ولا نُكَذِّبُ» خبر لمبتدأ محذوف، والجملة اسْتئنَافِيَّةٌ لا تعلُّقَ لها بما قبلها، وإنما عطفت هاتان الجملتان الفعليتان على الجلمة المُشْتملة على أدَاةِ التمني وما في حيِّزهَا، فليستْ داخلةً في التَّمَنِّي أصلاً، وإنما أخبرَ الله - تبارك وتعالى - عنهم أنهم أخْبَرُوا عن أنفسهم بأنهم لا يكذبون بآيات ربِّهم، وأنَّهُمْ يكونون من المُؤمنينَ، فتكون هذه الجملة وما عُطِفَ عليها في مَحَلِّ نصبٍ بالقول، كأنَّ التقدير: فقالوا: يَا لَيْتَناَ نُرَدُّ وقالُوا: نحن لا نُكَذِّب ونكُون من المؤمنين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 91 واختار سيبويه هذا الوجه وشبَّهَهُ بقولهم: «دَعْنِي ولا أعُودُ» ، أي: وأنا لا أعود تَرَكْتَنِي أو لم تتركني، أي: لا أعود على كُلِّ حالٍ، كذلك معنى الآية: أخْبروا أنهم لا يُكَذِّبُون بآيات ربهم، وأنهم يَكُونُون من المؤمنين على كل حالٍ، رُدُّوا أوة لم يُرَدُّوا. وهذا الوجهُ وإن كان النَّاسُ قد ذكروه ورجَّحثوه، وأختار سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - كما مَرَّ، فإن بعضهم اسْتَشْكَلَ عليه إشْكَالاً، وهو: أنَّ الكَذِبِ لا يَقَعُ في الآخرة، فكيف وُصِفُوا بأنهم كاذبون في الآخرة في قولهم «ولانُكَذِّب ونكون» ؟ وقد أجيب عنه بوجهين: أحدهما: أن قوله {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الأنعام: 28] اسْتيثَاقٌ لذَمِّهِمْ بالكذب، وأن ذلك شأنهم كما تقدَّمَ ذلك آنفاً. والثاني: أنهم صَمَّوا في تلك الحَالِ على أنهم لو رُدُّوا لما عادوا إلى الكُفْرِ لما شَاهَدُوا من الأهْوالِ والعقوبات، فأخبر اللَّهُ - تعالى - أنَّ قولهم في تلك الحَالِ: «ولا نكذِّبُ» وإن كان عن اعتقاد وتصميم يتغير على تقدير الرَّدِّ، ووقوع العَوْدِ، فيصير قولهم: «ولا نكذّب» كذباً، كما يقول اللِّصُّ عند ألم العقوبة: «لا أعود» ويعتقد ذلك ويصمم عليه، فإذا خُلِّصَ وعاد كاذباً. وقد أجاب مَكّي أيضاً بجوابين: أحدهما [قريب] مما تقدَّم، والثاني لغيره، فقال - أي لكاذبون في الدُّنْيَا في تكذيبهم الرُّسُلَ، فإنكارهم البَعْثَ للحال [التي] كانوا عليها في الدُّنْيَا، وقد أجاز أبو عمرو وغيره وُقُوعَ التكذيب في الآخرة، لأنهم ادَّعَوْا أنهم لو رُدُّوا لم يُكَذَّبوا بآيات الله، فعلم الله ما لا يكون لو كان كيف يكون، وأنهم لو رُدُّوا لم يؤمنوا ولكدَّبوا بآيات اللِّهِ، فأكذبهم اللَّهُ في دَعْوَاهُمْ. وأمَّا نَصْبُهُمَا فبإضمار «أنْ» بعد الواو التي بمعنى «مع» ، كقولك: «ليت لي مالاً وأنْفِقَ منه» فالفعل منصوب بإضمار «أن» ، و «أنْ» مصدرية ينسبِكُ منها ومن الفعل بعدها مَصْدرٌ، و «الواو» حرف عَطْفٍ، فيستدعي معطوفاً عليه، وليس قبلها في الآية إلاَّ فعل، فكيف يُعْطَفُ اسْمٌ على فعل؟ فلا جَرَمَ أنْ نقدِّر مصدراً متوهّماً يُعْطَفُ هذا المصدر المُنْسَبكُ من «أنْ» وما بعدها عليه، والتقديرُ: يا ليتنا لنا رَدُّ، وانتفاء تكذيب بآيات ربنا وكَوْنُ من المؤمنين أي: ليتنا لنا ردٌّ مع هذين الشيئين، فيكون عدم التكذيب والكَوْنُ من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 92 المؤمنين مُتَمَنَّيْيْنَ أيضاً، فهذه ثلاثة أشياء أعني الرَّدَّ وعدم التكذيب، والكون من المؤمنين مُتَمَنَّاةٌ بقيد الاجماع، لا أنَّ كُلَّ واحدٍ مُتَمَنَّي وَحْدَهُ؛ لما تقدَّم من أنَّ هذه «الواو» شرط إضمار «أنْ» بعدها: أن تصلح «مع» في مكانها، فالنصبُ يُعِّنُ أحد مُحْتَمَلاتِهَا في قولك: «لا تأكل السَّمَكَ وتشرب اللبن» وشبهه، والإشكال المتقدِّم وهو إدخال التكذيب على التمين ورادٌ هنا، وقد تقدم جوابه إلاَّ أن بَعْضَهُ يُتَعذَّر هنا، وهو كون «لا نكذِّبُ، ونكونُ» مُسْتَانَفَيْنِ سِيْقا لمجرد الإخبار، فبقي: إمَّا لكون المتني دَخَلَهُ معنى الوَعْدِ، وإمَّا أن قوله تبارك وتعالى: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الأنعام: 28] ليس رَاجِعاً إلى تَمَنِّيهِمْ، وإمَّا لأنَّ التمِّني يدخله التكذيب، وقد تقدَّم فسادُهُ. وقال ابن الأنباري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أكْذَبَهم في معننى التَّمَنِّي، لأن تَمَنِّيهم راجعٌ إلى معنى:» نحنث لا نكذِّب إذا رُدِدْنا «فَغَلَّب عزَّ وجلَّ الكلام فَأكذَبَهُمْ، ولم يستعمل لفز التَّمنِّي» . وهذا الذي قاله ابن الأنباري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - تقدَّم معناه بأوضح من هذا. قال أبو حيَّان: وكثيراً ما يوجد في كتب النحو أن هذه «الواو» المنصوب بعدها هو على جواب التَّمَنِّي، كما قال الزمخشري: وقرئ: «ولا نكذِّبَ، ونكون» بالنصب بإضمار «أنْ» على جواب التمين، ومعناه إنْ رُدِدْنا لم نُكَذِّبْ، ونكن من المؤمنين. قال: وليس كما ذَكَرَ، فإن نَصْبَ الفعل بعد «الوارو» ليس على جهة الجواب؛ لأن «الواو» لا تقعُ جواب الشَّرْط، فلا يَنْعَقِدُ ممَّا قبلها، ولا ممَّا بعدها شَرْطٌ وجواب، وإنما هي واو «مع» يُعْطَفُ ما بعدها على المَصْدَر المُتَوَهِّم قبلها، وهي واو العطف يتعيَّنُ مع النَّصْبِ أحدُ مَحَامِلِهَا الثلاثة: وهي المعيَّةُ ويميِّزها من «الفاء» تقديرُ «مع» موضعها، كما أنَّ فاء الجواب إذا كان بعدها فِعْلٌ منصوبٌ ميَّزَهَا تقديرٌ شرْط قبلها أو حَالٌ مكانها وشُبْهَةُ من قال: إنها جواب أنها تنصب في المواضع التي تنصب فيها «الفاء» ، فتوهَّم أنها جواب. وقال سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: والواو تنصب ما بعدها في غير الواجب من حيث انْتَصَبَ ما بعد «الفاء» ، والواو والفاء معناهما مختلفان، ألا ترى قوله: [الكامل] 2140 - لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتَاتِيَ مِثْلَهُ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 8 ¦ الصفحة: 93 لو دخلت «الفاء» هنا لأفسدت المعنى، وإنما أراد: لا تجمع النَّهْيَ والإتيان وتقول: «لا تأكل السِّمَكَ وتشرب اللبن» لو أدخلت الفاء هنا لفسد المعنى. قال أبو حيَّان: ويوضِّح لك أنها ليست بجواب أنْفِرَادُ «الفاء» دونها، فإنها إذا حذفت انْجَرمَ الفعل بعدها بما قبلها لما تَضَمَّنَهُ من معنى الشَّرْطِ إلاَّ في النفي، فإن ذلك لا يجوز. قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: قد سبق الزمخشري إلى هذه العبارة أبو إسحاق الزَّجَّاج، قال أبو إسحاق: نصب على الجواب بالواو في التَّمَنِّي كما تقول: «ليتك تَصِيرُ إليْنَا ونُكْرِمَكَ» . المعنى: ليت مصيرك يقع وإكرامنا، ويكون المعنى: «ليت رَدَّنا وقع وأن لا نكذِّب» . وأمَّا كون «الواو» ليست بمعنى «الفاء» فَصَحِيحٌ، على ذلك جُمْهُورُ النحاة، إلاَّ أنِّي رأيتُ أبا بكر بن الأنْبَارِيّ خَرَّجَ النَّصْبَ على وجهين: أحدهما: أنَّ «الواو» بمعنى «الفاء» ، والتقدير: يا يلتنا نُردُّ فلا نكذِّبَ ونكونَ، فتكون «الواو» هنا يمنزلة «الفاء» في قوله: {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين} [الزمر: 58] . يؤكد هذا قراءةُ ابن مسعود، وابن أبي اسحاق «يا ليتنا نُرَدُّ فلا نكذبَ» بالفاء [منصوباً] . والوجه الآخر: النَّصْبُ على الصرف، ومعناه الحال، أي: يا ليتنا نُردُّ غي مكذِّبين. أمَّا قراءة ابن عامر - برفع الأوَّل ونصب الثاني - فظاهرةٌ بما تقدَّم؛ لأن الأول يرتفع على حَدِّ ما تقدم من التأويلات، وكذلك نصب الثاني يتخرج على ما تقدم ويكون قد أدخل عدم التكذيب في التَّمَنِّي أو إسْتَأنَفَهُ، إلاَّ أنَّ المنصوبَ يحتمل أن يكون من تَمَام قوله: «نُرَدُّ» أي: تَمنَّوا الرَّدَّ مع كونهم من المؤمنين، وهذا ظَاهِرٌ إذا جعلنا: «ولا نكذب» مَعْطُوفاً على «نُرَدّ» أو حالاً منه. وأمَّا إذا جعلنا «ولا نكِّب» مستأنفاً، فيجوز ذلك أيضاً، ولكن على سبيل الاعتراضِ، ويحتمل أن يكون من تمامِ «ولا نكذٍّب» أي: لا يكونُ منّا تكذيب مع كوننا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 94 من المؤمنين في التمني، أو أستأنفه ويكون قوله: «ولا نكذب» حينئذٍ على حَالِهِ، أعني من احتماله العَطْفَ على «نُرَدُّ» أو الحاليّة، أو الاستئناف، ولا يخفى حينئذٍ دخول كونهم مع المؤمنين في التَّمَنِّي وخروجه منه بما تقدَّم تقريره. وقُرئ شاذّاً عكس قراءة ابن عامرٍ، بِنَصْبِ «نكذبَ» ، ورفع «نكون» ، وتخريجها على ما تقدَّمَ إلاّ أنها يضعف فيها جَعْلُ «ونكونُ من المؤمنين» حالاً لكونه مُضَارعاً مثبتاً إلا بتأويل بَعيِيدٍ، كقوله: [المتقارب] 2141 - ... ... ... ... ... ... ... نَجَوْتُ وَأرْهَنُهُمْ مَالِكَا أي: وأنا أرْهَنُهُمْ، وقولهم: «قمت وأصكُّ عَيْنَهُ» ، ويدلُّ على حذف هذا المبتدأ قراءةُ أبيِّ: «ونحن نكونُ من المؤمنين» . فصل في تحرير معنى الرد معنى الآية الكريمة: أنهم تَمَنَّوا الرَّدَّ إلى حالة التكليف، لأن لَفْظَ «الرَّدَّ» إذا استعمل في المُسْتَقْبَلِ في حالٍ إلى حالٍ، فالمعهود منه الرَّدُّ إلى الحالة الأولى، فإن الظَّاهِرَ مَنْ صدر عنه تَقْصِيرٌن ثمَّ عاين الشَّدائد والأهْوَال من ذلك التقصير أنه يتمنى الرَّدَّ إلى الحالة الأولى؛ ليسعى في إزالة جميع وجوه التقصِيرَاتِ، وذلك التدارك لا يحصل بالعَوْدِ إلى الدنيا فقط ولا بترك التكذيب فقط، ولا بعمل الإيمان، بل إنَّما يَحْصُلُ التدارُكُ بمجموع هذه الأمور الثلاثة، فوجب إدخال هذه الثلاثة تحت التمني. فإن قيل: كيف يحسنُ تمني الرد مع أنهم يعلمون أنَّ الرَّدَّ لا يحصل ألْبَتَّةَ؟ والجوابُ من وجهين: أحدهما: لعلهم [لم] يعلموا أن الردَّ لا يحصل [ألبتة] ؟ والثاني: أنهم وإن علموا أن ذّلِكَ لا يَحْصُلُ إلاَّ أن هذا العلم لا يمنع من حصول إراة الرَّدِّ، كقوله تبارك وتعالى: {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا} [المائدة: 37] وقوله تعالى: {أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} [الأعراف: 50] فلمّا صَحَّ أن يريدوا هذه الأشياء مع العِلْمِ بأنها لا تحصل، فبأن يتمنونه أقْرَبُن لأن باب التمني أوْسَعُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 95 «بل» هنا للانْتِقَال من قِصَّةٍ إلى أخرى، وليست للإبطال، وعبارةُ بعضهم تُوهمُ أنَّ فيها إبْطالاً لكلام الكَفَرةِ، فإنه قال: «بل» رَدٌّ لِما تمنَّوْهُ أي: ليس الأمْرُ على ما قالوه؛ لأنهم لم يقولوا ذلك رَغْبَةً منهم في الإيمان، بل قالوه إشْفَاقاً من العذابِ وطَمَعاً في الرَّحْمَةِ. قال أبو حيَّان: «ولا أدْرِي ما هذا الكلام» . قال شهاب الدِّين: ولا أدري ما وَجْهُ عدم الدِّرَايَةِ منه؟ وهو كلامٌ صحيح ف نفسهن فإنهم لمَّا قالوا: ياليتنا كأنهم قالوا تَمَنَّيْنَا، ولكن هذا التمني ليس بصحيحٍ، لأنهم إنما قالوه تَقِيَّةً، فق يتمنى الإنسانُ شَيْئاً بلسانه، وقَلْبُهُ فَارغٌ منه. وقال الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «بل» هنا استداركٌ وإيجابُ نَفْيِ، كقولهم: «ما قام زيد بل قام عمرو» . وقال أبُو حيَّان: «ولا أدري ما النَّفْيُ الذي سَبَقَ حتى توجبه بل» ؟ قال شهابُ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: الظَّاهِرُ أن النفي الذي أراده الزَّجَّاج هو الذي في قوله: «ولا نكذِّبُ بآيات ربنا» إذا جعلناه مُسْتَأنفاً على تقدير: ونحنُ لا نُكَذِّبُ، والمعنى: بل إنهم مُكَدِّبُون. وفاعلُ «بَدَا» قوله: «ما كانوا» ، و «ما» يجوز أ، تكون مَوْصُلةً اسميةً وهو الظَّاهرُ، أي: ظهر لهم الذي كانوا يُخْفُونَهُن والعائدُ محذوف، ويجوز أن تكون مصْدريَّةً، أي: ظهر لهم إخْفَاؤهُمْ، أي: عاقبته، أو أطْلِق المَصْدَرُ على اسم المفعول، وهو بَعِيدٌ، والظَّاهرُ أن الضميرين: أعني المجرور والمرفوع في قوله: {بَدَا لَهُمْ ما كَانُوا يُخْفُونَ} عائدان على شيء واحدٍن وهم الكُفَّار أو اليهود والنصارى خاصة. وقيل: المجرور للأتْبَاعِ والمرفوعُ للرُّؤسَاءِ، أي: بل بدا للأتْبَاعِ ما كان الوُجَهَاءُ المتبوعون يُخْفُونَهُ. فصل في معنى " يخفون " واختلفوا في ذلك الذي أخفوه، فقال أبو روق: إن المشركين في بعض مواقف القيامة يجحدون الشرك، فيقولون: " والله ربنا ما كنا مشركين " فينطق الله جوارحهم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 96 فتشهد عليهم بالكُفْرِ، فذلك حين بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل. قال الواحديّ: وعلى هذا القول أهل التفسير. وقال المُبَرِّدُ: بَدَا لَهُمْ وبَالُ عقائدهم وأعمالهم وسُوءُ عاقبتها. وقال الزجاج: بَدَا للأتْبَاعِ ما أخْفَاهُ الرؤساء عنهم من أمْرِ البعث والنشور، قال: ويدلُّ [على ذلك] أنه - تبارك وتعالى0 ذكر عَقِيبَهُ: وقالوا {إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} [المؤمنون: 37] وهذا قول الحَسَنِ. وقال بعضهم: هذا في المُنَافِقِينَ كانوا يُسِرُّون الكُفْرَ، ويظهرون الإسلام، وبدا لهم يوم القيامة، وهو ما كانوا يخفون من قبل. وقيل: بَدَا لَهُمْ ما كان علماؤهم يخفون من جَحْد نبوة الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ونعته والبِشَارِةِ به، وما كانوا يُحَرِّفُونَ من التوراة. قوله: «ولو رُدُّوا» قرأ الجمهور بضم الراء خالصاً. وقرأ الأعمش، ويحيى بن وثاب، وإبراهيم: «رِدُّوا» بكسرها خالصاً. وقد مَرَّ أن الفَعْلَ المُضَاعَفَ العين واللام يحوز في فائه إذا بُنِيَ للمفعول ثلاثة الأوجه المذكورة في «فاء» الثلاثي المُعْتَلِّ العين إذا بُنِيَ للمفعول، نحو: قِيلَ وبيعَ، وقد تقدَّم [ذلك] . وقال الشاعرُ: [الطويل] 2142 - وَمَا حِلَّ جَهْلٍ حُبَا حُلَمَائِنَا ... وَلاَ قَائِلُ المَعْرُوفِ فِينَا يُعَنَّفُ بكسر الحاء. قوله: «وإنهم لكاذبون» تقدمَّ الكلامُ على هذه الجملة: هل هي مُسْتَأنَفَةٌ أو راجعة إلى قوله: «يا ليتنا نُرَدُّ» ؟ . فصل والمعنى أنه - تبارك وتعالى - لو رَدَّهُمْ لم يحصل منهم تَرْكُ التكذيب وفَعْلُ الإيمان، بل كانوا يَسْتَمِرُّون على طريقتهم الأولى. فإن قيل: إن أهْل القيامة قد عرفوا الله بالضرورة [وشاهدو أنواع] العقاب، فمع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 97 هذه الأهوال كيف [يمكن] أن يقال: إنهم يَعُودُونَ إلى الكُفْرش والمعصية. فالجواب: قال القاضي: تقديره: ولو رُدُّوا إلى حَالةِ التكليف، وإنَّما يَحْصُلُ الردُّ [إلى] هذه الحالة، إذا لم يحصل في القيامةِ مَعْرِفَةُ االلِّهِ بالضرورة، ولم يحصل هناك مُشَاهَدَةُ الأهوال وعذابُ جَهَنَّم، فهذا الشرط يكون مضمراً لا مَحَالَة. وهذا الجوابُ ضعيفٌ، لأن المقصود من الآية الكريمة بَيَانُ غُلُوهِمْ في الإصرار على الكُفْرِ، وعدم رغبتهم في الإيمان، فلو قَدَّرْنَا عدمَ معرفة الله في القيامة وعدمَ مشاهدة الأهوال لم يكون إصْرَارُهُمْ على كفرهم الأول مزيد تَعجُّبٍ، وإذاً لم يكن اعتبار هذا الشَّرطِ الذي ذكره القاضي. وقال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: هذه الآية الكريمة من أظْهَرِ الدلائل على فساد قول المُعتزلةِ؛ لأن الله تبارك وتعالى - بيَّن أنهم لو شاهدوا النَّار والعذابَ، ثم سألوا الرَّجْعَةَ ورُدُّوا إلى الدنيا لَعَادُوا إلى الشرك، وذلك للقضاء السَّابق فيهم، وإلاَّ فالعَاقِلُ لا يَرْتَابُ فيما شاهد. قال القرطبي: وقد عَايَنَ إبليس ما عاينَ من آيات الله تبارك وتعالى ثم عَانَدَ. قوله : {وقالوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 } هل هذه الجملة مَعْطُوفة على جواب «لو» والتقدير ولو رُدُّوا لعادوا [ولقالوا] ، أو هي مُسْتأنَفَةٌ ليس دَاخِلَةٌ في خبر، أو هي معطوفة على قوله: {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُون} [الأنعام: 28] ثلاثة أوجه: ذكر الزمخشري الوجهين الأوَّل والأخير، فإنه قال: «وقالوا» عطف على «لعادوا» ، أي لو رُدُّوا لكفروا، ولقالوا: إن هي إلاَّ حياتنا الدنيا، كما كانوا يقولون قبل مُعايَنةِ القيامة، ويجوز أن يُعْطَفَ على قوله: «وإنهم لكاذبون» [على معنى: وإنهم لَقَوْمٌ كاذبون] في كل شيء. والوجه الأول منقول عن ابن زيد، إلاَّ أن ابن عَطِيَّة ردَّهُ فقال: وتوقِيفُ الله - تعالى - لهم في الآية بَعدها فيه دلالةٌ على البَعْثِ والإشارة إليه بقوله: «أليس هذا بالحقِّ» يردُّ على هذا التأويل، وقد يُجَابُ عن هذا باختلاف حالين: فإنَّ إقرارهم بالبعث حقيقة، إنما هو في الآخرة، وإنكارهم ذلك إنما هو في الدنيا بتقدير عَوْدهمْ إلى الدنيا، فاعرافهم به في الدار الأخرة غَيْرُ مُنَافٍ لإنكارهم إيَّاهُ في الدينا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 98 قوله: {إنْ هيَ إلا حَيَاتُنَا} «إن» نافية، و «هي» مبتدأ و «حَيَاتُنَا» خبرها، ولم يكتفوا بمجرد الإخبار بذلك حتى أبرزوها محصورةً في نفي وإثباتٍ، و «هي» ضمير مُبْهَمٌ يفسِّره خبره، أي: ولا نعلم ما يُرَادُ به إلاَّ بذكر خبره، وهو من الضمائر التي يفسِّرها ما بعدها لفظاً ورتبة وقد تقدم ذلك عند قوله: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [البقرة: 29] وكون هذا مما يفسره ما بعده لفظاً ورتبةً فيه نظر، إذ لقائل أن يقول: «هي» تعود على شيء دلَّ على سياقِ الكلام، كأنهم قالوا: إنَّ العادة المستمرة، أو إن حَالَتَنَا وما عَهِدْنَا إلاِّ حياتنا الدنيا، واستند هذا القائل إلى قول الزَّمخشري: «هذا ضميرٌ لا يُعْلمَمُ ما يُرَادُ به إلاَّ بذكر ما بعده» . ومثَّل الزمخشري بقول العرب «هِيَ النَّفْسُ تَتَحَمَّلُ ما حُمَّلَتْ» و «هي العرب تقول ما شاءت» . وليس فيما قاله الزمخشري دَلِيلٌ على أن الخبر مُفَسِّرٌ للضمير. ويجوز أن يكون المعنى: إن الحَيَاة إلا حياتنا الدُّنْيَا، فقوله «إلا حياتنا الدنيا» دالٌّ على ما يُفَسِّرُ الضمير، وهو الحَيَاةُ مُطْلقاً، فصدق عليه أنه لا يعلم ما يُرَادُ ما يعود عليه الضمير إلاَّ بذكر ما بعده من هذه الحَيْثِيَة لا من حيثيَّة التفسير، ويَدُلُّ على ما قلنا قول أبي البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: هي كِنَايَةٌ عن الحياة، ويجوز أن يكون ضمير القِصَّة. قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: أمَّا أوَّل كلامه فصحيح، وأمَّا آخره وهو قوله: «إن هي ضمير القصّة» فليس بشيء؛ لأن ضمير القصِّة لا يفسَّرُ إلاَّ بجملةٍ مُصَرَّحٍِ بجزْأيْهَا. فإن قيل: الكوفي يجوزُ تفسيره بالمفرد، فيكون نَحَا نَحْوهُمْ؟ فالجواب أنَّ الكوفيَّ إنما يُجَوِّزهُ بمفرد عامل عمل الفعل، نحو: «إنه قائم زيد» و «ظَنَنْتُهُ قائماً زيدٌ» لأنه في صورة الجملة إذ في الكلام مُسْنَدٌ ومُسْنَدٌ إليه. أما نحو «هو زيد» فلا يجيزه أحدٌ، على أن يكون «هو» ضمير شأن لا قصّة، والدنيا صفة الحياة، وليست صِفَةً مزيلةً اشتراكاً عارضاً، يعني: أن ثَمَّ حياةً غير دنيا يُقرُّون بها؛ لأنها لا يعرفون إلاَّ هذه، فيه صَفَةٌ لمجرد التوكيد، كذا قيل، ويعنون بذلك أنها لا مَفْهُومَ لها، وإلاَّ قحقيقةُ التوكيد غَيْرُ ظاهرةٍ بخلاف {نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 13] . و «الباء» في قوله: «بمبعوثين» زائدةٌ لتأكيد الخبر المفني، ويحتمل مجرورها أن يكون مَنْصُوبَ المَحَلِّ على أنَّ «ما» هاهنا حجازيةٌ، أو مرفوعةٌ على أنها تميمية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 99 قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ} الآية الكريمة [الأية: 30] تَمَسَّكَ بعضُ المُشَبِّهَةِ بهذه الآية، فقال ظاهرها يَدُلُّ على أن أهل القيامة يَقِقُون عند الله - تبارك وتعالى - بالقُرْبِ منه، وذلك يَدُلُّ على أنَّهُ تبارك وتعالى [بحيث يحضر في مكان تارة، ويغيب عنه أخرى، وهذا خطاب؛ لأن ظاهر الآية يدل على أن الله تعالى] يوقفُ عليه، كما يقف أحدنا على الأرْضِ، وذلك كونه مُسْتَعْلياً على ذات الله تعالى، وأنه بَاطِلٌ بالاتِّفاق، فوجب تأويله، وهو من وجهين: الأول: أنه من باب الحَذْفِ، تقديره: على سؤال رَبَّهِمْ أو ملك ربهم، أو جزاء ربهم، أو على ما أخبرهم به من أمر الآخرة. الثاني: أنه من باب المَجَازِ؛ لأنه كنايةٌ عن الحَبْسِ للتوبيخ، كما يوقفُ العَبْدُ بين يَدَيْ سَيَّدِهِ ليُعَاتِبَهُ، ذكر ذلك الزمخشري، أو يكون المراد بالوقوف المَعْرِفَةَ، كما يقول الرجل لغيره: «وَقَفْتُ على كلامك» أي: عرفته، ورجَّح الزمخشري المَجَازَ على الحَذْفِ؛ لأنه بدأ بالمجاز، ثم قال: وقيل وقفوا على على حزاء ربهم وللناس خلافٌ في ترجيح أحدهما على الآخر وفيه ثلاثة مذاهب: أشهرها: ترجيح المجاز على الإضمار. والثاني: عكسه. والثالث: هاهنا سواء. قوله: «قال: ألَيْسَ» في هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنها اسْتِفْهَاميةٌ أي: جواب سؤال مُقّدَّر، قال الزمخشري: «قال» مَرْدُودٌ على قولِ قائلٍ. قال: ماذا قال لهم ربُّهُمْ إذْ أوقفُوا عليه؟ فقيل: قال لهم: أليس هذا بالحقِّ. والثاني: أن تكون الجملة حَالِيَّةً، وصاحب الحال «ربُّهم» كأنه قيل: وُقِفوا عليه قَائِلاً: أليس هذا بالحقٌ؟ والمُشَارُ إليه قيل: هو ما كانوا يكذبون به من البَعْثِ. وقيل: هو العَذَابُ يَدُلُّ عليه «فذوقوا العذاب» . وقوله: «بما كنتم» يجوز أن تكون «ما» مَوْصُولةً أسميةً، والتقدير: تَكْفُرُونَهُ، والأصل: تكفرون به، فاتَّصَلَ الضمير بالفعل بعد حذف الواسطة، ولا جائز أن يُحذف، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 100 وهو مجرورٌ بحاله، وإن كان مجرواً بحرف جُرَّ بمثله الموصول لاختلافِ المتعلِّق، وقد تقدَّم إيضاحه. والأوْلى أن تُجْعَلَ «ما» مصدريَّة، ويكون متعلَّق الكُفْرِ محذوفاً، والتقدير: بما كنتم تكفرون بالبَعْثِ، أو بالعذاب، أي: بكفرهم بذلك. فإن قيل: قد قال تبارك وتعالى: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ} [آل عمران: 77] ، وها هنا قد قال [لهم] : «أليس هذا بالحقِّ» ؟ فما وَجْهُ الجمع؟ . فالجواب: لا يكلمهم بالكلام الطيب النافع. قال ابن عباس: هذا في موقف، وقولهم: «واللَّه ربنا ما كنا مشركين» في موقف آخر، والقيامةُ مواقف، في موقف يُقِرُّونَ، وفي موقف ينكرون. قوله: {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} خَصَّ لفظ الذَّوْقِ، لأنهم في كل حال يجدونه وجدانَ الذَّائقِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 قوله تعالى: {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله} [الأية: 31] وصف أحوال منكري البَعْثِ بأمرين: احدهما: حصول الخُسْرَانِ، أي: خسروا أنفسهم بتكذيبهم المصير إلى اللَّهِ - تبارك وتعالى - وحُصُول العقاب. قوله: {حتى إِذَا جَآءَتْهُمُ الساعة بَغْتَة} في نصب «بَغْتَةً» أربعة أوجه: أحدهما: أنها مصدرٌ في موضع الحال من فاعل «جاءَتهم» بَغَتَتْهُمْ بغتة، فهو كقولهم: «أتيته رَكْضاً» . الثالث: أنَّها منصوبةٌ بفعل محذوف من لفظها، أي: تبغتهم بَغْتَة. الرابع: بفعل [من غير لفظها، أي: أتتهم بغتة، والبغت والبغتة مفاجأة الشيء بسرعة من] غير اعتدادٍبه، ولا جَعْلِ بالٍ منه حتَّى لو استشعر الإنسانُ به، ثم جاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 101 بسرعة من غير اعتدادٍ به لا يُقَالُ فيه: بَغْتَة، وكذلك قول الشاعر في ذلك: [الطويل] 2144 - إذَا بَغَتَتْ أشْيَاءُ قَدْ كَانَ قَبْلَهَا ... قَدِيماً فَلاَ تَعْتَدَّهَا بَغَتَاتِ والألف واللام في «السَّاعة» للغَلَبِة كالنَّجْم والثُّرَيَّا؛ لأنها غلبت على يوم القيامة، وسِّمَيتِ القيامَةُ سَاعةً لسرعة الحِسَابِ فيها على الباري تبارك وتعالى. وقيل: لأنَّ السَّاعة من الوَقْتِ الذي تقوم فيه القيامة؛ لأنها تَفْجأ الناس في ساعة لا يعلمها [أحدٌ] إلاَّ اللَّهُ تعالى. وقوله: «قالوا» هو جواب «إذا» . قوله: «يَا حَسْرَتَنَا» هذا مجازٌ؛ لأن الحَسْرَةَ لا يتأتى منها الإقْبَالُ، وإنَّما المعنى على المُبَالغَةِ في شِدَّةِ التَّحَسُّرِ، وكأنهم نادوت التحسُّر، وقالوا: إن كان لك وَقْتٌ، فهذا أوانُ حضورك. ومثله: «يا ويلتا» والمقصودُ التنبيهُ على خطأ المنادي، حيث ترك ما أحْوَجَهُ تركه إلى نداء هذه الأشياء. قال سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فيكون المنادي هو نفس الحَسْرَةِ، والمُراَدُ بالحَسْرَةِ النَّدَامَةُ. قال الزَّجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: هذا النِّدَاءُ ينبِّهُ الناس على ما سيحصل لهم من الحَسْرَةِ، والعربُ تعبر عن تعظيم أمثال هذه الأمور باللَّفظَةِ كقوله تبارك وتعالى: {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30] {ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} [الزمر: 56] {ياويلتا أَأَلِدُ} [هود: 72] و {ياأسفا} [يوسف: 84] والمعنى: يا أيها النَّاس تَنَبَّهُوا على ما وَقَعَ من الأسَفِ، فوقع النداءُ على غير المنادى في الحقيقة. قوله: «عَلَىَ مَا فَرَّطْنَا» متعلّق بالحسرة و «ما» مَصْدريَّةٌ، أي: على تفريطنا، والضمير في «فيها» يجوز أن يعود على السَّاعِةِ، ولا بد من مضاف، أي في شأنها والإيمان بها، وأن يعود على الصِّفَقَةِ المتضمِّنة في قوله: {قّدْ خَسِرَ الَّذين} ، قاله الحسن، أو يعود على الحياة الدينا، وإن لم يَجْرِ لها ذِكُرٌ لكونها مَعْلُومَةَ، قاله الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -. وقيل: يعود على مَنَازِلِهْم في الجنَّةِ إذا رأوها، وهو بَعِيدٌ. والتفريطُ: التقصير في الشيء مع القُدْرَةِ على فعله. وقال أبو عُبَيْدِ هو التَّضْييعُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 102 وقال ابن بَحْرِ: وهو السَّبْقُ ومنه الفارط، أي: السَّبق للقوم، فمعنى فَرَّط بالتشديد خَلَّى السَّبْقَ لغيره، فالتضعيف فيه للسَّلْبِ، ك «جلَّدت البعير» ومنه {فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} [الإسراء: 79] . فصل في تحرير معنى الخسران اعلم أن [كلمة «حتى» ] غاية [لقوله: «كذبوا» ] لا لقوله: «قد خَسِرَ» ، لأن خسرانهم لا غَايَةَ له، ومعنى «حتى» ها هنا أنَّ مُنْتَهَى تكذيبهم الحَسْرةُ يوم القيامة والمعنى: أنهم كذبوا بالبَعْثِ إلى أن ظهرت السَّاعةُ بَغْيَةً، فإن قيل: إنما يَتَحَسَّرُونَ عن موتهم. فالجواب: بما كان المَوْتُ وُقُوعاً في [أحوال الآخرة] ومقدماتها جُعِلَ من جنس السَّاعة، وسُمِّيَ باسمها، فلذلك قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ مَاتَ فَقَدْ قَامَتْ قِيَامَتُهُ» والمراد بالساعة: القيامة. قوله: «وَهُمْ يَحْمِلُونَ» «الواو» للحال، وصَاحِبُ الحال «الواو» في «قالوا» أي: قالوا: يا حَسْرَتَنَا في حالةِ حَمْلِهِمْ أوْزَارَهُمْ. وصُدِّرت هذه الجملة بصمير مبتدأ؛ ليكون ذِكْرُهُ مَرَّتين فهو أبْلَغُ. والحَمْلُ هنا قيل: مجازٌ عن مُقََاساتِهِمُ العذابَ الذي سَبَبُهُ الأوْزَارُ. [قال الزَّجَّاجُ: كما يُقَال: «ثقل عليّ كلام فلان» ] والمعنى: كرهته. وقيل: هو حقيقة وفي الحديث: «إنَّهُ يُمَثَّلُ لَهُ عَمَلُهُ بِصُورَةٍ قَبِيْحَةٍ مُنْتِنَةِ الرِّيح فَيَحمِلُها» وهو قول قتادَةَ، والسُّدي، وخُصَّ الظَّهْرُ، لأنه يُطيق [من الحَمْل] ما لا يُطِيقُهُ غيره من الأعْضَاءِ كالرأس والكَاهِل، وهذا كما تقدم في قوله: {فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ} [الأنعام: 7] ، {فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ} [آل عمران: 187] لأن اليد أقوى في الإدراك اللَّمْسِيِّ من غيرها. والأوزَارُ: جمع «وِزْر» ك «حِمْل» وعِدْل وأعْدَال. والوِزْر في الأصل الثقل، ومنه،: وَزَرْتُهُ، أي: حَمَّلته شَيْئاً قليلاًن ووزير الملك من هذا؛ لأنه يَتَحَمَّلُ أعْبَاء ما قَلَّدّهُ المَلِكُ من مئونة رعيَّته وحَشَمَتِه ومنه أوْزَارُ الحرب لسلاحها وآلاتها، قال [القائل في ذلك] : [المتقارب] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 103 2145 - وأعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أوْزَارَهَا ... رِمَاحاً طِوَالاً وخِيْلاً ذُكُورَا وقيل: الأصل في ذلك الوَزَرُ بفتح الواو والزاي، وهو المَلْجأ الذي يُلْتَجَأُ إليه من الجَبَلَ، قال تعالى: {كَلاَّ لاَ وَزَر} [القيامة: 11] ثمَّ قيل للثقل: وَزْرٌ تَشْبيهاً بالجَبَلِ، ثم اسْتُعِيرَ الوِزْرُ إلى الذَّنْبِ تشْبيهاً به في مُلاقَاةِ المَشَقَّةِ، والحاصلُ أنَّ هذه المادة تَدُلُّ على الرَّزَانَةِ والعَظَمَةِ. قوله: {ألا سَاءَ ما يزِرُونَ} «ساء» هنا تحتمل أوجهاً ثلاثة: أحدهما: أنها «ساء» المُتَصَرِّفَةُ المتعدِّيَةُ، ووزنها حينئذٍ «فَعَل» بفتح العين، ومفعولها حينئذٍ محذوفٌ، وفاعلها «ما» . و «ما» تحتمل ثلاثة أوجه: أن تكون موصولةً اسميةً، أو حرفية، أو نكرة موصوفة، وهو بعيد، [وعلى جعلها اسمية أو نكرة موصوفة تقدّر] لها عائداً، والحرفية غير محتاجة إليه عند الجمهور. والتقدير: ألا سَاءهُمُ الذي يَزِرُونَهُ، أو شيء يزرونه، أو وزْرُهُمْ [وبدأ ابن عطية بهذا الوجه؛ قال: كما تقول: ساءني هذا الأمر، والكلام خبر مجرد كقوله: [البسيط] 2146 - رَضيتَ خِطَّةَ خَسْفٍ غَيْرَ طَائِلَةٍ ... فَسَاءَ هَذَا رِضّى يا قَيْسَ عَبْلانَا قال أبو حيان: ولا يتعين أن تكون «ما» في البيت خبراً مجرداً، بل تحتمل الأوجه الثلاثة] وهو ظاهر. الثاني: أن يكون للتعجُّب، فتنتقل من «فَعَل» بفتح العين [إلى] «فعُل» بضمها، فتعطى حكم فعل التَّعَجُّب من عدم التصرف، والخروج من الخبر المَحْضِ إلى الإنشاء إن قلنا: إن التعجُّب إنشاء، وهو الصحيح، والمعنى: ما أسْوَأ، أي: أقبح الذي يزرونه، أو شيئاً يزرونه، أو وِزْرُهم. الثالث: أنها بمعنى «بئس» فتكون للمُبَالَغَةِ في الذَّمِّ فتعطى أحكامها أيضاً، ويجري الخِلافُ في «ما» الواقعِة بعدها حَسْبَما ذكر في {بِئْسَمَا اشتروا بِهِ} [البقرة: 90] وقد ظهر الفَرقُ بين الأوجه الثلاثة، فإنها في الأوَّل متعدّية متصرّفة، والكلام معها خَبَرٌ مَحْضٌ، وفي الأخيرين قَاصِرَةٌ جامدة إنشائية. والفرق بين الوجهين الأخيرين أنَّ التعجبيَّة لا يُشْتَرَطُ في فاعلها ما يشترط في فاعل «بئس» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 104 وقال أبو حيَّان: والفَرْقُ بين هذا الوجه يعني كونها بمعنى «بئس» ، والوجه الذي قبله - يعني كونها تعجبيَّةً - أنه لا يُشْتَرَطُ فيه ما يشترط في فاعل «بئس» من الأحكام، ولا هو جملةٌ منعدةٌ من مبتدأ وخبر، [إنما هو منعقد من فعل أو فاعل انتهى، وظاهره لا يظهر إلاَّ بتأويل، وهو أن الذم لا بد فيه مَن مَخْصوص بالذَّمِّ، وهو مبتدأ، والجملة الفعلية قبله خبره فانعقده من هذه الجملة مبتدأ وخبر] . إلا أنَّ لقائلٍ أن يقول: إنما يَتَأتَّى هذا على أحَدِ الأعَارِيبِ في [المخصوص] وعلى تقدير التَّسْليم، فلا مَدْخَلَ للمخصوص بالذَّمِّ في جملة الذَّمِّ بالنسبة إلى كونها فَعْلِيَّة، فحينئذٍ لا يظهر فَرْقٌ بينها وبين التَّعجبية في أنَّ كُلاَّ منهما منعقدةٌ من فَعلٍ وفاعل. قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: بئْسَ الحمْلُ حَمَلُوا «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ لَعِب} يجوز أن يكون من المُبَالَغَةِ جَعْلُ الحَيَاةِ نَفْسَ اللَّعِبِ واللَّهوِ كقول [القائل] : [البسيط] 2147 - ... ... ... ... ... ... ..... فَإنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وإدْبَارُ وهذا أحسن، ويجوز أن يكون في الكلام حَذْفٌ، أي: وما أعمال {وما أهْلُ الحياة الدنيا إلاَّ أهل لَعِب} فقدَّر شيئين محذوفين. واللَّهْوُ: صَرْفُ النَّفْسِ عن الجِدِّ إلى الهَزَلِ، ومنه لَهَا يَلْهُو. وأمَّا لَهِيَ عن كذا فمعناه صَرَفَ نَفْسَهُ، والمَادَّةُ واحد انقلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها، نحو: شَقِيَ ورَضِيَ. وقال المهدوي: «الذي معناه الصَّرْفُ لامُه ياء، بدليل قولهم:» لَهْيَان «، ولام الأول واو» . قال أبو حيَّان: «وليس بشيء؛ لأن» الواو «في التثنية انْقَلَبَتْ ياءً، فيس أصلها الياء ألا ترى تثنية» شَجِ «:» شجيان «وهو من الشَّجْوِ» انتهى. يعني: أنهم يقولون في اسم فاعله: «لهٍ» ك «شَجٍ» والتثنيةُ مَبْنيَّةٌ على المفرد، وقد انقلبت في المُفْرَدِ فلتنقلب في المثنى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 105 قال شهابُ الدين: فلنا فيه بحث حَسَنٌ أوْدَعْنَاهُ «التفسير الكبير» ولله الحمد [قال: وبهذا] يظهر فَسَادُ ردِّ المهدوي على الرُّمَّاني، فإنَّ الرُّمَّاني قال: «اللَّعِبُ عَمَلٌ يُشْغِلُ النفس عما تنفعُ به، واللَّهْوُ صَرْقُ النفس من الجدِّ إلى الهَزَل، يقال: لَهَيْتُ عنه، أي صَرَفْتُ نفسي عنه» . قال المهدوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وفيه ضَعْفٌ وبُعْدٌ، لأنَّ الذي فيه معنى الصَرِفِ لامه ياء، بدليل قولهم في التَّثْنية لَهْيَان» انتهى. وقد تقدَّم فَسَادُ هذا الرَّدِّ. وقال الراغب: «اللَّهْوُ ما يَشْغَلُ الإنسانَ عما يَعْنيهِ ويَهُمُّهُ، يقال: لَهَوْتُ بكذا أوْ لَهَيْتُ عن كذا: استغلْتُ عنه بِلَهْوٍ» . وهذا الذي ذكره الراغب هو الذي حمل المهدوي على التَّفْرِقَةِ بين المَادَّتَيْنِ. فصل في ذم الحياة الدنيا اعلم أن منكري البعث تعْظُمُ رغبتهم في الدُّنيا، فَنَبَّه اللَّهُ - تعالى - في هذه الآية تصح إلا فيها، فلهذا السبب حصل في تفسير الآية قولان: الأول: قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد حَيَاةَ أهل الشرك والنفاق؛ لأن حياة المؤمن يحصل فيها أعْمَالٌ] صالحة. والثاني: أنه عَامٌ في حياة المؤمن والكافر وإنما سماها باللعب واللَّهْوِ؛ لأن الإنسان حال اشتغاله باللَّعِبِ واللهو، فإنه يَلْتَذُّ به، وعند انْقَضَائها إلاَّ النَّدامَةُ] ، وفي تسمية هذه الحياة باللعب واللَّهْوِ وجوه: أحدهما: أن مُدَّة اللَّعِبِ واللَّهْوِ قليلةٌ سريعةُ الانقضاء، وكذلك هذه الحياة الدنيا. وثانيها: أنَّ اللعب واللهو إنما يَحْصُلُ عند الاغتِرَارِ بَظَوَاهِرِ الأمور، وأمَّا عند التَّأمُّلِ التَّامِّ لا يبقى اللعب واللهو أصْلاً، وكذلك فإن اللعب واللهو إنما يَحْصُلُ للصِّبْيَان والجُهَّال والمُغَفَّلِينَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 106 وأمَّا العقلاءُ والحُصفَاء فَقلّما يحصلُ لهم خوضٌ في اللعب واللهو وكذلك الالتذَادُ بطيبات الدنيا لا يحصل إلا للمغفّلين الجُهَّال بحَقَائق الأمور. وأما المحققون فإنهم أن كل هذه الخيرات غُرُورٌ وليس لها في نفس الأمر حقيقة معتبرةٌ. قوله: «وللدَّارُ الآخرةُ» قرأ الجمهور بلامين، الأولى لام الابتداء، والثانية للتعريف، وقرأوا «الآخرةُ» رفعاً على أنها صَفَةٌ ل «الدار» و «خَيْرٌ» خبرها. وقرأ ابن عامر: «ولَدَارُ» بلامٍ واحدة هي لام الابتداء، و «الآخرةِ» جرُّ بالإضافة، وفي هذا القراءة تأويلان: أحدهما: قول البصريين، وهو [أنه] من باب حَذْفِ الموصوف، وإقامة الصفة مُقَامَهُ، والتقدير: ولَدَارُ السَّاعةِ الآخرة، أو لَدَارُ الحياة الآخرة، يِدُلُّ عليه {وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا} ومثله قولهم: جَبَّةُ البَقْلَةِ الحَمْقَاءِ، ومَسْجِدُ المَكَانِ الجَامِعِ، وصلاةُ السَّاعَةِ الأولَى، ومكانُ الجَانِبِ الغَرْبِيّ] . وحَسَّن ذلك ايضاً في الآية الكريمة كونُ هذه الصفة جَرَتْ مجرى الجوامد في إيلائها العوامل كثيراً، وكذلك كلُّ ما جاء مما تُوُهِّمَ فيه إضَافَةُ الموصوف إلى صفته، وإنما احتاجوا إلى ذلك [كثيرا لئلا يلزم] إضافة الشيء إلى نفسه وهو ممتنعٌ؛ لأن الإضافة إمَّا للتعريف، أو للتخصيص، والشيء [لا يعرف نفسه] ولا يُخَصِّصُهَا، وهذا مَبْنِيُّ على أنَّ الصِّفَةَ نفس الموصوف، وهو مشكلن لأنه لا يعقل تصور المصوصوف وصَفَتُهُ جازت إضافته إليها، وأوردوا ما قدَّمْتُهُ من الأمثلة. قال الفرَّاء: هي إضافة الشيء إلى نفسه، كقولك: «بَارِحَةُ الأولى» و «يوم الخميس» و «حَقُّ اليقين» ، وإنما يجوز عند اختلاف اللَّفظَيْنِ وقراءة ابن عامر موافقة لمُصْحَفِهِ، فإنها رسمت في مصاحق الشَّاميين بلامٍ واحدة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 107 واختارها بضعهم لموافقتها لما أُجْمَعَ عليه في «يوسف» {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ} [يوسف: 109] ، وفي مَصَاحِفِ غيرهم بلامين. و «خَيْرٌ» يجوز أن يكون للتفضيل، وحُذِفَ المُفَضَّلُ عليه لِلْعِلْم به، أي: خَيْرٌ من الحياة الدنيا، ويجوز أن يكون لِمُجَرَّدِ الوَصْفِ بالخيرية كقوله تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} [الفرقان: 24] و «للذين يتَّقون» متعلّق بمحذوف؛ لأنه صَفَةٌ ل «خير» والذي ينبغي -[أو يتعيَّن]- أن تكون «اللام» للبيان، أي: أعني للذين، وكذا كُلُّ ما جاء من نَحْوِهِ، نحو: {خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى} [الضحى: 4] . فصل في معنى الخيرية ذكروا في وَجْهِ هذه الخَيْريَّةِ وجوهاً: أحدهما: أنَّ خيرات الدينا [خسيسة وخيرات الآخرة شريفة وبيان ذلك في وُجُوه: الأوَّل: أن خيرات الدنيا] ليس إلاَّ قَضَاءَ الشَّهْوَتَيْنِ، وهي في نهاية الخَسَاسَةٍ؛ لأن الحيانات الخَسِيسَة تشارك الإنسان فيها، بل ربما [كان] أمرُ تلك الحيوانات فيها أكْمَلَ من أمْرِ الإنسان، فالجَمَلُ أكثر أكْلاً، والدِّيكُ والعصفور أكثر وقاعاً، والذِّئْبُ أقوى على الفَسَادِ ة والتَّمْزِيقِ، والعَقْرَبُ أقوى لعى الإيذَاءِ، ومما يَدُلُّ على خَسَاسَتِهَا أنها لو كانت شَرِيفةً لكان الإكثار منها يوجبُ زيادة الشرف فكان يجب أن يكون الإنسان الذي أذهب عمره في الوِقَاعِ والأكْلِ أشْرَفَ الناس وأعْلاهُمْ دَرَجَةً، ومعلوم بالبديهة أنه ليس الأمْرُ كذلك، بل مثلُ هذا الإنسان يكون [ممقوتاً] مُسْتَحْقَراً، يوصفُ بأنه بَهِيمَةٌ أو كَلْبٌ، أو أخَسُّ، وذلك لأن الناس لا يفتخرون بهذه الأحوال، بل يُخْفُونَهَا، ولذلك عادة العُقَلاءِ عند الاشتغل بالوقَاع يختفون عن النَّاسِ، وأيضاً فإن الناس إذا شَتَمَ بعضم بعضاً لا يذكرون فيه إلاَّ الألقَاظ الدَّالة على الوقَاع، وأيضاً فإن هذه [اللَّذات] سَرِيعَةُ الانْقِضَاءِ والاسْتِحَالَةِ، فثبت بهذه الوجود خَسَاسَةُ هذه المَلَذَّاتِ. وأما السَّعادات الرُّوحانية، فإنها سعادات عالية شريفةٌ، باقيةٌ مُقَدَّسَةٌ، ولذلك فإن جميع الخَلْقِ إذا تَخَيَّلُوا في إنسان كثرة العِلْمِ والدِّين وشدِّة الانقباض عن اللِّذاتِ الجسمانية، فإنهم بالطَّبْعِ يجيبونه ويخدمومنه، ويعدونه [أنفسهم] عِبيداً لذلك الإنسان، وأشقياء بالنسبة إليه، وذلك يَدُلُّ عليه خَسَاسَةِ اللَّذاتِ الجسمانية، وكمال مرتبة اللذات الروحانية. الأمر الثاني: في [بيان] أنَّ خَيْرَاتِ الآخرة أفْضَلُ من خيرات الدُّنْيَا، وهو أن يقال: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 108 هَبْ أنَّ هذين النوعين تَشَارَكَا في الفَضْلِ إلاَّ أن الوُصُولَ إلى الخيرات الموعودة في [غد القيامة معلوم قطعاً، وأمَّا الوصول إلى الخيرات الموعودة في غد] الدنيا فغيرُ مَعْلوم، بل ولا مظنونٍ، فكم من سُلْطَانِ قاهر في بُكْرَةَ اليوم صار تحت التُّرَابِ في آخر ذلك [اليوم] . الأمر الثالث: هَبْ أنه وجد الإنسان بعد هذا اليوم يوماً آخر في الدنيا إلاَّ أنه لا يَدْرِي هل يمكنه الانْتَفَاعُ بما جمعه من الأموال والطيبات واللَّذاتِ أم لا؟ . أمَّا كل ما جمعه من السَّعادات، فإنه قَطْعاً أنه ينتفعُ به في الآخرة. الأمر الرابع: هَبْ أنه ينتفع بتلك بها إلا أن انْتِفَاعَهُ بخيرات الدنيا لا يَخْلُو عن شَوَائِبِ المكروهات [والانتفاع بخيرات] الآخرة خالٍ [عن] شوائب المكروهات. الأمر الخامس: هَبْ أنه ينتفع بتلك الأمْوَالِ والطيبات من غير شائبه إلا أن ذلك الانتفاع [مُنْقَرِضٌ] ذاهبٌ والمنافِعُ المُنَقَرِصَةُ تحزن الإنسان لمفارقتها، وكلما كانت تلك المَنَافِعُ أكمل وألَذّ، كانت [تلك] الأحزانُ الحاصلة عن انقراضها وانقطعها أقْوَى وأكمل. فصل في المراد بقوله: «وللآخرة خير» قال ابن عباس: المراد بالآخرة الجنَّة، وأنها خير لمن اتَّقَى الكُفْرِ والمعاصي. وقال الحَسَنُ: المراد نفس دار الآخرة خَيْرٌ. وقال الأصم: التمسُّكُ بِعَمَلِ الآخرة خير. وقال آخرون: نعيم الآخرة خيْرٌ من نعيم الدنيا للذين يتَّقُون المعاصي والكبائر، فأمَّا الكَافِرُ والفَاسِق فلا [؛ لأن الدنيا] بالنسبة إليه خير من الآخرة لقوله عليه السلام: «الدُّنْيَا سِجْنُ المُؤمِنِ وَجَنَّةُ الكَافِرِ» . قوله: {أَفَلاَ تَعْقِلُون} قد تقدَّم الكلامُ في مِثْلِ هذه الهمزة الداخلة على «الفاء» وأختها «الواو» و «ثم» . وقرأ ابن عامر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ونافع وحفص عن عاصم: «تَعْقِلُون» خطاباً لمن كان بحضرته - عليه السَّلام - وفي زمانه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 109 والباقون بياء الغَيْبَةِ ردَّاً على ما تقدَّمَ من الأسماء الغائبة، وحُذِفَ مفعول «تعقلون» للْعِلمِ به، أي: فلا تعقلون أنَّ الأمر كما ذكر فَتَزهَدُوا في الدنيا، أو أنها خَيْرٌ من الدنيا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 قوله تعالى: {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ} «قد» هنا حرف تَحْقِيقٍ. وقال الزمخشري والتبريزي: «قد نعلم» بمعنى رُبَّمَا التي تجيء لزيادة الفِعْلِ وكثرته، نحو قوله: [الطويل] 2148 - ... ... ... ... ... ... ... [وَلَكِنَّهُ] قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلهُهْ قال أبو حيَّان: وهذا القول غَيْرُ مَشْهورٍ للنحاة، وإن قال به بعضهم مُسْتَدِلاً بقول [القائل] : [البسيط] 2149 - قَدْ أتْرُكُ القِرْنَ مُصْفَرًّا أنَامِلُهُ ... كَأنَّ أثْوَابَهُ مُجَّتُ بِفِرْصَادٍ وقال الآخر في ذلك: [الطويل] 2150 - أخِي ثِقَةٍ لا تُتْلِفُ الخَمْرُ مَالَهُ ... ولَكنَّهُ قَدْ يُهْلِكُ المَالَ نَائِلُهْ والذي يظهر أن التكثير لا يفهم من «قد» ، وإنما فهم من سياق الكلام؛ إذ التمدُّح بقتل قرن واحد غيرُ طائل، وعلى تقدير ذلك فو متعذّر في الآية؛ لآن علمه - تبارك وتعالى - لا يَقْبَلُ التكثير. قال شهابُ الدين: قَدْ يُحَابُ عنه بأن التكثير في متعلِّقات العِلْمِ لا في العِلْمِ، [ثم قال] : وقوله بمعنى «رُبَّمَا» التي تجيء لزيادة الفعل وكثرته المشهور أنَّ «رُبَّ» للتقليل لا للتَّكْثير، وزيادةُ «ما» عليها لا يخرجها عن ذلك بل هي مُهيِّئةٌ لدخولها على الفعِل، و «ما» المهيِّئةُ لا تزيل الكَلِمَة عن معناها الأصلي، كما لا تزيل « الجزء: 8 ¦ الصفحة: 110 لَعَلَّ» ، عن الترجي، ولا «كأنَّ» عن التشبيه، ولا «ليت» عن التمني. وقال ابن مالك: «قد» ك «رُبَّمَا» في التقليل والصَّرفِ إلى معنى المضيّ، وتكون في حينئذٍ للتَّحقيق والتوكيد، نحو {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ} [الأنعام: 33] {وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله} [الصف: 5] . وقوله: [الطويل] 2151 - وَقَدْ تُدْرَكُ الإنْسَانَ رَحْمَةُ رَبِّهِ ... وَلَوْ كَاننَ تَحْتَ الأرْضِ سِبْعينَ وَادِيَا وقد تخلو من التَّقليل، وهي صَارِفَةٌ لمعنى المُضِيَّ، نحو قوله: {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} [البقرة: 144] . وقال مكي: و «قد» هنا وشبهه تأتي لتأكيد الشيء، وإيجابه، وتصديقه، و «نَعْلَمُ» بمعنى عَلِمْنَا. وقد تقدم الكملام في هذه الحروف وأنها مُتَردِّدَةٌ بين الحَرْفيَّةِ والاسميَّةِ. وقال أبو حيَّان: هُنَا «قَدْ» حرف تَوَقُّع إذا دخلت على مُسْتَقْبَلِ الزمان كان التوقُّعُ من المتكلّم؛ كقولك: قد ينزل المَطَرُ شَهْر كذا، وإذا كان مَاضِياً وفَعْلَ حَالٍ بَمَعْنَى المضيّ كان التوقع عند السَّامِعِ. وأمَّا المتكلِّم فهو مُوجب ما أخبر به، وعبَّر هنا بالمُضَارع إذ المُرادُ الاتِّصَافُ بالعِلْمِ واسْتِمْرَرُهُ، ولم يُلْحَظْ فيه الزمانُ كقولهم: «هو يُعْطِي ويَمْنَعُ» . «ليحزنك» سَادٌ مَسَدّ المفعولين، فإنها معلَّقَةٌ عن العمَل، وكُسِرَتْ لدخول «اللام» في حَيِّزهَا، وتقدَّم الكلامُ في «ليحزنك» ، وأنه قُرِئَ بفتح الياءِ وضَمِّهَا من «حَزَنَهُ» و «أحْزَنَهُ» في آل عمران. و «الَّذي يَقُولُون» فاعِلٌ، وعائدُهُ محذوفٌ، أي: الذي يَقُولونَهُ من نِسْبَتِهمْ له إلى ما لا يَليقُ به، والضَّميرُ في «إنه» ضمير الشَّأن والحديث والجُمْلَةُ بعدهُ خَبَرُهُ مُفَسِّرةٌ له، ولا يجوزُ في هذا المُضَارع أن يقدر باسم فاعلٍ لفاعلٍ كما يُقَدَّر في قولك: «إن زيداً يقوم أبوه» لئلاَّ يلزمُ تفسيرُ ضمير الشأن بمفردٍ. وقد تقدَّمَ أنه مَمْنوعٌ عند البصرييّنَ. فصل في سبب نزول الآية قال السُّدِّيِّ: التقى الأخْنَسُ بن شريق، وأبو جَهَل بن هشامٍ، فسأله الأخنس أبَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 111 جَهْلِ فقال: يا أبا الحكم، أخبرني عن مُحَمَّدٍ أصادق هو أم كاذب، فإنه ليس ها هنا أحَدٌ يسمعُ كلامك غيري؟ . فقال أبو جَهْلِ: والله إن محمَّداً لَصَادِقٌ، وما كذَب قَطّ، ولكن إذا ذَهّبَتْ بَنُو قُصَيَّ باللّوَاء والسٍّقاية والحِجَابَةِ والندْوةِ، والنُّبُوَّة، فماذا يكون لِسَائِرِ قريشٍ، فأنزر اللَّهُ هذه الآية. وقال ناحيةُ بن كَعْبَ: قال أبو جَهْلِ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما نَتَّهِمُكَ ولا نُكذِّبُكَ، ولكنَّا نُكَذِّبُ الذي جئت به، فأنزل الله - تعالى - هذه الآية. وقيل: إنَّ الحارث بن عامر من قريشٍ قال: يا مُحَمَّدُ، والله إن اتَّبَعْنَالكَ نُتَخَطَّفُ من أرْضِنَا، فنحنُ لا نُؤمِنُ بك لهذا السَّببِ. واعلم أن فِرَقِ الكفار كانوا كثيرين، فمنهم من ينكر نُبُوَّتَهُ؛ لأنه ينكر أن يكون الرسولُ من البَشَرِ، وقد تقدَّمَ شُبْهَتُهُمْ، وأجابَ اللَّهُ عنها. ومنهم من ينكر البَعْثَ، ويقول: إن محمَّداً يخبر بالحَشْرِ والنَّشْرِ بعد الموت، وذلك مُحَالٌ، فيطعن في رسالة محمَّدٍ من هذا الوَجْهِ، وقد ذكر الله شبههُمْ في هذه السُّورَةِ، وأجاب عَنْهَا. ومنهم من كان يُشَافِهُهُ بالسَّفَاهَةِ وهُوَ المذكورُ في هذه الآية. واختلفوا في ذلك المُخْزِنِ. فقيل: كانوا يَقُولوُنَ: ساحرٌ، وشاعرٌ، كاهن، ومجنون وهو قول الحسن. وقيل: كانوا يُصَرِّحُونَ بأنهم لا يؤمنون به. وقيل: كانوا ينسبونه إلى الكذبِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 112 قوله: «فإنهم لا يكذبُونَكَ» . قرأ نافع، والكسائي «لا يكذبونك» مُخَفَّفاً من «أكْذّب» . والباقون مثقَّلاً من «كذَّبَ» وهي قراءة عَلِيَّ، وابن عبَّاسٍ. واختلق الناسُ في ذلك، فقيل: هُمَا بمعنَى واحدٍ، مثل: أكثر وكَثَّرَ وأنْزَلَ ونزَّلَ، وقيل: بينهما فَرْقٌ. قال الكسائي: العَرَبُ تقول: كَذّبت الرجل بالتَّشْديدي إذا نُسِبَ الكذب إليه، وأكذبته إذا نِسَبْتَ الكذب إلى ما جَاءَ دُونَ أن تَنْسِبَهُ إليه، ويقولون أيضاً: أكذبت الرَّجُلَ إذا وجدته كَاذِباً، ك «أحْمَدْتُهُ» إذا وجدته محمُوداً، فَمَعْنِى لا يُكذبونك مُخَفَّفاً: لا يَنْسِبُون الكَذِبَ إلَيْكَ ولا يجدونك كاذباً وهو واضحٌ. وأمَّا التَّشديد فيكون خبراً مَحْضاً عن عدم تكذيبهم ضَرْورَةً. فالجوابُ من وُجُوه: الأول: أنَّ وإن كان مَنْسُوباً إلى جميعهم أعْنِي عدم التكذيب، فهو إنما يُرَادُ بعضهم مجازاً، كقولك: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105] {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} [الشعراء: 160] وإن كان فيهم من لم يكذبه، فهو عامُّ يرادُ به الخَاصُّ. والثاني: أنه نفي للتكذيب لانْتَِفَاءِ ما يَتَرَتَّبُ عليه من المَضَارِّ، فكأنه قيل: فإنهم لا يكذبونك تكذيباً يُبَالَى به ويضرك؛ لأنك لِسْتَ بكاذبٍ، فتكذيبُهُمْ كلا تَكْذِيبٍ، فهو من نَفْيِ السَّبَبِ لانتفاء مسببه. وقال الزمخشري: والمعنى أن تكذيبك أمْرٌ راجع إلى اللَّه تعالى؛ لأنك رسُولُهُ المصدَّق، فهم لا يكذبونك في الحقيقةِ، إنَّما يكذِّبون اللَّهَ بجحود آياته، فانْتَهِ عن حُزْنِكَ، كقول السَّيَّدِ لُغلامِهِ وقد أهَانَهُ بعض الناسِ لم يُهينوك وإنما أهَلانُونِي، فهو نظير قوله: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] . الثالث: أن القوم ما كانوا يُكذِّبُون به في السِّرِّ كما تقدَّمَ في سبب النزول، فيكون تقدير الآية: فإنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ بقلوبهم، بل بظاهر قولهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 113 ونظيره: قوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14] في قصة موسى عليه الصلاة وا لسلام. الرابع: أنهم لا يقولون: أنْتَ كَذَّابٌ؛ لأنهم جَرَّبُوكَ الدَّهْرَ الطويل وما وَجدُوا منك كذباً ألْبَتَّهَ، وسَمَوْك بالأمين، وإنما جَحَدُوا صِحِّةَ نُبُوَّتك؛ لأنهم اعْتَقَدُوا أنَّ محمَّداً عرض له نوع خَبَلٍ ونُقْصَانٍ، فلأجله تَخَيَّلَ في نفسه كونه رَسُولاً من عند الله وبهذا التقدير لا ينسبونه إلأى الكذبِ، بل هو أمينٌ في كُلِّ الأمورِ إلاَّ في هذا الوجهِ الواحد. الخامس: قال ابن الخطيب: المرادُ أنَّهُمْ لا يخصُّونك بالتكذييب، بل ينكرُون دلالةَ المعجزة الظَّاهرة على الصدق مطلقاً لقوله: «ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون» . والمُرَادُ أنهم يقولون في كُلِّ معجزةِ: إنها سِحْرٌ، فالتقدير: أنهم لا يكذٍّبونك على التِّعيين، بل القَوْمُ يُكذِّبون جَمِيعَ الأنبياء والرُّسُلِ. قوله: «بآيات اللَّهِ» يجوز في هذا الجَارِّ وجهان: أحدهما: أنه مُتَعَلِّقٌ ب «يجحدونَ» وهو الظِّاهر، وجوَّز أبُو البقاء أن يتعلق ب «الظَّالمين» قال: كقوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا} [الإسراء: 59] وهذا الذي قال لي يجيِّدٍ لأن «الباء» هناك سَبَبِيَّةٌ، أي: ظلموا بسببها، و «الباء» هنا معناها التعدية، وهنا شيء يتعلَّق به تعلُّقاً واضحاً، فلا ضَرُورَةَ تَدْعُوا إلى الخروج عَنْهُ، وفي هذه الآية إقامةُ الظاهر مُقَامَ المضمر، إذا الأصل: «ولكنهم يَجْدُونَ بآياتِ الله» ، ولكنَّهُ نَبَّهَ على أن الظلم هو الحامل لهم على الجُحُودِ. والجحود والجَحْدُ نفي ما في القَلْبِ ثَبَاُهُ، وأو إثْبَاتُ ما في القلبِ نَفْيُهُ. وقيل: الجَحْدُ إنْكَارُ المعرفةِ، فليس مُرَادفاً للنفي من كُلِّ وجهٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 لما أزال الحُزْنَ عن قَلْبِ رسوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الآية الأولى بأن بَيَّنَ أن تكذيبهم يَجْريِ مجرى تكذيب الله - تعالى ذكر في هذه الآية طريقاً آخر في إزالةِ الحُزْنِ عن قلبه وذلك بأنْ بَيَّنَ أن سائر الأمم عاملوا أنبياءهم بمثلِ هذه المعاملة، وأن أولئك صَبَرُوا على تكذيبهم وإيذائهم حتى آتاهم الله النَّصْرَ والفَتْحَ والظَّفر، فوجب أن يقتدي بهم في هذه الطريقة. قوله: «من قبلك» متعلّق ب «كَذَّبت» . ومنع أبو البقاء يكون صفة ل «رسل» ؛ لأنه زَمَانٌ، والزَّمَانُ لا تُوصَفُ به الجزء: 8 ¦ الصفحة: 114 الجُثَثُ، وقد تقدَّم البَحْثُ في ذلك في «البقرة» ، وهنا عند قوله: {وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً} [الأنعام: 6] . قوله: «وأوذُوا» يجوز فيه أربعة أوجه: أظهرها: أنه عَطْفٌ على قوله: «كُذِّبَتْ» أي: كُذِّبت الرُّسُولُ، فصربروا على ذلك. والثاني: أنه مَعْطُوفٌ على «صَبَرُوا» أي: فَصَبَرُوا وأوذوا. والثالث، وهو بَعِيدٌ: أن يكون مَعْطُوفاً على «كُذِّبوا» ، فيكون دَاخِلاً في صلة الحرف المَصْدَرِيّ، والتَّقْدِير فيه: فصبروا على تكذيبهم وإيذائهم. والرابع: أن يكون مُسْتَأنفاً. قال أبو البقاء: «ويجوز أن كون الوَقْفُ ثَمَّ على قوله:» كُذِّبوا «، ثم استأنف فقال: وأوذُوا» . وقرأ الجُمْهُور: «وأوذُوا» بواو بعد الهمزة؛ [من «آذى» «يؤذي» رباعياً. وقرأ ابن عامر في رواية شاذّةِ: «وأذُوا» من غير واو بعد الهمزة] وهو من «أذَيْتُ» الرجل ثلاثياً لا من «آذيت» رباعياً. قوله: {حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا} الظَّاهر أن هذه الغايةَ متعلقةٌ بقوله: «فصبروا» ، أي: كان غَايَةُ صَبْرِهمْ نَصْرَ الله إياهم، وإن جَعَلْنَا «وأوذُوا» عَطْفاً عليه غَايَةٌ لهما؛ وهو أوضح وإن جعلناه مُسْتَأنَفاً كانت غَايَةً له فقط، وإن جعلناه معطوفاً على «كَذَّبت» فتكون الغايةُ للثلاثة، و «النصر» مُضَافاً لفاعله ومفعوله مَحْذُوفٌ، أي: نَصْرُنَا أتَاهم، وفيه التِفَاتٌ من ضمير الغَيْبَةِ إلى ضمير المتكلِّم، إذ قَبْله «بآيات الله» ، فلو جاء على ذلك لقيل «نصره» . وفائدة الالتِفَاتِ إسْنَادُ النصر إلى ضمير المتكلّم المشعر بالعظمة. قوله: «ولا مُبَدِّل لِكلمَاتِ اللَّهِ» يعني أن وَعْدَ الله إيَّاك بالنصر حَقٌ وصدقٌ لا يمكن تَطَرُّقٌ الخُلْفِ والتبديل إليه، كقوله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصافات: 171، 172] وقوله: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنّ} [المجادبة: 21] وهذه الآية تَدُلُّ على قول أهل السُّنَةِ في خَلْقِ الأفعال؛ لأن كل كا أخبر الله عن وُقُوعِهِ، فذلك الخبرُ مُمْتَنِعُ التغيير، وإذا امتنع تَطَرُّقُ التغيير إلى ذلك الخبر امتنع [تطرق التغيير إلى المخبر عنه] فإذا أخبر الله عن بعضهم بأنه يَمُوتُ على الكُفْرِ كان ترك الكفر منه مُحَالاً، فكان تَكْلِيفُهُ بالإيمان تَكْلِيفاً بما لا يُطَاقُ، واللَّهُ أعلمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 115 قوله: {وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين} أي: خبرهم في القرآن كيف أنجيناهم ودمَّرنا قومهم. وفي فاعل «جاء» وجهان: أحدهما: هو مُضْمرٌ، واختلفوا فيما يَعُودُ عليه هذا الضمير، فقال ابن عطية الصَّوابُ عندي أن يقدر «جلاء» أو بيان «. وقال الرُّمَّاني: تقديره:» نبأ «. وقال أبو حيَّان:» الذي يظهر لي أنَّهُ يعود على ما دلَّ عليه المعنى من الجملة السَّابقة، أي: ولقد جاءك هذا الخَبَرُ من تكذيب أتْبَاع الرُّسُلِ للرُّسُلِ، والصَّبْر والإيذاء إلى أن نُصِرُوا «. وعلى هذه الأقوال يكون» من نبأ المرسلين «في مَحَلِّ نصب على الحال وعاملها هو» جاء «؛ لأنه عامل في صاحبها. والثاني: أنَّ» من نبأ «هو الفاعل. ذكر الفارسي، وهذا إنما يَتَمشَّى له على أري الأخفش؛ لأنه لا يشترط في زيادتها شيئاً، وهذا - كما رأيت - كلامٌ مُوجبٌ، والمجرور ب» مِنْ «معرفةٌ. وضُعفَ أيضاً من جهة المعنى بأنه لم يَجئه كُلُّ نبأ للمرسلين؛ لقوله: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] ، وزيادة» مِنْ «تؤدِّي إلى أنه جاءه جميع الأنبياء؛ لأنه اسم جنس مُضَاف، والأمْرُ بخلافه. ولم يتعرّض الزمخشري للفاعل إلاَّ أنه قال:» ولقد جاءك من نبأ المرسلين بعضُ أنبائهم وقصصهمْ «وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب؛ إذ» مِنْ «لا تكون فاعله، ولا يجوز أن يكون» من نبأ «صِفَةً لمخذوف هو الفاعل، أي: ولقد جاءكَ نبأ من نبأ المرسلين؛ لأن الفاعل لا يُحْذّفُ بحالٍ إلاَّ في مواضعَ ذُكِرَت، كذا قالوا. قال أبو البقاء:» ولا يجوز عند الجميع أن تكون «من» صفة لمحذوف، لأن الفاعل لا يُحْذَفُ، وحرف الجر إذا لم يكون زائداً لم يصحَّ أن يكون فاعلاً؛ لأن حرف الجر يُعَدّي كل فعل يعمل في الفاعل من غير تعدِّ «. يعني بقوله:» لم يصح أن يكون فاعلاً «لم يصح أن يكون المجرور بذلك الحرف، وإلاَّ فالحرفُ لا يكونُ فاعلاً ألْبَتَّةَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 116 قوله: {وَإِن كَانَ كَبُرَ} : هذا شَرْطٌ، جوابه «الفاء» الجاخلة على الشرط الثَّاني، وجواب الثَّاني محذوف، تقديره: فن استطعت أن تبتغي فافعل، ثم جُعِلَ الشَّرْطُ الثاني وجوابه جَواباَ للشَّرْط الأوَّل، وقد تقدَّم مِثْلُ ذلك في قوله: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ} [البقرة: 38] إلاَّ أن جوابَ الثاني هناك مُظْهَرٌ. و «كان» في اسمها وجهان: أحدهما: أنه «إعراضهم» ، و «كَبُرَ» جملةٌ فعلية في محل نصب خبراً مقدَّماً على الاسم، وهي مسألة خلاف: هل يجوزُ تقديمُ خبر «كان» على اسمها إذا كان فِعْلاً رافعاً لضمير مستتر أم لا؟ وأمَّا إذا كان خبراً للمبتدأ، فلا يجوز ألْبَتَّةَ لئلاَّ يَلْتَبِسَ بباب الفاعل، والَّبْسُ هنا مَأمُونٌ. ووَجْهُ المنع اسْتصْحَابُ الأصل، و «كَبُرَ» إذا قيل: إنه خبر «كان» ، فهل يحتاج إلى إضمار «قَدْ» أم لا؟ والظاهر أنه لا يَحْتَاجُ؛ لأنه كَثُرَ وُقُوعُ الماضي خبراً لها من غير «قد» نَظْماً ونَثْراً، وبعضهم يخص ذلك ب «كان» ويمنعه في غيرها من أخوتها إلا ب «قد» ظَاهِرَةً أو مُضْمَرَةً، ومن مجيء ذلك في خبر أخواتها قَوْلُ النابغة: [البسيط] 2125 - أمْسَتْ خَلاءً وأمْسَى أهْلُهَا احْتَمَلُوا ... أخْنَى عَلَيْهَا الَّذِي أخْنَى عَلَى لُبَدِ والثاني: أن يكون اسمها ضمير الأمر والشأن، والجملة الفعلية مُفَسِّرٌ له في مَحَلِّ نصب على الخبر، فإعراضُهُمْ مرفوعٌ ب «كَبُر» ، وفي الوجه الأول ب «كان» ، ولا ضمير في «كَبُرَ» على الثاني، وفيه ضميرعلى الأول، ومثل ذلك في جواز هذين الوجهين قوله تعالى: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} [الأعراف: 137] {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} [الجن: 4] ، ف «فرعون» يحتمل أن يكون اسْماً، وأن يكون فاعلاً، وكذلك «سَفِيهُنَا» ، ومثله أيضاً قولُ امرئ القيس: [الطويل] 2153 - وإنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ مِنِّي خَلِيقَةٌ ... فَسُلِّي ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِي مِنْ ثِيَابِكِ تَنْسُلِ ف «خليقة» يحتمل الأمرين، وإظهار «قد» هنا يُرَجِّحُ قول من يشترطها، وهل يجوز الجزء: 8 ¦ الصفحة: 117 في مثل هذا التركيب التَّنَازعُ، وذلك أن كُلاًّ من «كان» وما بعدهام من الأفعال المذكورة في هذه الأمثلة يطلب المَرْفُوعَ من جهة المعنى، وشروط الإعمال موجودة. قال شهاب الدين: وكنت قديماً سألت الشيخ - يعني أبا حيَّان - عن ذلك، فأجاب بالمَنْعِ مُحْتَجّاً بأن شَرْطَ الإعمال ألاَّ يكون أحَدُ المُتنازِعَينِ مُفْتَقِراً إلى الآخر، وألاَّ يكون من تمام معناه و «كان» مُفْتَقِرةٌ إلى خبرها، وهو من تمام معناها، وهذا الذي ذكره من المَنْعِ، وترجيحه ظَاهِرٌ، إلاَّ أن النحويين لم يذكروه في شروطِ الإعمال. وقوله: «وإن كان كَبُرَ» مُؤوَّلٌ بالاسْتِقْبَالِ، وهو التَّبَيُّنُ والظهور فهو كقوله: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} [يوسف: 26] أي: إن تَبَيَّنَ وَظَهَر، وإلاَّ فهذه الأفعالُ قَدْ وَقَعَتْ وانقضت فكيف تَقَعُ شرطاً؟ وقد تقدَّم أنَّ المُبَرِّدَ يُبْقي «كان» خَاصَّةً على مُضِيِّهَا في المعنى مع أدوات الشِّرْطِ، وليس بشيء. وأمَّا: «فإن استطعت» فهو مستقبل معنى؛ لأنه لم يَقَعْ، بخلاف كونه «كَبُرَ عليه إعراضهم» ، وقدِّ القَمِيص، و «أن تبتغي» مفعول الاسْتِطَاعَةِ. و «نفقاً» مفعول الابْتِغَاءِ. والنَّقَقُ: السَّرَبُ النَّافِدُ في الأرض، وأصله من جحرة اليَرْبُوع، ومنه: النَّافِقَاءُ، والقَاصِعَاءُ، وذلك أن اليربوع يَحْفُرُ في الأرض سَرَباً ويجعل له بَابَيْنِ، وقيل: ثلاثة: النَّافِقَاءُ، والقَاصِعَاءُ والدَّبِقَاءُ، ثم يَرِقُّ بالحفر ما تقارب وجه الأرض، فإذا نَابَهُ أمْرٌ دفع تلك القِشْرَةٌ الرقيقة وخرج، وقد تقدَّم اسْتِيفَاءُ هذه المادَّةِ عند قوله: {يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] ، و {المنافقين} [النساء: 61] . وقوله «في الأرض» ظاهرة أنه متعلقٌ بالفعل قَبْلَهُ، ويجوز أن يكون صِفَةً ل «نَفَقاً» فيتعلق بمحذوفٍ وهُوَ صِفَةٌ لمجرَّد التوكيد، إذ النَّفَق لا يكون إلاَّ في الأرض. وجوَّز أبو البقاء مع هذين الوجهين أن يكون حالاً من فاعل «تبتغي» ، أي: وأنت في الأرض. قال وكذلك في السماء. ويعني من جواز الأوجه الثلاثة، وهذا الوَجْهُ الثالث ينبغي ألاَّ يجوز لِخُلُوِّهِ عن الفائدة. والسُّلَّمُ: قيل المِصْعَدُ، وقيل: الدَّرَجُ، وقيل: السَّبَبُ تقول العرب: أتَّخِدْني سُلَّماً لحاجتك، أي: سبباً. قال كعب بن زهير: [الطويل] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 118 2154 - وَلاَ لَكُمَا مَنْجًى مِن الأرْضِ فَابْغِيَا ... بِهَا نَفَقاً أوْ السَّمواتِ سُلَّما وهو مُشْتَقٌ من السَّلامة، قالوا: لأنه يسلم به إلى المصعد والسُّلَّم مُذَكَّرٍ، وحكى الفرَّاء تأنيثه. قال بعضهم: ليس ذلك بالوَضْعِ، بل لأنه بمعنى المَرْقَاة، كما أنَّث بعضهم الصوت في قوله: [البسيط] 2155 - ... ... ... ... ... ... ... . ... سَائِلْ بَنِي أسَدٍ مَا هَذِهِ الصًّوْتُ لمَّا كان في معنى الصَّرْخة. فصل في نزول الآية روى ابن عباس أن الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مَنَافٍ أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في مَحْضَرٍ من قريش، فقالوا: يا محمد أئْتَنَا بآية من عند الله، كما كانت الآنبياء تفعل فإنا نصدق بك، فأبى أن يأتيهم بآية من عند الله، كما كانت الأنبياء تفعل فإنا نصدق بك، فأبى الله أن يأتيهم بآية، فأعرضوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَشَقَّ ذلك عليه، فنزلت هذه الآ ية. والمعنى: وإن عَظُمَ عليك إعْرَاضُهُمْ عن الإيمان وشَقَّ ذلك عليك. وكان - عليه الصَّلاة والسَّلام - يَحْرصُ على إيمان قومه أشَدَّ الحرص وكانوا إذا سألوا ىيَةً أحَبَّ أن يريهم اللَّهُ ذلك طَمَعاً في إيمانهم، فقال الله عزَّ وجلَّ: «فإن استطعت أن تبتغي» أي: تطلب وتتَّخِذَ نَفَقاً - سَرَباً - في الأرض فتذهب فيه، أو سُلَّماً دَرَجاً ومِصْعَداً في السماء فَتَصْعَدَ فيه فتأتيهم بآية فافعل، ولو شاء الله لَجَمَعَهُمْ على الهُدَى فآمنوا كلهم، وهذا يَدُلُّ على أنه - تعالى - لا يريد الإيمان من الكافر، بل يريد إبقاءه على الكُفْرِ، وتقريره: أن قُدْرَةَ الكافر على الكُفْرِ إمَّا أن تكون صَالِحَةً للإيمان، أو غير صاحلة له، فإن لم تكن صَالِحَةً له، فإن لم تكن صَالِحَةً له فالقُدْرةُ على الكُفْرِ مُسْتَلْزِمةٌ للكفر وغير صالحة للإيمان، وخالق هذه القُدْرَةِ يكون قد أرادَ الكُفْرِ منه لا مَحَالَة، وأما إن كانت هذه القُدْرةُ كما أنها صاحلةٌ للكُفْرِ، فهي أيضاً صالحة للإيمان، فيكون نسبة القُدْرة إلى الطَّرفين مستويةً، فيمتنع رُجْحَانُ أحد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 119 الطَّرَفَيْنِ على الآخر إلاّ لِدَاعِيةٍ مرجّحة، وحصول تلك الدَّاعية ليس من العبد، وإلاّ لزم التَّسَلْسُلُ، فثبت أن خالق تلك الدَّاعيةِ هو الله تعالى، وثبت أن مَجْمُوعَ القدرة مع الداية الخالصة ويجب الفِعْلَ، فثبت أن خالقَ مجموع تلك القدرة مع تلك الداعية المستلزمة لذلك الكفر مريد لذلك الكفر وغير مُريدٍ لذلك الإيمان. قوله: {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين} نهي له عن هذه الحالة وهو قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى} فإنَّ من يكفر لسابق علم الله فيه، وهذا النَّهْيُ لا يقتضي إقدامه على مثل هذه الحالة كقوله: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] لا يَدُلُّ على أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أطاعهم وقَبِلَ دِينَهُمْ، والمقصود أنه لا ينبغي أن يشتد تَحَسُّرُكَ على تكذيبتهم، ولا تَجْزَع من إعراضهم عنك، إنَّك لو فعلت ذلك قرب حالك من حال الجاهل، والمقصُودُ تبعيده عن مثل هذه الحالة. أعلم أنَّه بَيَّنَ السَّبَبَ في كونهم بحيث لا يقبلون الإيمان، ولا يتركون الكفر فقال: «إنما يستجيب الذين يسمعون» ، يعني: أن الذين تحرص على أن يُصَدِّقُوكَ بمنزلة المَوْتَى الذين لا يسمعون، وإنّما يستجيب من يَسْمَعُ كقوله: {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} [النمل: 80] . وقال عَلِيُّ بن عيسى: الفَرْقُ بين «يستجيب» و «يجيب» أن «يستجيب» فيه قَبُولٌ لما دُعِيَ إليه، وليس كذلك «يجيب» ؛ لأنه قد يجيب بالمخالفة كقول القائل: أتُوَافِقُ في هذا المذهب أم تخالف؟ فيقول المجيب: أخالف. قوله: {والموتى يَبْعَثُهُمُ الله} فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنها جملة من مبتدأ وخبر سِيقَتْ للإخبار بقُدْرتِهِ، وأنَّ من قدرَ على بَغْثِ الموتى يقدر على إحياء قلوب الكَفَرةِ بالإيمان، فلا تَتَأسَّفْ على من كفر. والثاني: أن المَوْتى مَنْصُوبٌ بفعلٍ مُضْمَر يُفَسِّرُهُ الظَّاهر بعده، ورجح هذا الوحه على الرَّفع بالابتداء لطعف جملة الاشتغال على جملة فعلية قبلها، فهو نظير: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان: 31] بعد قوله: {يُدْخِلُ} [الإنسان: 31] . والثالث: أنَّهُ مرفوع على الموصول قبله، والمراد ب «الموتى» الكفَّار أي: إما يستجيب المؤمنون السَّامِعُون من أوَّل وَهْلَةٍ، والكافرون الذين يجيبهم الله - تعالى - بالإيمان ويوفقهم له، فالكافرون يبعثهم الله ثم إليه يرجعون، وحينئذٍ يسمعون، وأمّا قبل ذلك فلا يسمعون ألْبَتَّةَ، وعلى هذا فتكون الجملة من قوله: {يَبْعَثُهُمُ الله} في مَحَلِّ نَصْبٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 120 على الحال، إلاّ أنْ هذا القول يبعده قوله تعالى: {ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ} ، إلا أن يكون من ترشيح المجاز، وقد تقدَّم له نظائرُ. وقرئ «يَرْجِعُونَ» من «رجع» الاَّزم. اعلم أن الجَسَدَ الخالي [عن] الرُّوح يظهر منه النَّتنُ والصَّديدُ، وأصْلحُ أحْوَالِهِ أن يُدْفَنَ تحت التُّرَاب، والرُّوحُ الخاليَةُ عن العَقْلِ يكون صاحبها مَجْنُوناً يستوجب القَيْدَ والحَبْسَ، والعَقْلُ بالنسبة إلى الرُّوح كالرُّوحِ بالنسبة إلى الجَسَدِ، والعَقْلُ بدُونِ معرفة الله وطَاعَتِهِ كالضَّائِعِ الباطل، فِنِسْبَةُ التوحيد والمَعْرِفَةِ إلى العَقْلِ كنسبة العَقْلِ إلى الرُّوح، ونسبة الروح إلى الجِسَدِ؛ فمعرفة الله وَمَحَبَّتُهُ هي رُوحُ الرُّوح، فالنَّفْسُ الخالِيَةُ عن هذه المعرفة تكون كَصِفةِ الأموات، فلهذا السَّبَب وُصِفَ الكُفَّارُ بأنهم مَوْتَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 وهذا من شُبُهَاتِ مُنْكِرِي نُبُوَّةِ محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأنهم قالوا: لو كان رَسُولاً من عند الله فَهَلاَّ أنْزِلَ عليه آيَةٌ قَاهِرةٌ. روي أنَّ بعض المُلْحِدَةِ طعن فقال: لو كان مُحَمَّدٌ قد أُوتِيَ بآية مُعْجِزَةِ لما صَحَّ أن يقول أولئك الكُفَّار: لولا نُزِّل عليه آيَةٌ، ولما قال: «قُلْ إنَّ الله قادر على أن ينزل آية» والجواب أن القرآن مُعْجِزَةٌ قاهرة وبَيِّنَةٌ باهرة؛ لأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تَحَدَّاهُمْ به فَعَجَزُوا عن مُعَارضَتِهِ، فَدَّلَ على كونه مُعْجزاً. فإن قيل: فإذا كان الأمر كذلك، فكيف قالوا: «لولا أُنْزِلَ عليه آية من ربّه» . فالجواب من وجوه: الأول: لَعَلَّ القوم طَعَنُوا في كَوْنِ القرآن مُعْجِزَةً على سبيل اللِّجَاجِ والعِنَادِ، وقالوا: إنه من جِنْسِ الكتب، والكتاب لا يكون من جِنْسِ المُعْجِزَاتِ كالتَّوْرَاةِ والإنجيل والزَّبُورِ، فلأحل هذه الشُّبْهَةِ طلبوا المُعْجِزَةَ. الثاني: أنهم طلبوا مُعْجِزَاتٍ [قاهرة] من جِنْسِ مُعْجِزَاتِ سَائِرِ الأنبياء مثل «فلق البحر» و «إظْلال الجَبَل» و «إحْيَاء الموتى» . الثالث: أنهم طلبوا مَزيد الآياتِ على سبيل التَّعَنُّتِ واللِّجَاجِ مثل إنْزَالِ الملائكة، وإسْقاطِ المساء كِسَفاً. الرابع: أن يكون المراد ما حَكَاهُ الله عن بعضهم في قوله: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 121 ثم إنّه - تعالى - أجابهم بقوله: {قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزِّلٍ آيَة} ، أي: أنّه قادرٌ على إيجاد ما طَلَبْتُمُوهُ، وتحصيل ما اقْتَرَحْتُمُوهُ، ولكن أكثرهم لا يعلمون. قوله: «من رَبِّه» فيها وجهان: أحدهما: أنها متعلِّقة ب «نُزِّل» . والثاني: أنها متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنها صِفَةٌ ل «آية» ، أي: آية [كائنة] من ربِّه. وتقدَّم الكلامُ على «لَوْلاَ» وأنّها تَحْضِيضيَّةٌ. فصل في المراد بالآية معنى قوله تعالى: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ، أي: ما عليهم في إنزالها، واختلفوا في تفسيرها على وُجُوه: أحدها: أن يكون المُرَادُ أنه - تعالى - لما أنزل آية باهرة ومعجزة قاهرة، وهي القرآن كان طلب الزيادة جارٍ التحكُّم والتَّعَنُّتِ الباطل، وهو أنه سبحانه له الحُكْمُ والأمر، فإن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل؛ لأن فَاعليَّتَهُ لا تكون إلا بحسب محض المَشِيئةِ على قول أهل السُّنَّة، أو على وفقِ المصْلَحَةِ على قوله المعتزلة، وعلى التقديرين فإنها لا تكون على وفْقِ اقْتِرَاحاتِ الناس ومُطالبَاتِهِمْ، فإن شاء أجابهم إليها، وإن شاء لم يُجِبْهُمْ. الثاني: أنه لمَّا طهرت المعجزة القاهرةُ، والدلالة الكافية لم يَبْقَ لم عُذْرٌ ولا عِلَّةٌ، فبعد ذلك لو أجَابَهُمُ الله - تعالى - إلى اقتراحهم فَلَعَلَّهُمْ يقترحون اقْتِرَاحاً ثانياًُ وثالثاً ورابعاً إلى ما لا نهاية له، وذلك يفضي إلى ألاَّ يَسْتَقِرَّ الدليل ولا تَتِم الحجة، فوجب سَدُّ هذا الباب في أوَّلِ الأمر والاكتفاء بما سَبَقَ من المعجزة القاهرة. الثالث: أنّه - تعالى - لو أعطاهم ما طَلَبُوا من المُعْجِزَاتِ القاهرة فلو لم يؤمنوا عند ظُهُورهَا لا سْتَحَقُّوا عذاب الاسْتِئْصَالِ، فاقتضت رَحْمَتُهُ صَوْنَهُمْ عن هذا البلاءِ، فما أعطاهم هذا المطلوب رَحْمَةً منه - تعالى - لهم، وإن كانوا لا يعلمون كَيْفِيَّةَ هذه الرحمة. الرابع: أنَّه - تعالى علم منهم أن طَلَبَهُمْ هذه المعجزات لآجْل العنادِ لا لطلب فائدةٍ، وعلم أنه - تعالى - لو أعْطَاهُمْ مَطْلُوبَهُمْ لم يؤمنوا، فلهذا السبب ما أعطاهم؛ لأنه لا فائجة في ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 قوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ} : «من» زائدة لوجود الشرطين، وهي مبتدأ، و «إلاَّ أمم» خَبَرُهَا مع ما عطف عليها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 122 وقوله: «في الأرض» صفة ل «دابة» ، فيجوز لك أن تجعلها في مَحَلِّ جرِّ باعتبار اللفظ، وأ، تجعلها في محل رفع باعتبار الموضع. قوله: «ولا طائر» الجمهور على جرِّه نَسَقاً على لفظ «دابةٍ» . وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ برفعها نَسَقاً على موضعها. وقرأ ابن عبَّاس «ولا طيرٍ» من غير ألف، وقد تقدَّم الكلام فيه، هل هو جَمْعٌ أو اسم جمع؟ وقوله: «يطير» في قراءة الجمهور يَحْتَمِلُ أن يكون في مَحَلِّ جرّ باعتبار لَفْظِهِ، ويحتمل أن يكون في مَحَلِّ رفع باعتبار موضعه. وأمّا على قراءة ابن أبي عَبْلَةَ، ففي مَحَلِّ رفع ليس إلاّ. وفي قوله: «وَلاَ طَائر» ذكر خاصّ بعد عامِّ؛ لأن الدَّابَّةَ تشتمل على كُلِّ ما دَبَّ من طائرٍ وغيره، فهو كقوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ} [البقرة: 98] وفيه نظرح إذ المُقَابَلَةُ هنا تنفي أن تكون الدَّابة تشمل الطائر. قوله: «بِجِنَاحَيْهِ» فيه قولان: أحدهما: أن «الباء» متعلّقة ب «يطير» ، وتكون «الباء» للاسْتِعَانَةِ. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوف على أنها حالٌ، وهي حالٌ مؤكّدة كما يقال: «نظرت عيني» ، وفيها رفع مجازٍ يُتَوَهَّمُ؛ لأن الطَّيرانَ يُسْتَعَارُ في السرعة قال: [البسيط] 2156 - قَوْمٌ إذَا الشَّرُّ أبْدَى نَاجِذَيْةِ لَهُمْ ... طَارُوا إلَيْهِ زَرَافَاتٍ ووُحْدَانَا ويطلق الطَّيْرُ على العمل، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] . وقوله: «إلاّ أمم» خَبَرُ المبتدأ، وجُمِعَ وإن لم يتقدَّمهُ إلاَّ شيئان؛ لأن المراد بهما الجِنْسُ. و «أمثالكم» صفة ل «أمم» ، يعني في الأرزاقِ والآجالِ، والموت والحياة، والحشر والنشر والاقتصاص لمظلومها من طالمها. وقيل: في معرفة الله وعبادته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 123 وقال مُجاهد: أصْنَافٌ مصنّفةٌ تُعْرَفُ بأسمائها، يريد أن كلّ جنسٍ من الحيوان أمَّةٌ: فالطير أمَّة، والدَّواوبُّ والسِّبَاع أمة تعرف بأسمائها مثل بَنِي آدَمَ يُعْرَفُون بأسمائهم، يقال: الإنس والناس، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَوْلاَ أنَّ الكِلابَ أمَّةٌ من الأمَم لأمَرْتُ بِقَتْلِهَا فاقْتُلُوا مِنْهَا أسْوَدَ بهيمٍ» . وقيل: أمثالكم يَفْقَهُ بعضهم عن بعض. فصل في وجه النظم وجه النظم أنه - تعالى - بَيَّنَ في الآية أنَّه لو كان إنْزَالُ سائر المعجزات مَصْلَحَةً لهم لفعلها إلاَّ أنه لمَّا لم يَكُنْ إظهارها مَصْلَحَةً للمكلَّفين لم يظهرها، وهذا الجوابُ إنما يَتِمُّ إذا ثبت أنه تعالى يُرَاعي مصالحض المكلَّفين، ويَتفضَّلُ عليهم بذلك، فبيَّن ذلك وقرَّره بأن قال: «وما مِنْ دَابَّةٍ في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم» في وصول فَضْلِ الله - تعالى وعنايتِهِ واصِلَةً إلى جميع الحيواناتِ، فلو كان إظهار هذه المُعْجِزَاتِ مَصْلَحةً للمكلفين لفعلها ولم يَبْخَلْ بها؛ لأنه لم يَبْخَلْ على شيءٍ من الحيوانات بمَصَالِحهَا ومَنَافعِهَا؛ يَدُلُّ ذلك على أنَّه - تعالى - لم يظهر تلك المعجزات؛ لأن إظهار يُخِلُّ بمصالح المكلّفين. وقال القاضي: إنّه - تعالى - لمّا قَدَّمَ ذكر الكُفَّار وبيَّن أنهم يرجعون إلى الله، ويحشرون - بيَّن أيضاً بعدهُ - بقوله: «وما من دابَّة في الأرض، ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم» - في أنهم يحشرون، والمقصود بيان أن الحَشْرَ والبَعْثَ كما هو حَاصِلٌ في حقكم، كذلك هو حاصل في حق البَهَائِمِ. فصل في أسئلة على الآية والإجابة عنها حصر الحيوان في هاتين الصفتين، وهما: إمَّا أن يَدبّ، وإمّا أن يطير. وفي الآيات سُؤالاتٌ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 124 الأول: من الحيوانات ما لا يَدْخُلُ في هذيْنِ القِسْمَيْنِ مثل حيتانِ البَحْرِ، وسائر ما يَسْبَحُ في الماءِ، ويعيش فيه. والجواب لا بعد أنْ يُوضَفَ بأنها دَابَّةٌ، من حيث إنها تَدبُّ في الماء؛ لأن سَبْحَهَا في الماء كَسَبْحِ الطير في الهواءِ، إلا أن وَصْفَهَا بالدَّبِّ أقرب إلى اللُّغَةِ من وصفها بالطيران. السؤال الثاني: ما الفَائِدَةُ في تقييد الدَّابَّةِ بكونها في الأرض؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أنَّه خَصَّ ما في الأرض بالذِّكْرِ دون ما في السماء احْتِجَاجاً بالأظْهَرِ؛ لأن ما في السماء وإن كان مَخْلُوقاً مثلنا فغير ظَاهِرٍ. والثاني: أن المقصود من ذِكْرِ هذا الكلام أن عناية الله لمَّا كانت حَاصِلَةً في هذه الحيوانات، فلو كان إظهارُ المعجزات القاهِرَةِ مَصْلَحَةً لما منع الله من إظهارها، وهذا المقْصُودُ إنما يَتِمُّ بذِكُرِ من كان أدْوَنَ مرتبة من الإنسان، لا بِذِكْرِ من كان أعْلَى حالاً منه، فلهذا المعنى قَيَّد الدَّابَّة بكونها في الأرض. السؤال الثالث: ما الفائدة ف قوله: «يطير بجَنَاحَيْهِ» مع أن كل طائر فإنما يطير بجناحيه؟ والجواب: ما تقدَّم من ذِكْرِ التوكيد أو رفع تَوَهُّمِ المجازِ. وقيل: إنه - تعالى [قال] في صفة الملائكة {رُسُلاً أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ} [فاطر: 1] ، فذكر [هاهنا] قوله: «بِجَنَاحَيْهِ» ليخرج عنه الملائكة، لِمَا بينَّا أن المقصود من هذا لاكلامِ إنما يَتمُّ بذكر من كان أدْوَنَ حالاً من الإنسان لا بِذِكًرِ من كان أعْلَى منه. السؤال الرابع: كيف قال: «إلاَّ أممٌ» مع إفراد الدَّابَّةِ والطائر؟ والجواب: ما تقدَّم من إرادةِ الجِنْسِ. قوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْء} : في المراد ب «الكتاب» قولان: الأول: المُرَاد به اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «جَفَّ القَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلى يَوْمِ القِيامَةِ» وعلى هذا فالعموم ظاهرٌ، لأن الله - تعالى - أثْبَتَ ما كان وما يكون فيه. والثاني: المراد به القرآن؛ لأنَّ الألف واللام إذا دخلا على الاسم المُفْرَدِ انْصَرَفَ إلى المفهوم السَّابق، وهو في هذه الآية القرآن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 125 وعلى هذا فهل العُمُومُ بَاقٍ؟ منهم من قال: نعم إن جميع الأشياء مُثْبَتَةٌ في القرآن إمَّا بالصريح، وإمَّا بالإيمَاءِ. فإن قيل: كيف قال الله تعالى: «ما فرّطنا في الكتاب من شيء» مع أنه ليس فيه تَفَاصيل علم الطب وعلم الحِسَاب، ولا تَفَاصِيلُ كثيرٍ من المباحثِ والعلوم، ولا تفاصيل مذاهبِ النَّاسِ، ودلائلهم في علم الأصولِ والفروع؟ والجواب أن قوله «ما فرطنا في الكتاب من شيء» يجب أن يكون مَخْصُوصاً ببيانِ الأشياءِ التي يجب مَعْرَفَتُهَا والإحَاطَةُ بها، واعلم أن علم الأصُول مَوْجُودٌ بتمامه في القرآن على أبْلَغِ الوجوه، وأما تفاصِلُ الأقاويل والمذاهب، فلا حاجة إليها. وأمّا تفاصيل الفروع فالعُلَمَاءُ قالوا: إن القرآن دَلَّ على أن الإجماع وخبر الواحد والقياس حُجَّةٌ في الشريعة، وإذا كان كذلك فَكُلُّ ما دَلَّ عليه أحد هذه الأصول الثلاثة كان ذلك في الحقيقة موجوداً في القرآن قال تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] . وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «عِلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشدينَ مِنْ بَعْدِي» . وروي أن ابن مِسْعُودٍ كان يقول: «مَا لِي لاَ ألْعَنُ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ» يعني: الوَاشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ، والوَاصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ، وري أنَّ امرأة قرأت جميع القرآن ثم أتَتْهُ فقالت: يا ابن أمّ عَبْدٍ، تَلَوْتُ البارحة ما بين الدَّفَّتيْنِ، فلم أحد فيه لَعْنَ الواشمة، والمستوشمة، فقال: لو تَلَوْتيه لوجدْتيهِ، قال تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا} [الحشر: 7] ، وإن مما أتانا به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن قال: «لَعَنَ اللَّهُ الوَاشِمَةَ والمُسْتَوْشِمَةَ» . وقال ابن الخطيب: يمكن وجدانُ هذا المعنى في كتاب الله في قوله تعالى في سورة «النساء» حين عَدَّدَ قبائح الشيطان قال: {وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله} [النساء: 119] فَظَاهِرُ هذه الآية يقتضي أن تغيير الخَلْقِ يوجب اللَّعْنَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 126 وذكر الواحدي أن الشَّافعي جلس ف يالمسجد الحرام فقال: لا تسألوني عن شَيْءٍ إلاّ أجبتكم فيه من كتاب الله، فقال رجل: ما تقول في المُحْرِمِ إذا قتل الزَّنْبُورَ؟ ، فقال: لا شَيْءَ عليه، فقال: أين هذا في كتاب الله؟ ، فقال: قال الله تعالى: {وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] ، ثم ذكر سَنَداً إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلفَاءِ الرَّاشدينَ مِنْ بَعْدِي» ثم ذكر إسْنَاداً إلى عُمَرَ أنه قال: «لِلْمُحْرِمِ قَتْلُ الزَّنْبُورِ» . قال الواحديُّ: فأجابه من كتاب الله مُسْتنبطاً بثلاث درجات، وقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في حديث العسيفِ: «والَّذي نَفْسِي بِيدِهِ لأقْضِيَنَّ بَيْنَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ» ثم قضى بالجَلْدِ والتَّغْرِيبِ على العسيفِ، وبالرجم على المَرْأةِ إذا اعترافت. قال الواحدي: وليس لِلْجَلْدِ والتَّغْريبِ ذكرٌ في نَصِّ الكتاب، وهذا يَدُلُّ على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 127 أن ما جاءكم به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فهو عَيْنُ كتاب الله. قال تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] ، وعند هذا يَصِحُّ قوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْء} والله أعلم. وقال بعضهم: إن هذا عامُّ أُرِيدَ به الخُصوصُ، والمعنى ما فرَّطنا في الكتاب من شيءٍ يحتاج إليه المُكَلَّفُونَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 128 قوله: «من شيءٍ» فيه ثلاثةُ أوجه: أحدهما: أن «مِنْ» زائدة في المفعول به، والتقدير: ما فرَّطْنا شَيْئاً، وتضمن «فرطنا» معنى تركنا وأغفَلْنَا، والمعنى ما أغفلنا، ولا تركنا شيئاً. والثاني: أن «مِنْ» تَبْعيضيَّةٌ، أي: ما تركنا ولا أغْفَلْنَا في الكتاب بعض شيء يحتاج إليه المُكَلِّفُ. الثالث: أن «من شيء» في مَحَلِّ نصب على المصدرِ، و «من» زائدة فيه أيضاً. ولم يُجزْ أبو البقاء غيره، فإنه قال: «من» زائدة، و «شيء» هنا واقع موقع المصدرِ، أي تفريطاً. وعلى هذا التَّأويل لا يبقى في الآيو حُجَّةٌ لمن ظنَّ أن الكتاب يحتوي على ذِكْرِ كل شيء صَريحاً، ونظير ذلك: {لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً} [آل عمران: 120] . ولا يجوز أن يكون ب «في» ، فلا يتعدَّى بحرف آخر، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى: ما تركنا في الكتاب من شيء؛ لأن المَعْنَى على خلافه، فبان أن التأويل ما ذكرنا. انتهى. قوله: «يحتوي على ذِكْرِ كل شيء صريحاً» لم يقل به أحدٌ؛ لأنه مُكَابرةٌ في الضروريات. وقرأ الأعرج وعلقمة: «فَرَطْنَا» مُخَفَّفاً، فقيل: هما بِمَعْنَى وعن النقاش: فَرَطنا: أخَّرْنا، كما قالوا: «فرط الله عنك المرض» أي: أزاله. قوله: {ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُون} : قال ابن عبَّاسٍ، والضحاك: حشرها موتها. وقال أبو هريرة: يحشر الله الخَلْقَ كلهم يوم القيامةِ الإنس والجن والبهائم والدَّوَابَّ والطير وكُلَّ شيء، فيأخذ للجمَّاءِ من القَرْنَاءِ، ثم يقول كوني تُراباً، فحينئذٍ يَتَمَنَّى الكافر ويقول: {ياليتني كُنتُ تُرَابا} [النبأ: 40] ، ويتأكد هذا بقوله: {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} [التكوير: 5] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 قوله: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} مبتدأ، وما بعده الخبر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 129 ويجوز أن يكون «صمُّ» خبر مبتدأ محذوف، والجملة خَبَرُ الأوَّل، والتقدير: والذين كذَّبوا بعضهم صُمٌّ، وبعضهم بُكْمٌ. وقال أبو البقاء: «صُمٌّ وبُكْمٌ» الخبر مثل: «حُلْوٌ حَامِضٌ» ، والواو لا تمنع من ذلك «. وهذا الذي قاله لا يجوز من وجهين: أحدهما: أن ذلك إنما يكون إذا كان الخبرانِ في معنى خبر واحد، لأنهما في معنى:» مُزّ «، وهو» أعْسَرُ يَسَرٌ «بمعنى» أضْبَط «، وأمَّا هذان الخبرانِ فكل منهما مستقلٌّ بالفائدة. والثاني: أن» الواو «لا تجوز في مثل هذا غلا عند أبي عَلِيَّ الفارسي وهو وجه ضعيف. والمراد بالآيات، قيل: جميع الدَّلائل والحججِ. وقيل: القرآن ومحمد عليه السلام. قوله:» في الظلمات «فيه أوجهك أحدهما: أن يكون خبراً ثانياً لقوله:» والذين كَذَّبُوا «ويكون ذلك عبارة عن العَمَى ويصير نظير الآية الأخرى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] فَعَبَّر عن العَمَى بلازمه، والمراد بذلك عَمَى البَصِيَرَةِ. الثاني: أنه متعلِّق بمحذوف على أنه حالٌ من الضمير المُسْتَكِنّ في الخبر، تقديره: ضالون حَالَ كونهم مُسْتقرِّين في الظلمات. الثالث: أنه صَفَةٌ ل» بكم «، فيتعلَّق أيضاً بمحذوف، أي: بكم كائنون في الظلمات. الرابع: أن يكون ظَرْفاً على حقيقته، وهو ظَرْفٌ ل» صم «، أو ل» بكم «. قال أبو البقاء: أو لما ينوب عنهما من الفَعءلِ، أي: لأن الصفتين في قوة التصريح بالفعل. فصل في بيان نظم الآية في وجه النَّظْم قولان: الأول: أنه - تعالى - لما بيَّن من حال الكُفَّار أنهم بلغوا في الكُفْرِ إلى حيث كانت قلوبهم قد صارت مَيِّتَةً عن قَبُولِ الإمان بقوله:» إنما يَسْتجِيبُ الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله «فذكر هذه الآية تقريراً ذلك المعنى. الثاني: أنه - تعالى - لمَّا ذكر في قوله: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأنعام: 38] في كونها دالَّة على كونها تحت تدبير مُدَبِّرٍ قديمٍن وتحت تقدير مٌقدِّرٍ حكميم، وفي أنّ عناية الله مُحيطة بهمن ورحمته واصِلَةٌ إليهم - قال بعده: والمُكَذِّبُونَ بهذه الدَّلائل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 130 والمنكرون لهذه العجائبِ صُمُّ لا يسمعون كلاماً، بُكْمٌ لا ينطقون بالحق، خَائِضونَ في ظلمات الكُفْرِ، غفلون عن تَأمُّلِ هذه الدلائل. قوله: {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} في مَنْ» وجهان: أحدهما: أنها مبتدأ، وخبرها ما بعدها، وقد عُرِفَ غير مَرَّةٍ. ومفعول «يشأ» محذوف، أي: من يشأ الله إضلاله. والثاني: أنه مَنْصُوبٌ بفعل مُضْمَرٍ يفسِّرُهُ ما بعده من حيث المعنى، ويقدِّر ذلك الفعل متأخّراً عن امس الشَّرْطِ لئلا يلزم خروجه عن الصَّدرِ. وقد تقدَّمَ التَّنْبِيهُ على ذلك، وأن فيه خلافاً، والتقدير: من يُشْقِ اللَّهُ يَشَأ إضلاله، ومن يُسْعِدْ يَشَأ هدايتَهُ. فإن قيل: هل يجوز أن تكون «من» مفعولاً مُقدِّماً ل «يشاء» ؟ فالجواب: أن الأخْفَشَ حكى عن العربِ أنَّ اسم الشَّرْطِ غير الظرف، والمضاف إلى اسم الشرط لا بد أن يكون في الجَزَاءِ ضَمِيرٌ يعود عليه، أو على أضيف إليهن فالضَّمير في «يضلله» و «يجعله» : إمّا أن يعود على المُضافِ المحذوف، ويكون كقوله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ} [النور: 40] . فالهاء في «يغشاه» تعود على المُضاف، أي: كَذي ظلمات يَغْشَاهُ. وإمَّا أن يعود على اسم الشرط [والأول ممتنع؛ إذ يصير التقدير: إضلالُ من يشأ الله يضلله، أي: يضلّ الإضلال، وهو فاسد. والثاني أيضاً مُمْتَنَعٌ لخلو الجواب من ضَمِيرٍ يعود على المضاف إلى اسم الشرط] . فإن قيل: يجوز أن يكون المعنى: من يشأ الله بالإضلالِ، وتكون «من» مفعولاً مقدّماً؛ لأن «شاء» بمعنى «أراد» ، و «أراد» يتعدَّى بالباء. قال الشاعر: [الطويل] 2157 - أرَادَتْ عَرَارًا بالهَوَانِ ومَنْ يُرِدْ ... عَرَاراً لَعَمْرِي بالهَوَانِ فَقَدْ ظَلَمْ قيل: لا يلزم من كَوْنِ «شاء» بمعنى «أراد» أن يتعدَّى تعديته، ولذلك نَجِدُ اللفظ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 131 الواحدَ تختلف تعديتُهُ باختلاف متعلّقة، تقول: دخلت الدَّارَ، ودخلت في الأمْرِ، ولا تقول: دخلت الأمر، فإذا كان في اللَّفظِ الواحد فَمَا بَالُكَ بلفظين؟ ولم يُحْفَظْ عن العَربِ تعديَةُ «شاء» بالباء، وإن كانت في معنى أراد. فصل في أنّ الهداية والضلال من الله تعالى احتج أهْلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أن الهُدَى والضلال ليسا إلاَّ من الله - تعالى - لتصريح الآية بذلك. وأجاب المعتزلة عن ذلك بوجوه: الأول: قال الجُبَّائي: معناه أنّه - تعالى يحعلهم صُمَّاً وبُكماً وعُمْياً يوم القيامة عند الحَشْرِ، ويكنون كذلك في الحقيقة بأن يجعلهم في الآخرة صُمَّا وبُكماً في الظلمات ويضلهم بذلك عن الجَنَّةِ، وعن طريقها، ويصيرهم إلى النار، وأكَّد القاضي هذا بأنه - تعالى - بيَّن في باقي الآيات أنه يحشرهم على وجوهم عُمْياً وبُكْماً وصُمّاً مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ. الثاني: قال الجُبائي أيضاً: ويحتمل أنهم يكونون كذلك في الدنيا، فيكون توسّعاً من حيث أنهم جعلوا بتكذيبهم بآيات الله في الظلمات لا يهتدون إلى منافعِ الدينا فَشَبَّهَهُمْ من هذا الوجه بهم وأجرى بهم وأجرى عليهم مثل صَفَاتِهِمْ على سبيل التَّشْبِيهِ. الثالث: قال الكَعْبِيُّ: قوله «صُمُّ وبُكْمٌ» قائم على الشَّتْمِ والإهانة، لا على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة. أمَّا قوله: {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} فقال الكعبي: ليس هذا على سبيل المجاز لأنه - تعالى - وإن أجْمَلَ القول فيه هَا هُنَا فَقَدْ فَسَّرَهُ في سائر الآيات، وهو قوله: {وَيُضِلُّ الله الظالمين} [إبراهيم: 27] وقوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين} [البقرة: 26] . وقوله: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} [محمد: 17] ، وقوله تعالى: {يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ} [المائدة: 16] . وقوله: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت} [إبراهيم: 27] وقوله: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] . فثبت بهذه الآيات أن مشيئة الهدى والضلال، وإن كانت مُجْمَلَةً في هذه الآية، إلاَّ أنها [مخصصة] مفصلة في سائر الآيات، فيحمل هذا المُجْمَلُ على تلك المُفصَّلاتِ. ثم إن المعتزلة ذكروا في تأويل هذه الآية وُجثوهاً: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 132 أحدهما: قوله: {مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ} [الآية: 39] مَحْمَوُلٌ على مَنْعِ الألْطَافِ، فصاروا عندها كالصُّمِّ والبُكم. وثانيها: يضلله يوم القيامة عن طريق الجنة، وعن وجدانِ الثوابِ؛ لأنه ثبت بالدليل أنه - تعالى - لا يشاء هذا الإضلال إلاَّ لمن يستحقه عقوبة، كما لم يشأ الهُدَى إلاَّ للمؤمنين. واعلم أن هذه الوجوه التي تكَلَّفَهَا المعتزلة إنما تَحْسُنُ لَوْ ثَبَتَ في العقل أنه لا يمكن إجْرَاءُ هذا الكلام على ظاهرة، وقد دللنا على أنَّ هذا الفعل لا يحصل إلاَّ عند حُصُول الداعي، وبيَّنَّا أنِّ خالق ذلك الداعي هو الله تعالى، وبيَّنَّا أن عند حصوله يجبُ الفعلُ في هذه المقدِّمَاتِ الثلاث، فوجب القَطْعُ بأن الكفر والإيمان من الله تعالى، وبتخليقه وتقديره وتكوينه، وقد تقدَّم إبطالُ هذه الوجوه عند قوله: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} [البقرة: 7] وغيرها من الآيات، فلا حاجةَ إلى الإعادةِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 يجوز نقل همزة حركة الاستفهام إلى لام «قُلْ» ، وتُحْذَفُ الهمزةُ تخفيفاُ وهي قراءة وَرْشٍ، وهو تسهيل مُطَّرٍدٌ، و «أرأيتكم» هذه بمعنى «أخبرني» ، ولها أحكامٌ تَخْتَصُّ بها، اضْطَرَبَتْ أقولا الناس فيها، وانتشر خلافُهُمْ، ولا بُدَّ من التَّعَرُّضِ لذلك، فنقول: أرأيت إن كان البصرية، أو العلمية الباقية على معناها، أو التي إصابة الرئة كقولهم: «رأيْتُ الطَّائِرَ» ، أي: أصَبْتُ رئَتَهُ لم يَجُزْ فيها تخفيق الهمزة التي هي عَيْنُهَا، بل تُحَقَّقُ ليس إلاَّ، أو تُسَهَّلُ بَيْنَ من غير إبدالٍ ولا حذفٍ، ولا يجوز أن تلحقها كافٌ على أنها حرف خطاب، بل إن لحقها كاف كانت ضميراً مفعولاً أوَّل، ويكون مُطَابقاً لما يُرَادُ به تَذْكِيرٍ وتأنيثٍ، وإفراد وتثنية وجمع، وإذا اتَّصلَتْ بها تاء الخطاب لزِمَ مُطَابَقتُهَا لما يُرَادُ بها مِمَّا ذُكِرَ، ويكون ضميراً فاعلاً، نحو: أرأيتم، أرأيتما، أرأيتما أرأيتُنَّ، ويدخلها التَّعْلِيقُ والإلْغَاءُ، وإن كانت العمليَّة التي ضُمِّنَتْ معنى «أخبرني» أختصَّتْ بأحكامٍ أخَرَ. منها: أنه يجوز تَسْهِيلُ همزتها بإبدالها ألفاً، وهي مَرْويَّةٌ عن نافع من طريق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 133 ورشٍ، والنُّحاة يَسْتَضْعِفْون إبدال هذه الهمزة ألفاً، بل المشهور عندهم تَسْهِيلُهَا بَيْنَ بَيْنَ، وهي الرواية المشهورة عن نافع، لكنَّهُ قد نَقَلَ الإبدال المَحْض قُطْربٌ وغيرهُ من الللغويين قال بعضهم «هذا غَلَطٌ غُلِّط عليه» ، أي: على نافعٍ، وسبب ذلك أنه يُؤدِّي إلى الجَمْعِ بين ساكنين، فإن «الياء» بعدها ساكنة. ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام عن أبي جعفر ونافعٍ، وغيرهما من أهل «المدينة» أنهم يُسْقِطُونَ الهمزة، ويَدَّعُونَ أن الألف خلفٌ منها. قال شهاب الدين: وهذه العبارةُ تُشْعِرُ بأنَّ هذه الألف ليست بدلاً من الهمزة، بل جيءَ بها عِوَضاً عن الهمزة السَّاقِطَةِ. وقال مَكِّيُّ بْنُ أبي طالب: «وقد روي عن وَرْشٍ إبدالُ الهَمْزَةِ ألفاً؛ لأن الرِّواية عنه أنه يَمُدَّ الثانية، والمَدُّ لا يتمكن إلاَّ مع البدلِ، وحسَّنَ جوازَ البدلِ في الهمزة وبعدها سَاكِنٌ أنَّ الأوِّل حَرْفُ مدِّ ولينٍ، فإن هذا الذي يحدث مع السكون يقوم مقامَ حركةٍ يُتَوصَّلُ بها إلى النُّطْقِ بالساكن» . وقد تقدَّم شَيءٌ من هذا عند قوله: {أَأَنذَرْتَهُمْ} [البقرة: 6] . ومنها: أن تُنحْذَفَ الهمزة التي هي عَيْنُ الكلمة، وبها قرأ الكسائي، وهي فاشية نَظْماً ونَثْراً فمن النظم قوله: [الرجز] 2158 - أرَيْتَ مَا جَاءَتْ بِهِ أمْلُودا ... مُرَجَّلاً وَيَلبسُ البُرُودَا أقَائِلُنَّ أحْضِرُوا الشُّهودَا ... وقال الآخر: [الطويل] 2159 - أرَيْتَكَ إذْ هُنَّا عَلَيْكَ ألَمْ تَخَف ... ْ رَقِيباً وَحَوْلِي مِنْ عَدُوِّكَ حُضَّرُ وأنشد الكسائي لأبي الأسود: [المتقارب] 2160 - أرَيْتَ امْرَأ كُنْتُ لَمْ أبْلُهُ ... أتَانِي فَقَالَ: اتَّخذنِي خَلِيلاً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 134 وزعم الفرَّاءُ أن هذه اللُّغَةَ لُغّةُ أكثر العربِ. قال: «في أرَأيْتَ لغتان ومعنيان: أحدهما: أن يسأل الرجل: أرأيت زَيْداً، أي: أعَلِمْتَ، فهذه مهموزة. وثانيهما: أن تقول: أرأيت بمعنى» أخْبِرْني «، فهاهنا تترك الهمزة إن شِئْتَ، وهو أكثر كلام العرب بُؤمئ إلى تَرْكِ الهَمْزَةِ للفرق بين المَعْنَيَين» . انتهى. وفي كيفية حذف هذه الهمزة ثلاثة أوجه: أحدها: - وهو الظَّاهر - أنه اسْتُثْقِلَ الجَمَعُ بين همزتين في فعلٍ اتَّصَلَ به ضَمِيرٌ، فَخَفَّفَهُ بإسقاط إحدى الهمزتَيْنِ، وكانت الثانية أولى، لأنها حصل بها الثِّقَل؛ ولأنَّ حذفها ثابِتٌ في مضارع هذا الفعل، نحو: أرى، ويرى، ونرى، وترى، ولأنَّ حذف الأولى يُخِلُّ بالتَّفَاهُمِ، إذ هي للاستفهام. والثاني: أنه أبْدَلَ الهمزة ألِفاً، كما فعل نَافِعٌ في رواية ورش، فالتقى ساكنان، فحذف أولهما وهو الألف. والثالث: أنه أبْدَلَها ياءً، ثم سِكَّنَهَا، ثم حذفهها لالتقاء الساكنين، قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ، ثم قال: «وقَرَّب ذلك فيها حَذْفُها في مُسْتَقْبَلِ هذا الفعل» يعني في يرى وبابه، ورجَّحَ بعضهم مذهبَ الكسائي بأن الهَمْزَةَ قد اجترىءَ عليها بالحذف، وأنشد: [الرجز] 2161 - إنْ لَمْ أقَاتِلْ فَالْبِسُونِي يُرْقُعَا ... وأنشد لأبي الأسود: [الكامل] 2162 - يَا بَا المُغيرةِ رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ ... فَرَّجْتُهُ بِالمَكْرِ مِنَّي وَالدَّهَا [وقولهم: «وَيْلُمِّهِ» ] . وقوله: [البسيط] 2163 - وَيْلُمِّهَا خُلَّةً قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا ... فَجْعٌ وَوَلْعٌ وإخلافٌ وتَبْدِيلُ وأنشد أيضاً: [الوافر] 2164 - وَمَنْ رَا مِثْلَ مَعْدَانَ بْنِ سَعْدٍ ... إذَا مَا النِّسْعُ طَالَ عَلَى المَطِيِّه أي: ومَنْ رأى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 135 ومنها: أنه لا يَدْخُلُهَا تَعْلِيقٌ، ولا إلغَاءٌ؛ لأنها [بمعنى] «أخبرني» لا يُعَلَّقُ عند الجمهور. قال سيبويه: «وتقولُ: أرأيتك زَيْداً أبو مَنْ هو؟ لا يَحْسُنُ فيه إلاَّ النَّصْبُ في» زيد «، الا ترى لو قلت:» أرأيت أبو مَنْ أنت؟ «لم يَحْسُنْ؛ لأن فيه معنى أخبرني عن زيد، وصار الاستفهامُ في موضع المفعول الثاني» وقد خالف سيبويه غَيْرُهُ من النحويين، وقالوا: كثيراً ما تُعَلَّق «أرأيت» وفي القرآن من ذلك كثيرٌ، واْتَدَلُّوا بهذه الآية التي نَحْنُ فيها، وبقوله: {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ} [العلق: 13، 14] ، وبقوله: 2165 - أرَيْتَ مَا جَاءْتُ بِهِ أمْلُودَا ... وهذا لا يرد على سيبويه، وسيأتي تأويل ذلك قريباً. ومنها: أنها تَلْحَقُهَا «التاء» فَيُلْتَزَمُ إفْرَادُهَا وتذكيرها، ويُسْتَغْنَى عن لحاقِ علامة الفُرُوعٍ بها بِلحاقِهَا بالكافِ، بخلاف التي لم تُضَمَّنْ معنى «أخبرني» فإنها تُطَابِقُ فيها، كما تقدَّم ما يُرادُ بها. ومنها: أنه يلحقها «كاف» هي حرف خطابٍ تُطابقُ ما يُرَادُ بها من إفرادٍ وتذكير وضِدَّيهما، وهل هذه «التَّاء» فاعل، و «الكاف» حرف خطاب [تبيَّن أحوال التاء، كما تبينه إذا كانت ضميراً، أو التاء حرف خطاب] و «الكاف» ضمير في موضع المفعول الأول؟ ثلاثةُ مذاهب مشهورة، الأوَّل: قول البصريين، والثاني: قول الفراء، والثالث: قول الكسائي، ولنَقْتَصِرْ على بعض أدلَّةِ كُلِّ فريق. قال أبو علي: «قولهم:» أرَأيْتَكَ زَيْداً ما فعل «بفتح» التاء «في جميع الأحوال، فالكافُ لا يخلو أن يكون للخطاب مُجَرَّداً، ومعنى الاسمية مَخْلُوعٌ منه، أو يكون دالاً على الاسم مع دلالتهِ على الخطابٍ، ولو كان اسْماً لوجب أن يكُون الاسْمُ الذي بعده هو هو؛ لأن هذه الأفعال مفعولها الثَّاني هو الأوَّل في المعنى، لكنه ليس به، فتعيَّن أن يكون مَخْلُوعاً منه الاسميَّةُ، وإذا ثبت ا، هـ للخطَابِ مُعَرى من الاسمية ثَبَت أن» التاء «لا تكون لِمُجرَّدِ الخطابِ، ألا ترى أنه لا ينبغي أن يَلْحَقَ الكَلِمَةُ علامتَا خطاب، كما لا يحلقها علامتا تأنيث ولا علامتَا استفهامٍ، فلمَّا لم يَجُزْ ذلك أفرِدَت» التاءُ «في جميع الأحْوَالِ لمَّا كان الفِعْلُ لا بُدَّ من فاعلٍ، وجُعِلَ على لَفْظٍ واحد اسْتِغْنَاءً بما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 136 يَلْحَقُ» الكاف «، ولو لحق» التاء «علامةُ الفروع علامتَانِ للخطاب مما كان يَلْحَقُ» التاء «، وممَّا كان يلحق» الكاف «، فلما كان ذلك يُؤدِّي إلى ما لا نَظِيرَ له رُفِضَ، وأجْرِي على ما عليه سِائِرُ كلامهم» . وقال الزَّجَّاج بعد حكايته مَذْهَبَ الفراء: «وهذا القَوْلُ لم يَقْبَلُهُ النحويون القُدَمَاءُ وهو خَطَأٌح لأنَّ قولك:» أرأيت زَيْداً ما شأنه «لو تعدَّتِ الرؤية إلى» الكاف «وإلى زيد لصار المعنى: أرَأتْ نَفْسُكَ زيداً ما شأنُهُ وهذا مُحَالٌ» ثم ذكر مذهب البصريين. وقال مكِّي بن أبي طالبٍ بعد حكايته مَذْهَبَ الفرَّاءِ: «وهذا مُحَالٌ، لأنَّ» التاء «هي» الكاف «في» أرأيتكم «، فكان يجب أن تُظْهَرَ علامةُ جمع» التاء «وكان يجب أن يكون فاعلان لفعلٍ واحدٍ وهما لِشَيءٍ واحد، ويجب أن يكون معنى قولك:» أرأيتك زَيْداً ما صَنَعَ «: أرأيْتَ نَفْسَكَ زَيْداً ما صنع؛ لأن» الكاف «هو المُخَاطَبُ، وهذا مُحَالٌ في المعنى، ومُتَنَاقِضٌ في الإعراب والمعنى؛ لأنك تَسْتَفْهِمُ عن نفسه في صَدْرِ السُّؤال، ثم ترد السؤال إلى غيره في آخره وتخاطبه أولاً، ثم تأتي بغائبٍ آخر، أو لأنه يَصِيرُ ثلاثة مفعولين ل» رأيت «، وهذا كله لا يَجُوزُ. ولو قلت:» أرأيتك عالماً بزيد «لكان كلاماً صحيحاً، وقد تعدَّى» رأى «إلى مفعولين» . وقال أبو البقاء بعدما حكا مذهب البصريين: «والدَّليلُ على ذلك أنها - أي» الكاف «- لو كانت اسْماً لكانت: إمَّا مَجْرُورةً - وهو باطلٌ إذ لا جارَّ هنا - وإمَّا مَرْفثوعَةٌ، وهو باطِلٌ أيضاً لأمرين: أحدهما: أن» الكاف «ليست من ضمائر الرفع. والثاني: أنها لا رَافِع لها؛ إذا ليست فاعلاً؛ لأن «التاء» فاعل، ولا يكون لفعل واحدٍ فاعلان، وإمَّا أن تكون مَنْصُوبةً، وذلك باطلٌ لثلاثة أوجه: أحدها: أن هذا الفِعْلَ يتعدَّى إلى مَفْعُولينِ كقولك: «أرأيت زيداً ما فعلَ» فلو جعلت «الكاف» مفعولاً كان ثالثاً. والثاني: أنه لو كان مَفْعُولاً لكان هو الفاعل في المَعْنَى، وليس المعنى على ذلك، إذ ليس الغَرَضُ أرأيت نفسك، بل أرأيت غيرك، ولذلك قلت: أرأيتك زيداً وزيد غير المُخَاطَبِ، ولا هو بدل منه. والثالث: أنه لو كان مَنْصُوباً على أنه مَفْعُولٌ لظَهَرتْ علامةُ التثنية والجمع والتَّأنيث في «التاء» فكنت تقول: أرأيتماكما، أرأيتموكم، أرأيتكنَّ «. ثم ذكر مَذْهَبَ الفرَّاءِ ثم قال:» وفيما ذكرنا إبطالٌ لمذهبه «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 137 وقد انْتَصَرَ أبو بكر بن الأنْبَاريّ لمذهب القرَّاء بأن قال:» لو كانت «الكافُ» توكيداً لوقَعت التَّثْنِيَةُ والجمع بالتاء، كما يَقَعَانَ بها عند عدم «الكاف» ، فلمَّا فُتِحت «التاءُ» في خِطَابِ الجَمْعِ ووقع مِيْسَمُ الجمع لغيرها كان ذلك دَلِيلاً على أن «الكاف» غيرُ توكيد. ألا ترى أن «الكاف» لو سَقَطَتْ لم يَصلُحْ أن يُقالَ لجماعة: أرأيت، فوضحَ بهذا انْصِرافُ الفِعْلِ إلى «الكاف» ، وأنها واجبةٌ لازَمَةٌ مُفْتَقَرٌ إليها «. وهذا الذي قاله أبُو بَكْرٍ بَاطِلٌ بالكاف اللاحِقَةِ لاسم الإشارة، فإنها يَقَعُ عليها مِيْسَمُ الجَمْعِ، ومع ذلك هي حرفٌ. وقال الفراء:» موضعُ «الكاف» نصب، وتأويلها رَفْعٌ؛ لأن الفعل يِتَحَوَّلُ عن «التاء» إليها، وهي بِمَنْزِلِةِ «الكاف» في «دونك» إذا أغْريَ بها، كما تقول: «دُونَكَ زيداً» فتجد «الكاف» في اللَّفْظِ خَفْضاً، وفي المعنى رفعاً؛ لأنها مَأمُورةٌ، فكذلك هذه «الكافُ» موضعُها نصبٌ، وتأويلها رفع «. قال شهابُ الدين:» وهذه الشُّبْهَةُ بَاطِلةٌ لما تقدَّم، والخلافُ في «دونك» و «إليك» وبابهما مَشْهُورٌ تقدَّم التَّنْبِيهُ عليه مراراً «. وقال الفرَّاءُ أيضاً كلاماً حَسَناً [رأيت أن أذكره فإنه مُبِينٌ نَافِعٌ] قال: للعرب في» أرأيت «لغتان ومعنيان: أحدهما: رؤية العَيْنِ، فإذا رأيت هذا عَدَّيْتَ الرؤية بالضمير إلى المُخَاطَبِ، ويتصرَّفُ سِائِرِ الأفعال، تقول للرجل:» أرأيتك على غير هذه الحالِ «، تريدُ: هل رأيت نفسك، ثم تُثَنِّي وتَجْمَعُ فتقول:» أرَأيْتُمَاكُمَا، أرَأيْتُمُوكُمْ، أرَأيْتُكُنَّ «. والمعنى الآخر: أن تقول:» أرأيتك «وأنت تريد معنى» أخبرني «، كقولك: أرأيتك إنْ فَعَلْتُ كذا ماذا تَفْعَلُ، أي: أخبرني، وتترك» التاء «إذا أردت هذا المعنى مُوَحَّدةً؛ لأنهم كل حالٍ تقول:» أرأيتكما، أرأيتكم، أرأيتكنَّ «، وإنما تركتِ العربُ» التاء «واحدةً؛ لأنهم لم يريدوا أن يكون الفِعْلُ واقعاً من المُخَاطَبِ على نفسه، فاكْتَفَوْا من علامةِ المُخاطبِ بذكره في المكان، وتركوا» التاء «على التذكير والتوحيد إذا لم يكون الفَعْلُ واقعاً، والرُّؤيَةُ من الأفعال الناقصة التي يُعَدِّيها المُخَاطبُ إلى نفسه بالمكنى مثل: ظنتني ورأيتني، ولا يقولولن ذلك في الأفْعَالِ التَّامةِ، لا يقولون خارجاً؟ وذلك أنَّهم أرَادُوا الفَصْلَ بين الفعلِ الذي قد يُلْغَى، وبين الفعل الذي لا يَجُوزُ إلْغَاؤهُ، ألا ترى أنك تقول:» أنا أضُنُّ خَارجٌ «فتلغي» أظن «وقال الله تعالى {أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 7] ولم يَقُل: رأى نَفْسَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 138 وقد جاء في ضرورة الشعر إجْرَاءُ الأفعال التامة مُجْرَى النواقص؛ قال جِرَانُ العَوْدِ: [الطويل] 2166 - لَقَدْ كَانَ لِي عَنْ ضَرَّتَيْنِ عَدِمْتُنِي ... وَعَمَّا ألاَقِي مِنْهُمَا مُتَزَحْزحُ والعربُ تقول: «عَدِمءتني ووَجَدْتُني» وليس بوجه الكلام. انتهى. واعلم أنَّ النَّاس اختلفوا في الجلمة اللاستِفْهَامِيَّةِ الواقِعَةِ بعد المنصوب ب «أرأيتك» [نحو: أرأيتك] زَيْداً ما صنع؟ فالجموهور على أنَّ «زيداً» مفعول أوَّل، والجملة بعده في مَحَلِّ نصبٍ سادَّةً مَسَدَّ المفعول الثاني. وقد تقدَّم أنه لا يجُوزُ التَّعْلِيقُ في هذه، وإن جاز في غيرها من أخَوَاتِهَا نحو: علمت زيداً أبو مَنْ هو. وقال ابن كَيْسَان: «إن هذه الجملة الا ستفهاميَّة في أرأيت زيداً ما صنع بَدَلٌ من أرأيتك» . وقال الأخْفَشُ: «إنه لا بُدَّ بعد» أرأيت «التي بمعنى» أخبرني «من الا سم المُسْتَخْبَرِ عنه، ويَلْزَمُ الجُمْلَةَ التي بعده الاستفهام؛ لأن» أخبرني «موافق لمعنى الاستفهام» . وزعم أيضاً أنها تخرج عن بابها، فتكون بمعنى «أما» أو «تنبَّه» ، وحينيذٍ لا يكونُ لها مَفْعُولانِ، ولا مَفْعُولٌ واحدٌ، وجعل من ذلك: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت} [الكهف: 63] . وهذا يبغي ألاَّ يجوز؛ لأنه إخْرَاجٌ لِلَّفْظةِ عن موضوعها من غير دَاعٍ إلى ذلك. إذا تقرَّرَ هذا فَيْلُرْجَعْ إلى الآية الكريمة فَنَقُولُ، وبالله التوفيق: اختلف النَّاسُ في هذه الآية على ثلاثة أقوال: أحدها: أن المفعول الأول، والجملة الاستفهامية التي سدَّت مسدَّ الثاني مَحْذُوفانِ لفهم المعنى، والتقديرُ: أرأيتكم عبادتكم الأصْنَامَ هل تنفعُكمُ؟ أو اتِّخَاذكُمْ غَيْرَ الله إلهاً هَلْ يِكشِفُ ضُركم؟ ونحو ذلك، ف «عِبَادَتَكُمْ» أو «اتِّخاذكم» مفعول أوّل، والجملة الاستفهامية سادَّةٌ مسدَّ الثَّاني، و «التاء» هي الفاعل، و «الكاف» حرف خطاب. الثاني: أن الشَّرْطَ وجوابَهُ - وسيأتي بَيَانُهُ - قد سدَّا مَسَدَّ المفعولين؛ لأنهما قد حَصَّلا المعنى المقصود، فلم يَحْتَجْ هذا الفعل إلى مَفْعُولٍ، وليس بشيء؛ لأن الشَّرْطَ وجوابه لم يُعْهَدْ فيهما أن يَسُدَّا مَسَدَّ مفعولي «ظَنَّ» ، وكونُ الفاعلِ غيرَ مُحْتاجٍ لمفعول الجزء: 8 ¦ الصفحة: 139 إخْرَاجٌ له عن وضعه، فإن عنى بقوله: «سَدَّا مَسدَّهُ» أنَّهُمَا دَالاَّنِ عليه فهو المُدَّعَى. والثالث: أن المفعول الأوَّل محذوفٌ، والمسألةُ من باب التَّنازُعِ بين «أرأيتكم وأتاكم» ، والمُتنازعُ فيه لَفْظُ «العذاب» وهذا اختيرا أبي حيَّان، ولنُورِدْ كلامه ليظهر فإنه كلامٌ حسنٌ قال: «فنقول: الذي نَخْتَارُهُ أنها بَقِيَةٌ على حكمها في التعدِّي إلى اثنين، فالأوَّل منصوب، والثاني لم نَجِدْهُ بالاسْتِقْرَاءِ إلاَّ حملة استفهاميةً أو قَسِمِيَّةً. فإذا تقرَّرَ هذا فنقول: المفعول الأول في هذه الآية مَحْذُوفٌ، والمسألة من باب التَّنازُعِ، تنازع» أرأيتكم «والشرط على» عذاب الله «فأعمل الثَّاني، وهُو» أتاكم «، فارتفع» عذاب «به، ولو أعمل الأوَّل لكان التَّرْكيب:» عذاب «بالنَّصْبِ، ونظير ذلك» اضرب إنْ جاءك زيد «على إعْمَالِ» جاءك «، ولو نصب لجاز، وكان من إعمال الأوَّل. وأمَّا المفعول الثَّاني، فهو الجملة من الاستفهام» أغَيْرَ الله تَدْعُونَ «والرَّابِطُ لهذه الجملة بالمعفول الأوَّل المحذوف مَحْذُوفٌ تقديره: أغَيْرَ الله تدعون لِكَشْفِهِ، والمعنى: قل: أرأيتكم عذابَ الله إن أتاكم - أو السَّاعة إن أتتكم - أغَيْرَ الله تَدْعُونَ لكشفه، أو لكشف نَوازِلها» . انتهى. والتقدير الإعْرَابيُّ الذي ذكره يَحْتَاجُ إلى بضع إيْضَاحٍ، وتقديره: قل: أرأيتكموه أو أريتكم إيَّاهُ إن أتاكم عَذابُ الله، فذلك الضمير هو ضَمِيرُ العذابِ لمَّا عَمِلض الثَّاني في ظاهره أعْطِيَ المُلْغَى ضَمِيرَهُ، وإذا أضْمِرَ في الأوَّل حُذِفَ ما لم كن مَرْفُوعاً، أو خبراً في الأصْلِ، وهذا الضمير ليس مَرْفُوعاً، ولا خبراً في الأصل، فلأجل ذلك حُذِفَ ولا يَثْبُتُ إلاَّ ضَرُورَةً. وأمَّا جوابُ الشَّرْط ففيه خَمسةُ أوجهٍ: أحدهما: أنه مَحْذُوفٌ، فقدَّرهُ الزمخشري: «إن أتاكم عذابُ الله مَنْ تدعون» . قال أبو حيَّان: «وإصْلاحُهُ أن تقول:» فَمَنْ تَدْعُون «بالفاء؛ لأن جواب الشَّرْطِ إذا وقع جُمْلَةً اسْتفهامِيَّةً فلا بُدَّ فيه من الفاء» . الثاني: أنه «أرأيتكم» ، قاله الحُوفي، وهو فَاسِدٌ لوجهين: أحدهما: أنّ جواب الشرط لا يتقدَّمُ عند جمهور البصريين، إنما جوَّزه الكوفيون، وأبو زيدٍ، والمُبَرِّدُ. والثاني: أن الجملة المُصدِّرة بالهمزة لا تقعُ جواباً للشَّرْطِ ألْبَتَّةً، إنما يقع من الاسْتِفْهَامِ ما كان ب «هل» أو اسْم من أسْمَاءِ الاستفهام، وإنما لم تَقعِ الجُمْلَةُ المصدَّرةُ بالهمزة جواباً؛ لأنه لا يخْلُو: أن تأتي معها بالفاء، أو لا تأتي بها، لا جَائِز ألاَّ تأتي بهاح لأن كُلَّ ما لا يَصْلُحُ شرطاً يجب اقْتِرَانُهُ بالفاء إذا وقع جواباً. ولا جَائِزَ أن تأتي بها؛ لأنك: إمَّا أن تأتي بها قَبْلَ الهمزة، نحو: «ن قمت فأزيد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 140 مُنْطَلِقٌ» ، أو بعدها نحو: «أفَزَيدٌ مُنْطَلِقٌ» ، وكلاهما مُمْتَنِعٌ، أمَّا الأوَّل فلتَصَدُّرِ «الفاء» على الهمزة. وأما الثَّاني، فإنه يُؤدِّي إلى عدم الجواب بالفاء في موضع كان يجبُ فيه الإتْيَانُ بها وهذا بخلاف هل، فإنك تأتي بالفاءِ قبلها، فنقول: «إن قمت فهل زيد قَائِم» ؛ لأنه ليس لها تمامُ التصدير الذي تَسْتَحِقُهُ الهمزة، ولذلك تَصَدَّرتْ على بعض حروف العطفِ، وقد تقدَّم [مشروحاً] مراراً. الثالث: أنه «أغير الله» وهو ظَاهِرُ عِبَارَةِ الزمخشري، فإنه قال: «ويجوز أن يتعلَّق الشَّرْطُ بقوله:» أغير اللَّهِ تدعون «، كأنه قيل: أغير الله تَدْعُون إن أتاكُمْ عَذابُ الله» . قال أبو حيَّان: ولا يجوز أن يتعلِّق الشرطُ بقوله: «أغير الله» ؛ لأنه لو تعلَّقَ به لكانَ جواباً له، لكنه لا يقع جواباً، لأن جواب الشَّرْط إذا كان اسْتِفْهاماً بالحرف لا يَقَعُ إلا ب «هل» وذكر ما قدَّمْتُه إلى آخره، وعزاه الأخفَشُ عن العرب، ثم قال: «ولا يجوز أيضاً من وجْهْ آخر؛ لأنَّا قد قرَّرْنَا أنَّ» أرأيتك «مُتعدِّيةٌ إلى اثنين؛ أحدهما في هذه الآية محذوفٌ، وأنه من باب التَّنازُعِ، والآخر وقعت الجُملةُ الاستفهَامِيَّةُ موقعه، فلو جَعَلْتَهَا جواب الشَّرْطِ لبقيت» أرأيتكم «مُتعدِّيَةً إلى واحدٍ، وذلك لا يجوز» . قال شهابُ الدين: وهذا لا يَلْزَمُ الزمخشري، فإنه لا يرتضي ما قاله من الإعراب المُشَارِ إليه. قوله: «يلزم تعدِّيهَا لِوَاحِدٍ» . قلنا: لا نُسَلَّمُ، بل يتعدَّى لاثْنَيْنِ محذوفين ثانيهما جملة الاستفهام، كما قدَّره غَيْرُهُ: ب «أرأيتكم عبادتكم هل تنفعكم» ثم قال: «وأيضاً التزامُ العرب في الشَّرْط الجائي بعد» أرأيت «مُضِيَّ الفعل دليلٌ على أنَّ جوابَ الشرط محْذُوفٌ، لأنه لا يُحْذَفُ جوابُ الشرط إلاَّ عند مُضِيَّ فِعْلِهِ، قال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله} [الأنعام: 47] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله} [الأنعام: 46] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله} [القصص: 71] {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ} [يونس: 50] {أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ} [الشعراء: 205] {أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وتولى} [العلق: 31] إلى غير ذلك من الآيات. وقال الشاعر: [الرجز] 2167 - أرَيْتَ إنْ جَاءَتُ بِهِ أمْلُودَا ... وأيضاً مَجيءُ الجملة الاستفهاميَّةِ مصدَّرةً بمزة الاستفْهَامِ دليلٌ على أنها ليست جوابَ الشَّرْط، إذ لا يَصِحُّ وُقُوعُهَا جواباً للشرط» انتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 141 ولمَّا جوَّز الزمخشري أن الشَّرْطَ مُتعلِّقٌ بقوله: «أغَيْرَ الله» سأل سؤالاً، وأجاب عنه، قال: «فإن قلت: إن علّقت الشِّرْط به، فما تصْنَعُ بقوله: {فَيَكْشِفُ ما تَدْعُون إليه} مع قوله: {أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة} ، وقوارعُ السَّاعةَ لا تُكْشَفُ عن المشركين؟ قلت: قد اشترط في الكَشْفِ المَشِيئِةَ وهو قوله:» إنْ شَاءَ «إيذَاناً بأنه إنْ فَعَلَ كان له وَجْهٌ من الحكمة، إلا أنه لا يَفْعَلُ لِوَجْهٍ آخرَ من الحكمة أرجح منه» . قال أبو حيَّان: «وهذا مَبْنِيُّ على أن الشَّرطَ متعلقٌ ب» أغير الله «وقد اسْتَدْلَلْنَا على أنه لا يَجُوزُ» . قال شهابُ الدين: ترك الشَّيخُ التَّنْبِيهَ على ما هو أهَمُّ من ذلكن وهو قوله: «إلاَّا أنه لا يقعل لوجهٍ آخر من الحِكْمَةِ أرْجَحَ منه» وهذا أصْلٌ فاسدٌ من أصُولِ المعتزلة يزعمون أن أفعاله - تعالى تابعةٌ لمصالحَ وحكم، يترَّجحُ مع بعضها الفعلُ، ومع بعضها التركُ، ومع بضعها يَجبُ الفعلُ أو الترك، تعالى الله عن ذلك، بل أفْعِالُهُ لا تُعَلَّلُ بغرضٍ من الأغراض، {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَل} [الأنبياء: 23] ، كما تقرر في علم الأصول. الرابع: أن جوابَ الشَّرْطِ محذوف تقديره: إن أتاكم عذابُ الله، أو أتتكم السَّاعَةُ [دَعَوْتُمْ] ودَلَّ عليه قوله: «أغير الله تدعون» . الخامس: أنه مَحْذُوفٌ أيضاً، ولكنه مُقدَّرٌ من جِنْسِ ما تقدَّم في المعنى، تقديره: إن أتاكم عذابُ الله، أو أتتكم السَّاعةُ فأخبروني عنه أتَدْعُونَ غير الله لِكَشْفِهِ، كما تقول: «أخبرني عن زيدٍ إن جاءك ما تصنعُ به» ، أي إن جاءك فأخْبِرْنِي عنه، فحذف الجوابُ لدلالة «أخبرني» عليه، ونظيرُهُ: أنت ظَالِمٌ إن فعلت، أي: فأنت ظَالِمٌ، فحذف «فأنت ضَالِمٌ» لدلالة ما تقدَّم عليه. وهذا ما اختارَهُ أبو حيَّان. قال: «وهو جارٍ على قواعدِ العربية» وادَّعى أنه لم يَرهُ لغيره. قوله: {أَغَيْرَ الله تَدْعُون} . «غَيْرَ» مفعول مُقدَّمٌ ل «تَدْعون» ، وتقديمُه: إمَّا للاخْتِصَاصِ كما قال الزمخشري: بَكَّتَهُمْ بقوله: أغير الله تَدْعُون، بمعنى: أتَخُصُّونَ آلهتكم بالدَّعْوةِ فميا هو عَادَتُكُمْ إذا أصَابَكُمْ ضُرُّ، أم تدعون الله دونها، وإمَّا للإنْكَارِ عليهم في دُعَائِهِمْ للأصْنَامِ، لأن المُنْكَرِ إنما هو دُعَاءُ الأصْنَام لا نَفْسُ الدُّعاء، ألا ترى أنك إذا قلت: «أزَيْداً تضربُ» إنما تُنْكِرُ كَوْنَ «زيد» محلاَّ للضَّرْب، [ولا تُنْكِرُ نَفْسَ الضرب،] وهذا من قَاعِدَةِ بَيَانِيَّةٍ قدمت التنبيه عليها عند قوله تعالى: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني} [المائدة: 116] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 142 قوله: {إنْ كُنْتُمْ صادقِينَ} جوابه مَحْذُوفٌ لدلالة الكلام عليه، وكذلك مَعْمُولُ «صَادِقِنَ» ، إن كنتم صَادِقينَ في دعْوَاكُمْ أنَّ غير الله إلهٌ، فهل تَدْعونه لِكَشْفِ ما يَحُلُّ بكم من العذابِ؟ فصل في المراد من الآية معنى الآية: قال ابن عبَّاسِ: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أرأيتكم إن أتاكُمْ عذابُ الله قبل الموتِ، أرأيتكم السَّاعة يعني العذاب يوم القيامة، أترجعون إلى غير الله في دَفْعِ البلاء والضُّرِّ، أو ترجعون إلى الله في دَفْعِ البلاء والمِحْنَةِ لا إلى الأصنام والأوثانَ، وأراد الكُفَّارَ يدعون الله في أحْوالِ الاضْطِرَارِ كما أخبر اللَّهُ عنهم {وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [لقمان: 32] لا جرم قال: «بَلْ إيَّاهُ تدعُونَ» «بل» حرفُ إضْرَابٍ وانتقال، لا إبطال لما عُرِفَ غير مَرَّةٍ من أنها في كلام اللَّهِ كذلك، و «إيَّاه» مفعول مُقدَّمٌ للاخْتِصَاصِ عند الزمخشري، ولذلك قال: بل تَخُصُّونه بالدُّعاءِ، وعند غيره للاعْتِنَاء، وإن كان ثَمَّ حَصْرٌ واختصاصٌ فمن قَرينةٍ أخرى، و «إياه» ضمير منصوبٌ مُنْفِصلٌ تقدَّم الكلامُ عليه في «الفاتحة» . وقال ابن عطية: «هنا» إيَّا «اسم مُضْمَرٌ أجري مجرى المظهرات في أنه مضاف أبَداً» . قال أبو حيان: وهذا خِلافُ مذهب سيبويه أن ما بعد «إيَّا» حرف يُبَيَّن أحْوالَ الضمير، وليس مُضَافاً لما بعده لئلا يَلْزَمُ تَعْرِيفُ الإضافة، وذلك يِسْتَدْعِي تنكيره، والضَّمَائِرُ لا تَقْبَلُ التنكير فلا تَقْبَلُ الإضافة. قوله: «ما تَدْعُونَ» يجوز في «ما» أربعةُ أوجهٍ: أظهرها: أنها موصولةٌ بمعنى «الذي» ، أي: فيكشف الذي تَدْعُونَ، والعائدُ محذوف لاسْتِكَمَالِ الشروط، أي: تَدْعُونَهُ. الثاني: أنها ظَرْفِيَّةٌ، قاله ابن عطية، وعلى هذا فيكون مَفْعُول «يكشفُ» مَحْذُوفاً تقدير: فيكشف العذابَ مُدَّة دعائكم، أي: ما دُمْتُمْ داعينه وقال أبو حيَّان: وهذا ما لا حاجةَ إليه مع أنَّ فيه وصْلها بمضارعٍ، وهو قليلٌ جداً تقول: «لا أكَلِّمُكَ ما طلعت الشمسُ» ، ويضعف: «ما تَطْلَعُ الشمس» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 143 قال شهاب الدين: قوله: «بمُضارع» كان يبغي أن يقُول: «مثبت» ؛ لأنه متى كان مَنْفِيَّا ب «لم» كَثُرَ وصْلُهَا به، نحو قوله: [الطويل] 2168 - وَلَن يَلْبَثَ الْجُهَّالُ أنْ [يَتَهَضَّمُوا] ... أخَا الحِلْمِ مَا لِمْ يِسْتَعِنْ بِجَهُولِ ومِنْ وَصْلِهَا بمضارعٍ مثبتِ قوله: [الوافر] 2169 - أطوِّفُ مَا أطَوِّفُ ثُمَّ آوِى ... إلَى أمَّى وَيَرْوينِي النَّقِيعُ وقول الآخر: [الوافر] 2170 - أطَوِّفُ ما أطَوِّفُ ثُمَّ آوِي ... إلَى بِيتٍ قَعِيدَتُهُ لكَاعٍ ف «أطَوِّفُ» صِلَةٌ ل «ما» الظرفقية. الثالث: أنها نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ ذكره أبو البقاء، والعِائِدٌ أيضاً مَحْذُوفُ أي: فيكشفُ شَيْئاً تَدْعُونه، أي: تَدْعُونَ كشْفَهُ والحَذْفُ من الصِّفَةِ أقَلُّ منه من الصلة. الرابع: أنها مَصْدَرِيةٌ، قال ابن عطيَّة: «ويَصِحَّ أن تكون مَصْدَرِيَّةً على حذفٍ في الكلام» . قال الزجَّاج: وهو مثْل « {واسأل القرية} [يوسف: 82] . قال شهاب الدين: فيكشف سبب دعائكم وموجبه. قال أبو حيَّان: وهذه دَعْوَى محذوف غير مُعَيّن، وهو خلافُ الظاهر. وقال أبو البقاء:» وليست مَصْدَرَيَّةً إلاَّ أن تَجْعَلَهَا مصدراً بمعنى المفعول «يعني الجزء: 8 ¦ الصفحة: 144 يصير تقديره: فيكشف مَدْعُوَّكُمْ، أي: الذي تَدْعُون لأجله، وهو الضُّرُّ ونحوه. قوله:» إليه «فيما يتلَّق به وجهان: أحدهما: أن تيعلَّق ب» تَدْعون «، والضَّمير حينئذٍ يعود على» ماط الموصولة، أي: الذي تَدْعُون إلى كَشْفِهِ، و «دعا» بالنسبة إلى متعلّق الدعاء يتعدَّى ب «إلى» أو «اللام» . قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله} [فصلت: 33] {وَإِذَا دعوا إِلَى الله} [النور: 48] . وقال: [الطويل] 2171 - وإنْ أُدْعَ لِلْجُلَّى أكُنْ مِنْ حُمَاتِهَا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . وقال: [البسيط] 2172 - وَإنْ [دَعَوْت] إلى جُلَّى ومَكْرُمَةٍ ... يَوْماً سَرَاةِ كِرَامِ النَّاسِ فَادْعِينَا وقال: [المتقارب] 2173 - دَعَوْتُ لِمَا نَابِنِي مِسْوَراً ... فَلَبَّى فَلَبَّىْ يَدَيء مِسْوَرِ والثاني: أن يتعلَّق ب «يكشفُ» . قال أبو البقاء: «أي: يرفعه إليه» انتهى. والضميرُ على هذا عائدٌ على الله تعالى، وذكر أبو البقاء وَجْهَيِ التعلق ولم يَتَعَرَّضْ للضمير، [وقدْ عَرَفْتَهُ] . وقال ابن عطية: والضمير في «إليه» يَحْتَمِلُ أن يعُود إلى الله، بتقدير: فيكشف ما تدعون فيه إليه. قال أبو حيَّان: وهذا ليس بِجَيدٍ؛ لأنَّ «دعا» يتعدَّى لمفعول به دون حَرْفِ جرِّ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 145 {ادْعُونِي اأَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] ، {إِذَا دَعَانِ} [البقرة: 186] ومن كلام العرب: «دَعَوْتُ الله سِمَعاً» . قلت: ومِثْلُهُ: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُوا} [الإسراء: 110] {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعا} [الأعراف: 55] قال: «ولا تقولُ بهذا المعنى:» دعوت إلى اللهط بمعنى: دعوت الله، إلاَّ أنه يمكن أن يُصَحَّحَ كلامُهُ بمعنى التَّضْمِينِ، ضَمَّنَ «تدعون» معنى «تلجؤون فيه إلى الله» إلاَّ أنَّ التضمين ليس بقيسا، لا يُصَارُ إليه إلاَّ عند الضَّرُورَةِ، ولا ضرورةَ تدعو إليه هنا «. قال شهاب الدين: ليس التضمين مَقْصُوراً على الضرورة، وهو في القرآن أكثر من أن يُحْصَرَ، وقد تقدَّم منه جملة صَالِحَةٌ، وسيأتِي إن شاء الله - تعالى - مثلُهَا على أن قد يُقَال: تجويزُ أبي مُحَمَّدٍ عَوْدَ الضمير إلى الله - تعالى - مَحْمُولٌ على أن» إليه «مُتَعَلِّقٌ ب» يكشف «، كما تقدَّم نَقْلُهُ عن أبي البقاءِ، وأن معنلااه يرفعه إليه، فلا يلزم المحذور المذكور، لولا أنه يُعَكِّرُ عليه تقديرُهُ بقوله:» تدعون فيه إليه «، فتقديره:» فيه «ظاهرة أنه يَزْعُمُ تعَلُّقَهُ ب» تَدْعُون «. قوله:» إنْ شَاءَ «جوابه مَحْذُوفٌ لِفَهْمِ المعنى، ودلالة ما قبله عليه، أي: إنْ شَاءِ أن يَكْشِفَ كَشَفَ، وادِّعاءُ تقديم جوابِ الشرط هنا واضِحٌ لاقترانه ب» الفاء «فهو أحْسَنُ من قولهم:» أنت ظالم إن فعلتط لكن يمنع من كونها جواباً هنا أنها سِبَبِيَّةٌ مرتبة، أي: أنها أفادت تَرتُّبَ الكَشْفِ عن الدعاء، وأن الدُّعَاءَ سَبَبٌ فيه، على أن لنا خِلاَفاً في «فاء» الجزاء: هل تفيد السَّبَبِيَّةَ أو لا؟ قوله: {وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُون} الظاهر في «ما» أن تكون مَوْصُولَةَ اسمية، والمُرَادُ بها ما عُبِدَ مِنْ دون اللَّهِ مُطْلَقاً: العُقَلاَء وغيرهم، إلاّ أنه غَلَّبَ غيرا لعقلاء عليهم كقوله: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات} [النحل: 49] والعائد محذوف، أي: ما تُشْرِكُونَهُ مع الله في العِبَادَةِ. وقال الفارسيُّ: «الأصْلُ: وتَنْسَوءنَ دُعاءَ ما تشركون، فحذف المضاف» . ويجوز أن تكون مَصْدرِيَّةً، وحينئذٍ لا تَحْتَاجُ إلى عائد عن الجمهور. ثم هل هذا المصدر باقٍ على حقيقته؟ أي: تَنْسَوْنَ الإشراك نَفْسَهُ لما يَلْحَقُكُمْ من الدَّهْشَةِ والحَيْرَةِ، أو هو واقع موقع المعفول به، أي: وتنسون المُشْرَكَ به، وهي الأصنام وغيرها، وعلى هذه فمعناه كالأوَّلِ، وحينئذ يحتمل أن يكون السياق على بابه من «الغَفْلَة» وأن يكون بمعنى التَّرْكِ، وإن كانوا [ذاكرين] لها أي: للأصنام وغيرها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 146 فصل في المراد من الآية معنى الآية فيكشف الضُّرَّ الذي من أجْلِهِ دَعَوْتُمْ إن شاء، وهذه الآية تَدُلُّ على أنه - تعالى - قد يجيب الدُّعَاءَ إن شاء، وقد لا يجيبه. فإن قيل: قوله: {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] يفيد الجَزْمَ بالإجابة، وهاهنا عَلَّقَ الإجابة على المشية، فيكيف يجمع بين الآيتين؟ فالجوابُ أن يقال: تَارَةً يَجْزِمُ سُبْحَانَهُ بالإجابة، وتارةً لا يجيب إمَّا بحسب المشيئة كما يقول أهل السُّنَّةِ، أو بحسب رعايَةِ المصلحة كما يقول المعتزلة، ولمَّا كان كلا الأمرين حَاصِلاً لا جَرَمَ وردت الآيتين على هذهين الوجهين. فصل في أن أصل الدين هو الحجة وهذه الآية من أقْوَى الدَّلائِلِ على أن أصل الدين هو الحُجَّةُ والدليل، لا يخصُّ التقليد؛ لأنه - تعالى - كان يقول لِعبدةِ الأوْثَانِ إذا كنتم ترجعون عند نزول الشدائد إلى الله لا إلى الأصنام والأوثان، فَلِمَ تقدمون على الأصنام التي لا تَنْتَفِعُونَ بعبادتها ألْبَتَّةَ، وهذا الكلامُ إنما يُفيدُ لو كان ذكرُ الدَّلِيلِ والحُجَّةِ مقبولاً، أمَّا لو كان مَرْدُوداً وكان الواجب التقليد كان هذا الكلام سَاقِطاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 في الكلام: حَذْفُ تقديره: «أرْسلْنَا رُسُلاً إلى أممٍ فكذبوا فأخذناهم» وهذا الحذفُ ظاهر جداً. و «من قَبْلِكَ» متعلِّقٌ ب «أرْسلنا» ، وفي جعله صِفَةً ل «أمم» كلام تقدِّم مِرَاراً، وتقدَّم تفسيرُ {البأسآء والضراء} [البقرة: 177] ولم يُلْفَظُ لهما بِمُذَكِرٍ على «أفْعَل» . قوله: {ولاا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا} . «إذ» منصوب ب «تضرَّعوا» فَصَلَ به بين حرف التحضيض وما دخل عليه، وهو جائز في المفعول به، تقول: «لولا زيداً ضَرَبْتَ» ، وتقدَّم أن حرفَ التَّخْضِيض مع الماضي يكون معناه التَّوءبِيخَ، والتَّضَرُّع: «تَفَعُّل» من الضَّراعَة؛ وهي الذِّلَّة والهَيْبَة المسببة عن الانْقِيَادِ إلى الطاعة، يقال: «ضَرَعَ يَضْرَعُ ضراعة فهو ضارعٌ وضَرعٌ» . قال الشاعر: [الطويل] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 147 2174 - ليُبْكَ يَرْيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ... ومُخْتَبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ وللسهولة والتَّذَلُّلِ المفهومة من هذه المادة اشْتَقُّوا منها لِلثَّدْي اسماً فقالو له: «ضَرْعاً» . قوله: {ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُم} «لكنْ» هنا وَاقِعَةٌ بين صدَّيْنِ، وهما اللِّينُ والقَسْوَةُ؛ وذلك أن قوله: «تضرَّعوا» مُشْعِرٌ باللِّينِ والسُّهُولةِ، وكذلك إذا جعلءتَ الضَّراعَةَ عبارة عن الإيمان، والقَسْوَةَ عبارة عن الكُفْرِ، وعبَّرت عن السبب بالمُسَبَّبِ، وعن المُسَبَّبِ بالسبب، ألا ترى أانه تقول: «آمنَ قلبه فتضرَّعُ، وقسا قلبه فكفر» وهذا أحسن من قول أبي البقاء: «ولكن» استدراك على المعنى، أي ما تَضَرَّعُوا ولكن يعني أن التَّخْضِيضَ في معنى النَّفْي، وقد يَتَرَجَّعُ هذا بما قالهُ الزمخشري فإنه قال: مَعْنَاهُ نَفْيُ التضرُّع كأنه قيل: لم يَتَضرَّعوا إذ جاءهم بأسُنَا، ولكنه جاء ب «لولا» ليفيد أنه لم يكن لهم عُذْرٌ في تَرْك التَّضَرُّعِ، إلاَّ قَسْوَة قلوبهم، وإعجابهم بأعمالهم التي زَيَّنَهَا الشَّيْطَانُ لهم. قوله: «وزيَّنَ لَهُم» هذه الجملة تَحْتَمِلُ وجهين: أحدهما: أن تكون اسْتِئْنَافِيَّةً أخبر تعالى عنهم بذلك. والثاني: وهو الظاهر -: أنها داخلة في حيَّز الاستدراك فهو نسقٌ على قول: «قَسَتْ قُلُوبهم» وهذا رأي الزمخشري فإن قال: «لم يكن عُذْرٌ في ترك التَّضرُّع إلاَّ قَسْوَةُ قلوبهم وإعابُهُم بأعمالهم» كما تقدَّم و «ما» في قوله: «ما كانوا» يحتمل [أن تكون موصولة اسمية أي: الذي كانوا يعملونه] وأن تكون مصدرية، أي: زيَّنَ لهم عَمْلَهُم، كقوله: {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4] ويَبْعُدُ جَعْلُها نكرةً موصوفة. فصل دلت هذه الآية مع الآية التي قبلها على مذهب أهل السُّنةِ، لأنه بيَّن في الآية الأولى أن الكُفار يرجعون إلى الله - تعالى - عند نزول الشَّدائد ثم بيَّن في هذه الآية أنهم لا يَرْجعُونَ إلى الله - تعالى - عند كل ما كان من جِنْسِ الشَّدَائِدِ، بل قد يبقون مُصِرِّينَ على الكُفْرِ غير راجعين إلى الله تعالى، وذلك يَدُلُّ على أنَّ من لم يَهْدِهِ الله لم يَهْتَدِ سواء شَاهَدَ الآيات أوْ لم يُشَاهد. فإن قيل: ألَيْسَ قوله: {بل إيَّاهُ تَدْعُونَ} يَدُلُّ على أنهم تَضَرَّعُوا، وها هنا يقول: «قَسَتْ قُلوبهم ولم يتضرَّعوا» . فالجوابُ: أولئك أقْوَامٌ وهؤلاء أقوامٌ آخَرُون، أو نقول: أولئك تَضَرَّعُوا لطلب إزالة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 148 البَلِيَّة ولم يَتَضرَّعُوا على سبيل الإخلاصِ لله تعالى، فلهذا القَرْق حَسُنَ الإثْبَاتُ والنفي. فصل احتج الجُبَّائي بقوله: {لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُون} على أنه - تعالى - إنما أرْسَل الرسل إليهم، وإنما سَلَّطَ البَأسَاءَ والضَّرَّاء عليهم إرادةِ أن يتضرعوا أو يؤمنوا، وذلك يَدُلُّ على أنه - تعالى - أراد الإيمان والطاعة من الكُلِّ. والجوابُ أن كلمة «لَعلَّ» للتَّرَجِّي والتَّمَنِّين وهو في حق الله - تعالى - مُحَالٌ، وأنتم حملتموه على إرادة هذا المَطْلُوب، ونحن نحمله على أنه - تعالى - عاملهم مُعاملة لو صدرت عن غير الله لكان المَقْصُود منه هذا المعنى، فأمَّا تعليل حكم الله - تعالى - ومشيئته، فذلك مُحَالٌ على ما ثبت بالدَّليل، ثم نقول: إن دَلَّتْ هذه الآية على قولكم من هذا الوَجْهِ، فإنها تَدُلُّ على ضِدِّ قولكم من وجهٍ آخر، وذلك لأنها تَدُلُّ على أنهم إنما لم يَتضَرَّعُوا لِقَسْوَةِ قلوبهم، ولأجلِ أنَّ الشَّيْطَانَ زَيَّنَ لهم أعْمَالَهُمْن فنقول: تلك القَسْوَةُ إن [حصلت بفعلهم احتجاوا في إيجادها إلى سبب آخر ولزم التسلسل وإن] حصلت بفعل الله - تعالى - فالقول قولنا. وأيضاً: هَبْ أن الكُفَّارَ إنما أقدموا على هذا الفعل القبيح [بسبب تزيين الشيطان، إلاَّ أنا نقول: ولم بقي الشيطان مصراً على هذا الفعل القبيح] ، فإن كان ذلك لأجل شَيْطان آخر تَسَلْسَلَ إلى غير نهاية، وإذا بطلت هذه التَّقَادِيرُ وانتهت إلى أنَّ كُلَّ أحد إنما يُقدِمُ تارةً على الخير وأخْرَى على الشَّرِّ؛ لأجل الدَّوَاعي التي تحصل في قَلْبِهِ ثم ثبت أن تلك الدَّوَاعي لا تحصل إلاَّ بإيجاد الله، فحينئذٍ يَصحُّ قولنا، ويفسدُ قولهم بالكلية، والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 وهذا من تمام القصة الأولى بيَّن تعالى أنه أخذهم بالبَأسَاءِ والضرَّاءِ لعَلَّهُمْ يَتَضرَّعُوا ثُمَّ بيَّن في هذه الآية أنهم لما نَسُوا ما ذُكِّروا به من البَأسَاءِ والضَّرَّاءِ فَتَحْنَا عليهم أبواب كُلِّ شيء، ونَقَلْنَاهُمْ من البَأسَاءِ والضَّرَّاء إلى الرَّاحةِ والرَّخاءِ، وأنواع الآلاَءِ والنعماءِ والمقصودُ أنه - تعالى - عَامَلَهُمْ بِتَسْلِيطِ المَكَارِهِ والشَّدَائِدِ تَارَةً، فلم ينتفعوا به، فَنَقَلَهُمْ من تلك الحَالَةِ إلى ضِدِّهَا، وهو فتح أبواب الخيرات عليهم، فلم ينتفعوا به أيضاً، وهذا كما يَفْعَلُهُ الأبُ المُشْفِق بولَدِهِ يُخَاشِنُهُ تَارَةً ويُلاطِفُهُ أخرى طَلَباً لصَلاحِهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 149 قوله: «فَتَحْنَا» : قرأ الجمهور «فَتَحْنَا» مخفَّفاً، وابن عامر «فَتَّحْنَا» مثقلاً، والتقيلُ مُؤذِن بالتكثير؛ لأن بَعْدَهُ «أبواب» فناسب التكثير والتخفيف هو الأصل. وقرا ابن عامر أيضاً في «الأعراف» {لَفَتَحْنَا} [الأعراف: 96] وفي «القمر» {فَفَتَحْنَآ} [القمر: 11] بالتَّشديد أيضاً، وشدَّدَ أيضاً {فُتِحَتْ يَأْجُوجُ} [الأنبياء: 96] والخلافُ أيضاً في {فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} في «الزمر» في الموضعين [آية 71، 73] ، {وَفُتِحَتِ السمآء} في النبأ [آية 19] فإن الجماعة وافقوا ابن عامر على تشديدها، ولم يَقْرَأها بالتخفيق إلاَّ الكوفيون، فقد جَرَى ابن عامر على نَمَطٍ واحدٍ في هذا الفِعْلِ، والباقون شَدَّدُوا في المواضع الثلاثة المُشَارِ إليها، وخَفَّفُوا في الباقي جَمْعاً بين اللغتين. قوله: «فَإذَا مُبْلِسُونَ» «إذا» هي الفُجَائِيَّةُ، وفيها ثلاثة مذاهب: مذهب سيبويه أنها ظرف مكان، ومذهبُ جماعة منهم الرّياشي أنها ظرف زمان، ومذهب الكُوفيين أنها حرف، فعلى تقدير كونها ظَرْفاً زماناً أو مكاناً النَّصابُ لها خبر المبتدأ، أي: أبْلِسُوا في مكان إقامَتِهِمْ أو في زمانها. والإبْلاسُ: الإطْرَاقُ. وقيل: هو الحزن المعترض من شدة البَأسِ، ومنه أشْتُقَّ «إبْلِيسُ» وقد تقدَّم في موضعه، وأنَّهُ هل هو أعجمي أم لا؟ قال القرطبي: المُبْلسُ الباهت الحزين الآيسُ من الخير الذي لا يحيرُ جواباً لشدَّةِ ما نزل به من سُوءِ الحالِ. قال العجَّاج: [الرجز] 2175 - يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْماً مُكْرَسَا ... قال: نَعَمْ أعْرِفُه وأبْلَسَا أي: تحيّر لهَوْل ما رَأى، ومن ذلك اشْتُقَّ اسم إبْلِيس، وأبْلَسَ الرَّجُلُ سَكَتَ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 150 وأبْلَسَت النَّاقَةُ وهي مبلاسٌ إذا لم تَرْعَ من شِدَّةِ الضّبَعة يقال: ضَبِعَت النَّاقة تَضْبَع ضَبَعَةً وضَبْعاً إذا أرادت الفَحْلَ. فصل في معنى الآية المعنى: فتحنا عليهم أبْوابَ كُلِّ شيء كان مُغْلَقاً عنهم من الخير، أي: لمَّا قَسَتْ قلوبهم ولم يَتَفَطَّنُوا ونَسُوا ما ذكروا به من الوَعْظِ فَتَحْنَا عليهم أبْوَابَ الخير مكان البلاء والشِّدَّة حتى إذا فَرِحُوا بما أوتوا، وهذا فَرَحُ بَطَرٍ مثل فرح قارون بما أصاب من الدنيا. قال الحسنُ: في هذه الآية مَكْرٌ بالقوم وربِّ الكعبة. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذَا رَأيْتَ اللَّهَ يُعْطِي العَاصِي، فإنَّ ذَلكَ اسْتِدْرَاجٌ مِنَ اللَّهِ» ثم قرأ هذه الآية. ثم قال «أخَذْنَاهُم بَغْتَةً» : فُجَاءةً أين ما كانوا. قال أهْلُ المعاني: وإنما أخذوا في حَالِ الرَّاحةِ والرَّخَاءِ ليكون أشَدَّ لِتحَسُّرِهِمْ على ما فَاتَهُمْ من حال السلامة والعَافِيَةِ، «فإذا هم مُبْلسون» آيِسُونَ من كُلِّ خيرٍ. قال الفرَّاء: المُبْلسُ الذي انقطع رَجَاؤهُن ولذلك قيل للذي سكت عند انقطاع حُجَّتِهِ: قد أبْلِسَ. وقال الزَّجَّاجُ: المُبْلسُ الشديد الحَسْرَةِ الحزين. قوله: «فَقُطَعَ دَابِرُ» الجمهور على «فَقُطِعَ» مِبْنِيَّا للمفعولِ «دابرُ» مرفوعٌ به. وقرأ عِكْرِمَةُ: «قطع» مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى، «دَابِرَ» مفعول به، وفيه التَفَاتٌ، إذ هو خورج من تكلم في قوله: «أخَذْنَاهُمْ» إلى غَيْبَةٍ. و «الدَّابِرُ» التَّابعُ من خَلْفٍ، يقال: دَبَرَ الوَلَدُ والِدَه، ودَبَرَ فلان القَوْمَ يَدْبُرُهُمْ دُبُوراً ودَبْراً. وقيل: الدَّابرُ الأصْلُ، يقال: قَطَع اللَّهُ دَابِرَهُ، أي: أصله قاله الأصْمَعِيُّ، وقال أبُو عُبَيْدٍ «» دَابِرُ القوم آخِرُهُمْ «، وأنشدوا لأميَّة بن أبي الصَّلْتِ: [البسيط] 2176 - فاستُؤصِلُوا بِعَذَابٍ حَصَّ دَابِرَهُمْ ... فَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ صَرْفاً وَلاَ انْتَصَرُوا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 151 ومنه دَبَرَ السَّهْمُ الهَدَفَ، أي: سقط خَلْفَهُ. وفي الحديث عن عبد الله بن مَسْعُودٍ» مِنَ النَّاسِ مَنْ لا يَأتِي الصَّلاةَ إلاَّ دُبريًّا « أي: في آخر الوقت. فصل في المراد بالآية والمعنى أنَّ الله - تعالى - اسْتَأصَلَهُمْ العذاب، فلم يُبْقِ بَاقِيَةً. و» الحمد لله رب العالمين «. قيل: على هَلاّكِهِمْ. وقيل: تعليمٌ للمؤمنين كيف يَحْمَدُونَهُ، حَمَدَ اللَّهُ نَفْسَهُ على أنْ قَطَعَ دَابِرَهُم؛ لأنه نِعْمَةٌ على الرُّسُلِ، فَذَكرَ الحمْدَ تَعْلِماً لهم، ولمن آمن بهم أن يَحْمَدُوا الله على كِفَايَتِهِ شَرَّ الظالمين، وليحمد محمد وأصحابه رَبَّهُمْ إذا أهلكنا المكذّبين. وتضَمَّنَتْ هذه الآية الحُجَّة على وحوب ترك الظلم لما تعقَّب من قَطْعِ الدَّابرِ إلى العذابِ الدئام مع اسْتَحْقَاقِ القاطعِ للحمد من كل حَامِدٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 {أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله} المفعول الأوَّل محذوف، تقديره: أرأيتم سَمْعَكُمْ وأبصاركم إن أخذنا اللَّهُ، والجملة الاسْتِفْهَامِيَّةُ في موضع الثاني، وقد تقدَّم أن أبا حيَّان يجعله من التَّنازُعِ، وجوابُ الشرط مَحْذُوفٌ على نحو ما مَرَّ. وقال الحوفي: وحَرْفُ الشَّرْطِ وما اتَّصَلَ به في موضع نَصْبٍ على الحالِ، والعاملُ في الحالِ «أرأيتم» كقولك: «اضْرِبْهُ إن خرج» أي: خارجاً، وجواب الشَّرْطِ ما تقدَّم مما دَخَلَتْ عليه هَمْزَةُ الاستفهام وهذا إعرابٌ لا يَظْهَرُ. ولم يُؤتَ هنا ب «كاف» الخطاب، وأتِيَ به هناك؛ لأن التَّهْديدَ هناك أعْظَمُ فَنَاسَبَ التأكيد بالإتيان ب «كاف» الخطاب ولمَّا لم يُءتَ بالكافِ وجَبَ بروز علامةِ الجَمْعِ في التاء لئلا يَلْتَبِسَ، ولو جيء معها بالكافِ لاسْتُغْنِيَ بها كما تقدَّمَ، وتوْحِيدُ السَّمْعِ، وجَمْعُ الأبصارِ مفهومق مما تقدَّم في «البقرة» . قوله: «مَنْ إلهٌ» مبتدأ وخبر، و «مَنْ» استِفْهَامِيَّةٌ، و «غيرُ الله» صِفَةٌ ل «إله» و «يأتيكم» صِفَةٌ ثانية، و «الهاء» في «به» تعود على «سمعكم» . وقيل: تعود على الجميع، ووُحِّد ذهَاباً به مذهب اسم الإشارةِ. وقيل: تعود على الهدى المدلول عليه بالمعنى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 152 وقيل: يَعُودُ على المَأخُوذِ والمختُومِ المدلول عليهما والخَتْمِ، والاستفهامُ هنا للإنكارِ. والجمهور: «بِهِ انظر» بكسر الهاء على الأصل، وروى المُسَيَّبي عن نافع «بهُ انظر» بضم الهاء [وهي لغةُ من يقرأ «فخسفنا بهو وبدارهُو الأرض» فحذف «الواو» لالتقاء الساكنين، فصارَ «به انظر» والباقون بكسرها. وقرأ حمزة، والكسائي «يَصْدِفُونَ» بإشْمَامِ الزَّاين والباقون بالصاد. فصل في معنى الآية قال ابنُ عبَّاسٍ: المعنى: أيُّها المشركونُ إنْ أخَذَ الله، أي: أذهب وانْتَزَعَ سَمْعَكُمْ وأبْصَارَكُمْ، وختم على قلوبكم، أي: طبع على قلوبكم فلم تَعْقِلِ الهُدَى. وقيل: معناه: أزال عقولكم حتى تصيروا كالمَجَانين. وقيل: المُرَادُ من هذا الخَتْمِ الأمانةن. فصل في إثبات الصانع المرادُ من هذا الكلام الدِّلالةُ على وُجُودِ الصانع الحكيم المُخْتَار؛ لأ، أشْرَفَ أعضَاءِ الإنْسَانِ هو السَّمْعُ والبصر والقَلْبُ، والأذن محل القوة الساَّامعة، والعَيْنُ مَحَلُّ القوة البَاصِرَةِ، والقَلْبُ مَحَلُّ الحياة والعِلْمِ والعَقْلِ، فلوْ زالَتْ هذهِ الصِّفَات عن هذه الأعضاء اخْتَلَّ أمْرُ الإنسان، وبَطَلَتْ مَصَالِحُهُ في الدنيا والدِّين. ومن المعلوم بالضرورة أن القَادِرَ على تحصيل هذه القُوَى فيها، وصونها عن الآفَاتِ ليس إلا الله تعالى، وإذا كان الأمْرُ كذلك كان المُنَعِمُ بهذه النعم العظيمة هو الله سُبْحَانَهُ وتعالى. قوله: {انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات} . «كيف» مَعْمُول ل «نُصرِّفُ» ونَصبُها: إمَّا على التَّشْبيه بالحالِ، او التشبيه بالظَّرْفِ، وهي مُعْلِّقةٌ ل «انظر» فهي في مَحَلِّ نصب بإسْقَاطِ حرفِ الجرِّ، وهذا ظاهرٌ مما تقدَّم. و «نُصَرِّف» : نُبَيِّنُ، و «يَصْدِفُون» معناه: يُعْرِضُونَ، يقال: صَدَق عن الشيء صَدفاً وصدوفاً وصدافيةً، وصادَفْتُهُ مُصادفَةً أي: لقِيتُهُ عن إعْراضٍ من جهتِهِ. قال عِدِيُّ بْنُ الرقَاعِ: [البسيط] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 153 2177 - إذَا ذَكَرْنَ حَدِيثاً قُلْنَ أحْسَنَه ... ُ وهُنَّ كُلِّ سُوءِ يُتَّقَى صُدُفُ «صُدُف» جمع «صَدُوف» ك «صُبُر» في جمع «صَبُور» . وقيل: معنى «صَدَف» : «مال» ، مأخوذة من الصَّدَفِ في البعيرِ، وهو ان يميل خُفُّهُ من اليد إلى الرِّجْلِ من الجانب الوَحْشِيّ. و «الصَّدَفُ» جمع «صَدَفَة» ، وهي المحَارَةُ التي تكون فيها الدُّرَّة. قال: [البسيط] 2178 - وَزَادَهَا عَجَباً أنْ رُحْتُ فِي سُبُلٍ ... وَمَا دَرَتْ دَوَرَانَ الدُّرِّ في الصَّدَفِ و «الصَّدَفُ» و «الصُّدُف» بفتح الصاد والداله ناحية الجَبَلِ المُرْتفعِ، وسأتي لهذا مزيدُ بيان. فصل في دفع شبهة للمعتزلة قال الكعبي: دلَّت هذه الآية على أن اللَّه - تعالى - مَكَّنَهُمْ من الفَهْمِ، ولم يخلق فيهم الإعْرَاضَ والصَّدَّ، ولو كان تعالى هو الخَالِق للفكر فيهم لم يكن لهذا الكلامِ مَعْنَى. واحْتَجَّ أهل السُّنَّةِ بعين هذه الآيَةِ قالوا: إنه - تعالى - بيَّن أنه بالغ في إظهار هذه الدلالة وفي تقريرها، وإزالة الشبهات عنها، ثم إنهم مع هذه المُبَالَغةِ القَاطِعَةِ للعُذْرِ ما زادوا إلاَّ تَمَادِياً في الكُفْرِ والعنادِ، وذلكَ يَدُلُّ على أن الهُدَى والإضْلالَ لا يحصلان إلاَّ بهذاية الله - تعالى - وإضْلالِهِ، فَدَلالَةُ الآية على قولنا أقوى من دَلالتهَا على قولهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 اعلم أن الدلائلَ المتقدّمة كانت مختصة بأخذ السَّمْع والبَصَرِ والقلب، وهذا عامٌ في جميع أنواع العذابِ، والمعنى أنه لا دَافِعَ لنوع من أنواع العذابِ، ولا مُحَصِّلَ لخير من الخَيْرَاتِ إلاَّ اللَّهُ تعالى، فوجب أن يكون هو المَعْبُودَ دون غيره. والمراد ب «البَغْتَة» العذاب الذي يأتيهم فُجَاءةً من غير سَبْقِ علامةٍ، والمرادُ ب «الجَهْرَة» العذاب الذي يأتيهم مع سَبْقِ علامة تَدُلُّ عليه. وقال الحَسَنُ: «بَغْتَةً» أو «جَهْرَةً» : معناه: لَيْلاً أو نهاراً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 154 قال القاضي: والأوَّل أوْلَى؛ لأنه لو جاءهم ذلك العذابُ ليْلاً وقد عاينوا قُدُمَهُ لم يكن بَغْتَةً، ولو جاءهم نَهَاراً وهم لا يَشْعُرون بقدومه لم يكن جَهْرَةً. قوله: «هل يهلك» هذا اسْتِفْهَامٌ بمعنى النَّفْيِ؛ ولذلك دخلت «إلاَّ» وهو استثناء مُفَرَّغٌ، والتقديرُ: ما يُهْلَكُ إلاَّ القَوْمُ الظالمون، وهذه الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني ل «أرأيتكم» والأوَّلُ مَحْذُوفٌ، وهو من التَّنَازع على رأي أبي حيَّان كما تقدَّم تَقْرِيرُهُ. وقال أبو البقاء: الاسْتِفْهَامُ هنا بمعنى التَّقْرير، فلذلك نَابَ عن جواب الشَّرْط، أي: إن أتاكم هلكتم، والظَّاهِرُ ما تقدَّمن ويجيء هنا قول الحُوفِيّ المتقدَّم في الآية قبلها من كون الشرط حالاً. وقرأ ابن محيصن: «هل يَهْلَكُ» مَبْنيَّا للفاعل. فإن قيل: إن العذابَ إذا نزل لم يَحْصُلْ فيه التَّمْييزُ بَيْنَ المُطيعِ والعاصي. فالجوابُ أن العذاب وإن عَمَّ الأبْرَارَ والأشْرَار في الظاهرة، إلاَّ أن الهلاك في الحقيقة مُخْتَصٌّ بالظالمين؛ لأن الأخْيَارَ يستوجبون [بسبب نزول تلك] المضارِّ بهم أنْوَاعاً عظيمة من الثواب والدَّرَجَاتِ الرفيعة عن الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 والمقصود من هذه الآية أن الأنبياء إنما بُعِثُوا مُبَشِّرين بالثواب على الطَّاعاتِ، ومُنْذِرينَ بالعِقَابِ على المَعَاصي، ولا قُدْرَةَ لهم على إظْهَارِ الآيات والمُعْجِزَاتِ، بل ذلك مُفَوَّضٌ إلى مَشِيئَةِ الله وحكمته. قوله: {إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ} حالٌ من «المرسلين» ، وفي هذه الحال معنى الغَلَبة، أي: لم نرسلهم لأن نقترح عليهم الآيات، بل لأن يبشروا وينذروا. وقرأ إبراهيم، ويحيى: «مُبْشِرين» بالتخفيف، وقَدْ تقدَّم أن «أبْشَرَ» لغة في «بَشَّر» . قوله: «فَمَنْ آمَنَ» يجوز في «مَنْ» أن تكون شَرْطِيَّةً، وأن تكون مَوْصُولةً، وعلى كلا التقديرين فَمَحَلُّهَا رفع بالابتداء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 155 والخبر «فلا خَوْفَ» فإن كانت شَرْطِيَّة، فالفاء جواب الشَرْط، وإن كانت مَوْصُولةً فالفاء زائدة لشبه الموصول بالشرط، وعلى الأول يكون مَحَلُّ الجملتين الجَزْمَ، ولعى الثاني لا مَحَلِّ للأولى وممحل الثانية الرفع، وحمل على اللفظ فأفرد في «آمن» و «أصْلَحَ» ، وعلى المعنى فجمع في {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُون} ، ويُقَوِّي كونها موصولة مقابلتها بالموصول بعدها في قوله: {والذين كَذَّبُواْ} . وقرأ علقمةك «نُمسُّهم» : بنون مضمومة من «أمَسَّه كذا» «العذابَ» نَصْباً، والمَسُّ في اللغة التِقَاءُ الشيئين من غير فصل. وقرأ الأعْمَش، ويحيى بن وثاب «يَفْسِقُون» بكسر السّين، وقد تقدَّم أنها لُغَةٌ، و «ما» مصدريَّةٌ على الأظهر، أي بِفِسْقِهِمْ. فصل في رد شبه للقاضي قال القاضي: إنه - تعالى - عَلَّلَ عذابَ الكفَّار؛ لأنهم فَاسِقينَ، فاقتضى أن يكون كل فاسق كذلك، فيقال له: هذا معارض بما أنه خص الذين كفروا وكذَّبوا بآيات الله وهذا يدل على أنه من لم يكن مكذّباً بآيات الله ألاَّ يلحقه هذا الوعيد أصلاً، وأيضاً فإن كان هذا الوعيدُ معلّلاً بِفِسْقِهِمْ فلم قلتمك إن فِسْقَ من عرف الله، وأقَرَّ بالتوحيد والنبوة والمعاد مُسَاوٍ لِفِسْقِ من أنكر هذه الأشياء؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 هذا بقية الكلام على قوله: «لولا أنزل عليه آية من ربه» فقال الله تعالى: قل لهؤلاء الأقوام: إني بُعِثْتُ مبشّراً ومنذراً وليس لي أن أتَحَكَّمَ على اللَّهِ. واعلم أن القَوْمَ كانوا يقولون: إن كنت رَسُولاً من عند الله فَاطْلُبْ من الله حتى يُوَسِّعَ عَلْينَا مَنَافِهَ الدُّنْيَا وخَيْرَاتِهَا، فقال الله تعالى: قل لهم «إني لا أقول لكم عندي خزائن الله» ، فهو - تعالى - يؤتي المُلْكَ من يشاء، ويُعِزُّ من يَشَاءُ، ويُذِلُّ من يشاء، لا بيدي. الخَزَائنُ: جمع «خزانة» ، وهو اسم للمكان الذي يخزن فيه الشيء، وخَزْنُ الشيء إحرازه بحيث لا تَنَالُهُ الأيْدِي. قوله: {ولاا أَعْلَمُ الغيب} في مَحَلِّ هذه الجملة وَجْهَان: أحدهما: النَّصْبُ عَطْفاً على قوله: عِنْدِي خزائِن اللَّهِ «لأنه من جملة المَقُول، كأنه قال:» لا أقُولُ لكم هذا القول، ولا هذا القول «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 156 قال الزمخشري. وفيه نَظَرٌ من حيث إنه يُؤدِّي إلى أنه يصير التقدير: ولا أقُولُ لكم: لا أعلم الغَيْبَ وليس بصحيح. والثاني: أنه معطوف على» لا أقول «لامَعْمُولٌ، فهو أمَرَ أن يخبر عن نَفْسِهِ بهذه الجُمَلِ الثلاث فهي معمولة للأمر الذي هو» قل «، وهذا تخريج أبي حيَّان قال بعد أن حكى قول الزَّمخشري:» ولا يتَعيَّنُ ما قاله، بل الظَّاهرُ أنه مَعْطُوفٌ على لا أقول «إلى آخرة. فصل في معنى الآية والمعنى: أن القوم يقولون: إن كنت رَسُولاً من عند اللَّهِ، فلا بُدَّ وأن تخبرنا عمَّا سَيَقَعُ في المستقبل من المَصَالِحِ المضارِّ حتى نَسْتَعِدَّ لتحصيل تكل المنافع، ولدفع تلك المَضَارِّ، فقال تعالى:» قل إني لا أعلم الغيب ولا أقول: إنّي ملك «ومعناه: أنهم كانوا يقولون: {مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الأسواق} [الفرقان: 7] ويتزوج ويخالط الناس، فقال تعالى: قل بهم: إني لست من الملائكة. فصل في بيان فائدة هذه الأحوال اختلفوا في الفائدةِ من ذكر هذه الأحْوَالِ الثلاثة، فقيل: المرادُ منه أ، يَظْهِرَ الرسول من نَفْسِه التَّواضُع لله، والاعتراف بِعُبُوديَّتِهِ حتى لا يعتقد فيه مثل اعقاد النَّصارى في المسيح عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ. وقيل: إن القوم كاوا يَقْتَرِحُون عليه إظْهَارَ المعجزات القاهرة، كقولهم: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] فقال تعالى في آخر الآية: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 93] يعني: أنَا لا أدَّعِي إلاَّ الرسالةَ والنُّبُوَّة، وهذه الأمور التي طلبتموها، فلا يمكن تحصيلها إلاَّ بقدرة الله. وقيل: المُرَادُ من قوله: {لا أقُولُ لكُمْ عِنْدِي خزائِنُ اللَّهِ} ، أي: لا أدَّعي كوني مَوْصُوفاً بالقُدْرَةِ، ولا أعلم الغَيْبَ، أي: ولا أدَّعي كَوْنِي موصوفاً بعلم الله تعالى، وبمجموع هَذَيْنِ الكلامين حَصَلَ أنه لا يدَّعِي الإلهيَّة. ثُمَّ قال: «ولا أقول لكم: إني ملك» وذلك؛ لأنه ليس بعد الإلهيَّةِ دَرَجَةٌ أعلى حالاً من الملائكة فصار حاصل الكلام كأنَّهُ يقول: لا أدَّعي الإلهية، ولا أدَّعي الملكيَّة، ولكن أدَّعي الرِّسالة، وهذا مَنْصِبٌ لا يمتنع حصُوله [للبشر] فكيف أطْبَقْتُمْ على استنكار قولي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 157 فصل في رد شبه الجبائي في تفضيل الملائكة قال الجُبَّائي: دَلَّتِ الآية على أنَّ الملكَ أفْضَلُ من الأنبياء؛ لأن [معنى الكلام] لا أدَّعي مَنْزِلَةً أقْوَى من مَنْزِلَتِي، ولولا أن المَلك أفضل، وإلاَّ لم يصح. قال القاضي: إن كان الغرض بها نفي طريقة التَّواضُعِ، فالأقرب يَدُلُّ على أن الملكَ أفْضَلُ، وإن كان المراد نَفْيَ قدرته عن أفعالٍ لا يقوى عليها إلاَّ الملائكة لم يَدُلَّ على كونه أفْضَلَ. قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} . يَدُلُّ على أنه لا يعمل إلاَّ بالوَحْي، وأنه لم يكن يحكم من تِلْقَاء نفسه في شيء من الأحكام، وأنَّهُ ما كان يجتهد، ويؤكد ذلك قوله تعالى: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى} [النجم: 3، 4] . واسْتَدَلَّ نُفَاةُ القياس بهذا النصّ، قالوا: لأنَّهُ عَلَيْه الصَّلاةُ والسَّلامُ ما كان يَعْمَلُ إلا بالوَحْي النَّازِلِ، فوحبَ ألاَّ يحوز لأحدٍ من أمَّتِهِ أن يعمل إلاَّ بالوَحْيِ النَّازل، ولقوله تعالى: {واتبعوه} [الأعراف: 158] وذلك ينفي جواز العمل بالقياسِ. ثم أكَّدَ ذلك بقوله: {هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير} ، وذلك لأن العمل بغير الوَحْي يجري مجرى عَمَل الأعمى، والعملُ بمقتضى نزول الوَحْي يجري مجرى عملِ البصيرِ، ثم قال تعالى: {أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} . والمراج منه التنبيه على أنه يجب على العَاقِلِ أن يعرف الفَرْقَ بين هذيْنش البَابَيْنِ، وألاَّ يكون غَافِلاً عن معرفة الله. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 لما وصفَ الرسل بكونهم مُبَشِّرينَ ومُنْذرينَ أمَرَ الرَّسُولَ في هذه الآية بالإنْذَارِ، فقال: «وأنْذِرْ» أي: خوِّفْ به، أي: بالقرآن، قاله ابن عبَّاسٍ، والزَّجاج لقوله تعالى قبل هذه الآية: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} [الأنعام: 50] . وقال الضَّحَّاكُ: «وأنذِرُ به» أي: بالله وقوله: «لاذين يَخَافُونَ أن يُحْشرُوا» أي: يُبْعَثُوا، فقيل: المرادُ بهم الكافرون الذين تقدَّم ذكرُهُمْ؛ لأنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان يُخَوِّفُهُمْ من عذاب الآخرة، وكان بعضهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 158 يَتَأثَّرُ من ذلك التخويف، ويقول: رُبَّمَا كان الذي يقوله مُحمَّدٌ حَقَّاً، ولا يجوز حَمْلُهُ على المؤمنين، لأن المؤمنين يَعْلَمُونَ أنهم يُحْشَرُونَ إلى ربهم، والعلم خلاف الخوْفِ والظن. ولقائل أن يقول: إنه لا يمتنع أن يدخل فيه المؤمنون؛ لأنهم وإن «تيقَّنُوا] الحَشْرَ فلم يَتضيَقَّنُوا العذاب الذي يخاف منه لتجويزهم ألاّ يموت أحدهم على الإيمان، وتجويز ألاَّ يموتوا على هذه الحالةِ، فلهذا السَّبَبِ كانوا خائفين من الحَشْرِ بسبب أنهم كانوا مجوزين لحصول العذاب وخائفين منه. وقيل: المُرَادُ بهم المُؤمِنُون؛ لأنهم المُقِرُّونَ، بِصِحَّةِ الحشر والنَّشْرِ والقيامة والبعث، فهم الذين يَخَافُونَ من عذاب ذلك اليوم. وقيل: إنه يَتَنَاوَلُ الكُلَّ؛ لأنه عَاقِلَ إلاَّ وهو يَخَافُ الحَشْرَ، سواء قَطَعَ بحصوله أو شَكَّ فيه، ولأنه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ كان مَبْعُوثاً إلى الكُلِّ، وإنَّما خَصَّ الذين يخافون الحَشْرَ، لأن انْتِفَاعَهُمْ بذلك الإنْذَارِ أكْمَلُ؛ لأن خوفهم يحملهم على إعْدَادِ الزَّادِ ليوم المَعَادِ. قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيع} العامل فيه» يخافون «وها هُنَا بَحْثٌ، وذلك أنه إذا كان المراد من الذين يَخَافُون أن يحشروا إلى ربهم الكُفَّار، فالكلام ظاهر لأنه ليس بهم عند الله شُفَعَاءُ، وذلك لأن اليهود والنصارى كانوا يقولون: {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] فكذَّبهم اللَّهُ فيه. وقال في آية أخرى {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ} [غافر: 18] ، وقال {فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} [المدثر: 48] . وإن كان المراد المسلمين، فنقول: قوله: {لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} [لا] ينافي مذهب أهل السُّنَّةِ في إثبات الشَّفاعَةِ للمؤمنين، فنقول: لأن شفاعة الملاكة والرسل للمؤمنين إنما تكون بإذن الله - تعالى - لقوله: {مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] فلما كانت تلك الشَّفاعةُ بإذن الله كانت في الحقيقة من اللَّهِ. قوله: {لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} . قال ابنُ عبَّاسٍ: وأنذرهم لكي يَخَافُوا في الدنيا، وينتهوا عن الكفر والمعاصي. قالت المعتزلة: وهذا يَدُلُّ على أنه - تعالى - أراد من الكُفَّار التَّقْوَى والطاعة، وقد سَبَقَ الكلامُ على مِثْلِ هذا النوع مِرَاراً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 159 قال سلمان، وخباب بن الأرت: فينا نزلت هذه الآية. «جاء الأقْرَعُ بْنُ حِابِسٍ التَّمِيمِيُّ، وعُيَنْنَهُ بْنُ حِصْنٍ الفَرَارِيّ، وذووهم من المؤلَّفَةِ قُلوبُهُمْ فوجدوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قاعداً مع بلال، وصُهَيبن وعمَّار، وخبَّاب في ناسٍ من ضُعفاءِ المؤمنين، فلما رأوهم حوله حقروهم، فأتوه فقالوا: يا رسول الله لو جلست في صَدْرِ المسجد، ونَفَيْتَ عَنَّا هؤلاء وأرْوَاح جبَابِهِمْ، وكان عليهم جِبَابُ صُوفٍ ولم يكن عليهم غيرها، لجَالسْنَاكَ وأخذنا عَنْكَ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ما أنا بِطَاردٍ المؤمنين، قالوا: فإنَّا نُحِبُّ أن تَجْعَلَ لنا منك مَجْلِساً تعرفُ به العربُ فَضْلَنَا، فإن وُفُودَ العرب تَأتِيكَ، فَنَسْتَحْيِي أن تَرَانا العربُ مع هؤلاء الأعْبُدِ، فإذا نحنُ جئنا فأبْعدهم عَنَّا، فإذا نحنُ فَرَعْنَا فاقْعُدْ مَعَهُمْ إن شئت، فقال» نعم «طَمَعاً في إيمانهم. قال: ثم قالوا: اكْتُبْ لنا عليْك بذلك كتاباً. قال: فَدَعا بالصَّحِيفَةِ، ودعا عليَّا لِيَكْتُب، قال: ونحن قعود في ناحيةٍ، إذ نزل جبريل عليه السلام بقوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم} إلى قوله:» بِالشَّاكرين «فألقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الصحيفة من يَدِهِ، ثم دعانا فأتيناه وهو يقول» سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كتبَ ربُّكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ «وكنَّا نقعدُ معه حتى تَمَسَّ رُكْبَتُنَا رُكْبَتَهُ، فإذا أراد أن يقوم قام وتركنا، فأنزل الله تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الكهف: 28] فترك القيام عَنَّا إلى أ، نقول عنه وقال:» الحَمْدُ للَّهِ الذي أمَرَنِي أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَ قومٍ من أمَّتِي معكُم المَحْيَا ومَعَكُم المَمَاتُ «. فصل في بيان شبة الطاعنين في العصمة احْتَجَّ الطَّاعنون في عِصْمَةِ الأنبياء بهذه الآية من وجوه: أحدها: أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - طَرَدَهُمْ، والله - تعالى - نَهَاهُ عن ذلك، فكان ذَنْباً. وثانيها: أنه - تعالى - قال {فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين} وقد ثبت أنه طَرَدهُمْ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 160 وثالثها: أنَّهُ - تعالى - حَكَى عن نُوح أنه قال: {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين} [الشعراء: 114] ثم إنه تعالى - أمر مُحَمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بمُتَابَعَةِ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - في جميع الأعمال الحَسَنَةِ بقوله: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] فوجب على محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ألاَّ يَطْرُدهُمْ [فلما طردهم] كان ذلك ذَنْباً. ورابعها: أنه قال: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} [الكهف: 28] وقال: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا} [طه: 131] . فنهاه عن الالْتِفَاتِ إلى زينةِ الحياة الدُّنيا، فكان ذَنْباً. وخامسها: أن أولئك الفُقَراء كانوا كُلَّمَا دخلوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد هه الواقعة يقول: «مَرْحَباً بِمَنْ عاتَبَني رَبّي فِيهِمْ» أو لَفْظاً هذا معناه، وذلك أيضاً يدلُّ على الذَّنْبِ. فالجوابُ عن الأول: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما طَرَدَهُمْ لأجْلِ الاسْتَخْفافِ بهم والاسْتِنْكافِ من فَقرهِمْ، وإنَّما عَيَّنَ لجلوسهم وَقْتاً مُعَيَّناً سوى الوَقْتِ الذي كان يَحْضُرُ فيه أكَابِرُ قريش، وكان غرضه التَّلَطُّفَ بهم في إدْخَالِهِمْ في الإسلام، ولعله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يقول: هؤلاء الفقراء من المسلمين لا يقوتهم [بسبب هذه] المُعَامَلةِ شيء من أمْرِهمْ في الدُّنيا وفي الدِّين، وهؤلاء الكفار فإنه يَفُوتُهُمُ الدِّينُ والإسلام، فكان ترجيح هذا الجانب أوْلَى، فأقْصَى ما يقال: إن هذا الاجتهاد وقع خطأ، إلاَّ أن الخَطَأ في الاجتهاد مَغْفُورٌ. وأما قولهم: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - طَرَدَهُمْ، فيلزم كونه من الضالمين؟ فالجواب: أن الظلم عبارةٌ عن وضْعِ الشيء في غَيْرِ موضعه، والمعنى أن أولءك الفُقَراء كانوا يَسْتَحِقُّونَ التعظيم من الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فلمَّا طَرَدهُمْ عن ذلك المجلس، فكان ذلك ظُلْماً، إلاِّ أنَّهُ من باب تَرْك الأوْلَى أو الأفضل، لا من باب ترك الواجبات، وكذلك الجوابُ عن سائر الوجوه، فإنَّا نَحْمِلُ كلَّ هذه الوجوه على تَرْكِ الأفضل والأكمل والأوْلَىن واللَّهُ أعلم. قوله: «بالغَدَاةِ» : قرأ الجمهور «بالغَدَاةِ» هنا وفي «الكهف» وابن عامر «بالغُدْوَةِ» بضم الغين وسكون الدال، وفتح الواو في الموضعين، وهي قراءة أبي عبد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 161 الرحمن السّلمي، والحسن البَصْري، ومالِكِ بْنِ ديناَرٍ، وأبي رَجَاءٍ العطارِدِيّ، ونصر بن عاصم الليْثي، والأشهر في «الغُدْوة» أنها مُعَرَّفة بالعَلَمِيَّةِ، وهي عَلَمِيَّة الجنس ك «أسامة» في الأشخاص، ولذلك مُنِعَتْ من الصَّرفِ. وقال الفراء: «سمعت أبا الجَرَّاحِ يقول: ما رأيت [كغدوة] قط، يريد غَدَاة يومه» . قال: «ألا ترى أن العرب لا تُضِيفُهَا، فكذا لا يدخلها الألف واللام، إنما يقولون: جئتك غداوة الخميس» . وقال الفرَّاء في كتاب «المعاني» في «سورة الكهف» : قرأ أبو عبد الرحمن السّلَمِيُّ: «بالغُدْوَةِ والعَشِيّ» ولا أعلم أحَداً قرأ بها غيره، والعربُ تُدْخِلُ الألف واللام في «الغدوة» ؛ لأنها معرفة بغير ألف ولام «فذكره إلى آخره. وقد طعن أبو عُبَيْدٍ القَاسِمُ بنُ سُلاَّمٍ على هذه القراءة، فقال:» إنما نرى ابن عامرٍ، والسلمي قرءا تلك القراءة اتّباعاً للخَطِّ، وليس في إثبات «الواوط في الكتاب دليلٌ على القراءة بها؛ لأنهم كتبوا» الصَّلاة «و» الزكاة «بالواو، ولفظهما على تركها، وكذلك» الغدوة «على هذا وجدنا العرب» . وقال الفارِسِيُّ: الوَجْهُ قراءة العامة «بالغَدَاةِ» ؛ لأنها تستعمل نكرةً ومعرفةً باللام، فأمَّا «غُدْوة» فمعرفةٌ، وهو علمٌ وُضَعَ للتعريف، وإذا كان كذلك، فلا ينبغي أن تدخل عليه الألف واللام للتعريف، كما لا تَدْخُلُ على سَائِرِ الأعْلام، وإن كانت قد كُتِبَتْ بالواو؛ لأنها تَدُلُّ على ذلكَ، ألا ترى «الصلاة» و «الزكاة» بالواو، ولا تُقرآن بها، فكذلك «الغَدَاة» . قال سيبويه: «غُدْوة وبُكْرة جُعِلَ كُلُّ واحد منهما اسْماً لِلْحِين، كما جعلوا:» أمّ حُبَيْن «اسماً لدَابَّةِ معروفة» إلاَّ أنَّ هذا الطَّعْنَ لا يُلْتَفَتُ إليهن وكيف يُطَنُّ بِمَنْ تقدَّم أنهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 162 يَلْحنون، والحَسَنُ البَصْرِيُّ ممن يُسْتَشْهَدُ بكلامه فَضْلاً عن قراءتِهِ، ونَصْرُ بْنُ عَاصِم شَيْخُ النحاة، أخذَ هذا العلم عن أبي الأسْوَدِ يَنْبُوعِ الصناعِةِ، وابن عامر لا يعرف اللَّحْنَ؛ لأنه عربي، وقرأ على عثمان بن عفان وغيره من الصحابة، ولكن أبا عُبَيْدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يعرف أن تنكير «غُدْوَة» لغة ثانية عن العَرَبِ حَكَاهَا سيبويه والخليل. قال سيبويه: زعم أنه يَجُوزُ أن تقول: «أتَيْتُكَ اليوم غُدْوَةً وبُكْرَة» فجعلها مثل «ضَحْوَة» . قال المهدوي: «حكى سيبويه والخليل أنَّ بعضهم يُنَكِّر فيقول:» غُدْوةً «بالتنوين، وبذلك قرأهُ ابن عامر، كأنه جعله نكرة، فأدخل عليها الألفَ واللام» . وقال أبو علي الفارسي: «وجْهُ دخول الألف واللام عليها أنه يجوز وإن كانت مَعْرِفَةً أن تُنَكَّرَ، كما حكى أبو زَيْدٍ» لقيته فَيْنَةً «غير مَصْرُوفَة» والفَيْنَةُ بَعْدَ الفَيْنَةِ «أي: الحين بعد الحين، فألحق» لام «التعريف ما استعمل معرفة، ووجه ذلك أنه يُقَدَّرُ فيه التنكير والشيوع، كما يُقَدَّرُ فيه ذلك إذا ثَنَى» . وقال أبو جَعْفَرِ النحاس: قرأ أبو عبد الرحمن، ومالك بن دينار، وابن عامر: «بالغُدْوَةِ» قال: «وباب غُدْوَة أن يكون معرفة إلاَّ أنَّهُ يجوز تنكيرها كما تُنَكَّرُ الأسماء الأعلام، فإذا نُكَّرَتْ دخلتا الألف واللام للتعريف» . وقال مَكّي بن أبي طالبٍ «إنما دخلت الألف واللام على» غَدَاة «لأنها نكرة، وأكثر العرب يجعل» غُدْوَة «معرفة فلا يُنَوِّنها، وكلهم يجعل» غَدَاة «نَكِرَةٌ فينوِّنها، ومنهم من يجعل» غُدْوَة «نكرة وهم الأقَلّ» فثبت بهذه النُّقُولِ التي ذكرْتُهَا عن هؤلاء الأئمةِ أن قراءة ابن عامر سَالِمَةٌ من طَعْنِ أبي عُبَيْدٍ، وكأنه - رَحِمَهُ اللَّهُ - لم يحفظها لغة. وأما «العَشيُّ» فنكرةٌ، وكذلك «عَشِيَّة» . وهل العَشِيُّ مرادِف ل «عشية» أي: إن هذا اللفظ فيه لغتان: التذكير والتأنيث، أو أن «عَشِيّاً» جَمْعُ «عَشِيَّة» في المعنى على حدِّ «قَمْح» و «قَمْحَة» ، و «شعير» و «شعيرة» ، فيكون اسم جِنْسٍ، خلاف مشهور، والظاهر الأوَّل لقوله تعالى: {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات الجياد} [ص: 31] إذ المرادُ هنا عِشِيَّة واحدة، واتفقت مصاحفُ الأمْصَارِ على رَسْمِ هذه اللفظة «الغدوة» بالواو وقد تقدَّمَ أن قراءة ابن عامرٍ ليست مُسْتَندَةً إلى مجرد الرسم، بل إلى النَّقْلِ، وثَمَّ [ألْفَاظٌ اتُّفِقَ] أيضاً على رَسْمِهَا بالواو، واتُّفِقَ على قراءتها بالألف، وهي: «الصَّلاة، والزكاة، ومناة، ومِشْكَاة، [والربا،] والنجارة والحياة» ، وحرفٌ اتُّفِقَ على رسمه بالواو، واختلف في قراءته بالألف والواو، وهو «الغَدَاة» وأصْلُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 163 غَدَاة: غَدَوَة، تحركت الواو، وانفتح ما قبلها، فقُلِبَتْ ألفاً. وقرأ ابن أبي عَبْلَةَ: «بالغدوات والعَشِيَّات» ، جمع «غَدَاة» و «عشية» وروي عن أبي عبد الرحمن أيضاً «بالغُدُوِّ» بتشديد الواو من غير هاءٍ. فصل في المراد بالآية قال ابن عبَّاسٍ [معنى الآية] يَعْبُدُون ربَّهُمْ بالغَدَاوةِ والعَشِيّ يعني صلاة الصبح، وصلاة العصر، وهو قول الحَسَنِ ومجاهد. وروي عنه أن المراد الصلوات الخَمْس، وذلك أن نَاساً من الفقراء كانوا يُصَلُّونَ مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال ناسٌ من الأشراف: «إذا صَلَّيْنَا فأخِّر فَلْيُصَلُّوا خَلْفنَا» فنزلت هذه الآية. وقال مُجَاهِدٌ: صليت الصبح مع سَعيدِ بْنِ المُسَيَّبِ، فلما سلم الإمام ابْتَدَرَ النَّاسُ القاص، فقال سعيد: ما أسرع الناس إلى هذا المَجْلِسِ، فقال مجاهد: فقلت: يَتَأوَّلُونَ قوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي} فقال: أفي هذا هو؟ إنما ذلك في الصَّلاةِ التي انصرفنا عنها الآن. وقال إبراهيم النخعي: يعني: يذكرون رَبَّهُمْ. وقيل: المُرَادُ حقيقة الدعاء. قوله: «يُرِيدُونَ» هذه الجملة في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال من فاعل «يَدْعُونَ» أو من مفعوله، والأوَّل هو الصحيح، وفي الكلام حَذْفٌ، أي: يريدون بدعائهم في هَذَيْنِ الوقتين وجهه. فصل في الرد على شبهة المجسمة تمسكت المُجَسِّمَةُ في إثبات الأعْضَاء للَّه - تعالى - بهذه الآية، وسائر الآيات الجزء: 8 ¦ الصفحة: 164 المُنَاسِبَة، كقوله تعالى: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27] والجوابُ: أن قوله تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] يقتضي الوحْدَانيَّة التَّامَّة، وذلك يُنَافِي التركيب من الأعضاء والأجزاء، فثبت أنَّهُ لا بُدَّ من التَّأويل، وهو من وجهين: أحدهما: قوله: {يُريدُون وَجْهَهُ} ، أي: يريدونه إلاَّ أنهم يذكرون [لفظ الوجه للتعظيم كما يقال: هذا وجه الرأي، وهذا وجه الدليل الثاني:] أنَّ من أحَبَّ ذاتاً أحب أن يرى وَجْهَهُ، فرؤة الوَجْه من لوازم المحبَّةِ، فلهذا السَّبَبِ جعل الوجه كِنَايةً عن المَحَبَّةِ، وطلب الرضى. والثاني: أن المراد بالوجه القَصْدُ والنِّيَّةُ؛ كقول الشاعر: [البسيط] 2179 - أسْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لِسْتُ أحْصِيّهُ ... رَبَّ العِبَاد إلَيْهِ الوَجْهُ والعَمَلُ وقد تقدَّم بيانُهُ عند قوله: {وَللَّهِ المشرق والمغرب} [البقرة: 115] قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء} «ماط هذه يجوز أن تكون الحِجَازيَّةَ النَّاصبة للخبر، فيكون» عليك «في مَحَلِّ النصب على أنه خبرها، عند مَنْ يُجَوِّز إعْمَالَهَا في الخبر المُقدَّمِ إذا كان ظَرْفاً أو حرف جَرِّ، وأمَّا إذا كانت تَمِيميَّةً، أو متعيَّناً إهمالُهَا في الخبر المقدِّمِ مُطْلَقاً كان» عليك «في مَحَلِّ رفع خبراً مُقدَّماً، والمبتدأ هو» مِنْ شَيءٍ «زيدت فيه» مِنْ «. وقوله: «مِنْ حِسَابِهِمْ» قالوا: «مِنْ» تَبْعِيضيَّةٌ، وهي في محل نَصْبٍ على الحال، وصاحبُ الحالِ هُو «مِنْ شيء» ؛ لأنها لو تأخرت عنه لكانت صِفَةً له، وصفة النكرة متى قُدِّمَتْ انْتَصَبَتْ على الحالِ، فعلى هذا تتعلَّقُ بمحذوف، والعاملُ في الحال الاسْتِقْرَارُ في «عليك» ، ويجوز أن يكون «مِنْ شَيْءٍ» في مَحَلِّ رفع بالفاعلية، ورافعه «عليك» لاعتماده على النفي، و «مِن حِسَابِهِمْ» حالٌ أيضاً من «شيء» العاملُ فيها الاستقرار والتقديرُ: ما اسْتَقَرَّ عليك شَيءٌ من حسابهم. وأُجيز أن يكون «مِنْ حِسَابِهِمْ» هو الخَبَر: إمَّا ل «ما» ، وإمَّا للمبتدأ، و «عليك» حالٌ من «شيء» ، والعَامِلُ فيها الاسْتِقَرارُ، وعلى هذا فيجوز أن يكون «من حِسَابِهِمْ» هو الرفاع للفاعل على ذاك الوَجْهِ، و «عليك حالٌ أيضاً كما تقدَّمَ تقريره، وكون» مِنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 165 حِسَابِهِمْ «هو الخبر، و» عليكط هو الحَلُ غير واضح؛ لأن مَحَطَّ الفائدة إنما هو «عَليْكَ» . قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء} كالذي قبله، إلاَّ أنَّ هنا يَمْتَنَعُ بَعْضُ ما كان جَائِزاً هناك، وذلك أن قوله: «مِنْ حِسَابِكَ» لا يجوز أن يَنْتَصِبَ على الحال؛ لأنه يلزم تَقّدُّمُهُ على عامله المعنوي، وهو ممتنعٌ، أو ضعيف لا سيَّمَا وقدْ تقدَّمتْ هنا على العامل فيها، وعلى صاحبها، وقد تقدَّم أنَّ الحالَ إذا كانت ظَرْفاً أو حرف جرِّ كان تقديمها على العامل [المعنوي] أحْسَنُ منه إذا لم يكن كذلك، فحينئذٍ لك أن تجعل قوله: «من حِسابِكَ» بياناً وقد تقدَّم خطابه - عليهالصَّلاة والسلام - في الجملتين تَشْريفاً له، ولو جاءت الجملة الثَّانية على نَمَطِ الأولى لكان التركيب «وما عليهم من حِسَابِكَ من شيء» فتقدَّمَ المجرور ب «على» كما قدَّمه في الأولَى، لكنه عَدَلَ عن ذلك لما تقدَّمَ. وفي هاتين الجمتلين ما يسميه أهل البَديعِ: رَدَّ الأعْجَاز على الصدور، كقولهم: «عَادَات السَّادَات سادات العادات» ومثله في المعنى قول الشاعر: [الطويل] 2180 - وَلَيْسَ الَّذِي حَلِّلْتَهُ بِمُحَلَّلٍ ... وَلَيْسَ الَّذي حَرَّمْتَهُ بِمُحَرَّمِ وقال الزمخشري - بعد كلام قدَّمَهُ في معنى التفسير -: فإن قلت: أما كفى قوله: «ما عليك من حسابِهِمْ من شيء» حتى ضَمَّ إليه: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء} ؟ قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلةِ جُمْلةٍ واحدةٍ، وقصد بها مُؤدَّى واحد، وهو المعنى بقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 146] . ولا يستقل بهذا المعنى إلاَّ الجملتان جميعاً، كأنه قيل: «لاتُؤاخَدُ أنت ولا هُمْ بحسابِ صاحبه» قال أبو حيَّانك «لا تُؤاخَذُ أنْتَ ... ... . إلى آخره تركيبٌ غير عربي، لا يجوز عَوْدُ الضير هنا غائباً ولا مُخَاطباً، لأنه إنْ [عاد] عائباً فلم يتقدَّم له اسْمٌ مفرد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 166 غائب يعود عليه، إنما تقدَّم قوله:» هم «ولا يمكن العَوْد عليه على اعْتِقَادِ الاستغناء بالمفرد عن الجمع، لأنه يصير التَّركيب بحساب صاحبهم، وإن أُعيد مُخَاطباً، فلم يتقدَّمْ مخاطب يعود عليه، إنما تقدَّم قوله:» لا تُؤاخَذُ أنْتَ «ولا يمكن العَودُ إليه، فإنه ضمير [مخاطب] ، فلا يعود عليه غَائِباً ولو أبْرَزْتَهُ مخاطباً لم يَصِحَّ التركيب أيضاً، فإصْلاحُ التركيب أن يقال:» لا يُؤاخَذُ كُلُّ واحدٍ منك، ولا منهم بحساب صاحبه، أو لا تُؤاخذ أنت بحسابهم، ولا هم بحسابك، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم «، فُتَغَلَّب الخِطَابَ على الغَيْبَةِ، كما تقول: أنت وزيد تَضْربَان» . قال شهابُ الدين: والذي يظهر أن كلام الزمخشري صَحِيحٌ ولكن فيه حذفٌ، وتقديره: لا يُؤاخذ كل واحد: أنت ولا هم بِحِسَابِ صاحبه، وتكون «أنت ولا هُمْ» بَدَلاً من «كل واحد» ، والضمير في صاحبه عائدٌ على [قوله:] «كل واحدٍ» ، ثم إنه وقع [في] محذور آخر مما أصْلَحَ به كلام الزمخشري، وذلك أنه قال: ولا تُؤاخذ أنت وَلاَ هُمْ بحسابكم، وهذا التركيب يحتمل أن يكون المرادن بل الظَّاهِرُ نَفْيُ المُؤاخَذَةِ بحساب كُلِّ واحدٍ بالنسبة إلى نفسه هو، لا أن كُلّ واحدٍ غير مُؤاخذ بحساب غيره، والمعنى الثَّاني هُوَ المقصود. والضمائر الثلاثة، أعني التي في قوله: «مِنْ حِسَابِهِمْ» و «عليهم» و «فتطردهم» أيضاً عَوْدُهَا على نوع واحد، وهم الذين يدعون ربَّهم، وبه قال الطبري إلاَّ أنَّهُ فَسَّرَ الحِسابَ بالرِّزْقِ الدُّنْيوي. وقال الزمخشري، وابن عطية: «إنَّ الضَّمِيريْنَ الأوَّلَيْن يعودان على المشركين، والثالث يعود على الداعين» . قال أبو حيَّان: «وقيل: الضمير في» حسابهم «، و» عليهم «عائد على [المشركين] [وتكون الجملتان اعْتِرَاضاَ بين النَّهْي وجوابه» ، وظاهر عبارته أن الجملتين لا تكونان اعْتِرَاضاً على اعتقادر كون الضميرين في «حِسَابِهِمْ» ، و «عليهم» عائدين على المشركين] . وليس الأمر كذلك، بل هما اعْتَرَاضٌ بين النَّهْيِ، وهو «ولا تَطْرُدْ» وبين جوابه وهو «فتكون» ، وإن كانت الضمائر كلها للمؤمنين. ويّدُلُّ على ذلك أنه قال بَعْدَ ذلك في «فتكون» : وجوِّز أن تكون جواباً للنهي في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 167 قوله: «ولا تطرد» ، وتكون الجملاتن، وجوابُ الأول اعْتِرَاضاً بين النَّهْي وجوابه، فحعلهما اعراضاً مُطْلَقاً من غير نَظَرٍ إلى الضميرين، ويعني بالجملتين «ما عليك من حِسَابِهِمْ من شيء» و «من حسابك عليم من شيء» وبجواب الأول قوله: «فتطردهم» . قوله: «فتطردهم» فيه وجهان: أحدهما: مَنْصُوبٌ على جواب [النفي] بأحد معنيين فقط، وهو انْتِفَاءُ الطَّرْدِ لانْتِفَاءِ كون حسابهم عليه وحسابه عليهم؛ لأنه يَنْتَفِي المُسَبَّبُ بانفاء سَببِهِ، ولنوضح ذلك في مثال وهو: «ما تَأتِينَا فَنُحَدَّثَنَا» بنصب «فتحدِّثنا» وهو يحتمل معنيين: أحدهما: انتفاء الإتْيَان، وانتفاء الحديث، كأنه قيل [ما يكون منك إتيان، فكيف يقعُ منك حديث؟ وهذا المعنى هو المقصود بالآية الكريمة، أي: ما يكون مُؤاخذة كل واحد بحساب صاحبه، فكيف يقع طرد؟ والمعنى الثاني: انفاء الحديث، وثبوت الإتيان] . كأنه قيل: ما تأتينا مُحَدَّثاً، بل تأتينا غير مُحَدَّثٍ، وهذا المعنى لا يليق الآية الكريمة، والعُلماءُ - رحمهم اله - وإن أطلقوا قولهم: إن منصوبٌ على جواب النفي، فإنَّما يريدون المعنى الأول دون الثاني، والثَّاني أن يكون منصوباً على جواب النهي قوله: «فتكون» ففي نصبه وجهان: أظهرهما: أنه منصوب عَطْفاً على «فتطردهم» ، والمعنى: الإخْبارُ انْتِفَاءِ حسابهم، والطَّرْد والظلم المُسَبَّب عن الطرد. قال الزمخشري: ويجوز أن تكون عَطْفاً على «فتطردهم» على وجه السبب؛ لأن كونه ظالِماً مُسَبَّبٌ عن طَرْدِهِمْ. والثاني من وَجْهَي النصب: أنه منصوبٌ على جواب النهي في قوله: «ولا تطرد» . ولم يذكر مكي، ولا الواحدي، ولا أبو البقاء غيره. قال أبو حيَّان: «أن يكون» فتكون «جواباً للنيه في قوله:» ولا تطرد «كقوله: {لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِباً فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} [طه: 61] ، وتكون الجملتان وجوابُ الأوَّل اعتراضاَ بين النهي وجوابه» . قال شهاب الدين: قد تقدَّم أن كونهما اعْتِرَاضاً لا يتوقَّفُ على عَوْدِ الضمير في قوله: «مِنْ حِسَابِهِمْ» و «عليْهِمْ» على المشركين كما هو المفهوم من قوله ها هنا، وإن كان كلامه قبل ذلك كما حكيما عَنْهُ يُشْعِرُ بذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 168 فصل في شبهة للكفار ذكروا في قوله: «ما عَلَيْكَ من حِسَابِهِمْ من شيء» قولين: الأول: أن الكُفَّار طعنُوا في إيمان أولئك الفُقَرَاء، وقالوا: يا محمد إنهم [إنما] اجتمعوا عندك، وقبلوا دينك؛ لأنهم يجدون بهذا الأمْرُ على ما يقول هؤلاء، فما يلزمك إلاَّ اعْتِبارُ الظَّاهر، وإن كان بَاطِنُهَمْ غير مُرْضٍِ عند اللَّهِ، فحسابهم عليه لا زمٌ لهم لا يتعدَّى إليك، كما أنَّ حسابك عليك لا يتعدّى إليهم، كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164] . الثاني: المعنى: ما عليك من حِسابِ رِزْقِهِمْ من شيء فتملّهم وتطردهم، فتكون من الظالمين لهم لأنهم لمَّا اسْتَوْجَبُوا مزيد التقريب كان طَرْدُهُمْ طُلْماً لهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 «الكاف» في مَحَلِّ نَصبٍ على أنها نَعْتٌ لمصدر محذوف، والتقدير: ومثل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 169 ذلك الفُتُون المتقدم الذي فُهِمَ من سياق أخبار الأمم الماضية فتنَّا بعضَ هذه الأمَّةِ ببعْض، فالإشَارَةُ بذلك إلى الفُتُونِ المَدْلُولِ عليه بقوله: «فَتَنَّا» ، ولذلك قال الزمخشري: ومثل ذلك الفتن العظيم فتن بعض الناسِ ببعضٍ فجعل الإشارة لِمصدَرِ فَتَنَّا. وانظر كيف لم يَتَلَّفَظْ هو بإسناد الفِتْنَةِ إلى اللَّهِ - تعالى - في كلامِهِ، وإن ان البارئ - تعالى قد أسْنَدَها، بل قال: فتن بعض الناس فَبَناهُ للمفعُول على قَاعِدةِ المعتزلة. وجعل ابن عطية الإشارة إلى طلب الطَّرْدِ، فإن قال بعد كلام يتعلٌّق بالتفسير: «والإشارة بذلك إلى ما ذُكِرَ من طلبهِمْ أن يطرد الضَّعفَةَ» . قال أبُو حيَّان: ولا ينتظم هذا التَّشْبيه؛ إذ يصير التقدير: مثل طلب الطرد فَتَنَّا بعضهم ببعض والمَتَبَادَرُ إلى الذَّهْنِ من قولك: «ضربتُ مثل ذلك» المُمَاثَلَةُ في الضرب، أي: مثل ذلك الضرب لا أن تَقَعَ المُمَاثَلَةُ في غير الضَّربِ، وقد تقدَّم مِرَاراً أن سيبويه يجعل مثل ذلك حالاً من ضير المَصْدَرِ المقدر. قوله: «لِيَقُولُوا» في هذه «اللام» وجهان: أظهرهما: - وعليه أكثر المعربين والمُفسِّرين - أنها لام «كي» ، والتقدير: ومثل ذلك الفُتُون فَتَنَّا ليقولوا هذه المقالة ابْتِلاءً مَنَّا وامْتِحَاناً. والثاني: أنها «لام» الصَّيْرُورَةِ أي: العاقبة كقوله: [الوافر] 2181 - لِدثوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرَابِ ..... ... ... ... ... . . {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً} [القصص: 8] ، ويكون قولهم «أهُؤلاء» إلى آخره صادراً على سبيل الاسْتِخْفَافِ. قوله: «أهَؤلاءِ» يجوز فيه وجهان: أظهرهما: أنه منصوب المَحَلِّ على الاشْتَغَالِ بفعلٍ مَحْذُوفٍ يُفَسِّرُهُ الفعل الظاهر، العاملُ في ضميره بِوَساطَةِ «على» ، ويكون المفسِّر من حيث المعنى لا من حيث اللفظ، والتقدير: أفَضَّلَ الله هؤلاء مَنَّ عليهم، أو اختار هؤلاء مَنَّ عليهم، ولا مَحَلِّ لقوله: «مَنَّ اللَّهُ عليهم» لكونها مُفَسّرة، وإنِّما رجَّح هنا إضمار الفعل؛ لأنه وقع بد أداةِ يغلبُ إيلاءُ الفعلِ لها. والثاني: أنه مرفوع المَحَلّ على أنه مبتدأ، والخبر: مَنَّ اللَّهُ عليهم، وهذا وإن كان سَالِماً من الإضْمَارِ الموجود في الوجه الذي قبله، إلاَّ أنه مَرْجوحٌ لما تقدَّم، و «عليهم» مُتعلِّقٌ ب «مَنَّ» . و «من بَيْنِنَا» يجوز أن يتعلَّق به أيضاً. قال أبو البقاء: «أي مَيَّزَهُمْ عَلَيْنَا، ويجوز أن يكون حالاً» . قال أبو البقاء أيضاً: مَنَّ عليهم منفردين، وهذان التفسيران تفسيرا مَعْنِى لا تفسيراً إعراب، إلاَّ أنه لم يَسُقْهُمَا إلاَّ تَفْسِيرَيْ إعراب. والجملة من قول: «أهؤلاءِ مَنَّ اللِّهُ» الفرقُ بين الباءين أن الأولى لا تعلُّق لها لكونها زَائِدة في خبر «ليس» ، والثانية متعلّقة ب «أعلم» وتعدِّي العمل بها لِمَا ضُمِّن من معنى الإحاطَةِ، وكثيراً ما يقع ذلك في عبارة العلماء، فيقولون: علم بكذا والعلم بكذا لما تقدَّم. فصل في تحرير معنى الفتنة في الآية معنى هذه الفِتْنَةِ أن كُلَّ واحد من الفريقين مُبْتَلًى بصاحبه، فرُؤسَاءُ الكُفَّارِ الأغنياء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 170 كانوا يَحْسُدُونَ فُقْرَاءَ الصحابة على كونهم سابقين للإسلام مُسَارعينَ إلى قَبُولِهِ، فقالوا: ولو دخلنا في الإسلام لوجب عَلَيْنَا أن نَتْقَادَ لهؤلاء الفقراء المساكين، وأن نعترف لهم بالتَّبَعِيَّةِ، فكأن ذلك يَشُقُّ عليهم، ونظيره: {أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا} [ص: 8] ، {لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ} [الأحقاف: 11] . وأمَّا فُقراءُ الصحابة فكانوا يَرَوْنَ أولئك الكُفَّارَ في الرَّاحَاتِ والمَسَّراتِ والطَّيبات والخسب والسَّعَةِ، فكانوا يقولون: فكيف حَصَلَتْ هذه الأحوال لهؤلاء الكُفَّار مع أنَّا بَقِينَا في [هذه] الشدّة والضِّيقِ، فقال تعالى: {وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُم} فأحد الفريقين يرى الآخر مقدماً [عليه] في المناصبِ الدينية، ويقولون: أهذا الذي فَضَّلَهُ الله علينا؟ وأمَّا المحققون فهم الذين يَعْلَمُونَ أن كُلَّ ما فعله اللَّهُ - تعالى - فهو حَقٌ وحكمةٌ وصوابٌ ولا اعتراض عليه، إمَّا بحكم الملكية كما هو قول أهل السًّنَّةِن وإمَّا بحسبِ المصلحة كما هو قول المعتزلة فكانوا صَابِرينَ في وقت البلاءِ، شاكرين في وقت الآلاءِ والنَّعْماءِ وهم الذين قال الله في حقِّهم: {ألَيْسَ اللَهُ بأعْلَمَ بالشَّاكرينَ} . فصل «روى أبُو سعيدٍ الخُدرِيُّ قال: جَلسَتُ في نَفَرٍ من ضُعَفَاءِ المهاجرين، وإن بعضهم لَيَسْتَتِرُ من بعضٍ من العُرْي، وقَارِئ يقرأُ عَلَيْنَا، إذ جاء رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فَقَامَ عَلَيْنا فلما قامَ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سكت القَارِئُ، فَسَلَّم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: ما كُنتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قلنا يا رسول الله: كان قارئ يقرأ وكُنَّا نَسْتَمِعُ إلى كتاب الله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: ما كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ؟ قلنا، يا رسول اله: كان قارئ يقرأ وكُنَّا نَسْتَمِعُ إلى كتاب الله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» الحَمْدُ لِلَّهِ الذي جَعَل مِنْ أمَّتِي مَنْ أمَرَنِي أنْ أصْبِرَ نَفْسِي مَعَهُمْ «، قال: ثُمَّ جلس وَسَطَنَا ليعدل بنفسه فينا، ثم قال بيده هكذا فَتَحلَّقُوا، وبرزت وُجُوهُهُمْ لهُ قال: فما رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَرفَ منهم أحداً غيري. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أبْشِرُوا يا مَعْشَرَ صَعَالِيك المُهاجِرينَ بالنُّور التَّام يَوْمَ القِيَامَةِ تَدْخُلُونَ الجنَّةَ قَبْلَ الأغْنِيَاء بنِصْفِ يَوْمٍ، وذلِكَ مِقْدارُ خِمْسِمائَةِ سَنَةٍ «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 171 فصل في بيان الدلالة من الآية احتجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على مِسْألةٍ خَلْقِ الأفعال من وجهين: الأول: أن قوله: {فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْض} تصريح بأنَّ إلقاء تلك الفِتْنَةِ نم اللَّهِ تعالى، والمُرَادُ من تلك الفِتْنَةِ ليس إلاَّ اعْتِرَاضُهُمْ على الله في أنْ جعل أولئك الفقراء رُؤسَاء في الدِّين، والاعْتِراضُ على الله كُفْرٌ، وذلك يَدُلُّ على أنَّه - تعالى - هو الخالقُ للكُفْرِ. والثاني: أنه - تعالى - حكى عنهم أنهم قالوا: «أهؤلاء منَّ اللَّهُ عليهم من بَيْنِنَا» أي: منَّ عليهم بالإيمان باللَّهِ، ومتابعة الرسول، وذلك يدُلُّ على أن هذا المَعْنَى إنما حَصَلَ من الله تعالى؛ لأنه لو كان الموجد للإيمان هو العبد فالله ما مَنَّ عليه بهذا الإيمانِ، بل العَبْدُ هو الذي منَّ على نَفْسِهِ بهذا الإيمان. أجاب الجبائي عنه بأن الفِتْنَةَ في التَّكْلِيفِ ما توجب التَّشديدَ وإنما فعلنا ذلك ليقولوا: أهؤلاء أي: ليقول بَعْطُهمْ لبَعْضِ اسْتِفْهَاماً لا إنْكَاراً [أهؤلاء] منَّ الله عليهم من بَيْننَا بالإيمان أجاب الكعبي عَنْهُ بأن قال: «وكذلك فَتَنَّا بعضهم ببعض ليصبروا أو ليشكروا، فكان عَاقِبَةُ أمرهم أن قالوا: اهؤلاء مَنَّ اللَّهُ عليهم من بَيْنِنَا» على مثاله قوله تعالى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] . والجواب عن الوجهين أنه عُدُولٌ عن الظاهر من غير دليل، والدليل العَقْلِيُّ قائم على صَحَّةِ هذا الظاهر؛ لأنه لمَّا كانت مُشاهَدةُ هذه الأحْوالِ تُوجِبُ الأنَفَةَ، والأنَفَةُ توجبُ العصيان والإصْرارَ على الكُفْرِ، وموجبُ الموجب مُوجبٌ، فكان الإلزامُ وَارِداً، واللَّهُ أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 «إذا» منصوب بجوابه، أي فقل، سلامٌ عليكم وَقْتَ مجيئهم أي: أوقع هذا القول كله في وقت مجيئهم إليك، وهذا معنى واضح. وقال أبو البقاءك «والعاملُ في» إذا «معنى الجواب، أي: إذا جاءوك سَلَّمْ عليهم» ولا حَاجَة تدعو إلى ذلك مع فوات قوة المعنى؛ لأن كونه يُبَلِّغُهُمُ السَّلام والإخبار بأنه كتب على نفسه الرَّحْمَةَ، وأنه من عَمِلَ سُوءاً بجَهَالَةٍ غفر له ما يقوم مقامه السَّلامُ فقط، وتقديره يفضي إلى ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 172 وقوله: «سلامٌ» مبتدأ، وجاء الابتداء به وإن كان نَكِرَةً؛ لأنه دُعَاؤٌ، والدُّعَاءُ من المُسَوِّغَاتِ. وقال أبو البقاء: «لما فيه من معنى الفِعْلِ» وهذا ليس من مذهب جمهور البصريين، وإنماهو شيء نُقِلَ عن الأخفش: أنه إذا كانت النكرة في معنى الفِعْل جاز الابتداء بها ورفعها الفاعل، وذلك نحو: «قائم أبواك» ونقل ابن مالك أن سيبويه أوْمَأ إلى جوازه، واستدلال الأخفش بقوله: [الطويل] 2182 - خَبِيرٌ بَنُو لِهْبٍ فَلا تَكُ مُلْغِياً ... مَقَالَةَ لِهْبِيَّ إذَا الطَّيْرُ مَرَّتِ ولا دليل فيهح لأنَّ «فعيلاً» يقع بلفظ واحدٍ للمفرد وغيره، ف «خيبر» خَبَرٌ مقدَّمٌ واسْتَدَلَّ له أيضاً بقول الآخر: [الوافر] 2183 - فَخَبِيْرٌ نَحْنُ عِنْدَ النَّاسِ مِنْكُمْ ... إذَا الدَّاعِي المُثَوَّبُ قَالَ: يَا لاَ ف «خير» مبتدأ، و «نحن» [فاعل] سَدَّ مَسَدَّ الخبر. قيل: لئلا يَلْزَمُ الفَصْلُ بين «أفعل» و «مِنْ» بأجنبي بخلاف جَعْلِه فاعلاً، فإن الفاعل كالخبر بخلاف المبتدأ. و «عليكم» خَبَرُهُ، و «سلامٌ عليكم» أبلغ من «سَلاَماً عليكم» بالنصب، وقد تقررَّ هذا في أوَّلِ «الفاتحة» عند قراءة «الحَمْدُ» و «الحَمْدَ» . وقوله: «كَتَبَ رَبُّكُم» في مَحَلِّ نصب بالقولِ، لأنه كالتفسير لقوله: «سلامٌ عليكم» . فصل في نزول الآية قال عكرمة: نزلت في الذين نَهَى اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن طردهم، وكان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 173 النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا رآهم بَدَأهُمْ بالسلام. وقال عطاء: نزلت في أبي بكرٍ، وعُمَرَ، وعُثمانَ، وعلي، وبلال، وسالم، وأبي عُبَيْدةَ، ومُصْعَبِ بن عُمَيْرٍ، وحَمْزَة، وجعفر، وعُثمانَ بْنِ مَظْعُون، وعمَّارِ بْنِ يَاسِر، والأرقم بن أبي الأرقم وأبي سَلَمَة بْنِ عَبْدِ الأسَدِ. قال ابن الخطيب: «وها هنا إشْكَالٌ، وهو أن النَّاسَ اتفقوا لع ىأن هذه السُّورة نزلت دفعةً واحدةً، وإذا كان كذلك، فكيف يمكن أن يُقَالَ في كُلِّ واحدٍ من آيات هَذِهِ السُّورة: إن سبب نزول هذه الآية الأمْرُ الفلاني بِعَيْنِهِ، بل الأقْرَبُ أن تُحْمَلَ هذه الآية على عمومها، فكل من آمن باللِّهِ دخل تحت هذا التشريف» . فصل فيما يطلق عليه لفظ «السلام» قال المبرِّد: السَّلامُ في اللغة على أربعة أشياء: فمنها سلمت سلاماً، وهو معنى الدعاء. ومنها أنه أسْمٌ من أسْمَاء اللَّهِ تعالى. ومنها الإسْلام. ومنها الشَّجَرُ العظيم أحْسَبُهُ مُسَمَّى بذلك لسلامتِهِ من الآفَاتِ. ومنها أيضاً اسم للحِجَارَةِ الصَّلْبَةِ، وذلك أيضاً لسَلامتِهَا من الرَّخَاوَةِ. ثم قال الزجَّاج: «سلام عليكم» ها هنا يحتمل أن يكون له تأويلان: أحدهما: أن يكون مَصْدر: سَلَّمت تسليماً وسلاماً، مثل «السَّراح» من «التَّسْرِيح» ، ومعنى سلمت عليه سلاماً: دعوت بأن يَسْلَمَ من الآفات في دينِهِ ونَفْسِهِ، والسَّلامُ بمعنى التَّسْلِيم. والثاني: أن يكون «السَّلامُ» جَمْعَ «السلامة» ، فمعنى قولك: السَّلامُ عليكم: السَّلامةُ عليكم. وقال ابن الأنباري: قال قومٌ: السلامُ هو الله تعالى، فمعنى السَّلامُ عليكم [يعني الله عليكم] أي: على حفظكم، وهذا بَعِيدٌ في هذه الآية لتنكير السَّلامِ، ولو كان مُعَرَّفاً لصحَّ هذا الوَجْهُ. فصل في الكلام على «السلام» قال قوم: إنَّه - تعالى لمَّا أمَرَ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بأن يقول لهم: « الجزء: 8 ¦ الصفحة: 174 سلامٌ عَليْكُمْ كَتَبَ ربُّكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَة» كان هذا من قول الله فَيَدُلُّ على أنه - تعالى - قال لهم في الدُّنْيَا: سلامٌ عليكم كتب ربُّكم على نفسه الرحمة. ومنهم من قال: بل هذا كلامِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فصل في معنى «كتب» كتب كذا [على فلان] يفيد الإيجاب، أي: بمعنى قَضَى، وكلمة «على» أيضاً تُفيدُ الإيجابَ، ومجموعهما مُبالغة في الإيجاب، وهذا يقتضي كونه - تعالى - راحماً لِعِبَادِهِ على سبيل الوُجُوبِ، واختلفوا في ذلك الوجوب؟ فقال أهْلُ السُّنَّةِ: له - سُبْحَانهُ وتعالى - أن يتصرَّفَ في عبادِهِ كَيْفَ شَاءَ وأراد إلاَّ أنه أوجب الرَّحْمَة على نَفْسِهِ على سبيل الفَضْلِ والكرم. وقالت المعتزلةُ: إنّ كونه عالماً بِقُبْحِ القَبَائح، وعالماً بكونه غنيّاً عَنْهَا يمنعه من الإقْدامِ على القَبَائِحِ، ولو فعله كان ظَالِماً، والطُّلْمُ قَبِيحٌ، والقُبْحُ منه مُحَالٌ. فصل في الدلالة في الآية دلَّتْ هذه الآية على جواز تسمية ذاتِ الله - تعالى - بالنفسن أيضاً قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} [المائدة: 116] يَدُلُّ عليه، والنَّفْسُ هنا بمعنى الذَّاتِ والحقيقة، لا بمعنى الجِسْمِ، والدَّمِ؛ لأنه - تعالى - مُقدَّسٌ عَنْهُ؛ لأنه لوك ان جِسْماً لكان مُرَكَّباً، والمُرَكَّب ممكن. وأيضاً إنه أحَدٌ لا يكون مُرَكَّباً، وما لا يكون مركباً لا يكون جسماً. وأيضاً الأجْسَامُ متماثلةٌ في تمام الماهية، فلو كان جِسْماً لحصل له مِثْل، وذلك بَاطِلٌ؛ لقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . فصل في دحض شهب المعتزلة قال المعتزلة: «كَتَبَ ربُكُمْ على نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ» يُنَافِي كونه تعالى يخلق الكُفْرَ في الكَافِرِ، ثم يُعَذِّبُهُ عليه أبَد الآبَادِ، وينافي أن يقال: إنه يمنعه من الإيمان، ثم يأمره حال ذلك المَنْعِ بالإيمان، ثم يعذبه على ذلك. وأجيب بأنه - تعالى - نَافِعٌ ضارُّ محيي مميت، فهو - تعالى - فعل تلك الرَّحْمَةَ البالغة، وفعل هذا القَهْرَ البالغ ولا مُنافَاة بين الأمرين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 175 قوله: «أنَّهُ، فأنَّهُ» قرأ ابن عامر، وعاصمر بالفتح فيهما، وابن كثير وأبو عمرو، وحمزة، والكسائي بالكَسْرِ فيهما، ونافعٌ بفتح الأولى، وكسر الثانية، وهذه القراءاتُ الثلاثُ في المُتَواتِرِ، والأعرج بكسر الأولى وفتح الثانية عكس قراءة نافع، هذه رواية الزّهرواوي عنه، وكذا الدَّاني. وأمَّا سيبويه فروى قراءته كقراءة نافعٍ، فيحتمل أن يكون عنه رَوَيَتَانِ. فأمَّا القرَاءةُ الأولَى فَفَتْحُ الأولَى فيها من أربعة أوجه: أحدها: أنها بدلٌ من «الرحمة» بدل شيء من شيء، والتقدير: «كتب على نفسه أنه من عمل» إلى آخره، فإنَّ نفس هذه الجمل المتضمنةِ للإخبار بذلك رَحْمَة. والثاني: أنها في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنها مبتدأ، والخبر محذوف، أي: «عليه أنه من عمل» إلى آخره. والثالث: أنها [فتحت] على تقدير حَذْفِ حرف الجرَّ، والتقدير: «لأنه من عمل» ، فلما حُذِفت «اللاَّمُ» جرى في مَحَلِّهَا الخلاف المشهور. الرابع: أنها مَفْعُولٌ ب «كتب» ، و «الرحمة» مفعول من أجلِهِ، أي: أنه كتبَ أنَّهُ من عملَ لأجل رحمته إياكم. قال أبو حيَّان: وينبغي ألاَّ يجوز؛ لأنَّ فيه تَهْيِئَةَ العامل للعمل، وقطعه عنه. وأمَّا فَتْحُ الثانية فمن خمسة أوجه: أحدها: أنها في مَحَلِّ رفع على أنها مبتدأ، والخبر محذوف، أي: فَغُفْرَانُهُ ورَحْمَتُهُ حاصلان أو كائنان، أو فعليه غفرانه ورحمته. وقد أجمع القُرَّاءُ على فتح ما بعد «فاء» الجزاء في قوله: {أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [التوبة: 63] {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ} [الحج: 4] كما أجمعو على كسرها في قوله: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 176 الثاني: أنها في محلِّ رفعٍ على أنها خبر مبتدأ محذوف، أي: فأمره أو شأنه أنه غفورٌ رحيم. الثالث: أنها تكرير للأولى كُرِّرت لمَّا طال الكلامُ وعطفت عليها بالفاء، وهذا مَنْقُولٌ على أبي جَعْفَرٍ النحاس، وهذا وهمٌ فاحشٌ؛ لأنه يَلْزَمُ منه أحدُ مَحْذُوريْنَ: إمَّا بقاءُ مبتدأ بلا خبر، أو شرطٍ بلا جواب. وبيانُ ذلك أنَّ «مَنْ» في قوله: «أنه مَنْ عَمِلَ» لا تخلو: إمَّا أن تكون مَوْصُولَةً أو شرطية، وعلى كلا التقديرين، فهي في محلِّ رفع بالابتداء، فلو جعلنا «أن» الثانية مَعْطُوفَةً على الأولى لَزِمَ عدمُ خبر المبتدأ، وجواب الشرط، وهو لا يجوز. وقد ذكر هذا الاعتراض، وأجاب عنه الشيخ شهابُ الدين أبو شامة فقال: «ومنهم مَنْ جعل الثانية تكريراً للأولى لأجل طولِ الكلام على حَدِّ قوله: {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُون} [المؤمنون: 35] ودخلت» الفاء «في» فأنه غفور «على حدِّ دخولها في {فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ} [آل عمران: 188] على قول من جعلهُ تكريراً لقوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُون} [آل عمران: 188] إلاَّ أنه هذا ليس مثل» أيَعدكُمْ «؛ لأن هذه لا شرط فيها، وهذه فيها شَرْطٌ، فيبقى بغير جواب. فقيل: الجواب محذوف لدلالة الكلام عليه تقديره: غفر لهم» انتهى. وفيه بُعْدٌ، وسيأتي هذا الجواب أيضاً في القراءة الثانية منقولاً عن أبي البقاءِ، وكان يبغي أن يجيب به هنا، لكنه لم يفعل ولم يظهر فَرْقٌ في ذلك. الرابع: أنها بدلٌ من الأولى، وهو قول الفرَّاء والزَّجَّاج وهذا مَرْدُودٌ بشيئين: أحدهما: أنَّ البدل لا يدخل فيه حَرْفُ عطفٍ، وهذا مقترن بحرف العطف، فامتنع أن يكون بدلاً. فإن قيل: نجعل «الفاء» زائدة، فالجوابُ أن زيادتها غير زائدة، وهو شيء قال به الأخفش. وعلى تقدير التَّسْليم فلا يجُوزُ ذلك من وَجْهٍ آخر، وهو خُلُوُّ المبتدأ، أو الشرط عن خبرٍ أو جواب. والثاني من الشيئين: خُلُوُّ المبتدأ، أو الشرط عن الخبر، أو الجواب كما تقدَّم تقريره، فإن قيل: نجعل الجواب مَحْذُوفاً - كما تقدَّم نقلهُ عن أبي شامة - قيل: هذا بعيد عن الفَهْمِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 177 الخامس: أنها مرفوعة بالفاعليَّةِ، تقديره: «فاسْتَقَرَّ أنَّهُ غفورٌ رحيمٌ» أي: اسْتَقَرَّ وثبت غُفْرَانُهُ، ويجوز أن يُقدَّر في هذا الوجه جَارّاً رافعاً لهذا الفاعل عند الأخْفَشِ تقديره: فعليه أنه غفورٌ، لأنه يرفع به وإن لم يعتمد، وقد تقدَّم تحقيقه مِرَاراً. وأمَّا القراءة الثانية: فكسر الأولى من ثلاثة أوجه: أحدها: أنها مُسْتَأنَفَةٌ، وأن الكلام تامُّ قبلها، وجيء بها وبما بعدها كالتَّفْسير لقوله: «كتبَ ربُّكُم على نَفْسهِ الرَّحْمَةَ» . والثاني: أنَّها كُسِرت بعد قَوْلٍ مُقدَّرٍ، أي: قال الله ذلك، وهذا في المعنى كالذي قبله. والثالث: أنه أجري «كتب» مُجْرَى «قال» ، فَكُسِرَتْ بعده كما تُكْسَرُ بعد القَوْلِ الصريح، وهذا لا يَتَمَشَّى على أصول البصريين. وأمَّا كَسْرُ الثانية فمن وجهين: أحدهما: أنها على الاسْتِئْنَافِ بمعنى أنها في صَدْرِ جملةٍ وقعتْ خبراً ل «من» الموصُولةِ، أو جواباً لها إن كانت شرطاً. والثاني: أنها عُطِفَتْ على الأولى، وتكريرٌ لها، ويعترض على هذا بأنه يَلْزَمُ بقاءُ المبتدأ بلا خبرٍ، والشرط بلا جزاءٍ، كما تقدَّم ذلك في المفتُوحَتَيْنِ. وأجاب أبو البقاء عن ذلك بأن خبر «من» محذوف دلَّ عليه الكلامُ، وقد تقدَّم أنه كان ينبغي أن يكون العائدُ مَحْذُوفاً، أي: فإنه غفورٌ له. قال شهاب الدين: قوله: «ويجوز» ليس بجيِّدٍ، بل كان ينبغي أن يقول: ويجب؛ لأنه لا بُدَّ من ضميرٍ عائدٍ على المبتدأ من الجملة الخبرية، أو ما يقوم مُقَامَهُ إن ليم كن نفس المبتدأ. وأمَّا القراءةُ الثالثة: فيُؤخَذُ فتْحُ الأولى وكَسْرُ الثانية مما تقدَّم من كسرها وفتحها بما يليق من ذلك نفس المبتدأ. وأمَّا القراءة الرابعة: فكذلك. وقال أبو شامة: «وأجاز الزَّجَّاج كَسْرَ الأولى، وفَتْحَ الثانية، وإن لم يقرأ به» . قال شهاب الدين: وقد قدَّمْتُ أنَّ هذه قراءة الأعرج وأن الزهراوي وأبا عمرو الدَّاني نقلاها عنه، فكأن الشَّيْخً لم يَطَّلِعُ عليها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 178 وتقدَّم أن سيبويه لم يَرْو عن الأعْرَجِ إلاَّ كقارءاة نافعٍ فهذا مما يصلح أن يكون عُذْراً للزَّجَّاج، وأمَّا أبو شَامَةَ فإنه مُتَأخرٌ، فعدم اطِّلاعِهِ عَجيبٌ. و «الهاء» في «أنه» ضمير الأمر والقِصَّةِ، و «مَنْ» يجوز أن تكون شرطيَّة، وأن تكون موصولة، وعلى كل تقدير فهي مُبْتَدَأةٌ، و «الفاءُ» ما بعدها في محلِّ جَزْم جواباً إن كانت شرطاً، وإلاَّ ففي محلِّ رفعٍ خبراً إن كانت موصُولة، والعائدُ محذوفٌ، أي: غفورٌ له. و «الهاء» في «بعده» يجوز أن تعود على «السُّوء» ، وأن تعود على العمل المفهوم من الفعل كقوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ} [المائدة: 8] والأوَّل أوْلَى؛ لأنه أصْرَحُ، و «منكم» مُتعلِّقٌ بمحذوفٍ إذ هو حالٌ من فاعل «عمل» ، ويجوز أن تكون «مِنْ» للْبَيَانِ، فيعمل فيها «أعني» مقدراً. وقوله: «بجهالةٍ» فيه وجهان: أحدهما: أنه مُتَعلِّق ب «عمل» على أن «الباء» للسَّبَيَّة، أي: عمله بسبب الجَهْلِ، وعبَّر أبو البقاء في هذا الوجه عن ذلك بالمفعول به وليس بواضحٍ. والثاني: وهو الظَّاهِرُ أنه للحالِ، أي: عمله مُصَاحباً للجَهَالَةِ، «ومِنْ» في «مِنْ بعده» لابتداء الغاية. فصل في تحرير معنى الآية قال الحسنُ: كل من عمل مَعْصِيَةً فهو جَاهِلٌ، ثُمَّ اختلفُوا؛ قال مُجاهد: لا يعلمُ حلالاً من حرامٍ فمن جهالته ركب الأمر. وقيل جاهلٌ بما يورثه ذلك الذَّنْبُ. وقيل: جهالتُهُ من حيث إنهخ آثر المَعْصِيَةَ على الطَّاعةِ، والعاجل القليل على الآجل الكثير، ثُمَّ تاب من بعد ورجع عن ذنْبِهِ، وأصلح عمله. قيل: وأخْلَصَ توْبَتَهُ فإنه غفورٌ رحيمٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 «الكاف» نعتٌ لمصدر مَحْذُوفٍ، أو حال من ضمير ذلك المصدر، كما هو رأي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 179 سيبويه، والإشارةُ بذلك إلى التفضيل السَّابق، تقديره: مِثْلُ التَّفْصِيل البيَّن، وهو ما سبق من أحوال الأمم نُفَضِّلُ آيات القرآن. وقال ابن عطية: والإشارةُ بقوله: «وكذلك» إلى ما تقدَّم، من النَّهْيِ عن طَرْدِ المؤمنين، وبيان فَسَاده بِنَزْعِ المعارضين لذلك. و {نفَصِّلُ الآيات} نُبَيِّنُهَا ونَشْرَحُهَا، وهذا شبيه بما تقدَّم له في قوله: {وكذلك فَتَنَّا} [الأنعام: 53] وتقدَّم أنه غير ظاهر. قوله: «ولتَسْتَبينَ سَبِيلُ» قرأ الأخوان، وأبو بكر: «وليَسْتَبِينَ» بالياء من تحت، و «سَبِيلُ» بالرفع. ونافع: «وَلِتَسْتَبينَ» بالتَّاء من فَوْق، «سَبِيلَ» بالنصب، والباقون: بالتاء من فوق، و «سبيل» بالرفع. وهذه القراءات دائرة على تذكير «السبيل» وتأنيثه وتعدي «استبان» ولزومه، وإيضاح هذا أن لغة نجد وتميم تذكير «السبيل» وعليه قوله تعالى: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} [الأعراف: 146] . ولغة «الحجاز» التأنيث، وعليه {قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] وقوله: {لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً} [آل عمران: 99] . وقوله: [البسيط] 2184 - خَلَّ السَّبيلَ لِمَنْ يَبْنِي المَنَارَ بَهَا ..... ... ... ... ... ... ... ... . . وأمَّا «اسْتَبَانَ» فيكونُ مُتعدِّياً، نحو: «اسْتَبَنْتُ الشَّيء» ، ويكون لازَماً نحو: «اسْتَبَانَ الصُّبْحُ» بمعنى «بَانَ» فمن قرأ بالياء من تحت، ورفع فإنه أسْنَدَ الفعل إلى «السَّبيل» ، فرفعه على أنه مذكر وعلى أن الفعل لازمٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 180 ومن قرأ بالتَّاء من فوق، فكذلك ولكن لغة التأنيث، ومن قرأ بالتاء من فوق، ونصب «السبيل» فإنه [أسند الفعل إلى المخاطب، ونصب «السبيل» على] المفعولية وذلك على تعديته أي: ولتستبين أنت سبيل المجرمين، فالتاء في «تستبين» مختلفة المعنى، فإنها في إحدى القراءتين للخطابِ، وفي الأخرى للتأنيث وهي في كلا الحالين للمُضارعةِ، و «تستبين» منصوب بإضمار «أن» بعد لام «كي» ، وفيما يتعلق به هذه اللام وجهان: أحدهما: أنها معطوفة على عِلَّةٍ محذوفة، وتلك العَلَّةُ معمولة لقوله: «نُفَصّل» والمعنى: وكذلك نُفَصِّلُ الآيات لتستبين لكن ولتستبين. والثاني: أنها مُتعلِّقةٌ بمحذوف مُقدَّر بعدها، أي: ولتسبين سبيل المجرمين فَصَّلْنَاهَا ذلك التَّفْصَيل، وفي الكلام حَذْفُ مَعْطُوفٍ على رأي، أي: وسبيل المؤمنين كقوله تعالى: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] . وقيل: لا يحتاج إلى ذلك لأن المقام إنما يَقْتَضِي ذِكْرَ المجرمين فقط؛ إذ هم الذين أثَارُوا ما تقدم ذكرهُ وقيل: لأن الضَّديْنِ إذا كانا بحيث لا يَحْصُلُ بينما واسطةٌ، فمتى بَانَتْ خَاصيَّةُ أحد القسمين بانت خاصيَّةُ القسمٍ الآخر، والحق والباطل لا وَاسِطَةَ بينهما، فمتى اسْتَبَانَتْ طريقة المجرمين، فقد استبانت طريقة المُحَقِّقين أيضاً لا محالة. قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله قُلْ لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَآءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المهتدين} «أن أعبد» في محل «أن» الخلاف المشهور، إذ هي على حذف حرفٍ، تقديره: نهيت عن أن أعْبُدَ الذين تدعون من دون الله قل: لا أتَّبعُ أهْوَاءَكُمْ في عِبَادَةِ الأوْثانِ، وطرْدِ الفقراء. قوله: «قَدْ ضَلَلْتُ» بفتح «اللام» الأولى. وقرأ أبو عبد الرحمن، ويحيى، وابن أبي ليلى أنهما قرءا هنا وفي «ألم السجدة» : {أإذا صَلَلْنَا} [السجدة: 10] بصاد غير معجمة يقال: صل اللَّحم أي: أنْتَنَ، وهذا له بَعْضُ مُناسبةٍ في آية «السجدة» ، وأما هنا فمعناه بعيد أو ممتنع. وروى العباس عن ابن مجاهد في «الشواذ» له: «صُلِلْنَا في الأرْضِ» ، أي: دُفِنَّا في الصِّلَّة، وهي [الأرضُ] الصّلْبَةُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 181 وقوله: «ومَا أنَا مِن المُهتدينَ» تأكيد لقوله: «قَدْ ضَلَلْتُ» وأتى بالأولى جملة فعلية لِتَدُلَّ على تَجَدُّدِ الفعل وحدوثه، وبالثانية اسمية لتدل على الثبوت. والمعنى «وما أنا من المهتدين، يعني إن فعلت ذلك، فقد تركت سبيل الحقّ، وسلكت غير سبيل الهدى» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 قوله: {إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} أي: على بيانِ أو بَصِيرةٍ وبُرهانٍ من ربي. قوله: «وكَذَّبْتُم به» في هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنها مُسْتَأنَفَةُ سِيقَتْ للإخبارِ بذلك. والثاني: أنها في مَحَل نصبٍ على الحالِ، وحينئذٍ هل يحتاج إلى إضمار «قد» أم لا؟ و «الهاء» في «به» يجوز أن تعود على «ربِّي» ، وهو الظاهر. وقيل: على القرآن؛ لأنه كالمذكور. وقيل: على اسْتِعْجَالهِمْ بالعذاب؛ لأنهم كانوا يقولون: {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} [الأنفال: 32] . وقيل: على بيَّنةٍ؛ لأنها في معنى البيانِ. وقيل: لأن «التاء» فيها للمُبالغةِ، والمعنى على أمرٍ بيِّنٍ من ربي. و «مِنْ ربِّي» في محلِّ جَرِّ صِفَةً ل «بيِّنَةٍ» . قوله: «ما عِنْدي مَا تَسْتَعْجِلُونه بِهِ» كان عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ يخوِّفهم نزول العذابن فقال تعالى: قال يا محمَّد: ما عندي ما تَسْتَعْجِلُونَ به، يعني قولهم: {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] . وقيل: أراد به القِيامَةَ؛ لقوله تعالى: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى: 18] . قوله: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} أي: في تأخير عذابهم. قوله: «يَقُصُّ الحقَّ» قرأ نافع، وابن كثير، وعاصم «يَقُصُّ» [بصاد مهملة مشددة] مرفوعة، وهي قاءة ابن عبَّاسٍ، والباقون بضادٍ معجمة مخففة مكسورة، وهاتان في المتواترة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 182 وقرأ عبد الله، وأبَيٌّ، ويحيى بن وثَّابٍ، والنخعي، والأعمش، وطلحة: «يَقْضِي بالحقِّ» من القضاءِ. وقرأ سعيد بن جُبَيْرٍ، ومجاهد: «يقضي بالحقِّ وهو خير القاضين» . فأمَّا قراءة «يقضيط فَمِنَ القضاء. ويؤيده قوله:» وهُوَ خَيْرُ الفَاصِلِينَ «فإن الفَصْلَ يناسب القضاء، ولم يُرْسَمْ إلاَّ بضاد، كأن» الباء «حذفت خطَّاً كما حذفت لَفْظاً لالتقاء الساكنين، كما حُذِفَتْ من نحو: {فَمَا تُغْنِي النذر} [القمر: 5] . وكما حذفت» الواو «في {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} [العلق: 18] ، {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] كما تقدَّم. وأمَّا قراءةُ نَصْبِ» الحقّ «بعدهُ، ففيه أربعة أوجه: أحدها: أنه مَنْصُوبٌ على أنه صَفَةٌ لمصدر مَحْذُوفٍ، أي: يقضي القضاء الحقّ. والثاني: أنه ضمَّن» يقضيط معنى «ينفذ» ، فلذلك عدَّاهُ إلى المفعول به. الثالث: أن «قضى» بمعنى «صَنَع» فيتعدَّى بنفسه من غير تَضْمينٍ، ويدُلُّ على ذلك قول الهُذَلِيّ شِعْراً: [الكامل] 2185 - وَعَليْهِمَا مَسْرُودتانِ قَضَاهُمَا ... دَاوُدُ أوْ صَنَعُ السَّوابِغِ تُبَّع [أي: صنعهما] داود. الرابع: أنه على إسْقَاطِ حَرْفِ الجرِّ، أي: يقضي بالحق، فلما حذف انْتَصَبَ مَجْرُورُهُ على حَدِّ قوله: [الوافر] 2186 - تَمُرُّونَ الدِّيَار وَلَمْ تَعُوجُوا ..... ... ... ... ... ... ... ... ويُؤيِّد ذلك القراءة بها الأصل. وأمَّا قراءةُ «يَقُصُّ» فمن «قَصَّ الحديثَ» ن أو مِنْ «قَصَّ الأثَرَ» أي: تتبَّعه. قال تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] . ورجَّحَ أبُو عَمْرِو بْنُ العلاءِ القراءة الأولى بقوله: «الفَاصِلينَ» وحُكِيَ عنه أنه ق: «أهُوَ يَقُصُّ الحقَّ أوْ يَقْضِي الحقَّ» فقالوا: «يَقُصُّ» فقال: لو كان «يَقُصُّ» لقال: «وهو خير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 183 القاصَّين» أقَرَأ أحَدٌ بهذا؟ وحيث قال: وهو خير الفاصلين فالفَصْلُ إنما يكون في القضاءِ. وكأن أبا عمروٍ لم يبلغه «وهو خير القاصين» قراءة، وقد أجاب أبو علي الفارسي عما ذكره أبو العلاء، فقال: «القَصَصُ» هنا بمعنى القولِ، وقد جاء القول في القَصْل أيضاً، قال تعالى {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ} [الطارق: 13] . وقال تعالى: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] . وقال تعالى: «ونُفَصِّلُ الآياتِ» فقد حمل الفَصْلَ على القول، واستعمل معه كما جاء مع القضاءِ، فلا يلزم من الفاصل أن يكون معيناً ل «يقضي» . فصل في الاحتجاج بالآية لأهل السُّنة أحتج أهل السُّنَّةِ بقوله: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّه} على أنه لا يقدر العَبْدُ على أمر من الأمور إلاَّ إذا قَضَاهُ الله، فيمتنع منه فعلُ الكُفْرِ إلا إذا قضى اللَّهُ وحكم به، وكذلك في جميع الأفعال؛ لأن قوله: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّه} [يفيد الحصر] . واحتج المعتزلة بقوله: «يقضي الحق» ، ومعناه: أن كل ما قضى به فهو الحقّ، وهذا يقتضي ألاَّ يريد الكفر من الكافر، ولا المعصية من العاصي؛ لأن ذلك ليس بحق، والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 أي: لو أن في قُدْرَتِي إمكاني ما تستعجلون به من العذابِ لأهلكتكم عاجلاً غضباً لربي واقتصاصاً من تكذيبكم به، ولتخلصت سريعاً. قوله: «والله أعلم بالظَّالمين» من باب إقامةِ الظاهر مُقامَ المضمر تَنْبِيهاً على استحقاقهم ذلك بصفة الظلم، إذ لو جاء على الأصْلِ لقال والله أعلم بكم والمعنى أني لا أعلم وقْتَ عُقُوبةِ الظالمين، والله - تعالى - يعلم ذلك، فهو يؤخّر إلى وقته. والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 في «مَفَاتح» ثلاثة أقوال: أحدها: أنه جمع «مِفْتح» بكسر الميم والقَصْر، وهو الآلة التي يُفْتَحُ بها نحو: «مِنْجَل ومَنَاجل» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 184 والثاني: أنه جمع «مَفتح» بفتح الميم وهو المكان. ويؤيده تَفْسِيرُ ابن عبَّاسٍ: هي خزائن المطر. قال الفراء: قوله تعالى: {مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة} [القصص: 76] يعني: خزائنه. فعلى الأول فقد جعل للغيب [مفاتيح] على الاسْتِعَارةِ؛ لأن المفاتيحَ يُتَوَصَّلُ بها إلى ما في الخزائن المُسْتوثقِ منها بالأغلاقِ والأقفَال. وعلى الثاني: فالمعنى: وعنده خزائن الغَيْبِ، والمراد منه القُدْرَةُ على كل الممكنات. والثالث: أنه جمع «مِفْتاح» بكسر الميم والألف، وهو الآلة أيضاً إلاَّ أن هذا فيه ضعفٌ من حيث إنه كان ينبغي أن تُقْلَبَ ألف المفرد ياءً، فيقال: مفاتيح ك «دنانير» ولكنه قد نقل في جمع «مِصْبَاح» «مَصَابِح» ، وفي جمع «مِحْرَاب» «مَحَارِب» ، وفي جمع «قرقور» «قراقر» ، وهذا كما أتوا بالياء في جمع ما لا مدة في مفرده كقولهم: «دَرَاهيم» و «صَيَارِيف» في جمع «دِرْهَم» و «صَيْرَف» قال: [البسيط] 2187 - تَنْفِي يداها الحَصَى فِي كُلِّ هَاجِرَةٍ ... نَفْيَ الدَّراهيمِ تَنْقَادُ الصَّيَاريفِ وقالوا: عيَّل وعَيَاييل؛ قال: [الزجر] 2188 - فِيهَا عَيَايِيلُ أسُودٌ ونُمُرْ ... قالوا: عيَّاييل ونُمور [فزاد في] ذلك ونقص. وقد قرئ «مفاتيح» بالياء، وهي تؤيد أن «مَفَاتح» ، وإنما حذفت مدّته. وجوَّز الوَاحِدِيُّ أن يكون «مَفَاتح» جمع «مَفْتح» بفتح الميم، على أنه مصدر قال بعد كلام حكاه عن أبي إسْحاقَ: فعلى هذا «مفاتح» جمع «المَفْتح» بمعنى الفَتْح كأن المعنى: وعنده فُتُوحُ الغيب، أي: هو يفتح الغَيْبَ على مَنْ يَشَاءُ من عباده. وقال أبو البقاء: «مفاتح» جمع «مفتح» ، والمفتح الخزانَةُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 185 فأما ما يفتح به فهو «المِفْتَاحُ» ، وجمعه «مفاتيح» ، وقد قيل: «مفتح» أيضاً انتهى يريد جمع «مَفْتَح» أي: بفتح الميم. وقد قيل: مفتح، يعني أنها لغة قليلة في الآلة، والكثير فيها المد، وكان ينبغي أن يوضح عبارته فإنها موهمة، ولذلك شرحناها. فصل روى ابن عمر قال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَفَاتِحُ الغَيْبِ خَمْسٌ لا يَعْلَمُها إلاَّ اللَّهُ. لا يَعْلَمُ ما تفِيضُ الأرْحَامُ أحَدٌ إلاَّ اللَّه، ولا يَعْلمُ ما فِي غدٍ إلاَّ اللَّه، ولا يَعْلَمُ مَتَى يَأتِي المَطَرُ أحَدٌ إلاَّ اللَّه، ولا تَدْرِي نَفْسٌ بأيِّ أرْضٍ تَمُوتُ إلاَّ اللَّه، ولا يَعْلمُ متَى تَقومُ السَّاعةِ إلاَّ اللَّه» . وقال الضحَّاكُن ومُقاتلٌ: «مفاتح الغيب» : خزائن الله، وعلم نزول العذاب. وقال عطاء: ما غَابَ عنكمن من الثواب والعقاب. وقيل: انْقِضَاءُ الآجَالِ وقيلك أحوا العِبادِ من السَّعادةِ والشَّقاوةِ، وخواتيم أعمالهم. وقيل: إنه ما لم يكن بعد أنه يكون أم لا يكون وما يكون كيف يكون، وما لا يكون أن لو كان كيف يكون. وقال ابن مَسْعُودٍ: أوتي كُلِّ شيء إلاَّ مَفَاتحَ الغيب. [نقل القرطبي عن ابن عبد البر قال في كتاب «الكافي» : من المكَاسبِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 186 المُجْمعِ على تحريمها الرِّبَا، ومُهُورُ البغَايَا والسُّحْتُ والرشَا وأخذ الأجْرة على النياحة وأخذ الأجْرَةِ على الغِنَاء وعلى الكَهانَةِ وادِّعَاءِ علم الغيب، وأخبار السماء وعلى الزَّمْر واللَّعب والباطل كله] . قوله: «لا يَعْلمُهَا إلاَّ هُوَ» في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحال من «مفاتح» والعامل فيها الاسْتِقْرَارُ الذي تَضَمَّنَهُ حرف الجر لوقوعه خبراً. وقال أبو البقاء: نفس الظَّرْفِ إن رفعت به «مفاتح» ، أي: إن رفعته به فاعلاً، وذلك على رأي الأخْفشِ، وتَضَمُّنُهُ الاسْتِقْرارَ لا بد منه على كل قول، فلا فَرْقَ بين أن يرفع به الفاعل، أو يجعله خبراً. قوله: «ويَعْلَمُ مَا فِي البَرِّ والبَحْرِ» قال مجاهد: الب والبحر: القُرَى والأمْصَار لا يحدث فيها شيء إلاَّ يعلمه. وقيل: هو البر والبحر المعروف. قالت الحكماء في تفسير هذه الآية: ثبت أن العِلْمَ بالعلَّةِ علة للعلم بلمعلول وأن العِلْمَ بالمعلول لا يكون عِلَّةً للعلم بالعِلَّةِ. وإذا ثبت هذا فنقول: إن الموجود إما أن يكون واجباً لذاته، أو ممكناً لذاته، والواجب لذاته ليس إلاَّ الله تعالى، وكل ما سواه فهو ممكن لذاته، والممكن لذاته لا يوجد إلا بتأثير الواجب لذاتِهِ، فكلُّ مَا سِوَى الحق سبحانه، فهو موجودٌ بإيجاده وتكوينه. وإذا ثبت ذلك، فنقول: علمه بِذاتِهِ يوجب علمه بالأثَرِ الصَّادر منه، ثم علمه بذلك الأثرِ الأول يُوجِبُ علهم بالأثر الثاني؛ لأن الأثر عِلَّة قريبة في الأثَرِ الثاني، وقد ذكرنا أن العِلْمَ بالعِلَّةِ يوجب العِلْمَ بالمعلول فبدأ أوَّلاً بعِلْمِ الغيْبِ، وهو علهمه بداتِه المخصوصة، ثم يحصل له من علمه بذاتِهِ علمه بالأثار الصَّادةِ عنه على تَرْتيبهَا المعتبر، ولما كان علمه بذاته لم يحصل إلا لذاتِهِ لا جرمَ صَحَّ أن يقال: «وعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الغيْبِ لا يَعْلَمُهَا إلاَّ هُوَ» ثم إن القَضَايا العَقْلِيَّة المَحْضَةَ يصعب تَحْصِيلُ العلم بها على سبيل التمام والكمال إلاَّ للْعقَلاءِ الكاملينَ الذين ألفوا اسْتِحْضار المَعْقُولاتِ، ومثل هذا الإنسان يكون كالنّادر. وقوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} قَضِيَّةٌ عَقْليَّةٌ مَحْضَةٌ والإنسان الذي يقوى عقله على الإحاطة بمعنى هذه القضية نَادِرٌ جداً، والقرآن إنما أُنْزِلَ لينتفع به جَمِيعُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 187 الخَلْقِ، فلذلك ذكر لهذه القضيَّةِ العقلية مِثالاً من الأمور المَحْسُوسةِ الداخلة تحت هذه القضيَّة العقلية ليصير ذلك المَعْقُولُ بمعاونة هذا المثال المحسوس مَعْلُوماً [مفهوماً] لكل أحد، فقال: «ويَعْلَمُ مَا فِي البرِّ والَحْرِ» لأن ذلك أحَد أقسام مَعْلُوماتِ الله - تعالى - وقد ذكر البر؛ لأن الإنسان قد شاهد أحوال البرِّ، وكثرة ما فيه من المُدُنِ والقُرَى والمَفَاوِزِ والجبالِ والتِّلالِ، وكثرة ما فيها من الحيوان والنَّبات والمعادن. وأما البَحْرُ وإحاطة العَقْلِ بأحواله أقَلُّ إلاَّ أن الحِسِّ على أن عجائب البحار في الجملة أكُثَرُ، وطولها وعرضها أعْظَمُ، وما فيها من الحيوانات وأجناس المخلوقات أعجب. فإذا اسْتَحْضَرَ الخَيَالُ صُورَةَ البر والبحر على هذه الوجوه، ثم عرف أن مجموعها قِسْمٌ حقير من الأقسام الدَّاخلة تحت قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} فيصير هذا المِثَالُ المَحْسُوسُ مقوِّياً ومكملاً لِلْعَظَمةِ الحاصلة تحت قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} وكذلك قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا} لأن العقل يِسْتَحْضِرُ جميع ما على وَجْهِ الأرض من المُدُنِ والقُرَى والمفاوِزِ والجبالِ والتِّلال، ثم يستحضر كَمْ فيها من النَّجْمِ والشجر، ثم يستحضر أنه لا يتغير حال ورقةٍ إلاَّ والحقُّ - سبحانه - يعلمها، ثم يتجاوز من هذا المثالِ إلى مثالٍ آخر أشد منه هَيْئَةً، وهو قوله: «ولا حَبَّةٍ في ظُلُماتِ الأرض» وذلك لأن الحَبَّةَ تكون في غاية الصِّغَرِ، و «ظلمات الأرض» مَوْضِعٌ يخفي أكبر الأجسام وأعظمها، فإذا سمع أن لتك الحبَّة الصغيرة المُلْقَاةَ في ظلمات الأرض على اتِّساعها وعظمها لا تخرج من علم الله ألْبَتَّةَ صارت هذه الأمثال مُنَبِّهَة على عظمِ عَظَمَتِهِ مقوية للمعنى المُشَارِ إليه بقوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} ثم إنه - تعالى - لما قَوَّى ذلك الأمر المعقول المَحْضَ المجرد بذكر هذه الجُزْئِيَّاتِ المحسوسات عاد إلى ذِكْر تلك القضية المَحْضَةِ بعبارة أخرى، فقال: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِس} وهو عَيْنُ المذكور في قوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } . قوله: «مِنْ وَرَقَةٍ» فاعل «تسقط» ، و «من» زائدة لاسْتِغْرَاقِ الجنس. وقوله: «إلاَّ يَعْلَمُهَا» حالٌ من «ورقة» ، وجاءت الحال من النكرة لاعتمادها على النَّفْي، والتقدير: وما تسقط من ورقة إلا عالم هن بها، كقولك: ما أكرمت أحداً إلا صالحاً. قال شهاب الدِّين: ويجوز عندي أن تكون الجُمْلَةُ نعتاً ل «ورقة» وإذا كانوا أجَازُوا في قوله: {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] أن تكون نَعْتاً ل «قرية» في قوله: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 188 {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] مع كونها بالواو ويعتذرون عن زيادة «الواو» فَبِأنْ يجيزوا ذلك هنا أوْلَى. وحينئذ فيجوز أن تكون في موضع جرِّ على اللفظ، أو رفع على المَحَلّ، [والمعنى: يريد ساقط أو نَائِيَة أي: يعلم عدد ما يسقط من ورقِ الشجر، وما يبقى عليه. وقيل: يعلم كم انقلبت ظَهراً لبطنٍ إلى أن سقطتْ على الأرض] . قوله: «ولا حَبَّةٍ» عطف على لفط «وَرقة» ، ولو قرئ بالرفع لَكانَ على الموضع والمراد: الحب المعروف في بطُونِ الأرض. وقيل: تحت الصَّخْرَةِ في أسفل الأرضين و «في ظلمات» صِفَةٌ ل «حَبّة» . قوله: {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِس} مَعْطُوفانِ أيضاً على لَفْظ «ورقة» ، وقرأهما ابن السَّمَيْفَعِ، والحسن، وابن أبي إسْحَاق بالرفع على المَحَلِّ، وهذا هو الظاهر ويجوز أن يكونا مبتدأين، والخبر قوله: «إلاَّ في كتابٍ مُبينٍ» . ونقل الزمخشري أن الرَّفْعَ في الثلاثة أعني قوله «ولا حبَّةٍ ولا رطبٍ ولا يابسٍ» وذكر وَجْهَيِ الرفع المتقدمين، ونظر الوجه الثاني بقولك: لا رجل منهم ولا امرأة إلا في الدار. قال ابن عبَّاس: المراد ب «الرطب» الماء، و «اليابس» البادية. وقال عطاء: يريد ما نَبَتَ وما لا يَنْبُتُ. وقيل: ولا حَيّ ولا مَوَات. وقيل: هو عبارة عن كل شيء. قوله: «إلاَّ فِي كتابِ مُبين» في هذه الاسْتِثْنَاءِ غُمُوضٌ، فقال الزمخشري: وقوله «إلاَّ في كتابٍ مُبينٍ» كالتكرار لقوله: «إلاَّ يَعْلَمُهَا» لأن معنى «إلاَّ يَعْلَمُهَا» ومعنى «إلاَّ في كتابٍ مُبينٍ» واحد. و «الكتاب» علم الله، أو اللَّوْحُ، وأبرزه أبو حيَّان في عبارة قريبة من هذه فقال: «وهذا الاسْتِثْنَاءُ جارٍ مُجْرى التوكيد، لأن قوله» ولا حبَّةٍ «» ولا رطب «» ولا يابس «معطوف على» مِنْ ورقَةٍ «، والاسْتِثْنَاءُ الأول مُنْسَحِبٌ عليها، كما تقول: ما جاءني من رجل إلا أكرمته، ولا امرأة، فالمعنى إلاَّ أكرمتها، ولكنه لما طال الكلام أعيد الاستثناء على سبيلِ التوكيد، وحسَّنه كونه فاصلة» انتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 189 وجعل صاحب «النظم» الكلام تامَّا عند قوله: «وَلاَيَابِس» ، ثم اسْتَأنَفَ خبراً آخر بقوله: «إلاَّ في كتابٍ مُبين» بمعنى: وهو في كتاب مُبين أيضاً، قال: لأنك لو جعلت قوله: إلاَّ فِي كتابٍ مُبينٍ «مُتصلاً بالكلام الأوَّلِ لفسد المعنى، وبيان فساده في فَصْلٍ طويل مذكور في سورة» يونس «في قوله: {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولاا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61] . قال شهابُ الدِّين: إنما كان فاسد المعنى من حيث اعقد أنه اسْتِثْنَاءٌ آخر مستقل، وسيأتي كيف فَسَادُهُ. أمَّا لو [جعله] اسْتِثْنَاءً مؤكّداً للأول، كما قاله الزمخشري لم يَفْسُدِ المعنى. وكيف يُتَصَوَّرُ تمام الكلام على قوله تعالى:» ولا يَابِسٍ «ويبتدأ ب» إلاَّ «، وكيف تقع» إلاَّ «هكذا؟ وقد نَحَا أبو البقاء لشيء مما قاله الجُرْجَانِيُّ، فقال:» إلاَّ فِي كتابٍ مبين «أي: إلاَّ هو في كتابٍ مُبين، ولا يجوز أن يكون اسْتِثْنَاء يعمل فيه» يعلمها «؛ لأن المعنى يصير: ومَا تَسْقُطُ لم يكُنْ إلاَّ في كتاب، وجب أن يعلمها في الكتاب، فإذن يكون الاسْتِثْنَاءُ الثاني بدلاً من الأوَّلِ، أي:» وما تَسْقُطُ من ورقةٍ إلاَّ هي في كتاب، وما يعلمها إلاَّ هُوَ «انتهى. وجَوَوابُهُ ما تقدَّم من جَعْلِ اللاستثناء تأكيداً، وسيأتي تقريه إن شاء الله - تعلى - في سورة «يونس» . فصل في المراد بالكتاب في الكتاب المُبينِ قَوْلان: الأول: هو عِلْمُ الله - تعالى وهو الأصْوَبُ. وقال الزَّجَّاج: يجوز أن يكون الله - تعالى - أثْبَتَ كَيْفِيَّةَ المعلومات في كتاب من قبل أن يَخْلُقَ الخَلْقِ، كما قال: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} [الحديد: 22] . وقائدة هذا الكتاب أمور: أحدها: أنه - تعالى - إنما كتب هذه الأحْوَالَ في اللَّوْحِ المحفوظ لِتَقفِ الملائِكَةُ على إنْفَاذِ عِلْم اللَّهِ في المعلومات، وأنه لا يغيب عنه مما في السموات والأرض شيء، فيكون في ذلك عِبْرَة تامة كاملة للملائكة الموكَّلين باللَّوحِ المحفوظ؛ لأنهم يقابلون به ما يحدث في هذا العالم فيجدونه مُوَافقاً له. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 190 وثانيهما: يجوز أن يقال: إنه - تعالى - ذكر الوَرَقَةَ والحبَّة تَنْبِيهاً للمُكَلَّفينَ على أمْرِ الحِسَابِ وإعْلاماً بأنه لا يفُوتُهُ من كل ما يصنعون في الدنيا شيء؛ لأنه إذا كان لا يُهْمِلُ من الأحوال التي لَيْسَ فيها ثوابٌ وعقاب وتكليف، فَبِأنْ لا يهمل الأحْوالَ المشتملة على الثواب والعقاب أولى. وثالثها: أنه تعالى - لمَّا أثْبَتَ أحْوالَ جميع الموجودات في ذلك على التفصيل التام، امتنع أيضاً تَغَيُّرُهَا، وإلاَّ لزم الكذب، فيصير [كَتْبُهُ] جملة الأحوال في ذلك الكتاب مُوجباً تامّاً [وَسَبَباً كاملاً] ، في أنه يمتنع تَقدُّمُ ما تأخَّرن وتأخُّرُ ما تقدَّمَ، كما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «جَفَّ القَلَمُ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إلى يَوْمِ القِيَامةِ» والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 لمَّا بيَّن تعالى كمالَ علمهِ في الآية الأولى - بيَّنَ كمالَ قُدْرتِهِ بهذه الآية، وهو كونه قَادراً على نَقْلِ الذَّرواتِ من المَوْتِ إلى الحياة، ومن النَّومِ إلى اليَقَظَةِ، واسْتِقْلاله بحفظها في جميع الأحوال، وتدبيرها على أحْسَنِ الوجوه في حَالِ النوم واليقظة. قوله: «باللَّيْلِ» متعلّق بما قبله على أنه ظَرْفٌ له، و «الباءُ» تأتي بمعنى «في» ، وقَدْ تقدَّم منه جملة صالحة. وقال أبو البقاء هنا: وجاز ذلك؛ لأن «الباءس» للإلْصَاقِ والمُلاصِقُ للزمان والمكان حَصِلٌ فيها، يعني في هذه العلاقةِ المجوزة للتَّجَوُّرِ، وعلى هذا فلا حَاجَةَ إلى أن يَنُوب حَرْفٌ مكان آخر، بل نقول: هي هنا للإلْصَاقِ مَجَازاً، نحو ما قالوه في «مررتُ بزيد» ، وأسند التَّوَفِّي هنا إلى ذاتِهِ المُقَدَّسَةِ، لأنه لا ينفر منه هنا، إذ المُرَادُ به الدَعَةُ والرَّاحَةُ، وأسند إلى غيره في قوله: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] لأنه ينفر منه، إذا المُرَادُ به المَوْتُ. وهاهنا يَحْثٌ، وهو أن النائم لا شكَّ أنَّهُ حيُّ، ومتى كان حَيَّاً لم تكن رُوحُهُ مَقْبُوَضَةً ألْبَتَّةًن فلا بُدَّ ها هنا من تأويلٍ، وهو أنه حالَ النوم تَغُورُ الأرواح الحسَّاسَةُ من الظاهر في الباطن، فصارت الحواسُّ الظاهِرَةُ مُعَطَّلَةً عن أعمالها، فعند النوم صار ظَاهِرُ الجَسَدِ مُعَطَّلاً عن كُلِّ الأعمال، فحصل بين النَّوءم وبين الموت مُشَابَهَةٌ من هذه الحَيْثِيَّةِ، فلذلك صَحَّ إطلاق لفظ المَوْتِ والوفَاةِ على النوم. قوله: «مَا جَرَحْتُمْ» الظاهر أنها مَصْدَرِيَّةٌ، وإن كان كونها موصولة اسميةً أكثر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 191 ويجوز أن تكون نَكِرَةً مَوْصُوفَةً بما بعدها، والعَائِدُ على كلا التقديرين الآخرين مَحْذُوفٌ، وكذا عند الأخْفَشِ وابن السّراجِ على القول الأول. و «بالنَّهَارِ» كقوله: «باللَّيْلِ» والضميرُ في «فيه» عائد على «النهار» وهذا هو الظاهر. قال أبو حيَّان: «عاد عليه لَفْظاً، والمعنى: في يوم آخر، كما تقول: عندي دِرْهَمٌ ونَصْفهُ» . قال شهابُ الدين: ولا حَاجَة في الظَّاهِرِ على عَوْدِهِ عىل نظير المذكور، إذ عَوْدُهُ على المذكور لا مَحْذُورَ فيه. وأمَّا ما ذكره من نحو «درهم ونِصْفهُ» فلضروة انْتِفَاءِ العِيِّ من الكلامِ، قالوا: لأنك إذا قلت: «عندي درهمٌ» أنَّ عندك نصفه ضرورة. فقولك بعد ذلك: «ونصفه» تضطَرُّ إلى عَوْدِهِ إلى نظير ماعندك، بخلاف ما نَحْنُ فيه. وقيل: يعود على اللَّيل. وقيل: يعود على التَّوَفِّي، وهو النوم أي: يوقظكم في خلالِ النوم. وقال الزمخشري: «ثم يَبْعَثكُمْ من القبور في شَأنِ الذي قطعتم به أعْمَارَكُمْ من النوم باللَّيْلِ، وكَسْب الآثام بالنهار» انتهى. وهو حَسَنٌ. وخَصَّ اللَّيْلَ بالتَّوَفِّي، والنَّهَارَ بالكَسْبِ إن كان قد يُنَامُ في هذا ويُكْسَبُ في الآخر اعتباراً بالحَالِ الأغلب. وقدَّم التَّوَفِّي بالليل؛ لأنه أبْلغُ في المِنَّةِ عليهم، ولا سيَّملا عند مَنْ يَخُصُّ الجَرْحَ بكسْبِ الشَّرِّ دُون الخَيْرِ، ومعنى «جرحتم» أي: كَسَبْتُمْ من العملِ بالنهار. قال تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح} [المائدة: 4] أي: الكَواسِب من الطير والسِّبَاع، واحدتها «جارحة» . قال تعالى: {الذين اجترحوا السيئات} [الجاثية: 21] أي: اكْتَسَبُوا. وبالجملة فالمُرَادُ منه أعمال الجَوَارِح. قوله: «ليُقْضَى أجَلٌ» الجمهور على لِيُقْضَى «مبنيّاً للمعفولِ، و» أجَلٌ «رفع به، وفي الفاعل المَحْذُوفِ احتمالان: أحدهما: أنه ضمير البَارِئ تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 192 والثاني: أنه ضير المخاطبين أي: لتقضوا آجالكم. وقرأ أبو رجاءٍ، وطلحة:» ليَقْضِي «مَبْنياً للفاعل، وهو الله تعالى، و» أجَلاً «مفعول به، و» مُسَمى «صفة، فهو مرفوع على الأوَّل، ومنصوب على الثاني وتيرتَّبُ على ذلك خلافٌ للقُرَّاءِ في إمالَةِ ألفِهِ، و» اللام «في» ليقضي «متعلّقة بما قبلها من مجموع الفِعْلَيْن، أي: يتوفاكم ثُمَّ يبعثكم لأجْلِ ذلك. والمرادُ: الأجَلُ المسمَّى، أي: عمركم المكتوب. والمعنى: يبعثكم من نومكم إلى أن تَبْلُغُوا آجَالَكُمْ. واعلم أنه - تعالى - لمَّا ذكر أنَّهُ يُنيمُهمْ أولاً، ثم يوقظهم ثانياً كان ذلك جَارياً مُجْرَى الإحْيَاءِ بعد الإمَاتَةِ، فلذلك اسْتَدلَّ به على صِحَّةِ البَعْثِ والقِيَامَةِ، فقال: {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزمر: 7] في ليلكم ونهاركم في جميع أحوالكم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 قد تقدَّم الكلامُ على هذه الآية أوَّل السورة. قوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَة} : فيه خمسة أوجه: أحدها: أنه عَطْفٌ على اسم الفاعل الواقع صِلَةً ل «أل» ؛ لأنه في معنى يَفْعَل، والتقدي: وهو الذي يقهر عبادَةُ ويرسل، فعطف الفعل على الاسم؛ لأنه في تأويله، ومثله عند بعضهم: {إِنَّ المصدقين والمصدقات وَأَقْرَضُواْ} [الحديد: 18] [قالوا] : «أقْرَضُوا» عطف على «مُصَّدِّقِين» الواقع صِلَةً ل «أل» ؛ لأنه في معنى: إنَّ الذين صَدَّقُوا وأقْرَضُوا، وهذا ليس بشيء؛ لأنه يلزم من ذلك الفَصْلُ بين أبْعَاضِ الصِّلةِ بأجنبي، وذلك أن «وأقْرَضُوا» من تمام صِلَةِ «أل» في «المُصَّدِّقين» ، وقد عطف على الموصُولِ قوله «المُصَّدِّقات» وهو أجنبي، وقد تقرَّر غير مرَّةِ أنه لا يتبغ الموصول إلاَّ بعد تمام صلته. وأمَّا قوله تعالى {فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ} [الملك: 19] ف «يَقْبِضْنَ» في تأويل اسم، أي: وقابضات. ومن عطف الاسمعلى الفعل لكونه في تأويل الاسم قوله تعالى: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} [الأنعام: 95] . وقوله: [الطويل] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 193 2189 - فَألْفَيْتُهُ يَوْماً [يُبِيرُ] عَدُوَّهُ ... [ومُجْرٍ] عَطَاءً يِسْتَخِفُّ المعَابِرَا والثاني: أنها جملة فعلية على جملة اسمية وهي قوله: «وهُوَ القَاهِرُ» . والثالث: أنها مَعْطُوفَةٌ على الصِّلَةِ، وما عطف عليها، وهو قوله: «يَتَوَفَّاكُمْ» و «يَعْلَم» وما بعده، أي: وهو الذي يتوفاكم ويرسل. الرابع: أنَّهُ خبر مبتدأ محذوف، والجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفي صاحبها وجهان: أظهرهما: أنه الضمير المُسْتَكِنُّ في «القَاهِرِ» . والثاني: أنها حالٌ من الضمير المُسْتَكِنَّ في الظرف، هكذا قال أبو البقاء، ونقله عنه أبُو حيَّان قال: «وهذا الوجهُ أضعفُ الأعاريبِ» . وقولهما: «الضمير الذي في الظرف» ليس هنا ظَرْفٌ يُتَوَهَّمُ كون هذه الحال من ضير فيه، إلاَّ قوله: «فَوْقَ عِبَادِهِ» ، ولكن بأيِّ طريق يتحمَّلُ هذا الظرف ضميراً؟ والجوابُ: أنه قد تقدَّم في الآية المشبهة لهذه أن «فَوْقَ عِبَادِهِ» فيه خمسة أوجه: ثلاثة منها تتحمَّلُ فيها ضَمِيراً، وهي: كونه خبراً ثانياً، أو بَدَلاً من الخبرِ، أو حالاً، وإنما اضْطررْنَا إلى تقدير مبتدأ قَبْلَ «يُرْسِلُ» ؛ لأن المضارع المثبت إذا وقع حالاً لم يقترن بالواو كما تقدَّم إيضاحه. والخامس: أنها مُسْتَأنَفَةٌ سيقت للإخبار بذلك، وهذا الوجه هو في المعنى كالثاني. قوله: «عليكم» يحتملُ ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه متعلّق ب «يرسل» ومنه {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ} [الرحمن: 35] {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ} [الأعراف: 133] {وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرا} [الفيل: 3] إلى غير ذلك. والثاني: أنه متعلّق ب «حَفَظَة» ، يقال: حفظت عليه عمله، فالتقدير: ويرسل حَفَظَةً عليْكُمْ. قال أبو حيَّان: أي: يحفظون عليكم أعمالكم، كما قال: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ} [الانفطار: 10] كما تقول: حفظت عليك ما تعمل فقوله كما قال تشبيه من حيث المعنى، لا أن «عَلَيْكُمْ» تعلَّقَ ب «حافظين» ؛ لأن «عَلَيْكُمْ» هو الخبر ل «أنَّ» ، فيتعلق بمحذوف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 194 والثالث: أنه مُتَعلِّقٌ بمحذوف على أنه حالٌ من «حَفَظَة» ، إذ لو تأخَّر لجاز أن يكون صِفَةً لها. قال أبو البقاء: «عَلَيْكُمْ» فيه وجهان: أحدهما: هو مُتعلّق ب «يرسل» . والثاني: أن يكون في نِيَّةِ التَّأخير، وفيه وجهان: أحدهما أن يتعلَّق بنفس «حَفَظَة» ن والمفعول محذوف، أي: يرسل عليكم من يحفظ أعمالكم. والثاني: أن يكون صفة ل «حفظة» قدمت فصارت حالاً. قوله: والمفعول محذوف يعني: مفعول «حفظة» ، إلاَّ أنَّهُ يُوهِمُ أنَّ تقدير المفعول خاصُّ بالوجه الذي ذكره، وليس كذلك، بل لا بُدَّ من تقديره على كُلِّ وجْهِ، و «حَفَظَة» إنما عمل في ذلك المقدَّر لكونه صِفَةً لمحذوفٍ تقديره: ويرسل عليكم ملائكة حَفَظَةً؛ لأنه لا يعمل إلاَّ بشروطٍ هذا منها، أعني كونه معتمداً على موصوف، و «حفظة» جمعُ «حافظ» ، وهو مُنْقَاسٌ في كُلِّ وصْفٍ على فاعلٍ صحيح «اللام» لعقلٍ مذكرٍ، ك «بارِّ» و «بَررَة» ، و «فاجر» و «فَجَرة» ، و «كاملٍ» و «كَمَلَه» ، ونيقل في غير العاقل، كقوله: «غُرابٌ نَاعقٌ» و «غِرْبَانٌ نعقة» . فصل في معنى الحفظة هؤلاء الحفظةُ هم المذكورون في قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} [الرعد: 11] . وقوله: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد} [ق: 18] وقوله: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِين كِرَاماً كَاتِبِينَ} [الانفطار: 10، 11] . والمقصود بهؤلاء الحفَظةِ ضَبْطُ الأعمال ثم اختلفوا فقيل: إنهم يكتبون الطَّاعات والمعاصي والمُباحَات بأسْرِهَا لقوله تعالى: {مَا لهذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] . وعن ابن عبَّاسٍ أنَّ مع كُلِّ إنْسَان ملكيْنِ؛ أحدهما: عن يمينه، والآخرُ عن يسارِهِ، فإذا تَكَلَّمَ الإنْسانُ بِحَسَنَةٍ كتبها [من] على اليمين، وإذا تكلَّمَ بسيئة قال مَنْ على اليمين للذي على اليَسَارِ: انتظره لَعلَّهُ يتوب منها، فإن لم يَتُبْ كتبت عليه. والأوَّلُ أقوى؛ لأن قوله: «يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً» يفيد حفظة الكل من غير تخصيص. والثاني: أنَّ ظاهِرَ هذه الآية يَدُلُّ على اضِّلاعِ هؤلاء الحَفَظةِ على الاقْوالِ والأفْعَالِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 195 أمَّا على صفاتِ القلوب، وهو العِلْمُ والجَهْلُ، فليس في هذه الآيات ما يَدُلُّ على اطِّلاعِهِمْ عليها. أمَّا في الأقوال، فلقوله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد} [ق: 18] . وأمَّا في الأفعال، فلقوله تعالى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10 - 12] . وأمَّا الإيمان والكُفْرُ، والإخلاصُ والإشراك فلم يَدُلَّ دليل على اطِّلاعِ الملائكة عليها. فصل في فائدة توكيل الملائكة علينا وفي فائدة جَعْلِ الملائكة مُوَكّلين على بين آدم وجوه: أحدها: أنَّ المُكَلَّفَ إذا علم أن الملائِكَة مُوَكلين به يُحْصُون عليه عمله، ويكتبونه في صَحِيفَةٍ تُعْرَضُ على رؤوس الاشهاد في مواقف القِيَامَةِ كان ذلك أزْجَرَ له عن القَبَائِحِ. والثاني: يحتمل ا، تكون الكِتابةُ لفائدة وَزْنِ تلك الصَّحائِفِ يوم القيامة؛ لأن وَزْنَ الأعمال غير مُمْكِنٍ، أمَّا وزنُ الصحائف ممكن. وثالثها: يَفْعَلُ اللَّهُ ما يشَاءُ، ويحكم ما يريد، ويجب علينا الإيمانُ بكل ما ورد به الشرع، سواءَ عقلناه أم لم نعقله. قوله: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت} تقدَّم مثله. وقوله: «تَوَفَّتْهُ» قرأ الجمهور «تَوَفَّتْهُ» ، ماضياً بتاء التأنيث لتأنيث الجمع. وقرأ حمزة: «تَوَفَّاهُ» من غير تاء تأنيث، وهي تحتمل وجهين. أظهرهما: أنه ماضٍ، وإنما حذفَ تاء التأنيث لوجهين: أحدهما: كونه تأنيثاً مجازياً. والثاني: الفَصْلُ بين الفِعْلِ وفاعله بالمفعول. والثاني: أنه مضارع، وأصله: تَتَوَفَّاهُ بتاءين، فحذفت إحداهما على خلافٍ في أيَّتهما ك «تَنَزَّلُ» وبابه، وحمزة على بابه في إمالة مثل هذه الألف. وقرأ الأعمش: «يَتَوَفَّاهُ» مُضارعاً بياء اليغَيْبَةِ اعتباراً بكونه مؤنثاً مجازياً، أوْ للفَصْلِ، فهو كقراءة حَمْزَةَ في الوجْهِ الأوَّل من حيث تذكير الفعلِ وكقراءته فغي الوَجْهِ الثاني من حيث إنه أتى به مُضَارعاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 196 وقال أبو البقاء: «وقرئ شاذاً» «تَتَوفَّاهُ» على الاسْتِقْبَالِ، ولم يذكر بياء ولا تاء. فصل في بيان أن الوفاة من الله قال الله تعالى: {الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مِوْتِهَا} [الزمر: 42] وقال: {الذي خَلَقَ الموت والحياة} [تبارك: 2] وهذان النَّصانِ يَدُلاَّنِ على أنَّ توفي الأرواح ليس إلاَّ من اللَّهِ. وقال تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11] وهذا يقتضي أن الوفاة لا تحصلُ إلاَّ من ملك الموت. وقال في هذه الآية: «تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا» ، فهذه النصوص الثلاثة كالمُتَنَاقضة. والجوابُ: أن التَّوَفِّي في الحقيقة إنما حَصَلَ بِقُدْرَةِ الله تعالى، وهو في الظاهر مُفَوَّضٌ إلى مَلَكِ الموت، وهو الرئيس المُطْلَق في هذا الباب، وله أعْوَانٌ وخدمٌ فَحَسُنَتْ إضافة التَّوَفِّي إلى هذه الثلاثة بحسبِ الاعتبارات الثلاثة. وقيل: أراد بالرُّسُلِ ملك الموت وحده، وذكر الواحد بلفظ الجمع. وجاء في الأخبار أنَّ اللَّه - تعالى - جعل الدُّنْيَا بين يدي مَلَكِ الموت كالمائدةِ الصَّغيرة، فَيَقْبِضُ من هاهنا، ومن هاهنا، فإذا كَثُرَت الأرواح يدعو الأرواح فتيجيب له. فصل في بيان أن الحفظة لا شأن لهم بالموت قال بعضهم: هؤلاء الرُّسُلُ الذين يَتَوفَّون الخلْقَ هم الحفظةُ بحفظونه في مُدَّةِ الحياة، وعند مجيء الموْتِ يِتوفَّوْنَهُ، والأكثرون على أنَّ الحفظةَ غير الذين يَتَولَّونَ الوفاة. قوله: «وهُمْ لا يُفَرِّطُونَ» هذه الجملة تحتمل وجهين: أظهرهما: أنها حالٌ من «رسلنا» . والثاني: أنها اسْتِئْنَافِيَّةٌ سيقت للإخبار عنهم بهذه الصِّفة، والجمهور على التشديد في «يُفَرِّطُون» ، ومعناه: لا يُقَصِّرُون. وقرأ عمرو بن عُبيد والأعرج «يُفْرطُون» مخففاً من «أفرط» ، وفيها تأويلان: أحدهما: أنها بمعنى: لا يجاوزون الحَدَّ فيما أمِرُوا به. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 197 قال الزمخشري: «فالتفريط: التَّوَاني والتأخير عن الحَدِّ، والإفراطُ مُجَاوَزَةُ الحدِّ أي: لاينقصون مما أمروا بِهِ، ولا يزيدون» . والثاني: أنَّ معناه لا يتقدَّمُون على أمْرِ الله، وهذا يحتاج إلى نَقْلِ أنَّ «أفْرَطَ» بمعنى «فَرَّط» ، أي: تقدَّم. قال الجَاحِظُ قريباً من هذا فغنه قال: «معنى لا يُفْرِطون: لا يدعون أحَداً يَفْرُط عنهم، أي: يَسْبِقُهُمْ ويفوتهم» . وقال أبو البقاء: ويقرأ بالتخفيف، أي: لا يزيدون على ما أمِرُوا به، وهو قريبٌ مما تقدَّم. قوله: «ثُمَّ رُدُّوا إلى الله» . قيل: المردود: هم الملائكة يعني كما يَمُوتُ ابن آدم تموت أيضاً الملائكة. وقيل: المراد: البَشَرُ يعني: أنههم بعد موتهم يُرَدُّون إلى اللَّهِ تعالى. وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الإنسانَ ليس مُجَرَّدَ هذه البنية؛ لأن صريح هذه الآية يَدُلُّ على حُصُولِ الموْتِ لِلْعَبْدِ، ويَدُلُّ على أنه بعد الموْتِ يُردُّ إلى اللَّهِ، والميِّتُ مع كونه مَيِّتاً لا يمكن أن يرد إلى اللَّهِ؛ لأن ذلك الرَّدَّ ليس بالمكان والجهة لكونه - تعالى - مُتَعَالياً عن المكان والجهة، فوجب أن يكون ذلك الرَّدُّ مُفَسَّراً بكونه مُنْقَاداً لِحُكْمِ اللَّهِ. وما لم يكن حَيَّاً لم يَصِحَّ هذا المعنى فيه. وقد ثبت أنَّ ها هنا مَوْتاً وحياة، أما الموت فنصيب البدنِ، فبقى أن تكون الحياةُ نَصِيبَ النَّفْسِ والروح، فلمَّا قال تعالى: {ثُمَّ ردوا إلى الله} ثبت أنَّ المَرْدُودَ هو النَّفْسُ والرُّوحُ، وثبت أن الإنسان ليس إلاَّ النَّفْسُ والروح، وهو المطلوب. فصل في عموم الآية الآية في المؤمنين والكافرين جمعياً، وقد قال في آية أخرى {وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} [محمد: 11] فكيف وجه الجمع؟ فقيل: المَوْلَى في تلك الآية بمعنى النَّاصر، ولا نَاصِرَ لِلْكُفَّارِ، والمولَى هاهنا بمعنى الملكِ الذي يتولَّى أمُورَهُمْ، والله - عزَّ وجلَّ - مَالِكُ الكُلِّ ومُتولِّي أمورهم. وقيل: المارد هاهنا - المؤمنين خاصَّة يُرَدُّونَ إلى مَولاهُمْ، والكُفَّارُ فيه تَبَعٌ. قوله: «مَوْلاهُمُ الحَقُّ» صِفتانِ لِلَّهِ عزَّ وجلَّ. وقرأ الحسنُ، والأعمش: «الحقَّ نَصْباً، وفيه تأويلان: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 198 أظهرهما: أنه نَعْتٌ مقطوع. والثاني: أنه نَعْت مَصْدر محذوف، أي: رَدُّوا الرَّدَّ الحقَّ لا الباطل، وقرئ رِدُّوا بكسر الرَّاء، وتقدَّم تخريجها. والضميرُ في» مَوْلاهم «فيه ثلاثة أوجهٍ: أظهرها: أنه للعباد قوله:» فَوْقَ عِبَادِهِ «فقوله: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً} التِفَاتٌ؛ إذ الأصل: ويرسل عليهم، وفائدة هذا الالتِفَاتِ والتَّنْبِيهُ والايقَاظُ. والثاني: أنه يعود على الملائكة المعنيّين بقوله: «رسلنا» يعني انهم يموتون كما يموت بَنُو آدَمَ، ويُرَدُّون إلى ربِّهِمْ كما تقدَّم. والثالث: أنه يعود على «أحدٍ» في قوله: {جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت} [الأنعام: 61] ؛ إذ المراد به الجَمْعُ لا الإفراد. قوله: «ألاَ لَهُ الحُكْمُ» ، أي: لا حُكْمَ إلاَّ لِلَّهِ؛ لقوله: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} [يوسف: 40] ، والمراد بالحُكْمِ القضاء «وهُوَ أسْرَعُ الحَاسِبينَ» ، أي: حسابه يرفع لا يحتاج إلى فِكْرٍ ورويَّةٍ، واختلفوا في كيفية هذا الحساب، فقيل: إنه - تعالى - يحاسب الخَلْقَ بنفسه دفعة واحدةً لا يشغله كلامٌ عن كلامٍ. وقيل: بل يأمر اللَّهُ الملائكة أن يحاسب كُلُّ واحدٍ منهم واحداً من العبادِ؛ لأنه - تعالى - لوحاسبَ الكُفَّار بنفسه لتكلَّم معهم، وذلك بَاطِلٌ؛ لقوله تعالى في صِفَةِ الكُفَّارٍ: {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة} [البقرة: 174] . فصل في رد شبهة حدوث الكلام أحْتَجَّ الجُبَّائي بهذه الآيةِ على حُدُوثِ كلام اللَّهِ. قال: لو كان كلامُهُ قديماً لوجب أن يكُون مُتَكلماً بالمُحَاسَبَةِ الآن، وقبل خلقه، وذلك مَحَالٌ؛ لأن المُحَاسَبَة تقتضي حكاية عمل تقدَّم. وأجيب بالمُعَارَضَةِ بالعِلْمِ، فإنه تعالى كان قبل المَعْلومِ عالماً بأنه سَيُوجد، وبعد وجوده صار عالماً بأنه وجد قبل ذلك، ولم يَلْزَمْ منه تَغَيُّرُ العلم، فَلِمَ لا يجوز مثله في الكلام. والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 وهذا نوع آخر من الدلالة على كمالِ القُدرةِ الإلهية، وكمال الرحمة والفَصْلِ والإحسان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 199 وقرأ السبعة هذه مشدّدة: {قُلِ الله يُنَجِّيكُم} [الأنعام: 64] قرأها الكوفيون وهشام بن عامر عن أبي عام كالأول. وقرأ الثِّنْتينِ بالتخفيف من «أنْجَى» حُمَيْدُ بن قيس، ويعقوب، وعلي بن نَصْرٍ عن أبي عمرو، وتحصَّل من ذلك أن الكوفيين وهشاماً يثقلون في الموضعين، وأن حميداً ومن مَعَهُ يُخَفِّفُونَ فيهما، وأن نافعاً، وابن كثير، وأبا عمرو، وابن ذكوان عن ابن عامرٍ يُثَقِّلُون الأولى، ويُخَفِّفُون الثانية، والقراءات واضحة، فإنها من: نجَّى وأنْجى، فالتضعيف والهمزة كلاهما للتَّعديَةِ. فالكوفيون وهشام التَزَمُوا التَّعْديةَ بالتضعيف، وحميد وجماعته التَزَمُوهَا بالهمزة. والباقون جمعوا بين التَّعديتين جمعاً بين اللُّغَتَيْنِ كقوله تعالى: {فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً} [الطارق: 17] . والاستفهام للتقرير والتَّوْبيخ، وفي الكلام حَذفُ مضاف، أي: مِنْ مهالِكِ ظُلُمات، أو من مخاوفها، والظلمات كِنَايةٌ عن الشدائد والأهوال إذا سافروا في البرِّ والبَحْرِ. قوله: «تَدْعُونَهُ» في مَحَلِّ نصب على الحال، إما من مفعول «ينجيكم» ، وهو الظاهر، أي: ينجيكم داعين إيَّاه، وإما من فاعله، أي: مدعُوَّاً من جهتكم. قوله: «تَضَرُّعاً وخُفْيَةٌ» يجوز فيها وجهان: أحدهما: إنهما مصدران في موضع الحالِ، أي: تدعونه مُتَضَرِّعين ومُخْفِينَ. والثاني: أنها مصدارن من معنى العامل لا من لفظه كقولك: قعدت جُلُوساً. وقرأ الجمهور: «خُفْيَةً» بضم الخاء، وقرأ أبو بكر بكسرها، وهما لغتانِ، كالعُدْوِةِ والعِدْوةِ، والأسْوَة والإسْوَة. وقرأ الأعمش: «وخيفة» كالتي في «الأعراف» وهي من الخَوْفِ، قُلِبَتْ «الواو» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 200 ياء لانكسار ما قبلها وسكونها، ويظهر على هذه القراءة أن يكون مفعولاً من أجله لولا ما يَأبَاهُ «تَضرُّعاً» من المعنى. قوله: «لَئِنْ أنْجَيْتَنَا» الظاهر أن هذه الجلمة القسميَّةَ تفسير للدُّعاءِ قبلها ويجوز أن تكون مَنْصُوبَةً المَحلِّ على إضمار القول، ويكون ذلك القول في محلِّ نصب على الحال من فاعل «تدعونه» أي: تدعونه قائلين ذلك، وقد عرف مما تقدَّم غير مرَّةٍ كيفية اجتماع الشرط والقسم. وقرأ الكوفيون «أنْجَانَا» بلفظ الغَيْبَةِ مُرَعَاةً لقوله «تَدْعُونَهُ» والباقون «أنجيتَنَا» بالخطاب حكاية لخطابِهِمْ في حالة الدعاء، وقد قرأ كُلُّ بما رسم في مصحفه، فإن في مصاحف «الكوفة» : أنْجَانَا «، وفي غيرها:» أنْجَيْتَنَا «. قوله:» مِنْ هَذِهِ «متعلِّقٌ بالفعل قَبْلَهُ، و» مِنْ «لابتداء الغاية، و» هذه «اشارةٌ إلى الظُّلماتِ، لأنها تجري مجرى المؤنثة الواحدة، وكذلك في» منها «تعود على الظلمات. وقوله:» ومِنْ كُلِّ كَرْبٍ «عطف على الضمير المجرور بإعادةِ حرف الجر، وهو واجب عند البصريين، وقد تقدَّم. و» الكَرْبُ «غاية الغَمِّ الذي يأخذ النَّفْسَ. قوله:» ثُمَّ أنْتُمْ تُشْرِكُونَ «يريد أنهم يُقرُّونَ أن الذي يدعونه عند الشدة هو الذي يُنَجِّيهم، ثم يشركون معه الأصنامَ التي علموا أنها لا تضر ولا تنفع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 وهذا نوع آخر من دلائلِ التوحيد مَمْزُوجٌ بالتخويف فبين كونه - تعالى - قادراً على إيصال العذاب إليهم من هذه الطُّرُقِ المختلفة تارة من فوقهم، وتارةً من تحت أرجهلم، فقيل: هذا حقيقة. فأما العذابُ من فوقهم كالمطرِ النازل عليهم في قِصَّةِ نوح، والصَّاعقةِ، والرِّيحِ، والصَّيْحةِ، ورَمْي أصحاب الفيل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 201 وأما الذي من تحت أرجلهم: كالرَّجْفَةِ والخَسْفِ، وقيل: حبس المطر والنبات. وقيل: هذا مجاز. قال مجاهد وابن عباس في رواية عكرمة: «مِنْ فَوْقِكُمْ» أي: من الأمراء، أو من تحت أرجلكم من العبيد والسَّفلةِ. قوله: «عَذَاباً مِنْ فَوقكُم» يجوز أن يكون الظَّرْفُ معلِّقاً ب «نبعث» وأن يكون متعلّقاً بمحذوف على أنه صفةٌ ل «عذاباً» أي: كائناً من هاتين الجِهَتين. قوله: «أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» عطف على «يبعث» . والجمهور على فتح الياء من «يَلْبِسَكُمْ» وفيه وجهان: أحدهما: أنه بمعنى يخلطكم فِرقاً مختلفين على أهْوَاء شَتَّى كل فرقة مُشَايعة لإمام، ومعنى خَلْطِهِم: إنْشابُ القتالِ بيهم، فيختلطون في ملاحم القتال كقول الحماسي: [الكامل] 2190 - وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتيبَةٍ ... حَتَّى إَذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يِدِي فَتَرَكُتُهُمْ تَقِصُ الرِّمَاحُ ظُهُورَهُم ... ْ مَا بَيْنَ مُنْعَفِرِ وَآخَرَ مُسْنَدِ وهذه عبارة الزمخشري: فجعله من اللَّبْسِ الذي هو الخَلْطُ، وبهذا التفسر الحسن ظهر تعدِّي «يلبس» إلى المفعول، و «شِيَعاً» نصب على الحال، وهي جمع غير الصدر كقعدت جلوساً. قال أبو حيَّان: «ويحتاج في جعله مصدراً إلى نقل من اللغة» . ويجوز على هذا أيضاً أن يكون حالاً ك «أتَيْتُهُ رَكْضاً» أي: راكضاً، أو ذا ركض. وقال أبو البقاء: والجمهور على فتح الياء، أي: يَلْبِسُ عليكم أموركم، فحذف حرف الجر والمفعول، والأجود أن يكون التقدير: أو يَلْبِسُ أموركم، فحذف المضاف، وأقيم المضاف إليه مقامه. فصل في معنى الآية قال الُفَسِّرُونَ: معناه: أن يجعلكم فرقاً، ويثبت فيكم الأهواء المختلفة. وروى عمرو بن دينار عن جابرٍ، قال: «لما نزلت هذه الآية {قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 202 عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ} قال رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أعُوذُ بِوَجْهِكَ «قال: {أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ} قال:» أعُوذُ بِوَجْهِكَ «. قال: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ} قال رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» هذا أهْوَنُ أوْ هَذَا أيْسَرُ «وعن عامر بن سعد بن أبي وقَّاصٍ، عن أبيه قال:» أقبلنا مع روسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتى مررنا على مسجد بني مُعاويةَ، فدخل وصلَّى ركعتين، وصلينا معه فناجى ربه طويلاً، ثم قال: «سَألْتُ ربِّي ثلاثاً: ألاَّ يُهْلِكَ أمَّتِي فأعْطَانِيها، وسَالْتُهُ ألاَّ يُهْلِكَ أمَّتِي بالسَّنَةِ فأعْطَانيها، وسَألْتُهُ ألاَّ يَجْعَلَ بأسَهُمْ بَيْنَهُمْ فمنَعَنِيهَا» وعن ابن عُمَرَ أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا في المسجد، فسأله الله ثلاثاً فأعطاه اثنتين، ومنعه واحدة، سأله ألاَّ يُسَلِّطَ على أمته عدواً من غيرهم يظهر عليهم، فأعطاه ذلك، وسأله ألا يهلكهم بالسِّنين، فأعطماه ذلك، وسأله ألاَّ يجعل بَأسَ بضعهم على بَعْضٍ فمنعه ذلك. فصل في مزيد بيان عن الآية ظاهر قوله تعالى: {أوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعا} أنه يجعلهم على الأهْوَاءِ المختلفة، والمذاهب المُتنافيةِ، والحق منها ليس إلا لواحدٍ، وما سواه فهو باطل، وهذا يقتضي أنه - تعالى - قد يحلم المُكَلَّف على اعتقاد الباطِلِ. وقوله: {وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْض} لا شَكَّ أن أكثرها ظُلم ومعصية، وهذا يدل على كونه - تعالى - خالقاً للخير والشر. وأجاب الخَصْمُ عنه بأنه الآية تَدُلُّ على أنه - تعالى - قادر عليه، وعندنا أن الله - تعالى - قَادِرُ على القُبْحِ، إنما النزاع في أنه - تعالى - هل يفعل ذلك أم لا؟ وأجيب بأن وَجْهَ التَّمَسُّكِ بالآية شيء آخر، فإنه قال: «هُوَ القادرُ» على ذلك، وهذا يفيد الحَصْرَ، فوجب أن يكون غَيْرُ الله غَيْرَ قادر على ذلك، وقد حصل الاختلافُ بين الناس، فثبت بِمُقْتَضَى الحَصْر المذكور ألاَّ يكون ذلك صَادِراً عن غير الله، فوجب أن يكون صادراً عن الله، وهو المطلوب. فصل في إثبات النظر والاستدلال قالت المعتزلة والحَشَويَّة: هذه الآية من أدَلِّ الدلائل على المَنْعِ من النظر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 203 والاستدلال؛ لأن فَتْحَ تلك الأبواب يفيد وقوع الاختلاف، والمُنازعة في الأديان، وتفريق الخلائقِ إلى هذه المذاهبِ والأديان، وذلك مَذْمُومٌ بهذه الآية، والمُفْضِي إلى المذموم مَذْمُومٌ، فوجب أن يكون فتح باب النظر والاستدلال مَذْمُوماً. وأجيبوا بالآيات الدالة على وجوب النَّظَرِ والاستدلال كما تقدَّم مِرَاراً. فصل في قراءة «يلبسكم» قرأ أبو عبد لاله المدني: «يُلْبِسَكُمْ» بضم الياء من «ألْبَسَ» رباعياً، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون المفعول الثَّاني مَحْذُوفاً، تقديره أو يُلْبِسكم الفِتْنَةَ، و «شيعاً» على هذا حالٌ، أي: يلبسكم الفِتْنَةَ في حال تفرُّقِكُمْ وشَتَاتِكُمْ. الثاني: أن يكون «شيعاً» هو المفعول الثاني، كأنه جعل النَّاس يلبسن بعضهم مجازاً كقوله: [المتقارب] 2191 - لَبِسْتُ أنَاساً فَأفْنَيْتُهُمْ ... وأفْنَيْتُ بَعْدَ أنَاسٍ أنَاسَا والشِّيعَةُ: من يَتَقوَّى بهم الإنسان، والجمع: «شيع» كما تقدم، و «أشْيَاع» ، كذا قال الراغب، والظاهر أن «أشْيَاعاً» جمع «شِيعَ» ك «عنب» و «أعْنَاب» ، و «ضِلَع» و «أصْلاع» و «شيع» جمع «شِيْعَة» فهو جمع الجمع. قوله: «ويُذيْقَ» نَسَقٌ على «يِبْعَث» ، والإذاقَةُ اسْتِعَارةٌ، وهي فاشية: {ذُوقُواْ مَسَّ سَقَر} [القمر: 48] ، {ذُقْ إِنَّكَ} [الدخان: 49] ، {فَذُوقُواْ العذاب} [الأنعام: 30] . وقال: [الوافر] 2192 - أذَقْنَاهُمْ كُئُوسَ المَوْتِ صِرْفاً ... وَذَاقُوا مِنْ أسِنَّتِنَا كُئُوسَا وقرأ الأعمش: «ونُذِيِقَ» بنون العظمة، وهو التْتِفَاتٌ، فائدته تعظيم الأمر، والتحذير من سطوَتِهِ. قوله: {انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُون} قال القاضي: هذا يَدُلُّ على أنه - تعالى أراد بتصريف الآيات، وتقرير هذه البيِّنات أن يفهم الكل تلك الدلائل، ويفقه الكل تلك البيِّنات. وأجيب بأن ظاهِرَ الآية يَدُلُّ على أنه - تعالى - ما صرَّف هذه الآيات إلا لمن فقه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 204 وفهم، فأما من أعْرَضَ وتمرَّدَ فهو تعالى ما صرَّف هذه الآيات لهم. قوله تعالى: {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} قوله: «وكذَّبَ بِهِ» «الهاء» في «ربه» تعود على العذاب المُتقدِّمِ في قوله: «عذاباً مِنْ فَوقِكُمْ» قال الزمخشري. وقيل: تعود على القُرْآنِ. وقيل: تعود على الوعيد المتضمن في هذه الآيات المتقدمة. وقيل: على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهذا بعيد؛ لأنه خُوطبَ بالكاف عقِيبَهُ، فلو كان كذلك لقال: وكذب به قومك، وادَّعاءُ الالتفات فيه أبْعَدُ. وقيل: لا بد من حَذْفِ صِفَةٍ هنا، أي: وكذب به قومك المُعَانِدُونَ، أو الكافرون؛ لأن قومه كلهم لم يُكَذِّبُوهُ، كقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] أي الناجين، وحذف الصفة وبقاء الموصوف قليل جداً، بخلاف العكس. وقرأ ابن أبي عبلة: «وكذَّبت» بتاء التأنيث، كقوله تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105] ، {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ} [الشعراء: 160] باعتبار الجماعة. قوله: «وهُوَ الحقُّ» في هذه الجملة وجهان: الظاهر منهما: أنها استتئناف. والثاني: أنها حالٌ من «الهاء» في «به» ، أي: كذبوا به في حالِ كونه حقَّا، وهو أعظم في القبح. والمعنى أن الضمير في «به» للعذاب، فمعنى كونه حقَّا لا بد أن ينزل بهم، وإن عاد إلى القرآن، فمعنى كونه حقّا، أي: كتاب منزل من عند الله، وإن عاد إلى تصريف الآيات أي: أنهم كذَّبوا كون هذه الأشياءِ دلالاتٍ، وهو حق. قوله: «عَلَيْكُمْ» مُتعلِّقٌ بما بعده، وهو توكيد، وقدم لأجل الفواصِلِ، ويجوز أن يكون حالاً من قوله: «بِوَكِيلٍ» ؛ لأنه لو تَأخَّرَ لجاز أن يكون صفة له، وهذا عند من يُجِيزُ تقديم الحال على صاحبها المجرور بالحرف، وهو اختيار جماعةٍ، وأنشدوا عليه: [الخفيف] 2193 - غَافِلاً تَعْرضُ المَنِيَّةُ لِلْمَرْءِ ... فَيُدْعَى وَلاتَ حينَ إبَاءُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 205 فقدم «غافلاً» على صاحبها، وهو «المرء» ، وعلى عامها وهو «تَعْرُضُ» فهذا أوْلَى. ومنه [الطويل] 2194 - لَئِنْ كَانَ بَرْدُ المَاءِ هَيْمَانَ صَادِياً ... إليَّ حَبِيباً إنَّهَا لَحَبِيب أي: إليَّ هيمان صادِياً، ومثله: [الطويل] 2195 - فَإن يَكُ أذْوَادٌ أصِبْنَ ونِسْوَةٌ ... فَلَنْ يَذْهَبُوا فَرْغاً بِقَتْلِ حِبَالِ «فَرْغاً» حال من «يقتل» ، و «حبال» بالمهملة اسم رَجُلٍ مع أن حرف الجر هنا زائد، فجوازه أوْلَى مما ذكرناه. فصل في المراد بالآية معنى الآية: قل لهم يا محمد: وقيل: بمُسَلّط ألزمكم الإيمان شئتم أو أبيتم، وأجازيكُمْ على تَكْذِيبكُمْ، وإعراضكم عن قَبُولِ الدلائل، إنما أنا رسول ومُنْذِرٌ، والله المُجَازِي لكم بأعمالكم. قال ابن عبَّاس والمفسرون: نسختها آية القتال، وهو بعيد. قوله: {لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ} [الأنعام: 67] يجوز رفع «نبأ» بالابتدائية، وخبره الجَارُّ قَبلهُ، وبالفاعلية عند الأخفش بالجار قبله، ويجوز أن يكون «مسقر» اسم مصدر أي: استقرار [مكان، أو زمان؛] لأن ما زاد على الثُّلاثيَّ كان المصدر منه على زنةِ اسم المفعول؛ نحو: «المدخل» و «المخرج» بمعنى «الإدخال» و «الإخراج» ، والمعنى أن لك وعْد ووعيد من الله استقرار، ولا بد وأن يعلموا [أن الأمر كما أخبر الله تعالى] ويجوز أن يكون مكان الاستقرار أو زمانه [وأن] لكل خبر يخبره الله وقتاً أو مكاناً يحصل فيه من غير خُلْفٍ ولا تأخير، وهذا الذي خَوَّفَ الكفار به يجوز أن يكون المُرَادُ به عذابَ الآخرة، ويجوز أن يكون المراد منه الاستيلاء عليهم بالحَرْبِ والقَتْلِ في الدُّنيا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 قال تعالى في الآية الأولى {وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 66] فتبيَّنَ به أنه لا يجب على الرّسُول ملازمة المكذَّبين بهذا الدَّين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 206 وبيَّن في هذه الآية أن أولئك المكذَّبين إن ضَمُّوا إلى كُفْرِهِمْ وتكذيبهم الاسْتِهْزَاءَ بالدَّين والطَّعْن في الرسول، فإن يجب الإعراض عنهم، وترك مُجَالَسَتِهِم. قوله: {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} فقيل: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد به غيره. وقيل: الخطاب لغيره، أي: إذا رأيت أيها السَّامِعُ الذين يخوضون في آياتنا. نقل الواحديُّ أنَّ المشركين كانوا إذا جالَسُوا المؤمنين وَقَعُوا في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والقرآن فَشَتَمُوا واستعهزءوا فأمرهم ألاَّ يقعدوا معهم حتى يَخُوضُوا في حديث غيره. والخَوْضُ في اللغة عبارة عن المُفاوضةِ على وجه اللَّعبِ والعبثِ. قال تعالى حكاية عن الكفار: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين} [المدثر: 45] وإذا قال الرجل: تركت القوم يَخُوضُونَ أفاد أنهم شَرَعثوا في كَلِمَاتٍ لا ينبغي ذِكُرُهَا. قوله: «إذَا» منصوب بجوابها، وهو «فأعْرَضْ» ؛ أي: فأعرض عنهم في هذا الوَقْتِ و «رأيت» هنا تحتمل أن تكون البصريَّة، وهو الظاهر، ولذلك تعدّت لواحد. قال أبو حيَّان: «ولابُدَّ من تقدير حالٍ مَحْذُوفَةٍ، أي: وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا، وهو خائضون فيها، أي: وإذا رأيتهم مُلْتَبِسينَ بالخَوْضِ فيها» . انتهى. قال شهاب الدِّين: ولا حَاجَةَ إلى ذلك؛ لأن قوله: «يَخُوضُونَ» مُضارع، والراجح حَاليَّتُهُ وأيضاً فإن «الذينَ يَخُوضُونَ» في قُوَّةِ الخائضين، واسم الفاعل حَقيقَةٌ في الحال بلا خلاف، فيحمل هذا على حقيقته، فيُسْتَغْنَى عن حذف هذه الحال التي قدَّرها وهي حال مؤكدة. ويحتمل أن تكون علمية، وضعَّفَةُ أبو حيان بأنه يَلْزَمُ منه حذف المفعول الثاني، وحذفه إما اقْتَصَارٌ، وإما اختِصَارٌ، فإن كان الأوَّل: فممنوع اتفاقاً وإن كان الثاني: فالصحيح المَنْعُ حتى منع ذلك بعض النحويين. قوله: «غَيْرِهِ» «الهاء» فيها وجهان: أحدهما: أنها تعود على الآياتِ، وعاد مفرداً مذكراً؛ لأن الآيات في معنى الحديثِ والقرآن. وقيل: إنها تعود على الخَوْضِ، أي: المدلول عليه بالفِعْلِ كقوله: [الوافر] 2196 - إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ ... وخَالَفَ والسَّفِيهُ إلى خلافِ أي: جرى إلى السَّفَهِ، دَلَّ عليه الصِّفَةُ كما دَلَّ الفعل على مصدره؛ أي: حتى يخوضوا في حديث غير الخَوْضِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 207 وقوله: «وإمَّا يُنْسِيَنَّكَ» قراءة العامّة «يُنْسِيَنَّكَ» بتخفيف السِّين من «أنْسَاهُ» كقوله: {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان} [الكهف: 63] قال تعلى في الآية الأولى {فَأَنْسَاهُ الشيطان} [يوسف: 42] . وقرأ ابن عامر: بتشديدها من «نسَّاهُ» ، والتعدِّي جاء في هذا الفعل بالهمزة مرة، وبالتضعيف أخرى، كما تقدم في «أنْجَى» و «نَجَّى» و «أمْهَل» و «مَهَّلَ» . والمفعول الثاني محذوف في القراءتين؛ تقديره: وإما يُنْسِيَنَّك الشَّيْطانُ الذِّكرَ أو الحقَّ. والأحسن أن يقدر ما يليق بالمعنى، أي: وإما نيسينك الشيطان ما أمرت به من ترك مُجَالَسَةِ الخائضين بعد تذكيرك، فلا تقعدْ بعد ذلك معهم، وإنما أبرزهم ظاهرين تسجيلاً عليهم بصفة الظُّلْم، وجاء الشرط الأول ب «إذا» ؛ لأن خَوْضَهُمْ في الآيات مُحَقَّقٌ، وفي الشرط الثاني ب «إن» إنْسَاءَ الشيطان له لي أمراً مُحَقَّقاً، بل قد يقع وقد لا يقعن وهو مَعْصُومٌ منه. ولم يجئ مصدر على «فِعْلَى» غير ذِكْرَى «. وقال ابن عطيَّة:» وإمَّا شرطن ويلزمها في الأغلب النون الثقيلة، وقد لا تلزم كقوله: [البسيط] 2197 - إمَّا يُصِبْكَ عَدُوُّ في مُنَاوَأةِ ..... ... ... ... ... ... . وهذا الذي ذكره من لُزُوم التوكيد هو مذهب الزَّجَّاجِ، والنَّاسُ على خلافه، وأنشدوا ما أنشده ابن عيطة وأبياتاً أُخَرَ منها: [الرجز] 2189 - إمَّا تَرَيْنِي اليَوْمَ أمَّ حَمْزِ ... وقد تقدَّم طرفٌ من هذه المسألة أوَّل البقرة، إلا أن أحداً لم يَقُلْ: يلزم توكيده بالثقيلة دون الخفيفة، وغن كان ظاهر كلام ابن عطية ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 يجوز أن تقدر «ما» حجازية، فيكون «مِنْ شيءٍ» اسمها، و «من» مزيدة فيه لتأكيد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 208 الاستغراقِ، و «على الذين يتَّقُون» خبرها عند من يُجيزُ إعمالها مقدمة الخبر مطلقاً، أو يرى ذلك في الظَّرْفِ وعديلِهِ. و «مِنْ حِسَابِهِمْ» حالٌ من «شيء» لأنه لو تأخَّر لكان صِفَةً، ويجوز أن تكون مُهْمَلةً إما على لُغَةِ «تميم» وإما على لغة «الحجاز» لِفَواتِ شرطٍ، وهو تقديم خبرها وإن كان طرفاً، وتحقيق ذلك مما تقدَّم في قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: 52] قوله: «ولَكِنْ ذِكْرَى» فيه أربعة أوجه: أحدهما: أنها مَنْصُوبَةٌ على المَصْدَرِ بفعلٍ مُضْمَرٍ، فَقَدَّرهُ بعضهم أمراً؛ أي: ولكن ذكِّروهم ذِكْرَى، وبعضهم قدَّرَةُ خبراً؛ أي: ولكن يذكرونهم ذكرى. الثاني: أنه مبتدأ خَبَرُهُ محذوف؛ أي: ولكن عليهم ذكرى؛ أي: النهي عن مُجَالَسَتِهِمْ والامتناع منها ذكرى. الرابع: أنه عطفٌ على موضع «شيء» المجرور ب «مِنْ» ؛ أي: ما على المُتَّقين من حسابهم شيء، ولكن عليهم ذكرى، فيكون من عَطْفِ المفردات، وأما على الأوجه السَّابقة فمن عطف الجُمَلِ. وقد رَدَّ الزمخشري هذا الوَجْهَ الرابع، ورَدَّهُ عليه أبو حيان. فأما رَدّ الزمخشري فقال: «ولا يجوز أن يكون عَطْفاً على مَحَلِّ من شيء؛ كقولك:» ما في الدار من أحد ولكن زيد «؛ لأن قوله:» مِنْ حِسَابِهِمْ «يأبَى ذلك» . قال أبو حيَّان: كأنه تَخَيَّلَ أن في العَطْفِ يلزم القَيْدُ الذي في المعطوف عليه، وهو «مِنْ حِسَابِهِم» فهو قيد في «شيء» فلا يجوز عنده أن يكون من عَطْفِ المفردات عطفاً على «من شيء» على الموضع؛ لأنه يصير التقدير عنده: ولكن ذكرى من حسابهم، وليس المعنى على هذا، وهذا الذي تَخَيَّلَهُ ليس بشيء، ولا يلزم في العطف ب «لكن» ما ذكر؛ تقول: ما عندنا رَجُلُ سُوءٍ ولكن رَجُلُ صِدْقٍ، وما عندما رَجُلٌ من تميم ولكن رَجُلٌ من قريش، وما قام من رَجُلٍ عالم ولكن رَجُل جاهل، فعلى هذا الذي قَرَّرْناهُ يجوز أن يكون من عطف الجمل كما تقدم، وأن يكون من عَطْفِ المفرادات والعطف بالواو، ولكن جيء بها للاستدراك. قال شهاب الدِّين: قوله: «تقول: ما عندنا رجل سوء وكن رجل صدق» إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 209 آخر الأمثلة التي ذكرها لا يَرُدُّ على الزمخشري؛ لأن الزمخشري وغيره من أهْلِ اللِّسانِ والأصوليين يقولون: إنَّ العطف ظَاهِرٌ في التشريك، فإن كان في المعطوف عليه قَيْدٌ فالظَّاهِرُ تقييد المعطوف بذلك القَيْد؛ إلاَّ أن تجيء قرينَةٌ صارِفَةٌ، فيُحَالٌ الأمر عليها. فإذا قلت: ضربت زيداً يوم الجمعة وعمراً، فالظاهر اشتراك عمرو مع زيد في الضَّربِ مقيداً بيوم الجمعة، فإن قلت: وعمراً يوم السبت لم يشاركه في قَيْدِهِ، والآية الكريمة من قَبِيلِ النوع الأول؛ أي: لم يؤت مع المعطوف بقرينه تُخْرِجُهُ، فالظاهر مُشَاركَتُهُ للأول في قيده، ولو شاركه في قيده لزم منه ما ذكر الزومخشري، وأما الأمثلة التي أوْرَدَهَا فالمعطوف مُقَيَّدٌ بيغر القيد الذي قيد به الأوَّل، وإنما كان نبغي أن يُمَثِّلَ بقوله: «ما عندنا رجل سوء ولكن امرأة وما عندنا رجل من تميم ولكن صبي» ، فالظاهر من هذا أن المعنى: ولكن امرأة سوء، ولكن صبي من قريش. وقول الزمخشري: «عَطْفاً على محل: من شيء» ولم يقل: عطفاً على لفظه لفائدة حَسَنَةٍ يَعْسُرُ مَعْرفَتُهَا، وهو أن «لكن» حرف إيجاب، فلو عطفت ما بعدها على المجرور ب «مِنْ» لَفْظاً لزم زيادة «من» في الواجب، وجمهور البصريين على عدم زيادتها فيه، ويَدُلُّ على اعتبار الإيجاب في «لكن» أنهم إذا عَطَفُوا بعد خبر «ما» الحجازية أبْطَلُوا النَّصْبَ؛ لأنها لا تعمل في المنتقض النفي، و «بل» ك «لكن» فيما ذكرنا. فصل في النزول روى عن ابن عبَّاسٍ أنه قال: لما نزلت هذه الآية {وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} [الأنعام: 68] قال المسلمون: لئن كُنَّا كلما استهزأ المشركون بالقرآن، وخاصوا فيه قُمنا عَنْهُم لما قَدَرْنَا على أن نجلس في المسجد الحرامِ، وأن نطوف بالبيت، وهم يخوضون أبداً. وفي رواية: قال المسلمون: فإنا نَخَافُ الإثم حين نتركهم، ولا ننهاهم، فأنزل الله {وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم} أي: ما آثَامِ الخائفين من شيء «ولَكِنْ ذِكُرَى» أي: ذكِّروهم وعِظُوهم بالقرآن، والذِّكْرُ والذِّكْرُ والذِّكْرَى واحد، يريد ذكروهم ذكرى لَعَلَّهم يتقون الخوض إلذا وعَظْتُمُوهُمْ، فرخص في مجالستهم على الوَعْظِ لعلَّهم يمنعهم ذلك من الخوض. وقيل: لعلَّهم يسحيون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 210 «اتَّخّذُوا» فيها وجهان: أحدهما: أنها مُتَعَدِّيَةٌ لواحد، على أنها بمعنى «اكتسبوا» و «عملوا» ، و «لهواً ولعلباً» على هذا مفعول من أجله؛ أي: اكتسبوه لأجل اللهو واللعب. قال أبو حيَّان: ويظهر من بعض كلام الزمخشري، وكلام ابن عطية أنَّ «لعباً ولهواً» هوا لمفعول الأوَّل، و «دينهم» هو المفعول الثاني. قال الزمخشري: أي دينهم الذي كان يجب أن يأخذوا به لَعِباً ولهواً، وذلك أن عبادتهم وما كانوا عليه من تَبْحِير البَحَائِرِ وتسييب والسَّوائبِ من باب اللَّهْوِ واللعبن واتِّباعِ هوى النفسن وما هو من جِنْسِ الهَزْلِ لا الحِدِّ، أو اتخذوا ما هولَعِبٌ ولهو من بعادة الأصنام دِيناً لهم، أو اتخذوا دينهم الذي كُلِّفُوُ، وهو دين الإسلام لعباً ولهواً، فتفسيره الأوَّلُ هو ما ذكرناه عنه «. انتهى قال شهاب الدين: وهذا الذي ذَكَرَاهُ إنما ذَكَرَاهُ تفسير معنى لا تفسير إعراب، وكيف يجعلان النكرة مَفْعُولاً أوَّل، والمعرفة مفعولاً ثانياً نم غير داعية إلى ذلك، مع أنهما من أكابر أهْلِ هذا اللسان، وانظر كيف أبرزا ما جَعَلاَهُ مفعولاً أول معرفة، وما جعلاه ثانياً نكرة في تركيب كلامها [يخرج] على كلام العرب، فكيف يظن بهما أن يجعلا النكرة محدثاً عنها، والمعرفة حديثاً في كلام الله تعالى؟ قوله تعالى: و {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} تحتمل وجهين: أحدهما: أنها مستأنفة. والثاني: أنها عطف على صلة» الَّذين «، أي: الذين اتَّخّذُوا وغرَّتْهُم، وقد تقدم معنى» الغُرُور «في آخر آل عمران. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 211 وقيل: هنا: غَرَّتْهُمْ من» الغَرّ «بفتح الغين، أي: ملأت أفواههم وأشبعتهم، وعليه قول الشاعر: [الطويل] 2199 - وَلَمَّا الْتَقَيْنَا بِالحُلَيْبَةِ غَرَّنِي ... بِمَعْرُوفِهِ حَتَّى خَرَجْتُ أفُوقُ فصل في معنى الآية المُرَادُ من هولاء الذي اتخذوا دينهُمْ لعباً ولهواً، يعني الكفار الذين إذا سَمِعُوا آيات الله استهزءوا بها وتلاعبوا. وقيل: إن الله - تعالى - جعل لك قوم عِيداً واتَّخَذَ كل قوم دينهم؛ أي عيدهم لعباً ولهواً، وعيد المسلمين الصلاة والتكبير، وفعل الخير مثل الجُمُعَةِ والفِطْرِ والنَّحْر. وقيل: إن الكُفَّارَ كانوا يحكمون في دين الله بمجرَّدِ [التشهِّي والتمني مثل تحريم] السَّوائبِ والبَحَائِرِ. وقيل: اتخاذهم الأصنام وغيرها ديناً لهم. وقيل: هم الذين ينصرون الدين ليتوسَّلُوا به إلى أخْذِ المناصِبِ والرِّيَاسَةِ، وغلبة الخَصْمِ، وجمع الأموال، فهولاء الذين [نصروا الدِّين] لأجل الدنيا، وقد حكما لله على الدنيا في سائر الآيات بأنها لَعِبٌ ولَهْوٌ. ويْكِّدُ هذا الوَجْهَ قوله تعالى: {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} . قوله:» وذكِّر بِهِ «أي: بالقرآن، يَدُلُّ له قوله: {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] وقيل: يعود على» حِسَابِهِمْ «. وقيل: على «الدّين» أي: الذي يجب عليهم أن يَتَداينُوا، ويعتقدوا بصحته. وقيل: هذا ضمير يفسره ما بعده، وسيأتي إيضاحه. قوله: «أنْ تُبْسَلَ» في هذا وجهان: المشهور - بل الإجماع - على أنه مفعول من أجْلِهِ، وتقديره: مَخَافَة أن تُبْسَلَ، أو كاراهة أن تُبْسَلَ أو ألاَّ تبسل. والثاني: قال أبو حيَّان بعد أن نقل الاتِّفاقَ على المفعول من أجله: «ويجوز عندي أن يكون في موضع جرِّ على البدلِ من الضمير، والضمير مفسّر بالبَدَلِ، ويضمر الإبْسَالُ لما في الإضمار من التَّفْخيمِ، كما أضمروا ضمير الأمْرِ والشَّأنِ، والتقدير: وذكِّرْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 212 بارتهان النفوس، وحبسها بما كسبت، كما قالوا:» اللهم صَلِّ عليه الرءوف الرحيم «، وقد أجاز ذلك سيبويه؛ قال: فإن قلت: وضربوني قومك، نَصَبْتَ إلا في قول من قال:» أكلوني البراغيث «أو تحمله على البَدَل من المضمر. وقال أيضاً: فإن قلت:» ضربين وضربتهم قومك، رفعت على التقديم والتأخير إلا أن تجعل هاهنا البدلن كما جعلته في الرفع «. انتهى. وقد روي قوله: [الطويل] 2200 - ... ... ... ... ..... ... ... فاسْتَاكَتْ بِهِ عُودِ إسْحِل بجر» عُود «على البدل من الضمير. قال شهاب الدين: أما تفسير الضمير غير المرفوع بالبدل، فهو قول الأخفش، وأنشد عليه هذا العَجُزَ وأوله: [الطويل] 2201 - إذَا هِيَ لَمْ تَسْتَك بِعُودِ أرَاكَةٍ ... تُنُخِّلَ فَاسْتاكَتْ بِهِ عُودِ إسْحِلِ والبيت لطُفَيْلٍ الغَنَوِيّ، يروى برفع» عُود «، وهذا هو المشهور عند النُّحَاةِ، ورفعه على إعمال الأول، وهو» تُنُخِّلَ «، وإهمال الثاني وهو» فَاسْتَاكَتْ «، فأعطاه ضميره، ولو أعمله لقال:» فاستاكت بعود إسحل «، ولا يكن لانكسار البيت، والرواية الأخرى التي استشهد بها ضعيفة جداً لا يعرفها أكثر المُعْرِبينَ، ولو استشهد بما لا خلاف عليه فيه كقوله: [الطويل] 2202 - عَلَى حَالَةٍ لَوْ أنَّ فِي القَوْمِ حَاتِماً ... عَلَى جُودِهِ لَضَنَّ بالمَاءِ حَاتِمِ بجر» حاتم «بدلاً من الهاء في» جوده «، والقوافي مجرور لكان أوْلَى. والإبْسَالُ: الارتهان، ويقال: أبْسَلْتُ ولدي وأهلي، أي أرْتَهَنْتُهُمْ؛ قال: [الوافر] 2203 - وإبْسِالِي بَنِيَّ بِغَيْرِ جُرْمٍ ... بَعَوْنَاهُ ولا بِدّمٍ مُرَاقِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 213 بَعَوْنَا: جَنَيْنَا والبَعْوُ: الجِنَاية. وقيل: الإبْسَالُ أن يُسْلِمَ الرجل نفسه للهَلَكَةِ وقال الراغب:» البَسْلُ: ضَمُّ الشيء ومنعه، ولتَضَمُّنِهِ معنى الضَّمِّ استعير لتَقَطُّبِ الوَجْهِ، فقيل: هو باسل ومُبْتسلٌ الوجه، ولتضمينه معنى المنع قيل للمُحَرَّم والمرتهن: بَسْلٌ «، ثم قال: والفرقُ بين الحرام والبَسْل أنَّ الحرام عام فيما كان ممنوعاً منه بالقَهْرِ والحكم، والبَسْلُ هو الممنوع بالقَهْرِ، وقيل للشجاعة: بَسَالَة؛ إما لما يوصف به الشجاع من عنُبُوس وَجْهِهِ، ولأنه شديد البُسُورَةِ يقال بسر الرجل إذا استد عبوسه، وقال تعالى: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} [المدثر: 22] فإذا زاد قالوا بَسَلَ، أو لكونه محرماً على أقرانه، أو لأنه يَمْنع ما حَوْزتِهِ، وما تحت يده من أعدائه والبُسْلَةُ، أجْرَةُ الرَّاقِي مأخوذة من قول الرَّاقي: أبْسَلْتُ زيداً؛ أي: جَعَلْتُهُ مُحَرَّماً على الشيطان، أو جعلته شجاعاً قويَّا على مُدافعتِهِ، و» بَسَل «في معنى» أجَلْ «و» بَسْ «. أي: فيكون حَرْفَ جواب ك «أجل» ، واسم فعل بمعنى اكتف ك «بس» . وقوله «بما» متعلّق ب «تُبْسَلَ» ، أي بسبب، و «ما» مصدرية، أو بمعنى «الذي» ، أو نكرة وأمرها واضح. فصل في معنى التبسل قال مجاهد وعكرمة والسدي: قال ابن عبَّاس: «تُبْسَل» : تَهْلِكُ، وروي عن ابن عباس تُرتهنُ في جَهنَّم بما كسبت في الدنيا، وهو قول الفراء. وقال قتادة: تُحْبَسُ في جهنم. وقال الضحاك: تُحْرَقُ. وقال الأخفش: تُجَازَى. وروي عن ابن عباس: تُفضحُ وقال ابن زيد: تُؤخَذُ. قوله: «لَيْسَ لَهَا» هذه الجملة فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنها مُسْتأنَفَةٌ سِيقَتْ للإخبار بذلك. والثاني: أنها في مَحَلِّ رفع صفة ل «نفس» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 214 والثالث: أنها في مَحَلِّ نَصْبِ حالاً من الضمير في «كسبت» . قوله: «مِنْ دُون» في «مِنْ» وجهان: أظهرهما: أنها لابْتِدَاءِ الغاية. والثاني: أنها زَائِدَةٌ نقله ابن عطية، وليس بشيءن وإذا كانت لابتداء الغايةِ، ففيما يتعلَّق به وجهان: أحدهما: أنها حالٌ من «وليّ» ؛ لأنها لو تأخَّرَتْ لكانت صِفَةً له فتتعلَّقُ بمحذوف هو حال. الثاني: أنها خبر «ليس» فتتعلَّق بمحذوف أيضاً وهو خبر ل «ليس» ، وعلى هذا فيكون «لها» متعلقاً بمحذوف على البيان، كما تقتدم نظيره، و «من دون الله» فيه حذف مُضَاف أي: من دون عذابه وجزائه وَليّ ولا شفيع يشفع لها في الآخرة. قوله: «وإن تَعْدِلط أي: تَفْتَدِي» كُلَّ عَدْلٍ «: كُلّ فداء، و» كل «منصوب على المصدرية؛ لأن» كل «بحسب ما تضاف إليه هذا هو المشهور، ويجوز نَصْبُهُ على المفعول به؛ أي: وإن تلإسِ يَداهَا كُلَّ ما تَفْدِي به لايُؤخَذُ، فالضمير في» لا يؤخَذُ «على الأوَّل، قال أبو حيَّان:» عائد على المَعْدُولِ به المفهوم من سياق الكلام، ولا يعود إلى المصدر؛ لأنه لا يُسْنَدُ إليه الأخْذُ، وأما في {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] فبمعنى المَفْدِيَّ به فيصح «انتهى. أي: إنه إنما أسند الأخْذَ إلى العَدْلِ صريحاً في» البقرة «؛ لأنه ليس المراد المصدر، بل الشيء المَفْدِيَّ به، وعلى الثَّاني يعود على» كل عدل «؛ لأنه ليس مصدراً فهو كآية البقرة. وقال ابن الخطيب: ويكن حَمْلُ الأخذ هنا بمعنى القَبُولِ؛ قال تعالى {وَيَأْخُذُ الصدقات} [التوبة: 104] أي: يقبلها وإذا [ثبت هذا فيُحْمَلُ] الأخذ هاهنا على القبول ويزول المحذور، وفي إسناد الأخْذِ إلى المصدر عبارة عن الفعل يعني يؤخذ مسنداً «إلى» منها لا إلى ضميره أي: لأن العدل بالمعنى المصدري لا يؤخذ، بخلاف قوله: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْل} فإنه المَفْدِيُّ به. قوله: {أولئك الذين أُبْسِلُواْ} يجوز أن يكون «الَّذينَ» خبراً، و «لهم شراب» خبراً ثانياً، وأن يكون «لهم شراب» حالاً؛ إما من الضمير في «أبْسِلواط وإمَّا من الموصول نفسه، و» شراب «فاعلٌ لاعتماد الجار قبله على ذِي الحالِ، ويجوز أن يكون» لهم شراب «مُسْتَأنفاً، فهذه ثلاثة أوجه، ويجوز أن يكون» الذين «بدلاً من» أولئك «أو نعتاً فيتعين أن يكون الجملة من» لهم شراب «خبراً للمبتدأ، فيحصل في الموصُولِ أيضاً ثلاثة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 215 أوجه؛ كونه خبراً، وأو بدلاً، أو نعتاً فجاءت مع ما قبلها ستة أوجه ستة أوجه في هذه الآية، و» شراب «يجوز رَفْعُهُ من وجهين؛ الابتدائية والفاعلية عند الأخفش، وعند سيبويه أيضاً على أن يكون» لهم «هو خبر المبتدأ أو حالاً، حيث جعلناه حالاً، و» شراب «مُرتفعٌ به لاعتماده على ما تقدَّم، و» ن حميم «صفة ل» شراب «فهو في مَحَلِّ رفع، ويتعلق بمحذوف. و» شراب «فعال بمعنى مفعول ك» طعام «بمعنى» مطعوم «، و» شراب «بمعنى» مشروب «لا يَنْقَاسُ ولا يقال:» أكال «بمعنى» مأكول «ولا» ضراب «بمعنى» مضروب «. والإشارة بذلك إلى الَّذين اتخذوا في قول الزمخشري والحوفي، فلذلك أتى بصيغة الجمع، وفي قول ابن عطية وأبي البقاء إلى الجنْسِ المفهوم من قوله» أن تُبْسَلَ نَفْسٌ «إذ المرادُ به عُمومُ الانْفُسِ، فلذلك أشير إليه بالجمع، ومعنى الآية: أولئك الذين أبسلوا أسلمُوا للهلاكِ بما كسبوا» لهم شراب من حميم وعذاب أليم بما كانوا يكفرون «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 المقصود: من هذه الآية الرَّدُّ على عبدةِ الأصنام، وهي مؤكدة لقوله تعالى قبل ذلك: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [الأنعام: 56] . فقوله: «أنَدْعُوا من دون الله» أي: أنعبد من دون الله النَّافِعِ الضَّارِّ ما لا يَقْدرُ لعى نَفْعِنَا إن عبدناهُ، ولا على ضرنا إن تركناه. قوله: «أنّدْعُوا» استفهام توبيخ وإنكارن والجملة في مَحَلِّ نصب بالقول، و «ما» مفعولة ب «ندعوا» ، وهي موصولة أو نكرة موصوفة، و «مِنْ دون الله» متعلِّقٌ ب «ندعوا» . قال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير في» يَنْفَعُنَا «ولا معمولاً ل» يَنْفَعُنَا «لتقدُّمهِ على» ما «، والصلة والصفة لا تَعْملُ فيما قبل الموصول والموصوف. قوله:» من الضمير في يَنْفعنَا «يعني به المرفوع العائد على» ما «وقوله:» لا تعمل فيما قبل الموصول والموصوف «يعني: أن» ما «لا تخرج عن هذين القسمين ولكن يجوز أن يكون» من دون «حالاً من» ما «نفسها على قوله؛ إذ لم يجعل المانع من جعله حالاً من ضميره الذي في» يَنْفَعُنَا «إلاَّ صِناعِياً لا معنوياً، ولا فرق بين الظاهر وضميره بمعنى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 216 أنه إذا جازَ أن يكون حالاً من ظاهره، جاز أن يكون حالاً من ضميره، إلا أن يمنع مَانِعٌ. قوله:» ونُرَدُّ «فيه وجهان: أظهرهما: أنه نَسَقٌ على» نَدْعُوا «فهو داخل في حيِّز الاستفهام المُتَسَلِّطِ عليه القَوْلُ. الثاني: أنه حالٌ على إضمار مبتدأ؛ أي: ونحن نُرَدُّ. قال أبو حيَّان بعد نقله هنا عن أبي البقاء:» وهوضعيف لأضمار المبتدأ، ولأنها تكون حالاً مؤكّدة «، وفي كونها مؤكدة نظرٌ؛ لأن المؤكدة ما فهم معناها من الأوَّلِ، وكأنه يقول: من لازم الدعاء» من دون الله «الارتداد على العقب. قوله:» عَلى أعْقَابِنَا «فيه وجهان: أحدهما: أنه معلّق ب» نُرَدُّ «. والثاني: أنه متعلِّق بمحذوف على أنه حال من مرفوع» نرد «أي: نرد راجعين على أعْقابنا، أو منقلبين، أو متأخرين كذا قدَّرُوهُ، وهو تفسير معنى؛ إذا المُقَدَّرُ في مثله كونٌ مُطلقٌ، وهذا يحتمل أن يقال فيه: إنه حال مؤكدة، و» بعد إذ «مُتعلِّقٌ ب» نُرَدُّ «. [ومعنى الآية: ونرد على أعقابنا إلى الشِّرْكِ مرتدين بعد إذ هدانا الله إلى الإسلام. يقال لكل من أعْرَضَ عن الحق إلى الباطل: إنه رجع إلى خَلْفٍ، ورجع على عَقِبَيْهِ، ورجع القَهْقَرى؛ لأن الأصل في الإنسان الجَهْلُ ثم يترقى ويتعلم حتى يتكاملن ويحصل له العلم. قال تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} [النحل: 78] فإذا رجع من العِلْمِ إلى الجَهْلِ مرة أخرى، فكأنه رجع إلى أوَّل أمره، فلهذا السبب يقال: فلان رُدَّ على عقبيه] . قوله «كالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ» في هذه الكاف وجهان: أحدهما: أنه نَعْتُ مصدرٍ محذوف؛ أي: نُرَدُّ رَدَّاً مثل ردِّ الذين. الثاني: في مَحَلّ نصب على الحال من مرفوع «نرد» ، أي: نرد مُشْبهينَ الذي استهوته الشياطين، فمن جوَّز تعدُّدّ الحالِ جعلها حالاً ثانية، إن جعل «على أعقابنا» حالاً، ومن لم يُجَوِّزْ ذلك جعل هذه الحال بدلاً من الحال الأولى، أو لم يجعل على أعقابنا حالاً، بل معلّقاً ب «نرد» . الجمهور على «اسْتهْوتْهُ» بتاء التأنيث، وحمزة «اسْتَهْوَاهُ» وهو على قاعدته من الإمالة، والوجهان معروفان مما تقدم في {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] وقرأ أبو عبد الرحمن والأعمش: «اسْتَهْوَتْهُ الشَّيْطانُ» بتأنيث الفعل، والشيطان مفرداً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 217 قال الكسائي: «وهي كذلك في مصحف ابن مسعود» ، وتوجيه هذه القراءة أنَّا نُؤوِّل المذكربمؤنث كقولهم: «أتته كتابي فاحتقرها» ؛ أي: صحيفتي، وتقدَّم له نظائر. وقرأ الحسن البصري: «الشَّيَاطُون» وجعلوها لَحْناً، ولا تَصِلُ إلى الَّحْنِ، إلا أنها لُغَيّةٌ رديئة، سُمِع: حول بسان فلان بساتون وله سلاطون، ويُحْكَى أنه لما حيكت قراءة الحسن لَحَّنَهُ بعضهم، فقال الفراء: «أي والله يُلحِّنُون الشيخ، ويستشهدون بقول رؤبة» . ولعمري لقد صدق الفراء في إنكار ذلك. والمراد ب «الَّذي» الجِنْسُ، ويحتمل أن يراج به الواحد الفَذُّ. قوله: «في الأرْضِ» فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه مُتعلِّق بقوله: «اسْتَهْوتْهُ» . الثاني: أنه حالٌ من مفعول «اسْتَهْوَتْهُ» . الثالث: أنه حالٌ من «حيران» . الرابع: أنه حالٌ من الضمير المُسْتَكِنّ في «حيران» ، و «حيران» حال إما من «هاء» «استهوته» على أنها بدلٌ من الأولى، وعند من يجيز تعدُّدَهَا، وإما من «الَّذِي» ، وإما من الضمير المستكن في الظرف، و «حيران» مؤنثة «حيرى» ، فلذلك لم يَنْصَرِفُ، والفعل حَارَ يَحَارُ حَيْرةً وحَيَراناً وحَيْرورةً، و «الحيران» المُتَرَدِّدُ في الأمر لا يهتدي إلى مَخْرَجٍ. وفي اشتقاق «اسْتَهْوَتْهُ» قولان: الأول: أنه مشتق من الهُوِيِّ في الأرض، وهو النزول من الموضع العالي إلى الوهدة [السافلة] العميقة [في قعر الأرض] فشبه الله تعالى حال هذا الضَّالِّ به، كقوله: {وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء} [الحج: 31] ولا شكل أن الإنسان حال هُويِّةِ من المكان المعالي إلى الوهْدةِ العميقة يكون في غايةِ الاضْطرابِ والدهشة والحيرةِ. والثاني: أنه مُشْتَقٌ من اتِّباعِ الهَوَى والميل، فإنه من كان كذلك، فإنه ربما بلغ النهاية في الحَيْرَةِ. واعلم أن هذا المثل في غاية الحُسْنِ؛ لأن الذي يَهْوِي من المكان العالي إلى الوَهْدَةِ العميقة، يحصل له كمال التَّرَدُّدِ والدهشة والحيرة؛ لأنه لا يعرف أي موضع يزداد بلاَؤهُ بسبب سقوطه عليه أو يَقِلُّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 218 قوله «لَهُ أصْحَابٌ» جملة في مَحَلّ نصب صفة ل «حيران» ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «حيران» ، وأن تكون مستأنفة، و «إلى الهدى» متعلقة ب «يدعونه» ، وفي مصحف ابن مسعود وقراءته: «أتينا» بصيغة الماضين و «إلى الهدى» على هذه القراءة معلّق به، وعلى قراءة الجمهور، فالجملة الأمرية في محل نصب بقول مضمر أي يقوللون: أئتنا والقول المضمر في محل صفة لأسحاب وكذلك «يدعونه» . قالوا: نزلت هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فإنه كان يدعو أبَاهُ إلى الكُفْرِ، وأبوه يدعوه إلى الإيمان. وقيل: المراد أن لذلك الكافر الضَّالِّ أصحاباً يدعونه إلى ذلك الضَّلالِ، ويسمونه بأنه هو الهدى، والصحيح الأوَّل. ثم قال تعالى: {إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى} يَزْجُرُ بذلك عن عبادة الأصنام، كأنه يقول: لا تفعل ذلكن فإن الهُدَى هُدَى الله لا هادي غيره. قوله: «وأمِرْنَا لِنُسْلِمَ» في هذه «اللام» أقوال: أحدها: وهو مذهب سيبويه أن هذه اللام بعد الإرادة للقيام، والأمر للذَّهاب، كذا نقل أبو حيَّان ذلك عن سيبويه وأصحابه، وفيه ضَعْفٌ تقدَّم في سورة النساء عند قوله: {يُرِيدُ الله لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} [النساء: 26] . الثاني: أن مفعول الأمر والإرادة محذوف، وتقديره: وأمرنا بالإخلاص لنسلم. الثالث: قال الزمخشري: هي تَعْلِيلٌ للأمر بمعنى أمرنا وقيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم. الرابع: أن «اللام» زائدة؛ أي: أمرنا أن نسلم. الخامس: أنها بمعنى «الباء» أي بأن نسلم. السادس: أن «اللام» وما بعدها مفعول الأمر واقعة موقع «أن» أي: أنهما مُتعاقِبَانِ، فتقول: أمرتك لتقوم، وأن تقوم، وهذا مذهب الكوفيين. وقال ابن عطية: ومذهب سبيويه أن «لِنُسْلِمَ» في موضع المفعول، وأن قولك: أمرت لأقوم وأن أقوم بيجريان سواءً وقال الشاعر: [الطويل] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 219 2044 - أُرِيدُ لأنْسَى حُبَّهَا فَكَأنَّمَا ... تَمثَّلُ لِي لَيْلَى بِكُلِّ طَرِيقِ وهذا ليس مذهب سبيويه، إنما مذهبه ما تقدَّم تحقيقه في «سورة النساء» . قوله «وأنْ أقِيمُوا» فيه أقوال: أحدها: أنها في مَحَلِّ نصب بالقول نَسَقاً على قوله: «إنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الهُدَى» أي: قل هذين الشيئين. والثاني: أنه نَسَقٌ على «لنسلم» أي: وأمرنا بكذا للإسلام، ولنقيم الصلاة، و «أن» تُوصل بالأمر كقولهم: كتب إليه بأن قم، حكاه سبيويه وهذا رَأيُ الزَّجَّاج. والثالث: أنه نَسَقٌ على «ائْتِنَا» قال مكي: لأن معناه: «أن ائتنا» ، وهو غير ظاهر. والرابع: أنه مَعْطُوفٌ على مفعول الأمر المقدر، والتقدير: وأمرنا بالإيمان، وبإقامة الصلاة قاله ابن عطية. قال أبو حيَّان: وهذا لا بأس به، إذ لا بُدَّ من تقدير المفعول الثاني ل «أمرنا» ويجوز حذف المعطوف عليه لِفَهْمِ المعنى؛ تقول: أضَرَبْتَ زيداً؟ فيجب نعم وعمراً؛ والتقدير: ضربته وعمراً. وقد أجاز الفراء: «جاءني الذي وزيد قائمان» ، التقدير: الذي هو وزيد قائمان، فحذف «هو» لدلالة المعنى عليه، وهذا الذي قاله أنه لا بأس به ليس من أصول البصريين. و «أما نعم وعمراً» فلا دلالة فيه؛ لأن «نعم» قامت مقام الجملة المحذوفة. وقال مكي قريباً من هذا القول، إلاَّ أنه لم يُصَرِّحْ بحذف المعطوف عليه، فإنه قال: و «أن» في موضع نَصْب بحذف الجارِّ، تقديره: وبأنْ أقيموا، فقوله: وبأن أقيموا هو معنى قول ابن عطية، إلاَّ أن ذلك [أوضحه] بحذف المعطوف عليه. وقال الزمخشري: فإن قلت: علام عطف قوله: «وأن أقيموا» ؟ قلت: على موضع «لنسلم» كأنه قيل: وأمرنا أن نسملم، وأن أقيموا. قال أبو حيَّان: وظاهر هذا التقدير أن «لنسلم» في موضع المفعُولِ الثاني ل «أمرنا» وعطف عليه: «وأن أقيموا» فكتون اللام على هذا زَائِدَةً، وكان قد تقدَّم قبل هذا أن «اللام» تعليل للأمر، فتناقض كلامه؛ لأن ما يكون عِلَّةً يستحيل أن يكون معفولاً، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 220 ويدلُّ على أنه أراد بقوله: «أن نسلم» في موضع المفعول الثاني قوله بعد ذلك: ويجوز أن يكون التقدير: وأمرنا لأن نسلم، ولأن أقيموا، أي للإسلام ولإقامة الصلاة، وهذا قول الزَّجَّاجِ، فلو لم يكن هذا القول مغايراً لقوله الأوَّل لاتَّحَدَ قَوْلاَهُ، وذلك خُلْفٌ. قال الزَّجَّاج: «أن أقيموا» عطف على قوله «» لنسلم «، تقديره: وأمرنا لأن نسلم، وأن أقيموا. قال ابن عطية: واللَّفْظُ يُمانِعُهُ، لأن» نسلم «معرب، و» أقيموا «مبني، وعطف المبني على المعرب لا يجوز، لأن العطف يقتضي التَّشْرِيكَ في العامل. قال أبو حيان: وما ذكر من أنه لا يعطف المبني على المعرب ليس كما ذكر، بل يجوز ذلك نحو:» قام زيد وهذا «، وقال تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} [هود: 98] غَايَةُ ما في الباب أن العامل يُؤثِّرُ في المعرب، ولا يُؤثِّرُ في المبني، وتقول:» إن قام زيد ويقصدني أكرمه «، ف» إن «لم تُؤثِّرْ في» قام «؛ لأنه مبني، وأثرت في» يقصدني «؛ لأنه معرب ثم قال ابن عطية:» اللهم إلا أن تجعل العطف في «إن» وحدها، وذلك قلق، وإنما يَتَخَرَّجُ على أن يقدر قوله: «وأن أقيموا» بمعنى «ولنقم» ، ثم خرجت بلفظ الأمر لما في ذلك من جزالةِ اللفظ، فجاز العطفُ على أن يلغي حكم اللفظ، ويعول على المعنى، ويشبه هذا من وجهة ما حكاهُ يونس عن العرب: ادخلوا الأوَّل فالأوَّل، وإلا فلا يجوز إلاَّ الأول فالأوَّل بالنصب «. قال أبو حيَّان: وهذا الذي استدركه بقوله: «اللهم إلا» إلى آخره هو الذي أراده الزَّجَّاج بعينه، وهو «أن أقيموا» معطوف على «أن نسلم» ، وأن كليهما عِلَّةٌ للمأمور به المحذوف، وإنما قلق عند ابن عطية؛ لأنه أراد بقاء «أن أقيموا» على معناها من موضوع الأمر، وليس كذلك؛ لأن «أنْ» إذا دخلت على فعل الأمر، وكانت المصْدَرِيَّةَ انْسَبَكَ منها ومن الأمر مصدر، وإذا انْسَبَكَ منهما مصدر زال معنى الأمر، وقد أجاز النحويون سيبويه وغيره أن تُوصَلَ «أن» المصدرية الناصبة للمضارع بالماضي والأمر. قال سيبويه: وتقول: كتبت إليه بأن قم، أي بالقيام، فإذا كان الحكم كذا كان قوله: «لنسلم» و «أن أقيموا» في تقدير الإسلام ولإقامة الصلاة، وأما تشبيه ابن عطيَّة له بقوله: ادخلوا الأوَّل فالأول: بالرفع، فليس بتشبيهح لأن ادخلوا لايمكن لو أزيل عنه الضمير أن يتسلَّطَ على ما بعده، بخلاف «أنْ» فإنها تُوصَلُ بالأمرِ، فإذن لا شبه بينهما انتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 221 أما قول أبي حيَّان: «وإنما قلق عند ابن عطية؛ لأنه أراد بقاء» أنْ أقيموا «على معناها من موضوع الأمر» ، فليس القلقُ عنده لذلك ققط كما حصره الشيخ، بل لأمر آخر من جهة اللفظ، وهو أن السِّيَاقَ التَّرْكِيبِيَّ يقتضي لعى ما قاله الزجاج أن يكون «لنسلم وأن نقيم» ، فتأتي في الفعل الثاني بضمير المتكلم، فلما لم يقل ذلك قلق عنده، ويدلُّ على [ما ذكرته] قول ابن عطية: «بمعنى: ولنقم ثم خرجت بلفظ الأمر» إلى آخره. والخامس: أنه مَحْمُولٌ على المعنى؛ إذا المعنى قيل لنا: أسْلِمُوا وأن أقيموا. وقال الزجاج: فإن قيل: كيف حَسُنَ عطف قوله: «وأن أقيموا الصلاة واتقوه» على قوله «وأمِرْنَا لِنُسلمَ لِرَبِّ العالمينَ» ؟ فالجواب من وجهين: الأول: أن يكون التقدير: وأمرنا لنسلم لرب العالمين، ولأن نقيم الصلاة. الثاني: أن يكون التقدير: وأمرنا فقيل لنا أسلموا لربِّ العالمين، وأقيموا الصَّلاة. فإن قيل: هَبْ أن المُرَادَ ما ذكرتم، لكن ما الحِكْمَةُ في العُدُولِ عن هذا اللَّفْظِ الظَّاهِرِ، والتركيب الموافق للعقل إلى ذلك اللفظ الذي لا يهتدي العقل إلى معناه، إلاَّ بالتأويل؟! . فالجواب: لأن الكافر ما دام [يبقى] على كُفْرِهِ كان كالغَائبِ الأجنبي، فلا جرم خُوطِبَ بخطاب الغائبين، فيقال له: «وأمِرْنَا لِنُسلِمَ لِرَبِّ العَالمينَ» فإذا أسلم [وآمن] ودخل في الإيمان صار كالقريب الحاضرن فلا جرمَ خُوطِبَ بخطاب الحاضرين، ويقال له «وأنْ أقيمُوا الصَّلاة وأتَّقُوُ» فالمقصود من ذِكْرِ هذهين النوعين من الخطاب للتنبيه على الفَرْقِ بين حالتي الكُفْرِ والإيمان، وتقريره أن الكافر بعيد غائب، والمؤمن قريب حاضر. فصل في أنه لا هدى إلا هدى الله اعلم أن الله - تعالى - لما بيَّن أوَّلاً أن الهُدَى النافع هو هدى اللهن أرْدَفَ ذلك الكلام الكُلِّيَّ بِذكْرِ أشرف أقْسَامِهِ على الترتيبن وهو الإسلام، وهو رئيس الطاعات الروحانية، والصلاة التي هي رَئِيسَةُ الطاعات الجِسْمَانِيَّةِ، والتقوى التي هي رئيسة باب التروك والاحتراز عن كل ما لا ينبغي، ثم بيَّن منافع هذه الأعمالن فقال: «وهُو الَّذي إليْهِ تُحْشرونَ» يعني أن منافع هذه الأعمال إنما تظهر في يوم الحشر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 222 لمَّا بيَّن في الآيات المتقدمة فساد طريقة عبادة الأصنام ذكر هاهنا ما يدل على أنْ لا معبود إلاَّ الله، وذكرها هاهنا أنواعاً من الدلائل: أحدهما: قوله: {وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} تقدم أول السورة. وقوله: «بالحق» قيل: الباء بمعنى اللام، أي إظهار للحق؛ لأنه جعل صُنْعَهُ دليلاً على وحدانيته، فهو نظير قوله: {رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً} [آل عمران: 191] ، وقوله: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ} [الدخان: 38] . وثانيها: قوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ} في «يوم» ثمانية أوجه: أحدهما: - وهو قول الزَّجَّاج - أنه مفعول به لا ظرْفٌ، وهو معطوف على الهاء في «اتقواه» أي: واتقوا يوماً أي: عقاب يوم يقول، أو هوله أو فزعه، فهو كقوله تعالى في موضع آخر: {واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي} [البقرة: 48] على المشهور في إعرابه. والثاني: أنه مفعول به أيضاً، ولكنه نَسَقٌ على السموات والأرض، أي: وهو الذي خَلَقَ يوم يقول. الثالث: أنه مفعول ل «اذكر» مقدراً. الرابع: أنه منصوب بعامل مقدر، وذلك العامل المُقّدَّرُ مفعول فعل مقدر أيضاً، والتقدير: واذكروا الإعادة يوم يقول: كن، أي يوم يقول الله للإجساد: كوني مُعَادَةً. الخامس: أنه عَطْفٌ على موضع قوله: «بالحق» فإن موضعه نَصْبٌ، ويكون «يقول» بمعنى قال ماضياًن كأنه قيل: وهو اذي خلق السموات والأرض بالحق ويوم قال لها: كن. السادس: أن يكون «يوم يقول: كن فيكون، وإليه ننحا الزمخشري، فإنه قال:» قوله الحق «مبتدأ، و» يوم يقول «خبره مقدماً عليه، وانْتِصَابُهُ بمعنى الاستقرار، كقولك:» يوم الجمعة القتال «واليوم بمعنى الحينِ، والمعنى: أنه خلق السموات والأرض قائماً بالحكم، وحين يقول لشيء من الأشياء: كن فيكون ذلك الشيء قوله الحق والحكمة. فإن قيل: قول الله حَقّ في كل وقت، فما الفائدةُ في تخصيص هذا اليوم بهذين الوصفين؟ فالجواب: لأن هذا اليوم لا يَظْهَرُ فيه من أحَدٍ نَفْعٌ ولا ضر، كما قال تعالى: {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً} {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19] فلهذا السبب حَسُنَ هذا التخصيص. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 223 السابع: أنه مَنْصُوبٌ على الظرف، والناصب له معنى الجملة التي هي» قوله الحق «أي: حق قوله في يوم يقول: كن. الثامن: أنه مَنْصُوبٌ بمحذوف دلَّ عليه بالحق. قال الزمخشري: وانْتِصَابُ اليوم بمحذوف دلَّ عليه قوله:» بالحق «، كأنه قيل:» وحين يكون ويقدر يقوم بالحق «قال أبو حيان:» وهذا إعراب مُتَكَلَّفٌ «. قوله:» فيكون «هي هنا تامَّةٌ، وكذلك قوله:» كُنْ «فتكتفي هنا بمرفوع، وتحتاج إلى منصوب، وفي فاعلها أربعة أوجه: أحدها: أنه ضمير جميع ما يخلقه الله - تعالى - يوم القيامة، كذا قَيَّدَهُ أبو البقاء بيوم القيامة. وقال مكي: «وقيل: تقدير المضمر في» فيكون «جميع ما أراد» ، فأطلق ولم يُقَيِّدْهُ وهذا أوْلَى وكأن أبا البقاء أخذ ذلك من قرينة الحال. الثاني: أنه ضمير الصُّور المنفوخ فيها، ودَلَّ عليه قوله: {يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} [طه: 102] . الثالث: هو ضمير اليوم؛ أي: فيكون ذلك اليوم العظيم. الرابع: أن الفاعل هو «قوله» و «الحق» صفته؛ أي: فيوجد قوله الحق، ويكون الكلام على هذا تامَّا على «الحق» . قوله «قولهُ الحَقُّ» فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه مبتدأ، و «الحق» نعته، وخبره قوله: «يوم يقول» . والثاني: أنه فاعلٌ لقوله: «فيكون» و «الحق» نعته أيضاً، وقد تقدَّم هذان الوجهان. الثالث: أن «قوله» مبتدأ، و «الحق» خبره أخبر عن قوله بأنه لا يكون إلاَّ حقَّا. والرابع: أنه مبتدأ أيضاً، و «الحق» نعته، و «يوم يُنفَخُ» خبره وعلى هذا ففي قوله: «وله الملك» ثلاثة أوجه: أحدها: تكون جُمْلَةً من مبتدأ وخبر معترضة بين المبتدأ وخبره، فلا محل لها حنئيذ من الإعراب. والثاني: أن يكون «الملك» عطفاً على «قوله» و «أل» فيه عوض عن الضمير، و «له» في محلِّ نصب على الحال من «الملك» العامل فيه الاسْتِقْرَارُ، والتقدير: قوله الحق، وملكه كائناً له يوم ينفخ، فأخبر عن القول الحق والملك الذي لله بأنهما كائنانِ في يوم ينفخ في الصُّورِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 224 الثالث: أن الجملة من «وله الملك» في محل نصبٍ على الحال، وهذا الوجه ضعيف لشيئين: أحدهما: أنها تكون حالاً مؤكّدة، والأصل أن تكون مؤسّسة. الثاني: أن العامل فيها معنوي؛ لأنه الاستقرار المُقَدَّرُ في الظرف الواقع خبراً، ولا يجيزه إلا الأخفش، ومن تابعه، وقد تقدَّم تقرير مذهبه. قوله: «يَوْمَ يُنْفَخُ» فيه ثمانية أوجه: أحدها: أنها خبر لقوله تعالى: «قوله الحق» ، وقد تقدم تحقيقه. الثاني: أنه بَدَلٌ من «يوم يقول» فيكون حُكْمُهُ ذاك. الثالث: أنه طرف ل «تحشرون» أي: وهو الذي إليه تحشرون في يوم يُنْفَخُ في الصور. الرابع: أنه منصوب بنفس المُلْك، أي: وله المُلْكُ في ذلك اليوم. فإن قيل: يلزم من ذلك تقييد الملك ب «يوم النَّفْخ» ، والملك له كل وقت. فالجواب: ما تقدم في قوله «الحق» ، وقوله: {لِّمَنِ الملك اليوم} [غافر: 16] وقوله: {والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانقطار: 19] وهو أن فائدة الإخبار بذلك أنه أثبت المُلْكَ والأمْرَ في يوم لا يمكن لأحد أن يدعي فيها شيئاً من ذلك. الخامس: أنه حالٌ من المُلْكِ، والعامل فيه «له» لما تضمنه من معنى الفعل. السادس: أنه منصوب بقوله: «يقول» . السابع: أنه مَنْصُوبٌ بعالم الغيب بعده. الثامن: أنه منصوبٌ بقوله تعالى: «قوله الحق» فقد تحصَّل في كل من اليومين ثمانية أوجه. والجمهور على «يُنْفَخُ» مبنياً للمفعول بياء الغيبة، والقائم مقام الفاعل الجار بعده. وقرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث: «نَنْفُخُ» بنون العظمة مبنياً للفاعل. والصُّورُ: الجمهور على قراءته ساكن العين وقرأه الحسن البصري بفتحها. فأما قراءة الجمهور، فاختلفوا في معنى «الصُّور» [فيها] فقال جماعة الصور: جمع «صُورة» كالصُّوف جمع «صوفة» ، والثوم جمع «ثومة» ، وهذا ليس جمعاً صِنَاعيَّا، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 225 وإنما هو اسم جنس، إذ يفرق بينه وبين واحد بتءا التأنيث، وأيَّدُوا هذا القول بقراءة الحسن المتقدمة. وقال جماعة: الصُّور هو القَرْنُ. قال مجاهد كَهَيْئَةِ البُوقِ، وقيل: هو بلغة أهل اليمن، وأنشدوا: [السريع أو الرجز] 2205 - نَحْنُ نَطَحْنَاهُمْ غَدَاةَ الجَمْعَيْن ... بِالشَّامِخَاتِ فِي غُبَارِ النُّقْعَينْ نَطْحاً شَدِيداً لا كَنَطْحِ الصُّورَينْ ... وأيَّدُوا ذلك بما ورد في الأحاديث الصحيحة، وقال عبد الله بن عمرو بن العاص: «جاء أعرابي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: ما الصُّورُ؟ قال:» قَرْنٌ يُنْفَخُ فيهِ «وعن أبي سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» كَيْفَ أنْعَمُ وصَحِبُ الصُّورِ قَد التَقَمهُ وأصْغَى سمْعَهُ وَحَتَى جَبْهَتهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤمَرٍُ «. فقالوا: يا رسول الله وما تأمرنا؟ فقال:» قُولُوا: حَسْبُنَا اللَّهُ ونِعْمَ الوَكِيلُ «. وقيل في صفته: إنه قَرْنٌ مستطبل في أبخاش، وأن أرواح الناس كلهم فيه، فإذا نفخ فيه إسرافيل خرجت رُوحُ كُلِّ جسدٍ من بخش من تلك الأبخاش. وأنحى أبو الهيثم على من ادَّعى أن الصور جمع» صُورة «، فقال:» وقد اعترض قوم فأنكروا أن يكون الصور قَرْنَاً كما أنكروا العَرْشَ والميزان والصراط، وادَّعُوا أن الصور جمع «صورة» ، كالصوف جمع الصوفة، ورووا ذلك عن أبي عُبَيْدة، وهذا خطأ فاحش، وتحريف لكلام الله - عزَّ وجلَّ - عن مواضعهِ؛ لأن الله تعالى قال: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] و «نفخ في الصور» فمن قرأها: و «نفخ في الصور» أي بالفتح، وقرأ «فأحْسَنَ صُوْركم» أي بالسكون فقد افترى الكذب على الله - عزَّ وجلَّ - وكان أبو عبيدة صاحب أخبار غريبة ولم يكن له معرفة بالنحو «. قال الأزْهَرِيُّ: قد احتج أبو الهيثم فأحسن الاحتجاج، ولا يجوز عندي غير ما ذهب إليه، وهو قول أهل السنّة والجماعة انتهى. [قال السمين: ولا ينبغي أن ينسب ذلك إلى هذه الغاية التي ذكرها أبو الهيثم] . قال ابن الخطيب ومما يقوِّي هذا الوجه أنه لو كان المارد نفخ الروح في تلك الصورة لأضاف ذلك إلأى نَفْسِه، لأن نَفْخَ الأرواح في الصور يضيفه الله إلى نفسه؛ كقوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29] وقال: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 226 التحريم: 12] وقال {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 14] ، وأما نفخ الصور بمعنى النَّفخ في القَرْنِ، فإنه تعالى يضيفه لا إلى نفسه كا قال تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور} [المدثر: 8] وقال: {وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُون} [الزمر: 68] . وقال الفراء: «يُقَال: نفخ في الصور، ونفخ الصور» ، وأنشد: [البسيط] 2206 - لَوْلاَ ابْنُ جَعْدَةَ لَمْ يُفْتَحْ قُهَنْدُزُكُمْ ... ولا خُرَاسَانُ حَتَّى يُنْفَخَ الصُّورُ قوله: «عَالِمُ الغيْبِ» في رفعه أربعة أوجه: أحدها: أن يكون صِفةً ل «الذي» في قوله: «وهو الذي خلق» ، وفيه بُعْدٌ لطُولِ الفَصْلِ بأجنبي. الثاني: أنه خبر مضمر أي: هو عالم. الثالث: أنه فاعل لقوله: «يقول» أي: يوم يقول عالم الغيب. والرابع: أنه فاعل بفعل محذوف يَدُلُّ عليه الفعل المبني للمفعول؛ لأنه لما قال: «ينفخ في الصور» سأل سَائِلٌ فقال: من الذي يَنْفُخُ فيه؟ فقيل: «عَلِمُ الغَيْبِ» ، أي: ينفخ فيه عالم الغيب، أي: يأمر بالنَّفْخِ فيه لقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رِجَالٌ} [النور: 36، 37] أي: تُسَبِّحُهُ. ومثله أيضاً قول الآخر: [الطويل] 2207 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ... وَمُخْتبِطٌ مِمَّا تُطِيحُ الطَّوَائِحُ أي: مَنْ يبكيه؟ فقيل: ضارع، أي: بيكيه ضارع لخصومة. ومثله: {وكذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ المشركين قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} [الأنعام: 137] في قراءة من يبني «زُيِّنَ» للمفعول ورفع «قَتْلُ» ، و «شركاؤهم» كأنه قيل: من زَيَّنَهُ لهم؟ فقيل: زَيَّنَهُ شُركَاؤهُمْ، والرفع على ما تقدم قراءة الجمهور. وقرأ الحسن البصري والأعمش: «عالم» بالجر وفيها ثلاثة أوجه: أحسنها: أنه بدل من الهاء في «له» . [الثاني: أنه بدل من «رب العالمين» ، وفيه بُعْدٌ لطول الفصل بين البدل والمبدل منه] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 227 الثالث: أنه نعت للهاء في «له» ، وهذا إنما يتمشى على رأي الكسائي حيث يُجِيزُ نعت المضمر بالغائب، وهو ضعيف عند البصريين والكوفيين غير الكسائي. فصل في بيان المقصود من ذكر أحوال البعث أعلم أنه - تعالى - ما ذكر أحوال البعث في القيامة إى وقرَّ فيه أصلين: أحدهما: كونه قادراً على المُمْنكِنَاتِ. والثاني: كونه عالماً بكل المعلومات؛ لأن بقدير: ألاَّ يكون قادراً على كل الممكنات لم يَقْدِرْ على البعث والحشر، وردِّ الأرواح إلى الأجساد، وبتقدير ألاَّ يكون عالماً بجميع الجزئيات لم يَصِحَّ ذلك فيه؛ لأنه ربما اشْتَبَهَ المُطِيعُ بالعاصي والمؤمن بالكافر، فلا يحصل المَقْصُودُ الأصلي من البعث والقيامة، أما إذا ثبت حصول هذهين الصفتين، كمل الغرض، فقوله: {وَلَهُ الملك يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور} يدل على كمال القُدْرَةِن وقوله {عَالِمُ الغيب والشهادة} يدلُّ على كمال العلم، فلزم بمجموعهما أن يكون قوله حقاً وحكمة وصدقاً، وقضاياه مُبَرَّأةً عن الجَوْرِ والعبثِ، ثم قال تعالى: {وَهُوَ الحكيم الخبير} والحكيم: هو المصيب في أفعاله، والخبير: هو العالم بحقائقها من غير اشْتِبَاهٍ. والله أعلم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 228 أعلم أنه - تعالى - يَحْتَجُّ كثيراً على مشركي العرب بأحوال إبراهيم - عليه السلام - وذلك لأنه رَجُلٌ يَعْتَرفُ بِفَضْلِهِ جميع الطوائف والملل، فالمشركون كانوا معترفين بفضله، مُتَشَرِّفين بأنهم من أولاده، وسائر الملل تعظمه، فلهذا السبب ذكر الله حالُ في معرض الاحتجاج، والسبب في حصوله هذه المرتبة العظيمة لإبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنّه سلَّمَ قلبه للعرفانن ولسانهُ للبرهان، وبَدنَهُ للنيران، وولدَهُ للقربان، ومَالهُ للضِّيفانِ. أما تسليم قلبه للعرفان، فهو قوله: {أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} [البقرة: 131] . وأما تسليم لسانه للبرهان: فَمُنَاظَرتُهُ مع نمرود، حيث قال: {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] ومناظرته مع الكفار بالفعل حين كسَّر أصنامهم، وجعلها جُذَاذاً، وقوله بعد ذلك: {أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ} [الأنبياء: 66] . وأما تسليم بدنه للنيران: فحين ألْقِيَ فيها. وأما تسليم ولده لِلْقُربانِ: فحين أمر بذبح ولده «فَتَلَّهُ للجَبِينِ» . وأما تسليم ماله للضيفان: فمشهورة. قوله: «وإذا قال» «إذا» منصوب بفعل محذوف، أي: اذكر، وهو معطوف على « الجزء: 8 ¦ الصفحة: 228 أقيموا» : قاله أبو البقاء، وقال: في محل خَفْضٍ بالظرف. قوله: «آزَرَ» الجمهور على «آزرَ» ، مفتوح الزاي والراء، وإعرابه حينئذ على أوجه: أحدها: أنه بدلٌ من أبيه، أو عطف بيان له إن كان آزر لَقَباً له، وإن كان صفة له بمعنى المخطئ [كما قال الزجاج] أو المعوج كما قاله الفراء، وسليمان التيمي، أو الشيخ الهرم كما قاله الضحاك فيكون نعتاً ل «أبيه» ، أو حالاً منه بمعنى: وهو في حال اعْوِجَاج أو خطأ، وينسب للزجاج. وإن قيل: إن «آزر» كان اسم صنم كان أبوه يعبده، كما قاله سعيد بن المسيب ومجاهد، فيكون إذ ذاك عطف بيان ل «أبيه» أو بدلاً منه، ووجه ذلك أنه لما لازم عبادته نُبِزَ به وصار لقباً له كما قال بعض المحدثين: [البسيط] 2208 - أدْعَى بِأسْمَاءَ نَبْزاً فِي قَبَائِلِهَا ... كَأنَّ أسْمَاءَ أضْحتْ بَعْضَ أسمَائِي كذا نَسَبَهُ الزمخشري إلى بعض المحدثين، ونسبه أبو حيان لبعض النحويين. قال الزمخشري: «كما نبز ابن قيس ب» الرقيات « [اللاتي كان يُشبِّبُ بهن فقيل: ابن قيس الرُّقَيَّات» ] أو يكون على حذف مضاف، أي ل «أبيه» عابد آزر، ثم حذف المضافن وأقيم المضاف إليه مُقَامَهُ، وعلى هذا فيكون عابد صفة ل «أبيه» أعْرِبَ هذا بإعرابه، أو يكون منصوباً على الذَّمِّ. و «آزر» ممنوع من الصرف، واختلف في عِلِّةِ منعه، فقال الزمخشري: والأقرب أن يكون وزن «آزر» «فاعل» ك «عابر» و «شالخ» و «فالغ» فعلى هذا هو ممنوع للعميّة والعُجْمَةِ. وقال أبو البقاء: ووزنه «أفعل» ولم ينصرف للعُجْمَةِ، والتعريف على قول من لم يشتقه من الأزر أو الوزر، ومن اشْتَقَّهُ من واحد منهما قال: هو عربين ولم يصرفه للتعريف، ووزن الفعل، وهذا الخلاف يشبه الخلاف في «آدم» وقد تقدَّم أن اختيار الزمخشري فيه أنه «فاعل» ك «عابر» ومن جرى على ذلك، وإذا قلنا بكونه صِفَةً على ما قاله الزَّجَّاجُ بمعنى المخطئ، أو بمعنى المعوج، أو بمعنى الهرم، كما قاله الفراء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 229 والضحاك، فيشكل مَنْعُ صرفه، وسيشكل أيضاً وقوعه صِفَةً للمعرفة. وقد يُجَابُ عن الأول بأن الإشكال قد يندفع بادِّعاءِ وزنه على «أفعل» ، فيمتنع حينئذ للوزن والصفة ك «أحمر» وبابه، وأما على قول الزمخشري فلا يَتَمَشَّى ذلك. وعن الثاني: بأنا لا نُسَلِّمُ أنه نَعْتٌ لأبيه، حتى يلزم وصف المعارف بالنكرات، بل هو منصوب على الذَّمِّ، أو على نِيَّةِ الألف واللام قالهما الزجاج. والثاني ضعيف؛ لأنه حَذَفَ «أل» وأراد معناها؛ إما أن يؤثّر منع الصرف كما في «سحر» ليوم بعينه، ويسمى عدلاً؛ وإما أن يؤثِّر بناءً ويسمى تَضَمناً ك «أمس» وفي «سحر» و «أمس» كلام طويل، ولا يمكن أن يقال/: إن «آزر» امتنع من الصرف كما امتنع «سحر» أي للعدل عن «أل» ؛ لأن العدلَ يمنع فيه مع التعريف، فإنه لوقت بعينه، بخلاف هذا فإنه وصف كما فرضتم. وقرا أبَيُّ بن كعب، وعبد الله بن عباس، والحسن، ومجاهد، ويعقوب في آخرين بضم الراء على أنه منادى حذف حرف ندائه كقوله تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} [يوسف: 29] أو كقوله: [الطويل] 2209 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ..... ... ... ... ... ... ... في أحد الوجهين، أي يا يزيد، ويُؤيِّدُهُ ما في مصحف أبيّ: «يا آزر» بإثبات حرفه، وهذا إنما يَتَمَشَّى على دعوى أنه عَلَمٌ، وإما على دعوى وَصْفِيَّتِهش فضعيف؛ لأن حذف حرف النداء يقل فيها كقولهم: [الخفيف] 2210 - افْتَدِ مَعْتُوقُ وصَاحِ شَمِّرْ ..... ... ... ... ... ... ... . وقرأ ابن عباس في رواسة «أأزْراً» بهمزتين مفتوحتين [وزاي ساكنة] وراء منونه منصوبة، و «تتخذ» بدون همزة استفهام، ولما حكى الزمخشري هذه القراءة لم يسقط همزة الاستفهام من «أتتخذ» فأما على القراءة الأولى، فقال ابن عطية مُفَسِّراُ لمعناها: «أعَضُداً وقُوَّةً ومُظَاهرةً على الله تتَّخّ» ، وهو من قوله: {اشدد بِهِ أَزْرِي} [طه: 31] انتهى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 230 وعلى هذا فيحتمل «آزاراً» أن ينتصب من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مَفْعُولٌ من أجله و «أصناماً آلهة» منصوب ب «تتخذ» على ما سيأتي بيانه، والمعنى: أتتخذ أصْنَاماً آلهة لأجل القوة والمُظَاهرة. والثانيك أنه ينتصب على الحل؛ لأنها في الأصْلِ صفة ل «أصنافاً» فلما قُدِّمَتْ عليها، وعلى عاملها انتصبت على الحال. والثالث: أن يتصب على أنه مفعنل ثانٍ قُدِّم على عامله، والأصل: أتتخذ أصناماً آلهة آزراً، أي قوة ومُظَاهرةٍ. وأما القراءة الثَّانية فقال الزمخشري: وهو اسم صِنَمٍ، ومعناه أتعبد آزاراً على الإنكار، ثم قال: تتخذ أصناماً آلهة تثبيتاً لذلك وتقريراً، وهو داخل في حكم الإنكار؛ لأنه كاالبيانِ له، فعلى هذا «آزاراً» منصوب بفعل محذوف يَدُلُّ عليه المعنى، ولكن قوله: «وهو داخل في حكم الإنكار» يقوي أنه لم يقرأ «أتتخذ» بهمزة الاستفهام؛ لأنه لو كان معه همزة استفهام لكان مستقلاً بالإنكار، ولم يحتج أن يقول: «وهو داخل في حكم الإنكار، لأنه كالبيان له. وقرأ ابن عبَّاسٍ أيضاً وأبو إسماعيل» أإزراً «بهمزة استفهام بعدها همزة مكسورة، ونصب الراء منونة، فجعلها ابن عطيَّة بدلاً من واو اشتقاقاً من الوزر ك» إسادة «و» إشاح «في:» وسادة «و» وشاح «. وقال أبو البقاءِ: وفيه وجهان: أحدهما: أنَّ الهمزة الثانية فاء الكلمة، وليست بَدَلاً من شيءن ومعناها الثقل وجعله الزمخشري اسم صَنَمٍ، والكلام فيه كالكلام في» أزراً «المفتوح الهمزة وقد تقدم. وقر الأعمش:» إزْراً تَتَّخِذُ «بدون همزة استفهام، ولكن بكسر الهمزة وسكون الزاي ونصب الراء منونة، ونصبه واضح مما تقدَّم، و» تَتَّخِذُ «يحتمل أن تكون المتعدية لاثنين بمعنى التَّصْييريَّةِ، وأن تكون المتعدية لواحد؛ لأنها بمعنى» عمل «، ويحكى في التفسر أنَّ أباه كان ينحتها ويصنعها، والجملة الاستفهامية في مَحَلِّ نصب بالقول، وكذلك قوله:» إنِّي اراك «و» أراك «يحتمل أن تكون المعملية، وهو الظَّاهر فتتعدى لاثنين، وأن تكون بَصَريَّة، وليس بذاك ف» في ضلالها حالٌ، وعلى التقديرين يتعلق الجزء: 8 ¦ الصفحة: 231 بمحذوف، إلاَّ أنه في الأوَّل أحد جزئي الكلام، وفي الثَّاني فَضْلَةٌ. «مُبِين» اسم فاعل من «أبان» [لازماً «بمعنى ظَهَرَ، ويجوز أن يكون من المُتَعدِّين والمفعول محذوف، أي: مبين كفركم بخالقكم، وعلى هذا فقول ابن عطية ليس بالفعل المُتعدِّي المنقول من بان يبين غير مسلم، وجعل الضلال طرفاً محيطاً بهم مبالغة في اتِّصِافِهِمْ به، فهو أبلغ من قوله:» أرَاكُمْ ضَالِّينَ «. فصل في اختلاف المفسرين حول» آزر « قال محمد بن إسحاق، والضحاك، والكلبي: آزر اسم أبي إبراهيم عليه السلام وهو تارح أيضاً مثل إسرائيل ويعقوب، وكان من» كوثى «قرية من سواد» الكوفة «وقال مقاتل بن حيان وغيره: آزر لقب لأتبي إبراهيم واسمه تارح. وقال سليمان التيمي هو سَبُّ وعيب، ومعناه في كلامهم المعوج. وقيل: معناه الشيخ الهرم بالخوارزمية والفارسية أيضاً وهذان الوجهان مبنيان على من يقول: إن في القرآن ألفاظاً قليلة غير عربية. وقال سعيد بن المسيب، ومجاهد: آزرصنم، وإنما سمي والد إبراهيم به لوجهين: أحدهما: أنه جعل نفسه مُختَصاً بعبادته، ومن بالغ في مَحَبَّةِ أحد، فقد يُجْعَلُ اسم المحبوب اسماً للمحب؛ قال تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71] . الثاني: أن يكون المراد عابد آزر، فحذف المضاف، وأضيف المضاف إليه مُقَامَهُ. وقيل: إن والد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان اسمه تارح، وكان آزر عمَّا له، والعم قد يُطْلَقُ عليه لفظ الأب، كما حكى الله تعالى عن أولاد يعقوب: {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] . ومعلوم أن إسماعيل كان عمَّا ليعقوب، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «رُدُّوا عَلَيَّ أبي العبَّاسَ» فكذا هاهنا. قال ابن الخطيب: وهذه التَّكالِيفُ إنما يجب المَصِيرُ إليها إذا دَلَّ قَاهِرٌ على أن والد إبراهيم كا كان اسمه آزر، وهذا الدليل لم يوجد ألبتة، فأي حاجة تحملنا لعى هه التأويلات؟ ومما يَدُلُّ على صِحَّةِ ما قلناه أن اليهود والنصارى والمشركين كانوا في غاية الحِرْصِ على تكذيب الرسول وإظهار النسب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 232 فصل في دحض شبهة للشيعة قالت الشيعة: إن أحَداً من آباء الرسول وأجْدَادِهِ ما كان كافراً، وأنكروا كون والد إبراهيم كافراً، وقالوا: إن آزر كان عَمَّ إبراهيم، واحتجوا بوجوه: أحدها: قوله تعالى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} [الشعراء: 219] . قيل: معناه أنه كان ينتقل روحه من ساجد إلى ساجد فَدَلَّت الآية على أن آباء محمد - عليه السلام - كانوا مسلمين. وحينئذ يجب القَطْعُ بأن والد إبراهيم كان مسلماً. فإن قيل: قوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} يحتمل وجوهاً: منها: أنه لما نُسِخَ فَرْضُ قيام الليل طَافَ الرسول تلك الليلة على بُيُوتِ أصحابه لينظر ماذا [يصنعون لشدة] حرصه على ما يظهر منهم من الطَّاعاتِ، فوجدها كَبُيُوتِ الزَّنَابير لكثرة ما سمع من أصوات قراءتهم وتسبيحهم وتَهْليلهم، فيحتمل أن يكون المراد من تقلبه في الساجدين طَوَافَهُ في تلك الليلة [على الساجدين] ويحتمل أن يكون المراد صلاته بالجماعة، واختلاطع بهم حال الصَّلاةِ. ويحتمل أن يكون المراد تَقَلُّبَ بَصَرِهِ فيمن يُصَلِّي خلفه لقوله عليه الصَّلاة والسَّلام «أتِمُّوا الرُّكُوعَ والسُّجود فَإنِّي أرَاكُمْ مِنْ وَرَاءِ ظَهْرِي» . ويحتمل أن يكون المراد أنه لا يخفى حالك على الله - تعالى - كلما أقمت وتقلبت في الساجدين في الاشتغال بأمور الدين. وإذا احتمل ظَاهِرُ الآية هذه الوجوه سقط ما ذكرتم. فالجواب: لفظ الآية يحتمل الكُلِّ، ويحصل المقصود حينئذ، لأن حَمْلَ ظاهر الآية على البَعْضِ ليس بأوْلَى من البَعْضِ ومما يَدُلُّ على أن أحداً من آباء محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما كانوا مُشْرِكينَ قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَمْ أزَل أُنْقَلُ مِنْ أصْلابِ الطَّاهرينَ إلى أرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ» . وقال تعالى: {اا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] فوجب القول بأن أحداً من أجداده ما كان مشركاً، فوجب القَطْعُ بأن والد إبراهيم كان إنْساناً آخر غير آزر. الحُجَّةُ الثانية: أن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ شَافَهَةُ بالغِلْظَةِ والجَفَاءِ، ومُشَافَهَةُ الأب بذلك لا يجوز، أما مشافهته بالجَفَاءِ والغِلْظَةِ فمن وجهين: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 233 أحدهما: على قراءة الضم يكون محمولاً على النداءن ونداء الأب بالاسم الأصْلِيّ من أعظم أنواع الإيذاء. وثانهيما: إذا قلنا بأنه المعوج أو المخطئ أو اسم الصَّنم. فتسميته له بذلك من أعْطَمِ أنواع الإيذاء له، وإنما قلنا: إن مشافهة الآباء بالجَفَاءِ والغِلْظَةِ لا تجوز لقوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] وقال تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} [الإسراء: 23] وهذا عام في حَقِّ الأب الكافر والمسلم. وأيضاً فلأمره - تعالى - موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين بعثه إلى فرعون [بالرِّفق مَعَهُ فقال تعالى:] {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} [طه: 44] وذلك لرعاية حَقِّ تَرْبِيَةِ فرعون لموسى فالوالد أوْلَى بالرِّفْقِ. وأيضاً فالدعوة مع الرِّفْقِ أكثر تأثيراً في القَلْبِ، وأما التغليظ فإنه يوجب التَّنْفيرَ والبُعْدَ عن القَبُولِ؛ قال تعالى لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَن} [النحل: 125] فكيف يليق بإبراهيم مثل هذه الخُشُونة مع أبيه. وأيضاً قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} [هود: 75] فكيف يليق بالرَّجُلِ الحليم مثل هذا الجفاءِ مع الأب. الحجة الثالثة: قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «رُدُّوا عَلَيَّ أبِي العبَّاسَ» يعني عمه. الحجة الرابعة: يحتمل أن آزر كان والدَ أم إبراهيم وقد يقال له: الأب؛ قال تعالى: {وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} [الأنعام: 84] إلى قوله: {وَعِيسَى} [الأنعام: 85] فجعل عيسى من ذُرِّيَّةِ إبراهيم، مع أن إبراهيم كان جَدَّ عيسى من قبل الأم. وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في حق الحسن «إنَّ ابْنِي هذا» فثبت بهذه الوجوه ان «آزر» ما كان والد إبراهيم. والجواب عن الأوَّل أن نَصَّ الكتاب يَدُلُّ على أن آزر كان كافراً وأنه والد إبراهيم، وقال تعالى: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] . وأما قوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} [الشعراء: 219] فقد تقدم أنه يحتمل وجوهاً. وقولهم: «وتُحْمَلُ الآية على الكل» فنقول: هذا مُحَال؛ لأن حَمْلَ اللفظ المشترك على جيمع معانيه لا يجوز، وأيضاً حمل اللفظ على حقييقته ومجازه معاً لا يجوز، وأما قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لَمْ أزَل أُنْقَل مِنْ أصْلابِ الطَّاهِرِينَ إلى أرحَامِ الطَّاهراتِ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 234 فذلك مَحْمُولٌ على أنه [ما وقع في نَسَبِه] ما كان سِفَاحاً، كما وَرَد في حديث آخر «وُلِدْتُ مِنْ نكاحٍ لا مِنْ سفاحٍ» . وأما قوله: التغليط مع الأب لا يليق بإبراهيم قلت: إنما أغْلَظَ عليه لأجل إصْرَارِهِ على الكُفْرِ، وإلاَّ فهو أول ما رفق به في المُخاطَبةِ، كما ذكر في سورة «مَرْيَمَ» {ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي} [الآية: 43] {ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} [مريم: 44] {إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن} [مريم: 45] وهذا غاية اللُّطْفِ والرِّفْقِ، فحين أصرَّ على كُفْرِهِ اسْتَحقَّ التغليظ، وقال: {ياإبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} [مريم: 46] . فصل في تحرير معنى «الصنم» والصَّنَمُ لُغَةً: كل جُثَةٍ صُوِّرَتْ من نُحَاسٍ أو فضَّةٍ وعُبِدَتْ مُتقرِّباً بها إلى اللَّهِ وقيل: ما اتُّخِذَ من صُفْرٍ ورِمُث ونحاس وحجر ونحوها فَصَنَمٌ، وما اتخذ من خَشبٍ فوثَنٌ وقيل بل هما بمعنى واحد. وقيل: الصَّنَمُ معرب من شمن، والصَّنم أيضاً العَبْدُ القوي، وهو أيضاً خبيث الرائحة، ويقال: صنم أي صور، ويضرب به المَثَلُ في الحُسْنِ وقال: [السريع] 2211 - مَا دُمْيَةٌ مِنْ مَرْمَرٍ صُوِّرَتْ ... أوْ ظَبْيةٌ في خَمَرٍ عَاطِفُ أحْسَنَ مِنْهَا يَوْمَ قَالَتْ لَنَا ... والدَّمْعُ مِنْ مُقْلَتِها وَاكِفُ لأنْتَ أحْلَى مِنْ لَذيذِ الكَرَى ... ومِنْ أمَانٍ نَالَهُ خَائِفُ وقال ابن الأثير: الصَّنَمُ كُلُّ معبود من دون الله تعالى. وقيل: ما كان له جسم أو صورة فهو صنم، وما لم يكن له جِسْمٌ أو صورة فهو وَثَنٌ وشمن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 «وكذلك» في هذه الآيات ثلاثة أوجه: أظهرها: أنها للتشبيه، وهي في مَحَلِّ نصب نَعْتاً لمصدر محذوف، فقدره الزمخشري: «ومثل ذلك التعريف والتصيير نعرف إبراهيم ونبصره ملكوت» . وقَدَّرَهُ المَهْدَوِيُّ: «وكما هديناك يا محمد أرينا إبراهيم» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 235 قال أبو حيان: وهذا بعيدٌ من دلالة اللفظ. قال شهاب الدين: إنما كان بعيداً؛ لأن المحذوف من غير المَلْفُوظِ به، ولو قدره بقوله: «وكما أريناك يا محمد الهداية» ، لكان قريباً لدلالة اللفظ معاً عليه. وقدَّرهُ أبو البقاء بوجهين: أحدهما: قال: «هو نَصْبٌ على إضمار» أرَيْنَاهُ «تقديره: وكما رآه أباه وقومه في ضلال مبين، أريناه ذلكح ما رآه صواباً بإطلاعنا إياه عليه» . الثاني: قال: «ويجوز أن يكون منصوباً ب» نرى «التي بعده على أنه صِفَةٌ لمصدر محذوف؛ تقديره نريه ملكوت السموات والأرض رُؤيةَ كرؤية ضلال أبيه» انتهى. قال شهابُ الدين فقوله: «على إضمار أريناه» لا حاجة إليه ألْبَتَّة، ولأنه يقتضي عدم ارتباط قوله: «نري إبراهيم ملكوت» بما قبله. الثاني: أنها للتَّعْلِيلِ بمعنى «اللام» أي: ولذلك الإنكار الصَّادرِ منه عليهم، والدعاء إلى الله في زَمَنٍ كان يُدْعَى في غير الله آلهة نريه ملكوت. الثالث: أن «الكاف» في مَحَلِّ رفع على خبر ابتداء مضمر، أي: والأمر كذلك، أي كما رآه من ضلالتهم نقل الوجهين الآخرين أبو البقاء وغيره. و «نُرِي» هذا مضارع، والمراد به حكاية حالِ ماضيه، والتقدير: كذا نري إبراهيم ملكوت السموات والأرض. و «نري» يحتمل أن تكون المُتعدِّية لاثنين؛ لأنها في الأصل بصرية، فأكسبتها همزة النقل مفعولاً ثانياً، وجعلها ابن عطية مَنْقُولةً من «رأى» بمعنى «عرف» ، وكذلك الزمخشري فإن قال فيما قدمت حكايته عنه: «ومثل ذلك التعريف نُعَرِّف» . قال أبو حيان بعد حكايته كلام ابن عطية: «ويحتاج كون» رأى «بمعنى» عرف «ثم يتعدى بالهمزة إلى مفعولين إلى نَقْلِ ذلك عند العربِ، والذي نقل النحويون أن» رأى «إذا كانت بصريَّة تعدَّتْ لمفعول، وإذا كانت بمعنى» علم «الناصبة لمفعولين تعدَّتْ إلى مفعولين» . قال شهابُ الدِّين: والعَجَبُ كيف خص بالاعتراض ابن عطية دون الزمخشري، وهذه الجملة المُشْتَمِلةُ على التشبيه، أو التعليل معترضة بين قوله: «وإذْ قال إبراهيمُ» منكراً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 236 على أبيه وقومه عبادَةَ الأصنام، وبين الاستدلال عليهم بوحدانية الله - تعالى - ويجوز ألاَّ تكون معترضةً إن قلنا: إن قوله: «فلما» عطف على ما قبله، وسيأتي «والملكوت» مصدر على «فَعَلُوت» بمعنى المُلْك، وبني على هذه الزِّنَةِ، والزيادة للمبالغة. قال القرطبي: وزيدت الواو النافية للمبالغةِ، وقد تقدم ذلك عند ذكر {الطاغوت} [البقرة: 256] والجمهور على «ملَكُوت» بفتح اللام. وقرا أبو السَّمَّال بسكونها، وهي لغةن والجمهور أيضاً على «ملكوت» بتاء مثناة. وعكرمة قرأها مثلثة، وقال: أصلها «ملكوثا» باليونانية أو بالنبطية. وعن النخعي هي «ملكوثا» بالعبرانية، وعلى هذا قراءة الجمهور يحتمل أن تكون من هذا، وإنما عُرِّبَتِ الكلمة فَتَلاعَبُوا بها، وهذا كما قالوا في اليهود بأنهم سُمُّوا بذلك لأجل يَهُوذَا بن يعقوب بذال معجمة، ولكن لما عُرَّبَتْهُ العرب أوا بالدَّال المهملة، إلا أن الأحْسَنَ أن يكون مُشْتَقًّا من المُلْكِ؛ لأن هذه الزِّنَةَ وَرَدَتْ في المصادر ك «الرَّغبوت» و «الرَّهَبُوت» و «الرَّحَمُوت» و «الجَبرُوت» و «الطَّاغُوت» وهل يختص ذلك بمُلْكِ الله تعالى أم يقال له ولغيره؟ . فقال الراغب: «والملكُوت مُخْتَصٌ بمُلْكِا لله تعالى وهذا الذي ينبغي» . وقال أبو حيَّان: «ومن كلامهم: له ملكوت اليمن، وملكوت العراق» ، فعلى هذا لا يختص. والجمهور على «نرى» بنون العظمة. وقرئ: «تُري» بتاء من فوق «إبراهيم» نصباً، «ملكوت» رفعاً، أي: تريه دلائل الربوبية، فأسند الفعل إلى الملكوت مُؤوَّلاً بمؤنث، فلذلك أنَّثَ فعله. فصل في المراد بالآية قال ابن عبَّاسٍ، يعني خلق السموات والأرض. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 237 وقال مجاهد، وسعيد بن جبير: يعني مَلَكُوت السموات والأرض، وذلك أنه أقيمَ على صخرة وكشف له عن السموات والأرض حتى العرش، وأسف الأرضين ونظر إلى مكانه في الجنة فذلك قوله: {وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا} [العنكبوت: 27] ، أي: أريناه مكانه في الجنة. وروي عن سلمان ورفع بعضهم عن علي لما رأى إبراهيم ملكُوتَ السموات والأرض أبصر رجلاً على فاحشة فدعا عليه فهلك ثم أبصر آخر فأراد أن يدعو عليه فقال له عَزَّ وَجَلَّ يا إبراهيم إنك رجل مستجاب الدعوة فلا تَدْعُ على عبادي فإنما أنا من عبدي على ثلاث خلال إما أن يتوب فأتوب عليه وإما أن أخرج منه نسمة تعبدني، وإما أن يبعث إليَّ فإن شئت غفرت له وإن شئت عاقبته. وفي رواية عن ابن عباس: وأما من يتولى فإن جهنم من ورائه. وعن القاضي في هذه الرواية من وجوه: أحدهما أن اهل السماء من الملائكة المقرّون، وهم لا يعصون الله. وثانيها: أن الأنبياء لا يدعون بهلاك المُذْنبِ إلا عن أمر الله وإذا أذن الله فيه لم يَجُزْ أن يمنعه من إجابة دعائه. وثالثها: أن ذلك الدُّعاء إما أن يكون صواباً أو خطأ؛ فإن كان صواباً فلم ردَّهُ فيا لمرة الثانية؟ وإن كان خطأ فلم قبلهُ في المرة الأولى؟ ثم قال وأخبار الآحاد إذا وردت على خلاف المعقول وجب التَّوَقُّف فيها. ويمكن أن يجاب عنه بأن الرجل المذنب الذي رآه كان في ملكوت الأرض. وعن الثانية بأنه يحمل أن يكون قد أذن في الدعاء على الأوَّل، ومنع في الثاني للاحتمال الذي ذكره في قوله: «يخرج منه نسمة تعبدني» . وعن الثَّالث أنَّ الدعاء للأول. وقيل: هذه الآراء كانت بعين البصيرةِ والعقل لا بالبصر؛ لأن المَلَكُوتَ عبارة عن الملك، والملك عبارة عن القُدرةِ، والقدرة إنما تعرف بالعقل. فإن قيل: رؤية القَلْبِ على هذا حاصلة لجمعي المُوحِّدينَ؟ . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 238 فالجواب: أنهم وإن كانوا يعرفون أصل هذا الدليل إلا أن الاطِّلاعَ على آثار حِكْمَةِ الله - تعالى - في كُلِّ واحد من مَخْلُوقاتِ هذا العالم بحسب أجناسها، وأنواعها، وأشْخَاصها، وأحوالها مما لا يحصل إلاَّ لأكَابَر الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، ولهذا كان عليه الصَّلاة والسَّلام يقول في دعائه: «اللَّهُمَّ أرِنَا الأشْيَاء كَمَا هِيَ» . فصل في تفسير الملكوت قال قتادةُ: «ملكوت السَّموات» : الشَّمْسُ، والقمر، والنجوم، وملكوت الأرض: الجبال، والشَّجر، والبحار. قوله: «وليكون» فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن «الواو» زائدة، أي: نريه ليكون من المؤمنين بالله، و «اللام» متعلقة بالفعل قبلها، إلا أن زيادةَ «الواوِ» ضعيفة ولم يقل بها إلاَّ الأخْفَش ومن تابعه. الثاني: أنها علَّة لمحذوف، وليكون اريناه إياه ذلك، والتقدير: وليكون من الموقنين برؤية مَلَكُوتِ السَّموات والأرض. الثالث: أنها عطف على علَّةٍ محذوفة، أي: ليستدل وليكون، أو ليقيم الحُجَّة على قَوْمِهِ، واليقين: عبارة عن عِلْمِ يحصل بعد زال الشُّبْهِةِ بسبب التَّأمُّلِ، ولهذا المعنى لا يُوصَفُ علم الله بكونه يقيناً؛ لأنّ علمه غير مَسْبُوقٍ بالشبهة، وغير مُسْتَفَادٍ من الفِكْرِ والتأمل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 قوله: «فَلَمَّا جَنَّ» يجوكزظ أن تكون هذه الجملة نَسَقاً على قوله: «وإذْ قاَلَ إبْرَاهِيمُ» عطفاً للدليل على مدلوله، فيكون «وكَذلِكَ نُرِي إبْرَاهِيمَ» معترضاً كما تقدم، ويجوز أن تكون مَعْطُوفَةً على الجملة من قوله: «وكَذلِكَ نُري إبراهيم» . قال ابن عطيَّة: «الفاء» في قولهك «فَلَمَّا رَابِطَةٌ جملة ما بعدها بما قبلها، وهي ترجح أن المراد بالملكوت التَّفْضِيلُ المذكور في هذه الآية، والأوَّل أحسن، وإليه نحا الزمخشري. و» جَنَّ «: سَتَرَ وقد تقدم اشْتِقَاقُ هذه المادة عند ذكر {الجنة} [البقرة: 35] وهنا خصوصية لذكر الفِعْلِ المسند إلى الليل يقال: جَنَّ عليه الليلن وأجن عليه بمعنى: أظْلَمَ فيستعمل قاصراً، وجَنَّةُ، فيستعمل متعدياً فهذا مما اتفق فيه فَعَلَ وأفْعَلَ لزوماً الجزء: 8 ¦ الصفحة: 239 وتعدياً إلا أن الأجْوَدَ في الاستعمال جَنَّ عليه الليلن وأجنه الليل، فيكون الثلاثيّ لازماً وأفعل متعدياً. ومن مجيء الثلاثي متعدياً قوله: [المتقارب] 2212 - وَمَاءٍ وَرَدْتُ قُبَيْلَ الكَرَى ... وَقَدْ جَنَّهُ السَّدَفُ الأدْهَمُ ومصدره جَنٌّ وجنان وجنون. وفرق الرَّاغِبُ بين» جَنَّه «و» أجَنَّه «، فقال: جنه إذا سترَهُ، وأجنة جعل له ما يجنه، كقولك: قَبَرْتُهُ وأقْبَرتُهُ، وسَقَيْتُهُ وقد تقدم لك شيء من هذا عند ذكر» حزن «و» أحزن « [البقرة: 38] ويحتمل أن يكون» جنَّ «في الآية الكريمة متعدياً حذف المفعول فيها، تقدير: جَنَّ الأشْيَاء والمبصرات. قوله:» رَألا كَوْكَباً «هذا جواب» لمَّا «، وللقراء فيه وفيما بعده من الفعلين خلافٌ كبير بالنسبة إلى الإمالةِ وعدمها، وتلخيصه أن» رأى «الثابت الألف فأمال رَاءَهُ وهمزته إمالة مَحْضَة الأخوان، وأبو بكر عن عاصم، وابن ذكوان عن ابن عامر، وأمال الهمزة منه فقط دون الراء أبو عَمْرٍو وبكماله، وأمال السوسي بخلاف عنه عن ابن عَمْرٍو الراء أيضاً، فالسوسي في أحد وَجْهَيْهِ يوافق الجماعة المتقدمين، وأمال وَرْشٌ الراء والهمزة بَيْنَ بَيْنَ من هذا الحرف، حيث وقع هذا كله ما لم يَتِّصِلْ به ضمير نحو ما تقدم، فأما إن اتَّصَلَ به ضمير نحو: {فَرَآهُ فِي سَوَآءِ} [الصافات: 55] {فَلَمَّا رَآهَا} [النمل: 10] {وَإِذَا رَآكَ الذين} [الأنبياء: 36] ، فابن ذكوان عنه وجهان، والباقون على أصولهم المتقدمة. وأما» رأى «إذا حذفت ألفه فهو على قسمين: قسم لا تعود فيه ألبتة لا وَصْلاً ولا وَقْفاً، نحو: {رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ} [الفرقان: 12] {رَأَوُاْ العذاب} [يونس: 54] فلا إمالة في شيء منه، وكذا ما انقلبت ألفه ياءً نحو: {رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ} [الإنسان: 20] . وقِسْمٌ حُذِفَتْ أله لالتِقَاءِ السَّاكنين وصْلاً، وتعود وَقْفاً نحو: {رَأَى الْقَمَرَ} [الأنعام: 77] {رَأَى الشمس} [الأنعام: 78] {وَرَأَى المجرمون النار} [الكهف: 53] {وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ} [النحل: 85] فهذا فيه خلاف أيضاً بين أهل الإمالة اعتباراً باللفظ تارة، وبالأصل أخرى، فأمال الراء وحدها من غير خلاف حمزة وأبو بكر عن عَاصِمٍ والسُّوسي بخلاف عنه وحده، وأما الهمزة فأمَالَهَا مع الراء أبو بكر والسُّوسي بخلاف عنهما، هذا كله إذا وصلت، أما إذا وقفت فإن الألف تَرْجِعُ لعدم المُقْتَضِي لِحَذْفِهَا، وحكم هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 240 الفعل حينئذ حكم ما لم يَتَّصِلْ به سَاكِنٌ فيعود فيه التَّفْصِيلُ المُتدِّم، كما إذا وقفت على» رأى «من نحو: {رَأَى القمر} [الأنعام: 77] . فأمَّا إمالة الرَّاء من «رأى» فلإتباعها لإمالة الهمزة، هكذا عبارتهم، وفي الحقيقة الإمالة إنما هي الألف لانْقِلابها عن الياء، والإمالة أن تنحي بالألف نحو الياء وبالفتحة قبلها نحو الكسرة، فمن ثمَّ أن يقال: أميلت الراء لإمالة الهمزة، وأما تفصيل ابن ذَكْوَانَ بالنسبة إلى اتِّصالِهِ بالضمير وعدمه، فوَجْهُهُ أن الفعل لما اتَّصَلَ بالضمير بعدت ألفه عن الظَّرْفِ، فمل تُمَلْ. ووجه من أمال الهمزة في «رَأى القَمَرَ» مُرَاعَاة للألف وإن كانت محذوفة، إذ حذفها عَارِضٌ، ثم منهم من اقْتَصَرَ على إمالة الهمزة؛ لأن اعتبار وُجُودهَا ضعيفٌ، ومنهم من لم يَقْتَصِرْ أعطى لها حكم الموجودة حَقِيقَةً، فأتبع الراء للهمزة في ذلك. والكوكب: النجم، ويقال فيه كَوْكَبَةٌ. وقال الراغب: «لا يقال فيه أي في النجم: كوكب إلا عند ظُهُوره» . وفي اشتقاقه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه من مادة «وَكَبَ» فتكون الكَافُ زائدةً، وهذا القول قاله الشيخ رضي الدين الصَّغاني قال رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: «حق كَوْكَب أن يُذكَرَ في مادة» وَكَبَ «عن حُذَّاق النحويين، فإنها وردَتْ بكاف زائدةٍ عندهم، إلا أنَّ الجوهري أوردها في تركيب» ك وك ب «ولعلَّه تبع في ذلك اللَّيْثَ، فإنه ذكره في الرباعي ذاهباً إلى أن الواو أصْلِيَّةٌ» . فهذا تصريح من الصَّغَاني بزيادة الكافن وزيادة الكاف عند النحويين لا يجوز، وحروف الزيادة مَحْصُورةٌ في تلك العشرة، فأما قولهم: «هِنْدِيُّ وهِنْدِكيّ» بمعنى واحدٍ، وهو المنسوب إلى «الهند» ، وقول الشاعر: [الطويل] 2213 - ومُقْرَبَةٍ دُهْمٍ وَكُمْتٍ كَأنَّهَا ... طَمَاطِمُ مِنْ فَوْقِ الوِفَازِ هَنَادِكُ فظاهر زيادة الكاف، ولكن خَرَّجَهَا النحويون على أنه من باب «سبط وسبطر» أي: مما جاء فيه لَفْظَان، أحدهما أطول من الآخر، وليس بأصْلٍ له، فكما لا يُقَالُ: الراء زائدة باتِّفاقٍ، كذلك هذه الكاف، وكذلك قال أبو حيَّان: «وليت عشري، من حُذَّاق النحويين الذين يَرَوْنَ زيادتها لا سيَّما أول الكلمة» . والثاني: أن الكلمة كُلَّهَا أصُولٌ رباعية مما كُرِّرَتْ فيها الفاء، فوزنها فَعْفَل ك «فَوْفَل» وهو بناء قليل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 241 والثالث: ساق الرَّاغب أنه من مادة: كَبَّ وكَبْكَبَ، فإنه قال: والكَبْكَبَةُ تَدَهْوُرُ الشيء في هُوَّة، يقل: كَبَّ وكَبْكَبَ، نحو: كَفَّ وكَفْكَفَ، وصرَّ الريح وصَرْصَرَ. والكواكب النجوم البادية، فظاهر السِّياقِ أن الواو زائدة، واكاف بَدَلٌ من إحدى الياءين وهذا غريب جداً. قوله: «قال هذا ربي» في «قال» ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه استئناف أخبر بذلك القول، أو استفهم عنه على حسب الخلاف. والثاني: أنه نعت ل «كَوْكَباً» فيكون في محلِّ نصب، وكيف يكون نعتاً ل «كوكباً» ولا يساعد من حَيْثُ الصِّناعةِ، ولا من حيث المعنى؟ أما الصِّناعةُ فلعدم الضمير العائد من الجملة الواقعة صِفَةً إلى موصوفها، ولا يقال: إن الرابط حَصَلَ باسم الإشارة؛ لأن من الجملة الواقعة صِفَةً إلى موصوفها، ولا يقال: إن الرابط حَصَلَ باسم الإشارة؛ لأن ذلك خَاصُّ بباب المبتدأ والخبر، ولذلك يكثر حَذْفُ العائد من الصِّفة، ويقلُّ من الخبر، فلا يَلْزَمُ من جوازِ شيء في هذا جوازُهُ في شيء، وادِّعاء حذفت ضمير بعيد، أي قال فيه: هذا رَببَّي، وأمَّا المعنى فلا يُؤدِّي إلى أن التَّقدير: رأى كوكباً مُتَّصِفاً بهذا القَوْلِ، فقيل: هو خبر مَحْضٌ بتأويل ذكره أهْلُ التفسير. وقيل: بل هو على حَذْفِ همزة الاستفهام، أي: أهذا ربي، وأنشدوا: [الطويل] 2214 - لَعَمْرُكَ مَا أدْرِي وَإنْ كُنْتُ دَارِياً ... بِسَبْعٍ رَمَيْنَ الجَمْرَ أمْ بِثَمَانِ وقوله: [المنسرح] 2215 - أفْرَحُ أرْزَأ الكِرَامَ وَأنْ ... أورَثَ ذَوْداً شَصَائِصاً نَبَلاَ وقوله: [الطويل] 2216 - طَرِبْتُ وَمَا شَوْقاً إلى البِيضِ أطْرَبُ ... وَلاَ لِعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ وقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] قالوا: تقديره أبسبع؟ وأأفرح؟ وأذو؟ وأتلك؟ قال ابنُ الأنْبَارِيّ: «وهذا لا يجوز إلا حَيْثُ يكون ثمَّ فاصلٌ بين الخبر والاستفهام، إن دلَّ دليل لفظي كوجود» أم «في البيت الأول، بخلاف ما بعده» . والأفُولُ: الغَيْبَةُ والذَّهَابُ؛ يقال: أفَلَ يأفُلُ أفُولاً. قال ذو الرمة: [الطويل] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 242 2217 - مَصَابِيحُ لَيْسَتْ باللَّوَاتِي تَقُودُهَا ... نُجُومٌ ولا بالآفلاتِ شُمُوسُهَا والإفَالُ: صِغَارُ الغَنَم. والأفيلُ: الفَصِيلُ الضَّئِيلُ. فصل في بيان رؤية الملك قال أكثر المفسرين: أن مَلِكَ ذلك الزَّمانِ رأى رُؤيا وعبرها المعبرون بأنه يُوَلدُ غلام يكون هلاكُ مُلْكِهِ على يَدَيْهِ، فأمر بذح كُلِّ غلام يُولدُ، فحملت أمُّ إبراهيم به، وما أظهرت حَمْلَهَا للناس، فلما جاءها الطَّلْقُ ذَهَبَتْ إلى كَهْفٍ في جَبَلٍ، ووضعت إبراهيم - علي السلام - وسدَّت الباب بِحَجَرٍ فجاء - جبريل - عليه السلام - وكانت الأمُّ تأتيه أحياناً تُرْضِعُهُ، وبقي على هذه الصفة حتى كَبِرَ وعَقِلَ، وعرف أنه له رَبَّا، فسأل أمه فقال لها: مَنْ رَبي؟ قالت: أنا، فقال: ومَنْ رَبُّك؟ قالت: أبوك فقال: ومن رَبُّ أبي؟ فقالت: مَلِكُ البلد. فعرف إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - جَهَالتها بربها، فنظر من باب ذلك الغارِ ليرى شيئاً يَسْتَدِلُّ به لعى وجو الرَّبِّ - سبحانه وتعالى - فرأى النَّجْمَ الذي كان هو أضْوَءَ نجم في السماء. فقيل: كان المشتري، وقيل: كان الزهرة، فقال: هذا ربِّي إلى آخر القِصَّةِ. ثم القائلون بهذا القول اختلفوا، فمنهم من قال: هذا كان بعد البُلُوغِ، ومنهم من قال: كان هذا قَبْلَ البُلُوغِ والتكليف، واتَّقَقَ أكثر المحققين على فَسَادِ هذا القول. وقالوا: لا يجوز أن يَكُونَ لله رَسُولٌ يأتي عليه وَقْتٌ من الأوْقَاتِ إلا وهو مُوَحِّدٌ به عارف، ومن كُلِّ معبود سواه بَرِيءٌ، وكيف يتوهَّمُ هذا على من عَصَمَهُ الله وطَهَّرَهُ وآتاه رُشدَهُ من قَبْلُ، وأخبر عنه فقال تعالى: {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84] . وأراه ملكوت السَّمواتِ والأرض، أفتراه أراه الملكُوتَ ليُوقِنَ؟ فلما أيْقَن رأى كوكباً قال: «هذا ربي» معتقداً فهذا لا يكون أبداً. واحتجوا بوجوه: أحدها: أن القول بِرُبُبيَّةِ الجماد كُفْرٌ بالإجماع، والكفر لا يجوز على الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام - بالإجماع. والثاني: أن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان قد عرف رَبَّهخُ قَبْل هذه الواقعة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 243 بالدليل؛ لأن أخبر عنه أنه قال قَبل هذه الواقعة لأبيه آزر {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 74] . الثالث:؛كي عنع أنه دعا أباه إلى التَّوحيد، وتَرْكِ عبادة الأصْنامِ بالرِّفْقِ حيث قال: {ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42] وحكي في هذا الموضع أنه دعا أباهُ إلى التوحيد، وتَرْكِ عبادة الأصنام بالكلام الخشن، ومن المعلوم أن من دعا غَيْرَهُ إلى الله، فإنه يُقَدِّمُ الرِّقْقَ على العُنْفِ، ولا يخوض في التَّغْلِيظِ إلا بعد اليَأسِ التام، فدلَّ على أن هذه الواقعة إنما وقعت بعد أن دعا أباه مراراً، ولا شكَّ أنه إنما اشْتَغَلَ بدعوة أبيه بعد فراغِهِ من مُهْمِّ نفسه، فَثَبَتَ أن هذه الواقعة إنما وَقَعَتْ بعد أن أراه الله مَلَكُوتَ السَّمواتِ والأرض، ومن كان مَنْصِبُهُ في الدِّين كذلك، وعلمه بالله كذلك، فكيف يليق به أن يعتقد ألُوهيَّة الكواكِبِ؟ الرابع: أنَّ دلائل الحُدُوثِ في الأفْلاكِ ظَاهِرَةٌ من وجوه كثيرة، ومع هذه الوجوه الظاهرة كيف يليق بأقلّ العُقلاءِ نَصِيباً من العَقْلِ والفَهْمِ أن يقول بربوبية الكواكب فَضْلاً عن أعْقَلِ العُقلاءِ، وأعْلَمِ العلماء؟ الخامس: أنه قال في صفته {إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الصافات: 84] وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 51] أي: آتيناه رشده من قَبْلِ أوَّل زمان الفكرة وقوله «وكنا به عالمين» أي بطهارته وكمالهن ونظيره قوله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] . السادس: قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75] أي: بسبب بتلك الإراءة يكون من الموقنين، ثم قال بعده: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل} و «الفاء» تقتضي الترتيب، فدلَّت الفاء في قوله: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل} على أن هذه الواقعة حصلت بعد أن صار من الموقنين العارفين بربِّهِ. السابع: أن هذه الواقعة إنما حَصَلَتْ بسبب مُنَاظَرَةِ إبراهيم عليه السلاة والسلام مع قومه، لأنه - تعالى - لما ذكر هذه القصة قال: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] ولم يقل: على نفسه، فعلم أن هذه المُبَاحَثَة إنما جَرَتْ مع قومه؛ لأجل أن يرشدهم إلى الإيمان والتوحيد، لا لأجلِ أن إبراهيم - عليه السلام - كان يطْلُبُ الدِّينَ والمعرفة لنفسه. الثامن: أن قولهم: إن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 244 إنما اشتغل بالنظر في الكواكب والشمس والقمر حال كونه في الغَارِ باطل؛ لأن لو كان الأمْرُ كذلك، فكيف يقول: يا قوم إن بَريءٌ مما تشركون، مع أنه كان في الغارِ لا قَوْمَ ولا صَنَمَ. التاسع: قوله: {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ} [الأنعام: 80] فكيف يُحَاجُّونك وهم لم يَرَوْهُ ولم يرهم، وهذا يَدُلُّ على أنه - عليه الصَّلاة والسلام - إنما اشغل بالنَّظَرِ في الكواكب والشمس والقمر بعد مُخَالطةِ قومه، ورآهم يَعْبُدُونَ الأصنام، ودعَوْهُ إلى عِبَادتَهَا، فقال: «لا أحِبُّ الآفلينَ» ردَّا عليهم، وتَنْبيهاً على فَسَادِ قولهم. العاشر: أنه - تعالى - حُكِيَ عنه أنه قال للقوم: {وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله} [الأنعام: 81] وهذا يَدُلُّ على أن القوم خَوَّفُوهُ بالأصْنَام كما قال قوم هود عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء} [هود: 54] وهذا الكلام لا يليقُ بالغَارِ. الحادي عشر: أن تلك اللَّيْلَة كانت مَسْبُوقَةً بالنهار، ولا شك أن الشمس كانت طَالِعَةً في اليوم المتقدم، ثم غَرَبَتْ، فكان ينبغي أن يستدلَّ بغروبها السَّابق على أنها لا تصلح للإلهية، وإذا بَطَلَ صَلاحيَّةُ الشمس للإلهية بطل ذلك في القمرِ والكوكب بطريق الأوْلَى. هذا إذا قلنا: إن هذه الواقعة كان المقصود منها تحصيل المَعْرِفَةِ لنفسه، أما إذا قلنا: المقصود منها إلْزَامُ القَوْمِ وإلجَاؤُهُمْ، فهذا السؤال غير وَاردٍ، لأنه يمكن أن يقال: إنه إنما اتَّقَقَتْ مُكالَمَتُهُ مع القوم حالَ طُلُوع ذلك النجم، ثم امْتَدَّت المُنَاظَرَةُ إلى أنْ طَلَعَ القمر، وطلع الشمس بعده، وعلى هذا التقدير فالسُّؤالُ غير واردٍ، فثبت بهذه الدلائل الظَّاهرة أنه لا يجوز أن يقال: إن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال على سبيل الجَزْمِ «هذا ربي» ، وإذا بطل بقي ها هنا احْتِمَالانِ: الأول: أن يقال: هذا كلام إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لم يقل: «هذا ربي» على سبيل الإخبار، بل الغَرَضُ منه أنه كان يُنَاظِرُ عَبَدَةَ الكواكب، وكان مذهبهم أن الكواكب رَبُّهُمْ، فذكروا إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ذلك القَوْلَ الذي قالوه بلفظهم وعبارتهم، حتى يرجع إليه فَيُبْطلَهُ كما يقول الواحد منا إذَا نَاظَرَ مَنْ يقول بِقدمِ الجِسْمِ، فيقول: الجسم قَدِيمٌ فإن كان كذلك فَلِمَ نراه؟ ولم نشاهده مركّباً متغيراً؟ فقوله: الجسم قديم إعادةٌ لكلام الخَصْم حتى يلزم المُحَال عليه، فكذا هاهنا قال: «هَذَا ربِّي» حكايةً لقول الخَصْمِ، ثم ذكر عَقَيِبَهُ ما يَدُلُّ على فساده، وهو قوله: {اأُحِبُّ الآفلين} ، ويؤيد هذا أنه - تعالى - مَدَحَهُ في آخر الآية على هذه المُنَاظَرَةِ بقوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] . وثانيها: أن قوله تعالى: «هَذَا رَبِّي» في زعمكم واعتقادكم، فلما غاب قال: لو كان إلهاً لما غاب كما قال: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] ، أي: عند الجزء: 8 ¦ الصفحة: 245 نفسك وبزعمك، وكقوله تعالى: {وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً} [طه: 97] يريد إلهك بزعمك، وقوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} [القصص: 62] أي: في زعمهم. وثالثها: أن المراد منه الاسْتِفْهَامُ على سبيل الإنكار، تقديره: أهَذَا ربِّي، إلا أنه أسقط حرف الاسْتِفْهَام اسْتِغْنَاءً لدلالة الكلام عليه، كقوله {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] . ورابعها: أن يكون القول مُضْمراً فيه، والتقدير: يقولون: هذا رَبِّي، وإضمار القول كثير كقوله: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا} [البقرة: 127] أي يقولون: ربنا، وقوله: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] أي: يقولون: ما نعبدهم، فكذا ها هنا تقديره: أن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال لقومه: يقولون: هذا ربي، أي: هذا الذي يُدَبِّرُني وُرَبِّيني. خامسها: أن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ذكر هذا الكلام على سبيل الاسْتِهْزَاءِ. سادسها: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان مَأمُوراً بالدعوة، فأراد أن يَسْتَدْرِجَ القوم بهذا القول، ويعرفهم خَطَاهُمْ وجَهْلهُمْ في تعظيم ما عَظَّمُوهُ، وكانوا يعظمون النجوم ويعبدونها، فذكر كلاماً يُوهِمُ كونه مُسَاعداً لهم على مَذْهَبِهِمْ، وقلبه مطمئن بالإيمان، ومَقْصُودُهُ من ذلك أن يريهم النَّقْصَ الدَّاخلَ على فَسَادِ مَذْهَبِهِمْ وبُطلانِهِ، فأراهم أنه يعظم ما عظموه، فلما أفَلَ أراهم النَّقْصَ الدَّاخلَ على النجوم ليريهم، ويثبت خَطَأ ما يدَّعُون كمثل الحواري الذي وَرَد على قَوْمِ يعبدون الصَّنَمَ فأظْهَرَ تعظيمه فأكرموه حتى صدروا عن رأيِهِ في كثير من الأمُورِ إلى أن دَهَمَهُمْ عَدُوٌّ فَشَاوَرُوُه في أمْرِهِ، فقال: فلما تبيَّنَ لهم أنه لا يَنْفَعُ ولا يدفعن دعاهُمْ إلى أن يَدْعُوا الله، فدعوه فصرف عنهم ما كانوا يَحْذَرُونَ وأسلموا. وأعلم أن المأمور بالدعوة إلى الله كان بمنزلة المُكْرَهِ على كلمة الكفرن وهو عن الإكرام يجوز إجاء كلمة الكُفْرِ على اللسان؛ قال تعالى {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان} [النحل: 106] وإذا جاز ذكر كلمة الكُفْرِ لإصلاح بقاء شخص واحد فَبِأنْ يجوز إظهار كلمة الكُفْرِ لتخليص عالم من العقلاء عن الكُفْرِ والعقاب المُؤبَّدِ أوْلى. وأيضاً المُكُرَةُ على ترك الصلاة، ثم صلَّى حتى قتل، استحقَّ الأجْرَ العظيم، ثم إذا كان وقْتُ القتالِ مع الكفار، وعلم أنه لو اشتغل بالصَّلاةِ انهزم عَسْكَرُ الإسلام وجب عليه تَرْكُ الصَّلاةِ، والاشتغال بالقتال، حتى لو صلَّى وترك القتال أثِمَ، ولو ترك الصلاة وقاتل، استحق الثُّوابَ، بل نقول: إنَّ مَنْ كان في الصلاة ورأى طِفْلاً، أو أعمى أشرف على الحَرْقِ أو غَرَقٍ، وجب عليه قَطْعُ الصلاة لإنقاذ الطفلِ، والأعمى من البلاءن فكذا ها هنا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 246 تكلم إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بهذه الكلمات ليظهر من نفسه مُوافقةَ القوم، حتى إذا أورد عليهم الدَّليل المُبْطل لقولهم، كان قَبُولُهُمْ لذلك الدليل أتَمَّ، وانتفاعهم به أكْمَلَ، ويقوي هذا الوجه أنه - تعالى - حكى عنه مثل هذا الطريق في قوله: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النجوم فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ} [الصافات: 88 - 90] . وذلك لأنهم كانوا يَسْتَدِلُّونَ بِعِلْمِ النجوم على حصول الحوادثِ المستقبلة، فوافقهم إبراهيم على هذا الطريق في الظَّاهرِ، مع أنه كان بِرِيئاً عنه في الباطنِ، ومقصود أن يتوسَّل بهذا الطريق إلى كَسْرِ الأصنام، فإذا جازكت المُوافقةُ في الظاهر هاهنا مع كونه بريئاً عنه في الباطِنِ، فلمَ لا يجوز أن يكون في مَسْألَتِنَا كذلك.؟ وأما الاحتمال الثاني: فهو أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذكر هذا الكلامَ قبل البلوغ، وتقريره أن يقال: كان قَدْ خُصَّ إبراهيم - عليه السلام - بالعقل الكامل، والقَريحةِ الصَّافية، فخطر ببالِهِ قبل بلوغه إثبات الصانع - تعالى - فتفكَّرَ فرأى النجوم، فقال: «هَذّا رَبِّي» فلمَّا شاهد حَرَكاتِهِ قال: «لا أحِبُّ الآفلين» ثم إنه - تعالى - أكمل بلوغه في قوله تعالى: {قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 78] . والاحتمال الأول أوْلَى بالقبول؛ لما ذكرنا من الدلائل. فإن قيل إن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - استدلَّ بافُولِ الكواكب، على انه لا يجوز أن يكون رَبَّا له، والأفُولُ عبارة عن غَيْبُوبَةِ الشيء بعد ظهوره فيدلُّ على الحدوث من حيث إنه حركة، وعلى هذا التقرير فيكون الطُّلُوعُ أيضاً دليلاً على الحدوث، فَلِمَ ترك إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - الاسْتدلال على حدوثها بالطلوع، وعوَّل في إثبات هذا المطلوب على الأفُولِ؟ الجواب: أن الطلومع والأفُولَ يشتركان في الدلالة على الحدوث، إلا أن الدَّليلَ الذي يحتج به الأنبياء في مَعْرَضِ دعوة الخَلْقِ كلهم إلى الله لا بُدَّ وأن يكون ظاهراً، بحيث يشترك في فَهْمِهِ الذَّكِيُّ والغَبِيُّ، والعاقل والغافل، ودلالة الحركة على الحدوث وإن كانت يَقِينيَّةً إلا أنها دَقِيقَةٌ لا يعرفها إلا الأفَاضِلُ من الخَلْقِ، أما دلالة الأفُولِ على هذا المقصود، فإنها ظَاهِرةٌ يعرفها كل أحَدٍ، فإن الآفِلَ يزول سُلْطَانُهُ وَقْتَ الأفُولِ، حيث إن الأفول غيبوبة، فإن الإله المَعْبُودَ العالم لا يغيب، ولهذا استدلَّ بظهور الكواكب، وبُزُوغِ القمر والشمس على الإلهية، واستدلَّ بأفوالهم على عدِم الإلهية، ولم يتعرض للإستدلال بالحركة، وهل هي تَدُلُّ على الحدوث أم لا؟ قال ابن الخطيب: وفيه دقيقة وهو أنه - عليه الصَّلاة والسلام - إنما كان يُنَاظِرُهُمْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 247 وهم كانوا مُنَجِّمين، ومذهبهم أن الكوكب إذا كان الرُّبْعِ الشرقي، ويكون صاعداً إلى وسطِ السماء كان قويَّاً عظيم التأثير، أما إذا كان غربيَّا وقريباً ومن الأفُولِ، فإنه يكون ضَعيفَ الأثَر قليل القُوَّة، فَنَبَّهَ بهذه الدقيقة على ان الإله هو الذي تتغير قُدْرَتُهُ إلى العَجْزِ، وكماله إلى النقصان، ومذهبكم أن الكوكب حال كونه في الرُّبْعِ الغربي يكون ضعيف القوة، ناقص التأثيرن عاجزاً عن التَّدبير، وذلك يَدُلُّ على القَدْح في إلهيته، فظهر على قول المنجمين أن للأفول مَزِيدَ خاصية في كونه موجباً لِلْقَدْح في إلهيته والله أعلم. فإن قيل: إن تلك اللَّيْلَة كانت مَسْبُوقَةً بنهارٍ وليل، فكان أفُولُ الكواكب والقمر والشمس حاصلاً في الليل السَّابق والنهار السابق، وبهذا التقدير لا يبقى للأفولِ الحاصل في تلك الليلة فَائدةٌ؟ فالجواب: أنا قد بَيَّنَّا أنه - عليه الصَّلاة والسَّلام - إنما أورد هذا الدَّليلَ على القوم الذين كان يدعوهم من عِبَادَةِ النجم إلى التوحيد، فلا يَبْعُدُ أن يقال: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان جالساً مع أولئك الأقوام ليلة من الليالي، فَزَجرهُمْ عن عبادة الكواكب، فبينا هو في تَقْريرِ ذلك الكلام، إذ رفع بَصَرَه إلى كوكب مُضيء، فلما أفَلَ قال إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: لو كان هذا الكوكب إلهاً لما انْتَقَلَ من الصُّعُودِ إلى الأفُولِ ومن القُوَّةِ إلى الضعف، ثم في أثناء ذلك الكلام طَلَع القمر وأفَلَ فأعاد عليهم ذلك، وكذا القول في الشمس. فصل في الدلالة في الآية دَلَّت الآية على أحكام: أحدها: دلَّتْ على أنه ليس بِجِسْمٍ، إذ لو كان جِسْماً غائباً أبداً لكان آفلا أبداً. وأيضاً يمتنع أن يكون - تعالى - بحيث ينزل من العَرْشِ إلى السماء تَارةً، ويصعد من السماء إلى العرش أخرى، وإلاَّ يحصل معنى الأفول. وثانيها: دَلَّتِ الآية على أنه - تعالى - ليس مَحَلاً للصِّفاتِ المحدثة، كما يقول الكرامية، وإلاَّ لكان متغيراًن وحينئذ يحصل معنى الأفولِ، وذلك مُحَالٌ. ثالثها: دلَّتِ الآية على أنَّ الدين يجب أن يكونم مَبْنِياً على الدليل، لا على التَّقْلِيدِ، وإلاَّ لم يكن لهذا الاسْتِدْلالِ فَائِدَةٌ. ورابعها: دلَّتِ الآية على أن معارف الأنبياء بربِّهِمُ اسْتِدْلاليَّةٌ لا ضرورية، وإلاَّ لما احتاج إبراهيم - عليه السلام - إلى الاستدلال. وخامسها: دلَّتِ الآية على أنه لا طَرِيقَ إلى تحصيل معرفة الله - تعالى - إلاَّ بالنَّظَرِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 248 والاستدلال في أحْوالِ مخلوقاته، إذ لو أمكن تحصيلها بطريق آخَر لما عدلَ إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لهذه الطريقة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 «بَازِغاً» حالٌ من «القمر» والبزوغ: الطُّلُوع، يقال: بَزَغَ بفتح الزاي: يَبْزُغ بضمها بزوغاً، والبُزُوغُ: الابتداء في الطلوع. قال الأزهري: كأنه مأخوذ من البَزْغ وهو الشَّقُّ كأنه بنُورِهِ يِشُقُّ الظُّلْمَةَ شَقاً، ويستعمل قاصراً ومتعدياً، يقال: بَزَغَ البَيْطَارُ الدَّابَّةَ، أي: أسال دَمَها، فبزغ هو، أي: سال، هذا هو الأصل. ثم قيل لكل طلوع: بزوغ، ومنه بَزَغَ نَابُ الصبي والبغير تَشْبيهاً بذلك. والقمر معروف سُمِّيَ بذلك لِبَيَاضِهِ، وانشار ضَوْئِهِ، والأقْمَرُ: الحمار الذي على لون الليلة القمراء، والقَمرَاءُ ضوء القمر. وقيل سُمِّيَ القمر قمراً؛ لأنه يقمر ضوء الكواكب ويفوز به، واللَّيَالي القُمْرُ: ليالي تَدَوُّرِ القمر، وهي الليالي البِيضُ؛ لأن ضوء القمر يستمر فيها إلى الصباح. قيل: ولا يقال له قمراً إلا بعد امتلائه في ثالث ليلة وقبلها هِلالٌ على خلاف بين أهل اللغة تقدم في البقرة عند قوله: {عَنِ الأهلة} [البقرة: 189] فإذا بلغ بعد العشر ثالث ليلة، قيل له: «بدر» إلى خامس عشر. ويقال: قمرت فلاناً، أي: خدعته عنه، وكأنه مأخوذ من قَمِرَت القِرْبَةُ: فَسَدَت بالقَمْراء. قوله: {لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي} يدلُّ على أن الهدايةَ ليست إلاَّ من الله، ولا يمكن حمل لفظ الهداية إلا على التمكينن وإزاحة الأعْذَارِ، ونَصْبِ الدلائل؛ لأن كل ذلك كان حاصلاً لإبراهيم عليه السلام. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 إنما ذكر اسم الإشارة مذكراً والمشار إليه مؤنث لأحد وجوه: إما ذهاباً بها مذهب الكواكب، وإما ذهاباً بها مذهب الضوء والنور، وإما بتأويل الطَّالع أو الشخص؛ كما قال الأعشى: [السريع] 2218 - قَامَتْ تُبَكِّيهِ عَلَى قَبْرِهِ ... مَنْ لِيَ بَعْدكَ يَا عَامِرُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 249 تَرَكْتَنِي فِي الدَّارِ ذَا غُرْبَةٍ ... قَدْ ذَلَّ مَنْ لَيْسَ لَهُ نَاصِرُ أو الشيء، أو لأنه لما أخبر عنها بمذكَّرٍ أعْطِيَتْ حُكْمَه؛ تقول: هند ذاك الإسنان وتيك الإنسان؛ قال: [البسيط] 2219 - تَبِيتُ نُعْمَى عَلَى الهِجْرَانِ غَائِبَةً ... سَقْياً ورعْياً لِذاكَ الغَائِبِ الزَّاري فأشار إلى «نعمى» وهي مؤنث إشارة المُذكرِ بوصف الذكورن أو لأن فيها لُغَتَيْنِ: التذكير والتأنيث، وإن كان الأكثر التأنيث، فقد جمع بينهما في الآية الكريمة فانَّث في قوله: «بازغة» ، وذكَّرَ في قوله: «هذا» . وقال الزمخشري: «جعل المبتدأ مثل الخبر لكونهما عبارةً عن شيء واحد؛ كقولهم: ما جاءت حاجتك، ومن كانت أمك، و {لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُوا} [الأنعام: 23] وكان اختيار هذه الطريقة واجباً لصيانة الرَّبِّ عن شُبْهَةِ التأنيث، إلا تَرَاهُمْ قالوا في صفة الله: علاَّم، ولم يقولوا: عَلاَّمة، وإن كان أبْلَغَ، احترازاً من علامة التأنيث» . قلت: وهذا قريبٌ مِمَّا تقدَّم في أن المؤنث إذا أخبر عنه بمذكَّرِ عومل معاملة المُذكَّرِ، نحو: «هند ذاك الإنسان» . وقيل: لأنها بمعنى: هذا النَّيِّر، أو المرئي. قال أبو حيَّان: «ويمكن أن يقال: إن أكثر لغة الأعاجم لا يفرقون في الضمائر، ولا في الإشارة بين المُذَكَّرِ والمؤنث سواء، فلذلك اشار إلى المؤنَّثِ عندنا حين حكى كلام إبراهيم بما يشار به إلى المذكر، بل لو كان المؤنث بِفَرْجِ لم يكن له علامة تَدُلُّ عليه في كلامهم، وحين أخبر - تعالى - عنها بقوله:» بَازِغَةً «و» افَلَتْ «أتت على مقتضى العربية، إذ ليس ذلك بحكاية» انتهى. وهذا إنما يظهر أن لو حكى كلامهم بِعَيْنِهِ في لغتهم، أما شيء يعبر عنه بلغة العرب، ويعطى حكمه في لغة العَجَمِ، فهو مَحَلُّ نَظَرٍ. فصل في بيان سبب تسمية العبرية والسريانية. قال الطبري: إن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنما نطق بالعبرانية حين عَبَرَ النَّهْرَ فاراً من النَّمْرُودِ حيث قال للذين أرسلهم في طلبه: إذا وجدتم من يتكلم بالسريانية فأتُونِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 250 به، فلما أدْرَكُوُ اسْتَنْطَقُوهُ، فَحوَّلَ الله نُطْقَهُ لساناً عربياً، وذلك حين عبر النَّهْرَ، فسميت العبرانية لذلك. وأما السُّرْيَانِيَّةُ فذكر ابن سلام أنها سميت بذلك؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - حين علم آدم الأسماءَ علَّمهُ سِرَّا من الملائكة، وأنطقه بها حنيئذ، فَسُمِّيتِ السريانية لذلك، والله أعلم. قوله: «هَذَا أكْبَرُ» أي: أكبر الكواكب جِرْماً، وقواها قولة، فكان أوْلَى بالإلهية، قوله: {إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} «ما» مصدرية، أي: بريء من إشراككم، أو موصولة أي: من الذين يشركونه مع الله في عبادةته، فحذف العائدن ويجوز أن تكون الموصوفة والعائد محذوف أيضاًن إلا أنَّ حَذْفَ عائد الصِّفَةِ أقل من حَذْفِ عائد الصِّلة، فالجملة بعدها لا محلًّ لها على القولين الأوَّليْنِ، ومحلها الجر على الثالث، ومعنى الكلام أنه لما ثبت بالدليل أن هذه الكواكب لا تصلح للرُّبُوبيَّةِ والإلهية، لا جَرَمَ تبَرَّأ من الشِّرْكِ. فإن قيل: هَبْ أن الدليل دَلَّ على أن الكواكب لا تصلح للربوبية، لكن لا يلزم من هذا نَفْيُ الشرك مطلقاً؟ فالجواب: أن القوم كانوا مُسَاعدين على نَفْي سائر الشُّركاءِ، وإنما في هذه الصورة المعينة، فلما ثبت بالدليل أن هذه الأشْياءَ ليست أرْبَاباً، وثبت بالاتفاق نَفْيُ غيرها، لا جرم حصل الجَزْمُ بنفي الشركاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 المراد: وجهت عبادتي وطاعتي لعبادته ورضاه، كأنهم نَفوا بذلك وَهْمَ من يَتَوهَّمُ الجهة، وسبب جواز هذا المجاز أن من كان مُطِيعاً لغيره مُنْقَاداً لأمره، فإنه يتوجَّه بوجهه إليه، فجعل توجيه الوجه إليه كِنايةً عن الطاعة. وفتح الباء من وجهي نافع، وابن عامر، وحفص عن عاصم، والباقون تركوا هذا الفتح. قوله: «لِلَّذي فَطَرَ» فدروا قبله مُضافاً؛ أي: وجهت وَجْهِي لعبادته كما تقدم و «حنيفاً» حال من فاعل «وجَّهْتُ» . وقد تقدَّم تفسير هذه الألفاظ، و «ما» يحتمل أن تكون الحجازية، وأن تكون التميمية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 251 لما أورد إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - الحُجَّة عليهم المذكورة، أورد القوم عليه جُجَجاً على صحة أقوالهم: منها: أنهم تَمَسَّكُوا بالتقليد، كقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ} [الزخرف: 22] وكقولهم للرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] وكقول قوم هود: {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء} [هود: 54] فذكروا من جِنْس هذا الكلام، وإلا فالله - تعالى - لم يَحْكِ محاجتهم. فأجاب الله - تعالى - عن حُجَّتِهِمْ بقوله تعالى - {وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله} . قرأ نافع، وابن ذكوان، وهشام بخلاف عنه بنون خفيفة، والباقون بنون ثقيلة، والتثقيل هو الأصل؛ لأن النون الأولى نون الرفع في الأمثلة الخمسة، والثانية نون الوقاية، استثقل اجتماعهما، وفيهما لغات ثلاث: الفَكُّ وتركهما على حالهما، والإدغام، والحذف، وقد قرئ بهذه اللغات كلها في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ الله تأمرونيا} [الزمر: 64] وهنام لم تقرأ إلا بالحذف أو الإدغام، ونافع بالحذف، والباقون يفتحون النون، لأنها عندهم نون رفعن وفي سورة النحل: {تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} [آية: 27] بفتح النون عند الجمهور، لأنها نون رفع، وثرؤه نافع بنون مكسورة خفيفة على الحذف، فنافع حذف إحدى النونين في جميع المواضع المذكورة فإنه يقرأ في الزُّمر أيضاً بحذف أحدهما: وقوله تعالى: {أتعدانني} في الأحقاف [آية: 17] قرأه هشام بالإدغام، والباقون بالإظهار دون الحذف. واختلف النحاة في أيَّتهما المحذوفة؛ فمذهب سيبويه ومن تبعه أن المحذوفة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 252 هي الأولى واستدلَّ سيبويه على ذلك بأن نون الرفع قد عُهِدَ حذفها دون مُلاقاةِ مِثْلِ رفعاً؛ وأنشد: [الطويل] 2220 - فإنْ يَكُ قَوءمٌ سَرًّهُمْ مَا صَنَعْتُمُ ... سَتَحْتَلِبُوهَا لاقِحاً غَيْرَ بِاهِلِ أي: فَسَتَحْتَلِبُونَهَا، لا يقال: إن النون قد حذفت جَزْماً في جواب الشرط؛ لأن الفاء هنا واجبة الدخول لعدم صلاحية الجملة الجزائية شرطاًن وإذا تقرر وجوب الفاءن وإنما حذفت ضَرُورةً ثبت أن نون الرفع كان من حقها الثبوت، إلا أنها حذفت ضرورة، وأنشدوا أيضاً قوله: [الرجز] 2221 - أبِيتُ أسْرِي وتَبِيتي تَدْلُكِي ... وَجْهَكِ بالعَنْبَرِ والْمِسْكِ الذّكِي أي: تبيتين وتدلكين. وفي الحديث: «والَّذِي نَفْسِي بَيدهِ لا تَدْخُلُوا الجَنَّة حَتَّى تُؤمِنُوا ولا تُمِنُوا ولا تُؤمنُوا حتَّى تَحَابُّوا» ف «لا» الدّاخلة على «تدخلوا» و «تؤمنوا» نافية لا ناهية لفساد المعنى عليه، وإذا ثبت حَذْفُهَا دون مُلاقاة مِثْلٍ رفعاً فلأن تحذف مع ملاقاة مِثلٍ في فَصيح الكلام؛ كقراءة أبي عمرو {يَنصُرْكُم} [آل عمران: 160] و {يُشْعِرُكُمْ} [الأنعام: 109] {يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] وبابه بسكون آخر الفعل، وقوله الشاعر: [السريع] 2222 - فَاليْومَ أشْرَبْ غَيْرُ مُسْتَحْقِبٍ ... إثْماً مِنْ اللَّهِ وَلاَ وَاغِلِ وإذا ثبت حذف الأصْلِ، فليثبت حذف الفَرْعِ لئلا يلزم تَفْضِيلُ فَرْعِس على أصله، وأيضاً فإنَّ ادِّعاءَ حذف نوع الرفع لا يُحْوِجُ غلى حَذْفٍ آخرن وحذف نون الوقاية قد يُحْوِجُ إلى ذلكن وبيانه بأنه إذا دَخَلَ نَاصِبٌ أو جازم على أحد هذه الأمثلة، فلو كان المحذوف نُونَ الوقاية لكان ينبغي أن تُحْذَفَ هذه النون، وهي تسقط للناصب والجازم، بخلاف ادِّعاءِ حذف نون الرفع، فإنه لا يحوج إلى ذلك؛ لأنه لا عمل له في الَّتِي للوقاية. ولقائل أن يقول: لا يلزم من جوازِ حذفت الأصل حَذْفُ الفرع؛ لأن في الأصل قوة تقتضي جوازَ حذفه، بخلاف نون الوقاية، ودخول الجازم والناصب لم نجد له شيئاً يحذفه؛ لأن النون حذفت لعارِضٍ آخر. واستدلُّوا لسيبويه بأن نون الوقاية مَكْسُورةٌ، فبقاؤها على حالها لا يلزم منه تغيير، بخلاف ما لو ادَّعَيْنَا حذفها، فإنَّا يلزمنا تغيير نون الرفع من فتح إلى كسر، وتعليل العمل أوْلى، واستدلوا أيضاً بأنها قد حذفت مع مثلها، وإن لم تكن نون وقاية؛ كقوله: [البسيط] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 253 2223 - كُلُّ نِيَّةٌ في بُغْضِ صَاحبهِ ... بِنِعْمَةِ اللَّهِ نَقْلِيكُمْ وَتَقْلُونَا أي: وتَقْلُونَنَا، فاملحذوف نون الرفع لا نون «ن» ؛ لأنها ضميرن وعورض هذا بأن نون الرفع ايضاً لها قوة لدلالتها على الإعرابن فحذفها أيضاً لا يجوز، وجعل سيبويه المحذوفة من قول الشاعر: [الوافر] 2224 - تَرَاهُ كالثَّغَامش يُعَلُّ مِسْكاً ... يَسُوءُ الفَالِيَاتِ إذَا فَلضيْنِي نون الفاعنل لا نون الوقاية، واستدلَّ الأخفش بأن الثقل إنما حصل بالثانية؛ ولأنه قد استْتُغْنِيَ عنها، فإنه إنما أتى بها لِتَقِيَ الفعل من الكسر، وهو مَأمُونٌ لوقوع الكسْرِ على نون الرفع، ولأنها لا تَدُلُّ على معنى، بخلاف نون الرفع، وأيضاً فإنها تُحْذَفُ في نحو ليتنين فيقال: ليتي؛ كقوله: [الوافر] 2225 - كَمُنْيَةِ جَابِرٍ إذْ قَالَ: لَيْتِي ... أصَادِفُهُ وأتْلِفُ بَعْضَ مَالِي واعلم أن حَذْفَ النون في هذا النحو جائز فصيح، ولا يلتفت إلى قَوْلِ مَنْ مَنَعَ من ذلك إلاَّ في ضرورة أو قليل من الكلام، ولهذا عيبَ على مكي بن ابي طالب حيث قال: «الحذف بِعِيدٌ في العربية فبيح مكروه، وإنما يجوز في الشعر لِلْوزْنِ، والقرآن لا يحتمل ذلك فيهح إذ لا ضرورة تدعو إليه» . وتَجَاسَرَ القولان مَرْدُودَانِ عليهما؛ لتواتر ذلك، وقد تقدم الدليل على صِحَّته لغة. وأيضاً فإن الثِّقات بت «أتُحَاجُّونِّي» لا ب «حَاجَّهُ» ، والمسألة من باب التَّنَازُعِ، وأعْمِلَ الثاني؛ لأنه لمَّا أضمر في الأول حذف، ولو أعمل الأول لأضمر في الثاني من غير حَذْفِ، ومثله: {يَستَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة} [النساء: 176] كذا قال أبو حيَّان، وفيه نظر من حيث إن المعنى ليس على تَسَلُّطِ «وَحَاجَّهُ» على قوله: «في اللَّه» ؛ إذ الظاهر انْقِطَاعُ الجملة القولية عما قبلها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 254 وقوله: «في اللَّهِ» أي: في شأنه، ووحدانيته. قوله «وَقَدْ هَدَانيِ» أي: للتوحيد والحقن وهذه الجملة في مَحَلِّ نصب على الحال، وفي صاحبها وجهان: أظهرهما: أنَّهُ الياء في «أتحاجونني» ، أي: أتجادلونني فيه حال كوني مهدياً من عنده. والثاني: أنَّهُ حالٌ من «الله» أي: أتخاصمون فيه حال كونه هادياً لي، فحجتكم لا تُجْدِي شيئاً؛ لأنها دَاحِضَةٌ. قوله: «ولا أخَافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ» هذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفةً، أخبر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بأنه لا يخاف ما يشركون به، وإنما ثِقتُهُ برَبِّه، وكانوا قد خَوَّفُوهُ من ضَرَر يحل لَهُ بسبب سَبِّ آلهتهم. ويحتمل أن تكون في مَحَلِّ نصب على الحال باعتبارين: أحدهما: أن تكون ثانيةً عَطْفاً على الأولىن فتكون الحالان من اليااء في «أتُحَاجُّونِّي» . والثاني: أنها حالٌ من «الياء» في «هداني» ، فتكون جملةً حاليةً من بعض جملة حاليةٍ، فهي قريبة من الحال المتداخلة، إلاَّ أنه لا بُدَّ من إضمارِ مبتدأ على هذا الوجه قبل الفعل المضارع، لما تقدَّم من أنَّ الفعل المضارع المنفي بت «لا» حُكْمُهُ حُكْمُ المثبت من حيث إنه لآ تُبَاشِرُهُ الواو. و «ما» يجوز فيها الأوحه الثلاثة: أن تكون مصدريَّة، وعلى هذا فالهاء في «به» لا تعود على «ما» عند الجمهور، بل تَعُودُ على اللَّهِ تعالى، والتقديرُ: ولا أخَافُ إشراككم باللَّهِ، والمفعول محذوف؛ أي: ما تشركون غير اللَّهِ به، وأن تكون بمعنى «الذي» ، وأن تكون نَكِرَةً موصوفةً، والهاء في «به» على هَذيْنِ الوجهين تعود على «ما» ، والمعنى: ولا أخاف الذين تشركون الله به، فحذف المعفول أيضاً، كما حذفه في الوجه الأوَّلِ. وقدَّرَ أبو البقاءِ قبل الضمير مُضَافاً، فقا: ويجوز أن تكون الهاء عائدجة على «ما» أي: ولا أخافُ الذي تشركون به، ولا حاجةَ إلى ذلك. قوله: «إلاَّ أنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً» في هذا الاستثناء قولان: أظهرهما: أنه متَّصِلٌ. والثاني: أنه منقطع، والقائلون بالاتِّصالِ اختلفوا في المستثنى منه، فجعله الزمخشري زماناً، فقال: «إلاَّ وقت مشيئة ربِّي شيئاً يخاف، فحذف الوقت، يعني: لا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 255 أخافُ معبوداتكم في وقتٍ قَطُّ؛ لأنها لا تَقْدِرُ على منفعة ولا مضرَّة، إلاَّ إذا شاء رَبِّي» . وجعله أبو البقاء حالاً، فقال: تقديره إلاَّ في حال مشيئة ربِّين أيْ: لا أخافها في كُلِّ حالٍ إلاَّ في هذه الحالِ. وممن ذهب إلى انْقِطَاعِهِ ابن عطية، والحوفي، وأبو الققاء في أحَدِ الوجهين. فقال الحوفي: تقديره: «ولكنْ مشيئة اللَّهِ أيَّاي بضُرِّ أخاف» . وقال غيره: معناه: ولكن إن شاء ربِّي شيئاً، أي سواء فيكون ما شاء. وقال ابن عطية: استثناءً ليس من الأوَّلِ، ولما كانت قوة الكلام أنه لا يخاف ضُرّاً، استثنى مشيئة ربَّه في أن يريده بِضُرٍّ. قوله: «شيئاً» يجوز فيه وجهان: أظهرهما: أنه مَنْصُوبٌ على المصدر تقديره: إلاَّ أن يشاء ربي شيئاً من المَشِيئةِ. والثاني: أنَّهُ مفعول به ل «شيئاً» ، وإنما كان الأوَّلُ أظْهَرَ لوجهين: أحدهما: أن الكلام المؤكّد أقوى وأثبت في النَّفْس من غير المؤكّد. والثانهي: أنَّهُ قد تقدَّمَ أن مفعول المشيئة والإرادة لا يذكران إلاَّ إذا كان فيهما غرابة كقوله: [الطويل] 2226 - وَلَوْ شِئْتُ أنْ أبْكِي دَماً لَبَكَيْتُهُ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... فصل في بيان معنى الاستثناء إنما ذكر عليه الصًّلاة والسَّلام هذا الاستثناء؛ لأنه لا يبعد أن يحدث للإنسان في مستقبل عمره شيء من المَكَارِهِ، والحَمْقَى من الناس يحملون ذلك على أنَّهُ إنما حَدَثَ ذلك المكروه بسبب أن طَعَنَ في إليه الأصنام، فذكر إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - ذلك حتى إنَّهُ لو حَدَثَ به شيء من المَكَارِهِ لمي يحمل على هذا السبب. وقوله: «وسِعَ ربِّي كُلَّ شَيءٍ عِلْماً» يعني: أنه عالم الغيوب، فلا يفعل إلاَّ الخير والصلاح والحكمة، فبتقدير أن يحدث من مَكَارِهِ الدنيا شيءٌ، فذلك؛ لأنه - تعالى - عرف وَجْهَ الصَّلاحِ والخير فيه، لا لأجل أنه عقوبة على الطّعن في إلهية الأصْنَام. قوله: «علماً» فيه وجهان: أظهرهما: أنه منصوب على التمييز، وهو مُحَوَّلٌ عن الفاعلِ، تقديره: «وسع علم ربّي كُلَّ شيء» كقوله: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] أي: شيب الرأس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 256 والثاني: أنه مَنصُوبٌ على المفعولِ المطلق، لأن معنى وَسِعَ: عَلِمَ. قال أبو البقاء: «لأنَّ الشَّيْءَ فَقَدْ أحَاطَ به، والعالم بالشيء مُحيطٌ بعلمه» . قال شهابُ الدِّين: وهذا الَّذِي ادَّعَاهُ من المجاز بعيدٌ. و «كل شيء» مفعول لت «وسع» على التقديرين. و «أفَلا تَتَذَكَّرُونَ» جملة تقرير وتوبيخ، ولا مَحَلَّ لها لاستئنافها، والمعنى: أفلا تتذكرون أن نَفْيَ الشركاء والأضداد والأنداد عن اللَّهِ لا يوجبُ حلول العذاب ونزول العقاب، والسَّعْي في إثبات التوحيد والتنزيه لا يوجب استحقاق العذاب والعقاب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 قد تقدَّم الكلامُ على «كيف» في أوَّل البقرة [آية 28] ، و «ما» يجوز فيها ثلاثة أوجهٍ، في حيِّز التَّعْجُّبِ والإنكار، وأن تكون حاليةً، أي: وكيف أخاف الذي تشركون حال كونكم أنتم غير خائفين إشراككم، ولا بُدَّ من إضْمَارِ مبتدأ قبل المضراع المنفي ب «لا» لما تقدَّم غير مرَّةٍ، أيك كيف أخاف الذي تشركون، أو عاقبة إشارككم حال كونكم آمنين من مَكْرِ اللَّهِ الذي أشركتم به غيره، وهذه الجملة وإن لم يكن فيها رَابِطٌ يعود على ذِي الحالِ لا يَضُرُّ ذلك، لأن الواو بنفسها رابطة. وانظر إلى حُسْنِ هذا النَّظْمِ السَّويِّن حيث جعل متعلّق الخَوْفِ الواقع منه الأصنام، ومتعلق الخوف الواقع منهم إشاركهم باللَّهِ غيره تَرْكاً لأن يعادل الباري - تعالى - لأصنامهم لو أبْرَزَ التركيب على هذا، فقال: «ولا تخافون اللَّه» مُقَابَلَةً لقوله: «وكيف أخافُ معبوداتكم» . وأتى ب «ما» في قوله: «ما أشركتم» وفي قوله: {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً} إلاَّ أنهم غير عقلاء؛ إذ هي جماد وأحْجَارٌ وخشبٌ كانوا يَنْحِتُونَهَا ويعبدونها. وقوله: «مَا لَمْ يُنَزَّلْ» مفعول لت «أشركتكم» ، وهي موصولة اسميَّة أو نكرة، ولا تكون مَصْدريَّةً لفساد المعنى، و «به» و «عليكم» ، متعلقان ب «يُنَزِّلْ» ويجوز في «عَلَيْكُمْ» وجه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 257 آخر، وهو أن يكون حالاً، من «سًلْطَاناً» ؛ لأنَّهُ تَأخَّر عنه لجاز أن يكون صِفَةً. وقرا الجمهور: «سُلْطَاناً» ساكن اللام حيث وقع، وقُرِئَ بِضَمِّهَا، وهل هي لغة مُسْتَقِلَّةٌ، فيثبت فيها بناء فعل بضم الفاء والعين، أو هي إتباع حركةٍ لأخرى. ومعنى الآية: وكيف أخَافُ الأصنام التي لا قُدْرَةَ لها على النَّفْعِ والضُّرِّ ولا تُبْصرُ ولا تَسْمَعُن وأنتم لا تخافون من الشِّرْكِ الذي هو أعظم الذنوب، وليس لكن حُجَّةٌ على ذلك. وقوله: {فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن} أي: ما لكم تنكرون عَلَيَّ الأمْنَ في موضع الأمن، ولا تنكرون على أنفسكم الأمْنَ في موضع الخوفِ فقال: «فَأيُّ الفريقَيْنِ أحَقُّ» ولم يَقُل: «فايُّنَا أحَقُّ نَحْنُ أم أنتم» إلزاماً لِخَصْمِهِ بما يدَّعيهِ عليهن وأحترازاً من تَزْكِيَة نفسه، فعدل عنه إلى قوله: «فايُّ الفَريقَيْنِ أحَقُّ بالأمْنِ» ، يعني: فريق المشركين أم الموحدين؟ وهذا بخلاف قول الآخر: [الكامل] 2227 - فَلَئِنْ لَقِيتُكَ خَالِيَيْنِ لَتَعلَمَنْ ... أيِّي أيُّكَ فَارِسُ الأحْزَابِ فَلِلِّهِ فَصَاحَة القُرْآن وآدابه. وقوله: «إنْ كُنْتُمْ» جوابه محذوف، أي: فأخبروني، ومعلّق العلم محذوف، ويجوز ألاَّ يُرَادَ له مفعول؛ أي: إن كنتم من ذوي العلم. قوله: «الَّذِينَ آمَنُوا» هل هو من كلام إبراهيم، أو من كلامه قومه، أو من كلام اللَّهِ تعالى؟ ثلاثة أقوالٍ، وعلهيا يَتَرتَّبُ الإعرابُ. فإن قلنا: إنها من كلام إبراهيم كانت جواباً عن السؤال في قوله «فأيُّ الفَريقَيْنِ» . وكذا إن قلنا: إنها كلام قومه، وأنهم أجابوا بما هو حُجَّة عليهم كأن الموصول خب مبتدأ محذوف؛ أي: هم الذين آمنا، وإن جعلناه من كلام اللَّهِ تعالى، وأنَّهُ أمَرَ نَبِيَّهُ بأن يجيب به السُّؤال المتقدم، فكذلك أيضاً. وإن جعلناه لِمُجَرَّدِ الإخبار من الباري - تعالى - كان الموصول مبتدأ، وفي خبره أوجه: أحدهما: أنه الجملة بعده، فإن «أولئك» ، و «أولئك» مبتدأ ثانٍ، و «الأمن» مبتدأ ثالث، و «لهم» خبره، والجملةُ خَبَرُ «أولئك» ، و «أولئك» وخبره خبر الأوَّلِ. الثاني: أن يكون «أولئك» بَدَلاً أو عطف بَيَان، و «لهم» خبر الموصول، و «الأمن فاعلٌ به لاعتماده. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 258 الثالث: كذلك، إلا أنَّ» لهم «خبرٌ مقدَّم، و» الأمن «مبتدأ مؤخر، والجُمْلَةُ خبر الموصُول. الرابع: أن يكون» أولئك «مبتدأ ثانياً، و» لهم «خبره، و» الأمن «فاعل به، والجملةُ خبر الموصول. الخامس: وإليه ذهب أبو جَعْفَرٍ النحاسُ، والحوفي أن» لهم الأمن «خبر الموصول، وأن» أولئك «فَاصِلَةٌ، وهو غريب؛ لأن الفَصْلَ من شأنِ الضمائر لا من شَأنِ أسماء الإشارة. وأمَّا على قولنا بأن» الذين «خبر مبتدأ محذوف، فيكون» أولئك «مبتدأ فقط، وخبره الجملة بعده، أو الجار وَحْدَهُ، و» الأمْن «فاعل به، والجملة الأولى على هذا مَنْصُوبةٌ بقولٍ مُضْمَرٍ، أي: قُلْ لهم الذين آمنوا إن كانت من كلام الخليلن أو قالوا هم الذين إن كانت من كلام قومه. قوله:» وَلَمْ يَلْبِسُوا «يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنها مَعْطُوفَةٌ على الصِّلةِ، فلا مَحضلِّ لها حينئذٍ. والثاني: أن تكون الواو للحال، الجملة بعدها في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: آمنوا غير مُلْبسينَ بِظُلْم. وهو كقوله تعالى: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} [مريم: 20] ، ولا يُلْتَفَتُ إلى قول ابن عصفور، حيث جعل وقوع الجُمْلَةِ المنفية حالاً قليلاً، ولا إلى قَوْلِ ابن خَرُوفٍ، حيث جعل الواو واجِبَة الدخول على هذه الجملة، وإن كان فيها ضَمِيرٌ يعود على الحالِ. والجمهور على» يَلْبِسُوا «بفتح الياء بمعنى» يخلطونه «. وقرأ عكرمةُ بضمها من الإلْبَاسِ.» وهُمْ مُهْتَدُونَ «يجوز اسْتِئْنَافُهَا وحاليتها. فصل في تفسر الآية روى عَلْقَمَة عن عَبْدِ اللَّهِ قال: لما نزلت {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ} شقَّ ذلك على المُسلمينَ، فقالوا: يا رسول اللَّهِ، فأيُّنَا لا يَظْلِمُ نفسه، فقال: لَيْسَ ذلِكَ، إنَّمَا هُوَ الشِّرْكُ، ألَمْ تَسْمَعُوا إلى ما قال لُقْمان لابنه: {يا بني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 259 «تلك» إشارة إلى الدَّلائل المُتقدِّمة من قوله: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ} [الأنعام: 75] إلى قوله: {وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} [الأنعام: 79] وقيل: إشارة إلى القَوْم لمَّا خَوَّفُوُ بأنَّ آلهتَهُمْ تُخْبِلُهُ لأجل شَتْمِهِ إيَّاها، فقال لهم: أفلا تَخَافُونَ أنتم حيث أقْدَمْتُمْ على الشرك باللَّهِ، وسوَّيْتُمْ في العبادة بين الخالقِ العالم ومُدبِّرِهِ، وبين الخشب المَنْحُوتِ. وقيل: إشارة إلى الكُلِّ. ويجوز في «حُجَّتنا» وجهان: أحدهما: أن يكون خبر المبتدأ، وفي «آتيْنَاهَا» حينئذٍ وجهان: أحدهما: أنه في مَحَلِّ نَصْبٍ على الحالِ، والعامِلُ فيها معنى الإشارة، ويَدُلُّ على ذلك التَّصْرِيحُ بوقوع الحال في نظيرتها. كقوله تعالى: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52] . والثاني: أنَّهُ في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنه خَبَرٌ ثانٍ أخبر عنها بِخَبَريْنِ، أحدهما مفرد، والآخر جملة. والثَّاني: أنَّهُ في مَحَلِّ رَفْعٍ على أنه خَبَرٌ ثانٍ أخبر عنها بِخَيَريْنِ، أحدهما مفرد، والآخر جملة. والثَّاني من الوَجْهِيْنِ الأوَّلين: أن تكون «حُجَّتُنَا» بدلاً أو بَيَاناً ل «تلك» ، والخبر الجملة الفعلية. وقال الحوفي: «إن الجملة مِنْ» آتَيْنَاها «في مَوْضِع النعت ل» حُجَّتُنَا «على نِيَّةِ الانْقِصَالِ؛ إذ التقدير: حُجّة لنا» يعني الانفصال من الإضافة لِيَحْصُلَ التنكيرُ المُسَوِّغُ لوقوع الجُمْلَةِ صِفَةً ل «حُجتنا» وهذا لا ينبغي أن يقال. وقال أيضاً: إنَّ «إبراهيم» مفعول ثانٍ ل «آتَيْنَاهَا» ، والمفعول الأول هو «هاء» ، وقد تقدَّم في أوَّلِ البقرةِ، فإنَّ هذا مَذْهب السُّهَيْلِيْ عند قوله: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب} [البقرة: 53] . وأنَّ مذهب الجمهور أن تجعل الأول ما كان عَاقِلاً، والثاني غيره، ولا يبالى بتقديم ولا تأخير. فصل في الدلالة في الآية قوله: «آتَيْنَاهَا إبْرَاهيمَ» يَدُلُّ على أنَّ تلك الحُجَّةَ إنما حَصَلتْ لإبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - بإيتاء الله وإظهاره تلك الحُجَّةِ في عَقْلِهِ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ الإيمانَ والكُفْرَ لا يَحْصُلانِ إلاَّ بِخَلْقِ الله تعالى، ويؤكده قوله: {نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشَاءُ} فإن المراد أنه - تعالى - رَفَعَ درجات إبراهيم بسبب أنه - تعالى - أتاه تلك الحُجَّة. ولو كان حُصُولُ العِلْمِ بتلك الحجة من قبل إبراهيم لا من قِبَلِ اللَّهِ تعالى، لكان إبْراهيمُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - هو الذي رفع درجات نفسه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 260 قوله: «عَلَى قَوْمِهِ» فيه وجهان: أحدهما: أنه مُتَعَلَّقٌ ب «آياتنا» قاله ابن عطيَّة والحوفي، أي: أظهرناها لإراهيم على قَوْمِهِ. والثاني: أنها مُتعلِّقَةٌ بمحذوف؛ على أنها حالٌ، أي: آتيناها إبراهيم حُجَّةً على قومه، أو دَلِيلاً على قومه، كذا قدَّرَهُ أبو البقاء، وييلزم من هذا التَّقديرِ أن تكون حالاً مُؤكّدة؛ إذ التَّقديرُ: وتلك حُجَّتنَا آتَيْنَاهَا له حُجَّةً. وقدَّره أبو حيَّان على حَذْفِ مُضَافِ، فقال: أي: آتيناها إبراهيم مُسْتَعْلِيَةً عل ىحُجَجِ قَوْمِهِ قَاهِرةً لها وهذا أحسن. ومنع أبو البقاء أن تكون مُتعلِّقَةً ب «حجتنا» قال: لأنها مَصْدَرٌ و «آتَيْنَاهَا» خَبَرٌ أو حالٌ، وكلاهما لا يفصل به بين المَوْصُولِ وصِلَتِهِ. ومنع أبُو حيَّان ذلك أيْضاً، ولكن لكون الحُجَّةِ لَيْسَتْ مَصْدَراً. قال: إنما هو الكلامُ المُؤلَّفُ للاستلال على الشيء، ثم قال: ولو جعلناها مَصْدَراً لم يَجُزْ ذلك أيضاً؛ لأنه لا يُفْصَلُ بالخبرِ، ولا بمثل هذه الحال بين المصدرِ ومطلوبه. وفي مَنْعِهِ ومَنْع أبي البقاء نظرٌ؛ لأنَّ الحالَ وإن كانت جُمْلَةً لَيْسَتْ أجْنَبِيَّةً حتَّى يُمْنَعُ الفَصْلُ بها؛ لأنها من جملة مَطْلُوباتِ المصدر، وقد تقدَّم نَظِيرُ ذلك بأشبع من هذا. قوله: «نرفع» فيه وجهان: الظاهر منهما: أنها مُسْتأنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها من الإعراب. الثاني: جوَّزَهُ أبو البقاءِ، وبدأ به - أنها في مَوْضَعِ الحالِ من «آتيناها» يعني من فاعل «آتْيْنَاهَا» ، أي: في حال كوننا رَافِعِينَ، ولا تكون حالاً من المفعولِ؛ إذ لا ضمير فيها يَعُودُ إليه. ويُقْرأ «نَرْفَعُ» بنون العَظَمَةِ، وبياء الغَيْبَةِ، وكذلك «نَشَاء» وقرأ أهل الكُوفة: «دَرَجَاتٍ» بالتَّنْوين، وكذلك التي في يوسف [آية 76] والباقون بالإضافة فيهما، فقرءاة الكوفيين يُحْتَمَلُ نَصْبُ «درجات» فيها من خمسة أوجه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 261 أحدها: أنها مَنْصُوبَةٌ على الظَّرْفِ، و «مَنْ» مفعول «نرفع» ؛ أي: نرفع من نَشَاءُ مراتب ومنازل. والثاني: أن يَنْتَصِبَ على انه مفعولٌ ثانِ قُدِّم على الأوَّلِ، وذلك يحتاج إلى تَضْمين «نرفع» معنى فعل يتعدَّى لاثنين، وهو «نُعطي» مثلاً، أي: نعطي بالرفع من نشاءُ درجاتٍ، أي: رُتَباً، فالدَّرجاتُ هي المرفوعة لقوله: {رَفِيعُ الدرجات} [غافر: 15] . وفي الحديث: «اللَّهُمَّ ارفَعْ درَجَتَهُ في عِلِّيِّينَ» وإذا رُفَعت الدرجة فقد رُفِعَ صَاحِبُهَا. والثالث: يَنْتَصِبُ على حَذْفِ حرف الجرِّ؛ أي: إلى منازل، أو إلى درجات. الرابع: أن يَنْتَصِبَ على التَّمييزِ، ويكن مُحَوَّلاً مِنَ المَفْعُولِيَّةِ، فتؤول إلى قراءة الجماعة؛ إذ الأصل: «نرفع درجاتِ من نشاءُ» بالإضافة، ثُمَّ حُوِّلَ كقوله: {وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً} [القمر: 12] ، أي: عيون الأرض. الخامس: أنها مُنْتَصِبَةٌ على الحالِ، وذلك على حَذْفِ مُضَافٍ، أي: ذوي درجات، ويشهد لهذه القِراءةِ قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165] {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ} [الزخرف: 32] {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى} [البقرة: 253] . وأما قراءة الجماعة: ف «درجات» مفعول «نرفع» . فصل في معنى الدرجات قيل: الدَّرَجَاتُ درجاتٌ رفيعة؛ لأنها تُوجِبُ الثَّوابَ العظيم. وقيل: نرفع درجات من نَشَاءُ بالعلم والفَهْمِ والفضيلة والعقلن كما رفعنا درجات إبراهيم حتى اهْتَدَى. والخِطَابُ في «إنَّ ربَّكَ» للرَّسُولِ محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. وقيل: للخليل إبراهيم، فلعى هذا يَكُونُ فيه التِفَاتٌ من الغيبة إلى الخطاب مُنَبِّهاً بذلك على تَشْرِيفٍ له وقوله: «حَكِيمٌ عليمٌ» ؛ اي: إنما نرفع درجاتٍ من نشاء بمقتضى الحكمة والعلم، لا بموجب الشَّهْوَةِ والمُجَازفَةِ، فإن أفعال الله - تعالى - مُنَزَّهَةٌ عن العَبَثِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 262 في «وهبنا» وجهان: أصحهما: أنها مَعْطُوفةٌ على الجملة الاسمية من قوله: «وتِلْكَ حُجَّتُنَا» وعطف الاسْمِيَّة على الفعلية وعكسه جائز. والثاني: أجازه ابن عطيَّة، وهو أن يكون نَسَقاً علت «آتَيْنَاهَاط ورَدَّهُ أبُو حيَّان بأن» آتَيْنَاهَاط لها مَحَلٌّ من الإعراب، إمَّا الحال، وهذه لا مَحَلَّ لها؛ لأنها لو كانت مَعْطُوفَةً على الخَبَر أو الحال لاشترط فيها رابط، و «كُلاً» مَنْصُوبٌ ب «هَدَيْنَا» بعده. والتقدير: وكلّ واحدٍ من هؤلاء المذكورين. فصل في المراد بالهداية اختلفوا في المُرادِ بهذه الهداية، وكذا في قوله: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْلُ} وقوله في آخر الآيات {ذَلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاء} قال بعض المُحَقَّقين: المُرَادُ بهذه الهداية الثَّوابُ العظيم، وهو الهداية إلى طريق الجنَّةِ؛ لقوله بعده {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} وجزاء المحسنين هو الثواب، وأمَّا الإرشاد إلى الدين، فلا يكون جَزَاءً على عَمَلِهِ. وقيل: لا يَبْعُدُ أن يكون المُرَادُ الهدايةَ إلى الدِّينِ، وإنما كان جَزاءً على الإحسان الصادر منهم؛ لأنهم اجْتَهَدُوا في طَلَبِ الحقِّ، فاللَّهُ - تعالى - جَازَاهُمْ على حُسْنِ طلبهم بإيصالهم إلى الحقِّ، كقوله {والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] . وقيل: المُرَادُ بهذه الهداية الإرْشَادُ إلى النُّبُوَّةِ والرسالة؛ لأن الهداية المَخْصُوصَةَ بالأنبياء ليست إلاَّ ذلك. فإن قيل: لو كان كذلك لكان قوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} يقتضي أن يكون الرِّسَالةُ جزاءً على عملٍ، وذلك باطلٌ. فالجوابُ أنَّ قوله: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} يحمل على الجزاءِ الذي هو الثَّوابُ، فيزول الإشْكَالُ. واعلم أنَّهُ - تعالى - لمَّا حَكى عن إبراهيم أنه أظْهَرَ حُجَّةَ اللَّهِ في التوحيد، وذَبَّ عنها عدَّدَ وجوه نعمِهِ وإحْسانِهِ إلَيْهِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 263 فأوّلها: قوله: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ} [الأنعام: 83] أي: نحن آتَيْنَاهُ تلك الحُجَّةَ، وهديناه إليها، وأفَقْنَا عَقْلَهُ على حقيقتها، وذكر نَفْسَهُ باللفظ الدَّالِّ على العظمةِ [وذلك يوجب] أن تكون تلك النعمة عظيمة. وثانيها: أنه - تعالى - خَصَّهُ بالرِّفْعَةِ إلى الدَّرجاتِ العالية، وهو قوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} [الأنعام: 83] . وثالثها: أنه - تعالى - جَعَلهُ عَزيزاً في الدُّنْيَا؛ لأنه جُعِلَ للأنبياء والداً، والرُّسُلُ من نَسْلِهِ ومن ذُرَّيَّتِهِ، وأبقى هذه الكَرَامَةَ في نَسْلِهِ إلى يوم القيامةِ فقال: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ} لِصُلْبِهِ و «يَعْقُوبَ» بعده من إسحاق. فإن قيل: لِمَ يذكر إسماعيل - عليه الصَّلاة والسَّلام - مع إسحاق، بل أخَّرَ ذِكْرَهُ [عنه] بدرَجَاتٍ؟ فالجوابُ: أن المقصود بالذِّكْرِ هاهنا أنبياء بين إٍسرائيل، وهم بِأسْرِهِمْ أولاد إسحاق. وأمَّا إسماعيلُ فإنه لم يخرج من صُلْبِهِ نَبِيُّ إلاَّ محمدٌ عليه الصَّلاة والسَّلام، [ولا يجوز ذكر محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في هذا المقام؛ لأنه تعالى أمر محمداً] أن يحتجَّ على العربِ في نفي الشِّرْكِ باللَّهِ بأنَّ إبراهيم لمَّا تركَ الشرك وأصَرَّ على التَّوحيدِ رَزَقَهُ اللَّهُ النِّعَمَ العظيمة في الدنيا بأن آتاه أوْلاداً كانوا أنبياء ومُلُوكاً، فإذا كان المحتج بهذه الحُجَّةِ هو محمد - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - امتنع أن يذكر في هذا المعرض. فلهذا السبب لم يذكر إسماعيل مع إسحاق. قوله: {وَنُوحًا هَدَيْنَا مِن قَبْل} فالمُرَادُ أنَّهُ - تعالى - جعل إبراهيم في أشْرَفِ الأنْسَابِ؛ لأنه رَزَقَهُ أوْلاداً مثل إسحاق ويعقوب، وجعل أنبياء بني إسرائيل من نَسْلِهِمَا، وأخرجه من أصْلابِ آباءِ طَاهِرينَ مثل «نوح» و «شيث» و «إدريس» ، والمقصود بيانُ كرامَةِ إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بحسب الأولاد والآباء. قوله: «من ذُرِّيتِهِ» «الهاء» فيها وجهان: أحدهما: أنها تعود على نُوح؛ لأنه أقْرَبُ مذكور، ت ولأنَّ إبراهيم ومن بعده من الأنبياء كلهم مَنْسُوبُون إليه، [ولأنه ذّكر من جملتهم لُوطاً، وهو كان ابن أخي إبراهيم أو أخته، ذكره مَكِّي وغيره، وما كان من ذُرِّيَّتِهِ، بل كان من ذُرِّيَّةِ نُوحٍ عليه السلام، وكان رسولاً في زمن إبراهيم. وأيضاً: يونس - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان من ذُرِّيَّةِ إبراهيم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 264 وأيضاً قيل: إنَّ ولد الإنسان لا يُقالُ: إنَّهُ ذُرِّيَّةٌ، فعلى هذا إسماعيل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما كان من ذُرِّيَّةِ إبراهيم] . الوجه الثاني: أنها تعود على إبراهيم؛ لأنه المحدث عنه والقِصَّةٌ مَسُوقَةٌ إلى ذكره وخبره، وإنما ذكر نوحاً، لأن إبراهيم كونه من أولاده أحد موجبات رَفْعِهِ إبراهيم. ولكن رُدَّ هذا القَوْلُ بما تقدَّم من كون لوط ليس من ذُرِّيَّتِهِ إنما هو ابن أخيه أو أخته ذكر ذلك مكي وغيره. وقد أجيب عن ذلكن فقال ابن عباس: هؤلاء الأنبياء كلهم مُضَافُونَ إلى ذُرِّيَّةِ إبراهيم، وإن كان فيهم من لم يلحقه بولادةٍ من قبلِ أمِّ ولا أبٍ؛ لأن لُوطاً ابن أخي إبراهيم، والعربُ تجعلُ العَمَّ أباً، كما أخبر اللَّهُ - تعالى - عن ولدِ «يعقوب» أنهم قالوا: {نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] وقال أبو سليمان الدِّمَشْقِيُّ: «ووهَبْنَا لَهُ لُوطاً» في المُعَاضَدةِ والمُناصَرَةِ، فعلى هذا يكون «لوطاً» منصوباً ب «وَهْبَنَأ» من غير قَيْدٍ؛ لكونه من ذُرِّيَّتِهِ. وقوله: «داود» وما عطف عليه مَنْصُوبٌ إما بفعل الهِبَةِ، وإما بفعل الهداية. و «مِنْ ذُرِّيَّتِهِ» يجوز فيها وجهان: أحدهما: أنه متعلّق بذلك الفعل المحذوف، وتكون «مِنْ» لابتداء الغاية. والثاني: أنها حال أي: حال كون هؤلاء الأنبياء مَنْسُوبِينَ إليه. قوله: «وكذَلِكَ نَجْزِي» الكاف في مَحَلِّ نَصْبٍ نعتاً لمصدر محذوف، أي: نجزيهم جَزَاءً مِنْلَ ذلك الجَزَاء، ويجوز أن يكون في مَحَلِّ في رفع، أي الأمر كذلك، وقد تقدَّم ذلك في قوله: «وكَذَلِكَ نُرِى إبْرَاهِيمَ» . ومعنى «كذلك» أي: كما جزينا إبراهيم على تَوْحِيدِهِ بأن رفعنا درجته، ووهبنا له أولاداً أنبياء أتْقِيَاءَ، كذلك نجزي المحسنين على إحسانهم. فصل في بيان نسب بعض الأنبياء «داود» ابن إيشا. و «سليمان» هو ابنه. و «أيوب» ابن موص بن رازح بن روم بن عيص بن إسحاق بن إبراهيم. و «يوسف» إبن يَعْقُوبَ بن إسحاق بن إبراهيم. و «موسى» ابن عمان بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب. و «هارون» أخو موسى أكبر منه بِسَنَةٍ، وليس ذكرهم على ترتيب أزمانهم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 265 واعلم أنه - تعالى - ذكر أوَّلاً أربعة من الأنبياء، وهم: «نوح» و «إبراهيم» و «إسحاق» و «يعقوب» ، ثم ذكر من ذُرِّيَّتِهِمْ أربعة عشر من الأنبياء: «داود» و «سليمان» و «أيُّوب» ، و «يوسف» ، و «موسى» ، و «هارون» و «زكريا» ، و «يحيى» ، و «عيسى» ، و «إلياس» ، و «إسماعيل» ، و «إليسع» ، و «يونس» ، و «لوطاً» . فإن قيل: رعاية التَّرْتِيبِ وَاجِبَة، والترتيب إمّا أن يعتبر بحسب الفَصْلِ والدرجة، وإما أن يعتبر حسبِ الزمان، والترتيب بحسب هذين النوعين غير معتبر هنا فما السَّبَبُ فيه؟ فالجوابُ أن «الواو» لا توجب التَّرْتِيبَ، وهذه الآية أحَدُ الدلائل على صِحَّةِ هذا المطلوب. قوله: «وزكريا» وهو ابن إدّ وبرخيَّا و «يحيى» هو ابنه و «عيسى» هو ابن مريم ابنة عمران. واسْتُدِلَّ بهذه الآية على أن الحسنَ والحُسيْنَ من ذُرِّيَّةِ رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - لأن الله - تعالى - جعل عيسى من ذُرِّيَّة إبراهيم، وهو لا ينسب إلى إبراهيم إلاَّ بالأمِّ، فكذلك الحَسَنُ والحُسيْنُ ويقال: إن أبا جعفر البَاقِرَ اسْتَدلَّ بهذه الآية عند الحَجَّاجِ بن يوسف الثقفي. فصل فيما يستفاد من الآية قال أبو حنيفة والشافعي: من وقف على ولده وولد ولده دخل فيه أولاد بَنَاتِهِ أيضاً ما تَنَاسَلُوا، وكذلك في الوَصيَّةِ للقَرَاباتِ يدخل فيه ولد البنات، والقرابةُ عند أبي حنيفةَ كلُّ رَحِمٍ مَحْرَمٍ، ويسقط عند ابن العَمِّ وابن العمة وابن الخال وابن الخالة؛ لأنهم ليسوا بمِحْرَمِينَ. وقال الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: القَرَابَةُ كُلُّ ذي رَحمٍ مَحْرَمٍ وغيره، فلم يسقط عنده ابن العم وقال مالك: لا يدخل في ذلك ولدُ البنات. وإذا قال: لقرابتي وعقبي فهو كقوله: لولدي وولد ولدي. قوله: «وإلياس» قال ابن مسعود: هو إدريس وله اسمان مثل «يعقوب» و «إسرائيل» ، والصحيح أنه غيره؛ لأن - تعالى - ذكرهُ في ولد نوح، وإدريس جد أبي نوح، وهذا إلياس بن يسي بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران «كُلُّ مِنَ الصَّالحينَ» . وقوله: «وإسماعيل» هو ابن إبراهيم. و «إليسع» [وهو ابن أخطوب بن العجوز] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 266 قرأ الجمهور «اليَسَعَ» بلام واحدة وفتح الياء بعدها. وقرأ الأخوان: اللَّيْسَع بلام مشددة وياء ساكنة بعدها، فقراءة الجمهور فيها تأويلان: أحدهما: أنه منقُولٌ من فعل مضارع، والأصل: «يَوْسَع» ك «يَوْعِد» ، فَوقَعَتِ الواو بين ياء وكسرة تقديرية؛ لأن الفَتْحَةَ جيء بها لأجْلِ حرف الحَلْقِ، فحُذِفَتْ لحذفها في «يضع» و «يدع» و «يهب» وبابه، ثم سمي به مُجَرَّداً عن ضمير، وزيدت فيه الألف واللام على حَدِّ زيادتها في قوله: [الطويل] 2228 - رأيْتُ الوَلِيدَ بْنَ اليَزِيدِ مُبَارَكاً ... شَدِيداً بِأعْبَاءِ الخِلافَةِ كَاهِلُهُ وكقوله: [الرجز] 2229 - بَاعَدَ أمَّ العَمْرِ مِنْ أسِيرِهَا ... حُرَّاسُ أبْوابٍ عَلَى قُصُورِهَا وقيل الألف واللام فيه للتعريف كأنّه قدَّر تنكيره. والثاني: أنه اسم أعْجَمِيُّ لا اشتقاق له؛ لأن «اليسع» يقال: إنه يوشع بن نون فَتَى موسى، فالألف واللام فيه زائدتان، أو معرفتان كما تقدم. وهل «أل» لازمة له على تقدير زيادتها؟ فقال الفَارِسيُّ: إنها لازِمَةٌ شُذُوذاً، كلزومها في «الآن» . وقال مالك: «ما قَارَنتِ الأدَاةُ نَقْلَهُ كالنَّضْرِ والنُّعْمضانِ، أو ارتِجَالَهُ كاليسع والسموءل، فإنَّ الأغْلَبَ ثُبُوتُ أل فيه وقد تحذف» . وأما قراءة الأخوين، فأصله لَيْسَع، ك «ضَيْغَم وصَيْرَف» وهو اسم أعْجَمِيُّ، ودخول الألف واللام فيه على الوَجْهَيْنِ المتقدمين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 267 واختار أبو عبيدة قراءة التخفيف، فقال: «سمعنا هذا الشيء في جميع الأحاديث: اليسع ولم يُسَمِّهِ أحدٌ منهم الَّيْسع» ، وهذا حُجَّةَ فيه؛ لأنه روى اللفظ بأحد لُغَتَيْه، وإنما آثَرَ هذه اللفظة لِخِفَّتِهَا لا لعدم صِحَّةِ الأخرى. وقال الفراء في قراءة التشديد: «هي أشبهُ بأسماء العجمِ» . قوله «يونس» ك هو يونس بن متى، وقد تقم أن فيه ثلاث لغات [النساء: 163] وكذلك في سين «يُوسف» وقوله: «ولوطاً» وهو لوط بن هارون ابن أخي إبراهيم. قوله: «وكلاَّ فَضَّلْنَا» كقوله: «كُلاَّ هَدَيْنَا» . قوله: «عَلَى العَالَمِينَ» اسْتَدَلُّوا بهذه الآية على أن الأنبياء أفضل من الملائكة؛ لأن «العالم» اسم لكل موجود سوى الله - تعالى - فيدخل فيه الملائكة. وقال بعضهم: معناه فَضَّلْنَاهُمْ على عالمي زمانهم. قوله: «ومِنْ آبائِهِمْ» «آبائهم» : فيه وجهان: أحدهما: أنه مُتعلِّقٌ بذلك الفعل المقدر، أي: وهدينا من آبائهم، أو فضَّلنا من آبائهم، و «مِنْ» تَبْعِيضيَّةٌ قال بان عطية: «وهَدَيْنَا مِنْ آبَائِهِمْ وذرِّيَّاتهم وإخوانهم جماعات» ، ف «مِنْ» للتبعيض، والمفعول محذوف. الثاني: أنه معطوف على «كُلاًّ» ، أي: وفضَّلنا بعض آبائهم. وقدَّر أبو البقاء هذا الوجه بقوله: «وفضلنا كلاًّ من آبائهم، وهدينا كُلاًّ من آبائهم» . وإذا كان للتَّبْعِيضِ دلَّت على أن آباء بعضهم كانوا مشركين. وقوله: «وذُرِّيَّاتهم» ، أي: وذرِّيَّة بعضهم، لأن «عيسى» و «يحيى» لم يكن لهما وَلَدٌ، وكان في ذرية بعضهم من كان كَافِراً. وقوله: «وإخوانهم» و «اجْتَبَيْنَاهُمْ» يجوز أن يعطف على «فضَّلنا» ، ويجوز أن يكون مُسْتأنفاً وكرر لفظ الهداية توكيداً، ولأن الهِدايةَ أصْلُ كل خير، والمعنى: اصْطَفَيْنَاهُمْ، وأرشدناهم إلى صراط مستقيم. قوله: «ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ» المشار إليه هو المَصْدَرُ المفهوم من الفعل قبله؛ إما الاجْتِبَاءُ، وإما الهداية؛ أي: ذلك الاجتباء هو هُدَى، أو ذلك الهدى إلى الطريق المستقيم هدى الله، ويجوز أن يكون «هدى الله» خبراً، وأن يكون بدلاً من «ذلكط والخبر» يهدي به «، وعلى الأول» يهدي «حالاً، والعامل فيه اسم الإشارة ويجوز أن يكون خبراً ثانياً، و» مِنْ عِبَادِهِط تَبْيِينٌ أو حال؛ إما مِنْ «مَنْ» وإما من عَائِدِهِ المحذوف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 268 فصل في تحرير معنى الهداية يجوز أن يكون المراد من هذه الهداية معرفة الله - تعالى - وتَنْزِيههُ عن الشرك؛ لقوله تعالى بعده: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} وإذا ثبت ذلك ثَبَتَ أن الإيمان لا يَحْصُلُ إلاَّ بِخَلْقِ الله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ} أي: الكتب المُنَزَّلة عليهم، و «الحكم» يعني العلم والفِقْهَ، و «النبوة» . والإشارة ب «أولئك» إلى الأنبياء الثمانية عشر المذكورين، ويحتمل أن يكون المراد ب «آتيناهم الكتاب» أيك الفَهْمَ التَّامَّ لما في الكتاب، والإحاطة بحقائقه، وهذا هو الأولى؛ لأن الثمانية عشر لم ينزل على كل واحد منهم كتاباً إلهياً على التعيين. قوله {فإنْ يَكْفُرْ بِهَا} هذه «الهاء» تعود على الثلاثة الأشياء، وهي: الكتاب والحكم والنبوة، وهو قول الزمخشري. وقيلك يعود على «النبوة» فقط، لأنها أقرب مذكور، والباء في قوله: «لَيْسُوا بِهَا» مُتعَلِّقَةٌ بخير «ليس» ، وقدم على عاملها، والباء في «بكافرين» زائدة توكيداً. فصل في معنى الآية معنى قوله: «يَكْفُرْ بِهَا هَؤلاءِ» يعني أهل «مَكة» {فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِين} ؛ قال ابن عباس: المراد بالقَوْمِ الأنْصَارُ، وأهل «المدينة» ، وهو قول مجاهد. وقال قَتَادَةُ والحسن: يعني الأنبياء الثمانية عشر. قال الزجاج: ويدلُّ عليه قوله بعد هذه الآية: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} . وقال أبو رَجَاءٍ العطاردي فإن يكفر بها أهل الأرض، فقد وكلَّنا بها أهل السماء، يعني الملائكة، وهو بعيد؛ لأن اسم القوم كُلُّ ما يقع على غير بني آدم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 269 وقال مجاهد: هم الفرس. وقال ابن زيد: كل من لم يكفر، فهو منهم، سَوَاءً كان ملكاً، أو نبيَّا، أو من الصحابة، أو من التابعين. قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ} «أولئك» مفعول مُقدَّمٌ ل «هدى الله» ويَضْعُفُ جعله مبتدأ على حذف العائد، أي: هداهم الله كقوله: {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة] برفع «حُكْمُ» [والإشارة ب «أولئك» إلى الأنبياء المتقدم ذكرهم] . قوله: «فَبِهُدَاهِمُ أقْتَدِه» قرا الأخوان بحذف الهاء في الوَصْلِ والباقون أثبتوها وَصْلاً وَوَقْفاً، إلا أن ابن عامر بكسرها، ونقل ابن ذكوان عنه وجهين: أحدهما: الكَسْر من غير وَصْلٍ بمدة، والباقون بسكونها. أما في الوقف فإن القراء اتَّفَقُوا على إثباتها سَاكِنةً واختلفوا في «مَالِيَه» و «سُلْطَانِيَه» في «الحاقَّة» وفي «مَاهِيَهْ» في «القارعة» بالنسبة إلى الحذف والإثبات، واتفقوا على إثباتها في «كِتَابِيَهْ» و «حِسَابِيِهْ» فأما قراءة الأخوين، فالهاء عندهما للسَّكْتِ، فلذلك حَذَفَاهَا وصْلاً؛ إذ محلها الوَقْفُ، وأثبتاها وفقاً إتْبَاعاً لِرَسْمِ المصحفن وأما من أثبتها ساكنة، فيحتمل عنده وجهين: أحدهما: هي هاء سَكْتٍ، ولكنها ثبت وَصْلاً إجْرَاءً للوصْلِ مجرى الوَقْفِ، كقوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ وانظر} [البقرة: 259] في أحد الأقوال كما تقدم. والثاني: أنها ضمير المصدر سُكِّنَتْ وَصْلاً إجْرَاءً للوَصْلِ مجرى الوَقْفِ، نحو: {نُؤْتِهِ} [آل عمران: 145] {فَأَلْقِهْ} [النمل: 28] و {أَرْجِهْ} [الأعراف: 111] ، {نُوَلِّهِ} [النساء: 115] {وَنُصْلِهِ} [النساء: 115] . واختلف في المصدر الذي تعُودُ عليه هذه «الهاء» ، فقيل: الهدى، أي اقتدى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 270 الهدى، والمعنى اقْتداء الهدى، ويجوز أن يكون الهدى مفعولاً لأجله؛ أي: فبهداهم اقتد لأجل الهدى. وقيل: الاقتداء؛ أي: اقتد الاقتداء، ومن إضمار المصدر قول الشاعر: [البسيط] 2230 - هَذَا سُرَاقَةُ لِلْقُرآنِ يَدْرُسُهُ ... والمَرْءُ عِنْدَ الرُّشَا إنْ يَلْقَها ذِيبُ أي: يَدْرُسُ الدَّرْسَ، ولا يجوز أن يتكون «الهاء» ضمير القرآن؛ لأن الفعل قد تعدَّى له، وإنما زيدت «اللام» تَقْوِيَةً له، حيث تقدَّم معموله، وكذلك جعل النُّحَاةُ نَصْب «زيداً» من «زيداً ضَرَبْتُهُ» بفعل مُقدَّرٍ، خلافاً للفراء. قال ابن الأنْبَارِيّ: «إنها ضمير المصدر المؤكد النائب عن الفعل، وإن الأصل: اقتد اقتد، ثم جعل المَصْدَرُ بَدَلاً من الفعل الثاني، ثم أضْمِرَ فاتَّصَلَ بالأول» . وأما قراءة ابن عامر فالظَّاهِرُ فيها أنها ضمير، وحُرِّكَتْ بالكَسْرِ من غير وَصْلٍ وهو الذي يسميه القُرَّاء الاخْتِلاَس تَارَةً، وبالصلة وهو المُسَمَّى إشْبَاعاً أخرى كمنا قرئ: {أَرْجِهْ} [الأعراف: 111] ونحوه. وإذا تقرَّرَ هذا فقول ابن مُجَاهِدٍ عن ابن عامر «يُشِمُّ» الهاء من غير بُلُوغِ ياء «وهذا غلط؛ لأن هذه» الهاء «هاء وَقْفٍ لا تعرب في حالٍ من الأحوال، أي: لا تحرك وإنما تدخل ليتبيَّنَ بها حركةُ ما قبلها ليس بِجَيِّدٍ لما تقرر من أنها ضَمِيرُ المَصْدَرِ، وقد رَدَّ الفَارِسيُّ قول ابن مجاهد بما تقدم. والوجه الثاني: أنها هاء سَكْتٍ أجْرِيَتْ مُجْرَى الضمير، كما أجريت هاء الضمير مُجْرَاهَا في السكُونِ، وهذا ليس بِجَيِّدٍ، ويروى قول المتنبي: [البسيط] 2231 - واحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبُهُ شَبِمُ ..... ... ... ... ... ... ... ... بضم» الهاء «وكسرها على أنها» هاء «السَّكْتِ، شُبِّهَتْ بهاء الضمير فحركت، والأحسن أن تجعل الكسر لالتقاء الساكنين لا لشبهها بالضمير؛ لأن» هاء «الضمير لا تكسر بعد الألف، فكيف بما يشبهها؟ والاقتداءُ في الأصْلِ طَلَبُ المُواقَقَةِ قاله اللَّيْث. ويقال: قدوة وقدو وأصله من القدو وهو أصل البِنَاءِ الذي يتشعب منه تصريف الاقتِدَاءُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 271 قال الواحِديُّ: الاقتِدَاءُ في اللغة: الإتيان بِمِثْلِ فِعْل الأول لأجل أنه فعله و» بِهُداهِمِ «متعلق ب» اقْتَدِهْ «. وجعل الزمخشري تقديمه مُفيداً للاختصاص على قاعدته. فصل فيما يقتدى بهم فيه هذا خِطَابٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واختلفوا في الشيء الذي أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالاقتداء بهم فيه. فقيل: المُرَادُ أن يَقْتَدي بهم في الأمر الذي أجمعوا عليه، وهو التوحيد والتَّنْزِيه عن كُلِّ ما لا يَلِيقُ بالباري سبحانه وتعالى في الذَّاتِ والصِّفاتِ والأفْعَالِ. وقيل: المارد الاقْتِدَاءُ بهم في شَرَائِعِهمْ إلا ما خَصَّهُ الدليل على هذا، فالآية دَلِيلٌ على أن شَرْعَ من قبلنا يلزمنا وقيل: المراد به إقَامَةُ الدلالة على إبْطَالِ الشِّرْكِ، وإقامة التوحيد؛ لأنه ختم الآية بقوله: {وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88] ثم أكد إصْرَارَهُمْ على التوحيد وإنكارهم للشرك بقوله: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} ثم قال: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} أي: اقْتَدِ بهم في نَفْيِ الشرك، وإثبات التوحيد، وتَحَمُّلِ سَفَاهَاتِ الجُهَّال. وقال آخرون: اللفظ مُطْلَقٌ فيحمل على الكل إلاَّ ما خَصَّهُ الدَّليل المُنْفَصِلُ. قال القاضي يبعد حَمْلُ هذه الآية على أمْرٍ الرَّسُولِ بِمُتَابَعَةِ الأنبياء المُتقدِّمين في شَرَائِعِهمْ لوجوه: أحدهما أن شرائعهم مختلفة مُتناقِضَةٌ فلا يَصِحُّ مع تَنَاقُضِهَا أن يكون بالاقْتِدَاءِ بهم في تلك الأحْكَامِ المُتناقِضَةِ. وثانيها: أن الهدى عبارة عن الدليل دون نفس العملِ، وإذا ثبت هذا، فنقولُ: دليل ثباتِ شَرْعِهِمْ كان مخصوصاً بتلك الأوْقَاتِ فقط، فكيف يُسْتَدَلُّ بذلك على اتِّبَاعِهِمْ في شرائعهم في كل الأوقات. وثالثها: أن كونه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مُتَّبعاً لهم في شرائعهم يوجب أن يكون مَنْصِبُهُ أقَلَّ من مَنْصِبِهِمْ، وذلك بَاطِلٌ بالإجماع، فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حَمْلُ الآية على وُجُوبِ الاقْتِداءِ بهم في شَرَائِعِهمْ. والجواب عن الأول، أن قوله: «فَبُهَداهمُ اقْتَدِه» يتناول الكل فأما ما ذكرتم من كون بعض تلك الأحْكَامِ مُتَنَاقِضَةً بحسب شرائعهم، فنقول: العام يجب تخصيصه في هذه الصُّورة، ويقى فيما عداها حُجَّة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 272 وعن الثاني: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لو كان مأموراً بأن يَسْتَدِلَّ بالدليل الذي اسْتَدَلَّ به الأنبياءُ المتقدِّمُون لم يكن ذلك مُتَابَعَةً؛ لأن المسلمين لما اسْتَدَلُّوا بحدوث العالم على وجود الصانع لايقال: إنهم مُتَّبِعُونَ لليهود والنَّصارى في هذا الباب؛ لأن المستدلَّ بالدليل يكون أصلاً في ذلك الحكم، ولا تعلُّ له بمن قبله ألْبَتَّةَ، والاقتداء والاتِّبَاعُ لا يحصل إلا إذا كان فعل الأوَّل سَبَباً لوجوب الفِعْلِ عن الثاني. وعن الثالث: أنه أمر الرَّسُولَ بالاقْتِدَاءِ بجميعهم في جميع الصِّفَاتِ الحميدة، والأخلاق الشريفة، وذلك لا يوجب كونه أقَلَّ مرتبة من الكُلِّ على ما يأتي في الفَصْلِ الذي بعده. فصل في أفضلية نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ احْتَجَّ العملاء بهذه الآية على أن الرَّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل من جميع الأنبياء عليهم الصَّلاةُ والسَّلام؛ لأن خِصَالَ الكمالِ وصفاتِ الشَّرفِ كانت مفرّقة فيهم ف «داود» و «سليمان» كانا من أصاحب الشكر على النعمة، و «أيُّوب» كان من أصحاب الصَّبْرِ على البلاءِ، و «يوسف» كان جَامِعاً لِهَاتيْنِ الحالتين، و «موسى» عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان صاحب الشرعيةِ القويَّةِ القاهرة، والمعجزات الظاهرة و «زكريا» و «يحيى» و «عيسى» و «إلياس» كانوا أصحاب الزُّهْدِ، و «إسماعيل» كان صاحب الصِّدْق و «يونس» كان صاحب التَّضَرُّعِ. وثبت أنه - تعالى - إنما ذكر كُلُّ واحد من هؤلاء الأنبياء؛ لأن الغالب عليه خَصْلةٌ مُعيَّنةٌ من خِصال المَدْح والشرف، ثم إنه تعالى لما ذكر الكلّ أمر محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام - بأن يقتدي بهم بأسْرِهمْ، فكان التقدير كأنه - تعالى - أمر محمداً أن يجمع من خِصالِ العُبُوديَّة والطاعة كُل الصفات التي كانت مُتفرِّقَةً فيهم بأجمعهم، ولما أمره الله - تبارك وتعالى - بذلك امْتَنَعَ أن يقال: إنه قَصَّر في تحصيلهم، فثبت أنه حَصَّلَهَا، ومتى كان الأمر كذلك وجب أن يقال: إنه أفْضَلُهُمْ بكليتهم. قوله: {قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا} لما أمره الاقتداء بهدى الأنبياء المتقدمين، وكان من جُمْلَةِ هدايتِهِمْ تَرْكُ طلب الأجْرِ في إيصال الدين، وإبلاغ الشريعة لا جَرَم اقتدى بهم في ذلك فقال: «قُلْ لا أسْألُكُمْ عليْهِ أجْراً» [و «الهاء» في «عليه» ] تعود على القرآن والتبليغ أضمرا وإن لم يَجْرِ لهما ذِكْرٌ لدلالة السِّياق عليهما، و «أن» نافية ولا عمل لها على المَشْهُور، ولو كانت عَامِلةً لبطل عملها ب «إلاَّ» في قوله: «إنْ هُوَ إلاَّ ذِكْرَى» أن يذكره ويعظه. «وللعالمين» متعلق ب «ذكرى» و «اللام» معدية أي: إن القرآن العظيم إلاَّ تذكير للعالمين، ويجوز أن تكون متعلِّقَةً بمحذوف على أنها صِفَةٌ للذِّكْرَى، وهذه الآية تَدُلُّ على أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَبْعُوثٌ إلى كل أهْلِ الدنيا لا إلى قَوْمِ دون قَوْمٍ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 273 قوله: وما قدروا الله حق قدره الآية الكريمة. اعلم أن مَدَارَ القرآن على إثْبَاتِ التوحيد والنُّبُوَّةِ، فالله - تعالى - لما حَكَى عن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنه أثْبَتَ دليل [التوحيد،] وإبطال الشرك ذَكَرَ بعده تَقْرِيرَ أمر النبوة، فقال: «وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ» حين انركوا النُّبُوَّةَ والرسالة، فهذا بيان وَجْهِ النَّظْمِ. «حَقّ قَدْرهِ» منصوب على المَصْدَرِ، وهو في الأصل صِفَةٌ للمصدر، فلما أضيف الوصف إلى موصوفه انْتَصَبَ على مَا كَانَ يَنْتَصِبٌ عليه مَوْصُوفُهُ، والأصل قدره الحقّ كقولهم: «جَرْد قَطِيفَة وسحق عمامة» . وقرأ الحسنُ البَصْرِيُّ «، وعيسى الثقفي:» قَدَّروا «بتشديد الدَّال» قدَره «بتحريكها، وقد تقدَّم أنهما لُغَتَانِ. قوله:» إذْ قَالُوا «مَنْصُوبٌ ب» قدروا «، وجعله ابن عطية منصوباً ب» قدره « [وقي كلام ابن عطية ما يشعر بأنها] للتعليل، و» من شيء «مفعول به زيدت فيه» من «لوجود شَرْطَي الزيادة. فصل في معنى الآية قال ابن عبَّاسٍ: ما عَظَّمُوا الله حقَّ تعظيمه. وروي عنه أيضاً أنه قلا: معناه ما آمنوا أن الله على كُلِّ شيء قدير. وقال أبو العَالِيَةِ: ما وصفوا الله حقَّ صِفَتِهِ. وقال الأخْفَشُ: ما عرفوه حَقَّ معرفته، وحقَّق الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى - فقال: قَدَرَ الشَّيءَ إذا سَبَرَهُ وحَرَّرَهُ، وأراج ان يعمل مقداره يقدره بالضمير قدراً، ومنه قوله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 274 عليه الصَّلاة والسَّلام:» إن غُمَّ عليْكُمْ فاقْدرُوا لَهُ «أيك فاطلبوا أن تَعْرِفُوهُ هذا أصله في اللغة، ثم يقال لمن عرف شَيْئاً: هو يَقْدِرُ قَدْرَهُ، وإن لم يعرفه بِصِفَاتِهِ: إنه لا يقدر قَدْرَهُ، فقوله:» ومَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «صحيح في كُلِّ المعاني المذكورة ولما حكى عنهم أنهم ما قَدَرُوا اللَّه حَقَّ قدره بيَّن السَّبَبَ فيه، وهو قولهم: {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} . واعلم أن كُلَّ من أنكر النُّبُوَّةَ والرِّسَالَة فهو في الحقيقة ما عرف الله حَقَّ مَعْرِفَتِهِ، وتقديره من وُجُوهٍ: الأول: أن مُنْكِرَ البعث والرسالة إما أن يقول: إنه - تبارك وتعالى - ما كَلَّفَ أحداً من الخَلْقِ [تكليفاً أصلاً] أو يقول: إنه - تبارك وتعالى - كَلَّفَهُمْ، والأول باطل؛ لأن ذلك يقتضي أنه - تبارك وتعالى - أبَاحَ لهم جَمِيعَ المُنْكَراتِ والقبائح، نحو [شَتْم] الله وَوَصْفه بما لا يليق به والاسْتِخْفَاف بالأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - والرسل، والإعراض عن شُكْرِ الله - تعالى - ومُقَابَلَة الإنْعَام بالإساءة، وكل ذلك باطل. وإن سلم أنه - تعالى - كَلَّفَ الخَلْقَ بالأمر [والنهي فهاهنا لا بُدَّ] من مُبَلِّغٍ وشارع مُبَيِّنٍ، وما ذلك إلاَّ للرَّسُولِ. فإن قيل لم لا يجوز أن يُقَالَ: العقل كافٍ في إيجاب الموجبات، واجتناب المقبحات؟ فالجواب: هَبْ أن الأمر كما قلتم إلا أنه لا يمتنع تأكيدُ التعريف العَقْلِيّ بالتعريفات المشروعة على ألْسِنَةِ الأنبياء والرسل - عليهم الصلاة والسلام - فصبتَ أن كل من مَنَعَ من البعثة والرسالة، فقد طَعَنَ في حكمة الله - تعالى - وكان ذلك جَهْلاً بصفة الإلهية، وحينئذ يَصْدُقُ في حقه قوله تبارك وتعالى: {وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ} . والوجه الثاني في تقرير هذا المعنى: أن من الناس من يقول: إنه يمتنع بعثة الأنبياء والرسل عليهم الصَّلاة والسلام؛ لأن يمتنع [إظهار] المعجزة على وَفْقِ دَعْوَاهُ تصديقاً له، والقائلون بهذا القول لهم مَقَامات. أحدها: أن يقولوا: إنه ليس في الإمْكَانِ خَرْقُ العادات، ولا إيجاد شيء على خلاف ما جَرَتْ به العَادَةُ. والثاني: يسلمون إمكان ذلك، إلاَّ أنهم يَقُولُونَ: إن بتقدير حُصُولِ هذه الأفعلاِ الخَارِقَةِ للعَادَاتِ، فلا دلالة لها على صِدْقه من الرسالة، وكلا القولين يوجب القَدْحَ في كمالِ قُدْرةِ الله - تعالى -. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 275 أما الأوَّل وهو أنه ثبت أن الأجْسامَ مُتَمَاثِلَةٌ، وثبت أن ما يحتمله الشيء وجب أن يحتمل مثله، وإذا كان كذلك كان جِسْمُ القَمَرِ والشمس قَابِلاً لِلتَّمَزُّقِ والتَّفَرُّقِ، فإن قلنا: إن الإله غير قادر عليه كان ذلك وَصْفاً له بالعَجْزِ، ونُقْصانِ القُدْرةِ، وحينئذ يصدق في حق هذا القائل أنه ما قدر اللَّهَ حقَّ قدره. وإن قلنا: إنه - تعالى - قادر عليه، وحنيئذ لا يمنع عَقْلاً انْشِقَاقُ القمر، ولا حصول سائر المعجزات. وأما المقام الثاني: وهو أن [حدوث] هذه الأفعال الخَارقة عند دَعْوَى مُدَّعِي النبة يَدُلُّ على صِدقِهِ، فهذا أيضاً ظاهرٌ على ما قدر في كتب الأصولِ، فثبت أن كُلِّ من أنكر مَكَانَ البعثة والرسالة، فقد وصف الله تَبَارَكَ وتعالى بالعَجْزِ ونُقْصَانِ القدرة، فكل من قال ذلك، فهو ما قَدَرَ اللَّهَ حقَّ قَدْرِهِ. والوجه الثالث: أنه لما ثبت حُدُوثُ العالم، فنقول: حدوثه يَدُلُّ على أن إله العالم قَادِرٌ عليم حكيم، وأن الخَلْقَ كلهم عَبِيدُهُ، وهو مالكهم وملكهم على الإطلاق والملكُ المُطاع يجب أن يكون له أمر ونهي، وتكليف على عِبادِهِ، وأن يكون له وَعْدٌ على الطاعة، ووعيدٌ على المعصية، وذلك لا يتم ولا يكمل إلاَّ بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فكل من أنكر ذلك فَقط طَعَنَ في كونه تعالى مَلِكاً مُطَاعاً، ومن اعتقد ذلكن فهو ما قدر الله حَقَّ قدره. فصل في بيان سبب النزول في هذه الآية الكريمة [بَحْثٌ] صَعْبُ، وهو أن يقال: هؤلاء الذين حكى الله عنهم أنهم قالوا: {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} إما أن يقال: إنهم كُفًّار قريشن أو يقال: إنهم أهْلُ الكتاب من اليهود والنصارى، فإن كان الأول فكيف يمكن إبْطالُ قولهم بقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى} وذلك أن كُفَّار قريش والبراهمة يُنْكِرُونَ رسالة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فكذلك يُنْكِرُون رسالةَ الأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام - فكيف يَحْسُنُ إيراد هذا الإلْزَامِ عليهم. وإن كان قائل هذا القول من أهْلِ الكتاب فهو أيضاً مشكل؛ لأنهم لا يقولون هذا القَوْلَ، وكيف يقولونه مَعَ أن مَذْهَبَهُمْ أن التوارة كِتَابٌ أنزله الله على مُوسَى، والإنجيل كتابُ أنزله الله على عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وأيضاً فهذه السُّورة مَكِيَّةٌ، والمُنَاظَرَةُ التي وقعت بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين اليهود والنَّصَارى كلها مَدَنيةٌ، فكيف يمكن حَمْلُ هذه الآية الكريمة عليها، فهذا تقدير الإشكال في هذه الآية. واعلم أن النَّاسَ اختلفوا فيه على قولين، والقول أن هذه الآية نزلت في حقِّ اليهود، وهو المشهرو عند الجمهور. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 276 وقال ابن عباسِ وسعيد بن جُبَيْرٍ: «إن مالك بن االصيف كان من أحبار اليهود ورؤسائهم وكان رَجُلاً سميناً فدخل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» انْشدُكَ بالَّذِي أنْزَلَ التَّوارة على مُوسَى هَلْ تجد في التَّوْارةِ أن اللَّهَ يَبْغَضُ الحَبْرَ السَّمِينَن وأنْتَ الحَبْرُ السَّمِينُ وقدْ سَمِنْتَ مِنَ الأشْيَاءِ الَّتِي تُطْعِمُكَ اليَهُودُ «فضحك القوم فغضب [مالك] بن الصيف ثم التفت إلى عمر، فقال:» مَا أنْزَل اللَّهُ على بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ «فقال له قومه: ويلك؟ ما هذا الذي بلغنا عنك، [ألَيْسَ] أن الله أنزل التوارة على مُوسَى، فَلِمَ قلت: ما أنزل الله على بشر من شيء؟ فقال مالك بن الصيف: إنه أغْضَبَنِي، فقلت ذلك فقالوا له: وأنت إن غضبت تَقُولُ على الله غَيْرَ الحق، فنزعوه عن رياستهم؛ وجعلوا مكانة كَعْبَ بْنَ الأشْرَفِ. وقال السُّدِّيُّ: نزلت في فنحَاصِ بْنِ عازوراء وهو قائل هذه المَقالةِ. قال ابن عباس: قالت اليهودك يا محمد أنزل الله عليك كتاباً؟ قال:» نَعَمْ «. قالوا: والله ما أنزل من السماء كتاباً، فأنزل الله تبارك وتعالى» مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «؛ إذ قالوا:» مَا أنْزَل اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ «وفي سبب النزول سؤالات: السؤال الأول: لَفْظُ الآية وإن كان مُطْلَقاً إلاَّ أنه يَتَقَيَّدُ بحسب العُرْفِ ألا ترى أن المرأة إذا أرادت أن تخرج [من الدار] فغضب الزَّوْجُ، فقال: إن خرجت من الدار فأنْتِ طالق، فإن كثيراً من الفهاء قالوا: اللفظ وإن كان مُطْلَقاً إلا أنه بِحَسبِ العُرْفِ يتَقَيَّدُ بتلك المرأة، فكذا هاهنا فقوله:» مَا أنْزَل اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيءٍ «وإن كان مُطْلٌقاً بحسب أصْلِ اللغة إلاَّ أنه يتقيد بتلك الواقِعَةِ بحسب العُرْقِ، فكان لقوله تعالى: {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} في أنه يبغض الحَبْرَ السمين، وإذا كان هذا المُطْلَق مَحْمُولاً لعى هذا المُقَيَّدِ لم يكن قله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى} مبطلاً لكلامه. السؤال الثاني: أن مالك بن الصيف كان مفتخراً بكونه يَهُوديَّا مُتَظَاهراً بذلك، ومع هذا المَذْهَبِ لا يمكنه أن يقول: ما أنزل الله على بشر من شيء إلا على سبيل الغَضَبِ المُدْهِشِ للعقل، أو على سبيل طغيان اللسان، ومثل هذا الكلام لا يَلِيقُ بالله - تبارك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 277 وتعالى - إنزال القرآن الباقي على وجه [الدهر] في غبطاله. والقول الثاني: أن القائل: ما أنزل الله على بشر من شيء من كُفَّار قريش، وفيه سؤال: هو أن كُفَّراَ قريش كانوا ينكرون نُبُوَّةَ جميع الأنبياء عليهم الصَّلاة والسلام، فكيف يمكنم إلزامهم بِنُبُوَّةِ موسى، وأيضاً فما بعد هذه الآية لا يليق بكُفَّار قريش، وإنما يليق باليهود، وهو قلوله: {تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُم} وهذه الأحوال لا تليق إلا باليهود وهو قَوْلُ من يقول: إن أول الآية خِطَابٌ للكفار، وآخرها خطاب مع اليهود، وهذا فاسد، لأنه يوحب تَفْكِيكَ نَظْمِ الآية، وفساد تركيبها، وذلك لا يليق بكلامنا، فَضْلاً عن كلام ربِّ العالمين، فهذا تقرير الإشكال على هذا القول. أما السؤال الأول: فيمكن دَفْعُهُ بأن كُفَّار قريش كانوا مُخْتَلطينَ باليهود والنصارى، وكانوا قد سمعوا من الفَريقَيْنِ على سبيل التَّواتُر ظهور المعجزات القاهرة على يَدِ مُوسَى - وغيرها، والكفار كانوا يَطْعُنون في نبوة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بِسَببِ أنهم كانوا يَطْلُبُونَ من أمْثالَ هذه المعجزات [وكانوا] يقولون: لو جئتنا بأمثال هذه المُعجزات آمَنَّا بك، فكان مجموع هذه الكلمات جَارِياً مجرى ما يوجب عليهم الاعْتِرَاض، والاعتراف بنبوة موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وإذا كان الأمر كذلك [لم يبعد إيراد] نبوة موسى إلزاماً عليهم في قولهم: {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} . وأما الثاني: فجوابه أن كفار قريش، وأهل الكتاب لما اشرتكوا في إنمكار بنوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يَبْعُدْ أن يكون الكلامُ بعضه خِطَاباً مع كفار «مكة» وبقيّته خطاباً مع اليهود والنصارى. فصل فيا يستفاد من الآية دَلَّت هذه الآية الكريمة على أحكام: منها: أن النَّكِرَةَ في موضع النَّفْي تفيد العموم، فإن قوله: {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} نَكِرَةٌ في موضع النفي، فلو لم تفد العموم لما كان قوله تبارك وتعالى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى} إبْطالاً له وَنَقْضاُ عليه، وكان اسْتِدْلالاً فاسداً. ومنها: أن النَّقْضَ يقدح في صِحَّةِ الكلام؛ لأنه - تبارك وتعالى - نَقَضَ قولهم: {مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} بقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى} فلو لم يَدُلُّ النَّقْضُ على فساد الكلام لما كانت هذه الحُجَّةُ مُفِيدَةً لهذا المطلوب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 278 واعلم أن من يقول: إن الفَارِقَ بين الصُّورَتَيْنِ يمنع من كون النقض مبطلاً ضعيف إذ لو كان الأمر كذلك لَسَقَطَتْ حُجَّةُ الله في هذه الآية الكريمة، لأن اليهود كانوا يقولون: معجزات موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أظْهَرُ وأبهرِ من معجزاتك، فلم يلزم من إثبات النبوة هناك إثبات هاهنا، ولو كان هذا الفرق [مقبولاً لسقطت هذه الحدة، وحيث لا يجوز القول بسقوطها، علمنا أن النقض] على الإطلاق مبطل. قوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاس} وصف الكتاب بصفتين: أحدهما: قوله: «نوراً» وهو مَنْصُوبٌ على الحال، وفي صاحبها وجهان: أحدهما: أنه «الهاء» في «به» ، فالعامل فيها «جاء» . والثاني: أنه «الكتاب» ، فالعامل فيه «أنزل» ، و «للناس» صِفَةٌ ل «هدى» وسمَّاه «نوراً» تشبيهاً له بالنُّورِ الذي يبين به الطريق. فإن قيل: فعلى هذا لا يَبْقَى بَيْنَ كونه نوراً، وبين كونه هُدًى للناس فَرْقٌ، فعطف أحدهما على الآخر يوجب التَّغَايُرَ. فالجواب: أن للنور صفتان: أحدهما: كونه في نَفْسِه ظَاهراً جَليَّا. والثانية: كونه بحيث يكون سَبَاً لظهرر غيره، فالمراد من كونه «نوراً وهدى» هذان الأمران وقد وُصِفَ القرآن أيضاً بهذين الوصفْينِ، فقال: {ولكن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52] . قوله: «تَجْعَلُونَهُ» قرا ابن كثير وابن عمرو بياء الغَيْبَةِ، وكذلك «يُبْدُونَهَا ويُخفُون كَثِيراً» والباقون بتاء الخطاب في الثلاثة الأفعال، فأما الغَيْبَةُ فلِلحَمْلِ على ما تقدم من الغَيْبةِ في قوله تعالى: {وَمَا قَدَرُوا} إلى آخره. وعلى هذا فيكون في قوله: «وعُلِّمْتُمْ» تأويلان: أحدهما: أنه خطاب لهم أيضاً وإنماء جاء به على طريق الالْتِفَاتِ. والثاني: أنه خطابٌ إلى المؤمنين اعترض به بين الأمر بقوله: {قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب} وبين قوله: «قل الله» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 279 وأما القرءاة بتاء الخطاب ففيها مناسبة لقوله: «وعلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أنْتُمْ» ورَجَّحَهَا مكي وجماعة كذلك قال مكي: «وذلك حَسَنٌ في المُشَاكَلَةِ والمُطابَقَةِ، واتِّصالِ بعض الكلام ببعض، وهو الاختيار لذلك، ولأن أكثر القراء عليه» . قال أبو حيَّان: «ومن قال: إن المكرين العرب، أو كفار قريش لم يكن جَعْلُ الخطاب لهم، بل يكون قد اعترض بني إسرائيل فقال خلال السُّؤال والجواب: تجعلونه قراطيس [يبدونها] ، ومثل هذا يَبْعُدُ وُقُوعُهُ؛ لأن فيه تَفْكِيكاً للنَّظْمِ، حيث جعل أول الكلام خِطَاباً لكفار قريش، وآخره خطاباً لليهود» . قال: «وقد أجيب بالجميع لما اشتركوا في إنكار نُبُوَّةِ رسالة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء بَعْضُ الكلام خِطَاباً للعرب وبعضه خطاباً لبني إسرائيل» . قوله: «تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ» : يجوز أن تكون «جعل» بمعنى «صَيَّرَ» وأن تكون بمعنى «ألقى» أي: يضعونه في كَاغدٍ. وهذه الجلمة في محلِّ نصب على الحال، إما من «الكتاب» وإما من «الهاء» في «به» كما تقدم في «نوراً» . قوله: «قَرَاطِيس» فيه ثلاثة أوجه: والثاني: أنه على حذف مضاف، أي: يجعلونه ذَا قَرَاطِيسَ. والثالث: أنهم نَزَّلوه مَنْزِلَةَ القراطيس، وقد تقدم تفسير القراطيس. والجملة من قوله: «تبدونها» في محل نصب صِفَةً ل «قراطيس» وأما «تخفون» فقال أبو البقاء: إنها صفة أيضاً لها، وقدر ضميراً محذوفاً، أي: تخفون منها كثيراً. وأما مكي فقال: «وتخفون» متبدأ لا مَوْضِعَ له من الإعراب. انتهى. كأنه لما رأى خُلُوَّ الجملة من ضمير يَعُودُ على «قراطيس» منع كونه صِفَةً، وقد تقدم أنه مُقَدَّرٌ، وهو أولى، وقد جوَّز الواحدي في «تبدون» أن يكون حالاً من ضمير «الكتاب» من قوله: «تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيس» على أنه يجعل الكتاب القراطيس في معنى؛ لأنه مُكْتَتَبٌ فيها. انتهى. قوله: «عَلَى أنْ تَجْعَلَ» اعْتِذَارٌ عن مجيء خبره مُؤنُّثاً، وفي الجملة فهو بعيد أو ممتنع. قوله: «وعُلِّمْتُمْ» يجوز أن يكون على قراءة الغيبة في «يَجْعَلُونه» ، وما عطف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 280 مُسْتَانفٌ، وأن يكون حالاً، وإنما أتى به مُخَاطباً لأجل الالْتفاتِ، وأما على قراءة تاء الخطاب فهو حالٌ، ومن اشترط «قد» في الماضي الواقع حالاً أضمرها هنا، أي: وقد علمتم ما لم تعلموا. والأكثرون على أن الخطابَ هذا لليهود؛ يقول: علمتم على لسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [فضيعوه ولم ينتفعوا به. وقال مجاهدك هذا خطاب للمسلمين يذكرهم النعمة فيما علّمهم على لسان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] . فإن قيل: إن كل كتاب لا بد وأن يوضع في القراطيس، فإذا كان الأمر كذلك في كل الكتب، فما السبب في أن الله - تبارك وتعالى - حكى هذا المعنى في معرض الذَّمِّ لهم؟ فالجواب: أن الذَّمِّ لم يقع على هذا المعنى فقط، بل المراد أنهم لما جعلوه قراطيس، وفَرَّقُوهُ وبعَّضُوُ، لا جَرَمَ قدروا على إبداء البَعْضِ وإخْفَاءٍ البعض، وهو الذي فيه صِفَةُ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فإن قيل: كيف يقدرون على ذلك، مع أن التوراة كتابٌ وصل إلى أهل المَشْرِقِ والمغرب، وعرفه أكثر أهل العلم وحَفِظُوهُ، ومثل هذا الكتاب لا يمكن إدخال الزيادة والنقصان فيه، كما أن الرَّجُلَ في هذا الزمان إذا أراد إدخال الزِّيَادَةِ والنقصان في القرآن لم يقدر على ذلك، فكذا القول في التَّوْرَاةِ؟ فالجواب أنا ذكرنا في سورة «البقرة» أن المراد من التَّحْرِيف تفسير آيات التوراة بالوُجُوهِ الفاسدة الباكلة، كما يفعله المبطلون في زَمَانِنَا هذا بآيات القرآن. فإن قيل: هَبْ أنه حصل في التوارة آياتٌ دالَّةٌ على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلاَّ أنها قَلِيلةٌ ولم يخفوا من التوارة إلاَّ تلك الآيات، فكيف قال: «ويخفون كَثِيراً» . فالجواب أن القوم [كانوا] يخفون الآيات الدَّالَّة على نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكذلك يخفون الآيات المشتملة على [آيات الأحكام ألا ترى أنهم حاولوا] إخفاء الآية الدالة على رجم [الزاني] المُحْصَنِ. قوله: «قل الله» لفظ الجلالة يجوز فيها وَجْهَان: أحدهما: أن يكون فاعلاً لفعل محذوف أيم: قل أنزلهن وهذا هو الصحيح للتصريح بالفعل في قوله: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز} [الزخرف: 9] والثاني أنه مبتدأ، والخبر محذوف، تقديره: والله أنزله، ووجهه مناسبة مطابقة الجواب للسؤال، وذلك أن جملة السؤال اسمية، فلتكن جملة الجواب كذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 281 ومعنى الآية الكريمة: قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى فإن أجابوك وإلاَّ فقل فأنت الله الذي أنزلت، أي أن العقل السليم والطَّبْعَ المُسْتَقِمَ يشهد بأن الكِتَابَ الموصُوفَ بالصفات المذكورة المؤيد قَوْلَ صابه بالمعجزات القاهرة والدلالات الباهرة مثل ظاهراً لظهور الحُجَّةِ القَاطِعَةِن لا جَرَمَ قال تبارك وتعالى لمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: قل لهم المُنَزِّلُ لذلك الكتاب هو الله، ونظيره قوله تعلى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ} [الأنعام: 19] كما أن الرجل الذي يريد إقامَةَ الدلالة على الصَّانِعِ يقول: منِ الذي أْحْدَثَ الحياة بعد عَدَمِهَا، ومن الذي أحْدَثَ العَقْلَ بعد الجَهَالةِ ومن الذي أودع الحدَقَةَ القُوَّةَ البَاصِرَة، وفي الصِّمَاخِ القُوَّةَ السَّامِعَةَ، ثم إن هذا القائل بِعَيْنِهِ يقول: الله، والمقصود أنه بلغت هذه الدلالة إلى حَيْثُ يجب على كل عاقل أن يعترف بها، فسواء اقر الخَصْمُ به أو لم يقر فالمقصود حاصل هكذا هاهنا. قوله: {ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} يجوز أن يكون «فِي خَوْضِهِمْ» متعلقاً ب «ذرهم» ، وأن يتعلق ب «يلعبون» ، وأن يكون حالاً من مفعول «ذَرْهُمْ» وأن يكون حالاً من فاعل «يلعبون» [فهذه أربعة أوجه] وأما «يلعبون» فيجوز أن يكون حالاً من مفعول «ذرهم» . ومن منع أن تتعدَّد الحال لواحد لم يُجِزء حينئذ أن يكون «في خوضهم» حالاً من مفعول «ذرهم» ، بل يجعله إما متعلقاً ب «ذرهم» ، كما تقدَّم أو ب «يلعبون» ، أو حالاً من فاعله. ويجوز أن يكون «يلعبون» حالاً من ضمير «خوضهم» وجاز ذلك أنه في قُوَّةِ الفاعل؛ لأن المصدر مُضاف لفاعله؛ لأن التقدير: «ذرهم يخوضون لاَعِبينَ» وأن يكون حالاً من الضمير في «خوضهم» إذا جعلناه حالاً؛ لأنه يتضَمَّنُ معنى الاسْتِقْرارِ، فتكون حالاً متدخلة. فصل في معنى الآية معنى الكلام إذا أقمت الحُجَّة عليهم، وبلغت في الإعذار والإنذار هذا المَبْلَغَ العظيم لم يَبْقَ عليك من أمرهم شيء ألْبَتَّةَ، ونظيره قوله تعالى: {إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ} [الشورى: 48] . قال بعضهم: هذه الآية مَنْسُوخَةٌ بآية السَّيْفِ، وهذا بعيدٌ؛ لأن قوله: «ثُمَّ ذَرْهُمْ في خوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ» مذكور لأجل التهديد، ولا ينافي ذلك حصول المُقاتَلَة، فلم يكن ورود الآية الكريمة الدَّالَّةِ على وجوب المُقاتَلَةِ رافعاً لمدلول هذه الآية، فلم يحصل النَّسْخُ. قوله " هذا " إشارة إلى القرآن، أي: القرآن كتاب مبارك " أنزلناه مصدق الذي بين يديه ". الجزء: 8 ¦ الصفحة: 282 وفيه دليل على تَقْدِيمِ الصِّفةِ غير الصريحة على الصريحة، وأجيب عنه بأن «مُبَارَكٌ» خبر مبتدأ مضمرن وقد تقدم تحقيق هذا في قوله {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ} [المائدة: 54] . وقال الواحدي: «مبارك» : خبر الابتداء فصل بينهما بالجملة، والتقدير: هذا [كتاب] مبارك أنزلناه، كقوله: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاه} [الأنبياء: 50] . قال شهاب الدين: وهذا الذي ذكره لا يَتَمَشَّى إلا على أن قوله: «مبِارك» خبر ثانٍ ل «هذا» وهذا بعيد جداً وإذا سلّم له ذلك، فيكون «أنزلناه» عنده اعتراضاً على ظاهر عبارته، ولكن لا يحتاج إلى ذلك، بل يجعل «أنزلناه» صفة ل «كتاب» ولا محذور حينئذ على هذا التقدير، وفي الجملة فالوَجْهُ ما تقدَّمَ فيه من الإعراب. وقدَّم وَصْفَهُ بالإنزال على وَصْفُهُ بالبركة، بخلاف قوله تعالى: {وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاه} [الأنبياء: 50] قالوا [لأن الأهم] هنا وَصْفُهُ بالإنزال إذا جاء عقيب إنكارهم أن يُنْزِلَ الله على بَشَرٍ شيء، بخلاف هناك، ووقعت الصفة الأولى جُمْلَةً فعلية؛ لأن الإنزال يَتَجَدَّدُ وقْتاً فوقْتاً والثانية اسماً صريحاً؛ لأن الاسم يَدُلُّ على الثبوت والاسْتِقْرارِ، وهو مقصود هنا أي: [ركته] ثابتةٌ مستقرة. قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ: «ويجوز نصب» مبارك «في غير القرآن العظيم على الحال، وكذا: مصدق الذي بين يديه» . فصل في المقصود بإنزال قوله: «أنزلناه» المقصود أن يُعْلم أنه من عند الله لا من عند الرسول، وقوله تعالى: «مبارك» قال أهل المعاني أي: كثير خيره دائم منعفعته يبشر بالثواب والمغفرة، ويزجر عن القبيح والمعصية. قوله: «مُصَدّق» صِفَةٌ أيضاً، أو خبر بعد خبر على القول بان «مبارك» خبر لمبتدأ مضمر وقع صِفَةً لنكرة؛ لأنه في نِيَّةش الانفصال، كقوله تعالى: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] وكقول القائل في ذلك: [البسيط] 2232 - يَا رُبَّ غَابِطنَا لَوْ كَانَ يَعْرِفُكُمْ ..... ... ... ... ... ... ... ... . . وقال مكي: «مُصَدّق الذي» نعت ل «الكتاب» على حذف التنوين لالتقاء الساكنين الجزء: 8 ¦ الصفحة: 283 و «الذي» في موضع نصب وإن لم يقدر حذف التنوين كان «مصدق» خبراً و «الذي في موضع خفض، وهذا الذي قاله غَلَطٌ فاحش؛ لأن حَذْفَ التنوين إنما هو الإضافة اللفظية، وإن كان اسم الفاعل في نِيَّةِ الانفصال، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين إنما كان في يضرورة أو نُدُورٍ؛ كقوله: [المتقارب] 2233 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وَلاَ ذَاكِرِ اللَّه إلاَّ قَلِيلا والنحوين كلهم يقولون في» هذا ضارب الرجل «: إن حَذْفَ التنوين للإضفاة تَخْفِيفاً؛ ولا يقول أحد منهم في مثل هذا: إنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين. فصل في معنى التصديق في الآية معنى كونه» مصدقاً لما قبله «من الكتب المنزلة قبله أنها [توافقنا في نفي الشرك وإثبات التوحيد] . قوله: «ولتنذر» قرأ الجنهور بتاء الخطاب للرَّسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وأبو بكر عن عصام بياء الغَيْبَةِ، والضمير للقرآن الكريم، وهو ظاهر أي: ينذر بمَواعِظِهِ وَزَواجِرِهِ ويجوز أن يعود على الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - للعلم به. وهذه «اللام» فيها وجهان: أحدهما: هي متعلّقة ب «أنزلنا» عطف على مُقدَّرٍ قدَّرهُ أبو البقاء: «ليؤمنوا ولتنذر» ، وقدَّرهَا الزمخشري، فقال: «ولتنذرَ معطوف على ما دَلَّ عليه صفة الكتاب، كمنا قيل: أنزلناه للبركات وليصدق ما تقدَّمَهُ من الكتب والإنذار. والثاني: أنها متعلِّقة بمحذوف متأخّر، أي ولتنذر أنزلناه. قوله:» أمّ القُرَى «يجوز أن يكون من باب الحَذْفِ، أي: أهل أم القُرَى، وأن يكون من باب المَجَازِ أطلق لِلْحَمْلِ إلى المحلِّ على الحال، وإنهما أولى أعني المجاز والضمير في المسألة ثلاثة أقوال، تقدم بَيَانُهَا، وهذا كقوله تعالى: {واسأل القرية} [يوسف: 82] وهناك وَجْهٌ لا يمكن هنا، وهو أنه يمكن أن يكون السؤال للقرية حَقِيقَةً، ويكون ذلك مُعْجِزَةً للنبي، وهنا لا يأتي ذلك وإن كانت القرية أيضاً نفسها هنا تَتَكلَّمُ إلا أن الإنْذارَ لا يقعُ لعدَمِ فائدته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 284 وقوله:» ومَنْ حَوْلَهَا «عطف على» أهل «المحذوف، أي: ولتنذر مَنْ حول أمِّ القرى، ولا يجوز أن يعطف على» أم القرى «، إذ يلزم أن يكون معنى» ولتنذر «أهل من حولها ولا حَاجَةَ تدعو إلى ذلك؛ لأن» من حولها «يقبلون الإنذار. قال أبو حيان: ولم يحذف» من «، فيعطف حول على» أم القرى «، وإنّه لا يصح من حيث المعنى؛ لأن» حول «ظَرْفٌ لا ينصرف، فلو عطف على» أم القرى «لصار مفعولاً به لعطفه على المعفول به، وذلك لا يجوز؛ لأن العرب لا تستعمله إلاَّ ظرفاً. فصل في تسمية» مكة « اتفقوا على أن أم القرى» مكّة «سميت بذلك؛ قال ابن عباس: لأن الأرضين دحيت من تحتها، فهي أصل الأرض كلها كالأم أصل [النسل. قال الأصم: سميت بذلك؛ لأنها قِبْلَةُ أهل الدنيا، فصارت هي كالأصل] وسائر البلاد والقرى تابعة. وأيضاً من أصول عبادات أهل الدنيا الحَجُّ وهو إنما يكون في هذه البَلْدَةِ، فلهذا السبب يجتمع الخَلْقُ إليها، كما يجتمع الأولاد إلى الأم. وأيضاً فلما كان أهْلُ الدنيا يجتمعون هناك بسبب الحجِّ لا جَرَمَ يحصل هناك أنواعٌ من التجارات والمنافع ما لا يحصل في سائر البلاد، ولا شكَّ أن الكَسْبَ والتجارة من أصول المنافع، فلهذا السبب سميت» مكة «بأم القرى. وقيل:» مكة «المشرفة أوَّلُ بلدة سُكِنَتْ في الأرض. قوله: «من حولها» يدخل في سائر البلدان والقُرَى. قال المفسرون: المراد أهل الأرض شَرْقاً وغرباً. قوله: «والذين يؤمنون بالآخرة» يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه مرفوع بالابتداء، وخبره «يؤمنون» ولم يتّحد المبتدأ ولاخبر لِتَغَايُرِ متعلقيهما، فلذلك جاز أن يقع الخبر بلفظ المبتدأ، وإلا فيمتنع أن تقول: «الذي يقوم يقوم» ، و «الذين يؤمنون يؤمنون» ، وعلى هذا فذكر الفضلة هنا واجب، ولم يتعرَّضِ النحويون لذلك، ولكن تعرضوا لِنَظَائِرِهِ. والثاني: أنه مَنْصُوبٌ عَطْفاً على «أم القرى» أي: لينذر الذين أمنوا، فيكون « الجزء: 8 ¦ الصفحة: 285 يؤمون» حالاً من الموصول، وليست حالاً مؤكدة؛ لما تقدم من تَسْويغ وقوعه خبراً، وهو اختلاف المُتَعَلّق، و «الهاء» في «به تعود عنلى القرآن، أو على الرسول. فصل في معنى الآية ذكر العلماء في [معنى] قوله تعالى: {والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ} أي: الذي يؤمن بالآخرة، وهو الذي يؤمن بالوَعْدِ والوعيد، والثواب والعقاب، ومن كان كذلك فإنه تعظم رغبته في تَحْصيلِ الثواب، ورَهْبَتُهُ عن حُلُولِ العقاب، ويبالغ في النظر في دلائل التوحيد والنبوة، فيصل إلى العلم والإيمان. وقال بعضهم: إن دين محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ [مبني على الإيمان بالبعث والقيامة، وليس لأحد من الأنبياء مبالغة في تقرير هذه القاعدة مثل ما في شريعة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فلهذا السبب كان الإيمان بنبوة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وبصحة الآخرة أمرين متلازمين] . قوله: {وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ} حال، وقدّم» على صلاتهم «لأجْلِ الفاصلة، وذكر أبو علي في» الروضة «، أنَّ أبا بكر قريأ» على صَلَواتِهِمْ «جمعاً والمراد بالمُحَافَظَةُ على الصلوات الخمس. فإن قيل: الإيمان بالآخرة يحمل كُلِّ الطاعات، فما الفائدة في تخصيص الصَّلاةِ؟ فالجواب: أن المَقْصُودَ التَّنْبيه على أن الصَّلاة أشْرَفُ العبادات بعد الإيمان بالله تعالى، ألا ترى أنه لم يقع اسم الإيمان على شَيءٍ من العبادات لاظاهرة، إلاَّ على الصلاة، كما قال تبارك وتعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143] أي: صلاتكم، ولم يقع اسم الكُفرِ على شيء من المَعَاصِ] إلاَّ على تَرْكَ الصلاة، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» مَنْ تَرَكَ الصَّلاة مُتَعَمِّداً فَقَدْ كَفَرَ «. فما اخْتُصَّت الصلاة بهذا النوع من التشريف خصها الله - تبارك وتعالى - بالذِّكْرِ هاهنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 لما بيَّن كون القرآن كتاباً نازلاً من عند الله، وبيَّن شَرَفَهُ ورِفْعَتَهُ ذكر بعده ما يَدُلُّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 286 على وعيد من ادَّعَى النبوة والرسالة كذباً وافتراءً. قال قتادةُ: نزلت هذه الآية في مسيلمة الكذَّاب الحَنَفِيّ صاحب «اليمامة» وفي الأسْودِ العنسي صاحب «صنعاء» كانا يدَّعيانِ الرِّسالة والنبوة من عند الله كذباً وافتراء، وكان مسيلمة يقول لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: محمد رسول قريش، وأنا رسول بني حنيفة. وقال أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «بَيْنَمَا أنَّا إذْ أوتيتُ خَزَائِنَ الأرْض، فَوُضِعَ في يَدَيَّ سِوارَانِ مِنْ ذَهَبٍ فكبرا عليَّ وأهمَّانِي، فأوحى اللَّهُ إليَّ أنْ أنفخهما فَذَهَبَا فأوَّلتهما الكذَّابَيْنِ اللَّذَيْنِ أنَا بَيْنَهمَا صاحبَ صَنْعاءَ وصاحِبَ يَمامَة» . قال القاضي: الذي يَفْتَري على الله الكذبَ يدخل فيه من يدَّعي الرسالة كَذِباً ولكن لا يقتصر عليه؛ لأن العِبْرَةَ بعموم اللفظ، لا بخصوص السَّبب. قال القرطبي: ومن هذا النمط من أعرض عن الفقه والسنن وما كان عليه السلف من السنن فيقول: وقع في خاطري كذا، أو أخبرني قلبي بكذا، فيحكمون بما وقع في قلوبهم ويغلب عليهم من خواطِرِهمْ، وزعمون أن ذلك لِصَفَائِهَا من الأكْدَارِ، وخلوها من الأغيار، فتتجلى لهم العلوم الإلهية، والحقائق الرَّبَّانِيَّة، فيقفون على أسرار الكليات، ويعلمون أحكام الجزئيات فَيْسْتَغُنُونَ بها عن أحكام الشَّرائع، ويقولون: هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأغبياء العامة، وأما الأولياء، وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النُّصوص. وقوله تعالى: «ومن أظلم» مبتدأ وخبر، وقوله: «كذباً فيه أربعة أوجه: أحدهما: أنه مفعول» افترى «أي: اختلق كذباً وافتعله. الثاني: أنه مَصْدرٌ له على المعنى، أي: [افترى] افتراءاً، وفي هذا نظر؛ لأن المعهود في مثل ذلك إنما هو فيما كان المَصْدرُ فيه نَوعاً من الفعل، نحو: قدع القُرْفُصَاءَ أو مُرَادفاً له ك» قعدت جلوساً «أما ما كان المصدر فيه أعم من فعله نحو: افترى كذباً، وتقرفصَ قعوداً، فهذا غير معهود، إذ لا فائدة فيه والكذب أعمُّ من الافتراء، وقد تقدَّم تحقيقه. الثالث: أنه مفعول من أجلِهِ، أي: افترى لأجل الكذبِ. الرابع: أنه مصدر واقع موقع الحال، أي: افترى حال كونه كاذباً، وهي حال مؤكدة. وقوله:» أو قال «عطف على» افترى «في محلِّ رفع لقيامه مقام الفاعل، وجوز أبو البقاء أن يكون القائم مقام الفاعل ضمير المصدر، قال: تقديره:» أوحى إليَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 287 الوحي «، أو الإيحاء. والأوّلأ أولى؛ لأن فيه فائدةً جديدةً، بخلاف الثاني فإن معنى المصدر مفهوم من الفعل قَبْلَهُ. قوله:» وَلَمْ يُوحَ إلَيْه «جملة حاليةٌ، وحذف الفاعل هنا تعظيماً له؛ لأن المُوحِي هو الله تعالى. قوله: «ومَنْ قَالَ» مجرور المَحَلّ؛ لأنه نَسَقٌ على «مَنْ» المجرور ب «من» أي: وممن قال، وقد تقدم نظير هذا الاستفهام في «البقرة: وهناك سؤال وجوابه. قوله {سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله} وقرا أبو حيوة:» سأنزّل «مضعفاً وقوله:» مثل «يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه مَنْصُوبٌ على المفعول به، أي سأنزل قرآناً مِثْلَ ما أن الله، و» ما «على هذا مَوصُولةٌ اسمية، أن نكرة موصوفة، أي: مثل الذي أنزله، أو مثل شيء أنزله. والثاني: أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، تقديره: سأنزل إنزالاً مثل ما أنزل الله، و» ما «على هذا مصدرية، أي: مثل إنزال الله. فصل في نزول الآية قيل: نزلت هذه الآيةُ الكريمة في عبد الله بن أبي سَرْحِ كان قد أسلم، وكان يكتب الوحي للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان إذا أملى عليه» سميعاً بصيراً «كتب عليماً حكيماً، وإذا أملى عليه» عليماً حكيماً «كتب» غفوراً رحيماً «فلما نزل قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] أمْلاَهَا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فعجب عبد الله من تفصيل خَلْقِ الإنسان، فلما انتهى إلى قوله: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 14] فقال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» اكتُبْهَا فَهَكَذَا نَزَلَتْ «فَشَكَّ عبد الله. فقال: لئن كان محمد صادقاً فقد أوحي إلي كما أوحي إليه فارتدَّ عن الإسلام، ولحق بالمشركين، ثم رجع عبد الله إلى الإسْلام قبل فتح» مكّة «المشرفة، إذ نزل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وغيره: يريد النَّضْرَ بن الحارثِ، والمستهزئين، وهو جواب لقولهم: {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} [الأنفال: 31] وقوله في القرآن: {إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} [الأنفال: 31] فكل أحمد يمكنه الإتيان [بمثله] . » وَلَوْ تَرَى «يا محمد» إذ الظالمون «و» إذا «منصوب ب» ترى «، ومَفْعُول الرؤية محذوف، أي: ولو ترى الكُفَّار الكذبةَ، ويجوز ألا يقدّر لها مفعول، أي: ولو كنت من أهل الرُّؤيةِ في هذا الوقتِ، وجواب» لو «محذوف، أي: لَرَأيْتَ أمراً عظيماً. و» الظالمون «يجوز أن تكون فيه» أل «للجنس، وأن تكون للعهد، والمراد بهم من تقدَّم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 288 ذكره من المشركين واليهود والكذبةِ المفترين و» في غَمَارتِ المَوْتِ «خبر المبتدأ، والجملة في مَحَلِّ خفض بالظَّرْفِ. و» الغَمَراتُ جمع «غَمْرة» وهي الشدة المفظعة وأصلها مِنْ غَمَرَةُ الماءُ إذا سَتَرَهُ، وغَمْرَةُ كلِّ شيء كثرته ومعظمه، ومنه غمرة الموت وغمرة الحرب. ويقال: غمرت الشيء إذا علاه وغطَّاه. قال الزَّجَّاج: يقال لكل من كان في شيء كثير: قد غَمَرَهُ ذلك وغمره الدَّيْنُ إذا كثر عليه، ثم يقال للمَكَارِهِ والشدائد: غمرات، كأنها تَسْتُرُ بغمرها وتنزل به قال في ذلك: [الوافر] 2234 - وَلاَ يُنْجِي مِنَ الْغَمَراتِ إلاَّ ... بَرَاكَاءُ القِتَالِ أو الفِراءُ ويجمع على «غُمَرَ» ك «عُمْرة» و «عُمَر» كقوله: [الوافر] 2235 - ... ... ... ... ... ..... وَحَانَ لِتَالِكَ الغُمَرِ انْقِشَاعُ ويروى «انحسار» . وقال الرَّغِبُ: أصل الغَمْرِ إزالةُ أثر الشيء ومنه قيل للماء الكثير الذي يزيل أثر سيله: غمر وغامر، وأنشد غير الراغب على غامر: [الكامل] 2236 - نَصَفَ النَّهَارُ المَاءُ غَامِرُهُ ... وَرَفِيقُهُ بالغَيْبِ لا يَدْرِي ثم قال: «والغمرة مُعْظَمُ الماء لِسَتْرِهَا مَقَرَّهَا، وجعلت مثلاً للجَهَالَةِ التي تغمر صاحبها» . والغَمْرُ: الذي لم يُجَرِّب الأمور، وجمعه أغْمَار، والغِمْرُ: - بالكسر - الحِقْدُ، والغَمْرُ بالفتح: الماء الكثير، والغَمَرُ بفتح الغين والميم: ما يغمر من رائحة الدَّسَم سائر الروائح، ومنه الحديث «مَنْ بَاتَ وفِي يَدَيْهِ غَمَرٌ» . وغرم يده، وغمر عرضه دنس، ودخلوا في غُمَارِ الناس وخمارهم، والغمرة ما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 289 يطلى به من الزَّعْفران، ومنه قيل للقدح الذي يتناول به الماء: غمر، وفلان مُغَامِرِ إذا رمى بنفسه في الحَرْبِ، إما لِتَوغُّلِهِ وخوضه فيه، وإما لِتَصَوُّر الغمار منه. قوله: «والملائِكَةُ بَاسِطُوا أيديهم» [جملة في محل نَصْبٍ على الحال من الضمير] المستكن في قوله: «في غمرات» ، و «أيديهم» خفض لفظاً، وموضعه نصب أي: باسطو أيديهم بالعذابِ يضربون وجُوهَهُمْ وأدبارهم وقوله «أخرجوا» منصوب المحل بقول مضمر، والقول يُضْمر كثيراً، تقديره: يقولون: أخرجوا، كقوله: {يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23، 24] أي: يقولون: سلام عليكم، وذلك القول المضمر في مَحَلِّ نصب على الحال من الضمير في «باسطو» . فإن قيل: إنه لا قُدْرَةَ لهم على إخْرَاجِ أرواحهم من أجسادهم، فما الفائدة في هذا الكلام؟ فالجواب: أن في تفسير هذه الكلمة وجوه: أحدهما: ولو ترى الظَّالمين إذ صاروا إلى غمراتِ الموْتِ في الآخرة، فأدخلوا جهنم، وغمراتُ الموت عِبَارةٌ عما يصيبتهم هناك من أنواع الشَّدائِدِ والعذاب، والملائكة باسطو أيديهم [عليهم بالعذابِ] يُبَكِّتُونَهُمْ بقولهم: أخرجوا أنفسكم من هذا العذابِ الشديد إن قدرتم. وثانيها: أن المعنى «ولو ترى إذ الظالمون في غمراتِ الموتِ» عند نزول الموت في الدنيا، والملائكة باسطو أيديهم لِقَبْضِ أرواحهم يقولون لهمك أخرجوا أنفسكم من هذه الشَّدائدِ، وخَلِّصُوهَا من هذه الآلام. وثالثها: «أخرجوا أنفسكم» [أي: أخرجوها إلينا] من أجسادكم، وهذه عبارة عن العُنْفِ والتشديد في إزْهَاقِ الروح من غير تنْفِيسٍ وإمهال كما يفعل الغريمُ الملازم المُلحُّ، ويقول: أخرج مَا لِي عَلَيْكَ السَّاعة، ولا أبرح من مكاني حتى أنْزعَهُ من أحْدَاقِكَ. ورابعها: أن هذه اللَّفظة كناية عن شِدَّةِ حالهم، وأنهم بلغوا في البلاء الشديد إلى حيث يتولَّى بنفسه إزْهَاقَ ورحه. خامسها: أنه ليس بأمر، بل هو وعيدٌ [وتقريع] كقول القائل: امضِ الآن لترى ما يحلُّ بك. قوله: «اليوم تُجْزَوْنَ» في هذا الظرف وجهان: أظهرهما: انه مَنْصُوبٌ ب «أخرجوا» بمعنى: أخروجوها من أبدانكم، فهذا القول في الدنيا، ويجوز أن يكون في يوم القيامةِ، والمعنى خَلَّصُوا أنفسكمن من العذابِ، كما تقدَّم، فالوقف على قوله: «اليوم» ، والابتداء بقوله: «تُجْزَونَ عذابَ الهُونِ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 290 والثاني: أنه منصوب ب «تجزون» والوقف حينئذ على «أنفسكم» ، والابتداء بقوله: «اليوم» والمراد ب «اليوم» يحتمل أن يكون وقتَ الاحتضار، وأن يكون يوم القيامة، و «عذاب» معفول ثانٍ، والأول قام مقام الفاعل. والهُون: الهَوَان؛ قال تعالى: {أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ} [النحل: 59] . وقال ذو الأصبع: [البسيط] 2237 - إذْهَبْ إلَيْكَ فَمَا أمِّي بِرَاعِيَةٍ ... تَرْعَى المخَاضَ ولا أغْضِي على الهُونِ وقالت: الخَنْسَاءُ: [المتقارب] 2238 - يُهِينُ النُّفُوسَ وهُونُ النُّفُو ... سِ يَوْمَ الكَرِيهَةِ أبْقَى لَهَا واضاف العذابَ إلى الهُونِ إيذاناً بأنه متمكنٌ فيه، وذلك إنه ليس كل عذاب يكون فيه هُونٌ؛ لأنه قد لا يكون فيه هُونٌ، لأنه قد يكون على سبيل الزَّجْرِ والتأديب ويجوز أن يكون من إضافة الموصوف إلى صفته، وذلك أن الأصْلَ العذاب الهُون وصف به مُبَالغَة، ثم أصافه إليه على حَدِّ إضافته في قولهم: بَقْلَةُ الحمقاَءِ ونحوه، ويدل عليه أن الهُونَ بمعنى قراءة عبد الله وعكرمة كذلك. و «الهَوْن» بفتح الهاء: الرِّفْقُ والدَّعة؛ قال تبارك وتعالى: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] . واعلم أنه - تبارك وتعالى - جمع هناك بين الإيلامِ والإهانَةِ، فكما أن الثواب شَرْطُهُ أن يكون منْفَعَةً معروفة بالتعظيم، فكذا العقاب شرطه أن يكون مَضَرَّةً مقرونة بالإهانِةِ. قوله: «بِمَا كُنْتُمْ» «ما» مصدرية، أي: بكونكم قائلين غير الحقَّ، وكونكم مستكبرين و «الباء» متعلقة ب «تجزون» أي: بسببه، و «غير الحق» نصبه من وجهين: أحدهما: أنه مفعول به، أي تذكرون غير الحق. والثاني: أنه نَعْتُ مَصْدَرٍ محذوف، أي: تقولون القول غير الحق. وقوله: «وكنتم» يجوز فيه وجهان: أظهرهما: أنه عطف على «كنتم» الأولى، فتكون صَلَةً كما تقدم. والثاني: أنها جملة مُسْتَأنَفَة سيقت للإخبار بذلك و «عن آياته» متعلّق بخبر «كان» ، وقدم لأجل الفواصل، والمراد بقوله: «كنتم عن آياته تَسْتَكِبرُونَ» أي: تَتَعَظَّمُونَ عن الإيمان بالقرآن لا تُصَدِّقُونَهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 291 وذكر الواحدي أي: لا تُصَلُّونَ له، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ سَجَدَ [لِلَّهِ سَجْدَةً] بيِنَّةٍ صَادِقَةٍ فَقَدْ بَرِئَ مِنَ الكِبْرِ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 «فُرَادَى» منصوب على الحال من فاعل «جِئْتُمُونَا» ، و «جئتمُونَا» فيه وجهان: أحدهما: أنه بمعنى المستقبل، أي: تجيئوننا، وإنما أبرزه في ورة الماضي لِتَحَقُّقِهِ كقوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] {ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44] . والثاني: أنه ماضٍ، والمراد به حكاية الحال بين يدي الله - تعالى - يوم يُقال لهم ذلك، فذلك اليوم يكون مجيئهم ماضياً بالنسبة إلى ذلك اليَوْمِ. واختلفوا في قول هذا القَائِل، فقيل: هو قول الملائكة المُوَكَّلِينَ بعقابهم. وقيل: هو قول الله تعالى، ومنشأ هذا الخلاف أن الله - تبارك وتعالى - هل يَتَكَلَّمُ مع الكُفَّارِ أم لا؟ فقوله تبارك وتعالى في صفة الكفار: «وَلاَيُكَلِّمُهُم» يوجب ألاَّ يتكمل معهم، فلهذا السبب وقع الاخْتِلافُ، والأول أقوى؛ لأن هذه الآية الكريمة معطوفة على ما قبلها، والعطف يوجب التَّشْرِيكَ. واختلفوا في «فُرَادَى» هل هو جمع أم لا، والقائلون بأنه جَمْعٌ اختلفوا في مُفْرَدِهِ: فقال الفراء: «فُرَادى» جمع «فَرْد وفَرِيد وفَرَد وفَرْدَان» فجوز أن يكون جَمْعاً لهذه الأشياء. وقال ابن قُتَيْتَةَ: هو جمع «فَرْدانَ» كسَكْرَانَ وسُكَارَى وعَجْلان وعُجالى. وقال قوم: هو جمع فَرِيد كَرَدِيف ورُدَافى، وأسِير وأسَارى، قال الراغب، وقال: هو جمع «فَرَد» بفتح الراء، وقيل بسكونها، وعلى هذا فألفها للتأنيث كألف «سُكَارى» و «أسارى» فيمن لم يتصرف. وقيل: هو اسم جمع؛ لأن «فرد» لا يجمع على فُرَداى فرد أفراد، فإذا قلت: جاء القوم فُرَادة فمعناه واحداً واحداً. قال الشاعر: [الطويل] 2239 - تَرَى النُّعَراتِ الزُّرْقَ تَحْتَ لِبَانِهِ ... فُرَادَى وَمَثْنَى أثْقَلَتْهَا صَوَاهِلُهْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 292 ويقال: فَرِدَ يَفْرُدُ فُرُوداً فهو فَارِدٌ، وأفردته أنا، ورجل أفْردُ، وامرأة فَرْدَاءُ كأحمر وحمراء، والجمع على هذا فُرْدٌ كحُمْر، ويقال في فُرَادى: «فَرَاد» على زِنَةِ «فعال» ، فينصرف، وهي لغة «تميم» وبها قرأ عيسى بن عمر، وأبو حيوة: «وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فَرَاداً» وقال أبو البقاء: وقرئ بالشاذ بالتنوين على أنه اسم صحيح، فقال في الرفع فُرَادٌ مثل: «تُؤام ودخال وهو جمع قليل» . انتهى. ويقال أيضاً «جاء القوم فُرَادَ غير منصرف، فهو كَأحاد ورُبَاع في كونه معدولاً صفة، وهو قرءاة شاذّة هنا. وروى خارجة عن نافع، وأبي عمرو كليهما أنهما قرأ» فُرَادَى «مثل سُكَارَى» اعتباراً بتأنيث الجماعة، كقوله تبارك وتعالى: {وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى} [الحج: 2] فهذه أربع قراءات مشهورة، وثلاث في الشواذ فراداً كأحاد، فَرْدَى كَسَكْرَى. قوله: «كَمَا خَلَقْناكُمْ» في هذه أوجه: أحدها: أنها مَنْصُوبَةُ المحل على الحال من فاعل «جئتمونا» فمن أجاز تَعَدُّدَ الحال أجاز من غير تأويل، ومن منع ذلك جعل «الكاف» بدلاً من «فُرَادَى» . الثاني: أنها في مَحَلِّ نصب نَعْتاً لمصدر محذوف، أي: مجيئاً مثل مجيئكم يوم خلقناكم، وقجره مكي: منفردين انفراداً مثل حالكم أول مرة، والأوّل أحسن؛ لأن دلالة الفعل على المَصْدَرِ أقوى من دلالة الوَصْفِ عليه. الثالث: أن «الكاف» في مَحَلِّ نصب على الحال من الضمير المُسْتكنِّ في «فُرَادى» ، أي: مشبهين ابتداء خلقكم، وكذا قَدَّرهُ أبو البقاء، وفيه نظر؛ لأنهم لم يشبهوا بابتداء خلقهم، وصوابه أن يقدر مُضَافاً أي: مشبهة حالكم حال ابتداء خلقكم. قوله: «أوَّلَ مَرَّة» مَنْصُوبٌ على ظرف الزمان، والعامل فيه «خلقناكم» ، و «مرة» في الأصل مصدر ل «مَرَّ يَمُرُّ مَرَّةً» ثم اتُّسِعَ فيها، فصارت زماناً. قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا يَدُلُّ على قوة شبه الزمان بالفعل» . وقال أبو حيان: «وانتصب» أوَّل مرة «على الظرف، أي: أول زمان ولا يتقدَّر أوّل خلق؛ لأن أول خلق يستدعي خَلْقاً ثانياً، إنما ذلك إعادة لا خَلْقٌ» . يعني: أنه لا يجوز أن يكون المرَّة على بابها من المَصْدَريَّةِ، ويقدر أوّل مرة من الخَلْقِ لما ذكر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 293 قوله: «وتَرَكْتُمْ» فيها وجهان: أحدهما: إنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل «جئتمونا» ، و «قد» مضمرة على رأي الكوفيين أي: وقد تركتم. والثاني: أنها لا مَحَلَّ لها لاستئنافها، و «ما» مفعولة ب «ترك» ، وهي موصولة اسمية، ويضعف جعلها نَكِرَةً موصوفة، والعائد محذوف، أي: ما خَولناكُمُوهُ، و «ترك» متعدية لواحد؛ لأنها بمعنى التخلية ولو ضمنت معنى «صيَّر» تعدَّت لاثنين، و «خوَّل» يتعدَّى لاثنين؛ لأنه بمعنى «أعطى وملك» ، والخول ما أعطاه الله من النِّعم. قال أبو النجم: [الرجز] 2240 - كُومِ الذُّرَى مِنْ خَوَلِ المُخَوَّل ... فمعنى: خولته كمن أملكته الخول فيه كقولهم: خوَّلته، أي: ملكته المال. وقال الرَّاغب: التَّخْوِيلُ في الأصل إعطاء الخول. وقيل: إعطاء ما يصير له خولاً وقيل: إعطاء ما يحتاج أن يتعهَّدَهُ من قولهم: «فلان خال ما وخايل مال أي حسن القيام عليه» . وقوله: «وَراءَ ظُهُورِكُمْ» متعلّق ب «تركتم» ويجوز أن يضمن «ترك» هنا معنى «صيَّر» ، فيتعدى لاثنين: أولهما الموصول، والثاني هذا الظرف متعلّق بمحذوف، اي: وصيّرتم بالتَّرْكِ الذي خَوَّلناكموه كائناً وراء ظهوركم. قوله تعالى: «وَمَا نَرَى» الظَّاهر أنه المُتعدِّية لواحد، فهي بصرية، فعلى هذا يكون «معكم» متعلّق ب «نرى» ، ويجوز أن يكون بمعنى «علم، فيتعدى لاثنين، ثانيهما هو الظرف، فيتعلّق بمحذوف، أي: ما نراهم كائنين معكم، أي مصاحبتكم. إلاَّ ان أبا البقاء اسْتَضْعَفَ هذا الوجه، وهو كما قال؛ إذ يصير المعنى: وما يعلم شُفَعَاءكم معكم، وليس المعنى عليه قطعاً. وقال أبو البقاء - رحمه لله -: «ولا يجوز أن يكون أي معكم حالاً من» الشفعاء «؛ إذ المعنى يصير أن شفعاءهم معهم ولا تراهم» . وفيما قاله نظرٌ لا يخفى، وذلك أن النفي إذا دخل على ذاتٍ بِقَيْدٍ، ففيه وجهان: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 294 أحدهما: نفي تلك الذّات بقيدها. والثاني: نفي القَيْد فقط دون نَفْي الذَّات. فإن قلت «ما رأيت زيداً» ضاحكاً «، فيجوز أن لم تَرَ زَيْداً ألبَتَّة، ويجوز أن رأيته من غير ضِحْكٍ، فكذا هاهنا، إذ التقدير: وما نرى معكم شفعاءكم مصاحبيكم، يجوز أن لم يروا الشفعاء ألْبَتَّة، ويجوز أن يَرَوْهُمْ دون مُصَاحبتهم لهم، فمن أين يلزم انهم يكونون معهم، ولا يرونهم من هذا التركيب، وقد تقدم تَحْقِيقُ هذه القاعدة في أوائل سورة» البقرة «في قوله: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} [البقرة: 273] . و» أنهم «سد مَسَدَّ المفعولين ل» زعم «و» فيكم «متعلق بنفس شركاء، والمعنى: الذين زعمتم أنهم شركاء الله فيكم، أي في عبادتكم، أو في خلقكم، لأنكم أشركتموهم مع الله - تعالى - في عبادتكم وخلقكم. وقيل» في «بمعنى» عند «، ولاحاجة إليه. وقيل: المعنى أنه يتحملون عنكم نَصِيباً من العذاب، أي: شركاء في عذابكم إن كنت تعتقدون فيهم أنكم إذا أصابتكم نَائِيَةٌ شاركوكم فيها. فصل في معنى الآية معنى الاية الكريمة: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّل} حُفَاةً عُرَاةً، وخلَّفتم ما أعطيناكم من الأموال والأولاد والخَدَم خلف ظهوركم في الدنيا، وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شُرَكَاءُ، وذلك أن المشركين زعموا أنه يعبدون الأصْنَامَ؛ لأنهم شركاء اللهن وشفعاؤهم عنده، والمراد من الآية التَّقْريع والتوبيخ، وذلك لأنهم صرفوا جدَّهم وجهدهم إلى تحصيل المال والجاهِ، وعبدوا الأصنام لاعقادهم أنها شفعاءهم عند الله تبارك وتعالى، ثم أنهم لما وردوا مَحْفَلَ القيامة لم يَبْقَ لهم من تلك الأموال شيء، ولم يجدوا من تلك الأصنام شَفَاعَةً فبقوا فرادى على كل ما حَصَّلُوهُ في الدنيا، وعَوَّلُوا عليه، بخلااف أهل الإيمان، فإنهم صرفوا هَمَّهُمْ إلى الأعمال الصالحة، فَبَقِيَتْ معهم في قبورهم، وحضرت معهم في مَحْفَل القيامة، فهم في الحقيقة ما حضروا فرادى. قوله» لقد تقطَّع بَيْنَكُم «قرأ نافع، والكسائي، وعاصم في رواية حفْص عنه» بَيْنَكُمْ «نَصْباً، والباقون» بَيْنُكُمْ «رفعاً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 295 فأما القراءة الأولى ففيها سبعة أوجه: أحدها، وهي أحسنها: أن الفاعل مضمر يعود على الاتِّصالِ، والاتصال وإن لم يكن مذكوراً حتى يعود عليه ضمير، لكنه تقدم ما يَدُلُّ عليه، وهو لفظ» شركاء «، فإن الشركة تشعر بالاتِّصَالِ، والمعنى: لقد تقطع بينكم الاتصال على الظرفية. الثاني: أن الفاعل هو «بينكم» ، وإنما بقي على حالِهِ منصوباً حَملاً له على أغلب أحواله، وهو مذهب الأخفش، وجعلوا من ذلك أيضاً قوله: {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} [الحج: 17] فيمن بناه إلى المفعول، وكذا قوله تعالى: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ} [الجن: 11] [قال الواحدي: كما رجى في كلامهم] منصوباً ظرفاً، تركوه على ما يكون عليه في أكثر الكلام ثم قال في قوله: {وَمِنَّا دُونَ ذَلِك} [الجن: 11] ف «دُونَ» في موضع رفع عندهم، وإن كان مصنوب اللفظ، ألا ترى أنك تقول: منا الصالحون، ومنا الظالمون، إلا ان الناس لما حَكَوْا هذا المَذْهَبَ لم يتعرَّضُوا على هذا الظرف، بل صرحوا بأنه مُعْرَبٌ، وهو مرفوع المحل قالوا: أو إنما بقي على انْتِصَابِه اعتباراً بأغلب أحواله في كلام أبي حيان، لما حكى مذهب الأخفش ما يصرح بأنه مَبْنِيُّ، فإنه قال: وخرجه الأخفشُ على أنه فاعل، ولكنه مبي حَمْلاً على أكثر أحوال هذا الظَّرْفِ، وفيه نظر؛ لأن الذي لا يَصْلُحُ أن يكون عِلَّة البناء، وعِلَل مَحْصُورةٌ ليس هذا منها. ثم قال أبو حيان: «وقد يُقَالُ لاضافته إلى مبني كقوله {وَمِنَّا دُونَ ذَلِك} [الجن: 11] وهذا ظاهرٌ في أنه جعل حَمْلهُ على أكثر أحواله عِلَّةً لبنائه كما تقدم» . الثالث: أن الفاعلَ محذوفٌ و «بينكم» صِفَةٌ له قامت مُقامَهُ، تقديره: لقد تقطع وصْلُ بينكم، قاله أبو البقاء، وردَّه أبو حيان بأن الفاعل لا يُحْذَفُ، وهذا غير ردِّ عليه، فإنه يعني بالحذف عدمَ ذكره لفظاً وأن شيئاً قام مقامه، فكأنه لم يحذف. وقال ابن عطيَّة: «ويكون الفعل مُسْنداً إلى شيء محذوف، أي: لقد تقطَّع الاتِّصالُ بينكم والارتباط ونحو هذا» . وهذا وجه وَاضِحٌ، وعليه فَسَّر الناس، وردَّه أبو حيان لما تقدم، ويجاب عنه بأنه عبر بالحذف عن الإضمارِ، لأن كلاً منهما غير مَوْجُودٍ لفظاً. الرابع: أنه «بينكم» هو الفاعل، وإنما بني لإضافته إل ىغير مُتَمكنٍ، كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُون} [الذاريات: 23] بفتح «مِثْلَ» ، وهو تابع ل «حق» المرفوع، ولكنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 296 بني لإضافته إلى غير متمكِّن، وسيأتي في مكانه، ومثله قول الآخر في ذلك: [الرمل] 2241 - تَتدَاعَى مَنْخِرَاهُ بِدَمٍ ... مِثْلَ مَا أثْمَرَ حُمَّاضُ الجَبَلْ بفتح «مثل» مع أنها تَابِعَةٌ ل «دم» ، ومثله قول الآخر: [البسيط] 2242 - لَمْ يَمْذَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أنْ نَطَقَتْ ... حَمَامَةٌ فِي غُصُونٍ ذاتِ أوْقَالِ بفتح «غير» ، وهي فاعل «يمنع» ، ومثله قول النابغة: [الطويل] 2243 - أتَانِي أبَيْتَ اللَّعْنَ أنَّكَ لُمْتَنِي ... وتِلْكَ الَّتِي تَسْتَكُّ مِنْهَا المَسَامِعُ مَقَالَةَ أَنْ قَدْ قُلْتَ: سَوْفَ أَنَالُه ... ُ وَذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ مِثْلِكَ رَائِعُ ف «مقالة» بدل من «أنَّك لُمْتَنِي» ، وهو فاعل، والرواية بفتح تاء «مَقَالة» لإضافتها إلى «أن» وما في حيِّزهَا. الخامس: أن المَسْألةَ من باب الإعْمَالِ، وذلك أن «تَقَطَّع» و «ضَلَّ» كلاهما يَتَوجَّهلان على «مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» كل منهما يطلبه فاعلاً، فيجوز أن تكون المَسْألَةُ من باب إعمال الثاني، وأن تكون من إعمال الأوَّل، لأنه ليس هنا قرينة تُعَيِّنُ ذلك، إلا أنه تقدم في «البقرة» أن مذهب البصريين اخْتِيَارُ إعمال الثاني، ومذهب الكوفيين بالعكس، فعلى اختيار البصريين يكون «ضَلَّ» هو الرافع ل «ما كُنْتُمْ تَزْعُمُون» واحتاج الأول لفاعل فأعطيناه ضميره فاسْتَتَر فيه، وعلى اختيار الكوفيين يكون «تقطَّع» هو الرافع ل «مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ» ، وفي «ضلَّ» ضمير فاعل به، وعلى كلا القولين ف «بينكم» منصوب على الظَّرْف، وناصبه «تَقطَّع» هو الرافع. السادس: أن الظرف صِلَةٌ لموصول محذوف تقديره: تقطَّع ما بينكن، فحذف الموصول وهو «ما» وقد تقدَّم أن ذلك رأى الكوفيين، وتقدم ما استشهدوا به عليه من القرآن، وأبيات العرب، واستتدلَّ القائل بذلك بقول الشاعر حيث قال في ذلك: [الطويل] 2244 - يُدِيرُونَنِي عَنْ سَالِمٍ وأديرُهُمْ ... وجِلْدَةُ بَيْنَ الأنْفِ والعَيْنِ سَالِمُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 297 وقول الآخر في ذلك: [البسيط] 2245 - مَا بَيْنَ عَوْفٍ وإبْرَاهِيمَ مِنْ نَسَبٍ ... إلاَّ قَرَابَةُ بَيْنَ الزَّنْجِ والرُّومِ تقديره: وَجِلْدةُ ما بين، وإلاَّ قرابة ما بَيْن، ويدل على ذلك قراءة عبد الله، ومجاهد، والأعمش: «لقد تَقطَّع ما بينكم» . السابع: قال الزمخشري: «لَقَدْ تقطَّعَ بينكم» : لقد وقع التَّقَطُّع بينكم، كما تقول: جمع بين الشَّيْئْينِ، تريد أوقع الجمع بينهما على إسناد الفعل إلى مصدره بهذا التأويل قول حَسَنٌ، وذلك لأن لو أضمر في «تقطّع» ضمير المصدر المفهوم منه لصار التقدير: تقطع التَّقطُّع بينكم، وإذا تقطَّع التقطع بينهم حصل الوَصْلُ، وهذا ضدُّ المقصود، فاحتاج أن قال: إن الفعل أسند إلى مصدره بالتأويل المذكور، إلا أن أبا حيَّان اعتراضه، فقال: «فظاهره أنه ليس بِجيِّدٍ، وتحريره أنه أسند الفِعْلَ إلى ضمير مصدره فأضمره فيه؛ لأنه إن أسْنَدَهُ إلى صريح المصدر، فهو محذوف، ولا يجوز حذف الفاعل، ومع هذا التقدير فليس بِصَحيح؛ لأن شَرْطَ الإسناد مفقود فيه، وهوتغاير الحكم والمحكوم عليه؛ يعني: أنه لا يجوز أن يتَّحدَ الفعل والفاعل في لَفْظٍ واحد من غير فائدة، لا تقول: قام القائم، وذلك لا يجوز، مع أنه يلزم عليه أيضاً فَسَادُ المعنى كما تقدم منه أنه يَلْزَمُ أن يحصل لهم الوَصْلُ» . قال شهاب الدِّين: وهذا الذي أورده الشَّيْخُ لا يرد لما تقدَّم من قوله الزمخشري على إسناد الفعل إلى مصدرِهِ بهذا التأويل، وقد تقدَّم ذلك التأويل. وأما القراءة الثانية ففيها ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه اتُّسِعَ في هذا الظرف، فأسْنِدَ الفعل إليه، فصار اسماً كسائر الأسماء المتصرف فيها، ويدُلُّ على ذلك قوله تعالى: {وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} [فصلت: 5] فاسْتعمَلَهُ مجرواً ب «مِنْ» وقوله تعالى: {فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] {مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} [الكهف: 61] {شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} [المائدة: 106] وحكى سيبويه: «هُوَ أحْمَرُ بَيْنِ العَيْنينِ» الجزء: 8 ¦ الصفحة: 298 وقال عنترة: [الكامل] 2246 - وَكَأنَّمَا أقِصُ الإكَامَ عَشِيَّةً ... بِقَريبِ بَيْنِ المَنْسِمَيْنِ مُصَلَّمِ وقال مهلهل: [الوافر] 2247 - كَأنَّ رَِمَاحَنَا أشْطَانُ بِئْرٍ ... بَعِيدَةِ بَيْنِ جَالَيْهَا جَرُورِ فقد استعمل في هذه المواضع كلها مُضَافاً إليه متصرّفاً فيه، فكذا هنا، ومثله قوله: [الطويل] 2248 - ... ... ... ... ... ... . ... وَجِلْدَةُ بَيْنِ الأنْفِ والعَيْنِ سَالِمُ وقوله في ذلك: [البسيط] 2249 - ... ... ... ... ... ... ... ..... إلاَّ قَرَابَةُ بَيْنِ الزَّنْجِ والرُّومِ وقول القائل في ذلك: [الطويل] 2250 - وَلَمْ يَتْرُكِ النَّبْلُ المُخَالِفُ بَيْنُهَا ... أخاً لاَحَ [قَدْ] يُرْجَى وَمَا ثَوْرَةُ الهِنْدِ يروى برفع «بينهما» وفتح على أنها فعل ل «مُخَالف» ، وإنما بُنِيَ لإضافتِهِ إلى ذلك ومثله في ذلك: «أمام» و «دون» ، كقوله: [الكامل] 2251 - فَغَدَتْ كِلاَ الفَرْجَيْنِ تَحْسِبُ أنَّهُ ... مَوْلَى المخَافَةِ خَلْفُهَا وأمَامُهَا برفع «أمام» ، كقول القائل في ذلك: [الطويل] 2252 - ألَمْ تَرَ أنِّي قَدْ حَمَيْتُ حَقِقَتِي ... وبَاشَرْتُ حَدَّ والمَوْتِ والمَوْتُ دُونُهَا برفع «دون» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 299 الثاني: أن «بين» اسم غير ظَرْفٍ، وإنم منعناها الوَصْل، أي: لقد تقطَّع وصلكم. ثم للناس بعد ذلك عبارتان تؤذن بأن «بَيْنَ» مصدر «بان يبينُ بَيْنَاً» بمعنى «بَعْدَ» ، فيكون من الأضْدَاد، أي: إنه مشترك اشتراكاً لفظياً يستعمل للوصل والفراق ك «الجون» للأسود، والأبيض، ويعزى هذا لأبي عمرو، وابن جني، والمهدوي، والزهري، وقال أبو عبيدة: وكان أبو عمرو يقول: معنى «تقطع بينكم» تقطع فصارت هنا اسماً بغير أن يكون معها «ما» . قوال الزجاج: والرفع أجود، ومعناه: لقد تقطع وصلكم، فقد أطلق هؤلاء أن «بين» بمعنى الوصل، والأصل في الإطلاق الحقيقة، إلا ان ابن عطية طعن فيه، وزعم أنه لم يسمع من العرب البَيْن بمعنى الوَصْل، وإنما انتزع ذلك من هذه الآية الكريمة، لو أنه أري باالبين الافْتِرَاقُ، وذلك عن الأمر البعيد، والمعنى: لقد تقطعت المسافةُ بينكن لطولها، فعبر عن ذلك بالبين. قال شهاب الدين: فظاهر كلام ابن عطية يُؤذِنُ بأنه فهم أنها بمعنى الوَصْل حقيقة، ثم ردَّهُ بكونه لم يسمع من العرب، وهذا منه غير مرضٍ، لأن أبا عمرو وأبا عبيد وابن جني، والزهراوي، والمهدوي، والزجاج أثمة يقبل قولهم. وقهل: «وإنما انتزع من هذه الآية» ممنوع، بل ذلك مفهوم من لُغَةِ العرب، ولم لم يكن مَنْ نقلها إلا أبو عمرو لكفى به، وعبارته تُؤذِنُ بأنه مجازٌ، ووجه المجاز كما قال وصداقَةٌ «صارت لاستعمالها في هذه المواضع بمعنى الوَصْلةِ، وعلى خلاف الفُرْقَةِ، فلهذا جاء:» لَقَدْ تَقَطَّع وَصْلكُم «وإذا تَقدَّرَ هذا، فالقول بكونه مجازاً أولى من القول بكونه مشتركاً؛ لأنه متى تعارضَ الاشتراك والمجاز، فالمجاز خير منه عند الجمهور. وقال أبو علي أيضاً: وَيُدلُّ على أن هذا المرفوع هو الذي استعمل ظرفاً أنه لا يخلو من أن يكون الذي هو مَصْدَرٌ، فلا يجوز أن يكون هذا القِسْم؛ لأن التَّقدير يصير: لقد تقطَّع اقْتِرَاقكم، وهذا خلاف المقصد، والمعنى أي: ألا ترى أن المراد وَصْلُكُمْ، وما كُنْتُم تتآلَفُون عليه. فإن قلت: كيف جَازَ أن يكون بِمَعْنى: الوَصْلِ، وأصله: الافْتِرَاقُ، والتَّبَايُنُ. قيل: إنه لما استُعمل مع الشَّيْئَيْنِ المُتلابسيْنِ في نحو:» بيْنِي وبيْنَك شَرِكَة «فذكر ما تقدَّم عنه من وَجْهِ المجازِ. وأجاز أبو عُبَيْدَة، والزَّجَّاج، وجماعة: قراءة الرفع، قال أبو عبيدة: وكذلك الجزء: 8 ¦ الصفحة: 300 يَقْرؤُها بالرفع؛ لأنَّا قد وَجدنا العرب تجعل» بَيْنَ «اسماً من غَيْر» مَا «، ويُصدِّقُ ذلك قوله تعالى: {بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} [الكهف: 61] فجعل» بَيْنَ «اسماً من غير» ما «، وكذلك قوله - تبارك وتعالى -: {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} [الكهف: 78] قال:» وقد سَمِعْنَاهُ في غير موضع من أشْعارِهَا «ثمَّ ذكر ما ذركته عن ابني عمرو بن العلاء، ثمَّ قال:» وقرأها الكسَائيُّ نصباً «وكان يعتبرها بحرف عبد الله:» لقد تقطَّع ما بينكم «. وقال الزَّجَّاج: والرَّفْع أجودن والنَّصْب جَائِز، والمعنى:» لقد تقطَّع ما كان من الشَّركة بَيْنكم «. الثالث: أن هذا الكلام مَحْمُولٌ على مَعْنَاه؛ إذ المعنى: لقد تَفَرَّقَ جَمْعُكُم وتشتت، وهذا لا يَصْلُح أن يكون تفسير إعرابٍ. قوله:» مَا كُنتُمْ «» ما «يجوز أن تكون مَوْصولةً اسميَّةً، أو نكرة موصوفة، أو مصدريَّة، والعائد على الوجْهَيْن الأوَّلَيْن محذوفٌ، بخلاف الثُّالِث فالتَّقْدِير: تزعمونَهُم شُرَكَاءَ أو شُفَعَاء؛ فالعَائِد هو المفعُول الأوّل، وشركاء هو الثُّاني؛ فالمَفْعُولان مَحْذُوفانِ اختصاراً؛ للدلالةِ عليهما إن قُلْنَا: إنَّ» ما «موصولة اسميَّة، أو نكرة موصُوفَةً، ويجُوز أن يكون الحَذْفُ اختصاراً؛ إن قلنا: إنَّها مصدريَّة؛ لأن المصدريَّة لا تحتاج إلى عائد، بخلاف غيرها، فإنَّها تَفْتَقِرُ إلى عائدٍ، فلا بد من الالتِفَاتِ إلَيْه، وحينئذ يَلْزَمُ تَقْديرُ المفعُول الثُّاني، ومن الحذف اختصاراً: [الطويل] 2253 - بأيِّ كِتَاب أمْ بأيَّةِ سُنَّةٍ ... تَرَى حُبُّهُمْ عَاراً عليَّ وتَحْسِبُ؟ أي: تحسب حُبَّهُم عاراً عليَّ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 لما قرر التَّوحْيد وأرْدَفَهُ بتَقْرير أمر النُّبُوَّةِ، وتكلَّم في بعض تفَاريع هذا الأصْل، عاد إلى ذِكْرِ الدَّلائل الدَّالةِ على وجُود الصَّانِع، وكمال قدرته، وحِكْمَتِه، وعلمه، تَنْبِيهاً على أنَّ المَقْصُودَ الأصْلِيَّ من جميع المَبَاحِثِ والعَقْلِيَّة، والنقلية: مَعْرِفَةُ الله بذاته، وصِفَاتِهِ، وأفعاله. قوله: «فَالِقُ الحَبِّ» : يجوز أن تكون الإضافة مَحْضَةً، على أنَّها اسم فاعل بمعنى الماضي؛ لأنَّ ذلك قد كان، ويَدُلُّ عليه قراءة عبد الله: «فَلَقَ» فعلاً ماضياً، ويجُوز أن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 301 تكون الإضافةَ غير مَحْضَةٍ، على أنه بِمَعنْى الحال والاستقبال، وذلك على حِكَاية الحال؛ فيكون «الحَبِّ» مجرُورَ اللَّفْظِ منصوب المحلِّ، و «الفَلْقُ» : هو شَقُّ للشيء، وقيده الرَّاغب بإبَانَةِ بَعْضِه من بَعْص، والفَلَق المُطْمِئنُّ من الأرض بَيْن الرُّبُوَتين «والفَلَق» من قوله - تعالى -: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الفلق} [الفلق: 1] : ما علَّمه الله لمُوسَى - عليه السَّلام - حتى فَلَق البَحْر له. وقيل: الصُّبْح، وقيل: هي الأنْهَار المُشَار إليها بقوله - تعالى -: {وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً} [النمل: 61] . والفِلْقُ بالكَسْرِ بمعنى: المَفْلُوق كالنكث والنِّقْض، ومنه: «سَمِعْتُه من فِلْقٍ منه» . وقيل: الفِلْقُ العَجَبُ [وقيل: ما يُتَعَجَّبُ منه. قال الرَّاجِز في ذلك: [الرجز] 2254 - وَاعَجَباً لهذه الفَليقَهْ ... هَلْ تُذْهِبَنَّ القُوَباءَ الرِّيقَهُ] والفالِقُ والفَليق: ما بين الجَبَلَيْنِ، وما بَيْن السَّنَامَيْنِ البعير. وفسَّر بعضهم «فالق» هنا، بمعنى: «خَالِق» . قيل: ولا يُعْرَفُ هذا لُغَةً، وها لا يُلْتضفَتُ إليه؛ لأن هذا مَنْقُولٌ عن ابْن عباس، والضَّحَّاك أيضاً، لا يُقال ذلك على جِهَةِ التَّفْسير للتقريب؛ لأن الفرَّاء نقل في اللُّغَة: أن «فَطَرَ وخَلَقَ وفَلَقَ» بمعنى وَاحِد. [و «النَّوَى» ] : اسم جِنْس، مُفْرَد «نواة» ، على حدّ «قَمْح وقَمْحَ» ، والنَّوَى: البُعْد أيْضاً. ويُقال: نوت البُسْرَةُ وأنْوَتْ، فاشتدَّت نَوَاتُهَا، ولام «النَّواة» بانقلاب عَيْنِها واواً والأكثر التَّغَاير. فصل في معنى الآية قال ابن عبَّاسن والضَّحَّاك، ومُقاتِل: «فالِقُ الحَبِّ والنَّوَى» : خَالِقُ الحَبِّ. قال الواحدي: ذّهّبُوا ب «فالق» مَذهب «فاطر» ، وقد تقدَّم عن الفرَّاءِ نَقْلُه ذلك لُغَةً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 302 وقال الحسن، وقتادة، والسُّدِّيُّ: معناه: الشَّق، أي: يشق الحَبَّة من السُّنْبُلَةِ، والنَّواة عن النَّخْلَةِ، فيخرجُهَا مِنها. وقال الزَّجَّاج: يَشُقُّ الحبة اليَابِسَة، والنُّواة اليَابِسَة، فيُخْرِجُ منها وَرَقاً أخْضَرَ. وقال مُجَاهد: يعني الشَّقَّيْنِ اللذين فيهما، أي: يَشُقُّ الحبَّ عن النَّباتِ، ويخرجُه مِنْهُ ويشقُّ النَّوَى عن النَّخْلِ، ويُخْرِجُهَا منها، و «الحب» جمع حبَّة «، وهو اسمٌ لجميع البُذُورِ والحُبُوب من البُرِّ، والشَّعير، والذُّرَة، وكل ما لَمْ يُؤكَل حَبَّا، كالتَّمْرِ والمشمشِ، والخوخ، ونَحْوها. وقال بان الخطيب: إن الشيء قبل دُخُوله في الوُجُودِ، كان مَعْدُوماً مَحْضاً، ونَفْياً صِرْفاً، فإذا أخْرَجَهُ المُوجِدُ من العدم إلى الوُجُودن فكأنَّه بحسب التَّخَيُّلِ والتَّوَهُّم، شَقَّ ذّلِكَ العَدَمِ، وفَلَقَهُ، وأخْرَج ذلك المُحْدَثَ من ذَلِكَ الشَّقِّ، فبهذا التَّأويل لا يَبْعد حَمْلُ الفَالِق على المُوجِدِ، والمُحْدِث المُبْدِع. فإذا عَرَفْت ذلك فَنَقُولُ: إذا وقَعت الحَبَّةُ، أو النَّوَاةُ في الأرْضِ الرَّطِبَةِ، ثم مَرًّ عليه مُدَّةٌ، أظْهَر اللَّه في تِلْكَ الحبَّة والنًّواة [من أعْلاَها ومن أسْلفلِها شقاً آخر] أما الشَّقُّ الذي يَظْهَر في أعْلَى الحبَّة والنَّواة؛ فإنه يَخْرُج منه الشَّجْرة الصَّاعِدَة إلى الهَوَاء. وأما الشقُّ الذي أسْفَلَ تلك الحبَّة والنَّواة؛ فيكون سَبَاً لاتِّصالِ الشَّجرة الصَّاعدة في الهواء بالشَّدرة الهابِطَة في الأرض. ثم هاهُنَا عجائب: أحدها: أن طبيعَة تلك الشَّجرةِ إن كَانَتْ تَقْتَضِي الهُوِيَّ في عُمْقِ الأرض؛ فكَيْفَ تَوَلَّدَتْ منه الشَّجَرة الصَّاعِدة في الهواء، وإن كانت تَقْتَضِي الهُوِيَّ في عُمْقِ الأرض؛ فكَيْفَ تَوَلَّدتْ منه الشَّجَرة الصَّاعدة في الهواء، وإن كانت تَقْضِي الصُّعُودَ في الهَوَاء؛ فكيف تولدت مِنْهَا الشَّجرة الهابِطَة في الأرْضِ، فلما تولَّدت منها هاتان الشَّجرتان، مع أن الحسَّ والعَقْلَ يَشْهَد بكون طَبيعَة إحْدَى الشَّجَرتَيْن مُضَادُّ لِطَبيعَةِ الشَّجَرَةِ الأخرى؛ علمنا أنَّ ذلك لَيْس بِمُقْتَضَى الطَّبْعِ والخَاصيَّة، بل بِمُقْتَضَى الإبْداع، والإيجاد، والتَّكْوين، والاخْتِرَاع. وثانيها: أن باطِنَ الأرْضِ صلْبٌ كَثيفٌ لا تَنْفُذُ المَسَلَّة القويَّة فيه، ولا يَغُوصُ السِّكِّين الحادَّةُ القوي فيه، مع أنّا نشاهد أطْرافَ تِلءكَ العُرُوقِ في غايَة الرِّقَّةِ واللَّطافَةِ، بحيث لو دلكها الإنْسَان بأصْبُعِهِ بأدنى قُوَّةٍ، لصَار كالمَاء، ثم إنها مع غَايَة لَطَافتها تَقْوَى على النُّفُوذ في تِلءك الأرْضِ الصَّلْبَة، والغَوصِ في باطِن تِلْكَ الأجْرَام الكَثِيفَة، فحُصُول هذه القُوَّة الشَّديدة لِهذا الأجْرَامِ التي في غَايَةِ اللَّطَافةِ، لا بُدَّ وأن يكون بِتَقْديرِ العَزيزِ الحَكِيم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 303 وثالثها: أنه يَتَوَلَّدُ من تِلْك النَّوَاة شَجَرَةٌ، ويَحْصُل في تلك الشَّجَرَة طَبَائِعُ مُخْتَلِفَة؛ فإن قشْرِ الخشبة له طَبيعَةٌ مَخْصُوصَةٌ، وفي داخل تلك القشرة جِرْمُ الخَشَبة، وفي دَاخلِ تلك [الخشبة] جسمٌ رَخْوٌ لطيف يُشْبِهُ العِهْنَ المَنْفُوش، ثم إنه يَتَولَّدُ من سَاقِ الشَّجَرة أغُصَانها، ويتولَّدُ من الأغْصَان الأوْرَاقُ، والأزهار، والأنْوَار، ثانياً، ثم الفَاكِهَةُ ثَالِثاً، ثم قد يَحْصُل للفاكَهِةَ أرْبَعة أنْواع من القُشُورِ كالجَوْزِ واللَّوز، فإن قِشْرَه الأعلى هو الجِرْمُ الأخْضر، وتحته جِرْمُ القِشْر الذي يُشْبِه الخَشَبَ، وتحت القِشْر الَّذي كالغِشَاءِ الرَّقِيق المحيط باللُّبِّ، وذلك اللُّبُّ مُشْتَمِلٌ على جِرْم كَثِيف هو أيْضاً كالقِشْرَةِ، وعلى جِرْم لَطِيفٍ هو كالُّدهْنِ، وهو المَقْصُود الأصْلِيُّ؛ فَتَوَلَّدُ هذه الأجْسَام المُخْتَلِفَة في طَبَائِعها، وصِفَاتِهَا، وألْوَانها، وأشْكَالِها، وطُعُومِها، مع تساوي تأثيرات الطَّبائع، والفُصُول الأربع، والطَّبائع الأربَع، يَدُلُّ على أنَّها إنما حَدَثَتْ بِتَدْبِير العَلِيم، الحكيم، والمُخْتَار، القَادِر، لا بتدبير الطَّبائع والعَنَاصِر. ورابعها: أنَّك قد تجد الطَّبائع الأرْبَعة حَاصِلَةً في الفَاكِهَة الواحِدة، فالأتْرُجُّ: قِشْرُه حَارُّ يَابِسٌ، ولَحْمُه بارِدٌ رَطْبٌ، وحَمَاضُهُ بارد يَابِسٌ، وبذره حَارُّ يَابِسٌ، وكذلك العِنبُ: قِشْرُهُ وعَجمه بارد يَابِس، وماؤُه ولَحْمهُ حَارٌّ رَطْبِ؛ فَتَولُّدُ هذه الطَّبائِعِ المُتَضَادَّةِ، والخَوَاصِّ المُتَنَافِرة عن الحبَّة الواحدة، لا يَكُوْن إلا بإيجاد الفَاعِل المُخْتَار. وخامسها: أنَّك تجد أحْوَال الفَوَاكهِ مُخْتَلِفَةً، فَبَعْضها يَكُون اللُّبُّ في الدَّاخلِ، والقشر في الخَارج كما في الجَوْزِ واللَّوزِ، وبَعْضُها تكون الفَاكِهَة في الخَارِجِ، وتكون الخَشَبَة في الدَّاخِل، كالخَوْخ والمِشْمِش، وبَعْضُها تكون النَّوَاةُ لها لُبُّ كالَمِشْمِش، والخَوْخ، وبَعْضُها لا لُبَّ له كَنَوى التَّمْرِ، وبَعْضُ الفَوَاكه لا يكُون لَهُ من الدَّاخلِ والخَارد قشر، بل يكون مطلوباً [كالتين] فهذه أحوال مُخْتَلِفَةٌ في الفواكه. وأيضاً الحُبُوب المُخْتَلِفَة في الأشْكَالِ والصُّورِن فَشَكْل الحِنْطَةِ كأنَّها نِصْفُ دَائِرِةٍ، وشكل الحمّص على وَجْه آخر، فهذه الأشْكَال المُخْتَلِفَة، لا بُدَّ وأن تكون لأسْرار وحكم علم الخَلِق أنَّ تركِيبَها لا يكمل إلاَّ على هذا الشَّكْلِ. وأيضاً: فقد تكون الثَّمَرَةُ الوحدة غذاءً لحيوان، وسُمَّاً لحيوان آخر؛ فاخْتلافُ هذه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 304 الصِّفاتِ والأحوال، مع اتِّحاد الطَّبائعِ، وتأثير الكواكب، يَدُلُّ على أنَّها إنَّما حصلت بتخليق الفاعِل المُخْتَار، الحكيم. وسادسها: أنَّك تَجِدُ في الوَرَقَةِ الوَاحِدَة من أوْرَاقِ الشَّجَرَة خطاً واحداً مُسْتَقيماً في وَسطها، كأنَّه بالنّسْبَة لتِلْك الوَرَقَةِ، كالنُّخَاعِ بالنِّسْبَة إلى بَدَن الإنْسان، فكأنه يَتَفرَّقُ من النُّخَاع أعْصابٌ كَثِيرَة يَمْنَةً ويَسْرَةً في بَدَن الإنْسان، ثمَّ لا يزال يَنْفَصِلُ عن شُعَبِهِ شُعَبٌ أخرىن ولا تَزَال تِسْتدقُّ حتى تَخْرُج عن الحِسِّ والابْصَارِ لدقّتها، فكذلك في تلك الورقة ينفصل عن ذلك الخَطِّ الكبير الوَسطانِيِّ خُيُوطٌ مختلفة، وعن كلِّ مِنْهُمَا خيوطٌ أخرى أدَقُّ من الأولى، ولا تَزَالَ كذلك حتَّى تخرج تِلْكَ الخُيُوطُ عن الحسِّ والبَصَرِ. والخالق - تعالى - إنَّما فعل ذلك، حتَّى أن القُوَى الجاريَةَ المَذْكُورةَ في جِرْم تِلْك الوَرَقَ، تقوى على جَذْبِ الأجْزَاء اللَّطيفة الأرْضيَّة في تلك المَجَاري الضيّقة، فالوُقُوفُ على عِنَايَة حِكْمَةِ الخَالِق في اتِّحادِ تلك الوَرَقَةِ الواحِدَة، واخْتِلاف أشْكالِ الأوْرَاقِ؛ تُؤذِنُ أنَّ عِنَايَتَه في اتِّحادِ حِكْمَة الشَّجرة أكْمَل. وإذا عرَفْتَ أنَّه - تبارك وتعالى - إنَّما خَلَق النَّبَات لِمَصْلَحَةِ الحيوان، عَلِمت أنَّ عنايته في تخليف الحيوانِ أكْمَلُ؛ ولمَّا عَلِمْتَ أن المَقْصُود من تَخْلِيق الحيوانات [هو الإنْسَانُ] عَلِمْت أن عِنَايتَه في تَخْلِيقِ الإنْسَان أكْمَلُ. ثمَّ إنه - تبارك وتعالى - لما خَلَقَ الحَيوان والنَّباتَ ليكون غذاءً ودواءً للإنْسان بِحَسَب جسدِهِ، والمَقْصُود من تَخْلِيق الإنْسَان: هو المَعْرِفَةُ، والمحبَّة، والخدمة؛ لقوله - تبارك وتعالى -: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . قوله: «يخرج» يَجُوز فيه وجهان: أحدهما: أنَّها جملة مُسْتأنَفَةٌ، فلا محَلَّ لها. والثاني: أنَّها في موضع رفع خَبَراً ثانياً، لأنَّ قوله: «مُخْرجُ» يجوزُ فيه وجهان: أحدهما: انه مَعْطُوفٌ على «فَالِقِ» ، ولَمْ يذكر الزَّمَخْشَريُّ غيره، أي: اللَّه فاَلِقٌ ومُخْرِجٌ، أخبر فيه بِهَذَيْن الخَبريْنِ؛ وعلى هذا فيكون «يُخْرِجُ» على وَجْهِه، وعلى كونه مُستَانفاً فيَكُون مُعْتَرِضاً على جِهَة البيانِ لما قَبْلَه من معنى الجملة. والثاني: أنه يكون مَعْطُوفاً على «يُخْرِجُ» ، وهل يَجْعَل الفعل في تأويل اسْم [ليصِحَّ عطف الاسْمِ عليه، أو يجعل الاسمُ بتأويل الفِعْلِ؛ ليصِحَّ عَطْفُه عَليْه؟ احتمالاًن مَبْنِيَّان على ما تقدَّمَ في «يُخْرِجُ» . إن قلنا: إنه مُسْتأنفٌ فهو فِعْلٌ غير مُؤوَّل باسم؛ فَيُرَدُّ الاسم إلى مَعْنَى الفِعْل، فكأن «مُخْرِج» في قُوَّة «يُخْرج» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 305 وإن قُلْنَا: إنه خبر ثان ل «إنَّ» وهو بِتَأوِيل اسْم] واقع موقع خَبَر ثانٍ؛ فلذلك عُطِفَ عليه اسمٌ صريحٌ، ومن عَطْف الاسْمِ على الفِعْلِ لِكَوْن الفِعْلِ بتأويل اسم قَوْلُ الشَّاعِرِ في ذلك: [الطويل] 2255 - فَألْفَيْتُهُ يَوْماً يُبِيرُ عَدُوَّهُ ... وَمُجْرٍ عَطَاءً يِسْتَخِفُّ المَعَابِرَا وقول القائل في ذلك: [الرجز] 2256 - يَار رُبَّ بَيْضَاءَ مِنَ العَوَاهِجِ ... أمِّ صِبِيَّ قَدْ حَبَا أوْ دَارِجِ وقول القائل في ذلك: [الرجز] 2257 - بَاتَ يُغَشِّيها بَعَضْبٍ بَاتِر ... يَقْصِدُ فِي أسْوُقِهَا وَجَائِر أي: مُبيراً، أمِّ صِبيَّ حابٍ، قاصِدٍ. قوله: «الحَيّ» اسمٌ لما يكون موصوفاً بالحياة، و «المَيِّتُ» اسمٌ للخَالِي عن صفة الحياة، وعلى هذا فالنَّبَاتُ لا يكُون حياً، وفي تَفْسِير هذا الحيِّ والميت قولان: الأول: حَمْلُ هذا اللَّفظِ على الحقيقة. قال ابن عبَّاس: أخْرَجَ من النُّطْفَةِ بَشَراً أحْيَاءَ، ثم يُخْرِجُ من البَشَرِ الحيِّ نُطْفَةً مَيِّتَةً، ويُخْرِج من البَيْضَةِ فَرُّوجَةً، ثم يَخْرِج من الدِّجاجَةِ بَيْضَةً مَيَّتةً. القول الثاني: يُحْمَل على المَجازِ «يخرج» النَّبَات الخَفِيّ من الحَبِّ اليَابِس، ويُخْرِج الحبَّ اليَابِس من النَّبَاتِ الحَي النَّامِي. وقال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يخرج المُؤمِنَ من الكَافِرِ، كما في حقِّ إبراهيمَ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والكافر من المُؤمن، كما في حقِّ ولد نُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والعاصي من المُطِيع وبالعكس. وقرأ نافع، وحمزة، والكسائي، وحفص عن عصام: «الميّت» مُشدَّدَة الياء في الكَلِمَتَيْن، والباقُون بالتخفيف فيهما. قوله: {ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ} قيلك معناه: ذلكم اللَّه، المُبْدِئُ، الخَالِقَن النَّافِعُ، الضَّار، المحيي، المُمِيت، «فانَّى تُؤفَكُونَ» : تُصْرَفُونَ عن الحقِّ في إثْبَات القَوْل بِعِبَادَةِ الأصْنَامِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 306 وقيل: المُرَاد: أنكم لمَّا شَاهَدْتُمْ أنَّه - تبارك وتعالى - يُخْرِج الحيَّ من الميَّت، ثم شَاهَدتم أنَّه أخْرَجَ البَدَنَ الحيَّ من النُّطْفِةِ المَيِّتَة، فَكيْفَ تَسْتَبْعِدُون أن يُخْرِجَ البَدَن الحيَّ من التُّرَاب الرَّمِيمِ مَرَّة أخرى، والمقْصُودك الإنْكَار على تَكْذِيبهم بالحَشْرِ والنَّشْرِ، وأيضاً الضَّدَّانِ متساويان في النَّسْبَةِ، فكما لا يمتنع الانقلابُ من أحد الضدين إلى الآخر، وجبَ ألاَّ يمتنع الانقلابُ من الثاني إلى الأوَّل، فكما لا يمتنع حُصُولُ المَوْتِ بعد الحياة، وجب أيضاً حُصُولُ الحياة بعد الموت، وعلى كِلاَ التَّقْديريْنِ، فيخرج منه جواز البَعْثِ والنَّشْرِ. فصل في إثبات خلق الأفعال لله تَمسُّكُوا بقوله: «فانَّى تُؤفَكُونَ» على أن فَعْلَ العَبْدِ ليس مخلوقاً لله - تعالى - لأنه لو خَلَق الإفْكَ فيه، فكيف يليق به أن يقول مع ذلك: «فأنَّى تُؤفَكُون» والجواب: أن القُدْرَةً بالنسبة إلى الضَّدَّيْنِ مُتساويَةٌ، فَتَرَجُّعُ أحد الطرفين على الآخر لا لمرجِّح، فحينئد لا يكون هذا الرُّجْحَانُ من الضِّدِّ، بل يكون مَحْضَ الاتفاق فكيف يحسن أن يقال له: «فأنَّى تُؤفَكُون» وأن تَوَقُّفَ ذلك المرجح على حصول مرجَّح، وهو الدايعة الجَازِمَةُ إلى الفعل، فحصول تلك الدَّاعية يكون من الله - تعالى - وعند حُصُولها يجب الفعل، ويلزمكم كما ألْزَمْتُمُونا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 هذا نَوْعٌ آخر من دلائل وجود الصَّانع وعلمه وقدرته وحكمته، فالنوع الأوَّل من دلالة النبات والحيوان، والنوع الثاني من أنواع الفلك. وقوله: {فَالِقُ الإصباح} نعت لاسم الله - تعالى -، وهو كقوله: «فالق الحبِّ» فيما تقدَّم. والجمهور على كَسْرِ همزة «الإصباح» وهو المصدر: أصبح يصبح إصباحاً. وقال الليث والزجاج: إن الصبح والصباح والإصباح واحد، وهما أول النهار وكذا الفراء. وقيل: الإصباح: ضوء الشمس بالنهار، وضوء القمر بالليل. رواه ابن أبي طلحة عن ابن عباس. وقيل هو إضاءة الفجر نُقِلَ ذلك عن مُجَاهد، والظَّاهر أن «الإصباح» في الأصل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 307 مصدر كالإقبال والإدبار سُمِّيَ به الصباح، وكذا الإمساء وقال امرؤ القيس: [الطويل] 2258 - ألاَ أيُّهَا اللَّيْلُ الطَّوِيلُ ألا انْجَلِ ... بِصُبْحٍ وَمَا الإصْبَاحُ مِنْكَ بأمْثَلِ وقرأ الحسن وأبو رجاء وعيى بن عمر: «الأصباح» بفتح الهمزة، وهو جمع «صُبْح» نحو: قُفْل وأقْفَال، وبرد وأبراد، وينشد قوله: [الرجز] 2259 - أفْنَى رِيَاحاً وَبَنِي رِيَاح ... تَنَاسُخُ الأمْسَاءِ والأصْبَاحِ بفتح الهمزة من «الأمساء» و «الأصباح» على أنهما جمع «مُسْي» و «صُبْح» ، وبكسرهما على أنهما مَصْدَرَان، وقرئ «فالق الأصباح» بفتح «الأصْبَاح» على حذف التنيون لالتقاء الساكنين كقول القائل في ذلك: [المتقارب] 2260 - ... ... ... ... ... ... وَلاَ ذَاكِرَ اللَّهَ إلاَّ قَلِيلاَ وقرئ {والمقيمي الصلاة} [الحج: 35] و {لَذَآئِقُو العذاب} [الصافات: 38] بالنصب حَمْلاً لنون على التنوين، إلا أن سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - لا يُجِيزُ حَذْفَ التنوين لالتقاء الساكنين إلا في شعر، وقد أجازه المُبرِّدُ في الشعر. وقرأ يحيى والنخعي وأبو حيوةو: «فلق» فعلاً ماضياً، وقد تقدَّم أن عبد الله قرأ الأولى كذلك، وهذا أدَلُّ على أن القراءة عندهم سُنَّةٌ مُتَّبَعَةٌ ألا ترى أن عبد الله كيف قرأ «فلق الحب» فعلاً ماضياً، وقرأ «فالق الإصباح» والثلاثة المذكورين بعكسه. قال الزمخشري: فإن قلت: فما معنى «فلق الصبح» ، والظلمة هي التي تنفلق عن الصُّبح، كما قال: [الطويل] 2261 - ... ... ... ... ... ... تَفَرِّيَ لَيْلٍ عَنْ بَيَاضِ نهارِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 308 قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يُرَادَ: فالق ظلمة الإصباح، يعني أنه على حذف مضاف. والثاني: أنه يُرَاد: فالق الإصباح الذي هو عمود الفَجْرِ عن بياض النهار وإسْفَارِهِ، وقالوا: انشق عمود الفجر وانصدع، وسمّوا الفجر فلقاً بمعنى مَفْلُوق؛ قال الطائي: [البسيط] 2262 - وَأزْرَقُ الفَجْرِ يَبْدُوا قَبْلَ أبْيَضِهِ ..... ... ... ... ... ... ... وقرئ: «فالق» و «جاعل» بالنصب على المَدْحِ انتهى. وأنشده غيره في ذلك: [البسيط] 2263 - فانْشَقَّ عَنْهَا عَمُودُ الفَجْرِ جَافِلَةً ... عَدْوَ النَّحُوصِ تَخَافُ القَانِصَ اللَّحِمَا قال الليث: الصبح والصباح هما أوَّلُ النهار، وهو الإصباح أيضاً، قال تبارك وتعالى: «فالق الإصباح» يعني الصبح. وقيل: إن الإصباح مصدر سُمِّيَ به الصبح كما تقدم. قوله: «وجَاعل اللَّيْل» قرأ الكوفيون: «جَعَلَ» فعلاً ماضياً، والباقون بصفغة اسم الفاعل والرَّسْم يحتملهما، و «اللَّيْل» مَنْصُوبٌ عند الكوفيين بمقتضى قراءتهم، ومجرور عند غيرهم، وَوَجْهُ قراءتهم له فعلاً مناسبة ما بعده، فإن بعده أفعلاً ماضية نحو: «جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ» و «هُو الذي أنْشَأ» إلى آخر الآيات ويكن «سَكَناً» إما مفعولاً ثانياً على أنَّ الجَعْل [بمعنى التصيير، وإما حالاً على أنه بمعنى] الخلق، وتكون الحال مُقدّرة، وأما قراءة غيرهم ف «جاعل» يحتمل أن يكون بمعنى المضين ويؤيده قراءة الكوفيين، والماضي عند البصريين لا يعمل إلا مع «أل» خلافاً لبعضهم في مَنْع إعمال المعرَّف بها، وللكسائي في إعماله مُطْلَقا، فإذا تقرَّر ذلك ف «سَكَناً» مَنْصُوبٌ بفعل مُضْمَرٍ عند البصريين، وعلى مقتضى مذهب الكسائي ينصبه به. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 309 وزعم أبو سعيد السِّيرَافِيُّ أن اسم الفاعل المتعدي إلى اثنين يجوز أن يعمل في الثَّاني، وإن كان ماضياً. قال: لأنه لما أضيف إلى الأوَّل تعذَّرت إضافته للثاني، فتعين نصبه له. وقال بعضهم: لأنه بالإضافة أشهب المعرف ب «أل» فيستعمل مطلقاً فعلى هذا «سكناً» منصوب به أيضاً وأما إذا قلنا: إنه بمعنى الحال والاستقبال، فَنَصْبُهُ به، و «سكن» فعل بمعنى مَفْعُول كالقبض بمعنى مَقْبُوض، ومعنى سَكَن، أي ما يسكن إليه الرجل، ويطمئن إليه استئناساً به واسترواحاً إليه من زَوْجٍ أو حبيبٍ، ومنه قيل للنار سكن؛ لأنه يُسْتَأنَسُ بها، ألا تراهَمَ كيل سمّوها المُؤنِسَة. قوله: «والشَّمْسَ والقَمَرَ حُسْبَاناً» قرأ الجمهور بنصب «الشَّمس» والقمر «وهي واضحة على قراءة الكوفيين، أي: بِعَطفِ هذهين المنصوبين على المنصوبين ب» جعل «و» حُسْبَاناً «فيه الوجهان في» سَكَناً «من المفعول الثاني والحال. وأما على قراءة الجماع فإن اعتقدنا كَوْنَهُ ماضياً فلا بُدَّ من إضمار فِعْلٍ ينصبهما، أي: وجعل الشمس. وإن قلنا: إنه غير ماضٍ فمذهب سيبويه أيضاً أن النَّصْبَ بإضمار فعل، تقول: هذا ضاربٌ زيداً الآن أو غداً أو عمراً بنصب عَمْرٍو، وبفعل مُقدَّرٍ لا على موضع المجرور [باسم الفاعل، وعلى رأي غيره يكون النصب] على محل المجرور، ونشدون قوله: [البسيط] 2246 - هَلْ أنْتَ بَاعِثُ دِينارٍ لِحَاجَتِنا ... أوْ عِبْدَ ربِّ أخَا عَوْنِ بْنِ مِخْرَاقِ بنصب» عبد «، وهو محتمل للوجهين على المذهبين. وقال الزمخشري: أو يعطفان على محل» الليل «. فإن قلت: كيف يكون ل» الليل «محلّ، والإضافة حقيقيّة، لأن اسم الفاعل المُضَاف إليه في معنى المُضِيّن ولا تقول: زيد ضارب عمراً أمس. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 310 قلت: ما هو بمعنى الماضين وإنما هو دالٌّ على فِعْلِ مستمر في الأزمنة. قال أبو حيَّان: أما قوله: إنما هو دَالٌّ على فعل مستمر في الأزمنة يعنيك فيكون عاملاً، ويكون للمجرور إذا ذاك بعده مَوْضِعٌ فيعطف عليه «الشمس والقمر» قال: «وهذا ليس بِصَحيحٍ إذا كان لا يَتَقَيَّدُ بزمن خاصّ، وإنما هو للاستمرار، فلا يجوز له أن يعمل، ولا لمجروره مَحَلّ، وقد نَصُّوا على ذلك، وأنشدوا عليه قول القائل في ذلك: [البسيط] 2265 - ألْقَيْتَ كَاسِبَهُمْ فِي قَعْرِ مُظْلِمَةٍ ..... ... ... ... ... ... ... ... . فليس» الكاسب «هنا مقيداً بزمان، و» إن «تقيَّد بزمان فإما أن يكون ماضياً دون» أل «فلا يعمل عند البصريين، أو ب» أل «أو حالاً أو مستقبلاً، فعلم فيضاف على ما تقرر في النحو» . ثم قال: وعلى تقدير تسليم أن الذي للاستمرار يعمل، فلا يجوز العَطْفُ على مَحَلِّ مجروره، بل مذهب سبيويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - في «الذي» بمعنى الحال والاستقبال ألاًَّ يَجُوزُ العَطْفُ على محلِّ مجروره، بل على النصب بفعل مقدَّرٍ لو قلت: هذا ضارب زيد وعمراً [لم يكن نصب عمراً] على المحل [على الصحيح] وهو مذهب سيبويه؛ لأن شَرْطَ العَطْفِ على الموضع مفقود، وهو أن يكون للموضع محرز لا يتغير، وهذا مُوضِّحٌ في علم النحو. قال شهاب الدين: وقد ذكر الزَّمخشري في أوّل الفاتحة في {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] أنه لمَّا لم يُقْصَدْ به زمانٌ صارت إضافته مَحْضَةً، فلذلك وَقَعَ صفة للمعارف فمن لازم قوله: إنه يترعف بالإضافة ألاَّ يعمل؛ لأن العالم في نِيَّةِ الانفصال عن الإضافة، ومتى كان في نِيَّةِ الانفصال كان نكرة ومتى كان نكرة فلا يقع صِفَةً للمعرفة، وهذا حَسَنٌ حيث يرد عليه بقوله: وقد تقدم تحقيق هذا في الفاتحة. وقرأ أبو حيوة: «والشَّمْسِ والقَمَرِ» جَرّاً نَسَقاً على اللفظ وقرا شاذّاً «والشَّمْسُ والقَمَرُ» رَفْعاً على الابتداء، وكان من حَقِّهِ أن يقرأ «حُسْبَانٌ» رَفْعاً على الخبر، وإنما قرأه نَصْباً فالخبر حينئذ محذوف، تقديره مَجْعولان حُسْبَاناً، أو مخلوقان حُسْبَاناً. فإن قلت: لا يمكن في هذه القراءة رَفْع «حسبان» حتى تلزم القارئ بذلك، لأن الشَّمْسَ والقمر ليا نَفْسَ الحسبان. فالجواب: أنهما في قراءة النصب إما مَفْعُولان أوَّلان، و «حسبان» ثانٍ، وإما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 311 صاحبا حال، و «حسبان» حال، والمفعول الثاني هو الأوَّل، والحال لا بد وأن تكون صَادِقَةً على ذي الحال، فمهما كان الجواب لكن كان لنا. والجواب ظاهر مما تقدَّم. والحُسْبَان فيه قولان: أحدهما: انه جمعن فقيل: جمع «حِسَاب» ك «رِكاب» و «رُكْبَان» و «شِهَاب» و «شُهْبَان» ، وهذا قول أبي عبيد والأخفش وأبي الهيثم والمبرد. وقال أبو البقاء: هو جمع «حسبانة» وهو غَلَطٌ؛ لأن الحسبانة: القِطْعَةُ من النار، وليس المراد ذلك قطعاً. وقيل: بل هو مصدر ك «الرُّجْحضان» والنقصان و «الخُسْرَان» ، وأما الحساب فهو اسم لا مَصْدَرٌ وهذا قول ابن السِّكِّيتِ. وقال الزمخشري: و «الحُسْبَان» بالضم مصدر حَسَبْتُ يعني بالفتح، كما أن الحِسْبَان بالكسر مصدر حَسِبْتُ يعني بالكسر ونظيره: الكُفْرَان والشُّكْران. وقيل: بل الحِسْبَان والحُسْبَان مصدران، وهو ول أحمد بن يحيى، وأنشد أبو عبيد عن أبي زَيْدٍ في مجيء الحُسْبَان مصدراً قوله: [الطويل] 2266 - عَلَى اللَّهِ حُسْبَانِي إذَا النَّفْسُ أشْرَفَتْ ... عَلَى طَمَعِ أوْ خَافَ شَيْئاً ضَمِيرُهَا وقال «حُسْبَاناً» على ما تقدَّم من المفعولية أو الحالية. وقال ثعلب عن الأخفش: إنه منصوب على إسْقاطِ الخافض، والتقدير: يجريان بِحُسْبَانٍ؛ كقوله: {لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} [الإسراء: 61] أي: من طين. وقوله: «ذلك» إشارة إلى ما تقدَّم من الفلق، أو الجعل، أو جميع ما تقدم من الأخبار في قوله «فالق الحبّ» إلى «حُسْبَاناً» . ومعنى الآية الكريمة: جعل الشمس والقمر بحسبي معلوم لا يجوزانه حتى يتهيّئان إلى أقصى منازلهما «ذلك تَقْدِيرُ العزيزِ العَلِيم» ف «العزيز» إشارة إلى كمال قُدْرتِهِ، «والعليم» إشارة إلى كمال عِلْمِهِ، والمعنى: أن تقديري أجْرَامِ الأفلاك بصفاتها المخصوصة وَهَيْئئَتَهَا المحدودة، وحركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة في البُطْءِ والسرعة لا يمكن تحصيله إلاَّ بِقُدْرَةِ كاملة متعلقة بجميع الممكنات، وعلم نَافِذٍ في جميع المعلومات من الكُلِّيَّاتِ والجزئيات، وذلك مختص بالفاعل المختار سبحانه وتعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 312 وهذا نوع ثالث على كمالِ القُدْرةِ. فقوله: {َهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم} الظاهر أن «جعل» بمعنى «خَلَق» ، فتكون متعديةً لواحد، و «لكم» متعلّق ب «جعل» ، وكذا «لِتَهْتَدُوا» . فإن قيل: كيف يتعلّق حَرْفا جَرِّ متحدان في اللفظ والمعنى؟ فالجواب: أن الثَّاني بدلٌ من الأوَّل بدل اشتمال بإعَادَةِ العامل، فإن «ليهتدوا» جَارّ ومجرور؛ إذ اللام لام «كي» ، والفعل بعدها منصوب بإضمار «أن» عند البصريين، وقد تقدَّم تقريره. والتقدير: جعل لكم النجوم لاهتدائكم، ونطيره قوله: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] ف «لبيوتهم» بدل «لمن يَكْفُرُ» بإعادة العامل. وقال ابن عطية: «وقد يمكن أن يكون بمعنى» صَيَّر «، ويُقدَّرُ المفعول الثاني من» لتهتدوا «أي: جعل لكم النجوم هِدَايَةً» . قال أبو حيَّان: «وهو ضعيف لندور حذف أحد مفعولي» ظَنَّ «وأخواتها» . قال شهابُ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يَدَّع ابن عطية المفعول الثاني حتى يجعله ضعيفاً، إنما قال: إنه [بدل] من «لتهتدوا» ، أي: فَيُقَدَّرُ مُتعلِّقُ الجار الذي وقع مفعولاً ثانياً، كما يُقَدَّرُ في نظائره، والتقدير: جعل لكم النجوم مُسْتَقِرَّةً أو كائنة لاهتدائكم. وأما قوله: «جعَل لَكُمُ النُّجُوم» هداية فلإيضاحِ المعنى وبيانه. والنجوم مَعْرُوفَةٌ، وهي جمع «نَجْم» ، والنَّجْمُ في الأصل مصدر؛ يقال: نجم الكوكب ينجم نجماً ونجوماً، فهو ناجمٌ، ثم أطْلِقَ على الكواكب مجازاً، فالنجم يستعمل مرة اسماً للكوكب ومرة مصدراً، والنجوم تُسْتَعْملُ مَرَّةً للكواكب وتارة مصدراً ومنه نَجَمض النَّبْتُ؛ أي: طلع، ونجم قَرْنُ الشاة وغيرها، والنجم من النبات ما لا سَاقَ له، والشجر ما له ساق، والتَّنْجِيمُ: التفريق، ومنه نجوم الكتابة تشبيهاً بتفرق الكواكب. فصل في معنى الآية معنى الآية الكريمة: خَلَقَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا إلى الطرق والمسالِكِ في ظلمات البر والبحر، حيث لا يرون شَمْساً ولا قَمَراً، وهو أن السَّائِرَ في البحر والقِفَارِ يهتدي بها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 313 في الليل إلى مَقْصدِه وإلى القِبْلةِ، وأيضاً إنها زِينَةُ السماء كما قال: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيح} [تبارك: 5] وقال: {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} [الصافات: 6] ومن منافعها أيضاً كونها رُجُوماً للشياطين، ثم قال: «قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَومٍ يَعْلمُونَ» وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّ هذه النجوم كما يمكن أن يستدلِّ بها على [الطرقات في ظلمات البر والبرح فكذلك يمكن أن يُسْتَدلَّ بها على] معرفة الصانع الحكيم، وكما قُدْرِتهِ وعلمه. والثاني: أن يكون المراد هاهنا: من العلم: العقل، فيكون نظير قوله تعالى في سوة البقرة: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} [البقرة: 164] إلى قوله: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] وقوله في آل عمران: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفِ الْلَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ} [آل عمران: 190] إلى قوله: {لأُوْلِي الألباب} [آل عمران: 190] . [الثالث:] أن المراد من قوله: «لِقَومِ يعلَمُونَ» أي: لقوم يتفكَّرون ويتأملون، ويستدلون بالمحسوس على المعقول، ويتنقول، من الشَّاهد إلى الغائب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 314 وهذا نوع رابع من دلائلِ وُجُودِ الإله سبحانه وتعالى وكمال قدرته وعلمه، وهو الاستدلال باحوال الإنسان، فقوله: «مِنْ نَفْسٍ واحِدةٍ» ، يعني آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وهي نفس واحدة، وحواء مَخْلُوقةٌ من ضِلْعٍ من أظلاعه، فصار كل [الناس] من نَفْسٍ واحدة، وهي آدم. قإن قيل: فما القول في عِيسَى؟ فالجواب: أنه مَخْلوقٌ من مريم التي هي مَخْلُوقَةٌ من أبَوَيْهَا. فإن قيل: أليس القرآن دالٌّ على أنه مخلوق من الكلمة أو من الروح المَنْفُوخ فيها، فكييف يصح ذلك؟! فالجواب: أن كلمة «من» تفيد ابتداء الغاية ولا نزاع أن ابتداء عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان من مريم، وهذا القدر كان في صِحَّةِ هذا اللفظ. قال القاضي: فرق بين قوله تبارك وتعالى: [ «أنشأكم» وبين قوله: «خلقكم» لأن أنشأكم يفيد أنه خلقكم لا ابتداء، ولكن على وجه النمو والنشوء لا من مَظْهَرِ من الأبوين، كما يقال في النبات: إنه تعالى أنشأه بمعنى] النمو والزيادة إلى قوت الانتهاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 314 قوله: «فَمُسْتَقَرٌّ» قرأ ابن كثير وأبو عمرو بكسر القاف، والباقون بفتحها، وأما «مُسْتَوْدَعٌ» فالكل قرأه مفتوح الدال، وقد روى الأعور عن أبي عمروا بن العلاء كسرها فمن كسر القاف جعل «مُسْتَقَرّاً» اسم فاعل، والمراد به الأشْخَاصُ، وهو مبتدأ محذوف الخبر؛ أي: فمنكم مُسْتَقرٌّ؛ إما في الأصلاب، أو البطون، أو البقور، وعلى هذه القراءة تتناسقُ «ومستودع» بفتح الدال. وجوز أبو البقاء في «مُسْتَقِرٌّ» بكسر القاف أن يكون مَكَاناً وبه بدأ. قال: «فيكون مكاناً يستقر لكم» انتهى. يعني: والتقدير: ولكم مكان يستقر، وهذا لي بظاهر ألَبَتَّة؛ إذ المكان لا يوصف بكونه مُسْتَقِرّاً بكسر القاف، بل بكونه مُسْتَقراً فيه. وأما «مستودَع» بفتحها، فيجوز أن يكون اسم مفعول، وأن يكون مكاناً، وأن يكون مصدراً، فيقدر الأوّل: فمنكم مستقر في الأصلاب، ومستودع في الأرحام، أو مستقر في الأرض ظاهراً، ومستودع فيها باطناً، ويقدر للثاني: فمنكم متسقر، ولكن مكان تستودعون فيه، ويقدر للثالث: فمنكم مستقر ولكم استيداع. وأما من فَتَحَ القاف فيجوز فيه وجهان فقط: أن يكون مكاناً، وأن يكون مصدراً، أي: فلكم مكان تَسْتَقِرُّونَ فيه، وهو الصُّلْب، أو الرحم، أو الأرض، أو لكم استقرار فيما تقدَّم، ويقص أن يكون اسم مفعول، لأن فعله قاصر لا يُبْنى منه اسم مفعول به [فيكون اسم مكان والمتسقر بمنزله المقر؛ وإن كان كذلك لم يجز أن يكون خبر المضمر «منكم» بل يكون خبره «لكم» فلتقدير لكمن مقر بخلاف] مستودع حيث جاز فيه الأوجه الثلاثة. وتوجيه قرءاة أبي عمرو في رواية الأعور عنه في «مستودع» بالكسر على أن يجعل الإنسانُ كأنه مُسْتَوْدِعُ رزقه وأجله حتى إذا نَفِدَا كأنه رَدَّهُمَا وهو مجاز حَسَنٌ، ويقوي ما قلته قول الشاعر: [الطويل] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 315 2267 - وَمَا المَالُ والأهُلُونَ إلاَّ وَدِيعَة ... ٌ وَلاَ يَوْماً أنْ تُرَدَّ الوَدَائعُ والإنْشَاءُ: الإحْدَاثُ والتربية، ومنه: إنشاء السحاب، وقال تبارك وتعالى: {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية} [الزخرف: 18] فهذا يُرَادُ به التربية، وأكثر ما يستعمل الإنشاء في إحْداثِ الحيوان، وقد جاء في غيره قال تبارك وتعالى: {وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال} [الرعد: 12] . والإنْشَاءُ: قَسِيمُ الخَبَرِ، وهو ما لم يكن له خَارجٌ، وهل هو مندرج في الطَّلَب أو بالعكس، أو قسم برأسه؟ خلاف. وقيل على سبيل التقريب: هو مقارنة اللفظ لمعناه. قال الزمخشري: «فإن قلت: فلم قيل:» يعلمون «مع ذكر النجوم، و» يفقهون «مع ذكر إنشاء بني آدم؟ قلت: كأن إنْشَاءَ الإنْسِ من نَفْسِ واحدة، وتصريفهم على أحوالهم مختلفة ألْطَفُ وأدَقُّ صنعة وتدبيراً، فكان ذكر الفِقْهِ الذي هو استعمال فِطْنَةٍْ، وتَدْقِيقُ نَظَرٍ مُطابقاً له» . فصل في تفسير الاستقرار قال ابن عبَّاسٍ في أكثر الروايات: إن المستقر هو الأرْحَامُ، والمستودع الأصلاب. قال كريب: كتب [جرير إلى] ابن عباس يسأله عن هذه الآية الكريمة، فأجاب: «المستودع» : الصّلب، و «المستقر» : الرحم، ثم قرأ {وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ} [الحج: 5] . قال سعيد بن جبير: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هل تزوجت؟ قلت: لا، قال: أما إنه ما كان من مستودع في ظهرك، فسيخرجه الله عزَّوجلَّ ويؤيده أيضاً أن النُّطْفَة لا تبقى في [صُلْبِ الأب زماناً طويلاً والحنين يبقى في رحم الأم زماناً طويلاً فلما كان المُكْثُ في الرحم أكثر مما في صلب الأب كان حمل الاستقرار على المكث في الرحم] أولى. وقيل: «المستقر» صلب الأب، و «المستودع» رحم الأم؛ لأن النطفة حَصَلَتْ في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 316 صُلِب الأب لا من قبل الغير، وحصلت في رحم [الأم بفعل الغير] فأشبهت الوديعة كأنَّ الرجل أوْدَعَهَا ما كان مستقرّاً عنده. وقال الحسنُ: «المستقر» حَالهُ بعد الموت، و «المتسودع» حالُهُ قبل الموت؛ لأنه أشبه الوديعَةَ لكونها مُشْرِفَةً على الذَّهابِ والزَّوال وقيل العكس. وقال مجاهد: «مستقر» على ظَهْرِ الأرض، و «مستودع» عند الله في الآخرة؛ لقوله عَزَّ وَجَلَّ {وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ} [البقرة: 36] . وقيل: المستودع: القبر، والمستقر: الجنة والنار. وقال أبو مُسْلِمٍ: تقديره: هو الذي أنشأكم من نَفْسٍ واحدة، فمنكم ذكر ومنكم أنثى إلاَّ أنه - تبارك وتعالى - عبَّر عن الذَّكرِ بالمستقر، لأن النُّطْفَةَ ما تتولَّدُ في صلبه، وتستقر هناك، وعبر عن الأنْثَى بالمتسودع؛ لأن رَحمَهَا شبيه بالمستودع لتلك النُّطْفَةِ، والمقصود من ذكر الله التِّفَاوُت في الصفات أن هذا الاختلاف لا بد له من سببٍ ومؤثّر وذلك هو الفاعل المُخْتَارُ الحكيم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 317 وهذا نَوْعٌ خَامِسٌ من الدَّلائِل على كمال قُدْرَتِهِ تعالى وعلمه وحكمته وحرمته وإحسانه إلى خَلقِهِ. قوله: «فَأخْرَجْنَا» فيه التِفَاتٌ من غيبة إلى تَكَلُّم بنون العظمة والباء في «به» للسَّببية. وقوله: «نَبَات كُلِّ شَيْءٍ» قيل: المراد كُلّ ما يسمّى نباتاً في اللغة. قال الفراء: «رزق كل شيء، أي: ما يصلح أن يكون غِذَاءً لكل شَيءٍ، فيكون مَخْصُوصاً بالمتغذى به» . وقال الطَّبري: «هو جميع ما يَنْمُوا من الحيوان والنبات والمعادن؛ لأن كل ذلك يَتَغَذَّى بالماء» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 317 ويترتب على ذلك صِنَاعَةٌ إعرابية وذلك أنَّا إذا قُلْنَا بقول غير الفراء كانت الإضافة رَجِعَةٌ في المعنى إلى إضافة شبه الصفة لموصوفها، إذ يصير المعنى على ذلك: فَأخْرَجْنَا به كُلَّ مُنْبَتٍ، فإن النبات بمعنى المُنْبَتِ، وليس مصدراً كهو في {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض} [نوح: 17] وإذا قلنا بقول الفراء: كانت الإضافة إضافة بين مُتباينين؛ إذ يصير المعنى غذاء كل شيء أو رزقه، ولم ينقل أبو حيان عن الفراء غير هذا القول والفرَّاء له في هذه الآية القَولانِ المُتقدَّمان، فإن قال: «رزق كل شيء» قال: وكذا جاء في التفسير، وهو وَجْهُ الكلام، وقد يجوز في العربية أن تضيف النبات إلى كُلّ شيء، وأنت تريد بكُلِّ شيء النَّبَات أيضاً، فيكون مثل قوله: «حَقّ اليَقينِ واليقين هو الحق» . فصل في دحض شبه للمعتزلة هذه الآيةُ تقتضي نُزُولَ المَطَرِ في السماء. قال الجُبَّائِيُّ: إن الله - تبارك وتعالى - ينزل الماء من السَّماء إلى السحاب، ومن السحاب إلى الأرض لظاهر النَّصِّ قال بعض الفَلاسِفَةِ: إن البُخَارَاتِ الكثير تجتمع في بَاطِنِ الأرض، ثم تَصْعَدُ، وترتفع إلى الهواء، فينعقد الغَيْمُ منها، ويَتَقَاطَرُ، وذلك هو المَطَرُ، فقيل: المراد أنزل من جانب السماء ماءً. وقيل: ينزل من السحاب، وسمي السحاب سماء؛ لأن العربَ تُسَمَّى كل ما فَوْقَكَ سماء كسماءِ البيت. ونقل الواحديُّ في «البسيط» عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - يريد بالماء هاهُنَا المَطَرَ، ولا تنزل نقطة من الماء إلا ومعها مَلَكٌ. قوله: {فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} يَدُلُّ على أنَّ إخْراجَ النَّباتِ بواسطة الماء، وذلك يوجب القَوْلَ بالطَّبع، والمتكلمون ينكرونه. قال الفراء: هذا الكلام يَدُلُّ على أنه أخرج به نبات كل شيء، وليس الأمر كذلك، وكأن المراد: فأخرجنا [به نبات كل شيء له نبات، وإذا كان كذلك فالذي لا نبات له لا يكون داخلاً فيه وقوله: «فأخرجنا» ] بعد قوله: «أنزل» فيه الْتِفَاتٌ، وهو من الفَصَاحةِ مذكور في قوله تبارك وتعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] . وقوله تبارك وتعالى: «فأخْرَجْنَا» هذه النون تمسى نون العَظَمَةِ لا نون الجمع كقوله: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا نُوحاً} [نوح: 1] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر} [الحجر: 9] {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 318 قوله: «فَأخْرَجْنَا مِنْهُ» في الهاء وجهان: أحدهما: أن يعود على النَّبَاتِ، وهو الظاهر، ولم يذكر الزمخشري غيره، وتكون «من» على بابها من كونها لابتداء الغاية، أو تكون «من» للتبعيض، وليس كذلك. والثاني: يَعودُ على الماء، وتكون «من» سَبَبِيَّةً. وذكر أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - الوَجْهَيْنِ، فقال: «فَأخْرَجْنَا مِنْهُ» أي: بسببه، ويجوز أن تكون الهاء في «منه» راجعةً علىلنبات، وهو الأشبه، وعلى الأول يكون «فأخْرَجْنَا» بدلاً من «أخْرَجْنَا» الأول أي: أنه يكتفي في المعنى بالإخبار بهذه الجملة الثانية، وإلا فالبدلُ الصناعي لا يظهر، فالظاهر أن «فأخرجنا» عطف على «فأخرجنا» الأول. وقال أبو حيان: وأجاز أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - أن يكون بدلاً من «فأخرجنا» . قلت: إنما جعله بَدَلاً بِنَاءً على عَوْدِ الضمير في «منه» على الماء فلا يَصِحُّ أن يحكى عنه أنه جَعَلَهُ بدلاً مطلقاً؛ لأن البدليَّة لا تتصَوَّرُ على جعل الهاء في «منه» عائدةً على النبات، والخَضِرٌ بمعنى الأخْضَر ك «عَوِر» و «أعور» . قال أبو اسحاق: يقال: أخضر يخضر فهو خضر وأخضر ك «أعور» فهو عَوِر وأعور. والخُضْرَة أحد الألوان، وهو بين البياض والسواد ولكنها إلى السَّوادِ أقرب، وكذلك أطْلِقَ الأسود على الأخضر، وبالعكس، ومنه «سواد العراق» لِخُضْرَةِ أرضه بالشجر، وقال تبارك وتعالى: {مُدْهَآمَّتَانِ} [الرحمن: 64] أي: شَديدتَا السواد لريِّهِمَا، والمُخاضَرَةُ مُبايَعَةُ الخُضَرِ والثمار قبل بلوغها، والخضيرة: نخلة ينتثر بُسْرُهَا أخضر. وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إيَّاكُمْ وخَضْرَاءَ الدِّمَنِ» فقد فَسَّرَهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقوله: «المَرْأةُ الحَسْنَاءُ في المَنْبَتِ السُّوءِ» والدِّمنُ: مَطَارحُ الزِّبَالَةِ، وما يُسْتَفْذّرُ، فقد يَنْبُت منها ما يَسْتَحْسِنُهُ الرائي. قال اللَّيْثُ: الخضر في كتاب الله الزَّرْعُ والكلأ، وكل نبت من الخضر. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريد القمح والشعير والسلت والذرة والأرز، والمراد بهذا الخضر العود الأخضر الذي يخرج أوّلاً، وتكون السُّنْبُلَةُ مركبةً عليه من فوقه قوله: «نُخْرِجُ مِنْهُ» أي: من الخضر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 319 والجمهور على «نخرج» مُسْنَداً إلى ضمير المعظم نفسه. وقرأ ابن محيصن والأعمش: «يخرج» بياء الغيبة مبنياً للمفعول و «حَبٌّ» قائم مقام فاعله، وعلى كلتا القراءتين تكون الجملة صفةً ل «خَضِراً» وهذا هو الظاهر، وجوّزوا فيها أن تكون مُسْتَانَفَةً، و «متراكب» رفعاً ونصباً صفة ل «حب» بالاعتبارين، والمعنى أن تكون الحبَّات متراكبةً بعضها فوق بعض، مثل [سَنَابِلِ] البُرِّ والشعير والأرز، وسائر الحبوب، ويحصل فوق السُّنْبُلَةِ أجسام دقيقة حادة كأنها الإبَرُ، والمقصود [من تخليقها مَنْعُ الطير من التِقَاطِ تلك الحبَّاتِ المتراكبة. قوله: {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} يجوز في هذه الجملة أوجه:] أحسنها: أن يكون «من النخل» خبراً مقدماً، و «من طلعها» بدل بعض من كل بإعادة العامل، فهو كقوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر} [الأحزاب: 21] . و «قِنْوَانٌ» مبتدأ مؤخر، وهذه الجملة ابتدائية عطفت على الفعلية قبلها. الثاني: أن يكون «قِنْوان» فاعلاً بالجار قبله، وهو «من النخل» و «من طلعها» على ما تقدَّم من البدليَّة، وذلك على رأي الأخفش. الثالث: أن تكون المسألةُ من باب التَّنَازُعِ، يعني أن كلاَّ من الجارَّيْنِ يطلب «قنوان» على أنه فاعل على رأي الأخفش، فإن أعملت الثاني، وهو مختار قول البصريين أضمرت في الأوّل، وإن أعملت الأوَّل كما هو مختار قول الكوفيين أضمرت في الثاني. قال أبو البقاءِ: والوجه الآخر أن يرتفع «قنوان» على أنه فاعل «من طلعها» فيكون في «من النخل» ضمير يفسره «قنوان» وإن رفعت [ «قنوان» ] بقوله: «ومن النخل» على قول من أمعلم أول الفعلين جاز، وكان في «من طلعها» ضمير مرفوع قلت: فقد أشار بقوله: على أنه فالع «من طلعها» إلى إعمال الثاني. الرابع: أن يكون «قنوان» مبتدأ، و «من طلعها» الخبر، وفي «من النخل» ضمير، تقديره ونبت من النخل شيء أو ثمر، فيكون «من طلعها» بدلاً منه. قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ، وهذا كلام لا يصيح؛ لأنه بعد أن جعل «من طعلها» الخبر، فكيف يجعله بدلاً؟ فإن قيل: يجعله بدلاً منه؛ لأن «من النخل» خبر للمبتدأ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 320 فالجواب: أن قد تقدَّم هذا الوجه، وجعله مقابلاً لهذا، فلا بد أن يكون هذا غيره، فإنه قال قبل ذلك: وفي رفعه وجهان: أحدهما: هو مبتدأ، وفي خبره وجهان: أحدهما: هو «من النخل» ، و «من طلعها» بدل بإعادة الجار. قال أبو حيان: وهذا إعراب فيه تخليط. الخامس: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر لدلالة «أخرجنا» عليه، تقديره: ومخرجه من طلع النخل «قنوان» . هذا نص الزمخشري، وهو كما قال أبو حيان لا حاجة إليه؛ لأن الجملة مُسْتَقِلَّةٌ في الإخبار بدونه. السادس: أن يكون «من النخل» متعلقاً بفعل مقدر، ويكون «من طلعها قنوان» جملة ابتدائية في موضع المفعول ب «نخرج» وإليه ذهب ابن عطية، فإنه قال: «ومن النخل» تقديره: نخرج من النخل «، و» من طلعها قنوان «ابتداء خبر مقدم، والجملة موضع المفعول ب» نخرج «. قال الشيخ: وهذا خطأ؛ لأن ما يتعدى إلى مفعول واحد لا تقع الجملة في موضع مفعوله إلا إذا كان الفعل مما يعلق، وكان في الجلمة مَانِعٌ من العمل في شيء من مفرداتها على ما شرح في النحو، و «نخرج» ليس مما يعلّق، وليس في الجملة ما يمنع من العمل في مفرداتها؛ إذ لو سُلِّطَ الفعل على شيء من مفردات الجملة لكان التركيب: ويخرج من النخل من طلعها قنوان [بالنصب مفعولاً به. وقال أبو حيَّان: ومن قرأ «يخرج منه حبّ متراكب» جاز أن يكون قوله «ومن النخل من طلعها قنوان» ] معطوفاً عليه نحو: ضرب في الدار زيد وفي السوق عمرو أي: إنه يعطف «قنوان» على حب «ومن النخل» على «منه» ، ثم قال: «وجاز أن يكون مبتدأ وخبراً وهو الأوجه» . والقنوان جمع ل «قِنْو» ، كالصِّنْوَان جمع ل «صِنُو» والقِنْو: العِذْق بكسر العين وهو عُنْقُودُ النخلة، ويقال له: الكِبَاسَةُ. قال امرؤ القيس: [الطويل] 2268 - وَفَرْع يُغَشِّي المَتْنَ أسْوَدَ فَاحِمٍ ... أثِيثٍ كَقِنُوِ النَّخْلَةِ المُتَعَثْكِلِ وقال الآخر [الطويل] : الجزء: 8 ¦ الصفحة: 321 2269 - سَوَامِقُ جَبَّارٍ أثِيثٍ فُرُوُعُهُ ... وعَالَيْنَ قِنْوَاناً مِنَ البُسْرِ أحْمَرَا والقنوان: جمع تكسير. قال أبو علي: الكسرة التي في قنوان ليست التي في «قِنْو» ؛ لأن تلك حذفت في التكسير، وعاقبتها كسرة أخرى كما قُدِّرَ تَغَيُّرُ كسرة «هِجَان» جمعاً عن كَسْرته مفرداً، فكسرة «هجان» جمعاً ككسرة «ظِرَاف» . قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا مما تُوَضِّحُهُ الضمة في آخر «منصُور» على قول من قال «يا حارُ» يعني بالضمة ليست التي كانت فيه في قول من قال: «يا حَار» يعين بالكسر. وفي لقات: فَلُغَةُ «الحجاز» : قِنْوان «بكسر القاف، ويه قراءة الجمهور وقرأ الأعمش، والحباب عن أبي عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، والأعرج بضمها، ورواها السمي عن علي بن أبي طَلْحَةَ، وهي لغة» قَيْس «. ونقل ابن عطية عكس هذا، فجعل الضم لغة» الحجاز «، فإنه قال:» وروي عن اعرج ضم القاف على أنه جع «قُنْو» بضم القاف «. قال الفراء:» وهي لغة «قيس» ، وأهل «الحجاز» ، والكسر أشهر في العرب «. واللغة الثالثة «قَنْوَان» بفتح القاف، وهي قراءة ابي عمرو - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - في رواية هارون عنه، وخرَّجها ابن جني على أنها اسم جمع «قنو» لا جمعاً؛ إذ ليس في صِيَغِ الجمنع ما هو على وَزْن «فَعْلان» بفتح الفاء، ونظَّره الزمخشري ب «رَكْب» ، وأبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ ب «الباقر» ، وتنظير أبي البقاء أوْلَى؛ لأنه لا خلاف في «الباقر» أنه سام جمع، وأما «رَكْب» فيه خلاف لأبي الحسن مشهور، ويَدُلُّ على ذلك أيضاً شيء آخر وهو أنه قد سمع في المفرد كسر القاف، وضمها، فجاء الجمع عليهما، وأما الفتح فلم يَرِدْ في المفرد. واللغة الرابعة «قنيان» بضم القاف مع الياء دون الواو. والخامسة: «قِنْيان» بكسر القاف مع الياء أيضاً، وهاتان لغتا «تميم» و «ربيعة» . وأما المفرد فلا يقولونه بالياء أصلاً، بل بالواو، سواء كسروا القاف أو ضموها، فلا يقولون إلا قِنْواً وقُنْواً، ولا يقولون: قِنِياً ولا قُنْياً، فخالف الجمع مفرده في الماة، وهو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 322 غريب، واختلف في مدلول «القِنْو» ؛ فقيل: هو الجُمَّار، وهذا يكاد يكون غَلَطاً، وكيف يوصف بكونه دانياً؛ أي: قريب الجَنَى والجُمَّارُ إنما هو في قَلْبِ النخلة؟ والمشهور أنه العِذْقُ كا تقدم ذلك. وقال ابن عباس: يريد العراجينَ الَّتي قد تدلّت من الطلع دَانِيَةً ممن يَجْتَنيها. وروي عنه أنه قال قصار النخل اللاصقة عُذُوقها بالأرض. قال الزجاج ولم يقل: ومنها قنوان بعيدة؛ لأن ذِكْرَ أحد القسمين يَدُلُّ على الثاني، لقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ، ولم يقل: سرابيل تقيكم البرد. وقيل أيضاً: ذكر الدانية القريبة، وترك البعيدة؛ لأن النعمة في القريبة أكثر. قال أبو عبيد: «وإذَا ثَنَّيْتَ» قِنْواً «قلت: قِنْوانِ بكسر النون ثم جاء جمعه على لفظ الاثنين مثل: صِنْو وصِنْوَان، والإعراب على النون في الجمع [وليس لهما في كلام العرب نظير؛ قال الشاعر: [الطويل] 2270 - ... ... ... ... ... . ... وقال بِقِنوانٍ البُسْرِ أحْمَرَا قال شهبا الدين: إذا وقف على» قنوان «المُثَنّى رفعاً، وعلى» قنوان «جمعاً وقع الاشتراك اللفظي، ألا ترى أنك إذا قلت» عندي قنوان «وقفاً احتمل ما ذكرته في التثنية والجمع، وإذا وصلت وقع الفرق، فإنك تجعل الإعراب على النون حال جمعه كغِرْبَان وصردان، وتكسر النون في التثنية، ويقع الفرق أيضاً بوجوه آخر: منها انقلاب الألف ياء نصباً وجراً في التقينة نحو رأيت قِنْويك وصنويْكَ، ومررت بِقنويْك وصِنْوَيْك. ومنها: حذف نون التثنية إضافة وثبوت النون في الجمع] . نحو: جاء قواك وصنواك [ونوانك وصنوانك] ومنها في النسب فإنك تحذف علامتي التثنية، فتقول: قنوي وصنوي، ولا تحذف الألف والنون إذا أردت الجمع بل تقول: قنواني وصنواني، وهذا اللفظان في الجمع تكسراً يشبهان الجمع تصحيحاً، وذلك أن كُلاًّ منهما لحق آخره علامتان في حال الجمع مزيدتان، ولم يتغير معهما بناء الواحد، والفرق ما تقدم. وأيضاً فإن الجمع من قِنْوان وصِنْوَان إنما فهمناه من صيغة فعلان، ولا من الزيادتين، بخلاف «الزيدين» فإن الجمع فهمناه منهما، وهذا الفصل الذي من محاسن علم الإعارب والتصريف واللغة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 323 وقال الراغب: بعد أن ذكر أنه العِذق: والقناة تُشْبِهُ القِنْوَ في كونها غُصْنَيْنِ، وأما القناة التي يجري فيها الماء قيل لها ذلك؛ لأنها تشبه القناة في الخطِّ والامتداد. وقيل: أصلة من قَنَيْتُ الشيء إذا ادّخرته؛ لأنها مُدَّخرة للماء. وقيل: هو من قَانَاهُ أي: خالطه. قال امرؤ القيس: [الطويل] 2271 - كبِكْرِ مُقَانَاةِ البيَاضِ بِصُفْرَةٍ ... غَذَاهَا نُمَيْرُ غَيْرَ مَحَلِّلِ وأما «القَنَا» الذي هو الاحْدِيدابُ في الأنْفِ فَيْشَبَّهُ في الهيئة بالقنا يقال: رجل أقْنَى، وأمرأةٌ قَنْوَاء، كأحْمَر وحمراء. والطَّلْعُ: أوَّل ما يخرج من النَّخْلة في أكْمامِهِ. قال أبو عبيد: الطَّلْعُ الكُفُرَّى قبل أن تَنْشَقَّ عن الإغريض والإغْريضُ يسمى طلعاً يقال: أطلعت النخلة إذا أخرجت طلعها تطلع إطلاعاً وطلع الطلع يطلع طلوعاً؛ ففرقوا بين الإسنادين، وأنشد بعضهم في مراتب ام تثمره النخل قول الشاعر: [الرجز] 2272 - إنْ شِئْتَ أنْ تَضْبِطَ يَاخَلِيلُ ... أسْمَاء مَا تُثْمِرُهُ النَّخِيل فَاسْمَعْهُ مَوْصُوفاً عَلَى مَا أذْكُرُ ... طَلْعٌ وبَعءدَهُ خلالٌ يَظْهَرُ وبَلَحٌ ثُمَّ يَلِيهِ بُسْرُ ... ورُطَبٌ تَجْنِيهِ ثُمَّ تَمْرُ فَهَذِهِ أنْواعُهَا يَا صِاحِ ... مَضْبُوطَةً عَنْ صَاحِبِ الصِّحَاحِ قوله: «وجَنَّاتٍ» الجمهور على كَسْرِ التاء من «جنات» ؛ لأنها مَنْصُوبة نَسَقاً على «نبات» أي: فأخرجنا بلاماء النبات وجنات، وهو من عَطْفِ الخاصِّ على العام تشريفاً لهذين الجنسين على غيرهما كقوله تعالى: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وعلى هذا فقوله: {وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ} جملة معترضة وإنما جيئ بهذه الجملة معترضة وأبرزت في صورة المبتدأ والخبر تعظيماً للْمنَّةِ به لأنه من أعظم قُوتِ العرب، ولأنه جامع بين التَّفَكُّهِ والقوت. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 324 ويجوز أن ينتصب «جنات» نسقاً على «خَضِراً» ، وجوز الزمخشري - وجعلهُ الأحسن - أن ينتصب على الاختِصَاصِ، كقوله: {والمقيمي الصلاة} [الحج: 35] . قال: «لفضل هذين الصِّنفين» وكلامه يفهم أن القراءة الشهيرة عنده رفع «جَنَّات» والقراءة بنصبهما شاذَّة، فإنه أوَّل ما ذكر توجيه الرَّفْع كما سياتي، ثم قال: وقرئ «وجنات» بالرفع وفيها ثلاثة أوجه: أحدهما: أنها مرفوعة بالابتداء، والخبر محذوف، واختلفت عبارة العربين في تقديره فمنهم من قدَّرهُ متأخراً ومنهم من قدَّرَهُ متقدماً؛ فقدَّره الزمخشري متقدماً أي: وثمَّ جنات، وقدره أبو البقاء: ومن الكَرْمِ جنَّاتٌ، وهذا تقدير حسن لِمُقابلةِ قوله: «ومِنَ النَّخْل» أي: من النخل كذا، ومن الكرم كذا، وقدَّرهُ النَّحَّاسُ «ولَهُمْ جنَّاتٌ» ، وقدره ابن عطية: «ولكن جنَّات» . ونظيره قوله في قراءته {وَحُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] بعد قوله: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ} [الواقعة: 17، 18] أي: ولهم حُورٌ عين، ومثل هذا اتَّفَقَ على جوازه سيبويه، والكسائي، والفراء. وقدره الزمخشري، وأبو حيان متأخراً؛ فقال: أي: وجنات من أعناب أخْرجناها قال الشيخ: ودلَّ على تقديره قوله قبل: «فأخْرَجْنَا» كما تقول: أكرمت عبد الله وأخوه، أي: وأخوه أكرمته. قال شهاب الدين: وهذا التَّقديرُ سَبَقَهُ إليه ابن الأنْبَارِيّ، فإن قال: «الجنَّات» رفعت بمضمر بعدها تأويلها: وجنات من أعناب أخرجناها، فجرى مجرى قول العرب «أكرمت عبد الله وأخوه» تريد وأخوه أكرمته. قال الفرزدق: [الطويل] 2273 - غَدَاةَ أحَلَّتْ لابْنِ أصْرَمَ طَعْنَةٌ ... حُصَيْنٍ عَبِيطاتِ السِّدائِفِ والخَمْرُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 325 فرفع «الخمر» وهي مفعول على معنى: والخمر أحَلَّها الطَّعْنَة. والوجه: الثاني: أن يرتفع عَطْفاً على «قِنْوان» تغليباً للجوار؛ كقول الشاعر: [الوافر] 2274 - ... ... ... ... ... . ... وَزَجَّحْنَ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا فنسق «العيون» على «الحواجب» تَغْلِيباً للمُجَاورِةِ، والعيون لا تُزَجَّج كما أن الجنَّاتِ من الأعناب لايَكُنَّ من الطَّلْع، هذا نص مذهب ابن الأنباري أيضاً، فَتَحَصَّلَ له في الآية الكريمة مذهبان، وفي الجملة فَالجواب ضَعيفٌ وقد تقدَّم أنه من خَصَائِصِ النَّعْتِ. والثالث: أن يُعطف على «قنوان» . قال الزمخشري: على معنى مُحَاطَة أو مخرجه من النخل قنوان، وجنات من أعناب أي من نبات أعناب. قال أبو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وهذا العَطْفُ على ألاَّ يلحظ فيه قَيْدٌ من النخل، فكأنه قال: ومن النخل قِنْوانق دانية، وجنات من أعناب حَاصِلة، كما تقول: «من بني تميم رجل عاقل ورجل من قريش مُنْطَلِقان» . قال شهاب الدين رحمها لله: وقد ذكر الطبري أيضاً هذا الوَجْهَ أعني عَطْفَهَا على «قنوان» ، وضعَّفَهُ ابن عطية، كأنه لم يظهر له ما ظهر لأبي القاسم من المعنى المشار إليه، ومنع أبو البقاء عطفه على «قنوان» ، قال: «لأن العِنبَ لا يخرج من النخل» . وأنكر أبو عبيد وأبو حاتم هذه القراءة قال أبو حاتم: «هذه القرءاة محال لأن الجنات من الأعناب لا تكون من النخل» . قال شهاب الدين: أما جواب أبي البقاء فبما قاله الزمخشري. وأما جواب أبي عبيد وأبي حاتم فبما تقدَّم من تَوْجِيهِ الرفع، و «ن أعاب» صفة ل «جنات» فتكون في محلِّ رفع ونصب بحسب القراءتين، وتتعلق بمحذوف. قوله: «والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ» لم يقرأهما أحد إلاَّ مَنْصُوبَيْنِ، ونصبهما: إما عطف على «جنات» ، وإما على «نبات» وهذا ظاهر قول الزمخشري، فإنه قال: وقرئ «وجنات» بالنصب عطفاً على «نبات كل شيء» أي: وأخرجنا به جنات من أعناب، وكذلك قوله: «والزَّيْتُونَ والرُّمَّانَ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 326 ونص أبو البقاء على ذلك فقال: «وجنات» بالنصب عَطْفاً على «نبات» ومثله «الزيتون والرمان» . وقال ابن عطية: عطفاً على «حبًّا» وقيل على «نبات» وقد تقدم أن في المعطوف الثالث فصاعداً احتمالين: أحدهما: عطفه على ما يليه. والثاني: عطفه على الأوَّل نحوه مررت بزيد وعمرو وخالد، فخالد يحتمل عطفه على زيد وعمرو، وقد تقدم أن فائدة الخلاف تظهر في نحو: «مررت بك وبزيد وبعمرو» ، فإن جعلتهُ عطفاً على الأول لزمت الباء، وإلاَّ جَازتْ. و «الزَّيْتُون» وزنه «فَيْعُول» فالياء مزيدة، والنون أصْلِيَّة لسقوط تلك في الاشتقاق، وثبوت ذي، قالوا: أرض زتنَةٌ، أي: كثيرة الزيتون، فهو نظير قَيْصُوم، لأن فَعْلُولاً مفقود، أو نادرٌ ولا يتوهم أن تَاءَهُ أصلية ونوه مزيدة لدلالة الزَّيْتِ، فإنهما مادَّتانِ مُتغايرتان، وإن كان الزيت مُعْتصراً منه، ويقال: زاتَ طعامه، أي: جعل في زَيْتاً، وزاتَ رَأسَهُ أي: دَهَنَهُ به، وزْدَاتَ: أي ادَّهَنَ أبْدلت تاء الافتعال دالاً بعد الزاي كازْدَجَرَ وازْدَانَ. و «الرُّمَّان» وزنه فُعَّال نونه أصلية، فهو نظير: عُنَّاب وحُمَّاض، لقولهم: أرض رَمِنَهُ أي: كثيرَتُهُ. قال الفراء: قوله تعالى: {والزيتون والرمان} يريد شجر الزيتون، وشجر الرمان؛ كقوله تعالى: {واسأل القرية} [يوسف: 82] يريد أهْلَهَا. فصل في معنى تقدم النخل على الفواكه في الآية ذكر تبارك وتعالى هاهنا أربعة أنواع من الأشْجَارِ: النخل والعنب والزيتون والرمان، وقدَّم الزرع على الشَّجرِ؛ لأن الزَّرْعَ غذاء، وثمار الأشجار فواكه، والغذاء مُقدَّمٌ، وقدم النخل على الفواكه؛ لأن الثمر يجري مُجْرَى الغذاءِ بالنسبة إلى العرب. قال الحكماء: بينه وبين الحيوان مُشابهةٌ في خواصَّ كثيرة لا توجد في النبات، ولهذا قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أكْرِمُوا النَّخْلَةَ فإنَّهَا عَمَّتُكُمْ فإنَّها خُلِقَتْ مِنْ طينَ آدَمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 327 وذكر العِنَب عقيبَ النخل؛ لأن العنب أشْرَفُ أنواع الفواكه؛ لأنه أول ما يظهر يصير مُنْتَفَعاً به إلى آخر الحال، فأول ما يظهر على الشجر خُيُوطٌ خُضْرٌ رقيقة حَامِضَةُ الطعم لذيذَةٌ، وقد يمكن اتِّخَادُ الصبائِغ منه، ثم يظهر بعده الحُصْرُمُ، وهو طعام شَريفٌ للأصْحِّاءِ والمَرْضَى، وقد يتخذون من الحصم أشربة لطيفة المذاقِ نافعَةٌ لأصحاب الصفراء، وقد يتخذ الطبيخ منه، لأنه ألَذّ الطبائخ الحامضة، ثم إذا تم العنب فهو ألذ الفواكه [وأشهاها فيمكن ادِّخار العنب المعلق سننة أو أكثر وهو ألذ الفواكه] المُدَّخرة، ثم يخرج منه أربعة أنواع من المتناولات: وهي الزَّبِيبُ والدبْسُ والخَمْرُ والخَلُّ، ومنافع هذه الأربع لا تنحصر إلا من مجلدات والخمر فإن كان الشَّرْعُ قد حَرَّمَهَا، ولكنه تبارك وتعالى قال في صفتها: {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [البقرة: 219] ثم قال: {وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [البقرة: 219] والأطباء يتخذون من عجمه جوارشات عظيمة النفع للمعدة الضعيفة الرطبة، فتبيّن أن العنب كأنه سلطان الفواكه، وأما الزَّيْتُونُ فهو أيضاً كثير النَّفْعِ كثير البركة؛ لأنه يمكن تَنَاوُلُهُ كما هو، ونفصل عنه أيضاً دهن كثير عظيم النفع في الأكل، وسائر وجوه الاستعمال وأما الرمان فحاله عجيب جداً؛ لأنه جِسْمٌ مُرَكَّبٌ من أربعة أقسام: قشرة وشحمه وعجمه وماءه، فأما الأقسام الثلاثة وهي القشر والشحم والعجم، فهي باردة يابسة أرضية كثيفة قابضة عَفِصَةٌ قوية في هذه الصفات وأما ماءُ الرمان فبالضَّدِّ من هذه الصفات، فإنه ألَدُّ الأشْرِبَةِ وألْطَفُهَا، وأقربها إلى الاعتدال، وأشَدُّهَا مناسبة للطَّبائِع المعتدلة فيه تقوية للمِزَاج الضعيفن وهو غذاء من وَجْهٍ، ودواء من وجه آخر، فإذا تَأمَّلت في الرُّمَّان وجدت الأقسام الثلاثة في غاية الكثافةِ التامة الأرضية، ووجدت القسم الرابع وهو مَاءُ الرُّمَّانِ في غاية اللَّطَافَةِ والاعتدال، فكأنه تبَارك وتعالى جمع فيه بين المُتَضَادَّيْنِ المُتَغَايريْنِ، فكانت دلالة القدرة والحكمة فيه أكمل وأتم. نَبَّه تعالى بذكر هذه الأقسام الأربعة [التي هي أشرف أنواع النبات] على الباقي. قوله: «مُشْتَبِهاً» حالٌ؛ إما من «الرُّمَّان» لِقُرْبِهِ، وحذفت الحال من الأول؛ تقديره: والرمان مشتبهاً، ومعنى التشابه أي في اللَّوْنِ، وعدم التشابه أي في الطعم. وقيل: هي حال من الأول، وحذفت حال الثاني، وهذا كما تقدَّم في الخبر المحذوف، نحو: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وإلى هذا نحا الزمخشري، فإنه قال: تقديره: والزيتون مشتبهاً، وغير مشتبه، والرمان كذلك؛ كقول القائل في ذلك: [الطويل] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 328 2275 - رَمَانِي بأمْرٍ كُنْتُ مِنءهُ وَوَالِدِي ... بَرِيئاً ... ... ... ... ... ... ... . . أي: ولم يقل: مشتبهين اكتفى بوصف أحدهما أو على تقدير: «والزيتون مشتبهاً وغير متشابه، والرُّمَّان كذلك» . قال أبو حيان: «فعلى قوله يكون تقدير البيت: كنت منه بريئاً، ووالدي كذلك، أي: بريئاً، والبيت لا يتَعيَّنُ فيه ما ذكره؛ لأن» ريئاً «على وزن» فعيل «كصديق ورفيق، فَصَحَّ أن يخبر به عن المفرد والمثنى والمجموع، فيحتمل أن يكون» بريئاً «خبر» كان «على اشتراك الضمير والظاهر المعطوف عليه فيه إذ لا يجوز أن يكون خبراً عنهما، ولا يجوز أن يكون حالاً عنهما، إذ لو كان كذلك لكان التركيب مشتبهين وغير مشتبهين» . وقال أبُو البقاءِ: حَالٌ من «الرمان» ومن الجميع، فإن عَنَى في المعنى فصحيح، ويكون على الحذف، وكما تقدم فإن أراد بالصِّناعةِ، فليس بشيء؛ لأنه كأنه يلزم المطابقة. والجمهور على «مشتبهاً» . وقرئ شاذاً «متشابهاً» وغير متشابه كالثانية، وهما بمعنى واحِدٍ قال الزمخشري: «كقولك اشتبه الشيئان، وتشابها كاسْتَوَيَا وتَساوَيَا والافتعال والتَّفَاعُل يشتركان كثيراً» . انتهى وقد جمع بنيهما في هذه الآية الكريمة في قوله «مشتبهاً وغير متشابه» . فصل في معنى «متشابه» في الآية قال بعضهم: متشابه في اللون والشكل، ومع أنها تكون مُتشابِهَةً في الطعم واللَّذَّةِ، فإن الأعناب والرمان قد تكون مُتَشابِهَةً في الصورة واللون والشكل، مع أنها تكون مختلفةً في الحلاوةِ والحُمُوضَةِ. وقيل: إن أكثر الفواكه يكون ما فيها من القِشْرِ والعجم متشابهة في الطعم والخَاصيَّة. وقال قتادة: مشتبهاً وَرَقُهَا مختلفاً ثمرها؛ لأن وَرَقَ الزيتون يشبه ورق الرمان. وقيل: إنك إذا أخذت عنقود العنب وجدْت جميع حبَّاتِهِ نَاضِجةً حلوة طيبة إلاَّ حبَّاتٍ مخصوصة لم تدرك، بل بقيت على أوَّل حالها في الحموضة والعُفُوصَةِ، ولعى هذا قبعض حبَّات ذلك العنقود متشابه، وبعضها غير متشابه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 329 قوله: «إلَى ثَمَرِهِ» متعلق ب «انظروا» وهو بمعنى الرُّؤية، وإنما تَعَدَّتْ ب «إلى» لما تَتَضَمنَّهُ من التفكر. وقرأ الأخوان «ثُمُرِهِ» بضمتين، والباقون: فتحتين. وقرئ شاذاً بضم الأوّل، وسكون الثاني. وأما قراءة الأخوين فتحتمل أربعة أوجه: أحدها: أن يكون اسماً مفرداً؛ كطُنُب وعُنُق. والثاني: أنه جمع الجمع، فَثْمر جمع: ثمار، وثمار جمع ثَمَرة وذلك نحو: أكُم جمع إكَام، وإكَام حمع أكَمَة، فهو نظير كُثْبَان وكُثُب. والثالث: أنه جمع «ثَمَر» كا قالوا: أسَد وأسُد. والرابع: أنه جمع: ثمرة. قال الفارسي: «الأحْسَنُ أنيك ون جمع ثَمَرَة، كخَشَبَة وخُشُب، وأكَمَة وأكُمُ، ونظيره في المعتل: لابَةٌ ولُوبٌ، وناقةٌ ونوقٌ، وسَاحَةٌ وسُوحٌ» . وأما قراءة الجماعة، فالثَّمَر اسم جنس، مفرده ثمرة، كشجر وشجرة، وبقر وبقرة، وجَرَز وجَرَزَة. وأما قراءة التسكين فيه تخفيف قراءة الأخوين وقيل: بل هي جمع «ثمرة» كبُدْن جمع «بَدضنة» ، ونقل بعضهم أنه يقال: ثمرة بزنة سمرة، وقياسها على هذا ثَمُر كَسَمُر بحذف التاء إذا قصد جمعه، وقياس تكسيره أثمار، كعضد وأعْضَاد. وقد قرأ عمرو الذي في سورة «الكهف» بالضم وسكون الميم، فهذه القرءاة التي هنا فَصِيحَةٌ كان قياس أبي عمرو أن يقرأهما شيئاً واحداً لولا أن القراءة مُسْتَنَدُهَا النقل. وقرا أبو عمرو والكسائي وقنبل «خُشْب» والباقون بالضم فهذه القراءة نظير تيك. وهذا الخلاف أعني في «ثمره» والتوجيه بعينه جارٍ في سورة يس [آية 35] وأما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 330 الذي في سورة «الكهف» ففيه ثلاث قراءات: فعاصم يقرؤه بفتحتين، كما يقرؤه في هذه السورة، وفي يس فاستمر على عَمَلٍ واحد، والأخوان يقرآنه بضمتين في السور الثلاث، فاستمر على عمل واحد، وأما نفاع وابن كثير وأبن عامر فقراوا في «الأنعام» و «يس» فتحتين، وقرأوا ما في «الكهف» بضمتين. وأما أبو عمرو فقرأ ما في «الأنعام» و «يس» بفتحتين، وما في «الكهف» بضمة وسكون، وقد ذكروا في توجيه الضمتين في «الكهف» ما لا يمكن أن يأتي في السورتين، وذلك أنهم قالوا في الكهف: الثُّمُر بالضم: المال، وبالفتح المأكول. قوله: «إذَا أثْمَرَ» ظرف لقوله: «انْظُرُوا» وهو يحتمل أن يكون متمحضاً للظرف، وأن يكون شرطاً، وجوابه محذوف أو متقدم عند من يرى ذلك أي: إذا أثمر فانظروا إليه. قوله: «وَيَنْعِهِ» الجمهور على فتح الياء مِنْ «يَنْعهِ» وسكون النون. وقرأ ابن محيصن بضم الياء، وهي قراءة قتادة والضحاك. وقرأ إبراهيم بن أبي عَبْلَةَ واليماني: يانعة، ونسبها الزمخشري لابن محيصن، فيجوز أن يكون عنه قراءتان، والينعُ بالفتح والضم مصدر يَنَعَتِ الثمرة؛ أي: نضجت، والفتح لغة «الحجاز» والضم لغة بعض «نجد» ، ويقال أيضاً: يُنُع بضم الياء والنون ويُنُوع بواو بعد ضمتين. وقيل: اليَنْعُ بالفتح جمع «يانع» كتاجر وتَجْر، وصاحب وصَحْب، ويقال: يَنَعت الثمرة، وأينعت ثلاثياً ورباعياً بمعنى. وقال الحجاج: «أرى رءوساً قد أيْنَعَتْ وحان قِطَافُهَا» ، ويانع: اسم فاعل. وقيل: أينعت الثمرة وينعت احْمَرَّتْ قاله الفراء، ومنه الحديث في المُلاعَنَةِ: «إنْ ولدَتْهُ أحْمَرَ مِثْلَ اليَنَعَةِ» . ويه خَرَزَةٌ حمراء، قيل: هي العَقيقُ، أو نوع منه ويقال: يَنَعَتْ تَيْنِع بفتح العين في الماضي وكسرها في المستقبل، هذا قول أبي عبيده وأنشد: [المديد] 2276 - فِي قِبَابٍ حَوْلَ دَسْكَرَةٍ ... حَوْلَهَا الزَّيْتُونُ قَدْ يَنَعَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 331 وقال الليث بعكس هذا، أي بكسرها في الماضي، وبفتحها في المستقبل وأينعت فهي تينعُ وتَوْنَعُ إيناعاً ويَنَعاً بفتح الياء ويُنعاً بضم الياء، والنَّعت يَانِعٌ ومُونِعٌ. فإن قيل هذا في أول حال حدوث الثمرة، وقوله: «وينعه» أمر بالنظر في حَالِ تمامها وكمالها، والمقصود منه أنَّ هذه الثمار في أول حدوثها على صفات مخصوصة عند مالها تنتقل إلى أحوال مُتَضَادَّةٍ للأحوال السابقة. قيل: إنها كانت مَوْصُوفَةً بالخضرة، فتصير سَوْدَاءَ، أو حمراء، أو صفراء، أو كانت مَوْصُوفَةً بالحموضة، وربما كانت في أوَّل الأمرْرِ بَارِدَةً بحسب الطبيعة، فتصير في آخر الأمر حَارَّةً بحسب الطبيعة، فحصول هذه التّبَدُّلاتِ والتغيرات لا بُدّ له من سَبَبٍ ليس هو تأثير الطَّبائعِ والفُصُولِ والأنجم والأفلاك؛ لأن نِسْبَةَ هذه الأفعال بأسْرِهَا إلى جميع هذه الأجسام المتباينة متساوية مُتَشَابِهَةٌ، والنِّسَبُ المتشابهة لا يمكن ان تكون سبباً لِحُدُوثِ الحوادث المختلفة، ولما بَطَلَ إسْنادُ حدوث هذه الحوادث إلى الطَّبائع والأنْجُمِ والأفلاك، وجب إسْنَادُهَا إلى القادرِ الحكيم العليم المُدَبِّرِ لهذا العالم على وَفْقِ الرحمة والمصلحة والحكمة، فَنَاسَبَ ختام هذه الآية الكريمة بقوله: {إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} للدلالة على ما تقدم في وَحْدَانِيَّتِهِ، وإيجاد المَصْنُوعَاتِ المختلفة من أنها ناَبِتَةً من أرض واحدة، وتُسْقَى بماء واحد، وهذه الدلائل إنما تَنْفَعُ المؤمنين دون غيرهم، كقوله تبارك وتعالى: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: المراد لمن يطلب الإيمان بالله - تبارك وتعالى -؛ لأنه لمن آمن ولمن لا يؤمن فإن قيل: لم أوقع الاختلاف بين الخَلْقِ في هذه المسْألةِ مع وجود مثل هذه الدلالة [الجلية القوية؟] . أجيب عنه بأن قولة الدليل لا تفيد ولا تنفع إلاَّ إذا قدر الله للعبد حصول الإيمان، فكأنه قيل: هذه الدلالة على قوتها وظهورها دلالة لمن سبق قضاء الله تعالى في حقه بالإيمان. فأما من سبق قضاء الله له بالكفر لم ينفع بهذه الدلالةِ ألبتة أصلاً فكان المقصود من هذه التخصيص التنبيه على ما ذكرنا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 332 لما ذكر البراهين الخمسة من دلائل العالم الأعَلْى والأسفل على ثبوت الإلهية، وكمال القدرة الحكمة، ذكر بعد ذلك أنَّ من النَّاسِ من أثبت لله شركاء، وهذه المَسْألةُ تقدَّمَ، إلاَّ أن المَذْكُورَ هنا غير ما تقَّم ذِكرُهُ؛ لأن مثبتي الشَّريك طوائف منها عَبَدَةُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 332 الأصنام فهم يقولون: الأصنام شُرَكَاءُ لله في العبودية والتكوين. ومنها من يقول: مدبر هذا العالم هو الكَوَاكِبُ، وهؤلاء فَرِيقَان منهم من يقول: إنها وَجِبَةُ الوجود لذواتها، ومنهم من يقول: إنها ممكنة الوجود بلذواتها محدثة، خالقها هو الله تبارك وتعالى، إلا أنه تبارك وتعالى فَوَّضَ تدبير هذا العالم الأسفل إليها، وهؤلاء هم الذين نَاظَرَهُمُ الخليل عليه السلام بقوله: {لاا أُحِبُّ الآفلين} [الأنعام: 76] . ومنها الذين قالوا: للعالم إلهان: أحدهما: يفعل الخير خلاق النور والناس والدَّوَابَ والأنعام والثاني: يفعل الشَّر، [وهو إبليس] خالق الظلمة، والسِّبَاع والحِّيات والعقارب، وهم مذكورون هاهنا. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْها والكلبي: نزلت هذه الآية في الزَّنَادقة أثبتوا الشرك لإبليس [في الخلق] . قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: والَّذِي يقوي هذا قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158] فإنما وصف بكونه من الجِنّ؛ لأن لفظ الجِنّ مشتق من الاستتار، والملائكة الروحانيون لا يرون بالعيون، فصارت كأنها مستترة عن العيون، فلهذا أطلق لفظ الجن عليها. قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو مذهب المَجُوسِ، وإنما قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هذا قول الزَّنَادقة؛ لأن المجوس يُلَقبونَ بالزنادقة؛ لأن لاكتاب الذي زعم زادشت أنه نُزِّلَ عليه من عند الله تبارك وتعالى مسمى بالزند، والمنسوب إليه يسمى زيندي، ثم أعْرِبَ فقيل: زنديق، ثم جمع فقيل: الزنادقة. واعلم أن المجُوسَ قالوا في كل ما في هذا العالم نم الخيرات فهو من يزدان، وجميع ما فيه من الشر فهو من أهرمن وهو المسمى ب «إبليس» في شرعنا، ثم اختلفوا فقال أكثرهم: هو محدث، ولهم في كيفية حدوثه أقوال عجيبة. وقال بعضهم: إنه قَدِيمٌ أزَلِيُّ، واتفقوا أنه شريك لله - تعالى - في تَدْبيرِ هذا العالم، فَخَيْرُهُ من الله تبارك وتعالى، وشَرُّهُ من إبليس لَعَنَهُ الله، فهذا شرح قول ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. فإن قيل: القوم أثبتوا لله شريكاً واحداً، وهو إبليس، فكيف حكى الله تعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء. فالجواب: أنهم يقولون: عَسْكَرُ الله هم الملائِكَةُ، وعسكر إبليس الشياطين، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 333 والملائكة فيهم كثرة عظيمة، وهم أرْوَاحٌ طاهرة مُقَدَّسَةٌ يلهمون الأرواح البشرية للخيرات والطاعات، والشياطين فيهم أيضاً كثرة عظيمة تلقي الوَسَاوِس الخبيثة إلى الأرواح البَشَرِيَّةِ، والله تبارك وتعالى مع عَسْكَرِهِ من الملائكة يحاربون إبْلِيسَ مع عَسْكَرِهِ من الشياطين، فلهذا حكى الله تبارك وتعالى عنهم أنهم أثبتوا لله شركاء الجنَّ. قوله: «شُرَكَاءَ الجنَّ» الجمهور على نصب «الجِنَّ» وفيه خمسة أوجه: أحدها: وهو الظاهر أن الجِنَّ هن المفعول الأوَّل. والثاني: هو «شركاء» قدم، و «لله» متعلّق ب «شركاء» ، والجَعْلُ هنا بمعنى التَّصْيير، وفائدة التقديرم كما قال الزمخشري اسْتِعْظَامُ أن يتخذ لله شريك من كان ملكاً أو جنياً أو إنسيَّا، ولذلك قد مسام الله - تبارك وتعالى - على الشُّركاء انتهى. ومعنى كونهم جعلوا الجنَّ شركاء لله هو أنهم يَعْتَقِدُونَ أنَّهُمْ يخلقون من المضارِّ والحيَّات والسباع، [كما جاء في التفسير] . وقيل: ثمَّ طائفة من الملائكة يُسَمَّوْنَ الجن كان بعض العرب يَعْبُدُهَا. الثاني: أن يكون «شركاء» مفعولاً أوَّل، و «لله» مُتعلِّق بمحذوف على أنه المفعول الثاني، و «الجن» بدلٌ من «شركاء» أجاز ذلك الزمخشري، وابن عطية، والحوفي، وأبو البقاء، ومكي بن أبي طالب إلا أن مكيَّا لما ذكر هذا الوَجْهَ جعل اللام من «لله» مُتلِّقةً ب «جعل» فإنه قال: الجنّ مفعول أوَّل ل «جَعَلَ و» شركاء «مفعول ثانٍ مقدم، واللام في» لله «متعلّقة ب» شركاء «وإن شِئْتَ جَعَلْتَ» شركاء «معفولاً أوّل، و» الجن «بدلاً من» شركاء «و» لله «في موضع المفعول الثاني، واللام متعلقة ب» جعل «. قال شهاب الدين: بعد أن جعل» لله «مفعولاً ثانياً كيف يُتَصَوَّرُ أن يجعل اللام متعلقة بالجعل؟ هذا ما لا يجوز لأنه لما صار مفعولاً ثانياً تعيَّن تعلُّقُهُ بمحذوف عل ما عرفته غير مَرَّة. قال أبو حيَّان:» ومَا أجَازُوهُ - يعني الزمخشري وممن معه - لا يجوز؛ لأنه يصح ببلدل أن يحل مَحضلّ المبدل منه، فيكون الكلام منتظماً لو قلت: وجعلوا لله الجِنَّ لم يصح، وشرط البَدَلِ أن يكون على نِيَّةِ تَكْرَارِ العامل على أشهر القولين، أو معمولاً للعامل في المبدل منه على قول، وهذا لا يَصِحُّ هنا ألبتة لما ذكرنا «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 334 قال شهاب الدين: رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - هذا القول المنسوب للزمخشري، ومن ذكر معه سبقهم إليه الفرَّاء وأبو إسحاق، فإنهما أجَاظَ أن يكونا مفعولين قدم ثانيهما على الأوَّلِن وأجازظا أن يكون» الجنَّ «بدلاً من» الشركاء «ومفسراً للشركاء هذا نَصّ عبارتهم، وهو معنى صحيح أعني كون البَدَلِ مفسراً، فلا معنى رد هذا القول، وأيضاً فقد رَدّ على الزمخشري عند قوله تعالى: {إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعبدوا} [المائدة: 117] فإنه لا يلزم في كل بدلٍ أن يحل محل المبدل منه، قال:» ألا ترى إلى تَجْويز النحويين «زيدت مررت به أبي عبد الله» ولو قلت: «زيدت مررت بأبي عبد الله» لم يجز إلاَّ على رَأي الأخفش «، وقد سبق هذا في» المائدة «فقد قرَّر هو أنه لا يلزمُ حُلُول البدل مَحَلّ المبدل منه، فكيف يَرُدُّ به هنا؟ الثالث: أن يكون» شركاء «هو المَفْعُول الأوّل، و» الجن «هو المفعول الثاني قاله الحوفي، وهذا لا يَصِحُّ لِمَا عَرَفْتَ أنَّ الأوَّل في هذا الباب مبتدأ في الأصل، والثاني خبر في الأصل، وتقرَّرَ أنه إذا اجتمع مَعْرِفَةٌ ونكرة جَعَلْتَ المعرفة مبتدأ، والنكرة خبراً من غير عكس، إلا في ضرورة تقدَّم التَّنْبِيهُ على الوارد منها. ؟ الرابع: أن يكون «شركاء الجن» مفعولين على ما تقدَّم بيانه، و «لله» متعلق بمحذوف على أنه حالٌ من «شركاء» ؛ لأنه لو تأخَّرَ عنها لجاز أن يكون صفة لها قاله أبو البقاء، وهذا لا يَصِحُّح؛ لأنه يصير المعنى: جعلوهم شركاء في حال كَوْنِهِم لله، أي: مملوكين، وهذه حالٌ لازمة لا تَنْفَكُّ، ولا يجوز أن يقال: إنها غير منتقلة؛ لأنها مؤكدة؛ إذا لا تأكيد فيها هنا، وأيضاً فإن فيه تَهْيِئَةَ العامل في معمول وقطعه عنه، فإن «شركاء» يطلب هذا الجارّ يعلمل فيه، والمعنى مُنْصَبُّ على ذلك. الخامس: أن يكون «الجنَّ» مَنْصُوباً بفعل مضمر جواب لسؤال مقدر، كأن سائلاً سألَ، فقال بعد قوله تعالى {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} : مَنْ جعلوا لله شركاء؟ فقيل: الجنّ، أي: جعلوا الجِن. نقله أبو حيَّان عن شيخه أبي جعفر بن الزبير، وجعله أحسن مما تقدم؛ قال: «ويؤيد ذلك قراءة أبي حيوة، ويزيد بن قطيب» الجنُّ «رفعاً على تقدير: هم الجنّ جواباً لمن قال: جعلوا لله شركاء؟ فقيل: هم الجنُّ، ويكون ذلك على سبيل الاسْتِعْظَامِ لما فعلوه، والاسْتِنْقَاصِ بمن جعلوه شَرِيكاً لله تعالى» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 335 وقال مكي: «وأجاز الكِسَائِيُّ» رفع «الجنّ» على معنى هم الجنّ «. فلم يَرْوِها عنه قراءة، وكأنه لم يَطَّلِعْ على أن غيره قرأها كذلك. وقرأ شعيب بن أبي حمزة، ويزيد بن قطيب، وأبو حيوة في رواية عنهما أيضاً» شركاء الجنِّ «بخفض» الجنّ «. قال الزَّمَخْشريّ:» وقرئ بالجر على الإضافة التي للتَّبْيينِ، فالمعنى: أشركوهم في عبادتهم؛ لأنهم أطَاعُوهُمْ كما أطاعوا الله «. قال أبو حيَّان: ولا يتَّضِحُ معنى هذه القراءة؛ إذا التقدير: وجعلوا شركاء الجن لله. قال شهاب الدين: مَعْنَاها واضح بما فَسَّرَهُ الزمخشري في قوله، والمعنى: أشْرَكوهم في عبادتهم إلى آخرن، ولذلك سمَّاها إضافة تبيين أي أنه بين الشركاء، كأنه قيل: الشركاء المطعيين للجن. قوله: «وخَلَقَهُمْ» . الجمهور على «خَلَقَهُمْ» بفتح اللام فعلاً ماضياً، وفي هذه الجملة احتمالان: أحدهما: أنه حالية ف «قد» مضمرة عند قوم، وغيرم ضمرة عند آخرين. والثاني: أنها مُسْتَانَفَةٌ لا محلَّ لها، والضمير في «خلقهم» فيه وجهان: أحدهما: أنه يعود على الجاعلين، أي: جعلوا له شركاء مع أنه خلقهم وأوجدهم منفرداً بذلك من غيرم شاركة له في خَلْقِهِم، فكيف يشركون به غيره ممن لا تَأثيرَ له من خلقهم؟ والثاني: أنه يعود على الجنِّ، أي: والحال أنه خلق الشركاء، فكيف يجعلون مخلوقه شريكاً له؟ وقرأ يحيى بن يعمر: «وخَلْقهم» بسكون اللام. قال أبو حيان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وكذا في مصحف عبد الله» . قال شهاب الدين: قوله: «وكذا في مصحف عبد الله» فيه نظرٌ من حيث إن الشَّكْلَ الاصطلاحي أعني ما يدل على الحَركَاتِ الثلاث، وما يَدُلُّ على السكون كالجزء منه كانت حيث مصاحب السلف منها مجردة، والضبط الموجودة بين أيدينا اليوم أمر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 336 حادث، يقال: إن أوَّل من أحدثه يحيى بن يَعْمُر، فكيف يُنْسَبُ ذلك لِمُصْحَفِ عبد الله بن مسعود؟ وفي هذه القراءة تأويلان: أحدهما: أن يكون «خَلْقهم» مصدراً بمعنى اختلاقهم. قال الزمخشري: أي اختلاقهم للإفْكِ، يعني: وجعلوا لله خَلْقَهم حيث نسبوا قبائحهم إلى الله في قولهم: «واللَّهُ أمَرَنَا بِهَا» انتهى. فيكون «لله» هو المفعول الثاني قُدِّمَ على الأول. والتأويل الثاني: أن يكون «خَلْقهم» مَصْدراً بمعنى مخلوقهم، فيكون عَطْفاً على «الجنّ» ومعفوله الثاني محذوف، تقديره: وجعلوا مخلوقهم وهو ما يَنْحِتُونض من الأصنام كقوله تعالى: {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} [الصافات: 59] شركاء لله تعالى. قوله تعالى: «وخَرَقُوا» قرأ الجمهور «خَرَقُوا» بتخفيف الراء، ونافع بتشديدها. وقرأ ابن عباس بالحاء المهملة والفاء وتخفيف الراء، وابن عمر كذلك أيضاً، إلا أنه شدَّدَ الراء، والتخفيف في قراءة الجماعة بمعنى الاخْتِلاق. قال الفراء: يال: «خَلَقَ الإفْكَ وخَرَقَهُ واخْتَلَقَهُ وافتَرَاهُ وافتَعَلَهُ وخَرَصَهُ بمعنى كذب فيه» . والتشديد للتكثير، لأن القائلين بذلك خَلْقٌ كثير وجَمٌّ غفير. وقيل: هما لغتان، والتخفيف هو الأصل [وحكى الزمخشري أنه سئل الحسن عن هذه الكلمة، فقالك كملة عربية كانت العربُ تقولها كان الرجل إذا كذب كذْبَةً في نادي القوم يقُولُ له بعضهم: شقد خرقها والله أعلم] . وقال الزمخشري: «ويجوز أن يكون من خَرْقِ الثوب إذا شقّه، أي: اشتقوا له بَنِينَ وبناتٍ» . وأما قراءة الحاء المهملة فمعناها التَّزْوير، أي: زَوَّرُوا له أولاداً؛ لأنه المُزَوِّرَ مُحَرِّفٌ ومُغَيِّرُ الحق إلى الباطل. وقوله: «بِغَيْرِ عِلمْمٍ» فيه وجهان: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 337 أحدهما: أنه نَعْتٌ لمصدر محذوف؛ أي: خَرَقُوا له خَرْقاً بغير علمٍ قاله أبو البقاء، وهو ضعيف المعنى. الثاني: وهو الأحسن: أن يكون منصوباً على الحال من فاعل «خَرَقوا» أي: افتلعوا الكذب مُصَاحبين للجهل وهو عدم العلم كقول اليهود {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] وقول النصارى: {المسيح ابن الله} [التوبة: 30] وقول كُفَّار العرب: الملائكة بَنَاتُ الله، ثم إنه تبارك وتعالى نَزَّهُ نفسه، فقال: «سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ» ، والمقصود تَنْزِيهُ الله تعالى عن كل ما لا يليقُ به. واعلم أنه تبارك وتعالى حكى عن الكُفَّرِ أنه أثْبَتُوا له بَنينَ وبنات، أما الذين أثبتوا البَنينَ فمنهم النَّصارى، وقوم من اليهود، وأما الذين أثبتوا البنات فهم العرب الذين يَقُولُون: الملائكة بناتُ الله. وقوله: «بِغَيْرِ عِلْم» كالتَّنْبِيهِ على ما هو الدليل القاطع على فسادِ هذا القول؛ لأن الإله يجب أن يكون واجبَ الوجود لِذاتِهِ [فولده إما أن يكون واجب الوجود لذاته، أو لا يكون، فإن كان واجب الوجود لذاته] كان مُسْتَقِلاً بنفسه قائماً بذاته لا تعلُّق له في وجوده بالآخرة، ومن كان كذلك لم يكن له وَلَد ألْبَتَّةَ؛ لأن الولد مُشْعِرٌ بالفرعية والحاجة. وإن كان مُمْكِنَ الوجود، فحينئذ يكون وُجُودُهُ بإيجاد واجب الوجود لذاته، فيكون عَبْداً له لا والداً له، فثبت أنَّ من عرف أن الإله ما هو امْتَنَعَ من أن يُثْبِتَ له البنات والبنين. وأيضاً فإن الولدَ يحتاج إليه ليقوم مقامهُ عبد فنائِهِ، وهذا إنما يُقالُ في حَقِّ مَنْ يَفْنَىَ، أما من تقدِّس عن ذلك لم يعقل الولد في حقِّهِ. أيضاً فإن الولد يشعر بكونه مُتولِّداً عن جُزْءٍ من أجزاء الوالد، وذلك إنما يعقل في حقِّ المُركِّبِ من الأجزاء، أما الفرد الواجب لذاته فَمُحَالٌ، فمن علم ما حقيقة الله؛ اسْتَحَالَ أن يقول: له ولد، فكان قوله تبارك وتعالى: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} إشارة إلى هذه الدقيقة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 338 لمَّا بيَّن فساد أقوال المشركين شَرَعَ في إقامة الدلالة على فساد قول من يثبت له الولد، فقال: «بَدِيعُ السَّمواتِ والأرْضِ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 338 والإبداع: عبارة عن تَكْوينِ الشيء من غير سَبْقِ مثالٍ، وتقدَّم الكلامُ عليه في «البقرة» . وقرأ الجمهور رفع العين، وفيها ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو بَدِيعٌ، فيكون الوَقْفُ على قوله: «والأرض» فهي جملة مستقلة بنفسها. الثاني: أنه فاعل بقوله: «تعالى» ، أي: بديع السموات، وتكون هذه الجملة الفعلية مَعْطُوفَةً على الفِعْلِ المقدر قبلها، وهو النَّاصب ل «سبحان» فإن «سبحان» كما تقدَّم من المصادرِ اللازم إضمار ناصبها. الثالث: أنه مبتدأ وخبره ما بعده من قوله: «أنَّى يَكُونُ لَهُ ولدٌ» . وقرأ المنصور «بديع» بالجر قال الزمخشري: ردَّا على قوله: «وجعلوا لله» ، أو على «سبحانه» كذا قاله، ولم يبيّن على أي وجه من وُجُوهِ الإعراب هو وكذا أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ - حَكَاهُ عنه ومرَّ عليه، ويريد بالرد كونه تابعاً، إما: لله، أو للضمير المجرور في «سُبْحَانَهُ» وتبعيته له على كونه بدلاً من «لله» تعالى أو من الهاء في «سُبْحَانَهُ» ويجوز أن يكون نَعْتاً [لله على أن تكون إضافة «بديع» مَحْضَةً كما ستعرفه. وأما تَبَعِيَّتُهُ للهاء فيتعين أن يكون بدلاً، ويمتنع أن يكون نَعْتاً] ، وإن اعتقدنا تعريفه بالإضافة لِمُعَارضِ آخر، وهوأن الضمير لا ينعت إلا ضمير الغائب على رأي الكسائي، فعلى رأيه قد يجوز ذلك. وقرأ أبو صالح الشَّامي: «بديعَ» نصباً، ونَصْبُهُ على المَدْحِ، وهي تؤيد قراءة الجر، وقرءاة الرفع المتقدمة يحتمل أن تكون أصْلِيَّة الإتباع بالجر على البَدَلِ ثم قطع التابع رفعاً. و «بديع» يجوز أن يكون بمعنى «مُبْدِعٍ» وقد سَبَقَ معناه، أو تكون صِفَةً مشبهة أضيفت لرفوعها، كقولك: فلان بديعُ الشعر، أي: بديع شعره، وعلى هذيْنِ القولين، فإضافته لَفظِيَّةٌ، لأنه في الأوَّل من باب إضافة اسم الفاعل إلى منصوبه، وفي الثُّاني من باب إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها، ويجوز أن تكون بمعنى عديم النظير والمثل فيهما، كأنه قيل: البديع في السموات والأرض، فالإضافة على هذا إضافةٌ مَحْضَةٌ. قوله: {أنى يَكُونُ لَهُ وَلَد} «أنَّى» بمعنى «كيف» [أو «من أين» ] وفيها وجهان: أحدهما: أنها خبر كان الناقصة، و «له» في محل نصبٍ على الحال، و «ولد» اسمها، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 339 ويجوز أن يتكون مَنْصُوبَةً على التشبيه بالحال أو الظرف، كقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } [البقرة: 28] والعامل فيها قال أبو البقاء: [ «يكون» ] وهذا على رَأي من يجيز في «كان» أن تعمل في الأحوال والظروف وشبههما، و «له» خبر يكون، و «ولد» اسمها. ويجوز في «يكون» أن تكون تامَّةً، وهذا أحْسَنُ أي: كيف يوجد له ولدٌ، وأسباب الولدية مُنْتَفِيَةٌ؟ قوله: {وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَة} هذه «الواو» للحال، والجملة بعدها في مَحَل نصب على الحال من مضمون الجملة المتقدمة، أي: كيف يُوجد له ولد، والحال أنه لم يكن له زَوجٌ، وقد عُلِمَ أن الولدَ إنما يكون من بين ذكرٍ وأنثى، وهو مُنَزَّهٌ عن ذلك. والجمهور على «تكن» بالتاء من فوق. وقرأ النخعي بالياء من تحت وفيه أربعة أوجه: أحدها: أن الفِعْلَ مسند إلى «صاحبه» أيضاً كالقراءة المشهورة، وإنما جاز التذكير لِلْفَصْلِ كقوله: [الوافر] 2777 - لَقَدْ وَلَدَ الأخَيْطِلَ أمُّ سَوْءٍ ..... ... ... ... ... ... ... وقول القائل: [البسيط] 2278 - إنَّ امْرَأ غَرَّهُ مِنْكُنَّ وَاحِدَةٌ ... بَعْدِي وبَعْدَكِ في الدُّنْيَا لَمَغْرُور وقال ابن عطيَّة: «وتذكير» كان «وأخواتها مع تأنيث اسمها أسْهَلُ من ذلك في سائر الأفعال» . قال أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «ولا أعرف هذا عن النحويين، ولم يُفَرِّقوا بين» كان «وغيرها» . قال شهاب الدين: هذا كلامٌ صحيح، ويؤديه أن الفارسيَّ وإن كان يقول بِحَرْفِيَّةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 340 بعضها ك «ليس» ، فإنه لا يجيزحَذْفَ التاء منها لو قلت: «ليس هند قائمة» لم يَجْزْ. الثاني: أن في «يكون» ضميراً يعود على الله تعالى، و «له» خبر مُقدَّمٌ، و «صاحبة» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «يكون» . الثالث: أن يكون «له» وحْدَهُ هو الخبر، و «صاحبة» فاعل به لاعْتِمَادِهِ وهذه أوْلَى مِمَّا قبله؛ لأن الجارَّ أقْرَبُ إلى المفرد، والأصل في الأخبار الإفراد. الرابع: أنَّ في «يكون» ضمير الأمر والشأن، و «له» خبر مُقدَّمٌ، و «صاحبة» مبتدأ مؤخر، والجملة خبر «يكون» مفسّرة لضمير الشأن، ولا يجوز في هذا أن يكون «له» هو الخبر وَحْدَهُ، و «صاحبة» فاعل به، كما جاز في الوجه قبله. والفرق أن ضمير الشَّأن لا يُفَسَّر إلا بجملة صريحة، وقد تقدَّم أن هذا النَّوعَ من قبيل المفردات، و [ «تكن» ] يَجُوزُ أن تكون النَّاقِصَةَ أو التامة حسبما تقدَّم فيما قبلها. وقوله: «وَخَلَقَ كُلَّ شيءٍ» هذه جملة إخبارية مُسْتَأنَفَةٌ، ويجوز أن تكون حالاً وهي حال لازمة. فصل في إبطال نسبة الولد إلى الله تعالى عن ذلك اعلم أنَّ المَقْصُودَ من الآية بيانُ إبطال من يثبت الولد منه تبارك وتعالى، فيقال لهمك إما أن تريديوا بكونه ولداً لله تبارك وتعالى [كما هو المعهود من كون الإنسان ولداً لأبيه] أو أبدعه من غير تقدُّمِ نُطْفَةٍ ووالد، وإما أن تريدوا بكونه ولداً لله كما هو المألوف، وإما أن تريدوا بكونه ولداً لله مفهوماً ثالثاً مغايراً لهذين المفهومين، أما الأول فباطل؛ لأنه - تبارك وتعالى - وإن كان يحدث الحوادث في مثل هذا العالم الأسفل، بناء على أسباب معلومة، إلاَّ أنَّ النصارى يسلمون أن العالم الأسفل محدث. فصل في رد شبهة النصارى وإذا كان كذلك لزمهم الاعْتِرَافُ بأن الله - تعالى - خلق السَّموات والأرض من غير سبق مادَّةٍ، وإذا كان كذلك وَجَبَ أن يكون إحْدَاثُهُ للسموات والأرض إبْدَاعاً، فلو لزم من مجرد كونه مُبْدِعاً [لإحداث عيسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - كونه والداً له لزم من كونه مُبْدِعاً] للسموات والأرض أن يكون والداً لهما، وذلك مُحَالٌ، فلزم من كونه مُبْدِعاً لعيسى عليه الصَّلاة والسَّلام ألاًّ يكون والداً لهما وهذا هو المراد من قوله: «بَدِيعُ السَّمواتِ والأرْضِ» وإنما ذكر السَّموات والأرض فقط، ولم يذكر ما فيهما، لأن حدوث ما في السموات والأرض ليس على سبيل الإبداع، أمَّا حُدُوثُ ذَاتِ السموات والأرض، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 341 فقد كان على سبيل الإبداع، فحصل الإبداع بِذِكْرِ السموات والأرض لا بذكر ما فيهما، وإن أرادوا من الوِلادَةِ الأمر المعهود في الحيوانات، فهذا أيضاً باطل من وجوه: أولها: أن الولادةَ لا تَصِحُّ إلا ممن له زوجة وشَهْوَةٌ ينفصل عنه بِجْزْءٍ في باطن تلك الصَّاحبة، وهذه الأحوال إنما تثبت في حَقِّ الجسم الذي يصح عليه الاجتماع والافتراق، والحركة والسكون والشَّهْوَةُ واللَّذَّةُ، وكل ذلك على خالق العالم مُحَالٌ، وهذا هو المراد من قوله: «أنَّى يَكُونُ لَهُ ولدٌ ولمْ تَكُنْ لهُ صَاحبةٌ» . ثانيها: أن تحصيل الولد بهذا الطريق المعتادإنما يصح في حق من لا يكون قادراً على الخلق، وأمَّا الخالق لكل الممكنات، القادر على كل المحدثات، فإذا أراد إحداث شيء قال له: «كن فيكون» ومن كان هذا صفته يمتنع إحداث شخص بطريق الوِلادةِ، وهذا هو المراد من قوله: «خَلَقَ كُلَّ شيءٍ» . وثالثها: أن هذا الولد إمَّا أن يكون قديماً أو محدثا، لا جائز أن يكون قديماً؛ لأن القديم يجب كونه واجب الوجود لِذَاتِهِ وما كان واجباً لذاته غني عن غيره، فيمتنع كونه ولداً لغيره، فبقي أن يكون الولد محدثاً، وإذا كان والداً كان محدثاً فنقول: إنه تبارك وتعالى عالم بجميع المَعْلُومَات، فإما أن يعمل أن له في تحصيل الولد كمالاً ونفعاً أو يعمل أنه ليس الأمر كذلك، فإن كان الأول فلا وَقْتَ يفرض أن الله - تعالى - خلق هذا الولد فيه إلاَّ والدَّاعي إلى إيجاد هذا الولد كان حاصلاً قبله، فيلزم حُصُولُ الولد قبل ذلك، وهذا يوجب كون ذلك الولد أزليَّا وهو مُحَالٌ. وإن علم أنه ليس في تحصل الولد كمال ونفع، فيجب ألاَّ يحدثه ألبتة، وهذا هو المراد من قوله تعالى: {وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} وأما الاحتمال الثالث فذلك بَاطِلٌ غير مُتَصَوَّرٍ، ولا مفهوم للعقل، بإثبات الولادة بناء على ذلك مَحْضُ الجهل، وهو بَاطِلٌ. قوله: «ذَلِكُم» أي: ذلكم الموصوف بتلك الصِّفَاتِ المتقدمة اللَّهُ تعالى فاسم الإشارة مبتدأ، و «الله» تعالى خبره، وكذا «ربكم» ، وكذا الجملة من قوله: «لا إله إلا هو» ، وكذا «خلاق» . قال الزمخشري: «وهو مبتدأ وما بعده أخبار مترادفة» . قال شهاب الدين: وهذا عند من يُجِيزُ تَعَدُّدَ الخبر مُطْلَقاً، ويجوز أن يكون «الله» وَحْدَهُ هو الخبر، وما بعده أبْدَالٌ، كذا قال أبو البقاء، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ بعضها مُشْتَقٌّ، والبدل يَقِلُّ بالمُشْتَقَّاتِ، وقد يقال: إنَّ هذه وإن كانت مُشْتَقَّةً ولكنها بالنِّسْبَةِ إلى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 342 الله - تعالى من حيث اختصاصها به صارت كالجَوَامِدِ، ويجوز أن يكون «الله تعالى هو البدل، وما بعده أخبار أيضاً. ومن منع تعدُّدَ الخبر قدَّرَ قبل كُلِّ خبر مبتدأ أو يجعلها كلها بمنزلة اسم واحد، كأنه قيل: ذلك المَوْصُوفُ هو الجامع بين هذه الصفات. فصل في إثبات وحدانية الله تعالى اعلم أنه - تبارك وتعالى - لمَّا أقام الحُجَّة على وُجُودِ الإله القادرِ المختار الحكيم، وبيَّن فساد كل من ذهب إلى الإشراك، وفصَّل مذْهبهُمْ، وبيَّن فسادَ كل واحد منها، ثم حكى مَذْهَب مَنْ أثبت لله البَنينَ، وبيَّن فسادَ القول بها بالدليل القاطع، فعند هذا ثبَتَ أن إلهَ العالم فَرْدٌ أحَدٌ صَمَدٌ مُنَزَّهٌ عن الشَّريكِ والنظير، ومُنَزَّهُ عن الأولادِ، فعند هذا صرَّح بالنَّنتيجة، فقال: {ذلكم الله رَبُّكُمْ لاا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه} ولا تعبدوا غيره، فهو المُطَّلِعُ بمُهِمَّاتِ جميع العِبَادِ، وهو الذي يسمع دعاءهم وحَاجَتَهُمْ، وهو الوكيل لكل أحد على حصول مُهَمَّاتِهِ. أعلم أنه - تبارك وتعالى - بيَّن في هذا السورة بالدلائل القاطعة الكثيرة افْتِقَارَ الخَلْقِ إلى خالقٍ ومُوجِدٍ ومُبْدِعٍ ومُدَبِّرٍٍ، ولم يذكر دليلاً مُنْفَصِلاً يَدُلُّ على نَفْي الشركاء والأضْدادِ والأنْدَادِ، بل نقل قَوْلَةَ من أثْبَتَ الشريك من لاجن، ثم أبْطَلَهُ ثم أتى بالتوحيد المَحْضِ بعده، فقال: {ذلكم الله رَبُّكُمْ لاا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه} وإقامة الدليل على وُجُودِ الخالق وتزْيِيف دليل من أثبت لله - تعالى - شِرِيكاً كيف يوجب الجَزْمَ بالتوحيد المَحْضِ، وللعلماء في إثبات التوحيد طُرُقٌ. أحدها: قال المُتقدِّمُونَ: الصَّانِعُ الواحد كافٍ في كونه إلهاً للعالم ومُدَبِّراً له، والقول بالزَّائِدِ على الواحد مُتَكَافِئ، لأن الزَّائدَ على الواحد لم يَدُلَّ الدليل على ثُبُوتِهِ، ولم يكن إثبات عددٍ أوْلَى من إثْباتِ عدد آخر، فلزم إمَّا إثبات آله لا نهاية لها، وهو مُحَالٌ، أو إثبات عدد مُعَيَّنٍ مع أنه ليس ذلك العَدَوُ أوْلَى من سائر الأعْدَادِ، وهو أيضاً محال، وإذا بطل القسمان تعيَّنَ القول بالتوحيد. الثاني: أن الإله القادرَ على كُلِّ الممكنات العالم بِكُلِّ المعلومات كافٍ في تَدْبيرِ العالم، فلو قدرت إلهاً ثانياً لكان ذلك الثَّانِي إمَّا أن يكون فاعلاً مختاراً أو موجد الشيء من حوادث العالم أوْلَى بكون الأول باطلاً لأنه لما كان كل واحد منهما قادراً على جميع المُمْكِنَاتِ، فكل فعل يفعله أحدهما صَارَ كونه فاعلاً لذلك الفعل قادراً على جميع المُمْكِنَاتِ، فكل فعل يفعل أحدهما صَارَ كونه فاعلاً لذلك الفعل مانعاً للآخر عن تحصيل مقصود ومَقْدُوره، وذلك يوجب كون كل واحد منهما سبباً لعجز الآخر وهو مُحَالٌ، وإن كان الثاني لا يفعل فعلاً، ولا يوجد شيئاً كان ناقصاً معطلاً، وذلك لا يصلح للإلهية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 343 الثالث: أن الإله الواحد لا بد وأن يكون [كاملاً] في صفة الإلهية، فلو فرضنا إلهاً ثانياً لكان ذلك الثاني إما يكون مُشَاركاً لأوَّل في جميع صفات الكمال أو لا، فإن كان مشاركاً للأوَّلِ في جميع صفات الكمال، فلا بد وأن يكون متميزاً بأمرها، إذ لو لم يحصل الأمر المميز إما أن يكون من صفات الكمال أو لا يكون، فإن كان من صفات الكمال مع أنه حصل الامتياز به] لم يكن جميع صفات الكمال مشركاً فيه بينهما وإن لم يكن ذلك المميز نُقْصَان، فثبت بهذه الوُجُوهِ الثلاثة أن الإله الواحد كافٍ في تدبير العالم، وأن الزائد يجب نَفْيُهُ. تمسَّك العلماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - بقوله تبارك وتعالى «خَالِق كُلِّ شيءٍ» على أنه - تبارك وتعالى - هو الخالق لأعمال العبادِ قالوا: لأن أعمال العبادِ أشياء، والله خَالِقٌ لكل شيء بحكم هذه الآية، فوجب كونه خالقاً لها. قالت المعتزلة: هذا اللَّفْظُ وإن كان عاماً إلا أنه حصل مع هذه الآيةِ وجوه تَدُلُّ على أن أعمال العبادِ خارجة عن هذا العموم. أحدها: أنه - تبارك وتعالى - قال: «خَالِق كُلِّ شيءٍ فاعْبدُوهُ» ولو دخلت أعمال العبادِ تحته لصارَ تقدير الآية الكريمة: إنا خلقنا أعمالكم، فافعلوها بأعيانها أنتم مرة أخرى، وذلك فَاسِدٌ. وثانيها: أنه تبارك وتعالى - إنما [قال:] «خَالِق كُلِّ شيءٍ» في معرض المَدْح والثناء على نفسه، فلو دخل تحت أعْمَالِ العباد لخرج عن كَوْنِهِ مدحاً؛ لأنه لا يليق به تعالى أن يَمْتَدِحَ بِخَلْقِ الزنا واللواط، والسرقة والكفر. وثالثها: أنه تبارك وتعالى - قال بعد هذه الآية: {قَدْ جَآءَكُمْ بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104] وهذا تصريح بكون العَبْدِ مستقلاً بالفعل والترك، وأنه لا مانع له ألْبَتَّةً من الفعل والترك، وذلك يَدُلُّ على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى [إذ لو كان مخلوقاً لله - تعالى - لما] كان العَبْدُ مستقلاً به؛ لأنه إذا أوجده الله تعالى امتنع من العبد دفعه، وإذا لم يوجده الله - تعالى - امتنع العبد مخلوق لله وإذا دلَّت الآية على كون العَبْدِ مستقلاً بالفعل والترك، وامتنع أن يقال: فعل العبد مخلوق لله تعالى ثبت أن قوله تعالى: {فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا} [الأنعام: 104] يوجب تخصيص ذلك العموم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 344 والجواب: أن الدليل العَقْلِيَّ قد ساعد على صِحَّةِ ظاهرة هذه الآية الكريمة؛ لأن الفعل مَوْقُوفٌ على الداعي، وخالق الداعي هو الله - تعالى - ومجموع القُدْرَةِ مع الداعي يوجب الفعل، وذلك [يقتضي] كونه - تعالى - خَالِقَ كل شيء فاعبدوه، ويَدُلُّ على أن كونه خَالِقاً لكل الأشْيَاءِ سبب للأمر [بالعبادة] لأنه رتب الأمر بالعبادة على كَوْنِهِ خالقاً للأشياء بفاء التعقيب، وترتيب الحكم مُشْعِرٌ بالسّبَبِيَّةِ. فصل في دحض شبهة للمعتزلة في الصفات وخلق القرآن احْتَجَّ كثيرٌ من المعتزلة بقوله تبارك وتعالى: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} على نفي الصفات، وعلى كونه القرآن مَخْلُوقاً، أما نَفْيُ الصِّفَات، فإنهم قالوا: لو كان - تعالى - عالماً بالعلم قادراً بالقُدْرَةِ لكان ذلك العِلْمُ والقدرة إما أن يقال: إنهما قَدِيمانِ أو محدثان، والأوَّلُ باطل؛ لأن عموم قوله: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ} يقتضي كونه - تبارك وتعالى - خالقاً لِكُلِّ الأشياء وخَصَّصْنَا هذا العموم بحسب ذاته تعالى ضَرُورة أنه يِمْتَنِعُ أن يكون خالقاً لنفسه، فيبقى على عمومه فيما عَدَاهُ. وإن قلنا بحدوث عِلْمِ الله تعالى وقدرته، فهو بَاطِلٌ بالإجماع، ولأنه يلزم افْتِقَارُ إيجاد ذلك العمل والقُدْرَةِ إلى سَبْقِ عِلْمِ آخر، لأن القرآن شيء وكل شيء فهو مَخْلُوقٌ لله - تبارك وتعالى - بِحُكْمِ هذا العموم وأقْصى ما في الباب أن هذا العُمُومَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ في ذات الله - تبارك وتعالى - إلاَّ أن العام بالدَّلائلِ الدَّالَّةِ على أن كلام الله تبارك وتعالى - قَدِيمٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 345 قال سعيد بن المُسَيَّبِ: لا تحيط به الأبصارُ. وقال عطاء: كَلَّتْ أبْصَارُ المخلوقين عن الإحَاطَةِ به. وقال ابن عبَّاسٍ: لا تدركه الأبْصَارُ في الدنيا وهو يُرى في الآخرة. قوله: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} أي: لا يخفى عليه شيءٌ ولا يفوته {وَهُوَ اللطيف الخبير} . قال ابن عباس: اللَّطيفُ بأوليائه، الخَبِيرُ بهم. وقال الأزهري: اللَّطِيفُ الرفيق بعباده. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 345 وقيل: اللطيف الذي يُنْسِي العِبادَ ذنوبهم لئلاَّ يِخْجَلُوا، والَّطَافَةُ ضِدُّ الكَثَافَةِ، والمراد منه الرقة، وذلك في حَقِّ الله تعالى ممتنع، فوجب المصير إلى التأويل، وهو من وجوه: أحدها: لطف صنعه في تركيب أبْدانِ الحيوانات من الأجزاء الدقيقة، والمنَافِذ الضيقة التي لا يعلمها أحد إلا اللَّه تبارك وتعالى. وثانيها: لَطِيفٌ بعباده حيث يثني عليهم عند الطَّاعةِ، ويأمرهم [بالتَّوبْةِ عند] المعصية، ولا يقطعُ عنهم موادَّ رحمته، سواء كانوا مطيعين أو عُصَاةً. وثالثها: لَطِيفٌ بهم حيث لا يأمرهم فوق طاقتهم، وينعم عليهم بما هو فوقَ اسْتِحْقَاقهمْ. وأما الخبير فهو من الخبرِ، وهو العلم، والمعنى: أنه لَطِيفٌ بعباده مع كونه عالماً بما هم عليه من ارْتِكَابِ المعاصي والقبائح. وقال الزمخشري: اللَّطِيفُ معناه: أنه يلطف عن أن تُدْرِكهُ الأبصار الخبير بكل لطيف، فهو يُدْرِكُ الأبصار ولا يلطف شيء عن إدراكه. فصل فيما تدل عليه الآية احتج أهل السُّنَّةِ بهذه الآية على أنه - تبارك وتعالى - لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ، وذلك مما يساعد الخصم عليه، وعليه بنوا اسْتِدْلاَلَهُمْ على نَفْي الرؤية، فنقول: لو لم يكن تعالى جَائِزَ الرُّؤيَةَ لما حَصَلَ التَّمَدُّحُ بقوله: «لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ» ؛ ألا ترى أن المعدوم لا تَصِحُّ رؤيته، والعلوم والقدرة والإدارة والروائح والطعوم لا يصح رؤية شيء منها ولا مدح لشيء منها في كونها بحيث لا يَصِحُّ رؤيتها، فثبت أن قوله: «لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ» يفيد المدح، وثبت أن ذلك إنما يفيد المَدْحَ لو كان صَحِيحَ الرُّؤيَةِ، وهذا يَدُلُّ على أن قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} يفيد كونه - تعالى - جَائِزَ الرُّؤيَةِ، وتحقيقه أن الشيء إذا كان في نَفْسِهِ بحيث يمتنع رؤيته، فحينئذ لا يَلْزمُ من عدم رؤيته مَدْحٌ وتَعْظيمٌ لذلك الشيء، أما إذا كان في نفسه جَائِزَ الرؤية، ثم إنه قدر على حجب الأبصار عن رُؤيَتِهِ، وعن إدراكه كانت هذه القُدْرَةُ دَالَّةً على المدح والعظمة، فثبت أن هذه الآية دالَّةٌ على أنه - تعالى - يجوز رُؤيَتُهُ بحسب ذاته، وإذا ثبت هذا وجب القَطْعُ بأن المؤمنين يرونه [يوم القيامة، والدليل عليه أن القائل قائلان قال بجواز الرؤية، مع أن المؤمنين يرونه، وقال قال: لا يرونه، ولا تجوز] رؤيته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 346 فأما القول بأنه - تعالى - تجوز رؤيته، مع أنه لا يَرَاه أحَدٌ من المؤمنين، فهذا قول لم يقل به أحَدٌ من الأمَّةِ، فكان بَاطِلا. الثاني: أن نقول: المراد ب «الأبصار» في قوله: «لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ» ليس هو نفس الإبصار، فإن البَصَر لا يدرك شيئاً ألبته في مَوْضع من المواضع، بل المدرك هو المبصر، فوجب القَطْعُ بأن المُرَادَ من قوله: «لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ» هو إدراك المبصرين، ومعتزلة البَصرةٍ يوافقون بناء على أنه - تعالى - يبصر الأشياء، فكان تعالى من جملة المبصرين، فقوله تعالى: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} يقتضي كونه تعالى مُبصراً لنفسه ومن قال: إن المؤمنين يرونه يوم القِيامَةِ، فدلَّتِ الآية الكريمة على أنه جَائِزُ الرؤية، وعلى أنَّ المؤمنين يرونه يوم القِيامَةِ، وإذا اخْتَصَرْنَا هذا الاستدلال قلنا قوله تعالى: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} المراد منه إنما نفس البصر، أو المبصر على التقديرين يفزم كونه - تعالى - مبصراً لإبصار نفسه، أو كونه مبصراً لذات نَفْسِهِ، وإذا ثبت هذا وجب أن يراه [المؤمنون] يوم القيامة ضَرُورَةَ أنه لا قَائِلَ بالفَرْقِ. الثالث: أن لَفْظِ «الأبصار» صيغة جَمْعٍ دَخَلَ عليها الألف واللام، فهي تفيد الاسْتِغْراقِ في قوله: {تُدْرِكُهُ الأبصار} . [فإذا كان كذلك كان قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} يفيد أنه لا تراه جَميعُ الأبْصارِ، فهذا يفيد سَلْبَ العُمُوم، ولا يفيد عموم السَّلب، وإذا عُرِفَ هذا فَنَقُول: تخصيص هذا السَّلْبِ بالمجموع يَدُلُّ على ثبوت الحكم في بعض أفْرَادِ المجموع؛ ألا تَرَى أن الرَّجُلَ إذا قال: إن زيداً ما ضربه كل الناس فإنه يفيد أنه ضَرَبَهُ بَعْضُهُمْ، وإذا قيل: إن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما آمن به كل الناس أفاد أنه آمن به بعض الناس، فكذلك قوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} معناه أنه: لا تدركه كل الأبصار، فوجب أن يفيد أنه تُدْرِكُهُ بَعْضُ الأبْصَارِ أقصى ما في الباب أن يقال: هذا تمسُّك بدليل الخطاب، فنقول: هَب أنه كذلك إلاَّ إنه دليلٌ صحيح؛ لأن بتقير ألاَّ يحصل الإدْرَاكُ لأحَدٍ ألْبَتَّةَ كان تخصيص هذا السَّلْبِ بالمجموع من حَيْثُ هو مجموع عبثاً، وَصَوْنُ كلام الله - تعالى عن العَبَثِ واجِبٌ. الرابع: نقل أن ضرار بْنَ عَمْرو الكُوفِيَّ كان يقول: إن الله - تعالى - لا يُرَى بالعين، وإنما يرى بِحَاسَّةٍ سَادِسَةٍ يخلقها يوم القيامة واحتج بهذه الآية الكريمة، فقال: دلَّتْ [هذه] الآية الكريمةُ على تخصيف نَفْي إدْرَاكِ الله - تبارك وتعالى - بالبَصَرِ، وتخصيص الحكم بالشيء يَدُلُّ على أن الحال في غيره بخلافه، فوجَبَ أن يكون إدْراكُ الله - تبارك وتعالى - بغير البصر جائزاً في الجملة، ولما ثبت أن سائر الحواسِّ الموجودة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 347 الآن لا تَصْلُحُ لذلك وجب أن يقال: إنه تعالى يخلق يوم القيامة حَاسَّةً بها تحصل رُؤيَةُ الله - تعالى - وإدراكه. واسْتَدَلَّ المعتزلة بهذه الآية الكريمة على نَفْيِ الرُّؤيَةِ من وجهين: الأول: قالوا: الإدْرَالكُ بالبَصَرِ عبارة عن الرُّؤيَةِ بدليل لو قال قائل: أدركته ببصري، وما رأيته، أو قال: رأيته، وما أدْرَكتُهُ بصري، فإنَّ كلامه يكوم متناقضاً، فثبت أن الإدْراكَ بالبَصَرِ عبارة عن الرُّؤيَةِ، وإذا ثبت هذا فنقول قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} يقتضي أنه لا يَرَاهُ شيء من الأبْصَارِ في شيء من الأحْوالِ، ويدل على صِحَّةِ هذا العموم وجهان: الأول: أنه يصح اسْتِثْنَاءُ جميع الأشخاص، وجميع الأحوال عنه، فيقال: لا تدركه الأبصار إلاَّ بصر فلان وإلاَّ في الحالة الفُلانيَّةِ، والاستثناء يُخْرجُ من الكلام مَا لولاهُ لدخل، فثبت أن عُمُومَ هذه الآية الكريمة يُفِيدُ عموم النفي عن كُلِّ الأشخاص، وفي جميع الأحوال، وذلك يَدُلُّ على أن أحَداً لا يرى الله - تعالى - في حالٍ من الأحوال. الثاني: أن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - لما أنكرت قَوْلَ ابْنِ عبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في أنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رأى ربَّهُ لَيْلَة المِعْراج تَمَسَّكَتْ بهذه الآية، ولو لم تكن هذه الآيةُ تفيد العُمُومَ بالنسبة إلى كُلِّ الأشخاص، وكُل الأحوال لما تَمَّ ذلك الاسْتِدلالُ، وكانت من أعظم الناس بِلُغَةِ العربِ. الوجهُ الثاني: أن قوله: {وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار} مَدْحٌ وثناء، فوجب أن يكون قوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} مَدْحاً وثناءً، وإلاّ لزم أن يقال: إن ما ليس بِمَدح وثناء وَقَعَ في خلال ما هو مَدْحٌ وثناء، وذلك يوجب الرَّكَاكَة وهي غير لائِقَةٍ بكلام الله - تبارك وتعالى - وإذا ثبت هذا فنقول: كل ما كان عَدَمُهُ مَدحاً، ولم يكن من باب الفِعْلِ كان ثُبُوتُهُ نَقصْاً في حقِّ الله - تبارك وتعالى - والنُّقْصانُ على الله مُحَالٌ، واعلم أن القَوْمَ إنما قيدوا ذلك بما لا يكون من بابِ الفعل؛ لأنه تعالى تَمَدَّحَ بِنَفْي الظُّلم عن نفسه في قوله: {وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 108] {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] مع أنه تبارك وتعالى قَادِراً على الظُّلم عندهم، وذكروا هذا القيد دَفْعاً لهذا النَّقْضِ عن كلامهم فهذا [غاية] تقرير كلامهم في هذا الباب. والجوابُ عن الأوَّل من وجوه. أحدها: لا نُسَلِّمُ أن إدْرَاكَ البَصَرِ عبارة عن الرُّؤيَةِ، لأن لَفْظِ الإدْراكِ في اصل اللغة عبارة عن اللُّحُوقِ والوُصُول؛ قال تعالى: {قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُون} [الشعراء: 61] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 348 أي لمُلْحَقُونَ، وقال: {حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق} [يونس: 90] أي: لحقه، ويقال: ادرك فلان فلاناً، وأدرك الغُلامُ الحلْمَ، أي: بلغ، وأدركت الثمرة، أي: نَضَجَتْ، فثبت أن الإدْراكَ هو الوُصُولُ إلى اشيء، وإذا عُرِفَ هذا فنقول المرئِيُّ إذا كان له حَدُّ ونهايةٌ، وأدْرَكَهُ البَصَرُ بجميع حُدُودِهِ وجَوانِبهِ ونهايته صَارَ ذلك الإبْصَارُ كأنه أحَاطَ به فَتُسَمَّى هذه الرُّويةُ إدْرَاكاً. أما إذا لم يُحِطِ البَصَرُ بجوانب المرئيَّ لم تُسَمَّ تلك الرؤية [إدراكاً، فالحاصل أن الرؤية] جنس تحته نوعان: رؤية مع الإحاطة [ورؤية لا مع الإحاطة، والرؤية مع الإحاطة] هيا لتي تسمى إدراكاً، فنفي الإدراك يفيد نفي الجِنْسِن فلم يلزم من نَفْي الإدْرَاكِ على الله - تعالى - نَفْيُ الرؤية عن الله، وهذا وَجْهٌ حَسَنٌ في الاعْتِرَاضَ على كلامهم، فإن قالوا: إنْ قلتم: إنَّ الإدْراك يُغَايِرُ الرؤية، فقد أفْسَدْتُمْ على أنفسكم الوجوه الأربعة التي تَمَسَّكْتُمْ بها في هذا الآية الكريمة على إثبات الرؤية. قلنا: هذا يفيد أنه إدْراكٌ أخَصُّ الرؤية، وإثبات الأخصَّ يوجب إثبات الأعِمِّ، أما نَفْيُ الأخَصِّ فلا يوجب نَفْيَ الأعَمِّ، فثبت أن البَيَانَ الذي ذَكَرْنَاهُ يبطل كلامهم، ولا يبطل كلامنا. وثانيها: أن نقول: هَبْ أن الإدْراكَ يفيد عموم النَّفي عن كل الأشخَاصِ في كُلِّ الأحوال، فلا نُسَلِّمُ أنه يفيد نَفْي العموم، إلاَّ أن نَفْيَ العموم غير، وعموم النفي غيرن وقد دَلَّلْنَا على أن هَذَا اللَّفْظِ لا يفيد إلا نفي العموم، وبَيَّنَّا أن نَفْيَ العموم يوجب ثبوت الخُصُوصِ. وأما قولهم: إن عَائِشَةَ تَمَسَّكَتْ بهذه الآية في نَفْي الرؤية، فنقول: معرفة مفرادات اللغة إنما تُكْتَسَبُ من علماء اللغة، فأمَّا كيفية الاسْتِدْلالِ بالدليل، فلا يُرْجَعُ فيه إلى التَّقْلِيدِ، وبالجملة فالدليل العَقْلِيُّ دَلَّ على أن قوله تعالى: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} يفيد نفي العموم وثبت بصريح العَقْلِ أن نَفْيَ لعموم مُغَايِرٌ لعموم النَّفيِ، ومقصودهم إنما يَتِمُّ لو دلَّتِ الآية على عُمُومِ النفي، فَسَقَطَ كلامُهُمْ. وثالثها: أن نقول: صيغة الجَمْعِ كما تُحْملُ [على الاستغراق فقد تُحْمَلُ] على المعهود السَّابق أيضاً، وإذا كان كذلك، فقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} وهي الأحْدَاقُ وما دامتْ تبقى على هذه الصفات التي هي مَوْصُوفَةٌ به في الدنيا لا تدرك الله تعالى، وإنما تدرك الله تعالى إذا تَبَدَّلَتْ صِفَاتُهَا، وتغيَّرتْ أحوالها، فَلِمَ قلتم، إن حصول هذه التغيرات لا تدرك الله تعالى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 349 ورابعها: سَلَّمْنَا أن الأبْصَارَ لا تُدْرِكُ الله - تبارك وتعالى - فَلِمَ لا يجوز حصول إدراك الله تبارك وتعالى بِحَاسَّةٍ مُغَايِرَةٍ لهذه الحواسِّ، كما قال ضرار بن عمرو به، وعلى ها التقدير فلا يبقى بالتمسُّكِ بهذه الآية الكريمة فَائدةٌ. وخامسها: هَبْ أن هذه الآية عامَّةٌ، إلاَّ أنَّ الآيات الدَّالَّة على إثبات رؤة الله تعالى خَاصَّةٌ والخَاصُّ مُقدَّمٌ على العام، وحينئذ ينتقل الكلام إلى أنَّ بيان أن تلك الآيات هل تَدُلُّ على حصول رؤية الله تعالى أم لا؟ وسادسها: أن نقول بموجب الآية الكريمة، فنقول: سلمنا أن الأبْصَارَ لا تدرك الله - تعالى - فمل قلتم: إن المُبْصرينَ لا يُدْرِكُونَ الله تعالى. وأما الوجه الثاني فقد بَيَّنَّا أنه يمتنع حصول التَّمَدُّحِ بِنَفْي الرؤية لو كان تعالى في ذَاتِهِ بحيث تَمْتَنْعُ رؤيته، ثم إنه تبارك وتعالى يَحْجُبُ الأبصار عن رُؤيَتِهِ فَسَقَطَ كلامهم بالكلية، ثم نقول: إن النفي يمتنع أن يكون سَبَاً لحصول المَدْحِ والثناء، والعمل به ضروري، بل إذا كان النَّفْيُ دليلاً على حصول صِفَةٍ ثابتة من صفات المَدْحِ والثناء، فإن ذلك النَّفْيَ يوجب المَدْحَ. مثال: أن قوله: تعالى: {لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ} [البقرة: 255] أن هذا النفي في حقِّ الباري - تعالى يدل على كونه عالماً بجميع المعلومات أبداً من غير تَبَدُّلِ ولا زوالٍ، وكذا قوله: {وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ} [الأنعام: 14] يَدُلُّ على كونه قائماً بنفسه غَنِيَّاً في ذَاتِهِ؛ لأن الجماد أيضاً لا يأكل ولا يطعم، وإذا ثبت هذا فقوله: {لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار} يمتنع أن يُفِيدَ المَدْحَ والثناء، إلا إذا دَلَّ على معنى مَوْجُودٍ يفيد المَدْحَ والثناء، وذلك هو الذي قلنا: إنه تبارك وتعالى - قادرٌ على حَجْبِ الأبْصَارِ، ومنعها عن إدراكه ورؤيته، فانْقَلَبَ الكلامُ على المعتزلة، وسَقَطَ الاستلال. واعمل أن القاضي ذَكَرَ وُجُوهاً أخر تَدُلُّ على نَفْيِ الرؤية، وهي خَارِجةٌ عن التَّمْسُّكِ بهذه الآية الكريمة. فأولها: أن الحَاسَّة إذا كانت سَلِيمَةً، وكان المرئي حَاضِراً، وكان الشرائط المعتبرة حَاصِلَةً، وهو ألاَّ يحصل القُرْبُ القريب، ولا البعد البعيد، ولا يحصل الحِجَابُ، ويكون المرئي مقابلاً، أو في حكم المقابل، فإن يجب حُصُولُ الرؤية؛ إذ لو جاز مع حُصُولِ هذه الأمور ألا تحصل الرؤية جَازَ أن يكون بِحَضْرَتَنَا بُوقَاتٌ وطبلاتٌ ولا نسمعها ولا نراها، وذلك يوجب السَّفْسَطَة وأذا ثبت هذا فنقول: إن انْتِفَاءِ القُرْبِ القريب، والبعد البعيد، والحِجَاب، وحُصول المُقابلةِ في حق الله - تعالى - ممتنع، فلو صَحَّتْ ريته لوَجَبَ أن يكون المقتضي لِحُصُولِ تلك الرؤية هو سَلامَةُ الحَاسَّةِ، وكون المرئي بحيث تَصِحُّ رؤيته. وثانيها: أنَّ كل ما كان مرئياً كان مُقَابِلاً، أو في حكم المُقابلِ، والله - تعالى - ليس كذلك، فَوَجَبَ أن تمتنع رُؤيَتُهُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 350 وثالثها: قال القاضي: ويقال لهم كيف يراهُ أهلُ الجنة دون أهْلِ الناء، فإما أن يقرب منهم أو يقابلهم، فيكون حاله معهم دُونَ أهْلِ النار، وهذا يوجب أن جِسْمٌ يجوز عليه القرب والبعد والحِجَابُ. ورابعها: قال: أهْلُ الجَنَّة دون أهل النار يَرَونَهُ في كل حال عند الجِمَاعِ وغيره، وهو بَاطِلٌ، ويرونه في حالٍ دون حالٍ، وهو أيضاً باطل؛ لأن ذلك يوجب أنه - تبارك وتعالى - مرَّةً يقرب، وأخرى يَبْعد، وأيضاً فَرُؤيَتُهُ أعْظَمْ اللَّذَّاتِن وإذا كان كذلك وَجَبَ أن يكون مُشْتهين لتك الرُّؤيَةِ أبداًن فإذا لم يَرَوْهُ في بَعْضِ الأوقات وقعُوا في الغَمِّ والحُزْنِ، وذلك لايليق بصفات أهل الجَنَّةِ، وهذه الوجوه في غاية الضَّعْفِ. أمَّا الأول: فيقال: هَبْ أن الأجْسامَ والأعراضَ عند سلامة الحاسَّةِ، وحضور المرئي، وحصل سائر الشَّرائط واجبة فلم قلتم: إنه يلزم منه وُجُوبُ حصول الرؤية إذا كان المرئي بحيث تَصِحُّ رؤيته ألَمْ تَعْلَمُوا أنَّ ذَاتَهُ تعالى مُخَالِفَةٌ لسائر الذوات، ولا يلزم من ثُبُوتِ حكمه في شيء ثُبُوتُ مثل ذلك فيما يُخَالِفُهُ. وأما الثاني: يقال النزاع وقع في أن الموجود الذي لا يكون مُخْتَصاً بمكان وجهَةٍ هل تجوز رؤيته أم لا؟ فإما أن تدّعوا أن العلم بامْتِنَاع رُؤيَةِ هذا الموجود الموصوف بهذه الصفة عِلْمٌ بديهي، أو تقولوا: علم اسْتدلالِيُّ، والأوَّلَ باطل؛ لأنه لو كان لاعمل به بَدِيهياً لما وقع الخِلافُ فيه بين العقلاء، وأيضاً فبقتدير أن يكون هذا العِلْمُ بَدِيهياً كان الاشْتِغَالُ بِذِكْرِ الدلي عَبَثاً فاتركوا الدليل، واكتفوا بِذِكْرِ هذه البديهية. وإن كان الثاني: فنقول قولكم المَرْئِيُّ يجب أن يكون مُقَابلاً، وفي حكم المقابل، فلا فَائِدة في هذا الكلام إلا إعادة الدَّعْوَى. وأما الثالث: فيقال له: لم لا يجوز أن يقال: إنَّ الجنَّةِ يرونه، وأهل الناء لا يرونه؟ . لا لأجل القرب والبعد، بل لأنَّهُ - تعالى - يخلق الرؤية في عُيُون أهل الجنَّة، ولا يَخْلُقُهَا في عُيُونِ أهل النار، فلو رجعت في إبطال هذا الكلام إلى أن تَجْويزَهُ يُفْضِي إلى تَجْويز أن يكون بِحَضْرتِنَا بُوقَاتٌ وطَبْلاتٌ لا نراها ولا نسمعها، كان هذا رُجُوعاً إلى الطريق الأولى، وقد سبق جوابها. وأما الرابع: فيقال: لم لا يجوز أن يُقَال: إنَّ المؤمنين بدون الله - تبارك وتعالى - في حالٍ دون حال [وقوله: فإن يقتضي أن يقرب منه مرة ويبعد أخرى، فنقول: هذا عَوْدٌ إلى أن الإبْصَار لا يَحْصُلُ إلاَّ عند الشَّرائِطِ المذكورة وقد سَبَقَ جوابُهُ، وقوله: الرؤية أعْظَمُ اللَّذَّاتِ، فيقال له: إنَّها وإن كانت كذلك، إلاَّ أنه لا يبعد أن يقال: يشتهونها في حالٍ دون حالٍ بدليل أن سَائِرَ لذَّاتِ الجنَّىة ومنافعها لَذِيذَةٌ طيبة، ثم إنها تَحِصُلُ في حالٍ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 351 دون حالٍ] فهذا تمام الكلام في الجواب عن الوجوه التي ذكرها. وأما الدَّلالةُ على أن المؤمنين يَرَوْنَ الله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] . وقال مقاتل: {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] قال مالك: لو لم يَرَ المُؤمِنُونَ ربَّهُمْ يوم القيامة لم يُعِدِّ للكفار الحِجَابَ، وقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً} [الإنسان: 20] فتح الميم وكسر اللام على إحْدَى القراءات، ولما طلب موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من الله تعالى الرؤية دَلَّ ذلك على جوازِ رُؤيَةِ الله تعالى. وأيضاً علَّق الرؤية على اسْتِقِرَارِ الجبل حيث قال: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} [الأعراف: 143] وساترقرا الجَبَلِ جائز، والمُعَلَّفُ على الجائز جائز. الوجوه الأربعة المُتقدِّمَةُ في أوَّلِ الآية الكريمة سيأتي الكلام عليها وعلى هذه الآيات، وما يشبهها في الدِّلالةِ في مواضعها إن شاء اللَّهُ تعالى. وأمَّا الأخبار فكثيرة منها قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «سَتروْنَ ربَّكُمْ كَمَا تَروْنَ القمَرَ ليْلَةً البَدْرِ» وقال عليه السلام: «إنَّكُمْ سَتَرَوْنَ ربَّكُمْ عياناً» وقرأ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قوله: تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] قال: «الحُسْنَى» هِيَ الجَنَّةُ و «الزِّيَادةُ هِيَ النَّظَرُ إلى وجْهِ اللِّهِ. واختلف الصحابة في أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هل رَأى رَبَّهُ ليلة المعراج؟ ولم يُكَفِّرْ بعضهم بعضاً بهذا السَّبب، ولا نَسَبَهُ إلى البِدْعَةِ والضلالة، وهذا يَدُلُّ على أنهم كانوا مجتمعين على أنه لا امْتِنَاعَ عَقْلاً في رُؤيتِهِ تعالى، والله تعالى أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصَحْبِهِ وسلَّمَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 352 لمَّا بيَّن البيَّنَاتِ الباهرة، والدلائل القاهرة المطالب الإلهية عاد إلى تَقْرِير الدَّعْوَةِ والتبليغ والرسالة، وإنما ذكر الفِعْلَ لشيئين: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 352 أحدهما: الفصل بالمفعول. والثاني: كون التأنيث مَجَازِياً. والبَصَائِرُ: جمع «بَصِيرَة» وهي الدلالة التي توجب إبصار النفوس للشيء ومنه قيل للدَّمِ الدال على القتيل «مبصرة» والبصيرة مُخْتَصَّةٌ بالقلب [كالبَصَرِ للعين، هذا قول بعضهم. وقال الراغب: «ويقال لقوة القلب المُدْرِكة:» بَصِيرَةٌ وبَصَرٌ «] قال تبارك وتعالى: {بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} [القيامة: 14] وقال تعالى: {مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى} [النجم: 17] وتقدَّم تحقيق هذا في أوائل سوة» البقرة «. وأراد بالبَصَائِرِ الآيات المتقدمة، وهي في نَفْسِهَا لَيْسَتْ بَصَائِرَ إلا أنها لقوتها وجلائهَا تُوجِبُ البصائِرَ لمن عرفها، ووقَفَ على حَقَائِقهَا، فلما كانت سَبَباً لحصول البَصَائِرِ سميت بالبَصَائِرِ. قوله:» مِنْ ربِّكُمْ «يجوز أن يتعلَّق بالفعل قبله، وأن يتعَّق بمحذوف على أنه صِفَةٌ لما قبله، أي: بصائر كائنة من ربكم و» من «في الوجهين لابتداء الغاية مَجَازاً. قوله:» فَمَنْ أبْصَرَ «يجوز أن تكون شَرطيَّةً، وأن تكون مَوصُولةً فالفاء جواب الشَّرطِ على الأوَّلِ، ومزِيدَةٌ في الخبر لشبه المْصُولِ باسم الشرط على الثُّانِي، ولا بُدَّ قبل لام الجرِّ من مَحْذُوفٍ يَصِحُّ به الكلام، والتقدير: فالإبْصَارُ لِنَفْسِهِ، ومَنْ عَمِيَ فالعَمَى عليها، فإلإبصار والعَمَى مُبْتَدآنِ، والجارُّ بعدهما هو الخَبَرُ بعدهما هو الخَبَرُ، والفاء دَاخِلَةٌ على هذه الجملة الواقعة جواباً أو خبراً، وإنما حُذِف مُبْتَدؤها للعلم به، وقدَّر الزجاج قريباً من هذا فقال:» فلنفسه نَفْعُ ذلك ومن عَمِيَ فعليها ضَرَرُ ذلك «. وقال الزمخشري:» فَمْنْ أبصر الحق وآمن فلنفسه أبصر وإياها نفع، ومن عمي فعليها، أي: فعلى نفسه عَمِي، وإياها ضر «. قال أبو حيَّان: وما قدَّرناه من المصدر أوْلَى، وهو فالإبصار والعمى لوجهين: أحدهما: أن المَحْذُوفَ يكون مفرداً لا جملة، والجار يكون عُمْدَةً لا فَضْلَةً، وفي تقديره هو المحذوف جملة، والجار والمرجور فَضْلَة. والثاني: وهو أقوى، وذلك أنه لو كان التقدير فِعْلاً لم تدخل الفاء سواء كانت شَرطيَّةً أم موصولة مشبهة بالشرط؛ لأن الفعل الماضي إذا لم يكن دُعَاءً ولا جَامِداً، ووقع جوابُ الشَّرطِ أو خبر مبتدأ مُشَبَّهٌ بالشرط لم تدخل الفاءُ في جواب الشرط، ولا في خبر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 353 المبتدأ لو قلت:» من جاءني فأكرمته «لم يَجُزْ بخلاف تقديرنا، فإنه لا بُدَّ فيه من الفاء، ولا يجوز حذفها إلا في الشعر. قال شهاب الدين: وهذا التقدير الذي قدَّرهُ الزمخشري سبقه إليه الكَلْبِيُّن فإنه قال: فَمَنْ أبصر صَدَّق وآمن بمحمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فنلفسه عمل ومَنْ عمي فلم يُصَدِّقْ فعلى نفسه جَنَى العذاب» وقوله: إن الفاء لا تَدْخُلُ فيما ذُكِرَ قد يُنازعُ فيه، وإذا كانوا فيما يَصْلُحُ أن يكون جواباً صريحاً، ويظهر فيه أثَرُ الجَازِمِ كالمُضارعِ يجوز فيه دُخُولُ الفاء نحو: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] فالماضي بدخولها أوْلَى وأحْرَى. فصل في بيان عود المنافع للبشر قال القاضي: إنه - تعالى - بيَّن لنا أن المنافِعَ تعودإليها لا لمنافع تعود إلى الله تبارك وتعالى - وأيضاً إن المَرْءَ بِعُدُولِهِ عن النَّظَرِ يَضُرُّ بنفسه، ولم يؤت إلاَّ من قبله لا من قبل ربِّهِ، وأيضاً إنه متمكِّنٌ من الأمرين، فلذلك قال: «فَمَنْ أبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ومَنْ عَمِيَ فَعَليْها» قال: وهذا يبطل قول المجبرة [في أنه - تعالى - يكلف بلا قدرة] وجوابه المعارضة بسؤال الداعي. قوله: {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي: برقيب أحْي عليكم أعمالكم، إنما أنا رَسُولُهُ أبلغكم رِسالاتِ ربي، وهو الحفيظ عليكم الذي لا يخفى عليه شَيءٌ من أعمالكم. فصل في معنى الآية قال المفسرون: هذا كان قبل الأمْرِ بالقتالِ، فلما أمِرَ بالقتال صار حَفِيظاً عليهم، ومنهم من يقول: آيَةُ القِتَالِ نَاسِخَةٌ لهذه الآية الكريمة، وهو بعيد؛ لأن الأصْلَ عَدَمُ النَّسْخِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 354 لما شرع في إثبات النُّبُواتِ بدأ بِحِكَايَةِ شُبُهاتِ المنكرين لِنُبُوةِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الشُّبْهَةُ الأولَى: قولهم: يا محمد إن هذا القرآن الذي جئْتَنَا به كلامٌ تَستفِيدُهُ من مُدَارَسَةِ العلماء، وتُنَظِّمُهُ من عند نفسك، ثمر تقرؤه علينا، وتزعم أنه وَحْيٌ نُزِّلَ عليك من عند الله تعالى. و «الكاف» في محلِّ نصب نَعْتٌ لمصدر محذوف، فقدَّرَهُ الزجاج: ونُصَرِّفَ الآياتِ مِثْلَ ما صَرَّفْنَاها فيما تُلِيَ عليكم، وقدَّره غيره: نُصَرِّفُ الآيات في غير هذه السُّورةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 354 تَصْرِيفاً مثل التصريف في هذه السورة. والمراد بالتَّصْرِيفِ أنه - تبارك وتعالى - يأتي مُتَوَاتِرَة حالاً بعد حالٍ. قوله: «ولِيَقُولُوا» الجمهور على كسر اللام كي، والفِعْلُ بعدها منصوب بإضمار «أن» فهو في تَأويل مصدر مَجْرُورٍ بها على ما عرف [غير مرَّةٍ] ، وسماها أبو البقاء وابن عطية لام الصَّيْرُورةِ، كقوله تبارك وتعالى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] وكقوله: [الوافر] 2279 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا للخَرَابِ ..... ... ... ... ... ... ... أي: لما صار أمرهم إلى ذلك عَبِّرَ بهذه العبارةِ، والعِلَّةُ غير مُرَادَةٍ في هذه الأمثلة، والمُحَقِّقُونَ يأبَوْنَ جَعْلَهَا للعاقبة والصَّيْرُورةِ، ويُؤوِّلُونَ ما وَرَدَ من ذلك على المَجَازِ. وجوَّز أبو البقاء فيها الوجهين؛ أعني كونها «لام» العاقبة، أو العلّة حقيقة، فإنه قال: «واللام لام العاقبة، أي: إن أمرهم يَصِيرُ إلى هذا» . وقيل: إنه قَصَدَ بالتصريف أن يقولوا: درست عقوبة لهم، يعني: فهذه عِلَّةٌ صَرِيحَة، وقد أوضح بعضهم هذا، فقال: المعنى: يُصَرِّفُ هذه الدلائل حالاً بعد حالٍ ليقول بعضهم: دارست فيزادوا كُفْراً، وتَنْبِيهٌ لبعضهم فَيَزْدادُوا إيماناً، ونحو: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقر: 26] وأبو علي جعلها في بَعْضِ القراءات لام الصَّيْرُورَةِ، وفي بعضها لام العلّة؛ فقال: واللام في «ليقولوا» في قراءة ابن عامر، ومَنْ وافقه بمعنى: لئلاً يقولوا؛ أي: صُرِّفَت الآيات، وأحْكِمَتْ لئلا يقولوا: هذه أسَاطيرُ الأوَّلينَ قديمة قد بَلِيَتْ وتَكَرَّرَتْ على الأسْماع، واللام على سائر القراءاتِ لام الصَّيْرُورةِ. قال شهاب الدين: قراءة ابن عامر دَرَسَتْ بوزن أكَلَتْ وسَرَقَتْ فعلاً ماضياً مسنداً لضمير الآيات، وسيأتي تحقيق القراءات في هذا الكلمة مُتَواتِرِهَا وشَاذِّهَا. قال أبو حيَّان: «وما أجَازَهُ من إضمار» لا «بعد اللام المضمر بعدها» أنْ «هو مذْهَبٌ لبعض الكوفيين، كما أضمروها بعد» أنْ «المُظْهَرَة في {أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] ولا يجيز البَصْرِيُّونَ إضْمَارَ» لا «في القَسَمِ على ما تَبَيَّنَ فيه» . ثم هذه «اللام» لا بد لها من مُتعلِّقٍ، فقدَّرَهُ الزمخشري وغيره مُتَأخِّراً، قال الزمخشري: «وليقولوا» جوابه مَحْذُوف، تقديره: وليقولولا دَرَسَتْ تُصَرِّفُهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 355 فإن قلت: أيُّ فَرْقٍ بين اللاَّمَيْنِ في «ليقولوا» و «لنُبَيِّنَهُ» ؟ قال شهاب الدين: الفَرْقُ بينهما أن الأولَى مَجَازٌ، والثانية حَقيقَةٌ، وذلك أن الآيات صُرِفَت للتبيين، ولم تُصْرَفْ ليقولوا: دارست، ولكن لأنه لمَّا حَصَلَ هذا القولُ بتصريف الآيات كما حَصَلَ للتَّبْيينِ شبِّه به فسِيقَ مَسَاقَةُ. وقيل: ليقولوا كما قيل لِنَبيهِ. قال شهاب الدين: فقد نَصَّ هنا على أنَّ لام «ليقولوا» عِلَّةٌّ مَجَازِيَّة. وجوَّز بعضهم أن تكون هذه اللام نَسَقاً على عِلًّة محذوفة. قال ابن الأنباري: «خلت الواو في» وليقولوا «عطفاً على مضمر، التقدير: وكذلك نصرف الآيات لنُلْزِمَهُمُ الحجة وليقولوا» . قال شهاب الدين وعلى هذا فاللام مُتعلِّقَةٌ بفعل التَّصْرِيف، من حَيْثُ المعنى، ولذلك قَدَّرَهُ مَنْ قدَّرَهُ مُتَأخِّراً ب «نُصَرِّف» . وقال أبو حيَّان: «ولا يتعيَّنُ ما ذكره المُغْرِبُونَ والمُفَسَّرونَ من أن اللام لام كي، أو لام الصَّيْرُورةِ، بل لاظاهر أنها لامُ الأمْرِ والفعل مَجْزُومٌ بها، ويُؤيِّدُهُ قرءاة من سَكَّنَ اللام، والمعنى عليه يَتَمكَّنُ، كأنه قيل: وكذلك نُصَرِّفُ الآيات، وليقولوا هم ما يقولون من كَوْنِهَا دَرَسْتَهَا وتعلَّمْتَها أو دَرَسَتْ هي، أي: بَلِيَتْ وقدُمَتْ، فإنه لا يُحْتَفَلُ بهم ولا يُلْتَفَتُ إلى قولهم وهو أمْرٌ معناه الوعيدُ والتهديد، وعدمُ الاكتراثِ بقولهم، أي: نُصَرِّفُهَا وليدَّعُوا فيها ما شَاءُوا، فإنه لا إكْتِرَاث بِدَعْوَاهُمْ» . وفيه نظرٌ من حيث إنَّ المعنى على ما قالهُ النَّاسُ وفهموه، وأيضاً فإن بعده «ولنبيِّنَهُ» وهو نَصٌّ في لام كي، وأمَّا تسكين اللام في القراءة الشَّاذَّةِ، فلا يَدُلُّ لاحتمال أن تكون لام كي سُكِّنَتْ إجْرَاء للكملة مُجْرَى: كَتِف وكَبِد. وقد رَدَّ أبو حيان على الزمخشري؛ حيث قال: «ليقولولا جوبه محذوف» فقال: وتَسمِيَتُهُ ما يتلَّقُ به قوله: «وليقولوا» جواباً اصْطِلاحٌ غريب لا يقال في «جئت» من قولك: «جئت لتقوم» إنه جواب. قال شهاب الدين: هذه العبارةُ قد تكرَّرَتْ للزمخشري، وسيأتي ذلك في قوله: {ولتصغى} [الأنعام: 113] أيضاً. وقال الشيخ هناك: «وهذا اصْطِلاحٌ غريب» . والذي يظهر أنه إنما يُسَمَّى هذا النحو جواباً، لأنه يَقَعُ جواباً لسائل؛ تقول: أين الذي يتعلَّق شبه هذا لجار؟ فيجاب به، فسُمي جواباً الاعْتِبَار، وأضيف إلى الجارِّ في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 356 قوله: «وليقُولُوا» جوابه؛ لأن الإضافة تقع بأدْنَى مُلابَسَةٍ، وإلا فكلامُ إمَامٍ يَتَكَرَّرُ لا يُحْمَلُ على فَسَادٍ. وأما القراءات التي في «درست» فثلاث في المتواتر: فقرا ابن عامر: «دَرَسَتْ» بِزِنَةِ: ضَرَبَتْ، وابن كثير وأبو عمرو «دَارَسْتَ» بِزِنَةِ: قَابَلْتَ أنت، والباقون «دَرَسْتَ» بِزِنَةِ ضَرَبْتَ أنت. فأمَّا قرءاة ابن عامر: فمعناها بَلِيَتْ وقَدُمَتْ، وتكرَّرَتْ على الأسْمَاعِ، يشيرون إلى أنها من أحَادِيثِ الأوَّلينَ، كما قالوا: «أسَاطِيرُ الأوَّلِينَ» . وأما قراءة ابن كثير، وأبي عمروا: فمعناها: دَارَسْتَ يا محمد غَيْرَكَ من أهْلِ الأخبار الماضية، والقرون الخالية حتى حَفِظْتَهَا قَفُلْتَهَا، كما حكى عنهم فقال: {إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ} [النحل: 103] . وفي التفسير: أنهم كانوا يقولون: هو يُدَارِسُ سَلْمَانَ وعَدَّاساً. وأما قراءة الباقين: فمعناها: حَفِظْتَ وأتْقَنْتَ بالدَّرْسِ أخبارَ الأوَّلين، كما حُكِيَ عنهم {وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] أي: تكرر عليها بالدرس يحفظها. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: وليقولوا أهل «مكة» حين تَقْرَأُ عليهم القرآن: ودَرَستْ تعلمت من يسارٍ وجبر، وكانا عَبْدَيْنِ من سَبي الروم قرأت علينا تَزْعُمُ أنه من عند الله. حكى الواحدي في قوله: درس الكتاب قولين: الأول: قال الأصمعيُّ: أصله من قولهم: درس الطعام إذا دَرَسَهُ دراساً، والدَّرْسُ الدِّيَاسُ بِلُغَةِ أهل «الشام» ، قال: ودرس الكلام من هذا، أي: يدرسه فيخفُّ على لسانه. والثاني: قال أبو الهيثم: درست الكتاب، أي: ذللته بكثرةِ القراءة خَفَّ حِفْظُهُ من قولهم: درست الثوب أدْرُسُهُ دَرْساً، فهو مَدْرُوسٌ ودَرِيسٌ، أي: أخْلَقْتُهُ، ومنه قيل للثوب الخلق: دريسٌ لأنه قد لان والدراسةُ الرياضة، ومنه درست السُّورة حتى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 357 حفظتها قال الواحدي: وهذا القول قريب مما قال الأصمعيُّ، بل هو نفسه لأن المعنى يعود إلى التَّذْليل والتَّلْيين. وقرئ هذا الحرف في الشَّاذِّ عشر قراءات أخر فاجتمع فيه ثلاثة عشرة قراءة؛ فقرا ابن عباس بخلاف عنه، وزيد بن علي، والحسن البصري، وقتادة «دُرِسَتْ» فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول مسنداً لضمير الإناث، وفسَّرها ابن جنيِّ والزمخشري بمعنيين في أحدهما إشكال. قال أبو الفتح: «يحتمل أن يُرَادَ عَفَتْ أو بَلِيَتْ» . وقال أبو القاسم: «بمعنى قُرِئَتْ أو عُفِيَتْ» . قال أبو حيَّان: «أما معنى قُرِئَتْ وبَلِيَتْ فظاهِرٌ لأن دَرَسَ بمعنى كرَّرَ القراءة متعدِّ، وأما» دَرَس «بمعنى بلي وانمحى فلا أحْفَظُهُ متعدياً، ولا وَجَدْنا فيمن وقَفْنَا على شعره [من العرب] إلا لازماً» . قال شهاب الدين: لا يحتاج هذا إلى استقراء، فغن معناه لا يحتمل أن يكون متعدياً؛ إذْ حَدَيُهُ لا يتعدَّى فاعله، فهو ك «قام» و «قعد» فكما أنا لا نحتاج في مَعْرِفةِ قصور «قام» و «قعد» إلى استقراءٍ، بل نَعْرِفُهُ بالمعنى، فكذا هذا. وقرئ «دَرَّسْتَ» فعلاً ماضياً مسدّداً مبيناً للفاعل المخاطب، فيحتمل أن يكون للتكثير، أي: دّرَّسْتَ الكُتُبَ الكثيرة ك «ذبَّحت الغنم» ، و «قَطَّعْتُ الأثواب» وأن تكون للتَّعديَةِ، والمفعولان محذوفان، أي: دَرَّسْتَ غيرك الكتاب، ولي بظاهرٍ؛ إذ التفسير على خلافه. وقُرِئ دُرِّسْتَ كالذي قبله إلا أنه مَبْنيُّ للمفعول، أي: دَرَّسَكَ غَيْرُكُ الكتب، فالتضعيف للتعدية لا غير. وقرئ «دُوْرِسْتَ» مسنداً لتاء المُخاطبِ من «دَارَس» ك «قاتل» إلا أنه بُنِيَ للمفعول، فقلبت ألِفُهُ واواً، والمعنى: دارسَكَ غَيْرُكَ. وقرئ «دَارَسَتْ» بتاء ساكنة للتأنيث لَحِقَتْ آخر الفعل، وفي فاعله احتمالان: أحدهما: أنه ضمير الجَمَاعَةِ أضْمِرَتْ، وإن لم يَجْرِ لها ذِكْرٌ لدلالة السياق عليها أي: دراستك الجمَاعةُ يُشيرون لأبي فكيهة، وسلمان، وقد تقدَّم ذلك في قراءة ابن كثير، وأبي عمرو رحمها الله تعالى. والثاني: ضمير الإناث على سبيلِ المُبالغةِ، أي: إن الآيات نفسها دارَسَتْكَ، وإن كان المراد أهْلَهَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 358 وقرئ «دَرُسَتْ» بفتح الدال، وضم الراء مُسْنَداً إلى ضمير الإناث، وهو مُبالغةٌ في» دَرَسَتْ «بمعنى: بَلِيَتْ وقدُمَتْ وانمحَتْ، أي: اشتدَّ دُرُوسُهَا وبلاهَا. وقرأ أبَيُّ» دَرَسَ «وفاعله ضمير النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو ضمير الكتاب بمعنى قرأهُ النَّبِيُّ، وتلاهُ، وكُرِّرَ عليه، أو بمعنى بلي الكتاب وامَّحى، وهكذا في مصحف عبد الله» دَرَسَ «. وقرأ الحسنُ في رواية» دَرَسْنَ «فعلاً ماضياً مسنداً لنون الإناثِ هي ضمير الآياتن وكذا هي في بَعضِ مصاحفِ ابن مسعود. وقرئ» دَرَّسْنَ «كالذي قبله إلا أنه بالتَّشديد بمعنى اشتدَّ دُرُوسُهَا وبلاهَا، كما تقدم. وقرئ» دَارِسَاتٌ «دمع» دَارِسَة «؛ بمعنى: قديمات، أو بمعنى ذات دُرُوس، نحو: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] و {خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] وارتفاعها على خبر ابتداء مضمرٍ، أي: هُنَّ دارسات، والجملة في محلٍِّ نصب بالقولِ قبلها. قوله:» ولنبيِّنَه «تقدم أنَّ هذا عطفٌ على ما قَبْلَهُ؛ فحكمه حُكْمُه، وفي الضمير المَنْصُوب أربعةُ احتمالات: أحدها أنه يَعُود على الآياتِ، وجاز ذلك وإن كانت مُؤنَّثَة؛ لأنَّها بِمَعْنَى: القُرآن. الثاني: أنَّه يَعُود على الكتاب، لدلالة السِّياق عليه، ويُقَوِّي هذا: أنَّه فاعل ب» دَرَسَ «في قَراءة مَنْ قَرَأه كذلك. الثالث: أنَّه يَعُود على المصدَر المفهوم من نُصَرِّف، أي: نبيِّن التَّصْريف. الرابع: أنه يَعُود على المَصْدَر المفْهُوم من» لِنُبَيِّنه «أي: نُبَيِّن التَّبْين، نحو:» ضَرَبْتُه زَيْداً «أي:» ضربت الضَّرْب زَيْداً «، و» لقوم «معلِّقٌ بالفعل قبله، و» يعْلَمُون «: في محل جرِّ صفة للنَّكرة قبلها. قال ابن عباس - ضي الله عنهما - يُريد أوْلِياءَهُ الذين هداهم إلى سبيل الرَّشاد. وقيل: نصرِّف الآيات ليشقى بها قَوْم، ويَسْعد بها آخرون؛ فمن قال:» دَرَسْت «فهو شقي، ومن تَبيَّن له الحقُّ، فهو سِعِيدٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 359 لما حَكَى عَن المُشْرِكين أنَّهُم يَنْسِبُونه في إظْهَار هذا القُرْآن العظيم إلى الافْتِرَاء، وإلى مُدَارسة من يَسْتَفِيد هذه العلُوم مِنْهُم، ثمَّ ينظِّمُهَا قُرْآناً، ويدَّعي أنَّه عليه من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 359 اللَّه، أتبعه بقوله: {اتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّك} لئلا يصير ذلك القول سَبَاً لفتوره عن تَبْلِيغ الدَّعْوَة والرِّسالة، والمقصُود: تقوية «قَلْبِه» ، وإزالة الحُزْن الذي حَصَل بسَمَاع تلك الشُّبْهَة. قول: «ما أوحِي» يجُوز أن تكُون «ما» : اسميَّة، والعائد هو القائمُ مقام الفاعل، و «إليك» : فَضْلَه، وأجَازُوا أن تكون مَصْدريَّة، والقائِم مقام الفاعل حينئذٍ: الجار والمجرُور، أي: الايحاء الجَائِي مِنْ ربِّك، و «مِنْ» لابْتِدَاء مَجَازاً، ف «مِنْ ربِّك» : متعلِّقٌ ب «أوحِيَ» . وقيل بل هُو حالٌ من «ما» نَفْسِها. وقيل: بل هُو حالٌ من الضَّمير المُسْتترِ في «أوحِيَ» وهو بِمَعْنَى ما قَبْلَه. وقوله: «لا إلهَ إلاَّ هُو» جملة مُعْتَرِضة بَيْن هاتَيْن الجُمْلَتيْن الأمْرِيَّتيْن، هذا هو الأحْسن. وجوّز أبُو البقاءِ أن تكُون حالاً من «ربِّك» وهي حالٌ مؤكِّدَةٌ، تقديره: من ربِّك مُنْفَرِداً. قوله: «وأعْرِضْ عَنِ المُشْرِكين» أي: لا تُجَادِلْهم. وقيل: المرادُ: ترك المُقاتَلة؛ فلذلك قالوا: إنَّه مَنْسوخٌ، وهذا ضعيف؛ لأن الأمْر بترك المُقاتلة في الحالِ لا يُفِيدُ الأمر بِتَرْكِها دائماً، وإذا كان الأمْر كذلك لم يَجِيبِ التزام النَّسْخ. قوله: «ولوْ شَاء اللَّه» مفعول المشيئة مَحْذُوف، أي: «لو شَاءَ اللَّه إيمانَهُم» وقد تقدَّم أنه لا يُذْكر إلا لِغَرَابتِه، والمعنى: لا تلتفتْ إلى سَفَاهَات هؤلاء الكُفَّار، فإنّي لو أرَدْت إزالَة الكُفْرِ عنهم، لَقَدَرْت، ولكنِّي تركْتُهم مع كُفْرِهم، فلا يَشْتَغِل قلبك بِكلماتِهم. وتمسَّك أهل السُّنَّة بقوله - تعالى -: {وَلَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ} والمعنى: لو شَاءَ ألاَّ يُشْرِكوا، ما أشْرَكوا، وحيث لَمْ يَحْصُلِ الجَزَاء، لم يَحْصُل الشَّرْط. وقالت المُعتزلَة: ثبت بالدَّلِيل أنَّه - تعالى - أراد مِنَ الكُلِّ الإيمان، وما شَاءَ من أحدٍ الكُفْر، وهذه الآيَة الكريمة تَفْتَضِي: أنَّه - تعالى - ما شَاءَ من الكُلِّ الإيمانَ؛ فوجب التَّوفيق بين الدَّليليْن، فيجعل مَشِيئةِ اللَّه لإيمانهم، على مَشِيئة الإيمان الاخْتِيَاريِّ الموجبِ للثُّواب، ويحمل عدم مشيئته لإيمانِهِم، على الإيمان الحاصِل بالقَهْر والجَبْر، يعني: أنه - تبارك وتعالى - ما شاء أن يَحْمِلَهُم على الإيمان على سبيل القَهْر والإلْجَاء؛ لأنَّ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 360 ذلك يُبْطِل التَّكْليف، ويخرج الإنْسَان عن اسْتِحقاق الثَّواب. والجواب من وُجُوهٍ: أحدها: أنه - تبارك وتعالى - ما شَاءً مِنْهُم أن يَحْمِلَهم على الإيمان على سَبِيل القَهْر وهو الذي أقْدَر الكَافِر على الكُفْر فَقُدْرَةٌ الكُفْر إن لم تَصْلُح للإيمان، فخالِقُ تلك القُدْرَة لا شكَّ أنه كان مُريداً للكُفْر، فإن كان صَالِحة للإيمان، لَمْ يَتَرجَّحْ جانب الكُفْرعلى جَانِب الإيمان، إلاَّ عند حصولِ داعٍ يَدْعُو إلى الإيمان، وإلاَّ لَزِم رُجْحان أحد طرَفِي المُمْكِن على الآخرَر [لا] لمرجَح. وهو مُحَالٌ، ومَجْمُوع القُدْرَة مع الدَّاعِي إلى الكُفْر، يُوجِب الكُفْرَن فإذا كان خالِق القُدْرة والدَّاعِي هو اللَّه - تعالى -، وثبت أنَّ مَجْمُوعَهما يوجِبُ الكُفْر، ثبت أنَّ الله - تعالى - أراد الكُفْر من الكافِرِ. وثانيها: أنَّ الله - تبارك وتعالى - كان عالماً بعدم الإيمان من الكَافِر، ووجُود الإيمَان مع العِلْم بِعدم الإيمان مُتضَادَّانِ، ومع وُجودِ أحَد الضِّدَّيْن كان حُصُول الضدِّ الثاني محالاً، مع العِلْمِ بِكَوْنه محالاً غير مُرَادِ، فامْتَنَع أن يُقال: إنه - تعالى - يريد الإيمان من الكافر. وثالثها: هَبْ أن اإيمان الاخْتِيَاري أفْضلُ وأنْفع من الإيمان الحَاصِل بالجَبْر والقَهْر، إلاَّ أنَّه - تعالى لما عَلِم أنَّ ذلك النَّفْع لا يَحْصُل ألْبَتَّةَ، فقد كان يَجِبُ في رَحْمَته وحكمته، أن يخلق فيهم الإيمان على سَبِيل الإلْجَاء؛ لأن هذا الإيمان وإن كان لا يُوجِب الثُّواب العظيم، فأقَل ما فيه أن يُخَلِّصَة من العِقَاب العَظيم، وتَرْك إيجَاد هذا الإيمان فيه على سبيل الإلْجَاء، يُوجِب وقوعَهُ في أشَدِّ العذاب، وذلك لا يَلِيقُ بالرَّحمة والإحْسان، كما إنَّ الوالد إذا كان له ولدٌ عزيزٌ، وكان الأبُ في غَاية الشَّفَقَة، وكان الولدُ واقفاً على طَرف البَحْرن فيَقُول له الوالد: غُصْ في قَعْر هذا البَحْر؛ لتَسْتَخْرِج اللآلِئ العظيمة الرَّفيعة الغَالِية، وعلِم الوالد قَطْعاً أنَّه إذا غَاصَ في البَحْر، ويقول له: أترك طلب اللآلِئ، فإنَّك لا تَجِدُها وتَهْلَك، والأوْلى لك أن تَكْتَفِي بالرِّزق القَلِيل مع السَّلامة، فأما أنْ يَأمُرَه في قَعْر البحر مع تيقّن الهلاك، فهذا يدلُّ على عَدَم الرَّحْمة؛ وكذا هَهُنَا. قوله: «وَمَا جَعَلْنَاكَ» «جعل» بمعنى: صيَّر فالكافُ مَفْعُول «حَفِيظ» مَحْذُوف، أيك «حفيظاً عليهم أعْمالهم» . قال أبُو البقاء: «هذا يُؤيِّد قَوْل سيبويه في إعْمَال فَعِيل» يعني: أنه مِثالُ مُبالَغة، وللنَّاس في إعْمَاله وإعْمَاله وإعْمَال فعل خلاف أثْبَتَهُ سِيبويْه، ونفاه غَيْرُه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 361 [قال شهاب الدين] : يُؤيِّده وليْس شيءٌ في اللَّفْظ يَشْهَد لَهُ؟ قوله: «وَمَا أنْتَ» يجُوز أن تَكُون «مَا» الحجازيةح فيكُون «أنْتَ» : اسْمُهاَ، و «بوكيل» : خبرها في مَحَلِّ نصْب، ويجُوز أن تكُون التَّمِيميَّة؛ فيكون «أنْتَ» : مبتدأ و «بوكيل» : خَبَره في محلِّ رفع، والباءُ زايدة على كلا التَّقْديرين، و «عليهم» : متعلِّق بوكيل قُدِّم لما فيما قَبْلَه، وهذه الجُمْلَة هي في مَعْنى الجملة قَبْلَها؛ لأن معنى ما أنْت وَكِيلٌ عليهم، وهو بِمَعْنَى: ما جَعَلْنَاكَ حفيظاً عليهم، أي: رقيباً. واعلم أنه - تبارك وتعالى - لما بيَّن أن لا قُدْرَةَ لأحد على إزالة الكُفْر عَنْهُم، ختم الكلام بما يَكْمُل معه تَبْصير الرَّسُوال؛ لأنَّه لما بيَّن له قَدْر مَا جَعَل إلَيْه، فذكر أنَّه ما جَعَله عليْهم حَفِيظاً ولا وِكِيلاً، وإنَّما فوَّض إليه البَلاغ بالأمْر، والنَّهْي، البَيَان بذكر الدَّلائل، فإن انْقَادُوا للقَبُول، فنفعه عَائِدٌ إلَيْهم، وإلا فضرَرُه عَائِدٌ إليهم. قال عطاء: وما جَعَلْنَاك علهيم حَفِيظاً: تمنعهم منِّي، أي: لم تُبْعِثْ لِتَحْفَظ المُشْرِكين من العذاب، إنما بُعِثْت مُبَلَّغاً، وما أنت عليهم بِوَكيل على سَبيل المَنْع لَهُم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 362 اعلم أنَّ متعلَّق هذا بما قَبْلَه: أنَّه لا يَبْعُد ان بَعْض المُسْلمين كان إسمع قَوْل المُشْرِكين للرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنَّما جَمَعْت هذا القُرْآن من مُدارَسَة النَّاس، غَضِب، وشَتَم آلِهَتَهُم المُعَارِضة، فنهي الله - تعالى - عن ذَلِك؛ لأنَّك متى شتمت آلِهَتَهُم، غَضِبُوا، فَرُبَّما ذكر اللَّه - تبارك وتعالى - بِمَا لا يَنْبَغِي، فلذلك وَجَبَ الاحْتِرَاز عن ذَلِك المَقَال، وهَذَا تَنْبِيهٌ على أنَّ الخَصْم إذا شَافَه خَصْمَه بِجَهْل وسفاهِةٍ، لم يَجُزِ لِخَصْمه أن يُشافِهَهُ بمثل ذلك، فإن ذلك يُوجِبُ فتْح باب المُشَاتَمَةِ والسَّفاهَة، وذّلِك لا يَلِيق بالعُقلاء. فصل في المراد بالآية قال ابْن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - لمَّا نزل قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] قال المُشْرِكُون: يا مُحَمَّد، لَتَنْتَهِيَنَّ عن سَب آلهتنا، أو لَنَهْجُرَنّ ربَّك؛ فنزلت هذه الآية، وهَهُنا إشكالان. أحدهما: أن النَّاس اتَّفَقُوا على أن هذه السُّورة نزلت دَفْعَةً واحِدَةً، فكيْف يُمْكن أن يُقال: سبَبُ نُزُول هَذِهِ الآية الكَرِيمة كَذَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 362 والثاني: أن الكُفَّار كانوا مُقِرِّين اللَّهِ - تعالى -؛ لقوله - تبارك وتعالى -: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] وكانوا يَقُولُون: إنّما نَعْبُد الأصْنَام؛ لِتَصير شُفَعَاؤُنَا عِنْد الله، فكيف يُعْقَل إقْدَامهم على شَتمِ اللَّه وسبِّه. وقال السُّدِّيُّ: «لما قربت وفاةُ أبي طالبِ، قالت قُرَيْشُ: ندخل عليه، ونَطْلُب منه أنْ يَنْهَي ابْن أخيه عَنَّا، فإنا نَسْتَحِي أن نَقْتُلَه بعد مَوْته، فَنَقُول العرب: كان يَمْنَعُه عَمُّه، فلما ماتَ، قتلوه؛ فانْطَلَقَ أبو سُفْيَان، وأبُو جَهْلٍ، والنَّضْرُ بن الحَرارِثِ، وأمَيَّةُ وأبَي ابنا خَلَف، وعُقْبَةُ بن أبي معيط، وعَمْرُو بن العَاصِ، والأسْوَد بن أبِي البُخْتُري إليه، وقالُوا: يا أبا طالبٍ، أنت كَبِيرُنا وسيِّدُنا، وإن محمَّداً آذَانَا وآلهتنا، فنحب أن تَدْعُوَه وتنهاه عن ذكْر آلِهَتنا، ولندعه وإلهه، فدعاه، فقال: يا مُحَمُّد، هؤلاء قَوْمُك، وبَنُو عَمِّك يطلُبُوك أن تَتْرُكَهم على دينهم، وأنْ يَتْركُوكَ على دينك، وقد أنْصَفَك قومك، فاقْبَل مِنْهم، فقال النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أرأيْتُم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطيَّ كلمة إن تكلمتم بها مَلَكْتُم بها العرب، ودَانَت لكم بها العَجَم قال أبُو جَهْلِ: نَعَم وأبيك، لَنُعْطِيَنّكَهَا، وعشرة أمْثَالِهَا، فما هي؟ قال:» قولوا: لا إله إلاَّ الله «فأبَوْا ونَفَرُوا، فقال أبُو طالب: قُلْ غَيْرَها يا بابْن أخي، فقال: يا عمَّ، ما أنا بالَّذِي أقُول غَيْرَها، ولَوْ أتَوْني بالشَّمْسِ فَوضَعُوها في يَدِي. فقالوا: لتكُفَّنَّ عن سب آلِهَتِنا، وأو لنَشْتُمَنَّك أو لنشتُمَنَّ من يأمرك بِذلكِ،» فأنْزَل الله - تعالى الآية الكريمة. وفيه الإشكالان، ويمكن الجواب مِن وُجُوه: الأول: أنه رُبَّما كان بَعْضُهُم قائِلاً بالدَّهر ونفي الصَّانع، فيأتي بهذا النَّوْع من الشَّفاعة. الثاني: أن الصَّحابة - ر ضي الله عنهم - متى شَتَمُوا الأصْنَام، فهم كَانُوا يَشْتُمون الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فاللَّه - تعالى - أجْرَى شَتْم الرَّسُول مَجْرىللَّه - تعالى -؛ كقوله: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ} [الفتح: 10] وكقوله: {إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ} [الأحزاب: 57] . الثالث: أنه رُبَّما كان في جُهَالِهم، مَنْ كان يَعْتَقِد أنَّ شَيْطَانَاً يَحْمِلُه على ادِّعاء النُّبُوة والرٍّسالة، ثُمَّ إنَّه لجَهْلِه، كان يُسَمَّى ذلك الشَّيْطان بأنه إله محمَّد، فكان يَشْتم إله محمَّد بناءً على هذا التَّأويل. وقال قتادة: كان المُسْلِمُون يسُبُّون أصْنَام الكُفَّار، فَنهَاهم اللَّه - تعالى - عن ذَلِك؛ لِئَلاَّ يَسُبُّوا اللَّه، فإنهم جَهَلة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 363 فإن قيل: شَتْم الأصنام من أصُول الطَّاعات، فكَيْفَ يَحْسُن أن يَنْهَى عَنْه. فالجوابُ: أن هذا الشَّتم وإن كان طَاعَةً، إلاَّ أنَّه إذا وَقَع على وَجْه يستَلْزِم وجُودَ منكر عَظِيم، وجب الاحْتِرَاز مِنْه، والأمر هَهُنا كذلك؛ لأنَّ هذا الشتْم كان يَسْتَلِزم إقْدامهم على شَتْم اللَّه، وشَتْم رَسُوله، وعلى فَتْح باب السَّفاهة، وعلى تَنْفِيرهم عن قُبُول الدِّين، وإدْخَال الغَيْظ والغَضَب في قلوبهم، فَلِهذه المُنْكشرات وقع النَّهْي عنه. قوله: {مِنْ دُونِ اللَّه} يجُوز أن يتعلَّق ب «يَدْعُونَ» وأن يتعلَّق بمحذُوفِ على أنَّه حالٌ: إمَّا من الموصُول، وإمَّا من عَائِدِه المَحْذُوف، أي: يَدْعُونهم حَالَ كونهم مستَقِرِّين من دُونِ اللَّه. قوله: «فَيَسُبُّوا» الظَّاهر أنه مَنْصُوب على جواب النَّهي بإضمار أنْ بعد الفَاءِ، أي: «لا تَسُبُّوا آلهتَهُم، فقد يترتَّبُ عليه مَا يَكْرَهُون مِنْ سَبِّ اللَّه» ، ويجُوز أن يكُون مَجْزُوماً نسقاً على فِعْل النَّهْي قَبْلَه؛ كَقَوْلِهم: «لاتَمْدُدْها، فتشُقَّها» وجَازَ وُقُوع «الَّذِين» - وإن كان مُخْتَصًّا بالعُقلاء - على الأصْنَام الَّتِي لا تَعِقْلُ، معاملة لها مُعامَلة العُقلاء؛ كما أوْقَع عليْها «مِنْ» في قوله: {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] . قال شهاب الدِّين: وفيه نَظَر؛ لأنَّ «الَّذِي» و «الَّتِي» وسائِر المَوْصُولات ما عَدَا «مَنْ» فإنَّها تدخل على العُقَلاء وغيرهم، تقول: أنت الرُّجُل الَّذِي قَام، ورَأيْت الفَرَس الَّذِي اشْتَرَيته، قال: ويَجُوز أن يَكُون ذَلِك للتَّغُلِيب، لأن المَعْبُود مِن دُون اللَّه عُقلاء؛ ك «المَسِيح» و «عُزَيْر» و «المَلاَئِكَة» وغيرهم، [فغلَّب] العَاقِل، وهذا بَعِيدٌ؛ لأنَّ المُسْلِمين لا يسبّون هؤلاء ويَجُوز أنْ يُرَاد بالَّذين يَدْعُون: المُشْرِكين، أي: لا تَسُبُّوا الكَفَرة الَّذِين يَدْعون غَيْر اللَّه من دُون الله، وهو وَجْهٌ وَاضِح. قوله: «عَدْواً» الجُمْهُور على فَتْح العَيْن، وسُكون الدَّال، وتَخْفِيف الواوِ ونصبه من ثلاثة أوْجُه: أحدها: أنه مَنْصُوب على المَصْدَر؛ لأنَّه نوع من العَامِل فِيهِ، لأنَّ السَّبَّ من جِنْس العَدْو. والثاني: أنَّه مَفْعُول من أجْلِه، أي: لأجْل العَدْو، وظاهر كلام الزَّجَّاج: أنه خَلَط القَوْلَين، فجَعَلهُمَا قَوْلاً واحداً، فإنه قال: «وعَدْواً» مَنْصُوب على المَصْدر؛ لأن المعنى فَتَعْدُوا عَدْواً. قال: «ويكُون بإرَادَة اللاَّم» والمعنى «: فيسُبُّوا الله للظُّلْم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 364 والثالث: أنَّه مَنْصُوب على أنَّه وَاقِع مَوْقِع الحالِ المُؤكدة؛ لأنَّ السَّبَّ لا يَكُون إلا عَدْواً. وقرأ الحسن، وأبو رجاء، ويعقوب، وقتادة، وسلام، وعبد الله بن زَيْد:» عُدُواً «بضم العَيْن والدَّال، وتشديد الواو، وهو مصدر أيضاً ل» عَدَا «وانتِصَابهُ على ما تقدَّم من الأوجه الثلاثة. وقرا ابن كثير في روايةٍ - وهي قراءة أهْل مَكَّة المشرفة فيما نَقَلَهُ النَّحَّاس:» عَدُوّاً بفتح العَيْن، وضمِّ الدَّال، وتَشْديد الواو، بمَعْنى: أعداء، ونَصْبُه على الحالِ المُؤكدة، و «عَدُوُّ» يجُوز أن يَقَع خبراً عن الجَمْع، قال - تعالى: {هُمُ العدو} [المنافقون: 4] ، وقال - تعالى -: {إِنَّ الكافرين كَانُواْ لَكُمْ عَدُوّاً مُّبِيناً} [النساء: 101] ، ويُقال: عَدا يَعْدُو عَدْواً، وعُدُواً، وعُدْواناً وعَداءً، و «بغير عِلْم» حَال، أي: «يَسْبُّونه غير عَالِمين» أي: «مُصَاحِبِين للجَهْل» ؛ لأنَّه لو قدَّر حقَّ قَدْره، لما أقْدَموا عليه. فصل في دحض شبهة للمعتزلة ققال الجُبَّائي: دلَّت هذه الآية الكَرِيمة، على أنَّه لا يجُوز أن يُفْعَل في الكُفَّار ما يَزْدَادون به بُعْداً عن الحقِّ، إذ لو جَازَ أن يَفْعَلَه، لجاز أن يَأمر بِه وكان لا ينْهَى عمَّا ذَكَرْنا، ولا يَأمر بالرِّفْق بهم عند الدُّعَاء؛ كقوله لِمُوسَى، ولِهَارُون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] وذَلِك يُبْطِل مذهب الجَبْرِية. قالوا: وهذه الآية الكريمة تَدُلُّ على أنَّ الأمْر بالمَعْرُوف، قد يقبح إذا أدَّى إلى ارْتِكَاب مُنْكَر، والنَّهْي عن المُنْكَر يَقْبُح إذا أدَّى إلى زيادة مُنْكَر، وغلبة الظَّنِّ قائمة مَقَام العِلْم في هذا البَاب، وفيه تَأدِيب لمن يَدْعُوا إلى الدَّين؛ لئلا يَتَشاغل بما لا فَائِدة لهُ في إلهيَّتِهَا، فلا حَاجَة مع ذَلِك إلى شَتْمِها. قوله: «كَذَلِكَ» : نعت لِمَصْدر مَحْذُوف، أي: زَيَّنَّا لِهؤلاء أعمالهم تزييناً، مثل تَزْييننَا لكلِّ أمَّةٍ عَمَلَهم. وقيل: تقديره: مثل تَزْيين عِبَادة الأصْنَام للمُشْرِكين «زيَّنَّا لكل أمَّةٍ عَمَلهم» وهو قَريب من الأوَّل، والمَعْنَى زينَّا لكل أمَّةٍ عَمَلهم من الخَيْر والشَّر، والطّاعة والمَعْصِية، ثم إلى ربِّهم مَرٍْجِعهم، فيُنَبَّئهم ويجازيهم بما كَانُوا يَعْمَلُون. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 365 فصل في الاستدلال بالآية احتجَّ أهْل السُّنَّة بهذه الآية الكريمة، على أنَّ اللَّه - تعالى - زيَّن للكَافِر الكُفْر، وللمُؤمِن الإيمان، وللعَاصِي المَعْصِيَة، وللمُطِيع الطَّاعة. قال الكَعْبِي: حَمْل الآية على هَذَا المَعْنَى مُحَال؛ لأنه - تبارك وتعالى - هو الَّذي يَقُول {الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ} [محمد: 25] ويقول {وَالَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات} [البقرة: 257] ثمَّ إنهم ذكَرُوا في الجوابِ وُجُوهاً: الأول: قال الجُبَّائي: زينَّا لكلِّ أمَّةٍ تقدَّمت ما أمَرْنَاهم به مِنْ قَول الحقِّ. وقال الكَعْبِيَ: إنَّه - تعالى - زيَّن لَهُم ما يَنْبَغِي أن يَعْمَلُوا، وهم لا يَنْتَهُون. الثاني: قال الآخَرُون: زينَّا لكُلِّ أمَّة من أمم الكفار سوء عَمَلهم، أي: جَعَلْنَاهم وشَأنهم، وأمْهَلْنَا حتى حَسُن عِندهم سُوءُ عَمَلِهِم. الثالث: أمْهَلنا الشَّيطان حتى زيَّن لَهُم. الرابع: زيَّناه في زَعْمِهِم، وهذه وجوهٌ ضَعِيفَة؛ لأن الدليل العَقْلي [القَاطِع] دل على صِحَّةِ ما أشْعَر به ظَاهِر النَّصِّ؛ لأنَّا بينَّا أن صدُور الفَعْل عن العَبْد، يتوقُّفُ على حُصُول الدَّاعي، وأن تِلْك الدَّاعية لا بدَّ وأن تكُون بِتَخْلِيق اللَّه - تعالى -، ولا مَعْنى لِتِلْك الدَّاعية إلا عَمَله واعتِقَاده، أو ظَنّه باشْتِمَال ذَلِك الفِعْلِ على نَفْع زَائِد، ومَصْلَحة راجِحَة، وإذَا كانت تلك الدَّاعية حَصَلتْ بفِعْل اللَّه - تعالى -، امتنع أن يَصْدُر عن العَبْد فِعْلٌ، ولا قولٌ، وحَرَكَةٌ، إلاَّ إذا زَيَّن اللَّه - تعالى - ذلك الفِعْل في قَلْبِه، وضميره، واعتِقَاده، وأيضاً، أن الإنْسَان لا يخْتَاره لاعْتِقَاد كَوْنه إيماناً، وعلماً، وصِدقاً، وحقّاً، فلولا سَابقة الجَهْل الأوَّل، لما اخْتار هذا الجَهْل الثاني: ثُمَّ إنه لما اخْتار ذلك الجَهْل السَّابع، فإن كان اخْتِيَار ذلك لسابق آخر، لَزِم أن يَسْتَمِرَّ ذلك إلى ما لا نهاية له من الجهالات، وذلك مُحال؛ فوجَبَ انتهاء تلك الجَهَالات إلى جَهْل أوَّل يَخْلُقه الله - تعالى - فيه ابْتِدَاء، وهو بِسَببِ ذلك الجَهْل ظنَّ في الكُفْر كَوْنه إيماناً، وحقاً وعلماً؛ فثبت إنه يَسْتَحِيل من الكافر اخْتِيَار الكُفْر والجَهْل، إلاَّ إذا زيَّن اللَّه - تعالى - ذلك الجَهْل في قَلْبِه؛ فثبت بِهَذَيْن البُرْهَانَيْن القَاطِعَينْ، أن الَّذي يدلُّ عليه ظَاهِر هذه الآية؛ هو الحقُّ الذي لا محيد عنه، قبطلت تأويلاتهم بأسْرها؛ لأنَّ المصير إلى التَّأويل إنَّما يكون عند تَعَذُّر حمل الكلام على ظَاهِره، وأمَّا لما قال الدَّليل على أنَّه يمكن العُدُول عن الظَّاهِر، فسقطت هذه التَّكْلِيفات، وأيضاً: فوقه: «كذلِك زَيَّنَّا لِكُلِّ أمَّةٍ عَمَلَهُم» بعد قوله: «فَيَسُبُّوا اللَّه عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 366 مشعر بِأنَّ إقْدَامهم على ذَلِك المُنْكَر إنَّما كان بِتَزْيين اللَّه تعالى، فأمَّا أنْ يُحْمَل ذلك على أنَّه - تبارك وتعالى - زيَّن الأعْمَال الصَّالحة في قُلُوب الأمَم، فكان هذا كلام مُنْقطع عما قَبْلَه، وأيضاً: فقوله: {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} : يتناول الأمم الكَافِرة والمُؤمِنَة، فتَخْصيصُ هذا الكلام بالأمَّة المُؤمِنَة، ترك لِظَاهر العُمُوم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 367 قوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} الآية الكريمة. لما طَعَنُوا في النُّبُوة بِمُدَارسة العُلمَاء، حتى عَرَف التَّوْراة والإنجيل، ثم جعل السُّور والآياتِ بِهَذا الطَّريف، وأجاب اللَّه - تعالى - عن هذه الشُّبْهَة، ذكر في هذه الآية شُبْهَة لَهُم أخْرَى، وهي أنَّ هذا القرآن العَظيم لَيْس من جِنْس المُعْجِزاتِ البَيِّنَة، ولو أنَّك يا محمَّد جِئْتَنا بِمُعْجِزَة وبيِّنَة بَاهِرة، لآمَنَّا بك وحلفوا على ذلك، وبالغُوا على ذلك تَأكيد الحَلْف. قال الواحدي: إنَّما سُمِّي اليمين بالقَسم؛ لأن اليَمين مَوْضُوعة لِتَأكيد الخَبَر الَّذِي يُخْبرُ به الإنْسَان: إمَّا مُثْبِتاً للشَّيء، وإمَّا نافياً، ولما كان الخبر يَدْخله الصِّدْق والكذِب، احَتَاج المُخبر إلى طريق به يُتَوسَّل إلى تَرْجِيح جَانِب الصِّدْق على جَانِب الكَذب، وذلك هو الحَلْف، ولما كانت الحَاجَةُ إلى ذَكْر الحَلف، إنَّما تَحْصُل بالقَسَم، وبنُوا تِلْك الصِّيغة على «أفْعَل» وقالُوا: أقسم فلانٌ يقسم إقساماً، وأرَادُوا: أنه أكَّد القَسَم الذي اخَتَاره، وأحَال الصِّدْق إلى القَسَم الذي اختارَه بواسِطَة الحَلْفِ واليَمِين. قوله: «جَهْد أيْمَانِهِم» تقدم الكلام عَلَيه في «المائدة» . وقرا طَلْحَة بن مُصَرِّف: «ليُؤمَنَنْ» مَبْنياً للمفعول مؤكّداً بالنون الخفيفة، ومَعْنَى «جهد أيمانهم» : قال الكَلْبِيُّ ومُقَاتِل: إذا حلف الرَّجُل باللَّه جَهْد يَمِينه، وقال الزَّجَّاج: بالَغُوا في الإيْمَان. فصل في سبب النزول قال مُحَمَّد بن كَعْب القُرظي: «قالت قُرَيش: يا مُحَمَّد إنَّك تُخْبِرنا أنَّ مُوسَى - عليه الصَّلاة والسلام - كانت معه عَصاً يَضْرِ ب بها الحجر، فَيَنْفَجِر منه الماءُ اثْنَتي عَشْرَة عَيْناً، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 367 وتُخْبِرُنا: أنَّ عيسَى كان يُحْيِي الموْتَى، وأن صَالِحاً أخَرْج النَّاقَة من الجَبَل؛ فأتِنَأ أنْتَ أيْضاً بآيةٍ، لِنُصَدِّقَك. فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: ما الذي تُحِبُّون؟ قالوا: تَجْعل لنا الصَّفَا ذَهَباً، أو ابْعث لنا بَعْض مَوتَانا حتى نَسْأله عنك؛ أحقُّ ما تَقُول، أمْ بَاطِلٌ، أو أرنا الملائكة يَشْهَدُون ذَلِك، فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: فإن فَعَلْت بَعْضَ ما تَقُولُون، أتصدِّقُوننِي؟ قالوا: نَعَمْ واللَّه، لأن فعلْت، لنتَّبِعَنَّكَ، فقام - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يدعو فَجَاءَهُ جِبْريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقال: إن شئْت، كان ذَلِك ولَئِنْ كان، فلم يصَدَّقوا عنده، لنُعَذَّبَنهُمْ، وإن شئت تركتهُم حتى يَتُوب تَائِبُهم، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بل حتَّى يَتُوب تَائِبُهم،» فأنْزَل الله - تعالى - الآية الكريمة. وقيل: لما نزل قوله - تعالى -: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] ، أقْسَم المُشرِكُون باللَّه، لئمن جَاءَتْهُم آية، ليُؤمِنُنَّ بها، فنزلت الآية الكريمة. واخْتَلَفُوا في المُرَاد بالآية. وقيل: هي الأشْيَاء المذْكُورة في قوله - تبارك وتعالى -: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] . وقيل: إن النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يُخْبِرُهم: بأنَّ عذاب الاسْتِئْصال كان يَنْزِل بالأمَمِ المَاضية الذين كذَّبُوا أنْبِيَاءَهُم، فالمُشْرِكون طَلَبُوا مِثْلَها. قوله: «إنَّما الآيَاتُ عِنْد اللَّه» ذكروا في لَفْظِةِ «عِنْد» وجوهاً: فقيل: معناه: أنه - تبارك وتعالى - هو المُخْتَصُّ بالقُدْرَة على أمْثَال هذه الآيات دون غَيْره؛ أن المُعجِزَات الدَّالَّة على النُبُّوَّات، شرطها أن لا يَقْدِر على تَحْصيها أحَد إلى الله - تعالى -. وقيل: المُراد بالعِنديَّة: أن العِلْم بأن إيجاد هذه المُعْجِزَات، هل يَقتضي إقْدَام هؤلاء الكُفَّار على الإيمان أم لا؟ ليْس إلا عِنْد اللَّه، كقوله: {وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ} [الأنعام: 59] . وقيل: المراد: أنَّها وإن كانت مَعْدومة في الحالِ، إلا أنَّه - تعالى - متى شَاءَ، أوْجَدَها، فَهِي جَارِيَةٌ مُجْرى الأشْيَاء الموضُوعة عِنْد اللَّه، يُظْهِرهَا متى شاء، وليْس لكُم أنْ تَتَحَكَّموا في طَلَبِها، ولَفْظ «عند» على هذا؛ كما قي قوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} [الحجر: 21] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 368 قوله: «وَمَا يُشْعِرُكُم» «ما» : استِفْهَامِيَّة مُبْتَدأ، والجملة بَعْدَها خَبْرُهَا، وفاعل «يُشْعِر» يعود عَلَيْها، وهي تتعدى لاثْنَيْن. الأوَّل: ضمير الخطاب. والثاني: مَحْذُوف، أي: وأيُّ شَيءْ يدرِيكُم إيمانُهم [إذا جَاءَتْهُم الآيَات التي اقْترَحُوها. قال أبو علي: «مَا» استِفْهَام، وفَاعِل «يُشْعِرُكُم» ضمير «مَا» والمعنى: وما يُدْرِيكم إيمانهم؟ فحذف المَفْعُول، وحذف المفعُول كَثِير] . والمعنى أي: بِتَقْدير أنْ تَجِيئَهم هَذِه الآيَات، فهم لا يُؤمِنُون. وقرأ العامَّة: انها بِفَتْح الهَمْزة، وابن كثيرٍ وأبُو عَمْرو، وأبُوبَكْر بخلاف عنه بِكَسْرِها. فأما قرءاة الكَسْر: فَوَاضِحَة اسْتجودها النَّاس: الخَلِيل وغيْره، لأن معناها: اسْتِنَاف إخْبَار بعدم إيمان من طُبع على قَلْبِه، ولو جَاءَتْهُم كلُّ آيَة. قال سيبويه: سَألْتُ الخَلِيل عن هذه القراءة عين: قِرَاءة الفَتْح فَقُلْت: ما مَنَع أن يكُون كقولك: ما يُدْرِيك أنّه لا يَفْعل؟ فقال: لا يَحْسُن ذلك في هذا المَوْضِع، إنَّما قال: «ومَا يُشْعِرُكم» ثم ابْتِدأ؛ فأوْجَب، فقال: «إنَّها غذا جَاءَت، لا يُؤمِنُون» لو فتحن فقال: «وما يُشْعِرُكُم أنَّها إذا جَاءَتْ لا يُؤمِنُون» ، لكان عُذْراً لهم، وقد شرح النَّاس قَوْل الخَلِيل، وأوْضَحُوه، فقال الواحدي وغيره: لأنَّك لو فَتَحْت «أنّ» وجَعَلْتَها الَّتِي في نَحْو: بَلَغَنِي أنَّ زيداً مُنْطَلِق، لكان عُذْراً لمنَ أخبر عَنْهُم أنَّهم لا يُؤمِنُون؛ لأنَّه إذا قال القَائِل: «إنَّ زَيْداً لا يُؤمِن» فقلت: وما يُدْرِيك أنَّه لا يُؤمِن؟ كان المَعْنَى: أنه يُؤمِن، وإذا كان كذلك، كان عُذْراً لمن نفي عنه الإيمان، وليس مُرادُ الآية الكريمة، إقامة عُذْرهم، ووجود إيمانهم. وقال الزَّمَخْشَري: «وقُرِئ» إنَّها «بالكَسْر؛ على أنَّ الكلام قد تمَّ قبْله بِمَعْنَى:» مَا يُشْعِرُكُم ما يَكُون مِنْهُم «ثمَّ أخبَرَهم بِعِلْمه فِيهِم، فقال: إنَّها إذَا جَاءَت، لا يُؤمِنُون» . وأما قِرَاءة الفَتْح: فقد وَجَّهَها النَّاسُ على سِتَّة أوْجُه: أظهرها: أنَّها بمعنى: لَعَلَّ، حكى الخَلِيل «أتيت السُّوق أنَّك تَشْتَرِي لَنَا مِنْهُ شَيْئاً» أي: «لَعَلَّك» فهذا من كلام العرب - كما حَكَاه الخَلِيل - شَاهد على كَوْن «أنَّ» بِمَعْنَى لَعَلَّ وانْشَد أبو جَعْفَر النَّحَّاس: [الطويل] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 369 2280 - أرينِي جَوَاداً مَاتَ هُزْلاً لأنَّنِي ... أرَى ما تَرَيْنَ أوْ بَخِيلاً مُخَلَّدَا وقال امرؤ القيس - أنشده الزَّمَخْشَريُّ -[الكامل] 2281 - عُوجَا على الطَّلَلِ المُحِيل لأنَّنَاِ ... بنْكِي الدِّيارَ كَمَا بَكَى ابنُ حِذَامِ وقال جري: [الوافر] 2282 - هَل أنْتُمْ عَائِجُونَ بِنَا لَعَنَّا ... نَرَى العَرَصَاتِ أوْ أثَرَ الخِيَامِ وقال عَدِيُّ بنُ زَيْدٍ: [الطويل] 2283 - أعَاذِل مَا يُدْريكَ أنَّ مَنْيَّتِي ... إلى سَاعَةٍ في اليَوْمِ أوْ فِي ضُحَى الغَدِ وقال آخر: [الزجر] 2284 - قُلْتُ لِشَيْبَانَ ادْنُ مِنْ لِقَائِهْ ... أنَّا نُغَذِّي النَّاسَ مِنْ شِوَائِهْ ف «أنَّ» في هذه المواضِع كلِّها بِمَعْنَى: «لعلَّ» قالوا: ويدلُّ على ذَلِك أنَّها في مُصْحَف أبَيِّ وقراءته: «وما أدْرَاكُم لعلَّها إذا جَاءَتْ لا يُؤمِنُون» ونُقِل عنه: «وما يُشْعِرُكم لعلِّها إذَا جَاءَت لا يُؤمِنُون» ذكر أبُو عُبَيْد وغيره، ورَجَّحُوا ذلك أيْضاً بأنَّ «لَعَلَّ» قد كَثُر ورودُها في مِثْل هذا التَّركِيب؛ كقوله - تعالى -: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى: 17] ، {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى} [عبس: 3] ، وممَّن جعل «أنَّ» بِمَعْنَى: «لعل» أيْضاً، يَحْيَى بن زِيَاد الفرّاء. ورجَّح الزَّجَّاج فقال: «زعم سِيبوَيْه عن الخَلِيل، أن مَعْنَأها:» لَعَلَّهَا «قال:» وهَذَا الوَجْه أقْوى في العَرَبِيَّة وأجود «ونَسَب القراءة لأهْل المدين’ن وكذا أبُو جَعْفَر. قال شهاب الدِّين: وقراءة الكُوفيِّين، والشَّامِيِّين أيضاً، إلاَّ أن أبَا عَلِيَّ الفارسيَّ ضعَّف هذا القَوْل الَّذِي استجوده النَّاسُ، وقوَّوْهُ تَخْريجاً لهذه القِراءة، فقال:» التَّوَقُّع الَّذِي تدلّ عليه «لَعَلَّ» لا يُنَاسب قراءة الكَسْر، لأنها تدلُّ على حُكْمِه - تعالى - عليهم بأنَّهم لا يُؤمِنُون «ولكنَّه لمَّا مَنَعَ كونها بِمَعْنَى:» لعل «لم يَجْعَلءها مَعْمُولة ل» يُشْعِرُكُم «بل جَعَلها على حَذْف لام العِلَّة، أي: لأنَّها، والتَّقْدِير عنده:» قل إنَّما الآياتِ عِنْد اللَّهِ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 370 لأنَّها إذا جَاءَت لا يُؤمِنُون «. فهو لا يَأتِي بَهَا؛ لإصْرارهم على كُفْرِهم، فيَكُون نَظِير: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون} [الإسراء: 59] ، أي بالآيات المُقْتَرحة، وعلى هذا فيَكُون قوله:» وما يُشْعِرُكُم «اعتِرَاضاً بين العِلَّة والمَعْلُول. الثاني: ان تكون» لاَ «مَزِيدة، وهذا رَأي الفرَّاء وشيخه، قال: ومثله: {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] أي:» أنْ تَسْجُد «فيكون التَّقْدير: وما يُشْعِرُكُم أنَّها إذا جَاءَت يُؤمِنون، والمعنى على هذا: أنَّها لو جَاءَت لم يُؤمِنُوا، وإنما حمله على زِيَادَتِها ما تقدَّم من أنَّها لو تُقدَّر زَائِدة، لكان ظَاهِرُ الكلام عُذْراً لكُفَّار، وأنَّهم يُؤمِنون كا عرفت تَحْقيقه أولاً، إلا أن الزَّجَّاج نسب ذلك إلى الغَلَط، فقال:» والَّذِي ذكر أنَّ «لا» لَغْو، غالط؛ لأن ما يَكُون لَغْواً، لا يكون غَيْر لَغْوٍ، ومن قَرَأ بالكَسْر، فالإجْمَاع: على أنَّ «لا» غير لَغْو «فليس يَجُوز أن يكُون مَعْنَى لفظة: مرةً النَّفي، ومرَّة الإيجاب في سِيَاق واحد. وانصر الفارسيّ لقول الفرَّاء، ونفي عنه الغَلَط، فإنَّه قال: «يجوزُ أن تكون» لا «في تأويل زائِدةً، وفي تَأويل غَيْر زَائدة؛ كقول الشَّاعر في ذلك: [الطويل] 2258 - أبى جُودُهُ لا البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ نَعَمْ ... بِهِ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ يُنشد بالوَجْهَيْنِ، أي: بِنَصْب» البُخْل «وجرِّه، فَمَنْ نَصَبَه، كانت زائدة، أي:» أبَى جُودُه البُخْلَ «ومَنْ خَفَضَ، كانت غَيْر زَائِدة، وأضَافَ» لاَ «إلى البُخْلِ» . قال شهاب الدِّين: وعلى تَقْدير النَّصْب، لا يَلْزَم زِيَادتها؛ لجوازِ أن تكُون «لا» مَفْعُولاً بِهَا، و «البُخْل» بدل مِنْهَا، أي «أبَى جُودُه لَفْظَ» لا «ولفظ» لا «هو بُخْل» . وقَدْ أوائل لك طَرف من هذا محقَّقاً عند قوله - تعالى - {وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 7] [في أوائل هذا الموضوع] وسَيَمُرُّ بك مَوَاضِع مِنها؛ كقوله - تعالى -: {وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ} [الأنبياء: 95] . قالوا: تَحْتَمل الزِّيَادة، وعدمها وكذا {مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] ، {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] . الثالث: أن الفَتح على تَقْدِير لام العِلَّة، والتَّقْدير: «إنما الآيات التي يَقْتَرِحُونها عِنْد اللَّه؛ لأنَّها إذا جَاءتَ لا يُؤمِنُون» ، و «ما يُشْعِرُكُم» اعتِرَاض كما تقدَّم تَحْقيق ذلك عن أبي عَلِيِّ، فأغنى عن إعَادَتِهِ، وصار المَعْنَى: «إنَّما الآيَات عند اللَّه، أي: المُقْترحة لا يأتي بِهَا؛ لانْتِفَاء إيمانهم، وإصْرارِهْم على كُفْرِهم» . الرابع: أن في الكلام حَذْف مَعْطُوف على ما تقدَّم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 371 قال أبُو جَعْفَر في مَعَانيه: وقيل في الكلام حَذْف، والمعنى: وما يُشْعِرُكم أنَّها إذا جاءت لا يُؤمِنُون أو يُؤمِنُون، فحذفَ هذا لِعْلِم السَّامِعِ، وقدَّرَه غَيره: «ما يُشْعِرُكُم بانْتِفَاء الإيمان، أو وقُوعه» . الخامس: أن «لا» غير مزيدة، ولي في الكلام حَذْف، بل المَعْنَى: «وما يُدريكم انتِفَاء إيمانهم» ويكون هَذَا جواباً لمن حُكِم عليْهم بالكُفر ويُئسِ من إيمانهِمِ. وقال الزّمَخْشَرِي: «وما يُشْعِرُكم: وما يُدْرِيكثم أنها، أي: أن الآيات التي يَقترِحُونها» «إذا جاءت لا يُؤمِنُون بِهَا» يَعْنِي: «أنَا أعلم أنَّها إذا جَاءَت لا يُؤمِنُون بِهَا، وأنتم لا تَدْرُون بِذَلك» . وذلك أنّ المُؤمنين كانُوا حَرِيصين على إيمانهم، وطامعين فيه إذا جَاءَت تلك الآيَة، ويتمنَّوءن مَجيئها، فقال - عَزَّ وَجَلَّ َّ -: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} على مَعْنَى: أنكم لا تَدءرُوْنَ ما سَبَقَ عِلْمي بهم، أنهم لا يُؤمِنُون؛ ألا ترى إلى قوله: {كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الأنعام: 110] انتهى. قال شهاب الدِّين: بَسْطُ قوله إنَّهم كَانُوا يَطْمعُون في إيمانهم، ما جَاءَ في التَّفْسِير: أن المُشْركين قَالُوا لِرسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أنْزِلَ عَلَيْنَا الآية الَّتي قال اللَّه فيها: {إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ} [الشعراء: 4] ونحن واللَّه نُؤمِن، فأنزل الله تعالى: «وما يُشْعِرُكُم» إلى آخرها وهذا الوَجْه: هو اخْتِيَار أبي حيَّان، فإنَّه قال: «ولا يَحْتَاج الكلام إلى زِيَادة» لاَ «ولا إلى هذا الإضْمَار، يعني حَذْفَ المَعْطُوف، ولا إلى» أنَّ «بِمَعْنَى: لعَّل، وهذا كلُّه خُرودٌ عن الظَّاهِر لغير ضَرُورة، بل حَمْلُه على الظَّاهِر أوْلى، وهو وَاضِحٌ سائغٌ، أي: وما يُشْعِرُكم ويُدْرِيكم بِمَعْرِفة انْتِفَاء إيمانهم، لا سَبِيل لَكُم إلى الشُّعُور بِهَا» . السادس: أن «مَا» حَرْف نَفْي، يَعْني: أنه نَفى شُعُورهم بِذلكِ، وعلى هذا فَيُطْلَبُ ل «يُشْعركُمْ» فاعل. فقيل: هو ضَمِير الله - تعالى - أضْمر للدَّلالة عَلَيْه، وفيه تكلُّف بعيد، أي: «وما يُشْعِركُم اللَّه إذا جاءت الآيات المُقْتَرحَة لا يُؤمِنُون» . وقد تقدَّم في البقرة كيْفِيَّة قِرَاءة أبي عَمْرو ل «يُشْعركم» و {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160] ، ونحوهما عند قوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ} [البقرة: 67] ، وحَاصِلُها ثلاثة أوْجُه: الضَّمُّ الخَالِص، والاختلاس، والسُّكُون المحض. وقرأ الجُمْهُور: «لا يُؤمنُون» بياء الغَيْبَة، وابن عامر، وحمزة بتاء الخِطَاب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 372 وقرأ أيضاً في الجاثية [آية: 6] {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ} بالخِطَاب، واقفهُمَا عليها الكَسَائِي، وأبُو بكر عن عَاصِم، والباقون: باليَاء للغَيْبَة، فتحصَّل من ذلك أنَّ ابْن عامرٍ، وحَمْزة يقرآن بالخِطَاب في المَوْضِعَيْن، وأن نَافِعاًن وابن كثير، وأبا عَمْرو، وحَفْصاً عن عَاصِم، بالغيبة في الموْضِعَيْن، وأنّ الكَسِائيّ، وأبا بكر عن عن عَاصِم: بالغَيْبَة هُنَا، بالخِطَاب في الجَاثِية، فقد وافقا أحد الفريقين في إحْدى السُّورَتَيْن والآخر في أخرى. فأما قِرَاءة الخِطَاب هُناَ: فيكون الظَّاهر من الخِطاب في قوله: «ومَا يُشْعِرُكُم» أنه للكُفَّار، ويتَّضح مَعْنَى هذه القِرَاءة على زيادة «لا» أي: ومَا يُشْعِرُكم أنكم تُؤمِنُون، إذا جَاءَت الآيَات الَّتِي طَلَبْتُمُوها كما أقْسَمْتُم عَلَيْه، ويتَّضحُ أيضاً على كون «أنَّ» بمعنى: لَعَلَّ، مع كون «لا» نَافِية، وعلى كَوْنِها عِلَّة بِتَقْدير: حذف اللاَّم، أي: «إنما الآيات عِنْدالله فلا يَأتِيكم بِهَا؛ لأنَّها إذا جَاءَت لا يُؤمِنُون بها» ويتَّضِحُ أيضاً على كَوْن المَعْطُوف مَحْذُوفاً، أي: «وما يُدْرِيكم بعدم إيمَانِكم، إذا جاءَت الآيات أو وُقُوعه؛ لأن مَآل أمركم مُغَيِّبٌ عَنْكم، فكَيْفَ تُقْسِمُون على الإيمان عِنْد مَجِيئ الآيات؟» وإنَّما يُشْكَل؛ إذا جَعَلْنا «أنَّ» معمولة ل «يُشْعِرُكم» وجَعَلْنَا «لا» : نافية غير زَائِدَة؛ إا يكون المَعْنَى: «وما يُدْرِيكم أيُّهَا المُشْرِكون بانْتِفَاء إيمانكم، إذا جَاءَتْكم» ، ويَزُول هذا الإشْكَال بأنَّ المَعْنَى: «وما يُدْريكم أيُّها المُشْرِكون بانْتِفَاء إيمانِكم، وإذا جَاءَتْكم» ، ويَزُول هذا الإشْكَال بأنَّ المَعْنى: ايُّ شَيءْ يُدْرِيكم بِعَدم إيمانِكُم، إذا جَاءَتْكم الآيَات الَّتِي اقْتَرَحْتُمُوها؟ يعني: لا يمرُّ هذا بِخَواطِرِكم، بل أنْتُم جازِمُونَ بالإيمان عند مجيئها، لا يَصْدُّكم عَنْه صادٌّ، وأ، اأعْلَمُ أنكم لا تُؤمِنُون وَقْت مَجِيئها؛ لأنكم مَطْبُوع على قُلُوبكُم. وأمَّا على قِراءة الغَيْبَة، فتكون الهَمْزَة معها مكْسُورة؛ وهي قراءة ابْن كَثِير، وأبِي عَمْرو، وأبِي بَكْر عن عَاصِم، ومَقْتوحة؛ وهي قرءاة نافِع، والكسَائي، وحَفْص عن عَاصِم. فعلى قِرَاءة ابْن كَثِير ومَنْ مَعَه يكون الخِطَاب في: «وما يُشْعِرُكُم» حائزاً فيه وجهان: أحدهما: أنَّه خِطَاب للمُؤمِنين، أي: «وما يُشْعِركُم أيُّها المُؤمِنُون إيمانَهُم» ثم اسْتَأنَف إخْباراً عنهم بأنَّهم لا يُؤمِنُون، فلا تَطْمَعُوا في إيمانهم. الثاني: أنه للكُفَّار، أي: «وما يُشْعِرُكم أيُّها المُشْرِكون مَا يَكون مِنْكم» ثم اسْتَأنف إخْبَاراً عَنْهم بِعَدَم الإيمَان؛ لعلمه السَّابق فيهم وعلى هَذَا فِفِي الكلام التِفَاتٌ من خِطَاب إلى غَيْبَة. وعلى قرءاة نَافِع يكون الخِطَاب للكُفَّار، وتكون «أنَّ» بِمَعْنَى: «لعلَّ» كذا قاله أبو شَامَة، وغيره. وقال أبُو حيَّان في هَذهِ القراءة: «الظَّاهر أن الخِطَاب للمُؤمنين، والمَعْنَى:» وما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 373 يُدْرِيكم أيُّهَا المُؤمِنُون، أنَّ الآية الَّتِي تَفْتَرِحُونها إذا جاءت لا يُؤمِنَون «يعني: أنا أعْلَم أنَّها إذَا جَاءَت لا يُؤمِنُون بِهَا» ثم سَاق كلام الزَّمَخْشَري بِعَيْنِه الَّذي قدَّمت ذكره عَنْه في الوَجْه الخَامِس قال: «ويبْعدُ جداً أن يكون الخِطَاب في» وَمَأ يُشْعِرُكُم للكُفَّار «. قال شهاب الدِّين: إنَّما اسْتَبْعَدَه؛ لأنَّه لم ير في» أنَّ «هَذِه أنَّها بِمَعْنَى:» لَعَل «كما حَكيْته عَنه. وقد جَعَل أبُو حيَّان في مَحْمُوع» أنَّها إذا جاءت لا يؤمِنُون «بالنِّسْبَة إلى كَسْر الهمزة وفَتْحِها، والخِطَاب والغَيْبة أرْبع قِرَاءَات، قال: وقرأ ابْن كثير، وأبو عَمْرو، والعُلَيْمِي، والأعْشَى عن أبي بكر. وقال ابن عَطِيَّة: ابن كَثير، وأبو عمرو، وعَاصِم في رواية داود الأودي] : إنَّها بكَسْر الهَمْزة، وقرأ بَاقِي السَّبْعة: بفتحها، وقرأ ابْن عَامِر وحَمْزة:» لا تُؤمِنُون «بتاء الخِطَاب، والبَاقُون بياء الغَيْبَة؛ فترتب أرْبَع قِرَاءات: الأولَى: كَسْرُ الهَمْزَة واليَاءِ، ويه قِرَاءة ابْن كَثِير، وأبي عَمْرو، وأبِي بَكْر بخلاف عَنْه في كَسْر الهَمْزَة ثم قال: القِرَاءة الثَّانية: كَسْر الهَمْزَة والتَّاء ويه رِوَاية العُلَمِي والأعْشَى عن أبي بَكْرٍ عن عَاصِم، والمُنَاسب: أن يكون الخِطَاب للكُفَّار في هذه القِرَاءة، وكأنَّه قيل:» وما يُدْرِيكُم أيُّهَا الكُفَّار وما يَكُون مِنْكُم «؟ ثم أخْبرَهُم على جِهَة الجَزَم، أنَّهم لا يُؤمِنُون على تقدير مَجِيئها، ويَبْعُد جداً أن يكون الخِطَاب في:» وما يُشْعِرُكُم «للمُؤمنين، وفي» تُؤمِنُون «لكُفَّار، ثم ذكر القِرَاءة الثُّالِثة، والرَّابعة، ووجَّههُا بنحو ما نقلته عن النَّاس، وفي إثباته القراءة الثَّانية نظر لا يَخْفَى؛ وذلك أنَّه لما حَكَى قِرَاءة الخِطَاب في» تُؤمِنُون «لم يَحْكِها إلا عن حَمْزَة، وابن عَامِر فقط، ولم يَدْخل مَعَهُمَا أبُو بكر لا من طريق العُلَيْمِي، والأعْشى ولا من طَريق غَيْرهما، والفَرْض: أن حَمْزة وابنَ عَامِر يَفْتَحان هَمْزة» أنَّها «وأبُوا بكر يَكْسِرُها وَيفْتَحُها ولِكِنَّه لا يَقْرأ:» يُؤمِنُون «إلاَّ بِيَاء الغَيْبَة، فمن أيْن تجيئ لَنا قِرَاءةٌ بكَسْر الهَمْزة، والخطاب؟ وإنما أتَيْتُ بكلامه برُمَّتِه؛ ليُعْرَف المأخذ عليه ثم إني جوَّزْتُ أنْ تكون هذه رِيوايةً رَوَاها، فكشفتُ كِتَابَه في القِرَاءاتِ، وكان قد أفْردَ فيه فَصْلاً انْفَرد به العُلَيْمِي في رِوَايته، فلم يَذْكُر أنه قرأ:» تُؤمنُون «بالخِطاب ألبَتَّةَ، ثم كَشَفْتُ كتبا في القِرَاءات عَدِيدة، فلم أرهم ذَكَرُوا ذلك، فَعَرفْت أنَّه لما رأيى لِلْهَمْزة حالَتَيْنِ، ولحرف إحْدَاها مُهْمَلة، وقوله:» لا يؤمنون «متعلِّقه مَحْذُوف؛ للعِلْم به، أي:» لايُؤمِنُون بها «. قوله: «ونُقَلِّبُ» في هذه الجُمْلَة وجهان: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 374 أحدهما: - ولم يقل الزَّمَخْشَري غيره - أنَّها وما عُطِف علَيْها من قوله: «ويذَرُهُم» عطف على «يُؤمِنُون» داخل في حُكْم «ومَا يُشْعِرُكُم» ، بمعنى: «وما يُشْعِرُكُم أنَّهم لا يُؤمِنُون» وما يشعركم أنَّا نُقِلِّب أفْئِدَتَهُم وأبصارهم «،» وما يُشْعِرُكم أنَّا نَذَرُهم «وهذا يُسَاعده ما جَاء في التَّفْسير عن ابْنِ عَبَّاسٍ، ومُجَاهد، وبان زَيْد. والثاني: أنَّهَا اسِتئْنَاف إخبارن وجعله أبُو حيَّان الظَّاهر، والظَّاهر، ما تقدَّم. » والأفْئِدة «: جمع فُؤاد، وهو القَلْبُ، ويلطق على العَقْل. وقال الرَّاغب: الفُؤاد كالقَلْبِ، لكن يُقالَ له: فؤاد إذا اعتبر به مَعْنَى:» التُّفَؤد «أي: التوقُّد» يقالك «فأدْتُ اللَّحم» : شَوَيْتُه «ومنه» لحم فَئِيد «أي:» مَشْويُّ «وظاهر هذا: أنَّ الفُؤاد غير القَلْبِ، ويقال له:» فؤاد «بالواو الصَّريحة، وهي بَدَل من الهَمْزَة؛ لأنَّه تَخْفِيف قِيَاسيّ، وبه يَقْرأ وَرْش فيه وفي نَظَائِره وصلاً وَوَقْفاً، وحَمْزة وقفاً ويُجْمع على: أفْئِدَة، وهو جَمْع مُنْقَاس، نحو:» غُراب «، و» أغْرِبة «ويجُوز» أفْيِدَة «بِيَاء بعد الهَمْزة، وقرأ بِهَا هِشَام في سُورة إبْراهيم، وسَيَأتي إن شاء الله تعالى -. فصل في المراد من الآية قال ابن عبَّاس: يَعْني: ويحُول بينهم وبين الإيمانن فول جئناهم بالآيات التي سَألوا ما آمَنُوا بِهَا كما لَمْ يُؤمنُوا به أوَّل مَرَّة [أي: كما لو يُؤمِنُوا بما قَبْلَها من الآيات من انْشِقَاق القمر وغيره. وقيل: كما لَو يُؤمِنُوا به أوَّل مرة] ؛ يعني: مُعْجِزات مُوسَى وغيره من الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام -؛ كقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ} [القصص: 48] . وقال عَليُّ بن أبي طَلْحَة عن ابن عبَّاس: المرَّة الأولى: دار الدنيا لو رُدُّوا من الآخِرة إلى الدُّنيا نُقَلِّب أفْئدتَهُم وأبْصَارهم عن الإيمان كَمَا لَمْ يُؤمِنوا في الدُّنْيَا قبل مَمَاتهم؛ كقوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} [الأنعام: 28] . فصل في بيان معنى التقليب التَّقْلِيب، والقَلْب وَاحِد: وهو تَحْويل الشَّيء عن وَجْهِه، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّ الكُفْر والإيمان بِقَضَاء اللَّه، وقدره، ومَعْنَى تَقْلِيب الأفْئِدَة والأبْصَار: هو أنه إذا جَاءَتْهُم الآيات القَاهِرة الَّتِي أقْتَرحُوها وعرفوا كَيْفيَّة دلالتها لعى صِدْق الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ [إلاَّ أنه الجزء: 8 ¦ الصفحة: 375 تعالى] إذا قُلُوبَهُم وأبْصَارهم على ذلك الوجه، بَقوْا على الكُفْر ولم يَنْتَفِعُوا بِتِلْك الآيات. قال الجُبَّائي: مَعْناه: ونُقَلِّب أفْئِدَتَهم ووأبْصَارهم في جَهَنَّم، على لَهِيب النَّار وجَمْرِهاح لنُعَذِّبَهُم كما لم يُؤمِنوا به أوّلأ مرّة دَارِ الدُّنْيَا. وقال الكَعْبِي: المُرَاد ب «ونُقَلِّبُ أفْئِدَتهم وأبْصَارَهُم» : نفعل بهم كا نَفْعل بالمُؤمنين من الفَوَائِد والألْطَاف، من حَيْث أخرجوا أنْفَسَهم عن هَذَا الحدِّ؛ بسبب كُفْرهم. وقال القَاضِي: المراد: ونُقَلِّب أفْئِدَتَهُم وأبْصَارهم في الآيات الَّتي ظَهَرت، فلا تَجدَهُم يُؤمِنون بها آخراً كمال لم يُؤمِنُوا بِهَا أوّلاً وهذه وُجُوه ضَعِيفة. أما قَول الجُبَّائيّ؛ فمدفوع؛ لأنه - تعالى - قال: «ونُقَلِّب أفْئِدَتَهُمو أبْصَارهم» ثم عَطَفْ عليه، وقال: «ونَذَرُهُم فِي طُغْيَانِهِم يَعْمَهُون» فقوله: «ونَذرُهُم» لي مما يَحْصُل في الآخِرة، فكان سُوءاً للنَّظءم في كلام اللَّه - تعالى - حيث قدَّم المُؤخَّر، وأخَّر المُقدم من غير فَائِدة. وأما قَوْل الكَعْبِي؛ فَضَعِيف؛ لأنه إنما استحق الحِرْمان والخذْلان على زَعْمه؛ بسبب أنَّهم قَلَّبُوا أفئدة أنفسهم فكيف يحسبن إضافه إلى الله تعالى في قوله: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ} أي: نقلب القَلْب باقٍ على حالةِ واحِدَة إلاَّ أنَّه - تعالى - أدخل التَّقْلِيب والتَّبدِيل في الدَّلائل. فصل إنما قدَّم اللَّه - تعالى - ذكر تَقْليب الأفْئِدة على تَقْليب الأبْصَار؛ لأن مَوْضع الدَّوَاعِي والصَّوَارِف هُوَ القَلْب [فإذا حَصَلَت الدَّاعية في القَلْبَُ انْصَرَفَ البَصَر إليه شَاءَ أمْ أبَى، وإذا حَصَلَت الصَّوارف في القَلْب] انصرف البَصَر عَنْه هو، وإن كَانَ يُبْصِره بحسب الظاهر إلاَّ أنه لا يَصِير ذلك الأبْصَار سَبَباً للُوقُوف على الفَوَائِد المَطْلُوبة وهو مَعْنَى قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} [الأنعام: 25] ، فملا كان المَعْدن هو القَلْب، وأما السَّمع والبَصَر؛ فهما آلتان لِلْقَلْب كانا لا مَحَالة تَابِعَيْن لأحوال القَلْب، فلهذا السَّبَبَ وقع الابتداء بذِكر تَقَلُّب القُلُوب ههنا، ثم أتْبَعَهُ بذرك السَّمْع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 376 قوله: «كَمَا لَمْ يُؤمِنُوا بِهِ» الكافُ في محلِّ نَصبٍ، نَعْتاً لِمَصْدر مَحْذُوف و «ما» مَصْدريَّة والتقدير كما لَمْ يُؤمِنُوا به أوّلأ مرة [وقيل: الكاف هُنَا للتَعْلِيل، أي: «نقلب أفْئِدَتَهم وأبْصَارهم؛ لعدم إيمانِهِم أوّل مرة» . وقيل: في الكلام حَذْفٌ تقديره: «فلا يؤمنون به ثاني مَرَّة كَمَا لَم يُؤمِنوا به أوّل مرَّة] وقال بَعْضُ المفسِّرين: الكافُ هُنَا مَعْنَأها: المُجَازَاة، أي:» لمَّا «لم يُؤمِنُوا به أوّل مرَّة، نُجازيهم بأن نُقَلِّب أفْئِدتَهُم عن الهُدَى، ونَطْبَع على قُلُوبهم» ، فكأنَّه قيل: ونحن نَقَلِّب أفْئدتَهَم؛ جَزَاءً لما لم يُؤمِنُوا به أوّل مرَّة، قاله ابن عطية قال أبو حيان وهُو مَعْنَى التَّعْلِيل الذي كرناه، إلا أن تسْمِيتَه ذلك بالمُجازاة غَريبَة لا تُعْهدُ في كلام النَّحْويِّين. قال شهاب الدِّين: قد سُبِقَ أبن عطيَّة إلى هذه العبارة. قال الواحدي: وقال بَعْضُهم: معنى الكَافِ في «كَمَا لَمْ يُؤمِنوا» : معنى الجَزَاء، ومَعْنَى الآية: ونُقَلِّبُ أفْئِدَتَهُم وأبْصَارهم، عُقُوبة لَهُم على تَركْ الإيمان في المرَّة الأولَى، والهَاء في «به» تعود على الله - تعالى -، أو على رسُوله، أو على القُرآن، أو على القَلْب المَدْلُول عليه بالفِعْل، وهو أبْعَدُهَا، و «أوّل مَرَّة» : نَصب على ظَرْف الزَّمان، وقد تقدم تَحْقِيقُه. وقرأ إبْرَاهيم النَّخْعي: «ويُقَلِّب - ويَذَرُهم -» بالياء، والفَاعِل ضمير البَاري - تعالى -. وقرأ الأعْمَش: «تُقَلَّبُ أفْئِدتهم وأبْصَارهم» على البِنَاء للمَفْعُول، ورُفِع ما بعده على قِيَام مقام الفاعل، كذا رَوَاهَا الزَّمَخْشَري عنه، والمشْهُور بهذه القِرَاءة، إنَّما هو النَّخْعِيّ أيضا، ورُوِي عَنْه: «ويَذَرْهُم» بياء الغيبة كما تقدَّم وسُكُون الرَّاء، وخرَّج أبُو البَقَاء هذا التَّسْكِين على وجْهَين: أحدهما: التَّسْكين لِتَوَالِي الحَرَكَات. والثاني: أنه مَجْزُوم عَطْفاً على «يُؤمِنُوا» والمَعْنَى: جَزَاءً على كُفْرهم، وأنَّه لم يَذَرْهُم في طُغْيَانهم، بل بيَّن لهم، وهذا الثُّانِي ليس بَظَاهر، و «يَعْمَهُون» في محلِّ حال، أو مَفْعُوزل ثانٍ، لأن التَّرْك بِمَعْنَى: التَّصْيِير. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 377 فصل في معنى الآية قال عَطَاء: المَعْنَى: أخْذُلُهُم، وأدْعُم في ضَلالِتِهم يتمادون. قال الجُبَّائي: المَعْنَى: ونذرهم، أيك لا نَحُول بَيْنَهم وبين اخْتِيَارِهم من ذَلِك لكن نمنعم من ذلك بِمُعَاجَلة الهلاك وغيره، لكنَّا نُمْهِلهم إنْ أقاَموا على طُغْيَانهم، فذلك مِن قِبَلهم وهُو يُوجِب تأكيد الحُجَّة عَلَيْهم. وقال أهل السُّنَّة: نقلِّب أفْئِدتَهُم من الحقِّ إلى البَاطِل، ونتركهم في ذلك الطُّغْيَان، وفي ذَلِكَ الضَّلال والعَمَه. ويُقال للجُبَّائي: إنَّك تقول: إن إله العالم ما أرَاد بعباده إلاَّ الخَيْر والرَّحمة، فمل تُرك هذا المِسْكِين حتى عَمِه في طُغْيَانه؟ ولم لا يخلصه عَنْه على سَبِيل الإلْجَاء والقَهْر؟ أقْصَى مَا فِي البابِ؛ أ، هـ إن فَعل به ذلِك لَمْ يكن مُسْتَحِقاً إلى الثَّواب، فيقُوتُه الاسْتِحْقَاق فقط، وقد يَسْلَم من العِقَاب، أمَّا إذا تَرَكَهُ في ذلك العَمَه مع عِلْمه بأنه يَمُوت عَلَيْه، فإنه لا يَحْصُل له اسْتِحْقاق الثَّواب، ويحصل له العِقَاب العَظيم الدَّائم، فالمفْسَدة الحَاصلة عن خَلْق الإيمان فيه على سَبيل الإلْجَاء، مَفْسَدة وَاحِدَة؛ وهِيَ قوات اسْتِحْقَاق الثَّواب مع حُصُول العِقَاب الشَّديد، والرَّحِيم المُحْسِن النَّاظر إلى عباده، لا بُدَّ وأن يُرَجَّح الجَانِب الَّذِي هو أكْثَر إصْلاحاً، وأقَل فَسَاداً، فَعَلِمْنَا أنَّ إبْقَاء ذكل الكَافِر في ذلك العَمَه والطُّغْيَان، يَقْدح في أنَّه لا يريد به إلاَّ الخير والإحسان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 378 اعلم: أنه - تبارك وتعالى - بيَّتن في هذه الآية الكَرِيمة تَفْصِيل ما ذَكَره مُجْمَلاً في قوله: {وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 109] بيَّن أنَّه - تعالى - لو أعْطَاهُم ما طَلَبُوه من إنْزَال المَلائِكة حتَّى رأوهم عَيَاناً، وحياء المَوْتَى حَتَّى كلَّمُوهُم، وشَهِدُوا لك بالنُّبُوَّة كَمَأ سَألُوا، بل زَاد في ذَلِك ما لا يَبْلُغُه اقْتِرَحُهم بأن يحشر عَلَيْهم كُلَّ شَيءْ قُبُلاً، ما كانوا لِيُؤمِنُوا إلاَّ أنْ يَشَاء اللَّه. قال ابن عبَّاسٍ: المُسْتَهْزِئون بالقُرآن العَظِيم كانوا خَمْسَة: الوَليد بن المُغْيرَة المَخْزُومي، والعَاص بن وَائِل السَّهْمِي، والأسْوَد بن عَبْد يَغُوث الزُّهري، والأسْوَد بن المُطَّلِب، والحَارث بن حَنْظَلة، ثُمَّ أتَوا لرِسَول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورَهْط من أهْل مكَّة المُشَرَّفة، وقالُوا: أرنَا المَلائكة يَشْهَدُوا بأنَّك رسُول اللَّه، أبو ابعث لَنَا بَعَضَ مَوْتَانَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 378 حتَّى نَسْألهم أحَقٌّ ما تقُولُه أمْ باطل، أو ائْتِنَا باللَّه والملائكة قِبِيلاً، أي: كَفيلاً بما تدَّعِيه، فَنَزَلت هَذِه الآية الكَرِيمة. وهذا يُشْكَل باتِّفَاقهم على أنَّ هذه السُّورة نزلت دَفْعَة وَاحِدة، بل الَّذِي يَنْبَغِي أن يَكُون المَقْصُود منه: جواب ما ذَكَرَهُ بَعْضُهم، وهو أنَّهُم أقسموا باللَّه جَهْد أيْمَانهم، لَوْ جاءتهم آيَةٌ ليُؤمِنُنّ بها، فذكر اللَّه - بتارك وتعالى - هذا الكلام بياناً لِكَونِهم كَاذِبِين، وأنَّه لا فَائِدة في إنْزالِ الآيَات، وإضْهار المُعْجِزَات بعد المُعْجِزَات، بل المُعْجِزة الوَاحِدة لا بُد منها لِيتَمَيَّز الصَّادق عن الكَاذِب، فأمَّا الزيادة عليها، فتحكم مَحْض لا حَاجَة إليْه، وإلاَّ فَلَهُم أن يَطْلُبوا بعد ظُهُور المُعْجِزة الثَّانية ثالثة، وبعد الثَّالثة رَابِعة، ويَلْزم منه ألاَّ تَسْتَقِرَّ الحجة، وأن لا يَنْتَهِي الأمْر إلى مقطع ومفصل، وذلك يُوجِب سَدَّ باب النُّبُوات. قوله: «قُبُلاً» قرأ نَافِع، وابْن عَامِر: «قِبَلاً» هنا وفي الكَهْف بكسر القَافِ، وفَتْح البَاء، والكوفِيُّون هنا وفي الكَهْف، وقرأ الحسن البَصْرِي، وأبُو حَيْوة، وأبُو رَجَاء بالضَّمِّ والسُّكُون. وقرأ أبَيّ والأعْمَش «قَبِيلاً» بياء مُثَنَّاة من تَحْت بعد بَاءٍ موحَّدة مَكْسُوةر، وقرأ طَلْحَة بن مُصَرِّف: «قَبْلاً» بفتح القَافِ وسُكون البَاء. فأما قِرَاءة نَافِع، وابن عَامِر ففيها وجهان: أحدهما: أنَّها مُقَابَلَة، أي: مُعَايَنَةً ومُشَاهَدَةً، وانتِصَابُه على هذا الحَالِ قاله أبو عُبَيْدة، والفرَّاء، والزَّجَّاج ونقله الوَاحِدي أيضاً عن جَمِيع أهْل اللُّغة، يُقَال: «لَقِيته قِبَلاً» أي عِيَاناً. وقال ابن الأنْبَاري: «قال أبُو ذَرّ: قُلْت للنَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنبيّاً كان آدم؟ فقال: نعم، كان نبيّاً كلَّمه الله قبلاً» وبذلك فسًّرها ابن عبَّاس، وقتادة، وابن زَيْد، ولم يَحْكِ الزَّمَخْشَرِي غَيْره، فهو مَصْدر في مَوْضَع الحَال كما تقدَّم. والثاني: أنَّها بمعنى نَاحِية وجِهَة قاله المُبَرِّد، وجماعة من أهل اللُّغَة كأبي زَيْد، وانتصابه حينئذٍ على الظَّرْف، كقولهم: «لي قِبَلُ فلان دَيْنُ» و «ما قِبَلك حَقُّ» ويقال: « الجزء: 8 ¦ الصفحة: 379 لقِيْتُ فلاناً قِبَلا، ومُقابلة، وقُبُلاً، وقُبَلاً وقَبْلِياً، وقَبِيلاً» كله بِمَعْنَى واحد، ذكر ذلك أبُو زيد، وأتْبَعه بِكَلام طويل مُفيد ف رَحِمَهُ اللَّهُ - تعالى - وجزاه اللَّه خيراً. وأمَّا قِرَاءة البَاقِين هُنَا ففيها أوْجُه: أحدهما: أن يكون «قُبُلاً» جمع قِبِيل، بمعنى: كَلِيل؛ «كرغيف» و «رُغُف» ، و «قضيب» و «قُضُب» و «نَصِيب» ون «نُصُب» . وانْتَصَابه حالاً. قال الفرَّاء والزَّجَّاج: جَمْع قِبِيل بمعْنَى: كفيل أي: كَفِيلاً بِصِدْق محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام -، ويقال: قَبَلْتُ الرِّجل أقْبَلُه قَبالة بفَتْح البَاء في الماضي والقاف في المَصْدَر، أي: تكفَّلْت به، والقَبِيل، والكَفِيل، والزَّعِيم، والأذِين والضّمِين، والحَمِيل، وبمعنى وَاحِد. وإنما سُمِّيت الكَفَالة قَبَالة؛ لأنَّها أوْكَد تَقَبُّل، وباعْتِبَار معنى الكَفَالة سُمِّي العَهْد المَكْتوب: قَبالة. وقال الفرًّاء في سُورة الأنعام: «قُبُلاً» جَمْع «قَبِيل» وهو «الكَفِيل» قال: وإنَّما اخْتَرت هنا أن يكُون القُبُل في المعنى الكفالة؛ لقولهم: {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملاائكة قَبِيلاً} [الإسراء: 92] يَضْمَنُون ذلك. الثاني: أن يَكُون جَمْع قِبِيل، بِمَعْنى: جماعةً جماعةً، أو صنْفاً صنفاً. والمعنى: «وحَشَرْنا عَلَيْهم كلَّ فوْجاً فوْجاً، ونوْعاً نوْعاً من سَائِر المَخْلُوقات» . الثالث: أن يكون «قُبُلاً» بِمَعْنى: قِبَلاً كالقِرَاءة الأولَى في أحد وجْهَيْهَا وهو المُواجَهة أي: مُواجَهَةً ومُعَايَنةً، ومنه «آتِيكَ قُبُلاً لا دُبُراً» اي: آتِيك من قِبَل وَجْهِك، وقال تعالى: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} [يوسف: 26] وقُرئ: «لقبل عدتهن» [الطلاق: 41] ، أي: لاسْتِقْبَالها، وقال الفرَّاء: «وقد يكون قُبُلاً:» من قِبَل وُجُوهِهِم «. وأمَّا الذي في سُورة الكَهْف: فإنه يَصِحُّ فيه مَعْنى المُواجهة، والمُعَاينة، والجماعة صنْفاً صنْفاً، لأن المُراد بالعَذَاب: الجِنْس، وسَيَأتي له مَزِيد بَيَان. و» قُبُلاً «نَصْب على الحَالِ - كما مَرَّ - من» كلِّ «، وإن كان نكرة؛ لِعُمُومه، وتقدَّم أنَّه في أحد أوْجُهِهِ يُنْصَبُ على الظَّرف عند المُبَرِّد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 380 وأمّا قراءة الحسن فمخفَّفَة من المَضْمُوم، وقرأه أبَيُّ بالأصْل وهو المُفْرَدِ. وأما قراءة طَلْحَة فهو ظَرْف مَقْطُوع عن الإضَافة، مَعْنَاه: أو يَأتِيَ باللَّه والملائِكَة قَبْلَه، ولكن كَانَ يَنْبَغِي أن يُبْنَى؛ لأن الإضافة مُرادَة. قوله:» مَا كَانُوا «جواب» لَوْ «وقد تقدَّم أنَّه إذا كَانَ مَنْفيّاً، امتَنَعت اللاَّم. وقال الحُوفِي:» التَّقْدِير لما كَانُوا حُذِفَت اللاَّم وهي مُرَادة «وهذا لَيْس بجيَّد؛ لأن الجواب المَنْفِي ب» مَا «يَقِلُّ دُخُولها، بل لا يَجُوز عند بَعْضِهم، والمَنْفِي ب» لم «مُمْتَنِع ألْبَتَّة. وهذه اللاَّم لا م الجُحُود جارَّة للمصْدَر المؤوّل من» أنْ «والمنْصُوب بِهَا، وقد تقدَّم تَحْقِيقه - بعون الله تعالى -. قوله: «إلا أنْ يشاء اللَّه» يجُوز أن يكُون مُتَّصِلاً، أي: ما كانُوا لِيُؤمِنُوا في سَائرِ الأحْوال إلاَّ في حَالِ مَشِيئة اللَّه، أو في سَائرِ الأزْمَان إلا في زَمَان مَشِيئَتِه. وقيل: إنه اسْتِثْنَاء من عِلَّة عامَّة، أي: «ما كانوا لِيُؤمِنُوا لِشَيء من الأشْيَاء إلاَّ لمشيئة الله تعالى» . والثاني: أن يكُون مُنْقَطعاً، نقل ذلك الحُوفِيُّ وأبُو البَقَاء، واسْتَبْعَده أبو حيَّان. فصل في معنى الآية ودحض شبه المعتزلة معنى الآية الكَريمة: أنه - تعالى لو أظْهَر جميع تِلْك الأشْيَاء العَجِيبَة لِهَؤلاء الكُفَّار؛ فإنَّهم لا يُؤمِنُون إلا أن يَشَاء اللَّه إيمانهم. قال أهْل السُّنَّة: فلمَّا لَمْ يُؤمنوا دّلَّ على أنَّه - تعالى - ما شَاء مِنْهُم الإيمان، وهذا نَصُّ في المسْألة. قالت المُعْتَزِلة: دل الدَّليل على أنَّه - تبارك وتعالى - أراد الإيمان من جَميع الكُفَّار، وذكر الجُبَّائِيُّ الوُجُوه المَذْكُورة المَشْهُورة. أولها: أنَّه - تبارك وتعالى - لو لم يُرِد منهم الإيمان، لما أمَرَهُم، ولم يَجِبْ عليهم. وثانيها: لو أراد الكُفْر من الكَافِر، لكان الكَافِر مُطِيعاً لله تعالى بِفِعْل الكُفْر، لجاز أن يأمُرَ بِهِ. وثالثها: لو جاز من الله أن يريد منهم الكُفْرَ، لجاز أن يأمر به. رابعها: لو جاز أن يريد منهم الكفر لجاز أنه يأمرنا بأن نريد منهم الكفر. قالوا: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 381 فثبت بهذه الدلائل أنه تعالى ما شاء إلاَّ الإيمان منهم وظاهر هذه الآية يقتضي أنه تعالى ما شاء الإيمان منهم والتناقض بين الدلائل مُمْتَنِع، فوجب الجَمع، وطَريقُه أن نقُول: إنه - تبارك وتعالى - شَاء من الكُلِّ الإيمان الذي يَفْعَلُونه على سَبيل الاخْتيار، وأنَّه - تعالى - ما شاء منهم الإيمان على سبيل الإلجَاء والقَهْر، وبهذا الطَّريق زال الإشْكَال، وهذا كلامٌ ضعيفٌ من وُجُوه: الأول: أن الإيمان الَّذِي سمَّوْه بالإيمان الاخْتِيَاري إن عَنُوْا به أنَّ قُدْرَته صَالِحَة إلى الإيمان والكُفْر على السَّويَّة، ثمَّ إنه يَصْدر عَنْها الإيمان دُون الكُفْر لا لداعية مُرَجَّحَة، ولإرادة مُمَيِّزة، فَهَذَا قَوْل برجْحَان أحَد طَرَفي المُمْكن على الآخر، لا لِمُرَجِّح وهو مُحَال، وأيضاً: فبتقدير أنْ يَكُون ذلك مَعْقُولاً في الجُمْلَة، إلاَّ أنَّ حُصُول ذَلِك الإيمان لا يَكُون منه، بل يَكُون حَادِثاً لا لِسَبَب ولا مُؤثِّر أصْلاً؛ أن الحَاصِل هَنَا لي إلاَّ القُدْرَة، وهي بالنِّسْبَة إلى الضِّدَّيْن على السَّويَّة، ولم يَصْدر من هَذَا القدر تَخْصِيً لأحد الطَّرَفَيْن على الآخر بالوُقُوع والرُّجْحَانِ، ثم إنّ احد الطَّرفين قد حصل بنفْسِه، فهذا لا يَكُون صَادراً منه، بل يكون صادراً لا عن سَبَب ألْبَتَّةَ، وذلك يُبْطِل القَوْل بالفِعْل، والفَاعِل، والتَّأثِير والمؤثِّر أصْلاً، وذلك لا يَقْوله عَاقِل، وأمَّا إنْ كان هذا الذي سَسَّوه بالإيمان الاخْتِيَاري، هو أنَّ قُدْرَته وإن كانت صَالِحة للضَّدَّين، إلاَّ أنَّه لا تَصِير مَصْدراً للإيمان، إلاَّ إذا انْضَمَّ إلى تِلْك القُدْرَة حُصُول داعِيَة الإيمان، فهذا قَوْلٌ بأن مَصْدر الإيمان هو مَجْمُوع القُدْرَة على الدَّاعي، وذلك المَجْمُوع مُوجبٌ للإيمان، فهذا عين ما يسمونه بالجبر، وأنتم تنكرونه، فثبت أن هذا الذي سموه بالإيمان الاخْتِيَاريِّ لم يَحْصُل منه مَعْنى مَعْقُول مفهوم، وهذا كلام في غاية القُوَّة. الوجه الثاني: سلَّمنا أن الإيمان الاخْتِيَاري متميِّزٌ عن الإيمان الحَاصِل بتَكْوِين اللَّه - تعالى -، إلاَّ أنا نَقُول قوله - تعالى -: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة} وكذا {مَّا كَانُواْ ليؤمنوا} مَعْنَاه: ما كانوا لِيُؤمِنُوا إيماناً اخْتِيَاريّاً، بدلِيل أنَّ عند ظُهُور هذه الأشْيَاء لا يَبْعُد أن يُؤمِنُوا إيماناً على سَبِيل الإلْجَاء والقَهْر، فَثَبت أن قوله: {مَّا كَانُواْ ليؤمنوا} على سَبِيل الاخْتِيَار، ثُمَّ استَثْنَى عَنْه، وقال: «إلاَّ أنْ يَشَاءَ اللَّه» والمُسْتَثْنَى يَجِبُ أن يَكُون من جِنْس المُسْتَثْنى مِنْه، والإيمان الحَاصِل بالإلْجَاء والقَهْر ليس من جِنْس الإيمان الاخْتِيَاريّ، فَثبت أنَّه لا يجُوز أنْ يَكُون المُرَاد منه الإيمان الاخْتِيَاري؛ وحينئذٍ يتوجَّه دَلِيل أهل السُّنَّة، وتَسْقُط أقوال المُعْتَزلَة. فصل ف دحض شبهة المعتزلة قال الجُبَّائي: قوله - تبارك وتعالى -: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} يدلُّ على حُدُوث الجزء: 8 ¦ الصفحة: 382 المَشِيئَة؛ لأنَّها لو كَانَت قَدِيمَة لَمْ يَجُز أنْ يُقَال ذَلِك، كما لا يُقَلا: لا يَذْهب زَيْد إلى البَصْرة، إلاَّ أن يُوَحِّد الله، وتَقْرِيره: أنَّا قُلْنَا لا يَكُون كذا إلاَّ أنْ يَشَاء اللَّه، فهذا يَقْتَضِي تَعْلِيق حُدُوث هذا الجَزَاء على حُصُول المَشْرُوط، فَيَلْزَم كَوْن الجَزَاءِ قَدِيماً، والحس على أنَّه مَحْدَث، فوجب كَوْن الشَّرْط حَادِثاً، وإذا كان الشَّرْط هو المَشِيئَة لَزِم القَوْل بكون المَشِيئَة حَادِثَة. والجواب أنَّ المَشِيئة وإن كانت قَدِيمة، إلاَّ أنَّ تعلُّقَهَا بإحْدَاث ذَلِك المُحْدث في الحالِ، إضاَفة حَادِثَة وهذا القَدْر يَكْفي لِصِحَّة هذا الكلام. ثمَّ قال - تعالى -: {ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ} أي: يَجْهَلُون بأنّ الكُلَّ من قَضَاء اللَّه وبِقَضَائه وقدره. وقالت المعتزلة: المُرَاد: أنَّهم يبقون كُفَّاراً عِنْد ظُهُور الآيات الَّتِي طلبوها، والمعجزات التي اقْتَرَحُوها وكان أكْثَرهُم يَظُنُّون ذلك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 383 الكاف في «كَذِلِك» في محلِّ نَصْب، نعتاً لِمَصْدَر مَحْذُوف، فقدَّره الزَّمَخْشَري: «ما خَلَّيْنا بَيْنَك وبين أعْدَائِك، كذلك فَعَلْنا بِمَنْ قَبْلك» . وقال الوَاحِدي: «وكذلك» منسُوق على قوله: «وكَذَلِكَ زَيَّنَّا» أي: فَعَلْنا ذَلِك كذلك «جَعَلْنا لكلِّ نبيٍّ عَدُوًّا» ، ثم قال: وقيل: مَعْنَاه جَعَلْنا لَكَ عَدُوًّا كما جَعْلْنا لمن قَبْلَك من الأنْبِيَاء، فَيَكُون قوله: «وكذلك» عَطْفاً على مَعْنَى ما تقدَّم من الكلام، وما تقدَّم من الكلام، وما تقدَّم يدلُّ مَعْنَاهُ علىأنَّه جعل له أعْدَاء [والمراد: تَسْلِيَة النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أي: كما ابتُليت بِهَؤلاء القَوْم، فكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ قَبْلك أعْدَاء] . و «جَعَلَ» يتعدى لاثْنَيْن بمعنى: صَيَّر. وأعْرَب الزَّمَخْشَري، وأبو البقاء والحوفي هنا نحو إعرابهم في قوله: تعالى: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن} [الأنعام: 100] فَيَكُون المَفْعُول الأول «شَيَاطِين الإنْس» ، والثاني «عَدُواً» ، و «لكلِّ» : حال من «عَدُواً» لأنَّه صفته في الأصْل، أو مُتعلِّق بالحَعْل قَبْلَه، ويَجُوز أن يكون المَفْعُول الأول «عُدُوّاً» و «لكلِّ» هو الثَّانِي قُدِّم، و «شياطين» : بَدَل من المفعول الأوّل. والإضافة في: «شَيَاطِين الإنْس» يحتمل أن تكون من بابِ إضافَة الصِّفةِ لِمَوْصُوفها، والأصْل: الإنْس والجن الشَّياطين، نحو: جَرْد قَطِيفَة، ورجَّحْتُه؛ بأنَّ المقصود: التَّسلِّي والاتِّسَاءُ بمن سَبَق من الأنْبِيَاء، إذ كان في أمَمِهم مَنْ يُعادِلُهم، كما في أمَّة محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 383 ويحتمل أن تكُون من الإضافة الَّتِي بَمَعْنَى اللام، وليست من بابِ إضافة صِفَة لِمَوصُوف، والمعنى: الشَّياطين التي للإنْس، والشَّياطين التي لِلْجِنّ، فإن إلْليس قَسَّم جُنْده قسمين: قِسْمُ مُتسَلِّط على الإنْسِ، وآخر على الجِنِّ، كذا جاء في التَّفْسِير. ووقع «عَدُواً» مفعولاً ثَانِياً ل «شَيَاطِين» على أحَد الإعْرَابَيْنِ بِلَفْظ الإفْراد؛ لأنَّهُ يُكْتَفى به في ذلك، وتقدَّم شَوَاهِده، ومِنْه ما أنْشَده ابن الأنْبَارِي: [الطويل] 2286 - إذَا أنَا لَمْ أنْفَعْ صَدِيقِي بِوْدِّهِ ... فإنَّ عَدُوِّي لَنْ يَضُرَّهُمُ بُغْضِي فأعاد الضَّمير مِنْ «يَضُرَّهُم» على «عَدُوّ» فدل على جَمْعِيَّته؛ وكقوله تعالى: {ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين} [الذاريات: 24] ، {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ} [النور: 31] {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 2، 3] . وقيل لا حَاجَة إلى هذا التَّكْليف، والتَّقْدِير وكذلك جَعَلْنَا لِكُلِّ واحد من الأنْبِيَاء عُدُوّاً واحِداً، إذ لا يَجِبُ أن يَكُون واحدٍ من الأنْبِيَاء أكْثَر من عُدوّ واحد. فصل في دلالة الآية دلَّ ظاهر قوله - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً} على أنَّه - تبارك وتعالى - هو الذي جَعَل أولَئِك الأعْداء أعْدَاءً للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولا شكَّ أن تلك العدَاوة مَعْصِيَة وكُفْر، فهذا يَقْتَضِي أن خَالِق الخَيْر، والشَّر، والطَّاعة، والمَعْصِيَة، والإيمان والكُفْر هُواللَّه تعالى. وأجاب الجُبَّائي عَنْه؛ بأن المُرَاد من هذا الجَعْل: الحُكم والبَيَان فإن الرَّجُل إذا حَكَم بِكُفْر إنْسَان، قيل: كإنه كَفَّرَه، وإذا أخْبر عن عَدَالتِه، قيل إنه عدّله، فكذا ههنا أنَّه - تعالى - لما بيَّن للرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كونهم أعْدَاء له لا جَرَم قال: إنَّه جعلهُم أعْدَاءً له وأجاب الأصَمُّ: بأنه - تعالى - لما أرْسَل محَمّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى العَلمِيَن، وخصَّه بِتِلْكَ المُعْجِزات، حسدُوه، وصار ذلك الحَسَد سَبَاً للعَداوَة القَوِيّضة فَلِهَاذا قال إنَّه - تعالى -: جعلهم أعْدَاء له ونَظِيرُه قول المُتَنَبِّي: [الطويل] 2287 - ... ... ... ... . ... وأنْتَ الَّذِي صَيَّرْتَهُمْ [لِيَ] حُسَّدَا وأجاب الكَعْبِي عنه: بأنَّه - تبارك وتعالى - أمَر الأنْبِيَاء بعَداوتهم، وأعْلَمهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 384 كونهم أعْداءً له، وذَلِك يَقْتَضِي صَيْرُورتهم أعْداءً للأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام -؛ لأنَّ العَدَاوَة لا تَحْصُل إلاَّ من الجَانِبَيْن، فلهذا أنْ يُقَال: إنه - تعالى - جعلهم أعْدَاء للأنْبِيَاء - عليهم الصلاة والسلام -. وهذه أوجوبه ضَعِيفَة لما تقدَّم الأفْعَال مُسنَدة إلى الدَّواعي، وهي حَادِثة من قبل اللَّه - تعالى - وإذا كان كذلك، صَحَّ مَذْهَبُنَا، ثم هَهُنا بَحْث آخر، وهُو أنَّ العَدَاوَة، والصداقة يمتنع أن تَحْصُل باخْتِيَار الإنْسَان؛ فإن الرَّجُل قد يَبْلُغ في عَدَاوَة غَيره إلى حَيْث لا يَقْدِر ألْبَتَّة على إزَالة تلك الحَالَةِ عن قَلْبَه، بل قَدْ لا يَقْدِر على إخْفَاء آثَار تلك العَداوة، ولو أتى بكل تَكِلُّفِ وحيلة، لعجز عنه، ولو كان حُصُول العَدَاوة والصَّداقة في القَلْبِ باختيار الإنْسَان، لوجَبَ أن يَكُونَ الإنْسَان متمكناً مِن قَلْب العَدَاوة بالصَّداقة، وبالعَكْس، فكيف لا، والشُّعَراء عَرَفُوا أنّ ذلك خَارجٌ عن الوُسْع قال المُتَنَبِّي [المتقارب] 2288 - يُرَادُ مِنَ القَلْبِ نِسْيَانُكُمْ ... وَتَأبَى الطِّبَاعُ عَلَى النَّاقِل والعاشق الَّذِي يشتد عِشْقُه [قد] يَحْتَال بجميع الحِيَل في إزالة عِشْقِه، ولا يقدر عَلَيْه ولو كان حُصُول ذلك الحُبِّ والبَغْضِ باخْتِيَاره، لما عَجَز عن إزَالَتِهِ. فصل في معنى الآية قال عِكْرمة، والضَّحَّاك، والكَلْبِي: المعنى: شَيَاطِين الإنْس الَّتِي مع شَيَاطِين الجِنِّ، وذلك أنَّ إبْلِيس قَسَّم جنده فَرِيقَيْن، فبعث فَريقاً منهم إلى الإنْس، وفريقاً إلى الجِنِّ، وكلا الفَرِيقَيْن أعْداءٌ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولأوْلِيَائه، وهم يَلْتَقُون في كل حين، فيقول شَيْطان الإنْس لشيطان الجنِّ: أضَلْلت صَاحِبي بكَذا، فأضلل صَحِبك بِمُله، ويقول شَيْطَان الجن لشيطان الإنس كذلك. فلذلك وصَّى بَعْضُهم إلى بَعْض. وقال قتَادة، وَمُجاهِد، والحَسَن: إن من الإنْس شَيَاطين، كما أن من الجنِّ شياطين، والشَّيْطَان الثَّاني المتمرد من كُلِّ شَيْء. قالُوا: إن الشَّيْطان إذا أعْيَاه المُؤمِن، وعَجز عن إغوائه، ذهب إلى مُتَمَرِّد من الإنْس: وهو شَيْطَان الإنْس، فأغراه بالمُؤمِن ليفتنه، يدلُّ عليه ما «رُوِي عن أبِي ذرِّ، قال: قال رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هل تَعَوَّذت باللَّه من شَيَاطين الجِنِّ والإنْس، قلت يا رسُول الله، وهل للإنْس من شَيَاطين، قال نَعَمْ، هم شرُّ من شَيَاطين الجِن» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 385 وقال مَالك بن دِينَار: إن شَيَاطين الإنْس أشَد عليَّ من شَيَاطِين الجِنِّ، وذلك أنِّي إذَا تعَوَّذت باللَّه، ذهب عني شَيَطان الجِنِّ، وشيطان الإنس يجيبني، فَيَجرُّني إلى المَعَاصي. قوله: «يُوحي» يُحْتَمل أن يكون مُسْتَأنفاً، أخبْرَ عنهم بذلك، وأن يكون حالاً من «شياطين» وأن يكون وَصْفاً ل «عَدُوّاً» وقد تقدَّم وَاقِع مَوْقع أعْدَاء، فَلذلك عَادَ الضَّمِير عَلَيْه جَمْعاً في قوله «بَعْضُهم» انتهى. فصل في معنى قوله: «يوحي» الوحي: هو عِبَارة عن الإيماءِ، والقَوْل السَّريع، والزُّخْرُف هو الذي يَكُون بَاطِنُه باطلاً، وظاهر مُزَيَّناً، يقال: فلان يزخرف كلامه، إذا زَيَّنه بالبَاطِل والكذب، وكلُّ شيء حَسَن مَمَوّه، فهو مُزَخْرَف والزُّخْرف: الزِّينة، وكلام مُزَخْرَف، [أي] : مُنَمَّق، وأصله الذَّهب، ولما كان الذَّهب مُعْجِبٌ لكل أحَد، قيل لكل مُسْتَحْسن مزين: زُخْرُف. وقال أبو عُبَيْدة: كل ما حَسَّنْتَه، وزيَّنته، وهو بَاطِل: فهو زُخْرُف، وهذا لا يَلْزَم، إذ قد يُطْلَق على مَا هُو زِينَة حَقّ، وبيت مُزَخْرَف، أي: مُزَيَّن بالنَّقْش، ومنه الحَدِيث: أنَّ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يَدْخُل الكَعْبَة حتى أمر بالزُّخْرف فَنُحِّيَ يعني: أنهم كَانُوا يُزَيِّنُون الكعبة بِنُقُوش ووتصاوير مُمَوِّهة بالذَّهب، فأمر بإخْرَاجِها. قوله: «غُرُواً» قيل: نُصِب على المَفْعُول له، أي: لا يَغُرُّوا غيرهم. وقيل: هو مَصْدر في مَوْضِع الحَالِ، أي: غارِّين، وأن يَكُون مَنْصُوباً على المَصْدَر؛ لأن العَامِل فيه بِمَعْنَاه، كأنه قِيل: «يَغُرُّون غُرواً بالوَحي» . قوله: «ولَوْ شَاءً ربُّكَ ما فَعَلُوه» ما ألْقواه من الوسْوَسة في القُلُوب، وقد تقدَّم الكلام في المَشِيئَة ومَدْلُولِها مع المُعتزلة. قوله: «وما يَفْتَرُون» «ما» موصولة اسميَّة، أو نكرة مَوْصُوفة، والعَائِد على كلا هَذَين القَوْلَيْن محذُوفٌ، أي: «وما يَفْتَرُونَه» أو مصدريَّة، وعلى كُلِّ قوله فمحلُّهَا نَصْب، وفيه وَجهَان: أحدهما: أنها نَسَق على المَفْعُول في: «فَذَرْهُمْ» أي: اتْرُكْهُم، واترك افْتِرَاءهم. والثاني: أنَّها مفعول مَعَه، وهو مَرْجُوحٌ، لأنه متى أمكن العَطْف من غير ضَعْفٍ في التركب، أو في المَعْنَى، كان أوْلَى من المَفْعُول معه. قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - يُرِيد بقوله: «فَذَرْهُم وما يَفْتَرون» : ما زيَّن لهم إبْليس وغرَّهُم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 386 في هذه اللاَّم ثلاثة أوْجُه: أحدها: أنها لام «كَيْ» والفِعْل بعدها مَنْصُوب بإضمار «أن» وفيما يتعلَّق به احتمالان: الاحتمال الأول: أن يتعلَّق ب «يُوحِي» على أنَّها نَسَق على «غُرُوراً» و «غُرُوراً» مفعول له، والتقدير: «ويحي بَعْضُهم إلى بَعْض للغُرُور وللصَّغْو» ، ولكن لما كان المَفْعُول له الأوَّل مُسْتَكْمِلاً لِشُروط النَّصْب، نُصِب، ولما كان هذا غير مُسْتكملٍ للشُّروطِ، وصل افعل إليه بِحَرف العِلَّة، وقد فَاتَه من الشَّروط كونه لم يتَّحِد فيه الفَاعِل، فإنَّ فاعل الوحي: «بَعْضُهم» ، وفاعل الصَّغْو: «الأفئدة» وفات أيضاً من الشُّروط صَريح المصدريَّة. والاحتمال الثاني: أن يتعلَّقِ بِمَحْذُوف متَأخِّر بَعْدَها، فقدَّره الزَّجَّاج، ولِتَصْغى إليه فَعَلُوا ذَلِك، وكذا قدَّره الزَّمَخْشَرِي، فقال: ولِتَصْغى جَوَابُه مَحْذُوف، تقديره: وليكون ذَلِك جَعَلْنا لكُلِّ نبي عدُواً على أن اللاَّم لام الصَّيْرُورة. والوجه الثاني: أن اللاَّم لام الصَّيْرُورة وهي الَّتِي يعبِّرون عنها بِلام العاقِبَة، وهي رأي الزَّمَخْشَري، كما تقدَّم حكايته عنه. الوجه الثالث: أنها لام القَسَم. قال أبو البقاء: «إلا أنَّها كُسِرتْ لمَّا لم يؤكد الفِعْل بالنُّون» وما قَالَه غير مَعْرُوف، بل المَعْرُوف في هذا القَول: أنَّ هذه لام كَيْ، وهي جوابُ قسم مَحْذُوف، تقديره: واللَّه لتَصْغَى فوضع «لِتَصْغَى» موضع «لَتَصْغَيَنَّ» فصار دواب القَسَم من قَبِيل المُفْرَد؛ كقولك: «والله ليقومُ زيد» أي: «أحْلِفُ بالله لَقيامُ زيد» هذا مَذْهبُ الأخْفَش وأنشد: [الطويل] 2289 - إذَا قُلْتُ قَدْنِي قَالَ بِاللَّه حَلْفَةً ... لِتُغْنِيَ عَنِّي ذَا إنَائِكَ أجْمَعَا فقوله: «لتُغْني» جواب القَسَم، فقد ظَهَر أن هذا القَائِل يَقُول بكونها لام كي، غاية الجزء: 8 ¦ الصفحة: 387 ما في الباب أنَّها وقعت مَوْقِع جواب القَسَم لا أنَّها جوابٌ بِنَفْسِها، وكُسِرَتْ لمَّا حُذِفَتْ منها نون التَّوكيد، ويدلُّ على فساد ذلك، أنَّ النُّونَ قد حُذِفَتْ، ولامَ الجواب بَاقِية على فَتْحِها، قال القَائِل في ذلك: [الطويل] 2290 - لئِنْ تَكُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيْكُمْ بُيُوتُكُمْ ... لَيَعْلَمُ رَبِّي أنَّ بَيْتِيَ وَاسِعُ فقوله: «لَيَعْلَمُ» جوابُ القَسَم الموطَّأ له باللاَّم في «لَئِنْ» ومع ذلك فَهِي مَفْتُوحة مع حَذْفِ نُونِ التَّوْكِيد. والضَّمِير في قوله: «مَا فَعَلُوه» وفي: «إليه» يَعُود: إمَّا على الوَحْي، وإمَّا على الزُّخْرُف، وإما على القَوْل، وإمَّا عَلَى الغُرُور، وإمّا على العداوة؛ لأنَّها بمعنى: التَّعَادي. ولتصغى أي تميل وهذ المادَّة تدل على الميْل، ومنه قوله - تعالى -: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، وفي الحديث: «فأصْغى لها الإنَاء» وصاغِيَةُ الرجل: قَرَابَتُه الَّذِين يَمِيلون إليه، وعين صَغْوى أي: مائِلَة، قال الأعْشَى: [الطويل] 2291 - تَرَى عَينَهَا صَغْوَاء فِي جَنْبِ مُؤقِهَا ... تُرَاقِبُ فِي كَفِّي القَطِيعَ المُحَرَّمَا والصَّغَا: مَيْلٌ في الحَنَك العَيْن، وصغت الشمس والنجوم: أي مالت للغُرُوب. ويقال: «صَغَوْتُ، وصَغِيتُ وصَغَيْتُ» فاللاَّم واو أو ياء، ومع الياء تُكْسَرُ عين المَاضِي وتُفْتَحُ. قال أبو حيَّان: «فَمَصْدر الأوَّل صَغْوٌ، والثَّاني صُغيُّ والثالث صَغاً، ومضارِعُها يَصْغَى بفتح العين» . قال شهاب الدِّين: قد حَكَى الأصْمَعِيُّ في مصدر صَغَا يَصْغُوا صَغاً، فليس «صَغاً» مُخْتَصاً بكونه مَصْداً ل «صَغِي» بالكَسْر. وزاد القرَّاء: «صُغِياً» و «صُغُواً» بالياء والواو مُشَدَّدتين، وأما قوله: «ومُضارِعُها، أي مُضارع الأفعال الثلاثة: يَصْغَى بِفَتْح الغين» فقد حكى أبُو عُبَيْد عن الكسَائِي: صَغَوتُ أصْغُو، وكذا ابن السِّكِّيت حَكَى: صَغَوتُ أصْغُو، فقد خَالَفُوا بين مُضارعِها، وصَغَوْتُ أصْغُو هو القياس الفَاشِي، فإن فعل المُعْتَل اللاَّم بالواو قِيَاس مُضَارعه: يَفْعُل بضمِّ العَيْن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 388 وقال أبو حيَّان أيضاً: «وهي - يعني الأفعال الثلاثة - لازمة» أي: لا تتعدَّى، وأصْغَى مثلْها لازم، ويأتِي متعدِّياً، فتكون الهَمْزَة للنَّقْل، وأنشد على «أصْغَى» اللاَّزم قول الشاعر: [البسيط] 2292 - تَرَى السَّفِيهَ بِهِ عَنْ كُلِّ مُحْكَمَةٍ ... زَيَغٌ وَفِيهِ إلى التَّشْبيه إصْغَاءُ قال شهاب الدِّين: ومثله قول الآخر: [البسيط] 2293 - تُصْغِي إذَا شَدَّهَا بالرَّحْلِ جَانِحَةً ... حَتَّى إذا اسْتَوَى فِي غَرْزِهَأ تَثِبُ وفي الحديث: فأصْغَى لها الإنَاء «وهذا الذي زَعَمه من كَوْن صغَى، أو صَغِيَ، أو صَغاً يكون لازماً غير مُوافَقٍ عليه، بل قد حَكى الرَّاغب أنه يُقَال: صَغَيْتُ الإنَاء وأصغَيْتُه [وصَغِيت بكسر الغَيْن] يُحْتَمل أن يَكُن من ذَوَات اليَاءِ، ويُحْتَمل أن يكُون من ذَواتَ الواوِ، وإنَّما قُلِبَت الواوُ ياءً؛ لانكسار ما قَبْلَها؛ كقَوِي، وهُو من القُوَّة. وقراءة النَّخْعِي، والجَرَّاح بن عبد الله:» ولِتُصْغَى «من أصغَى رباعياً وهو هُنا لاَزِم. وقرأ الحسن:» وَلْتَصْغى وليَرْضَوْه ولْيَقْتَرِفوا «بسكون اللاَّم في الثَّلاثة، وقال أبو عمرو الداني:» قراءة الحَسَن إنَّما هُو: «ولِتَصْغِي» بكَسْر الغَيْن «. قال شهاب الدِّين: فتكون كقراءة النَّخَعِيِّ. وقيل: قرأ الحسن:» ولتصغي «بكَسْر اللاَّم كالعامَّة، ولْيَرْضوه ولْيَقْتَرِفوا بسكون اللاَّم، خرَّجوا تَسْكين اللاَّم على أحَدِ وَجْهَين: إمَّا أنها لام كي، وإنَّما سُكِّنَتْ إجراءً لها مع بَعْدها مُجْرى كَبِد، ونَمِر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 389 قال ابن جِنِّي:» وهو قَوِيٌّ في القِيَاس، شاذٌّ في السَّماع «. والثاني: أنَّها لام الأمْر، وهذا وإن تَمشَّى في» لِيرْضَوْه ولِيَقْتَرِفوا: فلا يتمشَّى في: «ولِتَصْغى» إذ حرف العلة يحذف جزماً. قال أبُو البقاء: «ولَيْست لام الأمْر؛ لأنه لَمْ يَجْزِم الفعل» . قال شهاب الدِّين: قد ثبت حَرْف العِلَّة جَزْماً في المُتَواتِر، فمنها: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ الله} [يوسف: 90] {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى} [طه: 77] وفي كُلِّ ذلك تَاويلات سَتَقِف عَلَيْها - إن شاء الله تعالى - فتلكن هذه القراءة الشَّاذَّى مثل هذه المَوَاضِع، والقولُ بكون لام «لتصغى» لام «كَيْ» سُكِنت؛ لِتَوالي الحَرَكات واللاَّمين بَعْدَها لامَيْ أمْر بعيدٌ وتَشَهٍّ. وقال النَّحَّاس: ويُقْرأ: «ولْيَقْتَرِفُوا» يعني بالسُّكُون، قال: «وفيه مَعْنى التَّهْديد» . يريد: أنَّه أمر تَهْديد؛ كقوله: {اعملوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت: 40] ولم يحك التَّسْكِين في «لِتَصْغَى» ، ولا في «لِتَرْضَوه» . و «مَا» في «ما هم مُقْتَرِفون» مَوْصُولة اسميَّة، أو نكرة مَوْصُوفة مصدريَّة، والعَائِد على كلا القولَين الأولين مَحْذُوف، أيك «ما هم مُقْتَرِفُوه» . [و] قال أبُو البقاء: «وأثبت النُّون لما حُذِفَت الهاء» يريد: أن الضَّمير المتَّصِل باسم الفاعل المُثَنًّى والمجموع على حَدِّه، تُحْذَفُ له نُون التَّثْنِيَة والجمع، نحو: «هَذَانِ ضَارِبَاه» و «هؤلاء ضَارِبُوه» فغذا حذفَ الضَّمِير، وقد ثَبَتت؛ قال القائل: [الطويل] 2295 - وَلَم يَرْتَقِقْ والنَّاسُ مُحْتَضِرُونَهُ ... جَمِيعاً وأيْدِي المُعْتَفِينَ رَوَاهِقُهْ وقال القائل في ذلك: [الطويل] 2269 - هُمُ الفَاعِلون الخَيْرَ والآمِرُونَهُ ..... ... ... ... ... ... ... ... . . والاقْتِرَاف: الاكْتِساب، واقترف فُلان لأهْله، أي: اكْتَسَب، وأكثر ما يُقَال في الشَّرِّ والذَّنْب، ويطْلَق في الخَيْر، قال - تعالى - {وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً} [الشورى: 23] . وقال ابن الأنْبَارِيِّ: «قَرَفَ واقْتَرَفَ: اكتسب» وأنْشَد في ذلك: [الطويل] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 390 2297 - وإنِّي لآتٍ مَا أتَيْتُ وَإنِّنِي ... لِمَا اقْتَرَفَت نَفْسِي عَلَيَّ لَرَاهِبُ وأصل القِرْفِ والاقْتِرَاف: قِشْرُ لحاء الشَّجر، والجِلْدَةُ من أعَلَى الحرج وا يؤخَذُ منه قَرف، ثُمَّ استُعِير الاقْتِرَاف للاكْتِسَاب حَسَناً كان، أو سِّئاً وفي السيّئ أكثر اسْتِعْملاً وقارف فلان أمْراً: تَعَاطى ما يُعَاب به. وقيل: الاعْتراف يُزِيل الاقْتِرَاف، ورجل مُقْرِف، أي: هجين: قال الشَّاعر: [الرمل] 2298 - كَمْ بِجُودٍ مُقْرِفٍ نَالَ العُلَى ... وشَريفٍ بُخْلُهُ قَدْ وَضَعهْ وقَرَفْتُه بكذا: اتَّهَمْتُه، أو عِبْتُه به، وقارف الذَّنْب وعَبَره، إذا أتَاه ولا صقَهُ، وقارف امْرَأتَهُ، وإذا جَامَعها، والمُقْتَرِف من الخَيْل: الهَجِين، وهو الَّذي أمُّه برذون، وأبُوه عَرَبِيّ. وقيل: بالعَكْس. وقيل: هُو الَّذي دان الهجنة وقَارَفَها، ومن حَدِيب عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كتب إلى أبِي مُوسى في البَراذِين ما قَارفَ العِتَاق مِنْهَا، فأجْعَل لَهُ منهما واحٍداً، أي: قَارَبَهَا ودَانَاهَا، نقله ابن الأثير. فصل في تقدير الآية قال ابن الخِطِيب [قال أصْحَابنا] تقدير الآية الكَرِيمة: وكذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نِبِيِّ عدوّاً من شَيَاطين الجِنِّ والإنْس، وصفته: أنَّه يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْض زُخْرُف القَوْل غَرُواً، وإنَّما فَعَلْنا ذلك لِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدة الذين لا يُؤمِنُون بالآخرة أي: أوْجدنا العداوة في قَلْب الشَّيَاطين الذين من صفتهم ما ذَكرْنَاهُ، ليكون كلامهم المُزَخْرَف مَقْبُولاً عند هؤلاء الكُفَّار. قالوا: وإذ حَمَلْنا الآية على هذا الوَجْه، يظهر أنَّه - تبارك وتعالى - يُريد الكُفْر من الكَافِر. أجاب المُعْتَزِلَة عنه من ثلاثة أوْجُه: الأول: قال الجُبَّائي: إن هذا الكلام خرج مَخْرج الأمر، ومعناه: الزَّجْر؛ كقوله - تبارك وتعالى -: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم} [الإسراء: 64] وكذا قوله: «وَلِيَرْضَوْه، ولِيقْتَرِفُوا» وتقدير الكلام: كأنَّه قال للرَّسُول - عليه السَّلام -: «فّذرْهُم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 391 وما يَفْتَرون» ثم اقال لَهُم على سَبِيل التَّهديد «ولِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدَتُهم، وليَرْضَوه وليقترفوا ما هُم مُقْتِرَفُون» . الوجه الثاني: قال الكَعْبِي إنّ هذه اللاَّم لام العاقبة، أي: ستئول عاقبة أمرهم إلى هذه الأحْوال. قال القَاضِي: ويبعُد أن يقال: هذه العاقبة تحصُل في الآخِرة؛ لأن الإلْجَاء حَاصِل في الآخِرَة. قال: فلا يجُوز أن تِمَيل قُلُوب الكُفَّار إلى قُبُول المَذْهَب البَاطِل، ولا أن يَرْضَوْه، ولا أنْ يقترفوا الُّنُوب، بل يَحْبُ أن تُحْمَل على أنَّ عاقبة أمْرِهم في الدُّنْيَا تئول إلى أنْ يَقْبَلوا الأبَاطِيل، ويرضوا بها، ويَعْملُوا بها. الوجه الثالث: وهو الذي اختاره أبو مُسْلِم، قال: اللاَّم في قوله: «ولِتَصْغَى إلَيْه أفْئِدَةُ» متعلِّق بقوله: «يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القَوْل غُرُوراً» والتَّقْدير: أن بَعْضَهم يُوحِي إلى بَعْض زُخْرُف القَوْل ليغُرُّوا بذلك، {ولتصغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ} الذُّنُوب، ويكون المُرَاد أنَّ مَقْصُود الشَّياطين من ذلك الإيحاء: هو مَجْمُوع هذه المَعَانِي. والجواب عمّا الجُبَّائي من وُجُوه، ذكرها القَاضِي: أحدها: أن الواوَ في قوله: «ولِتَصْغَى» تقتضي تَعَلُّقَه بما قبْلَه، فحملُه على الابتداء بَعيدٌ. وثانيها: أن اللاَّم في قول: «ولِتَصْغَى» لام كَيْ، فيبعد أن يُقَال إنَّه لام الأمْر، ويَقْرُب ذلك من أنْ يَكُون تَحْرِيفاً لِكَلام اللَّه - تعالى -، وأنه لا يَجُوز، وأمَّا قول الكَعْبِي: بأنَّها لام العَاقِبَة، فضعيفح لأنهم أجْمَعُوا على أن هذا مَجَازٌ، وحَمْلُه على «كي» حَقِيقةً أوْلى، وأمَّا قَوْل أبِي مُسَلم، فهو أحسنُها، إلاَّ أنْ قوله: «يُوحِي بَعْضُهم إلى بَعْض زُخْرُف القَوْلِ غُرُواً» يقتضي ان يكُون الغَرَض من ذلك الإيحاء: هو التَّغْرير، وإذا عَطَّفْنَا عليه قوله: «ولِتَصْغَى إليْه أقْئِدَة» فهذا أيضاً عَيْن التغرير، لا معنى التغرير؛ لأنه يَسْتَمِيل إلى ما يكون بَاطِنُه قَبِيحاً، وظاهره حَسَنَاً. قوله: «ولِتَصْغَى إليه أفْئِدَة» عين هذه الاسْتِمَالة فلو عَطَفْنَأ عليه، لَزِم أن يَكُن المَعْطُوف عين المَعْطُف عَلَيْه، وأنَّه لا يجوز، أمَّا إذا قُلْنَا: تَقْدير الكلام: وكذلك جَعَلْنَا لكُلِّ نَبِيّ عُدُوّاً من شَأنه أن يُوحِي زُخْرُف القَوْل؛ لأجل التَّغرير، وإنما جَعَلْنا مثل هذا الشَّخْص عَدُواً للنَّبِي؛ لتصْغَى إليه أفْئِدَة الكُفَّار، فَيَبْعُدوا بذلك السَّبَبِ عن قُبُول دَعْوة ذلك النَّبِيِّ، وحنيئذٍ لا يَلْزَم منه عَطْف الشَّيء على نَفْسِه، فما ذَكَرنَاه أوْلى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 392 فصل في معنى الإنسان قالوا: الإنسان شيء مُغَاير للبَدَن، ثم اخْتَلَفُوا: منهم من قال: المُتَعلِّق الأوَّل هو القَلْب، وبواسطته تتعلَّق النَّفْس؛ كسائر الأعْضَاء، كالدِّمَاغ، والكَبْد، ومنهم مَنْ قَال: القَلْب متعلِّق النَّفس الحَيَوانيَّة، والدِّمَاع متعلَّق النَّفْس النَّاطِقَة، والكَبِد متعلَّق النَّفْس الطَّبِيعيَّة، والأوَّلون تمسَّكوا بهذه الآية الكريمة؛ فإنه - تبارك وتعالى - جَعَل مَحَلَّ الصَّغى الذي هُو عِبَارة عن المَيْل والإرادة: القَلْب، فدلّ على أنَّ مُتعلِّق النَّفْس: القَلْب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 393 لمّا حَكَى عن الكُفَّار أنَّهم أقْسَمُوا باللَّه جَهْد أيْمانهم، لَشِن جَاءَتْهُم آية، ليُؤمِنُنَّ بها، وأجاب عَنْه: بأنه لا فَائِدة في إظْهَار تلك الآيَات؛ لأنَّه - تعالى - لو أظْهَرَهَا، لبقوا مُصِرِّين على كُفْرِهم، بيَّن في هذه الآيَة أنَّ الدَّلِيل على نُبُوته، قد حَصَل فكلُّ ما طَلَبُوه من الزِّيادة، لا يَجب الالْتِفَات إليه. قوله: «افَغَيْرَ» يجوز نَصْب «غَيْرَ» من وَجْهَين: أحدهما: أنَّه مَفْعُول ل «أبْتَغي» مقدَّماً عليه، ووَلِيَ الهَمْزَة لما تقدَّم في قوله: {أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً} [الأنعام: 14] ويكُون «حَكَماً» حنيئذٍ: إمَّا حالاً، وإمَّا تَمْيِيزاً ل «غَيْر» ذكره الحُوفِيُّ: وأبُو البَقَاء، وابْنُ عَطِيَّة؛ كقولهم: «إنَّ غَيْرَها إبلاً» . الثاني: أن يَنْتَصِب «غَيْر» على الحَالِ مِنْ «حَكَماً: لأنَّه في الأصْل يَجُوز أن يَكُون وَصْفاً له، و» حَكَماً «هذا المَفْعُول به؛ فتحصَّل في نَصْب» غَيْر «وجهاان، وفي نصب» حَكَماً «ثلاثة أوجه: كونه حالاً، أو مَفْعُولاً، أو تَمْيِيزاً. والحَكَمُ أبلغ من الحَاكِم. قيل: لأنَّ الحَكَمَ لا يَحْكُم إلا بالعَدْل، ولاحاكم قد يَجُوز، ومَعْنى الآية الكريمة: قُلْ لَهُم يا محمَّد: أفَغَير اللَّه أطْلب قَاضياً بَيْنِي وبَيْنَكُمن وذلك أنَّهم كَانُوا يَقُولُون للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اجعل بَيْنَنا وبَيْنَك حَكَماً، فأجابَهُم به. قوله:» وهُو الَّذي أنْزَل «هذه الجُمْلة في مَحَلِّ نَصْب على الحَالِ من فاعِل:» أبْتَغِي «، و» مُفَصَّلاً «: حَالٌ من» الكِتَاب «أي مُبينَّاً فيه أمْرُه ونهيه، والمراد بالكِتَاب: القُرآن العَظِيم، وقيل» مُفَصَّلاً «أي: خَمْساً خَمْساً، وعَشْراً عَشْراً، كما قال: {لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] . وقوله:» والذين آتيْنَاهم الكِتَاب «: مُبْتَدأ، و» يعْلَمُونَ «: خَبَره، والجُمْلَة مُسْتَأنَفَة، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 393 والمراد بِهِم: عُلَماء اليَهُود والنَّصارى الذين آتيْناهم التَّوْراة والإنْجِيل. وقيل: هم مُؤمِنوا أهل الكِتَاب، وقال عطاء: رُؤسَاء أصْحَاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالكِتَاب: القُرْآن العَظِيم، يَعْلَمون أنه مَنَزَّلٌ. قرأ ابنُ عامر، وحَفْص عن عاصم:» مُنَزَّل «بتشْدِيد الزَّاي، والباقُون بِتَخْفِيِيها، وقد تقدَّم: أنَّ أنزل ونزَّل لُغَتَان، أو بَيْنَهُما فَرْق، و» من ربِّك «لابْتِداء الغَايةِ مَجازاً، و» بالحقِّ «حال من الضَّمِير المُسْتكنِّ في» مُنَزَّل «أي: مُلْتَبِساً بالحَقِّ، فالباء للمُصَاحَبَة. قوله:» فَلا تكُونَنَّ من المُمْترِين «أي: من الشَّاكين أنَّهم يَعْلَمُون ذلك. وقيل: هذا من بابِ التَّهْييج والإلْهَاب؛ كقوله - تعالى -: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] . وقيل: هذا خِطَاب لِكُلِّ أحد، والمعنى: لما ظهرت الدَّلائِل، فلا يَنْبَغِي أنْ يَمْتِرِي فيه أحَد. وقيل: هذا الخِطَاب وإن كان في الظَّاهِر للرَّسُول، إلاَّ أن المراد أمته. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 394 في نصب «صِدْقاً وعَدْلاً» ثلاثة أوجه: أحدها: أن يَكُونا مَصْدَرَيْن في مَوِضِع الحال، أي: تَمَّتَ الكَلِمَات صَادِقَات في الوَعْد، عَادِلات في الوعيدِ. الثاني: أنهما نَصْب على التَّمْييز. قال ابن عطيَّة: «وهو غَيْر صَوَاب» وممن قَالَ بِكَوْنه تَمِييزاً: الطَّبِريُّ، وأبُو البقاء. الثالث: انهما نصب على المَفْعُول من أجْله، أي: تَمَّتْ لأجْل الصِّدْق والعَدْل الواقِعَين مِنْهُما، وهو مَحَلُّ نظر، ذكر هذا الوَجْه أبُو البَقَاء. وقرأ الكوفِيُّون هنا، وفي يونس في قوله: {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا} [يونس: 33] ، {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [يونس: 96] موضعان، فوي غافر: {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} [غافر: 6] «كلمة» بالإفراد، وافقهم ابنُ كثير، وابُو عمرو على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 394 مَا في يُونُس وغافر، دون هذه السُّورة، والباقون: بالجَمع في المَواضِع الثُّلاثة. قال أبو حيَّان: «قرأ الكُوفِيُّون هُنَا وفي يُونُس في الموضعين وفي المؤمن:» كلمة «بالإفْرَاد، ونَافِع جميع ذلك» كلمات «بالجَمع، تابعه أبُو عَمْرو، وبان كثير هُنَا» قال شهاب الدِّين: كيف نَسِي ابن عامر؟ لا يُقَال: إنَّه قد أسْقَطَه النَّاسِخ وكان الأصْل «ونَافِع وابن عامر» ؛ لأنَّه قال: «تَابَعَهه» ولو كان كَذَلِكَ، لقال: «تَابَعَهُمَا» . ووجه الإفراد: إرادة الجِنْس، وهو نظير: رسالته ورسالاته. وقولهم: قال زهير في كلمته، أي: قصيدته، وقال قُسّ في كَلمته، أي: خُطْبَته، فكذا مَجْمُوع القُرآن العَظِيم، وقراءة الجَمْع ظَاهِرة؛ لأن كَلِمَاته - تعالى مَتْبُوعة بالنِّسْبة إلى الأمْر، والنَّهِي، والوعد، والوعيد وأراد بالكلمات: أمْرَه ونَهْيَهُ ووعْدَه ووَعِيدَه، في الأمْر والنَّهْي. وقال قتادة: ومُقاتل: صِدْقاً فيما وعد عدلاً فيما حَكَم، وهذا الكلام كما يَدُل على أن الخُلْف في وَعْد اللَّه مُحَال؛ فيدلُّ أيضاً: على أنَّ الخُلْفَ في وعيده مُحَال، بخلاف ما قالهُ الوَاحِدِيّ في تَفْسِير قوله - تبارك وتعالى -: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا} [النساء: 93] إن الخُلْف في وعيد اللَّه جَائِزٌ، لأن وعد اللَّه ووعِيدَه كلمة اللَّه، فيجب كَوْنَها موصُوفَةٌ بالصِّدق؛ لأن الكذب نَقْص، والنَّقْص على اللَّه مُحَال، ولا يَجُةز إثْبات أنَّ الكَذِب على اللَّه مُحَال، فلو أثبتنا امتِنَاع أن الكذب على الله مُحَال] لزم الدَّوْر، وهو بَاطِل، وأجْمَعُوا على الجَمْع في قوله: وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً {لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ} {وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله} [الأنعام: 34] . قوله: «لا مبدِّل لِكلماتِه» يحتمل أن يكُون لَهَا مَحلُّ من الإعراب؛ لأنَّها مُسْتَأنفة، وأن تكون جُمْلة حَاليّضة من فاعل «تَمَّتْ» . فإن قُلْت: فأين الرَّابِط بين ذي الحَالِ، والحَالِ؟ فالجواب أنَّ الرَّبْط حصل بالظَّاهر، والأصْل: لا مبدِّل لها، وإنَّما أبرزت ظَاهِرة؛ تَعْظِيماً لها ولإضافتها إلى لَفْظ الجلالة الشَّريفة. قال أبو البَقَاء: ولا يجُوز حالاً من «ربِّك» لئلا يُفْصَلَ بين الحَالِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 395 وصاحبها الأجْنَبِيِّ، وهو: «صدقاً وعدلاً» إلا أن يُجْعَلَ «صِدْقاً وعَدْلاً» : حالاً من «ربِّك» لا من «الكَلِمَات» . قال شهاب الدِّين: فإنه إذا جعل «صدقاً وعدلاً» : حالاً من «ربِّك» لم يَلْزَمْ منه فَصْلٌ؛ لأنَّها حالان لذي حال، ولكنّ قَاعدته تَمْنَع تَعَدُّد الحال لذي حالٍ واحدة، وتمنع أيضاً مَجِيء الحَالِ من المُضاف إلَيْه، وإن كان المُضَاف بَعْض الثُّانِي، ولم يُمْنعن هنا بِشَيْء من ذلك، والرسم في «كَلِمَات» في المواضعِ الِّتِي أشَرْتُ [إلى] اخْتِلاف القُرَّاء فيها مُحْتَمِل لِخِلافِهِهم، فإنه في المُصْحَف الكَرِيم من غير ألِف بعد الميم. [وقوله تعالى: «إن يتَّبْعُون» ، و «إن إلا يَخْرصُون» «إن» نافية، بمعنى: ما في الموضعين و «الخَرْص» : الحَزْر ويُعَتبر به عن الكذب والافْتِراء، وأصله من التَّظَنِّي، وهو قول ما لم يُسْتَيْقَن، ويتحقق؛ قاله الأزْهِري. ومنه خرص النَّخل، يقال: «خَرَصًها» الخَارِص خَرْصاً، فهي «خِرْص» فالمَفْتُوح مَصْدر، ولامكْسُور بِمَعْنَى: مَفْعُول؛ كالنَّقض والنِّقض، والذَّبْح] فصل في معنى الآية قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - مَعْنَى «لا مُبَدِّل لِكَلماته» : لا رادَّ لِقَضَائِه ولا مُغَيِّر لِحكمه، ولا خُلْف لوعْدِه، وهو السَّمِيع العَلِيم. وقيل المُرَاد «الكَلِمَات» القرآن لا مُبَدِّل له لا يَزيد في المُفتَرُون، ولا يُنْقِصُون؛ كقوله - تبارك وتعالى - {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . وقيل: المُراد: أنها محفوظة عن التَّنَاقُض؛ كقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] . وقيل المراد: أنَّ أحْكام اللَّه - تبارك وتعالى - لا تَقْبَل التَّبْدِيل والزَّوَال؛ لأنَّها أزَلِيَّة، والأزَليُّ لا يَزُول، وهذا الوَجْه أحَد الأصُ ل القَوِيَّة في إثْبات الخَير؛ لأنه - تبراك وتعالى - لمَّا حظضكظَم على زَيْد بالسَّعادة، وعلى عَمْرو بالشَّقاوة، ثمَّ قال: «لا مُبَدِّل لكلمات الله» لزم منه امْتِناع أنْ يِقْلِب السَّعيد شقّاً، والشَّقِي سعيداً، وهو مَعْنَى قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: جَفَّ القَلَم بما هو كَائِنٌ إلى يَوْم القِيَامَة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 396 لمَّا أجاب عن شُبَهة الكُفَّار، وبيَّن صحَّة نُبُوة مُحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالدليل، بيَّن بعد زوال الجزء: 8 ¦ الصفحة: 396 الشُّبْهة، وظهور الحُجَّة، أنه لا يَنْبَغِي للعَاقِل أن يَلْتَفِت إلى كَلِمات الجُهَّال، وهذه الآية الكريمة تَدُلُّ على أنَّ أكْثَر أهْلِ الأرْض كانوا ضُلالاً. وقي إنَّهم جادّلُوا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمُؤمنين في أكل المَيْتَة، فقالُوا: تأكلون ما تَقْتُلون، ولا تأكلون ما قَتَلَه اللَّه، فقال الله - تعالى -: {وإن تُطِع أكْثر مَنْ فِي الأرْض} أي: ان تُطِعْهُم في أكل المَيْتَة، يُضِلُّوك عن سَبيل اللَّه، أي: عن الطَّرِيق الحقِّ، ثم قال: «غن يَتِّبِعُون إى الظَّنَّ» يريد: أنَّ دينَهُم الذي هُم عليه ظَنٌّ، وهوى لم يأخُذُوه على بَصِيرة «وإنْ هُمْ إلاَّ يَخْرُصُون» : يكْذِبُون في ادِّعاء القَطْع. فصل في رد شبه نفاة القياس تمسَّك نُفَاة القِيَاس بهذه الآية الكريمة؛ لأن اللَّه - تبارك وتعالى - بَالَغ في ذَمِّ الكُفَّار في كَثِير من آيَات القُرْآن العَظِيم بكونهم مُتَّبِعين للظَّن، والشِّيء الذَّي جعله اللَّه - تبارك وتعالى - موجباً للذَّمِّ، [لا بد و، يكون في أقْصَى مَراتِب الذَّمِّ، والعمل بالقياس يُوجِب اتِّبَاع الظَّنِّ، فوجب كَوْنه مَذْمُوماً] محرماً لا يُقَال: لما ورد الدَّليل القَاطِع بكونه حُجَّة، كان العمل به عملاً بِدَليل القَاطِع: إمَّا أن يَكُون عَقْلِيّاً، أو سَمْعِياً، والأوّلأ بَاطِل؛ لأنَّ العَقْل لا مَجَال له في أنَّ العمل بالقِيَاس جَائِزٌ، أو غير جَائِز، ولا سيَّما عند مَن يُنْكِر تَحْسين العَقْل وتَقْبيحه. والثاني أيضاً بَاطِل؛ لأن الدَّلِيل السَّمْعِي إنَّما يكون قَاطِعاً لَوْ كان مُتَوَاتِراً، وكانت الدَّلالة قَاطِعَ’ غير مُحْتَمَلة لوجه آخَر سوى هذا المَعْنَى الوَاحِد، ولو حَصَل مِثُل هذا الدَّلِيل، لعلم النَّاس بالضَّرُورةَ كون القِيَاس حُجَّة، ولارتفع الخلاف فيه، فَحَيْث لم يُوجَد ذلك، عَلِمْنا أن الدَّليل القَاطِع على صحَّة القياس مفقُود. الثاني: هب أنه الدَّليلُ القاطع على أن القياس حُجَّة، إلاَّ أنَّ ذلك لا يتم العمل بالقياس إلاَّ مع اتِّباع الظَّنِّ؛ لأن التَّمسُّك بالقياس مَبْنَيُّ على مَقَامَيْن. أحدهما: أن الحُكْم في محلِّ الوِفَاق معلِّلٌ بِكَذا. والثاني: أن ذلك المَعْنَى حاصل في حلِّ الخلاف، فهذهان المقامان إن كانَا مَعلُومَيْن على سَبيل القَطْع واليَقِين، فهذا ممَّا لا خِلاف في صِحَّته بين العُقلاء، وإن كان مَجْمُوعُهُمَا أو كان أحدهما ظَنِّيَّا؛ فحينئذٍ لا يتمُّ العمل بهذا القياسِ إلاَّ بِمُتَابَعة الظَّنِّ، وحينئذٍ يدخل تحت النَّصِّ الدَّال على أنَّ متابعة الظّنِّ مَذْمُومة. والجواب: لم لا يجوز أن يُقال: إن الظَّنِّ عبارىة عن الاعْتِقَاد الرَّاجِح إذا لم يُسْنَد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 397 إلى أمَارة، [وهو مثل اعتقاد الكُفَّار أمَّا إذا كان الاعْتِقَاد الرَّاجِحُ مستنداً إلى أمارة] فهذا الاعتقادِ لا يُسَمَّى ظنَّا، وبهذا الطَّريق سَقَط الاسْتِدلال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 398 في «أعلم» قولان: أحدهما: أنَّها ليست للتَّقْضِيل، بل بِمَعْنَى اسم فاعل في قوتهن كأنه قيل: إن ربَّك هو يَعْلَم. قال الواحدي - رحمها لله -: «ولا يجوز ذلك؛ لأنَّه لا يطَابِق: وهو أعْلَم بالمُهتَدين» . والثاني: أنَّها على بابها من التَّفْضِيل، ثم اختلف هؤلاء في محلِّ «مَنْ» : فقال بعض البصْريِّين: هو جَرٌّ بحرف مُقَدَّر حُذِف وبقي عمله؛ قولة الدَّلالة عليه بِقَوْله: «وهو أعْلَمُ بالمُهْتَدين» وهذا ليس بِشَيء؛ لأنه لا يُحْذَف الجَارُّ ويبقى أثَرُه إلا في مواضع تقدَّم التَّنْبِيه عليها، ما ورد بخلافها، فضرورةٌ؛ كقوله: [الطويل] 2299 - ... ... ... ..... أشَارَتْ كُلَيْبٍ بالأكُفِّ الأصَابِعُ وقوله: [الكامل] 2300 - ... ... ... ... . ... حَتَّى تَبَذَّخَ فارْتَقَى الأعلامِ الثاني: أنَّها في محلِّ نَصْب على إسْقاط الخَافِض؛ كقوله: [الوافر] 2301 - تَمُرُّونَ الدِّيَارَ ولَمْ تَعوجُوا ..... ... ... ... ... . قاله أبُو الفَتْح. وهو مَردُودٌ من وجهين: الأول أن ذلك لا يطَّرِد. الثاني: أن أفْعَل التَّفْضِيل لا تَنْصِبُ بِنَفْسِها؛ لضَعْفها. الثالث: وهو قَوْل الكُوفيين - أنّه نصب بنفس أفْعَل، فإنها عندهم تَعْمل عمل الفِعْل. الرابع: أنها مَنْصُوبة بِفعل مُقَدَّر يدل عليه أفْعَل، قاله الفَارسيُّ؛ وعلي خَرَّج قول الشاعر: [الطويل] 2302 - أكَرَّ وأحْمَى لِلْحَقيقةِ مِنْهُمُ ... وأضْرَبَ مَنَّا بالسُّيُونفِ القَوَانِسَا ف «القوانِس» نُصِب بإضمار فعلٍ، أي: يَضْرِبُ القَوانِسَ؛ لأن أفَعَل ضَعِيفة كما تقرَّر. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 398 الخامس: أنَّها مَرْفُوعة المحلِّ بالابْتِداء، و «يَضِل» : خَبَره، والجُمْلَة مُعَلِّقة لأفْعَل التَّفْضِيل؛ فهي محلِّ نَصْب بها؛ كأنه قيل: أعلم أيُّ النَّاسِ يَضِل كقوله: {لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ أحصى} [الكهف: 12] ، وهذا رأي الكسائِي، والزَّجَّاج، والمُبَرِّد، ومَكّي، وإلاا أن أبا حيَّان ردَّ هذا؛ بان التَّعْلِيق فرع ثُبُوت العمل في المَفْعُول به، وأفْعَل لا يَعْمل فيه، فلا يُعَلَّق. والرَّاجِح من هذه الأقْوَال: نَصْبُها بمضمر، وهو قول الفَارسيِّ، وقواعد البصريين مُوافِقَةٌ لَه، ولا يَجُوز ان تكون «مَنْ» في محلِّ جرِّ بإضافة أفْعل إليْها؛ لئلاً يلزم مَحْذُور عَظِيم، وذلك أنَّ أفعل التَّفْضِيل لا تُضَاف إلاَّ إلى جنْسِها، فإذا قُلْتَ: «زَيْد أعْلَم الضَّالِّين» لَزِم أن يكون «زَيْد» بَعْض الضَّالِّين، أي: مُتَّصِفٌ بالضَّلال، فهذا الوَجْه مُسْتَحيل في الآية الكريمة، وهذا عند من قرأ «يَضِلُّ» يفتح حَرْف المُضارعة، أمَّا من قرأ بضمِّه: «يُضِلّ» - وهو الحسن، وأحمد بن أبي سُرَيْج -، فقال أبُو البقاءِ: «يجُوز أن تكون» مَنْ «في موضع جرِّ بإضافة» أفعل «» إليها «. قال:» إمَّا على مَعْنَى: هو أعْلَم المُضِلِّين، أي: من يجد الضَّلال وهو من أضْلَلْتُه، أي: وَجَدْته ضالاً؛ مثل أحْدَتُه، أي: وَجَدته مَحْمُوداً، أو بِمَعْنى: أنه يَضِلُّ عن الهدى «. قال شهبا الدِّين: ولا حَاجَة إلى ارْتِكَاب مِثْل الأمَاكن الحَرِجة، وكان قد عبَّر قَبْل ذلك بِعِبَارات اسْتَعْظَمتُ النُّطْق بها، فَضَربْت عَنْها إلى أمْثِلةٍ من قوْلي، والَّذِي تُحْملُ عليه هذه القراءة، ما تقدّضم من المُخْتَار؛ وهو النَّصْب بِمُضْمَر، وفاعل «يُضِلّ» على هذه القراءة: ضمير يَعُود على اللَّه - تعالى - على مَعْنَى: يَجِدُه ضالاً، أو يَخْلُق فيه الضَّلال «لا يسأل عمَّا يَفْعَل» ويجُوز أن يكُون ضمير «مَنْ» أيْ: أعْلَم مَنْ يضِلُّ النَّاس، والمَفْعُول مَحْذُوف، وأمَّا على القراءة الشَّهيرة، فالفَاعِل ضمير «مَنْ» فقط، و «مَنْ» يجُوز أن تكُن موصُولة، وهو الظَّاهر، وأن تكون نَكِرة مَوْصُوفة، ذكره أبثو البقاء. فإن قيل هو «أعْلَم بالمُهْتَدِين» يوجب وقوع التَّفَاوت في عِلْم اللَّه، وهو مُحَال؟ فالجواب: أن حُصُول التَّفَاوُت في علم اللَّه مُحَال، إلاَّ أن المَقْصُود من هذا اللَّفْظِ: العِنَاية بإظْهَار هداية المُهْتَدين فوق الهداية بإظهار ضلال الضَّالِّين، ونظيرُه قوله تعالى -: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 399 {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] فذكر الإحْسَان مَرَّتَيْن، والإساءة مرَّة واحدة، ومَعْنَى: قوله - تعالى -: {أَعْلَمُ بالمهتدين} أي: يُجَازي كُلاَّ بما يستحقُّونَ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 400 في هذه الفَاءِ وجهان: أحدهما: أنَّها جواب شَرْط مُقدَّر. قال الزَّمخْشَريُّ بعد كلام: فقيل للمُسْلِمِين: إن كُنْتم مُتَحَقِّقِين بالإيمان، فكُلوا [وذلك أنَّهم كانوا يَقُلون للمُسْلِمين: إنَّكم تَزْعُمون أنَّكم تَعْبُدُون اللَّه، فما قتله الله أحَقُّ أن تَأكُلُوا ممَّا قَتَلْتُمُوه أنْتُم، وقال الله - تعالى - للمسلمين: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} . والثاني: أنها عَاطِفَة على مَحْذُوف. قال الواحدي: «ودخَلَت الفاءُ للعطْف على ما دلَّ عليه أوَّل الكلام، كأنه قِيل: كونوا على الهُدَى، فكُلُوا» . والظَّاهر: أنَّها عَاطِفة على ما تقدَّم من مَضْمُون الجُمَل المُتقدّمَة كأنه قيل: «اتَّبِعُوا ما أمركُم اللَّه تعالى من أكْلِ المُذَكَّى دون الميتة، فكُلُوا» . فإن قيل: إنهم كَانُوا يُبيحُون أكْل ما ذُبِح على اسْمِ اللَّه - تعالى -، ولا يُنَازعون فيه، وإنما النِّزاع في أنَّهم أيْضاً كَانُوا يُبِيحُون أكْل الميتة، والمُسْلِمُون كَانُوا يَحْرِّمُونها، وإذا كان كذلك، كان وُرُود الأمْر بإبَاحة ما ذُكِر اسم الله عليه عِبْئاً، لأنَّه يقتضي إثْبَات الحُكْم في المتَّفْقِ عليه، وترك الحُكْم في المُخْتَلِف فيه. فالجواب: لعلَّ القوم يحرِّمُون أكْل المُذَكَّاة، ويُبِيحُون أكْل المَيْتَة، فاللَّه - تبارك وتعالى - ردَّ عليهم في الأمْرَيْن، فحكم بحلِّل المُذَكَّاة بقوله: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} وبتحريم المَيْتَة بقوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ} [الأنعام: 21] أو يُحْمل قوله: {فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ} على أن المُرَاد: اجْعَلوا أكْلَكُم مقصوراً على ما ذكر اسْمُ الله عليه، فيكون المَعْنَى على هذا الوجه، تَحْرِيم أكْل المَيْتَة فقط. قوله: «ومَا لَكُمْ» مُبْتَدأ وخبر، وقوله: «ألاَّ تَأكُلوا» فيه قولان: أحدهما: هو حَذْف حَرْف الجرِّ، أيك أيُّ اسْتَقَرَّ في مَنْع الأكْل ممَّا ذكر اسْم اللَّه عليه؛ وهو قول أبي إسْحَاق الزَّجَّاج فلما حُذِفَتْ «في» جَرَى القولان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 400 المَشْهُوران، ولم يذكر الزَّمَخْشَرِيُّ غير هذا الوجه. الثاني: أنَّها في محل نَصْبٍ على الحالِ، والتَّقْدير: وأيُّ شَيْء لَكُم تَاركين للأكْل، ويؤيِّد ذلك وُقوع الحالِ الصَّريحة في مِثْل التَّركيب كَثِيراً، نحو: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] إلاَّ أن هذا مَرْدُود بِوَجْهَيْن: أحدهما: أنَّ «أنْ» تُخَلِّص الفِعْل للاسْتِقْبَال، فكيف يَقَعُ ما بَعْدَها حالاً؟ والثاني: أنَّها مع ما بعدها مُؤوَّلة بالمصدر، وهو أشْبَه بالمُضْمَرَات كما تقدَّم تحريره، والحال إنَّما تكُون نكرة. قال أبُو البقاء: إلاَّ أن يُقَدَّر حَذْفُ مُضاف، فَيَجُوز، أي: «وما لَكُم ذَوِي ألا تَأكلوا» وفي تَكَلُّ، فمفعول «تَأكُلُوا» مَحْذوف بَقِيتْ صفَته، تقديره: «شَيْئاً مما ذُكِر اسْمُ اللَّه» ويجُوز ألاَ يُراد مَفْعُول، بل المُراد: ومَال لكُم ألا يقع منكم الأكْل، وتكون «مِنْ» لابْتِدَاء الغَاية، أي: أن لا تَبْتَدِئُوا بالأكْل من المَذْكُور عليه اسم اللَّه، وزُعِم، أنَّ «لاَ» مَزِيدة، وهذا فَاسِدٌ؛ إذا لا داعِي لِزيَادتها. قوله: «وقد فصَّل لَكُم ما حرَّم» قرأ ابْنُ كَثِير، وأبُو عَمْرو، وابنُ عَامِر: ببنائهما للمفعُول: ونافع، وحفصٌ عن عاصم: ببنَائِهَما للفاعل، وحمزة، والكسَائِيُّ، وأبُو بكر عن عاصم: ببناء الأوَّل للفاعل، وبناء الثُّانِي للمَفْعُول، ولم يأتي عكس هذه، وقرأ عطيَّة العُوفيُّ كقراءة الأخَويْن، إلاَّ أنَّه خفف الصَّاد من «فَصَّل» والقَائِم مقام الفاعل: هو المَوْصُول، وعائده من قوله: «حرَّم عَلَيْكُم» . والفَاعِل في قراءة مَنْ بَنَى للفَاعِل ضمير اللَّه - تعالى -، والجُمْلَة في محلِّ نَصْبٍ على الحالِ. فصل في المراد من الآية قوله: «فَصَّل لَكُم ما حرَّم عَلَيْكُم» قال أكثر المُفَسِّرين: هو المُراد من قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير} في أوَّل المائدة [الآية: 3] ، وفيه إشْكَالٌ، وهو أنَّ سُورة الأنْعَام مَكيَّة، وسُورة المائدة من آخر ما أنْزَل اللَّه - تعالى - بالمدينة، فقوله: «فصَّل» يَجِبُ أن يكُون ذلك المُفَصَّل متقدِّماً على هذا المُجْمَل، والمَدَنِيّ متأخِّر عن المَكِيّ، فيمتنع كونه مُتقدِّماً، ولقَائِل أن يقول: المُفَصّل: هو قوله - تبارك وتعالى - بعد هذه الاية الكريمة: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] ، الآية، وهي هو المُرَاد، خُصُوصاً أن بعد هذه الآية بقليل، إلا أنَّ هذا القَدْر من التَّاخير لا يمنع أن يكُون هو المُرَاد، خُصُوصاً أن السُّورة نزلت دَفْعَة واحِدَة بإجْماع المُفَسِّرين على ما تقدَّم، فيكون في حُكْم المُقارن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 401 قوله: «إلاَّ ما اضْطُرِرْتُم إليه» في الاسْتِثْنَاء وجهان: أحدهما: أنَّه مُنْقَطِع، قاله ابن عطيَّة والحُوفِي. والثاني: أنه [اسْتِثْنَاء] متَّصِل. قال أبو البقاء: «ما» في مَوْضِع نَصْبٍ على الاسْتِثْنَاء من الجِنْس من طريق المَعْنى؛ لأنه وبِّخَهُم بترك الأكل مِمَّا سُمِّي عليه، وذلك يَتَضَمّن الإباحة مُطْلَقاً. قال شهاب الدِّين: الأوَّل أوْضَح والاتِّصال قلق المَعْنَى، ثم قال: «وقوله:» وقد فصَّل لَكُم ما حرَّم عليكم «أي: في حَالِ الاخْتِيَار، وذلك حلالٌ حال الاضْطِرارِ» . قوله: «وإنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّون» قرأ الكوفيُّون بضمِّ الياء، وكذا الَّتِي في يُونس: {رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ} [الآية: 88] والباقون: بالفَتْح، وسيأتي لذلك نَظَائِر في إبْراهيم وغيرها، والقراءتان واضِحَتَان؛ فإنه يٌقال: ضلَّ في نَفْسَه، وأضَلَّ غيره، فالمَفْعُول مَحْذُوف على قراءة الكُوفيين: وهي أبْلَغ في الذَّمِّ، فإنها تتضَّمن قُبْحَ فِعْلِهم، حَيْث ضلوا في أنْفُسِهِم، وأضَلُّوا غيرهم؛ كقوله - تعالى -: {وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل} [المائدة: 77] . قيل المُراد بِه: عمرو بن لُحَيّ فمن دُونه من المشركين الَّذين اتخذوا البَحَائِر والسَّوَائِب وقراءة الفَتح لا تُحوِجُ إلى حذف، فرجَّحها بَعْضُهم بهذا وأيضاً: فإنهم أجْمَعُوا على الفَتْح في «ص» عند قوله: {إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [26] . وقوله: «بِأهْوَائِهِم» متعلِّق ب «يَضِلُّونَ» والباءُ سَبَبيَّة، أي: اتِّباعهم أهْواءَهم، وشهواتهم. وقوله: «بغير عِلْم» متعلِّق بِمَحْذُوف، لأنه حالٌ، أي: يَضِلُّون مُصَاحِبِين للجَهْلِ أي: مُلْتَبِسين بغير علمٍ. فصل في المراد بالآية قيل: المُرَاد: عمرو بن لُحَيّ كما تقدَّم؛ لأنَّه أول من غير دين إسماعيل. وقال الزَّجَّاج: المراد منه الَّذِين يُحَلِّلُون المَيْتَة، ويناظِرُونكم في إحلالها، ويَحْتَجون عليهخا بقولهم لما أحَلَّ أنْتُم، فَبأن يحلَّ ما يَذْبَحُه الله أوْلَى، وكذلك كل ما يَضِلُّون فيه من عبادة الأوثان، والطَّعن في نُبُوّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنما يتِّبِعُون فيه الهوى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 402 والشَّهوة [بغير عِلْمن وهذه الآية تدلُّ على أن التقليد حَرَام؛ لأنَّه قول بمحض الَوَى والشَّهءةوة] ثم قال: «إنَّ رَبَّك هُوَ أعْلم بالمُهَْدين» أي: هو العالم بما في ضَمَائِرِهم من التَّعَدِّي، وطلب نُصْرة البَاطِل، والسَّعي في إخْفَاء الحقِّ، وإذا كان عَالِماً بأحْوَالهم وقَادِراً على مجازاتهم فهو تعالى يجازيهم عليها والمقصُود منه التَّهْديدي والتخويف. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 403 لما بين أنَّه فَصَّل المُحَرَّمات، أتْبَعه بما يَجِبُ تَرْكُه بالكُلِّية، والمُرَادُ به: ما يُوجِبُ الإثْمَ، وهي الذُنُونب كُلُّها. قال قتادة: المُراد «بِبَاطِنه وظَاهره» عَلانيته وسِرَّه. وقال مُجَاهِد: ظاهرة مِمَّا يَعْمَلُه الإنْسَان بالجوارح من الذُّنُوب، وباطنه: ما يَنْويه ويَقْصده بقلبه؛ كالمُصِرِّ على الذَّنْب. وقال الكَلْبِيُّ: ظاهِره: الزِّنَا، وبَاطنه المُخَالة، وأكثر المُفَسِّرين على أنَّ ظَاهِره: الإعلان بالزِّنَا، وهم أصْحاب الرَّايَات، وباطنه: الاسْتِسْرَاء، وكانت العرب يُحِبُّون الزِّنَا، وكان الشَّرِيف يَسْتَسِرُّ به، وغير الشَّريف لا يُبِالي به، فَيُظْهره. وقال سعيد بن جُبَيْر: ظاهر الإثْم: نكاح المحارم، وباطنه الزِّنا. وقال ابن زَيْد: ظاهره: التَّعرِّي من الثياب في الطَّواف والباطِن: الزِّنَا، وروى حيَّان عن الكَلْبِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ظَاهِر الإثْم: طَواف الرِّجَال بالبّيْت نَهَاراً عُرَاةً، وباطنه، طَوَاف النِّسَاء باللَّيْل عُرَاة. وقيل هذا النَّهي عامٌ في جميع المُحَرَّمات، وهو الأصحُّ؛ لأن تَخْصِيص اللَّفظ العام بصُورة مُعَيَّنة من غَيْر دليل، غير جائز، ثم قال: «إنَّ الذين يَكْسِبُون الإثْم سَيُجُزون بِمَا كَانُوا يَقْتِرفُون» والاقْتِرَاف: الاكِتسَاب كما تقدَّم، وظاهر النَّصِّ يدلُّ على أنَّه لا بُدَّ وأنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 403 يُعَاقب المُذنب على الذَّنب، إلا أنَّ المُسْلِمين أجْمَعُوا على أنَّه إذا تاب، ولم يُعاقب، وأهْل السُّنَّة زادُوا شَرْطاً، وهو أنَّه - تبارك وتعالى - قد يَعْفُو عن المُذْنِب؛ لقوله - تبارك وتعالى -: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] الآية. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 404 لما بين حِلَّ كُلِّ ما ذُبِح على اسْم اللَّه - تعالى - ذكر بعده تَحْرِيم ما لَمْ يُذْكَر اسْم اللَّه عليه، ويَدْخُل فيه المَيْتَة، وما ذُبح على ذِكْر الأصْنَام. قال عضاء: كُل مَا لَمْ يُذْكَر اسْمُ اللَّه عليه من طعامٍ أو شرابٍ، فهو حرام؛ لعُمُوم الآية: وقال ابنُ عبَّاسٍ: الآية الكريمة في تَحْرِيم الميتات وما فِي مَعْناها، ونُقِل عن عَطَاء الآية الكريمة، وفي تَحْرِيم الذَّبَائح الَّتي كانُوا يَذْبحونها على اسْم الأصْنَام، واخْتَلف العُلماء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - في ذَبِيحَة المُسْلِم، إذا لَمْ يُذْكَر اسم اللَّه علَيه. فذهب قَوْمٌ إلى تَحْرِيمها سواءً ترك التَّسْمِيةَ عامداً أوْ نَاسِياً، وهُوَ قَوْل ابن سيرين، والشَّعْبِين وأحمد في رواية، وطائفة من المُتَكَلِّمين لِظَاهر الآية الكريمة. وذه قَوْم إلى تَحْلِيلها، يُرْوَى ذلك عن ابْن عبَّاس، وهُو قول مَالِك، والشَّافِعي، وأحْمَد في رِوَاية. وذهب قوم إلى أنه إنْ ترك التَّسْمِية عامداً، لم يحلِّ، وإن تركها سَهْواً، أحلت، وهُو قَوْل الثَّوْري، وأصْحاب الرَّأي، ومَذْهَب أحمد. ومن أبَاحَهَا، قال: المُرَاد من الآية الكريمة: وما ذُبِح على غَيْر اسْم اللَّه؛ لقوله: «وإن لفسق» والفسق في غَيْر ذِكْر اسْم اللَّه؛ كما قال في آخر السُّورَة العَظِيمة: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} [الأنعام: 145] إلى قوله {أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله} وأجمع المُسْلِمُون على أنَّه لا يُفَسَّق آكل ذَبيحَةِ المُسْلِم الذي ترك التَّسْمِية، وأيضاً: وقوله - تعالى: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} وهذه المُنَاظَرَة إنَّما كانت في مَسْألة المَيْتَة على أنَّ المُشْركين قَالُوا للمسلمين: ما يَقْتله الصَّقْر والكَلْبُ تَأكُلُونَن، وما يَقْتُله الله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 404 فلا تَأكُلُونَهُ، وعن ابن عباسٍ: إنَّهم قالُوا: تأكلون ما تَقْتُلُونَه، ولا تَأكُلُون ما يَقْتُله اللَّه - تعالى -، وهذه المناظرات مَخْصُوصة بأكل المَيْتَة، وقال تبارك وتعالى -: {وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} وهذا مَخْصُوص بِمَا ذُبِح على اسْم النُّصُب، يعني: لو رَضِيتُم بهذه الذَّبيحة الَّتِي ذُبِحَ على اسْم الهديَّة للأوثان، فقد رَضِيتُم بإلهيَّتِها فذلك يُوجِب الشِّرْك. قال الشَّافعي: فأوَّل الآية الكريمة، وإن كان عامَّا بحسب الصِّيغة، إلاَّ أن آخِرَها لمَّا حَصَلتْ فيه هذه القُيُود الثلاثة، علمنا أن المُرَاد من العموم: الخصوص، وعن عائشة: رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - قالوا يا رسول الله إن هُنَا أقْوَاماً حَدِيثٌ عَهْدهم بِشِرْكٍ يأتُونَنَا باللَّحْم، لا يُدْرَى يَذْكُرون اسْم اللَّه عليها أمْ لا، قال: «اذْكُروا أنْتم اسْم اللَّه، وكلوا» ولو كانت التَّسْمِية شَرْطاً للإبَاحَة، كان الشكُّ في وُجودها مَانِعاً كالشكَّ في أصْل الذَّبْح. قوله: «وإنَّه لَفِسْقٌ» هذه الجُمْلَة فيها أرْبَعَة أوْجُه: أحدها: أنَّها مُسْتأنَفة، قالوأ: ولا يَجُوز أن تكُون مَنْسُوقة على ما قَبْلَها؛ لأن الأولَى طلبيَّة، وهي خَبَرِيَّة، وتُسَمَّى هذه الواوُ، واو الاسْتِئْنَافِ. والثاني: أنَّها مَنْسُوقة على ما قَبْلَها، ولا يُبَالَى بِتَخَلُفِهما، وهو مَذْهَبُ سيبوَيْه، وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك، [وقد أوْرَدْتُ من ذَلِك شَواهِد صالِحَة من شِعْر وغيره] . الثالث: أنَّها حاليَّة، أي: «لا تَأكُلوه، الحالُ: أنَّه فِسْق» وقد تبجَّح الإمام الرَّازي بهذا الوَجْه على الحَنَفيَّة، حيث قَلَب دَليلَهُم عليهم بهذا الوَجْه، وذلك أنَّهم يَمْنِعُون من أكْل مَتْروك التَّسْمِيَة، والشَّافعيَّ’ لا يَمْنعَون منه استدل عيهم الحَنَفِيَّة بِظَاهِر هذه الآية. فقال الرَّازي: هذه الجُملَة حاليَّة، ولا يَجُوز أن تَكُون مَعْطُوفة لِتخَالُفِهَمَا طَلَباً وخبراً، فتعيَّن أن تكون حاليَّة، وإذا كان حاليَّة، كان المعنى: «لا تَكُلُوه حال كَوْنهِ مُفَسَّقاً» ، ثم هذا الفِسْق مُجْمَل قد فَسَّره اللَّه تعالى في مَوْضِع آخرَرن فقال: «او فِسْقاً أهِلَّ لِغَير اللَّه به» يعني: أنه إذَا ذُكشر على الذَّبيحة غَيْر اسم اللَّه، فإنَّه لا يَجُوزظ أكْلُها؛ لأنَّه فِسقٌ. ونحن نقُول به، ولا يَلْزَم من ذَلِك أنَّه إذا لم يُذْكر اسْم اللَّه، ولا اسْم غيره، أن تكون حَرَاماً؛ لأنه لَيْس بالتَّفْسِير الذي ذَكْرنَاه، والنِّزاع فيه مُحَال من وُجُوه: منها: أنّنا لا نُسَلِّم امْتِناع عَطْفِ الخَبَر على الطَّلَب، والعَكْس، كما قدَّمتُه عن سِيبوَيْه، وإن سُلِّم، فالواو للاسْتِئْنَاف، كما تقدم، وما بَعْدَها مُسْتأنفُ، وإن سُلِّم أيضاً، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 405 فلا نسلم أن «فِسْقاً» في الآية الأخرى مُبَيَّن للقِسق في هذه الآية، فإن هذا لَيْس من بابِ المُجْمَل والمُبَيَّن؛ لأن له شُرُوطاً لَيْسَت مَوجُودَة هُنَا. وهذا الذي قاله مُشْتَمِلٌ من كلام الزَّمَخْشَرِي: فإنه قال: فإن قُلْت: قد ذَهَبَ جماعة من المُجْتَهِدين إلى جَوازِ أكْل ما لَمْ يُذْكَر اسْم اللَّه عليه بِنِسْيَان أوْ عَمْد. قلت: قد تأوَّله هؤلاء بالمَيْتَة، وبما ذُكِر غَيْر اسْم اللَّه عليه؛ كقوله: «أو قِسْقاً أهلِّ لِغَيْر اللَّه به» فهذا أصْل ما ذكره ابن الخَطِيب وتبجَّ به والضَّمير في «أنَّه» يُحْتَمل أن يعُود على الأكْل المَدْلُول عليه ب «لا تأكُلُوا» ، وأن يعُود على الموصُول، وفيه حنئيذٍ تأويلان: أن تَجْعَل الموصُول نَفْس الفِسْق مبالغة. أو على حَذْفِ مُضَافٍ، أي: «وإنَّ أكله لَفِسْق» أو على الذكْر المَفْهُوم من قوله: «ذكر» قال أبوُ حيَّان: «والضَّمِ] ر في» إنَّه «: يعُوج على الأكْل، قاله الزَّمَخْشَري، واقْتَصَر عليه» . قال شهاب الدِّين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لم يَقْتَصِرْ عليه بل ذَكَر: أنَّه يحُوز أن يَعُوج على المَوصُول، وذكر التَّأويلين المُتقدِّمين، فقال: «الضَّمير راجع على مَصْدر الفِعْل الدَّاخل عليه حَرْف النَّهْي، بمعنى: وإنَّ الأكل منه لَفِسْق، أو على الموصُول على أنَّ أكْلَه لِفِسْق، أو جعل ما لَمْ يُذكَر اسْمُ اللَّه عليه في نفس قِسْقاً» . قوله: «وإنّ الشَّياطين ليوحون إلى أوليَائِهم» من المُشْركين لِيُخَاصِموا مُحمَّداً وأصحابه في أكْل المَيْتَ. وقال عِكْرِمة: المراد بالشَّيَاطِين: مَرَدة المجُوس، ليُوحون إلى أوْلِيَائِهم من مُشْرِكي قُرَيْش، وذلك لأنَّه لما نزل تَحْريم المَيْتَة، سَمِعه المجُوسُ من أهْل فَارِس، فكتَبُوا إلى قُرَيش - وكانت بَيْنَهُم مُكَاتبة - أنَّ محمَّداً وأصاحابه يَزْعُمون أنَّهم يَتْبَعُون أمْ اللَّه - تعالى - ثم يَزعُمُون أن ما يَذْبَحُونه حلالاً، وما يَذْبَحُه اللَّه حرامٌ فوقع في نَفْس ناسٍ من المُسْلِمين من ذلك، فأنْزَل اللَّه هذه الآية الكَرِيمة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 406 قوله: «لِيُجَادِلُوكُم» متعلِّق ب «يُوحُون» أي: «يُوحُون لأجْل مُجَادَلَتِكم» ، وأصْل «يُوحُون» يُوحِيُون؛ فأعِلّ. قوله: «وإن أطَعْتُمُوهم» قيل: إنَّ التَّوْطِئة للقسم، فلذلك أجيب القسم المُقَدَّر بقوله: «إنكم لمُشْرِكُون» وحذف جواب الشَّرْط بِلَفْظِ الماضِي، وهو ههنا كذلك، وهو قوله: «وإنْ أطَعْتُمُوهُم» . قال شهاب الدِّين: كأنه زعم: أنَّ جواب الشَّرْط هو الجُمْلَة من قوه: «إنَّكُم لَمُشْرِكُون» والأصل: «فإنكُم» بالفاء؛ لأنَّها جُمْلَة اسميَّة، ثم حُذِفَت الفاء؛ لكون فِعْل الشَّرْط بِلَفْظِ المُضِيِّ، وهذا لَيْس بِشَيء؛ فإن القَسَم مُقدَّر قَبْل الشَّرْط ويدُل على ذلك حَذْف اللاَّم المُوَطِّئَة قبل «إن» الشَّرْطية، ولَيْس فِعْل الشَّرْط مَاضِياً؛ كقوله تعالى: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ} [الأعراف: 3] فَهَهُنَا لا يُمْكنه أن يقُول: إن الفاء مَحذُوفة؛ لأن فِعْل الشَّرْط مُضارعٌ، وكأن أبا البقاء - والله أعلم - أخذ هذا من الحُوفيِّ؛ فإني رَأيْتُه فيه كما ذَكَرَهُ أبُو البقاء، ورَدَّه أبُو حيَّان بنحو ما تقدم. فصل في معنى الآية والمَعْنَى: وإنْ أطعتُمُوهُم في استِحْلال المَيْتَة، إنكم لَمُشْرِكُ ن، وإنَّما سُمِّي مُشْرِكاً؛ لأنه أثْبَت حَاكِماً سِوَى اللَّه، وهذا هو الشِّرك. وقال الزَّجَّاج: وفيه دَلِيل على أنَّ كُلَّ مَنْ أحَلَّ شيئاً مما حرَّم اللَّه، وحرَّم ما أحَلَّ اللَّه، فهو مُشْرِك. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 لما ذكر تعالى في الآيَة الأولَى؛ أنَّ المُشْرِكين يُجَادِلُون المُؤمنين في دين الله - تعالى - ذكر مثلاً يدُلُّ على حَالِ المُؤمِن المهْتَدي، وعلى حَالِ الكَافرِ الضال فبَيَّن أن المؤمن بِمَنْزِلة مَنْ كَانَ مَيْتاً؛ فَجُعِل حَيّاً بعد ذلك، وأعْطِي نُوراً يَهْتَدِي به في مَصَالِحِه، وأنَّ الكَافِر بمنْزِلَة المُنْغَمِس في ظُلُمَاتٍ لا خَلاصَ له مِنْهَا، فيكون مُتَحَيِّراً دائماً. قوله: «أو مَنْ كَانَ» تقدَّم أن الهَمْزَة يَجُوز أن تكُون مقدَّمة على حرف العطْفِ، وهو رَأي الجُمْهُور، وأن تكُون على حَالِها وبَيْنها وبيْن فِعْل مُضْمَر، و «مَنْ» في محلِّ رفع الجزء: 8 ¦ الصفحة: 407 بالابتداء، و «كمَنْ» خَبَرْهُ، وهي مَوْصُولة، و «يمشي» في محلِّ نَصْب صِفَة ل «نُوراً» . قال قتادة: أراد ب «النور» : كَتَاب اللَّه - تعالى - بيّنه مع المُؤمن، بها يعمل، وبها يَأخُذ، وإليها يَنْتَهِي، و «مَثَلُه» مُبْتَدأ و «فِي الظُّلُمات» : خَبَرُه، والجُمْلَةُ صِلَةُ «مَنْ» الأولى و «ليس بِخَارج» في محلِّ نَصْبٍ على الحَالِ من الموصُول، أي: «مِثْل الَّذي اسْتَقَرَّ في الظُّلُمات حالً كَوْنه مُقِمياً فيها» . وقال أبُو البقاء: «لَيْس بِخَارج في مَوْضِع الحَالِ من الضَّمِير في» منْها «ولا يَجُوز أن يكُون حالاً من الهَاءِ في» مَثَلُه «للفَصْل بَيْنَه وبيْن الحَال بالخبر» . وجعل مَكِّي الجُمْلَة حالاً من الضَّمِير المُسْتَكِنِّ في «الظُّلُمات» وقرأ طَلْحَة بن مُصْرِّف: «أفَمَنْ كَانَ» بالفَاءِ بدل الواو. فصل في المراد بالآية اخْتَلَفُوا في هذه الآية الكَرِيمة على قَوْلَيْن: أحدهما: أنَّها نزلت في رَجُلَيْن بأعْيَانِهِمَا. قال ابْن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «جَعَلْنَأ لَهُ نُوراً» يريد: حَمْزة بن عَبْد المُطَّلِب، «كمن مَثَلُه في الظُّلُماتِ» يريد: أبا جَهْل بْن هِشَام، وذلك أنَّ أبا جَهْل رَمَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بفَرْثٍ، فأخْبِر حمزة بما فعل أبُو جَهْل وهو رَاجِعٌ من قُدومِهِ من صَيْدٍ، وبِيَده قَوْس وحَمْزة لَمْ يؤمن بعد، فأقبل غضْباناً حتى علا أبَا جَهْلٍ بالقَوْس، وهو يَتَضَرَّع إلَيْه، ويَقُول: أبا يَعْلى، أما ترى ما جَاءً به، سَفَّه عُقُولنا، وسَبَّ آلهتنا، وخالف آباءنا، فقال حَمْزَة: ومن أسْفَه مِنْكُم، تَعْبُدون الحِجَارة من دُونِ اللَّه؛ أشْهَدُ ألاّ إله إلاَّ الله وأشْهَد أنَّ محمَّداً عَبْده ورَسُوله، فأنْزَل اللَّه الآية. وقال الضَّحَّاك: نَزَلَت في عُمر بن الخَطَّاب، وأبي جَهْل. وقال عِكْرِمَة، والكلبي: نزلت في عمَّار بن يَاسِر، وأبي جَهْل. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 408 وقال مُقَاتِل: نزلت في النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبِي جَهْل، وذلك أنَّه قال: زَاحَمَنا بنو عَبْد مَنَاف في الشَّرف، حتى إذا صِرْنا كفرسي رهان قالوا: مِنَّا يُوحى إلَيْه، والله لا نُؤمِنُ به إلاَّ أن يَأتِينَا وَحْي كما يَأتِيه، فنزلت الآية الكريمة. القول الثاني: أنَّ هذه الآية الكريمة عَامَّة في حقِّ المؤمنين والكَافِرين، وهذا هو الحَقُّ؛ لأن تَخْصِيص العَامِّ بغير دَلِيل تحكُّم؛ وأيضاً: فلقولهم إن السُّورة نزلت دَفْعَةً واحدة، فالقَوْل بأنَّ سَبَبَ هذه الآيَة الكريمة المُعَيَّنة كذا وكذا مُشْكل. قوله: «كَذَلك زُيِّن» نعتُ لِمَصْدَر، فقدَّره بَعْضُهم: «زُيِّن للكَافِرين تَزْيناً كما أحْيَيْنا المُؤمنين» وقدَّره آخرَرُون: «زين لِلْكَافرين تَزْييناً لكون الكَافرين في ظُلُمات مُقِيمين فيها» والفاعل المَحْذُوف من «زُيِّن» المنُوبُ عنه هو اللَّه - تعالى - ويجُوز أنْ يَكُون الشَّيْطَان، وقد صرَّح بكُلِّ من الفَاعِليْن مَعَ لفظ «زيَّن» ، قال - تعالى - {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ} [النمل: 4] ، وقال - تعالى - {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} [العنكبوت: 38] و «مَا كَانُوا يَعْمَلُون» : هو القَائِم مقام الفَاعِل، و «ما» يَجُوز أن نُون مَوْصُولة اسميَّة أو حَرْفِيَّة أوْ نَكِرة مَوْصُوفة والعائدُ على القولِ الأولِ والثالث محذوفٌ، دون الثاني عند الجُمْهورِ، على ما عُرِفَ غير مرَّةٍ. وقال الزجاجُ: «موضعُ الكافِ رفعٌ، والمعنى: مثل ذلك الذي قَصَصْنا عليك، زُيِّن للكافرين أعمالهم» . فصل في بيان خلق الأفعال دلّت هذه الآيةُ الكريمةُ على أن الكُفْر، والإيمانَ من الله تعالى؛ لأن قوله «فَأحيَيْنَاهُ» وقوله: {وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس} كنايةٌ عن المعرفةِ، والهدى؛ وذلك يدلُّ على أنَّ هذه الأمورَ من الله - تبارك وتعالى - والدلائلُ العقليةُ ساعدت على صِحَّتِه، وهو دليلُ الداعي المتقدم. وأيضاً فالعاقُل لا يختار الجهل، والكفر لنفسه؛ فمن المحال أنْ يختارَ الإنسانُ جَعْلَ نَفْسِه كافراً جاهلاً، فلما قصد لتحصيل الإيمانِ والمعرفةِ، ولم يحصلء له ذلك، وإنما حصل ضدُّه، وهو: الكُفْرُ، والجَهْلُ؛ علمْنَا أنَّ ذلك بإيجاد غَيْره. فإن قيل: إنَّما اختاره لاعتقاده في ذلك الجهل، أنَّه عِلْمٌ. فالجواب: أنَّ حاصِلَ هذا الكلامِ أنه إنما اختار هذا الجهْلَ لسابقَةِ جَهْل آخر، والكلام في ذلك الجَهْلِ السَّابِقِ كذلك إلى غَيْرِ نهاية، فوجب الانتهاءُ إلى جَهْل يحصل فيه لا بإيجاده، وهو المطلوبُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 409 قيل «كذلك» نَسَقٌ على «كَذَلِكَ» قبلها ففيها ما فيها. وقدَّرَهُ الزَّمْخَشَرِيُّ بأنّ معناه: «وكما جعلنا في مكَّةَ المشرفةِ صَنَاديدَهَا لِيَمْكُرُوا» يجوزُ أن تكون فيها، كذلك جعلْنَا في كل قريةٍ أكابرَ مجْرِميها «واللامُ في» لِيَمْكُرُوا «يجوزُ أن تكون للعقاقبة؛ وأنْ تكونَ للعلَّة مَجَازاً، و» جَعَلَ «تَصْييريَّة، فتتعدَّى لاثنَيْنِ، واختُلِف في تقديرهما: والصحيحُ أنء تكُونَ» فِي قَرْيةٍ «مَفْعُولاً ثايناً قُدِّم على الأوَّل، والأولُ» أكابِر «مُضَافاً لمجرميها. الثاني: أنَّ» فِي كُلَّ قَرْيَةٍ «مفعولٌ - مقدَّمٌ، و» أكَابِر «هو الأول، و» مُجْرِمِيهَا «بدلٌ من» أكَابِر «؛ ذكر ذلك أبُو البقاء. الثالث: أن يكُون» أكَابِر «معفولاً ثانياً قُدِّم، و» مُجْرِيمها «مَفْعُولٌ أول أخِّر، والتقديرُ: جَعَلءنا في كُلِّ قريةٍ مجرميها أكَابِرَ، فيتعلق الجارُّ بنفسِ الفِعْلِ قبلهح ذكر ذلك ابنُ عَطِيَّة. قال أبُو حيَّان:» وما أجَازَاهُ - يعني: أبَا البَقَاءِ، وابنُ عَطيَّةَ0 خطأٌ وذهولٌ عن قاعدةٍ نَحْويَّةٍ، وهي أنَّ أفْعَلَ التفضيلِ إذا كانت ب «مِنْ» مَلْفُوظاً بها، أو مقدرةً، أو مُضَافة إلى نِكَرَة كانت مُفردةً على كُل حالٍ، سواءٌ كانت لمذكر، أم مؤنث، مُفْرَدٍ أم مُثَنى أمْ مَجْمُوعٍ، وإذا ثُنِّيَتْ أو جُمِعَتْ أو أنِّثَتْ وطابَقَتْ ما هي له، لَزِمَها أحَدُ أمْرَيْنِ: إمَّا الألف واللام، وإمَّا الإضافة لمعرفة. وإذا تقرَّرَ ذلك، فالقولُ بكوْنِ «مُجْرِميهَا» بدلاً، أو بكونه مفعولاً أول، و «أكابر» مَفعولٌ ثانٍ - خَطَأٌ؛ لاسْتلْزام أنْ يبقى «أكَابِرَ» مَجْمُوعاً وليست في ألِفٌ ولامٌ، ولا هِيَ مُضَافة لمعرفةٍ «. قال:» وقد تنبِّه الكرمَانِيُّ إلى هذه القاعدة فقال: أضَاف «أكَابِر» إلى «مُجْرِميها» لأن أفْعَلَ لا يُجْمَعُ إلاَّ مع الألفِ واللامِ، أو مع الإضافة «. قال أبُو حيَّان:» وكان يَنْبَغِي أنْ يُقَيَّد بالإضافة إلى معرفةٍ «. قال شهابُ الدِّين: أما هذه القاعدةُ فمسلمة، ولكن قد ذكر مكِّي مِثْلَ ما ذُكِر عن ابْن عَطيَّة سواء، وما أظُنّه أخذ إلاَّ منه، وكذلك الواحديُّ أيضاً، ومنع أنْ تُجوَّز إضافةُ» أكَابر «إلى مجرميها» ؛ قال رَحِمَهُ اللَّهُ: «والآيةُ على التَّقْديمِ، والتأخير تقديرُه: " الجزء: 8 ¦ الصفحة: 410 جَعَلْنَاه مُجْرِميها أكَابر" ولا يجوز أن تكون الأكَابِر مضافةً؛ لأنه لا يتمُّ المعنى، ويحتاجُ إلى إضْمار المفعول الثاني للجعل؛ لأنك إذا قلت:» جعلتُ زَيْداً «وسكتَّ لم يُفِد الكلامُ حتى تقول: رَئِيساً أو َلِيلاً، أو ما أشبه ذلك، ولأنَّك إذا أضَفْتَ الأكَابِر، فقد أضَفْتَ النعتَ إلى المنعوت؛ وذلك لا يجوزُ عند البَصْريِّين» . قال شهابُ الدِّين: هذان الوجْهَانِ اللذان ردِّ بهما الواحديُّ لَيْسَا بِشَيْءٍ. أمَّا الأولُ فلا نسلم أنا نُضْمِرُ المعفول الثاني، وأنه يَصِيرُ الكلامُ غيرَ مُفِيد، وأمَّا ما أوْرَده من الأمْثِلَةِ، فليس مُطَابِقاً؛ لأنَّا نقولُ: إنَّ المفعول الثَّانِي - هنا - مذكورٌ مصرّحٌ به، هو الجارُّ والمجرورُ السابقُ. وأما الثاني: فلا نُسَلِّم محذوفٌ، قالوا: وتقديرُه: «جعلنا في كُلِّ قرية أكَابر مُجْرميها فُسَّقاً لِيَمْكُرُوا» وهذا لَيْس بِشَيءٍ؛ لأنه لا يحذفُ شيء إلاَّ لدليلٍ، والدليلُ على ما ذكروه غيرُ واضحٍ. وقال ابنُ عطيَّة: «ويقالُ أكابرة كما يقالُ أحْمر وأحَامِرةَ» ؛ قال الشاعر: [الكامل] 2303 - إنَّ الأحَامِرَة الثَّلاثةَ أتْلَفَتْ ... مَالِي وَكُنْتُ بِهِنَّ قِدْماً مُؤْلَعاَ قال ابو حيان: «ولا أعْلَمُ أحَداً أجاز في جَمْع أفْضَل أفَاضِلَة، بل نَصَّ النحويون على أن: أفْعَل التَّفْضِيل يجمعُ للمذكَّرِ على الأفضَلِين، أو على الأفاضل» . قال شهابُ الدين: وهذه التاءُ يذكرها النحويونُ أنها تكون دَالَّةً على النسب في مِثْلِ هذه البنية، قالوا: الأزَارَقَة، والأشاعِثَة، وفي الأزْرَقِ ورهطه، والأشْعَث وبنيه، ولي بقياسٍ، ولَيْس هذا مِنْ ذلك في شَيْءٍ. والجمهورُ على «أكَابِرَ» جَمْعاً. وقرأ ابنُ مُسْلِم: «أكبر مجرميها» بالإفْرَادِ، وهو جائِزٌ، وذلك أنَّ أفعل التفضيل إذا أضيفت لمعرفة وأُريد بها غيرُ الإفْرَادِ، والتذكير؛ جاز أنْ يُطابِق، كالقراءةِ المشهُورةِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 411 هنا، وفي الحديث: «أحَسنكم أخلاقاً» وجاز أن يُفْرَج، وقد أُجْمِعَ على ذلك في قوله: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس} [البقرة: 96] . فصل قال الزجاجُ: إنما جعل المجرمينَ أكَابر لأنهم لأجْل رياستهم أقْدَر على المكْرِ [والغدْرِ] ، وترويج الأبَاطيل على الناسِ مِنْ غيرهم، ولأن كثرة المالِ، والجاهِ تحمل الغَدْرِ، والمكْرِ، والكَذِب، والغَيْبةِ، والنمِيمَةِ، والإيْمانِ الكَاذِبَة، ولو لم يكُنْ للمالِ والجَاهِ سِوَى أنَّ اللَّه - تبارك وتعالى - وصف بهذه الصفاتِ الذَّميمةِ مَنْ كان له مالٌ وجاه لكفى ذلك دَلِيلاً على خَسَاسَةِ المال والجاه. قوله: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} . والمرادُ ما ذكره الله تعالى في قوله: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] . واعلَمْ أنَّ سُنّة الله [- تبارك و] تعالى - أنه يجعلُ في كُلِّ قريةٍ اتباعَ الرسل ضاعفهم لقوله في قصة نُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111] وجعل فساقهم أكابرهم ليمْكُروا فيها، وذلك أنهم أجْلَسُوا في كُلِّ طَريقٍ من طُرُقِ مكَّةَ [المشرفَة] أرْبَعَةً نَفَرٍ لِيصْرِفُوا النَّاسَ عن الإيمانِ بمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولُونَ لكل مَنْ يقدَمُ: إياكم وهذا الرجُلَ، فإنه كَاهِنٌ، ساحِرٌ، كذََّابٌ. وقولُه: {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ} [لأنَّ وبال مَكْرِهمْ عليهم وهم ما يشعرون أنه كذلك. قال المعتزلة: «وما يَمْكُرونَ إلاَّ بِأنْفُسِهمْ» ] مذكورٌ في مَعْرض التهديد، والزَّجْرِ، فلو كان ما قل هذه الآيةِ الكريمةِ، يدلُّ على أنه تعالى ارادَ مِنْهم أنْ يمكرُوا بالناسِِ - فكَيْفَ يلِيقُ بالرَّحيم الحَكِيم أنْ يُريد منهم المَكْرَ، ويخلقه فيهم، ثُمَّ يُهَدِّدُهُمْ عليه، ويعاقِبُهُمْ أشَدَّ العِقابِ، ومعارضتُهم تقدَّمَتْ مِرَاراً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 قال المفسِّرُونَ: إنَّ الوليدَ بن المغيرةِ قال: والله لو كانت النُّبُوة حقاً لكنتُ أوْلَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 412 بها مِنْك؛ لأني أكبرُ مِنْك سِنَّا، وأكثرُ مِنْك مَالاً، وولداً؛ فنزلت الآيةُ الكريمةُ. وقال الضحاكُ: أرَادَ كُلُّ واحدٍ منهم أنْ يخصَّ بالوءحِي، والرسالةِ؛ كما أخبر تعالى عنهم: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52] فظاهر هذه الآية الكريمة التي نحن في تَفْسِيرها يدُلُّ على ذلك أيضاً، وهذا يدلُّ على أنَّ جماعةً منهم كانوا يَقُولُونَ هذا الكلام. وقال مُقَاتِلٌ: نزلَتْ في أبِي جَهْلٍ؛ وذلك أنَّه قال: زَاحَمَنَا بنُو عَبْدِ منافٍ في الشرف؛ حَتَّى إذَا صِرْنًا كَفَرسَيْ هانٍ، قالوا مِنَّا نَبِيٌّ يُوحَى إليه، والله لَنْ نُؤمِنَ به، ولن نَتِّبعَهُ أبَداً؛ إلاَّ أنء يَأتِينَا وحي، كما يَأتيه؛ فأنْزَل اللَّهُ - تبارك وتعالى - الآية. وقوله: {لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله} . فيه قولان: أشهرهما: أن القومَ أرادُوا أنْ تحصُلَ لهم النبوةُ، والرِّسَالَةُ، كما حَصَلَتْ لمحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنْ يكُونُوا مَتْبُوعِينَ لا تَابِعِينَ. والوقول الثاني: نُقِل عن الحس، وابن عبَّاس أن المعنى: وإذا جاءتُهْم آيةٌ من القرآنِ تأمُرهم باتباع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا: «لَنْ نُؤمِنَ لك حتَّى تَفْجُر لَنَا مِنَ الأرْض يَنْبُوعاً ... .» إلى قوله: {حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93] مِنَ اللَّهِ - عزَّ وجلَّ - إلى أبي جَهْلٍ، وإلى فلانٍ وفُلانٍ، كتاباً على حدَةٍ؛ وعلى هذا فالتقديرُ ما طلبوا النبوة وإنَّما طلَبُوا انْ يَاتِيهُمْ بآياتٍ قَاهِرَةٍ مثل مُعْجزاتِ الأنْبياءِ المتقدمين؛ كي تدل على صِحًّة نبوّة محمدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام -. قال المحقِّقُون: والأوَّلُ أقْوَى لأنَّ قولهُ تبارك وتعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} لا يَلِيقُ إلاَّ بالقولِ الأوَّلِ. وقوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} فيه تنبيهٌ على أنَّ أقلَّ ما لا بُدَّ مِنْهُ في حُصُولِ النُّبُوةِ، والرسالةِ؛ الباراءةُ عن المكْر، والخَدِيعَةِ، والغَدْر، والغِلِّ، والحَسَدِ وقولهم {لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله} عينُ المكرِ، والغل والحسد؛ فكيف تحصلُ النبوةُ، والرسالةُ مع هذه الصفات الذَّمِيمة؟ . قوله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} . في «حَيْثُ» هذه وجهان: أحدهما: أنَّها خرجتْ عن الظرفيَّة، وصارت مَفْعُولاً بها على السِّعَةِ، وليس العامِلُ « الجزء: 8 ¦ الصفحة: 413 أعْلَمُ هذه؛ لما تقدَّم مِنْ أنَّ أفْعَلَ لا تنصبُ المفعول به. قال أبُو عَلِيّ:» لا يجوزُ أنْ يكُونَ العامِلُ في «حَيْثُ» : فِعلاً يدُلُّ عليه «أعْلَمُ» و «حَيْثُ» لا يكونُ ظَرْفاً، بل يكونُ اسْماً، وانتصابُه على المفعلول به على الاتِّساعِن وملُ ذلك في انتصابِ «حَيْثُ» على المفعولِ به اتساعاً قولُ الشَّمَّاخِ: [الطويل] 2304 - وحَلأهَا عَنْ ذِي الأرَاكَةِ عَامِرٌ ... أخُو الخُضْرِ يَرْمِي حَيْثُ تُكْوَى النَّوَاجِزُ ف «حَيْثُ» مفعولةٌ، لأنه لي يُريدُ أنه يَرْمِي شَيْئاً حيث تكون النواجِز، إنما يريدُ أنه يرمي ذلك الموضع «. وتبع الناسُ الفَارسيَّ على هذا القول. فقال الحوفِيُّ:» لَيْسَتْ ظَرْفاً؛ لأنه تعالى لا يكُون فِي مكانٍ أعْلمَ منه في مكانِ آخر، وإذَا لم تكن ظَرْفاً، كان مَفْعُلاً بها؛ على السِّعَةِ، وإذا كانت مَفْعُولاً، لم يعملْ فيها «أعْلَمُ» ؛ لأن «أعْلَمُ» لا يعملُ في المفعولِ بهِ فيقدّرُ لها فِعْلٌ «وعبارةُ ابْنِ عطيَّة، وأبِي البَقَاءِ نحو مِنْ هذا. وأخذ البرِيزيُّ كلام الفارسيِّ [فنقله] ، وأنْشدَ البيتَ المتقدِّمَ. والثاني: أنَّها باقيةٌ على ظَرْفِيَّتِهَا بطري المجاز، وهذا القولُ لَيْسَ بشيءٍ، ولكنْ أجَازَهُ أبُو حيَّان مختاراً له على ما تقدم. فقال:» وما أجازُواه مِنْ أنَّهُ مفعولٌ به على السعة أو مفعولٌ به على غيْرِ السعة - تَأبَاهُ قواعِدُ النَّحْو؛ لأن النحويِّينَ نَصُّوا على أنَّ «حَيْثُ» مِنَ الظرُوفِ التي لا تتصرفُ، وشذَّ إضافةُ «لَدى» إليها، وجرِّها «بالياء» ، وب «في» ، ونصُّوا على أن الظرف المتوسَّعَ فيه لا يكونُ إلاَّ مُتَصرِّفاً، وإذا كان كذلك، امتنع نصبُ «حَيْثُ» على المفعُولِ به، لا على السِّعَة، ولا على غَيْرها. والذي يَظْهَرُ لِي إقْرارُ «حَيْثُ» على الظَّرفيةِ المجازيَّةِ، على أنْ يُضَمَّنَ «أعْلَمُ» مَعْنَى ما تيعدِّى إلى الظرفِ، فيكون التقديرُ: «اللَّهُ أنْفَذُ عِلْماً حَيْثُ يجعلُ رِسَالاه» أي: «هو نافِذُ العلم في لاموضع الذي يجعل فيه رسالاته، والظرف هنا مجازٌ كما قلنا» . قال شهابُ الدِّين: قد ترك ما قاله الجمهورُ، وتتابعوا عليه، وتأوَّل شَيْئاً هو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 414 أعْظَم مما فَرَّ مِنْه الجمهورُ، وذلك أنه ليزمه على ما قدَّر أنَّ عِلْمَ الله في نَفْسِه يتفاوت بالنسْبَة إلى الأمْكِنَة، فيكونُ في مكانِ أبْعَدَ مِنْه في مكانٍ، ودعواه مجازُ الظرفيَّةِ لا ينفعهُ؛ فيما ذكرته من الإشْكَال، وكيف يُقَالُ مِثْلُ هذا؟ وقوله: «نَصَّ النحاةُ على عدم تصرُّفها» هذا معارضٌ - أيضاً - بأنهم نصُّا على أنها قد تتصرَّفُ بغير ما ذكر هو مِنْ كونها مجروةً ب «لَدَى» أو «إلى» أو «فِي» فمنه: أنها جاءت اسماً ل «إنَّ» في قوله الشاعر: [الخفيف] 2305 - إنَّ حَيْثُ اسْتَقَرَّ مَنْ أنْتَ رَاجي ... هِ حِمًى فِيه عِزَّةٌ وأمَان ف «حيثُ» اسمُ «إن» ، و «حِمًى» خبرُها، أيْ: إنَّ مكاناً استقرَّ من أنتن راعية مكانٌ يحمي فيه العزُّ والأمانْ ومِنْ مَجِيئها مجروةً ب «إلى» قول القائل في ذلك: [الطويل] 2306 - فَشَدَّ وَلَمْ يُنْظِرْ بُيُوتاً كَثِيرةً ... إلَى حَيْثُ ألْقَتْ رَحْلَهَا أمُّ قَشْعَمِ وقد يجابُ عن الإشْكال الذي أوْرَدْتُه عليه، بأنه لم يُرِدْ بقوله «أنْفَذُ عِلْماً» التفضيل، وإنْ كان هو الظاهِرُ بل يُريد مُجَردَ الوصْفِ؛ ويدلُّ على ذلك قوه: أي هُوَ نَافِذُ العلمل في الموضع الذي يَجْعَلُ فيه رِسَالاته، ولكن كان يَنْبَغِي أنْ يصرِّحَ بذلك، فيقول: ولَيٍ المراد التفضيل. وروي «حَيْثَ يَجْعَلُ» بفتح الثاء، وفيها احتمالان: أحدهما: أنها فتحةُ بناْءٍ؛ طَرْداً للباب. والثاني: أنها فتحةُ إعرابٍ؛ لأنها معربةٌ في لغةِ بَنِي فَقْعس، حكاها الكسَائِيُ. [وفي «حَيْثُ» سِتُّ لُغَاتِ: حَيْثُ: بالياء بتَثْلِيث الثاءِ، وحَوْثُ: بالواو، مع تَثْلِيث الثاء] . وقرأ ابنُ كثير، وحَفْصٌ عن عَاصم «رسالَتَه» بالإفراد، والباقون: «رِسَالاتِهِ» بالجمع، وقد تقدَّم توجيهُ ذلك في المائدة؛ إلا أن بَعْضَ مَنْ قر هُناك بالجمْع - وهوحَفْصٌ - قرأ هنا بالإفْرادِ، وبعضُ مَنْ قرأ هناك بالإفْرَادِ - وهو أبو عَمْرو، والأخوانِ، وأبُو بَكْرٍ، عَنْ عاصم - قرأ هنا بالجمع، ومعنى الكلام: «اللهُ أعْلَمُ بمَنْ هُوَ أحَقُّ بالرِّسالةِ» . قوله: {سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله} قِيلَ: المرادُ بالصِّغَارِ ذلك وهوان يحصلُ لهم في الآخرة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 415 وقيل: الصغارُ في الدنيا، وعذابٌ شَدِيدٌ في الآخرة. قوله: «عِنْدَ اللًّهِ» يجوزُ أنْ يَنْتَصِبَ ب «يُصِيب» ويجوز أن ينتصبَ ب «صَغَار» ؛ لأنه مصدرٌ، وأجازُوا أن يكون صِفَةً ل «صغار» ؛ فيتعلق بمحذوفٍ، وقدَّره الزجاجُ فقال: ثَابِتٌ عن الله تعالى «. والصِّغارُ: الذلُّ والهوان، يقالُ منه: صَغُر يَصْغَر صِغْراً فهو صغِيرٌ، هذا قولُ اللَّيْثِ، فوقع الفرقُ بين المعْنَيَيْنِ بالمصدرِ، والفعلِ. وقال غيره: إنه يُقالُ: صَغُر، وصغَر من الذل. والعِنْديَّةُ هنا: مجازٌ عن حَشْرِهم يوم القيامةِ، أو عَنْ حُكمه وقضائه بذلك؛ كقولك: ثَبَتَ عند فلانٍ القاضِي، أيْ: في حكمه، ولذلك قدَّم الصَّغار على العذاب؛ لأنه يُصيبهُمْ في الدنيا. و» بما كانوا «الباء للسببيّة أي: إنما يُصيبهم ذلك بسبب مَكْرِهم، وكَيْدِهم، وحَسَدِهم و» مَا «مصدرية، ويجوز أتكون معنى الذي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 قال المفَسِّرُون: لمَّا نزلت هذه، سُئِل رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن شَرْح الصًّدر، قال: «نُورٌ يَقْذِفُهُ الًّهُ - تعالى - في قَلْبِ المُؤمِن، فَيَنْشَرحُ لهُ ويَنْفِسِحُ» قيل: فَهْل لذلك أمَارَةٌ. قال: «نَعَم، الإنَابَةُ إلى دارِ الخُلُودِ، والتَّجَافِي عن دَارِ الغُرُور، والاسْتِعْداد للموت قبل نُزُولِهِ» . قوله: {فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ} كقوله: «مَنْ يَشأ اللًّهُ يُضْلِلْه» و «مَنْ» يَجُوزُ أن تكُون مَرْفُوعة بالابتداء، وأن تكون مَنْصُوبَةً بمقدِّرٍ بَعْدَهَا على الاشْتِغَال، أي: مَنْ يُوَفِّق اللَّه يُرِدْ أن يَهْدِيَهُ، وأنْ تكون مَنْصُوبَةً بمقدِّرٍ بَعْدَهَا على الاشْتِغَال، أي: مَنْ يُوَفِّق اللَّه يُرِدْ أن يَهْدِيَهُ، و «أنْ يَهْدِيَهُ» مَفْعُول الإرادَة، والشَّرْح: البَسْطُ والسِّعَة، قاله الليث. وقال ابن قُتَيْبَة: «هو الفَتْحُن ومنه: شَرَحْتُ اللًّحم، أي: فَتَحْتُه» وشرح الكلام: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 416 بَسَطَهَ وفتح مغْلَقَه، وهو استِعَارةٌ في المَعانِي، حَقِيقَةٌ في الأعْيَان. و «للإسْلام» أيك: لِقُبُولِهِ. قوله: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} . يجُوز أن يَكُون الجَعْلُ هنا بمعْنَى التَّصْيير، وأن يَكُون بمَعْنَى الخَلْقِ، وأن يكون يمعنى سَمًّى، وهذا الثًّالثُ ذهب إليه المعتزلة، كالفارسي وغيره من مُعْتَزِلَة النُّحَاةِ؛ لأن الله - تعالى - لا يُصَيِّر ولا يَخْلُق أحَداً كذا، فعلى الأوًّلِ يكون «ضَيِّقاً مَفْعُولاً ثايناً عند مَنْ شدًّدَ يَاءَهُ، وهم العَامَّة غَيْر بان كثير، وكذلك عند مَنْ خَفًّفَها سَاكنَةً، ويكون فِيهِ لُغتانِ: التًّثقيل والتَّخْفيفُ؛ كميِّت ومَيْت، وهيِّن وهَيْنن. وقيل: المخَفًّف مصدرُ ضاقَ يَضِيقُ ضيقاً، كقوله - تعالى - {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ} [النحل: 127] ، يقال: ضَاقَ يضيقُ ضَيْقاً بفتح الضًّادِ وكَسْرِها. وبالكَسْر قرأ ابن كثير في النحل والنَّمْل، فعلى جعله مصدراً يَجِيءُ فيه الأوْجُه الثلاثة في المصدرِ الواقع وَصْفاً ل» جُثًّة «، نحو:» رجُلٌ عَدْلٌ «ويه حَذْفُ مُضَاف، والمُبَالغَة، أوْ وُقُوعه مَوْقع اسْم الفاعل، أي: يَجْعَلُ صدره ذا ضيق، أو ضَائقاً، أو نَفْس الضِّيق؛ مُبالغةً، والذي يَظْهَرُ من قارءة ابن كثير: أنه عِنْدهُ اسم صِفَةٍ مخَفًّف مِن» فَيْعل «وذلك أنَّه اسْتَغْرَب قراءَتَهُ في مَصْدَر هذا الفِعْلِ، دُون الفَتْح في سُورة النًّحْل والنًّمْل، فَلَوْ كان هذا عِنْدَهُ مَصْدَراً، لكان الظَّاهرُ في قراءته الكَسْرَ كالموضِعَيْنِ المُشَارِ إليْهما، وهذا من مَحَاسِنِ علم النَّحْو والقراءاتِ، والخلافُ الجَارِي هُنَا جارٍ في الفُرقَانِ. قوال الكسائي:» الضِّيِّق بالتًّشْديد في الأجْرَام، وبالتًّخْفيف في المَعَانِي «. ووزن ضيِّق:» فَيْعل «كميِّت وسيِّد عند جُمْهُور النَّحْويِّين ثم أدْغِم، ويجوز تَخْفِيفُه كما تقدَّم تَحْريرُه. قال الفَارِسي:» والياءُ الواوِ في الحَذْفِ وإن لم تَعْتَلَّ بالقَلْبِ كما اعتَلَّتِ الواوُ، اتْبعِتِ اليَاءُ الواو في هذا؛ كما أتبعت في قولهم: «أتِّسَرَ» من اليُسْر، فجُعِلَتْ بمنزلة اتَّعَدَ «. وقال ابن الأنْبَاريّ: «الذي يُثَقِّل اليَاء يقول: وَزْنُه من الفِعْل» فَعِيل «والأصْل فيه ضَييق على مِثَال كَريم» و «نَبِيل» فجعلُوا اليَاءَ الأولى ألِفاً؛ لتحرَّكِها وانْفِتَاح ما قَبْلَها من حَيْثُ أعَلُّوا ضَاقَ يَضِيقُ، ثم أسْقَطُوا الألِفَ بِسُكُونها وسُكُون ياء «فَعِيل» فأشْفَقُوا مِنْ أنْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 417 يَلْتَبِس «فَعِيل» ب «فَعْل» فزادوا ياء على الياءِ ليكمل بها بِنَاء الحَرْفِ، ويقعُ فيها قَرْقٌ بين «فَعِيل» و «فَعْل» . والذين خَفًّفُوا اليَاءَ قالوا: «أمِن الَّبس؛ لأنَّه قد عُرِفَ أصْلُ هذا الحرفِ، فالثِّقَةُ بمعْرِفته مَانِعَةٌ من الَّبْسِ» . وقال البصريون [وزنه من الفِعْل «فَيْعِل» ، فأدْغِمَت الياءُ في الَّتِي بَعْدَهَأ، فَشْدِّدَ ثم جَاءَ التَّخْفِيفُ، قال: وقد ردَّ الفَرَّاءُ وأصْحَابَهُ هذا على الَبصْريِّين] وقالوا: «لا يُعْرَفُ في كلام العربِ اسمٌ على وَزن» فَيْعِل «يَعْنُون: بكسر العيْنِ، إنما يُعْرَف» فَيْعَل «يعنون: بفتحها، نحو:» صَيْقَل «و» هَيْكَل «فمتى ادّعَى مُدَّع في اسْم مُعْتَل ما لا يُعْرَفُ في السَّالِم، كانت دَعْوَاهُ مردُودَةً» وقد تقدَّم تحْرِيرُ هذه الأقوال عِنْد قوله - تبارك وتعالى -: {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] فليُراجَعْ ثَمًّةَ. وإذا قُلْنَا: إنَّهُ مُخَفًّفٌ من المشدَّدِ؛ فهل المَحْذُوفُ اليَاء الأولى أو الثَّانِيَة «خِلافٌ مرَّت له نَظَائِرُهُ. وإذا كانت» يَجْعَل «بمعنى: يَخْلُق، فيكون» ضَيِّقاً «حالاً، وإن كانَتْ يمعنى» سَمًّى «، كانَتْ مفعُولاً ثانياً، والكلام عليه بالنًّسْبَة إلى التَّشْدِيد والتَّخْفِيف، وتقدير المَعَانِي كالكلام عليه أوّلاً. و» حَرَجاً «حَرِجاً» بفتح الرَّاء وكَسْرها: هو المُتزايد في الضِّيق، فهُو أخَصُّ من الأوَّل، فكل حَرَج من غير عَكْس، وعلى هَذَا فالمَفْتُوح والمكْسُور بمَعْنَى واحد، يقال «رَجُل حَرِجٌ وحَرَحٌ» قال الشَّاعر: [الرجز] 2307 - لا حَرِجُ الصِّدْرِ ولا عَنِيفُ ... قال الفراء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو في كَسْرِه ونَصْبِه بمَنْزِلَة «الوَحَد» و «الوحِد» ، و «الفَرَد» و «الفَرِد» و «الدَّنِف» و «الدَّنِف» . وفرَّق الزَّجَّاج والفرسيَّ بينهُمَا فقالا: «المَفْتُوح مَصْدر، والمكْسُور اسْمُ فَاعِل» . قال الزَّجَّاج: «الحَرَجُ أضْيَقُ الضِّيقِ، فَمَنْ قال: رَجُلٌ حَرَجٌ - يعني بالفَتْح - فمعناه: ذُو حَرَجٍ في صَدْرِهِ، ومن قال حِرِجٌ - يعني بالكَسْر - جعله فَاعِلاً، وكذلك دْنف ودَنف» . وقال الفارسي: «مَنْ فتح الرَّاء، كان وصْفاً بالمصدر، نحو: قَمَنْ وحَرَى ودنَف، ونحو ذلك من المصادرِ التي يُوصَفُ بها، ولا تكُون» كَبَطَل «لأن اسْم الفاعل في الأمْر العَام إنَّما على فَعِل» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 418 ومن قرأ «حِرجاً» - يعني بكسْر الرَّاء - فهو مثل «دَنِف وفَرِق بكَسْر العَيْن» . وقيل: «الحَرَجُ بالفَتْح جمع حَرَجَة؛ كقَصَبَ وقَصَب، والمكْسُور صِفَة؛ كذَنِف وأصل المادَّة من التَّشَابُك وشِدَّة التَّضَايُقِ، فإنَّ الحَرَجة غَيْضَة من شَجَر السَّلَم ملتفة لا يَقْدِرُ أحَدٌ أن يَصِل إليها. قال العجَّاج: [الزجر] 2308 - عَايَنَ حَيَّا كَالحِرَاجِ نَعَمُهْ ... الحِراج: جَمْع حِرْج، وحِرْج جَمْع حَرَجَة، ومن غَريب ما يُحكَى: أن ابْن عَبَّاس قرأ هذه الآية، فقال: هل هُنَا أحَدٌ من بَنِي بَكْرِ؟ فقال رَجُلٌ: نعم، قال: ما الحَرَجَة فِيكُم؟ قال: الوَادِي الكَثِير الشًّجَر المسْتَمْسِكُ؛ الذي لا طريقَ فيه. فقال ابن عبَّاس:» فَهَكَذَا قَلْبُ الكَافِرِ «هذه رواية عُبَيْج بن عُمَيْر. وقد حَكَى أبو الصَّلْت الثَّقْفِي هَذِهِ الحكَايَة بأطْوَال مِنْ هذا، عن عُمَر بن الخطابِ، فقال: قرأ عُمِر بن الخطَّابِ هذه الآية فقال:» ابْغُونِي رَجُلاً من بَنِي كِنَانَة، واجْعَلُوه راعِياً «فأتوهُ به، فقال لَهُ عُمر:» يا فتى ما الحَرََةُ فِيكُم «؟ قال:» الحَرَجَةُ فِينَا الشًّجَرةُ تُحْدِقُ بها الأشْجَارٌ فلا تَصِلُ إليها رَاعِيةٌ ولا وَحْشيَّةٌ «. فقال عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -:» وكذلك قُلْبُ الكافر لا يَصِلُ إلهي شيءٌ من الخَيْرِ «. وبعضهُم يحْكِي هذه الكاية عن عُمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كالمُنْتَصِر لمن قَرأ بالكَسْرِ قال: قرَأهَا بَعْضُ أصْحَاب عُمَر له بالكَسْر، فقال:» ابْغُوني رجلاً من كِنَانَة رَاعِياً، وليَكُون من بني مُدْلج «. فأتوه به، فقال:» يا فَتَى، ما الحَرَجَةُ تكُون عِنْدكُم «؟ فقال:» شَجَرَةٌ تكُون بيْن الأشْجَار لا يَصِلُ إلَيْهَا رَاعِيَة ولا وَحِشِيَّة «. فقال: كذلِك قَلْبُ الكَافِر، ولا يَصلُ إليه شيءٌ [من الخَيْرِ] . قال أبو حيَّان:» وهذا تَنْبِيه - والله أعلم - على اشْتِقَاقِ الفِعْل من اسْم العَيْن «كاسْتَنْوقَ واستَحَجَر» . قال شهاب الدين: لَيْس هذا من بابِ اسْتَنْوَقَ واسْتَحْجَرَ في شَيْءٍ؛ لأن هذا مَعْنَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 419 مستَقِلٌّ، ومادَّةٌ مُسْتَقِلَّةٌ مُتَصَرِّفَة، نحو: «حَرِجَ يَحْرَجُ فهو حَرِجٌ وحَارِجٌ» بخلاف تِيكَ الألفاظ، فإنَّ معناها يُضْطَرُّ فيه إلى الأخْذِ من الأسْمَاء الجَامِدَة، فإن مَعْنَى قولك: استَنْوَقَ الجمل، أي: «صار كالنَّاقِة» ، واسْتَحْجر والنَّاقَةِ، وأنْتَ إذا قُلْتَ: حَرِج صَدْرُه لَيْس بِكَ ضَرورَة أن تَقُولك «ص كالحَرَجَةِ» بل مَعْنَاه: «تَزايد ضِيقُه» ، وأما تَشْبِيهُ عُمَر بن الخطَّاب، فلإبْرَازه المَعَانِي في قوالِبِ الأعْيَانِ؛ مبالغة في البيانِ. وقرأ نافع وأبو بكر عن عاصم: «حَرِجاً» بكَسْر الراء والباقون: بفتحها وقد عُرِفَا، فأمّا على قراءةِ الفَتْح، فإن كان مَصْدراً، جاءت فيه الأوْجُهُ الثلاثة المقدِّمَة في نَظَائِرِه، وإن جُعِلَ صِفَ’ فلا تأويلَ. ونَصْبُه على القراءتَيْن: إمَّا على كونِهِ نَعْتاً ل «ضَيِّقاً» ، وإمَّا على كَوْنه مَفْعُولاً به تعدَّد، وذلك أنَّ الأفْعَال النَّواسِخَ إذا دَخَلَت على مُبْتَدأ وخبر، كان الخبرانِ على حَالِهما، فكما يَجُوز تعدُّدُ الخبر مُطْلقاً أو بتَأويل في المبتدأ والخبر الصَّريحَيْن، كذلك في المَنْسُوخَيْن حين تَقُول: «زَيْدٌ كَاتِبٌ شَاعِرٌ فقيهٌ» ثم تقُول: ظنَنْتُ زيداً كِاتِباً شاعراً فِقِيهاً، فتقول: «زَيْداً» مَفْعُول أوَّل، «كاتباً» مَفْعُول ثانٍ، «شَاعِراً» مفعول ثالث، «فِقِيهاً» مَفْعُول رَابع؛ كما تَقُول: خبر ثانٍ وثالث ورابع ولا يَلْزَمُ من هذا أن يتعدًّى الفِعْل لثلاثة ولا أرْبَعَة؛ لأن ذلك بالنِّسْبَة إلى تَعَدُّد الألْفَاظِ، فلِيْس هذا كقول: في: أعْلَمْتُ زيداً عمراً فلاضلاً، إذا المَفْعُول الثُّالِثُ هناك لَيْس متكَرِّراً لشَيْء واحِدٍ؛ وإنما بَيًّنْتُ هذا لأن بَعْضَ النَّاسِ وهم في فَهْمِه، وقد ظَهَر لك ممَّا تقدَّم أن قوله: «ضيِّقاً حَرَجاً» لي في تكْرَار. وقال مَكِّي: «ومعنى حَرِجٌ - يعني بالكَسْرِ - كمعنى ضيِّق، كرِّر لاخْتِلاف لفْظِه للتأكيد» . قال شهاب الدِّين: إنما يكون للتَّأكيد حيث لم يَظْهَر بَيْنَها فَارِقٌ فَتَقُول: كُرِّر لاخْتِلاف اللًّفْظِ؛ كقوله: {صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] وكقوله: [الوافر] 2309 - ... ... ... ... ... . ... وَألْقَى قَوْلَهَا كَذِباً ومَيْنَا وقوله: [الطويل] 2310 - ... ... ... ... ... ..... وهِنْدٌ أتَى مِنْ دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ وأما هُنَا فقد تقدَّم الفَرْقُ بالعُمُوم والخُصُوص أو غير ذَلِك. وقال أبو البقاء: «وقيل: هو جَمْع» حَرَجَة «مثل قصبة وقَصَب، والهاءُ فيه للمُبالغَة» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 420 قال شهاب الدين: «ولا أدْري كَيْفَ توهَّم كَوْنَ هذه الهاء الدَّالَّة على الوَحْدَةِ في مُفْرِدَ أسْمَاء الأجْنَاسِ؛ كثمرة وبُرَّة ونَبِقَة للمُبالغة، كِهِي في رَوايةٍ ونَسَّابَة وفرُوقة؟ فصل في الدلالة من الآية تمسَّك أهل السُّنَّةِ بهذه الاية الكَريمة في أن الهِدَاية والضَّلال مِنَ اللَّه - تعالى -؛ لأن لَفْظَهَا يدلُّ على المسألةِ، ويدل على الدَّليل العَقْلِيّ المقتدّم في المسألةِ وهو العِلْمُ والدَّاعِي، وبيانُه أن العَبْد قَادِرٌ على الإيمانِ والكَفْر، وقُدْرَتُه بالنِّسْبَة إلى هَذَيْن الأمْرَيْن على السَّويَّة، فيمتنع صُدُور الإيمان عَنْهُ بدلاً من الكُفْر، أو الكُفْر بدلاً من الإيمانِ، إلاَّ إذا حَصَلَ في القَلْبِ دَاعِيَةٌ إلَيْه، وتلك الدَّاعِيةُ لا مَعْنَآ لها، إلاَّ عِلْمُه أو اعتِقَادُه أو طَنُّه بِكَون ذلك الفِعْلِ مُشْتِمَلاً على مَصْلَحةٍ زائدة، ومَنْفَعَةٍ رَاجَحَة، فإذا حصل هذا المَعْنَى في قِلْبِهِ، دَعَاه ذَلِكَ إلى فِعْل ذلك الشَّيْء، وإن حَصَلَ في القَلْب عِلْمٌ أو اعْتِقَادٌ أوْ ظَنٌّ بكون ذلك الفِعْلِ مُشْتَملاً على مَفْسِدة رَاجِحَةٍ وصُور زَائِدَة، دَعَاه ذَلِك إلى تركه، وثبت أن حُصُولَ هذه الدًّواعِي لا بُدَّ وأن تَكُون من اللَّهِ - تعالى، وإذا ثَبَتَ ذَلِك فنقول: يَسْتحِيلُ أن يَصْدُر إيمانُ عن العبْد إلاَّ إذا خَلَق اللَّهُ في قَلْبِهِ اعْتِقَاد أنَّ الإيمان رَاجِح المَنْقَعَةِ، زائد المَصْلَحَةِ، فحينئذٍ يميل قَلْبُهُ وتَرْغَب نَفْسُه في تَحْصِيله، وهذا هو انْشِرَاحُ الصَّدرِ للإيمان، فإن حَصَلَ في القَلْبِ أنَّه مَفْسدةٌ عَظِيمَةٌ في الدِّين والدُّنْيَا، وأنه يُوجِب المَضَار الكَثِيرَة، فحينئذ يَتَرتَّب على هذا الاعْتِقَاد نَفْرَة عَظِيمةَ عن الإيمان، وهذا هُوَ المُرَادُ من أنَّه - تبارك وتعالى - يَجْعَل صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً. قال المعتزلة: لنا هَهُنَا مَقَامَان: الأوَّل: في بَيَان أنَّهُ لا دلالة لَكُم في هَذِه الآية الكريمة. الثاني: التَّأويل المُطابق لمذْهَبنا. أما المقام الأول: فتَقْرِيرُه من وُجُوه: أحدها: أن هذه الآية الكريمة لَيْسَ فيها أنه - تبارك وتعالى - أضَلَّ قَوْماً أوْ يُضِلُّهم؛ لأنَّه لَيْسَ فِيَهَا إلاَّ أنه [مَتَى أرَاد أن يَهْديَ إنْساناً، فعل به كَيْتَ وكَيْتَ، وإذا أرَادَ إضْلالهُ فعل كَيْتَ كَيْتَ، ولَيْست الآيةُ أنَّه]- تعالى يُريد ذَلِكَ أو لا يُريدُ ذلك، ويدُلُّ عليه قولُه - تبارك وتعالى -: {لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ} [الأنبياء: 17] ، فبين أنه - تبارك وتعالى - كَيْفَ يفْعَل اللَّهْو لو أرَادَهُ، ولا خِلاف أنَّه - تبارك وتعالى - لا يُرِيُد ذلك ولا يَفْعَلُه. وثانيها: أنه - تعالى - لم يَقُل: ومن يُرد أن يُضِلَّه عن الإسلام، بل قال: «ومَنْ يُرِدْ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 421 أنْ يُضِلَّهُ» فلم قُلْتُم: إن المُرَادَ: ومَنْ يُرِد أنْ يُضْلِلْهُ عن الإيمان. وثالثها: أنه - تبارك وتعالى - بيَّن في آخرِ الآية الكريمة، أنه إنَّما يَفْعَلُ هذا الفِعْلَ بهذا الكَافِرَ جَزاءً على كُفْرِه، وأنَّه ليس ذلك على سَبيل الابْتِدَاء، فقال: {كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} . ورابعها: أنّ قوله - تبارك وتعالى -: {وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} يدلُّ على تقدم الضِّيق والحَرَج على حُصُول الضِّلالِ، وأن لِحُصُول ذَلِك المتقدِّم أثَرٌ في حُصُول الضِّلالِ، وذلك بَاطِلٌ بالإجْمَاعِ، أما عِنْدَنا، فلا نَقُول بِهِ وأمَّا عندكم؛ فلأن المقْتَضي لِحُصُول الجَهْلِ والظِّلالِ هو الله - تبارك وتعالى - يَخْلُقُه فيه بِقُدْرَتِهِ. وأما المقام الثاني: فهو تَفْسير الآية الكريمة على ما يُطَابِقُ مَذِهَبَنا، وذلك من وُجُوهٍ: الأول: وهو اخْتِيارُ الجُبَّائي، ونَصَرَهُ القَاضِي أن تَقْدِير الآية الكريمة: فمن يُرِدِ اللَّهُ أن يَهْدِيَه إلى طَريق الجَنَّةِ، يَشْرَح صَدْرَه للإسْلام، حتنى يَثْبُت عَلَيْه ولا يَزُولُ عنه، وتَفْسِيره هذا الشَّرْح: هو أنَّه - تعالى - يَفْعَلُ به الْطَافاً تَدْعُوه إلى البقاءِ على الإيمانِ يَدْعُوه إلى البقاء على الإيمان والثبات عليه، وإليه الإشارةُ بقوله - تبارك وتعالى -: {وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11] وبقوله: {والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} [العنكبوت: 69] ، فإذا آمن العَبْد وأراد ثَبَاتَهُ على الإيمانِ، فحينئذٍ يَشْرَح صَدْرَه، أي: يَفْعَلُ به الألْطَافَ الَّتِي تَقْتَضِ ثَبَاتَهُ على الإيمان ودَاوامَهُ عليه، وأمَّا إذا كَفَر وعَانَد وأراد اللَّه0 تبارك وتعالى - أن يُضِلَّهُ عن طَرِيق الجنَّة، فعند ذلك يُلْقِي في صَدْرِه الضِّيق والحَرَج، ثم سألَ الجُبَّائي نَفْسَه، فقالك كَيْف يصِحُّ ذلك ونَجِد الكُفَّار طيِّبي النُّفُوس، ولا غَمَّ لهم ألْبَتَّة ولا حُزْنَ. وأجاب عنه: بأنَّه - تبارك وتعالى - لم يُخْبِر بأنَّه؛ يَفْعَلُ بِهم ذَلِك في كُلِّ وقْتٍ، فلا يُمْتَنَع كَوْنهم في بَعْضِ الأوْقاتِ طيِّبي القُلُوب، وسأل القَاضِي نفْسَه ذلك الضيِّق في بَعْضِ الأوْقَاتِ. وأجاب عنه: بأنَّه قال: وَكَذَلِكَ نَقوُل ودَفْع ذَلِك لا يُمْكِن خُصُوصاً عند ورُودِ أدلَّة اللَّه - تبارك وتعالى، وعند ظُهُورِ نُصْرَة الله للمُؤمنين، وعِنْد ظُهُور الذِّلَّة والصِّغَار فيهم. التَّأويل الثاني: أن المراد: فَمَنْ يُرد اللَّه أن يَهْدِيه إلى الجَنَّةِ، فَيَشْرَح صَدْره للإسْلام [ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 422 اي: يشرح صَدْرَه للإسْلام] في ذلك الوَقْتِ الَّذِي يَهْدِيه فيه إلى الجَنَّةِ؛ لأنه لما رَأى أنَّ بسبب الإيمان وجد هذه الدَّرجة العَالِيَة، يزدْادُ رغْبَتُه في الإيمان، ويَحْصُل مَزيدُ انْشراح [في صَدْرِهِ] ، ومن يُرِدْ أن يُضِلِّه يَوْم القيامةِ عن طريق الجنَّة، فَقِي ذلك الوَقْتِ يَضِيقُ صَدْرُوه؛ بسبَبِ الحُزْن الَّذِي نَالَهُ عن الحِرْمَانِ من الجَنَّةِ والدُّخُول في النَّار. التأويل الثالث: أن في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، والمعنى: من شَرَح صَدْر نَفْسِهِ بالإيمان، فقد أراد اللَّه أن يَهْدِيَهُ، أي: يَخُصه بالألْطَافِ الدَّاعِيَة إلى الثَّبَات على الإيمان، هذا مَجْمُوع كَلامِهِم. والجواب عن قَوْلِهِم أولاً: أنه لم يَقُل في هَذِه الآية أنه يُضِلُّه، بل قال: إنَّه أو أرَادَ أن يُضلَّهُ، لفعل كذا وكذا، فنَقُولُ، إن قَوْلَهُ في آخر الآية الكريمة: «كذلك يَجْعَلُ اللَّهُ لرِّجْسَ على الَّذِين لا يُؤمِنُون» تَصْرِيحٌ بأنَّه يَفْعَلُ بهم ذلك الضَّلال، لأن حَرْف «الكَافِ» في قوله: «كَذَلِك» يُفِيدُ التَّشْبيه، والتَّقْدِير: وكما جَعَلْنا ذلك الضِّيق والحَرَجِ في صَدْرِه، فكذلك يَجْعَلُ اللَّه الرِّجْس على قُلُوب الَّذِين لا يُؤمِنُون. والجواب عن الثَّانِي: وهو أن قوله: «ومَنْ يُرِدْ أنْ يُضِلًّهُ» لَيْس فيه بِيَانُ أنْ يُضِلَّه عن الدِّين، فَنَقُول: إن قَولَهُ في آخر الآية: {كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} تصريح بأن المراد من قوله: «ومَنْ يُرِدْ أنْ يُضلَّه» هو أن يُضِلَّه عن الدِّين. والجواب عن الثالث: وهو أنَّه - تبارك وتعالى - إنَّما يُلْقِي الضِّيق والحَرَجَ في صَدُورهم جزاء على كُفْرِهِم فنقول: لا نُسْلِّم أن المُراد ذلِك، بل المُرَاد: كذلك يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ على قُلُوبِ الَّذين قضى عليهم بأنهم لا يُؤمِنُون، وإذا جَعَلْنَا الاية على الوَجْهِ، سقط ما ذكَرُوهُ. والجواب عن قولهم: إنَّ ظاهِر الآية الكريمة يَقْتَضِي أن يكُون ضِيقُ الصَّدْرِ وحَرَجْه شيئاً متقدِّماً على الضَّلالِ، أو مُوجباً لَهُ، فنقول: والأمْر كذلك؛ لأنه - تبارك وتعالى - إذا خَلَق في قَلْبِه اعْتِقَاداً بأنَّ الإيمان بمحمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُوجِبُ الذَّم في الدُّنْيَا، والعُقُوبَة في الآخِرَة، فهذا الاعتِقَادُ يوجبُ اعراض النَّفْس عن قُبُول ذلك الإيمانِ، وهذه الحَالَةُ شَبيهَةٌ بالطَّريق الضَّيِّقن لأن الطَّريق إذا كان ضيِّقاً، لم يَقْدِر الدَّاخِل أنْ يَدْخُل فيه فذلك القَلْبُ إذا حَصَل فيه ذلك الاعتِقَاد، امْتَنع دُخُول الإيمان فيهِ فلأجل حُصُول المُشابَه’ من هذا الوَجْهِ، جاز إطلاقُ لَفْظِ الضِّيقِ والحَرَِ عَلَيْه. وأما لاجوابُ عن التَّأويلات الثلاثة فَنَقُول: أما الأوَّل: فإن حَاصِلَ ذلك الكلام يَرْجَعُ إلى تَفْسير الضيق والحَرَجَ، فلمَّا كان المُرَادُ منه حُصُول الغَمِّ والحُزْنِ في قَلْبِ الكَافِر، فذلك يُوجِبُ أن يكُون ما يَحْصُل في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 423 قَلْبِ المُؤمِن زِيَادة يَعْرِفُها كُلُّ أحَدن ومعلوم أن الأمْرَ ليس كَذلك، بل الأمْرُ في حُزْنِ الكَافِر والمؤمن على السَّويَّة، بل كان الحُزْن والبلاء في حقِّ المؤمن أكْثَر، قال - تبارك وتعالى -: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «خُصَّ البلاءُ بالأنْبيَاءِ ثُمَّ بالأمْثَلِ فالأمْثل» . والجوابُ عن الثُّاني: أنه مَدْفُوع؛ لأنه يَرْجِعُ حاصلة إلى إيضاح الواضِحَاتِ؛ لأن كل أحَدٍ يعْلَمُ بالضَّرُورةِ، أن كُلَّ من هَدَاه اللهُ إلى الجَنَّةِ بسبب الإيمانِ يَفْرَحُ بسبِب تِلْكَ الهداية، ويَنْشَرح صَدْرُهُ للإيمان مَزيج انْشِرَاح في ذلك الوقْتِ، وكذلك القَوْلُ في قوله: المُرَادُ: ومن يُضلُّه عن طريق الجنَّةِ بأنه يضيقُّ قَلْبُه في ذلكِ الوقْتِ، فحُصُول هذا المَعْنَى معلُوم بالضَّرُورة، وحمْلُ الآية الكريمة عليه إخْرَاجٌ للآيةِ عن الفَائِدةِ. والجواب عن التَّأويل الثالث: فهو يَقْتَضِي تَفْكِيك نَظْم الآية؛ لأن الآية الكريمة تقْتَضِي أن يَحْصُل انْشِرَاح الصَّدْر من قِبَل اللَّه - تبارك وتعالى - أولاً، ثم يَتَرتَّب عليه حُصُول الهداية والإيمان، وأنتم عَكَسْتُم القَضِيَّة، فقلتم: العَبْدُ يجعل نفسه أولاً مُنْشَرح الصَّدْر، ثم إن الله - تبارك وتعالى - أوَّلاً بعد ذلك يَهْدِيه، بمعنى أنه يَخُصُّه يمزيد الألْطَاف الدَّاعية لَهُ إلى الثُّبَاتِ على الإيمان، والدَّلائل اللّفْظِية، إنما يمكِنُ التَّمَسُّك [بِهَا إذَا أبْقَيْنَا ما فيها من التركِيبَات والترتيبَات، فأمَّا إذا أبْطَلْنَاهَا وأزَلْنَاهَا، لم يمكن التَّمَسُّك] بشيء مِنْهَ أصْلاً، وفَتْحُ هذا الباب يُوجِبُ ألاَّ يُمْكِن التَّمَسُّك بشَيءٍ من الآيَات، ولكن طَعْن في القُرآنِ العَظِيم، وإخْراجٌ له عن كَوْنِهِ حُجَّةً. قوله: «كَانَّمًا» «مَا» هذه مُهَيِّئَة لِدُخُول كأنَّ على الجمل الفعلية؛ كَهِي في {وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ} [آل عمران: 185] . قوله: «يَصَّعَّدُ» وقرأ ابن كثير: «يَصْعَدُ ساكن الصَّادِ، مخَفِّق العَيْن، مضارع» صَعِيد «أي: ارتفع، وأبُو بكْر عن عاصم:» يصَّاعَدُ «بتشديد الصَّاد بعدها ألِفٌ، وأصْلُها يتصاعَدُ، أي:» يتعَاطى الصُّعُود وَتَكَلَّفه «فأدْغم التَّاءً في الصَّادِ تَخْفيفاً، والباقون:» يَصَّعَّد «بتَشْديد الصَّاد والعَيْن دون ألِفٍ بَْنَهُما، ومِنْ» يصَّعَّندط أيكي يَفْعَل الصُّعُود ويُكَلَّفه، والأصْل: «يَتَصَعَّد» فأدغم كما في قِراءَة شُعْبَة وهذه الجُمْلَة التشبيهيَّة يحتمل أن يتكُونَ مُسْتَانفة، شبَّه فيها حَالَ مَنْ جَعَل اللَّهُ صدْرهُ ضيِّقاً حَرَجاً، بأنه يِمَنْزِلَة من يَطْلُب الصُّعُود إلى السَّماء المظللة أو إلى مكان مرتفع [وعْرٍ] كالعَقَبَةِ الكَؤود. والمعنى: أنه يَسْبِقُ عليه الإيمانُ كما يَسْبقُ عليه صُعُود السَّماء، وجوَّزوا فيها وَجْهَيْن آخرين: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 424 أحدهما: أن يكون مَفْعُولاً آخر تعدَّد كما تعدَّد ما قَبْلَها. والثاني: ان يكُون حالاً وفي صاحبها احتمالان: أحدهما: هو الضَّمِيرُ المسْتَكِنُّ في «ضَيِّقاً» . والثاني: هو الضَّمِير في «حَرَجاً» ، و «في السَّماءِ» متعلِّقٌ بما قَبْلَه. قوله: «كَذَلِكَ يَجْعَلُ» هو كنظائهر وقدَّره الزَّجَّاج: «مثل ما قَصَصْنَا علَلَيْك يَجْعَل» أي: فيكون مُبْتَدأ وخبراً، أو نَعْت مَصْدر مَحْذُوف، فلَكَ أن تَرْفَعَ «مِثْل» وأن تَنْصِبَها بالاعْتِبَاريْن عِنده، والأحسن أن يُقَدَّر لها مَصْدَر مُنَاسِبٌ كما قدره النَّاسُ، وهو مِثْل ذلك الجَعْل - أي: جَعْلِ الصَّدر ضَيِّقاً حَرَجاً - «يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ» كذا قدَّره مكي وغيره، و «يَجْعَل» يحتمل أن تكُونَ بمعْنَى «ألْقَى» وهو الظَّاهِرُ، فتتعدَّى لواحدس بنَفْسها وللآخر بحَرْف الجرَّ، ولذلك تعدَّتْ هُنَا ب «عَلَى» والمَعْنَى: «كذلِكَ يُلْقي الله العذابَ على الَّذِين لا يُؤمِنُون» . ويجوز ان تكُون بمعْنَى صَيَّر أي: «يُصيِّره مُسْتعْلياً عليهم مُحِيطاً بِهِم» ، والتَّقْدير الصِّناعي: مستَقِرّاً عليهم. فصل في بيان معنى الرجس قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الرِّجْسُ هو الشَّيْطَان. وقال الكَلْبِي: هو المأثم. وقال مُجَاهِد: الرِّجْس: ما لا خَيْرَ فيه. وقال عطاء: الرِّجْس العذاب مثل الرِّجْزِ. وقيل هو النَّجِس؛ رُوِي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان إذَا دخل الخلاء قال: «اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْس والنِّجِس» . وقال الزَّجَّاد: الرِّجْس: اللَّعْنَة في الدُّنْيَا، والعذاب في الآخرَة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 425 «هذا» إشارةٌ إلى ما تقدَّم تَقْرِيرُهن وهو أن الفِعْل يتوقَّقُ على الدَّاعِي، وحُصُول تلك الدَّاعية من اللَّهِ - تبارك وتعالى - فوجَبَ كون الفِعْل من اللِِّ - تعالى -، وذك يوجب التَّوْحِيد المَحْضَن وسماه صِرَاطاً؛ لأن العِلْمَ به يؤدِّ إلى العِلْمِ بالتَّوحيد الحق. وقيل: «هذا إشارَةٌ إلى الَّذِي أنْتَ عليه يا مُحَمَّد طريق ربِّك ودينه الذي ارتَضَى لنَفْسِهِن مسْتقِيماً لا عَوِجَ فيه وهُو الإسْلامُ. وقال ابن مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - و» هذا «إشَارةٌ إلى القُرآن الكريم. قوله - تعالى -:» مُسْتَقِيماً «حال من» صِرَاط «والعَامِل فيه أحَد شَيْئَيْن: إمَّا» هَا «لما فيها من مَعْنَى التَّنْبيه، وإمَّا» ذَا «لما فِيهِ من مَعْنَى الإشارةِ، وهي حظَال مؤكدَةٌ لا مُبَيَّنة؛ لأن صرَاط اللَّه لا يكُون إلاَّ كذلِك. قال الواحدي: انْتَصَب» مُسْتَقِيماً «عال الحَالِ، والعَامِل فيه مَعْنَى هذا، وذلك أن» ذَا «يَتَضَمَّن مَعْنَى الإشارة؛ كقولك: هذا زَيْدٌ قَائِماً، مَعْنَاه: أشِيرُ إليه في حَالِ قِيَامِه، وإذا كان العَامِلُ في الحَالِ مَعْنَآ الفِعْل لا الفِعْل، لم يَجُزْ تقديمُ الحالِ عليه، لا يَجُوز:» قَائِماً هذا زَيْد «و [يجوز] ضَاحِكَاً جَاءَ زَيْدٌ. ثم قال تبارك وتعالى: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيات} أي: ذكرناها فَصْلاً فَصْلاً، بحيث لا يَخْتَلِطُ وَاحِدٌ منها بالآخَرِ إلاَّ لِمُرَجِّح، فكأنَّه - تبارك وتعالى - يَقُول للمْعَتزِليّ: أيها المعتَزِلِيّ، تذكِّر ما تقرَّر في عَقْلِك أن الممْكِني؛ لا يتَرجَّحُ أحَدُ طَرَفَيْه على الآخَرِة إلاَّ لمرجِّحِ، حتَّى تزولَ الشُّبْهَة عن قَلْبِك بالكُلِّية في مَسْألة القَضَاء والقَدَرِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 قوله - تعالى - {لَهُمْ دَارُ السلام عِندَ رَبِّهِمْ} يحتمل أن تكُون هذه الجُمْلَة مُسْتَأنفة، فلا مَحَلَّ لها؛ كأن سَائِلاً سَأل عمّا أعدَّ اللَّه لهمن فَقِيل له ذلِك، ويُحْتَمَل أن يَكُون حالاً من فَاعِل «يذِّكرُون» ، ويُحْتَمل أن يَكُون وَصْفاً لِقَوْم، وعلى هَذَيْن الوَجْهَيْن فَيَجُوز أن تكُون الحَالُ أوالوصْفُ الجَارُّ والمجْرُور فَقَط، ويَرْتَفِعث «دَار السَّلام» بالفَاعِليَّة، وهذا عِنْدَهُم أوْلى؛ لأنه أقْرَبُ إلى المُفْرَد من الجُمْلَة، والأصْل في الوَصْفِ والحَالِ والخَبَر الإفْرَاد، فما قَرُبَ إليه فهو أوْلَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 426 و «عِنْد ربِّهِمْ» حال من «دارُ» ويجُوز أن يَنْتَصِب «عِنْدَ» بنَفْس «السَّلام» ؛ لأنه مَصْدَرٌ، أي: يُسَلَّم عليهم عِنْدَ ربِّهِم، أي: في جَنَّتهِ، ويجُوز أن يَنْتَصِب بالاسْتِقْرَار في «لَهُمْ» . وقوله: «وهُوَ وَليُّهم» يحتمل أيضاً الاسْتِئْنَاف، وأن يكون حالاً، أي: لهُمْ دارُ السلام، والحال أن اللَّه وَلِيُّهم ونَاصِرُهم. «وبما كانوا» الباء سَبَبِيَّة، و «مَا» بمعْنَى الِّذِي، أو نَكِرة أو مَصدريَّة. فصل في معنى السلام قيل: السَّلام اسم من أسْمَاء الله - تعالى - والمعنى: دار الله كما قِيلَ: الكَعْبَة بَيْتُ اللَّهِ، والخِلِيفَةُ عبدُ اللَّهِ. وقيل: السَّلام صفة الدَّار بمعْنَى: دَارِ السَّلامةِ، والعرب تُلْحِقُ هذه الهَاءَ في كثير من المَصَادِر وتحذفُها، يقولون: ضَلالَ وضَلاَلة، وسَفَاة وسَفَاهَة، ورَضَاع ورَضَاعة، ولَذاذ ولَذَاذَة. وقيل: السَّلام جمع السَّلامةِ، وإنَّما سُمّيت الجَنَّة بهذا الاسْمِ؛ لأن أنواع السَّلامة بأسْرِها حَاصِلَة فِيهَان وفي المُرَاد بهذه العِنْدِيَّة وجوه: أحدها: أنَّها مُعَدَّة عنده كما تَكُون الحُقُوقُ مُعَدَّة مهيأة حَاضِرَة؛ كقوله: {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [البينة: 8] . ثانيها: ان هذه العِنْديَّة تُشْعِر بأن هذا الأمْر المؤخَّر موصُوف بالقُربِ من اللَّهِ - تبارك وتعالى - وهذا لَيْس قُرْبٌ بالمكانِ والجهة، فوجب كَوْنُه بالشَّرْفِ والرُّتْبَة، وذلك يَدُلُّ على أن ذَلِك الشَّيْء بَلَغ في الكمالِ والرِّفْعَة إلى حَيْثُ لا يُعْرَفُ كنْهُهُ، إلاَّ أنه كقوله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] . وثالثها: هي كقوله في صفة الملائكة: {وَمَنْ عِنْدَهُ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} [الأنبياء: 19] ، وقوله: «أنَا عِنْد المنْكَسِرَة قُلُوبُهُم» ، و «أنا عِنْد ظَنِّ عَبْدِي بِي» ، وقال - تعالى -: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ} [القمر: 55] وقال: {جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ} [البينة: 8] وكل ذلك يَدُلُّ على أنَّ حُصُول كمال صِفَة العِنْديَّة بواسِطَة صِفَة العُبُوديَّة. وقوله: «وهُوَ وَلِيُّهُم» يدل على قُرْبِهم من اللَّه؛ لأن الوليَّ معناه القَريبُ، لا وَلِيّ لهم إلاَّ هُو، ثم قالك «بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ» ؛ وإنما ذكر ذلِك لِئَلاً يَنْقَطِع العَبْدُ عن العَمَلِ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 427 لما بين حال من يتمسَّكُ بالصِّراط المسْتَقِيم، بيَّن بعده حال من يكُونُ بالضِّدِّ من ذلك؛ ليكون قِصَّة أهْل الجنَّة مُرْدَفَة بقِصَّة أهْل النَّارِ، وليَكُون الوَعِيدُ مذْكُوراً بعد الوَعْدِ. قوله: «وَيَوْمَ يَحْشُرُهُم» يَجُوز أن يَنْتَصيب بفِعْل مقَدَّر، فقدَّره أبو البقاءِ تارة ب «اذْكُرْ» وتارة بالقَوْلِ المَحْذُوف العَامِل في جُمْلَة النِّداءِ من قوله: «يَا مَعْشَر» أي: ويقُول: «يا مَعْشَر يَوْمَ نَحْشُرُهُم» ، وقدَّره الزَّمَخْشَرِي: «ويَوْمَ يَحْشُرُهم وقلنا يا معشر كان ما لا يُوصَفُ لفظَاعتِهِ» . قال أبُو حيَّان: «وما قُلْنَاه أوْلَى» يعني: من كَوْنِهِ مَنْصُوباً ب «يَقُولُ» المحكي به جُمْلَة النِّداء، قال: «لاسْتِلْزَامِه حذف جُمْلَتَيْن: إحْداهما جُمْلَة» وقُلْنَا «، والاخْرى العَامِلة في الظَّرْف» وقدَّره الزَّجَّاج بفِعْل قَول مبْنِي للمفْعُول: «يقال لَهُم: يا مَعْشَر يَوْم نَحْشرهُم» وهو مَعْنًى حَسَن؛ كأن نَظَر إلى مَعْنَى قوله: «ولا يُكَلِّمُهُم ولا يُزَكِّيهم» فبَنَاه للمفْعُول، ويجوز أن يَنْتَصب «يَوْمَ» بقوله: «وَلِيُّهُم» لما فِيهِ من مَعْنَى الفِعْل، أي: «وهُوَ يتولاَّهُم بما كَانُوا يَعْمَلُون، وويتولاَّهُم يوم يَحْشُرُهُم» ، و «جَمِيعاً» حَالٌ أو تَوْكِيدٌ على قَوْل بَعْض النَّحْويِّين. وقرأ حفص: «يَحْشُرُهُم» بياء الغَيْبَة رداً على قوله: «ربهم» أي: «ويوم يَحْشرُهُم ربُّهُم» والضِّمِيرُ في «يَحْشُرُهُم» يعود إلى الجنِّ والإنْسِ بجمعهم في يَوءم القِيامَةِ. وقيل: يعود إلى الشَّياطين الَّذِين تقدم ذِكْرُهم في قوله: «وكَذَلِك جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيِّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ» . قوله: «يا مَعْشَر» في مَحَلِّ نصْبٍ بذلك القَوْل المضْمَر، أي: «نقول أو قُلْنَا» ، وعلى تَقْدير الزَّجَّاج يكون في مَحَلِّ رفعٍ؛ لقيامه مقامَ الفَاعِل المَنُوب عَنْهُ، والمعشر: الجَمَاعةَ؛ قال القائل: [الوافر] 2311 - وأبْغَضُ مَنْ وَضَعْتُ إليَّ فِيهِ ... لِسَانِي مَعْشَرٌ عَنْهُم أذُودُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 428 والجمع: مَعَاشِر؛ كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «نَحْنُ مَعَاشِر الأنْبيَاء لا نُوَرِّث» قال الأودي: [البسيط] 2312 - فِينَا مَعَاشِرُ لَنْ يَبْنُوا لِقَومِهِمُ ... وإنْ بَنَى قَوْمُهُم مَا أفْسَدُوا عَادُوا قوله تعالى: «مِنَ الإنْس» في محلِّ نصبٍ على الحالِ، أي: أوْلِيَاءَهُم كانوا إنْساً وجِناً، والتقدير: أوْلِيَاؤهم الذين هم الإنْسُ، و «ربِّنا» حُذِفَ منه حَرْف النِّداء. وقوله: «قال أوْلِيَاؤهُم مِنَ الإنْس» يعني: أوْلياء الشَّياطين الَّذِين أطاعُوهُم من الإنْسِ، «ربَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْض» والمَعْنَى: استَكْثَرْتُم من الإنْسِ بالإضلالِ والإغْواء، أي: أضْلَلْتُم كَثِيراً. وقال الكَلْبِيّ: استِمْتَاع الإنْس بالجنِّ هو الرَّجُل كان إذا سَافر وتُرِكَ بأرض قَفْر، وخاف على نَفْسِهِ من الجِنِّ، قال: أعوذ بسَيِّد هذا الوَادِي من سُفَهاء قَوْمه، فيبيتُ آمناً في جوارهم، وأما استِمْتَاعُ الجنِّ بالإنْسِ، فهو أنَّهُم قالُوا: قد سَعْدْنَا الإنس مع الجِنِّ، حتى عاذوا بِنَا فَيَزْدَادوا شَرَفاً في قَوْمِهِم وعظماً في أنْفُسِهِم، كقوله - تبارك وتعالى -: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادوهُمْ رَهَقاً} [الجن: 6] . وقيل: استِمْتَاعُ الإنْس بالجِنِّ ما كَانُوا يلْقثون غلأهيم من الأرَاجِيفِ، والسِّحْرِ والكَهَانَةِ، وتزيينهم لهم الأمور التي يَهْوُونَها، وتَسْهيل سَبيلِها عليهم، واستِمْتَاع الجن بالإنْس طاعة الإنْسِ لهم فيما يُزيِّنُون لَهُمْ من الضَّلالة والمَعَاصِي. وقال محمد بن كَعْبٍ القُرَظيك هو طاعةُ بعضِهِمْ بَعْضاً، وقيل: قوله: «ربِّنَا اسْتَمْتَع بَعْضُنَا بِبَعْض» كلام الإنْس خَاصَّة. قوله: {وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا} قرأ الجمهور: «أجَلَنا» بالإفْرَاد؛ لقوله: «الَّذِيط وقُرِئ:» آجَالَنا «بالجَمْع على أفْعَال» الَّذِي «بالإفْرَاد والتَّذْكير وهو نَعْتُ للجَمْعِ. فقال ابو عَلِيّ: هو جنْس أوقع» الَّذِي «مَوْقِع» الَّتِي «. قال أبو حيَّان: وإعْرابه عِنْدِي بدل؛ كأنه قيل:» الوَقْتُ الَّذِي «وحينئذٍ يكون جِنْساً ولا يَكُون إعْرَابُه نَعْتاً؛ لعدم المُطابَقَة بينَهُمَا، وفيه نَظَر؛ لأن المُطَابقة تُشْتَرطُ في البَدَلِ أيْضاً، وكذلك نصُّ النُّحَاة على قَوْل النَّابِغة: [الطويل] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 429 2313 - تَوَهَّمْتُ آيَاتٍ لَهَأ فَعَرَفْتُهُا ... لِسِتًّةٍ أعْوَام وَذَا العَامُ سابعُ رَمَادٌ كَكُحْلِ العَيْنِ لأياً أبِينُهُ ... وَنُوي كجذْم الحَوْضِ أثْلَمُ خَاشِعُ أي: رماد ونَوَى مَقْطُوعان على» هما رمادٌ ونوى «لا بدل من آياتٍ لِعَدم المُطابَقَة، ولِذلكِ لم يُرْوَيَا إلاَّ مرْفُوعَيْن لا مَنْصُوبَيْن. فصل في المراد بالآية معنى الآية: أن ذلك الاستمتاع كان إلى أجَلٍ معيَّن ووقْتٍ مَحْدودٍ، ثمَّ جَاءَت الخَيْبَة والحَسْرَة والنَّدامَة من حَيْيُ لا دَفعن واخْتَلَفُوا في ذَلِك الأجَلِ. فقيل: هو وقْتُ الموْتِ. وقيل: هو وَقْتُ البَعْثِ والقِيامة، والَّذين قَالُوا بالقَوْل الأوَّل قالوا: إنه بَدَلٌ على أن كُلِّ من مَاتَ من مَقْتُول وغَيْرِه، فإن يَمُوتُ بأجَلِهِ؛ لأنهم أقَرُّوا بأنَّا بلغْنَا أجَلَنا الَّذِي أجَّلْت لنان وفيهم المَقْتُول وغير المَفْتُول، ثم قال - تعالى -:» النَّارُ مَثْوَاكُم «أي: المَقَام والمَقرّ والمَصِير. قوله:» خَالِدينَ فِيَهَا «مَنْصُوبُ على الحالِ، وهي حالٌم مُقَدَّرة، وفي العامل فيها ثلاثة أوْجُه: أحدها: أنه مَثْواكم» لأنه هُنَا مَصْدرٍ لا اسم مكان، والمعنى: النَّارُ ذات تُوائِكُم، أي: «النَّار مَكَان ثُوَائِكُم» أي: إقامتكُم. قال الفَارسِيُّ: «المَثْوى عِنْدي في الآية: اسْمٌ للمصْدرِ دون المكان؛ لحُصُول الحالِ مُعْمَلاً فِيهَا واسْمُ المكانِ لا يَعْمَل علم الفِعْلِ؛ لأنه لا مَعْنَى للفِعْل فيه، وإذا لم يَكُون مَكَاناً، ثبت أنَّه مَصْدر، والمَعْنَى:» النَّار ذاتِ إقامَتِكُم فيها خَفْضاً بالإضَافة؛ ومثله قول الشاعر: [الطويل] 2314 - ومَا هي إلاَّ في إزَارِ وعِلْقَةٍ ... مَغَارَ ابْنِ هَمَّام عَلَى حَيِّ خَثْعَمَا وهذا يدلُّ على حَذْفِ المُضافِ، المعنى: «ومَا هِي إلا إزَارٌ وعِلْقَةٌ وقت إغَارَة ابن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 430 همَّام» ، ولذلك عدَّاه ب «عَلَى» ولو كان مَكَاناً، لما عدَّاه؛ فثَبَت أنَّهُ اسْمُ مصدر لا مَكَان، فهو كقولك: «آتِيكَ خُفُوقَ النَّجْم ومَقْدِم الحَاجِّ» ، ثم قال «وإنَّما حَسُن ذَلِك في المَصَادِر لمُطَابقتِهَا الزَّمان، ألا ترى أنَّه مُنْقض غير باقٍ كما أنَّ الزِّمان كَذَلِك» . والثاني: أن العَامِل فيها فِعْلٌ مَحْذُوف، أي: يَثُوُون فيها خَالِدِين، ويَدُلُّ على هذا الفِعْلِ المقدَّرِ «مَثْوَاكُمْ» ويراد ب «مَثْوَاكُمْ» مكان التَّواءِ، وهذا جوابٌ عن قول الفَارِسيَ المعْتَرِض به على الزَّجَّاج. الثالث: قاله ابو البقاء: أنَّ العَامِل معنى الإضافة، ومعنى الإضافةِ لا يَصْلُح ان يكون عَامِلاً ألْبَتَّة، فليس بِشَيْءٍ. قوله: «إلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ» اختلفُوا في المسْتَثْنَى منه: فقال: الجُمْهُور: هو الجُمْلَة التي تَلِيها، وهي قوله: {النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدين فِيَهاَ} وسأتي بيانه عن قُرْب. وقال أبو مُسْلِم: «هو مستَثْنَى من قوله:» وبَلَغْنا أجَلَنَا الَّذِي أجَّلْتَ لَنَا «أي: إلا مَنْ أهْلَكْتَهُ واخْتَرَمْتَه قبل الأجَلِ الذي سَمَّيْتَه لِكُفْره وضلاله» . وقد ردَّ النَّاس عليه هذا المَذْهَب من حَيْثُ الصِّناعة، من حَيْثُ المَعْنى. أمَّا الصِّناعة فَمِنْ وَجْهَين: أحدهما: أنَّه لو كان الأمْرُ كذلك، لكان التَّرْكيبُ «إلاَّ ما شِئْتَ» ليُطابق قوله: «أجَّلْتَ» . والثاني: أنه قَدْ فصل بين المُسَتثْنَى منه بقوله: «قَالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدينَ فيها» ومثل ذلك لا يَجُوزُ. وأما المَعْنَى: فلأن القَوْل بالأجَلَيْن: أجل الاخْتِرام، والأجَل المسَمَّى باطل؛ لدلائل مقرَّرَة في غَيْر هذا الموضع. ثم اختلفوا في هذا الاسْتِثْنَاء: هل هو مُتَّصِلٌ أو مُنْقَطِعٌ؟ على قولين: والمعنى: «قال النَّار مَثْواكُم إلاَّ مَنْ مِنْكُمْ في الدُّنْيَا» كقوله: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] أي: لكن الموْتَة الأولى، فإنهم قَدْ ذَاقُوهَا في الدنيا كذلك هذا؛ لكن الِّذِين شَاءَهُم الله أن يُؤمِنُوا مِنْكظُم في الدُّنيا، وفيه بُعْدٌ، وذهب آخرُون إلى أنَّه مُتَّصِلٌ، ثم اخْتَلَفُوا في المسْتَثْنَى منه مَا هُو؟ فقالك قوم: هو ضمير المخَاطَبين في قوله: «مَثْوَاكُمْ» أي: إلا من آمن في الدُّنْيَا بعد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 431 أن كان من هؤلاء الكفرة، علله ابن عبَّاسٍ، و «ما» هُنَا بمعنى «مَنْ» التي لِلْعُقلاءِ، وساغ وُقُوعها هُنَا؛ لأن المراد بالمسْتَثْنَى نوع وصنف، و «ما» تقع على أنْواعِ من يَعْقِلُ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في قوله: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] . ولكن قد اسْتُبِعد هذا؛ من حيث إن المسْتَثْنَى مخالِفٌ للمسْتَثْنَى مِنْه في زمان الحُكْم علهيما، ولا بُدَّ أن يَشْترِكَا في الزَّمَانِ، لو قالت: «قاَمَ القَوْمُ إلاَّ زَيْداً» ، وكان مَعْنَاه [إلا زَيْداً فإنه لم يَقُمْ، ولا يَصِحُّ أن يكون المَعْنَى: فإنه سيَقُومُ في المسْتَقْبل، ولا يَصِحُّ أن يكون المعنى: فإني ضَرَبْتُه فيما مَضَى اللَّهُم إلا أنْ يُجْعَلَ استثْنَاء منْقَطِعاً كما تقدَّم تَفْسيره. وذهب قَوْمٌ: إلى أن المسْتَثْنَى منه زمان، ثم اخْتلف القَائِلُون بذلك: فمنهم من قال ذلك الزَّمان هو مُدَّة إقامتهم في البَرْزَخِ، أي: «القُبُور» . وقيل: «هو المُدَّة التي بَيْن حَشْرِهم إلى دُخُولِهِم النَّار» . وها قول الطَّبري قال: «وساغَ ذلك من حَيْثُ إنّ العِبَارة بقوله:» النَّارُ مَثْواكُم «لا يخصُّ بها مسْتَقْبَل الزَّمَان دون غيره» . وقال الزجاج: «هو مَجْمُوع الزمَانَينِ، أي: مدَّة إقامتهم في القُبُور، ومُدَّة حَشرِهم إلى دخُولهم النَّارِ» . وقال الزمخشري: «إلا ما شاء الله، أي: يُخَلِّدون في عَذَاب النَّارِ الأبد كُلّه إلا ما شاء الله إلا الأوْقَات الَّتِي يُنْقَلُون فيها من عذاب النَّارِ إلى عذاب الزَّمْهِرير؛ فقد رُويَ: أنهم يَدْخُلون وادياً فيه من الزَّمْهَرير ما يَقْطَعُ أوْصَالَهُم، فيتعاوَوْن ويطْلُبُون الرَّدَّ إلى الجَحِيم» . وقال قوم «» إلا ما شاء اللَّه «هم العُصَاةُ الِّذِين يدخُلُون النَّار من أهل التَّوحيد، ووقعت» مَا «عليهم؛ لأنَّهم نوع كأنه قيل: إلا النَّوع الذي دَخَلَها من العُصَاة، فإنهم لا يُخَلِّدون فيها، والظاهر أن هذا استِثْنَاء حَقِيقَة؛ بل يجب أن يَكُون كذلِك. وزعم الزَّمَخْشَريّ: أنه يكون من بابِ قَوْل المْوتُور الذي ظَفَر بواتِرِه، ولم يَزَلْ يُحَرِّقِ عليه أنْيَابَه، وقد طلب أن يُنَفِّسَ عن خِنَاقهِ:» أهْلَكَنِي الَّه إن نَفَّسْتُ عَنْكَ إلا إذا شِئْت «وقد عَلِم أنه لا يَشَاءُ ذلك التَّشَفِّي منه بأقْصَى ما يَقْدِر عليه من التَّشْديد والتَّعْنِيفِ، فكيون قوله:» إلاَّ إذا شِئْت «من أشد الوعيد مع تهَكُم. قال شهاب الدين: ولا حاجة إلى ادِّعَاء ذلك مع ظُهُور مَعْنَى الاسْتِثْنَاء فيه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 432 وارتكاب المجازِ وإبْرازِ ما لم يَقَعُ في صُورةِ الواقِعِ. وقال الحسن البَصْرِيُّ:» إلا ما شَاء اللَّه؛ أي: من كَونهم في الدُّنْيَا بغير عذابٍ « فجعل المسْتَثْنى زمن حَيَاتهم، وهو أبْعد ممَّا تقدَّم. وقال الفرَّاء - وإليه نحا الزَّمخْشَري -:» والمعنى: إلا ما شَاءَ اللَّه من زيادة في العذابِ «. وقال غيره: إلا ما شاء اللَّهُ من النِّكار، وكُلُّ هذا إنَّما يتمَشَّى على الاستِثْنَاء المنقَطِع. قال أبو حيَّان:» وهذا رَاجِعٌ إلى الاسْتِثْنَاء من المصْدر الذي يَدُلُّ عليه مَعْنَى الكلام؛ إذ المْعْنَى: يُعَذَّبون في النَّارِ خَالِدين فهيا إلا ما شَاء اللَّهُ من العذاب الزَّائد على النَّارِ، فإن يُعَذِّبهم، ويكُون إذ ذاك استِثْنَا منقطعاً، إذ العذابُ الزَّائد على عذابِ النَّارِ لم ينْدَرج تَحْتَ عذاب النَّار «. وقال ابن عطيَّة: «ويتَّجه عندي في هذا الاستِثْنَاء أن يكون مُخَاطَبَة للنَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمته، ولَيْس مما يُقالُ يوم القيامة، والمستثنى هو من كان من الكفرة يومئذ يؤمن في علم اللَّهِ؛ كأنه لما أخْبَرَهُم أنه يُقَال للكُفَّرا:» النَّارُ مَثْوَاكُم «استثنى لهم من يُمْكِن أن يُؤمِين ممَّن يَرَوْنَهُ يومئذ كافراً، وتقع» مَا «على صِفَة من يَعْقل، ويؤيِّ هذا التَّأويل أيضاً قوله:» إنَّ ربِّك حَكِيمٌ عَلِيمٌ «أي: بمن يُمْكِنُ أن يُؤمِنَ منهم» . قال أبو حيان: «وهو تَأويلٌ حسن، وكان قد قال قبل ذلك:» والظَّاهر أن هذا الاسْتِثْنَاء هو من كلام اللَّه - تعالى - للمخَاطَبين، وعليه جَاءَت تفاسير الاستِثْنَاء «وقال ابن عطيَّة ثم ساقه إلى أخِرِه، فكيف يسْتَحْسِنُ شيئاً حُكِم عليه بأنَّه خلاف الظَّاهِر من غير قَرِينَةٍ قويَّة مُخْرِجة للَّفْظِ عن ظَاهِرِه؟ قوله: {إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ} أي: فيما يَفْعَلهُ من ثواب وعقاب وسائر وُجُوه المجازِ، أو كأنَّه، يقول: إنما حَكَمْتُ لهؤلاء الكُفَّارِ بعذاب الأبَدِ، لعلمي أنَّهُم يستَحِقُّونَ ذلك. وقيل:» عليم «بالَّذي استَثْنَاهُ وبِمَا في قُلُوبهم من البرِّ والتَّقْوَى. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 قوله: «وكَذَلِك نُوَلِّي» أي: كما خَذَلْنَا عُصَاة الإنْس والجِنِّ حتى اسْتَمْتَع بعضُهم ببَعْصٍ، كذلك نَكِلُ بَعْضَهُم إلى بَعْض في النُّصْرة والمعُونة وقيل: نُسَلِّط بَعْضُهم على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 433 بَعْضِ، فَيَاخذ من الظَّالم بالظَّالم؛ كما جاء «من أعَان ظالماً، سَلَّطه اللَّهُ عليه» . قال قتادة: نجعل بَعْضَهُم اولياء لِبَعْضٍ، فالمؤمِنُ ولي المؤمن أين كان، والكَافِرُ ولِيُّ الكافِر حَيْثُ كان. وروى مَعْمَر عن قتادة: يتبع بَعْضُهم بَعْضاً في النَّارِ من المْولاة. وقيل: مَعْنَاه: نُولي طلمَة الجِنِّ ظلمة الإنْس، ونُولي ظلَمَة الإنْس ظلممَة الجِنِّ، أيك نَكِل بَعْضَهم إلى بَعْضِ؛ كقوله - تبارك وتعالى -: {نُوَلِّهِ مَا تولى} [النساء: 115] فهي نَعْتٌ لمَصْدَر مَحْذُوف، أو في محلِّ رَفْعٍ، أي: الأمَرُ مثل تَوْلِيَة الظالمين، وهو رَايُ الزَّجَّاج في غَيْر مَوْضِع. وروى الكَلْبِيُّ عن أبي صالح في تفْسيرها: هو أنَّ الله - تبارك وتعالى - إذا أرادَ بقوم خَيْراً ولِّي أمرهم خِيَارَهُم، وإذا أرَادَ بِقَوْم شَرّاً وَلِّي أمْرَهم شرارهُم. وروى مَالِك بن دينارٍ قال جَاءَ في [بَعْضِ] كتب الله المنَّزلة أنَّا الله مَالِك المُلُوك، قُلُوب المُلُوكِ بِيَدي، فمن أطاعَنِي، جَعَلْتُهُم عليه رَحْمَة، ومن عَصَانِي جَعَلْتُم عليه نِقْمَة، لا تَشْغَلُوا أنْفُسَكُم بسبب المُلُوكِ، لكن تُوبُوا إليّ أعَطِّفُهم عليكم. وقوله: بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ «تقدَّم نظيره. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 هذه الآية من بَقِيَّة توبيخ الكُفَّارِ يوم القيامة. قال أهل اللُّغة: المَعْشَر كُل جماعةِ أمْرُهُم واحد، ويَحصُل بنيهم مُعَاشَرة ومُخالطة، والجَمْع: مَعَاشر. قوله: «مِنْكُم» في محلِّ رفعٍ صلة لرسُل، فيتعلَّق بمحْذُوفٍ، وقوله: «يَقُصُّونَ» يحتمل أن يكون صِفَة ثَانِيةَ، وجاءت كذا مَجِيئاً حَسَناً، حيث تَقدَّم ما هو قَرِيبٌ من المُفْرَد على الجُمْلَة، ويحْتَمل أن يكُون في مَحَلِّ نصب على الحالِ، وفي صَاحِبها وجهان: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 434 أحدهما: هو رُسُل وجَازَ ذَلِك وإن كان نَكِرَة؛ لتخَصُّصِه بالوَصْفِ. والثاني: أنه الضَّمير المسْتَتِر في «مِنْكُم» وقوله: «رُسُلٌ مِنْكم» زعم الفرَّاء: أن في هذه الآيَةِ حَذْف مُضَافٍ، أي: «ألم يَأتِكُم رُسُلٌ من أحَدِكم، يعني: من جِنْس الإنْس» قال: كقوله - تعالى -: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] ، وإنما يَخْرُجَان من المِلْح {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً} [نوح: 16] وإنما هو في بَعْضِها، فالتَّقدير: يَخْرُجُ من أحدهما، وجعل القمر في إحْدَاهُنَّ فحذف للعِلْم به، وإنما احْتَاج الفرَّاء إلى ذلك؛ لأن الرُّسُل عنده مُخْتَصَّة بالإنْسِ، يعني: أنه لم يعْتَقِد أنَّ اللَّه أرْسَل للجِنِّ رَسَولاً مِنْهُم، بل إنما أرْسَل إليهم الإنْس، كما يُرْوَى في التَّفْسيرن وعلي قَامَ الإجْمَاع أن النَّبِي محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مرسلٌ للإنْسِ والجِنِّ، وهذا هو الحَقُّ، أعني: أن الجِنِّ، وهذا هو الحَقُّ، أعني: ان الجِنَّ لم يُرْسَل منهم إلا بواسطةِ رِسالَة الإنْس؛ كما جاء في الحَدِيث مع الجِنِّ الذين لمَّا سَمِعُوا القُرآن ولَّوءا إلى قََوْمِهِم مُنْذِرين، ولكن لا يَحْتَاجُ إلى تَقْدير مُضَافٍ، وإن قلنا: إن رُسُل الجنِّ من الإنس للمَعْنى الذي ذَكّرْنَاهن وهو أنه يُطْلَق عليهم رُسُل مجازاً؛ لكونهم رُسُلاً بواسطة رسالة الإنْسِ، وزعم قومٌ منهم الضَّحًّاك: أن الله أرْسَل للجِنِّ رسُولاً منهم يُسَمَّى يُوسُف. قال ابن الخطيب: ودَعْوَى الإجماع في هذا بعيدٌ؛ لأنه كَيْف ينعقد الإجماعُ مع حُصُول الاختلافِ، قال: ويمكنُ أن يَحْتَجَّ الضحَّاك بقوله - تبارك وتعالى -: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام: 9] . قال المفسِّرُون: والسَّبب في أن استِئْنَاسَ الإنسان بالإنْسَانِ أكْمل من استِئْنَاسه بالملك، فوجب في حُكم اللَّه - تبارك وتعالى - أن يَجْعَل رُسُل الإنْس من الإنْس؛ ليكمل الاستِئْنَاسُ، وهذا المَعْنَى حَاصِلٌ في الجنِّ، فوحب أن يكُون رُسُل الجِنِّ من الجِنِّ، لتزول النَّفْرَة ويَحْصُل كمال الاستِئْنَاسِ. وقال الكلبي: كانت الرُّسُل قبل أن يُبْعث محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُبْعَثُون إلى الحِنِّ وإلى الإنْسِ جَمِيعاً. وقال مُجَاهد: الرُّسُل من الإنس والنُّذُر من الجنِّ، ثم قرأ [قوله تعالى] : {وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ} [الأحقاف: 29] ، وهم قوم يَسْمَعُون كلام الرُّسُل فِيُبَلِّغُون الجِنِّ ما سَمِعُوا، ولي للجِنِّ رُسُلٌ. ثم قال: «يَقُصُّونَ عليكم آيَاتِي» أي: يَقْرءُون عليكم كُتُبِي «ويُنْذِرونكم لقاءً يَوْمِكُمْ هذا» وهو يوم القيامة، فلم يِجِدُوا عند ذلك إلا الاعتراف، فذلك قالوا: شَهِدْنَا على أنْفُسِنَا. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 435 فإن قيل: كيف أقَرُّوا في هذه الآية الكريمة بالكُفْرِن وجَحَدوا في قوله: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] . فالجواب: يوم القيامة يوم طَويلٌ، والأحْوال في مُخْتَلِفَةٌ، فتارة يُقِرُّون وأخْرى يَجْحَدُون، وذلك يَدُلُّ على شِدَّة الخَوْفِ واضْطِرَاب أحْوالِهم، فإن من عَطُمَ خَوْفُه، كَثُر الاضْطِرَابُ في كلامه، قال - تبارك وتعالى -: {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} أي: أنهم إنِّما وقعُوا في الكُفر بسبب أنَّ الحياة الدُّنْيا غَرَّتْهُم، حتى لم يُؤمِنُوا وشَهِدُوا على أنْفُسِهِم أنَّهم كَانُوا كافِرين، وحمل مُقَاتِل قوله «وشَهِدُوا على أنْفُسهمْ» بأنه تِشْهد عَلَيْهِم الجَوَارحُ بالشِّرْك والكُفْر ومَقْصُوده دفع التكْرَار عن الآية الكريمة، وهذه الآية تَدُلُّ على أنَّه لا يتَكِليف قَبْل ورُودِ الشَّرْع، وإلاَّ لم يَكُون لهذا التَّعْلِيل فَائِدَة. قوله : {ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدهما: أنه مُبْتَدأ مَحْذُوف الخَبَر، أي: ذَلِك الأمر. الثاني: عكس ذلك الأمر. الثالث: أنه مَنْصُوب فِعْل، أي: فَعَلْنَا ذلك، وإنما يَظْهَر المَعْنَى إذا عُرِف المُشَارُ إليه، وهو يُحْتَمل أن يكُون إتْيَات الرُّسُل وأمْر من كذَّب، ويحتمل أن يكون إشَارَةً إلى السُّؤال المَفْهُوم من قوله: «ألَمْ يَأتِكُمْ» وقوله: «أنْ لَمْ يَكُنْ» يَجُوز فيه وجهان: أحدهما: أنه على حَذْفِ لام العِلَّة أي: ذلك الأمر الَّذي قَصًَصْنا، أو ذلك الإتْيان، أو ذلك السُّؤال لأجْل «أنْ لَمْ يَكُن» فلما حُذِفَت اللاَّم احتمل مَوْضِعُها الجَرّ والنَّصْب كما عُرِف مِرَاراً. والثاني: أن يكُونَ بدلاً من ذلك. قال الزَّمَخْشَري: ولك أن تَجْعَله بَدَلاً من ذلك؛ كقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 66] . فيجوز أن يَكُون في محلِ رفع أو نصب على ما تقدَّم في ذلك، إلاَّ أنَّ الزَّمَخْشَرِي القائل بالبَدليَّة لم يَذْكُر لأجْل ذلك إلاَّ الرَّفْع على خَبَر مُبْتَدأ مُضْمَر، و «أنْ» يجوز أن تكثون النَّاصِبَة للمُضَارع، وأن تكُون مُخَفَّفَة، واسْمُهَا ضَمِير الشَّأن، و «لَمْ يَكُنْ» في محلِّ رفع خبرها، وهو نظير قوله: {أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ} [طه: 89] . وقوله: [البسيط] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 436 2315 - في فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْدِ قََدْ عَلَمُوا ... أنْ هَالِكٌُ كُلُّ مَنْ يَخْفَى ويَنْتَعِلُ و «بِظُلَم» يجُوز فيه وجهان: أظهرهما: أنه مُتعلِّق بِمَحْذُوف على أنَّه حالٌ من «ربُّطَ» أو من الضَّمير في «مُهْلِكَ» أي: لم يَكُون مُهْلِك القُرى مُلْتِبِساً بِظُلْمٍ، ويجُوز أن يكُون حالاً من القُرَى، أي: مُلْتَبِسَة بذُنُوبها، والمعْنَيَان منْقُولان في التَّفْسِير. والثاني: أن يتعلَّق ب «مُهْلِكَ على أنَّه مَفْعُول وهو بَعِيد، وقد ذكرَهُ أبو البقاء. وقوله:» وأهْلُهَا غَافِلُون «جُمْلَة حالية أي: لم يُنْذَرُوا حتى يَبْعَث إليهم رُسُلاً تُنْذرهُم، وقال الكَلْبِي: يُهْلِكُهم بذُنُوبِهم من قَبْل أنْ يَأتيهمُ الرُّسُل. وقيل: مَعْنَاه لم يَكُون لِيُهْلِكَهُم دون التَّنْبيه والتَّذْكِير بالرُّسُل، فيكون قد ظَلَمَهُم؛ لأن الله - تبارك وتعالى - أجْرى السُّنَّة ألا يَأخذ أحداً إلا بعد وُجُود الذَّنْبِ، وإنما يَكُون مُذْنِباً إذا أمِر فَلَمْ يأتَمِر، ونُهِيَ فلم يَنْتَهِ، وذلك إنما يكون بعد إنْذَار الرُّسُل، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه لا وُجُوب ولا تَكْلِيف قِبْلَ ورود الشَّرْع. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 أي: ولكل درجاتٌ في الثَّواب والعقابِ، على قَدْرِ أعْمَالهم في الدُّنيا، وحذف المُضاف إلَيْه للعِلْمِ به، أي: ولكُلِّ فريقِ منهم من الجنِّ والإنْسِ. قوله: «مِمَّا عَمِلُوا» في محلِّ رفع نعتاً ل «دَرَجَات» . وقيل: ولكلِّ من المؤمنين خاصَّة. وقيل: ولكلِّ من الكُفَّار خاصَّة؛ لأنها جَاءَت عَقِيب خطاب الكُفَّارِ؛ إلا أنَّه يبعده قوله: «دَرَجَاتٌ» وقد يُقَال: إن المُرَاد به هُنَا المراتِب، وإن غلب استْعِمَالُها في الخير «وما ربُّكَ بغافلٍ عمَّا يعَمْلثونَ» قرأ العامّة بالغيبة رَدّاً على قوله: «ولكُلِّ درَجَاتٌ» وقرأ ابن عامرٍ بالخطابِ مُراعَاةً لما بَعْدَهُ في قوله: «يُذْهبْكم» ، «مِنْ بَعْدِكُمْ» ، كما «أنشأكم» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 لما بيَّن ثواب المطيعينَ وعقاب العاصين، وبيَّن أن لكلِّ قوْم درجة مَخْصُوصَة في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 437 الثَّواب والعقابِ، بيَّن أنه غَيْر مُحْتاج إلى ثوابِ المطيعين، أو ينْتَقِص بِمَعْصية المذنِبِين؛ لأنه - تعالى - غنِيُّ لذاته عن جَمِيع العَالمين، ومع كوْنه غَنِياً، فإنَّ رحمته عامَّة كَامِلَة. قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: ذُو الرَّحْمَة بأوْلِيَائه وأهل طاعته. قوله: «وربُّك الغِنِيُّ» يجوز أن يكون الغَنِيُّ والرَّحْمَة خَبَريْن أو وصفين، و «إن يشأ» وما بَعْدَهُ خبرا لأوَّل، أو يكون «الغَنِيّ» وصْفاً و «ذُو الرَّحْمَة» خبراً، والجُمْلَة الشَّرطيَّة خبر ثاني أو مُسْتَأنَف. فصل في دحض شهبة للمعتزلة قالت المعتزلة: هذه الآية الكريمة دالَّة على كَوْنه عادِلاً منزَّهاً عن فِعْلِ القَبِيح، وعلى كَوْنه رَحِيماً مُحْسِناً بعِبَادِه؛ لأنه - تبارك وتعالى - عَالم بقبح القَبَائِح، وعالم بكوْنه غَنِيًّا مَذْكُورٍ في الآيَةِ لغَاية ظُهُوره. وثانيها: أنه - تعالى - عالمٌ بالمعْلُومات؛ لقوله: {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 132] . وثالثها: أنه - تعالى - غَنِيُّ عن الحاجات؛ لقوله: «وربُّكَ الغَنِيُّ» وإذا ثَبَتَتْ هذه المقدِّمَات، ثبت أنه عَلِمٌ بُقُبْح القَبَائح وعَالِمٌ بكون غَنِيًّا عنها، وإذا ثبت هذا، امْتَنَع كوْنه فَاعِلاً لها؛ لأن المُقْدِم على فِعْل القَبيح إمَّا أن يكُون إقْدَامُه لجَهْلِهِ بكونه قِبيحاً، وإما لاحْتِيَاجِهِ، فإذا كان عَالِماً بالكُلِّ، امْتَنَعَ كَوْنه جَاهِلاً بقُبْح القَبَائِح، وذلك يَدُلُّ على أنه - تعالى - منزَه عن فِعْل القَبيح، فحينئذٍ يقْطَع بانه لا يَظْلِم أحَداً فلما كَلًَّف عِبِيدَه الأفْعَال الشَّاقَّة، وجب أن يُثِيبَهُم عليها، ولما رتَّب العِقَاب على فِعْل المَعَاصي، وجب أن يَكُون عَادِلاً فيها، فحينئذٍ انتفى الظُّلْمُ عن اللَّه - تعالى، فما الفائدة في التكليف؟ . قال ابن الخطيب: والجوابُ أن التكْلِيفَ إحْسَانٌ ورَحْمَة على ما قُرِّر في كُتُب الكلام. قوله: «إنْ يَشَأ يُذْهِبْكُم» فقيل: المراد يُهْلِككُمْ يا أهْل مكَّة، وقيل: يُمِيتتُكثم، وقيل: يحتَمَلُ ألاَّ يُبْلِغَهُم مَبْلَغ التَّكْلِيف، ويَسْتَخْلِف من بعد إذْهَابِكُم؛ لأن الاسْتِخْلاف لا يَكُون إلى على طَرِيق الَبدَلِ. قوله: «مَا يَشَاءُ» يجُوز أن تكُون «مَا» واقِعَة على ما هُو من جِنْسِ الآدَميِّين، وإنَّما أتى ب «مَا» وهي لِغَيْر العَاقِل للإبْهَام الحَاصِل، ويجُوزُ أن تكُون وَاقِعَة على غَيْر العَاقِل وأنَّه يأتي بجِنْسٍ آخر، ويجُوز أن تكُون وَاقِعَة على النَّوْع من العُقَلاء كَمَا تقدَّم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 438 قوله: «كَمَا أنْشَأكُمْ» في هو جهان: أحدهما: أنه مَصْدَر على غِيْرِ المَصْدَر؛ لقوله: «ويَسْتَخْلِفْ» لأن مَعْنَى «يَسْتَخْلِفْ» : يُنْشىِءُ. والثاني: أنها نَعْتُ مَصْدَر مَحْذُوف، تقديره: استِخْلافاً مثل ما أنْشَأكُم. وقوله: «مِنْ ذُرِّيَّةِ» متعلق ب «أنْشَأكُم» وفي «مَنْ» هذه وْجُه: أحدها: انها لابتداء الغايةِ، أي: ابْتَدأ إنْشَاءَكُم من ذُرِّيَّة قَوْم. الثانيك أنَّها تَبْعِيضيَّة، قاله ابن عطيَّة. الثالث: بمعنى البدل، قال الطبري وتبعه مكي بن أبي طالب: هي كقولك: «أخَذْتُ من ثَوْبِي دِرْهَماً» أي: بَدَله وعوضه، وكون «مِنْ» بمعنى البدل قَلِيلٌ أو مُمْتَنِعٌ، وما ورد منع مُؤوَّل؛ كقوله - تعالى -: {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} [الزخرف: 60] أي: بَدَلَكُم. وقوله: [الزجر] 2316 - جَارِيَةٌ لَمْ تَأكُلِ المُرَقَّقَا ... ولَمْ تَذُقْ مِنَ البُقُولِ الفُسْتُقَا أي: بدل البُقُول، والمعنى: من أوْلاد قوم مُتقدِّمين أصْلهم آدَمُ. وقال الزَّمَخْشَرِي: من أولاد قَوءم آخرينِ لم يكُونُوا على مِثْلِ صِفَتِكُم، وهم أهْلُ سَفِينةَ نُوح. وقرأ ابيُّ بنُ كَعْب: «ذَرِّيَّة» بفتح الذَّالِ، وأبان بني عُثْمَان: «ذَرِيَّة» بتخفيف الرَّاء مَكْسُور، ويروى عَنْه أيْضاً: «ذَرْيَة» . بزنة ضَرْبَة، وقد تقدَّم تحقيقه، وقرأ زَيْد بن ثَابِت: «ذَِرِّيَّة» بكسر الذال، قال الكسائي هُمَا لُغَتَان. قوله: «إنَّ تُوعدون لآتٍ» «مَا» بِمَعْنَى الَّذِي وليست الكَافَّة، و «تُوعَدُون» صلتها، والعَائِد مَحْذُوف، أي: إنَّ ما تُوعدُونَهُ و «لآتٍ» خبر مؤكَّد باللاَّمٍ. قال الحسن: «ما تُوعَدُون» من مَجِيء السَّاعة؛ لأنهم كَانُوا يُنْكِرُون الحَشْر. وقيل: يحتمل الوَعْد والوَعِيدن ولما ذكر الوَعْد، جزم بكَوْنه آتِياً، ولما ذكر الوَعِيد، ما ذاد على قوله: «وما أنْتُم بِمُعْجِزينَ» وذلك يَدُلُّ على أن جَانبَ الرَّحْمَة والإحْسَان غالب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 439 لما بيَّن أن ما تُوعَدُن، لآتٍ، أمر رَسُوله بَعْدَه أن يُهَدِّد من يُنْكر البَعْث من الكُفَّارِ. وقرأ أبو بكر عن عَاصِم «مَكَانَاتِكُمْ» بالجَميع في كُلِّ القُرْآن، أي: على تَمَكُّنِكُمْ. وقال عطاء: على حَالاتِكُم التي أنْتُم عليها، والباقون: مَكَانَتِكُمْ. قال الواحدي: والوَجْه الإفْرَادُ؛ لأنه مَصْدر، والمصادِرُ في أكْثر الأمْر مفْرَدة، وقد يُجْمَع في بعض الأحوالِ إلا أنَّ الغالبَ هو الأوَّل، فمن أفْرَد فلإرادة الجِنْسِ، ومن جَمَع فَليُطَابق ما بَعْدَه، فإن المخَاطِبين جماعة، وقد أُضِيفَت إلَيْهم، وقد علم أن الكُلَّ وَاحِد مَكانه. قال الزمخشري: المكانَةُ تكون مَصْدراً؛ يقال: مكَنَ مَكَانَةً إذا تمكَّنَ أبْلَغ التمكّن، وبعنى المكان؛ يقال: مكان ومكانة، ومقام ومقامة، فقوله: «اعْملُوا على مَكَانِتِكُم» يحتمل «اعْملُوا» على تمكُّنِكُم من أمْرِكُم وأقْصَى اسْتِطَاعَتِكُم وإمكَانِكُم وإمْكانكم، قال معْنَاه أبو إسحاق الزَّجَّاج، وعلى الثاني: أعْمَلُوا على جِهْتِكم وحَالِكُم التي أنْتُم عليها. قوله: «إني عامل» على مَكَانتي الَّتِي أنا عليها، والمعنى: أثْبُتُوا على عَدَاوَتِكُم وكُفْرِكُم، فإني ثابتٌ على الإسلام وعلى مَضَارَّتِكُم، «فَسوْفَ تَعْلَمُون» أيُّنَا يَنَال العَاقِبة المحمُودة، وهذا أمْر تَهْدِيد؛ كقوله: «اعملُوا ما شِئْتُم» . قوله: «مَنْ تَكُونُ لَهُ» يَجُوز في «مَنْ» هذه وجهان: أحدهما: أن تكون موصولة وهو الظَّاهِر، فهي في محلَِّ نَصْب مفْعُولاً به، و «عَلِمَ هنا مُتَعَدِّية لواحد؛ لأنَّها بمعنى العِرْفَان. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 440 الثاني: أن تكون استِفْهَاميَّة، فتكون في محلِّ رفع بالابتداء، و» تكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ «تكون واسْمُهَا وخَبَرُهَا في محلِّ رفع خبراً لها، وهي خبرها في محلِّ نَصْبٍ: إمَّا لسَدِّها مَسَدَّ مَفْعُول وَاحِدٍ إن كانت» عَلِمَ «عِرْفَانيَّة، وإمَّا لسدِّها مسدَّ اثنين إن كان يقينيّة. وقرأ الأخوان:» مَنْ يكُون لَهُ عَاقِبةُ الدَّارِ «هنا، وفي» القصص « [الآية: 37] بالياء، والباقون: بالتاء من فوق، وهما واضحتان، فإن تأنيثها غير حَقِيقِيّ، وقد تقدم ذَلِك في قوله: {وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ} [البقر: 123] . وقوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} . قال ابن عباس: أي لا يَسْعَد من كَفَر بي وأشْرَك. وقال الضَّحَّاك: لا يَفُوز. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 لما بيَّن قُبح طريقهم في إنْكَار البَعْثِ، ذكر بعْده أنواعاً من جهالتِهم؛ تنبيهاً على ضَعْفِ عُقُولهم وتَنْفِيراً للعُقلاء عن الالْتِفَات إلى كَلِمَاتِهِم، فمن جملتها أن يَجْعَلُوا لله من حَرْثِهِم ومن أنْعَامِهِم نَصِيباً. و «جَعَل» هنا بمعنى «صيَّر» فيتعدَّى لاثْنَيْن: أولهما: «نَصِيباً، والثاني: قوله» لِلَّه «ط و» ممَّا ذَرَأ «يجُوز أن يتعلَّق ب» الجَعْل «وأن يتعلَّق بمحذُوف؛ لأنه كان في الأصْلِ صِفَة ل» نَصِيباً «فلما قُدِّم عليه انْتَصب حالاً، والتقدير: وجَعَلُوا نصيباً ممَا ذَرَأ [اللَّه] و» مِنْ الحَرْثِ «يجُوز أن يكُون بدلاً» ممَّا ذَرَا «بإعادة العَامِل؛ كأنه قيل وجعلُوا لِلَّه من الحَرْث والأنْعَام نَصِيباً، ويجُوز أن يتعلَّق ب» ذَرَأ «وأن يتعلَّق بمَحْذُوفٍ على أنه حال: إمَّا من» مَا «الموصُولة، وأو مِنْ عَائِدِها المحْذُوف، وفي الكلام حَذْف مَفْعُول اقْتَضَاه [التقْسِيم] ، والتقدير: وجَعَلُوا للَّه نَصيباً من كذا، ولشُركَائِهِم نَصيباً منه يدلُّ عليه ما بَعْدَه من قوله: {فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا} [و» هذا لِلَّه «جملة مَنْصُوبة المَحَلِّ بالقولِ، وكذلك قوله:» وهَذَا لِشُرَكَائِنَا «] وقوله:» بزَعْمِهِم «فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّق ب» قَالُوا «أي: فقالُوا ذلك القَوْل بزَعْم لا بيقينٍ واسْتِبْصَار. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 441 وقيل: هو متعلِّق بما تعلَّق به الاسْتِقْرَار من قوله:» لِلَّهِ «. وقرأ العامَّة بفتح الزَّاي من» زَعْمِهِم «في الموْضَعيْن، وهذه لغة الحَجَاز ويه الفُصْحَى، وقرأ الكَسَائيّ:» بِزُعْمِهِم «بالضَّمِّ وهو لُغة بني أسَد، وهل الفَتْح والضَّمُّ بمعْنًى واحد، أو المفْتُوح مَصْدَر والمضْمُوم اسْم؟ خلاف مشهور. وقرأ ابن أبي عبلة» بزعَمِهِم «بفتح الزَّاي والعين. وفيه لُغَةٌ رابِعَةٌ لبعض قَيْس، وبني تَميم وهي كَسْر الزَّاي، ولم يُقْرأ بِهَذِه اللُّغة فيما علمنا، وقد تقدَّم تَحْقِيقُ» الزَّعْم « [في النساء آية 60] . وقوله:» لِشُرَكَائِنَا «يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن الشُّركَاء من الشِّرْك، ويعنون بهم: آلِهَتَهُم التي أشْركُوا بَيْنَها وبين البَاري - تعالى - في العِبادة، وليست الإضَافةُ إلى فاعِل ولا إلى مَفْعُولٍ، بل هي إضافَة تَخْصِيص، والمعْنى: الشركاء الذين أشْركُوا بَيْنَهُم وبين الله - تعالى - في العِبَادة. والثانيك أن الشُّركاء من الشركةِ، ومعنى كَوْنِهم سَمُّوا آلِهَتَهُم شُرَكَاءهُم: أنهم جَعَلُوهم شُرَكَاء في أمْوَالِهِم، وزُرُعِهِم، وأنْعَامهم، ومَتَاجِرهم وغير ذلك، فتكون الإضافَةُ إضافَة لَفْظِيَّة: إما إلى المفعُول أي: شُرَكَائِنا الَّذِين شَارَكُونا في أمْوَالِنَا، وإما إلى الفَاعِل، أي: الَّذِين أشْرَكْنَاهُم في أمْوَالِنا. فصل في المراد بالآية قال ابن عبَّاس: كان المُشْرِكُون يَجْعَلُون لله من حُرُوثِهِم وأنْعَامِهِم نَصيباً، وللأوْثَان نَصِيباً، فما كان للصَّنَم أنْفَقُوه على الأصْنَامِ وحدها، وما جعلوه للَّه أطْعَمُوه الضِّيفَان والمسَاكِين، ولا يأكُلُون مه ألْبَتَّة، وإن سقط من نَصِيب الأوْثَان فيما جَعَلُوه لله؛ ردّوه إلى الأوْثَانِ، وقالوا: إنَّها مُحْتَاجَة، وإن سقط شَيءٌ مما جَعَلُوه لله في نَصيب الأوْثَانِ، وقالوا: إنَّها مُحْتَاجَة، وإن سقط شَيءٌ مما جَعَلُوه للَّه في نَصِيب الأوْثَانِ، تركُوهُ وقالوا: إنَّ اللَّه غَنِيُّ عن هذا. وقال الحسن والسُّدِّيي: كان إذا هَلَك وانْتَقَص شيء ممَّا جعلُوه للأصْنَامِ خَيَّروه بما جَعَلُوه للَّه ولا يَفْعَلُون مِثْلَ ذلك فيما للَّه - عزَّ وجلَّ. وقال مجاهد: المَعْنَى: انه إذا انْفَجَر من سَقْي ما جعلُوه للشَّيْطان في نَصِيب الله - تعالى - سَدُّوه، وإن كان على ضِدِّ ذلِك، تركوه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 442 وقال قتادة: إذا أصَابَهُم القَحْط، استَعَانُوا باللَّه ووفَّرُوا ما جَعَلُوه لشُرَكَائهم. وقال مقاتل: إن زَكَا ونما نَصِيبُ الآلِهَة، ولم يَزْكُ نصب اللَّهِ، تركوا نَصِيب الآلِهَة، وإن زكَا نَصٍبُ اللَّه ولَمْ يَزْكُ نَصيب الآلهة، أخذوا نَصِيبَ اللَّه - تعالى - وقالوا: لا بُدَّ لآلِهَتِنَا من نفقةٍ، فأخذوا نَصِيبٌ اللَّهِ فأعطوه السَّدَنَة، فذلك قوله: «فَمَا كان لِشُركَائِهم فلا يَصِلُ إلى اللَّهِ وما كان لِلَّه فهو يَصِلُ إلى شركَائِهم» ، يغني من نماء الحَرْث والأنْعَام، فلا يَصل إلى اللَّه - تعالى - يعني: إلى المَسَاكين، وإنَّما قال: إلى اللَّه؛ أنهم كَانُوا يَفْرِزُونَه للَّه - تعالى - ويسمونهُ نَصِيب اللَّه، وما كان للَّه فَهُو يَصِل إليهم. قوله: «سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ» قد تَقَدَّم نَظِيرُه، وقد أعْرَبَها الحُوفِي هُنَا، فقال: «ما» بمعنى الَّذي، والتقدير: ساء الَّذِي يحْكُمُون حُكْمهم، فيكون «حُكْمُهُمُ» مبتدأ وما قَبْلَه الخبر، وحذف لدلالة «يَحْكُمُون» عليه ويجُوز أن تكون «ما» تَمْييِزاً، على مَذْهَبِ من يُجِيز ذلك في «بِئْسَمَا» فتكون في مَوْضع نَصْبٍ، التقدير: ساء حُكْماً حُكْمُهُم، ولا يكون «يَحْكُمُون» صِفَة ل «مَا» لأن الغرضَ الإبْهام، ولكن في الكلامِ حَذْف يدلُّ عليه «مَا» والتقدير: ساء ما يَحْكُمُون فحذف «ما» الثانية. قال شهاب الدِّين: و «ما» هذه إن كان مَوْصُولة، فمذْهَبُ البَصْريِّين أن حَذْف الموصُول لا يجُوز وقد عُرَِف ذلك، وإن كانَتْ نكرة موْصُوفة، فَفِيه نَظَر؛ لأنه لم يُعْهَدْ حَذْفُ «مَا» نَكِرة مَوْصُوفة. وقال ابن عطية: و «مَا» في مَوْضع رَفْع؛ كأنه قال: سَاءَ الذي يَحْكُمُون ولا يَتِّجِه عِنْدي أن تَجْري «سَاءَ» هنا مُجْرَى «نِعْم» و «بِئْسَ» ؛ لأن المفسِّر هنا مُضْمَر، ولا بُد من إظْهَارِهِ باتِّفَاق من النُّحاة وإنَّما اتَّجَه أن يَجْرِي مُجْرى «بِئْسَ» في قوله: {سَآءَ مَثَلاً القوم} [الأعراف: 177] لأن المفسِّر ظاهر في الكلام. قال أبو حيَّان: «وهذا كلامٌ من لم تَرْسَخْ قدمُهُ في الغربيَّة، بل شذَّ فيها شَيْئاً يسيراً؛ لأنه إذا جَرَت» سَاءَ «مَجْرَى» بِئْسَ «كان حُكْمُها كحكْمِها سواءً لا يَخْتَلِفُ في شيء ألْبَتَّة من فَاعِل ظاهِر أو مُضمَر، أو تمييز ولا خلاف في جواز حَذْفِ المخْصُوصُ بالمَدْحِ أو الذَّمِّ، والتمييز بها لِدلالة الكلام عليه» . فقوله: «لأن المفسِّر هنا مُضْمَر، ولا بُدَّ من إظْهَار باتِّفَاق» قوله سَاقِط ودعْوَاه الاتِّفاق على ذلك - مع أن الاتِّفاق على خلافه - عجبٌ عُجابٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 443 هذا نوع آخر من أحْكَامِهِم الفاسدة ومذاهبهم البَاطِلة. قوله: «وكذلِكَ زيَّنَ» هذا في محلِّ نصبٍ نعتاً لمصدرٍ محذُوف كنظائره، فقدَّره الزمخشري تقديرين، فقال: «ومِثْل ذلك التَّزْيين وهو تَزْيين الشِّرْك في قِسْمَة القُرْبَان بين اللَّهِ والآلهة، أو: ومثل ذلك التَّزيين البَلِيغ الذي عُلِم من الشَّياطين» . قال أبو حيَّان: قال ابن الأنْبَاري: ويجُوز أن يكون «كَذَلِكَ» مستَأنفاً غير مُشَارٍ به إلى ما قَبْله، فيكون المَعْنَى: وهكذا زيَّن. قال شهاب الدِّين: والمنْقُول عن ابن الانْبَاري أن مُشَارٌ به إلى ما قبله، نقل الواحِدِي عنه؛ أنه قال: «ذَلِكَ» إشارةٌ إلى ما نَعَاه اللَّه عليهم من قَسْمِهِم ما قَسَمُوا بالجَهْل، فكأنه قِيلَ: ومثل ذلك الذي أتَوْه في القَسْم جهلاً وخطأ زيِّن لكَثِير من المُشْركين، فشبَّه تَزْيين الشرُّكَاء بخِطَابهم في القَسْمِ وهذا معنى قول الزَّجَّاج، وفي هذه الآية قراءات كَثِيرة، والمُتواتِر منها ثِنْتَان. الأولى: قرأ العامّة «زَيَّنَ» مبنياً للفَاعِل و «قَتْلَ» نصب على المفعُوليَّة و «أوْلادَهُم» نَصْباً على المفعُول بالمصْدَر، «شُركَائِهِم» خفضاً على إضافة المصدر إلأيه فَاعِلاً، وهذه القراءة مُتواتِرة صحيحة، وقد تجرأ كَثِيرةٌ من النَّاسِ على قَارِئهَا بما لا يَنْبَغي، وهو أعلى القُرَّاء السَّبْعَة سَنَداً وأقدمهم هِجْرَة. أمَّا عُلُوِّ سنده: فإنَّه قرأ على أبِي الدَّرْدَاء، وواثِلة بن الأسْقَع، وفَضَالةِ بن عُبَيْد، ومعاوية بن أبي سُفْيَان، والمُغِيرةَ المَخْزُومِي، ونقل يَحْيَى الذُّماري أنه قرأ على عُثْمَان نفسه. وأما قَدَم هِجْرَته فإنَّه وُلِد في حَيَاة رسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ونَاهِيك به أن هشام بن عمَّار أحد شُيُوخ البُخَارِيّ أخّذ عن أصْحاب أصحابه وتَرْجَمَته مُتَّسِعَة ذكرتُها في «شرح القصيد» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 444 وإنَّما ذكرت هُنَا هَذِه العُجَالة تَنْبيهاً على خَطَإٍ من رَدَّ قراءته ونَسَبَه إلى لَحْنٍ، وأو اتِّبَاع مجرَّد المَرْسُوم فقط. قال أبو جَعْفَر النحاس: وهذا يَعْني أنّ الفَصْل بين المُضَافِ والمضافِ إليه بالظَّرْفِ أو غيره لا يجُوز في شِعْرٍ ولا غيره، وهذا خطأ من أبي جَعْفَر؛ لما سنذكره من لسَان العرب. وقال أبو علي الفارسيّ: هذا قَبيحٌ قليل في الاسْتِعْمَال، ولو عَدَل عَنْهَا - يعني ابن عامر -، كان أولى؛ لأنهم لم يَفْصِلُوا بين المُضَافِ والمُضافِ إليه بالظَّرف في الكلام مع اتِّساعهم في الظَّرُوفِ، وإنَّما أجَازُوه في الشِّعْر «قال:» وقد فَصَلُوا به - أي بالظَّرف - في كَثِير من المواضع، نحو قوله تعالى {إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ} [المائدة: 22] ؛ وقال الشاعر في ذلك: [المتقارب] 2317 - عَلَى أنَّنِي بَعْدَمَا قَدْ مَضَى ... ثلاثُونَ - لِلْهَجْرِ - حَوْلاً كَمِيلاً وقول الآخر في هذا البيت: [الطويل] 2318 - فَلاَ تَلْحَنِي فيها فإنَّ - بِخُبِّهَا - ... أخَاكَ مُصَابُ القَلْبِ جَمٌّ بلابِلُهْ ففصل بين «إنَّ» واسْمَها بما يتعلَّق بخبَرِهَا، ولو كان بِغَيْر الظرف، لم يَجُزْ، ألا تَرَى أنَّك لو قُلْتَ: «إنَّ زَيْداً عَمْراً ضَارِب» على أن يكون «زَيْداً» منصُوباً ب «ضَارِب» لم يَجز، فإذا لم يُجِيزُوا الفَصْل بين المُضَافِ والمُضافِ إلَيْهِ في الكلامِ بالظرفِ مع اتِّساعهم فيه في الكلام، وإنما يجُوزُ في الشَّعْر؛ كقوله: [الوافر] 2319 - كَمَا خُطَّ الكِتَاب بَكَفِّ - يَوْماً - ... يَهْودِيِّ يُقَاربُ أوْ يُزيلُ فأن لا يجوز بالمفعُول الذي لم يُتَّسعْ فيه بالفَصْلِ أجْدَر، ووجه ذلك على ضَعْفَه وقلَّة الاسْتِعَمال: أنه قد جَاءَ في الشِّعْر على حدِّ ما قَرَأهُ قال الطَّرْمَاح: [الطويل] 2320 - يَطُفْنَ بِحُوزِيِّ المَرَاتِعِ لَم تَرُعْ ... بِوَاديهِ مِنْ قَرْعِ - القِسيِّ - الكَنَائِنِ وأنشد أبو الحسن: [مجزوء الكامل] 2321 - ... ... ... ... ... ..... الجزء: 8 ¦ الصفحة: 445 زَجَّ - القلُوصَ - أبِي مَزَادهُْ وقال أبو عُبَيْد: وكان عبْدُ اللَّه بن عَامِر، وأهل الشام يَقْرءُونها: «زُيِّن» بضم الزَّاي «قُتْلُ» بالرَّفْع، «أولادَهُم» بالنَّصْب، «شُرَكَائهم» بالخَفْضِ، ويتأولون «قَتْلَ شُرَكَائِهِم أوْلادَهم» فيفرقون بين الفِعْل وفاعله. قال أبو عبيد: «ولا أحِبُّ هذه القراءة؛ لما فيها من الاسْتِكْرَاه والقِراءة عِنْدنَا هي الأولَى؛ لصحِّتِها في العربيِّة، مع إجْماع أهْل الحَرْمَيْن والمِصْرَين بالعراق عَلَيْهَا» . وقال سيبويْه في قولهم: 2322 - يا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أهْلَ الدَّارْ ... بخفض «اللَّيْلَةِ» على التَّجُّوز وبنصب «الأهْلِ» على المَفْعُولِيَّة، ولا يجُوز «يا سَارِقَ اللَّيْلَة أهْلَ الدَّار» إلاَّ في شِعْر؛ كراهة أن يَفْصِلُوا بين الجَارِّ والمجْرُور، ثم قال: وممَّا جَاء في الشِّعْر قد فُصِل بَيْنَهُ وبين المَجْرُور قول عمرو بن قميئة: [السريع] 2323 - لمَّا رَأتْ سَاتِيدَمَا اسْتَعْبَرَتْ ... لِلَّهِ دَرُّ - اليَومَ - مَنْ لاَمَهَا وذكر أبْيَاتاً أُخَر. وقال أبو الفتح بن جني: «الفَصْل بين المُضَافِ والمُضَافِ إليه بالظَّرْف والجَارِّ والمَجْرُور كَثِيرٌ، لكنه من ضَرُورَة الشَّاعِر» . وقال مكي بن أبي طالب: «ومن قَرَأ هذه القراءة ونَصَب» الأوْلادَ «وخفض» الشُّركاء «فيه قراءة بعيدةٌ، وقد رُويَتْ عن ابْن عامر، ومجازها على التَّفْرِقَة بين المُضَافِ والمُضافِ إليه بالمفعُول، وذلك إنَّما يجُوزُ عند النَّحويِّين في الشِّعْر، وأكثر ما يَكُون بالظَّرْفِ» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 446 قال ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذه قراءةٌ ضَعِيفَة في اسْتِعْمَال العرب، وذلك أنَّه أضاف الفِعْلَ إلى الفاعل، وهو الشُّرَكَاء، ثُمَّ فصل بين المُضافِ والمُضافِ إليه بالمفْعُول، ورُؤسَاء العربيَّة لا يُجيزُون الفَصْل بالظُّرُوف في مِثْل هذا إلا في شِعْرٍ؛ كقوله: [الوافر] 2324 - كَمَا خُطَّ - الكِتَابُ بِكَفِّ يَوْماً ... يَهْودِيِّ ... ... ... ... ... ... ... . . البَيْت فكيف بالمَفْعُول في أفْصح كلام؟ ولكنْ وجهُها على ضَعْفِها: أنَّها وردت في بَيْتٍ شّاذِّ أنْشَدَهُ أبو الحَسَن الأخْفَش، فقال: [مجزوء الكامل] 2325 - فَزَجَجْتُهَا بِمَزجَّةٍ ... زَجَّ - القلُوصَ - أبي مَزَادَهْ وفي بيت الطِّرمَّاح، وهو قوله: [الطويل] 2326 - يَطُفْنَ بِحُوزِيِّ المَرَاتِعِ لَمْ تَرُعْ ... بِوَادِيهِ مِنْ قَرْع - القِسِيَّ - الكَنَائِنِ وقال الزَّمخشري - فأغْلظ وأسَاء في عبارتهِ - «وأم قِرَاءة ابن عامرٍ - فذكرها - فشيء لو كان في مكان الضرُورة وهو الشِّعْر، لكان سَمِجاً مرْدُوداً كما سَمُج ورورد: [مجزوء الكامل] 2327 - ... ... ... ... ... . ... زَجَّ - القلُوصَ - أبِي مَزَادَهْ فكيف به في الكلام المَنْثُور؟ كيف به في القُرْآن المُعْجِز بحُسْن نَظْمِه وجَزَالَتِه؟ الذي حمله على ذلك: أنْ رأى في بَعْض المَصَاحف» شُرَكَائِهِم «مكْتُوباً بالياءِ، ولو قرأ بجرِّ» الأوْلاد «و» الشُّركاء «- لأن الأولاد شُرَكَاؤهم في أموالهم - لوجَد في ذلك مَنْدُوحة عن هذا الارتكاب» . قال شهاب الدين: «سَيَأتي بيان ما تمنَّى أبو القاسِم أن يَقْرَأه ابن عَامرٍ، وأنه قد قرأ به، فكأنَّ الزَّمَخْشَرِيّ لم يَطَّلِعْ على ذلك، فلهذا تَمَنَّاه» . وهذه الأقوال التي ذكرتها جَمِيعاً لا يَنْبَغِي أن يُلْتَفَت إليها؛ لأنها طَعْن في المُتَواتِر، وإن كانت صَادِرةً عن أئِمَّةٍ أكَابِر، وأيضاً فقد انْتصَر لها من يُقَابِلُهُم وأوْرَد من لسانِ العربِ نَظْمهِ ونَثْرِه ما يَشْهَد لصِحَّة هذه القراءة لُغَة. قال أبو بَكْر بن الأنْبَاريّ: «هذه قِرَاءة صَحيحَةٌ وإذا كانت العرب قد فَصَلَتْ بني المُتضَايفين بالجُمْلَة في قولهم:» هُو غُلامُ - إن شَاءَ اللَّه - أخِيكَ «يُرِيدون: هو غلام أخِيكَ، فأنْ يُفْصَل بالمفْرَد أسْهَل» انتهى. وسمع الكَسَائِي قول بعضهم: «إن الشَّاةُ لتجترُّ فتَسْمع صَوْت واللَّه ربِّهَا» ، أي: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 447 صَوْت ربِّها واللَّه، ففصل بالقسم وهو في قُوَّة الجُمْلَة، وقرأ بَعْض السَّلَف: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] بنصب «وَعْدَهُ» وخفض «رُسُلِهِ» وفي الحديث عنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «هَلْ أنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبي، تَارِكُوا لِي امْرَأتِي» أي تاركو صَاحِبي لي، تَارِكُو امْرَأتِي لي. وقال ابن جِنِّي في كتاب «الخصائص» : باب ما يَرِدُ عن العَرَبِيّ مُخَالِفاً للجُمْهُور، إذا اتَّفق شَيْءٌ من ذلك، نُظِر في ذلك العربي وفيما جَاءً بهِ: فإن كان فَصِيحاً وكان مَا جَاء به يَقْبَلُه القِيَاسُ، فَيَحْسُن الظَّنُّ به؛ لأنه يمكن أن يَكُون قَدْ وَقَع إليه ذَلِك من لُغَةٍ قديمة، قد طَال عَهْدُها وعَفَا رَسْمُهَا. أخرنا أبُو بكْر جعفر بن مُحَمَّد بن أبي الحَجَّاج، عن أبي خَلِيفَة الفَضْل بن الحباب، قال: قال ابن عَوْف عن ابن سيرين: قال عُمر بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «كان الشِّعْر عِلْمَ قَوْم لم يَكُونْ لَهُم عِلْمٌ منه؛ فجاء الإسْلام فتشاغَلَت عَنْه العَرَب بالجِهَاد وغَزْو فَارِس والرُّوم، ولَهَت عن الشِّعر وروايته، فلما كَثُر الإسلام وجاءت الفُتُوح، وأطْمَأنَّت العرب في الإمْصَارِ، راجَعُوا رواية الشِّعْرِ فلم يَئُولوا إلى دِيوانٍ مُدَوَّنٍ، ولا إلى كِتاب مكْتُوبٍ، وألِفُوا ذلك وقد هَلَك مَنْ هَلَك من العربِ بالموت والقَتْلِ، فَحَفِظُوا أقل ذلك وذهب عَنْهُم كَثِيرُه» . قال: وحدَّثنا أبو بكر، عن أبِي خَلِيفَة عن يُونُس بن حَبِيب، عن أبِي عَمْرو بن العلاء. قال: «ما انْتَهى إليكم مما قالت العَرَب إلا أقَلُّه، ولو جَاءَكُم وافراً لجَاءَكُم عِلْمٌ وشِعْر كَثِير» . وقال أبو الفَتْح: «فإذا كان الأمْر كَذَلِك، لم نَقْطَع على الفَصِيح إذا سُمِع مِنْه ما يُخَال الجُمْهُور بالخَطَإ، ما وُجِد طَريقٌ إلى تَقَبُّل ما يُورِدُه، إلا إذا كان القِيَاسُ يُعَاضِدُه» . قال شهاب الدِّين: وقراءة هذا الإمام بهذه الحيثيَّة، بل بطريق الأولَى والأحْرَى لو لم تكُن مُتَوَاتِرة، فكيف وهي مُتواتِرَة؟ وقال ابن ذَكْوَان: سألَني الكَسَائِي عن هذا الحَرْفِ وما بَلَغَهُ من قِرَاْتنا، فرأيْتُه كأنه أعْجَبَه وتَرَنِّم بهذا البيت: [البسيط] 2328 - تَنْفِي يَدَهَا الحَصَى فِي كُلِّ هَاجِرَةٍ ... نَفْيَ - الدَّرَاهِيمَ - تَنْقَادِ الصَّيَارِيفِ بنصب «الدَّرَاهِيم» [وجَرِّ «تَنْقَاد» ، وقد رُوِي بخفض «الدَّرَاهِيم» ورفع «تَنْقَادُ» وهو الأصْل، وهو المَشْهُور في الرِّواية] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 448 وقال الكرمَانِيّ: «قراءة انب عَامرٍ وإن ضَعُفَتْ في العَرَبِيَّة للإحَالَة بين المُضَافِ والمُضَافِ إليه فَقَويَّةٌ في الرَّواية عَالِيةٌ» انتهى. وقد سُمِعَ ممَّنْ يُوثَق بعربيَّته: «تَرْكُ يَوْماً نَفْسِك وهَوَاهَا سَعْيٌ في رَادَاهَا» أي: تَرْكُ نَفْسِك يَوْماً مع هَوَاهَا سَعْيٌ في هَلاكِهَا. وأما ما ورد في النَّظْمِ من الفَصْلِ بين المُتَضَايفين بالظَّرْف، وحَرْف الجرِّ، وبالمفعول فكَثِيرٌ، وبغير ذلك قَلِيل، فمن الفَصْل بالظَّرْفِ قول الآخر: [الوافر] 2330 - كَمَا خُطَّ الكِتَابُ بَكَفِّ - يَوْماً - ... يَهْودِيِّ ... ... . . وقول الآخر: [السريع] 2331 - قَدْ سَألَتْنِي أمُّ عَمْرٍو عَنِ ال ... أرْضِ الَّتِي تَجْهَلُ أعلامَهَا لمَّار رَأتْ سَاتِيدَمَا اسْتَعْبَرَتْ ... لِلِّهِ دَرُّ - اليَوْمَ - مَنْ لاَمَها تَذَكَّرَتْ أرْضاً بِهَا أهْلُهَا ... أخْوالَهَا فِيهَا وأعْمَامَهَا يريد: للَّه دَرُّ مَنْ لامَها اليَومْ، و «ساتِيدمَا» قيل: هو مرَكَّب والأصْل: «سَاتِي دَما» ثم سمِّي به هذا الجبل؛ أنه قُتِل عِنْدَه، قيل: ولا تَبْرح القَتْلَى عند، وقيل: «سَاتِيد» كله اسْمٌ و «مَا» مَزِيدة؛ ومثال الفَصْل بالجار قوله: [الطويل] 2332 - هُمَا أخَوَا - فِي الحرْب - مَنْ لا أخَا لَهُ ... إذا خَافَ يَوْمَاً نَبْوَةً فَدَعَاهُمَا وقال الآخر في ذلك: [البسيط] 2333 - لأنْتَ مُعْتَادُ - فِي الهَيْجَا - مُصَابَرَةٍ ... يَصْلَى بِهَا كُلُّ مَنْ عَادَاكَ نِيرَانَا وقوله أيضاً: [البسيط] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 449 2334 - كَأنَّ أصْوَات - مِنء إيغَالِهِنَّ بِنَا - ... أوَاخِر المَيْسِ أصْواتُ الفَرَارِيجِ قوله أيضاً: [الطويل] 2335 - تَمُرُّ على ما تَسْتِمِرُّ وَقَدْ شَفَتْ ... غَلائِلَ - عَبْدُ القَيْسِ مِنْهَا - صُدُورِهَا يريد: هما أخَواَ مَنْ لا أخَا لَهُ في الحربِ، ولانْتَ مُعْتَادُ مُصَابرةٍ في الهَيْجاء، وكأن أصوات أواخر الميس وغَلائِل صُدُورها، ومن الفَصْل بالمفعُول قول الشاعر في ذلك: [مجزوء الكامل] 2336 - فَزَجَحْتُهَا بِمَزَجَّةٍ ... زَجَّ - القُلُوصَ - أبِي مَزادَهْ ويروي: فَزَجَجْتُها فتدافعتْ، ويروى: فزجَجْتُهَا متمكِّنَا، وهذا البيت كما تقدم أنْشَده الأخْفَش بِنْصَب «القَلُوصَ» فاصلاً بين المصدر وفاعل المعْنوِيّ، إلا أن القرَّاء قال بعد إنشاده لهذا البيتِ: أهل المدينة يُنْشِدون هذا البَيْتَ يعني: بِنَصْب «القَلُوص» . قال: «والصَّواب: زَجَّ القَلُوصِ بالخَفْض» . قال شهاب الدِّين: وقوله: «والصَّواب يُحْتَمل أن يكُون من حَيْث الرِّوَاية الصَّحيحة وأن يكُون من حَيْثُ القياس، وإن لم يُرْوَ إلا بالنَّصْب، وقال في مَوْضِع آخر من كتابه» مَعَانِي القُرْآن «:» وهذا ممَّا كان يقُولُه نَحْوي ُّو أهل الحِجَاز، ولم نَجِد مِثْلَه في العربيَّةط وقال أبو الفَتْح: «في هذا البيت فُصِل بينهُمَا بالمفعُول به هذا مع قُدْرته على أنْ يقُول: زَجَّ القَلُوص أبو مزادة؛ كقولك:» سَرَّنَي أكلُ الخُبْزِ زَيْدٌ «بمعنى: أنه كان يَيْبَغِي أن يُضِيفَ المَصْدَر إلى مَفْعُوله، فَيَبْقى الفاعل مَرْفُوعاً على أصْلِه، وهذا مَعْنَى قول الفرَّاء الأوَّل» والصَّواب جر القَلُوص «سيعني ورفع الفاعل» . ثم قال ابن جِيني: وفي هذا البَيْت عِنْدي دَلِيلٌ على قُوَّة إضافَةِ المَصْدَر إلى الفَاعِل عِنْدَهُم، وأنه في نُفُوسِهِم أقْوَى من إضافته إلى المَفْعُول؛ ألا تراه ارْتَكب هذه الضَّرُورة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 450 مع تمكُّنِهِ من تركِهَا لا لِشَيْءٍ غير الرَّغْبة في إضافة المصْدَرِ إلى الفاعل دُون المَفْعُول، ومن الفَصْلِ بالمفعُول به أيضاً قول الآخر في ذلك: [الرجز] 2337 - وحِلَقِ المَاذِيِّ والقَوانِسِ ... فَدَاسَهُمْ دَوْسَ الحَصَادَ الدَّائِسِ أي: دوس الدائس الحصادَ. ومثله قول الآخر: [الرجز] 2338 - يَفْرُكُ حَبَّ السُّنْبُلِ الكُنَافِجِ ... بالقَاعِ فَرْكَ - القُطُنَ - المُحَالِجِ يريد: فَرْك المُحَالِجِ القُطْن، وقول الطِّرمَّاحِ في ذلك: [الطويل] 2339 - ... ... ... ... ... . ... بِوَاديهِ مِنْ قَرْعِ - القِسيَّ - الكَنَائَنِ يريد: قَرْع الكَنَائِنِ القِسِيَّ. قال ابن جِنِّي في هذا البيت: «لم نَجِد فيه بُداً من الفَصْلِ؛ لأن القوافي مَجْرُورَة» وقال في «زَجِّ القَلُوصِ» فصل بَيْنَهُما بالمَفْعُول به، هذا ما قُدْرَته إلى آخَر كلامهِ المتقدِّم، يعني: أنَّه لو أنْشَد بَيْت الطِّرْمَاح بخَفْضِ «القِسِيِّط ورفع» الكَنَائِنِ «لم يَجُز؛ لأن القَوافِي مَجْرُورة بِخِلاف بَيْت الأخْفَش؛ فإنه لو خفض» القَلُوص «ورَفع» أبُو مَزَادَة «لم تَخْتَلِف فيه قَافيِتَه ولمْ يَنْكَسِر وَزْنَه. قال شهاب الدِّين: ولو رفع» الكَنَائِن «في البيت، لكان جَائِزاً وإن كانتِ القوافي مَجْرُورة، ويكُون ذلك إقْوَاءً، وهو أن تكُون بَعْضُ القَوَافي مَجْرُورة وبَعْضُها مَرْفُوعة؛ كقول امرئ القيس: [الكامل] 2341 - جَالَتْ لِتصْرَعَنِي فَقُلْتُ لَهَا اقْصِري ... إنِّ امْرُؤٌ صَرْعِي عَلَيْكِ حَرَامُ قالميمُ مَحْفُوضة في الأوَّل، مَرْفُوعة في الثَّاني. فإن قيل: هذا عَيْبٌ في الشِّعْر. قيل: لا يتقاعد ذلك عن أنْ يَكُون مِثْل هذه للضَّرُورةَ، والحقُّ أن الإقْواء أفْحَشُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 451 وأكثر عَيْباً من الفَصْل المَذْكُور، ومن ذلك أيضاً: [الوافر] 2342 - فإنْ يَكُنِ النِّكَاحُ أحَلِّ شَيءٍ ... فإنَّ نِكَاحَهَا مَطَرٍ حَرَامُ أي: فإنَّ نِكَاحَ مطرٍ إيَّاها، فلما قدَّم المفْعُول فَاصِلاً بين المَصْدَر وفاعله، اتَّصَل بعامِلهِ؛ أنه قدر عليه مُتَّصِلاً فلا يَعْدل إليه مُنْفَصِلاً، وقد وقع في شِعْر أبي الطَّيَّب الفَصْل بني المَصْدَر المُضافِ على فَاعِلهِ بالمَفْعُول؛ كقوله: [الطويل] 2343 - بَعَثْتُ إلَيْهِ مِنْ لِسَانِي حَدِيقَةَ ... سَقَهَا الحَيَا سَقْي - الرِّياضَ - السَّحائبِ أي: سقي السَّحائب الرِّياضَ، وأما الفَصْل بغير ما تقدَّم فهو قَلِيلٌ، فمنه الفَصْل بالفاعل. كقوله: [الطويل] 2344 - ... ... ... ... ... . ... غَلاَئِلَ عَبْدُ القَيْسِ مِنْهَا صُدورِهَا فَفَصَل بين «غَلائِلَ» وبين «صُدُورَهَا» بالفاعل وهو «عبْدُ القَيْسِ» ، وبالجار وهو «مِنْهَا: كما تقدَّم بيانه؛ ومثله قول الآخر: [الطويل] 2345 - نَرى أسْهُماً لِلْمَوْتِ تُصْمِي وَلاَ تُنْمي ... ولا تَرْعَوِي عَنْ نَقْضِ - أهْوَاؤنَا - العَزْومِ فأهْوَاؤنا فاعل بالمصدر، وهو» نَقْض «وقد فصل به بين المَصْدَر وبين المُضَاف إلَيْه وهو العَزم؛ ومثله قول الآخر: [المنسرح] 2346 - أنْجَبَ أيَّام - والدهُ بِهِ - ... إذْ نَجَلاهُ فَنِعْمَ مَا نَجَلا يريد: أيَّام إذ نجلاه، ففصل بالفاعل وهو» والدهُ «المرفوع ب» أنْجَبَ «بين المُتضايفين وهما» أيَّام - إذْ ولداه «. قال ابن خَرُوف:» يجوزُ الفصل بين المصْدَر والمضاف إليه بالمفعُول؛ لكوْنِهِ في غير محلِّه، ولا يُجُوزُ بالفاعل لكوْنِهِ في محلَّه وعليه قراءة ابن عَامِر «. قال شهاب الدِّين: هذا فَرْقٌ بين الفاعل والمفعُول حيث اسْتَحْسن الفَصْل بالمفْعُول دون الفاعل، ومن الفَصْل بغير ما تقدَّم أيضاً الفَصْل بالنِّداء؛ كقوله: [البسيط] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 452 2347 - وفَاقُ - كَعْبُ - بُجَيْر مُنْقِذٌ لَكَ مِنْ ... تَعْجِيلِ مُهْلَكَةٍ والخُلْدِ في سَقَرِ وقول الآخر: [الطويل] 2348 - إذَا مَا - أبَا حَفْصٍ - أتَتْكَ رَأيْتَهَا ... عَلَى شُقراءِ النَّاسِ يَعْلُو قَصِيدُهَا وقول الآخر في ذلك: [الزجر] 2349 - كأنَّ بِرْذَوْنَ - أبَا عِصَامِ - ... زَيْدٍ حِمَارٌ دُقَّ بِاللِّجَامِ يريد:» وفاق يجَيْر يا كَعْب «و» إذا ما أتَتْكَ يا أبَا حَفْصٍ «و» كأن بِرْذَوْنَ زَيْد يا أبا عِصَام «. ومن الفَصْل أيضاً الفَصْل بالنَّعْتِ؛ كقول مُعَاوِية يُخاطِب به عَمْرو بن العَاص: [الطويل] 2350 - نَجَوْتَ وَقَدْ بَلَّ المُرَادِيُ سَيْفَهُ ... مِن ابْنِ أبِي شَيْخِ الأبَاطِح طَالبِ وقول الآخر في ذلك: [الكامل] 2351 - وَلَئِنْ حَلَفْتُ عَلَى يَدَيْكَ لأحْلِفَنْ ... بيَمِينِ أصْدَقَ مِنْ يَمينكَ مُقْسِمِ يريد: من ابن أبي طَالِب شَيْخ الأبَاطِح، فشيخ الأباطح نعْت لأبي طالب، فصل به بَيْن أبي، وبَيْن طالب، ويريد: لأحْلِفَن بيمين مُقْسِم أصْدَق من يَمِينِك؛ ف» أصدق «نعت لَقَوْله بيمين، فصل به بَيْن» يَمِين «وبَيْن» مُقْسِمِ «ومن الفَصْل أيضاً الفَصْل بالفِعْل المُلْغَى؛ كقوله في ذلك: [الوافر] 2352 - ألا يَا صَاحِبَيَّ قِفَا المَهَارَى ... نُسَائِلْ حَيَّ بَثْنَةَ ايْنَ سَارَا؟ بأيِّ تَرَاهُم الأرَضِين حَلُّوا أألدَّبَرَانِ أمْ عَسَفُوا الكِفَارَا؟ ... الجزء: 8 ¦ الصفحة: 453 يريد: بأي الأرضين تراهم حَلُّوا، ففصل بقوله «تَرَاهمُ» بين «أيّ» وبين الأرضين. ومن الفَصْل أيضاً الفَصْل بمفْعُول «لَيْس» معمولاً للمصدر المُضاف إلى فاعل؛ كقول الشاعر: [البيسط] 2353 - تَسْقِي ندى ريقتها المِسْوَاك ف «المِسْواكَ ريقَتها ... كَمَا تَضَمَّن مَاءَ المُزْنَةِ الرَّصِفُ أي: تسْقِي ندى ريقتها المِسْوَاك ف» المِسْوَالك «مفْعُول به نَاصبة» تَسْقِي «فصل به بين» نَدَى «وبين» ريقتهَا «، وإذ قد عَرَفْت هذا، فاعْلَم أنَّ قِرَاءة ابن عَامِر صحيحَة؛ من حيث اللُّغَةِ كما هي صَحيحة من حَيْث النَّقْل، ولا التِفَات إلى قَوْل من قال: إنه اعْتَمَد في ذلك على رسْم مُصْحَفِ الشَّام الذي أرْسَلَه عُثْمَان بن عفَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لأنه لم يُوجَد فيه إلا كَتَابة» شُرَكَائِهِم «بالياء وهذا وإن كافياً في الدَّلالة على جَرِّ» شُرَكائِهِم «، فليس فيه ما يَدُلُّ على نَصْب» أوْلادَهُم «؛ إذا المصْحَفُ مُهْمَلٌ من شكْل ونقط، فلم يَبْقَ له حُجَّة في نَصْب الأولاد إلاَّ النَّقْل المحض. وقد نقد عن ابن عامرٍ؛ أنه قرأ بِجَرِّ» الأوْلاد «كما سيأتي بَيَانَهُ وتَخْريجُه، وأيضاً فليس رسْمها» شُرَكَائِهم «بالياء مخْتَصاً بمصْحَف الشَّامِ، بل هي كذلك أيضاً في مُصْحَف أهْل الحِجَاز. قال أبو البرهسم:» فِي سُورة الأنْعَام في إمَام أهْل الشَّم وأهْل الحجاز: «أوْلادَهُم شُرَكَائِهِم» بالياء، وفي إمان أهل العراق «شُرَكَاؤهُم» ولم يَقْرَأ أهل الحجاز بالخفضِ في «شُرَكَائِهِم» لأن الرَّسءم سُنَّةُ مُتَّبعة قد تُوافِقُهَا التِّلاوة وقَدء لا تُوَافِقُ «. إلاَّ أن الشيخ أبا شَامَةَ قال:» ولم تُرْسم كذلك إلا باعتبار قراءَتَيْن: فالمضموم عليه قِراءة معْظم القُرَّاء «ثم قال:» وأمَّا «شُركَائهم» بالخَفْضِ؛ فيحتلم قراءة ابن عمر «قال شهاب الدين: وسيأتي كلام أبِي شَامَ’ هذا بتَمَامة في موْضِعه، وإما أخَذْتُ منه [بقَدر] الحَاجَة هُنَا. فقوله:» إن كُلَّ قراءة تَابِعَة لرسءم مُصْحَفِها «تُشْكِلُ بما ذكرنا لك من أنَّ مصحَفَ الحِجَازيِّين بالياءِ، [مع أنَّهُم لم يَقْرءُوا بذلِك] . وقد نقل أبُو عَمْرو والدَّانيِ أن:» شُرَكَائِهِم «بالياء] ، إنَّما هو في مُصْحف الشَّامِ دون مَصَاحِف الأمْصَار؛ فقال:» في مَصَحِف أهْل الشَّامِ «أوْلادَهُم شُركَائِهم» بالياء، وفي سائر المصاحف شُركَاؤُهُم بالواوِ «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 454 قال شهاب الدين: هذا هو المَشْهُور عند النَّاس، أعني اختصاص الياءِ بمصاحفِ الشَّام، ولكن أبُو البرهسم ثِقَة أْيضاً، فنَقْبَل ما ينقله. وقد تقدَّم قول الزَّمَخْشَري: و» الَذي حَمَلَه على ذِلَك أنْ رَألا في بعض المَصاحِف «شُرَكَائِهِم» مكتوباً بالياء «. وقال الشَّيْخ [شهاب الدِّين] أبو شامة: «ولا بُعْد فيما اسْتَبْعَده أهل النَّحْو من جِهَة المَعْنَى؛ وذلك أنه قَدْ عُهِد المفعُول على الفاعل المَرْفُوع تقديراً، فإنَّ المَصْدر لو كان مُنَوّناً لجاز تَقْدِيم المفعُول على فاعله، نحو:» أعْجَبَنِي ضَرْب عَمْراً زَيْدٌ «فكذا في الإضَافَة، وقد ثبت جواز الفَصْل بين حَرْف الجرِّ ومجْرُوره مع شِدَّة الاتِّصال بَيْنَهُمَا أكْثَر من شِدَّته بني المُضَافِ والمُضافِ إليه؛ كقوله - تعالى -: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مَّيثَاقَهُمْ} [النساء: 155] ، {فَبِمَا رَحْمَةٍ} [آل عمران: 159] ف» مَا «زَائِده في اللَّفْظِ، فكأنه مؤخَّر لَفْظاً، ولا التِفَات إلى قَوْل من زَعَم أنه لم يَأتِ في الكلام المَنْثُور مثله؛ لأنه نَافِ، ومن أسْنَد هذه القِراءة مُثْبِت، والإثْبات مُرَجَّح على النَّفْي بإجْمضاع، ولو نقل إلى هذا الزّاعِم عن بَعْضِ العرب أنه اسْتَعَمَلَهُ في النَّثْر، لرجع إلَيْه، فما بالُه لا يكْتَفِي بناقل القراءة من التَّابعين عن الصَّحابَةِ؟ ثم الذي حَكَاه ابن الأنْبَاري يَعْني ممَّا تقدَّم حِكاتيه من قوله:» هو غُلامُ إن شاء اللَّه أخيك «فيه الفَصْل من غير الشِّعْر بجُمْلَة» . وقرأ أبو عبد الرَّحْمن السلمي، والحسن البصري، وعبد الملك قَاضِي الجند صَاحِب أن عامِر: «زُيِّن» مبْنِياً للمفعُول، «قَتْلُ» رفعاً على ما تقدَّم، «أوْلادِهم» خفْضاً بالإضافة، «شُرَكَاؤهم» رفْعاً، وفي رفْعِه تخريجان: أحدهما - وهو تَخْريج سيبويه -: أنه مَرْفُوع بفعل مُقَدَّر، تقديره: زَيَّنَه شركَاؤهُم، [فهو جواب لِسُؤال] مقدر كأنَّه قيل: مَنْ زَيَّنة لَهُم؟ فقيل: «شركَاؤُهُم» ؛ وهذا كقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال رجَالٌ} [النور: 36] أي: يُسَبِّحُهُ. وقال الآخر: [الطويل] 2354 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخُصُومَةٍ ..... ... ... ... ... ... والثاني: خرجه قُطْرُب - أن يكُون «شُرَكَاؤهُم» رفعاً على الفاعليَّة بالمَصْدَر، والتقدير: زُيِّن للمشركِين أن قَتْلَ أوْلادهم شُركَاؤُهُم؛ كما تَقُول: «حُبِّب لِي رُكوبُ الفرسِ زَيْدٌ» تقديره: حُبِّب لِي أنْ ركب الفَرَس زَيْد، والفرق بني التَّخْرِيجَيْن: أن التَّخريج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 455 الأوَّل يؤدِّي إلى أن تكُونَ هذه القِرَاءةُ في المَعْنَى، كالقراءة المَنْسُوبة للعَامَّة في كون الشُّركَاء مُزَيِّين للقَتْلِ، وليسوا قَاتِلِين. [والثاني: أن يكون الشُّركاء قَاتِلين] ، ولكن ذلك على سبيل المجازِ؛ لأنهم لما زيَّنُوا قَتْلَهم لآباَائِهِم، وكانوا سَبَاً فيه، نُسِبَ إليهم القَتْل مجازاً. وقال أبو البقاء: «ويمكن أن يَقَع القَتْل منهم حَقِيقَة» ، وفي نظر؛ لقوله - تبارك وتعالى -: «زَيَّن» والإنْسَان إنما يُزَيَّن له فِعْل نَفْسِه؛ كقوله - تعالى -: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً} [فاطر: 8] وقال غير أبي عُبَيْد: «وقرأ أهْل الشام كقِرَاءة ابن عامر، إلا أنهم خفَضُوا» الأولاد «أيضاً، وتخريجها سَهْل؛ وهو أن تَجْعَل» شُرَكَائِهم «بدلاً من» أولادِهِم «بمعنى أنهم يُشْرِكُونهم في النَّسب، والمالِ، وغير ذلك» . قال الزَّجَّاج: «وقد رُوِيت» شُركَائِهم «بالياء في بَعْض المصاحفِ، ولكن لا يَجُوز إلاَّ على أن يكُون» شُركَاؤُهم «من نَعْت الأولاد؛ لأن أولادهم شُرَكَاؤهُم في أمْوالهم» . وقال الفراء بعد أنْ ذكر قِرَاءة العامَّة وهي «زَيَّن» مبنياً للفاعل، «شركَاؤُهُم» مرفوعاً على أنَّه فاعِل - «وقراءة» زُيِّن «مبنياً للمفعُول،» شركَاؤُهُم «رَفْعاً على ما تقدَّم من أنه بإضْمار فعل، وفي مُصْحَف أهْل الشَّام» شُركَايهم «بالياء، فإن تكُن مُثْبتة عن الأوَّلين، فينبغي أن تقرأ» زُيِّن «ويكون الشُّركَاء هم الأوْلاَد؛ لأنهم مِنءهُم في النَّسْب والمِيراث. وإن كانوا يَقْرَءُون:» زَيِّن «- يعني بفتح الزاي - فَلَسْت أعرف جِهَتَهَا إلا أن يكُونُوا فيها آخِذِين بلُغَة قَوءم يَقُولون: أتْيتُها عَشَايَانَا، ويقولون في تثنية حَمْراء: حَمْرَايَان فهذا وَجْه أن يكُونُوا أرَادُوا: زَيَّن لكثير من المشْرِكِين قتل أوْلادهم شُركَايُهم، يعني بياء مَضْمُومة؛ لأن» شركَاؤُهُم «فاعل كما مَرَّ في قرَاءة العَامَّة. قال:» وإن شِئْتَ جَعَلْتَ «زَيَّن» فعلاً إذا فَتَحْتَهُ لا يُلبس، ثم تَخْفِض الشركاء بإتباع الأولاد «. قال أبو شامة:» يعني تَقْدير الكلام: «زَيَّن مُزَيّنٌ» فقد أتَّجَه «شركَائِهِم» بالجرِّ أن يكون نعتاً للأوْلاَد، سواءٌ قُرئ زَيّن بالفتح أو الضم «. وقرأت فِرْقة من أهْل الشَّامِ - ورُوِيَتْ عن ابن عامر أيضاً -» زِينَ «بكسر الزاي بعدها ياء سَاكِنة؛ على أنه فِعْل مبْنِيّ للمْجُهول على حَدِّ قِيلَ وبيعَ. وقيل: مَرْفُوع على ما يُسَمَّ فَاعِله، و» أولادهُم «بالنصب، و» شُرَكَائِهِم «بالخَفْضِ، والتَّوْجه واضح مما تقدَّم، فهي [و] القراءة الأولى سواء، غاية ما في البابِ: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 456 أنَّه أُخذ مِنْ زَانَ الثُّلاثِي، وبين للمَفْعُول، فاعِلَّ بما قد عَرَفْتَهُ في أول البَقَرة. واللام من قوله» لِكثير من المشْركينَ «متعلِّقة ب» زَيَّن «، وكذلك اللاَّمُ في قوله:» ليُرْدُهُم «. فإن قيل: كيف تُعَلَّق حرفَيْ جر بلفْظٍ واحِد وبمعنى واحد بعامل واحد، من غَيْر بَدَلِيَّة ولا عَطْف؟ . فالجواب: أن مَعْنَاها مختلِفٌ؛ فإن الأولى للتَعْدِيَة والثَّانية للعِلِّيَّة. قال الزمخشري:» إن كان التَّزيين من الشَّياطين، فهي على حقيقةِ التَّعْليل، وإن كان من السَّدنَةِ، فهي للصَّيْرُورة «يعني: ان الشَّيْطَان يَفْعَل التَّزْيين وغرضُه بذلك الإرْدَاءُ، فالتعْلِيل فيه واضِحٌ، وأمَا السَّدَنةُ فإنهم لم يُزَيِّنوا لهم ذَلِك، وغرضهم إهْلاكُهم، ولكن لما مآل حَالِهِم إلى الإرْدَاءِ، أتى باللاَّم الدَّالَّة على العَاقِبة والمآل. فصل في بيان ما كان عليه أهل الجاهلية كان أهْل الجَاهِليَّة يدْفِنُون بَنَاتَهم أحْياء خَوْفاً من الفَقْر والتَّزْويج، واخْتلفُوا في المراد بالشُّركَاءِ. فقال مجاهد: شُرَكَاؤُهم شَيَاطينُهم أمَرُوهم بأن يَقْتُلوا أولادَهم خَشْيَة الغِيلَة، وسمِّيت الشَّياطين شُرَكَاء؛ لأنهم اتخذوها شُرَكَاء لقوله - تبارك وتعالى -: {أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ مِن دُونِ اللهِ} [الأنعام: 22] . وقال الكَلْبِيّ: الشركاء سَدَنة آلِهَتِهم وخُدَّامهم، وهُمُ الَّذِين كَانُوا يُزَيِّنُون للكُفَّار قَتْل أولادهم، وكان الرَّجُل يَقُوم في الجَاهلِيَّة فيحلف باللَّه إن ولد له كَذَا غُلاماً لَيَنْحَرَنَّ أحدهم، كما حلف عَبْد المُطَلِّب على ابْنه عبد الله، وسُمِّيت السَّدَنَة شُرَكَاء كما سُمِّيت الشَّياطِين شُرَكَاء في قَوْل مُجَاهِد، وقوله «لِيُرْدُوهُم» الإرْدَاء في لُغة القُرْآن الإهلاك {إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ} [الصافات: 56] . قال ابن عبَّاس: «لِيُرْدُوهم في النَّار» واللاَّم هَهُنَا لام العَاقِبة؛ كقوله: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] . «ولِيلبِسُوا عَلَيْهِم دِينَهُم» أي: يَخْلِطُوا عليه دِينَهُم. قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - ليُدْخِلُوا عليهم الشَّك في دينهم، وكانوا على دِين إسْمَاعيل فَرَجَعُوا عنه بلبس الشَّياطين. قوله: «وليَلْبِسُوا» عطف على «ليُرْدُوا» علل التَّزْيين بشَيْئَيْن: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 457 بالإراداء وبالتخليط وإدْخَال الشُّبْهَة عليهم في دينهم. والجمهور على «وليَلْبِسُوا» بكسر الباء مِنْ لَبَسْتُ عليه الأمْر ألبِسُه، بفتح العَيْن في المَاضِي وكَسْرِها في المُضَارع؛ إذا أدْخَلْتَ عليه فيه الشُّبْهَة وخَلَطْتَهُ فيه. وقد تقدَّم بَيَانُه في قوله: {وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ} [الأنعام: 9] . وقرأ النخعي: «وليلبسوا» بفتح الباء فقيل: هي لغة في المعنى المذْكُور، تقول: «لَبِسْتُ عليه الأمْر بفتح الباء وكسرها ألْبَسه وألبَسَهُ» والصَّحِيح أن لَبِس بالكَسْر بمعنى لَبِس الثياب، وبالفَتْح بمعْنى الخَلْط، فالصَّحيح أنه اسْتَعار اللِّبَاس لشِدَّة المخالطة الحَاصِلَة بَيْنَهم وبين التَخْليط؛ حتى كأنَّهم لَبْسُوا كالثياب، وصارت مُحِيطة بهم. قوله: {وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ} والضَّمير المرفُوع لكَثِير والمنصُوب للقَتْل للتصريح به، ولأنَّه المسُوق للحديث عنه. وقيل: المَرْفُوع للشُّركاء والمنْصُوب للتَّزِيين. وقيل: المَنْصُوب لِلَّبْسِ المَفْهُوم من الفِعْل قَبْله وهو بَعِيد. وقال الزَّمَخْشَري: «لما فَعَل المُشْرِكُون ما زُيِّن لَهُم من القَتْلِ، أو لما فَعَل الشَّياطين أو السَّدَنَة التَّزْيين أو الإرْدَاء أو اللِّبْس، أو جَمِيع ذلِك إن جَعلْتَ الضمير جَارياً مَجْرَى اسم الإشارة» . قوله: «فَذَرْهُم وما يَفْتَرُون» تقدَّم نظيره. فصل في المراد من الآية المعنى: ولو شاء اللَّه لَعصَمْهم حتى ما فَعَلُوا ذلِك من تَحْريم الحَرْث والأنْعَام، وقتل الأولاد فذرهم يا مُحَمَّد وما يَفْتَرُون يختلِقُون في الكَذِب، فإن اللَّه لهم بالمِرصَاد. قال أهل السُّنَّة: وهذا يَدُلُّ على أن كُلَّ ما فَعلَهُ المشرِكُون - فهو بِمَشِيئَة الله - تبارك وتعالى -. وقال المعتزلة: إنه مَحْمُول على مَشِيئَة الإلْجَاء كما سَبَق. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 وهذا نوع ثَالِثٌ من أحْكَامِهم الفَاسِدةِ، وهو أنَّهُم قسموا أنْعَامهم اقْسَاماً: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 458 فأولها: قولهم: هذه أنْعَام وحرْثٌ حِجْر «لا يَطْعَمُها» . قرا الجمهور «أنْعَام» بصِيغَة الجَمْعِ وأبان بن عثمان «نَعَمٌ» بالإفْرَاد، وهو قَرِيبٌ لأن اسْم الجِنْس يقُوم مقام الجَمْعِ، وقرأ الجمهور: «حِجْر» بكسر الحاء المهملة وسكون الجيم. وقرأ الحسن وقتادة والأعْرَج: بضم الحَاءِ وسُكُون الجيم. ونقل عن الحسن وقتادة أيضاً: فتح الحضاءِ وسكن الجيم، ونقل عن أبان بن عُثْمَان: ضمُّ الحاء الجيم معاً. وقال هَارُون: كان الحسن يَضُمَّ الحاء من «حِجْر» حيث وقع في القُرْآن إلاَّ موضعاً واحداً [وهو] : {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} [الفرقان: 53] والحاصل: أن هذه المادَّة تدل على المَنْع والحَصْر؛ ومنه: فلان في حِجْر القَاضِي أي: في مَنْعِه، وفي حِجْري، أي: ما يَمْنَع من الثُّوْاب أن ينْفَلِت منه شَيْءٌ، وقد تقدم تَحْقِيق ذلك في النِّسَاء. فقوله: «وحَرْث حِجْر» أي: مَمْنُوع ف «فِعْل» بمعنى مَفْعُول؛ كالذَّبْح والنَّطْح بمعنى مَذْبُوح ومَنْطُوح. فإن قيل: قد تقدَّم شيئان: وهما أنْعَام وحَرْث، وجيء بالصَّفَة مفردة. فالجواب: أنه في الأصْل يُذكَّر ويُوحَّد مطلقاً. قال الزَّمَخْشَري: «ويستوي في الوَصْف به المذكَّر والمؤنَّث والواحد والجمع؛ لأن حكمه حكم الأسْمَاء غير الصِّفاتِ» يعني بكونه حُكْمُه حكم الأسْمَاء: انه في الأصْل مصْدَر لا صِفَة، فالاسم هنا يُرَادُ به المَصْدَر، وهومُقَابِلُ الصِّفة. وأما بقية القراءات: فقال أبُو البقاء: «إنها لُغَاتٌ في الكَلِمَةِ» وفسر معناها بالممْنُوع. قال شهاب الدين: ويجوز أن يكُون المَضْمُوم الحاء والجيم مَصْدراً، وقد جاء من المصادر للثُّلاثي ما هُو عل وَزْن «فُعُل» بضمِّ الفاء والعَيْن، نحو حُلُم، ويجُوز أن يكون جَمْع «حَجْر» بفتح الحاءِ وسكون الجيم، و «فُعُل» قد جاء قَلِيلاً جمعاً «لفَعْل» نحو: سَقْف وسُقُف، ورَهْن ورُهُن، وأن يكون جَمْعاً ل «فِعْل» بكسر الفاء، و «فُعُل» أيضاً قد جَاء جمعاً «لفِعْل» بكسر الفاءِ وسُكُون العين، حو: حِدْج وحُدُج، وأما حُجْر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 459 بضمِّ الحاء وسُكُون الجيم: فهو مخَفَّفٌ من المضمُمة، فيجوز أن يكُون وأن يكون جَمْعاً لحَجْر أو حِجْر. وقرأ أبَيّ بن كَعْب، وعبد الله بن العبَّاس، وعبد الله بن مسعود، وعبد اللَّه بن الزُّبَيْر، وعِكْرِمَة، وعمرو بن دِينَار، والأعمش: حِرج بكسْر الحاَء وراء سَاكِنَة مقدَّمة على الجيم، وفيها تأويلان: أحدهما: أنَّهَا من مادة الحَرَج وهُو التَّضْييق. قال أبو البقاء: واصلُه «حَرِج» بفتح الحاء وكسر الراء، ولكنه خُفِّف ونُقِل؛ مثل فَخْذ في فَخِذ. قال شهاب الدِّين: ولا حَاجَة إلى ادِّعاء ذلك، بل هذا جَاءَ بطَريق الأصَالة على وَزْن فِعْل. والثاني: أنه مَقْلُوب من حجر، قُدِّمَتْ لامُ الكَلِمَة على عَيْنها، ووزنه «فِلْع» ؛ كقولهم: نَاء في نَأى، ومعيق في عَمِيق، والقَلْب قليل في لسانهم، وقد قدَّمت منه جُمْلَة في المائدة عند قوله - تبارك وتعالى -: {أَشْيَآءَ} [المائدة: 101] . قوله: «لا يَطْعَهُما إلى مَنْ نَشَاءُ» هذه الجُمْلَة في محلِّ رفْع نَعْتًا ل «أنعام» وصفٌوه بوَصْفَيْن: أحدهما: أنه حِجْرٌ. والثاني: أنه لا يَأكُلُه إلا من شَاءُوا وهم الرِّجال دُون النِّساء، أو سَدَنه الأصْنَام. قال مُجَاهد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يعني بالأنْعَام: البَحِيرة والسَّائِبَة والوصِيلَة والحَامِي، لا يَطْعَمُهَا ولا يأكُلها إلا الرِّجَال دُون النِّساء. وقال غيره: الأنْعام ما جَعَلُوها للَّه ولآلهتهم على ما تقدم [ «ومَنْ نَشَاءُ» فاعل ب «يَطْعَمُهَا» وهو استِثْنَاء مفرَّغ، و «بزعمهم» : حالٌ كما تقدَّم] في نظيره. قوله: «وأنْعَامٌ حُرِّمتْ ظُهُورُهَا» وهي البَحَائِر والسَّوائب والحَوَامِي، وهذا هو القَسْم الثَّاني وقد تقدَّم في المَائِدةَ، والقسم الثالث: أنعام لا يَذْكُرُون اسْم اللَّه عليها بالذَّبْح، وإنما يَذْكُرُون عليها اسْمَاء الأصْنَام. وقيل: لا يَحُجُّون عليها، ولا يُلَبُون على ظُهُورهِا، ولا يَرْكَبُونها لفعل الخَيْرِ؛ لأنه لما جرت العادة بِذِكْر اسْم اللَّه على فِعْل الخَيْر. قوله: «افْتِرَاءٌ» فيه أربعة أوجه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 460 أحدها - وهو مذهب سيبويه -: أنه مَفْعُول من أجْلِه، أيك قالوا ما تقدَّم لأجْل الافْتِرَاء على البَاري - تبارك وتعالى - أي: يزْعُمُون أن الله أمِرهُم به افْتِرَاء عليه. الثاني: مَصْدر على غير الصَّدْر؛ لأن قَوْلَهُم المحْكي عنهم افْتِرَاءن فهو نَظير «قَعَد القُرْفُضَاء» وهو قول الزَّجَّاج. الثالث: أنه مصدر عامله من لَفْظِه مُقَدَّر، أي: افْتَروا ذلك افْتِرَاء. الرابع: أنه مَصْدَر في موضع الحالِ، أي: قالوا ذلك حَال افْتِرَائهم، وهي تُشْبِه الحال المؤكِّدة؛ لأن هذا القَوْل المَخْصُوص لا يَكُون قَائِلُه إلا مُفْتَرِياً. وقوله: «عَلَى اللَّه» يجوز تعلُّقه ب «افْتِرَاءً» على القول الأوَّل والرَّابع، وعلى الثاني والثَّالث ب «قالوا» لا ب «افْتِرَاءً» ؛ لأن المصدر المؤكد لا يَعْمَل، ويجُوز ان يتعلَّق بمحذُوف صِفَة ل «افْتِراءً» وهذا جَائِزٌ على كل الأقوالِ. قوله: {سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} والمقصود منه الوعيد، و «الباء» في قوله: «بِمَا» سببيّة، و «مَا» مَصْدَريَّة، أو موصُوفة، أو بمَعْنَى الَّذِي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 هذا نوع رَابعٌ من قضَايَاهُم الفَاسِدَة. قال ابن عبَّاس، وقتادة والشعبي: أراد أجنَّة البَحَائِر والسَّوائب، فما وُلِد منها حَيَّا، فهو خَالِصٌ للرِّجَال دون النِّساء، وما وُلِد منها مَيِّتاً، أكله الرِّجَال والنِّسَاء جميعاً. والجمهور على «خَالِصَة» بالتَّأنيث مَرْفُوعاً على أنه خَبَرَ «مَا» الموصُولة، والتَّأنيث: إمَّا حَمْلاً على المَعْنَى؛ لأن الذي في بُطُونِ الأنْعَام أنْعَامٌ، ثم حمل على لَفْظِها في قوله: «ومُحَرَّمٌ» وإمَّا لأنَّ التَّأنِيث للمُبالغة كهو في «عَلاَّمَة» و «نسَّابَة و» رَاوِيَة «و» الخاصَّة «و» العامَّة «وإما لأنَّ» خَالِصَة «مصْدَر على وَزْنَ» فَاعِلة «كالعَاقِبة والعَافِية؛ وقال - تبارك وتعالى -: {بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار} [ص: 46] وهذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 461 القَوْل قول الفرَّاء والأوَّل لَهً ولأبِي إسْحاق الزَّجَّاج، والثاني للكسَائِي، وإذا قيل: إنها مَصْدرٌ كان ذلِك على حّذْف مُضَافِ، أي: ذُو خُلُوصٍ، أو على المُبَالَغَة، أو على وقُوعِ المصدر مَوْقِع اسْمِ الفاعلِ؛ كَنَظَائِره كقول الشاعر: 2355 - وَكُنْتِ أمنِيَّتِي وَكُنْتِ خَالِصَتِي ... وَلَيْس كلُّ امْرِىءٍ بِمُؤتَمَنِ قال الكسائي: خَالِص وخَالِصَة واحد، مثل وَعْظ ومَوْعِظَة. وهو مستفيض في لسانهم: فلان خَالِصَتي، أي: ذُوخُلُوصي. و» لِذُكرونا «مُتعلِّق به، ويجوز أن يتعلَّق بممحذُوف على أنَّه وَصْف ل» خَالِصَة «، وليس بالقَوِيّ. وقرأ عبد الله وابن جُبَيْر، وأبُو العالية والضَّحَّاك، وابن أبي عَبْلَة:» خَالِصٌ «مَرْفُوعاً على ما تقدَّم من غير هَاءِ، و» لِذُكُورِنَا «متعلِّق به، أو بمَحْذُوف كما تقدَّم، وقرأ ابن جُبَيْر، نقله عنه ابن جنِّي:» خَالِصاً «نصباً من غير تَاءِ، ونصبه على الحَالِ وفي صاحبه وجهان: أظهرهما: أنه الضَّمَير المستتر في الصِّلة. الثاني: أنه الضَّمِير المسْتَتِر في» لِذُكُورِنَا «فإن» لِذُكُورنَا «على هذه القراءة خَبَر المُبْتَدأ، وهذا إنَّما يَجُوز على مَذْهَب أبِي الحَسَن؛ لأنه يُجِيزُ تَقْدِيم الحال على عَامِلهِا المَعْنَوِيّ، نحو:» زيْدٌ مستَقِرٌّ في الدَّارِ «والجمهور يَمْنَعُونَه، وقد تقدَّم تحقيقُهُ. وقرأ ابن عباس أيْضَا والأعرج، وقتادة:» خَالِصَةً «نصابً بالتَّأنيث، والكلام في نصْبِه وتأنِيثِه كما تقدَّم في نَظِيره، وخرَّجه الزمخشري على أنه مَصْدَر مُؤكِّد كالعَاقِبَة. وقرأ ابن عبَّاس أيضاً، وأبُو رَزِين، وعِكْرمة، وأبو حَيْوة:» خَالِصة «برَفْع» خالص «مُضَافَا إلى ضَمِير» مَاَ «ورفعُه على أحد وجهين: إما على البدل من الموصُول، بلد بَعْضَ من كُلِّ، وم» لِذُكُورِنَا «خبر المَوْصُول. وإما على أنَّه مُبْتَدأ، و» لِذكُورنَا «خبره، والجُمْلة خبر الموصُول، وقد عَرَفْتَ ممَّا تقدَّم أنه حَيْثَ قُلْنَا: إن» خَالِصة «مصدر أو هي للمُبَالغَة، فليس في الكلام حَمْل على مَعْنَى ثم على لَفْظ، وإن قلنا: إن التَّأنثِ ما فِي البُطُونِ، كان في الكلام الحَمْلُ على المَعْنَى أوَّلاً [ثم على اللَّفْظ في قوله:» مُحَرَّمٌ «ثانياً، وليس لِذَلك في القُرْآن نَظِير، أعني: الحَمْل على المَعْنَى أوّلاً] ثم على اللَّفْظِ ثانياً، إلاَّ أن مَكِّياً زعم فير غَيْر الجزء: 8 ¦ الصفحة: 462 إعْراب القُرْآن الكَريم، له: أنَّ لِهَذِه الآيَةِ نظائِر فذكرها وأما في إعرابه: فلم يَذْكُر أنَّ غيرها في القُرْآن شَارَكها في ذلك؛ فقال في إعرابه:» وإنَّما أنَّثَ الخَبَر؛ لأن مَا فِي بُطُون الأنْعَام أنْعَام؛ فحلم التأنيث على المَعْنَى، ثم قال: «ومُحَرَّم» فذكَّر حَمْلاً على لَفْظِ «مَا» وهذا نَادِر لا نَظِير له، وإنَّما يَأتِي في «مَنْ» حَمْل الكلام أوَّلاً على اللَّفْظِ ثم على المَعْنَى بعد ذلك، فاعرفه فإنه قَلِيلٌ «. قوال في غير «الإعْرَاب» : «هذه الآيةُ في قرءاة الجماعة أتَتْ على خلاف نظائِرِهَا في القُرْآن؛ أن كلما يُحْمل على اللفظِ مرة وعلى المَعْنَى مرَّة، إنما يبتَدِئ أولاً بالحَمْل على اللَّفْظِ ثم يليه الحَمْل على المَعْنِى، نحو: {مَنْ آمَنَ بالله} [البقرة: 62] [ثم قال] :» فَلَهُم أجرُهم «هكذا يأيت في القُرْآن وكلام العرب، وهذه الآيةُ تقدَّم فيها الحملُ على المَعْنِى، فقال:» خَالِصَة «ثم حَمَل على اللَّفظِ، فقال:» وحُرِّمَ «ومثله {كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ} [الإسراء: 38] في قراءة نافع ومن تابعه، فأنَّث على معنى» كُلَ «لأنها اسْم لجَمِيع ما تقدَّم ممَّا نهى عنه من الخَطَايَا، ثم قال:» عند ربِّك مَكْرُوهاً «فذكر على لَفْظِ» كُلّ «وكذلك {مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} [الرخرف: 12، 13] جَمَعَ الظُّهُور حملاً على مَعْنَى» ما « [ووحَّد الهاء حَمْلاً على لَفْظ» مَا «، وحُكي عن العرب:» هذا الجَرَادُ قد ذَهَب فأراحَنَا مِنْ أنْفُسِهِ جمع الأنْفُس] ووحد الهَاء وذكَّرها «. قال شهاب الدين: أما قوله:» هكذا أتى في القُرْآنِ «فصحيح، وأمَّا قوله:» وكلام العرب «فليس ذلك بِمُسَلَّم؛ إذ في كلام العرب البداية بالحَمْل على المَعْنَى ثم على اللَّفْظِ، وإن كان عَكْسُه هوالكَثِير، وأمَّا ما جعله نَظِير هذه الآية في الحَمْل على المَعْنَى أوَّلاَ ثم على اللَّفْظ ثانياً، فلي بمُسَلَّم أيضاً، وكذلك لا نُسَلِّم أن هذه الآية مما حُمِل فيها على المَعْنَى أولاً ثم على اللفظِ ثانياً. وبيان ذلك: أن لقَائِل أن يَقُول: صِلَة» مَا «جارّ ومجرور وهُو مُتعلِّق بمحْذُوف، فتقدريه مُسْنَداً لضمير مذكر، أي: ما ستقرَّ في بُطُون هذه الأنْعَام، ويبعد تَقْديرهُ باسْتَقَرَّت، إذا عرف هذا، فيكُون قد حُمَل أوَّلاً على اللَّفْظ في الصِّلة المقدَّرة ثم على المَعْنَى ثانياً، وأما» كُلُّ ذَلِك كان شَيِّئةُ «فَبَدأ فيه أيضاً بالحَمْل على اللَّفْظِ في قوله:» كَانَ «فإنه ذكر ضَميرَهُ المسْتَتِر في» كَانَ «، ثم حمل على المعنى في قوله:» سَيِّئهُ «فأنَّث، وكذلك {لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ } [الزخرف: 13] فإن قبله «مَا تَرْكَبُون» والتقدير: ما تركَبُونه، فحلم العِائِد المحذُوف على اللَّفْظ أوَّلاً ثم حُمِل على المَعْنَى الجزء: 8 ¦ الصفحة: 463 ثانياً، وكذلك في قولهم: «هذا الجَرادُ قَدْ ذَهَب» حَمَل على اللَّفْظ فأفْرَد الضمير في «ذَهَبَ» ثم حمل على المعْنَى ثَانِياً، فجمع في قوله: «انْفُسِهِ» وفي هذه المواضع يكون قد حَمَل فيها أوَّلاً على اللَّفْظ، ثم على المَعْنَى ثم على اللَّفْظ، وكُنْتُ قد قدَّمْتُ أن في القُرْآن من ذلك أيْضاً ثلاثة مواضع: آية المَائِدة: {وَعَبَدَ الطاغوت} [المائدة: 60] ، ولقمان: {وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث} [لقمان: 6] ، والطلاق: {مَن يُؤْمِن بالله} [الطلاق: 11] . قوله «:» وإن يكن مَيْتَةً «قرأ ابن كَثِير:» يَكُنْ «بياء الغَيبة» مَيْتَةٌ رفعاً، وابن عامر: «تكُنْ» بتاء التَّأنيث، «مَيْتَةٌ» رفعاً، وعاصم في رواية أبي بكر «تَكُنْ» بتاء التَّأنيث، «مَيْتَةً» نصباً، والباقون «تكن» كابن كَثِير «مَيْتَةً» كأبي بكر والتَّذكير والتَّأنيث واضحان؛ لأن المَيْتَة تأنيث مَجَازِيّ؛ أنها تقع على الذَّكَر والأنثى من الحيوان فَمَنْ انَّث فبِاغْتِبَار اللَّفْظِ، ومن ذَكَّر فباعْتِبار المَعْنَى، ها عند من يرفع «مَيْتَةٌ» ب «تَكُنْ» أمَّا «من يَنْصِبُها، فإنه يسند الفِعْل حينئذٍ إلى ضَمير فيذكر باعْتِبار لَفْظ» مَا «في قوله:» مَا فِي بُطثون «ويؤنِّث باعتِبَار مَعْنَاها، ومن نصب» مَيْتَةً «فعلى خبر» كان «النَّاقِصة، ومن رفع فَيْحْتَمل وجهين: أحدهما: أن تكون التَّامَّة، وهذا هو الظَّاهر، أي: وإن وُجِدَ مَيْتَةٌ أو حَدَثَتْ، وأن تكون الناقصة وحنيئذٍ يكون خَبَرُوها مَحْذُوفاً، أي: وإن تكُون هُناكَ أو فِي البُطُون مَيْتَة وهذا رأي الأخْفَش، فيكون تَقْدير قراءة ابن كَثِير: وإن يَحْدُثْ حيوانٌ مَيْتَةٌ، أو وإن يَكُن في البُطُون مَيْتَةٌ على حَسَب التقديرين تماماً ونقصاناً، وتقدير قراءة ابن عَامِر كتقدير قراءته، إلا أنه أنَّث الفِعْل باعْتِبَار لفظ مَرْفُوعه، وتقدير قِراءة أبِي بكر: وإن تكُون الأنْعَام أو الأجنَّة مَيْتَة، فأنَّث حَمْلاً على المَعْنَى، وقراءة البَاقِين كتقدير قراءته، إلا أنَّهُم ذكروا باعتبار اللَّفْظِ. قال أبو عمرو بن العلاء: ويُقَوِّي هذه القراءة - يعني قراءة التَّذْكِير والنَّصْب - قوله:» فَهْمْ فِيهِ «ولم يَقُل:» فِها «ورُدَّ على أبي عَمْرو: بأن المَيْتَة لكل مَيِّتٍ ذكراً كان أوء أنْثَى، فكأنه قيل: وإن يَكُون مَيِّتَاً فهم فيه، يعني: فَلَمْ يَصِر له في تَذْكِير الضَّمير في» فِيهِ «حُجَّةٌ. ونقل الزَّمَخْشَرِي قراءة ابن عَامِرِ عن أهْل مكَّة، فقال:» قرأ أهْل مكَّة «وإن تكنْ مَيْتَةٌ» بالتأنيث والرَّفْع «فإن عنى بأهل مَكَّة ابن كَثير0 ولا أظنه عَنَاهُ - فليس كذلِك، وإن عنى غيره، فَيَجُوز على أنه يُجَوِزُ أن يكُون ابن كَثِير قرأ بالتَّأنيث أيضاً لكن لم يَشْتَهِر عنه اشْتِهَار التَّذْكِير. وقرأ يزيد «مَيِّتَة» بالتَّشْدِي وقرأ عبد الله: «فَهُمْ فيه سَوَاء» قال شهاب الدِّين: وأظنُّها تفسير لا قراءة، لمخالفتها السَّواد، وقوله: «وهُمْ فِيهِ» أي: أن الرِّجَال والنساء فيه شُرَكَاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 464 قوله: «سَيْجزِيهم وَصْفهُم» أي: بوصفهم أو على وَصْفِهِم بالكذبِ على اللَّهِ سبحانه وتعالى: إنه حَكِيم عَلِيم. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 هذا جواب قسم مَحْذُوف وقرأ ابن كثير وابن عامر، وهي قراءة الحسن وأبي عبد الرحمن: «قَتَّلُوا» بالتشديد؛ مُبَالغَة وتكثيراً، والباقون بالتّخْفِيفِ. و «سَفَهاً» نصب على الحالِ، أي: ذوي سَفَهٍ أو على المَفْعُول من أجْلِه، وفيه بَعْدٌ؛ لأنه ليس عِلَّة بَاعِثة أو عَلَى أنه مصدر لِفِعْل مقدَّر، أي: سَفَهُوا سَفَهاً أو على أنه مَصْدر على غير الصَّدْر؛ لأن هذا القَتْل سَفَهٌ. وقرأ اليماني «سُفَهاء» على الجَمْع، وهي حال وهذه تقوِّي كون قراءة العامَّة مَصْدراً في موضع الحال، حيث صرّح بها، و «بِغَيْر علِمٍ» : إما حالٌ أيضاً وإما صِفَة ل «سَفَهاً» وليس بِذَالكَ. فصل في إلزام الكفار الخسران واعلم أنه - تبارك وتعالى - ذر فيما تقدَّم قَتْلضهم أولادهم وتحريمهم ما رَزَقَهم الله، ثم إنه - تبارك وتعالى - جمع هَذَيْن الأمْرَيْن في هذه الآية الكريمة، وبيَّن ما لَزمهم على هذا الحكم هو الخُسْرَان والسَّفَاهة وعدم العِلم، وتَحْرِيم ما رَزَقَهم الله والافتراء على اللَّه، والضَّلال وعدم الاهْتِداء، فهذه أمور سَبْعَة وكل واحد منها سَبَبٌ تامٌّ في حصول الذَّمِّ، أما الخُسْرَان: فلأن الولد نِعْمة عَظِيمة على العَبْد من الله، فمن سَعَى في إبْطَالهِ، فق خَسِر خُسْرَاناً عظيماً، ولا سيِّما يستحق على ذلك الإبْطَال الذَّم العَظِيم في الدُّنْيَا والعِقَاب في الآخرة، أما لذم في الدُّنيا: فلأن النَّاسَ يَقُولون: قَتَلَ وَلَدَهُ خوفاً من أن يَأكُل طعامه، وليس في الدُّنْيا ذَمٌّ أشد منه. وأما العِقَاب في الآخِرة: فلأن قرارة الولادَة أعظم مُوجبات المحبَّة، فمع حُصُولها إذا أقدم على إلْحاق أعْظَم المَضارِّ به، كان ذلك أعْظَم الذُنُوب، فكان مُوجباًلأعْظَم أنْواع العقاب. وأما السَّفَاهة: فهي عِبَارة عن الخِفَّة المذمومة؛ وذلك لأن قَتْل الولد إنما يكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 465 للخَوف من الفَقْر، والفقر كان ضَرراً إلاَّ أن القَتْل أعْظَم منه، وأيضاً فهذا القَتْل نَاجِزٌ وذلك الفقر مَوْهُوم، فالتزام أعْظَم المضارِّ على سبيل القَطْع حَذَراً من ضرر موهُوم لا شَكَّ أنه سَفَاهة. وأما قوله: «بِغَيْر عِلْمِ» فالمقصود أن هذه السِّفاهة إنما تولَّدت من عدم العلم، ولا شك أن الجهل أعظم المُنْكَرات والقَبَائح. وأما تَحْرِيم ما رَزَقَهُم اللَّه: فهو من أعْظَم أنْواع الحَمَاقَة؛ لأنه يتبعه أعْظَم أنْوَاع العذاب. وأما الافْتِراء على اللَّه: فلا شَكَّ أن الجُرْأة على اللَّه، والافْتِرَاء عليه أعظم الذُّنُوب وأكبر الكبائر. وأما الضلال: فهو عِبَارة عن الضَّلال عن الرُّشد في مصالح الدِّين ومنافع الدُّنْيَا. وأم اقوله: «وما كَانُوا مُهْتَدِين» فالفَائِدة فيه أنَّه قد يضِلُّ الإنْسَان عن الحقِّ، إلا أنَّه يعُود إلى الاهتداء، فبين - تبارك وتعالى - أنَّهُم قد ضَلُّوا ولم يَحْصل لهم الاهْتِداء قط، وهذا نِهَاية المُبَالغة في الذِّمِّ. فصل في نزول الآية قال المفسِّرون: نزلت هذه الآية في رَبِيعة ومُضَر وبَعْض من العرب وغيرهم، كانوا يَدْفِنُون البَنَات أحْيَاء مخافة السَّبْي والفَقْر، وكان بنو كَنَانة لا يَفْعَلُون ذلك وحَرَّموا ما رَزَقَهُم اللَّه يعني بالبَحيرة والسَّائِبة والوَصيلة والحَامِي افترِاءً على اللَّهِ، حيث قَالُوا: إن الله أمَرهُم بهذا {قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 اعلم أنه - تعالى - لما جعل مدار هذا الكتاب الشَّريف على تقرير التَّوْحيد والنبوة والمعاد، وإثبات القضاء والقدر، وإنه تبارك وتعالى - بالغ في تَقْرِير هذه الأصُول، ثم شرح أحْوَال السُّعداء والأشْقِياء وانْتَقَل إلى تهْجِين طَريِقَة منْكِري البَعْث، ونبه على ضَعْف عُقُولِهِم، وتَنْفِير النَّاسِ عن الالْتِفَات إلى قوهم والاعْتِزَاء بشُبُهاتهم، عاد بعدها إلى المقصُود الأصْلي، وهو إقامة الدَّلائِل على تَقْرير التًّوحيد، فقال - تعالى -: {وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ} وهذا الدَّليل قد سبق في هذه السُّورة، وهو قوله - تعالى -: {وَهُوَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 466 الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 99] فالآية المتقدمة ذكر فيها خَمْسة أنواع: وهي الزَّرع، والنخل، وجنَّات من أعْناب، والزيتون والرُّمَان، وذكر في هذه الآية الكريمة [هذه الخمسة وقال:] «مشتبهاً وغَيْر مُتَشَابِه» وهنا «مَتَشابِهاً وغير مُتَشَابه» وذكر في الآية المتقدمة: «انْظُرُوا إلى ثَمَرِهِ إذَا أثْمَر وينعهِ» وذكر في هذه الآية: «كُلُوا مِنْ ثَمَره إذا أثْمر وآتوا حقَّهُ يوم حَصَادِهِ» فأذن في الانتفاع بها، وأم بِصَرف جُزْء مِنْها إلى الفُقَراء، فالذي حَصَل به الامْتِيَاز بين الآيتين: أن هُنَاك أمر بالاسْتِدْلال بها على الصَّانع الحكيم وههنا أذن في الانْتِفَاع بها، وذلك تَنْبِيهٌ على أن الأمْرَ بالاسْتِدْلال بها على الصَّانِع الحَكيم مقدَّم على الإذن في الانتفاع، لأن الاستدلال على الصَّانِع يَحْصُل به سعادة جُسْمانِيَّة سريعة الانْقضَاء والأول أولى بالتَّقْديم. وقال القرطبي: ووجه اتِّصَال هذا بما قَبْلَه: أن الكُفَّار لما افْتَروا على الله الكذب، وأشْركُوا معه وحَلَّلُوا أو حَرَّمُوا، دَلَّهم على وحْدانِيَّته بأنه خَالِق الأشْيَاءِ، وأنه جَعَل هذه الأشْيَاء أرْزَاقاً لهُمْ. قوله: «أنْشَأ جَنَّاتٍ» أي: خَلَقها، يقال: نشأ الشَّيْء يَنْشَأ ونَشْأه ونَشَاءَةً، إذا طره وراتفع، والله يُنْشِئُه إنْشَاء، أي: يُظْهرُه ويرفعه. وقوله: «مَعْرُوشَاتٍ» يقال: عَرَشْت الكَرَم أعْرِشُه عَرْشاً وعَرَّشْهُ تَعْريشاً إذا عطفت العيدان الَّتِي تُشَال عليها قُضْباَن الكَرْم، والواحِدُ عَرْشٌ، والجمع عُرُوشٌ، ويُقَال: عَرِيش وجمع عُرُوض، واعْتَرش العِنَبُ العَرِيش اعْتِرَاشاً، وفيه أقوال: أحدها: قال الضَّحَّاك: إن المَعْرُوشاتِ وغَيْر المَعْرُوشَاتِ كلاهما الكَرْم؛ فإن بَعْضَ الأعناب يُعَرَّش وبَعْضُها لا يُعَرَّش، بل يَبْقَى على وجْهِ الأرْضِ مُنْبَسِطاً. وثانيها: المَعْرُوشات: العِنَب الَّتِي يجعل لها عُرُوش، وغير المعروشات: كُلُّ ما يَنْبُت منَبِسطاً على وَجْه الأرض؛ مثل القَرْع والبطِّيخ. وثالها: قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «المَعْرُوشات: ما يُحْتَاجُ أن يتَّخذ له عَرِيشٌ يحمل عَلَيْه؛ مث الكَرْم والبطِّيخ والقَرْع وغيرها، وغير المَعْرُوش: هو القَائِم على سَاقِهِ كالنَّخْلِ والزَّرْع. ورابعها: المَعْرُوشات: ما يَحْصُل في البَسَاتين والعمرانات مما يغرسه النَّاسِ، وغير المعروشات: مما أنْبَتَهُ اللَّه - تبارك وتعالى - وجني في البَرَارِي والجِبَال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 467 فصل في معنى الزرع والنخل والزَّرغ والنَّخْل؛ فسر ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - الزَّرْع هَهُنا: لجميع الحُبُوب التي تقْتَات، أي: وأنْشَأ الزَّرْع، وأفْرِدا بالذِّكر وهما دَاخِلان في النِّبات؛ لما فيهما من الفَضِيلَة على ما تقدَّم بيانه في البقرة عند قوله - تعالى -: {مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ} [البقرة: 98] . قوله - تعالى -: {مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ} : مَنْصُوب على الحَالِ وفيها قولان: أحدهما: أنها حَالٌ مُقَدَّرة؛ أن النَّخْل والزرع وَقْت خروجهما لا أكْلَ فِيهمَا؛ حتى يقال فيه: مُتَّفِقٌ أو مُخْتَلِف؛ فهو كقوله - تبارك وتعالى -: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] ، كقولهم: «مَرَرْت برجُلٍ معه صَقْرٌ صَائِداً به غداً» أي: مُقَدِّراً الاصطِيَاد به. والثاني: أنها حَالٌ مُقَارِنَة، وذلك على حَذْفِ مُضَافٍ، أي: وثمر النَّخْل وحَبُّ الزَّرع، و «أكُلُه» مَرْفُوعٌ ب «مُخْتَلِفاً» [لأنه اسْم فاعل، وشروط الإعْمَال مَوْجُودة، والأكُل: الشَّيْء المَأكُول، وق تقدَّم أنه يُقْرأ بضمّ الكافِ وسُكُونها، ومضى تحقيقُه في البقرة: [265] والضَّمِير في «أكُله» الظاهر أنَّه يَعُودُ على الزَّرْعِ فقط: إمَّا لأنَّه حذف حالاً من النَّخْلِ؛ لدلالة هذه عَلَيْه، تقديره: والنَّخْل مُخْتَلِفاً أكُلُه، والزَّرْع مُخْتَلِفاً] أكله. وإمَّا لأن الزَّرع هو الظَّاهِر فيه الاخْتِلافُ بالنِّسْبَة إلى المأكُول مِنْه؛ كالقَمْح والشَّعِير والفول والحِمص والعَدس وغير ذلك. وقيل: إنها تعود عليهما. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: والضَّمِير للنَّخْل والزَّرع داخل في حُكْمِهِ، لكونه مَعْطُوفاً عليه. وقال أبو حيًّان: وليس بِجيِّد؛ لأن العَطْف بالواوِ، ولا يَجُوز إفْرَاد ضَمير المتَعَاطِفين. وقال الحُوفِيُّ: «والهاءُ في» أكُلُه «عائدة على ذِكْر ما تقدَّم من هذه الاشْيَاء المُنْشَآت» وعلى هذا الذي ذكرَهُ الحوفي: لا تخْتَصُّ الحَالُ بالنخل والزَّرْعِ، بل يكُون لِمَا تقدَّم جَمِيعه. قال أبو حيَّان: «ولو كَانَ كما زَعَم، لكان التَّرْكيب:» أكُلُهَا «إلا إنْ أُخِذ ذَلِك على حَذْفِ مُضَافِ، أي: ثَمَرَ جَنَّات، وروعي هذا المَحْذُوف فقيل:» أكُلُه «بالإفْرَاد على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 468 مُرَاعَاته , فيكون ذلِك كَقَوْله: {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور: 40] أي: أو كَذَا ظُلُمات، ولذلك أعَادَ الضمير في يَغْشَاهُ عليه» . قال شهابُ الدِّين: فَيَبْقَى التَّقْدِير: مُخْتَلِفاً أكُل ثمر الجنَّاتِ وما بعدها، [وهذا] يلْزَمُ منه إضَافَة الشَّيءِ إلى نَفْسِه؛ لأن الأكل كما تقدَّم غير مرَّة أنه الثَّمَر المأكُول. قال الزمخشري في الأكُل: «وهُوَ ثمره الذي يُؤكَل» . وقال ابن الأنْبَاريِّ: إن «مُخْتَلِفاً» نصبٌ على القَطْع، فكأنه قال: «والنَّخْل والزَّرْع المختلفُ أكُلُها» وهذا راي الكُوفيِّين، وقد تقدم إيضاحُه غير مرَّةٍ. وقوله: {والزيتون والرمان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلكم لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} وقد تقدَّم إيضاحه [الأنعام: 99] . قال القرطبُّي: «والزَّيْتُون والرُّمَّان» عَطفٌ عليه، «مُتَشَابهِاً وغير مُتَشَابِه» نصب على الحالِ، وفي هذه أدلَّة ثلاثة: أحدهما: ما تقدَّم من إقَامَة الدّلِيل على أنَّ المتغيّرات لا بُدَّ لها من مُغَيَّر. الثاني: أن الدَّلالة على المِنَّة منه - سبحانه وتعالى - علينا، فلو شَاءَ إذ خَلَقَنَا ألاَّ يَخْلُق لنا غِذَاءً، وإذا خَلَقَهُ ألاّ يَكُون جميلَ المَنْظَر طيِّب الطَّعْم، وإذا خلقَهُ كذلك ألاَّ يكون سَهْل الجَنْي، فلم يَكُن عليه أن يَفْعَل ذلك ابتداء؛ لأنه لا يَجِب عليه شَيْء. الثالث: الدَّلالة على القُدْرَة في أن يكُون الماءُ الذي مِنْ شَأنه الرسوب، يصعد بقُدْرَةِ علاَّم الغُيُوب من اسَافِل الشَّجَرة إلى أعاليها، حتى إذا انْتَهَى إلى آخِرِها، نشأ فيها أوْرَاق لَيْست من جِنْسِها، وثمر خَارجٌ من الجِرمْ الوَافِر، واللَّوْن الزَّاهِر، والجَنَى الجَديد، والطَّعم اللذيد؛ فأين الطِّبَاع وأجْنَاسُها؟ وأين الفلاسفة أنَسُها؟ هل في قُدْرة الطَّبيعة أن تُنْقِن هذالا الإتْقَان، أو تُرَتِّيب هذا التَّرْتِيب العجيب؟ كلاَّ لم يَتِمَّ ذلك في العُقُول إلاَّ بتَدِبير عالمٍ قديرٍ مريدٍ، فسبحان من لَهُ في كل شيء آية ونهايةَ! . فصل في المقصود من خَلْق المنافع لما ذكر كيْفِيَّة خلقِهِ لهذه الأشْيَاءِ، ذكرما هُو المَقْصُود الأصْلِيُّ من خلقها، وهو انْتِفَاع المكَلَّفين؛ فقال: «كلُوا من ثَمِرِهِِ إذَا أثْم» واخْتَلَفُوا ما الفائدة منه؟ قال بَعْضهُم: فائدته الإبَاحَة. وقال آخَرُون: المَقْصُود منه إبَاحَة الأكل قبل إخْرَاج الحقِّ؛ لأ، هـ تعالى - لمَّا أوجَبَ الحقِّ فيه، كان يجُوزُ أن يَحْرُم على المَالِكِ تَنَاوله لِمُشَاركة المساكين، بل هذا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 469 الظَّاهر، فأباح هذا الأكْل وأخرج وُجُوب الحقِّ فيه من أنْ يكون مَانِعاً من هذا التَّصَرُّف. وقال بعضهم: بل أبَاحَ - تعالى - ذلك ليُبَيِّن أنَّ المقْصِد بِخَلْق هذه النًّعَم الأكْل، وأما تَقْديم ذكر الأكْل على التصدُّق؛ لأن رِعَاية النَّفْسِ متقدِّمة على الغَيْر؛ قال: {وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا} [القصص: 77] . فصل في بيان الأصل في المنافع تمسَّك بَعْضُهم بقوله: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إذَا أثْمَر» بأن الأصْل في المَنَافِع: الإباحة؛ لأن قوله - تعالى -: «كُلُوا» خطاب عَامٌّ يتناول الكُلًّ، فصار كقوله: {خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض} [البقرة: 29] ويكن التمَسُّك به على أنَّ الأصْل: عدم وُجوب الصِّدَقة؛ لأن من ادَّعى إيجابَهُ، كان هو المُحْتَاج إلى الدَّلِيل، فيُتَمسَّك به في أنَّ المَجْنُون إذا أفَاق في أثْنَاء الشَّهْر، لا يَلْزَمُه قَضَاء ما قَضَى، وفي أنَّ الشَّارع في صوم النَّفْل يجبُ عليه الإتمام. فصل قال القُرْطُبيُّ: قوله - تعالى - {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَر} هذان بناءان جاءا بصيغة أفعل. أحدهما: للإباحة؛ كقوله: {فانتشروا فِي الأرض} [الجمعة10] والثاني: لوجوب، ولي يَمْتَنِع في الشَّريعة اقتران الإبَاحَة والواجب وبدأ بذكر نِعْمَة الأكْل قبل الأمر بإيتاء الحق؛ ليبيِّن أن الابتداء بالنِّعْمَة كان من فَضْلِه قبل التكليف. وقال ابن الخَطِيب: وعلى أنَّ صِيغَة الأمْر ترد لِغَيْر الوُجُوب والنًّدْب، وعند هذا، قال بَعْضُهم: الأصْل في الاستِعْمَال: الحَقِيقَة؛ فوجَبَ جعل هذه الصِّيغَة مفيدةً لرفع الحَرَج؛ فلهذا قالوا: الأمْر يقتضي الإبَاحَة إلا أن نَقُول: يُعْلَم بالضَّرُورة من لُغَة العَرَب، أن هذه الصِّيغَة تُفِيد تَرْجِيح جَانِب الفِعْل، فحملُهَا على الإبَاحة لا يُصَار إليه إلاَّ بِدَليلٍ بِفَتْح الحاء: «حَصاده» والباقون بكسرها، وهما لُغَتَان في المَصْدَر؛ كقولهم؛ جَداد وجِدَاد، وقَطَاف وقِطَاف، وحَرَان وحَرَان والصِّرَام والصَّرَام. قال سيبويه: جاءوا بالمَصْدَر حين أرَادُوا انْتِهاء الزَّمَان على مثال: «فِعَال» وربما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 470 قَالُوا فيه: «فَعَال» يعني: أنَّ مَصْدر خَاصٌّ دالٌّ على مَعْنى زَائِد على مُطْلَق المَصْدَر؛ فإن المَصْدَر الأصْلِيُّ إنما هو الحَصْد، فالحَصْد ليس فيه دلالة على انْتِهَاء زَمَان ولا عدمها؛ بخلاف الحَصَاد والحِصَاد. ونسب الفرَّاء الكَسْر لأهل الحِجَاز، والفتح ل «تميم» و «نَجْد» ، واخْتَار أبو عُبَيْد الفَتْحَ؛ قال: للفخامةٍ، وإن كان الأخرى «فَاشِيَةً غير مَدفُوعة» ، ومكي الكَسْر؛ قال: «لأنَّه الأصْل، وعليه أكثر الجماعة» . وقوله: «يَوْم حصاده فيه وجهان: أحدهما: أنه مَنْصُوب ب» آتُوا أي: أعْطُوا واجِبة يوم الحَصَادِ، واستَشْكَل بعض النَّاسِ ذلك بأنَّ الإيتاء إنما يكون بعد التَّصْفِيَة، فيكيف يُوجِب الأيتَاء في يَوْم الحَصْد؟ وأجِيبُ: بأنّ ثَمَّ مَحْذُوفاً، والتّقْدير: إلى تَصْفِيتهِ، قالوا: فيكون الحَصاد سَبباً للوُجُوب المُوسَّع، التَّصْفِيَة سَبَبٌ للإدَاءِ، وأحسن من هَذَا أن يَكُونَ المَعْنَى: واهتموُّوا بإيتاءِ الواجِبَة فيه واقْصُدُوه في ذلك اليَوْم. الثاني: أنه مَنْصُوب بلفظ «حَقَّهُ» على معنى: وأعطوا ما اسْتِحقَّ منه يوم حَصَادِه، فيكون الاستِحْقَاق ثابتاً يوم الحَصَاد والأدَاء بعد التَّصْفِيَة؛ ويؤيد ذلك تَقْدير المَحْذُوف عند بَعْضِهِم كما قَدَّمْتُه، وقال في نَظِير هذه الآية: {انظروا إلى ثَمَرِهِ} [بالأنعام: 99] ، وفي هذه: «كُلُوا» قيل: لأن الأولى سيقت للدَّلالة على كَمَال قُدْرَته، وعلى إعْادة الأجْسام من عجب الذنب، فأمر بالنظر والتَّفَكُّر في البدَاية والنِّهاية، وهذه سيقت في مَعْرِض كما ل الامْتِنَان فناسب الأمْر بالأكْلِ، وتحصَّل من مجموع الآيتيْنِ: الانتِفَاعُ الأخْرَوِيّ والدُّنْيَوي، وهذا هو السَّبَب لتقدُّم النَّظَر على الأمْر بالأكْل كما قدمنا. فصل في معنى الحق هنا اخْتَلَفُوا في هذا الحق: فقال ابن عبَّاس في رِوَاية عَطَاء وطاوس والحَسَن وجابر بن زيد وسعيد نب المُسَيَّب: أنَّها الزَّكَاة المفروضَةُ من العُشْر فيما سقَتِ السَّمَاءُ، ونصف العُشْر فيما سُقِي بالكُلْفة. وقال علي بن الحُسَيْن وعطاء ومُجَاهد وحمَّاد والحكم هو حَقُّ في المال سوى الزَّكَاة أمر بإيتائه، لأن الآية مَكيَّة وفرضت الزَّكاة بالمَدِينَة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 471 قال إبراهيم: هو الضِّغث وقال الرَّبيع: لقاط السُّنْلُل. وقال مُجَاهد: كانوا يُعَلِّقُون العذق عند الحَرَم، فيأكُلُ مِنْهُ كلُّ من مَرَّ. وقال يزيد بن الأصَمّ: كان أهْل المَدِينَة إذا أحْرَمثوا يجيئون بالعذق فَيُعَلِّقونه في جانِب المَسْجِد، فيجيء المسْكِينُ فيضْربه بعَصَاه فَيَسْقُط منه. وقال سَعيد بن جُبَيْر: كان هذا حقاً يُؤمر بإيتَائِه شفي ابْتداء الإسْلام، فصل مَنْسُوخاً بإيجاب العُشْر. وقال مُقْسِم عن ابن عبَّاس: نسخت الزَّكَاةٌ كُلُّ نفقةٍ في القُرْآنِ. والصَّحيح الأوَّل؛ لأن قوله - تعالى -: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} إنما يَحْسُن ذكره إذا كان ذلك الحَقُّ مَعْلوماً قبل وُرودِ هذه الآيةِ؛ لئلا تَبْقَى هذه الآية مُجمَلة. وقال - عليه السلام -: «لَيْسَ في المَالِ حَقٌّ سِوَى الزَّكَاة» فوجَبَ أن يكون المُراد بهذا الحقِّ حق الزَّكَاةِ. قوله: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} بعد ذكر العِنَب والنَّخْل والزَّرْع والزَّيْتُون والرُّمَّان يدلُّ على وُجُوب الزَّكَاةِ في الثِّمار كما يقوله أبو حنيفة، فإن لفظ الحَصَادِ قيل: هو مَخْصُوص بالزَّرْع. فالجواب: لفظ الحَصْد في اللُّغَة عبارة عن القَطْع، وذلك يتناول الكلَّ، وأيضاً فالضَّمِير في قوله: «حَصَادِهِ» يجب عَوْده إلى أقْرب المذْكُورات وذلك هو الزَّيْتُون والرُّمَّان، فوجَبَ أن يَعُود الضَّمِير. فصل في بيان زكاة الروع قال أبو حنيفة: العُشْر واجِبٌ في القَلِيل والكَثِير لهذه الآية. وقال الأكثرون: لا يِجِب إلاَّ إذا بلغ خَمْسَة أوْسُق؛ لأ، الحَدِيب عن الحقِّ الواجب هَهُنا ما هو. قال القرطب: وبهذه الآية استَدَلَّ من أوجب العُشْر في الخضْرَواتِ؛ لقوله الجزء: 8 ¦ الصفحة: 472 تعالى: {وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} والمذكرو قَبْله الزَّيْتُون والرُّمَّان، والمذكور عَقِب الجملة بَنْصَرِف إلى الإخِيرَة بلا خلافٍ قال الكيا الطبري. قوله: «ولا تُسْرِفُوا» قال أبو العبَّاس عن ابن الأعْرَابيِّ: السَّرَف تجاوز الحدَّ. وقال غيره: سَرَف المال: ما ذهب منه من غَيْر مَنْفَعَةٍ. قال القُرْطُبي: الإسْرَاف في اللُّغَة: الخطأ. قال ابن عبَّاس «وحَقُّ اللَّه» في رواية الكلبي عنه؛ أن ثابت بن قيس ن شماس جَذَذَ خمسمائة نَخْلَةٍن وقسَّمَها في يوم واحدٍ ولم يترك لأهْلِه شَيْئاً؛ فأنزل اللَّه هذه الآية. وقال السُّدِّيُّ: «لا تُسْرِفُوا؛ أي: لا تعْطُوا أمْوَالُكم فتَقْعُدوا فُقَرَاء» . قال الزَّجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «فعلى هذا إذن: إعْضَاء الإنْسَان كل مَالِهِ، ولم يوصل إلى عياله شَيْئاً وقد اسْرَف؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» ابْدَأ بِنَفْسِكَ ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ «. وقال سيعد بن المسيَّب: مَعْنَاه لا تَمْنَعُوا الصِّدقة فعلى الأوَّل معنى الإسْرَاف؛ تجاوُز [الحَدِّ في الإعْطَاء، وعلى هذا الإسْرَاف: تجاوز» الحَدِّ في المَنْع. قوال مُقَاتِل: لا تُسْرِفُوا: لا تُشْرِكُوا الأصْنَام في الحَرْث والأنْعام. وقال الزُّهري: معناه: لا تُنْفِقُوا في مَعْصية اللَّه - تعالى -. قال مُجَاهد: لو كان أبُو قُبَيْس ذَهَاباً فأنفقه أحد في سَبيل اللَّه وطاعة اللَّه، لم يكن مُسْرِفاً: لو أنْفق دِرْهَمان في مَعْصِيَة اللًّه، كان مسرفاً، وهذا المَعْنَى أراده الشَّاعِر بقوله: [الوافر] 2356 - ذَهَابُ المَالِ في جُهْدٍ وأجْرٍ ... ذَهَابٌ لا يُقَالُ لَهُ: ذَهَابُ قيل لِحَاتِمٍ الطَائيِّ: لا خير في السَّرفِ، فقال: لا سَرَف في الخَيْر. ورَوَى ابن وهب عن ابن زيد قال: الخِطَاب إلى السَّلاطين، يَقُول: لا تَأخُذُوا فوق حَقكم، قال - عليه الصَّلاة والسلام - «المعتدي في الصِّدَقَةِ كَمَانِعِهَا» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 473 وقال أبو عَبْد الرَّحمن بن زيد بن أسْلَم: الإسْرَاف ما لم يُقْدَر على رَدِّه إلى الصَّلاحِ. وقال النَّصْر بن شميل: الإسْراف: التَّبْذِير والإفرَاط، والسَّرَف: الغفلة والجَهَلة، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} [الأنعام: 141] المقصود منه الزَّجْر؛ لأن كل مَنْ لا يُحِبُّه الله - تعالى - فهو من أهْل النَّار؛ لقوله - تعالى - {فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم} [المائدة: 18] حين قالوا {نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 قوله - تعالى - {حَمُولَةً وَفَرْشا} مَنْصُوبان على أنَّهُما نُسِقَا على «جَنَّاتِ» أي: وأنشأ من الأنْعام حَمُولَة، و «الأنْعَام» قيل: هي من الإبل خَاصَّة، وقيل: الإبل والبَقَر والغَنَم. وقيل: ما أحَلَّه الله - تعالى - من الحيوانِ؛ قاله أحمد بن يَحْيَى، قال القُرْطُبيُّ: وهذا أصَحُّهَا. وقال القُرْطُبِي: فَعُوله بفتح الفَاءِ، إذَا كانت بمعنى الفَاعِل اسْتَوى فيها المُذَكَّر والمؤنَّث؛ نحو قولك: رَجُل فَرْوقَه للجَبَان والخَائِفِ، ورجل صَرُورَة وامرأة صرورة إذا لم يَحُجَّا؛ ولا جَمْع له فإذا كانت بِمَعْنَى، فرق بين المُذَكَّر والمؤنَّث بالهَّاء، كالحَلُوبة والرَّكُوبة، والحَمُولة بضم الحاءِ: أحْمَال وأما الحُمُول: بالضَّمِّ بغير هاء فهي الإبل الَّتِي عليه الهَوَادِجُ كان فيها نِساءٌ أو لم يَكُنِّ؛ قاله أبو زَيْد. والحَمُولة: ما أطاق الحمل عَلَيْه من الإبل، والفَرْش: صِغَار هذا هو المشْهُور في اللُّغَة. وقيل الحَمُولة: كبارُ الأنْعَام، أعني: الإبل والبَقَر والغَنَم، والفَرْشُ: صغارها قال: «ويدُلُ له أنَّهُ أبدل منه قوله بعد ذلك:» ثَمَانِيَة أزْوَاجٍ من الضَّأنِ «كما سيأتيِي لأنها دَانِية من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 474 الأرْض بسبب صغَر أجْرَامِها مثل الفَرْشِ وهي الأرْض المَفْرُوشُ عليها» . وقال الزَّجَّاج: أجمع أهْل اللُّغَة على أنّ الفَرْشَ صِغَار الإبل، وأنشد القَائِل: [الزجر] 1257 - أوْرَثَنِي حَمُولَةً وَفَرْشَا ... أمُشُّهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مَشَّا وقال الآخر: [الرمل] 2358 - وَحَوَيْنَا الفَرْشَ مِنْ أنْعَامِكُمْ ... والحَمُولاتِ وَربَّاتِ الحِجَالْ قال أبو زَيْد: «يحتمل أن يكون سُمِّيَتْ بالمَصْدَر؛ لأن الفَرْشَ في الأصْل مصدر» والفَرْش لفظ مُشْتَرك بين مَعَانِ كثيرة: منها ما تقدَّم، ومنها: مَتَاع البَيْت والفَضَاء الوَاسِع، واتِّسَاع خُفِّ البَعير قليلاً، والأرْض الملساء، عن أبي عَمْرو بن العَلاء، ونباتٌ يلْتَصِق بالأرْضِ، ومنه قول الشاعر: [الزجر] 2359 - كَمِشْفَرِ النَّابِ تلُوكُ الفَرْشَا ... وقيل الحَمُولة: كل ما حُمِل عليه من إبل وبَقَر وبَغْل وحِمَار. والفَرْشُ هنا: ما اتُّخِذَ من صُوفه ووبَرِه وشَعْرِه ما يُفْتَرشُ، وأنشدوا للنَّابعة: [الطويل] 2360 - وَحَلَّتْ بُيُوتِي فِي يَفَاعٍ مُمَنَّعٍ ... تَخَالُ بِهِ راعِي الحَمُولَةِ طَائِرا وقال عنترة: [الكامل] 2361 - مَا رَاعَنِي إلاَّ حَمُولَةُ أهْلِهَا ... وَسْط الدِّيار تَسَفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ قوله: {كُلُوا ممَّا رزَقُكم اللَّه} يريد: ما أحَلَّها لكم. قالت المعتزلة: إنه - تبارك وتعالى - أمر بأكْل الرِّزْقِ، ومنع من أكل الحَرامٍ ينتج أن الرِّزْق ليس بَحَرَام. ثم قال - تعالى -: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان} أي: التَّخْلِيل والتَّحريم من عِنْد الجزء: 8 ¦ الصفحة: 475 أنْفُسكُم، كما فعله أهْل الجَاهِليَّة، أي: لا تَسْلكُوا طرائق الشَّيْطَان وأبان «أنه لَكُم عَدُوٌّ مُبِينٌ» أيك بيَّن العداوة أخرج آدم من الجنَّة، وقوله: {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 62] . قال الزجاج: في خُطُوات الشَّيْطَانِ ثلاثة أوجُه: ضم الطاء، وفتحها، وإسكَانها. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 قوله تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاج} في نصبه ستة أوجه: أحسنها: أن يكُون بدلاً من «حملوة وفَرْشاً لولا ما نَقَله الزَّجَّاج من الإجماع المُتقدِّم، ولكن ليس فيه أنَّ ذلك مَحْصُول في الإبل، والقَوْل بالبدلِ هو قَوْل الزَّجَّاج والفرَّاء. والثاني: أنه مَنْصُوب ب» كُلُوا «الذي قَبْلَه أي: كُلُوا ثمانية أزْوَاج، ويكن قوله - تعالى -: {وَلاَ تَتَّبِعُوا} إلى آخره كالمُعَتَرِض بين الفِعْل ومَنْصُوبه، وهو قول عَلِيّ بن سُلَيْمَان وقدَّرَه: كُلُوا لَحْم ثَمَانِية. وقال أبو البَقَاء - رحمها لله -: هو مَنْصُوب ب» كُلُوا «تقديره: كلوا مِمَّا رزقَكُم اللَّه ثمانية أزْوَاج،» ولا تسرفوا «مُعْتَرِض بَيْنَهُما. قال شهاب الدَّين: صوابه أن يقولك» ولا تَتَّبعُوا «بدل» ولا تُسْرفُوا «؛ لأن كُلُوا - الذي يَلِيه» ولا تُسْرِفوا «- ليس مُنْصَبًّا على هذا؛ لأنه بعيد منه، ولأن بَعْده ما هو أوْلَى منه بالعمل، ويحتمل أن يَكُون الناسخ غَلَط عَلَيْه، وإنما قال هو:» ولا تَتَّبِعُوا «؛ ويدل على ذلك أنه قال:» تقديره: كُلُوا ممَّا رَزَقكُم اللَّه «و» كُلُوا «الأوَّل ليس بَعْدَه» ممَّا رَزقكُم «، إنما هو بَعْد الثَّاني. الثالث: أنه عَطْف على» جَنَّاتٍ «أي: أنْشَا ثَمَانِية أزْوَاج، ثم حُذِفَ الفِعْل وحَرْف العَطْفِ؛ وهو مذهب الكسَائِيّ. قال أبو البقاء:» وهو ضعيف «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 476 قال شهاب الدين: الأمْر كذلك وقد سُمِع ذلك في كلامهم نَثْراً ونَظْماً: ففي النثر قوله:» أكلتُ لَحْماً سمَكاً تَمْراً «وفي نَظْمِهِم قول الشاعر: [الخفيف] 2362 - كَيْفَ أصْبحْتَ كَيْف أمْسَيْتَ مِمَّا ... يَزْرَعُ الوُدَّ في فُؤادِ الكَرِيم أي: أكلت لَحْماً وسمكاً وتمراً، وكيف أصْبَحْت وكيف أمْسَيْت، وهذا على أحَدِ القولين في ذلك. والقول الثاني: أنه بدل بداء؛ ومنه الحديث:» إنَّ الرَّجُلَ لَيصَلَّى الصَّلاة، وما كُتِبَ له نِصْفُهَا ثلثُهَا رُبْعُها «إلى أنْ وَصَلَ إلى العُشْرِ. الرابع: انه مَنْصُوبٌ بفعل مَحْذُوفٍ مدلول عليه بما في اللَّفْظِ، تقديره: كُلُوا ثمانية أزْوَاج؛ وهذا أضْعَفُ مما قبله. الخامس: أنه مَنْصُوب على الحالِ، تقديره: مُخْتَلفة أو متعدِّدَة، وصاحب الحال:» الأنْعَام «فالعَامِل في الحال ما تعلَّق به الجَارُّ وهو» مِنْ « السادس: أنه مَنْصُوب على البدل من محلِّ» مِمَّا رَزَقَكُم اللَّه «. فصل في بيان كلمة» زَوْج « الوَاحِد إذا كان وْحده فهو فَرْد، وإذا كان مَعَهُ غيره من جِنْسِه سُمِّي زَوْجاً وهما زَوْجَانح قال - تعالى_: {خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 45] وقال:» ثمانِيَة أزْوَاج «ثم فَسَّرها بقوله:» من الضَّأنِ اثْنَيْنِ ومِن المَعْزِ اثْنَيْنِ ومِنَ البَقَرِ اثْنَيْنِ «. قال القرطبي: والزَّوْج: خلاف الفَرْدح يقال: زَوْج أو فَرْد كما يقال خَساً أو ذَكاً، شفع، أو وترن فقوله: «ثَمَانِيَة أزْواجِ» يعني ثمانية أفراد وكُلُّ فرد عنه العرب يحتاج غلى آخر يُسَمَّى زوجاً، يقال للذكر: زوج وللأنثى زَوْجٌ، ويقع لَفْظُ الزَّوْج للواحد والاثْنَيْن، يقال: هما زَوْجَان وهما: زوْجٌ؛ كما يقال: هما سِيَّان وهما سَوَاء، وتقول: اشْتَرْيت زَوْجِيْ حَمَام وأنت تعني: ذكراً وأنْثَى. قوله: «مِنَ الضَّأنِ اثْنَيْن» في نصب «اثْنَيْنِ» وجهان: أحدهما: أنه بَدَلٌ من «ثَمَانِيَة أزْوَاج» وهو ظَاهِر قول الزَّمَخْشَري؛ فإنه قال: والدَّلِيلُ عليه «ثَمَانِيَة أزْوَاجٍ» ثم فسَّرها بقوله: «مِنَ الضَّأنِ اثْنَيْنِط الآية؛ وبه صرح أبُو البقاءِ فقال:» واثْنيْنِ بدل من الثَّمانية وقد عُطِف عَلَيْه بقيَّة الثمانِية «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 477 والثاني: أنه مَنْصُوب ب» أنْشَا «مقدَّراً؛ وهو قول الفَارِسيِّ و» مِنْ «تتعلَّق بما نَصَب» اثْنَيْنِ «. والجُمْهُور على تسْكِين همزة» الضَّأن «وهو جَمْع ضَائِن وضائنه؛ كتاجِرٍ وتارجة وتَجْر، وصَاحِبٍ وصَاحِبَة وصَحْب، وراكب ورَكْب. وقرأ الحسن وطلحة بن مُصَرِّف وعيسى نب عمر:» الضَّأن «بفتحها؛ وهو إمَّا جمع تكْسِير لضَائِنٍ؛ كما يقال: خَادِم وخَدَمن وحَارِس وحَرَس، وطالِب وطَلَب، وإما اسْمُ جمعٍ، ويجمع الضَّأنُ على ضَئِين؛ كما يقال: كَلْب وكَلِيبٌ؛ قال القائل: [الطويل] 2363 - ( ... ... ... ... ... ... ... ... . . ... ... . . فبذت نبلهم وكليب) وقيل: الضئين والكليب اسما جمع، ويقال: ضئين بكسر الضاد، وكأنها إنباع لكسر الهمزة؛ نحو: بعير وشعير بكسر الباء والشين لكسر العين، و" الضأن " معروف وهو ذو الصوف من الغنم، و" المعز ": ذو الشعر منها. فصل فيما يقال في الجمع من النَّعم ونحوه قال الجوهري: يقال: صرمة من الإبل، وقطيع من الغنم، وكوكبة من الفرسان، وكبكبة من الرجال، وخرقة من الغلمان، ولمة من النساء، ورعيل من الخيل، وسرب من الظباء، وعرجلة من السباع، وعصابة من الطير، ورجل من الجراد وحشرم من النَّحْل. وقال غيره: يقال أيضاً: سرب من القطا. قال الشاعر في ذلك: [الطويل] 2364 - أسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَنَاحَهُ ... لَعَلَّي إلى أرْضِ الحَبيبِ أطِير وقرا أبان بن عُثْمَان: اثنان بالرَّفْع على الابتداء، والخَبَر الجَارُّ قَبْلَه، وقرأ بان كثير وأبو عمرو وابنُ عامر:» المَعَز «بفتح العين والباقون بسُكُونِها، وهما لُغَتَان في جَمْع مَاعِز، وقد تقدَّم أن فَاعِلاً يجمع على فَعْلٍ تارة، وعلى فَعَل أخرى؛ كتَاجِر وتَجْر وخَادِم وخَدْم، وتقدَّم تحقيقه، ويُجْمَع أيضاً على مِعْزَى وبها قرأ أبَيٌّ، قال امْرُؤ القيس: [الوافر] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 478 2365 - ألا إنْ لا تَكُنْ إبلٌ فَمِعْزَى ... كَأنَّ قُرُونَ جِلَّتِهَا العصِيُّ وقال أبو زَيْد: إنه يَجْمَع على أمْعُوزٍ؛ وأنشد: [الكامل] 2366 - ... ... ... ... ... ... كالتِّيْسِ فِي أمْعُوزِهِ المُتَرَبِّل ويُجْمَع أيضاً على مَعْيز؛ وأنْشَدُوا لامرئ القيس: [الوافر] 2367 - ويَمْنَحُهَا بَنُوا شَمَجَى بْنِ جَرْمٍ ... مَعِيزَهُم حَنَانَكَ ذَا الحَنَانِ قال القُرْطُبِيُّ: والمعْزُ من الغَنَمِ خلاف الضَّأنِ، وهي ذَوَات الأشْعَار والأذْنَاب القَصَار، وهو اسم جِنْسٍ، وكذلك المَعَزَ والمعيزُ والأمعُوز والمِعْزى، وواحد المِعْزَ، ماعز؛ مثل صَاحِب وصَحْبٍ، والأنْثى ماعِزَة وهي العنز والجَمَع مَوَاعِز، وأمْعز القَوْمُ: كثرة مَعْزَاهُم، والمعّاز: صَاحِبُ المِعْزى والمَعَز: الصَّلابة من الأرْضِ، والأمْعَز: المكان الصُّلب الكَثِير الحَصَى، والمعزاء أيضاً، واستمعز الرَّجُل في امْر، جَدَّ، والأبل: اسمُ جَمْع لا وَاحِد له من لَفْظِه بل وَاحِده جَمَلٌ نَاقَةٌ وبَعِير، ولم يَجِيْ اسْم على» فِعِل «عند سيبويه غيره، وزاج غير سبويه بكِراً وإطِلاً ووتِداً ومِشِطاً، وسيأتي لِهَذا مَزيد بيان في [سورة] الغَاشِيَةِ - إن شاء الله تعالى - والنِّسَبة إليه إبَليّ بِفَتْح البَاءِ يَتَوالى كَسْرَتَانِ مع ياءَيْن. قوله: «آلذَّكرين حَرَّمَ» آلذّكريْن: منصوب بما بَعْدَه؛ وسبب إيلائه الهمزة ما تقدَّم في قوله: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ} [المائدة: 116] و «أم» عاطفة للأنْثَيْين على الذَّكَرَيْن؛ وكذلك «أمْ» الثانية عَاطِفة «مَا» الموْصُولة على ما قَبْلَها، فمحلُّها نصب، تقديرُه: أم الَّذِي اشْتَمَلت عليه أرْحَام، فلما التقت الميم سَاكِنَةً مع ما بَعْدَها، وجب الإدْغَام. قال القُرْطُبي: ووردَت المدَة مع أل الوصْل؛ لتفرق بين الاسْتِفْهَام والخبر، ويجوز حَذْف الهَمْزِة؛ لأن «أم» تَدُلُّ على الاسْتِفْهَام؛ كقوله: [المتقارب] 2368 - تَرُوحُ مِنَ الحَيِّ أمْ تَبْتَكِرْ ... ومَاذَا يَضيرُكَ لَوْ تَنْتَظِرْ و «أمْ» في قوله - تعالى -: «أمْ كُنْتُم شُهَداءَ» مُنْقَطِعة ليست عَاطِفَة؛ لأن ما بَعْدَها الجزء: 8 ¦ الصفحة: 479 جُمْلة مستقِلَّةٌ بنفسها فتُقَدَّر ب «بَلْ» والهمزة، والتَّقْدِير: بل أكُنْتُم شُهَدَاء، و «إذا» : مَنْصُوب ب «شُهَدَاء» أنكر عَلَيْهم ما ادَّعُوه، وتهَكَّم بهم في نِسْبتهم إلى الحُضُور في وَقْتِ الإيصَاءِ بذلك، و «بهذا» : إشارة إلى جَمِيع ما تقدَّم ذكره من المُحَرَّمات عندهم. فصل فيما كان عليه أهل الجاهلية قال الفسِّرُون: إن أهْل الجاهليَّة كانوا يُقُولون: هَذِه الأنْعَام حرث حجر، وقالوا مَا فِي بُطُون هَذِهِ الأنْعام خَالِصةٌ لذُكُورنا، ومحرَّمٌ على أزْوَاجِنَا وحرّموا البَحِيرة والسَّائِبَة والوَصِيلَة والحَام، وكانوا يُحَرِّمُون بَعْضَها على الرِّجال والنِّساء، وبعضها على النِّساء دون الرِّجَال، فلمَّا قام الإسْلام [وبُيِّنَت] الأحْكَام جادلوا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان خَطِيبُهم مَالِك بن عَوف أخُو الأحوص الخيثمي؛ فقالوا: يا مُحَمَّد، بلغنا أنَّك تُحَرِّم أشياء ممَّا كان آبَاؤُنا يفعلونه، فقال لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّكم حَرَّمْتُم أصنافاً من النَّعِم على غير أصْل، وإنما خلق اللَّه هذه الأزْواجَ الثمانية للأكل والانْتِفَاع بها، فمن أين جاء هذا التَّحْريم: من قِبَل الذكر، أم من قِبَل الأنْثَى» قال: فسَكَتَ مالكُ بن عَوْف، وتحيَّرَ فلم يَتَكَلَّم، فلوا قال: جَاءَ التَّحْريمُ بسبب الذكورة؛ وجب أن يُحَرَّم جَمِيع الذُّكُورِ، وإن كان بسبب الأنُوثَةِ، وجب أن يُحَرَّم جميع الإناثِ، وإن كان باشْتِمَال الرَّحم عليه، فينْبَغِي أن يُحَرَّم الكُلُّ؛ لأن الرَّحِم لا تَشْتَمِل إلا على ذَكَرِ أو أنْثَى، أمّا تَخْصِيً الرَّحِمِ بالولدِ الخَامِس أو السَّابع، أو بالبعض دون البَعْضِ، فمن أين؟ قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا عِنْدي بعيد جداً؛ لأن لِقَائِل أن يقول: هَبْ أن هذه الأنواع - أعني الضَّأن، والمَعْز، والإبل، والبقرمَحْصُورةٌ في الذِّكَر والإناث، إلاّ أنه لا يَجِبُ أن يكون عِلَّة تَحْرم ما حَكُوا بتحريمه مَحْصُورة في الذَّكُورَة والأنُوثَة؛ بل علة تَحْريمها لكونها بحيرة أو سَائِبَةً أو وَصِيلةَ وحَاماً أو سائر الاعِتبَارات؛ كما أنّا إذا قُلْنَا: إنه - تعالى - حَرَّم ذَبْح بَعْضِ الحيوان لأجل الأكْلز فإذا قيل: إنَّ ذلك الحيوان إن ان قد حُرِّم كل حيوانٍ ذَكَر، وإن كان قد حُرِّم لكَوْنِه أنْثَى، وجب أن يُحَرَّم كل حيوانٍ أنْثى، ولما لم يَكُن، هذا الكَلاَم لاَزماً علينا، فكذا هذا الوَجْه الَّذِي ذكَرَهُ المُفَسِّرُون في هذه الآية الكريمةن ويجب على العَاقِل أن يَذْكُر في تَفْسِير كلام اللَّه وجهاً صَحِيحاً، فأمّا تَفْسِيرُه بالوَجْه الفَاسِد فا يَجُوز والأقْرَب عِنْدي وجهان: أحدهما: أن يقال: إن هذا الكلام ما ورد على سَبيل الاسْتِدْلال على بُطْلان قولهم، بل هو اسْتِفَهامٌ على سَبِيل الإنْكَار، يعني: إنكم لا تُقِرُّون بِنُبُوَّة نبيِّ، ولا تعرفُون شريعَة شَارع، فكَيْف تَحْكُمُون بأن هذا يَحِلُّ، وأن ذلك يحَرَّمُ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 480 وثانيها: حُكُمُهم بالبَحِيرة والسَّائبة الوَصِيلَة والحَام مَخْصُوص بالإبل، فاللَّه تبارك وتعالى - بيَّن أن النَّعَم عِبَارة عن هذه الأنواع الأرْبعة فما لم يَحْكُمُوا بهذه الأحْكَام في الأقْسام الثلاثة، وهي: الضَّأن والمَعْز، والبَقَر، فكيف خَصصْتُم الإبلَ بهذا الحُكْم دون الغَيْر، فهذا ما عِنْدشي في هذه الآية. ثم قال: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا} أي: هل شَاهَدْتُم اللَّه حرم هذا، إن كنتم لا تُؤمِنُون برسُولٍ، وحاصل الكلام من هذه الآية: أنَّكُم لا تُقِرُّونَ بنبوَّةِ أحد من الأنْبِيَاء، وكيف تُثْبِتُون هذه الأحكامَ المُخْتَلِفَةَ. ولما بيَّن ذلك قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ} . قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد عَمْرو بن لُحَيّ؛ لأنه هو الَّذِي غير شريعة إسْماعيل - عليه الصَّلاة والسلام -. قال ابن الخطيب: «والأقْرَب أن يكُون هذا مَحْمُولاً على كُلِّ من فعل ذلك، لأنَّ اللَّفْظ عامٌّ، والعِلَّة الموجبة لهذا الحُكْمِ عَامَّةٌ، فالتخصيص تَحَكُّمٌ مَحْض» . فصل في دحض شبهة للمعتزلة قال القاضي: دلّت الآية على أنَّ الإضْلال عن الدِّين مَذْمُوم، وذلك لا يَلِيقُ بالله - أن تبارك وتعالى -؛ لأنه إذا ذمّ الإضْلال الَّذِي ليس فيه إلاَّ تَحْرِيم المُبَاحِ، فالَّذِي هو أعْظَم منه أوْلَى بالذم. وأجيب: بأنه ليس لك ما كان مذموماً منها كان مذموماص من اللَّه - تعالى -، ألا ترى أن الجَمْع بين العَبيدِ والإمَاءِ، وتَسْلِيط الشَّهْوةِ عَلَيْهم، وتمكينهم من أسْبَاب الفُجُور مَذْمُوم مِنَّا، وليس مَذْمُوماً من اللَّه فكذا هَهُنَا. قوله: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} . قال القاضيي: «لا يَهْديهم إلى ثوابه» . وقال أهل السُّنَّة: «المراد لا يَهْدِي أولئك المُشْرِكِين، أيك لا يَنْقُلُهم من ظُلُماَات الكُفْر إلى نُور الإيمانِ» ، وتقدَّم الكلام الثانِي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 481 قوله تعالى: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} الآيات. لمَّا بيَّن فساد طريقة أهْل الجاهليَّة فيما يُحَلُّ ويُحَرَّم من المطعُومَات - أتْبَعهُ بالبيان الصَّحِيح. رُوي أنهم قالوا: فما المُحَرَّمُ إذن؟ فنزل: قل يا محمد: «لا أجِدُ في ما أوحِي إليَّ» شيئاً «مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُه» أي: آكِل يَأكُلُه. قوله: «مُحَرَّماً» منصوب بقوله: «لا أجِدُ» وهو صِفَة لمَوْصُوف محذوف؛ حذف لدلال قوله: «على طَاعِم يَطْعَمُهُ» ، والتقدير: لا أجد طعاماً مُحَرّماً، و «عَلَى طَاعِمٍ» متعلِّق ب «مُحَرَّماً» ، و «يَطْعَمُهُ» في محل جرِّ صِفَة ل «طَاعِم» . وقرأ الباقير ونقها مكيِّ عن أبي جَعْفَر -: «يَطَّعِمُهُ» بتشديد الطَّاءِ، وأصلها «يتطعمه» افتعال من الطعم، فأبدلت التاء طاءً لوقوعها بعد طاء للتقارب، فوجب الإدغام. وقرأت عائشة، ومحمَّد بن الحَنَفِيَّة، وأصحاب عَبْد اللَّه بن مَسْعُود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «تَطَعَّمه» بالتاء من فَوْق وتشديد العَيْن فعلاً مَاضِياً. قوله: «إلاَّ أنْ كَكُون مَنْصُوب على الاسْتثْنَاء، وفيه وجهان: أحدهما: أنه مُتَّصِل قال أبو البقاء:» استثناء من الجنْس، وموضعُه نَصْب، أي: لا أجد مُحَرَّماً إلا المَيْتَة «. والثاني: أنه مُنْقَطِع، قال مكِّي:» وأن يكُون في مَوْضِع نَصْب على الاستِثْناء المُنْقَطع «. وقال أبو حيان: و» إلاَّ أنْ يكون «استثناء مُنْقَطِع؛ دلالئله كَوْن، وما قَبْلَه عين، ويَجُوز أنْ يكُون مَوْضِعُه نَصْباً بدلاً على لُغَة تَمِيم، ونَصْباً على الاستثناء على لُغَة الحِجَاز، يعني أن الآستثنْاء المُنْقَطِع في لُغَتان: إحداهما: لغة الحَجَاز، وهو وُجُوب النَّصْبِ مطلقاً. وثانيتهما: لغة التَّمِيمِيٍّن - يجعلونه كالمُتَّصِل، فإن كان في الكلامِ نَفْيٌ أو شبْهُه، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 482 رُجِّح البدل، وهُنَا الكلام نَفْيٌ فيترَجَّحُ نَصْبُه عند التَّممِيميِّين على البدل، دُون النَّصْب على الاسْتثْنَاء؛ فنصْبه من وَجْهَين، وأمَّا الحِجَاز: فنصبه عِنْدهم من وجْهٍ وَاحِد، وظاهِر كلام أبي القَاسِم الزَّمَخْشَريِّ أن مُتَّصِل؛ فإنه قال:» مُحَرَّماً «أي: طعَاماً مُحَرَّماً من المطاعِم التي حَرَّمْتُمُوهَا إلاَّ أن يكُون مَيْتَة، أي: إلاَّ أن يكون الشَّيء المُحَرَّم مَيْتة. وقرأ ابن عامر في روايةٍ:» أوحَى «بفتح الهمزة والحَاءِ منبيا للفَاعِل؛ وقوله تعالى: {قُلءَآلذَّكَرَيْنِ} وقوله:» نَبِّئُونِي «، وقوله أيضاً:» آلذّكَرَيْن «ثانياً، وقوله:» أمْ كُنْتُم شُهْدَاء «جمل اعْتِرَاض بين المَعْدُودَات الَّتِي وَقَعت تَفْصِيلاً لِثَمانِيَة أزْواج. قال الزَّمَخْشَرِيُّ:» فإن قُلْت: كيف فَصَل بين المَعْدُود وبين بَعْضِه ولم يُوَالِ بَيْنَه؟ . قلت: قد وقع الفَاصِل بَيْنَهُما اعْتِرَاضاً غير أجْنَبيِّ من المَعْدُود؛ وذلك أنَّ الله - عزَّ وجلَّ - مَنَّ على عِبَاده بإنْشَاء الأنْعام لمَنَافِهِم وبإياحتها لَهُم، فاعترض بالاحْتِجَاج على مَنْ حَرَّمها، والاحْتِجَاجُ على مَنْ حَرَّمَها تأكيدٌ وتَشديدٌ للتَّحْلِيلن والاعْتِراضَات في الكلامِ لا تُسَاقُ إلا للتَّوْكِيد «. وقرأ ابن عامر: «إلاَّ أنْ تكُون مَيْتَةٌ» بالتَّأنيث ورفع «مَيْتَةٌ» يعني: إلا أن يوجَد مَيْتَةٌ، فتكون تَامَّة عِنْدَه، ويَجُوز أن تكون النَّاقِصَة والخبرُ محذوف، تقديرهُ: إلا أنْ يَكُون هُنَاك مَيْتَة، وقد تقدَّم أن هذا مَنْقُولٌ عن الأخْفَشِ في قوله قبل ذلك {وَإِن يَكُن مَّيْتَةً} [الأنعام: 139] . وقال أبو البقاء: «ويقرأ برفع» مَيْتَةٌ «على أن تكون تامَّة، وهو ضعيف؛ لأن المَعْطُوف مَنْصُوب» . قال شهاب الدِّين: كيف يُضَعَّف قراءة مُتواتِرة؟ وأما قوله: «لأن المَعْطُوف مَنْصُوب» فذلك غير لازم؛ لأن النَّصْب على قِرَاءة مَنْ رَفَع «مَيْتَة» يكون نَسَاٌ على مَحَلِّ «أنْ تَكُون» الواقِعَة مسْتَثْنَاة، تقديره: إلاَّ أن يَكُون مَيْتَة، وإلا دماً مَسْفُوحاً، وإلاَّ لَحْم خِنْزِير. وقال مكِّي: وقرأ أبو جعفر: «إلاَّ أنْ تكُون» بالتَّاء، «مَيْتَةٌ» بالرفع ثم قال: وكان يَلْزَم أبَا جَعْفَر أن يَقْرَأ «أوْ دَمٌ» بالرفع، وكذلك ما بَعْدَه. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 483 قال شهاب الدين: هذه قِراءة ابن عامر، نَسَبَها لأبي جَعْفَر يزيد بن القَعْقاع المَدَنِي شَيْخُ نَافِع؛ وهو مُحْتَمل، وقوله: «كان يَلْزَمُه» إلى آخره هو مَعْنى ما ضَعَّفَ به أبُو البقاء هذه القراءة، وتقدَّم جواب ذلك، واتَّقَق أنَّ ابن عامرٍ يقرأ: {وَإِن تَكُنْ مَيْتَةٌ} بالتَّأنيث والرَّفْع وهنا كذلك. وقرأ ابن كثير وحمزة: «تَكُون» بالتَّأنيث، «مَيْتَة» بالنَّصْب على أن اسْم «تكُونَ» مُضْمَر عَائِدٌ على مُؤنَّث أي: إلا أن يكُون المَأكُولُ أوالنَّفْسُ أو الجُثَّةُ مَيْتَة، ويجوز أن يَعُود الضَّمِير من «تكُون» على «مُحَرَّماً» وإنَّما أنَّث الفعل لتأنيث الخبر؛ كقوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن} [الأنعام: 23] بنصب «فِتْنَتِهم» وتأنيث «تَكُنْ» . وقرأ الباقون: «يَكُونَ» بالتَّذْكير، «مَيْتِةً» نصباً، واسم «يَكُون» يعود على قوله: «مُحَرَّماً» أي: إلاَّ أنْ يَكُون ذلك المُحَرَّم، وقدّره أبُو البقاء ومَكِّي وغيرُهما: «إلاَّ أنْ يكُون المَأكولُ» ، أو «ذَلِك مَيْتَةً» . قوله: «أوء دَماً مَسْفُوحاً» «دماً» على قرءاة العامَّة: معطوفُ على خبر «يَكُون» وهو «مَيْتَة» وعلى قراءة ابن عامرٍ وأبي جعفرك معطوف على المُسَتَثْنَى، وهو «أنْ يَكُون» وقد تقدَّم تحرير ذلك. و «مَسْفُوحاً» صفة ل «دَماً» والسَّفْحُ: الصبُّ، وقيل: «السَّيَلان» ، وهو قريبٌ من الأول، و «سَفَحَ» يستعمل قاصِراً ومتعدِّياً؛ يقال: سَفَحَ زيدٌ دَمْعَه ودَمَهُ، أي: أهْرَاقَه، وسَفَح هُو، إلاَّ أن الفَرق بينهما وَقَع باخْتِلاف المَصدر، ففي المُتعدِّي يقال: سَفْح وفي اللاَّزِم يقال: سُفُوح، ومن التّعَدِّي قوله تعالى: {أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً} ؛ فإن اسْم المفعُول التَّامَ لا يُبْنَى إلا مِنْ مُتَعَدِّ، ومن اللُّزُوم ما أنْشَده أبو عبيدة لِكُثَيِّرَة عَزَّة: [الطويل] 2369 - أقُولُ وَدَمْعِي وَاكِفٌ عِنْدَ رَسْمِهَا ... عَلَيْك سلامُ اللَّهِ والدَّمْعُ يَسْفَحُ فصل فيما كان محرماً بمكة قال القرطبي: «هذه الآية الكَرِيمة مَكِّيَّة، ولم يَكُن في الشَّريعة في ذلك الوَقْت مُحَرَّم غير هذه الأشْيَاء، ثم نزلت سُورة» المائدة «ب» المدينة «وزيد في المُحَرَّمات؛ كالمُنْخَنِقَة، والموْقُوذَة والمُتَرَدِّية، والنَّطِيحَة، والخَمْر، وغير ذلك، وحرَّم رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمَدِينَة أكْلَ كلِّ ذي نَابٍ من السِّبَاع، ومِخْلَب من الطِّيْر» ز الجزء: 8 ¦ الصفحة: 484 فصل في معنى الدم المسفوح قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد بالدَّم المَسْفُوح: ما خَرَج من الحيوان وهي أحْيَاء، وما يَخْرُج من الأوْدَاج عن الذَّبْح، ولا يَدْخُل فيه الكَبد والطُّحال؛ لأنهما جَامِدَات وقد جاء الشَّرْع بإباحَتِهما، وما اخْتلط باللَّحم من الدَّم؛ لأنه غير سَائل. قال عِمْرَان بن حُدير: «سألْت أبا مجلز عمَّا يَخْتَلِطُ باللَّحْم من الدَّمِ، وعن القِدْر يُرَى فيها حُمْزة الدِّمِ، فقال: لا بَأسَ به، إنما نُهِي عن الدَّمِ المَسْفُوح» . قال إبْرَاهيم: «لا بأسَ بالدَّم في عِرْق أوْ مُخَّ، إلاَّ المَسْفُوح الذي يتعمد ذلك» . قال عكرمة: «لوْلا هَذِه الآية لاتَّبع المُسْلِمُون من العُرُوق ما تَتبع اليَهُود» . وقوله: {أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ} أي: حَرَامٌ، والهاء «في» فإنَّه «الظاهر عَوْدُها على» لَحْمَ «المضاف ل» خَنْزير «. وقال ابن حزم: إنها تعُود على خنزير؛ لأنه أقَرْب مَذْكُور. ورُجِّحَ الأوَّل: بأنَّ اللَّحم هو المُحَدِّث عنه، والخِنْزير جاء بعَرْضِيَّة الإضافة إليه، ألآ ترى أنَّك إذا قُلْت:» رأيت غُلام زَيْد فأكْرَمْتُه «أنَّ الهاء تعُود على الغُلام؛ لأنه المُحَدَّث عنه المَقْصُود بالإخْبار عنه، لا على زَيْد لأنه غير مَقْصُود. ورُجِّح الثاني: بأن التَّحْريم المُضَاف إلى الخَنْزير ليس مُخْتَاً بلحمه، بل شَحْمه وشَعْره وعَظْمِه وظلفه كذلك، فإذا أعَدْنَا الضَّمِير على خنزير، كان وافياً بهذا المَقْصُود، وإذا أعدْنَاهُ على لحم، لم يكن في الايةِ الكريمة تَعَرُّضٌ لتَحْرِيم ما عَدَا اللَّحم ممَّا ذكر. وأُجيب: بأنَّه إنما اللَّحْم دون غيره، - وإن كان غيره مَقْصُوداً بالتحريم -؛لأنَّه أهَمُّ ما فيه، وأكثر ما يُقْصَد منه اللَّحم كَغَيره من الحَيَوانات - على هذا فلا مَفْهُوم لتَخْصِيص اللَّحْم بالذِّكر، ولو سَلَّمَه، فإنه يكون من باب مَفْهُوم اللَّقَب، وهو ضَعِيف جداً. وقوله:» فإنَّهُ رِجْسٌ «إمَّا على المُبَالغَة بأن جُعِلَ نَفْسَ الرِّجْس، أو على حَذْف مضافٍ، وله نَظَائر. قوله: «أوْ فِسْقاً» فيه ثلاثة أوجُه: أحدها: انه عَطْف على خَبَر «يَكُون» أيضاً، أي: إلا أن يكُون فِسْقاً. و «أهلَّ» في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 485 محل نصب؛ لأنه صِفَة له؛ كأنه قيل: أو فِسْقاً مُهَلاً به لِغَيْر اللَّه، جعل العَيْن المُحُرَّمَة نَفْس الفِسْق؛ مُبَالغَة، أو على حَذْف مُضَافٍ، ويُفَسِّره ما تقدَّم من قوله: {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام: 21] الثاني: أنه مَنْصُوب عَطْفا على محلِّ المسْتَثْنَى، أي: إلا أنْ يكون مَيْتَة أو إلاَّ فِسْقاً، وقوله: «فإنَّه رِجْسٌ» اعْتِرَاض بين المُتعاطِفَيْن. والثالث: أن يكون مَفْعُولاً من أجْلِه، والعَامِل فيه قوله: «أهِلَّ» مقدَّمٌ عليه، ويكون قد فَصَل بين حَرْف العَطْفِ وهو «أوْ» وبَيْن المَعْطُوف وهو اجملة من قوله: «أهِلَّ» بهذا المَفْعُول من أجْلِه؛ ونظيره في تَقْدِيم المَفْعُول له على عَامِلهِ قوله: [الطويل] 2370 - طَرِبْتُ وَمَا شَوْقاً إلى البيضِ أطْربُ ... وَلاَ لِعِباً مِنِّي وذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ و «أهِلَّ» على هذا الإعْرَاب عَطْفٌ على «يكون» والضَّمِير في «به» عائدٌ على ما عَادَ عليه الضَّمِيرُ المُسْتَتِر في «يَكُون» ، وقد تقدم تَحْقِيقه، قاله الزمخشري. إلاَّ أن أبا حيَّان تعقَّب عليه ذلك؛ فقال: «وهذا إعْرَاب متكَلِّفٌ جداً، وترْكِيبُه على هذا الإعارب خارج عن الفَصَاحةِ، وغير جَائزٍ على قراءة من قرأ» إلا أنْ يكُون مَيْتَةٌ «بالرَّفْع، فيبقى الضَّمير في» به «لَيْس له ما يَعُود عليه، ولا يجوز أن يُتكَلَّف مَحْذُوف حتى يَعُود الضَّمير علي، فيكون التَّقْدير: أو شَيءٌ أهِلَّ لِغَيْر الله به، لأن مِثْل هذا لا يَجُوز إلاَّ في ضَرُورة الشِّعْر» . قال شهاب الدِّين: يَعْنِي بذلك: أنَّه لا يُحْذَف الموصُوف والصِّفَة جُمْلَةً، إلا إذا كان في الكلام «مِنْ» التَّبْعِيضيَّة؛ كقولهم «» مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقَام «أي: منا فَريقٌ ظعن، ومنَّا فَرِيقٌ أقَام فإن لم يكن فيه» مِنْ «كان ضَرورة؛ كقوله: [الزجر] 2371 - تَرْمِي بِكَفِّيْ كانَ مِنْ أرْمَى البَشَرْ ... أي: بكفَّي رَجُلِ؛ وهذا رأي بَعَضهم، وأما غَيْرَه فَيَقُول: متى دلَّ على المَوْصُوف، حُذَِف مُطْلقاً، فقد يجُوز أن يَرَى الزَّمَخْشَري هذا الرَّأي. فصل في هل التحريم مَقْصُور على هذه الأشياء؟ ذهب بَعْض أهل العِلْم إلى أن التَّحْريم مَقْصُور على هذه الأشياء؛ يُرْوَى ذلك عن عَائِشة وبان عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قالوا: ويَدْخل في المَيْتَة المُنْخَفِقَة والموْقُوذة وما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 486 ذكر [في أوَّل سُورة المائدة، وأكْثَر العُلماء على أنَّ التَّحْرِيم لا يختصُّ بهذه الأشياء مما ذكر، فالمحرم بنص الكتاب ما ذكر] ههنا، وقد حرمت السُّنة أشْيَاء: منها: ما روى ابْن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ قال:» نَهى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَنْ كُلِّ ذِي نَابٍ من السِّباع، وكُلِّ ذي مِخْلَب من الطِّيْر «. ومنها: ما أمر بِقَتْلِه بقوله: «خَمْس فواسِق تُقْتَل في الحِلِّ والحَرَم» . ومنها: ما نَهَى عن قَتْلِه؛ كنِهْيه عن قَتْل النَّحْلَة والنَّمْلة؛ فهو حَرَامٌ، وما سوى ذلك فَيُرْجَع إلى الأغْلَب فيه من عَادَات العرب، فما يأكله الأغْلَب مِنْهُم، فهو حلالٌ، وما لا يَأكُلُه الأغْلَب منهم، فهو حَرَام؛ لأن الله - تبارك وتعالى - خاطَبَهم بقوله: {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} [المائدة: 4] فما اسْتَطَابُواه فهو حلال. وقوله: {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . أباح هذه المُحَرَّمَاتِ عند الاضْطِرار في غير العُدوان، وتقدم الكلام عل نَظِيرها في البقرة. قوله: «وَعَلى الَّذين هَادُوا» متعلَّق ب «حَرَّمْنَا» وقد يُفيد الاخْتِصاص عند بعضهم؛ كالزَّمْخَشَري والرَّازي، وقد صرّح به الرَّازي هنا، أعني: تَقْديم المَعْمُول على عَامِلهِ. وفي «ظفُر» خمس لغات: أعلاها: «ظُفُر» بضم الظَّاءِ والفَاءِ، وهي قرءاة العامَّة. و «ظُفْر» بسكون العين، وهي تَخْفِيف لمَضْمُومِها، وبها قرأ الحسن في رواية وأبيُّ بن كَعْب والأعْرَج. و «ظِفِر» بكسرا لظَّاء والفاء، ونسبها الوَاحِدي قراءة لأبي السَّمال. و «ظِفْر» تكسر الظَّاء وسكون الفَاء، وهي تَخْفيفٌ لمكْسُورها، ونسبها النَّاس للحسن أيضاً قراءة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 487 واللغة الخامسة: «أظْفُور» ولم يُقْرأ بها فيما عَلِمْنَا؛ وأ، شدوا على ذلك قول الشاعر: [البسيط] 2372 - مَا بَيْنَ لُقْمِتِهَا الأولَى إذَا انْحَدَرَتْ ... وبَيْنَ أُخْرَى تَلِيها قِيدُ أظْفُورِ وجمع الثُّلاثي: أظْفَار، وجمع أظْفُور: أظافير وهو القياس وأظافِر من غير مَدِّ، وليس بِقِياس؛ وهذا كقوله: [الزجر] 2373 - العَيْيَيْنِ والعَوَاوِر ... وقد تقدَّم تَحْقِيق ذلك في قوله: {مَفَاتِحُ الغيب} [الأنعام: 59] . فصل في معنى «ذي ظُفُر» قال الواحديُّ اختلفوا في ذِي الظُّفُر: فروى عطاء عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أنه الإبل فقط، ورُوي عنه أيضاً: أنَّه الإبل والنَّعَامة؛ وهو قول مُجَاهد. قوال عِبْد اللَّهِ بْنُ مُسْلِم: «إنَّه كلُّ ذي مِخْلَبٍ من الطَّير، وكلُّ البَعِير والنَّعامة والإوَزِ والبَط؛ ثم قال: كذلك قال المفسِّرون. وقال ابن الخطيب:» وَسُمِّي الحافر ظفراً على الاسْتِعاَرِة «قال ابْنُ الخطيب أمَّا حمل الظُّفُر على الحَافِر فِبَعِيدٌ من وَجْهَيْن: الأول: أن الحَافِ لا يُسَمَّى ظُفُراً. والثاني: لو كان الأمْر كذلك، لوجب ا، ب يُقَال: إنه - تبارك وتعالى - حَرَّم عليهم كُلَّ حَيَوان له حَافِر، وذلك بَاطِلٌ؛ أن الآية تدلُّ على أنَّ الغَنَم والبَقَر مُبَاحَان لَهُم مع حُصُول الحافِر لَهُم. وإذا ثَبَتَ هذا، فَنَقُول: وجب حَمْل الظُّفُر على المَخَالِبِ والبَرْاثِنِ؛ لأن المَخالِب آلات الجَواَرِد في الاصطِيَاد: والبرارثِن آلات السِّبَاع في الاصْطِيَاد، وعلى هذا التقدير الجزء: 8 ¦ الصفحة: 488 يدخل أنواع الكِلاب والسِّباع والسَّنَانِير، ويدخل فيه الطُّيُور اليت تُصْطَاد؛ لأن هذه الصِّفَة تَعْمُّهُم. وإذا ثبت هذا؛ فنقول: قوله تعالى -: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} تخصيصُ هذه الحُرْمَةِ بهم من وجهين: الأول: أن قوله: «وعلى الَّذِي هَادُوا حَرَّمْنَا» كذا وكذا يفيد الحَصْر في اللُّغَة. والثاني: أنه لَوْ كانت هذه الحُرْمَة ثابتَة في حَقِّ الكُلِّ، لم يَبْق لِقَوْله: «وعَلَى الَّذِين هَادُوا حَرَّمْنَا» فائدة؛ فثبت أنَّ تَحْريم السِّبَاع، وذَوِي المخلَب من الطَّير مختفص باليَّهُود، فوجب ألا تكُون مُحَرَّمة على المُسْلِمِين، وعند هذا نَقُول: مَا رُوي أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - حرَّم كل ذِي ناب من السِّباع، وكل ذي مِخْلَب من الطَّيْر ضعيفٌ؛ لأنه خبر واحدٌ على خلاف كتابِ اللَّه، فلا يكون مَقْبُولاً، وهذا يُقَوِّي قوله مالِك في هذه المَسْألة. قوله: «وَمَنَ البَقَرِ» فيه وجهان: أحدهما: أنه مَعْطُوف على «كُلِّ ذي» فتتعلَّق «مِنْ» ب «حَرَّمْنَا» الأولى لا الثانية، وإنَّما جيء بالجُمْلَة الثانية مُفسِّرة لما أبْهم في «مِنْ» التَّبْعيضيَّة من المُحَرَّم؛ فقال: «حَرَّمْنَا عَلَيْهم شُحُومَهُمَا» . والثاني: أن يتعلَّق ب «حَرَّمْنَا» المُتَأخِّرة، والتقدير: وحرَّمْنا على الذين هَادُزا من البَقَر والغَنَم وشُحُومَهُمَا، فلا يَجِب هنا تَقْديم المجرُور بها على الفِعْل؛ فيقال: حَرَّمْنا عليهم شُحُوَمُهما من البَقَر والغَنَمِ؛ لئلا يَعُود الضَّمِير على متأخِّر لفظاً ورُتْبَة. وقال أبو البقاء: «ولا يجوز أن يكُون» مِنْ البَقَرِ «متعلِّقاً ب» حَرَّمْنَا الثانية «. قال أبو حيَّان:» وكأنه قد توهَّم أن عَوْد الضَّمير مانِعٌ من التعَلُّق؛ إذ رُتْبَة المجرُور ب «مِن» التَّأخِير، لكن عن ماذا؛ أما عن الفعل فَمْسَلَّم، وأما عن المَفْعُول فغير مُسَلَّم «يعني: أنه إن أراد أنَّ رُتْبَة قوله:» مِنَ البَقَر «التأخير عن شُحُومَهُمَان فيصير التقدير: حرمنا عليهم شُحُومَهُما من البقر؛ فغيرمُسَلَّم، ثم قال أبو حيَّان:» وإن سَلَّمْنا أن رُتْبَته التَّأخير عن الفِعْل والمفعُول، فليس بِمَمْنُوع، بل يَجُوز ذلك كما جَازَ: «ضربَ غُلامَ المْرأة أبُوهَا» و «غُلامَ المرأة ضَرَبَ أبوها» ، وإن كانت رُتْبَة المفْعُول التَّأخير، لكنه وَجَبَ هنا تَقْدِيمُه؛ لعود الضَّمِير الذي في الفاعل الذي رُتْبَتُه التَّقْديم عليه، فكيف بالمَفْعُول الذي هُو والمَجْرُور في رُتْبَةٍ واحِدَةٍ؟ أعني في كَوْنَها فَضْلَه، فلا يبالي فيهما بتَقْدِيم أيَّها شِئْت على الآخَر؛ قال الشاعر: [الطويل] 2374 - ... ... ... ... ... . ... الجزء: 8 ¦ الصفحة: 489 وَقَدْ رَكَدَتْ وَسَطَ السَّماءِ نُجُومُهَا فقدَّم الظَّرْف وجوباً؛ لعود الضَّمير الذي اتَّصل بالفَاعِل على المجْرُور بالظَّرْف «. قال شهاب الدِّين:» لقائل أن يقُول: لا نُسَلِّم أن أبَا البقاء إنما مَنَع لما ذكرت، حتى يُلْزَم بما ألْزَمْتَه، بل قَدْ يَكُون منعه لأمر مَعْنَوِيِّ «. والإضافة في قوله: «شُحُومَهُما» تُفِيد الدَّلالة على تأكييد التَّخْصيص والرَّبْط، إذ لو أتى في الكلام: «مِن البَقَر والغنم حرَّمْنَا عليْهم الشُّحُوم» لكان في الدَّلالة على أنَّه لا يراد إلاَّ شُحُومُ البَقَر والغَنَم؛ هذا كلام أبي حيَّان وهو بَسْط ما قاله الزَّمَخْشَري؛ فإنه قال: «ومن البَقَر والغَنَم حَرَّمْنا عليهم شُحُومَهُما» ؛ كقولك: «مِنْ زَيْد أخَذْت مَالَهُ» تريد بالإضافة زيَادة الرَّبْط. قوله: «إلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورهُمَا» «ما» مَوْصُولة في محل نَصْب على الاستِثْنَاء المُتَّصِل من الشُّحُوم، أيك إن لم يُحَرِّم الشَّحْم المَحْمُول على الظَّهْر، ثم إن شِئت جعَلْت هذا المَوْصُول نعتاً لِمَحْذُوف، أي: إلا الشَّحْم الذي حَمَلَتْهُ ظهورُهُمَا؛ كذا قدَّره أبو حيان، وفيه نظر، لأنه قد نصَّ على أنَّه بذلك غَيْرِه بذلك في مِثْل هذا التقدير: وإن شِئْت جعلْتَهُ موصُوفاٍ بشَيْءٍ محذوف، أي: إلاَّ الذي حملَتْه ظُهُورُهُما من الشَّحْم، وهذا الجَارُّ هو وَصْفٌ معنوي لا صناعي، فإنَّه لو أظْهَر كذا، لكان إعرابُه حالاً. وقوله: «ظُهُورهما» يحتمل أن يكُون من باب قوله: {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4] ، بالنسبة إلى ضَمِير [البَقَر] والغَنَم من غير نَظِر إلى جَمْعِيَّتهما في المَعْنَى، ويحتمل أن يَكُون جَمَع «الظُّهُور» لأنَّ المُضَافَ إليه جَمْعٌ في المَعْنَى؛ فهو مثل: «قَطَعْتُ رُؤُوس الخرفان» فالتِّثْنِيةَ في مثل هذا مُمْتِنِعَة. فصل في تفسير الشحم قال ابن عبَّاس: «إلا ما عَلِق بالظَّهْر من الشحم، فإنِّي لم أحرمهُ» وقال قتادة: «إلا ما عَلَق بالظَّهْرِ والجَنْبِ من دَاخِل بُطُونِها» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 490 قال ابن الخطيب: «وأقول: لَيْس على الظَّهْر شَحْمٌ إلا اللحم الأبْيَض السَّمين المُلْتَصِق باللًّحْم الأحْمَر، وعلى هذا التقدير فذلك اللحم السَّمين الملتَصِق يكوم مُسَمَّى بالشَّحم وبهذا التقدير لو حَلَق ألاَّ يأكُل الشَّحْم، وجَبَ أن يَحْنَث إذا أكل ذلك اللَّحْم السَّمين» . قوله: «أو الحَوَايَا» في موضعها من الإعْراب ثلاثة أوجُه: أحدها - وهو قول الكسائي: أنَّها في مَوْضع رفْع عَطْفاً على «ظُهُورُهما» أي: وإلاَّ الَّذي حملَتْه الحَوَاياَ من الشَّحْم، فإنه أيضاً غير مُحَرَّم، وهذا هو الظّاهِر. الثانيك أنَّها في محل نَصْبٍ نَسَقاً على «شُحُومَهُمَا» أي: حَرَّمْنا عليهم الحَوَايَا أيضاً، أو ما اخْتَلَط بعَظْم، فتكون الحوايا والمُخْتَلط مُحَرَّمين، وإلى هذا ذَهَب جماعةٌ قِليلَةٌ، وتكون «أوْ» فيه كَالتَّتِي في قوله - تعالى -: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] يُراد بها: نَفْي ما يدخُل عليه بطريق الانفِرَاد؛ كما تقول: «هؤلاءِ أهْلٌ أن يُعْصَمْوا فاعْصِ هذا أو هذا» فالمعنى: حرم عليهم هذا وهذا. وقال الزَّمَخْشَرِي: «أو بمنزلتها في قولهم: جَالِس الحسن أو ابن سيرين» . قال أبو حيَّان: «وقال النَّحْويُّون» «أو» في هذا المثال للإباحَةِ، فيجوز له أن يُجَالِسَهُمَا وأن يُجَالِس أحدهُمَا، والأحْسَن في الآية إذا قُلْنَا: إن «الحوايا» معطوفٌ على «شُحُومَهُمَا» ، وأن تكون «أوْ» فيه للتفصيل؛ فصَّل بها ما حرَّم عليهم من البقر والغنم «. قال شهاب الدِّين: هذه العِبارة التي ذكرها الزَّمَخْشَري سبقه إليها الزَّجَّاج فإنه قال: وقال قوم: حُرِّمَت عليهم الثُّرُوب، وأحِلَّ لهم ما حَمَلَت الظُّهُور، وصارت الحوايا أو ما اخْتَلَط بعَظْم نَسَقاً على ما حَرَّم لا على الاستثناء، والمَعْنَى على هذا القول: حُرِّمت عليهم شُحُومَهُمَاً أو الحوايا أو ما اختلط بعَظْمٍ، إلا ما حملت الظُّهُور فإن غير محرَّم، وأدخلت «أو» على سَبِيل الإبَاحَة؛ كما قال تعالى: {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [الإنسان: 24] والمعنى: كل هؤلاء أهْلٌ أن يُعْصَى فاعْص هذا أو اعْص هذا و «أو» بَلِغة في هذا المَعْنَى؛ لأنَّك إذا قُلْتَ: «لا تُطِعْ زَيْداً وعَمْراً» فجائز أن تكُون نَهَيْتَي عن طَاعَتهما معاً في حالةٍ، فإذا أطعْتُ زيداً على حَدَته، لم أكُن عَاصياً، وإذا قلت: لا تُطِع زَيْداً أو عمراً أو خالداً، فالمعنى: أن كُلَّ هؤلاءِ أهْلٌ ألاَّ يُطَاع، فلا تُطِع واحداً منهم، ولا تُطِع الجماعة؛ ومثله: جَالِس الحَسَنَ أو أبْنَ سيرين او الشَّعْبي، فليس المَعنى: أني آمُرُكَ بمجَالَسَة واحدٍ منهم، فإن جَالَسْتَ واحِداً منهم فأنْتَ مُصِيبٌ، وإن جَالَسْتَ الجماعة فأنت مُصِيبٌ. وأمَّا قوله: «فالأحْسَنُ أن تكُون» أو «فيه للتَّفْصِيل» فقد سبقه إلى ذلك أبو البقاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 491 فإنه قال: و «أوْ» هنا بِمَعْنة الواو، لتفصِيل مذاهبهم أو لاخْتِلاف أماكمنها، وقد ذَكرَناَه في قوله: {كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى} [البقرة: 135] . وقال ابن عطيَّة ردّاً على هذا القول - أعين كون «الحَوَايَا نَسَقاُ على شُحُومهما -:» وعلى هذا تَدْخُل «الحَوَايَا» في التَّحْريم، وهذا قَوْلٌ لا يعضدُه لا اللَّفْظ ولا المَعْنَى بل يَدْفَعَانه «ولم يبيِّن وجْه الدَّفْع فيها. الثالث: أن» الحَوَايَا «في محلِّ نَصْبٍ عطفاً على المسْتَثْنَى وهو» ما ملت ظُهُورهُمَا «كأنه قيل: إلا ما حَمَلَت الظُّهُور أو الحَوَايا أو إلا ما اختَلَط، نققله مكِّ، وأبو البقاء بدأ به ثم قال:» وقيل «هو مَعْطُوف على الشُّحُوم» . ونقل الواحدي عن الفراء؛ أنَّه قال: يَجُوز أن يكُون في موضع نَصْب بتقدير حذف المضاف على أن يُريدك أو شُحُوم الحَوَايَا فَيَحذِف الشُّحُوم ويكتفي بالحوايا؛ كما قال - تعالى - {واسأل القرية} [يوسف: 82] يريد أهلها، وحكى ابن الأنْبارِي عن أبي عبيد، أنه قال: قلت للفرَّاء: هو بمنزلة قول الشَّاعِر: 2375 - لا يَسْمَعُ المَرْءُ فِيهَا مَا يُؤنَّسُه ... باللَّيْلِ إلاَّ نَئِيمَ البُوم والضُّوَعاَ فقال لي: نَعَم، يذهب إلى أن «الضُّوَع» عَطْف على «النَّئِيم» ولم يُعْطَف على «البُوم» كما عُطِفت الحَوَايَا على «مَا» ولم تُعْطَفْ على الظُهُور. قال شهاب الدِّين: فمقتضى ما حكاه ابن الأنْبَارِيِّ: أن تكون الحَوَايَا «عَطْفاً على» مَا «المسْتَثْنَاه» وفي مَعْنَى ذلك قلقٌ بيِّنٌ. و «الحَوَايَا» قيل: هي المَبَاعِر، وقيل: المصَارين والأمْعَاء، وقيل: كل ما تَحْويه البَطْن فاجْتَمع واسْتَدَار، وقيل: هي الدَّوَّارة الَّتِي في بَطْن الشَّاةِ. واختلف في مُفْرد «الَحَوايَا» فقيل: حَاوِيَة ك «ضَارِبة» ، وقيل: حَوِيَّة ك «طَريفَة» ، وقيل: حَاويَاء ك «قَاصِعَاء» . وجوَّز الفَارِسيُّ أن يكون جَمْعاً لكلِّ واحدٍ من الثلاثة، يعني: أنه صَالِحٌ لذلك، وقال ابن الأعْرَابِيِّ: هي الحَويَّة والحَاوِيَة «ولم يَذْكر الحَاويَاء. وذكر ابن السَّكِّيت الثلاثة فقال:» يقال: «حَاويَة» و «حَوَايَا» مثل «زَاوَيَا» و «رَاوِيَة» و «رَوَايَا» ومهم من يَقُول: «حَويَّة» و «حَوَايَا» ؛ مثل الحَوية التي تُوضَع على البَعِير ويُرْكَبُ فَوْفَها، ومنهم من يَقُول لواحِدَتها: «حَاوِيَاء» وأنشد قول جَرَير: [البسيط] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 492 2376 - تَضْغُو الخَنَانِيصُ والغُولُ الَّتِي أكَلَتْ ... فِي حَاويَاء رَدُومِ اللَّيل مِجْعَار وأنشد ابن الأنْبَاري: [الطويل] 2377 - كَأنَّ نَفِيقَ الحَبِّ فِي حَاوِيَائِهِ ... فَحِيحُ الأفَاعِي أوْ نَقيقُ العَقَارِبِ فإن كان مُفْرَدُها حَاوِيَة، فوزنها فواعِلٌ؛ كَضَاربة وضَوارب ونظيرها في المُعْتَلِّ: هي عَيْن الكَلِمة هَمْزة؛ لأنها ثاني حَرْفِي لين، اكتنفا مَدّة مفَاعِل، فاستُثْقَلت هَمْزَة مكْسُورة فَقُلِبت يَاءً، فاسْتثْقِلت الكَسْرة على اليَاءِ فجُعِلَتْ فَتْحَة، فَتَحرَّك حَرْف العِلَّة وهو اليَاءُ الَّتِي هي لامُ الكملة بعد فَتْحَةٍ، فقُلِبت ألِفاً [فصارت «حَوَايَا» ، وإن شِئْتَ قلت: قُلِبَت الواوُ هَمْزة مَفْتُوحة، فتحركت اليَاءُ وانفتح ما قَبْلَها فقُلبَت ألِفاً] فصارت هَمْزَة مَفْتُوحة بين ألِفين يُشْبِهَانِها فقلبت الهَمْزَة ياءً، وقد تقدَّم تَحْقِيق هذا في قول: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] واخْتِلاف أهل التَّصْريف في ذَلِك. وإن قلنا: إن مُفْرَدها «حَويَة» فوزنها فعائل كَطَرائف، والأصل: حَوَائي فقُلبت الهَمْزَة ياءً مَفْتُوحة، وقلبت اليَاءُ التي هِيَ لامٌ ألِفاً، فصار اللَّفْظُ «حَوَايَا» أيضاً، فالَّفْظُ مُتَّحِد والعَمَل مُخْتَلِف. قوله: «أوْ مَا اخْتَلَطَ بَعَظْم» فيه ما تقدّم في «حَوَايَا» ورأيُ الفرَّاء فيه: أنَّه مَنْصوب نَسَاقً على «ماط المسْتَثْنَاة في قوله:» إلاَّ ما حَمَلتْ ظُهُورهُما «المُرَاد به الألْيَة. وقيل: هو كلُّ شَحْمٍ في الجَنْب والعَيْن والأذُن والقَوَائِم، والمحرَّم الثَّرْبُ وشَحْم الكُلْيَة. فصل قال القرطبي: أخْبَر الله - تعالى - أنه كَتَب تَحْريم هذا عليهم في التَّوْرَاة رداً لِكَذِبهم، ونَصُّهُ فيها:» حرّمتُ عَلَيْكم المَيْتَةَ والذَّمَ ولَحْمَ الخِنْزِير وكُلَّ دابَّةٍ ليست مَشْقُوقة الحَافِر، وكل حوتٍ ليس في سَفَاسِقٌ «أي: بياضٌ، ثم نسخ الله ذلك كُلَّهُ بشريعة محمّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأباح لهم ما كان مُحَرَّماً عليهم مِنَ الحيوان، وأزال الحرج بمحمَّد - عليه السلام الجزء: 8 ¦ الصفحة: 493 وألزم الخليقة دين الإسلام، بحلِّة وحرمه وأمره ونهيه، فلو ذَبَحُوا أنعامهم فأكَلُوا ما أحَلَّ لَهُم في التَّوْرَاة وترَكُوا ما حرَّم عليهم فهل يحلُّ لنا؟ قال مَالِكٌ في كِتَاب محمَّد: هي مُحُرَّمة وقال في سماع» المبسوط «: هي محلَّلة؛ وبه قال ابن نافع. وقال ابن القاسم: «أكرَهُه» والصَّحيح حِلُّه؛ لحديث جواب الشَّحْم الذي رَوَاهُ عبد الله بمن مغفل. قوله: «ذَلَك جَزَيْنَاهُمْ» فيه أربعة أوْجُه: أحدهما: أنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: الأمْر ذلك، قاله الحُوفِيُّ؛ ومكِّي وأبو البقاء. الثاني: أنه مُبْتَدأ، والخبرما بعده، والعَائِد مَحْذُوفٌ، أي: ذلك جَزَيْنَاهُمُوه، قاله أبو البقاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وفيه ضَعْف؛ من حيث إنه حَذَف العَائِد المنْصُوب، وقد تقدّم ما فيه في المَائدةَ في قوله - تعالى {أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ} [المائدة: 50] وأيضاً فقدَّر العَائِد مُتَّصِلاً، ويَنْبَغي ألا يُقدَّر إلا مُنْفَصِلاً ولكنه يَشْكُل حذفه، وقد تقدَّم تحقيقُهُ في أوّل البقرة. وقال ابن عطيَّة: «ذلك في مَوْضِع رَفْعٍ» ولم يُبَيْنْ على أيِّ الوَجْهيْن المتقدِّمَيْن، ويَنْبَغي أن يُحَمَل على الأوَّل؛ لضعف الثَّاني. الثالث: أنه مَنْصُوب على المَصْدَر، وهو ظاهر كلام الزَّمْخَشَري؛ فإنه قال: «ذلك الجَزَاء جزيْنَاهُم وتَحْريمُ الطِّيِّبات» ، وإلا أن هذا قَدْ يَنْخَدِشُ بما نقله ابن مالك، وهو أنَّ المَصْدَر إذا أشِير إليه، وجب أنْ يُتْبَع بذلك المَصْدَرُ؛ فيقال: «ضَرَبْتُ ذلِك الضَّرْبَ» و «قُمْتُ هذا القِيَامَ» ولو قُلْت: «ضَرَبْت زَيْداً ذَلِك» و «قُمْت هذا» لم يَجزْ، ذكر ذلك في الرَّدَّ على من أجَابَ عن قَوْل المُتَنَبِّي: [الكامل] 2378 - هَذِي، بَرَزْتِ لَنَا فَهِجْتِ رَسِيسا ... ثُمَّ انْصَرَفءتِ وَمَا شَفَيْتِ نَسِيسا فإنهم لَحَّنوا المُتَنَبِي، من حيث إنه حَذَف حَرْف النِّدَاء من اسْم الإشَارة، إذ الأصْل: يَاهَذِي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 494 فأجابوا عنه: بأنَّا لا نُسَلِّم أن «هَذِي» مُنَادى، بل [اسْم] إشارة إلى المَصْدَر، كأنَّه قال: بَرَزْتِ هَذِي البَرْزَة. فردّ ابن مالك هذا الجواب: بأنَّه لا يَنْتَصب اسْمٌ الإشَارة مُشَاراً به إلى المَصْدَر إلا وهو متبوعٌ بالمَصْدَر. وإذا سُلِّم هذا فيكُون ظاهر قَوْل الزَّمَخْشَري: «إنه مَنْصُوب على المَصْدَر» مردوداً بما رُدَّ به الجوابُ عن بَيْت أبي الطَّيب، إلا أن ردّ أبن مالكٍ ليس بِصَحيح؛ لورود اسْم الإشارة مشاراً به إلى المَصْدَرِ غير مَتْبُوع به؛ قال الشاعر: [الطويل] 2379 - يَا عمْرُو إنَّكَ قَدْ مَلِلْت صَحَابَتِي ... وصَحَابَتيكَ إخَالُ ذَالكَ قَليل قال النّحْويُّون: «ذالك» إشارةٌ إلى مَصْدَر «خال» المؤكِّد له، وقد أنْشَده هُوَ عَلَى ذلك. الرابع: أنه مَنْصُوبٌ على أنه مَفْعُول ثانٍ قُدِّم على عَامِله؛ لأن «جَزَى» يتعدِّى لاثْنَين، والتَّقْدير: جَزيْنَاهم ذلك التَّحْريم، وقال أبُو القاء ومكِّي إنَّه في مَوْضع نَصْب ب «جَزَيْنَاهُم» ولم يُبَيِّنَا على أيِّ وَجْهٍ أنتَصَب: هل على المَفْعُول الثَّانِي أو المصدر؟ فصل في معنى قوله «جزيناهم ببغيهم» والمعنى: إنما خَصَصْنَاهم بهذا التَّحْريم جزاءً على بَغْيِهم، وهو قتلهم الأنْبَياء، وأخْذِهم الرِّبَا، وأكْلِهم أمْوال الناس بالبَاطِل، ونظيره قوله - تعالى -: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160] . قوله: «وإنَّا لَصَادِقُونَ» مَعْمُولة مَحْذُوف، أي: لصادِقُون في إتمام جَزَائِهِم في الآخِرَة؛ إذا هو تَعْرِيضٌ بكَذبهم حَيْث قالُوا: نحن مُقْتَدُون في تَحْريم هذه الأشْيَاء بإسْرَائيل، والمعنى: الصَّادقون في إخْبَارنا عنهم ذلك، ولا يُقَدَّر له مَعْمُول، أي: من شأنِنَا الصِّدْق. قوله: «فإنْ كَذَّبُوكَ» [الضَّمِير في «كَذَّبُوك» ] الظاهر عودُه على اليَهود؛ لأنَّهم أقرب مذكور. وقيل: يعود على المُشْركين، لتقدُّم الكلام معهم في قوله: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ} [الأنعام: 143] و {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ} [الأنعام: 144] والمعنى: فإن كذَّبُوك في ادِّعَاء النُّبُوة الجزء: 8 ¦ الصفحة: 495 والرِّسَالة «فَقُلْ ربُّكُم ذو رَحْمَة واسِعَة» فلذك لا يُعَجِّل عليكم بالعُقوبة، ثم أخبرهم بما أعَدَّ لهم، من العذاب في الآخرة، و «لا يردُّ بأسه» أي إذَا جَاء الوَقْت. وقوله: «ذُو رَحْمةٍ» جيء بِهَذه الحُمْلَة اسمِيَّة، وبقوله «ولا يُرَدُّ بأسُهُ» فِعْليَّة [تَنْبيهاً على مُبَالَغة سعَة الرَّحْمة؛ لأن الاسْمِيَّة أدلُّ على الثُّبُوت والتَّوْكيد من الفِعْليَّة. قوله: «عن القَوْم المُجْرِمين» يحتمل أن يكُون من وَضْع الظَّاهِر موضع المُضْمَر] تنبيهاً على التَّسْجِيل عليهم بذلك، والأصل: ولا يُرَد بَأسُه عنكم. وقال أبُو البقاء: «فإن كَذَّبُوك» شُرْطٌ، جوابه: «فَقُل رَبُّكُم ذُو رَحءمَة وَاسِعَةٍ» والتقديرُ: «فقل يَصْفَح عَنْكُم بِتَأخير العُقُوبَة» وهذا تفسير معنى لا إعراب. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 لما حكى عن أهْل الجاهِليَّة إقدامهم على الحُكْم في دين اللَّه بغير دَلِيل_ حكى عُذْرَهُم في كلِّ ما يُقْدِمُون عليه من الكُفْرِيَّات، فيقولون: لَوء شَاء الله مِنَّا ألا نَكْفُر، لمَنَعَنَا عن هذا الكُفْر، وحيث لم يَمْنَعْنَا عنه، ثبت أنه مُرِيدٌ لذلك، وإذا أراده مِنَّا، امتنع مِنَّا تركُه، فكُنَّا مَعْذُورين فيه. واعلم أن المُعْتَزِلة اسْتَدَلُّوا بهذه الآية على مَذْهَبِهم من سبعة أوجه: أحدها: أنه - تعالى - حَكَى عن الكُفَّار صَرِيح قول المُجَبرة، وهو قولهم: «لَوْ شَاء اللَّه مِنّا ألاَّ نُشْرِك، لم نُشْرِك» ، وإنَّمَا حَكَاهُ عنهم في مَعْرِض الذَّمِّ والقبح، فوجب كوْن هذا المَذْهَب مذمُوماً باطِلاً. وثانيها: أنه - تبارك وتعالى - قال بَعْدَه: «كَذَّب» وفيه قراءتان: التَّخفيف والتثقيل. أما قراءة التخفيف: فهي تَصْرِيح بأنَّهم قد كَذَبُوا في ذلك القَوْل، وذلك يَدُلُّ على أن قول المُجبِّرة في هذه المسْألة كذبٌ. وأمَّا قِرَاءة التَّشْديد: فلا يمكن حَمْلُها على أن القَوْم استوجَبُوا الذَّمَّ بسبب أنَّهُم كذَّبُوا هذا المَذْهِب؛ لأنا لو حَمَلْنا الآية عليه، لكان هذا المعنى ضِدّاً للمعْنَى الذي َدُلُّ عليه قراءة «كَذَبَ» بالتَّخْفِيف، فتصير إحدى القراءَتَيْن ضِدَّ الأخْرى، وإذا بَطَل ذلك، وجب حَمْلُه على أن المُرَادِ منه: على ان كُلَّ من كذَّب نَبِيّاً من الأنْبِيَاء في الزَّمَان الجزء: 8 ¦ الصفحة: 496 المتقدَّم، فإنما كذَّبه بهذا الطَّريق؛ لأنه يَقُول: «الكل بِمَشِيئَة الله، فهذا الذي أنا عَلَيْه من الكُفْرِ إنما حَصَل بمشِيئَة الله - تعالى -، فلم يَمْنَعْنِي منه» وإذا حَمَلْنا الآية على هذا الوَجْه، صارت القِرَاءة بالتَّشْدِيد مؤكَّدة للقِرَاءَة بالتَّخْفيف، فيصير مجمُوع القِرَاءَتَيْن دالاً على إبْطَال قَوْل المُجَبَّرة. وثالثها: قوله - تبارك وتعالى - بعده: {حتى ذَاقُواْ بَأْسَنَا} وذلك يدُلُّ على أنَّهم ساتوجبوا الوَعِيد من اللَّهِ؛ بذِهَابِهم إلى هذا الوَجْهِز ورابعها: قوله - تعالى - بعده: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ} وهذا اسْتِفْهَامٌ على وجه الإنْكَار، وذلك يدلُّ على أنَّ هذا القائل بهذا القَوْل لَيْس لَهُ فِيه حُجَّة، فدلّ على فَسَادِه؛ لأن الحقَّ على القَوْل به دَلِيل. وخامسها: قوله - تعالى - بعده: «إنْ يَتَّبعُونَ إلاَّ الظَّنَّ» مع أنه - تعالى - ذم الظّنَّ بقوله - تعالى - {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} [يونس: 36] ونظائره. وسادسها: قوله: {وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ} ، والخَرْص أكبر أنواع الكَذِب، قال - تعالى -: {قُتِلَ الخراصون} [الذاريات: 10] . وسابعها: قوله - تعالى - بعده: {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة} وتقديره: أنَّهُم احتجوا في دَفْع دَعْوى الأنْبِيَاء على أنْفُسِهم بأن قَالُوا: كل ما حَصَلَ فَهُو بمشِيئَةِ اللَّه - تعالى -، وإذا شَاءَ اللَّه مِنَّا ذلك، فكَيْف يمكننا تَرْكُهُ؟ وإذا كُنَّا عاجِزِين عن تَرْكه، فكيف يَأمُرُنا بترْكِهِ؟ وهل في وُسْعِنا وطاقَتِنا أن نأتي بِفِعْل على خلاف مَشِيئَة اللَّه - تعالى -، فهذا هو حُجَّة الكُفَّارِ على الأنْبِيَاء، فقال - تعالى - {قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة} وذلك من وجهين: الأول: أنه - تعالى - أعْطَاكُم عُقُولاً كامِلَة، وأفْهَاماً وافيةً، وآذَاناً سامِعَةً، وعيوناً بَاصِرَةً، وأقدَرَكُم على الخَيْر والشَرِّ، وأزال الأعْذَار والمَوانِع بالكُلِّيَّة عنكم، فإن شِئْتُم ذهبتم إلى الخَيْرَات، وإن شِئْتُم ذهبتم إلى عَمَلِ المَعاصِي والمنْكَرَاتِ، وهذه القُدْرضةِ والمُكْنَة معلُومة الثُّبُوت بالضَّرُورَة، وزَوَال المَوانِع والعَوائِق معلوم الثُّبُوت أيضاً بالضَّرُورة، وإذا كان الأمْر كذلك، كان ادِعَاؤُكم أنّكم عَاجِزُون عن الإيمان والطَّاعة دَعْوى بَاطِلة، فَثَبَت بما ذَكَرْنا أنه لَيْس لكم، على اللَّه حُجَّة، بل لله الحجَّة البَالِغَة عليكم. الوجه الثاني: أنكمن تَقُولون: لو كَانَت أفْعَالُنا واقِعة على خلاف مشيئَة الله - تعالى، لكنَّا قد غَلَبْنَا الله وقَهْرَنَاه، وأتينا بالفِعْل عَلَى مُضادَّتِه، وذلك يُوجِب كونه عَاجِزاً ضَعِيفاً، وذلك يَقْدَح في كونه إلهاً، فأجاب الله - تبارك وتعالى - عنه: بأن العَجْز والضَّغعْف إنما يَلْزَم إذا لم يَكُن قَادِراً [على حمْلِهِم على الإيمان والطَّاعة على سَبِيل القَهْرِ والإلْجاء، وأنا قَادِرٌ] على ذلك، وهو المُرَادُ من قوله: «فَلَوْ شاء لهداكم أجْمَعِين» ، إلا أني لا أحْمِلكم على الجزء: 8 ¦ الصفحة: 497 الإيمان والطَّاعة على سَبِيل القَهْرِ والإلْجَاءِ؛ ن ذلك يُبْطِل الحِكْمَة المطْلُوبة من التَّكْلِيف، فثب بهذا البَيَان أن الَّذِي يَقُولُونه من أنَّا لو أتَيْنَا بَعمَل على خِلاف مَشِيئَة الله - تعالى - فإنه يَلْزَم منه كَوْنه - تعالى - عاجزاً ضَعِيفاً، كلام باطل. قال ابن الخطيب: والجواب المعْتمَد في هذا الباب أن نَقُول: إن هذه السُّورة من ألوها إلى آخِرِها تدلُّ على صِحَّة قولنا ومذهبنا ونَقَلْنَا في كل آيَةٍ ما يَذْكُرُونه من التَّأوِيلاَت، وأجَبْنَا عنها بأجْوبة واضِحَةٍ قويَّةٍ مؤكَّدة بالدّلائل العَقْلِية القَاطِعَة. وإذا ثبت هذا؛ فنقول: إنه - تبارك وتعالى - حكى عن القَوم بأنَّهم قَالُوا: «لَوْ شَاءَ اللَّه ما أشْرَكْنَا» ثم ذكر عَقِيبَه «كذلك كذَّب الذين من قَبْلِهم» فهذا يدلُّ على أن القَوْم قالوا: لمَّا كان الكُلُّ بمشِيئَة اللَّه وتقديره: «ان التَّكْلِيف عَبَثاً، فكانت دَعْوى الأنْبِيَاء باطِلة، ونُبُوِّتُهم ورسالَتُهم باطلة، ثم إن - تبارك وتعالى - بيَّن أن التَّمَسُّك بهذا الطّرَِيق في إبْطَال النُّبُوة بِاطِلٌ، وذلك لأنَّه إله يَفْعَل ما يشاء ويَحْكُم ما يُريد، ولا اعتراض لأحد عَلَيْه، فهو - تبارك وتعالى - يشاء الكُفْر من الكَافِر، ومع هذا يبْعَثُ إليه الأنْبِيَاء، ويَأمُرُه بالإيمان، وورود الأمْر على خِلاف الإرَادة غير مُمْتَنِع. فالحاصل: أنه - تبارك وتعالى - بيَّن أن هذا الاستدلال فاسدٌ باطلٌ؛ فإنه لا يَلْزَم من ثُبُوت المشيئة للَّه في كل الأمُور على دَفْع دعْوَة الأنْبِيَاء فيكون الحاصل: أنَّ هذا الاسْتِدْلال بِاطِلٌ [وليس فيه ألْبتَّة ما يدُلُّ على أن القَوْلَ بالمشِيئَة بَاطِلٌ] . فإن قالُوا: إن هذا العُذْر إنما يَسْتَقِيم إذا قَرَأنا قوله - تعالى - «كَذِلك كذَّبَ» بالتَّشْديد، وأمّا إذا قَرَأنَاه بالتَّخْفِيف، فإنه يَسْقُط هذا العُذْر بالكُلِّيَّة، فنقوله: فيه وجهان: الأول: أنا نمنع صِحَّة هذه القِراءة؛ والدَّليل عليه أنّا بَينَّا أن هذه السُّورة من أولها إلى آخِرِهَا تدلُّ على قَوْلِنا، فلو كانت هذه الآية الكريمة دالَّةٌ على قَوْلهم لوقع التَّنَاقُض، ويَخْرُج القُرْآن عن كَوْنه كلاماً - لله - تعالى -، ويَنْدَفع هذا التَّنَاقُض بألا نَقْبَل هذه القرءاة. والثاني: سلّمنا صِحَّة هذه القراءة، لكن نَحْمِلُها على أن القَوْم كَذَبُوا في أنه يَلْزَمه من ثُبُوت مَشِيئة اللَّه - تعالى - في كل أفعال العِبَاد، سُقُوط نُبُوَّة الأنْبِيَاء وبُطْلان دعوتهم الجزء: 8 ¦ الصفحة: 498 وإذا حَمَلْنَاه على هذا الوجه، لم يبق للمُعْتَزِلة تَمَسُّك بهذه الآية. ومما يُقَوَّى ما ذكَرْنَاه: ما رُوِي عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ قيل له بَعْد ذهاب بَصَرِه: ما تقول فيمن يَقُول: لا قَدَر؟ فقال: إن كان في البَيْت منهم أحَدٌ أتَيْتُ عَلَيه ويلهُ أما يَقُول اللَّه: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُم} [يس: 12] . وقال ابن عباس: «اول ما خَلَق اللَّه القَلَم، فقال له: اكتب، فَجَرَى القَلَم فكتب بما يكُون إلى قيام السَّاعَة» وقال - صوات الله وسلام عليه -: «المُكَذِّبُون بالقَدَرِ مَجُوسُ هذِهِ الأمِّةِ» . قوله: «وَلاَ آبَاؤُنَا» عَطْف على الضَّمِير المَرْفُوع المتَّصِل، وزعم سيبويه: أن عطف الظَّاهر على المُضْمَر المْفُوع في الفِعل قبيحٌ، فلا يَجُوز أن يُقال: «قمت وزيْد» ؛ لأن المَعْطُوف عليه أصْلٌ والعَطْف فَرْع المُضْمَر، والمُظْمَر، والمُظْهَر قويٌّ فحعله فَرْعاً للضَّعِيف لا يَجُوز، وإذا عُرِف هذا فَنَقُول: إن جَاء الكلامُ في جَانِب الإثْبَاتِ؛ وجب تَأكيد المُضْمَر فنقول: «أنا وَزيْد» ، وإن جاء في جَانِب النَّفْي قلت: «ما قُمْتُ ولا زَيْد» وإذا ثَبَتَ هذا؛ فنقول: قوله: {لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا} فعطف قوله: «ولا آباؤُنَا» على فَاعِل الضَّمِير في قوله: «ما أشْرَكْنَا» ولم يأتِ هنا بتأكيد بِضَمِير رَفْع مُنْفَصِل، ولا فَاصِل بين المُتعاطِفَيْن اكتفاء بُوجُو «لا» الزَّائِدة للتَّأكيد فَاصِلة بين حَرْف العَطْفِ والمَعْطُوف، وهذا هو على قَوَاعِد البَصْرِيِّين، وأمّا الكُوفِيُّون فلا يَشْتَرِطُون شَيْئاً من ذلك، وقد تقدَّم إتْقَان هذه المَسْألة. وفي هذه الآية لم يُؤكِّد الضمير، وفي آية النَّحْل أكّدَ؛ فقال تعالى: {مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولاا آبَاؤُنَا} [النحل: 35] وهناك أيضاً قال: «مِن دُونِه» مَرَّتين وهنا قَالَها مرة واحدة، فقال أبُو حيَّان: «لأن لَفْظ» العِبَادة «يَصِحُّ أن يُنْسَب إلى إفْرَاد اللَّه بها، وهذا لَيْس بِمُسْتَنْكر، بل المُسْتَنْكِر عبادة غَيْر اللَّه، أو شيء مع اللَّه، فناسب هنا ذِكْر» مِن دُونه «مع العِبَادة، وأمّا لَفْظ» مَا أشْرَكْنَا «فالإشْرَاك يدلُّ على إثْبَات شَرِيكٍ، فلا يتركَّبُ مع هذا الفِعْل لَفْظ» مِن دُونهِ «لو كان التَّرْكِيب في غَيْر القُرْآن:» ما أشْرَكْنا من دُونه « [لم يَصِحَّ المَعْنَى. وأمّا «مِن دُونه» الثَّانية، فالإشْرَاك يَدُلُّ على تَحْرِيم اشْياء وتحليل أشياء، فلمْ يَحْتَج الجزء: 8 ¦ الصفحة: 499 إلى لفظ «مِن دُونِهِ» ] وأمّا لفظ العِبَادة فلا يَدُلُّ على تَحْرِيم شَيْءٍ كما يدلُّ عليه لفظ «أشْرَك» فَقُيِّد بقوله: «مِنْ دُونِهِ» ولما حَذَف «مِن دُونِهِ» هنا نَاسب أن يُحْذَف «نَحْن» ليطرد التَّرْكيب في التَخفيف «. قال شهاب الدِّين:» وفي هذا الكلام نَظَر لايَخْفَى «. قوله:» مِن شَيْءٍ «» مِنْ «زائدة في المَفْعُول، أي: ما حَرَّمْنا شَيئاً، و» من دُونِه «متعلِّق ب» حرّمنا «أي: ما حَرَّمنا من غير إذْنه لَنَا في ذلِك. قوله:» وكذالك «نعت لِمَصْدر مَحْذُوف، أي: مثل التَّكْذِيب المُشَار إليه في قوله:» فإن كَذَّبُوك «. وقُرئ:» كَذَب «بالتَّخْفِيف. وقوله:» حَتَّى ذَاقُوا «جاء به لامْتِداد التكْذيبن وقوله:» مِنْ عِلْم «يحتمل أن يَكُون مُبْتَدأ و» عِنْدَكم «خبر مُقدَّم، وأن يكون فَاعِلاً بالظَّرْف؛ لاعتماده على الاسْتِفْهام، و» مِنْ «زائِدة على كِلاَ التَّقْدِيريْن. وقرأ النَّخْعِي وابن وثاب:» إن يتِّبِعُون «بياء الغَيْبَة. قال ابن عطيَّة وهذه قِرَاءة شاذَّة يُضَعِّفها قوله:» وإنْ أنْتُم إلا تَخْرُصُونَ «يعني: أنه أتى بَعْدَها بالخِطَاب فبعُدت الغَيْبَة، وقد يُجَاب عنه بأنَّ ذلك من بَابِ الالتِفَات. قوله:» قُلْ فَلِلِّهِ «بين» قُلْ «وبين» فَلِلَّهِ «شيء مَحْذُوف، فقدّره الزمخشري شرطاً؛ جوابه: فِلِلَّهِ؛ قال:» فإن كان الأمر كما زَعَمْتُم من كَوْنِكُم على مشِيئَة اللَّه فللَّه الحُجَّة «. وقدّره غيره جُمْلة اسميَّة، والتقدير: قل أنْتُم لا حُجَّة لكم على ما ادَّعَيْتُم فِللَّهِ الحُجَّة البَالِغَة عليكم، والحدة البالغة: هي التي تَقْطَعُ عذر المَحْجُوج، وتطرد الشَّكَ عمن نَظَر فيها. قوله: {فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} . احتج به أهْلُ السُّنَّة على أن الكُلَّ بمشيئَة الله - تعالى -؛ لأنَّ كلمة» لَوْ «في اللُّغة تُفيد انْتِفَاء الشَّيْ لانْتِفَا غَيْره، فدلّ هنا على أنَّه - تعالى - ما شَاءَ أن يَهْدِيهم وما هَدَاهُم أيضاً، وتَقْرِيُره بالدَّلِيل العَقْلِي: أن قُدَرَة الكَافِر على الكُفْرِ إن لَمْ تكن قُدْرَة على الإيمان، فاللَّه - تعالى - عَلَى هذا التَّقْدير ما أقْدَرَهُ على الإيمان، فلو شَاءَ الإيمان منه، فَقَدْ شَاءَ الفِعْل من غير قُدْرَةٍ على الفِعْلِ، وذلك مُحَالٌ، ومشِيئَةُ المُحَال مُحَال، وإن كانت القُدْرَةُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 500 على الكُفْرِ قُدْرَةٌ على الإيمانِ , تَوَقَّف رُجْحَان أحد الطَّرَفَيْن على حُصُول الدَّاعِية المُرَجِّحَة. فإن قُلْنَا: إنه - تعالى - خلق تلك الدَّاعِيَة المُرَجَّحَة، مع القُدْرَة، ومَجْمُوعُهما للفعل، فَحَيْثُ لم يَحْصُل الفِعْل، عَلِمنا أن تِلْكَ الدَّاعِيَة لَمْ تَحْصُل، وإذا لم تَحْصُل، امتَنَع منه فِعْل الإيمان، وإذا امْتَنَع ذلك منه، امْتَنَع أن يُريدَه اللَّه مِنْه؛ لأن إرَادَة المُحَال مُحَالٌ مُمْتَنِع، فثبت أن ظَاهِر القُرْآن العَظيم دلّ على أنّه مَا أرَادَ الإيمان من الكَافِرِ، ولابُرْهَان العَقْلِي الذي قَرَّرْنَاهُ يدل عليه أيضاً، فَبَطَل قولُهُم من كُلِّ الوُجُوه. فإن قالوا: نَحْمِل هذه الآيةِ على مَشِيئَة الإلْجَاءِ. فنقول: هذا التَّأويل إنما يَحْسُون المصير إليه: لو ثَبَت بالبُرْهَان العقْلِيِّ امتِنَاع الحَمْل على [ظَاهِرِ هذا اكللام، أمّا لو قام البُرْهَان العَقْلِيُّ على] أن الحقِّ ليس إلاَّ ما دلّ عليه هذا الظَّاهِر، فكيف يُصَار إلى التَّأويل؟ ثم نقول: التأويل بَاطِلٌ لوجوه: الأول: ان هذا الكلامَ لا بُدَّ فيه من إضْمَار، والتقدير: ولو شَاءَ اللَّه الهِدايةَ لهَدَاكُم، وأنتم تَقُولون: التقدير: لو شاء الله الهِدَاية على سبيل الإلْجَاءِ لِهَداكُم، فإضْمَارُكُم أكثر، فكَان قَوْلُكُم مرجُوحاً. الثاني: أنه - تبارك وتعالى - يُريد من الكَافِر الإيمان الاخْتِيَاريِّ؛ والإيمان الحَاصِل بالإلْجَاءِ، غير الإيمانِ الحَاصِلَ بالاخْتِيَار، وعلى هذا التَّقدير: يلزم كَوْنُه - تعالى - عاجزاً عن تَحصِيل مرادِهِ؛ لأن مُرَادَهُ الإيمان الاخْتِيَاري، وأنه لا يَقْدِر ألْبَتَّة على تحْصِيلهِ، فكان القَوْلُ بالعَجْزِ لاَزِماً. الثالث: أن هذا الكلام موقُوفٌ على الفَرْق بَيْن الإيمان الحاصِلِ بالاخْتِيَار، وبين الإيمان الحَاصِل بالإلْجَاءِ. أمّا الإيمان الحاصل بالاختيار فإنه يَمْتَنِع حصُولُه إلاعِنْد داعيَةٍ جَازِمَة، وإرادة لازِمَة، فإن الدَّاعية التي يترتَّبُ عليها حُصُول الفِعْل؛ إمّا أن تكون بحيث يَجِبُ ترتُّبُ الفِعْل عليها، أوْلا يَجِب، فإن وَجَبَ، فهي الدَّاعية الضَّرُوريِّة، وحينئذٍ لا يَبْقى بينها وبين الدَّوَاعِي الحَاصِلة بالإلْجَاء فَرْق، وإن لم يجب تَرَتُّب الفِعْل، فحنيئذ يُمْكِن تخلُّف الفِعْل عنها، فلْنَفْرِض تراة ذلك الفِعْل مُتَخَلِّفاً عنا، وتارة غير مُتَخَلِّفٍ، فامْتِيَاز الوَقْتَيْن عن الآخَرِ لا بُدّ وأن يَكُون لِمُرَجِّح زائدٍ، فالحَاصِل قبل ذلك ما كان تَمَام الدَّاعِية، وقد فرضْنَاه كذلك، هذا خلف، ثم انْضِمَام هذا القَيْد الزَّائِد وجب الفِعْل، لم يبق بَيْنَه وبين الضَّرُورة فرْقٌ، فإن لم يَجِب، افْتَقَر إلى قيد زَائدٍ، ولزم التَّسَلْسُل وهو مَحَالٌ؛ فَثَبَت الجزء: 8 ¦ الصفحة: 501 أن الفَرْق الذي ذَكَرُوه بين الدَّاعِية الاخْتِياريَّة وبين الدَّاعِيَة الضَّرُورية، وإن كان في الظَّاهر معتَبَراً، إلاَّ أنه عند التَّحْقِيق والبحث لا يبقى له مَحْصُولٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 502 قوله: {قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُم} «هَلُمَّ» هنا اسْم فِعْلِ معنى «أحْضِروا» ، و «شُهَدَاءكم» مفْعُول به؛ فإن اسْم الفِعْل يعمل عَمَلَ مُسَمَّاه من تعدِّ ولُزُوم. واعمل أن «هَلُمَّ» فيها لُغَتان: لغة الحِجَازيِّين، ولغة التميميين: فأمّا لغة الحِجَاز: فإنِّها فيها بصيغَةٍ واحدةٍ سواء اسْندت لمُفْرَدٍ أم مُثَنى أم مَجْمُوع أم مؤنث، نحو: هَلُمَّ يا زَيْد، يا زَيْدَان، يا زَيْدُون، يا هِنْد، يا هِنْدَان، يا هِنْدات، وهي على هذه اللّغَة عن النُّحَاةِ اسْم فِعْل؛ لعدم تغيُّرها، والتزمت العَرَب فَتْح المِيم على هذه الأفْعَال، فَيُقَال: هَلُمَّا، هَلُمُّوا هَلَمِّي، هَلُمُمْنَ. وقال الفراء: «يقال هَلُمِّينَ يا نِسْوَة» وهي على هذه اللُّغَة فعل صَرِيحٌ لا يتصيرف؛ هذا قول الجُمْهُور، وقد خَالفَ بَعْضُهم في فِعْليَّتِها على هذه اللَّغَة؛ وليس بشيء، والتزَمَت العَرَب أيضاً فِيهَا على لُغَة تَمِيم فَتْح الميم إذا كانت مُسْندة لضيمر الواحِد المُذَكَّر، ولم يُجِيزُوا فيها ما أجَازُوا في ردِّ وشدَّ من الضَّمِّ والكَسْر. واختلف النحويين فيها: هل هي بَسِيطَةٌ أو مركبة؟ ثم القائلون بترْكِيبَها اختلفوا فيما رُكِّبَت مِنهُ: فَجُمْهُور البَّصْريِّين على أنَّها مركَّبَة من «هَا» الَّتِي للتَّنْبِيه، ومن «الممْ» أمراً من لَمَّ يَلُمُّ، فلما رُكِّبَتا حُذِفَتْ ألِفُها لكثرة الاسْتِعْمَال، وسقطت هَمْزَة الوصْل؛ للاسْتِغْنَاء عنها بِحَرَكة الميم المنقُولة إليْهَا لأجْل الإدْغَام، وأدغمت الميمُ في الميم، وبُنيت على الفَتْح. وقيل: بل نُقِلَت حركَةُ الميم للاَّم، فَسَقَطت الهَمْزَة للاستِغْنَاء عنها، فلّما جِيئَ ل «هَا» التي للتَّنْبيه، التقى ساكنان: ألف «هَا» واللاَّم من «لَمَّ» لأنها سَاكِنَة تقديراً، ولم يَعْتَدوا بهذه الحركَة؛ لأن حَركة النَّقْل عارِضَة، فحُذِفَت ألِف « الجزء: 8 ¦ الصفحة: 502 هاء» الالْتِقَاء السَّاكنيْن تقديراً. وقيل: بل حُذِفَت ألف «هَا» لالتقاء السَّاكنين؛ وذلك أنَّه لمَّا جيء بها مع الميم، سَقَطَت هَمْزَة الوَصْل في الدرج، فالتقى ساكنان: الف «ها» ولام «الممْ» فحذفت ألف «هَا» فبقى «هَلْمُم» فنقلت حَرَكَة الميمِ إلى اللاَّم وأدْغِمَت. وذهب بعضهم إلى أنَّها مركَّبة من «هَا» التي للتَّنْبيه أيضاً، ومن «لَمَّ» أمْراً مِنْ «لَمَّ اللَّهُ شَعْثَه» أي: جَمَعَه، والمعنى عليه في هَلُمَّ؛ لأنه بمعنى: اجمع نَفْسَك إلَيْنَا، فحذفت ألِف «ها» لكثْرة الاستِعْمَال، وهذا سَهْل جداً؛ إذا ليس فيه إلا عَمَلٌ واحِدٌ، هو حَذْفُ ألف «ها» ؛ وهو مَذْهَب الخَلِيل وسيبوَيْه. وذهب الفرَّاء إلى أنها مركّبة من «هَلْ» التي هي للزَّجْر، ومن «أمَّ» أمراً من «الأمّ» وهو القَصْد، وليس فيه إلا عَمَلٌ واحد؛ وهو نَقْل حَرَكة الهَمْزة إلى لامِ «هَلْ» وقد رُدَّ كل واحد من هذه المَذَاهِب بما يطُولُ الكتاب بذِكْرِه من غير فَائِدة. و «هلم» : يكون مُتَعَدِّيَة بمعنى أحْضِر، ولازمَة بمعنى أقْبِل، فَمَنْ جَعَلَها مُتعدِّية، أخذها مِنَ اللَّمِّ وهو الجمع، ومَنْ جَعَلَها قَاصِرَةً، أخذها مِن اللَّمَمِ وهو الدُّنُو والقُرْب. فصل في المقصود بإقامة الشهداء اعلم أنه - تبارك وتعالى - نبه استِدْعَاء إقامة الشُّهَدَاء من الكَافِرين؛ لِيُظْهِر أن لا شَاهِد لهم على تَحْرِيم ما حَرَّمُوه. وقوله: «فإن شهدوا فلا تشهد معهم» تنْبِيهاً على كَوْنهم كاذِبين، ثم بين - تعالى - أنَّه إن وقعَت مِنْهُم تلك الشَّهَادة، فَعَنِ اتِّبَاع الهَوَى، فأنت لا تَتَّبع أهواءهم، ثم زاد في تَقْبيح ذلك بأنهم لا يؤمنون بالآخِرَة، وكانوا ممَّن ينكرُون البَعْثَ والنُّشُور، ثم زَاد في تَقْبيح ذلك بأنهم يَعْدِلُون برَبِّهم، ويَجْعَلُون له شُرَكَاء - سبحانه وتعالى عما يَقُولون عُلُوَّاً كبيراً -. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 503 لما بيَّن - تبارك وتعالى - فَسَادَ قَوْل الكُفَّار: «إنَّ الله حرَّم علينا كَذَا وكَذَا» أردَفَه بِيَيَان الأشْيَاءِ التي حرَّمها عليهم. قال الزَّمَخْشَرِي: «تعال» من الخَاصِّ الذي صار عَامّاً، وأصله أن يقوله من ان في مكانٍ عال لِمَن هو أسْفل منه، ثم كَثُر وَعمَّ. قال القرطبي: «وقوله تعالى: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ} أي: تقدَّمُوا واقْرَءُوا حقّاً يقيناً، كما أوْحَى إليَّ رَبِّي، لا ظنّاً ولا كَذِباً كما زعمتم، ثم بيَّن بعد ذلك فقال: {مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 503 شَيْئاً} ، يقال للرِّجُل: تعال: أي: تقدّم: ويقال للمرأة: تعالي، ويقال للاثْنَيْن والاثْنَيْن: تَعَالَيَا، ولجماعة الرِّجَال: تعالَوْان ولجماعة النِّسَاء: تَعَالَيْن؛ قال الله - تبارك وتعالى -: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [الأحزاب: 28] . وجعلوا التَّقَدُّم ضرباً من التَّعَاليِ والارتفاع؛ لأنَّ المأمُور بالتقدّم في أصل وضْعِ هذا الفِعْل، كأنه كان قَاعِداً فقيل له تَعَالَ، يا: رافع شخْصَك بالقِيَام وتقدم؛ ثم اتَّسَعُوا فيه حتى جَعَلُوه للوَاقِفِ والمَاشي؛ قال الشَّجَريّ. قوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} في [» ما «] هذه ثلاثة أوجُه: أظهرها: أنها مَوْصُولةٌ بمعنى» الَّذِي «والعَائِد مَحْذُوفٌ، أي: الذي حَرَّمَه، والموْصُول في محلِّ نصْبٍ مَفْعُولاً به. الثاني: أن تكون مَصْدَريَّة، أي: أتْل تَحْريم ربِّكُم، ونفس التَّحْرِيم لا يُتْلَى، وإنما هو مَصْدرٌ واقعٌ موقع المَفْعُول به، أي: أتلُ مُحَرَّمَ ربِّكم الذي حرَّمه هو. والثالث: أنها استِفْهَاميَّة، في محلِّ نَصْبٍ ب» حَرَّم «بعدها، وهي مُعَلقة ل» أتْلُ والتَّقْدير: أتْل أيَّ شَيْءٍ حَرّم ربكم، وهذا ضعيف؛ لأنَّه لا تُعَلَّقُ إلاَّ أفْعَال القُلُوب وما حُمِل عليها. فصل قال القرطبي: هذه الآية أمْرٌ من الله - تعالى - لنبِيِّه - عليه السلام - بأ، يَدْعُوَ جميع الخَلْقِ إلى سَمَاعِ تِلاوَة ما حرَّم الله - تبارك وتعالى - ن وهكذا يَجِب على من بَعْدَه من العُلَمَاء أن يبَلِّغُوا النَّاس، ويُبَيِّنُوا لهم ما حُرِّمَ عليهم مما أحِلَّ؛ قال - تعالى -: {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] . قال الرَّبيع بين خيثم لجَلِيس له: «أيَسُرُّك أن تَقْرَأ في صَحِيفَةٍ من النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يُفَكَّ كِتَابُها؟ قال: نعم، قال: فاقْرَءُوا: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} إلى آخر الثَّلاث آيَاتٍ» . قال كعبُ الأحْبَار: وهذه السُّورة مفتح التَّوْرَاةِ: بسم اللَّه الرَّحْمَن الرَّحِيم: {قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} الآية الكريمة. قوال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: هذه الآيَاتُ المُحْكَمَاتُ التي ذكرها الله - تعالى - في سُورة «آل عمران» أجمعت عليها شرائِعُ الخَلْق، ولم تُنْسَخ قط في مِلَّةٍ، وقد قيل: إنَّها العَشْر كلمات المُنَزَّلة على مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 504 و «عليكم» فيه وجهان: أحدهما: أنه مُتَعَلِّق ب «حَرَّم» ؛ اختِيَار البَصْرِيِّين. والثاني: أنه متعلِّق ب «اتْلُ» ؛ وهو اختيار الكُوفيِّين، يعني: أن المسألة من باب الإعْمَال، وقد عَرَفْت ان اختيرا البَصْريِّين إعمال الثَّاني واختيار الكوفيين إعْمَال الأوَّل. قوله: «ألاَّ تُشْركُوا» فيه أوجُه: أحدهما: أنَّ «أنْ» تفسيرية؛ لأنَّه تَقَدَّمَها مَا هُو بمعنى القَوْل لا حُرُوفه، و «لا» هي نَاهِيَة، و «تُشْركُوا» مجزوم بها، وهذا وَجْهٌ ظاهرٌ، وهو اختيار الفراء قال: «ويجُوزُ أن يكون مَجْزوماً ب» لاَ «على النَّهْي؛ كقولك:» أمَرْتُك ألا تذْهب إلى زَيْد «بالنَّصْب والجزم» . ثم قال: والجَزْم في هذه الآية الكريمة أحبُّ إليَّ؛ كقوله - تبارك وتعالى - {فَأَوْفُواْ الكيل والميزان} [الأعراف: 85] يعني: عَطْف هذه الجُمْلَة الأمْرِيَّة يُقَوِّي ما قَبَلَها نَهْي؛ ليتناسَبَ طَرفاً الكلام. وهو اخْتِيَار الزَّمَخْشَري أيضاً؛ فإنه قال: «وأنْ في» ألاَّ تُشْرِكُوا «مفسِّرة،» لا «للنَّهِي» ثم قال بَعْد كلام: «فإن قُلْتَ: إذا جَعَلت» أن «مُفَسِّرة لفعل التِّلاوة، وهو مُعَلَّق بما حَرَّم ربُّكم، وجب أن يكُون ما بَعْدَه مَنْهِيَّا عنه محرّماً كُلُّهُ؛ كالشرك وما بَعْدَه مما دَخَل عليه حَرْف النَّهْي [فما تصنع] بالأوَامِرِ؟» . قال شهاب الدِّين: «لَمَّا وَرَدَت هذه الأوَامِر مع النَّواهي، وتقدمَهُنَّ جميعاً فعل التَّحْريم، واشتركْنَ في الدُّخُول تحت حُكْمه، عُلِم أن التَّحْريم راجعٌ إلى أضْدَادِها، ويه الإسَاءة إلى الوَالديْن، وبَخْسُ الكَيْل والمِيزَان، وتَرْكُ العَدْل في القَوْل، ونكْثُ العَهْد» . قال أبو حيَّان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «وكون هذه الأشْيَاء اشتركت في الدُّخُول تحت حكم التَّحْريم، وكون التَّحْريم راجعاً إلى أضْدَاد الأوَامِر؛ بعيدٌ جدّاً، وإلغاز في التَّعَامِي، ولا ضَرُورَة تدْعُو إلى ذلك» . قال شهاب الدين: «ما اسَتْبْعَدَهُ ليس بِبَعيد، وأين الإلغَاء والتَّعَمِّي من هذا الكلامِ حتى يَرْمِيه به» . قال ابن الخَطِيب: فإن قيل: قوله: {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَانا} كالتَّفْصِيل لِما أجمله في قوله: - تبارك وتعالى -: «ما حَرَّم» وذلك بَاطِلٌ؛ لأن تَرْكَ الشِّرْك والإحْسَان بالوالِدين واجبٌ لامُحَرَّم. والجوبا من وجوه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 505 الأول: أن المُرَاد من التَّحْريم أن يَجْعَل له حريماً معيناً، وذلك بأن بَيِّنَه بَيَاناً مَضْبُوطاً معيَّناً؛ فقوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} معناه: أتْلُ عليكم ما بَيَّنَه بياناً شَافِياً؛ بحيث يجعل له حَرِيماً مضبوطاً مُعَيَّناً، وعلى هذا الَّقدير السُّؤال زائِلٌ. الثاني: أن الكلام تمَّ وانْقَطع عند قوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ} ثم ابتدأ فقالك «عليكم ألا تشركوا» . فإن قيل: فقوله: «وبالوالدين إحسانا» معطوف على قوله {أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} [فوجب أن يكون قوله: «بالوالدين إحساناً» مفسِّراً لقوله: {أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} ] فلزم أن يكون الإحسان بالوَالديْن حراماً؛ وهو باطل. قلنا لما أوجب الإحْسَان إليهما، فقدَّم تحريم الإسَاءة إليها، والله - تعالى أعْلَم. ثم قال أبو حيَّان: وأمَّا عطف هَذِهِ الأوامِرِ فيحتمل وجهين: أحدهما: أنها مَعْطُوفة لا على المَنَاهِي قبلها، فيلزم انْسِحَاب التّحْريم عليها؛ حيث كانت في حيِّز «أنْ» التَّفْسِيريَّة، بل هي معطُوفةٌ على قوله: {تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ} أمرهم أوّلاً بأمر يترتَّبُ عليه ذِكْرُ مَناهٍ، ثم أمَرَهُم ثانياً بأوَامِر؛ وهذا مَعْنَى وَاضِح. والثاني: أن تكون الأوَامِر معْطُوفة على المَنَاهِي، وداخلة تحت «أنْ» التَّفْسِيريَّة، ويصِحُّ ذلك على تَقْدير محْذُوفٍ، تكون «أنْ» مُفسِرة له وللمَنْطُوق قبله الذي دَلَّ على حَذْفِه، والتَّقْدير: وما أمَرَكُم به، فحذف وما أمَرَكُم به لدِلالةِ ما حرَّم عليه؛ لأن مَعْنَى ما حرَّم ربكم: ما نَهَاكُم ربُّكم عنه، فالمعنى: تعالَوْا أتْل ما نَهَاكُم ربُّكم عنه وما أمَرَكُم به، وإذا كان التَّقْدير هكذا، صح أن تكُون «أن» تَفْسيريَّة لفِعْل النَّهْي، الدَّال عليه التَّحريم وفِعْل الأمْر المَحْذُوف، ألا ترى أنَّه يَجُوز أن تَقُول: أمرتُكَ ألا تكْرِم جَاهِلاً وأكرم عَالِماً «إذ يجوز أن يُعْطَف الأمْرُ على النَّهي والنَّهي على الأمر؛ كما قال: [الطويل] 2380 - ... ... ... ... ..... يَقُولُونَ لا تَهِلِكْ أسى وتَجَمَّل وهذا لا نَعْلَم فيه خلافاً، بخلاف الجمل المُتَبايِنَة بالخَبَر والاستِفْهَام والإنْشَاء؛ فإن في دواز العَطْف فيها خِلافاً انتهى. الثاني: أن تكون» أنْ «نَاصِبَة للفْعِل بعدها، وهي وما في حَيِّزِهَا في محلِّ نَصْبٍ بدلاً من» مَا حَرَّم «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 506 الثالث: أنها النَّاصِبة أيضاً، وهي وما في حَيِّزها بدلٌ من العَائِد المحذُوف، إذا التَّقْدير: ما حَرَّمه، وهلي في المَعْنى كالذي قَبْلَه. و» لا «على هذهين الوَجْهَيْن زائدة؛ لئلا يَفْسُد المعنى كزِيَادَتِها شفي قوله - تعالى -: {أَلاَّ تَسْجُدَ} [الأعراف: 12] و {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ} [الحديد: 29] والتَّقْدير: حرّم ربُّكُم عليككم أن تُشْرِكوا. قال أبو حيَّان:» وهذا ضَعِيف؛ لانحصار عُمُوم المحرَّم في الإشْرَاك؛ إذ ما بعده من الأمْر ليس دَاخِلاً في المُحَرَّم، ولا ما بعدها الأمر مما فيه لا يمكن ادّعَا زِيَادة «لا» فيه؛ لظهور أنَّ «لاَ» فيه للنهْي «، ولما مكِّي كونها بَدَلاً من» مَا حَرَّم « [لم يُنَبّه على زيادة» لاَ «ولا بُدَّ منه. وقد مَنَع الزَّمَخْشَريُّ أن يكُون بدلاً من» مَا حَرَّمَ «] فقال:» فإن قُلْتَ: هلا قُلْت: فهي الَّتِي تَنْصِب الفْعْل، وجعلت «ألاَّ تُشْرِكُوا» بدلاً من «ما حَرَّمَ» . قلت: وجب أن يكُون: ألاَّ تُشْرِكُوا، ولا «تَقْرَبوا» و «لا تقْتُلوا» و «لا تَتّبِعُوا السُّبُلَ نواهي؛ لانعطاف الأوَامِر الأوَامِر عليها، وهي قوله - تعالى - {وبالوالدين إِحْسَاناً} ؛ لأن التقْدير: وأحْسِنُوا بالوالدين إحْسَاناً، وأوْفُوا وإذا قلتم فاعدلوا، وبعهد الله أوفوا. فإن قُلْت: فما تَصْنَع بقوله: {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه} [الأنعام: 153] فيمن قَرَأَ بالفَتْح؛ وإننما يستقيم عَطْفُه على «ألاَّ تُشْرِكُوا» إذا جعلْت «أنْ» هي النَّاصِبَة، حتى يكون المَعْنَى: أتْل عَلَيْكُم نَفْي الإشْرَاكِ، وأتل عَلَيْكم أنَّ هذا صِرَاطِي مستَقياً؟ قلت: أجْعَلُ قوله: «وأنَّ هَذَا صِراطِي مُسْتَقيماً» علَّةً للاتِّبَاع بتقدير اللام؛ كقوله {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} [الجن: 18] بمعنى: واتَّبْعُوا صراطِي، لأنَّه مسْتَقِيمٌ، أو: واتِّبِعُوا صِرَاطي أنَّه مُسْتَقيم «. واعترض عليه أبُو حيَّان بعد السُّؤال الأوّل وجوابه، وهو:» فإن قلت: «هلاَّ قُلْت هي النَّاصِبَة» إلى: و «وبِعْهْد الله أوْفُوا» فقال: لا يَتَعَيِّنُ أن تكُون جِمِيع الأوَامِر معطُوفَة على ما دخل عليه «لا» لأنَّا بيَّنَّا جواز عَطْفِ «وبالوَالِدَيْن إحْساناً» على «تَعَالَوْا» وما بَعْدَه معطوف عليه، ولا يكون قوله «» وبالوَالِدَيْن إحْسَاناًط معطوفاً على «ألا تُشْرِكُوا» . الرابع: أن تكون «أنْ» النَّاصِبة وما في حَيِّزها مَنْصُوبة على الإغْرَاء بأ «عَلَيْكُم» ، ويكون الكلامُ الأوَّل قد تمَّ عند قوله: «رَبُّكُم» ، ثم ابْتَدأ فقال: عَلَيْكُم ألاَّ تُشْرِكوا، أي: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 507 ألزَمُوا نفي الإشْراك وعدمه، وإكان ذَكَرَه جماعةٌ كما نقله انب الأنْبَاريِّ - ضَعِيفٌ؛ لتفك التركيب عن ظَاهِرهِ؛ ولأنه يَتَبَادَر إلى الذِّهْنِ. الخامس: أنها وما فِي حيِّزها نَصْب أو جرِّ على حَذْف لام العِلَّة، والتقدير: أتْلُ ما حرَّم ربُّكم عليكم لِئَلا تُشْرِكُوا، و [هذا] مَنْقُول عن أبِي إسْحَاق، إلا أن بَعْضَهم استَبْعَدَه من حَيْث إن ما بَعْدَه أمرٌ مَعْطُوف بالواو، ومناهٍ معطوفة بالواوِ أيضاً، فلا يُنَاسِب أن يكون تبييناً لما حرَّم، أمَّا الأمْرفمن حيثُ المعنى، وأمّا المناهِي فمن حيثُ العَطْف. السادس: أن يكون هِي وما بَعْندَها في محلِّ نصب بإضمار فِعْل، تقديره: أُوصِيكم ألاَّ تُشْرِكُواح لأن قوله {وبالوالدين إِحْسَاناً} محمولٌ على أوصِيكُم بالوَالدَيْن إحْسَاناً، وها مذهب أبي إسْحَاق ايضاً. السابع: أن يكون «أنْ» وما في حيِّزها في مَوْضع رَفْع على أنها خَبَر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: المُحَرَمُ ألاَّ تُشْرِكُوا، أو المَتْلُوُّ ألا تشركوا، إلا أن التَّقْدِير بنحو المَتْلُو أحْسَن؛ لأنه لا يُحْوِج إلى زِيَادة «لا» ، والتقدير بالمحَرَّم ألاَّ تشركوا، يُحْوِج إلى زِيَادتِها لئلا يَفْسُد المَعْنَى. الثامن: أنها في مَحَلِّ رفْع أيضاً على الابْتِدَاء، والخبر الجَارُّ قبله، والتقدير: علَيْكُم عَدَمُ الإشراكش، ويكون الوَقْفُ على قوله: «رَبُّكم» كما تقدَّم في وجْه الإغْراءِ، هذا مذهب لأبي بَكْر بن الأنْبَاري؛ فإنه قال: «ويجُوز ان يكُون في مَوْضِع [رفع] ب» على] كما تقول: «كُتِبَ عليكم الصيَام والحَجُّ» . التاسع: أن يكون في مَوْضِع رفع بالفَاعِليَّة بالجَارِّ قبلها، وهو ظَاهِر قول ابن الأنْبارِيِّ المتقدِّم، والتقدير: استَقَرَّ عليكم عَدَم الإشْرِاك. وقد تحصَّلت في محلِّ «ألاَّ تُشْرِكُوا» على ثلاثة أوْجُه: الرَّفْع، والنَّصْب، والجرِّ: فالجَرُّ من وجْه واحدٍ، وهو أن يكُون على حَذْفِ حَرْف الجرِّ على مَذْهِب الخَلِيل والكسَائيّ، والرفع من ثلاثة أوْجُه، والنَّصْبُ من سِتَّة أوْجُه، فمجموع عَشَرة أوْجُه تقدم تَحْرِيرُها. و «شيئاً» فيه وجهان: أحدهما: أنه مَفْعُول به. والثاني: أنه مصدر، أي: إشْرَاكاً، أي: شَيْئاً من الإشْرَاكِ. وقوله: {وبالوالدين إِحْسَاناً} تقدم تَحْرِيره في البقرة [الآية 83] . قوله - تعالى - {وبالوالدين إِحْسَاناً} الإحْسَانُ إلى الوالِدَيْن: بِرُّهُما وحِفْظُهما، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 508 وإمْتِثَال أمرهما، وإزالة الرِّقِّ عَنْهُما، و «إحْسَانَا» نصْب على المصْدر، وناصِبُه فعل مُضْمَر من لَفْظِه، تقديره: وأحْسِنُوا بالوالدَيْن إحْسَاناً. قوله: «مِنْ إمْلاقٍ» «مِنْ» سَبَيَّة متعلِّقة بالفِعْل المَنْهِيِّ عنه، أي: «لا تَقْتُلوا أوْلادَكُم لأجْل الإمْلاقِ» . والإملاق: الفَقْر في قول ابن عبَّاس. وقيل: الجوع بلغة «لخم» ، نقله مؤرج. وقيل: الإسْرَاف، أمْلق أي: أسْرف نَفَقَتِه، قال محمد بن نعيم اليزيدي. وقيل: الإنْفَاق، أملق ماله أي: أنفقه، قال المُنْذِر بن سَعِيد، والإملاق: الإفْسَاد أيضاً، قاله [شمر] قال: «وأمْلَقَ يكون قَاصِراً ومتعدِّياً، أملق الرَّجُل: إذا افْتَقَر هذها قَاصِرن وأمْلَق ماعِنْدَه الدَّهْر، أي: أفْسَدَه» وأنشد النَّضْر بن شيمل على ذلك قَوْل أوْسِ بن حَجَر: [الطويل] 2381 - ولمَّا رَأيْتُ العُدْمَ فَيَّدَ نَائِلِي ... وَأمْلَقَ مَا عِنْدِي خُطُوبٌ تَنَبَّلُ أي: تَذْهَب بالمَالِ، «تَنَبَّلَتْ بما عِنْدي» : أي ذهبت به، معنى الآية الكريمة: لا تَقْتُلوا أولادكم خَشْيَة العَيْلَة. وفي هذه الآية الكريمة قال: طنحن نَرْزُقُكم وإيَّاهُم «فقدَّم المُخَاطبين، وفي» الإسراء «: قدّم ضَمِير الأولاد عليهم: فقال:» نحن نَرْزُقُهُم وإيَّاكُم «فقيل: للتَّفَنُّنِ في البلاغة. وأحسن منه أن يقال: الظَّاهِر من قوله:» مِنْ إمْلاقٍ «حصُول الإمْلاق للوَالِد لا توقُّعُه وخشْيَتُه، فبُدِئ أوَّلاً بالعَدَةِ برزق الآبَاء؛ بشَارة لَهُم بزَوَال ما هُم فيه من الإمْلاق. وأمّا في آية» سبحان « [الإسراء: 1] فظاهرها أنهم موسرون وإنما يخشون حُصُول الفَقْر؛ ولذلك قال: خَشْيَةَ إمْلاق، وإنما يُخْشَى الأمُور المُتَوَقَّعَة، [فبدأ فيها بِضَمَان رِزْقَهم، فلا مَعْنَى لقتلكم إيَّاهم، فهذه الآية تُفِيد النَّهْي] للآباء عن قَتْل الأولاد، وإن كانوا مُتَلَّبِّسِين بالفَقْر، والأخْرَى عن قَتْلِهم وإن كانوا مُوْسِرين، ولكن يَخًافُون وُقُوع الفَقْر، وإفادة معنى جَدِيدٍ أوْلى من ادِّعاء كون الآيَتَيْنِ معنى واحدٍ للتَّأكِيد. فصل في حكم العزل قال القرطبي: استدل بَعْضُهم بهذه الآية الكريمة على منع العَزْلِ؛ لأن قتل الأولادِ رفع للمَوْجُود، والعَزْل منعٌ لأصْل النَّسْل فتشابهان إلا أن قَتْل النَّفْس أعظمُ وِزْراً، وأقبحُ فِعْلاً، ولذلك قال بعض العلماء: إنه يُفْهم من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» لا عَلَيْكُم في الجزء: 8 ¦ الصفحة: 509 العَزْل الوَأد الخَفِيّ «الكراهة لا التَّحْرِيم، وقال به جماعة من الصَّحابة وغيرهم، وقال بإبَاحَتِه أيضاً جماعة من الصَّحابة والتَّابعين والفُقَهاء؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» لا عَلَيْكُم ألاَّ تَفْعَلُوا فإنِّمَا هُو القَدَر «أي: ليس عَلَيْكُم جُنَاحٌ في ألا تَفْعَلُوا» . وقال جابر: «ما ظَهَرَ مِنْهَا وما بَطَن» في محلِّ نصب بدَلاً من الفواحِشِ بدل اشْتمالَ] ، أي: لا تقْرَبُوا ظاهِرهَا وباطنها؛ كقولك: ضَرْبتُ زَيْداً ما ظهر مِنه وما بَطَن، ويجوز أن تكُون «مَنْ» بدل البَعْض من الكُلِّ. و «منها» متعلِّقٌ بمَحْذُوف؛ لأنه حال من فاعل «ظَهَر» وحذف «منها» بعد قوله «بطن» لدلالة قوله «مِنْهَا» في الأوَّل عليه، قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «كانوا يَكْرَهُون الزِّنَا علانية وسِرّاً» . وقال الضَّحَّاك: «ما ظهر: الخمر، ومابطن الزنا» والأولى أ، يُجْرَى النَّهْي على عُمُومه في جَمْيع الفواحِشِ، ظاهر وباطها، لا يُخَص بنوع مُعَيَّن. قوله تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} الآية. فقوله: «إلاَّ بالحقِّ» في محلِّ نَصْب على الحالِ من فاعل «تَفْتُلُوا» أي: لا تَقْتُلُوا إلاَّ مُتَلَبِّسِين بالحق، ويَجُوز أ، يكون وَصْفاً لمصدر مَحْذُوف، أي: إلاَّ قَتْلاً متلَبساً بالحقِّ، وهو أن يكون القَتْل للقِصَاصِ، أو للرِّدَّة أو للزنا بشرطة، كما جاء مبنياً في السُّنَّة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 510 قال القرطبي: وتَارك الصَّلاة، ومَانِع الزَّكَاة، وقد قتل الصَّدِّيق مانع الزَّكَاة، وقال - تعالى - {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} [التوبة: 5] . قوله: «ولا تَقْتُلُوا» هذه شبيه بذكر الخاصِّ بعد العامِّ اعتناءً بِشَأنهِ؛ لأن الفَواحِش يَنْدَرج فيها قَتْل النَّفْس، فجرَّد منها هذا اسْتِفظَاعاً له وتَهْويلاً؛ ولأنَّه قد استَثْنَى منه في قوله: «إلاَّ بالحقِّ» ولو لم يَذْكر هذا الخَاصَّ، لم يَصِحَّ الاستِثْنَاء من عُمُوم الفَوَاحش، لو قيل في غَيْر القُرآن العظيم: «لا تَقْرَبُوا الفواحش إلا بالحقِّ» لم يكن شيئاً. قوله: «ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ به» في الجُمْلَة الفِعْليَّة بعده. والثاني: أنه في محلِّ نصب بفعل مُقدَّر من مَعْنَى الفِعْل المتأخر عنه، وتكون المَسْألة من باب الاشْتِغَال، والتقدير: ألزَمَكُم أو كَلَّفَكُم ذلك، ويكون «وصَّاكُمْ بِهِ» مفسِّراً لهذا العَامِل المقدَّر؛ كقوله - تعالى -: {والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان: 31] ونَاسَب قوله هنا: «لَعَلَّكُم تَعْقِلُون» لأن العقل مَنَاط التَّكْليف والوَصيَّة بهذه الأشْيَاء المَذْكُورة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 511 هذا استثناء مُفَرّغ أي: لا تَقَرَبُوه إلا بالخَصْلَة الحُسْنَى، فيجُوزُ أن يَكُون حالاً، وأن يَكُون نَعْتَ مَصْدَر، وأتى بصيغة التَّفْضِيل؛ تنبيهاً على أنَّه يتحرَّى في ذلك، ويَفْعَل الأحْسَن ولا يَكْتَفي بالحَسَن. قوله: «حَتَّى يَبْلُغ» هذه غاية من حَيْث المَعْنَى، فإن المَعْنى: احْفَظُوا ماله حتى يَبْلُغَ أشُدَّهُ، [ولو جَعلْنَاه غاية للَّفْظِ، كان التقدير: لا تَقْرَبُوه حتى يَبْلُغ] فاقربوه، ولَيْس ذلك مُرَاداً. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 511 قال القرطبي: «وليس بُلُوغ الأشُدِّ مما يُبِيحُ به قُرْب ماله بغير الأحْسَن؛ لأن الحُرْمَة في حقِّ البَالِغ ثابِتَةٌ، وخصَّ اليتيم بالذِّكر؛ أن خَصِيمَهُ الله - تعالى - والمعنى لا تَقْرَبُوا مال اليَتيم إلا بالَّتِي هي أحْسَن على الأبَدِ حَتِّى يَبْلُغ أشُدَه، وفي الكلام حَذْف تقديره: فإذا بَلَغَ أشُدَّه وأنِس منه الرُّشْد، فادْفَعُوا إليه مَاله» . والأشُدُّ: اختلف النَّحْويُّون فيه على خمسة أوجه: فقال الفرَّاء: «هو جمع لا وَاحِد له، والأشُدُّ واحدُها» شَدٌّ «في القياس، ولم أسْمَع لها بِوَاحدٍ» . وقيل: هو مُفْرَدٌ لا جمع، نقل ابن الأنْبَاري ذلك عن بعض أهْل اللَّغَة، وأنه بِمَنْزلة «الآنُك» ونقل أبو حيَّان عنه: أن هذا الوَجْه مُخْتَاره في آخرين، ثم قال: «ولَيْ بمختارٍ؛ لفقدان أفْعُل في المُفْرَادَات وضعاً» . وقيل: هو جَمْع «شدَّة» و «فِعْلَة» يُجْمَع على أفْعُل «؛ كنِعْمَة وأنْعُم، قال أبو الهَيْثَم، وقال: و» كأن الهَاءَ في الشِّدَة والنِّعْمَة لم تكن في الحَرْف، إذا ان زَائِدَة، وكان الأصلُ نِعْم وشِدّ فَجُمِعَا على «أفْعُل» ؛ كما قالوا: رِجْل وأرْجُل، وقِدْح وأقْدُح، وضِرْس وأضْرُس «. وقيل: هو جمع شُدّ [بضم الشِّين نقله ابن الأنْبَاري عن بعض البَصْرِيِّين؛ قال: كقولك: هو وُدُّ، وهم أوُدُّ] . وقيل: هو جمع شَدّ بفتحها، وهو مُحْتَمل. والمراد هُنَا ببلوغ الأشد: بُلُوغ الحُلُم في قَوْل الأكْثَرِ؛ لأنه مَظِنَّة ذلك. وقيل: هو مَبْلَغ الرِّجَال من الحِيلة والمَعْرِفة. وقيل: هو مَبْلَغ خمسة عشر إلى ثلاثين. وقيل: أن ثلاثة وثلاثين. وقيل: أرْبَعِين. وقيل: سِتِّين، وهذه لا تَلِيق بهذه الآيةِ، إنما تليق بقوله - تعالى -: {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف: 15] وتقدم منه طرف في النساء. والأشُدُّ مشتق من الشِّدَّة؛ وهي القُوَّة والجلادة، وأنشد الفرَّاء - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: [البسيط] 2382 - قَدْ سَادَ وهو فَتَى حَتَّى إذَا بَلَغَتْ ... أشُدُّهُ وعَلاَ فِي الأمْرِ واجْتَمَعَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 512 وقال الآخرُ في ذلك: [الكامل] 2383 - عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهَارُ كأنَّمَا ... خُضِبَ البَنَانُ وَرَأسُهُ بِالعظْلمِ قوله:» وأوفُوا الكَيْلَ والمِيزانَ «» الكيل والميزان «هما الآلة التي يُكال بها ويُوزَن، وأصْل الكَيْل: المصْدَر ثم أطْلِق على الآلة، و» الميزان «: مْفَاعل من الوزن لهذه الآلةِ؛ كالمِصْبَاح والمقياس لِمَا يُسْتَصْبَحُ به، وما يُقاسُ به، وأصل ميزان: مِوْازن فَفُعِلَ به ما فُعِلَ بِميقاتٍ، وقد تقدم في البقرة. و «بِالقِسْطِ» حال من فَاعِل «أوْفُوا» أي: أوْفُوهُمَا مقسطين، أي: مُتَلَبِّسِين بالقِسْط، ويجُوز أن يكون حالاً من المفعُول، أي: أوْفُوا الكَيْل والميزان مُتَلَبِّسِين بالقِسْطِ، أي: تَامِّين، والقِسْط العدل. وقال أبو البقاء: «والكيْل هنا مَصْدر في مَعْنَى المَكِيل، وكذلك الميزان، ويجُوز أن يكون فيه حَذْفُ مُضَافٍ، تقديره: مَكِيل الكَيْلِ ومَوْزُونُ المِيزانِ» ، ولا حاجة إلى ما ادِّعَاء من وُقُوع المصدر موقع اسْمِ المفعُول، ولا من تقدير المضاف؛ لأن المعنى صحيح بدُونهما، وأيضاً ف «ميزن» ليس مصدراً، إلا أنه يُعَضِّد قوله ما قاله الوَاحِديُّ، فإن قال: «والميزن، أي: وزن الميزان؛ لأن المُرَاد إتْمَام الوَزْن، لا إتمام الميزان؛ كما أنَّه قال:» وأوْفوا الكَيْل «ولم يقل المِكْيَال، فهو من بابِ حَذْف المُضَافِ» انتهى. والظَّاهر عدم الاحْتِيَاج إلى ذلك، وكأنَّه لم يَعْرِف أن الكَيْل يُطْلَق على نَفْس المِكْيَال، حتى يقول: «ولم يقل المكيال» . قوله: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْسا} مُعْتَرض بين هذه الأوَامِر، واعلم أنَّ كُلَّ شيء بلغ تمام الكمال فقد وفى وتَمَّم، يقال: درْهَم وافٍ وكيل وافٍ، وأوْفَيْتُه، إذا أتممته، وأوْفَى الكيل، إذا أتَمَّهُ ولم يَنْقُص منه شَيْئاً، وكذلك وَفَى المِيزَان. وقوله: «بالقسط» أي: بالعَدْل لا بخْس ولا نُقْصَان فيه. فإن قيل: «أوفُوا الكَيْل والمِيزَان» هو عين القِسْط، فما فَائِدة التكرير؟ فالجواب: أن اللَّه - تبارك وتعالى - أم المُعْطِي بإيفاءِ ذي الحقّ حقَّه من غير نُقْصَانٍ، وأمر صَاحِبَه أن يَأخُذ حقَّهُ من غير طلب زِيَادة، ولما كان يَجُوز أن يَتَوَهَّم الإنْسَان أنه يَجِب على التَّحقِيق، وذلك صَعْقبٌ شديدٌ في العَدْل، أتْبَعَهُ الله - تعالى - بما يُزِيُل هذا التَّشْدِيد، فقال: «لا نُكَلِّف نَفْساً إلاَّ وُسْعَها» ، أي: الوَاجب [في إيفَاءِ] الكيْل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 513 والوَزْنِ هو القَدْر المُمْكِن، إمَّا فغير وَاجِبٍ. قال القرطبي - رحمها لله تعالى -: في مُوَطأ مالكٍ عن يَحْيَى بن سَعيد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ أنه بلغه عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -؛ أنه قال: «ما ظَهَر الغُلُول في قَوْم قطّ إلا ألْقَى اللَّه في قُلُوبِهم الرُّعْب؛ ولا فَشَا الزِّنَا في قَوْم إلاَّ كَثُر فيهم المَوْت، ولا نَقَصَ قَوْم المِكْيَال والميزان إلا قطعَ عنْهُم الرِّزق، ولا حَكَمَ قَوْم بغير الحقِّ إلا فَشَا فيهم الدَّم، ولا قولم بالعهد إلا سُلِّطَ عليهم العَدُوُّ» . وقال ابن عبَّاس: إنكم مَعْشر الأعاجم قد وليتم أمْرَيْن بهما هلك من كان قبلكم، الكَيْل والميزان فصل قال القاضي: «إذا كان الله - تعالى - قد خف على المُكَلَّف هذا التخفيف، مع أنه ما هُو التَّضْيِيقُ مَقْدُورٌ له، فكيف يَتَوهَّمُ متوَهَّمٌ أنه - تبارك وتعالى - يكلف الكَافِر الإيمان مع أنَّهُ لا قُدْرَة له عليه؟ بل قالوا: إن الله - تعالى - يَخْلُقُ الكُفْر فيه، ويُريد منه ويَحْكُم به عليه، ويخلق فيه القُدْرَة الموجِبَة لذلك الكُفْر والدَّاعِية الموجِبَة له، ثم يَنْهَاه عنه، فهو - تعالى - لمًّا لم يُجَوِّز ذلك القَدْر من التَّشْديد والتَّضْييق على العَبْد، وهو إيفاء الكَيْل والوَزْن على سبيل التَّخْفِيف، فكيف يَجُوز أن يُضَيِّق على العَبْد مثل هذا التَّضْييق والتَّشْدِيد؟ وجوابه: المُعَارضة بمَسْألة العِلْم والدَاعي. قوله: {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا} حمله المُفَسِّرون على أدَاءِ الشَّهَادة والأمْر والنَّهي. قال القاضي «وليس الأمْر كذلك، بل يَدْخُل فيه كُلُّ ما يتصل بالقَوْل من الدَّعْوة إلى الدِّين، وتَقْرير الدَّلائل عليه، ويَدْخُل فيه أن يكُون الأمْر بالمَعْرُوف والنَّهِي عن المنكر وَاقِعاً على الوَجْه بالعَدْل من غير زِيَادة في الإيذَاء والإيحَاشِ، ونُقْصَان عن القدر الواجب، ويدخل فيه الحِكَايات التي يَذْكُرها الرَّجُل حتى لا يَزيد فيها ولا يَنْقُص عنها، ومن جملتها تَبْلِيغ الرِّسالات النَّاسَ وحكم الحَاكِم، ثم إنه - تبارك وتعالى - بيَّن أنه يَجِبُ أن يُسَوَّى فيه بين القَريب والبَعيد، فقال:» ولَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى «؛ لأن المَقْصُود منه طلب رضوان الله - تعالى -، وذلك لا يَخْتَلف بالقُرْب والبُعْد، ولو ان المقُولُ له والمَقول عليه ذَا قُرْبَة. قوله:» وبِعَهْد اللَّهِ «يجُوزُ أن يكُون من بابِ إضافَةِ المصدر لفاعله، أي: بما الجزء: 8 ¦ الصفحة: 514 عَاهَدَهكم اللَّهُ عليه، وأن يكُون [مُضافاً لمفعُوله، أي: بما عاهدتم اللَّه عليه؛ كقوله: {صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ} [الأحزاب: 23] {بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهِ} [الفتح: 10] وأن تكون] الإضافة لمجرد البيان، أُضَيفَ إلى اللَّه - تعالى - من حَيْثُ إنه الآمِرِ بِحِفْظِهِ والمراد به العَهْد الواقع بين الآيَتَيْن. فإن قيل: ما السَّبَبُ في أن خَتْمَ الآية الكريمة بقوله:» تَذَكَّرُون «وخاتمة الأولى» تَعْقِلُونَ «. فالجواب لأن الأربعة قَبْلَها خَفِيَّة، تحتاج إلى إعمال فِكْر ونظر، حتى يقف مُتَعاطيها على العَدْل، فناسبها التذكير، وهذا بخلاف الخمسة الأشياء فإنها ظاهرة تعلقها وتَفْهَمُها؛ فلذلك ختمتْ بالفعل. » تَذَكرُون «حيث وَقَع، يقرؤه الأخوان وعَاصِم في رواية حَفْصِ بالتَّخْفِيف، والباقون بالتَّشْدِيد، والأصْل:» تَتَذَكِّرُون «فمن خَفَّف، حذف إحْدى التَّاءَيْن، وهل هِي تاءُ المُضراعة أو تاء التَّفْعُل؟ خلاف مَشْهُور، ومن ثقَّل، أدْغَم التَّاء في الدَّال. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 515 قوله: «وأنَّ هَذَا» قرأ الأخوان: بكَسْر «إنّ» على الاسْتِئْنَاف أو يكون «أتل» بمعنى: أقول إن هذا، و «فاتبعوه» جملة معطوفة على الجُمْلَة قَبْلَها. وهذه الجملة الاستِنئْنَافيَّة تفيد التَّعْلِيل لقوله: «فاتَّبِعُوه» ، ولذلك اشْتَشْهَد بها الزَّمَخْشَري على ذلك كما تقدَّم، فعلى هذا يَكُون الكلام في الفاء في «فاتَّبِعُوهُ» كالكلام فِيهَا في قِرَاءة غيرها، وسيأتي. وقرأ بان عامر: «وأنْ» بفتح الهمزة وتخفيف النون، والباقون بالفتح أيضاً والتَّشْدِيد. فأمَّا قرءاة الجماعة ففيها أربعة وُجُوه: أحدها: وهو الظَّاهِر -: أنها في محلِّ نصب نسقاً على ما حرَّم، أي: أتْل ما حرَّم، الجزء: 8 ¦ الصفحة: 515 وأتل أنْ هذا صِرَاطي مُسْتَقِيماً، والمراد بالمُتَكَلِّم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنه صِرَاطَه صِرَاط اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -، وهذا قول الفرَّاء - قال: «بفَتْح» أنْ «مع وُقُوع» أتْل «عليها، يعني: أتْلُ عليْكم أنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً» . والثاني: أنها مَنْصُوبة المحلِّ أيضاً نَسَقاً على «ألاَّ تُشْرِكُوا» إذا قُلْنَا بأنَّ «أنْ» المصديَّة «وأنَّها وما بعدها بدل من» ما حرَّم «قاله الحُوفِيُّ. الثالث: أنها على إسْقَاطِ حَرْف لام العِلَّة، أي: ولأن هذا صِرَاطي مستَقيماً فاتبعوه؛ كقوله - تعالى - {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} [الجن: 18] . قال أبو عَلِيّ: من فتح» أنَّ فَقِيَاس قول سبيويه - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - أنه حملها على «فاتِّبعُوه» والتقدير: ولأن صِرَاطي مُسْتَقيِماً فاتِّبْعُوه؛ كقوله: {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} [المؤمنون: 52] . قال سيبويه: «ولأنَّ هَذِه أمَّتُكُم» وقال في قوله - تعالى -: و «أنَّ المساجِدَ لِلَّه» : ولأنَّ المَسَاجِد. قال بعضهم: «وقد صرَّح بهذا اللام في نَظِيره هذا التَّرْكيب؛ كقوله - تعالى: {لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف فَلْيَعْبُدُواْ} [قريش: 1 - 3] والفاء على هذا كَهيِ في قولك: زيداً فَاضِرب، وبزيد فَامْرُو، وتقدم تَقْرِيره في البقرة. قال الفَارسِي: قِيَاس قوله سيبويه في فتح الهَمْزَة أن تكُون الفَاء زَائِدة كَهِي في» زَيْد فقَائم «. قال شهاب الدِّين - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -:» سيبويه لا يَجُوِّز زيادَتَها في مِثْل هذا الخَبَر، وإنما أراد أبُو عَلِيِّ بنظيرها في مُجَرَّد الزِّيَادة وإن لم يَقُل به، بل قال به غَيْره «. والرابع: أنها في محلِّ جرِّ نسقاً على الضَّمِير المَجْرُور في» بِهِ «أي:» ذلكم وصَّاكُم به «وبأنَّ هذا هو قول الفراء أيضاً. وردّه أبو البقاء بوجْهَيْن: أحدهما: أنه يَصِير المَعْنى: وصَّاكُم باسْتِقَامة من غَيْر إعادة الجارِّ. الثاني: أنه يَصِير المَعْنَى: وصًّاكُم باسْتِقَامة الصِّراط، وهذا فاسد. قال شهاب الدِّين: والوجهان مردُودَان: أما الأوَّل: فليس هذا من باب العَطْف على المُضْمَر من غير إعضادة الجارِّ؛ لأن الجزء: 8 ¦ الصفحة: 516 الجارَّ هُنَا في قوَة المَنْطوق به، وإنما حُذِفَ؛ لأنَّه يَطَّرِد حَذْفُه مع أنَّ وأنْ لطُولِهِما بالصِّلة، ولذلك كان مَذْهِبُ الجمهور أنها في محلِّ جرِّ بعد حذفه لأنَّه كالموجُود، ويدل على ما قلته، ما قال الحُوفِيّ، قال:» حُذِفت البَاء لِطُول الصِّلة وهي مُرَادة، ولا يكن هذا عَطْفُ مُظْهَر على مُضمر لإرادتها «. وأمّا الثاني: فالمعنى: صَحيح غير فَاسِد؛ لأن مَعْنَى توصيتنا باسْتِقَامة [الصِّراط ألاَّ نَتَعَاطى ما يُخْرِجُنا من الصَّراطِ فوصيتنا باسْتِقَامَتِه] مبالغة في اتِّباعِه. وأما قراءة ابن عامر فقالوا: «أنْ» فيها مُخَفَّفَة من الثَّقِيلَة، واسمها ضمير الأمْر والشأن، أي: «وأنَّهُ» كقوله - تعالى - { 1649 - ;لْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ العالمين} [يونس: 10] وقَوْل الأعْشى: البسيط] 2384 - فِي فِتْيَةٍ كسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ عَلِموا ... أنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى ويَنْتَعِلُ وحينئذٍ ففيها الأرْبَعة أوْجُه المتقدّمة المَذْكُورة في المشدَّدة. وقرأ بان عامر وابن كثير: «سِرَاطِي» بالسِّين، وحمزة: بين الصَّاد والزَّاي، والباقون: بالصَّاد صافية، وفي مُصْحَف عبد الله: «وهذا صِرَاطي» بدون «أنّ» ، و «هذا» صِرَاط ربِّك «. قوله: {فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل} . أي: الطُّرُق المختَلِفة التي عدا هذا الطَّريق؛ مثل اليَهُودِيَّة، والنصرانية، وسائر الملل، وقيل: الأهْوَاء والبدع. {فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} أي: فتقَعُوا في الضِّلالاتِ. روى أنب مَسْعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -» عن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أنه خَطَّ خَطأ عن يَمِينه، وخطَّ عن شَمَالِهِ خُطُوطاً، ثم قال: هذا سبيل اللَّهِ، وهذه سُبُلٌ، على كُلِّ سبيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُوا إلَيْهَا، ثم تى: «وأنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقيماً فاتِّبِعُوه» . وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هذه الآيَاتُ مُحْكَمَات، لم يَنْسِخْهُنَّ شيء من الجزء: 8 ¦ الصفحة: 517 جَمِيع الكُتُب، من عَمِل بِهِنَّ، دخل الجنَّة، ومن تركَهُنَّ، دخل النار. قوله: «فتفَرَّق» منصوب بإضمار «أنْ» بعد الفَاءِ في جواب النَّهْي، والجُمْهُورُ على «فَتَفَرَّق» بتاء خَفِيفَة، والبزِّيُّ بتشْدِيدهَا فمن خفَّف، حذف إحْدى التَّاءَيْن، ومن شدَّد أدْغم؛ وتقدم هذا في {تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 80] . و «بكم» : يجوز أن يكُون مَفْعُولاً به في المَعْنَى، أي: فَيُفَرِّقُكُم، ويجُوز أن تكون حالاً، أي: وأنْتُم معها؛ كقوله القَائِل في ذلك: [الوافر] 2385 - ... ... ... ... ... ..... تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّريبَا وختم هذه الآية بالتَّقْوى وهي اتِّقاء النَّارِ، لمُنَاسَبَة الأمر باتِّباع الصِّراط، فإن من اتّبعه وَقَى نَفْسَه من النَّارِ. فصل في فضل هذه الآية قال القُرْطُبيُّ في هذه الآية الكريمة: «وهذه آيَةٌ عَظِيمَةٌ عطفها على ما تقدَّم، فإنه لمَّا نَهَى وأمر حَذَّر هنا عن اتِّبَاع غَيْر سَبِيله، فأمر فيها باتِّباع طَريقة» . «مستقيماً» نصْب على الحَالِ، ومعناه: مُسْتَوياً قَائِماً لا اعْوجَاج فيه، وقد بَيَّنه على لسان نبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونشأت منه طُرُقٌ، فمن سلك الجَادّة نجا، ومن خرج إلى تلك الطُّرُق أفضت به إلى النَّارِ قال - تعالى -: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} أي: تميل. روى ابن مَسْعُود - ر ضي الله عنهما - قال: «خَطَّ لنا رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَوْمَاً خَطّاً، ثم قال: هذا سَبيلُ اللَّه، ثم خَط خُطُوطاً عن يَمِينه وشِمَاله، ثم قال: هذه سُبل، على كل سَبيلٍ منها شَيْطَان يَدْعُو إليها، ثم قرأ هذه الآية الكريمة» . وأخرجه ابن ماجة في سننه عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فخط خطًّا وخط خطيب عن يمينه وخط خطين عن يساره ثم وضع يده في الخط الأوسط فقال: هذا سبيل الله - ثم تلا هذه الآية - {وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} . وهذه السُّبُل في اليَهُوديَّة، والنَّصْرَانية، والمجُوسيَّة، وسائر أهل المِلَل والبِدَع والضَّلالاتِ، من أهل الأهْواءِ والشُّذُوذِ في الفُرُوع، وغير ذلك أهْلِ التَّعَمُّق في الجدل الجزء: 8 ¦ الصفحة: 518 والخوض في الكلام، وهذه عْرْضَة للزَّلَل. قال ابن عطية؟ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 519 أصل «ثُمَّ» : المُهلة في الزمان، وقد تأتي للمُهْلة في الإخبار. وقال الزَّجَّاد: وهو مَعْطُوف على «أتْلُ» تقديره: أتْلُ ما حرَّم ثم أتْلُ ما آتيْنَا. وقيل: هو مَعْطُوف على «قَلْ» أي: على إضْمَار قل، أي: ثم قل: آتينا. وقيل: تقديره: ثم أخْبِرُكم آتَيْنا. وقال الزمخشري: عطف على وصَّاكُم به «قال:» فإن قلت: كيف صَحَّح عطفه عليه ب «ثم» ، والإيتَاء قبل التَّوْصِيَة به بَدّهْر طَويل؟ قال شهاب الدين: هذه التَّوصية قديمة لم يَزلْ تتواصها كل أمَّةٍ على لسان نبيِّها، فكأنه قيل: ذلك وَصَّاكُم به يا بَنِي آدَمَ قَديماً وحَديثاً، ثم أعْظَم من ذَلِك أنَّا آتَيْنَا موسى الكِتَاب. وقيل: هو مَعْطُوف على ما تقدَّم قبل شَطْر السورة من قوله: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ} [الأنعام: 84] . وقال ابن عطية - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «مهلتها في تَرْتَيب القَوْلِ الذي أمر به محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كأنَّه قال: ثم مِمَّاه وصِّيْنَاه أنا أتَيْنَا مُوسى الكتاب، ويدعو إلى ذلك أن موسى - عليه السلام - مُتقدِّم بالزمان على محمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -» . وقال أبُو حيَّان: «والذي ينبغي أن يُسْتَعْمَل للعَطْفِ كالواو من غير اعِتِبَار مُهْلَةٍ، وبذلك قال [بَعْض] النَّحْويِّين» . قال شهاب الدّين: وهذه استراحة، وأيضاً لا يلزم من انتفاء المهلة الترتيب فكان ينبغي أن يقول من غير اعتبار ترتيب ولا مهلة على أن الفرض في هذه الآية عدم الترتيب في الزمان. قوله: «تَمَاماً» يجوز فيه خَمْسَة أوْجُه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 519 أحدهما: أنَّه مفعول من أجْلِهِ، أي: لأجْل تمامِ نِعْمَتِنَا. الثاني: أنَّه حالٌ من الكِتَاب، أي: حَالَ كَوْنه تَمَاماً. الثالث: أنَّه نَصْب على المصدرِ؛ لأنَّه بمعنى: آتيناهُ تمامٍ، لا نقصان. الرابع: أنه حالٌ من الفاعل، أي: مُتِمِّين. الخامس: أنَّه مصدرٌ مَنْصُوب بفِعْل مُقَدَّر من لفظه، ويكون مصدراً على حَذْف الزَّوائِد، والتقدير: أتَمْنَاهُ إتْمَاماً، و «على الذي» مُتعلِّق ب «تماماً» أو بمحذُوف على أنَّه صِفَة، هذا إذا لم يُجْعَلْ مصدراً مؤكَّداً، فإن جُعِلَ، تعيِّن جعلُه صِفَة. و «أحسن» فيه وجهان: أظهرهما: أنه فِعْلٌ ماض واقعٌ صلةً للموصول، وفاعله مُضْمَرٌ يعود على مُوسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أي: تماماً على الذي أحْسَن؛ فيكون الذي عبارةٌ عن مُوسَى. وقال أبو عبيدة: على كُلِّ من أحْسَن، أي: أتممنا فَضِيلَة مُوسَى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بالكتاب على المُحْسِنين من قومه، أي: على من أحْسَن من قومه، وكان فيهم مُحْسنٌ ومُسِيءٌ، وتدُلُّ عليه قِرَاءة ابن مَسْعُود: وعلى الذي أحْسَن. وقيل: كُلُّ من أحسن، أي: الذي أحْسَنَهُ موسى من العِلْم، والحِكْمَة، والإحْسَان في الطاعة والعِبَادة، وتَبْلِيغ الرِّسَالة. وقيل: «الذي» عِبَارةٌ عمّا عَمِلَهُ مُوسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وأتقنه، أي: تماماً على الذي أحْسَنَهُ موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. والثاني: أنَّ «أحَسْن» اسمٌ على وَزْن أفْعَل، ك «افْضَل» و «أكْرَم» ، واستَغْنَى بِوَصْف الموصُول عن صِلَتِهِ، وذلك أنَّ المَوْصُول متى وُصِف بِمَعْرِفَة، نحو: «مَرَتُ بالذي أخيك» ، أو بِمَا يُقارب المَعْرِفَة، نحو: «مَررْت بالذي خَيْر مِنْكَ، وبالذي أحْسَن منك» ، جاز ذلك، واستغنى به عن صِلته، وهو مَذْهَبُ الفرَّاء، وأنشد قوله: [الزجر] 2386 - حتَّى إذَا كَانَا هُمَا اللَّذِين ... مِثْلَ الجَدِيليْن المُحَمْلَجَيْنِ بنصب «مِثْلَ» على أنه صِفَةٌ ل «اللَّذِيْن» المنصُوب على خَبَر كان، ويجُوز أن تكون «الَّذي» مصدريَّة، و «أحْسَنَ» فعل ماضٍ صِلَتُها والتقدير: تماماً على إحْسَانِه، أي: إحْسان الله - تعالى - إليه، وإحْسَان مُوسَى إليهم، وهُو رأي يُونُس والفراء؛ كقوله: [البسيط] الجزء: 8 ¦ الصفحة: 520 2387 - فَثَبَّتَ اللَّهُ مَا آتَاكَ مِنْ حَسَنٍ ... تَثْبِيتَ عِيسى ونَضراص كالَّذِي نُصِرُوا وقد تقدَّم: تَحْقِيقُ هذا. وفتح نُون «أحْسَنَ» قراءة بالعامَّة وقرأ يَحْيَى بن يَعْمُر، وبان أبِي إسْحَاق برفعها، وفيها وجهان: أظهرهما: أنَّهُ خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف، أي: على الذي هو أحْسَن، فحذف العَائِد، وإن لم تَطُل الصِّلَةُ، فهي شَاذَّةٌ من جِهَة ذلك، وقد تقدَّم بدلائله عِنْد قوله: {مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] ، فيمن رفع «بَعُوضَةٌ» . الثاني: أن يكُون «الَّذِي» واقِهاً موقع الذين، وأصلُ «أحْسن» : أحْسَنُوا بواو الضَّمير، حُذِفَت الواوُ اجتِزَاءً بحركة ما قبلها، قاله التبريزيُّ؛ وأنشد في ذلك فقال: [الوافر] 2388 - فلَوْ أنَّ الأطِبَّاء كَانُ حَوْلي ... وكان مَعَ الأطِبَّاءِ الأسَاة قال الآخرُ في ذلك هذا البيت: [الوافر] 2389 - إذا مَا شَاءُ ضَرُّوا مَن أرَادُوا ... ولا يَألُوهُمُ أحَدٌ ضِرَارا وقول الآخر في ذلك: [الزجر] 2390 - شَبُّوا على المَجْدِ وَشَابُوا واكتَهَلُ ... يريد اكْتَهَلُوا، فحذف الواو، وسكن الحَرْف قبلها، وقد تقدَّم أبْيَاتٌ أخر كَهَذِهِ في غُضُون ها الكتاب، ولكن جَمَاهير النُّحَاة تَخُصُّ هذا بِضَرُورَة الشِّعر. وقوله: «وتَفْصيلاً» وما عُطِفَ عليه؛ مَنْصُوب على ما ذُكِرَ في «تَمَاماً» [والمعنى: بياناً لكلِّ شيءٍ يحتاجُ إليه من شرائع الدِّين. و «هدّى ورحمةً» ذها في صِفَة السُّورة. «لعلَّهُمْ بِلقَاءِ ربِّهم يُومِنُون» . قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «لكي يُؤمنوا بالبعث، ويُصَدِّقُوا بالثُّوَاب والعِقَاب» ] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 521 قوله تعالى: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} الآية. يجُوز أن يكون «كِتَابٌ» و «انزلْنَاه» و «مُبَاركٌ» إخْبَاراً عن اسم الإشارة، عند مَنْ يُجِيزَ تعدُّدَ الخبَرَ مُطْلَقاً، أو بالتَّأويل عند مَنْ لَمْ يجوِّزْ ذلك، ويجُوز أن يكُوزن «أنزلْنَاهُ» ، و «مُبَاركٌ» : وصْفَيْن ل «كِتَابٌ» عند من يُجِيزَ تَقْدِيم الوَصْفِ غير الصِّريح على الوَصْفِ الصَّريح، وقد تقدم تَحْقِيقُ ذلك في السُّورة قَبْلَها، في قوله - سبحانه -: {بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54] . قال أبو البقاء: «ولو كان قُرِئ:» مُبَاركاً «بالنَّصْب على الحالِ، لجَاز» ولا حَاجَة إلى مِثْلِ هذا، وقُدِّم الوَصْفُ بالإنْزَال؛ لأن الكلام مع مُنْكِري أنَّ اللَّهِ يُنَزِّل على البَشَر كِتَاباً، ويُرْسِلَ رَسُولاً، وأما وَصْف البَرَكَة؛ فهو أمْرٌ مُتَرَاخ عَنْهم، وجيء بصِفَة الإنْزَال بِجُمْلَة فِعْليَّة أسند الفعل فيها إلى ضَمير المُعَظِّم نفسه مُبَالغة في ذلك، بخلافِ ما لو جيءَ بها اسْماً مُفْرداً. والمراد بالكتاب: القُرْآن، وَوَصْفه بالبَرَكَة، أي: لا يَتَطرَّقُ إليه النَّسْخُ، كما في الكِتَابَيْن، والمُرَاد: كثير الخَيْر والنَّفْع. {فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} . قيل: «اتَّقُوا مُخَالفَتهُ على رَجَاء الرَّحْمة» . وقيل: اتَّقُوا لِتُرْحَمُوا، أي: ليكون الغَرَضُ بالتَّقْوَى، رَحْمَه الله - تعالى -. قوله: «ان تَقُولُوا» فيه وجهان: أحدهما: أنه مَفْعُول من أجله. قول أبو حيَّان: «والعَامِلُ فيه» أنْزَلْنَاهُ «مقدّراً، مَدْلُولاً عليه بنَفْس» أنْزَلْنَاهُ «المَلْفُوظِ به، تقديرُه: أنْزَلْنَاه أن تقولوا» . قال: «ولا جائز أن يعمل فيه» أنْزَلْنَاهُ «الملفوظ به؛ لئلا يلزم الفصل بين العَامِل ومَعْمُولهِ بأجْنَبِيِّ، وذلك أنَّ مُباركٌ» : إمَّا صِفَةٌ، وإما خبرٌ، وهو أجنبيُّ بكل من التقديرين «وهذا الذي منَعَه هو ظَاهِرُ قول الكسائِّي، والفرَّاء. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 522 والثاني: أنَّها مَفْعُول به، والعاملُ فيه:» واتَّقُوا «أي: واتَّقُوا قولكم كَيْتَ وكَيْتَ، وقوله:» لَعَلُّكم تُرْحَمُون «معترضٌ جار مُجْرى التَّعْلِيل، وعلى كَوْنِه مَفْعُولاً من أجْلِه، يكون تقديره عند البصريِّين على حَذْفِ مُضَافٍ، تقديرُه: كراهة أن تَقُولُوا، وعند الكوفيِّين يكون تقديره:» ألاَّ يَقُولُوا «. قال الكسائيُّ: والفرَّاء: والتقدير: أنزَلْنَاهُ لئلا تَقُولُوا، ثم حذف الجارِّ، وحَرْف النَّهْي، كقوله - تبارك وتعالى -: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] وكقوله: {رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] أي: ألاَّ تَمِيد بِكُم، وهذا مُطَّرِد عنْدَهُم في هذا النَّحْو، وقد تقدَّم ذلك مراراً. وقرا الجمهور:» تَقُولُوا «بتاء الخطاب، وقرأ ابن مُحَيْصِن:» يَقُولوا «: بياء الغَيْبَة، ومعنى الآية الكريمة، كراهة أن يقول أهْلُ مكَّة: أنزل الكتاب، وهو التُّوْراة، والإنْجِيل على طَائِفَتَيْن من قَبْلِنَا، وهُمْ اليَهُود والنَّصَارى. قوله: «وَإنْ كُنَّا» [ «إنْ» ] مُخَفَّفَة من الثِّقِيلة عند البَصْريِّين، وهي هُنَا مُهْمَلة؛ ولذلك وَلِيتها الجُمْلة الفِعْليَّة، وقد تقدَّم تحقيق ذلك، وأنَّ الكوفيِّين يَجْعَلُونها بمعنى: «ما» النَّافية، واللام بمعنى: «إلاَّ» ، والتقدير: ما كُنَّا عن دِرَاسَتِهم إلاَّ غافِلِين. وقال الزَّجَّاج بِمْثِل ذلك، فَنَحا نحو الكوفيِّين. وقال قُطْرُب: «إنْ» بمعنى «قَدْ» واللاَّم زَائِدة. وقال الزَّمَخْشَري بعد أن قَرَّر مذهب البصريين كما قدَّمنا: «والأصْل: إنه كُنَّا عن عِبَادَتِهِم» فقدّر لها اسْماً مَحْذُوفاً، هو ضمير الشَّأن، كما يُقَدِّر النَّحْويُّون ذلك في «أنْ» بالفَتْح إذا خُفِّفَت، وهذا مخالفٌ لِنُصُوصِهِم، وذلك أنَّهم نَصُّوا على أنَّ: «إنْ» بالكَسْر إذا خُفِّفَت، ولِيَتْهَا الجُمْلَةُ الفعليةُ النَّاسِخة، فلا عَمَل لها، لا في ظاهرٍ ولا مُضْمرٍ. و «عَنْ دِرَاسَتِهِم» متعلِّق بخبر «كُنَّا» وهو: «غافلين» وفيه دلالة على بُطلان مذهب الكوفيين في زعمهم أن اللام بمعنى: «إلاَّ» ولا يَجُوز أن يَعْمَل ما بعد «إلاَّ» فيما قَبْلَها؛ فكذلك ما هو بِمَعْنَاها. قال أبو حيَّان: «ولَهُم أن يَجْعَلُوا» عَنْها «متعلِّقاً بمحذوف» وتقدَّم أيضاً خلاف أبي عليِّ، في أنَّ هذه اللاَّم لَيْسَت لام الابتِدَاء، بل لامٌ أخْرَى، ويدلُّ أيضاً على أن اللاَّم لام ابتداء لَزِمتِ للفَرْق، فجَازَ أن يتقدَّم مَعْمُولُها عليها، لمّا وقعت في غَيْر ما هُو لَهَا الجزء: 8 ¦ الصفحة: 523 أصل، كما جاز ذلك في: «إنَّ زيداً طعامك لآكِلٌ» حَيْث وقعت فيغير ما هُوَ لَهَا [أصلٌ] ولمْ يَجُزْ ذلك فيهَا إذا وقعت فيما هُوَ لَهَا أصْلٌ، وهو دُخُولها على المُبْتَدأ. وقال أبُو البقاءِ واللاَّم في «لغَافِلِين» عِوض أو فَارِقَة بَيْن «إنْ» و «ما» . قال شهاب الدين: قوله: «عِوَض» عبارة غَريبَةٌ، وأكثر ما يُقَال: إنها عِوَضٌ عن التَّشْديد الَّذِي ذَهَبَ من «إنْ» ولَيْس بِشَيء. فصل في معنى الآية قال المفَسِّرُون: «إنْ» هي المُخَفَّفَة من الثّقِيلة، واللاَّم هي الفَارِقَةُ بَيْنَهُمَا وبين النَّافيَة، والأصْل: وإن كُنَّا عن دِرَاستِهِم غَافلين، والمعنى: إثْبَات الحُجُّة عليهم بإنْزَال القُرْآن عَلَيْهم، وقوله: {وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ} أي: لا نَعْلَم مَاهِيَ، لأن كِتَابَهُم لَيْس بِلُغَتِنَا. قوله: {أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ} . أي: لِئلاَّ تقُولُوا أو تَحْتَجُّوا بِذَلك، ثمَّ إنه - تعالى - قطع احتِجَاجَهُم بهذا، فقال: {فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} وهو القُرْآن العظيم بَيِّنَة فيما يُعْلم سَمْعاً، وهُو هُدَى فيما يُعْلَم سَمْعاً وعَقْلاً، فلما اختلفت الفَائِدَة، صَحَّ هذا العَطْف، ومعنى «رَحْمة» أي: نِعْمَة في الدِّين. قوله: فَقَدْ جَاءَكُم «: جواب شَرْط مقدِّرٍ فقدَّرَه الزَّمَخْشَريُّ: إن صَدَقْتُم فيما كُنْتُم تَعْدُّون من أنْفُسِكم، فَقَدْ جَاءَكم، قال:» وهو من أحْسن الحُذُوف «وقدّرَه غَيْره: إن كُنْتُم كما تَزْعُمون: إنَّكم إذا أنزل عَلَيْكُم كِتَابٌ، تكونون أهْدَى من اليَهُود والنَّصَارى، فقدْ جَاءَكُم، ولم يُؤنَّث الفِعْل؛ لأن التَّأنيث مجازيُّ، وللفَصْل بالمَفْعُول، و» مِنْ ربِّكم «يجوز أن تيعلَّق ب» جَاءَكُم «وأن يتعلَّق بِمَحْذُوف على أنَّه صِفَةٌ ل بَيِّنَة» . وقوله: «هُدة ورَحْمَة» محذُوفٌ بعدهما: مِن ربِّكُم. قوله: فَمَنْ أظْلَمُ «الظَّاهِر أنَّها جُمْلَة مُسْتَقِلة. وقال بعضهم، هي جواب شَرْط مُقَدَّر، تقديرُه: فإن كَذَّبْتُم، فلا أحَد أظْلَم مِنْكُم. والجُمْهُور على كَذَّب» مُشَدّداً، وبآيات الله متعلِّق به، وقرأ يحيى بن وثاب، وابن أبي عَبْلَة: «كَذَبَ» بالتخفيف، و «بآيات اللَّه» : يجوز أن يكُون مَفْعُولاً وأن يكون الجزء: 8 ¦ الصفحة: 524 حالاً، أي: كذَّب ومعهُ آيات اللَّه، و «صدف» مَفْعُوله مَحْذُوف، أي: «وصدف عنها غيره» وقد تقدَّم تَفْسير ذلك [الأنعام: 157] والمُراج: تَعْظِيم كُفْر من كذِّب بآيَاتِ الله «وصدَف عَنْها» أي مَنَع؛ لأنَّ الأوَّل ضلال، والثاني مَنْع عن الحقِّ وإضْلال. ثم قال - تعالى -: {سَنَجْزِي الذين يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سواء العذاب} وهو كقوله تعالى: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب} [النحل: 88] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 525 لمّا بيّن أنَّهُ إنَّما انْزَل الكتاب إزالةً للعُذْرِ، وإزاحَةً للعِلَّة، بيَّن أنَّهُم لا يُؤمِنُون ألْبَتَّةَ، وشرح أحْوَالاً تُوجِب اليَأسَ عن دُخُولهم في الإيمان، فقال - سبحانه وتعالى -: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملاائكة} أي: بالعذاب، وعند المَوْت لقبض أْوَاحِهمِ، ونَظير هذه الآية في سُورة البقرة: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام} [البقرة: 210] . و «هل استفهام، معناه: النَّفْي، ومعنى» ينظرون «: ينتظرون، والتقدير: أنَّهم لا يُؤمِنُون بِكَ، إلاَّ إذا جَاءَهُم أحَدُ هذه الأمُور الثلاثة. قوله:» أو يَأتِي رَبُّكَ «: تقدَّم أنه حَذْفِ مُضَاف. وقرا الأخوان:» إلا أن يأتِيهُم الملائِكَةُ «بياء منقُوطة من تحت؛ لأن التأنيث مَحَازِيُّ، وهو نظير: {فَنَادَتْهُ الملاائكة} [آل عمران: 39] . وقرأ أبو العالية، وابن سيرين:» يَوْم تَأتِي بَعْضُ «بالتأنيث؛ كقوله تعالى: {تَلْتَقِطْهُ} [يوسف: 10] . فإن قيل:» أو يَأتِي ربُّكَ «هل يَدلُّ على جوازِ المجيء والغيبة على الله - تعالى -. فالجواب من وُجُوه: الأول: أن هذا حكاية عن الكُفَار، واعتِقَاد الكَافِر ليس بِحُجَّة. والثاني: أنَّ هذا مَجَاوزٌ، ونظيرُه قولهُ - تعالى -: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} [النحل: 26] . والثالث: قيام الدَّلائل القاطِعَة على أنَّ المَجيء والغيْبَة على اللَّه مُحَال، وأقْرَبُها قول إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الرَّد على عَبدَة الكواكب: {لاا أُحِبُّ الآفلين} [الأنعام: 76] . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 525 فإن قيل: قوله - تعالى -: {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} لا يمكن حَمْلُه على إثْبَاتِ أثر من آثار قُدْرَته؛ لأن على هذا التَّقْدِير يَصِيرُ هذا عَيْن قوله: {أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} مكرَّاً؛ فوجب حَمْلُه على أنَّ المُرادَ مِنْه: إتْيَان الرَّبِّ. قلنا: الجوابُ المُعْتَمد: أنَّ هذا حكاية مَذْهب الكُفَّار؛ فلا يَكُون حُجَّةً. وقيل: يأتي ربُّك بلا كَيْف؛ لِفَصْل القضاء يِوْم القِيَامة؛ لقوله - سبحانه وتعالى -: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] . وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -:» يَأتي أمْر ربِّك فيهم بالقَتْل أو غَيْره «، وقيل: يَأتِي ربُّك بالعَذَابِ. وقيل: هذا من المُتَشَابه الَّذِي لا يَعْلَمُ تَأوِيله إلاَّ اللَّه. » أو يأتي بعضُ آيات ربِّك «: وهو المُعْجِزَات القَاهِرة. قوله: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّك} . الجمهور على نصب» يَوْمَ «، وناصِبهُ [ما] بَعْد» لاَ «، وهذا على أحَدٍ الأقوال الثلاثة في» لاَ «وهي أنَّها يتقدَّم مَعْمُول ما بَعْدَها عَلَيْها مُطْلَقاً، ولا يتقدَّم مُطْلَقاً، ويُفَصَّل في الثالث: بَيْن أن يَكُون جوابَ قَسم، فَيَمْتَنِع؛ أوْ لاَ، فيجوز. وقرأ زُهَيْر الفَرْقَبِيُّ:» يومُ «بالرَّفع، وهو مُبْتَدأ، وخَبَرُه الجُمْلَة بعده، والعَائِد مِنْها إليه مَحْذُوف، أي: لا تَنْفَع فيه. وقرأ الجُمْهُور» يَنْفَعُ «بالياء من تحت، وقرأ ابنُ سيرين:» تَنْفَع «بالتَّاء من فوق. قال أبو حاتم: «ذَكَرُوا أنَّه عَلَط» . قال شهاب الدِّين: لأنَّ الفِعْل مسندٌ لِمُذَكَّر، وجوابُه: أنَّه لما اكْتَسَب بالإضافَة التَّأنيث، أجْرِي عليه حُكْمُه؛ كقوله: [الطويل] 2391 - وتَشْرَقُ بالقَوْلِ الَّذِي قَد أذَعْتَهُ ... كما شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنَ الدَّمِ وقد تقدَّم تَحْقِيق هذا أوَّل السُّورة؛ وأنْشَد سيبويه: [الطويل] 2392 - مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ رِمَاحُ تَسَفَّهَتْ ... أعِالِيَهَا مضرُّ الرِّيَاحِ النَّواسِم وقيل: لأن الإيمان بِمَعْنى: العَقِيدة؛ فهو كقولهم: «أتَتْهُ كِتَابي فاحْتَقَرَهَا» أي: صَحِيفَتِي، ورِسَالَتِي. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 526 قال النَّحَّاس: «في هذا شَيْء دَقِيقٌ ذكره سيبويه: وذلك أن الإيمان، والنَّفْس كلٌّ مُشْتَمِلٌ على الآخَر، فأنَّث الإيمان، إذ هو من النَّفْسِ وبها» وأنشد سيبويه: [الطويل] 2393 - مَشَيْنَ كَمَا اهْتَزَّتْ ... ..... ... ... ... ... ... ... ... وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: «في هذه القراءة، يكُون الإيمان مُضَافاً إلى ضَمِير المُؤنَّثِ الذي هو بَعْضُه؛ كقوله: ذَهَبَتْ بَعْضُ أصابِعهِ» . قال أبو حيَّان: «وهو غَلَطٌ؛ لأن الإيمان لَيْس بَعْضاً من النَّفْس» . قال شهاب الدِّين: وقد تقدَّم آنِفاً ما يَشْهَد لصحَّةِ هذه العِبَارة من كلام النَّحَّاس، في قوله عن سيبويه: «وذلك أن الإيمان والنَّفْس كُلٌّ مِنْهُما مُشْتَمِلٌ على الآخَر، فأنَّث الإيمان، إذْ هُو من النَّفْس وبها» فلا فَرْق بين هَاتِيْن العِبَارَتَيْن، أيْ: لا فَرْق بين أنْ يقول: هو منها وبها، أو هو بعْضُها، والمُرَاد في العِبَارتَيْن: المَجَاز. فصل أجمعُوا على أنَّ المقصُود بهذه الآية: عَلامة القيامة، عن البرءا بن عَازِب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «كُنَّا نَتَذَكَر السَّاعة [إذْ أشرف عَلَيْنا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: ما تَتَذاكَرُون؟ قُلْنَا: نَتَذاكَرُ السَّاعة] ؟ قال: إنها لا تقُوم حتَّى تَرَوْا قبلها عشْر آيات: الدُّخان، ودابَّة الأرْضِ، وخسْفاً بالمشْرِق، وخَسْفاً بالمغرِب، وخسْفاً بجزيرَة العرب، والدِّجِّال، وطُلُوع الشَّمس من مَغْرِبها، ويأجُوج ومَأجُوج، ونُزول عيسى - عليه السلام -، ونارً تَخْرج من عَدَن» . وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا تَقُوم السَّاعة حتى تَطْلُع الشَّمس من مَغْرِبها؛ فإذا طلعت وَرَآهَا النَّاس، آمنوا أجْمَعِين، وذلك حين لا يَنْفَع نَفْساً إيمانُها لم تَكُن آمَنَتْ من قَبْلُ أو كَسَبت في إيمانِهَا خَيْراً» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 527 وروى أبُو مُوسَى الأشْعَريُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يَدُ اللَّه بُسْطَانٌ لِمسيء اللَّيْل، ليتُوب بالنَّهَار، ولمُسِيء النَّهَار، ليتُوب باللَّيْل، حتى تَطْلع الشَّمْس من مَغْرِبِهاَ» . وعن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «من تَابَ قَبْلَ أنْ تَطْلُعَ الشَّمْسُ من مَغْرِبهَا تَابَ علَيْه» . وعن زِرِّ بن حبيش، قال: أتَيْتُ صفوان بن العَسَّال المراديّ؛ فذكر عن رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الله جَعَل بالمَغْرِب بَاباً مَسِيرة عَرْضِة سَبْعُون عاماً، لا يُغْلَقُ حتَّى تَطْلُع الشَّمْس من قبله» وذلك قَوْل الله - عزَّ وجلَّ -: {يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْرا} . وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ثلاثٌ إذا خَرَجْن لَمْ يَنفع نَفساً إيمانُهَا لم تكن آمنَتْ من قَبْل أو كَسَبت في إيمانِهَا خَيْراً: الدجَّال، والدَّابَّة، وطُلُوع الشَّمْسِ من مَغْرِبها» . قوله: {لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ} . في هذه الجملة ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّها في محلِّ نَصْبٍ؛ [لأنها] نَعْتٌ ل نَفْساً «، وفصل بالفَاعل، وهُوَ» إيمانُها «بين الصِّفَة ومَوْصُوفها، لأنَّه لَيْس بأجْنَبِيِّ، إذ قد اشْتَرك الموصُوف الَّذِي هو الجزء: 8 ¦ الصفحة: 528 المفعُول والفاعل في العامل، فعلى هذا يَجُوز:» ضَرَبَ هِنْداً غلامُهَا القُرشِيَّة «، وقوله» أوْ كَسَبَتَ «عَطْف على» لَمْ تَكُن آمَنَتْ «. وفي هذه الآية بُحُوثُ حَسَنَةٌ تتعلَّق بِعِلْم العربيَّة وعليْها تُبْنَى مَسَائل من» أصُول الدِّين «، وذلك أنَّ المُعْتَزِليَّ يقول:» مُجَرَّد الإيمان الصَّحيح لا يَكْفِي، بل لا بُد من انْضِمَام عمل يَقْتَرِن به ويُصَدِّقه «، واستدلَّ بظاهِرِ هذه الآية، وذلك كما قال الزَّمَخْشَرِيُّ:» لَمْ تَكُون آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ «صفة لقوله» نَفْساً «وقوله:» أوْ كَسَبَتْ في إيمانِها خَيْراً «عُطِفَت على» آمَنَتْ «والمعنى: أنَّ أشْرَاط السَّاعَةِ إذا جاءت وهي آيات مُلْجِئَةٌ مُضْطَرَّةٌ، ذهب أوَانُ التَّكلِيف عِنْدَها؛ فلم يَنْفَعُ الإيمان حينئذٍ نَفْساً غيرَ مُقدِّمةٍ إيمانها قبل ظُهُور الآيَاتِ، أو مُقَدِّمَة إيمانها غير كَاسِبَةٍ خيراً في إيمانها؛ فلم يُفَرِّق كما ترى بين النَّفْس الكَافِرَة إذا آمنت إذا آمنت في غَيْر وقت الإيمان، وبَيْنَ النَّفْس التي آمَنَت في وقتِهِ ولم تكْسِبْ خيراً، ليعلم أن قوله: {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [البقرة: 25] جمع بين قَرِينَتَيْن، لا ينبغي أن تَنْفَكَّ إحدَاهما عن الآخْرَى حتى يَفُوزَ صَاحِبُها ويَسْعَد، وإلاَّ فالشقوة والهلاك. وقد أجاب بَعْضُ النَّاس هذا الظَّاهر: بأن المَعْنَى بالآية الكريمة: أنَّه إذا أتَى بَعْض الأيَات، لا يَنْفَعُ نَفْساً كَافِرة إيمانُها الَّذِي أوْقَعَتْه إذ ذَلِك، ولا يَنْفَع نَفْساً سبق إيمانها وما كَسَبَت فيه خَيْراً، فق علَّق نضفْيَ نَفْع الإيمانِ بأحَدِ وَصْفِيْن: إمَّا نَفْيَ سَبْق الإيمان فقط، وإمَّا سَبْقُه مع نَفْي كَسْب الخَيْر، ومَفْهُومُه: أنَّه يَنْفَع الإيمان السَّابق وَحْدَه أو السَّابِق ومعهُ الخَيْر، ومَفْهُوم الصِفَة قَوِيٌّ. فَيُسْتدل بالآية لِمَذْهَب أهْل السُّنَّة، فقد قلبوا دَلِيلَهُم دليلاً عَلَيْهم. وقد أجاب القَاضِي نَاصِر الدِّين بن المُنِير عن قول الزَّمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال» قال أحْمَد: هو يَرْوم الاسْتِدلال على أنَّ الكافر والعَاصي في الخُلُود سواءٌ، حيث سَوَّى في الآية بَيْنَهُما؛ في عدم الانْتِفَاع بما يَسْتَدْرِكَانِهِ بعد ظُهُور الآيات ولا يتم ذلك، فإنَّ هذا الكلام في البلاغة يُلَقَّبُ ب «اللَّفِّ» وأصلهُ: يَوْم يَأتِي بَعْض آيات ربِّك لا يَنْفَعُ نَفْساً إيمانُها لم تكن مُؤمِنَة قبل إيمانِها بَعْدُ، لا نَفْساً لَمْ تَكْسِب خَيْراً قبل ما تَكْسِبُه من الخَيْر بَعْدُ، فَلَفَّ الكلامين؛ فجعلُهُمَا كلاماً واحداً إيجازاً وبلاغة، ويَظْهَرُ بذلك أنَّها لا تُخَالِفُ مذْهَب الحقِّ فلا يَنْفَعُ بَعْد ظُهُور الآياتِ اكتِسَاب الخَيْر، وإن نَفَع افيمان المُتقدِّم من الخُلُود، فهي بالرِّد على مَذْهبه أوْلى من انْ تَدلَّ له «. الثاني: أن هذه الجُمْلَة في مَحَلِّ نَصب على الحالِ من الضَّمير المَجْرُور، قاله أبو البقاء، يعني: من «هَا» في إيمانِها. الثالث: أن تكُون مُسْتَأنَفة. وبهذا بَدَأ أبو البقاء، وثنَّى بالحالِ، وجعل الوَصْف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 529 ضَعِيفاً؛ كأنه استَشْعَر ما ذَكَرَهُ الزَّمَخْشري، ففرَّ من جَعْلِها نَعْتاً، وأبو حيَّان جعل الحال بَعِيداً، والاسِتئْنَاف أبْد منه. ثم قال - تعالى - {قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ} وهذا وَعِيدٌ وتهديد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 530 وقرأ الأخوان: «فَارَقُوا» من المُفَارَقة. قال القرطبي - رَحِمَهُ اللَّهُ عليه -: «وهي قِرَاءة عليِّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - من المُفَارقة والفِرَاق، على مَعْنَى: أنَّهُم تركوا دينَهُم وخَرَجُوا عنه، وكان عَلِيٌّ - كرم الله وجهه - يقول: والله ما فَرَّقُوه، ولكن فَارَقُوه» . وقال شهاب الدِّين: فيها وجهان: أحدهما: أن «فَاعَل» بمعنى: فعَّل، نحو ضاعَفْتُ الحساب، وضعَّفته. وقيل: هي من المُفَارَقَة، وهي التَّرْك، والتَّخْلِية، ومن فرَّق دينَهُ؛ فآمن بِبَعْض وكفر ببعض، فقد فَارَقَ الدِّين القيم. وقرأ الباقون: «فرَّقوا» بالتَّشْديد، وقرأ الأعمش، وأبو صالح، وإبراهيم،: «فرَقُوا» مخفف الراء. قال أبو البقاء: «وهو بمعنى المُشَدَّد، ويجُوز أن يكُون بمعنى: فَصَلُوه عن الدِّين الحقِّط وقد تقدَّم معنى الشِّيع، أي: صَارُوا فِرقاً مختلفة. قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد: المُشْركين، بعضهُم يَعْبُدون الملائكة، ويَزْعُمون أنَّهم بنات اللَّه، وبعضُهم يَعْبدون الأصْنَام، ويقولون:» هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ الله «و» كانوا شِيَعاً «أي: فِرَقاً وأحزاباً في الضَّلالة. وقال مُجاهدٌ، وقتادة: هم اليَهُود والنَّصَارى؛ لأن النَّصَارى تفرَّقوا فِرَقاً، ويُكَفِّر بعضهم بعضاً، واليهُود أخَذُوا ببعض الكتاب، وتركوا بعضه. وقيل: هم أهْل البِدَع والشُّبُهَات من هذه الأمَّة وروى عُمَر بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 530 عَنْه - أنَّ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -:» يا عائشةُ! إنَّ الذينَ فَرَّقُوا دينَهُم وكانُوا شِيعَاً هُمْ أصْحَابُ البدعِ وأصْحَابُ الأهْوَاءِ من هذه الأمَّةِ «. وروى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّ بَنِي إسْرائِيلَ تفرَّقَتْ على اثْنَيْنِ وسَبْعِين ملَّة، وتفرَّفَت أُمَّتِي على ثلاثٍ وسبْعين ملَّة كُلُّها في النَّارِ إلاَّ واحِدة، قال: من هِيَ يا رسُول الله؟ قال: «ما أنا عَلَيه وأصْحَابي» . قوله: «لست منهم في شيء» . «لَسْت» : في محلِّ رفع خبراً ل «إنّ» ، و «مِنْهُم» : هو خبر «لَيْسَ» إذا بِه تتم الفَائِدة؛ كقوله النابغة: [الوافر] 2394 - إذا حَاوَلْتَ فِي أسَدٍ فُجُورا ... ً فإنِّي لَسْتُ مِنْكَ ولَسْتَ مِنِّي ونظيرُه [في الإثْبَات] : « {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} [إبراهيم: 36] . وعلى هذا، فيكُون» فِي شَيْءٍ «متعلِّقاً بالاسْتِقْرَار الذي تعلَّق به مِنْهُم، أي: ليست مُسْتَقِرّاً منهم في شيء، أي مِنْ تَفْرِيقهم. [ويجُوز أن يَكُون» فِي شيءٍ «: الخبر،» ومِنْهُم «: حال مُقدِّمة عليه، وذلك على حَذْفِ مُضافٍ، أي: لَسْت في شيءٍ كَائِن من تَفْرِيقهم] ، فلمَّا قُدِّمت الصِّفَة نصبت حالاً. فصل في المراد بالآية في المَعْنَى قولان: الأول: إذا أُريد أهل الأهْوَاء، فالمَعْنَى: أنت بَرِيءٌ منهم، وهم مِنْكَ بَرَاءُ، أي: إنَّك بعيد عن أهْوَائِهِهم ومَذاهِبِهم، والعِقَابُ اللاَّزم على تِلْك الأبَاطيل مَقْصُورة عَلَيْهم لا يتعدَّاهم. وإن أُريد اليَهُود والنَّصَارى. قال السُّدِّيُّ:» معناه: يقولون يُؤمَر بِقتَالِهم؛ فلما أمر بِقِتَالِهِم نُسِخ «وهذا بعيد؛ لأن المعنى: لَسْت من قِتَالِهِم في هذا الوَقْتِ في شَيْءٍ؛ فوُرُده الأمْر بالقِتَال في وَقْتٍ آخَر، لا يُوجب النَّسْخ. ثم قال:» إنَّما أمْرُهُم إلى اللَّه «يعني: في الجَزَاء، والمُكَافأة، والإمْهَال،» ثم يُنَبِّئُهُم بما كَانُوا يَفْعَلُون «والمراد: الوعيد. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 531 إنما ذكّر العدد والمَعْدُود مذكَّر، لأوجه: الجزء: 8 ¦ الصفحة: 531 منها: أن الإضافة لها تَأثِير كما تقدَّم غيْر مرَّة؛ فاكسب المُذَكَّر من المؤنَّث التَّأنيث، فأعْطِي حُكْم المؤنَّث من سُقُوط التَّاء من عَدَدِه، ولذلك يُؤنَّث فعله حالة إضافته لِمُؤنَّثٍ نحو: {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} [يوسف: 10] . وقوله: [الطويل] 2395 - ... ... ... ... ... كَمَا شَرِقَتْ صَدْرُ القَنَاةِ مِنْ الدَّمِ وقوله: [الطويل] 2396 - ... ... ... ... . ... تَسَفًّهَتْ أعَالِيهَا مَرُّ الرِّبيعِ النَّواسِمِ إلى غير ذلك مما تقدَّم تَحْقِيقه. ومنها: أنَّ المذكر عِبَارة عن مُؤنَّثٍ، فرُوعِي المُرَاد دُونَ اللَّفْظ، وعليه قوله: [الطويل] 2397 - وإنَّ كِلاَباً هذه عَشْرُ أبْطُنٍ ... وأنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قِبَائِلِهَا العَشْرِ لم يُلْحِق التَّاء في عدد أبطن، وهي مُذَكَّرة؛ لأنَّها عِبَارة عن مُؤنَّث، وهي القبائل، فكأنَّه قيل: وإن كِلاَباً هذه عَشْر قَبَائِل؛ ومثله قول عُمَر بن أبي ربيعة: [الطويل] 2398 - وَكَانَ مِجَنِّي دُونَ مَنْ كُنْتُ أتَّقِي ... ثلاثُ شُخُوصٍ كاعِبَانِ ومُعْصِرُ لم تَلْحَق التاءُ في عدد «شخوص» وهي مُذَكَّرة؛ لمَّا كانت عِبَارة عن النِّسْوة، وهذا أحْسَن ممَّا قَبْلَه؛ للتَّصْريح بالمُؤنَثِ في قوله: «كاعبانِ» و «مُعْصِرُ» ، وهذا كما أنَّه إذا أُرِيد بلَفْظٍ مؤنَّثٍ معنَى مُذَكَّر؛ فإنَّهم يَنْظُرُون إلى المُراد دُونه اللَّفْظ، فَيُلْحِقُون التَّاء في عددِ المُؤنَّث، ومنه قوله الشاعر: [الوافر] 2399 - ثَلاَثَةُ أنْفُسٍ وثلاثُ ذَوْدٍ ... لَقَدْ جَارَ الزَّمَانُ على عِيَاليِي الجزء: 8 ¦ الصفحة: 532 فألحَق التَّاء في عدد «انْفُس» وهي مُؤنَّثةٌ؛ لأنَّها يراد بها ذُكُور، ومثله: {اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً} [الأعراف: 160] في أحد الوَجْهَين، وسيأتي إن شاء الله في موضعه. ومنها: أنَّه راعى الموصُوف المَحْذُوف، والتقدير: فله عَشْر حسنات أمْثَالها، ثم حذف الموصُوف: وأقَامَ صِفَتَهُ مُقامه تاركاً العدد على حاله، ومثله: «مَرَرْت بِثَلاثة نَسَّاباتٍ» ألْحِقَت التَّاء في عدد المؤنَّث مُرَاعاة للموصوف المَحْذُوف، إذ الأصْل: بثلاثة رجالٍ نسَّاباتٍ، ويؤيِّد هذا: قراءة يَعْقُوب، والحسن، وسعيد بن جُبَيْر، والأعْمش، وعيسى بن عُمَر: «عَشْرٌ» بالتَّنوين «أمثَالُها» بالرَّفْع صفة ل «عَشْر» أي: فله عشر حسنتٍ أمْثَالِ تِلْك الحسنة، وهذه القراءة سَالِمَةٌ من تلك التَّآويل المَذْكُورة في القِرَاءة المَشْهُورة. وقال أبو عليَّ: اجْتَمَع هاهُنَا أمْرَان، كلٌّ مِنْها يُوجِب التَّأنيث، فلما اجْتَمَعا، قوي التَّأنيث: أحدهما: أن الأمْثَال في المعنى: «حَسَنات» فجاز التأنيث كقوله: [الطويل] 2400 - ... ... ... ... ... ثلاثُ شُخُوصٍ كاعِبَانِ ومُعْصِرُ أرد بالشُّخُوص: النِّسَاء. والآخر: أنَّ المُضاف إلى المؤنَّثِ قد يُؤنَّث وإن كان مُذَكَّراً؛ كقوله من قال: «قَطَعْت بَعْضَ أصابِعه» ، {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} [يوسف: 10] . فصل في هل المراد في العدد التحديد قال بعضهم: التقدير بالعَشْرَة ليس المراد منه: التَّحْديدُ، بل المُرَادُ منه: الإضْعَاف مُطْلقاً؛ كقول القائل: «إذا أسديت إليَّ معروفاً لأكافِئَنَّكَ بعشر أمْثَالِهِ» وفي الوَعِيد: «لئن كَلَّمْتَنِي [كلمة] واحِدَة، لأكَلِّمنَّك عَشْراً» ولا يريدُ التَّحْديد، فكذلك هُنا، ويدُلُّ على أنَّه ليس المراد التَّحْديد، قوله - سبحانه وتعالى -: {مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ} [البقرة: 261] . وقال ابن عُمَر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «الآية في غير الصِّدَقَات» . قوله: {وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} أي: إلاّ جَزَاء يُسَاويِها. روى أبو ذرِّ - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرّف وكرَّم وبجّل ومَجّد وعظَّم قال: قال الله - تبارك وتعالى -: «الحسنة عشرة أو أزيد، والسيئة واحدة، أو عفو، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره» . الجزء: 8 ¦ الصفحة: 533 وقال - عليه أفضل الصلاة والسلام - وأتم حكاية عن الله - تبارك وتعالى سبحانه -: «إذا هَمّ عَبءدِي بِحسنَةٍ، فاكتُبُوهَا وإنْ لَم يَعْلَمَلْها، فإن عَمِلها، فعَشرْ أمْثَالهان وإن هَمّ بسَيِّئَة، فلا تَكْتُبُوها، فإن عَمِلَها، فَسَيِّئَة وَاحِدة. وروى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إذا أحْسَن أحدُكُم إسلامه، فكُلُّ حَسَنَة يَعْمَلُها تُكْتَبُ بعْشر أمْثَالها إلى سبعمائة، وكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُها، تكْتَبُ بِمثْلِها، حتَّى يَلْقى اللَّه - عزَّ وجلَّ - «. ثم قال - تبارك وتعالى -: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} . أي: لا يَنْتَقِصُ من ثواب طاعتهم، ولا يُزَاد علي عِقاب سيِّئاتهم، وهاهُنا سؤالان: السؤال الأول: كُفْر ساعة كَيْف يُوجِبُ عقاب الأبد عل نهاية التَّغْلِيظ فما وجه المُمَاثَلَة؟ فالجواب: أن الكافر كان على عَزْم أنَّه لو عاش أبداً لبقي على ذلك الاعْتِقَاد فلما كان ذلك العَزْم مؤبِّداً عُوقِب بعقابِ الأبد؛ بخلاف المُسْلم المُذْنِب؛ فإنَّه يكُون على عَزْمِ الإقْلاع من ذلك الذَّنْب، فلا جَرَم كانت عُقُوبتُه مُنْقطعة. السؤال الثَّاني: اعتاق الرَّقبة الواجة تارةً جعلها بدلاً عن صِيَام سِتِّين يَوْماً في كفَّارة الظَّهَار، والجِمَاع في نهارِ رضمان، وتارة جعلها بدلاً من صيام ثلاثة أيَّام، فدلَّ على أنَّ المُساوَاة غير مُعْتَبَرة؟ . وجوابُه: أنَّ المُسَاوَاة إنَّما تَحْصُل بوَضع الشِّرْع وحُكْمه. السؤال الثالث: إذا أوْضَح الإنْسان مُوَضِّحَتَيْن، وجب فيها أرشان فإن رُفِعَ الجزء: 8 ¦ الصفحة: 534 الحاجزُ بينهُمَا، صار الواجب أرْشَ مُوضِّحة واحدة؛ فههُنا ازْدَادَت الجِنايَة وقل العقاب، فالمُسَاوَاة غير مُعْتَبَرة. وجوابُه أنَّ ذلك من قَصْد الشَّرْع وتحكُّمَاتِهز السؤال الرابع: أنه يَجِب في مُقابَلة تفويت أكثر كُلِّ واحدٍ من الأعضاء دية كاملة ثم إذا قلته وفوّت كل الأعضاء وجب دِيَة واحِدَة، وذلك يَمْنع القول من رِعَاية المُمَاثلة. وجوابُه: أن ذلك من باب تحكُّمَاتِ الشَّريعة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 535 لما عَلِم رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرّف وكرّم وبجّل ومجّد وعظم دلائِلَ التَّوْحِيدن والردِّ على القَائِلِين بالشُّرَكَاء والأضْداد، وبالغ في تَقْرير إثْبَات القَضَاءِ والقدر، ورد على أهل الجاهليَّة في أبَاطِيلهم أمَرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يَخْتِم الكلام بقوله: «قُلْ إنِّنِي هَدَاني ربِّي إلى صراطٍ مُسْتَقيمٍ» ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ الهِدَايةَ لا تَحْصُل إلاَّ باللَّه - تباك وتعالى سبحانه -. وقال القُرطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «لمّا بيَّن أنَّ الكُفَّار تفرَّقُوا، بيَّن أنَّه - تعالى - هَدَاهُ إلى الصِّراط المُسْتَقيم، وهو مِلَّة إبراهيم - عليه الصلاة وأتم التسليم» . قوله: «دِنياً» : نَصْبُه من أوْجُه: أحدها: من نصب على الحال، قال قُطْرُب وقيل: إنَّه مصدر على المَعْنَى، أي: هَدَانِي هدايةَ دينٍ قيِّم، أو على إضْمَار: «عَرَّفَنِي ديناً» أو الْزَمُوا دِيناً. وقال أبُوا لبقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ عليه -: إنه مفعُول ثانٍ ل «هَدَاني» وهو غَلَطٌ؛ لأنَّ المَفْعُول الثَّاني هُنَا هو المَجْرُور ب «إلى» فاكتُفِي بِهِ. وقال مكِّي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى عليه -: «إنَّهُ منصُوبٌ على البدل من محلِّ إلى صِراطٍ مُسْتقيمٍ» . وقيل: ب «هَدَانِي» مقدِّرة لدلالة «هَدَانِي» الأوَّل عليها وهو كالذي قَبْلَه في المعنى. قوله: «قِيماً» قرأ الكُوفيُّون، وابن عامِر: بكسر القافِ وفتح الياء خفيفة، والباقون بفَتْحِها، وكَسْر اليَاء مشدَّدة، ومعناه: القَوِيم المُسْتَقِيم، وتقدَّم تَوْجِيه إحْدى القراءتَيْن في النِّسَاءِ والمَائِدة. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 535 قال الزَّمَخْشَري - رَحِمَهُ اللَّهُ عليه -: القيم: «فَيْعِل» من «قام» كسيِّد من سَادَ، وهو أبْلغُ من القَائِم. وأمَّا قِرَاءة أهْلِ الكُوفَة فقال الزَّجَّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ عليه -: هو مَصدر بمعنى: القيَام، كالصِّغَر والكِبر والجُوع والشبع، والتَّويل: ديناً ذا قَيِم، ووصف الدِّين بهذا المَصْدر مُبالغة. قوله تعالى: «مِلَّة» بدلاً من «ديناً» أو مَنْصُوبٌ بإضْمار أعني، و «حنيفاً» قد ذكر في البقرة والنساء. والمعنى: هداني وعرَّفَنِي ملَّة إبراهيم حال كَوْنِها موصُوفة بالحنيفيَّة، ثم وصف إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بقوله: «وما كان من المُشْركين» والمقْصُود منه: الردُّ على المُشْرِكين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 536 لمَّا عرّفه الدِّين المُستقِيمن عرَّفه كيف يقُوم به ويؤدِّيه، وهذ الآية الكريمة تدلُ على انَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - مؤدِّي العِبَادة مع الإخْلاص، وأكده بقوله - تبارك وتعالى -: {لاَ شَرِيكَ لَه} وهذا من أقْوَى الدَّلائل على أنَّ شَرْط صحة الصَّلاة: أن يُؤتَى بها مَقْرُونةً بالإخْلاصِ. واخْتَلَفُوا في المُرَاد بالنُّسُك: فقيل: المُرَاد به: الذَّبِيحَة بعينها، وجمع بين الصَّلاة وبين النَّحر؛ كما في قوله - تبارك وتعالى -: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر} [الكوثر: 2] فقيل: المراد بالصلاة هاهنا صلاة النَّحْر، وقيل: صلاةُ اللَّيْل. وروى ثَعْلَب عن ابن الأعْرَابيِّ أنه قال: النُّسُك: سَبَائِك الفِضَّة، كل نَسِيكة منها سَبيكة، وقيل للمُتعَبِّد: نَاسِكٌ، لأنه خلَّص من دنَائِس الآثَم وصفَّاها، كالسَّبيكة المُخَلَّصَة من الخَبَث، وعلى هذا التَّأويل فالنُّسُك: كل ما يُتَقرَّبُ به إلى اللَّه - تبارك وتعالى -، إلاَّ أن الغَالِب عليه في العُرْف: الذَّبْح. قوله: {وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّه} . قرأ نافع: «ومَحْيايْ» بسكون ياء المُتكلِّم، وفيها الجَّمع بين سَاكِنَيْن. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 536 قال الفارسي: كقوله: «التَقَتْ حَلْقَتَا البطَانِ» و «لِفُلانٍ ثُلُثَا المَالِ» بثبوت الألفين. وقد طَعَن بَعْضُ النَّاس على هذه القراءة بما ذَكَرْت من الجَمْع بَيْ السَّاكِنين، وتعجَّبت من كَوْن هذا القَارئ يُحَرك ياء «مُمَاتِيَ» ويُسَكِّن ياء «مَحْيَايْ» وقد نقل بَعضُهُم عن نافع الرُّجوع عن ذلك. قال أبُو شامة - رَحِمَهُ اللَّهُ عليه -: «فَيَنْبَغِي ألاَّ يَحِلَّ نَقْلُ تسْكِين ياء» مَحْيَايَ «عنه» . وقرأ نافع في رواية: «مَحْيَاي» بكسر الياءِ، وهي تشبه قراءة حَمْزَة في {بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم: 22] ، وسيأتي - إن شاء الله تعالى -. وقرا ابنُ أبي إسحاق، وعيس الجَحْدَرِيُّ: «ومَحْيَيَّ» بإبْدال «الألف» «ياء» ، وإدغَامِها في ياء المُتَكلِّم، وهي لُغة هُذَيْل، أنشد عليها قول أبي ذُؤيْب: [الكامل] 2401 - سَبَقُوا هَوَيَّ وأعْنَاقُوا لِهَوَاهُمُ ... فَتُخُرِّمُوا ولِكُلِّ جَنْبٍ مَصْرعُ اعلم: أن المَحيْا والممَاتِ للَّه لَيْس بمعنى أنَّهُما يُؤتَى بِهِمَا لطاعة الله - عزَّ وجلَّ -، فإن ذلك مُحَال، بَلْ معنى كوْنِهِا للَّه أنَّهُمَا حَاصِلان بِخَلْقِ اللَّه، وذلك مِنْ أدلِّ الدِّلائل على أنَّ طاعة العَبْد مَخْلُوقة منه - تعالى -. وقال بَعْضُ المفسِّرين: «مَحْيَايَ: بالعمل الصالحن ومَمَاتِي: إذا مِتُّ على الإيمان من رب العَالمِين» . واعلم: أنَّه - تبارك وتعالى - أمرَ رسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يُبَيِّن أنَّ صلاته، وسَائر عِباداتِه، وحياته، ومَمَاتِه كُلِّها واقعةٌ بخلق اللَّه - تبارك وتعالى - وبقدره، وقضَائه، وحُكْمِه. وقال القُرْطُبِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ عليه -: قوله: «ومَحْيَايَ» أي: ما أعْمَله في حَيَاتِي، و «مَمَاتِي» أي: ما اوصِي به بَعْد وَفَاتِي «لِلَّهِ ربِّ العَالمِين» أي: أُفْرِدُهُ بالتَّقَرُّب بها إليه، ثمَّ نصَّ على أنَّه لا شَريكَ لَهُ في الخَلْق، والتقدير، ثم قال: «وبذلِك أمِرْتُ» وبهذا التَّوحيد أمِرْت، ثم يقول: «وأنا أول المُسْلِمين» أي: المُستَسْلِمين لِقضَاء اللَّه وقدَره، ومَعْلُوم أنَّه لَيْس أوَّلاً لكلِّ مُسْلِمٍ، فوجب أن يكُون المراد: كَوْنه أوّلاً لِمُسْلِمِي زَمَانه. فصل في استفتاح الصلاة بهذا الدعاء قال القرطبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «ذكر الطبري، عن الشَّافعي - رحمه اله - أن في قوله - الجزء: 8 ¦ الصفحة: 537 تعالى -. {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الأنعام: 61] إلى قوله {رَبِّ العالمين} ما يَدُلُّ على افْتِتَاح الصَّلاة بهذا الذِّكْر؛ فإن اللَّه - سبحانه وتعالى - أمر نبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ به، وأنْزَله في كِتَابه، ثم ذكر حديث عليِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان إذا افْتِتَح الصلاة قال: وجَّهْت وَجْهِي للَّذِي فَطَر السَّموات والأرْضَ حَنِيفاً وما أن من المُشْركِين، إنَّ صَلاَتي ونُسُكي ومَحْيَاي ومَمَاتِي للَّه ربِّ العالمين، لا شَرِيكَ لهُ وبذلك أمِرْت وأنا أوَّل المُسْلِمِين. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 538 لما أمَرَهُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - بالتَّوْحِيد المَحْضِ، أمَره أن يَذْكر ما يَجْرِي مُجْرى الدَّليل على صِحَّة هذا التَّوحِيد، وتقريره من وجهين: الأول: أنَّ أصناف المُشْرِكين أربعة؛ لأنَّ عبدة الأصنام أشْرَكُوا باللَّه، وعبدة الكواكِب أشْرَكُوا باللَّه، والقَائِلون بيزدان وأهرمن أشركوا، والقَائِلُون بأنَّ المسيح ابنُ اللَّه والملائكة بنات الله أشْرَكُوا، فهولاء هم فِرَقُ المُشْرِكين، وكلُّهم يَعْتَرفُون بأن اللَّه - سبحانه وتعالى - هو الخَالِق لِلكُلِّ؛ لأن عبدة الأصنام معترِفُون بان اللَّه - تعالى - خالقُ السَّمواتِ والأرْضِ وكلِّ ما في العالم من الموْجُودات وهُو الخالقُ للأصْنامِ والأكوان بأسْرِها. وأما القَائِلُون بيزدان وأهرمن فهُم أيضاً معترِفُون بأنَّ الشَّيْطَان مُحْدَث، وأنَّ مُحْدِثهُ هو اللَّه - تبارك وتعالى -. وأمَّا القَائِلُون بالمسيح والملائكة، فهُم أيضاً معتَرِفُون بأنَّ اللَّه - سبحانه وتعالى - خَلَق الكُلَّ؛ فثبت انَّ طوائِف المُشْرِكين أطْبَقُوا على أنَّ الله - تبارك وتعالى - خلق هؤلاء الشُّرَكَاء. وإذا عُرِف هذا، فاللَّه - سبحانه وتعالى - قال لرسُوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قل يا مُحَمَّد أغير اللَّه أبْغِي ربّاً، مع أنَّ هؤلاء الذين اتِّخَذُوا رَبَّاً غيراللَّه، أقَرُّوةا بأن اللَّه تبارك وتعالى خالق تلك الأشْيَاء. وهل يَدْخُل في العَقْل جعل المرْبُوب شَريكاً للرَّبِّ، وجعل العَبْد شَرِيكاً للمَوْلَى، وجَعْل المَخْلُوق شَريكاً للخَالِق؟ ولمَّا كان الأمْر كذلك، ثبت أنَّ إتَّخَاذّهُم رَباً غيْر اللَّه [قول] فاسدٌ ودينٌ بَاطِلٌ. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 538 الثاني: أن الموجود إمَّا واجبٌ لِذَاته وإمَّا ممكن لِذَاته، وثبت أن واجِبَ الوُجُود واحدٌ، وثبت أنَّ ما سِوَاه مُمْكِنٌ لذاته، وثَبَت أن المُمْكِن لذاته لا يُوجد إلاَّ بإيجَادِ الواجِبِ لذَاتِهِ، وإن كان الأمْر كذلك، كان اللَّه - تعالى - ربّاً بِكُلِّ شَيْء. وإذا ثبت هذا، فَنقُول: صَرِيحُ العَقْل يَشْهَدُ بأنَّه لا يَجُوز جَعْلُ المرْبُوب شَريكاً للرَّبِّ، وجَعْل المَخْلُوق شريكاً للخَالِقن وهذا هو المُرَاد من قوله - تعالى -: {قُلْ أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ} . قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - معنى ربّاً: أي سيِّداً وهُو رب كُلِّ شيء، وذلك أنَّ الكُفَّار كانوا يقُولون للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: ارْجع إلى ديننا. قال ابن عبَّاسٍ، قال الوليدُ بن المُغيرَة: اتبعُوا سبيلي، أحْمِل عَنْكُم أوْزَاركم، فقال اللَّه - تبارك وتعالى -: {وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا} ومعناه: أنَّ إثْمَ الجانِي عليه، لا على غيره «ولا تَزِرُ وَازرةٌ وزْرَ أخرَى» أي: لا يُؤاخَذُ أحدٌ بذَنْب غيره. قال القُرْطُبيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وأصْل الوِزْر: الثِّقَل، ومنه قوله - تعالى -: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الذي أَنقَضَ} [الشرح: 2، 3] وهو هنا: الذنب؛ كما قال - تعالى -: {يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ} [الأنعام: 31] وقد تقدَّم قول الأخْفَش: يُقَال: وَزِر يَوْزَر، وَوَزَرَ يزر، وَوُزِرَ يُوزَر وِزْراً. قيل: نَزلَتْ رداً على العرب في الجاهليَّة من مُؤاخَذَة الرَّجُل بِأبيه، وابْنِه، وابْنِه، وبجريرة حَلِيفِهِ. قال القُرْطُبِي: يحتمل أنْ يكُون المُراد بِهَذَه الآية في الآخرة، وكذلك الَّتِي قَبْلَها، فأمَّا في الدنيا: فقد يُؤاخَذُ بعضُهم بِجُرْم بعضٍ، ولا سيَّما إذا لم يَنْه الطَّائع العَاصِي، كا تقدّم في حديث أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: {عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ} [المائدة: 105] وقال تعالى -: {واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً} [الأنفال: 25] {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] . وقالت زَيْنَب بِنْت جَحْش: «يا رسُول الله، أنَهْلَكُ وفينا الصَّالِحُون؟ قال: نعم، إذا كَثُر الخَبَث» . قال العلماء: معناه: أوْلاد الزِّنَّا، والخبيث بفتح البَاء: اسمٌ للزِّنَا، وأوْجَب اللَّه - تعالى - على لسان رسُوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - ديَة الخطأ على العَاقِلة، حتى لا يُطل دمُ المُسْلِمِ وذلك بالإجْمَاع؛ فَدَلَّ ذلك على ما قُلْنَاه. ثم بيَّن - تعالى - أنَّ رُجُوع هؤلاء الجزء: 8 ¦ الصفحة: 539 المشركين إلى مَوْضِع لا حَاكِم ولا آمِر إلا اللَّه، وهو قوله تعالى -: {ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} . . قوله تعالى: {وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} فيه وُجُوه: أحدها: أنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خاتم النَّبِيِّين، فَخَلَفَتْ أمَّتْه سَائِرَ الأمَم، والخلائف: جَمْع خليفة؛ كالوَصَائف جَمْع وَصِيفَة، وكُلُّ من جَاءَ تبعاً له، فهو خَلِيفةَ؛ أنه يَخْلُفُه، أي: أهْلَك القُرُون المَاضِيَة، وجَعَلَكُم يا مُحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خُلَفَاء مِنْهُم، تَخْلُفوهم في الأرْضِ وتَعْمرُونها بعدهم. وثانيها: جعلهُم يَخلُف بعضُهم بعضاً. وثالثها: أنَّهُم خُلَفَاء اللَّه في ارْضِه، يَمْلِكُونها ويتَصَّرفُون فيها. قوله: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} : في الشَّرف، والعَقْل والمال، والجاه، والرِّزْقِ، {لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ} ليختبركُمْ فيما رَزَقَكُم، يَعْنِي: يَبْتَلِي الغَنِيَّ، والفَقِيرَ، والشَّريف، والوَضِيعَ، والحُر، والعَبْدَ، ليُظْهِر مِنْكُم ما يكُون عليه الثَّواب والعِقَاب، ثمَّ قال - تعالى - {إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب} لأنَّما هُو آتٍ هو سريعٌ قريب. وقيل: هو الهلاك في الدنيا «وإنَّه لغَفُورٌ رَحِيمٌ» . قال عطاء: سَريع العقاب لأعْدَائه، غَفُور رحيمٌ لأوْلِيائه رحيم بهم، وأكد قوله: «لَغَفُورٌ» [باللام] دلالَة على سِعَة رَحْمَتِه، ولمْ يؤكد سُرْعة العِقَاب بذلك هُنَا، وإن كان قد أكَّد ذلك في سُورَة الأعْراف؛ لأنَّ هناك المقام مقام تَخْويفٍ وتهديد، وبعد ذِكْر قصَّة المُعْتَدين في السَّبْت وغيره، فَنَاسب تَأكِيد العِقَاب هُنَاكن وأتى بِصِيغَتَي الغُفْرَان والرَّحْمة، ولا بصيغَةٍ واحِدَة؛ دلالة على حِلْمِه، وسِعَة مغفرته، ورَحْمَتِه. روى جابر بْن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ قَرأ ثلاث آيات في أوَّل سُورة الأنعام إلى قوله: {وَيْعَلَم ما تَكْسِبون» وكل اللَّه به أرْبَعين ألْف ملكٍ، يَكْتُبُون لَهُ مِثْل أعمالهم إلى يوم القيامة، ويَنْزِلُ ملكٌ من السَّماء السَّابِعَة، ومعهُ مَرْزبة من حَديد، فإن أرادَ الشَّيْطان أن يُوسوسَ أو يُوحِي إلى قَلْبه، ضربه بها ضرباً، فكان بَيْنَه وبَيْنَه سبْعُون حِجَاباً، فإذا كان يَوْم القيامة يَقُول الرَّبُّ - سبحانه وتعالى - امْش في ظِلِّي، وكُلأ من ثِمَار جَنَّتي، واشرب من مَاءِ الكَوْثَرِ، واغْتَسِل من مَاء السَّلْسَبيل، وأنْتَ عَبْدِي وأنَا ربُّك «. الجزء: 8 ¦ الصفحة: 540 والله - سبحانه وتعالى - أعْلَم بالصَّواب، وإليْه المَرْجع والمآبُ، وكان اخْتِتَام هذا الجُزء المُبارك في يَوْم الأرْبعاء المُبارك، والموافق لأحْدى عَشر يَوماً خلَت من شَهْر مُحَرَّم، الَّذي هو ابْتِداء شهور سنة 1271، إحْدى وسَبْعين ومائَتَين وألْف من الهِجْرة النَّبَويَّة على صَاحِبها أفْضل الصَّلوات، وأزْكَى السَّلام، على يد كَاتِبها أفْقَر العباد، وأحوَجهِم إلى ربِّه الغَنِيَ المُعْطي إبراهيم مُحَمَّد الأرْنَؤُطِي، غَفَر اللَّه لَهُ، ولِوَالِدَيْه، ولِمَن دَعَا لَهُمَا بالمَغْفِرة، ولِلْمُسْلِمين والمُسْلِمَات الأحْيَاء مِنْهُم والأمَواتِ، إنَّه سميع قَريبٌ مُجِيب الدعوات. آمين يا رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى أله وصحبه أجمعين، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين. تمَّ الجزء الثَّامن، ويليه الجزء التَّاسع وأوَّله: تفسير سورة الأعراف الجزء: 8 ¦ الصفحة: 541 بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين سورة الأعراف الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 قال ابن عباس - رضي اللَّهُ عنهما -: إنها مكية. وقال قتادة: مكية غير قول [الله] تعالى: {وسئلهم عن القرية التي كانت حاضرة} [الآية: 163] إلى قوله - عز وجل -: " يفسقون " ثمان آيات وهي مائتان وست آيات، وثلاثة آلاف وثلثمائة وخمس وعشرون كلمة، وأربعة عشر ألفا وثلاث مائة وعشرة أحرف. قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: «آلمص: أنا اللَّهُ أَفَصِّلُ» ، وعنه «أنا اللَّهُ أعلمُ وأفَصِّلُ» . وقد تقدَّم الكلامُ على الأحْرُفِ المقطَّعَة في أوَّلِ الكتابِ. وقال السُّدِّيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «آلمص» على هجاءِ قولنا في أسماء اللَّه «سبحان المصورُ» . قال القَاضِي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ليس حَمْلُ هذا اللَّفْظِ على قولنا: أنا الله أفصل أولى من [حمله] على قوله: «أنَّا اللَّهُ أصْلِحُ» ، [أنا الله أمتحن، أنا الله أملك «؛ لأنَّهُ إن كانت العبرةُ بحرفِ الصَّادِ فهو موجودٌ في قوله: أنّا اللَّهُ أصْلِحُ،] وإن كانت العبرةُ بحرف الميم فكما أنَّهُ موجودٌ في العلم فهو أيضاً موجود في الملك، والامتحان، فكان حَمْلُ قولنا» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 3 آلمص «على هذا المعنى بِعَيْنِهِ محضُ التَّحَكُّم، وأيضاً فإنْ جاء تفسيرُ الألفاظِ بناءً على ما فيها من الحروفِ من غير أنْ تكون تِلْكَ اللفظَةُ موضوعة في اللُّغَةِ لذلِكَ المَعْنَى؛ انْفَتَحَتْ طريقةُ البَاطنيّة في تفسير سائرِ [ألفاظ] القرآنِ الكريمِ بما يُشَكِلُ هذا الطريق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 4 وأمَّا قولُ بعضهم: إنَّهُ من أسماء اللَّهِ - تبارك وتعالى - فأبعدُ؛ لأنه ليس جعله اسْماً للَّه أولى من جعله اسماً لبعض رُسُلِهِ من الملائِكَةِ، أو الأنبياءِ - عليهم، وعلى نبيِّنَا أفضلُ الصَّلاة والسَّلام -، ولأن الاسمَ إنَّمَا يَصيرُ للمسمَّى بواسِطَةِ الوَضْعِ والاصطلاح وذلك مفقودٌ هُنَا، بل الحقُّ أنَّ قول:» آلمص «اسم لقب لهذه السُّورة الكريمة، وأسماءُ الألقابِ لا تفيد ههنا فائدة في المسمَّيات، بل هي قائِمَةٌ مقامَ الإرشاداتِ، وللَّهِ - تبارك وتعالى - سبحانهُ أن يسمِّي هذه السورةَ بقوله:» آلمص «كما أنَّ الواحد مِنَّا إذا حدث له ولدٌ فإنَّهُ يسمِّيه بمحمِّدٍ. قوله:» كِتَابٌ «: يجوز أن يكون خبراً عن الأحْرُف قَبْلَهُ، وأن يكون خبراً للمبتدأ مُضْمِرٍ، أي: هو كتابٌ، كذا قدَّرهُ الزَّمَخْشَرِيُّ. ويجوز أن يكون كتابٌ مبتدأ و» أنْزِلَ «صفتُهُ و» فَلاَ تَكُنْ «خبره، والفاءُ زائدةٌ على رأي الأخْفَشَ أي: كتابٌ موصوفٌ بالإنزالِ إليكَ، لا يكنْ في صدرك حرجٌ منهُ، وهو بعيدٌ جدّاً. والقائمُ مقام الفاعل في» أنْزِلَ «ضميرٌ عائد على الكتابِ، ولا يجوز أن يكون الجارَّ؛ لئلا تخلو الصفةُ من عائدٍ. والمرادُ بالكتابِ القرآن الكريم. فإن قيل: الدَّلِيلُ الذي دَلَّ على صِحَّةِ نُبُوَّةِ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو أن اللَّه - تبارك وتعالى - جَدُّهُ لا إله إلاَّ هو - خصَّهُ بإنزالِ هذا القرآن عليه فما لم نعرف هذا المعنى لا يمكننا أن نعرف نبوته، وما لم نَعْرِف نبوته لا يمكننا أن نحتج بقوله فلو أثبتنا كَوْنَ هذه السورة نازلةً من عند الله - تبارك وتعالى - بقولِهِ لَزِمَ الدَّوْرُ؟ فالجوابُ: نَحْنُ نعلم بمحضِ العَقْل أنَّ هذه السورة الكريمة كِتَابٌ أنْزِلَ إليه من عِنْد اللَّهِ؛ لأنه عليه أفضلُ الصَّلاةِ والسَّلام ما تَتَلْمَذَ لأسْتَاذٍ، ولا تعلم من مُعَلِّمٍ، ولا طَالَعَ كِتَاباً، ولم يخالطِ العلماء والشُّعراءَ وَأهلَ الأخْبَارِ، وانقضى من عمره صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرْبَعُونَ سَنَةً ولم يتفق له شيءٌ من هذه الأحوالِ، ثم بعد الأربعينَ ظهر له هذا الكتابُ العزيزُ المشتملُ على علوم الأولينَ والأخرينَ، والعقلُ يشهدُ بأنَّ هذا لا يحصل إلا بطريقِ الوَحْي من عند اللَّه - تبارَك وتعالى -؛ فثبت بهذا الدَّليل العقلي أن هذا الكتاب أنزل على مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من عند ربه وإلهه عَزَّ وَجَلَّ. فصل في دحض شبهة خلق القرآن احتج القائلون بخلق القرآن الكريم بقوله: {كِتَابُ أنْزِلَ إِلَيْكَ} [الأعراف: 2] ، فوصف بكونه منزلاً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 5 والإنْزَالُ يقتضي الانتقال من حالٍ إلى حالٍ، وذلك لا يليقُ بالقَدِيم فَدَل على أنَّهُ محدث. والجوابُ أن الموصوف بالإنزال والتنزيل على سبيل المجاز [هو] هذه الحروف ولا نزاع في كونها محدثةً مخلوقةً. فإن قيل: هَبْ أنَّ المرادَ منه الحروف إلاَّ أنَّه الحروفَ أعْرَاضٌ غير باقية بدليل أنّها متوالية وكونها متوالِيةً يُشْعِرُ بعدمِ بقائِهَا، وإذا كان كذلك العَرَضُ الذي لا يَبْقَى زَمَانَيْنِ كيف يعقل وصفه بالنزول؟ فالجوابُ: أنَّهُ سبحانه وتعالى أحْدَثَ هذه الرُّقُومَ والنُّقُوشَ في اللَّوْحِ [المَحْفُوظِ] ، ثم أنَّ الملك يطالعُ تلك النُّقوش، وينزِّل من السَّماءِ إلى الأرض ويعلِّم محمداً - صلوات اللَّهِ وسلامه عليه - تلك الحروفَ والكلماتِ، فكان المرادُ بكَوْنِ تلك الحروفِ نازلةً هو أنَّ مبلغها نزل من السَّمَاءِ إلى الأرْضِ. فصل في تأويل المكانية الَّذين أثبتوا للَّه مَكَاناً تمسَّكُوا بهذه الآيةِ فقالوا: إنَّ كلمة «مِنْ» لابتداءِ الغَايَةِ، وكلمة «إلَى» لانتهاء الغاية، فقوله: «أنْزِلَ إليْكَ» يقتضي حصول مسافةٍ مبدؤهَا هو اللَّهُ - تبارك وتعالى - وغياتها هو مُحَمَّد - عليه أفضل الصلاة والسلام -، وذلك يَدُلُّ على أنَّهُ تبارك وتعالى مختص بجهة فوق؛ لأن النُّزُولَ هو الانتقالُ من فوق إلى أسفل. والجوابُ: لمَّا ثبت بالدَّلائل القاطِعَةِ أن المكان والجهة على اللَّهِ سُبْحَانَهُ وتعالى محال وجب حملُهُ على التَّأويلِ وهو أنَّ الملك انتقل من العلو إلى أسفل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 قال مُجَاهِدٌ: «شكٌّ، والخِطَابُ للرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمرادُ به الأمة، ويُسَمَّى الشكُّ حَرَجاً؛ لأن الشَّاكَّ ضَيِّقُ الصَّدْرِ كما أن المتيقن منشرح القَلْبِ» . وقال أبُو العالية رَحِمَهُ اللَّهُ عليه، حَرَجٌ: ضِيقٌ، والمعنى: لا يَضِيقُ صدركَ بسبب أن يكذِّبُوكَ في التَّبْلِيعِ. قال الكيا: فظاهرُهُ النَّهْي ومعناه: نَفْيُ الحَرَج عنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: لا يضيقُ صَدْرُكَ ألاَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 6 يؤمنوا به فإنَّما عليك منه البلاغ وليس عليك سوى الإنْذَارِ به، ومثله قوله عزَّ وجلَّ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 3] . قوله: «مِنْهُ» متعلق ب «حَرَجٌ» . و «مِنْ» سببيَّةٌ أي حرج بسببه تقول: حَرِجْتُ منه أي: ضقْتُ بسببه، ويجوز أن يتعلَّقَ بمحذوف على أنَّهُ صفةٌ له أي: حَرَجٌ كَائِنٌ وصادر منه، والضَّمِيرُ في «مِنْهُ» يجوز ن يعود على الكِتابِ وهو الظَّاهِرُ، ويجوزُ أن يعود على الإنزالِ المدلول عليه ب «أُنْزِلَ» ، أو عَلى الإنذارِ، أو على التَّبْليغِ المدلُولِ عليهما بسياق الكلامِ، أو على التَّكْذِيبِ الَّذِي تضمنه المعنى، والنهي في الصُّورةِ للحَرَج، والمرادُ الصَّأدِرُ منه مبالغةً في النَّهْيِ عن ذلك كأنَّهُ قيل: لا تتعاطى أسباباً ينشأ عنها حرج، وهو من باب «لا أرَيَنَّكَ ههنا» ، النهي متوجه على المتكلم والمراد به المخاطب كأنه قال: لا تكن بحضرتي فأراك ومثله: {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا} [طه: 16] . قوله: «لتُنْذِرَ بِهِ» في متعلق هذا «اللاَّم» ثلاثة أوجه. أحده: أنَّها متعلِّقة ب «أنْزلَ» أي: أنْزِلَ إليك للإنذار، وهذا قول الفرَّاء قال: اللاَّم في «لِتُنْذِرَ» منظومٌ بقوله: «أُنْزِلَ» على التَّقْديمِ والتَّأخِير، على تقدير: كتاب «أُنْزِلَ إليك لِتُنْذِرَ بِهِ فلا يَكُنْ» . وتبعه الزَّمَخْشَرِيُّ والحُوفِيُّ، وأبُو البقاءِ على ذلك، وعلى هذا تَكُونُ جُمْلَةُ النَّهْي معترِضَةً بَيْنَ العِلَّة ومعلولها، وهو الذي عناه الفرَّاءُ بقوله: «على التَّقْدِيم والتَّأخير» . والثاني: أنَّ اللامَ متعلِّقةٌ بما تعلَّقَ به خَبَرُ «الكَوْنِ» إذ التقدير: فلا يكن حَرَجٌ مستقراً في صَدْرِكَ لأجْلِ الإنْذَارِ. كذا قاله أبو حيَّان عن الأنْبَارِيِّ، فإنَّهُ قال: «وقال ابْنُ الأنْبَارِيّ: التقدير: فلا يكن في صدرك حرجٌ منه كي تُنْذِرَ بِهِ فجعله متعلقاً بما تعلَّق به» في صَدْرِكَ «، وكذا علَّقه به صاحبُ» النَّظْمِ «، فعلى هذا لا تكون الحملة معترضة» . قال شهابُ الدِّين: الذي نقله الواحديُّ عن نصِّ ابْنِ الأنباريِّ في ذلك أن «اللاَّمَ» متعلِّقةٌ ب «الكون» ، وعن صاحب «النَّظْمِ» أنَّ اللاَّمَ بمعنى «أنْ» وسنأتي بنصَّيْهما إن شاء الله تعالى، فيجوز أن يكون لهما كلامان. الثالث: أنَّها متعلِّقةٌ بنفس الكَوْنِ، وهو مَذْهَبُ ابن الأنْبَارِيِّ والزَّمَخْشَرِيِّ، وصاحب «النَّظْمِ» على ما نقله أبُو حيَّان. قال أبُو بَكْرِ بْن الأنْبَارِيِّ: ويجوزُ أن تكون اللاَّمُ صلةً للكون على معنى: «فلا يَكُن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 7 في صَدْرِكَ شيء لتنذر، كما يقول الرجُلُ للرَّجُل لا تكن ظالماً لتقضي صاحبك دينه فتحمل لام كي على الكون» . وقال الزَّمَخْشَريُّ: فإن قُلْتَ: بِمَ تعلَّق به «لِتُنْذِرُ» ؟ قُلْتُ: ب «أُنزل» أي: أنزل لإنذارك به، أو بالنَّهي؛ لأنه إذا لم يخفهم أنذرهم، وكذا إذا علم أنَّهُ من عند الله شجعه اليقين على الإنْذَارِ. قال أبُو حيَّان: «فقوله: بالنَّهْي ظاهره أنَّهُ يتعلَّقُ بفعل النهي فيكونُ متعلقاً بقوله:» فَلاَ يَكُنْ «، وكان في تعليق المجرور والعمل في الظَّرْفِ فيه خلاف، وَمَبْنَاهُ على أنَّ» كان «النَّاقِصَة هل تدل على حدثٍ أم لا؟ فمن قال: إنَّهَا تدلُّ على الحدثِ جوَّزَ ذلك، ومن قال: لا تَدُلُّ عليه منعه» . قال شهابُ الدِّين: الزَّمَخْشَرِيُّ مسبوق إلى هذا الوجه، بل ليس في عبارته ما يدلُّ على أنَّهُ متعلق ب «يَكُونُ» بل قال «بالنَّهْي» فقد يريدُ بما تضمَّنه من المعنى، وعلى تقدير ذلك فالصَّحيحُ أنَّ الأفعالَ النَّاقِصَةَ كلَّهَا لها دلالةٌ على الحدثِ إلاَّ «لَيْسَ» ، وقد أقمت على ذلك أدلَّةً وأتيتُ من أقوالِ النَّاسِ بما يَشْهَدُ لصحَّةِ ذلك كقولِ سيبويه، وغيره في غير هذا المَوْضُوعِ. وقال صاحبُ «النَّظْم» : وفيه وجهٌ آخرُ، وهو أن تكون اللاَّمُ بمعنى أنْ والمعنى: لا يضيقُ صَدْرُكَ ولا يَضْعُفْ [عن] أن تُنْذِرَ به، والعربُ تضعُ هذه اللام في موضع «أنْ» كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله} [التوبة: 32] وفي موضع آخر: {لِيُطْفِئُواْ} [الصف: 8] فهما بمعنى واحد. قال شهابُ الدِّين: هذا قولٌ ساقطٌ جدّاً، كيف يكون حرفُ مختص بالأفعال يقع موضع آخر مختص بالسماء؟ قوله: «وَذِكْرَى» يجوزُ أن يكون في محلِّ رَفْعٍ، أو نَصْبٍ، أو جَرٍّ. فالرَّفْعُ من وجهين، أحدهما: أنها عطف على «كِتَابٌ» أي: كتابٌ وذكرى أي: تَذْكِيرٌ، فهي اسم مَصْدَرٍ وهذا قول الفرَّاءِ. والثاني من وجهي الرَّفْع: أنَّهَا خبر مُبتدأ مُضْمرٍ أي: هو ذكرى، وهذا قولُ الزَّجَّاج. والنَّصْبُ من ثلاثة أوْجُهٍ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 8 أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على المصدر بفعل من لَفْظِهِ تَقْديرُهُ: وتذكر ذكرى أي تَذْكِيراً. الثاني: [أنها] في محلِّ نَصْبٍ نَسَقاً على مَوْضِع «لِتُنْذِرَ» فإن موضعه نصب، فيكونُ إذْ ذاكَ معطُوفاً على المَعْنَى، وهذا كما تعطفُ الحال الصريحة على الحالِ المؤوَّلة كقوله تعالى: {دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} [يونس: 12] ، ويكونُ حينئذٍ مفعولاً من أجْلِهِ كما نقُولُ: «جِئْتُكَ لِتُكْرمَنِي وإحْسَاناً إليَّ» . الثالث: قال أبُو البقاء: - وبه بَدَأ -: «إنَّها حال من الضمير في» أنزل «وما بينهما مُعْتَرِضٌ» . وهذا سَهْوٌ فإنَّ «الواو» مانعة من ذلك، وكيف تَدْخُلُ الواوُ على حالٍ صريحةٍ؟ والجرُّ من وجهين أيضاً. أحدهما: العطفُ على المَصْدَرِ [المُنْسَبِك من «أنْ» المقدَّرة بعد لام كي، والفعل، والتَّقديرُ: للإنْذَارِ والتَّذْكِيرِ. والثاني: العطفُ] على الضَّميرِ في «بِهِ» ، وهذا قول الكُوفيِّين، والذي حسَّنَهُ كون «ذِكْرَى» في تقدير حرفٍ مصدريٍّ - وهو «أنْ» - والفعل لو صرح ب «أنْ» لحسُنَ معها حذفُ حرفِ الجرِّ، فهو أحْسَنُ من «مررتُ بِكَ وَزَيْدٍ» إذ التَّقْديرُ: لأن تنذر به وبأن تُذَكِّر. وقوله: «لِلمُؤمِنِيْنَ» يجوز أن تكون «اللاَّمُ» مزيدةً في المفعولِ به تقويةً له؛ لأنَّ العاملَ فَرْعٌ، والتقديرُ: وتذكِّرَ المُؤمنينَ. ويجوزُ أنْ يتعلَّقَ بمحذُوفٍ؛ لأنَّهُ صِفَةٌ ل «ذِكْرَى» . فصل في معنى الآية قال ابْنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - يريدُ مَوْعِظَةً للمصدِّقين. فإن قيل: لم قيَّد هذه الذِّكْرَى بالمؤمنين؟ فالجوابُ: هو نَظِيرُ قوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] . قال ابْنُ الخَطيب: والبَحْثُ العقلِيُّ فيه أنَّ النُّفُوس البشريَّةَ على قِسْمَيْنِ: بَلِيدةٌ جَاهِلَةٌ بعِيدَةٌ عن عَالمِ الغَيْبِ غَريقَةٌ في طلب اللَّذَّاتِ الجُسْمَانِيَّةِ، ونفوسٌ شريقةٌ مشرقةٌ بأنوار الإلهيَّةِ، فبعثه الأنبياء في حق القسم الأول للإنْذَارِ والتَّخْوِيفِ فإنَّهُم لمَّا غرقوا في نومِ الغَفْلَةِ ورَقْدَةِ الجَهالةِ احْتَاجُوا إلى مُوقِظٍ يُقِظُهُمْ. وأمَّا في حقِّ القسم الثَّانِي فتذكير وتنبيه؛ لأنه ربما غَشِيَهَا من غَوَاشِي عالم الجِسْمِ فيعرضُ لها نوعُ ذُهُولٍ وغَفْلَةٍ، فإذا سَمِعَتْ دعوةَ الأنبياء واتَّصل لها أنوارُ أرواحِ رُسُلَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 9 اللَّهِ؛ تَذكَّرَتْ مركزَهَا؛ فثبت أنَّهُ تعالى إنَّمَا أنزلَ هذا الكتاب على رَسُولِه؛ ليكونَ إنذاراً في حقِّ طائفةٍ، وذكرى في حقِّ طائفة أخْرَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 لمَّا أُمر الرَّسولُ بالتَّبليغ، والإنذارِ؛ أمر الأمة بمتابعة الرسول. قوله: «مِنْ ربِّكُمْ» يجوزُ فيه وجهان: أحدهما: أنه يتعلَّقُ ب «أنزل» وتكون «مِنْ» لابتداء الغايةِ المجازية. الثاني: أنْ يتعلَّقُ ب «أنزل» وتكون «مِنْ» لابتداء الغايةِ المجازية. الثاني: أنْ يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حالٌ: إمّا من الموصول، وإمَّا من عائده القائم مقام الفاعل. فصل في دحض شبهة لنفاة القياس اتدلَّ نُفَاةُ القياسِ بقوله: {اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} والمرادُ به، القرآنُ والسَّنُة، واستدلُّوا أيضاً بها على أن تخصيصَ عموم القرآن القياسِ لا يُجوزُ، لأنَّ عُمُوم القُرْآنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 10 منزَّلٌ من عند الله، والله - تعالى - أوجبَ متابعتَهُ فوجب العمل بِعُمُومِ القرآن، ولمَّا وجب العمل به؛ امتنع العملُ بالقِيَاسِ، وإلاَّ لَزِمَ التَّنَاقَضُ. وأجيبوا بأن قوله تعالى {فاعتبروا} [الحشر: 2] يدلُّ على وجوب العمل بالقياس، فكان العمل بالقياس عملاً بإنزال. فإن قيل: لو كان العمل بالقِيَاس عملاً بما أنزله اللَّهُ لكان تارك العمل بلا قياس كافراً؛ لقوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] وحيث اجتمعت الأمَّةُ على عدمِ التَّكْفير؛ علمنا أنَّ العمل بالقياس ليس عملاً بما أنْزَلَ اللَّهُ. وأجيبوا بأنَّ كون القياس حجَّةً ثبت بإجماع الصَّحابة والإجماع دليل قَاطِعٌ، وما ذكرتمُوهُ تمسُّكٌ بالعُمُومِ، وهو دليل مَظْنُونٌ والقَاطِعُ أولى من المَظْنُونِ. وأجَابَ نفاةُ القياسِ بأن كون الإجماع حجَّةً قاطِعَةً إنَّما ثبت بِعُمُومَاتِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ، والفرع لا يكون أقْوَى من الأصْلِ، وأجِيبُوا بأنَّ الآيَاتِ والأحاديث لما تعاضدت قويت. قوله: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ} أي: لا تَتَّخِذُوا غيره أوْلِيَاءَ تطيعونَهُم في مَعْصِيَةِ اللَّهِ. قوله: «مِنْ دُونِهِ» يجُوزُ أن يتعلق بالفعل قَبْلَهُ، والمعنى: لا تَعْدِلُوا عَنْهُ إلى غيره من الشَّيَاطِينِ والكُهَّانِ. والثاني: أن يتعلق بِمَحْذُوفٍ؛ لنه كان في الأصْلِ صفة ل «أولياء» فلمَّا تقدَّم نُصِبَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 11 حالاً، وإليه يميل تَفْسِيرُ الزَّمَخْشَرِيِّ، فإنَّهُ قال: «أي لا تتولَّوْا من دونه شياطين الإنس والجن؛ فيحملوكم على الأهواء والبدع» . والضَّمِيرُ في «دونه» يعود على «ربِّكُمْ» ولذلك قال الزَّمَخشريُّ «مِنْ دُونِ اللَّهِ» ، ويجُوزُ أن يعود على «مَا» الموصُولةِ، وأن يعود على الكتابِ المُنَزَّل، والمعنى: لا تَعْدِلُوا عنه إلى الكُتُبِ المَنْسُوخَةِ. وقرأ الجَحْدَرِيُّ: «ابَْغُوا» بالغين المعجمة من الابتغاء. ومالك بن دينار ومجاهد: «ولا تَبْتَغُوا» من الابتغاء أيضاً من قوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً} آل عمران: 85] . قوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَرُونَ} قد تقدَّم نظيرُهُ في قوله: {فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 88] وهو أنَّ «قَلِيلاً» نعت مصدر محذوف أي: تذكُّراً قليلاً تذكرون، أوْ نعت ظرف زمانٍ مَحْذُوفٍ أيضاً أي: زماناً قَلِيلاً تذكَّرون، فالمصدرُ أو الظَّرْفُ منصوب بالفعل بعدهُ، و «مَا» مزيدةٌ للتَّوكيد، وهذا إعْرابٌ جليٌّ. وقد أجَازَ الحُوفِيُّ أن تكون نَعْتَ مصدرٍ محذوف لقوله: «ولا تَتَّبِعُوا» أي: ولا تَتَّبِعُوا من دونه أوْلِيَاءَ اتِّبَاعاً قليلاً، وهو ضعيف؛ لأنه يصيرُ مَفْهُومُهُ أنَّهم غير مَنْهيِّين عن اتِّبَاعِ الكَثيرِ، ولكِنَّهُ مَعْلُومٌ من جهة المَعْنَى، فلا مَفْهُوم لَهُ. وحكى ابْنُ عطيَّة عن أبِي عَلِيٍّ أنَّ «مَا» مصدرية موصولة بالفِعْلِ بَعْدَها، واقْتَصَرَ على هذا القَدْر، ولا بُدَّ لَهُ من تَتِمَّة، فقال بعض الناس: ويكون «قَلِيلاً» نعت زمان محذوف، وذلك الزَّمَانُ المحذوف في محلِّ رفع خبر مقدّماً و «مَا» المصدريَّةُ، وما بَعْدَها بتأويل مصدر مبتدأ مؤخراً، والتَّقدِيرُ: زمناً قليلاً تذكُّرُكم أي: أنَّهُم لا يقع تذكرهم إلا في بعض الأحْيَانِ ونظيره: «زمناً قليلاً قيامك» . وقد قِيلَ: إنَّ «ما» هذه نَافِيَةٌ، وهو بعيد؛ لأن «ما» لا يَعْمَلُ ما بَعْدَهَا فيما قبلها عند البصريين، وعلى تقدير تَسْلِيم ذلك فيصيرُ المعنى: ما تذكرون قليلاً، وليس بِطَائِلٍ، وهذا كما سيأتي في قوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ} [الذاريات: 17] عند من جعلها نافية. وهناك وَجْهٌ لا يمكن أن يأتي ههنا وهو أن تكون «مَا» مصدريَّةٌ، وهي وما بعدها في محل رفع بالفاعلية ب «قَلِيلاً» الذي هو خبر كان، اولتقدير: كانُوا قليلاً هُجُوعُهُم، وأمَّا هنا فلا يمكن ذلك لعدم صحَّةِ نصب «قليلاً بقوله:» وَلاَ تَتَّبِعُوا «حتى يجعل» ما تَذَكَّرُون «مرفوعاً به. ولا يجوز أَن يكون» قَلِيلاً «حالاً من فاعل» تَتَّبِعُوا «و» ما تَذَكَّرُونَ «مرفوعاً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 12 به، إذْ يصيرُ المعنى: أنَّهُم نُهُوا عن الاتِّباعِ في حال قلَّة تذكرهم، وليس ذلك بمُرَادٍ. وقرأ ابن عامر:» قَلِيلاً ما تَذكرُونَ «باليَاءِ تَارةً والتَّاءِ أخرى، وقرأ حَمْزَةُ والكِسَائِي وحفص عن عاصم بتاء واحدة وتخفيف الذال، والباقون بتاء وتشديد الذَّالِ. قال الواحِديُّ:» تذكَّرُون «أصله» تتذَكَّرُونَ «فأدغمت تاء تفعل في الذَّال؛ لأنَّ التَّاء مهموسة والذَّال مجهورة، والمجهور أزيد صوتاً من المَهْمُوسِ، فحسن إدغام الأنقص في الأزيد، و» مَا «موصولة بالفِعْلِ، وهي معه بِمَنْزلَةِ المصْدَرِ فالمعنى: قَلِيلاً تَذَكُّرُكُمْ. وأمَّا قراءةُ ابْنِ عامر» يَتَذكَّرُونَ «بياء وتاء فوجهها أنَّ هذا خطابٌ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: قَلِيلاً ما يتذكرون هؤلاء الَّذِينَ ذُكِّرُوا بها الخِطَابِ. وأمَّا قراءةُ الأخَوَيْنِ، وحفص خفيفة الذَّالِ شدِيدَة الكَافِ، فقد حَذَفُوا التي أدْغَمَهَا الأوَّلُون، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في الأنعام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 لمَا أُمر الرَّسولُ بالإنذار والتَّبليغ وأمر القَوْمُ بالقبُول والمتابعة ذكر في هذه الآية ما في ترك المتابعة والإعراض عنها من الوعيد. وفي «كَمْ» وجهان: أحدهما: أنَّهَا في موضعِ رفع بالابتداء، والخبرُ الجُمْلَة بعدها، و «مِنْ قَرْيَةٍ» تمييزٌ، والضمير في «أهْلَكْنَاهَا» عائد على معنى «كَمْ» ، وهي هنا خبرية للتَّكْثيرِ، والتَّقدير: وكثير من القرى أهْلَكْنَاهَا. قال الزَّجَّاجُ: و «كَمْ» في موضع رَفْع بالابتداءِ أحسن من أن تكون في موضع نَصْبٍ؛ لأن قولك: «زَيْدٌ ضَرَبْتُهُ» أجود من قولك: «زَيْداً ضربتُهُ» بالنَّصْب، والنَّصْبُ جيِّدٌ عربيٌّ أيضاً لقوله تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} [القمر: 49] ، ونقل أبُو البقاءِ عن بعضهم أنه جعل «أهْلَكْنَاهَا» صفة ل «قرية» ، والخبر قوله: «فَجَاءَها بَأسُنَا» قال: وهو سَهْوٌ؛ لأن «الفَاءَ» تمنع من ذلك. قال شهابُ الدِّين: ولو ادَّعى مدَّعٍ زيادَتَها على مذهب الأخفش لم تُقبل دَعْوَاهُ؛ لأن الأخفش إنَّمَا يَزِيدُهَا عند الاحتياج إلى زيادتها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 13 الثاني: أنَّهَا في موضع نَصْبٍ على الاشتغال بإضمار فعل يفسِّره ما بعده، ويقدَّرُ الفِعْلُ متأخَّراً عن «كم» ؛ لأن لها صدر الكلام، والتَّقديرُ: وكم من قريةٍ أهلكناها [أهلكناها] ، وإنَّمَا كان لها صدر الكلام لوَجْهَيْنِ: أحدهما: مضارعتها ل «كم» الاستفهامية. والثاني: أنَّهَا نقيضة «رُبَّ» ح لأنها للتكثير و «رُبَّ» للتَّقْلِيلِ فحُمل النقيضُ على نَقِيضهِ كما يحملون النظير على نظيره، ولا بد من حَذْفِ مُضافٍ في الكلام لقوله تعالى: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} فاضطرَرْنَا إلى تَقْدير محذوفٍ؛ لأن البَأسَ لا يليق بالأهْلِ، ولقوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} فعاد الضمير إلى أهل القرية، وأيضاً فلأن التَّحْذِيرَ لا يقع إلاَّ للمُكَلَّفينَ، وأيضاً والقِائِلَةُ لا تَلِيقُ إلاَّ بالأهْلِ. ثم منهم مَنْ قدَّره قبل قرية أي: كم من أهْلِ قَريةٍ، ومنهم مَنْ قدَّرَهُ قبل «ها» في أهلكنَاهَا أي: أهْلَكْنَا أهلها، وهذا ليس بِشَيءٍ؛ لأن التَّقاديرَ إنَّمَا تكُونُ لأجل الحَاجَةِ، والحاجةُ لا تَدْعُو إلى تَقْديرِ هذا المُضَافِ في هَذَيْنِ الموضِعَيْنِ المذكُوريْنِ؛ لأن غهلاكَ القرْيَة يمكنُ أن يقعَ عليها نَفْسِهَا، فإن القُرى قد تُهْلَكُ بالخَسْفِ والهَدْمِ والحريقِ والغَرَقِ ونحوه، وإنما يحتاج إلى ذلك عند قوله: «فَجَاءَهَا» لأجل عَوْدِ الضَّمير من قوله: «هُمْ قَائِلُونَ» عليه، فيقدَّرُ: وكم من قَرْيَةٍ أهلكناها فَجَاءَ أهلها بأسنا. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قلت: هل يقدَّرُ المُضَافُ الذي هو الأهل قبل القَرْيَةِ، أو قَبْلَ الضَّمير في «أهلكْنَاهَا» . قلتُ: إنَّمَا يُقدَّرُ المُضَافُ للحاجَةِ، ولا حَاجَةَ فإن القريَةَ تَهْلَكُ، كما يَهْلَكُ أهلها وإنَّما قَدَّرْنَاهُ قبل الضمير في «فَجَاءَهَا» لقوله: {} وَظَاهِر الآية: أنَّ مجيءَ البَأسِ بعد الإهلاكِ وعقيبة؛ لأنَّ الفاءَ تعطي ذلك لكن الواقعَ إنما هو مجيءُ البَأسِ، وبعدَهُ يقعُ الإهلاك. فمن النُّحَاةِ من قالك الفاء تأتي بمعنى «الوَاوِ» فلا ترتب، وجعل من ذلك هذه الآيةَ، وهو ضَعِيفٌ، والجمهور أجَابُوا عن ذلك بوجهين: أحدهما: أنَّهُ على حذف الإرادة أي: أرَدْنَا إهلاكها كقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة} [المائدة: 6] ، {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} [النحل: 98] ، «إذَا دَخَل أحَدُكُمُ الخَلاء فَلْيُسَمِّ [اللَّهَ] » ، وقيل: حكمنا بِهَلاكِهَا. الثاني: أنَّ معنى «أهْلَكْنَاهَا» أي: خذلناهُم ولم نوفقهم فنشأ عن ذلك هَلاَكُهُم، فعبر بالمسَّبب عن سَبَبِهِ وهو بابٌ واسع. وثَمَّ أجوبة ضعيفة؛ منها: أنَّ الفاء هاهنا تفسيرية نحو: «تَوَضَّأ فغسل وجهه ثم يديه» فليست للتعقيب ومنها أنَّها للتَّرتيب في القَوْلِ فقط كما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 14 أخبر عن قرى كثيرة أنَّها أهلكها [ثم] قال: فكان من أمرها مجيء البأس ومنها ما قاله الفرَّاءُ، وهو: أن الإهلاكَ هو مجيء البَأسِ، ومجيءُ البأسِ هو الإهلاكُ، فلما كانا مُتلازِمَيْنِ لم يبال بأيِّهما قدَّمت في الرتبة، كقولك: «شتمني فأساء» ، وأساءَ فَشَتَمَنِي، فالإساءَةُ والشَّتْمْ شيءٌ واحدٌ، فهذه ستَّةُ أقوال. واعلم أنَّه إذا حُذِفَ مُضافٌ، وأقيم المضافُ غليه مقامَهُ جاز لك اعتباران: أحدهما: الالتفاتُ إلى ذَلِكَ المحذوفِ. والثاني - وهو الأكْثَرُ - عَدمُ الالتفاتِ إليه، وقد جُمع الأمرانِ هنا، فإنَّهُ لم يُراع المحذوفَ في قوله: «أهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا» وراعاهُ في قوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} ، هذا إذا قدَّرْنَا الحذفَ قبل «قَرْيَةٍ» ن أمَّا إذا قَدَّرْنَا الحذف قبل ضمير «فَجَاءَهَا» فإنَّهُ لم يراعِ إلاَّ المحذوفَ فقط وهو غيرُ الأكْثَرِ. قوله: «بَيَاتاً» فيه ثلاثةُ أوْجْهٍ: أحدها: [أنَّهُ] منصوب على الحال وهو في الأصل مصدر، يقال: بَاتَ يَبِيتُ بيْتاً وبيتة وبَيَاتاً وبَيْتُوتَةً. قال اللَّيْثُ: «البَيْتُوتَةُ» : «دخولُكَ في اللَّيْلِ» فقوله: «بَيَاتاً» أي: بَائِتينَ وجوَّزوا أن يكون مفعولاً لهُ، وأنْ يكونَ في حكم الظَّرْفِ. وقال الوَاحِديُّ: قولهك «بَيَاتاً» أي: ليلاً وظاهرُ هذه العِبَارة أنْ تكون ظَرْفاً، لولا أن يُقَالَ: أراد تَفْسِير المعنى. قال الفرَّاءُ: يقالُ: بات الرَّجُلُ يَبيتُ بَيْتاً، وربَّمَا قالوا: بَيَاتاً، وقالوا: سُمِّيَ البيتُ بَيْتاً؛ لأنَّهُ يُبَاتُ فيه. قوله: {أَوْ هُمْ قَآئِلُو} هذه الجملةُ في محلِّ نصب نَسَقاً على الحال، و «أو» هنا للتَّنْوِيع لا لِشَيءٍ آخر كأنَّهُ قيل: آتاهُ بأسُنَا تارةً لَيْلاً كقوم لوطٍ، وتَارَةً وَقْتَ القَيْلُولَةِ كقوم شُعَيْبٍ. وهل يحتَاجُ إلى تَقْديرِ واوِ حالٍ قَبْلَ هذه الجُمْلَةَ أم لا؟ خلافٌ بين النَّحْوِيِّينَ. قال الزمخشريُّ: «فإن قُلْتَ: لا يُقَالُ: جاءَ زيدٌ هو فارسٌ» بغيرِ واوٍ فما بالُ قوله تعالى: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} ؟ قلتُ: قدَّر بعض النَّحويين الواو محذوفَةً، وردَّهُ الزَّجَّاج وقال: لو قلتَ: جاءني زيدٌ رَاجِلاً، أو هو فارس، أو جاءني زيد هو فارس لم يحتج إلى «واو» ؛ لأن الذِّكر قد عام على الأوَّل. والصَّحِيحُ أنَّها إذا عُطفَتْ على حالٍ قبلها حذفت الواو استثقالاً؛ لاجتماع حرفي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 15 عطف؛ لأن واو الحال [هي] واو العطف استُعِيرَتُ للوصل، فقولك: «جاء زَيدٌ راجلاً أو هو فارس» كلامٌ فصيح وارد على حدِّه، وأمَّا «جاءني زَيْدٌ هو فارس» فخبيث. قال أبو حيَّان: أما [بعضُ النَّحويين الذي أبهمه] الزمخشريُّ فهو الفرَّاءُ، وأما قول الزَّجَّاج: كلا التمثيلين لم يحتج فيه إلى الواو؛ لأن الذِّكر قد عاد على الأوَّلِ ففيه إبْهَامٌ وتعيينه أنَّهُ يمتنعُ دخولها في المثالِ الأوَّلِ [ويجوز في المثال] الثاني؛ فليس انتفاءُ الاحتياج على حدِّ سواء؛ لأنه في الأوِّل لامتناع الدُّخُولِ، وفي الثاني لكثرتِهِ لا لامتناعه. قال شهابُ الدِّين: أمَّ امتناعُهَا في المثالِ الأوَّلِ؛ فلأن النَّحْويين نَصُّوا على أنَّ الجلمة الحاليَّة إذا دَخَلَ عليها حرفُ عطفٍ امتنع دخولُ واوِ الحالِ عليها، والعلَّةُ فيه المشَابَهَةُ اللَّفظيَّةُ؛ ولأن واو الحال في الأصل عاطفةٌ، ثم قال أبُو حيَّان. وأمَّا قولُ الزمخشري فالصَّحيحُ إلى آخره، فتعليلُهُ ليس بصَحِيحٍ؛ لأنَّ واوَ الحال ليست بحرف عَطْفِ فيلزم من ذكرها اجتماعُ حَرْلإَي عَطْفٍ؛ لأنَّها لو كانت حرف عطفٍ للزم أن يكونَ ما قَبْلَهَا حالاً، حتى يعطف حالاً على حالٍ، فمجيئها فيما لا يمكن أن يكُونَ حالاً دليل على أنَّهَا ليست واو عطْفٍ، ولا لُحظ فيها معنى واوِ عَطْفٍ تقُولُ: «جاء زيدٌ، والشمسُ طالِعَةٌ» فجاءَ زَيْدٌ ليس بحالٍ فيعطف عليها جُمْلَة حالٍ، وإنَّمَا هذه الواوُ مغايرة لواو العَطْفِ بكل حالٍ، وهي قسمٌ من أقسام الواو كما تأتي للقسم، وليستْ فيه للعَطْفِ كما إذا قلت: «واللَّه لَيَخْرُجَنَّ» . قال شهابُ الدِّين: أبُو القَاسِم لم يدَّع في واو الحال أنَّها عاطفة، بل يدَّعِي أنَّ أصلها العَطْفَ، ويدلُّ على ذلك قوله: استُعِيرَتْ للوصول، فلو كانت عَاطِفَةً على حالِهَا لما قَالَ: اسْتَعِيرَتْ فَدَلَّ قوله ذلك على أنَّها خجرت عن العطف، واسْتُعْمِلَتْ لمعنى آخر لكنها أعطيت حكم أصلها في امْتِنَاعِ مجامَعَتِهَا لعاطفٍ آخر. وأمَّا تسمِيَتُهَا حرف عطف، فباعْتِبَارِ أصْلِهَا ونَظِيرُ ذلك أيضاً واو «مع» فإنَّهم نَصُّوا على أنَّ أصلها واوُ عَطْفٍ، ثمَّ استعملتْ في المعيَّةِ، فكذلك واوُ الحَالِن لامتناعِ أن يكُونَ أصْلُهَا واوَ العطف. ثم قال أبُو حيَّان: «وأمّا قوله» فَخَبِيثٌ «فليس بِخَبِيثٍ؛ وذلك أنَّهُ بَنَاهُ على أنَّ الجلمة الحالِيَّة إذا كانت اسميَّةً، وفيها ضميرُ ذي الحَالِ فحذفُ الواوِ منها [شاذٌ] وتبع في ذلك الفرَّاء، وليس بِشَاذٍّ بل هو كثيرٌ في النَّظْمِ والنَّثْرِ. قال شهابُ الدِّين: قد يبق أبا القاسم في تسمية هذه الواو حرف عَكْفٍ الفرَّاءُ، وأبُو بَكْرٍ بْنُ الأنْبَارِيِّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 16 قال الفرَّاءُ: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} فيه واو مُضْمَرَةٌ، المعنى: أهلكناها فَجَاءَهَا بَأسُنَا بَيَاتاً أو هم قائلون فاستثقلوا نسقاً على أثَرِ نَسَقٍ، ولو قيل لكَانَ صواباً. قلتُ: قد تقدَّم أنَّ الشَّيخَ نقل أنَّ الواوَ ممتنعةٌ في هذا المثال، ولم يَحكِ خِلافاً، وهذا قَوْلُ الفرَّاءِ: «ولو قيل لكان صواباً» مُصَرِّحُ بالخلاف له. وقال أبُو بَكْرٍ: أضْمِرَتْ واوُ الحالِ لوُضُوحِ معناها كما تَقُولُ العرب: «لقيتُ عَبْدَ الله مُسْرعاً، أو هو يَرْكُضُ» فَيَحْذِفُونَ الواوَ لأمْنِهمُ اللَّبس، لأن الذِّكْرَ قد عَادَ على صاحب الحال، ومن أجل أنَّ «أو» حرف عطف والوُ كَذِلَكَ، فاسْتَثْقَلُوا جمعاً بين حرفين من حروفِ العَطْفِ، فَحَذَفُوا الثَّانِي. قال شهابُ الدِّين: فهذا تَصْرِيحٌ من هذين الإمَامَيْنِ بما ذكره أبُوا القَاسِم، وإنما ذكرتُ نص هذين الإمَامَيْنِ؛ لأعلم اطلاعه على اقوال النَّاسِ، وأنَّهُ لا يأتي بغير مُصْطَلحِ أهْلِ العلم كما يرميه به غير مرَّةٍ. و «قَائِلثونَ» من القَيْلأُولَةِ. يقال: قَالَ يَقِيلُ [قَيْلُولَةً} فهو قَائِلٌ ك «بائع» والقيلُولَةُ: الرَّاحَةُ والدعَةُ في الحرِّ وسط النهار، وإن لم يكن معها نَوْمٌ. وقال اللَّيث: هي نَوْمَةُ نِصْفِ النَّهَارِ. قال الأزْهَرِيُّ: «القيلولة: الرَّاحَةُ، وإن لم يكن فيها نَوْمٌ بدليل قوله تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24] ، والجنَّةُ لا نَوْمَ فيها» . قال شهابُ الدِّينِ: و «ولا دليلَ فيما ذَكَرَ؛ لأن المقيل هنا خرج عن موضعه الأصْلِيِّ إلى مُجَرَّدِ الإقامة بدليل أنَّهُ لا يراد أيضاً الاستراحة في نِصْفِ النَّهَارِ في الحر فقد خَرَجَ عن موضعه عندنا وعندكم إلى ما ذكرنا، والقَيْلُولَةُ مصدرٌ ومثلها: القَائِلَةُ والقيلُ والمَقِيلُ» . فصل في المراد بالآية معنى الآية أنهم جَاءَهُمْ بَأسُنَا، وهم غير متوقِّعين له، إمَّا ليلاً وهم نَائِمُونَ، أو نهاراً وهم قَائِلُونَ، والمُرَادُ أنَّهُم جاءهم العذابُ على حين غَفْلَةٍ منهم، من غير تقدُّم أمارة تدلُّهم على نزول ذلك العذاب مكانه، قيل لِلْكُفَّارِ: لا تغتروا بأسباب الأمْنِ والرَّاحةَ، فإنَّ عذاب الله إذا وقع وقع دفعة من غير سبق أمارة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 قوله تعالى: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ} جوَّزُوا في «دَعْواهُم» وجهين: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 17 أحدهما: أن يكون اسْماً ل «كان» ، و {إِلاَّ أَن قالوا} خبرها، وفيه خدشٌ من حيث إنَّ غير الأعرف جعل اسماً والأعْرَفُ جعل خبراً، وقد تقدَّم ذلك في أوَّل الأنعام عند {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ} [الأنعام: 23] . والثانيك أن يكون «دَعْوَاهُم» خبراً مقدماً و {إِلاَّ أَن قالوا} اسماً مؤخراً كقوله: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا} [النمل: 56] {فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار} [الحشر: 17] ، و {مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الجاثية: 25] ذكر ذلك الزَّمخشريُّ ومكيُّ بن أبِي طالبٍ، وسبقهما إلى ذلك الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ، ولكن ذلك يشكل من قاعدة أخرى ذكرها النُّحاةُ، وهو أنَّ الاسم والخبر في هذا الباب متى خفي إعرابُهُمَا؛ وجَبَ تَقْدِيمُ الاسمِ، وتأخير الخبر نحو: كان موسى صاحبي، وما كان دعائي إلاَّ أن اسْتَغْفَرْتُ، قالوا: لأنهما كالمفعولِ والفاعلِ فمتى خَفِيَ الإعْرَابُ التزم كل في مَرْتَبَتِهِ، وهذه الآيَةُ مما نحن فيه فكيف يُدَّعى فيها ذَلِكَ، بل كيف يَخْتَارُهُ الزَّجَّاجُ؟ وقد رأيتُ كلام الزَّجَّاجِ هنا فيمكن أن يُؤخَذَ منه جَوابٌ عن هذا المكانِ، وذلك أنه قال: «إلاَّ أنَّ الاختيار إذا كانت» الدَّعْوَى «في موضع رفع أن يقول: فما كانت دَعْوَاهُم، فَلَمَّا قال:» كَانَ دَعْوَاهُمْ «دلَّ على أن» الدَّعْوى «في موضع نصب، غير أنه يجوز تَذْكِير الدعوى وإن كانت رفعاً، فمن هنا يقال: تذكير الفعل فيه قرينة مرجَّحةٌ لإسنادِ الفِعْلِ إلى» أنْ قَالُوا «، ولو كان مسنداً للدَّعْوَى لكان الأرجح» كَانَتْ «كما قال، وهو قَرِيبٌ من قولك:» ضَرَبَتْ مُوسَى سَلْمَى «فقدمت المفعول بقرينةِ تأنِيثِ الفِعْلِ، وأيضاً فإنَّ ثمَّ قَرينَةً أخرى، وهي كَوْنُ الأعْرَفِ أحَقُّ أن يكون اسماً من غير الأعرف» . والدَّعْوَى تكون بمعنى الدُّعَاءِ، وبمعنى الادِّعَاءِ، والمقْصُودُ بها ههنا يحتمل الأمرين جميعاً، ويحتمل أيضاً أنْ تكونَ بمعنى الاعتراف، فمن مَجِيئها بمعنى الدُّعَاءِ ما حَكَاهُ الخَلِيلُ: «اللَّهُمَّ أشْركْنا فِي صالح دعوى المُسلمين» يريد في صالح دُعَائِهِم؛ وأنشدوا: [الطويل] 2402 - وإنْ مَذِلَتْ رِجْلِي دَعَوْتُكِ اشْتَفِي ... بِدَعْوَاكِ مِنْ مَذْلٍ بِهَا فَتَهُونُ ومنه قوله تعالى: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} [الأنبياء: 15] وقال الزَّمخشريُّ: [ويجوز] : فما كان استغاثتهم لا قولهم هذا؛ لأنه لا يستغاثُ من اللَّهِ تعالى بغيره، من قولهم: دعواهم يا لكعب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 18 وقال ابنُ عطيَّة: وتحتملُ الآيةُ أن يكون المعنى: فما آلت دَعَاويهم التي كانت في حال كُفْرِهِمْ إلا إلى الاعتراف؛ كقول الشاعر: [الطويل] 2403 - وَقدْ شَهِدَتْ قَيْسٌ فَمَا كَانَ نَصْرُهَا ... قَتَيْبَةَ إلاَّ عَذَّها بالأبَاهِمِ و «إذ» منصوب ب «دعواهم» . وقوله: {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} «كُنَّا» وخبرها في محل رفع خبر ل «إنَّ» ، وَ «إنّ» وما في حيزها في محل نَصْبٍ محكياً ب «قَالُوا» ، و «قَالثوا» وما في حيزه لا محل له لوقوعه صلةً ل «إنَّ» ، و «أنّ» وما في حيزها في محلِّ رفع، أو نصب على حسب ما تقدَّم من كونها اسماً، أو خبراً. ومعنى الآية: أنَّهُم لم يَقْدِرُوا على ردِّ العذاب، وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالخيانَةِ حين لا ينفع الاعتراف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 القائمُ مقامَ الفاعِلِ الجار والمجرور وفي كيفيَّة النظم وجهان: الأول: أنه تعالى لمَّا أمر الرَّسول أولاً بالتبليغ ثم أمر الأمة بالقَبُولِ، والمتابعة، وذكر التَّهْديد على ترك القبول والمتابعة، بذكر نُزُولِ العذابِ في الدُّنْيَا - أتبعه بنوع آخر من التَّهْديدِ وهو أنه تعالى يسأل الكل عن كيفية أعمالهم يوم القيامة. الثاني: أنه تعالى لما قال: {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأعراف: 5] أتبعه أنه لا يقتصر على الاعتراف منهم يوم القيامة، بل يَنْضَافُ إليه أنَّهُ تعالى يسأل الكُلَّ عن كيفيَّةِ أعمالهم، وبين أن هذا السؤال لا يختصُّ بأهل العقاب، بل هو عامٌّ بأهل العقابِ والثَّوابِ، ونظيره قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93] . فإن قيل: المقصود من السُّؤالِ أن يخبر المسئول عن كيفية أعمالهم، وقد أخبر عنهم أنهم يقرون بأنهم كانوا ظَالمينَ فما فَائِدَةُ السُّؤال بعده؟ وأيضاً قال تعالى بعد هذه الآية: {فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ} [الأعراف: 7] فإذا كان يقصُّه عليهم بعلم فما معنى هذا السؤال؟ فالجواب: أنَّهُم لمَّا أقَرُّوا بأنهم كانُوا ظالمين مُقَصِّرين سألوا بعد ذلك عن سَبَبِ الظُّلْمِ، والتَّقْصِيرِ، والمقصود منه التَّقْريعُ والتَّوبيخُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 19 فإن قيل ما الفائدة في السؤال الرُّسُلِ مع العلم بأنه لم يَصْدُر عنهم تقصير ألبتة؟ فالجوابُ: لأنهم إذا اثبتوا أنه لم يَصْدُرْ عنهم تَقْصِيرٌ ألْبَتَّةَ التحق التَّقْصِيرُ كله بالأمَّةِ، فيتضاعفُ إكرامُ اللَّه تعالى للرُّسل لظهور براءتهم عن جميع موجبات التَّقْصِير، ويتضاعف الخِزْيُ والإهانَةُ في حقِّ الكفَّارِ، ولما ثبت أنَّ ذلك التَّقْصِيرُ كان منهم. والمعنى: أنه بين للقوم ما أسروه، وما أعلنوه من أعمالهم، وبين الوجوه التي لأجلها أقدموا على تلك الأعمال. وقوله: " بعلم " في موضع [الحال] من الفاعل، و" الباء " للمصاحبة أي: لنقصن على الرسل والمرسل إليهم حال كوننا متلبسين بالعلم. ثم أكد هذا المعنى بقوله: {وما كنا غائبين} أي: ما غاب عن علمه شيء من أعمالهم، وذلك يدل على أن الإله لا يكمل إلا إذا كان عالما بجميع الجزئيات حتى يمكنه أن يميز المطيع عن العاصي والمحسن عن المسيء. فإن قيل: كيف الجمع بين قوله {فلنسئلن الذين أرسل إليهم ولنسئلن المرسلين} وبين قوله: {فيومئذ لا يسئل عن ذنبه إنس ولا جان} [الرحمن: 39] وقوله: {ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون} [القصص: 78] فالجواب من وجوه: أحدها: أن القوم لا يسألون عن الأعمال؛ لأن الكتب مشتملة عليها ولكنهم يسألون عن الدواعي التي دعتهم إلى الأعمال، وعن الصوارف التي صرفتهم. وثانيها: أن السؤال قد يكون لأجل الاسترشاد والاستفادة وقد يكون لأجل التوبيخ كقول القائل: " ألم أعطك " وقوله تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم} [يس: 60] وقول الشاعر: {الوافر} 2404 - ألستم خير من ركب المطايا ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فإذا عرف هذا فنقول: إن الله عز وجل لا يسأل أحدا لأجل الاستفادة والاسترشاد، ويسألهم لأجل توبيخ الكفار وإهانتهم، ونظيره قوله تعالى: {فأقبل بعضهم على بعض يتساءلون} ثم قال: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101] . فإن الآية الأولى تدل على أن المسألة الحاصلة بينهم إنما كانت على سبيل أن بعضهم يلوم بعضا لقوله: " وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون "، وقوله: {فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} [المؤمنون: 101] ، معناه: أنه لا يسأل بعضهم بعضا على سبيل الشفقة واللطف؛ لأن النسب يوجب الميل والرحمة والإكرام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 20 وثالثها: أن يوم القيامة يوم طويل ومواقفها كثيرة فأخبر عن بعض الأوقات بحصول السؤال، وعن بعضها بعدم السؤال، وهذه الآية تدل على أنه تعالى يحاسب كل عباده المرسلين والمرسل إليهم، ويبطل قول من زعم أنه لا حساب على الأنبياء والكفار. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 الوزن مبتدأ، وفي الخبر وجهان: أحدهما: هو الظَّرْف أي: الوزن كائن أو مستقرٌّ يومئذٍ أي: يوم إذ يُسْألُ الرُّسُلُ والمرسلُ إليهم. فحذف الجملة المضاف إليها «إذْ» وعوَّض منها التَّنْوين، هذا مذهب الجُمْهُور خلافاً للأخْفَش. وفي «الحقّ» على هذا الوجه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه نَعْتٌ للوزن أي: الوزن الحق في ذلك اليوم. الثاني: أنه خبر مبتدأ محذوفٍ كأنَّهُ جوابُ سؤالٍ مقدَّرٍ من قائل يقول: ما ذلك الوزن؟ فقيل: هو الحقُّ لا البَاطِلُ. الثالث: أنه بدلٌ من الذَّميرِ المستكن في الظَّرْفِ وهو غَرِيبٌ ذكره مَكِيٌّ. والثاني: من وجهي الخبر أن يكون الخبر «الحق» ، و «يومئذ» على هذا فيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ منصوب على الظَّرْفِ ناصبه «الوَزْنْ» أي: يقع الوَزْنُ ذلك اليوم. والثاني: أنَّهُ مفعول به على السَّعةِ وهذا الثاني ضعيفٌ جدّاً لا حَاجَةَ إليه. ولمَّا ذَكَرَ أبُو البقاءِ كون «الحق» خبراً، وجعل «يَوْمئذٍ» ظرفاً للوزن قال: «ولا يَجُوزُ على هذا أن يكون صِفَةً، لَئِلاّ يلزم الفَصْلُ بين المَوصُولِ وصِلَتِهِ» . قال شهابُ الدِّين: وأين الفَصْلُ؟ فإن التركيبَ القرآنيَّ إنما جاء فيه «الحق» بعد تمام الموصول بصلته، وإذا تمَّ الموصول بصلته جاز أن يُوصَفَ. تقول: «ضَرْبُكَ زَيْداً يَوْمَ الجُمْعَةِ الشديدُ حسنٌ» . فالشَّديدُ صفة لِضَربِكَ. فإنْ تَوَهَّمَ كون الصِّفَةِ محلُّها أن تقع بعد الموصوف وتليه، فَكَأنَّهَا مُقدَّمَةٌ في التَّقدير فَحَصَلَ الفَصْلُ تقديراً فإن هذا لا يُلْتَفَتْ إليه؛ لأنَّ تلك المعمولات من تَتِمَّةِ الموصول فلم تل إلاَّ الموصول وعلى تقدير اعتقاد ذلك له، فالمَانِعُ من ذلك أيضاً صيرورةُ المبتدأ بلا خبر، لأنَّكَ إذا جعلت «يَومئذٍ» ظرَفْاً للوزن و «الحقُّ» صفته فأين خبره؟ فهذا لو سَلِمَ من المانع الذي ذكره كان فيه هذا المانع الآخر. وقد طوَّلَ مكيٌّ بذكر تقدير «الحقّ» على «يومئذ» وتأخيره عنهُ باعتبار الإعرابات المتقدمة، وهذا لا حَاجَةَ إليه لأنَّا مقيَّدُونَ في القرآن بالإتيان بِنَظْمِهِ. وذكر أيضاً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 21 أنه يجوز نصبه، يعني أنَّهُ لو قُرِىءَ به لكان جَائِزاً، وهذا أيضاً لا حاجة إليه. قوله: «مَوَازِيْنُهُ» فيها قولان: أحدهما: أنَّها جمع ميزان: الآلة [التي] يوزنُ بها، وإنَّمَا جمع؛ لأن كلَّ إنسانٍ له ميزان يخصُّه على ما جاء في التَّفْسير، أو جُمع باعتبار الأعمال الكثيرة وعبّر عن هذا الحال بالمحل. والثاني: أنَّها جمع موزون، وهي الأعمال، والجمع حينئذٍ ظاهر. قيل: إِنَّمَا جمع الميزان ههنا، وفي قوله: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة} [الأنبياء: 47] ؛ لأنَّه لا يبعد أن يكون لأفعال القلوب ميزانٌ، ولأفعال الجوارح ميزانٌ، ولما يتعلق بالقول ميزان. وقال الزَّجَّاجُ: إنَّمَا جمع الموازين ههنا لوجهين: الأوَّلُ: أنَّ العرب قد تُوقِعُ لَفْظَ الجَمْعِ على الواحد فيقولون: خرج فلان إلى مَكَّةَ راكباً البِغَالَ. والثاني: أن الموازين ههنا جمع موزون لا جمع ميزان. قال القرطبيُّ: والموازين جمع ميزان وأصلُهُ: «مِوْزَانٌ» قلبت الواوُ ياءٌ لكسرة ما قبلها. فصل في المراد بالميزان قال مُجَاهِدٌ والأعْمَشُ والضَّحَّاكُ: المراد بالميزان العدل والقضاء، وذهب إلى هذا القول كثيرٌ من المُتأخِّرينَ قالوا: لأنَّ لَفْظَ الوزن على هذا المعنى شَائِعٌ في اللُّغَةِ؛ لأن العدل في الأخذ والإعطاء لا يظهر إلاَّ بالكَيْل، والوزن في الدُّنْيَا، فلم يبعد جعل الوزن كِنَايَةً عن العَدْلِ، ويؤيِّدُ ذلك أنَّ الرَّجُلَ إذا لم يكن له قَدْرٌ ولا قِيمَةٌ عند غيره يقال: إنَّ فُلاناً لا يقيم لفلان وَزْناً. قال تعالى: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} [الكهف: 105] ، ويُقَالُ هذا الكلامُ في وزن هذا وفي وزانه، أي: يعادله ويُسَاويه مع أنَّهُ ليس هناك وَزْنٌ في الحَقيقَةِ؛ قال الشَّاعِرُ: [الكامل] قَدْ كُنْتُ عِنْدَ لِقَائِكُمْ ذَا قُوَّةٍ ... عِنْدِي لِكُلِّ مُخَاصِمٍ ميزَانُهُ أيْ عندي لكل مخاصم كلامٌ يعادل كلامه، فجعل الوزن مثلاً للعدل وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ: المُرَادُ من الآية هذا المعنى فقط، والدَّلِيلُ عليه أنَّ الميزانَ إنَّما يراد ليتوصل به الجزء: 9 ¦ الصفحة: 22 إلى مَعْرِفَةِ مقدار الشيء، ومقاديرُ الثواب والعِقَابِ لا يمكن إظْهَارُهَا بالميزان؛ لأن أعْمَالَ العِبَادِ أعْرَاضٌ، وهي قد فنِيَتْ وعُدِمَتْ، ووزن المعدوم مُحَالٌ، وأيضاً فبتقدير بِقَائِهَا كان وزنها محالاً. وأُجيب بأنَّ فائدته أنَّ جميع المكلفين يعلمون يَوْمَ القيامة أنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الظُّلْم والجَوْرِ. وفائدةُ وضع الميزانِ أنْ يظهر ذلك الرُّجْحَانُ لأهل المَوْقِفِ، لإإن رجحت الحسنات ازداد فَرَحُهُ وسُرُورُهُ، وإنْ كان بالضِّدِّ فيزاداد غمُّه. وقال القُرْطُبِيُّ: «الصَّحيحُ أنَّ المراد بالميزان وزن أعمال العباد» . فإن قيل: الموزون صَحَائِفُ الأعْمَالِ، أو صور مخلوقة على حَسْبِ مقَاديرِ الأعْمالِ. فنقول: إنَّ المكلف يوم القيامة إمَّا أن يكون مقراً بأنَّ اللَّهَ - تعالى - عَادِلٌ حَكِيمٌ، أو لا يكون مقرّاً بذلك فإن كان وزنها محالاً. وأُجيب بأنَّ فائدته أنَّ جميع المكلفين يعلمون يَوْمَ القيامة أنَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن الظُّلْم والجَوْرِ. وفائدةُ وضع الميزانِ أنْ يظهر ذلك الرُّجْحَانُ لأهل المَوْقِفِ، فإن رجحت الحسنات ازداد فَرَحُهُ وسُرُورُهُ، وإنْ كان بالضِّدِّ فيزداد غمُّه. وقال القُرْطُبِيُّ: «الصَّحيحُ أنَّ المراد بالميزان وزن أعمال العباد» . فإن قيل: الموزون صَحَائِفُ الأعْمَالِ، أو صور مخلوقة على حَسْبِ مقَاديرِ الأعْمالِ. فنقول: أنَّ الملكف يوم القيامة إمَّا أن يكون مقراً بأنَّ الله - تعالى - عَادِلٌ حَكِيمٌ، أو لا يكون مقرّاً بذلك فإن كان مقرّاً بذلك فحينئذ كفاه حكم اللَّه تعالى بمقادير الثَّواب والعقاب في علمه بأنه عَدْلٌ وصوابٌ، وإنْ لم يكن مُقِرّاً بذلك لم يعرف من رجحان كفَّةِ الحسنات على كفَّةِ السيِّئات أو بالعَكْس من حُصُولِ الرُّجْحَانِ لا على سبيل العَدْلِ والإنْصافِ، فثبتَ أنَّ هذا الوَزْنَ لا فَائِدَةَ فيه ألْبَتَّةَ وقال أكْثَرُ المفسرين: أرَادَ وزن الأعْمَالِ بالميزان، وذلك أنَّ الله - تعالى - ينصب ميزاناً له لسان يوزن بها أعمال العباد خيرها وشرها وكفتان، كل كَفَّةٍ بِقَدْرِ ما بين المَشْرِقِ المَغْرِبِ. واختلفوا في كَيْفيَّةِ الوَزْنِ، فقال بعضهم: توزن صحائف الأعمال. وروي أنَّ رَجُلاً ينشر عليه تسعة وتسعون سِجلاً، كل سِجِّلٍّ منها مدُّ البَصَرِ فيها خطاياه وذنوبه فتوضع في كفَّة الميزان ثم يخرج له بِطَاقَةٌ فيها شهادةُ أن لا إله إلا الله، وأشهد أنَّ محمّداً عبده ورسوله، فتوضع السِّجلات في كفه، والبطاقة في كفَّة فطاشت السِّجلات وثقلت البطاقة. وقيل: توزن الأشخاص. روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «لَيَأتي الرَّجُلُ العَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ القِيَامةِ فلا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ» وقيل: توزن الأعمال. رُوِيَ ذلك ابْنِ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فيؤتى بالأعْمَالِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 23 الحَسَنَةِ على صُورةٍ حَسَنةٍ، وبالأعمال السيِّئَةِ على صورة قَبِيحَة، فتوضع في الميزانِ. والحكمة في وَزْنِ الأعْمَالِ امتحان اللَّه عباده بالإيمان به في الدُّنْيَا، وإقامة الحُجَّةِ عليهم في العقبى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ أهْلَ القِيَامَةِ فَريقَانِ، منهم من يزيد حسناته على سيئاته، ومنهم من يزيد سيئاته على حسناته، فأمَّا القسمُ الثَّالثُ، وهُو الَّذين تكُونُ حَسنَاتُهُ وسيئاته متعادلة فإنه غير موجود. قال أكثر المفسرين: المراد ب {مَنْ خَفَّت مَوازِينُهُ} الكافر لقوله تعالى: {فأولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} ، ولا معنى لكون النْسَانِ ظالماً بآياتِ اللَّه إلاَّ كونه كَافِراً بها مُنْكِراً لها، وهذا هو الكَافِرُ. وروي أنّه إذا خَفَّتْ حَسَنَاتُ المُؤمِنِ يخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بِطَاقَة كالأنْمُلَةٍ فيلقيها في كفَّةِ الميزان اليمنى التي فيها حسناته فترجح، فيقوُلُ ذلك العَبْدُ المُؤمِنُ للنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بِأبي أنْتَ وأمِّي، ما أحْسَنَ وَجْهَكَ وأحْسَنَ خَلْقَكَ فَمَنْ أنْتَ؟ فَيَقُولُ:» أنا نَبِّيُكَ مُحَمَّد، وهذه صَلَواتكَ الَّتِي كُنْتَ تُصَلِّيها عَلَيَّ، وقَدْ وَفَيْتُكَ أَحْوَجَ ما تكُونُ إلَيْهَا «رواه الواحِدِيُّ في» البَسيطِ «. والخبر الذي تقدَّم أيضاً من أنَّهُ تعالى يُلْقِي في كفه الحسنات الكتاب المُشْتَمِلَ علىشهادةِ أنْ لا إله إلاّ الله وأنَّ محمداً رسول الله، وأمَّا قول ابن عباس، وأكثر المفسرين حملوا هذه الآية على أهل الكفر. وقال أبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - حين حضره الموت لعمر بن الخطاب في وصَّيتهِ: إنَّمَا ثقلت مَوَازِينُ مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِيِنُهُ يَوْمَ القِيامَةِ باتِّباعِهِم الحقَّ في الدُّنْيَا، وثقله عليهم، وحُقَّ لميزان يوضع فيه الحقُّ غداً أن يكون ثَقِيلاً، وإنَّما خَفَّتْ مَوَازينُ من خَفَّتْ مَوَازِينُهُ يَوْمَ القِيَامَةِ باتِّباعِهِم البَاطِلَ في الدُّنْيَا، وخفته عليهم، وحقَّ لميزانٍ يُوضَعُ فيه البَاطِلُ غداً أن يكُونَ خَفِيفاً. قوله:» بِمَا كَانُوا «متعلِّقٌ ب» خَسِرُوا «، و» مَا «مَصْدريَّةٌ، و» بِآيَاتِنَا «متعلِّقٌ ب» يَظْلِمُونَ «قُدِّمَ عليه للفَاصِلَةِ. وتعدَّى» يَظْلِمُونَ «بالباءِ: إمَّا لتَضَمُّنِهِ معنى التَّكْذيب نحو: {كَذَّبُواْ بِأَيَاتِنَا} وإمَّا لِتَضَمُّنِهِ معنى الجَحْدِ نحو {وَجَحَدُواْ بِهَا} [النمل: 14] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 24 لمَّا أمر الخَلْقَ بمتابَعَةِ الأنْبِيَاءِ، ثمَّ خوَّفَهُم بعذاب الدُّنْيَا وهو قوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} ، وبعذاب الآخِرَةِ وهو السُّؤالُ ووزن الأعمال رغبهم في دعوة الأنْبِيَاء في هذه الآية بطريق آخر، وهو أنَّ ذكر كثرة نعم اللَّه عليهم، وكثرة النِّعيم توجبُ الطَّاعة فقال: {وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرض} أي: جعلنا لكم فيها مكاناً وقراراً ومكَّنَّاكم، والمُرَادُ بالتَّمكين التمليك والقوة والقدرة. قوله «وجَعَلْنَا لكم» يجوز أن يكون «جَعَلَ» بمعنى «خَلَقَ» فيتعدَّى لواحد فيتعلَّقُ الجاران ب «مَعَايِشَ» ، والثَّأني أحد الجارين، والآخر: إمَّا حال متعلِّقَةٌ بمحذوف، وإمَّا متعلِّقةٌ بنفس الجعل وهو الظَّاهِرُ. و «مَعَايِش» جمع مَعيشَةٍ، وفيها ثلاثةُ مذاهبٍ: مذهبُ سيبويه والخَلِيل: أنَّ وزنها مَفْعُلَةٍ بِضَمِّ العين، أو مَفْعِلة بكسرها، فعلى الأوَّلِ جُعلتِ الضَّمَّةُ كَسْرَةً، ونُقِلَتْ إلى فَاءِ الكَلِمَةِ. وقياس قول الأخْفَشِ في هذا النَّحوِ أن يغيِّر الحرفَ لا الحَرَكَة، ف «معيشة» عنده شَاذَّةٌ إذْ كان يَنْبَغِي أَن يقال فيها مَعُوشة. وأمَّا على قولنا إنَّ أصلها «مَعِيشَةٌ» بكسر العين فلا شُذُوذَ فيها ومذهب الفرَّاءِ: أنَّ وزنها مَفْعلة بفتح العين، وليس بشيءٍ. والمعيشةُ اسمٌ لما يُعاشُ به أي: يُحْيا وقال الزَّجَّاجُ: المعيشةُ ما يتوصلون به إلى العيش وهي في الأصل مصدر ل «عَاشَ» يعيشُ عَيْشاً، وعِيْشَةً قال تعالى: {فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] ، وَمَعَاشاً: قال تعالى: {وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} [النبأ: 11] ، ومَعِيشاً قال رُؤبةُ: [الرجز] 2406 - إلَيْكَ أشْكُوا شِدَّةَ المَعيشِ ... وَجُهْدَ أعْوَامِ نَتَفْنَ رِيشِي والعامَّةُ على «مَعَايشَ» بصريح الياءِ. وقد خرج خارجةُ فَرَوَى عن نافع «مَعَائِشَ» بالهَمْزِ، وقال النَّحْويُّون: هذا غَلَطٌ؛ لأنَّهُ لا يهمز عندهم إلا ما كان فيه حرفُ المدِّ زائداً نحو: صَحَائِف ومَدَائِن، وأمَّا «مَعَايِش» فالياءُ أصلٌ؛ لأنها من «العَيْشِ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 25 قال الفَارِسيُّ - عن أبي عثمان -: «أصلُ أخْذِ هذه القراءة عن نَافعِ» قال: «ولَمْ يَكُنْ يَدْرِي ما العَرَبِيَّةُ» . قال شهابُ الدِّينِ: وقد فعلتِ العربُ مثل هذا، فَهَمَزُوا «مَنَائِرَ ومَصَائِبَ» جمع «منارةٍ ومُصِيبَة» والأصل «مَنَاوِرُ، ومَصَاوِبُ» وقد غلَّطَ سيبويه من قال مصائِبَ، ويعني بذلك أنَّهُ غلطه بالنسبة إلى مخالفة الجادَّةِ، وهذا كما تقدَّم عنه أنه قال: «واعْلَمْ أنَّ بعضهم يغلط فيقول: إنَّهم أجمعونَ ذَاهِبُونَ» [قال] ومنهُمْ من يأتي بها على الأصل فَيَقُولُ: مصاوب ومناور، وهذا كما قالوا في جمع «مقالٍ» و «مقام» : «مقاول» و «مقاوم» في رجوعهم بالعين إلى أصلها قال: وأنشد النَّحْوِيُّون على ذلك: [الطويل] 2407 - وإنِّي لَقَوَّامٌ مقَاوِمَ لَمْ يَكُنْ ... جَريرٌ ولا مَوْلَى جرِيرٍ يَقُومُهَا ووجه همزها أنَّهُم شبَّهوا الاصليَّ بالزَّائد فتوهموا أن «معيشة» بزنة «صحيفة» فهمزوها كما همزا «تيك» قالوا: ونظير ذلك في تشبيههم الأصل بالزائد قولهم في جميع «مسيل» «مُسْلان» ، توهَّموه على أنَّه على زِنَةٍ «قضيبٍ وقُضْبَان» وقالوا في جمعه «أمْسِلَة» كأنَّهْمِ تَوَهَّمُوا أنَّهُ بزنة «رَغيفٍ، وأرْغِفَةٍ» وإنَّما مسيل وزنه «مفعلٌ» ؛ لأنه من سيلان الماءِ، وأنْشَدُوا على «مَسِيلِ، وأمْسِلة» قول أبِي ذُؤيْبٍ الهُذَلِيِّ: [الوافر] 2408 - بِوَادٍ لا أنِيسَ بِهِ يبابٍ ... وأمْسِلَةٍ مَذَانِبُهَا خَلِيفُ وقال الزَّجَّاجُ: جميعُ نُحَاةِ البَصْرَةِ يَزْعُمُونَ أنَّ همزها خَطَأ، ولا أعلم لها وجهاً إلاَّ التِّشْبِيه ب «صحيفة» و «صحائف» ، ولا ينبغي التَّعْوِيلُ على هذه القراءة. قال شهابُ الدين: وهذه القراءةُ لم يَنْفَرِدْ بها نافعٌ بل قَرَأهَا جماعة جلَّةٌ معه؛ فإنَّها منقولة عن ابن عامر الذي قَرَأ على جماعة من الصَّحابةِ ك «عُثْمان» و «أبي الدَّرْدَاءِ» و «معاوية» ، وقد يبق ذلك في «الأنعام» ، فقد قَرَأ بها قَبْلَ ظُهُورِ اللَّحْنِ، وهو عربي فَصِيحٌ وقَرَأ بها أيضاً زيدُ بْنُ عَلِيٍّ، وهو على جانب من الفَصَاحَة والعلم الذي لا يدانيه فيه إلاَّ القليل، وَقَرأ بها أيضاً الأعْمَشُ والأعْرَجُ وكفى بهما في الإتْقَانِ والضَّبْطِ. وقد نقل الفرَّاءُ أنَّ قلب هذه الياء تشبيها لها بياء «صحيفة» قد جاء، وإن كان قليلاً. وقوله: {قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} كقوله: {قَلِيلاً ما تَذكَّرُونَ} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 26 لما ذكر كَثْرَةَ نِعَمِ اللَّهِ على العبد أتْبَعَهُ بذكر أنَّهُ خلف أبَانَا [آدم] وجعله مسجود الملائكة، والإنعامُ على الأبِ يَجْرِي مجرى الإنعام على الابن. واختلف النَّاسُ في «ثُمَّ» في هذين الموضعين: فمنهم مَنْ لم يَلْتَزِم [فيها] ترتيباً، وجعلها بمنزلة «الواوِ» فإنَّ خلقنا وتصويرنا بعد قوله تعالى للملائكة «اسْجُدُوا» . ومنهم من قال: هي للتَّرْتِيبِ لا في الزمان بل للترتيب في الإخبار ولا طائل في هذا. ومنهم من قال: هي للتَّرْتِيب الزَّمَانيِّ، وهذا هو موضوعها الأصْلِيُّ. ومنهم من قال: الأولى للتَّرتيب الزَّمانيِّ والثَّانيةُ للتَّرتيبِ الإخْباريِّ. واختلف عِبارةُ القائلين بأنَّها للتَّرْتِيب في الموضعين فقال بعضهم: أنَّ ذلك على حذف مضافين، والتقديرُ: ولقد خلقنا آباءَكُم ثم صوَّرْنَا آباءَكم ثم قلنا، ويعني بأبينا آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وإنَّما خاطبه بصيغة الجمع وهو واحد تعظيماً له، ولأنه أصلُ الجميع، والتَّرتيب أيضاً واضح. وقال مجاهدٌ: المعنى خلقناكم في ظَهْرِ آدم ثم صوَّرناكم حين أخذنا عليكم الميثاق. رواه عنه أبُو جريج وابْنُ أبِي نَجِيحٍ. قال النَّحَّاسُ: وهذا أحْسَنُ الأقْوَالِ يذهب مجاهد إلى أنه خلقهم في ظهر آدم ثُمَّ صوَّرَهُم حين أخذ عليهم الميثاقَ، ثمَّ كان السُّجُود [بعد ذلك] ويُقَوِّي هذا قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ} [الأعراف: 172] . وفي الحديث أنَّهُ أخرجهم أمثال الذَّرِّ، فأخذ عليهم الميثاق. وقال بعضهم: المُخَاطِبُ بَنُو آدم، والمرادُ بهم أبوهم وهذا من باب الخطاب لشَخْصٍ، والمُرَادُ به غيره كقوله: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} [البقرة: 49] ، وإنَّما المُنَجَّى والذي كان يُسَامُ سُوءَ العذاب أسلافهم. وهذا مستيضٌ في لسانهم. وأنشدوا على ذلك: [الطويل] 2409 - إذَا افْتَخَرَتْ يَوْماً تَمِيمٌ بِقَوْسِهَا ... وَزَادَتْ عَلَى مَا وطَّدَتْ مِنْ مَنَاقِبِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 27 فأنْتُمْ بِذِي قَارٍ أَمَالَتْ سُيُوفُكُمْ عُرُوشَ الَّذِينَ اسْتَرهَنُوا قَوْسَ حَاجِبِ ... وهذه الوَقْعَةُ إنَّما كانت في أسلافهم. والترَّتيبُ أيضاً واضح على هذا. ومن قالك إن الأولى للتَّرتيب الزَّماني، والثَّانية للتَّرْتيب الإخْبَارِيِّ اختلفت عباراتهم أيضاً. فقال بعضهم: المرادُ بالخطابِ الأوَّلِ آدمُ، وبالثَّاني ذريَّتُهُ، والترتيب الزَّمانيُّ واضح و «ثُمَّ» الثَّانية للتَّرْتِيب الإخباريِّ. وقال بعضهم: ولقد خلقناكم في ظهر آدم ثُمَّ صوَّرناكم في بُطُونِ أمهاتكم. وقال بعضهم: [ولقد خلقنا] أرواحكم ثم صوَّرْنَا أجسامكم، وهذا غَرِيبٌ نقله القَاضِي أبو عليٍّ في «المعتمد» . وقال بعضهم: خلقناكم نُطَفاً في أصلابِ الرِّجال، ثُمَّ صوَّرْناكم في أرحام النٍّساءِ. وقال بعضهم: ولقد خلناكم في بطون أمَّهاتكم وصوَّرناكُم فيها بعد الخلق بِشَقِّ السَّمع والبصرِ، ف «ثمَّ» الأولى للتَّرتيب الزَّمانيِّ، والثانية للترتيب الإخباري أي: ثم أخبركم أنا قلنا للملائكة. وقيل: إنَّ «ثُمَّ» الثانية بمعنى «الواو» [أي] وقلنا للملائكة فلا تكون للتَّرتيب. وقيل: فيه تقديمٌ وتأخير تقديرُهُ: ولقد خلقناكم يعني آجم، ثمَّ قلنا للملائكة اسجُدُوا، ثمّ صوَّرنَاكم. وقال بعضهم: إنَّ الخلق في اللُّغَة عبارة عن التقدير، وتقدير اللَّه عبارة عن علمه بالأشياء ومشيئته بتخصيص كلِّ شيءٍ بمقداره المعيِّنٍ، فقوله «خَلَقْنَاكُم» إشارة إلى حكم الله، وتقديره لإحداث البشر في هذا العالم. وقوله «صَوَّرْنَاكُم» إشارة إلى أنَّهُ تعالى [أثبت في اللَّوْحِ المحفوظ صورة كل كائن يحدث] إلى يوم القيامة، فخلق الله تعالى عبارة عن حكمه ومشيئته، والتَّصوير عبارة عن إثْبَاتِ صورة الأشياء في اللَّوحِ المحفوظ. ثم بعد هذين الأمرين أحدث الله تعالى آدم، وأمر الملائكة بالسُّجود. قال ابن الخطيب: وهذا التَّأوِيلُ عندي أقْرَبُ من سائر الوُجُوهِ. وقد تقدَّم الكلامُ في هذا السُّجود، واختلاف الناس فيه في سورة البقرة. قوله: «إلاَّ إبليسَ» تقدَّم الكلامُ عليه في البقرة. وكان الحسن يقول: إبليسُ لم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 28 يكن من الملائكةِ؛ لأنه خُلقَ من نارٍ والملائكة من نور لا يستكبرون عن عبادته، ولا يستحسرون، و [هو ليس كذلك فقد عصى إبليس واستكبر، والملائكةُ ليسوا من الجنِّ وإبليسُ من الجنِّ، والملائكة رسُلُ اللَّهِ، وإبليسُ ليس كذلك، وإبليسُ أوَّلُ خليقة الجنِّ وأبوهم كما أنَّ آدمَ أوَّلُ خليقة الإنس وأبُوهم، وإبليسُ له ذُرِيَّةٌ والملائكة لا ذُرِّيَّةَ لهم. قال الحسنُ: ولمَّا كان إبليس مأموراً مع الملائكة استثناه اللَّهُ وكان اسم إبليسَ شيئاً آخر فلما عَصَى اللَّهَ سمَّاهُ بذلك، وكان مؤمناً عابداً في السَّماءِ حتَّى عصى الله؛ فأهبط إلى الأرض] . قوله: «لَمْ يَكُنْ» هذه الجملة استئنافِيَّةٌ؛ لأنها جوابُ سؤال مقدَّرٍ، وهذا كما تقدَّم في قوله في البقرة «أبَى» ، وتقدَّم أنَّ الوقف على إبليس. وقيل: فائدة هذه الجُمْلَة التَّوكيد لما أخرجه الاستثناء من نفي سجود إبليس. وقال أبُو البقاءِ: إنَّهَا في محلِّ نصب على الحال أي: إلاَّ إبليس حال كونه ممتنعاً من السُّجُودِ، وهذا كما تقدَّم له في البقرة من أن «أبَى» في موضع نصب على الحال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 29 في «لا» هذه وجهان: أظهرهما: أنها زائدة للتوكيد. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «لا» في «ألاَّ تسجد» صلة بدليل قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [سورة ص: 75] ومثلها {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] بمعنى ليعلم، ثم قال: فإن قلت ما فائدةُ زيادتها؟ قلت: توكيد بمعنى الفعل الذي يدخلُ عليه، وتحقيقه كأنه قيل: يستحق علم أهل الكتاب، وما منعك أن تحقق السُّجُود، وتُلزمه نفسك إذا أمرتك؟ . وأنْشَدُوا على زيادة «لا» قول الشَّاعر: [الطويل] 2410 - أبَى جُودُهُ لا البُخْلَ واسْتَعْجَلتْ نَعَمْ ... بِهِ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ يروى «البُخْل» بالنصب والجر، والنصبُ ظاهرُ الدلالة في زيادتها، تقديره: أبى جُودهُ البخل. وأمَّا رواية الجر فالظَّاهرُ منها عدم الدلالة على زيادتها، ولا حجَّة في هذا البيت على زيادة «لا» في رواية النَّصْبِ، ويتخرَّجُ على وجهين: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 29 أحدهما: أن تكون «لا» مفعولاً بها، و «البخل» بدلٌ منها؛ لأن «لا» تقالُ في المنع فهي مؤدِّية للبُخْلِ. والثاني: أنَّها مفعول بها أيضاً، و «البُخْل» مفعول من أجْلِهِ، والمعنى: أبي جُودُه لفظ «لا» لأجل البُخْلِ أي: كَرَاهَة البُخْلِ، ويؤيِّدُ عدَمَ الزِّيادةِ روايةُ الجَرِّ. قال أبُو عمرو بْنُ العلاءِ: «الرِّوايةُ فيه بخفض» البُخْلِ «؛ لأن» لا «تستعمل في البُخْلِ» ، وأنشدُوا أيضاً على زيادتها قول الآخر: [الكامل] 2411 - ... أفَعَنْكِ لا بَرْقٌ كأنَّ وَميضَهُ غَابٌ تَسَنَّمَهُ ضِرَامٌ مُثْقَبُ ... يريد أفعنك بَرْقٌ، وقد خرجَّه أبُو حيَّان على احتمال كَوْنِهَا عاطفة، وحذف المعطوف، والتقديرُ: أفعنك لا عن غَيْرِك. وكون " لا " في الآية زائدة هو مذهب الكسائي، والفراء والزجاج، وما ذكرناه من كون البخل بدلا من " لا "، و" لا " مفعول بها هو مذهب الزجاج. وحكى بعضهم عن يونس قال: كان أبو عمرو بن العلاء يجر " البخل " ويجعل " لا " مضافة إليه، أراد أبي جوده لا التي هي للبخل؛ لأن " لا " قد تكون للبخل وللجود، فالتي للبخل معروفة، والتي للجود أنه لو قال له: " امنع الحق " أو " لا تعط المساكين " فقال: " لا " كان جودا. قال شهاب الدين: يعني فتكون الإضافة للتبيين، لأن " لا " صارت مشتركة فميزها بالإضافة، وخصصها به، وقد تقدم طرف جيد من زيادة " لا " في أواخر الفاتحة. وزعم جماعة أن " لا " في هذه الآية الكريمة غير زائدة لكن اختلفت عبارتهم في تصحيح معنى ذلك؟ فقال بعضهم: في الكلام حذف يصح به النفي والتقدير: ما منعك فأحوجك ألا تسجد؟ وقال بعضهم: المعنى ما ألجأك ألا تسجد. وقال بعضهم من أمرك ألا تسجد؟ أو من قال لك ألا تسجد، أو ما دعاك ألا تسجد. قالوا: ويكون هذا استفهاما على سبيل الإنكار، ومعناه أنه ما منعك عن ترك السجود شيء، كقول القائل لمن ضربه ظلما: ما الذي منعك من ضربي، أدينك أم عقلك أم جارك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 30 والمعنى أنه لم يوجد أحد هذه الأمور، وما امتنعت من ضربي. وقال القاضي: ذكر الله المنع وأراد الداعي فكأنه قال: ما دعاك إلى ألا تسجد؛ لأن مخالفة أمر الله تعالى حالة عظيمة يتعجب منها ويسأل عن الداعي إليها. وهذا قول من يتحرج من نسبة الزيادة إلى القرآن، وقد تقدم تحقيقه، وأن معنى الزيادة على معنى يفهمه أهل العلم، وإلا فكيف يدعي زيادة في القرآن بالعرف العام؟ هذا ما لا يقوله أحد من المسلمين. و" ما " استفهامية في محل رفع بالابتداء، والخبر الجملة بعدها أي: أي شيء منعك؟ . و" أن " في محل نصب، أو جر؛ لأنها على حذف حرف الجر إذ التقدير: ما منعك من السجود؟ و" إذ " منصوب ب " تسجد " أي: ما منعك من السجود وقت أمري إياك به. (فصل في دلالة الأمر) احتجوا بهذه الآية على أن الأمر يفيد الوجوب؛ لأنه تعالى ذم إبليس على ترك ما أمر به، ولو لم يفد الأمر الوجوب لما كان مجرد ترك المأمور به يوجب الذم. فإن قالوا: هب أن هذه الآية تدل على أن ذلك الأمر كان يفيد الوجوب فلعل تلك الصيغة في ذلك الأمر كانت تفيد الوجوب، فلم قلتم: إن جميع الصيغ يجب أن تكون كذلك؟ والجواب: أن قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} يفيد تعليل ذلك الذم بمجرد ترك الأمر، لأن قوله: " إذ أمرتك " مذكور في معرض التعليل، والمذكور في قوله: إذ أمرتك " هو الأمر من حيث إنه أمر لا كونه أمرا مخصوصا في صورة مخصوصة فوجب أن يكون ترك الأمر من حيث إنه أمر موجبا للذم. (فصل في دلالة الأمر على الفور أم التراخي) واحتجوا أيضا بهذه الآية على أن الأمر يقتضي الفور، قالوا: لأنه تعالى ذم إبليس على ترك السجود في الحال، ولو كان الأمر لا يفيد الفور لما استوجب الذم بترك السجود في الحال. قوله: " أنا خير منه " اعلم أن قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد} طلب للداعي الذي دعاه إلى ترك السجود، فحكى تعالى عن إبليس ذكر ذلك الداعي، وهو أنه قال: " أنا خير منه ". قوله: " خلقتني من نار " لا محل لهذه الجملة؛ لأنها كالتفسير والبيان للخيرية ومعناه: أنا لم أسجد لآدم؛ لأني خير منه ومن كان خيرا من غيره فإنه لا يجوز أمر ذلك الأكمل بالسجود لذلك الأدون، ثم بين المقدمة الأولى، وهو قوله: " أنا خير منه " بأن قال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 31 خلقتني من نار، وخلقته من طين، والنار أفضل من الطين والمخلوق من الأفضل أفضل. أما بيان أن النار أفضل من الطين فلأن النار مشرق علوي لطيف خفيف حار يابس مجاور لجواهر السماوات، قوية التأثير والفعل، والأرض ليس لها إلا القبول والانفعال، والفعل أشرف من الانفعال،، وأيضا فالنار مناسبة للحرارة الغريزية وهي مادة الحياة. وأما الأرضية والبرد واليبس، فهما يناسبان الموت والحياة أشرف من الموت، وأيضا فالنضج متعلق بالحرارة، وأيضا فسن النمو من النبات لما كان وقت كمال الحرارة كان غاية كمال الحيوان حاصلا في هذين الوقتين، وأما وقت الشيخوخة فهو وقت البرد واليبس المناسب للأرضية، لا جرم كان هذا الوقت أردى أوقات عمر الإنسان. وأما بيان أن المخلوق من الأفضل أفضل فظاهر؛ لأن شرف الأصول يوجب شرف الفروع. وأما بيان أن الأشرف لا يجوز أن يؤمر بخدمة الأدون، فإنه قد تقرر في العقول أن من أمر أبا حنيفة والشافعي رضي الله عنهما وسائر أكابر الفقهاء بخدمة فقيه نازل الدرجة كان ذلك قبيحا في العقول، فهذا هو تقرير لشبهة إبليس. والجواب عنها أن نقول: هذه الشبهة مركبة من مقدمات ثلاث: أولها أن النار أفضل من التراب، وهذا قد تقدم الكلام فيه. قال محمد بن جرير: ظن الخبيث أن النار خير من الطين ولم يعلم أن الفضل ما جعل الله له الفضل، وقد فضل الطين على النار. وقالت الحكماء: للطين فضل على النار من وجوه: منها: أن من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع، فأورثه المغفرة والاجتباء والتوبة والهداية. ومن جوهر النار الخفة، والطيش، والحدة والارتفاع والاضطراب وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار فأورثه اللعنة والشقاوة؛ ولأن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرقها، [و] لأن التراب سبب الحياة؛ لأن حياة الأشجاء، والنبات به، والنار سبب الهلاك، ولأن التراب يكون منه وفيه أرزاق الحيوان، وأقواتهم ولباس العباد وزينتهم وآلات معايشهم ومساكنهم والنار لا يكون فيها شيء من ذلك، وأيضا النار مفتقرة إلى التراب، وليس التراب مفتقر إليها، فإن المحل الذي يكون مكونا من التراب أو فيه فهي الفقيرة إلى التراب، وهي غني عنها. وأيضا إن النار وإن حصل بها بعض المنفعة فالشر كامن فيها، لا يصدها عنه إلا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 32 حبسها، ولولا الحابس لها لأفسدت الحرث والنسل وأما التراب فالخير والبركة [فيه] ، كلما قلب ظهرت بركته وخيره. فأين أحدهما من الآخر؟ وأيضا فإن الله تعالى أكثر ذكر الأرض في كتابه، وذكر منافعها وخلقها، وأنه جعلها: {مهادا} [النبأ: 6] و {فراشا} [البقرة: 22] و {بساطا} [نوح: 19] ، و {قرارا} [النمل: 61] و {كفاتا} [المرسلات: 25] للأحياء والأموات ودعا عباده إلى التفكر فيها، والنظر في آياتها وعجائب ما أودع فيها، ولم يذكر النار إلا في معرض العقوبة والتخويف والعذاب إلا موضعا أو موضعين ذكرها بأنها {تذكرة ومتاعا للمقوين} [الواقعة: 73] بذكره لنار الآخرة، ومتاعا لبعض أفراد الناس وهم المقوون النازلون بالمفازة، وهي الأرض الخالية إذا نزلها المسافر تمتع بالنار في منزله. فأين هذا من أوصاف الأرض. وأيضا فإن الله تعالى وصف الأرض بالبركة في مواضع من كتابه، وأخبر أنه بارك فيها، وقدر فيها أقواتها، وقال: {ونجيناه ولوطا إلى الأرض التي باركنا فيها} [الأنبياء: 71] ، {وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها} [سبأ: 18] {ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها} [الأنبياء: 81] وأما النار فلم يخبر بأنه جعل فيها بركة أصلا بل المشهور أنها مذهبة للبركات مبيدة لها. فأين المبارك في نفسه من المزيل للبركة؟ وما حقها؟ وأيضا فإن الله - تبارك وتعالى - جعل الأرض محل بيوته التي يذكر فيها اسمه، ويسبح له بالغدو، والآصال، وبيته الحرام الذي جعله قياما للناس مباركا، وهدى للعالمين. وأيضا فإن الله أودع في الأرض من المنافع، والمعادن، والأنهار والثمرات والحبوب، وأصناف الحيوان ما لم يرد في النار شيء منه إلى غير ذلك. وأما المقدمة الثانية، وهي من كانت مادته أفضل فهو أفضل، فهذا محل النزاع، والبحث؛ لأنه لما كانت الفضيلة عطية من الله - تبارك وتعالى - ابتداء لم يلزم من فضيلة المادة فضيلة الصورة، ألا ترى أنه يخرج الكافر من المؤمن، والمؤمن من الكافر، والنور من الظملة والظلمة من النور، وذلك يدل على أن الفضيلة لا تحصل إلا بفضل الله، لا بسبب فضيلة الأصل والجوهر. وأيضا، فالتكليف إنما يتناول الحي بعد انتهائه إلى حد كمال العقل فالمعتبر بما انتهى إليه لا بما خلق منه. وأيضا فالمفضل إنما يكون بالأعمال، وما يتصل بها، لا بسبب المادة؛ ألا ترى أن الحبشي المؤمن مفضل على القرشي الكافر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 33 (فصل في تخصيص العموم بالقياس) احتج من قال " إنه لا يجوز تخصيص عموم بالقياس " بهذه الآية؛ فإنه لو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استوجب إبليس هذا التعنيف الشديد، والتوبيخ العظيم، ولما حصل ذلك دل على أن تخصيص عموم النص بالقياس لا يجوز. وبيانه أن قوله تعالى للملائكة: " اسجدوا لآدم " خطاب عام يتناول جميع الملائكة، ثم إن إبليس أخرج نفسه من هذا العموم بالقياس، وهو أنه مخلوق من النار، والنار أشرف من الطين، ومن كان أصله أشرف فهو أشرف فيلزم كون إبليس أشرف من آدم، ومن كان أشرف من غيره فإنه لا يؤمر بخدمته لأن هذا الحكم ثابت في جميع النظائر، ولا معنى للقياس إلا ذلك فثبت أن إبليس ما عمل في هذه الواقعة شيئا إلا أنه خصص العموم بالقياس، فاستوجب بذلك الذم الشديد، فدل ذلك على أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز. وأيضا فالآية تدل على صحة هذه المسألة من وجه آخر، وهو أن إبليس لما ذكر هذا القياس قال تعالى: {فاهبط منها فما يكون لك أن تتكبر فيها} [الآية 13 من الأعراف] ووصف إبليس بكونه " متكبرا " بعد أن حكى عنه القياس [الذي يوجب تخصيص النص، وهذا يقتضي أنه من حاول تخصيص النص بالقياس] تكبر على الله، ودلت هذه الآية على أن التكبر على الله يوجب العقاب الشديد، والإخراج من زمرة الأولياء والإدخال في زمرة الملعونين، فدل ذلك على أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز، وهذا هو المراد بما نقله الواحدي في " البسيط " عن ابن عباس أنه قال: " كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس فعصى ربه، وقاس ". وأول من قاس إبليس، وكفر بقياسه، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس. والجواب أن القياس الذي يبطل النص بالكلية باطل، أما القياس الذي يخصص [النص] في بعض الصور لم قلتم: إنه باطل؟ وتقريره: أنه لو قبح أمر من كان مخلوقا من النار بالسجود لمن كان مخلوقا من الأرض لكان قبح أمر من كان مخلوقا من النور المحض بالسجود لمن كان مخلوقا من الأرض أولى؛ لأن النور أشرف من النار، وهذا القياس يقتضي أن يقبح أمر كل واحد من الملائكة بالسجود لآدم، فهذا القياس يقتضي رفع مدلول النص بالكلية وأنه باطل. أما القياس الذي يقتضي تخصيص مدلول النص العام لم قلتم: إنه [باطل؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 34 ويمكن أن يجاب بأن يقال: إن كونه أشرف من غيره يقتضي قبح أن يلجأ الأشرف] إلى خدمة الأدنى، أما لو رضي ذلك الشريف بتلك الخدمة لم يقبح؛ لأنه لا اعتراض عليه في أن يسقط حق نفسه، أما الملائكة فقد رضوا بذلك فلا بأس به، وأما إبليس فإنه لم يرض بإسقاط هذا الحق، فوجب أن يقبح أمره بذلك السجود، فهذا قياس مناسب، وإنه يوجب تخصيص النص، ولا يوجب رفعه بالكلية ولا إبطاله، فلو كان تخصيص النص بالقياس جائزا لما استوجب الذم العظيم، فلما استوجب استحقاق هذا الذم العظيم علمنا أن ذلك إنما كان لأجل أن تخصيص النص بالقياس لا يجوز. (فصل في بيان قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد} ) قوله تعالى: {ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك} لا شك أن قائل هذا القول هو الله سبحانه وتعالى، وقوله: {أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين} لا شك أن قائل هذا القول هو إبليس، وقوله: " فاهبط منها " لا شك أن قائل هذا القول هو الله سبحانه وتعالى، وقوله: {فأنظرني إلى يوم يبعثون} لا شك أن هذا قول إبليس، ومثل هذه المناظرة بين الله وبين إبليس مذكور في سورة " ص ". وإذا ثبت هذا فنقول: إنه لم يتفق لأحد من أكابر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مكالمة مع الله مثل ما اتفق لإبليس، وقد عظم الله شرف موسى - عليه الصلاة والسلام - بقوله: {وكلمه ربه} [الأعراف: 143] {وكلم الله موسى تكليما} [النساء: 164] ، فإذا كانت المكالمة تفيد الشرف العظيم فكيف حصلت على أعظم الوجوه لإبليس؟ وإن لم يوجب الشرف العظيم فكيف ذكره الله تعالى في معرض التشريف لموسى - عليه الصلاة والسلام -. والجواب من وجهين: أحدهما: قال بعض العلماء: إنه تعالى قال ذلك لإبليس بواسطة على لسان بعض الملائكة؛ لأنه ثبت أن غير الأنبياء لا يخاطبهم الله إلا بواسطة. الثاني: أنه تعالى تكلم مع إبليس بلا واسطة لكن على وجه الإهانة بدليل قوله تعالى: {فاخرج إنك من الصاغرين} ، وتكلم مع الأنبياء على سبيل الإكرام بدليل قوله [تعالى] لموسى - عليه الصلاة والسلام -: {وأنا اخترتك} [طه: 13] ، وقوله: {واصطنعتك لنفسي} [طه: 41] وهذا نهاية الإكرام. الضمير في " منها " الضمير في «منها » قال ابن عباس: «يُريدُ من الجنَّة؛ لأنه كان من سُكَّانها» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 35 قال ابن عباس: كان في عدنٍ، لا في جنَّة الخلْدِ. وقيل: تعودُ على السَّمَاءِ، لأنه روي عن ابن عباس: «أنَّهُ وَسْوَسَ إليهما وهو في السَّمَاءِ» ، ولأنَّ الهبوط إنَّما يكون من ارتفاع. وقيل: يعود على الأرْضِ، أمِر أن يخرج منها إلى جَزائر البحار ولا يدخل في الأرض إلا كالسَّارِقِ. وقيل: يَعُودَ على الرُّتْبَةِ المُنيفَةِ، والمَنْزِلَةِ الرَّفيعَةِ. وقيل: يَعُودُ على الصُّورةِ والهيئة الَّتي كان عَلَيْهَا؛ لأنَّهُ كان مُشْرِقَ الوَجْهِ فَعَادَ مظلماً. قوله: «فَاخْرُجْ» تَأكِيدٌ ل «اهْبِطْ» إذْ هو بمعناهُ. وقوله: «فِيهَا» لا مفعوم لهُ يعني: أنَّهُ لا يتوهَّمُ أنَّهُ يجوزُ أنْ يتكبَّرَ في غَيْرَهَا ولما اعْتَبَر بَعْضَهُمْ؛ احْتَاجَ إلى تقدير حذفِ مَعْطُوفٍ كقوله: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] قال: والتقدير: «فَمَا يَكُونُ لَكَ أنْ تَتَكَبَّرَ فيها، ولا في غيرها إنَّكَ من الصَّاغِرينَ، الأذلاَّء، والصَّغَارُ الذُّلُّ والإهانة» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 قوله: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي: أخرنِي، وأمْهِلْني فلا تميتني إلى يوم يُبعَثُونَ من قُبُورهم، وهي النَّفْخَةُ الأخِيرَةُ عند قِيَام السَّاعَةِ. والضَّميرُ في «يُبْعَثُونَ يعودُ على بَنِي آدَمَ لدلالة السِّياقِ عليهم، كما دَلَّ على ما عاد عليه الضَّميرانِ في» منها «وفيها كما تقدم. قوله: ف {إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} قال بعضُ العُلَمَاءِ، إنَّهُ تعالى أنظره إلى النَّفْخَةِ الأولى؛ لأنَّهُ تعالى قال في آيةٍ أخرى: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} [الحجر: 37، 38] ، المراد منه اليوم الذي يموت فيه الأحْيَاءُ كلهُمْ. وقال آخرون: لم يُوقِّتِ اللَّهُ تعالى له أجلاً بل قال: {إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ} وقوله في الآيةِ الأخْرَى {إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} المرادُ منه الوقت المَعْلُومُ في عِلْمِ الله تعالى. قالوا: والدَّليلُ على صِحَّتِهِ: أنَّ إبليس كان مُكَلَّفاً، والمُكَلَّفُ لا يجوزُ أن يعلم أنَّ اللَّهَ تعالى أخَّرَ أجَلَهُ إلى الوقت الفُلانِيِّن لأنَّ ذلك المُكَلّفَ يعلمُ أنَّهُ متى تَابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ، وإذا علم أنَّ وقت موته هو الوَقْتُ الفُلانِيُّ أقدم على المعصية بقلب فارغ، فإذا قَرُبَ وَقْتُ أجَلِهِ؛ تاب عن تلك المعاصي، فَثَبَتَ أن تعريف وقت المَوْتِ بعينه يَجْرِي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 36 مَجْرَى الإغْرَاءِ بالقَبِيح، وذلك غير جَائزٍ على اللَّهِ تعالى. وأجاب الأوَّلُونَ بأنَّ تَعْرِيفَ اللَّه - تعالى - كَوْنَهُ من المُنْظَرِينَ إلى يَوْمَ القِيَامَةِ لا يقْتَضِي إغْراءً؛ لأنَّهُ تعالى كَانَ يعلمُ أنَّهُ يمُوتُ على أقْبَح أنْواعِ الكُفْرِ والفِسْقِ، سواء عَلِمَ وَقْتَ موته، أوْ لم يعلمْهُ، فلم يكنْ ذلك الإعلامُ موجِباً إغراءَهُ بالقبيح، ومثاله أنَّهُ تعالى عرَّف أنبياءَهُ أنَّهُم يموتون على الطَّهَارَة والعِصْمَةِ، ولم يكن ذلك مُوجِباً إغراءهم بالقبيح؛ لأجل أنه تعالى عَلِمَ أنَّهُ سواء عرَّفَهُم تلك الحالة، أم لم يعرِّفْهُمْ تلك الحالة، فإنَّهُم يَمُوتُونَ على الطَّهارة والعِصْمةِ، فلمَّا كان حالهم لا يَتَفَاوت بسببِ هذا التَّعْرِيف، فلا جَرَمَ لم يكن ذلك التعريف إغراء بالقبيحِ فكذلك ههنا. قوله: {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي} في هذه» الباء «وجهان: أحدهما: أنَّهَا قسميَّةٌ وهو الظَّاهِرُ أي: بقدرتك عليَّ، ونفاذ سُلْطانِكَ فيَّ لأقْعَدَنَّ لهم على الطَّريق المُسْتَقِيم الذي يسلكونه إلى الجَنَّةِ بأن أزيِّنَ لهم الباطِل، وما يُكْسِبُهُمْ المآثِمَ. ويدل على أنها باء القسم قوله تعالى في سورة» ص «: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ} [الآية: 82] . والثاني: أنَّها سببيَّةٌ، وبه بدأ الزَّمَخْشَرِيُّ قال: {فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي} فبسبب إغوائِكَ إيَّايَ؛ لأقعدن لهم، ثم قال:» والمعنى فَبِسَبَبِ وُقُوعِي في الغَيِّ لأجْتَهِدَنَّ في إغوائهم حتَّى يَفْسُدُوا بسببي كما فَسَدْتُ بسببهم «. فإنْ قُلْتَ: بِمَ تعلَّقَتِ» البَاءُ «؛ فإنَّ تعلها ب» لأقْعَدُنّ «يصدُّ عنه لام القسم لا تقولُ: واللَّه بزيدٍ لأمرنّ؟ قُلْتُ: تعلَّقتْ بفعل القَسَمِ المَحْذُوف تقديره، فبما أغْوَيْتَني أقْسِمُ باللَّهِ لأقعدنّ [أي] : فبسبب إغوائك أقسم. ويجُوزُ أن يكون «البَاءُ» للقسم أي: فأقْسِمُ بإغْوَائِكَ لأقْعُدَنَّ. قال شهابُ الدِّين. وهذان الوَجْهَانِ سبقه إليهما أبُو بَكْرِ بْنُ الأنْبَارِيِّ، وذكر عبارةً قريبةً من هذه العِبارَةِ. وقال أبو حيان: «وما ذكره من أنَّ اللاَّمَ تصدُّ عن تعلُّقِ البَاءِ ب» لأقْعُدَنَّ «ليس حكماً مجتمعاً عليه، بل في ذلك خِلافٌ» . قال شهابُ الدِّين: أما الخلافُ فنعم، لكنَّهُ خلافٌ ضعيفٌ لا يعتد به أبُو القَاسِمُ، والشَّيْخُ نَفْسُهُ قد قال عند قوله تعالى: {لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ} [الأعراف: 18] في قراءة من كَسَرَ اللاَّم في «لِمَنْ» : إنَّ ذلك لا يجيزه الجمهورُ، وسيأتي مبينّاً إن شاء اللَّهُ تعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 37 و «مَا» تَحْتَمِلُ ثلاثةَ أوْجُهٍ: أظهرها: أنَّهَا مَصْدَريَّةٌ أي: فَبِإغوائِكَ إيَايَ. والثاني: أنَّها استفهاميَّةٌ يعني أنَّهُ اسْتَفْهَمَ عن السَّبب الذي إغواهُ به فقال: فبأيِّ شيءٍ من الأشْيَاءِ أغْوَيْتَنِي؟ ثم استأنَفَ جُمْلَةً أقْسَمَ فيها بقوله: «لأقْعُدَنَّ» وهذا ضعيفٌ عند بعضهم، أو ضرورةً عند آخرينَ من حيثُ أنَّ «مَا» الاسفتهاميَّة إذا جُرَّت حُذِفَتْ ألفُهَا، ولا تثبت إلاَّ في شذوذ كقولهم: عمَّا تَسْألُ؟ أو ضَرُورَةً كقوله: [الوافر] 2412 - عَلَى مَا قَامَ يَشْتمُنِي لَئِيمٌ ... كَخِنْزير تَمَرَّغَ فِي رَمَادِ والثالث: أنَّها شرطيةٌ، وهو قول ابن الأنْبَارِيِّ، ونَصُّهُ قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ويجوز أن يكون «مَا» بتأويل الشَّرْطِ، و «الباء» من صلة الإغواء، والفاءُ المضْمَرةُ جوابُ الشَّرْطِ، والتقديرُ: فبأي شيء أغويتني فلأقعدن لهم صراطَكَ؛ فتُضْمَرُ الفاءُ [في] جواب الشَّرْطِ كما تُضْمِرُهَا في قولك: «إلَى مَا أوْمَأتَ أنِّي قَابِلُهُ، وبما أمرت أني سامعٌ مطيعٌ» . وهذا الذي قاله ضعيف جدّاً، فإنَّهُ على تقدير صحَّةِ معناهُ يمتنعُ من حيث الصناعةُ، فإن فاء الجزاء لا تُحذف إلاَّ في ضَرُورَةِ الشِّعْرِ كقوله: [البسط] 2413 - مَنْ يَفْعَلِ الحَسَنَاتِ اللَّهُ يَشْكُرُهَا ... والشَّرُّ بالشَّرِّ عِنْدَ اللَّهِ مِثْلانِ أيْ: فالله. وكان المبرد لا يُجَوَّز ذلك ضرورة أيضاً، وينشد البيت المذكور: [البسيط] 2414 - مَنْ يَفْعَل الخَيْرَ فالرَّحْمَنُ يَشْكُرُهُ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . فعلى قول أبي بكر يكونُ قوله: «لأقْعدنَّ» جواب قسم محذوف، وذلك القسَمُ المقدَّرُ، وجوابه جوابُ الشَّرْطِ، فيقدَّرُ دخول الفَاءِ على نفس جُمْلَةِ القَسَمِ مع جوابها تقديرُهُ: فبما أغْوَيْتَنِي فواللَّهِ لأقْعُدَنَّ. هذا يتمم مذهبه. والإغواء إيقاع الغَيِّ في القَلْبِ أي: بما أوْقَعْتَ في قلبي من الغَيِّ والعِنَادِ والاستكبار وقد تقدَّمَ في البَقَرَة. قوله: «صِرَاطكَ» في نَصْبِهِ ثلاثة أوْجُهٍ: أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على إسْقَاطِ الخَافِضِ. قال الزَّجَّاج: ولا اختلاف بين النَّحءويين أنَّ «على» محذوفة كقولك: «ضَرَبَ زيد الظَّهْرَ والبطنَ، أي: على الظَّهْرِ والبَطْن» . إلا أن هذا الذي قاله الزَّجَّاجُ - وإن كان ظاهِرُهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 38 الإجماع - ضعيف من حيث إنَّ حَرْفَ الجرِّ لا يطَّردُ حَذْفَهُ، بل هو مخصوص بالضَّرُورَةِ أو الشُّذوذِ؛ كقوله: [الوافر] 2415 - مُرُّونَ الدِّيَارَ فَلَمْ تَعُوجُوا ..... ... ... ... ... ... ... ... . . [وقوله] : [الطويل] 2416 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... لَوْلاَ الأسَى لقَضَانِي [وقوله] : [الطويل] فَبَتُّ كَأنَّ العَائِدَاتِ فَرَشْنَنِي ..... ... ... ... ... ... ... ... . أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرفِ، والتَّقديرُ: لأقْعُدَنَّ لهم في صِرَاطِكَ. وهذا أيضاً ضعيف؛ لأنَّ «صِرَاطكَ» ظرف مكان مُخْتَصّ، والظَّرْفُ المكانيُّ المختصُّ، لا يصل إليه الفِعْلُ بنفسه، بل ب «في» تقول: صلَّيْتُ في المسجد، ونمت في السُّوقِ. ولا تقول: صليتُ المَسْجِدَ إلا فيما استثني في كُتُبِ النحوِ، وإنْ وَرَدَ غير ذلك، كان شاذّاً؛ كقولهم «رَجَعَ ادْرَاجَهُ» و «ذَهَبْتُ» مع «الشَّام» خاصَّة أو ضرورةً؛ كقوله: [الطويل] َزَى اللَّهُ بالخَيْرَاتِ مَا فَعَلا بِكُمْ ... َفِيقَيْنِ قَالاَ خَيْمَتَيْ أمِّ مَعْبَدِ في خَيْمتَي، وجعلُوا نظير الآيةِ في نَصْبِ المكان المختصِّ قول الآخر: [الكامل] َدْنٌ بِهَزِّ الْكَفِّ يَعْسِلُ مَتْنَهُ ... ِيهِ كَمَا عَسَل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ يتُ أنْشَدَهُ النُّحَاةُ على أنَّهُ ضَرُورةٌ، وقد شذَّ ابن الطَّرَاوَةِ عن مذهب النُّحَاةِ فجعل «الصِّراط» و «الطَّريقَ» في هذين الموضعين مكانين مُبْهَمَيْن. وهذا قولٌ مردودٌ؛ لأن المُخْتَصَّ من الأمكنة ما له أقطار تحويه، وحدود تحصره، والصِّراطُ والطَّريقُ من هذا القبيل. الثالث: أنَّهُ منصوبٌ على المفعول به؛ لأن الفِعْلَ قبله - وإنْ كان قاصراً - فقد ضُمِّن معنى فِعْلٍ مُتَعَدٍّ. والتقديرُ: لألزمن صراطك المستقيمَ بقُعُودي عليه. فصل في معنى إغواء إبليس قول إبليس «فَبِما أغْوَيْتَنِي» يدلُّ على أنَّهُ أضَافَ إغواءه إلى اللَّه - تعالى -، وقوله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 39 في آية أخرى: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] يدلُّ على أنَّهُ أضَافَ إغواء العباد غلى نفسه، فالأول دلَّ على مَذْهَب أهْلِ الجَبْر، والثَّانِي يدلُّ على مذهب [أهل] القدر، وهذا يدلُّ على أنه طكان متحيراً في هذه المسألةِ. وقد يقال: إنَّهُ كان معتقداً بأن الإغواءِ لا يَحْصُلُ إلاَّ بالمغوي فَجَعَلَ نَفْسَهُ مُغْوِياً لغيره من الغاوين ثمَّ زعم أنَّ المُغوي لهُ هو اللَّهُ - تعالى - قطعاً للتَّسلْسُل. واختلفُوا في تَفْسير هذه الكَلِمَةِ، فقال أهْلُ السُّنَةِ: الإغواءُ إيقاع الغيِّ في القَلْبِ، والغيُّ هو الاعتقادُ البَاطِلُ، وذلك يدلُّ على أنَّهُ كان يعتقدُ أنَّ الحقَّ والباطل أنَّمَا يقعُ في القَلْبِ من اللَّهِ. وأمَّا المعتزلةُ فلهم ههنا مقاماتٌ. أحدها: أن يفسِّرُوا الغَيَّ بما ذكرناه، ويعتذروا عنه بوجوه. منها: أن قالوا: هذا قول إبْليسَ، فهب أنَّ إبليس اعتقد أنَّ خَالِقَ الغيِّ، والجهلِ، والكفرِ هو الله، إلاَّ أنَّ قول إبليس ليس بحجَّةٍ. ومنها قالوا: إنَّه تعالى لمَّا أمره بالسُّجُود لآدَمَ؛ فعند ذلك ظهر غيه وكفره، فجاز أن يضيف ذلك إلى الله - تعالى - لهذا المعنى، وقد يَقُولُ القائِلُ: لا تحملني على ضَرْبِكَ أي: لا تَفعلْ ما أضربك عِنْدَهُ. ومنها: أن قوله {ربِّ بِمَا أغْوَيْتَنِي} أي: لعنتني، والمعنى أنَّكَ لمَّا لَعَنْتَنِي بسبب آدَمَ؛ فأنَا لأجْلِ هذه العَداوَةِ؛ ألقي الوساوسَ في قُلُوبهم. المقام الثاني: أنْ يفسِّرُوا الإغْواءَ بالهلاكِ، ومنه قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [مريم: 59] أي: هلاكاً وويلاً، ومنهُ أيضاً قولهم: غَوَى الفَصِيلُ يَغْوِي غوىً؛ إذَا أكثر من اللَّبَنِ حتى يفسدَ جوفه ويُشَارِفَ الهَلاكَ والعَطَبَ. وفسَّروا قوله تعالى: {إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] إن كان اللَّهُ يريدُ أنْ يهلككهم بعنادكم للحق. فهذا جميع الوجوه المذكورة. قال ابْنُ الخَطِيبِ: ونحن لا نُبَالغُ في بيان أنَّ المراد من الإواء في هذه الآية الإضلالُ؛ لأن حَاصِلَهُ يرجع إلى قول إبليس، وإنَّه ليس بحجة إلاَّ أنَّا نقيمُ البرهانُ اليقينيَّ على أنَّ المُغْوِي لإبليس هو اللَّهُ - تعالى - وذلك؛ لأنَّ الغاوي لا بدَّ لهُ من مُغْوٍ، والمُغْوِي له إمَّا أن يكون نَفْسَهُ، أو مخلوقاً آخَرَ، أو اللَّهَ - تعالى - والأوَّلُ باطِلٌ؛ لأن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 40 العاقلَ لا يختارُ الغوَايَة مع العِلْمِ بكونها غوَايَةٌ، والثَّاني أيضاً باطلٌ، وإلاّ لزم إما التَسَلْسُل وإمَّا اغلدَّوْرُ، والثَّالِثُ هو المقصود. فصل في المراد من الإقعاد المراد من قوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} أنَّهُ يُواظِبُ على الإفْسَادِ مواظبة لا يَفْتُرُ عنها، ولهذا المعنى ذكر القُعُود؛ لأن من أراد المُبَالَغَة في تكميل أمر من الأمُور قعد حتى يصير فارغَ البالِ، فيمكنه إتمام المقصود. ومواظبته على الإفْسَادِ، هي مُواظَبَتُهُ على الوَسْوسَةِ بحيثُ لا يَفْترُ عنها. قال المُفَسِّرُونَ: معنى {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} أي: بالصَّدِّ عنه وتزيين البَاطِل؛ حتَّى يهلكوا كما هَلَكَ، أو يضلوا كما ضَلَّ، أو يخيبوا كما خَابَ. فإن قيل: هذه الآيَةُ دَلَّتْ على أنَّ إبليس كان عالماً بالدِّين الحقِّ؛ لأنه قال {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} وصراطُهُ المُستقِيمُ هو دينه الحقُّ، ودَلَّتْ أيضاً على أن إبليس كان عالماً بأنَّ الذي هو عليه من الاعتقاد هو مَحْضٌ الغوايَةِ والضَّلال لأنه لو لم يكن كذلك لما قال: {رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} [الحجر: 39] ، وإذا كان كذلك فكيف يمكن أنْ يرضى إبليسُ بذلك المَذْهَب مع علمه بكونه ضلالاً وغوايةً، وبكونه مضاداً للدِّين الحقِّ، ومنافياً للصِّراط المستقيم، فإنَّ المرءَ إنَّما يعتقدُ الاعتقادَ الفَاسِدَ إذا غلب على ظَنِّهِ كونه حَقّاً، فأمَّا من عَلِمَ أنَّهُ باطلٌ وضلالٌ وغوايةٌ يَسْتَحِيلُ أنْ يختاره، ويرضى به، ويعتقدهُ. فالجوابُ: أنَّ من النَّاسِ من قال: إنَّ كفر إبليسَ كفْرُ عَناد لا كُفْرَ جَهْلٍ، ومنهم من قال: كُفْرُهُ كُفْرُ جَهْلٍ. وقوله: {فَبِمآ أَغْوَيْتَنِي} ، وقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ} يريدُ به في زعم الخَصْمِ، وفي اعتقاده. فصل في بيان هل على الله رعاية المصالح احتجَّ أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّهُ لا يجب على اللَّه رعاية مصالح العبدِ في دينه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 41 ولا في دنياه؛ لأنَّ إبليس استمهل الزَّمَانَ الطويل فأمْهَلَهُ اللَّهُ، ثمَّ بيَّن أنَّهُ إنَّمَا يستمهله؛ لأغواء الخلق، وإضلالهم. والله - تعالى - عَالِمٌ بأنَّ أكثر الخلق يطيعونهُ، وقبلونَ وسْوَسَتَهُ كما قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين} [سبأ: 20] فثبت أنَّ إنْظَارَ إبليس وإمْهَالَهُ هذه المدة الطويلة؛ يَقْتَضِي حصور المفاسِدِ العظيمة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 42 والكفر العظيم، فلو كان تعالى مراعياً لمصالح العبادِ؛ لامتنع أنْ يمهله، وأن يمكنه من هذه المفاسد، فَحَيْثُ أنْظَرَهُ وأمهله؛ علمنا أنَّهُ لا يجب عليه شيء من رِعَايَةِ المصالح أصْلاً، ومما يوِّي ذلك أنَّهُ تعالى بَعَثَ الأنبياءَ دعاة إلى الحقِّ، وعلِمَ من حال إبليس أنَّهُ لا يَدْعُوا إلاَّ إلى الكُفْرِِ والضلالِ، ثم إنَّهُ تعالى أماتَ الأنْبِيَاءِ الذينَ يَدْعُونَ الخلق إلى الحق، وأبقى إبليس وسائر الشياطين الذين يَدْعُونَ إلى الكُفْرِ والبَاطِل، ومن كان مُرِيداً لمَصَالِح العباد؛ امتنعَ منه أنْ يفعل ذلك. قالت المُعتزلةُ: اختلف شُيُوخُنَا في هذه المسألةِ فقال الجُبَّائِيُّ: إنَّهُ لا يختلفُ الحالُ بسببِ وجودِهِ وعدمِهِ، ولا يضل بقوله أحَدٌ إلا من لو فَرَضْنَا عدم إبليس، لكان يضل أيضاً ويَدُلُّ على ذلك قوله تعالى: {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} [الصافات: 162، 163] ، ولأنَّهُ لو ضَلَّ به أحَدٌ لكان بقاؤه مفسدة. وقال أبُو هَاشِم: يجوز أنْ يضل به قَوْمٌ، ويكون خلقه جارياً مجرى خلق زيادة الشَّهْوَة، فإنَّ هذه الزِّيادة من الشهوة لا توجب فِعْلَ القَبيح إلاَّ أنَّ الامْتناعَ منها يصير أشَقَّ، وأجْلِ تلك الزِّيَادة من المشقَّةِ، تحصل الزِّيادةُ في الثَّواب، فكذا ههنا بسبب بقاءِ إبليس يصير الامتناع من القَبَائِح أشد، وأشق، ولكنه لا ينتهي إلى حدِّ الإلجاء والإكْراهِ. والجوابُ: أمَّا قول أبي علي فضعيف؛ لأنَّ الشَّيْطانَ لا بُدَّ وأن يزيِّن القبائِحَ في قلب الكافر ويحسِّنهَا له، ويذكره ما في القَبَائِح من أنواع اللَّذَّاتِ، ومن المعلوم أن حال الإنسان مع حُصُولِ هذا التذكير والتَّزْيين لا يكون مُسَاوِياً لحاله عِنْدَ عدم هذا التذكير والتزيين، ويدلُّ على ذلك العرف، فإنَّ الإنسان إذا حصل له جلساءُ يرغبونه في أمر من الأمُور، ويحسنونه في عينه ويسهِّلُونَ عليه طريقَ الوُصُولِ إليه، ويواظبون على دعوته إليه؛ فإنَّهُ لا يكون حاله في الإقدام على ذلك، كحاله إذا لم يوجد هذا التَّذْكير والتَّحسين والتَّزيين، والعلم بذلك ضروري. وأمَّا قولُ أبي هاشم فضروريُّ البُطْلانِ؛ لأنه إذا صار هذا التَّذكير والتَّزيين حاملاً للمرء على الإقدام على ذلك القبيح كان ذلك سعياً في إلقائِهِ في المفسدة، وما ذكره من خلق الزِّيادةِ في الشَّهْوَةِ فهو حُجَّةٌ أخرى لنا في أنَّ اللَّه تعالى لا يراعي المصلحة، فكيف يمكنه أن يحتجَّ به، والذي يقرره غاية التقرير: أنه لسبب حصول تلك الزِّيادة في الشَّهوة يقع في الكفر وعذاب الأبَدِ، ولو احترزَ عن تلك الشَّهْوَة فغايتُهُ أن يزداد ثوابُهُ بزيَادَةِ تلك المشقَّةِ، وحصول هذه الزَّيادَة من الثَّوابِ شيءٌ لا حَاجَةَ إليْهِ ألْبَتَّة، أمَّا دفعُ العِقَاب المؤبَّدِ، فليه أعظم الحاجات، فلو كان إلهُ العالم مُرَاعياً لمصالح العِبادِ لاسْتَحَال أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 43 يهمل الأهم الأكمل الأعظم لأجل زيادةٍ لا حاجةَ إليها ولا ضَرُورةَ. فَثَبَتَ فساد هذه المذاهب، وأنَّهُ لا يَجِبُ على الله شيء أصلاً. قوله: «ثم لآتينهم» جُمَْةٌ معطوفةٌ على جواب القسم أيضاً وأخبر أنَّهُ بعد أنْ يَقْعُدَ على الصِّراطِ يأتي من هذه الجهات الأربع، ونوَّع حَرْفَ الجرِّ فَجرَّ الأوَّلَيْن [ «ب» مِنْ «والثَّانيين ب» عَنْ «لنكته ذكرها الزَّمَخْشَرِي. قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -:» فإن قُلْتَ كَيْفَ قيلَ: مِنْ بين أيْديهمْ، ومن خلفهم بحرف الابتداء، وعنْ أيْمَانِهِم، وعن شَمَائِلِهِمْ بحرف المُجاوَزَةِ؟ قلت «: المفعول فيه عُدِّي إليه الفِعْلُ نحو تعديته إلى المفعُولِ به، فكما اختلف حروفُ التَّعْدِيَة في ذلك اختلفت في هذا، وكانت لغة تُؤخَذُ ولا تُقاسُ، وإنَّمَا يُفتش عن صِحَّةِ موقعها فقط، فلما سمعناهم يَقُولُون: جلس عن يمينه، وعلى يمينه، وعن شماله، وعلى شماله قلنا: معنى» عَلَى يَمينِهِ «أنَّهُ تمكَّن من جهة اليمين تمكُّن المُسْتعلِي من المُسْتَعْلَى عليه. ومعنى» عَنْ يَمينِهِ «أنَّهُ جَلَسَ مُتَجافِياً عن صاحب اليمينِ غير مُلاصِق له مُنْحَرِفاً عنه، ثُمَّ كَثُرَ حَتَّى استعمل في المُتَجَافِي وغيره كما ذكرنا في» تعال «. ونحوه من المفعول به قولهم:» رَمَيْتُ على القَوْسِ، وعن القَوْسِ، ومن القَوْسِ «لأنَّ السَّهْمَ يَبْعُدُ عنها، ويستعليها إذا وضع على كَبدهَا للرَّمْي، ويَبْتَدِىء الرَّمْيُ منها، فلذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى» في «؛ لأنَّهُمَا ظَرْفَانِ ويَبْتَدِىءُ الرَّمْيُ منها، فلذلك قالوا: جلس بين يديه وخلفه بمعنى طفي» ؛ لأنَّهُمَا ظَرْفَانِ للفعل، ومِنْ بين يديه ومن خلفه؛ لأنَّ الفِعْلَ يقع في بعض الجِهَتَيْنِ كا تقُولُ: جِئْتُ من اللَّيْل تريدُ بعض اللَّيل «. قال شهابُ الدِّين:» وهذا كلامُ مَنْ رَسَخَتْ قَدَمُهُ في فهم كلامِ العرب «. وقال أبُو حيَّان: وهو كلامٌ لا بَأسَ به. فلم يوفِّ حقَّهُ. ثم قال: وأقُولُ: وإنَّما خصَّ بين الأيدي، والخلف بحرف الابتداءِ الذي هو أمكن في الإتْيَانِ؛ لأنَّهُمَا أغلب ما يجيءُ العدوُّ منهما فَيَنَال فرصتَهُ، وقدَّم بين الأيْدِي على الخَلْفِ؛ لأنَّهَا الجِهَةُ الَّتِي تَدُلُّ على إقدام العَدُوِّ وبسالته في مواجهة قِرْنِهِ غير خَائِفٍ مِنْهُ، والخلف جهة غدر ومخاتلة، وجهالة القِرْن بِمَنْ يغتاله، ويتطلب غِرَّتِهِ وغَفْلَتَهِ، وخصَّ الأيمان والشَّمائِلَ بالحرف الذي يدلُّ على المجاوزة؛ لأنهما ليستا بأغلب ما يأتي منهما العَدُوّ، وإنما يجاوز إتْيَانَهُ إلى الجِهَةِ الَّتِي هي أغْلَبُ في ذلِكَ، وقُدِّمَتِ الأيمان على الشَّمائِل؛ لأنها هي الجِهَةُ القويَّةُ في مُلاقَاةِ العَدُوِّ، وبالأيمان البَطْشُ والدَّفْعُ، فالقرن الي يأتي من جهتها أبْسَلُ وأشْجَعُ إذ جاء من الجهة الَّتي هي أقوى في الدَّلإْعِ، والشَّمَائِل ليست في القُوِّةِ والدَّفْعِ كالأيمان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 44 [والأيمانُ] والشَّمَائِلُ جَمْعا يمينٍ وشمالٍ، وهما الجَارِحَتَانِ وتجمعان في القلَّة على أفْعُلٍ، قال: [الرجز] [2420]- يَأتِي لَهَا مِنْ أيْمُنِ وأشْمُلِ ... والشَّمَائِلُ يُعبَّرُ بها عن الأخلاق والشِّيم تقول: له شمائل حسنة، ويُعبَّر عن الحسنات باليمين، وعن السَّيِّئَات بالشَّمَال؛ لأنَّهُمَا منشأ الفعلين: الحسن السيّىء. 2421 - أَبُثْنَى، أفِي يُمْنَى يَدَيْكِ جَعَلْتنِي ... فأفْرَحَ أمْ صَيَّرتني فِي شِمَالِكِ يكنون بذلك عن عِظَمِ المنْزِلَةِ عند الشَّخْصِ وخِسَّتِها، وقال: [الطويل] 2422 - رَأيْتُ بَنِي العَلاَّتِ لمَّا تَضَافَرُوا ... يَجُوْزُوْنَ سَهْمِي بَيْنَهُمْ فِي الشَّمَائِلِ والشَّمائل: جمع شمال بفتح الشِّين وهي الرِّيح. قال ابمرؤ القيس: [الطويل] 2423 - وَهَبَّتْ لَهُ رِيحٌ بِمُخْتَلِفِ الصُّوَى ... صَباً وشَمالٌ فِي مَنَازِلِ قُفَّالِ والألف في «الشَّمال» زائدة، لذا يُزاد فيها الهمزة أيضاً بعد الميم وقبلها فيقولون: شَمْأل وشَأمَل، يدلُّ على ذلك كلِّه سقوطه في التَّصْرِيفِ قالوا: «أشملت الريح» إذا هبت شمالاً. فصل في معنى «من بين أيديهم» قال عليُّ بْنُ أبِي طَلْحَةَ عن ابين عباس: «مْنْ بيْنَ أيدِيهِم أي: من قبل الآخر فأشككهم فيها، ومن خَلْفِهِم أرغبهم في دنياهم وعن أيمانهم أشبه عليهم أمر دينهم، وعن شمائلهم أشهي لهم المعاصي» . وروى عطيَّةُ عن ابن عباس: «مِنْ بَيْنِ أيديِهِمْ من قبل دنياهم يعني أزينها في قلوبهم. ومن خَلْفهمْ: من قبل الآخرة فأقول: لا بَعْثَ، ولا جَنَّة ولا نَارَ، وعن أيْمَانِهِمْ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 45 من قبل حسناتهم وعن شمائلهم: من قبل سيِّئاتهم» . قال ابن الأنْبَاريِّ: «قول من قال الأيمانُ كِنَايَة عن الحسنات والشَّمائِل كناية عن السيئاتِ قول حسنٌ؛ لأنَّ العرب تقولُ: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالكَ، يُريدُ اجعلني من المُقدَّمينَ عِنْدك، ولا تجعلني من المؤخرين» . وروى أبو عبيدة عن الأصمعي أنه قال: «أنتَ عِنْدَنَا باليمين أي: بمنزلة حسنةٍ، وإذا خبثت منزلته قال أنت عندي بالشِّمالِ» . وقال الحكم والسُّدِّيُّ: «مِنْ بَيْنِ أيْدِيهِمْ» : من قبل الدنيا يزيّنها لهم، ومن خلفهم: من قبل الآخرة يثبِّطُهُم عنها، وعن أيمانهم من قبل الحقِّ يَصُدُّهُم عنه، وعن شمائلهم: من قبل الباطل يزينه لهم. وقال قتادَةُ: «أتاهم من بين أيْديِهم فأخبرهم أنَّهُ لا بعث ولا جنَّة، ولا نار، ومن خلفهم في أمْرِ الدُّنْيَا فزينها لهم ودعام إليها، وعن أيْمَانِهِمْ من قبل حسناتهم بطأهم عنها، وعن شمائلهم زيَّن لهم السِّيئات والمعاصي، ودعاهم إليها» . وقال مُجَاهِدٌ: «مِنْ بَيْنِ أيديهم، وعن أيمانهم من حث يبصرون ومن خَلْفِهِم، وعن شمائلهم من حيث لا يُبْصِرُونَ» . قال ابن جريج: معنى قوله: «حَيْثُ يبصرون أي: يخطئون، وحيث لا يُبْصِرُون أي: لا يعلمون أنَّهم يخطئون» . وقيل: من بَيْنِ أيْدِيهِمْ في تكذيب الأنْبِياءِ والرُّسُلِ الذين يكونون حاضرين، ومن خلفهم في تَكْذِيب من تقدَّمَ من الأنبياء والرُّسُلِ، وعن أَيمانهم في الكُفْرِ والبِدْعَةِ، وعن شمائلهم في أنواع المعاصي. وقال حُكَمَاء الإسْلامِ: إنَّ في البدن قُوىً أربعاً؛ هي الموجبة لِقُوَّاتِ السَّعَادَاتِ الرُّوحَانِيَّةِ، فالقوة الأولى الخياليَّةُ التي يجتمع فيها مثل المحسوسات وصورها، وهي موضوعة في البطن المقدَّم من الدِّماغِ، وصورة المحسوسات إنَّمَا تَرِدُ عليها من مقدمها. وإليه الإشارة بقوله: {مِنْ بَيْنِ أيْدِيِهِمْ] . وَالقُوَّةُ الثَّانِيَةُ: الوهمِيَّةُ التي تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 46 للمحسوسات، وهي موْضُوعَةٌ في البَطْنِ المؤخر من الدِّماغِ، وإليه الإشَارَةُ بقوله: «وَمِنْ خَلْفِهِم» . والقُوَّةُ الثَّالِثَةُ: الشَّهْوَةُ، وهي موضوعة في الكبدِ، وهي من يمين البدن، وإليه الإشارة بقوله: «وعَنْ أيْمَانِهِم» . والقُوَّة الرَّابِعَةُ: الغَضَبُ، وهي موضوعةٌ في البطن الأيسر من القلب، وإليه الإشارة بقوله: «وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ» . فهذه القُوَى الأرْبَعُ التي تَتَولَّدُ عنها أحْوالٌ تُوجِبُ زوال السَّعادات الرُّوحانيَّة، والشَّياطين الخارجة ما لم تستعن بشيء من هذه القوى الأربع لم تقدر على إلقاء الوَسْوسَةِ، فهذا هو السَّبَبُ في تعيين هذه الجهات الأربع. روي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إنَّ الشَّيطَانَ قَعَدَ لابْنِ آدْمَ بِطَرِيْقِ الإِسْلامِ فقَالَ: اتَّبِعْ دِيْنَ آبَائِكَ فَعَصَاهُ فأسْلَمَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيْقِ الهِجْرةِ فقالَ لَهُ: تَدَعُ دِيَارَكَ وتَتَغَرَّبُ! فَعَصَاهُ وهَاجَرَ، ثُمَّ قَعَدَ لَهُ بِطَرِيق الجِهَادِ فقال له: تُقَاتِلُ فَتُقْتَلُ فيقُسمُ مَالُكَ وتُنْكَحُ امْرَأتكُ فَعَصَاهُ فقاتَلَ» فهذا الخَبَرُ يدلُّ على أنَّ الشَّيطان لا يترك جهة من جهات الوسْوسَةِ إلاَّ ويلقيها في القَلْبِ. فإن قيل: فلم [لم] يذكر من الجهات الأربع {مِنْ فَوْقِهِم ومِنْ تَحْتِهِم؟} فالجوابُ أنَّا ذكرنا أنَّ القُوَى التي يتولَّدُ منها ما يُوجِبُ تفويتَ السَّعادات الرُّوحانية فهي موضوعةٌ في هذه الجوانب الأربعة من البدنِ. وأمّا في الظَّاهر فيروى أنَّ الشَّيْطانَ لمَّا قال هذا الكلام رقت قلوب الملائكة على البشر فقالوا: يا إلهنا، كيف يتخلَّصُ الإنسان من الشيطان مع كونه مستولياً عليه من هذه الجهات الأرْبَعِ؟ فأوحى اللَّهُ تعالى إليهم: «أنه بَقِيَ للإنسان جهتان: الفَوْقُ والتَّحْتُ، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدُّعَاءِ على سبيل الخضوع، أو وضع جبهته على الأرْضِ على سبيل الخَشُوع غفرت له ذَنْبَ سبعينَ سَنَةً» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 الوجدان هنا يحتمل أن يكون بمعنى اللِّقَاءِ، أو بمعنى العِلْم أي: لا تُلْقي أكثرهم شاكرين أو لا تعلم أكثرهم شاكرين ف «شاكرين» حال على الأَوَّلِ، مفعول ثانٍ على الثَّانِي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 47 وهذه الجملة تحتمل وجهين: أحدهما: أنَّ تكون استئنافية أخبر اللَّعِينُ بذلك لتظنِّيه قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} [سبأ: 20] ، أو لأنَّهُ علمه بطريق قيل: لأنه كان قد رأى ذلك في اللَّوْح المَحْفوظِ. ويحتمل أن تكون دَاخِلَةً في حيِّز ما قبلها من جواب القسمِ فتكونُ معطوفةً على قوله: «لأقْعُدَنَّ» أقْسَمَ على جملتين مُثْبَتَتَيْنِ، وأخرى منفَّية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 ف «مذؤوماً مَدْحُوراً» حالان من فاعل «اخرج» عند من يجيز تعدد الحال لذي حال واحدة، ومَنْ لا يُجيز ذلك ف «مَدْحُوراً» صفة ل «مذؤوماً» أو هي حالٌ من الضَّمير في الجارِّ قَبْلَهَا، فيكونُ الحالانِ مُتَدَاخِلَيْنِ. و «مَذْءُوماً مَدْحُوراً» اسما مفعول مِنْ: ذَأمَهُ وَدَحَرَهُ. فأمَّا ذَأمَهُ فيقالُ: بالهمز: ذَأمَه، يَذْأمُهُ كرَامَه يَرْأمُهُ، وذَامَهُ يَذِمُهُ كبَاعَه يَبِيعُهُ من غَيْر هَمْزٍ، وعليه قولهم: «لنْ تَعْدَمَ الحَسْنَاءُ ذَاماً» يروى بهمزةٍ ساكنةٍ أو ألف، وعلى اللُّغَةِ الثَّانية قول الشاعر: [الطويل] 2424 - تَبِعْتُك إذْ عَيننِي عَلَيْهَا غَشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أذِيمُهَا فَمَصْدَرُ المَهمُوز: ذأمٌ كرأس، وأمَّا مصدر غير المهموز فَسُمِعَ فيه ذامٌ بألف، وحكى ابْنُ الأنْبَارِيِّ فيه ذيماً كينعٍ قال: يقال: ذأمْتُ الرَّجُلَ أذْأمُه، وذِمْتُه أذِيْمُه ذَيْماً، وذَمَمْتُه أذُمُّه ذَماً بمعنىً؛ وأنشد: [الخفيف] 2425 - وأقَامُوا حَتَّى أبِيرُوا جَمِيعاً ... فِي مقَامٍ وكُلُّهُمْ مَذْءُومْ ُّ: العَيْبُ ومنه المثلُ المتقدَّمُ: «لن تَعْدَمَ الحَسْنَاءُ ذاماً» أي كُلُّ امرأة حسنة لا بدَّ أن يكون فيها عيب ما وقالوا: «أرَدْتَ أنْ تُذيمَهُ فمَدَهْتَهُ» أي: «تُعيُبُه فَمَدحْتَهُ» فأبدل الحاء هاء: وقيل: الذَّامُ: الاحتقارُ، ذَأمْتُ الرجل: أي: احْتَقَرْتُهُ، قاله الليثُ. وقيل: الذَّامُ الذَّمُّ، قاله ابن قيتبة وابن الأنْبَاريِّ؛ قال أمّيَّةُ: [المتقارب] 2426 - وَقَالَ لإبْلِيسَ رَبُّ العِبَادِ ... [أن] اخْرُجُ لَعِيناً دَحِيراً مَذُومَا والجمهور على «مَذْءُوماً» بالهمز. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 48 وقرأ أبُو جَعْفَرٍ والأعمشُ والزُّهْرِيُّ «مَذُوْماً» بواوٍ واحدةٍ من دون همز وهي تَحْتَمِلُ وجهين: أحدهما - ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه - أنَّهُ تَخْفِيف «مذؤوماً» في القراءةِ الشَّهيرةِ بأن أُلْقِيَتْ حَرَكَةُ الهَمْزَةِ على الذَّالِ السَّاكنة، وحُذِفَت الهَمْزَةُ على القاعدةِ المُشْتَهِرَةِ في تَخْفيفٍ مثله، فوزن الكلمة آل إلى «مَفُول» لحَذْفِ العَيْنِ. والثاني: انَّ هذه القراءة مَأخُوذَةٌ من لغة مَنْ يَقُولُ: ذِمْتُه أذِيمُهَ كبِعْتُهُ أبيِعُهُ، وكان من حقِّ اسم المَفْعُولِ في هذه اللُّغَةِ مَذِيمٌ كمبيع قالوا: إلا أنَّهُ أبْدِلَتِ الواوُ من اليَاءِ على حدِّ قولهم «مَكثولٌ» في «مَكِيلٍ» مع أنَّهُ من الكيل ومثلُ هذه القراءةِ في احْتِمالِ الوجهين قول أمَيَّةَ بْنِ أبي الصَّلْتِ في البيت المُتقدِّمِ أنشده الواحِديُّ على لغةِ «ذَامَهُ» بالألف «يَذِيمُهُ» بالياء، ولَيْتَهُ جعله محتملاً للتَّخْفِيفِ من لُغَةِ الهَمْزِ. والدَّحْرُ: الطَّرْدُ والإبْعَادُ يقال: دَحَرَهُ، يَدْحَرُهُ دَحْراً، ودُحوراً؛ ومنه: {وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً} [الصافات: 8، 9] ؛ وقول أميَّةَ في البيت المتقدم «لَعِيناً دَحِيراً» . وقوله أيضاً: [الكامل] 2427 - وبإذْنِهِ سَجَدُوا لآدَمَ كُلُّهُمْ ... إلاَّ لَعِيناً خَاطِئاً مَدْحُوراً وقال الآخرُ: [الوافر] 2428 - دَحَرْتُ بَنِي الحَصِيبِ إلى قَدِيدٍ ... وقَدْ كَانثوا ذَوِي أشَرٍ وفَخْرٍ [قال ابن عباس: «مذءُوماً أي: ممقوتاً» . وقال قتادةُ: «مَذْءُوماً مدحوراً أي: ليعناً شقيّاً» . وقال الكَلْبِيُّ: «مَذموماً ملوماً مدحوراً مقصيّاً من الجنَّةِ ومن كُلِّ خَيْر» ] . قوله: «لَمْن تبعكَ» في هذه «اللاَّام» وفي «من» وجهان: أظهرهما: أنَّ اللاَّمَ هي المُوطِّئَةُ لقسم مَحْذُوفٍ، و «مَنْ» شَرْطِيَّةٌ في محلِّ رفع بالابتداء، و «لأملأنَّ» جواب القسم المَدْلُول عليه بلام التوْطِئَة، وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ لِسَدِّ جواب القَسَم مَسَدَّه. وقد تقدَّم إيضاحُ ذلك مراراً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 49 والثاني: أنَّ اللاَّم لامُ الابتداء، و «مَنْ» مَوْصُولَةٌ و «تَبِعَكَ» صلتها، وهي في محلِّ رفع بالابتداء أيضاً، و «لأمْلأنَّ» جوابُ قسمٍ محذوفٍ، وذلك القَسَمُ المَحْذُوفُ، وجوابُه في محلِّ رفع خبرٍ لهذا المُبْتَدَأ، والتَّقْديرُ، للّذي تبعك منهم، واللَّهِ لأمْلأنَّ جَهَنَّم منكم. فإن قُلْتَ: أيْنَ العِائِدُ من الجملة القسمِيَّةِ الواقِعَةِ خبراً عن المبتدأ؟ قلتُ: هو مُتَضَمَّنٌ في قوله «مِنْكُمْ» ؛ لأنَّهُ لمَّا اجتمع ضَمِيراً غَيْبَةٍ وخطابٍ غلب الخطابُ على ما عُرفَ. وفَتْحُ اللاَّم هو قراءةُ العامَّة. وقرأ عَاصِمٌ في رواية أبي بكر من بعض طرقه والجَحْدَرِيُّ: «لِمَنْ» بكسرها، وخُرِّجَتْ على ثلاثةِ أوْجُهٍ: أحدها - وبه قال ابنُ عطيَّة - أنَّها تتعلَّقُ بقوله «لأمْلأنَّ» فإنَّهُ قال: {لأجْلِ مَنْ تَبِعَكَ مِنْهُم لأمْلأنَّ} ، وظاهرُ هذا أنَّهَا متعلِّقةٌ بالفعل بعد لام القسم. وقاب أبُو حيَّان: «ويمتنعُ ذلك على قَوْلِ الجُمْهُورِ تقديرها؛ لأنَّ ما بعد لام القسم لا يعملُ فيما قبلها» . والثاني: أنَّ اللاَّامَ متعلِّقَةٌ بالذَّأم والدَّخرِ، والمعنى: أخْرُجْ بهاتين [الصِّفتين] لأجل اتِّباعِكَ. ذكره أبُو الفَضْلِ الرَّازِيُّ في كتاب «اللَّوَامِح» على شّاذِّ القراءة. قال شهابُ الدِّين: ويمكن أن تَجِيءَ المسْألةُ من باب الإعمال، لأن كلاًّ من «مذءوماً» و «مدحوراً» يطلبُ هذا الجارَّ عند هذا القَائِلِ من حيثُ المعنى، ويكون الإعمال للثَّانِي كما هو مختار البصريَّين للحذف من الأوَّلِ. والثالث: أن يكون هذا الجَارُّ خبراً مُقَدَّماً، والمُبْتَدَأ محذوف تَقْدِيرُهُ: لمَنْ تَبِعَكَ منهم هذا الوعيدُ، ودّلَّ على قوله هذا الوعيد قوله: «لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ» ؛ لأن هذا القسم وجوابه وعيدٌ، وهذا الذي أراد الزَّمخشريُّ بقوله: يَعْنِي لمن تبعك منهم الوعيد وهو قوله: «لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ» على أنَّ «لأمْلأنَّ» في محلِّ الابتداء و «لمَنْ تَبِعَكَ» خبره. قال أبُو حيَّان: «فإن أراد ظاهر كلامه فهو خطأٌ على مذهب البصريين؛ لأنَّ قوله:» لأمْلأنَّ «جملةٌ هي: جوابُ قسم محذوف، من حَيْثُ كونها جُمْلَةً فقط، لا يجوز أن تكون مبتدأة، ومن حيث كونها جوبااً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً؛ لأنها إذْ ذاك من هذه الحَيْثيَّة لا موضع لها من الإعراب، ومن حيث كونها مبتدأ لها موضع من الإعراب ولا يجُوزُ أن تكون الجُمْلَةُ لها مَوضعٌ من الإعراب لا موضع لها من الإعراب وهو محال؛ لأنَّهُ يلزم أن تكون في موضع رفع، لا في موضع رَفْعٍ، داخل عليها عاملٌ غَيْرُ داخلٍ عليها عامل، وذلك لا يتُصَوَّرُ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 50 قال شهابُ الدِّينِ بعد أنْ قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: «بمعنى لمن تبعك الوعيد وهو لأملأنَّ» : كيف يحسن أنْ يتردد بعد ذلك فيقال: إنْ أرَادَ ظاهِرَ كلامه، كيف يريدُهُ مع التَّصْريح بتأويله هو بنفسه؟ وأمَّا قَوْلُهُ على أنَّ «لأمْلأنَّ» في محلِّ الابتداء، فإنَّمَا قاله؛ لأنَّهُ دَالٌّ على الوعيدِ الذي هو في محل الابتداء، فنسب إلى الدَّالِّ ما يُنْسَبُ إلى المدْلُولِ من جِهَةِ المَعْنَى. وقول الشَّيْخ أيضاً «ومِنْ حَيْثُ كوْنهَا جواباً للقسم المحذوف يمتنع أيضاً إلى آخره» كلام متحمِّل عليه؛ لأنَّهُ لا يريد جملة الجوابِ فقط ألْبَتَّةَ، إنَّمَا يريدُ الجملة القَسَمِيَّةَ برُمتِهَا، وأنَّما استغنى بِذِكْرِهَا عن ذكر قسيمها؛ لأنَّها مَلْفُوظٌ بها، وقد تقدَّم ما يُشْبِهُ هذا الاعتراض الأخير عليه، وجوابُهُ. وأمَّا قَوْلُ الشَّيْخ: «ولا يَجُوزُ أن تكُونَ الجملة لها مَوْضعٌ من الإعراب لا موضع لها من الإعراب» إلى آخر كلامهِ كُلِّهِ شيء واحد ليس فيه مَعْنىً زَائِدٌ. قوله: «أجْمَعِيْنَ» تَأكيدٌ. واعْلَمْ أنَّ الأكْثَرَ في أجمع وأخواته المستعملة في التَّأكيد إنَّمَا يُؤتَى بها بَعْدَ «كُلٍّ» نحو: {فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] وفي غير الأكثر قَدْ تَجِيءُ بدون «كل» كهذه الآية الكريمةِ، فإنَّ «أجْمَعينَ» تأكيد ل «مِنْكُمْ» ، ونظيرُهَا فيما ذكرما قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 43] . فصل قال ابْنُ الأنْبَاريِّ: الكناية في قوله: «لَمَنْ تَبِعَكَ» عائد على ولد آدم؛ لأنَّهُ حين قال: «وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ» كان مخاطباً لولد آدم فرجعتِ الكِنَايَةُ إليهم. قال القَاضِي «: دلَّت هذه الآية على أنَّ التَّابعَ والمتبع يَتَّفِقَانِ في أنَّ جهنَّم تُملأ منهما، فكما أنَّ الكَافِرَ تبعه، فكذلك الفاسق فيجب القطع بدخول الفَاسِقَ في النَّار. وجوابه: أنَّ المذكور في الآية أنَّهُ تعالى يَمْلأُ جهنَّمَ ممن تَبِعَهُ، وليس في الآيَة أنَّ كلَّ من تبعه يدخلُ جهنَّم، فسقط هذا الاستدلالُ، ودلَّتْ هذه الآية على أنَّ جميع أهْلِ البدعِ والضَّلالة يَدْخُلُونَ جهنَّمَ، لأنَّ كلهم متابعون إبليس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 قد تقدَّم الكلامُ على هذه الآيةِ في سورة البقرةِ، بقي الكلامُ هنا على حَرْفٍ واحد وهو قوله تعالى في سُورةِ البقرة: {وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً} [البقرة: 35] بالواو، وقال ههنا بالفَاءِ، والسَّبَبُ فيه من وجهين: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 51 الأول: أنَّ الواو تفيد الجمع المطلق والفاء تفيد الجمع على سبيل التَّعْقِيبِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 52 فالمَفْهُوم من الفاء نوع داخل تحت المفهوم من الواو، ولا مُنَافَاةَ بين النَّوْعِ والجِنْسِ، ففي سورة البقرة ذكر الجِنْسَ، وفي سُورةِ الأعْرَافِ ذكر النَّوْعَ. الثاني: وقال في البقرة: «رغداً» وهو ههنا محذوف لدلالة الكلام عليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 قوله: «فوَسْوَسَ لَهُمَا» أي: فَعَلَ الوَسْوَسَةَ لأجلهما. والفَرْقُ بين وسْوَسَ له وَوسْوَسَ إليه أنَّ وَسْوَسَ له بمعنى لأجله كما تقدَّم، وَوَسْوَسَ إليه ألْقَى إلَيْه الوَسْوَسَةَ. والوَسْوَسَةُ: الكلام الخفيُّ المكرر، ومثله الوسْواسُ وهو صوتُ الحليِّ، والوسوسَةُ أيضاً الخَطْرَةُ الرَّديئَةُ، وَوَسْوَسَ لا يتعدَّى إلى مَفْعُولٍ، بل هو لاَزِمٌ كقولنا: وَلْوَلَتِ المَرأةُ، ووعْوَعَ الذِّئْبُ ويقالُ: رجلٌ مُوَسْوِسٌ بِكَسْرِ الوَاوِ، ولا يُقَالُ بفتحها، قالهُ ابْنُ الأعْرَابِيِّ. وقال غيره: يقال: مُوَسْوَس له، ومُوَسْوَس إليه. وقال اللَّيْثُ: «الوَسْوَسَةُ حديثُ النَّفْس، والصَّوْتُ الخَفِيُّ من ريحٍ تَهُزُّ قصباً ونحوه كالهمْسِ» . قال تعالى {وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 16] . وقال رُؤبَةُ بْنُ العَجَّاج يَصِفُ صَيَّاداً: [الرجز] 2429 - وَسْوَسَ يَدْعُوا مُخْلِصاً رَبِّ الفَلَقْ ... لَمَّا دَنَا الصَّيْدُ دَنَا مِنَ الوَهَقْ أي: لما أراد الصَّيدَ وسوس في نَفْسِهِ: أيُخْطىء أم يُصِيبُ؟ وقال الأزْهَرِيُّ: «وسْوَسَ ووَزْوَزَ بمعنىً واحد» . فإن قيل: كيف وَسْوَسَ إليه، وآدم كان في الجَنَّةِ وإبليس أخرج منها «؟ فالجوابُ: قال الحسن: كان يُوَسْوِسُ من الأرْض إلى السَّمَاءِ وإلى الجِنَّةِ بالقُوَّةِ الفَوْقيَّةِ التي جعلها له. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 53 وقال أبُو مُسْلِمٍ الأصْفهانِيُّ: بَلْ كان آدمُ وإبليس في الجنَّةِ؛ لأنَّ هذه الجنَّةَ كانت بعض جنات الأرض، والذي يقوله بعض النَّاس من» أنَّ إبليس دخل الجنَّة في جَوْف الحيَّةِ ودخلت الحيَّة في الجنَّةِ «فتلك القصة ركيكةٌ ومشهورةٌ. وقال آخَرُون: إنَّ آدم وحَوَّاءَ ربنا قَرُبَا من باب الجَنَّةِ، وكان إبليس واقفاً من خارج الجَنَّةِ على بَابها فيقْرُبُ أحَدُهُمَا من الآخر فتحصل الوسْوسَةُ هناك. فإن قيل: إنَّ آدم - عليه السلام - كان يَعْرِفُ ما بينه وبين إبليسَ من العداوة، فَكَيْفَ قبل قوله؟ فالجواب: [لا يَبْعُد أنْ يُقال إنَّ إبليسَ لَقِيَ آدَمَ مِراراً كثيرةً، ورَغَّبَهُ في أكْلِ الشَّجَرَة بِطُرُقٍ كثيرةٍ؛ فلأجْل] المواظبة والمداومة على هذا التمويه أثَّر كلامه عند وأيضاً فقال تعالى: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] أي: حَلَفَ لهما فاعْتَقَدُوا أنَّ أحَداً لا يَحْلِفُ كاذباً فلذلك قبل قوله. قوله:» لِيُبْدِيَ لَهُمَا «في طلام» لِيُبْدِي «قولان: أظهرهما: أنها لامُ العِلَّةِ على أصلها؛ لأنَّ قَصْدَ الشَّيْطانِ ذلك. وقال بعضهم:» اللاَّمُ «للِصَيْرُورةِ والعاقِبَةِ، وذلك أنَّ الشِّيْطَانَ لم يكن يعلم أنَّهُمَا يعاقبان بهذه العُقُوبَةَ الخَاصَّاةِ، فالمعنى: أن أمْرَهُمَا آل إلى ذلك. الجوابُ: أنهُ يجوزُ أنْ يُعْلم ذلك بطريق من الطُّرُق المتقدِّمةِ في قوله {وَلاَ نَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] . ومعنى قوله:» لِيُبْدِيَ لَهَمَا «ليظهر لهما ما غُطِّي وسُتِرَ عنهما من عوراتهما. قوله:» مَا وُوْري «» مَا «موصولة بمعنى الذي، وهي مفعول ل» لِيُبْدِي «أي: لِيُظْهِر الذي سُتِرَ. وقرأ الجمهور: «وُوْري» بواوين صريحَتَيْنِ وهو ماضٍ مبني للمفعول، أصله «وَارَى» كضارَبَ فلمَّا بُني للمفعول أبْدِلَت الألف واواً كضُورِبَ، فالواو الأولى فاء، والثَّانية زَائِدَةٌ. وقرا عبد الله: «أُوْرِيَ» بإبدال الأولى همزة، وهو بدلٌ جَائِزٌ لا واجب. وهذه قَاعِدٌةٌ كليَّةٌ وهي: أنَّه إذا اجتمع في أوَّلِ الكلمةِ واوان، وتحرَّكتِ الثَّانيةُ، أو كان لها نَظِيرٌ مُتَحَرِّكٌ وجب إبدال الأولى همزة تخفيفاً، فمثال النَّوْعِ الأوَّلِ «أوَيْصِلٌ» ، وَ «أوَاصِلُ» تصغير واصلٍ وتكسيره، فإنَّ الأصل: وُوَيْصِل، وواصل؛ فاجتمع واوان في المثالين ثانيتهما متحركة فوجب إبدالُ الأولى همزة. ومثالُ النَّوْعِ الثَّانِي أوْلى فإنَّ أصلها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 54 وُوْلَى، فالثَّانَيِةُ؛ لكنها قد تتحرَّكُ في الجَمْعِ في قولك: أُوَل؛ كفُضْلَى وفُضَل، فإن لم تتحرَّك ولم تحمل على متحرّك، جَازَ الإبدَالُ كهذه الآيَةِ الكريمةِ. ومثله وُوْطِىءَ وأوْطِىءَ. وقرأ يحيى بن وثاب «وَرِيَ» بواو واحدة مضمومة وراء مكسورة، وكَأنَّهُ من الثُّلاثيِّ المتعدِّي، وتحتاج إلى نَقْلِ أنَّ وَرَيْتُ كذا بمعنى وارَيْتُه. والمُوَارَاةُ: السَّتْرُ، ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا بلغه موت أبي طالب لعليٍّ: «اذْهَبْ فوارِه» . ومنه قول الآخر: [مخلع السبيط] 2430 - عَلَى صَدىً أسْوَدَ المُوَارِي ... فِي التُّرْبِ أمْسَى وفِي الصَّفِيحِ وقد تقدَّم تحقيق هذه المادَّةِ والجمهور على قراءة «سَوْءَاتِهما» بالجمع من غير نقل، ولا إدغام. وقرأ مُجاهدٌ والحسن «سَوَّتهما» بالإفراد وإبدال الهمز [واواً] وإدغام الواو فيها. وقرأ الحسنُ أيضاً، وأبو جعفر وشَيْبَةُ بن نصاح «سَوَّاتهما» بالجمع وتشديد الواو بالعمل المتقدم. وقرأ أيضاً «سَواتِهما» بالجمع أيضاً، إلا أنَّهُ نقل حركة الهمزة إلى الواو من غير عملٍ آخَرَ، وكلُّ ذلك ظَاهِرٌ. فمن قرأ بالجمع فيحتمل وجهين: أظهرهما: أنَّهُ من باب وَضْعِ الجمع موضع التَّثْنِيَةِ كراهية اجتماع تثنيتين، والجمع أخُوا التَّثْنِيَةِ فلذلك ناب منابها كقوله: {صَغَتْ قُلُوبُكُمآ} [التحريم: 4] وقد تقدَّم تَحْقِيقُ هذه القاعدة. ويحتمل أنْ يكون الجَمْعُ هنا على حقيقته؛ لأنَّ لكل واحد منهما قُبُلاً، ودُبُراً، والسوءات كنايةٌ عن ذلك فهي أربع؛ فلذلك جِيءَ بالجَمْعِِ، ويؤيِّدُ الأوَّل قراءةُ الإفراد فإنَّه لا تكون [كذلك] إلاَّ والموضع موضع تثنية نحو: «مَسَحَ أَذُنَيْهِ ظَاهِرهُمَا وبَاطِنَهُمَا» . فصل في أن كشف العورة من المحرمات دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ كَشْفَ العوْرَةِ من المُنْكَرَاتِ، وأنَّهُ لم يزل مُسْتَهْجَناً في الطِّبَاع مُسْتَقْبَحاً في العُقُولِ. قوله: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 55 هذا استثناء مُفَرَّغٌ وهو مفعول من أجله فقدَّرَهُ البَصْرِيُّونَ إلاَّ كراهة أنْ تكونا، وقدَّرَهُ الكوفِيُّون إلاّ أن لا تكونا، وقد تقدَّم مراراً أنَّ قول البَصْرِيِّين أوْلى؛ لأنَّ إضْمَارَ الاسْمِ أحسنُ من إضمار الحَرْفِ. وقرأ الجمهور «مَلَكَيْنِ» بفتح اللاَّم. وقرأ عَلِيٌّ، وابن عباس والحسنُ، والضَّحَّاكُ، ويحيى بْنُ أبِي كَثِير والزُّهْرِيُّ وابن حكيم عن ابن كثير «مَلِكين» بكسرها قالوا: ويُؤيِّدُ هذه القراءة قوله في موضع آخر: {هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} [طه: 120] والمُلك يناسِبُ المَلِك بالكسر. وأتى بقوله «مِنَ الخَالِدِينَ» ولم يقل «أو تَكُونَا خَالِدَيْن» مبالغةٌ في ذلك؛ لأنَّ الوصف بالخُلُودِ أهمُّ من المَلْكية أو المُلْك، فإنَّ قولك: «فُلانٌ من الصَّالحينَ» بلغُ من قولك صالحٌ، وعليه {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} [التحريم: 12] فصل في بيان قوله ما نهاكما ربكما هذا الكلام يمكن أنْ يَكُونَ ذكرَهُ إبْلِيسُ مُخَاطِباً لآدم وحواء، ويمكن أنْ يكُون بوسْوسَةٍ أوْقَعَها في قلبيهما، والأمران مَرْويَّانِ إلاَّ أنَّ الأغْلَبَ أنَّهُ كان على سبيل المُخَاطَبَةِ بدليل قوله تعالى: {وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] . والمعنى: أنَّ إبليس قال لهما هذا الكلام، وأراد به إنْ أكلتما تكونا بمنزلة الملائِكَةِ، أو تكُونَا من الخالدينَ إنْ أكلتما، فرغبهما بأن أوْهَمَهُمَا أنَّ من أكَلَهَا صار كذلك، وأنَّهُ تعالى نَهَاكثمَا عنها لكي لا يكونا بِمَنْزِلَةِ الملائِكَةِ، ولا يخْلُدَا. وفي الآية سُؤالاتٌ: السُّؤالُ الأولُ: كيف أطْمَعَ إبْلِيسُ آدمَ أن يكون ملكاً عند الأكْلِ من الشَّجَرَةِ مع أنَّهُ شَاهَدَ الملائِكة متواضعين سَاجِدينَ له معترفين بفضله؟ . والجوابُ من وجوه: أحدها: انَّ هذا المعنى أحد ما يَدُلُّ على أن الملائكة الذين سجدوا لآدم هم ملائكة الرض، أمّا ملائكةُ السَّموات وسكانُ العَرْشِ والكرسيِّ، والملائكةُ المقرَّبون فما سجدوا لآدم ألْبَتَّةَ. ولو كَانُوا قد سَجَدُوا له لكان هذا التَّطْميع فَاسِداً مختلاًّ. وثانيها: نَقَلَ الواحديُّ عن بعضهم أنَّهُ قال: إنَّ آدمَ علم أنَّ الملائكة لا يمُوتُونَ إلى يوم القيامةِ، ولم يعلم ذلك لنفسه فعرض عليه إبليس أنْ يَصِيرَ مِثْلَ الملكِ في البَقَاءِ. وضعَّف هذا بأنَّهُ لو كان المَطْلُوبُ من الملائِكَةِ هو الخُلُودُ فحينئذٍ لا يبقى فرق بين قوله {إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ} وبين قوله: {إلاَّ أَنْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 56 وثالثها: قال الواحدي: كان ابن عباس يقر «مَلِكَين» بكسر اللام ويقول: ما طمعا في أن يكونا مَلَكَيْن لكنهما استشرفا إلى أن يكونا مَلِكَيْن، وإنَّما أتَاهُمَا المَلْعُونُ من وجهة الملك، ويدلُّ على هذا قوله: {هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى} [طه: 120] ، وضعف هذا الجواب من وجهين: الأول: هب أنَّهُ حصل الجوابُ على هذه القراءة فهل يقول ابنُ عبَّاسٍ أنَّ تلك القراءة المشهورة باطلة؟ أو لا يقولُ ذلك؟ والأولُ باطل، لأنَّ تلك القراءة قراءة متواترة فكيف يُمْكِنُ الطَّعْنُ فيها؟ وأمَّا الثَّاني فعلى هذا التَّقدير الإشكال باقٍ؛ لأنَّ على تلك القراءة يكون بالتَّطْميع قد وقع في أنْ يَصِيرَ بواسطة لذلك الأكل من جملة الملائكة. وحينئذ يَعُودُ السُّؤالُ. الوجه الثاني: أنَّهُ تعالى جعله مسجود الملائكةِ، وأذِن له في أن يسكن الجنَّة، وأنْ يأكل منها رغداً حيث شاء وأراد، [ولا مزيد] في الملك على هذه الدَّرَجَةِ. السؤال الثاني: هل تدلُّ هذه الآية على أنَّ درجة الملائكة أكمل وأفضل من درجة النُبُوَّةِ؟ الجوابُ: أنَّا إذا قلنا: إن هذه الواقعة كانت قَبْلَ النُّبُوَّةِ لم يدلَّ على ذلك؛ لأنَّ آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - حين طَلَبَ الوصُولَ إلى درجةِ الملائِكَةِ ما كان من الأنبياء، وإنْ كانت هذه الواقِعَةُ قد وقعت في زَمَن النُّبُوَّةِ فلعلَّ آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام - رغبَ في أنْ يصيرَ من الملائِكَةِ في القدرة والقُوَّة أو في خلقة الذات بأنْ يَصِيرَ جَوَْهَراً نُورَانياً، وفي أن يصيرَ من سُكَّانِ العرْشِ، وعلى هذا فلا دلالةَ في الآيةِ على ذلك. السُّؤال الثالثُ: نقل أنّ عمرو بْن عُبَيْدٍ قال للحسنِ في قوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} ، وفي قوله «وقَاسَمَهُمَا» قال عمرو: قلت للحسن؛ فهل صَدقَاهُ في ذلك؟ فقال الحسن: مَعَاذَ الل، لو صَدَّقَاهُ لكانا من الكَافرينَ. ووجه السُّؤال: أنه كيف يلزم هذا التَّكْفيير بتقدير أن يُصَدِّقا إبليس في ذلك القول؟ والجوابُ: ذكرُوا في تَقْدير ذلك التَّكفِير أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام لو صدق إبليس في الخلُودِ، لاكن ذلك يوجب إنكار البعث والقيامة وأنه كفرٌ. ولقائل أن يقُول: لا نُسَلِّمُ أنَّه يلزم من ذلك التَّصديق حصولُ الكفْرِ، وبيانه من وجهين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 57 الأول: أن لفظ الخُلُودِ مَحْمُولٌ على طُولِ المُكْثِ لا على الدَّوامِ، فانْدَفَعَ ما ذكره. والثاني: هَبْ أنَّ الخُلُودَ مُفَسّر بالدَّوَامِ إلاَّ أنَّا لا نسلم أنَّ اعْتِقَادَ الدَّوام يُوجِبُ الكُفْرَ، وتقْرِيرُهُ: أنَّ العِلْمَ بأنه تعالى هل يُمِيتُ هذا المكلف، أو لا يُمِيتُهُ؟ علم لا يحصل لا من دليل السَّمْعِ، فلعله تعالى ما بيَّنَ في وقت آدم - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - أنَّهُ يُمِيتُ الخلق، ولمَّا لم يُوجَدِ الدَّلِيلُ السَّمْعِيُّ بأن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لا يجوز له دوام البقاء فلهذا السَّببِ رغِبَ فيه، وعلى هذا التَّقْديرِ فالسُّؤالُ غير لازم. السُّؤالُ الرابعُ: قد ثبت بما سبق أنَّ آدم وحوَّاءَ - عليهما السَّلامُ - لو صدقا إبليس فيما قال لم يلزم تكفِرُهُمَا فهل يقولون: إنَّهُما صَدَّقَاهُ فيه قطعاً؟ أو لم يحصل القَطْعُ، فهل يقولُون: أنَّهُمَا ظَنَّا أن الأمر كما قال، أو ينكرون هذا الظَّنَّ أيضاً. فالجواب: أنَّ المحقِّقين أنْكَرُوا حصولل هذا التَّصديق قطعاً وظناً كما نجد أنفسنا عند الشَّهْوةِ، نقدُمُ على الفعلِ إذا زينَ لنا الغير ما نشتهيه، وإنْ لم نعتقد الأمر كما قال. السُّؤالُ الخامِسُ: قوله: {إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} هذا التَّرغيبُ، والتَّطْمِيعُ وقع بمَجْمُوع الأمرين، أو بأحدهما؟ والجوابُ: قال بعضهم: التَّرْغيبُ في مجموع الأمرين؛ لأنَّهُ أدخل في التَّرْغِيبِ. وقيل: بل هُوَ عَلَى ظاهره على طريق التَّخْييرِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 قوله: «وقَاسَمَهُما» المفاعلةُ هنا يحتمل أن تكُونَ على بابها فقال الزَّمَخْشَرِيُّ: «كأنَّهُ قال لهما: أقْسِمُ لكُمَا أنِّي لمن النَّاصِحِينَ، وقالا له: أتقسُم باللَّهِ أنت إنَّكَ لمن الناصحين لنا فجعل ذلك مُقَاسَمَةً بَيْنَهُم، أو أقسم لهما بالنَّصِيحَةِ، وأقسما له بقبُولِهَا، أو أخرج قسم إبليس على وزن المُفَاعَلَةِ؛ لأنَّهُ اجْتَهَد فيها اجتهاد المُقَاسِمِ» . وقال ابْنُ عطيَّة: «وقَاسَمَهُمَا» أي: حَلَفَ لهما، وهي مفاعلة إذْ قَبُولُ المحلوف له، وإقباله على معنى اليمينِ كالقسم وتقريره: وإنْ كان بَادِىء الرَّأي يعطي أنَّها من واحد ويحتمل أنَّ «فاعل» بمعنى «أفعل» كبَاعَدْته، وأبْعَدْتُهُ، وذلك أنَّ قوله الحَلْف إنَّما كان من إبليس دونهما، وعليه قول خالدِ بْن زُهير: [الطويل] 2431 - وَقَاسَمَها باللَّهِ جَهْداً لأنْتُمُ ... ألَذُّ مِنَ السَّلْوَى إذَا مَا نَشُورُها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 58 قال قتادةُ: حلف لهما بالله حتى خَدَعَهُمَا، وقد يُخْدَعُ المُؤمِنُ بالله. {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} أي: قال إبليس: إنِّي حلفت قبلكما، وأنا أعلم أحْوالاً كثيرةً من المصالحِ والمفاسد، لا تَعْرِفَانها، فامْتَثِلا قولي أرشِدكُمَا، وإبليسُ أوَّلُ من حَلَفَ باللَّهِ كاذباً، فلمَّا حلف ظن آدم أنَّ أحداً لا يحلف بالله إلاَّ صَادِقاً فاغبر به. قوله: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} يجوز في «لَكُمَا» أن تتعلق بما بعده على أن «أل» معرفة لا موصولة، وهذا مذهبُ أبي عُثْمان، أو على أنَّها موصولةٌ، ولكن تُسُومح في الظَّرْفِ وعدليه ما لا يتسامح في غيرهما أتِّسَاعاً فيهما لدورانهما في الكلام، وهو رَأيُ بعض البَصْريِّين، وأنْشَدَ: [الرجز] 2432 - رَبَّيْتُهُ حَتَّى إذا تَمَعْدَدَا ... كَانَ جَزائِي بالعَصَا أنْ أُجْلَدَا ف «بِالعَصَا» متعلِّقٌ بأْجلَدا وهو صلة أنْ، أو أن ذلك جائزٌ مطلقاً، ولو في المفعول به الصَّريح، وهو رأي الكوفيين وأنشدوا: [الكامل] 2433 - ... ... ... ... ... ... ..... وَشِفَاءُ غَيِّكِ خَابِراً أنْ تَسْألِي أي: أن تسألي خابراً، أو أنُّهُ متعلِّقٌ بمحذوف على البيانِ أي: أعني لَكُمَا كقولهم: سُقْياً لك، ورَعْياً، أو تعلَّقَ بمحذوف مدلول عليه بصِلَةِ أل أي: إنِّي نَاصِحٌ لَكُمَا، ومثل هذه الآية الكريمة: {إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين} [الشعراء: 168] ، {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} [يوسف: 68] . وجعل ابن مالك ذلك مطَّرداً في مَسْألةِ أل الموصولة إذا كانت مجرورة ب «من» . ونَصَحَ يتعدَّى لواحدٍ تارَةً بنفسه، وتارةً بحرف الجرِّ، ومثله شَكَرَ، وقد تقدَّمَ، وكال، ووزن. وهل الأصلُ التعدِّي بحرف الجر والتَّعدِّي بنفسه، أو كل منهما أصْلٌ؟ الرَّاجِحُ الثَّالِثُ. وزعم بعضُهم أنَّ المفعول في هذه الأفْعَالِ محذوفٌ، وأنَّ المجرور باللاَّم هي الثَّاني، فإذا قُلْتَ: نَصَحْتُ لِزَيْدٍ فالتقديرُ: نصحتُ لزيدٍ الرَّأيَ، وكذلك شضكَر له صنيعه وكِلْتُ له طعامه وَوَزَنْتُ له متاعه فهذا مَذْهَبٌ رابع. وقال الفرَّاءُ: «العربُ لا تَكَادُ تقول: نَصَحْتُكَ، إنَّمَا يَقُولُونَ نَصَحْتُ لك وأنْصَحُ لك» ، وقد يجوز نصحتك. قال النابغة: [الطويل] 2434 - نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَتَقَبَّلُوا ... رَسُولِي وَلَمْ تَنْجَحْ لَدَيْهِمْ رَسَائِلِي وهذا يقوِّي أنَّ اللاَّم أصلٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 59 والنُّصْحُ: بَذْلُ الجُهْدِ في طلب الخَيْرِ خاصَّةً، وضدُّهُ الغشُّ. وأمَّا «نَصَحْتُ لِزَيْدٍ ثوبه» فمتعدٍّ لاثنين، لأحدهما بنفسه وللثاني بحرف الجرِّ بأتِّفاقٍ، وكأنَّ النُّصْحَ الذي هو بَذْلُ الجهد في الخير مأخُوذٌ من أحد معنيين: أمَّا من نَصَحَ أي أخْلَصَ ومنه: نَاصِحُ العسل أي خَالِصُهُ، فمعنى نَصَحَهُ: أخلص له الوُدَّ، وإمَّا من نَصَحْتُ الجِلْدَ والثَّوْبَ إذا أحكمت خياطتهما، ومنه النَّاسحُ للخيَّاطِ والنَّصَاحُ للخيط، فمعنى نَصَحه أي: أحكم رأيه منه. ويقال: نَصَحه نُصُوحاً ونَصَاحَةً قال تعالى: {توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التحريم: 8] بضمِّ النُّونِ في قراءة أبِي بَكْرٍ، وقال الشَّاعر في «نَصَاحَةٍ» : [الطويل] 2435 - أحْبِبْتُ حُبّاً خَالَطَتْهُ نَصَاحَةٌ ..... ... ... ... ... ... ... ... . . وذلك كذُهُوبٍ، وذهابٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 «الباء» للحال أي: مصاحبين للغرور، أو مصاحباً للغرور فهي حال: إمَّا من الفاعل، أو من المفعول ويجوز أن تكون الباءُ سببيَّةً أي: دَلاَّهُمَا بسببِ أنْ غَرَّهُمَا. والغُرُورُ: مصدرٌ حُذف فَاعِلُهُ ومفعوله، والتقديرُ: بِغُروره إيَّاهُمَا وقوله: «فَدَلاَّهَمَا» يحتملُ أن يكون من التَدْلِيَةِ من معنى دَلاَ دَلْوَه في البِئْرِ، والمعنى أطمعهما. قال أبُو منصور الزْهَرِيُّ: لهذه الكلمة أصلان: أحدهما: أن يكون أصْلُهُ أن الرَّجُلَ العَطْشَانَ يُدْلِي رِجْلَهُ في البئر ليأخذ الماء، فلا يجدُ فيها ماء فوضعت التَّدْلية موضع الطَّمعِ فيما لا فائدة فيه، يقالُ: دَلاَّهُ: إذا أطْمَعَهُ. قال أبُو جنْدَبٍ: [الوافر] 2436 - أحُصُّ فَلاَ أُجِيرُ ومَنْ أُجِرْهُ ... فَلَيْسَ كَمَنْ تَدَلَّى بالغُرُورِ وأن تكون من الدَّالِّ، والدَّالَّةَ، وهي الجُرْأة [أي] : فَجَرَّأهما قال: [الوافر] 2437 - أظُنُّ الحِلْمُ دَلَّ عَلَيَّ قَوْمِي ... وقدْ يُسْتَجْهَلُ الرَّجُلُ الحَلِيمُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 60 وعلى الثاني [يكون] الأصل دَلَّلَهُمَا، فاستثقل توالي ثلاثةِ أمثال فأبدلت الثَّالث حرف لين كقولهم: تَظنَّيْتُ في تظَّننْت، وقَصَّيْتُ أظْفَاري في قَصَصْتُ. وقال: [الرجز] 2438 - تَقَضِّيَ البَازِي إذا البَازِي كَسَرْ ... فصل في معنى «فدلاهما بغرور» قال ابنُ عبَّاس «فَدلاَّهُمَا بِغُرُورٍ» أي غرهما باليمين وكان آدمُ يظنُّ أنَّ أحداً لا يحلف كَاذِباً باللَّه. وعن ابن عمر أنَّهُ كان إذا رَأى من عبيده طاعةً وحسن صلاة أعْتَقَهُ فكان عبيدُهُ يفعلون ذلك طلباً لِلْعتْقِ فقيل له إنَّهُم يخدعُونَكَ فقال: من خَدَعَنَا باللَّهِ؛ انخدعنا له. قيل معناه ما زال يخدعه، ويكلمه بزخرف من القول باطل. وقيل حطَّهُمَا من مَنْزِلَةِ الطَّاعَةِ إلى حالةِ المَعْصية، ولا يكونُ الدلوى إلاَّ من علوٍّ إلى أسْفَلٍ. قوله: {فَلَمَّا ذَاقَا الشجرة} «الذَّوْقُ» وجود الطَّعْمِ بالفَم، ويعبر به عن الأكل وقيل: الذَّوْقُ مَسُّ الشَّيْءِ باللِّسانِ، أو بالفَمِ يُقَالُ فيه: ذاق يَذُوقُ ذُوْقاً مثل صَامَ، يَصُومُ صَوْماً، ونَامَ يَنَامُ نَوْماً. وهذه الآية تدل على أنهما تناولا البُرَّ قَصْداً إلى معرفة طعمه، ولولا أنَّهُ تعالى ذكر في آية أخرى أنَّهُمَا أكلا منها لكان ما في هذه الآية لا يدُلُّ على الأكل؛ لأنَّ الذَّائِقَ قد يكونُ ذَائِقاً من دون أكل. قوله: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} أي ظهرت عَوْرَتُهُمَا وزال اللِّبَاسُ عنهما. روي عن ابن عباس أنَّهُ قال: قبل أن ازدردا أخذتها العقوبة وظهرت لهما عورتهما، وتهافت لباسهما حتى أبْصَر كُلُّ واحدٍ منهما ما وُوْرِيَ عنه من عَوْرَةِ صَاحبهِ فكانَا لا يريان ذلك. قوله «وطَفِقَا» طَفِقَ من أفعال الشُّرُوعِ كأخَذَ وجعل، وأنْشَأ وعلَّق وهبَّ وانبرى، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 61 فهذه تَدُلُّ على التَّلَبُّسِ بأوَّلِ الفِعْلِ، وحكمها حكم أفْعَالِ المُقاربَةِ من كون خبرها لا يكون غلاَّ مُضَارِعاً، ولا يجوز أن يقترن ب «أن» لمنافاتها لها؛ لأنها للشُّروع وهو حال و «أنْ» للاستقبال، وقد يقعُ الخبرُ جملة اسمية كقوله: [الوافر] 2439 - وَقَدْ جَعَلَتْ قَلُوصُ بَنِي سُهَيْلٍ ... مِنَ الأكْوَارِ مَرْتَعُهَا قَرِيبُ وشرطيَّة ك «إذا» كقوله عمر: «فَجَعلَ الرَّجُلُ إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً» . ويقال طَفِقَ بفتح الفاء وكسرها، وطَبِقَ بالباء الموحدة أيضاً، والألف اسمها، و «يَخْصَفَان» خَبَرُهَا. وقرأ أبُوا السمالِ: «وطَفَقَا» بفتح الفاء. وقرأ الزُّهْرِيُّ: «يُخْصِفَانِ» بضم حرف المضارعة من أخْصَفَ وهي تحتمل وجهين: أحدهما: ان يكون أفْعَلَ بمعنى فَعَلَ. والثاني: أن تكون الهَمْزَةُ للتَّعْديَة، والمَفْعُولُ على هذا مَحْذُوفُ، أي: يُخْصِفَانِ أنفسهما، أي: يَجْعلانِ أنفسَهُمَا خاصِفَيْنِ. وقرأ الحسنُ، والأعرجُ ومُجاهِدٌ وابْنُ وثَّابٍ «يَخِصِّفانِ» بفتح الياء وكسر الخاء، والصَّاد مشدودةٌ، والأصْلُ يَخْصِفَانِ، فأدغمت التَّاءُ في الصَّادِ، ثم اتْبعت الخَاءُ للصَّادِ في حركتها، وسيأتي نظيرُ هذه القراءة في «يُونس» و «يس» نحو {يهدي} [يونس: 35] و {يَخِصِّمُونَ} [يس: 49] . وروى مَحْبُوبٌ عن الحسنِ كذلك إلاَّ أنَّهُ فتح الخاء، فلم يُتْبِعْها للصَّادِ وهي قراءةُ يعقوب وابْنِ بُرَيْدَةَ. وقرأ عبد الله «يُخُصِّفان» بضمِّ الياءِ والخَاءِ وكسر الصَّادِ مشدودة وهي من «خَصِّفَ» بالتَّشديد، إلاَّ أنَّهُ أتبع الخاء للياء قبلها في الحركةِ، وهي قراءة عَسِرةُ النُّطْقِ. ويَدُلُّ عل أنَّ أصْلها مِنْ خَصَّفَ بالتَّشديدِ قِراءةُ بعضهم «يُخَصِّفان» كذلك، إلاَّ أنَّهُ بفتح الخاء على أصلها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 62 و «الخصفُ» : الخَرْزُ في النِّعالِ، وهو وَع طريقة على أخرى وخرْزهما، والمِخْصَفُ: ما يُخْصَفُ به، وهو الإشفَى. قال رُؤبَةُ: [الكامل] 2440 - ... ... ... ... ... ... ... ... أنْفِهَا كالمِخْصَفِ والخَصْفَةُ أيضاً: الحُلَّةُ للتَّمْر، والخَصَفُ: الثِّيابُ الغَلِيظَةُ، وخَصَفْتُ الخَصْفَةَ: نَسَجْتُهَا، والأخْصَف: الخَصِيفُ طعام يبرق، وأصْلُهُ أن يُوضَعَ لَبَنٌ ونحوه في الخَصْفَةِ فَيتلوَّنُ بلونها. وقال العبَّاسُ يمدحُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [المنسرح] 2441 - ... طِبْتَ فِي الظِّلالِ وَفِي ... مُسْتَودَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ يشير إلى الجَّنَّةِ أي حَيْثُ يخرز، ويطابق بعضها فوق بعض. فصل قال المُفَسِّرُون: جعلا يَخْصِفَانِ ويرقعان ويلْزِقَانِ ويصلانِ عليهما من ورق الجنَّةِ، وهو ورق التِّين حتى صار كهيئة الثَّوْبِ. قال الزَّجَّاجُ: يجعلان ورقةً على وقرةٍ لِيَسْتُر سَوْءَاتِهِمَا. وروى أبَيُّ بنُ كعبٍ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «كان آدَمُ طوالاً كأنَّهُ نَخْلَةٌ سحوق كثيرة شَعْرِ الرَّأسِ، فلما وقع بالخطيئة بَدَتْ له سوأته، وكان لا يراها فانْطَلَقَ هَارِباً في الجنَّةِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 63 فعرضت له شجرةٌ من شجر الجنَّةِ فحبسته بشَعْرِهِ فقال لها أرسِلِيني؛ قالت: لَسْتُ بِمُرْسِلَتكَ، فَنَادَاهُ ربُّهُ: يا آدمُ أين تَفِرُّ قال: لا يَا رَب، ولكني استحييتك» وفي الآية دليل على أنَّ كَشْفَ العَوْرَةِ قبيحٌ من لدن آدم، ألا تَرَى أنَّهُُما كيف بادرا إلى السَّتْرِ، لما تقرَّر في عقلهما من قُبْحِ كَشْفِ العورة. قوله: «عليهما» قال أبُو حيَّان: الأَوْلى أن يعود الضَّمِيرُ في «عليهما» على عَوْرَتَيْهِمَا، كَأنَّهُ قيل: يَخْصِفَانِ على سَوءأتيهما، وعاد بضمير الاثنين؛ لأنَّ الجمع يُرَادُ بن اثنان. ولا يَجُوزُ أن يعود الضَّميرُ على آدَمَ وحوَّاءَ؛ لأنَّهُ تَقرَّرَ في علم العربيَّةِ أنَّهُ لا يتعدَّى من فعل الظَّاهِر والمُضْمَرِ المتَّصل إلى الضمير المتصل إلى الضمير المتصل المنصوب لفظاً أو مَحَلاًّ في غير باب «ظَنّ» ، و «قَعَدَ» و «عَدمَ» ، و «وَجَد» لا يجُوزُ زيد ضربه، ولا ضَرَبَهُ زيد، ولا زَيْدٌ مَرَّ به، ولا مَرَّ به زيدٌ، فلو جعلنا الضَّمِيرَس في «عَلَيْهِمَا» عائداً على آدم وحوَّاءَ لَلَزِمَ من ذلك تعدِّي يَخْصِفُ إلى الضَّميرِ المنصوب مَحَلاًّ، وقد رفع الضَّمير المتَّصِل، وهو الألف في «يَخْصِفَانِ» ، فإن أخِذَ ذلك على حَذْفِ مُضافٍ مراد؛ جَازَ ذلك، تقديره: يَخْصِفانِ على بَدَنَيْهِمَا. قال شهابُ الدِّين: ومثل ذلك فيما ذكر {وهزى إِلَيْكِ} [مريم: 25] . {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32] . وقول الشاعر: [المتقارب] 2442 - هَوِّنُ عليْكَ فإنَّ الأمُورَ ... بِكَفِّ الإلهِ مَقَادِيرُهَا وقوله: [الطويل] 2443 - دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حَجَرَاتِهِ ... ولكِنَ حَدِيثاً ما حَدِيثُ الرَّوَاحِلِ قوله: «مِنْ وَرَقِ» يحتملُ وَجْهَيْنِ: أن تكون «مِن» لابتداء الغايةِ وأن تكون للتَّبعيضِ.؟ و «نَادَاهُمَا رَبُّهُمَا» لم يصرِّحْ هنا باسم المنادى للعلم به. وقوله: «أَلَمْ أنْهَكُمَا» يجوزُ أن تكون هذه الجُمْلَةُ التقديريَّةُ مفسِّدة للنداء لا محلّ لها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 64 ويحتمل أن يكُونَ ثَمَّ قول مَحْذُوفٌ، هي مَعْمُولَةٌ له أي: فقال: لم أنْهَكُمَا. وقال بعضَهُم: هذه الجُمْلَةُ في مَحَلِّ نَصْبٍ بقولٍ مُقدَّرٍ ذلك القَوْلُ حال تقديره: وناداهما قَائِلاً ذلك. و «لَكُمَا» متعلِّقٌ ب «عَدُوّ» لما فيه من معنى الفِعْل، ويجوز أن تكون متعلِّقة بمَحْذُوفٍ على أنها حالٌ من «عَدٌوِّ» ؛ لأنَّهَا تأخّرَتْ لجاز أن تكون وصفاً. فصل في قوله «ألم أنهكما» معنى قوله: {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة} يعني: عن الأكْلِ منها وأقل لَكُمَا: إنَّ الشَّيْطانَ لكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ. قال ابن عبَّاس: بيَّن العداوة حَيْثٌ أبي السُّجُود وقال: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 قوله: {قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا} : ضررناها بالمِعْصِيَةِ، وتقدَّمَ تفسِيرُهَا في سُورةِ البقَرةِ، وأنَّها تَدُلُّ على صدور الذَّنْبِ منه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، إلاَّ أنَّا نقُولُ: هذا الذَّنْبُ إنَّمَا صَدَرَ عنه قَبْلَ النُّبُوَّةِ. وفي قوله: {قَالاَ رَّنَا ظَلَمْنَا أنْفُسنَا} فائدةٌ: حَذْف حرف النداء هنا تعظيم المُنَادَى، وتَنْزِيهُهُ. قال مَكِّي: كَثُر نِدَاءُ الرَّبِّ بحذف «يَا» من القرآن، وعلّةُ ذلك أن في حذف «يا» من نداء الرَّب معنى التَّعْظِيم والتنزيه؛ وذلك أنَّ النداءَ فيه طَرَف من معنى الأمر؛ لأنَّكَ إذا قُلْتَ: يا يزيدُ فمعناه: تعالا يا زَيْدُ أدعوك يا زَيْدُ، فحُذِفَتْ «يا» من نداء الرَّبِّ ليزول معنى الأمر يونقص، لأنَّ «يا» تُؤكِّده، وتُظهرُ معناهُ، فكان في حذف «يا» الإجلال، والتعظيم، والتنزيه. قوله: {وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا} هذا شرط حُذِفَ جوابه لدلالة جواب القسم المقدَّر عليه، فإن قيل: حرف الشَّرْطِ لام التَّوْطِئَةِ للقسم مقدرة كقوله: {وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ} [المائدة: 73] ويَدُلُّ على ذلك كثرةُ ورُوُدِ لامِ التَّوْطِئَةِ قبل أداة الشَّرطِ في كلامهم. وتقدَّم إعرابُ ما بعد ذلك في البقرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 وهذا خطابٌ يجبُ أن يتناول الثلاثة الذين تقدَّمَ ذِكرُهُم وهم: آدمُ، وحوَّاءُ، وإبليسُ، فالعداوة ثَابِتَةٌ بين الإنس والجنِّ، لا تزول ألْبَتَّةَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 65 الكِنَايَةُ عائدةٌ إلى الأرض المذكورة في قوله: {وَلَكُمْ فِي الأرض} [الأعراف: 24] . وقرأ الأخوان وابنُ ذكوان «تَخْرُجونَ» هنا، وفي الجاثية [35] {فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا} ، وفي الزخرف [11] : و {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} ، وفي أوَّلِ الروم [19] : {وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَمِنْ آيَاتِهِ} قرءُوا الجميع مبنياً للفاعل، والباقون قرءوه مبنيّاً للمفعول، وفي أوَّلِ الرُّوم خلاف عن ابن ذكوان، واحترزنا بأوَّل الروم [25] عن قوله: {إِذَا أَنتُمْ تُخْرُجُونَ} [فإنَّهُ قرأ] مبنياً للفاعل. من غير خلاف، ولم يذكر بعضهم موافقة ابن ذكوان للأخوين في الجاثية. والقراءتَانِ واضِحَتَانِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 في نظم الآية وجهان: أحدهما: أنَّهُ تعالى لما بيَّنَ أنَّهُ أمر آدم وحوَّاءَ بالهُبُوطِ إلى الأرض، وجعل الأرض لهما مُسْتَقَرّاً بين بعده أنَّهُ تعالى أنزل كلَّ ما يحتاجون إليه في الدُّنْيَا، ومن جملة ما يُحتاج إليه في الدِّين والدُّنيا اللِّباس. والثاني: أنَّهُ تعالى لمّا ذكر واقعة آدم في انكشاف العَوْرَةِ، وأنَّهُ كان يخصف الورق على عَوْرَتَيْهِمَا، أتبعه بأن بيَّنَ أنَّهُ خلق اللِّباسَ للخلق، ليستروا به عَوْرَتَهُم، ونبه بتكون الأشياء التي يَحْصُلُ منها اللِّبَاسُ، فصار كأنَّهُ تعالى أنزل اللِّباسَ أي: أنزل أسْبَابَهُ، فعبَّر بالسَّبَبِ عن المُسَبِّبِ. وقيل: معنى «أنْزَلْنَا» أي: خلقنا لكم. وقيل: كلُّ بَرَكاتِ الأرضِ منسوبةٌ إلى السَّماءِ كقوله تعالى: {وَأَنزْلْنَا الحديد} [الحديد: 25] وإنَّما يُسْتَخْرَجُ الحديدُ من الأرْضِ، وقوله: {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] . وسبب نزلو هذه الآية أنَّهُم كانُوا يطوفون بالبَيْتِ عُرَاةً، ويقولون: لا نطوفُ في ثياب عصينا الله فيها، فكان الرِّجالُي يطوفون بالنَّهارِ، والنِّسَاءُ باللَّيْلِ عراة. قال قتادة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 66 كانت المرأة تطوف، وتضع يَدَهَا على فَرْجِهَا، وتقول: [الرجز] 2444 - أَليَوْمَ يَبْدُوا بَعْضُهُ أوْ كُلُّهُ ... وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلاَ أحِلُّهُ فأمر اللَّهُ تعالى بالسَّتْرِ فقال: {لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} يستر عوراتِكُم، واحدتها سَوْءَةُ، سمِّيت بها؛ لأنَّهُ يسوءُ صاحبه انكشافُهَا، فلا يطوف عارياً. قوله: «يُوَارِي» : في محلِّ نصبٍ صفة ل «لِبَاساً» . وقوله: «وَرِيشاً» يحتملُ أن يكون من باب عَطْفِ الصِّفاتِ، والمعنى: وصف اللِّبَاسِ بشيئين: مواراة السَّوْءَةِ، وعبَّر عنها بالرِّيشِ لأنَّ الرِّيشَ زينة للطَّائِر، كما أنَّ اللَّباسَ زينة للآدميِّين، ولذلك قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «والرِّيشُ لباسُ الزِّنة، استعير من ريش الطَّيْرِ؛ لأنَّهُ لباسه وزينته» . ويحتمل أن يكون من باب عطف الشَّيءِ على غيره أي: أنْزَلْنَا عليكم لباسين، لباساً موصوفاً بالمُواراةِ، ولِبَاساً موصوفاً بالزِّينةِ، وهذا اختيارُ الزَّمَخْشَرِيِّ، فإنَّهُ قال بعد ما حَكَيْتُه عنه آنفاً: «أي: أنزلنا عليكم لباسَيْن، لباساً يُواري سَوْءاتكم، ولباساً يُزَيِّنُكُم؛ لأنَّ الزَّينةَ غرضٌ صحيحٌ كما قال تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل: 8] {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} [النحل: 6] وعلى هذا، فالكلامُ في قوة حذف موصوف، وإقامةِ صفته مُقامه، والتَّقْديرُ: ولباساً ريشاً أي: ذا ريش» . فصل في وجوب ستر العورة قال القُرْطُبِيُّ: استدلَّ كثر من العلماء بهذه الآيةِ على وجوب ستر عَوْرَاتهم، وذلك يدلُّ على الأمر بالسَّتْر، ولا خلاف في وجوب سَتْرِ العَوْرَةِ. واختلفوا في العَوْرَةِ ما هي؟ فقال ابْنُ أبي ذئْبٍ: هي القُبُلُ والدُّبُرُ فقط، وهو قول أهْلِ الظَّاهِر، وابن أبي عَبْلة والطَّبْرِيِّ لقوله تعالى: {لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ} ، وقوله: {بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} [الأعراف: 22] ، وقوله: {لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِكُمْ} [الأعراف: 27] . وفي البخاريِّ عن أنس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حَسَرَ الإزار عن فَخِذِهِ حَتّى إنِّي أنْظُرُ إلى بَيَاضَ فَخِذِ نَبِيِّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال مالكٌ: «ليست السُّرَّة بِعَوْرَةٍ، وأكره له أنْ يَكْشِفَ فَخذَهُ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 67 وقال الشافعيُّ: «ليست السُّرَّة ولا الركبتان من العورة على الصحيح» . وقال أبُو بَكْر بْنُ عبْدِ الرَّحمْنِ بْنِ الحارث بن هشام: «كلُّ شيء من الحرة عورةٌ، حتى ظَّفِّرهَا، وهو حسن» . وعن أحْمَد بْنِ حَنْبلٍ: «وعورة الأمَةِ ما بين السُّرَّة والرُّكبة وأم الولدِ أغلظ حالاً من الأمَةِ» . و «الرِّيْشُ» فيه قولان: أحدهما: أنه اسم لهذا الشَّيءِ المعروف. والثاني: أنَّهُ مصدرٌ يقال: راشه يريشه رِيشاً إذا جعل فيه الرِّيشَ، فينبغي أنْ يكون الريش مُشْتَركاً بين المصدر والعينِ، وهذا هو التَّحقيق. وقرأ عثمانُ وابن عبَّاسٍ والحسنُ ومجاهدٌ وقتادةُ والسُّلميُّ وعليُّ بْنُ الحسيْنِ وابنه زيْدً، وأبو رجَاء، وزرُّ بْنُ حبيشٍ وعاصمٌ، وأبُو عَمْروا - في رواية عنهما -: «وَرِيَاشاً» ، وفيها تأويلان: أحدهما - وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ -: أنَّهُ جمعُ رِيْش، فيكون كشِعْب وشِعابٍ، وذِئْبٍ وذئَابٍ، وقِدْحٍ وقِدَاحٍ. والثاني: أنَّه مصدر أيضاً، فيكون رِيشٌ وِرِيَاشٌ مصدرين ل «رَاشَهُ اللَّهُ ريشاً ورِيَاشاً» أي: أنْعَمَ عليه. وقال الزجاجُ: «هما اللِّبَاسُ، فعلى هذا هما اسمان للشَّيْءِ المَلْبُوسِ، كما قالوا: لِبْسٌ ولباسٌ» . وجوَّز الفراء أن يكون «رِيَاش» جمع «رِيش» ، وأن يكون مصدراً فأخذ الزَّمَخْشَرِيُّ بأحد القولين، وغيرُه بالىخر، وأنشدوا قول الشاعر: [الوافر] 2445 - وَرِيشِي مِنْكُمُ وَهَوَايَ مَعْكُمْ ... وَإنْ كَانَتْ زِيَارتُكُمْ لِمَامَا روى ثَعْلَبٌ عن ابن الأعرابي قال: «كُلُّ شيءٍ يعيشُ به الإنسانُ، من متاع، أو مال، أو مأكول، فهو ريشٌ ورِيَاشٌ» وقال ابن السكِّيتِ: «الرِّيَاشُ مختص بالثِّيابِ، والأثاثِ، والرِّيش قد يُطلق على سَائِرِ الأمْوالِ» . قال ابنُ عباسِ ومجاهدٌ والضَّحاكُ والسُّدِّيُّ: «وريشاً يعني مالاً، يقال تريش الرَّجُل إذا تَمَوَّلَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 68 وقيل: الرِّيشُ: الجمالُ كام تقدَّم أي: ما يتجملون به من الثِّيابِ. وقوله: {وَلِبَاسُ التقوى} . قرأ نافعٌ وابن عامرٍ والكسائيُّ: «لباسَ» بالنَّصْبِ، والباقون بالرَّفْعِ. فالنَّصْبُ نَسَقاً على «لِبَاساً» أي: أنزلنا لِبَاساً مُوارِياً وزينة، وأنزلنا أيضاً لِبَاس التَّقْوَى، وهذا يُقَوِّي كَوْنَ «رِيشاً» صفة ثانية ل «لِبَاساً» الولى إذْ لو أراد أنَّهُ صفة لِبَاسٍ ثانٍ لأبرز موصوفه، كما أبْرَزَ هذا اللِّبَاسَ المضاف للتَّقْوَى. وأما الرَّفْعُ فمن خَمْسَةِ أوْجُهٍ: أحدها: أن يكون «لِبَاس» مبتدأ، و «ذلك» مبتدأ ثان و «خير» خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأوَّلِ، والرَّابِطُ هنا اسم الإشارة، وهو أحد الرَّوابِطِ الخَمْسَةِ المتفق عليها، ولنا رابط سَادِسٌ، فيه خلاف تقدَّم التنبيه عليه. وهذا الوَجْهُ هو أوْجَهُ الأعَارِيبِ في هذه الآية الكريمة. الثاني: أن يكون «لِبَاس» خبر مبتدأ محذوف أي: وهو لِبَاسُ، وهذا قول أبي إسحاق، وكأنَّ المعنى بهذه الجملة التَّفسيرُ لِلبَاس المتُقدم، وعلى هذا، فيكونُ قوله «ذَلِكَ» جملة أخرى من مبتدأ وخبر. وقدَّره مكي بأحسن من تَقْدير الزَّجَّاجِ فقال: «وسَتْر العورة لباس التَّقْوَى» . الثالث: أن يكون «ذلك» فَصْلاً بين المبتدأ وخبره، وهذا قَوْلُ الحوفيِّ، ولا نعلم أنَّ أحداً من النُّحَاةِ أجَازَ ذلك، إلاَّ أنَّ الواحِدِيَّ قال: [ومن قال] إن ذلك لَغْوٌ لم يكن على قوله دلالة؛ لأنَّهُ يجوز أن يكون على أحد ما ذكرنا. قال شهابُ الدِّين: «فقوله» لَغْوٌ «هو قريب من القول بالفَصْلِح لأنَّ الفَصْلَ لا محلَّ له من الإعرابِ على قول جمهور النَّحويين من البصريين والكوفيين. الرابع: أن يكون» لِبَاس «مبتدأ و» ذلك «بَدَلٌ منه، أو عطف بيان له، أو نعت، و» خيرٌ «خبره، وهو معنى قول الزَّجَّاجِ وأبِي عليٍّ، وأبِي بَكْرِ بْنِ الأنْبَاريِّ، إلا أنَّ الحُوفي قال: وأنا أرى ألاَّ يكون» ذلك «نعتاً ل» لِبَاسُ التَّقْوَى «؛ لأنَّ الأسْمَاء المبهمة أعرف ما فيه الألف واللاَّم، وما أضيف إلى الألف واللاَّمِ، وسبيل النَّعْتِ أن يكون مُسَاوِياً للمنعوت، أو أقَلَّ منه تَعْرِيفاً، فإنْ كان قد تقدَّم قول أحدٍ به فهو سهوٌ. قال شهابُ الدِّين: أمّا القَوْلُ به فقد قيل كما ذَكَرْتُه عن الزَّجَّاج والفارسي وابن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 69 الأنْبَارِيّ، ونصَّ عليه أبُو عليٍّ في» الحُجَّةِ «، أيضاً وذكره الوَاحِدِيُّ. وقال ابن عطيَّة:» هو أنبل الأقوال «. وذكر مكيٌّ الاحتمالات الثلاثة: أعني كَوْنَهُ بَدَلاً، أو بياناً، أو نعتاً، ولكن ما بحثه الحُوفِيُّ صحيحٌ من حيث الصِّناعةِ، ومن حيثُ إنَّ الصَّحيحَ في ترتيب المعارف ما ذكر من كون الإشارات أعرف من ذي الأداة؛ ولكن قد يُقَالُ: القائلُ بكونه نَعْتاً لا يجعله أعرف من ذِي الألِفِ واللام. الخامس: جوَّز أبُو البقاءِ أن يكون» لِبَاسُ «مبتدأ، وخبره محذوف أي: ولباسُ التَّقْوى ساتر عوراتكم وهذا تَقْدِيرٌ لا حاجَةَ إلَيْهِ. وإسنادُ الإنزالِ إلى اللِّبَاسِ: إمَّا لأنَّ» أنْزَلَ «بمعنى» خَلَقَ «كقوله: {وَأَنزَلْنَا الحديد} [الحديد: 25] {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] ، وإمَّا على ما يسمِّيه أهل العلم التدريج، وذلك أنَّهُ ينزِّلُ أسْبَابَهُ، وهي الماء الذي هو سَبَبٌ في نبات القُطْنِ والكتَّانِ، والمَرْعى الذي تَأكُلُه البَهَائِمُ ذوات الصُّوف والشَّعَرِ، والوَبَرِ التي يُتَّخَذُ منها الملابِسُ؛ ونحوه قول الشاعر: [الرجز] 2446 - أقْبَلَ في المُسْتَنِّ مِنْ سَحَابَهْ ... أسْنِمَةُ الآبَالِ فِي رَبَابَهْ فجعله جَائِياً للأسنمة التي للإبل مجازاً لمَّا كان سبباً في تربيتها، وقريب منه قول الآخر: [الوافر] 2447 - إذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأرْضِ قَوْمٍ ... رَعَيْنَاهُ وإنْ كَانُوا غَضَابَا وقال الزَّمَخْشَريُّ: جَعَلَ ما في الأرض منزَّلاً من السماء؛ لأنَّهُ قضي ثَمَّ وكتب، ومنه {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} [الزمر: 6] . وقال ابن عطيَّة: «وأيضاً فَخَلْقُ اللَّه وأفعاله، إنَّما هي من علوٍ في القَدْر والمنزلة» ، وقد تقدَّمَ الكلامُ عليه أول الآية. وفي قراءة عبد الله وأبَيّ «ولِبَاسُ التَّقْوى خَيْرٌ» بإسقاط «ذلك» وهي مقوِّية للقول بالفصل والبدلِ وعَطْفِ البَيَانِ. وقرأ النَّحْوِيُّ: «ولبُوسُ» بالواو ورفع السِّين. فأمَّا الرَّفع ُفعلى ما تقدَّم في « الجزء: 9 ¦ الصفحة: 70 لباس» ، وأمَّا «لبُوسُ» فلم يعينوها: هل هي بفتح اللام فيكون مثل قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ} [الأنبياء: 80] ؟ أو بضمِّ اللاَّم على أنَّهُ جمع؟ وهو مشكل، وأكثر ما يُتَخَيَّل له أن يكون جمع لِبْسٍ بكسر اللام بمعنى مَلْبُوسٍ. قوله: {ذلك مِنْ آيَاتِ الله} مبتدأ وخبر، والإشارةُ به إلى جميع ما تقدَّم من إنزال اللِّبَاسِ والرِّيش ولباس التَّقْوَى. وقيل: بل هو إشارة لأقرب مذكور، وهو لباسِ التقوى فقط. فصل في المراد ب «لباس التقوى» اختلفوا في لابس التَّقْوَى، فقيل: هو نَفْسُ المَلْبُوسِ، وقيل: غيره. وأما الأوَّلُ ففيه وجوه: أحدها: هو اللِّبَاسُ المواري للسَّوْءَةِ، وإنَّما أعادَهُ اللَّهُ لأجْلِ أن يخبر عنه بأنَّهُ خير؛ لأنَّ أهل الجاهليَّةِ كاناو يَتَعَبَّدُونَ بالعري في الطَّوافِ بالبَيْتِ، فجرى هذا التَّكْرير مجرى قول القائل: «قد عرَّفْتُكَ الصِّدق في أبواب البرِّ، ولاصِّدْقُ خيرٌ لك من غيره» ، فيعيد ذكر الصِّدق لِيُخبرَ عنه بذلك المعنى. وثانيها: لِبَاسُ التَّقْوَى هو الدُّرُوعُ والجواشن والمَغَافِرُ، وما يُتقى به في الحرُوبِ. وثاليها: لِبَاسُ التَّقْوَى ما يُلبس لأجْلِ إقامَةِ الصَّلاةِ. ورابعها: هو الصُّوفُ والثِّيَابُ الخَشِنَةُ التي يلبسها أهل الورع. وأمَّا القَوْلُ الثَّانِي، فيحمل لباسُ التَّقْوَى على المَجَازِ. وقال قتادةُ والسُّدِّيُّ وابن جُرَيْج: هو الإيمانُ. وقال ابن عباس: هو العَمَلُ الصَّالِحُ. وقال عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ والكلْبِيُّ: السَّمْتُ الحَسَنُ. وقال الكَلْبِيُّ: العفافُ والتَّوحيدُ؛ لأنَّ المؤمنَ لا تبدو عورته وإن كان عَارياً من الثِّيابِ، والفَاجِرُ لا تزمالُ عورته مَكْشُوفَة وإن كان كاسياً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 71 وقال عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ: هو خشية الذّم. وقال الحَسَنُ وسعيدٌ: هو الحياء؛ لأنَّهُ يَبْعَثُ على التَّقْوَى. وإنما حمل لفظ اللِّباس على هذه المجازات؛ لأنَّ اللِّباسَ الذي يفيد التقوى ليس إلاّ هذه الأشياء. وقوله: «ذَلِكَ خَيْرٌ» قال أبُو عليٍّ الفارِسِيُّ: معناه: ولباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به، وأقرب إلى اللَّه تعالى مما خلق من اللِّباسِ والرِّيَاشِ الذي يتجمَّلُ به. وأُضيف اللِّبَاسُ إلى التَّقْوَى، كما أُضيف إلى الجُوعِ في قوله: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع} [النحل: 112] . وقوله: {ذلك مِنْ آيَاتِ الله} أي: الدَّالة على فضله ورحمته على عباده، لعلهم يَذَّكَّرُونَ النِّعْمَةَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 اعلم أنَّ المَقْصُود من ذكر قَصَص الأنْبِيَاءِ - عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ - حصولُ العِبْرَةِ لمن يَسْمَعُهَا، فالله - تعالى - لما ذَكَرَ قصَّة آدم، وبيَّن فيها شدَّة عداوة الشَّيْطان «كما أخْرَجَ أبَوَيْكُم مِنَ الجَنَّةِ» ، وذلك لأن الشَّيْطَانَ لما بلغ بكيده، ولُطْفِ وسْوَسَتِهِ إلى أن قدر على إلقاء آدم في الزّلة الموجبة لأخراجه من الجنَّة فبأن يقدر على أمثال هذه المضار في حقِّ بني آدم أولى. فقوله: «لا يَفْتِنَنَّكُم» هو نهي للشَّيْطَان في الصُّورةِ، والمرادُ نَهْيُ المخاطبين عن متابعته والإصغاء إليه، والمعنى: لا يصرفنكم الشيطان عن الدِّين كما فَتَنَ أبَويْكُم في الإخْرَاجِ من الجنَّةِ، وقد تقدَّم معنى ذلك في قوله: {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} أعراف: 2] . وقرأ ابن وثَّابٍ وإبْرَاهِيمُ: «لا يُفْتِنَنَّكُمْ» [بضمّ] حرف المضارعة من أفْتَنَهُ بمعنى حَمَلَهُ على الفِتْنَةِ. وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: «لا يَفْتِنْكُم» بغير نون توكيدٍ. قوله: «كَمَا أخْرَجَ» : نعت لمصدر محذوف أي: لا يَفْتننكم فتنةً مثل فتنة إخْرَاجِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 72 أبَويكُم. ويجوزُ أن يكُون التَّقْدِيرُ: لا يُخْرِجّنَّكم بفتنته إخراجاً مثل أخْرَاجِ أبويكم. و «أبَويْكُم» واحد أبٌ للمذكَّر، وأبة للمُؤنَّثِ، فعلى هذا قيل «أبَوَانِ» . فصل في دحض شبة من نسب المعاصي إلى الله قال الكَعْبِيُّ: هذه حجَّةٌ على من نسب المَعَاصِي إلى اللَّهِ تعالى؛ لأنه تعالى نسبَ خروج آدم وحوَّاء، وسائر وجوه المعَاصِي إلى الشَّيْطَان، وذلك يَدُلُّ على أنَّهُ تعالى [بريءٌ عنها، فيقال له: لِمَ قُلْتُم أنَّ كون هذا العمل منسوباً إلى الشَّيْطَانِ يمنع من كونه منسوباً إلى الله تعالى؟] ولِمَ لا يجوزُ أن يقال إنَّهُ تعالى لمَّا خلق القُدْرَةَ والداعية الموجبتين لذلك العمل كان منسوباً إلى الله؟ ولما أجرى عادته بأنه يخلق تلك الدَّاعية بعد تزيين الشيطان وتحْسينِه تلك الأعمال، عند ذلك الكَافِرِ، كان منسوباً إلى الشَّيْطَانِ؟ فصل في إخراج آدم من الجنة عقوبة له ظاهرُ الآيةِ يَدُلُ على أنَّهُ تعالى إنَّمَا أخرج آدَمَ وحَوَّاءَ من الجنة، عُقُوبَة لهما على تلك الزَّلَةِ، وظاهرُ قوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} [البقرة: 30] يَدُلُّ على أنَّهُ تعالى خلقهما لخلافةِ الأرضِ، فأنْزَلَهُمَا من الجَنَّةِ إلى الأرْضِ لهذا المقصود، فكيف الجمع بين الوَجْهَيْنِ؟ وجوابُهُ: ربما قيل حصل بمجموع الأمْرَيْن، وأنَّهُ خلقه ليجعله خليفة في الأرض، وجعل سبب نزوله إلى الأرْضِ وإخراجه من الجَنَّةِ هي الزلة. قوله: «يَنْزعُ» جملة في محل نَصْبٍ على الحالِ، وفي صاحبها احتمالان: أحدهما: أنَّه الضَّميرُ في «أخْرَجَ» العائدُ على الشَّيْطَانِ، وأضاف نزع اللِّبَاسِ إلى الشَّيْطَانِ، وإن لم يباشر ذلك؛ لأنَّهُ كان بسبب منه، فأُسند إليه كما تقول: «أنْتَ فعلت هذا» لمن حصل ذلك الفعل بسبب منه. والثاني: أنَّهُ حال من أبَوَيْكُم، وجاز الوجْهَان؛ لأنَّ المعنى يَصِحُّ على كلِّ من التَّقديرَيْنِ، والصِّناعَةُ مساعدة لذلك، فإنَّ الجملة مشتملةٌ على ضمير الأبَويْنِ، وعلى ضَميرِ الشَّيْطَانِ. قال أبُو حَيَّان: فلو كان بدل «يَنْزعُ» نازعاً تعيَّن الأوَّلُ؛ لأنه إذ ذاك لو جُوِّز الثَّاني لكان وصفاً جرى على غير مَنْ هو له، فكان يجب إبراز الضَّمير، وذلك على مذهب البَصْرِيِّينَ. قال شهابُ الدِّين: يعني أنَّهُ يفرَّق بين الاسم والفعل، إذا جَرَيَا على غير ما هُمَا لضهُ في المَعْنَى، فإن كَانَ اسْمَاً كان مذهب البَصْريِّينَ ما ذكر، وإنْ كان فعلاً لم يَحْتَجْ إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 73 ذلك، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المَسْألةِ، وأنَّ ابن مالكٍ سَوَّى بينهما، وأنَّ مكيّاً له فيها كلامٌ مُشْكلٌ. وجيء بِلَفْظِ «يَنْزعُ» مضارعاً على أنَّهُ حكاية حال كأنَّها قد وقعت وانقضت. والنَّزْعُ: الجَذْبُ للشَّيءِ بقوَّة عن مقرِّه، ومنه: {تَنزِعُ الناس كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] . ومنه نَزْع القوس وتستعمل في الأعراض، ومنه نَزْعُ العداوةِ والمحَبَّةِ من القَلْبِ، ونُزع فلان كذا سُلبَه، ومنه {والنازعات غَرْقاً} [النازعات: 1] لأنَّها تَقْلَعُ أرواح الكَفَرَة بِشِدَّةِ، ومنه المُنَازَعَةُ وهي المخاصمة. والنَّزْعُ عن الشَّيْء كفٌّ عنه، والنَّزْعُ: الاشتياقُ الشَّدِيدُ، ومنه نَزَع إلى وَطَنِهِ ونَزَع إلى مذهب كذا نَزْعَةً، وأنْزَعَ القَوْمُ: نَزعَتْ إبلهم إلى مواطنها، ورجل أنْزَعُ أي: َالَ شعرُه، والنَّزْعَتَانِ بياض يكتنف النَّاصِيَة، والنَّزْعة أيضاً الموضع من رأس الأنْزَع، ولا يُقَالُ: امرأةٌ نَزْعَاءُ إذا كان بها ذلك، بل يُقَالُ لها: زَعْرَاءُ، وبئر نَزُوع: أي قَرِيبَةٌ القَعْرِ لأنَّهَا يُنزع منها باليدِ. فصل في معنى «اللباس» اختلفوا في اللِّبَاسِ الذي نزع عنهما، فقيل: النُّورُ، وقيل: التُّقَى. وقيل: ثِيَابُ الجَنَّةِ، وهذا أقرب؛ لأنَّ إطلاق اللِّبَاسِ يقتضيه، والمقصودُ، تأكيد التَّحْذِيرِ لبني آدم. واللامُ في قوله: «لِيُرِيهمَا سَوْءَاتِهِمَا» لام العاقبة كما ذكرنا في قوله: «لِيُبْدِي لَهُمَا» . وقال ابْنُ عَبَّاسٍ: يرى آدمُ سَوْءَةَ حَوَّاءَ، وترى حواءُ سَوْءَاةَ آدَمَ. قوله: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ} وهو تأكيد للضَّميرِ المتَّصل ليسوَّغَ العطف عليه، كذا عبارة بعضهم. قال الوَاحِدِيُّ: أعاد الكِنايَةَ ليحسن العَطْفَ كقوله: [ {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} [البقرة: 35] . قال شهابُ الدِّين: ولا حاجةَ إلى التَّأكِيدِ في مثل هذه الصُّورَةِ] لِصِحَّةِ العَطْفِ إذ الفَاصِلُ هنا موجود، وهو كاف في صحة العطف، فليس نظير {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجنة} وقد تقدَّم بحثٌ في {سْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ} ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 74 وهو أنَّهُ ليس من بابِ العَطْفِ على الضَّمير لمانع ذُكِرَ ثَمَّ. و «قبيلُه» المشهور قراءته بالرَّفْعِ نسقاً على الضَّميرِ المُسْتَتِر، ويجوز أن يكون نَسَقاً على اسم «إنَّ» على الموضع عند مَنْ يجيز ذلك، ولا سِيَّمَا عند مَنْ يَقُولُ: يجوزُ ذلك بعد الخَبَر بإجْمَاع. ويجوز أنْ يكون مُبْتَدأ محذوفَ الخبر فتحصَّل في رفعه ثلاثةُ أوجهٍ. وقرأ اليزِيدِيُّ «وقبيلَه» نصباً، وفيها تخريجان. أحدهما: أنَّهُ منصوبٌ نَسَقاً على اسم «إنّ» لفظاً إن قلنا: إنَّ الضَّميرَ عائد على «الشّيْطَان» ، وهو الظَّاهِرُ. والثاني: أنَّهُ مفعولٌ معه أي: يَرَاكم مُصَاحباً لقبيله. والضَّميرُ في «إنَّهُ» فيه وجهان: الظَّاهر منهما كما تقدَّم أنه للشَّيطان. والثاني: إن يكون ضمير الشَّأن، وبه قال الزَّمَخْشَرِيُّ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك. والقَبِيلُ: الجَمَاعَةُ يكونُونَ من ثلاثةٍ فصاعداً من جماعة شتَّى، قاله أبو عبيد وجمعه قبل، والقبيلةُ: الجماعة من أبٍ واحد، فليست القبيلةُ تَأنِيثُ القَبيلِ لهذه المُغَايَرَةِ. وقال ابْنُ قُتَيْبة: قبيله: أصحابه وجنده، وقال: «وهو وقَبِيلُهُ» أي هو ومن خلق من قبله. قال القُرْطُبِيُّ: قبيله: جُنَودُهَ. وقال مُجَاهِدٌ: يعني الجنَّ والشَّيَاطِينَ. وقال ابْنُ زَيْد: نسله، وقيل: خيله. قوله: {مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ} «مِنْ» لابتداء غاية الرؤية و «حَيْثُ» ظرف لمكان انتفاء الرُّؤيَةِ، و «لا تَرَوْنَهُم» في محلِّ خفض بإضافة الظَّرْفِ إليه، هذا هو الظَّاهِرُ في أعراب هذه الآية. ونقل عن أبي إسْحَاقَ كلام مُشْكل، نذكره لئِلاَّ يتوهّم صِحَّتَهُ من رآه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 75 قال أبو إسحاق: ما بعد «حَيُْ» صلة لها؛ وليست بمضافة إليه. قال الفَارِسيُّ: هذا غير مستقيم، ولا يصحُّ أن يكون ما بعد «حيث» صلة لها؛ لأنَّهُ إذا كان صلة لها؛ وجب أن يكون للموصولة فيه ذكرن كما أن سائر صلاة الموصُولِ ذِكْراً للموصول، فَخُلُوُّ الجملة التي بعد «حَيْثُ» من ضمير يَعُودُ على حيثُ دليل على أنَّهَا ليست صلة ل «حيث» ، وإذا لم تكن صلة؛ كانت مضافَةً. فإن قيل: نقدِّر العائد في هذا كما نُقَدِّرُ [العائد] في المَوْصُولات، فإذا قلت: «رأيتك حيث زيدٌ قائمٌ» كان التَّقْدِيرُ: حيث ائمه ولو قلت: «رأيتُكَ حيثُ قَامَ زَيْدٌ» كان التقدير: حيث قام زيد فيه، ثم استعَ في الحرف فحذف، واتَّصل الضَّمِيرُ فحذف، كما يحذف في قولك: زيدٌ الذي ضربت أي الذي ضربته. فالجواب: لو أُريد ذلك لجاز استعمال هذا الأصل فتركهم لهذا الاستعمال دليل على أنَّهُ ليس أصلاً له. قال شهابُ الدِّين: أما أبُو إسحاق لم يعتقد كونها موصولة بمعنى «الَّذِي» ، لا يقول بذلك أحَدٌ، وإنَّمَا يَزْعُمُ أنَّهَا ليست مضافة للجملة بعدها، فصارت كالصِّلَةِ لها أي: كالزِّيَادَةِ، وهو كلام مُتَهَافِتٌ، فالرَّدُ عليه من هذه الحَيْثِيَّةِ لا من حيْثية اعتقاده لكونها مَوْصُولةً. ويحتمل أن يكون مراده أنَّ الجملةَ لمَّا كانت من تمَامِ معناها بمعنى أنَّهَأ مفتقرةٌ إليها كافْتِقَار الموصول لِصِلَتِهِ أطلق عليها هذه العبارة. ويَدُلُّ على ذلك أنّ مكّياً ذكر في علة بنائها فقال: «ولأنَّ ما بعدها من تَمَامِهَا كالصِّلَةَ والموصول» إلا أنَّهُ يرى أنَّهَا مضافة لما بعدها. وقرىء «مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُ» بالإفراد، وذلك يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون الضَّمِيرُ عَائِداً على الشَّيْطَانِ وَحْدُهُ دون قبيله لأنه هو رأسهم، وهم تَبَعٌ له، ولأنَّهُ المَنْهِيُّ عند أوَّلَ الكلامِ. والثاني: أن يَعُودَ عليه وعلى قبيله، ووحَّد الضَّمير إجراءً له مجرى اسم الإشارة في قوله تعالى: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . ونظير هذه القراءة قول رُؤبَةَ: [الرجز] 2448 - فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلقْ ... كأنَّهُ فِي الجِلْدِ تَوْلِيعُ البَهقْ وقد تقدَّنم هذا البَيْتُ بحكايته معه في البقرةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 76 فصل في المراد بالآية معنى الآيةِ: أنَّ الشَّيْطَانَ يَرَاكُم يا بَنِي آدَمَ هو وقبيلهُ وجنوده، وقال ابْنُ عبَّاسٍ: «هو وَوَلَدُهُ» . وقال قتادةُ: «قبيله الجنُّ والشَّياطين من حي لا ترونهم» . قال مَالِكُ بْنُ دينارٍ: إن عدواً يراك ولا تراه لشديد الموتة إلاَّ من عصم اللَّهُ. فصل في بيان رؤية الجن الإنس قال أهل السُّنَّةِ: إنَّهُم يرون الإنْسَ؛ لأنه تعالى خلق في عيونهم إدراكاً، والإنس لا يرونهم؛ لأنَّهُ تعالى لم يخلق هذه الإدراك في عيون الإنس. وقالت المُعْتَزلَةُ: الوَجْهُ في أنَّ الإنْسَ لا يرون الجِنَّ لرقة أجْسَامِ الجنِّ، ولطفاتها، والوجه في رُؤيَة الجن الإنس كثافة أجسام الإنس، والوجه في أن يرى بعض الجنّ بعضاً أنَّ اللَّه تعالى يقوي شُعَاعَ أبْصَارِ الجِنِّ ويزيد فيه، ولو زاد تعالى في قُوَّةِ أبْصَارِنَا على هذه الحالة لرأيناهم وعلى هذا كون الإنس مبصراً للجن موقف عِنْدَ المعتزلة إما على زيادة كثافةِ أجسَامِ الجنِّ أو على زيادة قُوَّةِ أبصار الإنْسِ. وقوله {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم} يدل على أنَّ الإنْسَ لا يرون الجِنَّ لأن قوله {مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُم} يتناول أوقات الاستقبال من غير تخصيص. فصل في تغير الجن في صور مختلفة قال بعضُ العُلَمَاء: لو قدر الجِنُّ على تغيير صور أنفسهم بأي صورة شَاءُوا وأرَادُوا؛ لوجب أنْ ترتفعَ الثِّقَةُ عن معروف النَّاس فلعلَّ هذا الذي أشاهده، وأحكم علية بأنَّهُ ولدي، أو زوجتي جنِّي صور نفسه بصورة ولدي أو زَوْجَتِي وعلى هذا التقدير فيرتفع الوثوق عن معرفة الأشخاصِ، وأيضاً، ولو كانوا قَادِرِين على تخبيط النَّاسِ وإزالة عقولهم عنهم مع أنَّهُ تعالى بين العَدَاوَةَ الشديدة بينهم وبين الإنْسِ، فَلِمَ لا يفعلون ذلك في حق البشر؛ وفي حقِّ العلماء والأفاضل والزهاد؟ لأن هذه العداوة بينهم وبين العلماء والزُّهَّاد أكثر وأقوى، ولما لم يوجد شيء من ذلك ثبت أنَّهُ لا قُدْرَةَ لهم على البشر بوجه من الوُجُوهِ، ويؤكِّدُ ذلك قوله {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22] . قال مُجَاهدٌ: قال إبليسُ: إعطينا أربعاً: نَرى ولا نُرى، ونخرج من تَحْت الثرى ويعودُ شيخنا فَتَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 77 قوله {إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون} . يحتمل أنْ يكون «جعل» بمعنى «صَيَّر» ، أي: صيَّرنَا الشَّياطين أولياء. وقال الزَّهْرَاويُّ «جعل» هنا بمعنى «وصف» وهذا لا يعرف في جعل وكأنه فراراً من إسناد جَعْلِ الشياطين أولياء لغير المؤمنين إلى اللَّهِ تعالى وكأنَّها نزعة اعتزاليَّة. و «للَّذِينَ» متعلِّقةٌ ب «أولياء» ؛ لأنه في معنى الفعل، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ؛ لأنَّه صفة ل «أولياء» . فصل في المراد ب «أولياء» معنى «أولياء» أي: أعْوَاناً وقرناء للَّذين لا يُؤمِنُون. قال الزَّجَّاجُ: سلطناهم عليهم يزيدون في غَيِّهم كقولهم {أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} [مريم: 83] واحتج أهل السنة بهذا النص على أنَّهُ تعالى هو الذي سَلَّطَ الشَّيْطَان عليهم حتى أضلهم واغواهم. وقالت المُعْتَزِلَةُ: معنى قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا الشياطين أَوْلِيَآءَ لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} هو أنَّا حكمْنَا بأنَّ الشَّيْطَان ولي لمن لا يؤمن، قالوا: ومعنى قوله: {أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين} [مريم: 83] هو أنَّا خلينا بينهم وبينهم كما يقال لمن لا يربط الكلب في داره ولا يمنعه من الوثوب على الداخل أنَّهُ أرسل عليهم كلبه. والجوابُ أن القائل إذا قال: إن فُلاناً جعل هذا ثوباً أبيضَ أو أسود، لم يفهم منه أنَّهُ حكم به بل يفهم منه أنه حصل السَّواد أو البياض فيه، فكذلك هاهنا وجب حمل الجعل على التَّأثير والتَّحصيل لا على مجرد الحكم وأيضاً فهب أنَّهُ تعالى حكم بِذلكَ لكن مخالفة حكم اللَّهِ توجب كَوْنَهُ كَاذِباً وهو مُحَالٌ، والمفضي إلى المُحَالِ مُحَالٌ، فكون العبد قادراً على خلافِ ذلك؛ وجب أن يكُونَ مُحَالاً وأما قولهم إن قوله تعالى {أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين} [مريم: 83] أي خلَّينا بينهم وبين الكافرين، فهو ضعيف؛ ألا ترى أنّ أَهل السُّوقِ يؤذي بعضُهُم بعضاً، ويشتمُ بعضهم بعضاً ثم إنَّ زيداً وعمراً إذا لم يمنع بعض لا يُقَالُ إنَّهُ أرسل بعضهم على البعض، بل لفظ الإرْسَالِ إنَّمَا يصدق إذا كان تسلط بعضهم على البعض بسبب من جهته فكذا هاهنا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 هذه الجملة الشَّرْطيَّة لا محلَّ لها من الإعراب؛ لأنَّها استئنافيَّة وهو الظَّاهِرُ وجوَّزَ ابْنُ عَطِيَّة أن تكون داخِلَةً في حيِّز الصِّلَةِ لعطفها عليها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 78 قال ابْنُ عطيَّة ليقع التوبيخ بصفة قَوْمٍ قد فعلوا أمثالاً للمؤمنين إذا شبه فعلهم فعل الممثل بهم. قوله: «وَجَدْنَا» يحتمل أنْ يكون العلمية أي علمنا طريقهم أنها هذه، ويحتمل أن يكون بمعنى: لَقِينَا، فيكون مفعولاً ثانياً على الأول وحالاً على الثاني. فصل في المراد من الآية. قوله {وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً} قال ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ: هي طوافهم بالبيت عراة. وقال عطاءٌ: الشِّرك. وقيل: ما كَانُوا يحرمونه من البحيرةِ والسَّائِبَةِ وغيرها، وهو اسم لكلِّ فعل قبيح بلغ النَّهايةَ في القُبْحِ، فالأولى أن يحكم بالتعميم، وفيه إضمارٌ مَعْنَاهُ: وإذا فعلوا فَاحِشَةً فنهوا عنها قالوا: وجدنا عليها آباءنا. قيل: ومن أينَ أخذ آباؤكم؟ قالوا: اللَّهُ أمَرَنَا بها. واعلم أنَّهُ ليس المرادُ أنَّ القومَ كَانُوا يعتقدونَ أن تلك الأفعال فواحش ثم يزعمون أنَّ الله أمرهم بها، فإنَّ ذلك لا يقولهُ عاقلٌ، بل المراد أن تلك الأشياء في أنفسها فواحش، والقوم كَانُوا يعتقدون أنها طاعات والله امرهم بها ثُمَّ إنَّهُ تعالى حكى عنهم أنَّهُم كانوا يحتجون على إقدامهم على تلك الفواحِشِ بأمرين. أحدهما: {وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا} . والثاني: {والله أَمَرَنَا بِهَا} . فأمَّا الحُجَّةُ الأولى فما ذكر الله عنها جواباً لأنَّها محض التَّقْلِيد، وهو طريقة فاسدَةٌ في عقل كلِّ أحد؛ لأنَّ التقليد حاصل في الأديان المتناقضة فلو كان التَّقلِيدُ حقاً للزَِ الحكمُ بأنَّ كُلَّ من المتناقضين حقّاً وذلك باطلٌ، ولما كان فساد هذا الطَّريق ظاهراً جلياً لم يذكر الجواب عنه. وأمّا الحجَّةُ الثَّانِية وهي قولهم: {والله أَمَرَنَا بِهَا} فقد أجَابَ اللَّهُ عنها بقوله: {قُلْ إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء} والمعنى أنَّه لما بين على لِسانِ الأنْبِيَاءِ والرُّسُلِ كون هذه الأفعال منكرة قبيحة، فكيف يمكن القول بأنَّ اللَّهَ تعالى أمرنَا بِهَا. وقوله: {إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء} حذف المفعول الأوَّل للعلم به أي لا يأمر أحداً أو لا يأمركم يا مُدَّعين ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 79 فصل قالت المعتزلَةُ: قوله {إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء} إشارة إلى أنَّهُ لما كان موصوفاً في نفسه بكونه من الفحشاء؛ امتنع أن يأمر الله به، وهذا يقتضي أن يكون كونه في نفسه فحشاً مغايراً لتعلق الأمر والنَّهْيِ بِهِ. والجوابُ: لما ثبت بالاستقراءِ أنَّهُ تعالى لا يأمرُ إلا بما يكون مصلحة للعباد ولا ينهى إلا عمَّا يكون مفسدة لهم، فقد صَحَّ هذا التَّعْلِيلُ. قوله: {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} والمعنى أن قولكم: إنَّ اللَّه أمَرَكُمْ بهذه الأفعال إمَّا لأنكم سمعتم كلام اللَّهِ تعالى ابتداء من غير واسطة، أو عرفتم ذلك بطريقِ الوحي عن الأنْبِيَاءِ. أما الأول: فباطل بالضَّرُورةِ. وأما الثاني: فباطل على قولكم لأنَّكُم تنكرون نبوّة الأنبياءِ على الإطلاق لأن هذه المناظرة مع كُفَّار قُرَيْشٍ، وهم كانوا منكرين أصْلَ النُّبُوَّةِ، وإذا كان كذلك، فلا طريق لهم إلى تحصيل العلم بأحْكَامِ اللَّهِ تعالى، فكان قولهم: إنَّ الله أمرنا بها قولاً على اللَّه بما لا يَعْلَمُونَ، وإنَّهُ بَاطِلٌ. قوله: {مَا لاَ تَعْلَمُونَ} مفعول به، وهذا مفرد في قوة الجملة؛ لأنَّ ما لا يعلمون ممَّا يتقولونه على الله - تعالى - كلام كَثِيرٌ من قولهم: {والله أَمَرَنَا بِهَا} كتبحير البحائر وتسبيب السَّوائب، وطوافهم بالبيت عُراةً إلى غير ذلك حذف المفعول من قوله: {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط} [الأعراف: 29] . فصل في دحض شبهة لنفاة القياس استدلَّ بهذه الآية نفاةُ القياس؛ لأنَّ الحكم المثبت بالقياس مظنون غير معلوم وما لا يكون معلوماً لم يجز القول به لقوله تعالى في معرض الذَّمِّ: {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وقد تقدَّم جوابٌ عن مثل هذه الدلالة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 قال ابن عباس: أمر ربِّي ب «لا إله إلا الله» لقوله تعالى: {شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة} [آل عمران: 18] إلى قوله: {قَآئِمَاً بالقسط} [آل عمران: 18] . وقال الضحاك: هو بالتوحيد. وقال مُجَاهِدٌ: والسُّدِّيُّ: بالعدل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 80 قوله: «وأقِيمُوا» فيه وجْهَانِ: أظهرهما: أنَّهُ مَعْطُوفٌ على الأمْرِ المقدر أي الذي ينحل إليه المصدر، وهو «بالقِسْطِ» وذلك أنَّ القِسْط مصدر فهو ينحل لحرف مصدري، وفعل، فالتَّقديرُ: قل: أمر ربي بأن أقسطوا وأقيموا، وكما أنَّ المصدر ينحلُّ إلى «أنَّ والفعل الماضي» نحو: عَجِبْتُ من قِيَام زَيْدٍ وخرج، أي: من أن قام، وخَرَجَ ول «أن» وللفعل المضارع كقولها: [الوافر] 2449 - لَلُبْسُ عَبَاءَةٍ وتَقرَّ عَيْنِي ..... ... ... ... ... ... ... ... . . أي: لأن ألبس عباءة وتقر، كذلك ينحل ل «أنَّ» وفعل أمر؛ لأنَّهَا توصل بالثَّلاث الصِّيغ: الماضي والمُضارع والأمر بشرط التَّصَرُّف، وقد تقدَّم تحقيقُ هذه المسألة وإشكالها وجوابُهُ. وهذا بخلاف «ما» فإنَّهَا لا تُوصَلُ بالأمْرِ، وبخلاف «كي» فإنَّهَا لا توصل إلا بالمُضَارِع، فلذلك لا ينحلُّ المصدر إلى «ما» وفعل أمر، ولا إلى «كي» وفعل ماضي أو مضارع. وقال الزَّمخْشَرِيُّ: وقل أقيموا وجوهكم أي: اقصدوا عبادته، وهذا من الزَّمَخْشَرِيُّ يحتمل تأويلين: أحدهما: أن يكون قوله «قل» أراد أنه مقدر غير هذا الملفوظ به فيكون «وأقيموا» معمولاً لقول أمر مقدر، وأن يكون معطوفاً على قوله: «أمر رَبِّي» فإنه معمول ل «قل» وإنما أظهر الزَّمَخْشرِيُّ «قُلْ» مع أقِيمُوا لتحْقيق عطفيته على «أمر رَبِّي» . ويجوز أن يكُون قوله «وأقِيمُوا» معطوفاً على أمْرٍ محذوف تقديره قل: أقبلوا وأقيموا. وقال الجُرْجانِيُّ صاحب «النَّظْم» : نسق الأمر على الجر وجاز ذلك؛ لأنَّ قوله {قُلْ أَمَرَ رَبِّي} قول لأن الأمْرَ لا يكُونُ إلا كلاماً، والكلام قول، وكأنه قال: قل: يقول ربي: اقسطوا وأقيموا، يعني أنَّهُ عطف على المعنى. و «مسجد» هنا يحتمل أن يكون مَكَاناً وزماناً. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: في وقت كلِّ سُجُودٍ، وفي مكان كلِّ سُجُودٍ، وكان من حَقِّ «مسجد» بفتح العين لضمها في المضارع، وله في هذا الشذوذ أخوات كثيرة مذكورة في التَّصريفِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 81 فصل في المراد ب «أقيموا وجوهكم» قال مجاهد والسدي: معنى {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وجهوا حَيْثُ ما كنتم في الصَّلاةِ إلى الكَعْبَةِ. وقال ابْنُ عبَّاس والضحاك: إذا حضرت الصَّلاةُ، وأنتم عند مَسْجِدِ فصلُّوا فيه ولا يقولن أحدكُم أصلي في مَسجْدِي. وقيل: معناه: اجعلوا سجودكم لِلَّهِ خَالِصاً، والسبب في ذكر هذين القولين أنّ إقامة الوجه في العبادة قد تكون باستقبال القِبْلَةِ، وقد تكون بالإخلاص في تلك العِبَادَةِ. والأقرب هو الأوَّلُ؛ لأنَّ الإخْلاَصَ مذكور بعده، فلو حملناه على معنى الإخلاص صار كأنَّهُ قال: وأخلصوا عند كلِّ مَسْجدٍ وادْعُوه مُخلصينَ، وذلك لا يستقيم. فإن قيل يستقيمُ ذلك إذا علقت الإخلاصَ بالدُّعَاءِ فقط. فالجواب لما أمكنرجوعه إليهما جميعاً لم يَجُزْ قصرهما على أحدهما خصوصاً مع قوله: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} فعم كل ما يسمى ديناً، وإذا ثبت هذا فاختلفوا في قوله: {عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} هل المرادُ منه زمان الصَّلاة أو مكانها على ما تقدم؟ قوله: «مُخْلِصينَ» حال من فاعل «ادْعُوه» ، «الدَّين» مفعولٌ به باسْمِ الفاعل وله متعلق ب «مخْلِصِينَ» حال من فاعل «ادْعُوه» ، و «الدِّين» مفعولٌ به باسْمِ الفاعل وله متعلق ب «مخْلِصين» ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حالٌ من «الدين» ، والمراد اعبدوه مخلصين له الطَّاعة. «والعِبَادَة» قال ابن الخطيب: المرادُ به أعمالُ الصَّلاةِ، وسمَّاها دعاءً لأنَّ الصلاة في اللُغة عبارة عن الدُّعاء، ونظيره قوله {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينة: 5] . قوله: «كَمَا بَدَأَكُمْ» «الكاف» في محل نَصْبِ نَعْتاً لمصدر محذوف تقديرُهُ: تعُودُون عَوْداً مثل ما بدأكم. وقيل: تقديره: تُخْرَجُونَ خُرُوجاً مثل ما بَدَأكُم ذكرهما مَكي، والأوَّل أليق بلفظ الآية الكريمة. وقال ابن الأنْبَارِيِّ: موضع «الكاف» في «كما» نصب ب «تَعُودُونَ» وهو على مذهب العرب في تقديم مفعول الفعل عليه أي: تعودون كما ابتدأ خلقكم. قال الفارسي: كما بَدَأكُم تعودُون ليس على ظَاهِرِه إذ ظاهره تعودون على البَدْءِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 82 وليس المَعْنَى تشبيههم بالبَدْءِ، إنَّمَا المعنى على إعادة الخلق كما ابتدئ، فتقدير «كما بَدأكُمْ تعُودُون» : كما بدأ خلقكم أي: يُحيي خلقكم عوداً كبدئه، وكما أنَّه لم يَعْنِ بالبدء ظاهره من غير حذف المضاف إليه، كذلك لم يَعْنِ بالعود من غير حذف المُضافِ الذي هو [ «الخلق» فلما حذف قام المضاف إليه مَقَامَ الفاعِلِ، فصار الفَاعِلُونَ مخاطبين. كما انه لما حذف المضاف] من قوله: {كما بدأ خلقكم} صار المخاطبون مفعولين في اللفظ قال شهاب الدين: يعني أنَّ الأصل كما بَدَأ خلقكم يعودُ خلقكم، فحذف «الخلق» في الموضعين وصار المخاطبون في الأوَّلِ مفعولين بعد أن كَانُوا مجرورين بالإضافة أيضاً وفي الثاني صاروا فَاعِلينَ بعد أنْ كانوا مجرورين بالإضافة. و «بدأ» بالهمز أنشأ واخترع، ويستعمل بهذا المعنى ثلاثياً ورباعياً على «أفْعَلَ» فالثلاثيُّ كهذه الآية، وقد جمعبين الاستعمالين في قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِيءُ الله الخلق} [العنكبوت: 20] فهذا من «أبدأ» ثم قال: كيف بدأ الخلق، هذا فيما يتعدى بنفسه. وأما ما يتعدَّى بالباءِ نحو: بَدَأتُ بكذا بمعنى قدَّمته وجعلتهُ أوَّل الأشياء، يقال منه: بَدَأتُ به وابتدأت به. وحكى الرَّاغِب أيضاً أنَّهُ يقال من هذا: ابْدأتُ به على «أفْعَلَ» وهو غريب. وقولهم: أبْدأت من أرض كذا أي: ابتدأت منها بالخُرُوجِ والبَدْء السيد سمي بذلك؛ قيل: لأنه يبدأ به في العد إذا عُدَّ السَّادَات وذكروا عليه قوله: [الوافر] 2450 - فَجِئْتُ قُبُورَهُمْ بَدْءاً ولَمَّا ... فَنَادَيءتُ القُبُورَ فَلَمْ تُجِبْنَهْ أي جئت قَبُورَ قومي سيّداً ولم أكن سَيّداً، لكن بموتهم صيّرت سيّداً، وهذا ينظر لقول الآخر: [الكامل] 2451 - خَلَتِ الدِّيَارُ فَسُدْتُ غَيْرَ مُسَوَّرِ ... وَمِنَ العَنَاءِ تَفَرُّدِي بالسُّؤدُدِ و «ما» مصدريَّةٌ، أي: كبدئكم. فصل في معنى «كما بدأكم تعودون» . قال ابنُ عبَّاس: إنَّ الله بدأ خلق بني آدم مؤمناً وكافراً، كما قال: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ} [التغابن: 2] ، ثم يعيدُهم يَوْمَ القيامةِ كما خلقهم مُؤمناً وكافراً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 83 وقال جَابِرٌ: يُبعثون على ما مَاتُوا عليه. روى جابر بْنُ عبد الله قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يبعثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عليْهِ، المُؤمِنُ على إيْمَانِهِ، والكَأفِرُ على كُفْرِهِ» وقال أبو العالية: «عَادُوا على علمه فيهم» . وقال سعيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: «كما كتب عَلَيْكُم تَكُونُونَ» . وقال محمدٌ بْنُ كَعْب: «من ابتدأ الله خلقه على الشِّقْوَةِ صار إليها، وإن عمل عمل أهل السَّعادةِ، كما أنَّ إبليس كان يعمل بِعَمَلِ أهل السَّعادةِ ثم صارَ إلى الشَّقاوةِ، ومن ابتدأ خلقه على السَّعادة صار إليها، وإن عمل بأعْمَال أهل الشٌّقاوة، كما أنَّ السَّحَرَةَ كانت تَعْمَلُ بعمل أهل الشَّقاوةِ فَصَارُوا إلى السَّعادة» . روى سهل بْنُ سَعْد قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن العبد يَعْمَلُ فيما يرى النَّاسُ بعمل أهل الجَنَّةِ، وأنَّهُ من أهل النَّار، وإنَّهُ ليعمل فيما يرى النَّاس بعمل أهل النَّارِ، وإنما هو من أهل الجنَّةِ، وإنَّما الأعْمَالُ بالخواتيم» وقال الحسنُ ومُجَاهِدُ: كمَا بَدَأكُمْ وخلقكم في الدُّنْيَا ولم تكونا شيئاً، كذلك تعودون أحياء يَوْمِ القيامةِ: كما قال: {كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] . قال قتادةُ، هم من التُّراب وإلى التُّراب يعودُونَ، ونظيره: {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} [طه: 55] ، واعلم أنَّه تعالى أمر أولاً بكلمة القِسْطِ وهي لا إله إلا الله، ثم أمر بالصَّلاة ثانياً، ثم بيَّن أنَّ الفائدة في الإتْيَانِ بهذه الأعمال إنما تظهر في الآخرة، ونظيره قوله تعالى لموسى: {إنني أَنَا الله لاا إله إلاا أَنَاْ فاعبدني وَأَقِمِ الصلاة لذكريا إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 14 - 15] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 84 في نصب «فريقاً» وجهان: أحدهما: أنَّهُ مَنْصُوبٌ ب «هَدَى» بعده، و «فريقاً» الثَّانِي منصوب بإضمار فعل يفسِّرهُ قوله: {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} من حيثُ المعنى والتَّقديرُ: وأضلَّ فريقاً حقّ عليهم. [قال القُرْطُبِيُّ: وأنشد سيبويه: [المنسرح] 2452 - أصْبَحْتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ وَلاَ ... أمْلِكُ رَأسَ البَعِير إنْ نَفَرَا والذِّئْبُ أخْشَاهُ إذْ مَرَرْتُ بِهِ ... وَحْدِي وأخْشَى الرِّيَاحَ والمَطَرا قال الفرَّاءُ: ولو كان مرفوعاً لجاز] ، وقدَّره الزمخشريُّ: «وخذل فريقاً» لأجل مَذْهَبِهِ. والجملتان الفعليتان في محلِّ نصب على الحال من فاعل «بَدَأكُمْ» أي: بَدَأكُم حال كَوْنِهِ هادياً فريقاً ومُضِلاًّ آخر. و «قد» مضمرة عند بعضهم، ويجوزُ على هذا الوجه أيضاً أن تكون الجملتان الفعليَّتان مستأنفتْينِ، فالوقف على «يعودون» على هذا الإعراب تام، بخلاف ما إذا جعلتهما حالين، فالوقف على قوله: «الضَّلالة» . الوجه الثاني: أن ينتصب «فريقاً» على الحال من فاعل «تَعُودُونَ» [أي: تعودون] فريقاً مَهْدِيّاً، وفريقاً حاقّاً عليه الضلاة، وتكون الجملتان الفعليَّتان على هذا في محل نصب على النَّعت ل «فريقاً» و «فريقاً» ، ولا بدَّ حينئذٍ من حذف عائدٍ على الموصوف من «هدى» أي: فريقاً هداهم، ولو قدَّرته «هَدَاهُ» بلفظ الإفراد لجاز، اعتباراً بلفظ «فَرِيق» ، إلاَّ أنَّ الأوَّل أحسن لمناسبة قوله: {وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ} ، والوقف حينئذ على قوله، «الضَّلالَةُ» ، ويؤيِّد إعرابه حالاً قراءة أبي بن كعب: «تعُودُون فريقين: فريقاً هدى، وفريقاً حقَّ عليهم الضَّلالة» ف «فريقين» نُصب على الحَالِ، و «فريقاً» وفريقاً بدل، أو منصوب بإضمار أعني على القطع، ويجوز أن ينتصب «فريقاً» الأول على الحال من فاعل « الجزء: 9 ¦ الصفحة: 85 تعودون» و «فريقاً» الثاني نصب بإضمار فعل يفسره {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} كما تقدَّم تحقيقه في كل منهما. وهذه الأوجه كلها ذكرها ابن الأنباري، فإنَّهُ قال كلاماً حسناً، قال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «انتصب فريقاً وفريقاً على الحال من الضَّميرِ الذي في» تعودون «، يريدُ: تعودون كما ابتدأ خلقكم مختلفين، بعضكم أشْقِيَاء وبعضكم سعداء، فاتصل» فريقٌ «وهو نكرة بالضَّمِير الذي في» تَعُودُونَ «وهو معرفة فقُطِع عن لَفْظِهِ، وعُطف الثاني عليه» . قال: «ويجوز أن يكون الأوَّل منصوباً على الحال من الضَّمير، والثاني منصوبٌ ب {حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} ؛ لأنَّهُ بمعنى أضلَّهم، كما يقول القائل» عبد الله أكرمته، وَزَيْداً أحسنت إليه «فينتصب زيداً ب» أحْسَنْتُ إلَيْه «بمعنى نَفَعْته؛ وأنشد: [الوافر] 2453 - أثَعْلَبَةَ الفَوَارِسِ أمْ رِيَاحاً ... عَدَلْتَ بِهِمْ طُهَيَّةَ والخِشَابَا نصب صعلبة ب «عدلت بهم طهية» ؛ لأنه بمعنى أهَنْتَهم أي: عدلت بهم من هو دُونَهُم، وأنشد أيضاً قوله: [الكامل] 2454 - يَا لَيْتَ ضَيْفَكُمُ الزُّبَيْرَ وَجَارَكُمْ ... إيَّايَ لَبَّسَ حَبْلَهُ بِحِبَالِي فنصب «إيَّاي» بقوله: لَبَّس حبله بحبالي، إذ كان معناه خالطني وقصدني. قال شهابُ الدِّين: يريدُ بذلك أنَّهُ منصوبٌ بفعلٍ مقدر من معنى الثاني لا من لفظه، هذا وجه التَّنْظِير. وإلى كون «فَرِيقاً» منصوباً ب «هَدَى» و «فريقاً» منصوباً ب «حقَّ» ذهب الفراء، وجعله نظير قوله تعالى: {يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [الإنسان: 31] . قوله: «إنَّهُمُ اتَّخَذُوا» جارمجرى التَّعليل، وإنْ كان استئنافاً لفظاً، ويدلُّ على ذلك قراءة عيسى بن عمر، والعبّاس بن الفضل، وسهل بن شعيب «أنَّهُمُ» بفتح الهمزة، وهي نص في العِلِّيِّة أي: حَقَّتْ عليهم الضلالة لاتِّخاذهم الشياطين أولياء، ولم يُسند الإضلال إلى ذَاتِهِ المقدَّسَةِ، وإن كان هو الفاعل لها تَحْسِيناً للفظ وتعليماً لعباده الأدَبِ، وعليه: {وعلى الله قَصْدُ السبيل وَمِنْهَا جَآئِرٌ} [النحل: 9] . فإن قيل: كيف يستقيمُ هذا التَّعْليلُ مع قولكم بأنَّ الهُدَى والضَّلال إنما حصلا بخلق الله ابتداءً؟ فالجوابُ: أنَّ مجموع القدرة والدَّاعي يوجب الفعل والدَّاعية التي دعتهم إلى ذلك الفعل هو أنَّهُم اتخذوا الشَّياطين أولياء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 86 فصل في دحض شبهة خلق الأفعال احتحَّ أهْلُ السُّنَّة بهذه الآية على أنَّ الهدى والضلال من الله تعالى. قالت المعتزلة: «المرادُ فريقاً هدى إلى الجنَّةِ والثَّواب، وفريقاً حقَّ عليهم الضَّلال أي: العذاب والصّرف عن طريق الثَّواب» . قال القاضي: لأنَّ هذا هو الذي يحقُّ عليهم دون غيرهم، إذا العبد لا يستحق أن يضلّ عن الدِّين، إذ لو استحقّ ذلك لجاز أن يأمر أولياءه بإضلالهم عن الدِّين كما أمرهم بإقامة الحدود المستحقة، وفي ذلك زوال الثِّقَة بالنُّبُوَّات. وهذا الجوابُ ضعيف من وجهين: الأول: أن قوله «فَرِيقاً هَدَى» إشارة إلى الماضي، وعلى التَّأويل الذي ذكروه يصيرُ المعنى: أنَّهُ تعالى سيهديهم في المستقبل، ولو قال: إنَّ المراد: أنَّهُ تعالى حكم في الماضي أنَّهُ سيهديهم إلى الجنَّةِ كان هذا عُدُولاً عن الظَّاهِرِ من غير حاجة؛ لأنَّهُ قد تبين بالدَّليل القاطع أن الهدى والضلال ليسا إلا من الله تعالى. والثاني: هب أن المراد من الهداية والضَّلال حكم الله بذلك، إلا أنّه لما حصل هذا الحكم امتنع من العبد صدور غيره، والإلزام انقلاب ذلك الحكم كذباً، والكذب على الله مُحَال، والمفضي إلى المحال محال، فكان صدور خلاف ذلك من العَبْدِ مُحَالاً. قوله: {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ} . قال ابن عباس: يريد ما سَنَّ لهم عمروُ بْنُ لحَيِّ، وهذا بعيد بل هو محمول على عُمُومِهِ، فكلُّ من شرع في بَاطلِ فهو مستحقٌّ للذم، سواء حسب كَوْنِهِ هدى، أو لم يحسب ذلك، وهذه الآية تدل على أنَّ الكافرَ الذي يظن أنَّهُ في دينه على الحقِّ والجاحد المعاند سواء، وتدلُّ أيضاً على أنَّ مُجَرَّد الظن والحسْبَانِ لا يكفي في صحَّة الدين، بل لا بدَّ فيه من الجَزءمِ والقَطْعِ؛ لأنَّهُ تعالى ذم الكفار بأنهم يحسبون كوْنِهِ مهتدين، ولولا أن هذا الحسبان مذموم وإلاَّ لما ذمهم بذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 لمَّا أمرنا بإقامة الصَّلاةِ بقوله: {وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} [الأعراف: 29] . وكان ستر العورة شَرْطا لصحَّةِ الصَّلاةِ أتبعه بذكر اللِّباس. قال ابْنُ عبَّاس: إنَّ أهل الجاهلَّيةِ من قبائل العرب كانوا يطوفون بالبيت عُرَاة، وكانوا إذا وصلوا إلى مَسْجِدِ «منى» طرحوا ثيابهم، وأتوا المسجد عُرَاةً، وقالوا: لا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 87 نَطوفُ بثيابٍ أصبنا فيها الذَّنوب، ومنهم من يقولُ: نفعلُ ذلك تفاؤلاً حتى نتعرى من الذُنُوب كما تعرّينا عن الثياب، وكانت المرأة منهم تتخذ ستراً تعلٌّه على حقويها لتستتر به عن الحُمْس وهم قريشٌ، فإنَّهُم كانُوا لا يَفْعَلُون ذلك، وكانوا يطوفون في ثيابهم، ولا يأكلون من الطعام إلاَّ قوتاً قال الكَلْبِيُّ: كانت بَنُو عامر لا يأكُلُونَ في أيَّام حجِّهم من الطعام إلا قوتاً، ولا يأكلون دسماً، يعظِّمُون بذلك حجهم فقال المسلمون يا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنحن أحقُ أن نَفْعَلَ ذلك فنزلت هذه الآية. و «كُلُوا» يعني: اللحم والدسم. {واشربوا وَلاَ تسرفوا} بتحريم ما أحلَّ الله لكم من اللحم والدسم. {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} الذين يفعلون ذلك. قال ابن عباس: «كُلْ ما شِئْتَ، والبَسْ ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف ومخيلة» . قال عَلِيُّ بْنُ الحُسينِ بنِ واقدٍ: وقد جمع اللَّهُ الطبَّ كلَّه في نصف آية: {وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا} . فصل في معنى «الزينة» المراد من الزِّينة لبس الثيابِ لقوله تعالى: {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} [النور: 31] . يعني: الثّياب. والزينة لا تحصل إلا بالسّتر التام للعورات، ولذلك صار التزين بأخذ الثياب في الجمع والأعياد سُنَّة، فوجب حمل الزينة على ستر العورة. وقد أجمع المُفسرون على أن المراد بالزِّينةِ هنا لبس الثياب التي تستر العورة، وقد أمر بها بقوله: خُذُو زينتَكُم «، والأمرُ للوجوبِ، فَثَبَتَ أنَّ أخذ الزِّينةِ واجب، وكل ما سوى اللبس فهو واجب، فوجب حمل الزِّنةِ على اللبس عملاً بالنَّصِّ بقدر الإمكان، فدلَّ على وُجُوبِ ستر العورة عند إقامة الصَّلاة. فإن قيل: إنَّهُ عطف عليه قوله:» كُلُوا واشْرَبُوا «، وذلك أمر إباحة، فوجب أن يكون قوله:» خُذُوا زِينَتَكُم «أمر إباحة أيضاً والجواب لا يلزم من ترك الظَّاهر المعطوف تركه في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 88 المعطوف عليه وأيضاً دلالة الاقتران ضعيفة، وأيضاً الأكل والشرب قد يكونان واجبين أيضاً في الجملة. فإن قيل هذه الآية وردت في المنع من الطواف حال العري. فالجواب: أن العِبْرَة بعموم اللَّفْظِ لا بخصوص السَّبب. إذا ثبت ذلك فقوله {يا بني آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ} يقتضي وجوب اللِّبس التَّام عند كل صلاةٍ؛ لأن اللبس التام هو الزينة. ترك العمل به في القدر الذي لا يجبُ ستره من الأعْضَاءِ إجماعاً، فبقي الباقي داخلاً تحت اللفظ. فصل في الأصل في الأكل الحل قوله: {وكُلُواْ واشربوا} مطلق، يتناول جميع المطعومات والمشروبات، فوجب أن يكون الأصل فيها الحلُّ في كل الأوقات إلا ما خصَّه الدَّليل المنفصلُ، والعقل يؤكده؛ لأنَّ الأصْلَ في المنافع الحلُّ والإبَاحَةُ. فصل في وجوب ستر العورة قال القُرْطُبِيُّ: دلَّت هذه الآيةُ على وُجُوبِ ستْرِ العوْرَةِ، وعلى إباحةِ الأكْل والشرب ما لم يكن سرفاً، أمَّا ما تدعو الحاجة إليه وهو ما يسدُّ الجوعة ويسكن الظمأ مندوب إليه عقلاً وشرعاً؛ لما فيه من حفظ النَّفْس وحراسة الحواس، ولذلك ورد الشَّرْع بالنَّهي عن الوصالِ؛ لأنَّهُ يضعف الجسد، ويضعف عن العبادة. قوله: «ولا تُسْرِفوا» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 89 قيل: المرادُ أن يأَكل ويشرب بحيث لا يتعدَّى إلى الحرامِ، ولا يكثر الإنفاق المستَقْبَح، ولا يتناول مقداراً كثيراً يضرُّ به. وقال أبُو بَكْرِ الأصَمُّ: المراد بالإسراف قولهم: تحريم البحيرة والسّائبة، فإنَّهُمْ أخرجوها عن ملكهم، وتَرَكُوا الانتفاع بها، وحرَّموا على أنفسهم في الحجِّ أشياء أحَلَّها الله لهم، وذلك إسراف. واعلم أنَّ حمل لفظ الإسْرَاف على الاستكثارِ [و] مما لا ينبغي أولى من حمله على المَنءعِ مما يَجُوزُ ويَنْبَغِي. وقوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين} نهاية في التهديد؛ لأن كل من لا يحبُّه الله يبقى محروماً عن الثَّواب؛ لأن محبَّة الله للعبد إيصال الثَّواب إيله، فعدمُ هذه المحبَّة عبارةٌ عن عدم حصول الثَّوابِ، ومتى لم يحصل الثَّوابُ فقد حصل العِقَابُ لانعقاد الإجماع على أنَّهُ ليس في الوُجُودِ مكلّلإ لا يثابُ ولا يُعاقب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 قال القرطبي: لما بيَّن أنَّهم حرَّموا من تِلْقاءِ أنفسهم ما لم يحرمه الله عليهم، بيَّن هنا إباحة الزِّنةِ، والمُرَادُ بها الملبس الحسن ذا قدر عليه صاحبه وقيل: جميع الثّياب. وهذا استفهامٌ معناه التَّوبيخ والإنكار، وإذا كان للأإنكار فلا جواب له؛ إذ لا يُرادُ به استعلام، ولذلك نسب مَكيٌّ إلى الوهم في زعمه أنَّ قوله: «قُلْ هِيَ للذِيْن آمَنوا. . إلى آخره» جوابه. قوله: «زينة الله» قال ابن عباس وأكثر المفسرين: المراد به اللِّباس الذي يَسْتُرُ العَوْرَة. وقيل: جميع أنواع الزينة، فيدخل فيه جميع أنواع المَلْبُوسِ، ويدخلُ تحته تنظيف البدن من جميع الوجوه، ويدخلُ تحته الرّكوب وأنواع الحلي؛ لأنَّ كل ذلك زينة، ولولا النًّص الوارد في تحريم الذَّهب والإبريسم على الرّجال لكان داخلاً تحت هذا العموم. ويدخل تحت الطيِّبات من الرِّزْقِ كلُّ ما يُسْتَلَذُّ ويشتهى من أنواع المأكولات والمشروبات، ويدخلُ تحته التَّمتع بالنِّسَاءِ والطيب. روي عن عُثْمَانَ بن مَظْعُون أنَّه أتى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «غلبني حديثُ النَّفْسِ عَزَمْتُ أن أخْتَصِي، فقال: مَهْلاً يا عثمان، إن خصاء أمتى الصِّيام، قال: إنَّ نَفْسي تحدثنى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 90 بالترهب، فقال: إنَّ تَرَهُّبَ أمَّتِي القُعُودُ في المساجِدِ لانتظار الصلاة فقال: تُحَدِّثُني نَفْسي بالسِّياحَةِ، فقال: سيَاحَةُ أمَّتِي الغَزْوُ والحجُّ والعُمْرَةُ، فقال إنَّ نَفْسِي تَحَدِّثُنِي أنْ أخْرُجَ مِمَّا أمْلِكُ، فقال: الأوْلَى أنْ تَكْفِي نَفْسَكَ وعيالَكَ، وأنْ تَرحم اليتيم، والمساكِينَ، فتُعْطِيَهُ أفضل مِنْ ذلك، فقال: إنَّ نَفْسِي تحدِّثُنِي أنْ أطلِّق خَوْلَةَ، فقال: إنَّ الهِجْرَةَ في أمَّتِي هِجْرَةُ ما حرَّم الله، فقال: إنَّ نَفْسِي تُحدِّثُني ألاَّ أغْشَاها، فقال: المُسْلِمُ إذا غشي أهْلَه أو ما مَلَكَتْ يَمِينُهُ، فإنْ لَمء يُصِبْ من وقْعَتِهِ تِلْكَ وَلَداً كان لَهُ وصيفٌ في الجَّنةِ، وإنْ كان لَهُ وَلَدٌ مات قَبْلَهُ أو بَعْدَهُ كَانَ لَهُ قُرَّةَ عَيْنٍ وفرحاً يَوْمَ القيامةِ، وإن مات قَبْلَ أن يَبْلُغَ الحنث كان لَهُ شَفِيعاً ورَحْمَةً يَوْمَ القيامةِ، قال: فإن نَفْسِي تحدثني إلاَّ آكل اللحم قال مَهْلاً إني آكُلُ اللحم إذا وَجَدْتثهُ ولو سألت الله أن يطعمنيه فعل. قال: فإن نفسِي تُحَدِّثُنِي ألاَّ أمَسَّ الطِّيبَ، قال: مَهلاً فإن جِبْريلَ أمَرَنِي بالطِّيب غبّاً وقال: لا تَتْرُكْه يوْمَ الجُمعَةِ، ثم قال: يا عُثْمَانُ: لا تَرْغَبْ عَنْ سُنَّتِي فإنَّ مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَمَاتَ قبل أنْ يتُوبَ صَرَفَت الملائكةُ وجْهَهُ عَنْ حَوْضِي» وهذا الحديثُ يَدُلُّ على أنَّ هذه الشَّريعةِ هي الكاملة، وتدل على أن جميع الزِّينة مباح مأذون إلا ما خصَّه الدليل. فصل في إباحة المنافع لأبن آدم هذه اليةُ تقْتَضي حلَّ كلِّ المنافع، وهو أصلٌ معتبر في جميع الشريعة؛ لأنَّ كلَّ واقعة إمَّا يكون النَّفع فيها خالصاً أو راجحاً، أو يتساوى فيها الضَّرر والنَّفع، أو يرتفعان. أما القسمان الأخيران وهما: أن يتعادل الضّرر والنفع، أو لم يوجدا قطُّ، ففي هاتين الصُّورتين يجب الحكم ببقاء ما كان على ما كان، وإنْ كان النَّفع خالصاً؛ وجب الإطلاق بمقتضى هذه الآية، وإن كان النَّفع راجحاً والضَّرر مرجوحاً يقابل المثل بالمثل، ويبقى القدر الزَّائد نفعاً خالصاً فيلتحق بالقسم الأوَّل، وهو الذي يكون النَّفعِ فيه خالصاً وإن كان الضَّرر خالصاً كان تركه نفاً خالصاً، فبهذا الطَّريق صارت هذه الآية دالّة على الأحكام التي لا نهاية لها في الحلّ والتحريم، ثمَّ إنْ وجدنا نصاً خالصاً في الواقعةِ قَضَيْنَا في النَّفْعِ بالحِلِّ، وفي التضَّرَرِ بالحُرْمَةِ، وبهذا الطَّريق صار جَمِيعُ الأحْكَامِ التّي لا نِهَايَةَ لها داخلَ تحت هذا النَّصِّ. فصل في دحض شبهة لنفاة القياس قال نُفَاةُ القياس: لو تَعَبَّدَنَا الله بالقياس لكان حكم ذلك القياس إمّا أن يكون موافقاً لحكم هذا النص العام وحينئذٍ يكون ضَائِعاً؛ لأنَّ هذا النَّصَّ مستقلٌ به، وإنْ كان مخالفاَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 91 كان ذلك القِياسُ مُخَصِّصاً لعموم هذا النَّصِّ، فيكون مردوداً؛ لأن العمل بالنَّصِّ أوْلَى من العملِ بالقياسِ، قالوا: وبهذا الطَريق يكونُ القرآن وحْدَهُ وافِياً ببيَانِ كل أحكام الشَّريعةِ، ولا حاجة معه إلى شَيْءٍ آخر. قوله: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} . [ «قل هي للَّذين آمنوا في الحياة الدُّنيا» ] أي: بحقِّها من تَوْحيد الله - عزَّ وجلَّ - والتَّصديق له، فإن الله ينعم ويرزق، فإن وحّده المنعم عليه وصدَّقَهُ فقد قَامَ بحقِّ النِّعْمَةِ، وإنْ كَفَرَ أمكن الشَّيْطَان من نَفْسِه. وقيل: أي: هي للَّذين آمَنُوا في الحياة الدُّنْيَا غير خالصةٍ لهم؛ لأنَّ المشركين شركاؤهم فيها خالصة يَوْمَ القيامة لا يشركهم فيها أحد. فإن قيل: هلاّ قيل للذين آمنوا ولغيرهم. فالجواب: لينبه على أنَّها خلقت للذين آمنُوا على طريق الأصالةِ، وأن الكفرة تبع لهم كقوله {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار} [البقرة: 126] ، وسيأتي له أجوبة أُخر في آخر الآية، والمراد التَّنْبِيهُ على أنَّ هذه النِّعم إنَّما تصفو من الشوائب يوم القيامة قوله: «خَالِصَةً» قرأها نافعٌ رفعاً، والباقون نصباً فالرفع من وجهين: أحدهما: أن تكون مرفوعة على خبر المبتدأ وهو «هِيَ» ، و «لِلَّذِين آمَنُوا» متعلق ب «خَالِصَةً» ، وكذلك «يَوْمَ القيامةِ» . وقال مكيٌّ: «ويكون قوله:» للَّذين «بييناً، فعلى هذا يتعلق بمحذوف كقولهم: سَقْياً لك وجَدْعاً لك. و {فِي الحياة الدنيا} متعلَّق ب» آمَنُوا «، والمعنى: قل الطيبات خالصة للمؤمنين في الدُّنيا يَوْمَ القيامةِ، أي: تَخْلصُ يوم القيامة لمن آمَنَ في الدُّنْيَا، وإنْ كانت مشتركة فيها بينهم وبين الكفَّار في الدُّنيا، وهو معنى حسن. وقيل: المرادُ بخلوصها لهم يَوْمَ القيامةِ أنَّهُم لا يعاقبون عليها، وإلى تفسير هذا نَحَ سعيدُ بْنُ جُبَيْرِ. الثاني: أنْ يكون خبراً بعد خبر، والخبر الأوَّل قوله: «لِلَّذينَ آمَنُوا» قاله الزجاج: واستحسنه أبو علي، و {فِي الحياة الدنيا} على هذا متعلِّق بما تعلَّقَ به الجارُّ من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 92 الاستقرار المقدَّرِ، و «يَوْمَ القيامةِ» معمول ل «خالصة» كما مرَّ الوجه قبله، والتقديرُ: قل الطيبات مستقرة أو كائنة للذين آمنوا في الحياة الدُّنيا، وهي خالصة لهم يوم القيامةِ، وإنْ كانوا في الدُّنيا يشاركهم الكفَّارُ فيها. ولمّا ذكر أبُو حيَّان هذا الوجه لم يعلَّقُ «فِي الحياةِ» إلابالاستقرار، ولو علق ب «آمنوا» كما تقدم في الوَجْهِ قَبلَهُ لكان حسناً. وأمَّا النصب فمن وجه واحد، وهو الحال [من الضَّمير المستتر في الجارِّ والمجرور قبله] ، والمعنى: أنَّها ثابة للَّذين آمنوا في حال كونها خالصة لهم يَوْمَ القيامةِ، و «للَّذينَ آمَنُوا» خبر «هِيَ» فتتعلق بالاستقرار المقدَّرِ، وسيأتي أنَّهُ متعلق باستقرار خاص في بعض التقادير عند بعضهم. و {فِي الحياة الدنيا} على ما تقدَّم من تعلُّقه ب «آمنوا» وبالاستقرار المتعلق به للذين، و «يَوْمَ القيامةِ» متعلِّق أيضاً بخالصة، والتقديرُ: قل الطّيبات كائنة أو مستقرة للمؤمنين في الحياة حال كونهم مقدَّراً خلوصها لهم يَوْمَ القيامةِ. وسمى الفراء نصبها على القطع، فقال: «خَالِصَةً» نصب على القَطْعِ، وجعل خبر «هِيَ» في «اللاَّم» التي في قوله: «للَّذين» ، ويعنى بالقطع الحال. وجوَّز أبُو علي أنْ يتعلَّق {فِي الحياة الدنيا} بمحذوفِ على أنَّهُ حال، والعاملُ فيها ما يعمل في «الَّذينَ آمَنُوا» . وجوَّز الفارسيُّ، وتبعه مكيٌّ أن تتعلَّق «فِي الحياةِ» ب «حرم» والتقديرُ: من حرم زينة الله في الحياة الدُّنْيَا؟ وجوَّز أيضاً أن تتعلق بالطّيبات. وجوَّز الفارسي وحدَهُ أن تتعلَّق بالرزق ومنع مكيٌّ ذلك قال: لأنَّكَ قد فرَّقْتَ بينهما بقوله: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} يعني أن الرِّزْقَ مصدر، فالمتعلّق به من تمامه كما هو من تمام الموصول، وقد فصلت بينه وبين معموله بجملة أجنبية، وسيأتي عن هذا جواب عن اعتراض اعتراض به على الأخْفَشِ. وجوَّز الأخْفَشُ أن تتعلَّق «في الحياة» ب «أخرج» أي: أخرجها في الحياةِ الدُّنْيَا، وهذا قد ردهُ عليه النَّاس بأنه يلزم الفَصْلأُ بين أبعاض الصلة بأجنبي، وهو قوله {وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} . وقوله: {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} ، وذلك أنَّهُ لا يُعطَفُ على الموصول إلاَّ بعد تمام صلته، وهنا قد عطفت على موصوف الموصول قبل تمامِ صلته؛ لأنَّ «الَّتِي أخْرَجَ» صفة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 93 ل «زينة» ، و «الطيِّبَات» عطف على «زِينَة» وقوله {قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} جملة أخرى قد فصلت على هذا التقدير بشيئين. قال الفَارِسِيُّ - كالمجيب عن الأخفش -: «ويجوزُ ذلك، وإن فُصِلَ بين الصلة والموصولة بقوله: {هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} لأنَّ ذلك كلام يشدُّ الصِّلة، وليس بأجنبي منها جداً كما جاء ذلك في قوله: {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} [يونس: 27] . فقوله: {وتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} معطوف على» كَسَبُوا «داخل في الصلة. قال شهابُ الدِّين: هذا وإن أفاد في ما ذكر، فلا يفيد في الاعتراض الأوَّلِ، وهو العطفُ على موصوف قبل تمام صلته؛ إذْ هو أجنبي منه، وأيضاً فلا نسلِّم أنَّ هذه الآية نظير آية» يونس «فإنَّ الظاهِرَ في آية يونس أنَّهُ ليس فيها فصل بين أبعاض الصِّلة. وقوله» لأن جزاء سيِّسةٍ بمِثِلِهَا «معترض، و» تَرْهَقُهُمْ «عطف على» كَسَبُوا «. قلنا: ممنوع، بل {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} [الشورى: 40] هو خبر الموصول، فيعترض بعدم الرَّابط بين المبتدأ والخبر، فيجابُ بأنَّهُ محذوف، وهو من أحسن الحذوف؛ لأنَّهُ مجرور ب» من «التَّبْعيضية، وقد نصَّ النُّحَاةُ على أنَّ ما كان كذلك كثر حذفه وحَسُنَ والتقديرُ: والَّذينَ كَسَبُوا السيِّئَاتِ جَزَاءُ سيِّئةٍ منهم بمثلها ف» جَزَاءُ سَيِّئةٍ «مبتدأ، و» مِنْهُم «صفتها، و» بمثلها «خبره، والجملة خَبَر الموصول، وهو نظير قولهم: السَّمن منوانِ بِدرْهَمٍ أي: منوان منه، وسيأتي لهذه الآية مزيد بيان. ومنع مكي أن يتعلق {فِي الحياة الدنيا} ب» زينة «قال: لأنَّها قد نُعتت، والمصر واسم الفاعل متى نعتا لا يعملان لبعدهما عن شبه الفعل. قال:» ولأنَّهُ يُفَرَّق بين الصَّلة والموصول؛ لأنَّ نَعْتَ الموصول ليس من صلته «. قال شهابُ الدِّين: لأن زينة مصدر فهي في قوة حرف موصول وصلته، وقد تقرَّر أنَّهُ لا يتبع الموصول إلا بعد تما صلته، فقد تحصل في تعلق» الَّذينَ آمَنُوا «ثلاثة أوْجُهٍ: إمَّا أنْ يتعلَّق ب» خالصة «، أب بمحذوف على أ، ها خبر، أو بمحذوف على أنَّها للبيان وفي تعلق {فِي الحياة الدنيا} سبعةُ أوْجُهٍ. أحدها: أن يتعلٌّ ب» آمنوا «. الثاني: أن تتعلَّق بمحذوف على أنَّها حال. الثالث: ان يتعلق بما تعلَّق به» لِلَّذِينَ آمَنُوا «. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 94 الرابع: أن يتلعَّق ب» حَرَّمَ «. الخامس: أن يتعلَّق ب» أخْرَجَ «. السادس: ان يتعلق بقوله:» الطّيِّبات «. والسابع: أن يتعلَّق بالرزق. و» يَوْمَ القيامةِ «له متعلق واحد وهو» خَالِصَةٌ «، والمعنى: أنَّها وإن اشتركت فيها الطائفتان دنيا فهي خالصة للؤمنين فقط أخرى. فإن قيل: إذَا كان الأمر على ما زعمت من معنى الشركة بينهم في الدُّنْيَا، فكيف جاء قوله تعالى: {هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ} ، وهذا مؤذِنٌ ظاهراً بعدم الشركة. فقد أجَابُوا عن ذلك من أوجه: أحدها: أنَّ في الكلام حذفاً تقديره: قل هي للذين آمنوا ولغيرهم في الحياة الدنيا خالصة لهم يوم القيامة. قال أبُو القاسم الكَرْمَانِيُّ: وكأنَّهُ دلَّ على المحذوف قوله بعد ذلك: {خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} إذْ لو كانت خالصة لهم في الدَّارين لم يخص بها أحدهما. والثاني: أن «لِلَّذينَ آمَنُوا» ليس متعلّقاً بكون مطلق، بل بكون مقيد، يدلُّ عليه المعنى، والتقدير: قل هي غير خَالصَةِ للذين آمنوا لأنَّ المشركين شركاؤهم فيها، خالصة لهم يَوْمَ القيامةِ، قاله الزمخشريُّ، ودلَّ على هذا الكون المقيَّد مقابله وهو قوله: {خَالِصَةً يَوْمَ القيامة} . الثالث: ما ذكره الزمخشريُّ، وسبقه إليه التبريزي قال: «فإن قلت: هلا قيل [هي] للَّذين آمنوا ولغيرهم؟ قلت: التنبيه على أنها خلقت للَّذين آمنوا على طريق الأصال، فإنَّ الكفرة تبع لهم كقوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً} [البقرة: 126] . وقال التبريزي: ولم يذكر الشّركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدُّنْيَا تنبيهاً على أنَّهُ إنَّما خلقها للذين آمَنثوا بطريق الأصال، والكُفَّار تبع لهم، ولذلك خاطب المؤمنين [بقوله] : {هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} [البقرة: 29] وهذا الثالث ليس جوابا ثالثاً، إنما هو مبين لحسن حذف المعطوف في عدم ذكره مع المعطوف عليه. ثم قال تبارك وتعالى: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات} وقد تقدم. وقوله: {لِقَوْمِ يَعْلَمُونَ} أنَّ القوم يمكنهم النظر به والاستدلال حتى يتوصَّلُوا إلى ذلك بتحصيل العلوم النظرية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 95 لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّ الذي حرَّموه ليس بحرام بيَّن في هذه الآية الكريمة أنواع المحرمات، فحرَّم أولاًالفواحش، وثانيها الإثم، واختلفُوا في الفَرْقِ بينهما، فقيل: الفواحشُ: عبارة عن الكبَائر؛ لأنَّ قبحها قد تَفَاحَشَ أي: تزايد، والإثم عبارة عن الصغائر، والمعنى: أنَّهُ حرَّم الكبائِرَ والصَّغائِرَ. وطعن القاضي في ذلك بأن ذلك يقتضي أن يقال: الزِّنّا والسرقة والكفر ليس بإثْمٍ، وهو بعيد، وأقلُّ الفواحش ما يجب فيه الحدُّ، والإثم ما لا حدّ فيه. وقيل: الفاحِشَةُ اسم للكبيرةِ، والإثمُ اسم لمطلق الذَّنْبِ سواء كان صغيراً أو كبيراً، وفائدته: أنَّهُ لمَّا حرّم الكبيرة أردفه بِتَحْرِيمِ مطلق الذَّنْبِ، لئلاَّ يتوهم أنَّ التحريم مقصورٌ على الكبيرة، وهذا اختيار القاضي. وقيل: إنَّ الفاحشة وإن كانت بحسب اللُّغَةِ اسماً لكِّ ما يتفاحش وتزايدُ في أمر من الأمور، إلاَّ أنَّهُ في العُرْفِ مخصوصٌ بالزِّنَا، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى في الزنا: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] ، ولأنَّ لفظ الفاحشة إذا أطلق لم يفهم منه إلاَّ ذلك. وإذا قيل: فلانٌ فحاشٌ، فُهم منه أنَّهُ يشْتِمُ النَّاسَب بالفاظ الوِقَاع؛ فوجب حمل لفظ الفاحِشَةِ على الزِّنَا، فعلى هذا يكون {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي: الذي يقع منها علانية، و «مَا بَطَنَ» أي: الذي يقع منها سرّاً على وجه العشق والمحبَّة. وقيل: {مَا ظَهَرَ مِنْهَا} : المُلامسة والمُعَانقة، و «مَا بَطَنَ» الدُّخول، وقد تقدَّم الكلام فيه في آخر السُّورة قبلها. وما «الإثم» فالظاهر أنَّهُ الذَّنب. وقيل: هو الخمرُ، قاله المفضلُ، وأنشد القائل في ذلك: [الطويل] 2455 - نَهَانَا رَسُولُ اللَّهِ أنْ نَقْرَبَ الزِّنَا ... وأنْ نَشْرَبَ الإثْمَ الذي يُوجِبُ الوِزْرَا وأنشد الأصمعي: [الطويل] 2456 - وَرُحْتُ حَزِيناً ذَاهِلَ العَقْلِ بَعْدَهُمْ ... كأنِّي شَرِبْتُ الإثْمَ أو مَسَّنِي خَبَلْ قال: وقد يسمى الخمر إثماً؛ وأنشد القائلُ: [الوافر] 2457 - شَرِبْتُ الإثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي ... كَذَاكَ الإثْمُ يَذْهَبُ بالعُقُولِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 96 ويروى عن ابن عبّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - والحسنِ البصري [أنهما] قالا: «الإثم: الخمر» . قال الحسنُ: «وتصديق ذلك قوله: {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} [البقرة: 219] ، والذي قاله الحُذَّاق: أنَّ الإثم ليس من أسماء الخَمْرِ. قال ابن الأنباري:» الإثمُ: لا يكون اسماً للخمر؛ لأنَّ العرب لم تسمِّ الخمر إثماً، لا في جاهلبيّة، ولا في الإسلام، وقول ابن عباس والحسن لا ينافي ذلك؛ لأنَّ الخمر سبب الإثم، بل هي معظمه، فإِنَّهَا مؤجّجة للفتن، وكيف يكونُ ذلك وكانت الخمرُ حين نزول هذه السُّورةِ حلالاً؛ لأن هذه السُّورة مكيَّة، وتحريم الخمبر إنَّمَا كان في «المَدِينَةِ» بعد «أحد» ، وقد شربها جماعةٌ من الصَّحابة يوم «أحدٍ» فماتوا شُهَدَاء، وهي في أجوافهم. وأمّا ما أنشده الأصمعيُّ من قوله: 2458 - شَرِبْتُ الإثْمَ ... ... ... ... . ..... ... ... ... ... ... ... ... ... نصواعلى أنه مصنوع، وأما غيره فاللَّهُ أعلم «. وقال بعضُ المفسِّرين:» الإثم: الذّنب والمعصية «. وقال الضحاكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:» الإثمُ: هو الذَّنْبُ الذي لا حدَّ فيه «. قوله: {والبغي بِغَيْرِ الحق} : اعلم أنَّ الَّذين قالوا: المراد ب» الفواحش «جميع الكبائر، وب» الإثم «جميع الذُّنوب قالوا: إن البغي والشرك لا بد وأن يدخلا تحت الواحش، وتحت الإثم، وإنَّمَا خصّهما الله - تعالى - بالذِّكر تنبيهاً على أنَّهُما أقبح أنواع الذُّنُّوب، كما في قوله تبارك وتعالى: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . وفي قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 8] . وأمَّا الذين خصُّوا الفاحشةَ بالزِّنَا، والإثمَ بالخَمْرِ قالوا: البغي والشرك غير داخلين تَحْتَ الفواحِش والإثم، وإنَّمَا البغي لا يستعملُ إلا في الإقْدَامِ على الغير نفساً، أو مالاً أو عِرْضاً، وقد يراد البغي على سلطان الوقت. فإن قيل: البغيُ لا يكون غلا بغير الحقِّ، فما الفائدة في ذكر هذا الشرط؟ فالجواب من وجهين: الأول: أنَّ قوله تعالى» بِغَيْرِ الحقِّ «حال، وهي حال مؤكدة؛ لأنَّ البَغْيَ لا يكون إلاَّ بغير الحق. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 97 والثاني: أنَّهُ مثل قوله تبارك وتعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} [الأنعام: 151] ، والمعنىك لا تُقدمُوا على إيذاءِ النَّاسِ بالقَتْلِ والقهر، إلا أن يكون لكم فيه حق فحينئذ يخرج عن أن يكون بغياً. وقوله:» وأنْ تُشْرِكُوا «منصوب المحلِّ نسقاً على مفعول» حرَّم «أي: وحرّم إشراككم عليكم، ومفعول الإشراك {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً} وقد تقدَّم بيانه في» الأنعام «، تهكَّم بهم؛ لأنَّهُ لا يجوز أن ينزل برهاناً أن يُشْرَكَ به غيره. قوله: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله} نسق على ما قبله أي: وحرّم قولكم عليه من غير علم، وقد تقدَّم الكلامُ عليه في هذه السُّورة عند قوله {إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 28] . فإن قيل: كلمة» إنَّمَا «تفيدُ الحَصْرَ، إنَّمَا حرّم ربي كذا وكذا يفيد الحصر، والمحرمات غير محصور في هذه الأشياء؟ فالجواب: إنْ قُلْنَا إن الفاحشة محمولة على مطلق الكبَائِرِ، والإثم على مطلق الذنب دخل كلّ الذُّنوب فيه، وإن حملنا الفَاحِشَة على الزِّنَا، والإثم على الخمر فنقول: الجنايات محصورةٌ في خمسة: أحدها: الجنايات على الإنسانيَّة، فهذا إنَّما يحصل بالزِّنَّا، وهو المراد بقوله: {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش} . وثانيها: الجنايات على العقول، وهي شُرْبُ الخمر، وإليه الإشارة بقوله» والإثْم «. وثالثها ورابعها: الجنايات على النُّفوس والأموال، وإليه الإشارة بقوله: {والبغي بِغَيْرِ الحق} . وخامسها: الجناية على الأديان، وهي من وجهين: أحدهما: الطَّعْنُ في توحيد الله تبارك وتعالى. والثاني: الطعن في أحكامه، وإليه الإشارة بقوله: {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} . فلما كانت الجنايات هذه الأشياء، وكانت البواقي كالفروع والتَّوابع، لا جرم كان ذكرها جارٍ مجرى ذكر الكُلِّ، فأدخل فيها كلمة» إنَّمَا «المفيدة للحصر. فإن قيل: الفَاحِشة والإثم هو الذي نهى الله تعالى عنه فصار تقديرُ الآية الكريمة: إنَّمَا حرَّمَ ربي المحرمات، وهو كلام خال عن الفائدة؟ فالجوابُ، كون الفعل فَاحِشة إنَّما هو عبارة عن اشتماله في ذاته على أمور باعتبارها يجب النَّهي عنه فسقط السُّؤال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 98 لما بيَّن الحَلاَلَ والحَرامَ وأحوال التَّكاليف، بين أنَّ لِكُلِّ أحد أجلاً معيناً أي: مدة وأجل. وقال ابْنُ عبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وعطاءٌ والحسنُ: وقت نزول العذاب بهم. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ} خبر مقدَّمٌ، ولا حاجة إلى حذف مضاف كما زعم بعضهم أنَّ التقدير: ولكلِّ أحد من أمةٍ أجل أي: عُمْرٌ، كأنَّه توهم أنَّ كل أحد له عمر مستقل، وأنَّ هذا مراد الآية الكريمة، ومراد الآية أعم من ذلك. قوله: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} . قال بعضهم: كُلُّ موضع في القرآن العظيم من شبه هذا التَّركيب، فإن «الفاء» داخلة على «إذَا» إلا في «يونس» فيأتي حكمها، وأما سائر المواضع فقال: «لأنَّها عطفت جملة على أخرى بينهما اتصال وتعقيب، فكان الموضع موضع الفاء» . وقرأ الحسنُ وابْنُ سيرينَ: «آجَالُهُم» جمعاً. قوله: «لا يَسْتَأخِرُونَ» جواب «إذَا» ، والمضارعُ المنفي ب «لا» إذا وقع جواباً ل «إذَا» جاز أن يُتلقى ب «الفاء» ، وألا يُتلقى بها. قال أبو حيَّان: وينبغي أن يعتقد أن بين الفاء والفعل بعدها اسماً مبتدأ، فتصير الجملة اسميّة، ومتى كانت كذلك وجب أن تتلقى «بالفاء» أو «إذا» الفجائية. و «ساعة» نصب على الظرف، وهي مثل في قلة الزمان. قوله: «وَلاَ يَسْتَقْدِمُون» هذا مستأنف، معناه الإخبار بأنَّهم لا يسبقون أجلهم المضروب لهم، بل لا بدَّ من استيفائهم إيَّاه، كما أنهم لا يتأخرون عنه أقلّ زمان. وقال الحُوفِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وغيره: إنَّهُ معطوف على «لا يستأخرون» ولهذا لا يجوز؛ لأن «إذا» إنَّما يترتب عليها وعلى ما بعدها الأمور المستقبلة لا الماضية، وةالاستقدام بالنِّسبة إلى مجيء الأجل مُتقدم عليه، فكيف يترتب عليه ما تقدَّمَهُ؟ ويصيرُ هذا من باب الإخبار بالضَّروريات التي لا يجهل أحد معناها، فيصير نظير قولك: «إذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 99 قمت فيما يأتي لم يتقدَّم قيامك فيما مضى» ومعلومٌ أنَّ قيامك في المستقبل لم يتقدّم قيامك هذا. وقال الواحديُّ: إن قيل: ما معنى هذا مع استحالة التَّقديم على الأجل وقت حضوره؟ وكيف يحسن التقديم مع هذا الأجل؟ قيل: هذا على المُقاربَةِ؛ لأنَّ العرب تقول: «جاء الشِّتَاءُ» إذا قرب وقته، ومع مقاربة الأجل يتصور الاستقدام، وإن كان لا يتصور مع الانْقِضَاءِ، والمعنى: لا يستأخرونَ عن آجالهم إذا انقضت، ولا يستقدمون عليها إذا قاربت الانقضاء، وهذا بناءً منه على أنَّهُ معطوف على «لا يَسْتَأخرُون» ، وهو ظاهر أقوال المفسرين. فصل في المراد ب «الأجل» في المراد بهذا الأجل قولان: قال ابنُ عبَّاسٍ والحسنُ ومقاتل: «المراد به نزول العذاب على كل أمة كذّبت رسولها» . والثاني: أن المراد به الأجل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 لمَّا بيَّن أحوال التَّكاليف، وأنَّ لكلِّ أمَّةٍ أجلاً معيناً - بيَّن أنَّهم بعد الموت إن كانوا مطيعين فلا خَوْفٌ عليهم ولا حزن، وإن كانوا متمردين وقعوا في أشدِّ العذابِ. قيل: أراد «بَنِي آدَمَ» مشركي العربِ، وقد تقدَّم إعراب نظيره في البقرة، وهي أن الشَّرْطِيَّة ضمت إليها مؤكدة لمعنى الشّرط، ولذلك لزمت فعلها النون الثقيلة، وجزاء هذا الشرط هو الفاء وما بعده من الشرط، والجزاء وهو قوله تعالى: {فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ} . و «مِنْكُم» صفة لطرسل «، وكذلك» يَقُصُّون «وقُدِّمَ الجار على الجملة لأنه أقرب إلى المفرد منها. قال مُقاتِلٌ: أرَادَ بالرُّسُلِ الرَّسول - عليه الصَّلاة والسلامُ - إنما قال:» رُسُل «، وإن كان خطاباً للرَّسُولِ - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وهو خاتم الأنبياء؛ لأنه أجرى الكلام على ما يقتضيه سنته في الأمم. وقيل: أراد جميع الرُّسُلِ، وإنَّما قال:» منكم «؛ لأنَّ كون الرسول منهم أقطع لعذرهم، وأمعن للحجَّة عليهم من جهات: وقيل: أراد جميع الرُسُلِ، وإنَّما قال:» منكم «؛ لأنَّ كون الرسول منهم أقطع لعذرهم، وأمعن للحجَّة عليهم من جهات: أحدها: أنَّ معرفتهم بأحواله وبطهارته تكون متقدمة. وثانيها: أنَّ معرفتهم بما يليق بقدرته تكون متقدّمة فلا جرم لا يقع في المعجزات الجزء: 9 ¦ الصفحة: 100 التي تظهر عليه شكّ وشبهة في أنَّهَا حصلت بقدرة الله تبارك وتعالى، لا بِقُدرتِهِ، ولهذا السَّبب قال تبارك وتعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام: 9] . وثالثها: ما يحصل من الألْفَةِ وسكونِ القلب إلى أبناء الجنس، بخلاف من لا يكون من الجنس، فإنَّهُ لا يحصل معه الألفة. قوله: {يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي} . قيل: الآياتُ: القرآنُ، وقيل: الدلائلُ، وقيل: الأحكام والشَّرائع. والأَوْلى دخول الكلِّ فيه؛ لأنَّ الرُّسل إذا جاءُوا فلا بدّ يذكرون جميع هذه الأقسام. قوله:» فَمَنْ «يحتمل أن يكون شرطية، وأنْ تكون موصولة، فإن كان الأوَّلُ؛ كانت هي وجوابها جواباً للشّرط الأوَّل كما تقدَّم، وهي مستقلة بالجوابِ دون التي تُفِيدُ جوابها وهي» والَّذِينَ كَذَّبُوا «، وإن كان الثاني كانت هي وجوابها، والجملة المشار غليها كلاهما جواباً للشَّرط، كأنَّهُ قسم جواب قوله:» إمَّا يأتينكُمْ «إلى متَّقٍ ومكذب، وجر كلاًّ منهما، وقد تقدَّم تحقيق هذا في البقرة. وحذف مفعولي» اتَّقَى وأصْلَحَ «اختصاراً للعلم بهما أي: اتَّقَى ربه وأصلحِ عمله، أو اقتصاراً أي: فَمَنْ كان من أهل التَّقْوى والصَّلاح من غير نظر إلى مفعول، كقوله تعالى: {هُوَ أغنى وأقنى} [النجم: 48] ولكن لا بدَّ من تقدير رابط بين هذه الجملة، وبين الجملة الشرطية، والتقدير: فمن منكم والذين كذَّبوا منكم. وقرأ أبيٌّ والأعرج «تَأتينكُمْ» بتاء مثناة من فوق نظراً إلى معنى جماعة الرسل فيكون قوله تعالى «يَقُصُّون» بالياء من تحت حملاً على المعنى إذ لو حمل على اللفظ لقال: «تقُصُّ» بالتَّأنيث أيضاً. مطلب: هل يلحق المؤمنين خوف يوم القيامة أو لا؟ المعنى: لا خوف عليهم بسبب الأحْوالِ المستقبلة {وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} على ما فاتهم في الدُّنْيَا؛ لأنَّ حزنهم على عقاب الآخرة بما حصل لهم من زوال الخوف، فيكون كالمعادِ، وحمله على الفائدة الزائدة أولى. واختلف العلماء في أنَّ المؤمنين من أهل الطَّاعات هل يلحقهم خوف أو حزن عند أهوال القيامة، فقال بعضهم: لا يلحقهم لهذه الآية الكريمة، ولقوله تعالى: {لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر} [الأنبياء: 103] ، وذهب بعضهم إلى أنَّهُ يلحقهم ذلك الفزع الأكبر لقوله تعالى: {يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 101 الناس سكارى} [الحج: 2] من شدة الخوف، وأجاب هؤلاء عن هذه الآية الكريمة بأنَّ معناها: أن أمرهم يؤولُ إلى الإمن والسرور، كقول الطَّبِيبِ للمريض: «لا بأس عليك» أي: يؤولُ أمرك إلى العافية والسلامة، وإن كان في الوقت في بأس من علته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 قوله تعالى: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} ؛ أي الآيات التي يجيء بها الرُّسل - عيهم الصَّلاة والسَّلام - {واستكبروا} أي أبوا عن قوبلها وتكبروا عن الإيمان بها وذكر الاستكبار لأنَّ كلَّ كاذب وكافر متكبِّ {قال سبحانه وتعالى: {إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35] ألا {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} وهذه الآية تدل على أنَّ الفاسق من أهل الصَّلاة لا يخلد في النار؛ لأنَّهُ تبارك وتعالى بين أن المكذبين بآيات اللَّه والمستكبرين عن قبولها هم الذين يبقون مخلدين في النار. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 قوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} وهذا يجرع إلى قوله تعالى {وَالَّذَينَ كَذَّبُواْ} أي فمن أظلم ظلماً ممن يقول على اللَّهِ ما لم يعلمه أو كذب بما قاله، والأوَّلُ: هو الحكم بوجود ما لم يوجد. والثاني: هو الحكيم بإنكار ما وجد. والأول يدخلُ فيه قول من أثبت الشريك للَّه تعالى سواء كان ذلك الشريك عبارة عن الأصنام أو الكواكب أو عن مذهب القائلين بيزدان وأهرمن ويدخل فيه قول من أثبت للَّه تعالى البنات والبنين ويدخل فيه من أضاف الأحكام الباطلة إلى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ. وثالني: يدخل فيه قول من أنْكَرَ كون القرآن العظيم كتاباً نازلاً من عند الله تعالى وقول مَنْ أنْكَرَ نبوة مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله: {أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب} . قيل المراد بذلك النَّصِيبِ هو العذاب قاله الحسنُ والسُّدِّيُّ أي: ما كتب لهم في اللَّوْحِ المحفوظِ من العذاب وسواد الوجوه وزرقةِ العيون قال عطية عن ابن عباس - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 102 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كتب لمن يفتري على اللَّه سواد الوجه. قال تعالى {وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ} [الزمر: 60] . وقيل المراد ب «النصيب» أن أهل الذمة يجب علينا أن لا نتعدى عليهم، وأن ننصفهم ونذب عنهم. وقال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وسعيدُ بنُ جبير - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ومجاهدٌ: ما سبق لهم من السّعاد والشٌّاوة، فإن قضى اللَّهُ لهم بالختم على الشّقاوة أبقاهم على كفرهم، وإن قضى لهم بالختم على السعادة؛ نقلهم إلى الإيمان وقال الرَّبيعُ، وابنُ زَيْدٍ ومحمَّدُ بن كعب القرظيُّ: ما كتب لهم من الأرْزَاقِ والأعمار، والأعمال، فإذا فَنِيَتْ وانقضت {جَاءَتْ رُسُلنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} . قوله تعالى «مِنَ الكِتَابِ» في محلّ الحال من نَصِيبُهُم أي: حال كونه مستقراً من الكتاب و «مِنْ» لابتداء الغاية. قوله: «حَتَّى» هنا غاية، و «إذَا» وما في حيزها تقدَّم الكلام عليها هل هي جارة، أو حرف ابتداء؟ وتقدَّم عبارة الزَّمخشريُّ. واختلفوا فيها إذا كانت حرف ابتداء أيضاً. فقال ابْنُ درستويه هي حينئذٍ جارَّة، وتتعلَّق بما قبلها تعلّق حروف الجرِّ من حيثُ المعنى لا مِنء حيثُ اللفظ، والجملة بعدها في محل جرٍّ. وقال الجمهورُ: إذا كانت حرف ابتداء فَلَيْسَتْ جارّةً، بل حرف ابتداء فقط. وإن كان مَعْنَاهَا الغاية كقول القائل في ذلك: [الطويل] 2459 - سَرَيْتُ بِهِمْ تَكِلَّ مَطِيُّهُمْ ... وحَتَّى الجِيَادُ مَا يُقَدْنَ بأرْسَانِ وقل الآخر في ذلك: [الطويل] 2460 - فَمَا زَالَتِ القَتْلَى تَمُجُّ دِمَاءَهَا ... بِدِجلَةَ حَتَّى مَاءُ دِجْلَةَ أشْكَلُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 103 وقال صاحب «التَّحْريرِ» : «حتَّى» هنا ليست للغايةن بل هي ابتداء وخبر وهذا وَهْمٌ إذ الغايةُ معنى لا يفارقها. وقوله «بَلْ هي ابتداء وخبر» تسامح في العبارة يريدُ بل الجملة بعدها ثُمَّ الجملة التي في هذا المكان ليست ابتداء وخبر، بل هي جملة فعليّة، وهي قالوا و «إذَا» معموله لها. وممن ذهب إلى أنَّها ليست للغاية الواحديُّ فإنَّه حكى في معنى الآية الكريمة أقوالاً، ثم قال: فعلى هذا القَوْلِ معنى «حتَّى» للانتهاء والغاية وعلى القولين الأوَّلين ليست «حتى» في هذه الآية الكريمة للغاية بل هي التي يقع بعدها الجمل وينصرف الكلام بعدها إلى الابتداء ك «أما» و «إذا» ولا تعلق لقوله: «حتّى إذا» بما قبله، بل هذا ابتداء خبر أخبر عنهم كقوله في ذلك: [الطويل] 2461 - فَيضا عَجَباً حَتَّى كُلَيْبٌ تَسُبُّنِي ... كَأنَّ أبَاهَا نَهْشَلٌ أوْ مُجَاشِعُ وهذا غير مرضي منه لمخالفته الجُمْهُور. وقوله «لا تعَلُّقَ لها بما قبلها» ممنوع على جميع الأقوال التي ذكرها. والظَّاهِرُ أنِّما تتعلّق بقوله «ينَالُهُمْ نصيبهم» . فصل في إمالة «حتى» قال الخليلُ وسيبويه: لا يجوزُ إماة «حتى» و «ألاّ» و «أمَّا» وهذه ألفات ألْزِمَتِ الفتح لأنَّها أواخر حروفٍ جاءت لمعاني يفصل بينها وبين أواخر الأسماء التي فيها الألف نحو: حبلى وهُدَى إلا أن «حتَّى» كتبت بالياء لأنَّها على أربعة أحرف فأشبهت سَكْرَى، قال بعض النحويين: لا يجوز إمالة «حتَّى» لأنَّها حرف لا يتصرف والإمالة ضرب من التصرف. قوله: «يَتَوَفَّوْنَهُمْ» في محلّ نصب على الحال، وفي المراد بقوله: {رُسُلُنَا يَتَوفَّوْنَّهُمْ} قولان: المراد بالرُّسل ملك الموت وبقوله: «يَتَوَفَّوْنَهُم» يقبضون أرواحهم؛ لأنَّ لفظ الوفاة يفيد هذا المعنى. ح قال ابنُ عبَّاسٍ: إنَّ الملائكة يطالبون بهذه الأشياء عند الموت على سبيل الزّجر والتّوبيخ. الثاني: قال الحسن والزَّجَّاجُ في أحد قوليه: إنّ هذا لا يكون في الآخر ومعنى قوله: {جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ} أي يتوفون مدتهم عند حشرهم إلى النار بمعنى يستكملون عدتهم حتَّى لا ينفلت منهم أحد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 104 قوله «أَيْنمَا كُنْتُمْ» أي أين الشّركاء الذين كنتم تَعْبدُونَهُمْ من دون اللَّهِ وكتبت «أينَمَا» متصلة وحقُّها الانفصال، لأنَّ «ما» موصولة لا صلة إذ التقدير: أين الذين تدعونهم ولذلك كتبت {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} [الأنعام: 134] منفصلاً و {إِنَّمَا الله} [النساء: 171] متصلاً. قوله «ضَلُّوا» جواب من حيث المعنى لا من حيث اللَّفْظ، وذلك أنَّ السُّؤال إنَّما وقع عن مكان الذين كانوا يدعونهم من دون اللَّه، فلو جاء الجوابُ على نسق السُّؤال لقيل: هم في المكان الفلانيّ، وإنَّما المعنى: ما فعل معبودكم ومن كنتم تدعونهم، فأجَابُوا بأنَّهُمْ ضلُّوا عنهم وغابوا. قوله: «وشَهِدُوا» يحتمل أن يكون نَسَقاً على «قالوا» الذي وقع جواباً لسؤال الرسل، فيكون داخلاً في الجواب أيضاً. ويحتمل أن يكون مستأنفاً منقطعاً عما قَبْلَهُ ليس داخلاً في حيَّز الجواب كذا قال أبو حيَّان وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّهُ جعل هذه الجملة جواباً لعطفها على «قَالُوا» ، و «قالوا» في الحقيقة ليس هو الجواب، إنَّما الجوابُ هو مقولُ هذا القول، وهو «ضَلُّوا عَنا» ف «ضلُّوا عنَّا» هو الجواب الحقيقي الذي يُسْتَفَادُ منه الكلام. ونظيره أن يقولك سألت زَيْداً ما فعل؟ فقال: أطعمتُ وكسوتُ فنفسُ أطعمتُ، وكسوتُ هو الجواب. وإذا تقرَّرَ هذا فكان ينبغي أن يقول: «فيكون» معطوفاً على «ضَلُّوا عنَّا» ، ثمَّ لو قال كذلك لكان مُشْكلاً من جهة أخرى، وهو أنَّهُ كان يكون التركيب الكلامي: «ضلُّوا عَنَّا وشهدنا على أنفسنا أنَّا كنَّا» ، إلا أن يقال: حكى الجواب الثَّاني على المعنى، فهو محتمل على بُعْد بعيدٍ. ومعنى الآية أنَّهُم اعترفوا عند معاينة الموت أنَّهُم كانوا كافرين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 اختلفوا في هذا القائل، فقال مقاتل: «هو كلامُ خازِنِ النَّارِ» ، وقال غيره: «هو كلام اللَّهِ» ، وهذا الاختلاف مبني على أنَّ الله - تعالى - هل يتكلَّمُ مع الكفار أم لا؟ ، وقد تقدمت هذه المسألة. قوله: «فِي أمَمٍ» يجوزُ أنْ يتعلَّق قوله: «في أمَمٍ» وقوله «في النَّارِ» كلاهما ب «ادْخُلُوا» ، فيجيء الاعتراضُ المشهور وهو كيف يتلّق حرفا جرٍّ متحدا اللفظ والمعنى بعامل واحد؟ ، فيجاب بأحد وجهين: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 105 إمَّا أنَّ «في» الأولى ليست للظَّرفية، بل للمعيّة، كأنَّهُ قيل: ادخلوا مع أممٍ أي: مصاحبين لهم في الدُّخول، وقد تأتي «في» بمعنى «مع» كقوله تعالى: {وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة} [الأحقاف: 61] . وقول الشاعر: [الطويل] 2462 - شَمُوسٌ ودُودٌ فِي حَيَاءٍ وعِفَّةٍ ... رخِيمَةُ رَجْعِ الصَّوْتِ طَيِّبَةُ النَّشْرِ وإمَّا بأن «في النَّار» بدل من قول «فِي أمَمٍ» وهو بدل اشتمال كقوله: {أَصْحَابُ الأخدود النار} [البروج: 4، 5] . فإنَّ النَّار بدل من الأخدود، كذلك «في النَّارِ» بدل من «أمَمٍ» بإعاد العامل بدل اشتمال، وتكونُ الظرفية في [ «في» ] مجازاً؛ لأنَّ الأمم ليسوا ظروفاً لهم حقيقة، وإنَّما المعنى: ادخلوا في جملة أمَمٍ وغمارهم. ويجوز أن تتعلّق «فِي أمَم» بمحذوف على أنَّهُ حال أي: كائنين في جملة أمم. و «فِي النَّارِ» متعلّق ب «خلت» أي: تسبقكم في النَّارِ. ويجوز أنْ تتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ صفة ل «أمَمٍ» فتكون «أمم» قد وصفت بثلاثة أوصاف: الأولى: الجملة الفعليّة، وهي قوله «قَدْ خَلَتْ» . والثاني: الجارّ والمجرور، وهو قوله: {مِن الجن والإنس} . الثالث: قوله: «فِي النَّارِ» ، والتقدير: في أممٍ خالية من قبلكم كائنة من الجنِّ والإنس، ومستقرَّة في النَّارِ. ويجوز أن تتعلَّق «فِي النَّار» بمحذوفٍ أيضاً، لا على الوَجْهِ المذكور، بل على كونه حالاً من «أمَمٍ» ، وجاز ذلك وَإنْ كانت نكرة لتخصُّصها بالوصفين المُشَار إليهما. ويجوز أن يكون حالاً من الضَّميرِ في «خَلَتْ» ؛ إذ هو ضمير الأمَمِ، وقُدِّمت الجنُّ على الإنس؛ لانَّهم الأصل في الإغواء. قوله: «كُلَّما دَخَلتْ» تقدَّم نظيرها، وهذه الجملة يحتمل أنتكون صفة ل «أمم» أيضاً، والعائد محذوفٌ أي: كلما دخلت أمة منهم أي: من الأمَمِ المتقدَّمةِ لعنت أمتها، والمعنى: أن أهل النّار يلعنُ بعضهم بَعْضاً، ويتبرَّأ بعضهم مِنْ بَعْضٍ كما قال تعالى: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] . والمرادُ بقوله أختها أي: في الدّين. قوله: «حتَّى» هذه غاية لما قبلها، والمعنى: أنَّهُم يدخلون فضوْجاً فَوْجاً، لاعناً بعضهم لبعض إلى انتها تداركهم فيها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 106 وقرأ الجمهور: «إذَا ادَّارَكُوا» بوصل الألف وتشديد الدَّال، والأصلُ: تداركوا، فلما أريد إدغامُهُ فُعل به ما فُعل ب «ادَّارَأتُمْ» ، وقد تقدَّم تصريفه في البقرة [72] . قال مكيٌّ: ولا يستطاع اللفظ بوزنها مع ألف الوصل؛ لأنَّك تردُّ الزائد أصلياً فتقول: افاعلوا، فتصير تاء «تفاعل» فاء الفعل لإدغامها في فاء الفِعْلِ؛ وذلك لا يجوزُ، فإنْ وزنتها على الأصل فقلت: تَفَاعَلُوا جاز. وهذا الذي ذكر من كونه لا يمكن وزنه إلا بالأصْلِ، وهو «فاعلوا» ممنوع. قوله: «لأنَّكَ تردّ الزَّائد أصليّاً» . قلناك لا يلزم ذلكح لأنَّا نزنه بلفظه مع همزة الوَصْلِ، وتأتي بناء التفاعل بلفظها، فتقولُ: وزن ادَّارَكوا: اتفاعلوا، فيلفظ بالتاء اعتباراً بأصلها، لا بما صارتء إليه حال الإدغام. وهذه المسألةُ نصُّوا على نظيرها، وهو أنَّ تاء الافتعال إذا أبْدِلت إلى حرف مُجَانِسٍ لما قبلها كما تبدل تاء طاء، أو دالاً في نحو: اصْطَبَر، واضْطَرَبَ، وازْدَجَرَ، وادَّكَرَ، إذا وُزِن ما هي فيه قالوا: يُلفظ في الوزن بأصل تَاءِ الافتعال، ولا يُلفظ بما صارت إليه من طاء أو دال، فتقولُ: وزن اصطبر افتعل لا افطعل، ووزن ازدجر افتعل لا افدعل، فكذلك تقولُ هنا: وزن ادَّاركوا اتفاعلوا لا افَّاعلوا، فلا فرق بين تاء الافتعال والتَّفعال في ذلك. وقرأ ابْنُ مسعودٍ والأعْمَشُ، ورويت عن أبي عمرو: تَدَارَكُوا وهي أصل قراءة العامة. وقرأ أبو عمرو «إذا إِدَّاركوا» بقطع همزة الوصل. قال ابن جني: «هذا مشكل، ومثلُ ذلك لا ينقله ارتجالاً، وكأنَّهُ وقف وقفة مستنكرٍ، ثم ابتدأ فقطع» . وهذا الذي يُعتقد من أبي عمرو، وإلا فكيف يقرأ بما لا يثبت إلا في ضرورة الشِّعْرِ في الأسماء؟ كذا قال ابنُ جنيٍّ، يعني أن قطع الف الوَصْل في الضَّرورة إنَّمَا جاء في الأسماء. وقرأ حميد «أُدْرِكوا» بضم همزة القطع، وسكون الدَّال وكسر الراء، مثل «أخْرِجُوا» جعله مبنياً للمفعول بمعنى: أُدْخِلوا في دركاتها أو أدراكها. ونقل عن مُجَاهدٍ بْنِ جَبْرٍ قراءتان: فروى عنه مكي «ادَّرَكوا» بوصل الألف وفتح الدال مشدّدة وفتح الراء، وأصلها «ادْتَرَكوا» على افتعلوا مبنياً للفاعل، ثم أدغم، كما أدغم «ادَّان» من الدَّيْن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 107 وروى عنه غيره «أدْرَكوا» بفتح الهمزة مقطوعة، وسكون الدَّال وفتح الرّاء، أي: أدرك بعضُهم بعضاً. وقال أبُو البقاءِ: وقرئ: «إذَا ادَّاركوا» بألف واحد ساكنة بعدها دال مشدَّدة، وهو جمع بين ساكنين، وجاز في المفنصل كما جاز في المتَّصل، وقد قال بعضهم: «اثْنَا عَشَر» بإثبات الألف وسكون العَيْنِ، يعني بالمتصل نحو: «الضَّالين» وجانّ، ومعنى المنفصل أنَّ ألف «إذَا» من كلمة، والسَّاكن الثاني من كلمة أخرى. وَ «ادّاركوا» بمعنى تَلاحَقُوا، وتقدَّمُ تفسير هذه المادة [النساء: 78] . و «جميعاً» حال من فاعل «ادَّاركوا» . قوله: {أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ} يحتمل أن تكون فُعْلى أنثى أفعل الذي للمفاضلة، والمعنى على هذا كما قال الزمخشريُّ: «أخْرَاهم منزلة، وهم الأتباع [والسَّفلة] ، لأوْلاهم منزلة وهم القادة والرؤساء» . ويحتمل أن تكون «أخرى» بمعنى آخرة تأنيث آخر مقابل الأوَّل، لا تأنيث «آخر» الذي للمفاضلة كقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [فاطر: 18] . والفرقُ بين أخرى بمعنى آخرة، وبين أخرى تَأنيث آخر بزنة أفعل للتفضيل، أن التي للتفضيل لا تدلُّ على الانتهاء، كما لا يدلُّ عليه مذكَّرها، ولذلك يُعطف أمثالُها عليها في نوع واحد تَقُولُ: مررت بأمراة وأخرى وأخرى كما تقول: مررت برجل وآخر وآخر، وهذه تدلُّ على الانتهاء، كما يدلُّ مذكَّرها، ولذلك لا يُعطف أمثالُها عليها، ولأنَّ الأولى تفيد إفادة «غير» ، وهذه لا تفيدُ إفادة «غير» . والظَّاهِرُ في هذه الآية الكريمة أنَّهُمَا ليستا للتَّفضيل، بل لما ذكرنا. قال ابن عباس ومقاتل: «أخراهم دخولاً في النار لأولاهم دخولاً فيها» . واللام في «لأولاهم» للتّعليل أي: لأجل، ولا يجوزُ أن تكون التي للتّبليغ كهي في قولك: قلتث لزيد افعل. قال الزمخشريُّ: «لأنَّ خطابهم مع اللَّه لا معهم» ، وقد بسط القول قبله في ذلك الزَّجَّاج فقال: «والمعنى: وقالت أخراهم: يا ربَّنا هؤلاء أضلُّونا، لأولاهم» فذكر نحوه. قال شهابُ الدِّينِ: وعلى هذا فاللاَّمُ الثَّانية في قوله: «أولاهم لأخْرَاهُمْ» يجوز أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 108 تكون للتَّبليع، لأنَّ خطابهم معهم بدليل قوله: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف: 39] قوله: {رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا} يعني: أنَّ اأتباع يقولون: إنَّ المتقدّمين أضلّونا، يعني: أنَّ القادة أضلونا عن الهدى والدين فأتِهِمْ عذاباً ضعفاً من النَّارِ. قال أبُو عبيدة «الضِّعفُ: مثل الشَّيء مرةً واحدة» . قال الأزْهَريُّ: ما قاله أبو عبيدة هو ما يستعمله النَّاسُ في مجاز كلامهم، وقد قال الشَّافِعِيُّ قريباً منه فقال في رجل أوصى: «أعطوه ضِعْفَ ما يُصيبُ وَلَدِي» قال: «يَعطَى مثله مرتين» . قال الأزْهَرِيُّ: «الوصايَا يستعمل فيها العرف، وما يتفاهمه النَّاس، وأما كتاب اللَّهِ فهو عربيٌّ مبينٌ، ويُرَدُّ تفسيره إلى لغةِ العربِ، وموضوع كلامها الذي هو صنعه ألْسِنَتِهَا. والضِّعف في كلام العرب المِثْل إلى ما زاد، ولا يقتصر به على مثلين، بل تقول: هذا ضِعْفه أي مِثْلاه، وثلاثة أمثاله، لأنَّ الضِّعْفَ في الأصل زيادة غير محصورة، ألا ترى إلى قوله تعالى تعالى: {فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف} [سبأ: 37] لم يُرِدْ به مِثْلاً ولا مِثْلَيْن، وأوْلَى الأشياء به أن يُجْعل عشرةَ أمثاله كقوله تعالى: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [الأنعام: 160] فأقلُّ الضّعف محصور وهو المِثْلُ وأكثره غير محصورٍ «. ومثل هذه المقالة قال الزَّجَّاجُ أيضاً فإنَّهُ قال: أي عذاباً مضاعفاً؛ لأنَّ الضعف في كلام العرب على ضربين: أحدهما: المِثْلُ، والآخر: أن يكون في معنى تضعيف الشيء أي زيادته إلى ما لا يتناهى، وقد تقدَّم طرف من هذا في البقرة. وأما قول الشَّافعيِّ في» الوصيَّة «: إنَّهُ المثل، فلأن التركة متعلقة بحقوق الورثة، إلا أنَّا لأجل الوصيّة صرفنا طائفة منها إلى الموصى له، والقدر المتيقن في الوصيّة هو المثل، والباقي مشكوك فيه فيأخذ المتيقّن ويطرح المشكوك فيه فلهذا السّبب حملنا الضِّعْفَ في الوصيَّة على المثلين. قوله:» ضعْفاً «صفة ل» عذاباً، و «من النَّارِ» يجوز أن يكون صفة ل «عذاباً» ، وأن يكون صفة ل «ضعْفاً» ، ويجوز أن يكون «ضعفاً» بدلاً من «عذاباً» . قوله: «لِكُلِّ» أي: لكلّ فريق من الأخرى، والأولى أو القادة والأتباع. قوله: {ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} قراءة العامّة بتَاءِ الخطاب: إمَّا خطاباً للسَّائلين، وإمَّا خطاباً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 109 لاهل الدُّنيا أي: ولكن لا تعلمون ما أعدَّ من العذاب لكل فريق. وقرأ أبثو بَكْرِ عن عاصمٍ بالغيبة، وهي تحتمل أن يكون الضَّمير عائداً على الطائفة السّائلة تضعيف العذاب، أو على الطّائفتين، أي: لا يعلمون قَدْر ما أعدَّ لهم من العذاب. فإن قيل: إن كان المراد من قوله: لكلّ أحد من العذاب ضعف ما يستحقه، فذلك غير جائز؛ لأنَّهُ ظلم، وإن لم يكن المراد ذلك فما معنى كونه ضعفاً؟ . فالجوابُ: أنَّ عذاب الكفَّار يزيد فكل ألم يحصل فإنَّهُ يعقبه حصول ألم آخر إلى غير نهاية، فكانت تلك الآلام متضاعفة متزايدةٍ لا إلى آخر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 قوله: «وَقَالَتْ أُولاَهُمْ» أي في ترك الكُفْرِ والضَّلال وإنَّا متشاركون في استحقاق العذاب. فإن قيل: إن هذا منهم كذب؛ لأنَّهُمْ لكونهم رؤساء سادة وقادة، قد دعوا إلى الكُفْرِ والتَّرغيب فيه، فكانُوا ضالِّين مضلّين، وأمَّا الأتباع والضَّعفاء وإن كانوا ضَالين إلاَّ أنَّهُم ما كانوا مضلّين، فبطل قولهم: إنَّهُ لا فضل للأتباع على الرُّؤساء في تَرْكِ الضَّلال والكُفْرِ. فالجواب: أنَّ أقصى ما في الباب أنَّهم كذبوا في هذا القول يوم القيامة، وعندنا أنَّ ذلك جائز كما قرّرناه في سورة الأنعام في قوله: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] . قوله: «فما» : هذه الفاء عاطفة هذه الجملة المنفيّة على قول الله تعالى للسَّفلة: «لِكُلِّ ضِعْفٌ» أي: فقد ثَبَتَ أنَّ لا فضل لكم علينا، وأنا متشاوون في استحقاق الضِّعف فذوقوا. قال أبُو حَيَّان - بعد أنْ حكى بعض كلام الزَّمخشري -: والذي يظهر أنَّ المعنى انتفاء كون فضل عليهم من السَّفلة في الدُّنيا بسبب اتباعهم إيَّاهم، وموافقتهم لهم في الكُفْرِ أي: اتِّباعُكم إيّانا، وعدم اتِّباعكم سواء؛ لأنَّكُم كنتم في الدُّنيا عندنا أقلَّ من أن يكون لكم عيلنا فضِل بأتِّباعكم، بل كفرتم اختياراً، لا أنَّا حملْنَاكم على الكُفْرِ إجباراً، وأنَّ قوله: «فَمَا كَانَ» جملة معطوفة على جُمْلَةٍ محذُوفَةٍ بعد القَوْلِ دَلَّ عليها ما سبق من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 110 الكلام، والتَّقديرُ، قالت أولاهم لأخراهم: ما دعاؤكم اللَّه أنَّا أضلنناكم وسؤالكم ما سألتم، فما كان لكم علينا من فضلٍ بضلالكم، وأنَّ قوله: «فَذُوقُوا» من كلام الأولى خِطَاباً للأخرى على سبيل التشفِّي، وأن ذَوْقَ العذاب هو بسبب ما كَسَبْتُمْ لا بأنَّا أضْلَلْنَاكُمْ. وقيل: فذوقوا من خطاب الله لهم. و «بِمَا» «الباء» سببية، و «مَا» مصدرية، أو بمعنى «الَّذي» ، والعائد محذوف أي: تكسبونه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 هذا من تمام وعيد الكُفَّارِ فقوله: {كَذَّبُوا بآيَاتِنَا} أي بالدَّلائل الدَّالة التي هي أصول الدِّين فالدهرية ينكرون دلائل إثبات الذَّات والصِّفاتِ، والمشركون ينكرون دلائل إثبات التوحيد، ومنكرو النُّبوات يكذبون الدلائل الدالة على صحّة النُّبُوَّات ومنكرو نبوة محمد ينكرون الدلائل الدالة على صحة نبوته، ومنكرو المعاد ينكرون الدَّلائل الدّالة على صحّة المعاد فقوله: {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} بتناولُ الْكُلَّ ومعنى الاستكبار طلب التَّرَفُّع بالبَاطِلِ، وهذا اللَّفظ يَدُلُّ على الذم في حقِّ البَشَرِ. قوله: «لا تُفَتَّحُ» . قرأ أبُو عمر: «لا تُفْتَح» بضمّ ِالتَّاء من فوق والتَّخفيف والأخوان بالياء من تحت والتخفيف أيضاً، والباقون: بالتَّأنيث والتشديد. فالتَّأنْيِثُ والتَّذكير باعتبار الجمع والجماعة، والتخَّفيف والتضعيف باعتبار التكثير وعدمه، والتضعيف هنا أوْضَحُ لكثرة المتعلق، وهو في هذه القراءات مبني للمفعول. وقرأ أبُو حَيْوَةَ، وأبو البرهسم [ «تَفَتَّح» ] بفتح التَّاء مِنْ فوق والتضعيف، والأصل: لا تتفتح بتاءَيْن فحُذِفت إحداهما، وقد تقدَّم في « {تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] . ونحوه، ف» أبواب «على قراءة أبي حيوة فاعل، وعلى ما تقدَّم مفعول لم يُسمَّ فاعله. وقرئ:» لا تفتح «بالتاء، ونصب» الأبْواب «على أن الفعل للآيات وبالياء على أن الفعل للَّه ذكره الزمخشري. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 111 فصل في معنى» لا تفتح « قال ابنُ عبَّاسِ: لا تفتح لأعمالهم لدعائهم مأخوذ من قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] . وقال السُّدِّيُّ وغيره: لا تفتح لأرواحهم أبواب السَّمَاءِ وتفتح لأرواح المؤمنين، ويؤيد هذا ما ورد في الحديث أنَّ روح المؤمن يعرج بها إلى السَّماء فيستفتح لها فيقال: مرحباً بالنَّفْس الطيبة، التي كانت في الجسد الطيب، ويقال لها ذلك إلى أن تنتهي إلى السَّماء السابعة، ويستفتح لروح الكافر، فقال لها: ارْجِعِي ذميمةً فإنه لا تفتح لك أبوابُ السَّماء ولا يدخلون الجنة بل يهوى بها إلى سجين. وقيل: لا ينزلُ عليهم الخير والبركة لقوله: {فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ} [القمر: 11] . قوله: {حتى يَلِجَ الجمل} . الولوج: الدُّخُول بشدّة، ولذلك يقالك هو الدُّخول في مضيق، فهو أخصُّ من الدُّخول، والوليجة: كلُّ ما يعتمده الإنسان، والوليجة الدَّاخِلُ في قوم ليس منهم. و» الجَمَلُ «قراءة العامة، وهو الحيوانُ المعروف، ولا يقال للبعير جملاً إلا إذا بَزَل، ولا يقال له ذلك إلا إذا بَلَغَ أربع سنين وأول ما يخرج ولد النَّاقة، ولم تعرف ذُكُوريَّتُهُ وأنوثته يقالُ لَهُ:» سَلِيلٌ «، فإن كان ذكراً فهو» سَقْبٌ «، وإن كان أنثى» حَائِلٌ «، ثم هو» حُوار «إلى الفطام، وبعده» فَصِيل «إلى سنة، وفي الثانية:» ابْن مَخَاض «و» بِنْت مَخَاض «، وفي الثالثة:» ابْن لَبون «و» بنت لبون «، وفي الرابعة:» حِقٌّ «و» حِقَّة «، وفي الخامسة: جَذَع وجَذَعة، وفي السَّادسة:» ثَنِيُّ «و» ثَنِيَّة «، وفي السَّابعة: رَباع ورَباعية مخففة، وفي الثامنة:» سِديسٌ «لهما. وقيل: «سَديسةٌ» للأنثى، وفي التَّاسعة: «بَازِلٌ» ، و «بَازِلَةٌ» ، وفي العاشرة: «مُخْلِفٌ» و «مُخْلِفةٌ» ، وليس بعد البُزُول والإخلاف سنٌّ بل يقال: بازل عام، أو عامين، ومُخْلِف عام، أو عامين حتى يهرم، فيقال له: فَوْد. ورد التَّشبيه في الآية الكريمة في غاية الحسن، وذلك أنَّ الجمل أعظم حيوانٍ عند العربِ، وأكبره جثَّة حتى قال: [البسيط] 2463 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... جِسْمُ الجِمَالِ وأحْلاَمُ العَصَافِيرِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 112 [وقوله] : [الوافر] 2464 - لَقَدْ كَبُرَ البَعِيرُ بِغَيْرِ لُبٍّ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وسم الإبرة في غايةِ الضِّيقِ، فلما كان المثلُ يُضْرَبُ بعظم هذا وكبره، وبضيق ذلك حتَّى قيل: أضْيقُ من خُرْت إبرة، ومنه الخِرِّيْتُ وهو البصير بمضايق الطُّرُقِ قيل: لا يدخلون [الجنة حتى يتقحّم أعظم الأشياء وأكبرها عند العرب في أضيق الأِياء وأصغرها فكأنه لا يدخلون] حتى يُوجدَ هذا المستَحِيلُ، ومثله في المعنى قول الشاعر: [الوافر] 2465 - إذا شَابَ الغُرَابُ أتَيْتُ أهْلِي ... وَصَارَ القَارُ كاللَّبَنِ الحَلِيبِ وقر ابن عبَّاسِ في رواية ابْنِ حَوْشَبٍ، ومجاهد، وابن يعمر، وأبو مجلزٍ والشعبيُّ، ومالك بن الشِّخِّير، وابن محيصنٍ، وأبُو رجاءَ، وأبو رزين، وأبان عن عاصمٍ: «الجُمَّل» بضمِّ الجيمِ وفتح الميم مشددة وهو القَلْسُ، والقَلْس: حبلٌ غليظ، يجمع من حبال كثيرة فيفتل، وهو حَبْلُ السَّفِينة. وقيل: الحَبْلُ الذي يُصعد به [إلى] النّخل. ويروى عن ابن عباس أنه قال: «إن الله أحسن تشبيهاً أن يشبه بالحبل من أن يشبه بالجَمَلِ» كأنَّهُ رأى - إن صحَّ عنه - أن المناسب لسم الإبرة شيءٌ يناسب الخيط المسلوك فيها. وقال الكِسَائي: الرَّاوي ذلك عن ابن عباس أعجمي فَشَدَّ الميم «. وضفَّف ابن عطية قول الكسائي بكثرة رواتها عن ابن عباس قراءة. قال شهابُ الدِّين:» ولذلك هي قراءةٌ مشهورة بين النَّاس «. وروى مجاهدٌ عن ابن عباس ضمّ الجيم وفتح الميمِ خفيفة، وهي قراءة ابن جبير، وقتادة، وسالم الأفطس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 113 وقرأ ابْنُ عبَّاسِ أيضاً في رواية عطاء:» الجُمُل «بضم الجيم والميم مخففة، وبها قرأ الضحاكُ الجحدري. وقرأ عِكْرِمة، وابن جبير بضمِّ الجيم، وسكون الميم. [وقرأ المتوكل، وأبُو الجوزاء بالفتح والسُّكون، وكلُّها لغات في القَلْس المذكور. وسئل ابن مسعود عن الجمل في الآية فقال:» زَوْج النَّاقَةِ «، كأنه فهم ما أراد السّائل واستغباه] . قوله: {فِي سَمِّ الخياط} متعلق ب» يلج «، و» سمّ الخِيَاطِ «ثقب الإبرة، وهو الخُرْتُ، وسينه مثلثة، وكلّ ثُقب ضيق فهو سَمٌّ، وكلُّ ثقب في البدن؛ وقيل: كلُّ ثُقْبٍ في أنف أو أذن فهو سَمٌّ وجمعه سموم. قال الفَرَزْدَقُ: [الطويل] 2466 - فَنَفَّسْتُ عَنْ سَمَّيْهِ حَتَّى تَنَفَّسَا ... وقُلْتُ لَهُ لا تَخْشَ شَيْئاً وَرَائِيَا والسُّمُّ: القاتل، وسمي بذلك للطفه وتأثيره في مسامّ البدنِ حتى يصل إلى القلب، وهو في الأصل مصدرٌ ثم أُريد به معنى الفاعل لدخوله باطن البدن، وقد سمَّه إذا أدخله فيه، ومنه «السَّمَّة» للخاصة الذين يدخلون بَوَاطِنَ الأمور ومَسَامَّها، ولذلك يقال لهم: الدّخلُل. والسموم الريح الحادة؛ لأنَّها تؤثر تأثير السّم القاتل. والخياط والمخيط الآلة التي خاطُ بها فِعال ومِفْعَل، كإزار ومئزر، ولحافٍ ومِلْحَفٍ، وقناعٍ ومِقْنَعٍ. وقرأ عبد الله، وقتادة، وأبُو رزين، وطلحةُ «سُمِّ» بضمِّ السِّين، وأبو عمران الجوني، وأبُو نهيكٍ، والأصمعيُّ عن نافع «سِمّ» بالكسر، وقد تقدَّم أنَّها لغات. وقرأ عَبْدُ الله، وأبُو رزين، وأبو مجلزٍ: «المِخْيَط» بكسر الميم وسكون الخاء، وفتح الياء. وطلحةُ بفتح الميم، وهذه مخالفة للسَّوادِ. قوله: «وَكَذِلِكَ» أي: ومثل ذلك الجزاء نجزي المجرمين، فالكاف نعت لمصدر محذوف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 قوله: {لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ} هذه الجملة محتملة للحاليّة والاستئناف، ويجوزُ حينئذ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 114 في «مهاد» أن تكون فاعلاً ب «لهم» فتكون الحال من قبيل المفرات، وأن تكون متبدأ، فتكون من قبيل الجمل. و «مِنْ جَهَنَّمَ» حال من «مِهَاد» ؛ لأنَّهُ لو تأخر عنه لكان صفة، أو متعلق بما تعلَّق به الجار قبله. و «جَهَنَّم» لا تنصرف لاجتماع التَّأنيث والتعريف. وقيل: اشتقاقه من الجهومة، وهي الغلظ يقال: رجل جهم الوجْهِ أي غَلِيظه، فسميت بهذا الغلظ أمرها في العذاب. و «المِهَاد» جمع: مَهْدٍ، وهو الفراشُ. قال الأزهريُّ: «المَهْدُ في اللُّغة الفرش، يقال للفراش: مِهَادٌ» . قوله: {وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ} غواشٍ: جمع غاشية، وللنُّحاة في الجمع الذي على فواعل إذا كان منقوصاً بقياس خلاف: هل هو مُنْصَرِفٌ؟ . فبعضهم قال: هو مَنْصرفٌ؛ لأنه قد زال [منه] صيغة منتهى الجموع، فصار وزنُهُ وَزْنَ جَنَاحٍ وَقَذالٍ فانصرف. وقال الجَمْهُورُ: هو ممنوعٌ من الصَّرف، والتنوين تنوين عوضٍ. واختلف في المعوِّض عَنْهُ ماذا؟ فالجمهور على أنَّهُ عوض من الياء المَحْذُوفَةِ. وذهب المُبردِ إلى أنَّهُ عوض من حركتها، والكسرُ ليس كسر إعراب، وهكذا: حَوَارٍ وموالٍ وبعضهم يجرُّه بالفتحة، قال: [الطويل] 2467 - وَلَوْ كَانَ عَبْدُ اللَّهِ مَوْلىً هَجَوْتُهُ ... ولَكِنَّ عَبْدَ اللَّهِ مَوْلَى مَوَالِيَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 115 وقال آخر: [الرجز] 2468 - قَدْ عَجِبَتْ مِنِّي وَمِنْ يُعَيْلِيَا ... لمَّا رَأتْنِي خَلَقاً مُقْلُوْلِيَا وهذا الحكمُ ليس مختصاً بصيغة مفاعل، بل كلُّ غير منصرف إذا كان منقوصاً، فحكمهُ ما تقدَّم نحو: يُعيْل تصغير يَعْلَى ويَرْم اسم رجل، وعيله قوله: «وَمِنْ يَعَيْلِيَا» وبعض العرب يعرب «غواش» ونحوه بالحركاتِ على الحرف الذي قبل الياء المحذوفة، فيقول: هؤلاء جوارٍ. وقرئ: «ومِنْ فَوْقِهِم غَوَاشٌ} برفع الشين، وهي كقراءة عبد الله: {وَلَهُ الجوار} [الرحمن: 24] برفع الراء. فإن قيل:» غَوَاش «على وزن فواعل؛ فيكون غير منصرف فكيف دخله التنوين؟ . فالجوابُ: على مذهب الخَلِيلِ وسيبويهِ أنَّ هذا جمع، والجمع أثقل من الواحد، وهو أيضاً الجمع الأكبر الذي تتناهى الجموع إيله، فزاده ذلك ثقلاً، ثم وقعت الياء في آخره وهي ثقيلة، فلمَّا اجتمعت فيه هذه الأشياء خفَّفوه بحذف الياء، فلَّما حذفوا الياء نقص عن مثال» فوَاعل «فصار غواش بوزن جناح، فدخلهُ التَّنوين لنقصانه عن هذا المثال. قال المفسِّرون: معنى الآية: الإخبارُ عن إحاطة النَّار بهم من كل جانب قوله:» وكذلِكَ «تقدم مثله [الأعراف: 40] . وقوله:» والظَّالمِيْنَ «يحتمل أن يكون من باب وقوع الظَّاهر موقع المضمر، والمراد ب» الظَّالمِينَ «المجرمون، ويحتمل أن يكونوا غيرهم، وأنَّهُم يُجزون كجزائهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 لمَّا ذكر الوعيد أتْبَعَهُ بذكر الوعد، فقوله: «والَّذينَ آمَنُوا» مبتدأ، وفي خبره وجهان: أحدهما: أنه الجملة من قوله: {لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً} ، وعلى هذا فلا بدّ من عائد وهو مقدَّرٌ، وتقديرُهُ، نفساً منهم. والثاني: هو الجملة من قوله: «أولَئِكَ أصْحَابُ» ، وتكون هذه الجملة المنفيَّة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 116 معترضة بينهما، وهذا الوجه أعرب، وإنَّمَا حسن وقوع هذا الاعتراض بين المبتدأ والخبر؛ لأنَّهُ من جنس هذا الكلام؛ لأنَّهُ لمَّا ذكر عملهم الصالح ذكر أنَّ ذلك العمل في وسعهم، وغير خارج عن قدرتهم، وفيه تَنْبِيهٌ لكفار على أنَّ الجنَّة مع عظم محلِّها يوصل إليها بالعَمَل السَّهْلِ من غير تحمل الصعب. فصل في معنى قوله: «وسعها» الوسعُ: ما يقدر الإنسان عليه في حال السِّعة والسُّهولة لا في حال الضّيق والشِّدَّة، ويدلُّ عليه قول معاذِ بْنِ جبلٍ في هذه الآية: إلا يسرها لا عسرها. وأمَّا أقصى الطَّاقة فلا يسمَّى وسعاً، وغلط من قال: إن الوسع بذلك المجهود. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 قوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم} فالنزع هو بمعنى ينزع فهو على حد {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] ، والنزع: قلع الشَّيء عن مكانه. وقوله: «مِنْ غِلٍّ» يجوز أن تكون «مِنْ» لبيان جنس «مَا» ويجوز أن تكون حالاً متعلّقاً بمحذوف أي: كائناً من غلٍّ. الغل: الحِقْد والإحْنَةُ والبُغْض، وكذلك الغُلُولُ. قال أهل اللُّغَةِ: وهو الذي يغل بلطفه إلى صَميمِ القَلْب أي: يدخلُ، ومنه الغلول، وهو الوصول بالحيلَةِ إلى لاذُّنُوبِ الدقيقة. ويقال: انغل في الشَّيء، وتغلغل فيه إذا دخل فيه بلطافته كما يدخل في صميم الفؤادِ وجمع الغل غلال، والغُلُولُ: الأخذ في خُفْيَةٍ، وأحسن ما قيل إنَّ ذلك من لفظ الغلالة كأنّه تدرع ولبس الحِقْدَ والخيانة حتَّى صار إليه كالغلالةِ الملبوسة. فصل في تأويل الآية. في الآية تأويلان: أحدهما: أزَلْنَا الأحقادَ التي كانت لبعضهم في دار الدُّنْيَا، ومعنى نزع الغل: تصفية الطِّباع، وإسقاط الوساوس ومنعها من أن ترد على القلوب، فإن الشَّيطانَ لمَّا كان في العذابَ لم يتفرغ لإلقاء الوساوِس في القُلُوبِ، وإلى هذا المعنى أشار عليُّ بْنُ أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إذ قال: «إني لأرجو أن أكون أنا، وعثمان، وطلحة، والزبير من الذين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 117 قال الله - جل ذكره - ونَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ» . والتأويل الثاني: أنَّ المراد منه أن درجات أهل الجنَّة متفاوتة بحسب الكمال والنُّقصان، فاللَّهُ - تعالى - أزَالَ الحسدَ عن قلوبهم حتّى إنَّ صاحب الدّرجة النّازلة لا يحسدُ صاحب الدرجة الكاملة. قال صاحبُ هذا التأويل: وهذا أوَْى من الوجه الأوَّلِ، حتَّى يكون في مقابلة ما ذكره الله - تعالى - من تبرُّؤ بعض أهل النَّار من بعض، ولعن بعضهم بعضاً، ليعلم أنَّ حال أهل الجنَّة في هذا المعنى مفارقة لحالِ أهْلِ النَّارِ، فإن قيل: كيف يُعقل أنْ يُشَاهد الإنسان النعم العظيمة والدرجة العالية، ويرى نفسه مَحْرُوماً عنها، عاجزاً عن تحصيلها، ثم إنَّهُ لا يميل طبعه إليها ولا يغتم بسبب الحرمان عنها؟ فإنْ عُقل ذلك فلم لا يعقل أيضاً أن يغيرهم الله - تعالى -، ولا يخلق يهم شهوة الأكْل والشّرب والوقاع ويغنيهم عنها؟ . فالجوابُ: أنَّ الكلّ ممكن، والله تعالى قادر عليه، إلاَّ أنَّهُ تعالى وعد بإزلة الحِقْدِ والحسد عن القلوب، وما وعد بإزالة شهوة الأكل والشّرب عن النُّفوس. قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} . في هذه الجملة ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنَّها حال من الضَّميرِ في «صُدُورِهِم» ، قاله أبُو البقاء وجعل العَامِلَ في هذه الحال معنى الإضافة. والثاني: أنَّها حال أيضاً، والعامل فيها «نَزَعْنَا» ، قاله الحوفيُّ. الثالث: أنَّها استئناف إخبار عن صِفَةِ أحوالهم. وردَّ أبُو حيَّان الوجهين الأوَّلين؛ أمَّا الأوَّلُ فلأنَّ معنى الإضافة لا يعمل إلاّ إذا أمكن تجريدُ المضاف، وإعماله فيما بعده رفعاً أو نصباً. وأما الثاني فلأن {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} ليس من صفة فاعل «نَزَعْنَا» ، ولا مفعوله وهما «نَا» و «مَا» فكيف ينتصب حالاً عنهما؟ وهذا واضح. قال شهابُ الدِّين: «قد تقدَّم غيره مرة أنَّ الحال تأتي من المضاف إليله إذا كان المضاف جزءاً من المضاف إليه لمدرك آخر، لا لما ذكره أبو البقاءِ من أنَّ العامل هو معنى الإضافة، بل العامل في الحال هو العامل في المضاف، وإنْ كانت الحال ليست منه؛ لأنَّهما لمَّا كانا متضايفين، وكانا مع ذلك شيئاً واحداً ساغ ذلك» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 118 فصل في شرب المؤمنين من ساق الشجرة. قال السُّدِّيُّ في هذه الآية: إنَّ أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شَجَرَةً في أصل ساقها عينان فَيَشْرَبُوا من أحديهما، فينزعُ ما في صدورهم من غلٍّ، وهو الشَّراب الطّهور، ويغتسلوا من الأخرى، فجرت عليهم نَضْرَة النَّعيم فلم يشقوا، ولم يسجنوا بَعْدَها أبداً. {وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا} أي: إلى هذا يعني طريق الجنة. وقال سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: «معناه هدانا لعمل هذا ثوابه» . قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} قرأ الجماعة: «ومَا كُنَّا» بواو، وكذلك هي في مصاحف الأمصار غير «الشَّامِ» وفيها وجهان: أظهرهما: أنَّها «واو» الاستئناف، والجملة بعدها مستأنفة. والثاني: أنَّها حاليّة. وقرأ ابن عامر «ما كنا» بدون واو، [و] الجملة على ما تقدَّم من احتمال الاستئناف والحال، وهي في مصحف الشَّاميين كذا، فقد قرأ كلٌّ بما في مصحفه. ووجه قراءة ابن عامر أنَّ قوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولاا أَنْ هَدَانَا الله} جار مجرى التَّفْسِيرِ لقوله: «هَدَانَا لِهَذَا» ، فلما كان أحدهما غير الآخر؛ وجب حذف الحرف العاطف. قوله: {لولاا أَنْ هَدَانَا الله} «أن» وما في جيزها في محلِّ رفع بالابتداء، والخبر محذوف على ما تقرَّر، وجواب «لَوْلاَ» مدلولٌ عليه بقوله: «ومَا كُنَّا» تقديره: لولا هدايته لنا موجودة لشقينا، أو ما كنا مهتدين. فصل في الدلالة في الآية دلّت هذه الآية على أنَّ المهتدِي من هداه الله، وإنْ لم يهده الله لم يَهْتَدِ. ثم نقول: مذهب المعتزلة أنّ كلَّ ما فعله الله في حقّ الأنبياء، والأولياء من أنواع الهداية والإرشاد فقد فعله في حقِّ جميع الكُفَّارِ والفسَّاقِ، وإنَّما حصل الامتيازُ بين المؤمن والكافر، والمحقّ والمبطل بسعي نفسه واختيار نفسه، فكان يجب عيله أنْ يحمد نفسه؛ لأنه هو الذي حصل لنفسه الإيمان، وهو الذي أوصل نَفْسَهُ إلى درجات الجنان، وخلَّصها من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 119 دركاتٍ النِّيرانِ، فلمَّا لم يحمد نفسه ألْبَتَّةَ إنَّما حمد الله - تعالى - فقط علمنا أن الهادي ليس إلا الله تعالى. قوله: «لَقَدْ جَاءَتْ» جواب قسم مقدَّر، و «بالحَقِّ» يجوز أن تكون الياء للتعدية، ف «بالحق» مفعول معنى، ويجوز أن تكون للحال [أي:] جَاءُوا ملتبسين بالحقِّ، وهذا من قول أهلِّ الجنَّةِ حين رَأوْا ما وعدهم الرُّسُلُ عياناً، «ونُودُوا» هذا النداء يحتمل أن يكون من الله - تعالى -، وأن يكون من الملائكة. قوله: «لَقَدْ جَاءَتْ» يجوز أنْ تكونَ المفسِّرة، فسَّرت النداء - وهو الظَّاهِرُ - بما بعدها، ويجوز أن تكون المخففة واسمها ضمير الأمر محذوفاً، فهي وما بعدها في محلّ نصب أوْ جرِّ؛ لأنَّ الأصل: «بِأنْ تِلْكُمُ» ، وأُشير إليها بإشارة البعيد؛ لأنَّهُم وُعِدُوا في الدُّنْيَا. وعبارة بعضهم «هي إشَارَةٌ لغائب» مسامحة؛ لأنَّ الإشارة لا تكونُ إلا لحاضِرٍ، ولكنَّ العلماء تُطلق على البعيد غائاً مجازاً. قوله: «أوْرِثْتُمُوها» يجوز أن تكون هذه الجملة حاليّة كقوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52] . ويجوز أن تكُون خبراً عن «تِلْكُم» ، ويجوز أن تكون «الجنّة» بدلاً أو عطف بيان و «أرِثْتُمُوها» الخبر. ومنع أبُو البقاءِ أن تكون حالاً من تلكم للفصل بالخبر، ولأنَّ المبتدأ لا يعمل في الحال. وأدغم أبُوا عَمْرو والأخوان الثّاء في التاء، وأظهرها الباقون. و {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تقدَّم [المائدة: 105] . فصل في معنى «أورثتموها» قال أهلُ المَعَانِي: معناه صارت إليكم كما يصيرُ الميراث إلى أهله، والإرث قد يستعمل في اللُّغَةِ ولا يرادُ به زوال الملك عن الميِّت إلى الحي، كما يقال: هذا الفعل يورثك الشَّرف ويورثك العار أي: يصيرك إليه. ومنهم من يقول: إنَّهُم أعطوا تلك المنازلَ من غير تعب في الحال فصار شبيهاً بالميراث. وقيل: إنَّ أهْلَ الجنَّة يرثون منازل أهل النَّارِ. قال عليه الصَّلاة والسَّلامُ: «ليس من كافر ولا مؤمن إلا وله في الجنة والنَّار منزل، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 120 فإذا دخل أهْلُ الجنَّةِ الجنَّة، وأهل النَّارِ النَّارَ، رفعت الجنة لأهل النَّار فينظرون إلى منازلهم فيها فيقال لهم: هذه منازلكم لو عملتم بطاعَةِ الله - تعالى - ثمَّ يقال: يا أهْلَ الجنة، رثوهم بما كنتم تعملون، فيقسم بين أهل الجنة منازلهم» . فإن قيل: هذه الآية تَدُلُّ على أنَّ العَبْدَ يدخل الجنَّة بعمله، وقوله - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ -: «لَنْ يَدْخُلَ أحَدٌ الجنة بِعَمِلِهِ، وإنَّمَا يَدْخُلُونَهَا بِرَحْمَةِ اللَّهِ» ، وبينهما تناقض. فالجوابُ: أنَّ العمل لا يوجب دخولَ الجنَّةِ لِذَاتِهِ، وإنَّما يوجبه لأن الله بفضله جعله علامة عليه، وأيضاً لمَّا كان الموفق للعمل الصَّالح هو الله تعالى - كان دخول الجنَّة في الحقيقة ليس إلاّ بفضل الله - تعالى -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 لمَّا شَرَحَ وعيد الكفار وثواب أهل الإيمان أتبعه بذكر المُنَاظَراتِ التي تَدُورُ بين الفريقين في هذه الآية. قوله: {أَن قَدْ وَجَدْنَا} «أن» يحتمل أن تكون تفسيرية للنِّدَاءِ، وأن تكون مخففة من الثَّقِيلَةِ، واسمها ضمير الأمر والشَّأنِ، والجملة بعدها خبرها، وإذَا كان الفعل مُتَصَرّفاً غير دعاء، فالأجود الفصل ب «قَدْ» كهذه الآية أو بغيرها. وقد تقدَّم تحقيقه في المائدة. قال الزَّمخشريُّ: فإن قلت: هلا قيل: ما وعدكم ربكم، كما قيل: {مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} . قلت: حُذف ذلك تخفيفاً لدلالة «وَعَدَنَا» عليه. ولقائل أن يقول: أطْلِقَ ليتناول كلَّ ما وعد الله من البعث والحساب والعقاب والثواب، وسائر أحوال القيامة، لأنَّهُم كانوا مكذِّبين بذلك أجمع، ولأنَّ الموعود كله ممَّا ساءهم، وما نعيم أهل الجنَّة إلاَّ عذاب لهم فأطلق لذلك. قال شِهَابُ الدِّين: قوله: «ولقائل ... إلى آخره. هذا الجواب لا يطابق سؤاله؛ لأنَّ المدعي حذف المفعول الأوَّل، وهو ضمير المخاطبين. والجوابُ وقع بالمفعول الثَّاني الذي هو الحِسَابُ والعقاب، وسائر الأحوال، [فهذا] إنَّما يناسب لو سئل عن حذف المفعول الثاني، لا المفعول الأول» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 121 وأجاب ابْنُ الخطيبِ عن السُّؤالِ بأن قوله: {مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا} يدلُّ على أنَّهُ تعالى خاطبهم بهذا الوَعْدِ وكونهم مخاطبين من قبل الله - تعالى - بهذا الوعد يوجب مزيد التّشريف ومزيد التشريف لائق بحال المؤمنين. أمّا الكَافِرُ فليس أهلاً لأن يخاطبه الله - تعالى - فلهذا السّبب لم يذكر الله تعالى أنَّهُ خاطبهم بهذا الخطاب بل ذكر الله - تعالى - أنَّهُ بيَّن هذا الحكم. و «نعم» حرف جواب ك «أجل» و «إي» و «جير» و «بلى» ، ونقيضتها «لا» . و «نَعَمْ» تكون لتصديق الإخبار، أو إعلام استخبار، أو وَعْدِ طالب، وقد يُجَابُ بها النَّفي المقرون باستفهام وهو قليل جدّاً كقول جحْدَرٍ: [الوافر] 2469 - أَليْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أمَّ عَمْروا ... وإيَّانَا فَذَاكَ بِنَا تَدَانِي نَعَمْ، وتَرَى الهِلالَ كَمَا أرَاهُ ... ويَعْلُوهَا النَّهَارُ كَمَا عَلاَنِي فأجاب قوله: «ألَيْسَ» ب «نعم» ، وكان من حقه أن يقول: بلى، ولذلك يُرْوَى عن ابن عباس في قوله تعالى: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] : لو قالوا: نعم لكفروا، وفيه بحثٌ يأتي إنْ شَاءَ اللَّهُ - تعالى - قريباً. وقرأ الكسائِيُّ والأعمشُ ويحيى بن وثَّابٍ بكسر عينها، وهي لغة «كنَانَة» ، وطعن أبُو حَاتِمِ عليها وقال: «ليس الكسر بمعروف» . واحتج الكِسَائِيُّ لقراءته بما يُحكى عن عمر بن الخطاب أنَّه سأل قوماً فقالوا: نعم بالفتح، فقال: «أمَّا النَّعَم فالإبل فقولوا: نَعِم» أي بالكَسْرِ. قال أبو عبيد: «ولم نَرَ العرب يعرفون ما رَوَوْه عن عمر ونراه مُوَلَّداً» . قال شهاب الدين: وهذا طَعْنٌ في المُتَواتِر فلا يُقبل، وتبدل عينها حاءً، وهي لغة فاشية، كما تبدل حاء «حتى» عيناً. قوله: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} . التأذين في اللُّغَةِ النداء والتّصويت الإعلام، والأذان للصّلاة إعلام بها وبوقتها. وقالوا في «أذَن مؤذّن» : نادى مناد أسمع الفريقين. قال ابن عباس: «وذلك المؤذن من الملائكة وهو صاحبُ الصُّورِ» . قوله: «بينهم» يجوز أن يكون منصوباً ب «أذَّن» أو ب «مؤذن» فعلى الأول التقدير: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 122 أنَّ المؤذن أوقع ذلك الأذان بينهم أي في وسطهم. وعلى الثَّاني التَّقديرُ: أنَّ مؤذِّناً من بينهم أذَّن بذلك الأذان، والأول أوْلَى. وأن يكون مُتَعَلِّقاً بمحذوف على أنَّهُ صفة ل «مؤذّن» قال مكيّ - عند إجازته هذا الوَجْهِ -: «ولكن لا يعمل في» أنْ «مؤذِّن» إذ قد نعته «يعني أنَّ قوله: {أَن لَّعْنَةُ الله} لا يجوز أنْ يكون معمولاً ل» مؤذّن «؛ لأنَّهُ موصوف واسم الفاعل متى وصف لم يعمل. قال شهابُ الدِّين:» وهذا يوهم أنَّا إذا لم نجعل «بَيْنَهُمْ» نعتاً ل «مؤذِّن» جاز أن يعمل في «أنْ» ، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّكَ لو قلت: ضرب ضَارِبٌ [زيداً تنصب زيداً ب «ضرب» لا ب «ضارب» ] . لكني قد رأيت الواحِدِي أجاز ما أجاز مكيّ من كون «مؤذّن» عاملاً في «أن» ، وإذا وصفته امتنع ذلك، وفيه ما تقدّم وهو حسن. قوله: {أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} «أنْ» يجوز أن تكون المفسِّرة، وأن تكون المخففة، والجملة الاسميَّة بعدها الخبر، فلا حاجة هنا لفاصل. وقرأ الأأخوان، وابن عامر، والبزِّي: «أنَّ» بفتح الهمزة وتشديد النون، ونصب «اللَّعنة» على أنَّهَا اسمها، و «على الظالمين» خبرها، وكذلك في [النور 7] {أَن لَّعْنَةُ الله عَلَيْهِ} خفَّف «أنْ» ورفع اللّعنة نافع وحده، والباقون بالتشديد والنَّصب. [قال الواحِديُّ: مَنْ شدّد فهو الأصلُ، ومن خفَّف فهو مخففة من التشديد على إرادة إضمار القصّة والحديث تقديره: أنه لعنة الله، ومثله قوله تعالى: {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ} [يونس: 10] التقدير: أنَّهُ، ولا يخفف «أنْ» هذه إلا وتكون بعد إضمار الحديث والشأن] . وقرأ عصمةُ عن الأعمشِ: «إنَّ» بالكسر والتشديد، وذلك: إمَّا على إضمار القول عند البصريين، وإمَّا على إجراء النِّداء مُجْرى القول عند الكوفِيِّين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 قوله: «الَّذينَ» يجوز أن يكون مرفوع المحل ومنصوبه على القطع فيهما، ومجروره على النَّعت، أو البدل، أو عطف البيانِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 123 ومفعول «يَصُّدُّونَ» محذوف أي: يَصُدُّون النَّاسَ، ويجوز ألاّ يُقدر له مفعول. والمعنى: الَّذين من شأنهم الصَّدُّ كقولهم: «هو يعطي ويمنع» . ومعنى «يَصُدُّونَ» أي: يمنعون النَّاس من قبول الدين الحقِّ، إمَّا بالقهر، وإمّا بسائر الحِيَلِ. ويجوز أن يكون «يَصُدُّونَ» بمعنى يعرضون من: صدَّ صُدُوداً، فيكون لازماً. قوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي بإلقاء الشكوك والشُّبُهَات في دلائل الدِّين الحق، ثم قال: و {بالآخرة كَافِرُونَ} . وهذا يدلُّ على فساد ما قاله القَاضِي من أنَّ ذلك اللعن يعم الفاسق والكافر. والعِوج بكسر العين في الدّين والأمر وكلّ ما لم يكن قائماً. وبالفتح في كلِّ ما كان قائماً كالحائظ والرُّمح ونحوه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 أي بين أصحاب الجنَّة وأصحاب النَّار، وهذا هو الظَّاهر كقوله: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} [الحديد: 13] . وقيل: بين الجنَّة والنَّار، وبه بدأ الزَّمخشريُّ. فإن قيل: وأي حاجة إلى ضرب هذا السُّورِ بين الجنَّة والنَّار، وقد ثبت أن الجنَّة. فوق والنَّار في أسفل السَّافِلِينَ؟ . فالجوابُ: بُعد إحداهما عن الأخر لا يمنعُ أن يحصل بينهما سور وحجاب. قوله: «وَعَلى الأعْرَافِ» : قال الزَّمَخْشَرِيُّ: أي: وعلى أعراف الحجاب. قال القرطبيُّ: أعراف السّور وهي شُرَفُه، ومنه عُرْفُ الفَرَسِ وعرف الدِّيكِ، كأَنَّهُ جعل «أل» عوضاً من الإضافة وهو مذهب كوفي، وتقدَّم تحقيقه. وجعل بعضهم نفس الأعْرَافِ هي نفس الحِجابِ المتقدم ذكره، عبر عنه تارةً بالحجاب، وتارةً بالأعراف. قال الوَاحِديُّ - ولم يذكر غيره -: «ولذلك عُرِّفَت الأعراف؛ لأنَّهُ عني بها الحِجَاب» قال ابن عباس. والأعراف: جمع عُرْف بضمِّ العَيْنِ، وهو كلُّ مرتفع من أرض وغيرها استعارةً من عُرْف الدّيك، وعُرْف الفرس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 124 قال يَحْيَى بْنُ آدَمَ: سألت الكِسَائِيَّ عن واحد الأعراف فسكت، فقلت: حدثتنا امرأتك عن جَابِرٍ عن مُجَاهِدٍ عن ابن عباس قال: «الأعراف سُورٌ له عرف مثل عرف الدِّيك» فقال: نعم، وإن واحده عُرْفُ بعيرٍ، وإن جماعته أعْرَاف، يا غُلام هات القرطاس كأنَّهُ عرف بارتفاعه دون الأشياء المنخفضة، فإنَّهَا مجهولة غالباً. قال أمية بن أبي الصلت: [البسيط] 2470 - وَآخَرُونَ عَلَى الأعْرَافِ قَدْ طَمِعُوا ... فِي جّنَّةٍ حَفَّهَا الرُّمَّانُ والخَضِرُ ومثله أيضاً قوله: [الرجز] 2471 - كُلُّ كِنَازِ لَحْمِهِ نِيَافِ ... كالجَبَلِ المُوفِي عَلَى الأعْرَافِ وقال الشَّمَّاخ: [الطويل] 2472 - فَظَلَّتْ بأعْرَافٍ تَعَادَى كأنَّهَا ... رَمَاحٌ نَحَاهَا وِجْهَةَ الرِّيحِ رَاكِزُ وقال الزَّجَّاجُ، والحسنُ في أحد قوليه: إن قوله: «وَعَلى الأعْرَافِ» وعلى معرفة أهْل الجَنَّة والنَّار، كَتَبَةٌ رجال يعرفون كل من أهل الجنة والنَّار بسيماهم، للحسن: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم فضرب على فَخِذِهِ ثم قال: هم قومٌ جعلهم الله على تعرف أهل الجنّة وأهل النّار، يميزون البعض من البعض والله لا أدري لعل بعضهم الآن معنا. قال المهدويُّ: «إنَّهم عدول القِيَامَةِ الذين يَشْهَدُونَ على النَّاس بأعمالهم، وهم في كُلِّ أمَّةٍ» ، واختار هذا القول النَّحَّاسُ وقال: «هو من أحسن ما قيل فيه، فهم على السور بين الجنَّةِ والنَّارِ» . فأمَّا القائلون بالقول الأوَّلِ فقد اختلفوا في الذين هم على الأعراف على قولين: فقيل: هم الأشْرَافُ من أهل الطَّاعَةِ، وقال أبو مجلز: «هم ملائكة يعرفون أهل الجنَّة وأهل النَّار» ، فقيل له: يقول الله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ} ، وتزعم أنَّهُمْ ملائكة، فقال: «الملائكة ذكور لا إناث» . وقيل: هم الأنْبِيَاءُ - عليهم الصَّلاة والسَّلام - أجلسهم الله على أعلى ذلك السُّور إظهاراً لشرفهم وعلوّ مرتبتهم. وقيل: هم الشُّهَدَاءُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 125 فإن قيل: هذه الوجوه باطلة لأنه تعالى قال في صفة أصحاب الأعراف: «لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها» ، وهذا الوَصْفُ لا يليق بالملائكة والأنبياء والشُّهداء. فالجوابُ: قالوا: لا يبعد أن يقال: إنَّهُ تعالى بيَّن من صفة أهْلِ الأعراف أن دخولهم الجنة يتأخر، والسَّبب فيه أنَّهُ تعالى ميّزهم عن أهل الجنَّة وأهل النَّار، وأجلسهم على تلك الأماكن المرتفعة ليشاهدوا أحوال أهل الجنّة في الجنَّة، وأحوال أهل النّار في النَّار، فيلحقهم السُّرور العظيم بمشاهدة تلك الأحوال، ثم إذا استقرَّ أهل الجنَّة في الجنَّةِ، وأهلُ النَّارِ في النَّارِ، فحينئذٍ ينقلهم اللَّهُ إلى أماكنهم العَالِيَة في الجنَّةِ. فثبت أنَّ كونهم غير داخلين في الجنَّة لا يمنع من كمال شرفهم وعلو درجتهم. وأمّا قوله: «وهمْ يَطْمَعُونَ» والطمع هنا يحتمل أن يكون على بابه أو يكون بمعنى اليقين قال تعالى حِكايَةٌ عن إبراهيم - عليه الصَّلاة والسَّلام -: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] . وذلك الطمع طمع يقين، وقال الشَّاعرُ: [المتقارب] 2473 - وإنِّي لأطْمَعُ أنَّ الإلَه ... قَدِيرٌ بِحُسْنِ يَقِينِي يَقِينِي القول الثاني: أن أصحاب الأعراف أقوامٌ يكونون في الدرجة النازلة] من أهل الثواب وهؤلاء ذكروا وجوهاً: أحدها: أنَّهم أقوام تساوت حَسَنَاتُهُم وسيّئاتهم، فأوقفهم الله تعالى على الأعراف، لكونها درجة متوسطة بين الجنَّة والنار، ثم يدخلهم الله الجنَّة بفضله ورحمته، وهذا قولُ حذيفة وابن مسعود، واختيار الفرّاءِ، وطعن الجُبَّائِيُّ والقاضي في هذا القول، واحتجُّوا على فساده من وجهين: الأوَّل: قالوا: إن قوله تعالى: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43] يدلُّ على أنَّ كُلَّ من دخل الجنة فلا بُدَّ وأن يكون مستحقاً لدخولها، وذلك يمنع من القَوْلِ بوجود أقوام لا يستحقون الجَنَّة ولا النَّارَ، ثم إنَّهثم يدخلون الجنة بمحض التفضل، لا بسبب الاستحقاقِ. الثاني: أنَّ كونهم من أصحابِ الأعْرَاف يدلُّ على أنَّهُ تعالى ميَّزَهُم من جميع أهْل القيامةِ، ثمَّ أْجْلَسَهُمْ على الأماكن العالية [وقيل هذا التشريف لا يليق إلاَّ بالأشراف وأما الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم فدرجتهم قاصرة، فلا يليق بهم ذلك التشريف] . والجواب عن الأوَّل: أنَّهُ يحتمل أن يكون قوله: {ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا} الجزء: 9 ¦ الصفحة: 126 خطاب مع أقوام مُعَيَّنِينَ، فلم يلزم أن يكون كلّ أهل الجنَّة كذلك. والجوابُ عَنِ الثَّانِي: أنَّا لا نسلّم أنَّهُ تعالى أجلسهم على تلك الأماكن العالية على سبيل التَّخصيص بمزيد التَّشْرِيفِ وإنَّمَا أجْلَسَهُم عَلَيْهَا؛ لأنَّها كالمرتَبَةِ المُتوسِّطَةِ بين الجنَّةِ والنَّارِ وهل النزاع إلاّ في ذلك؟! الوجه الثاني: أنَّهُم أقوامٌ خرجوا إلى الغزو بغير إذن آبائهم فاستشهدُوا بحبسوا بين الجَنَّةِ والنَّارِ، وهذا داخل في القول الذي قبله؛ لأنَّ معصيتهم ساوت طاعتهم بالجهاد. الثالث: قال عَبْدُ الله بْنُ الحَارثِ: «إنَّهُم مَسَاكِينُ أهْلِ الجَنَّةِ» . الرابع: قيل: إنَّهُمُ الفُسَّاقُ من أهل الصَّلاة يعفو اللَّه عنهم ويسكنهم في الأعراف. وأمّا القَوْلُ الثَّاني بأن الأعراف عبارة عن الرّجال الذين يعرفون أهل الجنّة والنَّار، فهذا قول غير بعيد؛ لأنَّ هؤلاء الأقوام لا بدّ لهم من مكان عال، يشرفون منه على أهل الجَنَّةِ وأهل النَّارِ. قوله: «يَعْرِفُونَ» في محلِّ رفع نعتاً ل «رِجَال» ، و «كلاًّ» أي: كل فريق من أصْحَابِ الجنَّةِ، وأصحاب النَّارِ. قوله: «بِسِيمَاهُمْ» قال ابْنُ عبَّاس: «إنَّ سيما الرجل المسلم من أهل الجَنَّة بياض وجهه. قال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106] [وكون وجوههم وجوههم] . وكون وجوههم عليها غبرة ترهقها قترة، وكون عيونهم زرقاً» . وقيل: إنَّ أصحاب الأعْرَافِ كَانُوا يَعْرِفُونَ المُؤمنينَ في الدنيا بظهور علاماتِ الإيمانِ والطَّاعة عليهم، ويعرفون الكافرين في الدُّنْيَا أيضاً بظهور علامات الكُفْرِ والفِسْقِ عليهم، فإذا شَاهَدُوا أولئك الأقوام في مَحْفَلِ القيامة ميزوا البعض عن البعض بتلك العلامات التي شاهدوها عليهم في الدُّنْيَا، وهذا هو المختار؛ لأنَّهُم لمَّا شاهدوا أهل الجَنَّةِ [في الجنة] وأهل النَّار في النَّار فأيّ حاجة إلى أن يستدلّ على كونهم من أهل الجَنَّة بهذا العلامات؟ لأنَّ هذا يجري مجرى الاستدلال على ما علم وجوده بالحسّ، وذلك باطل. والآية تدلُّ على أنَّ أصحاب الأعْرَافِ مختصُّون بهذه المعرفة فلو حملناه على هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 127 الوَجْهِ لم يبقَ لهذا الاختصاص فائدة؛ لأنَّهَا أمور محسوسة، فلا يختص بمعرفتها شخص دون شخص. قوله: {وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الجنة أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} . والمعنى: أنَّهُم إذا نظروا إلى أهل الجنَّةِ سلّموا على أهلها والضمير في «نَادُوا» وما بعده لرجال. وقوله: {أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} كقوله: {أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [الأعراف: 44] إلا أنَّهُ لم يقرأ هنا إلاّ ب «أن» الخفيفة فقط. فصل في معنى السلام في الآية والمعنى: يَقُولُون لهم: سلام عليكم، وقيل: سلمتم من العقوبة، وقوله: «وَهُمْ يَطْمَعُونَ» على هذا التأويل يعني وهم يعلمون أنَّهُمْ يدخلوها، وذلك معروف في اللُّغَةِ أن يكون طمع بمعنى علم، ذكره النَّحَّاسُ، وهذا قول ابن عباس وابن مسعود وغيرهم أنَّ المراد أصحاب الأعراف. قال القطربيُّ: قوله «لم يدخلوها» في هذه الجملة أوجه: أحدها: أنَّها حال من فاعل «نَادوا» أي: نادى أهل الأعراف حال كونهم غير داخلين الجنَّة. وقوله: «وهُمْ يَطْمَعُون» يحتمل أن يكون حالاً من فاعل «يَدْخُلُوهَا» ، ثم لك اعتباران بعد ذَلِكَ. الأول: أن يكون المَعْنَى لم يَدخُلُوها طامِعِينَ في دخولها بل دخلوها على يأس من دخولها. والثاني: المعنى لم يدخلوها حَالَ كونهم طامعين، أي: لم يدخلوها بعد، وهم في وقت عَدَمِ الدُّخُولِ طامعون، ويحتمل أن يكون مستأنفاً خبر عنهم بأنَّهُم طامعون في الدُّخُول. الوجه الثاني: أن تكون حالاً من مفعول «نَادوا» أي: نادوهم حال كونهم غير داخلين، وقوله: «وَهُمْ يَطْمَعُون» على ما تقدم آنفاً. والوجه الثالث: أن تكون في محل رفع صفة ل «رِجَالٍ» ، قاله الزمخشريُّ وفيه ضعف من حيث إنَّهُ فصل فيه بين الموصوف وصفته بجملة قوله: «ونَادَوْا» ، وليست جملة اعتراض. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 128 والوجه الرابع: أنها لا مَحلَّ لها من الإعراب؛ لأنَّهَا جواب سائل سأل عن أصحاب الأعْرَافِ، فقال: ما صنع بهم؟ فقالك لم يدخلوها، وهم يَطْمَعُون في دخولها. وقال مكي كلاماً عجيباً، وهو أن قال: «إن حملت المعنى على أنَّهُمْ دخلوها كان» وهم يَطْمَعُونَ «ابتداءً وخبراً في موضع الحال من الضَّمير المرفوع في» يَدْخُلُوهَا «، معناه: أنَّهم يَئِسُوا من الدُّخُول، فلم يكن لهم طَمَعٌ في الدُّخول، لكن دخلوا وهم على يأس من ذلك، فإن حملت معناه أنَّهُم لم يدخلوا بعد، ولكنهم يطمعون في الدُّخُول برحمة الله كان ابتداءً وخبراً مستأنفاً» . وقال بعضهم: جملة قوله: «لَمْ يَدْخُلُوهَا» من كلام أصحاب الجنَّةِ، وجملة قوله: «وهُمْ يَطْمَعُونَ» من كلام الملائكة. قال عطاء ابن عباس: «إنَّ أصحاب الأعراف ينادون أصحاب الجنة بالسَّلام، فيردُّون عليهم السلام، فيقول أصحاب اللجنَّة للخَزنَةِ: ما لأصحابنا على أعراف الجنَّة لم يدخلوها؟ فتقولُ لهم الملائكة جواباً لهم وهم يَطْمَعُون» وهذا يبعد صحته عن ابن عباس إذ لا يلائم فصاحة القرآن. فصل في معنى الآية قال ابن الخطيب: معنى الآية أنَّهُ تعالى أخبر أنَّ أهل الأعراف، لم يدخلوا الجنة، ومع ذلك فهم يطمعون في دخولها. ثم إن قلنا: إنَّ أصحابَ الأعْرَافِ هم أِراف أهل الجَّنَّةِ، فالمعنى: أنه تعالى إنَّما جعلهم على الأعراف وأخّر إدخالهم الجَنَّة ليطلعوا على أهل الجَنَّةِ والنَّار، ثم إنَّهُ تعالى ينقلهم إلى الدّرجات العالية كما روي عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّهُ قال: «إنَّ أهْلَ الدَّرَجَاتِ العُلَى لَيَراهُمْ مِنْ تَحْتَهُمْ كَمَا تَرَوْنَ الكوكبَ الدريَّ في أفقِ السَّمَاءِ، وإنَّ أبَا بكر وعُمَرَ مِنْهُمْ» وتحقيق الكلام أن أصحاب الأعراف هم أشراف أهل القيامة فعند وقوف أهل القيامةِ في الموقف يجلس الله أهل الأعراف وهي المواضع العالية الشريفة، فإذا أدخل أهل الجنَّة الجنة، وأهل النار النَّار نقلهم إلى الدرجات العالية، فهم أبداً لا يجلسون إلا في الدرجات العالية. وإن قلنا: أصحاب الأعراف هم الذين يكونون في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 129 الدَّرَجَّةِ النازلة من أهل النجاة، فالمعنى أنَّهُ تعالى يجلسهم في الأعرافِ، وهم يطمعون في فضل اللَّه وإحسانه أنْ يَنْقلَهُم من تلك المواضع إلى الجنة قال الحَسَنُ: «الذي جعل الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 قوله تعالى: {وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ} معناه: كلما وقعت أبصار أصحاب الأعراف على أهل النَّارِ تضرَّعُوا إلى اللَّهِ في ألاّ يجعلهم من زمرتهم. وقرأ الأعمش: «وإذَا قلبت» وهي مخالفة للسواد كقراءة «لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ أهل النَّارِ تضرَّعُوا إلى اللَّهِ في ألاّ يجعلهم من زمرتهم. أو وهم طامعون على أن هذه أقرب. قوله:» تِلْقَاءَ «منصوب على ظرف المكان. قال مكيٌّ:» وجمعه تلاقِيّ «. قال شهابُ الدّين:» لأن «تِلْقَاء» وزنه «تِفْعَال» ك «تمثال» وتمثال وبابه يجمع على «تَفَاعِيلُ» ، فالتقت الياء الزَّائدةُ مع الياء التي هي لام الكلمة، فأدغمت فصارت «تَلاَقِيّ» . والتلقاء في الأصل، مصدر ثم جُعِلَ دالاًّ على المكان أي: على جهة اللِّقَاءِ والمقابلة. قال الوَاحِدِيُّ: «التّلقاء جهة اللِّقَاءِ، وهي في الأصل مصدر استعمل ظَرْفاً» ، ونقل المصادر على «تِفعال» بكسر التَّاء إلاَّ لفظتان: التِّلقاء، والمبرد عن البصريّين أنَّهُمَا قالا: لم يأت من المصادر على «تِفعال» بكسر التَّاء إلاَّ لفظتان: التِّلقاء، والتِّبيان، وما عدا ذلك من المصادر فمفتوح نحو: التَّرْداد والتكرار، ومن الأسماء مكسور نحو: تِمثال وتِمْساح وتِقْصار. وفي قوله: «صُرِفَتْ أبْصَارُهُم» فائدة جليلة، وهو أنَّهُم لم يَلْتَفِتُوا إلى جهة النَّار [إلا] مجبورين على ذلك لا باختيارهم؛ لأن مكان الشرِّ محذور، وقد تقدَّم خلاف القُرَّاء في نحو: «تِلْقَاءَ أصْحَابِ» بالنِّسبة إلى إسقاط إحْدَى الهمزتين، أو إثباتها، أو تسهيلها في أوائل البقرة [6، 13] . و «قالوا» هو جواب «إذا» والعامل فيها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 لمَّا بين بقوله: وإذا صرت أبصارهم تلقاء أصحاب النَّار «أتبعه أيضاً بأن أصحاب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 130 الأعراف ينادون رجالاً من أهل النار، فاستغنى عن ذكر النار؛ لأنَّ الكلام المذكور لا يليق إلا بهم، وهو قولهم: {مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} . قوله:» مَا أغْنَى «يجوز أن تكون استفهامية للتوبيخ والتقريع، وهو الظاهر، ويجوزُ أن تكون نافية. وقوله:» وما كنتم «» ما «مصدرية ليُنْسَق مصدرٌ على مثله أي: ما أغنى عنكم جمعكم المال والاجتماع والكثرة وكونكم مستكبرين عن قَبُولِ الحقِّ، أو استكباركم على الناس. وقرئ» تَسْتَكْثِرُون «بثاء مُثلثة من الكثرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 131 يجوز في هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنَّها في محلِّ نصب بالقَوْلِ المتقدّم أي: قالوا: ما أغنى، وقالوا: أهؤلاء الذين أقسمتم زيادة تبكيت. والثاني: أن تكون جملة مستقلّة غير داخلة في حيِّزِ القول، والمشار إليهم على القَوْلِ الأوَّلِ هم أهل الجَنَّة، والقائلون ذلك هم أهل الأعراف، والمقول لهم هم أهْلُ النَّارِ. [والمعنى: وقال أهل الأعَْافِ لأهل النَّارِ] : أهؤلاء الذين في الجنَّةِ اليوم هم الذين كنتم تحلفون أنَّهُم لا يدخلون الجنة برحمة الله وفضله، ادخلوا الجنَّة أي: قالوا لهم، أو قيل لهم: ادخلوا الجنة. وأمّا على القَوْلِ الثَّاني وهو الاستئناف، فاختلف في المشار إليه، فقيل: هم أهل الأعرافِ، والقائل ذلك ملك يأمره الله بهذا القَوْلِ، والمقول له هم أهْلُ النَّارِ. وقيل: المُشَارُ إليهم هم هل الجنَّةِ، والقائل هم الملائكة، والمقول لهم أهل النار. وقيل: المُشَارُ غليهم هم أهل الجنَّةِ، والقائل هم الملائكة، والمقول لهم هم أهل النار. ووقوله: «ادخُلُوا الجَنَّةَ» من قول أهل الأعراف أيضاً] أي: يرجعون فيخاطب بعضهم بعضاً، [فيقولون: ادْخُلُوا الجَنَّةَ] . قال ابن الأنْبَارِي: إن قوله: {أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة] من كلام أصحاب الأعْرَافِ، وقوله: «ادخُلُوا» من كلام الله تعالى، وذلك على إضْمَارِ قول أي: فقال لهم الله: ادخلوه ونظيره قوله تعالى: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ} [الشعراء: 35] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 131 فهذا من كلام الملأ، «فماذا تأمرون» ؟ فهذا من فرعون أي: فقال: فَمَاذَا تأمرون؟ أي فيقولون: ادخلوا الجنة. وقرأ الحسن، وابن سيرين: «أَدْخِلُوا الجَنَّةَ» أمراً من «أدخل» وفيها تأويلان: أحدهما: أنَّ المأمور بالإدخال الملائكة، أي: أدخلوا يا ملائكة هؤلاء، ثمَّ خاطب البَشَر بعد خطاب الملائكة، فقال: لا خَوفٌ عليكم، وتكون الجملة من قوله: «لاَ خَوْفٌ» لا محلَّ لها من الإعراب لاستئنافها. والثاني: أنَّ المأمور بذلك هم أهل الأعراف، والتقدير: أدخلوا أنفسكم، فحذف المفعول في الوجهين. ومثل هذه القراءة هنا قوله تعالى: {أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ} [غافر: 46] وستأتي إن شاء الله تعالى، إلاَّ أنَّ المفعول هناك مُصَرَّحٌ به في إحدى القراءتين. والجملة من قوله: «لا خَوْفٌ» على هذا في محلّ نصب على الحال أي: أدخلوا أنفسكم غير خائفين. وقرأ عكرمة «دَخَلوا» ماضياً مبنيّاً للفاعل. وطلحة وابن وثاب والنَّخَعِيُّ: «أدْخِلوا» مِنْ أدْخِل ماضياً مبنياً للمفعلو على الإخبار، وعلى هَاتَيْنِ، فالجملةُ المنفيَّةُ في محل نصب بقول مُقَدَّر، وذلك القول منصوب على الحَالِ، أي: مقولاً لهم: لا خوف. فصل قال الكَلْبِيُّ: ينادونهم وهم على السور: يا وَلِيد بن المغيرة، يا أبَا جَهْلِ بن هِشَامِ، يا فلانُ، يا فلانُ، ثم ينظرون إلى الجنَّة فيرون فيها الفقراء والضُّعفاء ممن كانوا يستهزئون، بهم مثل سلمان، وصهيب، وخباب، وبلال، وأمثالهم، فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار: «أهؤلاء» - يعني هؤلاء الصغار - «الذين أقْسَمْتُم» حلفتم {لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ} أي: حلفتم أنَّهُم لا يدخلون الجنَّة، ثم يقال لأهل الأعراف: {ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} . وقيل: إنَّ أصحاب الأعراف إذا قالوا لأهل النَّار ما قالوا، قال لهم أهل النَّارِ: إن أُدخل أولئك الجنَّة فأنتم لم تدخلوها فيعيرونهم بذلك، ويقسمون أنَّهم يدخلون النَّار، فتقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصّراط لأهل النار: «هؤلاءِ» - يعني الجزء: 9 ¦ الصفحة: 132 أصحاب الأعراف - «الَّذينَ أقْسَمْتُمْ» يا أهل النار {لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ} ، ثم قالت الملائكة لأصحاب الأعراف: {ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُون} فيدخلون الجنَّة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 133 قال عطاءٌ عن ابن عباس: «لما صار أصحاب الأعراف إلا الجنَّة طمع أهل النَّار في الفرجن فقالوا: يا رب، إنَّ لنا قرابات من أهل الجَنَّة فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم فأمر الله الجنة فتزحزحت فنظروا إلى قراباتهم في الجنة، وما هم فيه من النعيم، فعرفوهم، ولم يعرفهم أهل الجنة لسواد وجوههم، فَنَادى أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم {أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} . قوله:» أنْ أفِيْضُوا «كأحوالها من احتمال التفسير والمصدرية، و» مِنَ المَاءِ «متعلق ب» أفيضَوا «على أحد وجهين: إمَّا على حذف مفعول أي: شيئاً من الماء، فهي تبعيضية طلبوا منهم البعض اليسير، وإمّا على تضمين» أفِيضُوا «معنى ما يتعدّى ب» من «أي: أنعموا منه بالفيض. وقوله: {أوْ مِمَّا رَزَقَكُمْ} » أو «هنا على بابها من اقتضائها لأحد الشيئين؛ إمَّا تخييراً، أو إباحة، أو غير ذلك مما يليق بهما، وعلى هذا يقال: كيف قيل: حرَّمهما فأعيد الضَّميرُ مثنى وكان من حق من يقول: إنَّها لأحد الشيئين أن يعود مفرداً على ما تقرَّر غير مّرة؟ وقد أجابوا بأن المعنى: حرّم كلاًّ منهما. وقيل: إن» أو «بمعنى الواو فعود الضمير واضح عليه. و» مِمَّا «» ما «يجوزُ أن تكون موصولة اسميّة، وهو الظَّاهِرُ، والعائد محذوف أي: أو من الذي رزقكموه الله، ويجوزُ أن تكون مصدرية، وفيه مجازان. أحدهما: أنَّهم طلبوا منهم إفَاضَةَ نفس الرزق مبالغة في ذلك. والثاني: أن يراد بالمصدر اسم المفعول، كقوله: {كُلُواْ واشربوا مِن رِّزْقِ الله} [البقرة: 60] في أحد وجهيه. وقال الزمخشريُّ: أو مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من غيره من الأشْرِبَةِ لدخوله في حكم الإفاضة» . ويجوزُ أن يُراد: أن ألْقوا علينا من ما زرقكم الله من الطعام والفاكهة كقوله: [الرجز] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 133 2474 - عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارداً ..... ... ... ... ... ... ... ... . . قال أبُوا حيَّان: وقوله: «وألْقوا علَيْنَا مِمَّا رَزَقكُمُ اللَّهُ منَ الطَّعامِ والفاكهة» يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون قوله: «أفيضُوا» ضُمِّن معنى قوله: «ألقوا علينا من الماء، أو مما رزقكم الله» فيصحُّ العطف. ويحتمل - وهو الظاهر من كلامه - أن يكون أضمر فعلاً بعد «أو» يصل إلى مما رزقكم اللَّهُ، وهو «ألقوا» ، وهما مذهبان للنحاة فيما عُطفَ على شيء بحرف عطف، والفعل لا يصل إليه، والصَّحيحُ منهما التّضميل لا الإضمار. قال شهابُ الدِّين: «يعني الزمخشري: أن الإفاضة أصل استعمالها في الماء، وما جرى مجراه في المائعات، فقوله:» أو من غيره من الأشْرِبَةِ «تصحيح ليسلّط الإفاضة عليه؛ لأنَّهُ لو حُمِلَ مما رزقكم اللَّه على الطعام والفاكهة لم يَحْسُن نسبة الإفاضة إليهما إلاَّ بتجوز، فذكر وجه التجوز بقوله:» ألقوا «، ثم فسَّره الشيخ بما ذكر، وهو كما قال، فإن العلف لا يُسند إلى الماء فيؤولان بالتضمين أي: فعلفتها، ومثله: [الوافر] 2475 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وَزَجَّجْنُ الحَوَاجِبَ والعُيُونَا وقوله: [مجزوء الكامل] 2476 - يَا لَيْتَ زَوْجَكِ قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً وَرُمْحا وقوله تعالى: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] وقد مَضَى من هذا جملة صالحة «. وزعم بعضهم أن قوله: {أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} عام يندرج فيه الماء المتقدِّم، وهو بعيد أو متعذّر لِلْعَطْفِ ب» أو «. والتَّحريم هنا المنع كقوله: [الطويل] 2477 - حَرَامٌ عَلَى عَيْنَيَّ أنْ تَطْعَمَا الكَرَى ..... ... ... ... ... ... ... ... ... فصل في فضل سقي الماء قال القرطبيُّ:» هذه الآية دليل على أن سقي الماء أفضل الأعمال «. وقد سئل ابن عباس: أي الصّدقة أفضل؟ قال: الماء، ألم تروا إلى أهْلِ النَّار حين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 134 استغاثوا بأهل الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو ممَّا رزقكم الله. وروى أبو داود» أن سعداً أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أي الصدقة أحب إليك؟ قال: المَاءُ، فَحَفَر بِئراً وقال: هذه لأمِّ سَعْدٍ « فصل في أحقية صاحب الحوض بمائه قال القرطبي:» وقد استدلّ بهذه الآية من قالك إنَّ صاحب الحوض والقربة أحقُ بمائه، وأن له منعه ممن أراده؛ لأن معنى قول أهل الجنَّة: {إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين} لاحق لكم فيها «. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 135 قوله «الَّذِينَ» يجوز أن تكون في محل جر، وهو الظاهر، نعتاً أو بدلاً من «الكافرين» ، ويجوز أن تكُون رفعاً أو نصباً على القَطْعِ. قوله: {اتخذوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً} فيه وجهان: الأول: أنَّهُم اعتَقَدُوا فيه أن يلاعبوا فيه، وما كانوا فيه مجدين. والثاني: أنَّهُم اتخذوا اللهو واللّعب ديناً لأنفسهم، وهو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة، وأخواتها، والمكاء والتصدية حول البَيْتِ، وسائر الخصالِ الذّميمة التي كانوا يفعلونها في الجاهليّة. قال ابن عباس: «يُريدُ المستهزئين المقتسمين» . قوله: {وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا} عطف على الصّلة، وهو مجاز؛ لأنَّ الحياة لا تغرّ في الحقيقةِ، بل المرادُ أنَّهُ حصل الغرور عند هذه الحياة الدُّنيا؛ لأنَّ الإنسان يطمع في طول العُمْرِ، وحسن العيش، وكَثْرةِ المَالِ، وقوَّة الجاهِ، فتشتدُّ رغبته في هذه الأشياء، ويصير محجوباً عن طلب الدين غَارِقاً في طلب الدنيا. قوله: «فالْيَوْم» منصوب بما بعده. وقوله «كَمَا» نعت لمصدر محذوف، أي: ينساهم نسياناً كنسيانهم لقاءه أي برتكهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 135 و «ما» مصدرية ويجوز أن تكون الكاف للتَّعليل، أي: تركناهم لأجل نسيانهم لقاء يومهم. و «يَوْمِهِمْ» يجوز أن يكون المفعول متّسعاً فيه، فأضيف المصدر إليه كما يُضَافُ إلى المفعول به، ويجوزُ أن يكون المفعول محذوفاً، والإضافة إلى ظرف الحدثِ أي: لقاء العذاب في يومهم. فصل في معنى «النسيان» في تفسير هذا النسيان قولان: الأول: هو التّركُ والمعنى نتركهم في عذابهم كما تركوا العمل للقاء يومهم، وهذا قول الحسنِ ومجاهدٍ والسُّدِّيِّ والأكثرين. والثاني: أنَّ المعنى ننساهم أي: نعاملهم معاملة من نسي، نتركهم في النَّار كما فعلوا في الإعراض عن آياتنا. وبالجملة فسمَّى الله - تعالى - جزاءهم بالنّسيان كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] والمراد من هذا النسيان أنه «لاَ يُجِيْبُ دعاءَهُم ولا يَرْحمُ ضَعْفَهُمْ وذُلَّهُمْ» . قوله: «وَمَا كَانُوا» «ما» مصدرية نسقاً على أختها المجرورة بالكاف أي: وكانوا بآياتنا يجحدون. وفي الآية لطيف عجيبة وهي أنَّهُ - تعالى - وصفهم بكونهم كافرين ثم بيَّن من حالهم أنَّهم اتخذوا دينهم لهواً أولاً ثم لعباً ثانياً، ثم غرتهم الحياة الدُّنيا ثالثاً، ثم صار عاقبة هذه الأحوال أنَّهُم جحدوا بآيات الله، وذلك يدل أنَّ حب الدُّنْيَا مبتدأ كل آفة كما قال عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «حُبُّ الدُّنْيَا رَأسُ كُلِّ خَطِيْئَةٍ» ، وقد يؤدي حبُّ الدُّنْيَا إلى الكُفْرِ والضَّلالِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 136 الضَّميرُ في «جِئْنَاهُم» عائد على كل ما تقدم من الكَفَرةِ، والمراد ب «كتاب» الجنس. وقيل: يعود على مَنْ عاصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والمراد بالكتاب القرآن، والباء في «بكتاب» للتعدية فقط. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 136 قوله: «فَصَّلْنَاهُ» صفة ل «كتاب» ، والمراد بتفصيلة إيضاحُ الحقِّ من الباطل، أو تنزيله في فصول مختلفة كقوله: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} [الإسراء: 106] . وقرأ الجحدري وابن محيصن بالضَّادِ المعجمة أي: فضَّلْناه على غيره من الكتب السماوية. قوله: «على عِلْمٍ» حال إمَّأ من الفاعل، أي: فصَّلناه عالمين بتفصيله، وإمَّا من المفعول أي: فَصّلناه مشّتملاً على علم ونكَّر «عِلْم» تعظيماً. قوله: «هُدىً ورَحْمَةً» الجمهور على النصب وفيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ مفعول من أجله أي: فصَّلْناه لأجل الهداية والرحمة. والثاني: أنَّهُ حال، إمّا من «كتاب» وجاز ذلك لتخصصه بالوصف، وإمّا من مفعول «فصَّلناه» . وقرأ زَيْدُ بْنُ عَلِيّ: «هدىً ورحمةٍ» بالجر، وخرَّجه الكسائي والفراء على النعت ل «كتاب» ، وفيه المذاهب المشهور في نَحْوِ: [ «مررت] برجل عَدْلٍ» ، وخرّجه غيرهما على البدل منه. وقرئ: «هُدىً ورَحْمَةً» بالرفع على إضمار المبتدأ. وقال مكي: «وأجَازَ الفرَّاءُ والكِسَائِيُّ» هُدىً ورَحْمَة «بالخفض، ويجعلانه بَدَلاً من» علم «، ويجوز» هُدىً ورحمةٌ «على تقدير:» هو هدىً ورحمةٌ «، وكأنَّهُ لم يطَّلع على أنَّهُمَا قراءتان مَرْويَّتانِ حتّى نسبهما على طريق الجواز. وقوله: {هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} يدلُّ على أنَّ القرآن جعل هدى لقوم مخصوصين، والمرادُ: أنَّهُم هم الذين اهتدوا به دون غيرهم، فهو كقوله تعالى في أوَّل» البقرة «، {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [الآية: 2] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 137 قد تقدَّم الكلام على «تَأويله» في [آل عمران 7] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 137 وقال الزَّمخشريُّ هاهنا: والتَّأويل مادته من همزة وواو ولام، مِنْ «آل يؤول» . وقال الخطابي: أوَّلْتُ الشيء رَدَدْتُهُ إلى أوله، واللفظة مأخوذة من الأول، وهو خطٌ؛ لاختلاف المادتين والتأويل مرجع الشّيء ومصيره من قولهم: آل الشَّيءُ يئول. واحتجَّ بهذه الآية من ذهب إلى أنَّ قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} [آل عمران: 7] أي: [و] ما يعلم عاقبة الأمر فيه إلا اللَّهُ. فصل في معنى «ينظرون» لمَّا بيَّن إزاحة العِلَّة بسبب إنزال هذا الكتاب المفصَّل الموجب للهداية والرَّحمة بيَّن بَعْدَهُ حال من كذَّب فقال: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} ، والمعنى: هل يَنْتَظِرُونَ أي يتوقَّعون إلاّ جزاءه، قاله مُجَاهِدٌ. وقال السُّدِّيُّ: «عاقبته، وما يؤول إليه» . فإن قيل: كيف يتوقعون وينتظرون مع جحدهم وإنكارهم؟ فالجوابُ: لعلّ فيهم أقواماً تشككوا وتوقّفوا، فلهذا السّبب انتظروه، وأنهم وإن كانوا جاحدين إلاَّ أنَّهم بمنزلة المُنْتَظِرين من حيث إن تلك الأحوال تأتيهم لا محالة. قوله: «يَوْمَ» منصوب ب «يقول» . وقوله: {يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ} . معناه: أنَّهُم صاروا في الإعْراضِ عنه بمنزلة من نسي، ويجوز أن يكون معنى نسوه أي: تَرَكُوا العمل والإيمان به كما تقدَّم. قوله: «قَدْ جَاءَتْ» مَنْصُوبَة بالقول و «بالحَقِّ» يجوز أن تكون «الباء» للحالِ، وأن تكون للتعدية أي: جاءوا ملتبسين بالحق، أو جاءُوا الحقّ. والمعنى: أقرُّوا بأنَّ الذي جاءت الرُّسُلُ به من ثُبُوتِ الحَشْرِ، والنَّشْرِ، والبَعْثِ والقيامة، والثواب، والعقاب، كل ذلك كان حقاً؛ لأنهم شاهدوها وعاينوها. قوله: فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآء} «من» مزيدة في المبتدأ و «لنا» خبر مقدَّم، ويجوز أن يكون «مِنْ شُفَعَاء» فاعلاً و «مِنْ» مزيدة أيضاً، وهذا جائز عند كل أحد لاعتماد الجار على الاستفهام. قوله: «فَيَشْفَعُوا» منصوب بإضمار «أنْ» في جواب الاستفهام فيكون قد عطف اسماً الجزء: 9 ¦ الصفحة: 138 مؤولاً على اسم صريح، أي: فهل لَنَا من شفعاء بشفاعة منهم لنا؟ قوله: «أوْ نُرَدُّ» الجمهور على رفع «نُرَدُّ» ونصب «فَنَعْمَلَ» ، فرفع «نردُّ» على أنَّه عطف جملة فعليّة، وهي «نُردُّ» على جملة [اسميّة] وهي: هل لنا من شُفَعَاء فيشفَعُوا؟ ونصب «فَنَعْملَ» على ما انتصب عليه «فَيَشْفَعُوا» ، وقرأ الحسنُ برفعهما على ما تقدَّم، كذا روى عنه ابن عطية وغيره، وروى عنه الزمخشري نصب «نُرَدَّ» ورفع «فنعملُ» . وقرأ أبُوا حَيْوَةَ، وابن أبي إسحاقَ بنصبهما فنصب «نردَّ» عطفاً على «فَيَشْفَعُوا» جواباً على جواب، ويكون الشفعاء في أحد شيئين: إمَّا في خلاصهم من العذابِ، وإمِّا في رجوعهم للدُّنيا ليعملوا صالحاً، والشَّفَاعَةُ حينئذ [مستحبة] على الخلاص أو الرَّدّ، وانتصب «فَنَعْمَلَ» نسقاً على «فُنردَّ» . ويجوز أن تكون «أوْ نُرَدَّ» من باب «لألزمنَّك أو تقضيني حقّي» إذا قدرناه بمعنى: حتّى تقضيني، أو كي تقضيني، غَيَّا اللزوم بقضاء الحق، أو علله به فكذلك الآية الكريمة أي: حتى نُرَدَّ أو كي نرد، والشفاعة حينئذٍ متعلِّقَةٌ بالرَّدِّ ليس إلاَّ. وأمَّا عند من يُقدِّر و «أو» بمعنى «إلاّ» في المثال المتقدم وهو سيبويه، فلا يظهر معنى الآية عليه؛ إذ يصير التقدير: «هل يشفع لنا شفعاء إلا أن نردّا» ، وهذا استثناء غير ظاهر. فصل في معنى الآية المعنى أنَّهُ لا طريق لنا إلى الخلاص مما نحن فيه إلا أحَدُ هذين الأمرين، وهو أن يشفع لنا شفيعٌ فيزول عنَّا هذا العذابُ، أو نُردَّ إلى الدُّنْيَا حتى نعمل غير ما كنَّا نعمله حتى نوحد اللَّه بدلاً عن الكفر. ثمَّ بيَّن تعالى أنَّهُمْ {قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ} . أي الذي طلبوه لا يكون؛ لأن ذلك المطلوب لو حَصَلَ لما حكم اللَّهُ عليهم بأنَّهُم قد خَسِرُوا أنفسهم. قوله: {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} . «ما كانوا» «ما» موصولة عائدها مَحْذُوفٌ، و «مَا كَانُوا» فاعل «ضلَّ» ، والمعنى: أنَّهُم لم ينتفعوا بالأصْنَامِ التي عبدوها في الدُّنْيَا. فصل في دحض شبهة للمعتزلة قال الجُبَّائِيُّ: هذه الآية تدل على حكمين: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 139 الأول: أنَّها تَدُلُّ على أنَّهُم كانوا في حال التَّكْلِيفِ قادرين على الإيمان والتَّوبة، فلذلك سألوا الرّدّ ليؤمنوا ويتوبوا، ولو كانوا في الدُّنيا غير قادرين - كما يقوله المجبرة - لم يكن لهم في الردّ فائدة، ولا جاز أن يسألوا ذلك. الثانيك أنَّ الآيَة تَدُلُّ على بُطْلانِ قول المجبرة بأنَّ أهْلَ الآخرة مكلفون، لأنَّهُ لو كان كذلك لما سألوا الرّدَّ إلى حال وهم في الوَقْتِ على مثلها، بَلْ كانوا يتوبون ويؤمنون في الحال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 140 قد تقدَّمَ أنَّ مدار القرآن على تَقْرِير هذه المسائل الأربع وهي: التَّوحِيدُ، والنبوةُ، والمعادُ، والقضاءُ والقدرُ، ولا شك أنَّ إثبات المعاد مبنيٌّ على إثبات التَّوحيد والقدرة والعلم، فلمَّا بالغ الله في تقرير المعادِ عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على التوحيد وكمال القُدْرَةِ والعلم، لتصير تلك الدلائل مقررة لأصول التَّوحيدِ، ومقررّة أيضاً لإثبات المعاد. قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله} الجمهور على رفع الجلالة خبرا ل «إنَّ» ، ويضعف أن تجعل بدلاً من اسم «إنَّ» على الموضع عند مَنْ يرى ذلك، والموصول خبر ل «أنَّ» وكذا لو جعله عطف بيان، ويتقوَّى هذا بِنَصْبِ الجلالةِ في قراءة بكار، فإنَّها فيها بدلٌ، أو بيان لاسم «إنّ» على اللفظ، ويضعف أَن تكون خبرها عند مَنْ يرى نصب الجزءين فيها كقوله: [الطويل] 2478 - إذَا اسْوَدَّ جُنْحُ اللَّيْلِ فَلْتَأتِ ولتَكُنْ ... خُطَاكَ خِفَافاً إنَّ حُرَّاسَنَا أُسْدَا وقوله: [الرجز] 2479 - إنَّ العَجُوزَ خبَّةً جَرُوزا ... تَأكُلُ كُلَّ لَيْلَةٍ قَفِيرْا قيل: ويُؤيِّدُ ذلك قِرَءةُ الرَّفْعِ أي: في جعلها إيَّاهُ خبراً، والموصول نعت لله، أو بيان له، أو بدل مِنْهُ، أو يُجْعَل خبراً ل «إن» على ما تقدَّم من التخاريج، ويجوز أن يكون معطوفاً على المَدْحِ رفعاً، أو نصباً. قوله: «في سِتَّةِ» حكى الواحِدِيُّ عن الليث أنَّهُ قال: «الأصل في الستّ والستّة: سدسٌ وسدسةٌ [أبدل السين تاء] ولما كان مخرج الدّال والتّاء قريباً، وهي ساكنة أدغم أحدهما في الآخر، واكتفى بالتَّاءِ، ويدلُّ عليه أنَّكَ تقُولُ في تصغير ستة: سُديْسَةٌ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 140 وكذلك الأسْدَاسُ وهذا الإبدال لازم، ويدلُّ عليه أيضاً قولم: جَاءَ فلانٌ سَادساً وسدساً وسادياً بالياءِ مثناة من أسفل قال [الشاعر] : [الطويل] 2480 - ... ... ... ... ... . ... وَتَعْتَدُّنِي إنْ لَمْ يَقِ اللَّهُ سَادِيا أي» سَادِساً «فأبْدَلَهَا. فصل قوله: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} الظَّاهِرُ: أنَّهُ ظَرْفٌ ل» خَلْق السموات والأرض «معاً، واسْتُشْكِلَ على ذلك أنَّ اليومَ إنَّمَا هو بطلُوعِ الشَّمْسِ وغروبها، وذلك إنَّما هو بَعْدَ وجود السَّمواتِ والأرْضِ، وأجَابُوا عَنْهُ بأجْوِبَةٍ منها: أنَّ السَّتَّةَ ظرفٌ لخلق الأرض فقطن فعلى هذا يكُونُ قوله:» خلق السموات «مطلقاً لم يُقَيَّدْ بِمُدَّةٍ، ويكون قوله:» والأرْضَ «مفعولاً بفعل مُقَدَّرٍ أي؛ وخلق الأرض، وهذا الفعل مُقَيَّد بِمُدَّة سِتَّةِ أيَّامٍ، وهذا قولٌ ضعيفٌ جِدّاً. وقيل: في مِقْدَارِ سِتَّةِ أيَّامٍ من أيَّام الدُّنْيَا، ونظيره: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62] . والمراد: على مقدار البُكْرَةِ والعَشيِّ في الدُّنْيَا؛ لأنَّهُ لا ليل ثمَّ ولا نهار. وقيل: سِتَّةُ أيَّامِ كأيَّامِ الآخِرَةِ، كلُّ يَوْمٍ كألْفِ سَنَةٍ. قال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: كان اللَّهُ - عزَّ وجلَّ - قادِراً على خَلْق السَّمواتِ والأرْضَ في لَمْحَةٍ ولحظة، فَخَلَقَهُنَّّ في سِتَّةِ أيَّام تعليماً لخلقه التَّثَبُّتَ، والتَّأنِّي في الأمُور، وقد جَاءَ في الحديث: «التَّأنِّي من اللَّهِ والعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَانِ» قال القرطبيُّ: وأيضاً لتظهر قُدْرَتُهُ للملائكةِ شيئاً بعد شيء وهذا عند من يَقُولُ: خلق الملائِكَة قبل خلقِ السَّمواتِ والأرضَ، وحكمةٌ أخَْى خلقها في ستَّة أيَّامٍ، لأنَّ لكلِّ شيءٍ عندَهُ أجلاً، وبين بهذا ترك مُعاجلةِ العُصَاةِ بالعقابِ؛ لأنَّ لكلِّ شَيْءٍ عندَهُ أجلاً وهذا كقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ فاصبر على مَا يَقُولُونَ} [ق: 73 - 37] بعد أن قال: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً} [ق: 38] . فصل في بيان أسئلة واردة على الآية في الآية سؤالات: الأول: كونُ هذه الأشياء مخلوقةً في سِتَّةِ أيَّامٍ لا يمكن جعله دليلاً على إثْبَات الصَّانِعِ لوجوه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 141 أحدها: أن وَجْهَ دلالة هذه المحدثاتِ على وجود الصَّانع هو حُدُوثُهَا، أو إمكانها، أو مجموعها، فأمَّا وُقوعُ ذلك الحدوث في ستة أيَّام، أو في يَوْمٍ واحدٍ فلا أثَرَ لَهُ في ذلك ألْبَتَّة. الثاني: أنَّ العَقْلَ يدل على أن الحدوث على جميع الأحوال جائز، وإذا كان كذلك فحينئذ لا يمكن الجزم بأن هذا الحدوث وقع في سِتَّةِ أيَّامٍ إلاَّ بإخْبَارِ مخبر صادقٍ، وذلك موقوف على العلم بوجود الإله الفاعل المختار، فلو جعلنا هذه المُقدِّمَة مُقَدِّمَةً، في إثبات الصَّانِعِ لزِمَ الدَّوْرُ. الثالث: أنَّ حدوثَ السمواتِ والأرضِ دفعةً واحدة أدلُّ على كمال القُدْرَةِ والعلم من حدوثها في ستة أيَّام. وإذَا ثبتتْ هذه الوجوهُ الثلاثةُ فنقولُ: ما الفائدةُ في ذكر أنَّهُ تعالى إنَّمَا خلقها في سِتَّةِ أيَّامٍ في إثبات ذكر ما يَدُلُّ على وجود الصَّانع؟ الرابع: ما السَّبَبُ في أنَّهُ اقْتَصَرَ هاهنا على ذِكْرِ السَّموات والأرض، ولم يذكر خلق سائر الأشياء؟ الخامس: اليوم إنَّما يمتازُ عن اللَّيْلةِ بِطُلوع الشَّمْسِ وغروبها، فقبل خلق السَّموات والقمر كَيْفَ يُعْقَلُ حصول الأيَّامِ؟ السادس: أنَّهُ تعالى قال: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} [القمر: 50] ، وهو كالمُنَاقِضِ لقوله خلق السَّمواتِ والأرض. السابع: أنَّهُ تعالى خلق السَّمواتِ والأرض في مدة متراخية فما الحكمة في تَقْييدها بالأيام الستَّةِ؟ والجوابُ على مذهب أهْلِ السُّنَّةِ واضحٌ؛ لأنَّهُ تعالى يفعل ما يشاءُ، ويحكمُ ما يريدُ، ولا اعتراض عليه في أمْرٍ من الأمُورِ، وكلُّ شيء صنعه ولا علَّةَ لصُنْعِهِ، ثم نَقُولُ: أمّا الجوابُ عن الأوَّل أنَّهُ تعالى ذكر في أوَّلِ التَّوْراةِ أنَّهُ خلق السَّمواتِ والأرضَ في ستَّةِ أيَّامٍ، والعربُ كانُوا يخالطون اليهودَ والظَّاهِرُ أنَّهُم سَمِعُوا ذلك منهم، فَكَأنَّهُ سبحَانَهُ يقُولُ: لاّ تَشْتَغِلُوا بعبادَةِ الأوثان والأصنام، فإنَّ ربَّكُم هو الذي سمعتم من عقلاء النَّاسِ أنَّهُ هو الذي خلقَ السَّموات والأرْضَ على غَايَةٍ عظمتها في ستَّةِ أيَّامٍ. وعن الثالث: أن المَقْصُودَ منه أنَّهُ تعالى وإن كان قَادِراً على إيجاد جميع الأشياء دفعة واحدة لكنَّهُ جعل لَكُلِّ شيءٍ حداً مَحْدُوداً، ووقتاً مقدراً، فلا يُدْخِلُهُ في الوُجُودِ إلاَّ على ذلك الوَجْهِ، فَهُوا، وإنْ كَانَ قادراً على إيصال الثَّوابِ للمطيعين في الحالِ، وعلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 142 إيصالِ العقاب للمذنبينَ في الحالِ، إلاَّ أنَّهُ يؤخرهما إلى أجلٍ معلُومٍ مقدورٍ، فهذا التَّأخِيرُ ليس لأجَلِ أنَّهُ تعالى أهمل العِبَادَ، بل لما ذكرنَا أنَّهُ خصَّ كلَّ شيءٍ بوقُتٍ معيَّن لسابِقِ مشيئتِهِ، فلا يفتر عنه، ويَدُلُّ على ذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38] . وقال المُفَسِّرُونَ: إنَّهُ تعالى إنَّما خَلق العالمَ في ستَّةِ أيَّامٍ ليعلِّم عباده الرِّفْقَ في الأمُورِ كما تقدَّم عن سعيد بْنِ جُبَيْرٍ. وقال آخرون: «إنَّ الشَّيْءَ إذا أحدث دَفْعَةً واحدة ثم انقطع طريقُ الإحداثِ، فَلَعَلَّهُ يَخْطُرُ ببالِ بعضهم أنَّ ذلك إنَّما وقع على سبيل الاتَّفَاقِ، أمَّا إذَا حدثَتِ الأشْيَاءُ على سبيل التَّعَاقُبِ والتَّواصُلِ مع كونها مطابقة للمَصْلَحَةِ والحكمة كان ذلك أقْوَى في الدِّلالةِ على كونِهَا واقعةً بإحداث مُحْدِثٍ حكيم وقادر عليم» . وعن الرابع: أنَّهُ تعالى ذكر سَائِرَ المخْلُوقَاتِ في سَائرِ الآيات فقال: {الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ} [السجدة: 4] . وقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الفرقان: 85 - 59] . وعن الخامس: قوله أنَّ المراد أنَّهُ تعالى خلق السَّموات، والأرضَ في مقدار سِتَّةِ أيَّام كما تقدَّم. وقال بعضُ العُلماءِ: المراد بالستَّةِ أيَّامٍ هاهنا مراتب مصنوعاته؛ لأنَّ قبل الزَّمَانِ لا يمكن تجدد الزَّمَانِ، والمراد بالأيام السَّتَّة: يومٌ لمادة السموات، ويوم لصورتها، ويوم لكمالاتها من الكواكب، والنُّفُوسِ، وغيرها ويوم لمادة الأرْضِ ويوْمٌ لصورتها ويوم لكمالاتها من الجبال وغيرها، فاليَوْمُ عبارة عن الكون الحادث. وعن السادس: أنَّ قوله: {وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر} [القمر: 50] محمولٌ على إيجاد كُلِّ واحد من الذَّواتِ وعلى إعدام كل واحد منها؛ لأنَّ إيجاد الموجودِ الواحدِ لا يقبل التَّفَاوُتَ، فلا يمكن تحصيله إلا دفعة، وأمَّا الإمْهَالُ فلا يَحْصُلُ إلاَّ في المدَّةِ. وعن السابع: أنَّ هذا السُّؤالَ غير وارد، لأنَّهُ تعالى لو أحدثته في مِقْدَارِ آخر من الزَّمانِ لعَادَ السُّؤالُ. قوله: «ثُمَّ اسْتَوَى» الظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّميرِ على الله - تعالى - بالتَّأويل المذكُورِ في البقرةِ. وقيل: الضَّمِيرُ يعود على الخَلْق المَفْهُوم من «خَلَقَ» ثم اسْتَوَى خَلْقُه على العَرْشِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 143 ومثله: {الرحمن عَلَى العرش استوى} [طه: 5] قالوا: يُحتمل أن يَعثودَ الضَّميرُ في «اسْتَوَى» على «الرَّحْمِن» ، وإنْ يعود على الخَلْقِ، ويكون «الرَّحْمن» خبراً لمبتدأ محذوف أي: هو الرَّحْمنُ. والعرشُ: يُطْلَقُ بإزاء معانٍ كثيرة، فمنه سَرِيرٌ الملكِ، وعليه، {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} [النمل: 41] ، {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش} [يوسف: 100] ، ومنه السُّلْطَان والعزُّ وعليه قول زهير: [الطويل] 2481 - تَدَارَكْتُمَا عَبْساً وقَدْ ثُلأَّ عَرْشُهَا ... وذُبْيَانَ إذْ زَلَّتْ بأقْدَامِهَا النَّعْلُ وقول الآخر: [الكامل] 2481 - إنْ يَقْتُلُوكَ فَقَدْ ثَلَلْتَ عُرُوشَهُمْ ... بِرَبيعَةَ بْنِ الحَارِثِ بْنِ شِهَابِ ومنه: خشب تُطوى به البِئرُ بعد أنْ يُطْوى بالحِجَارَةِ أسفلُها ومنه: ما يُلاقِي ظَهْرُ القَدَم وفيه الأصَابع، ومنه: السَّقْفُ، وكلُّ ما علاك فهو عَرْشٌ، فَكَأنَّ المَادَّةَ دائرةُ مع العُلُوِّ والرِّفعة ومنه عَرْشُ الكَرمِ، وعرشُ السِّمَاكِ أرْبَعَةُ كواكب صغار أسفل من العَوَّاء يقال إنَّها عَجُز الأسَدِ. والعَرْشُ: اسم ملك والعَرْشُ المَلِكُ والسُّلطَانُ. يقال: قد ذهب عرش فلان أي: ذهب مُلْكُهُ وعِزهُ وسُلْطَانُهُ قال زُهَيْرٌ: [الطويل] 2483 - تَدَارَكْتُمَا عَبْساً وَقَدْ ثُلَّ عَرْشُهَا ... وذُبْيَانَ إذْ زَلَّتْ بأقْدَامِهَا النَّعْلُ وقد تُؤُوِّل العَرْشُ في الآيَةِ بمعنى الملكِ أي: ما استوى الملِكُ الإلَهُ عزَّ وجلَّ. فصل في تنزيه الله تعالى قال القرطبي: الأكثَرُ من المتقدِّمينَ والمتأخِّرينَ على أنَّهُ إذا وجب تَنْزيهُ البَارِي سبحانه على الجِهَةِ والتَّحَيُّزِ، فمن ضرورة ذلك ولوازمه عِنْدَ عامَّة العُلَمَاءِ المُتقدِّمينَ، وقادتِهِمْ من المتأخِّرين تنزيهه تبارك وتعالى عن الجهَةِ، فَلَيْسَ بجهة فوض عِنْدَهُمْ؛ لأنَّهُ يلزمُ من ذلك عِنْدَهُم متى اختص بجهة أنْ يكون في مكان وحيِّزٍ، ويلزمُ على المكان والحيِّزِ الحركةُ والسُّكُونُ، ويلزم من الحركةِ والسُّكُونِ التَّغَيُّرُ والحُدُوثُ، هذا قول المتكلِّمينَ وقد كان السَّلَفُ الأولُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - لا يقولون بنفي الجهةِ، ولا ينطقون بذلك، بل نطقوا هم والكَافَّةُ بإثْبَاتِهَا لله - تعالى - كما نَطَقَ كِتَابهُ، وأخبرت [رسله] ، ولم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 144 ينكر أحدٌ من السَّلَفِ الصَّالِح أنَّهُ استوى على عَرْشِهِ حقيقة، وخُصَّ العَرْشُ بذلك؛ لأنَّهُ أعْظَمُ مخلوقاته وإنما جهلوا كيفية الاسْتِوَاءِ، فإنَّهُ لا تُعْلَمُ حَقِيقَتُهُ، كما قال مالكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «الاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ - يعني في اللغة - والكيْفُ مَجْهُولٌ، والسُّؤالُ عن هذا بِدْعَةٌ» ، وكذلك قالت أمُّ سلمة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -، وهذا القدرُ كافٍ. فصل في معنى الاستواء فإن قيل الاستواءُ في اللُّغَةِ: هو العُلُوُّ والاسْتِقْرَارُ. قال الجَوْهَرِيُّ: «استوى من اعْوِجَاج، واستوى على ظَهْرِ دابّتهِ أي: استقرَّ، واستوى إلى السَّمَاءِ أي قَصَدَ، واستوى أي: اسْتَوْلَى، وظهر؛ قال الشاعر: [الرجز] 2484 - قَدِ اسْتَوَى بِشْرٌ عَلَى العِرَاقِ ... واستوى الرَّجُلُ أي: انتهى شبابُهُ، واستوى الشَّيءُ أي: اعتدل، وحكى ابْنُ عَبْدِ البرِّ عن أبي عُبَيْدَةَ في قوله تعالى: {الرحمن عَلَى العرش استوى} قال:» عَلاَهُ «. قال الشِّاعِرُ: [الطويل] 2485 - وَقَدْ خُلِقَ النَّجْمُ اليَمَانِيُّ واسْتَوَى ... أي: علا وارتفع. قال القرطبيُّ: علوُّ الله - تعالى - وارتفاعُهُ عبارةُ عن علوِّ مَجْدِهِ، وصفاتِهِ، وملكُوتِهِ أي: ليس فوقَهُ فيما يجبُ له من تعالي الجلال أحد [ولا مَعَهُ من يكون العلو مُشْتَركاً بينه وبينه لكن العليّ بالإطلاق سبحانه] . فصل في تأويل الآية قال ابن الخطيب اعلم أنَّهُ لا يمكن أن يكونَ المراد من الآية كونه مُسْتَقِرّاً على العَرْشِ، ويدلُّ على فَسَادِهِ وجوهٌ عقليَّةٌ ونقليَّةٌ: إمَّا العقليَّةُ فأمُورٌ: أحدها: أنَّهُ لو كان مستقرّاً على العرش لكان من الجانب الَّذِي يلي العَرْشَ مُتَنَاهِياً، وإلاّ لزمَ كونُ العَرْشِ داخلاً في ذاتِهِ، وهو محالٌ وكل ما كَانَ مُتَنَاهِياً فإنَّ العقلَ يقتضي بأنَّهُ لا يمنع أن يصير أزْيَدَ منه أو أنقص منه بذرَّةٍ، والعلمُ بهذا الجواز ضروريٌّ، فلو كان البَاري - تعالى - متناهياً من بعض الجوانبِ لكانت ذاتُهُ قابِلَةً للزِّيَادَةِ والنُّقصان، وكل ما كان كذلك كان اختصاصه بذلك المقدار المعين؛ لتخصيص مخصِّصِ وتقدير مُقَدِّرٍ، وكل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 145 ما كان كذلك فَهُوَ مُحْدَثٌ فثبت أنَّهُ تعالى لو كان على العرش؛ لكان من الجانب الذي يلي العرش متناهياً ولو كان كذلك لكان مُحْدَثاً وهذا مُحَالٌ فكونه على العَرْشِ يجب أن يكون مُحَالاً. وثانيها: لو كان في مكانٍ وجهة، لكان إمَّا أنْ يكُونَ غير مُتَنَاهٍ من كلِّ الجهات، وإمَّا أن يكون متناهياً من كلِّ الجهاتِ، وإمَّا أن يكون متناهياً عن بعض الجهاتِ دون البَعْضِ، والكلُّ باطلٌ فالقولُ بكونه في المكانِ والحيِّزِ بَاطِلٌ قطعاً. بيان الأول: أنَّهُ يلزم أن تكون ذاتُهُ مخالطة لجميع الأجسام السُّفْلِيَّةِ والعلويَّة، وأنْ تكون محالطة للقَاذُورَاتِ والنَّجَاسات، وتكون الأرْضُونَ أيضاً حالةً في ذاتِهِ. وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ الذي هو محل السَّمواتِ، إمَّا أن يكون هو عين الشَّيءِ الذي هو محلُّ الأرضين، أو غيره فإن كان الأوَّل؛ لزم كون السَّموات، والأرضين حالتين في محلٍّ واحد من غير امتياز بين محليهما أصْلاً، وكلُّ حالين حلا في محلٍّ واحد لم يكن أحدهما ممتازاً عن الآخر فلزم أن يقال السماوات لا تمتاز عن الأرضين في الذَّاتِ، وذلك باطل فإن كان الثَّاني لَزِمَ أن تكون ذاتُ اللَّهِ تعالى مركَّبةً من الأجزاء والأبعاض وهو مُحَالٌ. والثالث: وهو أنَّ ذَاتَ اللَّهِ تعالى إذَا كانت حَاصِلَةٌ في جميع الأحياز والجهات فإمَّا أن يُقَالَ الشَّيْءُ الذي حصل فوق هو عَيْن الشَّيءِ الذي حصل تحت فحنيئذ تكون الذَّاتُ الواحدة قد حصلت دفعة واحدة [في أحيازٍ كَثِيرَةٍ وإنْ عُقِلَ ذلك فلم يُعْقَلُ أيضاً حصولُ الجسم الوَاحِدِ في أحْيَازٍ كثيرةٍ دَفْعَةً واحدةً؟] وهو مُحَالٌ في بديهة العقل، وأمَّا إنْ قيل إنَّ الشَّيء الذي حصل فوق غير الشيء الذي حصل تحت، فحينئذ يلزمُ حصولُ التركيب والتَّبْعيض في ذَاتِ اللَّه تعالى وَهُوَ مُحَالٌ. وأما القِسْمُ الثَّانِي، وهو أن يُقَالَ إنَّهُ متناهٍ من كلِّ الجهاتِ فنقولُ: كل ما كان كذلِكَ فهو قَابِلٌ للزيادةِ والنُّقْصَانِ في بديهة العَقْلِ، وكلَّما كان كذلك كان اختصاصه بالمقْدَرِ المُعَيَّنِ لأجل تخصيص مُخَصِّصٍ وكلُّ ما كان كذلك فهو محدث، وأيضاً فإنَّ جَازَ أن يكُونَ الشَّيءُ المَحْدُودُ من كلِّ الجوانب قديماً أزلياً فاعلاً للعالم فلم لا يُعْقَلُ أن يُقال: خالقُ العالم هو الشَّمْسُ، أو القَمَرُ، أو كوكبٌ آخرُ وذلك بَاطِلٌ بالاتِّفاق. وأما القِسْمُ الثالثُ، وهو أنْ يُقالَ بأنَّهُ متناهٍ من بعض الجوانبِ، وغير مُتَنَاهٍ من سائر الجوانبِ فهذا أيضاً بَاطِلٌ من وجوه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 146 أحدها: انَّ الجانب المُتَنَاهي غير ما صدق عليه أنَّهُ غير مُتَنَاهٍ إلا لصدق النقيضين معاً وهو محالٌ، وإذا حصل التَّغاير لزم كونه تعالى مُرَكَّباً من الأجْزَاءِ والأبعاض. وثانيها: أنَّ الجانبَ الذي صدق حُكْمُ العَقْلِ عليه بكونه متناهياً، إمَّا أن يكون مساوياً للجانب الذي صدق حكم العَقْل عليه بكونِهِ غير مُتَنَاهٍ، وإمَّا ألاَّ يكون كذلك، والأوَّلُ بَاطِلٌ لأنَّ الأشياء المتساويةَ في تمام الماهِيَّةِ، كُلُّ ما صحَّ على واحد منها صَحَّ على الآخر البَاقِي، وإذا كان كذلك فالجانبُ الذي هو غير متناهٍ يمكن أن يَصير مُتناهِياً والجانب الذي هو متناه يمكن أن يصيرَ غير متناهٍ. ومتى كان الأمر كذلك كان النموُّ والذُّبول والزِّيادةُ والنُّقصانُ، والتَّفرُّقُ والتَّمَزُّقُ على ذاته ممكناً وكل ما كان كذلك فهو مُحْدَثٌ، وذلك على الإله القديم مُحَالٌ. البرهانُ الثالث: لو كان البَارِيءُ - تعالى - حَاصِلاً في المكان والجهة لكان الأمْرُ المُسَمَّى بالجِهَةِ إمَّا أن يكون موجوداً مشاراً إليه، وإما ألاَّ يَكُونَ كذلك، والقِسْمَانِ باطلانِ، فكان القول بكونه تعالى في المكانِ والجهةِ باطلاً. أمَّا بيانُ فَسَادِ القِسْمِ الأوَّلِ، فلأنَّهُ لو كان المُسَمَّى بالحيِّز والجهةِ موجوداً مُشَاراً إليه، فحينئذ يكون المُسَمَّى بالحيِّز، والجهة بُعْداً، وامتداداً، والحاصل فيه أيضاً يجب أن يكون له في نَفْسِهِ بَعْدٌ وامتدادٌ، وإلا لامتنع حُصُولُهُ فيه وحينئذٍ يَلْزَمُ تداخُلُ البُعْدَيْنِ، وذلك مُحَالٌ للدَّلائِلِ المَشْهُورةِ في هذا الباب. وأيضاً؛ فَيلْزَمَ من كون البَارئ قديماً أزليّاً كون الحيِّز، والجهة أزَليِّيْن، وحينئذٍ يلزمُ أن يكون قد حَصَلَ في الأزَلِ موجودٌ قائمٌ بنفسه سوى الله وذلك باطل بإجْمَاعِ أكثر العقلاء. وأمَّا بيانُ فسادِ القسم الثَّانِي فَهُوَ من وجهين: أحدهما: أنَّ العدمَ نفي مَحْضٌ، وعدم صرف، وما كان كذلك امتنع كونه ظَرْفاً لغيره، وجهة لغيره. [وثانيهما: أنَّ كُلَّ ما كان حاصلاً في جهة فجهته مُمْتَازَةٌ في الحسِّ عن جهة غيره ولو كانت تلك الجهة عدماً محضاً لزم كونُ العدمِ المحض مُشَاراً غليه بالحسِّ وذلك باطلٌ؛ فثبت أنَّهُ تعالى لو كان في حيِّزٍ وجهةٍ لأفضى إلى أحد هذين القِسْمين البَاطليْنِ؛ فوجب أنْ يَكُون القَوْلُ به بَاطِلاً] . فإن قيل: فَهذَا أيضاً واردٌ عليكم في قولكم: الجِسْمُ حَاصِلٌ في الحيِّزٍ والجهةِ فنقول: نَحْنُ على هذا الطَّريقِ لا نُثْبِتُ للجِسْمِ حَيْزاً، ولا جهة أصْلاً ألْبَتَّة، بحيث تكُونَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 147 ذات الجِسْمِ نافذة فيه وسَارِيَةً، بل المكانُ عبارة عن السَّطْحِ الباطنِ من الجِسْمِ الحاوي المماسّ للسَّطْحِ الظَّاهِرِ من الجسم المَحْوِيِّ، وهذا المعنى مُحَالٌ بالاتِّفاق في حقّ الله - تعالى - فسقط هذا السُّؤالُ، وبقيَّةُ البراهيم العَقْليَّة مذكورةٌ في تفسير ابن الخطيب. وأمَّا الدَّلائل السَّمْعيَّةُ فَمِنْهَا قولُهُ تعالى: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] . فوصفه بكونه أحَداً، والأحد مبالغةٌ في كونه واحداً والذي يمتلىءُ منه العَرْشُ، ويفضل على العرش يكون مُرَكَّباً من أجزاء كثيرة جداً فوق أجزاءِ العَرْشِ، وذلك يُنَافِي كونه أحَداً. وقال بعَث الكرَّامِيَّة عند هذا الإلْزَامِ: إنَّهُ تعالى ذاتٌ واحدةٌ، [ومع كونه ذاتاً واحدة حَصَلَتْ في كلِّ هذا الأحْيَازِ دفعةً واحدةً قالوا: فلأجْلِ أنَّهُ تعالى حصل] دفعة واحدة في جَميع الأحْيَازِ امتلأ العَرْشُ منه، فَيُقَالُ لهم: حَاصِلُ هذا الكلام يرجع أنَّهُ يَجُوزُ حصول الذَّاتِ الشَّاغلة للحيِّز والجهة في أحْيَازٍ كثيرةٍ دفعةً واحدة، والعقلاءُ اتَّفَقُوا على أنَّ العلمَ بفسادِ ذلك من أجلِّ العُلُومِ الضروريَّةِ أيضاً، وأيضاً فإنْ جوَّزتم ذلك فلِمَ لا تُجَوِّزُونَ أن يقال: جَمِيعُ العالم من العَرْشِ إلى ما تَحْتَ الثَّرَى جَوْهَرٌ واحد، ومَوْجُودٌ واحد، إلا أنَّ ذلك الجزء الذي لا يَتَجَزَّأ حصَلَ في جملة هذه الأحْيَازِ، فَيظَنُّ أنَّهَأ أشياء كثيرة، ومعلوم أنَّ من جوَّزَهُ، فقد التزم مُنْكراً من القول عظيماً. فإن قالوا: إنَّمَا عرفنا هَا هُنَا حصول التَّغَايُرِ بين هذه الذَّوَاتِ، لأنَّ بعضها يَفْنَى، بع بَقَاءِ البَاقِي، وذلك يوجب التَّغَايرَ، وأيضاً فنرى بَعْضَهَا متحرِّكٌ وبعضها ساكِنٌ، والمُتَحرِّكُ غير السَّاكِنِ؛ فوجب القولُ بالتَّغايُرِ، وهذا المعانِي غير حاصلةٍ في ذَاتنِ اللَّه - تعالى - فظهر الفَرْقُ، فنقول: أمَّا قَوْلَكُمْ: بأنّا نُشَاهِدُ أنَّ هذا الجُزْءَ يبقى مع أنَّهُ يفنى ذلك الجزء الآخر، وذلك يُوجِبُ التَّغَايُرَ، فلا نسلم أنَّه فني شيء من الأجزاء، بل نقول: لِمَ لا يجوز أن يقال: إنَّ جميع أجزاء العالم جزءٌ واحد فقط، ثم إنَّهُ حصل هاهنا وهناك. وأيضاً جعل موصوفاً بالسَّوادِ والبياضِ، وجميع الألوان والطُّعُومِ، فالذي يفتى إنَّمَا هو حُصُولُهُ هناك، فأمَّا أن يقال: إنَّهُ فني في نَفْسِهِ، فهذا غير مسلم. وأمَّا قولكم: نَرَى بعض الأجسام مُتَحَرِّكاً، وبعضها ساكناً، وذلك يُوجِبُ التَّغَايُرَ؛ لأنَّ الحركة والسُّكُونَ لا يجتمعان فنقولُ: إنا حكمنا بأنَّ الحركةَ والسُّكُونَ لا يجتمعان. لاعتقادنا أنَّ الجِسْمَ الواحِدَ لا يَحْصُلُ دفعة واحدة في حيزين، فإذا رَأيْنَا أنَّا السَّاكِنَ بقي هاهنا، وأن المُتَحَرِّكَ ليس هاهنا، قَضَيْنَا أنَّ المُتَحَرِّكَ غير السَّاكِن. ومَّا بِتَقْدِيرِ أن يجوز الذَّاتِ الواحدة حاصلة في حيزِّين دفعة واحدة، فلم يمتنع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 148 كون الذَّاتِ الواحدة متحرِّكَةً سَاكِنَةٌ معاً؛ لأنَّ أقْصَى ما في البابِ أنَّهُ بسبب السُّكُونِ بقي ها هنا وبسبب الحركة حصل في الحيِّزِ الآخر، إلا أنّا لمَّا جوَّزنا أن تحصلَ الذَّاتُ الواحدةُ دَفْعَةً واحدَةً في حيِّزين معاً، لم يبعد أن تكون الذَّاتُ السَّاكِنَةُ هي غَيْرُ الذَّاتِ المتحرِّكةُ، فثبت أنَّهُ لو جَازَ أن يقالك إنَّهُ تعالى ذاته واحدة، لا تقبل القِسْمَةَ، ثمَّ مع ذلك يمتلىء العرشُ منه لم يبعد أن يقال: إنَّ العَرْشَ في نفسه جَوْهَرٌ فَرْدٌ جزء لا يتجزَّأُ، ومع ذلك فقد حَصَلَ في كلِّ تلك الأحْيَازِ، وحصل منه كل العرش، وذلك يُفْضِي إلى فتح باب الجَهَالاتِ. ومنها قوله تعالى: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} [الحاقة: 17] فلو كان إلهُ العالم في العرش لكان حَامِلٌ العرشِ حامِلاً للإله؛ فوجب أن يكون مَحْمُولاً حاملاً ومحفوظاً حَافِظاً، وذلك لا يقُولُهُ عاقل. ومنها قوله تعالى: {والله الغني} [محمد: 38] حكم بِكَوْنِهِ غَنِيّاً على الإطْلاقِ، وذلك يوجب كَوْنَهُ تعالى غنيّاً عن المكان والجهة. ومنها أنَّ فِرْعَوْنَ لمَّا طَلَبَ حقيقة الإلهِ من موسى - عليه السلام - ولم يزد موسى عليه السلام على ذكر صفة الخلاقية ثلاث مرَّات فإنه قال: {وَمَا رَبُّ العالمين} [الشعراء: 23] ففي المرة الأولى قال {رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ} [الشعراء: 24] . وفي المرَّة الثَّانية قال: {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين} [الشعراء: 26] . وفي المرة الثالثة قال: {رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ} [الشعراء: 28] . وكلُّ ذلك إشارة إلى الخلاقية، وأمّا فرعون فإنَّهُ قال: {ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى} [غافر: 36، 37] فطلب الإله في السَّماءِ، فعلمنا أنَّ وصف الإله بالخلاقية، وعدم وصفه بالمَكَانِ والجهة دين موسى وجميع الأنبياء ووصفه تعالى بكونه في السَّماءِ دينُ فرعون، وإخوانه مِنَ الكَفَرَةِ. ومنها قوله تعالى في هذه الآية: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} . وكلمة «ثم» للتراخي وهذا يدلُّ على أنَّهُ تعالى إنَّمَا استوى على العرش بعد تخليق السموات والأرض، فإنْ كان المُرَادُ من الاستواء الاستقرار؛ لَزِمَ أن يقال: أنَّهُ ما كان مستقراً على العرش، بل كان مُعْوَجاً مُضطرباً، ثم استوى عليه بعد ذلك، وذلك يُوجِبُ وصفه بصِفَاتِ الأجْسضامِ من الاضطراب والحركة تَرَاةً، والسُّكون أخرى، وذلك لا يَقُوله عاقِلٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 149 ومنها طَعْنُ إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في إلهية الكواكب بكونها آفلة غاربة، فلو كان إله العالم جِسْماً، لكان أبداً غارباً آفلاً وكان متنقلاً من الاضطراب والاعوجاج إلى الاستواء والسكون والاستقرار، فكلّ ما جعله طعناً في إلهية الكواكب يكون حاصلاً في إله العالمِ فكيف يمكن الاعتراف بإلهيته؟! . ومنها أنَّهُ تعالى ذكر قبل قوله: {ثُمَّ استوى} شيئاً، وبعده شيئاً آخر، أمّا المذكُورُ قبل هذه الكلمة فهو قوله: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض} وذلك يدلُّ على وُجُود الصَّانِع، وقدرته، وحكمته. وأما المذكورُ بعد هذه الكلمة فأشياء أوَّلُهَا: {يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} ، وذلك يَدُلُّ على وجود الله تعالى، وعلى قدرته وحكمته. وثانيها: قوله: {والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ} وهذا أيضاً يَدُلُّ على الوُجُودِ، والقُدْرَةِ والعلم. وثالثها: قوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} ، وهو أيضاً إشارة إلى كمال قُدْرَتِهِ، وحكمته. وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ: أوَّلُ الآية إشارة إلى ذِكْرِ ما يَدُلُّ على الوُجُودِ والقدرة والعلم، وآخر الآية يَدُلُّ أيضاً على هذا المطلوب، وإذا كان كذلك فقوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} يَجِبُ أيضاً أن يكون دليلاً على كمالِ القُدْرَةِ والعلم؛ لأنَّهُ لو لم يَدُلَّ عليه، بل كان المراد كونه مستقِرّاً على العَرْشِ لا يمكن جعله دليلاً على كَمَالِهِ في القُدْرَةِ، والعلم، والحكمة، وليس أيضاً من صِفَاتِ المَدْحِ والثَّنَاءِ، لأنَّهُ تعالى قادر على أن يُجْلس جميع البَقِّ والبَعُوضِ على العرش، وعلى ما فَوق العرش، فثبت أنَّ كونه جالساً على العَرْشِ ليس من دلائل إثبات الذَّاتِ والصِّفاتِ، ولا من صِفَاتِ المَدْح والثَّنَاءِ، فلو كان المراد من قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} كونه جالساً على العرش، لكان ذلك كلاماً أجْنَبِياً عمّا قبله وعمّا بعده، وذلك يوجب نِهِايَةَ الرَّكاكةِ؛ فثبت أنَّ المراد منه ليس ذلك بَلِ المُرَادُ منه: كمال قدرته في تَدْبير المُلْكِ، والملكوت، حتّى تصير هذه الكلمة مُنَاسِبَةٌ لما قبلها، ولما بَعْدَهَا، وهو المَطْلُوبُ. وإذا ثَبَتَ هذا فَنَقُولُ: إنَّ قولهُ تعالى: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} من المُتشابِهَاتِ التي يجب تأويلها، وللعلماء هاهُنَا مذهبان. الأول: أن يُقْطَعَ بكونه تعالى مُتَعَالِياً عن المكان والجهة، ولا نخوض في تأويل الآية على التَّفْصِيل، بل نُفَوِّض عِلْمَهَا إلى الله - تعالى - ونَقُولُ: الاستواءُ على العَرَشِ صفةٌ لله - تعالى - بلا كيف يَجِبُ على الرَّجُلِ الإيمان به، ونَكِلُ العلم فيه إلى الله - عزَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 150 وجلَّ -، وسأل رجلٌ مَالِكَ بْنَ أنَس عن قوله: {الرحمن عَلَى العرش استوى} كيف استوى فأطرق رَأسَهُ مليّاً، وعلاه الرحضاء، ثم قال: الاستواءُ مَجْهُولٌ، والكيف غَيْرُ مَعْقُولٍ، والإيمانُ به وَاجِبٌ، والسُّؤالُ عند بدعة، وما أظُنُّكَ إلا ضالاًّ، ثم أمرَ به، فأخرج. ورُوِيَ عن سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، والأوْزَاعِيِّ، واللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ وسفيان بْنِ عُيَيْنَةَ، وعَبْدِ الله بْنِ المُباركِ، وغيرهم من علماء السُّنَّة في هذه الآيات التي جاءت في الصِّفاتِ المتشابهة، أنْ نُوردَهَا كما جاءت بلا كَيْف. والمَذْهَبُ الثَّانِي: أن نخوضَ في تَأويلهِ على التَّفْصيلِ، وفيه قولان: الأول: ما ذكره القَفَّالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فقال: العَرْشُ في كلامهم: هو السريرُ الذي يجلس عليه المَلِك، ثم جعل العرش كِنَايَةً عن نَفْسِ المُلْكِ. يقال: ثلَّ عَرْشُهُ أي: انتقض مُلْكُهُ وَفَسَدَ، وإذا استقام له ملكه واطّرد أمْرُهُ وحكمه قالوا: اسْتَوَى على عَرْشِهِ واستقرَّ على سرير مُلْكِهِ، وهذا نظيرُ قولهم للرَّجُلِ الطويل: فلان طَوِيلُ النِّجَادِ، وللرَّجُلِ الذي تكثر أضْيَافُهُ: كثيرُ الرَّمَادِ وللرَّجُلِ الشِّيْخ فلان اشتعَلَ الرَّأسُ منه شَيْباً، وليس المرادُ بشيء من هذه الألْفَاظِ إجراءَها على ظَوَاهِرهَا إنَّمَا المُرَادُ منها تعريف المَقْصُود على سبيل الكِنَاية، فكذا هاهنا المُرَادُ من الاستواءِ على العَرْشِ نفاذُ القُدْرَةِ وجريان المشيئَة، كما إذا أخبر أنَّ له بيتاً، يجب على عِبَادِهِ حجُّهُ، فَهِمُوا منه أنَّهُ نصب لهم موضعاً يَقْصِدُونَهُ لمسألة ربِّهِمْ، وطَلبِ حوائجهم، كما يقصدون بيوتَ المُلُوكِ لهذا المطلوب، ثم عَلِمُوا منه نَفْيَ التَّشبيه، وأنَّهُ لم يجعلْ ذلك البيتَ مَسْكناً لنفسه، ولم ينتفع به في دَفْع الحرِّ والبرْدِ عن نفسه، وإذا أمرهم بِتَحْميدِهِ، وتَمْجِيدِهِ؛ فهموا منه أنه أمرهم بنهايةِ تَعْظِيمهِ، ثمَّ عَلِمُوا بعقولهم أنَّهُ لا يفرح بِذلِكَ التَّحْمِيدِ والتَّعْظِيم، ولا يغتم بتركه، وإذا عُرِفَ ذلك فَنَقُولُ: إنَّهُ أخْبَرَ أنَّهُ خلق السَّمواتِ والأرض كما أراد وشاء من غير مُنَازعٍ، ولا مدافع، ثمَّ أخبر بعده أنَّهُ استوى على العَرْشِ، [أي حصل له تدبير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 151 المخلوقات على ما شاء وأراد فكان قوله ثم استوى على العرش] ، أي بعد أنْ خلقهما استوى على عرش الملك والجلال. قال القَفَّال: والدَّلِيلُ على أنَّ هذا هو المَُادُ قوله في سورة يونس: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُدَبِّرُ الأمر} [الآية: 3] . فقوله: «يُدبِّرُ» جرى مجرى التَّفسير لقوله: {استوى عَلَى العرش} . وقال {يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً} ، {والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} . وهذا يَدُلُّ على أنَّ قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} إشارة إلى ما ذكرناهُ. فإنْ قيل: فإذا حملتم قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} على أنَّ المراد إذا استوى على الملك؛ وجب أن يقالك اللَّهُ لم يكن مستوياً قبل خَلْقِ السَّموات والأرْضِ. قلنا إنَّهُ تعالى كان قبل خَلْق العَالِمِ قادراً على تخليقها وتكوينها، لا أنَّهُ كان مُكوِّناً ومُوجِداً لها بأعْيَانِهَا؛ لأنَّ إحياء زيد، وإماتَةَ عَمْرٍو، وإطعام هذا، وإرواء ذلك، لا يَحْصُلُ إلا عند حصول هذه الأحْوالِ، فإذا فسَّرْنَا العرش بالملك، والملك بهذه الأحْوالِ صحَّ أن يقال: إنَّه تعالى إنَّما استوى على ملكه بعد خلق السَّموات والأرْض؛ بمعنى أنَّهُ إنَّمَا ظهر تصرفه في هذه الأشياء وتدبيره لها، بعد خلق السَّمواتِ والأرْضِ. والقولُ الثاني: أنَّ استوى بمعنى اسْتَوْلَى، كما نَذْكُرُهُ في «سورة طه» إن شاء الله تعالى. واعْلَمْ أنَّهُ تعالى ذكر قوله: {استوى عَلَى العرش} في سَبْع سور: هاهنا، ويونس [3] . والرعد [2] ، وطه [5] ، والرفرقان: [59] ، والسجدة [4] ، والحديد [57] . قال ابن الخطيب: «وفي كلِّ موضع ذكرنا فَوائِدَ كثيرةٌ، فَمَنْ ضمَّ تلك الفَوائِدَ بعْضَهَا إلى بَعْضٍ، بلغت مبلغاً كثيراً، وافياً بإزالةِ شبهة التَّشْبيهِ عن القَلْب» . قوله: {يُغْشِي الليل النهار} قرأ نافعُ وابنُ كثير وأبو عمرو وابن عامر وحفض هنا وفي سورة الرعد: [3] «يُغْشِي» مخففّاً من أغْشَى على أفْعَل، والباقون بالتَّشديدِ من غشَّى على فعَّل، فالهمزةُ والتَّضعيف كلاهما للتَّعْدِيَةِ أكسبا الفعل مَفْعُولاً ثانياً؛ لأنَّهُ في الأصل متعد لواحدٍ، فصار الفاعل مفعولاً. وقرأ حُمَيْدُ بْنُ قَيْسْ: «يَغشَى» بفتح الياء والشين، «اللّيلُ» رفعاً، «النهار» نصباً، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 152 هذه رواية الداني عنه، وروى ابنُ جنّي عنه نصب «اللّيل» ورفع «النَّهار» . قال ابنُ عطيَّة: «ونقل ابن جنّي أثبت» وفيه نظرٌ، من حيث إنَّ الدَّاني أَعْنَى من أبي الفَتْح بهذه الصِّنَاعَةِ، وإن كان دونه في العلم بطبقات، ويؤيد رواية الدَّاني أيضاً أنَّهَا موافقة لقراءة العَامَّةِ من حيث المَعْنَى، وذلك أنَّهُ جعل اللَّيْل فاعلاً لفظاً ومعنى، والنَّهارَ مفعولاً لفظاً ومعنى، وفي قراءة الجماعة اللَّيْلُ فاعلٌ معنى، والنَّهارُ مفعولٌ لفظاً ومعنى، وذلك أنَّ المفعولين في هذا البابِ متى صَلُح أن يكون كلٌّ منهما فاعلاً ومفعولاً في المعنى؛ وَجَبَ تقديمُ الفاعل معنى؛ لئلاّ يلْتبس نحو: «أعْطَيْتُ زَيْداً عَمْراً» فإنْ لم يلْتبس نحو: «أعْطَيْتُ زَيْداً دِرْهما، وكسوْتُ عمراً جُبَّةً» جاز، وهذا كما في الفَاعِلِ والمفعُولِ الصَّريحين نحو «ضرب موسى عيسى» ، و «ضرب زيدٌ عمراً» ، وهذه الآية الكريمة من بابِ «أعطيت زيداً عمراً» ؛ لأنَّ كلاًّ من اللَّيْلِ والنَّهَارِ يَصْلُح أن يكون غَاشياً مَغْشياً؛ فوجب جعل «اللَّيْل» في قراءة الجماعةِ هو الفاعلُ المعنوي، و «النَّهَار» هو المفعول من غير عكس، وقراءة الدَّاني موافقة لهذه؛ لأنَّهَا المصرِّحة بفاعليَّةِ اللَّيْلِ، وقراءة ابن جني مُخَالِفَة لها، وموافقة الجماعة أولى. قال شهابُ الدِّين: «وقد روى الزَّمَخْشَرِيُّ قراءة حُمَيْدٍ كما رواها أبُو الفَتْحِ فإنَّهُ قال:» يُغَشِّي «بالتَّشديد، أي: يلحق اللَّيْلُ بالنَّهار، والنَّهارُ باللَّيْلِ، يحتملهما جميعاً» . والدَّليلُ على الثاني قراءةُ حميد بْنِ قَيْس «يَغْشى» بفتح الياء [و] نصب اللَّيْل، ورفع النَّهَارِ. انتهى. وفيما قاله الزَّمخشريُّ نظر؛ لما ذكرنا من أنَّ الآية الكريمة ممَّا يجب فيها تقديمُ الفاعلِ المَعْنَوِي، وكأن أبا القاسم تَبعَ أبَا الفَتْحِ في ذلك، ولم يَلْتَفِتْ إلى هذه القاعدةِ المذكورة سَهْواً. وقوله: «يَطْلُبُهُ حَثِيثاً» حالٌ من الليل؛ لأنَّهُ هو المحدَّث عنه أي: يغشي النَّهارَ طالبِاً له، ويَجُوزُ أن يكُون من النهار أي مطلوباً وفي الجملة ذِكْرُ كُلٍّ منهما. و «حَثِيثاً» يُحتمل أن يكون نَعْتَ مصدر محذوف أي: طَلَباً حثيثاً وأن يكون حالاً من فاعل «يَطْلُبُهُ» أي: حَاثّاً، أو مفعوله أي: مَحْثُوثاً. والحثُّ: الإعْجَالُ والسُّرْعَةُ، والحَمْلُ على فِعْلِ شَيءٍ كالحضِّ عليه فالحثُّ والحضُّ أخوانِ، يقال: حَثَثْتُ فُلاناً فاحْتثَّ فهو حَثِيثٌ ومَحْثُوثٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 153 2486 - تَدَلَّى حَثِيثاً كأنَّ الصُّوا ... رَ يَتْبَعُهُ أزْرَقِيٌّ لَحِمْ فهذا يُحتملُ أن يكون نَعْتَ مصدرٍ محذوف، وأن يكون حالاً أي: تولى تَوَلِّياً حثيثاً، أو تولَّى في هذه الحال. فصل في معنى «الإغشاء» قال الواحديُّ: «الإغْشَاءُ والتَّغْشِيَةُ: إلْبَاسُ الشيء بالشَّيء، وقد جَاءَ التَّنْزِيلُ بالتَّشْديد والتَّخفيف، فمن التَّشديد قوله تعالى: {فَغَشَّاهَا مَا غشى} [النجم: 54] ومن اللُّغة الثانية: {فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9] والمفعولُ الثاني مَحْذُوفٌ،، أي فأغْشَيْنَاهُم العمى وفقد الرؤية، ومعنى الآية أي: يأتي اللَّيْلُ على النَّهارِ فيغطيه، وفيه حذف أي: ويغشي النَّهار اللَّيْلَ، ولم يذكرْ لدلالةِ الكلام عليه، وذكر في آية أخرى: {يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل} [الزمر: 5] . » يَطْلُبُهُ حَثِيثاً «أي: سَرِيعاً، وذلك أنَّهُ إذَا كان يعضب أحدُهُما الآخر ويخلفه فكان يطلبه. قال القفَّالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: إنَّهُ تعالى لمَّا أخبر عبادَهُ باستوائه على العرش، وأخْبَرَ عن استمرار أصعب المخلوقات على وفق مشيئته، أرَاهم ذلكَ عياناً فيما يُشَاهِدُونَهُ منها؛ ليضمَّ العيانَ غلى الخبرِ، وتزول الشُّبْهَةُ عن كُلِّ الجهاتِ فقال: {يُغْشِي الليل النهار} ؛ لأنَّهُ تعالى أخبر في هذا الكتاب الكريم بما في تعاقبهما من المناقع العظيمة يتم أمر الحياة، وتكمل المنفعة والمصلحة. قوله:» والشَّمْسَ «قرأ ابن عامر هنا وفي» النحل « [12] برفع الشمسِ، وما عُطف عليها، ورفع» مُسَخَّرَات «، ووافقه حفصٌ عن عاصم في النَّحل خاصة على رفع» والنَّجُوم مُسَخَّرات «، والباقون بالنَّصْب في الموضعين. وقرّأ أبانُ بْنُ تَغْلِبٍ هنا برفع» النُّجُومِ «وما بعده. فأمَّا قراءةُ ابنِ عامر فعلى الابتداء والخبرِ، جعلها جملة مستقلَّةً بالإخبار بأنَّهَا مُسخَّرات لنا من الله - تعالى - لمنافعنا. وأمَّا قراءةُ الجماعةِ، فالنَّصْبُ في هذه السُّورةِ على عطفها على» السَّمواتِ «أي: وخلق الشَّمْسَ، فتكون» مُسَخَّرات «على هذا حالاً من هذه المفاعيلِ، ويجوزُ أن تكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 154 هذه [منصوبةً] ب» جَعَلَ «مقدَّراً فتكون هذه المنصوباتُ مفعولاً أوَّلاً، و» مُسَخَّرَات «مفعولاً ثانياً. وأمَّا قراءةُ حفص في النَّحْلِ، فإنَّهُ إنَّما رفع هنا؛ لأنَّ النَّاصِبَ هناك» سخَّر «وهو قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ} [النحل: 12] فلو نصب» النُّجُوم «و» مُسَخَّراتٍ «لصار اللفظ: سَخَّرها مُسَخَّراتٍ، فيلزم التَّأكيد، فلذلك قطعهما على الأوَّلِ ورفعهما جملة مُسْتَقلَّة. والجمهورُ يخرِّجونها على الحال المؤكدة، وهو مستفيض في كلامهم، أو على إضمار فِعْلٍ قبل» والنُّجُوم «أي: وجعل النُّجوم مُسخَّراتٍ، أو يكون» مُسَخَّرات «جمع مُسَخَّر المرادُ به المصدر، وجُمِع باعتبار أنواعه كأنَّهُ قيل: وسخَّر لكم اللَّيْلأ، والنَّهار، والشَّمس، والقمر، والنجوم تسخيراتٍ أي أنْواعاً من التَّسْخِيرِ. قوله:» بأمْرِهِ «متعلق ب» مُسَخَّراتٍ « [أي] : بتيسيره وإرادته لها في ذلك، ويجوزُ أن تكون» الباءُ «للحال أي: مصاحبةً لأمره غير خارجة عنه في تسخيرها، ومعنى مُسَخَّراتٍ أي: منزلات بأمره. فصل في بيان حركة الشمس قال ابن الخطيب: إن الشَّمْس لها نوعان من الحركة: أحدهما: حَرَكَتُهَا بحسب ذاتِهَا، وهي إنما تتم في سَنَةٍ كامِلَةٍ وبسبب هذه الحركة تحصلُ السَّنةُ. والنوعُ الثاني: حركتها بحسب حركة الفلك الأعظم، وهذه الحركة تَتِمُّ في اليومِ بليلته. وإذا عُرف هذا فنقول: اللَّيْلُ والنَّهَارُ لا يحصل بحركة الشَّمْس، وإنَّمَا يحصلُ بسبب حركةِ السَّماءِ الأقصى التي يقالُ لها: العَرْشُ، فلهذا السبب لمَّا ذكر العَرْشَ بقوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} ربط به قوله: {يُغْشِي الليل النهار} تنبيهاً على أنَّ سبب حُصُول اللَّيْلِ والنَّهارِ هو حركة الفلك الأقصى، لا حركة الشمس والقمر، وهذه دقيقةٌ عجيبةٌ. قوله: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر} . يجوزُ أن يكون مَصْدراً على بابِهِ، وأن يكُونَ واقِعاً مَوْقِعَ المفعوُولِ به. «لَهُ الخَلْقُ» ؛ لأنَّهُ خلقهم، و «الأمْرُ» : يأمر في خلقه بما يشاء قال سفيانُ بْنُ عُيَيْنَةَ. فرّق الله بين الخلق والأمر، فمن جمع بَيْنَهُمَا فقد كَفَرَ. «تَبَارَكَ اللَّهُ» أي: تعالى الله وتعظم. وقيل: ارتفع، والمباركُ: المرتفعُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 155 وقيل: تَبَارَكَ: تَفَاعَل، من البَرَكَةِ وهي النَّمَاءُ والزِّيَادَةُ، أي: البركةُ تكسب، وتنالُ بذكْرِهِ. وعن ابن عَبَّاسِ قال: جَاءَ بِكُلِّ بَرَكَةٍ. وقال الحسنُ: تَجِيءُ البَرَكَةُ من قِبَلِهِ. وقيل: تبارك: تَقَدَّس، والقُدْسُ: الطهارة. وقال المحقِّقُونَ: معنى هذه الصِّفَةِ، ثبت ودام كما لم يزل ولا يزال، وأصلُ البركةِ الثُّبُوتُ ويقال: تَباركَ اللَّهُ ولا يقال: يتباركُ ولا مباركٌ؛ لأنَّهُ لم يرد به التَّوقيف. وقوله: «رَبُّ العَالمينَ» والعالمُ: كلُّ موجود سوى الله تعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 156 لمَّا ذكر الدَّلائلُ الدّالة على كمالِ القُدْرَةِ، والحكمة، والرَّحْمَةِ أتبعه بذكر الأعْمَال اللاَّئقةِ بتلك المعارفِ، وهو الاشتغالُ بالدُّعَاءِ والتَّضَرُّع، فقوله: «تَضَرُّعاً وخُفْيةً» نُصِبَ على الحال: أي: متضرعين مُخْفين الدُّعَاءَ ليكون أقْرَبَ إلى الإجَابَةِ. ويجوزُ أن ينتصبا على المصدرِ، أي: دعاءَ تضرّعٍ وخُفْيةٍ. وقرأ أبُو بَكْرٍ: «خِفْية» بكسر الخاء، وقد تقدَّم ذلك في الأنعام إلا أنَّ كلام أبي عليٍّ يُرْشد إلى «خِفْيَةً» بالكسر بمعنى الخَوْفِ، وهذا إنَّما يَتأتَّى على ادِّعاءِ القلْب أي يُعتقد تقدم اللاَّم على العَيْنِ وهو بعيدٌ؛ لأنَّهُ كان يَنْبَغِي أنْ تعود الواو إلى أصلها، وذلك أن «خِفْية» ياؤُهَا عن واو لسكونها وانكسار ما قبلها، [ولمَّا أخِّرَت الواوُ تحرَّكتْ، وسُكِّن ما قبلها،] إلاَّ أن يقال: إنَّهَأ قلبت متْرُوكَةً على حالها. وقرأ الأعمش «وخِيْفة» وهي تؤيِّدُ ما ذكره الفَارِسِيُّ، نقل هذه القراءة عنه أبو حَاتِمٍ. قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} قرأ ابن أبي عَبْلَة «إنَّ اللَّه» أتى بالجلالةِ مكان الضَّميرِ، والمُرَادُ بالتَّضَرُّعِ: التَّذَلُّلُ والاستكانة، وبالخية: السِّرُّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 156 قال الحسنُ: بين دعوة السِّرِّ، ودعوة العلانيةِ سبعون ضعفاً، ولقد كان المُسْلِمُونَ يجتهدون في الدُّعَاءِ، وما يسمع لهم صوت، إلاَّ هَمْساً بينهم وبين ربهم، وذلك أنَّ الله يقول: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} ، وإنَّ الله ذكر عبدهُ زكريا، ورضي فعله فقال: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} [مريم: 3] . وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «دَعْوَةُ السِّرِّ تَعْدِلُ سَبعِيْنَ دَعْوَة في العَلاَنِيَةِ» ، وقال عليه الصَّلاة والسَّلام: «خَيْرُ الذِّكْرِ الخَفِيُّ» وروى أبو موسى الأشعريُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّهُم كانُوا في غزاة فأشْرَفُوا على وادٍ فجعلُوا يكبِّرون ويهلِّلُونَ رَافِعِي أصواتهم، فقال عليه الصَّلاة والسّلام: «ارْبعُوا على أنفُسِكُمْ فإنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ، ولا غَائِباً، إنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعاً قَرِيباً وإنَّهُ لَمَعَكُمْ» واختلفوا في أنَّ الأفضل الدُّعاء خفيةً، أو علانيةً؟ فقيل: الإخفاءُ أفْضَلُ لهذه الآية ولقوله تعالى: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} [مريم: 3] ، ولما تقدَّم، ولأنَّهُ مُصون عن الرياء. وقال آخرون: العانيَةُ أفضلُ؛ لترغيب الغَيْرِ في الاقتداء به. وقال آخرونَ: إن خَافَ على نفسه الرِّيَاءَ؛ فالإخفاءُ أفضلُ وإلاَّ فالعلانية. فصل في بيان شبهة منكري الدعاء من النَّاسِ من أنكر الدُّعاء، واحتج على صحَّة قوله بوجوه: الأول: أنَّ المطلوب بالدُّعاء إن كان معلوم الوقوع، كان واجب الوُقُوع؛ لامتناع وقُوع التَّغير في علم الله تعالى، وما كان واجبَ الوُقُوع لم يكن في طَلَبِهِ فائدةٌ، وإن كان معلومَ اللاوقوع؛ كان ممتنع الوقوع فلا فائدة في طلبه أيضاً. الثاني: أنَّهُ تعالى: إن كان قد أراد في الأزَلِ إحْدَاثَ ذلك الشيء فهو حاصلٌ سواءٌ كان هذا الدُّعَاء أو لم يكن، وإنْ كان أرَادَ في الأزَلِ ألاَّ يعطيه، فهو ممتنعٌ الوقوع، فلا فائِدَةَ في الطَّلَبِ، وإن قلنا: إنَّه ما أراد في الأزَلِ ذلك الشيء لا وجوده ولا عدمه، ثم إنَّهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 157 عند ذلك الدُّعَاءِ صار مُرِيداً له لَزِمَ وقوع التَّغير في ذاتِ الله، وفي صفاته، وهو مُحالٌ. وعلى هذا التقدير يصيرُ إقْدَامُ العبد على الدُّعاء عِلَّةً لحدوث صِفَةٍ في ذات الله - تعالى - فيكون العبد متصرِّفاً في صفة اللَّهِ - تعالى - بالتَّبْديلِ والتَّغْيير، وهو محال. الثالث: أنَّ المَطْلُوبَ بالدُّعاء إن اقتضت الحكمة والمصلحة إعطاءه، فهو تعالى يُعْطِيهِ من غير هذا الدُّعاء؛ لأنَّهُ منزَّهٌ عن أن يكون بَخِيلاً، وإن اقْتَضَتِ الحكمةُ مَنْعَهُ فهو لا يطعيه سواء أقْدَمَ العَبْدُ على الدُّعَاءِ، أو لم يُقْدِم عليه. الرابع: أنَّ الدُّعَاءَ غير الأمر، ولا تَفَاوُتَ بين البَابَيْنِ إلا كون الدَّاعي أقَلَّ رتبةْ، وكون الآمر أعلى رُتْبَةً، وإقدام العبد على أمر الله سُوءُ أدَبٍ وإنه لا يجوز. الخامس: الدُّعَاءُ يُشْبِهُ ما إذا أقْدَمَ العَبْدُ على إرشاد ربِّه وإلهه إلى فعل الأصْلَح والأصْوَبِ، وذلك سوءٌ أدبٍ، أو أنَّهُ ينبه الإله على شيءٍ ما كان منتبهاً له، وذلك كُفْرٌ، وأنَّ اللَّه عالى قصَّرَ في الإحسان والفَضْلِ، وذلك جهلٌ. السادس: أنَّ الإقدام على الدُّعاء يدلُ على كون العَبْدِ غير راضٍ بالقضاءِ، إذْ لو رَضِيَ بما قضاه اللَّهُ عليه لترك تصرّفَ نفسه، ولما طلب من الله شيئاً على التَّعيين، وترك الرِّضَا بالقضاء من المنكرات. السابع: روي أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام قال حَاكياً عن اللَّهِ - تعالى - «مَنْ شَغَلَهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألَتِي أعْطَيْتُهُ أفْضَلَ ما أُعْطي السَّائلينَ» وذلك يدلُّ على أنَّ الأوْلَى ترك الدُّعَاءِ. الثامن: أنَّ علم الله - تعالى - محيطٌ بحاجة العبد، والعبدُ غذا علم أن مَوْلاَهُ عالم باحتياجه فَسَكَتَ ولم يذكر تلك الحاجة، كان ذلك أدْخَلَ في الأدَبِ، وفي تعظيم المولى، ممَّا إذَا أخذ يشرح كيفيَّة تلك الحاجةِ، وإذا كان الحالُ على هذا الوجْه في الشاهد؛ وجَبَ اعتبار مثله في حقِّ الله - تعالى -، وكذلك نُقل أن الخليل - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لمَّا وضع في المَنْجَنيقِ للرّمي إلى النَّارِ قال له جبريلُ - عليه السَّلامُ - «ادْعُ ربَّكَ» ، فقال الخليل - عليه السَّلام -: «حسبي من سؤالي علمه بحالي» . والجوابُ: أنَّ الدُّعَاءَ نوعٌ من أنواع العبادةِ، والأسئلةُ المذكورة واردة في جميع أنواع العباداتِ، فإنَّهُ يقال: إن كان هذا الإنسان سعيداً في علم الله فلا حاجة إلى الطَّاعات والعبادات، وإن كان شقِيّاً في علمه؛ فلا فائدة في تلك العبادات، ويجبُ أيضاً ألاَّ يُقْدِمَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 158 الإنسانُ على أكل الخُبْزِ، وشرب الماء؛ لأنَّهُ إن كان شبعاناً في علم اللَّه فلا حاجة إلى أكل الخبز، وإن كان جَائِعاً فلا فائدة في أكل الخبز، وكما أنَّ هذا الكلامَ باطلٌ؛ فكذا فيما ذكروه، بل نقول: المقصودُ من الدُّعَاءِ معرفةُ ذلَّةِ العبوديَّة، ومعرفة عزِّ الرُّبوبيَّةِ، وهذا هو المقصودُ الأعلى من جميع العِبَادَاتِ؛ لأنَّ الدَّاعِي لا يقدم على الدُّعَاءِ إلا إذا عرف من نفسه كَوْنَهُ محتاجاً إلى ذلك المَطْلُوب، وكونه عَاجِزاً عن تحصيله، وعرف من ربِّه، وإلهه أنَّهُ يسمعُ دُعَاءهُ، ويعلم حاجته، وهو قادرٌ على دفع تلك الحاجة، فإذَا كان الدُّعَاءُ مستجمعاً لهذين المقامين كان الدُّعَاءُ أعظم العِباداتِ، ولهذا قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «الدُّعَاءُ مُخُّ العِبَادةِ» قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين} أجمع المُسْلِمُونَ على أنَّ المحبة صفة من صفات اللَّه - تعالى - واتَّفَقُوا على أن ليس معناها شهوة النفس وميل الطَّبْعِ، وطلب التَّلَذُّذِ بالشَّيء؛ لأنَّ كل ذلك في حقِّ الله - تعالى - محالٌ، واختلفوا في تفسير المحبَّة في حقِّ الله - تعالى - فقيل: هي عبارة عن إيصال الثَّوابِ، والخير إلى العبد، والمراد ب «المُعْتَدينَ» المجاوزين ما أمِرُوا به. قال الكلبيُّ وابن جريج: من الاعتداء رَفْعُ الصَّوتِ في الدُّعَاءِ. وقال أبُو مِجْلَزٍ: هم الذين يسألون منازل الأنْبِيَاءِ - عليهم الصلاة والسلام -. روي أنَّ عبدَ الله بْنَ مُغفَّل سمع ابنه يقول: اللَّهُمَّ إني أسألك القَصْرَ الأبْيَضَ عن يمين الجَنَّةِ إذا دخلتها فقال: يا بني سل اللَّه الجَنَّةَ، وتعوَّذ به من النَّارِ، فإنِّي سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: سَيَكُونَ فِي هَذِهِ الأمَّةِ قَوْمٌ يَعْتَدُونَ في الظُّهُورِ والدُّعَاءِ. وقال عَطِيَّةُ: هم الَّذين يدعون على المُؤمنينَ، فيما لا يحل فيقولون: «اللَّهُمَّ أخْزِهم اللَّهُمَّ الْعَنْهُم» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 159 يدخل فيه المنع من إفْسَادِ النُّفُوسِ بالقَتْلِ، وقطع الأعضاء، [وإفساد الأموال بالنَّهْبِ، والغصب، والسَّرِقَةِ، ووجوه الحيل وإفساد الأديان بالكفر والبِدَع] وإفساد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 159 الإنسانِ بالزِّنَا واللِّواط والقَذْفِ، وإفساد العقول بشرب المُنْكَرَاتِ، فهذا النَّهْيُ يقتضي مَنْعَ إدخال ماهيَّة الفَسَادِ في الوُجُودِ بجميع أنْواعِهِ وأصنافه. وقوله: «بَعْدَ إصلاحِهَا» يحتمل أنْ يكون المرادُ بعد أن صح خلقها على الوَجْهِ المطابق لمنافع الخَلْقِ، ويحتمل أنْ يكون المرادُ بعد إصلاح الأرْضِ ببعثة الرُّسُلِ، وإنزال الكُتُبِ، وتفصيل الشَّرَائِع. قوله: {وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً} . هذانِ حالانِ، أي: ادْعُوهُ ذُوُو خَوْفٍ وطَمَعٍ، أو خَائِفِينَ طامعين، أو مَفْعُولان من أجلهما، أي: لأجْلِ الخوفِ والطَّمَعِ. فإن قيل: قد قال في الآية الأولى: «ادْعُوا رَبَّكُمْ» ، ثم قال هاهنا: «وَادْعُوهُ» ، وهذا يقتضي عَطْفَ الشَّيْءِ على نفسه، وهو باطل. والجوابُ: أنَّ الَّذينَ فسروا قوله: «ادْعُوا رَبَّكُمْ» بأنَّ المرادَ به العِبادَة، قالوا: المُرَادُ بهذا الدُّعَاء الثَّانِي هو الدُّعَاءُ نفسه. وأمّا الذين قالوا: المرادُ بقوله: «ادْعُوا رَبَّكُمْ» هو الدُّعَاءُ قالوا: المراد بهذا الدُّعَاءِ أن يكون الدُّعَاءُ المأمور به أوَّلاً مقروناً بالتَّضَرُّع، والأخْفَاءِ، ثم بيَّن هاهنا أنَّ فائدةَ الدُّعَاءِ أحد هذين الأمرين. فالأولى في بيان شَرْطِ صحَّةِ الدُّعاء. والثانية في بيان فَائِدِةِ الدُّعَاءِ ومنفعته. قوله: {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ} إنَّمَا لم يُؤنِّثْهَا وإن كانت خبراً لمؤنث لوجوه: منها أنَّهَا في معنى الغُفْرَانِ والعفو والإنعامِ، فحُمِلت عليه، قاله النَّضْرُ بْنُ شُمَيْل واختاره الزَّجَّاجُ. قال سعيدُ بْنُ جُبَيْر: الرَّحْمَةُ هاهنا الثَّوَابُ فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ كقوله: {وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم مِّنْهُ} [النساء: 8] ولم يقل: «مِنْهَا» ؛ لأنَّهُ أراد الميراث والمال. ومنها أنها صفة لموصوف مذكَّرٍ حذف، وبقيت صِفَتُهُ، والتَّقديرُ: إنَّ رحمة الله شيءٌ قريبٌ. ومنها: أنها في معنى العفو أو المطر، أو الرحم. ومنها: أنَّهَا على النَّسب كحائضِ ولابنٍ وتامرٍ، أي: ذات حيض. ومنها: تشبيه فعيل بمعنى فاعل بِفَعيلٍ بمعنى مفعول، فيستوي فيه المُذَكَّر والمؤنَّث الجزء: 9 ¦ الصفحة: 160 كجريح، كما حُمِلَ هذا عليه حيثُ قالوا: أسير وأسَرَاءُ، وقبيل وقُبَلاء حَملاً على رَحِيمٍ ورحماء، وعليهم وعُلَمَاء، وحكيم وحُكماء. [ومنها: أنَّه] مصدر [جاء على فعيل كالنَّعيق وهو صَوْت الضِّفْدَع، والضغيب وهو صَوْتُ الأرنب وإذا كان مَصْدراً] لَزِمَ الإفراد والتذكير. ومنها: انَّهَا بمعنى مَفْعُولٍ أي مُقَرَّبة، قاله الكَرْمَانِيُّ، وليس بجيد؛ لأنَّ فعيلاً بمعنى مفعول لا يَنْقَاسُ، وعلى تقدير اقتياسه فإنَّمَا يكونُ من الثُّلاثِي المجرَّد، لا من المزيدِ فيه، ومُقَرَّبة من المزيد فيه. ومنها: أنَّهَا من باب المُؤنَّث المجازي، فلذلك جاز التَّذكير كطلع الشَّمس. قال بعضهم: وهو غَيْرُ جَيِّدٍ؛ لأنَّ ذلك حيث كان الفعل متقدَّماً نحو: طلع الشَّمس، أمَّا إذا تأخَّر وجب التَّأنيثُ، إلا في ضرورة شِعْرٍ كقوله: [المتقارب] 2487 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وَلاَ أرْضَ أبْقَلَ إبْقَالَهَا قال شهابُ الدِّين: «وهذا يجيءُ على مذهب ابن كَيْسَان، فإنَّهُ لا يَقْصُر ذلك على ضرورة الشِّعر، بل يجيزه في السَّعَةِ» . وقال الفرَّاءُ: قريبةٌ وبعيدةٌ: إمَّا أن يُراد بها النَّسَبُ وعدمُه، فتؤنِّثها العرب ليس إلاَّ فيقولون: فلانٌ قريبة مني في النَّسَبِ، وبعيدةٌ مني أي في النَّسَبِ، أمَّا إذا أُريدَ القُرْب في المكان، فإنَّهُ يجوزُ الوجهان؛ لأنَّ قريباً وبعيداً قائم مقام المكان فتقولُ: فلانة قريبة وقريبٌ، وبعيدة وبعيد. التَّقديرُ: هي في مكان قَريبٍ وبعيد؛ وأنشد: [الطويل] 2488 - عَشِيَّةَ لا عَفْرَاءُ مِنْكَ قَرِيبَةٌ ... فَتَدْنُوا ولا عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعِيدُ فجَمَعَ بين اللُّغَتَيْنِ إلا أنَّ الزَّجَّاج ردّ على الفرَّاءِ قوله وقال: «هذا خطأ؛ لأنَّ سبيل المذكر والمؤنث أنْ يجريا على أفعالهما» . قال شِهَابُ الدِّين: وقد كَثُرَ في شِعْرِ العرب مجيءُ هذه اللَّفظة مُذكَّرة، وهي صِفَةٌ لمُؤنَّثٍ. قال امْرُؤ القَيْسِ: [الطويل] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 161 2489 - لَهُ الوَيْلُ إنْ أمْسَى وَلاَ أمُّ سَالِمٍ ... قَرِيبٌ ولا البَسْبَاسَةُ ابْنَةُ يَشْكُرَا وفي القرآن: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً} [الأحزاب: 63] . وقال أبو عبيدة: «قَرِيبٌ في الآية ليس وَصْفاً لها، إنَّمَا هو ظَرْفٌ لها وموضع، فيجيءُ هكذا في المُفْرَد والمثنى والجمع، فإن أُرِيدَ بها الصِّفَةُ؛ وَجَبَ المُطابَقَةُ، ومثلُها لفظة بعيد أيضاً» إلاّ أنَّ عليَّ بْنَ سُلَيْمَانَ الأخفشَ خطَّأهُ قال: «لأنَّهُ لو كانت ظَرْفاً لانتصب كقولك:» إنَّ زَيْداً قريباً منك «وهذا ليس بِخَطَأ، لأنَّهُ يجوز أن يتَّسعَ في الظَّرْفِ، فيعطى حكم الأسماء الصَّريحةِ فتقُولُ: زيد أمامك وعمرو خلفُك برفع أمام وخلف، وقد نصَّ النُّحَاةُ على أنَّ نحو:» [أن قريباً] منك زيد «أن» قريباً «اسم» إنّ «، و» زيدٌ «خبرها، وذلك على الاتِّسَاع» . و «مِنَ المُحْسِنِينَ» متعلِّقٌ ب «قَرِيبٍ» ، ومعنى هذا القرب هو أنَّ الإنسان يَزْدَادُ في كلِّ لَحْظَةٍ قرباً من الآخرة وبعداً من الدُّنْيَا، فإنَّ الدُّنْيَا كالماضي والآخرة كالمستقبل، والإنسانُ في كلِّ ساعة لحظة يَزْدَادُ بعداً عن الماضي، وقرباً من المُسْتَقْبَل. قال الشِّاعِرُ: [الطويل] 2490 - فَلاَ زَالَ ما تَهْوَاهُ أقْرَبَ مِنْ غَدٍ ... وَلاَ زَالَ مَا تَخْشَاهُ أبْعَدَ مِنْ أمْسِ ولمَّا كانت الدُّنْيَا تزداد بعداً في كلِّ سَاعَةٍ، والآخرة تزداد قُرْباً في كلِّ سَاعَةٍ، وثبت أنَّ رحمة الله إنَّمَا تحصلُ بعد الموت، لا جرم قال الله - تعالى -: {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} . فصل في دحض شبهة للمعتزلة قالت المعتزلةُ: العَفْوُ عن العذابِ رَحْمَةٌ، والتَّخلُّصُ من النَّارِ بعد الدُّخول فيها رَحْمَةٌ [فوجب ألا يحصل ذلك لمن لم يكن من المحسنين والعصاة وأصحاب الكبائر ليسوا من المحسنين] فوجب ألاَّ يحصل لهم العفوُ عن العقاب والخلاص من النَّارِ. والجوابُ: أنَّ من آمن بالله وأقرّ بالتَّوْحيدِ والنُّبوَّةِ، فقد أحْسَنَ بدليل أن الصَّبِيَّ إذا بلغ وقت الضَّحْوَةِ، وآمن بالله ورسوله ومات قبل الوصول إلى الظهر فقد اجتمعت الأمَّةُ على أنَّهُ دخل تحت قوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} [يونس: 26] وهذا لم يَأتِ بِشَيْءِ من الطَّاعات سوى المعرفة والإقْرَارِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 162 في كيفيَّة النَّظْمِ وجهان: الأولُ: أنه تعالى لمّا ذكر دَلاَئِلَ الإلهيَّةِ، وكمال العلم والقدرة من العالم العلويّ، وهو السَّموات والشَّمْسُ، والقمر، والنُّجُوم، أتبعه بذكر الدَّلائل من أحوال العَالمِ السُّفْلِيّ. واعلم أنَّ أحوال هذا العالم محصورةٌ في أمور أربعة: الآثار العُلْويَّة، والمعادن، والنَّبَات، والحيوان، ومن جملة الآثار العلويَّة: الرياحُ السَّحَابُ والأمطار، ويترتب على نزول الأمطار أحوال النَّبَات، وهو المذكور في هذه الآية. الثاني: أنَّهُ تعالى لمَّا أقاَمَ الدَّلالة في الآية الأولى على وجود الإله القادِرِ العالم الحكيم؛ أقَامَ الدَّلالة في هذه الآية على صِحَّةِ القول بالحشر، والنَّشْرِ، والبعث، والقيامة ليحصلَ بمعرفة هايتن الآيتين كلُّ ما يحتاج إليه في معرفة المَبْدَأ والمعاد. قوله: «الرِّيَاح بُشْراً» قد تقدَّم خلاف القرَّاءِ في إفراد «الرِّيحِ» وجمعها بالنِّسْبَة إلى سائر السُّور في البقرة. وأمّا «بُشْراً» فقأه في هذه السّورة - وحيث ورد في غيرها من السُّورِ - نافع وأبو عمرو وابن كثير بضم النون والشِّين، وهي قراءة الحسنِ وأبي عَبْدِ الرَّحْمنِ، وأبي رجاء بخلاف عنهم، وشَيْبَةَ بْن نصَاحٍ وعيسَى بْنِ عُمر وأبِي يحيى، وأبي نَوْفَلٍ الأعْرَابيَّيْنِ. وفي هذه القراءة وجهان فيتحصَّلَ فيها ستَّةُ أوْجُه: أحدها: أن «نُشُراً» جمع نَاشِرٍ ك «بازل» و «بُزُلٍ» و «شَارِفٍ» و «شُرُفٍ» وهو جمع شاذٌّ في فاعل. ثم «نَاشِرٌ» هذا اختلف في معناه فقيل: هو على النَّسَبِ: إمَّا إلى النِّشْر ضدَّ الطيِّ، وإمَّا إلى النُّشُورِ بمعنى الإحياء كقوله: {وَإِلَيْهِ النشور} [الملك: 25] ، والمعنى: ذا نَشْرٍ، أو نشورٍ ك «لابنٍ» و «تَامِرٍ» . وقيل: هو فاعل من نَشَرَ مطاوع أنْشَرَ يُقال: أنْشَرَ اللَّهُ الميِّتَ، فَنَشَرَ فهو نَاشِرٌ، وأنشد: [السريع] 2491 - حَتَّى يَقُولَ النَّاسُ مِمَّا رَأوْا ... يَا عَجباً لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 163 وقيل: ناشرٌ بمعنى مُنِشِرٌ أي: المُحْيي تقول: نَشَرَ اللَّهُ الموتى وأنْشَرَهَا، ففعل وأفْعل على هذا بمعنى واحد، وهذه الثَّالِثَةُ ضعيفة. الوجه الثاني: أنَّ نُشُراً نَشُور، وهذا فيه احتمالان: أرجحهما: أنَّهُ بمعنى فاعل، وفعول بمعنى فاعِل ينقاس جمعُه على فُعُل كصَبُور، وصُبُر، وشكور، وشُكُر أي متفرقة، وهي الرِّيَاحُ التي تأتي من كل ناحية والنّشر التفريق، ومنه نَشْرُ الثَّوْبِ، ونشر الخَشَبةِ بالمِنْشَارِ. وقال الفراءُ: «النَّشْرُ من الرِّيح الطيِّبة اللينَةِ التي تنشىء السَّحاب، واحدها نُشُورٌ، وأصله من النَّشْرِ وهو الرَّائِحَةُ الطيِّبَةُ. والثاني: أنَّهُ بمعنى مفعول كَرَكُوبٍ وحلوب بمعنى مَرْكوب ومَحْلُوبٍ قالوا: لأنَّ الرِّيح تُوْصَفُ بالمَوْتِ وتوصفُ بالإحياء فمن الأوَّل قوله: [الرجز] 2492 - إنِّي لأرْجُو أنْ تمُوتَ الرِّيحُ ... فأقْعُدُ اليَوْمَ وأسْتَرِيحُ ومن الثاني قوله:» أنْشَر الله الرِّيحَ وأحْيَاهَا «وفعول بمعنى مفعول يُجْمع على فُعُل كرسول ورُسُلٍ. وبهذا قال جماعةٌ كثيرةٌ، إلا أنَّ ذلك غير مقيس في المُفْرَدِ وفي الجمع، أعني أنه لا يَنْقَاسُ فعول بمعنى مفعول لا تقُولُ: زيد ضروب ولا قتول بمعنى مضروب ومقتول، ولا ينقاسُ أيضاً جمع فَعُول بمعنى مفعول على فُعُل. فَحَصَلَ في هذه القراءة ستَّة أوْجُهٍ: الأول: أنَّها جمع لناشرٍ بمعنى: ذا نشر ضدَّ الطيِّ. الثاني: جمع ناشِرُ بمعنى: ذي نشور. الرابع: جمع ناشر بمعنى مُنْشِرٍ. الخامس: جمع نُشورٍ بمعنى: فاعلٍ. السادس: جمع نُشورٍ بمعنى: مَفْعول. وقرأ ابن عامر بضمِّ النُّون وسكون الشين، وهي قراءة ابن عبَّاس، وِزرِّ بين حُبَيْشٍ، ويحيى بن وثَّابٍ، والنَخَعيِّ وابن مصرف، والأعمش، ومَسْرُوقٍ، وتخريجها بما ذكر في القراءة قبلها، فإنَّهَا مخفَّفة منها، كما قالوا: رُسْل في رُسُل وكُتْب في كُتُب، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 164 فَسكّنوا الضمَّة تخفيفاً، وإذا كَانُوا قد فعلوا ذلك في المفرد، الذي هو أخفُّ من الجَمْعِ كقولهم في عُنُقٍ: عُنْقٌ، وفي طُنُبٍ: طُنْبٌ، فما بالهم في الجمع الذي هو أثقل من المفرد؟ وقرأ الأخوان: «نَشْراً» بفتح النُّونِ وسكون الشِّين، ووجهها أنَّهَا مَصْدَرٌ واقع موقع الحَالِ بمعنى ناشرة، أو منشورة، أو ذاتُ نَشْرٍ [كُلُّ ذلك على ما تقدَّم في نظيره. وقيل: نَشْراً مصدر مؤكِّد؛ لأنَّ أرسل، وأنْشَرَ متقاربان. وقيل: نَشْراً] مصدر على حذف الزَّوائد أي: إنشاراً، وهو واقع موقع الحال أي: مُنْشِراً، أو مُنْشَراً حسب ما تقدَّم في ذلك. وقرأ عَاصِمٌ: «بُشْراً» بالبَاءِ الموحَّدَةِ مضمومة وسكون الشِّين، وهو جمع بشيرة كنذيرة ونُذُر. وقيل: جمع فعيل كَقَلِيبٍ وقُلُب ورغيب ورُغُف، وهي مأخوذةٌ في المعنى من قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] أي تبشّرُ بالمطر، ثم خفِّفت الضَّمَّةُ كما تقدَّم في «النُّشُر» ، ويؤيِّدُ ذلك أنَّ ابن عباس والسُّلمي وابن أبي عبلة قرأوا بضمِّهَا، وهي مرويَّة عن عاصم نفسه فهذه أرْبَعُ قراءات في السَّبْع. والخامسة: ما ذكرناه عن ابن عباس ومن معه. وقرأ مسورق: «نَشَراً» بفتح النُّونِ ولاشِّين وفيها تخريجان: أحدهما: نقله أبُو الفتحِ: أنَّهُ اسم جمعٍ ك «غَيَب» وَ «نشأ» لغائبة وناشئَةٍ. والثاني: أنَّ فَعَلاً بمعنى مفعول كَقَبَضَ بمعنى مَقْبُوضٍ. وقرأ أبُو عبد الرحمن: «بَشْراً» بفتح الباء وسكون الشِّين ورُويت عن عاصم أيضاً على أنه مصدر «بَشَر» ثلاثياً. وقرأ ابن السَّمَيْفَع: «بُشْرى» بزنة رُجْعَى، وهو مصدر أيضاً، فهذه ثَمَان قِراءاتٍ: أربع مع النُّونِ، وأربع مع الباء، هذا ما يتعلَّقُ بالقراءات، وما هي بالنِّسْبَةِ إلى كونها مفردة أو جمعاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 165 وأمَّا نَصْبُها فإنَّها في قراءة نَافِعٍ، ومن معه وابن عامر منصوبة على الحال من «الرِّياح» أو «الرِّيح» حسب ما تقدَّم من الخلاف وكذلك هي في قراءة عَاصِمٍ، وما يشبهها. وأمَّا في قراءة الأخوين، ومسروق فيحتمل المصدريَّة، أو الحاليَّة، وكلُّ هذا واضح، وكذلك قراءة «بُشْرَى» بزنة رجعى ولا بدَّ من التَّعرُّض لشيء آخر، وهو أنَّ من قرأ «الرِّياح» بالجمع وقرأ «نُشْراً» جمعاً كنافع، وأبي عمرو فواضح. وأما من أفرد «الرِّيح» وجمع «نُشْراً» كابن كثير، فإنَّهُ يجعل الرِّيح اسم جنس، فهي جمع في المَعْنَى، فوصفها بالجمع كقول عنترة: [الكامل] 2493 - فيهَا اثْنَتَانِ وأرْبَعُونَ حَلُوبَةً ... سُوداً كخَافِيَةِ الغُرَابِ الأسْحَمِ والحاليَّةُ في بعض الصُّوَرِ يجوز أن تكون من فاعل «يُرْسلُ» ، أو مفعوله وكلُّ هذا يُعْرف مما تقدم. فصل روى أبو هريرة قال: أخذتِ النَّاس ريحٌ بطريق مكَّةَ، وعمر حاجٌّ فاشتدت، فقال عُمَرُ، لمن حوله: ما بلغكم في الرِّيح فلم يرجعوا إليه شيئاً، فبلغني الذي سأل عمر عنه من أمر الريح، فاستحثثتُ راحلتي حتى أدْرَكْتُ عمر، فكنت في مُؤخَّر النَّاس، فقلتُ: يا أمير المؤمنين: أخبرتُ أنَّكَ سألت عن الرِّيحِ، إنِّي سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولُ: الرِّيحُ من روح الله، تأتِي بالرَّحْمَةِ وتَأتِي بالعذابِ، فلا تَسبُّوهَا، وسلُوا الله من خَيْرِهَا، وتعوَّذُوا به من شرِّها. فصل في ماهية الريح. قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الرِّيحُ: هواء متحرك، وكونه متحرِّكاً ليس لذاته، ولا للوازم ذاته، وإلا لدامت الحركة بدوام ذاته، فلا بدَّ وأن يكون بتحريك الفاعل المختار وهو الله تعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 166 وقالت الفلاسفةُ: هاهنا سَبَبٌ آخَرُ، وهو أنَّهُ يرتفعُ من الأرضِ أجزاءٌ أرضيَّةٌ لطيفةٌ، تسخنه تَسْخِيناً فبسبب تلك السُّخُونَةِ الشَّديدة ترتفعُ وتتصاعَدُ، فإذا قربت من الفلك، كان الهواءُ ألْصَقَ بمقعرِ الفلكِ، مُتحرِّكاً على استدارة الفلكِ بالحركةِ المستديرةِ التي حَصَلَتْ لتلك الطبقة من الهواءِ، فيمنع هذه الأدْخِنَة من الصُّعُودِ، بل يردها عن سمتِ حركتِهَا، فحينئذٍ ترجعُ تلك الأدْخِنَةُ، وتتفرق في الجوانبِ، وبسبب ذلك التَّفَرُّق تحصلُ الرِّيَاحُ ثمَّ كلما كانت تلك الأدْخِنَةُ أكثر، كان صعودها أقْوَى، وكان رجوعها أشدَّ حركةً، فكانت الرِّياحُ أقْوَى وأشَدّ، هذا حاصلُ ما ذَكَرُوهُ، وهو بَاطِلٌ لوجوهٍ: الأول: أنَّ صعُودَ الأجْزَاء الأرضيَّةِ إنَّمَا يكون لشدَّةِ تسخينها وذلك التسخينُ عَرَضٌ؛ لأنَّ الأرْضَ باردةٌ يابسة بالطَّبْعِ، فإذا كانت الأجزاءُ الأرضيَّةُ متصَعِّدَة جداً كانت سريعة الانفصار فإذا تَصَاعَدَتْ ووصلت إلى الطِّبَقَةِ الباردة من الهواء؛ امتنع بقاءُ الحرارةِ فيها، بل تبرد جداً؛ امتنع بلوغها في الصُّعُود إلى الطبقةِ الهوائيَّةِ المتحركة بحركة الفلكِ فَبَطَلَ ما ذكروه. الثاني: إذا ثَبَتَ أنَّ تلك الأجزاء الدُّخانيَّة، صعدتْ إلى الطَّبقة الهوائيَّةِ المتحرّكَةِ بحركة الفلكِ، لكنها لمّا رَجَعَتْ، وجب أن تنزل على الاسْتِقَامَةِ، لأنّ الأرْضَ جسم ثقيلٌ، والثَّقِيلُ إنام يتحرك بالاستقامَةِ، والرِّيَاحُ ليست كذلِكَ، فإنَّهَا تتحرك يُمْنةٌ ويُسْرَةٌ. الثالث: أنَّ حركة تلك الأجزاء الأرضيَّةِ النَّازلة لا تكونُ حركة قاهرةً، فإنَّ الرِّياح إذا أحضرت الغُبَارَ الكَثِيرَ، وعاد ذلك الغُبَارُ ونزل على السُّطُوحِ، لم يحسَّ أحَدٌ بنزولها ونرى هذه الرِّياح تقلعُ الأشْجَارَ، وتهدمُ [الجِبَالَ] ، وتموجُ البِحَارَ. الرابع: لو كانَ الأمرُ على ما قالوهُ لكانت الرِّياحُ كلَّما كانت أشَدَّ وجب أنْ يكون حُصُولُ الأجزاء الغباريَّةِ الأرضيَّةِ أكثر، لكنَّهُ ليس الأمر كذلِكَ؛ لأنَّ الرِّيَاحَ قد يعظم عصوفها وهبوبها في وجه البَحْرِ، مع أن الحِسَّ يشهدُ بأنَّهُ ليس في ذلك الهواء العَاصفِ شيء من الغبارِ والكدورة، فبطل بهذه الوجوه العقليَّةِ ما ذكروه في حركةِ الرِّياحِ. وقال المُنَجِّمُونَ: إن قوى الكَواكبِ هي الَّتي تحرك هذه الرِّياح، وتوجبُ هبوبَها، وذلِكَ أيضاً بعيد؛ لأنَّ الموجب لحركةِ الرِّياح إن كانت طَبِيعةُ الكواكبِ؛ وجب دوامُ الرِّياح بدوام تلك الطبيعة، وإن كان الموجبُ هو طبيعةُ الكواكبِ بشرط حصوله في البُرْجِ المُعَيَّنِ، أو الدَّرجةِ المعيَّنَةِ؛ وجب أن يتحرك هواء كل العالم، وليس كذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 167 وأيضاً قد ثبت في العقليَّاتِ أنَّ الأجْسامَ مُتَمَاثِلَةٌ، فاختصاص الكوكب المعين والبرج المعيَّنِ بالطَّبيعة التي اقتضت ذلك الأثر لا بد وأن تكون بتخصيص الفاعلِ المُخْتَارِ، فثبتَ بهذا البرهان العقليِّ أنَّ محرك الرِّياح هو الله - سبحانه وتعالى - وأيضاً فقوله تعالى: «نشراً» أي مُنَشَّرَةً متفرقةً، فجزء من أجزاء الريح يذهب يُمَنْةً، وجزء آخرُ يذهبُ يُسْرَةً، وكذا سَائِرُ أجزاء الرِّياحِ، كلُّ واحد منها يَذْهَبُ إلى جانب آخر، ولا شكَّ أنَّ طبيعة الهواءِ طبيعةٌ واحدةٌ، ونسبة الأفلاكِ والانْجُم والطَّبائع إلى كلِّ واحدٍ من الأجَزْاءْ التي لا تتجزَّأ من تلك الريح نسبة واحدة، فاختصاصُ بعضِ أجْزَاءِ الرِّيح بالذَّهَابِ يمنةً، والجزءُ الآخر بالذَّهَابِ يًسْرَةً يجبُ أن يكُون ذلك بتخصيص الفاعل المُخْتَارِ. قوله: «بَيْنَ» : ظَرْفٌ ل «يُرْسِلُ» ، أو للبشارة فيمن قرأه كذلك. وقوله: {بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ} أي بين يدي المَطَرِ الذي هو رحمته، وحسنُ هذا المجاز أنَّ اليدين تستعملهما العربُ في معنى التقدُمَةِ على سبيل المجاز؛ يقال إن الفتن تحدثُ بين يدي السَّاعةِ يريدونَ قبلها، وذلك لأنَّ يدي الإنسان مُتَقَدِّمَانِهِ، فكل ما يتقَدَّمُ شيئاً يطلق عليه لفظ اليَدَيْنِ مجازاً لهذه المشابَهَةِ، كما تقولُ لمن أحسن إليك وتقدَّم إحسانه، له عندي أيادٍ، ولما كانت الرِّيَاحُ تتقدَّمُ المطر عَبَّرَ عنه بهذا اللفظ. فإن قيل: قد نجد المطرَ لا يتقدَّمُهُ ريَاحٌ، فنقول: ليس في الآية أنَّ هذا التَّقدُّمَ حاصل في كلِّ الأحوال، وأيضاً يجوز أن تتقدَّمَهُ هذه الرِّياحُ وإن كنَّا لا نعرفها. قوله: {حتى إِذَآ أَقَلَّتْ} غاية لقوله: «يُرْسِلُ» ، وأقلَّت أي حملت من أقْلَلْتُ كذا أي: حملته بسهُولَةٍ. قال صاحبُ «الكشَّافِ:» واشتقاقُ الإقلال من القلَّةِ، فإن مَنْ يرفعُ شيئاً فإنَّهُ يرى ما يرفعه قليلاً، أقلَّهُ أي حمله بِسُهُولَةٍ، والقُلَّةُ بضمِّ القافِ هو الظَّرْفُ المعروف وقِلال هَجَرٍ كذلك؛ لأنَّ البعيرَ يُقِلُّها أي يحملها. وتقدَّم تفسير «السَّحابِ» ، وأنَّهُ يُذكَّر ويؤنَّثُ، ولذلك عاد الضَّميرُ عليه مُذَكَّراً في قوله: «سُقْنَاهُ» . ولو حمل على المعنى كما حمل قوله «ثِقَالاً» فجُمِعُ لقال: «سُقْنَاهَا» . و «لِبَلَدٍ» جعل الزَّمَخْشَرِيُّ «اللاَّم» للعلَّةِ، أي: لأجل. وقال أبُو حيَّان: فرقٌ بين قولك: سقتُ له مالاً، وسُقْتُ لأجله مالاً، بأنَّ سُقْتُ له أوْصَلْتُ إليه، وأبْلَغْتَهُ إيَّاهُ، بخلاف سُقْتُهُ لأجْلِهِ، فإنَّهُ لا يلزمُ منه إلاَّ إيصاله له، فقد يسوق المال لغير لأجلي، وهو واضح. وقيلك هذه اللامُ بمعنى «إلى» ، يقال: هَدَيْتُهُ للدِّين، أو إلى الدِّين. وتقدَّم الخلافُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 168 في تخفيف «مَيِّتٍ» وتثقيله في آل عمران وجاء هنا وفي الروم [46] {يُرْسِلُ} بلفظ المستقبل مناسبة لما قبله، فإنَّ قبله: «ادْعُوهُ خَوْفاً» وهو مستقبلَ، وفي الروم [45] : {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ} ، وهو مستقبل. وأمَّا في الفرقان: [48] وفاطر [9] فجاء بلفظ الماضي: «أرْسَلَ» لمناسبة ما قَبْلَهُ وما بعدهُ في المضي؛ لأنَّ قبله: {أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} [الفرقان: 45] ، وبعده: {مَرَجَ البحرين} [الفرقان: 53] ، فناسب ذلك الماضي، ذكره الكَرْمَانِيُّ. والبلد يطلق على كلِّ جُزْءٍ من الأرْضِ، عامِراً كان، أو خراباً، وأنشدوا على ذلك قول الأعشى: [البسيط] 2494 - وَبَلْدَةٍ مِثْلِ ظَهْرِ التُّرْسِ مُوحِشَةٍ ... لِلجِنِّ باللَّيْلِ في حَافَاتِهَا زَجَلُ قوله: «فَأنْزَلْنَا بِهِ» الضَّميرُ في «به» يعود على أقرب مذكورٍ، وهو «بَلَدٍ مَيّتٍ» ، وعلى هذا فلا بدَّ من أن تكون الباء ظرفيّة، بمعنى أنزلنا في ذلك البلدِ الميِّتِ الماء، وجعل أبُو حيّان هذا هو الظَّاهِرُ. وقيل: الضَّميرُ يعود على «السَّحَابِ» ، ثم في «البَاءِ» وجهان: أحدهما: هي بمعنى «مِنْ» أي: فأنزلنا من السَّحَابِ الماء. والثاني: أنَّهَا سببيَّةٌ أي: فأنزلنا الماء بسبب السَّحَابِ. وقيل: يعودُ على السَّوْقِ المفعوم من الفعل و «الباءُ» سببية أيضاً [أي] : فأنزلنا بسبب سَوْقِ السَّحابِ، وهو ضعيفٌ لعَوْد الضَّمير على غير مذكور مع إمكان عَوْدِهِ على مذكُورٍ. قوله: «فَأخْرَجْنَا بِهِ» الخلافُ في هذه الآيةِ كالَّذِي في قبلها، ونزيد عليه وجهاً أحْسَنَ منها، وهو العودُ على الماء، ولا ينبغي أن يُعْدَلَ عنه. وقوله: {مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ} «من» تبعيضية، أو ابتدائية، وقد تقدم نظيره. فصل اعلم أنَّ السَّحَابَ للمياه العظيمةِ إنما يبقى معلقاً في الهواء؛ لأنَّهُ تعالى دبَّر بحكمته أن يحرِّكَ الرِّياح تحركاً شديداً، فلأجل الحركاتِ الشَّديدةِ التي في تلك الرياح تحصل فوائد. أحدها: أنَّ أجزاء السَّحابِ ينضمُّ بعضها إلى بعض ويتراكم وينعقدُ السَّحابُ الكثيرُ المَاطِرُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 169 وثانيها: أنَّ بسبب حركات الرِّياح الشَّديدةِ يمنةً ويُسْرَةً يمتنع على تلك الأجزاء المائيَّة النُّزُول، فلا جَرَمَ يبقى معلّقاً في الهواء. وثالثها: أن بسب حركات تلك الرِّياح يناسقُ من موضع غلى موضع آخر يكون محتاجاً في علم اللَّهِ - تعالى - إلى نزولِ الأمْطَارِ. ورابعها: أنَّ حركاتِ الرِّياحِ تارةً تكون جامعةً لأجزاء السَّحابِ، وتارةً مفرقة لأجزاءِ السَّحَابِ. وخامسها: أنَّ هذه الرِّياحَ تارةً تكونُ مُقَوِّيَةً للزُّرُوع والأشجار مكلمة لما فيها من النشوء والنَّمَاءِ، وهي الرِّيَاحُ اللَّواقِحُ، وتارةً تكونُ مبطلة لها، كام تكونُ في الخريف. وسادسها: أنَّ هذه الرِّياح تارةً تكون طيِّبة موافقة للأبدان، وتارةً تكون مُهْلِكَة: إمَّا بسبب ما فيها من الحرِّ الشَّديدِ كما في السَّمُومِ، أو بما فيها من البرد الشَّديدِ، كما في الرِّياحِ الباردة والمهلِكَة. وسابعها: أنَّ هذه الرِّياحَ تكونُ [تارةً] شرقيَّةً، وتارة غربيَّة، وشماليَّةً، وجنوبيَّةً، كذا ضبطه بعض النَّاسِ، وإلا فالرِّياحُ تهبُّ من كلِّ جانبٍ من جوانبِ العالم، ولا اختصاصَ لها بجانب من جَوَانبِ العالمِ. وثامها: أنَّ هذه الرِّياحَ تصعدُ من قعر البَحْرِ، فإنَّ من ركب البَحْرَ يشاهد أن البَحْرَ، يحصل له غليان شديد بسبب تولُّدِ الرِّياحِ في قَعْرِ البَحْرِ، ثمَّ لا يَزَالُ يَتَزَايدُ الغليانُ ويقوى إلى أن تَنْفَصِلُ تلك الرِّيَاحُ من قَعْرِ البَحْرِ إلى ما فوقَ البَحْرِ، وحينئذٍ يَعْظُمُ هبُوبُ الرِّيَاح في وجه البَحْرِ، وتارةً ينزل الرِّيح من جهة فوق فاختلافُ الرِّياحِ بسبب هذه المعاني عجيبٌ. وعن ابْن عُمَرَ الرِّيَاحُ ثمانٍ: أربعٌ عَذَابٌ وهي القَاصِفُ، والعاصفُ والصَّرْصَرُ، والعَقِيمُ، وأربعٌ منها رحمة وهي: النَّاشِرَاتُ، والمبشّرَاتُ، والمُرْسلاتُ، والذَّارِيَاتُ. وقال عليه الصَّلاة والسَّلامُ: «نُصِرْتُ بالصَّبَا، وَأهْلِكَ عادٌ عادٌ بالدَّبُّورِ» و «الجَنُوبُ مِنْ رِيحِ الجَنَّةِ» . وعن كعب: لَو حَبَسَ اللَّهُ الرِّيحَ عن عَبَادِهِ ثلاثةً أيَّام لأنْتَنَ أكثر أهْلِ الأرْضِ. وعن السُّدِّيِّ أنَّه تعالى يرسل الرِّيَاحَ، فتأتي بالسَّحَابِ، ثم إنَّهُ تعالى يسبطه في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 170 السَّمَاءِ كيف يشَاءُ، ثم يفتح أبوابَ السَّمَاءِ فيسيلُ الماءُ على السَّحابِ، ثم يُمْطِرُ السَّحَابُ بعد ذلك، ورحمته هو المَطَرُ. وإذا عُرف ذلك فنقولُ: اختلاف الرّياحِ في الصِّفات المذكورَةِ مع أنَّ طبعها واحد، وتأثيرات الطَّبائع والأنجم والأفلاك واحدة، يدلُّ على أنَّ هذه الأحوال لم تحصل إلا بتدبير الفاعل المُخْتَارِ. قوله: «كَذَلِكَ» نعت مصدر محذوف، أي: يُخْرج المَوْتى إخْرَاجاً كإخْراجِنَا هذه الثَّمَرَاتِ، وفي هذا التَّشبيه قوان: الأول: أنَّ المَعْنَى كما خلق الله - تعالى - النَّبَاتَ بالأمطار، فكذلك يحيي الموتى بمِطِرٍ ينزله على الأجْسَادِ الرَّميمة. قال أبُو هُريْرَةَ وابن عباس: إذا مَاتَ النَّاسُ كلُّهم في النَّفْخَةِ، أرسل اللَّهُ عليهم مَطَراً كمنيِّ الرِّجالِ من ماء تَحْتَ العَرْشِ يدْعَى ماءُ الحيوانِ، ينبتون في قُبُورِهِم نبات الزَّرْعِ، حتى إذا استكملت أجْسَادهم نفخ فيه ارُّوح، ثم يلقى عليهم نومة فينامُونَ في قبورهم، ثم يُحْشَرُونَ بالنَّفْخَةِ الثَّانية، وهم يجدون طعم النَّوْم في رُءُوسهم وأعينهم، فعند ذلك يَقُولُونَ: {ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [يس: 52] . الثاني: أن [هذا] التَّشْبِيه إنَّمَا وقع بأصل الإحْيَاء، والمعنى: أنَّهُ تعالى أحيى هذا البَلَدَ بعد خَرَابِهِ، فأنبت فيه الشَّجَرَ فكذلك يحيى الموتى بعد أن كانوا أمْواتاً؛ لأنَّ من قدر على إحداث الجسم، وخلق الرُّطُوبَةِ والطعم فيه، يكون قادراً على إحداث الحياة في بدن الميِّتِ. قال ابن الخطيب: واعلم أنَّ الذَّاهبين إلى القولِ الأوَّلِ إن اعتقدوا أنَّهُ لا يمكن بَعْث الأجْسَادِ، إلا بأنْ يمطر على تلك الأجساد البَاليةِ مَطَراً على صفة المَني فقد بعدوا؛ لأنَّ القادر على أنْ يحدث في ماء المطر صفة، تصير باعتبارها منيّاً، لم لا يَقْدِرُ على خلق الحياةِ في الجِسْم؟ وأيضاً فهب أن ذلك المطر ينزل، إلا أنَّ أجزاء الأمْوات متفرقة، فبعضها بالمَشْرِقِ وبعضها بالمغربِ، فمن أين ينفعُ ذلك المَطَرُ في توليد تلك الأجْسَام؟ فإن قالوا: إنَّهُ تعالى بقدرته وحكمته يجمع تلك الأجْزَاءَ المتفرّقَةَ، فَلِمَ لمْ يقُولوا: إنَّهُ بقدرته وحكمته يخلق الحياة في تلك الأجْزاء المتفرقة ابتداءً من غير واسطة ذلك المطر؛ وإن اعتقدُوا أنه تعالى قادر على إحياء الأمْواتِ ابتداءً، إلا أنه تعالى إنَّمَا يحييهم على هذا الوَجْهِ، كما أنَّهُ قادرٌ على خلق الأشخاص في الدُّنْيَا ابتداءً إلا أنَّهُ أجرى عادته بأنَّهُ لا يخلقهم إلاَّ من أبوين، فهذا جَائِزٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 171 ثم قال تعالى: {لَعلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي: أنكم لما شاهدتم أنَّ هذه الأرض كانت مزيَّنَة وقت الرَّبيع والصَّيْفِ بالأزهار والثِّمار، ثم صارت عند الشِّتاء ميتة عارية عن تلك الزّينة، ثم إنَّهُ تعالى أحياها مرَّةً أخرى، فالقادر على إحيائها بعد موتها يَجِبُ أن يكون قَادِراً على إحياء الأجساد بَعْدَ موتها أيضاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 172 قيل: هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن والكَافِر بالأرْضِ الخيرة والأرض السَّبِخَةِ، وشبه نُزُولَ القرآن بنُزُولِ المطرِ، فشبّه المؤمن بالأرض الخيرةِ التي ينزلُ عليها المَطَرُ، فَتُزْهِرُ وتثمرُ، وشبَّهَ الكافر بالأرض السَّبخة، فهي وإنْ نزل عليها المطر لم تزهر ولم تثمر. وقيل: المرادُ أنَّ الأرض السَّبخة يقلُّ نفعها وثمرها، ومع ذلك فإن صاحبها لا يهمل أمرها، بل يتعب نفسه في إصلاحها طمعاً منه في تحصيل ما يليقُ بها من المَنْفَعَةِ، فمن طلبَ هذا النفع اليَسِيرَ بالمشَقَّةِ العظيمة، فلأن يطلب النَّفْعَ العَظيم الموعود به في الآخرة بالمَشَقَّةِ الَّتِي لا بد من تحصيلها في أداء الطَّاعاتِ أوْلَى. قوله: «بإِذْنِ رَبِّهِ» يجوزُ أن تكون «الباء» سببية أو حالية وقرىء: «يُخْرِجُ نَبَاتَهُ» ، أي: يخرجه البلد وينبته. قوله: «والَّذِي خَبُثَ» يريد الأرْضَ السَّبخةَ التي لا يخرج نباتها. يقال: خَبُثَ الشَّيءُ يَخْبُثُ خُبثاً وخَبَاثَةً. قال الفراء: قوله: «إلاَّ نَكِداً» فيه وجهان: أحدهما: أن ينتصب حالاً أي عَسِراً مُبْطئاً. نَكِدَ يَنْكَدُ نَكَداً بالفَتْحِ، فهو نِكدٌ بالكسر. والثاني: أن ينتصب على أنَّهُ نَعْتُ مصدرٍ محذوفٍ، أي: إلاخروجاً نَكداً، وصف الخروج بالنَّكد كما يوصَفُ به غيره، ويؤيِّدُهُ قراءة أبي جعفر بن القَعْقَاعِ: «إلاَّ نَكَداً» بفتح الكاف. قال الزَّجَّاج: وهي قراءة أهْلِ المدينةِ، وقراءة ابن مصرِّف: «إلا نَكْداً» بالسُّكُونِ وهما مصدران. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 172 وقال مكيٌّ: «هو تخفيفُ نَكِد بالكَسْرِ مثل كَتْفٍ في كَتِف» . يقال: رجل نَكِد، وأنْكَد، والمَنْكُود: العطاء النَّزْرُ وأنشدوا [في ذلك] : [السريع] 2495 - وأعْطِ مَا أعْطَيْتَهُ طَيِّيباً ... لا خَيْرَ في المَنْكُودِ والنَّاكِدِ وأنشدوا: [المنسرح] 2496 - لا تُنْجِزُ الوَعْدَ إنْ وَعَدْتَ وَإنْ ... أعْطَيْتَ أعْطَيْتَ تَافِهاً نَكِدا وقرأ ابن أبي عبلة وأبو حيوة وعيسى بْن عُمَرَ: «يُخْرَج» مبنيّاً للمفعول، «نَبَاتُه» مرفوعاً لقيامة مقام الفاعل، وهو الله تعالى. وقوله: «والَّذِي خَبُثَ» صفة لموصوف محذوف، أي: والبلد التي خَبُثَ، وإنَّما حذف لدلالةِ ما قبله عليه، كما أنَّهُ قد حذف منه الجار في قوله: «بإِذْنِ ربِّهِ» ، إذ التقديرُ: والبلد الذي خَبث لا يخرج بإذن ربه إلا نَكِداً. ولا بدَّ من مضاف محذوف: إمّا من الأوَّلِ تقديرُهُ: ونبات الذي خبُث لا يخرج، وإمَّا من الثَّاني تقديره: والذي خَبُثَ لا يخرجُ نباته إلا نكداً، وغاير بين الموصُوليْنِ، فجاء بالأول بالألِفِ واللاَّمِ، وفي الثَّاني جاء بالذي، ووُصِلَتْ بفعل ماض. قوله: «كَذَلِكَ» تقدم نظيره. {نُصَرِّفُ الآيات} . قرئ: «يُصرِّفُ» أي يصرفها الله، وختم هذه الآية بقوله: {لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} ؛ لأنَّ الذي سبق ذكره هو أنَّهُ تعالى يحرك الرِّياح اللطيفة النافعة، ويجعلها سبباً لنزول المطر، الذي هو الرَّحمة، ويجعل تلك الرياح والأمطار سبباً لحدوث أنواع النَّبات النافعةِ، فمن هذا الوجهِ ذكر الدَّليل الدَّال على وجود الصَّانع، وعلمه، وقدرته، وحكمته، ونبَّه من وجه آخر على إيصال هذه النعم العظيمةِ إلى العبادِ، فمن الوَجْهِ الأوَّلِ وصفها بأنَّهَا آيات، ومن الوجْهِ الثَّانِي أنَّها نعم يجبُ شكرها وخصَّها بكونها آيات للشَّاكرين؛ لأنَّهُم المنتفعون بها، كقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 173 روى أبُو بُرْدَةَ عن أبي موسى عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: مثل ما بَعَثَنِي اللَّهُ به مِنَ الهُدَى والعِلْمِ كَمَثَلِ الغَيْثِ الكَثيرِ أصَابَ أرضاً، فَكَانَ مِنْهَا بُقْعَة قَبِلتِ الماءَ، فأنْبَتَت الكَلأ والعُشُبَ الكثيرَ، وكانَ مِنْهَا أجَادبُ أمسكَتِ المَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ به النَّاس فَشَرِبُوا وسَقَوْا من فقههُ في دين اللَّهِ، ونَفَعَهُ بما بعثني اللَّهُ به فعلم وعلَّمَ، ومثل من لم يَرْفَعْ بذلك رَأساً ولمْ يَقْبْلْ هدى الله الذي أرْسِلْتُ بِهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 174 لمَّا قرر المعاد بالدَّليل الظَّاهِرِ أتبعه بذكْرِ قَصَصِ الأنْبِياء لفوائد: أحدها: التَّنبيه على أنَّ إعراض النَّاسِ عن قبول الدلائل والبينات ليس مَخْصوصاً بِقَوْم مُحَمَّد - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - بل هذه العادَةُ المذمُومَة كانت حاصلة في جميع الأمَم السَّابقة، والمصيبة إذا عمَّت خَفَّت، ففي ذِكْرِ قَصَصِهم تسلِيَة للرَّسُولِ - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - وتخفيف عن قَلْبِهِ. وثانيها: أنَّهُ تعالى يحكي في هذه القَصَصِ أنَّ عَاقِبَة أمر أولئك المنكرين كان إلى اللّعْنِ في الدُّنْيَا، والخسارة في الآخِرَةِ، وعاقبة أمر المحقّين [إلى الدَّوْلَةِ في الدُّنْيَا، والسَّعادة في الآخرة، وذلك يقوي قلوب المُحِقِّين] ، ويكسر قلوب المبطلين. وثالثها: التنبيه على أنَّهُ تعالى، وإن كان يمهل المبطلين لكنَّهُ لا يُهْمِلُهُمْ بل يعاقِبُهُم، وينتقمُ منهم. ورابعها: بيان ما في هذه القصص من الدّلالةِ على نُبُوَّةِ محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - لأنَّهُ كان أميّاً، لم يطالع كتاباً، ولا تَلْمَذَ لأستاذن فإذا ذكر هذه القصص من غير تحريف ولا خطأ دَلَّ ذلك على أنَّهُ عرفها بوحي من الله تعالى. قوله: «لقد أرْسَلْنَا» جواب قسم محذوف تقديره: «والَّه لقد أرْسَلْنَا» . قال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قلت: ما لهم لا يكادون ينطقون بهذه اللاَّم إلاَّ مع «قَدْ» ، وقلَّ عنهم قوله: [الطويل] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 174 2497 - حَلَفْتُ لَهَا بِاللَّهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ ... لَنَامُوا ... ... ... ... ... ... ... ... ... قلتُ: إنَّمَا كان ذلك؛ لأنَّ الجملة القسميَّة لا تساقُ إلا تأكيداً للجملةِ المُقْسَم عليها، التي هي جوابها، فكانت مَظَنَّةً لمعنى التَّوَقُّعِ الذي هو معنى «قَدْ» استماع المخاطب كلمة القسم. وأما غير الزَّمَخْشَريِّ من النُّحَاةِ فإنَّهُ قال: إذا كان جواب القسم ماضياً مثبتاً متصرفاً: فإمَّا أن يكُونَ قريباً من زمن الحال فتأتي ب «قَدْ» وإلاَّ أتيت باللاَّم وَحْدَهَا فظاهر هذه العبارة جواز الوَجْهَيْنِ باعتبارَيْنِ. وقال هناهنا: «لقد» من غير عاطف، وفي «هود» [25] و «المؤمنين» [23] : ولقد بعاطف، وأجاب الكَرْمَانيُّ بأن في «هود» قد تقدَّم ذكر الرَّسولِ مرَّات، وفي «المؤمنين» ذكر نُوحٍ ضِمْناً في قوله {وَعَلَى الفلك} [غافر: 80] ؛ لأنَّهُ أوَّلُ من صنعها، فحسن أن يُؤتى بالعاطف على ما تقدَّمن بخلافِهِ في هذ السُّورةِ. فصل هو نُوحُ بْنُ لملك بْنِ متوشلح بْنِ اخنوخ، وهو إدريس وهو أول نبيّ بعثه الله بعد إدريس. وقال القُرْطُبِيُّ: «وهو أوَّلُ نَبِيٍّ بُعِثَ بعد آدم بتحريم النبات والعمَّاتِ، والخالاتِ، وكان نَجَّاراً، بعثَهُ اللَّهُ إلى قومه وهو ابن خمسين سنة» . وقال مُقَاتِلٌ: «ابن مِائَةِ سَنَةٍ» . قال النَّحَّاسُ: «وانصرف؛ لأنَّهُ على ثلاث أحرف» . وقال ابن عباس: «سُمِّي نوحاً لكثرة نَوْحِهِ على نَفْسِهِ» . واختلفُوا في سبب نَوْحِهِ، قال بعضُهُم: لدعوته على قومه بالهلاكِ، وقيل: لمراجعته رَبَّه في شأنِ ابنه كَنْعَانَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 175 وقيل: لأنَّهُ مرّ بكلب مَجْذُومٍ فقال: اخْسَأ يا قبيحُ يا كَلْبُ، فأوْحَى الله إليه: أعبتني أم عبت الكلب. قال ابن عباس: «معنى أرْسَلْنَا: بَعَثْنَا» . وقال آخرون: معنى الإرسال أنَّهُ تعالى حمَّلُهُ رسالة يُؤدِّيهَا، فارِّسَالةُ على هذا التَّقديرِ تكون متضَمِّنَةً للبعث، فيكونُ البعث كالتَّابشع لا أنَّهُ الأصلِ. قوله: «فقال يا قوم اعْبُدُو الله» جيء هنا بفاء العطف في قوله: «فَقَال» ، وكذا في المؤمنين وفي قصّة هودٍ وصالحٍ وشُعَيْبٍ هنا بغير فِاء، والأصلُ الفاء، وإنَّمَا حذفت تَخْفيفاً، وتوسعاً [و] اكتفاء بالرّبْطِ المَعْنَوِيِّ، وكانت اللواتي بعدها بالحذف أولى. وأما في هود فيقدَّر قبل قوله: «إنّي لَكُمْ» : «فقال» بالفَاءِ على الأصْلِ. وجاء هنا: {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} فلم يعطف هذه الجملة المنفيَّةِ بفاءٍ ولا غيرها، لأنَّهَا مبنية ومثبتة على اختَصَاصِ اللَّهِ - تعالى - بالعبادةِ ورفض ما سواه، فكانت في غايةِ الاتِّصال فقال: يا قَوْمِ اعبدُوا الله. فصل في بيان نسب «نوح» قال ابن العربيِّ: ومن قال: إن إدْرِيسَ كان قبل نوح فقد وهمَ، بدليل حديث الإسْرَاءِ الصَّحيحن حين لَقِيَ النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آدمَ وإدريس، فقال له آدمُ: مرحباً بالنَّبِيِّ الصالح والابن الصالحن وقال له إدريس: مرحباً بالنَّبيِّ الصَّالح، والأخ الصَّالح فلما قال له: «والأخ الصالح» دلَّ على أنَّهُ يجمع معه في نُوح. قال القَاضِي عياضٌ: جواب الآبَاء هناهنا كَنُوحٍ، وإبراهيم وآدم: مرحباً بالابن الصالح، وقال عن إدريس: بالأخ الصالح كما ذكر عن مُوسَى وعيسى، ويوسف [وهارون ويحيى ممَّنْ ليس بأبٍ للنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ باتِّفَاقٍ] . فصل في بيان أجناس البشر قال القُرْطُبِيُّ: ذكر النَّقَّاشُ عن سليمان بن أرقم عن الزهري أنَّ العربَ، وفارسَ والرُّومَ، وأهلَ الشَّامِ واليمن من ولد سام بن نوح، والهند والسِّنْد والزِّنْج، والحبشَة والزُّطّ والنُّوبة وكل جِلْدٍ أسْوَدَ من ولد حامٍ، والترْك، والبربر ووراء النهر والصين، ويأجوج ومأجوج والصَّقَالِبَة من ولد يافثِ بن نُوحٍ، والخلق كلهم ذُرية نُوحٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 176 قوله: {ما لكم من إله غيره} قرأ الكِسَائِيُّ «غيره» بخفض الرَّاءِ في جميع القُرآنِ، والباقون برفعها، وقرأ عيسى بْنُ عمرَ بنصبها، فالجرُّ على النَّعْتِ والبَدَلِ من موضع «إله» ؛ لأن «مِنْ» مزيدة فيه، وموضعه رفع: إما بالابتداء، وإمَّا بالفاعليةَّ، ومنع مكيٌّ في وجه الجرِّ أن تكون بدلاً من إله على اللَّفْظِ، قال: كما لا يَجُوزُ دخول «مِنْ» لو حذفت المبدل منه؛ لأنّضاه لا تدخل في الإيجابِ، وهذا كلام متهافت. والنَّصْبُ على الاستِثْنَاءِ، والقراءتانِ الأوليانِ أرجح؛ لأنَّ الكلام متى كان غير إيجاب، رجَّح الاتباع على النَّصْبِ على الاستثناء وحكم غير حكم الاسم الواقع بعد «إلاَّ» ، و «مِنْ إلهٍ» إذا جَعَلْته مبتدأ فلك في الخبر وجهان: أظهرهما: أنَّهُ «لَكُمْ» . والثاني: أنَّهُ محذوف، أي: ما لكم من إله في الوجود، أو في العالم غير الله، و «لَكُمْ» على هذا تخصيص وتبيين. فصل فيما تضمنته الآية من حذف قال الواحِدِيُّ: «في الكلام حذفٌ، وهو خبر ما؛ لأنَّكَ إذا جعلت غيره صفة لقوله:» إله «لم يبق لهذا المنفي خبر، والكلامُ لا يستقِلُّ بالصِّفةِ والموصوف، فإنَّكَ إذا قلتَ: زيدٌ العاقلُ وسكتَّ لم يُفِدْ ما لم تذكر خبره ويكون التَّقْدِيرُ: ما لكم من إله غيره في الوجود» . قال ابن الخطيب: اتَّفَقَ النَّحويُّونَ على أنَّ قولنا: «لا إله إلا الله» لا بد فيه من إضمار، والتَّقْديرُ: لا إله في الوجود إلا الله ولا إله لنا إلا الله، ولم يذكروا على هذا الكلام حجَّةً، فنقولُ: لِمَ لا يجوز أن يقال: دخل حرف النَّفي على هذه الحقيقةِ وعلى هذه الماهِيَّةِ، فيكون المعنى أنَّهُ لا تحقق لحقيقة الإلهية إلا في حقِّ الله تعالى، وإذا حملنا الكلامَ على هذا المعنى استغنينا عن الإضْمَارِ الذي ذكروه. فإنْ قالوا: صرف النفي إلى الماهِيَّةِ لا يمكنُ؛ لأنَّ الحقائِقَ لا يُمْكِنْ نَفْيُهَا، فلا يمكن أن يُقَال: لا سواد بمعنى ارتفاع هذه الماهِيَّةِ، وإنَّمَا الممكن أن يقال: إنَّ تلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 177 الحَقَائِقَ غيرُ موجودة، ولا حاصلة، وحينئذٍ يجب إضمار الخبر فنقول: هذا الكلامُ بِنَاءٌ على أنَّ الماهيَّة لا يمكن انتِفَاؤُهَا وارتفاعها، وذلك بَاطِلٌ قطعاً، إذ لو كان الأمر كذلك؛ لوَجَبَ امتناعُ ارتفاع الوُجُودِ؛ لأنَّ الوُجُود أيضاً حقيقة من الحقائق، وماهيّة من المَاهِيَّات؛ فوجب ألاَ يرتفعَ الوُجودُ أيضاً، فإن أمكن ارتفاع الوُجُودِ مع أنَّهُ ماهيّة وحقيقة فلم لا يمكنُ ارتفعُ سائر الماهيَّاتِ. فصل في بيان أن المستحق للعبادة هو الله دلَّ ظَاهِرُ الآيةِ على أنَّ الإله هو الذي يستحقُّ العبادة؛ لأن قوله: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} إثبات ونفي، فيجب أن يتواردا على مَفْهُوم وَاحِدٍ حتى يستقيم الكلامُ، فكان المَعْنَى: اعبدوا الله ما لكم من معبودٍ غيره، حى يَتَطابَقَ النَّفي والإثبات، ثم ثبت بالدَّليل أنَّ الإله ليس هو المعبود، وإلاَّ لوجب كونُ الأصنام آلهة، وألاَّ يكون الإله إلهاً في الأزَلِ، لأنَّهُ في الأزَلِ غير معبود، فوجب حملُ لفظ الإله على أنَّهُ المُسْتَحِقُّ للعبادةِ. قوله: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . اختلفوا في معنى قوله: {إني أَخَافُ} هل هو اليقين؟ أو الخوف بمعنى الظنِّ والشكِّ؟ فقيل: المرادُ: الجزم واليقين؛ لأنَّهُ كان جازماً أنَّ العذابَ ينزل بهم: إمَّا في الدُّنْيَا، وإمَّا في الآخرة، إن لم يَقْبَلُوا الدَّعْوَة. وقيل: بل المرادُ منه الشَّكُّ لوجوه: [أحدها] : إنَّمَا قال: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ} ؛ لأنَّهُ جوَّزَ أن يؤمنوا، وأن يستمروا على كفرهم، ومع هذا التَّجْويز لا يكون قاطعاً بنزول العذاب، فهذا قال: «أخَافُ عَلَيْكُمْ» . وثانيها: أنَّ حُصُولَ العذاب على الكُفْرِ والمعصية أمْرٌ لا يعرف إلا بالسَّمْع، فَلَعَلْ الله - تعالى - ما بيّن له كيفيَّة هذه المسألة، فلا جرم جوَّزَ أنَّ الله - تعالى - هل يعاقبهم أم لا؟ . وثالثها: يحتمل أنْ يكُون المرادُ من الخَوْف الحذر، كقوله في الملائكة: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن} [النحل: 50] أي يحذرون المعاصي خَوْفاً من العقاب. ورابعها: أنهُ بتقدير أن يكُون قاطعاً بنُزُولِ العذابِ لكنَّهُ ما كان عارفاً بمقدار ذلك العذاب فكان هذا الشَّكُ راجعاً إلى وصف العذاب لا في أصْلِ حصولهِ، والمراد بذلك العذاب إمَّا عذاب يوم القيامة، أو عذابُ الطُّوفان. فإن قيل: إنه تعالى حكى عن نُوحٍ - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - في هذه الآية أنَّهُ أمر قومه بثلاثَةِ أشياء: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 178 الأوَّلُ: أمرهم بعبادة الله، والمقصودُ منه إثبات التَّكليف. الثاني: أنَّهُ حكم أن لا إله غَيْرُ الله، والمقصودُ منه الإقرار بالتَّوْحيد، ثم قال عقيبَهُ: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} ، وهذا هو الدَّعوى الثَّالثة، وعلى هذا التَّقديرِ فقد ادَّعى الوحي والنُّبوَّةَ من عند اللَّه، ولم يذكر على صِحَّةِ واحد منها دليلاً ولا حجَّةً، فإن كان قد أمرهم بالإنذار بها على سبيل التَّقْلِيد فهذا باطل؛ لأنَّ الله - تعالى - مَلأَ القرآنَ من ذمِّ التقليد، فكيف يليق بالرَّسُول المعصوم الدَّعوةُ إلى التقليد؟ وإن كان قد أمرهم بالإقرار بها مع ذكر الدَّليل، فهذا غير مذكور. فالجوابُ: أن الله - تعالى - ذكر في أوَّلِ السُّورةِ دلائلَ التَّوحيد والنُّبوَّةِ وصحَّةِ المعاد، وذلك تنبيه منه تعالى على أنَّ أحداً من الأنبياء لا يدعو إلى هذا الأصُولِ إلا بذكر الحُجَّةِ والدَّلِيل أقصى ما في البابِ أنَّهُ تعالى ما حكى عن نُوحٍ في هذا المقام ذكر تلك الدَّلائل لما كانت معلومة. قوله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 179 : «قَالَ المَلأ» . قال ابن عطية: وقرأ ابن عامر: «المَلَؤُ» بواوٍ، وهي كذلك في مصاحفِ الشَّامِ، وهذه القراءةِ ليست مَشْهُورةٌ عنه قال المفسِّرُونَ: الملأ: الكبراء والسَّاداتُ الذين جعلَوا أنفسهم أضداد الأنبياء، ويدلُّ على ذلك قوله: «مِنْ قَوْمِهِ» ؛ لأنَّهُ يقتضي التَّبْعِيضَ، وذلك البَعْضُ لا بدَّ وأن يكونوا موصوفين بِصِفَةٍ لأجلها استحقُّوا هذا الوَصْفَ بأن يكونوا هم الذين يملئون صدور المَجَالس، وتمتلىء القلوب من هَيْبَتِهِم، وتمتلىءُ الأبصارُ من رُؤيتهم، وهذه الصِّفاتُ لا تحصل إلا في الرُّؤسَاءِ. قوله: «إنَّا لَنَرَاكَ» يجوزُ أن تكون الرُّؤيَةُ قلبية فتتعدى لاثنين ثانيهما «في ضلالِ» ، وأن تكون البَصريَّة وليس بظاهر فالجارُّ حال، وجعل الضَّلالِ ظَرْفاً مبالغة في وصفهم له بذلكَ، وزادوا في المبالغة أكَّدثوا ذلك بأن صَدَّرُوا الجملة ب «إنَّ» وفي خبرها اللاَّم. وقوله: {لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ} الضَّلالُ، والضَّلالةُ، العدول عن الحق. فإن قيل: قولهم: إنَّا لنراك في ضلال جوابه أن يقال: ليس في ضلال فَلِمَ أجاب بقوله {لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 179 فالجوابُ أنَّ قوله: {لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ} من أحسن الردِّ وأبلغه؛ لأنَّهُ نفى أن تلتبس به ضلالة واحدة فضلاً عن أن يحيط به الضلالُ، فكان المعنى: ليس بي نوع من أنْواعِ الضَّلالة ألْبَتَّةَ، فكان هذا أبْلَغَ في عموم السّلب فلو قال: لستُ ضالاًّ لم يُؤدِّ هذا المعنى. واعلم أنَّ القَوْمَ إنما نسبوا نوحاً في ادِّعَاءِ الرِّسالةِ إلى الضَّلالة لأمور: أحدها: أنَّهُمْ استبعدوا أن يكون للَّهِ رَسُولاً إلى خلقه، لاعتقادهم أن المقصود من الإرْسَالِ التَّكْلِيفُ: والتَّكْلِيفُ لا منفعة فيه للمَعْبُودِ؛ لأنَّهُ متعالٍ عن النَّفْعِ والضَّرَرِ، ولا مَنْفَعَةَ فيه للعابد؛ لأنَّهُ فِي الحالِ مضرَّة، وما يوحى فيه من الثَّواب والعقاب فاللَّهُ - تعالى - قادر على تحصيله بغير واسطة تكليفٍ، فيكونُ التَّكليف عبثاً، واللَّهُ منزهٌ عن العَبَثِ. وثانيها: أنَّهُم وإن جَوَّزُوا التَّكْلِيفَ إلا أنَّهُم قالُوا: ما علمنا حسنه بالعَقْلِ فعلناه، وما علمنا قُبْحَهُ تركناه حَذَراً من خَطَرِ العقابِ، فاللَّهُ تعالى مُنَزَّهٌ عن أنْ يكلِّفَ عبده ما لا طاقة له به، وإذا كان رسولُ العقل كافياً، فلا حاجة إلى بعثه رسولاً آخر. وثالثها: أي بتقدير أنَّهُ لا بدَّ من الرسول، فإرسال الملائكة أولى؛ لأنَّ مهابتهم أشَدُّ، وطهارتهم أكملُ، وبعهدهم عن الكذب أعْظَمُ. ورابعها: اعلم أنَّ بتقدير أن يَبْعَثَ رَسُولاً من البشرِ، فلعلَّ القوم اعتقدوا أن الفقيرُ الذي ليس له أتباعٌ، ولا رئاسة لا يليق به منصب الرسالة، أو لعلَّهم اعتقدُوا أنَّ ادعاء نوح الرِّسالة من باب الجُنُونِ وتخييلات الشَّيطان، فلهذه الأسباب حَكَمُوا على نوح بالضَّلالِ، وقد أجابهم نُوحٌ ببقية الآيَةِ على ما يأتي في أثنائها. ثمَّ إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لما نفى العيبَ عن نفسه، وصف نفسه بأشرف الصِّفات وهو قوله: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين} جاءت «لَكِنَّ» هنا أحسن مجيء؛ لأنَّها بين نقيضين؛ لأنَّ الإنسان لا يخلو من أحدَ شَيْئَيْنِ: ضلال، أو هدى، والرِّسَالة لا تجامع الضَّلال. و «مِنْ رَبِّ» صفة ل «رَسُول» ، و «مِنْ» لابتداء الغاية المجازية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 180 قوله: «أبَلَّغُكُمْ» يجوزُ أن تكون جملة مستأنفة أتى بها لبيانِ كونه رسولاً، ويجوز أن تكون صفةً ل «رَسَولِ» ، ولكنَّهُ راعى الضَّمِيرَ السَّابِقَ الذي للمتكلِّم فقال: أبَلِّغُكُمْ، ولو راعى الاسم الظَّاهِرَ لقال: يُبَلِّغكم، والاستعمالان جائزان في كلِّ اسم ظاهرٍ سبقه ضمير حاضر من متكلم، أو مخاطب فتحرَّر لك فيه وجهان: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 180 مراعاةُ الضَّميرِ السَّابِقِ، وهو الأكثر، ومراعاة الاسم الظَّاهر فيقول: أنَا رجلٌ أفعل كذا مراعاة ل «أنا» ، وإن شئت أنا رجل يفعل كذا مراعاة لرجُلٍ، ومثله: أنْتَ رجلٌ يفعل وتفعلُ بالخطاب والغيبة. وقرأ أبو عَمْرو: «أبْلِغُكُمْ» بالتَّخفيف، والباقون بالتَّشديدِ، وهذا الخلافُ جارٍ هنا في الموضعين، وفي الأحقاف والتَّضعيف والهمزة للتَّعْدِيَةِ كأنْزَلَ، ونَزَّلَ، وجمع «رسالة» باعتبار أنواعها من أمر ونهي، ووعظ، وزجر، وإنذار، وإعذار، وقد جاء الماضي على أفْعَل في قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ} [هود: 57] فهذا شاهدٌ لقراءة أبِي عَمْرٍو، وجاء على فعَّل في قوله: {فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67] فهذا شاهدٌ لقراءة الجماعة. واعلم أنَّهُ ذكر ما هو المقصود من الرِّسالة، وهو أمران: أن يبلغ الرِّسالة، وتقدرير النَّصِيحَةِ، والفرقُ بينهما أنَّ تبليغ الرِّسالة معناه: أن يعرفهم أنْوَاعَ تَكَاليفِ اللَّه، وأوامره، ونواهيه، وأمَّا النَّصيحةُ فهو ترغيبهم في الطَّاعَةِ، وتحذيرهم عن المعاصي. قوله: «وأنْصَحُ لَكُمْ» . قال الفرَّاءُ: العربُ لا تَكَادُ تقُولُ: نصحتك، إنَّمَا يقولون: نصحتُ لك، ويجوز أيضاً: نَصَحْتُكَ. قال النابغة: [الطويل] 2498 - نَصَحْتُ بَنِي عَوْفٍ فَلَمْ يَقْبَلُوا نُصْحِي ... وسُؤلِي، وَلَمْ تَنْجَحْ لَديْهِمْ رَسَائِلِي فصل في بيان حقيقة النصح وحقيقةُ النُّصْحِ الإرْشَادُ إلى المصلحةِ مع خلوص النية من شوائب المكروه، والمعنى: إنِّي أبَلِّغ لَكُمْ تَكَالِيفَ اللَّهِ، ثمَّ أرشدكم إلى الأصوب، والأصْلَحِ، وأدعوكم إلى ما دَعَانِي، وأحبِّبُ لكم ما أحبه لنفسي. قوله: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} . قيل: أعلم أنكُم إن عصيتم أمره عاقبكم بالطُّوفَانِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 181 وقيل: أعلم أنَّهُ يعاقكم في الآخرة عذاباً شديداً، خارجاً عمَّا تتصوَّرُهُ عقولُكْمْ. وقيل: أعلم من توحيد الله وصفاتِ جلالهِ ما لا تعلمون. والمقصود من ذكر هذا الكلام: حملُ القَوْمِ على أنْ يرجعوا إليه في طلب تلك العُلُومِ. واعلم أنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أزال تعجبهم وقال: إنَّه تعالى خالق الخلق، فله بحكم الإلهية أنْ يأمر عبيده ببعض الأشياء وينهاهم عن بعضها، ولا يجوزُ أن يخاطبهم بتلك التَّكاليف من غير واسطة؛ لأنَّ ذلك ينتهي إلى حَدِّ الإلجاء، وهو يُنَافِي التَّكْلِيف، ولا يجوز أن يكون ذلك الرسُولُ من الملائكة، لما تقدَّم في «الأنعام» في قوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام: 9] ، فلم يَبْقَ إلا أن إيصال التَّكالِيف إلى الخَلْقِ بواسطة إنسان يبلغهم، وينذرهم ويحذرهم، وهذا جوابُ شُبَهِهم. قوله: «أوَ عَجْبتُمْ» ألفُ استفهامٍ دخلت على واو العَطْفِ، وقد تقدَّم الخلافُ في هذه الهَمْزَةِ السَّابقة على الواو، وقدَّر الزمخشري على قاعدته معطوفاً عليه محذوفاً تقديره: أكذَّبْتُمْ وعجبتم «أنْ جَاءَكُمْ» أي: مِنْ جاءكم، فلما حذف الحَرْفَ جرى الخلاف المشهورُ. «مِنْ رَبِّكُمْ» صفةٌ ل «ذِكْر» . «عَلَى رَجُلٍ» : قال ابْنُ قُتَيْبَةَ: [قال الفرَّاءُ] : يجوز أن تكون على حذف مضافٍ، أي: على لِسَانِ رَجُل «. وقيل: على بمعنى» مع «، أي: مع رجل فلا حذف. وقيل: لا حاجة إلى حَذْف، ولا إلى تضمين حرف؛ لأنَّ المعنى أُنزل إليكم ذِكْر على رَجُلٍ، وهذا أوْلى؛ لأنَّ التَّضْمِينَ في الأفعال أحسن منه في الحُرُوفِ لقوَّتِهَا وضعف الحُرُوفِ. فصل في معنى» الذكر « قال ابنُ عَبَّاسٍ: الذَّكْرُ الموعظة. وقال الحَسَنُ: إنه الوَحْيُ الَّذي جَاءَهُمْ بِهِ. وقيل: المراد بالذِّكْرِ المُعْجِز. وقيل: بيان» عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ «أي تعرفون نسبه، فهو منكم نسباً. » ليُنْذِرْكُمْ «أي: لأجْلِ أن ينذركم عذابَ اللَّه. » وَلِتَتَّقُوا «أي: لكي تَتَّقُوا. » وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُون «أي: لكي ترحموا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 182 فصل في دحض شبهة للمعتزلة قال الجُبُّائِيُّ، والكَعْبِيُّ، والقاضي: دلَّتْ هذه الآية على أنَّهُ تعالى أراد من بعثة الرُّسُل إلى الخلق التَّقْوَى، والفوزَ بالرَّحْمَةِ، وذلك يبطل قول من قالك إنَّهُ تعالى أراد من بعضهم الكُفْرَ والعِنَادَ، وخلقهم لأجل العذاب والنارِ. والجوابُ بأن نقول: إن لم يَتَوَقَّفِ الفعل على الدّاعي لزم رجحان الممكن لا لمرجح، وإن توقَّف لزم الجَبْرُ، ومتى لزم ذلك، وجب القطعُ بأنَّهُ تعالى أراد الكُفْرَ، وذلك يبطلُ مذهبكم. قوله:» فَكَذَّبُوهُ «: أي في ادِّعَاءِ النُّبوُّةِ والرِّسالةِ. » فَأنْجَيْنَاهُ «من الطُّوفان، وأنجْينا من كان معه [وكانوا أرْبَعِينَ رجلاً، وأربعين امرأة] . وقيل: عشرةٌ: بَنُوه: حَامٌ، وسامٌ، ويافث، وسبعة ممن آمن معه من المؤمنين. » فِي الفُلْكِ «أي: في السَّفِينَةِ، وأغرقنا الكُفَّارَ والمكذِّبين، وبين العِلَّة في ذلك فقال: {إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ} . قوله:» فِي الفُلْكِ «يجوزُ أن يتعلق ب» أنْجَيْنَاهُ «، أي: أنجيناه في الفلك، [ويجوز أن تكون» فِي «حينئذٍ سببيَّةً أي: بسبب الفُلْكِ] كقوله:» إنَّ امْرَأةً دخلت النَّارَ في هِرَّةٍ «، ويجوزُ أن يتعلق في الفلك بما تعلَّق به الظَّرْفُ الواقع صلةً، أي: الذين استقرُّوا في الفلك معه. » وعَمِيْنَ «جمع عَمٍ، وقد تقدَّم الكلامُ على هذه المادة. وقيل: عمٍ هنا إذا كان أعْمَى البصيرة، [قال ابن عباس: عَمِيَتْ قلوبُهُم عن معرفة التَّوْحِيد، والنَّبوة والمعَادِ قال أهل اللُّغَة] : غير عارفٍ بأموره، وأعْمَى أي في البَصَرِ. قال زُهَيْرٌ: [الطويل] 2499 - وأعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ ... ولَكِنَّنِي عَنْ عِلْمِ مَا فِي غَدٍ عَمٍ قاله اللَّيْثُ وقيل: عم وأعْمَى بمعنىً، كخَضِرٍ وأخْضَر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 183 وقال بعضهم:» عَم «فيه دلالةٌ على ثبوت الصِّفةِ واستقرارها [كفَرِح] وضيّق، ولو أريد الحدوث لَقِيلَ: عامٍ كما يقال: فارحٌ وضَائِقٌ. وقال الزَّمَخْشَرِيُّ: قريء» قَوْماً عَامِينَ «. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 184 قوله «أخَاهُمْ» نصب ب «أرْسَلْنَا» الأولى، كأنه قيل: لقد أرسلنا نُوحاً، وأرسلنا إلى عادٍ أخاهُم، وكذلك ما يأتي من قوله: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ} [الأعراف: 73] ، {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} [الأعراف: 85] {وَلُوطاً} [الأعراف: 85] ، ويكونُ ما بعد «أخَاهُم» بدلاً أو عطف [بيان] . وأجاز مكيٌّ أن يكون النَّصْبُ بإضمار «اذْكُرْ» وليس بشيء لأنَّ المعنى على ما ذكرنا مع عدمِ الاحْتِيَاجِ إليه. و «عاد» اسم للحيِّ، ولذلك صَرَفَه، ومنهم من جعله اسْماً للقبيلة ولذلك [منعه] قال: [الرجز] 2500 - شَهْدَ عَادَ فِي زَمَانِ عَادِ ... ابْتَزَّهَا مَبَارِكَ الجِلادِ الأصل اسم الأب الكبيرِ، وهو عادُ بْنُ عوصِ بْنِ إرمِ بْنِ سَامِ بن نوُحٍ فسُمِّيت به القبيلةُ، أو الحيّ. وقيل: عادُ بْنُ أرمٍ بْنِ شَالِخ بِنْ أرفخشد بْنِ سَامِ بْنِ نوح وهودُ بْنُ عبد الله بْنِ رَبَاحِ بْنِ الجَارُودِ ابْنِ عَادِ بِنْ عوص بن إرمٍ بْنِ سَامِ بْنِ نُوح، وهي عادٌ الأولى، وكذلك ما أشبهه من نحو «ثَمُود» إن جَعَلْته اسماً لمذكَّر صَرَفْتَه، وإن جعلته اسماً لمؤنث مَنَعتهُ، وقد بَوَّبَ له سيبويه باباً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 184 وأمّا هو فاشتهر في ألْسِنَةِ النُّحَاةِ إنه عَرَبِيٌّ، وفيه نظر؛ لأن الظَّاهِرَ من كلام سيبويه لمَّا عَدَّه مع نُوح، ولوط أنَّهُ أعجمي، ولأن: أبَا البركاتِ النَّسَّابَةَ الشَّريفَ حكى: أن أهلَ وعلى هذا يكون «هُودُ» أعجمياً، وإنَّمَا صُرِفَ لما ذكر في أخوته نوحٍ ولُوطٍ. وهود اسمه عابرُ بْنُ شَالِح بْنِ أرفخشد بْنِ سَامِ بْنِ نُوحٍ. فصل في نسب هود اتَّفقوا [على] أن هوداً ما كان أخاهم في الدِّين، واختلفوا في أنَّه هل كان هناك قَرَابَةٌ أم لا. قال الكَلْبِيُّ: «كان واحداً منهم» . وقال آخرون: كان من غيرهم، وذكروا في تفسير هذه الأخوة وجهين: الأول: قال الزَّجَّاجُ: كان من بني آدم، ومن جِنْسِهِمْ، لا من الملائكة، ويكفي هذا القَدَرُ في تسمية الأخوة، والمعنى: أنّا بعثنا إلى عادٍ واحداً من جنسهم، لِيَكُون الفَهْمُ والأنس بكلامه وأفعاله أكْمَلُ، ولم يبعث إليهم من غير جنسهم مثل ملك أو جني. قال ابن إسحاق: وكان أوسطهم نَسَباً، وأفْضَلَهُم حُسْناً. روي أن عاداً كانت ثلاثَ عَشْرَةَ قبيلةً ينزلون الرِّمال، وكانوا أهل بساتين وزروع وعمارةٍ، وكانت بلادهم أخصبَ البلاد، فسخط الله عليهم؛ فجعلهم مفاوز لأجل عبادتهم الأصْنَامَ، ولحق هود حين أهلك قومه بمن آمن معه بِمَكَّةَ، فلم يزالوا بها حتى ماتوا. الثاني: «أخاهم» أي صاحبهم، ورسولهم، والعرب تسمِّي صاحب القوم أخَا القَوْم، ومنه قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف: 38] أي: صاحبتها، وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: «إن أخَا صداء قَدْ أذن» يريدُ صَاحِبَهُمْ. فصل في مكان قوم عاد اعلم أنَّ عاداً قوماً كانوا باليمينِ بالأحقاف. قال ابن إسحاق: «والأحقافُ: الرَّمْلُ الذي بين عُمَان إلى حضرموت» . واعلم أن ألفاظ هذه القصَّةِ موافقة للألْفَاظِ المذكورة في قصَّةِ نوح - عليه السَّلامُ - إلا في أشياء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 185 [الأول] : أن في قصَّة نُوحٍ: «فقال يا قَوْم» بالفاء، وهنا قال بغير فاء، فالفرق أنَّ نُوحاً - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - كان مواظباً على دعوتهم، وما كان يؤخر الجواب عن شبهاتهم لحظة واحدة، وأما هودٌ فلم يبلغ إلى هذا الحدِّ؛ فلا جرم جاء بفاء التعقيب في كلام نُوح دون كلام هود. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: فإن قُلْتَ: لم حذف العَاطِف من قوله [قال يا قوم] ولم يقل «فقال» كما في قِصَّةِ نوح. قلت: هو على تَقْدير سُؤالِ سائلٍ قال: فما قال لهم هود؟ فقيل: له: «قال يا قوم» . الثاني: قال في قصة نوح: {مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} [الأعراف: 59] . وهنا قال: «أَفَلاَ تَتَّقُونَ» ، والفرقُ بينهما أنَّ قبل نوح لم يظهر في العالم مثل تلك الواقعةِ العظيمةِ، وهي الطُّوفَانُ العظيم، فلا جرم أخبر نُوحٌ عن تلك الواقعة فقال: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} . وأمّا واقعة هود - عليه السَّلامُ - فقد سبقتها واقعة نوح، وكان عهد النَّاسِ بتلك الواقعة قريباً، فلا جرم قال: «أفَلاَ تَتَّقُونَ» أي: تعرفون أنَّ قوم نوح لمَّا لم يتقوا الله ولم يطيعوه أنْزل بهمْ ذلكَ العذاب الذي اشتهر خَبَرُهُ في الدُّنْيَا، فكان ذلك إشَارَةً إلى التَّخْوِيفِ بتلك الوَاقِعَةِ. الثالث: قال في قصَّة نُوحٍ {قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ} [الأعراف: 60] . وقيل: في هود: {قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} فوصف الملأ بالكُفْرِ، ولم يُوصَفُوا في قصَّة نوح، والفرقُ أنَّهُ كان في أشْرَاف قوم هُودٍ مَنْ آمنَ بِهِ مِنْهُم مرْثَدُ بْنُ سَعْدٍ أسْلَمَ، وكان يكتمُ إيمانَهُ بخلاف قَوْم نُوحٍ، لأنَّه لم يؤمن منهم أحَدٌ. قاله الزَّمخشريُّ وغيره، وفيه نَظَرٌ لقوله تعالى: {لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] وقال: {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} [هود: 40] ويحتمل أنَّ حال مخاطبة نُوحٍ لقومِهِ لم يُؤمِنْ منهم أحَدٌ بعدُ ثمَّ آمنوا، بخلاف قصَّةِ هود فإنَّهُ حال خطابهم كان فيهم مُؤمن ويحتملُ أنها صفة لمُجَرَّدِ الذَّمِّ من غير قَصْدِ تميزٍ بها. الرابع: حكي عن قَوْم نُوح قولهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} وحكي عن قوم هُود قولهم: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} [الأعراف: 66] الفرقُ أنَّ نُوحاً خوف الكُفَّارَ بالطُّوفانِ العام وكان مشتغلاً بإعْدَادِ السَّفينةِ، فلذلك قالوا: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} حيثُ تُتْعِبُ نَفْسَكَ في إصلاح سفينة كبيرةٍ في مفازة ليس فيها قَطْرَةٌ من المَاءِ، ولم يظهر شيءٌ من العلامات تدلُّ على ظهورِ المَاءِ في تلك المَفَازة. وأمَّا هود فلم يذكر شيئاً إلا أنه زَيَّفَ عبادة الأوثان، ونسب من اشتغل بعبادتها إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 186 السَّفَاهَةِ وقلَّةِ العَقْل، فلَّما سفَّهَهُم قابلوه بمثله، ونسبُوهُ إلى السَّفاهةِ، ثم قالوا: {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} في ادِّعَاءِ الرِّسالة. قال ابءنُ عبَّاسٍ: في سفاهة أي تدعو إلى دينٍ لا نقر به. وقيل: في حُمْقِ، وخفَّةِ عَقْلٍ، وجهالةٍ. {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} اختلفُوا في هذا الظن فقيل: المرادُ القَطْعُ والجزم كقوله تعالى: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] وهو كثير. وقال الحسنُ والزَّجَّاجُ: كان ظنّاً لا يقيناً، كفرُوا به ظانين لا متيقّنين وهذا يَدُلُّ على أنَّ حوصل الشَّكِّ والتَّجويز في أصول الدِّين يوجبُ الكفر. الخامس: قال نوح - عليه السلامُ -: {أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ} . وقال هود عليه السلام: {وأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِيْنٌ} ، فأتى نوح بصيغة الفعل، وهود أتى بصيغة اسم الفاعل، ونوح - عليه السلام - قال: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} ، وهود لم يقل ذلك، وإنَّما زاد كونه «أمِيناً» ، والفرقُ بينهما أنَّ الشَّيْخَ عَبْدَ القَاهِرِ النَّحْوِيَّ ذكر في كتاب «دلائِلِ الإعْجازِ» أن صيغة الفعل تدلُّ على التَّجَدُّدِ ساعةً فساعَةً. وأما صِيغَةُ اسم الفاعِلِ فهي دالَّةٌ على الثَّباتِ، والاستمرار على ذلك الفعل. وإذا ثبت هذا فَنَقُولُ: إنَّ القَوْمَ كانوا مبالغين في السَّفَاهَةِ على نوح - عليه السَّلام - ثم إنَّهُ في اليوم الثَّاني كان يعودُ إليهم، ويدعوهم إلى الله كما ذكر اللَّهُ - تعالى - عنه في قوله: {قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً} [نوح: 5] . فلما كانت عادته - عليه السلام - العود إلى تجديد الدعوة في كل يوم وفي كل ساعة، لا جرم ذكره بصيغة الفعل فقال: «وأنْصَحُ لَكُمْ» . وأما قول هود - عليه السلامُ -: {وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ} فإنَّهُ يَدُلُّ على كونه مثبتاً مستقراً في تلك النَّصِيحَةِ، وليس فيها إعلامُ بأنه سيعود إليها حالاً فحالاً، ويوماً فيوماً. وأما قول نوح - عليه السَّلامُ - {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وهود - عليه السلام - وصف نفسه بكونه أميناً، فالفرقُ أنَّ نوحاً - عليه السَّلأامُ - كان منصبه في النُّبُوَّةِ أعلى من منصب هود عليه السَّلام، فلم يبعد أن يقال: إن نُوحاً - عليه السلام - كان يعلم من أسرار حكم اللَّهِ ما لا يصلُ إليه هُودٌ، فلهذا أمْسَكَ هود لسانه عَنْ ذكر تلك الجملة، واقتصر على وَصْفِ نفسه بالأمانة ومقصود منه أمور: أحدها: الرَّدُ عليهم في قولهم: {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 187 وثانيها: أن مدار الرِّسالة والتبليغ عن الله على الأمانة، فوصف نفسه بالأمانةِ تقريراً للرِّسالة والنبوة. وثالثها: كأنَّهُ قال لهم: كنت قبل هذه الدعوى أميناً فيكم، وما وجدتمْ منِّي غدراً ولا مكراً ولا كذباً، واعترفتم لي بِكَوْنِي أميناً، فكيف نسبتموني الآن إلى الكذب؟ والأمين هو الثقة، وهو فعيل من أمِنَ فهو أمِنٌ وأمين بمعنى واحد. واعلم أنَّ القومَ لمَّا قالوا له: {إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ} لم يقابل سفاهتهم بالسَّفاهَةِ، بل قابلها بالحلم، ولم يزد على قوله: {لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ} ، وذلك يَدُلُّ على أنَّ ترك الانتقام أولى كما قال: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] . وقوله: {وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين} مدح نفسه بأعْظَمِ صفات المَدْحِ، وإنَّمَأ فعل ذلك؛ لأنَّهُ كان يجب عليه إعلام القوم بذلك، وذلك يَدُلُّ على أنَّ مدح الإنسان لِنَفْسِه في موضع الضَّرُورةِ جائزٌ. السادس: قال نوحٌ عليه السلامُ: {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} إلى قوله: {وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، [وفي قصَّةُ هود حذف قوله: {وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} ، والفرق أنَّهُ لمَّا ظهر في قِصَّةِ نُوح - عليه السلام - أنَّ فائدة الإنذار هي حصول التقوى الموجبة للرحمة، لم يكن لإعادته في هذه القصَّة حاجة. قوله: «إذْ جَعَلَكُمْ» في «إذْ» وجهان: أحدهما: أنَّه ظرفٌ منصوبٌ بما تضمنتهُ الآلاء من معنى الفعلِ، كأنه قيل: «واذكُرُوا نِعَمَ اللَّهِ عليكم في هذا الوَقْتِ» ، ومفعول «اذْكُرَوا» محذوفٌ لدلالة قوله بعد ذلك: {فاذكروا آلآءَ الله} ، ولأن قوله: {إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ} ، وزادكم كذا هو نفس الآلاء وهذا ظاهر قول الحُوفِي. قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «إذْ» مفعول «اذْكُرُوا» أي: اذكروا هذا الوقت المشتمل على هذه النعم الجسيمة، وتقدَّم الكلامُ في الخلفاء والخلائف والخليف. قوله: «فِي الخَلْقِ» يحتملُ أن يراد به المصدر بمعنى في امتداد قامتكم وحسن صوركم، وعظم أجْسَامِكُمْ، ويحتمل أنْ يراد به معنى المفعول به، أي: في المَخْلُوقين بمعنى زادكم في النَّاسِ مثلكم بسطة عليهم، فإنَّهُ لم يكن في زمانهم مثلهم في عظم الأجرام. قال الكَلْبِيُّ والسُّدِّيُّ: «كانت قامة الطّويل منهم مائة ذراع، وقامة القصير ستُّون ذراعاً» . وتقدم الكلامُ على «بسطة» في البقرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 188 قوله: {فاذكروا آلآءَ الله} ، أي: نعمه، وهو جمع مفرده «إلْي» بكسر الهمزة وسُكُونِ اللاَّمِ؛ كحِملْل وأحْمَالِ، أو «ألْيٌ» بضمِّ الهمزة وسُكُونِ اللاَّمِ: كقُفْل، وأقْفَالٍ، أو «إلى» بكسر الهمزة، وفتح اللام؛ كضِلَع وأضلاع، وعِنَب وأعْنَاب، أو «ألَى» بفتحهملا كقَفَا وأقْفَاء؛ قال العْشضى: [المنسرح] 2501 - أبْيَضُ لا يَرْهَبُ الهُزَالَ وَلاَ ... يَقْطَعُ رِحْماً ولا يَخُونُ ألَى يُنشد بكسر الهمزة، وهو المشهورُ، وبفتحها؛ ومثلها «الآنَاء» جمع «إِنْي» أو «أُنْي» أو «إِنّى» أو «أَنّى» . وقال الأخفش: «إنْوٌ» . والآناء الأوقات كقوله: {وَمِنْ آنَآءِ الليل} [طه: 130] ، وسيأتي. ثم قال: «لعلَّكُم تُفْلِحُونَ» فلا بُدَّ هاهنا من إضمار؛ لأنَّ الصَّلأاح الذي هو الظَّفر بالثَّواب لا يحصل بمجرد التذكر، بل لا بدّ من العمل، والتقدير: فاذكروا آلاء اللَّهِ واعملوا عملاً يليق بذلك الإنعام لعلّكم تفلحون. قوله: «لِنَعْبُدَ» متعلق بالمجيء الذي أنكروه عليه. واعلم أنَّ هوداً - عليه السلام - لما دعاهم إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام بالدَّلِيل القاطع، وهو أنَّهُ بيَّن أنَّ نعم الله عليهم كثيرة والأصنام لا نعمة لها؛ لأنَّهَا جمادات، والجمادُ لا قُدْرَةَ له على شَيْءٍ أصلاً - لم يكن للقوم جوابٌ عن هذه الحُجَّةِ إلا التمسك بالتَّقْليد فقالُوا: {أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ الله وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} فأنكروا عليه أمره لهم بالتَّوحيد، وترك التقليد للآباء، وطلبوا منه وقوع العذاب المشار إليه بقوله: «أفَلاَ تَتَّقُونَ» وذلك أنَّهُم نسبوه إلى الكذب، وظنُّوا أنَّ الوعيد لا يتأخر، ثم قالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} جوابه محذوف أو متقدِّم ب «ما» ، وذلك لأنَّ قوله: {اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} مشعر بالتَّهْديد والتّضخويف بالوعيد، فلهذا قالوا: {فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ} . قوله: {إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} جوابه محذوف أو مُتَقَدِّم، وهو فأت به. واعلم أنَّ القوم كانُوا يتقدون كذبه لقولهم: {وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين} فلهذا قالوا: {فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الشعراء: 31] وإنَّما قالُوا كذلِكَ لظنهم أن الوعيد لا يجوز أن يتأخر، فعند ذلك قال هود - عليه السلام -: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ} ، أي: وجب عليكم. فصل في تفسير هذه الآية قال القَاضِي: تفسير هذه الآية على قولنا ظاهر؛ لأنَّ بعد كفرهم وتكذيبهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 189 حدثت هذه الإرادة، واعلمْ أنَّ هذا بَاطِلٌ؛ لأنَّ في الآية وجوهاً من التَّأويل. أحدها: أنَّهُ تعالى أخبر في ذلك الوقت بنزول العذابِ عليهم، فلمَّا حدث الإعلام في ذلك الوقت، لا جرم قال هُودٌ في ذلك الوقت: {قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ} . وثانيها: أنَّهُ جعل المُتَوقَّع الذي لا بُدَّ من نزوله بمنزلة الواقع، كقوله: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] . وثالثها: أن يحمل قوله: «وقع» على معنى وجد وجعل، والمعنى: إرادة إيقاع العذاب عليكم حصلت من الأزل. قوله: «مِن رَّبِّكُمْ» إمَّا متعلق ب «وقع» و «من» للابتداء مجازاً، وإمَّا أن يتعلق بمحذوف لأنَّهَا حال، إذْ كانت في الأصل صفة ل «رجس» . والرِّجْس: العذاب والسين مبدلة من الزاي. وقال ابن الخطيب: لا يمكن أن يكون المراد لأنَّ المُرادَ من الغضب العذابُ، فلو حملنا الرِّجْسَ عليه لَزِمَ التَّكْرِيرُ، وأيضاً الرجس ضد التطهير قال تعالى: {لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] والمرادُ التَّظْهِيرُ عن العقائد الباطلةِ. وإذا ثبت هذا فالمراد بالرجس أنَّهُ تعالى خصّهم بالعقائِدِ المذمُومَةِ، فيكون المعنى أنَّهُ تعالى زادهم كُفْراً ثم خصَّهم بمزيدِ الغضبِ. قوله: «أتُجَادِلُونَنِي» استفهام على سبيل الإنْكَارِ في أسماء الأصنام وذلك أنهم كانوا يسمون الأصْنَامَ بالآلهة، مع أن معنى الإلهية فيها معدومٌ، سموا واحداً منها بالعُزَّي مشتقاً من العزِّ، والله - تعالى - ما أعطاه عِزّاً أصلاً، وسمُّو آخر منها باللاَّتِ، وليس له من الإلهية شيء. قوله: «سَمَّيْتُمُوهَا» صفة ل «أسْمَاء» ، وكذلك الجملة من قوله: {مَّا نَزَّلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} يُدلُّ على خلوِّ مذاهبهم عن الحُجَّةِ. و «مِنْ سُلْطَانِ» مفعول «نزَّلَ» ، و «مِنْ» مزيدةٌ، ثمَّ إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ ذكر لهم وعيداً مجرَّداً فقال: فانتظروا ما يحصل لكم من عبادة الأصْنَامِ إنِّي معكم من المنتظرين. فقوله: «مِنَ المُنْتَظِريْنَ» خبر «إني» ، و «مَعَكُمْ» فيه ما تقدَّم في قوله: إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} ، ويجوزُ - وهو ضعيف - أن يكون «مَعَكُمْ» هو الخبر و «مِنَ المُنْتَظِرِينَ» حال، والتقديرُ: إني مصاحبكم حال كوني من المنتظرين النّصر والفرج من الله، وليس بذلك؛ لأنَّ المقصُودَ بالكلامِ هو الانتظار، لمقابلة قوله: «فانْتَظِرُوا» فلا يُجعل فضلة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 190 قوله: {فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} لأنهم استحقوا الرحمة بسبب إيمانهم و {وَقَطَعْنَا دَابِرَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} أي: استأصلناهم، وأهْلكناهُم عن آخرهم وما كانوا مؤمنين، فإن قيل: لما أخبر عنهم بأنَّهُم كانوا مكذبين لَزِمَ القطع بأنَّهم كانوا غير مؤمنين فمنا الفائدة في قوله بعد ذلك {وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} . فالجوابُ: أن معناه أنَّهُم مكذبون في علم الله منهم أنَّهم لو بقوا لم يؤمنوا أيضاً، فلو علم أنَّهم سيؤمنون لأبقاهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 191 ثمود: اسم رجل: وهو ثَمُودُ بْنُ عاد بْن إرم بْنِ سَام بْنِ نُوحٍ، وهو أخو جديس، فثمود وجديس أخوان، ثم سُمِّيت به هذه القبيلة. قال أبُو عَمرو بْن العلاء: سميت ثمود لقلَّة مائها، والثَّمَدُ: الماء القليلُ: [قال النابغة: [البسيط] 2502 - أحْكُمْ كَحُكْمِ فَتَاةِ الحَيِّ إذْ نَظَرَتْ ... إلَى حَمَامٍ شِرَاعٍ وارِدِ الثَّمَدِ] وكانت مساكنهم «الحجر» بين «الحِجاز» و «الشَّام» إلى «واد القرى» ، والأكثر منعه الصرف اعتباراً بما ذكرناه أوَّلاً، ومن جعله اسماً للحيّ صرفه، وهي قراءة الأعمش، ويحيى بن وثَّابٍ في جميع القرآن، وقد ورد القرآن بهم صَرِيحاً. قال تعالى: {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُم بُعْداً لِّثَمُودَ} [هود: 68] . وسيأتي الخلاف من القُرَّاء السَّبْعةِ في سورة «هُودٍ» وغيرها. وصالح: اسم عربيٌّ، وهو صالح بن آسف. وقيل: ابْنُ عُبَيْدِ بْنِ آسف بن كَاشِح بْنِ أروم بْنِ ثَمُودَ [ابن جاثر] . «قال: يَا قَوْم اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِن إله غيرُهُ» أمرهم بعبادة الله، ونهاهم عن عبادة غير الله، كما ذكره عمن قبله من الأنبياء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 191 قوله: {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} . قد كثر إيلاءُ هذه اللَّفظة العوامل، فهي جارية مَجْرَى «الأبْطح» و «الأبْرَقِ» في عدم ذكر موصوفها. وقوله: «مِن ربِّكُمْ» يحتمل أن يتعلق ب «جَاءَتْكُمْ» و «مِنْ» لابتداء الغايةِ مجازاً، وأنْ تتعلق بمحذوف؛ لأنَّها صفةٌ بيِّنة، ولا بدَّ من حذف مُضاف، أي: من بينات ربكم ليتصادق الموصوف وصفته. وهذا يدلُّ على أنَّ كُلَّ شيءٍ كان يذكر الدلائل على صحَّةِ التَّوْحيدِ، ولم يكتف بالتَّقْلِيدِ، وإلاَّ كان ذكر البينة - وهي الحجة - هاهنا لغواً. قوله: {هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} أضاف النَّاقة إليه على سبيل التفضيلِ، كقولك: بيت الله، وروح الله؛ لأنَّهَا لم تتوالد بين جمل وناقة، بل خَرَجَتْ من حَجَرٍ. و «آيَةً» نصبَ على الحال؛ لأنَّها بمعنى العلامة، والعاملُ فيها إمَّا معنى التنبيه، وإما معنى الإشارةِ، كأنَّهُ قال: أنبهكم عليها، وأشير إليها في هذه الحال. ويجوزُ أن يكون العامل مُضْمَراً تقديرُهُ: انظروا إليها في هذه الحال، والجملة لا محلَّ لها؛ لأنَّها كالجواب لسُؤالٍ مقدَّر، كأنهم قالوا: أين آيتك؟ فقالك هذه ناقةُ الله. وقوله: «لَكُم» أي: أعني لكم به، وخصّوا بذلك، لأنَّهُم هم السَّائِلُوهَا، أو المنتفعون بها من بين سَائِرِ النَّاسِ لو أطاعوا. ويحتمل أن تكون «هَذِه نَاقَةُ الله» مفسرة لقوله: «بَيِّنَةٌ» ؛ لأنَّ البَيِّنَةَ تستدعي شيئاً يتبين به المدعى، فتكون الجملة في محل رفع على البدل، وجاز إبدالُ جملة من مفرد؛ لأنَّهَا في قوته. فصل في إعجاز الناقة اختلفوا في وجه كون النَّاقة آيةً: فقال بعضهم: «كانت آية بسبب خروجها بكمالها من الصخرة» . قال القاضي: إن صحَّ هذا فهو معجزٌ من جهاتٍ: أحدها: خروجها من الجَبَلِ. والثانية: كونها لا من ذَكَرٍ وأنثى. والثالثة: كمالُ خَلْقِها من غير تَدْرِيجٍ. وقيل: إنّضما كانت آية؛ لأجل أنَّ لها شرب يوم، ولجميع ثمود شرب يوم، واستيفاء ناقةِ شرب أمَّة من الأمَمِ عجيب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 192 وقيل: إنَّما كانت آيَة؛ لأنَّهُم كانوا في شربها يحلبون منها القدر الذي يقوم مقام الماء في يوم شربهم. وقال الحسَنُ بالعكس من ذلك فقال: إنَّها لم تحلب قطرة لبن قط. وقيل: وجه كونها آية أن يوم مجيئها إلى الماء، كانت جميع الحيوانات تمتنع من الوُرُودِ على المَاءِ، وفي يوم امتناعها تَرِدُ جميع الحيوانات. واعلم أنَّ القرآن قد دلَّ على أنَّها آية، ولكن من أي الوُجُوه؟ فليس في القرآن ذكره. فصل في تخصيص الناقة بهؤلاء القوم فإن قيل: تلك النَّاقَةُ كانت آية لكلِّ أحد، فلم خصّ أولئك القوم بها بقوله: «لَكُمْ آيَة» . فالجوابُ: من وجهين: الأول: أنَّهم عاينوها، وغيرهم أُخبروا عنها، ولَيْسَ الخبر كالمُعاينة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 193 الثاني: لَعلَّه يثبت سائر المعجزات، إلاَّ أنَّ القَوْمَ التمسوا من صَالح هذه المعجزة نفسها على سبيل الاقْتِرَاح، فأظهرها الله تعالى لهم، فلهذا المعنى حسن هذا التخصيص. قوله: «فَذَرُوهَا تَأْكُلْ» أي: العشب في أرض اللَّهِ، أي: ناقة الله، [فذروها تأكل في أرض ربَّها، فليست الأرض لكم ولا ما فيها منن النبات من إنباتكم. وقيل: يجوز تعلقه بقوله: «فَذَرُوهَا» ، وعلى هذا فتكون المسألة من التَّنازع وإعمال الثَّاني، ولو أعمل الأوَّل لأضمر في الثَّاني فقال: {تَأْكُلْ في أَرْضِ الله} وانجزم «تأكلْ» جواباً للأمر وقد تقدَّم الخلافة في جازمه: هل هو نفس الجملة الطَّلَبِيَّةِ أو أداء مقدّرة؟ . وقرأ أبو جعفر: «تَأكُلُ» برفع الفِعْلِ على أنَّهُ حال، وهو نظير: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً يَرِثُنِي} [مريم: 5، 6] رفعاً وجزماً. قوله: {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء} أي لا يمسوها بسوء الظاهر أن «الباء» للتعدية، أي: لا توقعوا عليها سوءاً ولا تلصقوه بها. ويجوز أن تكون للمصاحبة، أي: لا تمسُّوها حال مصاحبتكم للسُّوء. قوله: «فَيَأخُذَكُمْ» نصب على جواب النَّهْي، أي: لا تجمعوا بين السمّ بالسّوء وبين أخذ العذاب إيَّاكم، وهم وإنْ لم يكن أخذ العذاب لهم من صنعهم إلا أنَّهم تعاطوا أسبابه. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لعلي بن أبي طالب: «أشْقَى الأوَّلِيْنَ عَاقِرُ نَاقَةِ صالحٍ، وأشْقَى الآخَرِيْنَ قَاتِلُكََ» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 194 قيل: لمَّا أهلك الله - تعالى - عاد عمرت ثمود بلادها، وخلفوهم في الأرض، وعمّروا أعماراً طوالاً. قوله: {وَبَوَّأَكُمْ فِي الأرض} بوَّأه: أنزله منزلاً، والمباءَةُ المنزل، وتقدَّمت هذه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 194 المادة في «آل عمران» ، وهو يتعدى لاثنين، فالثَّاني محذوف أي: بوَّأكم منازل. و «فِي الأرْضِ» متعلّق بالفِعْلِ، وذكرت ليبنى عليها ما يأتي بعدها من قوله: «تَتَّخِذُونَ» . قوله: «تَتَّخِذُونَ» يجوز أن تكون المُتَعدية لواحد فيكون من سهولها متعلقاً بالاتخاذ، أو بمحذوف على أنَّهُ حال من قصوراً إذ هو في الأصل صِفَةٌ لها لو تَأخَّر، بمعنى أنَّ مادة القُصُور من سهل الأرض كالطّين واللّبن والآجر كقوله: {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ} [الأعراف: 148] [أي مادته من الحلي] . وقيل: «مِنْ» بمعنى «في» . وفي التَّفسير أنَّهُم كانوا يسكنون في القُصُورِ صَيْفاً، وفي الجبال شِتَاء، وأن تكون المتعدية لاثنين ثانيهما «مِنْ سُهُولِهَا» والسهلُ من الأرض ما لان وسهل الانتفاع به ضد الحزن، والسهولة: التّيسير. قوله: «قُصُوراً» [والقصور هو جمع قصر] وهو البيت المُنِيفُ، سُمِّي بذلك لقصور النَّاس عن الارتقاء إليه، أو لأن عامة النَّاس يقصرون عن بناء مثله بخلاف خواصهم، أو لأنَّهُ يقتصر به على بقعة من الأرض، بخلاف بيوت الشّعر والعُمُد، فإنَّهَا لا يقتصر بها على بقعة مخصوصة لارتحال أهلها؛ أو لأنَّه يقصر من فيه أي: يحبسه، ومنه: {حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام} [الرحمن: 72] . قوله: {وَتَنْحِتُونَ الجبال بُيُوتاً} يجُوزُ أن يكون نصب «الجِبَالَ» على إسْقَاطِ الخافض أي: من الجبال، كقوله: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] ، فتكون «بُيُوتاً» مفعوله. ويجوز أن يُضَمَّن «تَنْحِتُونَ» معنى ما يتعدَّى لاثنين أي وتتخذون الجبال بُيُوتاً بالنحت أو تصيرونَها. [بيوتاً بالنَّحت. ويجوز أن تكون «الجبَالَ» هو المفعول به و «بُيُوتاً» حال مقدرة كقولك: خِطْ هذا الثَّوب جبة [وابْرِ هذه القصبة قلماً؛ وذلك لأن الجبال لا تكون بيتاً في حال النحت، ولا الثوب ولا القصبة قميصاً وقلما في حالة الخياطة والبري] ، أي: مُقَدّراً له كذلك] و «بُيُوتاً» وإن لم تكن مشتقة فإنَّهَا في معناه أي: مسكونة. وقرأ الحسنُ: «تَنْحَتُون» بفتح الحاء. وزاد الزَّمَخْشَرِيُّ أنه قرأ «تنحاتُونَ» بإشباع الفتحة [ألفاً] ، وأنشد: [الكامل] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 195 2503 - يَنْبَاعُ مِنْ ذْفَرَى غَضُوبٍ جَسْرَةٍ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وقرأ يحيى بن مصرف وأبو مالكٍ بالياء من أسفل على الالتفات إلا أن أبا مالك فتح الحاء كقراءة الحسنِ. والنَّحتُ: النَّجر في شيء صُلب كالحجر والخشبِ. قال: [البسيط] 2504 - أمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْدٍ وسِلْسسلَةٍ ... واللَّيْلأُ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِن السَّاجِ فصل في جواز البناء الرفيع قال القُرْطُبِي: استدلَّ بهذه الية من أجاز جواز البناء الرفيع كالقُصُور ونحوها، وبقوله تعالى: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرزق} [الأعراف: 32] . وبقوله عليه الصَّلاة والسلام: «إنَّ الله إذَا أنْعَمَ على عَبْدٍ نِعْمَةً يُحِبُّ أنْ يُرَى أثَرُ النِّعْمَةِ عليْهِ» ومن آثار النعمة البناء الحسن، والثياب الحسنة، ألا ترى أنه لو اشترى جارية جميلة بمال عظيم، فإنَّهُ يجوز، وقد يكفيه دون ذلك، فكذلك البناء، وكرهه الحسن وغيره لقوله عليه الصَّلاة والسلام: «إذا أرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ سُوءاً أهْلَكَ مَالَهُ فِي الطِّيْنِ واللَّبنِ» وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَن بَنَى فوق مَا يَكْفِيْهِ جَاءَ بِهِ يَوْمَ القِيَامَةِ يَحْمِلُهُ على عُنْقِهِ» قوله: {فاذكروا آلآءَ الله} أي نعم الله عليكم. {وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ} قرأ الأعمش بكسر حرف المضارعة وقد تقدم أن ذلك لغة. و «مُفْسِدِيْنَ» حال مؤكدة إذ معناها مفهوم من عَامِلِهَا. و «فِي الأرْضِ» متعلق بالفعل قبله أو ب «مفسدين» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 196 قوله: «قَالَ المَلأُ» قرأ ابنُ عامرٍ وحدَهُ «وَقَال» بواو عطف نسقاً لهذه الجملة على ما قبلها، وموافقة لمصاحفِ الشَّام، فإنها مرسومة فيها، والباقون بحذفها: إما اكتفاء بالربط المعنوي، وإمّا لأنَّهُ جواب لسؤال مقدَّر كما تقدَّم، وهذا موافقة لمصاحفهم، وهذا كما تقدَّم في قوله: {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ} [الأعراف: 43] إلا أنَّهُ هو الذي حذف الواو هناك. قوله: {الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ استضعفوا} . السين في «اسْتَكْبَرُوا» و «اسْتُضْعَفُوا» يجوز أن تكون على بابها من الطلب، أي: طلبوا - أولئك - الكِبْرَ من أنفسهم ومن المؤمنين الضعف. ويجوزُ أن يكون «اسْتَفْعَلَ» بمعنى: فعل [كَعَجِبَ] واسْتَعْجَبَ. واللاَّم في «الذِينَ اسْتَضْعَفُوا» للتبليغ، ويضعف أن تكون للعلّة، والمراد بالذين استكبروا الرّؤساء، وبالذين استضعفوا المساكين. قوله: {لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} بدلٌ من «الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» بإعادة العامل، وفيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ بدل كلٍّ من كُلٍّ، إن عاد الضَّمير في «مِنْهُم» على قومه، ويكون المستضعفون مؤمنين فقط، كأنَّهُ قيل: قال المستكبرون للمؤمنين من قوم صالح. والثاني: بدلُ بعض من كلٍّ، إنْ عاد الضَّميرُ على المستضعفين، ويكون المستضعفون ضربين: مؤمنين وكافرين، كأنَّهُ قيل: قال المستكبرون للمؤمنين من الضُّعَفَاءِ دون الكَافِرينَ من الضُّعفاء. وقوله: «أتَعْلَمُونَ» في محل نصب بالقول. و «مِن رَّبِّهِ» متعلق ب «مُرْسَلٌ» ، و «من» لابتداء الغاية مجازاً، ويجوز أن تكون صفةً فتتعلق بمحذوف. واعلم أنَّ المستكبرين لمَّا سألوا المُسْتَضْعفين عن حال صالح وما جاء بهن فأجاب المُسْتَضْعَفُون بقولهم: إنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ صالح مؤمنون، أي: مُصَدّقون، فقال المستكبرون: بل نحن كافرون بما آمنتم به، أي: بالذي جاء به صالح. قوله: {إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ} متعلق ب «مُؤمِنُونَ» قُدِّم للاختصاص والاهتمام وللفاصلة. قوله: «قَالَ الذي» «ما» موصولة، ولا يجوزُ هنا حذف العائد وإن اتحد الجار الجزء: 9 ¦ الصفحة: 197 للموصول وعائده؛ لاختلاف العامل في الجارين وكذلك قوله: {بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} . قوله: «فَعَقَرُوا النَّاقَةَ» أصل العَقْرِ: كَشْفُ العَراقِيبِ في الإبل، وهو أن يضرب قَوَائمَ البَعِيرِ أو النَّاقَةِ فتقع، وكانت هذه سنتهم في الذَّبْحِ. قال امرؤ القيس: [الطويل] 2505 - وَيَوْمَ عَقَرْتُ لِلْعَذَارَى مَطِيَّتِي ... فَيَا عَجَباً مِنْ رَحْلِهَا المُتَحَمَّلِ ثم أطلق على كل نَحْرِ «عَقْرٌ» ، وإن لم يكن فيه كشف عراقيب تسمية للشَّيء بما يلازمه غالباً، إطلاقاً للمسبّب على مسببّبه هذا قول الازهري. وقال ابن قتيبة: «العَقْرُ: القتل كيف كان، عَقَرْتُها فهي معقورة» . وقيل: العقر: الجرح. وعليه قول امرئ القيس: [الطويل] 2506 - تَقُولُ وَقَدْ مَالَ الغَبِيطُ بِنَا معاً ... عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ القَيْسِ فانْزِلِ يريد: جَرَحْتَهُ بثقلك وتمايلك، والعَقْر والعُقر بالتفح، والضمّ [الأصل] ، ومنه عَقَرْتُه أي: أصبتُ عقره يعني أصله كقولهم: كَبَدْتُه ورَأسْتُه أي: أصبت كَبِدَهُ ورأسه، وعَقَرْتُ النخل: قطعته من أصله، والكَلْبُ العقور منه، والمرأة عَاقِرٌ، وقد عُقِرَت. والعقر بالضَّمِّ آخر الولد وآخر بيضة يقال: عُقر البيض. والعَقار بالفتح: الملك من الأبنية، ومنهُ «ما غُزِيَ قومٌ في عُقْرِ دارِهمِ إلاَّ ذُلُّوا» ، وبعضهم يخصه بالنَّخل. والعُقارُ بالضمِّ: الخمر؛ لأنَّها كالعَاقِرَة للعقل، ورفع عَقِيْرَتَهُ أي: صَوْتَهُ، وأصله أن رجلاً عَقَر رجْلَه فرفع صوته فاستعير لكلِّ صائحٍ، والعُقر بالضمِّ: المَهْرُ. وأضاف العقر إليهم مع أنَّه ما كان باشره إلا بعضهم؛ لأنَّهُ كان برضاهم. قوله: «وَعَتَوْا» العُتُوُّ، والعُتِيُّ: النُّبُوُّ أي: الارتفاع عن الطَّاعة يقال منه: عَتَا يَعْتُوا عُتْوّاً وعُتِيّاً بقلب الواوين ياءين، والأحسن فيه إذا كان مصدراً تصحيح الواوين كقوله: {وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [الفرقان: 21] وإذا كان جمعاً الإعلالُ نحو: قوم عُتِيٌّ، لأنَّ الجمع أثقلُ، قياسُه الإعلال تخفيفاً. وقوله: {أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً} [مريم: 66] محتمل للوجهين قوله: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 198 الْكِبَرِ عِتِيّاً} [مريم: 8] أي: حالة تتعذر مداواتي فيها كقوله: [الكامل] 2507 - ... ... ... ... ... ... ..... وَمِنَ العَنَاءِ رِيَاضَةُ الهَرِمِ وقيل: العاتي: الجاسي أي اليَابِسُ. ويقال: عَثَا يَعْثُوا عُثُوّاً بالثاء المثلثة من مادة أخرى؛ لأنَّهُ يقال: عَثِي يَعْثَى عِثِيّاً وعثا يَعْثُوا عُثُواً، [فهو في إحْدَى لغتيه يشاركه «عَتَا» بالمثناة وزناً ومعنى، ويقاربه في حروفه. والعيث أيضاً - بتقديم الياء من أسْفَل] على الثاي المثلثة - هو الفساد، فيحتمل أن يكون أصلاً، وأن يكون مقلوباً فيه. وبعضهم يجعل العَيْث الفساد المدرك حِسّاً، والعِثِيَّ في المدرك حكماً، وقد تقدَّم طرفٌ من هذا. ومعنى الآية: استكبورا عن امتثال امر ربّهم وكذّبوا بنبيهم. قوله: {وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ائتنا} يجوزُ لك على رواية من يسهِّل الهمزة وهو وَرْشٌ والسوسي أن تقلب الهمزة واواً، فتلفظ بصورة «يَا صالح وُتِنا» في الوصل خاصة تُبْدل الهمزة بحركة ما قبلها، وإن كانت منفصلة من كلمة أخْرَى. وقرأ عاصمْ وعيسى بْنُ عُمَرَ «أُوْتِنَا» بهمزة وإشباع ضم ولعله عاصم الجحدريّ لا عاصم بن أبي النجود، وهذه القراءة لا تبعد عن الغلطِ؛ لأن همزة الوصل في هذا النحو مكسورة فمن أين جاءت ضمة الهمزة إلاَّ على التوهُّم؟ قوله: «بِمَا تَعِدُنَا» العائِدُ محذوف أي: «تَعِدُناه» ولا يجوز أن تقدر «تَعِدُنا» متعدياً غليه بالباء، وإنْ كان الأصْلُ تعديته إليه بها، لئلا يلزم حذف العائد المجرور بحرف من غير اتّحاد متعلقهما لأن «بِمَا» متعلِّقٌ ب «الإتيان» ، و «به» متعلق ب «الوعد» ثم قالوا {إِن كُنتَ مِنَ المرسلين} وإنما قالوا ذلك؛ لأنَّهم كانوا مكذبين في كل ما أخبر عنه من الوَعْدِ والوَعِيدِ. قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} قال الفراء والزجاج هي الزلزلة الشديدة يُقالُ رَجَفَتِ الأرْضُ تَرْجُفُ رَجْفاً وَرَجيفاً ورجفاناً قال تعالى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال} [المزمل: 14] . وقال اللَّيثُ: الرَّجْفَةُ: الطَّامة التي يتزعزع لها الإنسان ويضطرب. ومنه قيل للبحر رجَّافٌ لاضطرابه. وقيل: أصله مِنْ رَجفَ به البعيرُ إذا حركه في سيره، كما يرجف الشجر إذا رجفه الريح. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 199 قال ابن أبي ربيعة: [الطويل] 2508 - ولمَّا رَأيْتُ الحَجَّ قَدْ حَانَ وَقْتُهُ ... وَظَلَّتْ جِمَالُ الحَيِّ بالقَوْمِ تَرْجُفُ والإرْجَافُ إيقاعُ الرَّجْفَةِ، وجمعه الأرَاجِيفُ، ومنه «الأراجِيفُ ملاقيحُ الفتنِ» . وقوله: {تَرْجُفُ الراجفة} [النازعات: 6] . كقوله: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] . ومنه [الطويل] 2509 - تُحْيِي العِظَامَ الرَّاجِفَاتِ مِنَ البِلَى ... فَلَيْسَ لِدَاءِ الرُّكْبَتَيْنِ طبِيبُ قوله: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} [يعني في بلدهم، كما يقال: دار الحرب، ودار البزّازين] . الجثوم: اللُّصوق بالأرْضِ من جثوم الطَّائر والأرْنَبِ، فإنَّهُ يلصق بطنه بالأرْضِ، ومنه رجل جُثَمَةٌ وجثَّامَةٌ كناية عن النَّؤوم والكَسْلان، وجثمانُ الإنسان شَخْصُه قاعداً وقال أبو عبيد: «الجُثُوم للنَّاس والطير كالبرول للإبل» وأنشد لجرير: [الوافر] 2510 - عَرَفْتُ المُنْتأى وعَرَفْتُ مِنْهَا ... مَطَايَا القِدْرِ كالْحِدَأ الجُثُومِ قال الكَرْمَانِيّ: حيث ذُكِرَت الرجفة وُحدت الدَّار، وحيث ذكرت الصيحة جُمِعَت الدار، لأنَّ الصيحة كانت من السماء فبلوغها أكبر وأبلغ من الزلزلة، فذكر كل واحد بالأليق [به] وقيل: في دارهم أي في بلدهم كما تقدَّم، وقيل: المراد بها الجنس. فصل في بيان فائدة موضع الفاء في الآية الفاء في «فأخذتهم» للتَّعقيب، وقوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} يقتضي أنَّ الرَّجفة أخذتهم عقيب قولهم: {ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ} وليس الأمر كذلك لقوله تعالى في آية أخرى: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] فالجوابُ: أنَّ أسباب الهلاك وجدت عقيب قولهم: {ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ} ، وهو أنَّهم اصفرت وجوههم في اليوم الأوَّل، واحمرّت في اليوم الثاني: واسودَّت في اليوم الثالث، فكان ابتداء العذاب متعقباً قولهم. ويمكن أن تكون عاطفة على الجملة من قوله: «فَأئْتِنَا» أيضاً وذلك على تَقْديرِ قرب زمان الهلاك من زمان طلبِ الإتيان. ويجوز أن يقدر ما يصحُّ العطف عليه بالفاءِ، والتقديرُ: فوعدهم العذاب بعد ثلاث فانقضت فأخذتهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 200 فصل في دحض شبهة للملاحدة. لا يلتفت إلى ما ذكره بعض الملاحدةِ في قوله: {فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة} ، وفي موضع آخر {الصيحة} [هود: 67] ، وفي موضع آخر {بالطاغية} [الحاقة: 5] واعتقد ما لا يجوز من وجوب التناقض إذ لا منافاة بين ذلك فإن الرجفة مترتبة على الصَّيحة؛ لأنَّهُ لمَّا صيح بهم؛ رجفت قلوبهم فماتوا، فَجَازَ أن يسند الإهلاكُ إلى كل منهما. وأمّا «بالطَّاغية» فالباء للسببية، والطَّاغية: الطغيان مصدر كالعاقبة، ويقال للملك الجبَّار: طاغية، والتّاء فيه كعلاَّمةٍ ونسَّابةٍ، ففي أهلكوا بالطاغيَة، أي: بطغيانهم كقوله: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ} [الشمس: 11] . قال أبو مسلم: «الطَّاغية: اسم لكلِّ ما تجاوز عن حدِّه سواء كان حيواناً أو غير حيوان: {إِنَّ الإنسان ليطغى} [العلق: 6] ، وقال: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ} [الشمس: 11] . وقال غير الحيوان: {إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء} [الحاقة: 11] أي: غلب وتجاوز عن الحدِّ. فصل في شهود الناقة قيل إنَّ القوم قد شاهدوا خُرُوج النَّاقةِ من الصخرة، وذلك معجزة قاهرة تلجىء المكلف، وأيضاً شاهدوا الماء الذي كان شرباً لكل أولئك الأقوام في أحد اليومين، كان شَرباً لتلك النَّاقة الواحدة في اليَوْمِ الثَّانِي، وذلك معجزة قَاهِرَةٌ تقرب الملك فمن الإلجاء. وأيضاً إنَّ القوم لما نحروها توعدهم صالح بالعذابِ، وشاهدوا صدقه على ما روي أنَّهم احمروا في اليوم الأوَّل، واصفرُّوا في اليوم الثَّاني، واسودُّوا في اليود الثالث، مع مشاهدة تلك المعجزة العظيمة، ثم شاهدوا علامات نُزول العذاب الشديد في آخر الأمر، هل يحتمل أن يبقى العاقل مع هذه الأحوال مُصرّاً على كفره؟ فالجوابُ: أن يقال: إنَّهَم قبل مشاهدتهم تلك العلامات من نزول العذاب كانُوا يكذبون، فلما نزلت بهم أول علامات العذاب وشاهدوها خرجوا عند ذلك عن حد التكليف فلم تكن توبتهم مَقْبُولَةً. قوله:» فَأصْبَحُوا «يجوز أن تكون النَّاقصة و» جَاثِمينَ «خبرها و» في دَارِهِم «متعلّق به، ولا يجوز أن يكثونَ الجارُّ خبراً و» جَاثِمِين «حال، لعدم الفائدة بقولك: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ} ، وإن جاز الوجهان في قولك: أصبح زيد في الدَّار جالساً. ويجوز أن تكون التامة، أي: دخلوا في الصباح، و» جَاثِمِينَ «حال، والأول أظهر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 201 قوله: {فتولى عَنْهُمْ} . قيل: إنه تولى عنهم بعد موتهم لقوله تعالى: {فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ فتولى} و» الفاءُ «تقتضي التعقيب. وقيل: تولّى عنهم قبل موتهم لقوله: {وَقَالَ يَاقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين} فدلَّ ذلك على كونهم أحياء من ثلاثة أوْجُهٍ: [الأول] : قوله لهم» يَا قَوْم «، والأموات لا يوصفون بالقوم، لاشتقاق لفظ القوم من القيام، وهو مفقود في حقِّ الميت. والثاني: أنَّ هذه الكلمات خِطَاب معهم، وخطاب الميت لا يجوز. والثالث: قوله: {وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين} يقتضي كونهم بحيث تصحُّ حصول المحبّة فيهم. ويمكن الجوابُ: بأنَّه قد يقولُ الرَّجلُ لصاحبه الميت، وقد كان نصحه فلم يقبل النَّصيحة، حتى ألقى نفسه في الهلاك: يا أخي منذ كم نصحتك فلم تقبل، وكمن منعتك فلم تمتنع، فكذا هاهنا. وفائدتُهُ: إمّا لأن يسمعه الحيُّ فيعتبر به، وينزجِر عن مثل تلك الطريقة، وإما لإحراق قلبه بسبب تلك الواقعة، فإذا ذكر ذلك الكلام فرَّجت تلك القضية من قلبه. وذكروا جواباً آخر، وهو أن صالحاً - عليه السلامُ - خاطبهم بعد كونهم» جَاثِمِينَ «، كما خاطب نبينا - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - قتلى» بدر «. فقيل: تتكلم مع هؤلاء الجيف؟ فقال:» مَا أنْتُمْ بأسْمَعَ مِنْهُم، ولكنْ لا يَقْدِرُونَ على الجوابِ « وقيل: في الآية تقديمٌ وتأخير، تقديره: فتولَّى عنهم وقال: يا قَوْم لَقَدْ أبْلَغَتُكم رسالةَ ربِّي، فأخذتهم الرجفة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 202 قوله تعالى: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الفاحشة} القصة. في نصب «لُوطاً» وجهان: أحدهما: أنه منصوب ب «أرْسَلْنَا» الأوَّلِ، و «إذ» ظرف الإرسال. والثاني: أنَّهُ منصوبٌ بإضمار «اذْكُرْ» ، وفي العامل في الظرف حينئذ وجهان: أحدهما - وهو قول الزمخشريِّ أنَّهُ بدلٌ من «لوطاً» قال: «بمعنى: واذكر وقت إذ قال لقومه» وهذا على تسليم تصرف «إذ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 202 والثاني: أنَّ العامل فيها مُقَدَّرٌ تقديره: «واذْكُرْ رسالةَ لُوط إذْ قَالَ» ف «إذ» مصوبة ب «رسالة» . قاله أبُو البقاء، والبدل حينئذٍ بدل اشتمال. وصرّف نوح ولوط لخفَّتِه، فإنَّهُ ساكنُ الوسط، مركب من ثلاثة أحرف. ، لُطْتُ الحوض إذا ملسته بالطين، وهذا غلط؛ لأنَّ الأسماء الأعجميّة لا تشتق كإسْحَاق، فلا يقال: إنه من السُّحق وهو البعد؛ وإنَّمَا صرف لخفته؛ لأنَّه على ثلاثة أحْرُف ساكن الوسط، فأمَّا لطتُ الحوضَ، وهذا أليط فصحيح، ولكن الاسم أعجميّ كإبراهيم وإسحاق. وهو: لوطُ بْنُ هَاران بْنِ تَارخ ابْنِ أخير إبراهيم، كان في أرض بابل مع عمه إبراهيم،، فهاجر إلى الشَّام، فنزل إبراهيمُ إلى فلسطين، وأنزل لوطاً الأردن، فأرسله اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إلى أهل سَدُوم. قوله: «أتأتُونَ الفَاحِشَة» أتفعلون السيئة المتناهية في القبح، وذكرها باسم الفاحشة ليبين أنَّها زنا لقوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] . {مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين} في هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنَّهَا مستأنفة لا محلَّ لها من الإعرابِ، وعلى الاستئناف يحتمل أن تكون جواباً لسؤال وألا تكون جواباً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 203 قال الزَّمَخْشَرِيُّ: «فإن قلت: ما موقع هذه الجملة» ؟ قلت: لا مَحَلَّ لها لأنَّها مُسْتَأنفة، أنكر عليهم أوّلاً بقوله: «أتَأتُونَ الفَاحِشَةَ» ثُمَّ وبخهم عليها فقال: أنتم أوَّلُ من عملها. أو تكون جواباً لسؤال مقدَّر، كأنَّهُم قالوا: لِمَ لا تأتيها؟ فقال: «ما سبقكم بها أحَدٌ؛ فلا تفعلوا ما لم تُسْبَقُوا به» وعلى هذا فتكون صفة للفاحشة، كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] وقال الشَّاعِر: [الكامل] 2511 - وَلَقَدْ أمُرُّ على اللَّئِيم يَسُبُّني ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . والباء في «بِهَا» فيها وجهان: أظهرهما أنها حالية، أي: ما سبقكم أحدٌ مصاحباً لها أي: ملتبساً بها. والثاني: أنَّها للتعدية. قال الزمخشريُّ: الباءُ للتعدية من قولك: «سَبَقْته بالكُرة» إذا ضربتها قبله. ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «سَبَقَكَ بها عُكَّاشَةُ» . قال أبو حيان: «والتّعدية هنا قلقة جداً؛ لأنَّ» الباء «المعدِّية في الفعل المتعدي لواحد [هي] بجعل المفعولِ الأوَّلِ يفعل ذلك الفعل بما دخلت عليه الباء فهي كالهمزة، وبيان ذلك أنَّك إذا قلت:» صَكَكْتُ الحجرَ بالحَجر «كان معناه: أصْكَكْت الحجرَ بالحجر أي: جَعَلْت الحجر يَصُكُّ الحجر، فكذلك: دفعت زيداً بعمرو عن خالد، معناه: أدْفَعْتُ زيداً عمراً عن خالد أي جعلت زيداً يدفع عمراً عن خالد فللمفعول الأوَّل تأثير في الثَّاني ولا يصحُّ هذا المعنى هنا؛ إذْ لا يصحُّ أن يقدَّر: أسْبَقْتُ زيداً الكرة أي: جعلت زَيْداً يسبق الكَرَةَ غلا بمجاز متكلَّف، وهو أن تجعل ضربك للكرةِ أول جَعْل ضربة قد سقبها أي: تقدَّمها في الزمان فلم يجتمعا» . و «مِنْ» الأولى لتأكيد استغراق النفي والثانية للتبعيض. والوجه الثاني من وجهي الجملة: أنَّها حال، وفي صاحبها وجهان: والثاني: هو المفعول أي: أتأتونها مُبْتَدَأ بها غير مسبوقة من غيركم. قال عمرو بن دينار: «ما يراد ذكر على ذكر في الدُّنيا حتى كان قوم لوط» . قوله: «أإنَّكُمْ» قرأ نافعٌ وحفصٌ عن عاصم: «إنكم» على الخبر المستأنف، وهو بيان تلك الفاحشة، وقرأ الباقون بالاستفهام المقتضي للتّوبيخ، فقرأ ابنُ كثير بهمة غير الجزء: 9 ¦ الصفحة: 204 ممدودة وتليين الثَّانية، وقرأ أبُوا عمرو بهمزة ممدودة للتّخفيف وتليين الثانية، والباقون بهمزتين على الأصل. قال الواحديُّ: «كان هذا استفهاماً معناه الإنكار لقوله تعالى:» أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ «، وكلُّ واحد من الاستفهامين جملة مستقلة غير محتاجة في تمامها إلى شيء آخر» . قوله: {لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً} قيل: نصب «شَهْوَةٍ» على أنه مفعول من أجله، أي: لأجل الاشتِهَاءِ لا حامل لكم عليه إلاَّ مجرّد الشَّهوة لا غير. وقيل: إنَّها مصدر واقعٌ موقع الحال، أي: مشتهين أو باق على مصدريَّته، ناصبة «أتَأتُونَ» ؛ لأنَّهُ بمعنى أتشتهون. ويقال: شَهِيَ يَشْهَى شَهْوَةً، [وشَهَا يَشْهُو شَهْوَةٍ] قال الشَّاعر: [الطويل] 2512 - وَأشْعَثَ يَشْهَى النَّوْمَ قُلْتُ لَهُ: ارْتَحِلْ ... إذَا مَا النُّجُومُ أعْرَضَتْ واسْبَكَرَّتِ وقد تقدَّم ذلك في آل عمران. قوله: {مِّن دُونِ النسآء} فيه ثلاثةُ أوْجُهٍ: أحدها: أنَّهُ متعلق بمحذوف، لأنَّهُ حال من «الرِّجالِ» أي: أتأتونهم منفردين عن النِّساء. والثاني: أنَّهُ متعلِّق ب «شَهْوَة» ، قاله الحوفيُّ. وليس بظاهر أن تقول: «اشتهيتُ من كذا» ، إلاَّ بمعنى غير لائق هنا. والثالث: أن يكُون صفة ل «شهوة» أي: شهوة كَائِنَة من دونهن. قوله: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ} «بل» للإضراب، والمشهور أنهُ إضراب انتقالٍ من قصّة إلى قصّة، فقيل: عن مذكور، وهو الإخبار بتجاوزهم عن الحدِّ في هذه الفاحشة، أو عن توبيخهم وتقريرهم، والإنكار عليهم. وقيل: بل للإضراب عن شيء مَحْذُوفٍ. واختف فيه: فقال أبُو البقاء: «تقديرُهُ: ما عَدَلْتُم بل أنتم» . وقال الكَرْمَانيُّ: «بل» ردٌّ لجواب زعموا أن يكون لهم عذراً أي: «لا عذر لكم بل» . وجاء هان بصفة القوم اسم الفاعل وهو «مُسْرِفُونَ» ؛ لأنَّهُ أدلُّ على الثُّبوت ولموافقة رءوس الآي؛ فإنَّهَأ أسماء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 205 وجاء في النمل [55] {تَجْهَلُونَ} دلالة على أنَّ جهلهم يتجدد كل وقت ولموافقة رءوس الآي فإنها أفعال. فصل في الإسراف معنى «مُسْرِفُونَ» أي: يتجاوزون الحلال إلى الحَرَامِ. قال الحسنُ: «كانوا لا ينكحون إلا الغرباء» . وقال الكلبيُّ: «إنَّ أوَّل من عملَ عملَ قوم لوط إبليس؛ لأنَّ بلادهم أخُصَبَتْ فانتجعها أهلُ البلدان، فتمثل لهم إبليس في صورة شابّ، ثم دعى إلى دُبرِهِ فنكح في دبره، فأمر الله - تعالى - السَّماءَ أن تحصبهم، والأرض أن تخسف بهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 206 قوله: {وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ} العامَة على نصب «جَوَابَ» خبراً للكون، والاسمُ «أن» وما في حيِّزِهَا وهو الأفصح؛ إذ فيه جعل الأعرف اسماً. وقرأ الحسن «جوابُ» بالرَّفع، وهو اسمها، والخبر «إلاَّ أن قالُوا» وقد تقدَّم ذلك. وأتى هنا بقوله «ومَا» ، وفي النّمل [56] والعنكبوت [24] «فَمَا» ، والفاء هي الأصل في هذا الباب؛ لأنَّ المراد أنَّهُم لم يتأخر جوابهم عن نصيحته، وأما الواو فالعتقيب أحدُ محاملها، فتعيَّن هنا أنَّها للتعقيب لأمرٍ خارجي وهي العربية في السّورتين المذكورتين لأنَّها اقتضت ذلك بوضعها. قوله: {أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي: أخرجوا لوطاً وأتباعه. {إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} أي: يتنزهون عن أدبار الرِّجالِ. وقيل: «يَتَطَهَّرونَ» أي: يتنزهون عن أدبار الرِّجالِ. وقيل: «يَتَطَهَّرونَ» يتباعَدُنَ عن المعاصي والآثام. وقيل: «يَتَطَهَّرُونَ» أي على سبيل السخرية بهم، كما يقول بعض الفسقة لمن وعظة من الصلحاء: أبْعِدُوا عنَّا هذا المتقشّفَ، وأريحونا من هذا المتزهِّدِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 206 المراد ب «أهله» : أنصاره وأتباعه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 206 وقال ابن عباس: «المراد: النتاه» وقوله: «إلا امْرَأتَهُ» أي: زوجتهُ، يقال: امرأةُ الرَّجل أي زوجته ويقال: رجل المرأة بمعنى زوجها؛ لأنَّ الزوج بمنزلة المالك لها، وليست المرأة بمنزلة المالك للرّجل. وقوله: «مِنَ الغَابِرِينَ» يعني الباقين في العذاب. وقيل: من الباقين المعمّرين قد أتى عليها دَهْرٌ طويل فهلكت، فهي مع من هلك. يقال: غبر الشيء يغبرغبوراً إذا مكث وبقي. وقوله: {كَانَتْ مِنَ الغابرين} جواب سؤال مقدَّر، وهذا كما تقد في البقرة، وفي أوَّل هذه السُّورة في قصة «إبليس» . والغابر: المقيم وهذا [هو] مشهور اللُّغة، وأنشدوا قول بي ذُؤَيْبٍ الهذلي: [الكامل] 2513 - فَغَبَرْتُ بَعْدَهُمُ بِعَيْشٍ نَاصِبٍ ... وإخَالُ أنِّي لاحِقٌ مُسْتَتْبَعُ ومنه غُبَّرُ اللبن لبقيته في الضَّرْع، وغُبَّرُ الحَيْض أيضاً، قال أبو كبير الهُذَلِيُّ، ويروى لتأبَّط شَرّاً: [الكامل] 2514 - ومُبَرَّأ مِنْ كُلِّ غُبَّرِ حَيْضَةٍ ... وَفَسَادِ مُرْضِعَةٍ وَدَاءٍ مُعْضِلِ ومعنى «مِنَ الغَابِرِينَ» في الآية أي: من المقيمن في الهلاكِ. وقال بعضهم: «غبر بمعنى مضى وذهب» ومعنى الآية يساعده؛ وأنشد للأعشى: [السريع] 2515 - عَضَّ بِمَا أبْقَى المَوَاسِي لَهُ ... مِنْ أمِّهِ فِي الزَّمَنِ الغَابِرِ أي: الزمان الماضي. وقال بعضهم: غَبَرَ: أي غاب، ومنه قولهم: «غَبَر عَنَّا زماناً» . وقال أبُو عبيدة: «غبر: عُمِّر دَهْراً طويلاً حتّى هَرِمَ» ، ويدلُّ له: {إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين} [الصافات: 135] . وقد تقدَّم. والحاصل أنَّ الغبور مشتركٌ ك «عَسْعَسَ» ، أو حقيقة ومجازٌ وهو المرجح. والغبارُ: ما يبقى من التُّراب المُثَارِ ومنه: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} [عبس: 40] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 207 تخييلاً لتغيرها واسودادها والغَبْراء: الأرْضُ؛ قال طرفةُ: [الطويل] 2516 - رَأيْتُ بَنِي غَبْرَاءَ لا يُنْكِرُونَنِي ... وَلاَ أهْلُ هَذَاكَ الطِّرَافِ المُمَدَّدِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 208 قوله: «وأمْطَرْنَا» قال أبو عُبَيْدٍ: «يقال: مُطِر في الرحمة، وأمْطِر في العذاب» . وقال [أبو القاسم] الرَّاغِبُ: ويقال: مطر في الخير، وأمطر في العذاب، قال تعالى: {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} [الحجر: 74] . وهذا مردود بقوله تعالى: {هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا} [الأحقاف: 24] فإنهم إنَّما عنوا بذلك الرحمة، وهو من أمْطَرَ: وأمْطرتهم، وقوله تعالى هنا: «وأمْطَرْنا» ضُمِّن معنى «أرْسَلْنَا» ولذلك عُدِّي ب «عَلَى» ، وعلى هذا ف «مَطَراً» مفعولٌ به لأنَّهُ يُراد به الحجارة، ولا يُرَادُ به المصدر أصلاً، إذ لو كان كذلك لقيل: أمطار. ويوم مَطِيرٌ: أي: مَمْطُورٌ. ويوم ماطر ومُمْطِرٌ على المجاز كقوله: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} [إبراهيم: 18] ، ووادٍ مطير فقط فلم يُتَجَوَّزْ فيه ومطير بمعنى مُمْطِر؛ قال: [الطويل] 2517 - حَمَامَةَ بَطْنِ الوَاديَيْنِ تَرَنَّمِي ... سَقَاكِ من الغُرِّ الغَوَادِي مَطِيرُهَا فعيل هنا بمعنى فاعل؛ لأنَّ السَّحاب يمطرُ غيرها، ونكَّر «مطراً» تعظيماً، والمرادُ بالمطر هنا يعني حجارة من سجيل. قال وهب: «هي الكبريت والنَّار فانظر كَيْفَ كان عاقِبةُ المجرمين» . فصل في إيجاب اللواط الحد اللِّوَاط يوجب الحد، وهذه الآية تدلُّ عليه من وجوه: الأول: أنَّهُ ثبت في شريعةِ لُوطٍ رجم اللوطيّ، والأصل بقاء ما ثبت إلى أنْ يرد الناسخ، ولم يرد في شرع مُحَمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما ينسخه، فوجب الحكم ببقائه. الثاني: قوله تعالى: {أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] . الثالث: قوله تعالى: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين} . والمرادُ من هذه العاقبة ما سبق ذكر من إنْزالِ الحجر عليهم من المجرمين الذين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 208 يعملون عمل قوم لوط؛ لأنَّ ذلك هو المدلول السابق، فينصرف إليه ذكر الحكم عقيب الوَصْفِ مشعراً بالعليَّة. وقال أبو حنيفة: «اللَّوَاطُ لا يوجب الحدَّ» . واختلفوا في حدّ اللاَّئط: فقال بعضهم: «يُرجم مُحْصَناً كان، أو غير محصن، وكذلك المفعول به إن كان محتلماً» . وقال بعضهم: «إنْ كان محصناً رجم، وإن كان غير محصن أدّب وحبس» . وقال أبو حنيفة: يُعزَّر، [وحجة الجمهور أن الله تعالى] عذب قوم لوط بالرجم وقال عليه الصَّلاة والسَّلامُ: «مَنْ وَجَدْتُمُوهُ يَعْمَل عَمَلَ قَوْمِ لوطٍ فاقْتُلُوا الفاعلَ والمَفْعُولَ بِهِ» وروي عن أبي بكر الصديق أنَّهُ حَرَّقَ رجُلاً يُسَمّى الفُجَاءَة حين عمل عمل قوم لوط بالنَّار، وأحرقهم ابن الزُّبير في زمانه، ثم أحرقهم هِشامُ بنُ الوليدِ، ثم أحرقهم خالد القَسْريُّ ب «العراق» . وروي أن سبعة أخذوا في زمان ابن الزُّبير في لواط، فسألَ عنهم، فوجد أرْبَعةً منهم أحصنوا، فخرج بهم من الحرم، فرُجموا بالحجارة حتى ماتوا، وحد الثلاثة، وعنده ابن عباس وابن عمر فلم ينكرا، وهذا مذهب الشافعي. قال ابن العربيِّ: الأوَّلُ أصحُّ سنداً وهو مذهب مالك. فإن أتى البهيمة قيل: يقتل هو والبهيمة. وقيل: يقتل دون البهيمة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 209 قوله تعالى: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} القصة. اختلف في «مَدْيَنَ» : فقيل: أعجميٌّ، فمنعه للعُجْمَةِ والعلمية، وهو مدين بن إبراهيم - عليه السلام - فسُمِّيت به القبيلة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 209 وقيل: هو عربيٌّ اسم بلد، قاله الفرَّاءُ، وأنشد: [الكامل] 2518 - رُهْبَانُ مَدْيَنَ والَّذينَ عَهِدْتُهُمْ ... يَبْكُونَ مِنْ حَذَرِ العَذَابِ قُعُودَا لَوْ يَسْمَعُونَ كَمَا سَمِعْتُ كَلامَهَا خَرُّوا لِعَزَّةَ رُكَّعاً وسُجُودَا فمنعهُ للعَلِميَّة والتَّأنيث. ولا بدّ حينئذ من حذف مضاف، أي: وإلى أهل مدين، ولذلك أعاد الضَّمير في قوله: «أخَاهُم» على الأهل، ويجوز أن يراد بالمكان سَاكِنُوه، فروعي ذلك بالنِّسْبَةِ إلى عود الضمير عليه وعلى تقدير كونه عربياً قالوا: فهو شاذ، إذ كان من حقِّه الإعلال كمتاع ومقام، ولكنهم شذُّوا فيه كما شذوا في مَرْيم ومَكْوذَة، وليس بشاذٍ عند المبرِّد، لعدم جَرَيَانِهِ على الفعل، وهو حقٌّ وإن كان الجمهور على خلافه. قوله: «شُعَيْباً» يجوز أن يكون تصغير شَعْب أو شِعْب هكذا قالوا، والأدبُ ألاَّ يقالَ ذلك، بل هذا موضوضعٌ على هذه الزِّنَةِ، وأمَّا أسماءُ الأنْبِيَاءِ فلا يدخلُ فيها تصغيرٌ ألْبَتَّةَ، إلا ما نطق به القرآن على صيغة تشبهه كشُعَيْب عليه السلام، وهو عربي لا أعجمي. فصل قال عطاء: «هو شعيبُ بْنُ نويب بنِ مَدْينَ بنِ إبراهيمَ» . وقال ابْنُ إسحاقَ: «هو شُعَيْبُ بْنُ ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم، وأم ميكائيل بنت لوط» . وقيل: هو شُعَيْبُ بنُ ميرون بن مدْينَ، وكان شعيب أعمى، ويقال له: «خِطِيبُ الأنْبِيَاء» لحسن مراجعته قومه وكان أهل كفر وبخس للكَيْلِ والميزان، وهم أصحاب الأيكة. {قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} وهذا أصل معتبر في شرائع جميع الأنبياء. {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} واعلم أنَّ المراد من البيِّنَةِ هنا المعجزة، ولم تذكر في القرآن. كما لم يذكر في القرآن كثير من مُعْجِزاتِ رسُولِنَا. قال الزمخشريُّ: «ومن معجزات شعيب أنَّهُ دفع إلى موسى عصاه وصارت ثعباناً، وأيضاً قال لموسى - عليه [الصلاة] والسلام -: هذه الأغنام تلد أوْلاداً فيها سواد وبياض، وقد وهبتها لك، فكان الأمر كذلك» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 210 قوله: {فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ} . اعلم أنَّ قوم شُعَيْبٍ كانوا مشغوفين بالبَخْسِ والتَّطْفيف. فإن قيل: «الفاء» في قوله: «فأوفوا» توجب أن يكون الأمر بإيفاء الكيل كالتعليل لما سبق ذكره، وهو قوله: {قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ} فكيف وجهه؟ فالجوابُ: كأنَّهُ يقول لهم: البخس والتطفيف عبارة عن الخيانة بالشَّيءِ القليل، وهو مستقبح في العقل، ومع ذلك فقد جاءت البينة والشريعة بتحريمه فلم يبق فيه عذر «فَأْفُوا الكَيْلَ» . وقال هنا: «الكَيْلَ» ولم يقل: «المِكْيَالَ» كما في سورة هود [84] ؛ لأنَّهُ أراد بالكيل آلة الكيل وهو المكيال، أو يسمى ما يكال به الكيل كما يقال: «العيش» لما يعاش به. قوله: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ} قد تقدّم معنى هذه اللفظة في قوله: {وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً} [البقرة: 282] ، وهو يتعدّى لاثنين، وهما «النَّاس» و «أشياءهم» ، أي: لا تنقصوهم أشياءهم ولا يظلموهم، ويدخلُ فيه المَنْعُ من الغَصْبِ، والسرقة والرشوة، وقطع الطريق، وانتزاع الأموال بطريق الحيل. قوله: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} . وذلك أنَّهُ لما كان أخذُ أموال النَّاس بغير رضاهم يوجب المُنازَعَة والخصومة، وهما يوجبان الفَسَادَ، لا جَرَمَ قال بعده: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} . وقيل: أراد المَنْعَ من كلِّ فسادٍ. وقيل: أراد بقوله: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَاءَهُمْ} المنع من فساد الدُّنيا، وبقوله: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض} المنع من فساد الدِّين. واختلفوا في معنى «بَعْدَ إصْلاحِهَا» : فقيل: بعد أن صلحت ببعثة الرسل. وقيل: بعد أن أصلحها بتكثير النّعَمِ. ثم قال: «ذَلِكُمْ» وهو إشارةٌ إلى ما تقدَّم من الأمر والنهي «خَيْرٌ لَّكُمْ» في الآخرة {إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} مصدِّقين بما أقول. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 211 يجوز أن تكون «الباء» على حالها من الإلصاق أو المصاحبة، أو تكون بمعنى «في» يقال: قَعَدَ لَهُ كذا، وعلى مكان كذا، وفي مكان كذا، فتتعاقب هذه الحروف في هذا الموضع لتقارب معانيها، فقعد بمكان: الباء للغلصاق، وقد التصق بذلك المكان، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 211 و «على» للاستعلاء، وقد علا ذلك المكان، و «في» للحلول، وقد حلّ ذلك المكان. و «تُوعَدُونَ» ، و «تَصُدُّون» ، و «تَبْغُونَ» هذه الجمل أحوال [أي] : لا تَقْعُدُوا مُوْعدين وصادِّين وباغين. ولم يذكر الزعد له لِتَذْهَبَ النَّفسُ كلَّ مذهبٍ: ومفعول «تصدُّون» «مَنْ آمَن» . قال أبُو البقاء: «مَنْ آمَنَ» مفعول «تَصُدُّونَ» لا مفعول «تُوعدُونَ» ، إذْ لو كان مفعولاً للأوَّل لقال: «تَصُدُّونَهُم» ، يعني أنَّه لو كان كذلك لكانت المسألة من التَّنازع، وإذا كانت من التنازع وأعْمَلْتَ الأولَ لأضْمَرْتَ في الثاني فكنت تقول: «تَصُدُّونهم» لكنه ليس القرآن كذا، فدل على أن «تُوعَدُونَ» ليس عاملاً فيه، وكلامُه يحتمل أنْ تكون المسألة من التَّنازع - يكون ذلك على إعمال الثاني، وهو مختار البصريين وحذف من الأوَّل - وألاَّ تكون وهو الظَّاهِر. وظاهرُ كلام الزمخشري: أنَّهَا من التَّنَازُع، وأنَّهُ من أعمال الأوَّل، فإنَّهُ قال: فإن قلت: إلاَمَ يَرْجِعُ الضَّميرُ في «من آمَنَ بِهِ» ؟ قلتُ: إلى كلِّ صراطٍ، تقديره: تُوْعِدون من آمن به وتَصُدُّون عنه، فوضعَ الظَّاهِر الذي هو «سبيل الله» موضع المضمر زيادة في تقبيح أمرهم. قال أبو حيَّان: «وهذا تعسُّف وتكلُّفٌ مع عدم الاحتياج إلى تقديم وتأخير، ووضع ظاهر موضع مضمر، إذ الأصل خلاف ذلك كُلَّهِ، ولا ضرورة تَدْعُوا إليه، وأيضاً فإنَّهُ من أعمال الأوَّل وهو مذهب مَرْجُوحٌ، ولو كان من إعمال الأوَّلِ لأضمر في الثاني وُجُوباً، ولا يجوز حذفهُ إلا في ضرورة شعرٍ عند بعضهم [كقوله] : [مجزوء الكامل] 2519 - بِعُكَاظَ يُعْشِي النَّاظِري ... نَ إذَا هُمُ لَمَحُوا شُعَاعَهْ فأعمل» يُغشي «ورفع به» شُعَاعه «وحذفَ الضمير من» لَمَحُوا «تقديره: لمحوه، وأجازه بعضهم بقلةٍ في غير الشِّعْرِ. والضَّمير في» به «: إمَّا لكل صراط كما تقدَّم عن الزمخشريِّ، وإمَّا على الله للعلم به، وإمَّا على سبيل الله، وجاز ذلك؛ لأنَّهُ يذكَّر ويُؤنَّثُ، وعلى هذا فقد جمع بين الاستعمالين هنا حيث قال:» به «فذكَّر، وقال:» وتَبْغُونها عِوَجاً «فأنَّث، ومثله: {قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] [وقد تقدَّم] نحو قوله: {تَبْغُونَهَا عِوَجاً} [آل عمران: 99] في آل عمران. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 212 ومعنى الآية أنَّهُم كانوا يجلسون على الطَّريق فيقولون لمن يريدُ الإيمانَ بشُعَيْبٍ: إنَّ شُعَيْباً كذاب فلا يفتننَّك عن دينك، ويتوعدون المؤمنين بالقَتْل، ويخوفونهم. قال الزمخشريُّ: قوله: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ} أي: ولا تقتدوا بالشَّيْطان في قوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] قال: والمرادُ من قوله: «صِرَاطٍ» كلُّ ما كان من مناهج الدِّين ويدلُّ عليه قوله: {وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} . قوله: «وَاذْكُرُوا» إمَّا أن يكون مفعوله محذوفاً، فيكون هذا الظَّرف معمولاً لذلك المفعول أي: اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عليكم في ذلك الوقت، وإمَّا أن يجعل نفس الظرف مفعولاً به. قاله الزمخشريُّ. وقال ابن عطية: «إنّ» الهاء «في» به «يجوز أن تعود على شعيب عند مَنْ يرى أنَّ القُعُودَ على الطرق للردِّ عن شعيب، وهو بعيد؛ لأن القائل:» ولا تقعدوا «هو شعيب، وحينئذ كان التركيب» مَنْ آمَنَ بِي «، والادِّعَاءُ بأنَّهُ من باب الالتفات بعيد جداً؛ إذ لا يَحْسُن أن يُقال:» [يا] هذا أنا أقول لك لا تُهِنْ مَنْ أكرَمَه «أي: مَنْ أكرمني. قوله: {إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ} . قل الزَّجَّاج:» هذا الكلام يحتمل ثلاث أوجه: كثر عددكم بعد القلّة، وكثركم بالغنى بعد الفقر، وكثركم بالقوة بعد الضعف «قال السدي:» كانوا عشارين «. [قوله] : {وانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين} . » كيف «وما في حيِّزها معلِّقة للنظر عن العمل، فهي وما بعدها في محل نصب على إسقاط الخافض. والنظرُ هنا التفكُّرُ، و» كيف «خبر كان، واجب التقديم. والمعنى: انظر كيف كان عاقبة المفسدين أي: جزاء قوم لوط من الخزي والنكار وعذاب الاستئصال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 213 قوله: {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مَّنكُمْ آمَنُواْ بالذي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ} أي: اختلفتم في رسالتي فصرتم فرقتين مؤمنين ومكذبين، و «طائفة» الثانية عطف على «طائفة» الأولى فهي اسم كان و «لم يؤمنوا» معطوف على «آمنوا» الذي هو خبر كان، عَطَفَتْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 213 اسماً على اسم، وخبراً على خبر، ومثله لو قلت: «كان عبد الله ذاهباً وبكر خارجاً» ، عطفْتَ المرفوع على مثله، وكذلك المنصوب، وقد حذف وصف طائفة الثانية لدلالة وصف الأولى عليه، إذ التقدير: «طائفة منكم لم يؤمنوا» ، وحذف أيضاً متعلق الإيمان في الثانية، لدلالة الأولى عليه، إذ التقديرك لم يؤمنوا بالذي أُرسلت به، والوصف بقوله: منكم الظاهر أو المقّر هو الذي سَوغ وقوع «طائفة» اسماً ل «كان» من حيث أن الاسم في هذا الباب كالمتبدأ، والمبتدأ لا يكون نكرة إلا بمسوّغٍ تقدم التنبيه عليه. قوله «فَاصْبِرُوا» يجوز أن يكون الضمير للمؤمنين من قومه، وأن يكون للكافرين منهم، وأن يكون للفريقين، وهذا هو الظاهر أَمَرَ المؤمنين بالصبر ليحصُل لهم الظفر والغلبة، والكافرون مأمورون به ليَنْصُرَ الله عليهم المؤمنين لقوله: {قُلْ تَرَبَّصُواْ} [الطور: 31] ، أو على سبيل التنازل معهم أي: اصبروا فستعلمونَ مَنْ ينتصر ومن يَغْلب مع علمه بأن الغلبة له و «حتى» بمعنى «إلى» فقط. وقوله «بيننا» غَلَّب ضمير المتكلم على المخاطب، إذ المرادُ بيننا جميعاً من مؤمن وكافر، ولا حاجة إلى ادِّعاء حذف معطوف تقديره: بيننا وبينكم. ثم قال: {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} أي: أنه حاكم منزه عن الجور والميل والحيف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 214 قوله تعالى: {قَالَ الملأ الذين استكبروا} هم الرؤساء {لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب} ونخرج أتباعك من قريتنا. وقوله: {والذين آمَنُواْ} عطف على الكاف، و «يا شعيبُ» اعتراض بين المتعاطفين. قوله: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} عطف على جواب القسم، إذ التقدير: والله لنخرجنَّكَ والمؤمنين أو لتعودُنَّ، فالعَوْدُ مُسند إلى ضمير النبي ومَنْ آمن معه. فإن قيل: إن شعيباً لم يكن قطّ على دينهم ولا ملتهم، فكيف يحسن أن يقال: «أو لتعودن في ملتنا» ، وقوله: {قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً} يدل أيضاً على ذلك؟ . فالجواب: إن «عاد» في لسان العرب لها استعمالان. أحدهما - وهو الأصل - أنه الرجوع إلى ما كان عليه من الحال الأول. والثاني: استعمالُها بمعنى «صار» ، وحينئذ ترفعُ الاسم وتنصبُ الخبرَ، فلا تكتفي بمرفوع وتفتقر إلى منصوب، [وهذا عند بعضهم] ومنهم من منع أن تكون بمعنى «صار» فمن مجيئها بمعنى «صار» قوله: [الطويل] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 214 2520 - وَرَبَّيْتُهُ حَتَّى إذَا ما تَرَكْتُهُ ... أخَا القَومِ واسْتَغْنَى عَنِ المَسْحِ شَارِبُهَ وَبِالْمَحْضَ حَتَّى عَادَ جَعْداً عَنَطْنَطاً ... إذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الفَحْلِ غَارِبُهْ فرفع ب «عاد» ضمير الأول ونصب بها «جَعْداً» ، ومَنْ مَنَع ذلك يَجْعل المنصوب حالاً قال: [الطويل] 2521 - فَإنْ تَكُنْ الأيَّامُ أحْسَنَ مُدَّةً ... إليَّ فَقَدْ عَادَتْ لَهُنَّْ ذُنُوبُ أي: صار لهن ذنوب، ولم يرد أن ذنوباً كانت لهن قبل الإحسان، وعلى هذا فزال الإشكال، والمعنى: لتصرينّ في ملتنا بعد أن لم تكونوا، ف «في ملتنا» خبر على هذا وأمّا على الأول فالجواب من وجوه: أحدها: أن هذا القول من رؤسائهم، قصدوا به التلبيس على العوام، والإيهام لهم أنه كان على دينهم وفي مِلَّتِهِمْ. الثاني: أنهم خاطبوا شعيباً بخطاب أتباعه، وأجروا عليه أحكامهم. الثالث: أن يُراد بعَوْده رجوعُه إلى حالة سكوته قبل بعثته؛ لأنه قبل أن يبعث إليهم كان يُخْفي إيمانه، وهو ساكت عنهم بريء مِنْ معبودهم غير الله. وعدَّى «عاد» ب «في» الظرفية، كأن المِلَّة لهم بمنزلةِ الوعاءِ المحيط بهم. قوله: {أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ} الاستفهامُ للإنكار تقديره: أيوجدُ منكم أحد هذين الشيئين: أعني الإخراج من القرية، والعَوْد في الملة على كل حال حتى في حال كراهتنا لذلك؟ . وقال الزمخشري: «الهمزةُ للاستفهام، والواوُ واو الحال تقديره: أتعيدوننا في ملَّتكم في حال كراهتنا» . قال أبو حيان: «وليست هذه واو الحال، بل واو العطف، عطفت هذه الحال على حال محذوفة، كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» رُدُّوا الساَّئِلَ ولَوْ بِظلْفٍ مُحرقٍ « الجزء: 9 ¦ الصفحة: 215 ليس المعنى: رُدُّوه حال الصدقة عليه بظلف مُحرق، بل معناه: رُدُّوه مصحوباً بالصدقة ولو مصحوباً بظلفٍ محرق، وقد تقدّمت هذه المسألة، وأنه يصح أن تُسمَّى واو الحال وواو العطف [وتحرير ذلك، ولولا تكريره لما كرَّرْته] . وقال أبو البقاء: و «لو» هنا بمعنى «إنْ» لأنها للمستقبل، ويجوز أن تكون على أصلها، ويكون المعنى: لو كنا كارهين في هذا الحال أي أن كنا كارهين لذلك فتجبروننا عليه. وقوله: «لأنها للمستقبل» ممنوع. قوله: «إنْ عُدْنَا» شرط جوابه محذوف عند الجمهور أي: فقد افترينا، حذف لدلالة ما تقدم عليه، وعند أب زيد والمبرد والكوفيين هو قوله: «فقد افتَرْينا» وهو مردود بأنه لو كان جواباً بنفسه لوَجَبَتْ فيه الفاء. وقال أبو البقاء: «قد افترينا بمعنى المستقبل؛ لأنه لم يقع، وإنما سَدَّ مَسَدَّ جواب» إنْ عُدْنا «وساغ دخولُ» قد «هنا لأنهم نَزَّلوا الافتراء عند العود منزلة الواقع فقرنوه ب» قد «، وكأنَّ المعنى: قد افترَيْناه الآن إن هَمَمْنا بالعود» . وفي هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنها استئناف إخبار فيه معنى التعجب، قاله الزمخشري، كأنه قيل: ما أكذبنا على الله إن عُدْنا في الكفر. والثاني: أنها جواب قسم محذوف حذفت اللام منه، والتقدير: والله لقد افترينا، ذكره الزمخشري أيضاً، وجعله ابن عطية احتمالاً وأنشد: [الكامل] 2522 - بَقَّيْتُ مَالِي وانْحَرَفْتُ عَنِ العُلَى ... وَلَقِيتُ أضْيَافِي بِوَجْهِ عَبُوسِ قال: «كما تقول: افتريتُ على الله إن كلَّمت فلاناً» ولم يُنْشِدْ ابن عطية البيت الذي بعد هذا، وهو محلُّ الفائدة؛ لأنه مشتمل على الشرط وهو: [الكامل] 2523 - إنْ لَمْ أشُنَّ عَلَى ابْنِ هِنْدِ غَارَةً ... لَمْ تَخْلُ يَوْماً مِنْ نهابِ نُفُوسِ قوله: {بَعْدَ إذْ نَجَّانَا} منصوب ب «نعود» أي: ما يكون ولا يستقيم لنا عود بعد أن حصل لنا التنجيةُ منها. فصل في معنى التنجية وفي معنى {نَجَّانَا الله مِنْهَا} وجوه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 216 الأول: علمنا قبحه وفساده وبطلانه. الثاني: أن الله نجّى قومه من تلك الملة، وإنما نظم نفسه في جملتهم وإن كان بريئاً منهم تغليباً للأكثر. الثالث: أن القوم أوهموا المستضعفين أنه كان على ملتهم، فقوله: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} أي على حسب معتقدكم. قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} في هذا الاستثناء وجهان: أحدهما: أنه متصل. والثاني: أنه منقطع. ثم القائلون بالاتصال مختلفون: فمنهم من قال: هو مستنثى من الأوقات [العامة] والتقدير: وما يكونُ لنا أن نعود فيها في وقت من الأوقات إلا في وقت مشيئة الله ذلك، وهذا متصور في حقِّ مَنْ عدا شعيباً، فإن الأنبياء لا يشاء الله ذلك لهم؛ لأنه عَصَمهم. ومنهم من قال: «هو مستثنى من الأحوال العامة والتقدير: ما يكون لنا أن نعود فيها في كل حال إلا في حال مشيئة الله تعالى» . وقال ابن عطية: «ويُحتمل أن يريد استثناء ما يمكن أن يتعَبَّد الله [به] المؤمنين ممَّا تفعلهُ الكفرةُ من القُرُبات فلمَّا قال لهم: إنا لا نعودُ في مِلَّتكم، ثم خشي أن يتعَبَّد الله بشيء من أفعال الكفرة فيعارض ملحدٌ بذلك ويقول: هذه عودة إلى ملَّتنا استثنى مشيئة الله فيما يمكن أن يتعبَّدَ به» . قال أبو حيان: «وهذا الاحتمال لا يَصِحُّ لأن قوله: {بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} إنما يعني النجاة من الكفر والمعاصي لا من أعمال البر» . قال شهاب الدين: «قد حكى ابن الأنباري هذا القول عن المعتزلة الذين لا يؤمنون بالإرادة ثم قال: وهذا القول مُتَنَاولهُ بعيد، لأن فيه تبعيض الملّة» . وقيل: هذا استثناء على سبيل التسليم والتأدُّب. قال ابن عطية: «ويقلق هذا التأويلُ من جهةِ استقبال الاستثناء، ولو كان الكلام: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ} قوي هذا التأويل» . وهذا الذي قاله سهوٌ؛ لأنَّ الماضيَ يتخلَّص للاستقبال بعد «إنْ» الشرطية، كما يتخلَّص المضارع له ب «أنْ» المصدرية. وقيل: إن الضمير في قوله: «فيها» ليس عائداً على المِلَّة، بل عائد على الفِرْية، والتقدير: وما يكون لنا أن نعود في الفِرْية إلا أن يشاء ربنا، وهو حَسَنٌ لولا بُعْدُه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 217 فصل في بيان المشيئة استدل أهل السنة بهذه الآية على أنه تعالى قد يشاء الكفر، واستدل المعتزلة بها على أنه لا يشاء إلا الخير. فأمّا وجه استدلال اهل السنة فمن وجهين: الأول: قوله: {إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} [يدل على أن المنجي من الكفر هو الله - تعالى -، ولو كان الإيمان يحصل بخلق العبد، لكانت النجاة من الكفر تحصل للإنسان من نفسه لا من الله تعالى وذلك على نقيض قوله {إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا} ] . الثاني: أن معنى الآية أنه ليس لنا أن نعود إلى ملتكم إلا أن يشاء الله أن يعيدنا إلى تلك الملة، وتلك الملة كفر، فكان هذا تجويزاً من شعيب - عليه السلام - أن يعيدهم إلى الكفر. قال الواحدي: ولم تزل الأنبياء والأكابر يخافون العاقبة وانقلاب الأمر؛ ألا ترى إلى قوله الخليل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} [إبراهيم: 35] وكان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «يا مُقَلِّبَ القُلُوبِ والأبْصَارِ ثَبِّتْ قُلُوبَنَا عَلى دِيْنِكَ وطاعَتِكَ» . وقال يوسف - عليه السلام -: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} [يوسف: 101] وأجاب المعتزلة بوجوه: أحدها: أن قوله: «ما لنا أن نعود إلى تلك الملة إلا أن يشاء [الله] أن يعيدنا إيها قضية [شرطية، وليس فيها بيان أنه تعالى شاء ذلك أو ما شاء. وثانيها: أن هذا مذكور على طريق التبعيد] كما يقال: لا أفعل ذلك إلاَّ إذا ابيضّ القَارُ وشاب الغراب، فعلّق شعيب - عليه السلام - عوده إلى ملتهم على مشيئته بما علم أنه لا يكون منه ذلك أصلاً على طريق التبعيد لا على وجه الشرط. وثالثها: قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} ليس فيه بيان أن الذي يشاء الله ما هو؟ فنحمله على أن المراد إلا أن يشاء الله بأن يظهر الكفر من أنفسنا إذ أكرهتمونا عليه بالقتل، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر من أنفسنا إذ أكرهتمونا عليه بالقتل، وذلك لأن عند الإكراه على إظهار الكفر بالقتل يجوز إظهاره، وما كان جائزاً كان مراداً لله - تعالى -، وكون الصبر أفضل من الإظهار لا يخرج الإظهار من أن يكون مراداً لله - تعالى - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 218 كما أن المسح على الخفين مرادٌ لله تعالى، وإن كان غسل الرجلين أفضل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 219 ورابعها: أن المراد بقوله: {لنخرجنك يا شعيب} أي من القرية، فيكون المراد بقوله: {أن نعود فيها} أي القرية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 220 وخامسها: أن نقول: يجب حمل المشيئة هاهنا على الأمر؛ لأن {وما كان لنا أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 221 نعود فيها إلاَّ أن يشاء الله} معناه: فإنه إذا شاء كان لنا أن نعود فيءها، فقوله: «لنا أن نعود الجزء: 9 ¦ الصفحة: 222 فيها} أي يكون ذلك العود جائزاً، والمشيئة عند أهل السنة لا توجب جواز الفعل، فإنه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 223 تعالى يشاء الكفر من الكافر عنده ولا يجوز له فعله، إنما الذي يوجب الجواز هو الأمر، فثبت أن المراد من المشيئة هاهنا الأمر، فكان التقدير إلاَّ أن يأمر الله [عودنا في ملتكم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 224 فإنا نعود إليها، والشريعة المنسوخة لا يبعد أن يأمر الله] بالعمل بها مرة أخرى، وعلى هذا التقدير يسقط استدلالكم. وسادسها: قال الجبائي: المراد من الملّة الشريعة التي يجوز اختلاف التعبد فيها بالأوقات كالصلاة والصيام وغيرهما، فقال شعيب: {وما كان لنا أن نعود في ملتكم} فلما دخل في ذلك كل ما هم عليه، وكان من الجائز أن يكون بعض تلك الأحكام والشرائع باقياً غير مسنوخ، لا جرم قال: {إلا أن يشاء الله} والمعنى: إلا أن يشاء الله بقاء بعضها، فيدلّنا عليه، فحينئذ نعود إليها، فهذا الاستثناء يعود إلى الأحكام التي يجوز النسخ والتغيير فيها، ولا يعود إلى ما لا يقبل التغيير ألبتة، فهذه أسئلة القوم. وتمسك المعتزلة بهذه الآية على صحة قولهم من وجهين: الأول: أن ظاهر قوله {وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله} يقتضي أنه لو شاء الله عودنا إليها لكان لنا أن نعود إليها، وذلك يقتضي أن كلَّ ما شاء الله جوده كان فعله جائزاً مأذوناً فيهن ولم يكن حراماً، قالوا: وهذا عين مذهبنا أن كل ما أراد حصوله كان حسناً مأذوناً فيه، وما كان حراماً ممنوعاً منه لم يكن مراداً لله تعالى. الثاني: ان قولهم: «لنخرجنّك أو لتعودُنَّ» لا وجه للفصل بين هذين القسمين على قول الخصم، لأن على قولهم خروجهم من القرية بخلق الله وعودهم إلى تلك القرية أيضاً بخلقه، وإذا كان حصول القسمين بخلق الله، لم يبق للفرق بين القسمين فائدة. واعلم أنه لمّا تعارض استدلال الفريقين بهذه الآية وجب الرجوع إلى بقية الآيات في هذا الباب. قوله: {وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} نصب «عِلْماً» على التمييز وهو منقول من الفاعلية، تقديره: وَسِعَ علمُ ربِّنا كلَّ شيء كقوله تعالى: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 24] والمعنى: أحاط علمه بكل شيء. ثم قال: {عَلَى الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا} فيما توعدوننا به، ثم دعا شعيب بعدما أيس من فلاحهم فقال: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} . قال ابن عباس والحسن وقتادة والسدي: «احكم واقض» . وقال الفراء: «وأهل عمان يسمون القاضي الفاتح والفتاح؛ لأنه يفتح مواضع الحقِّ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 225 وعن ابن عباس قال: «ما كنت أدري قوله {ربنا افتح بيننا وبين قومنا} حتَّى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها: أفاتحك أي: أحاكمك» ، وقد تقدَّم أن الفتح الحُكْم بلغة حمير. وقيل: بلغة مُرَاد وأنشد: [الوافر] 2524 - ألاَ أبْلِغْ بَنِي عُصْمٍ رَسُولاً ... بِأنِّي عَنْ فَتَاحَتِكُمْ غَنِيُّ قال الزجاج: وجائز أن يكون قوله: {افتح بيننا وبين قومنا بالحق} أي أظهر أمرنا حتى ينفتح بيننا وبني قومنا وينكشف والمراد منه أن ينزل عليهم عذاباً يدلُّ على كونهم مبطلين، وعلى كون شعيب وقومه محقين، وعلى هذا المراد بالفتح الكشف والتبيين، وكرر {بيننا وبين قومنا} بخلاف قوله: {حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا} [الأعراف: 87] زيادة في تأكيد تمييزه، ومَنْ تبعه من قومه ثم قال: {وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} [أي: خير الحاكمين أو خير المظهرين، وذا معنى قول من على المعنيين] ، والمراد به الثناء على الله تعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 226 لمّا بيَّن عظيم ضلالهم بتكذيب شعيب بيَّن أنهم لم يقتصروا على التكذيب حتى أضلّوا غيرهم ولاموهم على متابعة شعيب بقولهم: {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً [إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} . قوله: {إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُون} «إذن» حرفُ جواب وجزاء، وقد تقدّم الكلام عليها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 226 مُشْبعاً] وهي هنا معترضة بين الاسم والخبر، وقد توهمَّ بعضهم فجعل «إذن» هذه «إذا» الظرفية في الاستقبال نحو [قولك] : «ألْزِمُك إذا جئتني» أي وقت مجيئك. قال: «ثم حُذِفَت الجملة المضافةُ هي إليها، والأصل: إنكم إذا اتبعتموه لخاسرون، ف» إذا «ظرف والعاملُ فيه» لخاسرون «، ثم حذفت الجملة المضافة إليها وهي» اتبعتموه «، وعُوِّضَ منها التنوين، فلما جيء بالتنوين وهو ساكن التقى بمجيئه ساكنان، هو والألفُ قبله، فحُذِفَت الألفُ لالتقاء الساكنين، فبقي اللفظ» إذن «كما ترى» . وزعم هذا القائل أن ذلك جائز بالحَمْل على «إذا» التي للمضيّ في قولهم: «حينئذٍ» و «يومئذٍ» فكما أن التنوين هنا عوض عن جملة عند الجمهور كذلك هنا. وردّ أبو حيان هذا بأنه لم يَثْبُتْ هذا الحكم ل «إذا» الاستقبالية في غير هذا الموضع فيحمل هذا عليه. قال شهاب الدين: وهذا ليس بلازم إذ لذلك القائل أن يقول: قَد وَجَدْتُ موضعاً غير هذا وهو قوله تعالى: {إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ} [يوسف: 79] . وقد رأيت كلام القرافي في قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمّا سألوه عن بيع الرطب بالتمر فقال: «أينقص الرُّطبُ إذا جفَّ؟ فقالوا: نعم. فقال: فلا إذن» أن «إذن» هذه هي «إذا» الظرفية، قال: كالتي في قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا} [الزلزلة: 1] فحذفت الجملة، وذكره إلى آخره. وكنت لمّا رأيته تعجبت غاية العجب كيف يَصْدرُ هذا منه حتى رأيته في كتاب الشيخ في هذا الموضع عن بعضهم ولم يُسَمِّه، فذهب تعجبي منه، فإن لم يكن ذلك القائلُ القرافيَّ فقد صار له في هذه المسألة سَلَفٌ، وإلاَّ فقد اتحد الأصل، والظاهر أنه غيره. وقوله: «إنكم» هو جواب والقسم الموطَّأ له باللاَّم. وقال الزمخشري: فإن قلت: ما جوا بالقسم الذي وطَّأتْه اللام في قوله: {لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً} وجوابُ الشرط؟ . قلت: قوله: {إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُون} سادٌّ مسد الجوابين. قال أبو حيان: «فالذي قاله النحويون: إن جواب الشرط محذوف لدلالة جواب القسم عليه، ولذلك وجب مُضِيُّ فعل الشرط فإن عَنَى بأنه سادٌّ مَسَدَّهما أنه اجْتُزِئ بذكره عن ذكر جواب الشرط فهو قريب، وإن عنى من حيث الصناعة النحوية فليس كما زعم، لأن الجملة يمتنع ألا يكون لها محل من الإعراب وأن يكون لها محلٌّ من الإعراب» . وهذه المسألة قد تقدَّمَتْ مِراراً واعتراض الشيخ عليه، وتقدَّم جوابه ويعني الشيخ بقوله: لأنَّ الجلمة يمتنع أن يكون لها محلٌّ من الغعراب إلى آخره؛ لأنها من حيث كونها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 227 جواباً للشرط تستدعي ألا يكون لها محل إذ الجملة [الابتدائية] لا محل لها. فصل في معنى الخسران قوله: «لخاسرون» أي في الدين، وقال بعضهم: «في الدنيا أي مغببونون» . وقال عطاء: «جاهدون» . وقال الضحاك: «عجزة» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 228 قال الكلبي: «الزلزلة الشديدة المهلكة» . وقال ابن عباس وغيره: فتح الله عليهم باباً من جهنم فأرسل عليهم حرّاً شديداً فأخذ بأنفاسهم ولم ينفعهم ظل ولا ماء فكانوا يدخلون الأسراب ليبردوا فيها فيجدوها أشدّ حرّاً من الظاهر فخرجوا هرباً إلى البرية، فبعث الله سحابة فيها ريح طيبة فأظلتهم، فنادى بعضهم بعضاً حتى اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم، فألهبها الله عليهم ناراً، ورجفت بهم الأرض فاحترقوا كما يحترق الجراد المقلي وصاروا رماداً. وروي أن الله حبس عنهم الريح سبعة أيّام ثم سلط عليهم الحرّ، ثم رفع لهم جبل من بعيد فأتاه رجل، فإذا تحته أنهار وعيون، فاجتمعوا تحته كلهم فوقع ذلك الجبل عليهم، فذلك قوله: «عذاب يوم الظلة» . [قال قتادة: بعث الله شعيباً إلى أصحاب الأيكة وأصحاب مدين، فأمّا أصحاب الأيكة فأهلكوا بالظلة] ، وأمّا أصحاب مدين فأخذتهم [الصيحة] صاح بهم جبريل - عليه السلام - صيحة فهلكوا بالظلة جميعاً. قال أبو عبد الله البَجِلِيُّ: كان أبْجَدْ وهَوَّز وحُطِّي وكَلَمُنْ وسَعْفَص وقَرَشَت ملوكَ «مَدْيَنَ» ، وكان ملكُهُمْ في زمن شعيب يوم الظُّلَّة «كَلَمُنْ» ، فلما هلك، قالت ابنته تبكيه: [الرمل] 2525 - كَلَمُنْ هَدَّمَ رُكْني ... هُلكُهُ وَسْطَ المَحِلَّهْ سَيِّدُ القَوْمِ أتَاهُ الْ ... حَتْفُ نَارٌ تَحْتَ ظُلَّهْ جُعِلَتْ نَاراً عَلَيْهِم ... دَارُهُمْ كالمُضْمَحِلَّهْ وقد تقدم الكلام على قوله: {فأصبحوا في ديارهم جاثمين} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 228 قوله: {الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً} فيه خمسة أوجه: أحدها: أن هذا الموصول في محل رفع بالابتداء وخبره الجملة التشبيهية بعده. قال الزمخشري: «وفي هذا الابتداء معنى الاختصاص، كأنه قيل: الذين كذبوا شعيباً هم المخصوصون بأن أهْلِكوا واستُؤصلوا كأن لم يُقيموا في دارهم؛ لأن الذين اتبعوا شعيباً قد أنجاهم الله تعالى» . قال شهاب الدين: «قوله:» يفيد الاختصاص «هو معنى قول الأصوليين:» يفيد الحصر «على خلاف بينهم في ذلك إذا قلت: زيد العالمن والخلاف في قولك: العالم زيد أشهرُ منه فيما تقدَّم فيه المبتدأ» . الثاني: أن الخبر هو نفس الموصول الثاني وخبره، فإن الموصول الثاني مبتدأ والجملةُ من قوله: {كانوا هم الخاسرين} في محل رفع خبراً له، وهو وخبره خبر الأول، و {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ} : إمَّا اعتراض، وإمَّا حال من فاعل «كذَّبوا» . الثالث: أن يكون الموصولُ الثاني خبراً بعد خبر عن الموصول الأول، والخبر الأول الجملة التشبيهية. الرابع: أن يكون الموصول الثاني بدلاً من قوله: {وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ} [الأعراف: 90] فكأنه قال: «وقال الذين كفروا منهم الذين كذّبوا شعيباً» وقوله: {لئن اتبعتم شعيباً} معمول للقول فليس بأجنبي. الخامس: أنه صفة له، أي: للذين كفروا من قومه. هذه عبارة عن أبي البقاء، وتابعه أبو حيان عليها، والأحسن أن يقال: بدلٌ من الملأ أو نعت له؛ لأنه هو المحدَّثُ عنه والموصول صفة له، والجملة التشبيهية على هذين الوجهين حال من فاعل «كذَّبوا» . وأمّا الموصول الثاني فقد تقدم أنه يجوز أن يكون خبراً باعتبارين: أعني كونه أول أو ثانياً، ويجوز أن يكون بدلاً من فاعل «يغنوا» أو منصوباً بإضمار «أعني» أو مبتدأ وما بعده الخبر. وهذا هو الظاهر لتكون كل جملة مستقلة بنفسها، وعلى هذا الوجه ذكر الزمخشري أيضاً أن الابتداء يفيد الاختصاص قال: «أي هم المخصوصون بالخسران العظيم دون أتباعه، وقد تقدَّم موضحاً» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 229 قوله: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا} يغنون: بمعنى يقيمون يقال: غَنِي بالمكان يَغْنى فيه أي: أقام دهراً طويلاً، والمغاني المنازل التي كانوا فيها واحدها مغنى، وقيَّده بعضهم بالإقامة في عيش رغد، فهو أخصُّ من مطلق الإقامة؛ قال الأسَودُ بْنُ يَعْفُرَ: [الكامل] 2526 - وَلَقَدْ غَنَوْا فِيهَا بأنْعَمِ عِيشَةٍ ... فِي ظِلِّ مَلْكٍ ثَابتِ الأوْتَادِ وقيل: معنى اآية هنا من الغِنَى الذي هو ضد الفقر، قاله الزجاج وابن الأنباري وتابعهما ابن عطية؛ وأنشدوا: [الطويل] 2527 - غَنِيَا زَمَاناً بالتَّصَعْلُك والغِنَى ... [كما الدَّهرُ في أيَّامِهِ العُسْرُ واليُسْرُ] كَسَبْنَا صُرُوفَ الدَّهْرِ لِيناً وغلْظَةً ... وكُلاًّ سَقَانَاهُ بِكأسمهما الدَّهْرُ قالوا: معناه استغنينا ورضينان فمعنى {كأن لم يغنوا فيها} كأن لم يعيشوا فيها مستغنين. قال ابن الخطيب: فعلى هذا التفسير شبّه الله - تعالى - حال هؤلاء المكذبين بحال من من لم يكن قط في تلك الديار قال الشاعر: [الطويل] 2528 - كأن لم يَكُنْ بَيْنَ الحجون إلى الصفا ... أنيس ولم يسمر بمكة سامر بَلَى نَحْنُ كُنَّا أهْلَهَا فأبَادَنَا ... صُرُوفُ اللَّيَالِي والحُدُودُ العَواثِرُ وقدّر الراغب غني بمعنى الإقامة بالمكان إلى معنى الغنى الذي هو ضد الفقر فقال: {وغني ي مكان كذا إذا طال مقامه فيه مُسْتَغْنِياً به عن غيره «. قوله: {الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين} كرر قوله: {الذين كذبوا شعيباً} تعظيماً لذمهم وتعظيماً لما يستحقون من الجزاء، والعرب تكرر مثل هذا في التعظيم والتفخيم، فيقول الرجل لغيره:» أخوك الذي ظلمنا، أخوك الذي أخذ أموالنا، أخوك الذي هنا أعرضانا «، ولمَّا قال القوم: {لئن اتبعتم شعيباً إنكم إذاً لخاسرون} بيَّن الله - تعالى - أن الذين لم يتبعوه وخافوه هم الخاسرون، وقد تقدم الكلام على قوله:» فتولّى عنهم «في أن التولي بعد نزول العذاب أو قبله. قال الكلبي:» لم يعذب قوم نبي حتى أخرج من نبيهم «. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 230 فصل في الدلالة من الآية دلّت الآية على أشياء: منها: أن ذلك العذابإنما حدث بتخليق فاعل مختار لا بتأثير الكواكب والطبيعة، وإلا لحصل في أتباع شعيب كما حصل للكفّار. [ومنها أنها تدل على أن ذلك الفاعل المختار عالم بجميع الجزئيات حتى يمكن التمييز بين المطيع والعاصي] . ومنها: أنها تدل على المعجز العظيم في حق شعيب - عليه السلام -؛ لأن العذاب النازل من السماء لما وقع على قوم دون قوم مع كونهم مجموعين في بلدة واحدة كان ذلك من أعظم المعجزات. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 231 قوله: {فَكَيْفَ آسى على قَوْمٍ كَافِرِينَ} «كيف» هنا مثل «كيف» في: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] وتقدم الكلام على «آسى» وبابه. وقرأ ابن وثاب وابن مصرّف والأعمش: «إيسى» بكسر الهمزة التي هي حرف مضارعة، وتقدم أنها لغة بني أخْيَل في «الفاتحة» ، ولزم من ذلك قلب الفاء بعدها ياءً؛ لأن الأصل أأسى بهمزتين. والأسى: شدة الحظن قال العجّاج: [الرجز] 2529 - وانْحَلَبَتْ عَيْنَاهُ منْ فَرْطِ الأسَى ... والأسى: الصبر. وفي المعنى قولان: الأول: أنه اشتد حزنه على قومه، لأنهم كانوا كثيرين، وكان يتوقع منهم الإيمان، فلمّما نزل بهم الهلاك العظيم حصل في قلبه من جهة القرابة والمجاورة وطول الألفة حزن، ثم عزى نفسه وقال: {كيف آسى على قوم كافرين} ، لأنهم هم الذين أهلكوا أنفسهم بإصْرارِهِمْ على الكُفْرِ. الثاني: أنَّ المعنى: لقد أعْذَرْتُ إليكم في الإبلاغِ والنَّصِيحَةِ والتَّحْذِير مما حلَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 231 بكم؛ فلم تسمعوا قولي، ولم تَقْبَلُوا نَصِيحَتِي «فَكْيَفَ آسَى عَلَيْكُمْ» ، بمعنى أنَّكُمْ لستم مستحقِّين بأنْ آسى عليكم. قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ} الآية. لمَّا عرَّفنا أحوال هؤلاءِ الأنْبِيَاءِ، وما جرى على أمَمِهِمْ كان من الجَائزِ أن يُظَنَّ أنَّهُ تعالى ما أنزل عذاب الاستئِصَالِ إلاّ في زمن هؤلاء الأنبياء فَقَطْ؛ فَبَيَّنَ في هذه الآيَةِ أنَّ هذا الهلاكَ قد فعلهُ بغيرهم، وبيَّن العِلَّة الَّتي فعل بها ذلك فقال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء} ، وفيه حذفٌ وإضمار وتقديره: «من نَبِيّ فَكَذَّبُوهُ، أو فكذبه أهْلُهَا» . وذكر القريةَ؛ لأنَّهَا مجتمع القوم، ويَدْخُلُ تحت هذه اللَّفْظَةِ المدينة؛ لأنَّهَا مجتمع الأقْوَامِ. قوله: «إلاَّ أخَذْنَا» هذا استثناءٌ مفرَّغٌ، و «أخَذْنَا» في محلِّ نَصْبٍ [على الحَالِ] والتَّقديرُ: وما أرْسَلْنَا إلاَّ آخذين أهلها، والفِعْلُ الماضي لا يقعُ بعد «إلاَّ» إلاَّ بأحد شرطين: إمَّا تقدُّم فعل كهذه الآية، وإمَّا أن يصحب «قَدْ» نحو: ما زيد إلاَّ قد قَامَ، فلو فُقِد الشَّرْطان امتنع فلا يجوز: ما زيد إلاَّ قام. قوله: {بالبأسآء والضرآء} . قال الزَّجَّاجُ: «البَأسَاءُ: كلُّ ما ينالم من الشِّدَّةِ في أحوالهم، والضراء: ما ينالهم من الأمْرَاضِ» . وقيل: «على العكس» . وقال ابْنُ مسعود: «البَأسَاءُ: الفقر، والضَّرَّاءُ: المَرَضُ» . وقيل: «البَأسَاءُ في المال، والضَّرَّاءُ في النَّفْسِ» . وقيل: «البَأسَاءُ: البؤس، وضيقُ العيشِ، والضَّرَّاءُ: الضرُّ وسوءُ الحال» . وقيل: «البَأسَاءُ: في الحزن والضَّرَّاءُ: في الجدب» . «لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ» لكي يَتَضَرَّعُوا؛ فيتوبوا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 232 بين تعالى أنَّ تدبيره في أهْلِ القرى لا يجري على نَمَطٍ وَاحِدٍ وَإنَّمَا يُدَبِّرُهُم بما يَكُونُ إلى الإيمانِ أقرب فقال: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة} ؛ لأنَّ ورود النِّعمة [في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 232 البدن والمال] بعد البأساء والضَّرَّاءِ يدعو إلى الانْقِيَادِ، والاشتغال بالشُّكْرِ. وفي «مكان» وجهان: أظهرهما: أنَّهُ مفعول به لا ظَرْف، والمعنى: بَدَّلْنَا مكان الحال السَّيِّئَةِ [الحال الحسنة] ، فالحسنةُ هي المأخوذة الحاصلةُ ومكان السيِّئةِ هو المتروك الذَّاهِبُ، وهو الذي تصحبه «الباء» في مثل هذا التركيب لو قيل في نظيره: بدَّلْتُ زيداً بِعَمْروٍ، فزيدٌ هو المأخوذ، وعمرو المتروكُ، وقد تقدَّمَ تحقيقُ هذا في البَقَرَةِ في موضعين: أولهما: {فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 59] . والثاني: {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله} [البقرة: 211] . ف «مَكَانَ» و «الحَسنَة» مفعولان إلاَّ أن أحدهُما وصل إليه الفعل بِنَفْسِهِ [وهو «الحَسَنَةُ» ] ، والآخر بحذف حرف الجرِّ وهو «مكان» . والثاني: أنَّهُ مَنْصُوبٌ على الظَّرْفِ، والتَّقديرُ: «ثمَّ بَدَّلْنَا [في] مكان السَّيِّئَةِ الحسنةِ» إلا أنَّ هذا ينبغي أن يُردَّ؛ لأن «بدَّل» لا بُدَّ له من مفعولين أحَدُهَمَا على إسقاط الباءِ. والمراد بالحَسَنَةِ والسيِّئَةِ هاهنا: الشِّدَّةُ والرَّخَاءُ. قال أهل اللُّغَةِ: «السَّيِّئَةُ: كلُّ ما يَسُوءُ صَاحِبَهُ، والحسنَةُ: كل ما اسْتَحسَنَهُ الطَّبْعُ والعَقْلُ» . قوله: «حَتَّى عَفَوا» «حتَّى» هنا غائيةٌ، وتقدير مَنْ قدّرها ب «إلَى» فإنَّمَا يريدُ تَفْسِيرَ المعنى لا الإعرابَ؛ لأن حتَّى الجارَّة لا تُبَاشِرُ إلاَّ المضارع المنصوب بإضمار «أنْ» ؛ لأنها في التَّقْديرِ داخلة على المصدر المُنْسَبِك منها، ومن الفعل، [وأمّا الماضي] فلا يطَّرِدُ حذف «أنْ» معه، فلا يقدّر معه أنَّها حرف جرٍّ داخلة على أن المصدريَّة، أي: حتَّى أن عفوا، وهذا الذي ينبغي أن يحمل عليه قول أبي البقاءِ: «حتَّى عَفَوْا أي: إلى أن عفوا» . ومعنى «عَفَوا» هنا كَثُروا من عَفَا الشعْر إذا كَثُر، ومنه: «وأعْفُوا اللِّحَى» يُقَالُ: عَفَاه، وأعْفَاه ثلاثياً ورباعيّاً؛ قال زهيرٌ: [الوافر] 2530 - أذَلِكَ أمْ أقَبُّ البَطْنِ جَأبٌ ... عَلَيْهِ مِنْ عَقِيقَتِهِ عَفِاءُ وفي الحديث: «إذَا عَفَا الوَبَرُ وبَرَأ الدُّبُرُ فَقَدْ حضلَّت العُمْرَةُ لِمَنْ اعْتَمَرَ؛ وأنشد الزَّمَخْشريُّ على ذلك قولَ الحُطَيْئَةِ: [الطويل] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 233 2531 - بِمُسْتأسِدِ القُرْبَانِ عَافٍ نَبَاتُهُ ..... ... ... ... ... ... ... . وقول لَبِيد: [الوافر] 2532 - ولَكِنَّا نُعِضُّ السَّيْفَ مِنْهَا ... بأسْوُقِ عَافِيَاتِ الشَّحْمِ كُومِ وتقدَّم تحقيقُ هذه المادّة في البقرة. فصل في المراد من الآية ومعنى الآية أنَّ الله - تعالى - أبدلهم مكان الباساء والضرَّاء الحسنة، وهي النِّعءمَةُ والسَّعَةُ والخَصْبُ والصِّحَّةُ. » حتى عفوا «كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم، وقالوا من غرتهم وغفلتهم: {قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء} ، أي: هكذا كانت عادة الدَّهر قديماً لنا ولآبائنا، ولم يكن ذلك عقوبةً من اللَّهِ، فكُونُوا على ما أنتم عليه كما كان آباؤُكم، فإنَّهُم لم يتركوا دِينَهُم لما أصابهم من الضَّرَّاءِ. قوله: «فَأخَذْنَاهُمْ» . قال أبُو البقاءِ: «هو عطفٌ على» عَفَوْا «. يريدُ: وما عطف عليه أيضاً، أعني أنَّ الأخذ ليس متسبباً عن الَفَاءِ فقط، بل عليه وعلى قولهم تلك المَقَالةِ الجاهليَّةِ؛ لأنَّ المعنى ليس أنَّهُ لمُجرَّدِ كثْرَتِهِمْ، ونموِّ أموالِهِمْ أخذهم بغتة بل بمجموع الأمْرَيْنِ، بل الظَّاهِرُ أنَّهُ بقولهم ذلك فقط. و» بَغْتَةً «إمَّا حالاً أو مَصْدراً، والبَغْتَةُ الفُجَاءَة، {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} حال أيضاً وهي في قوَّةِ المُؤكِّدَةِ؛ لأنَّ» بَغْتَةً «تفيدُ إفادتها، سواء أعْرَبْنَا» بغتة «حالاً أم مَصْدراً. واعلم أنَّ الحكمة في حكاية هذا المعنى ليعتبر من سمع هذه القصَّة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 234 لمّا بيَّن أنَّ الذين عَصَوا وتَمَرَّدُوا؛ أخذهم بَغْتَةً بيَّن في هذه الآية انَّهُم لو أطَاعُوا فتح عليهم أبْوابَ الخيرات، وقد تقدَّمَ أنَّ ابن عامر يَقْرَأُ: «لَفَتَّحنْا» بالتَّشديد ووافقه هنا عيسى بْنُ عُمَرَ الثَّقَفِيُّ، وأبو عبد الرَّحْمنِ السُّلمِيُّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 234 وأصل البركة المواظبةُ على الشَّيءِ، أي تابعنا عليهم المطر والمراد ب «بَرَكَات السَّماءِ» المَطَرُ، وب «بركات الأرْضِ» النَّبَاتُ والثَّمَارُ وكثرة المواشي والأمن والسَّلامة، وذلك لأنَّ السَّماءَ تجري مجرى الأب، والأرض تجري مجرى الأم، ومنهما يَحْصُلُ المَنَافِع، والخَيْرَات بخلق الله تعالى تدبيره. ثم قال: {ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ} بالجدب والقَحْطِ {بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} من الكفر والمَعْصِيَةِ، ثمَّ إنَّهُ تعالى أعاد التَّهْديدَ بعذابِ الاسْتئِصَالِ فقال: {أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى} يعني «مكَّة» وما حولها {أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا} أي: العذاب، وهذا استفهامٌ بمعنى الإنْكَارِ، خوَّفَهُم الله - تعالى - بنزول العذاب عليهم في وقت غَفْلَتِهِم، وهو حال النَّومْ باللَّيْل، وحال الضُّحَى بالنَّهَارِ؛ لأنَّهُ وقت اشتغال المرء باللَّذَّاتِ. وقوله: «وَهُمْ يَلْعَبُونَ» يحتملُ التَّشَاغُلَ بأمور الدُّنيا فهي لَعِبٌ ولهو، ويحتملُ في كُفْرِهِم؛ لأنَّهُ كاللَّعِبِ في أنَّهُ يضرُّ ولا يَنْفَعُ. قوله: «أفَأمِنَ» . قال الزَّمخشريُّ: «فإن قلت: ما المعطوف عليه، ولم عطفت الأولى بالفَاءِ والثَّانية بالواو؟ . قلتُ: المعطوف عليه قوله:» فَأخَذْنَاهُم بَغْتَةً «، [وقوله: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى} إلى:» يَكْسِبُونَ «وقع اعتراضاً بين المعطوف والمعطوف عليه وإنَّمَا عطفت بالفاء؛ لأنَّ المعنى:» فَعَلُوا وَصَنعوا فأخذناهم بغتة، أبعد ذلك] أمن أهل القرى أن يأتيَهُمْ بأسنا بياتاً أو أمن أهل القُرَى أن يأتيهم بَأسُنَا ضُحىً «. قال أبُو حيَّان: وهذا الَّذي ذَكَرَهُ رجوعٌ عن مذهبه في مثل ذلك إلى مذهب الجَماعَةِ، وذلك أنَّ مَذْهبَهُ في الهمزة المصدرة على حرف العطف تقدير معطوف عليه بين الهمزة وحرف العطفِ، ومذهب الجماعةِ أنَّ حَرْفَ العطف في نِيَّةِ التقدُّم، وإنَّمَا تأخَّرَ وتقدَّمت عليه همزةُ الاستفهام لقوَّةِ تَصَدُّرها في أوَّلِ الكلام» . وقد تقدَّم تحقيقه، والزَّمَخْشريُّ هنا لم يقدِّر بينهما معطوفاً عليه، بل جعل ما بعد الفاءِ معطوفاً على ما قَبْلَهَا من الجُمَلِ، وهو قوله: «فأخَذْنَاهُم بَغْتَةً» . قوله: «بَيَاتاً» تقدَّم أوَّلَ السُّورةِ أنَّهُ يجوز أن يكون حالاً، وأن يكون ظرفاً. وقوله: «وهُمْ نَائِمُونَ» جدملة حاليّة، والظَّاهِرُ أنَّها حال من الضَّميرِ المستتر في «بَيَتاً» ؛ لأنَّهُ يتحمَّلأ ضميراً لوقوعه حالاً، فيكون الحالان مُتَدَاخِلَيْنِ. قوله: «ضُحىً» مَنْصوبٌ على الظَّرف الزَّمانيِّ، ويكون متصرفاً وغير متصرف، [ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 235 فالمتصرَّفُ] ما لم يرد به وقته من يوم بِعَيْنِهِ نحو: «ضُحاك ضحىً مُبَرَك» . فإن قلت: «أتَيْتُكَ يوم الجُمْعَةِ ضُحىً» فهذا لا يتصرّف، بل يَلْزَمُ النَّصْبُ على الظَّرْفية، وهذه العبارَةُ أحسنُ من عِبَارَةِ أبِي حيَّان حيث قال: «ظرف متصرِّفٌ إذا كان نكرةً، وغير متصرِّلإ إذا كان من يوم بعينه» ؛ لأنَّهُ تَوَهَّم [متى] كان معرفةً بأي نوع كان من أنواع التَّعْرِيف فإنَّهُ لا يتصرَّفُ، وليس الأمر كذلك قال تعالى: {والضحى} [الضحى: 1] فاستعمله مجروراً بالقسم مع أنه معروفٌ بأل، وقال تعالى: {والشمس وَضُحَاهَا} [الشمس: 1] جرّه بحرف القسم أيضاً مع أنَّهُ معرَّفٌ بالإضافة، وهو امتداد الشَّمْسِ وامتداد النَّهار. ويقال: ضُحى، وضحاءُ، إذا ضَمَمْتَ قَصَرْتَ، وإذا فتحت مَدَدْتَ. وقال بعضهم: الضُّحى بالضم والقسر لأول ارتفاع الشمس والضَّحَاءُ بالفتح والمدِّ لقوَّة ارتفاعها قبل الزَّوَالِ. والضُّحى مُؤنَّثٌ، وشذُّوا في تصغيرِهِ على «ضُحَيٌّ» بدون تاء كعُرَيْب وأخواتها، والضَّحَاءُ أيضاً طعامُ الضُّحَى كالغّدَاء طَعَامُ وَقْتِ الغدْوَة يقال منهما: تَضَحَّى ضَحَاءً وتَغَدَّى غَدَاءً: وضَحِيَ يَضْحَى إذَا برز للشَّمْسِ وقت الضُّحَى، ثم عُبِّر بِه عن إصَابَةِ الشَّمْسِ مطلقاً، ومنه قوله: {وَلاَ تضحى} [طه: 119] [أي] : لا تبرزُ للشمس. ويقال: ليلة أضحِيَانَةٌ بضمِّ الهمزة، وضَحْيَاء بالمدِّ أي: مضيئة إضاءَةُ الضُّحى، والأضْحِيَة وجمعها: أضَاحِ، والضَّحِيَّة وجمعها ضحايا، والأضْحَاة وجمعها أضْحىً هي المَذْبُوحُ يوم النَّحْرِ، سمِّيَت بذلك لذَبْحها ذلك الوقت لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ صَلاتِنَا هَذِهِ فَلْيُعِدْ» وضواحي الشَّيء نواحيه البارزة. قوله: «وَهُمْ يَلْعَبُونَ» حالٌ، وهذا يقوِّي أنَّ «بَيَاناً» ظرفٌ لا حال، لتتطابق الجملتان فيصيرُ في كلٍّ منهما وقت وحال، وأتى [بالحال] الأولى مُتَضَمِّنَة لاسم فاعلٍ؛ لأنَّهُ يدلُّ على ثباتٍ واستقرارٍ وهو مناسب للنَّوْمِ، وبالثَّانيةِ متضمِّنة لفعل؛ لأنَّهُ يدلُّ على التجدُّدِ والحدوث وهو مناسبٌ لِلَّعب والهزل. قال النَّحَّاسُ: «وفي الصَّحاح: اللَّعِبُ معروفٌ، واللّعْبُ مثله، وقد لَعِبَ يَلْعَبُ، ويَلْعبُ مرة بعد أخرى، ورجل تَلْعَابَةٌ: كثيرٌ اللَّعبِ والتَّلْعَابُ بالفتح المصدر، وجارته لَعُوبٌ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 236 وقرأ نافع وابن عامِر وابنُ كثيرٍ «أوْ» بسكون الواو والباقون بفتحها، ففي القراءة الأولى تكونُ «أو» بجملتها حرف عطف ومعناها حينئذ التقسيم. قال ابنُ الخطيبِ: تسعتملُ على ضَرْبَيْن: أحدهما: أن تكون بمعنى أحد الشَّيْئيْنِ كقوله: زيد أو عمرو جاءك، والمعنى: أحدهما جاء. والثاني: أن تكون للإضْرابِ عمَّا قبلها كقولك: «أنَا أخْرُجُ» ثم تقول: «أو أقيم» أضربت عن الخروج وأثبت الإقامة، كأنك قلت: لا بل أقيمُ، فوجه هذه القراءة أنَّهُ جعل «أو» للإضراب، لا على أنَّه أبطل الأوَّلَ. وزعم بعضهم أنَّها للإبَاحةِ والتَّخْيير، وليس بظاهرٍ. وفي القراءة الثَّانية هي واو العَطْفِ دخلت عليها همزة الاستفهام مقدَّمة عليها لفظاً، وإنْ كانت بَعْدَهَا تقديراً عند الجمهور. وقد عرف مذهب الزَّمَخْشَرِيِّ في ذلك، ومعنى الاستفهام هنا: التَّوبيخُ، والتَّقريعُ. وقال أبُو شَامَة وغيره: «إنَّهُ بمعنى النَّفي» . وكرّرت الجملة في قوله تعالى: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى} : «أفَأمِنوا» توكيداً لذلك، وأتي في الجُمْلَةِ الثَّانية بالاسم ظاهراً، وحقّه أن يضمر مبالغة في التَّوْكِيد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 237 ومعنى: «مَكْرَ اللَّهِ» أي إضافة المخلوق إلى الخَالقِ كقولهم: ناقة الله، وبيتُ الله، والمرادُ بشهِ فعلٌ يعاقب به الكفرة، وأضيف إلى الله لمَّا كان عقوبة الذَّنْبِ، فإنَّ العرب تسمِّي العقوبة على أي جهة كانت باسم الذَّنْبِ الذي وقعت عليه العقوبة. قال ابن عطيَّة: «وهو تأويلٌ حسنٌ» . وقال البَغَوِيُّ: «مَكْرُ اللَّهِ: استدراجُهُ إيَّاهُم بما أنْعَمَ عليهم في دنياهم» . وقد تقدَّم في آل عمران في قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [الآية: 54] أنَّه من باب المُقَابلَةِ أيضاً. و «الفاء» في قوله: «فَلاَ يأمَنُ» للتَّنْبِيهِ على أنَّ العذابَ يعقب أمن مَكْرَِ اللَّهِ. قال ابنُ الخطيبِ: «وقوله:» مَكْرَ اللَّهِ «المرادُ أنْ يأتيهم عذابُهُ من حيث لا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 237 يَشْعُرُونَ، قاله على وجه التَّحْذيرِ، وسمى هذا العذاب مَكْراً تَوَسُّعاً؛ لأنَّ الواحد منا إذا أرَادَ المكر بصاحبه فإنه يوقعه في البلاءِ من حيث لا يَشْعُرُ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 238 قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَهْدِ} يريدُ كبراء مكَّةَ. قرأ الجمهور: «يَهْد» بالياء من تحت، وفي فاعله حينئذ ثلاثة أوجه: أظهرها: أنَّهُ المصدرُ المؤوَّلُ من «أن» وما في حيِّزها، والمفعول محذوفٌ، والتقديرُ: أو لم يهد أي يبين ويوضح للوارثين مآلهم وعاقبة أمرهم، وإصابتنا إيَّاهُم بذنُوبِهم لو شئنا ذلك، فقد سبكنا المصدر من «أنْ» ومن جواب لو. والثاني: أنَّ الفاعل هو ضميرُ الله تعالى، أي: أو لم يبيِّن الله ويُؤيِّدُه قراءةُ من قرأ «نَهْدِ» بالنون. الثالث: أنَّهُ ضمير عائدٌ على ما يفهم من سياق الكلام، أي: أو لم يهد ما جرى للأمم السَّالِفَةِ كقولهم: إذَا كَانَ غَداً فأتني أي: إذا كان ما بيني وبينكَ مما دلَّ عليه السِّياق. وعلى هذين الوجهين، ف «أنْ» وما في حيِّزها بتأويلِ مصدر كما تقدَّم في محلِّ المفعُولِ والتَّقديرُ: أو لم يبين ويوضِّح الله أو ما جرى لأمم إصابتنا إيَّاهُم بذنوبهم أي: بعقاب ذُنُوبِهِم لو شئنا ذلك. وقرأ مُجاهدٌ وقتادةُ ويعقوبُ: «نَهْدِ» بنون العَظَمَةِ و «أنْ» مفعولٌ فقط، و «أنْ» هي المخفَّفةُ من الثَّقيلة و «لَوْط فاصلةٌ بينها وبين الفِعْلِ، وقد تقدَّم أنَّ الفصل بها قليل. و» نَشَاءُ «وإن كان مُضَارعاً لفظاً فهو ماضٍ معنى؛ لأنَّ» لو «الامتناعية تخلِّصُ المضارع للمُضِيِّ. وفي كلام ابن الأنْبَاريِّ خلافه، فإنَّهُ قال في» ونَطْبَعُ «:» هذا فعل مستأنفٌ ومنقطعٌ مما قبله؛ لأنَّ قوله: «أصَبْنَا» ماضٍ و «نَطْبع» مستقبل ثم قال: ويجوزُ أن يكون معطوفاً على «أصَبْنَا» إذ كان بمعنى نُصِيبُ، والمعنى: «لو يَشَاءُ يصيبهم ويطبع» ، فوضع الماضي موضعَ المستقبلِ عند وضوح معنى الاستقبال كقوله تعالى: {إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ} [الفرقان: 10] [أي:] يجعلُ، بدليل قوله: «ويَجْعَل لَكَ» ، وهذا ظَاهِرٌ قَوِيٌّ في أن «لَوْ» هذه لا تخلِّصُ المضارع للمضيّ، وتنظير بالآية الأخْرَى مُقَوِّل أيضاً، وسيتي تحقيقُ ذلك عند قوله: «ونَطْبَعُ» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 238 وقال الفرَّاءُ: «وجاز أنْ تَرُدَّ» يَفْعل « [على فَعَلَ] في جواب» لو «كقوله: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ} [يونس: 11] فقوله:» فَنَذَرُ «مردود على» لقضى «، وهذا قولُ الجمهور، ومفعول» يَشَاءُ «محذوف لدلالةِ جواب» لو «عليه، والتَّقديرُ: لو يشاء تعذيبهم، أو الانتقام منهم. وتى جوابها بغير لام، وإن كان مبنيّاً على أحد الجائزين وإن كان الأكثر خلافه، كقوله تعالى: {لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً} [الواقعة: 70] . قوله: «ونَطْبَعُ» في هذه الجملة أوْجُهٌ: أحدها: أنَّهَا نسقٌ على «أصَبْنَاهم» وجاز عطف المضارع على الماضي؛ لأنَّهُ بمعناه، وقد تقدَّم أنَّ «لو» تخلِّص المضارع للمُضِيِّ، ولما حكى أبُو حيَّان كلام ابن الأنْبَارِيْ المتقدم قال: «فَجَعل» لو «شرطيّةً بمعنى» إنْ «ولم يجعلها التي هي لِما كان سيقعُ لوقوع غيره، ولذلِكَ جعل» أصَبْنَا «بمعنى نُصِيبُ. ومثال وقوع» لو «بمعنى» إن «قوله: [الكامل] 2533 - لا يُلْفِكَ الرَّاجِيكَ إلاَّ مُظْهِراً ... خُلُقَ الكِرَامِ ولَوْ تكُونُ عَدِيمَا وهذا الذي قاله ابن الأنباريّ ردَّهُ الزَّمخشريُّ من حيث المعنى، لكن بتقدير: أن يكون» ونَطْبَعُ «بمعنى» طَبْعَنا «فيكون قد عطف المضارع على المَاضِي لكَوْنِهِ بمعنى المضاي وابن الأنباري جعل التَّأويل في» أصَبْنَا «الذي هو جواب» لو نَشَاءُ «فجعله بمعنى» نُصِيبُ «فتأوَّلَ المعطوف عليه وهو الجوابُ، وردَّهُ إلى المستقبل، والزمخشريُّ تأوَّلَ المعطوف وردَّهُ إلى المضي وأنتج ردُّ الزَّمخشري أنَّ كلا التقديرين لا يصحُّ» . قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: هل يجوزُ أن يكون» وَنَطْبَعُ «بمعنى» طَبَعْنَا «كما كان» لَوْ نَشَاءُ «بمعنى» لَوْ شِئْنَا «ويعطف على» أصَبْنَاهُم «؟ قلت: لا يساعدُ على المعنى؛ لأنَّ القَوْمَ كانوا مطبوعاً على قلوبهم، موصوفين بصفة من قبلهم من اقتراف الذُّنوب والإصابةِ بها، وهذا التَّفسيرُ يؤدِّي إلى خلوِّهِم من هذه الصِّفةِ، وأن الله لو شاء لاتَّصَفُوا بها» . قال أبو حيَّان: «وهذا الرَّدُّ ظَاهِرُ الصِّحَّةِ، وملخصهُ: أن المعطوفَ على الجوابِ جوابٌ، سواءً تأوَّلْنَا المعطوف عليه أم المعطوف، وجواب» لو «لم يقع بَعْدُ، سواءً كانت حرفاً لما كان سيقعُ لوقوع غيره أمْ بمعنى» إن «الشَّرطية، والإصابة لم تقع، والطَّبْعُ على القلوب واقعٌ، فلا يَصِحُّ أن تعطف على الجوابِ. فإن تؤوِّل» ونُطِبعُ «على معنى: ونستمرُّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 239 على الطَّبْعِ على قلوبهم، أمكن التَّعاطف؛ لأنَّ الاستمرار لم يقع بعدُ، وإن كان الطَّبْعُ قد وقع» . قال شهابُ الدِّين: «فهذا الوجه الأوَّلُ ممتنعٌ لما ذكره الزَّمخشريّ» . ونقل ابنُ الخطيبِ عن الزَّمَخْشَري أنَّهُ قال: «ولا يجوز أن يكون معطوفاً على» أصَبْنَاهُمْ «؛ لأنَّهُم كانوا كُفَّاراً، إذْ كل كَافِرِ فهو مَطْبُوعٌ على قلبه، فقوله بعد ذلك: {وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ} يَجْرِي مَجْرَى تحصيل الحاصلِ وهو مُحَالٌ» . قال ابن الخطيب: «وهذا ضَعِيفٌ؛ لأنَّ كونه مطبوعاً عليه في الكفر لم يكن هذا منافياً لصِحَّةِ العطفِ» . الوجه الثاني: أن يكون «نَطْبَعُ» مستأنفاً، ومنقطعاً عمَّا قبله فهو في نيَّةِ خبر مبتدأ مَحْذُوفٍ أ: ونحن نَطْبَعُ. وهذا اختيار الزَّجَّاج والزمخشري وجماعة. الثالث: أن يكون معطوفاً على «يَرثُونَ الأرْضَ» قال الزَّمَخْشَرِيُّ. قال أبو حيَّان: «وهو خطأٌ؛ لأنَّ المعطوف على الصِّلةِ صلةٌ، و» يَرِثُونَ «صلة ل» الَّذين «؛ فَيَلْزِمُ الفصلُ بين أبعاض الصِّلة بأجنبي، فإن قوله: {أَن لَّوْ نَشَآءُ} إمَّا فاعل ل» يَهد «أو مفعوله كما تقدم وعلى كلا التقديريْنِ فلا تعلق له بشيء من الصِّلة، وهو أجنبيٌّ منها، فلا يفصل به بين أبعاضها، وهذا الوجْهُ مؤدٍّ إلى ذلك فهو خطأ» . الرابع: أن يكون معطوفاً على ما دَلَّ عليه معنى «أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ» كأنَّهُ قيل: يغفلون عن الهداية، ونَطْبَعُ على قُلُوبِهِم قاله الزَّمخشريُّ أيضاً. قال أبو حيَّان: «وهو ضعيف؛ لأنَّه إضمار لا يحتاج إليه، إذْ قد صحَّ عطفه على الاستِئْنافِ من باب العطفِ على الجُمَلِ، فهو معطوف على مَجْمُوع المصدَّرة بأداء الاستفهام، وقد قاله الزَّمخْشَرِيُّ وغيره. وقوله: {فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أتى ب» الفاء «هنا إيذاناً بتعقيب عدم سماعهم على أثَرِ الطَّبْع على قلوبهم. فصل في بيان أنه تعالى ق يمنع العبد من الإيمان استدل أهل السُّنَّةِ بقوله تعالى: {وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُون} على أنَّهُ تعالى قد يمنع البعدَ من الإيمانِ، والطَّبعُ والختم والرَّيْنُ والغشاوةُ والصدُّ والمنع واحد على ما تقدَّم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 240 قال الجبائِيُّ: المرادُ من هذا الطبع أنَّهُ تعالى يسمُ قلوب الكفَّارِ بسماتِ وعلامت نعرف الملائكة بها أنَّ صاحبها لا يؤمن، وتلك العلامةُ غير مانعة من الإيمان. وقال الكعبيُّ: إنَّمَا أضاف الطَّبْعَ إلى نفسه، لأجْلِ أنَّ القومَ إنَّما صاروا إلى ذلك الكُفْرِ عند أمره وامتحانه، فهو كقوله تعالى: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً} [نوح: 6] وقد تقدَّم البَحْثُ في مثل ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 241 قوله تعالى: {تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ} . قال الزَّمَخْشَرِيُّ: كقوله: {وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ} [هود: 72] في كونه مبتدأ وخبراً وحالاً يعني أن «تِلْكَ» مبتدأ مشارٌ بها إلى ما بعدها، و «القُرَى» خبرها، و «نَقُصُّ» حال أي قاصِّينَ كقوله: {فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً} [النمل: 52] . قال الزمخشريُّ: فإن قلت: ما معنى «تِلْكَ القُرَى» حتى يكون كلاماً مفيداً؟ قلت: هو مفيدٌ ولكن بالصِّفةِ في قولك: «هو الرَّجُلُ الكريم» يعني أنَّ الحال هنا لازمه ليفيد التَّركيب كما تلزم الصِّفةِ في قولك: «هو الرَّجُلُ الكريمُ» ألا ترى أنَّكَ لو اقتصرت على «هو الرَّجُلُ» لم يكن مفيداً، ويجوزُ أن تكون «القُرَى» صفة لتلك، و «نقصُّ» الخبر، ويجوز أن يكون «نقصُّ» خبراً بعد خبر. و «نَقُصُّ» يجوز أن يكون على حاله من الاستقابل أي: قد قصصنا عليك من أبْنَائِهَا ونحن نَقُصُّ عليك أيضاً بعض أبنائها [ويجوز أن يكون عبر به عن الماضي، أي: قد قَصَصْنَا عليك من أبنائها] وأُشير بالبُعْدِ تنبيهاً على بعد هلاكها وتقادمه عن زمن الإخبار فهو من الغيب، وأراد القصص المتقدمة. وفي قوله: «القُرَى» ب «أل» تعظيم كقوله تعالى: {ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 22] ، وقول الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أوْلَئِكَ المَلأُ مِنْ قُريشٍ» ، وقول أمية: [البسيط] 2534 - تِلْكَ المَكَارِمُ لا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبا بِمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أبْوَالاً و «مِنْ» للتبعيض كما تقدَّم؛ لأنَّهُ إنَّما قصَّ عليه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما فيه عظةٌ وانزجارٌ دون غيرهما، وإنَّما قصّ أنباء أهل القرى؛ لأنَّهم اغتروا بطول الإمهال مع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 241 كثرة النِّعم فتوهموا أنَّهُم على الحقِّن فذكرها الله - تعالى - لقوم محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ليحترزوا عن مثل تلك الأعمال، ثم قال: {وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات} . قوله: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ} الظَّاهِرُ أنَّ الضَّمائرَ عائدة على أهل القرى. وقال يمان بن رئاب: «إنَّ الضميرين الأوَّلين لأهل القرى، والضَّميرُ في» كذَّبُوا «لأسْلافِهم. وكذا جوَّزهُ ابن عطية أيضاً أي:» فما كان الأبناء ليؤمِنُوا بما كذَّب به الآباء «، وقد تقدَّم الكلامُ على لام الجُحُودِ، وأنَّ نفي الفِعْلِ معها أبْلَغُ. و» ما «موصولة اسميَّة، وعائدها مَحْذُوفٌ؛ لأنَّه مَنصوبٌ متَّصل أي: بما كذبوه [ولا يجوز أن يقدر به وإن كان الموصول مجرورا بالباء أيضاً لاختلاف المتعلقن وقال هنا» بما كذبوا «] فلم يذكر متعلق التكذيب، وفي» يونس «ذكره فقال: {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ} [يونس: 74] ، والفرق أنَّهُ لمَّا حذفه في قوله: {ولكن كَذَّبُواْ} [الأعراف: 96] أستمرّ حذفه بعد ذلك، وأمَّا في يونس فقد أبرزه في قوله: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ} [يونس 74] . {كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا} [يونس: 73] فناسب ذكره موافقة قال معناه الكرمَانِيّ. فصل في معنى «ما كانوا ليؤمنوا» قال ابن عباس والسُّدِّيُّ: «فما كان أولئك الكفار ليؤمنوا عن إرسالي بما كذبوا به يوم أخذنا مِيثاقَهُم حين أخرِجُوا من ظهر آدم فآمنوا كرهاً وأقرُّوا باللِّسانِ وأضمروا التَّكذيب» . وقال الزَّجَّاجُ: «فما كانوا ليؤمنوا بعد رؤيةِ تلك المعجزات بما كَذَّبُوا قبل رؤية المُعْجِزَاتِ» . وقيل: معناه ما كانوا لو أحييناهم بعد إهلاكهم ورددناهم في دار التكليف ليؤمنوا بما كذَّبُوا به قبل إهلاكهم، ونظيره قوله تعالى: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} [الأنعام: 28] . [وقيل: إنه قبل مجيء الرسول كانوا مصرين على الكفر فهؤلاء ما كانوا ليؤمنوا بعد مجيء الرسل] وقيل: ليؤمنوا في الزَّمانِ المستقبل قوله: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين} . قال الزَّجَّاجُ: والكاف في «كذلك» في محلِّ نصب [أي: مثل ذلك الطبع على قلوب أهل القرى المنتفي عنهم الإيمان يطبع الله على قلوب الكفرة الجانين] . قوله تعالى: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ} [الأعراف: 102] . قوله «لأكْثَرِهِمْ» فيه وجوه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 242 الظَّاهِرُ أنَّهُ متعلقٌ بالوجْدانِ كقولك: ما وجدتُ له مالاً أي: ما صَادَفْتُ له مالاً ولا لقيته. الثاني: أن يكون حالاً من «عهد» ؛ لأنَّه في الأًل صفة نكرةٍ فلما قُدِّم عليها نُصب على الحال، والأصْلُ: ما وجدنا عهداً لأكثرهم، وهذا ما لم يذكر أبُو البقاءِ غيره. وعلى هذين الوجهين ف «وَجَدَ» متعدِّية لواحد وهو «من عَهْدٍ» ، و «منْ» مزيدةٌ فيه لوجود الشرطين. الثالث: أنَّهُ في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً لوجَدَ إذ هي بمعنى علمية، والمفعول هو «مِنْ عَهْدٍ» . وقد يترجَّحُ هذا بأنَّ «وَجَدَ» الثانية علمية لا وجدانيَّة بمعنى الإصابة، وسيأتي دليل ذلك. وإذا تقرَّر هذا فينبغي أن تكون الأولى كذلك مطابقة للكلام ومناسبة له، ومن يرجّح الأوَّل يقولُ: إنَّ الأولى لمعنى: والثَّانية لمعنى آخر. فصل في معنى الآية قال ابن عباس: يريدُ: وما وجدنا لأكثرهم من عهد، الوفاء بالعهد الذي عاهدهم عليه وهم في صلب آدم حيث قال: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172] . وقال ابن مَسْعُودٍ: «المرادُ بالعهد هاهنا الإيمان، لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} [مريم: 87] أي قال: لا إله إلا الله» . وقيل: المرادُ بالعهدِ وضع الأدلَّةِ على صِحَّةِ التَّوحيد والنَّبوةِ [تقديره:] وما وجدنا لأكثرهم من الوفاءِ بالعهد. قوله: «وَإنْ وَجدْنَا» «إنْ» هذه هي المخفَّفةُ وليس هنا عاملة لمباشرتها الفعل فَزَالَ اختصاصُهَا المُقْتَضِي لإعمالها. وقال الزَّمخشريُّ: «وإنَّ الشَّأن والحديث وجدنا» . فظاهِرُ هذه العبارة أنَّها مُعْملَة، وأنَّ اسمها ضميرُ الأمر والشَّأن، وقد صرَّحَ أبُو البقاء هنا بأنَّها معملةٌ، وأن اسمها محذوف، إلا أنَّهُ لم يقدِّر ضمير الحديث بل غيره فقال: «واسمها محذوفٌ أي: إنَّا وَجَدْنَا» . وهذا مذهب النَّحويين أعني اعتقاد إعمال المخفَّف من هذه الحروف في «أن» المفتوحة على الصَّحيح، وفي «كأن» التَّشبيهية، وأمَّا «إنْ» المخففة المكسورة فلا. وقد تقدَّم إيضاحه. ووجدنا هنا متعدية لاثنين أولهما «أكْثَرَهُم» ، والثاني «لفاسقين» ، قال الزمخشريُّ: والوجود بمعنى العلم من قولك: وجدتُ زيداً ذا الحفاظ بدليل دخول «إنْ» المخفَّفة، واللاَّم الفارقة ولا يسوغ ذلك إلاَّ في المبتدأ والخبر والأفعالِ الدَّاخلة عليهما يعني أنها مختصة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 243 بالابتداء، وبالأفعال النَّاسخةِ له، وهذا مذهبُ الجُمْهُورِ، وقد تقدَّم الخلافُ عن الأخْفَشِ أنَّهُ يجوزُ على غيرها، وتقدَّم دليله على ذلك، واللاَّمُ فارقة وقيل: هي عوض من التَّشديد. قال مَكيٌّك «ولزمت اللاَّمُ في خبرها عوضاً من التشديد والمحذوف الأوَّلِ، وقد تقدَّم أنَّ بعض الكوفيين يجعلون» إن «نافية، واللاَّم بمعنى» إلاَّ «في قوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} [البقرة: 143] . ومعنى فاسقين خارجين عن الطَّاعةِ، مارقين عن الدِّينِ، وقيل: ناقضين العَهْدَ. وقوله:» لأكْثَرهُم «، و» أكْثَرهُم «، و» من بعدهم «: إنْ جعلنا هذه الضَّمائر كلَّها للأمم السَّالِفَةِ فلا اعتراضَ، وإن جعلنا الضَّمير في» لأكثرهُم «و» أكْثَرهُمْ «لعموم النَّاسِ والضَّمير في» من بعدهم «للأمم السَّالِفَةِ كانت هذه الجملة - أعني ما وجدنا - اعتراضاً كذلك قاله الزمخشريُّ، وفيه نظر؛ لأنَّهُ إذا كان الأوَّلُ عاماً ثم ذكر شيء يندرجُ فيه ما بعده وما قبله كيف يُجْعل ذلك العامُّ معترضاً بين الخاصين. وأيضاً، فالنَّحْويُّون إنما يعرفون الاعتراض فيما اعترض به بين متلازمين، إلاَّ أنَّ أهل البيان عندهم الاعتراض أعمُّ من ذلك، حتَّى إذا أتي بشيء بين شيئين مذكورَيْنِ في قصَّةٍ واحدة سَمَّوه اعتراضاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 244 قوله: «لأكْثَرِهِمْ» فيه وجوه: الظَّاهِرُ أنَّهُ متعلقٌ بالوجْدانِ كقولك: ما وجدتُ له مالاً أي: ما صَادَفْتُ له مالاً ولا لقيته. الثاني: أن يكون حالا من «عهدِ» ؛ لأنَّهُ في الأصل صفة نكرةٍ فلما قُدِّم عليها نُصب على الحال، والأصْلُ: ما وجدنا عهداً لأكثرهم، وهذا ما لم يذكر أبُوا البقاءِ غيره. وعلى هذين الوجهين ف «وَجَدَ» متعدِّية لواحد وهو «من عَهْدٍ» ، و «منْ» مزيدةٌ فيه لوجود الشرطين. الثالث: أنَّهُ في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً لوجَدَ إذ هي بمعنى علمية، والمفعول هو «مِنْ عَهْدٍ» . يترجَّحُ هذا بأنَّ «وَجَدَ» الثانية علمية لا وجدانيَّة بمعنى الإصابة، وسيأتي دليل ذلك. وإذا تقرَّر هذا فينبغي أن تكون الأولى كذلك مطابقة للكلام ومناسبة له، ومن يرجّح الأوَّل يقولُ: إنَّ الأولى لمعنى، والثَّانية لمعنى آخر. فصل في معنى الآية قال ابن عباس: يريدُ: وما وجدنا لأكثرهم من عهد، الوفاء بالعهد الذي عاهدهم عليه وهم في صلب آدم حيث قال: {أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 172] . وقال ابن مَسْعُودٍ: «المرادُ بالمعهد هاهنا الإيمان، لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً} [مريم: 87] أي قال: لا إله إلا الله» . وقيل: المرادُ بالعهدِ وضع الأدلَّةِ على صِحَّةِ التَّوحيد والنَّبوة [تقديره:] وما وجدنا لأكثرهم من الفواءِ بالعهد. قوله: «وَإنْ وَجَدْنَا» «إنْ» هذه هي المخفَّفةُ وليس هنا عاملة لمباشرتها الفعل فَزَالَ اختصاصُهَا المُقْتَضِي لإعمالها. وقال الزَّمخشريُّ: «وإنَّ الشَّأن والحديث وجدنا» . فظاهِرُ هذه العبارة أنَّها مُعْملَة، وأنَّ اسمها ضميرُ الأمر والشَّأن، وقد صرَّحَ أبُو البقاءِ هنا بأنَّها معملةٌ، وأن اسمها محذوف، إلا أنَّهُ لم يقدِّره ضمير الحديث بل غيره فقال: «واسمها محذوفٌ أي: إنَّا وَجَدْنَا» . وهذا مذهب النَّحويين أعني اعتقاد إعمال المخفَّف من هذه الحروف في «أن» المفتوحة على الصَّحيح، وفي «كأن» التَّبيهية، وأمَّا «إنْ» المخففة المكسورة فلا. وقد تقدَّم إيضاحه. ووجدنا هنا متعدية لاثنين أولهما «أكْثَرَهُم» ، والثاني «لفاسقين» ، قال الزمخشريُّ: والوجود بمعنى العلم من قولك: وجدتُ زيداً ذا الحفاظ بدليل دخول «إنْ» المخفَّفة، واللاَّم الفارقة ولا يسوغ ذلك إلاَّ في المبتدأ والخبر والأفعالِ الدَّاخلة عليهما يعني أنها مختصة بالابتداء، وبالأفعال النَّاسخِة له، وهذا مذهبُ الجُمْهُورِ، وقد تقدَّم الخلافُ عن الأخْفَشِ أنَّهُ يجوزُ على غيرها، وتقدَّم دليله على ذلك، واللاَّمُ فارقة وقيل: هي عوض من التَّشديد. قال مَكيٌّ: «ولزمت اللاَّمُ في خبرها عوضاً من التشديد والمحذوف الأوَّلِ» ، وقد تقدَّم أنَّ بعض الكوفيين يجعلون «إن» نافية، واللاَّم بمعنى «إلاَ» في قوله تعالى: {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً} [البقرة: 143] . ومعنى فاسقين خارجين عن الطَّاعةِ، ماريقين عن الدِّين، وقيل: ناقضين العَهْدَ. وقوله: «لأكْثَرهُم» ، و «أكْثَرهُم» ، و «من بعدهم» : إنْ جعلنا هذه الضَّمائر كلَّها للأمم السَّالِفَةِ فلا اعتراضَ، وإن جعلنا الضَّمير في «لأكثرهُم» و «أكْثَرهُمْ» لعموم النَّاسِ والضَّمير في «من بعدهم» للأمم السَّالِفَةِ كانت هذه الجملة - أعني ما وجدنا - اعتراضاً كذلك قاله الزمخشري، وفيه نظر؛ لأنَّهُ إذا كان الأوَّلُ عاماً ثم ذكر شيء يندرجُ فيه ما بعده وما قبله كيف يُجْعل ذلك العامُّ معترضاً بين الخاصين. وأيضاً، فالنَّحْويُّون إنما يعرفون الاعتراض فيما اعترض به بين متلازمين، إلاَّ أنَّ أهل البيان عندهم الاعتراض أعمُّ من ذلك، حتَّى إذا أتي بشيء بين شيئين مذكورَيْنِ في قصَّةٍ واحدة سَمَّوه اعتراضاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 244 اعلم أنَّ الكناية في قوله: «مِنْ بَعْدِهِمْ» يجوز أنْ تعود إلى الأنبياء الذين جرى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 244 ذكرهم وهم: نُوحٌ، وصالحٌ، وشعيبٌ وهود ويجوز أن تعود إلى الأمم الذين تقدَّم إهلاكهم. وقوله: «بآياتنا» أي بأدلَّتِنَا ومعجزاتنا، وهذا يَدُلُّ على أنَّ النبي لا بد له من آية ومعجزة يتميز بها عن غيره، وإلا لم يكن قوله أولى من قول غيره. قال ابن عباس: أوَّلُ آياته العَصَا ثم اليَدُ، ضرب بالعصا باب فرعون فَفَزعَ منها فشاب رَأسَهُ، فاسْتَحْيَا فخضب بالسَّوادِ، فهو أوَّلُ من خضب، قال: وآخر الآيات الطَّمْسُ، قال: وللعصا فوائِدُ: منها ما هو مذكور في القرآن كقوله: {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] ، وقوله: {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} [البقرة: 60] ، {اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63] . وذكر ابن عباس أشياء أخرى: منها أنَّهُ كان يغرسها فتنبت كالثمر وانقلابها ثعباناً وكان يحارب بها اللُّصوص والسباع التي كانت تقصد غنمه. ومنها أنَّها كانت تشتعل في الليل كالشَّمْعَةِ ومنها أنَّها كانت تصيرُ كالحَبْلِ الطَّويلِ فينزح الماء من البئر العميقة. ومنها أنَّهُ كان يضربُ بها الأرْضَ فَتَنْبُتُ. واعلم أنَّ المذكور في القرآن مَعْلُومٌ، وأمَّا المذكور في غير القرآن فإن ورد في خبر صحيح فهو مقبول، وإلاَّ فلا. قوله: «فَظَلَمُوا بها» يجوز أن يضمن «ظَلَمُوا» معنى «كَفَرُوا» فيتعدَّى بالياء كتعديته ويؤيده {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، ويجوز أن تكون «الباء» سببيّة والمفعول محذوف تقديره: فظلموا أنْفُسَهُم وظلموا النَّاسَ بمعنى صدوهم عن الإيمان بسبب الآيات. والظُّلْمُ: وضع الشَّيءِ في غير موضعه فظلمهم: وضع الكُفْرِ موضع الإيمان. قوله: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ} «كَيْفَ» خبر ل «كان» مقدَّمٌ عليها واجب التَّقديم؛ لأنَّ له صدر الكلام، و «عَاقِبَة» اسمها وهذه الجملة الاستفهامية في محلّ نصب على إسْقَاطِ حرف الجرِّ إذ التقديرُ: فانظر إلى كذا، والمعنى: فانْظُرْ بعين عقلك كيف فعلنا بالمفسدين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 245 كان يُقَالُ لمُلُوكِ مصر الفراعِنَة، كما يقال لملوك فارس الأكَاسِرَة، فكأنه قال: يا مَلِكَ [مصر] وكان اسمه قابوس وقيل: الوليدُ بْنُ مُصْعبِ بْنِ الرَّيَّان. وقوله: {رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين} يدلُّ على وجود الإله تعالى، فإنَّهُ يدلُّ على أنَّ للعالم ربٌّ يربيه، وإله يوجده ويخلقه. قوله: «حَقِيقٌ» أي واجب «عَلَى أنْ لا أقُولُ» . قرأ العامة «على أنْ» ب «عَلَى» التي هي حرف جر داخلة على أن وما في حيّزها. ونافع قرأ «عليّ» ب «عَلَى» التي هي حرف جرّ داخلة على ياء المتكلِّم. فأما قراءة العامة ففيها سِتَّةٌ أوْجُهٍ، ذكر الزَّمخشريُّ منها أربعة أوجه: قال رَحِمَهُ اللَّهُ: «وفي المشهورةِ [إشكال] ، ولا يخلو من وجوده: أحدها: أن تكون مما قلب من الكلامِ كقوله: [الطويل] 2535 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وتَشْقَى الرِّمَاحُ بالضَّيَاطِرَةِ الحُمْرِ معناه: وتشقى الضياطرة بالرِّمَاحِ. قال أبُو حيَّان:» وأصحابنا يخصُّون القلب بالضَّرُورةِ، فينبغي أن يُنزَّه القرآن عنه «. وللنَّاس فيه ثلاثةُ مذاهب: الجواز مطلقاً، [المنع مطلقاً] ، التَّفصيل: بين أن يفيد معنىً بديعاً فيجوزُ، أو لا فيمتنع، وقد تقدَّم إيضاحه، وسيأتي منه أمثلة أخر في القرآن العظيم. وعلى هذا الوجه تصيرُ هذه القراءة كَقِرَاءةِ نافع في المعنى، إذ الأصلُ: قول الحق حقيق عليَّ، فقلب اللفظ فصار:» أنَّ حقيق على قول الحقِّ «. قال:» والثاني: أن ما لزمك فقد لزمته، فلمَّا كان قول الحقِّ حقيقاً عليه كان هو حقيقاً على قول الحقِّ أي لازماً له «. والثالث: أن يضمَّنَ حقيق معنى حريص كما ضمت» هيجّني «معنى ذكْرني في البيتِ المذكور في كتاب سيبويه وهو قوله: [البسيط] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 246 2536 - إذَا تَغَنَّى الحَمَامُ الوُرْقُ هَيَّجَنِي ... وَلَوْ تَسَلَّيْتُ عَنْهَا أمَّ عَمَّارِ الرابع: أن تكون» عَلَى «بمعنى» الباء «، وبهذا الوجه قال أبو الحسن والفراء والفارسيُّ، قالوا: إنَّ» على «بمعنى الباء كما أن الباء بمعنى» على «في قوله: {وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ} [الأعراف: 86] أي: على كلٍّ. وقال الفرَّاءُ: العرب تقول: رَمَيْتُ على القوس وبالقوس وجئتُ على حالٍ حسنة وبحال حسنة، وتؤيده قراءة أبيّ والأعمش» حقيق بأن لا أقول «إلاَّ أنَّ الأخفش قال:» وليس ذلك بالمطَّرد لو قلت: «ذهبتُ على زيْدٍ» تريد: «بزيدٍ» لم يجز «، وأيضاً فلأن مذهب البصريِّين عدم التجوُّزِ في الحُرُوفِ. الخامس: - وهو الأوجه والأدخل في نكت القرآن - أن يغرق موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -[في وصف نفسه] بالصِّدْق في ذلك المقام لا سيما وقد رُوِيَ أنَّ فرعون - لعنه الله - لمَّا قال موسى: إنِّي رسول من رب العالمين قال له: كذبت فيقول: أنا حقيقٌ على قول الحقِّ أي: واجب عليَّ قول الحقِّ أن أكون أنا قائله والقائم به، ولا يَرْضى إلاَّ بمثلي ناطقاً به. قال أبُو حيَّان: ولا يصحُّ هذا الوجه إلاَّ إن عنى أنه يكون «أن لا أقُول» صفة له كما تقول: أنَا على قول الحقِّ أي: طريقتي وعادتي قول الحقّ. السادس: أن تكون «على» متعلقة ب «رَسُول» . قال ابن مقسم: حقيقٌ من نعت «رَسُول» أي رسول حقيق من ربِّ العالمين أرْسِلْتُ على ألاَّ أقولَ على الله إلا الحقَّ، وهذا معنى صحيح واضحٌ، وقد غفل أكثرُ المفسرين من أرباب اللُّغَة عن تعليق «على» ب «رسول» ، ولم يخطر لهم تعليقه إلاَّ ب «حقيق» . قال أبُو حيَّان: وكلامه فيه تَنَاقضٌ في الظَّاهِرِ؛ لأنَّهُ قدَّر أولاً العامل في «عَلَى» «أرسلت» وقال أخيراً: «لأنهم غفلوا عن تَعْليق» على «ب» رسول «، فأمَّا هذا الأخير فلا يجوزُ عند البصريين؛ لأنَّ رسولً قد وُصِف قبل أن يأخذ معموله، وذلك لا يَجُوزُ، وأمَّا تعليقه ب» أرسلت «مقدَّراً لدلالةِ لفظ» رَسُوله «عليه فهو تقديرٌ سائغ. ويتأوَّل كلامه أنَّه أراد بقوله تُعَلَّقُ» على «ب» رسول «أنه لمَّا كان دالاًّ عليه صحَّ نسبة التَّعلق له. قال شهابُ الدِّين:» وقال أبُو شامَةَ بعد ما ذكر هذا الوجه عن ابن مقسم: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 247 والأوْجهُ الأربعةُ التي للزمخشريِّ ولكن هذه وجوهٌ متعسِّفةٌ، وليس المعنى إلاَّ على ما ذكرته أوَّلاً، يعني وجه ابن مقسم، وهذا فيه الإشكال الذي ذكره الشيخ يعني أبا حيَّان يعني من إعمال اسم الفاعل أو الجاري مجراه وهو موصوفٌ «. وأمَّا قراءة نافع فواضحةٌ وفيها ثلاثةُ أوجُهٍ: أحدها: أن يكون الكلامُ قد تم عند قوله:» حقيق «، و» عليَّ «خبر مقدَّمٌ،» ألاَّ أقُولَ «مبتدأ مؤخر، كأنَّهُ قيل: عليَّ عدم قول غير الحقِّ أي: فلا أقُولُ إلا الحقَّ. الثاني: أن يكون» حَقِيقٌ «خبراً مقدماً، و» ألاَّ أقولَ «مبتدأ على ما تقدَّم بيانه. الثالث:» أن لا أقول «فاعلٌ ب» حقيقٌ «كأنَّهُ قيل: يحقُّ ويجبُ أن لا أقول، وهذا أغربُ الوُجُوهِ لوضُوحِهِ لفظاً ومعنى، وعلى الوجهين الأخيرين تتعلَّق» عليَّ «ب» حقيقٌ «لأنَّك تقول:» حقَّ عليهِ كذا «قال تعالى: {أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول} [الأحقاف: 18] . وعلى الوجْهِ الأوَّلِ يتعلَّق بمحذوف على ما تقرر. وأمّا رفع «حقيقٌ» فقد تقدَّم أنَّهُ يجوز أن يكون خَبَراً مقدَّماً، ويجوز أن يكون صفةً ل «رَسُول» ، وعلى هذا فيضعف أن يكون «مِنْ رب» صفةً لئلا يلزم تقديم الصفة غير الصّريحَة [على الصَّريحة] ، فينبغي أن يكون متعلّقاً بنفس «رَسُول» ، وتكون «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً. ويجوز أن يكون خبراً ثانياً. ويجوز أن يكون مبتدأ وما بعده الخبر على قراءة من شددَّ الياء، وسوَّغَ الابتداء بالنكِرَةِ حينئذٍ تعلُّق الجارِّ بها. فقد تحصَّل في رفعه أربعة أوجُهٍ، وهل هو بمعنى فاعل، أو بمعنى مفعول؟ الظَّاهِرُ أنَّهُ يحتمل الأمرين مُطْلَقاً، أعني على قراءة نَافِعٍ وقراءة غيره. وقال الوَاحِدِيُّ نَاقِلاً عن غيره: «إنَّهُ مع قراءةِ نافع محتمل للأمرين، ومع قراءة العامَّةِ بمعنى مفعول فإنَّهُ قال:» وحقيقق على هذا القراءةِ - يعني قراءة نَافِعٍ - يجوز أن يكون بمعنى فاعل «. قال شمرٌ:» تقولُ العربُ: حقَّ عليَّ أن أفعل كذا «. وقال الليثُ:» حقَّ الشَّيء معناه وجب، ويحقُّ عليك أن تفعله، وحقيق عليَّ أنْ أفعله، فهذا بمعنى فاعلٍ «ثم قال: وقال اللَّيْثُ: وحقيقٌ بمعنى مفعول، وعلى هذا تَقُولُ: فلان محقوقٌ عليه أن يفعل. قال العشى: [الطويل] 2537 - لَمَحْقُوقَةٌ أنْ تَسْتَجِيبِي لِصَوْتِهِ ... وَأنْ تَعْلَمِي أنَّ المُعَانَ مُوَفَّقْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 248 وقال جريرٌ: [البسيط] 2538 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قَصَّرْ فَإنَّكَ بالتَّقْصيرِ مَحْقُوقُ ثم قال:» وحقيقٌ على هذه القراءة - يعني قراءة العامَّة - بمعنى محقوق «انتهى. [وقرأ أبَيٌّ» بأن لا أقُولَ «وهذه تقوي أنَّ» على «بمعنى الباء] . وقرأ عبدُ الله والأعمشُ» لاّ أقُولَ «دون حرف جرّ، فاحتمل أن يكون ذلك الجارّ» على «كما هو قراءة العامَّةِ، وأن يكون الجارُّ الباء كقراءة أبيّ المتقدمة. والحقُّ هو الثابت الدَّائِمُ، والحقيق مبالغة فيه. قوله:» إلاَّ الحَقَّ «هذا استثناء مفرَّغٌ، و» الحقُّ «يجوزُ أن يكون مفعولاً به، لأنَّهُ يتضمن معنى جملة، وأن يكون منصوباً على المصدر أي: القول الحق. قوله: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} يعني العَصَا واليد {فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ} أي أطلق عنهم وخلِّهم يرجعون إلى الأرْضِ المقدَّسةِ، وكان فرعونُ قد استخدمهم في الأعمال الشَّاقَّة، فقال فرعونُ مجيباً له: {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} والمعنى: إنْ كنت جئت من عند من أرْسَلَكَ بآيةٍ؛ فأحضرها عندي لتصحَّ دعواك. فإن قيل قوله: {قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} جزاء واقع بين شرطين فكيف حمله؟ والجوابُ: أنَّ هذا نظير قولك: إنْ دخلت الدَّارَ فأنت طالق إن كلمت زيداً، وهاهنا المؤخر في اللَّفظ يكون مقدماً في المعنى؛ كما سبق تقريره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 249 لما طلب فرعون من موسى إقَامَةِ البَيِّنَةِ على صحَّةِ دعواه، بين الله تعالى أنَّ معجزته كانت قلب العصا ثعباناً، وأظهار اليد البيضاء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 249 «فإذَا» فجائية وقد تقدَّم أنَّ فيها مذاهبَ ثلاثةً: ظرف مكان، أو زمان، أو حرف. وقال ابن عطية هنا: «وإذَا ظرف مكان في هذا الموضع عند المبرِّد من حيثُ كانت خبراً عن جثة، والصَّحيحُ الذي عليه النَّاسُ أنَّهَا ظَرْفُ زَمَانٍ في كلِّ مَوْضِعٍ» . قال شهابُ الدِّين: «والمشهورُ عند النَّاسِ قول المبردِ، وهو مذهب سيبويه» . وأمَّا كونها زماناً فهو مَذْهَبُ الرِّيَاشي، وعُزِيَ لسيبويه أيضاً. وقوله: «من حيث كانت خبراً عن جثَّة» ليست هي هنا خبراً عن جُثَّة، بل الخبرُ عن «هي» لفظ «ثُعْبَان» لا لَفْظ «إذا» . والثُّعْبَانُ هو ذَكَرُ الحيَّاتِ العظيم، واشتقاقُه من ثَعَبْتُ المكان أي: فجَّرْتُه بالمَاءِ، شُبِّه في انسيابه بأنْسِيَابِ الماء، يقال: ثَعَبْتُ الماءَ فجَّرْتُه فانْثَعَبَ. ومنه مَثْعَبُ المطر، وفي الحديث: «جَاءَ يَوْمَ القِيَامَةِ وَجَرْحُهُ يَثْعَبُ دماً» فصل فإن قيل إنَّهُ وصفها هنا بكونها ثُعْبَاناً، وهو العظيمُ الهائل الخلق، وفي موضع آخر يقول: {كَأَنَّهَا جَآنٌ} [النمل: 10] ، والجان من الحيَّاتِ الخفيف الضّئيل الخلق، فكيف الجَمْعُ بين هاتين الصّفتين؟ وقد أجاب الزَّمَخْشَرِيُّ في غير هذا المكان بجوابين: أحدهما: أنَّهُ يجمع لها بين الشيئين: أي كبر الجُثَّةِ كالثُّعْبَانِ وبين خفَّةِ الحركة، وسرعة المشي كالجَان. والثاني: أنَّها في ابتداء أمرها تكون كالجَان، ثمَّ يتعاظمُ ويتزايد خلقها إلى أن تصير ثُعْبَاناً. وفي وصف الثُّعبانِ بكونه مُبيناً وجوه: أحدها: أنُّهُ تمييز ذلك عمَّا جاءت به السَّحرَة من التمويه الذي يلتبسُ على من لا يعرف سببه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 250 وثانيها: أنَّهم شاهدوا كونه حيَّةً، فلم يشتبه الأمر عليهم فيه. وثالثها: أنَّ الثَّعبان أبان قول موسى عليه السلام عن قول المدعي لكاذب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 251 النّزع في اللُّغَةِ عبارة عن إخراج الشَّيء عن مكانه، فقوله: «نَزعَ يَدَهُ» أي أخرجها من جَيْبِهِ ومن جناحه، بدليل قوله: {وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ} [النمل: 12] ، وقوله: {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} [طه: 22] . قوله: {فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ} قال ابن عباس: «كان لها نور ساطع يضيء بين السَّماء والأرض» ، واعلم أنَّهُ لمَّا كان البياض كالعيب بيَّن تعالى في غير هذه الآية أنَّهُ كان من غير سوء. قوله: «للنَّاظرينَ» متعلق بمحذوف لأنَّهُ صفة ل «بيضاء» وقال الزَّمخشريُّ: «فإن قلت: بم تعلق للناظرين؟ قلت: يتعلَّقُ ب» بيضاء «والمعنى: فإذا هي بيضاء للنَّظارة، ولا تكون بيضاء للنَّظَّارةِ إلا إذا كان بياضها بياضاً عجيباً خارجاً عن العادةِ، يجتمعُ النَّاس للنَّظر إليه، كما يجتمع النَّظَّارة للعجائب» . وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ تفسير معنى لا تفسير إعراب، وكيف يريدُ تفسير الإعراب؟ وإنَّما أراد التعلُّق المعنويُّ لا الصّناعي، كقولهم: هذا الكلامُ يتعلق بهذا الكلام. أي إنَّهُ من تتمَّةِ المعنى له. فإن قيل: إنَّ كثرة الدَّلائل توجب القوَّةَ في النَّفْسِ، وسيأتي في سورة طه - إن شاء الله تعالى - أن انقلاب العصا أعظم من اليد البيضاء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 251 اعلم أنَّهُ سبحانه وتعالى أسند القول في هذه السُّورة إلى الملأ، وفي «الشعراء» [34] أسند القول إلى فرعون في قوله: «قَالَ لِلْمَلأ حَوْلَهُ» ، وأجاب الزَّمَخْشَرِيُّ عن ذلك بثلاثة أوْجُهٍ: أحدها: أن يكون هذا الكلام صادراً منه ومنهم، فحكى هنا عنهم وفي الشَّعراء عنه. والثاني: أنَّهُ قاله ابتداء، وتلقَّته عنه خاصَّته فقالوه لأعقابهم. والثالث: أنَّهُم قالوه عنه للنَّاسِ على طريق التَّبليغ، كما يفعل الملوكُ، يرى الواحدُ منهم الرّأي فيبلغه الخاصَّة، ثم يبلغوه لعامَّتهم، وهذا الثَّالِثُ قريبٌ من الثَّانِي في المعنى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 251 وقولهم: {إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ} يعنون أنَّهُ ليأخذ بأعين النَّاسِ حتى يخيل إليهم العصا حيَّة، واليد بيضاء، وكان موسى عليه الصَّلاة والسَّلامُ آدم اللّون، ويرى الشَّيء بخلاف ما هو عليه، وكان السّحر غالباً في ذلك الزمان، ولا شَكَّ أن مراتب السّحر كانت متفاوتة، فالقوم زَعَمُوا أن موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان في النِّهاية من علم السّحر، فلذلك أتى بتلك الصّيغة، ثم ذكروا أنَّه إنَّما أتى بذلك السّحر طلباً للملك والرّئاسة فقالوا: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ} [الأعراف: 110] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 252 قوله: «فَمَاذَا تَأْمُرُونَ» قد تقدَّم الكلامُ على «ماذا» ، والجمهور على «تَأمُرُونَ» بفتح النُّونِ، وروى كردم عن نافعٍ كسرها، وعلى كلتا القراءتين يجوز أن تكون «ماذا» كلمة اسماً واحداً في محلِّ نصب على أنَّهُ مفعولٌ ثانٍ ل «تَأمُرُون» بعد حذف الياء، ويكون المفعول الأوَّلُ ل «تَأمُرُونَ» محذوفاً، وهو ياء المتكلم والتقديرُ: بأي شْيءٍ تأمرونني. وعلى قراءة نافع لا تَقُول إنَّ المفعول الأوَّلَ محذوف، بل هو في قوَّةِ المَنْطُوق به؛ لأنَّ الكسرة دالة عليه، فهذا الحَذْفُ غير الحذف في قراءة الجماعة. ويجوزُ أن تكون «ما» استفهاماً في محل رفع بالابتداء، و «ذا» موصول، وصلته العائد منصوب المحل غير معدى إليه بالباء فتقديرُهُ: فما الذي تأمرونيه. وقدّره ابن عطية «تَأمُرُونِي بِهِ» ، وردَّ عليه أبُو حيَّان بأنَّهُ يلزم من ذلك حذف العائد المجرور بحرف لم يجر الموصول بمثله، ثم اعتذر عنه بأنَّه أراد التقدير الأصلي، ثم اتّسع فيه بأن حذف الحرف، فاتّصل الضَّميرُ بالفعل. وهذه الجملة هل هي من كلام المَلأ، ويكونُون قد خاطبوا فِرعَوْنَ بذلك وحده تعظيماً له كما يُخاطب الملوك بصِيغَةِ الجمع، أو يكونون قالوه له ولأصحابه أو يكون من كلام فرعون على إضمار قول أي: فقال لهم فرعون فماذا تَأمُرون ويكون كلام الملأ قد تم عند قوله: {يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ} ويؤكد كونها من كلام فرعون قوله تعالى: {قالوا أَرْجِهْ} [الأعراف: 111] . وهل «تَأمُرُونَ» من الأمر المعهود أو من الأمر الذي بمعنى المشاورة؟ والثاني منقول عن ابن عباس. وقال الزمخشريُّ: «هو من أمَرْتُه فأمرني بكذا أي: شاورته فأشار عليَّ برأي» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 252 قوله: {قالوا أَرْجِهْ} في هذه الكلمة هنا وفي «الشُّعراءِ» [36] ست قراءات في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 252 المشهور المتواتر، ولا التفات إلى مَنْ أنكر بعضها ولا لمن أنكر على روايها. وضبط ذلك أنْ يقال: ثلاث مع الهَمْزِ وثلاث مع عدمه. فأمّا الثَّلاثُ التي مع الهمزة فأولُها قراءة ابن كثير، وهشام عن ابن عامر: أرجِئْهو بهمزة ساكنة، وهاء متصلة بواو. والثانية: قراءة أبي عَمْرو: أرْجِئْهُ كما تقدَّم إلا أنَّه لم يصلها بواو. الثالثة: قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر: أرْجِئْهِ بهمزة ساكنة وهاء مكسورة من غير صفة. وأمّا الثَّلاثُ التي بلا همة فأوَّلهَا: قراءة الأخوين: «أرْجِهْ» بكسر الجيم وسكون الهاء وصلاً ووقفاً. الثانية: قراءة الكسائيِّ، وورشٍ عن نافعٍ: «أرْجِهِي» بهاء متصلة بياء. الثالثة: قراءة قالون بهاء مكسورة دون ياء. فأمّا ضمُّ الهاء وكسرها فقد عُرف مما تقدَّم. وأمَّا الهمزُ وعدمه فلغتان مشهورتان يقال: أرْجَأته وأرْجَيْتُه أي: أخَّرته، وقد قرئ قوله تعالى: {تُرْجِي مَن تَشَآءُ} [الأحزاب: 51] بالهَمْزِ وعدمه، وهذا كقولم: تَوَضَّأتُ وتَوَضَّيْتُ، وهل هما مادتان أصليتان أم المبدل فرع الهمز؟ احتمالان. وقد طعن قَوْمٌ على قراءة ابن ذكوان فقال الفارسي: «ضم الهاء مع الهمزة لا يجوز [غيره] ، ورواية ابن ذُكْوَان عن ابن عامر غلطٌ» . وقال ابنُ مُجَاهدٍ: «وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ الهَاءَ لا تكسَرُ إلاَّ بعد كسرة أو ياء ساكنة» . وقال الحُوفِيُّ: «ومن القرَّاء مَنْ يكسر مع الهَمْزِ وليس بجيِّد» . وقال أبو البقاءِ: «ويُقْرأ بكسر الهاء مع الهمز وهو ضعيف؛ لأنَّ الهمزة حرف صحيحٌ ساكنٌ، فليس قبل الهاء ما يقتضي الكسر» . وقد اعتذر النَّاس عن هذه القراءة على سبيل التنازل بوجهين: أحدهما: أن الهَمْزَة ساكنةٌ والسَّاكن حاجزٌ غير حصين، وله شواهدٌ [مذكورة في موضعها] ، فكأنَّ الهاء وليست الجيم المكسورة فلذلك كُسِرت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 253 [الثاني: أن الهمزة كثيراً ما يطرأ عيلها التغيير وهي هنا في معرض أن تبدل ياء ساكنة لسكونها بعد كسره فكأنها وليت ياء ساكنة فلذلك كسرت] . وقد اعترض أبُو شَامَةَ على هذين الجوابين بثلاثةِ أوجه: الأولُ: أنَّ الهمز حاجز معتدٌّ به بإجماع في {أَنبِئْهُم} [البقرة: 33] ، {وَنَبِّئْهُمْ} [القمر: 28] والحكم واحد في ضمير الجمع والمفرد فيما يرجع إلى الكَسْرِ والضمّ. الثالث: أنَّ الهمز لو قلب يَاءٌ لكان الوَجْه المختارُ ضمّ الهاء مع صريح الياءِ نظراً إلى أنَّ أصلها همزة، فما الظنُّ بمَنْ يكسر الهاء مع صريح الهَمزةِ، وسيأتي تحقيق ذلك في باب وقفِ حمزةَ وهشام، فضمُّ الهَاء مع الهمزةِ هو الوَجْهُ. وقد استضعف أبُو البقاءِ قراءة ابن كثير وهشام فإنَّهُ قال: «وَأرْجِئْهُ» يقرأ بالهمزة وضمِّ الهاء من غير إشابع وهو الجيِّد، وبالإشباع وهو ضَعِيفٌ؛ لأنَّ الهاء خفيَّة، فكأنَّ الواو التي بعدها تتلو الهمزة، وهو قريبٌ من الجمع بين السَّاكنين ومن هاهنا ضَعْف قولهم: «عليهمي مال» بالإشْبَاع. قال شهابُ الدِّينِ: «وهذا التَّضْعيف ليس بشيء؛ لأنَّهَا لغة ثابتة عن العَرَبِ، أعني إشباع حركة الهاء بعد ساكن مطلقاً، وقد تقدَّم أنَّ هذا أصل لابن كثير ليس مختصاً بهذه اللَّفْظَةِ، بل قاعدته كلُّ هاء كناية بعد ساكن أنْ تُشْبع حركتها حتى تتولَّد منها حرف مدِّ نحو:» منهو، وعنهو، وأرجِئْهو «إلاَّ قبل ساكن فإن المدَّ يُحذفُ لالتقاء الساكنين إلاَّ في موضع واحد رواه عنه البَزِّيُّ وهو {عَنْهُ تلهى} [عبس: 10] بتشديد التَّاءِ، ولذلك استضعف الزَّجَّاج قراءة الأخوين قال بعد ما أنشد قول الشَّاعر: [الرجز] 2539 - لَمَّا رَأى أنْ لا دَعُهُ وَلاَ شِبَعْ ... مَالَ إلَى أرْطَاةِ حِقْفٍ فَالطَجَعْ » هذا شعرٌ لا يعرف قائله ولا هو بِشَيءٍ، ولو قاله شاعر مذكور لقيل له: أخطأت؛ لأنَّ الشَّاعر يجوز أن يخطئ مذهب لا يُعَرَّج عليه «. قال شهابُ الدِّين:» وقد تقدَّم أنَّ تسكين هاء الكناية لغة ثابتة، وتقدَّم شواهدها، فلا حاجةَ إلى الإعادة «. قوله:» وَأخَاهُ «الأحسنُ أن يكون نسقاً على الهاء في» أرْجِهْ «ويضعف نصله على المعيَّة لإمكان النَّسق من غير ضعف لَفْظي ولا معنوي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 254 قال عطاءٌ:» معنى أرْجِهْ أي أخّره «. وقيل: احبسه وأخاه، وهو قول قتادة والكَلْبِي، وهذا ضعيف لوجهين: أحدهما: أنَّ الإرجاء في اللُّغَةِ هو التَّأخير لا الحبس. والثاني: أنَّ فرعونَ ما كان قادراً على حبس موسى بعد أنْ شاهد العصا فأشاروا عليه بتأخير أمره وترك التَّعَرُّضِ إليه بالقتل. قوله: {وَأَرْسِلْ فِي المدآئن حَاشِرِينَ} . » فِي المَدَائِنِ «متعلق ب» أرْسِلُ «، و» حَاشِرينَ «مفعول به، ومفعول» حَاشِرِين «محذوفة أي: حاشرين السَّحَرة، بدليل ما بعده. و» المَدائِنُ «جمع مَدينَةٍ، وفيها ثلاثُة أقوال: أصحها: أنَّ وزنها فعيلة فميمها أصلية وياؤها زائدة مشتقة من مَدُنَ يَمْدُنُ مدوناً أي قام، واستدلَّ لهذا القول بإطْبَاقِ القراء على همز مدائن كصحيفة وصحائف، وسفينة وسفائن، والياء إذا كانت زائدة في الواحد همزت في الجمع كقبائل وقبيلة، وإذا كانت من نفس الكلمةِ لم تهمز نحو: معايش ومعيشة، [ولو كانت مفعلة لم تهمز نحو: مَعِيشَةِ ومعايش ولأنَّهُم جمعوها أيضاً على مُدنٍ كقولهم سفينةٍ وسُفُنٍ وصُحُفٍ] . قال أبُو حيَّان:» ويقطعُ بأنَّها فعيلة جمعهم لها على فعل قالوا: مدن كما قالوا صُحْفٌ في صحيفة «. قال شهابُ الدِّين:» قد قال الزجاجي: المدن في الحقيقةِ جمع المدين، لأنَّ المدينة لا تُجْمَععْ على مُدُن ولكن على مدائن ومثل هذا سفن كأنهم جمعوا سفينة على سفين ثم جمعوه على سفن «ولا أدري ما حمله على جعل مدن جمع مدين، ومدين جمع مدينة مع اطَّراد فُعُل على فَعِيلَةٍ لا بمعنى مفعولة، اللهم إلا أن يكون قد لحظ في مدينة أنَّهَا فعيلة بمعنى مفعولة؛ لأنَّ معنى المدينةِ أن يمدن فيها أي يقام، ويُؤيِّدُ هذا ما سيأتي أنَّ مدينة وزنها في الأصْلِ مديونة عند بعضهم. القول الثاني: أن وزنها مفعلة من دَانَهُ يَدِينُهُ أي ساسه يَسُوسُهُ، فمعنى مدينة أي مَمْلُوكَة ومسوسة أي مَسُوسٌ أهلها من دانهم ملكهم إذا سَاسَهُم، وكان ينبغي أن يجمع على مداين بصريح الياء كمعايشَ في مشهور لُغَةِ العَرَبِ. الثالث: أن وزنها مفعولة، وهو مَذْهَبُ المبرِّد قال: «هي من دَانَهُ يَدينُهُ إذا ملكه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 255 وَقَهَرَهُ، وإذا كان أصلها مديونة فاستثقَلُوا حركة الضَّمَّة على الياء فسكنوها، ونقلوا حركتها إلى ما قبلها، فاجتمع ساكنان: الواو والمزيدة الَّتي هي واو المفعول، والياء التي هي من نفس الكلمة، فحذفت الواو؛ لأنَّها زائدة، وحذف الزَّائد أولى من حذف الحرف الأصلي، ثم كَسَرُوا الدَّال لتسليم الياء، فلا تنقلب واواً لانضمام ما قبلها، فتختلط ذوات الواو بذوات الياءِ، وهكذا تقولُ في المبيع والمخيط والمكيل فلاَ ينقلب واواً لانضمام ما قبلها ذوات الواو، والخلاف جارٍ في المحذوف، هل هو الياء الأصليّة؟ أو الواو الزائدة؟ الأوَّلُ قول الأخْفَشِ، والثَّاني قول المَازني، وهو مذهب جماهير النُّحَاةِ. فصل في تعريف» المدينة « المدينةُ معروفةٌ، وهي البُقعةُ المسورة المستولي عليها ملك وأرادَ مدائن صعيدِ مِصْرَِ، أي: أرسل إلى هذه المدائن رجالاً يحشرون إليك من فيها من السَّحرةِ، وكان رؤساء السَّحرةِ بأقْصَى مدائن الصَّعيدِ. ونقل القاضي عن ابن عباس أنَّهُم كانوا سَبْعِينَ سَاحِراً سوى رئيسهم، وكان الذي يعلمهم رجلي مَجُوسِيِّيْنِ من أهْلِ» نينوى «بلدة يونس - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وهي قرية بالموصل. قال ابن الخطيب:» وهذا النَّفْلُ مشكل؛ لأنَّ المَجُوسَ أتباع زرادشت، وزرادشت إنَّما جاء بعد مُوسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 256 قرأ الأخوان هنا وفي سورة «يونس» [79] «سحّار» والباقون «ساحر» ، فسحَّارٌ للمبالغة وساحر يحتملها، ولا خلاف في التي في «الشُّعراء» أنها سحَّارٌ مثال مبالغة. واختلفوا في السَّاحر والسحَّار: فقيل: السَّاحر الذي يعلم السِّحْرَ ولا يعلم، والسحَّارُ الذي يعلم. وقيل: السَّاحِرُ من يكون سحره في وقت دون وقت، والسحَّارُ من يديم السحر. و «الباء» في قوله: «بِكلّ» يحتمل أن تكون باء التَّعدية ويحتمل أن تكون بمعنى مع. وقال ابن عباس وابن إسحاق والسُّدِّيُّ: إنَّ فرعون اتخذ علمه من بني إسرائيل، فبعث بهم إلى قرية يقال لها: الفرما يعلموهم فعلموهم سحراً كثيراً، فلما بعث إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 256 السَّحرة جاءوا ومعلمهم معهم. وهذه الآية تدلُّ على كثرة السَّحرةِ في ذلك الزَّمانِ، وذلك يدلُّ على صِحَّةِ قول المتكلِّمين من أنه تعالى يجعل معجزة كل نبيّ من جنس ما كان غالباً على أهل ذلك الزمان، فلما كان السِّحر غالباً على أهل زمان موسى كانت معجزته من جنس السحر. ولما كان الطبُّ غالباً على أهل زمان عيسى كانت معجزته من جنس الطبِّ. ولما كانت الفصحاة غالبة على أهل زمان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت معجزته من جنس الفصاحة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 257 وحذف ذكر الإرْسَالِ لعلم السَّامع. وفي قوله: {إِنَّ لَنَا لأَجْراً} وجهان: أظهرهما: أنَّهَا لا محلَّ لها من الإعْرَاب؛ لأنَّها استئناف جواب لسؤال مقدر، ولذلك لم تعطف بالفاء على ما قبلها. قال الزمخشريُّ: فإن قلت: هلا قيل: «وجاءَ السَّحرةُ فرعون فقالوا» . قلت: هو على تقدير سائل سأل: ما قالوا إذ جاءوه؟ فأجيب بقوله قالوا: «أإن لنا لأراً» وهذا قد سبقه إليه الواحديُّ إلاَّ أنه قال: «ولم يقل» فقالوا «لأنَّ المعنى لما جاءوا قالوا» فلم يصحَّ دخول الفاء على هذه الوَجْهِ. والوجه الثاني: أنَّهَا في محلِّ نَصْبٍ على الحال من فاعل «جاءُوا» قاله الحوفي. وقرأ نَافِعٌ وابن كثير وحفصٌ عن عاصم «إنَّ» بهمزة واحدة بكسر الألف على الخبر والباقُونَ بهمزتين على الاستفهام. وهم على أصولهم من التحقيق والتسهيل وإدخال ألفٍ بينهما وعدمه. فقراءة الحَرَميِّيْن على الإخبار، وجوَّز الفارسيُّ أن تكون على نيَّةِ الاستفهامِ يدلُّ عليه قراءة البقاين. قال الواحديُّ: الاستفهام أحْسَنُ في هذا الموضع؛ لأنَّهُم أرادوا أن يعلموا هل لهم أجر أم لا، ولا يقطعون على أن لهم الأجر، ويقوي ذلك إجماعهم في سورة «الشعراء» على الاستفهام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 257 وحجَّةُ نافع وابن كثير أنَّهُما أرادا همزة الاستفهام، ولكنهما حذفا ذلك من اللَّفْظِ، وإن كانت باقية في المعنى كقوله تعالى: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 2] وقول الشاعر: [المنسرح] 2540 - أفْرَحُ أنْ أرْزَأ الكِرَامَ وَأنْ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . وقول الآخر: [الطويل] 2541 - ... ... ... ... ... ... ... ... ....... . وَذُو الشَّيْبِ يَلْعَبُ وكقوله: {هذا رَبِّي} [الأنعام: 76] التقدير: أهذا ربي؟ وقد تقدَّم تحقيق هذا، وأنَّهُ مذهب أبي الحسن ونكر «أجراً» للتعظيم. قال الزَّمخشريُّ: «كقول العربِ: إنَّ له لإبلاً وإن له لغنماً يقصدون الكثرة» . قوله: «إنْ كُنَّا» شرط جوابه محذوفٌ للدِّلأالة عليه عند الجمهور، أو ما تقدَّم عند من يجيز تقديم جواب الشَّرْط عليه. و «نَحْنُ» يجوز فيه أن يكون تأكيداً للضَّمير المرفوع، وأن يكون فصلاً فلا محل له عند البصريين، ومحله الرَّفع عند الكسائيِّ، والنَّصب عند الفرَّاء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 258 فإن قيل: قوله: {وإنكم لمن المقربين} معطوف على ماذا؟ فالجوابُ أنَّهُ معطوف على محذوف، وهو الجملة التي نابت «نعم» عنها في الجاوب إذا التقديرُ: قال: نعم إنَّ لكم لأجراً وإنكم لمن المقربين، أي: إني لا أقصركم على الثَّواب، بل أزيدكم عليه بأن أجعلكم من المقرّبين عندي. قال المتكلمون: «وهذا يدلُّ على أنَّ الثواب إنَّما يَعظم موقعه إذا كان مقروناً بالتعظيم» . وهذه الآية تدلُّ على أنَّ كل الخلق كانوا عالمين بأن فرعون كان عبداً ذليلاً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالسحرة في دفع موسى، ويدلُّ على أن السَّحَرَة ذليلاً عاجزاً وإلا لما احتاج إلى الاستعانة بالحسرة في دفع موسى، ويدلُّ على أن السَّحَرَة لم يقدروا على قلب الأعيان، وإلا لما احتاجوا إلى طلبِ الأجْرِ والمال من فرعون؛ لأنهم لو قدروا على قلب الأعيان فَلَمَ لم يقلبوا التراب ذهباً، ولِمَ لَمْ ينقلوا ملك فرعون إلى أنفسهم، ولِمَ لَمْ يجعلوا أنفسهم مُلُوك العالم. والمقصودُ من هذه الآيات تنبيه الإنسان على الاحتراز عن الاغترار بكلمات أهل الأبَاطيل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 258 قوله: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} : إمَّا هنا للتخيير، ويطلق عليها حرف عطف مجازاً. قال المفسرُون: «تأدَّبوا مع موسى - عليه السلام - فكان ذلك سبب إيمانهم» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 258 قال الفرَّاءُ والكسائِيُّ في باب «أمّا» : و «إمّا» إذا كنت آمراً أو ناهياً أو مخبراً فهي مفتوحة، وإذا كنت مشترطاً أو شاكّاً أو مخيراً فهي مكسورةٌ، تقول في المفتوحة: إمّا اللَّه فأعْبُدْه، وأما الخمرُ فلا تَشْرَبها وأما زيد فقد خَرَجَ، فإن كنت مشترطاً فتقول: إمّا تعطينَّ زيداً فإنه يشكرك قال تعالى: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم} [الأنفال: 57] ، وتقولُ في الشَّكِّ: لا أدري من قام إما زيد وإما عمرو، وتقولُ في التَّخْيير: لي في الكوفة دارٌ إما أن أسْكُنَهَا وإمَّا أن أبيعها. والفرق بين «إمّا» إذا كانت للشكِّ وبين «أو» أنك إذا قلت: «جاءني زَيْدٌ أو عمرو» فقد يجوزُ أن تكون قد بنيت كلامك على اليقينِ ثم أدركك الشّك فقلت: أو عمرو، فصار الشك فيهما، فأوَّلُ الاسمين في «أو» يجوز أن يحسن السكوت عليه، ثم يعرض الشك فتستدرك بالاسم الآخر؛ ألا ترى أنَّكَ تَقُولُ: قام أخُوكَ وتسكت ثم تشكُّ فتقول: أو أبوك. وإذا ذكرت «إمّا» فإنما تبني كلامك من أول الأمر على الشك، فلا يجوز أن تقول: ضربت إمَّا عبد الله وتسكت. وفي محل: {أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ} ثلاثة أوجه: أحدها: النصب بفعلٍ مقدَّر أي: افعل إمَّا إلقاءك وإما إلقاءنا، كذا قدّره أبو حيَّان، وفيه نظر؛ لأنَّهُ لا يَفْعَلُ إلقاءهم فينبغي أن يُقَدِّر فعلاً لائقاً بذلك وهو اختر أي: اختر إمَّا إلقاءك وإمّا إلقاءنا. وقدره مكي وأبو البقاءِ فقالا: «إمَا أن تَفْعَلَ الإلقاء» . قال مَكِّيٌّ: كقوله: [البسيط] 2542 - قَالُوا: الرُّكُوبَ فَقُلْنَا: تِلْكَ عَادَتُنَا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . بنصب «الركوب» إلا أنَّهُ جعل النَّصْبَ مذهب الكوفيين. الثاني: الرفع على خبر ابتداءٍ مضمر تقديره: أمْرُك إمَّا إلقاؤك وإما إلقاؤُنا. الثالث: أن يكون مبتدأ خبره محذوف تقديره إمَّا لقاؤك مبدوءٌ به، وإمَّا إلقاؤنا مبدوءٌ به. فإن قيل: كيف دخلت «أن» في قوله: {إِمَّآ أَن تُلْقِيَ} وسقطت من قوله: {وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106] . فالجواب قال الفراء: دخول «أن» في «إما» في هذه الآية لأنها في موضع الأمر بالاختيار، وهي في موضع نصب كقولك: اختر ذا أو ذا، كأنَّهُم قالوا: اختر أن تلقي أو نلقي، وفي آية التَّوْبَةِ ليس فيها أمر بالتخيير؛ ألا ترى أنَّ الأمر لا يَصْلُحُ هاهنا فلذلك لم يكن فيه «أن» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 259 وقال غيره: «إنَّما أتى هنا ب» أن «المصدرية قبل الفعل بخلاف قوله تعالى {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 106] . لأن «أن» وما بعدها هنا: إمّا مفعول به او مبتدأ، والمفعولُ به والمبتدأ لا يكونان فعلاً صريحاً، بل لا بُدَّ أن ينضمَّ إليه حرفٌ مصدري يجعله في تأويل اسمٍ، وأما آية التَّوبةِ فالفعلُ بعد «إمّا» خبر ثان ل «آخرُونَ» ، وإمَّا صفة له، والخبرُ والصِّفةُ يقعان جملة فعلية من غير حرف مصدري. وحذف مفعولُ الإلقَاءِ للعلم به والتقدير: إمَّا أن تُلْقي حبالَكَ وعِصِيَّك - لأنَّهُم كانوا يَعْتَقِدُونَ أن يفعل كفعلهم - أو نلقي حبالنا وعصِيَّنا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 260 قوله: {قَالَ أَلْقَوْاْ} وفيه سؤالٌ: وهو أنَّ إلقاءهم كان سحراً ومعارضة للمعجزة، وذلك كفر، فكيف يجوز لموسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يأمُرَهُم به؟ . والجوابُ من وجوه: أحدها: أنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ إنما أمرهم بشرط أنْ يعلموا في فعلهم أن يكون حقّاً، فإذا لم يكن كذلك فالأمرُ هناك كقول القائل لغيره: اسقني الماء من الجرَّةِ، فهذا الكلامُ إمَّا أن يكون بشرط حصول الماء في الجرَّةِ، فأمَّا إذا لم يكن فيها ماء فلا أمر ألْبَتَّةَ كذلك هاهنا. قال الفرَّاءُ: «المعنى: ألْقُوا إن كنتم مُحِقِّين، وألقوا على ما يصح ويجوز» . وقيل: تهديدٌ لهم أي: ابتدأوا بالإلْقَاءِ فسترون ما يحل بكم في الافتضاح. وثانيها: أنَّ القوْمَ إنَّمَا جاءُوا لإلقاء تلك الحبال والعصي، وعلم موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - أنَّهم لا بد وأن يفعلوا ذلك وإنما وقع التَّخيير في التَّقْدِيم والتَّأخير، فعند ذلك أذن لهم في التقديم ازدراءً لشأنهم، وقلَّة مبالاته بهم وثقة بما وعده اللَّهُ به من التَّأييد، وأنَّ المعجزة لن يغلبها سحر أبداً، ولأنَّ الأمر لا يستلزمُ الإرادة. وثالثها: قوله عليه السلامُ كان يريدُ إبطال ما أتوا به من السحر وذلك لا يمكن إلا بتقديمهم فأذن لهم في الإتيان بذلك السحر ليمكنه الإقدام على إبطاله مثل من يريد سماع شبهة ملحد ليجيب عنها ويكشف عن ضعفها وسقوطها فيقول له: هات وقل واذكرها، وبالغ في تقريرها، ومراده من ذلك أنه إذا أجاب عنها بعد هذه المبالغة فإنَّهُ يظهر لكل أحدٍ ضعفها وسقوطها، فكذا هاهنا. وقال الفرَّاء: في الكلام حذفٌ، والمعنى: قال لهم موسى: إنكم لن تغلبوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 260 ربَّكم، ولن تبطلوا آياته، وهذا من معجزات القرآن الذي لا يأتي مثله في كلامِ الناس ولا يقدرون عليه يأتي اللفظ اليسير بجميع المعاني الكثيرة. وإنما أمرهم تعجيزاً لهم وقطعاً لشبهتهم واستبطالهم، ولئلا يقولوا: لو تركنا نَفْعَلُ لَفَعَلْنَا بمعانٍ كثيرة. قوله: {فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس} . قال القاضي: «لو كان السِّحْرُ حقّاً لكانوا قد سحروا قلوبهم، لا أعينهم، فثبتَ أنَّ المُرَاد أنَّهم تخيَّلُوا أحوالاً عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان على وفقِ ما تَخَيَّلُوهُ» . وقال الواحديُّ: «بل المرادُ: سَحَرَوا أعْيُنَ النَّاسِ، أي قلبوها عن صحَّةِ إدراكها، بسبب تلك التَّمْوِيهاتِ» . وقيل: إنهم أتوا بالحِبالِ والعصيِّ ولطَّخوا تلك الحِبالَ بالزِّئْبَقِ وجعلوا الزِّئبقَ في دواخل تلك العصي، فلمَّا أثر تَسْخين الشَّمْسِ فيها تحركت والتوى بعضها على بعض، وكانت كثيرةً جداً فتخيَّل النَّاسُ أنَّها تتحرَّك وتلتوي باختيارها وقدرتها. قوله تعالى: {واسترهبوهم} يجوز أن يكون استفعلَ فيه بمعنى أفعل أي: أرهبوهم، وهو قريب من قولهم: قرّ واستقرّ، وعظّم واستَعْظَمَ وهذا رأي المبرِّدِ. ويجوز أن تكون السين على بابها، أي استدعوا رهبة النَّاس منهم، وهو رأي الزجاج. روي أنَّهم بَعثُوا جماعة يُنَادُونَ عند إلْقاءِ ذلك: أيها الناس احْذَرُوا. وروي عن ابن عباس أنَّهُ خيل إلى موسى أن حبالهم وعصيهم حيَّاتٌ مثل عصا موسى، فأوحى الله - عزَّ وجلَّ - إليه {أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ} . وقال المحققون هذا غير جائزِ؛ لأنَّه - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لما كان نبياً من عند اللَّه كان على ثقة ويقين من أنَّ القوم لَنْ يغلبوه، وهو عالم بأن ما أتَوْا به على وجه المعارضة من باب السحر والباطل، ومع هذا الجزم فإنه يمتنع حصول الخوف. فإن قيل: ألَيْسَ أنَّهُ تعالى قال: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى} [طه: 67] . فالجوابُ: ليس في الآية أن هذه الخيفة إنَّما حصلت لهذا السَّبب، بل لعله عليه [الصَّلاةِ] والسَّلام خاف من وقوع التَّأخير في ظهور حجّته على سحرهم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 261 ثم قال تعالى: {وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ} أي عندهم؛ لأنه كان كثيراً. روي أنَّ الأرض كانَتْ ميلاً في ميل فامتلأت حيات يركبُ بعضها بعضاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 262 يجوز في «أن» : أن تكُون المفسِّرة لمعنى الإيحَاءِ. ويجوزُ أنْ تكون مصدريّةً؛ فتكونُ هي، وما بعدها مفعول الإيحَاءِ. قوله: {فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ} قرأ العامَّةُ: «تَلَقَّفُ» بتشديد القافِ، من «تَلَقَّفَ» والأصلُ: «تَتَلَقَّفُ» بتاءيْنِ، فحذفت إحداهُمَا، إمَّا الأولى، وإمَّا الثانية وقد تقدَّم ذلك في نحو {تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] . والبزِّيُّ: على أًلها في إدغامِهَا فيما بعدها، فيقرأُ: «فإذا هي تَّلَقَّفُ» بتشديد التاء أيضاً، وقد تقدم تحقيقه عند قوله: {وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث} [البقرة: 267] . وقرأ حفصٌ «تَلْقَفُ» بتخفيف القافِ من «لَقِفَ» ك «عَلِمَ يَعْلَمُ» ، ورَكِب يَرْكَبْ «. يقال: لَقِفْتُ الشَّيءَ ألْقَفُهُ لَقْفاً، ولَقَفَاناً، وتَلقفتُهُ أتَلقَّفُهُ تَلَقُّفاً: إذا أخَذْتهُ بِسُرعةٍ، فأكَلْتَهُ أو ابْتَلَعْتَهُ. وفي التفسير: أنها ابتلعَتْ جميع ما صَنَعُوه، وأنشدُوا على: لَقِفَ يَلْقَفُ، ك» عَلِمَ يَعْلَمُ «قول الشَّاعِر: [السريع] 2543 - وأنتَ عَصَا مُوسَى الَّتي لَم تَزَلْ ... تَلْقَفُ مَا يَصْنَعُهُ السَّاحِرُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 262 ويُقَالُ: رَجُلٌ ثقفٌ لقفٌ، وثَقِيفٌ لَقِيفٌ، بَيِّن الثَّقافة واللَّقَافة. ويُقَالُ: لَقِفَ ولَقِمَ بمعنى واحدٍ، قاله أبُو عُبيدٍ. ويقالُ: تَلْقَفُ، وتَلْقَمُ، وتَلْهَمُ: بمعنىً واحدٍ. والفَاءُ في» فإذَا هِيَ «يجوزُ أن تكُون العاطفة، ولا بُدَّ من حَذْفِ جملةٍ قَبْلهَا ليترتَّبَ ما بعد الفاءِ عليها، والتقديرُ:» فألْقَاهَا فإذا هِيَ «. وَمَنْ جوَّز أن تكون الفاءُ زائدةً في نحو:» خَرَجْتُ فإذا الأسَدُ حَاضِرٌ «جوَّز زيادتها هُنَا. وعلى هذا فتكونُ هذه الجملةُ قد أوحيت إلى موسى كالَّتي قَبْلَهَا. وأمَّا على الأوَّل - أعني كون الفاءِ عاطفةً - فالجملةُ غير موحى بها إليه. قوله:» مَا يَأفكونَ «يجوزُ في» ما «أن تكون بمعنى» الذي «والعائدُ محذوفٌ، أي: الذي يأفِكُونهُ. ويجوز أن تكُون» ما «مصدرية،» والمصدر «حينئذٍ واقعٌ موقعَ المفعُولِ به، وهذا لا حَاجةَ إلَيْهِ. وذلك قولُهُ: {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} يَجُوز أن تكون» ما «بمعنى» الذين «، فيكونُ المعنى: بَطَلَ الحبالُ والعِصيُّ الذي عملوا به السِّحر: أي: زَالَ، وذهب بِفُقْدانِهَا، وأن تكون مصدرية، أي: وبطل الذي كانوا يعملونه، أو عملهم. وهذا المصدرُ يجوزُ أن يكون على بابه. وأن يكون واقعاً موقع المفعول به. بخلاف» مَا يَأفكُون «فإنَّ يتعيَّنُ أن يكُونُ واقعاً موقع المفعُول به ليصحَّ المعنى؛ إذ اللَّقْفُ يستدعي عَيْناً يصحُّ تسلُّطُه عليها. ومعنى الإفكِ في اللُّغةِ: قلبُ الشَّيءِ عن وجْههِ، ومنه قِيلَ للكذبِ إفْكٌ، لأنَّهُ مقلْوبٌ عن وجهه. قال ابنُ عبَّاسٍ:» مَا يَأفِكُونَ «يُريدُ: يَكْذِبُونَ، والمعنى: أنَّ العصا تلقَفُ ما يأفِكُونَهُ، أي: يَقْلِبُونَهُ عن الحَقِّ إلى البَاطِلِ. قوله: {فَوَقَعَ الحَقُّ «قال مُجاهدٌ والحسنُ: ظَهَرَ. وقال الفرَّاءُ:» فتبيَّنَ الحَقُّ مِنَ السِّحْرِ «. قال أهْلُ المعاني: الوُقُوعُ: ظُهُورُ الشَّيءِ بوجوده نازلاً إلى مُسْتَقرَّهِ، {وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} ، من السِّحْرِ، وذلك أنَّ السَّحرة قالوا: لئن كان ما صنعَ موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - سِحراً لَبَقِيَتْ حبالُنا وعصينا ولم تُفْقَدْ، فلما فقدت؛ ثَبَتَ أنَّ ذلك من أمر الله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 263 قال القَاضِي: قوله:» فَوَقَعَ الحَقُّ «: يفيد قُوَّة الظُّهُورِ والثُّبُوتِ بحيثُ لا يَصحُّ فيه البُطلان كما لا يَصِحُّ في الواقعِ أن يصيرَ إلاَّ واقعاً. فصل قلت: فإن قيل: قوله:» فوقع الحَقُّ «يدُلُّ على قوَّةِ الظَّهُورِ. فكان قوله: {وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} تكريراً. فالجوابُ: أنَّ المرادَ: مع ثبوت الحقِّ زالت الأعيانُ الَّتي أفكوها، وهي الحِبَالُ والعصا، فعند ذلك ظهرت الغلبةُ. فصل قوله:» فَغَلِبُوا هُنالِكَ «يجوزُ أن يكون مكاناً، أي: غُلِبُوا في المكانِ الذي وقع فيه سحرهم، وهذا هو الظَّاهِرُ. وقيل: يجوزُ أن يكون زماناً، وهذا ليس أصْلُهُ، وقد أثبت لَهُ بعضهم هذا المعنى بقوله تعالى: {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} [الأحزاب: 11] . ويقول الآخر: [الكامل] 2544 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... فَهُنَاكَ يَعْترفُونَ أيْنَ المَفْزَعُ؟ ولا حُجَّةَ فيهما، لأنَّ المكانَ فيهما واضحٌ. قوله:» وانقلبُوا صاغرينَ «أي: ذليلين مقهورين. وصاغرين حالٌ من فاعل انقلبُوا والضميرُ في انقلبُوا يجوزُ أن يعودَ على قوم فرعون وعلى السَّحرةِ، إذا جعلنا الانقلابِ قبل إيمان السحرةِ، أو جعلنا انقلبُوا بمعنى: صاروا، كما فسَّره الزمخشريُّ، أي: صاروا أذلاَّءَ مبهوتين مُتَحَيِّرين. ويجوز أن يعودَ عليهم دُونَ السَّحرةِ إذا كان ذلك بعد إيمانهم، ولم يجعلْ انْقلبُوا بمعنى: صاروا: لأنَّ اللا لا يَصِفُهُم بالصَّغَارِ بعد إيمانهم. قوله: {وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} . قال مقاتل:» ألْقاهُمُ اللَّهُ «. وقيل: ألهمهم اللَّهُ أنْ يسجدُوا فَسَجَدُوا. قال الأخفشُ: من سرعة ما سَجدُوا كأنَّهم ألقوا. ف» ساجدين «حال من السَّحرة، وكذلك قالوا أي ألقوا ساجدين قائلين ذلك، ويجوزُ أن يكُون حالاً من الضَّمير المستتر في ساجدينَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 264 وعلى كلا القولين هُمْ متلبِّسُون بالسُّجُودِ للَّهِ تعالى. ويجوزُ أن يكون مستأنفاً لا محلَّ له، وجعله أبُو البقاءِ حالاً من فاعل» انْقَلَبُوا «، فإنَّهُ قال:» يجوزُ أن يكُون حالاً، أي: فانْقَلَبُوا صاغرين «. قالوا وهذا ليس بجيِّد للفصل بقوله» وَألقى السَّحرةُ «. قوله: {قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين} . قال المفسِّرونَ: لما قالوا: {قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين} قال فِرعونُ: إيّايَ تعنُون؛ فقالوا: {رَبِّ موسى وَهَارُونَ} ، ف:» ربِّ مُوسَى «يجوز أن يكون نعتاً ل:» ربِّ العالمينَ «، وأن يكون بدلاً، وأنْ يكون عطف بيان. وفائدُ ذلك: نَفْيُ تَوَهُّم من يتوهَّمُ أنَّ رب العالمينَ قد يطلق على غير اللَّه تعالى، لقول فرعونَ {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] وقدَّمُوا «مُوسَى» في الذِّكْرِ على «هَارُونَ» وإن كان هارون أسَنَّ منه، لكبره في في الرُّتْبَةِ، أو لأنَّهُ وقع فاصِلة هنا. ولذلك قال في سورة طه: {بِرَبِّ هَارُونَ وموسى} [طه: 70] لوقوع «موسى» فاصلةً، أو تكون كل طائفة منهم قالت إحدى المقالتين، فنسبَ فعل البعض إلى المجمُوعِ في سورةٍ، وفعل بعضهم الآخر إلى المجمُوعِ في أخرى. فصل احتجَّ أهْلُ السُّنَّةِ بقوله تعالى: {وَأُلْقِيَ السحرة سَاجِدِينَ} على أن غيرهم ألقاهُم، وما ذاك إلاَّ اللَّهُ رب العالمين، وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد خلقُ الله تعالى. وأجاب المُعتزِلَةُ بوجوهٍ: أحدها: أنَّهُمْ لمَّا شاهدوا الآياتِ العظيمةَ، لم يتمالَكُوا أن وقعوا ساجدين، فصاروا كأنَّ مُلقِياً ألقاهُم. وثانيها: ما تقدَّم من تفسير الأخفش. وثالثها: أنَّهُ ليس في الآية أنَّ ملقياً ألقاهم، فنقولُ ذلك المُلقي هُم أنفسُهم. والجوابُ: أن خالق تلك الدَّاعيةِ في قلوبهم هو اللَّهُ تعالى، وإلا لافتقر خَلْقُ تلك الدَّاعِيِةِ إلى داعيةٍ أخرى، ولزم التَّسلسل، وهو مُحَالٌ، ثمَّ إن أصل القدرةِ مع تلك الدَّاعية الجازمة تصيرُ موجبةً للفعل، وخالقُ ذلك الموجب هو اللَّهُ تعالىن فكان ذلك الفعل مُسنداً إلى اللَّهِ تعالى. فصل فإن قيل: إنَّهُ تعالى ذكر أوَّلاً أنَّهُمْ صاروا ساجدين، ثمَّ ذكر بعد ذلك أنهم قالوا: {قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 265 فما الفائدة فيه مع أن الإيمان يجبُ أن يكون متقدِّماً على السُّجُودِ؟ . فالجوابُ، من وجوه، أحدها: أنَّهُم لما ظفروا بالمعرفة سجدوا للَّه تعالى في الحال، وجعلوا ذلك السُّجُود شكراً لِلَّه تعالى على الفَوْزِ بالمَعْرفِة والإيمان، وعلامة على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان، وإظهاراً للتَّذلل، فكأنَّهم جعلوا ذلك السُّجُود الواحد علامةً على هذه الأمور. وثانيها: لا يبعد أنَّهُمْ عند الذهاب إلى السُّجود قالوا: {قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين} . فصل فإن قيل: لمّا قالوا: {قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين} دخل موسى وهارون في ملة العالمي، فما فائدة تخصيصهما بعد ذلك؟ فالجواب من وجهين: الأول: ان التقدير آمنا برب العالمين، وهو الذي دعا إلى الإيمان به وبموسى وهارون. الثاني: خَصَّهُمَا بالذِّكْرِ تشريفاً، وتفضيلاً كقوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . قوله: «آمنتم» اختلف القرَّاءُ في هذا الحرف هنا، وفي طه وفي الشعراءِ، فبعضهم جرى على منوالٍ واحد، وبعضهم قرأ في موضع بشيءٍ لمْ يقرأ بِهِ في غيره، وهم في ذلك على أربع مراتب. الأولى: قراءة الأخوينِ، وأبي بكر عن عاصمٍ بتحقيق الهمزتين في السُّور الثَّلاثِ من غير إدخال ألف بينهما، وهو استفهام إنكارٍ، وأمَّا الألفُ الثَّالثة فالْكلُّ يَقْرءُونَهَا كذلك، لأنَّهَا فاءُ الكلمة، أبدلتْ لسكونها بعد همزة مفتوحة، وذلك أنَّ أصْلَ هذه الكلمةِ أَأَأْمنْتم بثلاثِ همزاتٍ: الأولى للاستفهام، والثَّانيةُ همزة «أفْعَلَ» ، والثَّالثةُ فاء الكلمة، فالثَّالثة يجبُ قبلها ألفاً، لما تقدم أوَّل الكتاب، وأمَّا الأولى فمُحَقَّقه ليس إلاَّ، وأمَّا الثَّانيةُ فهي الَّتي فيها الخلاف بالنِّسبة إلى التَّحقيقِ والتَّسْهيلِ. الثانية: قراءة حفص وهي «منتم» بهمزة واحدة بعدها الألفُ المشار إليها في جميع القرآن، وهذه القراءةُ تحتمل الخبرَ المَحْضَ المتضمِّنَ للتَّوبيخ، وتحتمل الاستفهامَ المشارَ إليه، ولكنه حُذِفَ لفهم المعنى، ولقراءة الباقين. الثالثة: قراءة نافعٍ وابن عمروٍ وابن عامر والبزِّي عن ابن كثير وهي تحقيقُ الأولى، وتسهيلُ الثانية بين بين، والألف المذكورة، وهو استفهام إنكاري، كما تقدم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 266 الرابعة: قراءةُ قنبلٍ عن ابنِ كثير، وهي التَّفرقةُ بين السُّور الثَّلاثِ. وذلك أنَّهُ قرأ في هذه السُّورة حال الابتداء ب «أآمنتم» بهمزتين، أولاهما محققة والثَّأنية مُسَهَّلة بَيْنَ بَيْنَ وألف بعدها كقراءة البزِّي، وحال الوصل يقرأ: «قَالَ فِرْعَوْنُ وآمَنْتُم» بإبدال الأولى واواً، وتسهيل الثَّانية بين بين وألف بعدها، وذلك أنَّ الهمزة إذا كانت مفتوحةً بعد ضمَّةٍ جاز إبدالُهَا واواً سواء أكانت الضَّمَّةُ والهمزةُ في كلمةٍ واحدةٍ نحو: مُرْجَؤونَ، و {يُؤَاخِذُكُمُ} [البقرة: 225] ومُؤجَّلاً أم في كلمتنين كهذه الآيةِ، وقد فعل ذلك أيضاً في سورة الملك في قوله: {وَإِلَيْهِ النشور أَأَمِنتُمْ} [الملك: 15 - 16] فأبدلَ الهمزةَ الأولى واواً، لانضمام ما قَبْلهَا حال الوصل، وأمَّا في الابتداءِ فيخففها لزوال الموجبِ لقلبها، إلاَّ أنَّه ليس في سورة الملكِ ثلاثُ همزاتٍ، وسيأتي إن شاء اللَّهُ تعالى في موضعه. وقرأ في سورة طه كقراءة حفص: أعني بهمزة واحدة بعدها ألف، وفي سورة الشعراء كقراءة رفيقه الزّيّ، فإنَّهُ ليس قبلها ضمة؛ فيبدلها واواً في حال الوصل. ولم يُدخلْ أحدٌ من القراء مدّاً بين الهمزتين هنا سواءً في ذلك من حقَّق أو سهَّل، لئلاَّ يجتمع أربعُ متشابهاتٍ، والضميرُ في «به» عائدٌ على اللَّهِ تعالى لقوله: {قالوا آمَنَّا بِرَبِّ العالمين} ويجوزُ أن يعود على موسى، وأمَّا الذي في سورة طه والشعراء في قوله {آمَنتُمْ بِهِ} فالضَّميرُ لموسَى لقوله {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ} . فصل اعلم أنَّ فرعون لمَّا رأى إيمان السَّحرةٍ بنبوة موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - عند اجتماع الخلق خاف من أن يصير ذلك حجّة قويَّة على صحَّةِ نبوة موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - فألقى في الحالِ شبهتين إلى أسْماعِ العوامِّ؛ ليمنع القوم من اعتقاد نُبوةِ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -. الأولى: قوله: {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة} أي: إنَّ إيمان هؤلاء بموسى ليس لقوة الدَّليل بل لأنَّهم تَوَاطَئُوا مع مُوسى أنَّه إذا كان كذا وكذا فنحن نُؤمن بِك. الثانية: أنَّ غرض موسى والسَّحرة فيما تواطئوا عليه إخراج القوم من المدينة، وإبطال ملكهم. ومعلوم عند جمع العقلاء أنَّ مُفارقَةَ الوطنِ والنِّعْمَة المألوفة من أصعبِ الأمور فجمع فرعون اللّعينُ بين الشُّبهتين، ولا يوجد أقوى منهما في هذا الباب. وروى محمَّدُ بنُ جريرٍ عن السُّدِّي في حديثٍ عن ابن عباس، وابن مسعودٍ وغيرهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 267 من الصَّحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أجمعين أن موسى عليه السلام وأمير السحرة التقيا فقال موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: أرأيتك إن غلبتك أن تؤمن بي وتشهدَ أنَّ ما جِئتُ به الحقّ؟ فقال الساحر: واللَّهِ لئن غلبتني لأومِنَنَّ بك، وفرعون ينظر إليهما ويسمعُ قولهما، فهذا قولُ فرعون: {إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة} . قال القاضي: وقوله {قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ} دليلٌ على مناقضة فرعون في ادِّعاءِ الألوهية، لأنَّهُ لو كان غلهاً لما جاز أن يأذنَ لهم في أن يُؤمنوا به مع أنَّهُ يدعثوهُمْ إلى إلهيَّةِ غيره، وذلك من خذلان اللَّهِ الذي يظهرُ على المُبطلين. قوله: «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» حُذِفَ مفعولُ العلم، للعلم به، أي: تعلمون ما يحلُّ بكم، وهذا وعيدٌ مجمل، ثُمَّ فَسَّرَ هذا المُبْهَمَ بقوله: «لأقَطَّعَنَّ» جاء به في جملةٍ قَسَمِيِّةِ؛ تأكيداً لِمَا يَفْعَله. وقرأ مجاهدُ بنُ جبر، وحميد المكي، وابنُ مُحَيْصنٍ: «لأقْطعَنَّ» مخففاً من «قَطَعَ» الثلاثي، وكذا لأصْلُبَنّكُم من «صَلَبَ» الثلاثي. رُوي بضم اللام وكسرها، وهما لغتان في المضارع، يُقال: صَلَبَهُ يَصْلُبُهُ ويَصْليُهُ. قوله: «مِنْ خلافٍ» يُحتمل أن يكون المعنى: على أنَّهُ يقطع من كُلِ شقَّ طرفاً، فيقطع اليدَ اليمنى، والرِّجل اليسرى، وكذا هو في التفسير، فيكونُ الجارُّ والمجرور في محلِّ نصبٍ على الحال، كأنَّهُ قال: مُختلفةً، يُحْتملُ أن يكون المعنى: لأقَطَّعَنَّ لأجْلِ مخالفتكم إيَّاي فتكون «مِنْ» تعليليةً وتتعلَّق على هذا بنفس الفعل، وهو بعيدٌ. و «أجْمَعِينَ» تأكيدُ أتى به دون كلّ وإن كان الأكثرُ سبقهُ ب «كلّ» وجيء هنا ب «ثُمَّ» ، وفي: طه والشعراء بالواو، لأن الواو صالحةٌ للمُهْلة، فلا تَنَافِيَ بين الآيات. فصل اختلفوا هل فعل بهم ذلك أم لا؟ فنقل عن ابْنِ عبَّاسٍ أنَّهُ فعل بهم ذلك. وقال غيره: لم يقع من فرعون ذلك، بل استجاب اللَّه دعاءهم في قولهم: «وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ» . وقوله: {إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ} جَوَّزُوا في هذا الضَّمير وجهين، أحدهما: أنَّهُ يَخُصُّ السَّحرةَ، لقوله بعد ذلك {وَمَا تَنقِمُ مِنَّآ} فإنَّ الضَّميرَ في مِنَّا يَخُصُّهُمْ. وجَوَّزُوا أن يعود عليهم، وعلى فرعون، أي: إنَّا - نحن وأنت - ننقلب إلى للَّهِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 268 فيُجازي كلاًّ بعمله، وهذا وإن كان هو الواقعَ إلاَّ أنَّهُ ليس من هذا اللَّفظِ. قوله وَمَا تَنقِمُ قد تقدَّم في المائدةِ أنَّ فيه لغتين وكيفية تعدِّيه ب «مِنْ» وأنَّهُ على التَّضمين. وقوله: {إلاَّ أنْ آمنَّا} يجوز أن يكون في محلَِّ نصبٍ مفعولاً به، أي: ما تَعِيبُ علينا إلاَّ إيماننا ويجوزُ أن يكون مفعولاً من أجله، أي: ما تنال مِنَّا وتعذِّبنا لشيءٍ من الأشياء إلاَّ لإيماننا وعلى كلا القولينِ فهو استثناءٌ مفرغ. قوله «لَمَّا جَاءَتْنَا» يجوزُ أن تكون ظرفيةً كما هو رأي الفارس، وأحد قولي سيبويه، والعامِلُ فيها على هذا آمَنَّا أي: آمنَّا حين مجيء الآيات، وأن تكون حرف وجوب لوجوب، وعلى هذا فلا بدَّ لها من جواب وهو محذوف تقديره: لما جاءتنا آمّنا بها من غير توقّف. قوله: «لَمَّا جَآءَتْنَا» معنى الإفراغ في اللَّغَةِ: الصَّبُّ. وأصله من إفراغ الإناء وهو صب ما فيه بالكليَّة، فكأنَّهُمْ طلبوا من اللَّه كلَّ الصَّبْرِ لا بعضه. ونكَّرُوا «الصَّبْر» وذلك يدلُّ على الكمالِ والتَّمَامِ، أي: صبراً كَاملاً تاماً، كقوله تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ} [البقرة: 96] أي: على حياة كاملة تامَّةٍ. وقوله: {وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ} أي: توفنا على الدِّين الحقِّ الذي جاء بِهِ موسى. واحْتَجَّ القاضي بهذه الآية على أنَّ الإيمان والإسلامَ واحد. فقال: إنَّهُم قالوا أوَّلاً: {آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا} ، ثمَّ ثانياً، «وَتَوَفَّنَا مُسْلِمينَ» ، فوجب ان يكون هذا الإسلام هو ذاك الإيمان. قوله: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأرض} . [اعلم أن فرعون كان كلما رأى موسى خافه أشد الخوف، فلهذا لم يحبسه ولم يتعرض له بل خلى سبيله، فقال له قومه: أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض] . أي: يُفسدوا على النَّاسِ دينَهُمْ. قوله: «وَيَذَركَ» العامةُ «ويَذَرَكَ» بالغيبةِ، ونصب الرَّاءِ، وفي النَّصْبِ وجهان: أظهرهما: أنَّهُ عطف على «لِيُفْسِدُوا» والثاني: أنَّهُ منصوبٌ على جواب الاستفهام كما يُنْصب في جوابه بعد الفاء؛ كقول الحُطيئةِ: [الوافر] 2545 - ألَمْ أكُ جَارَكُمْ ويكُونَ بَيْنِي ... وبَيْنَكُمُ المَوَدَّةُ والإخَاءُ؟ والمعنى: كيف يكون الجمعث بين تَرْكِكَ موسى وقومه مفسدين، وبين تركهم إيَّاك وعبادةِ آلهتك، أي: لا يمكن وقوعُ ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 269 وقرأ الحسنُ في رواية عنه ونعيمُ بن ميسرة «وَيَذَرُكَ» برفع الرَّاء، وفيها ثلاثة أوُجه: أظهرها: أنَّه عطف نسق على «أتذر» أي: أتطلق له ذلك. الثاني: أنه استئناف أي، إخبار بذلك. الثالث: أنَّهُ حالٌ، ولا بدَّ من إضمارِ مبتدأ، أي: وهو يَذَرُكَ. وقرأ الحسنُ أيضاً والأشهبُ العُقَيْلِيُّ «وَيَذَرْكُ» بالجزم، وفيه وجهان: أحدهما: أنَّه جزم على التَّوهُّم، كأنه توهَّم جزم «يُفْسِدُوا» في جواب الاستِفْهَامِ وعطف عليه بالجزمِ، كقوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن} [المنافقون: 10] بجزم «أكُنْ» . والثاني: أنَّهَأ تخفيفٌ كقراءة أبي عمرو {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160] وبابه. وقرأ أنس بن مالك «ونَذَرُكَ» بنون الجماعة ورفع الرَّاءِ، تَوَعَّدُوهُ بذلك، أو أنَّ الأمْرَ يؤولُ إلى ذلك فيكونُ خبراً محضاً. وقرأ عبد الله والاعمش بما يخالف السَّوادَ، فلا حاجة إلى ذكره. وقرأ العامةُ «آلهَتَكَ» بالجمع. رُوِيَ أنه كان يعبدُ آلهةً متعددة كالبَقَرِ، ولذلك أخرجَ السَّامري لهم عجلاً، ورُوي أنَّهُ كان يعبدُ الحِجارةَ والكواكب، أو آلهتَه التي شَرَعَ عبادَتَها لهم وجعل نَفْسَهُ الإله الأعلى في قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] . وقرأ علي بنُ أبي طالب، وابنُ مسعود، وابن عبَّاسٍ، وأنسٌ وجماعة كثيرةٌ «وإلاهتكَ» ، وفيها وجهان: أحدهما: أنَّ «الإلاهَةَ» اسمٌ للمعبود، ويكونُ المرادُ بها معبودَ فرعون، وهي الشَّمْسُ. رُوى أنَّهُ كان يعبُد الشَّمْسَ، والشَّمْسُ تُسَمَّى «الإهَةً» ، عَلَماً عليها، ولذلك مُنِعَت الصَّرف، للعمليَّة والتأنيث؛ قال الشَّاعرُ: [الوافر] 2546 - تَرَوَّحْنَا مِنَ اللَّغْباءِ عَصْراً ... فأعْجَلْنَا الإلهَةَ أنْ تَئُويَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 270 والثاني: أنَّ الإلاهة مصدرٌ بمعنى العبادة، أي وتذرُ عبادتك، لأنَّ قومه كانوا يعبدونه. ونقل ابنُ الأنْباري عن ابن عبَّاسٍ أنَّهُ كان يُنكر قراءة العامَّة، ويقرأ «وإلاهتك» ، وكان يقول: إنَّ فرعون كان يُعْبَدُ ولا يَعْبُدُ. قال ابنُ الخطيبِ: والذي يخطر ببالي أنَّ فرعون إن قلنا: إنَّه ما كان كامل العقل لم يَجُزْ في حكم اللَّهِ تعالى إرسال الرسول إليه، وإن كان عَاقِلاً لم يَجُز أنْ يعتقدَ في نفسه كونه خالقاً للسَّمواتِ والأرضِ، ولم يجز في الجمع العظيم من العقلاء أن يعتقدوا فيه ذلك، لأنَّ فسادهُ معلوم بالضَّرُورةِ، بل الأقربُ ان يقال: إنَّهُ كان دَهْرياً مُنكراً لوجود الصَّانِع، وكان يقُولُ: مُدبِّرُ هذا العالم السُّفْلي هو الكواكِبُ، وأنا المخدوم في العالمِ للخلق، والمُربي لهم فهو نفسه. فقوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] أي: مُرببكم والمنعم عليكم والمطعم لكم. وقوله: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] أي: لا أعلم لكم أحداً يجب عليكم عبادته إلاَّ أنا، وإذا كان مذهبه ذلك لم يبعد أن يقال إنَّهُ كان قد اتخذ أصناماً على صور الكواكب يعبدها، ويتقرب إليها على ما هو دين عبدة الكواكب، وعلى هذا فلا امتناع في حمل قوله تعالى: {وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ} على ظاهره. قوله: «قَالَ سَنُقَتِّلُ» قرأ نافعٌ وابْنُ كثير بالتخَّفيفِ سنقتل والباقون بالتضعيف لتعدُّد المحالّ. وسيأتي أنَّ الجماعة قَرَءُوا «يُقَتِّلُونَ أبناءكم» بالتضعيف إلاَّ نافعاً فيخفف. فتخلص من ذلك انَّ نافعاً يقرأ الفعلين بالتخفيف، وابن كثير يُخَفف «سنَقْتُل» ويثقل «يُقَتِّلُونَ» ، والباقون يثقِّلونها. قوله: «ونستحيي نِسَاءهُمْ» . أي نتركهم أحياء. والمعنى: أنَّ موسى إنَّما يُمْكنه الإفسادُ برهطه وبشيعته فنحنُ نسسعى في تقليل رهطه وشيعته، بأنْ نقتِّلَ أبناء بني إسرائيل، ونستحيي نساءهم. ثم بَيِّن أنَّهُ قادرٌ على ذلك بقوله: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} أي: إنَّمَا نترك موسى لامِنْ عجزٍ وخوفٍ، ولو أردنا البَطْشَ به لقدرنا عليه. قال ابنُ عباس: أمر فرعون بقتل أبناء بني إسرائيل، فشكت ذلك بنو إسرائيل إلى موسى، فقال لهم مُوسَى: {استعينوا بالله واصبروا إِنَّ الأرض للَّهِ} يعني أرض مصر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 271 قوله: «يُورِثهَا» في محلِّ نصب على الحَالِ، وفي صاحبها وجهان: أحدهما: الجلالة، أي هي له حال كونه مُورِثاً لها من يشاؤه. والثاني: أنَّه الضَّميرُ المستترُ في الجَارِّ أي: إنَّ الأرضَ مستقرة للَّهِ حال كونها مُوَرَّثَةً من الله لمن يشاءُ، ويجوز أن يكون «يُورِثُهَا» خبراً ثانياً، وأنْ يكون خبراً وحده، و «لِلَّهِ» هو الحالُ، و «مَن يشاءُ» مفعولٌ ثاني ويجوزُ أن تكون جملةً مستأنفة. وقرأ الحسنُ، ورُويت عن حفص «يُوَرِّثُهَا» بالتشديد على المبالغة، وقرئ «يُورَثها» بفتح الراء مبنياً للمفعول، والقائم مقام الفاعل هو: «مَن يَشَاءُ» . والألفُ واللاَّم في «الأرض» يجوزُ أن تكون للعهدِ، وهي أرضُ مصر كما تقدَّم، أو للجنس، وقرأ ابن مسعود بنصب «العَاقِبَة» نسقاً على الأرض و «للمتَّقينَ» خبرُها، فيكون قد عطف الاسم على الاسم، والخبر على الخبر فهو مِنْ عطف الجمل. فصل قال الزخشريُّ: فإن قلت: لِمَ أخليَتْ هذه الجملة من الواو وأدخلتْ على الَّتي قبلها؟ . قلت: هي جملةٌ مبتدأةٌ مستأنفةٌ، وأمَّا: «وقَالَ الملأ» فهي معطوفة على ما سبقها من قوله: {وَقَالَ الملأ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ} . والمرادُ من قوله: «والعاقِبَةُ» أي النَّصْرُ والظفر، وقيل: الجَنَّةُ. فصل قوله: {قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا} . لما هدَّد فرعونُ قوم موسى وتوعدهم خافوا، و {قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا} لأنَّهم كانُوا قبل مجيء موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كانوا مستضعفين في يد فرعون، يأخذُ منهم الجزية ويستعملهم في الأعمالِ الشَّاقة، ويمنعهم من الترفة، ويقتل أبناءهم، ويستحيي نساءهم، فلمَّا بعث اللَّهُ موسى - عليه الصَّلاة والسلام - قوي رجاؤُهم في زوال تلك المضار، فلما سمعوا تهديدَ فرعون ثانياً عظُم خوفُهثم، فقالوا هذا الكلام. فصل فإن قيل: هذا القول يدلُّ على كراهتهم مجيء موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وذلك يوجب الكفر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 272 فالجواب: أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لمَّا جاء وعدهم بزوال تلك المضار فَظَنُّوا أنَّهَا تزول على الفور، فلَّما رأوا أنَّهَا ما زالت رجعوا إليه في معرفة كيفية ذلك الوعد، فبيَّن لهم موسى - عليه السلام - أن الوعدَ بإزالتها لا يُوجِب الفور، بل لا بدَّ أن يستنجزَ ذلك الوعد في الوقت المقدر لَهُ. فالحاصل أنَّ هذا ما كان نُفرةً عن مجيء موسى بالرِّسالةِ، بل استكشافاً لكيفية ذلك. فعند هذا قال موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} . قال سيبويه: «عَسَى» طمع وإشفاق. قال الزَّجَّاجُ: وما يطمع اللَّه فيه فهو واجب. ولقائل أن يقول: هذا ضعيف؛ لأنَّ لفظ «عسى ههنا ليس كلام اللَّه بل هو حكاية عن كلام موسى، ويُجاب بأنَّ هذا الكلامِ إذا صدر عن الرسول الذي ظهرت نبوته بالمعجزات أفاد قوة اليقين فَقَوَّى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - قلوبهم بهذا القولِ وحقَّق عندهم الوعدَ ليصبروا ويتركوا الجزع المذموم. قال القرطبي: «جَدَّدَ لهم الوعدَ وحقَّقَهُ. وقد استُخلفوا في مصر في زمن داود وسليمان - عليهما الصَّلاة والسَّلام -، وفتحثوا بيت المقدس مع يُوشع بن نون كما تقدم، وروي أنهم قالوا ذلك حين خرج بهم موسى، وتبعهم فرعون، فكان وراءهم، والبحرُ أمامهم، فحقَّقَ اللَّه الوعد: بأن غرق فرعون وقومه، وأنجاهم» . ثُم بيَّن بقوله: {فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} ما يَجْرِي مجرى الحثِّ له على التَّمسُّك بطاعة اللَّهِ. واعلم أنَّ النظر قد يُراد به النَّظر الذي يفيد العِلْمَ، وهو على اللَّهِ محال، وقد يُرَادُ به تقليب الحدقة نحو المرئيّ التِمَاساً لرؤيته وهو أيضاً على اللَّهِ محال، وقد يراد به الرُّؤية، ويجب حملُ اللَّفْظِ ههنا عليها. قال الزَّجَّاجُ: أي يرى ذلك بوقوع ذلك منكم، لأنَّ اللَّه تعالى لا يجازيهم على ما يعلمه منهم وإنَّمَا يجازيهم على ما يقعُ منهم. فإن قيل: إذا حملتم هذا النَّظَر على الرُّؤيَةِ لزم الإشكالُ، لأن الفاءَ في قوله: «فَيَنْظُرَ:» للتعقيب، فيلزم أن تكون رؤية اللَّهِ لتلك الأعمال متأخرة عن حصول تلك الأعْمَالِ، وذلك يُوجِبُ حُدُوث صفة في ذات اللَّهِ. فالجواب: أن المعنى تعلُّق رؤية اللَّه تعالى بذلك الشَّيءِ، والتَّعلق نسبة حادثة، والنِّسَبُ والإضافاتُ؛ لا وجود لها في الأعيانِ، فلم يلزم حدوث الصِّفةِ الحقيقية في ذات اللَّهِ تعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 273 وقد حَقَّقَ اللَّهُ ذلك الوعدَ، فأغرق فرعون واستخلفهم في ديارهم، وأموالهم؛ فعبدُوا والعِجْلَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 274 لما قال موسى لقومه: {عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ} [الأعراف: 29] بدأ بذكر ما أنزل بفرعون وقومه من المِحَنِ حالاً بعد حال، إلى أن وصل الأمرُ إلى الهلاكِ تنبيهاً للمكلَّفين على الزَّجْرِ عن الكفر. «والسِّنينَ» : جمعُ سنة، وفيها لغتان أشهرهما: إجْرَاؤُهُ مُجرَى المُذكر السَّالم فيُرفع بالواو ويُنْصَبُ ويُجَرُّ بالياء، وتُحْذَفُ نُونُه للإضافة. قال النُّحَاةُ: إنَّمَا جرى ذلك المجرى جَبْراً لما فاته من لامة المحذوفةِ، وسيأتي في لامه كلامٌ، واللغة الثانيةُ: أن يُجْعَلَ الإعرابُ على النُّون ولكن مع الياء خاصَّةً. نقل هذه اللُّغة أبُو زيد والفراءُ. ثم لك فيها لغتان: إحدهما: ثبوتُ تنوينها. والثانية: عدمهُ. قال الفرَّاءُ: هي في هذه اللُّغة مصروفة عند بني عامر، وغير مصروفة عند بني تميم، ووجه حذف التنوين التَّخفيف، وحينئذ لا تُحْذَفُ النُّون للإضافة وعلى ذلك جاء قوله: [الطويل] 2547 - دَعَانِيَ مِنْ نَجْدٍ فإنَّ سِنِينَهُ ... لَعْبِنَ بِنَا شيباً وشَيِّبْنَنَا مُرْدَا وجاء في الحديث: «اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا عليهم سنينَ كَسِنِي يُوسُفَ» «وسِنيناً كسِنِينِ يُوسفُ» باللُّغتين، وفي لام سَنَةٍ لغتان، أحدهما: أنَّهَا واو لقولهم: سنوات وسَانَيْتُ، وسُنَيَّةٌ. الثانية: أنَّها هاء لقولهم: سانَهْتُ وسَنَهَات وسُنَيْهَة، وليس هذا الحكمُ المذكور الجزء: 9 ¦ الصفحة: 274 أعني: جريانه مجرى جمع المذكر أو إعرابه بالحركات مقتصراً على لفظ «سِنينَ» بل هو جارٍ في كلِّ اسم ثلاثي مؤنث حُذِفَتْ لامُهُ، وعُوِّضَ منها تَاءُ التَّأنيثِ، ولم يُجْمَع جمع تكسير نحو: ثُبَةٍ وثُبين، وقُلة، وقُلينَ. فصل قال شهابُ الدِّين: «وتَحرَّزْتُ بقولي: حُذِفَتْ لامُه مِمَّا حُذِفَتْ فاؤه، نحو: لِدة وعِدَة. وبقولي ولم يُجْمع جمع تكسير من ظُبَةٍ وظُبّى، وقد شَذَّ قولهم: لِدُونَ في المحذوف الفاء، وظِبُونَ في المكسَّر. 2548 - يَرَى الرَّاءُونَ بالشَّفرَاتِ مِنْهَا ... وقُودَ أبِي حُبَاحِبَ والظُّبِينَا واعلم أنَّ هذا النَّوَع إذَا جَرَى مَجْرَى الزيدينَ فإنْ كان مكسورَ الفاء سَلِمَتْ، ولم تُغَيَّر نحو: مائة ومئين، وفئة وفئين، وإنْ كان مفتوحها كُسِرَتْ نحو: سنين، وقد نُقِلَ فَتْحُها وهو قليلٌ جدّاً، وإن كان مضمومَهَا جاز في جمعها الوجهان: أعني السَّلامة، والكسر نحو: ثُبين وقُلين. قال أبُو عَلِي: السَّنة على معنيين: أحدهما: يراد بها العام. والثاني: يراد بها الجدْب. وقد غلبت السَّنَةُ على زمانِ الجدْبِ، والعام على زمان الخصب حتى صَارَا كالعلم بالغلبة ولذلك أشتقُّوا من لفظ السَّنَةِ فقالوا: أسْنَتَ القَوْمُ. قال: [الكامل] 2549 - عَمْرُوا الذي هَشَمَ الثَّرِيدَ لِقَوْمِهِ ... ورِجَالُ مَكَّةَ مُسْنتُونَ عِجَافُ وقال حاتم الطائِيُّ: [الطويل] 2550 - فإنَّا نُهِينُ المَالَ مِنْ غَيْرِ ضِنَّةٍ ... وَلاَ يَشْتَكِينَا في السِّنينَ ضَرِيرُهَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 275 ويُؤيِّدُ ذلك في سورة يوسف [الآية 47] :» {تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً} ثم قال: {سَبْعٌ شِدَادٌ} [يوسف: 48] فهذا في الجدب. وقال: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس} [يوسف: 49] . وقوله: «مِنَ الثَّمَرَاتِ» متعلِّق ب «نَقْصٍ» . قال قتادةُ: أمَّا السنُونَ فلأهل البوادي، وأمَّا نقص الثَّمراتِ فلأهل الأمصار. «لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُّونَ» يتَّعظون، وذلك لأنَّ الشدة ترقق القلوب، وترغب فيما عند اللَّهِ. قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51] . فصل قال القاضي: هذه الآية تدلُّ على أنَّهُ تعالى فعل ذلك لإرادة أن يذكَّرُوا وأنْ لا يقيموا على كفرهم، وأجاب الواحديُّ: «بأنَّهُ قد جاء لفظا الابتلاء، والاختبار في القرآن لا بمعنى أنَّه تعالى يمتحنهم، لأنَّ ذلك على اللَّهِ مُحَالٌ، بل إنَّ تعالى عاملهم معاملة تشبه الابتلاء، والامتحان، فكذا ههنا» . ثم بيَّن أنَّهُم عند نزول تلك المحن عليهم يزيدون في الكُفْرِ، والمعصيةِ. فقال: {فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه} . قال ابْنُ عبَّاسٍ: يُريد بالحسنةِ: العُشْبَ، والخصب، والمواضي، والثَّمار وسعة الرزق، والعافية، أي: نحن أهلها ومستحقُّها على العادة فلم يشكروا ويقوموا لِلَّهِ بحق النِّعمة. {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} أي: قَحْط وجدْب وبلاء ومرض: {يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ} أي: يتشاءمُوا بموسى، ومن معه، ويقولُوا: إنَّمَا أصَابَنا هذا الشَّرُّ بِشُؤمِ مُوسَى وقومه. قال سعيدُ بْنُ جبيرٍ ومحمَّدُ بنُ المُنْكَدرِ: كان مُلْكُ فرعون أربعمائة سنة، وعاش ستمائة وعشرين سنة لا يرى مكروهاً، ولو كان حصل لَهُ في تلك المُدَّة جوع يوم أو حمى ليلة أو وجع ساعة لَمَا ادَّعَى الرُّبُوبِيَّةَ قط. فصل أتى في جانب الحَسَنَة ب «إذا» الَّتي للمحقق، وعُرِّفَتِ الحسنة، لسعة رَحْمَةِ اللَّهِ تعالى، ولأنَّها أمر محبوبٌ، كلُّ أحدٍ يتمانه، وأتى في جانب السيئة ب «إن» التي للمشكوك فيه، ونُكِّرتِ السيئة، لأنَّهُ أمرٌ كل أحدٍ يَحْذَره. وقد أوضح الزمخشري ذلك فقال: فإن قلت: كيف قيل فإذا جَاءَتْهُمْ الحسنةُ ب «إذا» وتعريفُ الحسنة و {وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} ب «إن» وتنكير السيئة؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 276 قلت: لأنَّ جنسَ الحسنة وقوعه كالواجب، لكثرته واتِّساعه، وأمَّا السَّيَّئةُ فلا تقع إلاَّ في الندرَةِ، ولا يقع إلاَّ شيء منها، وهذا من محاسن عِلْمِ البَيَانِ. قوله «يَطَّيَّرُوا» الأصْلُ: «يتطيَّروا» فأدغمتِ التَّاءُ في الطَّاءِ، لمقاربتها لها. وقرأ عيسى بنُ عُمَرَ: وطلحةُ بنُ مصرف «تَطَيَّروا» بتاءٍ من فوق على أنَّهُ فعلٌ ماضٍ وهو عند سيبويه وأتباعه ضرورةٌ. إذ لا يقعُ فعل الشَّرْطِ مضارعاً، والجزاء ماضياً إلاَّ ضرورةً، كقوله: [الخفيف] 2551 - مَنْ يَكِدْنِي بِسَيِّىءٍ كُنْتُ مِنْهُ ... كالشَّجَى بَيْنَ حَلْقِهِ والوريدِ وقوله: [البسيط] 2552 - إن يَسْمَعُوا سُبَّةً طَارُوا بِهَا فَرحاً ... مِنِّي وما يَسْمَعُوا مِنْ صالحٍ دَفَنُوا وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك. والتَّطير: التَّشاؤُم، وأصلُهُ، أن يُفَرَّق المالُ ويطير بين القوم فيطير لِكُلِّ أحدٍ حظَّه، ثمَّ أطلق على الحَظِّ، والنَّصيب السَّيِّىء بالغَلبَةِ. وأنشدوا للبيد: [الوافر] 2553 - تَطِيرُ عدائِدُ الأشْرَاكِ شَفْعاً ... وَوِتْراً والزَّعَامَةُ لِلْغُلامِ الاشْرَاكَ جمع شِرْكٍ، وهو النَّصيب. أي: طار المال المقسوم شَفْعاً للذَّكر، وَوِتْراً للأنثى والزَّعامةَ: أي: الرِّئاسة للذكر، فهذا معناه: تَفَرَّق، وصار لكُل أحد نصيبُه، وليس من الشُّؤمِ في شيءٍ، ثم غلبَ على ما ذكرناه. قوله: {ألا إنما طائرهم عند الله} أي حَظُّهم، وما طار لهم في القضاء والقدر، أو شؤمهم أي: سبب شؤمهم عند الله، وهو ما ينزله بهم. قال ابن عباس: يريد شؤمهم عند الله، وهو ما ينزله بهم. قال ابن عباس: يريد شُؤمَهُمْ عند الله، أي من قِبَل الله، أي: إنما جاءهم الشَّرُّ بقضاءِ الله وحُكْمِهِ. قال الفَرَّاءُ: وقد تَشَاءَمَت اليهود بالنبي - عليه السلام - ب «المدينة» ، فقالوا: غَلَتْ أسْعَارُنَا، وقَلَّتْ أمطارنا مذ أتانا، وكثرت أمواتنا. ثم أعلم الله على لسان رسوله - عليه السلام - أن طيرتهُمْ باطلة، فقال: «لا طيرة ولا هامة» - وكان النبي عليه السلام يَتفَاءَلُ ولا يَتَطَيَّرُ. وأصل الفَألِ: الكلمة الحسنة، وكانت العرُب مذهبها في الفَألِ والطِّيرةِ واحداً، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 277 فأثبت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الفَألَ، وأبطل الطِّيرةَ. والفَرْقُ بينهما أن الأرْوَاحَ الإنسانية أقوى وأصْفَى من الأرواح البهيمية والطيرية، فالكلمة التي تَجْري على لسان الإنسان يمكن الاسْتِدْلالُ بها؛ بخلاف طيرانِ الطير، وحَرَكَاتِ البهائم، فإن أرْوَاحَهَا ضعيفة، فلا يمكن الاستدلالُ بها على شيء من الأحوال، ثم قال تعالى: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [أي] : أن الكل من الله تعالى؛ لأن أكثر الخَلْقِ يُضِيفُونَ الحوادث إلى الاسبابِ المحسوسة، ويقطعونها عن قضاءِ الله وقَدجره، والحق أن الكل من الله؛ لأن كل موجود إما واجب لذاته، أو ممكن لذاته، والواجب لِذَاتِهِ واحد، وما سواه ممكن لذاته والممكن لذاته لا يوجد إلا بإيجاد الوَاجِبِ لذاته، فكان الكل من الله - تعالى -، فإسنادها إلى غير الله يكون جَهْلاً بكمال الله تعالى. قال الأزهريُّ: قيل للشُّؤم طاءر وطير، لأنَّ العرب كانت إذ خرجت وطار الطَّائِرُ ذات اليسار تشَاءَمُوا بها، فَسَموا الشؤمَ طيراً وطَائِراً لتشاؤمهم بها. قال القُرْطُبِيُّ: وأصل هذا من الطِّيرةِ وزجر الطَّيْرِ، ثمَّ كَثُر استعمالهم حتَّى قيل لِكُلَ مَنْ تشاءم: تَطّيَّر. وكانت العربُ تَتَيَمَّن بالسَّانِحِ: وهو الذي يأتي من ناحية اليَمينِ وتتشاءهم بالبَارحِ: وهو الذي يأتي من ناحية الشّمَالِ. وكانوا يَتَطَيَّرُون أيضاً بِصَوْتِ الغراب ويتأوَّلُونَهُ البَيْن، ويستدلُّونَ بمجاوبات الطيور بعضها بعضاً على أمور، وبأصواتها في غير أوقاتها المَعْهُودَة على مثل ذلك. ويتطيّر الأعاجم إذَا رَأوْ صَبِيّاً يُذْهَب به إلى المُعَلِّم بالغَدَاةِ، وَيَتَيمَّنُون برؤية صبيٍّ يرجع من عند المعلم إلى بيته، ويَتَشَاءَمُونَ برؤية السَّقَّاء على ظهره قِرْبَةٌ مملوءةٌ مشدودة، ويتيمَّنُونَ برؤية فارغ السِّقاءِ مفتوحة، ويتشاءَمُونَ برؤية الحَمَّالِ المُثْقَل بالْحِمْلِ والدَّابَّة الموقرة، وَيَتَيَّمنُونَ بالحَمَّال الذي وضع حمله، وبالدَّابة الَّتي وضع عنها. فَجَاء الإسْلامُ بالنَّهْيِ عن التَّطيُّرِ، والتَّشَاؤُم بما يُسمع من صوت طائر ما كان، وعلى أيّ حال كان؛ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أقرُّوا الطَّيْرَ عَلَى مُكُنَاتِهَا» وذلك أن كثيراً من أهل الجاهليةِ كان إذا أراد الحَاجَةَ ذهب إلى الطَّير في وَكْرها فنفَّرها فإذا أخذت يميناً مضى إلى حاجته، وهَذَا هو السَّانِحُ عندهم، وإن أخذت شمااً رجع وهذا هو البَارحُ عندهم، فنهى النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن هذا بقوله «أقِرُّوا الطَّيْرَ على مُكنَاتِهَا» هكذا في الحديث. وأهل العربيَّة يقولون: «وكناتِهَا» ، والوكْنَةُ: اسمٌ لكلِّ وَكْرٍ وعشٍّ. والوَكْنُ: اسمٌ للموضع الذي يبيض فيه الطَّائِرُ ويُفرخُ، وهُوا الخَرْقُ في الحِيطَانِ والشَّجرِ. ويقال: وَكَنَ الطائرُ يَكِنُ وَكْناً ووكُوناً: دخل في الوَكْنِ، ووكن بَيْضَهُ، وعليه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 278 حضنه، وكان أيضاً من العرب من لا يرى التَّطيُّرَ شيئاً نقله القرطبيُّ. وروى عبد اللَّهِ بنُ عمرو بن العاصِ عن رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال: «مَنْ رَجَّعَتْهُ الطِّيرةُ عن حَاجَتِه فَقَدْ أشْرَكَ» . قيل: وما كفارةُ ذلك يا رسُول اللَّهِ. قال: «أنْ يقُولَ أحَدُكم: اللَّهُمَّ لا طَيْرَ إلاَّ طَيْرُكَ، ولا خَيْرَ إلاَّ خَيْرُكَ، وَلاَ إله غَيرُك، ثُمَّ يمضي إلى حاجته» قوله {وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا} . لَمَّا حكى عنهم أوَّلاً أنَّهم بجهلهم أسْنَدُوا الحوادث إلى قضاء اللَّه وقدره، حكى عنهم ثانياً نوعاً آخر من الجهل والضَّلالة، وهو أنَّهم لم يُميّزُوا بين المعجزاتِ والسّحر، وجعلوا آيات موسى مثل انقلاب العَصَا حَيَّة. وقالُوا ذلك من باب السِّحر فلا يقبلُ منها شيء. «مَهْمَا» اسمُ شرطٍ يجزم فعلين ك «إنْ» هذا قولُ جمهور النُّحَاةِ، وقد تأتي للاستفهام وهو قليلٌ جداً. كقوله: [الرجز] 2554 - مَهْمَا لِيَ اللَّيْلَةَ مَهْمَا لِيَهُ؟ ... أوْدَى بِنَعْلَيَّ وسِربَالِيَهْ يريد: ما لي اللِّيلة مالي؟ والهاءُ للسَّكت. وزعم بعض النُّحاة أنَّ الجازمةَ تأتي ظرف زمان؛ وأنشد: [الطويل] 2555 - وإنَّكَ مَهْمَا تُعْطِ بَطْنَكَ سُؤلَهُ ... وَفَرْجَكَ نَالا مُنْتَهَى الذَّمِّ أجْمَعَا وقول الآخر: [الكامل] 2556 - عَوَّدْتَ قَوْمَكَ أنَّ كُلَّ مُبَرَّزٍ ... مَهْمَا يُعَوَّدْ شِيَمةً يتَعَوَّدِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 279 وقول الآخر: [الكامل] 2557 - نُبِّئْتُ أنَّ أبَا شُتَيْمٍ يَدَّعِي ... مَهْمَا يَعِشُ يَسْمَعْ بمَا لَمْ يَسْمَعِ قال: ف «مَهْمَا» هنا ظرف زمان، والجمهور على خلافه، وما ذكره متأوّل، بل بعضُهُ لا يظهر فيه للظَّرفية معنى، وشنَّع الزمخشري على القائل بذلك. فقال: وهذه الكلمة في عداد الكلمات الَّتي يُحَرِّفُهَا مَنْ لا يدّ له في علم العربية، فيضعها في غير موضعها ويحسب «مَهْمَا» بمعنى «متى ما» . ويقولُ: مَهْمَا جئتني أعطيتك، وهذا من كلامِهِ، وليس من واضع العربية، ثم يذهبُ فيفسِّر: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ} [الأعراف: 132] بمعنى الوقت، فَيُلْحد في آيات اللَّهِ، وهو لا يشعر، وهذا وأمثاله مِمَّا يُوجب الجُثُوَّ بين يدي النَّاظر في كتاب سيبويه. قال شهابُ الدِّين: هو معذورٌ في كونها بمعنى الوقت، فإن ذلك قولٌ ضعيفٌ، لم يَقُلْ به إلاَّ الطَّائفة الشَّاذَّةُ. وقد قال جمال الدِّين بْنُ مالكٍ: جميع النَّحويين يقول إنَّ «مَهْمَا» و «مَا» مثل «مَنْ» في لزوم التَّجرُّدِ عن الظَّرف، مع أنَّ استعمالها ظرفين ثابتٌ في أشعار فصحاء العرب. وأنشد بعض الأبْياتِ المتقدمة وكفى بقوله جميع النَّحويين دليلاً على ضَعْف القول بظرفيتهما. وهي اسمٌ لا حرفٌ، بدليل عَوْد الضَّمير عليها، ولا يعودُ الضَّمير على حرف؛ لقوله: {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ} فالهاءُ في «بِهِ» تعود على «مَهْمَا» وشَذَّ السُّهيليُّ فزعم أنَّهم قد تأتي حرفاً. واختلف النَّحويون في «مَهْمَا» هل هي بسيطة أو مركبة؟ والقَائِلُونَ بتركيبها اختلفوا: فمنهم مَنْ قال: هي مركبة مِنْ «مَا مَا» كُرِّرَتْ «ما» الشَّرطيَّة توكيداً، فاستثقل توالي لفظين فأبْدِلَت ألف «ما» الأولى هاء. وقيل: زيدت «ما» على «ما» الشَّرطية، كما يُزَادُ على «إنْ» «ما» في قوله: «فَإمَّا يَأتينَّكُم» . فَعُمِلَ العمل المذكور للثقل الحاصل، وهذا قولُ الخليل وأتباعه من أهل البصرة. وقال قَوْمٌ: هي مركبة من مَهْ التي هي اسم فعلٍ بمعنى الزَّجْر، و «مَا» الشَّرطيَّة ثم رُكِّبت الكلمتان فصارا شَيْئاً واحداً. وقال بعضهم: لا تركيب فيها هنا، بل كأنَّهُم قالوا له مَهْ، ثم قالوا {مَا تَأْتِنَا بِهِ} ويُعْزَى هذان الاحتمالان للكسائيِّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 280 قال شهابُ الدِّين: «وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّ ذلك قد يأتي في موضع لا زَجْرَ فيه، ولأنَّ كتابتها متصلة ينفي كون كلٍّ منهما كلمةً مستقلة» . وقال قومٌ: إنَّهَا مركَّبةً من «مَهْ» بمعنى اكفف و «مَن الشَّرطيَّةِ» ؛ بدليل قول الشاعر: [الطويل] 2558 - أماوِيَّ مَهْمَنْ يَسْتَمِعْ في صديقِهِ ... أقَاوِيلَ هذا النَّاسِ مَاوِيَّ يَنْدَمِ فأبْدِلَتْ نونُ «مَنْ» ألفاً كما تبدل النُّونُ الخفيفة بعد فتحة، والتَّنوين ألفاً، وهذا ليس بشيء بل «مَهْ» على بابها من كونها بمعنى: اكْفُفْ، ثم قال: مَنْ يستمعُ. وقال قوم: بل هي مركَّبة مِنْ «مَنْ» و «مَا» فأبدلت نونُ «مَنْ» هاءً، كما أبدلوا من ألف «ما» الأولى هاءً، وذلك لمؤاخاة مَنْ ما في أشياء، وإن افترقَا في شيء واحد، ذكره مكيٌّ. ومَحَلُّهَا نصبٌ أو رفعٌ، فالرَّفعُ على الابتداء وما بعده الخبر، وفيه الخلافُ المشهورُ هل الخبرُ فعلُ الشَّرْط أو فعلُ الجزاء أو هما معاً؟ والنَّصْبُ من وجهين: أظهرهما: على الاشتغال ويُقَدَّرُ الفعلُ متأخراً عن اسم الشَّرْطِ، والتقديرُ: مَهْمَا تُخْضِر تَأتِنَا، ف «تَأتِنَا» مُفَسِّرة ل تُحَضر، لأنَّهُ من معناه. والثاني: النصبُ على الظرفية عند مَنْ يَرَى ذلك، وقد تقدَّم الرَّدُّ على هذا القول، والضَّميرانِ من قوله بِهِ و «بِهَا» عائدان على «مَهْمَا» ، عاد الأوَّلُ على اللَّفظ، والثاني المعنى، فإنَّ معناها الآية المذكورة، ومثله قول زُهَيْرٍ: [الطويل] 2559 - وَمَهْمَا تَكُنْ عِنْدَ امْرِىءٍ مِنْ خَلِيقةٍ ... وإنْ خَالَهَا تَخْفَى عَلَى النَّاسِ تُعْلَمِ ومثله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] فأعَادَ الضَّمير على «ما» مؤنثاً، لأنَّهَا بمعنى الآية. وقوله: «فَمَا نَحْنُ» يجوز أن تكون «ما» حجازيةً أو تميميةً والباءُ زائدةٌ على كلا القولين، والجملةُ جوابُ الشَّرْطِ فمحلّها جزم. فصل قال ابْنُ عباس، وسعيد بن جبير وقتادة ومحمد بن إسحاق: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 281 لما قال قوم موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - {مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ} [الأعراف: 132] فهو سِحْرٌ، ونحن لا نُؤمن بها وكان موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - رجلاً جديداً، عند ذلك دَعَا عليهم فقال: يا ربِّ إنَّ عبدك فرعون علا في الأرض وبَغَى وَعَتَا، وإنَّ قومه نَقَضُوا عهدك؛ فَخُذْهُمْ بعقوبةٍ تجعلها لهم نقمةً ولقومي عظة، ولمن بعدهم آية وعبرة، فأرسل اللَّهُ عليهم الطُّوفان وهو الماء، وبيوت بني إسرائيل، وبيوت القبط مشتبكة، فامتلأت بيوت القبط حَتَّى قضامُوا في المَاءَ إلى ترابيهم، ومن جَلَسَ منهم غرق، ولم يدخل بيوت بني إسرائيل قطرة، ودام ذلك عليهم من السَّبت إلى السبت. فقالوا لموسى: ادْعَ لَنَا رَبَّكَ يَكْشِف عنَّا المطر؛ فنُؤمِنُ بك، ونرسل معك بني إسرائيل. فدعا رَبَّهُ فرفع عنهم الطوفان، وأرسل الرِّيَاحَ فَجَفَّفَت الأرْضُ، وخرج من النَّبَاتِ مَا لَم يَرَوْا مثله قط، وأخصبت بلادهم. فقالوا: ما كان هَذَا الماء إلاَّ نعمة عَلَيْنَا لكنَّا لم نشعر؛ فمكثوا شهراً في عافيةٍ فنكثُوا العهد. وقالوا: لا نُؤمِنُ بك، ولا نرسل معك بني إسرائيل؛ فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الجَرادَ، فأكل عامَّة زرعهم، وثمارهم، وأوراق الشَّجَرِ؛ حتَّى أكلت الخَشَبَ وسقوفَ البيُوتِ ومسامير الأبْوابِ من الحديد حتَّى وقع دورهم، وباتلي الجراد بالجُوعِ فكان لا يشبع، ولم يصب بني إسرائيل شَيءٌ من ذلك فَضجُّوا إلى موسى. وقالوا: ادْعُ لَنَا رَبَّكَ لئن كَشَفْتَ عَنَّا لرجز لنؤمنن لك ولنرسلنّ معك بَنِي إسرائيل، وأعطوه عَهْدَ اللَّهِ وميثاقة. فَدَعَا موسى رَبَّه فَكَشَفَ عنهم الْجرادَ بعد سبعة أيام، وفي الخَبَرِ «مَكْتوبٌ على صدر كلّ جرادة جند اللَّهِ الأعظم» فأرسل اللَّهُ ريحاً فحمل الجراد؛ فألقاه في البحر. وقيل: إنَّ مُوسَى برز إلى الفضاءِ، وأشارَ بعصاه إلى المشرق والمغرب؛ فرجعت الجراد من حيثُ جاءت. وكانت قد بقيت من زروعهم، وغلاتهم بقيّة. فقالُوا: قد بَقِيَ لَنَا ما يكفينَا، فَنَقَضُوا العَهْدَ ولم يُؤمنوا، فأقَامُوا شَهْراً في عافية. فأرسل اللَّه القملَ سبتاً إلى سبت، فلم يبق بأرضهم عود أخضر إلاَّ أكلته. فَصَاحوا بمُوسَى فسأل ربَّهُ، فأرسل اللَّه عليها ريحاً حارّة فأحرقتها، وألقتها في البحر فلم يُؤمِنُوا. فأرسل اللَّهُ عليهم الضَّفادع سبعة أيَّام؛ فخرج من البَحْرِ مثل اللَّيْلِ الدَّامس ووقع في النَّبَاتِ والأطْعِمَةِ، فكان الرَّجُلُ يجلسُ في الضَّفادع إلى رقبته، ويهم أن يتكلَّم، فيثب الضِّفْدَعُ في فِيهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 282 فَصَرَخوا إلى موسى وَحَلَفُوا لَهُ لئن رفعت عنَّا هذا العذاب لنُؤمننَّ بكَ، فَدَعَا اللَّهُ تعالى فأمات الضَّفادع، فأرسل عليها المطر؛ فأحملتها، ثمَّ أقَامُوا شَهْراً ثم نَقَضُوا العهد وعادُوا لكفرهم. فأرْسَلَ اللَّهُ عليهم الدَّمَ فجرت أنهارهم دماً، فما يستقون من الآبار والأأنهار إلاَّ وَجَدوهُ دماً عَبِيطاً أحمر، فَشَكَوْا إلى فرعون. فقال: إنَّه سحركم وكان فرعون يجمع القبطيَّ والإسرائيلي على الإناءِ الواحد؛ فيكون ما يَلِي الإسرائيليّ ماءً، وما يَلِي القبطي دماً، ويقومان إلى البُحَيْرَة فيها الماء، فيخرج للإسرائيلي ماء وللقبطيّ دماً، حتى كانت المرأةُ من آلفرعون تأتي المَرْأةَ من بني إسرائيل حينَ جَهَدَهُمُ العَطَشُ فتقولُ: اسقِني من مائك فتصب لها من قربتها؛ فيعود دماً في الإناء، حَتَّى كانت تَقُولُ اجعليه في فِيكِ ثم مُجِّيهِ فِي فِيَّ فتأخذ في فِيهَا ماءً، فإذا مَجّته في فِيهَا؛ صَارَ دَماً، وإنَّ فرعون اضطره العطشُ حتَّى مضغ الأشجار الرَّطْبَةَ فَصَارَ ماؤُها في فِيهِ مِلْحاً أجَاجاً، فمكثُوا في ذلك سبعة أيام، فقالوا: يا مُوسى {لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز} [134] . إلى آخر الآية. أحدهما: أنَّهُ جمع: طُوفَانة، أي: هو اسمُ جنس ك: قمح وقمحة، وشعير وشعيرة. وقيل: هو مصدرٌ كالنُّقْصَان والرُّجْحان، وهذا قول المُبَرِّدِ في آخرين والأوّلُ قول الأخْفَشِ. وقال: هو «فُعْلان» من الطَّواف، لأنَّه يطوفُ حتَّى يَعُمَّ الأرضَ، وواحدته في القياس «طُوفَانَة» ؛ وأنشد: [الرمل] 2560 - غَيَّرَ الجِدَّةَ مِنْ آيَاتِهَا ... خُرُقُ الرِّيحِ وطُوفَانُ المَطَرْ والطُّوفان: المَاءُ الكثير، قاله اللَّيْثُ؛ وأنشد للعجّاج: [الرجز] 2561 - وعَمَّ طُوفانُ الظَّلامِ الأثْأبَا ... شَبَّهَ ظلامَ اللَّيلِ بالماءِ الذي يَغْشَى الأمكِنة ... وقال أبُو النَّجْمِ: [الرجز] 2562 - وَمَدَّ طُوفانٌ مُبيدٌ مَدَدَا ... شَهْراً شَآبيبَ وشَهْراً بَرَدَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 283 وقيل: الطُّوفان من كُلِّ شيءٍ: ما كان كثيراً مُحيطاً مُطْبقاً بالجماعة من كُلِّ جهة كالمَاءِ الكثيرِ، والقَتْلِ الذَّريع، والمَوْتِ الجارفِ، قاله الزَّجَّاجُ. وقد فَسَّرَهُ النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالموتِ تارةً، وبأمرٍ من اللَّهِ أخرى، وتلا قوله: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ} [القلم: 19] وهذ المادَّةُ وإن كانت قد تَقدَّمَتْ في «طَائِفَة» إلاَّ أنَّ لهذه البنية خصوصيةً بهذه المعاني المذكورة. والجَرَادُ معروف، وهو جَمْعُ: جَرَادةٍ، الذَّكَرُ والأنْثَى فيه سواء. يقال: جَرَادَةٌ ذَكَرٌ وجَرَادة أنْثى، ك: نَمْلَة، وحمامة. قال أهلُ اللُّغَةِ: وهو مشتقٌّ من «الجَرْدِ» . قالوا: والاشتقاقُ في أسماءِ الأجْنَاس قليلٌ جِداً. يقال: أرْضٌ جَرْدَاء، أي: مَلْسَاء وثَوْبٌ جَرْدٌ، إذا ذَهَبَ زئبره. فصل قال القرطبيُّ: اختلف الفُقهَاءُ في جواز قتل الجَرَادِ. فقيل: يُقتل، لأنَّ في تركها فساد الأموال، وقد رخَّصَ النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتال المسلم إذا أخذَ ماله، فالجرادُ إذا أراد فسادَ الأموال كانت أوْلَى بجوازِ قتلها، كما أنَّهم اتفقوا على جواز قتل الحيّة، والعقرب؛ لأنَّهُمَا يُؤذِيَان النَّاس فكذلك الجَرَادُ. وروى ابْنُ ماجَةَ عن أنس أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان إذَا دَعَا على الجراد قال: «اللَّهُمَّ أهْلِك كِبارَهُ واقْتُل صغَارَهُ، وأفْسِد بيضَه، واقطع دابرهُ، وخُذْ بأفْواهِه عن مَعَايِشِنَا وأرْزَاقنَا إنَّكَ سَمِيعُ الدّعاءِ» . فقال رجل: يَا رسُول اللَّهِ، كيف تَدْعُو إلى جُنْد من أجْنَادِ اللَّهِ بقطع دَابره؟ قال: «إنَّ الجراد نثرة حوت في البَحْرِ» وهذا قول جمهور الفقهاءِ. وقيل: لا يُقْتَلُن لأنَّه خلق عظيم من خَلْقِ اللَّهِ يأكل من رزق اللَّهِ. وقد رُوِي «لا تَقْتُلُوا الجَرَادَ فإنَّهُ جُنْدُ اللَّهِ الأعْظَمُ» والقُمَّلُ: قيل: هي القِرْدَان، وقيل: دوابُّ تشبهها أصْغَرَ مِنْهَا. وقال سعيدُ بن جبير: هو السُّوسُ الذي يخرج من الحِنْطة. وقال ابْنُ السِّكِّيت، إنَّه شيء يقع في الزَّرع ليس بجرادٍ؛ فيأكل السُّنبلة، وهي غضة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 284 قبل أن تقوى، وحينئذٍ يطولُ الزَّرءعُ ولا سنبل له. وقيل: إنَّهَا الحمنان الواحدة: حَمْنَانَة، نوع من القِرْدَان. وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ: كان إلى جنبهم كثيب أعفر بقرية من قُرَى مصر تدعى «بعين شمس» فذهب موسى إلى ذلك الكثيب فضربه بعصاهُ فانْهَالَ عليهم القُمَّل، وعلى هذا هو القَمْل المعروف الذي يكون في بدن الإنسان وثيابه، ويؤيد هذا قراءة الحسن «والقَمْل» بفتح القاف وسكون الميم، فيكونُ فيه لغتان: القُمَّل «كقراءة العامةِ و» القَمْل «كقراءة الحسن البصري. وقيل: القملُ البراغيث، وقيل: الجعلان. والضفَادعُ: جمع ضِفْدَع، بزنة دِرْهَم، ويجوز كسر دَالِهِ فتصير بزنة» زِبْرِج «وقدْ تُبْدَلُ عَيءنُ جمعه ياء، كقوله: [الرجز] 2563 - وَمَنْهَلٍ لَيْسَ لَهُ حَوَازِقُ ... ولِضَفَادِي جَمِّهِ نَقَانِقُ وشَذَّ جمعُهُ على: ضِفْدَعَات، والضِّفْدَعُ: مؤنَّث، وليس بمذكر، فعلى هذا يُفَرَّقْ بين مذكّره ومؤنثه بالوصفِ. فيقال: ضِفْدَع ذكر وضفدع أنثى، كما قلنا ذلك في المتلبِّس بتاء التأنيث، نحو حمامة، وجرادة، ونملة. فصل روى أبُو داوود وابنُ ماجةَ عن أبي هريرة قال: نَهَى النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قتل: الصُّرَدِ والضِّفْدَع، والنَّمْلَةِ، والهُدْهُدِ. ولمَّا خرج إبراهيمُ - عليه السلام - من الشَّام إلى الحَرَم في بناء البيتِ كانت السِّكينَة معه والصُّرَدُ دليلة إلى الموضع، والسكينةَ مقداره، فلمَّا صار إلى البقعَةِ؛ وقعت السَّكينة على موضع البيتِ ونادت: ابْنِ يَا إبراهيمُ على مقدار ظِلِّي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 285 فنهى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قتل الصُّرَدِ؛ لأنه كان دليل إبراهيم، وعن قتل الضّفدع؛ لأنها كانت تصب الماء على نَارِ غبراهيم، ولما تسلَّطت على فرعون جاءت، وأخذت الأمكنة كلها، فلما صارت إلى التَّنُّور وثَبَتْ فيها وهي نار تسعر طاعة لله، ولكن نار يسعرها الله بها؛ فَجَعَلَ» نقيقها «تسبيحاً. والدَّم ذكرناه وهو معروف. قال زيد بنُ أسلم: الدَّم الذي سلطة اللَّهُ عليهم كان الرُّعَاف، ونقله الزمخشريُّ. قوله: «آيَاتٍ مفصّلات» . آياتٍ منصوبة على الحال من تلك الأشياءِ المتقدّمة أي أرْسَلْنَا عليهم هذه الأشياءَ حال كونها علاماتٍ ممزياً بعضها من بعض، ومُفَصَّلاتٍ فيها وجهان: أحدهما: مُفَصَّلات أي: مُبينات لا يشكلُ على عاقل أنَّهَا من آيات اللَّهِ التي لا يقدر عليها غيره. وقي: مُفَصّلات أي: فَصَّلَ بعضها من بعض بزمانٍ يمتحن فيه أحوالهم هل يقبلون الحُجَّة، أو يستمرون على المُخالفةِ؟ فاسْتَكْبَرُوا عن عبادة اللَّهِ {وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ} . فصل فإن قيلَ لمَّا علم اللَّهُ تعالى من حالهم أنَّهُم لا يؤمنون بتلك المُعجزاتِ، فما الفائدة في تواليها؟ وقوم مُحمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طلبُوا المعجزات فما أجِيبُوا فما الفرق؟ فالجوابُ: قال بعضُ أهل السُّنَّةِ: يفعلُ اللَّهُ ما يشاءُ، ويحكم ما يريد. وقال آخرون: إنَّمَا فعلَ ذلك زَجْراً لنا، وموعظةً وإعلاماً بأنَّ المُصرَّ على الكُفْرِ يستوجبُ العذابَ المؤبّد. وأجاب المُعتزلَةُ: برعاية الصالح، فلعلَّهُ علم من قوم مُوسَى أنَّ بعضهم كان يؤمن عند ظهور المعجزة الزَّائدة كمؤمن آل فرعونَ وكالسَّحرةِ، وعَلِمَ من قوم محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّ أحداً منهم لا يَزْداد بِظُهُورِ المُعْجِزَةِ الزَّائِدِة إلاَّ كُفْراً. فظهر الفرقُ. قوله: {وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز} ، أي نزل بهم العذاب من الطُّوفَانِ، وغيره. وقال سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: الطاعون. وقيل: مات منهم سبعون ألفاً في يوم واحد. وتقدم الكلام على الرِّجْز في البقرة عند قوله: {فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء} [البقرة: 59] . قوله {بِمَا عَهِدَ عِندَكَ} . يجوزُ في هذه الباء وجهان: أظهرهما: أن تتعلَّق ب «ادْعُ أي: ادْعُهُ بالدُّعاء الذي علَّمك أن تدعوه به. والثاني: أنَّها باء القسم. قال الزمخشريُّ: والباء إمَّا تتعلَّق ب» ادْع «على وجهين: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 286 أحدهما: اسْعِفْنَا إلى ما نطلب إليك من الدُّعاء بحق ما عندك من عهد الله، وكرامته إيَّاك بالنُّبُوَّةِ أو ادع اللَّه لنا مُنتَوَسِّلاً إليه بعهده عندك، وإمَّا أن يكون قَسَماً مُجَاباً ب» لنُؤمِنَنَّ «أي:» أقْسَمْنَا بِعَهْدِ اللَّهِ عندك «. فصل اعلمْ أنَّهُ تعالى بيَّن ما كانُوا عليه من المُناقضة القبيحة، لأنَّهم تارة يكذبون موسى عليه الصَّلاة والسَّلام، وأخرى عند الشَّدائد يفزعون إليه فزع الأمة إلى نبيّها ويسألونه أن يسأل رَبَّه رفع العذاب عنهم، وذلك يقتضي أنهم سَلَّمُوا كونه نبيّاً مجاب الدَّعْوَة، ثُمَّ بعد زوال تلك الشَّدائد يعودون إلى تكذيبه. وقوله: {فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى} . أي: العذاب. إلى أجلٍ فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّقَ ب «كَشَفْنَا وهو المشهور، وعليه إشكال وهو أنَّ ما دخَلَتْ عليه» لَمَّا «يترتَّبُ جوابُهُ على ابتداء وقوعه، والغايةُ تنافي التعليق على ابتداء الوقوع، فلا بُدَّ من تعقُّل الابتداء والاستمرار حتَّى تتَحقَّقَ الغاية، ولذلك لا تقعُ الغاية في الفعل غير المتطاول. لا يُقالُ: لمَّا قتلتُ زيداً إلى يوم الخميس جَرضى كَذَا، ولا لمَّا وثبت إلى يوم الجمة اتَّفق كذا، وقد يُجَابُ بأنَّ المرادَ بالأجَل هنا: وقتُ إيمانهم، وإرسالهم بني إسرائيل معه، ويكون المرادُ بالكشفِ: استمرارَ رفع الرِّجْزِ. كأنه قيل: فَلَمَّا تمادَى كَشَفْنَا عنهم إلى أجل، وأمَّا مَنْ فَسَّرَ» الأجَلَ «بالمَوْتِ أو بالغَرَقِ فيحتاج إلى حَذْفِ مضاف تقديرُهُ: فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ إلى أجل قُرْب أجل هم بالغوه، وإنَّما احتاج إلى ذلك، لأنَّ بين موتهم أو غرقهم حصل منهم نكثٌ، فكيف يُتَصَوَّرُ أن يكون النَّكْثُ منهم بعد موتهم، أو غرقهم؟ والثاني: أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حال من» الرِّجز «أي: فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم الرجزَ كَائِناً إلى أجل، والمعنى: أنَّ العذابَ كان مُؤجَّلاً. قال أبُو حيَّان: وَيُقَوِّي هذا التأويلَ كونُ جواب» لمَّا «جاء ب» إذا «الفجائية أي: فَلَمَّا كَشَفْنَا عنهم العذابَ المقرَّر عليهم إلى أجلٍ فاجؤوا بالنَّكْثِ، وعلى معنى تَغْيِيَتِهِ الكشفَ بالأجَل المبلوغ لا تتأتى المفاجأة إلاَّ على تأويل الكشفِ بالاستمرار المُغيَّا فيمكن المفاجأة بالنَّكْث إذْ ذاك ممكن. قوله:» هم بَالِغُوهُ «في محلِّ جرٍ صفة ل» أجَلٍ «والوصف بهذه الجملةِ أبلغُ من وصفِهِ بالمفرد، لتكررِ الضَّمير المؤذن بالتَّفخيم. وقوله: {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} هذه» إذَا «الفُجَائيَّةِ، وتقدَّم الكلامُ عليها قريباً: و» هُمْ «مبتدأ، و» ينكُثُونَ «خبره، و» إذَا «جوابُ» لمَّا «كما تقدَّم بالتَّأويلِ المذكور. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 287 قال الزمخشريُّ: {إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} جواب» لَمَّا «يعني: فلمَّا كشفنا عنهم العذاب فاجؤوا بالنّكث وبَادَرُوهُ ولَمْ يؤخِّروه، ولكن لَمَّا كَشَفَ عنهم نَكَثُوا. قال أبُو حيان:» ولا يمكن التَّغْيية مع ظاهرِ هذا التقدير «. انتهى. يعني فلا بُدَّ من تأويل الكشْفِ بالاستمرار، كما تقدَّم، حتَّى يَصِحَّ ذلك. وهذه الآية تَرُدُّ مذهبَ مَنْ يَدَّعي في» لَمَّا «أنَّهَا ظَرْفٌ، إذْ لا بُدَّ لَهَا حينئذٍ من عامل، وما بعد» إذَا «لا يعمل فيما قبلها، كما تحرَّر في موضعه. وقرأ أبُو حَيْوَةَ وأبو هشام» يَنْكِثُون «بكسر الكاف، والجمهور على الضَّمِّ، وهما لغتان في المضارع. والنَّكْثُ: النَّقْضُ، وأصله: مِنْ نَكْثِ الصُّوف المغزول لِيُغْزل ثانياً، وذلك المنكوث: نِكثٌ ك: ذِبْح، وَرِعْي. والجمعُ: أنكاث، فاستعير لنقض العهد بعد إحكامه وإبرامه كما في خيوط الأكسية إذا نُكِثَتْ بعدما أبْرِمَتْ، وهذا مِنْ أحسن الاستعارات. قوله: «فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ» هذه الفاءُ سببيَّة، أيْ: تَسَبَّب عن النَّكْثِ الانتقامُ ثم إن أريد بالانتقام نَفْسُ الإغْراق، فالفاءُ الثَّانية مُفَسِّرةٌ عند مَنْ يُثْبِتُ لها ذلك وإلاَّ كان التقدير: فَأرَدْنَا الانتقام، والانتقام في اللُّغَةِ: سلب النعمة بالعذابِ. و «في اليمِّ» متعلق ب «أغْرَقْنَاهُم» ، واليَمّ: البحر، والمشهور أنَّهُ عربيّ. قال ذو الرُّمَّة: [البسيط] 2564 - دَاوِيَّة ودُجَى لَيْلٍ كأنَّهُمَا ... يَمٌّ تراضَنَ في حَافَاتِهَا الرُّومُ وقال ابْنُ قتيبةَ: أنَّه البَحْرُ بالسُّريانِيَّةِ. وقيل: بالعبرانيَّة. والمشهور أنه لا يتقيَّد ببحر خاص قال الزمخشري: اليَمّ: البحرُ الذي لا يُدْرَكُ قعره. وقيل: هو لُجَّة البحر ومعظم مائه. وقال الهروِيُّ - في «غريبيه» -: واليَمُّ: البَحْرُ الذي يقالُ له: إسَافٌ وفيه غَرِقَ فرعونُ. وهذا ليس بجيد، لقوله تعالى: {فَأَلْقِيهِ فِي اليم} [القصص: 7] والمرادُ: نيلُ مِصْرَ، وهو غيرُ الذي غَرِق فيه فرعون. فصل قيل: واشتقاقه من التيمم، وهو القصد، لأنَّ النَّاسَ يقصدونه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 288 قوله: «بِأنَّهُمْ» الباء للسببيّة، أي: أغْرَقْنَاهم بسببِ تكذيبهم بآياتِنَا، وكونهم عَنْهَا غافلين، أي: غَافِلينَ عن آياتنا، فالضَّمِيرُ في عَنْهَا يعودُ على الآيات، وهذا هو الظَّاهِرُ. وبه قال الزَّجَّاجُ وغيره. وقيل: يجوزُ أن يعود على النِّقْمَةِ المدلولِ عليها ب «انتَقَمْنَا» ويُعْزَى هذا لابن عباس، وكأن القائل بذلك تَخَيَّلَ انَّ الغفلةَ عن الآيات عُذْرٌ لَهُم من حيثُ إنَّ الغفلة ليست من كسب الإنسان. وقال الجمهور: إنَّهم تَعَاطَوْا أسبابَ الغَفْلَة، فَذُمّوا عليها، كما يُذَمُّ الناس على نِسْيَانه لتعاطيه أسبابه. فصل قوله: «وَأوْرَثْنَا» يتعدى لاثنين، لأنَّه قبل النَّقلِ بالهمزة متعدٍّ لواحد نحو: وَرِثْتُ أبي، فبالنَّقْلِ اكتسب آخَرَ. فأولهما: القومَ والَّذينَ وصلتُه في محل نصب نعتاً له. وأما المفعولُ الثَّانِي ففيه ثلاثةُ أوجهٍ، أظهرها: أنَّهُ «مشارِقَ الأرضِ ومغَاربَهَا» . وفي قوله: {التي بَارَكْنَا فِيهَا} على هذا وجهان: أحدهما: أنَّه نعتٌ ل: مشارق ومغارب. والثاني: أنَّهُ نعتٌ للأرض، وفيه ضعفٌ من حيث الفصلُ بالمعطوف بَيْنَ الصفةِ والموصوفِ. وهو نظيرُ قولك: قام غلامُ هندٍ وزيدٌ العاقلةِ. وقال أبُو البقاءِ هنا: وفيه ضعفٌ؛ لأنَّ فيه العطفَ على الموصوفِ قبل الصِّفَةِ. وهذا سبْقُ لسان أو قلم، لأنَّ العطفَ ليس على الموصُوفِ، بل على ما أضيف إلى الموصوف. والثاني من الأوجه الثلاثة: أن المفعول الثاني هو: {التي بَارَكْنَا فِيهَا} أي: أورثناهم الأرض التي باركنا فيها. وفي قوله تعالى: {مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} وجهان: أحدهما: هو منصوبٌ على الظَّرف ب «يُسْتَضْعَفُونَ» . والثاني: أنَّ تقديره: يُسْتَضْعَفُون في مشارق الأرض ومغاربها فلمَّا حُذِفَ الحرفُ وصل الفعلُ بنفسه؛ فنصب، هكذا قال أبو البقاءِ. قال شهابُ الدِّين: ولا أدري كيف يكونان وجهَيْن، فإنَّ القول بالظَّرفية هو عينُ القولِ بكونه على تقدير في، لأنَّ كلَّ ظرف مقدَّرٌ ب «في» فكيف يجعل شيئاً واحد شيئين؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 289 الوجه الثالث: أنَّ المفعول الثَّاني محذوفٌ، تقديره: أورثناهم الأرضَ، أو الملكَ، أو نحوه ويُسْتَضْعَفُونَ يجوز أن يكون على بابه من الطَّلبِ، أي: يُطلب منهم الضَّعْفَ مجازاً وأن يكون استفعل بمعنى: وَجَدَهُ ذَا كَذَا، والمُرَادُ بالأرْضِ: أرَضُ الشَّام. وقيل: أرض مصر، لأنها أرض القبط. وقيل: مصر والشَّام، ومشارقها، ومغاربها جهات المشرق، والمغرب {الَّتِي بَاركْنَا فِيهَا} بإخراج الزَّرع، والثِّمار، والأنهار. وقيل: المرادُ جملة الأرض؛ لأنَّه خرج من بني إسرائيل داود وسليمان وقد ملكا الأرْضَ. قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى} . قرأ الحسنُ ورُويت عن أبي عمرو وعاصم كَلِمَات بالجمع. قال الزمخشر] ُّ: ونظيره: {لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى} [النجم: 18] . يعني في كون الجمع وُصِفَ بمُفْردٍ. قال أبُو حيَّان: ولا يتعيَّن في الكُبْرَى ما ذكر لجواز أن يكون التقدير: لَقَدْ رَأى الآية الكُبْرَى، فهو وصفُ مُفْردٍ لا جمعٍ، وهو أبلغُ. قال شهابُ الدِّين: في بعض الأماكن يتعيَّنُ ما ذكره الزمخشريُّ نحو {مَآرِبُ أخرى} [طه: 18] وهذه الآية، فلذلك اختار فيها ما يتعيَّن في غيرها والمرادُ بالكلمةِ الحسنى: قوله: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض} [القصص: 5] إلى قوله: {مَّا كَانُواْ يَحْذَرونَ} [القصص: 6] والحُسْنَى: تأنيثُ الأحسنِ صفة للكلمة. وقيل: معنى تمام الكلمةِ: إنجاز الوعْدِ الذي تقدَّم بغهلاك عدوهم. ومعنى: «تَمَّتْ» أي: مَضَتْ واستمرَّتْ من قولهم: تَمَّ عليه الأمر إذَا مَضَى عليه. قوله بِمَا صَبَرُوا متعلِّق ب «تَمَّتْ» والبَاءُ للسببيَّةِ و «مَا» مصدريةٌ، أي: بسبب صبرهم ومتعلَّقُ الصَّبرِ محذوفٌ أي: على أذَى فرعون وقومه. قوله: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} . يجوزُ ههنا أوجه: أحدها: أن يكون فِرْعَونُ اسم كان، ويَصْنَعُ خبرٌ مقدم، والجملةُ الكونِيَّة صلةُ «ما» والعائد محذوف، والتقديرُ ودَمَّرنا الذي كان فرعون يَصْنَعُهُ، واستضعف أبُو البقاءِ هذا الوجه. فقال: لأنَّ يَصْنَعُ يَصْلُحُ أن يعمل في فِرْعَوْن فلا يُقَدَّر تأخيره، كما لا يُقدَّر تأخيرُ الفعل في قولك: قام زيدُ. يعني: أنَّ قولك: «قَامَ زَيْدٌ» يجب أن يكونَ من باب الفِعْلِ والفاعل، ولا يجوز أن يُدَّعى فيه أنَّ «قام» فعلٌ وفاعلٌ، والجملةُ خبرٌ مقدمٌ، وزيد: مبتدأ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 290 مؤخَّرٌ لأجل اللَّبس بباب الفاعل، فكذا هنا؛ لأنَّ يَصْنَعُ يَصحُّ أن يتسلَّطَ على فِرْعَوْنَ فيرفعهُ فاعلاً فلا يُدَّعَى فيه التقديم، وقد سبقه إلى هذا مكيٌّ. وقال: ويلزم من يجيز هذا أن يُجيزَ: يقومُ زيدٌ، على الابتداء والخبر، والتَّقديم والتَّأخير، ولمْ يُجزْهُ أحَدٌ. وقد تقدَّمت هذه المسألةُ وما فيها، وأنَّهُ هل يجوز أن يكون من باب التَّنازع أم لا؟ وهذا الذي ذكراه وإن كان مُتَخَيَّلاً في بادئ الرأي، فإنه كل باب الابتداء، والخبر، ولكن الجَواب عن ذلك: أنَّ المانع في «قَامَ زيدٌ» هو اللَّبس، وهو مفقودٌ هَهُنَا. الثاني: أنَّ اسمَ «كان» ضميرٌ عائدٌ على «مَا» الموصولة، ويَصْنَعُ مسندٌ ل «فِرْعَوْن» والجُملةُ خبر «كان» والعائدُ محذوف أيضاً، والتَّقديرُك ودمَّرْنَا الذي كان هو يصنعه فرعون. الثالث: أن تكون «كان» زائدةً و «مَا» مصدرية والتقديرُ: ودمَّرْنَا ما يصنع فرعون. أي: صُنْعَهُ، ذكره أبُو البقاءِ. قال شهابُ الدِّين: وينبغي أن يجيءَ هذا الوجهُ أيضاً، وإن كانت «مَا» موصولة اسمية، على أنَّ العائدَ محذوفٌ تقديرُهُ: ودَمَّرْنَا الذي يصنعه فرعون. الرابع: أن «ما» مصدرية أيضاً و «كان» لَيْسَتْ زائدةً بن ناقصة، واسمُهَا ضميرُ الأمر والشَّأن، والجملةُ من قوله يَصْنعُ فرعَونُ خبرُ «كان» فهي مفسِّرة لضمير. وقال أبُو البقاءِ هنا: وقيل: ليست «كان» زائدةً، ولكن «كان النَّاقِصَة لا يُفْصَل بها بين» ما «وبين صلتها، وقد تقدَّم ذلك في قوله: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] وعلى هذا القول تحتاج» كان «إلى اسم. ويضعُف أن يكون اسمُها ضمير الشَّأنِ؛ لأَّ الجُلة التي بعدها صلةُ» ما «فلا تَصْلُح للتَّفسير، فلا يحصُل بها الإيضاحُ، وتمامُ الاسم، والمفسِّر يجبُ أن يكون مستقلاً، فتدعو الحَاجَةُ إلى أن يجعل» فرعون «اسم» كان «وفي:» يَصْنَعُ «ضمير يعود عليه. قال شهابُ الدِّين بعد فرض كونها ناقصةً: يلزم أن تكون الجملة من قوله: يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ خبراً ل» كان «ويمتنع أن تكون صلةً ل» ما «. وقوله: فتدعُوا الحاجةُ أي: ذلك الوجُه الذي بدأت به، واستضعفه، وهو الذي احتاج إليه في هذا المكان فراراً من جعل الاسم ضمير الشَّأن، لمَّا تخيَّلهُ مانعاً، والتَّدميرُ: الإهلاكُ. قال الليث: الدَّمَارُ: الهَلاك التَّامن يقال: دَمَرَ القومُ يَدمُرُونَ دماراً: أي: هلكوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 291 وهو مُتَعَدٍّ بنفسه، فأمَّا قوله: {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ} [محمد: 10] بمفعولُه محذوفٌ، أي: خَرَّب عليهم منازلهم وبُيُوتَهم. وقوله: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} أي: في أرض مصر من العمارات. قوله:» يَعْرِشُونَ «قرأ ابن عامر، وأبو بكر عن عاصم هنا وفي النَّحل {يَعرُشُونَ} بضم الرَّاءِ. والباقون بالكسر فيهما، وهما لغتانِ:» عَرَشَ الكرمَ يَعْرِشُهُ ويَعْرُشُهُ. والكَسْرُ لغة الحِجَازِ. قال اليَزِيديُّ: وهي أفصحُ. وقال مُجاهدٌ: ما كانُوا يبنون من القصور والبيوت. وقُرئ شاذّاً بالغين المعجمةِ والسِّين المهملة، من غَرْس الأشجَار. وقال الزمخشري وبلغني أنه قرأ بعض الناس يعرشون من عرش وما أظُنّه إلاّ تصحيفاً. وقرأ ابن أبي عبْلَةَ يُعَرِّشُونَ بضمِّ الياء وفتحِ العين، وكسرِ الرَّاءِ مشدَّدَةً على المُبالغة والتَّكثير. وهذا آخر قصةِ فرعونَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 292 قوله: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَآئِيلَ} كقوله: {فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} [البقرة: 50] من كونِ الباء يجوز أنْ تكون للتَّعدية، وأن تكون للحاليَّة، كقوله: [الوافر] 2565 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّرِيبَا وقد تقدَّم. و «جاوز» بمعنى: جاز، ف «فاعل» بمعنى «فَعَل» . وقرأ الحسنُ، وإبراهيم، وأبو رجاء ويعقوب جَوَّزْنَا بالتِّشْديدِ وهو أيضاً بمعنى «فَعَلَ» المجردِ ك قَدَرَ وقَدَّر. قوله: يَعْكُفُونَ صفة ل «قَوْم» . وقرأ الأخوان «يَعْكِفُونَ» بكسر الكاف، وتروى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 292 عن ابي عمرو أيضاً، والباقون بالضمِّ، وهما لغتان في المضارع ك «يَعْرشُون» . وقد تقدَّم معنى «العكوف» واشتقاقه في البقرة. قال قتادة: كان أولئك القومُ من لَخْم، وكانُوا نُزولاً بالرِّقَّةِ. وقال ابنُ جريج: كانت تلك الأصْنَام تماثيل بقر، وذلك أول شأن قصة العِجْلِ. قال الكلبيُّ: عبر بهم موسى البَحْرَ يومَ عاشوراء بعد مهلك فرعون وقومه، فصاموه شكراً للَّه عزَّ وجلَّ. قوله: {قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها} أي: مثالاُ نعبده. ولم يكن ذلك شكّاً من بني إسرائيل في وحدانية اللَّهِ، وإنَّمَا معناه: أجعل لنا شيئاً نعظمه، ونتقرب بتعظيمه إلى اللَّهِ، وظَنُّوا أنَّ ذلك لا يضر الدِّيانة، وكان ذلك لشدَّة جهلهم، لأنَّ العبادة غاية التَّعظيم، فلا تليق إلا بمن يصدر عنه غاية الإنعام، وهو خالقُ الجسمِ، والحياةِ والقدرةِ، والعقلِ، والأشياءِ المنتفع بها. وليس ذلك إلاَّ الله تعالى. فصل واعْلَمْ أنَّ هذا القولَ لم يصدر عن كلّهم، وإنَّما صدرَ من بعضهم؛ لأنَّه كان مع موسى السبعون المُختارون، وفيهم من يرتفعُ عن مثل هذا السُّؤالِ. قوله كمَا لَهُمْ آلِهَةٌ الكافُ في محلِّ نصب صفة ب «إلهاً» ، أي: إلهاً مماثلاُ لإلههم. وفي «ما» ثلاثةُ أوجه: أحدها: موصولةٌ حرفية، أي: تتأوَّلُ بمصدرِ، وعلى هذا فصلتُهَا محذوفة، وإذا حُذِفَتْ صلة «ما» المصدريَّة، فلا بدَّ من إبقاء معمولِ صلتها، كقولهم: لا أكلِّمكَ ما أنَّ حِرَاءَ مَكَانَهُ، أي: ما ثَبَتَ أنَّ حِرَاءَ مكانه، وكذا هنا تقديره: كما ثبت لهم آلهة، ف «آلهة» فاعل «ثبت» المقدر، أي: كما أنَّ «أنَّ» المفتوحةَ في المثالِ المتقدم فاعل «ثبت» المقدر. وقال أبُو البقاءِ - هذا الوجه - ليس بجيد «والجملة بعدها صلةٌ لها، وحسَّن لك أنَّ الظرف مقدَّرٌ بالفعل» . فصل قال شهابُ الدِّينِ: كلامُهُ على ظاهِره ليس بجيِّد؛ لأنَّ «ما» المصدريةَ لا تُوصَلُ بالجملة الاسمية على المشهور، وعلى رأي مَنْ يُجَوِّز ذلك، فيشترط فيها غَالِباً أن تُفْهِم الوقت كقوله: [الكامل] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 293 2566 - وَاصِلْ خِلِيلَكَ ما التَّواصُلُ مُمْكِنٌ ... فلأنْتَ أوْ هُوَ عَنْ قَرِيبٍ ذَاهِبُ ولكنَّ المراد أنَّ الجارَّ مقدَّرُ بالفعل، وحينئذٍ تؤولُ إلى جملةٍ فعليّة، أي: كما استقرَّ لهم آلهةٌ. الثاني: أن تكون «ما» كافَّةً لكاف التَّشبيه عن العمل، فإنَّهَا حرفُ جر، وهذا كما تُكَفُّ رُبَّ فيليها الجملُ الاسميَّة، والفعليَّة، ولكن ليس ذلك على سبيل الوجوب، بل يجوزُ في الكافِ وفي «رُبَّ» مع «ما» الزَّائدة بعدهما وجهان: العَمَلُ والإهمالُ، وعلى ذلك قول الشَّاعر: [الطويل] 2567 - وَنَنْصُرُ مَوْلانَا ونَعْلَمُ أنَّهُ ... كَمَا النَّاس مَجْرُومٌ عَليْهِ وجَارِمُ وقول الآخر: [الخفيف] 2568 - رُبَّمَا الجَامِلُ المؤبِّلُ فِيهِمْ ... وعَنَاجِيحُ بَيْنَهُنَّ المِهَارُ وروي برفع «النَّاس، والجامل» وجرِّهما، هذا إذا أمكن الإعمالُ، إمَّا إذَا لم يمكن تَعَيَّنَ أن تكونَ كافَّةً كهذه الآية، إذا قيل: بأن «ما» زائدة. الثالثُ: أن تكون «ما» بمعنى «الذي» ، و «لَهُمْ» صلتها، وفيه حينئذٍ ضميرٌ مرفوعٌ مستتر، و «آلهة» بدلٌ من ذلك الضَّمير، والتَّقديرُ: كالذي استقَرَّ هو لهم آلهة. وقال أبُو البقاءِ - في هذا الوجه -: والعَائِدُ محذوفٌ، و «آلهة» بدلٌ منه، تقديره: كالَّذِي هُوَ لهُم وتَسْميتُهُ هذا حَذْفاً تَسَامحٌ، لأنَّ ضمائرَ الرفع إذا كانت فاعلةٌ لا تُوسف بالحذف، بل بالاستتار. قوله إنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ. هؤلاءِ إشارة لِمَنْ عَكَفُوا على الأصنام، ومُتَبَّرٌ فيه وجهان: أحدهما: أن يكون خبراً ل «إنَّ» و «مَا» موصولةٌ بمعنى «الَّذي» وهُمْ فِيهِ جملةٌ اسميةٌ صلةٌ وعائده، وهذا الموصولُ مرفوعٌ باسم المفعول فتكون قد أخْبَرْتَ بمفرد رفعت به سَبَبّاً. والثاني: أن يكون الموصولُ مبتدأ، ومُتَبَّرٌ خبره قُدِّم عليه، والجملةُ خبرٌ ل «إنَّ» . قال الزخشريُّ: وفي إيقاع «هؤلاء» اسماً ل «إنَّ» ، وتقديمُ خبر المبتدأ من الجملة الواقعةِ خبراً لها وسمٌ لعبدة الأصنام بأنَّهم هم المُعَرَّضُونَ للتَّبَار، وأنَّهُ لا يَعْدُوهُم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 294 ألْبتَّة، وأنَّهُ لهم ضربةُ لازم، ليحذِّرهم عاقبة ما طلبوا، ويبغض إليهم ما أحَبُّوا. قال أبُو حيَّان: «ولا يتعيَّنُ ما قاله من تقديم خبر المبتدأ من الجملة الواقعة خبراً ل» إنَّ «، لأنَّ الأحْسَنَ في إعراب مثل هذا أن يكونُ مُتَبَّرٌ خبراً» إنَّ «وما بعده مرفوعٌ» فذكر ما قرَّرْتُهُ، ونظَّره بقولك: «إنَّ زَيْداً مضروبٌ غلامُهُ» . قال: فالأحْسَنُ أن يكون «غلامه» مرفوعاً ب «مضروب» ، ثم ذكر الوجه [الثاني] وهو أن يكون «مُتَبَّرٌ» خبراً مقدماً من الجملة، وجعله مرجوحاً. وهو كما قال، لأنَّ الأصلَ في الأخبارِ أن تكون مفردةً، فما أمكن فيها ذلك لا يُعْدل عنه، إلا أنَّ الزمخشريَّ لم يذكر ذلك على سبيل التَّعيين، بل على أحد الوجهين وقد يكونُ هذا عنده أرجحَ من جهة ما ذكر من المعنى، وإذا دار الأمر بين مُرَجِّح لفظيّ، ومُرَجِّح معنويٍّ فاعتبارُ المعنويِّ أولى، ولا أظُنُّ حَمَلَ الزمخشري على ذلك إلا ما ذكرت. وقوله {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} كقوله {مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} من جواز الوجهين وما ذُكِر فيهما. والتَتْبيرُ: التَّكسير، والتَّحطيم. والبطلان قيل: عدم الشَّيءِ إمَّا بعد ذاته، وإما بعدم فائدته ومقصوده. قوله: «أغَيْرَ اللَّهِ» الهمزةُ للإنكار، والتَّوبيخِ، وفي نَصْبِ غير وجهان: أحدهما: أنَّه مفعولٌ به ل «أبْغِيكُمْ» على حذفِ اللاَّمِ، تقديره: أبغي لكم غير اللَّهِ، أي: أطلُبُ لكم فَلَمَّا حذف الحرف، وصل الفعل بنفسه، وهو غيرُ منقاص، وفي إلهاً على هذا وجهان: أظهرهما: أنَّهُ تمييز ل «غير» ، والثاني: أنَّهُ حالٌ، ذكره أبو حيان وفيه نظر. والثاني: من وجهي «غير» : أنَّهُ منصوب على الحال من إلهاً وإلهاً هو المفعول به ل «أببْغِيكُمْ» على ما تقرَّرَ صفةُ النَّكرةِ عليها نُصِبتْ حالاً. وقال ابنُ عطيَّة: و «غير» منصوبة بفعل مضمر، وهذا هو الظَّاهِرُ، ويجوزُ أن يكون حالاً. وهذا الذي ذكره من إضمار الفعل لا حاجةَ إليه فإن أرَادَ أنَّهُ على الاشتغال فلا يَصِحُّ؛ لأنَّ شرطهُ أن يعمل المفسِّر في ضميرِ الأوَّل، أو سببه. قوله: «أبْغِيكُمْ» قال الواحديُّ. يقال: بَغَيْتُ فلاناً شيئاً وبغيتُ له. قال تعالى: {يَبْغُونَكُمُ الفتنة} [التوبة: 47] أي: يبغون لكم. والمعنى: أطلبُ لكم غير اللَّه معبوداً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 295 واعلم أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - لما قالوا له: {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} أجابهم بوجوهٍ كثيرة: أوَّلُهَا: حكم عليهم بالجَهْل فقال: {إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ} . وثانيها: قوله: {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} أيْ: بِسَبَبِ الخسران والهلاك. وثالثها: قوله: {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي هذا العَمَلُ الشَّاقُّ لا يفيدُهم نفعاً في الدُّنْيَا والدِّينِ. ورابعها: استفهامُهُ منهم على وجه الإنكار والتَّوبيخ، فقال: {أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين} أي: أن الإله ليس شيئاً يطلب ويتخذ، بل الإله هو الذي يكون قادراً على الإنعام بالإيجاد وإعطاء الحياة، وجميع النِّعم، وهو المُرَادُ بقوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين} ، فهذا هو الذي يجبُ على الخلق عبادته، فكيفَ يجوزُ العُدُولُ عن عبادته إلى عبادة غيره. قوله: {وَهُوَ فَضَّلَكُمْ} يجوز أنْ يكون في محلِّ نصبٍ على الحالِ، إمَّا من اللَّهِ وإمَّا من المخاطبين، لأنَّ الجملةَ مشتملةٌ على كلٍّ مِنْ ضَميرَيْهِمَا، ويجوزُ ألاّ يكونَ لها محلٌّ، لاستئنافها. وفي هذا التَّفضيل قولان: الأول: أنَّهُ تعالى فضلكم على علامي زمانِكم، الثاني: أنَّهُ تعالى خَصَّهمْ بتلك الآياتِ القاهرةِ، ولم يحصل مِثْلُهَا لأحد من العالمين، وإن كان غيرهم فضلهم بسائر الخصَال، مثل: رجل تعلم علماً واحداً، وآخر تعلم علوماً كثيرة سوى ذلك العلم، فصاحب العلم الواحدِ يفضل على صاحب العلوم الكثيرة بذلك الواحدِ، إلاَّ أنَّ صاحب العلوم الكثيرة يفضل على صاحب العلم الواحد في الحقيقة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 296 قوله: {وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم} . قرأ العامة مسنداً إلى المُعَظِّم، وابْنُ عامر أنْجَاكُمْ مسنداً. إلى ضمير اللَّهِ تعالى جرياً على قوله: «وَهُوَ فَضَّلَكُمْ» ، وقرئ: «نَجَّيْنَاكُمْ» مُشِدّداً، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 296 و [قد] تقدَّم الخلافُ في تشديد «يقتلون» وتخفيفها قبل هذه الآية، وتقدَّم في البقرةِ إعراب هذه الآية وتفسيرها. فصل والفائدةُ في ذكرها ههنا: أنَّهُ تعالى هو الذي أنعم عليكم بهذه النعمة العظيمة، فكيف يليقُ الاشتغالُ بعبادة غير اللَّهِ تعالى. قوله: {وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ} تقدَّم الخلافُ في «وَعَدْنَا» و «وَاعَدْنَا» وأنَّ الظَّرْفَ بعد مفعول ثاني على حذفِ مضافٍ، ولا يجوزُ أن يكون ظرفاً لِفسادِ المعنى في البقرة فكذا هنا، أي: وَعَدْنَاهُ تمامَ ثلاثين، أو إتيانها، أو مناجاتها. قوله: {وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ} في هذا الضمير قولان: أحدهما: أنَّهُ يعود على المُواعدةِ المفهومةِ من وَاعَدْنَا أي: وأتممنا مواعدته بعشر. الثاني: أنَّهُ يعود على ثلاثين قاله الحوفي. قال أبُو حيَّان: ولا يظهر؛ لأنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً فتتمَّ بعشر، وحُذِف تمييز عشر لدلالة الكلام عليه أي: وأتْمَمْنَاهَا بعَشْرٍ ليالٍ، وفي مصحف أبي وَتَمَّمْنَاهَا بالتَّضعيف، عَدَّاهُ بالتَّضْعِيفِ. قوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ} الفَرْقُ بين الميقاتِ، والوَقْتِ، أن الميقاتَ: ما قُدِّرَ فيه عملٌ من الأعمال، والوقت: وقت الشَّيءِ من غير تقدير عملٍ، أو تقريره. وفي نصب «أرْبَعِينَ» أربعةُ أوجُهٍ: أحدها: أنَّهُ حال. قال الزَّمخشريُّ: «وأربَعِينَ» نصب على الحَالِ: أي تَمَّ بالغاً هذا العدد. قال أبو حيان فعلى هذا لا يكون الحال «أربعين» ، بل الحالُ هذا المحذوف فينافي قوله. قال شهابُ الدِّين: لا تنافي فيه، لأنَّ النُّحاةَ لم يزالوا ينسبون الحكم للمعمول الباقي بعد حذفِ عامله المنوب عنه، وله شواهد منها: زيد في الدَّارِ، أو عندك. فيقولون: الجارُّ والظَّرْفُ خبر، والخبرُ في الحقيقة: إنَّمَا هو المحذوفُ المقدَّرُ العاملُ فيهما، وكذا يقولون: جاء زيدٌ بثيابه، ف «بثيابه» حال، والحال إنَّمَا هو العاملُ فيه إلى غير ذلك وقدَّرَهُ الفارسي ب «معدوداً. قال: كقولك: تَمَّ القوم عشرين رجلاً، أي: معدودين هذا العدد وهو تقديرٌ حسنٌ. الثاني: أنَّهُ ينتصبُ أرْبَعِينَ على المفعولِ به. قال أبُو البقاءِ:» لأنَّ معناه بلغ، فهو كقولهم: بَلَغَتْ أرْضُكَ جريبين «أي: بتضمين» تَمَّ «معنى» بَلَغَ «. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 297 الثالث: أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرف. قال ابْنُ عطيَّة:» ويصحُّ أن يكون أربعين ظرفاً من حيث هي عددُ أزمنة «، وفي هذا نظرٌ، كيف يكون ظرفاً للتَّمام، والتَّمامُ إنما هو بآخر جزء من تلك الأزمنة؟ إلا بتجوَّزٍ بعيد، وهو أنَّ كلَّ جزءٍ من أجزاء الوقت سواء كان أولاً أم آخراً إذا نقص ذهب التَّمامُ. الرابع: أن يَنْتَصِبَ على التَّمييز قال أبُو حيَّان: والأصل: فَتَمَّ أربعون ميقاتُ ربّه، ثمَّ أسند التَّمامَ إلى ميقات وانتصب أربعون على التَّمييز. فهو منقولٌ من الفاعليَّة، يعني فيكون كقوله: {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] وهذا الذي قاله وجعلهُ هو الذي يظهر يشكل بما ذكره هو في الرَّدِّ على الحُوفيِّ؛ حيثُ قال هناك «إنَّ الثلاثين لم تكن ناقصةً، فَتتمَّ» لذلك ينبغي أن يقال هنا: إن الأربعين لم تكن ناقصة فتتم فكيف يُقدِّر: فتَمَّ أرْبَعُون ميقاتُ ربِّهِ؟ فإن أجاب هنا بجوابٍ، فَهُوَ جوابٌ هناك لِمَنِ اعترضَ عليه. وقوله: {فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} في هذه الجملة قولان: أظهرهما: أنَّهَا للتأكيد، لأنَّ قوله قبل ذلك: «وأتْمَمْنَاهَا بعشْرٍ» فُهِمَ أنَّها أربعون ليلةً. وقيل: بل هي للتَّأسيس، لاحتمالِ أن يتوهَّم مُتوهِّمٌ بعشر ساعات، أو غير ذلك، وهو بعيدٌ. وقوله رَبِّهِ ولم يقل: مِيَقاتُنَا جَرْياً على «واعَدْنَا» لِمَا في إظهار هذا الاسمِ الشَّريف من الاعترافِ بربوبية اللَّه له وإصلاحه له. فصل روي أنَّ موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - وعد بني إسرائيل وهو بمصر: إن أهلك اللَّه عدوَّهم؛ أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون وما يذرون، فلمَّا هلك فرعونُ سأل موسى ربه الكتاب فهذه الآيةُ في بيان كيفية نزول التَّوراةِ. فصل فإن قيل: «الأربعون» المذكورة في البقرة: هي هذه الأربعُونَ المفصَّلةُ ههنا، فما فائدة التَّفصيلِ؟ فالجوابُ من وجوه: الأأول: أنَّهُ تعالى أمر موسى بصوم ثلاثين يوماً، وهو شهرُ ذي القعدة فلمَّا تَمَّ الثَّلاثين أنكر خلوف فِيهِ فتسَوَّكَ فقالت الملائكةُ: كنا نشم من فيكَ رائحةَ المِسْكِ؛ فأفسدتهُ بالسِّواك، فأوْحَى الله إليه أما عَلِمتَ أنَّ خلُوفَ فَم الصَّائِمِ أطْيَبُ عندي من ريح الجزء: 9 ¦ الصفحة: 298 المِسْكِ؟ فأمره اللَّهُ تعالى أن يزيد عليها عشرة أيام من ذي الحِجَّةِ لهذا السَّبَبِ. الثاني: أنَّ الله تعالى أمرهُ بصوم ثلاثين يوماً، وأن يعمل فيها ما يُقرِّبُه إلى اللَّهِ تعالى، ثم أنزلَ التَّوْراةَ العشر من ذي الحِجَّةِ، وكلَّمَهُ أيضاً فيه فهذه فائدة تفصيل الأربعين إلى الثَّلاثينَ، وإلى العشرةِ. قال ابنُ عبَّاسٍ ومسروق ومجاهد: الثَّلاثين ليلة هي شهر ذي القعدة بكماله، وأتمت أربعين ليلة بعشر ذي الحِجَّةِ، فعلى هذا يكون كلام ربه له يوم عيدِ النَّحْرِ. وفي مثله أكمل اللَّهُ عزَّ وجلَّ دين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الثالث: قال أبُو مسلمٍ في سورة طه: إنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - بادر إلى ميقات ربه قبل قومه، لقوله تعالى: {وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى قَالَ هُمْ أولااء على أَثَرِي} [طه: 83، 84] . فجائز أن يكون موسى أتى الطُّور عند تمام الثلاثين، فلمَّا أعلمه اللَّهُ خبر قومه مع السَّامرين، رجع إلى قومه قبل تمامِ ما وعده، ثمَّ عاد إلى الميقاتِ في عشر أخر، فتم ميقات ربه أربعين ليلةً. الرابع: قيل لا يمتنع أن يكون الوعد الأول حضره موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وحده، والوعد الثاني حضره المختارون معه لِيسمَعُوا كلامَ اللَّهِ، فصار الوعدُ مختلفاً لاختلاف الحاضرين. قوله: {وَقَالَ موسى لأَخِيهِ هَارُونَ اخلفني} الجمهور على فتح نون هَارُونَ وفيه ثلاثة أوجه: الأول: أنه مجرورٌ بدلاً من أخيهِ. الثاني: أنَّه عطفُ بيان له. الثالث: أنه منصوبٌ بإضمار: أعني، وقُرِئ شاذاً بالضَّمِّ، وفيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ مُنَادَى حُذِفَ منه حرفُ النِّداءِ، أي: يا هارونُ كقوله: {يُوسُفُ} [يوسف: 29] . والثاني: أنَّهُ خبر مبتدأ محذوف، أي: هُو هارونُ. وهذا في المعنى كالوجهِ الذي تقدَّم من أنه منصوبٌ بإضمار: أعني، فإنَّ كليهما قطع. وقال أبُو البقاء: «ولو قُرِىءَ بالرَّفْعِ» وذكرهما، وكأنَّهُ لم يَطَّلِعْ على أنها قراءة. قال: «ومن دعاك منهم إلى الفَسَادِ؛ فلا تتبعه، ولا تطعه» وقال اخْلُفْني أي: كن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 299 خليفتي في قومي وأصْلِحْ وكُنْ مصلحاً، أو وَأصْلِحْ ما يجبُ أن يُصْلَحَ من أمور بني إسرائيل. {وَقَالَ موسى} عند انطلاقه إلى المناجاة لأخِيهِ هارُونَ. فإن قيل: إن هارون كان شريك موسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام - في النبوَّةِ، فكيف جعله خليفة لنفسه؛ فإن شريك الإنسانِ أعلى حالاً من خليفته وَرد الإنسان من منصبه الأعلى إلى الأدْنَى يكون إهانة له. فالجوابُ: أن الأمْرَ، وإن كان كما ذكرتم، إلاَّ أنَّ مُوسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان هو الأصل في تلك النبوَّةِ. فإن قيل: لما كان هارُون نبيّاً، والنَّبيُّ لا يفعلُ إلاَّ الأصلح فكيف وصَّاهُ بالإصلاح؟ فالجوابُ: أنَّ المقصودَ من هذا الأمْرِ: التَّأكيدُ كقوله تعالى: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] . قوله: {وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا} اللام في لِمِقَاتِنَا للاختصاص، وكذا في قوله تعالى {لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] ، وليست بمعنى عند. قوله: {وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} ، هذه الفائدة التي لأجلها حضر موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الميقات واختلفُوا في أنَّهُ تعالى كلَّمَ مُوسَى وحدَه، أو مع أقوام آخرين. وظاهر الآيةِ أنَّهُ تعالى كَلَّمَهُ وحده؛ لأنَّهُ يدلُّ على تخصيص موصى بهذا التَّشريف. وقال القَاضِي: «بل السَّبْعُونَ المختارُونَ سمعوا كلام الله؛ لأن الغرضَ بإحضارهم أن يخبرُوا قومَ موسى عمَّا يَجْرِي هَنَاكَ» . فصل دَلَّت الآيةُ على أنَّهُ تعالى يجوز أن يُرَى؛ لأنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - سأل الرُّؤية، ولا شَكَّ أنَّه كان عارفاً بما يجب ويجوز ويمتنع على اللَّهِ، فلو كانت الرُّؤية ممتنعة على اللَّه تعالى لما سألها، وأنكرت المعتزلةُ ذلك، والبحثُ في هذه المسألة مذكورة في كتب أصُولِ الدِّينِ. فصل نقل عن ابن عبَّاس أنه قال: جاء موسى ومعه السَّبْعُون، وصعد موسى الجبلَ وبقي السَّبعون في أسفل الجبل، وكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى، وكتب له في الألواح كتاباً وقرَّبُه نَجِيّاً، فلمَّا سمع موسى صرير القلم عظم شوْقُهُ. فقال: {رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 300 قوله: «أرنِي» مفعولُه الثَّانِي محذوفٌ، تقديره: أرني نَفسكَ، أو ذاتكَ المقدَّسةَ، وإنَّما حذفهُ مبالغةً في الأدب، حيثُ لم يواجِهْهُ بالتَّصريح بالمفعول، وأصل «أرِني» «أرْإنِي» فنُقِلَتْ حركةُ الهمزة، وقد تقدَّم تَحْريرُه. فصل فإن قيل: النَّظَرُ إمَّا أن يكون عبارة عن الرُّؤية، أو عن مقدِّمتها، وهي تقليب الحدقة إلى جانب المرئي التِمَاساً لرؤيته، وعلى التَّقديرِ الأولِ: يكون المعنى: أرِنِي حَتَّى اراك، وهذا فاسدٌ، وعلى التقدير الثانِي: يكون المعنى: أرِنِي حتى أقلِّبَ الحدقة إلى جانبك وهذا فاسدٌ لوجهين: أحدهما: أنَّهُ يقتضي إثبات الجهة. والثاني: أنَّ تَقْلِيبَ الحدقةِ إلى جهة المرئي مقدمة للرؤية؛ فجعله كالنَّتِيجَةِ عن الرُّؤيةِ وذلك فاسد. فالجوابُ: أن معنى أرِنِي: اجعلني متمكناً من رؤيتك حتَّى أنظر إليك وأرَاكَ. فإن قيل: كيف سأل الرُّؤية وقد علم أنَّهُ لا يرى؟ قال الحسنُ: هاج به الشَّوق؛ فسأل الرؤية. وقيل: سأل الرُّؤية ظَنّاً منه أنَّهُ يجوز أن يرى في الدُّنيا. قوله: «لَن تَرَانِي» قد تقدَّم أنَّ «لَنْ» لا يلزم مِنْ نَفْيِهَا التَّأبِيدُ، وإن كان بعضُهم فهم ذلك، حتى إنَّ ابن عطيَّة قال «فلو بَقينَا على هذا النَّفي المجرَّد لتضمن أنَّ موسى لا يراه أبَداً، ولا في الآخرة لكن ورد من جهةٍ أخرى في الحدث المتواتر أنَّ أهلَ الجنَّةِ يَرَوْنَهُ» . قال شهابُ الدِّينِ: «وعلى تقدير أنّ» لَنْ «ليست مقتضيةً للتَّأبيد، فكلامُ ابْنِ عطيَّة وغيره مِمَّنْ يقولُ: إنَّ نفيِ المستقبل بعدها يَعُمُّ جميع الأزمنة المستقبلة - صحيح، لكن لِمَدْرَكٍ آخَرَ، وهو أنَّ الفعلَ نكرةٌ، والنكرةُ في سياق النَّفي تَعُمُّ، وللبحث فيه مجال» . والدليل على أنَّ «لَنْ» لا تقتضي التَّأبيد قوله تعالى: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً} [البقرة: 95] أخبر عن اليهود، ثم أبخر عنهم أنهم يتمنون الموت في الآخرةِ يقولون: {لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} [الزخرف: 77] {ياليتها كَانَتِ القاضية} [الحاقة: 27] . فإن قيل: كيف قال: «لَن تَرَانِي» ولم يقل: لن تنظر إليَّ، حتَّى يُطابق قوله أنظرْ إليكَ؟ فالجوابُ أنَّ النَّظَرَ لمَّا كان مقدمة للرُّؤية كان المقصودُ هو الرُّؤيةُ لا النَّظرُ الذي لا رؤية معه. والاستدراكُ في قوله: {ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ} واضح، فإن قلت: كيف اتصل الاستدراك في قوله: {ولكن انظر إلى الجبل} فالجوابُ: المقصودُ من تعظيمُ أمر الرُّؤيةِ، وأنَّ أحَداً لا يقوى على رؤية الله تعالى إلاَّ إذَا قواه الله بمعونته وتأييده؛ ألا ترى أنَّهُ لما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 301 ظهر أثر التَّجلي والرُّؤية للجبل اندكّ؛ فدل ذلك على تعظيم أمر الرُّؤيةِ. فصل وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف اتَّصل الاستدراكُ في قوله: ولكِن انظرْ. قلت: اتَّصَلَ به على معنى أنَّ النَّظر إليَّ محالٌ فلا تطلبه، ولكن اطلب نظراً آخر، وهو أن تنظر إلى الجبل. وهذا على رأيه من أنَّ الرُّؤية محالٌ مطلقاً في الدُّنيا، والآخرة. قوله: {فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي} : عَلَّقَ الرُّؤية على استقرار الجبل، واسترقار الجبل على التَّجلي غير مستحيل إذا جعل الله له تلك القوة، والمعلق بما لا يستحيل لا يكون محالاً. قوله {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ} : قال الزَّجَّاجُ: «تَجَلَّى» أي: «ظهر وبان» . ومنه يقالُ: جلوتُ العروس إذا أبْرَزْتهَا، وجلوتُ السَّيف والمرآة: إذا أزلت ما عليهما من الصَّدَأ. وهذا البجل أعظم جبل بمدين يقال له: زبير. قال ابن عباس: ظهر نُور ربِّهِ للجبل. قوله: «جَعَلهُ دَكّاً» قرأ الأخوان «دَكَّاءَ» بالمدِّ، غير منوَّن، على وزن «حمراء» والباقون بالقصر والتَّنوين، فقراءةُ الأخوين تحتمل وجهين: أحدهما: أنَّها مأخوذةٌ من قولهم: «ناقةٌ دَكَّاء» أي: منبسطة السَّنَام، غير مرتفعة، والمعنى جعله مستوياً. وإما من قولهم: أرض دكاء للناشزة روي أنَّهُ لم يذهب كله، بل ذهب أعلاه. وأمَّا قراءةُ الجماعة ف «الدَّكُّ» مصدر واقع موقع المفعول به بمعنى المدكوك، أي: مَدْكوكاً، أو من دكَّ، أو على حذف مضاف أي ذا دَكّ، والمعنى: جلعه مدقوقاً والدَّك والدَّقّ واحد، وهو تفتيت الشيء وَسَحْقُهُ. وقيل: تسويته بالأرض. في انتصابه على القراءتين وجهان، أشهرهما: أنَّهُ مفعولٌ ثان ل «جَعَلَ» بمعنى: صَيَّرَ. والثاني - وهو رأي الأخفش -: أنَّهُ مصدرٌ على المعنى، إذ التقدير: دَكَّهُ دَكّاً، وأما على القراءة الأولى فهو مفعول فقط أي صيره مثل ناقة دكاء أو الأرض دكاً. وقرأ ابنُ وثَّاب دُكّاً بضم الدَّالِ والقصر، وهو جمع دَكَّاء بالمد، ك: حُمْر في حمراء، وغُرّ في غَرَّاء أي: جعله قِطَعاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 302 قال الكلبي: كسراً جبالاً صغاراً. ووقع في بعض التَّفاسير أنَّه تكسر سِتَّة أجْبُلِ، ووقعت ثلاثة بالمدينة: أحد، وودقان، ورضوى، ووقعت ثلاثة بمكة: ثور، وثبير، وحِرَاء. قوله: {وَخَرَّ موسى صَعِقاً} . الخُرورُ: السُّقُوطُ كذا أطلعه أبو حيَّان وقيَّدَهُ الرَّاغب بسقوطٍ يُسمع له خريرٌ، والخريرُ يقال لصوت الماءِ والريحِ. ويقال كذلك لما يَسْقُطُ من علوٍّ وصَعِقاً حالٌ مقارنةٌ. قال اللَّيْثُ: الصَّعْقُ مثل الغَشْي يأخذُ الإنسانَ والصَّعْقَةُ الغشي. يقال: صُعِقَ الرَّجُلُ يُصْعَقُ، فهو مصعوق. قال ابنُ عبَّاس: مَغْشياً عليه. وقال قتادةُ: ميتاً. يقال: صَعِقَ إذا مات {فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض} [الزمر: 68] فسَّرُوه بالموتِ. وقال: {يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ} [الطور: 45] أي: يموتون. قال الزمخشريُّ: «صعق أصله من الصَّاعقة» . قال الزمخشريُّ: «صعق أصله من الصَّاعقة» . والقولُ الأوَّلُ أولى؛ لقوله تعالى {فَلَمَّآ أَفَاقَ} . قال الزَّجَّاجُ: «ولا يقال للميتِ: قد أفاق من موته، وقال تعالى في الذين ماتوا ثم أحيوا: {ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 56] . قوله: {فَلَمَّآ أَفَاقَ} الإفاقة: رجوعُ الفهم والعقل إلى الإنسان بعد جنونٍ أو سُكرٍ ومنه إفاقة المريض، وهي رجوعُ قوته، وإفاقةُ الحلب، وهي رجوع الدِّرِّ إلى الضَّرع. يُقال: اسْتَفِقْ ناقَتَكَ أي: اتركها حتَّى يعود لَبَنُها، والفُواق: ما بين حَلْبَتَي الحالب. وسيأتي بيانه [ص15] إن شاء الله تعالى. قوله سُبْحَانَكَ أي: تنزيهاً لك من أن أسألك شيئاً بغير إذنك تُبْتُ إليكَ من سؤال الرُّؤية في الدُّنيا، أو من سؤال الرُّؤية بغير إذنك. {وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين} بأنك لا تُرَى في الدنيا، أو بأنَّه لا يجوز السُّؤال منك إلاَّ بإذنك. وقيل: أوَّلُ المؤمنين من قومي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 303 وقيل: من بني إسرائيل في هذا العصر. قوله : {ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس} . الاصطفاء: استخلاص الصَّفْوَةِ أي: اخترتك واتَّخذتك صفوة على النَّاس. قال ابنُ عبَّاسٍ: «فَضَّتْتُكَ على النَّاسِ» . قرأ ابن كثير، وأبو عمرو إنِّيَ بفتح الياء، وكذلك {أَخِي اشدد} [طه: 30، 31] . قوله برسالاتي أي: بسبب. وقرأ الحرميَّان: برِسالتِي بالإفراد، والمُرادُ به المصدر، أي: بإرْسَالي إيَّاك، ويجوزُ أن يكون على حذفِ مضاف، أي: بتبليغ رسالتي. والرِّسالةُ: نَفْسُ الشَّيء المرسل به إلى الغير. وقرأ الباقون بالجمع اعتباراً بالأنواعِ، وقد تقدَّم ذلك في المائدةِ والأنعام. قال القرطبيُّ: ومن جمع على أنه أرسل بضروب من الرسالةِ فاختلف أنواعها، فجمع المصدر لاختلاف أنواعه؛ كقوله: {إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير} [لقمان: 19] واختلاف المصوتين، ووحَّدَ في قوله: لصوتُ لما أراد به جنساً واحداً من الأصوات. قوله: «وَبِكلامي» هي قراءة العامَّةِ، فيحتملُ أن يُرادَ به المصدرُ، أي: بتكليمي إيَّاكَ، كقوله: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] وقوله: [الطويل] 2569 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... تُكَلِّمنِي فيها شِفَاءٌ لِمَا بِيَا أي: بتكليمي إيَّاهَا، ويحتملُ أن يراد به التَّوراة، وما أوحاه إليه من قولهم للقرآن «كلام الله» تسميةً للشيء بالمصدر. وقدَّم الرِّسالةَ على الكلام؛ لأنَّها أسبق، أو ليترقَّى إلى الأشرفِ، وكرَّر حرف الجرِّ، تنبيهاً على مغايرة الاصطفاء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 304 وقرأ الأعمش: «بِرِسَالاتِي وبِكلمِي» جمع «كلمة» وروى عنه المهدويُّ أيضاً «وتكليمي» على وزن التَّفعيل، وهي تؤيِّدُ أنَّ الكلامَ مصدرٌ. وقرأ أبو رجاء «بِرِسالتِي» بالإفراد و «بِكَلِمي» بالجمع، أي: وبسمَاع كلمي. فصل لما طلب موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الرؤية ومنعه الله تعالى، عدد عليه وجوه نعمه العظيمة، وأمره بشكرها. كأنَّهُ قال له: إن كنت قد منعتك الرؤية فقد أعطيتك من النِّعَمِ العظيمة كذا وكذا، فلا يضيقُ صدرُكَ بسبب منع الرُّؤيةِ، وانظر إلى أنواع النِّعمِ التي خَصَصْتُك بها واشتغل بشكرها، والمراد: تسليةُ موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عن منع الرؤية. فإن قيل: كيف اصطفاهُ على النَّاسِ برسالاته مع أنَّ كثيراً من النَّاسِ قد سَاوَاهُ في الرسالةِ؟ فالجوابُ: أنَّهُ تعالى بيَّن أنَّهُ خصَّهُ من دون النَّاسِ بمجموع الأمرين: وهو الرسالة مع الكلام بغير واسطة، وهذا المجموع لم يحصل لغيره، وإنَّما قال: «عَلَى النَّاسِ» ولم يقل: على الخلق؛ لأنَّ الملائكة تسمع كلام اللَّهِ من غير واسطة كما سمعه موسى. قال القرطبيُّ: «وَدَلَّ هذا على أنَّ قومه لم يشاركه أحدٌ منهم في التَّكليم ولا أحد من السَّبعين» . وقوله: {فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ} أي: اقْنَعْ بما أعيتك. {وَكُنْ مِّنَ الشاكرين} ، أي: المظهرين لإحسانِي إليك، وفضلي عليك. يقال: دَابَّةٌ شكورٌ، إذا ظهر عليها من السِّمن فوق ما تُعْطَى من العَلَف، والشَّاكِرُ متعرض للمزيد؛ كما قال تعالى: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7] . قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً} . قوله: في الألْوَاحِ يجوز أن تكون لتعريف الماهيَّةِ، وأن تكون للعهد؛ لأنَّهُ يروى في القصَّة أنَّهُ هو الذي قطَّعَهَا وشقَّقَهَا. وقال ابنُ عطيَّة أل عوض من الضمير، تقديره: في ألواحه، وهذا كقوله: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] أي: مأواه. أمَّا كاون أل عوضاً من الضَّمير فلا يعرفه البصريون. وأمَّا قوله: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} فإنَّا نحتاجُ فيه إلى رابطٍ يَرْبِطُ بين الاسم والخبر، والكوفيون: يجعلون أل عوضاً من الضمير. والبصريون: يُقَدِّرُونَهُ، أي: هي المأوى له، وأما في هذه الية فلا ضرورة تدعو إلى ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 305 وفي مفعول «كتبنا» ثلاثةُ أوجهٍ، أحدها: أنَّهُ «موعِظَةً» ، أي: كتبنا له مَوْعِظَةٌ وتفْصِيلاً. و {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} على هذا فيه وجهان، أحدهما: متعلِّقٌ ب «كَتَبْنَا» والثاني: أنَّهُ متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنَّهُ في الأصلِ صفةٌ ل «مَوْعِظَةً» فلمَّا قُدِّم عليها نُصِبَ حالاً، و «لِكُلِّ شيءٍ» صفة ل «تفصيلاً» . والثاني: أنَّهُ {مِنْ كُلِّ شَيْءً} . قال الزمخشريُّ {مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} في محل نصب مفعول «كَتَبْنَا» ، و «مَوعِظَةً وتفْصِيلاً» بدل منه، والمعنى: كَتَبْنَا له كُلَّ شيءٍ كان بنو إسرائيل يَحْتَاجُونَ إليه في دينهم من المواعظِ، وتفصيل الأحكامِ وتفصل الحلالِ والحرامِ. الثالث: أنَّ المفعول محل المجرور. وقال أبُو حيَّان - بعد ما حكى الوجه الأول عن الحوفي والثَّاني عن الزمخشري -: ويُحْتَمَلُ عندي وجهٌ ثالثٌ، وهو أن يكونَ مفعولُ «كَتَبْنَا» موضع المجرور، كما تقولُ: «أكلت من الرغيف» و «مِنْ» للتبعيض، أي: كتبنا له أشياء من كُلِّ شيء، وانتصب «مَوْعظَةً وتَفْصِيلاً» على المفعول من أجله، أي: كتبنا له تلك الأشياءَ للاتِّعاظِ وللتفصيل. قال شهابُ الدِّينِ: «والظَّاهِرُ أنَّ هذا الوجه هو الذي أراده الزَّمخشري، فليس وجهاً ثالثاً» . قوله: «بِقُوَّةٍ» حالٌ: إمَّا من الفاعل، أي: ملتبساً بقوة، وإمَّا من المفعول، أي: ملتبسه بقوة، أَي: بقوَّةِ دلائلها وبراهينها، والأول أوضح. والجملةُ من قوله: «فَخُذْهَا» يُحتمل أن تكون بدلاً من قوله {فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ} وعاد الضَّميرُ علىمعنى «ما» لا على لفظها. ويحتمل أن تكونَ منصوبة بقول مضمر، ذلك القولُ منسوقٌ على جملة «كَتَبْنَا» والتقدرُ: وكتبنا فقلنا: خُذْهَا، والضَّميرُ على هذا عائدٌ على الألواحِ أو على التَّوراةِ، أو على الرِّسالاتِ، أو على كُلِّ شيءٍ؛ لأنَّهُ في معنى الأشياء. قال القرطبيُّ: «فكأنَّ اللَّوحَ تلوح فيه المعاني. ويقال: رجل عظيم الألواح إذا كان كبيرَ عظم اليدين،» والرِّجليْنِ «. فصل قال الكلبيُّ: خَرَّ مُوسَى صَعِقاً يوم الخميس يوم عرفة، وأعطي التَّوراة يوم الجمعةِ يوم النَّحر، واختلفوا في عدد الألواح وجوهرها فقيل: كانت عشرة، وقيل سبعة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 306 وقال الواحديُّ: كانت من زُمُردَة. وقيل: من زبرجدة خضراء، وقيل: ياقوتة، وقيل: من خشب سور الجنَّةِ طول كل لوح اثني عشرة ذراعاً. وقال وهْبٌ: من صخرة صَمَّاء لَيَّنَهَا اللَّهُ لِمُوسَى. قيل: رفع سبعها وبقيت ستة أسباعها، وكان في الذي رفع تفصيل كلِّ شيء وفي الذي بقي الهدى والرحمة، وليس في الآية ما يدلُّ على شيء من ذلك، ولا على كيفية الكتابة فإن ثبت في ذلك شيء بدليل منفصل قويٍّ وجب القولُ به، وإلاّ وجب السُّكوت عنه. وأمَّا قوله مِن كُلِّ شيءٍ فليس على العموم، بل المراد من كلِّ شيء يحتاجُ موسى وقومه إليه في دينهم. وقوله: {مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} فهو كالبيانِ للجملة التي قدمها بقوله: {مِن كُلِّ شَيْءٍ} ثم قال: «فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ» أي: بعزيمةٍ قويةٍ ونيَّةٍ صادقةٍ. قوله: {وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} . الظَّاهِرُ أنَّ يأخُذُوا مَجْزُومٌ جواباً للأمر في قوله وأمْرُ ولا بدَّ من تأويله، لأنَّه لا يلزمُ مِنْ أمره إيَّاهم بذلك أن يأخُذُوا، بدليل عصيانِ بعضهم له في ذلك، فإنَّ شَرْطَ ذلك انحلال الجملتين إلى شرطٍ وجزاءٍ. 2570 - مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إذَا مَا خِفْتَ مِنْ أمْر تبالاَ وهو مذهبُ الكسائي. وابن مالك يرى جوازه إذا كان في جواب «قُلْ» ، وهان لم يُذْكَرْ «قُلْ» ، ولكن ذُكر شيءٌ بمعناه؛ لأنَّ معنى «وأمُرْ» و «قُلْ» واحد. قوله: «بِأحْسَانِهَا» يجوزُ أن يكونَ حالاً كما تقدَّم في: «بِقُوَّةٍ» ، وعلى هذا فمفعولُ «يَأخُذُوا» محذوفٌ تقديرُه: يَأخُذُوا أنفسهم، ويجُوزُ أن تكون الباء زائدة، وأحسنها مفعول به، والتقديرُ: يأخُذُو أحسنها كقوله: [البسيط] 2571 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... سُودُ المَحَاجِرِ لا يَقْرَأنَ بالسُّوَرِ وقد تقدَّم تحقيقه في قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 307 و «أحسن» يجوز أن تكون للتَّفضيل على بابها، وأن لا تكون بل بمعنى «حَسَنَة» . كقول الفرزدق: [الكامل] 2572 - إنَّ الذي سَمَكَ السَّماءَ بَنَى لَنَا ... بَيْتاً دَعَائِمُهُ أعَزُّ وأطْوَلُ أي: عزيزةٌ طويلةٌ. فإن قيل: إنَّه تعالى لمَّا تعهد بكلِّ ما في التَّوراة، وجب أن يكون الكلُّ حسناً. وقوله: {يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } يقتضي أن يكون فيه ما ليس بأحسن، وأنَّهُ لا يجوزُ لهم الأخذ به وهو متناقض. وأجابُوا بوجوه: منها: أنَّ تلك التَّكاليفَ منها ما هو حسن، ومنها ما هو أحسن كالقصاص والعفو، والانتصار، والصبر، أي: فمرهم أن يأخُذُوا بالأفضل فإنَّه أكثر ثواباً، لقوله: {واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ} [الزمر: 55] وقوله: {الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} [الزمر: 18] . قالوا: فيحمل الأخذ بالأحسن على النَّدب. ومنها: قال قُطْرُبٌ: {يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا} أي: بحسنها، وكلها حسن؛ كقوله تعالى: {وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ} [العنكبوت: 45] وأنشد بيت الفرزدق المتقدم. ومنها: أن الحسن يدخلُ تحته الواجب، والمندوب، والمباح وأحسن هذه الثلاثة: الواجبُ، والمندوبُ. قوله: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} جَوَّزُوا في الرُّؤية هنا أن تكون بصريَّةً، وهو الظَّاهِرُ فتتعدَّى لاثنين، أحدهما: ضمير المخاطبين، والثاني: دَارَ. والثاني: أنَّها قلبية، وهو منقولٌ عن ابن زيد وغيره، والمعنى: سأعْلِمُكُمْ سَيْرَ الأولين وما حَلَّ بهم من النَّكَالِ: وقيل: «دَارَ الفاسِقِينَ» ما دَارَ إليه أمرهم، وذلك لا يُعْلم إلا بالإخبار والإعلام. قال ابءنُ عطيَّة - معترضاً على هذا الوجه -: ولَوْ كَانَ من رؤية القلب، لتعدَّى بالهمزة إلى ثلاثةِ مفاعيل. ولو قال قائلك المفعولُ الثالثُ يتضمنه المعنى، فهو مُقَدَّرٌ أي: مذمومة أو خربة أو مُسَعَّرة - على قول من قال: إنَّهَا جهنم - قيل له: لا يَجُوزُ حذفُ هذا المفعولِ، ولا الاقتصارُ دُونَهُ، لأنَّهَا داخلةٌ على الابتداءِ والخبرِ، ولو جُوِّزَ لكان على قبح في اللِّسان، لا يليق بكتاب الله تعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 308 قال أبُو حيان: «وحَذْفُ المفعُول الثَّالث في باب» أعْلَمَ «لدلالة المعنى عليه جائزٌ، فيجوزُ في جواب: هل أعلمتَ زَيْداً عمراً منطلقاً؟ أعلمتُ زيداً عمراً، وتحذف» منطلقاً «لدلالة الكلام السَّابق عليه» . فصل قال شهابُ الدِّين: هذا مُسَلَّمٌ، لكن أيْنَ الدَّليل عليه في الكلام، كما في المثال الذي أبرزه الشَّيْخُ؟ ثم قال: «وأمَّا تَعْليلُهُ بأنَّهَا داخلةٌ على الخَبَرِ لا يدلُّ على المنع، لأنَّ خبر المبتدأ يجوزُ حَذْفُهُ اختصاراً، والثانِي، والثَّالِثُ في باب» أعْلَمَ «يَجُوزُ حذفُ كُلٍّ منهما اختصاراً» . قال شهابُ الدِّين: «حذفُ الاختصار لدليلٍ، ولا دليلَ هَنَا» . ثم قال: «وفي قوله لأنَّهَا - أي:» سَأريكُمْ «- داخلةٌ على المبتدأ، والخبر تجوُّزٌ» ويعني أنَّها قبل النَّقْل بالهمزة داخلة على المبتدأ والخبر. وقرأ الحسن: «سَأوريكُمْ» بواو خالصة بعد الهمزة وفيها تخريجان: أحدهما قاله الزمخشريُّ -: «وهي لغةٌ فاشية بالحجاز يُقَالُ: أوْرَنِي كَذَا وأوْرَيْتُهُ، فوجهه أن يكون من أوْرَيْتُ الزَّنْدَ، فإن المعنى: بَيِّنْهُ لي وأنِزْهُ لأستبينَه» . والثاني: - ذكره ابنُ جنيٍّ - وهو أنَّهُ على الإشباع، فيتولَّد منها الواو، قال «وناسَبَ هذا كونُهُ موضعَ تهديدٍ ووعيدٍ فاحتمل الإتيان بالواو» . قال شهابُ الدِّين: وهذا كقول الشاعر: [البسيط] 2573 - اللَّهُ يَعْلَمُ أنَّا فِي تَلَفُّتِنَا ... يَوْمَ اللِّقاءِ إلى أحْبَابِنَا صًورُ وأنِّنِي حَيْثُمَا يُثْني الهَوَى بَصَرِي ... مِنْ حَيْثُمَا سَلَكُوا أدْنُوا فأنْظُورُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 309 لكن الإشباعَ بابُهُ الضَّرُورَةُ عند بعضهم. وقرأ ابنُ عبَّاسٍ، وقسامة بن زيد «سأورثُكُمْ» قال الزمخشريُّ: وهي قراءة حسنةٌ، يصحِّحُهَا قوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا القوم} [الأعراف: 137] . فصل في قوله: {سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين} وجهان: الأول: أنَّ المُرادَ به التهديدَ والوعيد وعلى هذا ففيه وجهان: أحدهما: قال ابن عباس والحسنُ ومجاهدٌ: هي: جهنم وهي مصيرهم في الآخرة، فاحْذَرُوا أن تكونوا منهم. وثانيهما: قال قتادةُ وغيره: سأدخلكم الشَّام؛ فأريكم منازل القُرُون الماضيةِ مثل الجبابرةِ، والعمالقةِ، ومنازل عادٍ وثَمُودَ الذين خالفُوا أمْرَ اللَّهِ لتعتبروا بها. الوجه الثاني: المُرَادُ به الوعد والبشارة بأنَّ الله تعالى سيوِّرثُهم أرض أعدائهم وديارهم وهي أرض مصر، قالهُ عطيةُ العوفيُّ؛ ويدلُّ عليه قراءة قسامة. وقال السُّدِّيُّ: هي مصارع الكفار. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 310 قوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ} الآية. قال ابْنُ عبَّاسٍ: يريد الَّذينَ يتجبَّرون على عبادي، ويحاربون أوليائي حتَّى لا يؤمنوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 310 سأصرفهم عن قبول آياتي والتَّصْدِيق بها، عُوقبوا بحرمان الهدايةِ لعنادهم الحَقّ كقوله تعالى: {فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ} [الصف: 5] . واحْتَجّ أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّهُ تعالى قد يمنع الإيمان. وقالت المعتزلة: لا يمكنُ حمل الآية على ذلك لوجوه: الأوّلُ: قال الجُبَّائِيُّ: لا يجوزُ أن يكون المراد منه أنَّه تعالى يصرفهم عن الإيمان؛ لأن قوله: «سَأصْرِفُ» يتناول المستقبلَ، وقد بيَّن تعالى أنَّهُمْ كفروا وكذَّبُوا من قبل هذا الصرف، لأنَّهُ وصفهم بكونهم: {يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق} وبأنَّهُم: {وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الغي يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً} فدلَّت الآية على أنَّ الكُفْر قد حصل لهم في الزَّمانِ الماضي؛ فدلَّ على أن المراد من هذا الصرف ليس الكفر بالله. الثاني: أن قوله {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي} مذكورٌ على وجه العقوبة على التَّكَبُّر والكُفْر، فلو كان المراد من هذا الصَّرْفِ هو كفرهم، لكان معناه أنَّهُ تعالىخلق فيهم الكفر عقوبة لهم على إقدامهم على الكفر، والعقوبة على فعل الكفر بمثل ذلك الفِعْل المعاقب عليه لا يجوز؛ فثبت أنَّ المرادَ من هذا الصَّرفِ ليس هو الكفر. الثالث: أنَّه تعالى لو صَرَفَهُمْ عن اليمان وصدهم عنه، فكيف يمكن أن يقُول مع ذلك: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] {فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [الانشقاق: 20] {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا} [الإسراء: 94] فثبت أنَّ حمل الآية على هذا الوجه غير ممكن؛ فوجب حملها على وجوه أخرى: الأول: قال الكلبي وأبو مسلم الأصفهاني: إنَّ هذا الكلام تمام لما وعد اللَّهُ موسى به من إهلاك أعدائه ومعنى صرَفَهُمْ، أهلكَهُمْ فلا يقدرون على منع موسى من تبليغها، ولا يمنع المؤمنين من الإيمان بها، وهو تشبيه بقوله: {بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] فأراد تعالى أن يمنع أعداء موسى من إيذائه ومنعه من القيام بما يلزمه في تبليغ النبوةِ والرِّسالة. التَّأويلُ الثَّاني: قال الجُبَّائِيُّ: سأصرفُ المتكبرين عن نَيْل ما في آياتي من العزَّة والكرَامَة المُعَدَّيْن للأنبياء، والمُؤمنين. وإنَّمَا صرفهم عن ذلك بواسطة إنزال الذل والإذلال بهم، وذلك يَجْرِي مجرى العقوبة على كُفْرِهِم، وتكبرهم على اللَّهِ. التَّأويل الثالثُ: أنَّ من الآيات ما لا يُمْكِنُ الانتفاع بها إلاَّ بعد سبق الإيمان، فإذا كَفَرُوا فقد صَيَّرُوا أنفسهم بحيث لا يمكنهم الانتفاع بتلك الآيات، فحينئذٍ يصرفهم اللَّهُ عنها. التأويل الرابع: أنَّ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إذا علم من حال بعضهم أنَّهُ إذا شاهد تلك الآيات الجزء: 9 ¦ الصفحة: 311 فإنَّه لا يستدلّ بها بل يستخف بها، ولا يقومُ بحقِّها، فإذا علم اللَّهُ ذلك منه، صَحَّ أن يَصْرِفَهُ عنها. التأويل الخامس: نقل عن الحسن أنَّه قال: إنَّ من الكفار من بالغ في كُفره، وانتهى إلى الحد الذي إذا وصل إليه مات قلبه، فالمراد من قوله: {سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي} هؤلاء. فصل المُرضادُ من الصَّرْفِ المَنْع، والمُرَادُ بالآيات: الآياتُ التسع الَّتي أعطاها اللَّهُ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلامُ - والأكثرون على أنَّ الآية عامَّة. ومعنى «يَتَكَبَّرُونَ» : أي: يَرَوْنَ أنَّهُم أفضل الخَلْقِ، وأن لهم من الحقِّ ما ليس لغيرهم، وصفةُ التَّكبر لا تكون إلا للَّهِ تعالى. وقال بعضهم: التَكَبر: إظهار كبر النَّفْسِ على غيرها، والتَّكبر صِفَةُ ذمٍّ في جميع العبادِ وصفةُ مدحٍ في حقِّ الله تعالى؛ لأنَّهُ يستحقُّ إظهار الكبر على ما سواه؛ لأنَّ ذلك في حقه حَقٌّ، وفي حق غيره باطل. قال عليه الصَّلاةُ والسَّلام يقولُ اللَّهُ تعالى: الطِبْريَاءُ رِدائِي والعظمةُ إزَارِي، فمنْ نَازَعنِي فيهما حَرَّمْتُ عليه الجنَّة «. قوله:» بِغَيْرِ الحَقِّ «فيه وجهان: أحدهما: أنَّه متعلِّقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ، أي: يَتَكَبَّرُونَ ملتبسين بغير الحقِّ. والثاني: أنه متعلِّق بالفعلِ قبله، أي: يتكبرون بما ليس بحق، والتَّكَبُّرُ بالحقِّ لا يكونُ إلاَّ لِلَّهِ تعالى خاصَّة. قال بعضهم: وقد يكون إظْهَارُ الكبرِ على الغَيْرِ بالحقِّ، فإنَّ للمحقّ أن يتكبَّرَ على المُبْطِلِ وفي الكلامِ المشهور: التَّكبر على المتكبر صدقةٌ. قوله:» وإن يَرَوْا الظَّاهرُ أنَّها بصريَّةٌ، ويجوزُ أن تكون قلبية، والثَّاني محذوفٌ لِفَهْمِ المعنى: كقول عنترة: [الكامل] 2574 - وَلَقَدْ نَزلْتِ فلا تَظُنِّي غَيْرَهُ ... مِنِّي بِمنْزِلَةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ أي: فلا تظني غيره واقعاً مني، وكذا الآية الكريمة، أي: وإن يَرَوْا هؤلاء الجزء: 9 ¦ الصفحة: 312 المتكبرين كل آية جائية، أو حادثة. وقرأ مالك بن دينارٍ «وإن يُرَوْا» مبنياً للمفعول من أري المنقول بهمزة التعدية. قوله: «سَبِيلَ الرُّشْدِ» قرأ حمزة والكسائي هنا وأبُو عمرو في الكهف في قوله: {مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً} [الكهف: 66] خاصة دون الأولين فيها بفتحتين، والباقون بضمة وسكون واختلف النَّاسُ فيهما هل هما بمعنى واحد. فقال الجمهور نعم لغتان في المصدر كالبُخْلِ والبَخَل، والسُّقْم والسَّقَم، والحُزْن والحَزَن. وقال أبُو عمرو بن العلاءِ: «الرُّشْدُ - بضمة وسكون - الصَّلاحُ في النَّظر، وبفتحتين الدِّين» ولذلك أجمع على قوله: {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً} [النساء: 6] بالضمِّ والسُّكثون، وعلى قوله {فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً} [الجن: 14] بفتحتين. ورُوي عن ابن عامر «الرُّشُد» بضمتين وكأنَّهُ من باب الإتباع، كاليُسُر والعُسُر وقرأ السلمي الرَّشَاد بألف فيكون: الرُّشْد والرَّشَد والرَّشَاد كالسُّقْم والسَّقَم والسَّقَام. وقرأ ابنُ أبي عَبْلَة لا يتَّخِذُوَها، ويتَّخِذُوها بتأنيث الضَّمير، لأنَّ السبيل يَجُوزُ تأنيثُها. قال تعالى: {قُلْ هذه سبيلي} [يوسف: 108] . والمُرادُ بسَبيل الرُّشْدِ سبيل الهدى والدين، وسَبيلَ الغَيِّ ضد ذلك. ثُمَّ بيَّن العلة لذلك الصَّرف، وهو كونهم مُكّذِّبينَ بآياتِ اللَّهِ، وكونهم عنها غافلين أي معرضين، أي: أنَّهم واظبوا على الإعراضِ حتى صَارُوا بِمَنْزلةِ الغافلينَ عَنْهَا. قوله: «ذَلِكَ» فيه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ مبتدأ، خبره الجارُّ بعده، أي: ذلك الصرف بسبب تكذيبهم. والثني: أنَّه في محلِّ نصبٍ، ثم اختلفَ في ذلك. فقال الزَّمخشريُّ: «صَرَفَهُمُ اللَّهُ ذلك الصَّرْفَ بعينه» . فجعله مصدراً. وقال ابْنُ عطيَّة: فعلنا ذلك فجعله مفعولاً به وعلى الوجهين فالباءُ في بأنَّهُمْ متعلقةٌ بذلك المحذوف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 313 قوله: {وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ} . في هذه الجملة احتمالان: أحدهما: أنَّهَا نَسَقٌ على خبر أنَّ، أي: ذلك بأنَّهُمْ كذّبوا، وبأنَّهُمْ كانوا غافلين عن آياتنا. والثاني: أنَّها مستأنفةٌ، أخبر اللَّهُ تعالى عنهم بأنهم من شأنهم الغفلة عن الآيات وتدبرها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 314 قوله: {والذين كَذَّبُواْ} في خبره وجهان، أحدهما: أنَّهُ الجملةُ من قوله «حَبِطَتْ أعْمالُهُم» و «هل يُجْزَونَ» - خبر ثان، أو مستأنف والثاني: أنَّ الخبر هَلْ يجزونَ والجملةُ من قوله حَبِطَتْ في محلِّ نصب على الحالِ، و «قَدْ» مضمرة معه، عند من يشترط ذلك، وصاحبُ الحال فاعلُ كَذَّبُوا. قوله: ولقاء الآخرةِ فيه وجهان، أحدهما: أنَّهُ من باب إضافة المصدر لمفعوله، والفاعل محذوف، والتقديرُ: ولقائهم الآخرة. والثاني: أنَّهُ من باب إضافة المصدر للظرف يعني: ولقاء ما وعد الله في الآخرة. ذكرهما الزمخشريُّ. قال أبُو حيَّان: «ولا يُجيز جُلَّةُ النَّحويين الإضافة إلى الظَّرف، لأنَّ الظَّرف على تقدير» في «، والإضافةُ عندهم على تقدير اللاَّم، أو» مِنْ «فإن اتُّسِعَ في العَامِل جازَ أن يُنْصبَ الظرفُ نَصْبَ المفعول، ويجوزُ إذْ ذاك أن يُضافَ مصدرُه إلى ذلك الظَّرف المُتِّسَع في عاملِهِ، وأجازَ بعضً النَّحويين أن تكون الإضافةُ على تقدر» في «كما يفهِمُ ظاهرُ كلام الزمخشري» . فصل لمَّا ذكر ما لأجله صرف المتكبرين عن آياته وأتبعه ببيان العلّة لذلك الصرف وهُو كونُهم مُكَذِّبينَ بالآياتِ غافلين عنها، فقد كان يَجُوزُ أن يظن أنَّهُمْ يختلفون في باب العقابِ لأنَّ فيهم مَنْ يعمل بعض أعمال البرّ، بيَّن تعالى أنه حال جميعهم، سواء كان متكبراً أو متواضعاً، أو قليل الإحسان، أو كثير الإحسان، فقال: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة} يعني ذلك بجحدهم للميعاد وجراءتهم على المعاصي، فبيَّنَ تعالى أنَّ أعمالهم محيطة. قوله: هَلْ يَجْزوْنَ هذا الاستفهامُ معناه النَّفي، لذلك دخلت: «إلاَّ» ولو كان معناه التقرير لكان مُوجباً، فيبعدُ دخول «إلاَّ» أو يمتنع. وقال الواحديُّ هنا: «لا بد من تقدير محذوفٍ أي: إلا بِمَا كانُوا أو على ما كانُوا، أو جزاء ما كانوا» وتقريره: أنَّ نفس ما كانوا يعملونه لا يُجْزونَهُ إنَّمَا يُجْزَوْنَ بمقابلة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 314 فصل احْتَجُّوا على فساد قوله أبي هاشم في أنَّ تاركَ الواجب يستحقُّ العقابَ بمجرَّد أن لا يَفْعَل الواجبَ، وإن لَمْ يَصْدُرْ منه فعلٌ ضدَّ ذلك الواجب بهذه الآية. قالوا: لأنّها تدلُّ على أنَّه لا جزاء إلاَّ على العملِ، وترك الواجبِ ليس بعملٍ؛ فوجب أن لا يُجازى عليه؛ فثبت أنَّ الجزاء إنَّمَا حصل على فعل ضده. وأجاب أبوُ هاشم: بأنِّي لا أسمِّي ذلك العقاب جزاءً، فسقطَ الاستدلالُ. وأجَابُوا عن هذا: بأنَّ الجَزاءَ إنَّمَا سُمِّيَ جزاءً؛ لأنَّهُ يجزي، ويكفي في المَنْعِ عن المَنْهِيِّ، وفي الحثِّ على المأمُور به، فإن ترتَّب العِقَابُ على مجرد ترك الواجبِ؛ كان ذلك العقابُ كافياً في الزَّجْرِ عن ذلك التَّرك، فكان جزاء، فلا سبيل إلى الامتناع من تسميته جزاء. قوله تعالى: {واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ} الآية. أي: من بعد مُضيِّة وهذابه إلى الميقات والجارَّان متعلِّقان ب «اتَّخَذَ» ، وجَازَ أن يتعلَّق بعاملٍ حرفا جَرّ متحدَا اللَّفْظِ، لاختلافِ مَعْنيْهما لأنَّ الأولى لابتداء الغايةِ، والثَّانية للتَّبعيضِ، ويجوزُ أن يكون «مِن حُلِيِّهِمْ» متعلٌِّاً بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من عِجْلاً لأنَّهُ لو تأخَّر عنه لكان صفةً فكان يقال عِجْلاً من حليهم. وقرأ الأخوان مِنْ حِليِّهم بكسر الحاء وَوجْهُهَا الإتباع لكسرة اللاَّم، وهي قراءة أصحاب عبد الله وطلحة ويحيى بن وثاب والأعمش. والباقون بضمِّ اللاَّم، وهي قراءةُ الحسنِ وأبي جعفرٍ وشيبة بن نصاح، وهو في القراءتين جمع «حَلْيِ» ك «طَيٍّ» ، فجمع على «فُعُول» ك «فَلْس» و «فُلُوس» فأصله، حُلُويٌّ كثُدِي في «ثُدُوي» ، فاجتمعت الياء والواوُ، وسبقت إحداهما بالسُّكُون، فقلبت الواوُ ياء، وأدغمت، وكُسرت عين الكلمة، وإن كانت في الأصل مضمومةً لتصِحَّ الياء، ثُمَّ لك فيه بعد ذلك وجهانِ: تركُ الفاءِ على ضَمِّهَا، أو إتباعُها للعين في الكسرةِ، وهذا مُطَّردٌ في كل جمعٍ على «فُعُول» من المعتلِّ اللاَّم، سواء كان الاعتلال بالياء ك «حُلِيّ» و «ثُدِي» أم بالواو نحو: «عُصِيّ» ، و «دُلِيّ» جمع عَصَا ودَلْو. وقرأ يعقوبُ «من حَلِيِّهم» بفتح الحاءِ وسكون اللاَّمِ، وهي محتملةٌ لأن يكون «الحَلْي» مفرداً أريد به الجمعُ، أو اسمُ جنسٍ مفرده «حَلْيَة» على حدِّ قَمْحٍ وقَمْحَةٍ، و «عِجْلاً» مفعولُ «اتَّخَذَ» و «مِنْ حُلِيِّهم» تقدَّم حكمه. ويجوزُ أن يكون «اتَّخذَ» متعديةً لاثنين بمعنى «صَيَّرَ» فيكون: «مِنْ حُلِيِّهم» هو المفعول الثاني. وقال أبُو البقاءِ: «وهو محذوفٌ، أي: إلهاً» ولا حاجة إليه. والحَلْيُ: اسم لما يُحَسَّن به من الذَّهبِ والفضَّةِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 315 و «جَسَداً» فيه ثلاثةُ أوجه، أحدها: أنَّهُ نعتٌ. الثَّانِي: أنَّهُ عطفُ بيان، والثالثُ: أنَّهُ بدلٌ قاله الزمخشريُّ، وهو أحسنُ؛ لأنَّ الجسد ليس مشتقاً، فلا يُنْعَتُ به إلا بتأوُّلٍ، وعطفُ البيان في النكراتِ قليلٌ، أو ممتنع عند الجمهور، وإنَّما قال: «جَسَداً» لئلاَّ يُتوهَّمَ أنَّهُ كان مخطوطاً، أو مرقوماً. والجسد: الجثة. وقيل: ذات لحم ودمٍ. قوله: «لَهُ خُوَارٌ» في محل النَّصْبِ نعتاً ل «عِجْلاً» ، وهذا يُقَوِّي كون «جَسَداً» نعتاً؛ لأنه إذا اجتمع نعتُ وبدلٌ قُدِّم النَّعْتُ على البدلِ، والجمهورُ على خُوَارٌ بخاء معجمة وواو صريحة، وه صوتُ البقرِ خاصّةً، وقد يُسْتَعَارُ للبعير، والخَوَرُ: الضَّعْفُ، ومنهُ أرْضٌ خَوَّارةً وريح خوار والخورانُ: مجرى الرَّوث، وصوت البهائم أيضاً. وقرأ عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وأبُو السَّمَّال: جُؤار بالجيم والهَمْز، وهو الصَّوت الشديد. فصل قال ابنُ عبَّاسٍ والحسنُ وقتادةُ وجماهيرُ أهل التفسير: كان لبني إسرائيل عبيد يتزيَّنُونَ فيه ويَسْتعِرُونَ من القبط الحلي، فاستعارُوا حلي القبط لذلك اليوم: فَلَمَّا أغرق اللَّهُ القبط بقي ذلك الحيل في أيدي بني إسرائيل، فجمع السَّامريّ تلك الحلي، واسْمُهُ موسى بنُ ظفر، من قرية يقال لها سامرة، وكان رجلاً مُطاعاً فيهم، وكانُوا قد سألوا موسى - عليه السلام - أن يجعل لهم إلهاً يعبدونه، فصاغَ السَّامري لهم من ذلك الحُلِيِّ عِجْلاً، وألقى في فَمِهِ من تراب أثر فرس جبريل؛ فتحول عِجْلً جَسداً حَيّاً لَحْماً ودماً له خُوَارٌ. وقيل: كان جَسَداً مُجَسَّداً من ذهب لا روح فيه، كان يسمع منه صوتُ الرِّيح يدخل في جوفه ويخرج. قال أكثرُ المفسِّرينَ من المعتزلة: إنَّهُ جعل ذلك العجلَ مجوفاً، وجعل في جوفه أنابيب على شكل مخصوص. وكان قد وضع ذلك التمثال في مهبِّ الرِّيح، فكانت تدخل في تلك الأنابيبِ فيظهرُ منه صوت مخصوص يشبه خُوار العجل. وقال آخرون: إنَّهُ جعلَ ذلك التمثال أجوف، وجعل تحته في الموضع الذي نصب فيه العجل من ينفخ فيه من حيثُ لا يشعر به النَّاس، فيسمعوا الصوت من جوفه كالخوار، كما يفعلون الآن في هذه التَّصَاوير التي يجرون فيها الماء كالفوارات وغيرها. قيل: إنَّهُ ما خار إلاَّ مرة واحدة، وقيل: كان يخور كثيراً كُلَّمَا خار سجدوا له وإذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 316 سكت رفعوا رؤوسهم. وقال وهب: كان يَخُورُ ولا يتحَرّك. وقال السدي: كان يخور ويمشي. ثم قال لهم هذا إلهكم وإله مُوسَى. فإن قيل لِمَ قال: {واتخذ قَوْمُ موسى} والمتّخذ هو السّامريُّ؟ فالجوابُ من وجهين: أحدهما: أنَّ اللَّه نسب الفعل إليهم، ولأنَّ رجلاً منهم باشره. كما يقال: بَنُو تميم قالوا كذا وفعلوا كذا، والقائِلُ والفاعِلُ واحد، والثاني: أنَّهُم كانوا مُريدين لاتخاذِهِ راضين به، فكأنَّهُم اجتمعُوا عليه. فإن قيل: لم قال: «مِنْ حُلِيِّهم» ولم يكن الحلي لهم، وإنَّما اسْتَعارُوهَا؟ فالجوابُ: أنَّه لَما اهلك اللَّهُ قوم فرعون بقيت تلك الأموال في أيديهم ملكاً لهم كقوله: {كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ} [الدخان: 25]- إلى قوله - {كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ} [الدخان: 28] فصل قيل إنَّ الذين عبدُوا العِجْلَ كانوا كل قوم موسى. قال الحسنُ: كلهم عبدوا العجل غير هارون، لعموم هذه الآية. ولقول موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام -: {رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي} [الأعراف: 151] ، فتخصيص نفسه وأخيه بالدُّعاءِ يدلُّ على أنَّ غيرهُمَا ما كان أهلاً للدعاءِ، ولو بَقَوْا على الإيمان لما كان الأمْرُ كذلك. وقيل: بل كان منهم من ثَبَتَ على إيمانه لقوله تعالى: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159] . قوله: «ألَمْ يَرَوْا» إن قلنا: إنَّ اتَّخَذَ متعدية لاثنين، وإنَّ الثَّاني محذوفٌ، تقديره: واتَّخَذَ قوم موسى من بعده من حليهم عِجْلاً جَسَداً إلهاً، فلا حاجة حينئذ إلى ادِّعاءِ حذف جملة يتوجَّه عليها هذا الإنكارُ، وإن قلنا: إنَّها متعدية لواحد بمعنى: صَنَعَ وعَمِلَ أو متعدية لاثنين، والثاني هو: مِنْ حُليِّهِمْ فلا بُدَّ مِنْ حذفِ جملة قبل ذلك، ليتوَجَّه عليها الإنكار، والتقدير: يعبدوه، ويَرَوْا يجوز أن تكونَ العِلْمِية، وهو الظَّاهرُ وأن تكون البصرية، وهو بيعدٌ. فصل اعلم أنَّهُ تعالى احْتَجَّ على فساد هذا المذهب وكون العِجْلِ إلهاً بقوله: {أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً} وتقرير هذا الدَّليل أنَّ هذا العِجْلَ لا يمكنه أن يُكلِّمهم، ولا يَهْديهم إلى الصَّواب والرُّشْدِ ومَنْ كانَ كذلك كان إمَّا جَماداً، وإمَّا حيواناً، وكلاهما لا يصلحُ للإلهيَّةِ. ثم قال تعالى: {اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} لأنفسهم حيثُ أعرضوا عن عبادة الله واشتغلوا بعبادة العجل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 317 قوله: {اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ} يجُوزُ فيها وجهان: أظهرهما: أنَّهَا استئنافيةٌ، أخبر عنهُم بهذا الخبر وأنه دَيْدنهُم وشأنهُم في كلِّ شيء فاتَّخاذُهم العجلَ من جملة ذلك، ويجوزُ أن تكون حالاً، أي: وقد كانُوا، أي: اتَّخَذُوه في هذه الحالِ المستقرَّةِ لهُم وعلى هذا التفسير المتقدم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 318 قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} الجارُّ قائم مقام الفاعل. وقيل القائمُ مقامه ضميرُ المصدر الذي هو السُّقُوط أي سُقِط السقوط في أيديهم، ونقل أبو حيان عن بعضهم أنه قال: «سقط» تَتضمَّن مَفعُولاً، وهو ههنا المصدر، الذي هو الإسقاطُ كقولك: «ذُهِبَ بزيد» . قال: وصوابه: وهو هنا ضميرُ المصدر الذي هو السُّقُوط؛ لأنَّ «سقط» ليس مصدرُهُ الإسقاط، ولأن القائمَ مقام الفاعل ضميرُ المصدر، لا المصدر، ونقل الواحديُّ عن الأزهريِّ أن قولهم: «سُقِط في يده» ؛ كقوله امرئ القيس: [الطويل] 2575 - دَعْ عَنْكَ نَهْباً صِيحَ في حجراتِهِ ... ولكنْ حَدِيثاً ما حَدِيثُ الرَّواحلِ في كون الفعل مُسْنداً للجار، كأنه قيل: صَاحَ المنتهبُ في حجراته، وكذلك المراد سُقِط في يده، أي: سقط النَّدمُ في يده. فقوله: أي سقط النَّدم في يده، تَصْرِيحٌ بأنَّ القائمَ مقام الفاعل حرفُ الجَرّ، لا ضمير المصدرِ. ونقل الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ أنه يقال: سقط في يده وأسقط أيضاً، إلاَّ أنَّ الفرَّاء قال: سَقَطَ - أي الثلاثي - أكثرُ وأجودُ. وهذه اللَّفظةُ تُسْتعمَلُ في التندُّم والتحير. وقد اضْطربَتْ أقوالُ أهل اللَّغَةِ في أصلها. فقال أبو مروان بن سراج اللُّغوي: «قولُ العرب سُقِط في يده مِمَّا أعْيَانِي معناهُ» . وقال الواحِدي: قَدْ بَانَ مِنْ أقوالِ المُفسِّرينَ وأهْلِ اللُّغةِ أنَّ «سُقِطَ في يدهِ» نَدم، وأنَّه يُسْتعملُ في صفة النّادم فأمَّا القولُ في أصلِهِ وما حَدَّه فلمْ أرِ لأحَدٍ من أئَّمةِ اللُّغةِ شَيْئاً أرْتَضِيه إلاَّ ما ذكر الزَّجَّاجي فإنَّه قال: قوله تعالى: {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} بمعنى نَدمُوا، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 318 نظمٌ لم يُسمع قبلَ القرآن، ولمْ تعرفهُ العرب، ولمْ يُوجَدْ ذلك في أشعارِهِم، ويدُلُّ على صحَّةِ ذلك أنَّ شعراء الإسلام لما سَمِعُوا هذا النَّظْمَ واستعملُوهُ في كلامهم خَفِي عليهم وجهُ الاستعمال، لأنَّ عادتَهُم لمْ تَجْرِ بِهِ. فقال أبو نواس: [الرجز] 2576 - ونَشْوَةٌ سُقِطْتُ مِنْهَا فِي يَدِي ... وأبُو نواسٍ هو العالمُ النَّحْرِيرُ، فأخطأ في استعمال هذا اللفظ، لأنَّ «فُعِلْتُ» لا يُبْنَى إلاَّ من فعل مُتعَدٍّ، و «سقط» لازمٌ، لا يتعدَّى إلاَّ بحرفِ الصفة لا يقالُ: «سُقطت» كما لا يُقال: رُغبتُ وغُضِب، إنَّما يُقَال: رُغِبَ فيَّ، وغُضِب عَلَيَّ، وذكر أبُو حاتمٍ: «سُقِط فلان في يده» بمعنى ندم. وهذا خطأ مثلُ قول أبي نواس، ولو كان الأمرُ كذلك لكان النَّظْم {وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ} و «سُقِطَ القومُ في أيديهم» . وقال أبُو عُبيدة: «يُقَالُ لِمَنْ على أمْرٍ وعجز عنه: سُقِطَ في يده» . وقال الواحِدِيُ: «وذِكْرُ اليد ههنا لوجهين أحدهما: أنه يُقال للَّذي يَحْصُلَ وإن كان ذلك مِمَّا لا يكُون في اليد:» قَدْ حصلَ في يده مكروهٌ «يشبه ما يحصُلُ في النَّفس وما يحصُل في القلب بِمَا يُرضى بالعينِ، وخُصَّت اليدُ بالذِّكْرِ؛ لأنَّ مباشرةَ الذُّنُوبِ بها. فاللائمةُ ترجع عليها، لأنَّهَا هي الجارحةِ العُظْمَى، فيُسْنَدُ إليها ما لم تُباشِرهُ، كقوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: 10] وكثيرٌ من الذُّنُوب لمْ تُقدّمهُ اليد «. الوجه الثاني: أنَّ النَّدَمَ حدثٌ يَحْصُلُ في القلب، وأثرُهُ يَظْهَرُ في اليد؛ لأنَّ النَّادِمَ بَعَضُّ يدَهُ، ويضربُ إحْدَى يديْه على الأخرى كقوله: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف: 42] فتَقْلِيبُ الكفِّ عبارةٌ عن النَّدم، وكقوله: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ} [الفرقان: 37] فلمَّا كان أثرُ النَّدم يحصُل في اليدِ مِن الوجهِ الذي ذَكَرْنَاه أضيف سقوطُ النَّدم إلى اليَدِ؛ لأنَّ الذي يَظْهَرُ للعُيُونِ من فِعْلِ النَّادم هو تَقْلِيبُ الكفِّ وعضُّ الأنامل واليدِ كَمَا أنَّ السُّرُور معنى في القلب يسْتَشْعره الإناسنُ، والذي يظهرُ منه حالة الاهتزاز والحركةِ والضَّحك وما يَجْرِي مجراه. وقال الزمخشريُّ:» ولمَّا سُقِطَ في أيديهمْ «أي ولمَّا اشتدَّ ندمهم؛ لأنَّ مِنْ شأن من اشتدَّ ندمُهُ وحَسْرَتُهُ أن يَعَضَّ يدهُ غماً، فتصير يده مَسْقُوطاً فيها، لأنَّ فاه قد وقع فيها. وقيل: مِنْ عادةِ النَّادمِ أن يُطَأطِىءَ رَأسَهُ، ويضع ذقنه على يده معتمداً عليها، ويصيرُ على هيئةٍ لو نُزِعت يده لسقط على وجهه، فكأنَّ اليدَ مَسْقُوطٌ فيها. ومعنى» في «» على «، فمعنى» في أيديهم «كقوله: {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] . وقيل: هو مَأخُوذٌ من السَّقاط، وهو كثرةُ الخَطَأ، والخَاطِىءُ يَنْدَمُ على فعلهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 319 قال ابنُ أبي كاهل: [الرمل] 2577 - كَيْفَ يَرْجُونَ سِقَاطِي بَعْدَمَا ... لَفَّعَ الرَّأسَ بياضٌ وصَلَعْ وقيل: هو مأخوذٌ من السَّقيط، وهو ما يُغَشِّي الأرض من الجَليدِ يُشْبِه الثَّلْج. يقال منه: سَقَطَت الأرْضُ كما يُقَال: ثلجت، والسَّقْطُ والسَّقِيطُ يذُوبُ بأدْنَى حرارةٍ ولا يبقى. ومنْ وقع في يده السَّقِيط لمْ يَحْصُل من بغيته على طائلٍ. واعْلَمْ أنَّ» سُقِطَ في يده «عدَّهُ بعضُهم في الأفعال الَّتِي لا تتصرَّف ك» نِعْمَ وبِئْسَ «. وقرأ ابْنُ السَّمَيْفَع سقط في أيديهم مبنياً للفاعل وفاعلُه مَضْمَرٌ، أي: سَقَطَ النَّدمُ هذا قولُ الزَّجَّاجِ. وقال الزمخشريُّ:» سَقَطَ العَضُّ «. وقال ابنُ عطيّة:» سَقَطَ الخسران، والخيبة «. وكل هذه أمثلةٌ. وقرأ ابنُ أي عبلة: أسْقِط رباعياً مبنياً للمعفول، وقد تقدَّم أنَّها لغةٌ نقلها الفرَّاءُ والزَّجَّاجُ. فصل قوله: ورَأوْا أنَّهُمْ هذه قلبيَّة، ولا حاجةَ في هذا إلى تقديم وتأخير، كما زعم بعضهم. قال القاضِي: يجبُ أن يكون المؤخَّرُ مقدماً؛ لأنَّ النَّدَمَ والتَّحسّر إنَّما يقعانِ بعد المعرفة فكأنه تعالى قال: ولما رأوا أنهم قد ضلّوا سقط في أيديهم لما نالهُم من عظيم الحسْرَةِ. ويمكنُ أن يقال لا حاجة إلى ذلك، لأنَّ الإنسانَ إذا شكَّ في العملِ الذي يُقْدِمُ عليه هل هو صوابٌ أو خطأ؟ فقد يَنْدَُ عليه من حيثُ أنَّ الإقدامَ على ما لا يعلم كونه صواباً أو خطأ غير جائز. قوله: {لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا} لما ظهر لَهُمْ أنَّ الذي عَمِلُوهُ كان بَاطِلاً، أظْهَرُوا الانقطاع إلى اللَّهِ تعالى وقالوا: {لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا} . قرأ الأخوان «تَرْحَمْنَا» و «تَغْفِر» بالخطاب، «رَبَّنَا» بالنَّصْب، وهي قرايةُ الشعبي الجزء: 9 ¦ الصفحة: 320 وابن وثَّاب وابن مصرف والجَحْدريّ والأعمش، وأيُّوب، وباقي السبعة بياءِ الغيبةِ فيهما، «رَبُّنَا» رفعاً، وهي قراءةُ الحسنِ، ومُجاهدٍ، والأعرج وشيْبَةَ وأبي جَعْفَرٍ. فالنَّصبُ على أنَّهُ مُنَادى، وناسَبهُ الخطاب، والرَّفْعُ على أنَّه فاعلٌ، فَيَجُوزُ أن يكون هذا الكلام صَدَرَ من جمسعهم على التَّعَاقُبِ، أو هذا من طائفةٍ، وهذا من طائفةٍ، فمن غلب عليه الخوفُ، وقوي على المُواجهةِ؛ خاطب مستقيلاً من ذنبه، ومن غلب عليه الحياء أخرج كلامهُ مُخْرج المُسْتَحِي من الخطاب؛ فأسند الفِعْلَ إلى الغَائِبِ. قال المُفَسِّرُونَ: وكان هذا النَّدمُ والاستغفارُ منهم بَعْدَ رُجوعِ مُوسى إليهم. قوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً} : هذان حالان من «مُوسَى» عند من يُجيزُ تعدُّد الحال، وعند من لا يُجيزه يجعل «أسِفاً» حالاً من الضَّميرِ المُسْتَتر في «غَضْبانَ» ، فتكون حالاً مُتداخِلةً، أو يجعلُها بدلاً من الأولى، وفيه نظرٌ لِعُسْر إدخالِهِ في أقْسَام البدلِ. وأقربُ ما يقال: إنَّه بدلُ بَعْضٍ من كُل إن فسَّرنا الأسفَ بالشَّديدِ الغضبِ، وهو قولُ أبِي الدَّرْدَاء وعطاء عن ابنِ عبَّاس، واختيار الزَّجَّاجِ، واحْتَجُّوا بقوله: {فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ} [الزخرف: 55] أي: اغْضَبُونَا، أو بدل اشتمال إن فسَّرناهُ بالحزِينِ. وهو قول ابن عباس والحسن، والسُّدِّي، ومنه قوله: [المديد] 2578 - غَيْرُ مأسُوفٍ على زَمَنٍ ... يَنْقَضِي بالهَمِّ والحَزَنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 321 وقالت عائشةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها -: إنَّ أبا بكر رَجُلٌّ أسِيفٌ أي: حَزِينٌ. قال الواحديُّ: «والقولان مُتقاربانِ؛ لأنَّ الغضبَ من الحُزْنِ، والحُزْن من الغَضَبِ» ؛ قال: [البسيط] 2579 - ... ... ... ... ... ... ... . ... فَحُزنُ كُلِّ أِي حُزْنٍ أخُو الغَضَبِ وقال الأعشى: [الطويل] 2580 - أرَى رَجْلاً مِنْهُمْ أسِيفاً كأنَّمَا ... يَضُمُّ إلى كَشْحَيْهِ كَفّاً مُخَضَّبَا فهذا بمعنى: غَضْبَان، وحديث عائشة يدلُّ على أنَّهُ: الحزين، فلمَّا كانا مُتقاربَيْنِ في المعنى صَحَّت البدليَّةُ. ويقال: رَجُلٌ أسِفٌ: إذا قُصِد ثُبُوتُ الوَصْفِ واستقراره، فإن قُصِد بِهِ الزَّمان جَآءَ على فاعل. فصل اختلفُوا في هذه الحال. فقيل: إنَّهُ عند هجومه عليهم، عرف ذلك. وقال أبُو مسلم: بل كان عارفاً بذلك من قبل؛ لقوله تعالى: {وَلَمَّا رَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفا} وإنَّما كان راجعاص قبل وصوله إليهم. وقال تعالى - لموسى عليه الصَّلاة والسَّلام - في حال المكالمة {فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ} [طه: 58] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 322 قوله: قال بِئْسَمَا هذا جوابُ «لَمَّا» وتقدَّم الكلامُ على «بِئْسَمَا» ، ولكنَّ المَخْصُوصَ بالذَّم محذوفٌ، والفاعلُ مستتر يُفَسِّرُهُ «ما خَلَفْتُمُونِي» والتقديرُ: بِئْسَ خلافة خَلَفتُمُونيهَا خلافَتُكُمْ. فصل فإن قيل: ما معنى قوله: «من بعدي» بعد قوله «خلفتموني» ؟ فالجواب: معناه: من بعد ما رأيتم مني من تَوْحيد اللَّهِ، ونفي الشُّركاءِ، وإخلاص العبادةِ له، أو من بعد ما كتب: احمل بني إسرائيل على التَّوحيد، وامنعهم من عبادة البقرِ حين قالوا: {اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ} [الأعراف: 138] ، ومن حقِّ الخفاء أن يسيرُوا سيرة المُستخلفين. قوله: {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} : في «أمْرَ» وجهان، أحدهما: أنَّهُ منصوبٌ على المفعول بعد إسْقاط الخافض، وتضمينُ الفعل مَعْنَى ما يتعدَّى بنفسه، والأصلُ: أعجلْتُمْ عن أمْرِ ربِّكم. قال الزمخشريُّ: يُقال: عَجِل عن الأمرِ: ذا تركه غير تَامٍّ، ونقيضه تَمَّ عليه، وأعجله عنه غيره، ويُضَمَّن معنى «سَبَقَ» فيتعدَّى تَعْديته. فيقالُ: عَجِلْتُ الأمْرَ، والمعنى: «أعجلتم عَنْ أمر ربكم» . والثاني: أنَّهُ مُتَعَدٍّ بِنَفْسِهِ غَيْرَ مضمنٍ معنى آخر، حكى يَعْقُوب عجلتُ الشَّيء سَبَقْتُهُ، وأعْجلْتُ الرَّجُلَ: اسْتَعْجَلْتُهُ، أي: حَمَلْتُهُ على العَجَلَةِ. فصل قال الواحدي: «معنى العَجَلَة: التقدم بالشَّيءِ قبل وقْتِهِ، ولذلك صارت مَذْمُومَةً والسُّرعة غر مذمومة، لأنَّ معناها: عمل الشَّيء في أول أوقاتِهِ» . ولقائلِ أن يقُولَ: لو كانت العجلةُ مَذْمُومَةٌ فلم قال موسى: {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى} [طه: 84] . قال ابْنُ عبَّاسٍ: معنى {أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ} يعني: ميعاد ربكم فلمْ تَصْبِرُوا لهُ وقال الحسنُ: وعْدُ رَبكم الذي وَعَدكُم من الأربعين، وذلك أنَّهُمْ قَدروا أنَّه إن لم يأت على رأس الثَّلاثين، فقد مات. وقال عطاءٌ: يريدُ أعَجِلْتُم سَخَطَ رَبّكُم. وقال الكلبي: أعَجِلْتُم بعبادة العِجْلِ قبل أنْ يأتيكم أمْر ربكُم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 323 قوله: «وألْقَى الألوَاح» أي الَّتِي فيها التَّوْراةُ على الأرض من شدَّةِ الغضب. قالت الرُّواةُ: كانتِ التَّوراةُ سبعة أٍباعٍ، فلمَّا ألْقَاهَا انكسرت، فرفع منها سِتَّةُ أسباعٍ، وبقي سبع واحد فرفع ما كان من أخرا الغيب وبقي ما فيه الموعظة والأحكام من الحلا والحرام. ولقائل أن يقول: ليس في القرآن إلاَّ أنَّه ألقى الألْوَاحَ فأما أنه ألقاها بحيث تكسّرت، فليس في القُرآنِ وإنَّهُ جُرأة عَظِيمةٌ على كتاب الله تعالى، ومثله لا يليقُ بالأنبياء، ويرد هذا قوله تعالى بعد ذلك: {وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب أَخَذَ الألواح} [الأعراف: 154] فدلَّ ذلك على أنَّها لم تنكسر، ولا شيء منها، وأنَّ القائلينَ بأنَّ ستة أسباعها رفعت إلى السَّماءِ، ليس الأمر كذلك، وأنَّهُ أخذها بأعينها. قوله: {وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ} بذُؤابته ولحيتِهِ، لقوله: {لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي} [طه: 94] . قوله: «يَجُرُّهُ إلَيْهِ» فيه ثلاثةُ أوجْهٍ: أحدها: أنَّ الجُمْلَةَ حالٌ من ضمير مُوسَى المستتر في أخَذَا، أي: أخَذَهُ جَارّاً إليه. الثاني: أنَّها حَالٌ من رَأس قاله أبُو البقاءِ، وفيه نظرٌ لعدم الرَّابط. والثالث: أنَّها حالٌ من أخِيهِ. قال أبُو البقاءِ: «وهو ضعيفٌ» يعني من حيث إنَّ الحَالَ من المُضافِ إليه يَقِلُّ مجيئُهَا، أو يمتنعُ عند بعضهم وقد تقدَّم أن بعضهم يُجَوّزهُ في صور، هذه منها وهو كونُ المضافِ جزءاً من المضافِ إليه. فصل الطَّاعنون في عصْمة الأنبياء يقولون: إنه أخذ برأسِ أخيه يجرُّه على سبيل الإهانةِ، والمُثْبِتُون لعصمة الأنبياء - عليهم الصَّلاة والسَّلام - قالوا: إنَّهُ جَرَّ أخَاهُ لِيَسْألَهُ ويستكشف مِنْهُ كيفية تلك الواقعة. فإن قيل: فَلِمَ قَالَ: {ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي} ؟ فالجوابُ: أنَّ هارون - عليه السَّلامُ - خاف أن يتوَهّمَ جُهَّالُ بني إسرائيل أنَّ موسى غضبان عليه كما غضب على عبدة العِجل. فقالك قد نيهتهم، ولم يكن معي من الجمع ما أمنعهم به عن هذا العمل؛ فلا تفعل ما تُشْمِت أعدائي، فهم أعداؤُك فإنَّ القومَ يحملون هذا الفعل الذي تفعله على الإهانة لا على الإكرام. قوله: ابْنَ أمَّ قرأ الأخوان، وأبو بكر، وابن عامر هُنَا، وفي طه، بكسر الميم، والباقون بفتحها. فأمَّا الفَتْحِ ففيها مذهبان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 324 مذهبُ البصريين: أنَّهُمَا بُنيا على الفتح، لتركيبهما تركيب «خَمْسةَ عَشَرَ» ، فعلى هذا ليس «ابْن» مضافاً ل «أمّ» ، بل هو مركَّب معها، فَحَركتُهَا حركةُ بناء. والثاني: مذهب الكوفيِّينَ: وهو أنَّ «ابن» مضاف ل «أمّ» و «أمّ» مضافة لياءِ المتكلِّمِ، وياء المُتكلِّم قد قلبت ألفاً، كما تُقْلَبُ في المَنَادَى المُضاف إلى ياء المتكلم، نحو: يَا غلاماً، ثم حُذفت الألفُ واجتزىءَ عنها بالفَتْحَةِ، كام يُجْتَزَأ عن الياءِ بالكَسْرَةِ، فحينئذ حركة «ابْن» حركةُ إعراب، وهو مضاف ل «أمَّ» فهي في محلِّ خفض بالإضافة. وأمَّا قراءة الكسر فعلى رأي البصريين هو كسرُ بناءٍ لأجل ياء المتكلم، بمعنى: أنَّا أضَفْنَا هذا الاسم المركب كلَّه لياء المتكلم، فَكُسِر، فَكُسِرَ آخرُه، ثم اجتُزىء عن الياء بالكسرةِ، فهو نظير: يا أحَدَ عشرِ، ثم: يا أحد عشر بالحذفِ، ولا جائز أن يكُونَا باقيين على الإضافة إذ لم يَجُزْ حذفُ الياء؛ لأنَّ الاسمَ ليس منادى، ولكنه مضاف إليه المُنادَى، فلم يَجُزْ حَذْفُ الياء منه. وعلى رأي الكُوفيين يكون الكَسْرُ كسرَ إعراب، وحُذِفَت الياءُ مُجْتَزَأ عنها بالكسرةِ كما اجتُزىء عن ألفها بالفتحَةِ، وهذان الوجهان يَجْرِيَان، في: «ابن أمّ» ، و «ابْنَ عَمّ» ، و «ابْنَة أمّ» ، و «ابنة عمّ» . فصل فاعْلَمْ أنَّهُ يجوزُ في هذه الأمثلةِ الأربعةِ خاصةً خَمْسُ لغات: فُصْحَاهُنَّ: حذفُ الياءِ مجتزأ عنها بالكسرة، ثم قلبُ الياءِ ساكنة أو مفتوحة، وأمَّا غيرُ هذه الأمثلةِ الأربعة ممَّا أُضِيفَ إلى مضاف إلى ياء المتكلِّم في النِّداء، فإنَّهُ لا يجوز فيه إلاَّ ما يجُوزُ في غير بابِ النِّداءِ، لأنَّه ليس منادى، نحوُ: يا غلام أبِي، ويا غلام أمي، وإنَّما جَرَتْ هذه الأمثلةُ خاصَّةً هذا المَجْرَى؛ تنزيلاً للكلمتين منزلة كلمةٍ واحدةٍ، ولكثرة الاستعمالِ. وقرىء «يا ابْنَ أمِّي» بإثبات الياءِ ساكنةً؛ ومثله قوله: [الخفيف] ابْنَ أمِّي وَيَا شُقَيِّقَ نَفْسِي ... ْتَ خَلَّيْتَنِي لِدَهْرٍ شَدِيدِ خر: [الخفيف] يَا ابْنَ أمِّي فَدَتْكَ نَفْسِي ومَالِي ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 325 وقرىء أيضاً: «يَا ابْنَ إمْ» بكسر الهمزة والميم وهو إتباعٌ. ومِنْ قلبِ الياءِ ألفاً قوله: [الرجز] 2583 - يَا ابْنَةَ عَمَّا لا تَلُومِيَ واهْجَعِي ... وقوله: [الرجز] 2584 - كُنْ لِيَ لا عَلَيَّ يَا ابْنَ عَمَّا ... نَدُمْ عَزيزَيْنِ ونُكْفَ الذَّمَّا فصل إنَّما قال: «ابْنَ أمْ» وكان هارون أخاه لأبيه ليرققه ويستعطفه. وقيل: كان أخاه لأمِّه دون أبيه، وكان هارون أكبر من موسى بثلاث سنين، وأحبَّ إلى بني إسرائيل من موسى؛ لأنه كان لين الغضب. قوله: {إِنَّ القوم استضعفوني} أي لم يلتفتوا إلى كلامي، يعني: عبدة العجل {وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين} أي: شريكاً لهم في عقوبتك على فعلهم. قوله: {فَلاَ تُشْمِتْ} العَامَّةُ على ضمِّ التاء، وسكر الميم، وهو من «أشْمَتَ» رباعياً، الأعداء مفعول به. وقرأ ابْنُ محيصن «فلا تَشْمِتْ» بفتح التَّاءِ وكسر الميم، ومجاهدٌ: بفتح التَّاءِ أيضاً وفتح الميم، «الأعْدَاءَ» نصب على المفعول به، وفي هاتين القراءتين تَخْرِيجَان: أظهرهما: أن «شَمِتَ، أو شَمَتَ» بكسر الميم أو فتحها مُتَعَدٍّ بنفسه ك: أشْمَتَ الرباعي. يقال: شَمِتَ بي زيدٌ العَدُوَّ؛ كما يقال: أشْمَت بي العَدُوَّ. والثاني: أنَّ تَشْمَتْ مُسْندٌ لضمير الباري تعالى أي: فلا تَشْمَتْ يا رب، وجاز هذا كما جاز: {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} [البقرة: 15] ثم أضمر ناصباً للأعْدَاءِ، كقراءة الجماعة، قاله ابْنُ جنِّي. ولا حاجة إلى هذا التَّكلف؛ لأنَّ «شَمِتَ» الثلاثيَّ يكون متعدِّياً بنفسه، والإضمار على خلاف الأًصل. وقال أبُو البقاءِ - في هذا التَّخريج -: «فلا تشمت أنت» فجعل الفاعل ضمير « الجزء: 9 ¦ الصفحة: 326 مُوسَى» ، وهو أولى من إسناده إلى ضمير اللَّهِ تعالى، وأمَّا تَنْظِيرُهُ بقوله {الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ} فإنَّما جاز ذلك للمقابلة في قوله: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} [البقرة: 14] {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] ولا يجُوزُ ذلك في غَيْر المقابلة. وقرأ حميد بنُ قيس «فلا تَشْمِت» كقراءة ابنِ محيصن، ومجاهد كقراءته فيه أوَّلاً، إلاَّ أنَّهُما رفعا «الأعْدَاء» على الفاعلية، جعلا «شَمِتَ لازماً فرفعا به» الأعداء «على الفاعليَّة، فالنَّهْيُ في اللَّفْظِ للمخاطب والمُرادُ به غيره كقولهم: لا أرَيَنَّكَ ههنا، أي: لا يكن منك ما يقتضي أن تُشْمِتَ بي الأعْدَاءَ. والإشمات والشَّماته: الفَرَحُ بِبَلِيةٍ تنالُ عَدُوَّك؛ قال: [الكامل] 2585 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... والمَوْتُ دُونَ شَماتَةِ الأعْدَاء فصل قيل: واشتقاقُها من شوامِتِ الدَّابة، وهي قوائِمُهَا؛ لأنَّ الشَّماتة تَقْلِبُ قلب الحاسِد في حالتي الفرَحِ والتَّرحِ كتقلُّب شوامِت الدَّابة. وتشميت العاطس وتسميته، بالشِّين والسِّين الدعاء له بالخير. قال أبو عبيد: الشِّينُ أعْلَى اللُّغتين. وقال ثَعلبٌ: الأصْلُ فيها السِّينُ من السَّمْت، وهو القصد والهَدْي. وقيل: معنى تشميت العاطس [بالمعجمة] أنْ يُثَبِّتَهُ اللَّه كما يثبت قوائم الدابة. وقيل: بل التَّفعيل للسَّلب، أي: أزال الله الشَّماتة به وبالسِّين المهملة، أي: رَدَّهُ اللَّهُ إلى سَمْتِهِ الأولى، أي: هيئته، لأنَّهُ يحصل له انزعاج. وقال أبُو بَكْرٍ: «يقال: شَمَّتَه وشَمَّتَ عليه» وفي الحديث: وشَمَّت عليهما. فصل ولمَّا تبيَّنَ لمُوسَى عُذْرُ أخيه قال: {رَبِّ اغْفِرْ لِي ما صنعت} أي: ما أقدمت عليه من الغضب، «ولأخِي» إن كان منه في الإنكار على عبدة العجل {وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 327 قوله تعالى: {الذين اتخذوا العجل} الآية. المفعول الثاني من مفعولي - الاتِّخاذِ - الجزء: 9 ¦ الصفحة: 327 محذُوف، والتقديرُ، اتَّخذوا العجل إلهاً ومَعْبُوداً، يدلُّ على هذا المحذوف قوله تعالى: {فَقَالُواْ هاذآ إلهكم وإله موسى} [طه: 88] وللمفسرين ههنا طريقان: أحدهما: المراد بالذين اتَّخَذُوا العجل قوم موسى، وعلى هذا فيه سؤال هو أن أولئك القوم تَابَ اللَّهُ عليهم: بأن قتلوا أنفسهم في معرض التَّوْبَةِ على ذنبهم، وإذا تاب الله عليهم فكيف قيل في حقِّهم: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا} ؟ ويُجاب عنه بأن ذلك الغضب إنَّما حصل في الدُّنْيَا لا في الآخرة، وهو أنَّ اللَّهَ أمرهم بقتل أنفسهم والمُرَادُ بقوله: {وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا} هو أنَّهُمْ قد ضَلُّوا فَذُلُّوا. فإن قيل: السِّينُ في قوله سَيَنالُهُمْ للاستقبال، فكيف يحمل هذا على حكم الدُّنيا؟ فالجواب: وأخره في ذلك الوقت أن سَيَنالُهُمْ غضبٌ من ربهم وذلَّةٌ، فكان هذا الكلامُ سابقاً على وقوعهم في القَتْل وفي الذِّلأَّة فَصَحَّ هذا التَّأويل. الطريق الثاني: أنَّ المُرادَ بالذين اتَّخَذُوا العجلَ أبناؤهم الذين كانوا في زمن النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى هذا فيه وجهان: أحدهما: أنَّ العرب تعير الأبناء بقبائح أفعال الآباء كما يفعل ذلك في المناقبِ؛ يقولون للأبناء فعلتم كذا وكذا، وإنَّمَا فعل ذلك أسلافهم كذلك ههنا. قال عطيَّةً العوفيُّ: أراد بهم اليهود الذين كانوا في عصر النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، عَيَّرهُم بصنع آبائهم ونسبه إليهم، ثمَّ حكى عليهم بأنَّهُ: {سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ} في الآخرةِ: {وَذِلَّةٌ فِي الحياة الدنيا} أراد: ما أصَابَ بني قريظة والنَّير من القتل والجلاء. وقال ابنُ عبَّاسٍ: هي الجزية. الوجه الثانيك أن يكون التقديرُ: «إنَّ الذينَ اتَّخَذُوا العِجْلَ» أي الذين باشرُوا ذلك سَيَنالُهُمْ أي: سينال أولادهم، ثم حذف المضاف لدلالة الكلام عليه. ثمَّ قال: {وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين} أي: ومثل ذلك النِّيل والغضب والذِّلّة «نَجْزِي المُفْترينَ» الكاذبين. قال أبُو قلابة: «هو واللَّه جزاء كلِّ مفترٍ إلى يوم القيامة أن يذلَّه اللَّهُ» . وقال سفيان بنُ عيينة: «هذا في كل مبتدع إلى يوم القيامة» . وقال مالكُ بْنُ أنسٍ: «ما من مُبْتَدع إلاَّ ويجدُ فوق رأسه ذِلَّة» . قوله: {والذين عَمِلُواْ السيئات} مبتدأ وخبره قوله إنَّ ربَّكَ إلى آخره. والعائد محذوف، والتقدير: غفورٌ لهم ورحيم بهم، كقوله: {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [الشورى: 43] أي منه. قوله: مِنْ بَعْدِهَا يجوز أن يعود الضمير على السّيِّئاتِ، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون عائداً على التوبة المدلول عليها بقوله: «ثُمَّ تَابُوا» أي: من بعد التوبة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 328 قال أبو حيان: «وهذا أوْلَى، لأنَّ الأوَّلَ يلزُم منه حذفُ مضافٍ ومعطوفه، إذ التقدير: من بعد عمل السّيئات والتوبة منها» . قوله: «وَآمَنُوا» يجوزُ أن تكونَ الواوُ للعطفِ، فإن قيل: التَّوبة بعد الإيمان، فكيف جاءت قبله؟ فيقال الواو لا تُرتِّبُ، ويجز أن تكون الواوُ للحال، أي: تَابُوا، وقد آمنوا {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} . قوله: «وَلَمَّا سَكَتَ» السُّكُوتَ والسُّكَاتُ قطعُ الكلامِ، وهو هنا استعارةٌ بديعة. قال الزمخشريُّ: هذا مثلٌ كأنَ الغضبُّ كان يُغْريهِ على ما فعل ويقول له: قل لقومك كذا، وألْقِ الألواحَ وخُذْ برأس أخيك إليك، فترك النُّطق بذلك، وترك الإغراء به، ولم يستحسن هذه الكلمة، ولمْ يَسْتفصِحْهَا كلُّ ذي طبع سليم وذوق صحيح إلاَّ لذلك، ولأنَّهُ من قبيل شُعَب البلاغة، وإلاَّ فما لقراءة معاوية بن قرة: ولمَّا سَكَنَ بالنُّونِ، لا تجدُ النَّفس عندها شيئاً من تلك الهمزة وطرفاً من تلك الرَّوعة؟ وقيل: شَبَّه جمود الغذب بانقطاع كلام المُتكلِّم. قال يونسُ: « [سال] الوادي ثم سكت فهذا أيضاً استعارةٌ» . وقال الزَّجَّاجُ: مصدر: سَكَتَ الغَضَبُ: السكتةُ، ومصدر: سَكَتَ الرَّجلُ: السُّكُوتُ «وهو يقتضي أن يكون» سكت الغضبُ «فعلاً على حدته. وقيل: هذا من باب القلب، والأصلُ: ولما سكت موسى عن الغضب، نحو: أدْخَلْتُ القَلَنْسُوةَ في رَأسِي، أي: أدخلت رأسي في القلنسوة. قاله عكرمةُ: وهذا ينبغي أن لا يجوز لعدم الاحتياج إليه، مع ما في القلب من الخلافِ المُتقدِّم. وقيل المُرادُ بالسُّكوت: السُّكون والزَّوال، وعلى هذا جاز سَكَتَ عن مُوسَى الغَضَبُ ولا يجوزُ صمت؛ لأن سَكَتَ بمعنى سكن، وأما صَمَتَ بمعنى سدَّ فاه عن الكلام، فلا يجوزُ في الغضب. فصل ظاهرُ الآية ثدلُّ على أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا عرف أن أخاه هارون لم يقع منه تقصير وأظهر له صحة عذرة، فحينئذ سكن غضبهُ، وهو الوقت الذي قال فيه: {رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي} . وقوله:» أخَذَ الألوَاحَ «ظاهر هذا يدلُّ على أن شيئاً منها لم ينكسر، ولم يرفع منها ستة أسباعها كما نقل عن بعضهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 329 وقوله: {وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى} هذه الجملة في محلِّ نصب على الحال من الألوَاح، أو من ضمير مُوسَى والأوَّلُ أحسنُ. وهذا عبارةٌ عن النَّقْلِ والتَّحويل فإذا كتب كتاب عن كتاب حرف بعد حرف قلبت نُسخَةُ ذلك الكتاب، كأنَّك نقلت ما في الأصل إلى الكتاب الثاني. قال ابنُ عبَّاسٍ: لمَّا ألقَى موسى الألواح فتكسّرت صام أربعين يوماً، فأعَادَ اللَّهُ الألواح وفيها نفس ما في الألواح، فعلى هذا قوله» وفِي نُسْخَتِهَا «أي:» وفيما نسخ منها «وإن قلنا: الألواح لم تنكسر، وأخذها موسى بأعيانها؛ فلا شك أنَّها مكتوبة من اللَّوح المحفوظ فهي نسخ على هذا التقدير. وقوله:» هُدىً ورَحْمَةٌ «أي: هدى من الضلالة، ورحمة من العذاب. قوله: «لِلَّذِين» متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ لرَحْمَة أي: رحمة كائنة للَّذين، يجوزُ أن تكون اللاَّم لامَ المفعول من أجله، كأنَّه قيل: هُدىً ورحمةٌ لأجْلِ هؤلاء، وهُمْ مبتدأ ويَرْهَبُونَ خبره، والجلمةُ صلة الموصول. قوله: لِررَبِّهم يَرْهَبُونَ. في هذه اللاَّم أربعةُ أوجُهٍ: أحدها أنَّ اللاَّم مقوية للفعل لأنَّهُ لمَّا تقدَّم معمولُه ضَعُفَ فقوي باللاَّم كقوله: {إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ} [يوسف: 43] وقد تقدَّم أنَّ اللاَّم تكونُ مقويةً حيث كان العاملُ مؤخراً أو فرعاً نحو: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ولا تُزَادُ في غير هذين إلا ضرورةً عند بعضهم؛ كقول الشاعر: [الوافر] 2586 - ولمَّا أنْ تَواقَفْنَا قَليلاً ... أنَخْنَا لِلكَلاكِلِ فَارْتَمَيْنَا أو في قليل عند آخرين؛ كقوله تعالى: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] . والثاني: أنَّ اللاَّم لامُ العلَّةِ وعلى هذا فمفعولُ يَرْهَبُونَ محذوفٌ، تقديره: يرهبون عقابه لأجله، أي لأجل ربهم لا رياء ولا سمعة وهذا مذهب الأخفش. الثالث: أنَّها متعلقةٌ بمصدرٍ محذوف، تقديره: الذين هم رهبتهم لربهم. وهو قول المُبَرِّدِ وهذا غيرُ جارٍ على قواعد البصريين، لأنَّهُ يَلْزَمُ منه حذَفُ المصدر، وإبقاءُ معموله، وهو ممتنعٌ إلاَّ في شعرٍ، وأيضاً فهو تقدير مخرج للكلام عن فصاحته. الرابع: أنَّخا متعلقةٌ بفعلٍ مُقَدِّرٍ أيضاً، تقديره: يخشعون لربَّه. وذكرهُ أبُوا البقاء، وهو أولى مِمَّا قبله. وقال ابْنُ الخطيبِ: قد يزادُ حرفُ الجرِّ في المفعول، وإن كان الفعل متعدياً، كقوله: قرأتُ في السُّورة وقرأ السُّورة، وألْقَى يَدَهُ «وألقى بيده» ، قال تعالى {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 330 الله يَرَى} [العلق: 4] فعلى هذا تكون هذه اللام صلةً وتأكيداً كقوله {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] ، وقد ذكروا مثل هذا في قوله: {وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ} [آل عمران: 73] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 331 قوله تعالى: واخْتَارَ مُوسَى. الآية، «اخْتَار» يتعدَّى لاثنين، لإى أوَّلهما بنفسه، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ، ويجوزُ حذفُهُ. تقول: اخْتَرْتُ زيداً من الرِّجالِ ثم تتسع فتحذف «من» فتقولُ «زَيْداً الرِّجَالَ» قال: [البسيط] 2587 - اخْتَرْتُكَ النَّاسَ إذْ رَثَّتْ خلائِقُهُمْ ... واعْقَلَّ مَنْ كَانَ يُرْجَى عندهُ السُّؤلُ وقال الرَّاعي: [الطويل] 2588 - فَقُلْتُ لَهُ اخْتَرْهَا قَلُوصاً سَمِينَةً ... وناباً علينا مِثْلَ نَابِكَ فِي الحَيَا وقال الفرزدق: [الطويل] 2589 - مِنَّا الذي اخْتِير الرِّجالَ سَماحَةً ... وجُوداً إذَا هَبَّ الرِّيَاحُ الزَّعازعُ وهذا النوعُ مقصورٌ على السَّماعِ، حصرهُ النحاة في ألفاظ، وهي: «اختار» و «أمَرَ» . كقوله: [البسيط] 2590 - أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ مَا أمِرْتَ بِهِ فَقَدْ تَرَكْتُكَ ذَا مَالٍ وذَا نَشَبِ و «اسْتَغْفَرَ» ، كقوله: [البسيط] 2591 - سْتَغْفِرُ اللَّهَ ذَنْباً لَسْتُ مُحْصِيَهُ ... رَبَّ العبادِ إليهِ الوَجْهُ والعملُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 331 و «سَمَّى» ؛ كقوله: سَمَّيْتُ ابني بِزَيْدٍ، وإن شِئْتَ: زَيْداً، و «دَعَا» بمعناه؛ قال: [الطويل] 2592 - دَعَتْنِي أخَاهَا أم عَمْرٍو، ولمْ أكُنْ ... أخَاهَا ولمْ أرْضَعْ لَهَا بِلَبَانِ و «كَنَى» ؛ تقولُ: كَنَيْتُه بفلانٍ، وإن شئت: فلاناً. و «صَدَقَ» قال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ} [آل عمران: 152] ، و «زَوَّجَ» ؛ قال تعالى: {زَوَّجْنَاكَهَا} . ولم يزد أبُو حيَّان عليها. ومنها أيضاً: «حدَّث» و «نَبَّأ» و «أخْبَرَ» و «خَبَّرَ» إذا لم تُضُمَّنْ معنى «أعْلَمَ» . قال تعالى: {مَنْ أَنبَأَكَ هذا} [التحريم: 3] ؛ وقال: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} [مريم: 3] . وتقول حدَّثْتُكَ بكذا، وإن شئت: كذا؛ قال: [الطويل] 2593 - لَئِنْ كانَ مَا حُدِّثْتُهُ اليَوْمَ صَادِقَاً ... أصُمْ في نَهَارِ القَيْظِ للشَّمْسِ بَادِيَا و «قومه» مفعولٌ ثانٍ على أوَّلِهِمَا، والتقديرُ: واختار موسى سبعين رجلاً من قومه، ونقل أبُو البقاءِ عن بعضهم أنَّ «قَومَهُ» مفعول أول، و «سَبْعِينَ» بدلٌ، أي: بدل بعض من كل، ثم قال: «وأرى أنَّ البدل جائزٌ على ضَعْفٍ، وأنَّ التقدير: سَبْعِينَ رجلاً منهم» . قال شهابُ الدِّين: إنَّما كان ممتنعاً أو ضعيفاً؛ لأنَّ فيه حذف شيئين. أحدهما: المختار منه؛ فإنَّهُ لا بُدَّ للاختيار من مختارٍ، ومختار منه، وعلى البدل إنَّما ذُكِر المختارُ دون المختار منه. والثاني: أنَّه لا بُدَّ من رابط بين البدل والمبدل منه، وهو «مِنْهُمْ» كما قدره أبُو البقاء، وأيضاً فإنَّ البدل في نيَّةِ الطَّرح. قال ابْنُ الخطيبِ: وعندي فيه وجه آخر وهو أن يكون التقدير: واختار موسى قومه لميقاتنا، وأراد ب «قَوْمَهُ» السبعين المعتبرين منهم؛ إطلاقاً لاسم الجنس على ما هو المقصود منه. وقوله سَبْعينَ رجلاً عطف بيانٍ؛ وعلى هذا فلا حاجةَ إلى ما ذكروه من التكلُّفات. فصل الاختيار: افتعالٌ من لفظ الخير كالمصطفى من الصفوة. يقال: اختار الشَّيء إذا أخذ خيره وخياره، وأصل اختارَ: اختير، فتحرّكت الياءُ وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً نحو: بَاعَ: ولذلك استوى لفظ الفاعل والمفعول فقيل فيهما مختار، والأصل مختيِر ومختَير فقلبت الياء فيهما ألفاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 332 فصل ذكروا أنَّ مُوسَى - عليه الصَّلاة والسَّلام - اختار من قومه اثني عشر سبطاً من كل سبط ستة؛ فاصرُوا اثنين وسبعين. فقال: ليتخلف منكم رجلان؛ فتشاجروا. فقال: إنَّ لمن قعد منكم أجر مَنْ خرج، فقعد كالب ويوشع. وروي أنَّهُ لم يجد إلاَّ ستين شيخاً، فأوْحَى الله إليه أن يختار من الشَّبابِ عشرةً، فاختارهم، فأصبحوا شيوخاً فأمرهم اللَّهُ أن يصوموا، ويتطهروا ويطهروا ثيابهم، ثم خرج بهم إلى الميقات. واختلفوا في هذا الاختيار هل هو الخروج إلى ميقات الكلام، وسؤال موسى ربَّه عن الرؤيّةِ أو للخروج إلى موضع آخر؟ فقال بعضً المُفَسِّرِينَ: إنَّهُ لميقات الكلامِ وطلب الرُّؤية. قالوا: إنَّهُ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ خرج بهؤلاء السبعين إلى طور سيناء، فلما دَنَا موسى من الجبل وقع عليه عمود من الغمام حتى أحاط بالجبل كله ودنا موسى، ودخل فيه. وقال للقوم: ادنُوا، فدنوا فلما دخلوا الغمام وقعوا سجداً، فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه، ثم انكشف الغمام وأقبلوا إليه. وقالوا: {ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة} [البقرة: 55] وهي الرَّجفة المذكورة ههنا. فقال موسى: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ} [الأعراف: 155] وهو قولهم {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] . وقيل: المراد من هذا الميقات غير ميقات الكلام، وطلب الرُّؤيةِ، واختلفوا فيه. فقيل: إنَّ قوم موسى لمَّا عَبَدُوا العجل ثم تَابُوا أمر الله تعالى موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - أن يجمع السَّبعين ويحضروا موضعاً يظهرون فيه تلك التَّوْبة، فأوحى اللَّهُ تعالى إلى تلك الأرضِ، فرجفت بهم فعند ذلك قال موسى: {رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ} ، وإنَّمَا رجفت بهم الأرض لوجوه. أولها: أنَّ هؤلاء السبعين وإن كانُوا ما عبدُوا العجل، إلاَّ أنهم ما فارقُوا عبدة العجل عن اشتغالهم بعبادة العجل. وثانيها: أنَّهم ما بالغُوا في النهي عن عبادة العجل. وثالثها: أنَّهُم لمَّا خرجوا إلى الميقاتِ ليتوبوا دعوا ربهم وقالوا: اعْطِنَا ما تُعْطِه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 333 أحداً قبلنا، ولا تعطيه أحداً بعدنا، فأنكر اللَّهُ عليهم ذلك فأخذتهم الرجفة. واحتجوا لهذا القول بوجوه: أحدها: أنَّهُ تعالى ذكر قصة ميقات الكلام، وطلب الرُّؤيَةِ ثم أتبعها بذكر قصة العجل ثم أتبعها بهذه القصة، وظاهر الحال يقتضي أن هذه القصة مغايرة للقصة المتقدمة، ويمكن أن يكون عَوْداً إلى تتَّمةِ الكلام في القصة الأولى، إلاَّ أنَّ الأليق بالفصاح إتمام الكلام في القصَّةِ الواحدة في موضع واحد، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى غيرها، فأما ذكر بعض القصَّةِ، ثم الانتقال إلى قصَّة أخرى، ثم الانتقال منها بعد تمامها إلى بقية الكلام في القصَّة الأولى؛ فإنَّه يوجب نوعاً من الخبط والاضطراب، والأولى صون كلام الله عنه. وثانيها: أن في ميقات الكلام وطلب الرؤية لم ينكر منهم إلاَّ قولهم {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] فلو كانت الرجفة المذكورة ههنا إنما حصلت بسبب هذا القول لوجب أن يقال: أتهلكنا بما يقول السفهاء مِنَّا؟ فلمَّا لم يقُلْ ذلك بل قال {أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ} علمنا أن هذه الرجفة إنما حصلت بإقدامهم على عبادة العجل لا على القول. وثالثها: أن في ميقات الكلام أو الرؤية خرَّ موسى صعقاً وجعل الجبل دكّاً وأمَّا هذا الميقات فذكر تعالى أن القوم أخذتهم الرَّجفَةُ، ولم يذكر أن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أخذته الرَّجفة، وكيف يقال أخذته الرجفة، وهو الذي قال: {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ} [الأعراف: 155] وهذه الخصوصيات تدلُّ على أن هذا الميقات غير ميقات الكلام وطلب الرُّؤية. وقيل: المراد بهذا الميقات ما رُوي عن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «إنَّ موسى وهارون انطلقا إلى سفح جبلٍ؛ فنام هارون فتوفَّاهُ الله، فلمَّا رجع موسى قالوا إنَّهُ هو الذي قتل هارون: فاختار موسى سبعين رجلاً وذهبُوا إلى هارونَ فأحياه الله وقال ما قتلني أحدٌ، فأخذتهم الرَّجفة هناك. فصل اختلفُوا في تلك الرَّجفةِ. فقيل: إنَّهَا رجفة أوْجَبتِ الموتَ. قال السُّديُّ: قال موسى يا رب كيف أرجع إلى بني إسرائيل، وقد أهلكت خيارهم ولم يبق منهم رجل واحد؟ فما أقول لبني إسرائيل، وكيف يأمنوني على أخدٍ منهم؟ فأحياهم الله. فمعنى قوله {لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ} أنَّ مُوسى خاف أن يتَّهِمَهُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 334 بنو إسرائيل عن السَّبعين إذا عاد إليهم، ولم يصدقوا أنهم ماتوا. فقال لربه: لو شئت أهلكتنا قبل خروجنا للميقات، فكان بنو إسرائيل يعاينون ذلك، ولا يتهموني. وقيل: إنَّ تلك الرَّجفة ما كانت موتاً، ولكن القومَ لمَّا رأوا تلك الحالةَ المهيبة أخذتهم الرعدة، ورجفوا حتى كادت تبين منهم مفاصلهم، وخاف موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - الموت فعند ذلك بكى، ودعا؛ فكشف الله عنهم الرعدة. قوله:» لميقاتِنَا «متعلقٌ ب» اختيارَ «أي: لأجل ميقاتنا، ويجوز أن يكون معناها الاختصاصَ أي: اختارهم مخصصاً بهم الميقات، كقولك: اختر لك كذا. قوله» لَوْ شِئْتَ «مفعلوُ المشيئة محذوف، أي: لو شئت إهلكانا، و» أهلكْتَهُم «جواب» لَوْ «والأكثر الإتيانُ باللاَّم في هذا النحو ولذلك لم يأتِ مجرداً منها إلاَّ هنا وفي قوله: {أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ} [الأعراف: 100] وفي قوله: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الواقعة: 70] . ومعنى من قبل أي قبل الاختيار، وأخذ الرَّجفة. وقوله: «وإيَّايَ» قد يتعلَّقُ به من يرى جواز انفصال الضمير مع القُدْرِةِ على اتصاله، إذ كان يمكن أن يقال: أهلكتنا. وهو تعلُّقٌّ واهٍ جداً، لأنَّ مقصوده صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التنصيص على هلاك كُلٍّ على حده تعظيماً للأمر، وأيضاً فإنَّ موسى لَمْ يتعاط ما يقتضي إهلاكهُ، بخلاف قومه. وإنَّما قال ذلك تسليماً منه لربِّه، فعطلف ضميرَه تنبيهاً على ذلك، وقد تقم نظيرُ ذلك في قوله: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ} [النساء: 131] وقوله: {يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ} [الممتحنة: 1] . قوله: «أتُهْلِكُنَا» يجوزُ فيه أن يكون على بابه أي: أتَعْمُّنَا بالإهلاك أم تخصُّ به السفهاء مِنَّا؟ ويجوز أن يكون بمعنى النَّفي، أي: ما تُهْلك مَنْ لَمْ يُذْنِبْ بذنب غيره، قاله ابنُ الأنباري. قال وهو كقولك: أتهينُ من يكرمك «؟ وعن المُبرِّدِ هو سؤالُ استعطاف ومِنَّا في محل نصب على الحال من السُّفَهَاء ويجوز أن يكون للبيان. قوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} . قال الواحديُّ: الكناية في قوله هِيَ عائدة على الفِتْنَةِ كما تقولُ: إن هو إلاَّ زيد، وإن هي إلاَّ هند، والمعنى: إنَّ تلك الفتنة التي وقع فيها السُّفهاءُ لم تكن إلاَّ فتنتك أضللت بها قوماً فافتنوا، وعصمْتَ قوماً فثبتُوا على الحق. ثُمَّ أكَّد بيان أنَّ الكل من الله تعالى، فقال: {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ} . ثم قال الواحديُّ: وهذه الآية من الحُجَّج الظَّاهرة على القدريَّةِ التي لا يبقى لهم معها عذر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 335 قالت المعتزلةُ لا تعلق للجبريَّةِ بهذه الآية؛ لأنه لم يقل: تضلُّ بها من تشاء عن الدين؛ ولأنه قال تُضِلُّ بِهَا أي بالرَّجْفة، والرَّجفة لا يضِلُّ اللَّهُ بها؛ فوجب تأويل الآية. فمعنى قوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} أي: امتحانُك وشدة تعبدك؛ لأنَّهُ لمَّا أظْهَرَ الرَّجْفَة كلَّفهم بالصَّبْرِ عليها، وأمَّا قوله: {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ} ففيه وجوه: أحدها: تَهْدِي بهذا الامتحان إلى الجنَّةِ والثَّوابِ بشرط أن يؤمن ذلك المكلف، ويبقى على الإيمان، وتُعاقِب من تشاء بشرط ألا يؤمن، أو إن آمن لكن لا يصبر عليه، وثانيها: أن يكون المرادُ بالإضلال الإهلاك، أي: تُهلك من تشاء بهذه الرَّجفة وتصرفُها عَمَّنْ تشاء، وثالثها: أنَّهُ لمَّا كان هذا الامتحان كالسَّببِ في هداية من اهتدى، وضلال من ضَلَّ، جاز أن يُضافَ إليه. فصل واعلم أن هذه تأويلات مُتعَسَّفة، والدلائل العقليَّة دالةٌ على أنَّ المراد ما ذكرناه، وتقريره من وجوه: الأول: أنَّ القدرة الصَّالحة للإيمان والكفر لا يترجحُ تأثيرها في أحد الطرفين على تأثيرها في الطَّرَف الآخر، إلاَّ لداعية مرجحة، وخالف تلك الداعية هو اللَّهُ تعالى، وعند حصول الداعية يجب الفعل، وإذا ثَبَتَتْ هذه المقدمات ثبت أنَّ الهداية والإضلال من الله تعالى. الثاني: أنَّ العاقل لا يُريدُ إلاَّ الإيمان، والحقَّ، والصدقَ، فلو كان الأمر باختياره وقصده لوجب أن يكون كلُ أحدٍ مؤمناً محقاً، وحيثُ لم يكن الأمر كذلك؛ ثبت أنَّ الكل من الله تعالى. الثالث: لو كان حصولُ الهداية بفعل العبد فبما لم يتميز عنده اعتقاد الحق من اعتقاد الباطل؛ امتنع أن يخصّ أحدُ الاعتقادين بالتَّحْصيلِ، لكن علمه بأنَّ هذا الاعتقاد هو الحق، وأنَّ الآخر هو الباطل، يقتضي كونه عالماً بذلك المعتقد أولاً كما هو عليه، فلزمَ أن تكون القدرة على تحصيل الاعتقاد هو الأول، وأنَّ الآخر مشورطاً بكون ذلك الاعتقاد حاصلاً وذلك يقتضي كون الشَّيء مَشْرُوطاً بنفسه، وهو محالٌ، فامتنع أن يكون حصولُ الهداية بتحصيل العبد، وأمَّا إبطال تأويلاتهم، فقد تقدَّم مراراً. قله تُضِلُّ بِهَا يجوزُ فيها وجهان: أحدهما: أن تكون مستأنفةً فلا مَحَلَّ لها، والثاني أن تكون حالاً من فِتْنَتُكَ أي: حال كونها مُضلاًّ بها، ويجوزُ أن تكون حالاً من الكاف؛ لأنَّهَا مرفوعةٌ تقديراً بالفاعليَّةِ، ومنعه أبُو البقاءِ قال: «لعدم العامل فيها» وقد قدم البحث معه مراراً. قوله: «أنْتَ وَلينَا» يفيد الحَصْرَ، أي: لا ولي لنا، ولا ناصر، ولا هادي إلاَّ أنت، وهذا من تمام ما تقدَّم من قوله: {تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ وَتَهْدِي مَن تَشَآءُ} . وقوله: {فاغفر لَنَا وارحمنا} المُرادُ منه: أنَّ إقدامه على قوله: {إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ} الجزء: 9 ¦ الصفحة: 336 جراءة عظيمة، فطلب من الله غفرانها والتَّجاوز عنها. وقوله: {وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين} أي: أنَّ كلَّ مَنْ سواك فإنَّمَا يتجاوزُ عن الذَّنب إمَّا طلباً للثناء الجميل، أو للثَّواب الجزيل، أو دفعاً للرقة الخسيسة عن القلب، أمَّا أنت فتغفر ذنوب عبادك لا لطلب غرض وعوض، بل لمحض الفضل والكرم. قوله: {وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين} الكتابة تذكر بمعنى الإيجاب. ولمَّا قرَّرَ أنَّه لا ولي له إلاَّ الله، والمتوقع من الولي والنَّاصر أمران: أحدهما: دفع الضَّرر والثاني: تحصيل النَّفع، ودفع الضَّرر مقدم على تحصيل النَّفع؛ فلهذا السَّبَبِ بدأ بطلب دفعِ الضَّررِ وهو قوله: {فاغفر لَنَا} [الأعراف: 155] ثُمَّ أتبعه بتحصيل النَّفْعِ، وهو قوله {واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً} والمُرادُ بالحسنة في الدُّنْيَا، النَّعمةُ والعافيةُ، والحسنةُ في الآخرة: المغفرة والجنة. قوله: {إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ} العامَّةُ على ضم الهاءِ، من هاد يَهُود بمعنى: مال؛ قال: [السريع] 2594 - قَدْ عَلِمَتْ سَلْمَى وجَارَاتُهَا ... أنِّي مِنَ اللَّهِ لَهَا هَائِدُ أو «تَابَ» من قوله: [الرجز] 2595 - إنِّي امْرؤ مِمَّا جَنَيْتُ هَائِدُ ... ومن كلام بعضهم: {المجتث] 2596 - يَا رَاكِبَ الذَّنْبِ هُدْهُدْ ... واسْجُدَ كأنَّكَ هُدْهُدْ وقرأ زيد بنُ علي، وأبو وجزة «هِدْنَا» بكسر الهاء مِنْ «هَادَ يَهِيدُ» أي: حَرَّكَ. أجاز الزمخشريُّ في «هُدْنا» ، و «هِدْنا» - بالضمِّ والكسر - أن يكون الفعلُ مبنياً للفاعل أو للمفعول في كُلٍّ منهما بمعنى: مِلْتَا، أو أمَالَنَا غَيْرُنَا، أو حَرَّكْنَا نَحْنُ أنفسنَا، أو حَرَّكَنَا غَيْرُنَا، وفيه نظر؛ لأنَّ بعض النَّحويين قد نصَّ على أنَّهُ متى ألْبِسَ، وجبَ أن يُؤتَى بحركةٍ تزيل اللبس. فيقال في «عقتُ» من العوق إذَا عاقك غَيْرُكَ: «عِقْت» بالكَسْرِ فقط، أو الإشمام، وفي: «بعت يا عبد» إذا قصد أن غيره باعه «بُعْت» بالضم فقط أو الإشمام، ولكن سيبويه جوَّز في «قيل وبيع» ونحوهما الأوجه الثلاثة من غير احتراز. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 337 و «هِيَ» ضميرٌ يُفَسِّره سياقٌ الكلام إذ التقديرُ: إنْ فَتنتُهُمْ إلاَّ فِتنَتُكَ. وقيل يعندُ على مسألة الإرادة من قوله: {أَرِنَا الله جَهْرَةً} [النساء: 153] أي: إنَّهُ من مسألة الرُّؤيةِ. قوله: {عذابي أُصِيبُ بِهِ} مبتدأ وخبر. والعامَّةُ على «مَنْ أشَاءُ» بالشِّينِ المعجمةِ. وقرأ زيدُ بن علي، وطاووس، وعمرو بن فائد «أسَاءُ بالمهملة. قال الدَّانِي: لا تصحُّ هذه القراءة عن الحسن، ولا عن طاووس، وعمرو بن فائد رجل سَوْءَ واختار الشَّافعيُّ هذه القراءة، وقرأها سفيان بْنُ عيينة، واستحسنها فقام عبد الرَّحْمنِ المقرىء فصاح به وأسمعه. فقال سفيانُ:» لَمْ أفطِنْ لِمَا يقولُ أهل البدع «. يعني عبد الرحمن أنَّ المعتزلة تعلَّقُوا بهذه القراءة في أنَّ فعل العَبْدِ مَخْلُوقٌ لهُ، فاعتذرَ سفيان عن ذلك. ومعنى الآية: إنِّي أعذبُ مَنْ من أشَاءُ، وليس لأحدٍ عليَّ اعتراض {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} أي: أنَّ رحمته في الدُّنيا تعُمُّ الكل، وأمَّا في الآخرةِ فهي مختصة بالمؤمنين لقوله هنا {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} وهذا من العام الذي أريد به الخاص كقوله {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] . قال عطيَّةُ العوفي:» وَسِعَتُ كُلَّ شيءٍ «ولكن لا تَجِب إلاَّ للمُتَّقينَ، وذلك أنَّ الكافر يرزق ويدفع عنه ببركة المؤمن، لسعة رحمةِ الله للمؤمن، فإذا صار للآخرة وجبت للمؤمن خاصة كالمستضيء بنار غيره إذا ذهب صاحب السِّراج بسراجه. قال ابنُ عباس وقتادة وابن جريج: لما نزلت: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} قال إبليس أنا من ذلك الشيء فقال الله: {فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} فتمنَّاها اليهودُ والنصارى. وقالوا: نحن نتقي ونؤتي الزكاة ونؤمن فجعلها اللَّهُ لهذه الأمَّة بقوله {الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي} [الأعراف: 157] . واعلم أنَّ جميع التَّكاليف محصورة في نوعين: الأول: المتروك وهي الأشياء التي يجب على الإنسان تركها، وهو المُرادُ بقوله:» للَّذينَ يتَّقُونَ «. والثاني: الأفعال، وهي إمَّا أن تكون في مال الإنسان أو في نفسه، فالأول: هو الزكاة وهو المراد بقوله» ويُؤتُونَ الزَّكاةِ «والثاني يدخل فيه ما يجب على الإنسان علماً وعملاً أمَّا العلمُ فالمعرفةُ، وأمَّا العملُ فالإقرارُ باللسان والعمل بالأركان، فيدخل فيه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 338 الصَّلاة وإلى هذا المجموع أشار بقوله: {والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} ونظيره قوله تعالى في أوَّل سورة البقرةِ {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاة وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 2، 3] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 339 قوله {الذين يَتَّبِعُونَ} في محلِّه أوجه: أحدها: الجر نعتاً لقوله {الذين يَتَّقُونَ} . الثاني: أنَّهُ بدلٌ منه. الثالث: أنَّهُ منصوبٌ على القطع. الرابع: أنَّهُ مرفوع على خبر مبتدأ مضمر وهو معنى القطع أيضاً. الخامس: أنه مبتدأ وفي الخبر حينئذٍ وجهان: أحدهما الجملةُ الفعليَّةُ من قول: «يأمُرهُمْ بالمَعْرُوفِ» . والثاني: الجملةُ الأسميَّةُ من قوله: {فأولئك هُمُ المفلحون} [الأعراف: 8] ذكر ذلك أبُو البقاءِ، وفيه ضعف بل مَنْعٌ كيف يجعل: «يَأمْرُهُم» خبراً وهو من تتمسة وَصْفَ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أو على أنَّهُ معمولٌ للوجدان عند بعضهم؟ كيف يجعل {فأولئك هُمُ المفلحون} خبراً لهذا الموصول؟ والموصولُ الثاني وهو قوله: {فالذين آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ} يطلبه خبراً، لا يتبادَرُ الذهن إلى غيره، ولو تبادر لم يكن مُعتَبراً. قوله «الأمِّيَّ» العامَّةُ على ضمِّ الهمزة، نسبةً إمَّا إلى الأمة وهي أمَّةُ العرب؛ وذلك لأن العرب لا تحسب ولا تكتب، ومنه الحديث «أنَّا أمَّةٌ أمِّيَّةٌ لا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ» ، وإمَّا نسبةً إلى «الأمّ» وهو مصدر «أمَّ يَؤمُّ» أي: قصد يقصد، والمعنى على هذا: أن النبيَّ الكريم مقصود لك أحدٍ، وفيه نظر؛ لأنه كان ينبغي أن يقال: «الأَمِّيّ» بفتح الهمزة. وقد يقال: إنَّهُ من تغيير النَّسب، وسيأتيأنَّ هذه قراءةٌ لبعضهم، وإمَّا نسبةً إلى «أمِّ القرى» وهي مكة وإمَّا نسبةً إلى الأمّ، فالأمي الذي لا يقرأ ولا يكتب على حالةِ ولادته من أمه. وقرأ يعقوب الأَمِّيَّ بفتح الهمزة، وخَرَّجهَا بعضُهُمْ، على أنَّهُ من تَغْييرِ النَّسبِ، كما قالوا في النَّسب إلى أمَيَّة: أموي، وخرَّجها بعضُهم على أنَّها نسبةٌ إلى «الأَمِّ» وهو القصد، أي الذي هو على القصْدِ والسَّدادِ، وقد تقدم ذلك في القراءة الشهيرة، فكل من القراءتين يحتملُ أن تكون مُغَيَّرَةً من الأخرى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 339 قوله يَجِدُونَهُ الظَّاهرُ أنَّ هذه متعديةٌ لواحد؛ لأنَّها اللُّقْيَة، والتقدير: يَلْقونَهُ أي: يلقَوْنَ اسمه ونعته مَكْتُوباً؛ لأنَّهُ بمعنى: وُجْدَانِ الضالَّة، يكون مَكْتُوباً حالاً من الهاء في يَجِدُونَه. وقال أبُو عيِّ: «إنَّهَا متعدية لاثنين، أوَّلهما: الهاءُ» . والثاني: «مَكْتُوباً» . قال «ولا بدّ من حذف هذا المضاف، أعني قوله: ذكره، أو اسمه» . قال سيبويه: «تقولُ إذا نظرت في هذا الكتاب: هذا عمرو، وإنَّما المعنى هذا اسم عمرو، وهذا ذِكْر عمرو وقال مجاهد وهذا يجوزُ على سعةِ الكلامِ» . قوله {عِندَهُمْ فِي التوراة} . هذا الظَّرف، وعديلُه كلاهما متعلِّقٌ ب «يَجِدُونَ» ، ويجوزُ - وهو الأظهر - أن يتعلَّقا ب «مَكْتُوباً» أي: كُتِبَ اسمُهُ ونَعْتُهُ عندهم في توراتهم وإنجيلهم. قوله يَأمُرُهُم فيه ستة أوجه: أحدها: أنَّهُ مستأنف؛ فلا محلَّ له حينئذ، وهو قول الزجاج. والثاني: أنَّهُ خبر ل «الّذينَ» قاله أبُو البقاءِ: وقد ذُكِرَ، أي: وقد ذكره فيه ثمَّة. الثالث: أنَّهُ منصوبٌ على الحال من الهاء في يَجِدُونَهُ، ولا بدَّ من التَّجوز في ذلك، بأن يُجْعَلَ حالاً مقدرة، وقد منع أبو عليِّ أن يكون حالاً من هذا الضَّمير. قال: لأنَّ الضمير للاسم والذِّكْرِ، والاسم والذِّكر لا يأمران يعني أن الكلام على حذف مضاف كما مر؛ فإن تقديره: «يجدون اسمه، أو ذكره» ، والذكر أو الاسم لا يأمران، إنما يأمر المذكور والمسمَّى. الرابع: أنه حال من النَّبِيِّ. الخامس: أنَّهُ حال من الضَّمير المُسْتكِن في «مَكْتُوباً» . السادس: أنَّهُ مُفَسِّر لِ «مَكْتُوباً» أي: لِمَا كُتِبَ، قاله الفارسي. قال: «كَمَا فَسَّرَ قوله {وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ} [المائدة: 9] [النور: 55] [الفتح: 29] بقوله: {لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ} [المائدة: 9] ، وكما فسَّر المثل في قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] بقوله: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] . وقال الزَّجَّاجُ هنا: ويجوزُ أن يكون المعنى: يجدونه مكتوباً عندهم أنَّهُ يأمرهم بالمعروف وعلى هذا يكون الأمرُ بالمعروف، وما ذُكِر معه من صفته التي ذُكِرت في الكتابين، وقد استدرك أبُو علي هذه المقالة، فقال: لا وجه لقوله:» يجدونه مكتوباً عندهم أنَّهُ يأمرهم بالمعروف «إن كان يعني أنَّ ذلك مرادٌ؛ لأنَّهُ لا شيء يَدُلُّ على حذفه، ولأنَّا لا نعلمهم أنهم صدقوا في شيء، وتفسير الآية أنَّ» وجدت «فيها تتعدَّى لمفعولين فذكر نحو ما تقدم عنه. قال شهابُ الدِّينِ: وهذا الردُّ تحاملٌ منه عليه؛ لأنَّهُ أراد تفسير المعنى وهو تفسير حسن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 340 فصل لمَّا بيَّن صفة من تكتب له الرحمة في الدُّنيا والآخرة وهو أن يكون مُتقياً ويؤتي الزكاة، ويؤمن بالآيات، ضمّ إلى ذلك أن يكون مُتَّبِعاً للنبي» الأمِّي الذي يجدُونَهُ مكْتُوباً عندهُمْ في التَّوراةِ والإنجيلِ «واختلفوا في ذلك. فقال بعضهم: المراد باتباعه اعتقاد نبوته من حيث وجدوا صفته ولا يجوز أن يتبعوه في شرائعه قبل بعثته. وقيل في قوله: والإنجيل أن المراد وسيجدونه مكتوباً في الإنجيل؛ لأنَّ من المُحَالِ أن يجدوه فيه قبل ما أنزل اللَّهُ الإنجيل. وقيل المراد بهم: مَنْ لَحِقَ من بني إسرائيل أيَّام الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فبيَّنَ تعالى أن هؤلاء اللاحقين لا يكتب لهم رحمة الآخرة إلاَّ إذا اتبعوا الرسول الأمِّيَّ، وهذا هو الأقرب، لأن اتباعه قبل بعثته لا يمكن. ووصف هذا النبي بتسع صفات: الأأولى: كونه رسولاً، وهو في العُرفِ من أرسله اللَّهُ إلى الخلق لتبليغ التَّكاليف. الثاني: كونه نبيّاً، وهو الرفيع القدر عند الله تعالى. والثالثة: كونه أميّاً. قال الزجاج: وهو الذي على صفة أمة العرب، كما تقدم في قوله عليه السلام: «إنا أمَّة أمِّيَّةٌ لا نكتب ولا نحسب» قال المحقِّقُون: وكونه أميّاً بهذا التفسير من جملة معجزاته وبيانه من وجوه: الأول: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يقرأ عليهم كتاب الله تعالى مَنْظُوماً مرَّة بعد أخرى من غير تبديل ألفاظه، ولا تغيير كلماته، والخطيب من العرب إذا ارتجل خطب ثم أعادها؛ فلا بد أن يزيد فيها، وأن ينقص عنها بالقليل والكثير، وهو - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مع أنه ما كان يكتبُ وما كان يقرأ يتلو كتاب الله من غير زيادة ولا نقصان ولا تغيير، فكان ذلك من المعجزات وإيله الإشارة بقوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] . الثاني: لو كان يُحسِن القراءة والخَطَّ لكان مُتَّهما في القرآن العظيم المشتمل على العلوم الكثيرة كلَّما أتى به من غير تعلم، ولا مطالعة؛ فكان ذلك من المعجزات وهو المرادُ من قوله: {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون} [النعكبوت: 48] الثالث: أن تعلَّم الخط شيء سهل فإن أقلَّ النَّاس ذكاء وفطنة يتعلمون الخطَّ بأهون سعي فعدم تعلمه يدلُّ على نقص عظيم في الهمم، ثم إنَّهُ تعالى آتاه علوم الأولين والآخرين وما لم يصل إليه أحد من البشر، ومع تلك القوة العظيمة والفهم جعله بحيثُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 341 لم يتعلم الخط الذي يسهُل تعلمه على أقل الخلق عقلاً وفهماً، فكان الجمع بين هاتين الحالتين المتضادتين جارياً مجرى الجمع بين الضدين، وذلك من الأمُورِ الخارقة للعادة وجارية مجرى المعجزات. الصفة الرابعة: قوله: {يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل} [الأعراف: 157] وهذا يدُلُّ على أن نعته وصحة نبوته مكتوب عندهم في التوراة والإنجيل؛ لأنَّ ذلك لو لم يكن مكتوباً لكان ذكر هذا الكلام من أعظم المنفرات لليهود والنصارى عن قبول قوله؛ لأنَّ الإصرار على الكذب من أعظم المنفّرات، والعاقلُ لا يسعى فيما يوجب نقصان حاله، وينفر النَّاس عن قبول قوله وإذا كان مذكوراً في التَّوراة والإنجيلِ كان معجزة له دالةً على صدقهِ. قال عطاءُ بنُ يسار: لقيتُ عبد الله بن عمرو بن العاصِ، قلت: أخبرني عن صفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في التوراة. قال: أجَلْ، واللَّه إنَّه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن {ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً} [الأحزاب: 45] وحِرزاً للأميين، أنت عبدي ورسولي سمِّيْتُكَ المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يدفع السيئة بالسيئة ولكن يفعو، ويغفر، ولن يقبضه حتى يقيم به الملَّة العَوْجَاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله، ويفتح بها أعْيُناً عُمْياً، وآذاناً صُمّاً، وقلوباً غُلْفاً. وعن كعب قالك إني أجدُ في التوراة مكتوباً محمد رسول الله لا فظّ، ولا غليظ، ولا سخّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، أمته الحامدون، يحمدون الله في كل منزل، وعلى كلِّ نجد، يأتزرُون على أنصافهم، ويغضون أطرافهم، صَفُّهُمْ في الصلاة وصفهم في القتال سواء، مناديهم ينادي في جوِّ السماءِ، لهم في جوف الليل دَويٌّ كدويِّ النحل، مولده بمكَّة، ومخاهره بطيبة، ومُلْكُهُ بالشَّام. الصفة الخامسة: قوله: {يَأْمُرُهُم بالمعروف} أي: بالإيمان، وقيل: الشَّريعة والسُّنة. قال عطاءٌ: بمكارم الأخراق، وخلع الأنداد، وصلة الأرحام. السادسة: قوله {وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر} أي: عن الشرك. وقيل: ما لا يعرف في كل شريعة ولا سنَّةٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 342 وقيل: المنكرُ عبادة الأوثان، وقطع الأرحام. السابعة: قوله: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات} . قيل: ما كانوا يُحَرِّمونه في الجاهليَّة: من البحيرة والسَّائبة والوصيلة والحامِ. قال ابنُ الخطيب: وهذا بعيد لوجهين: الأول: أنه على هذا التقدير تصير الآية ويحلُّ لهم المُحللات وهذا محضُ التكرير. والثاني: أنَّ على هذا التقدير تخرج الآية عن الفائدة، لأنَّ لا ندري الأشياء التي أحلَّها اللَّهُ ما هي وكم هي؟ . بل الواجب أن يكون المرادُ بالطَّيبات الأشياء المستطابة بحسب الطبع؛ لأن تناولها يفسد اللَّذة والأصل في المنافع الحل فدلَّت هذه الآية على أنَّ الأصل في كلِّ ما تستطيبه النفس ويستلذه الطبع الحِلُّ إلاَّ بدليل منفصل. الصفة الثامنة - قوله {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} . قال عطاءٌ عن ابن عباس: يريد الميتة والدَّم وما ذكر في سورة المائدة إلى قوله: {ذلكم فِسْقٌ} [المائدة: 3] . قال ابنُ الخطيب: وأقول ههنا: كل ما يستخبثه الطَّبع [وتستقذره النفس كان تناوله سبباً للألم، والأصل في المضار الحرمة، فكان مقتضاه أن كل ما يستخبثه الطبع] فالأصْلُ فيه الحُرمَةُ إلاَّ بدليلٍ منفصل، وعلى هذا يحرم بيع الكلب، قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الكلبُ خبيثٌ، وخَبيثُ ثَمنُهُ» ، فدخل في قوله تعالى: {وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث} . الصفة التاسعة: قوله {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} . قرأ ابنُ عامر آصارهم بالجمع، على صفة «أفْعَال» فانقلبت الهمزةُ التي هي فاء الكلمة ألفاً لسبقها بمثلها، والباقُون بالإفرادِ. فمن جمع فباعتبار متعلِّقاته وأنواعه، وهي كثيرة، ومن أفْردَ؛ فلأنه اسمُ جنسٍ. وقرأ بعضهم أَصْرَهُمْ بفتح الهمزةِ، وبعضهم أُصْرَهُمْ بضِّمها. والإصْرُ: الثِّقلُ الذي يأصر صاحبه، أي يحبسه من الحرَاك لثقله، أي: إنَّ شريعة موسى كانت شديدةً، وقد تقدَّم تفسيرُ هذه المادة في قوله تعالى: {وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً} [البقرة: 286] والأغلالُ جمع غُلٍّ، وهو هنا مثلٌ لِمَا كَلِّفُوهُ كقطع أثر البول، وقتل النَّفس في التَّوبةِ، وقطع الأعضاء الخاطئة، وتتبع العروق من اللَّحم وجعلها الله الجزء: 9 ¦ الصفحة: 343 أغلالاً؛ لأنَّ التَّحريمَ يمنع من الفعل كما أنَّ الغل يمنع من الفعل. فصل وقيل: كانوا إذَا قاموا إلى الصَّلاة لبسوا المسوح، وغلوا أيديهم إلى أعناقهم. وقد تقدم تفسير مادة «الغل» في آل عمران عند قوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [161] وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الأصل في المضار ألا تكون مشروعة؛ لأنَّ كلَّ ما كان ضرراً كان إصْراً وغلاًّ، وهذا النص يقتضي عدم المشروعية، كقوله: «لا ضرَرَ ولا ضِرارَ في الإسلامِ» وقول «بُعثِتُ بالحنفيّة السَّمْحَةِ السَّهْلهِ» فإن قيل: كيف عطف الأغلالَ وهو جمع على الإصْرِ وهو مفرد؟ . فالجواب: أنَّ الأصل مصدر يقع على الكثير والقليلِ. قوله: {فالذين آمَنُواْ بِهِ} . قال ابنُ عبَّاسِ: يعني من اليهود وعَزَّرُوهُ يعني وقَّرره. قال الزمخشريُّ: أصلُ العزْر المَنْعُ، ومنه التَّعزير؛ لأنَّهُ يمنع من معاودة القبيح وتقدَّم تفسيرُ التعزير في المائدة، والعَامَّةُ على التشديد وعَزَّرُوهُ. وقرأ الجحدريُّ وعيسى بن عمر، وسليمان التيمي: بتخفيفها، وجعفر بن محمد وعَزَّرُوهُ بزايين معجمتين. ونَصَرُوهُ أي على عَدُوِّهِ. {واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ} وهو القرآن. وقيل: الهدى والبينات والرسالة. فصل قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى أنزلَ مَعَهُ وإنَّما أُنزِلَ مع جبريل؟ . قلت: معناه أُنزل مع نُبوته؛ لأنَّ استنباءهُ كان مَصْحُوباً بالقرن مَشْفُوعاً به، ويجوزُ أن يتعلَّق ب «اتَّبَعُوا» أي واتَّبعوا القرآن المنزَّل مع اتِّباع النبي والعمل بسنته، وبما أمَرَ به ونَهَى عنه أو اتبعُوا القرآن كما اتَّبعه مصاحبين له في اتِّباعه، يعني بهذا الوجه الأخير أنَّهُ حال من فاعل اتَّبَعُوا. وقيل: «مَعَ» بمعنى «عَلَى» أي: أُنْزِلَ عليه. وجوَّزَ أبُو حيان أن يكون معه ظَرْفاً في موضع الحال. قال: العامل فيها محذوفُ تقديره: أنزل كائناً معه، وهي حالٌ مُقدَّرة كقوله: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 344 مَرَرْتُ برجلٍ معه صقرٌ صائداً به غداً، فحالةُ الإنزال لم يكن معه، لكنَّه صار معه بعدُ، كما أنَّ الصيدَ لم يكن وقت المرور. ثُمَّ لمَّا ذكر تعالى هذه الصِّفات، قال: {أولئك هُمُ المفلحون} أي: الفائزونُ في الدُّنيا والآخرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 345 قوله تعالى: {قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ} الآية. لمَّا بيَّن تعالى أنَّ من شُرُوطِ حُصُولِ الرَّحْمَةِ لأولئك المُتَّقِينَ، كونهم مُتَّبِعين للرَّسُولِ، حَقَّقَ في هذه الآية رسالته إلى كلِّ الخلق. وقوله إلَيْكُمْ مُتعلِّقٌ ب «رَسُولُ» ، وجَمِيعاً حال من المجرورِ ب «إلى» . فصل هذه الآيةُ تدلُّ على أنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مبعوثٌ إلى جميع الخَلْقِ. وقالت طائفة من اليهُودِ يقال لهم العيسوية، وهم أتباع عيسى الأصفهانيّ: إنَّ محمداً رسول صادق مبعوث إلى العرب خاصة لا إلى بني إسرائيل وهذه الآية تبطلُ قولهم؛ لأن قوله {ياأيها الناس} خطابٌ يتناولُ كلَّ النَّاسِ، وقد أقرّوا بكونِهِ رسولاً حقّاً صادقاً وما كان كذلك امتنع الكذب عليه، ووجب الجزمُ بكونه صادقاً في كلِّ ما يدَّعيه، وقد ثبت بالتَّواتُرِ وبهذه الآية أنه كان يدَّعي كونه مبعوثاً إلى جميع الخلق؛ فوجب ونُه صادقاً في هذا القول. فصل هذه الآيةُ دلَّت على أن محمداً عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ مبعوثٌ إلى كل الخلق فهل شاركه في هذه الخصوصيَّةِ أحد من الأنبياء؟ . فقال بعضهم: نعم كان آدم عليه الصَّلاة والسَّلام مبعوثاً إلى جميع أولاده، وأنَّ نوحاً لما خرج من السفينة كان مبعوثً إلى الذين كانوا معه، وهم جميع النَّاسِ في ذلك الوقت، وقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «أعطيتُ خمْساً لَمْ يُعْطَهنَّ أحَدٌ من الأنبياءِ قَبْلِي» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 345 المرَادُ أنَّ مجموعَ الخَمْسَةِ لم يحصل لأحدٍ سواه، ولم يلزم من كون المجموع من خواصه عدم مشاركة غيره في آحاد أفرادها. قوله: {الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} . يجوزُ فيه: الرَّفْعُ، والنَّصْبُ، والجَرُّ، فالرَّفْعُ والنَّصْبُ على القطع كما تقدم [الأعراف: 57] ، والجَرُّ من وجهين: إمَّا النَّعْتِ للجلالة، وإمَّا البدلِ منها. قال الزمخشريُّ: ويجوزُ أن يكون جَرّاً على الوصفِ، وإن حيلَ بين الصِّفةِ والموصوف بقوله «إليْكُمْ جَمِيعاً» . واستضعف أبُو البقاءِ هذا ووجه البدل، فقال: ويَبْعُدُ أن يكون صفة لله او بدلاً منه، لما فيه من الفصل بينهما ب «إلَيْكُمْ» وبحالٍ، وهو مُتعلِّقٌ ب «رَسُولُ» . قوله {لاا إله إِلاَّ هُوَ} لا محلَّ لهذه الجملةِ من الإعراب، إذ هي بدل من الصلةِ قبلها وفيها بيان لها؛ لأنَّ من ملك العالم كان هو الإله على الحقيقةِ، وكذلك قوله «يُحْيي ويُمِيتُ» هي بيان لقوله لا إله إلاَّ هُوَ سِيقَتْ لبيان اختصاصه بالإلهيَّةِ؛ لأنه يَقْدِرُ على الإحياء والإماتةِ غَيْرُهُ. قاله الزمخشريُّ: وقال أبُو حيَّان: «وإبدالُ الجُمَلِ من الجُمَلِ غير المشتركة في عاملٍ لا نعرفه» . فصل وقال الحُوفيُّ: إن «يُحْيِ ويُمِيتُ» في موضع خبر لا إله. ق : «لأنَّ الإله» في موضع رفع بالابتداء، وإلاَّ هُوَ بدلٌ على الموضع. قال: والجملةُ أيضاً في موضع الحال من اسم اللَّهِ. ويعني بالجملةِ قوله: {لاا إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} ويعني باسم الله، أي: الضَّمير في لهُ مُلْكُ أي استقرَّ له الملك في حال انفراده بالإلهيَّةِ. وقال أبُو حيَّان: والأحْسَنُ أن تكون هذه جملاً مستقلة من حيث الإعراب، وإن كان متعلقاً بعضها ببعضٍ من حيث المعنى. وقال في غعراب الحوفي المتقدم إنَّهُ متكلَّفٌ. قوله: {فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} . فصل اعلم أنَّ الإيمان بالله أصل، والإيمان بالنبوَّةِ والرسالة فرع عليه، والأصلُ يجب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 346 تقديمه فلهذا بدأ بقوله: فأمِنُوا باللَّهِ ثم أتبعه بقوله: {وَرَسُولِهِ النبي الأمي الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ} وهذا إشارة إلى ذِكْرِ المعجزاتِ الدالَّة على كونه نبيّاً حقاً؛ لأنَّ معجزاته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كانت على نوعين. الأول: المعجزاتُ التي ظهرت في ذاته المباركة وهو كونه أمِّياً، وقد تقدم الكلامُ على كون هذه الصِّفَةِ معجزة. الثانيك المعجزات الَّتي ظهرت من خارج ذاته مثل انشقاق القمر، ونبع الماء من بين أصابعه، وحنين الجذع ونحوها، وهي تسمى بكلمات الله، لأنَّهَا أمورٌ عظيمة. ألا ترى أن عيسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - لمّضا كان حدوثُه أمراً عظيماً غريباً مخالفاً للعادة، سمَّاهُ اللَّهُ كلمة، فكذلك المعجزات لمَّا كانت أموراً غريبة خارقة للعادة لم يبعُد تسميتُها كلمات، وهذا هو المُرادُ بقوله: {يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ} . وقرأ مجاهدٌ وعيسى وكلمته بالتَّوحيد، والمرادُ بها الجِنسُ كقوله - عليه الصَّلاة والسَّلامُ -: «أصْدَقُ كلمةٍ قالها شاعرٌ كلمةُ لبيدٍ» ويسمُّون القصيدة كلها كلمةً، وقد تقدَّم. قال الزمشريُّ: فإن قلت: هَلاَّ قيل: فآمنوا باللَّه وبِي، بعد قوله {يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ} ؟ . قلت: عدل عن الضمير، إلى الاسم الظاهر، لتَجْرِي عليه الصفاتُ التي أُجْرِيَتْ عليه، ولِمَا في طريق الالتفات من البلاغةِ، وليُعْلِم أنَّ الذي يجبُ الإيمانُ به واتِّباعهُ، هو هذا الشخص المستقل بأنه النَّبيُّ الأميُّ الذي يؤمنُ بالله وكلماته، كائناً من كان، أنا أو غيري إظهاراً للنَّصَفة، وتفادياً من العصبية لنفسه. قوله: واتبعوه لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} . وهذا الأمرُ يدلُّ على وجوب متابعةِ الرَّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلام في كلِّ ما يأتي به قولاً كان أو فعلاً أو تركاً إلا ما خصه الدَّليل. فصل فإن قيل: إذا أتى الرَّسسول بشيء فيحتمل أنه أتى به على سبيل الوُجوبِ، ويحتمل الندب فعلى سبيل أنه أتى مندوباً، فلو أتينا به على أنَّه واجب علينا، كان ذلك تركاً لمتابعته والآية تدلُّ على وجوب المتابعةِ، فثبت أنَّ فعل الرَّسُولِ لا يدُلُّ على الوجوب علينا. فالجوابُ: أنَّ المتابعةَ في الفعل عبارة عن الإتيان بمثل الفعل الذي أتى به المتبوع؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 347 لأنَّ من أتى بفعل ثم إنَّ غيرهُ وافقه في ذلك الفعل، قيل: إنَّهُ تابعهُ عليه، ولوْ لَمْ يأتِ به، قيل: إنه خالفه، وإن كان كذلك، ودلَّت الآية على وجوب المتابعة؛ لزم أن يجب على الأمة متابعته. بقي علينا أنَّ لا نعرف هل أتى به - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ - قاصداً الوجوب أو النَّدب؟ . فنقول: حال الدَّوَاعي والعزائم غير معلوم، وحال الإتيان بالفعل الظاهر معلومٌ؛ فوجب أن لا يُلتفتَ إلى حال العزائم والدَّواعي؛ لأنَّها أمورٌ مخفية عَنَّا، وأن نحكم بوجوب المتابعة في العمل الظَّاهر؛ لأنَّهُ من الأمور التي يمكن رعايتها. وقد تقدَّم الكلامُ على لفظ لعلّ وأنَّها للتردي وهو في حق اللَّهِ تعالى محال، فلا بد من تأويلاها فيلتفت إليه. قوله تعالى: {وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ} . لمَّا وصف الرسول، وذكر أنه يجل على الخلق متابعته، ذكر أنَّ في قوم موسى من اتَّبَعَ الحق وهُدي إليه ويبن أنهم جماعة، لأن لفظ «الأمَّة» ينبىء عن الكثرة. واختلفوا فيهم. فقيل: هم اليهودُ الذين آمنوا بالرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مثل عبد الله بن سلام، وابن صوريا. فإن قيل: إنهم كانوا قليلين في العدد، ولفظ «الأمة» ينبىء عن الكثرة. فالجواب: إنهم لمَّا أخلصُوا في الدِّين جاز غطلاق لفظ «الأمَّةِ» عليهم كقوله تعالى {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} [النحل: 120] . وقيل: إنَّهم قومٌ بَقوا على الدِّين الحق الذي جاء به موسى ودعوا النَّاسَ إليه وصانوه عن التَّحريف والتَّبديل في زمن تفرٌّ بني إسرائيل فيه وإحداثهم البدع. وقال الكلبيُّ والضحاكُ والربيعُ والسُّديُّ: لمَّأ كفر بنو إسرائيل وقتلوا الأنبياء، تبرأ وسبط من الاثني عشر مِمَّا صنعُوا وسألوا اللَّهَ أن يُنقذهم منهم، ففتح اللَّهُ لهم نفقاً في الأرضِ فَسَارُوا فيه حتَّى خرجوا من وراء الصين بأقصى الشرف على نهري مجرى الرَّمل يسمى نهر الأردن، ليس لأحد منهم مال دون صاحبه، يمطرون باللَّيل ويُصْبِحون بالنَّهار يزرعون، لا يصل إليهم منا أحدٌ وهم على الحق. وذكر أنَّ جبريل ذهب بالنَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة أسري به إليهم وكلَّمهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 348 فقالوا: يا رسول الله إنَّ موسى أوصانا أنَّ مَنْ أدرك منا أحْمَدَ؛ فليقرأ عليه منِّي السلام، فردَّ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على مُوسَى السلام، ثم أقرأهم عشر سورة من القرآن نزلت بمكة، وأمرهم بالصَّلاة والزَّكاةِ وأمرهم أنه يقيموا مكانهم، وكانوا يسبتون فأمرهم أن يجمعوا، ويتركوا السَّبْتَ. وقوله: {يَهْدُونَ بالحق} يدعُون النَّاس إلى الهداية بالحقِّ وقوله وَبِهِ يَعدِلُونَ؛ قال الزَّجَّاجُ: العدلُ: الحُكْمُ بالحق. يقال هو يقضي بالحق، ويعدل وهو حاكم عادلٌ، ومنه قوله تعالى: {وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء} [النساء: 129] وقوله {وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا} أنعام: 152] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 349 قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ} . الظَّاهِرُ أن قَطَّعْنَاهُمُ مُتَعدٍّ لواحد؛ لأنه لمْ يُضَمَّنْ معنى ما يتعدَّى لاثنين، فعلى هذا يكون اثْنَتَيْ حالاً من مفعول: قَطَّعْنَاهُمُ أي: فَرَّقْنَاهم مَعْدُودينَ بهذا العدد. وجوَّز أبُو البقاءِ أن يكون قَطَّعْنَا بمعنى «صَيَّرْنَا» ، وأن اثْنَتَيْ مفعولٌ ثانٍ وجزم الحُفِيُّ بذلك. وتمييز: اثْنَتَيْ عَشْرَةَ محذوف، لفهم المعنى، تقديره: اثْنَتَيْ عشرة فرقةٌ، و «اسْبَاطاً» بدلٌ من ذلك التمييز. وإنَّما قلتُ إن التَّمييزَ محذوفٌ، ولم أجعل أسْبَاطاً هو المُمَيِّز لوجهين، أحدهما: أنَّ المعدودَ مُذَكَّر؛ لأنَّ أسْبَاطاً جمع «سِبْط» فكان يكون التركيبُ: اثني عشر. الثاني: أنَّ تمييز العدد المركَّبِ، وهو من «أحد عشر» إلى «تِسْعَة عَشَرَ» مفردٌ منصوبٌ وهذا - كما رأيت - جمع، وقد جعله الزمخشريُّ تمييزاً له معتذراً عنه، فقال: فإن قلت: مُمَيِّزٌ ما عدا العشرة مفردٌ، فما وجهُ مجيئه جمعاً؟ وهلاَّ قيل: اثني عشر سِبْطاً!؟ قلتُ لو قيل ذلك، لم يكن تحقيقاً؛ لأن المُرادَ وقطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عشْرَةَ قبيلة، وكلُّ قبيلة أسباط لا سِبْط، فوضع «أسْبَاطاً» موضع «قبيلة» ؛ ونظيره قوله: [الرجز] 2597 - بَيْنَ رَمَاحَيْ مَالِكِ ونَهْشَلِ ... قال أبُو حيان: وما ذهب إليه من أنَّ كلَّ قبيلةٍ أسباط خلافُ ما ذكره النَّاسُ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 349 ذكروا أن الأسباط في بني إسرائيل كالقبائل في العرب. وقالوا: الأسْبَاطُ جمع وهم الفرق، والأسباطُ في ولد إسحاق كالقبائل في ولد غسماعيل، ويكون على زعمه قوله تعالى: {وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط} [البقرة: 136] معناه: والقبيلةُ، وقوله: «وهو نظير قوله: بين رماحي مالكٍ ونهشَلِ» ليس بنظيره، لأنَّ هذا من باب تثنية الجمع، وهو لا يجوزُ إلا في ضرورةٍ، وكأنَّهُ يشيرُ إلى أنه لوْ لمْ يُلْحَظُ في الجمع كونُه أُريد به نوعق من الرِّمَاحِ لم تَصِحَّ التثنية، كذلك هنا لُحِظَ في «الأسْبَاط» - وإن كان جمعاً - معنى القبيلة فمُيِّزَ به كَما يُمَيَّزُ بالفرد. وقال الحُوفِيُّ: يجوز أن يكون على الحذفِ، والتقديرُ: اثنتي عشرة فرقةً أسبَاطاً ويكون «أسْبَاطاً» نعتاً ل «فرقة» ، ثم حذف الموصوفُ، وأقيمت الصِّفةُ مقامه و «أمَماً» نعتٌ لأسباط، وأنَّثَ العدد، وهو واقعٌ على الأسباطِ وهو مذكَّرٌ، وهو بمعنى فرقة أو أمة كما قال: [الوافر] 2598 - ثَلاثَةُ أنْفُسٍ ... ... ... ... ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . يعني: رجلاً، وقال: [الطويل] 2599 - ... ... ... ... . عَشْرُ أبْطُنٍ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . بالنَّظَرِ إلى القبيلةِ، ونظيرُ وصف التمييزِ المقرر بالجمعِ مراعاةً للمعنى قول الشَّاعر: [الكامل] 2600 - فِيهَا اثْنَتَانِ وأرْبَعُونَ حَلُوبَةً سُوداً كَخَافِيَةِ الغُرابِ الأسْحمِ فوصف «حَلُوبَةً» وهي مفردة لفظاً ب «سُوداً» وهو جمع مراعاةً لمعناها، إذ المرادُ الجمع. وقال الفراء: إنَّما قال: «اثْنَتَيْ عَشْرَةَ» والسِّبْطُ مذكر؛ لأنَّ ما بعده «أمم» فذهب التأنيث إلى الامم، ولو كان «اثني عشر» لتذكير السبط لكان جائزاً. واحتج النحويون على هذا بقوله: [الطويل] 2601 - وإنْ قريشاً هذه عَشْرُ أبْطُنٍ ... وأنْتَ بَرِيءٌ مِنْ قَبَائِلهَا العَشْرِ ذهب بالبطْن إلى القبيلةِ، والفصيلة، لذلك أنَّثَ، والبطن ذَكَرٌ. وقال الزَّجَّاج: المعنى: وقطَّعْنَاهُمْ اثنتي عشرةَ فرقةً أسْبَاطاً، من نعتِ فرة كأنَّهُ قال: جَعَلْنَاهُم أسباطاً وفرَّقناهم أسباطاً، وجوَّز أيضاً أن يكون «أسْبَاطاً» بدلا من اثْنَتَيْ عَشْرَةَ: وتبعه الفارسيُّ في ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 350 وقال بعضهم: تقديرُ الكلامِ: وقطعناهم فرقاً اثْنَتَيْ عشرَةَ، فلا يحتاجُ حينئذٍ إلى غيره. وقال آخرون: جعل كلَّ واحدٍ من الاثنتي عشرةَ أسباطاً، كما تقولُ: لزيد دراهم، ولفلانٍ دراهمُ: فهذه عشرون دراهم يعني أن المعنى على عشرينات من الدَّراهِم. ولو قلت: لفلان، ولفلان، ولفلان عشرون درهماً بإفراد «درهم» لأدَّى إلى اشتراك الكُلِّ في عشرين واحدة، والمعنى على خلافه. وقال جماعةٌ منهم البَغَوِيُّ: «في الكلامِ تقديمٌ وتأخير تقديره: وقطعناهم أسباطاً أمماً اثنتي عشرة» . وقوله: أثمماً إمَّا نعتٌ ل «أسْبَاطاً» ، وإمَّأ بدل منها بعد بدلٍ على قولنا: إنَّ «اسْبَاطاً» بدلٌ من ذلك التَّمييز المقدَّر. وجعلهُ الزمخشريُّ أنه بدل من «اثْنَتَيْ عَشْرَة» ؛ قال: بمعنى: «وقطَّعْنَاهم أمَماً» ، لأنَّ كل أسباط كانت أمَّةً عظيمةً وجماعة كثيفة العدد، وكلُّ واحد تؤمُ خلاف ما تؤمُّهُ الأخرى فلا تكادُ تأتلف «. انتهى. وقد تقدَّم القولُ في» الأسْبَاط «. وقرأ أبان بنُ تغلبَ» وقَطَعْنَاهُمْ «بتخفيف العينِ والشَّهيرةُ أحسن؛ لأنَّ المقامَ للتَّكثيرِ، وهذه تحتمله أيضاً. وقرأ الأعمش وابن وثَّابِ، وطلحة بنُ سليمان» عَشِرَة «بكسر الشِّينِ، وقد رُوي عنهم فَتْحُها أيضاً، ووافقهم على الكسر فقط أبُو حَيْوَةَ، ولطحة بن مصرف. وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في البقرة [60] ، وأنَّ الكسر لغةُ تميم والسُّكُونَ لغةُ الحجاز. قوله: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى إِذِ استسقاه قَوْمُهُ} . وتقدمت هذه القصَّةُ في البقرةِ. » أن اضرب «يجوز في» أنْ «أن تكون المفسِّرة للإيحاء، وأن تكون المصدرية. قال الحسنُ: ما كان إلاَّ حجراً اعترضه وإلاَّ عصاً أخذها. وقوله:» فانبجَسَتْ «كقوله:» فانْفَجَرتْ «إعراباً وتقديراً ومعنىً، وتقدَّم ذلك في البقرة. وقيل: الانبجَاسَ: العرق. قال أبو عمرو بنُ العلاءِ:» انبَجَستْ «: عَرِقَتْ، وانفَجَرَتْ: سالتْ. ففرَّق بينهما بما ذُكر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 351 قال المفسِّرون: إنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام كان إذا ضرب الحجر ظهر عليه مثلُ ثَدْي المرأة فَيَعْرَقُ ثُمَّ يسيل، وهُمَا قَرِيبَان من الفرقِ المذكور في النَّضْح والنَّضْخ. وقال الرَّاغِبُ: بَجَسَ الماءُ وانبَجَسَ انفَجَرَ، لكنَّ الانبجاسَ أكثرُ ما يقالُ فيما يَخْرج من شيء ضيق، والانفجار يُستعملُ فيه وفيما يخرج من شيء واسع؛ ولذلك قول تعالى: {فانبجست مِنْهُ اثنتا عَشْرَةَ عَيْناً} ، وفي موضع آخر {فانفجرت} البقرة: 60] ، فاستُعْمِلَ حيث شاق المخرجُ اللفظتان. يعني: ففرَّق بينهما بالعُمُوم والخُصُصِ، فكلُّ انبجاس انفجارٌ من غير عكس. وقال الهَرَوِيُّ: يقالُ: انبَجَسَ، وتَبَجَّسَ، وتَفَجَّرَ، وتَفَّتقَ بمعنى واحدٍ. وفي حديث حذيفة ما منا إلا رجلٌ له آمَّةٌ يَبجُسُهَا الظَّفُر غَيْرَ رَجُلَيْنِ يعني: عمر وعليّاً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. الآمَّةُ: الشّجَّة تبلغ أمَّ الرأس، وهذا مثل يعني أَنَّ الآمَّة منا قد امتلأت صديداً بحيث إنه يقدر على استخراج ما فيها بالظفر من غير احتياج إلى آلة حديد كالمبضع فعبَّر عن زَلل الإنسان بذلك، وأنه تفاقهم إلى أن صار يشبه شَجَّةً هذه صفتها. قوله: {قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ} . قال الزمخشريُّ: «الأناسُ» اسمُ جمع غير تكسير نحو: رخال وثناء وتؤام، وأخواتٍ لها، ويجوز أن يقال: إن الأصل: الكَسْرُ، والتكسيرُ والضَّمة بدلٌ من الكسرةِ لما أبدلت في نحو: سُكَارَى وغُيَارى من الفتحةِ. قال أبُو حيان: ولا يجوز ما قال لوجهين، أحدهما: أنَّهُ لم يُنْطَقْ ب «إناس» بكسر الهمزة، فيكون جمع تكسير، حتَّى تكون الضمَّةُ بدلاً من الكسرة بخلاف «سُكَارَى» و «غُيَارَى» فإنَّ القياس فيه «فَعَانَى» بفتح فاء الكلمة، وهو مَسْمُوعٌ فيهما. والثاني: أنَّ «سُكَارى» و «عُجَالى» و «غُيارى» وما ورد من نحوها ليست الضَّمَّةُ فيه بدلاً من الفتحة، بل نصَّ سيبويه في كتابه على أنَّه جمعُ تكسيرٍ أصلٌ، كان أنَّ «فَعَالَى» جمعُ تكسيرٍ أصلٌ وإن كان لا ينقاسُ الضَّمُّ كما ينقاسُ الفتح. قال سيبويه - في الأبنيةِ أيضاً -: «ويكون» فُعَالى «في الاسم نحو: حُبَارَى، وسُمَانَى، ولُبَادَى، ولا يكون وصفاً إلاَّ وصفاً إلاَّ أن يُكَسَّرَ عليه الواحدُ للجمع نحو: سُكارى وعُجَالى» . فهذا نَصَّان من سيبويه على أنَّهُ جمعُ تكسير، وإذا كان جمعَ تكسير أصْلاً لم يَسُغْ أن يُدَّعَى أن أصله فَعَلى وأنه أبدلت الحركة فيه. وذهب المُبَرِّدُ إلى أنه اسمُ جمع أعني «فُعَالى» بضم الفاءِ، وليس بجمع تكسير. فالزمخشريُّ لم يذهبْ إلى ما ذهب إليه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 352 سيوبيه، ولا إلى ما ذهب إليه المُبَرِّدُ؛ لأنَّه عند المبرد اسمُ جمعٍ فالضَّمَّةُ في فائه أصلٌ وليست بدلاً من الفتحة بل أحدث قولاً ثلاثاً. فصل قال المفسِّرُون: إنهم احتاجوا في التيه إلى ماءٍ يشربونه، فأمر اللَّهُ تعالى موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلأامُ - أن يضرب بعصاه الحَجَرَ، وكانوا يذرءونه مع أنفسهم، فيأخذون منه قدر الحاجة، ولمَّا أن ذكر تعالى كيف كان يستقيمُ، ذكر ثانياً أنَّهُ ظَلَّل الغَمَامَ عليهم في التِّيه تقيهم حرَّ الشَّمْسِ، وثالثاً: أنَّهُ أنزل عليهم المَنَّ والسَّلْوَى، ومجموع هذه الأأحوالِ نعمة من اللَّهِ تعالى. ثُمَّ قال: {اكُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} والمُرادُ قَصْرُ نفوسهم على ذلك المطعُومِ، وترك غيره. وقلأ عيسى الهَمانِيُّ مَا رَزَقْتُكُم بالإفراد. ثمَّ قال ومَا ظَلَمُونَا وفيه حذف؛ لأنَّ هذا الكلامَ إنَّمَا يَحْسُنُ ذكره لو أنَّهم تعدوا ما أمرهم اللَّهُ به، إمَّا لكونهم ادَّخَرُوا ما منعم اللَّهُ منه، أو أقدمُوا على الأكل في وقت منعهم اللَّهُ منه؛ أو لأنَّهم سألوا عن ذلك مع أنَّ اللَّهَ منعهم منه والمكلف إذَا ارتكبَ المَحْظُورَ فهو ظالم لنفسه، ولذلك وصفهم اللَّهُ بقوله: {ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} ؛ لأنَّ الملكف إذا أقدم على المعصية فهو ما أضر إلاَّ نَفْسَهُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 353 قوله تعالى: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسكنوا هذه القرية} الآيةُ. اعلم أنَّ هذه القصة قد تقدَّمت مشروحة في سورة البقرةِ إلاَّ أنَّ بينهما تفاوتاً من وجوه: أحدها: أنَّهُ عيَّن القائل في سورة البقرة، فقال وإذْ قُلْنا وههنا أبهمه فقال وَإذْ قيلَ. وثانيها: قال في سورة لابقرة «ادخلوا» وقال هاهنا «اسكنوا» . وثالثها: قال في سورة البقرة فَكُلوا بالفاء، وههنا بالواو. وارابعها: قال هناك رَغَداً وأسقطها ههنا. وخامسها: قدَّم هناك قوله {وادخلوا الباب سُجَّداً} على «وقولُوا حِطَّةٌ» وههنا على العكس. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 353 وسادسها: قال في البقرة {نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ} [البقرة: 58] وههنا «خطِيئَاتِكُمْ» . وسابعها: قال هنا: «وسَنزِيدُ المُحْسنينَ» بالواو وههنا حذفها. وثامنهها: قال في البقرة «فأنزلْنَا» وههنا «فأرْسَلْنَا» . وتاسعها: قال هناك: {بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} [البقرة: 58] . وقال ههنا «يَظْلِمُونَ» . وهذه ألفاظٌ لا مناقاةَ بينها ألبتة، ويمكن ذكر فوائِدهَا. أما قوله ههنا: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} إعلاماً للسَّامع بان هذا القائل هو ذاك، وأمَّا قوله هنا «ادْخُلُوا» ، وههنا «اسْكُنُوا» فالفرقُ أنَّهُ لا بدَّ من دخول القريَةِ أوَّلاً، ثم سكونها ثانياً. وأمَّا قوله هنا «فَكُلُوا» بالفاءِ وههنا بالواوِ، فالفرق أنَّ الدُّخُولَ حالة مخصوصة، كما يوجد بعضها ينعدم، فإنَّهُ إنَّما يكون داخلاً في أوَّل دخوله. وأمَّا بعد ذلك، فيكون سكنى لا دخولاً، وإذا كان كذلك فالدَّخُولُ حالة منقضية زائلة وليس لها استمرار، فحسن ذكر فاء التعقيب بعده، فلهذا قال {ادخلوا هذه القرية فَكُلُواْ} [البقرة: 58] وأمَّا السُّكْنَى فحالة مستمرة باقية فيكون الأكل حاصلاً معها لا عقيبها فحل الفرق. وأمَّا قوله هناك «رغَداً» ولم يذكره هنا؛ لأنَّ الأكْلَ عقيب دخول القرية يكون ألذ؛ لأنَّهُ وقت الحاجةِ الشديدةِ، فلذلك ذكر رَغَداً وأما الأكر حالة السُّكنى، فالظَّاهِرُ أنَّ الحاجة لا تكونُ شديدة. وأمَّا قوله هناك: {وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ} وههنا على العكس، فالمرادُ التَّنبيهُ على أنَّهُ يحسن تقديم كل واحد منهما على الآخر، لأنَّ المقصُودَ منهما تعظيم اللَّهِ تعالى وإظهار الخُضُوعِ، وهذا لا يتفاوتُ الحال فيه بحسب التَّقديم والتَّأخير. قال الزمخشريُّ: التَّقديمُ والتأخيرُ في وقُولُوا وادخُلُوا سواء قدَّمُوا «الحِطَّة» على دخول الباب، أو أخَّرُوَاها فهم جامعون في الإيجاد بينهما. قال أبُو حيَّان: وقوله: سواءٌ قدَّمُوا أو أخَّرُوها تركيب غير عربي، وإصلاحه سواء أقدَّمُوا أمْ أخَّرُوا، كما قال تعالى: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا} [إبراهيم: 21] . فصل قال شهابُ الدِّين: يعني كونه أتى بعد لفظ «سواء» ب «أوْ» دون «أمْ» ، ولم يأتي بهمزة التسوية بعد «سواء» وقد تقدَّم أنَّ ذلك جائز، وإن كان الكثيرُ ما ذكره وأنه قد قرىء {سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] والرَّدُ بمثل هذا غير «طائل» . وأما قوله في البقرة {خَطَايَاكُمْ} وههنا «خَطِيئَاتِكُم» فهو إشارة على أنَّ هذه الذنوب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 354 سواء كانت قليلة، أو كثيرة، فهي مغفورةٌ عند الإتيان بهذا الدُّعاء. وأما قوله هناك «وسَنَزِيدُ» بالواوِ، وههُنَا حذفها ففائدته أنه استئناف، كأنَّ قائلاً قال: وماذا حصل بعد الغُفْرانِ؟ فقيل لهخ: «سَنَزِيدُ المُحْسنينَ» . وأام قوله هناك «فأنَزلْنَا» ، وههُنَا «فأرْسَلْنَا» فلأنَّ الإنزالَ لا يشعر بالكَثْرَةِ، والإرسَال يشعر بها، فكأنَّهُ تعالى بدأ بإنزال العذابِ القليل، ثمَّ جعله كثيراً، وهو نظيرُ الفرقِ بين قوله {فانبجست} [الأعراف: 160] وقوله {فانفجرت} [البقرة: 60] . وأمَّا قوله هناك {عَلَى الذين ظَلَمُواْ} [البقرة: 59] ، وههُنَا «عَلَيْهِمْ» فهو إيذان بأنَّ هؤلاء المضمرون هم أولئك، وأمَّا قوله هَهُنَا «يَظْلمُونَ» وهناك «يَفْسُقُونَ» فلأنهم موصوفون بأنهم كانوا ظالمينَ لأنَّهم ظلموا نفسهم، وبكونهم فاسقين، لأنَّهُمْ خَرَجُوا عن طاعةِ اللَّهِ. قوله: {نَّغْفِرْ لَكُمْ خطيائاتكم} قد تقدَّم الخلافُ في «نَغْفِر» وأمَّا «خَطِيئَاتِكُمْ» فقرأها ابن عامر «خَطِيئَتُكُم» بالتَّوحيد، والرَّفع على ما لم يُسَمَّ فاعله، والفرض أنه يقرأ «تغفرْ» بالتَّاء من فوق. ونافع قرأ «خَطِيئَاتِكُم» بجمع السَّلأامة، رفعاً على ما لم يُسَمَّ فاعلُه؛ لأنَّهُ يقرأ «تُغْفرُ لكم» كقراءة ابن عامر. وأبو عمرو قرأ «خَطَايَاكُم» جمع تكسير، ويَقْرأ «نَغْفِرْ» بنون العظمة. والباقون «نَغْفِرْ» كأبي عمرو، «خَطِيئَاتِكُمْ» بجمع السَّلامة منصوباً بالكسرة على القاعدة. وفي سورة نوح قرأ أبو عمرو «خطاياهم» بالتكسير أيضاً، والباقون بجمع التصحيح. وقرأ ابنُ هرمز «تُغْفَرْ» بتاءٍ مضمومة مبيناً للمفعول، كنافع، «خَطَايَاكُم» كأبي عمرو، وعنه «يَغْفِرْ» بياء الغيبة، وعنه «تَغْفِر» بفتح التَّاءِ من فوق، على معنى أنَّ «الحِطَّة» سببٌ للغفران، فنسب الغفران إليها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 355 قوله تعالى: {وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر} الآية. المقصود تعرف هذه القصة من قبلهم؛ لأنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - قد علمها من قبل الله تعالى، والمقصود من ذكر هذا السؤال أحد أشياء: الأول: المقصود منه تقرير أنهم كانوا قد أقْدَمُوا على هذا الذنب القبيح تَنْبِيهاً لهم على إصرارهم على الكفر بمحمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. والثاني: أنَّ الإنسان قد يقول لغيره هل الأمر كذا وكذا؟ ليعرف ذلك بأنه محيط بمعرفةِ تلك الواقعة وغير غافل عنها. ولمَّا كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلاً أمياً لم يعلم علماً، ولم يطالع كتاباً، ثمَّ إنَّه يذكر هذه القصص على وجوهها من غير تفاوت ولا زيادة ولا نقصان، كان ذلك جارياً مجرى المعجزة. قوله: «عَنِ القَرْيَةِ» لا بُدَّ من مضافٍ محذوفٍ، أي: عن خبر القرية، وهذا المحذوفُ هو النَّاصِبُ لهذا الظرف وهو قوله «إذْ يَعْدُون» . وقيل: هو منصوب ب «حَاطِرَة» . قال أبُو البقاء: وجوَّزَ ذلك أنها كانت موجودةً في ذلك الوقت ثم خربت. وقدر الزمخشريُّ: المُضاف «أهل» أي: عن أهل القرية، وجعل الظرف بدلاً من «أهل» المحذوف فإنَّهُ قال: «إذْ يَعْدُون» بدل من القرية، والمرادُ بالقرية: أهلُها كأنه قيل: واسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في البيت، وهو من بدل الاشتمال. قال أبُو حيَّان وهذا لا يجوزُ؛ لأن «إذْ» من الظُّرُوف التي لا تتصرَّفُ، ولا يدخل عليها حرفُ جر، وجعلها بدلاً يجَوِّزُ دخول «عن» عليها؛ لأنَّ البدل هو على نِيَّةِ تكرار العامل ولو أَدْخَلْتَ «عن» عليها لم يجز، وإِنَّما يتصرَّف فيها بأن تُضيف إليها بعض الظُّروف الزَّمانية نحو: يوم إذ كان كذا، وأمَّا قول من ذهب إلى أنَّها تكونُ مفعولةً ب «اذكر» فقولُ مَنْ عَجَزَ عن عن تأويلها على ما ينبغي لها من إبقائها ظرفاً. وقال الحوفيُّ: «إذ» متعلقةٌ ب «سَلْهم» . قال أبُو حيان: وهذا لا يتصوَّر، لأن «إذْ» لما مضى، و «سَلْهم» مستقبلٌ، لو كان ظرفاً مستقبلاً لم يَصِحَّ المعنى؛ لأنَّ العادين - وهم أهل القريةِ - مفقودون فلا يمكن سُؤالهم والمسئول غير أهل القرية العادين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 356 وقرأ شهر بن حوشب وأبو نهيك «يَعَدُّون» بفتح العين وتشديد الدَّالِ، وهذه تُشبه قراءة نافع في قوله {لاَ تتَعْدُواْ فِي السبت} [النساء: 154] والأصل: تَعْتَدوا، فأدغم التاء في الدال لمقاربتها لها. وقُرىء «يُعِدُّونَ» بضمِّ الياء وكسر العين وتشديد الدال من: أعَدَّ يُعِدُّ إعداداً إذ هَيَّأ آلاته، لما ورد أنهم كانوا مأمورين في السبت بالعبادةِ، فيتركونها ويُهَيِّئُونَ آلاتِ الصَّيد. فصل معنى الآية: واسْأل مُحَمَّد هؤلاء اليهود الذين هم جيرانك سؤال توبيخ عن القرية التي كانت حاضرة البحر أي: بقرية، والحضور نقيض الغيبة كقوله تعالى: {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام} [البقرة: 196] . قال ابنُ عباس، وأكثر المفسرين: هي قرية يقال لها: أيْلَة بين مَدْيَن والطُّورِ على شاطىء البحر. وقيل: مدين. وقال الزُّهري: هي طبرية الشَّامِ، والعرب تسمِّ] المدينة قرية وعن أبي عمرو بن العلاء مَا رَأيْتُ قرويين أفصَحَ من الحسين والحجَّاج يعني رجلين من أهل المدنِ، و «يَعْدُون في السَّبتِ» يتجاوزون حد اللَّه فيه، وهو اصطيادهم في يوم السَّبت وقد نُهُوا عنه، والسَّبْتُ: مصدر سَبَتَ اليهود إذَا عظَّمت سُنَّتَهَا، إذا تركوا العمل في سبتهم، وسُبِتَ الرجل سُباتاً إذا أخذه ذلك، وهو مثل الخرس، وأسبت سكن فلم يتحرك والقوم صاروا في السَّبت، واليهود دخلوا في السبت، وهو اليوم المعروفُ، وهو من الرَّاحةِ والقطع، ويجمع على أسْبُت وسُبُوت وأسبات، وفي الخبر عن رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «من احْتَجَمَ يوْمَ السَّبْتِ فأصَابَهُ مرضٌ لا يلُومنَّ إلاَّ نَفْسَهُ» قال القرطبي: قال علماؤنا: لأنَّ الدَّمَ يجمد يوم السبت، فإذا مددته لتستخرجه لم يَجْرِ وعَادَ بَرَصاً. قوله: «إذْ تَأتيهم» العامل فيه «تَعْجون» أي: إذَا عَدَوا إذ أتَتْهُمْ؛ لأنَّ الظَّرْفَ الماضي يَصْرِفُ المضارع إلى المضيِّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 357 وقال الزمخشريُّ: و «إذ تأتيهم» بدلٌ من «إذ يَعْدُونَ» بدل بعد بدل، يعني: أنه بدلٌ ثانٍ من القريةِ على ما تقدَّم عنه، وقد تقدَّم ردُّ أبي حيان عليه فيعود هنا. و «حِيتَان» جمع «حُوت» ، وإنَّما أبدلَت الواوُ يَاءً، لسكونها وانكِسَارِ ما قبلها، ومثلُهُ نُون ونِينَان والنُّونُ: الحُوتُ. قوله «شُرَّعاً» حالٌ من «حِيتَانُهُمْ» وشُرَّعٌ: جمعُ شارع. وقرأ عمر بن عبد العزيز: «يَوْمَ إسباتهم» وهو مصدر «أسبت» إذا دخل في السَّبْت. وقرأ عاصم بخلاف عنه وعيسى بن عمر «لا يَسْبُتُونَ» . وقرأ عليٌّ والحسنُ وعاصمٌ بخلاف عنه «لا يُسْبِتُونَ» بضم الياء وكسر الباء، من أسْبَت، أي: دخل في السبت. وقُرىء: «يُسْبَتُونَ» بضمِّ الياء وفتح الباء مبنياً للمفعول، نقلها الزمخشريُّ عن الحسن. قال: أي لا يُدَار عليهم السبت ولا يؤمَرُونَ بن يَسْبِتُوا، والعاملُ في: « {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ} قوله:» لا تَأتيهمْ «أي: لا تأتيهم يوم لا يَسْبِتُونَ، وهذا يَدُلُّ على جواز تقديم معمول المنفي ب» لا «عليها وقد تقدم فيه ثلاث مذاهب: الجواز مطلقاً كهذه الآية، والمنع مطلقاً، والتفصيل بين أن يكون جواب قسم فيمتنع أوْ لا فيجوز. ومعنى شُرَّعاً أي ظاهرة على الماء كثيرة. من شرع فهو شارع، ودار شارعة أي: قريبة من الطريق، ونجوم شارعة أي: دنت من المغيب، وعلى هذا فالحيتان كانت تَدْنُوا من القرية بحيث يمكنهم صيدها. وقال الضَّحَّاكُ: متتابعة. فصل قال ابنُ عباس ومجاهد: إنَّ اليهود أمرةوا باليوم الذي أمرتم به يوم الجمعة فتركوه، واختاروا السبت، فابتلاهم الله به، وحرم عليهم الصَّيْدَ، وأمروا بتعظيمه، فإذا كان يوم السَّبت شرعت لهم الحيتان ينظرون إليها، فإذا انقضى السَّبت ذهبت عنهم، ولم تعد إلاَّ في السبت المقبل، وذلك بلاء ابتلاهم اللَّه به. فقوله {وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ} أي لا يَفْعَلُونَ السبت، يقال: سَبَتَ يَسْبِتُ إذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 358 عظم السبت. والمعنى: يَدْخُلُونَ في السَّبْتِ، كما يقالك أجْمَعْنَا وأظهرنَا وأشْهَرْنَا، أي: دخلنا في الجمعة، والظهر، والشهر. كما يقال: أصبحنا أي: دخلنا في الصباح. قوله: «كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ» . ذكر الزجاجُ، وابن الأنباريِّ في هذه الكافر ومجرورها وجهين: أحدهما: قال الزَّجَّاج: أي: مثل هذا الاختبار الشَّديد نختبرهم، فموضع الكاف نصبٌ ب «نَبْلُوهُم» . قال ابن الأنباري: ذلك إشارةٌ إلى ما بعده، يريد: نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ كذلك البلاء الذي وقع بهم في أمر الحيتان، وينقطع الكلام عند قوله «لا تَأتيهمْ» . الوجه الثاني: قال الزجاج ويحتمل أن يكون - على بُعْدٍ - أن يكون: ويَوْمَ لا يَسبتُون لا تأتيهم كذلك أي لا تأتيهم شُرَّاعاً، ويكون «نَبْلُوهُم» مستأنفاً. قال أبو بكر: وعلى هذا الوجه كذلك راجعةٌُ إلى الشُّرُوع في قوله تعالى: {يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً} والتقدير: ويَوْمَ لا يسبتُونَ لا تأتيهم كذلك الإتيانِ بالشّروع، وموضعُ الكاف على هذا نَصْبٌ بالإتيان على الحالِ، أي: لا تأتي مثل ذلك الإتيان. قوله: «بِمَا كَانُوا» الباءُ سببيةٌ و «ما» مصدريةٌ، أي: نَبْلُوهم بسبب فسقهم، ويضعُفُ أن تكون بمعنى «الذي» لتكَلُّفِ حذفِ العائد على التدريج. فقالك وأفصحُ اللغات أن ينتصبَ الظرف مع السبت والجمعة فتقول: اليوم السَّبْتُ، واليوم الجُمعَةُ فتنصب اليوم على الظَّرْلإِ، وترفع مع سائر الأيام فتقول: اليومُ الأحدُ واليومُ الأربعاءُ لأنَّهُ لا معنى للفعل فيهما فالمبتدأ هو الخبر فترفع. قال شهابُ الدِّين: هذه المسألة فيها خلافٌ بين النَّحويين، فالجمهورُ كما ذكر يوجبون الرفع؛ لأنَّه بمنزلة قولك: اليومُ الأولُ، اليومُ الثاني. وأجاز الفراء وهشام النَّصبَ، قالا: لأنَّ اليوم بمنزلة: الآن وليست هذه المسألةُ مختصَّةً بالجمعة والسبت بل الضابطُ فيها: أنه إذا ذُكر «اليوم» مع ما يتضمن عملاً أو حدثاً جاز الرفع والنصب نحو قولك: اليوم العيد، اليوم الفطر، اليوم الأضحى. كأنك قلت: اليوم يحدث اجتماع وفطر وأضحية. فصل قال المفسِّرُون: وسْوَسَ لهم الشَّيطان وقال: إنَّ الله لم ينهكم عن الاصطياد وإنَّما نهاكم عن الأكْلِ فاصطَادُوا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 359 وقيل: وسوس إليهم أنَّكُمْ إنَّمَا نُهِيتُم عن الأخذ فاتَّخِذُوا حِيَاضاً على شاطىء البَحْرِ، تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، ثم تأخذونها يوم الأحدش، ففعلوا ذلك زماناً، ثمَّ تَجَرَّءُوا على السبت وقالوا ما نرى السبت إلاَّ قد أحِلَّ لنا، فأحذوا، وأكلوا وباعوا فنهاهم بعضهم، وبعضهم فعل، ولم ينته، وبعضهم سكت وقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ} [الأعراف: 164] فلمَّا لم يَنْتَهُوا قال النَّأهُونَ لا نُسَاكِنُكُمْ، فقسموا القرية بجدارٍ، للمسلمين باب، وللمعتدين بابٌ، ولعنهم داودُ، فأصبح النَّاهُونَ ذات يوم، ولم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إن لهم شأناً، لعلّ الخمر غلبتهمن فعلوا الجدار، فإذا هم قِرَدَةٌ. فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ الحيل في تحليل الأمور الَّتي حرمها الشارع محرمةٌ؛ كالغيبة، ونكاح المحلِّل، وما أشبههما من الحيلِ، ودلَّت على أنَّه تعالى لا يجب عليه رعايةُ الصَّلاح والإصلاح لا في الدِّين ولا في الدنيا؛ لأنَّهُ تعالى علم أن تكثير الحيتان يوم السَّبْتِ مما يحملهم على المعصية والكفر، فلو وجب عليه رعاية الصَّلاح لوجب أن لا يكثر الحيتان في ذكل اليوم صوناً لهم عن الكفر والمعصية، فلمَّا فعل علمنا أن رعاية الصَّلاح لا تجب على الله تعالى. قوله: {وَإِذَا قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً} . اختلفوا في الذين قالوا هذا القول. فقيل: كانوا من الفرقة الهالكة؛ لأنَّهُم لمَّا قيل لهم: انتهوا عن هذا العمل قبل أن ينزل بكم العذاب؛ فإنكم إن لم تنتهوا فإنَّ اللَّهَ ينزل بكم بأسه فأجابوا بقولهم: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ} . فقال النَّاهُونَ {مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ} أي موعظتنا {مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ} ، والأصحُّ أنها من قول الفرقة السَّاكتة جواباً للنَّاهية، قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ ... مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ} . ومعناه: أنَّ الأمر بالمعروف واجبٌ علينا، فعلينا موعظة هؤلاء عُذراً إلى اللَّهِ. «ولَعلَّهُم يتَّقُون» أي: يتَّقُوا اللَّهَ ويتركوا المعصية، ولو كان الخطاب مع المعتدين لقال: «ولعلَّكُم تتَّقُونَ» . «مَعْذِرَةً» قرأ العامَّةُ: «مَعْذِرَةٌ» رفعاً على أنه خبر ابتداء مضمر، أي: موعظتنا معذرة. وقرأ حفصٌ عن عاصم، وزيد بن علي، وعيسى بنُ عمر، وطلحةُ بنُ مصرف: «مَعْذِرَةٌ» نصباً وفيها ثلاثةُ أوجه: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 360 أظهرها: أنَّهَا منصوبةٌ على المفعول من أجله، أي: «وعَظْنَاهُم لأجل المعذرة» . وقال سيبويه: ولو قال رجلٌ لرجلٍ: معذرةً إلى الله وإليك من كذا، لنصب. الثَّاني: أنَّها منصوبةٌ على المصدر بفعل مقدر من لفظها، تقديره: نَعْتَذِرُ مَعْذرةً. الثالث: ان ينصب انتصابَ المفعول به؛ لأن المعذرةَ تتضمَّنُ كلاماً، والمفردُ الثالث: والمفردُ المتضمِّنُ لكلام إذا وقع بعد القولِ نُصِبَ نصب المفعول به، ك «قلت خطبة» . وسيبويه يختارُ الرَّفْعَ. قال: لأنَّهم لم يريدوا أن يعتذروا اعتذاراً مستأنفاً. ولكنهم قيل لهم: لِمَ تَعِظُونَ؟ «فَقَالُوا» موعظتنا معذرةً. والمَعْذِرَةُ: اسمُ مصدر وهو العذر. وقال الأزهري: إنَّها بمعنى الاعتذارِ، والعذرُ: التَّنصلُ من الذَّنبِ. قوله: {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} الضَّميرُ في نَسُوا للْمنهيِّينَ و «ما» موصولةٌ بمعنى «الذي» أي: فلمَّا نسُوا الوعظ الذي ذكَّرَهُم به الصَّالحون. قال ابنُ عطيَّة: ويحتمل أن يُرادَ به الذِّكرُ نفسه، ويحتمل أن يراد به ما كان فيه الذكر. قال أبُو حيان: ولا يظهرُ لي هذان الاحتمالان. قال شهابُ الدِّين: يعني ابنُ عطية بقوله: «الذِّكرُ نفسُهُ» أي: نفسُ الموصول مُرادٌ به المصدر كأنه قال: فلمَّا نسُوا الذِّكْرَ الذي ذُكِّروا به، وبقوله: «مَا كان فيه الذِّكر» نَفَسُ الشيء المذكَّر به الذي هو متعلِّق الذكر؛ لأن ابن عطيَّة لمَّا جعل «ما» بمعنى «الذي» قال: إنَّها تحتملُ الوقوع على هذين الشيئن المتغايرين. فصل النِّسيان يطلق على السَّاهي، والعامد التَّارك لقوله: {فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ} أي: تركوه عن قصد، ومنه قوله تعالى: {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] . فصل المعنى: فلمَّا تركوا ما وعظوا به، {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ} أي الذين أقدموا على المعصية. واختلف المفسِّرون في الفرقة السَّاكتة. فقنل عن ابن عبَّاسٍ: أنَّهُ توقَّف فيهم، ونقل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 361 عنه: هلكت الفرقتان ونجت النَّاهية، وكان ابنُ عباس إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: إنَّ هؤلاء الذين سكتوا عن النَّهي عن المنكر هلكوا، ونحن نرى أشياء ننكرها، ثم نسكت، ولا نقول شيئاً. وقال الحسنُ: نجت الفرقتانِ، وهلكت العاصية، لأنهم لما قالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ} دلَّ على أنَّهُمْ أنكروا أشد الإنكار، وأنَّهُمْ إنَّما تركوا وعظهم؛ لأنه غلب على ظنهم أنهم لا يلفتون إلى ذلك الوعظِ. فإن قيل: إن ترك الوعظِ معصية، والنَّهي عنه أيضاً معصية؛ فوجب دخول هؤلاء التَّاركين للوعظ النَّاهين عنه تحت قوله: {وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} . فالجوابُ: هذا غير لازمٍ؛ لأنَّ النَّهي عن المنكر إنَّمَا يجب على الكفاية، ولو قام به البعضص سقط عن الباقين. وروي عن ابن عبَّاس أنه قال: أسمعُ الله يقول: {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} ، فلا أدري ما فعلت الفرقة السَّاكتة؟ قال عكرمةُ: قلت له: جعلني اللَّهُ فداك، ألا تراهم قد أنكروا، وكرهوا ما هم عليه وقالوا: {لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ} ، وإن لم يقل الله أنجيتهم لم يقل: أهلكتهم، فأعجبه قولي ورضي به، وأمر لي ببردين فكسانيهما؛ وقال: نَجتِ السَّاكتةُ، وهذا قول يمان بن رباب، والحسن، وابن زيد. قوله: «بعذابٍ بئيسٍ» . أي: شديد. قرا نافعٌ، وأبو جعفر، وشيبةٌ بيْسٍ بياء ساكنة، وابن عامر بهمزة ساكنة. وفيهما أربعة أوجه: أحدها: أنَّ هذا في الأصْلِ فعلٌ ماضٍ سُمِّيَ به فأعربَ كقوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «أنهاكم عن قيل وقال» بالإعراب والحكاية، وكذا قولهم: «مُذ شبَّ إلى دبَّ ومُذ شبٍّ إلى دَبٍّ» ، فلما نُقل إلى الاسميَّة صار وصفاً ك: نِضْوا ونِقْض. والثاني: أنَّهُ وصف وضع على فعل ك: حِلْف. الثالث: أن أصله بَئيس كالقراءةِ المشهورة، فخفَّفَ الهمزة؛ فالتقت ياءان، ثم كسر الياء إتباعاً، كرغيف وشهيد فاستثقل توالي ياءين بعد كسرةٍ، فحذفت الياء المكسورة؛ فصار اللَّفظُ «بِيْسٍ» وهو تخريج الكسائيِّ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 362 الرابع: أن أصله بَئِس بوزن «كَتِف» ثم أتبعت الياءُ للهمزة في الكسر ثم سُكِّنت الهمزة، ثمَّ أبدلت يا ك: بِيرٍ وذِيبٍ. وأمَّا قراءة ابن عامر فتحتمل أن تكون فعلاً منقولاً، وأن تكون وصفاً ك: حِلْف. وقرأ أبو بكر عن عاصم بَيْئَسٍ بياء ساكنة بين باء، وهمزة مفتوحتين، وهو صفةٌ على فَيْعَل ك: ضَيْغَم، وصَيْرَف، وصَيْقَل، وهي كثيرةٌ في الأوصافِ. وقرأ امرؤُ القيسِ: [الرجز] 2602 - كِلاهُمَا كَأنَ رَئِيساً بَيْئَسا ... يَضْرِبُ في يومِ الهِيَاجِ القَوْنَسَا وقرأ باقي السبعة «بَئِيسٍ» بزنه «رَئِيسٍ» وفيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ وصفٌ على «فَعِيلٍ» ك: شَدِيدٍ، وهو للمبالغة وأصله فاعل. والثاني: أنه مصدرٌ وصف به أي: بعذابٍ ذي بأس بَئِيس، ف «بَئِيسٍ» مصدر مثل: النكثير والقدير، ومثر ذلك في احتمالِ الوجهين قول أبي الأصبع العدواني: [مجزوء الكامل] 2603 - حَنَقاً عليَّ ولا أرَى ... لِيَ مِنْهُمَا شَرّاً بَئِيساً وهي أيضاً قراءةُ عليٍّ وأبي رجاء. وقرأ يعقوبُ القارئ «بَئِسَ» بوزن «شَهِدَ» ، وقرأها أيضاً عيسى بنُ عُمَرَ، وزيد بن علي. وقرأ نصرُ بنُ عاصم «بَأسَ» بوزن «ضَرَبَ» فعلاً ماضياً. وقرأ الأعمش ومالك بنُ دينار «بَأس» فعلاً ماضياً، وأصله «بَئِس» بكسر الهمزة، فسكَّنَهَا تخفيفاً ك: شَهْدَ في قوله: [الرجز] 2604 - لَوْ شَهْدَ عَاد فِيَ زَمَانِ تُبَّعِ ... وقرأ ابنُ كثير وأهل مكة بِئِسٍ بكسر البَاءِ، والهمز همزاً خفيفاً، ولم يُبَيِّن هل الهمزة مكسورةٌ أو ساكنةٌ؟ وقرأ طلحة وخارجة عن نافع «بَيْسٍ» بفتح الباء، وسكون الياء مثل: كَيْلٍ، وأصله «بَيْئَس» مثل: ضَيْغَم فخفَّف الهمزة بقلبها ياءً، وإدغام الياء فيها ثم خفَّفهُ بالحذف ك: مَيْت في: مَيِّت. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 363 وقرأ عيسى بن عمر والأعمش وعاصم في رواية «بَيْئٍسٍ» كقراءة أبي بكر عنه، إلاَّ أنَّهُ كسر الهمزة، وهذه قد ردَّها النَّاسُ؛ لأن «فَيْعِلاً» بكسر العين في المعتلِّ، كما أن «فَيْعَلاً» بفتحها في الصحيح ك: سَيِّد وضَيْغَم، على أنه قد شذّ «صَيْقِل» بالكسر، و «عَيَّل» بالفتح. وقرأ نصر في رواية مالك بن دينار عن «بَأسٍ» بفتح الباء والهمزة وجر السِّين، بزنة «جَبَلٍ» . وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي وطلحة بن مصرف «بَئِسٍ» مثل كبد وحذر. قال عبيد الله بن قيس: [المديد] 2605 - لَيْتَنِي ألْقَى رُقَيَّةَ فِي ... خَلْوَةٍ مِنْ غَيْرِ مَا بَئِسِ وقرأ نصر بنُ عاصم في رواية بَيِّسٍ بهمزةٍ مشددة. قالوا: قلب الياء همةً وأدغمها في مثلها. ورويت هذه عن الأعمش أيضاً. وقرأت طائفة بَأسَ بفتح الثلاثة، والهمزة مشددة، فعلاً ماضياً، ك «شَمَّرَ» ، وطائفة أخرى بَأسَ كالتي قبلها إلاَّ أنَّ الهمزة خفيفةٌ، وطائفة بَائسٍ بألف صريحة بين الباءِ والسِّينِ المجرورة، وقرأ أهل المدينة بِئيسٍ ك: «رَئِيسٍ» ، غلاَّ أنهم كسروا الباء، وهذه لغةُ تميم في فعيل الحلقيِّ العين نحو: بِعِير، وشِعِير، وشِهيد، سواء أكان اسماً أم صفة. وقرأ الحسن والأعمس «بِئْيَسٍ» بياء مكسورة، ثم همزة ساكنة، ثم يا مفتوحة، بزنة «حِذْيَم» ، و «عِثْيَر» . وقرأ الحسنُ بِئْسَ بكسر الباءِ، وسكون الهمزة وفتح السِّينِ، جعلها التي للذَّمِّ في نحو: بِئْسَ الرجل زيدٌ. ورُويت عن أبي بكر. وقرأ الحسن أيضاً كذلك، إلاَّ أنه بياءٍ صريحة، وتخريجها كالتي قبلها، وهي مرويةً عن نافع وقد ردَّ أبو حاتم هذه القراءةَ والتي قبلها بأنَّهُ لا يقالُ: مررت برجلٍ بِئْسَ، حتَّى يقال بِئْسَ الرجل، أو بئس رجلاً. قال النَّحَّاس: وهذا مردودٌ - يعني قول أبي حاتم - حكى النحويون: إن فعلت كذا وكذا فبها ونعمت، أي: ونعمت الخصلة، والتقدير: بِئْسَ العذابُ. قال شهابُ الدِّينِ: أبو حاتم معذورٌ في القراءة، فإنَّ الفاعل ظاهراً غير مذكور، والفاعل عمدةٌ لا يجوز حذفه، ولكنه قد ورد في الحديث مَنْ تَوضَّأ فبها ونعْمتُ، ومن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 364 اغتسَلَ فالغُسْلُ أفضلُ ففاعل «نِعْمَتْ» هنا مضمرٌ يفسِّرُهُ سياقُ الكلام. قال أبُو حيَّان: فهذه اثنتان وعشرون قراءةً، وضبطُها بالتَّلخيص: أنَّها قُرِئتْ ثلاثية اللَّفْظِ، ورباعَّيتَهُ، فالثُّلاثي اسماً: بِئْسٍ، وَبِيْسٍ، وبَيْسٍ، وبَأْسٍ، وبَأَسٍ، وبَئِسٍ، وفعلاً بِيْسَ وبِئْسَ، وبَئِسَ، وبَأَسَ، وبَأْسَ، وبَيِسَ. والرباعية اسماً: بَيْئَسٍ، وبِيْئِسٍ، وبَيْئِسٍ، وبَيِّسٍ، وبَئِيْسٍ، وبِئَيْسٍ، وبِئْيِسٍ، وبِئْيَسٍ، وفعلاً: بَأَّسَ «. وقد زا أبو البقاء أربع قراءات أخر: بَيِس بباء مفتوحة وياء مكسورة. قال: وأصلها همزة مكسورة فأبدلت ياء، وبَيَس بفتحهما. قال: وأصلها ياء ساكنة وهمزة مفتوحة إلاَّ أنَّ حركة الهمزة ألقيت على الياء وحذفت، ولم تقلب الياء ألفاً، لأنَّ حركتها عارضةٌ. وبَأْيَسٍ بفتح الباء، وسكون الهمزة وفتح الياء. قال: وهو بعيد إذ ليس في الكلام» فَعْيَل «وبَيْآس على فَيْعَال. وهو غريب. قوله تعالى: {فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} الآية. قال ابنُ عباسٍ «أبَوْا أن يرجعوا عن المعصية» والعُتو: هو الإباء والعصيان. فإن قيل: إذا عتوا عمَّا نُهُوا عنه فقد أطاعوا؛ لأنَّهُم أبوا عمَّا نُهُوا عنه، وليس المراد ذلك. فالجواب: ليس المراد أنهم أبوا عن النهي، بل أبوا عن امثتال ما أمروا به. وقوله: {قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ} . قال بعضهم ليس المراد منه القول؛ بل المراد منه أنه تعالى فعل ذلك. قال: وفيه دلالة على أن قوله: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] هو بمعنى الفعل لا الكلام. وقال الزجاج أمِرُوا بأن يكُونُوا كذلك بقول سمع، فيكون أبلغ. قال ابنُ الخطيب: وحمل هذا الكلام على الأمر بعيد؛ لأنَّ المأمور بالفعل يجبُ أن يكون قادراً عليه، والقوم ما كانوا قادرين على أن يقلبوا أنفسهم قردة. فصل قال ابنُ عبَّاسٍ: أصبح القوم قردةً خاسئين؛ فمكثوا كذلك ثلاثة أيَّام تراهم النَّاس الجزء: 9 ¦ الصفحة: 365 ثمَّ هلكوا، ونقل عن ابن عبَّاسٍ: أن شباب القوم صاروا قردة، والشُّيُوخ خنازير، وهذا خلاف الظَّاهر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 366 قوله تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ} الآية. لمَّا شرح قبائح أعمال اليهود ذكر هنا حكمه عليهم بالذل والصَّغارِ إلى يوم القيامة، و «تَأذَّنَ» فيه اوجه، أحدها: أنَّهُ بمعنى: «آذَنَ» أي: أعْلَمَ. قال الواحديُّ: وأكثر أهل اللغة على أنَّ: «التَّأذَُّ» بمعنى الإيذان، وهو الإعلامُ. قال الفارسي: «آذَنَ» أعْلَمَ، و «أذَّنَ» نادى وصاح للإعلام، ومنه قوله {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ} [الأعراف: 44] . قال: وبعض العرب يُجْرِي «آذَنْتُ» مجرى «تَأذَّنْتُ» فيجعل «آذَانَ وتَأذَّنَ» بمعنى فإذا كان «أذَّنَ» أعلم في لغة بعضهم، ف «أذَّنَ» تفعَّل من هذا. وقيل: معناه: حَتَّمَ وأوْجبَ وهو معنى قول مجاهد: أمر ربك، وقول عطاء: حكم ربّك. وقال الزمخشري: «تأذَّن» عزم ربك، وهو تفعَّل من الإيذانِ وهو الإعلامُ؛ لأنَّ العازمَ على الأمر يُحدِّثُ به نفسه ويؤذنها بفعله، وأجري مُجْرَى فعل القسم ك: عَلِمَ الله، وشَهِدَ الله، ولذلك أجيب بما يجابُ به القسم وهو: «لَيَبْعَثَنَّ» . وقال الطبريُّ وغيره «تَأذَّنَ» معناه «أعْلَمَ» ، وهو قلقٌ من جهة التصريف، إذ نسبةُ «تأذَّنَ» إلى الفاعل غيرُ نسبة «أعْلَمَ» ، وبين ذلك فرقٌ من التعدي وغيره. وقال ابن عباس: تأذَّنَ ربُّك قال ربُّكَ. قوله: {إلى يَوْمِ القيامة} فيه وجها: أصحهما: أنَّهُ متعلقٌ ب: لِيَبَعْثَنَّ. والثاني: أنَّهُ متعلقٌ ب: تَأذَّنَ نقله أبو البقاء، ولا جائزٌ أن يتلعق ب: يَسُومُهُمْ؛ لأن «مَنْ» إمَّا موصولةٌ، وإمَّا موصوفةٌ، والصلةُ والصفة لا يعملان فيما قبل الموصول والموصوف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 366 فصل الضمير في عليهم يقتضي رجوعه إلى الذين: {َتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ} {الأعراف: 166] ، لكنَّهم قد مسخوا، فلم يستمر عليهم التَّكليف؛ فلذلك اختلفوا: فقيل: المراد نسلهم. وقيل: المراد سائر اليهود، فإنَّ أهل القرية كانوا فرقتينن فالمتعدِّي مسخ، وألْحَقَ الذُّلَّ بالبقيَّةِ. وقال الأكثرون: هُمُ اليهُودَ الذين كانُوا في زمن الرسول - صلى عليه الصَّلاة والسَّلامُ -؛ لأن المقصودَ من الية تخويفهم وزجرهم، وهذا العذابُ في الدُّنْيَا، لأنه نص على أنَّ ذلك العذاب ممدود إلى يوم القيامة ثمَّ اختلفوا فيه: فقيل: هو أخذ الجزيةِ. وقييل: الاستخفافُ والإهانةُ لقوله تعالى {ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا} [آل عمران: 112] وقيل: القتل والجلاء الذي وقع بأهل خيبر وبين قريظة والنضير. فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ اليهود لا دولة لهم ولا عزَّ، ون الذُّلَّ والصغار لا يفارقهم، وقد ورد في الحديث: أن أتباع الدَّجَّالِ هم اليهود فإن صحَّ فمعناه، أنهم كانوا قبل خروجه يهوداً، ثم دانوا بإلهيته؛ فذكروا بالاسم الأول، ولوا ذلك لكانوا في وقت اتباعهم الدَّجَّال قد خرجوا عن الذلةِ والقهرِ، وهو خلاف الآيةِ. ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب} والمراد التَّحذيرُ من عذابه في الآخرة مع الذِّلةِ في الدُّنيا {وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} لمن تاب من الكُفْرِ، واليهوديَّةِ، وآمن باللَّهِ وبرسوله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 367 قوله تعالى: {وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأرض أُمَماً} الآية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 367 هذه الآية تدلُّ على أن المراد بقوله: {لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 167] جملة اليهود، ومعنى «قَطَّعناهُم» أي: فرقناهم في الأرض، وهذا يدلُّ على أنَّهُ لا أرض مسكونة إلاَّ وفيها منهم أمة، وهذا هو الغالبُ. وقوله: «أمَماً» إمَّا حالٌ من مفعول «قطَّعْنَاهُم» ، وإمَّا مفعولٌ ثانٍ على ما تقدَّم من أنَّ «قطَّع» تضمَّن معنى: صَيَّر. و «مِنْهُمُ الصَّالحُون» صفة ل «أمم» . وقال أبو البقاء: «أو بدل منه، أي: من أمم» . يعني: أنَّهُ حالٌ من مفعول: «قطَّعناهُمْ» أي: فرَّقناهُم حال كونهم منهم الصَّالحون. قيل: المرادُ ب «الصَّالحينَ» الذين كانوا في زمن موسى - عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ -؛ لأنَّهُ كان فيهم قوم يهدون بالحق. وقال قتادةُ: هم الذين وراء نهر وداف من وراء الصِّين. وقال ابنُ عباس ومجاهد: هم الذين آمنوا بالنَّبيِّ صلى الله الله عليه وسلم ك: عبد الله بن سلام وغيره. وقوله: {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} أي: من أقام على اليهوديِّةِ. فإن قيل: لم لا يجُوزُ أن يكون قوله: {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} من يكون صالحاً إلاَّ أنَّ صلاحَهُ دون صلاح الأولين؛ لأنَّهُ أقرب إلى الظاهرِ؟ فالجوابُ: أن قوله بعد ذلك: «لَعَلَّهُمْ يرجعُونَ» يدُل على أنَّ المراد من ثَبَتَ على اليَهُوديَّةِ. قوله: {وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك} «منهم» خبرٌ مقدم، و «دُون ذلك» : نَعْتٌ لِمنعُوتٍ محذوف هو المبتدأ، والتقدير: ومنهم ناسٌ أو قومٌ دون ذلك. قال الزمخشري: معناه: ومنهم ناسٌ منحطُّون عن الصَّلاح، ونحوه: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] . بمعنى: مَا منَّا أحدٌ إلاَّ له مقامٌ معلومٌ. يعني في كونه حذف الموصوفُ وأقيم الجملة الوصفية مقامهُ، كما قام مقامه الظرفُ الوصفيُّ، والتفصيل ب «مِنْ» يجوزُ فيه حذفُ الموصوف وإقامةُ الصِّفة مقامه كقولهم: منَّ ظَعَنَ ومنَّا أقَامَ.؟ وقال ابنُ عطيَّة: فإن أريدَ بالصَّلاح الإيمانُ ف «دُونَ» بمعنى «غير» يُراد به الكفرة. قال أبُو حيان: إن أراد أنَّ دُونَ ترادفُ «غيراً» ، فليس بصحيحٍ، وإن أراد أنَّهُ يلزم أنَّ من كان دون شيء أن يكون غيراً له فصحيح، وذلك إمَّا أن يُشارَ به إلى الصَّلاح وإمَّا أن يُشار به إلى الجماعة، فإن أشير به إلى الصلاح؛ فلا بد من حذفِ مضاف، ليصحَّ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 368 المعنى، تقديره: ومنهم دُون أهل ذلك الصلاح، ليعتدلَ التقسيم، وإن أُشير به إلى الجماعة، أي: ومنهم دون أولئك الصالحين، فلا حاجة إلى تقدير مضافٍ؛ لاعتدار التقسيم بدونه. وقال أبو البقاء: دُون ذلِكَ ظرفٌ أو خبر على ما ذكرنا في قوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] وفيه نظر من حيث إن «دُونَ» ليس بخبر. قوله: {وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات} أي: عاملناهم معاملة المبتلى المختبر بالحسناتِ، وهي: النِّعمُ والخصبُ، والعافيةُ، والسَّيِّئاتِ وهي الجدب، والشَّدائدُ. قال أهل المعاني: وكُلُّ واحدةٍ من الحسناتِ والسيئاتِ تدعُو إلى الطَّاعة، أمَّا النعم فللترغيب، وأمَّا النِّقَمُ فللترهيب. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} : لكي يندموا ويتوبوا ويرجعوا إلى طاعة ربِّهم. قوله: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب} الآية. الخَلَف والخَلْف - بفتح اللام وإسكانها - هل هما بمعنىً واحد؟ أي: يُطلقُ منهما على القرن الذي يَخْلُف غيره صالحاً أو طالحاً، أو أنَّ السَّاكن اللام في الطَّالح، اولمفتوح في الصَّالح؟ خلافٌ مشهور بين اللُّغويين. قال الفرَّاءُ: يُقال للقرنِ «خَلْف» يعني ساكناً ولمن استخلفته: خَلَفاً، يعني: متحرك اللاَّم. وقال الزجاج: الخلفُ ما أخلْفَ عليك بدلاً مِمَّا أخذ منك؛ فلهذا السبب يقالُ للقرنِ يجيء بعد القرنِ «خَلْفٌ» . وقال ثعلبُ: النَّاسُ كلُّهم يقولون «خَلَفُ صدْقٍ» للصَّالح، و «خَلْفُ سوء» للطَّالح؛ وأنشد: [الكامل] 2626 - خَلَّفْتَ خَلْفاً ولمْ تدعْ خَلَفَا ... لَيْتَ بِهِمْ كانَ لا بِكَ التَّلَفَا وقال بعضهم: قد يجيء في الرَّديء «خَلَفَ» بالفتح، وفي الجيد «خَلْف» بالسُّكُون، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 369 فمن مجيء الأول قوله: [المتقارب] 2608 - ... ... ... ... ... ... ... . ... إلى ذلِك الخَلَفِ الأعوَرِ _ _ومن مجيء الثاني قول حسان: [الطويل] 2609 - لَنَا القدَمُ الأولى عليْهِمْ وخَلْفُنَا ... لأوَّلِنَا في طاعةِ اللَّهِ تَابِعُ وقد جمع بينهما الشَّاعِرُ في قوله: [الرجز] 2610 - إنَّا وَجدْنَا خَلْفنَا بِئْسَ الخَلَفْ ... عَبْداً إذا ما نَاءَ بالحِمْلِ خَضَفْ فاستعمل السَّاكن والمتحرك في الرَّديء. ولهذا قال النَّضْرُ: يجوزُ التَّحريم والسُّكونُ في الرَّديء، فأمَّا الجيدُ فبالتحريك فقط ووافقه جماعةٌ من أهْلِ اللُّغة، إلاَّ الفرَّاء وأبا عبيدٍ، فإنَّهُمَا أجازا السكون في الخلف المراد به الصالح، و «الخَلْف» بالسُّكون فيه وجهان، أحدهما: أنَّهُ مصدر، ولذلك لا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ ولا يُؤنَّث، وعليه ما تقدَّم من قوله: 2611 - إنَّا وَجَدُنَا خَلْفَنَا بئس الخَلَفْ ... وإمَّا اسم جمع «خالفِ» ك: رَكْب لراكب، وتَجْر لِتَاجِرٍ. وإمَّا اسم جمع «خالِف» ك: رَكْب لراكب، وتَجْر لِتَاجِرٍ. قاله ابنُ الأنباري: ورَدُّه عليه، بأنَّهُ لو كان اسمَ جمع لم يَجْرِ على المفرد، وقد جرى عليه واشتقاقه إمَّا من الخلافةِ، أي كُلُّ خلفٍ يَخْلُفُ من قبله، وإمَّا من خلفَ النبيذ يَخْلُفُ أي: فَسَدَ. يقال: خَلَفَ النَّبيذُ يَخْلُفُ خَلْفاً وخُلُوفاً، وكذلك الفَمُ إذا تغيَّرت رائحتُهُ ومن ذلك الحديث «لَخُلُوفُ فمِ الصَّائم» . وقوله: «وَرِثُوا» في محل رفع نعتاً ل «خَلْف» ويَأخُذُونَ حال من فاعل وَرِثُوا. وقرأ الحسنَ البصري: وُرِّثُوا بضمِّ الواو وتشديد الرَّاءِ مبنيّاً لما لم يُسَمَّ فاعله، والمعنى انتقل إليهم الكتابُ من آبائهم وهو التَّوراةُ، ويجوز أن يكون: يَأخُذُونَ مستأنفاً أخبر عنهم بذلك. وقوله: عَرَضَ هذَا الأدْنَى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 370 قال أبُو عبيدٍ: جميع متاعِ الدُّنْيَا عرض بفتح الرَّاء. يقال: «الدُّنيا عرضٌ حاضرٌ يأكل منها البرُّ والفاجِرُ» . وأما العَرَْ بسكون الرَّاء فما خالف الثَّمين، أعني الدَّراهم والدَّنانير وجمعه عروض، فكان العَرْضُ من العَرَض وليس كل عَرَضٍ عَرْضاً. والمعنى: حُطَامُ هذا الشَّيء الأدْنَى يريد الدُّنْيَا، والمرادُ منه: التَّخسيس والتَّحقير، والأدْنَى إمَّا من الدُّنوِّ بمعنى القرب؛ لأنَّهُ عاجل قريب، وإمَّا من دنوِّ الحالِ وسقوطها. وتقدَّم الكلامُ عليه. قوله ويَقُولُونَ نسقٌ على يَأخذُونَ بوجهيه، وسَيُغْفَرُ معموله، وفي القائم مَقَام فاعله وجهان: أحدهما الجَاُّ بعده وهو «لَنَا» والثاني: أنَّهُ ضمير الأخْذِ المدلول عليه بقوله يَأخُذُونَ أي: سيغفرُ لنا أخذُ العرض الأدْنَى. قوله: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ} هذه الجملة الشَّرطية فيها وجهان: أظهرهما: أنَّها مستأنفةٌ لا محلَّ لها من الإعراب. والثاني: أنَّ الواوَ للحال، وما بعدها منصوبٌ عليها. قال الزمخشري: الواو للحال، أي: يَرْجُون المغفرة وهم مُصِرُّون عائدون إلى فعلهم غير تائبين، وغفرانُ الذُّنُوب لا يصحُّ إلاَّ بالتَّوبةِ، والمُصِرُّ لا غفران له انتهى. وإنَّما جعل الواو للحال لهذا الغرض الذي ذكره من أن الغُفران شرطه التَّوبة، وهو رأي المعتزلة وأمَّا أهْلُ السُّنَّة: فيجوز مع عدم التوبة، لأنَّ الفاعل مختار. والعَرَض - بفتح الراء - ما لا ثبات له، ومنه استعار المتكلمون: العَرَض المقابل للجوهر. وقال أبو عبيدة: العَرَضُ - بالفتح - جميعُ متاعِ الدُّنيا غير النقدين. كما تقدَّم. قال المفسِّرون: المراد بالكلامِ: الإخبارُ عن إصرارهم على الذُّنُوبِ. وقال الحسنُ: هذا إخبارٌ عن حِرصِهِمْ على الدُّنْيا، وأنهم «يستمتعون» منها. ثم قال تعالى: {أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب} أي: التَّوراة: {أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق} والمرادُ منعهم عن تحريف الكتاب، وتغيير الشَّرائع، لأجل أخذ الرشوةِ. قوله: {أَن لاَّ يِقُولُواْ} فيه أربعةُ أوجه: أحدها: أنَّ محله رفع على البدل من «مِيثَاقُ» ؛ لأن قول الحقّ هو ميثاق الكتاب. والثاني: أنَّهُ عطفُ بيان له وهو قريب من الأوَّلِ. والثالث: أنه منصوبٌ على المفعول من أجله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 371 قال الزمخشريُّ: وإنْ فُسِّرَ ميثاق الكتاب بما تقدَّم ذكره كان: «ألاَّ يقُولُوا» مفعولاً من أجله ومعناه: لئلا يقولوا وكان قد فسَّر ميثاق الكتاب بقوله في التوراة: «من ارتكب ذَنْباً عَظِيماً فإنَّه لا يُغفر له إلا بالتَّوبة» ، و «أنْ» على هذه الأقوالِ الثلاثة مصدرية. الرابع: أنَّ «أنْ» مفسرة ل «مِيثَاقُ الكتابِ» ؛ لنَّهُ بمعنى القولِ، و «لا» ناهية، وما بعدها مجزوم بها، وعلى الأقوال المتقدِّمة «لا» نافية، والفعلُ منصوبٌ ب «أنْ» المصدرية و «الحَقَّ» يجوز أن يكون مفعولاً به، وأن يكون مصدراً، وأضيفَ الميثاقُ للكتابِ؛ لأنَّهُ مذكورٌ فيه. قوله: «ودَرَسُوا» فيه ثلاثةُ أوجه، أظهرُها ما قاله الزمخشريُّ: وهو كونُه معطوفاً على قوله: «ألَمْ يُؤخَذْ» ؛ لأنَّهُ تقرير. فكأنه قيل: أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا، نظيره قوله تعالى: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ} [الشعراء: 18] معناه: قد رَبَّيْنَاك ولَبِثْتَ. والثاني: أنَّهُ معطوف على «وَرِثُوا» . قال أبُو البقاءِ: ويكونُ قوله ألَمْ يُؤخَذْ معترضاً بينهما وهذا الوجه سبقه إليه الطَّبري وغيره. الثالث: أنه على إضمار «قَدْ» والتقدير: وقد درسوا. فهو على هذا منصوب على الحال نسقاً على الجملة الشرطية، أي: يقولون: سَيُغْفَرُ لنا في هذه الحال، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل: «يَأخُذُوهُ» أي يأخذون العرضَ في حال دَرْسِهم ما في الكتاب المانع من أخذ الرِّشَا وعلى كلا التقديرين فالاستفهامُ اعتراض. وقرأ الجحدري: أن لا تقُولُوا بتاء الخطابِ، وهو التفاتٌ حسنٌ. وقرأ علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وأبو عبد الرحمن السلمي وادَّارَسُوا بتشديد الدَّالِ، والأصلُ: تَدَارَسُوا وتصريفه كتصريف {فادارأتم فِيهَا} [البقرة: 72] وقد تقدم. ثم قال تعالى: {والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} أي: من تلك الرَشوة الخبيثة المحقرة «فلا تَعْقِلُونَ» . وقد تقدَّم الكلام على هذه الهمزة والفاء غير مرة. وقرأ ابنُ عامرٍ ونافعٌ وحفصٌ تَعْقِلُونَ بالخطابِ، والباقون بالغيبة، فالخطابُ يحتمل وجهين: أحدهما: أنه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب، والمرادُ بالضَّمائر حينئذٍ شيءٌ واحد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 372 والثاني: أنَّ الخطابَ لهذه الأمَّةِ، أي: أفلا تعلقون أنتم حال هؤلاء وما هم عليه وتتعَجَّبُونَ من حالهم. وأمَّا الغيبةُ فجرى على ما تقدَّم من الضَّمائر، ونقل أبو حيان أنَّ قراءة الغيبة لأبي عمرو وأهل مكَّة، وقراءة الخطاب للبقاقين. قوله: «والَّذينَ يُمَسِّكُون» : فيه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ مبتدأ، وفي خبره حينئذ وجهان: أحدهما: الجملة من قوله {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين} وفي الرَّابط حينئذ أقوال: أحدها: أنَّهُ ضميرٌ محذوف لفهم المعنى، والتقدير: المُصْلحين منهم، وهذا على قواعد جمهور البصريين، وقواعد الكوفيين تقتضي أنَّ «ألْ» قائمةٌ مقام الضمير، تقديره: أجْرَ مَصْلحيهمْ؛ كقوله: {فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى} [النازعات: 41] أي: مَأواهُ، وقوله {مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب} [ص: 50] أي: أبوابُها، وقوله: {في أَدْنَى الأرض} [الروم: 3] أي: أرضهم، إلى غير ذلك. والثاني: أنَّ الرَّابطَ تكرُّرُ المبتدأ بمعناه، نحو: زيد قام أبو عبد الله، وهو رأي الأخفش، وهذا كما يُجيزه في الموصول، نحو: أبُو سعيدٍ الذي رويتُ عنه الخُدريُّ، والحجَّاجُ الذي رأيْتُ ابنُ يُوسُفَ، وقد تقدَّم من ذلك شواهدُ. الثالث: أنَّ الرَّابط هو العموم في «المُصْلحينَ» قاله أبُو البقاء. قال: «وإن شئْتَ قلت: لمَّا كان المصلحون جنساً والمبتدأ واحد منه استغنيت عن ضمير» . قال شهاب الدين: العمومُ ربطٌ من الروابط الخمسة؛ وعليه قول الشاعر: [الطويل] 2612 - ألاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ إلَى أمِّ سالمٍ ... سَبِيلٌ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فَلاَ صَبْرا ومنه: نعم الرجُ زيدٌ، على أحد الأوجه: والوجه الثاني - من وجهي الخبر -: أنَّهُ محذوف، تقديره: والذين يمسكون مأجورون، أو مثابُونَ ونحوه. وقوله تعالى: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} جملة اعتراضية، قاله الحوفيُّ. ولا ضرورة تدعو إليه. الثاني من وجْهَيْ «الذينَ يُمَسِّكُون» : أنَّه محل جر نسقاً على: «الَّذين يَتَّقُونَ» أي: والدّار الآخرةُ خير للمتقين، وللمتمسكين، قاله الزمخشريُّ. إلاَّ انه قال: ويكون قوله: {إنَّا لا نُضيعُ} اعتراضاً سيق لتأكيد ما قبله. وفيه نظرٌ؛ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 373 لأنَّه لَمْ يقعْ بين شيئين متلازمين ولا بين شيئين بينهما تعلُّقٌ معنويُّ، فكان ينبغي أن يقول: ويكون على هذا مستأنفاص. وقرأ العامَّةُ «يُمَسِّكُونَ» بالتشديد مِنْ «مَسَّك» بمعنى «تَمَسَّكَ» حكاه أهلُ التصريف أي: إنَّ: «فَعَّلَ» بمعنى «تفَعَّل» ، وعلى هذا فالباءُ للآلة، كهي في «تَمَسَّكْتُ بالحبل» . يقال: مَسَّكْتُ بالشَّيء، وتَمَسَّكْتُ، واسْتَمْسَكْتُ به، وامتسَكْتُ به. وقرأ أبو بكر عن عاصم، ورويت عن أبي عمرو وأبي العالية «يُمْسِكُونَ» بسكون الميم وتخفيف السين من «أمْسَكَ» وهما لغتان يقال: مَسَكْتُ، وأمْسَكْتُ. وقد جمع كعبُ بنُ زهير بينهما في قوله: [البسيط] 2613 - ولا تُمَسِّكُ بالعهدِ الذي زَعَمَتْ ... إلاَّ كَمَا تُمْسِكُ الماءَ الغَرَابِيلُ ولكن «أمْسَك» مُتعدٍّ. قال تعالى: {وَيُمْسِكُ السمآء} [الحج: 65] فعلى هذا مفعوله محذوف، تقديره: يُمسِكون دينهم وأعمالهم باكتاب، فالباء يجوزُ أن تكون للحال وأن تكون للآلة أي مصاحبين للكتابِ، أي: لأوامره ونواهيه. وحجة عاصم قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة: 229] ، وقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] ، وقوله: {فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] . قال الواحديُّ: والتشديدُ أقوى؛ لأنَّ التشديد للكثرة، وههنا أريد به الكثرة؛ ولأنَّهُ يقال: أمسكته، وقَلَّمَا يقال: أمسكت به. وقرأ عبد الله والأعمش: «اسْتَمْسَكُوا» ، وأبي: «تَمَسَّكُوا» على الماضي، وهو جيّد لقوله تعالى: {وَأَقَامُواْ الصلاة} إذ قل ما يعطف على مستقبل إلاَّ في المعنى. فصل أراد والذين يعملون بما في الكتاب. قال مجاهدٌ: هم المؤمنون من أهل الكتاب ك: عبد الله بن سلام وأصحابه تمسَّكوا بالكتاب الذي جاء به موسى، فلم يحرفوه ولم يكتموه ولم يتخذوه مكلةً. وقال عطاء: أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 374 {وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ} أي: لا نضيع أجرهم، كقوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف: 30] . فإن قيل: التمسك بالكتاب يشتمل على كل عبادة، ومنها إقامة الصلاة فكيف أفردها بالذِّكر؟ فالجوابُ: أفردها لعلو مرتبتها، فإنَّهَا أعظم العبادات بعد الإيمان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 375 قوله تعالى: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل} الآية. قال أبو عبيدة: النَّتْقُ: قلعُ الشيء من موضعه، والرَّمْيُ به، ومنه: نَتَقَ ما في الجراب إذا نفضه فرمى ما فيه، وامرأة ناتِقٌ، ومِنْتَاقٌ: إذا كانت كثيرة الولادة، وفي الحديث: «عليْكُمْ بزواج الأبْكارِ، فإنَّهُنَّ أطْيَبُ أفواهاً، وأنْتَقُ أرْحاماً، وأرضى باليسَيرِ» . وقيل: النتَّق: الجَذْبُ بشدة. ومنه: نتقْتُ السِّقَاءِ إذا جذبْتَهُ لتقتلعَ الزُّبدْةَ من فم القرية. قال الفرَّاءُ: «هو الرفعُ» وقال ابن قتيبة: الزَّعْزَعَةُ، وبه فَسَّرَهُ مجاهد. وقال النَّابغة: [الكامل] 2614 - لَمْ يُحْرَمُوا حُسنَ الغذَاءِ وأمَّهُمْ ... طَفَحَتْ عليْكَ بِنَاتِقٍ مِذْكَارِ وكلُّها معانٍ متقاربة. قوله: «فَوقَهُمْ» فيه وجهان: أحدهما: هو متعلِّقٌ بمحذوف، على أنَّه حال من الجَبَل وهي حالٌ مقدرة؛ لأنَّ حالةَ النَّتْق لم تكن فوقهم، لكن بالنَّتْق صار فوقهم. والثاني: أنه ظرفٌ ل: نَتَقْنَا قاله الحوفيُّ وأبو البقاءِ. قال أبو حيان: ولا يمكن ذلك، إلاَّ أن يُضَمَّن معنى فِعْلِ يمكن أن يعمل في فَوقَهُمْأي: رفعنا بالنَّتْقِ الجبل فوقهم، فيكون كقوله: {وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور} [النساء: 154] . فعلى هذا يكون فَوقَهُمْ منصوباً ب «نتق» لا بمعنى رفع. قوله: «كأنَّهُ ظُلَّةٌ» في محل نصبٍ على الحالِ من «الجَبَل» أيضاً فتتعدَّد الحال. وقال مكيٌّ: هي خبر مبتدأ محذوف، أي: هو كأنه ظُلَّة وفيه بُعد. والظُّلَّة: كل ما أظلك. قال عطاءٌ: سقيفة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 375 قوله وَظَنُّوا فيه أوجه: أحدها: أنَّهُ في محل جرٍّ نسقاً على نَتَقْنَا المخفوض بالظَّرف تقديراً. والثاني: أنه حال و «قد» مقدرةٌ عند بعضهم، وصاحبُ الحالِ إمَّا: الجبل أي: كأنَّهُ ظُلَّةٌ في حال كونه مظنوناً وقوعه بهم، ويضعف أن يكون صاحبُ الحال: هُمْ في: فَوْقَهُمْ. الثالث: أنه مستأنف، فلا محلَّ له، والظنُّ هنا على بابه. قال أهل المعاني: قوي في نفوسهم ويجوز أن يكون بمعنى اليقين. قال المفسِّرُون: علموا وأيقنوا أنَّهُ واقع بهم والباء على بابها أيضاً. قيل: ويجوز أن تكون بمعنى «على» . قوله: {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ} أي: وقلنا لهم خذوا ما أتيناكم بقوة بجد واجتهاد. روي أنهم لمَّا أبوا قبول أحكام التوراة لثقلها رفع الله الطور على رءوسهم مقدار عسكرهم وكان فرسخاً في فرسخ. وقيل لهم إن قبلتموها بما فيها وإلاَّ ليقعن عليكم، فلمَّا نظروا إلى الجبل خَرَّ كل واحد منهم ساجداً على جانبه الأيسر وهو ينظر بعينه اليمنى خوفاً من صوطه، فلذلك لا ترى يهوديّاً سجد إلا على جانبه الأيسر، ويقولون: هي السَّجدة التي رفعت نَّ بها العقوبة. قوله واذكُرُوا العامَّةُ على التخفيف أمْراً من: ذَكَرَ يَذْكُرَ: والأعمش واذَّكَرُوا بتشديد الذال من الأذّكار، والأصل: اذتكرُوا، والاذتكار، تقدم تصريفه. وقرأ ابن مسعود تذكَّرُوا من: «تذكَّر» بتشديد الكاف. وقرىء وتذَّكَّرُوا بتشديد الذال والكاف والأصل: ولتتذكَّرُوا فأدغمت التاء في الذال، وحُذِفِتْ لامُ الجزم كقوله: [الوافر] 2615 - مُحَمَّدُ تَفْدِ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... فصل قال ابنُ عبَّاس وغيره: لمَّا أخذ موسى الألواح وأتى بها إلى بني إسرائيل، وفيها التوراة أمرهم بقبولها، والأخذ بها بوة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 376 فقالوا: انشرها علينا، فإن كانت أوامرها ونواهيها سهلة قبلناها. فقال: بل اقبلوها بما فيها فراجعوه مراراً، فأمر اللَّهُ الملائكة، فرفعوا الجبل على رءوسهم حتى صار كأنَّهُ ظُلَّةٌ أي: غمامة فوق رءوسهم. وقيل لهم إن لم تقبلوها بما فيها وإلاَّ سقط هذا الجبلُ عليكم؛ فقبلوها، وأمروا بالسُّجود؛ فسجدوا وهم ينظرون إلى الجبل بشق وجوههم فصارت سنة اليهودِ إلى اليوم. ويقولون: لا سَجْدَةَ أعظم من سجدةٍ رفعت عنا العذاب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 377 قوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني آدَمَ} الآية. قال المفسِّرون: روى مسلم بنُ يسار الجهني أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سُئِلَ عن هذه الآية، فقال: «سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُسألُ عنها، فقال: إنَّ الله تعالى خلق آدَم ثُمَّ مَسحَ ظهرَهُ؛ فاستخرَجَ منهُ ذُرِّيَةً فقال: خَلقْتُ هؤلاء للجنَّةِ وبعمل أهْلِ الجنَّةِ يَعْمَلُونَ، ثُمَّ مَسَحَ ظهرَهُ واستَخرَجَ منه ذرِّيَّةً، فقال: هؤلاء للنَّارِ وبعمل أهلِ النَّارِ يَعْمَلُونَ. فقال رجل: يا رسول الله: ففيم العمل؟ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام -:» إنَّ اللَّه بتارَكَ وتعَالَى إذا خَلقَ العبْدَ للجنَّةِ استعملَهُ بعملِ أهْلِ الجنَّةِ حتَّى يمُوتَ على عملٍ مِنْ أعْمالِ أهْلِ الجنَّةِ فيدخله الله الجنَّة، وإذا خلق اللَّهُ العبدَ للنَّارِ استعملهُ بعملِ أهْلِ النَّارِ حتَّى يمُوتَ على عملِ أهلِ النَّارِ، فيدخلهُ اللَّهُ النَّار «وهذا حديثٌ حسن، ومسلم بن يسار لم يسمع من عمر، وقد ذكر بعضهم في هذا الإسناد بين مسلم وعمر رجلاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 377 وقال مقاتل وغيره: إنَّ الله مسحَ صفحةَ ظهر آدمَ اليمنى فأخرج منه ذريةً بيضاء كهيئة الذر ثم مسح صفحة ظهره اليسرى فأخرج منه ذريةً سوداء كهيئة الذَّرِّ، فقال يا آدم هؤلاء ذريتك. ثم قال لهم ألسْتُ بربكُمْ قالُوا بلى. فقال للبيض هؤلاء للجنَّة برحمتي، وهم أصحاب اليمين. وقال للسود هؤلاء للنَّار، ولا أبالي، وهم أصحاب الشِّمالِ، ثمَّ أعادهم جميعاً في صلب آدم فأهلُ القبورِ محبوسون حتَّى يخرج أهل الميثاق كلهم من أصلابِ الرجالِ، وأرحام النِّساءِ. قال تعالى يمن نقض العهد: {وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ} [الأعراف: 102] الآية. وإلى هذا القول ذهب سعيدُ بنُ المسيب، وسعيد بن جبير، والضَّحَّاكُ، وعكرمة والكلبي. وقال بعض أهل التفسير: إن أهل السَّعادَةِ أقَّرُّوا طوعاً وقالوا» بَلَى «، وأهل الشقاوة قالُوه تقيةً وكرهاً. وذلك معنى قوله: {وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً} [آل عمران: 83] . واختلفوا في موضع الميقاق. قال ابن عباس: ببطن نعمان، وهو وادٍ إلى جنب عرفة وروي عنه أنه بدَهْنا في أرض الهندِ، وهو الموضعُ الذي هبط آدم عليه. وقال الكلبيُّ: بين مكة والطائف. وروى السُّدي: أن الله أخرجهم جميعاً، وصورهم وجعل لهم عقولاً يعلمون بها، وألسناً ينطقون بها، ثمَّ كلمهم قبلاً أي: عياناً، وقال» ألسْتُ بِرِبِّكُمْ «؟ . وقال الزَّجَّاجُ: وجائز أن يكون الله تعالى جعل لأمثال الذّر فَهْماً تعقل به كما قال تعالى: {قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] . قال القرطبيُّ: قال ابنُ العربيُّ: فإن قيل: فكيف يجوز أن يُعذِّبَ الله الخلق قبل أن يذنبوا، أو يعاقبهم على ما أراده منهم وكتبه عليهم؟ قلنا: ومن أيْنَ يمتنع ذلك، عقلاً أو شرعاً؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 378 فإن قيل: إن الرحيم الحكيم مِنَّا لا يجوز أن يفعل ذلك. قلنا: لأن فوقه آمراً يأمره وناهياً ينهاه، وربنا تعالى لا يسألُ عمَّا يفعل وهم يُسألُونَ، ولا يجوز أن يقاس الخلق بالخَالقِ، وبالحقيقة فإن الأفعال كلها لله تعالى، والخلقُ بأجمعهم له، يصرفهم كيف يشاء ويحكُم فيهم بما أراد، وهذا الذي يجدُهُ الآدميّ فإنَّما هو من رقة الجبلَّةِ، وشفقة الجنسيَّةِ وحُبِّ الثَّناءِ والمدح، والباري تعالى منزَّهٌ من ذلك. وأطبقت المعتزلةُ على أنَّهُ لا يجوزُ تفسير هذه الآية بهذا الوجه، واحْتَجُّوا على فساده بوجوه: الأول: قالوا إن قوله: {مِن بني آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ} [الأعراف: 172] ف «مِنْ ظُهُورهمْ» بدلٌ من قوله «بَنِي آدمَ» فيكون المعنى: وإذْ أخذ ربُّكَ من ظُهورِ بَنِي آدَمَ، وعلى هذا التقدير: فلم يذكر الله تعالى أنه أخذ من ظهر آدم شيئاً. الثاني: لو كان المراد أنه تعالى أخرج من ظهر آدم ذرية لما قال: «مِنْ ظُهورِهمْ» بل قال: من ظهره؛ لأنَّ آدم ليس له إلا ظهر واحد، وكذلك قوله: «ذُريَّتَهُمْ» ولو كان المرادُ آدم لقال: ذُرّيته. الثالث: أنَّهُ تعالى حكى عن أولئك الذُّريَّةِ أنهم قالوا: {إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ} [الأعراف: 173] وهذا لا يليق بأولاد آدم؛ لأنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام ما كان مشركاً. الرابع: أنَّ أخذ الميثاق لا يمكن إلاَّ من العاقِلِ، ولو كان أولئك الذر عقلاء، وأعطوا ذلك الميثاق حال عقلهم لوجب أن يتذكروا في هذا الوقت أنهم أعطوا الميثاق قبل دخولهم في هذا العالم؛ لأن الإنسان إذا وقعت له واقعة عظيمة فإنَّهُ لا يجوزُ مع كونه عاقلاً أن ينساها نسياناً كليّاً لا يتذكر منها قليلاً ولا كثيراً، وبهذا الدليل يبطلُ القول بالتَّناسخ؛ لأنَّا نقولُ لو كانت أرواحنا قد جعلت قبل هذه الأجساد في أجساد أخرى، لوجب أن نتذكَّرَ الآن أنا كنا قبل هذا الجسد في جسد آخر، وحيثُ لم نتذكر كان القول بالتَّناسخ باطلاً. وهذا الدليل بعينه قائم في هذه المسألة فوجب القول بمقتضاه، فلو جاز أن يقال: إنَّا كنا في وقت الميثاق أعطينا العهد مع أنَّا في هذا الوقت لا نتذكر شيئاً منه، فلمَ لا يجوز أيضاً أن يقال: إنَّا كنَّا قبل هذا البدن في بدن آخر مع أنا في هذا البدن لا نتذكر شيئاً من تلك الأحوال. الخامس: أن البنية شرط لحصول الحياة والعقل والفهم، إذ لو لم يكن كذلك لم يبعد في كل ذرَّة من ذرات الهباء أن تكون عاقلاً فاهماً مصنفاً للتَّصانيف الكثيرة في العلوم الدَّقيقة، وفتح هذا الباب يؤدِّي إلى التزام الجماداتِ، وإذا ثبت أن هذه البنية شرط لحصول الحياة، فكل واحد من تلك الذّرات لا يمكن أن يكون عاقلاً عالماً فاهماً إلاَّ إذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 379 حصلت له بنية وحمية، وإذا كان كذلك فمجموع تلك الأشخاص الذين خرجوا إلى الوجودِ من أول تخليق آدم إلى قيام القيامة لا تحويهم عرصة الدنيا، فكيف يمكن أن يقال إنَّهم بأسرهم حصلوا دفعة واحدة في صلب آدم - عليه الصَّلاة والسَّلام -. السادس: قالوا باطلٌ لانعقاد الإجماع على أن بسبب ذلك القدر من المثاق لا يصيرون مستحقّين للثواب والعقاب، ولا يجوز أن يكون المطلوب منه أن يصير ذلك حجة عليهم عند دخولهم في الدنيا، لأنهم لمَّا لم يذكروا ذلك الميثاق في الدنيا فكيف يصير عليهم حجة في التمسك بالإيمان. السابع: قال الكعبيُّ: إن حال أولئك الذّر لا يكونُ أعلى في الفهم والعلم من حال الأطفال، فلمَّا لم يمكن توجيه التَّكاليف على الطِّفل، فكيف يمكن توجيهه على أولئك الذّرِّ؟ وأجاب الزَّجَّاج عنه بما تقدَّم من تشبيهه بقصة النَّملة، وأيضاً لا يبعدُ أن يعطي اللَّهُ الجبل الفهم حتى يسبح، كما قال: {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ} [الأنبياء: 79] وكما أعطى اللَّهُ العقل للبعير حتَّى سجد للرَّسُول، وللنَّخْلَةِ حتى سمعت وانقادت حين دعيت فكذا هَهُنَا. الثامن: أن أولئك الذّر في ذلك الوقت إمّا أن يكون كاملي العقول أم لا، فإن كان الأوَّلُ كانوا مكلفين لا محالة، وإنما يبقون مكلفين إذا عرفوا الله تعالى بالاستدلال ولو كانوا كذلك لما امتازت أحوالهم في ذلك الوقت على أحوالهم في هذه الحياة الدُّنْيَا، فلو افتقر التكليف في الدُّنيا إلى سبق ذلك الميثاق؛ لافتقر التكليف في وقت ذلك الميثاق إلى سبق ميثاق آخر ولم التَّسلسل وهو محال. وإن قيل: إنَّهُمْ ما كانوا كاملي العقول في ذلك الوقت، فيمتنع توجيه الخطاب والتَّكليف عليهم. التاسع: قوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ} [الطارق: 5 - 6] ولو كانت تلك الذَّرات عقلاء فاهمين لكانوا موجودين قبل هذا الماء الدَّافق، ولا معنى للإنسان إلاَّ ذلك الشيء فحينئذٍ لا يكون الإنسان مخلوقاً من الماء الدَّافق وذلك رد لنصِّ القرآن. فإن قالوا: لِمَ لا يجُوزُ أن يقال إنَّهُ تعالى خلقه كامل العقل والفهم والقدرة عند الميثاق ثم أزال عقله وفهمه وقدرته؟ ثم إنه خلقه مرة أخرى في رحم الأم وأخرجه إلى الحياةِ؟ قلنا: هذا باطل؛ لأنه لو كان الأمر كذلك لما كان خلقه من النطفة خلقاً على سبيل الابتداء بل يجب أن يكون خلقاً على سبيل الإعادة، وأجمع المسلمون على أنَّ خلقه من النطفة هو الخلق المبتدأ، فبطل ما ذكرتموه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 380 العاشر: أن تلك الذَّرات إمَّا أن تكون عين هؤلاء الناس أو غيرهم، والثاني باطل بالإجماع بقي الأول. فنقولُ: إمَّا أن يُقالَ إنَّهم بقوا فهماء عقلاء قادرين حال ما كانوا نطفه وعلقة ومضغة أو ما بقوا كذلك، والأوَّلُ باطلٌ ببديهة العقل. والثاني: يقتضي أن يقال إن الإنسان حصلت له الحياة أربع مرات: وقت الميثاق، وفي الدُّنْيَا، وفي القبر، وفي القيامةِ وأنه حصل له الموت ثلاث مرات: بعد الحياة الحاصلة من الميثاق الأولِ، وموت في الدُّنيا وموت في القبر، وهذا العدد مخالف للعدد المذكور في قوله تعالى: {رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} [غافر: 11] . الحادي عشر: لو كان القولُ بهذا الذَّرِّ صحيحاً لكان ذلك الذَّر هو الإنسان؛ لأنَّهُ هو المكلَّف المخاطب المثاب المعاقب، وذلك باطلٌ؛ لأنَّ ذلك الذّر غير مخلوق من النطفة والعلقة، والمضغة، والقرآن يدلُّ على أنَّ الإنسان خلق من النُّطفةِ، والعلقة. قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] الآيات. وقوله: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ} [عبس: 17 - 19] فهذه الوجوه دلَّتْ على ضعف هذا القول. وقال أربابُ المعقولات: إنَّ الله تعالى أخرج الذرية وهم الأولاد من صلب آبائهم، وذلك الإخراج حال كونهم نطفاً، فأخرجها الله تعالى فأودعها أرحام الأمهَّات، وجعلها علقة ثم مضغة حتى جعله بشراً سويّاً وخلقا كاملاً ثم أشهدهم على أنفسهم بما ركب فيهم من دلائل وحدانيَّته، وغرائب صنعته، فبالإشهاد صاروا كأنهم قالوا: بلى، وإن لم يكن هناك قول باللِّسانِ، ولذلك نظائر منها قوله تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] . وقال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] . قول العرب: قال الجدار للوتدِ لِمَ تَشقُّنِي قال: سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي. وقال الشاعر: [الرجز] 2617 - امتلأ الحَوْضً وقَالَ قَطْنِي ... مَهْلاً رُوَيْداً قَدْ مَلأتَ بَطْنِي فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهور في الكلام، فوجب حمل الكلام عليه، وهذا القول لا طعن فيه ألبتة، وليس منافياً لصحة القول الأول. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 381 فصل قال القرطبيُّ: استدلَّ بهذه الآية على أنَّ مَنْ مات صغيراً دخل الجنَّة لإقراره في الميثاق الأول ومنْ بلغ لمْ يُغنِهِ الميثاق الأول. قوله «مِنْ ظُهُورهِمْ» بدل من قوله: «مِن بَنِي آدَمَ» بإعادةِ الجارِّ، كقوله: {لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ} [الزخرف: 33] {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ} [الأعراف: 75] وهل هو بدلُ اشتمال أو بدلُ بعض من كل؟ قولان: الأول لأبي البقاء، والثاني للزمخشري، وهو الظاهر كقولك: ضربتُ زيداً ظهره وقطعتُه يده، لا يُعْرِب هذا أحد بدل اشتمالٍ، و «ذُرِّيَتَهُمْ» مفعول به. وقرأ الكوفيون وابن كثير ذُرِّيتهُمْ بالإفراد، والباقون «ذُرِّيَّاتهم» بالجمع. قال أبو حيان: ويحتمل في قراءة الجمع أن يكون مفعولُ «أخذ» محذوفاً لفهم المعنى وذُرِّيَّاتهم بدلٌ من ضمير «ظُهُورِهِمْ» كما أنَّ من ظُهُورِهِمْ بدلٌ من بَنِي آدَمَ والمفعولُ المحذوفُ هو الميثاق كقوله: {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً} [النساء: 154] . قال: وتقديرُ الكلامِ: وإذ أخذ ربُّكَ من ظهور ذُرِّيات بني آدم ميثاق التوحيد لله، واستعارَ أن يكون أخذ الميثاق من الظهر كأن الميثاق لصعوبته والارتباط به شيءٌ ثقيلٌ يحمل على الظَّهْرِ. وكذلك قرأ الكوفيُّون وابن كثير في سورة يس، وفي الطُّورِ في الموضعين ذُرِّيَّتَهُم بالإفراد؛ وافقهم أبو عمرو على ما في يس، وناف وافقهم في أول الطور، وهي ذُرِّيَّتَهُم بإيمانٍ دون الثانية، وابن عامر على الجمع، وأبو عمرو ونافع جمعوا بين الأمرين. قال أبو حيان في قراءة الإفراد في هذه السُّورةِ: ويتعيَّن أن يكون مفعولاً ب «أخذ» وهو على حذف مضاف، أي: ميثق ذريتهم. يعني أنه لم يَجُزْ فيه ما جازَ في ذُرِّيَاتهم من أنَّه بدل، والمفعولُ محذوف وذلك واضحٌ؛ لأنَّ من قرأ: «ذُرِّيَّتَهُمْ» بالإفراد لم يَقْرَأهُ إلاَّ منصوباً، ولو كان بدلاً من هُمْ في ظُهُورِهِمْ لكان مجرورً، بخلاف ذُرِّيَّاتهم بالجمع فإنَّ الكسرة تَصْلُح أن تكون علامة للجر وللنصب في جمع المُؤنَّثِ السَّالمِ. قال الواحديُّ: الذرية تقع على الواحِدِ والجمع، فمنْ أفردَ فقد استغنى عن جمعه بوقوعه على الجمع كالبشر فإنه يقع على الواحد، كقوله: {مَا هَذَا بَشَرًا} [يوسف: 31] وعلى الجمع، كقوله: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6] {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنَا} [إبراهيم: 10] فكما لم يجمع «بشر» جمع تصحيح، ولا تكسير كذلك لا يجمع «الذريَّة» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 382 ومن جمع قال: إنَّ الذرية وإن كان واحداً فلا إشكال في جواز الجمع فيه، وإن كان جمعاً فجمعه حسن، لأنَّ الجموع المكسرة قد معت نحو: الطرقات والجدرات. قوله: {وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ} . أمَّا على قولِ مَنْ أثْبَتَ الميثاق الأوَّل فكل هذه الأشياء محمولة على ظواهرها، وأمَّا من أنكره، قال: إنَّهَا محمولة على التَّمثيل، أي: أنه تعالى نصب لهم الأدلة على ربوبيته، وشهدت بها عقولهم، فصار ذلك جارياً مجرى ما إذَا أشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} . وكأنهم قالوا بلى أنت ربُّنَا. قوله: «بَلَى» جواب: «ألَسْتُ» . قال ابنُ عبَّاس: لو قالوا «نَعَمْ» لكفروا، يريد أنَّ النَّفيَ إذا أجيب ب «نعم» كان تصديقاً له، فكأنهم أقَرُّوا بأنه ليس بربهم، هكذا ينقلونه عن ابن عباس. وفيه نظرٌ - إن صحَّ عنه - وذلك أن هذا النفي صار مُقرَّراً، فكيف يكفرون بتصديق التقرير؟ وإنَّما المانعُ من جهةِ اللغة، وهو أنَّ النفيَ مطلقاً إذا قُصدَ إيجابه أجيب ب «بَلَى» وإن كان مقرراً بسبب دخول الاستفهام عليه، وإنَّما كان ذلك تغليباً لجانب اللفظ، ولا يجوز مراعاةُ جانب المعنى إلاَّ في شعر، كقوله: [الوافر] 2618 - ألَيْسَ اللَّيْلُ يَجْمَعُ أمَّ عَمْرٍو ... وإيَّانَا فَذاكَ بِنَا تَدَأنِي نَعَمْ وأرَى الهلالَ كما تَرَاهُ ... ويَعْلُوهَا النَّهارُ كَمَا عَلانِي فأجاب قوله ألَيْسَ ب «نَعَمْ» ، مراعاةً للمعنى؛ لأنه إيجاب. قوله شَهِدْنضا هذا من كلامِ اللَّهِ تعالى، وقيل: من كلام الملائكة، لأنهم لمَّا قالوا بَلَى، قال الله للملائكة: اشهدوا فقال: شهدنا، وعلى هذا القول يحسن الوقف على قوله: «قالوا بَلَى» لأن كلامَ الذرية قد انقطع ههنا. وقوله: «أنْ تقُولُوا» أي: لئلا تقولوا {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} تقريره: أنَّ الملائكة قالوا شهدنا عليهم بالإقرارِ؛ يقولوا ما أقررنا، فأسقط كلمة «لِئَلاَّ» كقوله {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] ، أي: لئلاَّ تميد بكم. قاله الكوفيون، وعند البصريين تقديره: شَهِدْنَا كراهة أن تقولوا. وقيل: من كلام الله تعالى والملائكة. وقيل: من كلام الذُّريَّةِ، وعلى هذا فقوله: {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} تقديره: وأشهدهم على نفسهم بكذا وكذا لئلاَّ يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} أو كراهية أن يقولوا ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 383 قال الواحديُّ: وعلى هذا لا يحسن الوقفُ على قوله: بَلَى ولا يتعلَّقُ أن تقوُلُوا ب «شَهِدْنَا» ولكن بقوله: «وأشهدَهُمْ» فلم يجز قطعه عنه. قوله «أنْ تقُولُوا» مفعولٌ من أجله، والعامِلُ فيه إمَّا شَهِدْنَا أي: شهدنا كراهة أن تقولوا. هذا تأويل البصريين، وأما الكوفيون: فقاعدتهم تقدير «لا» النافية، أي: لئلاَّ تقولوا: كقوله {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ} [النحل: 15] . كما تقدم. وقول القطامي: [الوافر] 2619 - رَأيْنَا مَا يَرَى البُصَرَاءُ فِيهَا ... فَآلَيْنَا عَلَيْهَا أنْ تُبَاعَا أي: أن لا تُباع، وأما: «وأشهدَهُمْ» أي: وأشهدهم لئلا يقولوا أو كراهة أن يقولوا، وقد تقدم أن الواحدي قد قالك إنّ شَهِدْنا إذا كان من قول الذُّريَّةِ يتعيَّنُ أن يتعلَّق أن تقولوا ب «أشْهَدَهُمْ» كأنَّه رأى أن التركيب يصير: شَهِدْنَا أن تقولوا، سواءً قرىء بالغيبة أو الخطاب، والشَّاهدُون هم القائلون في المعنى، فكان ينبغي أن يكون التركيب: شهدنا أن نقول نحن، وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّ المعنى: شهد بعضهم على بعض، فبعضُ الذرية قال شهدنا أان يقول البعضُ الآخر كذلك. وذكر الجرجانيُّ عن بعضهم وجهاً آخر: وهو أن يكون قوله: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ} إلى قوله «قَالُوا بَلَى» تمام قصة الميثاق، ثم ابتدأ عزَّ وجلَّ خبراً آخر بذكر ما يقوله المشركون يوم القيمة، فقال: «شَهِدْنَا» بمعنى: نشهد؛ كقوله الحطيئة: [الكامل] 2620 - شَهِدَ الحُطَيئَةُ حِينَ يَلْقَى رَبَّهُ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... أي: يشهد، فيكون تأويله: يَشْهَدُ أن يقولوا. وقرأ أبو عمرو: «يَقُولُوا» في الموضعين بالغيبةِ، جرياًعلى الأسماء المتقدمة، والباقون بالخطاب، وهذا واضحٌ على قولنا: إنّ شَهِدْنَا مُسْنَدٌ لضمير الله تعالى. وقيل: على قراءة الغيبة يتعلَّق أن يقولوا ب «أشهدهم» ، ويكون قالوا شِهِدْنَا معترضاً بين الفعل وعلَّته، والخطابُ على الالتفات، فتكون الضَّمائر لشيء واحد. فإن قيل: كيف يلزم الحجة وأحدٌ لا يذكر الميثاقَ؟ فالجوابُ: أن الله تعالى قد أوضح الدَّلائل على وحدانيته وصدق رسله فيما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 384 أخبروا، فمن أنكره كان معانداً ناقضاً للعهد، ولزمته الحجة، وبنسيانهم وعدم حفظهم لا يسقط الاحتجاج بعد إخبار المخبر الصادق صاحب المعجزة. قوله: {أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ} . قال المفسرون: المعنى أنَّ المقصود من هذا الإِهاد ألاَّ يقول الكفار إنما أشركنا لأنَّ آباءنا أشركوا فقلَّدناهم فكان الذَّنب لآبائنان فكيف تعذبنا على هذا الشرك، وهو المراد من قوله {أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ المبطلون} والحاصل: أنه تعالى لمَّا أخذ عليهم الميثاق، امتنع عليهم التسمك بهذا العذر، وأمَّا الذين حملوا الآية على أن المراد منه مجرد نصب الدلائل، قالوا: معنى الآية: إنَّ نصبنا الدلائل وأظهرنا للعقول كراهة أن يقولوا يوم القيامة: {إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ} ما نبَّهنا عليه مُنبِّهٌ، أو كراهة أنْ يقولوا: إنَّما أشركنا على سبيل التَّقليد لأسلافنا؛ لأنَّ نصب الأدلَّةِ على التَّوحيد قائمٌ مقام منعهم. ثم قال: {وكذلك نُفَصِّلُ الآيات} أي: أن مثل ما فصَّلنا وبينَّا في هذه الآية بين سائر الآيات ليتدبَّرُوا فيرجعوا إلى الحقّ. وقرأ فرقة يُفَصِّل بياء الغيبة، وهو الله تعالى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 385 قوله تعالى: {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} الآية. قال ابنُ عبَّاسٍ وابن مسعود: نزلت هذه الآيةُ في «بلعم بن باعوراء» . وقال مجاهدٌ: بَلعَامُ ابن باعر. وقال عطيَّةُ عن ابن عبَّاس: كان من بني إسرائيل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 385 وروي عن ابن أبي طلحة: أنَّه كان من الكنعانيين من مدينة الجبَّارين. قال مقاتل: هو من مدينة البَلْقَاءِ، وذلك أنَّ موسى - عليه الصَّلاة والسَّلام - وقومه، قصد بلده، وغزا أهله وكانوا كفاراً، فطلبوا منه أن يدعو على موسى وقومه وكان مجاب الدعوة وعنده اسم الله الأعظم فامتنع منه، فما زالوا يطلبونه حتى دعا عليه، فاستجيب له ووقع موسى وبنوا إسرائيل في التّيهِ بدعائه، فقال موسى: يا رب بأيِّ ذنبٍ وقعنا في التيهِ؟ فقال: بدعاء بلعم، فقال: كما سمعت دُعاءَهُ عليَّ، فاسمع دعائي عليه، ثم دعا موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن ينزع منه اسم الله الأعظم والإيمان، فسلخه اللَّهُ مِمَّا كان عليه، ونزع منه المعرفة، فخرجت من صدره حمامة بيضاء. وقيل: إنَّه كان نبيّاً من أنبياء الله، دعا عليه موسى، فنزع اللَّهُ تعالى منه الإيمان، فصار كافراً وهذا بعيدٌ؛ لقوله تعالى: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] فدلَّ على أنَّهُ تعالى لا يخصُّ عبداً بالرِّسالة إلاَّ إذا علم امتيازه عن سائر العبيد بمزيد المناقب العظيمة، ومن كانت هذه حالهُ، كيف يليق به الكفر؟ وقال عبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب وزيد بن أسلم: نزلت في أميَّة بن أبي الصلت وكان قد قرأ الكتب، وعلم أنَّ الله تعالى مرسل رسولاً في ذلك الوقت ورجا أن يكون هو، فلمَّا أرسل الله تعالى، محمداً - عليه الصَّلاة والسَّلام -، حسدهُ، ثم مات كافراً، وكان قد قصد بعض الملوك، فلمَّا رجع مرَّ على قتلى بدر، فسأل عنهم، فقيل له: قتلهم محمد. فقال: لو كان نبيّاً ما قتل أقرباءه، فلما مات أمية، أتت أخته فازعةً إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسألها عن وفاة أخيها فقالت: بينما هو راقدٌ، أتاه اثنانِ، فكشفنا سقف البيت ونزلا، فقعد أحدهما عند رجليه، والآخر عند رأسه. فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه أوعى؟ قال: وعى. قال: أزكى؟ قال: أبَى، فسألته عن ذلك فقال: خيرٌ أريد بي؛ فصرف عني ثم غشي عليه، فلما أفاق قال: [الخفيف] 2621 - كُلُّ عَيْشٍ وإنْ تَطاوَلَ دَهْراً ... صَائِرٌ مَرَّةً إلى أنْ يَزُولا لَيْتَنِي كُنْتُ قَبْلَ ما قَدْ بَدَا لِي ... فِي قلالِ الجِبالِ أرْعَى الوُعُولاَ إنَّ يَوْمَ الحسابِ يَوْمٌ عظيمٌ ... شَابَ فِيهِ الصَّغيرُ يَوْماً ثَقِيْلاً ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أنشديني شعر أخيك، فأنشدته بعض قصائده. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 386 فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: آمن شعره وكفر قلبه» وأنزل اللَّه فيه هذه الآية. وروي عن ابن عباس نزلت في البسوس رجل من بني إسرائيل، وكان قد أعطي ثلاث دعوات مستجابات، وكانت له امرأة له منها ولد، فقالت: اجعل لي منها دعوة واحدة، فقال لها: لَكِ منها واحدةٌ، فما تريدين؟ قالت: ادْعُ اللَّهَ أن يجعلني أجمل امرأة في بني إسرائيل فدعا لها؛ فجلعت أجمل امرأة في بني إسرائيل؛ فلمَّا علمت أنه ليس فيهم مثلها رغبت عنه فغضب الزَّوْجُ فدعا عليها فصارت كلبة نباحة [فذهبت فيها دعوتان، فجاء بنوها وقالوا: ليس لنا على هذا إقرار قد صارت أمنا كلبة نباحة] ، فصار النَّاس يعيروننا بها، فادع الله أن يردَّهَا إلى حالها الأول، فدعا الله فعادت كما كانت فذهبت فيها الدَّعوات كلها. وقيل: نزلت في أبي عامر الرَّاهبِ الذي سمَّاه النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالفاسق كان يتزهد في الجاهليَّة فلما جاء الإسلام خرج إلى الشام، وأمر المنافقين باتَّخاذهم مسجد الضِّرار وأتى قيصر واستنجده على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمات هناك طريداً وحيداً. وقال الحسنُ، وابن كيسان، والأصم نزلت في منافقي أهل الكتاب، كانوا يعرفون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما يعرفون أبناءهم. وقال عكرمةُ، وقادة، وأبو مسلم: هذا عام فيمن عرض عليه الحق فأعرض عنه. وقوله: «فانسَلَخَ مِنْهَا» . قال ابن عباس: «آتيْنَاهُ آياتِنَا» أوتي كتاباً من كُتبِ اللَّهِ «فانسَلَخَ مِنْهَا» أي: خرج منها كما تنسلخ الحية من جلدها. قوله: {فَأَتْبَعَهُ الشيطان} الجمهور على أتبعَهُ رباعياً، وفيه وجهان: أحدهما: أنه متعدٍّ لواحد بمعنى أدركه ولحقه، وهو بمالغةٌ في حقه حيث جُعل إماماً للشياطين. ويحتمل أن يكون متعدِّياً لاثنين؛ لأنَّهُ منقولٌ بالهمزة من «تَبع» ، والمفعولُ الثَّاني محذوفٌ تقديره: أتبعه الشيطان خطواتِهِ، أي: جعله تابعاً لها، ومِنْ تعدِّيه لاثنين قوله تعالى: {واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ} [الطور: 21] . وقرأ الحسنُ وطلحةُ بخلاف عنه: فاتَّبَعَهُ بتشديد التاء، فهل «تبعه» واتبعَهُ بمعنى أو بينهم فرق؟ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 387 قيل بكل منهما، وأبدى بعضهم الفرق بأن «تَبِعه» مشى في أُره، و «اتَّبعَهُ» إذا وازَاهُ في المشي. وقيل: «اتَّبعه» بمعنى: استتبعه. ومعنى الآية: أتبعه الشيطان كفار الإنس وغواتهم أي الشيطان جعل كفار الإنس أتباعاً له. وقال عبد الله بن مسلم: «فأتبعه الشيطان» . أي: أدركه. ويقال: تبعت القوم، إذا لحقتهم. قال أبو عبيد: يقال: أتبعت القوم مثل: أفعلتُ إذا كانوا قد سبقُوكَ فلحقْتُهُم وقوله {فَكَانَ مِنَ الغاوين} أي: أطاع الشيطان فكان من الضالين. قوله: {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا} الضمير في: رَفَعْنَاهُ الظَّاهر عودُه على الذي أوتي الآيات، والمجرور عائد على الآيات والتقديرُ: ولو شئنا رفعناه للعمل بها، أي: رفعناه درجة بتلك الآيات. قال ابن عباس: لرفعناه بعمله. وقيل: المنصوب يعودُ على الكفر المفهوم ممَّا سبق، والمجرور على الآيات، أي: لرفعنا الكفر بما ترى من الآيات. قال مجاهد وعطاء. وقيل: الضمير المجرور يعود على المعصية والمنصوب على «الذي» والمراد بالرفع: الأخذُ، كما تقول: رُفِعَ الظَّالمُ، أي قُلِعَ وأهْلِكَ أي: لأهلكناه بسبب المعصية. وهذه أقوال بعيدة، ولا يظهر الاستدراك إلاَّ على الوجه الأوَّلِ. قوله {وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ} «أخْلَدَ» أي: ترامى بنفسه. أي: ركن إلى الدنيا ومال إليها. قال أهل العربيَّةِ: أصله من الإخلاد، وهو الدوامُ واللُّزوم، فالمعنى: لَزِمَ المَيْلَ إلى الأرْضِ قال مالك بنُ نُويرةَ: [الطويل] 2622 - بِأبْنَاءِ حَيٍّ مِنْ قبائِلِ مالكٍ ... وعمْرو بنِ يَرْبُوعٍ أقامُوا فأخْلَدُوا ومنه يقال: أخلد فلان بالمكان، إذا لزم الإقامة به. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 388 قال ابنُ عبَّاس: يريد مال إلى الدُّنيا. وقال مقاتل: رَضِيَ بالدُّنيا. وقال الزجاج: ركن إلى الدُّنيا. قال الواحديُّ فهؤلاء فَسَّرُوا «الأرض» في هذه الآية بالدنيا؛ وذلك لأنَّ الدنيا هي الأرض؛ لأن ما فيها من القفار والضياع كلها أرض، وسائر أمتعتها من المعادن والنبات والحيوان يستخرج من الأرض وإنَّما يقوى ويكمل بها، فالدنيا كلُّها هي الأرض فصلح أن يعبر عن الدُّنْيا بالأرض. وقوله: «وَاتَّبَعَ هَوَاهُ» أي: أعرض عن التَّمسك بما آتاه اللَّهُ من الآيات واتَّبع الهَوَى، فلام جرم وقع في هاوية الرَّدَى، وهذه أشد آية على العلماء؛ لأنه تعالى بعد أن خصَّ هذا الرَّجل بآياته وبيناته وعلمه الاسم الأعظم، وخصه بالدَّعوات المستجابة، لما اتبع الهوى انسلخ من الدين وصار في درجة الكلب، وذلك يدلُّ على أن من كانت نعم الله عليه أكثر، فإذا أعرض عن متابعة الهدى، واتَّبع الهوى، كان بعدهُ عن الله أعظمَ، وإليه الإشارة بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام «من ازدادَ من اللَّهِ عِلْماً ولمْ يزددْ هُدىً لم يَزْددْ مِنَ اللَّهِ إلاَّ بُعْداً» وقال عليه الصَّلاة والسَّلام «مَا ذِئبَانِ جَائِعَانِ أرْسِلاَ فِي غنمٍ فأفسَد لَهَا مِنْ حرصِ المرءِ على المالِ والسَّرفِ لدينهِ» قوله: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} ، الجملة الشَّرطيَّةُ في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: لاهثاً في الحالتين. قال بعضهم: وأمَّا الجملةُ الشَّرطيَّةُ فلا تكادُ تقع بتمامها موضع الحال. فلا يقال: جاء زيدٌ إن يسأل يُعْط. على الحالِ، بل لو أريد ذلك لجُعِلت الجملة فلا يقال: جاء زيدٌ إن يسأل يُعط فتكون الجملة الاسمية هي الحال. نعم قد أوقعو الشَّرطيَّة موقع الجحال، ولكن بعد أن أخروجُها عن حقيقة الشرط. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 389 وتلك الجملة لا تخلُو من أن يُعطفَ عليها ما ينقاضها، أو لم يُعْطف، فالأوَّلُ: يستمرُّ فيه تركُ الواو، نحو: أتيتك إن أتيتني وإن لم تأتني، إذ لا يَخْفَى أن النقيضين من الشرطين في مثل هذا الموضع لا يبقيان على معنى الشرط، بل يتحوَّلان إلى معنى التسوية، كالاستفهامين المتناقضين في قوله: {أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6 - يس: 10] . والثاني: لا بدَّ فيه من الواو نحو: أتَيْتُكَ، وإن لم تأتني؛ لأنَّهُ لو تركت الواو فقيل: أتيتُكَ إن لم تأتني لالتبس، إذا عُرِفَ هذا فقوله: {إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث} من قبيل النوع الأول؛ لأنَّ الحمل عليه، والتَّرك نقيضان. والكلبُ يُجْمَعُ في القلَّةِ «أكْلُبٍ» ، وفي الكثرةِ على «كلاتٍ» ، وشذُّوا فجمعوا «أكْلُباً» على «أكَالِب» ، و «كِلاباً» على «كِلابَاتٍ» ، وأمَّا «كَلِيبٌ» فاسم جمعٍ؛ ك «فريق» ، لا جمع، قال طرفة: [الطويل] 2623 - تَعَفَّقَ بالأرْطَى لَهَا وأرَادَهَا ... رِجَالٌ فبذَّتْ نَبْلَهُمْ وكَلِيبُ وتقدَّمَتْ هذه المادة في المائدة. ويقال: لَهَثَ يَلْهَثُ بفتح العين في الماضي والمُضارع «لَهَثَاً» ، و «لُهْثاً» بفتح اللام وضمها، وهو خروج لسانه في حالة راحته وإعيائه، وأمَّا غيره من الحيوان، فلا يَلْهَثُ إلاَّ إذا أعيا، أو عطش، والذي يظهر أن هذه الجملة الشرطية لا محلَّ لها من الأإعراب، لأنَّها مفسِّرة للمثل المذكور، وهذا معنى واضحٌ لقولهم في قوله تعالى: {خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] أنَّ الجملة من قوله من تُرابٍ مفِّرة لقوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] . واعلم أنَّ هذا التمثيل ما وقع بجميع الكلابِ، وإنَّما وقع بالكلبِ اللاَّهِثِ، وذلك من وجهين: الأول: أنَّهُ شبهه بأخس الحيوانات، وأخس الحيوانات الكلب، وأخسَ الكلاب الكلبُ اللاَّهث، فمن آتاه اللَّهُ العِلْمَ والدِّين فمالَ إلى الدُّنْيا، وأخْلَدَ في الأرض، كان مشبهاً بأخس الحيوانات وهُوا الكلبُ اللاَّهثُ، فإنَّهُ يلهثُ في حال الإعياء، وفي حالِ الرَّاحةِ، وفي حال العطش، وفي حال الرّي، وذلك عادته الأصليَّة وطبيعته الخسيسة لا لضرورة وحاجة تَدْعُو إلى ذلك فكذلك من آتاه اللَّهُ العلم والدين، وأغناه عن التَّعرُّض لأوساخ النَّاسِ، ثم إنَّه يميل في طلب الدُّنْيَا، ويلقي نفسه فيها، فحالُهُ كحالِ ذلك اللاَّهث، حيثُ واظب على الفعل الخسيس القبيح، بمجرَّد نفسه الخبيثة وطبيعة الخسيسة لا لحاجة وضرورة. الثاني: أنَّ العالم إذا توسَّل بعلمه إلى طلب الدَّنيا، فذلك إنَّمَا يكون لأجل أن يورد عليهم أنواع علومه، ويظهر عندهم فضائل نفسه ومناقبها، فهُوا عند ذكر تلك العلوم يدلع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 390 لسانه ويخرجه لأجل ما تمكَّن في قلبه من حرارة الحرصِ وشدَّة العطشِ إلى الفوز بالدُّنْيَا، فكانت حاله شبيهةً بحالة ذلك الكلب الذي أخرج لسانه دائماً من غير حاجة، ولا ضرورة، بل لمجرَّدِ الطبيعة الخسيسة. والثالث: أنَّ الكلبَ اللاَّهث لا يزولُ لهثه ألْبتةَ، فكذلك الإنسان الحريص لا يزول حرصه ألبتة. قوله: {ذَّلِكَ مَثَلُ القوم} يجوز أن يُشارَ ب: ذَلِكَ إلى صفة «الكَلْبِ» ، ويجوز أن يشار به إلى المنسلخ من الآيات، أو إلى الكلب، وأداةُ التَّشبيه محذوفةٌ من ذلك أي: صفة المنسلخ، أو صفة الكلبِ مثل الَّذين كَذَّبُوا، ويجوزُ أن يكون المحذوفُ من: «مثلُ القومِ» أي: ذلك الوصف، وهو وصف المنسلخ، أو وصف الكلب كمثل القوم. فصل واعلمْ أنَّهُ تعالى عمَّ بهذا التَّمثيل جميع المكذبين بآيات الله. قال ابنُ عبَّاسٍ: يريد أهل مكَّة لأنهم كانوا يتمنون هادياً يهديهم، ويدعوهم إلى طاعة الله، فلمَّا جاءهم نبيٌّ لا يشكُّونَ في صدقه كذَّبوه، فلم يهتدوا، وبقُوا على الضَّلالِ في كل الأحوالِ، إن وعظته فهو ضالٌّ، وإن تركتهُ فهو ضالٌّ، مثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث، وإن تركته على حاله يلهث فهو لاهث في كل الأحوال. ثم قال: «فاقْصُصِ القَصَصَ» أي: قصص الذين كَفَرُوا، وكذَّبُوا بآياتنا: «لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُون» أي: يتَّعِظُون. قوله: «سَاءَ مثلاً» «سَاءَ» بمعنى: بِئْسَ «، وفاعلها مضمرٌ فيها، ومثلاً تمييزٌ مفسِّر له، وقد تقدم [النساء 38] أنَّ فاعل هذا الباب إذا كان ضميراً يُفَسَّر بما بعده ويُسْتَغْنَى عن تثنيته وجمعه وتأنيثه بتثنية التمييز وجمعة وتأنيثه عند البصريين، وتقدَّم أنَّ» سَاءَ «أصلها التَّعدِّي لمفعولٍ، والمخصوصُ بالذم لا يكون إلا من جنسِ التمييز، والتمييز مُفَسِّر للفاعل فهوهو، فلزم أن يصدق الفاعلُ والتمييزُ والمخصوص على شيءٍ واحدٍ، إذا عُرِف هذا فقوله:» القَوْمُ «يرُ صادقٍ على التمييز والفاعل فلا جرم أنَّه لا بدَّ من تقدير محذوف إمَّا من التَّمييز، وإمَّا من المخصوص. فالأوَّلُ يقدَّر: ساء أصحابُ مثل أو أهلُ مثل القوم، والثاني يقدر: ساء مثلاً مثل القوم، ثم حذف المضاف في التقديرين، وأقيم المضافُ إليه مُقامه، وهذه الجملةُ تأكيدٌ للَّتي قبلها. وقرأ الحسنُ والأعمشُ وعيسى بن عمر:» سَاءَ مثلُ القَوْمِ «برفع» مثل «مضافاً للقوم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 391 وروي عن الجحدري كذلك، وروي عنه كسر الميم وسكون الثاء ورفع اللاَّم وجرُّ» القوم «وهذه القراءةُ المنسوبةُ لهؤلاء الجماعة تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون» سَاءَ «للتَّعَجُّب، مبنيَّةٌ تقديراً على» فَعُلَ «بضمِّ العين كقولهم: لَقَضُوا الرجلُ، و» مَثَل القوْم «فاعل بها، والتقدير: ما أسوأ مثل القومِ، والموصولُ على هذا في محل جر، نعتاً ل» قَوم «. والثاني: أنَّها بمعنى» بِئْسَ «و» مثلُ القوم «فاعل، والموصولُ على هذا في محلِّ رفعٍ؛ لأنه المخصوصُ بالذَّمِّ، وعلى هذا لا بد مِنْ حذف مضاف، ليتصادقَ الفاعلُ والمخصوصُ على شيءٍ واحدٍ، والتقدير: ساءَ مثلُ القومِ مثل الذين، وقدَّر أبو حيان تمييزاً في هذه القراءة وفيه نظر؛ إذْ لا يحتاج إلى تمييز، إذا كان الفاعلُ ظاهراً، حتَّى جعلُوا الجمع بينهما ضرورةً، كقول الشَّاعر: [الوافر] 2624 - تَزَوَّدْ مِثْلَ زَادِ أبيكَ فِينَا ... فَنِعْمَ الزَّادُ زَادُ أبيكَ زَادَا وفي المسألة ثلاثة مذاهب: الجوازُ مطلقاً، والمَنْعُ مطلقاً، والتَّفصيلُ، فإن كان مغايراً في اللَّفظ ومفيداً فائدة جديدة جاز نحو: نعم الرَّجُلُ شجاعاً زيدٌ؛ وعليه قوله: [الوافر] 2625 - تَخَيَّرَهُ ولَمْ يَعْدِلْ سِوَاهُ ... فَنِعْمَ المَرْءُ مِن رَجُلٍ تِهَامِي فصل قال اللَّيْثُ: سَاءَ يَسُوءُ: فعلٌ لازمٌ ومتعد، يقالك ساء الشَّيءُ يَسُوء فهو سيّىءٌ وسَاءَه يَسُوءُهُ مَسَاءَةً، إذا قبح. فإن قيل: ظاهر قوله: «سَاءَ مَثَلاً» يقتضي كون ذلك المثل موصوفاً بالسُّوء، وذلك غير جائز؛ لأن هذا المثل ذكره الله تعالى، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوء؟ وأيضاً فهو يفيد الزجر عن الكُفرِ والدَّعوة إلى الإيمان، فكيف يكون موصوفاً بالسُّوءِ؟ فالجوابُ: أنَّ الموصوف بالسُّوءِ ما أفاده المثل من تكذيبهم بآيات الله وإعراضهم عنها، حتَّى صارُوا في التمثيل بذلك بمنزلة الكلبِ اللاَّهِث. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 392 قوله: {وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ} «أنْفُسَهُمْ» مفعول ل «يَظْلِمُونَ» وفيه دليلٌ على تقديم خبر «كان» عليها؛ لأنَّ تقديم المعمول يؤذنُ بتقديم العامل غالباً، لأنَّ ثمَّ مواضع يمتنع فيها ذلك نحو: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [الضحى: 9] ف «اليتيمَ» مفعول ب «تقهر» ولا يجوز تقديم «تَقْهَرْ» على جازمه، وهو محتملٌ للبحث. وهذه الجملةُ الكونيةُ تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون نسقاً على الصلة وهي «كذَّبُوا بآيَاتِنَا» والمعنى: الذين جمعوا بين التكذيب بآيات الله، وظلم أنفسهم. والثاني: أن تكون مستأنفة، أي: وما ظلموا إلا أنفسهم بالتَّكذيب، وعلى كلا القولين فلا محلَّ لها، وقُدِّم المفعولُ، ليفيدَ الاختصاص وهذا على طريق الزمخشريِّ وأنظاره كأنَّهُ قيل: وخصوا أنفسهم بالظُّلْمِ، وما تعدى أثر ذلك الظُّلم عنهم إلى غيرهم. قوله: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي} راعى لفظ «مَنْ» فأفرد، وراعى معناها في قوله {فأولئك هُمُ الخاسرون} فجمع، وياء «المُهْتَدِي» ثابتةٌ عند جميع القُرَّاءِ، لثبوتها في الرسم، وسيأتي الخلاف في التي في الإسراء. وقال الواحديُّ: فهُو المُهْتَدِي يجوز إثبات الياء فيه على الأصلِ، ويجوزُ حذفها استخافاً؛ كما قيل في بيت الكتاب: [الوافر] فَطِرْتُ بِمْنْصُلِي فِي يَعْمَلاتٍ ... دَوَامِي الأيْدِ يَخْبِطْنَ السَّرِيحَا وعنه: [الكامل] 2627 - كَنَوَاحِ ريشِ حَمَامَةٍ نَجْديَّةٍ ... ومَسَحْتِ باللِّثَتَيْنِ عَصْفَ الإثْمِدِ قال ابن جني: شبَّه المضاف إليه بالتنوين فحذف له الياء. فصل لمَّا وصف الظَّالمين وعرَّف حالهم بالمثل المذكور بيَّن في هذه الآية أنَّ الهداية من اللَّهِ، وأنَّ الضَّلال من اللَّهِ، وذكر المعتزلةُ ههنا وجوهاً من التأويل: أحدها: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 393 قال الجُبائيُّ والقاضي: المرادُ من يهده اللَّهُ إلى الجنَّةِ والثَّواب في الآخرة، فهو المهتدي في الدُّنْيَا السالك طريقة الرشد فيما كلف، فبيَّن تعالى أنَّهُ لا يهدي إلى الثَّوابِ في الآخرة إلا مَنْ هذه صِفَتُهُ، ومن يضلله عن طريق الجنَّةِ: {فأولئك هُمُ الخاسرون} . وثانيها: قال بعضهم: إنَّ في الآية حذفاً، والتَّقديرُ: من يهده اللَّهُ فيقبل، ويهتدي بهداه؛ فهو المهتدي، ومن يُضللْ فلم يقبل فهو الخَاسِرُ. وثالثها: أنَّ المراد من يهده اللَّهُ أي: وصفه بكونه مُهتدياً فهو المهتدي؛ لأنَّ ذلك كالمدح ومدح الله لا يجعل إلاَّ لمن اتَّصَفَ بذلك الوصف المَمْدُوحِ، ومن يضلل أي: وصفه اللَّهُ بكونه ضالاً: {فأولئك هُمُ الخاسرون} . ورابعها: من يهده اللَّهُ بالإلطاف وزيادة الهدى فهو المهتدي، ومن يضلل عن تلك الألطاف بسوء اختياره، ولم يُؤثِّر فيه فهو الخَاسِرُ. والجواب من وجوه: الأولُ: أن الفعل يتوقَّفُ على حصول الدَّاعي وحصول الدَّاعي ليس إلّض من اللَّهِ فالفعلُ ليس إلاَّ من اللَّهِ تعالى. الثاني: أنَّ خلاف معلوم الله تعالى ممتنع الوقوع، فمن علم الله منه الإيمان لم يقدر على الكفر وبالضّد. الثالث: أنَّ كل أحد يقصد حصول الإيمان والمعرفة فإذا حصل الكفر عقيبه عَلِمْنَا أنَّهُ ليس منه بل من غيره. وأما التأويل الأول: فضعيف لانه حمل قوله {فأولئك هُمُ الخاسرون} على الهداية في الآخرة إلى الجنة وقوله «فَهُوَ المُهْتَدِي» على الاهتداء إلى الحق في الدنيا، وذلك يوجب ركاكة النظم، بل يجب أن تكون الهداية والاهتداء راجعين إلى شيء واحد حتى يحسن النظم. وأما الثاني: فإنه التزام لإضمار زائد، وهو خلاف اللَّفظ، ولو جاز فتح باب أمثال هذه الإضمارات لانقلب النفي إثباتاً والإثبات نفياً، ويخرج كلام الله عن أن يكون حجة، فإنَّ لكل أحد أن يضمر في الآية ما شاء، وحينئذ يخرج الكلام عن الإفادة. وأما الثالث: فضعيف؛ لأنقول القائلنك فلان هدى فلاناً لا يفيدُ في اللغة ألبتَّة أنَّهُ وصفه بكونه مهتدياً، وقياس هذا على قوه: فلان ضلل فلان وكفره، قياس في اللغةِ، وهو في نهاية الفسادِ. والرابع: باطل؛ لأن كل ما في مقدور الله تعالى من الألطاف، فقد فعله عند المعتزلةِ في حق جميع الكُفَّارِ؛ فحمل الآية على هذا التَّأويل بعيد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 394 قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} الآية. اللام في [قوله] لجهنَّمَ يجوزُ فيها وجهان: أحدهما: أنَّها لامُ الصيرورة والعاقبة، وإنَّما احتاج هذا القائلُ إلى كونها لام العاقبة كقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فهذه علةٌ معتبرةٌ محصولة، فكيف تكون هذه العلة أيضاً؟ وأورد من ذلك أيضاً قول الشاعر: [الوافر] 2628 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرابِ ..... ... ... ... ... ... ... . . وقول الآخر: [الطويل] 2629 - ألاَ كُلُّ مَوْلُودٍ فَلِلْموتِ يُولَدُ ... ولَسْتُ أرَى حيّاً لِحَيٍّ يُخَلَّدُ وقول الآخر: [الطويل] 2630 - فَلِلْمَوتِ تَغْذُو الوَالِداتُ سخَالَهَا ... كَمَا لِخرابِ الدُّور تُبْنَى المَسَاكِن الثاني: أنها للعلة، وذلك أنَّهُم لمَّا كان مآلهم إليها، جعل ذلك سبباً على طريق المجاز. وقد ردَّ ابنُ عطيَّة على من جعلها لامَ العاقبة، فقال: وليس هذا بصحيح ولام العاقبة إنَّما تُتَصَوَّرُ إذا كان فعل الفاعل لم يُقْصَدْ مصيرُ الأمر إليه، وأمَّا هنا فالفعلُ قُصِد به ما يصير الأمر إليه من سُكْناهم لجهنم واللاَّم على هذا متعلقة بذَرَأنَا، ويجوز أن تتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال من كَثِيراً؛ لأنه في الأصل صفة لها، لو تأخَّرَ، ولا حاجة إلى ادِّعاءِ قلب، وأنَّ الأصل: {ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً} ؛ لأنَّهُ ضرورةٌ أو قليلٌ، و «مِنَ الجِنِّ» صفة ل «كَثِيراً» . فصل ومعنى {ذَرَأْنَا} خلقنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس، أخبر الله تعالى أنه خلق كثيراً من الجن والإنس للنار، وهم الذينَ حقت عليهم الْكلمة الأزليَّة بالشّقاوة، ومن خلقه الله لجهنَّمَ، فلا حيلة له في الخَلاصِ منها. قالت عائشةُ: «أدرك النّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جنازة صبيٍّ من صبيان الأنْصَارِ، فقالت عائشةُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 395 له: طُوبى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الجَنَّةِ. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: وما يدريكِ؟ إنَّ الله خَلَقَ الجَنَّةَ وَخلَقَ لَهَا أَهْلاً وَهُمْ في أصْلابِ آبَائِهِمْ وخَلَقَ النَّارَ وَخَلَقَ لَهَا أَهْلاً وهُمْ في أَصْلابِ آبائِهِمْ» فصل هذه الآية أيضاً تَدُلُّ على مسألة خلق الأعمالِ لأنَّهُ تعالى صرَّحَ بأنَّهُ خلق كثيراً من الجن والإنس لجهنم ولا مزيد على بيان كلام اللَّهِ، وأيضاً انه لمَّا أخبر عنهم أنَّهُم من أهل النَّارِ، فلو لم يكونوا من أهل النَّارِ انقلب علم اللَّهِ جهلاً، وخبره الصِّدق كذباً، وكل ذلك محال ومن علم كون الشَّيءِ محالاً امتنع أن يريدهُ، فامتنع أن الله تعالى يريد أن لا يدخلهم النار بل يجب أن يريد أن يدخلهم النار، وذلك هو الذي دَلَّ عليه لفظ الآية، وأيضاً إنَّ القادرَ على الكُفْرِ إن لم يقدر على الإيمان، فالذي خلق فيه القدرة على الكُفْرِ فقد أرادَ أن يدخله النار، وإن كان قادراً على الكفر والإيمان معاً؛ امتنع رجحان أحد الطَّرفين على الآخر لا لمرجح وذلك المرجح إن حصل من قبله لزم التسلسل، وإن حصل من قبل اللَّهِ تعالى، فهو المرادُ. فلمَّا كان هو الخالقُ للدَّاعية الموجبة للكفر فقد خلقه للنَّارِ قطعاً، وأيضاً: لو خلقه اللَّهُ تعالى للجنَّةِ وأعانه على اكتساب ما يوجب دخول الجنَّةِ، ثم قدرنا أنَّ العبد سعى في تحصيل الكُفْرِ الموجب لدُخُولِ النَّارِ، فحينئذٍ حصل مُرَادُ العبدِ، ولم يحصل مرادُ اللَّهِ تعالى فلزمَ كون العبد أقدر وأقوى من اللَّهِ، وذلك لا يقوله عاقلٌ، وأيضاً: إنَّ العاقلَ لا يريدُ الكُفْرَ والجهل الموجب لاستحقاق النار، وإنما يريدُ الإيمان والمعرفة الموجبة لاستحقاق الجنَّةِ فلما حصل الكفر، والجهل على خلاف قصد العبد وضد جدّه واجتهاده؛ وجب أن لا يكون حصوله من قبل العبد، بل يجبُ أن يكون حصوله من الله تعالى. فإن قيل: العبْدُ إنَّما سعى في تحصيل ذلك الاعتقاد الفَاسِد؛ لأنَّهُ اشتبه عليه الأمر وظن أنه الحقُّ الصَّحيحُ. فنقولُ: فعلى هذا التقدير إنَّما وقع في هذا الجَهْلِ لأجل ذلك الجَهْلِ المتقدِّم، فإن كان إقدامه على ذلك الجهل السَّابق لجهل آخر سابق، لزم التسلسل، وهو محال، وإن انتهى إلى جهل حصل ابتداء لا لسابقة جهل آخر، فقد توجه الإلزام. قالت المعتزلة: لا يمكن أن يكون المراد من هذه الآية ما ذكرتم، لأن كثيراً من الآيات دلت على أنه تعالى أراد من الكل الطاعة والعبادة. قال تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ أِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ الله} [النساء: 64] وقال: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 396 {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ} [الفرقان: 50] وقال: {هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} [الحديد: 9] . وقال: {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط} [الحديد: 25] . وقال {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10] . وقال: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] وأمثال هذه الآيات كثيرة. ونحن نعلم بالضَّرورة أنه لا يجوز وقوع التناقض في القرآن، فعلمنا أنَّه لا يُمْكنُ حَمْلُ قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس} على ظاهره. الثاني: أنه تعالى قال بعدها: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا} ذكر ذلك في معرض الذم لهم، ولو كانوا مخلوقين للنَّارِ ما كانُوا قادرين على الإيمان ألبتة وعلى هذا: فيقبح ذمُّهُم على تركِ الإيمان. الثالث: أنَّه تعالى لو خلقهم للنَّارِ لما كان له على أحد من الكُفَّارِ نعمة أصلاً؛ لأنَّ منافع الدُّنيا بالنسبة إلى العذاب الدائم، كالقطرة في البحر، وكان كمن دفع إلى إنسان حلوى مسمومة فإنَّه لا يكون منعماً عليه، فكذا ههنا، ولمَّا كان القرآن مملُوءاً من كثرة نعم الله على كل الخَلْق علمنا أنَّ الأمر ليس كما ذكرتم. الرابع: أنَّ المَدْحَ والذَّمَّ، والثَّواب والعقاب، والترغيب والترهيب، يبطل هذا المذهب الذي ينصرونه. الخامس: لو خلقهم للنَّارِ، لوجب أن يخلقهم ابتداء في النَّارِ؛ لأنَّه لا فائدة في أن يستدرجهم إلى النار بخلق الكفر فيهم. السادس: أن قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} متروك الظَّاهر، لأنَّ جهنَّم اسم للموضع المعين، ولا يجوز أن يكون الموضع المعيَّن مراداً منه، فثبت أنه لا بد وأن يقال: إن ما أراد الله لخلقه منهم محذوف. وكأنَّهُ قال: وقد ذَرَأنَا لكي يكفروا، فيدخلوا جهنم، فصارت الآية متروكة الظَّاهر، فيجب بناؤها على قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس} [الذاريات: 56] لأن ظاهرها يصح بدون حذف. السابع: أنه إذا كان المرادُ أنَّهُ ذرأهم لكي يكفروا، فيصيروا إلى جهنم، عاد الأمر في تأويلهم إلى أن هذه اللاَّم لام العاقبة، لكنهم يجعلونها للعاقبة مع أنَّهُ لا استحقاق للنَّار ونحن قد تأولناها على عاقبة حاصلة مع استحقاق النار. فكان قولنا أولى. فثبت بهذه الوجوه أنه لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها، فوجب المصير إلى التأويلن، وتقريره: أنه لما كانت عاقبة كثيرة من الجن والإنس هي دخول النَّارِ. جاز ذكر هذه اللاَّم بمعنى العاقبة. ولهذا نظائر كثيرة في القرآن والشِّعر. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 397 أمَّا القرآنُ فقوله تعالى: {وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} [الأنعام: 105] . ومعلوم أنه تعالى ما صرفها ليقولوا ذلك؛ لكنَّهم لمَّا قالُوا ذلك حسن ورود هذا اللفظ. وقال تعالى: {رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ} [يونس: 88] . وقال: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] . ولم يلتقط لهذا الغرض، إلاَّ أنه لمَّا كانت عاقبة أمرهم ذلك حسن هذا اللفظ. وأما الشعر فقوله: [الطويل] 2631 - ولِلْمَوْتِ تَغْذُوا الوالِدَاتُ سِخَالَهَا ... كَمَا لِخَرابِ الدُّور تُبْنَى المَسَاكِنُ وقال: [البسيط] 2632 - أمْوالُنَا لِذَوي الميراثِ نَجْمَعُهَا ... ودُورنا لِخرابِ الدَّهْرِ نَبْنِيهَا وقال: [الوافر] 2633 - لَه مَلكٌ يُنَادِي كُلَّ يَوْمٍ ... لِدُوا للْمَوْتِ وابْنُوا لِلْخَرَابِ وقال: [المتقارب] 2634 - فأُمَّ سِمَاكٍ فلا تَجْزَعِي ... فَلِلموتِ ما تَلِدُ الوالِدَة هذا منتهى كلام المعتزلة. واعلم أنَّ المصير إلى التَّأويل إنَّما يَحْسُنُ إذا ثبت بالدَّليلِ العقليِّ امتناع حمل هذا اللَّفْظِ على ظاهره، وقد بيَّنَّا بالدليل العقليِّ أن الحقِّ ما دل عليه ظاهر اللفظ، فصار التَّأويل ههنا عبثاً، وأمَّ الآياتُ التي تمسكوا بها فمعارضة بالبحار الزاخرة من الآيات الدالة على مذهب أهل السُّنَّةِ، ومن جملتها ما قبل هذه الآية: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي وَمَن يُضْلِلْ فأولئك هُمُ الخاسرون} [الأعراف: 178] وما بعدها، وهو قوله: {والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ} ولمَّا كان ما قبل هذه الآية وما بعدها ليس إلاَّ ما يُقوى قولنا كان تأويل المعتزلة في هذه الآية ضعيفاً جداً. قوله: «لَهُمْ قُلُوبٌ» جملة في محلِّ نصب إمَّا صفةً ل «كِثيراً» أيضاً، وإمَّا حالاً من: « الجزء: 9 ¦ الصفحة: 398 كثيراً» وإن كان نكرة لتخَصُّصه بالوصفِ، أو من الضمير المستكن في مِنَ الجِنِّ؛ لأنَّهُ تحمل ضميراً، لوقوعه صفة، ويجوز أن يكون لَهُمْ على حدته هو الوَصْفُ، أو الحالُ، وقُلُوبٌ فاعل به فيكون من باب الوصف بالمفرد، وهو أولى. وقوله: «لا يَفْقَهُونَ بِهَا» وكذلك الجملةُ المنفيَّة في محلِّ النَّعْتِ لما قبلهان وهذا الوصفُ يكادُ يكونُ لازماً، لوروده في غير القرآن؛ لأنَّهُ لا فائدة بدونه؛ لو قلت: لزيد قَلْبٌ وله عَيْنٌ، وسَكَتَّ لم يظهر لذلك كبير فائدة. فصل المعنى: لَهُمْ قلوبٌ لا يعلمون بها الخير والهدى، ولهُم أعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بها طريق الحق، ولهُمْ آذانٌ لا يسمعُون بها مواعظ القرآن فيتفكرون فيها ويعتبرون. ثم ضرب لهم مثلاً في الجَهْلِ والاقتصار على الأكل والشرب، فقال: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} أي: أنَّ همتهم الأكل واشُّرب والتمتع بالشَّهواتِ {بَلْ هُمْ أَضَلُّ} ؛ لأنَّ الأنعام تُميز بين المضار والمنافع فلا تقدمُ على المضار، وهؤلاء يقدمون بالشهوات على النَّار معاندةً مع العلم بالهلاك. وقيل: لأنَّ الأنعام مطيعة للَّهِ تعالى والكافر غير مطيع. وقال مقاتلٌ: هم أخطأ طريقاً من الأنعام؛ لأنَّ الأنعام تعرفُ ربَّها، وهم لا يعرفون ربُّهم ولا يذكرونه. وقيل: لأنَّها تفر إلى أربابها ومن يقوم بمصالحها، والكافِرُ يهرب عن ربِّه الذي أنعم عليه. وقيل: لأنَّهَا تضل إذا لم يكن معها مرشد، فإن كان معها مرشد فقلما تضلُّ، وهؤلاء الكفار قد جاءهم الأنبياء وهم يزدادون في الضلال: {أولئك هُمُ الغافلون} . فصل دلَّت اليةُ على أنَّهُ تعالى كلَّفهم مع أن قلوبهم، وأبصارهم، وأسماعهم ما كانت صالحةً لذلك، وهو يجري مجرى المنع عن الشيء والصَّد عنه مع الأمر به. قالت المعتزلةُ: لو كانوا كذلك لقبح من الله تكليفهم؛ لأن تكليف من لا قُدْرَةَ له على الفعل قبيحٌ لا يليق بالحكيم؛ فوجب حمل الآية على أنَّ المرادَ منه كثرة الإعراض عن الدَّلائلِ وعدم الالتفات إليها، فأشْبَهُوا من لا قَلْبَ له فاهم ولا عين باصرة ولا أذن سامعة. وأجيبُوا بأنَّ الإنسان إذا تأكدت نُفْرتُهُ عن شيء صارت تلك النُّفرة المتأكدة الراسخة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 399 مانعة له عن فهم الكلام الدَّال على صحَّة الشيء، ومانعة عن إبصار محاسنه وفضائله وهذه حالة وجدانية ضرورة يجدُها كلُّ أحدٍ من نفسه. ولهذا قالوا في المثل: حُبُّكَ للشَّيءِ يُعْمِي ويُصِمُّ. وإذا ثبت هذا فنقول: إن أقواماً من الكُفَّارِ بلغوا في عداوة الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وفي بغضِهِ وشدَّةِ النُّفرةِ عن قبول دينه والاعتراف برسالته هذا المبلغ وأوقى منه والعلمُ الضروريُّ حاصلٌ بأنَّ حصول الحُبِّ والبُغْض في القلب ليس باختيارِ أحدٍ. وإذا ثبت أنَّهُ متى حصلت هذه النُّفرة والعداوةُ في القلب، فإنَّ الإنسان لا يمكنه مع تلك النُّفرة الراسخة والعداوة الشديدة تحصيل الفهم والعلم، فإذا كان كذلك كان القول بالجبر لا محيص عنهُ. فصل وقد أورد الغزالي في الإحياء سؤالاً، فقال: فإن قيل: إني أجد من نفسي أنَّي إن شئت الفعل فعلت، وإن شئت الترك تركت، فيكون فعلي حاصلاً بي لا بغيري. ثم أجاب وقال: هب أنك وجدت من نفسك ذلك إلا أنا نقول: وهل تجد من نفسك أنك إن شئت أن تشاء شيئا شئته، وإن شئت أن لا تشاء [لم تشأه] ما أظنك أن تقول ذلك وإلا لذهب الأمر فيه إلى ما لا نهاية له؛ بل شئت أو لم تشأ فإنك تشاء ذلك الشيء وإذا شئته فشئت أو لم تشأ فعلته؛ فلا مشيئتك به ولا حصول فعلك بعد حصول مشيئتك فالإنسان مضطر في صورة مختار. واستدلوا بهذه الآية على أن محل العلم هو القلب؛ لأنه تعالى نفى الفقه والفهم عن قلوبهم في معرض الذم. قوله تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها} الآية. وهذا كالتنبيه على أن الموجب لدخولهم جهنم هو الغفلة عن ذكر الله. واعلم أن قوله: {ولله الأسماء الحسنى} مذكور في أربع سور: أولها: هذه السورة. وثانيها: آخر الإسراء {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110] . وثالثها: أول طه. {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} [طه: 8] . ورابعها: آخر الحشر {له الأسماء الحسنى} [الحشر: 24] . والحسنى فيها قولان، أظهرهما: أنها تأنيث: " أحسن " والجمع المكسر لغير العاقل يجوز أن يوصف به المؤنث نحو: {مآرب أخرى} [طه: 18] ولو طوبق به لكان التركيب " الحسن " كقوله: {من أيام أخر} [البقرة: 184] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 400 والثاني: أن " الحسنى " مصدر على " فعلى " كالرجعى، والبقيا. قال: [الوافر] . 2635 - (ولا يجزون من حسنى بسوء ... ... ... ... ... ... ... ... .) والأسماء هنا: الألفاظ الدالة على الباري تعالى ك: الله والرحمن. قال القرطبي: وسمى الله أسماءه بالحسنى؛ لأنها حسنة في الأسماء والقلوب؛ فإنها تدل على توحده وكرمه وجوده ورحمته وإفضاله. وقال ابن عطية المراد بها التسميات إجماعا من المتأولين لا يمكن غيره. وفيه نظر؛ لأن التسمية مصدر، والمصدر لا يدعى به على كلا القولين في تفسير الدعاء، وذلك أن معنى فادعوه نادوه بها، كقولهم: يا الله، يا رحمن، يا ذا الجلال والإكرام، اغفر لنا. وقيل: سموه بها كقولك: سميت ابني بزيد، والآية دالة على أن لله تعالى أسماء حسنة وأن الإنسان لا يدعو الله إلا بها، وأنها توقيفية لا اصطلاحية؛ لأنه يجوز أن يقال: يا جواد ولا يجوز أن يقال: يا سخي، ويجوز أن يقال: يا عالم، ولا يجوز أن يقال: يا فقيه، يا عاقل يا طيب. وقال تعالى: {يخادعون الله وهو خادعهم} [النساء: 142] . وقال: {ومكروا ومكر الله} [آل عمران: 54] ولا يقال في الدعاء: يا مخادع يا مكار. روى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " إن لله تسعة وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة ". " إنه وتر يحب الوتر ". قوله: {وذروا الذين يلحدون في أسمائه} قرأ حمزة هنا، وفي النحل، وحم السجدة يلحدون بفتح الياء والحاء من " لحد " ثلاثيا، والباقون بضم الياء وكسر الحاء، من " ألحد ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 401 فقيل هما بمعنى واحد وهو: الميل والانحراف، ومنه: لحد القبر؛ لأنه يمال بحفرة إلى جانبه، بخلاف الضريح؛ فإنه يحفر في وسطه. ومن كلامهم، ما فعل الواحد؟ قالوا: لحده اللاحد، وإلى كونهما بمعنى واحد ذهب ابن السكيت وقال: هما العدول عن الحق، وألحد: أكثر استعمالا من " لحد "؛ قال: [الرجز] 2636 - (ليس الإمام بالشحيح الملحد ... ) وقال غيره: " لحد: بمعنى: ركن وانضوى، وألحد: مال وانحرف " قاله الكسائي ونقل عنه أيضا: ألحد: أعرض، ولحد: مال. قالوا: ولهذا وافق حمزة في النخل إذ معناه: يميلون إليه. وروى أبو عبيدة عن الأصمعي: " ألحد: مارى وجادل، ولحد: حاد ومال ". (فصل) ورجحت قراءة العامة بالإجماع على قوله: {بإلحاد} [الحج: 25] . وقال الواحدي: ولا يكاد يسمع من العرب لاحد، يعني: فامتناعهم من مجيء اسم فاعل الثلاثي يدل على قلته وقد تقدم من كلامهم " لحده اللاحد ". ومعنى الإلحاد فيها أن اشتقوا منها أسماء لآلهتهم فيقولون " اللات " من لفظ الله، و" العزى " من لفظ العزيز، و" مناة " من لفظ المنان، ويجوز أن يراد سموه بلما لا يليق بجلاله، مثل تسميته أبا للمسيح، وكقول النصارى: أب، وابن، وروح القدس. ثم قال: " سيجزون ما كانوا يعملون " وهذا تهديد ووعيد لمن ألحد في أسماء الله. قوله تعالى: {وممن خلقنا أمة يهدون بالحق} الآية. " من " يجوز أن تكون موصولة أو نكرة موصوفة، و" يهدون " صفة ل " أمة ". وقال بعضهم: في الكلام حذف تقديره: وممن خلقنا للجنة، يدل على ذلك ما ثبت لمقابلهم وهو قوله: {ولقد ذرأنا لجهنم} . (فصل) المراد بالأمة العلماء. قال عطاء عن ابن عباس: يريد أمة محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهم المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 402 وقال قتادة: بلغنا أن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان إذا قرأ هذه الآية قال: " هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها " {ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون} [الأعراف: 159] . وقال معاوية: سمعت رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: " لا تزال من أمتي أمة قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك ". قوله تعالى: {والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم} الآية. والذين فيه وجهان: أظهرهما: أنه مبتدأ،، وخبره الجملة الاستقبالية بعده. والثاني: أنه منصوب على الاشتغال بفعل مقدر تقديره: سنستدرج الذين كذبوا، والاستدراج التقريب منزلة منزلة، والأخ قليلا قليلا من الدرج؛ لأن الصاعد يرقى درجة درجة وكذلك النازل. وقيل: هو مأخوذ من الدرج وهو الطي، ومنه درج الثوب: طواه، ودرج الميت مثله، والمعنى: تطوى آجالهم. وقرأ النخعي وابن وثاب: سيستدرجهم بالياء، فيحتمل أن يكون الفاعل الباري تعالى وهو التفات من المتكلم إلى الغيبة، وأن يكون الفاعل ضمير التكذيب المفهوم من قوله: " كذبوا "؛ وقال الأعشى في الاستدراج: [الطويل] 2637 - (فلو كنت في جب ثمانين قامة ... ورقيت أسباب السماء بسلم) (ليستدرجنك القول حتى تهره ... وتعلم أني عنكم غير مفحم) (فصل) ويقال: درج الصبي: إذا قارب بين خطاه، ودرج القوم: مات بعضهم إثر بعض. (فصل) لما ذكر حال الأمة الهادية العادلة، أعاد ذكر المكذبين بآيات الله تعالى فقال: {والذين كذبوا بآياتنا} وهذا يعم كل مكذب، وعن ابن عباس: المراد أهل مكة، وهو بعيد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 403 وقال عطاء: سنمكر بهم، وقيل: نأتيهم من مأمنهم كقوله: {فأتاهم اله من حيث لم يحتسبوا} [الحشر: 2] . وقال الكلبي: نزين لهم أعمالهم لتهلكهم. وقال الضحاك كلما جددوا معصية جددنا نعمة. وقال سفيان الثوري: نسبغ عليهم النعم ثم نسلبهم الشكر من حيث لا يعلمون ما يراد بهم، ثم يأخذهم الله دفعة واحدة على غرتهم أغفل ما يكون ولهذا قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لما حمل إليه كنوز كسرى اللهم إني أعوذ بك أن أكون مستدرجا، فإني سمعتك تقول: " سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ". قوله: {وأملي لهم} جوز أبو البقاء فيه أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: وأن أملي وأن يكون مستأنفا، وأن يكون معطوفا على سنستدرج، وفيه نظر: إذ كان من الفصاحة لو كان كذا لكان ونملي بنون العظمة. ويجوز أن يكون هذا قريبا من الالتفات والإملاء: الإمهال والتطويل، والمتين: القوي، ومنه المتن وهو الوسط؛ لأنه أقوى ما في الحيوان، وقد متن يمتن متانة أي: قوي. وقرأ العامة إن كيدي بالكسر على الاستئناف المشعر بالعلية. وقرأ ابن عامر في رواية عبد الحميد أن كيدي بفتح الهمزة على العلة. والملي: زمان طويل من الدهر، ومه قوله: {واهجرني مليا} [مريم: 46] أي: طويلا، والمعنى: أطيل لهم مدة أعمارهم ليتمادوا في المعاصي، ولا أعاجلهم في العقوبة، ليقلعوا عن المعصية بالتوبة. وقوله: {إن كيدي متين} قال ابن عباس: يريد: إن مكري شديد قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ} . يجوزُ في " ما " أوجه: أحدها: أن تكون استفهامية في محلِّ رفع بالابتداء , والخبرُ " بصَاحبهم " أي: أيُّ شيء استقرَّ بصاحبهم من الجُنُونِ؟ ف: الجِنَّة: مصدرٌ يراد بها الهيئة , ك: الرِّكْبَةِ , والجلسة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 404 وقيل: المراد بالجِنَّة: الجِنُّ , كقوله {مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ} [الناس: 6] ولا بدَّ حينئذٍ من حذف مضافٍ. أي: مَسِّ جنة , أو تخبيط جنَّة. والثاني: أنَّ " ما " نافية , أي: ليس بصاحبهم جنون , ولا مسُّ جِنّ. وفي هاتين الجملتين أعني الاستفهامية أو المنفية , فيهما وجهان: أظهرهما: أنَّهما في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافض؛ لأنَّهُمَا علَّقا " التَّفكُّر "؛ لأنَّهُ من أفعال القلوب. والثاني: أنَّ الكلام تمَّ عند قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} , ثمَّ ابتدأ كلاماً آخر , إمَّا استفهام إنكار , وإمَّا نفياً. وقال الحوفيُّ إنَّ " مَا بِصَاحبِهِم " معلقةٌ لفعلٍ محذوف , دلَّ عليه الكلامُ , والتقديرُ: أو لم يتفكروا فيعلمُوا ما بصاحبهم. قال: و" تفكَّر " لا يعلَّقُ؛ لأنَّهُ لم يدخل على جملة. وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أن فعل القَلْبِ المتعدِّي بحرف جرٍّ أو إلى واحد إذا عُلِّقَ هل يبقى على حاله أو يُضَمَّن ما يتعدَّى لاثنينِ؟ الثالث: أن تكون " ما " موصولة بمعنى " الذي " , تقديره: أو لم يتفكَّرُوا في الذي بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم , وعلى قولنا: إنَّهَا نافيةٌ يكونُ " مِن جِنَّةٍ " مبتدأ , ومِنْ مزيدةٌ فيه , وبِصَاحِبِهم خبره , أي: مَا جِنَّةٌ بِصَاحِبِهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 405 قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ} . يجوزُ في «ما» أوجه: أحدها: أن تكون استفهامية في محلِّ رفع بالابتداء، والخبرُ «بصَاحبهم» أي: أيُّ شيء استقرَّ بصاحبهم من الجُنُونِ؟ ف: الجِنَّة: مصدرٌ يراد بها الهيئة، ك: الرِّكْبَةِ، والجلسة. وقيل: المراد بالجِنَّة: الجِنُّ، كقوله {مِنَ الجنة والناس} [الناس: 6] ولا بدَّ حينئذٍ من حذف مضافٍ. أي: مَسِّ جنة، أو تخبيط جنَّة. والثاني: أنَّ «ما» نافية، أي: ليس بصاحبهم جنون، ولا مسُّ جِنّ. وفي هاتين الجملتين أعني الاستفهامية أو المنفية، فيهما وجهان: أظهرهما: أنَّهما في محلِّ نصب بعد إسقاط الخافض؛ لأنَّهُمَا علَّقا «التَّفكُّر» ؛ لأنَّهُ من أفعال القلوب. والثاني: أنَّ الكلام تمَّ عند قوله: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ} ، ثمَّ ابتدأ كلاماً آخر، إمَّا استفهام إنكار، وإمَّا نفياً. وقال الحوفيُّ إنَّ «مَا بِصَاحبِهِم» معلقةٌ لفعلٍ محذوف، دلَّ عليه الكلامُ، والتقديرُ: أو لم يتفكروا فيعلمُوا ما بصاحبهم. قال: و «تفكَّر» لا يعلَّقُ؛ لأنَّهُ لم يدخل على جملة. وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّهم نَصُّوا على أن فعل القَلْبِ المتعدِّي بحرف جرٍّ أو إلى واحد إذا عُلِّقَ هل يبقى على حاله أو يُضَمَّن ما يتعدَّى لاثنينِ؟ الثالث: أن تكون «ما» موصولة بمعنى «الذي» ، تقديره: أو لم يتفكَّرُوا في الذي بصاحبهم وعلى هذا يكون الكلام خرج على زعمهم، وعلى قولنا: إنَّهَا نافيةٌ يكونُ «مِن جِنَّةٍ» مبتدأ، ومِنْ مزيدةٌ فيه، وبِصَاحِبِهم خبره، أي: مَا جِنَّةٌ بِصَاحِبِهم. فصل دخول «مِنْ» في قوله من جنَّةٍ يوجب أن لا يكون به نوع من أنواع الجنون. قال الحسنُ وقتادةُ: إنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قام ليلةًعلى الصَّفَا يدعو قريشاً فخذاً فخذاً، يا بني فلان، يا بني فلان، يُحذرُهم بأسَ الله وعقابه. فقال قَائِلُهُمْ: إنَّ صاحبكم هذا المجنون، بات يُصوِّت إلى الصَّباحِ، فأنزل اللَّهُ تعالى هذه الآية. وقيل: إنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام كان يَغْشَاهُ حالة عجيبة عند نزولِ الوحي فيتغيَّر وجهه ويصفر لونه، وتعرض له حالة شبيهة بالغشي، والجهال كانوا يقولون: إنَّهُ جُنُونٌ، فبيَّنَ اللَّهُ تعالى في هذه الآية أنَّه ليس بمجنون إنَّمَا هُو نذير مبينٌ من ربِّ العالمين. قوله: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض} الآية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 405 لمَّا كانَ النَّظرُ في أمر النُّبُوَّةِ مفرعاً على تقرير دلائل التَّوحيد، لا جرم ذكر عقيبهُ ما يدلُّ على التَّوحيد، فقال: {أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض} واعلم أنَّ دلائل ملكوت السَّمواتِ والأرض على وجود الصَّانع الحكيم كثيرة وقد تقدَّمت. ثم قال: {وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} أي: أن الدَّلائل على التَّوحيد غير مقصورةٍ على السَّموات والأرض، بل كلُّ ذرَّة من ذرات العالم، فهي برهان قاهرٌ على التَّوحيد، وتقريره أن الشَّمس إذا وقعت على كوة البيت ظهرت ذرَّت، فيفرض الكلامُ في ذرَّةٍ واحدةٍ من تلك الذرات. فنقول: إنَّها تدل على الصانع الحكيم من جهات غير متناهية؛ لأنَّها مختصة بحيِّز معين من جملة الأحياز التي لا نهاية لها في الخلاء الذي لا نهاية له، فكلُّ حَيِّزٍ من تلك الأحياز الغيرِ متناهية فرضنا وقوع تلك الذَّرة فيه كان اختصاصها بذلك الحيِّز من الممكنات والجائزات، والممكن لابدَّ له من مُخَصّص ومرجح، وذلك المخصص إن كان جسماً عادَ السُّؤالُ فيه، وإن لم يكن جسماً كان هو اللَّهُ تعالى. وأيضاً فتلك الذَّرَّةُ لا تخلو من الحركةِ والسُّكُونِ، وكلُّ ما كان كذلك فهو محدثٌ، وكل محدث فإنَّ حدوثه لا بد وأن يكون مختصّاً بوقتٍ معيَّنٍ مع جواز حصوله قبل ذلك وبعده واختصاصه بذلك الوقت المعين الذي حدث فيه، لا بُد وأن يكون بتخصيص مخصصٍ قديم ثمَّ إن كان ذلك المُخَصَّص جسماً عاد السُّؤالُ فيه، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى وأيضاً فتلك الذرة مساوية لسائر الأجسام في التحيز والحجميَّة، ومخالفة لها في اللَّون والشَّكل والطبع والطعم وسائر الصِّفاتِ، فاختصاصها بكلِّ تلك الصفات التي باعتبارها خالفت سائر الأجسام، لا بد وأن يكون من الجائزات، والجائزُ لا بد له من مرجح، وذلك المرجح إن كان جسماً عاد البَحْثُ الأوَّلُ فيه، وإن لم يكن جسماً فهو الله تعالى، فثبت أن تلك الذرة دالة على وجود الصَّانع من جهات تتناهى، واعتبارات غير متناهية، وكذا القولُ في جميع أجزاء العالم الجسماني والروحاني بمفرداته ومركَّباته، وعند هذا ظهر صدْقُ القائل: [المتقارب] . 2638 - وَفِي كُلِّ شيءٍ لَهُ آيَةٌ ... تَدُلُّ على أنَّهُ وَاحِدٌ ولمَّا نبَّه تعالى على هذه الأسرار العجيبة بقوله: {وَمَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} أردفه بما يوجب التَّرغيب الشديد في الإتيان بهذا النظر والتفكُّر فقال: «وأنْ عَسَى» ، و «أنْ» فيها وجهان: أصحهما: أنَّهَا المخففةُ من الثقيلة، واسمُها ضمير الأمر والشأن، والمعنى: لعل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 406 آجالهم قربت فهلكوا على الكفر ويصيرُوا إلى النَّارِ، وإذا كان هذا الاحتمالُ قائماً؛ وجب على العاقل المُسارعة إلى هذا الفكر، ليسعى في تخليص نصفه من هذا الخوف الشَّديد، و «عسى» وما حيَّزها في محلِّ الرفع خبراً لها، ولم يفصل بَيْنَ «أنْ» والخبر وإن كان فعلاً؛ لأنَّ الفعل الجامد الذي لا يتصرَّف يشبهُ الأسماء، ومثله {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 39] {والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ} [النور: 9] في قراءة نافع لأنَّهُ دعاء. فصل وقد وقع خبرُ «أنْ» جملةً طلبية في هاتين الآيتين الأخيرتين، فإنَّ عَسَى للإنشاء و «غَضَبَ اللَّه» دعاء. والثاني: أنَّها المصدرية؛ قاله أبُو البقاءِ، يعني التي تنصب المضارع، الثنائية الوضع، وهذا ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ النُّحاة نَصُّوا على أنَّ المصدرية لا تُوصَل غلاَّ بالفعل المتصرف مطلقاً، أي: ماضٍ، ومضارع وأمر، و «عَسَى» لا يتصرف فكيف يقع صلة لها؟ وأنْ على كلا الوجهين في محل جر نسقاً على «ملكوت» ، أي: أو لم ينظروا في أنَّ الأمر والشأن عسى أن يكون، و «أن يكُون» فاعل «عَسَى» وهي حينئذٍ تامَّةٌ؛ لأنَّها متى رفعت «أنْ» وما في حيَّزها كانت تامةً، ومثلها في ذلك: أوشك، واخلولق. وفي اسم: «يَكُون» قولان: أحدهما: هو ضميرُ الشَّأنِ، ويكونُ: {قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} خبراً لها. والثاني: أنه: «أجْلُهُمْ» ، و «قَدِ اقتربَ» جملةٌ من فعلٍ وفاعلٍ هو ضمير «أجَلُهُم» ولكن قدّضم الخبر وهو جملة فعليَّة على اسمها. وقد تقدَّم أن ابن مالك يجيزه وابن عصفور يمنعه عند قوله: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ} [الأعراف: 137] . قوله: «فَبِأيِّ» مُتعلّق ب «يُؤمِنُونَ» وهي جملةٌ استفهامية سيقتْ للتَّعجب، أي: إذَا لم يُؤمِنُوا بهذا الحديث فكيف يُؤمِنُونَ بغيره؟ والهاءُ في: «بَعْدَهُ» تحتملُ العَوْدَ على القرآن وأن تعُود على الرَّسُولِ، ويكون الكلامُ على حذف مضافٍ، أي: بعد خبره وقصته، وأن تعود على: «أجَلُهُمْ» ، أي: إنَّهم إذا ماتوا وانقضى أجلهم؛ فكيف يُؤمنُون بعد انقضاءِ أجلهم؟ قال الزمخشريُّ: فإن قلت: بم تُعلِّق قوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} ؟ قلت: بقوله: {عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} ؛ كأنه قيل: لعلَّ أجلهم قجد اقترب فما لهُم لا يبادرون إلى الإيمان بالقرآن قبل الموت، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحقّ؟ وبأيَّ حديثٍ أحقُّ منه يرون أن يؤمنوا؟ يعني التعلُّق المعنويَّ المرتبطَ بما قبله لا الصناعي وهو واضح. قوله تعالى: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ} الآية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 407 لمَّا ذكر إعراضهُم عن الإيمان، بيَّن ههنا علَّة إعراضهم. فقال: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} وهذه الآيةُ تدلُ على أنَّ الهُدى والضلال من الله تعالى كما سبق في الآيةِ المُتقدمة وتأويلات المعتزلة والأجوبة عنها. قوله: «ويَذَرْهُمْ» قرأ الأخوان بالياء وجزم الفعل، وعاصم وأبو عمرو بالياء أيضاً، ورفع الفعل، ونافع وابن كثير وابن عامر بالنُّون ورفع الفعل أيضاً، وقد رُوي الجزمُ أيضاً عن نافع، وأبي عمرو في الشواذ. فالرفعُ من وجهٍ واحدٍ، وهو الاستئناف، أي: وهو يذرهم، ونحن نذرهم، على حسب القراءتين، وأمَّا السُّكونُ فيحتمل وجهين: أحدهما: أنه جزم نسقاً على محلِّ قوله: {فَلاَ هَادِيَ لَهُ} ؛ لأنَّ الجملةَ المنفيَّة جوابٌ للشرط فهي في محلِّ جزم فعطف على محلِّها وهو كقوله تعالى: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ} [البقرة: 271] بجزم «يُكَفّر» ؛ وكقول الشاعر: [الكامل] 2639 - أنَّى سَلَكْتَ فإنَّنِي لَكَ كَاشِحٌ ... وعَلى انتقِاصِكَ في الحياةِ وأزْدَدِ وأنشد الواحديُّ أيضاً قول الآخر: [الوافر] 2640 - فأبْلُونِي بَلِيَّتَكُمكْ لَعَلِّي ... أصَالِحُكُمْ وأستدرج نَوَيَّا قال: حمل «أسْتَدرِجْ» على موضع الفاء المحذوفة، من قوله: لَعَلِّي أصَالِحُكُمْ. والثانيك أنه سكونُ تخفيف، كقراءة أبي عمرو {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160] و {يُشْعِرْكُمْ} [الأنعام: 109] ونحوه، وأمَّا الغيبة فجرياً على اسم الله تعالى، والتَّكلم على الالتفات من الغيبة إلى التَّكلم تعظيماً ويَعْمَهُونَ مترددون متحيرون. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 408 قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة} الآية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 408 في كيفية النَّظْمِ وجهان: الأول: لمَّا تكلم في التَّوحيد، والنُّبَّوةِ، والقشاء، القدر أتبعه بالكلام في المعاد لما تقدَّم من أن المطالب الكلية في القرآن ليست إلاَّ هذه الأربعة. الثاني: لمَّا قال في الآية المتقدمة: {وَأَنْ عسى أَن يَكُونَ قَدِ اقترب أَجَلُهُمْ} [الأعراف: 185] باعثاً بذلك عن المبادرة إلى التَّوبة قال بعده: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة} ليتحقَّقَ في القلوب أنَّ وقت الساعة مكتوم عن الخلق ليصير المكلف مسارعاً إلى التوبة وأداء الواجبات. فصل قال ابنُ عباس: إنَّ قوماً من اليهود قالوا: يا محمد أخبرنا متى تقوم الساعة فنزلت هذه الآية. وقال الحسن وقتادة: إن قريشاً قالوا يا محمد: بيننا وبينك قرابة فاذكر لنا متى الساعة؟ قال الزمخشريُّ: السَّاعة من الأسماءِ الغالبة كالنجم للثريَّا، وسُمِّيت القيامة بالسَّاعة لوقوعها بغتة؛ ولأنَّ حساب الخَلْقِ يقضي فيها في ساعة واحدة، فلهذا سُمِّيت بالسَّاعة أو لأنها على طُولها كساعةٍ واحدةٍ على الخَلْقِ. قوله: {أَيَّانَ مُرْسَاهَا} فيه وجهان: أحدهما: أنَّ أيَّانَ خبر مقدم، ومُرْسَاهَا مبتدأ مؤخر، والثاني: أن أيَّان منصوب على الظَّرْفِ بفعل مضمر، ذلك الفعل رافع ل «مُرْسَاهَا» بالفاعليَّةِ، وهو مذهب أبي العباس، وهذه الجملة في محلِّ نصب بدل من السَّاعة بدل اشتمال، وحينئذٍ كان ينبغي أن لا تكون في محل جرٍّ؛ لأنها بدل [من] مجرور وقد صرَّح بذلك أبُو البقاءِ فقال: والجملةُ في موضع جرٍّ بدلاً من السَّاعة تقديره: يسألونك عن زمان حلول الساعة. إلاَّ أنَّهُ مَنَعَ من كونها مجرورة المحلأنَّ البدل في نيَّة تكرار العامل، والعامل هو يَسْألُونَكَ والسُّؤالُ تعلق بالاستفهام وهو مُتَعَدٍّ ب «عَنْ» فتكون الجملة الاستفهامية في محلِّ نصبٍ بعد إسقاط الخافض، كأنَّهُ قيل: يَسْألُونَكَ أيَّان مُرْسَى السَّاعةِ، فهو في الحقيقة بدلٌ من موضع عن السَّاعةِ لأن موضع المجرور نصب، ونظيرهُ في البدل على أحسن الوجوهِ فيه: عَرَفْتُ زيداً أبُو مَنْ هُو. و «أيَّانَ» ظرفُ زمانٍ لتضمُّنه معنى الاستفهام، ولا يتصرَّفُ، ويليه المبتدأ والفعل المضارع دون الماضي، بخلاف «متى» فإنَّها يليها النَّوعان، وأكثرُ ما يكون [أيَّان] استفهاماً، كقول الشاعر: [الرجز] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 409 2641 - إيَّانَ تَقْضِيَ حَاجَتِي أيَّانَا ... أمَا تَرَى لِفعْلِهَا أبَّانَا وقد تأتي شرطيةً جازمة لفعلين. قال الشاعرُ: [البسيط] 2642 - أيَّانَ نُؤمِنْكَ تأمَنْ غَيْرنَا وإذَا ... لَمْ تُدْرِك الأمْنَ مِنَّا لَمْ تَزَلْ حَذِراً وقال آخر: [الطويل] 2643 - إذَا النَّعْجَةُ الأذْنَاءُ كَانَتْ بِقَفْرَةٍ ... فأيَّان ما تَعْدِلْ بها الرِّيحُ تَنْزِلِ والفَصِيحُ فتح همزتها، وهي قراءة العامَّة. وقرأ السُّلمي بِكسْرِهَا، وهيلغة سُلَيْم. فصل واختلف النحويون في أيَّانَ هل هي بسيطة أم مركبة؟ فذهب بعضهم إلى أنَّ أصلها أي أوانٍ فحذفت الهمزة على غير قياس، ولم يُعَوَّضْ منها شيءٌ، وقُلبت الواوُ ياءً على غير قياسٍ؛ فاجتمع ثلاثُ ياءات فاستُثْقِلَ ذلك فحُذفت إحداهن وبُنيت الكلمةُ على الفتحِ فصارت أيَّانَ. واختلفوا فيها أيضاً هل هي مشتقةٌ أم لا؟ فذهب أبُو الفتح إلى أنَّها مشتقةٌ من «أوَيْتُ إليه» ؛ لأنَّ البضع آوٍ إلى الكل، والمعنى: أي وقت، وأي فعلٍ؟ ووزنه فَعْلان أو فِعْلان بحسب اللُّغتين ومنع أن يكون ومنه فَعَّالاَ مشتقةً من: «أين» ؛ لأنَّ «أيْنَ» ظرف مكان، وأيَّان ظرفُ زمانٍ. ومُرْسَاهَا يجوزُ أن يكون اسم مصدر، وأن يكون اسم زمان. وقال الزمخشريُّ: مُرْسَاهَا إرساؤُهَا، أو وقت إرسائها: أي: إثباتها وإقرارها. قال أبو حيَّان: وتقديره: وقت إرسائها ليس بجيدٍ؛ لأنَّ أيَّانَ استفهام عن الزمان فلا يصحُّ أن يكون خبراً عن الوقت إلاَّ بمجازٍ، لأنه يكون التقدير: في أي وقتٍ وقتُ إرسائها وهو حسنٌ. ويقال: رَسَا يَرْسُو: أي ثبت، ولا يقال إلاَّ في الشيء الثقيل، نحو: رَسَت السفينةُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 410 تَرْسُوا وأرْسَيْتها، قال تعالى: {والجبال أَرْسَاهَا} [النازعات: 32] ولما كان أثقل الأشياء على الخلق هو الساعة؛ لقوله {ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} لا جرم سمَّى الله وقوعها وثبوتها بالإرساء. قوله: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} عِلْمُهَا مصدرٌ مضاف للمفعول، والظَّرف خبره أي: أنَّ الله استأثر بعلمها لا يعلمها غيره. وقوله لا يُجَلِّيها أي لا يكشفها ولا يظهرها. والتَّجَلّي هو الظهور. وقال مجاهد: لا يأتي بها لوقتها إلاَّ هُوَ نظيره قوله تعالى: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] وقوله {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] ولمَّا سأل جبريل - عليه السلام - رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «متى السَّاعةُ. فقال:» ما المَسْئُولُ عنها بأعْلَم من السَّائِلِ « قال المحققون: والسَّببُ في إخفاء السَّاعةِ عن العبادِ ليكونوا على حذر، فكيون ذلك أوعى للطَّاعةِ وأزجر عن المعصية؛ فإنَّهُ متى علمها المكلف تقاعس عن التَّوبة، وأخرها، وكذلك إخفاء ليلة القدر؛ ليجتهد المكلف كل ليالي الشَّهْرِ في العبادة، وكذلك إخفاءُ ساعة الإجابةِ في يومِ الجمعةِ؛ ليكون المكلف مُجِدّاً في الدُّعاءِ في كل اليوم. قوله:» فِي السَّمواتِ «يجوزُ فيها وجهان، أحدهما: أن تكون» في «بمعنى» على «أي: على أهل السموات أو هي ثقيلةٌ على نفس السموات والأرض، لانشقاقِ هذه وزلزال ذي، وهو قولُ الحسنِ. والثاني: أنَّها على بابها من الظَّرفيَّةِ، والمعنى: حصل ثقلها، وهو شدَّتها، أو المبالغة في إخفائها في هذين الظرفين. قال الأصَمُّ: إن هذا اليوم ثقيل جدّاً على السمواتِ والأرض؛ لأنَّ فيه فناءَهم وذلك ثقيل على القلوب. وقيل: ثقيلٌ بسبب أنَّهُم يصيرون بعده إلى البعث، والحساب، والسُّؤال، والخوف. وقال السُّديُّ: ثقل علمها، فلم يعلم أحد من الملائكة المقربين، والأنبياء المرسلين متى يكون حدوثها ووقوعها. قوله: {لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً} أي فجأة على غفلة، وهذا تأكيدٌ وتقرير لما تقدَّم من إخفائها. روى أبو هريرة أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لَتَقُومنَّ السَّاعةُ وقد نشر الرَّجُلانِ ثوبَهُما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 411 بيْنَهُما، فلا يتبايَعانِه، ولا طْويانِهِ، ولتقُومنَّ السَّاعةَ وقد انْصرفَ الرَّجُلُ بلبنِ لقْحتِهِ فلا يَطْعَمُهُ، ولتقُومَنَّ السَّاعَةُ هُو يُلِيطُ فِي حوضِهِ فلا يَسْقى فيه، ولتقُومنَّ السَّاعَةُ والرَّجُلُ قَدْ رفعَ أكْلَتَهُ إلى فيهِ فلا يَطْعَمُهَا» قوله تعالى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} هذه الجملة التَّشبيهيَّة في محلِّ نصب على الحالِ من مفعول: «يَسْألُونكَ» وفي عَنْهَا وجهان: أحدهما: أنَّها متعلقة بيَسْألُونَكَ و: «كأنَّكَ حَفِيٌّ» معترض، وصلتها محذوفةٌ تقديره: خَفِيّ بها. وقال أبُو البقاءِ: في الكلام تَقْدِيمٌ وتأخير، ولا حاجة إلى ذلك، لأنَّ هذه كلَّها متعلقاتٌ للفعل، فإنَّ قوله {كأنَّكَ حَفِيٌّ} حال كما تقدَّم. والثاني: أنَّ «عَنَ» بمعنى الباء كما تكون الباءِ بمعنى عن كقوله: {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان: 259] {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام} [الفرقان: 25] ؛ لأن حَفِيَ لا يتعدَّى ب «عن» بل بالباء كقوله: {كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 47] أو يُضَمَّن معنى شيء يتعدَّى ب «عن» أي كأنك كاشف بحفاوتك عنها. والحَفِيُّ: المستقصي عن الشَّيء، المهتبلُ به، المعني بأمره؛ قال: [الطويل] 2644 - سُؤالَ حَفِيٍّ عَنْ أخِيهِ كأنَّهُ ... بِذكْرتِهِ وسْنَانُ أوْ مُتواسِنُ وقال آخر: [الطويل] 2645 - فَلَمَّا التَقَيْنَا بيَّن السَّيْفُ بَيْنَنَا ... لِسائِلَةٍ عنَّا حَفِيٍّ سُؤالُهَا وقال الأعشى: [الطويل] 2646 - فَإنْ تَسْألِي عَنِّي فَيَا رُبَّ سائلٍ ... حَفِيٍّ عن الأعْشَى بِهِ حَيْثُ أصْعَدَا والإحْفَاءُ: الاستقصاء؛ ومنه إحفاء الشَّوارب، والحافي؛ لأنَّهُ حَفِيَتْ قدمُه في استقصاء السَّيْر. قال الزمخشريُّ: وهذا التركيب يفيدُ المُبالغةَ. قال أبو عبيدة: وهو من قولهم: تحفى بالمسألةِ أي: استَقْصَى، والمعنى: فإنَّكَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 412 أكثرت السُّؤال عنها وبالغت في طلب علمها، وقيل الحفاوةُ: البرُّ واللُّطْفُ. قال ابن الأعْرابِي: يقال حفي بي حَفَاوةً وتحفَّى بي تَحَفِّياً. والتَّحفي: الكلام واللِّقاء الحسن، قال تعالى: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} [مريم: 47] أي بارّاً لطيفاً يجيب دعائي. ومعنى الآية على هذا: [يسألونك] كأنَّك بارّق بهم لطيف العشرة معهم، قاله الحسنُ وقتادةُ والسُّديُّ ويؤيدُهُ ما روي في تفسيره: إنَّ قريشاً قالوا لمُحمَّدٍ - عليه الصَّلاة والسَّلام -: إنَّ بَيْنَنَا وبينك قرابة فاذكر لنا متى السَّاعة؟ فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} [الأعراف: 187] أي: كأنك صديق لهم بارّ، بمعنى أنك لا تكون حفياً بهم ما دَامُوا على كفرهم. وقرأ عبدُ الله حَفِيٌّ بها وهي تَدُلُّ لمن ادَّعَى أنَّ «عَنْ» بمعنى الباء، وحَفِيٌّ فعيل بمعنى: مفعول أي: مَحْفُوٌّ. وقيل: بمعنى فعل، أي كأنَّ مبالغٌ في السؤال عنها ومتطلع إلى علم مجيئها. قوله: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} . اعلم أن قوله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا} سؤال عن وقت قيام السَّاعةِ. وقوله ثانياً: {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا} سؤالُ عن كيفيَّةِ ثقل السَّاعة وشدتها فلم يلزم التكرار، وأجاب عن الأوَّلِ بقوله: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} وأجاب عن الثَّانِي بقوله: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله} والفرق بين الصورتين: أن السؤال الأول كان واقعاً عن وقت السَّاعة. والسؤال الثَّاني كان واقعاً عن مقدار شدتها ومهابتها. وأعظم أسماء اللَّهِ مهابة وعظمة هو قولنا: الله. فأجاب عند السُّؤالِ عند مقدار شدَّةِ القيامة بالاسم الدَّالِّ على غاية المهابة، وهو قولنا: اللَّهُ، ثم ختم الآية بقوله: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون أن القيامة حقٌّ؛ لأنَّ أكثر الخلقِ ينكرون المعاد. وقيل: لا يَعْلَمُونَ بأنِّ أخبرتك بأَّ وقت قيام السَّاعةِ لا يعلمها إلاَّ اللَّهُ. وقيل: لا يَعْلَمُون السَّبَبَ الذي لأجله أخفيت معرفة وقتها المعين عن الخَلْقِ. قوله تعالى: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} الآية. وجه تعلُّق هذه الآية بما قبلها: أنَّهم لمَّا سألوه عن علم السَّاعةِ فقال: {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} أي أنا لا أدري عِلْمَ الغيب، ولا أملك لنفْسِي نفعاً، ولا ضرّاً إنْ أنا إلاَّ نذير، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 413 ونظيره قوله في سورة يونس: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} [يونس: 48، 49] . قال ابنُ عبَّاسِ: إنَّ أهل مكة قالوا: يا مُحمَّدُ ألا يخبرك ربك بالسعر الرخيص قبل أن يغلو فنشتري به، ونربح فيه عند الغلاء، وبالأرض التي تريد أن تجدب، فنرحل عنها إلى ما قد أخْصَبَتْ؛ فأنزل اللَّهُ هذه الآية. وقيل: لمَّا رجع عليه الصَّلاة والسَّلام من غزوة بني المصطلق جاءتْ ريح في الطَّريق ففرت الدوابُّ فأخبر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بموت رفاعة بالمدينة، وكان فيه غيظ للمنافقين، وقال انظروا أين ناقتي؟ فقال عبدُ الله بن أبي: ألا تعجبون من هذا الرَّجل يخبر عن موت رجل بالمدينة، ولا يعرف أين ناقته! فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنَّ ناساً من المُنافقينَ قالوا كيت وكيت، وناقتي في هذا الشعب قد تعلَّق زمامها بشجرةٍ، فوجدوها على ما قال؛ فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً} . قوله: «لِنَفْسِي» فيه وجهان: أحدهما: أنَّها متعلقة ب «أمْلِكُ» . والثاني: أنَّها متعلقةٌ بمحذوف على أنَّها حالٌ من نَفْعاً؛ لأنه في الأصْلِ صفةٌ له لو تأخر، ويجوزُ أن يكون لِنَفْسِي معمولاً ب «نَفْعاً» واللاَّم زائدةٌ في المفعول به تقويةٌ للعامل؛ لأنَّهُ فرع إذ التَّقديرُ: لا أملك أن أنفع نفسي ولا أن أضُرَّهَا، وهو وجهٌ حسنٌ. قوله {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} في هذا الاستثناء وجهان: أظهرهما: أنَّهُ متَّصلٌ، أي إلاَّ ما شاء الله تمكيني منه فإني أملكه. والثاني: أنَّهُ منفصل - وبه قال ابنُ عطيَّة -، وسبقة إليه مكيٌّ، ولا حاجة تدعو إلى ذلك. فصل دلَّت هذه الآيةُ على مسألة خلق الأعمالِ؛ لأنَّ الإيمانَ نفع والكفر ضرٌّ؛ فوجب أن لا يحصلان لاَّ بمشيئةِ اللَّهِ تعالى؛ لأنَّ القدرة على الكفر إن لم تكن صالحة للإيمان فخالق تلك الدَّاعية الجازمةِ يكونُ مريداً للكفر، فعلى جميع التقديرات: لا يملكُ العبدُ لنفسه نفعاً، ولا ضرّاً إلا ما شاء اللَّهُ. أجاب القاضي عنه بوجوه: أحدها: أن ظاهر الآية، وإن كان عاماً بحب اللَّفْظِ إلاّ أنَّا ذكرنا أنَّ سبب النُّزُولِ قولُ الكُفَّارِ: «يا مُحمَّدُ ألا يخبرك ربك بوقت السعر الرخيص قبل أن يغلو» فيُحمل اللفظُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 414 العام على سبب نزوله، فيكُونُ المرادُ بالنفع: تملك الأموال وغيرها، والمراد بالضرّ وقت القحط وغيره. وثانيها: أنَّ المُرادَ بالنَّفْع والضر ما يتَّصلُ بعلم الغيبِ لقوله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير} [الأعراف: 188] . وثالثها: أن التقدير: لا أملكُ لنفسي من النَّفع والضر إلاَّ قدر ما شاء اللَّهُ أن يقدرني عليه ويمكنني فيه، وهذه الوجوه كُلُّهَا عدول عن الظَّاهر، فلا يُصار إليها مع قيام البُرهانِ القاطع العقلي على أن الحق ليس إلاَّ ما دل عليه ظاهر الآية. فصل احتج الرَّسُولُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - على عدم علمه بالغيب بقوله: {وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير} واختلفوا في المراد بهذا الخيرِ وقوله {وَمَا مَسَّنِيَ السواء} قال ابنُ جريجٍ: قل لا أملك لنفسي نفعاً، ولا ضرّاً من الهدى والضلالة، ولو كنت أعلمُ متى أموت لاستكثرت من الخير، أي: من العمل الصَّالح وما مَسَّنِيَ السُّوءُ، واجتنبت ما يكون من الشَّر واتَّقَيْتُهُ. وقيل: لو كنت أعلم الغيب أي: متى تقوم السَّاعةُ لأخبرتكم حتَّى تُؤمنُوا وما مَسَّني السُّوءُ بتكذيبكم. وقيل: ما مسني السُّوء ابتداء يريد: وما مسَّنيَ الجنونُ؛ لأنَّهُم كانوا ينسبونه إلى الجُنُونِ، وقال ابنُ زيدٍ: المرادُ بالسُّوءِ: الضرُّ، والفقرُ، والجوعُ. قوله {وَمَا مَسَّنِيَ السواء} عطف على جواب «لو» وجاء هنا على أحسن الاستعمال من حيث أثبت اللاَّم في جواب «لَوْ» المثبت، وإن كان يجوزُ غيره، كما تقدَّم، وحذفَ اللاَّم من المنفيّ، لأنه يمتنع ذلك فيه. وقال أبُو حيَّان: ولم تصحب «مَا» النَّافية - أي: اللام - وإن كان الفصيحُ إلاَّ تصحبها، كقوله: {وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ} [فاطر: 14] . وفيه نظرٌ؛ لأنَّهم نَضُّوا على أنَّ جوابها المنفيَّ لا يجوز دخولُ اللاَّم عليه. قوله: {إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} نذير لمن لا يُصدق بما جئت به، وبشير بالجنَّةِ لقوم يصدقون. وذكر إحدى الطائفتين؛ لأنَّ ذكر إحداهما يفيد ذكر الأخرى، كقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 415 وقد يقال: إنه كان نذيراً وبشيراً للكل إلاَّ أنَّ المنتفع بالنذارة والبشارة هم المؤمنون كما تقدَّم في قوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] . واللاَّمُ في قوله [القوم] من باب التَّنازُعِ، فعند البصريين تتعلقُ ب «بَشِير» لأنه الثَّاني، وعند الكوفيين بالأول لسبقه. ويجوز أن تكون المتعلٌّق بالنذارة محذوفاً، أي: نذير للكافرين ودلَّ عليه ذكرُ مقابله كما تقدم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 416 قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ} الآية. اعلم أنَّهُ تعالى رجع هنا إلى تقرير التَّوحيدِ، وإبطال الشرك. قال ابنُ عبَّاسٍ: المرادُ بالنفس الواحدة آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] أي حواء خلقها اللَّهُ من ضلع آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من غير أذَى ليسكن إليها أي: ليأنس بها ويأوي إليها قالوا: والحكمة في كونها مخلوقة من نفس آدم: أنَّ الجنسَ أميل إلى جِنْسهِ. قال ابنُ الخطيبِ: وهذا مشكل؛ لأنَّهُ تعالى لمَّا كان قادراً على خلق آدم ابتداء فما الذي يحملنا على أن نقُولَ خلق حواء من جزء من أجزاء آدم؟ ولِمَ لم نقل إنَّهُ تعالى خلق حواء أيضاً ابتداء؟ وأيضاً فالقادرُ على خلق الإنسان من عظم واحد لِمَ لا يقدر على خلقه ابتداء؟ وأيضاً فقولهم إنَّ عدد أضلاع الجانب الأيسرِ من الذَّكرِ أنقص من عدد أضلاع الجانب الأيمن بشيء واحد، على خلاف الحسن والتَّشريح. وإذا عرف ذلك فنقول: المرادُ من كلمة مِنْ في قوله: {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أنَّ الإشارة إلى شيءٍ تكون تارة بحسب شخصه، وتارة بحسب نوعه. قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ «هَذَا وضُوءٌ لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصلاة إلاَّ بِهِ» والمرادُ نوعه لا ذلك الفرد المعين، وقال - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - «في يوم عاشوراء هَذَا هُو اليومُ الذي أظهر اللَّهُ فيه موسى على فِرعون» والمُرادُ: نوعه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 416 وقال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} [البقرة: 35] والمرادُ نوعها لا شخصها فكذا ههنا. {وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي: وخلق من نوع الإنسان زوجٍ آدم، أي: جعل زوج آدم إنساناً مثله، «فلمَّا تَغشَّاهَا» أي واقعها وجامعها: {حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً} وهو أوَّلُ ما تحمل المرأة من النُّطفةِ يكون خفيفاً عليها: «فَمَرَّتْ بِهِ» أي: استمرَّت به، وقامت وقعدت به لم يثقلها. قوله حَمْلاً المشهورُ أنَّ الحَمل بالفتح ما كان في بطن أو على رأس شجرة، وبالكسر ما كان على ظهر أو رأس غير شجرة. وحكى أبُو عُبيدٍ في حمل المرأةِ: حَمْل وحِمْل. وحكى يعقبوُ في حمل النَّخْلةِ: الكسر، والحمل في الية يجوزُ أن يُرادَ به المصدرُ فينتصب انتصابهُ، وأن يُرادَ به نفسُ الجنين، وهو الظَّاهِرُ، فينتصب انتصابَ المفعُولِ به، كقولك: حَمَلْتُ زيداً. قوله: «فَمَرَّتْ» الجمهور على تشديد الراء، أي: استمرت به، أي: قامت وقعدت. وقيل: هو على القلب أي: فمَرَّ بها أي: استمرَّ ودام. وقرأ ابنُ عبَّاسٍ: وأبو العالية ويحيى بن يعمر، وأيوب: فَمَرَتْ خفيفه الرَّاءِ، وفيها تخريجان: أحدهما: أنَّ أصلها التشديد، ولكنهم كرهوا التضعيف في حرف مُكرر فتركوه، وهذه كقراءة: {وَقَرْنَ} [الأحزاب: 33] بفتح القاف إذَا جعلناهُ من القرارِ. والثاني: أنه من المرية وهو الشَّكُ، أي: فشكَّت بسببه أهو حَمْلٌ أم مرض؟ وقرأ عبدُ الله بن عمرو بن العاص، والجحدريُّ: فَمَارَتْ بألف وتخفيف الرَّاءِ، وفيها أيضاً وجهان، أحدهما: أنَّها من: «مَارَ، يمُورُ» إذا جاء وذهب، ومَارتِ الرِّيحُ، أي: جاءت وذهَبَتْ وتصرَّفَتْ في كُلِّ وجهٍ، ووزنه حينئذٍ «فَعَلَتْ» والأصلُ «مَوَرَتْ» ثم قلبت الواو ألفاً فهو ك: طَافَتْ، تَطُوفُ. والثاني: أنَّها من المريةِ أيضاً قاله الزمخشريُّ، وعلى هذا فوزنه «فَاعلَتْ» . والأصْلُ «مَارَيتْ» ك «ضَارَبَتْ» فتحرَّك حرفُ العلَّةِ وانفتح ما قبله فقُلِبَ ألفاً، ثمَّ حُذفتْ لالتقاء الساكنين، فهو ك: بَارَتْ، ورَامَتْ. وقرأ سعدُ بنُ أبي وقَّاصٍ، وابنُ عبَّاسٍ أيضاً والضحَّاكُ: فاسْتَمَرَّتْ بِهِ وهي واضحة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 417 وقرأ أبيّ فَاسْتمَارَتْ وفيها الوجهان المتقدمان في «فَمَارَتْ» أي: أنَّهُ يجوز أن يكون من «المِرْيَة» ، والأصلُ: اسْتَمْريَتْ وأن يكون من «المَوْرِ» ، والأصلُ: اسْتَمْورَتْ. قوله: «فَلمَّا أثقَلَتْ» أي: صَارتْ ذات ثقل ودنت ولادتها كقولِهِمْ ألبَنَ الرَّجُلُ، وأتْمَرَ أي: صار ذَا لبَنٍ وتَمْرٍ. وقيل: دخلت في الثقل؛ كقولهم: أصبح وأمسى، أي: دخل في الصَّباح والمساءِ، وقرئ أثْقِلَتْ مبنيّاً للمفعُولِ. قوله: «دَعَوا اللَّهَ» متعلَّقُ الدُّعاء محذوفٌ لدلالة الجملة القسميَّةِ عليه، أي: دعواهُ في أن يُؤتيهُمَا ولداً صالحاً. قوله: «لَئِنْ آتيْتَنَا» هذا القسمُ وجوابه فيه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ مُفَسِّرٌ لجملة الدُّعاءِ كأنه قيل: فما كان دعاؤهما؟ فقيل: كان دعاؤهما كيت وكيت؛ ولذلك قلنا إنَّ هذه الجملة دالةٌ على متعلق الدُّعاءِ. والثاني: أنَّهُ معمولٌ لقولٍ مضمرٍ، تقديره: فقالا لئن آتيتنا، ولنكُوننَّ جوابُ القسم، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ على ما تقرَّر. وصَالِحاً فيه قولان أظهرهما: أنه مفعولٌ ثان، أي: ولداً صالحاً. والثاني: قال مكي إنه نعتُ مصدر محذوف، أي: إيتاءً صالحاً، وهذا لا حاجة إليه، لأنه لا بد من تقدير المؤتى لهما. فصل قال المفسِّرون: المعنى لَئِنْ آتيتنا صالحاً بشراً سويّاً مثلنا لنكوننَّ من الشَّاكرين. وكانت القصةُ أنَّهُ لمَّا حملت حواء أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها: ما الذي في بطنكِ؟ قالت: ما أدْرِي، قال: إني أخافُ أن يكُون بهيمةً، أو كلباً، أو خنزيراً، وما يُدريك من أين يَخْرُجُ؟ أمن دبرك فيقتلك، أو من فيك أو ينشق بطنك؟ فخافت حوَّاءُ من ذلك وذكرته لآدم، فلم يزالاَ في هُمّ من ذلك، ثمَّ عاد إليها فقال: إني من اللَّهِ بمنزلةٍ فإن دعوتُ الله أن يجعله خلقاً سويّاً مثلك، ويُسهِّل عليك خروجه تسميه عبد الحارثِ. وكان اسم إبليس في الملائكة الحارث، فذكرت ذلك لآدم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 418 فقال: لعلَّهُ صاحبنا الذي قد علمت؛ فعاودها إبليس، فلم يزل بها حتَّى غرَّها؛ فلمَّا ولدْتهُ سمَّيَاهُ عبد الحارثِ. وروي عن ابن عباسٍ، قال: كانت حوَّاءُ تلدُ فتسميه عبد الله، وعبيد الله، وعبد الرحمن فيصيبهم الموتُ، فأتاهما إبليسُ، وقال: إن سَرَّكُمَا أن يعيش لكما ولدٌ فسمياه عبد الحارث؛ فولدت فسمياهُ عبد الحارث فعاش، وجاء في الحديث خدعهما إبليس مرتين مرة في الجنة ومرة في الأرض. واعلم أن هذا التأويل فاسدٌ لوجوه: أحدها: قوله تعالى: {فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} فدلَّ على أن الذين أتوا بهذا الشركِ جماعةٌ. وثانيها: قال بعدهُ: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} وهذا يدلُّ على أن المقصود من الآية: الرَّد على من جعل الأصنام شركاء للَّهِ تعالى، ولم يجر لإبليس اللعين في هذه الآية ذكر. وثالثها: لو كان المراد إبليس لقال: أيشركُون من لا يخلُقُ؛ لأن العاقلَ إنَّما يُذْكَرُ بصيغة من. ورابعها: أنَّ آدم - عليه السَّلام - كان من أشدّ النَّاس معرفة بإبليس، وكان عالماً بجميع الأسماءِ كما قال تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا} [البقرة: 31] فلا بد وأن يكُون قد علم أن اسم إبليس هو الحارثُ، فمع العداوة الشَّديدة التي بينهُمَا ومع علمه بأنَّ اسم إبليس الحارث كيف يسمِّي ولدهُ بعبد الحارث؟ وكيف ضاقت عليه الأسماءُ بحيث لم يجد سوى هذا الاسم؟ وخامسها: أنَّ أحدنا لو حصل له ولد فجاءهُ إنسان، ودعاه إلى أن يسمي ولده بهذا الاسم لزجره وأنكر عليه أشد الإنكار، فآدم - عليه السلام - مع نبوته وعلمه الكثير الذي حصل من قوله {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا} وتجاربه الكثيرة التي حصلت له بسبب الزلة لأجل وسوسة إبليس، كيف لم يتنبه لهذا القدر المنكر؟ وسادسها: أن بتقدير أن آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، سماه بعبد الحارث، فلا يخلو إمَّا أن يقال إنه جعل هذا اللفظ اسم علم له أو جعله صفة له، بمعنى أنَّهُ أخبر بهذا اللفظ أنَّهُ عبد الحارثِ، فإن كان الأول لم يكن هذا شركاً لأن أسماء الأعلام والألقاب لا تفيد في المسميات فائدة، فلا يلزم من هذه التسمية حصول الإشراك، وإن كان الثاني كان هذا قولاً بأن آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - اعتقد أنَّ لله شريكاً في الخلق والإيجاد، وذلك يُوجبُ الجزم بكُفْر آدم، وذلك لا يقوله عاقل؛ فثبت فساد هذا القول. وإذا عُرِفَ ذلك لنقُولُ في تأويل الآية وجوه: الأول: قال القفالُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّه تعالى ذكر هذه القصة على سبيل ضَرْب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 419 المثل وبيان أنَّ هذه الحالة صورة حال هؤلاء المشركين في جهلهم وقولهم بالشرك، كأنَّهُ تعالى يقولُ: هو الذي خلق كُلَّ واحد منكم من نفس واحدة وجعل من جنسها زوجها إنساناً يساويه في الإنسانية، فلمَّا تغشَّى الزَّوج زوجته وظهر الحمل دعا الزَّوج والزَّوجة ربهما إن أتانا ولداً صالحاً سويّاً لنكونن من الشَّاكرين لآلائك ونعمائك، فلمَّا آتاهُمَا اللَّهُ ولداً صالحاً سويّاً جعل الزوج والزوجة لله شركاء فيما آتاهما؛ لأنَّهُم تارة ينسبون ذلك الولد غلى الطَّبائعِ كما يقولُ الطبيعيون، وتارة ينسبونه إلى الكواكب كقول المُنجمين، وتارة إلى الأصنامِ والأوثان كقول عبدة الأصنام. ثم قال تعالى: {فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تنزَّه الله تعالى عن ذلك الشِّرْكِ. وهذا قول عكرمة. والثاني: أن يكون الخطابُ لقريش الذين كانُوا في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «وهم آل أقصى» . والمرادُ من قوله: {هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ} قصي وجعل من جنسها زوجها عربية قرشية ليسكن إليها، فلمَّا آتاهما ما طلبا من الولد الصَّالح السَّوي جعلا له شركاء فيما آتاهما حيث سميا أولاهما الأربعة: عبد منافٍ، وعبد العزَّى، وعبد قُصيٍّ وبعد اللاَّتِ وعبد الدَّار، وجعل الضمير في يُشركُونَ لهما، ولأعقابهما الذين اقتدوا بهما في الشرك. الثالث: إن سلَّمنا أن هذه الآية وردت في شرح قصَّةِ آدم - عليه السَّلام -. وعلى هذا ففي دفع هذا الإشكال وجوه: أحدها: أن المشركين كانوا يقولون: أنَّ آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يعبد الأصنام، ويرجع في طلب الخير ودفع الشر إليها، فذكر تعالى قصة آدم وحواء - عليهما الصلاة والسلام - وحكى عنهما أنهما قالا: {لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} أي: ذكر تعالى أنه لو آتاهما ولداً صالحاً لاشتغلوا بشكر تلك النِّعمة. ثم قال {فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ} . فقوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكآءَ} ورد بمعنى الاستفهام على سبيل الإنكار والتَّبعيد تقديره: فلما آتاهما صالحاً أجعلاً له شركاء فيما آتاهما؟ : {فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تعالى الله عن شرك هؤلاء المشركين الذي يقولون بالشِّرك وينسبونه إلى آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ونظيره أن ينعم رجل على رجل بوجوه كثيرة من الأنعام، ثم قيل ذلك المُنْعِم إن ذلك المنعم عليه يقصد ذمك وإيصال الشر إليك. فيقول المُنْعِمُ: فعلت في حق فلان كذا وأحسنت إليه بكذا وكذا، ثم يقابلني بالشَّرِّ؟ إنه بريء عن ذلك. فقوله: يقابلني بالشَّرِّ المراد منه: النفي والتبعيد فكذا ههنا. ثانيها: إن سلمنا أن القصَّة في آدم وحواء فلا إشكال في ألفاظها إلا قوله {فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ} ، أي: جعلا أولادهما شركاء على حذف المضافِ وإقامة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 420 المضاف إليه مقامه وكذا فيما: «آتاهُما» أي أولادهما، كقوله: {واسأل القرية} [يوسف 82] أي أهل القريةِ. فن قيل: فعلى هذا التأويل ما الفائدة في تثنية قوله «جَعَلا لَهُ» ؟ قلنا: لأنَّ ولدهُ قسمان ذكر وأنثى فقوله «جَعَلا» المراد منه الذكر والأنثى فمرة عبّر عنهما بلفظ التثنية لكونهما صنفين ونوعين، ومرَّة عبَّرَ عنهم بلفظ الجمع، وهو قوله: {فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وثالثها: سلَّمْنَا أن الضمير في قوله: {جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ} عائد إلى آدم وحواء - عليهما السَّلام - إلاَّ أنه قيل: إنَّهُ تعالى لما آتاهما ذلك الولد الصَّالح عزما أن يجعلاه وقفاً على خدمة الله وطاعته وعبوديَّتِهِ على الإطلاق، ثُمَّ بدا لهُمَا في ذلك، فتارة كانوا ينتفعون به في مصالح الدُّنيا ومنافعها، وتارة كانوا يأمرونه بخدمة الله تعالى وطاعته، وهذا العملُ، وإن كان مِنَّا طاعة وقربة، إلاَّ أنَّ حسنات الأبرار سيئات المقرَّبين، فلهذا قال اللَّهُ تعالى: {فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} . وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ حاكياً عن اللَّهِ تعالى: «أنَا أغْنَى الأغنِيَاءِ عن الشِّركِ من عملَ عملاً أشْركَ فيهِ غَيْرِي تركْتُه وشِرْكُه» التأويل الرابع: سلَّمنا أنَّ القصَّة في آدم وحواء، إلاَّ أنَّا نقولُ: إنَّما سموه بعيد الحارث لأنَّهُم اعتقدوا أنه إنما سلم من الآفَةِ والمرض بسبب دعاء ذلك الشخص المُسَمَّى بالحارث. وقد يُسمى المُنْعَم عليه عبداً للمنعمِ، كما يقالُ في المثل: أنا عبدُ من تعلَّمتُ منه حرفاً فآدم وحوَّاء إنما سمياهُ بعبد الحارث لاعتقادهم أنَّ سلامته من الآفات ببركة دعائه، ولا يخرجه ذلك عن كونه عَبْداً لِلَّهِ من جهة أنَّهُ مملوكه ومخلوقه، وقد ذكرنا أنَّ حسنات الأبرار سيئا المقربين فلمَّا حصل الاشتراك في لفظ العبدِ لا جرم عُوتب آدم عليه الصَّلاة والسَّلام في هذا العمل بسبب الاشتراك في مجرد لفظ العبد. قوله: «جَعَلا لَهُ» قيل: ثمَّ مضاف، أي: جعل له أولادهما شركاء، كما تقدَّم في التَّأويلِ السَّابق، وإلاَّ فحاشا آدم وحواء من ذلك، وإن جُعِل الضَّمير ليس لآدم وحواء، فلا حاجة إلى تقديره كما مرَّ تقريره. وقرأ نافع، وأبو بكر عن عاصم شِرْكاً بكسر الشِّينِ وسكون الرَّاءِ وتنوين الكاف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 421 والباقون بضمِّ الشين، وفتح الرَّاء، ومدِّ الكاف مهموزةً، من غير تنوين، جمع «شَريك» . فالشِّركُ مصدرٌ، ولا بد من حذف مضاف، أي: ذوي شركٍ، يعني: إشراك، فهو في الحقيقةِ اسمُ مصدر، ويكون المعنى: أحْدَثَا لَهُ إشراكاً في الولد، وقيلك المرادْ بالشِّركِ: النصيبُ وهو ما جعلاه من رزقهما له يأكله معهما، وكانا يأكلان ويشربان وحدهما، فالضَّميرُ في لَهُ يعود على الولدِ الصَّالحِ. وقيل: الضمير في لَهُ لإبليس ولم يَجرِ لهُ ذكر، وهذان الوجهان لا معنى لهما. وقال مكيٌّ وأبُو البقاءِ وغيرهما: إنَّ التقدير يجوز أن يكون: جعلا لغيره شِرْكاً. قال شهابُ الدِّين: هذا الذي قدَّره هؤلاء قد قال فيه أبُو الحسن: كان ينبغي لمن قرأ شِرْكاً أن يقول المعنى: جعلا لغيره شِرْكاً؛ لأنَّهُمَا لا يُنْكرانِ أنَّ الأصلَ للَّه فالشرك إنَّما يجعله لغيره. قوله: {فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} قيل: هذه جملةٌ استئنافيةٌ، والضمير في: يُشْرِكُونَ يعودُ على الكُفَّارِ، وأراد به إشراك أهلِ مكَّة والكلامُ قد تمَّ قبله، وقيل: يعودُ على آدم وحواء وإبليس، والمرادُ بالإشراكِ تَسْميتُهُمَا الولد الثالث ب «عبد الحارث» وكان أشَارَ بذلك إبليس، فالإشراكُ في التَّسْمية فقط، وقيل: راجع إلى جميع المشركين من ذريَّةِ آدم، وهو قولُ الحسنِ، وعكرمة، أي: جعل أولادهما له شركاء فحذف الأولاد وأقامهما مقامهم كما أضاف فعل الآباء إلى الأبْنَاءِ في تعييرهم بفعل الآباء فقال: {ثُمَّ اتخذتم العجل} [البقرة: 51] {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً} [البقرة: 72] خاطب به اليهُود الذين كانوا في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان ذلك الفعل من آبائهم. وقيل: لم يكن آدم عَلِمَ، ويُؤيدُ الوجه الأول قراءة السّلمي: «عَمَّا تُشرِكُون» بتاء الخطاب وكذلك «أتُشْركُونَ» بالخطابِ أيضاً، وهو التفات. قوله: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً} . هذه الآيةُ من أقوى الدَّلائل على أنَّهُ ليس المراد بقوله تعالى: {فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ} ما ذكره في قصَّة إبليس إذ لو كان المرادُ ذلك لكانت هذه الآية أجنبية عنها بالكليَّة، وكان ذلك النَّظْمُ في غاية الفسادِ، بل المرادُ ما ذكرناه في الأجوبة من أنَّ المقصود من الآية السابقة الرَّدُّ على عبدة الأوثان؛ لأنه أراد ههنا إقامة الحجَّة على أنَّ الأوثان لا تصلحُ للإلهيَّةِ فقوله: {أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} أي: أيعبدون ما لا يقدرُ على أن يخلق شيئاً؟ وهم يُخلقون، يعني الأصنام. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 422 قوله: «وهُمْ يُخْلقُونَ» يجوزُ أن يعود الضميرُ على ما من حيث المعنى وعبَّر عن ما وهو مفرد بضمير الجمع؛ لأنَّ لفظة ما تقع على الواحدِ والاثنينِ والجمع فهي من صيغ الواحد بحسب لفظها، ومحتملة للجميع فاللَّهُ تعالى اعتبر الجهتين؛ فوحَّد قوله يَخْلُقُ لظاهر اللفظ وجمع قوله: «وهُمْ يُخْلَقُونَ» للمعنى، والمرادُ بها الأصنام وعبر عنهم ب «هُم» وجمعهم بالواو والنون، لاعتقاد الكفار فيها ما يعتقدونه في العقلاء أو لأنهم مختلطون بمن عُبد من العقلاء كالمسيح وعزير، أو يعودُ على الكُفَّارِ، أي: والكفار مخلوقون فلو تفكَّروا في ذلك لآمنوا فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ العبد لا يخلق أفعاله؛ لأنَّهُ تعالى طعن في إلاهية الأصنام لكونها لا تخلق شيئاً وهذا الطَّعن لا يتمُّ إلاَّ إذا قلنا بأنَّها لو كانت خالقة لشيء لم يتوجه الطعن في إلاهيتها، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً كان إلهاً، فلو كان العبدُ خالقاً لأفعال نفسه كان إلهاً، ولمَّا كان ذلك باطلاً علمنا فساد هذا القول. قوله: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} أي: أن الأصنام لا تنصر من أطاعها، ولا تضرُّ من عصاها، وهو المراد بقوله: {وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ} . قوله: {وَإِن تَدْعُوهُمْ} الظاهرُ أنَّ الخطاب للكفَّار، وضمير النَّصْبِ للأصنام، أي: وإن تدعوا آلهتكم إلى طلب هدى ورشاد - كما تطلبونه من الله - لا يتعابعوكم على مُرادكُم، ويجُوزُ أن يكون الضميرُ للرسُولِ والمؤمنين، والمنصوب للكفَّارِ، أي وإن تدعوا أنتم هؤلاء الكفار إلى الإيمان، ولا يجوزُ أن يكون تَدعُوا مسنداً إلى ضميرِ الرسُولِ فقط، والمنصوبُ للكُفَّارِ أيضاً؛ لأنَّه كان ينبغي أن تحذف الواو، لأجل الجازم، ولا يجوزُ أن يقال: قدَّر حذف الحركة وثبت حرف العلَّة؛ كقوله: [البسيط] 2647 - هَجَوْتَ زبَّانَ ثُمَّ جِئْتَ مُعْتَذِراً ... مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولمْ تَدَعِ ويكون مثل قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} [يوسف: 90] ، {فَلاَ تنسى} [الأعلى: 6] {لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى} [طه: 77] لأنَّه ضرورةٌ، وأمَّا الآيات فمؤولة وسيأتي ذلك. قوله: «لا يَتَّبِعُوكُم» قرأ نافع بالتخفيف، وكذا في الشعراء {يَتْبَعُهُمْ} [244] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 423 والباقون بالتشديد، فقيل: هما لغتان، ولهذا جاء في قصة آدم: {فَمَن تَبِعَ} [البقرة: 385] وفي موضع {أَفَمَنِ اتبع} [طه: 132] . وقيل: تَبع اقتفى أثره، واتَّبعه بالتشديد: اقتدى به والأول أظهر. ثُمَّ أكَّد الكلام فقال: {سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ} والمعنى: سواء عليكم أدعوتموهم إلى الدِّين أم أنتم صامتون عن دعائهم، لا يؤمنون، كقوله: {عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] وعطف قوله: {أَمْ أنْتُمْ صَامِتُونَ} وهي جملةٌ اسمية على أخرى فعلية؛ لأنَّها في معنى الفعليَّة، والتقدير: أمْ صَمَتُّم؟ وقال أبُو البقاءِ: جملة اسميَّة في موضع الفعليَّة، والتقديرُ: أدعوتموهم أم صَمَتُّم؟ وقال ابنُ عطيَّة: عطف الاسم على الفعل؛ إذ التقدير: أمْ صَمَتُّم؛ ومثله قول الشاعر: [الطويل] 2648 - سَوَاءٌ عَليْكَ النَّفْرُ أم بِتَّ لَيْلَةً ... بأهْلِ القبابِ مِنْ نُمَيْرِ بنِ عامرِ قال أبُو حيَّان: وليس هذا من عطفِ الفعل على الاسم، إنَّما هو من عطف الاسميَّة على الفعليَّة، وأمَّا البيتُ فليس فيه عطف فعلٍ على اسم، بل هو من عطف الفعلية على اسم مُقدَّرٍ بالفعلية، إذ الأصل: سواءٌ عليك أنفرت أم بتَّ، وإنما أتى في الآية بالجملة الثانية اسمية؛ لأنَّ الفعل يُشْعِر بالحدوث ولأنها رأسُ فاصلة. والصَّمْتُ: السُّكوت، يقال صَمَتَ يَصْمُتُ بالفَتْحِ، في الماضي، والضم في المضارع. ويقال: صَمِتَ، بالكسرِ، يَصْمَتُ بالفتح والمصدر الصَّمْتُ والصُّمات، وإصمت، بكسر الهمزة والميم: اسمُ فلاة معروفة، وهو منقولٌ من فعل الأمر من هذه المادة، وقد ردَّ بعضهم هذا بأنَّه لو كان منقولاً من الأمر لكان ينبغي أن تكون همزته همزة وصل، ولكان ينبغي أن تكون ميمه مضمومة، إن كان من «يَصْمُتُ» أو مفتوحة إن كان من «يَصْمَتُ» ؛ ولأنَّهُ ينبغي ألاَّ يؤنث بالتَّاءِ، وقد قالوا: إصْمِتَة. والجوابُ أنَّ فعل الأمر يجبُ قطعُ همزته إذا سُمِّيَ به نحو: اسْرُب؛ لأنَّهُ ليس لنا من الأسماءِ ما همزته للوصل إلاَّ أسماءٌ عشرة، ونوع الانطلاق من كل مصدر زاد على الخمسة وهو قليلٌ، فالإلحاقُ بالكثير أولَى، وأمَّا كَسْرُ الميم فلأنَّ التغيير يُؤنِسُ بالتَّغيير وكذلك الجوابُ عن تأنيثه بالتَّاءِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 424 قوله: «إنَّ الذينَ» العامَّةُ على تشديدِ إنَّ والموصولُ اسمها، وعبادٌ خبرها، وقرأ سعيدُ بنُ جبيرٍ بتخفيف إنْ ونصب عباد وأمثالكم، وخرَّجها ابن جني وغيره أنها إنْ النَّافيةُ وهي عاملةُ عمل ما الحجازية وهو مذهب الكسائي وأكثر الكوفيين غير الفراء، وقال به من البصريين: ابن السراج والفارسي وابن جنِّي، واختلف النقل عن سيبويه والمبرد، والصحيحُ أنَّ إعمالها لغةٌ ثاتبة نظماً ونثراً؛ وأنشدوا: [المنسرح] 2649 - إنْ هُوَ مُسْتَوْلِياً على أحِدٍ ... إلاَّ على أضْعَفِ المجانينِ ولكن قد استشكلوا هذه القراءة من حيث إنها تنفي كونهم عباداً أمثالهم، والقراءة الشهيرة تُثْبِتُ ذلك ولا يجوزُ التَّناقض في كلام اللَّهِ تعالى. وقد أجَابُوا عن ذلك بأنَّ هذه القراءة تُفْهِمُ تحقير أمرِ المعبودِ من دون اللَّهِ وعبادة عابِدِه. وذلك أنَّ العابدين أتَمَّ حَالاً وأقدرُ على الضرِّ والنَّفْعِ من آلهتهم فإنَّهَا جمادٌ لا تفعل شيئاً من ذلك، فكيف يَعْبُدُ الكاملُ من هُو دُونَه؟ فهي موافقةٌ للقراءة المتواترة بطريق الأولى. وقد ردَّ أبو جعفرٍ هذه القراءة بثلاثة أوجه: أحدها: أنَّهَا مخالفةٌ لسواد المصحفِ. والثاني: أن سيبويه يختار الرفع في خبر إنْ المخففة فيقول: «إنْ زيدٌ منطلقٌ» ؛ لأنَّ عمل ما ضعيف وإنْ بمعناها، فهي أضعف منها. الثالث: أنَّ الكسائي لا يرى أنَّهَا تكون بمعنى ما إلاَّ أن يكون بعدها إيجاب، وما ردَّ به النَّحَّاس ليس بشيءٍ؛ لأنَّهَا مخالفةٌ يسيرة. قال أبُو حيان: يجوزُ أن يكون كتب المنصوب على للة ربيعة في الوقف على المنون المنصوب بغير ألف، فلا تكون مخالفةٍ للسَّواد. وأمَّا سيبويه فاختلف النَّاسُ في الفهم عنه في ذلك. وأمَّا الكسائيُّ فهذا القيد غير معروف له. وخرَّج ابو حيَّان القراءة على أنَّها إنْ المخففة. قال: وإنْ المخففة تعمل في القراءة المتواترة كقراءة {وَإِنَّ كُلاًّ} [هود: 111] ثُمَّ إنَّها قد ثبت لها نصبُ الجُزأين؛ وأنشد: [الطويل] 2650 - ... ... ... ... ... ... ... ..... الجزء: 9 ¦ الصفحة: 425 إنَّ حُرَّاسنَا أُسْدَا قال: وهي لغة ثابتة ثم قال: فإن تأوَّلثوا ما ورد من ذلك؛ نحو: [الرجز] 2651 - يَا لَيْتَ أيَّامَ الصِّبَا رَوَاجِعا ... أي: تُرَى رواجعاً، فكذلك هذه يكون تأويلها: إن الذين تدعون من دون الله خلقناهم عباداً أمثالكم. قال شهابُ الدِّين: فيكون هذا التَّخريج مبنياً على مذهبين. أحدهما: إعمالُ المخففَّة. وقد نصَّ جماعة من النحويين على أنَّه أقل من الإهمال، وعبارة بعضهم أنَّهُ قليل، ولا أرتضيه قليلاً لوروده في المتواتر. الثاني: أنَّ إنَّ وأخواتها تنصب الجزأين، وهو مذهبٌ مرجوح، وقد تحصَّل في تخريج هذه القراءة ثلاثةُ أوجه: كون إنْ نافية عاملة، والمخففة الناصبة للجزءين، أو النصب بفعل مقدر هو خبر لها في المعنى. وقرأ بعضهم إنْ مخففة، عباداً نصباً أمثالكم رفعاً، وتخريجها على أن تكونَ المخففة وقد أهملت والذين مبتدأ، و «تَدْعُونَ» صلتها والعائدُ محذوف، وعباداً حال من ذلك العائد المحذوفِ، أمثالكُم خبره، والتقدير: إنَّ الذين تدعونهم حال كونهم عباداً أمثالكم في كونهم مخلوقين مملوكين، فكيف يُعْبَدُون؟ ويضعفُ أن يكون الموصول اسماً منصوب المحل؛ لأن إعمال المخففة كما تقدَّم قليلٌ. وحكى أبُو البقاءِ أيضاً قراءةُ رابعةً وهي بتشديدِ إنَّ ونصب عباد ورفع أمثالكم وتخريجها على ما تقدم قبلها. فصل في الآية سؤال: وهو أنه كيف يحسن وصف الأصنام بأنَّها عباد مع أنها جمادات؟ والجواب: من وجوه: أحدها: أن المشركينَ لمَّا ادعوا أنَّها تضر وتنفعُ؛ وجب أن يعتقدوا فيها كونها عاقلة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 426 فاهمة، فلهذا وردت هذه الألفاظ وفق اعتقادهم؛ ولهذا قال: {فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} [الأعراف: 194] . وقال: «إنَّ الذينَ» ولم يقل: «إنَّ الَّتي» . وثانيها: أن هذا اللَّفظ ورد في معرض الاستهزاء بهم أي: أمرهم أن يكونُوا أحياءً عقلاء فإن ثبت ذلك فهم عبادٌ أمثالكم، ولا فضل لهم عليكم، فَلِمَ جعلتُم أنفسكم عبيداً وجعلتموها آلهة وأرباباً؟ ثم أبطل أن يكونوا عباداً فقال: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ} ثم أكَّد البيان بقوله {فادعوهم فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} . ومعنى هذا الدعاء طلب المنافع وكشف المضار من جهتهم واللام ي قوله: {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} لام الأمر على معنى التَّعجيزِ، ثمَّ لمَّا ظهر لكلِّ عاقل أنها لا تقدر على الإجابة ظهر أنَّها لا تصلح للعبادة، ونظيره قول إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42] وقوله: {إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} في أنَّها آلهة ومستحقَّة للعبادة. وثالثها: قال مقاتل: الخطابُ مع قوم كانوا يعبدون الملائكة. قوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَآ أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} قرأ العامَّةُ بكسر الطاء، من بطش يبطش، وقرأ أبو جعفر وشيبة، ونافع في رواية عنه: يَبْطُشُونَ بضمها، وهما لغتان، وهما لغتان، والبَطْشُ، الأخْذُ بقوة. واعلم أنَّهُ تعالى ذكر هذا الدَّليل لبيان أنه يقبح من الإنسان العاقل أن يعبد هذه الأصنام؛ لأنَّ هذه الأعضاء الأربعة إذا كان فيها القوى المحركة والمدركة كانت أفضل منها إذا كانت خالية عن هذه القوى، فالرِّجلُ القادرةُ على المشي، واليد القادرةُ على البَطْشِ أفضل من اليد والرجل الخاليتين عن قوة الحركة والحياة، والعينُ البَاصرةُ والأذنُ السَّامعة أفضل من العين والأذن الخاليتين عن القوة السَّامعة، والباصرة، وعن قوَّةِ الحياة. وإذا ثبت ذلك ظهر أن الإنسان أفضل بكثير من الأصنام بل لا نسبة لفضيلة الإنسانه إلى فضيلة الأصنام ألبتة. وإذا كان كذلك فكيف يليقُ بالأفضل والأكل الأشرف أن يعبد الأخسّ الأدون الذي لا يحصل منه فائدة ألبتَّة، لا في جلب منفعة ولا في دفع مضرَّة. قوله: {قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ} قرأ أبُو عمرو كِيدُونِي بإثبات الياءِ وصلاً، وحذفها وقفاً وهشام بإثباتها في الحالين، والباقون بحذفها في الحالين، وعن هشامٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 427 خلاف مشهور قال أبُو حيان: وقرأ أبُو عمرو وهشام بخلاف عنه فكيدُونِي بإثبات الياءِ وصلاً ووقفاً. قال شهابُ الدِّينِ: أبو عمرو لا يثبتها وقفاً ألبتَّة، فإنَّ قاعدته في الياءاتِ الزائدة ما ذكرته، وفي قراءة فَكِيدثونِي ثلاثةُ ألفاظٍ، هذه وقد عُرف حكمُهَا، وفي هود: «فكيدوني جميعاً» أثبتها القراء كلهم في الحالين. وفي المُرسلاتِ: {فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} [الآية: 39] حذفها الجميعُ في الحالين وهذا نظيرُ ما تقدَّم في قوله {واخشوني} [البقرة: 150] فإنَّها في البقرة ثابتةٌ للكلّ وصلاً ووقفاً، ومحذوفةٌ في أوَّل المائدة، ومختلف في ثانيتها. فصل والمعنى: ادعُوا شركاءكم يا معشر المشركين ثمَّ كيدوني أنتم وهم فلا تُنظِرُون أي لا تمهلون واعجلوا في كيدي ليظهر لكم أنَّ لا قدرة لها على إيصار المضار بوجه من الوجوه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 428 قوله: {إِنَّ وَلِيِّيَ الله} العامة على تشديد وَلِيِّيَ مضافاً لياء المتكلم المفتوحة، وهي قراءة واضحة أضاف الوليَّ إلى نفسه. وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه «إنَّ وليَّ» بياء واحدة مشددة مفتوحة، وفيها تخريجان: أحدهما: قال أبُو عليٍّ: إن ياء «فعيل» مدغمةٌ في ياء المتكلم، وإنَّ الياء التي هي لام الكلمة محذوفةٌ، ومنع من العكس. والثاني: أن يكون وليَّ اسمها، وهو اسمُ نكرة غيرُ مضافِ لياء المتكلم، والأصلُ: إنَّ وليّاً الله ف «وليّاً» اسمها والله خبرها، ثم حذف التنوين؛ لالتقاء الساكنين؛ كقوله: [المتقارب] 2652 - فأَلْفَيْتُه غَيْر مُسْتَعْتبٍ ... ولا ذَاكِر اللَّهَ إلاَّ قَلِيلا وكقراءة من قرأ {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2] ولم يبق إلاَّ الإخبارُ عن نكرةٍ بمرعفة، وهو واردٌ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 428 قال الشاعر: [الطويل] 2653 - وإنْ حَرَاماً أن أسُبَّ مُجَاشِعاً ... بآبَائِي الشمِّ الكِرَامِ الخَضَارِمِ وقرأ الجحدريُّ في رواية إنَّ وليِّ الله بكسر الياءِ مشددة، وأصلها أنَّهُ سكن ياء المتكلم، فالتقت مع لام التعريف فحذفت، لالتقاء الساكنين، وبقيت الكسرة تدلُّ عليها نحو: إنَّ غلام الرَّجلُ. وقرأ في رواية أخرى إنَّ وليَّ اللَّهِ بياء مشددة مفتوحة، والجلالة بالجرِّ، نقلهما عنه أبو عمرو الدَّاني أضاف الولي إلى الجلالةِ. وذكر الأخفشُ وأبو حاتم هذه القراءة عنه، ولمْ يذكرا نَصْبَ الياء، وخرَّجها النَّاسُ على ثلاثة أوجه: الأولُ: قولُ الأخفش - وهو أن يكون وَليّ الله اسمُها والَّذي نزَّلَ الكتاب خبرها، والمراد ب «الذين نزّل الكتابَ» جبريل، لقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] : {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} [النحل: 102] إلاَّ أنَّ الأخفش قال في قوله {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} هو من صفة الله قطعاً لا من صفة جبريل، وفي تحتم ذلك نظرٌ. والثاني: أن يكون الموصوف بتنزيل الكتاب هو الله تعالى، والمراد بالموصول النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويكون ثمَّ عائدٌ محذوفٌ لفهم المعنى والتقدير إنَّ وليَّ الله النبيُّ الذي نزَّ الله الكتاب عليه، فحذف عليه وإن لم يكن مشتملاً على شروط الحذف، لكنَّه قد جاء قليلاً، كقوله: [الطويل] 2654 - وإنَّ لِسَانِي شُهْدَةٌ يُشْتَفَى بِهَا ... وهُوَّ على مَنْ صَبَّهُ اللَّهُ عَلْقَمُ أي: صبة اللَّهُ عليه، وقال آخر: [الطويل] 2655 - فأصْبَحَ مِنْ أسْمَاءَ قَيْسٌ كقَابضٍ ... عَلى المَاءِ لا يَدْرِي بِمَا هُوَ قَابِضُ أي بما هو قابض عليه. وقال آخر: [الطويل] 1656 - لَعَلَّ الَّذي أصْعَدْتني أنْ يَرُدَّنِي ... إلى الأرْضِ إنْ لَمْ يَقْدرِ الخَيْرَ قَادِرُه أي: أصعدتني به. وقال آخر: [الوافر] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 429 2657 - ومِنْ حَسَدٍ يَجُوزُ عَليَّ قَوْمِي ... وأيُّ الدَّهْر ذُو لم يَحْسُدُونِي أي يحسدوني فيه. وقال آخر: [الطويل] 2658 - فَقُلْتُ لهَا لاَ والَّذي حَجَّ حَاتِمٌ ... أخُونُكِ عَهْداً إنَّنِي غَيْرُ خَوَّانِ أي: حج إليه، وقال آخر: [الرجز] 2659 - فأبْلِغَنَّ خَالدَ بنَ نَضْلَةٍ ... والمَرْءُ مَعْنِيٌّ بِلوْمِ مَنْ يَثقْ أي: يثقُ به. وإذا ثبت أنَّ الضمير يُحْذَف في مثل هذه الأماكن، وإن لم يكمل شرطُ الحذف فلهذه القراءة الشاذة في التخريج المذكور أسوةٌ بها. والثالث: أن يكون الخبر محذوفاً تقديره: إنَّ وليَّ الله الصَّالحُ، أو من هو صالح وحذف، لدلالة قوله: {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} وكقوله: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر} [فصلت: 41] أي: معذبون، وكقوله {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ} [الحج: 25] . فصل المعنى {إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب} يعني القرآن، أي: يتولاّني وينصرني كما أيَّدني بإنزال الكتاب {وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين} قال ابنُ عباسٍ: «يريد الذين لا يعدلُون بالله شيئاً، فاللَّهُ يتولاهم بنصره ولا يضرهم عداوة من عاداهم» . قوله: {والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ولاا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ} . وفيه قولان: الأول: أن المراد منه وصف الأصنام. فإن قيل: هذه الأشياءُ مذكورة في الآيات المتقدمة، فما الفائدةُ في تكريرها؟ فالجوابُ: قال الواحديُّ: إنَّما أعيد؛ لأنَّ الأول مذكوررٌ للتَّقريع، وهذا مذكورٌ للفرق بين من تجوز له العبادة ومن لا تجوز، كأنَّهُ قيل: الإله المعبودُ يجبُ أن يكون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 430 بحيثُ يتولّى الصَّالحين، وهذه الأصنام ليست كذلك فلا تكن صالحة للإلهية. القول الثانيك أنَّ هذه الأحوال المذكورة صفات لهؤلاء المشركين الذين يدعون غير اللَّهِ يعني أنَّ الكفار كانُوا يخوفون رسول الله وأصحابه، فقال تعالى: إنهم لا يقدرون على شيء بل إنهم قد بلغوا في الجهل والحماقة إلى أنك لو دعوتهم وأظهرت أعظم أنواع الحجة والبرهان لم يسمعوا ذلك بعقولهم ألبتة. فإن قيل: لَمْ يتقدَّم ذكر المشركين، وإنما تقدَّم ذكر الأصنام فكيف يصح ذلك؟ والجوابُ: أن ذكرهم تقدم في قوله تعالى: {قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ} [الأعراف: 195] . قوله: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} فإن حملنا هذه الصفات على الأصنام فالمرادُ من كونها ناظرة كونها مقابلة بوجهها وجوه القوم من قولهم: جبلان متناظاران أي: مُتقابلان، وإن حملناها على المُشركين أي إنهم وإن كانُوا ينظرون إلى النَّاسِ إلاَّ أنهم لشدَّةِ إعراضهم عن الحقِّ لم ينتقعوا بذلك النَّظِر، والرُّؤيةِ؛ فصاروا كأنَّهُمْ عمي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 431 قوله: {خُذِ العفو} . قال عبدُ الله بنُ الزُّبير: أمر اللَّهُ نبيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأخذ العفو من أخلاق النَّاسِ. قال مجاهدٌ: يعني خذ العفو من أخلاق النَّاسِ وأعمالهم من غير تَجَسُّسِ وذلك مثل قبول الاعتذار، والعفو المتساهل، وترك البَحْثِ عن الأشياء ونحو ذلك. روي أنَّهُ لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لجبريل: «ما هذا؟ قال: لا أدْرِي حتى أسْألَ ثم رجع فقال:» إنَّ اللَّهَ يأمر أنَّ تصلَ مَنْ قطعك، وتُعْطي مَنْ حَرَمكَ، وتَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمكَ « قال العلماءُ: تفسيرُ جبريل - عليه الصَّلاةُ والسَّلام - مطابق للفظ الآية؛ لأنَّك إن وصلت من قطعك فقد عفوت عنه، وإن أعطيت من حرمك فقد أتيت بالمعروف، وإذا عفوت عمَّن ظلمك فقد أعرضت عن الجاهلين. وقال ابنُ عباَّسٍ، والسدُّ، والضحاك، والكلبيُّ: والمعنى خُذ ما عفا لك من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 431 أموالهم وهو الفضل من العيال، وذلك معنى قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} [البقرة: 219] ثم نسخت هذه الآية بالصَّدقات المفروضات. قوله: {وَأْمُرْ بالعرف} ، أي: بالمعروف، وهو كلُّ ما يعرفه الشَّرع، وقال عطاءٌ: {وَأْمُرْ بالعرف} بلا إله إلا الله وأعرض عن الجاهلين» يعني أبا جهل وأصحابه، نسختها آية السَّيْفِ، وقيل: إذا تسفه عليك الجاهل، فلا تقابله بالسَّفهِ كقوله: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] . قال جعفرُ الصَّادق: ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاقِ من هذه الآية. فصل اعلم أنَّ تَخْصِيصَهُمْ قوله: «خُذِ العَفْوَ» بما ذكروه من أخذ الفضل تقييد للمطلق من غير دليل، وأيضاً إذا حملناه على أداء الزَّكَاةِ كالمقادير المخصوصة مُنافياً لذلك؛ لأنَّ أخذ الزكاة مأمور بأن لا يأخذ كرائم الأموال ولا يشدد الأمر على المزكي، فلم يك إيجاب الزَّكاةِ ناسخاً لهذه الآية. وأمَّا قوله: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} فالمقصودُ منه أمر الرَّسُول بأن يصبر على سوء أخلاقهم، وأن لا يقابل أقوالهم الركيكة وأفعالهم الخسيسة بأمثالها وليس فيه دلالة على المنع من القتالِ؛ لأنَّهُ لا يمتنع أن يؤمؤ عليه الصَّلاة والسَّلام بالإعراض عن الجاهلين مع الأمر بقتال المشركين فإنَّهُ لا تناقض بأن يقول الشَّارعُ لا تُقابلْ سفاهتهم بمثلها ولكن قاتلهم، وإذا أمكن الجمع بين الأمرين؛ فلا حاجة إلى التزامِ النَّسْخٍ. قوله تعالى: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ} الآية. قال: عبدُ الرحم بن زيد: لما نزل قوله: «خُذِ العَفْوَ» الآية: قال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «كيف يا رب بالغضب؟» فنزل قوله: {وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ} الآية والنَّزْغُ: أدنى حركة تكونُ، قاله الزَّجَّاجُ، ومن الشَّيطان أدنى وسوسة وقال عبد الرحمن بن زيد لما نزلت: قوله وأكثر ما يُسْند للشيطان؛ لأنه أسرعُ في ذلك وقيل النَّزْغُ الدخول في أمر لإفساده. وقال الزمخشري: والنَّزغُ والنِّسْغُ: الغَرْزُ والنَّخْسُ، وجعل النزغ نازغاً كما قيل «جَدَّ جَدُّه» يعني: قصد بذلك المبالغة. وقيل: النَّزغ: الإزعاج، وأكثرُ ما يكون عند الغضب وأصله الانزعاج بالحركة إلى الشَّرِّ، وتقريره: أنَّ الآمر بالمعروف إذا أمر بما يهيج السفيه ويظهر السَّفاهة فعند ذلك الجزء: 9 ¦ الصفحة: 432 أمره اللَّه بالسكوت عن مقابلته فقال: {وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} ثُمَّ أمره الله تعالى بما يجري مجرى العلاجِ بهذا المرض إن حدث فقال: فاستَعِذْ باللَّهِ «وهذا الخطابُ وإن كان للرَّسُول إلاَّ أنه عام لَجميع المكلفين. وقد تقدَّم الكلامُ في الاستعاذة؛ وقوله: {إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} يدلُّ على أنَّ الاستعاذة باللِّسانِ لا تفيدُ إلاَّ إذا حضر في القلب العلم بمعنى الاستعاذة، فكأنَّه تعالى يقول: اذكر لفظ الاستعاذة بلسانك، فإني سميع، واستحضر معنى الاستعاذة بقلبك، وعقلك فإني عليمٌ بما في ضميرك. قوله تعالى: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ} الآية. بيَّن تعالى في هذه الآية أنَّ حال المُتَّقينَ يزيدُعلى حال الرسُول في هذا الباب؛ لأنَّ الرسول لا يحصل له من الشَّيطان إلاَّ النزغ الذي هو كالابتداءِ في الوسوسةِ، وجوز على المتقين ما يزيدُ عليه وهو أن يمسهم طائف من الشيطانِ. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، والكسائيُّ: طَيْفٌ، والباقون طائفٌ بزنة فاعل. فأما طَيْفٌ ففيه ثلاثةُ أوجه: أحدها: أنَّهُ مصدر من: طَافَ يَطِيفُ ك» بَاعَ يَبِيعُ وأنشد أبو عبيدة: [الكامل] 2660 - أنَّى ألمَّ بِكَ الخيالُ يَطِيفُ ... ومطَافُهُ لَكَ ذُكْرَةٌ وشُغُوفُ والثاني: أنَّهُ مُخففٌ من فَيْعِل والأصل: طَيِّف بتشديد الياءِ فحذف عين الكلمة، كقولهم في: مَيِّت مَيْت، وفي: لَيِّن لَيْن، وفي: هَيِّن هَيْن. ثم «طَيِّف» الذي هو الأصل يَحْتَمِل أن يكون من: طافَ يطيف، أو من: طَافَ يَطُوفُ والأصل: طَيْوِف فقلب وأدغم. وهذا قول ابن الأنباري ويشهد لقول ابن الأنباري قراءةُ سعيد بن جبير طيف بتشديد الياء. والثالث: أنَّ أصله طَوْف من طاف يَطُوفُ، فقلبت الواو ياءً. قال أبُو البقاءِ قلبت الواو ياءً وإن كانت ساكنة كما قلبت في أيْد وهو بعيدٌ. قال شهابُ الدينِ: وقد قالُوا أيضاً في: حَوْل حَيْل، ولكن هذا من الشُّذُوذِ بحيث لا يقاس عليه. وقوله: وإن كانت ساكنة ليس هذا مقتضياً لمنع قلبها ياء، بل كان ينبغي أن يقال: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 433 وإن كان ما قبلها غير مكسورٍ. وأمَّا طائفٌ فاسمُ فاعل يحتمل أن يكون من: طاف يطُوف، فيكون ك: قائم وقائلٍ. وأن يكون من: طاف يطيفُ، فيكون ك: بَائعٍ ومائل وزعم بعضهم أنَّ: طَيْفاً وطَائِفاً بمعنى واحد ويُعْزَى للفرَّاءِ، فيحتمل أن يَرُدَّ طائفاً ل: طَيْف فيجعلهما مصدرين، وقد جاء فاعل مصدراً، كقولهم: أقائماً وقد قعد النَّاسُ، وأن يَرُدَّ طَيْفاً ل: طائف أي: فيجعله وصْفاً على فَعْل. وقال الفارسي: الطَّيْف كالخَطْرة، والطَّائف كالخَاطر ففرَّق بينهما، وقال الكسائيُّ الطَّيف: اللَّمَم، والطَّائف: ما طاف حول الإنسان. قال ابنُ عطيَّة: وكيف هذا؛ وقد قال الأعشى: [الطويل] 2661 - وتُصْبِحُ مِنْ غِبِّ السُّرَى وكأنَّهَا ... ألمَّ بهَا من طائِفِ الجِنِّ أوْلَقُ ولا أدري ما تَعَجُّبُه؟ وكأنه أخذ قوله ما طاف حول الإنسان مقيَّداً بالإنسان وهذا قد جعله طائفاً بالنَّاقة، وهي سَقْطة؛ لأنَّ الكسائيَّ إنَّما قاله اتفاقاً لا تقييداً. وقال أبُو زيدٍ النصاريُّ: طَافَ: أقبل وأدبر، يَطُوف طَوْفاً، وطَوَافاً، وأطاف يُطِيفُ إطَافةً: استدار القومُ من نواحيهم، وطافَ الخيالُ: أمَّ يطيف طَيْفاً. فقد فرَّق بين ذي الواو، وذي الياء، فخصَّص كلَّ مادة بمعنى، وفرَّق أيضاً بين فَعَل وأفْعَل كما رأيت. وزعم السُّهَيْليُّ: أنه لا يُسْتَعمل من طاف الخيالُ اسم فاعل، قال: «لأنَّهُ تَخَيُّلٌ لا حقيقة له» قال: فأما قوله تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ} [القلم: 19] فلا يقالُ فيه «طَيف» ؛ لأنه اسم فاعل حقيقة؛ وقال حسان: [السريع] 2662 - جنَّيَّةٌ أرَّقَنِي طَيْفُهَا ... يَذهَبُ صُبْحاً ويُرى في المنَامْ وقال السدُّ: الطَّيْفُ الجنون، والطائِفُ: الغضب، وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْما - هو بمعنى واحد، وهو النَّزغُ. فصل قال المفسرون: الطَّيفُ اللمة والوسوسة. وقيل: الطَّائِفُ ما طافَ به من سوسة الشيطان، والطيف اللم والمسُّ وقال الجزء: 9 ¦ الصفحة: 434 سعيدُ بن جبير: هو الرَّجلُ يغضب الغضبة فيذكر الله تعالى، فيكظم الغيظ. وقال مجاهدٌ: هو الرَّجلُ يهم بالذنبِ، فيذكر اللَّهَ تعالى فيدعه. {فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} هذه «إذَا» الفُجائيَّة كقولك: خرجتُ فإذا زيد، والمعنى: يبصرون مواقع خطاياهم بالتذكر والتَّفكر، وقال السديُّ: إذا زلوا تابُوا وقال مقاتلٌ: إنَّ المتقي إذا مسه نزع من الشيطان تذكر وعرف أنه معصية فأبصر فنزع عن مخالفة الله. واعلم أنَّ إذَا في قوله: {إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ} تستدعي جزاءً. قوله: {وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي} . في هذه الآيةِ أوجهٌ: أحدها: أنَّ الضمير في: «إخوانهم» يعودُ على الشَّياطين لدلالةِ لفظ الشيطانِ عليهم، أو على الشَّيطان نفسه؛ لأنَّهُ لا يُراد به الواحدُ، بل الجِنْسُ. والضميرُ المنصوبُ في يَمُدُّونهُم يعودُ على الكُفَّارِ، والمرفوعُ يعود على الشياطين أو الشيطان كما تقدَّم، والتقديرُ: وإخوان الشياطين يمدُّهم الشيطان، وعلى هذا الوجه فالخبرُ جارٍ على غير من هو له في المعنى، ألا ترى أنَّ الإمداد مسند إلى الشياطين في المعنى وهو في اللفظ خبر عن إخوانهم ومثله: [البسيط] 2663 - قَوْمً إذا الخَيْلأُ جَالُوا في كَواثبِهَا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... وقد تقدم البحث في هذا مع مكي وغيره من حيث جريانُ الفعل على غير من هو له، ولم يَبْرُزْ ضمير. وهذا التأويلُ الذي ذكرناهُ: هو قول الجمهور وعليه عامة المفسِّرين. قال الزمخشريُّ: هو أوجهُ؛ لأنَّ إخوانهم في مقابلة: «الَّذينَ اتَّقَوا» . الثاني: أنَّ المراد بالإخوان الشياطين، وبالضَّمير المضاف إليه: الجاهلُون، أو غير المتَّقين لأن الشيء يدلُّ على مقابله، والواو تعودُ على الإخوان، والضميرُ المنصوبُ يعود على الجاهلين، أو غير المتَّقين؛ والمعنى: والشياطين الذين هم إخوانُ الجاهلين أو غير المتقين يَمُدُّون الجاهلين أو غير المُتَّقين في الغيِّ، والخبر في هذا الوجه جارٍ على من هو لهُ لفظاً ومعنى، وهذا تفسير قتادة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 435 الثالث: أن يعود الضميرُ المجرور والمنصوب على الشياطين، والمرفوع على الإخوان وهم الكُفَّارث. قال ابنُ عطيَّة: ويكون المعنى: وإخوان الشَّياطين في الغيِّ بخلاف الإخوة في اللَّهِ يَمُدُّون الشَّياطين أي: بطاعتهم لهم وقبولهم منهم، ولا يترتَّب هذا التَّأويل على أن يتعلَّق في الغيِّ بالإمدادِ؛ لأنَّ الإنسَ لا يغوون الشياطين، يعني يكون في الغيِّ حالاً من المبتدأ، أي: وإخوانهم حال كونهم مستقرِّين في الغيّ، وفي مجيء الحال من المبتدأ خلاف، والأحسنُ أن يتعلَّق بم تضمنه أخوانُهُمْ من معنى المؤاخاة والأخوة، وسيأتي فيه بحث لأبي حيان. قال أبُو حيَّان: ويمكن أن يتعلَّق في الغيِّ على هذا التَّأويل ب: يمدُّونهم على جهة السببية، أي: يمدُّونهم بسبب غوايتهم، نحو: دَخلَتِ امْرأةٌ النَّارَ في هرَّةٍ، أي: بسبب هرَّةٍ، ويُحتملُ أن يكون في الغيِّ حالاً، فيتعلَّق بمحذوفٍ أي: كائنين في الغيّ، فيكون في الغيِّ في موضعه، ولا يتعلَّق ب: إخوانهم وقد جوَّز ذلك ابن عطية. وعندي في ذلك نظرٌ. فلو قلت: مُطْعِمُكَ زيدٌ لَحْماً، مُطْعِمُكَ لحماً زيدٌ، فتفصل بين المبتدأ ومعموله بالخبر، لكان في جوازه نظر، لأنَّكَ فصلتَ بين العامل والمعمول بأجنبي لهما معاص، وإن كان ليس أجنبياً لأحدهما وهو المبتدأ. قال شهاب الدين: ولا يظهر منعُ هذا ألبتة لعدم أجنبيته وقرأ نافع يُمِدُّونهُمْ بضم الياء وكسر الميم من أمدَّ والباقون: بفتح الياء وضم الميم، وقد تقدم الكلام على هذه المادة هل هما بمعنى واحد أم بينهما فرق في أوائل الكتاب [البقرة: 155] . فقيل: أمَدَّ ومَدَّ لغتان. وقيل: مَدَّ معناه: جذب، وأمَدَّ معناه من: الإمداد. قال الواحدي عامة ما جاء في التنزيل ممَّا يحمد ويتسحب أمددتُ على أفعلتُ، كقوله {أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ} [المؤمنون: 55] وقوله {وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ} [الطور: 22] {أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ} [النمل: 36] وما كان بخلافه فإنَّه يجيء على: مددت؛ قال تعالى: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] فالوجه ههنا قراءة العامة، ومن ذمَّ الياء استعمل ما هو الخير لضده كقوله {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وقرأ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 436 الجحدريُّ: يُمَادُّونهُم من: مادَّهُ بزنة: فاعله، وقرأ العامَّةُ يُقْصِرُون من: أقْصَرَ، قال الشاعر: [الطويل] 2664 - لَعَمْرُكَ ما قَلْبِي إلى أهْلِه بِحُرْ ... ولا مُقْصِرٍ يَوْماً فَيَأتِينِي بِقُرْ وقال امرؤُ القيس: [الطويل] 2665 - سَمَا لَكَ شَوْقٌ بعدَ ما كانَ أقْصَرَا ... وحلَّتْ سُلَيْمَى بَطْنَ قَوٍّ فَعَرْعَرَا أي: ولا نازع ممَّا هو فيه، وارتفع شوقك بعد ما كان قد نزع وأقلع، وقرأ عيسى ابن عمر، وابن أبي عبلة «ثُمَّ لا يَقصُرون» بفتح الياء مِن: قَصرَ، أي: لا يَنْقُصُونَ من قوله {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً} [الأعراف: 192] وهو تكلف بعيد. وقوله «فِي الغيِّ» قد تقدَّم أنه يجوزُ أن يكون متعلقاً بالفعل، أو ب «إخوانهم» أو بمحذوف على أنه حال إمَّا من «إخوانهم» وإمَّا من واو «يَمُدُّونهُم» وإمَّا من مفعوله. فصل قال اللَّيث: الإقصارُ: الكَفُّ عن الشَّيء، وأقْصَرَ فلانٌ عن الشَّيءِ يُقْصِرُ إقصاراً إذا كفَّ عنه وانتهى. قال ابنُ عبَّاسٍ: ثُم لا يُقْصِرُون عن الضَّلالِ والإضلال، أمَّا الغاوي ففي الضَّلال، وأمَّا المغوي ففي الإضلال. قال الكلبيُّ لكل كافر أخٌ من الشياطين يَمُدُّونهُمْ أي: يُطيلُون لهم في الإغواء حتَّى يستمرُّوا عليه. وقيل: يزيدونهم في الضَّلالة. قوله {وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ} يعني إذا لم تأتِ المشركين بآيةٍ {قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها} أي: هلاَّ افتعلْتَهَا، وأنشأتها من قبل نفسك، والاجتباء: افتعال من: جباهُ يَجْبيه، أي: يجمعه مختاراً له، ولهذا يقال: أجْتَبَيْتُ الشيء، أي: اخترته. وقال الزمخشريُّ: اجْتَبَى الشيء، بمعنى جباهُ لنفسه، أي جمعه، كقولك: اجتمعه أو جُبِيَ إليه، فاجتباه: أي أخذهُ، كقولك: جليْتُ له العروس فاجتلاها، والمعنى هلاَّ اجتمعتها افتعالاً من عند نفسك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 437 قال الفراء: تقول العرب: اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك؛ لأنهم كانوا يقولون: {إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ افتراه} [الفرقان: 4] أو يقال: هلاَّ اقترحتها على إلهك إن كنت صادقاً، وأنَّ الله تعالى يَقْبَلُ دعاءك ويجيبُ التمسك وذلك أنَّهم كانوا يطلبون منه آيات معينة على سبيل التعنت كقوله: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] . وعند هذا أمر رسوله أن يجيبهم بالجواب الشافي، فقال: {قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} أي ليس عليّ أن أقترح على ربي وإنما أنا أنتظر الوحي. ثُمَّ بيَّن أنَّ عدم الإتيان بتلك المعجزات التي اقترحها لا يقدُ في الغرض؛ لأنَّ ظهور القرآن على وفق دعواه معجزة قاهرة، فهي كافية في تصحيح النبوة، فطلب الزيادة تعنت؛ فلا جرم قال: قل هذا يعني: القرآن بَصائرُ حجج، وبيان، وبرهان لذوي العقول في دلائل التَّوحيد، والنبوة، والمعاد، والبصائرُ: جمع بصيرة، أوصلها ظهور الشَّيء واستحكامه حتى يبصر الإنسان فيهتدي به، أي: هذه دلائلُ تقودكم إلى الحقِّ؛ فأطلق على القرآن لفظ البصيرةِ تسمية للسبب باسم المسبب. قال بُو حيَّان: وأطلق على القرآن بصائر إمَّا مبالغةً؛ وإمَّا لأنَّهُ سبب البصائر، وإمَّا على حذف مضاف أي: ذو بصائر ثم قال: وهُدىً والفرقُ بين هذه المرتبة وما قبلها إنَّ النَّاس في معارف التوحيد، والنبوة والمعاد ثلاثة أقسام: إحدها: الذين بلغوا في هذه المعارف بحيث صاروا كالمشاهدين لها، وهم أصحاب عين اليقين. والثاني: الذين بلغُوا إلى ذلك الحد إلاَّ أنهم وصلوا إلى درجات المستدلِّين، وهم أصحاب علم اليقين فالقرآنُ في حقِّ الأولين وهم السَّابقُون بصائر، وفي حق القسم الثاني هُدىً، وفي حق عامَّة المؤمنين رحمة، ولمَّا كانت الرفق الثلاث من المؤمنين قال: «قَوْمٍ يُؤمنُونَ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 438 قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ} الآية. لمَّا عظَّم شأن القرآن بقوله: «هَذَا بصائرُ» أردفهُ بقوله: {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن} . قوله له متعلقٌ ب: استَمِعُوا على معنى لأجله، والضمير للقرآن، وقال أبو البقاءِ: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 438 يجوزُ أن يكون بمعنى للَّه، أي لأجله فأعاد الضمير على الله وفيه بعدٌ، وجوَّز أيضاً أن تكون اللام زائدةً: أي فاستمعُوهُ، وقد تقدَّم أنَّ هذا لا يجوزُ عند الجمهور إلا في موضعين إمَّا تقديم المعمولِ، أو كون العامل فرعاً، وجوَّز أيضاً أن تكون بمعنى إلى، ولا حاجة إليه. قوله «وأنصتُوا» الإنصاتُ: السُّكوت للاستماعِ. قال الكميتُ: [الطويل] 2666 - أبُوكَ الذي أجْدَى عَلَيَّ بِنصْرِهِ ... فأنْصَتَ عَنِّي بعده كُلَّ قَائِلِ قال الفراء: ويقال: نصت ونصت بمعنى واحدٍ، وقد جاء أنْصَت متعديّاً. فصل فقوله: {فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} أمرٌ، وظاهر الأمر للوجوب، فيقتضي أن يكون الاستماعُ والسكوتُ واجباً ولعله يجوز أن تكون بحسب المخاطبين، وأن تكون للتعليل وفيه أقوال. أحدها: قال الحسنُ وأهلُ الظاهر: يجب الاستماعُ والإنصات لكل قارئ، سواء كان معلم صبيان أو قارئ طريق. الثاني: تحريم الكلام في الصَّلاة. قال أبو هريرة: كانوا يتكلَّمون في الصَّلاة فنزلت هذه الآية، فأمروا بالإنصات. وقال قتادةُ: كان الرَّجُلُ يأتي وهُم في الصَّلاةِ، فيسألهم: كم صلَّيتم وكم بقي؟ وكانُوا يتكلَّمون في الصَّلاةِ بحوائجهم فأنزل اللَّهُ هذه الآية. الثالث: نزلت في ترك الجَهْر بالقراءة وراء الإمام. قال ابنُ عبَّاسٍ: قرأ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الصَّلاة المكتوبةِ، وقرأ أصحابه وراءهُ رافعينَ أصواتهم؛ فخلطوا عليهم فنزلت هذه الآية، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه. وقال الكلبيُّ: كانوا يرفعون أصواتهم في الصلاة حين يسمعون ذكر الجنة والنار، وعن ابن مسعود أنَّهُ سمع ناساً يقرءون مع الإمام فلمَّا انصرف، قال: أما آن لكم أن تفقهوا {وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ} وهو قول الحسن والزهري والنخعي وقال سعيد بن جبير، وعطاء، ومجاهد: إنَّ الآية في الخطبة، أمروا بالإنصات لخطبة الإمام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 439 يوم الجمعة، وهذا بعيدٌ لأنَّ الآية مكَّية والجمعة وجبت بالمدينة. فصل اختلفوا في القراءة خلف الإمام في الصَّلاةن فروي عن عمر، وعثمان، وعليِّ، وابن عباسٍ ومعاذ، وجوب القراءة سواء جهر الإمامُ بالقراءة أو أسرَّ، وهو قول الأوزاعي، والشافعي؛ وروي عن ابن عمر، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد: أنَّ المأموم يقرأ فيما أسر الإمام فيه، ولا يقرأ إذا جهر، وبه قال الزهري «: ومالك، وابن المبارك، وأحمد وإسحاق، وروي عن جابر أنَّ المأموم لا يقرأ سواء أسر الإمام أم جهر، وبه قال الثَّوري، وأصحابُ الرأي، وتمسك من لا يرى القراءة خلف الإمام بظاهر هذه الآية، ومن أوجبها قال: الآية في غير الفاتحةِ، ويقرأ الفاتحة في سكتاتِ الإمام ولا ينازعُ الإمام في القراءة. قوله تعالى: {واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ} الآية. قال ابن عباس: يعني بالذِّكر: القراءة في الصلاة، يريد يقرأ سراً في نفسه. قوله «تَضَرُّعاً وخيفَةً» في نصبهما وجهان: أظهرهما: أنَّهُمَا مفعولان من أجلهما، لأنَّهُ يتسببُ عنهما الذِّكر. والثاني: أن ينتصبا على المصدر الواقع موقع الحال، أي: مُتضرعين خائفين، أو ذوي تضرع وخيفة. وقرئ «وخفيَةً» بتقديم الفاءِ، وقيل: هما مصدران للفعل من معناه لا من لفظه ذكره أبو البقاءِ. وهو بعيدٌ. قوله: «ودُونَ الجَهْرِ» قال أبُو البقاءِ: معطوف على تَضَرُّع، والتقديرُ، ومقتصدين. وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ دُوَ ظرفٌ لا يتصرَّف علىلمشهور، قال فالذي ينبغي أن يجعل صفة لشيء محذوف ذلك المحذوف هو الحال، كما قدَّرهُ الزمخشري فقال: ودُونَ الجهْرِ ومتكلماً كلاماً دُونَ الجهْرِ، لأنَّ الغخفاء أدخلُ في الإخلاص، وأٌربُ إلى حسن التفكر. فصل معنى تضرُّعاً وخيفَةً أي: تتضرَّعُ إليَّ وتخافُ منِّي، هذا في صلاة السِّر وقوله ودُونَ الجهْرِ أرادَ في صلاة الجهرِ لا تَجْهَر جَهْراً شديداً، بل في خفضٍ وسُكونٍ تُسمعُ من الجزء: 9 ¦ الصفحة: 440 وقال مجاهدٌ وابن جريجٍ: أمروا أن يذكروه في الصدورِ بالتضرع في الدُّعاء والاستكانة دون رعف الصوت والصياح في الدعاء. قوله بالغُدُوِّ والآصالِ متعلق ب: اذْكُر أي: اذكُرْهُ في هذين الوقتين وهما عبارةٌ عن اللَّيل والنَّهارِ. ومعناهما: البكرات والعشيَّات. وقال أبُو البقاءِ: بالغُدُوِّ متعلق ب: ادعُو وهو سبقُ لسانٍ، أو قلم، إذ ليس نظمُ القرآن كذا، والغُدُوُّ: إما جمع غدوة، ك: قمح وقمحة، وعلى هذا فيكون قد قابل الجمع بالجمع والمعنوي. وقيل هو مصدرٌ، قال تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] فيقدَّرُ زمانٌ مضاف إليه حتَّى يتقابل زمان مجموع بمثله تقديره: بأوقات الغدو، والآصال جمع: أصُل، وأصُل جمع: أصيل، فهو جمع الجمع ولا جائزٌ أن يكون جمعاً ل: أصِيل، لأنَّ فعيلاً، لا يجمع على أفعال وقيل: هو جمعٌ ل: أصِيل، وفَعِيلٌ يجمع على أفْعَال نحو: يَمِينٌ وأيمانٌ، وقيل: آصال جمع ل: أصُل، وأصُل مفرد، ثبت ذلك من لغتهم، وهو العَشِيُّ وفُعُل يجمع على «أفْعَال» قالوا: عُنُق وأعْنَاق، وعلى هذا فلا حاجة إلى دَعْوَى أنَّه جمعُ الجمع، ويجمعُ على «أصْلأان» ك: رغيفٍ ورُغْفَان، ويُصَغَّر على لفظه؛ كقوله: [البسيط] 2667 - وقَفْتُ فيهَا أصَيْلاناً أسَئِلُهَا ... عَيَّتْ جواباً وما بالرَّبْعِ مِنْ أحَدِ واستدلَّ الكوفيُّون بقولهم: أصيلان على جواز تصغير جمع الكثرةِ بهذا البيت، وتأوَّلَهُ البصريُّون على أنَّه مفرد، وتُبْدَل نونه لاماً. ويروى أصيلاً كَيْ. وقرأ أبو مجلز واسمه: لاحقُ بنُ حُميدٍ السدوسيُّ البصري: والإيصَال مصدرُ: أصَلَ أي: دَخَلَ في الأصيلِ، والأصيلُ: ما بين العصر والمغرب. ثمَّ قال تعالى {وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين} والمرادُ منه أنَّ العبد يجبُ أن يكون ذاكراً لِلَّهِ تعالى في كلِّ الأوقات لأنه حثّه على الذكرِ الغدوات وبالعشيات ثم عمَّمَ بقوله: {وَلاَ تَكُنْ مِّنَ الغافلين} يعني أنَّ الذكر القلبي يجب أن يكون دائماص، وأن لا يغفل الإنسانُ عنه لحظةً واحدةً بحسب الإمكان. قوله: {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ} يعني الملائكة المُقرَّبين: «لا يسْتكبرُونَ» لا يتكبَّرُون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 441 عن عبادته. لمّا رغَّب رسولهُ في الذِّكر ذكر عُقيبه ما يُقوِّي دواعيه فقال: {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ} أي أنَّ الملائكة مع نهاية شرفهم وغاية طهارتهم وبراءتهم من بواعثِ الشَّهوَةِ والغضب، والحقدِ، والحسدِ، مُواظبُونَ على العبوديَّة والسُّجودِ، والخُضُوعِ، فالإنسانُ المُبتَلَى بظلمات عالم الجسمانيات ومستعداً للذات البشرية أوْلَى بالمُواظبةِ على الطَّاعةِ، والمرادُ بالعندية القرب الشَّرف واستدلُّوا بهذه الية على أنَّ الملائكة أفضلُ من البشرِ، لأنَّهُ تعالى لمَّا أمر رسولهُ بالعبادة والذكر قال: {إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} أي: فأنت أحقّ وأولَى بالعبادِة، وهذا إنَّما يصحُّ إذا كانت الملائكةُ أفضل منه. قوله: «ويُسَبِّحُونهُ» أي: يُنزِّهُونه ويقولون سبحان الله: «ولهُ يَسجُدُون» . فإن قيل كيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله: {فَسَجَدَ الملاائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} [الحجر: 30، 31] والمراد أنهم سجدوا لآدم؟ فالجوابُ: قال بعضُ العلماءِ: الذين سجدُوا لآدم - عليه السلامُ - ملائكة الأرض، وأمَّا ملائكة السَّموات فلا، وقيل: إنَّ قوله «ولهُ يسجُدُون» يفيدُ أنَّهم ما سجدُوا لغيرِ اللَّهِ بهذا العمومِ، وقوله: فسجدُوا لآدم خاص والخاصُّ مقدمٌ على العام. فصل روى أبُو صالح عن أبي هريرة قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إذا قَرَأ ابنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فسجد اعتزلَ الشيطان يبكي يقول يا ويلهُ! أمر ابنُ آدمَ بالسجُودِ فسجد فلهُ الجنَّةُ وأمِرْتُ بالسُّجثود فعصيْت فلِيَ النَّارُ» وعن معدان قال: «سألتُ ثوبان مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قلت: حَدِّثني حديثاً ينفعني اللَّهُ به. قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْجُدُ لِلَّهِ سجدةً إلاَّ رفعهُ اللَّهُ بها درجةً وحطَّ عنهُ بها خطيئةً» وروي عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ قَرَأ سُورة الأعرافِ جعل الله بينهُ وبين إبليسَ سِتْراً وكانَ آدمُ شَفِيعاً لهُ يَوْمَ القيامةِ قَرِيباً منهُ» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 442 سورة الأنفال مدنية. قيل: إلا سبع آيات من قوله: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} [الآية: 30] إلى آخر سبع آيات، فإنها نزلت بمكة، والأصح أنها نزلت بالمدينة، وإن كانت الواقعة بمكة، وهي خمس وسبعون آية، وألف وخمس وتسعون كلمة وخمسة آلاف وثمانون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 443 قوله تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } الآية. فاعل: يَسْأل يعوُد على معلومٍ، وهم من حَضَرَ بَدْراً، وسَألَ تارةٌ تكون لاقتضاءِ معنى في نفسِ المسئول فتتعدَّى ب «عَنْ» كهذه الآية؛ وكقول الشاعر: [الطويل] 2668 - سَلِي - إنْ جَهلْتِ - النَّاسَ عنَّا وعنْهُم ... فَليْسَ سواءً عالمٌ وجَهُولُ وقد تكُون لاقتضاءِ مالٍ ونحوه؛ فتتعدَّى لاثنين، نحو: سألتُ زيداً مالاً، وقد ادَّعَى بعضهم: أنَّ السُّال هنابهذا المعنى. وزعم أنَّ «عَنْ» زائدةٌ، والتقدير: يَسْألونك الأنفالَ، وأيَّد قوله بقراءة سعد بن أبي وقاص، وابن مسعود، وعلي بن الحسين، وزيد ولده، ومحمد الباقر ولده أيضاً، وولده جعفر الصَّادق، وعكرمة وعطاء «يَسألونكَ الأنفالَ» دون «عَنْ» . والصحيح أنَّ هذه القراءة على إرادة حرف الجرِّ، وقال بعضهم: «عَنْ» بمعنى «مِنْ» . وهذا لا ضرورة تدعو إليه. وقرأ ابنُ محيصنِ «عَلَّنْفَالِ» والأصل، أنَّه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف، ثم اعتدَّ بالحركةِ العارضة، فأدغمَ النُّونَ في اللاَّم كقوله: {وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم} [العنكبوت: 28] وقد تقدم ذلك في قوله {عَنِ الأهلة} [البقرة: 189] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 443 والأنفالُ: جمع: نَفَل، وهي الزِّيادةُ على الشيءِ الواجب، وسُمِّيت الغنيمة نفلاً، لزيادتها على الحوزة. قال لبيدٌ: [الرمل] 2669 - إنَّ تَقْوَى ربَّنَا خَيْرُ نَفَلْ ... وبإذْنِ اللَّهِ ريثي وعَجَلْ وقال آخر: [الكامل] 2670 - إنَّا إذا أحْمَرَّ الوغَى نروي القَنَا ... ونَعِفُّ عند تقاسُم الأنفالِ وقيل: سُمِّيت الأنفال؛ لأنَّ المسلمين فُضِّلُوا بها على سائر الأمم. وقال الزمخشريُّ: والنَّفَل ما ينفلُهُ الغازي، أي: يعطاه، زيادةً على سهمه من المغنم، وقال الأزهريُّ «النَّفَل، والنَّافلة ما كان زيادةً على الأصلِ، وسُمِّيت الغنائمُ أنفالاً؛ لأنَّ المسلمين فُضِّلُوا بها على سائر الأمم، وصلاةُ التطوع نافلةٌ؛ لأنَّها زيادةٌ على الفرض» وقال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} [الأنبياء: 72] أي: زيادة على ما سأل. قال القرطبي: النَّفَلُ - بتحريك الفاءِ - والنَّفْل: اليمينُ، ومنه النَّفَل في الحديث «فتبرئكم يهود بنفل خمسين منهم» والنَّفل: الانتفاءُ، ومنه الحديث فانتفلَ من ولده. والنَّفلُ: نبت معروف. فصل في هذا السؤال قولان: أحدهما: أنَّهم سألوا عن حكم النفال، كيف تُصرفُ؟ ومن المستحقُّ لها؟ نظيره قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض} [البقرة: 222] و {عَنِ اليتامى} [البقرة: 220] فقال في المحيض: {قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} [البقرة: 222] وقال في التيامى {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ} [البقرة: 220] . فأجابهم بالحكم المعيَّن في كل واقعةٍ فدلَّ الجواب المعيَّن على أنَّ السؤال كان عن مخالطة النساء في المحيض، وعن التصرُّفِ في مال اليتامى ومخالطتهم في المؤاكلة. الثاني: هذا سؤال استعطاء، و «عَنْ» بمعنى «مِنْ» ، وهذا قول عكرمة كما تقدم في قراءته. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 444 فأمَّا القولُ الأولُ: وهو أنَّ السؤال كان عن حكم الأنفال ومصرفها، فهو قول أكثر المفسرين لأنَّ قوله {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} [الأنفال: 1] يدُلُّ على أنَّ المقصود منه منع القومِ عن المخاصمة والمنازعة. وقوله: {فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} يدلُّ على أنَّ السُّؤال كان بعد وقوع الخصومة بينهم، وقوله: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} يدلُّ على ذلك أيضاً. وإذا عرف ذلك فيحتمل أن يكون المراد بهذه الأنفال قسمة الغنائم، وهي الأموال المأخوذة من الكفار قهراً، ويحتمل أن يكون المراد غيرها. أما الأوَّلُ ففيه وجوه: أحدها: أنَّه عليه الصَّلاةُ والسَّلام قسم ما غنموه يوم بدر على من حضر وعلى أقوامٍ لم يحضرُوا أيضاً، وهم ثمانيةُ أنفسٍ: ثلاثةُ من المهاجرين، وخمسة من الأنصار، فالمهاجرون: عثمانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - تركه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على ابنته وكانت مريضةً، وطلحةُ وسعيدُ بن زيد فإنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بعثهما للتَّجسس عن خبرِ العدوّ وخرجا في طريق الشَّام. وأما الأنصارُ: فأبو كنانة بن عبد المنذر، وخلفه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على المدينة، وعاصم خلفه على العالية، والحارث بن حاطب: ردَّهُ من الرَّوحاء إلى عمر بن عوفٍ لشيء بلغه عنه والحارث بن الصمة أصابته علةٌ بالروحاء، وخوات بن جبير، فهؤلاء لم يحضروا، وضرب لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في تلك الغنائم بسهم، فوقع من غيرهم فيه منازعة، فنزلت هذه الآية. ثانيها: روي أنَّ الشَّبابَ يوم بدر قتلُوا وأسرُوا، والأشياخ وقفُوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المصاف فقال الشبانُ: الغنائمُ لنا لأنَّ قتلنا وأسرنا وهزمنا. فقال سعد بن معاذ: والله ما منعنا أن نطلب ما طلب هؤلاء زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو، ولكن كرهنا أن تعرى مصافك، فتعطف عليك خيلٌ من المشركين فيصيبوك. وروي أنَّ الأشياخ قالوا: كُنَّا رِدْءاً لكم ولو انهزمتم لانحزتم إلينا، فلا تذهبُوا بالغنائم، فوقعت المخاصمة بهذا السَّبب فنزلت هذه الآية. وثالثها: قال الزجاج: «الأنفالُ الغنائمُ، وإنَّما سألُوا عنها؛ لأنها كانت حراماً على من كان قبلهم» . وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ بيَّنَّا في هذا السؤال أنه كان مسبوقاً بمنازعة ومخاصمة، وعلى قول الزجاج يكونُ السُّؤال عن طلب حكم فقط وأما الاحتمالُ الثاني: وهو أن يكون المرادُ بالأنفالِ شيئاً سوى الغنائمِ، وعلى هذا أيضاً فيه وجوه: أحدها: قال ابنُ عباس في بعض الروايات: «المرادُ بالأنفال ما شذَّ عن المشركين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 445 إلى المسلمين من غير قتال من أموالهم، فهو إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يضعهُ حيثُ يشاءُ» . وثانيها: الأنفالُ: الخُمس، وهو قول مجاهد. قال القومُ إنما سألوهُ عن الخمس فنزلت الآية. وثالثها: أنَّ الأنفال هي السَّلب الذي يأخذه الغازي زائداً على سهمه من المغنم ترغيباً لهُ في القتال كقول الإمام: مَنْ قتلَ قَتِيلاً فلهُ سلبُهُ وقوله للسرية «ما أصبتُمْ فهُو لكُمْ، أو فلكم نصفه أو ربعه» ولا يخمس النفل. وعن سعد بن أبي وقَّاصِ قال: «قتل أخي عمير يوم بدر فقتلتُ به سعد بن العاص بن أمية وأخذت سيفه، وكان يسمَّى ذا الكتيفةِ فأعجبني فجئت به إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقلت له: إنَّ الله شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف، فقال:» ليس هُو لِي، ولا لك اطراحهُ في القبض «فطرحته ورجعت، وبي ما لا يعلمه إلا اللَّه من قتل أخي، وأخذ سلبي، وقلتُ وعسى أن يعطي هذا من لم يبل بلائي، فما جاوزت إلاَّ قليلاً حتى جاءنِي رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد أنزل اللَّهُ {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} فقال: يا سعدُ إنَّك سألتني السيف، وليس لي، وإنه قد صار لي فخذه» قال القاضي: «وكلُّ هذه الوجوه تحتمله الآية، وليس فيها دلالةٌ على ترجيح بعضها على البعض. فإن صحَّ دليلٌ على اليقين قضي به، وإلاَّ فالكلُّ محتملٌ، وإرادة الجميع جائزة فلا تناقض فيها» . قوله: {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} أي: حكمها للَّهِ ورسوله يقسمانها كما شاءا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 446 قال مجاهد، وعكرمة، والسديُّ: إنها نسخت بقوله: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] . وهو قول ابن عباس في بعض الروايات. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: هي ثابتةٌ غير منسوخة، ومعنى الآية: قل الأنفال للَّه في الدنيا والآخرة، وللرسُول يضعها حيُ أمره اللَّهُ، أي: الحكمُ فيها لله ورسوله، وقد بيَّن الله مصارفها في قوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} [الأنفال: 41] الآية. قوله: {فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ} وتقدَّم الكلام على ذات في آل عمران، وهي هنا صفةٌ لمفعولٍ محذوف تقديره: وأصلِحُوا أحْوالاً ذات افتراقكم وذات وصلكم أو ذات المكان المتصل بكم، فإنَّ «بَيْن» قد قيل: إنه يراد به هنا: الفِراقُ أو الوصلُ، أو الظَّرف، وقال الزجاج وغيره: إنَّ ذات هنا بمنزلة حقيقة الشَّيء ونفسه، وقد أوضح ذلك ابنُ عطيَّة. وقال أبُو حيَّان: «والبينُ الفراقُ، وذات نعت لمفعولٍ محذوف، أي: وأصلحُوا أحوالاً ذات افتراقكم، لمَّا كانت الأحوالُ ملابسةً للبين أضيفت صفتها إليه، كما تقول: اسقني ذا إنائك، أي: ماءً صاحب إنائك، لمَّا لابس الماءُ الإناءَ وصف ب» ذَا «وأضيفَ إلى الإناءِ، والمعنى: اسْقِنِي ما في الإناءِ من الماء» . قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} . قال ابن عطيَّة: جواب الشرط المتقدم في قوله وأطيعُوا هذا مذهبُ سيبويه، ومذهب المبردك أنَّ الجواب محذوفٌ متأخر، ومذهبه في هذا ألاَّ يتقدَّم الجوابُ على الشرط وهذا الذي ذكرهُ نقل النَّاسُ خلافه، نقلوا جواز تقديم جواب الشرط عليه عن الكوفيين، وأبي زيد، وأبي العبَّاس، واللَّهُ أعلمُ. ويجوز أن يكون للمبرِّد قولان، وكذا لسيبويه؛ لأنَّ قوله: {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} يقتضي أن تكون الغنائم كلها للرسول. ومعنى الآية: اتَّقُوا اللَّه بطاعته وأصلحوا الحال بينكم بترك المنازعة، والمخالفة، وتسليم أمر القسمة إلى الله والرسول: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} أي: إنَّ الإيمان الذي دعاكم الرسول إليه لا يتم إلا بالتزام الطَّاعة، فاحذروا الخروج والمخالفة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 447 واحتجَّ من قال: ترك الطَّاعة يوجب زوال الإيمان بهذه الآية؛ لأنَّ المعلَّق بكلمة «إنْ» على الشَّيء عدم عند عدم الشَّيء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 448 قوله تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} الآية. لمَّا بيَّن أن الإيمان لا يحصل إلا بالطاعة قال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} يقال: «وَجِلَ» الماضي بالكسر «يَوْجَلُ» بالفتح، وفيه لغة أخرى، قُرىء بها في الشَّاذ وجَلَتء بفتح الجيم في الماضي وكسرها في المضارع، فتحذف الواو، ك: وعَدَ يَعِدُ، ويقال في المشهورة: وجِلَ يَوْجَل، ومنهم من يقول «يَاجَلُ» بقلب الواو ألفاً، وهو شاذٌّ؛ لأنَّه قلْبُ حرفِ العلّة بأحد السَّببينِ وهو انفتاحُ ما قبل حرفِ العلَّةِ دون تحركه وهو نظيرُ «طَائِيٍّ» في النَّسب إلى «طَيِّىء» . ومنهم من يقول: «يبجَلُ» بكسر حرف المضارعة، فتقلب الواوُ ياءً، لسكونها وانكسرا ما قبلها، وقد تقدَّم في أول الكتاب أنَّ من العرب من يكسرُ حرف المضارعةِ بشروطٍ منها: أن لا يكون حرفُ المضارعة ياءً إلاَّ في هذه اللَّفظةِ، فقال «يَيَجَلُ» فأخذ قلب الواو ممَّن كسر حرف المضارعة، وأخذ فتحَ الياءِ من لغة الجمهور. والوَجَلُ: الفزَعُ. وقيل: استشعارُ الخوف يقال منه: وجِلَ يُوْجَلُ، ويَاجَلُ، ويَيْجَلُ، ويِيجَلُ، وَجَلاً فهو وَجِلٌ. فصل معنى الآية: إنَّما المؤمنون الصَّادقون في إيمانهم: {إالذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} خافت وفرقت، وقيل: إذا خوفوا باللَّهِ انقادُوا خوفاً من عقابه. {وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً} وتصديقاً ويقيناً، قال عمر بن حبيب وكانت له صحبة: إن للإيمان زيادةً ونقصاصناً، قيل فما زيادته؟ قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه فذلك زيادته، وإذا سهونا وغفلنا فذلك نقصانه. وكتب عمرُ بن عبد العزيز إلى عدي بن عدي: «إنَّ للإيمان فرائضَ وشرائعَ وحدوداً وسنناً، فمن استكملها استكمل الإيمان، ومن لم يستكملها لم يستكمل الإيمان» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 448 ثم قال: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} يفوضون إليه أمورهم، ويثقون به، ولا يرجون غيره، فالتَّقديمُ يفيدُ الاختصاص، أي: عليه لا على غيره، وهذه الجملةُ يحتمل أن يكونَ لها محلٌّ من الإعراب، وهو النَّصْبُ على الحالِ من مفعول: زادَتْهُم، ويحتمل أن تكون مستأنفة، ويحتمل أن تكون معطوفة على الصِّلةِ قبلها، فتدخل في حيِّز الصلاتِ المتقدِّمةِ. وعلى الوجهين فلا محلَّ لها من الإعراب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 449 قوله: {الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ} ذكر الصَّلاة؛ لأنَّها رأسُ الطاعات الظاهرة ثم بذل المار في مرضاة اللَّهِ؛ فيدخل فيه الزكاة والصدقات، والنَّفقة في الجهادِ، وعلى المساجد والقناطر. قال المعتزلة: أجمعت الأمةُ على أنَّه لا يجوزُ الإنفاق من الحرامِ، فدلَّ على أنَّ الحرامَ لا يكن رزقاً وقد تقدم البحثُ فيه. وقوله: «الَّذين يُقيمُونَ» فيجوزُ في هذ الموصول أن يكون مرفوعاً على النَّعْتِ للموصول أو على البدلِ، أو على البيان له، وأن يكون منصوباً على القطع المُشعِر بالمدْح. قوله: {أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً} يجوز في حقّاً أن يكون صفة لمصدر محذوف، أي: هم المؤمنون إيماناً حقاً، ويجوز أن يكون مؤكداً لمضمون الجملة، كقولك: هو عبد الله حقاً، والعاملُ فيه على كلا القولين مُقدَّرٌ، أي: أحقُّه حقاً، ويجوز وهو ضعيفٌ جدّاً أن يكون مؤكِّداً لمضمون الجملة الواقعةِ بعده وهي: لَهُم درجاتٌ ويكون الكلامُ قد تمَّ عند قوله: هُمُ المُؤمِنُونَ ثم ابتدأ ب {حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ} وهذا إنَّما يجوزُ على رأي ضعيف، أعني تقديم المصدر المؤكِّد لمضمون جملة عليها. قوله: عِندَ ربِّهِمْ يجوزُ أن يكون متعلقاً ب «دَرَجَاتٌ» ، لأنَّها بمعنى أجُورٌ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّها صفةٌ ل «درجاتٌ» أي: اسْتقرَّت عند ربهم، وأن يتعلَّق بما تعلَّق به لَهُمْ من الاستقرار. فصل قوله: {أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً} أي: يقيناً، قال ابنُ عبَّاسٍ: برءوا من الكفر، قال مقاتل: حَقّاً لا شكَّ في إيمانهم، وفيه دليلٌ على أنَّه ليس لكل أحد أن يصف نفسه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 449 بكونه مؤمناً حقّاً؛ لأنَّ الله تعالى إنَّما وصف بذلك أقواماً مخصوصين على أوصاف مخصوصة، وكلُّ أحدٍ لا يتحقَّقُ وجود ذلك الأوصاف فيه وقال ابنُ أبي نجيح: سألَ رجلٌ الحسن فقال: أمؤمن أنت؟ فقال: إن كنت تسألني عن الإيمان باللَّه وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والجنَّة، والنَّار، والبعث، والحساب، فأنا بها مؤمن وإن كنت تسألني عن قوله: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] الآية، فلا أدري أمنهم أنا أم لا؟ . وقال علقمةُ: كنا في سفر فلقينا قوماً فقلنا: من القومُ؟ فقالوا: نحنُ المؤمنون حقاً، فلم ندر ما نجيبهم حتَّى لقينا عبد الله بن مسعود، فأخبرناه بما قالوا: قال: فما رَدَدْتُمْ عليهم؟ قلنا: لم نردّ عليهم شيئاً، قال: أفلا قلتم أمِنْ أهلِ الجنَّة أنتم؟ إنَّ المؤمنين أهلُ الجنَّةِ. وقال سفيانُ الثوريُّ: من زعم أنَّهُ مؤمن حقاً عند الله، ثم لم يشهدْ أنَّه في الجنَّة فقد آمن بنصف الآية دون النِّصف. ثم قال تعالى: {لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ} قال عطاءٌ: بمعنى: درجات الجنَّةِ ويرتقونها بأعمالهم، قال الربيعُ بنُ أنس: سبعون درجة بين كلِّ درجتين حر الفرس المضر سبعين سنة «ومَغْفرةٌ» لذنوبهم وَرِزقٌ كريمٌ حسن. قال الواحديُّ: قال أهل اللُّغةِ: الكريمُ: اسم جامع لكل ما يحمدُ ويستحسنُ، والكريم المحمود فيما يحتاج إليه فاللَّهُ تعالى موصوفٌ بأنه كريم، والقرآنُ موصوف بأنَّه كريم، قال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} [الواقعة: 77] وقال تعالى: {مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ} [الشعراء: 7] {وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً} [النساء: 31] وقال: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} [الإسراء: 23] فالرزق الكريم هو الشريفُ الفاضل الحسن. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 450 في قوله {كَمَآ أَخْرَجَكَ} عشرون وجهاً: أحدها: أنَّ الكاف نعتٌ لمصدر محذوف تقديرهُ: الأنفالُ ثابتةٌ للَّه ثبوتاً كما أخرجك، أي: ثبوتاً بالحقِّ كإخراجك من بيتك بالحقِّ، يعني لا مرية في ذلك، ووجه هذ التَّشبيه أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا رأى كثرة المشركين يوم بدرٍ، وقلَّة المؤمنين قال: مَنْ قتل قتيلاً فله كذا، ومَنْ أسر أسيراً فله كذا، لِيرغِّبَهُم في القتال، فلمَّا انهزم المشركون قال سعدٌ: يا رسول اللَّهِ إنَّ جماعة من أصحابك وقومك فدوك بأنفسهم، ولم يتأخَّرُوا عن القتال جُبْناً، ولا بُخْلاً ببذل مهجتهم، ولكنَّهم أشفقوا عليك من أن تُغتال، فمتى أعطيت هؤلاء ما سميته لهم؛ بَقِيَ خلقٌ من المسلمين بغير شيء؛ فأنزل اللَّهُ تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 450 الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} [الأنفال: 1] يصنعُ فيها ما يشاء، فأمسك المسلمون عن الطَّلبِ، وفي أنفس بعضهم شيء من الكراهة وحين خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى القتال يوم بدر كانوا كارهين لتلك المقالتة على ما سنشرحه، فلمَّا قال: {قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول} [الأنفال: 1] كان التقدير: أنَّهم رضوا بهذا الحكم في الأنفالِ وإن كانُوا كارهين له كما أخرجك ربك من بيتك بالحقِّ إلى القتال، وإن كانُوا كارهين. الثاني: قال عكرمةُ: تقديره: وأصلحوا ذات بينكم إصلاحاً كما أخرجك، وقد التفت من خطاب الجماعة إلى خطاب الواحد. والثالث: تقديرهُ: وأطيعوا اللَّهَ ورسولهُ طاعةً محققةً ثابتةً كما أخرجك، أي: كما أنَّ إخراج اللَّه إياك لا مرية فيه ولا شبهة. الرابع: تقديره: يتوكَّلون توكلاً حقيقياً كما أخرجك ربُّك. الخامس: تقديره: هم المؤمنون حقّاً كما أخرجك فهو صفةٌ ل «حقاً» . السادس: تقديره: استقرَّ لهم درجاتٌ وكذا استقراراً ثابتاً كاستقرار إخراجك. السابع: أنَّهُ متعلقٌ بما بعده تقديره: يجادلونك مجادلةً: كما أخرجك ربك، قال الكسائيُّ «الكاف» تتعلَّقُ بما بعده وهو قوله: {يُجَادِلُونَكَ فِي الحق} [الأنفال: 6] والتقدير: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} على كره فريق من المؤمنين كذلك هم يكرهون القتال ويجادلونك فيه. الثامن: تقديره: لكارهون كراهيةً ثابتةً: كما أخرجك ربُّك أي: إنَّ هذين الشيئين الجدال والكراهية ثابتان لا محالة كما أنَّ إخراجك ثابت لا محالة. التاسع: أنَّ «الكافَ» بمعنى «إذ» ، و «مَا» زائدة، والتقديرُ: اذكر إذ أخرجك وهذا فاسدٌ جدّاً، إذ لم يثبتْ في موضعٍ أنَّ «الكاف» تكون بمعنى «إذ» وأيضاً فإنَّ «ما» لا تزاد إلاَّ في مواضعَ ليس هذا منها. العاشر: أنَّ «الكافَ» بمعنى: «واو» القسم، و «ما» بمعنى «الذي» واقعةٌ على ذي العلم مُقْسَماً به. وقد وقعت على ذي العلم في قوله: {والسمآء وَمَا بَنَاهَا} [الشمس: 5] {وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى} [الليل: 3] والتقدير: والذي أخرجك، ويكون قوله: يُجَادلُونكَ جواب القسمِ وهذا قول أبي عبيدة. وقد ردَّ النَّاسُ عليه قاطبةً، وقالوا: كان ضعيفاً في النَّحو. ومتى ثبت كون الكافِ حرف قسمٍ، بمعنى «الواو» ؟ وأيضاً فإن: يُجَادلُونكَ لا يصحُّ كونه جواباً؛ لأنَّهُ على مذهب البصريين متى كان مضارعاً مثبتاً؛ وجب فيه شيئان: اللاَّمُ، وإحدى النونين نحو: {لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين} [يوسف: 32] وعند الكوفيين إمَّا اللاَّمُ، وإمَّا إحدى النونين، ويُجادلُونكَ عارٍ عنهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 451 الحادي عشر: أنَّ الكاف بمعنى «على» ، و «ما» بمعنى: الذي، والتقديرُ: امْضِ على الذي أخرجك، وهو ضعيفٌ؛ لأنه لم يثبت كونُ الكاف بمعنى «على» ألبتة إلاَّ في موضع يحتمل النزاع كقوله {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] . الثاني عشر: أنَّ الكاف في محل رفع، والتقدير: كما أخرجك ربك فاتَّقُوا الله، كأنَّهُ ابتداءٌ وخبر. قال ابن عطيَّة: «وهذا المعنى وضعهُ هذا المفسِّر وليس من ألفاظ الآية في ورد ولا صدر» . الثالث عشر: أنَّها في موضع رفعٍ أيضاً والتقدير: لهم درجاتٌ عند ربهم ومغفرةٌ ورزقٌ كريم هذا وعدٌ حقٌّ كما أخرجك، وهذا فيه حذفُ مبتدأ وخبر، ولو صرَّح بذلك لم يلتئم التشبيه ولم يحسن. الرابع عشر: أنَّها في موضع رفع أيضاً والتقدير: وأصلحُوا ذات بينكم، ذلكم خيرٌ لكم، كما أخرجك، فالكافُ في الحقيقة نعتٌ لخبر مبتدأ محذوف، وهو ضعيفٌ لطولِ الفصلِ بين قوله: «وأصْلِحُوا» ، وبين قوله: «كما أخرجك» . الخامس عشر: أنّضها في محل رفع أيضاً عى خبر ابتداء مضمر، والمعنى: أنَّه شبَّه كراهية أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لخروجه من المدينة، حين تحققوا خروج قريشٍ للدفع عن أبي سفيان وحفظ غيره بكراهيتهم لنزع الغنائم من أيديهم، وجعلها للَّه ورسوله، يحكم فيها ما يشاء. واختار الزمخشري هذا الوجه وحسَّنه. فقال: «يرتفع محلُّ الكاف على أنه خبر ابتداء محذوف تقديره: هذه الحالُ كحالِ إخراجك، يعني أنَّ حالهم في كراهة ما رأيت من تنفيل الغزاة مثل حالهم في كراهة خروجهم للحرب» . وهذا الذي حسَّنه الزمخشريُّ هو قول الفرَّاءِ - وقد شرحه ابنُ عطيَّة بنحو ما تقدَّم من الألفاظ - فإنَّ الفرَّاء قال: «هذه الكاف شبَّهت هذه القصة التي هي إخراجه من بيته بالقصَّة المتقدمة التي هي سؤالهم عن الأنفال» . السادس عشر: أنَّها صفةٌ لخبر مبتدأ أيضاً، وقد حذف المبتدأ وخبره، والتقديرُ: قسمتك الغنائم حق كما كان إخراجك حقاً. السابع عشر: أنَّ التَّشبيه وقع بين إخراجين، أي: إخراج ربك إيَّاك من بيتك، وهو مكَّة وأنت كارهٌ لخروجك، وكان عاقبة ذلك الإخراج النَّصر والظفر كإخراجه إيَّاك من المدينة وبعضُ المؤمنين كارهٌ، يكون عقيب ذلك الخروج الظفرُ والنصرُ والخيرُ، كما كان عقيب ذلك الخروج الأول. الثامن عشر: أن تتعلَّق الكافُ بقوله: «فاضْربُوا» ، وبسْطُ هذا على ما قالهُ صاحب الجزء: 9 ¦ الصفحة: 452 هذا الوجه أن تكون الكاف للتشبيه على سبيل المجاز كقول القائل لعبده: كما رجعتك إلى أعدائي فاستضعفوك، وسألت مدداً فأمددتُكَ، وأزحت عللك، فخذهم الآن وعاقبهم، كما أحْسنْتُ إليك وأجريتث عليك الرزق، فاعملْ كذا، واشكرني عليه، فتقدير الآية: كما أخرجك ربُّك من بيتك بالحق وغشَّاكم النُّعاسَ أمَنَةً منه، وأنزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به وأنزل عليكم من السَّماء ملائكة مردفين فاضربوا فوق الأعناق، واضربوا منهم كُلَّ بنان. كأنه يقولُ: قد أزَحْتُ عللكم، وأمددتكم بالملائكة، فاضربُوا منهم هذه المواضع وهو القتل، لتبلغوا مراد الله في إحقاق الحقِّ، وإبطال الباطلِ، وهذا الوجه بعد طوله لا طائل تحته لبُعدِه من المعنى وكثرة الفواصل. التاسع عشر: التقدير: كما أخرجك ربك من بيتك بالحقِّ، أي: بسبب إظهار دين اللَّهِ، وإعزاز شريعته، وقد كرهوا خروجك تَهَيُّباً للقتال وخَوْفاً من الموت إذ كان أمر النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - بخروجهم بغتةً، ولم يكونُوا مُسَْعِدِّين للخروج، وجادلوك في الحقِّ بعد وضوحه نصرك اللَّهُ وأمدَّك بملائكته ودلَّ على هذا المحذوفِ الكلامُ الذي بعده، وهو قوله {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} [الأنفال: 9] الآيات. وهذا الوجهُ استحسنه أبو حيَّان، وزعم أنه لمْ يُسْبَق به. ثم قال: «ويظهرُ أنَّ الكاف ليست لمحضِ التَّشبيه، بل فيها معنى التَّعليل» . وقد نصَّ النحويُّون على أنَّها للتعليلِ وخرَّجُوا عليه قوله تعالى: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} . وأنشدوا: [الرجز] 2671 - لا تَشْتُمِ النَّاسَ كَمَا لا تُشْتَمُ ... أي: لانتفاءِ شتم النَّاس لك لا تشتمهم. ومن الكلام الشَّائِعِ: كما تطيع اللَّه يدخلك الجنَّة، أي: لأجل طاعتك الله يدخلك الجنَّة، فكذا الآية، والمعنى: لأنْ خرجت لإعزاز دين اللَّهِ، وقتل أعدائه ونصرك وأمدَّك بالملائكة. العشرون: تقديره: وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين كما إخرجُك في الطَّاعة خيرٌ لكم كما كان إخراجك خيراً لهم، وهذه الأقوالُ ضعيفة كما بينا. قوله: «بالحَقِّ» فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّق بالفعل، أي: بسبب الحقِّ، أي: إنَّه إخراجٌ بسبب حق يظهر وهو علوُّ كلمة الإسلام، والنَّصرُ على أعداء اللَّهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 453 والثاني: أن يتعلق بمحذوفٍ على أنَّهُ حال من مفعول: «أخْرَجَكَ» أي: ملتبساً بالحقِّ. قوله: وإن فريقاً الواو للحال، والجملة في محلِّ نصب، ولذلك كُسرت «إنَّ» ومفعول «كَارِهُونَ» محذوفٌ، أي: لكارهون الخروج، وسببُ الكراهية: إمَّا نفرة الطبع ممَّا يتوقَّع من القتال، وإمَّا لعدم الاستعداد. والمراد ب «بيته» بيته بالمدينة، أو المدينة نفسها. فصل روى ابنُ عبَّاس، وابنُ الزُّبير، ومحمَّد بنُ إسحاق، والسُّديُّ أنَّ أبا سفيان أقبل من الشَّام في عير لقريش في أربعين راكباً من كفَّارِ قريش منهم: عمرُو بن العاصِ، ومخرمة ابنُ نوفل، وفيها أموال كثيرة، حتَّى إذا كانوا قريباً من بدر، أخبر جبريل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأعجبهم تلقي العير، لكثرة الخير، وقلة العدوِّ، فانتدب النَّاس، فخفَّ بعضهم وثقل بعضهم؛ لأنهم لم يظنُّوا أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يلقى حرباً. فلمَّا سمع أبُو سفيان بمسير النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، استأجرَ ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكَّة وأمره أن يأتي قريشاً يستنفرهم، ويخبرهم أنَّ محمداً قد عرض عليرهم في أصحابه، فخرج ضمضم سريعاً إلى مكَّة. وقد رأت عاتكة بنت عبد المطالب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له: يا أخي والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفزعتني وخشيت أن يدخل على قومك منها شرّ ومُصيبة فاكتم عليَّ ما أحدثك. قال لها: وما رأيتُ؟ قالت: رأيتُ راكباً أقبل على بعيرٍ لهُ حتَّى وقف بالأبطح ثمَّ صرخ بأعلى صوته ألا فانفرُوا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فأرى النَّاس قد اجتمعُوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه، فبينما هم حولهُ مثل به بعيره على ظهر الكعبةِ، ثمَّ صرخ بمثلها أعلى صوته ألا فانفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاثٍ، ثمَّ مثل به بغيره على رأس أبي قبيس، ثمَّ صرخ بمثلها ثم أخذ صخرة، فأرسلها فأقبلت تهوي حتّضى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضَّت فما بقي بيت من بيوت مكَّة إلاَّ دخلته منها فلقةٌ، فحدَّث بها العباس الوليد، فذكرها الوليدُ لأبيه عتبة ففشا الحديث حتى تحدثت به قريش. قال العباس: فغدوت أطوف بالبيت وأبو جهل في رهط من قريش قعود يتحدَّثُون برؤيا عاتكة، فلمَّا رأني أبو جهل قال: با أيا الفضل إذا فرغت من طوافك أفقبل إلينا. قال: فلمَّا فرغتُ أقبلتُ حتَّى جلست مهم. فقال أبو جهل: ييا بني عبد المطلب متى حدثت هذه النبية فيكم قلت: وما ذاك؟ . قال: الرُّؤيَا التي رأتها عاتكة قلت: وما رأت؟ قال: يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن تتنبأ رجالكم حتَّى تتنبأ نساؤهم لقد زعمت عاتكةُ في رؤياها أنَّهُ قال: انْفِرُوا في ثلاثٍ، فسنتربّص بكم هذه الثلاث، فإن يكُ ما قالت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 454 حقَّا فسيكونُ، وإن تَمْضِ الثلاث، ولم يكن من ذلك شيء؛ نكتب عليكم كتاباً أنَّكُمْ أكذبُ هل بيت في العرب قال العباس: فواللَّهِ ما كان منِّي إليه كبير فلمَّا كان بعد ثلاث إذْ هو يسمعُ صوتَ ضمضمٍ بن عمرو وهو يصرخ ببطن الوادي واقفاً على بعيره وقد جدع بعيره، وحول رحله، وشق قميصه، وهو يقولُ: يا معشر قريش اللَّطيمة، أموالكم مع أبي سفيان، قد عرض لها مُحَمَّدٌ في أصحابه ولا أرى أن تدركوها الغوث. فخرج أبو جهلٍ بجميع أهل مكَّة وهم النَّفيرُ، وفي المثل السَّائر: لا في العير، ولا في النفير، فقيل له: إنَّ العير قد أخذت طريق السَّاحل، ونجتْ، فارجع بالنَّاس إلى مكة، فقال: لا والله لا يكونُ ذلك أبداً حتَّى ننحرَ الجزور، ونشرب الخُمُورَ، ونقيم القينات والمعازف ببدر، فيتسامع العربُ بخروجنا، وأنَّ محمداً لم يُصِب العير، فمضى بهم إلى بدرٍ، وبدرٌ كانت العربُ تجمع فيه يوماً في السَّنةِ لسوقهم. «ونزل جبريلُ وقال: إنَّ القوم قد خرجوا من مكَّة على كلِّ صعبٍ وذلولٍ، وإن الله قد وعدكم أحدى الطائفتين فالعيرُ أحب إليكم أم النفير؟ . قالوا: بل العيرُ أحبُّ إلينا من لقاء العدو، فتغيَّر وجهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال: إنَّ العير قدمضت على ساحلِ البَحْرِ، وهذا أبو جهل قد أقبل. فقالوا: يا رسول الله عليك بالعير ودَع العدُوَّ فقام عند غضب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أبو بكر وعمر لإأحسنا، ثمَّ قام سعدُ بنُ عبادة وقال: امْضِ لِمَا أمرك اللَّهُ به، فواللَّهِ لو سرت إلى عدن ما تخلَّف رجلٌ عنك من الأنصار، ثم قال المقدادُ بنُ عمرو: يا رسول الله امض لما امرك اللَّهُ؛ فإنَّ معك حيث أردت، لا نقولُ لك كما قالت بَنُو إسرائيل لموسى: {فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلاا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ولكن نقول: اذْهَبْ أنت وربُّك فقاتلا إنَّا معكما مقاتلون ما دامت عين منَّا تطرف، فضحك رسولُ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم قال:» سِيرُوا على بركةِ الله، وأبشروا، فإنَّ اللَّهَ اللَّهَ قد وعدنِي إحْدَى الطائفتين، واللَّهِ لكَأنِّي الآن أنظرُ إلى مصارعِ القوْمِ « عن أنس قال رسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» هذا مصرعُ فُلانٍ قال: ويضعُ يدهُ على الأرض ههنا وههنا، قال: فَمَا مَاطَ أحدهم عن موضع يَدِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ولمَّا فرغ نبيُّ الله من بدر قال بعضهم: عليك بالعير، فناداهُ العبَّاسُ وهو في وثاقه: لا يصلحُ، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لِمَ؟ قال: لأنَّ اللَّهَ وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك « الجزء: 9 ¦ الصفحة: 455 إذا عرف ذلك نقولُ كانت كراهية القتال حاصلة لبعضهم لقوله تعال: {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ} [الأنفال: 5] والحق الذي جادلوك فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلقي النفير لايثارهم العير. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 456 قوله: {بَعْدَمَا تَبَيَّنَ} المرادُ منه: إعلام رسُول اللَّهِ بأنَّهم ينصرون، وجدالهم قولهم: ما كان خُروجنا إلاَّ للعير، وهلاَّ قلت لنا لنستعدّ ونتأهبّ للقتالِ؛ لأنَّهم كانُوا يكرهون القتال ثُم إنَّه تعالى شبَّه حالهم في فرط فزعهم بحال من يُجَرّ غلى القتل، ويُسَاق إلى الموت وهو شاهد لأسبابه ناظر إلى موجبته، ومنه قوله عليه السَّلأامُ: «من نفى ابنه وهو ينظر إليه» أي يعلم أنَّه ابنه، كقوله تعالى: {يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [النبأ: 40] أي يعلم وكان خوفهم لأمور: أحدها: قلَّة العدد. وثانيها: كانوا رجَّالة، روي أنه ما كان فيهم إلا فارسان. وثالثها: قلة السلاح. قوله: يُجالدُونك يحتمل أن يكون مُسْتأنفاً إخباراً عن حالهم بالمجادلةِ، ويحتمل أن يكون حالاً ثانية أي: أخرجك في حال مجادلتهم إيَّاك، ويحتمل أن يكون حالاً من الضَّمير في لكارهُون، أي: لكارِهُونَ في حال جدالٍ. والظاهرُ أنَّ الضميرَ المرفوع يعودُ على الفريق المتقدِّم. ومعنى المجادلة قولهم: كيف تُقاتل ولم نستعد للقتال؟ ويجوزُ أن يعود على الكفَّارِ، وجدالهم ظاهر. قوله: بَعْدَ ما تبيَّن منصوب بالجدال، و «ما» مصدرية، أي: بعد تَبينِهِ ووضوحه، وهو أقبحُ من الجدال في الشَّيء قبل إيضاحه. وقرأ عبد الله «بُيِّن» مبنياً للمفعول من: بَيَّنتُهُ أي: أظهرته، وقوله: «وهُمُ ينظرُونَ» حالٌ من مفعول يُساقُونَ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 456 قوله «وإذْ يعدُكُمُ» «إذْ» منصوب بفعل مقدر، أي: اذكر إذْ، والجمهور على رفع الدال؛ لأنَّه مضارع مرفوع. وقرأ مسلمة بنُ محاربٍ: بسكونها على التَّخفيفِ لتوالي الحركاتِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 456 وقرأ ابنُ محيصن «يعدكم اللَّهُ احدى» يوصل همزة أحْدَى تخفيفاً على غير قياس، وهي نظير قراءة من قرأ: {إِنَّهَا لإِحْدَى} [المدثر: 35] بإسقاط الهمزة أجرى همزة القطع مُجْرَى همزة الوصل، وقرأ أيضاً أحَد بالتَّذكير؛ لأنَّ الطائفة مؤنث مجازي. فصل إحدى الطائفتين أي: الفرقتين: أحدهما: أبو سفيان مع العير، الأخرى أبو جهل مع النَّفيرِ، و «أنَّها لَكُمْ» منصوبُ المحلِّ على البدلِ مِنْ إحْدَى أي: يَعِدُكم أنَّ إحدى الطائفتين كائنة لكم، أي: تتسلَّطُون عليها تسلُّط المُلاَّكِ، فهي بدل اشتمال وتوَدُّونَ تريدون: {وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ} يعني: العير التي ليس فيها قتال والشَّوكةُ: السلاح كسِنان الرُّمح، والنصل والسَّيف، وأصلها من النَّبتِ الحديدِ الطرف، ك: «شَوْكِ السَّعدان» ، يقال منه: رَجُلٌ شائِكٌ، فالهمزة مِنْ «واوٍ» ، ك: قائم، ويجوزُ قلبه بتأخير عينه بعد لامه، فيقال: شاكٍ، فيصير ك: غازٍ، ووزنهُ حينئذ فالٍ. قال زهيرٌ: [الطويل] 2672 - لَدَى أسَدٍ شَاكِي السِّلاحِ مُقذَّفٍ ... لهُ لبدٌ أظفارهُ لمْ تُقلَّمِ ويُوصفُ السلاحُ: بالشَّاكي، كما يوصف به الرَّجُل، فيقال: رجلٌ شاكٌ، وشاكٍ، وسلاحٌ شاكٌ، وشاكٍ. فأمَّا «شاكٌ» غير معتل الآخر، وألفه منقلبةٌ عن عين الكلمة، ووزنهُ في الأصل على فَعِل بكسر العين، ولكن قلبت ألفاً، كما قالوا: كبشٌ صافٌ أي صوف، وكذلك «شاكٌ» أي: شَوِكٌ. ويحتمل أن يكون حذوف العين، وأصله «شَائِكٌ» ، فحذفت العين، فبقي «شاكاً» فألفه زائدةٌ، ووزنه على هذا «فالٍ» . وأمَّا: «شاكٍ» فمنقوصٌ، وطريقته بالقلب كما تقدم ومن وصف السلاح بالشاك قوله: [الوافر] 2673 - وألْبِسُ من رضاهُ في طريقِي ... سلاحاً يَذْعَرُ الأبطالَ شَاكَا فهذا يحتمل أن يكون محذوف العين، وأن يكون أصله «شوكاً» ، ك: صَوِف. ويقال أيضاً: هو شاكٌّ في السلاح، بتشديد الكافِ، من «الشِّكَّة» ، وهي السلام أجمع، نقله الهرويُّ، والرَّاغبُ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 457 قال: إنَّكُم تريدون الطائفة التي لا حدة لها، يعني: العير، ولكن الله يريدُ التَّوجُّهَ إلى الطائفة الأخرى ليحق الحقَّ بكلماته. وقرأ مسلمة بن محارب: «بكلمته» على التَّوحيد، والمراد به: اسم الجنس فيؤدِّي مؤدَّى الجمع، والمراد بقوله: «بِكلماتِهِ» أي: بأمره إيَّاكم بالقتالِ، وقيل: بهدايته التي سبقت من إظهار الدّين وإعزازه: {وَيَقْطَعَ دَابِرَ الكافرين} والدَّابرُ الآخر من دبر، ومنه دابرة الطَّائر وقطع الدَّابر عبارة عن الاستئصال أي: ليستأصلهم حتى لا يبقى منهم أحد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 458 قوله: «لِيُحِقَّ» فيه وجهان: أحدهما: أنَّه متعلقٌ بما قبله، أي: ويقطع ليحق الحقَّ، والثاني: أن يتعلَّق، بمحذوفٍ تقديره: ليحقَّ الحقَّ فعل ذلك، أي: ما فعله إلاَّ لهما، وهو إثباتُ الإسلامِ وإظهاره وزوالُ الكُفْرِ ومحقه. قال الزمخشريُّ: «ويجب أن يُقدَّر المحذوفُ مؤخراً ليفيد الاختصاص وينطبق عليه المعنى» . وهذا على رأيه، وهو الصحيحُ. فإن قيل: قوله: {وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} ثم قوله بعد ذلك «لِيُحِقَّ الحقَّ» تكرير محضٌ. فالجوابُ: أنَّ المراد بالأوَّل سبب ما وعد اللَّه به هذه الواقعة من النَّصر والظَّفر بالأعداد. والمراد بالثاني: تقوية القرآن والدِّين ونصرة هذه الشَّريعةِ؛ لأنَّ الذي وقع مع المؤمنين يوم بدر بالكافرين سبب لعزة الدِّين وقوته، ولهذا قرنه بقوله: «ويُبْطِلَ الباطلَ» الذي هو الشرك، وذلك في مقابلة: «الحقّ» الذي هو الدين والإيمان. فإن قيل: الحقُّ حقٌّ لذاته، والباطلُ باطلٌ لذاته، وما ثبت للشيء لذاته؛ فإنَّه يمتنع تحصيله بجعل جاعل فما المرادُ من تحقيق الحقِّ وإبطال الباطل. الجوابُ: المرادُ من تحقيق الحقِّ وإبطال الباطل إظهار كون ذلك الحقِّ حقّاً، وإظهار كون الباطل باطلاً، وذلك يكون تارةً بإظهار الدَّلائل والبينات، وتارةً بتقوية رؤسَاءِ الباطل. فصل احتجوا بقوله: «لِيُحِقَّ الحَقَّ» في مسألة خلْقِ الأفعال. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 458 قالوا: يجبُ حمله على أنه يوجدُ الحقَّ وبكونه، والحقُّ ليس إلاَّ الدين والاعتقاد، فدل على أنَّ العقائد الحقة لا تحصل إلاَّ بتكوين الله، ولا يمكنُ حمل تحقيق الحقِّ على إظهار آثاره؛ لأنَّ ذلك الظُّهُورَ حصل بفعل العبادِ، فامتنع إضافة ذلك الإظهار إلى اللَّهِ تعالى، ولا يمكنُ أن يقال: المرادُ من أظهاره وضع الدلائل عليها، لأنَّ هذا المعنى حاصلٌ في حق الكافر والمسلم. وقبل هذه الواقعة وبعدها فلا يَبْقَى لتخصيص هذه الواقعة بهذا المعنى فائدة أصلاً. قالت المعتزلةُ: هذه الآيةُ تدلُ على أنَّهُ يريدُ تحقيق الباطل وإبطال الحق ألبتَّة، إنَّما يريد تحقيق الحقِّ، وإبطال الباطل، وذلك يبطلُ قول من يقول إنَّه لا باطل ولا كفر إلاَّ والله تعالى مريدٌ له. وأجيبوا: بأنه ثبت في أصول الفقة أنَّ المفرد المحلى بالألف واللاَّم ينصرفُ إلى المعهود السَّابقِ فهذه الآية دلَّ على أنَّه تعالى أراد تحقيق الحق، وإبطال الباطل في الصُّورة، فلم قُلْتُم إنَّ الأمر كذلك في جميع الصُّور؟ وقد بيَّنا أيضاً بالدَّليلِ أنَّ هذه الآية تدلُّ على صحَّة قولنا. ثم قال تعالى: {وَلَوْ كَرِهَ المجرمون} أي: المشركون. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 459 قوله: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} الآية. في «إذْ» خمسة أوجه: أحدها: أنَّهُ منصوبٌ ب «اذْكر» مضمراً، ولذلك سمَّاه الحوفي مستأنفاً، أي: إنَّهُ منقطعٌ عمَّا قبله. والثاني: أنَّهُ منصوب ب «يُحِقَّ» أي: يحقُّ الحقَّ وقت استغاثتكم، وهو قول ابن جرير وهو غلط؛ لأن «لِيُحِقَّ» ، مستقبل؛ لأنَّه منصوبٌ بإضمار «أنْ» و «إذْ» ظرف لما مضى، فكيف يعمل المستقبل في الماضي؟ . الثالث: أنَّهُ بدلٌ من «إذ» الأولى، قاله الزمخشري، وابن عطيَّة، وأبُو البقاءِ وكانوا قد قدَّمُوا أنَّ العامل في «إذْ» الأولى «اذكر» مقدراً. الرابع: أنَّهُ منصوب ب «يَعِدُكُمُ» قاله الحوفيُّ، وقبله الطبري. الخامس: أنَّهُ منصوب بقوله «تَوَدُّونَ» قاله أبو البقاء، وفيه بُعْدٌ لطولِ الفصْلِ. واستاث: يتعدَّى بنفسه، وبالباءِ، ولم يجىء في القرآن إلاَّ متعدِّياً بنفسه، حتَّى نقم ابن مالك على النحويين قولهم: المستغاث له، أو به، والمستغاث من أجله، وقد أنشدوا على تعدِّيه بالحرف قول الشاعر: [البسيط] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 459 2674 - حَتَّى اسْتَغَاثَتْ بماءٍ لا رشاءَ لَهُ ... من الأبَاطِحِ في حَافَاتِهِ البُرَكُ مُكَلَّلٌ بأصُولِ النَّجْمِ تَنْسِجُهُ ... ريحٌ خريقٌ لضاحِي مائِهِ حُبُكُ كَمَا استغاثَ بِسَيءٍ فَزُّ غَيْطلةٍ ... خَافَ العُيُونَ ولمْ يُنظَرْ بِه الحِشَكُ فدلَّ هذا على أنَّهُ يتعدَّى بالحرف كما استعمله سيبويه وغيره. فصل الاستغاثةُ: طلبُ الغَوْث، وهو النَّصرُ والعونُ، وقيل: الاستغاثةُ: سدُّ الخَلَّةِ وقتَ الحاجةِ، وقيل: هي الاستجارةُ، ويقالُ: غَوْثٌ، وغواثٌ، والغَيْث من المطرِ، والغَوْثُ من النُّصرةِ، فعلى هذا يكون «اسْتَغَاثَ» مشتركاً بينهما، ولكن الفرقَ بينهما في الفعل، فيقال: اسْتَغثْتُهُ فأغاثني من الغَوث، وغَاثَني من الغَيْث، وفي هذه الاستغاثَةُ قولان: الأول: أنَّ هذه الاستغاثة كانت من الرَّسُولِ - عليه الصَّلاة والسَّلام -. قال ابن عبَّاسٍ: حدّثني عمرُ بنُ الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «لمَّا كان يوم بدرٍ نظر رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المشركين، وهم ألف وإلى أصحابه، وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، واستقبل القبلة، ومد يده، فجعل يهتف بربّه:» اللَّهُمَّ أنْجِزْ لِي ما وعدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنْ تُهلِكْ هذه العصابة لا تُعْبَدُ في الأرضِ «فلم يزل كذلك حتّضى سقط رداؤهُ عن منكبه، وردَّه أبو بكر ثمَّ التزمه، ثم قال: كفاكَ يا نبيَّ اللَّهِ مناشَدَتكَ ربَّك، فإنَّه سَيُنْجِزُ لك ما وعدكَ» ؛ فأنزل اللَّهُ الآية، ولما اصطفّ القومُ قال أبُو جهلٍ: اللَّهُمَّ أولانا بالحقَّ فانْصُرهُ. الثاني: أن هذه الاستغاثة كانت من جماعة المؤمنين؛ لأن الوجه الذي لأجله أقدم الرسول على الاستغاثة كان حاصلاً فيهم، بل خوفهم كان أشَدّ من خوف الرسول، ويمكن الجمع بينهما بأنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا وتضرع، والمؤمنون كانوا يُؤمِّنونَ على دعائه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 460 قوله: «أنِّي» العامةُ على فتح الهمزةِ بتقدير حذف حرف الجرّ، أي: فاستجاب بأني. وقرأ عيسى بن عمر، وتروى عن أبي عمرو أيضاً «إنِّي» بكسرها، وفيها مذهبان، مذهب البصريين: أنَّهُ على إضمار القول، أي: فقال: إني ممدُّكم. ومذهب الكوفيين: أنَّها مَحكيَّةٌ ب «اسْتَجَابَ» إجراءً له مُجْرَى القولِ؛ لأنَّه بمعناه. قوله: «بألفٍ» العامَّةُ على التَّوحيدِ، وقرأ الجحدريُّ «بآلفٍ» بزنة «أفْلُسِ» وعنه أيضاً، وعن السدي «بآلاف» بزنة: أحْمَال «، وفي الجمع بين القراءتين، وقراءة الجمهور أن تحمل قراءةُ الجمهورِ على أنَّ المرادَ ب» بالألْفِ هم الوجوه، وباقيهم كالأتباع لهم، فلذلك لم يَنُصَّ عليهم في قراءة الجمهور، ونصَّ عليهم في هاتين القراءتينِ، أو تحمل الألف على من قاتل من الملائكة دون من لم يقاتل، فلا تَنَافِي حينئذٍ بين القراءاتِ. قوله: «مُردفينَ» قرأ نافع، ويروى عن قنبل أيضاً: «مُردَفينَ» بفتح الدَّال، والباقون بكسرها، وهما واضحتان؛ لأنه يُروى أنه كان وراء كلّ ملكٍ رديفٌ له، فقراءة الفتحِ تُشعر بأنَّ غيرهم أردفهم، لركوبهم خلفهم، وقراءة الكسر تشعر بأنَّ الراكب خلف صاحبه قد أردفه فصحَّ التَّعبيرُ باسم الفاعل تارةن وباسم المعفول أخرى، وجعل أبو البقاءِ مفعول «مُردفين» يعني بالكسر محذَوفاً أي: مُردفين أمثالهم، وجوَّز أن يكون معنى الإرداف: المجيء بعد الأوائل، أي: جعلوا ردفاً للأوائل. ويطلب جواب عن كيفيَّةِ الجمع بين هذه الآية، وآية آل عمران حيث قال هناك «بخَمْسَة» وقال هنا: «بألفٍ» والقصّة واحدة؟ والجوابُ: أنَّ هذه الألف مردفةٌ لتلك الخمسة؛ فيكون المجموعُ ستة آلاف، ويظهر هذا، ويقوى في قراءة: «مُردِفينَ» بكسر الدَّالِ. وقد أنكر أبو عبيدٍ: أنْ تكون الملائكةُ أردفت بعضها أي: ركَّبَتْ خلفها غيرها من الملائكةِ. وقال الفارسيُّ: من كسر الدَّال احتمل وجهين: أحدهما: أن يكونوا مردفين مثلهم كما تقول: أردفتُ زيداً دابتي، فيكون المفعولُ الثَّاني محذوفاً، وحذفُ المفعولِ كثيرُ، والوجه الآخرُ: أن يكونوا جَاءُوا بعد المسلمين. وقال الأخفشُ «بنو فلان يَردفوننا، أي: يَجيئُون بعدنا» . وقال أبُو عبيدة «مُردفينَ» جاءوا بعدُ، وردفني، وأردفني واحد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 461 قال الفارسي: هذا الوجه كأنه أبْيَنُ لقوله تعالى: {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ} فقوله: «مُردفينَ» أي: جائين بعد، لاستغاثتكم، ومن فتح الدَّال فهم مُردفُون على أرْدِفُوا الناسَ، أي: أنْزِلُوا بعدهم. وقرأ بعض المكيين فيما حكاه الخليلُ: «مُردِّفينَ» بفتح الرَّاء وكسر الدَّالِ مشدَّدة، والأصلُ: «مُرتدفينَ» فأدغم. وقال أبو البقاءِ: إنَّ هذه القراءة مأخوذةٌ من «رَدَّفَ» بتشديد الدَّال على التكثير وإنَّ التضعيف بدلٌ من الهمزة ك: «أفْرحتَهُ وفرَّحْته» . وجوَّز الخليلُ بنُ أحمد: ضمَّ الراءِ إتباعاً لضم الميم، كقولهم: «مُخُضِم» بضم الخاءِ، وقد قراء بها شذوذاً. وقرىء «مُرِدِّفين» بكسر الرَّاءِ وتشديد الدَّالِ مكسورة، وكسر الراء يحتمل وجهين: إمَّا لالتقاءِ الساكنين، وإمَّا للإتباع. قال ابنُ عطيَّة: «ويجوزُ على هذه القراءةِ كسرُ الميم إتباعاً للرَّاءِ، ولا أحفظه قراءة» . قال شهابُ الدِّين: وكذلك الفتحة في «مُردِّفينَ» في القراءة التي حكاها الخليلُ تحتمل وجهين: أظهرهما: أنَّها حركةُ نقلٍ من التَّاء - حين قصد إدغامها - إلى الرَّاءِ. والثاني: أنَّها فُتِحَتْ تخفيفاً وإن كان الأصلُ الكسر على أصل التقاء السَّاكين، كما قد قُرىء به، وقرىء «مِرِدِّفين» بكسر الميم، إتباعاً لكسرةِ الرَّاءِ. و «الإرداف» الإتباع، والإركاب، وراءك. وقال الزَّجَّاجُ: «أردفْتُ الرَّجُلَ إذا جئت بعده» . ومنه: {تَتْبَعُهَا الرادفة} [النازعات: 7] ويقال: رَدِف، وأرْدَفَ. واختلف اللغويون: فقيل هما بمعنى واحد، وهو قول ابن الأعرابي نقله عنه ثعلب. وقولُ أبي زيْد نقله عنه أبو عبيدٍ، قال: يقال: ردفْتُ الرَّجُلَ وأردفتُهُ، إذا ركِبْتُ خَلْفَهُ؛ وأنشد: [الوافر] 2675 - إذَا الجَوْزَاءُ أرْدَفَتِ الثُّرَيَّا ... ظَنَنْتُ بآل فَاطِمَةَ الظُّنُونَا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 462 أي: جاءت على رِدْفِها، وقيل: بينهما فرقٌ فقال الزَّجَّاجُ: «يقال: رَدِفْتُ الرَّجل إذا ركبتُ خلفه، وأرْدَفتُه أركبته خَلْفِي» . وهذا يُناسبُ قول مَنْ يُقدِّر مفعولاً في: «مُرْدِفين» بكسر الدَّال وأرْدَفْتُه إذا جئتَ بعده أيضاً فصار «أرْدَفَ» على هذا مشتركاً بين معنين. وقال شمر: «رَدِفْتُ وأرْدَفْتُ إذَا فَعَلْتَ ذلك بنفسكَ، فأمَّا إذَا فعلتهما بغيركَ فأرْدَفْتُ لا غير» . وقوله: «مُرْدَفينَ» بفتح الدَّال فيه وجهان، أظهرهما: أنَّهُ صفةٌ ل «ألْف» أي: ارْدَفَ بعضهم لبعض، والثاني: أنَّه حالٌ من ضمير المخاطبين في ممدكم. قال ابن عطية: «ويحتمل أن يراد بالمُرْدَفين: المؤمنون، أي: أرْدِفُوا بالملائكة» . وهذا نصٌّ فيما ذكر من الوجه الثاني. وقال الزمخشري: وقرئ «مُرْدفين» بكسر الدَّال وفتحها من قولك: رَدِفه، إذا تبعه، ومنه قوله تعالى {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] أي: ردفكم، وأرْدَفْتُه إيَّاه: إذا تَبِعْتَه، ويقال: أرْدَفته كقولك، اتَّبَعْته: إذا جِئْتَ بعده، ولا يخلُو المكسورُ الدَّالِ من أن يكون بمعنى: مُتْبِعِين، أو مُتَّبِعين. فإن كان بمعنى مُتْبعين فلا يخلو من أن يكون بمعنى مُتْبِعين بعضهم بعضاً، أو مُتْبِعِين بعضهم لبعض، أي بمعنى مُتْبِعِين إياهم المؤمنين، بمعنى يتقدَّمونهم فيتبعونهم أنفسهم، أو مُتْبِعين لهم يُشيِّعُونهم ويُقدِّمُونهُم بين أيديهم، وهم على ساقتهم ليكونوا على أعينهم وحِفْظِهم أو بمعنى مُتْبِعِين أنفسهم ملائكة آخرين، أو متبعين غيرهم من الملائكة، ويعضد هذا الوجه قوله تعالى في سورة آل عمران {بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الملاائكة مُنزَلِينَ} [آل عمران: 124] {بِخَمْسَةِ آلااف مِّنَ الملاائكة مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 125] . ومن قرأ «مُرْدَفين» بالفتح فهو بمعنى مُتْبعينَ أو مُتَّبعينَ. وهذا الكلامُ على طوله، شرحُهُ أنَّ «أتْبع» بالتخفيف، يتعدَّى إلى مفعولين، و «اتَّبَع» بالتَّشديد، يتعدى لواحدٍ، و «أردف» قد جاء بمعناهما، ومفعوله أو مفعولاه، محذوفٌ، لفهم المعنى، فيقدَّر في كل موضع ما يليق به، إلاَّ أنَّ أبا حيَّان عابَ عليه قوله: «مُتْبِعين إيَّاهم المؤمنين» . وقال: «هذا ليس من مواضعِ فصل الضميرِ، بل ممَّا يتصل، وتُحْذف له النُّونُ، لا يقال: هؤلاء كاسون إيَّاك ثوباً بل: كاسوك، فتصحيحه أن يقول: متبعيهم المؤمنين، أو متبعين أنفسهم المؤمنين» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 463 قوله: «وما جَعَلَهُ» الهاء تعود على الإمداد، أي: وما جعل اللَّهُ الإمدادَ، ثُمَّ هذا الإمدادُ يحتمل أن يكون المنسبكَ من قوله: «إنِّي مُمِدُّك» إذ المعنى: فاستجاب بإمدادكم، ويحتمل أن يكون مدلولاً عليه بقوله: «مُمِدُّكم» كما دلَّ عليه فعلُهُ في قوله: {اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى} [المائدة: 8] وهذا الثَّاني أولَى؛ لأنَّه مُتأتٍّ على قراءة الفتح والكسر في: «إني» بخلاف الأول فإنَّهُ لا يتّجه عودُهُ على الإمداد على قراءة الكسر إلاَّ بتأويلٍ ذكره الزمخشريُّ: وهو أنَّه مفعول القول المضمر، فهو في معنى القول. وقيل يعودُ على المدد قاله الزَّجَّاجُ، وهذا أولى؛ لأنَّ بالإمداد بالملائكةِ كانت البُشْرَى. وقال الفرَّاءُ: إنَّهُ يعودُ على الإرداف المدلول عليه ب «مُرْدفين» . وقيل: يعودُ على: «الألف» . وقيل: على المدلول عليه ب «يَعِدُكم» . وقيل: على جبريل، أو على الاستجابة لأنَّها مؤنثٌ مجازي، أو على الإخبار بالإمداد، وهي كلُّهَا محتملة وأرجحها الأوَّلُ، والجعل هنا تصييرُ. فصل في قتال الملائكة يوم بدر. اختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا يوم بدر؟ فقال قومٌ: نزل جبريلُ - عليه الصَّلاة والسَّلام - في خمسمائة ملك على الميمنة، وفيها أبو بكر، وميكائيل في خمسمائة على الميسرة وفيها علي بن أبي طالب في صورة الرِّجال عليهم ثياب بيض وعمائم بيض، وقد أرخوا أطرافهم بين أكتافهم وقاتلوا، وقيل: قاتلُوا يوم بدر ولم يقاتلُوا يوم الأحزاب، ويوم حنين. رُوي أنَّ أبّا جهل قال لابنِ مسعُودٍ: مِنْ أينَ كان الصَّوت الذي كُنَّا نسمعُ ولا نرى شخصاً؟ . قال: من الملائكة. فقال أبُو جهْلٍ: هُم غلبونَا لا أنتم. «وروي أنَّ رجلاً من المسلمين بينما هو يشتد في أثر رجل من المشركين إذْ سمع صوت ضربة السَّوْط فوقه، فنظر إلى المشرك وقد خرَّ مستلقياً وشُق وجهه، فحدَّث الأنصاريُّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال:» صَدقتَ ذاكَ من مددِ السَّماءِ « الجزء: 9 ¦ الصفحة: 464 وقال آخرون لم يُقاتلُوا وإنَّما كانوا يكثرون السَّواد ويثبتون المؤمنين، وإلاَّ فملك واحد كافٍ في إهلاك أهل الدنيا كلهم فإنَّ جبريل - عليه السلام - أهلكَ بريشةٍ من جناحه مدائن قوم لوطٍ، وأهلك بلاد ثمود، وقوم صالح بصحية واحدة. وقد تقدَّم الكلامُ في كيفية هذا الإمداد في سورة آل عمران، ويدلُّ على أنَّ الملائكة لم يقاتلوا قوله {وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى} إذا جعلنا الضمير عائداً على الإرداف. قال الزَّجَّاجُ:» وما جعل الله المردفينَ إلا بشرى «وهذا أولى؛ لأنَّ الإمدادَ بالملائكة حصل بالبشرى. {وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} والمقصود التَّنبيه على أنَّ الملائكةَ وإن كانُوا قد نزلوا في موافقة المؤمنين، إلاَّ أنَّ الواجب على المؤمنِ أنْ لا يعتمد على ذلك، بل يجبُ أن يكون اعتماده على اللَّهِ ونصره وكفايته؛ لأنَّ الله هو العزيزُ الغالب الحكيم فيما ينزل من النُّصْرَةِ فيضعها في موضعها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 465 قوله: «إذْ يُغَشِّيكمُ» في «إذ» وجوه: أحدها: أنَّهُ بدلٌ من «إذ» في قوله: «وإذْ يَعِدُكُم» قال الزمخشريُّ: «إذْ يغشاكُمُ» بدلٌ ثانٍ من «إذ يعدكُم» . قوله: «ثَانس» ؛ لأنه أبدل منه «إذْ» في قوله: «إذْ تستغيثُونَ» ووافقه على هذا ابنُ عطيَّة، وأبو البقاء. الثاني: أنَّهُ منصوبٌ ب «النصر» . الثالث: بما في عند الله من معنى الفعل. الرابع: ب «ما جعله اللَّهُ» . الخامس: بإضمار «اذكُر» ذكر ذلك الزمخشريُّ. وقد سبقه إلى الرابع: الحُوفِيُّ. وقد ضعَّف أبو حيان الوجه الثَّاني بثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنَ فيه إعمال المصدر المقرون ب «أل» قال: وفيه خلاف: ذهب الكوفيُّون إلى أنَّه لا يعمل. الثاني: أنَّ فيه فصلاً بين المصدر ومعموله بالخير، وهو قوله: {إِلاَّ مِنْ عِندِ الله} [الأنفال: 10] [آل عمران: 126] ولو قلت: «ضَرْب زيدٍ شديدٌ عمراً» لَمْ يَجُرْ. الثالث: أنه عمل ما قبل «إلاَّ» فيما بعدها، وليس أحد الثلاثة الجائز ذلك فيها؛ لأنَّه لا يعملُ ما قبلها فيما بعدها إلا أن يكون مستثنى، أو مستثنى منه أو صفة له. وقد جوَّز الكسائيُّ والأخفش: إعمال ما قبل «إلاَّ» فيما بعدها مطلقاً، وليس في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 465 هذه الأوجه أحسنُ من أنَّهُ أخبر عن الموصول قبل تمام صلته، وضعَّف الثَّالث بأنَّهُ يلزم منه أن يكون استقرارُ النَّصْرِ مُقَيَّداً بهذا الظَّرفِ، والمنَّصرُ من عند اللَّه لا يتقيَّدُ بوقت دون وقت وهذا لا يضعفُ به؛ لأنَّ المراد بهذا النَّصر نصرٌ خاص، وهذا النصرُ الخاصُّ كان مقيَّداً بذلك الظرف. وضعَّف الرابع بطولِ الفصلِ، ويكون معمولاً لما قبل «إلاَّ» . السادي: أنَّهُ منصوبٌ بقوله: «ولتَطْمئنَّ بِهِ» قاله الطَّبريُّ. السابع: أنَّهُ منصوبٌ بما دلَّ عليه: «عزيزٌ حكيمٌ» قاله أبُو البقاءِ ونحا إليه ابن عطيَّة قبله. وقرأ ابنُ كثير، وأبو عمرو: «يغْشاكُمُ النُّعاس» ، ونافع «يُغشِيكُمُ» بضمِّ الياءِ، وكسر الشِّين خفيفة «النَّعاسَ» نصباً والباقون «يُغَشِّكُمُ» كالذي قبله، إلاَّ أنه بتشديد الشِّين. فالقراءة الأولى من: «غَشِيَ يَغْشَى» ، و «النَّعاسُ» فاعل، وفي الثانية من: «أغْشَى» وفاعله ضميرُ الباري تعالى، وكذا في الثالثة من: «غَشَّى» بالتشديدن و «النُّعاس» فيهما مفعول به. و «أغْشَى وغَشَّى» لغتان. قال الواحديُّ: «من قرأ» يَغْشَاكم «فلقوله: {أَمَنَةً نُّعَاساً يغشى} [آل عمران: 154] فكما أنسد الفعل هناك إلى» النُّعاس «، و» الأمَنَة «التي هي سبب النُّعاس كذلك ههنا، ومن قرأ» يُغشيكم «، أو» يُغشِّيكم «فالمعنى واحدٌ، وقد جاء التَّنْزِيلُ بهما في قوله: {فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 8] وقال: {فَغَشَّاهَا مَا غشى} [النجم: 54] . قوله: «أمَنَةً» في نصبها ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّه مصدرٌ لفعلٍ مقدر، أي: فأمِنْتُم أمَنَةً. الثاني: أنَّها منصوبةٌ على أنَّها واقعةٌ موقع الحال إمَّا من الفاعل، وإمَّا من المفعول، فإن كان الفاعل ُ «النعاس» فنسبةُ الأمنة إليه مجازٌ، وإن كان الباري تعالى كما هو في القراءتين الأخيرتين فالنسبةُ حقيقيةٌ، وإن كان من المفعولِ فعلى المبالغةِ، أي: جعلهم نفس الأمنة، أو على حذف مضاف، أي: ذوي أمنة. الثالث: أنَّه مفعولٌ من أجله، وذلك إمّضا أن يكون على القراءتين الأخريين أو على الأولى، فعلى القراءتين الأخريين أمرها واضحٌ، وذلك أن التَّغشية، أو الإغشاء من اللَّهِ تعالى، والأمنةُ منه أيضاً، فقد اتَّحد الفاعل فصحَّ النَّصْبُ على المفعول له، وأمَّا على القراءة الأولى ففاعل «يَغْشَى» النُّعاس وفاعل «الأمنة» الباري تعالى، ومع اختلافِ الفاعل يمتنع النَّصْبُ على المفعولِ له على المشهُورِ، وفيه خلاف اللَّهُمَّ إلاَّ أن يتجوَّز فيجوز. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 466 وقد أوضح ذلك الزمخشريُّ فقال: و «أمَنَةً» مفعولٌ له. فإن قلت: أما وجب أن يكون فاعلُ الفعل المُعَلَّلِ والعلَّة واحداً؟ قلتُ: بلى، ولكن لمَّا كان معنى: «يَغْشَاكُمُ النعاسُ» تنعسون، انتصب «أمَنَةً» على معنى أنَّ النُّعَاس والأمَنَةَ لهم، والمعنى: إذ تنعسون أمنة بمعنى أمناً. ثم قال: «فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب على أنَّ الأمنة للنُّعاسِ الذي هو فاعل» يَغْشَاكُم؟ أي: يغشاكم النُّعاسُ لأمنة على أنَّ إسنادَ الأمْن غلى النعاس إسنادٌ مجازي، وهو لأصحاب النُّعاس على الحقيقة، أو على أنه أنامكم في وقتٍ كان من حق النعاس في ذلك الوقتِ المخوف أن لا يقدم على غشيانكم، وإنَّما غشَّاكم أمنةً حاصلةً له من اللَّهِ لولاها لم يغشكم على طريقة التَّمثيل، والتخييل «. قال شهابُ الدين: لا تبعد فصاحة القرآن عن مثله، وله فيه نظائرُ، ولقد ألمَّ به بعضهم؛ فقال: [الوافر] 2676 - يَهَابُ النَّوْمُ أنْ يَغْشَى عُيُوناً ... تَهَابُكَ فهو نفَّارٌ شَرُودُ قوله:» مِنْهُ «في محلِّ نصب ل» أمَنَةً «والضميرُ في:» منهُ «يجوز ان يعود على الباري تعالى، وأن يعود على» النُّعاسِ «بالمجازِ المذكور آنفاً، وقرأ ابنُ محيصن، والنَّخعي، ويحيى بنُ يعمُر:» أمْنَةً «بسكون الميم، ونظير: أمِنَ أمَنَةً بالتحريك: حَيِيَ حياة، ونظير: أمِنَ أمْنَة بالسُّكُون: رَحِمَ رَحْمَةً. فصل كلُّ نوم ونعاس فإنه لا يحصلُ إلاَّ من قبل الله تعالى فتخصيصُ هذا النعاس بأنَّهُ من الله تعالى لا بدَّ منه من فائدة جديدة، وذكرُوا فيه وجوهاً: أولها: أن الخائف من عدوه خوفاً شديداً لا يأخذه النَّومُ، فصار حصول النَّومِ في وقت الخوفِ الشديد دليلاً على زوال الخوف وحصول الأمنِ. وثانيها: أنَّهُم خافُوا من جهات كثيرة: قلة المسلمين، وكثرة الكُفَّارِ، وكثرة الأهبة، والآلة، والعدة للكافرين، والعطش الشديد، فلولا حصول النُّعاس، وحصول الاستراحة حتّضى تمكنوا في اليوم الثاني من القتال لما تمَّ الظفرُ. وثالثها: أنهم ما ناموا نوماً غرقاً يتمكن العدو منهم، بل كان ذلك نعاساً يزيل الإعياء والكلالة بحيث لو قصدهم العدو لعرفوه، ولقدروا على دفعه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 467 ورابعها: أنَّ النعاس غشيهم دفعةً واحدةً مع كثرتهم وحصول النُّعاس للجمع العظيم على الخوف الشَّديد أمرٌ خارق للعادة. فلهذا قيل: إنَّ ذلك النُّعاس في حكم المُعْجِز. فإن قيل: فإذا كان الأمر كذلك فلم خافوا بعد ذلك؟ فالجواب: لأنَّ المعلوم أنَّ الله تعالى يجعل جُنْدَ الإسلامِ مظفراً منصوراً، وذلك لا يمنع من ضرورة بعضهم مقتولين. قال ابنُ عباسٍ: «النُّعاس في القتال أمَنَة من اللَّهِ، وفي الصَّلاةِ وسوسة من الشَّيطانِ» . قوله: {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ} العامَّةُ على «ماءً» ، و «ليطُهِّركُم» متعلقٌ ب: «يُنَزّل» . وقرأ الشعبيُّ: «مَا ليُطهركُم» بألفٍ مقصورة، وفيها تخريجان، أشهرهما وهو الذي ذكره ابن جني وغيره - «أنَّ» «مَا» بمعنى «الَّذي» و «لِيُطهِّركُم» صلتها. قال بعضهم: تقديره: الذي هو ليطهركم. فقدَّر الجار خبراً لمبتدأ محذوف، والجملة صلة ل «مَا» وقد ردَّ أبو حيانهذين التخريجين بأنَّ لامَ «كَيْ» لا تقعُ صلةً. والثاني: أن «ما» هو ماء بالمدّ، ولكن العرب قد حذفتْ همزته فقالوا: «شَرِبْتُ مًا» بميم منونة حكاه ابن مقسم. وهذا لا نظير له، إذ لا يجُوزُ أن يُنتهك اسمٌ معربٌ بالحذفِ حتَّى يبقى على حرفٍ واحدٍ، إذا عرف هذا؛ فيجُوزُ أن يكون قصر «ماء» ، وإنَّما لم يُنونهُ إجراء للوصل مجرى الوقف، ثم هذه الألفُ تحتملُ أن تكون عين الكلمة، وأنَّ الهمزة محذوفةٌ، وهذه األفُ بدلٌ من الواوِ التي في «مَوَهَ» في الأصل، ويجوزُ أن تكون المبدلة من التَّنوين، وأجرى الوصل مُجْرَى الوقف، والأوَّلُ أوْلَى، لأنَّهم يُرَاعُونَ في الوقف ألاَّ يتركُوا الموقوف عليه على حرفٍ واحدٍ نحو: «مُرٍ» اسم فاعل من: أرَى يُري. فصل رُوي أنَّهم حَفَرُوا موضعاً في الرَّملِ، فصار كالحوض الكبير، واجتمع فيه الماء حتَّى شربُوا منه وتطهروا وتزودوا. وقيل: إنَّهم لمَّا عطشوا ولم يجدوا الماء ثمَّ نامُوا واحتلمُوا تضاعفت حاجتهم إلى الماء ثم إنَّ المطر نزل وزالت عنهم تلك البليّة والمِحْنَة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 468 ومن المعلومِ بالعادة أنَّ المؤمن يستقذر نفسه إذا كان جُنُباً، ويغتم إذا لم يمكن من الاغتسال، وقد يستدل بهذا على حصول اليسر وزوال العسر. قوله: «ويُذْهِبُ عنكُمْ» نسق على «لِيُطَهِّركُم» وقرأ عيسى بنُ عُمَرَ: «ويذْهِبْ» بسكون الباء وهو تخفيف سمَّاهُ أبُو حيَّان: جَزْماً. والعامة على «رِجْزَ» بكسر الرَّاءِ وبالزاي. وقرأ ابنُ محيصن: بضمِّ الراءِ، وابنُ أبي عبلة بالسِّين، وقد تقدَّم الكلامُ على كلِّ واحد منهم. ومعنى: رجز الشيطانِ ههنا: ما ينشأ عن وسوسته، وقيل: الاحتلام، وقيل: إن الكفار لمَّا نزلوا على الماءِ وسوس الشَّيطانُ للمسلمينِ وخوَّفَهُم من الهلاكِ، فلمَّا نزل زالت تلك الوسوسة. فإن قيل: فأيُّ هذه الوجوه أوْلَى؟ . فالجوابُ: أنَّ قوله «لِيُطهِّركُم» معناه ليزيلَ الجنابة عنكم، فلوْ حملنا قوله {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} على الجنابةِ لزم التَّكرار، وهو خلافُ الأصل. ويمكن أنْ يُجابَ بأنَّ المُرادَ من قوله «لِيُطهِّركُم» حصولُ الطَّهارةِ الشَّرعيةِ، والمرادُ: {وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان} إزالة عين المَنِيّ عن أعضائهم فإنَّهُ شيء مُسْتَخْبَثٌ. ثم نقول حمله على إزالة أثر الاحتلام أولى من حمله على إزالة الوسوسة؛ لأن تأثير الماءِ في إزالة العينِ عن العضو تأثير حقيقيّ، وتأثيره في إزالة الوسوسةِ عن القلبِ تأثير مجازي، وحمل اللفظِ على الحقيقةِ أولى من حمله على المجازِ. قوله: {وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ} أي بسبب نزول هذا المطر قويت قلوبهم وزال الخوفُ عنهم، ومعنى الرَّبط في اللغة: الشَّد، وقد تقدَّم في قوله: {وَرَابِطُواْ} [آل عمران: 20] . قال الواحديُّ: «ويشبه أن تكون» على «ههنا صلة، والمعنى: وليربط قلوبكم بالصَّبر وما أوقع فيها من اليقين» . وقال ابن الخطيب: ويشبه ألاَّ يكون صلة؛ لأنَّ كلمة «عَلَى» تفيد الاستعلاء، فالمعنى أنَّ القلوب امتلأتْ من ذلك الربط حتَّى كأنَّهُ عَلاَ عليها وارتفع فوقها. قوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام} قيل: إنَّ ذلك المطرَ لبَّد ذلك الرَّمل، وصيَّرهُ بحيث لا تغوص أرجلهم فيه فقدروا على المشي عليه كيفما أرادوا، ولولا هذا المطر لما قدروا عليه، وعلى هذا فالضَّمير في «بِهِ» عائدٌ على المطرِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 469 وقيل: إنَّ ربط قلوبهم أوجب ثبات الرَّبْطِ. وقيل: لمَّا نزل المطرُ حصل للكافرينَ ضدَّ ما حصل للمؤمنين؛ لأنَّ الموضع الذي نزل الكفارُ فيه كان موضع التُّرابِ والوحل، فلمَّا نزل المطرُ عظم الوحْلُ؛ فصار ذلك مانعاً لهم من المشي كيفما أرادوا فقوله: {وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام} يدلُّ دلالة المفهوم على أنَّ حال الأعداءِ كان بخلاف ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 470 قوله: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملاائكة} في «إذْ» أوجهٌ: أحدها: أنَّهُ بدلُّ ثالث من قوله {وَإِذْ يَعِدُكُمُ} . الثاني: أن ينتصب بقوله «يُثَبِّتَ» . قالهما الزمخشريُّ ولم يبن ذلك على عودِ الضمير. وأمَّا ابنُ عطية: فبناه على عَوْدِ الضَّمير في قوله «بِهِ» فقال: العاملُ في «إذْ» العاملُ الأول على ما تقدَّم فيما قبلها، ولو قدَّرناهُ قريباً لكان قوله: «ويُثَبِّتَ» على تأويل عوده على الرَّبْطِ. وأمَّا على تأويل عوده على: «المَاءِ» فيقلق أن يعمل «ويُثَبِّتَ» في «إذ» وإنَّما قلق ذلك عنده لاختلاف زمان التثبُّت وزمان الوحي، فإنَّ إنزالَ المطر وما تعلَّق به من تعليلاتٍ متقدمٌ على تغشية النُّعاس، وهذا الوحيُ وتغشيةُ النُّعاس والإيحاءُ كانا وقت القتال. قوله: «أنِّي معَكُمْ» مفعولٌ ب «يُوحِي» أي: يوحي كوني كعكم بالغلبةِ والنصر. وقرأ عيسى بن عمر - بخلافٍ عنه - «أنِّي مَعَكُمْ» بكسرِ الهمزةِ وفيه وجهان: أحدهما: أنَّ ذلك على إضمار القول، وهو مذهب البصريين. والثاني: إجراء «يُوحِي» مُجْرَى القول؛ لأنَّهُ بمعناه، وهو مذهب الكوفيين. فصل في المعنى وجهان: أحدهما: أنَّه تعالى أوحى إلى الملائكة بأنَّهُ تعالى معهم أي مع الملائكة حال إرسالهم رِدْءاً للمسلمين. والثاني: أنَّهُ تعالى أوحى إلى الملائكة أني مع المؤمنين فانصروهم، وثبتوهم، وهذا أولى؛ لأن المقصود إزالة التَّخويف، والملائكةُ لم يخافوا الكُفَّار، وإنَّما الخائف هم المسلمون. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 470 ثم قال: {فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ} في كيفيَّةِ هذا التَّثْبيت وجوهٌ: فقيل: إنَّهم عرَّفُوا الرَّسُول - عليه الصَّلاة والسَّلام - أنَّ الله ناصر المؤمنين والرَّسول عرَّف المؤمنين ذلك، فهذا هو التثبيتُ. وقيل: إنَّ الشيطان كما يُمكنه إلقاء الوسوسة إلى الإنسان، فكذلك الملك يمكنه إلقاء الإلهامِ إليه، فالتثبيت من هذا الباب. وقيل: إنَّ الملائكة كانوا يتشبَّهُون بصورِ رجال من معارفهم وكانوا يمدونهم بالنَّصر والفتح، والظَّفَرِ. قول: {سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} وهذا من النعم الجليلة، لأنَّ أمير النفس هو القلب فلمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى أنَّهُ ربط قلوب المؤمنين أي: قوَّاها، وأزال الخوف عنها ذكر أنه ألقى الرُّعْبَ في قلوب الكافرينَ، فكان ذلك من أعظمِ نعم الله تعالى على المؤمنين. قوله: «فاضْرِبُوا» قيل: هذا أمر للملائكة متصلٌ بقوله تعالى: «فَثَبِّتُوا» . وقيل: أمر للمؤمنين وهو الصَّحيح لما تقدَّم من أنَّ الملائكة لم ينزلوا للمقاتلة، بل لتقوية قُلُوبِ المؤمنين وتثبيتهم. قوله: «فوْقَ الأعناقِ» فيه أوجه: أحدها: أنَّ «فوْقَ» باقيةٌ على ظرفيتها والمفعولُ محذوفٌ، أي: فاضربوهم فوق الأعناقِ. علَّمَهُم كيف يضربونهم. والثاني: أنَّ «فوْقَ» مفعولٌ به على الاتَّساع؛ لأنه عبارةٌ عن الرَّأسِ، كأنَّه قيل: فاضربوا رُءوسهم، وهذا ليس بجيد؛ لأنَّهُ لا يتصرَّف. وزعم بعضهم أنه يتصرَّف، وأنك تقول: فوقُك رَأسُك برفع فوقك، وهو ظاهرُ قول الزمخشريِّ، فإنه قال: «فَوْقَ الأعْنَاقِ» أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح لأنَّها مفاصلٌ. الثالث: - وهو قول أبي عبيدة -: أنَّها بمعنى «على» أي: على الأعناقِ ويكون المفعولُ محذوفاً تقديره: فاضربوهم على الأعناق، وهو قريبٌ من الأول. الرابع: قال ابنُ قتيبة: هي بمعنى: «دون» . قال ابن عطيَّة: «وهذا خطأ بيِّنٌ وغلطٌ فاحشٌ، وإنَّما دخل عليه اللَّبْس من قوله: {بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا} [البقرة: 26] أي: فما دونها وليست» فوق «هنا بمعنى» دون «وإنَّما المرادُ: فَمَأ فوقها في القلَّة والصِّغَرِ» . الخامس: أنها زائدةٌ أي: اضْرِبُوا الأعناقَ، وهو قول أبي الحسنِ. وهذا عند الجمهور خطأ؛ لأنَّ زيادة الأسماءِ لا يجوزُ. قوله: { ... مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} يجوزُ أن يتعلَّق: «مِنْهُمْ» بالأمر قبله، أي: ابتدئوا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 471 الضَّرب من هذه الأماكن، وهذا الكلامُ مع ما قبله معناه: اضربوهم في جميع الأماكن والأعضاءِ من أعاليهم إلى أسافلهم، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال من: «كُلَّ بنانٍ» لأنَّهُ في الأصل يجوزُ أن يكون صفةً لو تأخَّر، قال أبُو البقاءِ: «ويَضْعُفُ أن يكون حالاً من» بَنَانٍ «إذْ فيه تقديمُ حالِ المضافِ إليه على المضاف» . فكأنَّ المعنى: اضربوهم كيف ما كان. قال الزمخشريُّ: يعني ضرب الهام. قال: [الوافر] 2677 - ... ... ... ... ... ... ..... وأضْرِبُ هَامَة البْطَلِ المُشِيحِ وقال: [البسيط] 2678 - غَشَّيْتُهُ وهْوَ في جَأواء بَاسِلَةٍ ... عَضْباً أصَابَ سَواءَ الرَّأسِ فانْفلقَا وقال ابن عطية: ويُحتمل أن يريد بقوله: «فوق الأعْنَاقِ» وصْف أبلغِ ضرباتِ العنقِ، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس. ثم قال: ومنه قوله: [الوافر] 2679 - جَعَلْتُ السَّيْفَ بَيْنَ الجِيدِ مِنْهُ ... وبَيْنَ أسِيلِ خَدَّيْهِ عِذَارَا وقيل: هذا مِنْ ذكرِ الجزء وإرادة الكل؛ كقول عنترة: [الكامل] 2680 - عَهْدِي بِهِ شَدَّ النَّهار كأنَّمَا ... خُضِبَ البنَانُ ورأسُهُ بالعِظْلِمِ والبَنَان: قيل: الأصابعُ، وهو اسمُ جنسٍ، الواحد: بنانةٌ؛ قال عنترةُ: [الوافر] 2681 - وأنَّ الموتَ طوْعُ يَدِي إذا مَا ... وصَلْتُ بنانَهَا بالهِنْدُوَانِي وقال أبو الهيثم: «البنانُ: المفاصِلُ، وكل مفصل بنانة» . وقيل: البنانُ الأصابع من اليدين والرِّجلين، وجميع المفاصل من جميع الأعضاء، وأنشد لعنترة: [الطويل] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 472 2682 - وقَدْ كانَ فِي الهَيْجَاءِ يَحْمِي دِمَاءَهَا ... ويَضْرِبُ عِنْدَ الكَرْبِ كُلَّ بنانِ وقد تُبْدلُ نونُه الخيرة ميماً؛ قال رؤبةُ: [الرجز] 2683 - يَا هَالَ ذاتَ المَنْطِقِ التَّمْتَامِ ... وكَفِّكِ المُخَضَّبِ البَنَامِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 473 قوله: «ذَلِكَ بأنَّهُمْ» ، «ذلكَ» مبتدأ وخبر، والإشارةُ إلى الأمر بضربهمٍ، والخطابُ يجوزُ أن يكون للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويجوز أن يكون للكفَّارِ، وعلى هذا فيكونُ التفاتاً. كذا قال أبُو حيَّان وفيه نظر لوجهين: أحدهما: أنه يلزمُ من ذلك خطابُ الجمع بخطاب الواحد، وهو ممتنعٌ أو قليلٌ، وقد حُكِيَتْ لُغَيَّة. والثاني: أنَّ بعده: {بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله} فيكون التفت من الغيبةِ إلى الخطاب في كلمة واحدة، ثمَّ رجع إلى الغيبة في الحال، وهو بعيدٌ. قوله: {وَمَن يُشَاقِقِ الله} «مَنْ» مبتدأ، والجملةُ الواقعة بعدها خبرها، أو الجملة الواقعة جزءً أو مجموعهما، ومن التزم عود ضمير من جملة الجزاءِ على اسمِ الشَّرط قدَّرهُ هُنَا محذوفاً تقديره: فإنَّ الله شديدُ العقاب له. واتفق القُّراءُ على فكِّ الإدغام هنا في: «يُشاقِقِ» ؛ لأنَّ المصاحفَ كتبته بقافين مفكوكتين، وفَكُّ هذا النوعِ لغةُ الحجاز، والإدغامُ بشروطه لغة تميم. فصل والمعنى: أنَّه تعالى ألقاهم في الخزي والنَّكال من هذه الوجوه الكثيرة؛ لأنهم شَاقُّوا الله ورسوله قال الزَّجَّاجُ جانبوا، وصاروا في شقّ غير شقِّ المؤمنين والشِّقُّ الجانب و «شَاقوا اللَّهَ» مجاز، والمعنى: شاقُّوا أولياءَ اللَّهِ، ودين اللَّهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 473 ثم قال: {وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب} يعني أنَّ هذا الذي نزل بهم في ذلك اليَوْمِ شيءٌ قليلٌ بالنسبة لِمَا أعدَّ لهم من العقاب يوم القيامةِ. قوله: {ذلكم فَذُوقُوهُ} يجوز في: «ذَلِكُمْ» أربعةُ أوجهٍ: أحدها: أن يكون مرفوعاً على خبر ابتداء مضمر، أي: العقاب ذلكم، أو الأمر ذلكم. الثاني: أن يرتفع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ، أي: ذلكم العقابُ وعلى هذين الوجهين؛ فيكون قوله «فَذُوقُوهُ» لا تعلُّق لها بما قبلها من جهة الإعراب. والثالث: أن يرتفع بالابتداء، والخبرُ قوله: «فَذُوقُوهُ» وهذا على رأي الأخفشِ فإنَّهُ يرى زيادة الفاء مطلقاً أعني سواءً تضمَّن المبتدأ معنى الشَّرط أمْ لا، وأمَّا غيرُهُ فلا يُجيز زيادتها إلاَّ بشرط أن يكون المبتدأ مشبهاً لاسم الشرك ما تقدَّم تقريره. واستدلَّ الأخفشُ على ذلك بقول الشاعر: [الطويل] 2684 - وقَائِلَةٍ: خَولاَنُ فانْكِحْ فَتَاتَهُمْ ... وأكرُومَةُ الحَيَّيْنِ خِلْوٌ كَمَا هِيَا وخرَّجه الآخرون على إضمار مبتدأ تقديره: هذه حَوْلاَنُ. الرابع: أن يكون منصوباً بإضمار فعل يُفسِّرهُ ما بعده، ويكون من باب الاشتغال. وقال الزمخشريُّ: «ويجوز أن يكون نصباً على: عليكم ذلكم فذوقوه كقولك: زيداً فاضربهط. قال أبو حيان:» ولا يَصِحُّ هذا التقدير، لأنَّ «عليكم» من أسماء الأفعال وأسماءُ الأفعالِ لا تُضْمَر، وتشبيهُهُ بقولك: زيداً فاضربهُ، ليس بجيّد؛ لأنَّهم لم يُقدِّرُوهُ ب «عليك زيداً فاضربه» وإنَّما هذا منصوبٌ على الاشتغالِ «. قال شهابُ الدِّين: يجوزُ أن يكون نَحَا الزمخشريُّ نحو الكوفيين؛ فإنَّهم يجرونهم مجرى الفعل مطلقاً، ولذلك يُعْمِلُونه متأخراً نحو {كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ} [النساء: 24] . وقال أبُو البقاء: «ويجوز أن يكون في موضع نصب، أي ذُوقُوا ذلكم، ويجعل الفعلُ الذي بعده مُفَسِّراً له، والأحسن أن يكون التقدير: بَاشِرُوا ذلكم فذوقوه، لتكون الفاءُ عاطفةً» قدَّر الفعل ير وافقٍ لما بعده لفظاً مع إمكانه، وأيضاً فقد جعل الفاء عاطفةً لا زائدةً وقد تقدَّم تحقيقُ الكلام في هذه الفاء عند قوله: {وَإِيَّايَ فارهبون} [البقرة: 40] . قوله {وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار} الجمهورُ على فتح «أنَّ» وفيها تخريجات أحدها: أنها، وما في حيَّزها في محل رفع على الابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديره: حَتْمٌ استقرارُعذاب النار للكافرين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 474 الثاني: أنها خبر مبتدأ محذوف أي: الحتم، أو الواجب أنَّ للكافرين عذاب النَّارِ. الثالث: أن تكون عطفاً على: «ذَلِكُمْ» في وجهيه قاله الزمخشريُّ. ويعني بقوله «في وجهيه» أي: وجهي الرفع وقد تقدَّما. الرابع: أن تكون في محلِّ نصب على المعيَّة. قال الزمخشريُّ: «أو نصب على أنَّ الواوَ بمعنى» مع «والمعنى: ذُوقُوا هذا العذابَ العاجل مع الآجل الذي لكم في الآخرة، فوضع الظاهرَ موضع المضمر» : يعني بقوله: «وضع الظَّاهر موضع المضمر» أنَّ أصل الكلام فذوقوه وأنَّ لكم فوضع «لِلْكافِرينَ» موضع «لَكُمْ» شهادةً عليهم بالكفر ومنبهةً على العلّة. الخامس: أن يكون في محل نصب بإضمار «واعلموا» . قال الفراءُ: يجوزُ نصبه من وجهين: أحدهما: على إسقاط الباء، أي: بأنَّ للكافرين. والثانيك على إضمارِ «اعلموا» ؛ قال الشاعر: [الرجز] 2685 - تَسْمَعُ للأخشَاءِ عنه لغطاً ... وللْيَديْنِ جُسْأةَ وبَدَدَا أي: وترى لليدين بدَدا، فأضمر «تَرَى» كذلك: «فَذُوقُوهُ» واعلموا: «أنَّ لِلْكافِرينَ» . وأنكره الزجاج أشدَّ إنكارٍ. وقال: لو جاز هذا لجاز: زيدٌ قائمٌ وعمراً منطلقاً، أي: وترى عمراً منطلقاً ولا يُجيزه أحدٌ. ونبَّه بقول «فَذُوقُوه» وهو ما عجل من القتل والأسر على أنَّ ذلك يسير بالإضافة إلى عذاب القيامة فلذلك سمَّاه ذوقاً لأن الذوق لا يكون إلاَّ لتعرف الطعم، فقوله: «فَذُوقُوهُ» يدلَّ على أنَّ الذوق يكون في إدراك غير المطعوم كقوله {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 475 قوله تعالى: {يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً} الآية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 475 في «زَحْفاً» وجهان: أحدهما: أنه منصوبٌ على المصدر، وذلك النّاصب له في محلِّ نصب على الحال، والتقديرُ: إذا لقيتُمُ الذين كَفَرُوا زَاحِفينَ زَحْفاً أو يَزْحَفُونَ زحفاً. والثاني: أنه منصوبٌ على الحال بنفسه، ثُمَّ اختلفوا في صاحب الحال، فقيل: الفاعلُ أي وأنتم زَحْفٌ من الزُّحوفِ، أي: جماعة، أو وأنتم تمشون إليهم قليلاً قليلاً، على حسب ما يُفَسَّر به الزَّحْف، وسيأتي. وقيل: هو المفعول، أي: وَهُمْ جَمٌّ كثير، أو يمشون إليكم. وقيل: هي حالٌ منهما، أي: لقيتموهم مُتزاحفين بعضكم إلى بعض، والزَّحْفُ الدُّنو قليلاً قليلاً، يقال: زَحَفَ يَزْحَفُ إليه بالفتح فيها فهو زَاحفٌ زَحْفاً، وكذلك تَزَحَّفَ وتَزَاحَفَ وأزْحَفَ لنا عَدُوُّنَا، أي: دَنَوا لقتالنا. وقال اللَّيْثُ: الزَّحْفُ: الجماعةُ يمشون إلى عدوِّهم؛ قال الأعشى: [الكامل] 2686 - لِمَنْ الظَّعَائنُ سَيْرُهُنَّ تَزَحُّفُ ... مِثْلَ السَّفينِ إذَا تَقَاذَفُ تَجْدِفُ وهذا من باب إطلاق المصدر على العين، والزَّحْفُ: الدَّبيب أيضاً، مِنْ زَحَفَ الصبيُّ قال امرؤُ القيس: [المتقارب] 2687 - فَزَحْفاً أتَيْتُ عَلَى الرُّكْبَتَيْنِ ... فَثَوْباً لَبِسْتُ وثَوْباً أجُرّ ويجوزُ جمعُهُ على: زُحُوف ومَزَاحِف، لاختلافِ النوع؛ قال الهذليُّ: [الوافر] 2688 - كَأنَّ مَزاحِفَ الحَيَّاتِ فِيهِ ... قُبَيْلَ الصُّبْحِ آثَارُ السِّيَاطِ ومَزاحِف: جمع «مَزْحف» اسم المصدر. قوله: {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} مفعول: «تولُّوهم» الثَّاني هو «الأدْبار» ، وكذا «دُبُره» مفعول ثان ل: «يُولِّهِمْ» وقرأ الحسن: بالسُّكونِ كقولهم: عُنْق في عُنُق، وهذا من باب التَّعريض حيث ذكر لهم حالةً تُسْتَهْجَنُ من فاعلها؛ فأتى بلفظ الدُّبُر دُونَ الظَّهر لذلك، وبعضهم من أهل علم البيان سمَّى هذا النوع كنايةً، وليس بشيء. قوله: «إلاَّ مُتَحرفاً» في نصبه وجهان: الجزء: 9 ¦ الصفحة: 476 أحدهما: أنَّهُ حال. والثاني: أنه استثناء وقد أوضح ذلك الزمخشري. فقال: «فإن قلت: بِمَ انتصبَ:» إلاَّ مُتَحرِّفاً «؟ قلتُ: على الحالِ و» إلاَّ «لغوٌ، أو على الاستثناءِ من المُولِّين: أي ومنْ يُولِّهم إلا رجلاً منهم مُتَحرفاً أو مُتَحيزاً» . قال أبُو حيان: «لا يردُ بقوله» إلاَّ «لغوٌ أنَّها زائدةٌ، إنَّما يريد أنَّ العامل وهو» يُولِّهِمْ «وصل لِمَا بعدها كقولهم في» لا «من قولهم: جئت بلا زاد - إنَّها لغوٌ. وفي الحقيقة هي استثناءٌ من حال محذوف والتقدير: ومَنْ يُولِّهِم ملتبساً بأية حال إلاَّ من حال كذا، وإن لم تُقدَّرُ حالٌ محذوفة لم يَصِحَّ دخولُ» إلاَّ «لأن الشَّرط عندهم واجبٌ، والواجبُ حكمُهُ ألاَّ تدخل» إلاَّ «فيه لا في المفعول، ولا في غيره من الفضلات، لأنه استثناء مُفرغ، والمفرَّغ لا يكون في الواجب، إنَّما يكون مع النفي أو النهي أو المؤول بهما، فإن جاء ما ظاهرُه خلافُ ذلك يُؤوَّل» . قال شهابُ الدِّينِ: «قوله لا في المفعول ولا في غيره من الفضلات، لا حاجة إليه لنَّ الاستثناء المفرغ لا يدخل في الإيجاب مطلقاً، سواءٌ أكان ما بعد إلاَّ فضلةً أو عمدةً فذكرُ الفضلةِ والمفعول يوهم جوازه في غيرهما» . وقال ابنُ عطيَّة: «وأمَّا الاستثناءُ فهو من المُولِّين الذين تتضمَّنهم» مَنْ «فجعل نصبه على الاستثناء» . وقال جماعةٌ: إنَّ الاستثناءَ من أنوع التولِّي، ورُدَّ هذا بأنه لو كان كذلك لوجب أن يكون التركيبُ: إلاَّ تحيُّزاً أو تحرُّفاً، والتَّحيُّزُ والتَّحَوُّزُ: الانثمامُ، وتحوَّزت الحيَّة: انطوَتْ، وحُزْتُ الشَّيء: ضَمَمْتُهُ، والحَوْزَةُ: ما يَضُمُّ الأشياء، ووزنُ «متحيَّز» «مُتَفَيعِل» والأصل «مُتَحيْوِز» فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسُّكُون فقلبت الواو ياءً، وأدغمت في الباء بعدها، ك: مَيِّت، ولا يجوزُ أن يكون: «مُتفَعِّلاً» ؛ لأنَّه لو كان كذلك لكان «متحوِّزاً» ، فأمَّا متحوِّز ف «متفعِّل» . فصل معنى الآية: إذا ذهبتم للقتال، فلا تولوهم الأدْبَارَ: أي لا تنهزموا، فتجعلوا ظهوركم ممَّا يليهم ثم بيَّن أنَّ الانهزام محرم إلاَّ في حالتين: إحداهما: أن يكون مُتحَرّفاً للقتال، أي: أنه يجعل تحرفه أنه منهزم، ثم ينعطف عليه، وهو أحد أبواب خدع الحرب ومكايدها. يقال: تحرَّف وانحرف إذا زالَ عن وجهة الاستواء. والثانية: قوله {أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ} والتَّحيز الانضمام كما تقدَّم، والفئة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 477 الجماعةُ، فإذا كان هذا المنهزم منفرداً، وفي الكفار كثرة، وغلب على ظنه أنه إن ثبت قتل من غير فائدة، وإن انضمَّ إلى جمع من المسلمين ليستعين بهم ويعودون إلى القتال، فربَّمَا وجب عليه التَّحيُّز إلى هذه الفئة فضلاً عن أن يكون جائزاً. والحاصل أن الانهزام من العدو حرام، إلاَّ في هايتن الحالتين، وهذا ليس بانهزام في الحقيقة ثمَّ قال تعالى: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ} إلاَّ في هاتين الحالتين {فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ} في الآخرة {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير} [الأنفال: 16] . فصل قال أبو سعيد الخدري: هذا في أصحاب بدر خاصة؛ لأن ما كان يجوز لهم الانهزام، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان معهم، ولم يكن فئة يتحيّزون إليها دون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقد وعده الله بانّصر والظّفر فلم يكن لهم التحيّز إلى فئةٍ أخرى. وأيضاً فإنَّ اللَّه شدد الأمر على أهل بدرٍ؛ لأنه كان أول جهاد، ولو اتفق للمسلمين انهزام فيه، لزم منه الخلل العظيم. فلهذا وجب التشديدُ والمبالغة، ومنع اللَّهُ في ذلك اليوم من أخذ الفداء من الأسرى لهذا السَّبب، وهذا قول الحسنِ وقتادة والضحاك. قال يزيدُ بن أبي حبيب: أوجب اللَّهُ النار لِمَنْ فَرَّ يوم بدر، فلمَّا كان يوم أحد قال: {وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ} [آل عمران: 155] . ثم كان يوم حنين بعده فقال: {ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ} [التوبة: 25] ثم قال بعده {ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ} [التوبة: 27] . وقال عبدُ الله بنُ عُمَرَ: «كُنَّا في جيش بعثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فحاص النَّاسُ حَيْصَةً، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 478 فانْهَزَمْنَا، فقُلْنَا يا رسول الله: نَحْنُ الفَرَّارُونَ، فقال:» لا بَلْ أنتُمْ العَكَّارُونَ «أنَّا فِئَةُ المُسلمينَ» وقال محمدُ بن سيرين: «لما قُتل أبو عبيدة جاء الخبر على عمر فقال: لو انحاز إليَّ كنتُ له فئةٌ فأنا فئةُ كلِّ مُسْلمٍ» وقيل: حكم الآية عام في كل حرب، ويؤيده قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «من الكبائر الفِرَارُ يَوْمَ الزَّحْفِ» والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السَّبب. وقال عطاءُ بن أي رباح: «هذه الآية منسوخةٌ بقوله: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ} [الأنفال: 66] فليس للقوم أن يفرُّوا من مثلهم فنسخت تلك إلاَّ في هذه العدة. وعلى هذا أكثر أهل العلم أنَّ المسلمين إذا كانوا على الشطر من عددهم لا يجوز لهم الفرار غلاَّ مُتحرفاً أو مُتحيِّزاً إلى فئةٍ، وإن كانوا أقلَّ من ذلك جاز لهم أن يولوا عنهم وينحازوا عنهم» . قال ابن عباس: «مَنْ فرَّ من ثلاثة فلم يفر، ومن فَرَّ من اثنين فقد فرّ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 479 قوله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ} في هذه «الفاء» وجهان: أحدهما - وبه قال الزمخشري -: أنَّهَا جوابُ شرطٍ مقدر، أي: إن افتخرتم بقتلهم فلم تقتلوهم. قال أبو حيان: «وليست جواباً، بل لِرْطِ الكلامِ بعضه ببعضٍ» . قوله {ولكن الله قَتَلَهُمْ} قرأ الأخوان، وابن عامر: {ولكن الله قَتَلَهُمْ} ، {ولكن الله رمى} بتخفيف «لكن» ورفع الجلالة، والباقون بالتَّشديد ونصب الجلالةِ، وقد تقدَّم توجيه القراءتين في قوله: {ولكن الشياطين} [البقرة: 102] وجاءت «لكن» هنا أحسن مجيءٍ لوقوعها بين نفي وإثبات. قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} نفى عنه الرمي، وأثبته له، وذلك باعتبارين، أي: ما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 479 رَمَيْتَ على الحقيقة إذا رَمَيْتَ في ظاهرِ الحال، أوْ مَا رَميْتَ الرُّعْبَ في قلوبهم إذْ رَمَيْتَ الحَصَيَات والتراب. وقوله: «ومَا رَمَيْتَ» هذه الجملة عطفٌ على قوله: «فَلَمْ تَقْتلُوهُمْ» ؛ لأنَّ المضارع المنفي ب «لَمْ» في قوة الماضي المنفي ب «مَا» فإنَّك إذا قلت: «لَمْ يَقُمْ» كان معناه: ما قَامَ ولم يقل هنا: فَلَمْ تقتلوهم إذ قتلموهم،: ما قال: «إذْ رَمَيْتَ» مبالغةً في الجملة الثانية. فصل قال مجاهد: «سبب نزول هذه الآية أنَّهم لمَّا انصرفُوا من القتالِ كان الرَّجُلُ يقولُ: أنا قتلتُ فلاناً، ويقول الآخر مثله فنزلت الآية» ومعناها: فلم تقتلوهم أنتم بقوتكم ولكنَّ الله قتلهم بنصره إياكم وتقويته لكم. وقيل: ولكن الله قتلهم بإمدادِ الملائكة. وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} في سبب نزولها ثلاث أقوال: الأول: وهو قول أكثر المفسِّرين «أنَّ رسول الله صلى اله عليه وسلم ندب النَّاس، فانطلقُوا حتَّى نزلوا بدراً، ووردت عليهم روايا قريش، وفيهم أسلم غلام أسود لبني الحجاج، وأبو يسار غلام لبني العاص بن سعد، فأتوا بهما إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أين قريش؟ قالا: هم وراء الكَثيبِ الذي ترى بالعدوة القصوى، والكثيب: العقنقل. فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لهما: كم القومُ؟ قالا: كثيرٌ. قال: ما عددهم؟ قالا: لا ندري. قال: كم ينحرون كلَّ يوم؟ قالا: يوماً عشرة، ويماً تسعة. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القوم ما بين التسعمائة إلى الألف، ثم قال: فَمَنْ فيهم من أشراف قريش؟ قالا: عتبةُ بن ربيعة، وشيبةُ بن ربيعة، وأبو البختري بن هشامُ، وحكم بن حزام، والحارثُ بن عامر، وطعمة بن عديّ، والنضر بن الحارث، وأبُو جهل بن هشام، وأميةُ بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسُهَيل بن عمرو. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» هَذِه مَكَّةُ قَدْ ألْقَتْ إلَيْكُمْ أفْلاذَ كَبدِهَا «فلما أقبلت قريش، ورآها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تصوب من العقنقل، وهو الكثيبُ الذي جاءوا منه إلى الوادي. فقال:» اللَّهم هذه قريشُ قَدْ بخُيلائِهَا وفَخْرِهَا تُحادكَ، وتُكذب رسُولكَ، اللَّهُمَّ فَنصرُكَ الَّذِي وَعَدْتَنِي «، فأتاه جبريل، فقال: خُذْ قبضةً من تراب، فارمهم بها، فلمَّا التقى الجمعان، تناول رسولُ الله كفاً من الحصى عليه تراب، فرمَى به وجوه القوم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 480 وقال: شاهتِ الوجوه، فلم يق مشرك إلاَّ ودخل في عينه وفمه ومنخريه منها. فانهزمُوا وردفهم المؤمنون يقتلونهم ويأسرونهم.» وقال قتادةُ وابن زيد: ذكر لنا «أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخذ يوم بدرٍ ثلاث حصيات فرمَى بحصاة في ميمنة القوم، وبحصاة في ميسرة القوم، وبحصاة بين ظهرهم، وقال: شاهت الوجوه فانهزموا» فذلك قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] . إذْ ليس في وُسْع أحد من البشر أن يَرْمي كَفّاص من الحصى إلى وجوه جيش، فلا تبقى فيهم عينٌ إلاَّ ويُصِيبُهَا منه شيء. وقيل: المعنى: وما بلغت إذ رميت ولكن اللَّه بلغ، وقيل: وما رميتَ بالرُّعْبَ في قلوبهم إذ رميت بالحصاء ولكن اللَّه رمى الرُّعب في قلوبهم حتى انهزموا. القول الثاني: أنَّهَا نزلت يوم خيبر. «روي أنّه عليه الصَّلاة والسَّلام أخَذَ قوساً وهو على باب خيبر، فرمى سهماً، فأقبل السّهمُ حتّى قتل ابن أبي الحقيق وهو على فراشه» ، فنزلت الآية. القول الثالث: أنَّهَا نزلت في يوم أحد، «وذلك أن أمية بن خلف أتَى النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعظم رميمٍ وقَتَّةٍ، وقال: يا محمَّدُ، من يُحْيي هذا وهو رميمٌ؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» يُحييه اللَّهُ يُميتُكَ ثم يُحْييك ثم يدخلك النَّار «فأسر يوم بدر، فلما افتدي قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّ عندي فرساً أعلفها كلَّ يوم فرقاً من ذرة كي أقتلك عليها. فقال عليه السَّلامُ:» بَلْ أنا أقْتُلكَ إنْ شاءَ اللَّهُ «فلمَّا كان يوم أحد أقبل أبَيّ يركض على ذلك الفرس حتى دنا من رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» اسْتَأخِرُوا «ورماه بحربة فكسر ضِلعاً من أضلاعه» ، فحمل فمات ببعض الطري ففي ذلك اليوم نزلت الآية. والصَّحيحُ أنَّها نزلت في يوم بدر وإلاَّ لدخل في أثناء القصَّة كلام أجنبي عنها، وذلك لا يليق بل لا يبعد أن يدخل تحته سائر الوقئع؛ لأنَّ العبرة بعموم اللَّفْظِ لا بخصوص السَّببِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 481 فصل ومعنى الآية: أنَّ القبضةَ من الحصباءِ الَّتي رميتها، فأنت ما رميتها في الحقيقة؛ لأنَّ رمْيَكَ لا يبلغ أثره إلا ما يبلغه رمي سائر البشر، ولكن اللَّه رماها حيثُ أنفذ أجزاء ذلك التراب وأوصلها إلى عيونهم، فصورة الرمية صدرت من الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - وأثرها إنَّما صدر من الله تعالى، فلهذا المعنى صح فيه النفي والإثبات. واحتج أهل السُّنَّةِ بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة للَّه تعالى؛ لأنَّ الله تعالى قال: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} [الأنفال: 17] . ومن المعلوم أنهم جرحوا، فدلَّ هذا على أان حدوث تلك الأفعال إنما حصل من اللَّه تعالى. وقوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ} أثبت كونه عليه الصَّلاة والسَّلام رامياً ونفى عنه كونه رامياً، فوجب حمله على أنه رماه كسباً وأنه ما رماه خلقاً. فإن قيل: أما قوله: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ} فيه وجوه: أحدها: أنَّ قتل الكُفَّارِ إنما تيسَّر بمعونة الله ونصره وتأييده، فصحت هذه الإضافة. وثانيها: أن الجرح كان إليهم وإخراج الروح كان إلى الله، والتقدير: فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم. وأما قوله: {وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى} . قال القاضي: قيل: فيه أشياء: منها أنَّ الرمية الواحدة لا توجب وصول التُّراب إلى عيونهم، فكان وصول أجزاء التراب إلى عيونهم ليس إلاَ بإيصالِ اللَّهِ تعالى، ومنها: أنَّ التُرابَ الذي رماه كان قليلاً فيمتنع وصول ذلك القدر إلى عيون الكل، فدل على أنَّ الله تعالى ضمَّ إليها سائر أجزاء التُّرابِ، فأوصلها إلى عيونهم. ومنها: أنَّ عند رميه ألقى الله الرُّعْبَ في قلوبهم، فكان المُرَادُ من قوله: {ولكن الله رمى} هو أنه تعالى رمى قلوبهم الرُّعْب. فالجوابُ: أنَّ كلَّ ما ذكروه عدولٌ عن الظَّاهرِ، والأصلُ في الكلامِ الحقيقةُ. قوله: {وَلِيُبْلِيَ المؤمنين} متعلقٌ بمحذوفٍ، أي: وليبلي فعل ذلك، أو يكون معطوفاً على علةٍ محذوفة، أي: ولكن اللَّه رمى ليمحق الكفار، وليُبْلي المؤمنين، والبلاء في الخير والشَّر، قال زهير: [الوافر] 2689 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... وإبْلاهُمَا خَيْرَ البَلاءِ الَّذِي يَبْلُو والهاءُ في «مِنْهُ» تعود على الظفر بالمشركين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 482 وقيل: على الرمي قالهما مكيٌّ، والظَّاهر أنها تعود على الَّهِ تعالى. وقوله: «بَلاَءً» يجوزُ أن يكون اسم مصدر، أي: إبلاء، ويجوزُ أن يكون أريد بالبلاء نفس الشيء المبلو به، والمرادُ من هذا البلاء الإنعام أي: ولينعم على المؤمنين نعمة عظيمة بالنصر والغنيمة والأجر. قال القاضي: ولولا أنَّ المفسرين اتفقوا على حمل البلاءِ هنا على النعمة، وإلاَّ لكان يحتمل المِحْنَة بالتكليف فيما بعده من الجهاد ثمَّ قال تعالى: {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} لدعائكم «عَلِيمٌ» بنيّاتكم. قوله: ذَلِكُمْ «يجوز فيه الرفعُ على الابتداء أي: ذلكم الأمر، والخبر محذوف قاله الحوفيُّ، والأحسنُ أن يقدَّر الخبر ذلكم البلاء حق وحتمٌ. وقيل: هو خبر مبتدأ، أي: الأمر ذلكم، وهو تقدير سيبويه. وقيل: محلُّه نصب بإضمار فعلٍ أي: فعل ذلكم، والإشارةُ ب» ذَلِكُمْ «إلى القتل والرمي والإبلاء. قوله: «وأنَّ اللَّه» يجوزُ أن يكون معطوفاً على: «ذَلِكُمْ» فيحكم علىمحلِّه بما يحكمُ على محلِّك «ذَلِكُمْ» ، وأن يكون في حلِّ نصبٍ بفعل مقدَّر أي: واعلموا أنَّ الله، وقد تقدم ما في ذلك. وقال الزمخشريُّ: «إنَّه معطوف على:» وليُبْلي «والمعنى: أنَّ الغرضَ إبلاءُ المؤمنين، توهينُ كيد الكافرين» . وقرأ ابنُ عامر والكوفيون: «مُوهِن» بسكون الواوِ وتخفيف الهاءِ، من «أوهَن» ك: أكْرَم، ونوَّن «موهن» غير حفص، وقرأ الباقون: «مُوهِّن» بفتح الواو، وتشديد الهاءِ، والتنوين، ف «كَيْد» منصوبٌ على المفعول به في قراءة غير حفص، ومخفوضٌ في قراءة حفص، وأصله النَّصْبُ وقراءة الكوفيين جاءت على الأكثرر؛ لأن ما عينه حرف حلقٍ غير الهمزة تعديته بالهمزة ولا يُعَدَّى بالتَّضعيف إلاَّ كلمٌ محفوظ نحو: وهَّنْتُه وضعَّفْتُه. فصل توهينُ الله كيدهم يكون بأشياء: بإطلاع المؤمنين على عوراتهم. وإلقاء الرعب في قلوبهم وتفريق كلمتهم. ونقض ما أبرموا بسبب اختلاف عزائمهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 483 قال ابن عبَّاسٍ: ينبئ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقول: «إنّي قد أوْهَنْتُ كَيْدَ عدوك حتى قتلت خيارهم وأسرت أشرافهم» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 484 قوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} قال الحسنُ، ومجاهد، والسُّدِّي: إنه خطابٌ للكافرين، وذلك أنَّ أبا جهل قال يوم بدر: اللَّهم، انصر أفضل الفريقين وأحقَّه بالنَّصْر. وروي أنه قال: اللَّهم، أينا كان أقطع للرَّحمِ وأفجر؛ فأهلكه الغداة. وقال السدي: «لمَّا أراد المشركون الخروج إلى بدر تعلَّقُوا بأستار الكعبة وقالوا: اللَّهُمَّ انصر أعلى الجندين وأهدى الفئتين وأكرم الحزبين وأفضل الدينين، فأنزل الله تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} أي: تستنصروا لإحدى القبيلين، فقد جاءكم النصر» . وقال آخرون: المعنى: إن تستقضوا فقد جاءكم القضاء. قال عبد الرحمن بن عوف: إني لَفِي الصَّف يوم بدر، فالتفت، فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السِّنِّ وكأني لم آمن لمكانهما، فتمنيت أن أن أكون بين أضلع منهما، إذ قال لي أحدهما سرّاً من صاحبه، أي عم أرني أبا جهل، فقلت: يا ابن أخي ما تصنعُ به؟ . قال: عاهدت الله إن رأيته أن أقتله، أو أموت دونه، وقال لي الآخر سرّاً من صاحبه مثله، فما سَرَّني أنني بين رجلين مكانهما فأشرت لهما عيله، فشدَّا عليه مثل الصقرين حتَّى ضرباهُ، وهما ابنا عفراء. وقال عكرمةُ: قال المشركون: والله ما نعرف ما جاء به فافتح بيننا وبينه بالحق، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 484 فأنزل الله تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ} الآية، أي: إن تسْتَفتِحُوا فقد جاءكم القضاء. وقال أبيّ بن كعب: هذا خطاب لأصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال الله للمسلمين: {إِنْ تَسْتَفْتِحُواْ} أي تستنصروا فقد جاءكم الفتح والنصر. روى قيس عن خباب قال: «شكونا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو متوسّد بردة له في ظل الكعبة، فقلنا له: ألا تدعو الله لنا، ألا تستنصر لنا، فجلس مُحْمرّ الوجه، فقال لنا:» لقَد كانَ مَنْ قَبْلكُم يُؤخَذُ الرجُ فيُحْفَر لهُ في الأرضِ ثُمَّ يُجاءُ بالمنشَارِ فيجعلُ فوق رأسِهِ ثُمَّ يُجعَلُ نِصفيْنِ ما يَصْرفهُ عنْ دينهِ، ويُمَشَّطُ بأمشاطِ الحديدِ ما دُونَ لَحْمِهِ وعَظْمِهِ ما يصرفهُ عن دينهِ، والله ليُتمَّنَّ الله هذا الأمر حتَّى يسير الرَّاكبُ مِنْكُم من صنعاء إلى حضْرموت لا يخافُ إلا اللَّه، ولكنَّكُم تَسْتَعْجِلُونَ « قال القاضي: وهذا القول أوْلَى؛ لأن قوله {فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} لا يليق إلا بالمؤمنين اللهم إلاَّ أن يحمل الفتحُ على الحكم والقضاء، فيمكن أن يراد به الكفار. قوله: {وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} . فإن قلنا: إن ذلك الخطاب للكفار، كان المعنى وإن تنتهوا عن قتال الرَّسول وعداوته؛ فهو خير لكم في الدّين بالخلاص من العقاب، وفي الدّنيا بالخلاص من القتل والأسر والنَّهْبِ. » وإن تَعُودُوا «إلى القتال:» نَعُدْ «أي: إلى تسليطه عليكم: {وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ} كثرة الجموع كما لم يغن ذلك يوم بدر. وإن قلنا ذلك خطاب للمؤمنين كان المعنى: إن تنتهوا عن المنازعة في أمر الأنفال وتنتهوا عن طلب الفداء على الأسْرَى، فقد كان وقع بينهم نزاع يوم بدر في هذه الأشياء حتى عاتبهم اللَّهُ بقوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ} [الأنفال: 68] . فقال تعالى: {وَإِن تَنتَهُواْ} عن مثله: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ} أنتم إلى تلك المنازعات «نَعُدْ» إلى ترك نصرتكم؛ لأن الوعد بنصركم مشروط بشرط استمراركم على الطَّاعة، وترك المخالطة ثمَّ لا تنفعكم الفئة والكثرة، فإنَّ الله لا يكون إلاَّ مع المؤمنين الذين لا يرتكبون الذنوب. قوله: «ولَن تُغْنِيَ» قرأ الجمهورُ بالتَّاءِ من فوق، لتأنيث الفئة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 485 وقرىء «ولن يُغْنِيَ» بالياء من تحت لأن تأنيثه مجازي، وللفصل أيضاً: «ولو كَثُرَتْ» هذه الجملة الامتناعية حالية، وقد تقدَّم تحقيق ذلك. قوله: {وَلَن تُغْنِيَ} قرأ نافعٌ، ابن عامر، وحفصٌ عن عاصم، بالفتح. والباقون: بالكسر، فالفتحُ من أوجه: أحدها: أنه على لام العلَّة تقديره: ولأنَّ الله مع المؤمنين كان كيت وكيت. والثَّاني: أن التقدير: ولأنَّ اللَّهَ مع المؤمنين امتنع عنادهم. والثالث: إنه خبرُ مبتدأ محذوف أي: والأمر أنَّ الله مع المؤمنين، وهذا الوجهُ الأخيرُ يقربُ في المعنى من قراءة الكسر لأنه استئناف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 486 قوله تعالى: {اأيها الذين آمنوا أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} الآية. لمَّا خاطب المؤمنين بقوله: {وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [الأنفال: 19] أتبعه بتأديبهم فقال: {أَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} ولم يبين ماذا يسمعون إلاَّ أنَّ الكلام من أول السورة إلى ههنا لما كان واقعاً في الجهاد علم أن المراد وأنتم تسمعون دعاءه إلى الجهاد. قوله {وَلاَ تَوَلَّوْا} الأصلُ: تتولُّوا فحذف إحدى التَّاءين، وقد تقدَّم الخلافُ في أيتهما المحذوفة. وقوله: {وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ} جملةٌ حالية، والضميرُ في «عَنْهُ» يعود على الرَّسول؛ لأنَّ طاعته من طاعة الله. وقيل: يعودُ على الله، وهذا كقوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] وقيل: يعودُ على الأمر بالطَّاعةِ. قوله {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ} أي: لا تكونوا كالذين يقولون بألسنتهم إنَّا قبلنا تكاليف الله تعالى: ثمَّ إنَّهم بقلوبهم لا يقبلونها، وهذه صفة المنافقين. قوله: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم البكم الذين لاَ يَعْقِلُونَ} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 486 قيل: شبَّههم بالدَّواب لجهلهم، وعدولهم عن الانتفاعِ بما يسمعونه وبما يقولونه، ولذلك وصفهم بالصُّمِّ والبكم، وبأنهم لا يعقلون. وقيل: سمَّاهم دواباً لقلة انتفاعهم بعقولهم كما قال: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] . قال ابن عبَّاسٍ: هم نفرٌ من عبد الدار بن قصي كانوا يقولون نحن صمٌّ بكم عمي عمَّا جاء به محمَّد؛ فقتلوا جميعاً بأحدٍ وكانوا أصحاب اللِّواء، ولم يسلم منهم إلاَّ رجلان: مصعب بن عمير، وسويد بن حرملة. وقيل: بل هم من الدَّواب؛ لأنه اسم لما يدبّ على الأرض ولم يذكره في معرض التَّشبيه، بل وصفهم بصفة تليقُ بهم على طريق الذَّمِّ، كما يقال لمن لا يفهم الكلام: هو شبحٌ وجسد وطلل على طريق الذمّ. وإنمَّا جُمع على جهة الذَّم وهو خبر «شَرّ» لأنه يُراد به الكثرةُ، فجمع الخبر على المعنى. ولو كان الأصم لكان الإفرادُ على اللَّفظ، والمعنى على الجمع. قوله: {الذين لاَ يَعْقِلُونَ} يجوز رفعه أو نصبه على القطع. قوله: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} سماع الفهم والقبول، ولو أسمعهم بعد أن علم أنه لا خير فيهم ما انتفعوا بذلك، ولتولَّوا وهم معرضون لعنادهم وجحدوهم الحقَّ بعد ظهوره. وقيل: إنهم كانوا يقولون للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أحي لنا قُصَيّاً فإنَّه كان شيخاً مباركاً حتى نشهد لك بالنُّبوَّة من ربك فقال اللَّه - عزَّ وجلَّ -: {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ} كلام قصيٍّ: {لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} . فصل اعلم أنَّهُ تعالى حكم عليهم بالتَّولي عن الدلائل، وبالإعراض عن الحق، وأنَّهُم لا يعقلونه البتَّة ولا ينتفعون به ألبتَّة، وإذا كان كذلك وجب أن يكون صدور الإيمان منهم مُحَالاً؛ لأنَّهُ لو صدر منهم الإيمان، لكان إمّضا أن يوجد إيمانهم مع بقاء هذا الخبر صدقاً، أو مع انقلابه كذباً، والأول محالٌ؛ لأنَّ وجود الإيمان مع الغخبار عن عدم الإيمان يكون جميعاً بين النَّقيضيْنِ وهو محالٌ، والثاني محالٌ؛ لأن انقلاب خبر اللَّهِ الصدق كذباً محالٌ، لا سيَّمَا في الزَّمانِ المنقضي وهكذا القول في انقلاب علم اللَّه جهلاً، كما تقدَّم تقريره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 487 فصل قال النُّحاة: كلمة «لو» وضعت للدلالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره. فإذا قلت: لو جئتني لأكرمتك، أفاد أنَّه ما حصل المجيءُ، وما حصل الإكرامُ، ومن الفقهاء مَنْ قال: إنَّه يفيد الاستلزام، فأمَّا الانتفاء لأجل انتفاء الغير، فلا يفيده هذا اللَّفْظُ، ويدل عليه الآية والخبر. أمَّا الآية فهذه وتقريره: أنَّ كلمة «لَوْ» لو أفادت ما ذكروه لكان قوله: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ} يقتضي أنَّهُ تعالى ما علم خيراً وما أسمعهم، ثمَّ قال {وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} فيكون معناه: أنه ما أسمعهم، وأنهم ما تولَّوا لكن عدم التولي خير من الخيرات، فأوَّل الكلام يقتضي نفي الخير، وآخره يقتضي حصول الخير، وذلك متناقض. فثبت القولُ: بأنَّهُ لو كانت كلمة: «لَوْ» تفيد انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره لوجب هذا التناقص؛ فوجب أن لا يُصار إليه. وأمَّا الخبر فقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «نِعْم الرَّجُلُ صُهَيْبٌ لو لمْ يَخَفِ اللَّه لَمْ يَعْصِهِ» فلو كانت لفظه «لَوْ» تفيدُ ما ذكروه لصار المعنى أنَّهُ خاف الله وعصاه، وذلك متناقض. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 488 فثبت أنَّ كلمة «لَوْ» لا فتيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، وإنَّما تفيدُ مجرد الاستلزام، وهذا دليل حسن إلاَّ أنَّهُ خلاف قول الجمهور. قوله تعالى : {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ} الآية. قال أبو عبيدة، والزجاج: «استَجِيبُوا» معناه: أجيبوا؛ وأنشدوا قول الغنوي: [الطويل] 2690 - ... ... ... ... ... ... . ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذاكَ مُجِيبُ وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الأمر يفيدُ الوجوب؛ لأنها تدل على أنه لا بُدَّ من الإجابة في كل ما دعاه الله إليه. فإن قيل: قوله {استجيبوا للَّهِ} أمرٌ. فلم قلتم: إنَّه على الوجوب؟ وهل النّزاع إلا فيه، فيرجع حاصل هذا الكلام إلى إثباتِ أنَّ الأمر للوجوب بناء على أنَّ هذا الأمر يفيدُ الوجوب فيقتضي إثبات الشيء بنفسه، وهو مُحال. فالجواب: أنَّ من المعلوم بالضَّرورة أنَّ كل ما أمر اللَّهُ به فهو مرغب فيه مندوب إليه، فلو حملنا قوله «اسْتَجِيبوا» على هذا المعنى كان ذلك جارياً مجرى إيضاح الواضحات وهو عبثٌ، فوجب حمله على فائدة زائدة، وهي الوجوب صوتاً لهذا النصّ عن التعطيل. ويؤيده ما روى أبو هريرة «أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مَرَّ على باب أبي بن كعب فناداه وهو في الصَّلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال:» ما منعكَ عَنْ إجابتِي «؟ فقال: كنتُ أصلِّي، فقال:» أليس الله يقول: {ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} فلامه على ترك الإجابة «متمسكاً بهذه الآية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 489 فإن قيل: مسألةُ الأمر - يفيد الوجوب - مسألةٌ قطعيَّةٌ، فلا يجوز التمسك فيها بخبر الواحد. فالجوابُ: لا نسلم أنَّ مسألة الأمر - يفيدُ الوجوب - مسألة قطعيةٌ، بل هي ظنيَّةٌ؛ لأن المقصود منها العمل، والدلائل الظنية كافية في العمل. فإن قيل: إنَّ الله تعالى ما أمر بالإجابة مطلقاً، بل بشرط خاص، وهو قوله: {إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} فلم قلتم إنَّ هذا الشرط الخاص حاصلٌ في جيمع الأوامر؟ فالجواب: أنَّ قصة أبي تدلُّ على أنَّ هذا الحكم عام ليس مخصصاً بشرط معين، وأيضاً فلا يمكن حمل الحياة ههنا على نفس الحياة؛ لأنَّ إحياء الحيِّ محالٌ؛ فوجب حملُه على شيء آخر وهو الفوز بالثواب، وكل ما دعا اللَّهُ إليه ورغب فيه مشتمل على الثواب، فكان هذا الحكم عاماً في جميع الأومر. فصل في المُرادِ بقوله» لِمَا يُحْييكُم «وجوه: أحدها: قال السُّديُّ: هو الإيمان والإسلامُ وفيه الحياة، وقال قتادةُ: يعني القرآن فيه الحياة والنَّجاة. وقال مجاهدٌ: هو الحق. وقال ابن إسحاق: الجهادُ أعزكم اللَّهُ فيه بعد الذُّلِّ، وقال القتيبيُّ: الشَّهادةُ، قال تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} [آل عمران: 169] . قوله {وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ} قال الواحديُّ حكاية عن ابن عباس، والضحاك: يحولُ بين المرءِ الكافرِ وطاعته، ويحولُ بين المطيع ومعصيته، فالسَّعيدُ من أسعده اللَّهُ، والشقيُّ من أضله الله، والقلوب بيده يقلبها كيف يشاء. وقال السُّديُّ: يحول بين الإنسان وقلبه، فلا يستطيع أن يؤمن ولا أن يكفر إلا بإذنه. وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ، وعطاءٌ: يحولُ بين المؤمن والكفر وبين الكافر والإيمان. وقيلك إنَّ القوم لمَّا دعوا إلى القتال في حالة الضعف ساءت ظنونهم واختلجت الجزء: 9 ¦ الصفحة: 490 صدورهم، فقيل لهم: قاتلُوا في سبيل اللَّهِ، واعلموا أنَّ الله يحُولُ بين المرءِ وقلبه فيبدلُ الله الخوف أمناً، والجبن جراءة. قوله: «بَيْنَ المَرْءِ» العامَّةُ على فتح الميم. وقرأ ابن أبي إسحاق: بكسرها على إتباعها لحركة الهمزة، وذلك ان في «المَرْءِ» لغتين: أفصحهما: فَتْح الميم مطلقاً، والثانية: إتباع الميم لحركة الإعراب فتقول: هذا مُرْءٌ - بضم الميم، ورأيت مَرْءاً - بفتحها، ومررت بِمِرْءٍ - بكسرها، وقرأ الحسن، والزهري: بفتح الميم وتشديد الرَّاءِ. وتوجيهها: أن يكون نقل حركة الهمزة إلى الرَّاءِ، ثم ضعَّف الراء، وأجرى الوصل مُجْرى الوقف. قوله «وأنَّهُ» يجوز أن تكون الهاء ضمير الأمر والشأن، وأن تعود على الله تعالى، وهو الأحسن لقوله: «إلَيْهِ تُحْشَرُونَ» أي إلى اللَّهِ؛ ولا تتركون مهملين. قوله {بَيْنَ المرء} . في «لا» وجهان: أحدهما: أنَّها ناهيةٌ، وعلى هذا، فالجملةُ لا يجوزُ أن تكون صفةً ل «فِتْنَةً» لأنَّ الجملةًَ الطلبية لا تقعُ صفةً، ويجوز أن تكون محمولة لقول، ذلك القولُ هو الصِّفة أي: فتنةً مقولاً فيها: لا تُصيبن، والنَّهيُ في الصورة للمصيبة، وفي المعنى للمخاطبين، وهو في المعنى كقولهم: لا أرَيَنَّكَ ههنا، أي: لا تتعاطوا أسباباً يُصيبكم بسببها مصيبة لا تخص ظالمكم، ونونُ التوكيد على هذا في محلِّها، ونظيرُ إضمار القول قوله: [الرجز] 2691 - جاءُوا بِمَذْقٍ هَلْ رَأيْتَ الذِّئْبَ قَط ... أي مقول فيها ما رأيت. والثاني: أن «لا» نافية، والجملةُ صفة ل «فِتْنَةٌ» وهذا واضحٌ من هذه الجهة إلاَّ أنَّهُ يشكل عليه توكيد المضارع في غير قسم، ولا طلب، ولا شرط، وفيه خلافٌ: هل يجري المنفيُ ب «لا» مجرى النَّهي؟ فقال بعضهم: نعم؛ واستشهد بقوله: [الطويل] 2692 - فَلا الجَارةُ الدُّنْيَا بها تَلْحَينَّهَا ... ولا الضَّيْفُ فيها إن أنَاخَ مُحَوِّلُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 491 وقال الآخر: [الطويل] 2693 - فَلاَ ذَا نَعِيمٍ يُتْرَكنْ لِنعيمِهِ ... وإنْ قال قَرِّظْني وخُذْ رِشْوةً أبَى وَلاَ ذَا بئِيسٍ يتركنَّ لِبُؤْسِهِ ... فَيَنْفَعَهُ شَكُوٌ إليه إن اشْتَكى فإذا جاز أن يُؤكد المنفيُّ ب «لا» مع انفصاله، فلأن يؤكَّد المنفيُّ غيرُ المفصول بطريق الأولى إلاَّ أنَّ الجمهور يحملون ذلك على الضرورة. وزعم الفرَّاءُ أنَّ: «لا تُصِيبَنَّ» جواب للأمر نحو: انزلْ عن الدَّابة لا تَطْرَحَنَّكَ، أي: إن تنزل عنها لا تَطْرَحنك، ومنه قوله تعالى {لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل: 18] أي: إن تدخلوا لا يَحْطِمنَّكُم، فدخلت النُّونُ لِما فيه من معنى الجزاء. قال أبو حيان. وقوله «لا يحطمنَّكُم» وهذا المثالُ، ليس نظير {فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين} ؛ لأنه ينتظم من المثالِ والآيةِ شرطٌ وجزاءٌ كما قدَّر، ولا ينتظمُ ذلك هنا، ألا ترى أنه لا يَصِحُّ تقدير: إن تتقوا فتنة لا تُصِبِ الذين ظلموا، لأنه يترتَّبُ على الشرط غيرُ مقتضاه من جهة المعنى. قال الزمخشري: «لا تُصِيبَنَّ» لا يخلو إمَّا أن يكون جواباً للأمر، أو نهياً بعد أمرٍ، أو صفة ل «فِتْنَةً» فإن كان جواباً فالمعنى: إن أصابتكُم لا تُصيب الظَّالمين منكم خاصة بل تَعُمُّكُم. قال أبو حيان «وأخذ الزمخشريُّ قول الفرَّاءِ، وزاده فساداً وخبَّط فيه» فذكر ما نقلته عنه ثم قال: «فانظر إليه كيف قدَّر أن يكون جواباً للأمر الذي هو:» اتَّقُوا «ثمَّ قدَّر أداة الشطرِ داخلةً على غير مضارع» اتقُوا «؟ فقال المعنى: إن أصابتكُم يعني: الفتنة. وانظر كيف قدَّر الفرَّاءُ، انزل عن الدَّابَّةِ لا تَطْرَحَنَّكَ، وفي قوله: {ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ} [النمل: 18] فأدخل أداة الشَّرط على مضارع فعل الأمر، وهكذا يُقدَّر ما كان جواباً للأمر» . وقيل: «لا تُصِيبَنَّ» جوابُ قسم محذوف، والجملةُ القسميةُ صفةٌ ل «فِتْنَةً» أي: فتنة واللَّه لا تُصيبنَّ، ودخولُ النُّون أيضاً قليلٌ، لأنه منفيٌّ. وقال أبُو البقاءِ «ودخلتِ النُّونُ على المنفي في غير القسم على الشُّذُوذِ» وظاهرُ هذا أنَّهُ إذا كان النَّفي في جواب القسم يَطَّرد دخولُ النُّونِ، وليس كذلك، وقيل: إنَّ اللام لامُ التَّوكيد والفعلُ بعدها مثبتٌ، وإنَّما أشبعتْ فتحةُ اللاَّمِ؛ فتولَّدت ألفاً، فدخول النُّون الجزء: 9 ¦ الصفحة: 492 فيها قياسٌ، وتأثر هذا القائلُ بقراءةِ جماعةٍ كثيرة «لتُصِيبنَّ» وهي قراءة أمير المؤمنين، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، والباقر، والربيع بن أنس، وأبي العالية، وابن جماز. وممَّن وجَّه ذلك ابنُ جني، والعجبُ أنه وجَّه هذه القراءة الشَّاذَّة بتوجيهٍ يَرُدُّهَا إلى قراءةِ العامَّة، فقال: «يجوز أن تكون قراءةُ ابن مسعود، ومن ذكر معه مخففةً من» لا «يعني حذفت ألفُ» لا «تخفيفاً واكتفي بالحركة» . قال: «كما قالوا: أم واللَّه، يريدون: أما واللَّهِ» . قال المهدويُّ «كما حذفت مِنْ» ما «وهي أخت» لا «في نحو: أم والله لأفعلنَّ وشبهه» . قوله «أخت لا» ليس كذلك؛ لأنَّ «أما» هذه للاستفتاح، ك «ألاَ» ، وليست من النَّافية في شيءٍ، فقد تحصَّل من هذا أنَّ ابن جني خرَّج كلاًّ من القراءتين على الأخرى. وهذا لا ينبغي أن يجوز ألبتَّة، كيف يُوجدُ لفظ نفي، ويتأوَّل بثبوتٍ وعكسه؟ وهذا ممَّا يقلب الحقائق، ويُؤدِّي إلى التَّعمية. وقال المبرِّدُ، والفرَّاءُ، والزَّجَّاجُ: في قراءة العامَّة «لا تُصِيبنَّ» الكلام قد تمَّ عند قوله: «فِتْنَةً» وهو خطابٌ عامٌّ للمؤمنين، ثم ابتدأ نَهْيَ الظلمة خاصةً عن التعرُّض للظُّلم فتصيبهم الفتنةُ خاصة، والمرادُ هنا: لا يتعرَّض الظَّالم للفتنة فتقع إصابتُها له خاصة. قال الزمخشريُّ في تقدير هذا الوجه: «وإذا كانت نهياً بعد أمرٍ؛ فكأنه قيل: واحذروا ذنباً أو عقاباً. ثم قيل: لا تتعرَّضُوا للظلم فيصيب العقابُ أو أثر الذَّنب من ظلم منكم خاصة» . وقال عليُّ بن سليمان: هو نَهْيٌ على معنى الدُّعاءِ، وإنَّما جعله نهياً بمعنى الدُّعاء لأنَّ دخول النون في النفي ب «لا» عنده لا يجوز، فيصير المعنى: لا أصابت الفتنة الظالمين خاصة، واستلزمت الدُّعاء على غير الظَّالمينَ، فصار التقدير: لا أصابت ظالماً ولا غير ظالم فكأنَّه قيل: واتقوا فتنةً لا أوقعها اللَّهُ بأحدٍ. وقد تحصَّلت في تخريج هذه الكلمة أقوال: النَّهْي بتقديريه، والدُّعاء بتقديريه، والجواب للأمر بتقديريه وكونها صفةً بتقدير القول. قوله: «مِنكُمْ» فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أظهرها: أنَّها للبيان مطلقاً، والثاني: أنَّها حالٌ، فيتعلَّقُ بمحذوف. وجعلها الزمخشريُّ: للتبعيض على تقدير، وللبيان على تقدير آخر، فقال «فإن قلت: فما معنى» مِنْ «في قوله: {الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ} ؟ قلت: التبعيضُ على الوجه الأوَّلِ، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 493 والبيان على الثاني؛ لأنَّ المعنى: لا تصيبنَّكم خاصة على ظلمكم، لأن الظلم منكم أقبحْ من سائر النَّاسِ» يعني بالأولِ كونه جواباً للأمر، وبالثاني كونه نهياً بعد أمرٍ، وفي تخصيصه التبعيض بأحد الوجهين دون الآخر، وكذا الثاني: نظرٌ، إذ المعنى يصح بأحد التقديرين مع التَّبعيض والبيان. قوله: «خَاصَّةً» فيه ثلاثة أوجهٍ: أظهرها: أنها حالٌ من الفاعل المستكنِّ في قوله: «لا تُصيبَنَّ» وأصلها أن تكون صفةً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديره: إصابةً خاصة. الثاني: أنَّها حالٌ من المفعولِ وهو الموصولُ، تقديره: لا تصيبنَّ الظَّالمين خاصة، بل تعمُّهم، وتعمُّ غيرهم. الثالث: أنها حالٌ من فاعل «ظَلَمُوا» قاله ابن عطية. قال أبو حيان: «ولا يُعْقَلُ هذا الوجهُ» . قال شهابُ الدِّين: «ولا أدري ما عدمُ تعقُّله؟ فإنَّ المعنى: واتقُوا فتنةً لا تصيبنَّ الذين ظلموا، ولا يظلم غيرهم، بمعنى: أنَّهم اختصوا بالظُّلْمِ، ولم يشاركهم فيه غيرهم، فهذه الفتنةُ لا تختصُّ إصابتها لهؤلاء، بل تصبهم، وتُصيبُ مَنْ لَمْ يظلم ألبتَّة، وهذا معنى واضح» . فإن قيل: إنَّه تعالى خوَّفهم بعذابٍ لو نزل عمَّ المذنب، وغيره، وكيف يليقُ بالرحيم الحليمِ أن يوصل العذاب إلى من لم يذنب؟ فالجوابُ: أنَّهُ تعالى قد ينزل الموت، والفقر، والعمى، والزمانة بعبده ابتداء، إمَّا لأنَّهُ يحسن منه تعالى ذلك بحكم المالكيَّةِ، أو لأنَّه تعالى علم اشتمال ذلك على نوع من أنواع الصلاة على اختلاف المذهبين. فصل روي عن الحسن قال: " نزلت في علي، وعمار، وطلحة، والزبير، وهو يوم الجمل خاصة ". قال الزبير: " نزلت فينا وقرأنا زمانا وما ظننا أنا أهلها فإذا نحن المعنيون بها ". وعن السدي نزلت في أهل بدر واقتتلوا يوم الجمل ". الجزء: 9 ¦ الصفحة: 494 قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول} الآية. روي: أن الزبير كان يسامر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما إذ أقبل علي - رضي الله عنه - فضحك الزبير، فقال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كيف حبك لعلي؟ فقال: يا رسول الله أحبه كحبي لولدي أو أشد. فقال: كيف أنت إذا سرت تقاتله؟ وقال ابن عباس: " أمر الله المؤمنين ألا يقروا المنكر بين أظهرهم فيعمهم الله بعذاب يصيب الظالم وغير الظالم " وقال عليه الصلاة والسلام: " إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم، وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه فإذا فعلوا ذلك عذب العامة والخاصة ". وقال ابن زيد: " أراد بالفتنة افتراق الكلمة، ومخالفة بعضهم بعضا ". روي أبو هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " تكون فتن القاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي فيها خير من الساعي، من تشرف لها تستشرفه فمن وجد ملجأ أو معاذا فليعذ به ". ثم قال: " واعلموا أن الله شديد العقاب "، والمراد منه الحث على لزوم الاستقامة. قوله تعالى: {واذكروا إذ أنتم قليل} الآية. في " إذ " ثلاثة أوجه، أوضحها: أنه ظرف ناصبة محذوف، تقديره: واذكروا حالكم الثابتة في وقت قلتكم، قاله ابن عطية. والثاني: أنه مفعول به. قال الزمخشري: " نصب على أنه مفعول به مذكور لا ظرف، أي: اذكروا وقت كونكم أقلة أذلة " وفيه نظر؛ لأن " إذ " لا يتصرف فيها إلا بما تقدم ذكره، وليس هذا منه. الثالث: أن يكون ظرفا ل " اذكروا " قاله الحوفي، وهو فاسد؛ لأن العامل مستقبل، والظرف ماض فكيف يتلاقيان. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 495 قوله: " تخافون " فيه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه خبر ثالث. والثاني: أنه صفة ل " قليل " وقد بدئ بالوصف بالمفرد، ثم بالجملة. والثالث: أن يكون حالا من الضمير المستتر في " مستضعفون ". فصل المعنى: واذكروا يا معشر المهاجرين: " إذ أنتم قليل " في العدد: " مستضعفون في الأرض " أي: أرض مكة في ابتداء الإسلام: " تخافون أن يتخطفكم الناس " تذهب بكم الناس يعني كفار مكة. وقال عكرمة " كفار العرب لقربهم منهم وشدة عداوتهم لهم ". وقال وهب: " فارس والروم " " فآواكم " إلى المدينة " وأيدكم بنصره " أي: قواكم يوم بدر بالأنصار. وقال الكلبي: " قواك يوم بدر بالملائكة " " ورزقكم من الطيبات " يعني الغنائم أحلها لكم ولم يحلها لأحد قبلكم. ثم قال: " لعلكم تشكرون " أي: نقلناكم من الشدة إلى الرخاء، ومن البلاء إلى النعماء حتى تشتغلوا بالشكر والطاعة، وتتركوا المنازعة والمخاصمة بسبب الأنفال. لمَّا ذكر أنَّه رزقهم من الطَّيبات، فههنا منعهم من الخيانةِ، واختلفوا في تلك الخيانةِ. فقال ابنُ عبَّاسٍ: نزلت في أبي لبابة حين بعثه رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى قريظة لمَّا حاصرهم وكان أهله وولده فيهم، فقالوا: ما ترى لنا، أننزل على حكم سعد بن معاذ فينا؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه، إنَّه الذبح فلا تفعلوا، فكان منه خيانة لله ورسوله. وقال السديُّ «كانُوا يسمعون الشيء من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيفشونه ويبلغونه إلى المشركين فنهاهم الله عَزَّ وَجَلَّ عن ذلك» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 496 وقال ابن زيد: «نَهاهُم الله أن يخُونُوا كما صنع المنافقون يظهورن الإيمان، ويسرون الكُفْرَ» . وقال جابرُ بن عبد الله: «إنَّ أبا سفيان خرج من مكَّة فعلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خروجه، وعزم على الذهاب إليه، فكتب رجلٌ من المنافقين إليه أنَّ محمداً يريدكم، فخذوا حذركم فنزلت الآية» . وقال الكلبيُّ والأصمُ والزهريُّ «نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكَّة لمَّا همَّ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخروج إليها» . فصل قال أبو العباس المقرىء: ورد لفظ «الخيانة» في القرآن بإزاء خمسة معانٍ: الأول: أنَّ المراد بالخيانة: الذَّنب في الإسلام، كهذه الآية، لمَّا نزلت في أبي لبابة. الثاني: الخيانة: السرقة، قال تعالى: {وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً} [النساء: 105] نزلت في طعمة، لمَّا سرق الدرعين. الثالث: نقض العهد، قال تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال: 58] . الرابع: الخيانة: المخالفة، قال تعالى: {فَخَانَتَاهُمَآ} أي: خالفتاهما في الدين؛ لأنه يروى أنه ما زنت امرأةٌ نبي قط. الخامس: الخيانة: الزِّنا، قال تعالى: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} [يوسف: 52] يعني: الزنا. فصل قال القاضي: «الأقربُ: أنَّ خيانة الله غير خيانة رسوله، وخيانة الرَّسُولِ غير خيانة الأمانة؛ لأنَّ العطف يقتضي المغايرة» . وإذا عرف ذلك فنقول: إنَّه تعالى أمرهم أن لا يخونوا الغنائم، وجعل ذلك خيانة للَّه؛ لأنَّهُ خيانة لعطيته وخيانة لرسوله؛ لأنه القيم بقسمها، فمن خانها فقد خان الرَّسُول، وهذه الغنيمة قد جعلها الله أمانة في أيدي الغانمين، وألزمهم أن لا يتناولوا لأنفسهم منها شيئاً فصارت وديعة. والوديعة أمانةٌ في يد المودع، فمن خان منهم فيها قد خان أمانة النَّاس. إذ الخيانةُ ضد الأمانة. قال: ويحتمل أن يريد بالإمانة كل ما تعبد به، وعلى هذا التقدير: فيدخل فيه الجزء: 9 ¦ الصفحة: 497 الغنيمة وغيرها، فكان معنى الآية: إيجاب أداء التكاليف تامة كاملة. قال ابن عباس: «لا تخونوا الله بترك فرائضه، والرسول بترك سنته» «وتخُونُوا أماناتِكُم» . قال ابن عباس: «هي ما يخفى عن أعين النَّاس من فرائض الله تعالى» . والأعمال التي ائتمن الله عليها العباد المذكورة في سبب النُّزول داخلة فيها، لكن لا يجب قصر الآية عليها لأنَّ العبرةَ بعموم اللَّفظ لا بخصوص السَّببِ. قال الزمخشريُّ «ومعنى الخون النقص، كما أن معنى الوفاء التَّمام، ومنه تخوَّنه إذا تنقصه ثم استعمل في ضد الأمانة؛ لأنك إذا خُنتَ الرَّجُلَ في شيءٍن فقد أدخلت النُّقصان فيه» . قوله: «وتَخُونُوا» يجوزُ فيه أن يكون منصوباً بإضمارِ «أنْ» على جواب النَّهي، أي: لا تجمعوا بين الخيانتين. كقوله: [الكامل] 2694 - لا تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وتأتِيَ مِثلَهُ ... عَارٌ علَيْكَ إذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ والثاني: أن يكون مجزوماً نسقاً على الأوَّل، وهذا الثاني أولى؛ لأن فيه النهي عن كلِّ واحدٍ على حدته بخلاف ما قبله فإنَّه نهيٌ عن الجمع بينهما، ولا يلزمُ من النهي عن الجمع بين الشيئين النهيُ عن كلٍّ واحدٍ على حدته، وقد تقدَّم تحريره في قوله: {وَتَكْتُمُواْ الحق} [البقرة: 42] أول البقرة. و «أماناتكم» على حذف مضاف، أي: أصحاب أماناتكم، ويجوزُ أن يكونوا نهوا عن خيانة الأماناتِ مبالغةً كأنَّها جعلت مخونةً. وقرأ مجاهدٌ ورويت عن أبي عمرو «أمَانتكُم» بالتَّوحيد، والمراد الجمع. وقوله: «وأنتُمْ تَعْلَمُونَ» جملة حالية، ومتلَّقُ العلم يجوزُ أن يكون مراداً أي: وأنتم تعلمون قُبْحَ ذلك أو أنكم مؤاخذون بها، ويجوزُ ألاَّ يُقَدَّر، أي: وأنتم من ذوي العلمِ. قوله: {واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} . لمَّا كان الدَّاعي إلى الإقدام على الخيانةِ هو حب الأموالِ، والأولاد، نبَّه تعالى على أنه يجبُ على العقال أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 498 فقال: {أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ} لأنَّها تشغل القلب بالدُّنيا. ثم قال: {وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} أي: أنَّ سعادة الآخرة خيرٌ من سعاداتِ الدُّنيا، لأنَّ سعادات الآخرة لا نهاية لها، وسعادات الدنيا تفني وتنقضي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 499 قوله تعالى: {يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إَن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً} الآية. لمَّا حذَّر من الفتنة بالأموال، والأولاد، رغَّب في التَّقوى الموجبة لترك الميل، والهوى في محبَّة الأموال والأولاد. فإن قيل: إدخالُ الشَّرط في الحكم إنَّما يحسن في حقِّ من كان جاهلاً بعواقب الأمورِ وذلك لا يليق باللَّهِ تعالى. فالجوابُ: أنَّ قولنا إن كان كذا كان كذا لا يفيدُ إلاَّ كون الشَّرطِ مستلزماً للجواب، فإمَّا أنَّ وقوع الشَّرط مشكوك فيه، أو معلوم فذلك غير مستفاد من هذا اللَّفظ، سلَّمنا أنَّه يفيد هذا الشَّك إلاَّ أنه تعالى يُعامل العباد في الجزاء معاملة الشَّاك، وعليه يخرَّج قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين} [محمد: 31] . قال أبو العباس المقرىء: «الفرقان» على أربعة أوجهٍ: الأول: الفرقان النور، كهذه الآية أي: يجعل لكم نوراً في قلوبكم تُفرِّقون به بين الحلال والحرام. والثاني: الحجة. قال تعالى: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان} [البقرة: 53] أي: الحجة. الثالث: القرآنُ. قال تعالى {تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] أي: القرآن. الرابع: يوم بدر قال تعالى {يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان} [الأنفال: 41] أي: يوم بدر. فصل ومعنى الآية: إن تتَّقُوا الله بطاعته وترك معصيته يجعل لكم فرقاناً. قال مجاهد: «مَخْرَجاً في الدُّنيا والآخرة من الضَّلال» وقال مقاتل: «مَخْرَجاً في الدَِّين من الشُّبهات» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 499 وقال عكرمة «نجاة، أي: يفرق بينكم وبين ما تخافون» . وقال الضحاك: «بياناً» . وقال ابن إسحاق: «فصلاً بين الحق والباطل. يُظهر الله به حقكم ويطفىء باطل من خالفكم» قال مُزرد بن ضرار: [الخفيف] 2695 - بَادَرَ الأفْق أنْ يَغيبَ فَلَمَّا ... أظْلَمَ اللَّيْلُ لَمْ يَجِدْ فُرقَانَا قال آخر: [الرجز] 2696 - مَا لَك مِنْ طُولِ الأسَى فُرقَانُ ... بَعْدَ قَطِينٍ رَحَلُوا وبَانُوا وقال آخر: [الطويل] 2697 - وكَيْفَ أرَجِّي الخُلْدَ والمَوْتُ طَالِبِي ... ومَا لِيَ مِنْ كَأسٍش المَنِيَّةِ فُرْقَانُ والفرقان: مصدر كالرُّجحان والنُّقصان، وتقدم الكلام عليه أول البقرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 500 قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} الآية. هذا الظرفُ معطوفٌ على الظَّرف قبله؛ لأنّ هذه السُّورة مدنيَّة، وهذا المكر والقول إنما كان بمكَّة ولكنَّ الله ذكرهم بالمدينة لقوله تعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} [التوبة: 40] . واعلم أنه لمَّا ذكَّر المؤمنين بنعمه عليهم بقوله: {واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ} [الأنفال: 26] فكذلك ذكر رسوله بنعمه عليه وهو دفع كيد المشركين ومكر الماكرين. قال ابنُ عبَّاسٍ ومجاهدٌ وقتادة وغيرهم: أن قريشاً فزعوا - لمَّا أسلمت الأنصار - أن يتفاقهم أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة ليتشاوروا في أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكانت رُءُوسهُم عتبة، وشيبه ابنا ربيعة، وأبو جهل، وأبو سفيان، وطعيمة بن عدي، والنضر بن الحارث، وأبو البختري بن هشام، وزمعة بن الأسودِ، وحكيم بن حزام، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأمية بن خلف فاعترضهم إبليسُ في صورة شيخ، فلما الجزء: 9 ¦ الصفحة: 500 رَأوْهُ قالوا: من أنت؟ قال: شيخ من نجد، سمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم ولن تعدموا منّي رأياً ونصحاً، قالوا: ادخل فدخل، فقال أبو البختري: أما أنا فأرى أن تأخذوا محمداً وتُقَيِّدُوه، وتحبسوه في بيت وتسدُّوا باب البيت غير كوة وتلقون إليه طعامه وشرابه، وتَتربَّصُوا به رَيْبَ المنُون حتَّى يهلك فيه كما هلك من قبلهُ من الشعر، فصرخ عدوُّ الله الشيخُ النَّجدي وقال: بئس الرأي والله إن حبستموه في بيت ليخرجن أمره من وراء البيت إلى أصحابه، فيوشك أن يَثِبُوا عليكم فيقاتلوكم ويأخذوه من أيديكم. قالوا: صدق الشَّيخُ. وقال بعضهم: أخرجوه من عندكم تستريحُوا من أذاه لكم. فقال إبليس: ما هذا برأي، تعمدُون إلى رجلٍ قد أفسد سفهاءكم فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم، ألَمْ تَرَوْا حلاوة منطقه، وطلاقة لسانه، وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه؟ والله لَئِن فعلتم ذلك لاستمال قلوب قومٍ ثم يسير بهم إليكم ويخرجكم من بلادكم قالوا: صدق والله الشيخ. فقال أبو جهل: إنِّي أرى أن تأخذُوا من كلِّ بطنٍ من قريش شابّاً نسيباً وسطاً فتيّاً ثم يُعْطى كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يضربوه ضربة رجل واحدٍ، فإذا قتلوهُ تفرَّق دمهُ بين القبائلِ كلها، ولا أظن هذا الحيّ من بني هاشم يَقوونَ على حرب قريش كلها فيرضونَ بأخذ الدِّية فتؤدي قريش ديته. فقال إبليس: صدق هذا التفى وهو أجودكم رأياً، فتفرقوا على رأي أبي جهل فأوْحَى اللَّهُ تعالى إلى نبيِّه بذلك، وأذن له في الخُرُوج إلى المدينة، وأمره لاَّ يبيت في مضجعه، فأمر الرسُول عليّاً أن يبيت في مضجعه وقال: اتَّشح ببُرْدَتي؛ فإنَّه لنْ يصلَ إليك أمرٌ تكرهه، ثمَّ خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخذ قبضة من ترابٍ، وأخذ اللَّهُ أبصارهم عنه وجعل ينثر التُّراب على رءوسهم، وهو يقرأ {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً} [يس: 8] إلى قوله: {فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9] ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر، وخلف عليّاً بمكَّة حتَّى يؤدِّي عنه الودائع التي كانت توضع عنده لصدقه وأمانته، وباتُوا مُترصِّدين، فلمَّا أصبحوا ثَارُوا إلى مضجعه فأبصروا عليّاً فبهتوا. وقالوا له: أيْنَ صاحبُك؟ قال: لا أدري فاقتصوا أثره وأرسلوا في طلبه، فلما بلغوا الغار رَأوْا على بابه نسخ العنكبوت، فقالوا: لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه؛ فمكث فيه ثلاثاً ثم قدم المدينة فذلك قوله: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 501 وقوله «لِيُثُبِتُوكَ» متعلِّقٌ ب «يَمْكُرُ» والتثبيتُ هنا الضَّربُ، حتَّى لا يبقى للمضروب حركة؛ قال: [البسيط] 2698 - فَقلتُ: ويْحَكَ ماذا فِي صَحيفتكُمْ؟ ... قالوا: الخَليفَةُ أمْسَى مُثْبَتاً وجِعَا وقرأ ابن وثَّابٍ «لِيُثِّبتُوكَ» فعدَّاهُ بالتضعيف، وقرأ النخعي «لِيبيتُوك» من البيات والمعنى: قال ابنُ عبَّاسٍ: ليوثقوك ومن شد فقد أثبت؛ لأنَّهُ لا يقدر على الحركة، ولهذا يقال لمن اشتدَّتْ به علة أو جراحة تمنعه من الحركة قد أثْبِتَ فلانٌ، فهو مُثْبَتٌ. وقيل: ليسجنوك، وقيل: ليثبتوك في بيتٍ، أو يقتلوك، وهو ما حكي من أبي جهل «أو يُخْرِجُوكَ» من مكَّة كما تقدم. ثم قال: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله} قال الضحاكُ: يصنعون ويصنع اللَّهُ، والمكرُ من الله التدبير بالحقِّ، وقيل: يجازيهم جزاء المكر. {والله خَيْرُ الماكرين} وقد تقدَّم الكلام في تفسير «المَكْرِ» في حق الله تعالى في آل عمران عند قوله: {وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله} [آل عمران: 54] . فإن قيل: كيف قال {والله خَيْرُ الماكرين} ولا خير في مكرهم؟ فالجوابُ من وجوه: أحد: أنَّ المراد أقوى الماكرين، فوضع «خَيْرٌ» موضع «أقْوَى» تنبيهاً على أنَّ كُلَّ مكر، فإنَّهُ يبطل في مقابلة فعل اللَّهِ تعالى. وثانيها: أنَّ المُرادَ لو قدر في مكرهم ما يكون خيراً. وثالثها: أنَّ المراد ليس هو التفضيل، بل المرادُ أنَّهُ في نفسه خير كقولك: الزبد خير من الله، أي: من عند اللَّهِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 502 قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا} الآية. لمَّا حكى مكرهم في ذاتِ محمَّدٍ، حكى مكرهم في دين محمَّدٍ. روي أنَّ النَّضْرَ بن الحارث كان يختلف تاجراً إلى فارس والحيرةِ فيسمع أخبار رستم وسفنديار، وأحاديث العجمِ، واشترى أحاديث كليلة ودمنة، ويمر باليهود الجزء: 9 ¦ الصفحة: 502 والنصارى فيراهم يقراءون التوراة والإنجيلن ويركعون ويسجدون فجاء مكَّة فوجد محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يصلِّي ويقرأ القرآن، وكان يقعدُ مع المستهزئين والمقتسمين وهو منهم فيقرأ عيلهم ساطير الأوَّلين أخبار الأمم الماضية وأسماءهم، وما سطر الأولون في كتبهم. وكان يزعمُ أنها مثل ما يذكره مُحمَّدٍ من قصص الأولين، فهذا هو المراد من قوله {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين} ، والأساطير: جمع أسطورة وهي المكتوبة. فإن قيل: الاعتمادُ على كون القرآن معجزاً هو أنَّ الله تعالى تحدَّى العرب بمعارضته فلم يأتوا بها، وهذا الآيةُ تدلُّ على أنه أتى بالمعارضة. فالجواب: أن كلمة «لو» تفيدُ انتفاء الشيء لانتفاء غيره، فقوله: {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا} يدلُّ على أنه ما شاء ذلك القول، وما قالوا؛ فثبت أنَّ النضر بن الحارث أقرَّ أنَّهُ ما أتى بالمعارضة، وإنَّما أخبر أنه لو شاء أتى بها، والمقصود إنَّما يحصل لو أتى بالمعارضة امَّا مجرَّد هذا القول، فلا فائدة فيه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 503 قوله: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق} . نزلت في النضر بن الحارث من بني عبد الدَّارِ. قال ابنُ عباسٍ: لمَّا قصَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شأن القرون الماضية قال النَّضْرُ: لو شئت لقلتُ مثل هذا إن هذا إلا ما سطر الأوَّلُونَ في كتبهم. فقال له عثمانُ بن مظعون: اتق الله فإن محمداً يقول الحقَّ، قال: وأنا أقول الحق. قال عثمان: فإنَّ محمداً يقول: لا إله إلاَّ الله، قال: وأنا أقول: لا إله إلا الله ولكن هذه بنات الله، يعني: الأصنام. ثم قال: {اللهم إِن كَانَ هذا} الذي يقوله محمد «هُو الحقَّ من عندكَ» . فإن قيل: في الآية إشكال من وجهين: أحدهما: أن قوله {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق} الآية. حكاهُ الله عن كلام الكُفَّار، وهو من جنس نظم القرآن، فقد حصلت المعارضة في هذا وحكي عنهم في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 503 سورة الإسراء قولهم: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] الآيات، وهذا أيضاً كلامُ الكُفَّار فقد حصل من كلامهم ما يشبه نظم القرن، فدلَّ على حصول المعارضة. الوجه الثاني: أنَّ كفار قريش كانُوا معترفين بوجود الإله، وقدرته، وكانوا قد سمعوا التَّهديد الكثير من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نزول العذاب، فلو كان القرآن معجزاً لعرفوا كونه معجزاً، لأنهم أرباب الفصاحةِ والبلاغةِ، ولو عرفوا ذلك لكان أقلّ الأحوال أن يَشُكُّوا في نبوَّة محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام -، ولو كانُوا كذلك لما أقدموا على قولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} ؛ لأن الشَّاك لا يتجاسر على مثل هذه المبالغة وحيث أتوا بهذه المبالغة علمنا أنَّه ما لاح لهم في القرآن وجه من الوجوه المعجزة. فالجواب عن الأول: أنَّ الإتيان بهذا القدر من الكلامِ لا يكفي في حصول المعارضة؛ لأنَّ هذا القدر كلام قليل لا يظهر فيه وجوه الفصاحة والبلاغة. والجوابُ عن الثَّانِي: هَبْ أنَّه لم يظهر لهم الوجه في كون القرآن معجزاً إلاَّ أنَّهُ لما كان معجزاً في نفسه، فسواء عرفوا ذلك الوجه أو لم يعرفوا فإنه لا يتفاوت الحال. قوله «هُو الحقَّ» العامَّةُ على نصب «الحقَّ» وهو خبر الكون، و «هُوَ» فصل، وقد تقدَّم الكلام عليه. وقال الأخفشُ: «هو» زائد، ومرادُه ما تقدَّم من كونه فصلاً. وقرأ الأعمش، وزيدُ بن علي: برفع «الحقَّ» ووجهها ظاهرٌ، برفع «هُوَ» بالابتداء و «الحق» خبره، والجملةُ خبرُ الكونِ؛ كقوله: [الطويل] 2699 - تَحِنُّ إلَى لَيْلَى وأنْتَ تَركْتَهَا ... وكُنْتَ عليْهَا بالمَلا أنْتَ أقْدَرُ وهي لغةُ تميم. وقال ابن عطية: ويجوز في العربية رفع «الحقّ» على خبر «هو» والجملة خبر ل «كان» . قال الزَّجَّاجُ «ولا أعلم أحداً قرأ بهذا الجائز» ، وقد ظهر من قَرأَ به وهما رجلان جليلان. قوله: «مِنْ عندِكَ» حال من معنى «الحَقّ» : أي: الثَّابت حال كونه من عندك. وقوله «مِنَ السَّماءِ» فيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ متعلقٌٌ بالفعل قبله. والثاني: أنه صفة ل «حِجَارةً» فيتعلقُ بمحذوفٍ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 504 وقوله: «مِنَ السَّماءِ» مع أنَّ المطر لا يكون إلاَّ منها، قال الزمخشريُّ: «كأنه أراد أن يقال: فأمطرْ علينا السِّجِّيلَ، فوضع حجارة من السماء موضع السِّجِّيل كما يقالك صب عليه مسرودةً من حديد، تريدُ درعاً» . قال أبو حيان: «إنَّهُ يريد بذلك التَّأكيد» قال: «كَمَا أنَّ قوله:» من حديد «معناه التأكيد؛ لأنَّ المسرودَ لا يكون إلاَّ من حديدٍ، كما أنَّ الأمطارَ لا تكونُ إلاَّ من السَّماءِ» . وقال ابنُ عطيَّة: «قولهم» مِنَ السَّماءِ «مبالغة وإغراق» . قال أبو حيَّان: «والذي يظهر أنَّ حكمة قولهم:» مِنَ السَّماءِ «هي مقابلتُهم مجيءَ الأمطارِ من الجهة التي ذكر عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه يأتيه الوحي من جهتها، أي: إنَّك تذكر أن الوحي يأتيك من السَّماءِ، فأتِنَا بالعذاب من الجهة التَّي يأتيك الوحي منها، قالوه استبعاداً له» . فصل قال عطاءٌ: «لقد نزل في النضر بن الحارث بضع عشرة آية فحاق به ما سأل من العذاب يوم بدر» . قال سعيدُ بنُ جبيرٍ «قتل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم بدرٍ ثلاثةً من قريشٍ صبراً طعيمة بن عدي، وعقبة بن أبي معيطٍ، والنَّضْر بن الحارث» . وروى أنس أن الذي قال هذا الكلام أبُو جُهْلٍ. قوله: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} اللاَّم في «ليُعَذِّبهُمْ» قد تقدَّم أنها لامُ الجحود، والجمهورُ على كسرها، وقرأ أبُو السَّمَّال: بفتحها. قال ابن عطية عن أبي زيد: «سمعت من العرب من يقول» ليُعَذِّبهُمْ «بفتح اللاَّم، وهي لغةٌ غيرُ معروفةٍ ولا مستعملةٍ في القرآن» . يعني في المشهور منه، ولمْ يَعْتَدَّ بقراءة أبي السمال، وروى ابن مجاهد عن أبي زيد فَتْحَ كلِِّ لامٍ عن بعض العربِ إلاَّ في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 505 {الْحَمْدُ للَّهِ} [الفاتحة: 2] وروى عبد الوارث عن أبي عمرو: فتح لام الأمر من قوله: {فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ} [عبس: 24] ، وأتى بخبر «كان» الأولى على خلاف ما أتى به في الثانية فإنَّه إمَّا أن يكون محذوفاً، وهو الإرادة كما يقدِّره البصريون أي: ما كان الله مُريداً لتعذيبهم وانتفاءُ إرادة العذاب أبلغُ من نفي العذاب، وإمَّا أنه أكَّدَهُ باللاَّم على رأي الكوفيين لأنَّ كينونته فيهم أبلغُ من استغفارهمن فشتَّان بين وجودِه عليه الصَّلاة والسَّلام، وبين استغفارهم. وقوله «وأنتَ فيهِمْ» حال، وكذلك «وهُمْ يَسْتَغفرُونَ» . والظَّاهر أنَّ الضمائرَ كلَّها عائدةٌ على الكفار. وقيل: الضمير في «يُعذِّبَهُمْ» و «مُعَذِّبَهُمْ» للكفَّارِ، والضمير من قوله «وهُمْ» للمؤمنين. وقال الزمخشريُّ: «وهُمْ يَسْتَغفرُونَ» في موضع الحال، ومعناه: نفيُ الاستغفار عنهم أي: ولو كانوا ممَّن يؤمن ويستغفر من الكفر لما عذَّبهم، كقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: 117] ولكنهم لا يستغفرون، ولا يؤمنون ولا يتوقَّع ذلك منهم. وهذا المعنى الذي ذكره منقولٌ عن قتادة، وأبي زيد، واختاره ابنُ جريرٍ. فصل قال أبُو العباس المقرىءُ: ورد لفظ «في» في القرآن بإزاء ستَّةِ أوجه: الأول: بمعنى «مع» كهذه الآية، وقوله تعالى: {وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين} [النمل: 19] أي: مع عبادك، ومثله: {فادخلي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] . الثاني: بمعنى «على» . قال تعالى {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل} [طه: 71] أي: على جذوع النخل، ومثله: {أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ} [الطور: 38] . أي: عليه. الثالث: بمعنى «إلى» قال تعالى {أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا} [النساء: 97] أي: أليها. الرابع: بمعنى «عن» قال تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى} [الإسراء: 72] أي: عن هذه الآيات. الخامس: بمعنى «من» قال تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ} [النحل: 89] أي: مِنْ كل أمة «شَهِيداً» . السادس: بمعنى «عند» قال تعالى {كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا} [هود: 62] . فصل اختلفوا في معنى هذه الآيةِ: فقال محمدُ بنُ إسحاق: هذا حكايةٌ عن المشركين، وهذه الآية متصلة بالآية التي قبلها، وذلك أنَّهُم كانوا يقولون إنَّ الله لا يعذبنا ونحن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 506 نستغفره، ولا يعذب الله أمة ونبيها معها، فقال الله لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يُذكِّره جهالتهم وغرتهم قال: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] الآية وقال {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} [الأنفال: 33] ثم قال ردّاً عليهم {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله} وإن كنت بين اظهرهم، وإن كانوا يستغفرون {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} . وقال آخرون: هذا الكلام مستأنف يقول الله إخباراً عن نفسه: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ} واختلفوا في تأويلها. فقال الضحاكُ، وجماعة: تأويلها: وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم مُقيم بين أظهرهم، قالوا: نزلت هذه الآية على النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو مقيم بمكَّةَ ثمَّ خرج من بين أظهرهم وبقيت به بقيَّة من المسلمين يستغفرون الله؛ فأنزل اللَّهُ {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} ثم خرج أولئك من بينهم فعُذِّبوا وأذن اللَّهُ في فتح مكَّة، وهو العذاب الأليم الذي وعدهم اللَّهُ «. قال ابن عباس «لم يعذِّب الله قيةً حتى يخرج النبي منها، والذين آمنوا ويلحق بحيث أمرَ» . قال أبو موسى الأشعريُّ: كان فيكم أمانان: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} فأمَّا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد مضى، والاستغفار كائن فيكم إلى يومِ القيامةِ. فإن قيل: لمَّأ كان حضوره مانعاً من نزول العذاب بهم، فكيف قال: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} [التوبة: 14] ؟ فالجوابُ: المرادُ من الأوَّلِ عذاب الاستئصال، ومن الثاني: العذاب الحاصل بالمحاربة والمقاتلة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 507 وقال السديُّ: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} أي: لو استغفروا، ولكنهم لم يكونوا مستغفرين ولو أقرُّوا بالذَّنب واستغفروا لكانوا مؤمنين. وقال عكرمةُ: «وهُمْ يَستَغْفرُونَ» يسلمون، يقول: لو أسلموا لما عذبوا، وروى الوالبي عن ابن عبَّاسٍ: أي: وفيهم من سبق له من الله أنه يؤمن ويستغفر كأبي سفيان، ومصعب بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وسهيل بن عمرو وحكيم بن حزام، وغيرهم. وروى عبد الوهاب عن مجاهدٍ: «وهُمْ يستغْفِرُونَ» أي: وفي أصلابهم من يستغفر. قوله تعالى: {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله} الآية. في «أن» وجهان: أظهرهما: أنَّها مصدريةٌ، وموضعها إما نصبٌ، أو جرٌّ؛ لأنَّها على حذف حرف الجر، إذ التقدير: في ألاَّ يُعذِّبهم، وهذا الجارُّ متعلقٌ بما تعلَّ به: «لَهُمْ» من الاستقرار، والتقديرُ: أيَّ شيءٍ استقر لهم في عدم تعذيبِ اللَّهِ ياهم؟ بمعنى: لا حظ لهم في انتفاء العذاب. والثاني: أنَّها زائدةٌ وهو قول الأخفش. قال النَّحَّاسُ «: لو كانت كما قال لرفع» يُعذِّبهم «. يعني النَّحاس: فكان ينبغي أن يرتفع الفعلُ على أنه واقعٌ موضع الحال، كقوله: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله} [المائدة: 84] ولكن لا يلزمُ من الزيادةِ عدمُ العمل، ألا ترى:» أنَّ «مِنْ» و «الباء» يعملان وهما مزيدتان. وقال أبُو البقاءِ: «وقيل هو حال، وهو بعيدٌ، لأنَّ» أنْ «تُخلِّص الفعل للاستقبال» والظَّاهرُ أنَّ «ما» في قول «وَمَا لهُمْ» استفهامية، وهو استفهامٌ معناه التقرير، أي: كيف لا يُعذَّبُونَ وهم مُتَّصفون بهذه الحال؟ . وقيل: «ما» نافية، فهي إخبارٌ بذلك، أي: ليس عدمُ التَّعذيب، أي: لا ينتفي عنهم التعذيب مع تلبسهم بهذه الحال. فصل معنى الآية: وما يمنعهم من أن يعذبوا، أي: بعد خروجك من بينهم: {وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام} أي: يمنعون المؤمنينَ من الطَّواف، وقيل: أراد بالعذاب بالأوَّلِ عذاب الدُّنيا، وبهذا عذاب الآخرة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 508 وقال الحسن: قوله {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ} [الأنفال: 33] منسوخة بقوله {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله} [الأنفال: 34] . قوله {وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ} في هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنَّها استئنافيةٌ، والهاء تعود على المسجد أي: وما كانُوا أولياءَ المسجد. والثاني: أنَّها نسقٌ على الجملة الحاليَّة قبلها وهي: «وهُم يَصُدُّونَ» والمعنى: كيف لا يُعذِّبهُم اللَّه، وهم مُتَّصفون بهذين الوَصْفيْنِ: صدِّهم عن المسجد الحرام، وانتفاءِ كونهم أولياءه؟ ويجوزُ أن يعود الضَّميرُ على الله تعالى، أي: لم يكونوا أولياءَ الله. فصل قال الحسن: كان المشركون يقولون: نحن أولياء المسجد الحرام، فردَّ الله عليهم بقوله: {وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ} أي: أولياء البيت: «إنْ أوْلياؤُهُ» أي: ليس أولياء البيت «إلاَّ المُتَّقُون» يعني المؤمنين الذين يتَّقُون الشرك، ويحترزون عن المنكرات، كالذي كانوا يفعلونه عند البيتن فلهذا قال بعده: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} [الأنفال: 5] ولكن أكثرهم لا يعلمون. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 509 لمَّا ذكر أنَّهم ليسُوا أولياء البيتِ الحرام بيَّن ههنا ما به خرجوا من أن يكونوا أولياء البيت، وهو أنَّ صلاتهم عند البيت إنَّما كان بالمكاء والتَّصديةِ. أي: ما كان شيءٌ ممَّا يعُدَّونه صلاةً وعبادةً إلا هذين الفعلينِ، وهما المكاء والتصدية أي: إن كان لهم صلاةٌ فلا تكن إلاَّ هذين، كقول الشَّاعر: [الطويل] 2700 - ومَا كُنْتُ أخْشَى أن يكثونَ عَطَاؤُهُ ... أدَاهِمَ سُوداً أو مُحَدْرَجَةً سُمْرَا فأقام القيود، والسِّياط مقام العطاء، والمُكَاء: مصدر مَكَا يَمْكُوا، أي: صفر بين أصابعه أو بين كفَّيه. قال الأصمعي: قلت لمنتجع بن نبهان: ما تَمْكُوا فريصتُه؟ . فشبَّك بين أصابعه، وجعلها على فِيهِ، ونفخ فيها. يريد قول عنترة: [الكامل] 2701 - وحَلِيْلِ غَانِيَةٍ تَركْتُ مُجَدَّلاً ... تَمْكُو فَريصَتُهُ كَشِدْقِ الأعْلمِ يقال: مكت الفريصة، أي: صَوَّتت بالدَّمِ، ومكت استُ الدَّابة، أي: نفخت بالرِّيحِ. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 509 وقال مجاهدٌ: المُكاءٌ: صفيرٌ على لحنِ طائرٍ أبيض يكون بالحجاز؛ قال الشاعر: [الطويل] 2702 - إذَا غرَّدَ المُكَّاءُ في غَيْرِ روْضَةٍ ... فَوَيلٌ لأهْلِ الشَّاءِ والحُمُراتِ المُكَّاء: فُعَّال، بناء مبالغةٍ؛ قال أبو عبيدة: «يقال: مَكَا يَمْكُوا مُكُوّاً ومُكَّاءً: صَفَرَ، والمُكاء: بالضَّمِّ، كالبُكاءِ والصُّراخ» . قال الزمخشريُّ: «المُكاء» : فُعال، بوزن: الثُّغَاء والرُّغَاء، من مَكَا يَمْكُوا: إذا صَفَر والمُكاء: الصَّفيرُ «ومنه: المُكَّاء: وهو طائر يألف الرِّيف، وجمعهُ المَكَاكِيُّ. قيل: ولم يشذَّ من أسماء الأصوات بالكسر إلاَّ الغِنَاء، والنِّداء. والتَّصدية فيها قولان: أحدهما: أنها من الصَّدى، وهو ما يُسْمع من رجع الصَّوْتِ في الأمكنة الخالية الصُّلبةِ يقال منه: صَدَى يصدي تصديةً، والمراد بها هنا: ما يسمع من صوت التَّصفيق بإحدى اليدينِ على الأخرى. وقيل: هي مأخوذةٌ من التَّصدد، وهي الضَّجيجُ، والصِّياحُ، والتصفيق، فأبدلت إحدى الدَّالين ياءً تخفيفاً، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} [الزخرف: 57] في قراءة من كسر الصَّاد، أي: يضجُّونَ ويلغطون، وهذا قول أبي عبيدة، وردَّه عليه أبو جعفر الرُّسْتمي، وقال: إنَّما هو مِن الصَّدْي، فكيف يُجعل من المضعَّف؟ وقد ردَّ أبو عليّ على أبي جعفر ردَّهُ وقال» قد ثبت أنَّ يصُدُّونَ من نحو الصَّوْتِ، فأخذهُ منه، وتصدية: تَفْعِلَة «ثم ذكر كلاماً كثيراً. والثاني: أنَّها من الصَّدِّ، وهو المنعُ؛ والأصل: تَصْدِدَة، بدالين أيضاً، فأبدلت ثانيتهما ياء ويُؤيِّدُ هذا قراءةُ من قرأ» يَصُدُّونَ «بالضَّمِّ، أي: يمنعون. وقرأ العَامَّةُ:» صلاتُهُم «رفعاً،» مُكَاءً «نَصْباً. وأبان بن تغلب والأعمش وعاصم بخلاف عنهما: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ} نصباً،» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 510 مُكَاءٌ «رفعاً وخطَّأ الفارسيُّ هذه القراءة، وقال: لا يجوزُ أن يُخْبَر عن النَّكرةِ بالمعرفةِ إلاَّ في ضرورة؛ كقول حسَّانٍ: [الوافر] 2703 - كأنَّ سَبيئَةً مِنْ بَيْتِ رَأسٍ ... يَكُونُ مزاجَهَا عسلٌ ومَاءُ وخرَّجها أبو الفتحِ على أنَّ «المُكَاء» و «التصدية» اسما جنس، يعني: أنَّهُمَا مصدران. قال: واسم الجنْسٍ تعريفُه وتنكيرُهُ متقاربانِ، فلمَ يقالُ بأيِّهمَا جعل اسماً، والآخر خبراً؟ وهذا يقرُب من المعرَّف ب «أل» الجنسيَّة، حيث وُصِفَ بالجملة، كما يُوصَف به النكرة، كقوله تعالى: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] ؛ وقول الآخر: [الكامل] 2704 - ولقد أمُرُّ على اللَّئِيمِ يَسُبُّنِي ... فَمَضَيْتُ ثُمَّتَ قُلْتُ «لا يَعْنِينِي وقال بعضهم: وقد قرأ أبو عمرو:» إلاَّ مُكاً «بالقصرِ والتنوين، وهذا كما قالوه: بُكاءً، وبُكّى. بالمدِّ والقصر. وقد جمع الشَّاعر بين اللغتين، فقال: [الوافر] 2705 - بَكَتْ عَيْنِي وحُقَّ لها بُكَاهَا ... ومَا يُغْنِي البُكَاءُ ولا العَوِيلُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 511 فصل قال ابن عبَّاسٍ» كانت قريش يطوفون بالبيت عُراة، يُصفرون ويصفِّقُون «. وقال مجاهدٌ:» كانوا يعارضون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الطّواف ويتسهزئون به ويصفِّرون، ويصفِّقُونَ، ويخلطون عليه طوافه وصلاته «. وقال مقاتلٌ:» كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذَا صلَّى في المسجد الحرام، قام رجلان عن يمينه، ورجلان عن يساره يصفقون ليخلطوا على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلاته، وهم من بني عبد الدَّارِ «. وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ:» التصديةُ: صدهم المؤمنين عن المسجد الحرامِ، وعلى هذا ف «التَّصددةُ» بدالين، كما يقال: تظننت من الظن «. فعلى قول ابن عباسٍ كان المكاءُ والتصديةُ نوع عبادة لهم، وعلى قول مجاهد ومقالت: كان إيذاءاً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. والأول أقرب، لقوله تعالى: {وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً} . فإن قيل:» المُكَاءُ «و» التَّصديةُ «ليسا من جنس الصَّلاة، فكيف يجوزُ استثناؤهما من الصَّلاة؟ فالجوابُ: من وجوه، أحدها: أنهم كانوا يعتقدون أنَّ المكاء والتصدية من جنس الصَّلاة، فحسن الاستثناء على حسب معقتدهم. قال ابنُ الأنباري:» إنَّما سمَّاه صلاة؛ لأنَّهُمْ أمروا بالصَّلاةِ في المسجدِ؛ فجعلوا ذلك صلاتهم «. وثانيها: أنَّ هذا كقولك: زرتُ الأمير؛ فجعل جفائي صلتي، أي: أقام الجفاء مقام الصلة، كذا ههنا. وثالثها: الغرضُ منه أن من كان المكاء والتَّصدية صلاته فلا صلاة له، كقول العربِ: ما لفلان عيب إلاَّ السخاء، أي: مَنْ كان السخاء عيبه فلا عَيْبَ فيه. ثم قال تعالى {فَذُوقُواْ العذاب} أي: عذاب السيف يوم بدر، وقيل: يقال لهم في الآخرة {فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 512 قوله تعالى: {إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ} الآية. لمَّا شرح أحوال الكفَّار في طاعاتهم البدنية، أتبعها بشرح أحوالهم في الطَّاعات الماليَّةِ. قال مقاتل والكلبيُّ: نزلت في المُطعمين يوم بدر، وكانوا اثني عشر رجلاً من كبار قريش، كان يطعم كلُّ واحد منهم يوم عشر جزر. وقال سعيدُ بن جبيرٍ: نزلت في أبي سفيان وإنفاقه المال على حرب محمد يوم أحد، وكان قد استأجر ألفين من الأحابيش سوى من استجاش من العربِ، وأنفق عليهم أربعين أوقية، والأوقية: اثنان وأربعون مثقالا، هكذا قاله الزمخشريُّ. ثُم بيَّن تعالى أنهم إنَّما ينفقون المال: {لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله} أي: غرضهم من الإنفاق الصد عن اتباع محمد وهو سبيل الله، وإن لم يكن عندهم كذلك. قال: {فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} أي: أنَّ هذا الإنفاق يكون عاقبته حسرة؛ لأنَّهُ يذهب المال ولا يحصل المقصودُ، بل يغلبون في آخر الأمر. {والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ} وإنَّما خصَّ الكفار، لأن فيهم من أسلم. قوله {لِيَمِيزَ الله الخبيث} قد تقدَّم الكلامُ فيه في آل عمران: [179] . والمعنى: ليميزَ اللَّهُ الفريق الخبيث من الكُفَّارِ من الفريق الطَّيب من المؤمنين، فيجعل الفريق الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً، أي: يجمعهم ويضمُّهم حتَّى يتراكموا. «أولَئِكَ» إشارةً إلى الفريق الخبيثِ، وقيل: المرادُ في جهاد الكفار، كإنفاقِ أبي بكر وعثمان في نصرة الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فيضم تعالى تلك الأموال الخبيثة بعضها إلى بعض فيلقيها في جهنَّم، ويعذبهم بها، كقوله تعالى: {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} [التوبة: 35] فاللاَّمُ في قوله {لِيَمِيزَ الله الخبيث} على القول الأوَّلِ متعلقة بقوله تعالى: {يُحْشَرُونَ} أي: يحشرون ليميز اللَّهُ الفريق الخبيث من الفريق الطيب، وعلى القول الثاني متعلقة بقوله: {ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً} و «يَجْعَلَ» يحتمل أن تكون تصييريةً، فتنصبَ مفعولين، وأن تكون بمعنى الإلقاء، فتتعدَّى لواحد، وعلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 513 كلا التقديرين ف «بَعْضَهُ» بدل بعضٍ من كل، وعلى القول الأوَّلِ يكون «عَلَى بعضٍ» في موضع المفعول الثَّاني، وعلى الثَّاني يكون متعلقاً بنفس الجَعْل، نحو قولك: ألقَيْتَ متاعك بعضه على بعض. وقال أبُو البقاءِ، بعد أن حكم عليها بأنَّها تتعدَّى لواحدٍ: «وقيل: الجار والمجرور حالٌ تقديره: ويجعل الخبيث بعضه عالياً على بعض؟ . ويقال: مَيَّزْتُه فتمَيَّزَ، ومزْنُه فانمازَ، وقرىء شاذاً: {وامتازوا اليوم} [يس: 59] ؛ وأنشد أبو زيدٍ: [البسيط] 2706 - لمَّا نَبضا اللَّهُ عَنِّي شرَّ غُدْرَتِهِ ... وانْمَزْتُ لا مُنْسِئاً ذُعْراً ولا وَجِلا وقد تقدَّم الفرق بين هذه الألفاظ في آل عمران [179] . قوله» فَيَرْكُمَهُ «نسقٌ على المنصوبِ قبله، والرَّكْمُ جمعك الشَّيء فوق الشيء، حتى يصير رُكَاماً مركوماً كما يُركم الرمل والسحاب، ومنه: {سَحَابٌ مَّرْكُومٌ} [الطور: 44] والمُرْتَكَم: جَادَّة الطريق للرَّكْم الذي فيه أي: ازدحام السَّبابلة وآثارهم، و» جَمِيعاً «حالٌ، ويجوزُ أن يكون توكيداً عند بعضهم ثم قال تعالى: {أولئك هُمُ الخاسرون} إشارة إلى الذين كفرُوا. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 514 قوله تعالى {قُل لِلَّذِينَ كفروا} الآية. فصل لمَّا بينَّ ضلالهُم في عباداتهم البدنية، والمالية، أرشدهم إلى طريق الصَّواب، وقال: {قُل لِلَّذِينَ كفروا} . وفي هذه اللاَّم الوجهان المشهوران: الأول: أنَّها للتبليغ، أمر أن يُبلِّعَهُم معنى هذه الجملة المحكيةِ بالقول، وسواء اوردها بهذا اللفظ أم بلفظٍ آخرَ مؤدٍّ لمعناها. والثاني: أنها للتعليل، وبه قال الزمخشريُّ. ومنع أن تكون للتبليغ، فقال: «أي قل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 514 لأجلهم هذا القول:» إن ينتَهُوا «ن ولو كان بمعنى خاطبهم به، لقيل: إن تَنْتَهُوا يغفر لكم وهي قراءةُ ابن مسعود، ونحو {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ} [الأحقاف: 11] خاطبوا به غيرهم لِيسمْعَوهُ» وقرىء «يَغْفره» مبنياً للفاعل، وهو ضمير يعود على الله تعالى. فصل المعنى: قُل للَّذين كفرُوا إن ينتهوا عن الكُفْر وعداوة الرَّسُولِ ويسلموا {يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} من كفرهم وعداوتهم للرَّسُولِ، وإن عَادُوا إليه، وأصَرُّوا عليه: {فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ} في نُصرةِ الله أنبياءه، أولياءه، وإهلاك أعداءه؛ فليتوقَّعُوا مثل ذلك. وقال يحيى بنُ معاذ الرازي: توحيد ساعة لم يعجز عن هدم ما قبله من كُفْرٍ، وأرجو ألاَّ يعجز عن هدم ما بعده من ذنب. واستدلُّوا بهذه الآية على صحَّة توبة الزِّنديقِ، وأنها تقبل، واستدلوا بها أيضاً على أنَّ الكفَّار ليسوا مخاطبين بالفروع؛ لأنَّها لا تصح منهم في حال الكفر، وبعد الإسلام لا يلزم قضاؤها. واحتجُّوا بها أيضاً على أنَّ المرتد إذا أسلم لا يلزمه قضاء العبادات الَّتي تركها في حال الردَّةِ. قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} الآية. لمَّا بينَّ أن الكفار إن انتهوا عن الكفر غفر لهم، وإن عادوا فهم متوعدون، أتبعه بأن أمر بقتالهم ذا أصروا، فقال: {وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} . وقال عروة بن الزبير: «كان المؤمنون يفتنون عن دين اللَّهِ في مبدأ الدَّعْوَة، فافتتن بعض المسلمين، فأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المسلمين أن يخرجوا إلى الحبشةِ، وفتنة ثانية وهي أنه لمَّا بايعت الأنصارُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيعة العقبة، أرادت قريش أن يفتنوا المؤمنين بمكَّة عن دينهم؛ فأصاب المؤمنين جهدٌ شديدق، فهذا هو المراد من الفتنةِ؛ فأمر اللَّهُ بقتالهم حتَّى تزول هذه الفتنة» . قال المفسِّرُون: {حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} أي: شِرْك. وقال الربيعُ: «حتَّى لا يفتن مؤمن عن دينه» . قال القاضي «إنه تعالى أمر بقتالهم، ثم بيَّن له قتالهم، فقال: {حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} ويخلص الدِّين الذي هو دينُ الله من سائر الأديانِ، وإنَّما يحصل هذا المقصود إذا زال الكفر بالكليَّة» ، «ويكون» العامَّةُ على نصبه، نسقاً على المنصُوبِ مرفوعاً على الاستئناف. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 515 قوله «فإن انتهَواْ» عن الكُفْرِ والمعاصي، بالتَّوبة والإيمان، فإنَّ اللَّه عالم لا يخفى عليه شيء يوصل إليهم ثوابهم. قرأ الحسنُ ويعقوبُ وسليمانُ بن سلام: «بما تَعْمَلُون» بتاء الخطابِ؛ «وإن تولَّوْا» أي: عن التوبة والإيمان، {فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ} أي: وليكم وهو يحفظكم، ويدفع البلاء «عَنْكُم» . وفي «مَولاكُمُ» وجهان: أظهرهما: أنَّ «مَولاكُم» هو الخبر، و «نِعْمَ المَوْلَى» جملةٌ مستقلةٌ سيقت للمدح. والثاني: أن يكون بدلاً من «اللَّه» والجملةُ المدحيَّةُ خبر ل «أنَّ» والمخصوصُ بالمدح محذوف، أي: نِعْمَ المولى اللَّهُ، أو ربُّكُم. وكلُّ ما كان من حماية هذا المولى، ومن كان في حفظه، كان آمناً من الآفات مصوناً عن المخوفات. قوله تعالى : {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} الآية. لمَّا أمر بقتال الكفار بقوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ} وعند المقاتلة قد تحصل الغنيمة، ذكر تعالى حكم الغنيمة، والظَّاهرُ أنَّ «ما» هذه موصولةٌ بمعنى «الَّذي» ، وكان من حقِّها أن تكتب منفصلةً من «أنَّ» كما كُتبت: {إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ} [الأنعام: 134] منفصلةً، ولكن كذا رُسِمَت. و «غَنِمْتُم» صلتها، وعائدها محذوف لاستكمال الشُّروطِ، أي: غَنِمْتُمُوه. وقوله «فأنَّ لِلَّهِ» الفاءُ مزيدةٌ في الخبر؛ لأنَّ المبتدأ ضُمِّن معنى الشَّرطِ، ولا يَضُرُّ دخولُ الناسخ عليه؛ لأنه لَمْ يُغَيِّر معناه، وهذا كقوله تعالى: {إِنَّ الذين فَتَنُواْ} ثم قال: «فَلَهُم» والأخفش مع تجويزه زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً، يمنع زيادتها في الموصول المشبه بالشَّرط إذا دخلت عليه «إنَّ» المكسورة، وآية البروج [10] حُجَّةٌ عليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 516 وإذا تقرَّر هذا ف «أنَّ» وما علمتْ فيه في محلِّ رفع على الابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديره: فواجبٌ أنَّ لله خمسهُ، والجملةُ من هذا المبتدأ والخبر خبر ل «أنَّ» . وظاهر كلام أبي حيان أنه جعل الفاء داخلةً على: «أنَّ للَّهِ خُمُسَهُ» من غير أن يكون مبتدأ وخبرها محذوف، بل جعلها بنفسها خبراً، وليس مرادهُ ذلك، غذ لا تدخل هذه الفاءُ على مفردٍ، بل على جملةٍ، والذي يُقَوِّي إرادته ما ذكرنا أنه حكى قول الزمخشريِّ، أعني كونه قدَّر أنَّ «أنَّ» ، وما في حيِّزها مبتدأٌ، محذوفُ الخبر، فجعلهُ قولاً زائداً على ما قدَّمه. ويجوز في «ما» أن تكون شرطيةً، وعاملُها «غَنِمْتُم» بعدها، واسمُ «أنَّ» حينئذٍ ضميرُ المرِ والشَّأنِ وهو مذهبُ الفرَّاءِ، إلاَّ أنَّ هذا لا يجوزُ عند البصريين إلاَّ ضرورةً، بشرط ألاَّ يليها فعل؛ كقوله: [الخفيف] 2707 - إنَّ مَنْ يَدْخُلِ الكَنِيسَة يَوْماً ... يَلْقَ فِيهَا جَآذِراً وظِبَاءَ وقول الآخَرِ: [الخفيف] 2708 - إنَّ مَنْ لامَ بَنِي بنتِ حَسَّا ... نَ ألُمْهُ وأعُصِهِ في الخُطُوبِ وقيل: الفاءُ زائدةٌ، و «أنَّ» الثانيةُ بدلٌ من الأولى. وقال مكي: «وقد قيل» إنَّ الثانية مؤكدةٌ للأولى، وهذا لا يجوز لأنَّ الولى تبقى بغير خبر؛ ولأنَّ الفاء تحول بين المؤكَّد والمؤكِّد وزيادتها لا تَحْسُن في مثل هذا «. وقيل:» ما «مصدريَّةٌ، والمصدر بمعنى المفعول أي: أنَّ مغنومكم هو المفعول به، أي: واعلموا أنَّ غُنمكم، أي: مغنومكم. والغنيمةُ: أصلها من الغُنْمِ، وهو الفوزُ، يقال: غنم يغنم فهو غانم، وأصلُ ذلك من الغنم هذا الحيوان المعروف، فإنَّ الظفر به يُسَمَّ غُنْماً، ثم اتُّسِع في ذلك، فَسُمِّي كلُّ شيء مظفورٍ به غُنْماً ومَغْنَماً وغَنيمة؛ قال علقمةُ بنُ عبدةَ: [البسيط] 2709 - ومُطْعَمُ الغُنْمِ يَوْمَ الغُنْمِ مُطعمُهُ ... أنَّى توَجَّهَ والمَحْرُومُ مَحْرُومُ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 517 وقال الآخر: [الوافر] 2710 - لَقَدْ طَوَّفْتُ فِي الآفَاقِ حَتَّى ... رَضيتُ من الغنيمة بالإياب قوله «مِنْ شيءٍ» في محلِّ نصبٍ على الحال من عائد الموصول المقدَّر، والمعنى: ما غنمتموه كائناً من شيء، أي: قليلاً أو كثيراً. وحكى ابن عطية عن الجعفي عن أبي بكر عن عاصم. وحكى غيره عن الجعفيِّ عن هارون عن أبي عمرو: «فإنَّ لِلَّهِ» بكسر الهمزةِ، ويُؤيدُ هذه القراءة قراءة النخعي «فللَّه خُمُسهُ» فإنها استئناف، وخرجها أبُو البقاءِ على أنَّها وما في حيَّزها في محلِّ رفع، خبراً ل «أنَّ» الأولى. وقرأ الحسنُ وعبدُ الوارث عن أبي عمرو: «خُمْسَهُ» بسكون الميم، وهو تخفيفٌ حسن. وقرأ الجعفيُّ «خِمْسه» بكسر الخاء. قالوا: وتخريجها على أنَّهُ أتبعَ الخاءَ لحركة ما قبلها، وهي هاء الجلالة من كلمة أخرى مستقلة، قالوا: وهي كقراءة من قرأ {والسمآء ذَاتِ الحبك} [الذاريات: 7] بكسر الحاء إتباعاً لكسرة التاء من «ذاتِ» ولمْ يعتدُّوا بالساكن، وهو لامُ التعريف، لأنه حاجزٌ غير حصين. قال شهاب الدين «ليت شعري، وكيف يقرأ الجعفيُّ والحالةُ هذه؟ فإنه إن قرأ كذلك مع ضم الميم فيكون في غاية الثقل، لخروجه من كسرٍ إلى ضمٍّ، وإن قرأ بسكونها وهو الظَّاهرُ فإنه نقلها قراءةً عن أبي عمرو، أو عن عاصم، ولكن الذي قرأ:» ذاتِ الحِبُكِ «يبقى ضمَّه الباء، فيؤدي إلى» فِعُل «بكسر الفاء وضمِّ العين، وهو بناءٌ مرفوض» . وإنما قلت: إنه يقرأ كذلك؛ لأنه لو قرأ بكسر التاء لما احتاجوا إلى تأويل قراءته على الإتباع؛ لأن في «الحُبُك» لغتين: ضمُّ الحاءِ والباءِ، وكسرهما، حتَّى زعم بعضهم أنَّ قراءة الخروج من كسرٍ إلى ضمٍّ من التَّداخل. فصل والغنيمةُ في الشريعةِ، والفيء، اسمان لما يُصيبه المسلمون من أموال الكفار. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 518 فذهب جماعة إلى أنهما واحد، وذهب قومُ إلى أنَّ الغنيمة، ما أصابه المسلمُونَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 519 منهم عَنْوَةً بقتال، والفيء: ما كان من صلح بغير قتال. قوله «مِن شيءٍ» يعني: من أي شيء كان حتَّى الخيط: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} ذهب أكثر المفسِّرين والفقهاء إلى أنَّ قوله: «لِلَّه» افتتاح على سبيل التبرُّك، وأضاف هذا المال لنفسه لشرفه. وليس المراد أن سهماً من الغنيمة «لِلَّهِ» مفرداً، فإن الدنيا والآخرة لله عَزَّ وَجَلَّ وهو قول قتادة والحسن وعطاء وإبراهيم والشعبي قالوا: سهم الله وسهم الرسول واحد والغنيمة تقسم خمسة أخماس أربعة أخماسها لِمنْ قاتل عليها، والخُمْسُ لخمسة أصناف كما ذكر الله تعالى {وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل} . وقال أبو العالية، وغيرهك يقسم الخُمْس على ستة أسهم: سهم لله تعالى، ثم القائلون بهذا القول منهم من قال: يُصرف سهم الله إلى الرسول، ومنهم من قال: يصرفُ لعمارة الكعبة. وقال بعضهم: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يضربُ بيده في هذا الخُمْس فما قبض عليه من شيء جعله للكعبة، وهو الذي سُمِّي «لِلَّهِ» . فصل قل القرطبي «هذه الآية ناسخة لأول السُّورة عند الجمهور، وقد ادَّعى ابن عبد البر: الإجماع على أن هذه الآي نزلت بعد قوله {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} [الأنفال: 1] وأنَّ أربعة أخماس الغنيمة مقسومة على الغانمين، وأن قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} نزلت حين تشاجر أهل بدر في غنائم بدر، على ما تقدم. وقيل: إنها مُحكمة غير منسوخة، وأنَّ الغنيمة لرسُولِ الله، وليست مقسومة بين الجزء: 9 ¦ الصفحة: 520 الغانمين وكذلك لمن بعده من الأئمة، حكاه الماورديُّ عن كثير من أصحاب مالكٍ، واحتجوا بفتح مكَّة وقصَّة حنين، وكان أبو عبيد يقول: افْتَتَحَ رسولُ الله مكَّة عنوةً ومنَّ على أهلها، فردها عليهم، ولم يَقْسِمها، ولم يجعلها فَيْئاً» . فصل أجمع العلماءُ على أن قولهُ: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ} ليس على عمومه، وأنَّهُ مخصوصٌ باتفاقهم على أنَّ سلب المقتول لقاتله إذا نادى به الإمامُ، وكذلك الأسارى الإمام فيهم مخيَّرٌ، وكذلك الأراضي المغنومة. فصل قال الإمامُ أحمدُ: لا يكون السَّلب للقاتل إلاَّ في المبارزة خاصَّة، ولا يخمس وهو قول الشافعيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ ولا يعطى القاتل السَّلب، إلاَّ أن يقيم البيَّنة على قتله. قال أكثرُ العلماء: يجوزُ شاهد واحد؛ لحديث أبي قتادة، وقيل: شاهدان. وقيل: شاهد ويمين، وقيل: يقضى بمجرد دعواه. قوله: «ولِذِي القُرْبَى» أي: أنَّ سَهْماً من خمس الخمس لذوي القربى، وهم أقارب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، واختلفوا فيهم. فقال قومٌ: هم جميع قريش، وقال قومٌ: هم الذين لا تحل لهم الصَّدقة. وقال مجاهدٌ وعلي بنُ الحسينِ: هم بنُو هاشمٍ وبنو المطلب، وليس لبني عبد شمس، ولا لبني نوفل منه شيء، وإن كانوا إخوة، لما روي عن جُبير بن مطعم قال «قسَّم رسولُ الله - عليه الصَّلاة والسَّلام - سهم ذوي القربى بين بني هاشم وبني المطلب ولم يعط أحداً من بني عبد شمس، ولا لبني نوفل؛ ولما روى محمدُ بن جبير بن مطعم عن أبيه قال: لمَّا قسم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سهم ذوي القربى بين بني هاشمٍ وبني المطلب أتيته أنا، وعثمان بنُ عفان، فقلنا يا رسُول الله: هؤلاء إخواننا من بني المُطلَّلِبِ أعطيتهم وتركتنا أو منعتنا، وإنَّما قرابتنا وقرابتهم واحدةً، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّما بنُو هاشم وبنو المطلب شيءٌ واحدٌ هكذا «وشبَّك بين أصابعه» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 521 واختلف العلماءُ في سهم ذوي القربى، هل هو ثابتٌ اليوم؟ فذهب أكثرهم إلى أنَّهُ ثابت وهو قول مالك والشافعي، وذهب أصحابُ الرَّأي إلى أنَّهُ غير ثابت، وقالوا سهم رسول الله وسهم ذوي القرى مَرْدُودان في الخُمس، فيقسم خمس الغنيمة لثلاثةِ أصناف اليتامى والمساكين وابن السبيل. وقال بعضهم: يعطى للفقراء منهم دون الأغنياء، أي: يعطى لفقره لا لقرابته، والكتاب والسنة يدلاَّن على ثبوته وكذا الخلفاء بعد رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا يعطونه، ولا يُفَضل فقير على غني؛ لأنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والخلفاء بعده كانوا يعطون العباس بن عبد المطلب مع كثرة ماله، وألحقه الشافعي بالميراث الذي يستحق باسم القرابة، غير أنه يعطى القريب والبعيد. وقال: يفضل الذكر على الأنثى فيعطى الرجل سهمين، والأنثى سهماً. قال القرطبي: «ليست اللاَّم في» لِذِي القُرْبَى «لبيان الاستحقاق والملك، وإنّضما هي للمصرف والمحل» . قوله: {واليتامى والمساكين وابن السبيل} اليتامى: جمع «يَتيمٍ وهو الصغير المسلم الذي لا أب له إذا كان فقيراً، و» المَسَاكِين «هم أهْلُ الفاقة والحاجة من المسلمين، و» ابْنِ السَّبيلِ «هو المسافر البعيد عن مالهِ، فهذا مصرف خمس الغنيمة ويقسم أربعة أخماس الغنيمة بين الغانمين الذين شهدُوا الوقعة، للفارس ثلاثة أسهم سهم له وسهمان لفرسه، وللرَّاجل سهمح لما روى ابنُ عمر أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» أسْهَمَ لرجلٍ ولفرسه ثلاثة أسهم سَهْماً له وسهمين لفرسه « وهذا قولُ أكثر أهل العلم، وإليه ذهب الثوريُّ، والأوزاعيُّ وابن المبارك والشافعيُّ واحمد وإسحاق. وقال أبو حنيفة: للفارس سهمان وللرَّاجلِ سهم، ويرضخ للعبيد، والنسوان، والصبيان إذا حضروا القتال. قال القرطبيُّ:» إذا خرج العبدُ، وأهلُ الذِّمة وأخذوا مال أهل الحرب فهو لهم ولا يخمس «لأنه لم يوجب عليهم خيل ولا ركاب. ويقسم العقار الذي استولى عليه المسلمون كالمنقولِ، وعند أبي حنيفة يتخيَّرُ الإمام الجزء: 9 ¦ الصفحة: 522 في العقار بين أن يقسمه بينهم وبين أن يجعله وقْفاً على المصالح. وظاهر الآية لا يفرق بين العقار والمنقول، ومن قتل مُشركاً استحقَّ سلبه من رأس الغنيمة لما روي عن أبي قتادة أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» من قَتل قتيلاً له عليه بيِّنة فله سلبه « والسَّلبُ: كل ما يكون على المقتول من ملبوس وسلاح وفرسه الذي يركبه. ويجوز للإمام أن ينفل بعض الجيش من الغنيمة لزيادة عناءٍ وبلاء يكون منهم في الحرب يخُصُّهم به من بين سائر الجيش، ويجعلهم أسوة الجماعة في سائر الغنيمة، لما روى ابن عمر أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» كان يُنفِّلُ بعض من يبعث من السَّرايا لأنفسهم خاصة سوى عامة الجيش « وروى حبيب بن مسلمة الفهري قال: شهدت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «نَفَّلَ الرُّبعَ في البَدْأة والثُّلثَ في الرَّجْعَةِ» واختلف في النفل من أين يعطى؟ . فقال قوم: يعطى من خمس الخمس من سهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قول سعيد بن المسيب وبه قال الشافعي، وهذا معنى قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَا لي مِمَّا أفاء الله عليكم إلا الخمس والخُمسُ مردودٌ فيكم» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 523 وقال قومٌ: هو من الأربعة أخماس بعد إفراد الخمس كسهام الغزاة وهو قول أحمد وإسحاق. وذهب بعضهم إلى أنَّ النَّفْلَ من رأس الغنيمةِ قبل التخميس كالسّلب للقاتل. فصل دلَّت هذه الآية على جوازِ قسمة الغنيمة في دار الحربِ، لقوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} الآية. فاقتضى ثبوت الملك لهؤلاء في الغنيمة وإذا ثبت لهم الملك وجب جواز القسمة. وروى الزمخشريُّ عن الكلبيِّ: «أنَّ هذه الآية نزلت ببدرٍ» . وقال الواقديُّ «كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً من الهجرة» . فصل قال القرطبيُّ: «لمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى حكم الخمس وسكت عن الأربعة أخماس دل على أنها ملك للغانمين. وملك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك، إلاَّ أن الإمام مخير في الأسرى بين المن بالأمان كما فعل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بثمامة بن أثال، وبين القتل كما قتل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عقبة بن أبي مُعيط من بين الأسرى صبراً، وقتل ابن الحرث صبراً، وكان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سهم كسهم الغانمين حضر أو غاب، وسهم الصفيّ يصطفي سيفاً أو خادماً أو دابة، وكانت صَفية بنت حُيَيّ من الصَّفيِّ من غنائم خيبر، وكذلك ذو الفقار كان منه، وقد انقطع إلا عند أبي ثور فإنه رآه باقياً للإمام يجعله حيث شاء [وكان أهل الجاهلية] يرون للرئيس ربع الغنيمة قال شاعرهم: [الوافر] 2710 - لكَ المِرْبَاعُ مِنْهَا والصَّفايَا ... وحُكْمُكَ والنَّشيطةُ والفُضُول الجزء: 9 ¦ الصفحة: 524 يقال ربع الجيش يربعه: إذا أخذ ربع الغنيمة. قال الأصمعي: ربع في الجاهلية وخمّس في الإسلام، فكان يأخذ منها ثم يتحكم بعد الصَّفيِّ في أي شيء أراد، وكان ما فضل منها من خرثيّ ومتاع له، فأحكم الله تعالى الدين بقوله: {واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ} فأبقى سهم الصَّفيِّ لنبيّه وأسقط حكم الجاهلية. قوله:» إن كُنتُم «شرطٌ، جوابه مقدرٌ عند الجمهور، لا متقدم، أي: إن كنتم آمنتتم فاعلموا أنَّ حكم الخمس ما تقدَّم، أو: فاقبلوا ما أمرتم به. والمعنى: واعلمُوا أنَّما غَنِمْتُم من شيءٍ فانَّ للَّهِ خُمُسَه وللرَّسُولِ يأمر فيه ما يريد، فاقبلوه إن كنتم آمنتم باللَّهِ، وبالمنزل على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان، وهو قوله: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} [الأنفال: 1] لمَّا نزلت في يوم بدر، وهو يوم الفرقان فرق اللَّهِ فيه بين الحقِّ والباطل، وهو يوم التقى الجمعان، حزب الله وحزب الشيطان، وكان يوم الجمعة سبع عشر مضت من رمضان. وقوله «ومَا أنزلْنَا» عطفٌ على الجلالة، فهي مجرورةُ المحلِّ، وعائدُها محذوف، وزعم بعضهم أنَّ جواب الشَّرطِ متقدم عليه، وهو قوله ف {نِعْمَ المولى} [الأنفال: 40] . وهذا لا يجوز على قواعد البصريين. قوله: «يَوْمَ الفُرقِانِ» يجوزُ فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أن يكُون منصوباً ب «أنزَلْنَا» أي: أنزلْنَاهُ في يوم بدر، الذي فُرِقَ فيه بين الحق والباطل. الثاني: أن ينتصبَ بقوله «آمنتُم» أي: إن كنتم آمنتم في يوم الفرقانِ، ذكره أبُو البقاءِ. الثالث: يجوزُ أن يكون منصوباً ب «غَنِمْتُم» . قال الزَّجَّاجُ: أي: ما غنمتم في يومِ الفرقان فحكمه كذا وكذا. قال ابن عطية: «وهذا تأويلٌ حسنٌ في المعنى، ويعترضه أنَّ فيه الفصل بين الظرف وما يعمل فيه بهذه الجملةِ الكثيرةِ الألفاظِ» ، وهو ممنوعٌ أيضاً من جهةٍ أخرى أخصّ من هذه. وذلك أنَّ «ما» إمَّا شرطية، كما هو رأي الفرَّاءِ، وإمَّا موصولة، فعلى الأوَّل يُؤدِّي إلى الفصل بين فعل الشَّرط، ومعموله بجملة الجزاء، ومتعلَّقاتها، وعلى الثَّاني يُؤدِّي إلى الفصلِ بين فعل الصلة ومعموله بخبر «أنَّ» . قوله {يَوْمَ التقى الجمعان} فيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ بدل من الظرف قبله. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 525 والثاني: أنه منصوب ب «الفرقان» ؛ لأنَّه مصدرٌ، فكأنه قيل: يوم فرق فيه في يوم التقى الجمعان أي: الفرق في يوم التقاء الجمعين. وقرأ زيد بن علي: «عَلَى عُبُدنَا» بضمتين، وهو جمع «عَبْد» وهذا كما قد قرىء {وَعَبَدَ الطاغوت} [المائدة: 60] ، والمراد بالعُبُد في هذه القراءة هنا رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومن معه من المؤمنين، والمراد ب «مَا أنزلْنَا» أي: الآيات والملائكة، والفتح في ذلك اليوم. {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: يقدر على نصركم وأنتم قليلون. قوله «إذْ أنتُم» في هذا الظَّرف أربعةُ أوجهٍ: أحدها: أنَّهُ منصوبٌ ب «اذكُرُوا» مُقدراً، وهو قول الزَّجَّاجِ. الثاني: أنَّهُ بدلٌ من «يَوْمَ الفرقانِ» أيضاً. الثالث: أنه منصوب ب «قديرٌ» وهذا ليس بواضحٍ؛ إذ لا يتقيَّ اتِّصافه بالقدرة بظرفٍ من الظُّروف. الرابع: أنه منصوبٌ ب «الفُرْقَانِ» أي: فرق بين الحقِّ والباطل إذْ أنتم بالعُدَّوَةِ. قوله: «بالعُدْوَةِ» متعلقٌ بمحذوف؛ لأنَّهُ خبر المبتدأ، والباء بمعنى: طفي كقولك: زيد بمكة. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «بالعِدْوَةِ» بكسر العينِ فيهما، والباقون بالضم فيهما وهما لغتان في شطِّ الوادي وشفيره وضِفَّته، كالكُسْوة والكِسْوة، والرُّشوة والرِّشوة، سُمِّيت بذلك لأنَّها عدتْ ما في الوادي من ماءٍ ونحوه أن يتجاوزها، أي: منعته؛ قال الشَّاعرُ: [الوافر] 2711 - عَدَتْنِي عَنْ زيارتها العَوَادِي ... وحَالَتْ دُونهَا حَرْبٌ زُبُونُ وقرأ الحسنُ وزيد بن علي، وقتادة وعمرو بن عبيد بالفتح، وهي كلها لغاتٌ بمعنى واحد. هذا هو قولُ جمهور اللغويين، على أنَّ أبا عمرو بن العلاء أنكر الضمَّ، ووافقه الأخفش، فقال: «لَمْ يُسْمَعْ من العرب إلاَّ الكسرُ» . ونقل أبو عبيد اللغتين، إلاَّ أنه قال: الضَّمُّ أكثرهما، وقال اليزيديُّ: «الكسر لغةُ الحجازِ» ؛ وأنشدوا قول أوس بن حجرٍ: [البسيط] 2712 - وفَارسٍ لمْ يَحُلَّ القومُ عُدْوتَهُ ... ولَّوْا سِرَاعاً ومَا هَمُّوا بإقْبَالِ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 526 بالكسر، والضم. وهذا هو الذي ينبغي أن يقال، فلا وجهَ لإنكار الضَّمِّ، ولا الكسْرِ، لتواتر كلٍّ منهما، ويحمل قول أبي عمرو على أنَّهُ لم يبلُغْه، ويحتمل أن يقال في قراءةِ من قرأ بفتح العين أن يكون مصدراً سُمِّي به المكان. وقُرىء شاذّاً «بالعِدْيَة» بقلب الواو ياءً لانكسار ما تقدَّمها، ولا يُعتبر الفاصلُ؛ لأنَّه ساكن، فهو حاجز غير حصين، وهذا كما قالوا: «هو ابن عمي دِنيا» بكسر الدَّال، وهو من الدنو، وكذلك: قِنْيَة، وصِبْيَة، وأصله السَّلامة، كالذِّرْوَة، والصِّفْوة والرِّبُوَة، وقد تقدَّم الكلام على لفظ «الدُّنْيَا» . قول «القُصْوَى» تأنيث «الأقصى» ، والأقصى: الأبعد، والقَصْوُ: البعد وللصَّرفيين عبارتان، إلبهما أن «فُعْلَى» من ذوات الواو، إن كانت اسماً أبدلَتْ لامُها ياءً، ثم يُمَثِّلُون بنحو: الدُّنْيَا، والعُلْيَا، والقُصْيَا، وهذه صفاتٌح لأنَّها من باب أفعل التَّفضيل، وكأنَّ العذر لهم أنَّ هذه وإن كانت في الأصْلِ صفاتٍ، إلاَّ أنَّها جرتْ مجرى الجوامد. قالوا: وإنْ كانت «فُعْلَى» صفةً أقرَّتْ لامُها على حالها، نحو: الحُلْوى، تأنيث الأحلى ونصُّوا على أن «القُصْوَى» شاذة، وإن كانت لغة الحجاز، وأنَّ «القُصْيَا» قياسٌ وهي لغة تميم، وممَّنْ نصَّ على شذوذ: «القُصْوَى» يعقوب بن السِّكِّيت. وقال الزمخشريُّ: وأمَّا «القُصْوَى» فكالقَوَد في مجيئه على الأصل، وقد جاء «القُصْيَا» إلاَّ أنَّ استعمال «القُصوى» أكثر، كما كثر استعمال «استصوب» مع مجيء «استَصَابَ» ، و «أغيَلت» مع «أغَالَتْ» انتهى. وقد قرأ زيد بن عليٍّ: «بالعُدْوةِ القُصْيَا» فجاء بها على لغة تميم، وهي القياسُ عند هؤلاء. والعبارة الثانية - وهي القليلةُ - العكس، أي: إن كانت صفةً أبدلتْ، نحو: العُلْيَا والدُّنيا، والقُصْيا، وإن كانت اسماً أقرَّتْ؛ نحو «حُزْوَى» ؛ كقوله: [الطويل] 2713 - أدَاراً بِحُزْوَى هِجْتِ للعَيْنِ عَبْرَةً ... فَمَاءُ الهَوَى يرفَضُّ، أو يَتَرقْرَقُ وعلى هذا ف «الحُلْوَى» شاذة؛ لإقرار لامها مع كونها صفة، وكذا «القُصْوَى» أيضاً، عند هؤلاء؛ لأنها صفة وقد ترتَّب على هاتين العبارتين أنَّ «قُصْوَى» على خلافِ القياس فيهما وأن «قًصْيَا» هي القياس؛ لأنها عند الأولين من قبيل الأسماء، وهم يقلبونها ياء وعند الآخرين من قبيل الصفات، وهم يقلبونها أيضاً ياءً، وإنَّما يظهر الفرقُ في «الحُلْوى» و «حُزْوَى» ف: «الحُلْوَى» عند الأولين تصحيحها قياسٌ، لكونها صفةً، وشاذة الجزء: 9 ¦ الصفحة: 527 عند الآخرين، لأنَّ الصفةَ عندهم تُقْلبُ واوُها ياءً. و «الحُزْوَى» عكسُها، فإنَّ الأولين يقلبُون في الأسماء، دون الصفات، والآخرون عكسُهم. وهذا موضعٌ حسنٌ، يختلط على كثير من النَّاس، فلذلك شرحناه. ونعني بالشذوذِ: شذوذ القياس، لا شذوذ الاستعمال، ألا ترى إلى استعمال التواتر ب «القُصْوَى» . قوله {والركب أَسْفَلَ مِنكُمْ} الأحسنُ في هذا الواو، والواو التي قبلها الداخلة على «هم» : أن تكون عاطفة ما بعدها على «أنتُم» ؛ لأنَّها مبدَأ تقسيم أحوالهم، وأحوال عدوِّهم ويجوزُ أن يكونا وَاوَي حال، و «أسْفَلَ» منصوبٌ على الظَّرف النَّائب عن الخبرِ، وهو في الحقيقة صفةٌ لظرف مكان محذوفٍ، أي: والرَّكْبُ مكاناً أسفل مِنْ مكانكم. وقرأ زيد بنُ عليٍّ «أسْفَلُ» بالرَّفعِ، على سبيل الاتِّساع، جعل الظرف نفس الركب مبالغةً واتساعاً. وقال مكيٌّ: «وأجاز الفرَّاءُ، والأخفشُ، والكسائي رحمهم الله تعالى» أسْفَلُ «بالرَّفع على تقدير محذوفٍ، أي: موضعُ الرَّكب أسفل» ، والتخريجُ الأوَّل أبلغُ في المعنى، والرَّكْبُ: اسمُ جمعٍ ل «رَاكبٍ» لا حمع تكسر له؛ خلافاً للأخفش؛ كقوله: [الرجز] 2714 - بَنَيْتُهُ مِنْ عُصْبَةٍ مِنْ ماليَا ... أخْشَى رُكَيْباً ورُجَيْلاً عَادِيَا فصَغَّره على لفظه، ولو كان جمعاً لما صُغِّر على لفظه. قوله «ولكِن ليَقْضِيَ» متلِّقٌ بمحذوف، أي: ولكن تلاقَيْتُم لِيقْضِي، وقدَّرَ الزمخشريُّ ذلك المحذوف فقال: «أي: ليقضي اللَّهُ أمراً كان واجباً أن يفعل، وهو نصرُ أوليائه وقهرُ أعدائه دبر ذلك» ، و «كَانَ» يحتمل أن تكون على بابها من الدلالة على اقتران مضمون الجملة بالزَّمانِ الماضي، وأن تكون بمعنى «صار» ، فتدُلَّ على التحوُّلِ، أي: صار مفعولاً بعد أن لم يكن كذلك. قوله «لِيَهْلِكَ» فيه أوجه: أحدها: أنَّهُ بدلٌ من قوله: «ليَقضيَ اللَّهُ» بإعادة العاملِ فيتعلَّق بما تعلَّق به الأول. الثاني: أنَّهُ متعلِّقٌ بقوله «مَفْعُولاً» ، أي: فعل هذا الأمر لِكَيْتَ وكَيْتَ. الثالث: أنَّهُ متعلِّق بما تعلَّ به «لِيَقْضِيَ» على سبيل العطفِ عليه بحرفِ عطفٍ محذوف، تقديره: وليهلكَ، فحذف العاطفَ، وهو قليلٌ جدّاً، وتقدَّم التنبيه عليه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 528 الرابع: أنَّهُ متعلِّق ب «يَقْضِي» ذكره أبُو البقاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى. وقرأ الأعمشُ وعصمة عن أبي بكر عن عاصم «لِيَهْلَكَ» بفتح اللاَّم، وقياسُ ما مضى هذا «هَلِكَ» بالكسر، والمشهور إنما هو الفتح، قال تعالى: {إِن امرؤ هَلَكَ} [النساء: 176] {حتى إِذَا هَلَكَ} [غافر: 34] . قوله «مَنْ حَيَّ» قرأ نافعٌ وأبو بكر عن عاصم، والبزيُّ عن ابن كثير بالإظهار والباقون بالإدغام، والإظهارُ والإدغام في هذا النَّوْعِ لغتان مشهورتان، وهو كُلُّ ما آخرُه ياءان من الماضي أولاهما مكسورة؛ نحو: «حَيِيَ، وعَيِيَ» ، ومن الإدغام قول المتلمِّس: [الطويل] 2715 - فَهَذَا أوانُ العِرضْ حَيَّ ذُبابُه ..... ... ... ... ... ... ... ... ... وقال الآخرُ: [مجزوء الكامل] 2716 - عَيُّوا بأمْرِهِمْ كَمَا ... عَيَّتْ ببَيْضَتِهَا الحَمامَهْ فأدغم «عَيُّوا» ، وينُشدُ «عَيَّتْ، وعَييَتْ» بالإظهارِ والإدغام، فمن أظهر؛ فلأنه الأصلُ ولأن الإدغامَ يُؤدِّي إلى تضعيف حرفِ العلَّةِ، وهو ثقيلٌ في ذاته؛ ولأن الياء الأولى يتعينَّ فيها الإظهارُ في بعض الصُّورِ، وذلك في مضارع هذا الفعل؛ لانقلاب الثَّانية ألفاً في يَحْيَا، ويَعْيَا، فحمل الماضي عليه طرداً للباب؛ ولأنَّ الحركةَ في الثَّانية عارضةٌ؛ لزوالها في نحو: حَيِيتُ، وبابه؛ ولأنَّ الحركتين مختلفتان؛ واختلاف الحركتين كاختلاف الحرفين. قالوا وكذلك: لَحِحَت عينه وضببَ المكان، وألِلَ السِّقَاءُ، ومشِشَتْ الدَّابة. قال سيبويه: «أخبرنا بهذه اللُّغةِ يونسُ» يعني بلغة الإظهار. قال: «قد سمعت بعض العرب يقولُ: أحْيِيا، وأحْيِيَة، فيظهر» . وإذا لم يدغم مع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 529 لزوم الحركةِ فمع عروضها أوْلضى، ومنْ أدغم فلاستثقال ظهور الكسرةِ في حرف يُجانسه؛ ولأنَّ الحركة الثانية لازمةٌ لأنَّهَا حركةُ بناء، ولا يضُرُّ زوالها في نحو: «حَيِيْتُ» ، كما لا يَضُرُّ ذلك فيما يجب إدغامُه من الصحيح، نحو: حَلَلْتُ وظَللْتُ، وهذا كلَّه فيما كانت حركتُه حركة بناءٍ، ولذلك قُيِّد به الماضي. أمَّا إذا كانت حركة إعراب فالإظهارُ فقط، نحو: لن يُحْيِي ولن يُعْيِيَ. فصل قوله «عَن بيِّنَةٍ» متعلق ب «يَهْلِكَ» و «يَحْيَا» ، والهلاكُ، والحياةُ عبارةُ عن الإيمان والكفرِ، والمعنى: ليصدرَ كُفْرُ من كفر عن وضوحٍ وبيان، لا عن مُخالطةِ شبهة، وليصدر إسلامُ من أسلم عن وضوحٍ لا عن مُخالطة شبهة. معنى الآية: «إذْ أنتُمْ» أي: اذكرُوا يا معشر المسلمين: {إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا} أي: بشفير الوادي الأدنى من المدينة، والدُّنْيَا: تأنيثُ الأدْنَى، «وهُم» يعني: المشركين. «بالعُدُوَةِ القُصْوَى» بشفير الوادي الأقصى من المدينة ممَّا يلي جانب مكَّة، وكان الماءُ في العدوة التي نزل بها المشركون، فكان استظهارهم من هذا الوجه أشد، «والرَّكْبُ» العير التي خرجوا إليها: «أسْفَلَ مِنكُمْ» أي: في موضع أسفل إلى ساحل البحر على ثلاثة أميال من بدر. «ولوْ توَاعَدتُّمْ» أنتم، وأهل مكَّة «لاخْتَلَفْتُمْ» لخالف بعضكم بعضاً لقلتكم، وكثرتهم، أول أن المسلمين خرجوا ليأخُذُوا العير، وخرج الكفَّارُ ليمنعوها، فالتقوا على غير ميعاد، ولكن الله جمعكم على غير ميعاد ليقضي الله أمراً كان مفعولاً، لنصر أوليائه وإعزاز دينه وإهلاك أعدائه {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} . وذلك أن عسكر الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أول الأمر، كانوا في غاية الضَّعْفِ والخوف بسبب القلَّةِ، وعدم الأهبة، ونزلُوا بعيداً عن الماءِ، وكانت الأرض الَّتي نزلُوا فيها رَمْلاً تغوصُ فيه أرجُلُهُمْ، والكُفَّارُ كانوا في غاية القُوَّةِ، لكثرتهم في العدد والعدة، وكانوا قريباً من الماء وكانت الأرض التي نزلوا فيها صالحة للمضي، والعير كانوا خلف ظهورهم وكانوا يتوقَّعُون مجيء المدد ساعةً فساعةً، ثُمَّ إنَّه تعالى قلب القصَّة، وجعل الغلبة للمسلمين، والدَّمار على الكافرين، فصار ذلك من أعظم المعجزات، وأقوى البيِّنات على صدق محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيما أخبر عن ربه من وعد النصر والفتح والظفر. وقوله: {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ} إشارة إلى هذا المعنى، وهو أنَّ الذين هلكوا إنَّما هلكوا بعد مشاهدة هذه المعجزة، والذين بقوا في الحياة شاهدوا هذه المعجزة القاهرة، والمراد من البيِّنةِ: المعجزة، ثم قال: {وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: يسمع دعاءكم، ويعلم حاجتكم وضعفكم ويصلح مهمكم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 530 النَّاصب ل «إذْ» يجوزُ أن يكون مضمراً، أي: اذكُرْ، ويجوزُ أن يكون «عليم» ، وفيه بعدٌ من حيث تقييدُ هذه الصفةِ بهذا الوقتِ، ويجوزُ أن تكون «إذْ» هذه بدلاً من «إذْ» قبلها، والإراءة هنا حُلُمية. واختلف فيها النُّحاةُ: هل تتعدَّى في الأصل لواحدٍ كالبصريَّةِ، أو لاثنين، كالظَّنِّيَة؟ . فالجمهورْ على الأوَّلِ. فإذا دخلت همزةُ النَّقْلِ أكسبتْهَا ثانياً، أو ثالثاً على حسب القولين فعلى الأوَّلِ تكون الكافُ مفعولاً أول، و «هُمْ» مفعولٌ ثان، و «قَلِيلاً» حال، وعلى الثَّاني يكون «قَلِيلاً» نصباً على المفعول الثالث، وهذا يَبْطُلُ بجواز حذف الثالث في هذا الباب اقتصاراً، أي: من غير دليل تقول: أراني الله زيداً في مَنَامِي، ورأيتك في النوم، ولو كانت تتعدَّى لثلاثةٍ، لما حُذفَ اقتصاراً؛ لأنه خبر في الأصل. فصل المعنى: إذْ يريك اللَّهُ يا محمد المشركين في منامك، أي: نَوْمك. قال مجاهد: أرَى الله النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - كفار قريش في منامه قليلاً، فأخبر بذلك أصحابه، فقالوا: رُؤيَا النَّبي حق، القومُ قليل، فصار ذلك سبباً لقوَّةِ قلوبهم. فإن قيل: رؤية الكثيرة قليلاً غلط، فكيف يجوزُ من اللَّه تعالى أن يفعل ذلك؟ . فالجوابُ: أنَّ الله تعالى يفعلُ ما يشاءُ، ويحكم ما يريدُ، ولعلَّه تعالى أراه البعض دون البعض فحكم الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - على أولئك الذين رآهم بأنهم قليلون. وقال الحسنُ: هذه الإراءة اكنت في اليقظة، قال: والمراد من المنامِ: العين؛ لانَّها موضع النَّوْمِ. {وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ} لجبنتم «ولتنَازَعْتُمْ» اختلفتم «فِي الأمْرِ» أي: في الإحجام والإقدام {ولكن الله سَلَّمَ} أي: سَلَّمكُم من المخالفة والفشل. وقيل: سلَّمهم من الهزيمة يوم بدر. {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} . قال ابنُ عبَّاسٍ: عليم بما في صدوركم من الحُبِّ لِلَّهِ تعالى وقيل: يعلم ما في صدوركم من الجراءة، والجُبن والصَّبر والجزع. قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ} الإراءةُ - هنا - بَصرية، والإتيان هنا بصلة ميم الجمع واجبٌ، لاتصالها بضمير، ولا يجوزُ التَّسكينُ، ولا الضَّمُّ من غير واوٍ، وقد جوَّز الجزء: 9 ¦ الصفحة: 531 يونس ذلك فيقول: «أنْتُم ضرَبْتُمهُ» بتسكين الميم وضمها، وقد يتقوَّى بما روي عن عثمان - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «أراهُمُنِي الباطِلُ شَيْطَاناً» وفي هذا الكلام شذوذ من وجهٍ آخر، وهو تقديمُ الضمير غير الأخصِّ على الأخصِّ مع الاتصال. فصل قال مقاتل - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «إنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، رأى في المنام أنَّ العدد قليلٌ قبل لقاء العدو، وأخبر أصحابه بِمَا رأى، فلمَّ التقوا ببدر قلَّل اللَّهُ المشركين في أعين المؤمنين» قال ابنُ مسعودٍ: «لقد قللُوا في أعيننا حتى قلتُ لرجل إلى جنبي: أتراهم سبعين؟ قال أراهم مائة، فأسرنا رجلاً منهم فقلنا له: كم كنتم؟ قال: ألفاً» . «ويُقَلِّلُكُمْ» يا معشر المؤمنين «فِي أعينهم» . قال السُّدي: «قال ناسٌ من المشركين إنَّ العير قد انصرفت، فارجعُوا، فقال أبو جهلٍ: الآن إذ برز لكم محمدٌ وأصحابه؟ فلا ترجعوا، حتَّى تستأصلوهم، إنَّما محمدٌ وأصحابه أكلة جزور، فلا تقتلوهم واربطوهم بالحبال» ، والحكمة في تقليل عدد المشركين في أعين المؤمنين: تصديق رُؤيَا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ولتقوى قلوبهم، وتزداد جراءتهم على المشركين، والحكمة في تقليل عدد المؤمنين في أعينِ المشركين: لئلاَّ يُبالغُوا في الاستعداد والتأهُّب والحذر، فيصيرُ ذلك سَبَباً لاستيلاء المؤمنين عليهم. ثم قال: {لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً} . فإن قيل: ذكرث هذا يفْهَمُ من الآية المتقدمة، فكان ذكره - ههنا - محض التكرار. فالجوابُ: أنَّ المقصودَ من ذكره في الآية المتقدمة، هو أنَّهُ تعالى فعل تلك الأفعال ليحصل استيلاء المؤمنين على المشركين على وجه يكون معجزة دالَّة على صدق الرسول وههنا المقصود من ذكره، أنه إنَّما فعل ذلك، لئلاَّ يبالغ الكفار في الاستعداد والحذر فيصيرُ ذلك سَبَباً لانكسارهم. ثمَّ قال {وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور} والغرضُ منه التَّنبيه على أنَّ أحوال الدُّنْيَا غير مقصودة لذاتها، بل المراد منها ما يصلحُ أن يكون زاداً ليوم المعاد. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 532 قوله تعالى: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا} الآية. لمَّا ذكر نعمه على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى المؤمنين يوم بدر، علَّمهم - إذا التقوا - نوعين من الأدبِ، الأوَّل: الثَّبات وهو أن يُوَطِّنُوا أنفسهم على اللَّقاء، ولا يحدثوها بالتولِّي. والثاني: أن يذكروا اللَّه كثيراً، فقال: {ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا} فيه، أي: جماعة كافرة «فاثبتُوا» لقتالهم. {واذكروا الله كَثِيراً} ادعوا الله بالنصر والظفر بهم. وقيل: المرادُ أن يذكروا الله كثيراً بقلوبهم، وبألسنتهم. ثم قال تعالى: {لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} أي: كونوا على رجال الفلاح. فإن قيل: هذه الآية تُوجب الثَّبات على كلِّ حال، وهذا يُوهمُ أنَّها ناسخةٌ لآية التَّحرف والتحيُّز. فالجوابُ: أنَّ هذه الآية توجب الثَّبات في الجملة، وهو الجدّ في المحاربة، وآيةُ التحرّف والتحيّز لا تقدحُ في حصول الثبات في المحاربة، بل الثبات في هذا المقصود، لا يحصل إلاَّ بذلك التحرف والتحيز، ثمَّ أكد ذلك بقوله: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} فيما يأمر به؛ لأن الجهاد لا ينفع إلاَّ مع التَّمسُّك بسائر الطاعات، «ولاَ تَنَازعُوا» لا تختلفوا، فإنَّ النزاعَ يوجب أمرين. أحدهما: الفشل، وهو الجُبن والضَّعف. والثاني: «تَذْهبَ ريحُكُمْ» . قال مجاهدٌ: نصرتكم. وقال السُّديُّ: جراءتكم وجدكم. وقال مقاتل: حدَّتكم. وقال النضرُ بنُ شُميلٍ: قُوَّتكم. وقال الأخفشُ: دولتكم. و «الرِّيح» هاهنا - كنايةٌ عن بقاء الأمر وجريانه على المرادِ؛ تقول العربُ: «هَبَّت ريحُ فلان» إذا أقبل أمره على ما يريدُ، وهو كنايةُ عن الدَّوْلة والغلبة؛ قال: [الوافر] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 533 2717 - إذَا هَبَّتْ رياحُكَ فاغْتَنِمْهَا ... فإنَّ لِكُلِّ عَاصِفَةٍ سُكُونَا ورواه أبو عبيدٍ «رُكُوداً» . وقال آخر: [البسيط] 2718 - أتَنْظُرانِ قَلِيلاً رَيْثُ غَفْلتِهِم ... أو تَعْدُونِ فإنَّ الرِّيحَ للْعَادِي وقال: [البسيط] 2719 - قَدْ عَوَّدْتُهُمْ ظبَاهُمْ أن يكُونَ لَهُمْ ... ريحُ القتالِ وأسْلابُ الَّذينَ لَقُوا وقيل: الريح: الهيبةُ، وهو قريبٌ من الأولِ؛ كقوله: [البسيط] 2702 - كَمَا حَميناكَ يْوْمَ النَّعْفِ من شَطَطِ ... والفَضلُ لِلْقومِ منْ ريحٍ ومِنْ عَدَدِ وقال قتادة وابن زيد: «هو ريح النصر، ولم يكن نصر قط إلاَّ بريحٍ يبعثُهَا اللَّهُ تضرب وجوه العدوّ» . ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «نُصِرْتُ بالصَّبَا أهْلِكَتْ عَادٌ بالدَّبُورِ» وقال النعمانُ بنُ مقرن: «شَهِدتُ مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان إذَا لم يُقاتِل في أول النَّهارِ، انتظر حتَّى تزولَ الشَّمسُ، وتهب الريح، وينزل النّصر» تَفْشَلُوا «يحتملُ وجهين: أحدهما: نصبٌ على جواب النَّهي. والثاني: الجزم عطفاً على فعل النَّهْي قبله، وقد تقدَّم تحقيقهما في» وتَخُونُوا «قبل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 534 ذلك، ويدُلُّ على الثاني قراءة عيسى بن عمر» ويَذْهَبْ «بياء الغيبة وحزمه، ونقل أبو البقاء قراءة الجزم ولم يُقيِّدها بياء الغيبة. وقرأ أبُو حيوة وأبان وعصمة «ويَذْهَبَ» بياء الغيبة ونصبه. وقرأ الحسنُ «فَتَفْشِلُوا» بكسر الشين، قال أبو حاتمٍ: «هذا غيرُ معروفٍ» وقال غيره: إنَّها لغةٌ ثانية. فصل احتجَّ نُفاة القياسِ بهذه الآية فقالوا: القياس يفضي إلى المنازعةِ، والمنازعةُ محرَّمةٌ بهذه الآية؛ فوجب أن يكون العمل بالقياس محرماً ببيان الملازمة، فإنّا نشاهد الدُّنيا مَمْلُوءةً من الاختلافات بسبب القياس. وأيضاً القائلون بأنَّ النَّص لا يجوز تخصيصه بالقياس تَمَسَّكُوا بهذه الآية، وقالوا: قوله تعالى: {وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} صريح في وجوب طاعة الله ورسوله في كل ما نصَّا عليه، ثم أتبعه بقوله: {وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} ومَنْ تمسَّك بالقياس المخصص بالنَّصِّ فقد ترك طاعة اللَّهِ وطاعة رسوله، وتمسَّك بالقياس الذي يوجب التنازع والفشل، وكلُّ ذلك حرام. والجوابُ: بأنَّهُ ليس كلُّ قياس يوجب المنازعة. قوله: «ولا تنَازَعُوا» معطوف على قوله: «فاثْبُتُوا» وهو جواب الشَّرطِ في قوله: {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} فالمحرَّم التنازع عند لقاء فئة الكُفَّارِ، فلا حجة فيها، وأيضاً: فقد ترتَّب على التنازع الفشل وذهاب الريح التي هي الدولة، وذلك لا يترتَّب على القياس. ثم قال: {واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين} والمقصودُ أنَّ كمال أمر الجهادِ مبنيٌّ على الصَّبْرِ فأمرهم بالصبر. كما قال في آية أخرى: {اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} [آل عمران: 200] . عن سالم أبي النضر مولى عُمَر بن عُبيدِ اللَّهِ وكان كاتباً له، قال: كتب إليه عبدُ الله بن أبِي أوفَى «أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بعض أيَّامِهِ الَّتي لقيَ فيها العَدُو، انتظر حتَّى مالتِ الشَّمْسُ، ثمَّ قام في النَّاس، فقال:» يا أيُّهَا النَّاسُ لا تَتمنوا لقاء العدُوّ، وأسْألُوا اللَّهَ العَافيةَ فإذا لقِيتُمُوهم فاصْبِرُوا، واعلَمُوا أنَّ الجنَّة تحتَ ظلالِ السُّيُوفِ «ثم قال:» اللَّهُمَّ مُنزلَ الكتابِ، ومُجْرِي السَّحابِ، وهازِمَ الأحْزابِ، اهزمْهُمْ، وانْصُرْنا عليْهِمْ « الجزء: 9 ¦ الصفحة: 535 قوله تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} . نزلت في المشركين حين أقْبَلُوا إلى بدر، ولهم بغي وفخرٌ. فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «اللهم هذه قريشٌ قد أقبلت بخيلائها، وفخرها تُجادل وتُكذِّب رسولك، اللَّهُمَّ فنصرك الذي وعدتني» . ولمَّا رأى أبُو سفيان أنه قد أحرز عيره، أرسل إلى قريش إنكم إنَّما خرجتم لتمنعوا عيركم فقد نجَّاها اللَّهُ، فارجعوا، فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتَّى نردَ بَدْراً - فننحر الجزور، ونطعم الطَّعام، ونسقى الخمر، وتعزف علينا القيانُ، وتسمع بنا العربُ، فلا يزالُونَ يهابوننا أبَداً. فوافوها فَسُقُوا كئوس المنايا مكان الخمر، وناحَتْ عليهم النَّوائحُ مكان القيان، فنهى اللَّهُ تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم، وأمرهم بإخلاص النِّية، والحسبة في نصر دينه ومؤازرة نبيه. واعلم أنَّه تعالى وصفهم بثلاثة أشياء: أحدها: البطر. قال الزَّجَّاجُ: البَطَرُ: الطغيان في النعمة وترك شكرها. وثانيها: الرِّئاءُ، وهو أظهار الجميل ليرى، مع أنَّ باطنهُ يكون قبيحاً. والفرق بينه وبين النفاق: أنَّ النفاق: إظهار الإيمان مع إبطان الكفر، والرئاء: إظهار الطَّاعة مع إبطان المعصية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 536 وثالثها: صدهم عن سبيل اللَّهِ، وهو كونهم مانعين عن دين محمد - عليه الصلاَّة والسَّلام -. قوله: «بَطَراً ورِئاءَ» منصوبان على المفعول له، ويجوزُ أن يكونا مصدرين في موضع نصبٍ على الحال، من فاعل: «خَرَجُوا، أي: خَرُجوا بطرينَ ومُرائين، و» رئَاءَ «مصدرٌ مضاف لمفعوله. قوله» ويَصُدُّونَ «: يجوزُ أن يكون مستأنفاً، وأن يكون عطفاً على:» بَطَراً ورِئَاءَ «وحفَ المفعولُ للدَّلالةِ عليه. فإن قيل:» يَصُدُّون «فعل مضارع، وعطف الفعل على الاسم غير حسن. فذكر الواحديُّ في الجواب ثلاثة أوجه: الأول: أن» يَصُدُّون «بمعنى: صادين، أي: بطرين ومرائين وصادين. والثاني: أن يكون قوله» بَطَراً ورِئَاءَ «حالان على تأويل: مبطرين ومرائين، ويكون قوله» ويصدون «أي: وصادين. الثالث: أن يكون قوله» بَطَراً ورِئَاءَ «بمنزلة: يبطرون ويراؤون. قال ابنُ الخطيبِ:» إن شيئاً من هذه الوجوه لا يشفي الغليل؛ لأنَّهُ تارةً يقيم الفعل مقام الاسم وأخرى يقيم الاسم مقام الفعل ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها. وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبَّر عن الأولين بالمصدر، وعن الثالث بالفعل. قال: إنَّ الشيخ عبد القاهر الجرجاني، ذكر أنَّ الاسم يدلُّ على التَّمكين والاستمرار، والفعل على التجدد والحدوث، مثاله في الاسم قوله تعالى {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} [الكهف: 18] وذلك يقتضي كون تلك الحالة ثابتة راسخة، ومثال الفعل قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض} [يونس: 31] وذلك يُدلُّ على أنه تعالى يوصل الرِّزق إليهم ساعة فساعة. وإذا عرفت ذلك فنقول: إنَّ أبا جهلٍ ورهطهُ كاناو مجبولين على البطرِ، والمفاخرة والعجب وأما صدهم عن سبيل اللَّهِ فإنما حصل في الزَّمانِ الذي ادَّعى محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فيه النبوة، فلهذا ذكر البطر والرئاء بصيغة الاسم، وذكر الصد بصيغة الفعل «. واعلم أنَّ الذي قاله ابن الخطيب لا يخدش فيما أجاب به الواحديُّ؛ لأنَّ الواحدي إنَّما أراد من حيث الصِّناعة، لا من حيث المعنى. ثم قال: {والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي: أنه عالم بما في دواخل القلوب، وذلك كالتَّهديدِ والزَّجر عن الرئاء. قوله تعالى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} الآية. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 537 وهذه من جملة النعم التي خصَّ اللَّهُ أهل بدر بها، وفي العامل في» إذْ «وجوه: قيل: تقديره اذكر إذْ زيَّن لهم، وقيل: عطف على ما تقدم من تذكير النعم، وتقديره: واذكروا إذ يريكموهم وإذْ زيَّن. وقيل: هو عطف على قوله: {خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس} تقديره: ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطراً ورئاء الناس وإذ زيَّن لهم الشيطان أعمالهم؛ فتكون الواو للحال، و» قد «مضمرة بعد الواو، عند من يشترط ذلك والله أعلم فصل في هذا التَّزيين وجهان: الأول: أن الشيطان زيَّن بوسوسته من غير أن يتحوَّل في صورة إنسان، وهو قول الحسن والأصم. والثاني: أنَّه ظهر في سورة إنسان. قالوا: إن المشركين حين أرَادُوا المسير إلى بدر خافوا من بني بكر بن كنانة؛ لأنَّهُم كانوا قتلوا منهم واحداً، فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم، فتصوَّر لهم إبليسُ في صورة سراقة بن مالك بن جعشم، وهو في بني بكر بن كنانة من أشرافهم في جند من الشياطين، ومعه راية، وقال لا غالِبَ لَكُمْ اليَوْمَ من النَّاسِ وإني جار لكم، مجيركم، من بني كنانة، {فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان} أي: التقى الجمعان، رأى إبليسُ الملائكة نزلوا من السماء، فعلم أنْ لا طاقةَ لهم بهم {نَكَصَ على عَقِبَيْهِ} وكانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما نَكَصَ، قال الحارثُ: أتَخْذلنا في هذه الحال؟ فقال: إني أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحارث وانهزموا. قوله {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم} لكم خبر» لا «فيتعلق بمحذوف، و» اليَوْمَ «منصوب بما تعلَّق به الخبر، ولا يجوزُ أن يكون» لكم «أو الظرف متعلقاً ب» غَالِبَ «؛ لأنه يكون مُطَوَّلأاً ومتى كان مُطَوَّلاً أعرب نَصْباً. قوله» مِنَ النَّاس «بيان لجنس الغالبِ. وقيل: هو حالٌ من الضَّميرِ في» لَكُمُ «لتضمُّنه معنى الاستقرار، ومنع أبو البقاءِ أن يكون» من النَّاس «حالاً من الضمير في» غَالِبَ «، قال:» لأنَّ اسم «لا» إذا عمل فيما بعده أعرب «والأمر كذلك. قوله {وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ} يجوزُ في هذه الجملةِ أن تكُون معطوفةً على قوله {لاَ غَالِبَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 538 لَكُمْ} فيكون قد عطف جملة مثبتة على أخرى منفيَّة، ويجوزُ أن تكون الواو للحال، وألف «جارٌ» من واو، لقولهم: «تَجاورُوا» وقد تقدَّم تحقيقه [النساء: 36] . و «لكم» متعلِّقٌ بمحذوف؛ لأنَّهُ ل «جارٌ» ، ويجُوز أن يتعلَّق ب «جار» لما فيه من معنى الفعل، ومعنى «جار لكم» أي: مجير لكم من كنانة. قوله {فَلَمَّا تَرَآءَتِ الفئتان} أي: التقى الجمعان؛ {نَكَصَ على عَقِبَيْهِ} «نَكَصَ» : جواب «لمَّا» والنُّكُوص: قال النضر بنُ شميلٍ: الرُّجوع قَهْقَرَى هارباً، قال بعضهم: هذا أصله، إلاَّ أنه قد اتُّسِع فيه، حتى استُعْمل في كلِّ رجوع، وإن لم يكن قَهْقَرَى؛ قال الشاعر: [البسيط] 2721 - هُمْ يَضْربُونَ حَبيكَ البَيْض إذْ لَحِقُوا ... لا يَنْكُصُونَ إذَا مَا استُلْحِمُوا وحَمُوا وقال مُؤرِّج: «النُّكُوصُ: الرجوعُ بلغة سُلَيْم» ؛ قال: [البسيط] 2722 - لَيْسَ النُّكُوصُ على الأعقابِ مَكْرُمَةً ... إنَّ المكارِمَ إقْدَامٌ على الأسَلِ فهذا إنَّما يريدُ به مُطْلَق ارُّجوع؛ لأنَّهُ كنايةٌ عن الفرارِ، وفيه نظر؛ لأنَّ غالب الفرار في القتال إنَّما هو كما ذُكِر، رجوعُ القَهْقَرَى، كخوف الفَار. و «عَلَى عَقبَيْهِ» حال، إمَّا مؤكدةٌ، عند من يَخُصُّه بالقهقرى، أو مُؤسِّسةٌ، عند من يستعمله في مطلق الرُّجُوعِ. ثم قال: {إِنِّي برياء مِّنْكُمْ إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ} . قيل: رأى الملائكة فخافهم. وقيل: رأى أثر النُّصْرَة والظَّفر في حق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فعلم أنه لو وقف لنزلت عليه بليّة. وقيل: رأى جبريل فخافه. وقيل: لمَّا رأى الملائكة ينزلون من السماء ظنَّ أنَّ الوقت الذي أنظر إليه قد حضر، وأشفق على نفسه، وقيل «أرَى مَا لاَ تَرَوْنَ» من الرأي. وقوله: {إني أَخَافُ الله} قال قتادة: «قال إبليس» إنِّي أرَى ما لا ترَوْنَ «وصدق، وقال {إني أَخَافُ الله} وكذب ما به مخافة الله، ولكن علم أنه لا قوة له ولا منعة، فأوردهم وأسلمهم» . وقال عطاءٌ: إنّي أخاف اللَّهَ أن يهلكني فيمن هلك. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 539 وقال الكلبيُّ: خاف أن يأخذه جبريل ويعرفهم حاله، فلا يطيعوه. وقيل: معناه إنِّي أخافُ الله، أي: أعلم صدق وعده لأوليائه؛ لأنه كان على ثقة من أمره، وقيل: معناه إنِّي أخاف الله عليكم. وقوله: {والله شَدِيدُ العقاب} . قيل: انقطع الكلام عند قوله «أخَافُ اللَّه» ثم قال {والله شَدِيدُ العقاب} ويجُوز أن يكون من بقيِّة كلام إبليس. روى طلحة بن عبيد الله بن كريز أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَا رُئيِ الشيطانُ يوماً هُو فيه أصغرُ، ولا أدحرُ، ولا أحقَرُ، ولا أغْيَظُ مِنْهُ في يَوْمِ عرفةَ، وما ذاكَ إلاَّ لِمَا رَأى من تنزُّلِ الرَّحْمَة وتجاوزُ الله عن الذُّنُوبِ العظام، إلاَّ ما كان من يَوْمِ بدرٍ» فقيل: وَمَا رأى يَوْمَ بدرٍ؟ قال: «أما إنَّهُ رَأى جبريلَ وهُوَ يَنْزعُ المَلائِكَة» ، حديث مرسل. قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ المنافقون} العامل في «إذْ» إمَّا «زيَّن» ، وإمَّا «نَكَصَ» وإما «شديدُ العقاب» وإما «اذكروا» . قال ابنُ الخطيب: «وإنما لم تدخل الواو في قوله» إذْ يقُولُ «ودخلت في قوله» وإذْ زَيَّن «؛ لأنَّ قوله:» وإذْ زيَّن «عطف التزين على حالهم وخروجهم بطراً ورئاء النَّاس. وأما قوله {إِذْ يَقُولُ المنافقون} فليس فيه عطف على ما قبله، بل هو ابتداء كلام منقطع عما قبله» . فصل المنافقون: قوم الأوس والخزرجِ، وأمَّا الذين في قلوبهم مرض فهم قوم من قريش أسلموا وما قوي إسلامهم، وكانوا بمكَّة مستضعفين، قد أسلموا وحبسهم أقرباؤهم عن الهجرة فلما خرجت قريش إلى بدرٍ أخرجوهم كُرْهاً، فلمَّا نظروا إلى قلّة المسلمين ارتابوا وارتدوا، وقالوا {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} . و {غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ} منصوب المحل بالقول. قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «معناه أنه خرج بثلاث مائة وثلاثة عشر يقاتلون ألف رجل» وقيل المرادُ: إن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم، رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموتِ، ويثابون على هذا القَتْلِ. فقالوا: غرَّ هؤلاء دينهم. فقتلوا جميعاً، منهم: قيسُ بنُ الوليد بن المغيرة، وأبُو قيس بنُ الفاكه بن المغيرة المخزميان، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 540 والحارثُ بن زمعة بن الأسود بن المطلب، وعلي بنُ أميّة بن خلف الجمحيُّ، والعاصي بن منبه بن الحجَّاج. ثم قال: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أي: يسلم أمره إلى اللَّه، ويثقُ به، فإنَّ اللَّهَ حافظه وناصره؛ لأنَّهُ عزي لا يغلبه شيء، حكيم يوصل العذاب إلى أعدائه، والرحمة والثواب إلى أوليائه. قوله تعالى: {وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملاائكة} الآية. لمَّا شرح أحوال الكُفَّار، شرح أحوال موتهم، والعذاب الذي يصل إليهم. قرأ ابن عامر والأعرج «تَتَوفَّى» بتاء التأنيث، لتأنيث الجماعة، والباقون بياء الغيبة وفيها تخريجان، أظهرهما - لموافقة قراءة من تقدَّم -: أنَّ الفاعل هم الملائكة، وإنما ذُكِّرَ للفصل؛ ولأنَّ التأنيث مجازي. والثاني: أنَّ الفاعل ضمير الله تعالى: لتقدم ذكره و «الملائكةُ» مبتدأ، و «يَضْرِبُونَ» خبره، وفي هذه الجملةِ حينئذٍ وجهان: أحدهما: أنَّها حالٌ من المفعول. والثاني: أنَّها استئنافيةٌ، جواباً لسؤالٍ مقدر، وعلى هذا فيوقف على «الَّذين كَفَرُوا» بخلاف الوجهين قبله. وضعَّف ابنُ عطية وجه الحالِ بعدم الواو، وليس بضعيفٍ لكثرة مجيء الجملة الحالية مشتملة على ضمير ذي الحال خاليةً من «واو» نظماً ونثراً، وعلى كون «الملائكةُ» فاعلاً، يكون «يَضْربُونَ» جملةً حاليةً، سواءً قرىء بالتأنيث أم بالتذكير، وجوابُ «لَوْ» محذوفٌ للدلالة عليه، أي: رأيت أمراً عظيماً. فصل المعنى: ولو عاينت؛ لأنَّ «لو» ترد المضارع إلى الماضي، كما ترد «إن» الماضي إلى المضارع. قال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «معنى يتوفى الذين كفروان يقبضون أرواحهم» قيل: عند الموت تضرب الملائكة وجوه الكفار وأدبارهم. وقيل: أراد المشركين الذين قتلوا ببدر، كانت الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم. قال سعيدُ بن جبيرٍ، ومجاهد: يريدُ: أستاههم ولكن الله تعالى حَييٌّ يُكَنِّي. وقال ابن عباس «كان المشركون إذا أقبلوا بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم الجزء: 9 ¦ الصفحة: 541 بالسيف وإذا ولَّوْا أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم وقال ابن جريح» يريدُ ما أقبل منهم وما أدبر يضربون أجسادهم كلها «. والمراد بالتوفي: القتل. قوله {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} هذا منصوب بإضمار قول الملائكة، أي: يضربونهم ويقولون لهم: ذوقوا. وقيل: الواو في» يَضْربُونَ «للمؤمنين أي: يَضْربونهم حال القتال، وحال توفِّي أرواحهم الملائكة. قيل: كان مع الملائكة مقامع من حديد، يضربون بها الكُفَّار، فتلتهب النَّار في جراحاتهم؛ فذلك قوله: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق} ، وقال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -:» هذا يوم القيامة، تقولُ لهم خزنةُ جهنم: ذوقوا عذاب الحريقِ «وقال ابنُ عبَّاسٍ - رضي الله تعالى عنهما -:» يقولون لهم ذلك بعد الموت «. قوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} . أي: ذلك الضرب الذي وقع بكم، أو عذاب الحريق: {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} بما كسبت أيديكم وهذا إخبار عن قول الملائكة - عليهم السلام -. قال الواحديُّ:» يجوز أن يقال «ذلك» مبتدأ، وخبره {بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} ويجوز أن يكون خبره محذوفاً، والتقدير: ذلك جزاؤكم بما قدمت أيديكم، ويجوزُ أن يكون محل «ذلك» نَصْباً والتقدير: فعلنا ذلك بما قدمت أيديكم «. فصل فإن قيل: قوله {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} يقتضي أنَّ فاعل هذا الفعل هو اليد، وذلك ممتنع لوجوه، أولها: أنَّ هذا العذاب إنما وصل إليهم بسبب كفرهم، ومحل الكفر هو القلب لا اليد وثانيها: أن اليد ليست محلاًّ للمعرفة والعلم، فلا يتوجَّه التكليف عليها، فلا يمكن إيصال العذاب إليها. فالجوابُ: أن اليد ههنا عبارة عن القدرة وحسن هذا المجاز كون اليد آلة العمل، والقدرة هي المؤثرة في العمل، فحسن جعل اليد كناية عن القدرة. واعْلَمْ أن الإنسان جوهر واحد، وهو الفعال، وهو الدراك، وهو المؤمن، وهو الكافر وهو المطيعُ، وهو العاصي، وهذ الأعضاء آلات لهُ، وأدوات له في الفعل؛ فأضيف الفعل في الظَّاهر إلى الآله، وهو في الحقيقة مضاف إلى جوهر ذاتِ الإنسان. فإن قيل: إنَّه جعل هذا العقاب، إنَّما تولَّد من الفعل الذي صدر عنه، والعقاب إنما يتولَّد من العقائد الباطلة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 542 فالجوابُ: أنَّا بيَّنا أنَّ الفعل إنما ينشأ عن الاعتقاد، فأطلق على المسبب اسم السَّببِ وهذا من أشهر وجوه المجاز. قوله: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} . في محل «أنَّ» وجهان: أحدهما: النصبُ بنزع الخافض يعني: بأنَّ اللَّهَ. والثاني: أنَّكَ إن جعلت قوله: «ذلك» في موضع رفع، جعلت «أنَّ» في موضع رفع أيضاً، أي: وذلك أنَّ الله. قال الكسائيُّ: «ولو كسرت ألف» أنَّ «على الابتداء كان صواباً، وعلى هذا التقدير يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عمَّ قبله» . فصل قالت المعتزلةُ: لو كان اللَّه تعالى يخلق الكفر في الكافر، ثم يعذبه عليه لكان ظالماً، وأيضاً قوله تعالى: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} يدلُّ على أنه تعالى إنَّما لم يكن ظالماً بهذا العذاب؛ لأنَ العبد قدَّم ما استوجب عليه هذا العذاب، وذلك يدلُّ على أنَّهُ لو لم يصدر منه تعالى ذلك التقديم لكان ظالماً في هذا العذاب، وأيضاً: لو كان موجد الكفر والمعصية هو الله لا العبد لوجب كون الله ظالماً، وهذه المسألة قد سبق ذكرها مُسْتَقْصَاةً في آل عمران. قوله تعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} الآية. لمَّا بيَّن ما أنزله بأهل بدر من الكفَّار عاجلاً وآجلاً، أتبعه بأن بيَّن أنَّ هذه طريقته وسنته ودأبه في الكل فقال: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} . قال ابنُ عبَّاسٍ رضي الله تعالى عنهما «هو أن آل فرعون أيقنوا أنَّ موسى نبي الله فكذبوه، كذلك هؤلاء جاءهم محمد بالصِّدق فكذَّبوه، فأنزل الله عقوبته، كما أنزل بآل عمران» . {والذين مِن قَبْلِهِمْ} أي: كعادة الذين من قبلهم، وتقدَّم الكلامُ على «كَدَأبِ» في آل عمران. ثم قال تعالى: {إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب} والغرضُ منه: التَّنبيه على أن لهم عذاباً مُدْخراً سوى ما نزل بهم من العذاب العاجل، ثمَّ ذكر ما يجري مجرى العلَّة في العقاب الذي أنزله بهم، فقال: {ذلك بِأَنَّ الله} ، «ذلك» مبتدأ وخبر أيضاً، كنظيره أي: ذلك العذابُ أو الانتقامُ بسبب أنَّ اللَّه. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 543 قوله «لَمْ يَكُ» قال أكثرُ النحاةِ: إنَّما حذفت النون؛ لأنَّها لم تشبه الغُنَّة المحضة فأشبهت حروف اللين ووقعت طرفاً، فحذفت تشبيهاً بها، كما تقولُ: لَمْ يَدْعُ، ولمْ يَرْمِ. قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «هذا ينتقض بقولهم: لَمْ يَزنْ، ولمْ يَخنْ، ولم يسمع حذف النون ههنا» . وأجاب علي بن عيسى فقال: إنَّ «كان» و «يكون» أم الأفعال، من أجل أن كل فعل قد حصل فيه معنى «كان» ، فقولنا: ضرب، معناه: كان ضرب، ويضرب معناه يكون ضرب، وهكذا القول في الكُلِّ؛ فثبت أنَّ هذه الكلمة أم الأفعال، فاحتيج إلى الاستعمال في أكثر الأوقات، فاحتملت هذا الحذف، بخلاف قولنا: لم يخُنْ، ولم يزن، فإنَّه لا حاجة إلى ذكرها كثيراً، فظهر الفرق. فصل معنى الآية إنَّ الله لا يُغَيِّر ما أنعم على قوم، حتى يُغَيِّرُوا ما بهم بالكفران وترك الشكر، فإذا فعلوا ذلك غيَّر اللَّهُ ما بهم، فسلبهم النعمة فصل قال القاضي «معنى الآية: أنه تعالى أنعم عليهم بالعقل والقدرة وإزالة الموانع، وتسهيل السبل، والمقصودُ: أن يشتغلوا بالعبادة والشَّكْرِ، ويعدلوا عن الكفر، فإذا صرفوا هذه الأمور إلى الكفر والفسق، فقد غيَّروا نعم اللَّهِ على أنفسهم فلا جرم استحقوا تبديل النعم بالنقم، والمنح بالمحن» . قال: «وهذا من أوكد ما يدلُّ على أنه تعالى لا يبتدأ أحداً بالعذاب والمضرة، وأنَّ الذي يفعله لا يكون إلاّ َجزاء على معاصٍ سلفت، لو كان تعالى خلقهم، وخلق جسمانهم وعقولهم ابتداء للنَّار كما يقوله القومُ لما صحَّ ذلك» . وأجيب: بأن ظاهر الآية مشعر بما قاله القاضي؛ إلاَّ أنَّا لو حملنا الآية عليه لزم أن يكون صفةُ اللَّهِ تعالى مُعَلَّلَةً بفعل الإنسان؛ لأنَّ حكمَ اللَّهِ بذلك التغيير وإرادته، لمَّا كان لا يحصل إلاَّ عند إتيان الإنسان بذلك الفعل، فلو لم يصدر عنه ذلك الفعل لم يحصل للَّه تعالى ذلك الحكم وتلك الإرادة، فحينئذٍ يكون فعل الإنسان مؤثراً في حدوث صفة في ذات اللَّهِ تعالى، ويكون الإنسان مغيراً صفة اللَّهِ ومؤثراً فيها، وذلك محال في بديهة العقل؛ فثبت أنه لا يمكن حمل هذا الكلام على ظاهره، بل الحقُ أنَّ صفة الله غالبة على صفات المحدثات، فلولا حكمه وقضاؤه أولاً لما أمكن للعبد أن يأتي بشيء من الأفعال والأقوال. ثم قال: {وَأَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: سميع لأقوالهم، عليم بأفعالهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 544 قوله: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} . فإن قيل: إنه تعالى ذكر: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} مرتين، فما فائدة؟ فالجوابُ من وجوه، منها: أنَّ الكلام الثَّاني يجري مجرى التفصيل للكلام الأول؛ لأنَّ الأول فيه ذكرُ أخذهم، وفي الثاني ذكر إغراقهم، وذلك تفصيل، ومنها: أنَّهُ أريد بالأوَّلِ ما نزل بهم من العقوبة في حال الموت، وبالثاني ما ينزلُ بهم في القبر وفي الآخرة، ومنها: أنَّ الكلام الأول هو قوله: {كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله} والكلام الثاني هو قوله: {كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ} فالأوَّلُ إشارة إلى أنَّهم أنكروا دلائل الإلهية، والثاني إشارة إلى أنَّهُ سبحانه ربَّاهم وأنعم عليهم بالوجوه الكثيرة، فأنكروا دلائل التربية والإحسان مع كثرتها، وتواليها عليهم فكان الأثر اللازم من الأول الأخذ، والأثر اللازم من الثاني هو الإهلاك والإغراق وذلك يدلُّ على أنَّ للكفر أثراً عظيماً في حصول الإهلاك، ومنها: أنَّ الأول دَأبٌ في أن هلكوا لمَّا كفروا، وهذا دأبٌ في أن لم يُغيِّر اللَّهُ نعمتهم حتَّى يُغيروها هم. ومنها: قال الكرمانيُّ: «يحتملُ أن يكون الضميرُ في:» كفرُوا «في الآية الأولى عائداً على قريش، والضمير في:» كذَّبُوا «في الثانية عائداً على آل فرعون والذين من قبلهم، كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم، أهلكنا بعضهم بالرجفةِ، وبعضهم بالخسف، وبعضهم بالريحِ، وبعضهم بالغرق، وكذلك أهلكنا كفار بدر بالسيفِ لما كذبوا، وأغرقنا آل فرعون» . {وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} جمع الضمير في: «كانوا» ، وجمع: «ظالمين» مراعاةً لمعنى «كُل» لأنَّ «كُلاًّ» متى قطعت عن الإضافة جاز مراعاةُ لظفها تارةٌ، ومعناها أخرى. وإنَّما اختير هنا مراعاةُ المعنى؛ لأجل الفواصل، ولو رُوعي اللَّفظُ فقيل مثلاً وكلٌّ كان ظالماً، لَمْ تتَّفِق الفواصل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 545 قوله تعالى: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الذين كَفَرُواْ} الآية. لمَّا وصف كُلَّ الكفار بقوله: {وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ} [الأنفال: 54] أفرد بعضهم بمزية في الشر والعناد فقال: {إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله} أي: في حكمه وعلمه من حصلت له صفتان: الأولى: الكافر المستمر على كفره مصرّاً عليه. الثانية: أن يكون ناقضاً للعهد، فقوله: {الذين كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُون} إشارة إلى الجزء: 9 ¦ الصفحة: 545 استمرارهم على الكفر، وصرارهم عليه، وقوله: {الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} إشارة إلى نقض العهد. قال الكلبيُّ ومقاتلٌ: يعني يهود بني قريظة، منهم كعب بن الأشرف وأصحابه. {الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ} أي: عاهدنهم. قيل: عاهدت بعضهم، وقيل: أدخل «مِنْ» لأن معناه: أخذت منهم العهد. {ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} . قال ابنُ عباسٍ «هم بنو قريظة، نقضوا العقد الذي كان بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأعانوا المشركين على قتال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم بدر، ثم قالوا: نسينا وأخطأنا فعاهدهم ثانياً، فنقضوا العهد ومالوا مع الكفار على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم الخندق، وركب كعب بن الأشرف إلى مكة فوافقهم على مخالفة الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، {وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ} لا يخافون الله في نقض العهد. قوله» الَّذينَ عاهدَتَّ «يجوزُ فيه وجهان: أحدها: الرَّفْعُ على البدل من الموصول قبله، أو على النَّعت له، أو على عطف البيان، او النصبُ على الذَّمِّ، أو الرفع على الابتداء، والخبرُ قوله» فإمَّا تَثْقَفَنَّهُم «بمعنى: من تعاهد منهم، أي: من الكفار ثم ينقضون عهدهم، فإن ظفِرتَ بهم فاصنعْ كيت وكيت، فدخلت الفاءُ في الخبر لشبه المبتدأ بالشرط، وهذا ظاهر كلام ابن عطية رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى. و» مِنْهُمْ «يجوز أن يكون حالاً من عائد الموصول المحذوف، إذ التقدير: الذين عادتهم، أي: كائنين منهم، ف» مِنْ «للتبعيض. وقيل: هي بمعنى:» مع «. وقيل: الكلام محمول على معناه، أي: أخذت منهم العهد. وقيل: زائدةٌ أي: عاهدتهم. والأقوالُ الثلاثةُ ضعيفةٌ، والأول أصحُّ. {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ} . قال ابن عباس {فنكل بهم من خلفهم} . وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ: {أنذر بهم من خلفهم} . العامَّةُ على الدال المهملة في» فَشرِّدْ. وأصل التَّشْرِيدِ، التَّطريدُ والتفريقُ والتبديدُ. وقيل: التفريق مع الاضطراب، والمعنى: فرق بهم جمع كل ناقض، أي: افعل الجزء: 9 ¦ الصفحة: 546 بهؤلاء الذين نقضوا عهدك وجَاءُوا لحربك فعلاً من الحرب والتمكين، يفرقُ منك ويخافك من خلفهم من أهل مكة واليمن، «لَعَلَّهُم يذَّكرُون» يتذكرون ويعتبرون فيا ينقضون العهد. وقرأ الأعمش بخلاف عنه: «فَشَرِّذْ» بالذال المعجمة. وقال أبُو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: «وكذا هي في مصحف عبد الله» . قال شهاب الدين: «وقد تقدَّم أنَّ النَّقْطَ والشَّكْلَ أمرٌ حادثٌ، أحدثه يحيى بن يعمر، فكيف يُوجد ذلك في مصحف ابن مسعود؟» . قيل: وهذه المادة - أعني: الشين، والرَّاء، والذال المعجمة - مهملة في لغة العرب وفي هذه القراءةِ أوجه، أاحدها: أنَّ الذَّال بدلُ من مجاورتها، كقولهم: خراديل وخراذيل. الثاني: أنه مقلوبٌ مِنْ «شذر» ، من قولهم: تَفرَّقُوا شَذَرَ مَذَرَ، ومنه: الشَّذْر المُلتقط من المعدن؛ لتفرُّقِهِ؛ قال: [الطويل] 2723 - غَرَائِرُ فِي كِنٍّ وَصوْنٍ ونَعْمَةٍ ... يُحَلَّيْنَ يَاقُوتاً وشَذْراً مُفَقَّرا الثالث: أنه من ذر في مقاله، إذا أكثر فيه، قاله أبو البقاءِ، ومعناه غير لائق هنا. وقال قطرب: «شرّذ» بالمعجمة، التنكيل، وبالمهملة: التَّفريق. وهذا يُقَوِّي قول من قالك إن هذا المادَّة ثابتةٌ في لغة العربِ. قوله «مَنْ خَلْفَهُمْ» مفعول: «شرِّدط. وقرأ الأعمشُ بخلاف عنه وأبو حيوة» مِنْ خلفهم «جاراً ومجروراً، والمفعولُ على هذه القراءة محذوفٌ، أي: فشرِّدُ أمثالهم من الأعداء، وأناساً يعملون بعملهم، والضميران في» لَعَلَّهُم يذكَّرُون «الظَّاهِرُ عودهما على» مَنْ خَلْفَهُمْ «، أي: إذا راوا ما حلَّ بالمناقضين تذكَّرُوا. وقيل: يعودان على المثقفين، وليس له معنى طائل. قوله: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} . مفعول انبذ محذوف، أي: انبذ إليهم عهودهم، أي: اطرحها، ولا تكترث بها الجزء: 9 ¦ الصفحة: 547 و» عَلَى سواءٍ «حال إمَّا من الفاعل، أي انبذها، وأنت على طريقٍ قصدٍ، أي: كائناً على عدل، فلا تَبْغتهُمْ بالقتالِ بل أعلمهم به، وإمَّا من الفاعل والمفعول معاً، أي: كائنين على استواء في العلم، أو في العداوةِ. وقرأ العامَّةُ بفتح السِّين، وزيد بن علي بكسرها، وهي لغة تقدم التنبيه عليها أول البقرة. فصل المعنى: وإمَّا تعلمنَّ يا محمد» من قومٍ «معادين:» خيانةً «نقض عهد بما يظهر لك منهم من آثار الغدر، كما يظهر من قريظة والنضير:» فانبِذْ إليْهِمْ «فاطرح» إليهمْ «عهدهم» على سواءٍ «. يقول: أعلمهم قبل حربك إيَّاهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم حتَّى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء، فلا يتوهموا أنك نقضت العهد بنصبِ الحرب معهم. وقوله: {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين} هذه الجملة يحتمل أن تكون تعليلاً معنوياً للأمر بنبذ العهد على عدل، وهو إعلامهم، وأن تكون مستأنفة، سيقت لذمِّ من خان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ونقض عهده. قوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ} الآية. قرأ ابن عامر وحمزة وحفص عن عاصم» يَحْسبنَّ «بياء الغيبة هنا، وفي النور في قوله: {لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ} [النور: 57] كذلك، خلا حفصاً، والباقون بتاء الخطابِ، وفي قراءة الغيبة تخريجاتٌ كثيرة سبق نظائرها في أواخر آل عمران، ولا بدَّ من التنبيه هنا على ما تقدَّم، فمنها، أنَّ الفعل مسندٌ إلى ضميرٍ يُفسِّره السياق، تقديره: ولا يحسبنَّ هو أي: قبيل المؤمنين، أو الرسول، أو حاسب. أو يكون الضمر عائداً على: «مَنْ خَلفهُمْ» . وعلى هذه الأقوالِ، فيجوزُ أن يكون «الذينَ كفرُوا» مفعولاً أول و «سَبَقُوا» جملة في محل نصب مفعولاً ثانياً. وقيل: الفعلُ مسندٌ إلى «الذينَ كفرُوا» ثم اختلف هؤلاء في المفعولين، فقال قوم: الأول محذوفٌ تقديره: ولا يَحْسبنَّهم الذين كفروا سبقوا، ف «هَم» مفعول أول، و «سَبَقُوا» في محل الثاني: أو يكون التقدير: لا يحسبنَّ الذين كفروا أنفسهم سبقُوا. وهو في المعنى كالذي قبله. وقال قومٌ: بل «أنْ» الموصولة محذوفة، وهي وما في حيَّزها سادةٌ مسدَّ المفعولين، والتقدير: ولا سحبن الذين كفروا أن سبقُوا، فحذفت «أنْ» الموصولة وبقيت صلتها، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 548 كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] وقوله: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ} [الزمر: 64] . قاله الزجاج: والتقدير: ولا يحسبن الذين كفروا أن سبقونا، وحذف «أن» الموصولة في القرآن، وفي كلام العرب كثير، فأمَّا القرآن فكالآيات، ومن كلام العربِ: تسمعُ بالمعيديِّ خيرٌ من أن تراه؛ وقوله: [الطويل] 2724 - ألاَ أيُّهذا الزَّاجِرِي أحضرُ الوغَى ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ويؤيد هذا الوجه قراءة عبد الله «أنهم سبقوا» . وقال قومٌ: بل «سَبَقُوا» في محلِّ نصب على الحال، والسادُّ مسدَّ المفعولين: {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} ، وتكون «لا» مزيدةً ليصح المعنى. قال الزمشخري - بعد ذكره هذه الأوجه - «وليست هذه القراءةُ التي تفرَّد بها حمزةُ بنيِّرة» وقد ردَّ عليه جماعةٌ هذا القول، وقالوا: لم ينفرد بها حمزةُ، بل وافقه عليها من قُرَّاء السبعة ابنُ عامر أسنُّ القراءة وأعلاهُم إسناداً، وعاصمُ في رواية حفص ثم هي قراءة أبي جعفر المدني شيخ نافع، وأبي عبد الرحمن السلمي، وابن محيصن وعيسى، والأعمش، والحسن البصرين، وأبي رجاء، وطلحة، وابن أبي ليلى. وقد ردَّ عليه أبو حيان أيضاً أنَّ «لا يحْسبَنَّ» واقع على «أنهم لا يُعْجِزون» وتكون «لا» صلة، بأنَّهُ لا يتأتَّى على قراءة حمزة، فإنَّهُ يقرأ بكسر الهمزة، يعني فكيف تلتئم قراءةُ حمزة على هذا التخريج. قال شهابُ الدِّين: «هو لم يلتزم التخريج على قراءة حمزة في الموضعين، أعني:» لا يَحْسبنَّ «وقوله:» أنهم لا يعجزون «، حتى نلزمه ما ذكر» وأما قراءةُ الخطاب فواضحةٌ، أي: لا تحسبنَّ يا محمدُ، أو يا سامعُ، و «الذين كفرُوا» مفعول أول، والثاني: «سبقوا» ، وقد تقدَّم في آل عمران وجهُ أنه يجوز أن يكون الفاعل الموصول، وإنَّما أتى بتاءِ التأنيث، لأنه بمعنى «القوم» ، كقوله: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ} [الشعراء: 105] . وقرأ الأعمش «ولا يَحْسبَ الذينَ كَفَرُوا» بفتح الباء. وتخريجها على أن الفعل مؤكدٌ بنون التَّوكيد الخفيفة، فحذفها؛ لالتقاء الساكنين، كما يحذفُ له التنوين؛ فهو كقوله: [المنسرح] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 549 2725 - لا تُهِينَ الفَقيرَ علَّكَ أنْ ... تَرْكعَ يوماً والدَّهْرُ قد رفعهْ أي: لا تُهينن، ونقل بعضهم: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين} من غير توكيدٍ ألبتَّة، وهذه القراءةُ بكسر الباءن على أصل التقاء الساكنين. قوله: «سَبَقُوا» أي: فاتوا. نزلت في الذين انهزموا يوم بدرٍ من المشركين، فمن قرأ بالياء، يقول لا يحسبن الذين كفروا أنفسهم سابقين فائتين من عذابنا، ومن قرأ بالتَّاءِ فعلى الخطاب. قوله {إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ} قرأ ابن عامر بالفتح، والباقون بالكسر. فالفتح إمَّا على حذفِ لام العلة، أي: لأنهم. واستبعد أبو عبيد وأبو حاتم قراءة ابن عامر، ووجهُ الاستبعادِ أنَّها تعليلٌ للنَّهْي، أي: لا تحسبنَّهم فائتينح لأنَّهم لا يعجزون، أي: لا يقع منك حُسبانٌ لفوتهم؛ لأنَّهم لا يعجزون، وإمَّا على أنَّها بدلٌ من مفعولي الحسبان. وقال أبُو البقاء: «إنَّه متعلقٌ ب» حسب «، إمَّا مفعولٌ، أو بدلٌ من سَبَقُوا» . وعلى كلا الوجهين تكون «لا» زائدة «، وهو ضعيفٌ، لوجهين: أحدهما: زيادة» لا «. والثاني: أن مفعول» حسبن «إذا كان جملة، وكان مفعولاً ثانياً كانت» إنَّ «فيه مكسورة؛ لأنَّه موضع ابتداء وخبر. وقرأ العامة:» لا يُعْجِزُونَ «بنون واحدة خفيفةٍ مفتوحةٍ، وهي نونُ الرفع. وقرأ ابن مُحَيْصِن» يُعْجِزُوني «بنون واحدة، بعدها ياء المتكلم، وهي نون الوقاية، أو نون الرفع، وقد تقدَّم الخلافُ في ذلك في سورة الأنعام في:» أتحاجُّوني «. قال الزجاج: ألاختيارُ الفتحُ في النُّونِ، ويجوزُ كسرها، على أنَّ المعنى: لا يُعجزُونَنِي وتحذف النون الأولى، لاجتماع النونين» ؛ كما قال عمر بن أبي ربيعة: [الوافر] 2726 - تَراهُ كالثَّغَامِ يعلُّ مِسْكاً ... يسُوءُ الفالياتِ إذا فَلَيْنِي وقال متمم بنُ نُويرَةَ: [الكامل] الجزء: 9 ¦ الصفحة: 550 2727 - ولقَدْ علمْتِ ولا مَحَالَة أنَّنِي ... للحَادِثاتِ فَهَلْ تَرَيْنِي أجْزَعُ قال الأخفشُ: «فهذا البيتُ يجوز على الاضطرار» . وقرأ ابنُ محيصن أيضاً «يُعجزُونِّ» بنون مشددة مكسورةٍ، أدغم نون الرفع في نون الوقاية، وحذف ياء الإضافة مُجْتَزِئاً عنها بالكسرة، وعنه أيضاً فتحُ العين وتشديدُ الجيم وكسر النون، مِنْ «عَجَّزَ» مشدداً. قال أبو جعفرٍ: «وهذا خطأ من وجهين: أحدهما: أنَّ معنى» عَجّضزه «ضعَّفه وضعَّف أمره. والآخر: كان يجب أن يكون بنونين» . قال شهابُ الدِّين: «أمَّا تخطئة النَّحاس لهُ فخطأٌ؛ لأن الإتيان بالنُّونين ليس بواجب بل هو جائز، وقد قرىء به في مواضع في المتواتر، سيأتي بعضها، وأمَّا» عجَّز «بالتشديد فليس معناه مقتصراً على ما ذكر، بل نقل غيره من أهل اللغة أن معناه نسبني إلى العجز، أو معناه: بَطَّأ، وثبَّط، والقراءة معناها لائقٌ بأحد المعنيين» . قرأ طلحة بكسر النون خفيفة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 551 قوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ} . لمَّا أوجب على رسوله أن يُشرِّد من صدر منه نقض العهدِ، وأن ينبذ العهد إلى من خاف منه النَّقض أمره في هذا الآية بالإعداد للكُفَّارِ. قويل: إنَّ الصحابة لمَّا قصدوا الكفار يوم بدر بلا آلة ولا عدة أمرهم الله تعالى ألاَّ يعودوا لمثله، وأن يعدُّوا للكفرا ما أمكنهم من آلة وعدة وقوة. والإعداد: اتخاذ الشيء لوقت الحاجة. والمراد بالقوة: الآلات التي تكون لكم قوة عليهم من الخيل والسلاح. قال - عليه الصَّلاة والسلام - على المنبر «ألا إنَّ القُوَّة الرَّمي ألا إنَّ القُوَّة الرَّمي ألا إنَّ القُوَّة الرَّميُ» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 551 وقال بعضهم: القوة هي الحصون. وقال أهل المعاني: هذا عام في كل ما يتوقى به على الحرب. وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «القُوَّةُ هي الرَّمْيُ» لا ينفي كون غير الرمي معتبراً، كقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الحَجُّ عرفة» و «النَّدمُ توْبةٌ» لا ينفي اعتبار غيره. فإن قيل: قوله: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم} كان يكفي، فلم خصَّ الرمي والخيل بالذكر؟ . فالجوابُ: أنَّ الخيل لما كانت أصل الحروب وأوزارها الَّتي عقد الخير في نواصيها، وهي أقوى الدّواب وأشد العدة وحصون الفرسان، وبها يُجالُ في الميدان، خصَّها بالذِّكر تشريفاً وأقسم بغبارها تكريماً، فقال: {والعاديات ضَبْحاً} [العاديات: 1] الآياتُ، ولمَّا كانت السهامُ من أنجع ما يتعاطى في الحروب والنكاية في العدوَّ، وأقربها تناولاً للأرواح، خصَّها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالذكر لها؛ ونظير هذا قوله تعالى: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 89] بعد ذكر الملائكة، ومثله كثير. قوله «مِن قُوَّةٍ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وفي صاحبها وجهان: أحدهما: أنَّهُ الموصول، والثاني: أنه العائد عليه، إذ التقديرُ: ما استطعتموه حال كونه بعض القوة، ويجوزُ أن تكون «مِنْ» لبيان الجِنْسِ. قوله: «ومِن ربَاطِ» ، جوَّزُوا فيه أن يكون جمع «رَبْط» مصدر: رَبَط يَربط، نحو: كَعْب وكِعَاب، وكَلْب وكِلاب، وأن يكون مصدراً ل «رَبَطَ» ، نحو: صَاحَ صِيَاحاً. قالوا: لأنَّ مصادر الثلاثي لا تنقاس، وأن يكون مصدر: «رَابِط» ، ومعنى المفاعلة: أنَّ ارتباط الخيل يفعله كلُّ واحد لفعل الآخر، فيرابط المؤمنون بعضهم بعضاً، قال معناه ابن عطيَّة. قال أبُو حيَّان: قوله «مصادرُ الثلاثي غير المزيد لا تَنْقَاسُ» ليس بصحيحٍ، بل لها مصادر منقاسةٌ ذكرها النحويون. قال شهابُ الدِّين: «في المسألة خلافٌ مشهور، وهو لم ينقل الإجماع على عدم القياسِ حتى يرُدَّ عليه بالخلاف؛ فإنَّهُ قد يكون اختيار أحد المذاهب، وقال به، فلا يُردُّ عليه بالقول الآخر» . وقال الزمخشريُّ: «والرِّباط: الخَيْلُ التي تُرْبط في سبيل الله ويجوز أن يُسمَّى بالرباط الذي هو بمعنى المرابطة، ويجوزُ أن يكون جمع: رَبيط يعني: بمعنى مَربُوط، ك: فَصِيل وفِصَال. والمصدرُ هنا مضافٌ لمفعوله» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 552 وقرأ الحسنُ، وأبو حيوة، ومالك بن دينار: «ومِنْ رُبُط» بضمتين، وعن الحسن أيضاً «رُبْط» بضم وسكون، نحو: كتاب وكُتْب. قال ابنُ عطيَّة «وفي جَمْعه، وهو مصدرٌ غيرُ مختلفٍ نظرٌ» . قال شهابُ الدِّين «لا نُسَلِّم والحالةُ هذه أنه مصدرن بل حكى أبو زيدٍ أنَّ» الرِّبَاط «الخمسةُ من الخيلِ فما فوقها، وأن جمعها» رُبُط «ولو سُلِّم أنَّهُ مصدرٌ فلا نُسَلِّم أنَّهُ لم تختلف أنواعه، وقد تقدَّم أنَّ» رباطاً «يجوزُ أن يكون جمعالً ل» رَبْط «المصدر، فما كان جواباً هناك، فهو جوابٌ هنا» . فصل قال القرطبي: «روى أبُو حاتمٍ عن أبي زيد: الرِّباطُ من الخيل: الخَمْسُ فما فوقها، وجماعته» رُبُط «، وهي التي ترتبط، يقال منه: رَبَطَ يَرْبط ربطاً، وارتبط يرتبط ارتباطاً ومربط الخيل ومرابطها وهي ارتباطها بإزاء العدو» قال: [الكامل] 2728 - أمَرَ الإلهُ بربْطِهَا لعَدُوِّهِ ... في الحَرْبِ إنَّ اللَّهَ خَيْرُ مُوفِّقِ روي أنَّ رجلاً قال لابن سيرين: إنَّ فلاناً أوْصَى بثلثِ ماله للحصون، فقال: هي للخيل؛ ألم تسمع قول الشاعر: [الكامل] 2729 - ولَقَدْ علِمْتُ عَلَى تَجَنُّبِيَ الرَّدَى ... أنَّ الحُصُونَ الخَيْلُ لا مَدَرُ القُرَى قال عكرمة: «رباط الخَيْلِ: الإناث» وهو قول الفرَّاء؛ لأنها اولى ما يربط لتناسها ونمائها، ذكرهُ الواحديُّ. ولقائل أن يقول: بل حمل اللَّفظ على الفُحُولِ أولى؛ لأنَّ المقصود برباط الخَيْلِ المحاربة عليها، والفحول أقوى على الكر والفر والعدو، فوجب تخصيص هذا اللفظ بها. ولمَّا تعارض هذان الوجهان وجب حمل اللفظ على مفهومه الأصلي، وهو كونه خيلاً مربوطاً سواء كانت فحولاً أو إناثاً. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 553 وروي عن خالد بن الوليد «أنه كان لا يركبُ في القتال إلا الإناث، لقلَّة صهيلها» . روى ابن محيريز قال: «كان الصَّحابةُ يستحبُّون ذكور الخيل عند الصفوف، وإناث الخيل عند الشتات والغارات» . قال عليه الصَّلاة والسَّلام: «الخَيْلُ مَعْقُودٌ بنواصيها الخَيْرُ إلى يومِ القيامةِ الأجْرُ والمَغْنَمُ» وروى أبو هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَن احتبس فرساً في سبيل اللَّهِ إيماناً باللَّهِ، وتصْديقاً بوعْدِهِ، كان شبعه وريُّةُ وبولُهُ حسنات في ميزانِهِ يوَْ القيامةِ» فصل وهذه الآية تدل على جواز وقف الخيل والسلاح، واتخاذ الخزائن والخزان [لها عدة] للأعداء، ويؤيدهُ حديث ابن عمر في الفرس الذي حمل عليه في سبيل الله، وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في حقِّ خالد: «وأمَّا خَالدٌ فإِنَّكُم تَظْلمُونَ خالِداً فإنَّه قَد احْتبسَ أدْراعَهُ وأعْتَادَهُ في سبيلِ اللَّهِ» . وما روي أنَّ امرأة جعلت بعيراً في سبيل اللَّهِ، فأرادَ زوجُها الحجَّ، فسألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «ادفعيه إليه ليحج عليه فإن الحجَّ فريضةٌ من اللَّهِ» ؛ ولأنَّهُ مال ينتفع به في وجه قربة، فجاز أن يوقف كالرباع. ثم إنه تعالى ذكر ما لأجله أمر بإعداد هذه الأشياء. فقال: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ} ؛ لأنَّ الكفار إذا علموا كون المسلمين متأهبين للجهاد، مستعدين له بجميع الأسلحة والآلات هابوهم. قوله «تُرْهِبُونَ» يجوزُ أن يكون حالاً من فاعل: «أعِدُّوا» ، أي: حَصِّلُوا لهم هذا الجزء: 9 ¦ الصفحة: 554 حال كونكم مُرْهِبين، وأن يكُون حالاً من مفعوله، وهو الموصولُ، أي: أعِدُّوه مُرْهَباً بِهِ. وجاز نسبته لكلٍّ منهما؛ لأنَّ في الجملة ضميريها، هذا إذا أعدنا الضمير من «بِهِ» على «ما» الموصولة، أمَّا إذا أعَدْنَاه على الإعِدادِ المدلُولِ عليه ب «أعِدُّوا» ، أو على «الرِّباط» ، أو على: «القُوَّةِ» بتأويل الحول؛ فلا يتأتَّى مجيئُها من الموصول، ويجوز أن يكون حالاً من ضمير «لَهُمْ» ، كذا نقله أبو حيَّان عن غيره، فقال: «تُرْهبون» قالوا: حال من ضمير في «لَهُمْ» ولا رابط بينهما؟ ولا يصحُّ تقدير ضمير في جملة «تُرهبون» لأخذه معموله. وقرأ الحسنُ ويعقوبُ، ورواها ابن عقيل عن أبي عمرو: «تُرَهَّبُون» مضعَّفاً عدَّاه بالتضعيف، كما عدَّاه العامَّةُ بالهمزةِ، والمفعول الثَّاني على كلتا القراءتين محذوف؛ لأنَّ الفعل قبل النَّفْلِ بالهمزة، أو بالتَّضعيف متعدٍّ لواحد، نحو: «رَهَّبْتُك» والتقدير: تُرهِّبون عدوَّ اللَّه قتالكم، أو لقاءكم. وزعم أبو حاتم أنَّ أبا عمرو نقل قراءة الحسن بياء الغيبة وتخفيف «يُرْهبن» ، وهي قراءة واضحة، فإنَّ الضمير حينئذٍ يرجع إلى من يرجع إليهم ضمير «لَهُمْ» ، فإنَّهُم إذا خافوا خَوَّفُوا من وراءهم. قوله «عَدُوَّ اللَّهِ» العامَّة قراءوا بالإضافة، وقرأ السلميُّ منوناً، و «لِلَّه» بلام الجرِّ، وهو مفرد، والمراد به الجنس، فمعناه: أعداء لله. قال صاحبُ اللَّوامح «وإنما جعله نكرةً بمعنى العامَّة؛ لأنَّها نكرةٌ أيضاً لم تتعرَّف بالإضافة إلى المعرفة؛ لأنَّ اسم الفاعل بمعنى الحالِ، أو الاستقبال، ولا يتعرَّف ذلك وإن أضيف إلى المعارف، وأمَّا» وعَدُوَّكُمْ «فيجوزُ أن يكون كذلك نكرة، ويجوز أن يتعرَّف لأنه قد أُعيد ذكره، ومثله: رأيت صاحباً لكم، فقال لي صاحبكم» يعني: أن «عَدُوّاً» يجوز أن يُلمحَ فيه الوصفُ فلا يتعرَّف، وألاَّ يلمح فيتعرف. قوله «وآخَرِينَ» نسق على «عَدُوَّ اللَّهِ» ، و «مِن دُونِهِمْ» صفة ل «آخرينَ» . قال ابن عطيَّة: «مِن دُونِهم» بمنزلة قولك: دون أن تكون هؤلاء، ف «دون» في كلام العرب، و «مِنْ دُونِ» تقتضي عدم المذكور بعدها من النَّازلة التي فيها القول؛ ومنه المثل: [الكامل] 2730 - ... ... ... ... ... ... ... . ... الجزء: 9 ¦ الصفحة: 555 وأمِرَّ دُونَ عُبَيْدةَ الوَذَمْ يعني: أنَّ الظَّرفية هنا مجازية، لأنَّ «دون» لا بد أن تكون ظرفاً حقيقة، أو مجازاً. قوله {لاَ تَعْلَمُونَهُمُ الله يَعْلَمُهُمْ} في هذه الآية قولان: أحدهما: أنَّ «علم» هنا متعدِّيةٌ لواحدٍ؛ لأنها بمعنى «عرف» ، ولذلك تعدَّت لواحد. والثاني: أنَّها على بابها، فتتعدى لاثنين، والثاني محذوفٌ، أي: لا تعلمونهم فازعين، أو محاربين. ولا بُدَّ هنا من التَّنبيه على شيءٍ، وهو أنَّ هذين القولين لا يجوز أن يكونا في قوله «اللَّهُ يَعْلمُهُم» بل يجب أن يقال: إنَّها المتعدية إلى اثنين، وأنَّ ثانيهما محذوف، لما تقدَّم من الفرق بين العِلْم والمعرفة. منها: أنَّ المعرفة تستدعي سَبْقَ جهل، ومنها: أن متعلقها الذوات دون النسب، وقد نصَّ العلماءُ على أنهُ لا يجوزُ أن يطلق ذلك - أعني الوصف بالمعرفةِ - على اللَّهِ تعالى. فصل قوله تعالى: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} . قال الحسن وابن زيد: «هم المُنافقون» . «لا تعلمُونَهم» ؛ لأنهم معكم يقولون: لا إله إلا الله وقال مجاهدٌ ومقاتل: «هم بنُو قريظة» وقال السديُّ: «هم أهل فارس» . وروي ابنُ جريجٍ عن سلمان بن موسى قال: هم كُفَّارُ الجِن، لما روي «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ: {وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ} فقال: إنَّهم الجنُّ، ثم قال:» إنَّ الشَّيطانَ لا يُخَبِّل أحداً في دار فيها فرس حبيس «وعن الحسنِ: أنه قال:» صهيلُ الفرس يرهب الجن « وقيل: المرادُ العدو من المسلمين، فكما أنَّ المسلم يعاديه الكافر، فقد يعاديه المسلم أيضاً. ثم قال تعالى: {وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله} فهذا عام في الجهادِ وفي سائر وجوه الخيرات:» يُوفَّ إليْكُم «. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 556 قال ابنُ عبَّاسٍ:» يُوفَّ لكُم أجره «أي: لا يضيع في الآخرة أجره؛ {وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ} أي: لا تنقصون من الثَّواب. ولما ذكر ابن عباس هذا التفسير تلا قوه تعالى {آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمِ مِّنْهُ شَيْئاً} [الكهف: 33] . قوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} الآية. لمَّا بيَّن ما يهرب به العدو من القوة، بيَّن بعده أنَّهم عند هذا الإرهاب إذا مالوا إلى المصالحة، فالحكمُ قبولُ المصالحِة، والجنوحُ: المَيْلُ، وجَنَحَتِ الإبلُ: أمالت أعناقها؛ قال ذو الرُّمَّةِ: [الطويل] 2731 - إذَا مَاتَ فوقَ الرَّحْلِ أحْيَيْتِ رُوحَهُ ... بِذكْراكِ والعِيسُ المَراسِيلُ جُنَّحُ يقال: جَنَحَ اللَّيْلأُ: أقْبَلَ. قال النضرُ بن شميلٍ: «جنح الرَّجلُ إلى فلانٍ، ولفلان: إذا خضع له» والجُنُوح الاتِّباع أيضاً لِتضمُّنه الميل؛ قال النَّابغة - يصفُ طيراً يتبع الجيش: [الطويل] 2732 - جَوَانِحُ قَدْ أيْقَنَّ أنَّ قبيلهُ ... إذا ما التقَى الجَمْعَانِ أوَّلُ غَالِب ومنه «الجَوانِحُ» للأضلاع، لميلها على حشو الشخص، والجناحث من ذلك، لميلانه على الطَّائر، وقد تقدَّم الكلامُ على بعض هذه المادة في البقرة. قوله «لِلسَّلْمِ» تقدَّم الكلام على «السلم» في البقرة، وقرأ أبو بكر عن عاصم هنا بكسر السين، وكَذا في القتال: {وتدعوا إِلَى السلم} [محمد: 35] ، ووافقه حمزة ما في القتال و «لِلسَّلْم» متعلق ب «جَنَحُوا. فقيل: يتعدَّى بها، وب» إلى «. وقيل: هنا بمعنى» إلى «. وقرأ الأشهبُ العقيليُّ:» فاجْنُحْ «بضمِّ النُّون، وهي لغة قيس، والفتح لغة تميم. والضمير في» لها «يعود على» السلم «؛ لأنَّها تذكَّرُ وتُؤنث؛ ومن التَّأنيث قوله [المتقارب] . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 557 2733 - وأقْنَيْتُ لِلْحربِ آلاتِهَا ... وأعْدَدْتُ للسِّلْمِ أوزارَها وقال آخر: [البسيط] 2734 - السِّلْمُ تأخُذُ مِنْهَا ما رضيتَ بِهِ ... والحَرْبُ يَكْفيكَ منْ أنْفَاسِهَا جُرَعُ وقيل: أثبت الهاء في» لها «؛ لأنَّهُ قصد بها الفعلة والجنحة، كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأعراف: 153] أراد: من بعد فعلتهم. وقال الزمخشريُّ:» السِّلْمُ تُؤنَّث تأنيث نقيضها، وهي الحربُ «. وأنشد البيت المتقدم: السِّلم تأخذ منها. فصل قال الحسنُ وقتادةُ: هذه الآية نسخت بقوله: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] . وقوله {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} [التوبة: 29] . وقال غيرهما: ليست منسوخة؛ لكنها تتضمَّنُ الأمر بالصُّلح إذا كان الصلاح فيه، فذا رأى مصالحتهم، فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة وإن كانت القوة للمشركين جاز مهادنتهم عشر سنين، ولا يجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإنه هادن أهل مكَّة عشر سنين، ثم إنهم نقضُوا العهد قبل كمال المُدَّة. وقوله {وَتَوَكَّلْ عَلَى الله} أي: فوِّض الأمر فيما عقدته معهم إلى الله. {إِنَّهُ هُوَ السميع العليم} نبَّه بذلك على الزَّجر عن نقض العهد؛ لأنَّهُ عالم بما يضمير العبد سميع لما يقوله. قال مجاهدٌ:» نزلت في قريظة والنضير «وورودها فيهم لا يمنع من إجرائها على ظاهر عمومها. قوله تعالى {وَإِن يريدوا أَن يَخْدَعُوكَ} الآية. أي: يريدوا ان يغدروا ويمكروا بك. قال مجاهدٌ: يعني: بني قريظة {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين} أي: بالأنصارِ. فإن قيل: لما قال: {هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ} فأي حاجة مع نصره إلى المؤمنين، حتَّى قال» وبالمؤمنين «. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 558 فالجوابُ: أنَّ التَّأييدَ ليس إلا من الله، لكنه على قسمين: أحدهما: ما يحصل من غير واسطة أسباب معتادة. والثاني: ما يحصلُ بواسطة أسباب معتادة. فالأول: هو المراد بقوله: «أيَّدكَ بنصْرِهِ» . والثاني: هو المرادُ بقوله: «وبالمؤمنين» . ثم بيَّن كيف أيد بالمؤمنين فقال {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ} أي: بين الأوس والخزرج، كانت بينهم إحن وخصومات، ومحاربة في الجاهليَّة، فصيَّرهم الله إخواناً بعد أن كانوا أعداءً، وتبدلت العداوة بالمحبة القوية، والمخالصة التَّامة، ممَّا لا يقدر عليه إلاَّ الله تعالى. {لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: قادر قاهر، يمكنه التصرف في القلوب، ويقلبها من العداوة إلى الصداقة ومن النفرة إلى الرغبة، حكيم يقول ما يقوله على وجه الإحكام والإتقان، أو مطابقاً للمصلحة والصَّواب على اختلاف القولين في الجبر والقدر. فصل احتجوا بهذه الآية على أن أحوال القلوب من العقائد، والإرادات كلها من خلق الله تعالى؛ لأن تلك الألفة، والمودة، إنَّما حصلت بسب الإيمان ومتابعة الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فلو كان الإيمانُ فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى، لكانت المحبَّة المترتبة عليه فعلاً للعبد لا فعلاً لله تعالى، وذلك خلاف صريح الآية. فقال القاضي: «لَوْلاَ ألطافُ الله تعالى ساعةً فساعةً، لما حصلت هذه الأحوال، فأضيفت تلك المخالصة إلى الله تعالى بهذا التَّأويل، كما يضافُ علم الولد وأدبه إلى أبيه، لأجل أنَّه لم يحصل ذلك إلاَّ بمعونة الأبِ وتربيته، فكذا ههنا» . وأجيب: بأن كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر، وحمل الكلام على المجاز، وأيضاً فكل هذه الألطاف كانت حاصلة في حق الكُفار، مثل حصولها في حقِّ المؤمنين، فلو لم يحصل هناك شيء سوى الألطاف؛ لم يكن لتخصيص المؤمنين بهذه المعاني فائدة، وأيضاً فالبرهانُ العقلي مقوٍّ لهذا الظَّاهر؛ أن القلب يصح أن يصير موصوفاً بالرَّغْبَةِ بدلاً عن النُّفرة والعكس. فرجحان أحدِ الطَّرفين على الآخر لا بدَّ له من مرجِّح، فإن كان المرجح هو العبدُ عاد التقسيم وإن كان هو الله تعالى، فهو المقصود. فعلم أنَّ صريح هذه الآية متأكد بصريح البرهان العقلي، فلا حاجة إلى ما ذكره القاضي. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 559 قوله تعالى: {يَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ} الآية. لمَّا وعده بالنَّصر عند مخادعة الأعداء، وعده بالنَّصر والظفر في هذه الآية مطلقاً، وعلى هذا التقرير لا يلزمِ منه التكرار، وهذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال، والمرادُ بقوله {وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} الأنصار. وعن ابنِ عبَّاسٍ: «نزلت في إسلامِ عُمر» . قال سعيدُ بن جبير: «أسلم مع النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثلاثة وثلاثون رجلاً وست نسوة، ثم أسلم عمر، فنزلت هذه الآية» . قال المفسِّرُون: فعلى هذا القول هذه الآية مكية، [كتبت في] سورة مدنية بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله «ومن اتَّبعكَ» فيه أوجهٌ. أحدها: أن يكون «مَنْ» مرفوع المحلِّ، عطفاً على الجلالة، أي: يكفيك الله والمؤمنون. وبهذا فسّره الحسن البصري وجماعة وهو الظاهر ولا محذور في ذلك حيث المعنى. فإن قالوا: من كان الله ناصره امتنع أن يزداد حاله، أو ينقص بسبب نصرة غير الله، وأيضاً إسناد الحكم إلى المجموع يوهم أنَّ الواحدَ من ذلك المجموع لا يكفي في حصولِ ذلك المهم وتعالى الله عنه. ويجابُ: بأنَّ الكُلَّ من اللَّهِ، إلاَّ أنَّ من أنواع النُّصرة ما يحصل بناء على الأسباب المألوفةِ المعتادةِ، ومنها ما يحصلُ لا بناءً على الأسباب المألوفة المعتادة؛ فلهذا الفرق اعتبر نصر المؤمنين، وإن كان بعضُ الناس استصعب كون المؤمنين يكونون كافين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتأوَّل الآية على ما سنذكره. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 560 الثاني: أنَّ «مَنْ» مجرورُ المحلِّ، عطفاً على الكافِ في: «حَسْبُكَ» ، وهذا رأي الكوفيين وبهذا فسَّر الشعبي وابن زيد، قالا: «معناه: وحسبُ من اتَّبعك» . الثالث: أنَّ محلَّه نصبٌ على المعيَّة. قال الزمخشري: «ومنِ اتَّبعكَ» الواو بمعنى «مع» وما بعدهُ منصوبٌ، تقول: حَسْبُكَ وزَيْداً درهمٌ، ولا تَجُرُّ؛ لأنَّ عطف الظّاهر المجرور على المكنيّ ممتنعٌ؛ وقال: [الطويل] 2735 - ..... ... ... ... ... ... ... ... . . فَحَسْبُكَ والضَّحَّاكَ سَيْفٌ مُهَنَّدُ ... والمعنى: كَفَاك وكَفَى تُبَّاعكَ المؤمنين اللَّه ناصراً. قال أبو حيَّان: «وهذا مخالفٌ لكلام سيبويه؛ فإنَّه قال» حَسْبُك وزَيْداً درهم «لمَّا كان فيه معنى: كفاك، وقبُحَ أن يحملوه على الضمير دون الفعل، كأنَّهُ قال: حسبك وبحسبِ أخاك» ثم قال: «وفي ذلك الفعل المضمير ضميرٌ يعودُ على الدرهم والنيةُبالدرهم التقديمُ، فيكون من عطف الجمل، ولا يجوزُ أن يكون من باب الإعمال، لأنَّ طلبَ المبتدأ للخبر وعمله فيه ليس من قبيل طلب الفعل، أو ما جرى مجراه، ولا عمله فلا يُتوهَّم ذلك فيه» . وقد سبق الزمخشريَّ إلى كونه مفعولاً معه الزجاج، إلاَّ أنه جعل «حسب» اسم فعلٍ، فإنه قال: «حَسْبُ» اسمُ فعل، والكافُ نصبٌ، والواو بمعنى «مع» . وعلى هذا يكون «اللَّهُ» فاعلاً، وعلى هذا التقدير يجوز في «ومَنْ» أن يكون معطوفاً على الكاف، لأنَّها مفعول باسم الفعل، لا مجرورٌ، لأنَّ اسم الفعل لا يُضاف. ثم قال أبو حيان: «إلاَّ أنَّ مذهب الزجاج خطأٌ، لدخول العوامل على» حَسْب «نحو: بِحَسْبك درهم، وقال تعالى: {فَإِنَّ حَسْبَكَ الله} ، ولم يثبت في موضع كونه اسم فعل، فيحمل هذا عليه» . وقال ابنُ عطية - بعدما حكى عن الشعبي، وابن زيد ما تقدَّم عنهما من المعنى -: ف «مَنْ» في هذا التأويل في محلِّ نصب، عطفاً على موضع الكاف؛ لأنَّ موضعها نصبٌ على المعنى ب: «يَكْفِيكَ» الذي سَدَّتْ «حسبك» مَسَدَّه. قال أبو حيان «هذا ليس بجيد؛ لأنَّ» حَسْبك «ليس ممَّا تكونُ الكافُ فيه في الجزء: 9 ¦ الصفحة: 561 موضع نصب، بل هذه إضافة صحيحة ليست من نصب، و» حَسْبك «مبتدأ مضافٌ إلى الضمير وليس مصدراً، ولا اسم فاعل، إلاَّ إن قيل: إنَّه عطف على التوهم كأنه توهَّم أنه قيل: يكفيك الله، أو كفاك الله، لكن العطف على التوهُّم لا ينقاسُ» . والذي ينبغي أن يحمل عليه كلامُ الشعبي وابن زيد أن تكون «مَنْ» مجرورة ب «حَسْب» محذوفة، لدلالة «حَسْبك» عليها؛ كقوله: [المتقارب] 2736 - أكُلَّ امرىءٍ تَححسَبينَ امْرَأً ... ونارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا أي: وكلَّ نار، فلا يكُونُ من العطفِ على الضمير المجرور. قال ابن عطيَّة: «وهذا الوجهُ من حذفِ المضاف مكروه بأنه ضرورةٌ» . قال أبو حيان: «وليس بمكروهٍ، ولا ضرورة بل أجازه سيبويه، وخرَّج عليه البيت وغيره من الكلام» . قال شهابُ الدين: «قوله:» بل هذه إضافةٌ صحيحة، ليست من نصب «فيه نظر؛ لنَّ النَّحويين على أنَّ إضافة» حَسْب «وأخواتها إضافةٌ غيرُ محضة، وعلَّلُوا ذلك بأنها في قوة اسم فاعل ناصبٍ لمفعولٍ به، فإنَّ» حَسْبكَ «بمعنى: كافيك، و» غيرك «بمعنى مُغايرك، و» قيد الأوابد «بمعنى: مُقيدها. قالوا: ويدلُّ على ذلك أنَّها تُوصفُ بها النَّكرات، فيقال: مررت برجلٍ حسبك من رجلٍ» . وجوَّز أبو البقاء: الرفع من ثلاثة أوجهٍ: أنَّهُ نسقٌ على الجلالةِ كما تقدَّم، إلاَّ أنَّهُ قال: فيكون خبراً آخر، كقولك: القائمان زيد وعمرو، ولم يُثَنِّ «حَسْبك» ؛ لأنه مصدرٌ. وقال قومٌ: هذا ضعيفٌ؛ لأن الواو للجمع، ولا يَحْسُن ههنا، كما لا يَحْسُن في قولهم: «مَا شَاء اللَّهُ وشِئْتَ» ، «ثم» هاهنا أولى. يعني أنَّهُ من طريق الأدل لا يُؤتَى بالواو التي تقتضي الجمع، بل يأتي ب «ثم» التي تقتضي التراخي والاحديثُ دالٌّ على ذلك. الثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره: وحسب من اتبعك. الثالث: هو مبتدأ والخبر محذوف تقديره: ومن اتبعك كذلك، أي: حسبهم الله. وقرأ الشعبيُّ «ومَنْ» بسكون النون «أْتْبَعك» بزنة «أكْرَمَكَ» . قوله تعالى: {ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} الآية. لمَّا بيَّن أنه تعالى كافيه بنصره، وبالمؤمنين، بيَّن ههنا أنه ليس من الواجب أن يتكل على ذلك إلا بشرط أن يحرض المؤمنين على القتال؛ فإنه تعالى كفيل بالكفاية بشرط أن الجزء: 9 ¦ الصفحة: 562 يحصل منهم التعاون على القتال، والتحريض كالتحضيض والحث. يقال: حَرَّضَ وَحَرَّشَ وحرَّكَ وحثَّ بمعنىً واحد. وقال الهرويُّ «يقال: حَارَضَ على الأمر، وأكَبَّ، وواكبَ، وواظبَ، وواصبَ بمعنىً» . قيل: وأصله من الحَرَض، وهو الهلاك، قال تعالى: {حتى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} [يوسف: 85] . 2737 - إنِّي امْرؤٌ نَابَنِي همٌّ فأحْرَضَنِي ... حتَّى بَليتُ وحتَّى شَفَّنِي سَقَمُ قال الزجاج: «تأويل التحريض في اللُّغةِ أن يُحَثَّ الإنسان على شيءٍ حتى يُعلمَ منه أنَّه حارضٌ والحارض: المقاربُ للهلاك» واستبعد النَّاسُ هذا منه، وقد نَحَا الزمخشريُّ نحوه، فقال: «التَّحريضُ: المبالغةُ في الحثِّ على الأمر، من الحرَض، وهو أن ينهكه المرض، ويتبالغ فيه حتى يُشْفِيَ على الموت أو تُسَمِّيه حَرضاً، وتقولُ له: ما أراك إلاَّ حَرضاً» . وقرأ الأعمش «حَرِّصْ» بالصاد المهملة، وهو من «الحِرْصِ» ، ومعناه مقارب لقراءة العامة. قوله: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} الآيات. أثبت في الشرط الأول قيداً، وهو الصبرُ، وحذف من الثاني: وأثبت في الثاني قيداً، وهو كونهم من الكفر، وحذف من الأوَّلِ، والتقديرُ: مائتين من الذين كفروا، ومائة صابرة فحذف من كلٍّ منهما ما أثبت في الآخر، وهو في غاية الفصاحة. وقرأ الكوفيون: {وإن يكُنْ منْكُم مائةٌ يَغلِبُوا} ، {فإنْ يكنْ منكُم مائةٌ صابرةٌ} بتذكير «يكن» فيهما، ونافع وابن كثير وابن عامر بتأنيثه فيهما، وأبو عمرو في الأولى كالكوفيين وفي الثانية كالباقين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 563 فَمَنْ ذكَّر فللفصل بين الفعل وفاعله بقوله: «مِنكُمْ» ؛ لأنَّ التأنيث مجازي، إذ المراد ب «المائة» الذُّكور، ومنْ أنَّثَ فلأجل اللفظِ، ولم يلتفت للمعنى، ولا للفصل. وأمَّا أبو عمرو فإنَّما فرٌَّ بين الموضعين فذكَّر في الأول، لما ذكر؛ ولأنَّهُ لحظ قوله: «يغلبوا» وأنَّثَ في الثاني، لقوة التأنيث بوصفه بالمؤنث في قوله: «صَابِرَةٌ» ، وأمَّا: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ} و {وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ} فبالتذكير عند جميع القرَّاء، إلاَّ الأعرج، فإنه أنَّثَ المسند إلى «عشرون» . فصل هذا خبرٌ والمراد به الأمر، كقوله تعالى: {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] . والمعنى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} فليصبروا وليجتهدوا في القتالِ حتَّى «يَغلبُوا مائتيْنِ» ويدلُّ على أن المراد الأمر وجوه. أولها: لو كان المرادُ الخبر، لزم أن يقال لم يغلب قط مائتان من الكُفَّارِ عشرين من المؤمنين، وذلك باطل. وثانيها: قوله تعالى: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ} نسخ والنسخُ لا يليق إلاَّ بالأمر. وثالثها: قوله تعالى {والله مَعَ الصابرين} وذلك ترغيب في الثبات على الجهادِ. فصل قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ} يدُلُّ على أنَّهُ تعالى ما أوجبَ هذا الحكم إلاَّ بشرط كونه صابراً قادراً على ذلك، وإنَّما حصل هذا الشَّرط عند حصول أشياء. منها: أن يكون شديد الأعضاء، قوياً جلداً، وأن يكون قوي القلب شجاعاً غير جبان، وأن يكون غير متحرّفٍ إلاَّ لقتال أو متحيزاً إلى فئة؛ فعند حصول هذه الشرائط كان يجبُ على الواحد أن يثبتَ للعشرةِ. وإنَّما حسن هذا التكليف؛ لأنه مسبوق بقوله: {حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الأنفال: 64] فلمَّا وعد المؤمنين بالكفاية والنُّصرةِ كان هذا التكليف سهلاً؛ لأنَّ من تكفَّل بنصره فإن أهل العالم لا يقدرون على إيذائه. فإن قيل: هذه الآية تدلُّ على جوب ثبات الواحد للعشرة، فما الفائدة في العدولِ عن هذه اللَّفظةِ الوجيزة إلى تلك الكلمات الطويلة؟ . والجوابُ: أن هذا الكلام إنَّما ورد على وفْق الواقعة؛ لأنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يبعث السَّرايا، والغالبُ أن تلك السَّرايا ما كان ينتقص عددها عن العشرين، وما كانت تزيدُ على المائة فلهذا ذكر الله هذين العددين. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 564 قوله: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} وهذا كالعَّة لتلك الغلبة؛ لأنَّ من لا يؤمنُ باللَّهِ ولا يؤمنُ بالمعاد، فالسعادةُ ليست عنده إلاَّ هذه الحياة الدنيويَّة، ومن كان هذه معتقده فإنه يشح بهذه الحياة ولا يعرضها للزوال. وأمَّا من اعتقد أن لا سعادة في هذه الحياة وأنَّ السعادة لا تحصل إلاَّ في الدَّار الآخرة، فإنَّه لا يبالي بهذه الحياة الدنيا، ولا يقيم لها وزناً، فيقدم على الجهاد بقلب قوي عزم صحيح، وإذا كان الأمر كذلك، كان الواحد في الثبات يقاوم العدد الكثير. وأيضاً: فإن الكُفَّار إنَّما يعولُون على قوتهم وشوكتهم، والمسلمون يستغيثون بربهم بالدعاء، والتضرع، ومنْ كان كذلك كان النصر الظفر به أليق وأولى. فصل كان هذا يوم بدر فرض الله على الرَّجل الواحد من المؤمنين قتال عشرة من الكافرين فثقلت على المؤمنين، فخفَّف اللَّهُ عنهم فقال: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} في الواحد عن قتال العشرة وفي المائة عن قتال الألف. وقرأ المفضل عن عاصم «وعُلِمَ» مبنياً للمفعول، و {أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} في محلِّ رفع لقيامه مقام الفاعل، وهو في محلِّ نصبِ على المفعول به في قراءة العامة؛ لأن فاعل الفعل ضميرٌ يعودُ على اللَّهِ تعالى. قوله: «ضَعْفاً» قرأ عاصم وحمزة هنا، وفي الرُّوم في كلماتها الثلاث {الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً} [الروم: 54] بفتح الضاد والباقون بضمها. وعن حفص وحده خلافٌ في الروم. وقرأ عيسى بن عمر: «ضُعُفاً» بضم الضاذ والعين وكلها مصادر. وقيل: الضَّعْفُ - بالفتح - في الرأي والعقل، وبالضم في البدن. وهذا قول الخليل بن أحمد، هكذا نقله الراغب عنه. ولمَّا نقل ابنُ عطية هذا عن الثعلبي، قال: «وهذا القول تردُّه القراءة» . وقيل: هما بمعنى واحد، لغتان: لغةُ الحجاز الضَّمُّ، ولغةُ تميم الفتح، نقله أبو عمرو، فيكونان ك: الفَقْر والفُقْر، والمَكْث والمُكْث، والبَخَل والبُخْل. وقرأ ابن عباس فيما حكى عنه النقاش وأبو جعفر «ضُعَفَاء» جمعاً على «فُعَلاءَ» ك «ظَرِيف وظُرفُاء. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 565 قوله» يكُن مِنكُم «» يكن «في هذه الأماكن يجوز أن تكون التامَّة، ف» مِنكُمْ «إمَّا حالٌ من» عِشْرثون «لأنها في الأصل صفةٌ لها، وإمَّا متعلق بنفس الفعل، لكونه تاماً، وأن تكون الناقصة فيكون» مِنكُمْ «الخبرَ، والمرفوعٌ الاسمَ، وهو» عِشْرُونَ «، و» مائة «، و» ألف «. فصل روى عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ:» لما نزلت التكليف الأوَّلُ ضَجَّ المهاجرون، وقالوا: يا ربَّنا نحن جياع، وعدونا شباع، ونحن في غربة وعدونا في أهلهم، ونحن قد أخرجنا من ديارنا وأموالنا، وعدونا ليس كذلك، وقال الأنصارُ: شُغلْنَا بعَدُوِّنَا، وواسينا إخواننا، فنزل التَّخفيف «. وقال عكرمةُ:» إنَّما أمر الرجل أن يصبر لعشرة، والعشرةُ لمائةٍ حال ما كان المسلمون قليلين، فلمَّا كثروا خفف الله عنهم، ولهذا قال ابن عباس: «أيُّمَا رجلٌ فرَّ من ثلاثة فلم يفر، فإن فر من اثنين فقد فَرَّ» . والجمهورُ ادَّعُوا أن قوله: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ} ناسخ للآية المتقدمة «. وأنكر أبو مسلم الأصفهانيُّ هذا النسخ، وقال:» إن قوله في الآية الأولى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} فهذا الخبر محمول على الأمر، لكن بشرط كون العشرين قادرين على الصَّبر لمُقاتلةِ المائتين، وقوله: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} يدلُّ على أنَّ ذلك الشرط غير حاصل في حقِّ هؤلاء، فالآية الأولى دلَّت على ثبوت حكم بشرط مخصوص، وهذه الآية دلَّت على أنَّ ذلك الشَّرط مفقود في حقِّ هذه الجماعة، فلا جرم لم يثبت ذلك الحكم، وعلى هذا التقدير لم يحصل النسخ ألبتة «. فإن قيل: قوله تعالى: {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} معناه: ليكن العشرون صابرون لمقابلة المائتين، وعلى هذا التقدير فالنسخ لازم. فالجوابُ: لم لا يجوزُ أن يكون المرادُ من الآية إن حصل عشرون صابرون في مقابلة المائتين فليشتغلوا بجهادهم؟ والحاصلُ أنَّ لفظ الآية ورد بلفظ الخبر؛ خالفنا هذا الظَّاهر وحملناه على الأمر، أما على رعاية الشرط فقد تركناه على ظاهره، وتقديره: إن يحصل منكم عشرون موصوفون بالصبر على مقاومة المائتين، فليشتغلوا بمقاومتهم، وعلى هذا فلا نَسْخَ. فإن قيل: قوله: {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ} مشعر بأن هذا التَّكليف كان متوجهاً عليهم فالجوابُ: لا نسلم أنَّ لفظ التخفيف يدلُّ على حصول التثقيل قبله؛ لأنَّ عادة العرب الرخصة بهذا الكلام، كقوله تعالى عند الرُّخْصَةِ للحر في نكاح الأمة، لمن لا يستطيع الجزء: 9 ¦ الصفحة: 566 نكاح الحرة: {وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً} [النساء: 25] فكذا ههنا. وتحقيقه أنَّ هؤلاء العشرين كانوا في محلِّ أن يقال إنَّ ذلك الشرط حاصِلٌ فيهم، فكان ذلك التكليف لازماً عليهم فلمَّا بيَّن اللَّهُ تعالى أنَّ ذلك الشرط غير حاصل فيهمن وأنَّه تعالى علم أن فيهم ضعفاً لا يقدرون على ذلك الشرط غير حاصل فيهم، وأنَّه تعالى علم أن فيهم ضعفاً لا يقدرون على ذلك فقد تخلصوا عن ذلك الخوف، فصحَّ أن يقالك خفَّف اللَّهُ عنهم، وممَّا يدل على عدم النَّسْخِ أنَّهُ تعالى ذكر هذه الآية مقارنة للآية الأولى، وجعل النَّاسِخ مقارناً للمنسوخ لا يجوزُ. فإن قيل: المعتبر في النَّاسخِ والمنسوخ بالنُّزُولِ دون التلاوة، فقد يتقدم الناسخ وقد يتأخرن ألا ترى في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ. فالجوابُ: أنَّ الناسخ لمَّا كان مقارنته للمنسوخ لا يجوز في الوجود، وجب ألا يكون جائزاً في الذكر، اللهم إلاَّ لدليل قاهر، وأنتم ما ذكرتم ذلك. وأمَّا قوله في عدة الوفاة الناسخ مقدم على المنسوخ، فأبوا مسلم ينكر كلّ أنواع النسخ في القرآن فكيف يمكن إلزام هذا الكلام عليه؟ فهذا تقرير قول أبي مسلم. قال ابن الخطيب: «إن ثبت إجماع الأمَّة على الإطلاق قبل أبي مسلمٍ على النَّسْخِ فلا كلام، فإن لم يحصل الإجماعُ القاطع؛ فنقولُ: قول أبي مسلمٍ حسن صحيح» . فصل احتجَّ هشام على قوله: إنَّ الله تعالى لا يعلم الجزئيات إلاَّ عند وقوعها بقوله {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} فإنَّ معنى الآية: الآن علم اللَّهُ أن فيكم ضَعْفاً، وهذا يقتضي أنَّ علمه تعالى بضعفهم ما حصل إلاَّ في هذا الوقتِ وأجاب المتكلمون بأنَّ معنى الآية: أنَّهُ تعالى قبل حدوث الشيء لا يعلمه حادثاً واقعاً. فقوله {الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً} معناه: أن الآن حصل العلم بوقوعه وحصوله، وقبل ذلك كان الحاصل هو العلم بأنه سيقع او سيحدث. فصل الذي استقر عليه حكم التكليف بمقتضى هذه الآية أنَّ كلَّ مسلم بالغ مكلف وقف بإزاء كافرين، عبداً كان أو حراً فالهزيمة عليه محرمة ما دام معه سلاح يقاتل، فإن لم يبق معه سلاح، فله أن ينهزم، وإن قاتله ثلاثة حلت له الهزيمةُ والصبر أحسن. روى الواحديُّ في البسيط: «أنه وقف جيش مؤتة، وهم ثلاثة ألاف وأمراؤهم على التَّعاقب زيد بن حارثة ثمَّ جعفر بن أبي طالب ثمَّ عبد الله بن رواحة لمائتي ألف من المشركين، مائة ألأف من الرُّومِ، ومائة ألف من المستعربة، وهم لخم وجذام» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 567 قوله: «بإذنِ اللَّهِ» أي: أنه لا تقع الغلبةُ إلاَّ بإذن اللَّهِ، والإذن ههنا هو الإرادة وذلك يدل على مسألة خلق الأفعال، وإرادة الكائنات. ثم ختم الآية بقوله: {والله مَعَ الصابرين} والمرادُ ما ذكره في الآية الأولى في قوله {إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} فبيَّن ههنا أنَّ الله مع الصَّابرين والمقصود أن العشرين لو صبروا ووقفوا، فإنَّ نصري معهم وتوفيق مقارن لهم وهذا يدلُّ صحَّة مذهب أبي مسلم، وهو أن ذلك الحكم لم ينسخ، بل هو ثابت كما كان فإنَّ العشرين إن قدروا على مصابرة المائتين، بقي ذلك الحكم، وإنْ لم يقدروا على مصابرتهم فالحكمُ المذكور هنا زائل. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 568 قوله تعالى: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى} الآية. قرأ أبو عمرو «تكون» بالتأنيث، مراعاةً لمعنى الجماعة، والباقون بالتَّذكير، مراعاةً للفظ الجمع، والجمهورُ هنا على «أسْرَى» وهو قياس «فعيل» بمعنى «مفعول» دالاَّ على أنه ك: جَريح وجَرْحَى. وقرأ ابنُ القعقاع والمفضَّل عن عاصم «أسَارَى» شبَّهُوا «أسير» ب: «كَسْلان» فجمعوهُ على «فُعَالَى» كَ: «كُسَالَى» ، كما شَبَّهُوا به «كسلان» فجمعوه على «كَسْلَى» ، وقد تقدَّم القولُ فيهما في البقرة. قال الزمخشري: «وقرىء» ما كان للنَّبي «على التعريف» فإن قيل: كيف حسن إدخال لفظه «كان» على لفظة «يكون» في هذه الآية؟ فالجوابُ: قوله «مَا كَان» معناه النفي والتنزيه، أي: ما يجب وما ينبغي أن يكون المعنى المذكور، كقوله: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35] . قال أبو عبيدة «يقول: لم يكن لنبي ذلك، فلا يكن لك، ومن قرأ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ} فمعناه: أنَّ هذا الحكم ما كان ينبغي حصوله لهذا النبي، وهو محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 568 قوله: «حتَّى يُثخِنَ» قرأ العامَّةُ «يُثْخنَ» مخففاً، عدوهُ بالهمزة. وقرأ أبُو جعفر ويحيى بن وثاب ويحيى بن يعمر «يُثَخِّنَ» بالتشديد، عدوهُ بالتضعيف، وهو مشتقٌّ من الثَّخانة، وهي الغِلَظ والكثافة في الأجسام، ثمَّ يُسْتَعار ذلك في كثرة لاقتل، والجراحات، فيقال: أثْخَنَتْه الجراح، أي: أثقلته حتى أثْبَتَتْه، ومنه «حتَّى إذا أثخنتموهم» . وقيل: حتى يقهر، والإثخان: القهرُ. وأنشد المفضلُ: [الطويل] 2738 - تُصَلِّي الضُّحَى ما دَهْرُهَا بتَعَبُّدٍ ... وقَدْ أثْخَنَتْ فرعَونَ في كُفُرِهِ كُفْرَا كذا أنشده الهروي شاهداً على القهر، وليس فيه معنى، إذا المعنى على الزِّيادة والمبالغةِ المناسبةِ لأصل معناه، وهي الثَّخانة. ويقال منه: ثَخُنَ يَثْخُنُ ثَخَانَة فهو ثَخِين، ك: ظَرُفَ يَظْرُف ظَرَافَةً، فهو ظريفٌ. قوله {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا والله يُرِيدُ الآخرة} . الجمهورعلى نصب «الآخرة» . وقرأ سليمانُ بن جماز المدني بجرِّها، وخُرِّجتْ على حفِّ المضاف وإبقاء المضاف إليه على جرِّه. وقدَّره بعضهم عرض الآخرة، فعيب عليه؛ إذْ لا يحسن أن يقال: والله يريد عرض الآخرة فأصلحه الزمخشريُّ بأنْ جعلهُ كذلك؛ لأجل المقابلة، قال: «يعني ثوابها» وقدَّره بعضهم ب «أعمال» ، أو «ثواب» ، وجعله أبُو البقاءِ كقول الآخر: [المتقارب] 2739 - ... ... ... ... ... ... ... ... ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا وقدَّر المضاف: «عَرَضَ الآخِرَةِ» . قال أبُو حيان: «ليست الأيةُ مثل البيت، فإنهُ يجوزُ ذلك، إذَا لمْ يُفْصل بين حرف العطف وبين المجرور بشيء كالبيت، أو يفصل ب» لا «نحو:» ما مثل زيد ولا أخيه يقولان لك «أمَّا إذَا فُصِل بغيرها كهذه القراءةِ فهو شاذٌّ قليل» . فصل اعلم أنه تعالى علم في هذه الآية حكما آخر من أحكام الجهاد في حق النبي صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 569 قال الزجاج: «أسْرَى» جمع، و «أسَارَى» جمع الجمع. والإثخان: قال الواحديُّ: «الإثخان» في كُلِّ شيء: عبارة عن قوَّته وشدَّته. يقال: قد أثخنه المرض: إذا اشتد قوة المرض عليه وكذلك أثخنته الجراح. فقوله: {حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} أي: حتى يقوى ويشتد ويغلب ويقهر. قال أكثر المفسرين: المرادُ منه: أين يبالغ في قتل أعدائه، قالوا: وإنَّما جعلنا اللَّفظ يدل عليه؛ لأنَّ الملك والدولة إنما تقوى وتشتد بالقتل؛ قال الشَّاعرُ: 2740 - لا يَسْلَمُ الشَّرَفُ الرَّفيعُ من الأذَى ... حتَّى يُراقَ على جوانبِهِ الدَّمُ وكثرة القتل توجب قوة الرهب وشدة المهابة، وكلمة «حتّى» لانتهاء الغايةِ، فقوله {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} يدُلُّ على أنَّ بعد حصول الإثخان في الأرض فله أن يقدم على الأسارى. وقوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا} المرادُ منه: الفداء، وإنّضما سمى منافع الدنيا عرضاً؛ لأنَّهُ لا ثبات له ولا دوام، فكأنه يعرض ثم يزول، ولذلك سمَّى المتكلمون الأعراض أعراضاً، لأنها لا ثبات لها كثبات الأجسام؛ لأنها تطرأ على الأجسام، وتزول عنها والأجسام باقية. وقوله: {والله يُرِيدُ الآخرة} أي: أنه تعالى لا يريدُ ما يفضي إلى السعادات الدنيوية التي تعرض وتزول، وإنَّما يريد ما يفضي إلى السعادات الأخروية الدائمة الباقية المصونة عن التبدل والزوال. ثم قال: {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: إن طلبتم الآخرة لم يغلبكم عدوكم؛ لأنَّ الله عزيز لا يقهر ولا يغلب، حكيم في تدبير مصالح العالم. قال ابنُ عبَّاسٍ: «هذا الحكم إنَّما كان يوم بدر؛ لأنَّ المسلمين كانوا قليلين، فلما كثروا وقوي سلطانهم أنزل اللَّهُ بعد ذلك في الأسارى: {حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّواْ الوثاق فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} [محمد: 4] . قال ابنُ الخطيبِ:» هذا الكلامُ يوهم أنَّ قوله: {فَإِمَّا مَنَّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً} يزيدُ على حكم الآية التي نحن في تفسيرها، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّ كلتا الآيتين متوافقتان، فإنهما يدلان على أنه لا بد من تقديم الإثخان، ثم بعده أخذ الفداء «. فصل احتج الجبائيُّ والقاضي بهذه الآية على فساد قول من يقول: كلُّ ما يكون من العبد الجزء: 9 ¦ الصفحة: 570 فاللَّهُ يريدُه؛ لأنَّ هذا الأسر وقع منهم على هذا الوجه، ونصَّ اللَّهُ على أنَّهُ لا يرييده، بل يريد منهم ما يؤدي إلى ثواب الآخرة وهو الطاعة. وأجيبوا: بأنه تعالى ما أراد أن يكون هذا الأمر منهم طاعة وعملاً جائزاً مأذوناً فيه، فلا يلزم من نفي الإرادة كون هذا الأمر طاعة، نفي كونه مراد الوجود. فصل روي عن عبد الله بن مسعود قال: «لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» ما تقُولُون في هؤلاءِ الأسْرَى «فقال أبو بكر: يا رسول الله قومك وأهلك اسْتَبْقِهِمْ، واستأن بهم لعلَّ الله أن يتوب عليهم، وخُذْ منهم فدية تكون لنا قوة على الكُفَّارِ. وقال عمرُ: يا رسول الله: كذبوك وأخرجوك، فَدَعْنَا نضرب أعناقهم، مكِّن عليّاً مِنْ عقيلٍ فيَضْرب عنقَهُ، ومكْنِي من فلانٍ:» نَسيباً لِعمَرَ «فأضْرِبَ عُنُقَهُ، فإن هؤلاء أئِمَّةُ الكفرِ. وقال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله انظر وادياً كثير الحطب؛ فأدخلهم فيه، ثم أضرم عليهم ناراً، فقال له العباس: قطعت رحمك. فسكت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم يجبهم، ثم دخل فقال ناس: يأخذ بقول أبي بكر، وقال ناس: يأخذ بقول عمر، وقال ناس: يأخذ بقول ابن رواحة، ثم خرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال» إنَّ اللَّهَ ليليِّن قلوب رجال حتَّى تكون ألين من اللبن، ويشدد قلوب رجال حتى تكون أشد من الحجارة، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم، قال: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ومثلك يا أبا بكر كمثل عيسى، قال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118] ومثلك يا عمر، كمثل نوح، قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] ومثلك كمثل موصى، قال: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ} [يونس: 88] الآية « ثم قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» أنتم اليوم عالة فلا ينقلبن أحد منهم إلاَّ بفداء أو ضرب عنق «. قال عبد الله بن مسعود: إلا سهيل بن بيضاء، فإني سمعته يذكر الإسلام فسكت رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: فما رأيتني في يوم أخوف أن تقع عليَّ الحجارة من السماء من ذلك اليوم، حتَّى قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إلا سهيل بن بيضاء. قال ابن عباس: قال عمر بن الخطاب: فَهَوِيَ رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما قال أبو بكرٍ ولمْ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 571 يَهْوَ ما قلت، فلمَّا كان من العد جئت فإذا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبو بكر قاعديْن يبكيانِ، قلتُ: يا رسُول الله، أخبِرْنِي مِنْ أيِّ شيءٍ تَبْكِي أنتَ وصاحبُكَ، فإنْ وجَدْتُ بكاءً بكَيْتُ، وإنْ لَمْ أجِدْ بكاءً تَباكَيْتُ لبكائِكُما. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» أبكي للَّذي عَرَ عليَّ أصحابُكَ مِنْ أخذهم الفداءَ، لقد عُرِضَ عليَّ عذابُهُم أدْنَى مِنْ هذه الشجَّرةِ «شجرةٍ قريبةٍ مِنَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنزل اللَّهُ عزَّ وجلَّ {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} إلى قوله: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً} وأحَلَّ الله الغنيمةَ لهُمْ. وكان الفداء لكل أسيرٍ أربعين أوقية، والأوقيةُ: أربعون ردهماً. قوله: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . قال ابنُ عباسٍ: كانت الغنائمُ حراماً على الأنبياء؛ فكانُوا إذَا أصابوا مَغْنَماً جعلوه للقربان فكانت تتنزل نار من السماءِ فتأكله، فلمَّا كان يوم بدر أٍرع المؤمنون في الغنائم، وأخذ الفداء، وفأنزل اللَّهُ تعالى: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ} . يعني: لولا قضاء من الله سبق في اللوح المحفوظ بأنَّهُ تحلُّ لكم الغنائم لمَسَّكُم العذاب. وهذا مشكل؛ لأنَّ تحليل الغنائم والفداء، هل كان حاصلاً في ذلك الوقت، أو ما كان حاصلاً فيه؟ فإن كان ذلك التَّحليل والإذن حاصلاً في ذلك الوقت امتنع إنزال العذاب عليهم؛ لأنَّ ما كان مأذوناً فيه من قبل الشرع لم يحصل العقابُ على فعله. وإن قلنا: إنَّ الإذن ما كان حاصلاً في ذلك الوقت كان ذلك الفعل حراماً في ذلك الوقت، أقصى ما في الباب أنَّهُ سيحكم بحله بعد ذلك، إلاَّ أنَّ هذا لا يقدح في كونه حراماً في ذلك الوقت. فإن قالوا: إنَّ كونه بحيثُ يصير بعد ذلك حلالاً، يوجبُ تخفيف العقابِ. قلنا: فإذا كان الأمر كذلك امتنع إنزال العقاب بسببه، وذلك يمنع من التخويف بسبب ذلك العقاب. قال ابنُ العربيِّ: «في هذه الآية دليلٌ على أنَّ العبد إذا اقتحم ما يعتقده حراماً ممَّا هو في علم اللَّه حلال له لا عقوبة عليه، كالصَّائم إذا قال: هذا يوم نَوْبي فأفطر الآن، وتقولُ المرأة: هذا يوم حيضتي فأفطر، ففعلا ذلك، وكان النوب والحيضُ الموجبان للفطر، فمشهور المذهب أن فيه الكفارة، وهو قول الشافعيِّ. وقال أبُو حنيفة: لا كفارة عليه. وجه الأوَّل أنَّ طريق الإباحة لا يثبت عذراً غير عقوبة التَّحْريمِ عند الهتكِ، كما لَوْ وَطىء امرأة ثمَّ نكحها. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 572 ووجه قول أبي حنيفةَ: أنَّ حرمة اليوم ساقطة عند الله - عزَّ وجلَّ -، فصادق الهَتْكَ محلاًّ لا حرمةَ له في عِلْمِ اللَّه تعالى، كما لو قصد وطء امرأة زُفَّت إليه، وهو يعتقدُ أنَّها ليست بزوجةٍ له فإذا هي زوجته» . قال القرطبيُّ: «وهذا أصحُّ» . وقال ابن جريح: «لولا كتابٌ من اللَّهِ سبقَ» أنَّهُ لا يضلُّ قوماً بعد إذْ هداهم حتَّى يبين لهم ما يتقون، وأنَّهُ لا يأخذ قوماً فعلوا شيئاً بجهالة، وأنَّهُ لا يعذب إلا بعد النهي، لعذبكم فيما صنعتم، وأنَّهُ تعالى ما نهاهم عن أخْذِ الفداءِ. وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لانَّا نقول حاصل هذا القول أنه ما وجد دليل شعري يوجب حرمة ذلك افداء. فهل حصل دليل عقليّ يقتضي حرمته أم لا؟ فإن قلنا: حصل، فيكون اللَّهُ تعالى قد بيَّن تحريمه بواسطة ذلك الدَّليل العقلي، فلا يمكن أن يقال: إنَّهُ تعالى لم يُبيَِّن تلك الحرمة، وإن قلنا: إنه ليس في العقل ولا في الشَّرع ما يقتضي المنع؛ فحينئذ امتنع أن يكون المنع حاصلاً وإذا كان الإذن حاصلاً فكيف يمكن ترتيب العقاب على فعله؟ وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير: {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ} أنَّهُ لا يعذِّب أحداً شهد بدراً مع النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا أيضاً مشكلٌ؛ لأنَّهُ يقتضي أن يقال: إنهم ما منعُوا عن الكُفْرِ والمعاصي والزِّنا والخمر، وما هددوا بترتيب العذابِ على هذه القبائح، وذلك يوجبُ سقوط التَّكاليف عنهم، ولا يقوله عاقل، وأيضاً فلو كان كذلك، فكيف أخذهم اللَّهُ في ذلك الموضع بِعَيْنه في تلك الواقعةِ بعينها؟ قال ابنُ الخطيب: «واعلمْ أنَّ النَّاس أكثروا فيه، والمعتمد في هذا الباب أن نقول: أمَّا على قول أهل السنة: فيجوز أن يعفُو اللَّهُ عن الكبائر. فقوله {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ} لولا أنه تعالى حكم في الأزل بالعفو عن هذه الواقعة لمَسَّهُم عذاب عظيم، وهذا هو المراد من قوله {كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة} [الأنعام: 54] وقوله «سبقت رحمتي غضبي» . وأمَّا على قول المعتزلة: فهم لا يجوزون العفو عن الكبائر، فكان معناه {لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ} في أنَّ من احترزَ عن الكبائر صارت صغائره مغفورة، وإلاَّ لمسَّهُم عذابٌ عظيمٌ، وهذا الحكمُ وإن كان ثابتاً في حقِّ جميع المسلمين، إلاَّ أنَّ طاعات أهل بدر كانت عظيمة، وهو قبولهم الإسلام، وانقيادهم لمحمَّدٍ، وإقدامهم على مقاتلة الكفار من غير سلاح وأهبة فلا يبعد أن يقال: إنَّ الثَّواب الذي استحقُّوهُ على هذه الطاعات كان أزيدَ الجزء: 9 ¦ الصفحة: 573 من العقاب الذي استحقوه على هذا الذنب، لا جرمٍ صار هذا الذنب مغفوراًن ولو قدّرْنا صدور هذا الذنب من المسلمين، لما صار مغفوراً، فبسبب هذا القدر من التفاوت، حصل لأهْلِ بدر هذا الاختصاص «. قال ابن إسحاق: لم يكن من المؤمنين أحدٌ ممَّن حضر إلاَّ أحبَّ الفداء، إلاَّ عمر بن الخطاب فإنه أشار على رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتل الأسرى، وسعد بن معاذ قال: يا نَبِيَّ الله الإثْخَان في القَتْلِ أحب إليَّ من استبقاءِ الرِّحالِ، فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» لو نزل من السَّماءِ عذابٌ لما نَجَا منه غير عمر بن الخطاب، وسعد بن معاذ « قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً} الآية. روي أنهم أمسكوا أيديهم عمَّا أخذُوا من الفداء، فنزلت هذه الآية. فإن قيل: ما معنى» الفاء «في قوله:» فَكُلُوا «؟ فالجوابُ: التقدير قد أبحت لكم الغنائم فكلوا. و» مَا «يجُوزُ أن تكون مصدرية، والمصدرُ واقعٌ موقع المفعول، ويجوزُ أن تكون بمعنى» الَّذي «وهو في المعنى كالذي قبله، والعائد على هذا محذوف. وقوله: «حَلاَلاً» نصبٌ على الحَالِ، إمَّا من ما الموصولةِ، أو من عائدها إذَا جعلناها اسمية. وقيل: هو نعتُ مصدرٍ محذوف، أي: أكْلاً حلالاً. وقوله: «واتَّقُوا» قال ابنُ عطية: «وجاء قوله:» واتَّقُوا اللَّهَ «اعتراضاً فصيحاً في أثناء القولِ؛ لأنَّ قوله: {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} متصلٌ بقوله: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ} يعني: أنه متصلٌ به من حيث إنه كالعلة له. والمعنى: واتقوا اللَّهَ ولا تُقْدِمُوا بعد ذلك على المعاصي واعلموا أنَّ اللَّه غفور لما أقدمتم عليه من الزلة» . قوله تعالى : {ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى} الآية. لمَّا أخذ الفداء من الأسارى، وشق عليهم أخذ أموالهم، ذكر اللَّهُ تعالى هذه الآية استمالة لهم. قوله: «مِنَ الأسْرَى» قرأه أبو عمرو بزنة «فُعَالى» والباقون بزنة «فَعْلضى» وقد عُرِفَ ما فيهما. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 574 ووافق أبا عمرو قتادة ونصر بن عاصم وابن أبي إسحاق وأبو جعفر. واختلف عن الجحدري والحسن. وقرأ ابنُ مُحَيْصنٍ «مِنْ أسْرَى» منكَّراً. قوله: «يُؤتِكُمْ» جواب الشَّرط. وقرأ الأعمشُ «يُثِبْكم» من الثَّواب، وقرأ الحسنُ وأبو حيوة وشيبة وحميد «مِمَّا أخَذَ» مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى. فصل وهذه الآية نزلت في العباس بن عبد المطلب؛ وكان قد أسر يوم بدر. وكان أحد العشرة الذين ضمنوا إطعام أهل بدر، وكان يوم بدر نوبته، وكان خرج بعشرين وقية من ذهب ليطعم بها النَّاسَ، فأراد أن يطعم ذلك اليوم فاقتتلوا وبقيت العشرون أوقية معه، فأخذت منه في الحرب، فكلَّم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحسب العشرين أوقية من فدائه فأبى وقال: «أما شيء خرجت تستعين به علينا، فلا أتركه» وكلفه فداء ابني أخويه عقيل بن أبي طالبٍ، ونوفل بن الحارث، فقال العبَّاسُ: يا محمَّدُ تركتني أتكَفَّفُ قريشاً ما بقيت؟ . فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وأيْنَ الذهبُ الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكَّة، فقلت لها: إني لا أدري ما يُصيبني في وجهي هذا فإن حدث لي حدث، فهو لك ولعبد الله ولعبيد الله والفضل وقُثَم» يعني: بنيه. «فقال العبَّاس: وما يُدْريك؟ قال:» أخبرني به ربِّي « قال العباسُ: أشهد أنَّك صادق وأن لا إله إلاَّ الله، وأنَّك عبده ورسوله، والله لم يطلعْ عليه أحدٌ إلاَّ الله، ولقد رفعته إليها في سوادِ الليلِ، وقد كنتُ مُرْتَاباً في أمرك، فأمَّا إذْ أخبرتني بذلك، فلا ريب. فذلك قوله عَزَّ وَجَلَّ: {ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى} الذين أخذتم منهم الفداء {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} أي: إيماناً: {يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ} من الفداء:» ويغْفِرْ لَكُمْ «ذنوبكم: {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قال العباس فأبدلني اللَّهُ عنها عشرين عبداً كلهم تاجر بمالي، وإنَّ أدناهم يضرب بعشرين ألف درهم مكان العشرين أوقية، وأعطاني ومزم، وما أحب أنَّ لي بها جميع أموالهم أهل مكة وأنا أنتظر المغفرة من ربي. فصل اختلف المفسرون في أن الآية نزلت في العباس خاصة، أو في جملة الأسارى. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 575 قال قوم: إنَّها في العباس خاصة، وقال آخرون: إنَّها نزلت في الكلِّ، وهذا أولى لقوله تعالى: {قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى} ، ولقوله» مِنَ الأسْرَى «، ولقوله» فِي قُلوبكم «ولقوله: يُؤتِكُمْ خَيْراً» ، ولقوله «مِمَّا أخذَ منكُمْ» ، وقوله: «ويَغْفِر لكُمْ» ، أٌصى ما في الباب أن يقال: سبب نزول الآية هو العباسُ، إلاَّ أنَّ العبرة بعموم اللَّفْظِ لا بخصوص السَّبَبِ. فصل احتج هشام بن الحكم على أنَّهُ تعالى لا يعلم الشَّيء إلاَّ عند حدوثه بهذه الآية، لأن قوله: {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} فعل كذا، وكذا شرط وجزاء، والشَّرط هو حصول هذا العلم، والشرط والجزاء لا يصح حصولهما إلا في المستقبل، وذلك يوجب حدوث علم الله تعالى. والجواب: أنَّ ظاهر اللفظ وإن كان يقتضي ما ذكره، إلاَّ أنه لمَّا دلَّ الدليلُ على أن علمالله يمتنع أن يكون محدثاً، وجب أن يقال: ذكر العلم وأراد به المعلوم من حيث إنَّه يدل حصول العلم على حصول المعلوم. قوله تعالى: {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ} الآية. الضمير في «يريدوا» يعود على «الأسْرَى» ، لأنهم أقربُ مذكور. وقيل: على الجانحين. وقيل: على اليهُود. وقيل: على كُفَّار قريش. قال ابن جريج: أراد بالخيانة الكفر أي: إن كفروا بك فقد كفروا باللَّهِ من قبل، فأمكن منهم المؤمنين ببدر حتى قتلوهم. وقيل: أراد بالخيانة منع ما ضمنوا من الفداء. قال الأزهريُّ: يُقالُ أمكنني الأمْرُ يُمْكنُنِي فهُوا مُمْكِنٌ، ومفعول الإمكان محذوف، والمعنى: فأمكن المؤمنين منهم يوم بدر حتى قتلوهم وأسروهم. ثم قال: «واللَّهُ عليمٌ» أي: ببواطنهم وضمائرهم: «حَكِيمٌ» يجازيهم بأعمالهم. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 576 قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ} الآية. اعلم أنَّهُ تعالى قسم المؤمنين في زمان الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - إلى أربعة أقسام وذكر حكم كل واحد منهم، وتقرير هذه القسمة أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما ظهرت نبوته ودعا النَّاس إلى الدِّين، ثم انتقل من مكَّة إلى المدينة، فمنهم من وافقه في تلك الهجرة، ومنهم من لم يوافقه فيها بل بقي في مكة. أمَّا القسمُ الأوَّلُ: فهم المهاجرون الأوَّلُون، وقد وصفهم الله بقوله: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} وإنما قلنا: إن المراد بهم المهاجرون الأولون؛ لأنَّهُ تعالى قال بعد ذلك: {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ} وقال تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ} [الحديد: 10] . وقال: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار} [ التوبة : 100] . القسم الثاني من الموجودين في زمان محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهم الأنصار؛ لأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا هارج إليهم مع طائفة من أصحابه، فلولا أنَّهم آووا، ونصروا، وبذلوا النَّفٍ والمال في خدمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإصلاح مهمات أصحابه لما تمَّ المقصودُ ألبتَّة فحال المهاجر أعلى في الفضيلة من حال الأنصار؛ لنَّهم السَّابقون إلى الإيمان، وتحمَّلُوا العناء والمشقة دهراً طويلاً من كفَّار قريش، وصبروا على أذاهم، وهذه الحالةُ ما حصلت للأنصارِ، وفارقوا الأوطان، والأهل، والأموال، والجيران، ولم يحصل ذلك للأنصار، وأيضاً فإنَّ الأنصار اقتدوا بهم الإسلام، وهم السابقون للإيمان. ولمَّا ذكر الله تعالى هذين القسمين، قال: {أولئك بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ} قال الواحديُّ عن ابن عباس وغيره من المفسرين «المراد في المرايث» وقالوا: جعل الله تعالى سببب الإرث الهجرة، والنصرة دون القرابة، وكان القريب الذي آمن ولم يهاجر لم يرث؛ لأنَّهُ لم يهاجر ولم ينصر. واعلم أنَّ لفظ الولاية غير مشعرٍ بهذا المعنى؛ لأنَّ اللفظ مشعر بالقرِ على ما تقرَّر في هذا الكتاب. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 577 ويقال: السلطانُ ولي من لا ولي له ولا يفيد الإريث. وقال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَآءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ} [يونس: 62] ولا يفيدُ الإرث بل الولاية تفيد القرب، فيمكن حمله على غير الإرث، وهو كون بعضهم معظماً للبعض، مهتماً بشأنه، مخصوصاً بمعاونته ومناصرته، وأن يكونوا يداً واحدة على الأعداء، فحمله على الإرث بعيد عن دلالة اللفظ، لا سيما وهم يقولون إن ذلك الحكم نسخ بقوله في آخر الآية: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} . فأيُّ حاجة إلى حمل اللفظ على معنى لا إشعار لذلك اللفظ به، ثمَّ الحكم بأنَّهُ صار منسوخاً بآية أخرى مذكورة معه، هذا في غاية البعد، اللَّهم إذا حصل إجماع المفسرين على ذلك فيجب المصير إليه، إلاَّ أنَّ دعوى الإجماع بعيد. القسم الثالث: المؤمنون الذين لم يهاجروا وبقوا في مكة، وهم المراد بقوله {والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ} فقال تعالى: {مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} ، فالولاية المنفية في هذه الصُّورة، هي الولاية المثبتة في القسم المتقدم، فما قيل هناك قيل هنا. واحتج الذَّاهبون إلى أنَّ المراد من هذه الولاية الإرث، بأن قالوا: لا يجوزُ أن يكُون المراد منها ولاية النصرة والدلي عليه أنَّه تعالى عطف عليه قوله: {وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر} وذلك عبارة عن الموالاة في الدِّين، والمعطوف مغاير للمعطوف عليه فوجب أن يكون المراد بالولاية المذكورة أمراً مغايراً لمعنى النصرة، وهذا استدلال ضعيف لأنا إذَا حملنا تلك الولاية على التَّعظيم والإكرام، فهو أمرٌ مغاير للنصرة، لأنَّ الإنسان قد ينصر بعض أهل الذمة في بعض المهمات، مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم، وقد ينصر عبده وأمته بمعنى الإعانة، مع أنه لا يواليه بمعنى التعظيم، فسقط هذا الاستدلال. قوله: «مِن ولايتهم» قرأ حمزة هنا، وفي الكهف «الولاية لِلَّه» هو، والكسائي بكسر الواو، والباقون بفتحها. فقيل: لغتان. وقيل: بالفتحِ من «المَوْلَى» يقال: مَوْلَى بيِّن الولاية، وبالكسر من ولاية السلطان. قاله أبُو عبيد. وقيل: بالفتح من النُّصْرَة والنَّسب، وبالكسر من الإمارة. قاله الزَّجَّاجُ قال: «ويجوز الكسرُ؛ لأنَّ في تولِّي بعض القوم بعضاً جنساً من الصناعة والعمل، وكلُّ ما كان من جنس الصناعة مكسورٌ كالخياطية والقصارة» ، وقد خطَّأ الأصمعيُّ قراءة الكسرِ، وهو المُخْطِىءُ، لتواترها. وقال أبُو عبيدٍ: «والذي عندنا الأخْذُ بالفتح في هذين الحرفين؛ لأنَّ معناهما من الموالاة في الدِّين» . الجزء: 9 ¦ الصفحة: 578 وقال الفارسي: «الفتحُ أجودُ؛ لأنَّها في الدِّينِ» ، وعكس الفرَّاءُ هذا، فقال «يُريدُ من مواريثهم، فكسر الواو أحبُّ إليَّ من فتحها؛ لأنها إنَّما تفتح إذا كانت نصرة وكان الكسائيُّ يذهبُ بفتحها إلى النصرة، وقد سُمع الفتح والكسر في المعنى جَمِيعاً» . قوله: «حتَّى يُهاجِرُوا» يُوهِمُ أنَّهم لمَّا لمْ يهاجروا مع رسُولِ الله سقطت ولايتهم مطلقاً فأزال الله هذا الوهم بقوله: {مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ} أي: أنهم لو هاجروا لعادت تلك الولاية. قوله تعالى: {وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر} . لمَّا بيَّن قطع الولاية بين تلك الطَّائفة من المؤمنين، بيَّن أنَّ المراد منه ليس هو المقاطعة التَّامة كما في حقِّ الكُفَّارِ، بل هؤلاء المؤمنون الذين لم يهاجروا «لو استنصروكم فانصروهم» ولا تخذلوهم. قوله: «فَعَليْكُم النَّصْرُ» مبتدأ وخبر، أو فعل وفاعل عند الأخفش، ولفظةُ «عَلَى» تُشعرُ بالوُجُوبِ، وكذلك قدَّره الزمخشريُّ، وشَبَّهه بقوله: [الطويل] 2741 - عَلَى مُكْثِريهِمْ رِزْقُ مَنْ يَعْتَريهم ... وعِنْدَ المُقلِّينَ السَّماحَةُ والبَذْلُ قوله: {إِلاَّ على قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ} أي: لا يجوز لكم نصرتهم عليهم إذ الميثاق مانع من ذلك. ثم قال: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قرأ السلمي والأعرج: «يَعْمَلُون» بياء الغيبةِ وكأنه التفات، أو إخبار عنهم. قوله تعالى: {والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ} الآية. اعلم أنَّ هذا لترتيبٌ في غاية الحسن؛ لأنَّهُ تعالى ذكر للمؤمنين أقساماً ثلاثة: الأول: المؤمنون من المهاجرين. والثاني: الأنصار وهم أفضل النَّاس وبيَّن أنه يجب أن يوالي بعضهم بعضاً. والقسم الثالث: المؤمنون الذين لم يهاجروا. فهؤلاء لهم بسب بإيمانهم فضل، وبسبب تركِ الهجرة لهم حالة نازلة، فيكون حكمهم متوسطاً بمعنى أنَّ الولاية للقسم الأوَّل منفية عن هذا القسم، إلاَّ أنَّهم يكونون بحيثُ لو استنصروا المؤمنين، واستعانوا بهم نصروهم وأعانوهم، فهذا الحكم متوسط بين الإجلال، والإذلال، وأمَّا الكفار فليس لهم ما يوجب شيئاً من أسباب الفضيلة، الجزء: 9 ¦ الصفحة: 579 فوجب كون المسلمين منقطعين عنهم من كل الوجوه، فلا يكون بينهم ولاية ولا مناصرة. فصل قال ابن عباس «يرث المشركون بعضهم من بعض» وهذا إنما يستقيم إذا حملنا الولاية على الإريث، بل الحق أن يقال: إنَّ كفار قريش كانوا في غاية العداوة لليهود فلمَّا ظهرت دعوة محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - تناصروا وتعاونوا على إيذائه ومحاربته، فالمراد من الآية ذلك. قوله «إلاَّ تَفْعَلُوه» الهاءُ تعودُ إمَّا على النَّصرِ، أو الإرث، أو الميثاق، أي: حِفْظه أو على جميع ما تقدَّم ذكره، وهو معنى قول الزمخشري: «ألاَّ تفعلُوا ما أمرتكُم به» . وقرأ العامة «كبير» بالباء الموحدة، وقرأ الكسائيُّ فيما حكى عنه أبو موسى الحجازي «كثير» بالثَّاءِ المثلثة، وهذا قريب ممَّا في البقرة. والمعنى: قال ابن عبَّاسٍ: «ألاَّ تأخُذُوا في الميراثِ بِمَا أمرتُكُم بِهِ» وقال ابنُ جريجٍ: «إلاَّ تتعاونُوا وتتناصَرُوا» . وقال غيرهم: إن لم تفعلوا ما أمرتكم به في هذه التَّفاصيل المذكورة تحصل فتنة في الأرض، قوة الكفر، وفساد كبير، وضعف الإسلام. وبيان هذه الفتنة والفساد من وجوه: الأول: أنَّ المسلمين لو اختلطوا بالكفار في زمان ضعف المسلمين وقلة عددهم، وزمان قوة الكفار وكثرة عددهم فربما صارت تلك المخالطة سبباً لالتحاق المسلم بالكافر، وثانيها: أن المسلمين إذا تفرقوا لم يظهر لهم جمع عظيم، فيصير ذلك سبباً لجراءة الكفار عليهم. وثالثها: إذا اكن جمع المسلمين يزيد كل يوم في العدة والقوة، صار ذلك سبباً لمزيد رغبتهم في الإسلام ورغبة المخالف في الالتحاق بهم. قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ} . زعم بعضهم أنَّ هذه الجملة تكرار للتي قبلها، وليس كذلك، فإنَّ التي قبلها تضمنت ولاية بعضهم لبعض، وتقسيم المؤمنين إلى ثلاثة أقسام، وبيان حكمهم في ولايتهم، وتناصرهم وهذه تضمَّنت الثناء والتشريف والاختصاص، ومال آل إليه حالهم من المغفرة والرزق الكريم والمعنى: «أولئك هم المُؤمنونَ حقّاً» لا مرية ولا ريب في إيمانهم، وقيل: حققوا إيمانهم بالهجرة والجهاد وبذل المال في الدين، {لَّهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} الجنة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 580 فإن قيل: فأي معنى لهذا التكرار. قيل: المهاجرون كانوا على طبقات، وكان بعضهم أهل الهجرة الأولى، وهم الذين هاجروا قبل الحديبية، وبعضهم أهل الهجرة الثانية، وهم الذين هاجروا بعد صلح الحديبية قبل فتح مكَّة، وكان بعضهم ذا هجرتين، هجرة الحبشة، والهجرة إلى المدينة، فالمراد من الآية الأولى الهجرة الأولى ومن الثانية الهجرة الثانية. قوله تعالى: {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ} . هؤلاء هم القسم الرابع من مؤمني زمان محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، الذين لم يوافقوا الرسول في الهجرة، إلاَّ أنهم بعد ذلك هاجروا إليه وجاهدوا معه. واختلفوا في قوله «مِنْ بعْدُ» فقال الواحدي، عن ابن عبَّاسٍ «بعد الحديبثة وهي الهجرة الثانية» . وقيل: بعد نزول هذه الآية، وقيل: بعد يوم بدر، والأصحُّ أنَّ المراد: والذين هاجروا بعد الهجرة الأولى، وهؤلاء هم التابعون، بإحسان، كما قال: {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] والصحيح: أنَّ الهجرة انقطعت بفتح مكَّة، لأنَّ مكة صارت بلد الإسلام. وقال الحسن: «الهجرة غير منقطعة أبداً» . وأما قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «لا هجْرةَ بعْدَ الفَتْحِ» فالمراد الهجرة المخصوصة، فإنَّها انقطعت بالفتح وبقوة الإسلام، أما لو اتفق في بعض الأمان كون المؤمنين في بلد، وهم قليلون، وللكافرين معهم شوكة، وإن هاجروا المسلمون من تلك البلدة إلى بلد آخر ضعفت شوكة الكفار فهاهنا تلزمهم الهجرة على ما قاله الحسن؛ لأنَّ العلة في الهجرة من مكة إلى المدينة قد حصلت فيهم. قوله {فأولئك مِنكُمْ} أي: معكم، يريد: أنتم منهم وهو منكم. ثم قال: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله} . قالوا: المراد بالولاية ولاية الميراث، قالوا هذه الآية ناسخة؛ لأنَّهُ تعالى بيَّن أنَّ الإرث كان بسبب الهجرة والنصرة، والآن بعد نسخ ذلك فلا يحصل الإرث إلاَّ بسبب القرابة. الجزء: 9 ¦ الصفحة: 581 وقوله: {فِي كِتَابِ الله} أي: السهام المذكورة في سورة النّساء، وأمَّا الذين فسَّرثوا الولاية بالنَّصرة والتَّعظيم قالوا «: إنَّ تلك الولاية لمَّا كانت محتملة للولاية بسبب الميراث بين الله تعالى في هذه الآية أنَّ ولاية الإرث إنَّما تحصل بسبب القرابة، إلاَّ ما خصَّ الدليل، فيكون المقصود من هذا الكلام إزالة هذا الوهم. فصل تمسَّك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في توريث ذوي الأرحام، وأجيبوا بأن قوله: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} مجمل في الشيء الذي حصلت فيه هذه الأولوية. فلما قال: {فِي كِتَابِ الله} كان معناه في الحكم الذي بيَّنه اللَّهُ في كتابه فصارت هذه الأولوية مقيَّدة بالأحكام التي بيَّنها اللَّهُ في كتابه وتلك الأحكام ليست إلاَّ ميراث العصبات، فيكونُ المرادُ من هذه المجمل هو ذلك فقط، فلا يتعدَّى إلى توريث ذوي الأرحام. فإن قيل تمسكوا بهذه الآية في أن الإمام بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو علي بن أبي طالب، لقوله: {وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ} [الأنفال: 75] فدل على ثبوت الأولوية، وليس في الآية شيء معين في ثبوت هذه الأولوية؛ فوجب حمله على الكل، إلاَّ ما خصّه الدَّليل، فيندرج فيه الإمامة، ولا يجوزُ أن يقال: إنَّ أبا بكر من أولي الأرحام، لما نقل أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أعطاءه سورة براءة ليبلغها إلى القوم ثم بعت علياً خلفه وأمر أن يكون المبلغ هو علي، وقال: «لا يُؤدِّيها إلاَّ رجلٌ مِنِّي» وذلك يدلُّ على أنَّ أبا بكر ما كان منه. والجوابُ: إن صحَّت هذه الدلالة كان العباس أولى بالإمامةِ؛ لأنَّهُ كان أقرب إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مِنْ عليٍّ. قول: {فِي كِتَابِ الله} يجوزُ أن يتعلَّق بنصّ أولها أي: أحق في حكم الله أو في القرن، أو في اللوح المحفوظ، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هذا الحكمُ المذكور في كتاب الله. ثم قال: {إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: أنَّ هذه الأحكام التي ذكرتها وفصلتها كلها حكمة وصواب، وليس فيها شيء من العبث؛ لأنَّ العالم بجميع المعلومات لا يحكم إلاَّ بالصَّواب. روى أنس قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورة الأنفال وبراءة فأنَّا شَفِيعٌ لَهُ يوم القيامة، وشاهد أنَّه بريءٌ منَ النِّفاق وأعطي من الأجْرِ بعددِ كُلِّ مُنافقٍ ومُنافِقَةٍ في دارِ الدُّنْيَا عشر حسناتٍ، ومُحِيَ عنه عشرُ سيئاتِ، ورفع لهُ عشرُ درجاتٍ، وكان العَرْشَ وحملته يُصَلُّون عليه أيَّام حياتِهِ في الدنيا» الجزء: 9 ¦ الصفحة: 582 بسم الله الرحمن الرحيم سورة التوبة مدنية. وهي مائة وثلاثون آية، وأربعة آلاف وثمان وسبعون كلمة، وعشرة آلاف، وأربع مائة وثمان وثمانون حرفا. ولها عدة أسماء: " براءة، التوبة، المقشقشة، المبعثرة، المشردة، المخزية، الفاضحة، المثيرة، الحافزة، المنكلة، المدمدمة، سورة العذاب. قال الزمخشري: " لأن فيها التوبة على المؤمنين، وهي تقشقش من النفاق: أي تبرئ منه، وتبعثر عن أسرار المنافقين: تبحث عنها وتشهرها وتحفز عنها، وتفضحهم وتنكلهم وتشردهم، وتخزيهم، وتدمدم عليهم ". وعن حذيفة: إنكم تسمونها سورة التوبة، والله ما تركت أحدا إلا نالت منه. وعن ابن عباس في هذه السورة قال: إنها الفاضحة، ما زالت تنزل فيهم، وتريهم حتى خشينا أنها لا تدع أحدا، وسورة الأنفال نزلت في بدر، وسورة الحشر نزلت في بني النضير. (فصل في إسقاط التسمية من هذه السورة) في إسقاط التسمية من أولها وجوه: الأول: روى ابن عباس قال: قلت لعثمان بن عفان: ما حملكم على أن عمدتم إلى براءة وهي من المئين، وإلى الأنفال وهي من المثاني، فقرنتم بينهما وما فصلتم ب: بسم الله الرحمن الرحيم؟ قال: كان النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كلما نزلت عليه سورة يقول: " ضعوها في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 3 موضع كذا " فكانت براءة من آخر القرآن نزولا، فتوفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبين موضعها، وكانت قصتها شبيهة بقصتها، فقرنت بينهما. قال الن العربي " هذا دليل على أن القياس أصل في الدين؛ ألا ترى إلى عثمان بن عفان وأعيان الصحابة، كيف نحوا إلى قياس الشبه عند عدم النص، ورأوا أن قصة " براءة " شبيهة بقصة " الأنفال " فألحقوها بها؟ فإذا كان الله تعالى قد بين دخول القياس في تأليف القرآن فما ظنك بسائر الأحكام "؟ قال القاضي: " لا يبعد أن يقال: إنه عليه الصلاة والسلام بين كون هذه السورة تالية لسورة الأنفال؛ لأن القرآن مرتب من قبل الله تعالى، ومن قبل رسوله على الوجه الذي نقل، ولو جوزنا في بعض السور ألا يكون ترتيبها من الله تعالى على سبيل الوحي، لجوزنا مثله في سائر السورة، وفي آيات السورة الواحدة، وتجويزه يعضد ما يقوله الإمامية من تجويز الزيادة والنقصان في القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجة ". والصحيح: أنه عليه الصلاة والسلام أمر بوضع هذه السورة بعد سورة الأنفال وحيا، فإنه عليه الصلاة والسلام حذف " بسم الله الرحمن الرحيم " من أول هذه السورة وحيا. الوجه الثاني: روي عن أبي بن كعب أنه قال: إنما توهموا ذلك، لأن في الأنفال ذكر العهود، وفي براءة نبذ العهود، فوضعت إحداهما بجنب الأخرى، والسؤال المذكور عائد هنا، لأن هذا الوجه إنما يتم إذا قلنا: إنهم إنما وضعوا هذه السورة بعد الأنفال من قبل أنفسهم لهذه العلة. الوجه الثالث: أن الصحابة اختلفوا في أن سورة الأنفال، وسورة التوبة هل هما سورة واحدة أم سورتان؟ قال بعضهم: هما سورة واحدة؛ لأن كليهما نزلتا في القتال، ومجموعهما هذه السورة السابعة من الطوال، وهي سبع، وما بعدها المئون، وهذا قول ظاهر؛ لأنهما معا مائتان وست آيات، فهما بمنزلة سورة واحدة. ومنهم من قال سورتان، فلما ظهر الاختلاف من الصحابة في هذا الباب، تركوا بينهما فرجة تنبيها على قول من يقول هما سورتان، وما كتبوا " بسم الله الرحمن الرحيم " الجزء: 10 ¦ الصفحة: 4 تنبيها على قول من يقول هما سورة واحدة، وعلى هذا القول لا يلزم منه تجويز مذهب الإمامية؛ لأنه لما وقع الاشتباه في هذا المعنى بين الصحابة لم يقطعوا بأحد القولين، وهذا يدل على أن هذا الاشتباه كان حاصلا، فلما لم يتسامحوا بهذا القدر من الشبهة دل على أنهم كانوا مشددين في ضبط القرآن عن التحريف والتغيير، وذلك يبطل قول الإمامية. الوجه الرابع: أنه تعالى ختم سورة الأنفال بإيجاب موالاة المؤمنين بعضهم بعضا، وأن يكونوا منقطعين عن الكفار بالكية. ثم إنه تعالى صرح بهذا المعنى في قوله: {براءة من الله ورسوله} فلما كان هذا عين ذلك الكلام، وتأكيدا له وتقريرا له، لزم الفاصل بينهما وكان إيقاع الفاصل بينهما تنبيها على كونهما سورتين متغايرتين، وترك كتابة البسملة تنبيها على أن هذا المعنى هو عين ذلك المعنى. الوجه الخامس: قال القرطبي: " قيل: إنه كان من شأن العرب في الجاهلية، إذا كان بينهم وبين قوم عهد فأرادوا نقضه كتبوا إليهم كتابا ولم يكتبوا فيه البسملة، فلما نزلت سورة براءة ينقض العهد الذي كان بين النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين المشركين، أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكتابته بغير بسملة، وبعث بها علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، فقرأها عليهم في الموسم ولم يبسمل على ما جرت به عادتهم في نقض العهد من ترك البسملة ". قال ابن عباس: سألت عليا - رضي الله عنه -: لم لم تكتب " بسم الله الرحمن الرحيم " ههنا؟ قال: لأن " بسم الله الرحمن الرحيم " أمان، وهذه السورة نزلت بالسيف ونبذ العهد، وليس فيها أمان. ويروى أن سفيان بن عيينة ذكر هذا المعنى وأكده بقوله تعالى: {ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا} [النساء: 94] فقيل له: أليس النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كتب إلى أهل الحرب " بسم الله الرحمن الرحيم "؟ فأجاب عنه: بأن ذلك ابتداء منه بدعوتهم إلى الله تعالى، ولم ينبذ إليهم عهدهم، ألا ترى أنه قال في آخر الكتاب {والسلام على من اتبع الهدى} [طه: 47] . وأما هذه السورة فقد اشتملت على المقاتلة ونبذ العهد، فظهر الفرق. الوجه السادس: قالت الشافعية: لعل الله تعالى لما علم من بعض الناس أنهم يتنازعون في كون " بسم الله الرحيم الرحيم " من القرآن، أمر بأن لا تكتب ههنا، ليدل ذلك على كونها آية من كل سورة، فإنها لما لم تكن آية من هذه السورة لا جرم لم تكتب وذلك يدل على أنها لما كتبت في أول سائر السور وجب كونها آية من كل سورة، وقد يعكس عليهم ذلك فيقال: لو كانت آية من كل سورة لما أسقطها من هذه السورة؟ . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 5 قال القرطبي: " وروي عن عثمان أيضا. وقاله مالك فيما رواه وهب وابن القاسم وابن عبد الحكم: أنه لما سقط أولها سقط " بسم الله الرحمن الرحيم " معا، وروي ذلك عن عجلان؛ أنه بلغه أن سورة " براءة " كانت تعدل البقرة أو قربها، فذهب منها؛ فلذلك لم يكتب بينهما " بسم الله الرحمن الرحيم " وقال سعيد بن جبير: كانت قبل سورة الطلاق البقرة ". قال القرطبي والصحيح أن البسملة لم تكتب؛ لأن جبريل - عليه الصلاة والسلام - ما نزل بها في هذه السورة، قاله القشيري ". وفي قول عثمان " قبض رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبين لنا أنها منها " دليل على أن السور كلها انتظمت بقوله وتبيينه وأن " براءة " ضمت إلى الأنفال من غير عهد من النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لما عاجله من الحمام قبل تبيينه ذلك، وكانتا تدعيان القرينتين؛ فوجب أن تجمعا وتضم إحداهما إلى الأخرى؛ للوصف الذي لزمهما من الاقتران، ورسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 قوله تعالى: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ} الآية. الجمهور على رفع بَراءَةٌ، وفيه وجهان: أحدهما: أنَّها رفعٌ بالابتداء، والخبرُ قوله {إِلَى الذين} وجاز الابتداءُ بالنَّكرة؛ لأنَّها تخَصَّصَتْ بالوَصْفِ بالجارِّ بعدها، وهو قوله مِنَ اللهِ كما تقولُ رجُلٌ من بني تميم في الدَّارِ. والثاني: أنَّها خبرُ ابتداءٍ مضمرٍ، أي: هذه الآياتُ براءةٌ، ويجوز في مِنَ اللهِ أن يكون متعلقاً بنفس براءةٌ؛ لأنها مصدرٌ، كالثَّناءة والدَّناءة. وهذه المادة تتعدَّى ب «مِنْ» ، تقولُ: بَرِئتُ من فلانٍ، أبرأ براءةً، أي: انقطعتِ العُصبةُ بَيْنَنَا، وعلى هذا، فيجوزُ أن يكون المُسوِّغُ للابتداء بالنَّكرة على الوجه الأوَّل هذا. وإلى الَّذينَ متعلقٌ بمحذوف على الأوَّلِ، لوقوعهِ خبراً، وبنفس «بَرَاءَةٌ» على الثَّاني، ويقال: بَرِئْتُ، وبَرَأتُ من الدين، بالكسْرِ والفتح، وقال الواحديُّ: «ليس فيه إلاَّ لغةٌ واحدة، كسرُ العينِ في الماضي وفتحُها في المستقبل» . وليس كذلك، بل نقلهما أهلُ اللغةِ، وقرأ عيسى بن عمر «بَرَاءَةٌ» بالنصب على إضمار فعل أي اسمعُوا براءةً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 6 وقال ابنُ عطيَّة «أي: الزموا براءة، وفيه معنى الإغراء» وقرىء «مِن اللهِ» بكسر نون «مِنْ» على أصل التقاءِ السَّاكنينِ، أو على الإتباع لميم «مِنْ» وهل لُغَيَّةٌ، فإنَّ الأكثر فتحها مع لام التَّعريفِ، وكسرها مع غيرها، نحو «مِن ابنك» ، وقد يُعْكَسُ الأمرُ فيهما، وحكى أبُو عُمَرَ عن أهل نجران أنَّهم يَقْرَءُونَ كذلِك، بكسر النونِ مع لام التَّعريف. فإن قيل: ما السَّبب في أنَّ نسب البراءة إلى الله ورسوله، ونسب المُعاهدةِ إلى المشركين؟ فالجوابُ: قد أذن اللهُ في معاهدة المشركين، فاتفق المسلمون مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعاهدهم، ثم إنَّ المشركين نقضُوا العهد؛ فأوجَبَ اللهُ النَّبْذَ إليهم، فخوطب المسلمون بما يحذرهم من ذلك، وقيل لهم: اعلموا أنَّ الله ورسوله قد برئا ممَّا عاهدتم من المشركين. روي أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا خرج إلى تبوك وتخلف المنافقون، وأرجفوا بالأراجيف، وجعل المشركون ينقضون العهد، فأمر الله تعالى بنقض عهودهم، التي كانت بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال الزجاج: «بَراءَةٌ» أي: قد بَرِىء الله ورسولهُ من إعطائهم العهود والوفاء بها إذا نكثوا. فإن قيل: كيف يجوزُ أن ينقض النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ العهد؟ . فالجوابُ: لا يجوز أن ينقض العهد إلاَّ على ثلاثة أوجه: فالأول: أن يظهر له منهم خيانةٌ مستورة ويخاف ضررهم، فينبذ العهد إليهم، حتَّى يستووا في معرفة نقض العهد، لقوله {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ} [الأنفال: 58] وقال أيضاً: {الذين عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ} [الأنفال: 56] . الثاني: أن يكون قد شرط لبعضهم في وقت العهد أن يقرهم بما أمر الله به، فلمَّا أمر الله تعالى بقطع العهدِ بينهم قطع لأجل الشرط. الثالث: أن يكون مؤجلاً فتنقضي المدَّةُ وينقضي العهدُ، ويكونُ الغرض من إظهار البراءة أن يظهر لهم أنه لا يعود للعهد، وأنه على عزم المحاربة والمقاتلة، فأمَّا فيما وراء هذه الأحوال الثلاثة لا يجوزُ نقض العهد ألبتَّةَ؛ لأنَّه يجري مجرى الغدر وخلف القول، والله ورسوله بريئان منه؛ ولهذا المعنى ألبتَّةَ؛ لأنَّه يجري مجرى الغدر وخلف القول، والله ورسوله بريئان منه؛ ولهذا المعنى قال تعالى: {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} [التوبة: 4] ، وقيل: إنَّ أكثر المشركين نقضوا العهد إلاَّ بنُو ضمرة وبنُو كنانة. قوله: {إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين} الخطاب مع أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وإن كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو الذي عاهدهم وعاقدهم؛ لأنه عاهدهم وأصحابه بذلك راضون، فكأنَّهم «عَاقَدُوا» وعاهدوا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 7 قوله: «فَسِيحُواْ» . قال ابنُ الأنباري: «هذا على إضمار القولِ، أي: قل لهم فسيحوا» ويكون التفاتاً من الغيبة إلى الخطابِ، كقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً} [الإنسان: 21 - 22] ، ويقال: سَاحَ يَسيحُ سِياحةً وسُيُوحاً وسَيحَاناً أي: انساب، لِسَيْح الماء في الأماكن المنبسطة، قال طرفة: [السريع] 2742 - لَوْ خِفْتُ هَذَا مِنْكَ مَا نِلْتَني ... حتَّى ترى خَيْلاً أمَامِي تَسِيحْ و «أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» ظرف ل «سِيحُوا» ، وقرىء «غَيْرُ مُعْجِزي اللهَ» بنصب الجلالةِ على أنَّ النون حُذفتْ تخفيفاً، وقد تقدَّم تحريره. فصل المعنى: قال لهم سيروا في الأرض مقبلين ومدبرين، آمنين غير خائفين: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ واعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} أي: غير فائتين ولا سابقين: {وَأَنَّ الله مُخْزِي الكافرين} أي: مذلهم بالقتال في الدُّنيا والعذاب في الآخرة. واختلفوا في هذه الأشهر الأربعة، فقال الزهريُّ: «إن براءةَ نزلت في شوال، وهي أربعة أشهر: شوال، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم» ، والصَّواب الذي عليه الأكثرون: أنَّ ابتداء هذا الأجل يوم الحج الأكبر، وانقضاؤه إلى عشرين من ربيع الآخر، ومن لم يكن له عهد، فإنما أجله انسلاخ الأشهر الحرم، وذلك خمسون يوماً، وقيل: ابتداء تلك المدة كان من عشر ذي القعدة إلى عشر من ربيع الأول؛ لأنَّ الحجَّ في تلك السنة كان في ذلك الوقت بسبب النَّسيء الذي كان فيهم، ثم صار في السَّنة الثانية في ذي الحجة وهي حجة الوداع ويدلُّ عليه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام: «ألا إنَّ الزَّمَانَ قَد اسْتَدارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَق اللهُ السَّمَاوَاتِ والأرْض» . فصل اختلف العلماء في هذا التأجيل، وفي هؤلاء الذين برىء الله ورسوله من العهود التي كانت بينهم وبين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال جماعة: هذا تأجيلٌ للمشركين، فمن كانت مدةُ عهده أقل من أربعة أشهر رفعه إلى أربعة أشهر، ومن كانت مدته أكثر من أربعة أشهر حطه إلى أربعة أشهر، ثمَّ هو حرب بعد ذلك لله ولرسوله، فيقتل حيثُ يدرك ويؤسر إلاَّ أن يتوب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 8 وقال الكلبيُّ: إنما كانت الأربعةُ أشهر من كان له عهد دون أربعة فأتموا له أربعة أشهر، فأمَّا من كان عهده أكثر من أربعة أشهر فهذا أمر بإتمام عهده بقوله: {فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ} . قال الحسنُ «أمر الله رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتال مَنْ قاتله من المشركين، فقال: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} [البقرة: 190] وكان لا يقاتلُ إلاَّ من قاتله ثم أمره بقتال المشركين والبراءة منهم، وأجلهم أربعة أشهر، فلم يكن لأحدٍ منهم أجل أكثر من أربعة أشهر لا من كان له عهد قبل البراءة، ولا من لم يكن له عهد، وكان الأجل لجميعهم أربعة أشهر، وأحل دماء جميعهم من أهل العهود وغيرهم بعد انقضاء الأجل» . والمقصود من هذا الإعلام أمور: أولها: أن يتفكروا لأنفسهم ويحتاطوا في هذا الأمر، ويعلموا أنَّه ليس لهم بعد هذه المدة إلاَّ أحد أمور ثلاثة: إمَّا الإسلامُ أو قبول الجزية أو السيف، فيصير ذلك حاملاً لهم على الإسلام. وثانيها: لئلاَّ ينسب المسلمون إلى نكث العهد. وثالثها: أراد اللهُ أن يعمَّ جميع المشركين بالجهاد، فعمَّ الكل بالبراءة وأجلهم أربعة أشهر، وذلك لقوة الإسلام وتخويف الكفار، ولا يصحُّ ذلك إلا بنقض العهود. ورابعها: أراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحج في السَّنة الآتية، فأمر بإظهار هذه البراءة لئلاَّ يشاهدة العراة، وقيل: نزل هذا قبل تبوك. وقال محمد بن إسحاق ومجاهد وغيرهما: نزلت في أهل مكَّة. وذلك أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عاهد قريشاً عام الحديبية، على أن يضعوا الحرب عشر سنين، يأمن فيها الناس، ودخلت خزاعةُ في عهد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثم عدتْ بنو بكر على خزاعة فنالت منها، وأعانتهم قريش بالسِّلاح فلمَّا تظاهر بنو بكر وقريش على خزاعة، ونقضوا العهد، خرج عمرو بن سالم الخزاعيُّ، حتى وقف على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: [الرجز] 2743 - لا هُمَّ إنِّي نَاشِدٌ مُحَمَّداَ ... حِلْفَ أبينَا وأبيهِ الأَتْلَدَا كنتَ لَنَا أباً وكُنَّا وَلَدَا ... ثُمَّتَ أسلَمْنَا ولمْ نَنْزِعْ يَدَا فانصُرْ هَداكَ اللهُ نَصْراً أبَدَا ... وادْعُ عِبَادَ اللهِ يأتُوا مَدَدَا فِيهِمْ رسُولُ اللهِ قَدْ تَجَرَّدَا ... فِي فَيْلقٍ كالبَحْرِ يَجْرِي مُزبدَا أبْيَضَ مثلَ الشَّمسِ يَسْمُو صَعدَا ... إن سيمَ خَسْفاً وَجْهُهُ تَربَّدَا إنَّ قُريشاً أخلفُوكَ المَوْعِدَا ... ونَقَضُوا ميثاقَك المُؤكَّدَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 9 هُمْ بَيَّتُونَا بالهَجيرِ هُجَّدَا ... وقَتلُونَا رُكَّعاً وسُجَّدَا وزعَمُوا أنْ لسْتَ تَدْعُو أحَدَا ... وهُمْ أذَلُّ وأقَلُّ عَدَدَا فقال رسُول الله «لا نُصِرتُ إنْ لَمْ أنصرْكم» ، ثمَّ تجهَّز إلى مكة، ففتح مكَّة سنة ثمان من الهجرة، فلمَّا كانت سنة تسع أراد رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحُجَّ، ثم قال: إنَّه يحضر المشركون، فيطوفون عراةً. فبعث أبا بكر تلك السنة أميراً على الموسم، ليقيم للنَّاس الحجَّ، وبعث معه بأربعين آية من صدر سورة «براءة» ليقرأها على أهل الموسم، ثم بعث عليّاً على ناقته العضباء ليقرأ على النَّاس «براءة» وأمره أن يؤذن بمكَّة، ومنى، وعرفة أن قد برئت ذمة الله، وذمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من كلِّ مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، فرجع أبو بكر فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، أنزل في شأني شيء؟ قال: لا، ولكن لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلاَّ رجل من أهلي، أما ترضى يا أبا بكر أنَّك كنت معي في الغار، وأنَّك صاحبي على الحوضِ؟ قال: بَلَى يا رسول الله، فسار أبو بكر أميراً على الحجِّ، وعليّ ليُؤذن ب «براءة» فلمَّا كان قبل التَّرْوية بيوم خطب أبو بكر النَّاس، وحدَُّهم عن مناسكهم، وأقام للنَّاس الحجَّ، والعرب في تلك السنةِ على منازلهم التي كانُوا عليها في الجاهلية من الحجِّ، حتَّى إذا كان يوم النَّحر، قام عليُّ بنُ أبي طالب فأذَّن في النَّاسِ بالذي أمر به، وقرأ عليهم سورة «براءة» . قال زيدُ بن يثيع: سألنا عليّاً بأي شيء بعثت في الحجِّ؟ قال «بعثتُ بأربع: ألاَّ يطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، ولا يدخلُ الجنَّة إلاَّ نفسَّ مؤمنةٌ، ولا يجتمعُ المشركون والمسلمون بعد عامهم هذا» . ثمَّ حجَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سنة عشر حجة الوداع. وكان السَّبب في بعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عليّاً، أنَّ العرب تعارفُوا فيما بينهم في العهود ونقضها ألاَّ يتولَّى ذلك إلا سيدهم، أو رجل من رهطه، فبعث عليّاً إزاحة للعلَّة، لئلاَّ يقولوا هذا خلاف ما نعرفه في نقض العهود. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 10 والدليل على أنَّ أبا بكر كان هو الأمير، أنَّ عليّاً لمَّا لحقهُ قال: أمير أو مأمور؟ فقال: مأمور، ثم ساروا وقال أبو هريرة «بعثني أبو بكر في تلك الحجَّة في مؤذنين يوم النَّحْر، يؤذِّن بمنى ألاَّ يحجَّ بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان» . قوله وأذانٌ. رفع بالابتداء، أي: أذان صادر، أو إعلام واصل، ومِنَ اللهِ إمَّا صفةً، أو متعلقٌ به، وإلى النَّاسِ الخبر، ويجوزُ أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ أي: وهذا إعلامٌ، والجارَّان متعلقان به، كما تقدَّم في براءة. قال أبو حيَّان: «ولا وجه لقولِ من قال: إنه معطوف على» بَرَاءَةٌ «، كما لا يقال» عمرو «معطوف على» زيد «في: زيد قائم وعمرو قاعد» . وقرأ الضحاك وعكرمة وأبو المتوكل «وإذْن» بكسر الهمزة وسكون الذَّال، وقرأ العامَّةُ «أنَّ الله» بفتح الهمزة على أحد وجهين، إمَّا كونه خبراً ل «أذانٌ» ، أي: الإعلامُ من اللهِ براءة من المشركين. وضعَّف أبو حيان هذا الوجه، ولم يذكر تضعيفه. وإمَّا على حذف حرفِ الجرِّ، أي: بأنَّ الله، ويتعلَّقُ هذا الجارَّ إمَّا بنفس المصدر، وإمَّا بمحذُوفٍ على أنه صفة ويَوْمَ منصوبٌ بما تعلَّق به الجارُّ في قوله إلى النَّاسِ. وزعم بعضهم أنَّه منصوبٌ ب «أذَانٌ» وهو فاسدٌ من وجهين: أحدهما: وصفُ المصدر قبل عمله. الثاني: الفَصْلُ بينه وبين معموله بأجنبي، وهو الخبرُ، وقرأ الحسنُ والأعرج بكسر الهمزة وفيه المذهبان المشهوران، مذهبُ البصريين إضمارُ القول، ومذهبُ الكوفيين إجراءُ الأذانِ مُجْرَى القول. فصل والأذانُ: الإعلامُ، قال الأزهري: «آذنْتُه إيذاناً. فالأذانُ يقوم مقام الإيذان، وهو المصدر الحقيقي» ومنه: أذان الصَّلاة، ومنه قوله عليه الصَّلاة والسَّلام للاّتي غسَّلن ابنته زينب: «فإذا فَرغتن فآذنَّني» أي: أعلمنني، فلمَّا فرغنا آذنَّاهُ، أي: أعلمناه، والأذانُ معروفٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 11 ونقل النووي في «التهذيب» عن الهرويِّ قال: ويقال فيه الأذان، والأذين، والإيذان قال: وقال شيخي: الأذينُ هوالمؤذن المعلم بأوقات الصلوات «فعيل» بمعنى «مفعل» [وقوله عليه السلام: «ما أذِن الله كأذنه» بكسر الذال منه، وقوله: «كأذَنِهِ» بفتح الذال، والأذن بضم الذال وسكونها: أذن الحيوان، مؤنثة، وتصغيرها: أذينة. و «إذن» في قوله عليه السلام: «فلا إذن» حرف مكافأة وجواب، يكتب بالنون، وإذا وقفت على «إذن» قلت كما تقول: رأيت زيداً. قال الجوهري] . قوله: «مِنَ المُشركِينَ» متعلقٌ بنفس «بَرِيءٌ» ، ما يقال: بَرئْتُ منه، وهذا بخلاف قوله: {بَرَآءَةٌ مِّنَ الله} [التوبة: 1] فإنَّها هناك تحتمل هذا، وتحتمل أن تكون صفة ل «بَراءَةٌ» . قوله ورسُولُهُ الجمهور على رفعه، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مبتدأ، والخبرُ محذوفٌ أي: ورسوله بريءٌ منهم، وإنَّما حذف، للدلالةِ عليه. والثاني: أنه معطوفٌ على الضمير المستتر في الخبر، وجاز ذلك للفصل المسوِّغ للعطف، فرفعه على هذا بالفاعلية والتقدير: برئ الله ورسوله [من المشركين] . الثالث: أنه معطوف على محلِّ اسم «أنَّ» وهذا عند من يجيز ذلك في المفتوحة قياساً على المكسورةِ، قال ابنُ عطيَّة «ومذهبُ الأستاذ - يعني ابن البَاذشِ - على مقتضى كلام سيبويه أن لا موضع لما دخلت عليه [» أنَّ «إذ هو معربٌ، قد ظهر فيه عمل العامل، وأنه لا فرق بين» أنَّ «وبين» لَيْتَ «والإجماعُ على أن لا موضع لما دخلتْ عليه] هذه» . قال أبو حيَّان: «وفيه تعقُّبٌ؛ لأنَّ كون» أنَّ «لا موضع لما دخلتْ عليه ليس ظهور عمل العامل بدليل» لَيْسَ زيد بقائم «وما في الدَّار من رجل، فإنه ظهرعمل العامل ولهما موضع وقوله:» بالإجماع «يريد أنَّ» ليت «لا موضع لما دخلت عليه بالإجماع، وليس كذلك؛ لأن الفراء خالف، وجعل حكم» لَيْتَ «وأخواتها جميعاً حكم» إنَّ «بالكسر» . قال شهابُ الدين قوله: «بدليل ليس زيد بقائم. .» إلى آخره قد يظهر الفرقُ بينهما، فإنَّ هذا العامل، وإن ظهر عمله في حكم المعدُومِ، إذ هو زائد، فلذلك اعتبرنا الموضع معه، بخلاف «أنَّ» بالفتح، فإنَّه عاملٌ غيرُ زائد، وكانَ ينبغي أن يردَّ عليه قوله: وأنْ لا فرق بين «أنَّ» وبين «لَيْتَ» فإنَّ الفرق قائمٌ، وذلك أنَّ حكم الابتداء قد انتسخ مع «لَيْتَ» ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 12 و «لَعلَّ» ، و «كأنَّ» لفظاً ومعنًى، بخلافه مع «إنَّ» ، و «أنَّ» ، فإنَّ معناه معهما باقٍ. وقرأ عيسى بن عمر، وزيد بن علي وابن أبي إسحاق «ورسوله» بالنَّصبِ، وفيه وجهان: أظهرهما: أنه عطفٌ على لفظ الجلالة، والثاني: أنه مفعولٌ معه. قال الزمخشريُّ. وقرأ الحسنُ «ورسُولِهِ» بالجرِّ، وفيها وجهان: أحدهما: أنه مقسمٌ به، أي: ورسوله إن الأمر كذلك، وحذف جوابه لفهم المعنى. والثاني: أنه على الجواز، كما أنهم نَعَتُوا وأكَّدوا على الجواز، وقد تقدَّم تحقيقه. وهذه القراءةُ يبعدُ صحتُها عن الحسن، للإبهام، حتَّى يحكى أنَّ أعرابياً سمع رجلاً يقرأ «ورَسُولِهِ» بالجر، فقال الأعرابيُّ: إن كان الله قد بَرِىء من روسله فأنا بريء منه، فَلَبَّبه القارىء إلى عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فحكى الأعرابيُّ الواقعة، فحينئذ أمر عمرُ بتعليم العربيَّة. ويحكى أيضاً هذه عن أمير المؤمنين عليّ، وأبي الأسود الدُّؤلي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال أبُو البقاءِ: «ولا يكون عطفاً على» المشركين «لأنَّه يؤدي إلى الكفر» . وهذا واضح. فصل قال بعض المفسرين قوله: {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} جملة تامة مخصوصة بالمشركين، وقوله: {وَأَذَانٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر} جملة أخرى ثانية معطوفة على الجملة الأولى، وهي عامة في حق جميع النَّاسِ؛ لأنَّ ذلك يجب أن يعرفه المؤمن والمشرك، من حيثُ إنَّ الحكم المتعلق بذلك يلزمهما جميعاً، فيجبُ على المؤمنين أن يعرفوا الوقت الذي يباحُ فيه القتال من الوقت الذي يحرم فيه، فأمره تعالى بهذا الإعلام يوم الحج الأكبر، وهو الجمع الأعظم، ليصل ذلك الخبر إلى الكل، فيشتهر. وفي هذا العطف الإشكال الذي ذكره أبو حيان في صدر الآية عند قوله {وَأَذَانٌ مِّنَ الله} . فصل اختلفوا في يوم الحجِّ الأكبر، فقال ابن عباس في رواية عكرمة «إنَّه يومُ عرفةَ» وهو قول عُمر، وسعيد بن المسيب، وابن الزبير، وعطاء، وطاووس، ومجاهد، وإحدى الروايتين عن علي، ورواية المسور بن مخرمة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال: خطب رسول الجزء: 10 ¦ الصفحة: 13 الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عشيَّة عرفة، فقال: «أمَّا بعدُ فإنَّ هذا يوم الحج الأكبر» لأنَّ معظم أفعال الحج فيه، وروي أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقف يوم النَّحر عند الجمرات، وقال: «هذا يومُ الحج الأكبر» وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «الحج عرفةُ» ولأنَّ أعظم أعمال الحج الوقوف بعرفة؛ لأ، َّ من أدركه، فقد أدرك الحجَّ، ومن فاته فقد فاته الحجُّ. وقال ابنُ عبَّاسٍ في رواية عطاء يوم الحج الأكبر: يوم النحر، وهو قول النخعيّ، والشعبيّ، والسديّ، وإحدى الروايتين عن عليٍّ، وقول المغيرة بن شعبة وسعيد بن جبير. وروى ابن جريج عن مجاهد أنه قال: يوم الحجِّ الأكبر أيَّام منى كلها، وهو مذهب سفيان الثَّوريّ، وكان يقول: يوم الحجِّ الأكبر: أيامه كلها، كما يقال: يوم صفين، ويوم الجمل، ويراد به الحين والزمان. وأما تسيمته بيوم الحج الأكبر، فإن قلنا: إنَّه يوم عرفة؛ فلأنه أعظم واجباته، ومن فاته الحجُّ، وكذلك إن قلنا: إنَّه يوم النحر، لأن معظم أفعال الحج يفعل فيه، وقال الحسنُ: سُمِّيَ بذلك لاجتماعِ المسلمين والمشركين فيه، وموافقته لأعياد أهل الكتاب، ولم يتفق ذلك قبله ولا بعده، فعظم ذلك اليوم في قلب كل مؤمنٍ وكافر، وطعن الأصم في هذا الوجه وقال: عيدُ الكفَّارِ فيه سخط. وهذا الطَّعن ضعيفٌ؛ لأنَّ المرادَ أنَّ ذلك اليوم استعظمه جميع الطوائف، فلذلك وصف بالأكبر. وقيل سُمِّي بذلك؛ لأن المسلمين والمشركين حَجُّوا في تلك السَّنة، وقيل: الأكبرُ الوقوف بعرفة والأصغر النَّحر، قاله مجاهدٌ، ونقل عن مجاهدٍ: الأكبر القرانُ، والأصغر الإفراد، فإن قيل: قوله: {بَرَآءَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ} وقوله {أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} لا فرق بينهما، فما فائدة هذا التكرار؟ فالجواب من وجوه: الأولُ: أنَّ المقصودَ من الأوَّلِ البراءة من العهد، ومن الثاني: البراءة التي هي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 14 نقيض الموالاة، ويدلُّ على هذا الفرقِ في البراءة الأولى برىء إليهم، وفي الثانية برئ منهم. الثاني: أنَّهُ تعالى في الكلام الأوَّل، أظهر البراءة عن المشركين الذين عاهدوا ونقضوا العهد، وفي هذه الآية أظهر البراءة عن المشركين من غير أن وصفهم بوصف معيّن، تنبيهاً على أنَّ الموجب لهذه البراءة كفرهم وشركهم. قوله «فإن تُبْتُمْ» عن الشكر، وأخلصتم التَّوحيدَ: {فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن الإيمان {فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله} وذلك وعيد عظيم. ثم قال {وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} في الآخرة، والبشارةُ - ههنا - وردت على سبيل الاستهزاء كما يقال: تحيتهم الضرب، وإكرامهم الشَّتم. قوله {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين} في هذا الاستثناء ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّه استثناءٌ منقطعٌ، والتقديرُ: لكن الذين عاهدتم فأتمُّوا إليهم عهدهم، وإلى هذا نحا الزَّمخشري، فإنه قال: «فإن قلت: ممَّا استثنى قوله:» إلاَّ الذينَ عاهَدتُّم «؟ قلت: وجهه أن يكون مستثنى من قوله:» فسيحُوا في الأرضِ «؛ لأنَّ الكلام خطابٌ للمسلمين ومعناه: براءةٌ من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين، فقولوا لهم: سِيحُوا إلاَّ الذين عاهدتم منهم، ثُمَّ لَمْ ينقصوا فأتموا إليهم عهدهم، والاستثناءُ بمعنى الاستدراك، كأنه قيل بعد أن أمروا في النَّاكثين، ولكن الذين لم ينكثوا، فأتمُّوا إليهم عهدهم، ولا تجروهم مجراهم. الثاني: أنَّه استثناءٌ متصلٌ، وقبلهُ جملةٌ محذوفة، تقديره: اقتلوا المشركين المعاهدين إلاَّ الذين عاهدتم، وفيه ضعفٌ؛ قاله الزَّجَّاجُ، فإنَّه قال:» إنَّه عائد إلى قوله: «براءةٌ» والتقدير: براءة من الله ورسوله إلى المشركين المعاهدين إلاَّ الذين لم ينقضوا العهد «. الثالث: أنَّه مبتدأ، والخبر قوله:» فأتمُّوا إليهِمْ «قاله أبو البقاءِ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ الفاء تزاد في غير موضعها، إذ المبتدأ لا يشبه الشَّرط؛ لأنَّه لأناسٍ بأعيانهم، وإنما يتمشَّى على رأي الأخفش، إذ يُجوِّز زيادتها مطلقاً، والأولى أنَّهُ منقطعٌ، لأنَّا لو جعلناهُ متصلاً مستثنى من المشركين في أوَّل السُّورة، لأدَّى إلى الفصل بين المستثنى، والمستثنى منه بجملٍ كثيرة. قوله {ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} الجمهور» يَنقصُوكُم «بالصَّاد المهملة، وهو يتعدَّى لواحدٍ، ولاثنين، ويجوزُ ذلك فيه هنا ف» كُمْ «مفعولٌ أول، و» شَيْئاً «إمَّا معفول ثان، وإمَّا مصدرٌ، أي: شيئاً من النقصان، أو: لا قليلاً، ولا كثيراً من النقصان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 15 وقرأ عطاءُ بن السائب الكوفي وعكرمة، وابن السَّمَيْفع، وأبو زيد» يَنقُضُوكم «بالضَّاد المعجمة وهي على حذف مضاف، أي: ينقضُوا عهدكم، فحذف المضافُ وأقيم المضافُ إليه مقامه. قال الكرمانيُّ:» وهي مناسبة لذكر العهد «. أي: إنَّ النقضَ يُطابق العهد، وهي قريبة من قراءة العامَّة، فإنَّ من نقض العهد فقد نقص من المدة، إلاَّ أنَّ قراءة العامة أوقعُ لمقابلها التمام. فصل ومعنى قوله: {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين} وهم بنو ضمرة حي من كنانة، أمر الله ورسوله بإتمام عهدهم إلى مدتهم، وكان قد بقي من مدتهم تسعة أشعر وكان السَّبب فيه أنهم لم ينقضوا، أي: لم ينقضوا شيئاً من عهدهم الذي عاهدتموهم عليه،» ولمْ يُظاهِرُوا «لم يعامونا» عَليكُمْ أحَداً «من عدوكم،» فأتمُّوا إليهم عهدَهُم «الذي عاهدتموهم عليه، أي: أوفوقا بعهدهم:» إلى مُدتِهِم «إلى أجلهم الذي عاهدتموهم عليه» إنَّ الله يحبُّ المُتَّقِينَ «أي: إنَّ هذه الطائفة لما اتقوا النقض، ونكث العهد، استحقوا من اللهِ أن يصان عهدهم أيضاً عن النقض والنكث. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 قوله تعالى: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم} الآية. قال الليثُ «يقال سلختُ الشهر: إذا خرجت منه» . و «الانسلاخُ» هنا من أحسن الاستعارات، وقد بيَّن ذلك أبو الهيثم، فقال: «يقال: أهْللنا شهر كذا، أي: دخلنا فيه، فنحنُ نزداد كلَّ ليلةٍ منه إلى مضيِّ نصفه لباساً، ثم نسلخه عن أنفسنا جزءاً فجزءاً إلى أن ينقضي وينسلخ» ؛ وأنشد: [الطويل] 2744 - إذا مَا سَلخْتُ الشَّهْرَ أهلَلتُ مِثلهُ ... كَفَى قَاتِلاً سَلْخِي الشُّهُورَ وإهْلالِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 16 والألف واللام في «الأشهر» يجوز أن تكون للعهد، والمراد بها: الأشهرُ المتقدمة في قوله: {فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} [التوبة: 2] ، والعربُ إذا ذكرت نكرة، ثم أرادت ذكرها ثانياً أتت بضميره؛ أو بلفظه مُعرَّفاً ب «أل» ، ولا يجوز حينئذ أن نصفهُ بصفةٍ تُشْعر بالمغايرة، فلو قيل: «رأيت رجلاً، فأكرمتُ الرَّجل الطَّويل» لمْ تُرد بالثَّاني الأول وإن وصفته بما لا يقتضي المغايرة جاز، كقولك: فأكرمت الرجل المذكور، ومنه هذه الآية، فإنَّ «الأشهر» قد وصفت ب «الحُرُم» ، وهي صفةٌ مفهومة من فحوى الكلام فلم تقتض المغايرة، ويجوزُ أن يراد بها غيرُ الأشهر المتقدمة، فلا تكون «أل» للعهد وقد ذكر المفسرون الوجهين. قالوا: المرادُ بالأشهر الحرم: الأربعة، رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم. وقال مجاهدٌ وابن إسحاق: «هي شهور العهد فمن كان له عهد فعهده أربعة أشهر، ومن لا عهد له فأجله إلى انقضاء المحرم خمسون يوماً» . وقيل لها حرم: لأنَّ الله حرَّم فيها على المؤمنين دماء المشركين والتَّعرض لهم. فإن قيل: هذا القدر بعض الأشهر الحرم، واللهُ تعالى يقول: {فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم} . قيل: لمَّا كان القدر متصلاً بما مضى أطلق عليه اسم الجمع، ومعناه: مضت المدة المضروبة التي يكون معها انسلاخ الأشهر الحرم. قوله {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} . اعلم أنَّه تعالى أمر بعد انقضاءِ الأشهر الحرم بأربعة أشياء: أولها: قوله: {فاقتلوا المشركين} أي: على الإطلاق في أي وقت كان في الحل أو الحرمِ. وثانيها: «وَخُذُوهُمْ» أي: أسروهم. وثالثها: «واحصروهم» والحصر: المنع، أي: امنعوهم من الخروج إن تحصنوا، قاله ابن عباس. وقال الفرَّاءُ «امنعوهم من دخول مكَّة والتَّصرف في بلاد الشام» . ورابعها: قوله {واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ} . في انتصاب «كل» وجهان: أحدهما: أنه منصوبٌ على الظرف المكاني. قال الزجاج «نحو: ذهبت مذهباً» . وردَّ عليه الفارسيُّ هذا القول من حيث إنَّه ظرف مكان مختص، والمكانُ المختصُّ لا يصلُ إليه الفعلُ بنفسه بل بواسطة؛ في نحو: صَلَّيْتُ في الطريق وفي البيت، ولا يصل بنفسه إلاَّ في ألفاظٍ محصورةٍ بعضها ينقاس، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 17 وبعضها يسمع، وجعل هذا نظير ما فعل سيبويه في بيت ساعدة: [الكامل] 2745 - لَدْنٌ بِهزِّ الكفِّ يعْسِلُ متنهُ ... فيهِ كما عسل الطَّريقَ الثَّعْلَبُ وهو أنَّهُ جعله ممَّا حذف فيه الحرفُ اتِّساعاً، لا على الظرف، لأنه ظرف مكان مختص. قال أبو حيَّان «إنه ينتصبُ على الظرف؛ لأنَّ معنى» واقعُدُوا «لا يراد به حقيقةُ القعود، وإنما يراد: ارصدوهم، وإذا كان كذلك فقد اتفق العامل والظرف في المادة، ومتى أتفقا في المادة لفظاً، أو معنًى، وصل إليه بنفسه، تقول: جلست مجلس القاضي، وقعدت مجلس القاضي، والآيةُ من هذا القبيل» . والثاني: أنه منصوبٌ على إسقاط حرف الجر، وهو «على» ، أي: على كلِّ مرصد قاله الأخفشُ، وجعله مثل قول الآخر: [الطويل] 2746 - تَحِنُّ فتبدي مَا بِهَا مِنْ صبابَةٍ ... وأخْفِي الذي لَوْلاَ الأسَى لَقَضانِي وهذا لا ينقاس، بل يقتصر فيه على السَّماع، كقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ} [الأعراف: 16] ، أي: على صراطك، اتفق الكل على تقدير «على» ، وقال بعضهم: هو على تقدير الباء، أي: بكل مرصد، نقله أبو البقاء، وحينئذٍ تكون الباء بمعنى «في» فينبغي أن تقدَّر «في» لأنَّ المعنى عليها؛ وجعله نظير قول الشاعر: [الوافر] 2747 - نُغَالِي اللَّحْمَ للأَضْيَافِ نَاسِياً ... أنَّ المنيَّةَ للْفَتَى بالمَرْصَدِ والمِرْصَادُ: المكانُ المختص بالترصُّد، والمرصد: يقع على الرَّاصد، سواءً كان مفرداً أم مثنى أم مجموعاً، وكذلك يقع على «المرصُودِ» . وقوله تعالى: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً} [الجن: 27] يحتمل كلَّ ذلك؛ وكأنَّهُ في الأصل مصدر، فلذلك التزم فيه الإفرادُ والتذكيرُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 18 ومعنى الآية: اقعدوا لهم على كلِّ طريق - والمرصدُ: الموضعُ الذي يرقب فيه العدو يريد: كونُوا لهم رصداً، لتأخذوهم من أي وجه توجهوا. قوله: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ} أي: دعوهم ليتصرفوا في أمصارهم، ويدخلوا مكَّة «إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ» لمن تاب «رَحيمٌ» به. واحتجُّوا بهذه الآية على قتل تارك الصَّلاة؛ لأنَّ اللهَ تعالى أباح دم الكفَّار مطلقاً ثم حرَّمها عند التوبة، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، فإذا لم توجد الثلاثة، فإباحة الدَّم بحالها. قال الحسينُ بن الفضلِ: «هذه الآية تنسخ كل آية في القرآن فيها ذكر الإعراض والصَّبر على أذى الأعداء» . قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} الآية. روى ابن عباس: أنَّ رجلاً من المشركين قال لعليّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله، أو لحاجة أخرى، فهل نقتل؟ فقال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «لا» لأنَّ الله قال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} أي: فأمنه حتى يسمع كلام اللهِ. فتقرير النظم: أنه لما أوجب بانسلاخ الأشهر الحرم قتل المشركين، دلَّ ذلك على أن حجة الله تعالى قد قامت عليهم، وأن ما ذكره عليه الصَّلاة والسَّلام قبل ذلك من الدلائل كفى في إزاحة عذرهم، وذلك يقتضي أن أحداً من المشركين لو طلب الدَّليل والحجة لا يلتفت إليه، بل يطالب إمَّا بالإسلام، وإمَّا بالقتل، فذكر الله تعالى هذه الآية إزالة لهذه الشبهة، وبيَّن أنَّ الكافر إذا جاء طالباً الدَّليل والحجة، أو طالباً لاستماع القرآن، فإنَّه يجب إمهاله ويحرم قتله. قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ} كقوله {إِن امرؤ هَلَكَ} [النساء: 176] في كونه من باب الاشتغال عند الجمهور. قال ابنُ الخطيب: «أَحَدٌ» مرتفع بفعل مضمر يفسِّرهُ الظَّاهرُ، وتقديره: «وإن استجارك أحد، ولا يجُوز أن يرتفع بالابتداء، لأنَّ» إنْ «من عوامل الفعل لا تدخل على غيره» . قوله «حتَّى يسمَعَ» يجوز أن تكون هنا للغاية، وأن تكون للتَّعليلِ، وعلى كلا التقديرين تتعلَّق بقوله «فَأجِرهُ» ، وهل يجُوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب التَّنازع أم لا؟ وفيه غموضٌ، وذلك أنَّه يجوز من حيث المعنى أن تعلَّق «حتَّى» بقوله «استجاركَ» ، أو بقوله «فأجرهُ» إذ يجوز تقديره: وإن استجارك أحدٌ حتَّى يسمع كلام اللهِ فأجرهُ، حتَّى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 19 يسمع كلام الله. والجوابُ أنه لا يجوزُ عند الجمهور، لأمر لفظي من جهة الصناعة لا معنوي، فإنَّا لو جعلناه من التَّنازع، وأعملنا الأوَّل مثلاً، لاحتاج الثَّاني إليه مضمراً على ما تقرَّر، وحينئذٍ يلزمُ أنَّ «حتَّى» تجرُّ المضمر، و «حتَّى» لا تجرُّهُ إلاَّ في ضرورة شعر كقوله: [الوافر] 2749 - فَلا واللهِ لا يَلْقَى أنَاسٌ ... فتًى حتَّاكَ يا ابْنَ أبي يزيدِ وأمَّا عند من يُجيزُ أن تجرَّ المضمر؛ فلا يمتنع ذلك عندهُ، ويكون من إعمال الثَّاني لحذفه، ويكون كقولك: فَرحْتُ ومررتُ بزيدٍ، أي: فرحْتُ به، ولو كان مِنْ إعمالِ الأوَّلِ لمْ يحذفْهُ من الثَّاني، وقوله: «كَلاَمَ الله» من بابِ إضافة الصِّفةِ لموصوفها، لا من بابِ إضافة المخلوقِ للخالِقِ، و «مَأْمنَهُ» يجوزُ أن يكون مكاناً، أي: مكان أمنه، وأن يكون مصدراً، أي: ثُمَّ أبلغْه أْمْنَهُ. فصل في المراد من الآية معنى الآية: وإن استجاركَ أحدٌ من المشركينَ الذين أمرتكَ بقتالهم وقتلهم أي: استأمنك بعد انسلاخ الأشهر الحرم، ليسمع كلام الله «فأجرهُ» ، وأمنه «حتَّى يسمع كلام الله» فيما له وعليه من الثواب والعقاب. «ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ» أي: إن لم يسلم أبلغه الموضع الذي يأمنُ فيه، وهو دار قومه، فإن قاتلك بعد ذلك، وقدرت عليه فاقتله. «ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ» ، لا يعلمون دين الله وتوحيده، فهم محتاجون إلى سماع كلام الله. قال الحسنُ «هذه الآية محكمة إلى يوم القيامة» . فصل قالت المعتزلةُ: هذه الآية تدلُّ على أنَّ كلام اللهِ يسمعه الكافرُ، والمؤمنُ، والزنديقُ، والصديق والذي يسمعه جمهور الخلق؛ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات، فدلَّ ذلك على أنَّ كلام اللهِ ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات، ثمَّ من المعلوم بالضرورة، أنَّ الحروف والأصوات لا تكون قديمة، لأنَّ تكلم الله بهذه الحروف، إمَّا أن يكون معاً، أو على الترتيب، فإن تكلَّم بها معاً لم يحصل منه هذا الكلام المنتظم؛ لأن الكلام لا يحصل مُنتظماً إلا عند دخول هذه الحروف في الوجودِ على التعاقب، فلو حصلت معاً، لما حصل الانتظام، فلم يحصل الكلام، وإن حصلت متعاقبةً؛ لزم أن ينقضي المتقدم، ويحدث المتأخر، وذلك يوجب الحدوث، فدلَّ هذا على أنَّ كلام الله مُحدثٌ - قالوا فإن قلتم: إنَّ كلام الله شيءٌ مغايرٌ لهذه الحروف والأصوات فهو باطلٌ؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 20 لأن الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - ما كان يشير بقوله {كَلاَمَ الله} [التوبة: 6] إلا إلى هذه الحروف والأصوات. وقال آخرون: ثبت بهذه الآية أنَّ كلام الله ليس إلاَّ هذه الحروف والأصوات، وثبت أن كلام الله قديمٌ، فوجب القولُ بقدم الحروف والأصوات. وقال ابنُ فورك: «إنا إذا سمعنا هذه الحروف والأصوات، فقد سمعنا مع ذلك كلام الله تعالى» . وأنكروا عليه هذا القول؛ لأنَّ الكلام القديم، إمَّا أن يكون نفس هذه الحروف والأصوات، وإمَّا أن يكون شيئاً آخر مغايراً لها. والأول قول الزجاج، وهو باطلٌ، لأنَّ ذلك لا يليقُ بالعقلاء. والثاني باطلٌ، لأنَّا على هذا التقدير، لمَّا سمعنا هذه الحروف والأصوات، فقد سمعنا شيئاً آخر يخالفُ ماهيَّة هذه الحروف والأصوات لكنَّا نعلم بالضرورةِ أنا عند سماع هذه الحروف والأصوات لم نسمع شيئاً آخر سواها ولم يدرك سمعنا شيئاً مغايراً لها، فسقط هذا الكلام. والجواب عن كلام المعتزلة: أن يقال هذا الذي نسمعه ليس عين كلام الله على مذهبكم؛ لأنَّ كلام الله، ليس الحروف والأصوات التي خلقها أولاً، بل تلك الحروف والأصوات انقضت، وهذه التي نسمعها حروف وأصوات فعلها الإنسان، فما ألزمتموه علينا فهو لازم عليكم. فصل قال الفقهاءُ: إذا دخل الكافر الحربي دار الإسلامِ، كان مَغْنُوماً مع ماله، إلاَّ أن يدخل مستجيراً لغرض شرعي، كاستماع كلام الله رجاء الإسلام، أو دخل لتجارة، فإن دخل بأمان صبي أو مجنون، فأمانهما شبهة أمان؛ فيجب تبليغه مأمنه، وهو أن يبلغ مَحْرُوساً في نفسه وماله إلى مكانه الذي هو مأمن له، ومن دخل منهم دار الإسلام رسُولاً، فالرسالة أمانٌ، ومن دخل ليأخذ مالاً له في دار الإسلام، ولماله أمان، فأمان ماله أمان له. {كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ الله وَعِندَ رَسُولِهِ} الآية. في خبر «يكون» ثلاثةُ أوجهٍ: أظهرها: أنَّهُ «كيف» ، و «عَهْدٌ» اسمُها والخبر هنا واجبُ التقديم، لاشتماله على ما لهُ صدر الكلام، وهو الاستفهامُ، بمعنى الاستنكار، كقولك: كيف يُسْتفتَى مثلك؟ أي: لا ينبغي أن يستفتى. و «للمشركين» على هذا يتعلق إمَّا ب «يكُونُ» ، عند من يجيزُ في «كانَ» أن تعمل في الظَّرف وشبهه، وإمَّا بمحذوفٍ، على أنَّها صفةٌ ل «عَهْدٌ» ، في الأصلِ، فلمَّا قُدِّمتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 21 نصبت حالاً، و «عِند» يجوز أن تكون متعلقةً ب «يكون» أو بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل «عَهْدٌ» أو متعلقة بنفس «عَهْدٌ» لأنه مصدرٌ. والثاني: أن يكون الخبرُ «للمشركين» ، و «عند» على هذا فيها الأوجه المتقدمة، ويزيد وجهاً رابعاً وهو أنه يجوزُ أن يكون ظرفاً للاستقرار الذي تعلَّق به «للمُشركين» . والثالث: أن يكون الخبرُ «عِندَ اللهِ» ، و «للمُشركينَ» على هذا إمَّا تبيين، وإمَّا متعلقٌ ب «يكون» عند من يُجيز ذلك - كما تقدَّم - وإمَّا حالٌ من «عَهْدٌ» . وإمَّا متعلقٌ بالاستقرار الذي تعلَّق به الخبر، ولا يبالى بتقديم معمولِ الخبر على الاسم لكونه حرف جرّ، «كَيْفَ» على هذين الوجهين مُشْبهةٌ بالظَّرفِ، أو بالحال، كما تقدَّم تحقيقه في: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ} [البقرة: 28] . ولمْ يذكُرُوا هنا وجْهاً رابعاً - وكان ينبغي أن يكون هو الأظهر - وهو أن يكون الكونُ تاماً، بمعنى: كيف يوجدُ عهدٌ للمشركينَ عند اللهِ؟ والاستفهام هنا بمعنى النَّفي، ولذلك وقع بعده الاستثناء ب «إلاَّ» ومن مجيئه بمعنى النفي أيضاً قوله: 2750 - فَهَذِي سُيوفٌ يا صُدَيُّ بن مالكٍ ... كثيرٌ، ولكنْ كيف بالسَّيْفِ ضَارِبُ أي: ليس ضاربٌ بالسَّيْفِ، وفي الآية محذوفٌ تقديره: كيف يكون للمشركين عهد مع إضمار الغدر فيما وقع من العهد. قوله: {إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام} في الاستثناء وجهان: أحدهما: أنَّهُ منقطعٌ، أي: لكن الذين عاهدتم، فإنَّ حكمهم كيت وكيت. والثاني: أنَّهُ متَّصلٌ، وفيه حينئذٍ احتمالان: أحدهما: أنَّهُ منصوبٌ على أصْلِ الاستثناء من المُشركينَ. والثاني: أنه مجرورٌ على البدل منهم؛ لأنَّ معنى الاستفهام المتقدم نفيٌ، أي: ليس يكونُ للمشركين عهدٌ إلا للذين لم ينكُثوا، وقياسُ قول أبي البقاءِ فيما تقدَّم أن يكون مرفوعاً بالابتداء، والجملةُ من قوله «فَمَا استقاموا» خبره. فصل معنى الآية: أي: لا يكون لهم عهد عند الله، ولا عند رسوله وهم يغدرون، وينقضون العهد، ثم استثنى فقال: {إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام} . قال ابنُ عباسٍ: «هُمْ قُريْش» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 22 وقال قتادة «هم أهلُ مكَّة الذين عاهدهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم الحُديبيةِ» . قال تعالى: {فَمَا استقاموا لَكُمْ} أي: على العهد {فاستقيموا لَهُمْ} [يعني ما أقاموا على العهد ثم إنهم لم يستقيموا] ونقضوا العهد، وأعانوا بني بكر على خزاعة، فضرب لهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد الفتح أربعة أشهر يختارون من أمرهم، وإمَّا أن يلحقوا بأي بلاد شاءوا، فأسلموا قبل الأربعة أشهر. وقال السدي والكلبي وابن إسحاق: إنهم قبائل من بني بكر وهم خزيمةُ، وبنو مدلج من ضمرة، وبنو الديل، وهم الذين كانوا قد دخلوا في عهد قريش يوم الحديبية ولم يكن نقض إلاَّ قريش، وبنو الديل من بكرٍ؛ فأمر بإتمام العهد لمنْ لم ينقض وهو بنو ضمرة، وهذا القول أقرب إلى الصواب؛ لأنَّ هذه الآيات نزلت بعد نقض قريش العهد وبعد فتح مكَّة؛ لأنَّ بعد الفتح كيف يقول قد مضى: {فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ} . وإنَّما هم الذين قال الله - عزَّ وجلَّ - فيهم: {إِلاَّ الذين عَاهَدتُّم مِّنَ المشركين ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً} [التوبة: 4] كما نقصكم قريش، ولم يظاهروا عليكم كما ظاهرت قريش بني بكر على خزاعة، وهم حلفاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله «فَمَا استقاموا» يجوزُ في «ما» أن تكون مصدرية ظرفيةً، وهي محلِّ نصب على ذلك أي: فاستقيموا لهم مدة استقامتهم لكم، ويجوزُ أن تكون شرطيةً، وحينئذٍ ففي محلِّها وجهان: أحدهما: أنَّها في محلِّ نصب على الظَّرف الزماني، والتقدير: أيَّ زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم، ونظَّره أبو البقاءِ بقوله: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2] . والثاني: أنها في محلِّ رفع بالابتداء، وفي الخبر الأقوال المشهورة، و «فاستقيمُوا لهُم» جواب الشرط، وقد نحا إليه الحوفيُّ، ويحتاجُ إلى حذف عائد، أي: أي زمانٍ استقاموا لكم فاستقيموا لهم، وقد جوَّز ابنُ مالكٍ في «ما» المصدرية الزمانية أن تكون شرطية جازمة، وأنشد على ذلك: [الطويل] 2751 - فَمَا تَحْيَ لا تَسْأمْ حَيَاةٌ وإنْ تَمُتْ ... فَلا خَيْرَ فِي الدُّنْيَا ولا العَيْشِ أَجْمَعَا ولا دليل فيه، لأنَّ الظاهر الشرطيةُ من غير تأويلٍ بمصدريَّة وزمانٍ. قال أبُو البقاءِ: «ولا يجوز أن تكون نافيةً، لفساد المعنى، إذ يصير المعنى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 23 استقيموا لهم؛ لأنَّهم لم يستقيموا لكم» . ثم قال تعالى: {إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين} أي: من اتقى الله فوفى بعهده لمن عاهده. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 قوله تعالى: {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} الآية. المستفهمُ عند محذوفٌ، لدلالة المعنى عليه، فقدَّره أبو البقاءِ «كيف تَطْمئنون، أو كيف يكونُ لهم عهدٌ» ؟ وقدَّره غيره: كيف لا تقاتلونهم؟ . والتقدير الثاني مِنْ تقديري أبي البقاء أحسنُ؛ لأنَّه من جنس ما تقدَّم، فالدلالةُ عليه أقْوى. وقد جاء الحذفُ في هذا التركيب كثيراً، وتقدَّم منه قوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ} [آل عمران: 25] ، {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا} [النساء: 41] ؛ وقال الشاعر: [الطويل] 2752 - وخَبَّرْتُمَاني أنَّما الموتُ في القُرَى ... فكيْفَ وهاتا هَضْبَةٌ وكَثِيبُ أي: كيف مات؟ وقال الحطيئةُ: [الطويل] 2753 - فَكيْفَ ولمْ أعلمْهُم خَذلُوكُمُ ... علَى مُعظمٍ ولا أديمَكُمُ قدُّوا أي: كيف تلومونني في مدحهم؟ قال أبُو حيَّان: «وقدَّر أبو البقاءِ الفعل بعد» كيف «بقوله:» كيف تطمئنون «، وقدَّره غيره ب» كيف لا تقاتلونهم «؟ . قال شهابُ الدِّين:» ولم يقدره أبُو البقاء بهذا وحده، بل به، وبالوجه المختار كما تقدَّم منه «. قوله» كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا «» كيف «تكرار، لاستبعاد ثبات المشركينَ على العهد، وحذف الفعل، لكونه معلوماً، أي: كيف يكون لهم عهد وحالهم أنَّهُمْ إن يظهروا عليكم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 24 بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان والمواثيق، لم ينظروا في حلف ولا عهد ولا يبقوا عليكم. والجملة الشرطية من قوله:» إِن يَظْهَرُوا «في محلِّ نصبٍ على الحالِ، أي: كيف يكونُ لهم عهدٌ، وهم على حالةٍ تنافي ذلك؟ وقد تقدَّم تحقيق هذا عند قوله: {وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ} [الأعراف: 169] ، و» لا يرْقُبوا «جوابُ الشرط، وقرأ زيد بن علي:» وإن يُظهَرُوا «ببنائه للمفعول، من أظهره عليه، أي: جعله غالباً له، يقال: ظهرت على فلان: إذا علوته، وظهرت على السطح: إذا صرت فوقه. قال اللَّيْثُ:» الظُّهور: الظَّفر بالشَّيء، وأظهر اللهُ المسلمين على المشركين، أي: أعلاهُم عليهم «. قال تعالى: {فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] أي: ليعليه. قوله:» لاَ يَرْقُبُواْ «قال الليثُ» رقبَ الإنسانَ يرقبُ رقْبةً ورِقْبَاناً، هو أن ينتظره «. والمعنى: لا ينتظروا، قاله الضحاكُ، ورقيب القوم: حارسهم، وقوله: {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه: 94] أي: لم تحفظه. وقال قطربٌ:» لا يراعوا فيكم إلاَّ «. قوله:» إلاًّ «مفعولُ به ب» يَرْقُبُوا «. وفي» الإِلِّ «أقوالٌ» . أحدها: أنَّ المراد به العهد، قاله أبو عبيدة، وابن زيد، والسديُّ وكذلك الذمة، إلاَّ أنه كرر، لاختلاف اللفظين؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط] 2754 - لَوْلاَ بنُو مالكٍ، والإِلُّ مَرْقبةٌ ... ومالكٌ فيهمُ الآلاءُ والشَّرَفُ أي: الحِلْف؛ وقال آخر: [المتقارب] 2755 - وجَدْناهُمُ كَاذِباً إلُّهُمْ ... وذُو الإِلِّ والعَهْدِ لا يَكْذِبُ وقال آخر: [الرمل] 2756 - أفْسَدَ النَّاسَ خُلُوفٌ خَلَفُوا ... قَطَعُوا الإِلَّ وأعْرَاقَ الرَّحِمْ وفي حديث أمِّ زرع بنت أبي زرع: «وفيُّ الإلِّ، كريمُ الخِلِّ، بَرُودُ الظِّلِّ» أي؛ وفَيُّ العهد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 25 الثاني: أنه القرابةُ، قاله ابنُ عبَّاسٍ والضحاك، وبه قال الفراء وأنشدوا لحسان: [الوافر] 2757 - لَعَمْرُكَ إِنَّ إِلَّكَ مِنْ قُريشٍ ... كإِلِّ السَّقْبِ من رَألِ النَّعَامِ وأنشد أبو عبيدة على ذلك قوله: [الرمل] 2758 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... قَطَعُوا الإِلَّ وأعراقَ الرَّحِمْ والظَّاهر أنَّ المراد به العهد - كما تقدَّم - لئلاَّ يلزم التكرار. الثالث: أنَّ المراد به الله - تعالى - أي: هو اسم من أسمائه، واستدلُّوا على ذلك بحديث أبي بكر لمَّا عرض عليه كلام مُسَيْلمة - لعنه الله - «إنَّ هذا الكلام لم يخرج من إلّ» ، أي: الله - عَزَّ وَجَلَّ - قاله أبو مجْلزٍ، ومجاهد وقال عبيد بن عمير: يُقرأ جِبْرَئل بالتشديد، يعني عبد الله ولم يرتض هذا الزجاج، قال: «لأنَّ أسماءه - تعالى - معروفة في الكتابِ والسُّنَّةِ - ولم يُسمَعْ أحدٌ يقول: يا إلُّ، افعلْ لي كذا» . الرابع: أنَّ: «الإلَّ» الجُؤار، وهو رفعُ الصَّوت عند التحالُف، وذلك أنهم كانوا إذا تماسحوا، وتحالفوا، جأرُوا بذلك جُؤاراً. ومنه قول أبي جهل: [الطويل] 2759 - لإلِّ عَليْنَا واجب لا نُضيعُهُ ... مَتِينٍ قُوَاهُ غَيْرِ مُنْتكِثِ الحَبْلِ الخامس: أنه من: ألَّ البرقُ، أي: لَمَعَ. قال الأزهريُّ: «الأليل: البريق، يقال: ألَّ يؤلُّ، أي: صَفَا ولَمَعَ» ، ومنه الألَّة، للمعانها. وقيل: الإلّ من التحديد، ومنه «الألَّةٌ» الحَرْبة، وذلك لحدَّتها، وقد جعل بعضهم بين هذه المعاني قدراً مشتركاً، يرجعُ إليه جميعُ ما تقدَّم، فقال الزَّجَّاجُ: «حقيقةُ الإلِّ عندي على ما تُوحيه اللغة: التحديد للشيء، فمن ذلك الألَّةُ: الحَرْبَةُ، وأذنٌ مُؤلَّلَة، فالإلُّ يخرج في جميع ما فُسِّر من العهد، والقرابةِ، والجُؤارعلى هذا، فإذا قلت في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 26 العهد: بينهما إلٌّ، فتأويلُه أنَّهُمَا قد حَدَّدَا في أخْذ العهود، وكذلك في الجُؤار والقرابة» . وقال الرَّاغبُ: «الإِلُّ» كلُّ حالةٍ ظاهرة من عَهْدٍ، وحِلْفٍ، وقرابة تَئِلُّ، أي: تَلْمَعُ، وألَّ الفرسُ: أسرع. والألَّةُ: الحرْبَةُ اللاَّمعة «وأنشد غيرُهُ على ذلك قول حماس بن قيسٍ يوم فتح» مكَّة «: [الرجز] 2760 - إنْ تَقْتلُوا اليوْمَ فَمَا لِي عِلَّه ... سِوَى سِلاحٍ كاملٍ وألَّه ... وذِي غِرَارَيْنِ سَريعِ السَّلَّه ... قال: وقيل: الإلُّ والإيلُ: اسماه لله - تعالى -، وليس ذلك بصحيحٍ. قال الأزهريُّ» «إيل» من أسماء الله بالعبرانية؛ فجاز أن يكون عُرِّب، فقيل: «إلّ» والأللان: صفحتا السكّين «. انتهى، ويجمع الإلُّ في القلَّة على آلِّ، والأصل:» أألُل «بزنة» أفْلُس «، فأبدلت الهمزةُ الثانية ألفاً، لسكونها بعد أخرى مفتوحة، وأدغمت اللاَّمُ في اللام، وفي الكثرة على» إلالٍ «ك» ذِئْب وذِئَاب «. و «الألُّ» بالفتح: قيل: شدَّة القنوط. قال الهرويُّ في الحديث: «عجب ربكم من ألِّكُم وقُنوطكم» . قال أبو عبيدة: المحدِّثون يقولونه بكسر الهمزة، والمحفوظ عندنا فَتَحُها، وهو أشبَهُ بالمصادرِ، كأنَّه أرادَ: من شدَّة قنوطكم، ويجوزُ أن يكون من رفع الصَّوت، يقال: ألَّ يَؤُلُّ ألاَّ، وأللاً، وألِيلاً، إذا رفع صوته بالبكاء، ومنه يقال له: الويل والألِيل؛ ومنه قول الكميت: [البسيط] 2761 - وأنتَ مَا أنتَ فِي غَبْراءَ مُظْلِمَةٍ ... إذَا دَعَتْ أَلَلَيْهَا الكَاعِبُ الفُضُلُ انتهى. وقرأ فرقة «ألاَّ» بالفتح، وهو على ما ذكر من كونه مصدراً، من «ألَّ يَؤلُّ إذا عاهد. وقرأ عكرمة:» إيلاً «بكسر الهمزة، بعدها ياءٌ ساكنة، وفيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّه اسمُ الله تعالى، ويُؤيِّده ما تقدم في: {لِّجِبْرِيلَ} [البقرة: 97] ، و {إِسْرَائِيلَ} [البقرة: 40] أنَّ المعنى: عبدُ اللهِ. الثاني: يجوزُ أن يكون مشتقاً مِن: آل يَؤُولُ: إذا صَارَ إلى آخر الأمر، أو من: آل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 27 يؤولُ: إذا سَاسَ، قاله ابنُ جني، أي: لا يرقبون فيكم سياسةً ولا مُداراة، وعلى التقديرين سكنت الواو بعد كسرة فقُلبتء ياءً، ك:» ريح «. الثالث: أنه هو» الإِلُّ «المضعف، وإنَّما اسْتُثقل التَّضعيفُ، فأبدل إحداهما حرف علةٍ، كقولهم: أمْلَيْتُ الكتاب، وأمْلَلْتُه. وقال الشاعر: [البسيط] 2762 - يَا لَيْتَمَا أمَّنَا شالتْ نَعامتُهَا ... أيْمَا إلى جنَّةٍ أيْمَا إلى نَارِ قوله:» وَلاَ ذِمَّةً «الذِّمَّة قيل: العَهْد، فيكون ممَّا كُرِّرَ لاختلافِ لفظه، إذا قلنا: إنَّ الإلَّ العهدُ أيضاً، فهو كقوله تعالى: {صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] ، وقوله: [الوافر] 2763 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وألْقَى قولَها كَذِباً ومَيْنَا وقوله: [الطويل] 2764 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وهندٌ أتَى من دُونهَا النَّأيُ والبُعْدُ وقيل: الذِّمَّة: الضَّمان، يقال: هو في ذمَّتي، أي: في ضماني، وبه سُمِّي أهل الذِّمَّة، لدخولهم في ضمانِ المسلمين. ويقال: له عليَّ ذمَّةٌ، وذِمام ومذمَّة، وهي الذمُّ قال ذلك ابن عرفة، وأنشد لأسامة بن الحارث: [الطويل] 2765 - يُصَيِّحُ بالأسْحَارِ في كلِّ صارةٍ ... كمَا نَاشَدَ الذَّمَّ الكَفيلَ المُعَاهِدُ وقال الرَّاغِبُ» الذِّمامُ: ما يُذَمُّ الرجلُ على إضاعته من عهدٍ، وكذلك الذِّمَّة، والمَذمَّة والمِذمة، يعني بالفتح والكسر. وقيل: لي مَذَمَّةٌ فلا تهتكها «وقال غيره:» سُمِّيَتْ ذِمَّة، لأنَّ كُلَّ حُرْمة يلزمك من تضييعها الذَّمُّ، يقال لها: ذِمَّة، وتجمع على «ذِمِّ» ، كقوله: [الطويل] 2766 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... كَمَا نَاشَدَ الذَّمِّ ... ... ... ... ... ... . . وعلى ذممٍ، وذِمَامٍ «. وقال أبو زيد:» مَذِمَّة، بالكسْرِ من الذِّمام، وبالفتح من الذَّمِّ «. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 28 وقال الأزهري:» الذِّمَّة: الأمان «. وفي الحديث:» ويسعى بذمَّتِهم أدْناهُمْ «. قال أبو عبيد:» الذِّمَّة: الأمانُ ههنا، يقول إذا أعطى أدنى الناسُ أماناً لكافر نفذَ عليهم، ولذلك أجاز عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أمان عبدٍ على جميع العسكر «. وقال الأصمعي «الذِّمَّة: ما لَزِم أن يُحفظَ ويُحْمَى» . قوله: «يُرْضُونَكُم» فيه وجهان: أحدهما: أنه مستأنفٌ، وهذا هو الظاهر، أخبر أنَّ حالهم كذلك. والثاني: أنها في محلِّ نصب على الحال من فاعل «لاَ يَرْقُبُواْ» . قال أبُو البقاءِ: «وليس بشيءٍ؛ لأنَّهم بعد ظهورهم لا يُرْضُون المؤمنين» . ومعنى الآية: يعطونكم بألسنتهم خلاف ما في قلوبهم. قوله: «وتأبى قُلُوبُهُمْ» يقالُ: أبَى يَأبَى، أي: اشتد امتناعه، فكلَّ إباءٍ امتناعٌ من غير عكس، قال: [الطويل] 2767 - أبَى اللهُ إلاَّ عَدْلَهُ ووفاءهُ ... فَلاَ النُّكْر مَعْروفٌ ولا العُرْفُ ضَائِع وقال آخر: [الطويل] 2768 - أَبَى الضَّيْمَ والنُّعمانُ يَحْرِقُ نَابَهُ ... عَليْهِ فأفْضَى والسُّيوفُ مَعَاقِلُهْ فليس مَنْ فسَّره بمطلق الامتناع بمصيبٍ. ومجيءُ المضارعِ منه على «يفعل» بفتح العين شاذٌّ، ومثله «قَلَى يَقْلَى في لغة» . فصل المعنى: «وتأبى قُلُوبُهُمْ» الإيمان «وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ» وفيه سؤالان: السؤال الأول: أنَّ الموصوفين بهذه الصفة كفار، والكفر أقبح وأخبث من الفسق، فكيف يحسن وصفهم بالفسق في معرض المبالغة؟ السؤال الثاني: أنَّ الكفار كلُّهم فاسقون، فلا يبقى لقوله: «وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ» فائدة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 29 والجواب عن الأوَّلِ: أنَّ الكافِر قد يكونُ عَدْلاً في دينه، وقد يكون فاسقاً خبيث النفس في دينه، فالمرادُ أن هؤلاء الكفار الذين من عادتهم نقض العهود، «أكثرُهُمُ فَاسقُون» في دينهم، وذلك يوجب المبالغة في الذَّم. والجوابُ عن الثَّاني عين الأوَّل؛ لأنَّ الكافر قد يكون محترزاً عن الكذب، ونقض العهد، والمكر، والخديعة وقد يكون موصوفاً بذلك، ومثل هذا الشَّخص يكون مذموماً عند جميع النَّاسِ، وفي جميع الأديان. ومعنى الآية: أنَّ أكثرهم موصوف بهذه الصفات الذميمة. وقال ابنُ عبَّاسٍ «لا يبعدُ أن يكون بعض أولئك الكفار قد أسلم، وتاب، فلهذا السبب قال:» وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ «. ليخرج عن هذا الحكم، أولئك الذين أسْلَمُوا» . قوله {اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} . قال مجاهدٌ «أطعم أبو سفيان حلفاءه، وترك حلفاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنقضوا العهد الذي كان بينهم بسبب تلك الأكلة» . وقال ابنُ عبَّاسٍ: «إنَّ أهل الطائف أمدرهم بالأموال ليقووهم على حرب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» . وقيل: لا يبعدُ أن تكون طائفة من اليهود، أعانوا المشركين على نقض العهود، فكان المراد من هذه الآية، ذم أولئك اليهود، وهذا اللفظُ في القرآن، كالأمر المختص باليهود، ويتأكد هذا بأنَّ الله تعالى أعاد قوله: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} ولو كان المراد منه المشركين، لكان هذا تكراراً محضاً، وإذا حمل على اليهود لم يكن تكراراً، فكان أوْلَى. ثم قال: «إِنَّهُمْ سَآءَ» أي: بئس «مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ» . قال أبُو حيَّان: يجوزُ أن تكون على بابها من التَّصرُّف والتعدِّي، ومفعولها محذوفٌ، أي: ساءهم الذي كانُوا يعملُونه، أو عملُهم، وأن تكون الجارية مَجْرى «بِئْسَ» فتُحَوَّل إلى «فَعُل» بالضمِّ، ويمتنع تصرُّفها، وتصيرُ للذَّم، ويكون المخصوص بالذم محذوفاً، كما تقرَّر مراراً. قوله: {لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً} أي: لا تبقوا عليهم أيها المؤمنون كما لا يبقُون عليكم لو ظهروا. {وأولئك هُمُ المعتدون} لنقض العهد، وتعديهم ما حدّ اللهُ في دينه، وما يوجبه العقد والعهد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 30 قوله تعالى: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين} . لمَّا بيَّن تعالى حال من لا يرقبُ في الله إلاًّ ولا ذمَّةً، وينقض العَهْدَ، ويتعدَّى ما حُدّ له. بيَّن بعده أنهم إن تابوا، وأقاموا الصَّلاة، وآتوا الزماة، فهم: {فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين} . فإن قيل: المعلق على الشيء بكلمة «إنْ» عدم عند عدم ذلك الشيء، فهذا يقتضي أنَّهُ متى لم توجد هذه الثلاثة، ولا تحصل الأخوة في الدِّين، وهو مُشْكلٌ؛ لأنَّه ربَّما كان فقيراً، أو كان غنيّاً، لكن قبل انقضاءِ الحول، لا تلزمه الزكاة. فالجوابُ: أنَّه قد تقدَّم في تفسير قوله تعالى: {إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ} [النساء: 31] أن المعلق على الشَّيء بكلمة «إن» لا يلزم منه عدم ذلك الشَّيء، كذلك ههنا، ومن النَّاس من قال: إنَّ المعلق على الشَّيء بكلمة «إنْ» عدم عند عدم ذلك الشيء، فها هنا قال: المؤاخاة بين المسلمين موقوفة على فعل الصلاة والزكاة جميعاً، فإنَّ الله شرطها في إثبات المؤاخاة، ومنْ لمْ يكن أهلاً لوجوب الزكاة عليه؛ وجب عليه أن يقرَّ بحكمها فإذا أقرَّ بهذا الحكم دخل في الشَّرط الذي به تجبُ الأخوة. قوله: فإِخوَانُكُم خبرُ مبتدأ محذوف، أي: فهم إخوانكم، والجملةُ الاسمية في محلِّ جزمٍ على جواب الشرط، وفِي الدِّينِ متعلِّقٌ ب «إخْوانُكُمْ» لِمَا فيه من معنى الفعل. فصل قال أبو حاتم «قال أهل البصرة أجمعون: الإخوة في النَّسب، والإخوان في الصَّداقة» . وهذا غلطٌ، يقال للأصدقاء وغير الأصدقاء إخوة، وإخوان، قال الله تعالى {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ولم يَعْنِ النَّسبَ، وقال تعالى: {أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ} [النور: 61] وهذا في النسب. قال ابن عبَّاسٍ: «حرمت هذه الآية دماء أهل القبلةِ» ومعنى قوله: «فَإِخْوَانُكُمْ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 31 أي: فهم إخوانكم «فِي الدين» لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، قال ابنُ مسعودٍ «أمرتم بالصَّلاةِ والزكاة فمن لم يزك فلا صلاة له» . وروى أبو هريرة قال: لمَّا توفي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان أبو بكر، وكفر من كفر من العرب فقال عمرُ: كيف تقاتل النَّاس، وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أمِرْتُ أنْ أقاتل النَّاس حتَّى يقُولُوا لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فمَنْ قَالهَا فقد عَصَمَ منِّي مالهُ ونَفْسَهُ إِلاَّ بِحَقِّها وحِسابُهُ على اللهِ» فقال: والله لأقاتلنَّ مَنْ فرَّق بين الصلاةِ والزكاةِ، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عقالاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لقاتلهم على منعه، قال عمر: «فوالله ما هو إلاَّ أن شرح الله صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحقّ» . قوله {وَنُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} قال الزمخشريُّ: وهذا اعتراض واقع بين الكلامين، والمقصود: الحث والتحريض على تأمل ما فصل من أحكام المشركين المعاهدين وعلى المحافظة عليها. قوله {وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم} نقضوا عهودهم، «الأيمان» جمع «يمين» بمعنى: الحلف. «مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ» عقدهم. يعني: مشركي قريش. قال الأكثرون: المرادُ: نكثهم لعهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقيل: المرادُ: حمل العهد على الإسلام، ويؤيدهُ قراءة من قرأ «وإن نكثُوا إيمانَهُم» بكسر الهمزة والأول أولى، للقراءة المشهورة؛ ولأنَّ الآية وردت في ناقضي العهد، وقوله: {وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} أي: عابوه، وهذا دليلٌ على أنَّ الذِّمِّي إذا طعن في دين الإسلام ظاهراً لا يَبْقَى له عهد. قوله: {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} أي: متى فعلوا ذلك فافعلوا هذا. قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو «أئِمَّة» بهمزتين ثانيتهما مُسهَّلة بَيْنَ بَيْنَ، ولا ألف بينهما. والكوفيون وابن ذكوان عن ابن عامر بتحقيقهما، من غير إدخال ألف بينهما، وهشام كذلك، إلاَّ أنَّه أدخل بينهما ألفاً، هذا هو المشهور بين القراء السبعة، وفي بعضها كلامٌ يأتي إن شاء الله تعالى، ونقل أبو حيان عن نافع ومن معه، أنَّهم يبدلون الثانية ياء صريحة، وأنَّهُ قد نُقِلَ عن نافعٍ المدُّ بينهما، أي: بين الهمزة والياء. فأمَّا قراءةُ التحقيق، وبينَ بينَ، فقد ضعَّفها جماعةٌ من النحويين، كأبي علي الفارسي، وتابعيه، ومن القرَّاء أيضاً من ضعَّف التَّحقيق مع روايته له وقراءتِهِ به لأصحابه، ومنهم من أنكر التسهيل بينَ بينَ، فلم يقرأ به لأصحاب التخفيف، وقرءوا بياء خفيفة الكسر، نَصُّوا على ذلك في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 32 كتبهم، وأمَّا القراءةُ بالياء فهي التي ارتضاها الفارسيُّ، وهؤلاء الجماعة؛ لأنَّ النُّطقَ بالهمزتين في كلمة واحدة ثقيل، وهمزة بينَ بينَ بزنة المخففة. والزمخشري جعل القراءة بصريح الياء لَحْناً، وتحقيق الهمزتين غير مقبولٍ عند البصريين، قال: «فإن قلت: كيف لفظ» أئمة «؟ قلت: بهمزة بعدها همزةُ بين بين، أي: بين مخرج الهمزة والياء وتحقيق الهمزتين قراءة مشهورة، وإن لم تكنْ مقبولةً عند البصريين، وأمَّا التصريحُ بالياء فلا يجوزُ أن تكون، ومن قرأ بها فهو لاحن مُحرِّفٌ» . قال أبُو حيَّان: «وذلك دَأبه في تلحين المقرئين، وكيف يكون لحناً، وقد قرأ بها رَأسُ النُّحاة البصريين أبو عمرو بن العلاءِ، وقارىءُ أهْلِ مكة ابنُ كثير، وقارىءُ أهل المدينة نافعٌ» ؟ قال شهابُ الدِّين: «لايُنقَمُ على الزمخشريُّ شيءٌ، فإنه إنَّما قال: إنَّها غيرُ مقبولة عند البصريين، ولا يلزم من ذلك أنه لا يقبلها، غاية ما في الباب أنَّه نقل عن غيره، وأمَّا التصريحُ بالياء فإنَّه معذورٌ فيه، لما تقدَّم من أنه اشتُهِر بين القراء التسهيل بين بين، لا الإبدال المحض، حتَّى إنَّ الشَّاطبي جعل ذلك مذهباً للنحويين، لا للقراء، فالزمخشري إنما اختار مذهب القراء لا مذهب النُّحاة في هذه اللَّفظة» . وقد رَدَّ أبو البقاء قراءة التَّسهيل بينَ بينَ، فقال: «ولا يجوزُ هنا أن تجعل بين بين، كما جعلت همزةث» أئذا «؛ لأنَّ الكسرة هنا منقولة، وهناك أصليةٌ، ولو خُفِّفت الهمزةُ الثانية على القياس لقُلبت ألفاً، لانفتاح ما قبلها، ولكن تُرِكَ ذلك لتتحرك بحركةِ الميم في الأصل» . قال شهابُ الدِّين «قوله» منقولةٌ «لا يُفيد؛ لأنَّ النقل هنا لازم، فهو كالأصل، وقوله» ولوْ خُفِّفَتْ على القياس «إلى آخره، لا يُفيد أيضاً؛ لأنَّ الاعتناء بالإدغام سابقٌ على الاعتناء بتخفيف الهمزة» . ووزن «أئِمَّة» «أفْعِلة» ، لأنَّها جمع «إمام» ك «حمار وأحْمِرة» والأصل: «أأمِمَة» فالتقى ميمان، فأريد إدغامهما فنُقلت حركةُ الميم الأولى للسَّاكن قبلها، وهو الهمزة الثانية، فأدَّى ذلك إلى اجتماع همزتين ثانيتهما مكسورة، فالنحويون البصريون يوجبون إبدال الثانية ياء، وغيرهم يحقق، أو يسهِّل بين بين، ومنْ أدخلَ الألف فللخفَّة حتى يُفَرِّق بين الهمزتين، والأحسنُ أن يكون ذلك في التحقيق، كما قرأ هشام، وأمَّا ما رواه أبو حيان عن نافع من المدِّ مع نقله عنه أنَّه يصرِّح بالياء فللمبالغة في الخفة. قوله: «لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ» قرأ ابنُ عامر «لا أيمان» بكسر الهمزة، وهو مصدرُ آمَن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 33 يُؤمن إيمانً. هل هو من الأمان؟ وفي معناه حينئذٍ وجهان: أحدهما: أنهم لا يؤمنون في أنفسهم، أي: لا يُعطون أماناً بعد نُكثهم وطعنهم، ولا سبيل إلى ذلك. والثاني: الإخبار بأنهم لا يُوفُون لأحدٍ بعهدٍ يعقدُونَه له، أو من التصديق أي: إنَّهم لا إسلام لهم، واختار مكيٌّ التأويل الأوَّل، لما فيه من تجديد فائدة لمْ يتقدَّم لها ذكرٌ؛ لأنَّ وصفهم بالكفر وعدم الإيمان قد سَبَقَ وعُرِف. وقرأ الباقون بالفتح، وهو جمعُ يمين وهذا مناسب للنكث، وقد أُجمع على فتح الثَّانية، ويعني نفي الأيمان عن الكُفَّارِ، أنَّهم لا يُوفُون بها وإن صدرتْ منهم وثَبتَتْ؛ وهذا كقول الآخر: [الطويل] 2769 - وإِنْ حَلَفْتَ لا يَنْقُضُ النَّأيُ عَهْدَهَا ... فَليْسَ لِمخْضُوبِ البَنَانِ يَمِينُ وبذلك قال الشَّافعي، وحمله أبو حنيفةَ على حقيقته أنَّ يمين الكافرِ لا تكونُ يميناً شرعيةً، وعند الشافعي يمينٌ شرعيةٌ. فصل في المراد من الآية معنى الآية: قاتلوا الكفار بأسرهم، وإنَّما خصَّ الأئمة، والسَّادة بالذِّكر، لأنهم هم الذين يحرضون الأتباع على الأفعال الباطلة. قال ابنُ عبَّاسٍ: «نزلت في أبي سفيان بن حربٍ، والحارث بن هشام، وسهل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وسائر رؤساء قريش يومئذٍ، والذين نقضُوا العهد، وهم الذين همُّوا بإخراج الرسول» ، وقال مجاهدٌ «هم أهل فارس والروم» وقال حذيفة بن اليمان «ما قُوتل أهل هذه الآية، ولم يأت أهلها بعد» . {إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ} أي: لا عهود لهم. ثم قال: {لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} وهو متعلق بقوله: {فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر} أي: ليكن غرضكم في مقاتلتهم بعد ما وجد منهم من العظائم أن تكون المقاتلة سبباً في انتهائهم عن الكفر. قوله تعالى: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 34 لما قال {فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ} أتبعه بذكر السبب الباعث على مقاتلتهم، فقال {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ} نقضُوا عهودهم، وهم الذين نقضوا عهد الصُّلح بالحديبية وأعانوا بني بكر على خزاعة، {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} من مكة حين اجتمعُوا في دار النَّدوة. وقيل: المراد من المدينة، لما أقدموا عليه من المشورة والاجتماع على قصده بالقتل، وقيل: بل همُّوا على إخراجه من حيثُ أقدموا على ما يدعوه إلى الخروج، وهو نقيضُ العهدِ، وإعانة أعدائه، فأضيف الإخراج إليهم توسعاً لما وقع منهم من الأمور الدَّاعية إليه. وقوله: {وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرسول} إمَّا بالفعل، وإمَّا بالعزم عليه، وإن لمْ يُوجَدْ ذلك الفعل بتمامه، واعلم أنَّه ذكر ثلاثة أشايء، كل واحد منها يوجب مقاتلتهم إذا انفرد، فكيف إذا اجتمعت؟ أحدها: نكثهم العهد. والثاني: أنهم همُّوا بإخراج الرسول، وهذا من أوكد موجبات القتال. والثالث: قوله {وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} يعني: بالقتال يوم بدر؛ لأنَّهم حين سلم العير، قالوا: لا ننصرف حتى نستأصل محمداً ومن معه. وقال ناسٌ من المفسِّرين: أراد أنَّهُم بدأوا بقتال خزاعة حلفاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال الحسنُ: لا يجوز أن يكون المراد منه ذلك؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة. وقوله: «أَوَّلَ مرَّةٍ» نصبٌ على ظرف الزَّمانِ، وأصلها المصدر من «مَرَّ يَمُرُّ، كما تقدم [الأنعام: 94] . قوله: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} الجلالةُ مبتدأ، وفي الخبر أوجهٌ: أحدها: أنَّهُ» أحَقُّ «، و» أن تخْشَوْهُ «على هذا بدل من الجلالة بدل اشتمال، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، والتقدير: فخشية اللهِ أحَقُّ مِنْ خَشيتهم. الثاني: أَنَّ» أَحَقُّ «خبر مقدم، و» أَن تَخْشَوهُ «مبتدأ مؤخر، والجملةُ خبرُ الجلالة. الثالث: أنَّ» أَحَقُّ «مبتدأ، و» أن تَخْشَوهُ «خبره، والجملةُ أيضاً خبر الجلالة، قاله ابن عطية، وحسن الابتداء بالنكرة، لأنها أفعل تفضيل، وقد أجاز سيبويه أن تكون المعرفةُ خبراً للنكرة في نحو: اقصد رجلاً خيرٌ منه أبوه. الرابع: أنَّ» أن تخشوه «في محلِّ نصب، أو جرٍّ، بعد إسقاطِ الخافضِ، إذ التقدير: أحقُّ بأن تخشوه، وقوله: {إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ} شرطٌ حذف جوابه، أو قُدِّم على حسب الخلاف [الأنفال: 1] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 35 فصل هذا الكلامُ يقوي داعية القتال من وجوه: الأول: أنَّ تقرير الموجبات القويَّة، وتفصيلها ممَّا يُقَوِّي هذه الداعية. الثاني: أنَّك إذا قلت للرجل: أتخشى خصمك؛ فكأنك تحرضه على القتال، أي: لا تخف منه. والثالث: قوله {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} أي: إن كنت تَخْشَى أحَداً فالله أحقُّ أن تخشاه، لكونه في غاية القدرة، فالضَّررُ المتوقع منهم غايته القتل، وأمَّا المتوقع من اللهِ فالعقابُ الشديد في القيامة، والذم اللازم في الدُّنيا. والرابع: قوله: {إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ} أي: إن كنتم موقنين بالإيمان، وجب عليكم القتال، أي: إنكم إن لم تقدموا على القتال، وجب أن لا تكونوا مؤمنين. فصل حكى الواحديُّ عن أهل المعاني أنهم قالوا: «إذا قلت: ألا تفعل كذا، فإنَّما يستعمل ذلك في فعل مقدر وجوده، وإذا قلت: ألست تفعل، فإنَّما تقول ذلك في فعل تحقَّق وجوده، والفرقُ بينهما أنَّ» لا «ينفى بها المستقبل، فإذا أدخلت عليها الألف كان تحضيضاً على فعل ما يستقبل، و» ليس «إنما تستعمل لنفي الحال، فإذا أدخلت عليها الألف صار لتحقيق الحال» . فصل نقل عن ابن عباس أنه قال قوله: {أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً} ترغيب في فتح مكَّة وقوله: {قَوْماً نكثوا أَيْمَانَهُمْ} أي: عهدهم، يعني قريشاً حين أعانوا بني الديل بن بكر على خزاعة، كما تقدم. وقال الحسنُ «لا يجوزُ أن يكون المرادُ منه ذلك؛ لأنَّ سورة براءة نزلت بعد فتح مكَّة» . فصل قال الأصم «دلَّت الآية على أنَّهم كرهوا هذا القتال، لقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] فأمنهم الله تعالى بهذه الآيات» . قال القاضي «إنه تعالى قد يحث على فعل الواجب من لا يكون كارهاً له، ولا مُقصراً فيه، فإن أراد أن مثل هذا التحريض على الجهاد لا يقع إلاَّ وهناك كره للقتال، لا يصح أيضاً، لأنَّهُ يجوز أن يحث تعالى بهذا الجنس على الجهاد، لكي لا يحصل الكره الذي لولا هذا التحريض كان يقع» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 36 فصل قال القرطبيُّ «استدلُّوا بهذه الآية على وجوب قتل كل من طعن في الدِّين، إذ هو كافر، والطعنُ هو أن ينسب إليه ما لا يليقُ به، أو يعترض بالاستخفاف على ما هو من الدِّين، لما ثبت بالدليل القطعي على صحَّة أصوله، واستقامة فروعه» قال ابنُ المنذر: «أجمع عامَّةُ أهل العلم على أنَّ من سبَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقتل» . قال القرطبيُّ: «وأمَّا الذِّمي إذا طعن في الدِّين انتقض عهده في المشهور من مذهب مالك، لقوله تعالى: {وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ} [التوبة: 13] الآية، فأمر بقتلهم وقتالهم، وهو مذهب الشَّافعي وقال أبو حنيفة: يستتابُ، وإنَّ مجرَّد الطَّعن لا ينقض به العهد إلاَّ مع وجود النَّكث» . فصل [إذا حارب الذميُّ انتقض عهده، وكان ماله وولده فيئاً معه] . فصل قال القرطبيُّ: «أكثر العلماء على أنَّ من سبَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أهل الذِّمة، أو عرَّض، أو استخفَّ بقدره، أو وصفه بغير الوجه الذي نعت به فإنه يقتل؛ لأنَّا لَمْ نُعْطِه الذِّمة أو العهد على هذا، لقوله تعالى: {وَإِن نكثوا أَيْمَانَهُم} الآية، وقال أبو حنيفة والثوريُّ وأتباعهما من أهل الكوفة: لا يقتلُ، لأنَّ ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدَّب» . فصل قال القرطبي: «اختلفوا فيما إذا سبَّه ثم اسلم تقية من القتل، فقيل: يسقطُ القتل بإسلامه، وهو المشهور من المذاهب؛ لأن الإسلام يجُبُّ ما قبله. بخلاف المسلم إذا سبَّه ثم تاب، قال تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] . وقيل: لا يسقط الإسلام قتله، قاله في العتيبة» . قوله تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} الآية. اعلم أنَّه تعالى لمَّا قال في الآية الأولى: «ألاَ تُقاتِلُونَ» وذكر الأشياء التي توجبُ إقدامهم على القتالِ، ذكر في هذه الآية خمسة أنواع من الفوائد، كلُّ واحد منها يعظم موقعه إذا انفرد فكيف إذا اجتمعت؟ . أولها: قوله: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} وسمى ذلك عذاباً؛ لأنَّ اللهَ تعالى يعذب الكافرين، إن شاءَ في الدُّنيا، وإن شاء في الآخرة، والمراد من هذا العذاب القتل تارةً، والأسر أخرى، واغتنام الأموال ثالثاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 37 فإن قيل: أليس قد قال تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] فكيف قال ههنا: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} ؟ . فالجواب: المراد من قوله {وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ} [الأنفال: 33] عذاب الاستئصال والمراد من قوله: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} عذاب القتل والحرب، والفرق بين البابين: أنَّ عذابَ الاستئصال قد يتعدَّى إلى غير المذنب، وإن كان في حقه سبباً لمزيد الثواب، أمَّا عذابُ القتل، فالظَّاهر أنه مقصورٌ على المُذْنب. فصل احتج أهل السنة على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى بقوله: {يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ} فإنَّ المراد من هذا العذاب، القتل والأسر، وظاهر هذا النص يدلُّ على أنَّ ذلك القتل والأسر فعل الله تعالى، يدخله في الوجود على أيدي العباد. وأجاب الجبائيُّ عنه فقال: لو جاز أن يقال إنَّهُ يعذب الكُفَّار بأيدي المؤمنين لجاز أن يقال: إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكُفار، ولجاز أن يقال: إنَّهُ يكذب الأنبياء على ألسنة الكُفَّار، ويلعن المؤمنين على ألسنتهم، لأنَّه تعالى خالق لذلك، فلمَّا لم يَجُزْ ذلك عند المجبرة، علم أنَّه تعالى لم يخلق أعمال العباد، وإنَّما نسب ما ذكر إلى نفسه على سبيل التوسع من حيثُ إنَّهُ حصل بأمره وألطافه، كما يضيف جميع الطاعات إليه بهذا التفسير. وأجيب: بأنَّ الذي ألزمتموه علينا فالأمر كذلك، إلاَّ أنا لا نقوله باللِّسانِ، كما نعلم أنه تعالى هو الخالقُ لجميع الأجسام، ثم إنا لا نقول: يا خالق الأبوال والعذرات، ويا مكون الخنافس، والديدان، فكذا ههنا، وأيضاً: أنا توافقنا على أن الزِّنا واللِّواط وسائر القبائح، إنما حصلت بتقدير الله وتيسيره، ثمَّ لا يجوز أن يقال: يا مسهل الزنا واللواط، ويا دافع الموانع عنها. وأما قوله: المراد إذن الإقدارُ، فهذا صرف للكلام عن ظاهره، وذلك لا يجوزُ إلاَّ لدليل قاهر، والدَّليل القاهر من جانبنا، فإنَّ الفعل لا يصدر إلاَّ عند الدَّاعية الحاصلة، وحصول تلك الدَّاعية ليس إلاَّ من الله تعالى. وثانيها: قوله: «ويُخْزِهِمْ» أي: يذلهم بالأسر والقهر، قال الواحديُّ «إنهم بعد قتلكم إيَّاهم» وهذا يدلُّ على أنَّ الإخزاء وقع بهم في الآخرة، هذا ضعيف لما تقدَّم من أنَّ الإخزاء حاصلٌ في الدنيا. وثالثها: قوله: «وينصُرْكُم عليْهِمْ» أي: لمَّا حصل لهم الخزي، بسبب كونهم مقهورين فقد حصل النصر للمسلمين [بسبب] كونهم قاهرين. فإن قيل: لمَّا كان حصُولُ الخزي مستلزماً لحصول النصر، كان إفراده بالذِّكرِ عبثاً. فالجوابُ: ليس الأمر كذلك؛ لأنه يحتمل أن يحصل الخزي لهم من جهة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 38 المؤمنين، إلاَّ أنَّ المؤمنين يحصل لهم آفة بسبب آخر، فلمَّا قال: «وينصُرْكم عليْهِمْ» دلَّ على أنهم ينتفعون بهذا النصر والفتح والظفر. ورابعها: قوله {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} . قرأ الجمهور بياء الغيبة، رَدّاً على اسم الله تعالى، وقرأ زيد بن علي «نشف» بالنُّون، وهو التفات حسن، وقال: «قَوْمٍ مُؤمنينَ» شهادة للمخاطبين بالإيمان، فهو من باب الالتفات، وإقامة الظَّاهر مقام المضمر، حيث لم يقل «صدوركم» . والمعنى: ويبرىء داء قلوب قَوْمٍ مُؤمنين مِمَّا كانُوا ينالُونه من الأذى منهم. ومعلوم أنَّ من طال تأذِّيه من خصمه، ثم مكَّنه الله منه على أحسنِ الوجوه، فإنَّهُ يعظم سروره به، ويصير ذلك سبباً لقوة النفس، وثبات العزيمة. وقال مجاهدٌ والسديُّ «أراد صدور خزاعة حلفاء رسول الله، حيث أعانت قريش بني بكر عليهم حتى نكّلوا بهم، فشفى الله صدورهم من بني بكر بالنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» . وخامسها: قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} كرْبَهَا ووَجْدهَا بمعونة قريش بني بكر عليهم. فإن قيل: قوله {وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ} وبين قوله: {وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} فهذه المنافع الخمسة ترجع إلى تسكين الدَّواعي الناشئة من القوَّة الغضبيَّة، وهي التَّبشفي، ودرك الثَّأر وإزالة الغيظ، ولم يذكر فيها وجدان المال، والفوز بالمطاعم والمشارب؛ لأنَّ العرب جبلوا على الحميّة والأنفة، فرغبهُم في هذه المعاني لكونها لائقة بطباعهم. وقرأ الجمهور: «ويُذْهب» بضمِّ الياء وكسرِ الهاء مِنْ: «أذْهَبَ» ، و «غَيْظَ» مفعول به وقرىء «ويَذْهَب» بفتح الياء والهاء، جعله مضارعاً ل «ذَهَبَ» ، و «غيظُ» فاعل به الجزء: 10 ¦ الصفحة: 39 وقرأ زيد بن علي كذلك، إلاَّ أنَّه رفع الفعل مستأنفاً، ولم ينسقْه على المجزم قبله، كما قَرَءُوا «ويتوبُ» بالرفع عند الجمهور. قوله: {وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ} قرأ الجمهور بالرَّفع، وقرأ زيدُ بنُ علي، والأعرج، وابن أبي إسحاق، وعمرو بن عبيد، وعمرو بن فائد، وعيسى الثقفي، وأبو عمرو في رواية ويعقوب «ويتُوبَ» بالنَّصب، فأمَّا قراءةُ الجمهور فإنَّهَا استئنافُ إخبارٍ، وكذلك وقع، فإنه قد أسلم ناسٌ كثيرون، كأبي سفيان، وعكرمة بن أبي جهل، وسهيل بن عمرو وغيرهم. قال الزجاج: وأبُو الفتح: وهذا أمرٌ موجودٌ، سواءٌ قوتلوا، أمْ لمْ يقاتلوا، ولا وجه لإدخال التوبة في جواب الشرط الذي في: «قَاتِلُوهم» . يعنيان بالشَّرط: ما فُهِمَ من الجملة الأمرية. قالوا: ونظيره: {فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ} [الشورى: 24] وتمَّ الكلامُ ههنا، ثم استأنف فقال: {وَيَمْحُ الله الباطل} [الشورى: 24] وأمَّا قراءةُ زيد ومنْ ذُكر معه فإنَّ التوبةَ تكونُ داخلة في جواب الأمر من طريقِ المعنى، وفي توجيه ذلك غموضٌ، فقال بعضهم: إنَّه لمَّا أمرهُمْ بالمقاتلة شقَّ ذلك على بعضهم، فإذا أقدموا على المقاتلةِ صار ذلك العملُ جارياً مجرى التوبة من تلك الكراهة، قاله الأصمُّ. فيصير المعنى: إن تقاتلوهم يُعذِّبهمُ الله، ويتُبء عليكم من تلك الكراهة لقتالهم، وقال آخرون - في توجيه ذلك -: إنَّ حصول الظَّفَر وكثرة الأموال لذَّةٌ تطلبُ بطريقٍ حرام، فلمَّا حصلتْ لهُم بطريقٍ حلالٍ، كان ذلك داعياً لهم إلى التَّوبة ممَّا تقدم، فصارت التوبةُ معلقةً على المقاتلة. وقال ابنُ عطية - في توجيه ذلك -: «يتوجه عندي إذا ذهب إلى أنَّ التوبة يراد بها هنا قتل الكافرين والجاهد في سبيل الله، هو توبةٌ لكم أيها المؤمنون، وكمالٌ لإيمانكم، فتدخلُ التسوية على هذا في شرطِ القتال» . قال أبُو حيان «وهذا الذي قرروه من كون التَّوبة تدخلُ تحت جواب الأمر بالنسبة للمؤمنين الذين أمِرُوا بقتال الكُفَّارِ، والذي يظهر أنَّ ذلك بالنسبة إلى الكُفَّار، والمعنى: على من يشاء من الكفار، لأنَّ قتال الكفارِ، وغلبة المسلمين إياهم قد يكونُ سبباً لإسلام كثير، ألا ترى إلى فتح مكَّة، كيف أسلم لأجله ناسٌ كثيرون، وحسنُ إسلامُ بعضهم جدّاً، ك: ابن أبي سرح، ومن تقدم ذكره، وغيرهم» فيصير المعنى: إن تقاتلوهم يتب الله على من يشاء من الكُفَّار، أي: يُسْلمُ من يشاء منهم، والمرادُ بالتَّوبة هنا: الهداية إلى الإسلام كما ذكره جمهور المفسرين، ثمَّ قال {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} عليم بكل ما يفعل في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 40 ملكه «حَكِيمٌ» مصيب في أحكامه وأفعاله. قوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ} الآية. قال الفراء: «أمْ» من الاستفهام الذي يتوسط الكلام، ولو أريد به الابتداء لكان ب «الألفط أو ب» هل «. فصل هذا ترغيبٌ في الجهاد قيل: هذا خطابٌ للمنافقين، وقيل: للمؤمنين الذي شق عليهم القتال، فقال: أحسبتم أن تتركوا فلا تأمروا بالجهاد، ولا تمتحنوا، ليظهر الصادق من الكاذب، «ولمَّا يعلم اللهُ» أي يرى اللهُ الذين جاهدوا منكم، وذكر العلم والمراد منه: المعلوم، فالمراد أن يصدر الجهاد عنهم، إلاَّ أنه لما كان وجود الشيء يلزمه أن يكون معلوم الوجود عند الله، لا جرم جعل علم الله بوجوده كناية عن وجوده. قوله {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ} يجوزُ في هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنَّها داخلةٌ في حيِّز الصلة، لعطفها عليها، أي: الذين جَاهَدُوا ولم يتَّخذُوا. الثاني: أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من فاعل: «جَاهدُوا» أي: جَاهَدُوا حال كونهم غير متخذين وليجَةً. و: «وَليجَةً» مفعول، و «مِن دُونِ اللهِ» إمَّا مفعول ثان، إن كان الاتخاذُ بمعنى التَّصْيير، وإمَّا متعلقٌ بالاتخاذ، إن كان على بابه، والوليجة: فَعِيلة، مِن الوُلُوج، وهُو الدُّخُولُ، و «الوَليجَةُ» من يداخلك في باطن أمورك، وقال أبو عبيدة: «كُلُّ شيءٍ أدخلته في شيءٍ وليس منهُ، والرجل في القوم وليس منهم، يقال له وليجة» ويستعملُ بلفظٍ واحدٍ، للمفردِ، والمثنى، والمجموع، وقد يجمعُ على «ولاَئِج» ووُلُج، ك: صحيفة، وصحائف، وصحف وأنشدوا لعبادة بن صفوان الغنوي: [الطويل] 2770 - ولائجُهُمْ في كُلِّ مَبْدَى ومَحْضَرٍ ... إلى كُلِّ مَنْ يُرْجَى ومَنْ يَتخوَّفُ فصل معنى الآية: {وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً} بطانة، وأولياء يوالونهم ويفشون إليهم أسرارهم. وقال قتادةُ: «وَليجةً» خيانة. وقال الضَّحَّاك. «خديعة» . والمقصودُ من ذكر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 41 هذا الشَّرط: أنَّ المجاهد قد يجاهد ولا يكون مُخْلصاً، بل يكون منافقاً باطنه خلاف ظاهره، فبيَّن أنَّهُ لا بد وأن يأتُوا بالجهاد مع الإخلاص خالياً عن الرياءِ، والنفاقِ، والتَّودُّدِ إلى الكفار. والمقصودُ: بيان أنَّه ليس الغرضُ منه إيجاب القتالِ فقط، بل الغرض أن يُؤتَى به انقياداً لأمر اللهِ، ولحكمه وتكليفه، ليظهر به بذل النفس والمال في طلب رضوان الله فحينئذٍ يحصل به الانتفاع. قوله: {والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} قرأ الحسنُ «بِمَا يَعْملُون» بالغيبةِ على الالتفات؛ وبها قرأ يقعوبُ في رواية سلاَّم، أي: عالم بنياتهم، وأغراضهم، لا يَخْفَى عليه منها شيءٌ. قال ابنُ عبَّاسٍ: إنَّ الله لا يَرْضَى أن يكون الباطنُ خلاف الظَّاهِرِ، ولا الظَّاهر خلاف الباطن، وإنَّما يريدُ من خلقه الاستقامة، كما قال {إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا} [فصلت: 30] ، قال: ولمَّا فرض القتالُ، تميَّز المنافقُ من غيره، وتميَّز من يوالي المؤمنين ممَّن يعادِيهمْ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} الآية. اعلم أنَّهُ تعالى بَدَأ السُّورة بذكر البراءة من الكُفَّار، وبالغ في ذلك، وذكر من أنواع قَبَائِحِهمْ مَا يوجب تلك البراءةَ، ثمَّ إنَّه تعالى حكى عنهم شبهاً احتجوا بها في أنَّ هذه البراءة غير جائزةٍ، وأنَّهُ يجبُ مخالطتهم ومناصرتهم، فأولها هذه الآية، وذلك أنَّهم ذكروا أنهم موصوفون بصفات حميدةٍ توجبُ مخالطتهم ومعاونتهم، ومناصرتهم، ومن جملةِ تلك الصِّفات، كونهم عامرين للمسجدِ الحرامِ. قال ابنُ عبَّاسٍ: لمَّا أسر العبَّاسُ يوم بدرٍ، وعيَّرَهُ المسلمون بالكُفرِ، وقطيعة الرَّحمِ، وأغلظ له عليٌّ القول، فقال العبَّاسُ: ما لكم تذكرون مساوئنا، ولا تذكرون محاسننا؟ فقال له عليٌّ: ألكُم محاسن؟ فقال: نعم، إنَّا لنعْمُرُ المسْجِدَ الحَرامَ، ونحجب الكَعْبَة، ونسْقِي الحاجَّ، ونفكُّ العاني؛ فأنزل اللهُ تعالى ردّاً على العبَّاسِ: {مَا كَانَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 42 لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله} أي: ما ينبغي للمشركين أن يعمرُوا مساجد الله، أوجب على المسلمين منعهم من ذلك؛ لأنَّ المساجد تعمر لعبادة الله وحده. واعلم أنَّ عمارة المَسْجِد قسمان: إمَّا بلزومها وكثرة إتيانها، يقال: فلان يعمرُ مجلس فلان إذا كثر غشيانه، وإمَّا بالعمارة المعروفة بالبناء، فإن كان المراد هو الثاني كان المعنى أنَّه ليس للكافر أن يقدم على مرمَّةِ المسجد، لأنَّ المسجد موضع العبادة، فيجب أن يعظم، والكافرُ يهينه، وأيضاً فالكافرُ نجس في الحكم، لقوله تعالى: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] ، وتطهير المسجد واجبٌ، لقوله تعالى: {أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ} [البقرة: 125] ، وأيضاً فالكافرُ لا يحترز من النَّجاسة، فدخوله المسجد تلويث للمسجد، وقد يؤدّي إلى فسادِ عبادة المصلين. وأيضاً إقدامه على مرمة المسجد يجري مجرى الإنعام على المُصلين، ولا يجوز أن يصير الكافر صاحب المنّة على المسلمين، وقد ذهب جماعةٌ منهم الواحديُّ؛ إلى أنَّ المُرادَ منه: العمارة المعروفة من بناء المسجدِ، ومرمته عند الخراب، فيمنع منه الكافر، حتى ولو أوصى بها لم تقبل، ويمنع من دخول المساجدش، وإن دخل بغير إذن استحق التعزير، وإن دخل بإذن لم يعزر، والأولى تعظيمُ المساجد، ومنعهم منها، وقد أنزل رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفد ثقيف في المسجد وهم كفَّار، وشد ثمامة بن أثال الحنفي في سارية من سواري المسجد، وهو كافر، وحمل بعضهم العمارة على المسجد على الوجه الأول. «أَن يَعْمُرُواْ» اسم «كان» . قرأ ابنُ السميفع «يُعْمِرُوا» بضم الياء وكسر الميم، من: «أعمر» رباعياً، والمعنى: أن يعينوا على عمارته. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو «مسجد اللهِ» بالإفراد، وهي تحتملُ وجهين، أن يُراد به مسجدق بعينه، وهو المسجد الحرام، لقوله {وَعِمَارَةَ المسجد الحرام} [التوبة: 19] ، وأن يكون اسم جنسٍ، فيندرج فيه سائر المساجد، ويدخل المسجدُ الحرامُ دخولاً أوليّاً وقرأ الباقون: «مَساجِد» بالجمع، وهي أيضاً محتملةٌ للأمرين، ووجه الجمع إمَّا لأنَّ كُلَّ بقعةٍ من المسجد الحرام يقال لها: مسجدٌ، وإمَّا لأنه قبلةُ سائر المساجد، فصَحَّ أن يُطْلقَ عليه لفظُ الجمع لذلك. [قال الفرَّاءُ: ربما ذهب العربُ بالواحد إلى الجمع، وبالجمع إلى الواحد ألا ترى إلى الرجل يركب البرذون؛ فيقول: أخذت في ركوب البراذين، وفلان يجالس الملوك، وهو لا يجلس إلا مع ملك واحد، ويقال: فلان كثير الدرهم والدينار يريد: الدراهم والدنانير] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 43 قوله: «شَاهِدِينَ» الجمهور على قراءته بالياء نصباً على الحال من فاعل: «يَعْمُرُوا» أراد: وهم شاهدون. وقرأ زيد بن علي: «شَاهِدُون» بالواو رفعاً على خبر ابتداءٍ مضمر، والجملةُ حالٌ أيضاً. قوله «على أَنْفُسِهِمْ» الجمهور على «أنفُسهم» جمع «نَفْس» وقرىء «أنفسهم» بضم الفاء، ووَجْهُهَا أن يُرادَ ب «الأنْفَس» - وهو الأشرف الأجل من النَّفَاسة -: رسولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قيل: لأنه ليس بطنٌ من بطون العرب إلاَّ وله فيهم ولادة، وهذا المعنى منقولٌ في تفسير قراءة الجمهور أيضاً، وهو مع هذه القراءة أوضح. فصل قال الحسنُ: «لم يقولوا نحن كفار، ولكن كلامهم بالكفر شاهد عليهم بالكفر» . وقال الضحاك عن ابن عبَّاسٍ: «شهادتهم على أنفسهم بالكفر سجودهم للأصنام، فكانوا يطوفون بالبيت عراة، وكانت أصنامهم منصوبة بخارج البيت الحرام عند القواعد، وكلَّما طافُوا شَوْطاً سَجَدُوا لأصْنَامِهِمْ، ولم يَزْدَادُوا بذلك من الله إلاَّ بُعْداً» . وقال السدي: «شهادتهم على أنفسهم بالكفر، هو أن النصراني يسأل من أنت؟ فيقول: أنا نصراني، واليهودي يقول أنها يهودي، ويقال للمشرك ما دينك؟ فيقول: مشرك» . وقيل: إنَّهم كانُوا يقولون: لبيك لا شريك لك إلاَّ شريك هو لك تملكه وما ملك، ونقل عن ابن عباس أنه قال: «المرادُ أنهم يشهدون على الرسول بالكفر، قال: وإنَّما جازَ هذا التفسيرُ، لقوله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] . قال القاضي» هذا عدول عن الحقيقة، وإنما يجوز المصير إليه لو تعذَّر إجراءُ اللفظ على حقيقته، أمَّا لما بيَّنا أنَّ ذلك جائز لم يجز المصير إلى هذا المجاز «. قوله {أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} لأنها لغير الله، ثم قال: {وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ} هذه جملةٌ مستأنفة و» في النَّارِ «متعلقٌ بالخبرِ، وقُدِّم للاهتمام به، ولأجل الفاصلة. وقال أبُو البقاءِ:» وهم خالدون في النَّارِ، وقد وقع الظرفُ بين حرف العطف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 44 والمعطوف «وفيه نظرٌ، من حيثُ إنَّه يوهم أنَّ الجملة معطوفةٌ على ما قبلها، عطف المفرد على مثله تقديراً، وليس كذلك، بل هي مستأنفةٌ، وإذا كانت مستأنفة فلا يقال فيها: فصل الظَّرف بين حرف العطف والمعطوف، وإنَّما ذلك في المتعاطفين المفردين، أو ما في تأويلهما، وقد تقدَّم تحقيقه في قوله تعالى: {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} [البقرة: 201] وفي قوله: {وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل} [النساء: 58] . وقرأ زيد بن علي خالدين بالياء، نصباً على الحالِ من الضمير المستتر في الجارِّ قبله، لأنَّ الجارَّ صار خبراً، كقولك: في الدار زيد قاعداً، فقد رفع زيد بن علي «شاهدين» ، ونصب «خالدون» عكس قراءة الجمهور فيها. فصل احتج أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّ الفاسق من أهل الصَّلاة، لا يخلد في النار من وجهين: الأول: أن قوله {وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ} يفيد الحصر، أي: هم فيها خالدون لا غيرهم؛ لأنَّ هذا الكلام إنَّما ورد في حق الكفار. الثاني: أنَّه تعالى جعل الخلود في النار للكافر جزاء على كفره، ولو كان هذا الحكم ثابتاً لغير الكفار، لما صحَّ تهديد الكافر به. قوله: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله} جمهورُ القراء على الجمع، وقرأ الجحدريُّ، وحماد بن أبي سلمة عن ابن كثير بالإفراد، والتَّوجيهُ يؤخذ ممَّا تقَدَّم، والظَّاهر أن الجمع هنا حقيقةٌ؛ لأن المراد: جميع المؤمنين العامرين لجميع مساجد أقطار الأرض. فصل اعلم أنَّه تعالى لمَّا بيَّن أنَّ الكافر ليس له أن يشتغل بعمارة المسجد، بيَّن أنَّ المشتغل بهذا العمل يجب أن يكون موصوفاً بصفات أربع، فقال: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} فبين أنه لا بُدَّ من الإيمان بالله؛ لأن المسجد عبارة عن الموضع الذي يعبد الله فيه، والكافرُ يمتنع منه ذلك، وأمَّا كونه مؤمناً باليوم الآخر، لأنَّ عبادة الله إنَّما تفيد في القيامة، فمن أنكر القيامة، لم يعبد الله، ومن لم يعبد الله، لم يَبْنِ بناءً لعبادة الله. فإن قيل: لِمَ لَمْ يذكر الإيمان بالرَّسول - عليه الصَّلاة والسَّلام -؟ . فالجوابُ: من وجوه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 45 الأول: أنَّ المشركين كانوا يقولون: إنَّ محمداً إنَّما ادَّعى الرِّسالةَ طلباً للرئاسة، فذكر ههنا الإيمان باللهِ واليوم الآخر، وترك ذكر النُّبوةِ، كأنه يقولُ: مطلوبي من تبليغ الرسالة ليس إلاَّ الإيمان بالمبدأ والمعاد، فذكر المقصود الأصليّ، وحذف ذكر النبوة، تنبيهاً للكفار على أنَّه لا مطلوب له من الرسالة إلاَّ هذا القدر. الثاني: أنه لمَّا ذكر الصَّلاة، والصلاة لا تتم إلاَّ بالأذان والإقامة والتشهد، وهذه الأشياء مشتملة على ذكر النبوة، فكان كافياً. الثالث: أنَّه ذكر الصلاة، والمفرد المحلى بالألف واللام ينصرف إلى المعهود السابق، والمعهود عند المسلمين هي الأعمال التي كان يأتي بها محمد - عليه الصَّلاة والسَّلام - فكان ذكر الصَّلاة دليلاً على النبوة، وأمَّا قوله «وأَقَامَ الصَّلاةَ» فلأنَّ المقصود الأعظم من بناء المسجد إقامة الصلاة، وأمَّا قوله «وآتَى الزَّكاةَ» فلأنَّ الإنسانَ إذا كان مقيماً للصلاة، فإنَّه يحضرُ في المسجد، وفي المسجد طوائف الفقراء والمساكين، لطلب أخذ الزَّكاةِ، فتحصُل عمارة المسجد، وإن حملنا العمارة على البناء، فلأن الظَّاهرَ أنَّ الإنسان إذا لم يؤدّ الزكاة لا يعمر مسجداً. وأما قوله {وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله} أي: لا يبني المسجد لأجل الرِّياء والسمعة، ولكن يبنيه لمجرد طلب رضوان الله. روي أنَّ أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بنى في أول الإسلام على باب داره مسجداً، فكان يصلي فيه، ويقرأ القرآن، والكفار يؤذونه بسببه، فيحتمل أن يكون المراد منه تلك الحالة، ولمَّا حصر عمارة المساجد فيمن كان موصوفاً بهذه الصفات الأربع، نبَّه بذلك على أنَّ المسجد يجبُ صونه عن غير العبادة فيدخل فيه فضول الحديث، وإصلاح مهمات الدنيا. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «يأتِي في آخر الزمانِ ناسٌ من أمتِي يأتُون المساجدَ فيقعُدُون فيها حلقاً، ذكرُهُم الدُّنْيَا، وحُبُّ الدُّنْيَا، لا تُجالِسُوهُم فليْسَ للهِ بِهِمْ حَاجَة» وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «الحديثُ في المسْجِدِ يَأكلُ الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش» ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، قال الله تعالى: «إن بيوتي في الأرض المساجد، وإنَّ زُوَّاري فيها عُمَّارها، فطُوبَى لعبدٍ تطهَّر في بيتهِ ثمَّ زَارنِي في بَيْتِي، فحقٌّ على المَزُورِ أن يُكرم زائرهُ» ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «مَنْ ألفَ المَساجِد ألفهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 46 الله» ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «إذَا رأيْتُم الرَّجلَ يعتادُ المسجدَ فاشْهَدُوا له بالإيمان» ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «مَنْ أسرجَ في مسجدٍ سراجاً لم تزلِ الملائِكةُ وحملةُ العرشِ يَسْتغفرُونَ لهُ ما دامَ في ذلك المسْجدِ ضَوؤهُ» ، وهذه الأحاديث نقلها الزمخشريُّ. قوله: {فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين} قال المفسرون: «عسى» من الله واجب، لكونه متعالياً عن الشّك والتردد. وقال أبو مسلم: «عسى» ههنا راجع إلى العباد، وهو يفيدُ الرجاء، فكان المعنى: إنَّ الذين يأتون بهذه الطاعات، إنَّما يأتون بها على رجاء الفوز بالاهتداء، لقوله تعالى: {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً} [السجدة: 16] والتحقيق فيه: أنَّ العبد عند الإتيان بهذه الأعمال، لا يقطعُ على الفوز بالثَّواب؛ لأنه يجوزُ من نفسه أنه قد أخَلَّ بقيد من القيود المعتبرة في حصول القبول، وقال الزمخشريُّ «المرادُ منه تبعيد للمشركين عن مواقف الاهتداء، وحسم لأطماعهم من الانتفاع بأعمالهم التي استعظموها وافتخروا بها» . فبيَّن تعالى أنَّ الذين آمنوا وضَمُّوا إلى إيمانهم العمل بالشرائع، والخشية من الله فهؤلاء صار حصول الاهتداء لهم دائراً بين «لَعَلَّ» و «عَسَى» ، فما بالُ هؤلاء المشركين، يقطعون بأنَّهم مهتدون، ويجزمون بفوزهم بالخير من عند اللهِ تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 قوله تعالى: {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} الآية. الجمهور على قراءة «سِقايةَ» ، و «عِمارةَ» مصدرين على «فِعالةٍ» ، ك: الضِّيافة، والوِقاية والتِّجارة، ولم تقلب الياء همزة، لتَحصُّنها بتاء التأنيث، بخلاف «رِدَاءة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 47 وعِباءة» ، لطروء تاء التأنيث فيهما، قاله الزمخشريُّ. واعلم أنَّ: السِّقاية فعلٌ، وقوله {مَنْ آمَنَ بالله} [التوبة: 18] إشارة إلى الفاعل، فظاهر اللفظ يقتضي تشبيه الفعل بالفاعل، والصفة بالموصوف، وإنّه محالن وحينئذ فلا بُدَّ من حذف مضاف، إمَّا من الأول، وإمَّا من الثَّاني، ليتصادق المجعولان، والتقدير: أجعلتم أهل سقايةِ الحاجِّ، وعِمارة المسجد الحرام كمَنْ آمَنَ، أو أجعلتم السقاية والعِمارة كإيمان مَنْ آمَنَ، أو كعملِ من آمَنَ، ونظيره: {لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله} [البقرة: 177] ، وقيل: السٌِّاية والعمارة يعني: السَّاقي والعامر، وهذا كقوله: {والعاقبة للتقوى} [طه: 132] ، أي: للمتقين، والمعنى: أجعلتم ساقي الحاج وعامر المسجد الحرام ك {كَمَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر} . ويدلُّ عليه قراءة أبي وابن الزبير والباقين كما يأتي قريباً. وقرأ ابنُ الزُّبير، والباقر، وأبو وجزة «سُقَاة ... وعمرة» بضمِّ السين، وبعد الألف تاء التأنيث، و «عَمَرة» بفتح العين والميم دون ألف، وهما جمع «ساقٍ» ، و «عامر» ، كما يقال: قاضٍ وقُضاة، ورَام ورُمَاة، وبارٌّ وبَرَرة، وفاجِر وفَجَرة. والأصل: سُقَيَة، فقُلبت الياء ألفاً، لتحركها وانفتاح ما قبلها، ولا حاجة هنا إلى تقدير حذف مضافٍ، وإن احتيج إليه في قراءة الجمهور. وقرأ سعيد بن جبير كذلك، إلاَّ أنه نصب «المسجِد الحرَام» ب «عَمَرَة» ، وحذف التنوين لالتقاء الساكنين؛ كقوله: [المتقارب] 2771 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولا ذَاكِرَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً وقوله: {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2] . وقرأ الضحاك «سُقَاية» ، «عمرة» ، وهما جمعان أيضاً، وفي جمع «ساقٍ» على «فُعَالة» نظرٌ لا يَخْفى، والذي ينبغي أن يقال: أن يُجْعل هذا جمعاً ل «سِقْي» و «السِّقْي» هو الشيء المَسْقِي ك «الرِّعْي، والطِّحن» . و «فِعْل» يُجمع على «فُعال» ، قالُوا: ظِئْر وظُؤار، وكان من حقه ألا تدخل عليه تاء التأنيث، كما لم تدخل في: «ظُؤار» ، ولكنه أنَّث الجمع، كما أنَّث في قولهم: «حِجَارة، وفُحولة» ، ولا بُدّ حينئذٍ من تقدير مضافٍ، أي: أجعلتم أصحاب الأشياءِ المَسقيَّة كمَنْ آمَنَ؟ . فصل روى النُّعْمانُ بنُ بشيرٍ قال: كُنْتُ عِنْدَ منبَرِ رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال رجلٌ: لا أُبَالِي ألاَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 48 أعملَ عملاً بعد الإسلام، إلا أن أسقي الحاج، وقال آخر: ما أبالي ألا أعمل عملاً بعد الإسلام إلا أن أعمر المسجد الحرام، وقال آخر: الجهاد في سبيل الله أفضل ممَّا قلتم، فزَجرهُمْ عمرُ وقال: لا تَرفعُوا أصوَاتكُم عندَ مِنبرِ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهُو يَوْمُ الجُمعةِ - ولكنْ إذا صَلَّيتُ دخلتُ واستَفْتيْتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيمَا اختَلَفْتُم فيه، فدخل، فأنزلَ الله عزَّ وجلَّ هذه الآية إلى قوله: {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} . وقال ابنُ عبَّاسٍ «إنَّ عليّاً أغلظ الكلام للعبَّاس حين أسر يوم بدر، فقال العبَّاسُ: لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام، والهجرة، والجهاد، لقد كنا نعمر المسجد الحرام، ونسقي الحاج، فأنزل الله هذه الآية. وأخبر أنَّ عمارتهم المسجد الحرام، وقيامهم على السقاية، لا ينفعهم مع الشرك بالله، وأنَّ الإيمان بالله، والجهاد مع نبيه خيرٌ مِمَّا هُمْ عليه» . وقال الحسنُ والشعبيُّ ومحمدُ بن كعبٍ القرظيُّ «نزلت في عليٍّ بن أبي طالب، والعباس، وطلحة بن أبي شيبة، افتخروا، فقال طلحةُ: أنا صاحبُ البيتِ، بيدي مفتاحه، ولو أردتُ بتُّ فيه، وقال العبَّاس: أنا صاحبُ السِّقاية، والقائم عليها، وقال علي: لا أدري ما تقولون، لقد صلَّيْتُ إلى القبلة ستة أشهر قبل النَّاس، وأنا صاحب الجهاد، فأنزل الله هذه الآية» . وقيل: إنَّ عليّاً قال للعباس بعد إسلامه: يا عم ألا تهاجرون، ألا تحلقُون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ فقال: ألستُ في أفضل من الهجرةِ؟ أسقي الحاج، وأعمر البيت الحرام؟ فنزلت هذه الآية، فقال العباس: ما أراني إلاَّ تارك سقايتنا، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أقيمُوا على سقَايتكُم فإنَّ لَكُم فيهَا خَيْراً» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 49 وقيل: إنَّ المشركين قالوا لليهود: نحن سقاة الحجيج، وعمار المسجد الحرام، فنحن أفضل أم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه؟ فقالت اليهودُ لهم: أنتُمْ أفْضَلُ. قال ابن الخطيب: «هذه المفاضلة تحتملُ أن تكون جرت بين المسلمين، ويحتمل أن تكون جرت بين المسلمين والكفار، أمَّا كونها جرت بين المسلمين، فلقوله تعالى بعد ذلك {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} ، وهذا يقتضي أن يكون للمرجوح درجة أيضاً عند الله، وذلك لا يليق إلاَّ بالمؤمنين، وأمَّا احتمال كونها جرت بين المؤمنين والكفار، فلقوله تعالى {كَمَنْ آمَنَ بالله} وهذا يدل على أنَّ هذه المفاضلة وقعت بين من لم يُؤمن بالله وبين من آمن بالله» . وهذا هو الأقرب؛ لأن المفسرين نقلوا في تفسير قوله تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله} [التوبة: 18] أنَّ العباس احتجَّ على فضائل نفسه، بأنَّهُ عمر المسجد الحرام، وسقي الحاج، فأجاب الله عنه بوجهين: الأول: ما تقدَّم في الآية الأولى: أنَّ عمارة المسجد الحرام توجب الفضيلة إذا كانت صادرة عن المؤمن، أمَّا إذا صدرت عن الكافر، فلا فائدة فيها ألبتة. والثاني: هذه الآية، وهو أن يقال: سَلَّمنا أنَّ عمارة المسجد الحرام، وسقي الحاج، يوجب نوعاً من الفضيلة، إلاَّ أنها بالنسبة إلى الإيمان والجهاد كمقابلة الشيءِ الشَّريف الرفيع جدّاً بالشَّيء الحقير التافه جدّاً، وإنَّه باطل، وبهذا الطريق حصل النظم الصحيح لهذه الآية بما قبلها. فصل روى عكرمةُ عن ابن عبَّاسٍ أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاء إلى السِّقاية فاستسقى، فقال العبَّاسُ يا فضل اذهب إلى أمك فأتِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بشراب من عندها، فقال: اسقني. فقال يا رسُول الله: إنَّهم يجعلون أيديهم فيه، قال: اسقني، فشرب منه، ثم أتى زمزم وهم يستقون ويعملون فيها، فقال: اعملوا فإنَّكم على عملٍ صالح، ثم قال: لولا أن تغلبوا لنزلت حتى أضع الحبل على هذا، يعني: عاتقه وأشار إلى عاتقه. وعن بكر بن عبد الله المزنيّ: قال: كنتُ جالساً مع ابنِ عبَّاسٍ عند الكعبة فأتاه أعرابيّ فقال: ما لي أرى بني عمكم يسقون العسل واللبن وأنتم تسقون النبيذ؟ أمِنْ حاجةٍ بكم؟ أمِنْ بُخْلٍ؟ فقال ابنُ عبَّاسٍ: الحمدُ للهِ ما بِنَا من حاجة ولا بخل، إنَّما قدم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على راحلته، وخلفه أسامة، فاستسقى، فأتيناه بإناء من نبيذ فشرب، وسقى فضله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 50 أسامة، فقال: أحسنتم وأجملتم، كذا فاصْنَعُوا، فلا نريد تغيير ما أمر به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال الحسنُ: «كانت السِّقاية بنبيذ الزبيب» . وعن عمر أنه وجد نبيذ السقاية من الزبيب شديداً، فكسر منه بالماء ثلاثاً، وقال: إذا اشتد عليكم فاكسروا منه بالماء. وأمَّا عمارة المسجد الحرامِ فهي تجهيزه وتحسين صورة جدرانه. قوله {لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ الله} في الجملة وجهان: أظهرهما: أنَّها مستأنفةٌ، أخبر تعالى بعدم تساوي الفريقين. والثاني: أن يكون حالاً من المفعولين للجعل، والتقدير: سَوَّيْتُم بينهم في حال تفاوتهم، ولمَّا نفى المساواة بينهما، وذلك لا يفيد من هُوَ الرَّاجح؛ فنبَّه على الرَّاجح بقوله {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} أي: إنَّ الكافرين ظلمُوا أنفسهم، لأنهم تركُوا الإيمان، ورضُوا بالكفر فكانوا ظالمين، لأنَّ الظُّلمَ عبارةٌ عن وضع الشيء في غير موضعه، وأيضاً ظلموا المسجد الحرام، فإنَّه تعالى جعله موضعاً لعبادة الله تعالى، فجعلوه موضعاً لعبادة الأوثان. قوله تعالى: { 1649 - ;لَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله} الآية. لمَّا ذكر ترجيح الإيمان، والجهاد على السِّقاية وعمارة المسجد الحرام على طريق الرمز؛ أتبعه بذكر هذا التَّرجيح بالتَّصريح، أي: مَنْ كان موصوفاً بهذه الصِّفات الأربعة كان أعظم درجة عند الله ممَّن اتَّصف بالسِّقاية والعمارة، والسَّبب فيه؛ لأن الإنسان ليس له إلاَّ الروح، والبدن، والمال، فأمَّا الرُّوح فإنه لمَّا زال عنه الكفر، وحصل فيه الإيمان، فقد وصل إلى مراتب السعادات وأما البدن والمال، فبالهجرة والجهادِ صارا معرَّضين للهلاك، ولا شكَّ أنَّ النفس والمال محبوب الإنسان، والإنسان لا يعرض عن محبوبه إلاَّ عند الفوز بمحبوب أكمل من الأوَّلِ، فلولا أنَّ طلب الرضوان أتمُّ عندهم من النفس والمال؛ وإلاَّ لما رجَّحُوا جانب الآخرة على النفس والمال طلباً لمرضاة الله تعالى، وأي مناسبة بين هذه الدرجة وبين الإقدام على السِّقاية والعمارة بمجرد الاقتداء بالآباء، وطلب الرياسة والسُّمعة؟ قوله: {أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ الله} لم يقُلْ: أعظم درجة من المشتغلين بالسقاية والعمارة؛ لأنَّه لو ذكرهم، أوهم أن تلك الفضيلة بالنسبة إليهم، فلمَّا ترك ذكر المرجوح، دلَّ ذلك على أنَّهُمْ أفضل من كل من سواهم على الإطلاق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 51 فإن قيل: لمَّا أخبرتم بأنَّ هذه الصفات كانت بين المسلمين والكافرين، فكيف قال في وصفهم: «أعْظَمُ دَرَجَةً» ؟ . فالجوابُ من وجوه: الأول: أن هذا ورد على ما قدَّرُوا لأنفسهم من الدَّرجة والفضيلة عند الله، ونظيره قوله تعالى: {ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] ، وقوله {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} [الصافات: 63] . الثاني: أنَّ المراد: أولئك أعظم درجة من كل من لم يكن موصوفاً بهذه الصفات، تنبيهاص على أنَّهم لمَّا كانوا أفضل من المؤمنين الذين ما كانوا موصوفين بهذه الصفات فبأن لا يقاسوا إلى الكفار أولى. الثالث: أن المراد، أنَّ المؤمن المُهاجِرَ المجاهد أفضل ممَّن على السقاية والعمارة، والمراد منه: ترجيح تلك الأعمال على هذه الأعمال، ولا شك أنَّ السِّقاية والعمارة من أعمال الخير، وإنَّما بطل ثوابها في حقِّ الكفار؛ لأن الكفر منع من ظهور ذلك الأثر، ثُم بيَّن تعالى أنهم: «هُمُ الفائِزُون» وهذا للحصر، والمعنى: أنهم هم الفائزون بالدرجة العلية المشار إليها بقوله: «عِنْدَ اللهِ» وليس المراد منه العندية بحسب الجهة والمكان. وقد تقدَّم اختلاف القراء في: «يُبَشِّرهُم» وتوجيه ذلك في «آل عمران» وكذلك في الخلاف في {وَرِضْوَانٌ} [آل عمران: 15] . وقرأ الأعمش «رضُوان» بضمِّ الراء والضَّاد، وردَّها أبُو حاتم، وقال: «لا يجوز» . وهذا غيرُ لازم للأعمش فإنه رواها، وقد وُجِد ذلك في لسان العرب، قالوا: «السُّلُطان» بضم السين واللام. قوله {لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ} يجوز أن تكون هذه الجملةُ صفةً ل «جَنَّاتٍ» وأنْ تكون صفةً ل «رَحْمَة» ؛ لأنَّهم جَوَّزُوا في هذه الهاء أن تعود للرَّحمة، وأنْ تعود للجنات، وجوَّز مكي أن تعود على البشرى المفهومة من قوله: «يُبَشِّرهُمْ» ، كأنَّه قيل: لهم في تلك البشرى. وعلى هذا فتكونُ الجملةُ صفةً لذلك المصدرِ المقدَّرِ إن قدَّرْتَه نكرةً، وحالاً إن قدَّرْتَه معرفةً. ويجوزُ أن يكون «نعيمٌ» فاعلاً بالجارِّ قبله، وهو أولى، لأنَّه يصير من قبيل الوصف بالمفرد، ويجوزُ أن يكون مبتدأ، وخبره الجار قبله، وقد تقدَّم تحقيق ذلك مراراً [الأنفال: 72] . قوله: «خَالِدِينَ» حالٌ من الضمير في «لهم» . واستدل أهلُ السُّنَّةِ بهذه الآية على أنَّ الخلود يدلُّ على طول المكث، ولا يدل على التأبيد، قالوا: لأنَّهُ لو كان الخلود يفيد التَّأبيد، لكان ذكر التأبيد بعد ذكر الخُلُود تكراراً، وإنه لا يجوز الجزء: 10 ¦ الصفحة: 52 قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تتخذوا آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ} الآية. والمقصود من هذه الآية: أن تكون جواباً عن شبهة أخرى، ذكروها في أن البراءة من الكافر غيرُ ممكنة، فإنَّ المسلم قد يكون أبوه كافراً أو ابنُه والكافر قد يكون أبوهُ أو أخوه مسلماً والمقاطعة بين الرَّجُلِ وأبيه وابنه وأخيه كالمتعذر، فأزال اللهُ تعالى هذه الشبهة بهذه الآية. ونقل المفسِّرون عن ابنِ عبَّاسٍ «أنَّه تعالى لمَّا أمر المسلمين بالهجرةِ قبل فتح مكَّة، فمنْ لم يهاجر لم يقبل اللهُ إيمانه، حتى يجانب الآباء والأقرباء إن كانُوا كفاراً» . قال ابنُ الخطيب «وهذا مشكل؛ لأنَّ الصحيح أنَّ هذه السورة إنَّما نزلت بعد فتح مكة، فكيف يمكن حمل هذه الآية على ما ذكروه؟ وإنَّما الأقربُ أنَّهُ تعالى أمر المؤمنين بالتبرِّي عن المشركين بسبب الكفر، لقوله: {إَنِ استحبوا الكفر عَلَى الإيمان} أي: اختاروا الكفر على الإيمان، والاستحباب: طلب المحبة، يقال استحب له، بمعنى: أحبه، كأنه طلب محبته» . ولمَّا نهى الله عن مخالطتهم، وكان النَّهي يحتملُ أن يكُون نَهْيَ تنزيهٍ وأن يكون نهي تحريم، ذكر ما يزيل الشبهة فقال: {وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون} . قال ابن عباسٍ «يريدُ: مشركاً مثلهم، لأنه رضي بكفرهم، والرَّضى بالكُفرِ كفر، كما أنّض الرضا بالفسقِ فسق» . قال القاضي: «هذا النَّهي لا يمنعُ أن يتبرأ المرءُ من أبيه في الدُّنيا، كما لا يمنع من قضاء دين الكافرن ومن استعمله في الأعمال» . قوله: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ} «آباؤكم» وما عطف عليه اسم «كان» ، و «أحب» خبرها، فهو منصوبٌ، وكان الحجاجُ بنُ يوسف يقرها بالرفع، ولحَّنَه يحيى بن يعمر فنفاه. قال أبو حيَّان «إنَّما لحَّنَه باعتبار مخالفةِ القراء النَّقلة، وإلاَّ فهي جائزةٌ في العربية، يُضمر في» كان «اسماً، وهو ضميرُ الشأن، ويُرفع ما بعدها على المبتدأ والخبر، وحينئذٍ تكونُ الجملة خبراً عن» كان «. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 53 قال شهاب الدِّين. فيكون كقول الشاعر: [الطويل] 2772 - إذَا مِتُّ كَانَ النَّاسُ صِنْفَانِ شَامِتٌ ... وآخَرُ مُثْنٍ بالذي كُنتُ أصْنَعُ وهذا في أحد تأويلي البيت. والآخر: أنَّ» صنفان: خبرٌ منصوب، وجاء به على لغةِ بني الحارث، ومن وافقهم. والحكاية التي أشار إليها الشَّيْخُ من تلحين يحيى للحجَّاج هي: أنَّ الحجاج كان يَدَّعي فصاحةً عظيمة، فقال يوماً ليحيى بن يعمر وكان يعظِّمه: هل تجدني ألحن؟ فقال: الأميرُ أجَلُّ من ذلك، فقال: عَزمْتُ عليك إلاَّ ما أخبرتني، وكانوا يُعظِّمون عزائم الأمراء، فقال: نعم، فقال: في أي شيءٍ؟ فقال: في القرآن، فقال: ويْلَك!! ذلك أقبحُ بي، في أيِّ آية؟ قال: سَمعتُك تقر: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ} إلى أن انتهيت إلى «أحَبّ» فرفعتها، فقال: إذن لا تسمعني ألْحَنُ بعدها، فنفاهُ إلى «خراسان» فمكث بها مدةً، وكان بها حينئذٍ يزيد بن المهلب بن أبي صفرة، فجاءهم جيش، فكتب إلى الحجاج كتاباً، وفيه: «وقد جاءنا العدوُّ فتركناهم بالحضيض، وصعدنا عُرعُرة الجبل» ، فقال الحجاج: ما لابن المهلب ولهذا الكلام، فقيل له: إنَّ يحيى هناك، فقال: إذن ذاك. وقرأ الجمهور «عَشيرَتُكُمْ» بالإفراد، وأبو بكر عن عاصم «عَشِيراتكم» جمع سلام. [ووجه الجمع أنَّ لكلِّ من المخاطبين عشيرة، فحسن الجمع، وزعم الأخفشُ أنَّ «عشيرة» لا تجمع بالألف والتاء، وإنَّما تكسيراً على «عشائر» ، وهذه القراءة حجةٌ عليه، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السلمي وأبي رجاء. وقرأ الحسن «عَشائرُكُم» قيل: وهي أكثر مِنْ «عشيراتكم» ] . و «العَشِيرةُ» : هي: الأهلُ الأدنون. وقيل: هم أهلُ الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم، أي: يصيرون له بمنزلةِ العدد الكامل، وذلك أنَّ العشيرة هي العددُ الكاملُ، فصارت العشيرةُ اسماً لأقارب الرَّجُلِ الذين يتكثَّر بهم، سواءً بلغوا العشرة أم فوقها. وقيل: هي الجماعةُ المجتمعة بنسبٍ، أو وداد، لعقد العشرة. فصل هذه الآية هي تقريرُ الجواب المذكور في الآية الأولى، وذلك لأنَّ جماعة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 54 المؤمنين، قالوا: يا رسُول الله كيف يمكن البراءة منهم بالكليَّة؟ وهذه الآية توجب انقطاعنا عن آبائنا وإخواننا وعشيرتنا، وإن نحن فعلنا ذلك، ذهبت تجارتنا، وهلكت أموالنا، وخربت ديارنا، فأنزل الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ} أي: تَسْتوطنُونَها راضين بسكناها {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ} فانتظروا {حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ} . قال عطاءٌ: «بقضائه» . وقال مجاهدٌ ومقاتلٌ: «بفتح مكَّة» . وهذا أمر تهديد، فبيَّن تعالى أنَّه يجب تحمل جميع هذه المضارّ في الدُّنيا، ليبقى الدِّين سليماً. ثم قال {والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين} أي: الخارجين عن الطاعةِ، وهذه الآية تدلُّ على أنَّه إذا وقع التَّعارضُ بين مصلحةٍ واحدة من مصالح الدِّين، وبين مهمات الدُّنيا؛ وجب ترجيح الدِّين على الدنيا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 قوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ} الآية. لمَّا ذكر في الآية المتقدمة أنه يجب الإعراض عن مخالطة الآباء والأبناء، والإخوان، والعشيرة، وعن الأموال، والتجارات، والمساكن، رعاية لمصالح الدِّين، وعلم أنَّ ذلك يشقّ على النفوس، ذكر ما يدلُّ على أنَّ من ترك الدُّنيا لأجل الدِّين، فإنَّهُ تعالى يوصله مطلوبه. وضرب لهذا مثلاً، وذلك أنَّ عسكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في وقعة حنين، كانوا في غاية الكثرةِ والقوَّةِ، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم، صارُوا منهزمين، فلمَّا تَضَرَّعُوا في حال الانهزام إلى اللهِ تعالى قوَّاهم حتَّى هزموا عسكر الكُفَّارِ، وذلك يدلُّ على أنَّ الإنسان متى اعتمد على الدُّنيا، فاته الدِّين والدنيا، ومتى أطاع الله، ورجَّحَ الدِّين على الدُّنيا، آتاه اللهُ الدِّين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 55 والدُّنيا على أحسن الوُجوه فكان هذا تسلية لأولئك المأمورين بمقاطعة الآباءِ والأبناءِ، لأجل مصلحة الدِّين، وعداً لهم بأنهم إن فعلُوا ذلك أوصلهم اللهُ تعالى إلى أقاربهم وأموالهم ومساكنهم على أحسن الوجوه. قال الواحديُّ: «النّصر: المعونةُ على العدوِّ خاصة» «المواطن» : جمع «مَوْطِن» بكسر العين، وكذا اسم مصدره، وزمانه، لاعتلال فائه ك «المَوْعد» ، قال: [الطويل] 2773 - وكَمْ مَوْطنٍ لوْلايَ طِحْتَ كَما هَوَى ... بأجْرَامِهِ مِنْ قُنَّةِ النِّيقِ مُنْهَوِي و «حُنَيْن» : اسمُ وادٍ بين مكة والطائف، فلذلك صرفه، وبعضهم جعله اسماً للبقعة، فمنعه في قوله: [الكامل] 2774 - نَصَرُوا نَبيَّهُمُ وشَدُّوا أزْرَهُ ... بِحُنينَ يَوْمَ تواكُلِ الأبْطالِ وهذا كما قال الآخرُ في «حراء» : اسم الجبل المعروف، اعتباراً بتأنيث البقعة في قوله: [الوافر] 2775 - ألَسْنَا أكْثَرَ الثَّقليْنِ رَجْلاً ... وأعْظَمَهُمْ بِبطْنِ حِرَاءَ نَارَا فصل المرادُ بالمواطن الكثيرة: غزوات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويقال: إنها ثمانون موطناً، فأعلمهم أنه تعالى هو الذي تولَّى نصر المؤمنين، ومن نصره الله فلا غالب له، ثم قال « الجزء: 10 ¦ الصفحة: 56 وَيَوْمَ حُنَيْنٍ» أي: واذكر يوم حُنَيْن من جملة تلك المواطن حال ما أعجبتكم كثرتكم، و «حنين» واد بين مكة والطائف. وقيل: إلى جنب ذي المجاز. قال الرواةُ: لمَّا فتح رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكّة، وقد بقيت أيامٌ من شهر رمضان، خرج متوجهاً إلى حنين، لقتال هوازن وثقيف، في اثني عشر ألفاً، عشرة آلاف من المهاجرين، وألفان من الطلقاءِ. وقال عطاءٌ: عن ابن عباس «كانوا ستة عشر ألفاً» . وقال الكلبيُّ «كانوا عشرة آلاف» . وكان هوازن وثقيف أربعة آلاف، وعلى هوازن: مالكُ بن عوف النضري، وعلى ثقيف: كنانة بن عبد ياليل الثقفي، فلما التقى الجمعان، قال رجلٌ من الأنصار يقال له: سملة بنُ سلامة بن وقش: لن نغلب اليوم عن لقَّةٍ، وهو المراد من قوله: {إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} ، فساء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلامه، ووكلوا إلى كلمة الرجل، وفي رواية: لم يرض الله قوله، ووكلُوا إلى أنفسهم، فاقتتلوا قتالاً شديداً؛ فانهزم المشركون وتخلّوا عن الذراري، ثم نادوا يا حماة السواد اذكروا الفضائح، فتراجعوا، وانكشف المسلمون. قال قتادةُ: وذكر لنا أنَّ الطُّلقاء انجفلوا يومئذ بالنَّاسِ. قوله: «وَيَوْمَ حُنَيْنٍ» فيه أوجه: أحدهما: أنَّهُ عطفٌ على محلِّ قوله: «فِي مَوَاطِنَ» عطف ظرف الزمان من غير واسطة «في» على ظرف المكان المجرور بها، ولا غرو في نسق ظرف زمان على مكان، أو العكس، تقول: سرت أمامك ويوم الجمعة، إلاَّ أنَّ الأحسن أن يُتركَ العاطفُ في مثله. الثاني: زعم ابنُ عطية: أنَّه يجوز أن يُعطف على لفظ «مَواطِنَ» بقتدير: «وفِي يَوْمِ» ، فحذف حرف الخفض، وهذا لا حاجة إليه. الثالث: قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: كيف عطف الزمان على المكان، وهو» يَوْمَ حُنينٍ «على» مَواطِنَ «؟ . قلت: معناه: وموطن يوم حنين، أو في أيام مواطن كثيرة ويوم حنين» . الرابع: أن يُراد ب «المواطِن» : الأوقاتُ، فحينئذٍ إنَّما عطف زمانٌ على زمان. قال الزمخشريُّ - بعدما تقدَّم عنه -: «ويجوزُ أن يُراد ب» المواطن «: الوقت، ك: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 57 مقتل الحسين، على أنَّ الواجب أن يكون:» يَوْمَ حُنينٍ «منصوباً بفعل مضمر، لا بهذا الظَّاهر، ومُوجِبُ ذلك أنَّ قوله:» إِذْ أَعجَبَتْكُمْ «بدلٌ من» يَوْمَ حُنَينٍ «، فلو جعلتَ ناصبَه هذا الظاهر، لم يصحَّ؛ لأنَّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، ولم يكونوا كثيرين في جميعها، فبقي أن يكون ناصبُه فعلاً خاصاً به» . قال شهابُ الدِّين: «لا أدري ما حمله على تقدير أحد المضافين، وعلى تأويل» المواطن «بالوقت، ليصحَّ عطفُ زمانٍ على زمان، أو مكان على مكان، إذ يصحُّ عطفُ أحدُ الظرفين على الآخر؟ وأمَّا قوله:» على أنَّ الواجب أن يكون «إلى آخره؛ كلامٌ حسنٌ، وتقريره أنَّ الفعل مُقيدٌ بظرف المكان، فإذا جعلنا» إذْ «بدلاً من» يَوْم «كان معمولاً له؛ لأنَّ البدل يَحُلُّ محلَّ المُبْدل منه؛ فيلزم منه أنه نصرهم إذ أعجبتهم كثرتُهم في مواطن كثيرة، والفرض أنَّهم في بعض هذه المواطن لم يكونوا بهذه الصفة، إلاَّ أنَّه قد ينقدح، فإنَّه - تعالى - لم يقل في جميع الموطن، حتَّى يلزم ما قاله» . ويمكن أن يكون أراد بالكثرةِ: الجميع، كما يُراد بالقلة العدمُ. قوله: «بِمَا رَحُبَتْ» «ما» مصدريةٌ، أي: رَحْبُها وسعتها. وقرأ زيد بن علي في الموضعين «رَحْبَت» بسكون العين، وهي لغة تميم، يسكنون عين «فَعُل» فيقولون: في «شَرُف» «شَرْف» . و «الرُّحْب» بالضمِّ: السَّعَة، وبالفتح: الشيء الواسع، يقال: رَحُب المكان يَرْحُب رُحْباً ورَحَابَةٌ، وهو قاصر. فأمَّا تعدِّيه في قولهم: رَحُبَتكم الدار «فعلى التضمين، لأنه بمعنى» وسعتكم «. فصل قوله: {فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً} الإغناء: إعطاء ما يدفع الحاجة، أي: فلم يُعطِكم شيئاً يدفع حاجتكم. والمعنى: أنه تعالى أعلمهم أنَّهُم لا يغلبون بكثرتهم، وإنما يغلبون بنصر الله، فلمَّا أعجبوا بكثرتهم، صاروا منهزمين، ثم قال: {وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} أي: مع رحبها، و» ما «ههنا مع الفعل بمنزلة المصدر، والمعنى: إنكم لشدَّةِ ما لحقكم من الخوف ضاقت عليكم الأرضُ، فلم تجدُوا فيها موضعاً يصلح لفراركم من عدوكم. قال البراء بن عازب: كانت» هوازن «رماة، فلما حملنا انكشفوا وأكببنا على الغنائم، فاستقبلونا بالسهام، وانكشف المسلمون عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يبق معه إلا العباس وأبو سفيان بن الحارث. قال [البراء] : والذي لا إله إلاَّ هو ما ولَّى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 58 قط، قال: رأيته وأبو سفيان آخذ بالركاب، والعباس آخذ بلجام دابته البيضاء وهو يقول:» أنَا النبيُّ لا كذِبْ، أنَا ابنُ عَبْدِ المُطَّلِب «وطفق يركضُ بغلته نحو الكفار، ثم قال للعبَّاس: نادِ المهاجرين والأنصار - وكان العباس رجلاً صَيِّتاً - فجعل يُنَادِيك يا عباد الله، يا أصحاب الشجرة، يا أصحاب سورة البقرةِ، فجاء المسلمون حين سمعوا صوته عنقاً واحداً، وأخذ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيده كفاً من الحَصَى، فرماهم بها، وقال:» شَاهتِ الوُجوهُ «فما زال أمرهم مدبراً، وحدهم كليلاً حتى هزمهم اللهُ، ولم يبق منهم أحد يومئذ إلاَّ وقد امتلأت عيناه من ذلك التراب، فذلك قوله: {ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين} . والمراد بالسّكينة: ما يسكن إليه القلبُ، ويوجب الأمنة، ووجه الاستعارة فيه: أنَّ الإنسان إذا خاف فرَّ وفُؤاده متحرك، وإذا أمن؛ سكن وثبت؛ فلمَّا كان الأمن موجباً للسكون جعل لفظ السَّكينة كناية عن الأمن. ثم قال تعالى: {وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا} والمراد: أَنْزَلَ الملائِكة، وليس في هذه الآية ما يدلُّ على عدّة الملائكة، كما هو في قصة بدر، فقال سعيد بن جبير:» أيَّد الله نبيه بخمسة آلاف من الملائكة «ولعله إنَّما قاسه على يوم بدر. وقال سعيدُ بن المسيبِ: حدَّثني رجلٌ كان في المشركين يوم حنين قال: لمَّا كشفنا المسلمين جعلنا نسوقهم، فلمَّا انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء، تلقانا رجال بيض الوجوه، فقالوا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا، واختلفوا في أنَّ الملائكة هل قاتلوا ذلك اليوم؟ فالذي روي عن سعيد بن المسيب يدلُّ على أنهم قاتلوا، وقال آخرون: إن الملائكة ما قاتلوا إلا يوم بدر، وفائدة نزولهم في هذا اليوم: هو إبقاء الخواطر الحسنة في قلوب المؤمنين. ثم قال تعالى: {وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ} والمرادُ من هذا التَّعذيب: قتلهم وأسرهم، وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم. وهذه الآية تدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق لله تعالى؛ لأنَّ المراد من هذا التَّعذيب ليس إلا الأخذ والأسر، وقد نسب تلك الأشياء إلى نفسه. قوله: {وذلك جَزَآءُ الكافرين} تَمسَّك الحنفيَّةُ في مسألة الجلد مع التعزير بقوله {الزانية والزاني} [النور: 2] قالوا: الفاءُ تدلُّ على كون الجلد جزاء، والجزاء اسم للكافي، وكون الجلد كافياً يمنع كون غيره مشروعاً معه، وأجيبوا بأن الجزاء ليس اسماً للكافي؛ لأنه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 59 تعالى سمَّى هذا التعذيب جزاء مع أنَّ المسلمين أجمعوا على أنَّ العقوبة الدائمة في القيامة مُدَّخرة لهم، فدلت هذه الآية على أنَّ الجزاء ليس اسماً لما يقع به الكفاية. قوله {ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ} أي: أنَّ الله تعالى مع كل ما جرى عليهم من الخذلان يتوب عليهم، بأن يزيل عن قلبهم الكفر، ويخلق فيه الإسلام، وقال القاضي: معناهُ: أنَّهُ بعد ما جرى عليهم ما جرى، إذا أسلمُوا وتابُوا فإنَّ الله يقبل توبتهم «وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ قوله:» ثُمَّ يَتُوبُ اللهُ «ظاهره يَدُلُّ على أنَّ تلك التبوة إنَّما تحصل لهم من قبله تعالى، وتقدَّم الكلامُ على المعنى في البقرة عند قوله {فَتَابَ عَلَيْهِ} [البقرة: 37] ثم قال: {والله غَفُورٌ} أي: لمن تاب {رَّحِيمٌ} لِمَنْ آمن وعمل صالحاً. قوله تعالى : {ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} الآية. اعلم أنه عليه الصَّلاة والسَّلام، لمَّا أمر عليّاً أن يقرأ على مشركي مكَّة أول سورة براءة، وينبذ إليهم عهدهم، وأنَّ الله بريء من المشركين ورسلوه، قال أناس: يا أهل مكَّة ستعلمون ما تلقونه من الشِّدَّة لانقطاع السبل وفقد الحمولات؛ فنزلت هذه الآية، لرفع الشُّبهةِ، وأجاب الله تعالى عنها بقوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} أي: فَقْراً وحاجةً، {فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} قال الأكثرون: لفظ المشركين يتناولُ عبدة الأوثانِ، وقال قومٌ: يتناولُ جميع الكُفَّارِ، وقد تقدم ذلك. قال الضحاكُ وأبو عبيدةَ: «نَجَسٌ» قذر. وقيل: خَبِيثٌ، وهو مصدر يستوي فيه الذكر والأنثى، والتثنية والجمع. جعلوا نفس النَّجَس، على المبالغة، أو على حذفِ مضاف. وقرأ أبو حيوة «نِجْسٌ» بكسر النُّون وسكون الجيم، وجهه أنَّه اسمُ فاعل في الأصلِ على «فَعِل» مثل: «كَتِف وكَبِد» ثم خُفِّف بسكون عَيْنه بعد إتباع فائه، ولا بُدَّ من حذف موصوف حينئذٍ قامَتْ هذه الصفةُ مقامه، أي: فريق نجس، أو جنس نجس، فإذا أفرد قيل «نَجس» بفتح النون. قال البغوي «ولا يقال على الانفراد، بكسر النُّون وسكون الجيم، إنَّما يقال» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 60 رِجْسٌ نِجْسٌ «، فإذا أفرد قيل» نَجِسٌ «بفتح النون وكسر الجيم» وقرأ ابن السَّميفع «أنْجَاس» بالجمع، وهي تحتمل أن تكون جمع قراءةِ الجمهور، أو جمع قراءةِ أبي حيوة، وأراد به نجاسة الحكم، لا نجاسة العين، سُمُّوا نجساً على الذَم. وقال ابنُ عبَّاس وقتادةُ «سماهم نجساً» ؛ لأنَّهم يجنبون، فلا يغتسلون، ويحدثون فلا يتوضؤون «ونقل الزمخشري عن ابن عباسٍ» أنَّ أعيانهم نجسة كالكلاب والخنازير «وعن الحسنِ» مَنْ صَافحَ مشركاً توضَّأ «وهذا قول الهادي من أئمة الزَّيدية. وأمَّا الفقهاءُ: فقد اتفقوا على طهارة أبدانهم، وهذا هلاف ظاهر القرآن، فلا يرجع عنه إلا بدليل منفصلٍ، ولا يمكن ادعاء الإجماع فيه لما بينا من الخلاف. واحتج القاضي على طهارتهم بما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ شرب من أوانيهم، وأيضاً لو كان نجساً، لما تبدل ذلك بالإسلام، وأجاب القائلون بالنجاسة: بأنَّ القرآن أقوى من خبر الواحد وبتقدير صحَّةِ الخبر؛ يجب أن يعتقد أن حل الشرب من إنائهم كان متقدماً على نزول هذه الآية من وجهين: الأول: أنَّ هذه السُّورة من آخر ما نزل من القرآن، وأيضاً كانت المخالطة مع الكُفَّار جائزة فحرَّمها الله تعالى، وكانت المعاهدة حاصلة معهم، فأزالها الله؛ فلا يبعد أن يقال أيضاً: الشرب من أوانيهم، كان جائزاً فحرمه اللهُ. الثاني: أنَّ الأصل حل الشرب من أي إناء كان، فلو قلنا إنه حرم بحكم الآية، ثم حل بحكم الخبرِ، فقد حصل نسخان، أما لو قلنا إنَّه كان حلالاً بحكم الأصل، والرسول شرب من آنيتهم بحكم الأصل، ثم جاء التَّحريمُ بهذه الآيةِ، لم يحصل النَّسخ إلاَّ مرة واحدة؛ فوجب أن يكون هذا أولى. وأما قولهم: لو كان الكافرُ نجس العين، لما تبدَّلت النجاسةُ بالطَّهارة بسبب الإسلام. فهذا قياس في معارضة النَّص الصَّريح، وأيضاً فالخمرةُ نجسة العين، فإذا انقلبت بنفسها خلاًّ طهرت، وأيضاً إنَّ الكافر إذا أسلم؛ وجب عليه الاغتسالُ، إزالة للنجاسةِ الحاصلة بحكم الكفر، وهذا ضعيفٌ؛ فإنَّ الأعيانَ النجسة لا تقبل التَّطهير بالغسل، إنما يطهر بالغسل ما ينجس. فصل قالت الحنفيَّةُ: أعضاءُ المحدث نجسة نجاسة حكمية، وبنوا عليه أنَّ الماء المستعمل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 61 في رفع الحدث نجس، ثم روى أبو يوسف عن أبي حنيفة: أنَّهُ نجاسة خفيفة، وروى الحسنُ بن زيادٍ: أنَّه نجس نجاسة غليظة، وهذه الآية تدلُّ على فساد هذا القول؛ لأن كلمة «إِنَّمَا للحصر، فاقتضى أن لا نجس إلاَّ المشرك، فالقولُ بأنَّ أعضاءَ المحدث نجسة، يخالف هذا النَّص، والعجب أن هذا النص صريح في أن المشرك نجس، وفي أنَّ المؤمن ليس بنجس، ثم إنَّ قوماً قلبوا القضية، وقالوا: المشرك طاهرٌ، والمؤمن حال كونه محدثاً نجس، وزعموا أنَّ المياه التي يستعملها المشركون في أعضائهم بقيت طاهرة مطهرة، والمياه التي يستعملها أكابرُ الأنبياء في أعضائهم نجسة نجاسة غليظة، مع مخالفة قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» المُؤمنُ لا يَنْجُسُ حيّاً، ولا ميتاً «وأجمعوا على أنَّ إنساناً لو حمل محدثاً في صلاته لم تبطل صلاته، ولو كان يده رطبة فوصلت إلى يدِ مُحدث لم تنجس يده، ولو عرق المحدثُ ووصل العرقُ إلى ثوبه لم ينجس الثوب، والقرآن، والخبر، والإجماع، تطابقت على القول بطهارة وأعضاء المحدث، فكيف يمكن مخالفته؟ فصل قيل المرادُ بالمسجدِ الحرام: نفس المسجدِ، وقيل: جميع الحرم، وهو الأقربُ لقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ} وذلك لأن موضع التجارات ليس هو عين المسجد؛ فلو كان المقصود من هذه الآية المنع من المسجد خاصة، لما خافُوا بسبب هذا المنع من العَيْلَة، وإنَّما يخافون العيلة إذا منعوا من حضور الأسواقِ والمواسم، ويؤكد هذا قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام} [الإسراء: 1] مع أنَّهم أجمعُوا على أنه إنَّما رفع الرسول من بيت أم هانىء، ويؤيده قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» لا يجتمع دينان في جزيرة العربِ «وهي من أقصى عدن أبين إلى ريف العراق طولاً، ومن جدة وما والاها من ساحل البحر إلى أطراف الشَّام عرضاً، واعلم أنَّ جملة بلاد الإسلام في حق الكفار ثلاثة أقسام: أحدها: الحرم، فلا يجوزُ للكافر أن يدخله بحال ذمِّيّاً كان أو مستأمناً، لظاهر هذه الآية، وإذا جاء رسول من دار الكُفرِ إلى الإمام، والإمام في الحرمِ، لا يأذن له في دخول الحرم، بل يبعث إليه من يسمع رسالته خارج الحرم، وإن دخلَ مشكر الحرم متوارياً فمرض فيه، أخرجناه مريضاً، وإن مات ودفن ولم نعلم نبشناه، وأخرجنا عظامه إذا أمكن، وجوَّز أهل الكوفة للمعاهد دخول الحرم. والقسم الثاني من بلاد الإسلام: الحجازُ، فيجوز للكافر دخولها بالإذن، ولكن لا يقيم أكثر من ثلاثة أيَّامٍ، مقام السفرِ، لما روي عن عمر بن الخطابِ، أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 62 يقول: «لَئِنْ عِشْتُ إنْ شاءَ الله لأخرجنَّ اليهُودَ والنَّصارى من جزيرةِ العربِ، حتى لا أدعُ إلاَّ مُسْلِماً» فمضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأوصى فقال: «أخرجُوا المُشركينَ مِنْ جزيرةِ العرب» فلم يتفرَّغ لذلك أبو بكر، وأجلاهم عمر في خلافته، وأحل لمن يقدم منهم تاجراً ثلاثاً. والقسم الثالث: سائر بلاد الإسلام؛ فيجوزُ للكافر أن يقيم فيها بذمَّة أو أمان، ولكن لا يدخلون المساجد إلا بإذن مسلم. فصل والمراد بقوله «بَعْدَ عامهم هذا» يعني العام الذي حجَّ فيه أبو بكرٍ بالنَّاس، ونادى علي بالبراءة، وهو سنة تسع من الهجرةِ. قوله: {وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً} . العيلةُ: الفقرُ، يقالك عَالَ الرَّجُل يَعِيلُ عَيْلَةً: إذا افتقر. والمعنى: إن خفتم فقراً بسبب منع الكفار: «فسَوْفَ يغنيكُم الله مِنْ فَضْلِهِ» قال مقاتل «أسلم أهلُ جدة وصنعاء وحنين، وحملوا الطعام إلى مكَّة، فكفاهم الله ما كانوا يخافون» . وقال الحسنُ والضحاكُ وقتادةُ: «عوَّضهم الله عنها بالجزية» وقيل: أغناهم بالفيء. وقال عكرمة: «أنزل اللهُ عليهم المطر، وكثر خيرهم» . فإن قيل: الغرضُ بهذا الخبر، إزالة الخوف بالعيلة، وقوله «إن شَاء اللهُ» يمنع من فائدة هذا المقصود. فالجوابُ من وجوه: الأول: ألاَّ يحصل الاعتماد على حصول هذا المطلوب؛ فيكون الإنسان أبداً متضرّعاً إلى الله تعالى في طلب الخيرات، وفي دفع الآفات. الثاني: أنَّ المقصود من ذكر هذا الشَّرط تعليم رعاية الأدب، كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله} [الفتح: 27] . الثالث: المقصودُ: التَّنبيه على أنَّ حصول هذا المعنى لا يكون في كلِّ الأوقات، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 63 وفي جميع الأمكنة؛ لأنَّ إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال في دعائه: {وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات} [البقرة: 126] وكلمة «مِنْ» للتبعيض، فقوله ههنا «إن شَاءَ اللهُ» المراد منه ذلك التبعيض. ثم قال: {إِنَّ الله عَلِيمٌ} بأحوالكم، «حَكِيمٌ» أي: لا يعطي ولا يمنع إلاَّ عن حكمة وصواب. قوله تعالى: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} الآية. لمَّا بيَّن تعالى حكم المشركين في إظهار البراءة عنهم في أنفسهم، وفي وجوب مقاتلتهم، وفي تبعيدهم عن المسجد الحرام، ذكر بعده حكم أهل الكتاب، وهو أن يقاتلوا حتى يعطوا الجزية. قال مجاهدٌ «نزلت حين أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بقتال الرُّوم، فغزا بعدها غزوة تبوك» وقال الكلبيُّ «نزلت في قريظة والنَّضير من اليهودِ، فصالحهم، فكانت أول جزية أصابها أهل الإسلام، وأول ذلّ أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين» . فإن قيل: أهل الكتاب يؤمنون بالله واليوم الآخر، فكيف أمر بقتالهم؟ . فالجوابُ: لا يؤمنون كإيمان المؤمنين؛ فإنَّهم إذا قالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، لا يكون ذلك إيماناً باللهِ. قوله: {وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ} أي: لا يُحرِّمُون ما حرَّم الله في القرآن، وبينه الرسول، وقال أبو زيدٍ: لا يعملون بما في التوراة والإنجيل، بل حرفوهما وأتوا بأحكام كثيرة من قبل أنفسهم. قوله {وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق} أي: لا يدينون الدِّين الحق، أضاف الاسم إلى الصَّفةِ وقال قتادة: «الحَقّ» هو الله - عزَّ وجلَّ -؛ أي: لا يدينون دين الله، ودينه الإسلام. قال أبو عبيدة: معناه: لا يطيعون الله طاعة أهل الحقّ. قوله: {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} بيانٌ للموصول قبله، والمرادُ: اليهودُ والنصارى {حتى يُعْطُواْ الجزية} وهي الخراجُ المضروب على رقابهم، و «الجِزْيةُ» : «فِعْلَة» ، لبيان الهيئة، ك «الرِّكْبَة» . قال الواحديُّ: «الجزيةُ: ما يعطى المعاهد على عهده، وهي» فِعْلة «من جزى يجزي إذا قضى ما عليه» . قوله: «عَن يَدٍ» حالٌ، أي: يُعْطُوها مقهورين أذِلاَّء، وكذلك: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 64 قال الزمخشريُّ «قوله:» عن يدٍ «إمَّا أن يراد به عن يد المُعْطِي، أو يد الآخذ، فإن كان المراد به المعطي ففيه وجهان: أحدهما: عن يد غير ممتنعة؛ لأنَّ مَنْ أبى وامتنع لم يعط عن يده، بخلافِ المطيع المنقاد. وثانيهما: حتى يعطوها عن يد إلى يدٍ نقداً غير نسيئة، ولا مبعوثاً على يد أحدٍ، ولكن عن يد المُعطي إلى يد الآخذ. وإن كان المرادُ به: يد الآخذ، ففيه وجهان: الأول: حتى يعطوا الجزية عن يد قاهرة مستولية للمسلمين عليهم، كما تقولُ: اليد في هذا لفلان. وثانيها: أنَّ المراد: عن إنعام عليهم؛ لأنَّ قبول الجزية منهم، وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم» . قوله {وَهُمْ صَاغِرُونَ} أي: تؤخذ الجزية منهم على الصغار والذل والهوان، يأتي بها بنفسه ماشياً إلا راكباً، ويسلمها وهو قائم والمتسلم جالس، ويؤخذ بلحيته ويقال له أدِّ الجزية. وقال الكلبيُّ: «إذا أعْطَى يصفعُ في قفاهُ» . وقيل: يكتب ويجرُّ إلى موضع الإعطاء. وقيل: إعطاؤه إيَّاها هو الصِّغار؛ وقال الشافعيُّ «الصِّغارُ: جريان أحكام الإسلام عليهم» . فصل الكفار فريقان، منهم عبدة الأوثان وعبدة ما استحسنوا، فهؤلاء لا يقرَّون على دينهم بأخذ الجزية؛ ويجب قتالهم حتى يقولوا: لا إله إلاَّ الله، ويصيروا مؤمنين. والثاني: أهل الكتاب وهم اليهودُ والنصارى؛ فهؤلاء يقرون بالجزية، والمجوسُ أيضاً سبيلهم سبيل أهل الكتاب، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «سُنُّوا بِهمْ سُنَّة أهْلِ الكِتابِ» ، وأخذه الجزية من مجوس هَجَرَ. فصل اتَّفَقَتْ الأمةُ على جواز أخذ الجزية من أهل الكتاب، وهم اليهودُ والنصارى إذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 65 لم يكونوا عرباً، واختلفوا في أهل الكتابِ العرب وفي غير أهل الكتاب من كفار العجم؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 66 فذهب الشافعيُّ إلى أنَّ الجزية على الأديان لا على الأنساب، فتؤخذُ من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً، ولا يؤخذ من أهل الأوثان بحال؛ لأنَّ النبي - عليه الصَّلاة والسَّلام - أخذها من أَكَيْدِر دُومَةَ - وهو رجل من العرب يقال: غسان -، وأخذ من أهل دومة اليمنِ وعامتهم عرب؛ وذهب مالكٌ والأوزاعي إلى أنَّها تؤخذ من جميع الكُفَّارِ. وقال أبُو حنيفة: تؤخذُ من أهل الكتابِ على العموم، وتؤخذُ من مشركي العجم، ولا تؤخذ من مشركي العربِ. وقال أبو يوسف: لا تؤخذُ من العربي كتابياً كان أو مشركاً وتؤخذ من العجمي كتابيّاً كان أو مشركاً، وأمَّا المجوس فاتفقت الصَّحابةُ على أخذ الجزية منهم؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «سُنُّوا بِهمْ سُنَّةَ أهْلِ الكِتابِ» . فصل قال القاضي: قسم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على كل محتلم ديناراً، وقسم عمر على الفقراء من أهل الذمة اثني عشر درهماً، وعلى الأوْساطِ أربعة وعشرين، وعلى أهل الثروة ثمانية وأربعين، ولمَّا بعث رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معاذاً إلى اليمن أمرهُ أن يأخذَ من كلِّ حالم ديناراً، أي: بالغ، ولم يفرِّق بين الغني والفقير والوسط، وذلك دليل على أنها لا تجب على الصبيان، وكذلك لا تجب على النساء، إنَّما تؤخذ من الأحرار البالغين العقلاء من الرجالِ. فصل تؤخذ الجزية عند أبي حنيفة في أوَّل السنة، وعند الشافعي وغيره في آخرها. وتسقط الجزية بالإسلام والموت عند أبي حنيفة وغيره لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «لَيْسَ عَلى المُسلمِ جزيةٌ» وعند الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لا تسقطُ. فصل قال بعضُ العلماءِ: هؤلاء إنَّما أقرُّوا على دينهم الباطل بأخذ الجزية حرمة لآبائهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 67 الذين انقرضوا على الحق من شريعة التوراة والإنجيل، وأيضاً فكتابهم في أيديهم، فربَّما يتفكرون فيه فيعرفون صدق محمد ونبوته، فأمهلوا لهذا المعنى. فصل طعن ابنُ الراوندي في القرآن وقال: إنه ذكر في تعظيم كفر النصارى، قوله: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً} [مريم: 90 - 91] فبيَّن أنَّ إظهارهم لهذا القولِ بلغ إلى هذا الحدِّ، ثم إنَّه أخذ منهم ديناراً واحداً وأقرهم عليه، وما منعهم منه. والجواب: ليس المقصود من أخذ الجزية تقريره على الكُفرِ، بل المقصودُ حقن دمه وإمهاله مدَّة، رجاء أنه ربما وقف في هذه المدة على محاسنِ الإسلام وقوَّة دلائله؛ فينتقل من الكفر إلى الإيمان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} الآية. قرأ عاصم والكسائيُّ بتنوين «عُزَيْرٌ» ، والباقون من غير تنوين، فأمَّا القراءةُ الأولى فيحتمل أن يكون اسماً عربياً مبتدأ، و «ابنُ» خبره، فتنوينه على الأصل، ويحتمل أن يكون أعجمياً، ولكنهُ خفيفُ اللَّفظِ، ك «نُوحِ» ، و «لُوطٍ» ، فصُرفَ لخفَّة لفظه، وهذا قول أبي عبيد، يعني: أنَّهُ تصغيرُ «عَزَر» ، فحكَمه حكم مُكَبَّره، وقال: هذا ليس منسوباً إلى أبيه، إنَّما هو كقولك: زيد ابن الأمير، وزيد ابن أخينا، و «عُزَيْرٌ» مبتدأ وما بعده خبره، ورُدَّ هذا بأنَّه ليس بتصغير، إنَّما هو أعْجَمي، جاء على هيئة التَّصغيرِ في لسان العرب، ك «سُلَيْمَان» ، جاء على مثال «عُثَيْمَان، وعُمْيَران» . وأمَّا القراءةُ الثانية؛ فيحتمل حذفُ التنوين ثلاثة أوجه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 68 أحدها: أنَّه حذف التنوين لالتقاء الساكنين على حدِّ قراءة {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1 - 2] . قال الفرَّاء: نون التنوين في «عُزَيْرٌ» ساكنة، والباء في قوله «ابْنُ اللهِ» ساكنة، فالتقى ساكنان، فحذف نون التنوين للتخفيف؛ وأنشد: [المتقارب] 2776 - وألْفَيْتُهُ غَيْرَ مُسْتَعْتِبٍ ... ولا ذَاكِرٍ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً وهو اسمٌ منصرفٌ مرفوعٌ بالابتداء، و «ابن» خبره. الثاني: أنَّ تنوينه حذف، لوقوع الابن صفة له، فإنَّه مرفوعٌ بالابتداء، و «ابن» صفته، والخبرُ محذوفٌ، أي: عُزَيرٌ ابْنُ الله نَبيُّنا، أو إمامُنَا، أو رسولُنَا، وقد تقدَّم أنَّه متى وقع «الابن» صفة بين علمين، غير مفصولٍ بينه وبين موصوفه، حذفت ألفه خطّاً، وتنوينه لفظاً، ولا تثبت إلاَّ ضرورة، وتقدم الاشتشهادُ عليه آخر المائدة. ويجوز أن يكون «عُزَيْرٌ» خبر مبتدأ مضمر، أي: نَبيُّنا عُزير، و «ابن» صفةٌ له، أو بدل، أو عطف بيان. الثالث: أنه إنَّما حذف، لكونه ممنوعاً من الصَّرف، للتعريف والعجمة. ولم يرسم في المصحف إلاَّ بإثبات الألف، وهي تنصرُ من يجعله خبراً. وقال الزمخشري: «عزير ابن» مبتدأ وخبره، كقوله: {المسيح ابن الله} و «عُزَيْرٌ» اسم أعجمي،: «عَزرَائيل، وعيزار» ولعجمته وتعريفه امتنع صرفه، ومن صرفه جعله عربياً. وقول من قال بسقوط التنوين؛ لالتقاء الساكنين، كقراءة {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ الله الصمد} [الإخلاص: 1، 2] ولأنَّ «الابن» وقع وصفاً، والخبر محذوف، وهو «معبودنا» فتمحُّلٌ عن مندوحة «. فصل لمَّا حكم تعالى في الآيةِ المتقدِّمة على اليهودِ والنَّصارى بأنهم لا يُؤمنونَ بالله، شرح ذلك في هذه الآية، بأن نقل عنهم أنهم أثبتُوا للهِ ابناً ومنْ جوَّز ذلك في حق الإله، فقد أنكر الإله في الحقيقة، وأيضاً بيَّن تعالى أنهم بمنزلة المشركين في الشرك وإن كانت طرق القول بالشرك مختلفة، إذ لا فرق بين من يعبد الصَّنم وبين من يعبد المسيح وغيره، لأنه لا معنى للشرك إلاَّ أن يتَّخذ الإنسانُ مع الله معبوداً، وهذا معنى الشِّرك، بل لو تأمَّلنَا لعلمنا أن كفر عابد الوثن أخَفّ من كفر النصارى؛ لأنَّ عابد الوثن لا يقولُ: إنَّ هذا الوثن خالق للعالم، بل يجريه مجرى الشيء الذي يتوسَّلُ به إلى طاعة الله، والنَّصارى يثبتون الحلول والاتحاد وذلك كفر قبيح؛ فثبت أنَّه لا فرق بين هؤلاء الحلولية وبين سائر المشركين. فإن قيل: اليهودُ قسمان: منهم مشبهة، ومنهم موحدة، كما أنَّ المسلمين كذلك، فهَبْ أنَّ المشبهة منهم منكرون لوجود الإله، فما قولكم في موحدة اليهود؟ . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 69 فالجوابُ: أولئك لا يكونوا داخلين تحت هذه الآية، وإنما وجبت الجزيةُ عيهم؛ لأنَّه لمَّا ثبت وجوب الجزية على بعضهم؛ وجب القول به في حل الكلِّ؛ لأنه لا قائل بالفرق. وأما النَّصارى فيقولون بالأب والابن وروح القُدسِ، والحلول والاتحاد، وذلك ينافي الإلهيَّة. وإنَّما خصَّ الله الطائفتين بقبول الجزية منهم؛ لأنَّهم في الظاهر ألصقوا أنفسهم بموسى وعيسى - عليهما الصَّلاة والسَّلام -، وادَّعُوا أنهم يعملون بالتوراة والإنجيل؛ فلأجل تعظيم هذين الرسولين المعظمين، وكتابيهما المعظمين، ولتعظيم أسلاف هؤلاء اليهود والنصارى، لأنهم كانوا على الدِّين الحق، حكم الله بقبول الجزية منهم، وإلاَّ ففي الحقيقة لا فرق بينهم وبين المشركين. فصل في قوله: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} أقوال: أحدها: قال عبيد بن عمير: إنَّما قال هذا رجلٌ واحد من اليهود اسمه: فنحاص بن عازوراء، وهو الذي قال: {إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ} [آل عمران: 181] . وثانيها: روى سعيدُ بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال: «أتى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جماعة من اليهود سلام بن مشكم، والنعمان بن أبي أوْفَى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا، ولا تزعم أنَّ عُزيراً ابن الله؟ فنزلت هذه الآية. وعلى هذين القولين، فالقائل بهذا بعض اليهود، وإنما نُسب ذلك إلى اليهود بناء على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحدِ، يقال: فلانٌ ركبَ الخيولَ وجالسَ السَّلاطينَن ولعله لم يركب ولم يجالس إلا واحداً. وثالثها: لعلَّ هذا المذهب كان فَاشياً فيهم ثمَّ انقطع، فحكى الله ذلك عنهم، ولا عبرة بإنكار اليهُودِ ذلك، فإنَّ حكاية الله عنهم أصدق، والسَّبب في ذلك ما روى عطية العوفي عن ابن عباس أن اليهود أضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق، فأنساهم الله التوراة، ونسخها من صدورهم، فتضرَّع عزير إلى الله وابتهل إليه، فعاد حفظ التوراة إلى قلبه، فأنذر قومه به فلمَّا حرَّبُوه وجدوه صادقاص فيه، ثم إنَّ التابوت نزل بعد دعائه منهم، فلمَّا رأوا التَّابُوتَ عرضوا ما كان فيه على الذي كان يعلمهم عزير؛ فوجدوه مثله، فقالوا: ما أوتي عزير هذا إلاَّ أنه ابن الله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 70 وقال الكلبيُّ: «لمَّا قتل بُخْتنصَّر علماءهم، فلمْ يبق فيهم أحدٌ يعرف التوراة، وكان عزير ابن ذاكَ صغيراً؛ فاستصغره فلم يقتله، فلمَّا رجع بنو إسرائيل إلى بيتِ المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله عزيراً، ليجدِّد لهم التوراة، ويكون لهم آية بعدما أماته مائة عام، يقال: أتاهُ ملكٌ بإناءٍ فيه ماء؛ فسقاه، فمثلت التوراة في صدره، فلمَّا أتاهُم وقال: أنا عُزَيرٌ فكذَّبُوه وقالوا: إنْ كنت كما تزعُمُ فأملِ علينا التوراة فكتبها لهم، ثمَّ إنَّ رجلاً قال: إنَّ أبي حدَّثَنِي عن جدِّي أنَّ التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم، فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعرضوها على ما كتب عزير، فلم يغادر حرفاً، فقالوا: إنَّ الله لم يقذف التوراة في قلب رجلٍ إلاَّ أنه ابنه، فقالوا: عُزيرٌ ابنُ الله» . فصل وأمَّا قولُ النَّصارى المسيح ابن اللهِ، فظاهرٌ، وفيه إشكال، وهو أنَّا نقطع أن المسيح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان مبرأً من دعوة النَّاس إلى الأبوة والبنوة؛ فإنَّ هذا أفحش أنواع الكُفْرِ، فكيف يليق بأكابر الأنبياء؟ وإذا كان كذلك، فكيف يعقلُ إطباق محبي عيسى من النصارى عليه، ومن الذي وضع هذا المذهب الفاسدَ؟ وأجاب المفسِّرُون عن هذا: بأنَّ أتباع عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كانُوا على الحقِّ بعدما رفع عيسى حتى وقع حرب بينهم وبين اليهود، وكان في اليهود رجل شجاع يقال له: بولص قتل جماعةً من أصحاب عيسى، ثم قال لليهود: إن كان الحقُّ مع عيسى؛ فقد كفرنا، والنَّار مصيرنا، ونحن مغبونون إنْ دخلوا الجنَّة ودخلنا النارَ، وإني أحتال؛ فأضلهم حتى يدخلوا النَّار، وكان له فرس يقال له: العقاب، يقاتلُ عليه، فعرقب فرسه، وأظهر الندامة، ووضع التراب على رأسه، فقالت له النَّصارى: مَنْ أنتَ؟ قال: بولص عدوكم، تبتُ، فنوديت من السَّماء ليس لك توبة إلاَّ أنْ تَتَنَصَّر؛ وقد تبت، فأدخلوه الكنيسة، ومكث سنةً لا خرج ليلاً ولا نهاراً، حتَّى تعلَّم الإنجيل وقال: نوديت أنَّ الله قبل توبتك؛ فصدقوه وأحبوه. ثم مضى إلى بيتِ المقدسِ، واستخلف عليهم رجلاً اسمه: نسطور، وعلمه أنَّ عيسى، ومريم والإله كانوا ثلاثة، وتوجه إلى الرُّوم وعلَّمهم اللاهوت والنَّاسوت، وقال: ما كان عيسى إنساناً، ولا جسماً ولكنه ابن الله، وعلَّم رجلاً يقال له: يقوبُ ذلك، ثم دعا رجلاً يقال له ملكا فقال له: إنَّ الإله لم يزل، ولا يزال عيسى، ثم دعا هؤلاء الثلاثة وقال لكلِّ واحد منهم أنت خالصتي فادع النَّاس إلى إنجيلك، ولقد رأيتُ عيسى في المنام ورضي عنِّي، وإنِّي غداً أذبح نفسي لمرضاة عيسى، ثم دخل المذبح، فذبح نفسه، فلمَّا كان يوم ثالثه دعا كل واحد منهم النَّاس إلى مذهبه؛ فتبع كلُّ واحد منهم طائفة، فاختلفوا واقتتلوا، هذا ما حكاه الواحديُّ وغيره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 71 قال ابنُ الخطيبِ: «والأقربُ عندي أن يقال: لعلَّه ورد لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التِّشريفِ، ثم إنَّ القومَ لأجل عداوة اليهود؛ ولأجل أن يقاتلوا غلوهم الفاسد في أحد الطرفين بغلو فاسد في الطَّرف الثاني، فبالغوا وفسَّرُوا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية، والجهال قبلوا ذلك، وفشا هذا المذهبُ الفاسدُ في أتباع عيسى، والله أعلم بحقيقة الحال» . قوله: {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} واعلم أنَّ كلَّ قول إنَّما يقال بالفمِ، فما معنى تخصيصهم بهذه الصفة؟ والجواب من وجوه: أحدها: أنَّ معناه قول لا يعضده برهانٌ، وإنّما هو لفظ يفوهُون به فارغ من معنى معتبر لحقه؛ لأن إثبات الولد للإله مع أنه مُنزَّهٌ عن الحاجة والشهوة، والمضاجعة، والمباضعة قولٌ باطلٌ، ليس له تأثير في العقل، ونظيره قوله تعالى: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167] . وثانيها: أنَّ الإنسان قد يختار مذهباً إمَّا على سبيل الكناية، وإمَّا على سبيل الرَّمز، وأمَّا إذا صرَّح بلسانه فهو الغاية في اختيار ذلك المذهب، والمعنى على هذا: أنَّهم يُصرِّحون بهذا المذهبِ ولا يخفونه ألبتة. وثالثها: أنَّ المعنى: أنهم دعوا الخلق إلى هذه المقالة حتى وقعت هذه المقالة في الأفواه والألسنة والمرادُ: مبالغتهم في دعوة الخلقِ إلى هذا المذهب. قال أهل المعاني: لم يذكر اللهُ قولاً مقروناً بالأفواه والألسن إلاَّ كان ذلك زوراً. قال ابنُ العربي: «في هذه الآية دليلٌ من قول ربنا تبارك وتعالى على أنَّ من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدىء به لا حرج عليه؛ لأنَّه إنَّما ينطق به على سبيل الاستعظام له والرَّد عليه، ولو شاء ربنا ما تكلم به أحد، فإذا أمكن من إطلاق الألسنة به فقد أذن بالإخبار عنه، على معنى إنكاره بالقلب واللسان، والردّ عليه بالحجَّة» . قوله «يُضَاهِئُونَ» قرأ العامة «يُضَاهُون» بضمِّ الهاءِ، بعدها واو، وعاصم بهاءٍ مكسورة، بعدها همزةٌ مضمومة، بعدها واو، فقيل: هما بمعنى واحدٍ، وهو المشابهة، وفيه لغتانِ: «ضَاهَأتُ وضَاهَيْتُ» بالهمز والياءِ، والهمزُ لغة ثقيف. وقيل: الياء فرع عن الهمزةِ، كما قالوا: قرأ وقَرَيْت، وتوضَّأت وتوضَّيت، وأخْطَأت وأخْطَيْت. وقيل: بل «يُضَاهِئُونَ» بالهمزِ مأخوذ من «يُضَاهِيونَ» ، فلمَّا ضُمَّت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 72 الياء قُلبتْ همزةً، وهذا خطأٌ؛ لأنَّ مثل هذه الياء لا تَثْبُتُ في هذا الموضع حتى تقلبَ همزةً، بل يؤدي تصريفه إلى حذف الياء، نحو: يُرامُونَ، من «الرمي» ، ويُماشُونَ، من «المشي» وزعم بعضهم: أنَّهُ مأخوذٌ من قولهم: «امرأة ضَهْيَا» بالقصر، وهي التي لا ثَدْيَ لها، أو الَّتي لا تحيضُ، سُمِّيت بذلك، لمشابهتها الرجال، يقال امرأة ضَهْيَا، بالقصر وضَهْيَاء، بالمد، ك: حمراء، وضَهْيَاءة، بالمدِّ وتاءِ التأنيث، ثلاث لغات، وشذِّ الجمعُ بين علامتي تأنيث في هذه اللَّفظة، حكى اللغة الثالثة الجرميُّ، عن أبي عمرو الشيباني. قيل: وقولُ من زعم أنَّ المضاهأة بالهمز مأخوذةٌ من: امرأة ضَهْيَاء، في لغاتها الثلاث، فقوله خطأ، لاختلاف المادتين، فإنَّ الهمزة في «امرأة ضَهْيَاء» زائدة في اللُّغاتِ الثلاث، وهي في «المضاهأة» أصلية. فإن قيل: لِمَ لَمْ يُدَّعَ أنَّ همزة «ضهياء» وباؤها زائدة؟ . فالجوابُ: أنَّ «فَعْيَلاً» بفتح الياء يَثْبُتْ. فإن قيل: فَلِمَ لم يُدَّعَ أنَّ وزنها «فَعْلل» ، ك: «جَعْفَرٍ» ؟ . فالجوابُ: أنه قد ثبت زيادة الهمة في «ضَهْيَاء» بالمدِّ، فثبت في اللُّغة الأخرى، وهذه قاعدة تصريفية، والكلامُ على حذف مضاف تقديره: يُضَاهي قولهم قول الذين، فحذف المضاف وأقيم المضافُ إليه مقامه، فانقلب ضمير رفع بعد أن كان ضمير جرٍّ. والجمهور على الوقف على «بأفواههم» ، ويبتدئون ب «يُضَاهِئُونَ» . وقيل: الباء تتعلَّق بالفعل بعدها، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف هذا المضاف. واستضعف أبو البقاءِ قراءة عاصم، وليس بجيِّدٍ لتواترها، وقال أحمدُ بنُ يحيى: لم يتابع أحد عاصماً على الهمز. والمضاهاة: المشابهة، في قول أكثر أهل اللُّغة. وقال شمرُ: «المضاهاة: المتابعة، يقال: فلان يضاهي فلاناً، أي: يتابعه» . فصل قال مجاهدٌ: «» يضاهئون «قول المشركين من قبلن كانوا يقولون: اللاَّت والعُزَّى بنات الله» . وقال قتادة والسديُّ: «ضاهت النصارى قول اليهود من قبل، فقالوا: المسيحُ ابنُ الله، كقول اليهود من قبل عزير ابنُ الله؛ لأنهم أقدم منهم» وقال الحسنُ: «شبَّه كفرهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 73 بكفر الذين مضوا من الأمم الكافرة» كما قال في مشركي العرب: {كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ} [البقرة: 118] . وقال القتيبي: «يريد من كان في عصر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من اليهود والنصارى، يقولون ما قال أسلافهم» . قوله: «قَاتَلَهُمُ الله» قال ابنُ عبَّاسٍ: لعنهم الله. وقال ابن جريج: قتلهم اللهُ. وقيل: هذا بمعنى التَّعجب من شناعةِ قولهم، كما يقال: ركبوا شنيعاً، قاتلهم اللهُ ما أعجب فعلهم، وهذا التعجب إنَّما هو راجع إلى الخلقِ، والله لا يتعجَّبُ من شيء، ولكن هذا الخطابُ على عادة العرب في مخاطبتهم، والله عجب منهم في تركهم الحق وإصرارهم على الباطل. «أنى يُؤْفَكُونَ» أي: كيف يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه. قوله {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} . الأحْبَارُ: العلماءُ. قال أبو عبيد: «الأحبارُ: الفقهاءُ قد اختلفوا في واحده، فقال بعضهم:» حَبْرٌ «، وقال بعضهم» حِبْرٌ «. وقال الأصمعيُّ: لا أدري أهو الحِبْرُ أو الحَبْرُ «. وكان أبو الهيثم يقول:» واحد «الأحبار» «حَبْرٌ» بالفتح لا غير، وينكر الكسر «وكان الليثُ، وابن السِّكيت يقولان» حِبْر «و» حَبْر «للعالم ذِمِّيّاً كان أو مسلماً، بعد أن يكون من أهل الكتاب» . وقال أهل المعاني: «الحبر» : العالم الذي صناعتُه تحبير المعاني بحس البيان عنها، وإتقانها، ومنه: ثوب محبر، أي: جمع الزينة، والرَّاهبُ: الذي تمكنت الخشية والرهبة في قلبه، وظهرت آثار الرهبة على وجهه ولباسه. وفي عرف الاستعمال، صار الأحبارُ مختصاً بعلماء اليهود من ولد هارون. والرُّهبان: علماء النَّصارى أصحاب الصَّوامع. ومعنى اتخاذهم أرباباً: أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم، واستحلُّوا ما أحلوا، وحرموا ما حرموا. قال أكثرُ المفسرين: «ليس المراد من الأرباب أنَّهم اعتقدوا إلهيتهم، بل المراد: أنهم أطاعوهم في أوامرهم ونواهيهم» . قال عدي بن حاتم: «أتيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفي عنقي صليب من ذهب وهو يقرأ سورة براءة، فقال:» يا عدي اطرح هذا الوثن من عنقك «فطرحته، ثم انتهى إلى قوله: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} فقلت: إنّا لنسا نعبدهم، فقال:» أَلَيْسَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 74 يحرِّمون مَا أَحَلَّ اللهُ فَتُحَرِّمُونَهُ ويُحلون ما حرَّم اللهُ؛ فَتَسْتحلُّونَهُ؟ «قال قلت: بلى، قال:» فَتِلْكَ عبادتُهُمْ «. وقال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ قال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالفُ أقوال الأحبار والرهبان؛ فكانوا يأخذون بأقوالهم ويتركون حكم كتابِ الله تعالى. فإن قيل: إنَّه تعالى لمَّا كفرهم بسبب طاعتهم للأحبار والرُّهبان، فالفاسقُ يطيع الشيطانَ؛ فوجب الحكم بكفره على ما هو قول الخوارجِ. فالجوابُ: أنَّ الفاسق إن كان يطيع الشيطان إلاَّ أنَّه لا يُعظِّمه، لكنه يلعنه، فظهر الفرق. فصل قوله {والمسيح ابن مَرْيَمَ} عطف على» رُهبانهم «، والمفعول الثَّاني محذوف، والتقدير: اتخذ اليهودُ أحبارهم أرباباً، والنصارى رهبانهم والمسيح ابن مريم أرْبَاباً، وهذا لأمْنِ اللَّبْس خلط الضمير في» اتَّخَذُوا «، وإن كان مقسماً لليهود والنَّصارى، وهذا مراد أبي البقاءِ في قوله:» أي: واتخذوا المسيح ربًّا، فحذف الفعل وأحد المفعولين «. وجوَّز فيه أيضاً أن يكون منصوباً بفعل مقدر أي: وعبدُوا المسيح ابن مريم. ثم قال: {وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: سبحانه أن يكون له شريك في الأمر والتكليف، وفي كونه معبوداً، وفي وجوب نهاية التعظيم. قوله: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ} الآية. ذكر عن رؤساء اليهود والنصارى نوعاً ثالثاً من أفعالهم القبيحة، وهو سعيهم في إبطال أمر محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. والمراد من «النور» قال الكلبيُّ: هو القرآن، أي: يردُّوا القرآن بألسنتهم تكذيباً. وقيل: النور: الدَّلائل الدَّالة على صحة نبوته وشرعه وقوة دينه. وسمى الدلائل نوراً؛ لأنَّ النور يهتدي به إلى الصَّواب. قوله: {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ} «أن يتمّ» مفعول به، وإنَّما دخل الاستثناء المفرغ في الموجب؛ لأنَّهُ في معنى النفي، فقال الأخفشُ الصغيرُ «معنى يأبَى: يمنع» وقال الفرَّاء: «دخلتْ» إلاَّ «لأن في الكلام طرفاً من الجحد» وقال الزمخشريُّ: «أجْرَى» أبَى «مُجْرى» لَمْ يُرِدْ «، ألا ترى كيف قُوبل: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ} بقوله: {ويأبى الله} ، وأوقع موقع: ولا يريد الله إلا أن يتمَّ نوره؟» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 75 والتقدير: لا يريد إلا أن يتمَّ نوره، إلاَّ أنَّ الإبَاءَ يفيد زيادة عدم الإرادة، وهي المنع والامتناع. والدليل عليه قوله عليه السلام: «وإذا أرادوا ظلمنا أبينا» فامتدح بذلك، ولا يجوز أن يمتدح بأنَّه يكره الظلم؛ لأنَّ ذلك يصح من القوي والضعيف. وقال الزَّجاج «إنَّ المستثنى منه محذوفٌ، تقديره: ويَأبَى أي: ويكره كلَّ شيء إلاَّ أن يُتمَّ نوره» وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج، ومذهب غيره فجعلهما مذهباً واحداً فقال: «يَأبَى بمعنى: يَكْره، ويكره بمعنى يمنع، فلذلك استثنى، لما فيه من معنى النَّفْي، والتقدير: يأبَى كُلَّ شيء إلاَّ إتمام نوره» . أي: يعلي دينه ويظهر كلمته، ويتم الحق الذي بعث به محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {وَلَوْ كَرِهَ الكافرون} . قوله تعالى: {هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق} . يعني: الذي يأبى إلاَّ إتمام دينه، هو الذي أرسل رسوله محمداً: «بالهُدَى» ، أي: القرآن، وقيل: ببيان الفرائض «ودين الحقِّ» وهو الإسلام، «لِيُظهِرَهُ» ليعليه وينصره، {عَلَى الدين كُلِّهِ} على سائر الأديان كلها {وَلَوْ كَرِهَ المشركون} فإن قيل: ظاهر قوله {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} يقتضي كونه غالباً لجميع الأديان، وليس الأمر كذلك، فإن الإسلام لم يصر غالباً لسائر الأديان في أرض الهند والصين وسائر أراضي الكفرة. فالجواب من وجوه: أحدها: قال ابن عباسٍ «الهاءُ في» لِيُظهِرَهُ «عائدة إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: ليعلمه شرائع الدِّين كلها، فيظهره عليها حتى لا يخفى عليه منها شيء» . وثانيها: قال أبو هريرة والضحاك: هذا وعدٌ من الله تعالى بأنه يجعل الإسلام عالياً على جميع الأديان وتمام هذا يحصلُ عند خروج عيسى عليه الصَّلاة والسَّلامُ. وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في نزول عيسى قال: «ويهلكُ في زمانِهِ الملل كُلُّهَا إلاَّ الإسلام» . وروى المقدادُ قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولُ: «لا يَبْقَى على ظهْرِ الأرض بيتُ مدر ولا وبرٍ إلاَّ أدخلهُ الله كلِمَة الإسلام، بِعِزِّ عزيز، أو بذُلِّ ذليلٍ، إمَّا أن يُعزَّهمُ اللهُ فيجعلهُمْ من أهْلِهِ فيعزُّوا بهِ، وإمَّا أن يُذلَّهُمْ فيَدِينُون لَهُ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 76 وقال السديُّ: ذلك عند خروج المهدي، لا يبقى أحد إلاَّ دخل في الإسلام، أو أدَّى الخراج. وثالثها: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} في جزيرة العربِ، وقد حصل ذلك، فإنَّه تعالى ما أبقى فيها أحداً من الكُفَّارِ. ورابعها: أنَّهُ لا يدين يخالف دين الإسلام، إلاَّ وقد قهرهم المسلمون، وظهروا عليهم في بعض المواضع، وإن لم يكن ذلك في جميع مواضعهم، فقهروا اليهُود، وأخرجوهم من بلاد العرب، وغلبوا النصارى على بلاد الشام وما والاها إلى ناحية الرُّوم والغرب، وغلبوا المجوس على ملكهم، وغلبوا عباد الأصنام على كثير من بلادهم ممَّا يلي الترك والهند. وخامسها: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} بالحُجَّةِ والبيانِ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ هذا وعد بأنه تعالى سيفعله، والقوة بالحُجَّة والبيان كانت حاصلة من أوَّلِ الأمْرِ. ويمكن أن يجاب عنه، بأنَّهُ في مبدأ الأمر كثرت الشبهات، بسبب ضعف المؤمنين، واستيلاء الكُفَّارِ، ومنعهم للنَّاسِ من التأمل في تلك الدلائل، وأمَّا بعد قوة الإسلام، وعجز الكُفَّار، ضعفت الشبهات فقوي دلائل الإسلام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 قوله تعالى: {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل} الآية. لمَّا وصف اليهود والنصارى بالتكبّرِ وادعاءِ الربوبية، وصفهم في هذه الآية بالطَّمع والحرص على أخذ أموالِ الناس بالباطل. فقوله: «كثيراً» يدلُّ على أنَّ هذه طريقة بعضهم، لا طريقة الكل، فإنَّ العالم لا يخلو عن الحق، وإطباق الكُل على الباطل، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 77 كالممتنع، وهذا يدلُّ على أنَّ إجماع هذه الأمة على الباطل، لا يحصلُ؛ فكذلك في سائر الأمم، وعبَّر عن أخذ الأموال ب «الأكلِ» ؛ إمَّا لأنَّ المقصود الأعظم من جمع الأموال الأكل، فسمى الشيء باسم ما هو أعظم مقاصده، وإمَّا لأنَّ من أكل شيئاً، فقد ضمَّه إلى نفسه، ومنع غيره من الوصول إليه؛ وإمَّا لأنَّ من أخذ أموال الناس، إذا طولب بردّها، قال: أكلتها، فلهذه الوجوه سمى الأخذ بالأكل. واختلفوا في تفسير هذا «الباطل» . فقيل: كانوا يأخذون الرشا في تخفيف الأحكام، والمسامحة في الشرائع، وقيل: كانوا يدَّعُون عند العوام منهم، أنَّه لا سبيل إلى الفوز بمرضاة الله تعالى إلاَّ بخدمتهم وطاعتهم، وبذل الأموال في مرضاتهم، والعوامُ كانوا يغْتَرُّونَ بتلك الأكاذيب، وقيل: كانوا يُغَيِّرُونَ الآيات الدَّالة على مبعث محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وعلى صدقه، ويذكرون في تأويلها وجوهاً فاسدةً، ويُطَيِّبُون قلوب عوامهم بهذا السَّبب، ويأخذون الرشوة عليهم، وقيل: كانوا يُحرِّفُون كتاب الله، ويكتبون كتباً ويقولون هذه من عند الله، ويأخذون بها ثمناً قليلاً من سفلتهم. قوله «وَيَصُدُّونَ» يحتمل أن يكون متعدياً، أي: يصدُّون النَّاسَ، وأن يكون قاصراً، كذا قال أبو حيان، وفيه نظرٌ؛ لأنَّه متعدٍّ فقط، وإنَّما يحذف مفعوله، ويراد، أو لا يُراد، كقوله {كُلُواْ وَاشْرَبُواْ} [البقرة: 60] . قوله {والذين يَكْنِزُونَ الذهب} الجمهورُ على قراءته بالواو، وفيها تأويلان: أحدهما: أنَّها استئنافيةٌ، و «الذينَ» مبتدأ ضُمِّنَ معنى الشرط، ولذلك دخلت الفاءُ في خبره. الثاني: أنَّه من أوصافِ الكثير من الأحبارِ والرُّهبان، وهو قول عثمان ومعاوية. قال زيدُ بنُ وهبٍ: مررتُ بأبي ذر بالربذة، فقلت: يا أبا ذرّ ما أنزلك هذه البلاد؟ فقال: كنت بالشام، فقرأت: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} فقال معاويةُ: هذه الآية في أهل الكتابِ، فقلتُ: إنها فيهم وفينا، فصار ذلك سبباً للوحشة بين وبينه، فكتب إليَّ عثمان أن أقبل إليَّ، فلمّا قدمت المدينة انحرف النَّاس عنِّي؛ كأنهم لم يَرَوْنِي من قبل، فشكوت ذلك إلى عثمان، فقال لي: تنح قريباً، فقلت: والله إنّي لم أدع ما كنت أقول. ويجوزُ أن يكون «الَّذينَ» منصوباً بفعلٍ مقدرٍ، يُفسِّره، «فَبشِّرهُم» وهو أرجحُ، لمكان الأمر. وقرأ طلحة بن مصرف «الَّذينَ» بغير واو، وهي تحتملُ الوجهين المتقدمين، ولكنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 78 كونها من أوصافِ الكثير من الأحبار والرُّهبان أظهر من الاستئناف، عكس التي بالواو. و «الكَنْزُ» الجمعُ والضَّم، ومنه: ناقة كناز، أي: منضمَّة الخَلْق. ولا يختص بالذهب والفضة، بل يقال في غيرهما، وإن غلب عليهما؛ قال: [البسيط] 2777 - لا دَرَّ دَرِّيَ إنْ أطعَمْتُ جَائِعَهُمْ ... قِرْفَ الحَتِيِّ وعِنْدِي البُرُّ مَكْنُوزُ وقال آخر: [الرجز] 2778 - على شَديدٍ لحمُهُ كِنَاز ... بَاتَ يُنَزِّينِي على أوفَازِ قوله: «وَلاَ يُنفِقُونَهَا» تقدَّم شيئان وعاد الضمير مفرداًن فقيل: إنه من باب ما حذف، لدلالة الكلام عليه، والتقدير: والذين يكنزون الذهب ولا ينفقونه. وقيل: يعود على المكنوزات، ودلَّ على هذا جُزْؤه المذكورُ؛ لأنَّ المكنوزَ أعمُّ من النقدين وغيرهما، فلمَّا ذكر الجزءَ دلَّ على الكُل، فعاد الضميرُ جمعاً بهذا الاعتبار؛ ونظيره قول الآخر: [الطويل] 2779 - ولَوْ حَلفَتْ بَيْنَ الصَّفَا أمُّ عَامِرٍ ... ومَرْوَتِهَا باللهِ بَرَّتْ يَمينَهَا أي: ومروة مكة، عاد الضميرُ عليها لمَّا ذُكِر جزؤها، وهو الصَّفا، كذا استدل به ابن مالك، وفيه احتمالٌ، وهو أن يكون الضميرُ عائداً على «الصَّفا» ، وأنَّثَ حملاً على المعنى، إذْ هو في معنى البقعة والحدبة. وقيل: الضميرُ يعودُ على الذهب؛ لأنَّ تأنيثه أشهر، ويكون قد حذف بعد الفضة أيضاً. وقيل: إنَّ كلَّ واحد منهما جملة وافية، دنانير ودراهم، فهو كقوله: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] . وقيل: التقدير: ولا ينفقون الكنوز. وقال الزجاجُ: «ولا ينفقون تلك الأموال» وقيل: يعودُ على الزَّكاة. وقال القرطبيُّ «قال ابنُ الأنباريّ» قصد الأغلب والأعم وهي الفضة، ومثله قوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين} [البقرة: 45] . ردَّ الكناية إلى الصلاة؛ لأنَّها أعم، ومثله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] فأعاد الهاء إلى التجارة؛ لأنها الأهم «. وردَّ هذا بعضهم، قال: ليس هذا نظيره؛ لأنَّ» أو «فصلت التجارة عن اللَّهْو، فحسن عود الضمير على أحدهما» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 79 وإنَّما خصَّ الذهبَ والفضة بالذِّكر من بين سائر الأموالِ؛ لأنهما الأصل المعتبر في الأموال، وهما اللذان يقصدان بالكنز، ثم قال: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} أي: فأخبرهم على سبيل التَّهكم لأنَّ الذين يكنزون الذَّهب والفضة، إنَّما يكنزوهما، ليتوسَّلوا بهما إلى تحصيل الفرج يوم الحاجة فقيل: هذا يوم الفرج، كما يقال: تحيتهم ليس إلاَّ الضرب، وإكرامهم ليس إلا الشتم وأيضاً: فالبشارةُ: عبارة عن الخيرِ الذي يؤثر في القلبِ؛ فيتغير بسببه لون بشرة الوجهِ وهذا يتناول ما إذا تغيَّرت البشرة بسبب الفرح أو بالغم. قوله: «يَوْمَ يحمى» منصوبٌ بقوله: «بِعَذَابٍ أَلِيمٍ» . وقيل: بمحذوفٍ يدلُّ عليه «عذاب» أي: يُعذَّبُون يوم يُحْمَى، وقيل: هو منصوبٌ ب «أليم» . وقيل: الأصلُ: عذاب يوم، و «عذاب» بدل من «عذاب» الأوَّلُ، فلمَّا حذف المضافُ أقيم المضافُ إليه مُقامه. وقيل: منصوبٌ بقولٍ مضمر، وسيأتي بيانه. و «يحمى» يجوزُ أن يكون من «حَمَتْيُ أوْ أحْمَيْتُ ثلاثياً ورباعياً، يقالُ: حَمَيْتُ الحديدة، وأحميتُهَا، أي: أوْقَدْتُ عليها، لِتَحْمَى، والفاعلُ المحذوفُ هو» النَّارُ «تقديره: يوم تُحْمَى النارُ عليها، فلما حذف الفاعل، ذهب علامةُ التأنيث، لذهابه كقولك: رُفِعَت القضية إلى الأمير، ثم تقول: رُفع إلى الأمير. وقيل: لأنَّ تأنيثَ» النَّار «مجازي، والفعل غيرُ مسند في الظَّاهر إليه، بل إلى قوله» عَلَيْهَا «فلهذا حسن التَّذكير والتأنيث. وقيل: المعنى: يُحْمَى الوقود. وقرأ الحسنُ» تُحْمَى «بالتَّاءِ من فوق، أي: النَّار، وهي تؤيد التأويل الأوَّل. وقرأ أبو حيوة» يُكْوى «بالياء من تحت؛ لأنَّ تأنيث الفاعل مجازيٌّ. وقرأ الجمهور:» جِباهُهُم «بالإظهارِ وقرأ أبو عمرو في بعض طرقه بالإدغام، كما أدغم {سَلَكَكُمْ} [المدثر: 42] ، و {مَّنَاسِكَكُمْ} [البقرة: 200] ، ومثل» جِباهُهم «، {وُجُوهُهُمْ} [آل عمران: 106] ، والمشهور الإظهار. قوله: {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} أي: جزاء ما كنتم؛ لأنَّ المكنوز لا يُذاق و» ما «يجوزُ أن تكون بمعنى» الذي «، فالعائدُ محذوفٌ، وأن تكون مصدرية. وقرىء» تَكْنُزُون «بضم عين المضارع، وهما لغتان، يقال: كَنَزَ يَكْنِزُ، ويَكْنُزُ، ك: يقتل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 80 فصل أصل الكنز في كلام العرب: الجمع، وكل شيء جمع بعضه إلى بعض فهو مكنوز. واختلف علماءُ الصحابة في المرادِ بهذا الكَنْزِ المذموم، فقال الأكثرون: هو المالُ الذي لم تؤد زكاته، قال عمرُ بنُ الخطَّابِ:» ما أدِّي زكاته فليس بكنز وإن كن تحت سبع أرضين، وكلُّ ما لم تؤد زكاتُه فهو كنز وإن كان فوق الأرضين «. وقال ابنُ عبَّاسٍ في قوله: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} يريد: الذين لا يؤدُّون زكاة أموالهم. وروى أبُو هرية قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَا مِنْ صاحبِ ذهَبٍ ولا فضَّةٍ لا يُؤدِّي منْهَا حقَّها إلاَّ إذا كانَ يَوْمَ القيامةِ صُفِّحَتْ لهُ صَفَائِحُ من نارٍ فأحْمِيَ عليْها في نَارِ جهنَّم فيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وجَبِينُهُ وظهرُه كُلَّما بَردتْ أعيدتْ لهُ في يوْم كان مقدارُهُ خَمسينَ ألفَ سنةٍ حتَّى يُقْضَى بيْنَ العبادِ فَيَرَى سبيلهُ إمَّا إلى الجنَّةِ وإمَّا إلى النَّارِ «. قال القاضي» تخصيص هذا المعنى بمنع الزَّكاة لا سبيل إليه، بل الواجب أن يقال: الكنزُ: هو المال الذي ما أخرج عنه ما وجب إخراجه، ولا فرق بين الزكاة وبين ما يجب من الكفارات، وبين ما يلزم من نفقة الحج أو الجمعة، وبين ما يجبُ إخراجه في الديون والحقوق، والإنفاق على الأهل والعيال، وضمان المتلفات، وأروش الجنايات؛ فيجب دخول كل هذه الأقسام في هذا الوعيد «. وروي عن علي بن أبي طالب أنَّه قال: كل مال زاد على أربعة آلاف درهم؛ فهو كنز، أدِّيتُ منه الزكاة أو لم تُؤدِّ، وما دونها نفقة. وروي عن أبي ذرٍّ أنَّهُ كان يقولُ: «مَنْ ترك بيضاء أو حمراء كُوي بها يوم القيامةِ» وقيل: ما فضل عن الحاجةِ كنز، لما روى أبو أمامة قال: «مات رجلٌ من أهل الصفة فوجدَ في مئزَرِهِ دينارٌ، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كَيُّةٌ، ثم توفي آخر فوجدَ في مِئْزره ديناران، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كَيتانِ» والقولُ الأول أصح، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «نِعمَ المالُ الصَّالح للرجلِ الصَّالحِ» وقوله عَلَيْهِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 81 الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ما أدي زكاتُهُ فليْسَ بِكَنْزٍ» وروى مجاهد عن ابن عبَّاسٍ قال: لمَّا نزلت هذه الآيةُ كبر ذلك على المسلمين، وقالوا: ما يستطيعُ أحد منَّا أن يدع لولده شيئاً، فذكر ذلك عمر للرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: «إنَّ الله لمْ يفْرضِ الزَّكاةَ إلاَّ ليطيِّبَ بها ما بقي من أموالكُم» وسئل ابنُ عمر عن هذه الآية فقال: كان هذا قبل أن تنزل الزَّكاة، فلمَّا نزلت جعلها اللهُ طُهْراً للأموال. وقال ابنُ عمر: «مَا أبَالي لوْ أنَّ لي مثلَ أحُدٍ ذهباً أعلم عددهُ أزكيه، وأعمل بطاعة الله عزَّ وجلَّ» . وكان في زمان الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - جماعة مياسير كعثمان، وعبد الرحمن بن عوف وكان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يعدُّهم من أكابر المؤمنين، وندب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إلى إخراج الثلث أو أقل في المرض، ولو كان جمع المال محرماً لكان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يأمر المريض بالتَّصدق بكله، بل كان يأمر الصحيحَ في حال صحته بذلك، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لسعد بن أبي وقاص: «إنَّك إن تَدعْ ورثَتَكَ أغْنياءَ خيرٌ مِنْ أنْ تدعهُم عالة يتكَفَّفُون النَّاسَ» . فصل اختلفوا في وُجُوب الزَّكاةِ في الحليّ، فقال مالكٌ وأحمدُ وإسحاقُ وأبو ثور وأبو عبيد: لا زكاة فيه. وهو قول الشافعي بالعراقِ، ووقف فيه بعد ذلك بمصر، وقال الثوريُّ وأبو حنيفة والأوزاعي: فيه الزكاة. فإن قيل: مَنْ لمْ يكنُزْ ولم يُنفِقْ في سبيل الله وأنفقَ في المعاصي، هل يكون حكمه في الوعيد حكم من كنز ولم يُنْفق في سبيل الله. قيل: إنَّ ذلك أشدّ، فإن من بذل ماله في المعاصي، عصى من جهتين: بالإنفاق والتناول، ك: شراء الخَمْرِ وشربها. بل من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 82 جهات إذا كانت المعصية ممَّا تتعدَّى كمنْ أعانَ على ظُلْمِ مسلم من قتله أو أخذ ماله. فإن قيل: لِمَ خُصت هذه الأعضاءُ؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّ المقصودَ من كسب الأموال، حصول فرح القلب، فيظهر أثره في الوجه، وحصول الشبع ينفتح بسببه الجنبان، وليس ثياب فاخرة يطرحونها على ظهورهم، فلمَّا طلبوا تزيين هذه الأعضاء الثلاثة، حصل الكي على الجباه والجنوب والظهور. وثانيها: أنَّ هذه الاعضاء مجوفة وفي داخلها آلات ضعيفة يعظم تألُّمها بسبب وصول أدنى أثر غليها، بخلاف سائر الأعضاء. وثالثها: قال أبُو بكر الوراق: خصت هذه المواضع بالذكر؛ لأنَّ صاحب المال إذا رأى الفقير قبض جبهته وإذا جلس الفقيرُ بجنبه تباعد عنه وولَّى ظهره. ورابعها: أنهم يُكوون على الجهات الأربع، أمَّا من مقدمه فعلى الجبهة، وأمَّا من خلفه فعلى الظهر، وأما من يمينه ويساره فعلى الجنبين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} الآية. «العِدَّة» مصدر بمعنى «العَدَد» . و «عِندَ اللهِ» منصوبٌ به، أي: في حُكْمه. و «اثْنَا عشرَ» خبرُ «إنَّ» ، وقرأ ميسرة عن حفص، وهي قراءةُ أبي جعفر «اثْنَا عَشْرَ» بسكون العين مع ثبوتِ الألف قبلها، واستكرهتْ من حيثُ الجمعُ بين ساكنين على غير حَدَّيْهما، كقولهم: «التقَتْ حَلْقتَا البطانِ» بإثباتِ الألف من «حَلْقتَا» . وقرأ طلحة بسكون الشين كأنه حمل «عشر» في المذكر على «عشرة» في المؤنث، و «شَهْراً» نصب على التمييز، وهو مؤكِّد؛ لأنه قد فُهِم ذلك من الأول، فهو كقولك: عندي من الدَّنانير عشرون ديناراً. والجمعُ متغاير في قوله «عِدَّة الشُّهورِ» وفي قوله تعالى: {الحج أَشْهُرٌ} [البقرة: 197] ؛ لأنَّ هذا جمعُ كثرة، وذاك جمعُ قلة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 83 قوله: {فِي كِتَابِ الله} يجوزُ أن يكون صفةً ل «اثْنَا عَشَرَ» ، والتقديرُ: اثنا عشر شهراً مثبتة في كتاب الله. ثمَّ لا يجوزُ أن يعنى بهذا الكتاب كتاب من الكتب، لأنَّه متعلقٌ بقوله: {يَوْمَ خَلَقَ السماوات} وأسماء الأعيان لا تتعلَّق بالظروفِ، فلا تقول: غلامك يوم الجمعة، بل الكتاب ههنا مصدر والتقدير: إنَّ عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله، أي: في حكمه الواقع يوم خلق السموات والأرض. ويجوزُ أن يكون بدلاً من الظرفِ قبله، وهذا لا يجوزُ، أو ضعيفٌ، لأنَّه يلزمُ منه أن يخبر عن الموصول قبل تمام صلته، فإنَّ هذا الجارَّ متعلق به على سبيل البدلية، وعلى تقدير صحة ذلك من جهة الصناعة، فكيف يصحُّ من جهة المعنى؟ ولا يجوزُ أن يكون «فِي كتابِ اللهِ» متعلقاً ب «عِدَّة» لئلاَّ يلزم الفصلُ بين المصدر ومعموله بخبره وقياس مَنْ جوَّز إبداله من الظرف أن يجوِّز هذا، وقد صرَّح بجوازه الحوفيُّ. قوله: «يَوْمَ خَلَقَ» يجوز فيه أن يتعلَّق ب «كِتَاب» على أنَّه يُرادُ به المصدر، لا الجثة ويجوزُ أن يتعلَّق بالاستقرار في الجار والمجرور، وهو «في كِتابِ الله» ويكونُ الكتابُ جثةً لا مصدراً، وجوَّز الحوفيُّ أن يكون متعلقاً ب «عِدَّة» وهو مردودٌ بما تقدَّم، ويجوزُ أن يتعلَّق بفعل مقدر، أي: كتب ذلك يوم خلق. فصل هذه الآية أيضاً من شرح قبائح اليهود والنَّصارى والمشركين، وهو إقدامهم على تغيير أحكام الله تعالى؛ لأنَّه تعالى، حكم في كل وقت بحكم خاص، فإذا غَيَّرُوا تلك الأوقات بسبب النَّسيء، كان ذلك سعياً منهم في تغيير حكم السَّنة بحسب أهوائهم وآرائهم فكان ذلك زيادة في كفرهم وجرأتهم. فإنَّ السَّنة عند العربِ: عبارة عن اثني عشر شهراً قمرية، ويدُلُّ عليه هذه الآية وقوله تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5] فجعل تقدير القمر بالمنازل دليلاً على السنين، وإنَّما يصح ذلك إذا كانت السَّنة معلقة بسير القمر، وقال تعالى {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} [البقرة: 189] وعند سائر الطوائف: السَّنة عبارة عن المدة التي تدور الشمس فيها دورة تامة من فصل إلى فصل، فيكون الحج واقعاً في الشتاء مرَّة، وفي الصيف أخرى، فشقَّ الأمر عليهم بهذا السَّبب. وأيضاً إذا حضروا الحجَّ حضروا للتجارة، فربما كان ذلك الوقت غير موافق لحضور التجارات من الشمسية، فلذلك بقي زمان الحج مختصاً بوقت معين موافق لمصلحتهم، وانتفعوا بتجاراتهم ومصالحهم، فهذا النَّسيء وإن كان سبباً لحصولِ المصالحِ الدنيوية، إلاَّ أنَّه لزم منه تغيير حكم الله تعالى، لمَّا خصَّ الحجَّ بأشهر معلومة على التّعيين، وكان بسبب ذلك النَّسيء يقع في سائر الشُّهور تغيير حكم الله تعالى وإبطال تكليفه؛ فلهذا المعنى استوجبُوا الذَّمَّ العظيمَ في هذه الآية. والمرادُ بالكتابِ: حكمه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 84 وإيجابه. قال ابن عباس «إنه اللَّوحُ الحفوظ» وقيل: القرآن. فصل قال القرطبيُّ: قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور} وهي جمع شهر. فإذا قال الرجل لأخيه: لا أكلمك الشهور، وحلف على ذلك فلا يكلمه حَوْلاً، قالهُ بعض العلماء وقيل: لا يكلمه أبداً. قال ابنُ العربي: وأرى إن لم يكن له نيّة أن يقتضي ذلك ثلاثة أشهر، لأنَّه أقل الجمع الذي يقتضيه صيغة «فُعول» في جمع «فَعْل» . قوله {مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} هذه الجملةُ يجوز فيها ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون صفةً ل «اثْنَا عَشَرَ» . الثاني: أن تكون حالاً من الضمير في الاستقرار. الثالث: أن تكون مستأنفة. والضمير في «منها» عائدٌ على اثنا عشر شهراً، لأنه أقربُ مذكورٍ، على «الشُّهور» والضمير في «فيهنَّ» عائدٌ على «الاثني عشر» أيضاً. وقال الفرَّاءُ، وقتادةُ: يعودُ على الأربعةِ الحُرُم وهذا أحسنُ، لوجهين: أحدهما: أنه أقرب مذكور. والثاني: أنه قد تقرَّر أنَّ معاملة جمع القلة غير العاقل معاملة جمع الإِناث أحسنُ مِنْ معاملة ضمير الواحدة، والجمعُ الكثيرُ بالعكس، تقول الأجذاع انكسرن، والجذوع انكسرت، ويجوزُ العكس. فصل أجمعُوا على أنَّ هذه الأربعة ثلاثة منها سرد، وهي: ذُو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وواحد فرد، وهو: رجبٌ، ومعنى الحرم: أنَّ المعصية فيها أشد عقاباً، والطَّاعةُ فيها أشد ثواباً، والعربُ كانوا يُعظِّمُونها حتَّى لو لقي الرجلُ قاتل أبيه لم يتعرَّض له. فإن قيل: أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة، فما السَّببُ في هذا التَّمييز؟ فالجوابُ: هذا المعنى غير مُسْتَبعَدٍ في الشَّرائع، فإنه ميَّز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمةِ، وميَّز يوم الجمعة عن سائر الأيام بمزيد الحرمة، وميَّز يوم عرفة عن سائر الأيام بعبادة مخصوصة، وميز شهر رمضان عن سائر الشُّهور بمزيد حرمة، وميز بعض ساعات اليوم والليلة بوجوب الصلاة فيها، وميز ليلة القدر عن سائر الليالي، وميَّز بعض الأشخاص بإعطاء الرِّسالة، فأي استبعاد في تخصيصِ بعض الشهور بمزيد الحرمة. وفيه فائدة أخرى وهي: أنَّ الطباع مجبولة على الظلم والفساد، وامتناعهم من هذه القبائح على الإطلاق شاقٌّ عليهم، فخص تعالى بعض الأوقات وبعض الأماكن بمزيد التعظيم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 85 والاحترام، حتى إنَّ الإنسانَ ربما امتنع في تلك الأزمنة، وفي تلك الأمكنة عن فعل القبائح، وذلك يوجب أنواعاً من الفوائد. أحدها: أنَّ ترك القبائح في تلك الأوقات أمر مطلوب؛ لأنه يقل القبائح. وثانيها: أنَّ تركها في تلك الأوقات ربما صار سبباً لميل طبعه إلى الإعراضِ عنها مطلقاً. وثالثها: أنَّه إذا أتى بالطَّاعات فيها وأعرض عن المعاصي فيها، فبعد انقضاء تلك الأوقات لو شرع في المعاصي صار شروعه فيها سبباً لبطلان ما تحمله من العناءِ والمشقَّةِ في أداء الطَّاعات في تلك الأوقات، والظَّاهر من حال العاقل أنَّه لا يرضى بذلك فيصير ذلك سبباً لاجتنابه عن المعاصي بالكلِّية، فهذا هو الحكمة في تخصيص بعض الأزمنة، وبعض الأمكنة، بمزيد التعظيم. قوله {ذلك الدين القيم} أي: الحساب المستقيم، يقال: «الكَيِّسُ من دَانَ نَفسَهُ» أي: حاسبها، وقال الحسنُ: «ذلكَ الدِّينُ القَيّم» الذي لا يبدلُ ولا يُغير، «القَيِّم» - ههنا - بمعنى: القائم الدائم الذي لا يزول، وهو الدِّينُ الذي فَطَرَ الناس عليه. قوله {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ} بفعل المعصية، وترك الطَّاعاتِ، قال ابنُ عبَّاسٍ: «المراد، فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم، والمراد: منع الإنسان من الإقدام على الفساد في جميع العمر» . وقال الأكثرون الضَّمير في قوله «فِيهِنَّ» عائدٌ على الأربعة الحرم، وقد تقدَّم. وقيل: المرادُ ب «الظلم» النَّسيء الذي كانُوا يعملونه، فينقلون الحجَّ من الشهر الذي أمر الله بإقامته فيه إلى شهرٍ آخر، وقيل: المرادُ ب «الظُّلمِ» ترك المقاتلة في هذه الأشهر. قوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} نصب «كَافَّةً» على الحالِ، إمَّا من الفاعل، أو من المفعول، وقد تقدَّم أن «كَافَّةً» لا يُتصرَّف فيها بغير النصب على الحال، وأنَّها لا تدخلها «أل» ؛ لأنها بمعنى قولك: قامُوا جميعاً، وقامُوا معاًن وأنَّها لا تُثَنَّى، ولا تُجْمع، وكذلك «كافة» الثانية، ومعنى «كافة» أي: جميعاً. فصل معنى الآية: قاتلوهم بأجمعكم مجتمعين على قتالهم، كما أنَّهم يقاتلونكم على هذه الصِّفة، أي: تعاونوا وتناصروا على ذلك؛ ولا تتخاذلوا وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 86 وقال ابنُ عبَّاسٍ: «قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال، كما أنَّهُم يستحلُّون قتال جميعكم» {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي: مع أوليائه الذين يخشونه في أداء الطَّاعات والاجتناب عن المحرمات. واختلفوا في تحريم القتال في الأشهر الحرم، فقيل: كان مُحرماً ثم نسخ بقوله تعالى {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} أي: فيهن، وفي غيرهن، وهو قول قتادة، وعطاء الخراساني، والزهريُّ وسفيان الثوري، وقالوا: لأنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غزا هوازن بحنين، وثقيفاً بالطائف، وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة. وقال آخرون: غير منسوخ. قال ابن جريج «حلف بالله عطاء بن أبي رباح أنَّهُ ما يحلُّ للنَّاس أن يغزوا في الحرم، ولا في الأشهر الحرم إلاَّ أن يقاتلوا فيها، وما نسخت» . قوله {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر} في «النَّسِيء» قولان: أحدهما: أنَّه مصدرٌ على «فَعِيل» مِن: «أنْسأ» ، أي: أخَّرَ، ك «النذير» من أنذر، و «النكير» من أنْكَر، وهذا ظاهرُ قول الزمخشري فإنَّه قال: «النَّسيء: تأخيرُ حرمة الشهر إلى شهر آخر» ، وحينئذٍ. فالإخبارُ عنه بقوله «زيادة» واضحٌ، لا يحتاج إلى إضمار. وقال الطبريُّ: «النَّسيء - بالهمز - معناه: الزيادة» ؛ لأنَّه تأخير في المدة، فيلزمُ منه الزيادة، ومنه النَّسيئة في البيع، يقال: أنْسَأ الله أجلهُ، ونسأ في اجله أي أخّر وهو ممدود عند أكثر القراء. الثاني: أنَّه «فَعِيلٌ» بمعنى «مَفْعُول» مِنْ نسأهُ أي: أخَّره فهو منسوءٌ، ثم حُوِّل «مفعول» إلى «فَعِيلٍ» ، وإلى ذلك نَحَا أبُو حاتمٍ، والجوهري - وهذا القول ردَّه الفارسي فإنَّه يكون المعنى: إنَّما المؤخَّر زيادة، والمؤخَّر الشهر، ولا يكون الشهرُ زيادة في الكفرِ، وأجيب عن هذا بأنَّه على حذف مضاف إمَّا من الأول، أي: إنَّما إنساءُ النَّسيء زيادة في الكفر، وإمَّا من الثاني، أي: إنما النسيء ذُو زيادة. وقرأ الجمهورُ «النَّسيء» بهمزة بعد الياءِ، وقرأ ورش عن نافع «النسيّ» بإبدال الهمزة ياء وإدغام الياء فيها، ورُويت هذه عن أبي جعفر، والزهري وحميد، وذلك كما خفّفوا «برية» و «خطية» . وقرأ السلمي، وطلحة، والأشهب، وشبل، «النَّسْء» بإسكان السين. وقرأ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 87 مجاهدٌ والسلمي وطلحةُ أيضاً «النَّسُوء» بزنة «فعُول» بفتح الفاءِ، وهو التأخير، و «فعول» في المصادر قليل، قد تقدَّم منه ألفاظ في أوائل البقرة، وتقدَّم في البقرة اشتقاقُ هذه المادة، وهو هنا عبارةٌ عن تأخير بعض الشُّهُور عن بعض؛ قال: [الوافر] 2780 - ألَسْنَا النَّاسِئِينَ على مَعَدٍّ ... شُهُورَ الحِلِّ نجعَلُهَا حَرَامَا وقال آخر: [الكامل] 2781 - نَسَئُوا الشُّهُورَ بها وكانُوا أهلهَا ... مِنْ قبلِكُم والعِزُّ لمْ يتحوَّلِ قوله «يُضَلُّ بِهِ» قرأ الأخوان، وحفص «يُضَلُّ» مبنياً للمفعول وأبو عمرو في رواية ابن مقسم «يُضِلّ» مبنياً للفاعل، وفيه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: يضل اللهُ به الذين كفروا. والثاني: يضل الشيطان به الذين كفروا. والثالث: يضل به الذين كفروا تابعيهم. والباقون مبنياً للفاعل، والموصول فاعل به. وقرأ ابن مسعود والحسن، ومجاهد، وقتادة ويعقوب، وعمرو بن ميمون «يُضِلّ» مبنياً للفاعل، من «أضَلَّ» وفي الفاعل وجهان: أحدهما: ضمير الباري تعالى، أي: يُضِلُّ اللهُ الذين كفروا. والثاني: أنَّ الفاعل «الذينَ كفرُوا» وعلى هذا فالمفعولُ محذوف، أي يُضل الذين كفروا أتباعهم. وقرأ أبُو رجاء «يَضَلُّ» بفتح الياء والضَّاد، وهي مِنْ «ضَلِلْتُ» بكسر اللام، «أضَلُّ» بفتحها، والأَصْلُ «فَنُقِلت فتحة اللام إلى الضَّاد، لأجل الإدغام، وقرأ النَّخغي، والحسن في رواية محبوب» نُضِلُّ «بضم نون العظمة، و» الَّذشينَ «مفعول، وهذه تقوِّي أنَّ الفاعل ضمير الله في قراءة ابن مسعود. قوله:» يُحِلُّونه «فيه وجهان: أحدهما: أنَّ الجملة تفسيريةٌ للضلال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 88 والثاني: أنها حاليةٌ. وقوله:» ليواطِئُوا «في هذه اللام وجهان: أحدهما: أنها متعلقةٌ ب» يُحَرِّمُونَه «وهذا مقتضى مذهب البصريين فإنهم يعملون الثاني من المتنازعين. والثاني: أنَّها تتعلَّق ب» يُحِلُّونَهُ «وهذا مقتضى مذهب الكوفيين، فإنهم يعملون الأول، لسبقه. وقول من قال: إنَّها متعلقةٌ بالفعلين معاً، فإنَّما يعني من حيث المعنى، لا اللفظ. وقرأ أبُو جعفرٍ» ليُواطِئُوا «بكسر الطَّاءِ وضمِّ الياءِ الصَّريحة. والصحيحُ أنه ينبغي أن يقرأ بضمِّ الطاء وحذف الياء؛ لأنَّه لمَّا أبدل الهمزة ياءً استثقل الضمة عليها فحذفها، فالتقى ساكنان، فحذفت الياء، وضمت الطاء، لتجانس الواو والمواطأة: الموافقةُ والاجتماع، يقال: تواطئوا على كذا، أي: اجتمعوا عليه كأنَّ كلَّ واحدٍ يَطَأ حيث يَطَأ الآخر، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً} [المزمل: 6] . وسيأتي إن شاء الله تعالى. وقرأ الزهريُّ» لِيُواطِيُّوا «بتشديد الياء، هكذا ترجموا قراءته، وهي مشكلةٌ، فإن لم يُرِدْ به شدة بيان الياء، وتخليصها من الهمز دون التضعيف، فلا أعرف وجهها وهو كما قال. قوله:» زُيِّنَ «الجمهور على» زُيِّنَ «ببنائه للمفعول، والفاعل المحذوف هو الشيطان. وقرأ زيد بن علي» زَيَّن «ببنائه للفاعل، وهو الشيطان أيضاً، و» سوء «مفعوله. فصل معنى النَّسيء: هو تأخير تحريم شهر إلى شهر آخر، وذلك أنَّ العرب كانت تعتقد تعظيم الأشهر الحرم، وكان ذلك ممَّا تمسكت به من ملة إبراهيم، وكانت معايشهم من الصيد والغارة فكان يشق عليهم الكف عن ذلك ثلاثة أشهر متوالية، وربَّما وقعت لهم حرب في الأشهر الحرم، فيكرهون تأخير حربهم، فنسئوا، يعني: أخَّرُوا تحريم ذلك الشَّهر إلى شهر آخر، وكانوا يؤخِّرُون تحريم المحرم إلى صفر، فيحرمون صفر، ويستحلُّون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخَّرُوه إلى ربيع الأوَّل؛ فكانوا يصنعون هكذا شهراً بعد شهر حتَّى استدار التَّحريم إلى السَّنة كلها، فقام الإسلامُ وقد رجع المحرم إلى موضعه الذي وضعه اللهُ - عزَّ وجلَّ - وذلك بعد دهر طويل، فخطب النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «ألاّ إنَّ الزَّمانَ قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السَّنة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 89 اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حرمٌ ثلاث متواليات ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم ورجب مُضَر الذي بين جُمادى وشعبان ... » الحديث. فأمرهم بالمحافظة لئلاَّ يتبدل في مستأنف الأيام. واختلفوا في أوَّل من نسأ النَّسيء. فقال ابنُ عباس والضحَّاك وقتادة ومجاهد «أوَّل من نسأ النسيء بنو مالك بن كنانة» . وقال الكلبيُّ «أول من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، وكان يقومُ على الناس بالموسم، فإذا همَّ الناسُ بالصدودِ، قام فخطب، فقال: لا مردّ لما قضيتُ، أنا الذي لا أعاب ولا أجاب فيقول له المشركون: لبيك، ثم يسألونه أن ينسأهم شهراً يغيرون فيه، فيقول: إنَّ صفر في هذا العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار، ونزعوا الأسنة والأزجة، وإن قال حلال، عقدوا الأوتار، وشدوا الأزجة، وأغاروا وكان من بعد نعيم رجل يقال له: جنادة بن عوف، وهو الذي أدرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم هو رجل من كنانة يقال له: القَلَمَّسُ. قال شاعرهم: [الوافر] 2782 - ومِنَّا نَاسِىءُ الشَّهْرِ القَلمَّسْ ... وكانوا لا يفعلون ذلك إلاَّ في الحجِّ إذا اجتمعت العرب في الموسم. وقال جويبر عن الضحاك عن ابن عباس:» إنَّ أول من سنَّ النَّسيء: عمرو بن لُحَيّ بن قمعة بن خندف «. ثم قال: {إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ} تقدَّم الكلام عليه. {يُحِلُّونَهُ عَاماً} يعني: النَّسيء {وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِئُواْ} أي: يوافقوا. {عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} أي: إنهم لم يحلوا شهراً من الحرام إلاَّ حرَّمُوا مكانه شهراً من الحلال، ولم يحرِّمُوا شهراً من الحلال إلاَّ أحلُّوا مكانه شهراً من الحرام، لئلاَّ يكون الحرام أكثر من أربعة أشهر، فتكون الموافقة في العدد. {زُيِّنَ لَهُمْ سواء أَعْمَالِهِمْ} قال ابنُ عبَّاس: زين لهم الشيطان: {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 90 قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ} الآية. لمَّا ذكر فضائح الكفار عاد إلى التَّرغيب في مقاتلتهم. قال ابنُ عبَّاس: نزلت هذه الآية في غزوة تبوك، وذلك لأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا رجع من الطائف أقام بالمدينة أمر بجهاد الرُّوم وكان ذلك الوقت زمان شدة الحر، حين طابت ثمار المدينة، واستعظم النَّاسُ غزو الرُّوم وهابوه، وكان ذلك في حر شديد، وسفر بعيد، ومفاوز، وعدُو كثير، وذلك حين طابت ثمار المدينة، وظلالها فأمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم، فشقَّ عليهم الخروج، وتثاقلُوا، فنزلت هذه الآية. ومعنى: «إِذَا قِيلَ لَكُمُ» أي: قال لكم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «انفِرُوا» اخرجوا، واسم القوم الذين يخرجون النفير. قوله: «اثاقلتم» أصله «تثَاقلْتُم» فلمَّا أريد الإدغام سكنت الثَّاءُ فاجتلبت همزةُ الوصل كما تقدَّم في {فادارأتم} [البقرة: 72] ، والأصل: «تَدَارَأتُم» . وقرأ الأعمشُ «تثاقَلْتُم» بهذا الأصل و «ما» في قوله: «مَا لَكُمْ» استفهامية، وفيها معنى الإنكار. وقيل: فاعله المحذوف هو الرسول. «اثَّاقَلْتُمْ» ماضي اللَّفظ، مضارع المعنى، أي: تتثاقلون، وهو في موضع الحالِ، وهو عاملٌ في الظَّرف، أي: ما لكم متثاقلين وقت القول. وقال أبُو البقاءِ: «اثَّاقلتم: ماض بمعنى المضارع أي: ما لكم تتثاقلون، وهو في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 91 موضع نصب، أي: أيُّ شيء لكم في التَّثاقل، أو في موضع جر على رأي الخليلِ. وقيل: هو في موضع حال» . قال أبو حيان: وهذا ليس بجيد؛ لأنه يلزم منه حذفُ «أنْ» لأنه لا ينسبِكُ مصدرٌ إلاَّ من حرف مصدري والفعل وحذفُ «أنْ» في هذا قليلٌ جداً، أو ضرورة. وإذا كان التقديرُ في التثاقل، فلا يمكن عمله في «إذا» لأنَّ معمول المصدر الموصول لا يتقدَّمُ عليه، فيكون النَّاصب ل «إذا» والمتعلِّق به في التثاقل ما تعلَّق به «لَكُم» الواقعُ خبراً ل «ما» وقرىء «أثَّاقلْتُم» بالاستفهام الذي معناه الإنكار، وحينئذٍ لا يجوزُ أن يعمل في «إذا» ؛ لأنَّ ما بعد حرف الاستفهام لا يعمل فيما قبله، فيكونُ العاملُ في هذا الظَّرف إمَّا الاستقرارُ المقدَّر في «لكم» ، أو مضمرٌ مدلولٌ عليه باللَّفظ، والتقدير: ما تصنعون إذا قيل لكم، وإليه نحا الزمخرشي. والظَّاهر أن يقدَّر: ما لكم تتثاقلون إذا قيل لكم، ليكون مدلولاً عليه من حيث اللفظُ والمعنى. وقوله: «إِلَى الأرض» ضُمِّنَ اثَّاقلتم معنى المَيْلأ والإخلاء، فعدي ب «إلى» والمعنى: تباطأتم إلى الأرض، أي: لزمتم أرضكم ومساكنكم، وملتم إلى الدنيا وشهواتها، وكرهتم مشاق الجهاد ومتاعبه، ونظيره قوله {أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ} [الأعراف: 176] قال المفسِّرون: معناه: اثاقلتم إلى نعيم الأرض، وإلى الإقامة وبالأرض. قوله {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا} أي: بخفض الدنيا ودعتها. وقوله: {إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ} جناس لفظي] ، وكذا قوله: {اصبروا وَصَابِرُواْ} [آل عمران: 200] ، وقوله: {أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} [هود: 48] وقوله: {ياأسفا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] ، وقوله: {وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ} [النمل: 44] ، وقوله: {أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشر فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ} [فصلت: 51] ، وقوله: {على عِلْمٍ عَلَى العالمين} [الدخان: 32] وقوله {مَالِكَ الملك} [آل عمران: 26] . قوله «مِنَ الآخرة» تظاهرت أقوالُ المعربين، والمفسرين على أنَّ «مِنْ» بمعنى «بدل» كقوله {لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً} [الزخرف: 60] ، أي: بدلكم؛ ومثلة قول الآخر: [الرجز] 2783 - جَارِيةٌ لَمْ تأكُلِ المُرقَّقَا ... ولمْ تَذُقْ مِن البُقُولِ الفُسْتُقَا وقول الآخر: [الطويل] 2784 - فَليْتَ لَنَا مِنْ ماءِ زَمْزمَ شَرْبَةٌ ... مُبرَّدَةً باتَتْ على طَهَيَانِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 92 إلاَّ أنَّ أكثر النَّحويين لم يثبتُوا لها هذا المعنى، ويتأوَّلون ما أوهم ذلك، والتقدير هنا: اعتصمْتُمْ من الآخرة راضين بالحياةِ الدُّنيا، وكذلك باقيها. وقال أبُو البقاءِ: «مِنَ الآخرة» في موضع الحال، أي: بدلاً من الآخرة. فقدَّر المتعلَّقَ كوناً خاصاً، ويجوز أن يكون أراد تفسير المعنى. ثم قال: «فما متاع الحياة الدنيا» أي: لذاتها. وقوله «فِي الآخرةِ» متعلقٌ بمحذوفٍ من حيثُ المعنى، تقديره: فما متاعُ الحياة الدنيا محسوباً في الآخرة ف «محسوباً» حالٌ مِنْ «متاعُ» . وقال الحوفي: إنَّه متعلق ب «قَلِيلٌ» ، وهو خبر المبتدأ قال: «وجاز أن يتقدَّم الظَّرفُ على عامله المقترن ب» إلاَّ «؛ لأنَّ الظروف تعمل فيها روائحُ الأفعال، ولو قلت: ما زيدٌ عمراً إلاَّ يضرب، لم يَجُزْ» . فصل الدَّليلُ على أنَّ متاع الدُّنيا في الآخرة قليل، أنَّ لذات الدُّنيا خسيسة في أنفسها ومشوبة بالآفاتِ والبليات، ومنقطعة عن قريبٍ لا محالة، ومنافع الآخرة شريفة عالية خالصة عن كل الآفاتِ، ودائمة أبدية سرمدية، وذلك يوجب القطع بأنَّ متاع الدُّنيا في جنب متاع الآخرة قليل حقير. قوله: {إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً} . في الآخرة، وقيل: هو احتباس المطر عنهم في الدنيا. قال القرطبيُّ: «هذا شرطٌ، فلذلك حذفت منه النُّون. والجوابُ» يُعذِّبْكُم «و {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} وهذا تهديدٌ ووعيدٌ لتارك النَّفير» . {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} خيراً منكم وأطوع. قال ابنُ عبَّاسٍ: «هم التابعون» . وقال سعيدُ بن جبير: «هم أبناء فارس» وقيل: هم أهلُ اليمن. «وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً» بترككم النفير. قال الحسنُ «الكناية راجعة إلى الله تعالى، أي: لا تضروا الله» ، وقال غيره تعود إلى الرسول؛ لأنَّ الله عصمه من الناس، ولا يخذله إن تثاقلتم عنه. {والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 93 قال الحسنُ وعكرمةُ: هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122] وقال المحقِّقون: الصحيح أنَّ هذه الآية خطاب لمن استنفرهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلم ينفروا، وعلى هذا فلا نسخ. قوله: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله} . هذا الشرط جوابه محذوف، لدلالة قوله: {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} عليه، والتقدير: إلاَّ تنصروه فسينصره. وذكر الزمخشريُّ فيه وجهين: أحدهما: ما تقدَّم. والثاني: قال «إنه أوجب له النُّصْرَة، وجعله منصوراً في ذلك الوقتِ، فلنْ يُخْذَلَ من بعده» . قال أبُو حيَّان: «وهذا لا يظهرُ منه جوابُ الشَّرط؛ لأنَّ إيجابَ النصرة له أمْرٌ سبق، والماضي لا يترتَّب على المستقبل والذي يظهرُ الوجهُ الأول» . وهذا إعلام من الله أنَّه المتكفلُ بنصر رسوله، وإعزاز دينه، أعانوه، أو لَمْ يُعينُوه، وأنه قد نصرهُ عند قلة الأولياءِ، وكثرة الأعداء، فكيف به اليوم وهو في كثرة من العَدَدِ والعُدَدِ. وقوله: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} أي: أنهم جعلوه كالمضطر إلى الخُروج من مكَّة، حين مكروا به وأرادوا تثبيته، وهمُّوا بقتله. قوله «ثَانِيَ اثنين» منصوبٌ على الحالِ من مفعول «أخْرَجهُ» وقد تقدَّم معنى الإضافة في نحو هذا التَّركيب عند قوله: {ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73] . وقرأت جماعة «ثَانِي اثنَيْنِ» بسكون الياء. قال أبُو الفَتْحِ: «حكاها أبو عمرو» . ووجهها أنَّ يكون سكَّن الياء تشبيهاً لها بالألفِ وبعضهم يخصُّه بالضرورة، والمعنى: هو أحد الاثنين، والاثنان أحدهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، والآخر أبو بكر الصديق. قوله: {إِذْ هُمَا فِي الغار} . و «الغارُ» بيت يكون في الجبل، وهو هنا بيت في جبل ثور بمكَّة، ويجمع على «غِيران» ، ومثله: «تاج وتِيجَان» ، و «قاعٌ وقيعان» ، والغارُ أيضاً: نَبْتٌ طيبُ الريح، والغارُ أيضاً: الجماعة والغاران: البطنُ والفرجُ. وألف «الغَارِ» عن واو. قوله: «إِذْ يَقُولُ» بدل ثان من «إذْ» الأولى. وقال أبُو البقاءِ: أي: إذ هما في الغار، و «إذْ يَقُول» ظرفان ل «ثَانِي اثنَيْنِ» . فصل عن ابن عمر أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لأبي بكر: «أنت صاحبي في الغارِ وصاحبِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 94 على الحَوْضِ» . قال الحسينُ بن الفضل «من قال إنَّ أبا بكر لم يكن صاحب رسول الله فهو كافر؛ لإنكاره نص القرآن، وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعاً لا كافراً» . فإن قيل: إنَّ الله تعالى وصف الكافر بكونه صاحباً للمؤمن في قوله: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ} [الكهف: 37] . فالجوابُ: أنَّ هناك وإن وصفه بكونه صاحباً إلاَّ أنَّه أردفهُ بما يدلُّ على الإهانة والإذلال وهو قوله: «أكفرتَ» ؟ أمَّا ههنا فبعد أن وصفه بكون صاحباً ذكر بعده ما يدل على الإجلال والتعظيم وهو قوله {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا} فأيّ مناسبة بين البابين؟ . روي أنَّ قريشاً لمَّا بيَّتُوا على قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وخرج رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبو بكر أول الليل إلى الغار، وأمر عليّاً أن يضطجع على فراشه، ليمنعهم السواد من طلبه، جعل أبُو بكر يمشي ساعة بين يديه، وساعة خلفه، فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما لك يا أبا بكر؟ فقال: أذكر الطلب؛ فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك؛ فلما انتهينا إلى الغار دخل أبو بكر أولاً، يلتمس ما في الغار، فقال له رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ما لك؟ فقال بأبي أنت وأمِّي، الغيرَانُ مأوى السِّباع والهوام، فإن كان فيه شيء كان بِي لا بِكَ وكان في الغارِ حجر، فوضع عقبه عليه، لئلا يخرج ما يؤذي الرسول، فلما طلب المشركون الأثر وقربوا، بكى أبو بكر خوفاً على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» لا تَحْزَنْ إنَّ الله مَعَنَا «فقال أبو بكر: إن الله لمعنا، فقال الرسول» نعم «فجعل يمسح الدموع عن خدِّه، ولم يكن حزن أبي بكر جبناً منه، وإنَّما إشفاقاً على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقال: إن أقتل فأناً رجلٌ واحدٌ، وإن قتلت هلكت الأمة.» وروي أنَّ الله تعالى بعث حمامتين فباضتا في أسفل باب الغارِ، والعنكبوت نسجت عليه وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «اللَّهُمَّ أعْمِ أبصارهم» فجعلوا يترددون حول الغار ولا يرون أحداً. فصل دلَّت هذه الآية على فضيلة أبي بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من وجوه: أحدها: أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا ذهب إلى الغار كان خائفاً من الكفار أن يقتلوه، فلولا أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان قاطعاً بأنَّ أبا بكر من المؤمنين المحقين الصادقين الصِّيقين، وإلا لما أصحبه نفسه في ذلك؛ لأنه لو جوز أن يكون باطنُه بخلاف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 95 ظاهره، لخافه أن يدل أعداءه عليه، أو لخافه أن يقدم هو على قتله، فلمَّا استخلصه لنفسه في تكل الحالة، دلَّ على أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام كان قاطعاً بأنَّ باطنه على وفق ظاهره. وثانيها: أن الهجرة كانت بإذن الله، وكن في خدمة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جماعة من المخلصين، وكانوا في النسب إلى شجرة رسول اله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أقرب من أبي بكر، فلولا أنَّ الله تعالى أمره بأن يستصحب أبا بكر في هذه الواقعة الصعبة، وإلاَّ لكان الظاهر ألاَّ يخصه بهذه الصُّحبة وتخصيص الله إيَّاه بهذا التشريف يدلُّ على علو منصبه في الدِّين. وثالثها: أنَّ كل من سوى أبي بكر فارقوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أمَّا أبو بكر فما فارق رسول الله كغيره، ولا تخلَّف عنه كغيره، بل صبر على مؤانسته، وملازمته، وخدمته عند الخوفِ الشَّديد الذي لم يبق معه أحد، وذلك يوجب الفضل العظيم. ورابعها: أنَّه تعالى سمَّاه: «ثَانِيَ اثْنَيْنِ» فجعله ثاني محمَّدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في أكثر المناصب الدينية، فإنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا أرسل إلى الخلقِ وعرض الإسلام على أبي بكر فآمن؛ وذهب وعرض الإسلام على طلحة، والزبير، وعثمان، وجماعة من كبار الصحابة فآمن الكلُّ على يده، ثم إنه جاء بهم إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد أيام قلائل، فكان هو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «ثَانِي اثْنَيْن» في الدَّعوة إلى الله تعالى، وكلَّما وقف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في غزوة، كان أبو بكر يقف في خدمته، فكان «ثَانِيَ اثنين» في المواقف كلِّها، وكلما صلَّى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقف خلفه، وكلَّما جلسَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كان «ثَانِيَ اثنين» في مجلسه، ولمَّا مرض رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قام مقامه في الإمامة، فكان «ثَانِيَ اثْنَيْنِ» ولمَّا مات دفن بجنبه، فكان «ثاني اثنين» هناك. وطعن بعض الحمقى من الروافض في هذا الوجه وقال: كونه ثاني اثنين للرسول لا يكون أعظم من كون الله رابعاً لكل ثلاثة في قوله تعالى: {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادلة: 7] الآية. ثم إن هذا الحكم عام في حق المؤمن والكافرن فلمَّا لم يكن هذا المعنى من الله دالاًّ على فضيلة الإنسان فلأن لا يدل من النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على فضيلة الإنسان أولى؟ . والجوابُ: أنَّ هذا تعسف بارد؛ لأنَّ المراد هناك كونه تعالى مع الكل بالعلم والتدبير، وكونه مطلقاً على ضمير كل أحد، أمَّا هنا فالمراد بقوله تعالى: {ثَانِيَ اثنين} تخصيصه بهذه الصِّفة في معرض التعظيم. قوله: {فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ} فالضمير في «عَلَيْه» يعودُ على أبي بكر؛ لأنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان عليه السكينة دائماً، وقد تقدَّم القولُ في السكينة. والضميرُ في «أيَّدهُ» للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو إشارة إلى قصَّة بدر، وهو معطوف على قوله {فَقَدْ نَصَرَهُ الله} . وقرأ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 96 مجاهد «وأيَدَه» بالتَّخفيف. و «لَمْ تَرَوْهَا» صفة ل «جُنُود» . قوله: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى} كلمتهم: الشرك وهي السفلى إلى يوم القيامة، {وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا} إلى يوم القيامة. قال ابنُ عبَّاسٍ «هي قول: لا إله إلاَّ الله» . وقيل: كلمة الذين كفروا ما قدروا في أنفسهم من الكيدية، وكلمة الله: وعده أنه ناصره. والجمهور على رفع «كَلِمة» على الابتداء، و «هي» يجوزُ أن تكون مبتدأ ثانياً، و «العُليا» خبرها، والجملة خبر الأوَّل. ويجز أن تكن «هي» فصلاً «، و» العُليا «الخبر. وقرأ يعقوب» وكلمةَ اللهِ «بالنَّصب، نسقاً على مفعولي» جعل «أي: وجعل كلمة الله هي العليا. قال أبُو البقاء: وهو ضعيفٌ، لثلاثة أوجه: أحدها: وضعُ الظَّاهر موضع المضمر، إذ الوجه أن يقول: وكلمته. الثاني: أنَّ فيه دلالةً أنَّ كلمة الله كانت سُفْلَى، فصارت عليا، وليس كذلك. الثالث: أنَّ توكيد مثل ذلك ب» هي «بعيد، إذ القياسُ أن يكون» إياها «. قال شهابُ الدِّين: أما الأولُ فلا ضعف فيه؛ لأنَّ القرآن ملآن من هذا النَّوعِ، وهو من أحسن ما يكون؛ لأنَّ فيه تعظيماً وتفخيماً. وأمَّا الثاني فلا يلزمُ ما ذكر، وهو أن يكون الشَّيء المصيَّر على الضد الخاص، بل يدلُّ التَّصيير على انتقال ذلك الشيء المُصَيَّر عن صفةٍ ما إلى هذه الصفة. وأمَّا الثالثُ ف» هِيَ «ليست تأكيداً ألبتة، إنما هي ضمير فصل على حالها، وكيف يكونُ تأكيداً، وقد نصَّ النحويون على أنَّ المضمر لا يؤكد المظهر؟ . ثم قال: {والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} أي: قاهر غالب» حَكِيمٌ «لا يفعل إلاَّ الصَّواب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 قوله تعالى: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} الآية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 97 لمَّا توعد من لا ينفر مع الرسول، أتبعه الأمر الجزم، فقال: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} نصبهما على الحال من فاعل «انفرُوا» . قال الحسنُ، والضحاكُ، ومجاهد، وقتادة وعكرمة: «شُباناً وشُيوخاً» . وعن ابن عباسٍ: نشاطاً وغير نشاط. وقال عطيةُ العوفي: ركباناً ومشاةً. وقال أبو صالحٍ: «خفافاً من المال، أي: فقراء» ثقالاً «أي: أغنياء» . وقال ابن زيد «الثقيل: الذي له الضيعة، والخفيف: الذي لا ضيعة له» . وقيل: «خفافاً» من السلاح أي: مقلين منه، و «ثِقالاً» مستكثرين منه. وقال مرة الهمداني: صحاحاً ومراضاً. وقال يمان بن رباب «عزاباً ومتأهلين» ، وقيل غير ذلك. والصحيح أنَّ الكلَّ داخل فيه؛ لأنَّ الوصف المذكور وصف كلّي؛ فيدخل فيه كل هذه الجزئيات، فقد روى ابن أم مكتوم أنه قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أعَلَيَّ أنَّ أنفر؟ قال: «ما أنت إلاَّ خفيفٌ أو ثقيلٌ» فرجع إلى أهله ولبس سلاحه، ووقف بين يديه؛ فنزل قوله: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} [النور: 61 والفتح: 17] . وقال مجاهدٌ: «إنَّ أبا أيُّوب شهد بدراً مع الرسول، ولم يتخلف عن الغزوات مع المسلمين، ويقول قال الله تعالى: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} فلا أجدني إلاَّ خفيفاً أو ثقيلاً» . وعن صفوان بن عمرو قال: كنت والياً على حمص، فلقيت شيخاً قد سقط حاجباه، من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو، فقلت: يا عم أنت معذور عند الله، فرفع حاجبيه وقال: يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً، إلا أنَّ من أحبَّه ابتلاه. وعن الزهري: خرج سعيدُ بنُ المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل له: إنَّك عليل صاحب ضرر، فقال: استنفر الله الخفيف والثقيل، فإن عجزت عن الجهاد كثرت السواد وحفظت المتاع. وقيل للمقداد بن الأسود وهو يريد الغزو أنت معذور، فقال: أنْزلَ اللهُ علينا في سورة براءة: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} [التوبة: 41] والقائلون بهذا القول يقولون: إنَّ هذه الآية نسخت بقوله: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} [النور: 61] وبقوله: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ} [التوبة: 91] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 98 الخراساني نسخت بقوله {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122] . ولقائل أن يقول: اتفقوا على أن هذه الآيات نزلت في غزوة تبوك، واتفقوا على أنَّهُ عليه الصَّلاة والسَّلام خلف النساء وخلف من الرجال أقواماً، فدلَّ ذلك على أنَّ هذا الوجوب ليس على الأعيان، بل من فروض الكفايات، فمنْ أمره الرسولُ بالخروج، لزمه خفافاً وثقالاً، ومن أمره بأن يبقى ترك النفير. وحينئذٍ لا حاجة إلى التزام النسخ. وأيضاً فقوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} [التوبة: 42] دليل على أنَّ قوله: {انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً} إنَّما يتناولُ من كان قادراً متمكناً، إذ لو لم تكن الاستطاعة معتبرة في ذلك التكليف، لما أمكنهم جعل عدم الاستطاعة عذراً في التخلف، فدلَّ على عدم النسخ فيها. قوله: {وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله} . فيه قولان: الأول: أنَّها تَدُلُّ على أنَّ الجهادَ يجبُ على من له المال والنفس، ومن لم يكن له ذلك، لم يجب عليه الجهاد. والثاني: أنَّ الجهاد بالنفس يجب إذا انفرد وقوي، ويجب بالمالِ إذا ضعف عن الجهادِ بنفسه؛ فيلزمه أن ينيبَ من يغزُو عنه بنفقة من عنده، وذهب إلى هذا كثيرٌ من العلماء. ثم قال: {ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} . فإن قيل: كيف يصح أن يقال: الجهادُ خير من القعُودِ ع نه، ولا خير في القعود؟ فالجوابُ: من وجهين: الأول: أنَّ لفظ «خير» يستعمل في شيئين: أحدهما: بمعنى: هذا خير من الآخر. والثاني: أنه خير في نفسه، كقوله تعالى {إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] . وقوله: {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ} [العاديات: 8] ، وعلى هذا سقط السُّؤال. والثاني: سلمنا أنَّ المراد كونه خيراً من غيره، إلا أن التقدير: أن ما يستفاد من نعيم الآخرة بالجهاد خير ممَّا يستفيده القاعد عنه من الرَّاحة والتنعم بها، ولذلك قال تعالى: {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} . قوله: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً} الآية. لمَّا بالغ في ترغيبهم في الجهادِ، وأمرهم بالنَّفير، عاد إلى تقرير كونهم متثاقلين، بقوله: {لَوْ كَانَ عَرَضاً} اسم «كان» ضميرٌ يعودُ على ما دل عليه السِّياق، أي: لو كان ما دعوتَهم إليه. والعرض: ما عرض لك من منافع الدُّنيا، والمراد هنا: غنيمة قريبة المتناول، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 99 {وَسَفَراً قَاصِداً} أي: سَهْلاً قريباً ههنا. {لاَّتَّبَعُوكَ} لخرجوا معك. ومثل بالقاصد، لأنَّ المتوسط، بين الإفراد والتفريط، يقال له: مُقتصدٌ. قال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [فاطر: 32] ومعنى القاصد: ذو قصد، كقولهم: لابنٌ، وتامرٌ، ورابحٌ {ولكن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشقة} . قرأ عيسى بن عمر، والأعرج «بَعِدَت» بكسر العين. وقرأ عيسى «الشِّقَّة» بكسر الشين أيضاً قال أبو حاتمٍ: هما لغة تميم. والشُّقَّة: الأرض التي يُشَقُّ ركوبُها، اشتقاقاً من المشقَّة. وقال الليثُ، وابن فارسٍ: هي الأرضُ البعيدة المسير، اشتقاقاً من الشِّق، أو من المشقَّة، والمعنى: بعدت عليهم المسافة وهذه الآية نزلت في المنافقين الذين تخلَّفُوا عن غزوة تبوك. قوله: {وَسَيَحْلِفُونَ بالله} الجارُّ متعلقٌ ب «سَيَحْلِفُونَ» . وقال الزمخشريُّ «بِاللهِ» متعلقٌ ب «سَيحْلفُونَ» ، أو هو من جملة كلامهم، والقولُ مرادٌ في الوجهين، أي: سَيحْلِفُون، يعني: المتخلِّفين عند رجوعك معتذرين يقولون: باللهِ لو استطعنا أو سَيحْلفُونَ بالله يقولون: لو اسْتَطعْنَا. وقوله: «لَخَرجْنَا» سدَّ مسدَّ جواب القسم، و «لَوْ» جميعاً. قال أبو حيان: قوله: «لخَرجْنَا» سدَّ مسدَّ جواب القسمِ، و «لو» جميعاً «؛ ليس بجيد، بل للنحويين في هذا مذهبان: أحدهما: أنَّ» لَخَرجْنَا «جوابُ القسم وجوابُ» لَوْ «محذوفٌ، على قاعدة اجتماع القسم والشَّرط، إذا تقدَّم القسم على الشَّرط، وهذا اختيارُ ابن عصفورٍ. والآخر: أنَّ» لخَرجْنَا «جوابُ» لَوْ «و» لَوْ «وجوابها جواب القسم، وهذا اختيارُ ابن مالكٍ. أمَّا أنَّ» لخَرَجْنَا «سد مسدَّهما فلا أعلمُ أحداً ذهب إلى ذلك، ويحتمل أن يتأول كلامه على أنَّه لمَّا حذف جواب» لو «ودلَّ عليه جواب القسم جعل كأنَّهُ سدَّ مسدَّ جواب القسمِ، وجواب» لو «. وقرأ الأعمشُ، وزيدُ بنُ عليٍّ» لوُ استطَعْنَا «بضم الواو، كأنَّهما فَرَّا من الكسرة على الواو وإن كان الأصل، وشبَّها واو» لَوْ «بواو الضَّمير، كما شبَّهوا واو الضَّمير بواو» لَوْ «حيث كسرُوها، نحو: {اشتروا الضلالة} [البقرة: 16] ، لالتقاء الساكنين. وقرأ الحسنُ: {اشتروا الضلالة} ، و {لَوِ استطعنا} بفتح الواو تخفيفاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 100 ولو قلت:» وأنا قائمٌ «حالاً من ضمير» ليفعلنَّ «لم يجز، وكذا عكسه، نحو: حلفَ زيدٌ لأفعلنَّ يقوم، تريد: قائماً، لم يجز. وأمَّا قوله:» وجاء به على لفظ الغائب؛ لأنه مُخْبرٌ عنهم «فمغالطةٌ، ليس مخبراً عنهم بقوله:» لَوِ استطَعْنَا لخَرجْنَا «، بل هو حاكٍ لفظ قولهم. ثمَّ قال: ألا ترى لو قيل: لو استطاعوا لخرجوا، لكان سديداً ... إلى آخره. كلامٌ صحيحٌ، لكنه - تعالى - لم يقل ذلك إخباراً عنهم، بل حكايةٌ، والحالُ من جملة كلامهم المحكيّ، فلا يجوزُ أن يخالف بين ذي الحال وحاله، لاشتراكهما في العامل، لو قلت: قال زيدٌ: خرجت يضربُ خالداً، تريد: اضرب خالداً، لم يجز. ولو قلت: قالت هندٌ: خرج زيد أضرب خالداً، تريد: خرج زيد ضارابً خالداً، لم يَجُزْ، انتهى. الرابعُ: أنَّها جملةٌ استئنافيةٌ، أخبر اللهُ عنهم بذلك. فصل معنى الآية: أنَّه لو كانت المنافع قريبة، والسَّفر قريباً لاتبعوك طمعاً منهم في الفوزِ بتلك المنافع، ولكن طال السفرُ، وكانوا كالآيسين من الفوز بالغنيمة، بسبب استعظامهم غزو الرُّوم، فلهذا تخلَّفُوا، ثمَّ أخبر تعالى أنه إذا رجع من الجهادِ يجدهم: {سَيَحْلِفُونَ بالله لَوِ استطعنا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ} إمَّا عند ما يعاتبهم بسبب التخلف، وإمَّا ابتداءً على طريقة إقامة العذر في التخلف، ثم بيَّن أنَّهم يهلكون أنفسهم بسبب الكذب والنِّفاق، وهذا يَدُلُّ على أن الأيمان الكاذبة توجب الهلاك، ولهذا قال عليه الصَّلاة والسَّلام» اليمينُ الغموسُ تدعُ الدِّيارَ بلاقعَ «ثم قال: {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} في قولهم ما كنا نستطيع الخروج فإنهم كانوا مستطيعين الخروج، فكانوا كاذبين في أيمانهم. فصل قالوا: الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أخبر عنهم أنَّهم سيحلفون، وهذا إخبار عن غيب يقع في المستقبل، والأمر لمَّا وقع كما أخبر كان إخباراً عن الغيب، فكان معجزاً. قوله تعالى: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} الآية. لمَّا بيَّن تعالى بقوله: {لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ} أنه تخلف قوم عن ذلك الغزو، وليس فيه بيان أنَّ ذلك التخلف كان بإذن الرسول أم لا؟ فلمَّا قال بعده: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} دلَّ هذا، على أنَّ فيهم من تخلَّف بإذنه. قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} «لِمَ» ، و «لَهُمْ» كلاهما متعلقٌ ب «أذِنْتَ» ، وجاز ذلك؛ لأنَّ معنى اللاَّمين مختلف؛ فالأولى للتعليل، والثانية للتبليغ. وحذفت ألفُ «ما» الاستفهامية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 101 لانجرارها، وتقديمُ الجارِّ للأول واجبٌ؛ لأنَّه جرَّ ما له صدرُ الكلام، ومتعلَّقُ الإذن محذوفٌ، يجوزُ أن يكون القُعود، أي: لِمَ أذنت لهم في القعود، ويدل عليه السِّياق من اعتذارهم عن تخلُّفِهم عنه عليه السلام. ويجوزُ أن يكون الخروج، أي: لِمَ أذنت لهم في الخروج، لأنَّ خروجهم فيه مفسدةٌ من التخذيل، وغيره، يدلُّ عليه: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} [التوبة: 47] . قوله: {حتى يَتَبَيَّنَ} يجوزُ في «حتى» أن تكون للغاية، ويجوز أن تكون للتعليل، وعلى كلا التقديرين فهي جارَّةٌ، إمَّا بمعنى «إلى» ، وإمَّا بمعنى اللام، و «أنْ» مضمرةٌ بعدها، ناصبة للفعل، وهي متعلقة بمحذوفٍ. قال أبُو البقاءِ: «تقديرهُ: هَلاَّ أخَّرْتَهم إلى أن يَتبيَّنَ، أو ليتبيَّن، وقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} يدُلُّ على المحذوف، ولا يجُوزُ أن تتعلَّق» حتَّى «ب» أذِنْتَ «لأنَّ ذلك يوجب أن يكون أذنَ لهم إلى هذه الغاية، أو لأجل التَّبيين، وذلك لا يُعاتبُ عليه» وقال الحوفيُّ: «حتى غاية لِمَا تضمَّنه الاستفهامُ، أي: ما كان له أن يأذن لهم، حتى يتبيَّن له العُذْر» . وفي هذه العبارة بعضُ غَضَاضةٍ. فصل احتجُّوا بهذه الآية على أنَّ الرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام -؛ كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع، ولدخوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ تحت قوله تعالى: {فاعتبروا ياأولي الأبصار} [الحشر: 2] والرسول - عليه الصَّلاة والسَّلام - كان سيداً لهُم، ثمَّ أكَّدُوا ذلك بهذه الآية فقالوا: إمَّا أن يقال: إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن، أو منعه عنه، أوْ مَا أذن له فيه وما منعهُ عنه والأول باطلٌ، وإلاَّ امتنع أن يقول له: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} ، والثاني باطل؛ لأنه يلزم منه أن يقال: إنَّه حكم بغير ما أنزل الله، فيدخل تحت قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله} [المائدة: 44 - 47] الآيات. وذلك باطل بصريح القول. فلمْ يبق إلاَّ أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه، فإمَّا أن يكون ذلك عن اجتهاد، أو لا، والثاني باطل؛ لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل كقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59] فلمْ يبق إلاَّ أنه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن في تلك الواقعة بالاجتهاد. فإن قيل: الآية تدلُّ على أنَّهُ لا يجوز له الاجتهاد؛ لأنه تعالى منعه بقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} ؟ فالجوابُ: أنه تعالى ما منعه من الإذن مطلقاً، لقوله تعالى: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} [التوبة: 43] والحكم الممدود إلى غاية ب «حتّى» يجب انتهاؤه عند حصول الغاية فدلَّ على صحة قولنا. فإن قالوا: لِمَ لا يجوز أن يكون المرادُ من ذلك التَّبيين هو التَّبيين بطريق الوحي؟ . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 102 فالجواب: ما ذكرتموه محتمل؛ إلاَّ أنه على تقديركم، يصير تكليفه، أن لا يحكم ألبتة، حتى ينزل الوحين فلمَّا ترك ذلك، كان كبيرة، وعلى تقديرنا يكون ذلك الخطأ خطأ في الاجتهاد فيؤجر عليه، لقوله: «ومن اجتهد فأخطأ فله أجر» فكان حمل الكلامِ عليه أولى. فصل دلَّت هذه الآية على وجوب التثبت، وعدم العجلة، والتَّأنِّي، وترك الاغترار بظواهر الأمور، والمبالغة في التفحص، حتَّى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه. فصل قال قتادةُ: عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية، ثمَّ رخَّص له في سورة النُّور فقال: {فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] . فصل قال أبُو مسلم الأصفهاني في قوله {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} : ليس فيه ما يدل على أنَّ الإذن في ماذا؟ فيحتمل أن بعضهم استأذن في القُعُودِ؛ فأذن له، ويحتملُ أن بعضهم استأذن في الخروجِ؛ فأذن له، مع أنَّ ما كان خروجهم معه صواباً، لكونهم عيوناً للمنافقين على المسلمين، وكانوا يثيرون الفتنَ، فلهذا ما كان خروجهم مع الرَّسُول مصلحة، قال القاضي «هذا بعيدٌ؛ لأن هذه الآية نزلتْ في غزوة تبوك على وجه الذَّم للمتخلفين، والمدح للمبادرين وأيضاً ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 قوله تعالى: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} الآية. أي: لا يستأذنوك في التخلف {والله عَلِيمٌ بالمتقين} . قوله: «أَن يُجَاهِدُواْ» فيه وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 103 أظهرهما: أنَّهُ متعلقُ «الاستئذان» ، أي: لا يستأذنوك في الجهادِ، بل يمضُون فيه غير مترددين. والثاني: أن متعلق «الاستئذان» محذوف و «أن يُجاهدُوا» مفعولٌ من أجله، تقديره: لا يستأذنك المؤمنون في الخروج والقعود كراهة أن يجاهدوا، بل إذا أمرتُهم بشيءٍ بادروا إليه. وقال بعضهم: لا بدّ في الكلام من إضمار آخر؛ لأنَّ ترك استئذان الإمام في الجهادِ غير جائز، فلا بدَّ من إضمار، والتقديرُ: لا يستأذنك هؤلاء في أن لا يجاهدوا، إلاَّ أنَّه حذف حرف النفي كقوله: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] ويدلُّ على هذا المحذوف أنَّ ما قبل الآية، وما بعدها يدل على أن هذا الذم إنَّما كان على الاستئذان في القعود. قوله تعالى: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله} الآية. بيَّن أنَّ هذا الاستئذان لا يصدر إلاَّ عند عدم الإيمان باللهِ واليوم الآخر، ولمَّا كان عدم الإيمان قد يكون بسبب الشَّك فيه، وقد يكون بسبب القطع والجزم بعدمه، بيَّن تعالى أنَّ عدم إيمان هؤلاء، إنَّما كان بسبب الشك والريب، فدلَّ على أنَّ الشَّاك المرتاب غير مؤمن بالله وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة في سورة الأنفال عند قوله: {أولاائك هُمُ المؤمنون حَقّاً} [الأنفال: 4] ثم قال: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} أي: متحيرين. قوله: {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً} . قرأ العامة «عُدَّة» بضمِّ العين وتاء التأنيث، وهي الزَّادُ والراحلةُ، وجميعُ ما يحتاج إليه المسافرُ. وقرأ محمد بنُ عبد الملك بن مروان، وابنه معاوية «عُدَّهُ» كذلك، إلاَّ أنَّهث جعل مكان تاء التأنيث هاء ضمير غائب، يعود على «الخُرُوجِ» . واختلف في تخريجها، فقيل: أصلها كقراءة الجمهور بتاء التأنيث، ولكنهم يحذفونها للإضافةِ، كالتَّنوين، وجعل الفراء من ذلك قوله تعالى: {وَإِقَامَ الصلاة} [الأنبياء: 73] . ومنه قول زهير: [البسيط] 2785 - إنَّ الخليطَ أجَدُّوا البَيْنَ فانْجَرَدُوا ... وأخْلَفُوكَ عِدَ الأمْرِ الذي وعَدُوا يريد: عدة الأمْرِ. وقال صاحبُ اللَّوامح «لمَّا أضاف جعل الكناية نائبةً عن التاء، فأسقطها، وذلك لأن العُدَّ بغير تاء، ولا تقديرها، هو» البئرُ الذي يخرج في الوجه «. وقال أبو حاتم:» هو جمع «عُدَّة» ، ك: «بُرّ» جمع «بُرّة» ، و «دُرّ» جمع «دُرَّة» والوجهُ فيه «عُدَد» ولكن لا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 104 يوافق خطَّ المصحف «. وقرأ زر بن حبيش، وعاصم في رواية أبان» عِدَّهُ «بكسر العين، مضافة إلى هاء الكناية. قال ابن عطيَّة: هو عِنْدِي اسمٌ لما يُمَدُّ، ك «الذَّبْح» ، و «القِتْل» . وقُرىء أيضاً «عِدَّة» بكسر العين، وتاء التأنيث، والمرادُ: عدة من الزَّاد والسلاح، مشتقاً من «العَدَدِ» . قوله: {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} . الاستدراكُ هنا يحتاجُ إلى تأمُّلٍ، فلذلك قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف موقعُ حرفِ الاستدراك؟ قلتُ: لمَّا كان قوله: {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج} معطياً معنى نفي خروجهم واستعدادهم للغزو. قيل: {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} كأنه قيل: ما خرجوا، ولكن تَثَبَّطُوا عن الخروج لكراهةِ انبعاثهم،: «ما أحْسَنَ زَيْدٌ إليَّ ولكن أساءَ إليَّ» . انتهى. يعني أنَّ ظاهرَ الآية يقتضي أنَّ ما بعد «لكن» موافقٌ لما قبلها، وقد تقرَّر فيها أنَّها لا تقع إلاَّ بين ضدين، أو نقيضين، أو خلافين، على خلاف في هذا الأخير، فلذلك احتاج إلى الجواب المذكور. قال أبُو حيان «وليست الآيةُ نظير هذا المثالِ - يعني: ما أحْسَنَ زيدٌ إليَّ، ولكن أساء -، لأنَّ المثال واقعٌ فيه» لكن «بين ضِدَّيْن، والآيةُ واقعٌ فيها» لكن «بين متفقين من جهة المعنى» . قال شهابُ الدِّين «مُرادُهم بالنقيضين: النفيُ والإثبات لفظاً، وإن كانا يتلاقيان في المعنى ولا يُعَدُّ ذلك اتفاقاً» . والانبعاثُ: الانطلاقُ، يقال: بعثتُ البعير فانبعث، وبعثته لكذا فانبعث، أي: نفذ فيه والتَّثْبِيطُ: التَّعْويق، يقالُ: ثَبَّطْتُ زيداً، أي: عُقْتُه عمَّا يريده، من قولهم: ناقة ثَبِطَة أي: بطيئة السير، والمراد بقوله: «اقْعُدُوا» : التَّخْلية، وهو كنايةٌ عن تباطئهم، وأنَّهم تشبهوا بالنساء، والصبيان، والزَّمْنَى، وذوي الأعذار، وليس المرادُ قعوداً؛ كقوله: [البسيط] 2786 - دَعِ المكَارِمَ لا تَقْصِدْ لبُغْيتهَا ... واقْعُدْ فإنَّكَ أنْتَ الطَّاعِمُ الكَاسِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 105 والمعنى: أنَّه تعالى كره خروجهم مع الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فصرفهم عنه. فإن قيل: خروجهم مع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إمَّا أن يقال إنَّه كان مفسدة، وإمَّا أن يقال إنه مصلحة، فإن كان مفسدة، فلمَ عاتبَ الرسول في إذنه لهم بالقعود؟ وإن كان مصلحة فَلِمَ قال تعالى: إنه كره انبعاثهم وخروجهم؟ والجوابُ: أنَّ خروجهم مع الرَّسولِ ما كان مصلحة؛ لأنَّه تعالى صرَّح بعد هذه الآية بذكر المفاسد بقوله: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} ، بقي أن يقال: فلمَّا كان الأصلح أن لا يخرجوا، فلِمَ عاتب الرسول في الإذن؟ فنقولُ: قد حكينا عن أبي مسلم أنه قال: ليس في قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، قد أذن لهم بالقُعُود، بل يحتمل أن يقال: إنهم استأذنوه في الخروج معه، فأذن لهم، وعلى هذا يسقط السؤال. قال أبو مسلم «ويدلُّ على صحَّة ما قلنا أنَّ هذه الآية دلَّت على أنَّ خُروجَهُمْ معه كان مفسدةً؛ فوجب حمل ذلك العتاب على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أذن لهم في الخروج معه» ويؤكد ذلك قوله تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83] وقوله تعالى: {سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ} [الفتح: 15] فاندفع السُّؤال على طريق أبي مسلم. والجوابُ على طريقة غيره، وهو أن نسلم أنَّ العتاب في قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] يوجب أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أذن لهم في القعود، فنقولُ: ذلك العتابُ ما كان لأجل أن ذلك القعود كان مفسدة، بل لأجل أنَّ إذنه عليه الصَّلاة والسَّلام بذلك القعود مفسدة، وبيانه من وجوه: الأول: أنَّه عليه الصَّلاة والسَّلام أذن قبل إتمام التفحص وإكمال التأمل، ولهذا قال تعالى {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} [التوبة: 43] . والثاني: أن التقدير أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما كان يأذن لهم في القعود، فهم كانوا يقعدون من تلقاء أنفسهم وكان يصير ذلك القعود علامة على نفاقهم، وإذا ظهر نفاقهم احترز المسلمون منهم، ولم يغتَرُّوا بقولهم، فلمَّا أذن الرَّسولُ في ذلك القعود بقي نفاقهم مخفياً، وفاتت تلك المصالح. والثالث: أنَّهم لمَّا استأذنوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غضب عليهم وقال: {اقعدوا مَعَ القاعدين} ثم إنَّهم اغتنموا هذه اللفظة وقالوا: قد أذن لنا، فقال تعالى: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] أي: لم ذكرت عندهم هذا اللفظ الذي أمكنهم أن يتوسلوا به إلى غرضهم. الرابع: أن الذين يقولون إن الاجتهاد غير جائز على الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، قالوا: إنه إنَّما أذن بمجرد الاجتهاد وذلك غير جائز؛ لأنهم لمَّا تمكنوا من الوَحْيِ، وكان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 106 الإقدامُ على الاجتهاد مع التَّمكن من الوحي جارياً مجرى الإقدام على الاجتهاد مع حضور النَّص، فلمَّا كان هذا غير جائز فكذا ذاك. ثم قال تعالى: {وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} . واختلفوا في تأويل هذا القول، فقيل: هو الشيطان على طريق الوسوسة، وقيل: قاله بعضهم لبعضٍ. وقيل: قاله الرسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، لمَّا أذن لهم في التخلف، فعاتبه الله. وقيل: القائل هو الله تعالى؛ لأنه كره خروجهم؛ لأجل الإفساد، فأمرهم بالقعود عن هذا الخروج المخصوص. ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً} أي: في جيشكم، وفي جمعكم. وقيل: «فِي» بمعنى «مع» أي: معكم. قوله: «إِلاَّ خَبَالاً» جَوَّزُوا فيه أن يكون استثناء متصلاً، وهو مفرَّغٌ؛ لأنَّ زاد يتعدى لاثنين. قال الزمخشري المُسْتَثنى منه غيرُ مذكورٍ، فالاستثناءُ من أعمِّ العام، الذي هو الشيء فكان استثناء متصلاً، فإنَّ «الخبال» بعض أعمِّ العام، كأنه قيل: «ما زادوكم شيئاً إلا خبالاً» وجوَّزُوا فيه أن يكون منقطعاً، والمعنى: ما زادوكم قوةً ولا شدةً، ولكنْ خبالاً. وهذا يجيءُ على قول من قال: إنَّه لم يكن في عسكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خبال، كذا قال أبو حيان. وفيه نظرٌ؛ لأنه إذا لم يكن في العسكر خبال أصلاً، فكيف يُسْتثنى شيءٌ لم يكن ولم يتوهَّمْ وجوده؟ . وتقدم تفسير «الخبال» في آل عمران. قال الكلبيُّ: إلاَّ شراً وقال يمان: إلاَّ مكراً، وقيل: إلاَّ غيّاً، وقال الضحاك: إلاَّ غَدْراً. وقرأ ابن أبي عبلة: «ما زادكُمْ إلاَّ خَبَالاً» ، أي: ما زادكم خروجهم. قوله: {ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ} . الإيضاعُ: الإسراعُ، يقال: أوضع البعيرُ، أي: أسرعَ في سيرهِ؛ قال امرؤ القيس: [الوافر] 2787 - أرَانَا مُوضِعينَ لأمْرِ عَيْبٍ ... ونُسْحَرُ بالطَّعامِ وبالشَّرابِ وقال آخر: [منهوك الرجز] 2788 - يَا لَيْتنِي فيهَا جَذَعْ ... أخُبُّ فيها وأضَعْ ومفعول: «أوْضَعُوا» محذوف، أي: أوضعوا ركائبهم؛ لأنَّ الراكبَ أسرعُ من الماشي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 107 قال الواحديُّ «قال أكثر أهل اللُّغةِ: إن الإيضاع حمل البعير على العدو، ولا يجوزُ أن يقال: أوضع الرَّجلُ إذا سار بنفسه سَيْراً حثيثاً. يقال: وضع البعيرُ: إذا عدا، وأوضعه الراكب: إذا حمله عليه» . وقال الفرَّاءُ: «العرب تقول: وضعتْ النَّاقةُ، وأوضع الراكبُ، وربَّما قالوا للرَّاكب: وضَعَ» . وقال الأخفشُ وأبو عبيد: يجوزُ أن يقال: أوضع الرَّجُلُ: إذا سار بنفسه سيراً حثيثاً من غير أن يراد وضع ناقته. روى أبو عبيد أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «أفاض من عرفة وعليه السَّكينة وأوضعَ في وادي مُحَسِّر» . قال الواحديُّ «والآية تشهد لقول الأخفشِ وأبي عبيد» والمراد من الآية: السَّعي بينهم بالعداوة والنميمة. و «الخِلال» جمع «خَلَل» ، وهو الفُرْجَةُ بين الشيئين. ومنه قوله: {فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور: 43] ، وقرىء «مِنْ خلله» وهي مخارج صب القطر. ويستعار في المعاني فيقال: في هذا الأمْر خلل. وقرأ مجاهدٌ، ومحمد بن زيدٍ «ولأوْفَضُوا» ، وهو الإسراع أيضاً؛ من قوله تعالى: {إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} [المعارج: 43] . وقرأ ابنُ الزبير «ولأرْفَضُوا» بالفراء والفاء والضاد المعجمة، من: رفض، أي: أسرع أيضاً؛ قال حسَّان: [الكامل] 2789 - بِزُجَاجةٍ رفَضَتْ بِمَا فِي جَوْفِهَا ... رَفَضَ القَلُوصِ بِراكبٍ مُسْتعْجِلِ وقال: [الكامل] 2790 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... والرَّافِضَاتِ إلى مِنى فالغَبْغَبِ يقال: رَفَضَ في مشيه رفْضاً، ورَفَضاناً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 108 فإن قيل: كتب في المصحفِ «ولاَ أوْضَعُوا» بزيادة ألف. أجاب الزمخشريُّ «أنَّ الفتحة كانت تُكْتَب ألفاً قبل الخطِّ العربي، والخطُّ العربي اخترع قريباً من نزول القرآن، وقد بقى من ذلك الألف أثرٌ في الطباع، فكتبوا صورة الهمزة ألفاً، وفتحتها ألفاً أخرى، ونحوه {أَوْ لأَذْبَحَنَّهُ} [النمل: 21] . يعني: في زيادة الألف بعد» لا «وهذا لا يجوزُ القراءةُ به ومن قرأ به متعمداً بكفّر» . قوله: «يَبْغُونَكُمُ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ، من فاعل «أوْضَعُوا» أي: لأَسْرعُوا فيما بينكم، حال كونهم باغين، أي: طالبين الفتنة لكم، ومعنى الفتنة: افتراقُ الكلمة. قوله: {وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} هذه الجملةُ يجوز أن تكون حالاً من مفعول «يَبْغُونكُمْ» أو من فاعله، وجاز ذلك؛ لأنَّ في الجملة ضميريهما. ويجوزُ أن تكون مستأنفةً، والمعنى: أنَّ فيكم من يسمع لهم، ويُصْغِي لقولهم. فإن قيل: كيف يجوزُ ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم؟ فالجوابُ: لا يمتنع لمنْ قرب عهده بالإسلام أن يؤثر قول المنافقين فيهم، أو يكون بعضهم مجبولاً على الجبن والفشل؛ فيؤثر قولهم فيهم، أو يكون بعض المسلمين من أقارب رؤساءِ المنافقين فينظرون إليهم بعض الإجلال والتَّعظيم؛ فلهذا الأسباب يؤثر قول المنافقين فيهم ويجوز أن يكون المراد: وفيكم جواسيس منهم، يسمعون لهم الأخبار منكم، فاللاَّمُ على الأوَّلِ للتقوية لكون العامل فرعاً، وفي الثاني للتعليل، أي: لأجلهم. ثم قال تعالى: {والله عَلِيمٌ بالظالمين} الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم، وظلموا غيرهم بسبب أنهم سعوا في إلقاء غيرهم في وجوه الآفات. فصل {لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ} . أي: طلبُوا صد أصحابك عن الدِّين وردهم إلى الكُفْرِ، وتخذيل النَّاس عنكَ قبل هذا اليوم، كفِعْلِ عبد الله بن أبيّ يوم أحد حين انصرف عنك بأصحابه. وقال ابنُ جريج: هو أنَّ اثني عشر رجلاً من المنافقين، وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة، ليفتكوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله: {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} . قرأ مسلمة بن محارب «وقلبُوا» مخففاً. والمرادُ بتقليب الأمر: تصريفه وترديده، لأجل التدبر والتأمل فيه، أي: اجتهدوا في الحيلةِ والكيدِ لك يقال للرجل المتصرف في وجوه الحيل: فلان حُوَّلٌ قلبٌ، أي: يتقلب في وجوه الحيل. ثم قال تعالى: {حتى جَآءَ الحق} أي: النصرُ والظفرُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 109 وقيل: القرآن. {وَظَهَرَ أَمْرُ الله} دين الله. {وَهُمْ كَارِهُونَ} حالٌ، والرَّابط الواو؛ أي: كارهون لمجيء الحق ولظهور أمر الله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} الآية. {مَّن يَقُولُ ائذن لِّي} كقوله: «يَا صالحُ ائتنا» من أنه يجوزُ تحقيقُ الهمزة، وإبدالها واواً، لضمة ما قبلها، وإن كانت منفصلةً من كلمةٍ أخرى. وهذه الهمزةُ هي فاءُ الكلمة، وقد كان قبلها همزة وصلٍ سقطت درجاً. قال أبو جعفرٍ «إذا دخلت» الواو «و» الفاء «على» ائذن «فهجاؤها: ألف وذال ونون، بغير ياء. أو» ثم «فالهجاءُ: ألفٌ وياءٌ وذالٌ ونونٌ. والفرق: أنَّ» ثُمَّ «يوقف عليها وينفصل، بخلافهما» . قال شهابُ الدِّين «يعني إذا دخلت واوُ العطف، أو فاؤه، على هذه اللفظة اشتدَّ اتصالهما بها، فلم يُعْتَدَّ بهمزة الوصل المحذوفة دَرْجاً، فلم يُرْسَمْ لها صورةٌ، فتكتب» فأذَنْ «، و» أذَنْ «فهذه الألف هي صورة الهمزة، التي هي فاء الكلمة» . وإذا دخلت عليها «ثم» كُتِبَتْ كذا: ثم ائتُوا، فاعتدُّوا بهمزة الوصل فرسموا لها صورة. قال شهابُ الدين: وكأنَّ هذا الحُكْمَ الذي ذكره مع «ثم» يختصُّ بهذه اللَّفظة، وإلاَّ فغيرها مما فاؤه همزةٌ، تسقط صورة همزة وصله خطّاً، فيكتب الأمرُ من الإتيان مع «ثم» هكذا: «ثُمَّ أتُوا» ، وكان القياس على «ثُم ائْذَانْ» «ثم ائْتُوا» ، وفيه نظرٌ، وقرأ عيسى بن عمر، وابن السَّميفع، وإسماعيل المكي، فيما روى عنه ابن مجاهد «ولا تُفْتِنِّي» بضم حرف المضارعة، من «أفتنه» رباعياً. قال أبُو حاتم «هي لغة تميمٍ» وقيل: أفتنه: أدخله فيها، وقد جمع الشاعر بين اللغتين، فقال: [الطويل] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 110 2791 - لَئِنْ فَتَنَتْني لَهْيَ بالأمْسِ أفْتَنَتْ ... سَعِيداً فأمْسَى قَدْ قَلاَ كُلَّ مُسْلِمِ ومتعلق «الإذن» : القعودُ، أي: ائذن لي في القعود والتخلف عن الغزو، ولا تَفْتِنِّي بخروجي معك. أي: لا تهلكني بخروجي معك، فإنَّ الزمانَ شديد الحرّ، ولا طاقة لي به. وقيل: لا تفتنيِّي؛ لأنِّي إذا خرجت معك هلك مالي وعيالي، وقيل: نزلت في جد بن قيس المنافق وذلك أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا تجهَّز لغزو تبوك، قال له: «يا أبا وهب، هل كل في جلاد بني الأصفر؟ يعني: الروم - تتخذ منهم سراري ووصفاء» فقال جدُّ: يا رسول الله، لقد عرف قومي أني رجل مغرمٌ بالنِّساءِ، وإنِّي أخشى إن رأيت بنات الأصفر ألاَّ أصبر عنهنَّ، ائذن لي في القعود، ولا تفتنِّي بهنّ، وأعينكم بمالي. قال ابن عباسٍ: «اعتلَّ جدُّ بن قيس، ولم تكن علته إلا النفاق، فأعرض عنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «قد أذنت لك» ، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي} الآية. قوله: {أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ} أي: في الشّرك والإثم وقعوا بنفاقهم، وخلافهم أمر الله ورسوله. وفي مصحف أبي «سَقَطَ» لأنَّ لفظة «مِنْ» موحد اللفظ، مجموع المعنى، وفيه تنبيه على أنَّ مَنْ عصى الله لغرض، فإنَّهُ تعالى يبطل عليه ذلك الغرض؛ لأنَّ القوم لمَّا اختاروا القعود لئلا يقعوا في الفتنة، بيَّن اللهُ تعالى أنهم واقعون ساقطون في عينِ الفتنة - ثم قال {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين} مطبقة عليهم. قوله: {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ} نصر وغنيمة «تَسُؤهُمْ» تُحزنهم، يعني المنافقين {وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ} نكبة وشدة ومكروه، يفرحوا، و {يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ} أي: حذرنا، «ويتَولَّوا» يدبروا عن مقام التحدث بذلك إلى أهليهم {وَّهُمْ فَرِحُونَ} مسرورون. ونقل عن ابن عبَّاسٍ «أنَّ الحسنة في يوم بدرٍ، والمصيبة في يوم أحدٍ، فإن ثبت أنَّ المراد هذا بخبر وجب المصير إليه، وإلاَّ فالواجب حمله على كل حسنة، وعلى كل مصيبة» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 111 قوله: {قُل لَّن يُصِيبَنَآ} قال عمر بن شقيق: سمعت «أعين» قاضي الرَّيِّ يقرأ «لن يُصيبنَّا» بتشديد النون. قال أبُو حاتم: ولا يجوزُ ذلك؛ لأنَّ النُّونَ لا تدخلُ مع «لَنْ» ، ولو كانت لطلحة بن مصرف، لجاز، لأنها مع «هل» ، قال الله تعالى {هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} [الحج: 15] . يعني أبو حاتم: أنَّ المضارع يجوز توكيده بعد أداة الاستفهام، وابن مصرف يقرأ «هَلْ» بدل «لَنْ» ، وهي قراءة ابن مسعود. وقد اعتذر عن هذه القراءة بأنَّها حملت «لن» على «لم» و «لا» النافيتين، و «لم» و «لا» يجوز توكيد الفعل المنفيِّ بعدهما. أمَّا «لا» فقد تقدم تحقيق الكلام عليها في الأنفال. وأما «لم» فقد سمع ذلك فيها؛ وأنشدوا: [الرجز] 2792 - يَحْسَبُهُ الجَاهِلُ مَا لَمْ يَعْلمَا ... شَيْخاً عَلَى كُرسيِّهِ مُعَمَّمَا أراد: «يَعْلمَنْ» فأبدل الخفيفة ألفاً بعد فتحة، كالتنوين. وقرأ القاضي أيضاً، وطلحة «هَلْ يُصَيِّبنا» بتشديد الياء. قال الزمخشريُّ: ووجهه أن يكون «يُفَيْعِل» لا «يُفَعِّل» لأنَّهُ من ذوات الواو، كقولهم: الصَّواب، وصَابَ يَصوبُ، ومَصَاوب، في جمع «مصيبة» فحقُّ «يُفَعِّل» منه «يُصَوِّب» ، ألا ترى إلى قولهم: صوَّب رأيه، إلاَّ أن يكون لغة من يقول: صَابَ السَّهْمُ يصيبُ؛ كقوله: [المنسرح] 2793 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... أسْهُمِيَ الصَّائِبَاتُ والصُّيُبُ يعني: أن أصله «يُصَوْيب» فاجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياءً، وأدغم فيها. وهذا كما تقدم في «تَحَيَّزَ» أنَّ أصله «تَحَيْوزَ» ، وأمَّا إذا أخذناه من لغة من يقول: صَاب السَّهم يصيب، فهو من ذوات الياء فوزنه على هذه اللغة «فَعَّلط. فصل المعنى: قل لهم يا محمد {لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} أي: علينا، وقدره في اللوح المحفوظ، أو يكون المعنى» لنْ يُصيبنَا إلاَّ ما كَتَبَ اللهُ لَنَا «أي: في عاقبة أمرنا من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 112 الظفر بالعدو، والاستيلاء عليهم. وقال الزجاج: المعنى: إذا صرنا مغلوبين، صرنا مستحقين للأجر العظيم، والثَّواب الكثير، وإن صرنا غالبين، صرنا مستحقين للثواب في الآخرة وفزنا بالمال الكثير، والثناء الجميل في الدنيا والصحيح الأول. ثم قال:» هُوَ مَوْلاَنَا «ناصرنا، وحافظنا. قال الكلبي» هو أوْلَى بنا من أنفسنا، في الحياة والموت «. {وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} وهذا كالتنبيه على أن حال المنافقين بالضد من ذلك، وأنهم لا يتوكلون إلا على الأسباب الدنيوية الفانية. فصل {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} الآية. هذا الجواب الثاني عن فرح المنافقين بمصائب المؤمنين، أي:» هَلْ تَربَّصُونَ «، أي: تنتظرون،» بنا «أيها المنافقون، {إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} إمَّا النصر والغنيمة، فيحصل لنا الفوز بالأموال في الدنيا والنصر، والفوز بالثواب العظيم في الآخرة، وإمَّا الشهادة، فيحصل لنا الثواب العظيم في الآخرة. قوله: {إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين} مفعول» تربَّص «، فهو استثناء مفرغ. وقرأ ابن محيصنٍ:» إلاَّ احدى «بوصل ألف» إحدى «؛ إجراءً لهمزة القطع مجرى همزة الوصل؛ فهو كقول الشاعر: [الرجز] 2794 - إنْ لَمْ أقَاتِلْ فالبسُونِي بُرقَعَا ... وقول الآخر: [الكامل] 2795 - يَا بَا المُغيرةَ رُبَّ أمْرٍ مُعْضِلٍ ... فرَّجْتهُ بالمكْرِ مِنِّي والدَّهَا قوله: {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ} إحدى السوأتين إمَّا {أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ} فيهلككم كما أهلك تلك الأمم الخالية، {أَوْ بِأَيْدِينَا} أي: بأيدي المؤمنين، إن أظهرتم ما في قلوبكم من النفاق، فيقع بكم القتلِ والنَّهب مع الخزي والذلّ، ومفعول: التربص» أَن يُصِيبَكُمُ «ثم قال:» فتربصوا «أي: إحدى الحالتين الشريفتين {إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ} أي: مواعيد الله من إظهار دينه، واستئصال من خالفه، فقوله:» فتربصوا «وإن كان صيغة أمر، إلاَّ أنَّ المراد منه: التهديد، كقوله: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] . قوله تعالى: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْها} الآية. » طوعاً، أو كرهاً «مصدران في موضع الحال، أي: طائعين، أو كارهين. وقرأ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 113 الأخوان» كُرهاً «بالضَّمِّ، وقد تقدم تحقيقُ ذلك في النساء. وقال أبُو حيان هنا:» قرأ الأعمش وابن وثاب «كُرهاً» بضم الكاف «. وهذا يُوهم أنَّها لم تُقْرأ في السبعة. قال الزمخشري: هو أمرٌ في معنى الخبر، كقوله: {فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} [مريم: 57] ، ومعناه لن يُتقبَّل منكم؛ أنفقتم طوعاً أو كرهاً، ونحوه قوله تعالى: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] ؛ وقول كثير عزة: [الطويل] 2796 - أسيئي بِنَا أو أحْسِنِي لا ملُومَة ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . أي: لن يغفر اللهُ، استغفرت لهم، أو لم تستغفر. ولا نلومُكِ أحسنتِ إلينا، أم أسَأتِ؛ وفي معناه قول القائل: [الطويل] 2797 - أخُوكَ الذي إنْ قُمْتَ بالسَّيفِ عَامِداً ... لِتضْربَهُ لَمْ يَسْتغشَّكَ في الوُدِّ وقال ابن عطيَّة «هذا أمرٌ في ضمنه جزاءٌ، والتقدير: إنْ تنفقوا لن يُتقبَّل منكم. وأمَّا إذا عَرِي الأمرُ من الجواب فليس يصحبه تضمُّنُ الشَّرط» قال أبُو حيَّان «ويقَدْح في هذا التَّخريجِ، أنَّ الأمر إذا كان فيه معنى الشرط، كان الجواب كجواب الشرط. فعلى هذا يقتضي أن يكون التركيب:» فلن يتقبل «بالفاء، لأنَّ» لَنْ «لا تقعُ جواباً للشَّرط إلاَّ بالفاء فكذلك ما ضُمِّنَ معناه؛ ألا ترى جزمه الجواب، في قوله: اقصد زيداً يُحْسِنْ إليكَ» . قال شهابُ الدِّينِ «إنَّما أراد أبو محمد تفسير المعنى، وإلا فلا يجهلُ مثل هذه الواضحات، وأيضاً فلا يلزمُ أن يعطى الأمر التقديري حكم الشَّيء الظاهر من كل وجه» . وقوله: «إنَّكمُ» وما بعده جارٍ مجرى التعليل. وقوله: {لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} يحتملُ أن يكون المراد أن الرسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لا يتقبل تلك الأموال منهم، ويحتملُ أن يكون المراد أنها لا تصير مقبولة عند الله تعالى. قيل: نزلت في جد بن قيس حين استأذن في القعود، وقال: أعينكم بمالي، والمرادُ بالفسق هنا: الكفر، لقوله بعده {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} [التوبة: 54] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 114 قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ} الآية. «أنْ تُقْبَلَ» فيه وجهان، أحدهما: أنه مفعول ثانٍ، ل «مَنَعَ» إمَّا على تقدير إسقاطِ حرف الجر، أي: من أن يقبل، وإمَّا لوصول الفعل إليه بنفسه؛ لأنَّك تقول: منعتُ زيداً حقَّه ومن حقه. والثاني: أنَّهُ بدلٌ من «هم» في: «مَنَعَهُمْ» ، قاله أبو البقاءِ، كأنَّهُ يريد: بدل الاشتمال، ولا حاجة إليه. وفي فاعل «مَنَعَ» وجهان: أظهرهما: أنَّهُ {إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ} أي: ما منعهم قبول نفقتهم إلاَّ كفرهم. والثاني: أنَّهُ ضمير الله تعالى: أي وما منعهم الله، ويكون «إِلاَّ أَنَّهُمْ» منصوباً على إسقاط حرف الجر، أي: لأنَّهم كفروا. وقرأ الأخوان «أن يُقْبَلَ» بالياءِ من تحت. والباقون بالتَّاء من فوق. وهما واضحتان، لأنَّ التأنيث مجازي. وقرأ زيد بن علي كالأخوين إلاَّ أنَّه أفرد النفقة. وقرأ الأعرج «تُقبل» بالتاء من فوق، «نَفَقَتهُم» بالإفراد. وقرأ السُّلمي «يَقْبل» مبنياً للفاعل، وهو الله تعالى. وقرىء «نَقْبل» بنون العظمة، «نفقتهم» بالإفراد. فصل ظاهر اللفظ يدل على أنَّ منع القبول معلل بمجموع الأمور الثلاثة، وهي الكفر بالله ورسوله، وإتيان الصَّلاة وهم كسالى، والإنفاق على سبيل الكراهية. ولقائل أن يقول: الكفر بالله سبب مستقل في المنع من القبولِ، فلا يبقى لغيره أثر، فكيف يمكن إسناد الحكم إلى السببين الباقيين؟ . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 115 وجوابه: أنَّ هذا الإشكالِ إنما يتوجَّهُ على قول المعتزلةِ، حيث قالوا: إنَّ الكفر لكونه كفراً يؤثر في هذا الحكم، أما عند أهْلِ السُّنَّةِ: فإنَّ شيئاً من الأفعال لا يوجب ثواباً ولا عقاباً وإنَّما هي معرفات، واجتماع المعرفات الكثيرة على الشيء الواحد جائز. فصل دلَّت الآية على أنَّ شيئاً من أعمال البر لا يقبل مع الكفر بالله تعالى. فإن قيل: كيف الجمع بينه وبين قوله: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] ؟ فالجوابُ: أن يصرف ذلك إلى تأثيره في تخفيف العقابِ، ودلت الآية على أنَّ الصلاة تجب على الكافر، لأنه تعالى ذمَّ الكافر على فعل الصَّلاة على وجه الكسل. قال الزمخشريُّ «كُسَالَى» بالضمِّ والفتح جمع: «كَسْلان» نحو «سَكَارى» . قال المفسِّرون: معنى هذا الكسل، أنَّهُ إن كان في جماعة صلَّى، وإن كان وحده لم يصلِّ. وقوله: {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} أي: لا ينفقون لغرض الطاعة بل رعاية للمصلحة الظاهرة. قوله تعالى: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ} الآية. لمَّا قطع في الآية الأولى رجاء المنافقين عن جميع منافع الآخرة، بيَّن ههنا أنَّ الأشياء التي يظنونها من منافع الدنيا؛ فإنه تعالى جعلها أسباباً لتعذيبهم في الدُّنيا. والإعجاب: هو السرور بالشَّيء من نوع الافتخار به، ومع اعتقاد أنه ليس لغيره ما يساويه. قوله {فِي الحياة الدنيا} فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلقٌ ب «تُعْجِبْكَ» ، ويكون قوله: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ} جملة اعتراض، والتقدير: فلا تعجبك في الحياةِ، ويجوز أن يكون الجارُّ حالاً من «أمْوالُهُمْ» وإلى هذا نحا ابنُ عبَّاسٍ، ومجاهد، وقتادة، والسدي وابن قتيبة، قالوا في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، والمعنى: فلا تعجبك أموالهم، ولا أولادهم في الحياة الدنيا، إنَّما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة. قال أبو حيان: «إلاَّ أنَّ تقييد الإعجاب المنهيَّ عنه الذي يكون ناشئاً عن أموالهم وأولادهم من المعلوم أنَّه لا يكون إلاَّ في الحياة الدُّنيا، فيبقى ذلك كأنَّهُ زيادة تأكيد بخلاف التَّعذيب، فإنَّه قد يكون في الدنيا، كما يكون في الآخرة، ومع أنَّ التقديم والتأخير يخصُّه أصحابنا بالضرورة» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 116 قال شهابُ الدين: «كيف يقال - مع نصِّ من قدَّمتُ ذكرهم - أصحابنا يخصُّون ذلك بالضَّرورة؟ على أنه ليس من التقديم الذي يكون في الضرورة في شيءٍ، إنَّما هو اعتراض، والاعتراض لا يقال فيه تقديم وتأخير، بالاصطلاح الذي يخصُّ بالضرورة. وتسميتهم - أعني: ابن عباس، ومن معه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - إنَّما يريدون به الاعتراض المشار إليه، لا ما يخصه أهل الصناعة بالضرورة» . والثاني: أنَّ «فِي الحياةِ» متعلقٌ بالتعذيب، والمراد بالتعذيب الدنيويِّ: مصائبُ الدُّنيا ورزاياها أو ما لزمهم من التكاليف الشَّاقة، فإنَّهم لا يرجون عليها ثواباً، قاله ابنُ زيد: أو ما فُرِض عليهم من الزكوات، قاله الحسنُ. وعلى هذا فالضميرُ في «بها» يعود على الأموال فقط، وعلى الأول يعود على «الأولاد، والأموال» . فإن قيل: أيُّ تعذيب في المال والولد وهما من جملة النّعم؟ . فالجوابُ: على القول الأول بالتقديم والتأخير، فالسؤالُ زائل. وعلى الثاني المصائب الواقعة في المال والولد. وقيل: بل لا بدَّ من تقدير حذف، بأن يقال: أراد بالتعذيب بها من حيث كانت سبباً للعذاب، أمَّا في الدُّنيا، فإن من أحب شيئاً كان تألمه على فراقه شديداً، وأيضاً يحتاج في تحصيلها إلى تعب شديد، ومشاقّ عظيمة، ثم في حفظها كذلك، وأمَّا في الآخرة فالأموال حلالها حساب، وحرامها عذابٌ. فإن قيل: هذا المعنى حاصل للكلِّ، فما فائدة تخصيص المنافقين؟ . فالجوابُ: أن المنافق لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر فلا ينفق ماله في سبيل الله لأنَّهُ يراه ضياعاً لا يرجو ثوابه، وأما المؤمن فينفق ماله طيبة بها نفسه، يرجو الثواب في الآخرة والمنافق لا يجاهدث في سبيل الله خوفاً من أن يقتل، والمؤمن يُجَاهدُ، يرجو ثواب الآخرة ثم قال: {وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ} أي: تخرجُ أنفسهم وهم كارهون. أي: يموتون على الكفر. قوله: {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ} على دينكم {وَمَا هُم مِّنكُمْ} أي: ليسوا على دينكم {ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} يخافون أن يظهروا ما هم عليه فيقتلوا. قوله: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ} . «المَلْجَأ» : الحِصْن. وقال عطاءٌ: المَهْرب وقيل: الحِرْز وهو «مَفْعَل» ، مِنْ: لَجَأ إليه، يلجأ، أي: انحاز. يقال: ألجَأتُهُ إلى كذا أي: اضطررته إليه فالتَجَأ. و «الملجأ» يصلحُ للمصدر، والزمان، والمكان. والظَّاهرُ منها - المكان. و «المغارات» جمع «مغارة» ، وهي الموضع الذي يغور الجزء: 10 ¦ الصفحة: 117 الإنسان فيه، أي: يستقر. وقال أبُو عبيدٍ: كل شيءٍ جزتَ فيه فغبتَ فهو مغارة لك، ومنه: غار الماء في الأرض، وغارت العين. وهي مفعلة، مِنْ: غَارَ يغُورُ، فهي كالغَار في المعنى. وقيل: المغارة: السِّرْب، كنفق اليربوع. والغار: النَّقْبُ في الجبل. والجمهورُ على فتح ميم «مغارات» . وقرأ عبدُ الرحمن بن عوف «مُغارات» بالضم، وهو من: أغار، و «أغار» يكون لازماً، تقول العربُ: «أغار» بمعنى «غار» أي: دخل. ويكون متعدّياً، تقول العرب: أغرت زيداً، أي: أدخلته في الغار، فعلى هذا يكون من «أغار» المتعدِّي، والمفعول محذوف، أي: أماكنُ يغيرون فيها أنفسهم، أي: يُغَيِّبُونها. و «المُدَّخل» : «مُفْتَعَل» مِنَ: الدخول، وهو بناء مبالغة في هذا المعنى، والأصل: «مُدْتَخل» فأدغمت «الدال» في «تاء» الافتعال ك: «ادَّانَ» من «الدَّين» . وقرأ قتادة، وعيسى بن عمر، والأعمش «مُدَّخَّلاً» بتشديد الدال والخاء معاً. وتوجيهها أن الأصل «مُتدَخَّلاً» ، من: تدخَّل «بالتَّضعيف، فلمَّا أدغمت التاء في الدال صار اللفظ» مُدخَّلاً «نحو» مُدَّيَّن «من» تَديَّن «. وقرأ الحسنُ أيضاً، ومسلمةُ بن محاربٍ، وابن أبي إسحاق، وابن محيصن، وابن كثير، في رواية» مَدْخَلاً «بفتح الميم وسكون الدال وفتح الخاء خفيفة، مِنْ» دخل «. وقرأ الحسنُ في رواية محبوب كذلك، إلاَّ أنه ضمَّ الميم، جعله من» أدخل «. وهذا من أبدع النَّظم، ذكر أولاً الأمر الأعم، وهو» الملجأ «من أي نوع كان، ثم ذكر الغيران التي يُخْتفى فيها في أعلى الأماكن، وهي الجبالُ، ثم ذكر الأماكن التي يختفى فيها في الأماكن السافلة، وهي السُّروب، وهي التي عبَّر عنها ب» المُدَّخل «. وقال الزجاج: يصحُّ أن تكون» المغارات «من قولهم:» حَبل مُغار «أي: محكم الفتل، ثم يستعار ذلك في الأمر المحكم المبرم فيجيء التأويل على هذا: لو يجدون نصرة، أو أموراً مشددة مرتبطة تعصمهم منكم وجعل» المُدَّخَل «أيضاً قوماً يدخلون في جملتهم. وقرأ أبي «مُنْدَخَلاً» بالنون بد الميم، من «انْدخَلَ» ؛ قال: [البسيط] 2798 - ... ... ... ... ... ... ... . ... ولا يَدِي في حَميتِ السَّمْنِ تَنْدخِلُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 118 وأنكر أبو حاتم هذه القراءة عنه، وقال: إنَّما هي بالتاء، وهو معذورٌ، لأنَّ «انفعل» قاصر لا يتعدى، فكيف يبنى منه اسم مفعول؟ وقرأ الأشهب العقيلي «لوالَوْا» ، أي: لتتابعوا وأسرعوا وكذلك رواها ابن أبي عبيدة بن معاوية بن نوفل، عن أبيه، عن جده وكانت له صحبة من الموالاة. وهذا مما جاء فيه «فعَّل» ، و «فاعل» بمعنى، نحو: ضَعَّفْتُه، وضَاعَفْتُه. قال سعيد بن مسلم: أظنها «لَوألُوا» بهمزة مفتوحة بعد الواو، من «وأل» ، أي: التجأ وهذه القراءةُ نقلها الزمخشري عن أبيّ، وفسَّرها بما تقدم من الالتجاء. و «الجُموح» النُّفُور بإسراع؛ ومنه: فرس جمُوحٌ، إذا لم يرُدَّهُ لِجَامٌ؛ قال: [المتقارب] 2799 - سَبُوحاً جَمُوحاً وإحْضَارُهَا ... كَمَعْمَعَةِ السَّعَفِ المُوقَدِ وقال آخر: [البسيط] 2800 - وقد جَمَحْتُ جِمَاحاً في دِمَائِهِمُ ... حتَّى رأيتُ ذوي أحْسابِهِمْ جَهَزُوا وقرأ أنس بن مالك، والأعمش: يَجْمِزُون. قال ابن عطية يُهرولُونَ في مَشيهمْ وقيل: يَجْمِزُونَ، ويَجْمَحُونَ، ويشتدُّون بمعنى «. وفي الحديث:» فلمَّا أذْلقَتهُ الحجارةُ جَمَزَ «وقال رؤبة: [الرجز] 2801 - إمَّا تَرَيْنِي اليومَ أمَّ حَمْزٍ ... قَاربْتُ بين عَنقي وجمْزِي ومنه» يَعْدُو الجَمَزَى «وهو أن يجمع رجليه معاً، ويهمز بنفسه، هذا أصله في اللغة وقوله:» إليهِ «عاد الضميرُ على» الملجأ «أو على» المُدَّخل «، لأنَّ العطف ب» أوْ «، ويجوز أن يعود على» المغارات «لتأويلها بمذكر. ومعنى الآية: أنهم لو يجدون مخلصاً منكم أو مهرباً لفارقوكم. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} الآية. قرأ العامة» يَلْمِزُكَ «بكسر الميم، من: لَمَزه يَلْمِزه، أي. عابه، وأصله: الإشارة بالعين ونحوها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 119 قال الأزهري أصله: الدفع، لَمَزتُهُ دفعته وقال الليث هو الغمز في الوجه ومنه: هُمزةٌ لُمَزَة. أي: كثيرُ هذين الفعلين. وقال أبو بكر الأصم» اللَّمز: أن يشير إلى صاحبه بعيب جليسه. والهمز: أن يكسر عينه على جليسه إلى صاحبه «. وقرأ يعقوب، وحماد بن سلمة عن ابن كثير، والحسن، وأبو رجاء، ورويت عن أبي عمرو بضمها، وهما لغتان في المضارع. وقرأ الأعمش» يُلْمِزُكَ «مِنْ» الْمَز «رباعياً. وروى حماد بن سلمة» يُلامِزُكَ «على المفاعلة من واحدٍ، ك: سافرَ، وعاقب. هذا شرح نوع آخر من طباعهم وأفعالهم، وهو طعنهم في الرسول بسبب أخذ الصدقات، ونزلت في ذي الخويصرة التميمي، واسمه: حرقوص بن زهير، أصل الخوارج. قال أبو سعيد الخدري بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقسم مالاً إذ جاءه ذو الخويصرة التميمي، وقال: يا رسول الله اعدل، فقال: «ويلك من يعدل إذا لم أعدل؟» فنزلت هذه الآية. وقال الكلبي: قال رجل من المنافقين ويقال له: أبو الجواظ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتزعم بأن الله أمرك بأن تضع صدقات في الفقراء والسماكين، فلم تعضها في رعاة الشاء؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا أبا لك، فإنما كان موسى راعياً وإنما كان داود راعياً» ، فأنزل الله تعالى هذه الآية، فلما ذهب قال عليه السلام: «احذروا هذا وأصحابه، فإنهم منافقون» . وروى أبو بكر الأصم في تفسيره أنه عليه السلام قال لرجل من أصحابه: «ما علمك بفلان؟» قال ما لي به علم إلا أنك تدينه في المجلس وتجزل له العطاء، فقال عليه السلام: «إنه منافق أداريه عن نفاقه، وأخاف إفساده.» قال ابن عباس «يلمزك» : يغتابك، وقال قتادة: يطعن عليك، وقال الكلبي: يعيبك في أمرٍ ما، قال أبو علي الفارسي: هنا محذوف والتقدير: يعيبك في تفريق الصدقات فإن أعطوا كثيراً فرحوا، وإن أعطوا قليلاً فإذا هم يسخطون. وقد تقدم الكلام الجزء: 10 ¦ الصفحة: 120 على «إذا» الفجائية، والعامل فيها. قال أبو البقاء: «يسخطون» لأنه قال: إنها ظرف مكان، وفيه نظر تقدم نظيره. قوله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ} . الظاهر أنَّ جواب «لَوْ» محذوفٌ، تقديره: لكان خيراً لهم. وقيل: جوابها «وقالوا» ، والو مزيدةٌ، وهذا مذهبُ الكوفيين. والمعنى {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ} ما نحتاج إليه {إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ} هاتانِ الجملتان كالشَّرح لقولهم: «حَسبُنَا اللهُ» ، فلذلك لم يتعاطفا، لأنَّهُمَا كالشَّيء الواحد، فشدَّه الاتصال منعت العطف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 121 قوله تعالى: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} الآية. اعلم أنَّ المنافقين لمَّا لمزوا الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الصدقات، بيَّن لهم أنَّ مصرف الزكاة هؤلاء، ولا تعلق لي بها، ولا آخذ لنفسي نصيباً منها. وقد ذكر العلماء في الحكمة في وجوب الزكاة أموراً: منها: قالوا: شكر النِّعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم، والزكاة شكر النعمة. فوجب القولُ بوجوبها؛ لأنَّ شكر المنعم واجب. ومنها: أنَّ إيجاب الزكاة توجب حصول الألفة بالمودَّة، وزوال الحقد والحسد بين المسلمين فهذه وجوهٌ معتبرةٌ في الحكمة الناشئة لوجوب الزَّكاة. ومنها: أنَّ الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان عطَّله عن المقصود الجزء: 10 ¦ الصفحة: 121 الذي لأجله خلق المالُ، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى، وهو غير جائز، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتَّى لا تتعطل تلك الحكمة. ومنها: أنَّ الفقراء عيالُ الله، لقوله تعالى {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6] والأغنياء خزان الله؛ لأنَّ الأموال التي في أيديهم لله تعالى، ولولا أن الله ألقاها في أيديهم، لما ملكوا منها حبة واحدة. ومنها: أنَّ المال بالكليَّة في يد الغني مع أنَّه غير محتاج إليه، وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكليَّة، لا يليقُ بحكمة الرحيم؛ فوجب أن يجب على الغنيّ صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير. ومنها: أنَّ الأغنياء لو لم يقوموا بمهمات الفقراء ربّما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين، أو على الإقدامِ على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها؛ فإيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة؛ فوجب القول بوجوبها وقيل غير ذلك. فصل كلمة «إنَّما» للحصر، فدلَّت على أنه لا حق في الصدقات لأحد إلاَّ لهذه الأصناف الثمانية وذلك مجمع عليه، ويدلُّ على أنَّ كلمة «إنَّما» للحصر؛ لأنها مركبة من «إن» و «ما» ، و «إن» للإثبات و «ما» للنفي «، واجتماعهما يوجب بقاءهما على ذلك المفهوم، وكذلك تمسَّك ابنُ عبَّاسٍ في نفي ربا الفضل بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» إنَّما الرِّبَا في النَّسيئَةِ «، وتمسك بعض الصحابة في أن الإكسال لا يوجب الاغتسال بقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» إنما الماءُ من الماءِ «، ولولا إفادتها الحصر، لما كان كذلك، وقال تعالى {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ} [النساء: 171] فدلَّت على نفي إلهية الغير؛ وقال الأعشى: [السريع] 2802 - ولسْتَ بالأكْثَرِ منهُم حَصًى ... وإنَّما العِزَّةُ لِلكَاثِرِ وقال الفرزدق: [الطويل] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 122 2803 - أنَا الذَّائدُ الحَامِي الذِّمارَ وإنَّما ... يدافعُ عنْ أحسابهِمْ أنَا أوْ مِثْلِي فدلَّت هذه الوجوه على أنَّ كلمة» إنَّما «للحصر. وروى زياد بن الحارث الصُّدانئي قال: أتيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فبايعته فأتاه رجل فقال أعطني من الصَّدقة فقال له رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنَّ اللهَ لَمْ يرضَ بحُكْم نبي، ولا غيره في الصَّدقاتِ حتَّى حكم فيها فجَزَّأها ثمانيةَ أجزاء، فإنْ كنتَ من تلكَ الأجزاءِ أعطيتُك حقَّك» . فصل مذهب أبي حنيفة: أنه يجوز صرف الصَّدقة إلى بعض الأصناف، وهو قول عمر وحذيفة، وابن عباسٍ، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والنخعي. قال سعيدُ بن جبير: لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقرأ متعففين فحبوتهم بها كان أحب إليَّ وقال الشافعي لا بُدَّ من صرفها إلى الأصناف الثمانية وهو قوك عكرمة، والزهري وعمر بن عبد العزيز واحتج بظاهر الآية. قال ولا بدَّ في كلِّ صنف من ثلاثة، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث، وهو ثلث سهم الفقراءِ قال: ولا بد من التسوية في أنصباء هذه الأصناف الثمانية، مثاله لو وجد خمسة أصناف، ولزمه أن يتصدَّق بعشرة دراهم؛ لزمه أن يجعل العشرة خمسة أسهم. واختلفوا في صفة الفقير والمسكين، فقال ابن عباسٍ، والحسنُ، ومجاهدٌ، وعكرمةُ والزهريُّ: الفقير: الذي لا يسأل، والمسكين: السَّائل. قال ابن عمر: ليس بفقير من جمع الدرهم إلى الدرهم والتمرة إلى التمرة، ولكن الفقير من أنقى نفسه وثيابه ولا يقدر على شيء: {يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف} [البقرة: 273] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 123 وقال قتادة: الفقير: المحتاج الزَّمِنُ، والمسكين: الصحيح المحتاج. وروي عن عكرمة الفقراء من المسلمين، والمساكين من أهل الكتاب. وقال الشافعي الفقير من لا مال ولا حرفةَ تقع منه موقعاً زمناً كان أو غير زمن، والمسكين من له مال أو حرفة لا تغنيه سائلاً كان أو غير سائل. واستدل بقوله: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} [الكهف: 79] فأثبت لهم ملكاً، وكان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يتعوذ من الفقر، وقال: كاد الفقرُ أن يكون كُفْراً. وكان يقول: اللَّهُمَّ أحْيِني مِسْكيناً وأمِتْنِي مسْكِيناً، فكيف كان يتعوذ من الفقر، ويسأل ما هو دونه وهذا تناقض؟ وقال أصحاب الرأي: الفقيرُ أحسن حالاً من المسكين. وقيل: الفقير من له المسكن والخادم والمسكين من لا ملك له، وقالوا كل محتاج إلى شيء فهو فقير إليه، وإن كان غنياً عن غيره قال تعالى: {يا أيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله} [فاطر: 15] ، والمسكين المحتاج إلى كلِّ شيءٍ ألا ترى كيف حضَّ على طعامه، وجعل طعام الكفارة له، ولا فاقة أشد من الحاجة إلى سد الجوعة. وقال إبراهيمُ النخعيُّ: الفقراء هم المهاجرون، والمسكين من لم يهاجر، وقيل: لا فرق بين الفقراء والمساكين فالله تعالى وصفهم بهذين الوصفين، والمقصود شيءٌ واحد، وهو قول أبي يوسف ومحمد. وفائدة الخلاف تظهر في مسألة: وهي أنَّه لو أوصى لفلان وللفقراء والمساكين، فالذين قالوا: الفقراء غير المساكين، قالوا: لفلان الثلث، والذين قالوا: الفقراء هم المساكين قالوا لفلان النصف. واختلفوا في حدِّ الغني الذي يمنع أخذ الصَّدقة، فقال الأكثرون: حده أن يكون عنده ما يكفيه وعياله سنة، وهو قول مالك، والشافعي. وقال أصحاب الرأي: حدُّه أن يملك مائتي درهم. وقيل: من ملك خمسين درهماً، لا يحلُّ له أخذ الصدقة. روي أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ سَألَ النَّاسَ ولهُ ما يُغْنِيه جاء يوم القيامةِ ومسْألتُهُ في وجهه خُموش أو خُدُوش. قيل: وما يُغنيهِ؟ قال:» خَمْسُونَ دِرْهماً أو قيمتها الجزء: 10 ¦ الصفحة: 124 من الذَّهب «، وهو قول الثوري، وابن المباركِ، وأحمد وإسحاق وقالوا: لا يجوزُ أن يعطى الرجل من الزكاة أكثر من خمسين، وقيل: أربعون درهماً لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» مَنْ سَأل ولهُ أوقيةٌ أو عَدْلُهَا فقدْ سَألَ إلْحَافاً «. قوله: {والعاملين عَلَيْهَا} وهم السُّعاةُ لجباية الصدقة، يعطون بقدر أجور أمثالهم. وقال مجاهدٌ والضحاكُ: يعطون الثمن، ولا يجوزُ أن يكُون العاملُ على الصدقة هاشمياً ولا مطلبياً؛ لأنَّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أبَى أن يبعث أبا رافع عاملاً على الصَّدقاتِ وقال: أما علمت أن مولى القومِ منهم. قوله: {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} قال ابنُ عباسٍ: هم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم حنين، وكانوا خمسة عشر رجلاً: أبُو سفيانَ، والأقرعُ بنُ حابسٍ، وعيينةُ بن حصنٍ، وحويطبُ بنُ عبد العزى، وسهلُ بنُ عمرو من بني عامر، والحارثُ بنُ هشام، وسهيلُ بن عمرو الجهنيُّ، وأبُو السنابل، وحكيم بن حزامٍ، ومالكُ بن عوف وصفوانُ ابنُ أمية، وعبد الرحمن بنُ يربوع، والجدُّ بنُ قيس، وعمرو بنُ مرداس، والعلاءُ بنُ الحرث،» أعطى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كلَّ رجل منهم مائة من الإبل ورغبهم في الإسلام، إلاَّ عبد الرحمن بن يربوع أعطاه خمسين من الإبل، وأعطى حكيم بن حزام سبعين من الإبل، فقال: يا رسول الله ما كنت أرى أنَّ أحداً من النَّاس أحق بعطائك مني فزاده عشرة، وهكذا حتى بلغ مائة، ثم قال حكيمٌ: يا رسول الله، أعطيتك الأولى التي رغبت عنها خير أم هذه التي قنعت بها؟ فقال عليه الصَّلاة والسَّلام: بل التي رغبت عنها، فقال: والله لا آخذ غيرها «فقيل: مات حكيم وهو أكثر قريش مالاً، وشقَّ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تلك العطايا، لكن ألفهم بذلك. قال ابنُ الخطيبِ: وهذه العطايا إنَّما كانت يوم حنين، ولا تعلق لها بالصدقات، ولا أدري لأي سبب ذكر ابنُ عبَّاسٍ هذه القصة في تفسير هذه الآية وإنَّما ذكر ابنُ عباسٍ ذلك بياناً للمؤلَّفة من هم، فذكر ذلك مثالاً. واعلم أنَّ المؤلفة قسمان، مسلمون وكفار، فأمَّا المسلمون فيعطون لأجل قوَّة إيمانهم أو معونتهم على أخْذِ الزَّكاة ممَّن امتنع عن دفعها، أو ترغيباً لأمثالهم في الإسلام وأما الكُفَّار؛ فيعطون ترغيباً لهم في الإسلام، أو خشية من شرهم، كما أعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صفوان بن أمية لمَّا رأى من ميله في الإسلام. قال الواحديُّ إنَّ الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين، فإن رأى الإمامُ في ذلك مصلحة يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز، ويعطون من الفيء لا من الزَّكاة. واعلم أنَّ المؤلفة قسمان، مسلمون وكفار، فأمَّا المسلمون فيعطون لأجل قوَّة إيمانهم أو معونتهم على أخْذِ الزَّكاة ممَّن امتنع عن دفعها، أو ترغيباً لأمثالهم في الإسلام وأما الكُفَّار؛ فيعطون ترغيباً لهم في الإسلام، أو خشية من شرهم، كما أعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صفوان بن أمية لمَّا رأى من ميله في الإسلام. قال الواحديُّ إنَّ الله تعالى أغنى المسلمين عن تألف قلوب المشركين، فإن رأى الإمامُ في ذلك مصلحة يعود نفعها على المسلمين إذا كانوا مسلمين جاز، ويعطون من الفيء لا من الزَّكاة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 125 وقال جماعةٌ من أهل العلم: إنَّ المؤلفة منقطعة، وسهمهم ساقط، روي ذلك عن عمر وهو قول الشعبي، وبه قال مالكٌ، والثوريُّ، وأصحاب الرأي وإسحاق بن راهويه وقال قومٌ: سهمهم ثابت مروي ذلك عن الحسنِ، وهو قول الزهري، وأبي جعفر محمد بن علي، وأبي ثور، وقال أحمدُ: يعطون إن احتاج المسلمون إلى ذلك. قوله: وفِي الرقابِ قال الزجاجُ فيه محذوف، والتقديرُ: «وفي فك الرقاب» وقد تقدم الكلامُ في تفسير «الرقاب» في قوله: {والسآئلين وَفِي الرقاب} [البقرة: 177] . ثمَّ في تفسير «الرقاب» أقوال: أحدها: أنَّهم المكاتبون ليعتقوا من الزكاة، وقال مالكٌ وغيره: إنه لعتق الرقاب يشترى به عبيد فيعتقون. وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب؛ لأن قوله: {وَفِي الرقاب} يقتضي أن يكون له فيه مدخل، وذلك يُنَافِي كونه تاماً فيه، وقال الزهريُّ: سهم الرقاب نصفان، نصف للمكاتبين المسلمين، ونصفٌ يشترى به رقاب ممَّن صلوا وصاموا. قال بعض العلماء: والاحتياط في سهم الرقاب دفعه إلى السَّيد بإذن المكاتب؛ لأنَّه تعالى أثبت الصدقات للأصناف الأربعة المتقدم ذكرهم بلام التمليك بقوله: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين} ولمَّا ذكر «الرقاب» أبدل حرف اللام بحرف «في» فقال: «وفِي الرِّقابِ» فلا بدَّ لهذا الفرق من فائدة، وهي أنَّ الأصنافَ الأربعة يدفع إليهم نَصِيبُهُمْ. وأما الباقون فيصرف نصيبهم في المصالح المتعلقةِ بهم لا إليهم. قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ عدل عن اللاَّمِ إلى» فِي «في الأربعة الأخيرة؟ قلت: للإيذان بأنَّهم أرسخُ في استحقاقِ التصدُّق عليهم ممَّن سبق ذكرهُ؛ لأنَّ» في «للوعاء، فنبَّه على أنهم أحقاءُ بأن توضع فيهم الصدقات وجعله مظِنَّة لها ومصَبّاً» . ثم قال: «وتكرير» في «في قوله: {وَفِي سَبِيلِ الله وابن السبيل} فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين» . قوله: والغَارمينَ قال الزجاجث: أصل الغرم في اللغةِ: لزوم ما يشق، والغرام العذاب اللاَّزم، وسمي العشق غراماً، لكونه شاقاً على الإنسان ولازماً له، ومنه: فلان مغرم بالنِّساءِ إذا كان مولعاً بهنَّ، وسمي الدَّين غراماً، لكونه شاقاً، والمرادُ بالغارمين المديونون، فالدِّيْنُ إن حصل بسبب معصيةٍ لا يدخلُ في الآية؛ لأنَّ المقصود من صرف المال إليه الإعانة، والمعصية لا تستوجب الإعانة، وإن حصل لا بسبب معصية فهو قسمان: دينٌ حصل بسبب نفقات ضرورية أو في مصلحة، ودين بسبب حمالات وإصلاح ذات بين، والكل داخل في الآية. روى الأصمُّ في تفسيره «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا قضى بالغرة في الجنين قالت العاقلة: لا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 126 نملك الغرَّة يا رسول الله، فقال لحمل بن مالك بن النَّابغة أعنهم بغرة من صدقاتهم» وكان حمل على الصدقة يومئذ. قوله: {فِي سَبِيلِ الله} قال المفسِّرون: يعني الغزاة، قال أكثرُ العلماء: يجوز له أن يأخذ من الزَّكاة وإن كان غنياً. وقال أبو حنيفة وصاحباه: لا يعطى الغازي إلاَّ مع الحاجة. ونقل القفالُ في تفسيره عن بعض العلماء أنَّهم أجازوا صرف الصدقات إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى، وبناء الحصون، وعمارة المساجد؛ لأن قوله: {وَفِي سَبِيلِ الله} عام في الكل وقال أكثر أهل العلم: لا يعطى منه شيء في الحج. وقال قومٌ: يجوزُ أن يصرف سهم في سبيل الله إلى الحج، يروى ذلك عن ابن عباس وهو قول الحسن، وأحمد، وإسحاق. قوله: {وابن السبيل} وهو كل من يريدُ سفراً مباحاً ولم يكن له ما يقطعُ به المسافة يعطى له قدر ما يقطع به تلك المسافة، وإن كان ذا يسار في بلده. وقال قتادةُ: ابن السبيل: هو الضعيف وقال فقهاءُ العراقِ: ابن السبيل: الحاج المنقطع. واعلم أنَّ مال الزَّكاة لا يخرج عن هذه الثمانية. واختلفوا هل يجوزُ وضعه في بعض الأصناف؟ إذا قلنا يجوز وضعه في بعض الأصناف، فإنَّما يجوز في غير العامل، فأمَّا وضعه بالكليَّةِ في العامل فلا يجوز بالاتفاق. فإن قيل: ما الحكمةُ في أنه تعالى ذكر الأصناف الستة وهم: الفقراء، والمساكين، والعاملون والمؤلفة، والرقاب، والغارمون، بصيغة الجمع، وذكر الصنفين الآخرين، وهما: في سبيل الله وابن السبيل بصيغة الإفراد؟ فالجوابُ: أنَّ المراد بهما الجنس هو جمع حقيقة، ولا يقال: هلاَّ ذكر الأصناف الستَّة بصيغة الإفراد ويكون المراد الجنس كهذين؛ لأنا نقول: لو أفرد في الجميع، فلا يخلو إمَّا أن يفردهم معرفين بالألف واللام للعهد؛ فينصرف بين السَّامع إلى صرف الزَّكاة إلى معهودٍ سابق معين وليس هو المقصود من الآية بالإجماع، وإن أفردهم منكرين، فهم منه أنَّ الزَّكاة لا يجوز دفعها إلى فقير واحد، أو مسكين واحد، وكذلك سائرها، ولا يجوزُ دفعها لاثنين فما زاد، وهو خلاف الإجماع فصل والسَّبيل: الطريقُ، ونسب المسافر إليها لملازمته إيَّاها، ومروره عليها قال بعضُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 127 العلماءِ: إذا كان المسافر غنيّاً في بلده، ووجد من يسلفه فلا يعطى وهو الصحيح. ولا يلزمه أن يدخل تحت مِنَّة أحد إذا وجد منة تعالى. فصل إذا جاء وادَّعى وصفاً من الأوصاف الثمانية، هل يقبل قوله أو يقال: أثبت ما تقولُ؟ أمَّا الدَّينُ فلا بدّ أن يثبته، وأمَّا البقية فظاهرُ الحال يَكْفِي. قوله: «فَرِيضَةً» في نصبها وجهان: أحدهما: أنَّها مصدرٌ على المعنى لأنَّ معنى {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ} في قوة: فرض الله ذلك. والثانيك أنَّها حالٌ من الفقراء، قاله الكرماني، وأبُو البقاءِ. يعنيان من الضمير المستكن في الجار، لوقوعه خبراً، أي: إنَّما الصدقاتُ كائنة لهم حال كونها فريضة، أي: مفروضة. ويجوزُ أن يكون فريضةً حينئذٍ بمعنى مفعولة، وإنَّما دخلت التاءن لجريانها مجرى الأسماء، ك «النَّطيحة» . ويجوزث أن يكون مصدراً واقعاً موقع الحال، ونُقل عن الفرَّاء أنَّها منصوبة على القطع. ثم قال: {والله عَلِيمٌ} بمقادير المصالح {حَكِيمٌ} لا يشرع إلاَّ ما هو الأصوب والأصلح. فصل وهذه الآية المراد بها فريضة الزكاة، فأمَّا صدقة التطوع فيجوزُ دفعها إلى هؤلاء وإلى غيرهم، من بني هاشم ومواليهم، ومن لا يجوز لهم أخذ الزكاة الواجبة، يجوزُ له الأخذ إذا كان غارماً أو مؤلفاً، أو عاملاً. قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي} الآية. وهذا نوع آخر من طعن المنافقين، وهو أنَّهُم كانُوا يقولون في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنه أذن. نزلت في جماعة من المنافقين، كانوا يؤذون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقولون ما لا ينبغي، فقال بعضُهم لا تفعلوا فإنَّا نخافُ أن يبلغه ما نقولُ، فيقع بنا فقال الجلاس بنُ سويد: نقول ما شئنا، ثم نأتيه ونُنْكر ما قلنا، ونحلف فيصدِّقنا بما نقول، إنَّما محمدٌ أذنٌ، أي سامعة، يقال: فلان «أذنٌ وأذنٌ» على وزن «فُعُل» ، إذا كان يسمع كل ما قيل ويقبله. وأصله من «أذن» له «أذَناً» إذا استمع، وقال محمد بن إسحاق بن يسار: «نزلت في رجل من المنافقين يقال له: نبتل بن الحارث، وكان رجُلاً أزلم، ثائر الشعر، أحمر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 128 العينين، أسفع الخدين، مشوَّه الخلقة، وقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث.» وكان ينمّ حديث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المنافقين، فقيل له: لا تفعل فقال: إنَّما محمد أذن، فمن حدَّثه شيئاً صدَّقه؛ فنقول ما شئنا، ثُمَّ نأتيه فنحلف له، فيصدقنا، فنزلت الآية. قال الأصمُّ أظهر الله عن المنافقين وجوه كفرهم التي كانوا يسرونها، لتكون حجة للرسول، ولينزجروا، فقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} [التوبة: 58] {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي} [التوبة: 61] {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله} [التوبة: 75] إلى غير ذلك من الإخبار عن الغيوب، وكل ذلك دليل على كونه نبياً حقاً من عند الله. ومعنى «أذنٌ» أي: أنَّه ليس له ذكاء ولا بعد غور، بل هو سليمُ القلبِ، سريع الاغترار بكل ما يسمع. قوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ} «أذُنُ» خبر مبتدأ محذوف، أي: قل هو أذُنُ خيرٍ والجمهور على جَر خَيْرٍ بالإضافة، وقرأ الحسنُ، ومجاهدٌ، زيد بن علي وأبو بكر عن عاصم «أذُنٌ» بالتنوين، «خَيْرٌ» بالرفع، وفيها وجهان: أحدهما: أنَّها وصف «أذُن» . والثاني: أن يكون خبراً بعد خبر، و «خير» يجوزُ أن يكون وصفاً، من غير تفضيل، أي: أذُنٌ ذُو خير لكم، ويجوزُ أن يكون للتفضيل - على بابها - أي: أكثر خيراً لكم. وجوَّز صاحب اللوامح أن يكون «أذُن» مبتدأ، و «خَيْر» خبرها، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرة؛ لأنَّها موصوفةٌ تقديراً، أي: أذُنٌ لا يؤاخذكم من أذُنٍ يؤاخذكم، ويقال: رجَلٌ أذنٌ، أي: يسمع كل ما يقال، وفيه تأويلان: أحدهما: أنَّهُ سُمِّي بالجارحة؛ لأنَّها آلة السماع، وهي معظم ما يقصد منه؛ كقولهم للربيئة: عَيْنٌ. وقيل: المرادُ ب «الأذُن» هنا الجارجة، وحينئذٍ يكونُ على حذفِ مضاف أي: ذُو أذن. والثاني: أنَّ الأذن وصفٌ على «فُعُل» ، ك «أنُف» و «شُلُل» يقال: أذِنَ يَأذَن، فهو أذُن؛ قال: [الطويل] 2804 - وَقَدْ صِرْت أذْناً لِلوُشَاةِ سَمِيعَةً ... يَنالُونَ مِنْ عِرْضي ولوْ شِئْت ما نَالُوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 129 ومعنى قراءة عاصم: إن كان تقولون إنَّهُ أذُنٌ، فأذن خير لكم، يقبل منكم ويصدقكم خير لكم من أن يكذبكم. ومعنى قراءة الجرِّ: أي: هو أذُنُ خير، لا أذُنُ شر وقرأ نافع «أذْن» ساكنة الذَّال في كلِّ القرآن، والباقون بالضَّم وهما لغتان مثل: عنق وظفر. ثم بيَّن كونه «أذُنُ خَيْرٍ» بقوله: {يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} فجعل تعالى هذه الثلاثة كالموجبة لكونه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «أذُنُ خَيْرٍ» ، أمَّا قوله {يُؤْمِنُ بالله} فلأنَّ كلَّ من آمن بالله كان خائفاً من الله، والخائف من الله لا يؤذي بالباطل. ويُؤمِنُ للمؤمنينَ أي: يسلمُ للمؤمنين قولهم، إذا توافقُوا على قولٍ واحدٍ وهذا بيان كونه سليم القلب. فإن قيل: لِمَ عدي الإيمان باللهِ بالباءِ، وإلى المؤمنين باللاَّم؟ . فالجواب: أنَّ المراد بالإيمان بالله، المراد منه: التَّصديق الذي هو نقيض الكفر فعدي بالباء والإيمان المعدَّى إلى المؤمنين، معناه: الاستماع منهم والتسليم لقولهم فعدي باللاَّم، كقوله: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17] وقوله {فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ} [يونس: 83] وقوله: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111] وقوله {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ} [طه: 71] . وقال ابن قتيبة «هما زائدتان، والمعنى: يصدِّق الله، ويصدِّق المؤمنين» وهذا مردود؛ ويدلُّ على عدم الزيادةِ تغايرُ الحرف الزَّائد، فلو لم يُقصدْ معنًى مستقلٌ، لما غاير بين الحرفين. وقال المبرد: هي متعلقةٌ بمصدرٍ مقدّر من الفعل، كأنَّه قال: وإيمانه للمؤمنين وقيل: يقال: آمنتُ لك، بمعنى: صدَّقتكَ، ومنه {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} [يوسف: 17] . قال شهابُ الدِّينِ وعندي أنَّ هذه اللاَّم في ضمنها «ما» ، والمعنى: ويصدِّق للمؤمنين بما يُخبرونه به وقال أبُو البقاءِ: واللاَّم في للمؤمنين زائدةٌ، دخلت لتفرِّق بين «يُؤمن بمعنى: يُصدِّق، وبين» يؤمن «بمعنى: يثبت الإيمان وقوله: {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} فهذا أيضاً يوجبُ الخير به؛ لأنَّه يجري منكم على الظَّاهرِ، ولا يبالغ في التفتيش على بواطنكم، ولا يهتكُ أستاركم، فدلَّت هذه الأوصاف الثلاثة على وجوب كونه» أذُن خَيْرٍ «وقرأ الجمهورُ» ورَحْمَةٌ «رفعاً نسقاً على» أذُنُ «أي: وهو رحمة للذين آمنوا. وقال بعضهم: هو عطفٌ على» يُؤمن «، لأنَّ» يُؤمن «في محل رفع صفة ل:» أذُن «، تقديره: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 130 أذُن يؤمن ورحمة. وقرأ حمزة والأعمش» ورحمةٍ «بالجر نسقاً على» خيرٍ «المخفوض بإضافة» أذُنُ «إليه، والجملةُ على هذه القراءة معترضةٌ بين المتعاطفين، تقديره: أذُنُ خيرٍ ورحمةٍ. وقرأ ابنُ أبي عبلةٍ:» ورَحْمَةٌ «نصباً على أنَّه مفعول من أجله، والمعلل محذوف، أي: يأذن لكم رحمةً بكم، فحذف لدلالة قوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ} . فإن قيل: كل رحمة خير، فأي فائدة في ذكر الرحمة عقيب ذِكْر الخير؟ [فالجواب: إنَّ أشرف أقسام الخير هو الرحمة، فجاز ذكر الرحمة عقيب ذكر الخير] كقوله: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . ولمَّا بيَّن كونه سبباً للخير والرحمة، بيَّن أنَّ كلَّ من آذاه استوجب العذاب الأليم لأنَّه يسعى في إيصال الخير والرحمة إليهم وهو يقابلون إحسانه بالإساءة، وخيره بالشَّر؛ فلذلك استوجبوا العذاب الأليم. قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ} الآية. وهذا نوع آخر من قبائح أفعال المنافقين، وهو إقدامهم على الأيمان الكاذبة، قال قتادةُ والسديُّ: اجتمع ناس من المنافقين، فيهم الجلاس بنُ سويدٍ، ووديعة بنُ ثابت فوقعوا في النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: إن كان ما يقول محمد حقاً فنحن شرٌّ من الحمير، وكان عندهم غلام من الأنصار، يقال له: عامر بن قيس، فحقَّروه، وقالوا هذه المقالة، فغضب الغلامُ وقال: والله إنَّ ما يقول محمد حق، وأنتم شرٌّ من الحمير ثم أتَى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأخبره فدعاهم، فسألهم؛ فحلفوا أنَّ عامراً كذَّاب وحلف عامر أنهم كذبة، فصدقهم النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجعل عامرٍ يدعو ويقول اللَّهُمَّ صدق الصَّادق وكذب الكاذب، فأنزل اللهُ هذه الآية. وقال مقاتلٌ والكلبيُّ: نزلت في رهطٍ من المنافقين، تخلَّفُوا عن غزوة تبوك فلمَّا رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتوهُ يعتذرون ويحلفون، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} . إنَّما أفرد الضمير، وإن كان الأصلُ في العطف ب «الواو» المطابقة، لوجوهٍ: أحدها: أنَّ رضا الله ورسوله شيءٌ واحد، {مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء: 80] ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 131 {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] ؛ فلذلك جعل الضميرين ضميراً واحداً، تنبيهاً على ذلك. الثاني: أنَّ الضمير عائدٌ على المثنى بلفظِ الواحد بتأويل المذكور؛ كقول رؤبة: [الرجز] 2805 - فِيهَا خُطُوطٌ من سوادِ وبلق ... كأنَّهُ في الجِلْدِ توليعُ البَهَقْ أي: كأن ذلك المذكور، وقد تقدم بيان هذا في أوائل البقرةِ. الثالث: قال المبرد: في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، تقديره: واللهُ أحقُّ أن يرضوه ورسوله وهذا على رأي من يدَّعي الحذف من الثاني. الرابع - وهو مذهب سيبويه -: أنَّه حذف خبر الأوَّل، وأبقى خبر الثَّاني، وهو أحسنُ من عكسه، وهو قول المبرِّدِ؛ لأن فيه عدم الفصل بين المبتدأ أو خبره بالإخبار بالشيء عن الأقرب إليه؛ وأيضاً فهو متعين في قول الشَّاعر: [المنسرح] 2806 - نَحْنُ بِمَا عندنَا وأنتَ بِما ... عِندكَ رَاضٍ والرَّأيُ مُختَلِفُ أي: نحن راضون، حذف «راضُون» ، لدلالةِ خبر الثاني عليه. قال ابنُ عطية: «مذهبُ سيبويه أنَّهُما جملتان، حذفت الأولى، لدلالة الثانية عليها» . قال أبُو حيان: «إن كان الضمير في» أنَّهُمَا «عائداً على كلِّ واحدةٍ من الجملتين، فكيف يقول» حُذفت الأولى «والأولى لم تحذف، إنما حذفَ خبرها؟ وإن كان عائداً على الخبر وهو {أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} فلا يكونُ جملة إلاَّ باعتقاد أن يكون» أن يُرضُوهُ «مبتدأ وخبره» أحَقُّ «مقدماً عليه، ولا يتعيَّنُ هذا القول؛ إذْ يجوزُ أن يكون الخبرُ مفرداً بأن يكون التقدير: أحقُّ بأنْ تُرضُوه» . قال شهابُ الدِّين: إنما أراد ابنُ عطية التقدير الأول، وهو المشهورُ عند المعربين يجعلون «أحقُّ» خبراً مقدَّماً، و «أن يُرْضوهُ» مبتدأ مؤخراً، والله ورسوله إرضاؤه أحقُّ. وقتد تقدم تحرير هذا في قوله: {فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ} [التوبة: 13] . قوله {إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ} شرطٌ جوابه محذوف أو متقدم. فصل قال القرطبيُّ «تضمَّنتْ هذه الآية قبول يمين الحالف، وإن لم يلزم المحلوف له الجزء: 10 ¦ الصفحة: 132 الرضا، واليمين حق للمدَّعي، وأن يكون اليمينُ بالله عزَّ وجلَّ حسبُ. وقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» مَنْ حَلفَ فليَحْلفْ باللهِ أو ليَصْمتْ، ومَنْ حُلفَ لَهُ فليُصدِّق «. قوله: {أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ} الآية. والمقصود من هذه الآية: شرح أحوال المنافقين الذين تخلَّفوا عن غزوة تبوك. قرأ الجمهور «يَعْلمُوا» بياء الغيبة، رَدّاً على المنافقين، وقرأ الحسنُ، والأعرجُ «تَعْلَمُوا» بتاء الخطاب، فقيل: هو التفاتٌ من الغيبة إلى الخطابِ إن كان المرادُ المنافقين. وقيل: الخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأتى بصيغةِ الجمع تعظيماً؛ كقوله: [الطويل] 2807 - فإنْ شِئْتُ حرَّمْتُ النِّساءَ سِواكُمُ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وقيل: الخطابُ للمؤمنين. وبهذه التقادير الثلاثة يختلف معنى الاستفهام، فعلى الأول يكون الاستفهام للتقريع والتوبيخ، كقول الإنسان لمن حاول تعليمه مدة وبالغ في التعليم فلم يتعلم، يقال له ألمْ تتعلَّم؟ وإنما حسن ذلك؛ لأنَّهُ طال مكث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معهم، وكثر تحذيره من معصية الله، والترغيب في طاعة الله. وعلى الثاني يكون للتعجب من حالهم، وعلى الثالث يكون للتقرير. والعلم هنا: يحتمل أن يكون على بابه، فتسدَّ «أن» مسدَّ مفعولين عند سيبويه، ومسدَّ أحدهما والآخرُ محذوفٌ عند الأخفش. وأن يكون بمعنى العرفان، فتسدَّ «أنَّ» مسدَّ مفعوله. و «مَنْ» شرطيَّة، و «فأنَّ لهُ نار» جوابها. وفتحت «أنَّ» بعد الفاءِ، لما تقدَّم في الأنعام. والجملةُ الشرطيةُ في محلِّ رفعِ خبر «أنَّ» الأولى وهذا تخريجٌ واضحٌ. وقد عدل عن هذا التخريج جماعة إلى وجوهٍ أخر، فقال الزمخشريُّ «ويجوزُ أن يكون» فأنَّ لَهُ «معطوفاً» أنَّه «على أنَّ جواب» مَنْ «محذوفٌ، تقديره: ألم يعلموا أنَّه من يُحادد الله ورسوله يهلكْ، فأنَّ لهُ نَار جَهَنَّمَ» وقال الجرمي والمبرد: «أنَّ» الثانية مكررةٌ للتَّوكيد، كأن التقدير: فلهُ نارُ جهنم، وكُرِّرت «أنَّ» توكيداً، وشبَّهه أبو البقاء بقوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء} [النحل: 119] ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا} [النحل: 119] ، قال: والفاءُ على هذا جوابُ الشرط. وردَّ أبو حيان على الزمخشري قوله: بأنَّهم نصُّوا على أنَّه إذا حذف جوابُ الشَّرطِ، لزمَ أن يكون فعلُ الشرط ماضياً، أو مضارعاً مقروناً ب «لَمْ» ، والجوابُ على قوله محذوفٌ وفعل الشَّرطِ مضارعٌ غير مقترنٍ ب «لَمْ» وأيضاً فإنَّا نجدث الكلامَ تامّاً بدون هذا الذي قدَّره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 133 ونُقل عن سيبويه أنَّه قال: الثانيةُ بدلٌ من الأولى. وهذا لا يصحُّ عن سيبويه، فإنَّه ضعيفٌ، أو ممتنع، وقد ضعفه أبو البقاءِ بوجهين: أحدهما: أنَّ الفاء تمانعُ من ذلك والحكمُ بزيادتها ضعيفٌ. والثاني: أنَّ جعلها بدلاً يوجب سقوط جواب «مَنْ» من الكلام. وقال ابنُ عطية «وهذا يُعترضُ بأنَّ الشَّيء لا يبدل منه حتى يستوفى، والأولى في هذا الموضع لم يأتِ خبرها بعد، إذ لم يأتِ جوابُ الشَّرط، وتلك الجملةُ هي الخبرُ، وأيضاً فإنَّ الفاء تُمانعُ البدل، فهي معنى آخر غير ابلدل فيقلقُ البدل» . وقال بعضهم: فتحت على تقدير اللام، أي: فلأنَّ لهُ نار جهنم. وهذه كلُّها تكلُّفاتٌ، لا يحتاج إليها. فالأولى ما تقدم ذكره، وهو أن يكون «أنَّ لهُ نارَ جهنَّمَ» في محل رفع بالابتداء والخبر محذوفٌ، وينبغي أن يقدِّرَهُ متقدماً عليها، كما فعل الزمخشريُّ، وغيرُه، أي: فحقٌّ أنَّ لهُ نار جهنَّم. وقدَّرهُ غيره متأخراً، أي: فأنَّ له نار جهنَّمَ واجبٌ، كذا قدَّره الأخفش وردُّوه عليه بأنَّها لا يبتدأ بها. وهذا لا يلزمه، فإنَّه يجيز الابتداء ب «أنَّ» المفتوحةِ من غير تقديم خبره. وغيره لا يجيز الابتداء بها إلاَّ بشرطِ تقدُّم «أمَّا» ، نحو: أمَّا أنك ذاهبٌ فعندي، أو بشرط تقدُّم الخبر، نحو: عندي أنَّك منطلق. وقيل: «فأنَّ لهُ» خبرُ مبتدأ محذوفٍ أي: فالواجبُ أنَّ لهُ، وهذه الجملةُ التي بعد الفاء مع الفاءِ في محلِّ جزم، جواباً للشَّرط. وقرأ أبو عمرو فيما رواه أبو عبيدة، والحسن، وابن أبي عبلة: «فإنَّ» بالكسر وهي قراءةٌ حسنةٌ قوية، تقدَّم أنَّهُ قرأ بها بعضُ السبعة في الأنعام، وتقدَّم هناك توجيهها. والمحادّة: المخالفةُ، والمعاندةُ، ومجاوزةُ الحدِّ، والمعاداة. قيل: مشتقةٌ من الحد وهو حدُّ السِّلاح الذي يحاربُ به من الحديد. وقيل: من الحد الذي هو الجهةُ كأنه في حدِّ غير حدِّ صاحبه كقولهم: شاقَّه، أي: كان في شقٍّ غير شقِّ صاحبه وعاداه، أي: كان في عدوة غير عدوته. قال ابن عباس: معناه: يخالف الله وقيل: يحارب الله، وقيل: يعاند الله، وقيل: يعادي الله. واختار بعضهم قراءة الكسر، بأنَّها لا تحوج إلى إضمار، ولم يُرْوَ قوله: [الوافر] 2808 - فَمَنْ يَكُ سَائِلاً عَنِّي فإنِّي ... وجِرْوةَ لا تُعارُ ولا تُبَاعْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 134 إلاَّ بالكسرِ. وهذا غيرُ لازمٍ، فإنَّه جاء على أحد الجائزين، و «خَالِداً» نصبٌ على الحال. قال الزجاج: «ويجوز كسر» أنّ «على الاستئناف بعد الفاءِ» . وجهنم: من أسماء النار وحكى أهل اللغة عن العربِ: أنَّ البئر البعيدة القعر تسمى الجهنام، فيجوزُ أن تكون مأخوذة من هذا اللفظ، ومعنى بعد قعرها أنَّه لا آخر لعذابها، وتقدم معنى الخلود، والخزي: قد يكون بمعنى النَّدم، وبمعنى الاستحياء، والمراد به ههنا: النَّدم، لقوله: {وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب} [يونس: 54] . قوله تعالى: {يَحْذَرُ المنافقون} الآية. قال قتادة «هذه السُّورة كانت تُسمَّى الفاضحة، والحافرة، والمبعثرة، والمثيرة، أثارت مخازيهم ومثالبهم» قال ابن عباسٍ: «أنزل اللهُ تعالى ذكر سبعين رجلاً من المنافقين بأسمائهم، وأسماء آبائهم، ثم نسخ ذكر الأسماء رحمة على المؤمنين، لئلاَّ يُعيّر بعضهم بعضاً؛ لأن أولادهم كانوا مؤمنين» . وقال الجبائيُّ: «اجتمع اثنا عشر رجلاً من المنافقين على النِّفاقِ، وأخبر جبريل الرسول بأسمائهم، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» إنَّ أناساً اجتمعُوا على كَيْت وكَيْت، فليقُومُوا وليعتَرِفُوا وليسْتغفِرُوا ربَّهم حتَّى أشفع لهُمْ «فلم يقوموا، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بعد ذلك» قُمْ يا فلانُ ويا فلانُ «حتى أتى عليهم ثم قالوا: نعترف ونستغفر فقال:» الآن أنَا كُنْتُ في أوَّل الأمْرِ أطيب نَفْساً بالشَّفَاعةِ، والله كانَ أسْرعَ في الإجابةِ، اخرُجُوا عنِّي «فلم يزلْ يقول حتى خرجوا بالكليَّةِ.» وقال الأصمُّ: إنَّ «عند رجوع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من تبوك وقف له على العقبة اثنا عشر رجلاً ليفتكوا به؛ فأخبره جبريل، وكانوا متلثمين في ليلة مظلمة، وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، فأمر حذيفة بذلك فضربها حتى نحاهم ثم قال:» مَنْ عرفت من القوْمِ «؟ فقال: لم أعرف منهم أحداً، فذكر النبيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أسماءهم وعدهم له، وقال:» إنَّ جبريل أخبرني بذلك «فقال حذيفة: ألا تَبْعَثُ إليه فتقتلهم، فقال:» أكره أن تقول العرب قاتل أصحابه حتَّى إذا ظفر صار يقتلهم، بل يَكْفِينَاهُمُ اللهُ بالدبيلة «. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 135 فإن قيل: الكافرُ منافق، فكيف يحذرُ نزول الوحي على الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -؟ فالجوابُ، من وجوه: أحدها: قال أبُو مسلم:» هذا حذر أظهرهُ المنافقون استهزاء حين رأوا الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يذكر كلَّ شيء ويدعي أنَّهُ عن الوحي، وكان المنافقُون يكذبون بذلك فيما بينهم، فأخبر الله رسوله بذلك، وأمره أن يعلمهم أنَّه يظهر سرهم الذي حذروا ظهره، ويدلُّ على ذلك قوله: استَهْزئُوا «. وثانيها: أنَّ القوم وإن كانوا كافرين بدين الرسول إلا أنَّهم شاهدوا أنَّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يخبرهم بما يفسرونه، فلهذه التجربة وقع الحذر والخوف في قلوبهم. وثالثها: قال الأصمُّ: إنَّهم كانوا يعرفونه كونه رسولاً حقاً من عند الله، إلاَّ أنَّ كفرهم كان حسداً وعناداً. ورابعها: معنى الحذر الأمر بالحذر، أي: ليحذر المنافقون ذلك. وخامسها: أنَّهم كانُوا شاكين في صحَّة نبوته، والشَّاك خائف، فلهذا خافوا أن ينزل عليه في أمرهم ما يفضحهم. قوله:» أَن تُنَزَّلَ «مفعولٌ به، ناصبه» يَحْذَرُ «، فإنَّ» يَحْذَرُ «متعدٍّ بنفسه كقوله تعالى: {وَيُحَذِّرْكُمُ الله نَفْسَهُ} [آل عمران: 28] ، لولا أنه متعدِّ في الأصل لواحدٍ، لما اكتسب بالتضعيف مفعولاً ثانياً؛ ويدلُّ عليه أيضاً ما أنشده سيبويه: [الكامل] 2809 - حَذِرٌ أمُوراً لا تَضِيرُ وآمِنٌ ... مَا لَيْسَ مُنْجِيَهُ مِنَ الأقْدَارِ وفي البيت كلامٌ، قيل: إنه مصنوع. وقال المبردُ: إنَّ» حَذِر «لا يتعدَّى، قال: لأنَّهُ من هيئات النفس، ك» فَزع «. وهذا غير لازم. فإنَّ لنا من هيئات النفس ما هو متعدٍّ ك:» خاف «، وخشي، فإنَّ» تُنَزَّل «عند المبرد على إسقاط الخافض أي: مِنْ أن تُنَزَّل. وقوله: «تُنَبِّئُهُمْ» في موضع الرفع صفةً ل «سورة» . قال الزمخشريُّ «الضميرُ في قوله» عليهم «و» تنبّئهم «للمؤمنين، و» في قُلُوبهمْ «للمنافقين، ويجوزُ أيضاً أن تكون الضمائرُ كلها للمنافقين؛ لأنَّ السُّورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم، ومعنى» تُنبِّئُهم بما في قلوبهم «أنَّ السورة كأنَّها تقول لهم في قلوبكم كيت وكيت، يعني أنَّها تذيع أسرارهم إذاعة ظاهرة فكأنَّها تخبرهم بها» . ثم قال: {قُلِ استهزءوا} هذا أمر تهديد، {إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ} . قوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ} الآية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 136 قال الكلبي، ومقاتل، وقتادةُ: «إنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يسير في غزوة تبوك وبين يديه ثلاثة نفر من المنافقين، اثنان يستهزئان بالقرآن والرسول، والآخر يضحك. قيل: كانوا يقولون: إنَّ محمداً يزعم أنه يغلب الروم، ويفتح مدائنهم، هيهات هيهات ما أبعده عن ذلك. وقيل: كانوا يقولون: إنَّ محمداً يزعمُ أنَّهُ نزل في أصحابنا المقيمين بالمدينة قرآن، وإنما هو قوله وكلامه، فأطع اللهُ نبيهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ذلك فقال:» احبسُوا الرَّكبَ عليَّ «فدعاهُم وقال لهُم:» قُلْتُم كذا وكذا «فقالوا: إنَّما كُنَّا نتحدثُ ونخوض في الكلامِ، كما يفعلُ الرَّكبُ لقطع الطريق بالحديث واللعب.» قال ابن عمر: «رأيتُ عبد الله بن أبيّ يشتد قدام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والحجارة تنكيه، وهو يقولُ:» إنَّما كُنَّا نخوضُ ونلعبُ «. ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول» أباللهِ وآياتهِ ورسولهِ كُنتُم تَسْتهزِئُونَ «. ولا يلتفتُ إليه.» وقال أبُو مسلم: قوله: {يَحْذَرُ المنافقون أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم} التوبة: 64 إنَّ القوم أظهروا هذا الخبر استهزاء، فبيَّن تعالى في هذه الآية أنَّهُ إذا قيل لهم: لِمَ فعلتُم ذلك؟ قالوا: لم نقل ذلك إلاَّ لأجل أنا كنا نخوض ونلعب. فصل في بيان أصل الخوض قال الواحديُّ: أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين، ثم كثر حتى صار اسماً لكل دخول فيه تلويث وأذى، والمعنى: إنَّما كُنَّا نخوضُ في الباطل من الكلام كما يخوض الركب لقطع الطريق، فأجابهم الرسولُ بقوله: «أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون» . قوله: « ... أباللهِ ... » متعلقٌ بقوله: «تَستهْزئُونَ» . و «تَسْتهْزِئُونَ» خبرُ «كان» وفيه دليلٌ على تقديم خبر «كان» عليها؛ لأنَّ تقديم المعمول يؤذن بتقديم العامل، وقد تقدَّم معمول الخبر على «كان» فليَجُزْ تقديمه بطريق الأولى. وفيه بحث، وذلك أنَّ ابن مالك قدح في هذا الدَّليل، بقوله تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 9، 10] قال: ف «اليتيم» ، والسائل قد تقدما على «لا» الناهية، والعاملُ فيهما ما بعدهما ولا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 137 يجوز تقديم ما بعد «لا» الناهية عليها، لكونه مجزوماً بها، فقد تقدَّم المعمولُ، حيث لا يتقدَّم للعامل ذكر، ذكر ذلك عند استدلالهم على جواز تقديم خبر «ليس» بقوله {أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ} [هود: 8] . فصل فرق بين قولك: أتستهزىء بالله، وبين قولك: أبالله تستهزىء، فالأوَّلُ يقتضي الإنكار على عمل الاستهزاء، والثاني يقتضي الإنكار على إيقاع الاستهزاء في الله، كأنه يقول: هَبْ أنك تقدم على الاستهزاء إلا أنه كيف أقدمت على إيقاع الاستهزاء في الله كقوله تعالى: {لاَ فِيهَا غَوْلٌ} [الصافات: 47] والمقصود: ليس نفي الغول، بل نفي أن يكون خمر الجنَّة محلاًّ للغول. ومعنى الاستهزاء بالله: هو الاستهزاء بتكاليفِ الله، والاستهزاء بذكر الله، فإنَّ أسماء الله قد يستهزىء بها الكافرُ، كما أنَّ المؤمن يعظمها. والمرادُ بالاستهزء ب «آيَاتِهِ» هو القرآن، وسائر ما يدلُّ على الدين، والرسول معلوم. قوله: {لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ} . نقل الواحديُّ عن أهل اللغة في لفظ الاعتذار قولين، الأول: أنَّه عبارة عن محو أثر الذنب، وأصله من: تعذرت المنازل، أي: دَرَسَتْ، وامَّحت آثارها؛ قال ابن أحمر: [البسيط] 2810 - قَدْ كُنتَ تَعْرفُ آياتٍ فقدْ جَعَلتْ ... أطْلالُ إلفِكَ بالوَعْسَاءِ تَعْتَذِرُ فالمعتذر يزاولُ محو ذَنْبِهِ. والثاني: قال ابنُ الأعرابي: أصله من العذر، وهو القطع، ومنه العُذْرة؛ لأنَّها تقطع بالافتراغ. ويقولون: اعتذرت المياه، أي: انقطعت، فكأنَّ المعتذر يحاولُ قطع الذمّ عنه. قوله: {قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} يدلُّ على أنَّ الاستهزاء بالدِّين كيف كان كفراً؛ لأنه استخفاف بالدين، والعمدة في الإيمان تعظيم الله تعالى، ويدل على أنَّ القول الذي صدر منهم كان كفراً في الحقيقة. فإن قيل: كيف قال {كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} وهم لم يكونوا مؤمنين؟ فالجواب: قال الحسنُ: أظهرتم الكفر بعد ما أظهرتم الإيمان. فصل قال ابنُ العربي: «لا يخلو ما قالوا من أن يكون جداً، أو هزلاً، وهو كيفما كان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 138 كفراً فإنَّ القول بالكفر كفر بلا خلاف بين الأئمة، قال تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين} [البقرة: 67] . فصل اختلفوا في الهزل في سائر الأحكام كالبيع والنكاح والطلاق، قيل: يلزم وقيل: لا يلزم، وقيل: يفرق بين البيع وغيره. فيلزمُ في النكاح والطلاق، ولا يلزم في البيع وحكى ابنُ المنذر الإجماع في أن جدَّ الطلاق وهزله سواء. وروى أبو داود والترمذي والدارقطني عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ثلاثٌ جِدُّهُنَّ جد وهزلهُنَّ جِدّ، النِّكاحُ والطلاقُ والرَّجْعَةُ « قال الترمذيُّ «حديث حسن، والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وغيرهم» . قال القرطبي: «وفي الموطأ عن سعيد بن المسيِّب قال ثلاث ليس فيهن لعب النكاح والطلاق والعتق» . قوله: « ... إن نَعْفُ» قرأ عاصم «نَعْفُ» بنون العظمة، «نعذِّب» كذلك، «طَائفَة» نصباً على المفعول به، وهي قراءة أبي عبد الرحمن السُّلمي، وزيد بن علي. وقرأ الباقون «يُعْفَ» في الموضعين بالياء من تحت مبنياً للمفعول، ورفع «طَائفةٌ» ، على قيامها مقام الفاعل والقائمُ مقام الفاعل في الفعل الأوَّلِ الجارُّ بعده. وقرأ الجحدريُّ «إن يَعْفُ» بالياء من تحت فيهما، مبنياً للفاعل، وهو ضميرُ الله تعالى، ونصب «طائفة» على المفعول به. وقرأ مجاهدٌ «تُعْف» بالتاء من فوق فيهما، مبنياً للمفعول، ورفع «طائفة» ، لقيامها مقام الفاعل. وفي القائم مقام الفاعل في الفعل الأوَّل وجهان: أحدهما: أنَّهُ ضمير الذنوب، أي: إن تُعْفَ هذه الذنوب. والثاني: أنَّه الجارُّ، وإنَّما أنِّث الفعل حملاً على المعنى. قال الزمخشريُّ «الوجه التذكير؛ لأنَّ المسند إليه الظرفُ، كما تقول: سِيرَ بالدَّابة، ولا تقول: سِيرت بالدَّابة، ولكنه ذهب إلى المعنى، كأنه قيل: إن تُرْحَمْ طائفة فأنَّث لذلك، وهو غريبٌ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 139 فصل قال مجاهدٌ: وابن إسحاق: الذي عُفِيَ عنه رجل واحد، وهو مخاشن بنُ حمير الأشجعي، يقال هو الذي كان يضحكُ ولا يخوض، وكان يمشي مجانباً لهم، وينكر بعض ما يسمع فلمَّا نزلت هذه الآية تاب من نفاقه، وقال: اللَّهُمَّ إني لا أزال أسمعُ آية تَقْرَعُني بها تقشعر الجلودُ، وتجب منها القلوبُ، اللهم اجعل وفاتي قتلاً في سبيلك، لا يقولُ أحدٌ: أنا غسلت، أنا كفنت، أنا دفنت، فأصيب يوم اليمامة ولم يعرف أحد من المسلمين مصرعه. فصل ثبت بالروايات أنَّ الطائفتين كانوا ثلاثة؛ فوجب أن تكون إحدى الطَّائفتين إنساناً واحداً. قال الزجاجُ: والطَّائفة في اللغةِ أصلها الجماعة؛ لأنَّها المقدار الذي يمكنها أن تطيف بالشيء ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة، قال تعالى {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين} [النور: 2] . وأقله الواحد، وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال: الطائفة الواحد فما فوقه، وقال تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا} [الحجر: 9] . قال ابن الأنباري: العرب توقع لفظ الجمع على الواحد، فتقولُ: خرج فلانٌ إلى مكَّة على الجمال، وقال تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] يعني: نعيم بن مسعود، ثم إنه تعالى علَّل تعذيبه لهم: {بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 قوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} الآية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 140 لمَّا شرح أنواع قبائح أفعالهم، بيَّن أنَّ إناثهم كذكورهم في تلك الأعمال المنكرة. قوله: {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} مبتدأ وخبر، أي: من جنس بعضن ف «من» هنا لبيان الجنس وقيل: للتبعيض، أي: إنَّهم إنما يتوالدون بعضهم من بعض على دينٍ واحدٍ، وقيل: أمرهم واحد بالاجتماع على النفاقِ، ثمَّ فصَّل هذا الكلام فقال: «يَأْمُرُونَ بالمنكر» . هذه الجملةُ لا محلَّ لها؛ لأنَّها مفسرةٌ لقوله: «بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ» ، وكذلك ما عطف على «يَأْمُرُون» ولفظ المنكر يدخلُ فيه كل قبيح، ولفظ المعروف يدخلُ فيه كل حسن، إلاَّ أنَّ الأعظم ههنا من المنكر يدخلُ فيه كل قبيح، ولفظ المعروف يدخلُ فيه كل حسن، إلاَّ أنَّ الأعظم ههنا من المنكر الشرك والمعصية، والمراد الأعظم ههنا من المعروف الإيمان بالرسول {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي: يمسكونها عن الصَّدقة، والإنفاق في سبيل الله. {نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ} تركوا طاعة الله فتركهم من توفيقه وهدايته في الدُّنيا ومن رحمته في العقبى. وإنَّما حملنا النِّسيان على التَّركِ، لأنَّ من نسي شيئاً لم يذكره، فجعل اسم الملزوم كناية عن اللاَّزم، ولأنَّ النسيان ليس في وسع البشر، وهو في حق الله تعالى محال فلا بد من التأويل، وهو ما ذكرنا من التَّرك؛ لأنَّهم تركوا أمر الله حتى صارُوا كالنسي المنسي، فجازاهم بأنَّ صيَّرهم كالشَّيء المنسيّ، كقوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ثم قال: {إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} أي: الكاملُونَ في الفِسْقِ. قوله تعالى: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات} الآية. قال القرطبيُّ وغيره: يقالُ: وعد الله بالخير وعْداً، ووعدَ بالشَّر وعيداً. وقيل: لا يقال من الشر إلاَّ «أوْعدته» و «توعدته» وهذه الآية رد عليه. لمَّا بيَّن في المنافقين والمنافقات أنه نسيهم، أي: جازاهم على تركهم التَّمسك بطاعةِ الله، أكَّد هذا الوعيد وضمَّ المنافقين إلى الكفار فيه، فقال: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ} الآية. وقوله: «خالدين» حالٌ من المفعول الأول للوعد، وهي حالٌ مقدرةٌ؛ لأنَّ هذه الحال لم تقارن الوعد. وقوله: «هِيَ حَسْبُهُم» لا محلَّ لهذه الجملة الاستئنافية. والمعنى: أنَّ تلك العقوبة كافية لهم ولا شيء أبلغ منها، ولا يمكنُ الزيادة عليها. ثم قال: {وَلَعَنَهُمُ الله} أبعدهم الله من رحمته، {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} دائم. فإن قيل: معنى المقيم والخالد واحد فيكون تكراراً. فالجوابُ: من وجهين: الأول: أنَّ لهم نوعاً آخر من العذاب المقيم الدائم سوى العذاب بالنَّار والخلود المذكور أولاً، ولا يدل على أنَّ العذاب بالنَّارِ دائم. وقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} يدلُّ على أنَّ لهم مع ذلك نوعاً آخر من العذابِ. فإن قيل هذا مشكل؛ لأنه قال في النَّار المخلدة: «هِيَ حَسْبُهُم» وكونها حسباً يمنع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 141 من ضمّ شيء آخر إليه. فالجوابُ: أنَّها حسبهم في الإيلام، ومع ذلك يضم إليه نوع آخر زيادة في تعذيبهم. والثاني: أنَّ المراد بقوله: {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ} العذاب العاجل الذي لا ينفك عنهم وهو ما يُقاسُونَه من الخوف من اطلاع الرسول على بواطنهم، وما يحذرونه من أنواع الفضائح. قوله: {كالذين مِن قَبْلِكُمْ} . فيه أوجه: أحدها: أنَّ هذه الكاف في محلِّ رفعٍ، تقديره: أنتم كالذين، فهي خبر مبتدأ محذوف. الثاني: أنَّها في محلِّ نصب. قال الزجاجُ: المعنى: وعد كما وعد الذين من قبلكم فهو متعلقٌ ب «وَعَدَ» . قال ابن عطيَّة «وهذا قلقٌ» . وقال أبو البقاءِ: ويجُوز أن يكون متعلقاً ب {تَسْتَهْزِءُونَ} [التوبة: 65] . وفي هذا بعدٌ كبيرٌ. وقوله: «كانُوا أشدَّ» تفسيرٌ لشبههم بهم، وتمثيل لفعلهم بفعلهم، وجعل الفراءُ محلَّها نصباً بإضمار فعلٍ، قال: «التَّشبيهُ من جهة الفعل، أي: فعلتم كما فعل الذين من قبلكم» فتكون الكافُ في موضع نصب. وقال أبو البقاءِ: «الكافُ في موضع نصب نعتاً لمصدر محذوف وفي الكلام حذف مضافٍ، تقديره: وعداً كوعد الذين» . وذكر الزمخشريُّ وجه الرفع المتقدم، والوجه الذي تقدم عن الفراء، وشبَّهه بقول النمر بن تولب: [الكامل] 2811 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كاليَوْم مَطْلُوباً ولا طَلَبَا بإضمار: «لَمْ أرَ» . قوله: «كَمَا اسْتَمْتَعَ» الكافُ في محلِّ نصب، نعتاً لمصدر محذوف، أي: استمتاعاً كاستمتاع الذين. قوله: {كالذي خاضوا} الكافُ كالَّتي قبلها. وفي «الَّذِي» وجوهٌ: أحدها: أنَّ المعنى: وخضتم خوضاً كخوض الذين خاضوا، فحُذفت النُّونُ تخفيفاً، أو وقع المفردُ موقع الجمع وقد تقدَّم تحقيقه في أوائل البقرةِ، فحذف المصدرُ الموصوفُ، والمضافُ إلى الموصول وعائدُ الموصول تقديره: خاضوه، والأصل: خاضوا فيه؛ لأنَّهُ يتعدَّى ب «في» فاتَّسع فيه فحذف الجارُّ، فاتصل الضميرُ بالفعل، فساغ حذفه، ولولا هذا التَّريجَ لما ساغَ الحذف، لما تقدم أنَّهُ متى جُرَّ العائد بحرف اشترط في جواز حذفه جرُّ الموصول بمثل ذلك الحرف وأن يتحد التعلَّق مع شروط أخر تقدمت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 142 الثاني: أنَّ «الذي» صفةٌ لمفردٍ مُفهم للجمع، أي: وخضتم خَوَْضاً كخوض الفوج الذي خاضُوا، أو الفريق الذي خاضوا والكلامُ في العائد كما سبق قبل. قال بعضُ المفسِّرين: «الَّذي» اسم ناقص مثل «ما، ومن» ، يعبَّر عن الواحد والجمع، كقوله تعالى: {كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً} ثم قال {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] . الثالث: أن «الَّذي» من صفة المصدر، والتقدير: وخضتم خوضاً كالخوضِ الذي خاضوه وعلى هذا فالعائدُ منصوبٌ من غير واسطةِ حرفِ جر. وهذا الوجهُ ينبغي أن يكون هو الراجح، إذ لا محذور فيه. والرابع: أنَّ «الذي» تقعُ مصدرية، والتقدير: وخضتم خوضاً. ومثله: [البسيط] 2812 - فَثَبَّتَ الهُ ما آتَاكَ مِنْ حسبٍ ... في المُرسلينَ ونَصْراً كالَّذِي نُصِرُوا أي: كنَصْرهم. وقول الآخر: [البسيط] 2813 - يَا أمَّ عَمْرو جَزاكِ اللهُ مَغْفِرةً ... رُدِّي عليَّ فُؤادِي كالذي كَانَا أي: ككون. وقد تقدَّم أنَّ هذا مذهب الفراء، ويونس، وقد تقدَّم تأويل البصريين لذلك قال الزمخشريُّ «فإن قلت: أيُّ فائدة في قوله: {فاستمتعوا بِخَلاقِهِمْ} ، وقوله {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} مغنٍ عنه، كما أغْنَى» كالَّذِي خَاضُوا «؟ قلت: فائدته أن يذُمَّ الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدُّنيا، ورضاهم بها عن النَّظرِ في العاقبة، وطلب الفلاح في الآخرة، وأن يُخَسِّس أمر الاستمتاع ويُهَجِّن أمر الراضي به، ثم شبَّه حال المخاطبين بحالهم، وأمَّا {وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا} فمعطوفٌ على ما قبله ومسندٌ إليه، مُسْتَغْنٍ بإسناده إليه عن تلك المقدمة يعني: أنه استغنى عن أن يكون التَّركيبُ: وخاضُوا، فخضتم كالذي خاضوا» . وفي قوله {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ} إيقاعٌ للظَّاهر موقع المضمر، لنُكتَةٍ، وهو أنَّه كان الأصلْ: فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتعوا بخلاقهم؛ فأبرزهم بصورةِ الظَّاهر تحقيراً لهم، كقوله: {لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} [مريم: 44] ، وكقوله قبل ذلك: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} ، ثم قال: {إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] وهذا كما يدلُّ بإيقاع الظَّاهر موقع المضمر على التفخيم والتعظيم، يدُلُّ به على عكسه، وهو التَّحقير. فصل معنى الآية: إنَّكُم فعلتم كفعل الذين من قبلكم، بالعدولِ عن أمر الله والأمر بالمنكر، والنهي عن المعروف، وقبض الأيدي عن الخيرات، و {كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 143 بَطْشاً ومنعَةً، {وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً} إنما استمتعوا مدة بالدُّنيا، باتباع الشَّهوات، ورضوا به عوضاً عن الآخرة، {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ} ، والخلاق: النصيب وهو ما قدر للإنسان من خير. {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ} وسلكتم سبيلهم «وخُضْتُم» في الباطلِ والكذب على الله وتكذيب رسله، والاستهزاء بالمؤمنين، «كالذي خاضوا» أي: كما خاضوا. {أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة} أي: بطلت حسناتهم في الدُّنيَا بسبب الموت والفقر والانتقال من العزِّ إلى الذُّل ومن القوة إلى الضَّعْفِ، وفي الآخرة؛ لأنَّهُم لا يثابون بل يعاقبون أشد العقاب. {َأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون} حيثُ أتعبوا أنفسهم في الردِّ على الأنبياء، ولم يجدوا منه إلا فوات الخير في الدُّنيا والآخرة، فكما حبطت أعمالهم وخسروا حبطت أعمالكم وخسرتم. روى أبو سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لتتَّبِعُنَّ سُنَنَ من قبلكمُ شِبْراً بِشبرٍ، وذِرَاعاً بذرَاع، حتَّى إذا دخلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لاتَّبعْتُموهُمْ» قيل: يا رسول الله اليهود والنصارى قال: «فَمَنَّ؟» وفي رواية أبي هريرة: فهل النَّاسُ إلاَّ هُمْ؟ فلهذا قال في المنافقين «بَعْضُهم من بَعْضٍ» ، وقال في المؤمنين: «بَعْضُهمْ أولياءُ بَعْض» أي: في الدِّين واتفاق الكلمة، والعون، والنصرة، «يَأْمُرُونَ بالمَعْرُوفِ» بالإيمان والطَّاعة والخير، وقد تقدَّم الكلام على «يَأمُرونَ بالمَعْرُوفِ» . «ويَنْهونَ عن المُنكَرِ» عن الشِّرك والمعصية، وما لا يعرف في الشَّرع «ويُقِيمُونَ الصَّلاة» المفروضة {وَيُؤْتُونَ الزكاة وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله} فالسين للاستقبال، إذ المراد رحمةٌ خاصةٌ، وهي ما خبَّأه لهم في الآخرة. وادَّعَى الزمخشريُّ: أنَّها تُفيدُ وجوب الرحمةِ وتوكيد الوعدِ والوعيد، نحو: سأنتقم منك، يعني لا تفوتني وإن تباطأ ذلك، ونظيره {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} [مريم: 96] {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ} [الضحى: 5] {سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ} [النساء: 152] . ثم قال: {إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} وذلك يوجبُ المبالغة في التَّرغيب والتَّرهيب؛ لأنَّ العزيز هو الذي لا يمنعُ من مراده في عباده من رحمة أو عقوبة، والحكيمُ هو المدبر أمر عبادة على ما تقتضيه الحكمة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 144 قوله: {وَعَدَ الله الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} [التوبة: 72] . والأقرب أنه تعالى أراد بها البساتين التي تبنى فيها المناظر؛ لأنَّهُ تعالى قال بعده {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} والمعطوفُ يجبُ أن يكون مغايراً للمعطوف عليه فتكون مساكنهم في جنَّات عدنٍ ومناظرهم التي هي البساتين، وتكون فائدة وصفها بأنَّها عدنٌ، أنَّها تجري مجرى دار السَّكن والإقامة. وقوله: «خَالِدِينَ» حالٌ مقدَّرة، كما تقدَّم. وقوله: {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} أي: منازل طيبة {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي: خلد وإقامة، وفي «عدن» قولان: أحدهما: أنَّهُ اسم على لموضع معين في الجنَّةِ. قال عبدُ الله بنُ عمرو «إنَّ في الجنَّة قصراً يقال له عدنٌ، حوله البروج وله خمسة آلاف باب على كلِّ باب خمسة ألاف حرة، لا يدخله إلاَّ نبيٌّ، أو صديقٌ أو شهيدٌ» . قال الزمخشريُّ: و «عدن» علم بدليل قوله {جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ} [مريم: 61] . والقول الثاني: أنه صفة للجنة. قال الأزهريُّ: «العَدْنُ» مأخوذ من قولك: عَدَنَ بالمكان إذا أقام به، يَعْدِنث عُدوناً. وتقول: تركت إبل بني فلان عوادن بمكان كذا، وهو أن تلزم الإبل المكان فتألفه، ومنه المعدن، لمُسْتقرِّ الجواهر. يقال: عدن عُدُوناً، فله مصدران. هذا أصلُ هذه اللفظة لغة. وذكر المفسِّرون لها معان كثيرة وقال الأعشى في معنى الإقامة [المتقارب] 2814 - وإنْ يَسْتَضِيفُوا إلى حِلْمِهِ ... يُضَافُوا إلى رَاجِحٍ قَدْ عَدَنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 145 أي: ثَبَتَ واستقرَّ. ومنه «عدن» لمدينة باليمن، لكثرة المقيمين بها. قوله: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} التَّنكيرُ يفيدُ التقليل، أي: أقلُّ شيء من الرضوان أكبر من جميع ما تقدَّم من الجنَّات ومساكنها. ثم قال: {ذلك هُوَ الفوز العظيم} أي: هذا هو الفوزُ العظيمُ، لا ما يطلبه المنافقون والكفار من التنعم بطيبات الدنيا. روى أبو سعيدٍ الخدريُّ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ لأهل الجنَّة: يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك، فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: ربنا أي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول:» أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم أبداً «. قوله تعالى: {يا أيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين} الآية. لمَّا وصف المنافقين بالصِّفات الخبيثةِ، وتوعدهم بأنواع العقاب، ثمَّ ذكر المؤمنين بالصفات الحسنة، ووعدهم بالثَّوابِ، عاد إلى شرح أحوال الكُفَّارِ والمنافقين في هذه الآية. فإن قيل: مجاهدة المنافقينَ غيرُ جائزة، فإنَّ المنافق يستر كفره وينكره بلسانه. فالجوابُ من وجوه: أحدها: قال الضحاكُ: مجاهدة المنافق: تغليظُ القول، وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ ظاهر قوله {جَاهِدِ الكفار والمنافقين} يقتضي الأمر بجهادهما معاً، وكذا ظاهر قوله: {واغلظ عَلَيْهِمْ} راجع إلى الفريقين. وثانيها: أنَّ الجهاد عبارة عن بذل الجهد وليس في اللفظ ما يدلُّ على أنَّ الجهاد بالسَّيف أو باللِّسانِ أو بطريق آخر. فقال ابن مسعودٍ: بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لَمْ يَسْتَطعْ فبقَلبِهِ. وقال: لا يلقى المنافق إلاَّ بوجه مكفهر. وقال ابنُ عبَّاسٍ: باللِّسانِ وترك الرفق. وثالثها: قال الحسنُ وقتادةُ: بإقامةِ الحدودِ عليهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 146 قال القاضي: وهذا ليس بشيء؛ لأنَّ إقامة الحدود واجبةٌ على من ليس بمُنافقٍ. قوله: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} قال أبُو البقاءِ: إن قيل كيف حسنتِ الواوُ هنا والفاء أشبه بهذا الموضع؟ ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّ الواو واو الحالِ والتقدير: افعل ذلك في حال استحقاقهم جهنَّم، وتلك الحال حال كفرهم ونفاقهم. والثاني: أنَّ الواو جيء بها تنبيهاً على إرادة فعل محذوف، تقديره: واعلمْ أنَّ مأواهم جهنم. الثالث: أنَّ الكلام حمل على المعنى والمعنى أنَّه قد اجتمع لهم عذابُ الدُّنيا بالجهاد والغلظة، وعذابُ الآخرة بجعل جهنَّم مأواهم. ولا حاجة إلى هذا كُلِّه، بل هي جملةُ استثنافية. قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ} الآية. قال ابنُ عبَّاسٍ: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جالساً في ظلِّ شجرةٍ، فقال: «إنهُ سيَأتِيكُمْ إنْسانٌ ينْظرُ إليْكُمْ بعيْنِ الشَّيطانِ، فإذا جَاءَ فلا تُكَلِّمُوهُ» فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: «عَلامَ تَشْتمُنِي أنْتَ وأصْحَابُكَ» فانطلق الرَّجُل؛ فجاء بأصحابه، فحلفُوا بالله ما قالوا، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ الآية. وقال الكلبيُّ: نزلت في جلاس بن سويدٍ، وذلك أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطب ذات يوم بتبوك، فذكر المنافقين، فسمَّاهم رجْساً وعابهم، فقال جلاسٌ: لئن كان محمد صادقاً، لنحنُ شرٌّ من الحمير فلمَّا انصرف رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة أتاه عامر بن قيس، وأخبره بما قال جلاس، فقال الجلاس: كذب يا رسول الله؛ فأمرهما رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحلفا عند المنبر؛ فقام الجلاسُ عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلاَّ هو ما قاله، ولقد كذب عليَّ عامر، فقام عامرٌ فحلف بالله الذي لا إله إلا هو: لقد قاله، وما كذبتُ عليه، ثم رفع عامرٌ يديه إلى السَّماء فقال: اللَّهُمَّ انزلْ على نبيِّكَ تصديق الصادقِ منَّا. فقال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنون: «آمين» ، فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتَفرَّقُوا بهذه الآية، حتى بلغ {فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ} ، فقام الجلاسُ، فقال: يا رسول الله، وأتوب إليه، فقبلَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك منه، ثم تاب وحَسُنَتْ توبتُه. وقيل: نزلت في عبد الله بن أبيّ لما قال {يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 147 الأَذَلَّ} [المنافقون: 8] . وأراد به الرسول - عليه الصَّلاة والسلام -، فسمع زيدُ بنُ أرقم ذلك وبلغه إلى الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فهمَّ عمرُ بقتل عبد الله بن أبيّ، فجاء عبد الله وحلف أنَّهُ لم يقل فنزلت الآية. وقال القاضي: الأولى أن تحمل هذه الآية على ما روي أنَّ المنافقين همُّوا بقتله عند رجوعه من تبوك، وهم خسمة عشر رجلاً تعاهدوا أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي باللَّيل، وكان عمَّار بن ياسر آخذاً بخطام راحلته وحذيفة خلفها يسوقها، فسمع حذيفة وقع أخفاف الإبل، وقعقة السلاح، فالتفت، فإذا قوم متلثمُون. فقال: إليكم يا أعداء الله، فهربوا والظَّاهر أنهم لمَّا اجتمعوا لذلك الغرض، فقد طعنوا في نبوته ونسبوه إلى الكذب في ادِّعاءِ الرسالة، وذلك هو قولهم كلمة الكفر وهذا القول اختيار الزجاج. فإن قيل: قوله: {وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ} يدلُّ على أنَّهم أسلمُوا من قبل، وهم لم يكونوا مسلمين. فالجوابُ: أنَّ المراد من الإسلام السلم الذي هو ضد الحرب؛ لأنَّهم لمَّا نافقوا، فقد أظهروا الإسلام، وقوله: {وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ} المراد إطباقهم على الفتك بالرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ والله تعالى أخبر الرسول بذلك حتى احترز عنهم، ولم يصلُوا إلى مقصودهم وقال السُّديُّ: «هو قولهم إذا قدمنا المدينة؛ عقدنا على رأس عبد الله بن أبيّ تاجاً فلم يصلوا إليه» . قوله: {وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ} . في الاستثناء وجهان: أحدهما: أنَّهُ معفول به، أي: وما كرهُوا وعابُوا إلاَّ إغناءَ الله إيَّاهم وهو من باب قولهم: ما لي عندك ذنبٌ إلاَّ أن أحسنت إليك، أي: إن كان ثم ذنبٌ فهو هذا، فهو تهكمٌ بهم؛ كقوله: [الطويل] 2815 - ولا عَيْبَ فينَا غَيْرَ عِرْقٍ لِمَعْشَرٍ ... كرامٍ وأنَّا لا نَخُطُّ على النَّمْلِ وقول الآخر: [المنسرح] 2816 - مَا نَقمُوا مِنْ بَنِي أمَيَّة إلْ ... لا أنَّهُم يَحْلُمُون إن غضبُوا وأنَّهُمْ سَادَةُ الملُوك ولا ... يَصْلحُ إلاَّ عليهمُ العربُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 148 والثاني: أنَّهُ مفعولٌ من أجله، وعلى هذا فالمفعولُ به محذوف، تقديره: وما نقموا منهم الإيمان إلاَّ لأجل إغناء الله إيَّاهم. وقد تقدَّم الكلامُ على «نَقِمَ» [الأعراف: 126] . قيل: إن مولى الجلاس قتل، فأمر له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بديته اثني عشر ألفاً فاستغنى. وقال الكلبيُّ: كانوا قبل قدوم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المدينة في ضنكٍ من العيشِ فلمَّا قدمَ عليهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ استغنوا بالغنائم. قوله: {فَإِن يَتُوبُواْ} أي: من نفاقهم: {يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا} أي: يعرضوا عن التوبة {يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا} بالخزي، وفي {الآخرة} بالنَّارِ {وَمَا لَهُمْ} في الأَرض {مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ} أي: أنَّ عذاب الله إذا حق لم ينفعه وليّ ولا نصير. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله} الآية. «عاهد الله» فيه معنى القسم، فلذلك أجيب بقوله: «لنصَّدقنَّ» ، وحذف جوابُ الشرط لدلالة هذا الجواب عليه، و «اللاَّم» للتوطئةِ، ولا يمتنع الجمعُ بين القسم واللاَّم الموطئة له. وقال أبُو البقاءِ: فيه وجهان: أحدهما: تقديره: «عاهد، فقال: لئِنْ آتَانَا» . والثاني: أن يكون «عاهد» بمعنى: قال، فإنَّ العهد قول. ولا حاجة إلى هذا. قوله: {لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ} قرأهما الجمهور بالنُّون الثقيلة. والأعمش بالخفيفة. قال الزجاج الأصل: «لنتَصدَّقنَّ» ، ولكن التَّاء أدغمت في الصَّاد، لقربها منها. قال الليثُ: المُتصدق: المعطي، والمُتصدق: السائل. قال الأصمعيُّ، والفرَّاءُ: هذا خطأ، فالمتصدق هو المعطي، قال تعالى: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} [يوسف: 88] واعلم أنَّ هذه السورة نزل أكثرها في شرح أحوال المنافقين؛ فلهذا ذكرهم على التفصيل فقال: {وَمِنْهُمُ الذين يُؤْذُونَ النبي} [التوبة: 62] {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصدقات} [التوبة: 58] {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي} [التوبة: 49] {وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ} [التوبة: 75] . والمشهور في سبب نزول هذه الآية: ما روى أبو أمامة قال: جاء ثعلبةُ بنُ حاطبٍ الأنصاريُّ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: يا رسول الله ادعُ الله أن يرزقني مالاً، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ويحْكَ يا ثعلبةُ قليلٌ تُؤدِّي شُكرَهُ خيرٌ من كثيرٍ لا تُطِيقهُ» ثمَّ أتاهُ بعد ذلك فقال: «أمّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 149 لكَ في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ؟ والذي نفسي بيدهِ لوْ أردتُ أن تسيرَ الجبالُ معي ذهباً وفضةً لسَارَتْ» ثمَّ راجعه بعد ذلك، فقال: يا رسول الله: ادعُ الله أن يرزقني مالاً، والذي بعثك بالحقِّ لئن رزقني الله مالاً لأعطين كلَّ ذي حقٍّ حقَّه، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «اللَّهُمَّ ارزقْ ثعلبةَ مالاً» قال: فاتَّخذ غنماً؛ فنمت كما ينمو الدُّودُ، حتى ضاقَتْ بها المدينةُ فتنحَّى عنها، ونزل وادياً من أوديتها، وكان يصلي مع رسول الله الظهر والعصر، ويصلي في غنمة سائر الصلوات، ثم كثُرتْ ونمتْ، فتباعد حتى كان لا يشهدُ جمعةً ولا جماعة؛ فكان إذا كان يوم الجمعة خرجَ يتلقَّى النَّاس يسألهم عن الأخبار، فذكرهُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذات يوم فقال: «ما فعل ثعلبةُ؟» قالوا: يا رسول الله؛ اتَّخذَ غنماً ما يسعها وادٍ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «يا ويْحَ ثَعلبةَ» فأنزل الله تعالى آية الصدقات؛ فبعث رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلاً من بني سليم، ورجلاً من جهينة، وكتب لهما أسنان الصدقة كيف يأخذانها، وقال لهما: «مُرَّا بثعلَبَة بنِ حاطبٍ، وبرجُلٍ من بنِي سليمٍ، فخذا صدقاتهما» فخرجا حتى أتيا ثعلبة؛ فسألاه الصدقة، وأقرآه كتاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: هذه إلاَّ الجزية، ما هذه إلاَّ أخت الجزية، انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليَّ، فانطلقا وسمع بهما السُّلمي، فنظر إلى خيار أسنان إبله فعزلها للصَّدقة، ثم استقبلهما بها، فلمَّا رأياها قالا: ما هذه عليك؛ قال خذاه فإنَّ نفسي بذلك طيبة، فمرَّا على الناس، وأخذَا الصدقات ثم رجعا إلى ثعلبة، فقال: أروني كتابكما؛ فقرأه ثم قال: ما هذه إلا جزية، ما هذه إلاَّ أختُ الجزية، اذهبا حتَّى أرى رأيي، قال فأقبلا، فلما رآهما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال قبل أن يكلماه: يا ويْحَ ثعلبةَ، ثُمَّ دعا للسلميّ بخيرٍ؛ فأخبراه بالذي صنع ثعلبة؛ فأنزل الله - عزَّ وجلَّ - {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله} الآية على قوله: {وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] وعند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رجلٌ من أقارب ثعلبةَ؛ فسمع ذلك، فخرج حتَّى أتاهُ فقال: ويْحَكَ يا ثعلبة، قد أنزل الله عزَّ وجلَّ فيك كذا وكذا، فخرج ثعلبة حتى أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسأله أن يقبل صدقته، فقال: «إنَّ الله مَنَعنِي أن أقبلَ مِنْكَ صدقَتكَ» فجعل يَحثُو التُّرابَ على رأسِهِ، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «قد أمرتُك فلمْ تُطِعْنِي» ؛ فرجع إلى منزله، وقبض رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم أتى أبا بكر بصدقته؛ فلم يقبلها اقتداء بالرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقبض أبو بكر، ثم لم يقبلها عمر اقتداء بأبي بكر، ثمَّ لم يقبلها عثمان، وهلك ثعلبةُ في خلافه عثمان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 150 وقال ابنُ عباسٍ، وسعيدُ بن جبير، وقتادةُ: أتى ثعلبة مشهداً من الأنصار؛ فأشهدهم لئن آتاني الله من فضله آتيت كلَّ ذي حقٍّ حقَّهُ، وتصدقت منه، ووصلت منه القرابة، فمات ابن عمٍّ له، فورث منه مالاً، فلم يف بما قال؛ فأنزل الله هذه الآية. وقال الحسن ومجاهدٌ: نزلت في ثعلبةَ بن حاطبٍ، ومعتب بن قشير، وهما من بني عمرو بن عوف قد جاءا على ملأ قعوداً وقالا: والله لئن رزقنا الله لنصدقنَّ، فلما رزقهما بخلا به. والمشهورُ الأول. فإن قيل: إنَّ الله أمره بإخراج الصَّدقة؛ فكيف يجوزُ للرسول أن لا يقبلها منه؟ . فالجواب: لا يبعد أن يقال: إنَّ الله تعالى منع الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - من قبول الصدقة منه إهانة له ليعتبر غيره؛ فلا يمتنع عن أداء الصدقات، أو أنَّه أتى بتلك الصدقة على وجه الرياء، لا على وجه الإخلاص، وأعلم الله الرسول بذلك؛ فلذلك لم يقبل تلك الصدقة، ويحتمل أيضاً أن الله تعالى لما قال: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103] كان هذا غير حاصل في ثعلبة مع نفاقه؛ فلهذا امتنع الرَّسولُ - عليه الصلاو والسلام - من أخذ تلك الصَّدقةِ. فإن قيل: المنافق كافرٌ، والكافر لا يمكنه أن يعاهد الله. فالجواب: أنَّ المنافق قد يكون عارفاً بالله، إلاَّ أنه كان منكراً لنبوةِ محمدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ فلكونه عارفاً بالله يمكنه أن يعاهد الله، ولكونه منكراً لنبوة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، كان كافراً. وكيف لا أقول ذلك وأكثر العالم مقرون بوجود الصانع؟ أو لعله حين عاهد الله كان مسلماً، ثم لمَّا بخل بالمال، ولم يف بالعهدِ صار منافقاً، ولفظ الآية يدلُّ على ذلك لقوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً} [التوبة: 78] . فإن قيل: هل من شرط المعاهدة أن يتلفظ بها باللسان، أو يكفي النِّيَّة؟ . فالجواب: قال بعضهم: تكفي النيةُ، وأن قوله: {وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله} [التوبة: 75] كان شيئاً نووه في أنفسهم لقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} [التوبة: 78] . وقال المحققون: هذه المعاهدة مقيدة بالتَّلفظ باللسان، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ الله عفا لأمَّتي ما حدَّثتْ به أنفُسهَا ما لم تتكلَّم به أو تعمل» وأيضاً فقوله {لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} يشعر ظاهره بالقول باللسانِ. فإن قيل: المراد من الصدقة إخراج المال، وهو على قسمين واجبٌ وغير واجب والواجبُ قسمان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 151 قسم واجبٌ بأصل الشرع كالزَّكاة، والنفقات الواجبةِ. وقسم لم يجب إلاَّ إذا التزمه العبد كالنذور. فقوله: «لنصَّدَّقنَّ» هل يتناولُ الأقسام الثلاثة، أو لا؟ فالجوابُ: أنَّ الصَّدقات الَّتي ليست واجبة، غير داخلة في الآية، لقوله: «بخلوا به» والبخل في عرف الشَّرْعِ عبارة عن منع الواجب؛ ولأنَّه تعالى ذمَّهُم بهذا الترك، وتارك المندوب لا يذم. بقي القسمان الواجبان؛ فالواجب بأصل الشرع داخل في الآية، لا محالة بقي الواجب بالنَّذر، والظَّاهر أن اللفظ لا يدلُّ عليه؛ لأنه ليس في الآية إلاَّ قوله {لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ} وهذا ليس فيه إشعارٌ بالنَّذر، لأنَّ الرجل قد يعاهدُ ربَّهُ في أن يقوم بما يلزمه من الزَّكوات والنفقات الواجبة إن وسَّعَ اللهُ عليه. فإن قيل: لفظ الآية يدلُّ على أنَّ الذي لزمهم إنَّما بسبب هذا الالتزام، والزكاةُ لا تلزم بسبب هذا الالتزام، وإنما تلزمُ بملك النصاب وحلول الحولِ. فالجوابُ: قوله: «لنصَّدقنَّ» لا يوجبُ أن يفعلوا ذلك على الفور؛ لأنَّهُ إخبار عن إيقاع هذا الفعل في المستقبل، وهذا النذر لا يوجبُ الفور؛ فكأنهم قالوا: لنصدقن في وقته كما قالوا: {وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصالحين} أي: في أوقات لزوم الصَّلاة؛ فثبت بما قرَّرْنَا أنَّ الدَّاخل تحت هذا العهد، إخراج الأموال الواجبة بأصل الشَّرع، ويؤكد هذا ما روي في سببن النُّزولِ أنَّ الآية إنَّما نزلت في حق من امتنع من أداة الزَّكاةِ. فصل المرادُ من «الفضل» ههنا: إيتاء المالِ بأي طريق كان، إمَّا بتجارة، أو غنيمةٍ أو غير ذلك. والمرادُ ب «الصَّالحينَ» : الصالح ضد المفسد، والمفسد عبارة عمَّن بخل بما يلزمه في التكليف، فالصَّالح: من يعملُ بعمل أهل الصَّلاحِ من صلة الرَّحمِ والنَّفقةِ في الخير، ونحو ذلك. ثم قال تعالى: {فَلَمَّآ آتَاهُمْ مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} . قال الليثُ: يقال: أعقب فلاناً ندامةٌ، إذا صيرت عاقبة أمره ذلك، قال الهذليُّ: [الكامل] 2817 - أودى بنيَّ وأعقبُوني حَسْرَةً ... بَعْد الرُّقادِ وعبْرَةٌ لا تُقْلِعُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 152 ويقال: أكل فلانٌ أكلةً فأعقبتهُ سُقْماً، وأعقبه الله خيراً، والمعنى: أخلفهم في قلوبهم أي: صير عاقبة أمورهم النفاق، عاقبهم بنفاق في قلوبهم، يقال: عاقبته وأعقبته بمعنى. فصل «فأعقبهم» فعل، ولا بد من إسناده إلى شيء تقدَّم ذكره، والذي تقدَّم ذكره هو الله تعالى، والمعاهدة والتصدق والصلاح والبخل والتولي والإعراض، ولا يجوزُ إسناد إعقاب النفاق إلى المعاهدة أو التَّصدق أو الصلاح، لأنَّ هذه الثلاثة أعمال الخير؛ فلا يجوز جعلها مؤثرة في حصول النفاق في القلب؛ لأنَّ النفاقَ عبارة عن الكُفْرِ، وهو جهل وترك بعض الواجب لا يكون مؤثراً في حصول الجهلِ في القلب؛ لأنَّ ترك الواجب عدمٌ، والجهل وجود، والعدم لا يكون مؤثراً في الوجود؛ لأنَّ البخل والتولي والإعراض، قد يوجدُ في كثير من الفُسَّاقِ، مع أنَّهُ لا يحصلُ معه النفاق؛ ولأنَّ هذا الترك لو أوجب حصول الكفرِ في القلب لأوجبه، سواء كان هذا الترك جائزاً شرعاً أو محرماً شرعاً؛ لأنَّ سبب اختلاف الأحكام الشرعية لا يخرج المؤثر عن كونه مؤثراً؛ ولأنه تعالى قال: {بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} [التوبة: 77] فلو كان فعل الإعقاب مسنداً إلى البخل، والتولي، والإعراض لصار تقدير الآية: فأعقبهم ببخلهم وتوليهم وإعراضهم نفاقاً في قلوبهم بما أخلفُوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون، وذلك لا يجوز؛ لأنَّه فرق بين التَّولي وحصول النفاق في القلب بسبب التولي، ومعلومٌ أنه كلام باطل؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّهُ لا يجوز إسناد الإعقاب إلى شيء من الأشياءِ المتقدم ذكرها إلاَّ إلى الله تعالى؛ فوجب إسناده إليه؛ فصار المعنى: أنَّ الله تعالى هو الذي يعقب النفاق في قلوبهم، وذلك يدلُّ على أنَّ خالق الكفر في القلوب هو الله تعالى، وهذا هو الذي قاله الزجاجُ، إنَّ معناه: أنَّهُم لمَّا ضلُّوا في الماضي فهو تعالى أضلَّهُم عن الدِّين في المستقبل، ويؤكدُ ذلك قوله تعالى: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} فالضميرُ في قوله: «يَلقَوْنَهُ» عائد إلى الله تعالى فكان الأولى أن يكون قوله: «فأعْقَبَهُمْ» مسنداً إلى اللهِ تعالى. قال القاضي «المرادُ من قوله: {فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ} أي: فأعقبهم العقوبة على النفاق وتلك العقوبة هي: حدوث الغم في قلوبهم وضيق الصدر وما ينالهم من الذُّل والذنب ويدوم بهم ذلك إلى الآخرة» . وهذا بعيدٌ؛ لأنه عدولٌ عن الظَّاهر من غير دليل فإن ذكروا دليلاً عقلياً، قوبلوا بدليل عقلي. والله أعلم. فصل ظاهرُ الآية يدلُّ على أنَّ نقض العهد، وخلف الوعد، يورثُ النِّفاقَ، فيجب على المسلم الاحتراز عن ذلك، ويجتهد في الوفاءِ. ومذهب الحسنِ البصري: أنَّه يوجب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 153 النفاق لا محالة لهذه الآية، ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ثلاثٌ من كُنَّ فيه كان مُنافقاً وإن صلَّى وصامَ وزعمَ أنَّهُ مؤمنٌ، إذا حدَّث كذبَ، وإذا وعدَ أخلفَ، وإذا ائْتُمِنَ خَانَ» . ونقل أن واصل بن عطاء قال: أتى الحسن رجلٌ فقال له: إن أولاد يعقوب حدَّثُوه في قولهم {فَأَكَلَهُ الذئب} [يوسف: 17] فكذبوهُ، ووعدوه في قولهم: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يوسف: 12] فأخلفوه، وائتمنهم أبوهم على يوسف فخانوه، فهل نحكمُ بكونهم منافقين؟ قيل: فتوقف الحسن في مذهبه. وفسَّر عمر بن عبيد الحديث فقال «إذا حدَّث عن الله كذب عليه، وعلى دينه، وعلى رسوله وإذا وعد أخلف كما ذكر الله فيمن عاهد الله، وإذا ائتمن على دين الله خان في السرِّ فكان قلبه على خلاف لسانه» . قوله: {إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} قال الجبائيُّ «تمسَّكُوا في إثبات رُؤية الله بقوله تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ} [الأحزاب: 44] قال: واللقاء ليس عبارة عن الرؤية، بدليل قوله في صفة المنافقين {إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ} وأجمعوا على أنَّ الكفَّار لا يرونه؛ فدلَّ على أنَّ اللقاء ليس عبارة عن الرؤية. ويؤيدُه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» من حلفَ على يمينٍ كاذبةٍ ليقتطع بهَا حق امرئ مُسلمٍ لقيَ الله وهُو عليه غَضبَانُ «وأجمعوا على أنَّ المراد من اللقاء ههنا: لقاء ما عند الله من العقاب فكذا ههنا» . قال ابن الخطيب «وهذا دليلٌ ضعيفٌ؛ لأنَّا إذا تركنا حمل لفظ اللقاء على الرُّؤيةِ في هذه الآية، وفي الخبر لدليل منفصل؛ فلا يلزمنا ذلك في سائر الصُّور، كما إذا أدخلنا التَّخصيصَ في بعض العمومات لدليل منفصل؛ فلا يلزمنا أن نُخَصّصَ جميع العمومات من غير دليل فكما لا يلزمنا هذا لا يلزمنا ذلك» . قوله: {بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ} أي: أنَّ الله أعقبهم ذلك النِّفاق في قلوبهم لأجل إخلافهم الوعد، وعلى كذبهم. وقرأ الجمهور «يَكْذبُونَ» مخففاً، وأبو رجاء مثقلاً. قوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} الآية. قرأ الجمهور «يَعْلمُوا» بالياء من تحت. وقرأ عليُّ بن أبي طالبٍ، والحسنُ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 154 والسلمي بالخطاب، التفاتاً للمؤمنين دون المنافقين والسِّر: ما ينطوي عليه صدورهم والنَّجْوَى: ما يفاوضُ فيه بعضهم بعضاً فيما بينهم، مأخوذ من «النَّجْوِ» وهو الكلام الخفي كأنَّ المتناجين منعا إدخال غيرهما معهما، ونظيره قوله تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} [مريم: 52] وقوله تعالى: {فَلَمَّا استيأسوا مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً} [يوسف: 80] وقوله: {فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى} [المجادلة: 9] ، والمعنى: أنَّ الله تعالى يعلم سرهم ونجواهم فكيف يتجرَّءون على النفاق الذي الأصل فيه الاستسرار والتَّناجي فيما بينهم، مع علمهم بأنَّهُ تعالى يعلم ذلك من حالهم، كما يعلم الظَّاهر، وأنَّهُ يعاقب عليه كما يعاقب على الظَّاهر. قال: {وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب} والعَلاَّمُ: مبالغة في العالم، والغيب: ما كان غَائِباً عن الخلق. قوله تعالى: {الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} الآية. في «الذين يَلْمِزُونَ» أوجه: أحدها: أنه مرفوعٌ على إضمار مبتدأ، أي: هم الذين. الثاني: أّنَّه في محل رفع بالابتداء، و «مِنَ الُمؤمنينَ» حالٌ من «المطَّوِّعين» . و «في الصَّدقاتِ» متعلق ب «يَلْمِزُونَ» ، و «الَّذشينَ لا يَجِدُونَ» نسقٌ «المُطَّوِّعينَ» أي: يَعيبُونَ المياسير، والفقراء. وقال مكيٌّ: «والَّذينَ» خفضٌ، عطفاً على «المُؤمنينَ» ولا يَحْسُن عطفهُ على «المُطَّوِّعين» ؛ لأنه لمْ يتمَّ اسماً يعد؛ لأنَّ «فَيَسْخَرُونَ» عطف على «يَلْمِزُونَ» هكذا ذكره النَّحاسُ في الإعراب له، وهو عندي وهمٌ منه. قال شهابُ الدِّين: «والأمر فيه كما ذكر، فإنَّ» المُطَّوِّعينَ «قد تمَّ من غير احتياجٍ لغيره» . وقوله: «فَيَسْخرُونَ» نسقٌ على الصِّلةِ، وخبر المبتدأ: الجملةُ من قوله «سَخِرَ اللهُ منهُمْ» هذا أظهرُ إعراب قيل هنا. وقيل: «والَّذينَ لا يَجِدُونَ» نسقٌ على «الَّذِينَ يَلْمِزُونَ» ، ذكره أبُو البقاءِ وهذا لا يجُوزُ؛ لأنَّهُ يلزمُ الإخبارُ عنهم بقوله: {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} ، وهذا لا يكون، إلاَّ بأنْ كان «الَّذِينَ لا يَجِدُون» مُنافقينَ، وأمَّا إذَا كانُوا مؤمنين، كيف يسخرُ الله منهم؟ . وقيل: «والَّذِينَ لا يَجِدُونَ» نسقٌ على «المُؤمنينَ» ، قاله أبُو البقاءِ. قال أبُو حيَّان: «وهُو بعيدٌ جدّاً» . ووجهُ بعده: أنَّه يفهمُ أنَّ «الَّذِينَ لا يجدُونَ» ليسوا مؤمنين؛ لأن أصل العطف الدلالةُ على المُغايرةِ، فكأنَّنهُ قيل: يَلْمِزُونَ المطَّوِّعينَ من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 155 هذين الصنفين: المؤمنين، والذين لا يجدُونَح فيكون «الَّذِينَ لا يجدون» مطَّوِّعين غير مؤمنين. وقال أبُو البقاءِ: «فِي الصَّدقاتِ» متعلقٌ ب «يَلمِزُونَ» ، ولا يتعلَّق ب «المُطَّوِّعينَ» لئلاَّ يفصل بينهما بأجنبي. وهذا فيه نظر؛ إذ قوله «مِنَ المؤمنينَ» حال، والحالُ ليست بأجنبيّ، وإنَّما يظهر في ردِّ ذلك أن «يطَّوَّع» إنَّما يتعدى بالياءِ، لا ب «في» وكون «في» بمعنى «الباء» خلاف الأصل. وقيل: «فَيَسْخَرُونَ» خبرُ المبتدأ ودخلتِ الفاءُ، لمَا تضمَّنهُ المبتدأ من معنى الشرط، وفي هذا الوجه بُعدٌ من حيثُ إنَّه يقرُب من كون الخبر في معنى المبتدأ فإنَّ من عاب إنساناً وغمزهُ علم أنَّهُ يسخرُ منه فيكون كقولهم: «سَيِّدُ الجاريةِ مالِكُهَا» . الثالث: أن يكون محلُّه نصباً على الاشتغال، بإضمار فعل يُفسِّره «سَخِرَ اللهُ منهُم» من طريق المعنى، نحو: عاب الذين يلمزُون، سخر الله منهم. الرابع: أنْ ينصب على الشتم. الخامس: أن يكون مجروراً بدلاً من الضمير في «سِرَّهُم ونجْواهُمْ» . وقرئ «يلْمُزون» بضم الميم، وقد تقدَّم أنَّها لغة، وقرأ الجمهور «جُهْدَهم» بضمِّ الجيمِ. وقرأ ابنُ هرمز وجماعة «جَهْدهم» بالفتح. فقيل: لغتان بمعنى واحد. وقيل المفتوحُ المشقَّةُ والمضمومُ: الطَّاقةُ، قالهُ القتيبيُّ، وقيل: المضمومُ شيءٌ قيلٌ يعاشُ به والمفتوحُ: العملُ. وقوله: {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} يحتملُ أن يكون خبراً محضاً، وأن يكون دعاءً. فصل اعلم أنَّ هذا نوع آخر من أعمالهم القبيحة، وهو لمزهم من يأتي بالصَّدقاتِ. قال المفسِّرون: حثَّ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الصَّدقةِ؛ فجاء عبدُ الرحمن بنُ عوفٍ بأربعة آلافِ درهم، فقال: يا رسول الله، مالي ثمانية آلاف درهم، جئتك بأربعة آلاف فاجعلها في سبيل الله، وأمسكتُ أربعة آلاف لعيالي. فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «بَارَكَ اللهُ لَكَ فِيمَا أعْطيْتَ، وفيمَا أمْسَكْتَ» فبارك اللهُ في مال عبد الرحمن، حتَّى إنَّهُ خلف امرأتين يوم أن مات؛ فبلغ ثمنُ ماله لهما مائة وستون ألفاً وتصدق يومئذ عاصمُ بن عدي العجلاني بمائة وسْقٍ من تمر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 156 وجاء أبُو عقيلٍ الأنصاري واسمه الحبحاب، بصاعٍ من تمرٍ، وقال: يا رسُول الله بتُّ ليلتي أجر بالجرير حتى نلتُ صاعين من تمرٍ؛ فأمسكتُ أحدهما لعيالي، وجئتُ بالآخر؛ فأمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينثره على الصَّدقاتِ؛ فلمزهم المنافقُون، وقالوا: ما أعطى عبد الرحمن وعاصم إلاَّ رياءً، وإن كان الله ورسوله لغنيين عن صاع أبي عقيل ولكنَّهُ أحب أن يزكي نفسه ليعطى من الصَّدقات؛ فأنزل الله تعالى: «الَّذِينَ يلْمِزُون» أي: يعيبون المطوعين المتبرعين من المؤمنين في الصدقات، يعني: عبد الرحمن بن عوف وعاصماً، {وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ} أي: طاقتهم. والجُهْدُ: شيء قليلٌ يعيش به المقلُّ، والجهد بالفتح، والجُهْد بالضمِّ بمعنى واحد يعني: أبا عقيل: «فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ» يستهزئون منهم، {سَخِرَ الله مِنْهُمْ} أي: جازاهم على السخرية، وقال الأصمُّ: المرادُ أنه تعالى قبل من هؤلاء المنافقين ما أظهروهُ من أعمال البرِّ مع أنَّهُ لا يثيبهم عليها؛ فكان ذلك كالسخرية، {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} . قوله تعالى: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} الآية. قال ابنُ عبَّاسٍ: إنَّ عند نزول الآية في المنافقين، قالوا: يا رسول الله، استغفر لنا، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «سأسْتغفرُ لَكُمْ» ؛ فنزل قوله تعالى: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} قد تقدَّم الكلام على هذا عند قوله: {قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ} [التوبة: 53] ؛ وأنَّهُ نظيرُ قوله: [الطويل] 2818 - أسِيئِي بِنَا أوْ أحْسِني لا مُسِيئةٌ ... لدَينَا ولا مقليَّةٌ إنْ تقَلَّتِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 157 قوله تعالى: {فَرِحَ المخلفون بِمَقْعَدِهِمْ} الآية. «بِمَقْعدِهِم» متعلقٌ ب «فرح» ، وهو يصلحُ لمصدر «قَعَدَ» ، وزمانه ومكانه. قال الجوهريُّ «قَعَدَ قُعُوداً ومَقْعَداً» ، جَلس، وأقعَده غيره «والمخلف: المتروكُ، أي: خلفهم الله وثبطهم، أو خلفهم رسول الله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والمؤمنون، لمَّا علموا تثاقلهم عن الجهادِ والمرادُ ب» المقعد «ههنا المصدر، أي؛ بقُعُودِهِمْ وإقامتهم بالمدينة. وقال ابنُ عبَّاسٍ: يريدُ: المدينة؛ فعلى هذا هو اسمُ مكانٍ. فإن قيل: إنَّهم احتالُوا حتى تخلَّفُوا عن رسول الله؛ فكان الأولى أن يقال: فرح المتخلفون فالجوابُ من وجوه: أحدها: أنَّ الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ منع أقواماً من الخروج معه لعلمه أنَّهم يفسدون ويشوشون، وكان هذا في غزوة تبوك؛ فهؤلاء كانوا مخلَّفين لا متخلِّفين. وثانيها: أنَّ أولئك المتخلفين صارُوا مخلفين في قوله بعد هذه الآية: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83] ، فلمَّا منعهم الله من الخروج صارُوا مخلفين. وثالثها: أنَّ من يتخلَّف عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد خروجه إلى الجهاد، يوصف بأنَّه مخلف من حيث إنَّهُ لم ينهض، وبقي وأقام. قوله: {خِلاَفَ رَسُولِ الله} فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنَّه منصوبٌ على المصدر بفعلٍ مقدرٍ مدلولٍ عليه بقوله» مَقْعدِهِمْ «؛ لأنَّه في معنى تخلَّفوا، أي: تخلَّفوا خلاف رسول الله. الثاني: أنَّ» خلاف «مفعولٌ من أجله، والعامل فيه إمَّا» فَرِحَ «، وإمَّا» مَقْعَد «أي: فَرِحُوا؛ لأجل مخالفتهم رسول الله، حيثُ مضى هو للجهاد، وتخلَّفوا هم عنه، أو بقعودهم لمخالفتهم له، وإليه ذهب الطبريُّ، والزجاج، ومؤرِّج، وقطرُب، ويُؤيدُ ذلك قراءةُ من قرأ» خُلْف «بضم الخاء وسكون اللاَّم. والثالث: أن ينتصب على الظرف، أي: بعد رسول الله، يقال: أقام زيد خلاف القوم، أي: تخلَّف بعد ذهابهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 158 قال الأخفش وأبو عبيدة: إنَّ» خلافَ «بمعنى:» خَلْف «، وأنَّ يونس رواه عن عيسى بن عمر ومعناه: بعد رسول الله. ويؤيده قراءة ابن عبَّاسٍ، وأبو حيوة، وعمرو بن ميمون» خَلْفَ «بفتح الخاءِ وسكون اللاَّمِ. وعلى هذا القول، الخلاف: اسم للجهةِ المعينة كالخلف، وذلك أنَّ المتوجِّه إلى قُدَّامه فجهة خلفه مخالفة لجهة قُدَّامه في كونها جهة مُتوجِّهاً إليها، و» خِلافَ «بمعنى» خَلْف «مستعمل، وأنشد أبو عبيدة للأحوص: [الكامل] 2819 - عَقَبَ الرَّبيعُ خِلافَهُمْ فَكَأَنَّمَا ... بَسَطَ الشَّواطِبُ بَيْنَهُنَّ حَصِيرَا وقول الآخر: [الطويل] 2820 - فَقُلْ للَّذِي يَبْقَى خلافَ الذي مَضَى ... تَأهَّبْ لأخْرَى مِثلهَا فكأنْ قَدِ قوله تعالى: {وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله} أي: إنَّهم فرحوا بسبب التخلف، وكرهُوا الذهاب إلى الغزو. واعلم أنَّ الفرح بالإقامة يدل على كراهيةِ الذهاب، إلاَّ أنَّهُ أعاده للتَّأكيد، أو لعلَّ أن المراد أنَّ طبعه مال إلى الإقامة؛ لأجل إلفه البلدة، واستثنائه بأهله وولده، وكره الخروج إلى الغزو؛ لأنَّهُ تعريضٌ للمال والنفس للقتلِ، وأيضاً منعهم عن الخروج شدة الحرِّ في وقت خروج رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو المرادُ من قوله: {لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر} ، فأجاب اللهُ عن هذا الأخير بقوله: {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} أي: يعلمون، وكذلك في مصحف عبد الله بن مسعود، أي: بعد هذه الدَّار، دار أخرى، وبعد هذه الحياة حياة أخرى، وأيضاً هذه مشقة منقضية، وتلك مشقة باقية. وأنشد الزمخشريُّ لبعضهم: [الطويل] 2821 - مَسَرَّةَ أحْقابٍ تلقَّيْتُ بَعْدهَا ... مسَاءةَ يَوْمٍ أريُهَا شَبَهُ الصَّابِ فَكيفَ بأنْ تَلْقَى مسرَّةَ سَاعَةٍ ... ورَاء تَقَضِّيها مَسَاءَةُ أحْقَابِ قوله تعالى: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيرا} الآية. «قَلِيلاً» ، و «كَثِيراً» فيهما وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 159 أظهرهما: أنَّهما منصوبان على المصدر، أي: ضحكاً قليلاً وبكاءً كثيراً؛ فحذف الموصوفَ، وهو أحدُ المواضع المُطَّردِ فيها حذفُ الموصوف وإقامةُ الصفة مقامه. والثاني: أنَّهما منصوبان على ظرفي الزمان، أي: زماناً قليلاً، وزماناً كثيراً والأول أولى؛ لأنَّ الفعل يدلُّ على المصدر بشيئين: بلفظه ومعناه، بخلاف ظرف الزمان فإنه لا يدلُّ عليه بلفظه، بل بهيئته الخاصَّةِ. وهذا وإن ورد بصيغة الأمر إلاَّ أنَّ معناه الإخبار بأنه ستحصل هذه الحالة، لقوله تعالى بعده {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} . قوله: «جَزَاءً» فيه وجهان: الأول: قال الزَّجَّاج: إنَّه مفعولٌ لأجله، أي: سبب الأمر بقلَّة الضَّحكِ، وكثرة البكاء جزاؤهم بعملهم. و «بِمَا» متعلق ب «جزاء» ، لتعديته به ويجوزث أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّه صفته. والثاني: أن ينتصب على المصدر بفعلٍ مقدَّرٍ، أي: يُجْزونَ جزاءً. {جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} في الدنيا من النِّفاق. قوله تعالى: {فَإِن رَّجَعَكَ الله} الآية. «رَجَعَ» يتعدَّى كهذه الآية الكريمة، ومصدرُهُ: «الرَّجْع» ، كقوله {والسمآء ذَاتِ الرجع} [الطارق: 11] . ولا يتعدَّى، نحو: {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35] في قراءة من بَنَاهُ للفاعل. والمصدر: الرُّجوعُ، كالدُّخُولِ. والمعنى: فإن ردَّك الله من غزوة تبوك إلى المدينة، ومعنى «الرجع» مصير الشَّيء إلى المكان الذي كان فيه، يقال: رجعته رجعاً، كقولك: رددته رداً. وقوله: {إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ} إنَّما خصَّصَ؛ لأنَّ جميع من أقام بالمدينة ما كانوا منافقين، بل كان بعضهم مخلصين معذورين، {فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ} معك في غزوة أخرى {فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً} في سفر، {وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} وهذا يجري مجرى الذَّم واللَّعن لهم، ومجرى إظهار نفاقهم وفضائحهم؛ لأنَّ ترغيب المسلمين في الجهاد أمرٌ معلومٌ بالضَّرورة من دين محمَّد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، ولمَّا منعوا هؤلاء من الخروج إلى الغزو بعد ذلك الاستئذان، كان ذلك تصريحاً بكونهم خارجين عن الإسلام، ونظيره قوله تعالى {سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم} [الفتح: 15] {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} [الفتح: 15] ، ثم إنَّه تعالى علَّل ذلك المنع بقوله {إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ} أي: لأنكم رضيتم {بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ} في غزوة تبوك. قال أبُو البقاءِ: «أوَّل مرَّةٍ» ظرف. قال أبُو حيَّان «يعني ظرف زمان وهو بعيد» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 160 قال شهابُ الدِّين «لأنَّ الظَّاهر منصوبةٌ على المصدر. وفي التفسير: أول خرجةٍ خرجها رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فالمعنى: أول مرَّة من الخروج» . قال الزمخشريُّ «فإن قلت:» مَرَّةٍ «نكرة، وضعت موضع المرات، للتفضيل، فلمَ ذُكِرَ اسمُ التفضيل المضافُ إليها، وهو دالٌّ على واحدةٍ من المرَّاتِ؟ قلت: أكثرُ اللُّغتين: أن يقال هند أكبرُ النساء، وهي أكبرهنَّ، ثم إنَّ قولك: هي كبرى امرأة، لا يكادُ يُعثر عليه، ولكن هي أكبر امرأة، وأول مرة وآخر مرة» . والمعنى: أنَّ الحاجةَ في المرَّة الأولى إلى موافقتكم كانت أشدّ، وبعد ذلك زالت تلك الحاجة فلما تخلَّفْتُم عند مسيس الحاجة إلى حضُورِكُم؛ فبعد ذلك لا نقبلكم، ولا نلتفتُ إليكم. قوله: «مَعَ الخالفين» هذا الظَّرفُ يجوز أن يكون متعلقاً ب «اقْعُدُوا» ، ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّه حال من فاعل «اقْعُدُوا» . والخَالِفُ: المتخلِّفُ بعد القوم. قال الأخفشُ، وأبو عبيده: «الخَالِفُونَ» جمع، واحدهم «خالف» ، وهو من يخلف الرجل في قومه. والمعنى: مع الخالفينَ من الرِّجال الذين يخلفون في البيت، فلا يبرحون. وقال الفرَّاءُ: المراد: ب «الخَالِفينَ» ، يقالُ: عبد خالف، إذا كان مخالفاً. وقال الأخفشُ: فلان خالفةُ أهل بيته إذا كان مخالفاً لهم، وقال الليثُ: يقال هذا رجل خالفةٌ، أي: مخالف كثير الخلاف، فإذا جمع قلت: الخالفُونَ. وقال الأصمعيُّ: الخالفُ: هو الفاسد، يقال: خلف فلان عن كل خير يخلف خلوفاً، إذا فسد ومنه «خُلُوف فَمِ الصَّائمِ» ، والمراد بهم: النِّساءُ والصبيانُ والرِّجالُ العاجزون؛ فلذلك جازَ جمعهُ للتَّغليب. وقال قتادةُ: الخَالِفُونَ: النِّسَاء «وهو مردودٌ، لأجْلِ الجمع. وقرأ عكرمة، ومالكُ بن دينارٍ» مَعَ الخَلِفينَ «مَقصُوراً من» الخَالِفِينَ «؛ كقوله: [الرجز] 2822 - مِثْلُ النَّقَا لَبَّدَهُ ضَرْبُ الظِّلَلْ ... وقوله: [الرجز] 2823 - ... ... ... ... ... ... ... . عَرِدَا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... بَرِدَا يريد:» الظِّلال «و» عَرِدّا «: بَارِداً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 161 قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم} الآية. » مِنْهُم «صفةٌ ل» أحَدٍ «، وكذلك الجملة من قوله:» مَاتَ «، في موضع جر أيضاً كأنه قيل: على أحدٍ منهم ميت، ويجوزُ أن يكون» مِنْهُم «حالاً من الضَّمير في» مَاتَ «أي: مات حال كونه منهم، أي: مُتَّصِفاً بصفة النِّفاقِ، كقولهم: أنت مني، يعني: على طريقتي و» أبَداً «ظرف منصوب بالنهي، وهذا الظَّرفُ متعلق ب» أحَد «، والتقدير: ولا تصل أبداً على أحدٍ منهم. فصل اعلم أنَّهُ تعالى أمر رسوله أن يُهينَهُم، ويذلهم، بمنعهم من الخروج معه إلى الغزوات ثمَّ منعه في هذه الآية من أن يُصلي على من مات منهم. روى ابنُ عبَّاسٍ: أنَّه مات، ويقوم على قبره، ثمَّ إنه أرسل إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وطلب منه قميصه، ليكفن فيه؛ فأرسل إليه القميص الفوقاني، فردَّه، وطلب الذي يلي جلده ليكفَّن فيه، فقال عمرُ: لِمَ تُعطِي قميصَك للرجس النَّجس؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنَّ قميصِي لا يُغْنِي عنهُ مِنَ اللهِ شيئاً، ولعلَّ اللهَ أن يُدخلَ بِه ألفاً في الإسلام» وكان المنافقون لا يفارقون عبد الله؛ فلمَّا رأوه يطلبُ القميص، ويرجو أن ينفعه، أسلم منهم يومئذ ألفٌ. فلمَّا مات جاء ابنُهُ يعرفه، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لابنه: «صَلِّ عليْهِ واذْفِنْهُ» ، فقال: إن لم تُصل عليه يا رسول الله لم يُصَلّ عليه مسلمٌ، فقام صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ليصلِّي عليه؛ فجاء عمر فقام بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبين القبلة؛ لئلاَّ يصلي عليه، فنزلت الآية وأخذ عمر بثوبه وقال: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} ، وهذا يدلُّ على منقبة عظيمة من مناقب عمر؛ وذلك لأنَّ الوَحْيَ نزل على وَفْق قوله في آيات كثيرة منها: آية أخذ الفداء عن أسارى بدر كما سبق، ومنها: «آية تحريم الخمر» [المائدة: 90] ، ومنها: «آية تحويل القبلة» [البقرة: 142] ، ومنها: آية أمر النِّساء بالحجاب، وهذه الآية؛ فصار نزول الوحي على مطابقة قول عمر منصباً عالياً، ودرجة رفيعة في الدِّين، ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لوْ لَمْ أبْعَثْ لبعثتَ يا عمر نبيّاً» . قال القرطبيُّ: إن قال قَائِلٌ، كيف قال له عمر: أتصلي عيه، وقد نهاكَ اللهُ أنْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 162 تُصَلِّي عليه ولم يكن تقدم نهي عن الصلاة عليهم؟ قيل له: يحتملُ أن يكون ذلك وقع له في خاطره، ويكون من قبيل الإلهام والتحدث الذي شهد له به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وقد كان القرآن ينزل على وفق مراده، كما قال: وافقت ربي في ثلاث، وجاء: في أربع؛ فيكون هذا من ذاك. ويحتمل أن يكون فهم ذلك من قوله: {استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80] الآية، ويحتملُ أن يكون فهم ذلك من قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] فإن قيل: كيف يجوزُ أن يرغب الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الصَّلاة عليه بعد علمه بأنه كافر وقد مات على كفره، وأنَّ صلاة الرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تجري مجرى الإجلال والتَّعظيم وأيضاً فالصَّلاة عليه تتضمَّنُ الدُّعاء له، وذلك محظورٌ؛ لأنَّه تعالى أعلمه أنه لا يغفر للكافرِ ألبتة، وأيضاً دفع القميص إليه يوجب إعزازه؟ . فالجواب: لعلَّ السَّبب فيه، أنَّه لمَّا طلب من الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - القميص الذي يمسّ جلده، ليدفن فيه، غلب على ظنّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنه آمن؛ لأنَّ ذلك الوقت وقت توبة الفاجر، وإيمان الكافر، فلمَّا رأى منه إظهار الإسلام، وشاهد منه هذه الأمارة التي دلت على إسلامه، غلب على ظنِّه إسلامه؛ فبنى على هذا الظَّن، ورغب في الصلاة عليه، فلمَّا نزل جبريلُ عليه السلام وأخبره بأنه مات على كفره ونفاقه؛ امتنع من الصلاة عليه وأمَّا دفع القميص إليه، وكان رجلاً طويلاً؛ فكساهُ عبد الله قميصه. وقيل: إنَّ المشركين قالوا له يوم الحديبيةِ: إنَّا لا ننقادُ لمحمَّدٍ، ولكنَّا ننقاد لك، فقال: لا، إنَّ لي في رسول الله أسوةً حسنةً؛ فشكر رسولُ الله له ذلك. قال ابنُ عيينة: كانت له عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدٌ فأحبَّ أن يُكافِئَهُ. وقيل: إنَّ الله تعالى أمره أن لا يرد سائلاً، لقوله تعالى: {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 10] فلمَّا طلب القميص منه دفعه إليه، لهذا المعنى. وقيل: إنَّ منع القميص لا يليقُ بأهل الكرم وذلك أنَّ ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبيّ كان من الصالحين؛ فالرسولُ أكرمه لمكان ابنه وقيل: لعلَّ اللهَ تعالى أوحى إليه، أنَّك إذا دفعت قميصك إليه صار ذلك سبباً لدخول نفر من المنافقين في الإسلامِ، فقيل لهذا الغرض، كما روي فيما تقدَّم، وقيل: إنَّ الرّأفة والرحمة كانت غالبةً عليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، لقوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] فامتنع من الصَّلاة عليه، لأمر الله تعالى، ودفع القميص رأفة ورحمة. واعلم أنَّ قوله {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} يحتملُ تأبيد النَّفي، ويحتملُ نفي التأبيد والأول هو المقصودُ؛ لأنَّ قرائن هذه الآية دالَّة على أنَّ المقصود منعه من أن يصلِّي على أحد منهم منعاً كُلِّيّاً دائماً. ثم قال: {وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ} وفيه وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 163 الأول: قال الزَّجَّاجُ «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا دفن الميت وقف على قبره ودعا له» فمنع منه ههنا. الثاني: قال الكلبي: «لا تقم بإصلاح مُهمَّات قبره، ولا تتولّ دفنه» ، من قولهم: قام فلانٌ بأمر فلان، إذا كفاه أمره، ثمَّ إنه تعالى علَّل المنع من الصَّلاة عليه، والقيام على قبره بقوله: {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ} . فإن قيل: الفسقُ أدْنَى حالاً من الكفر، فلما علل بكونه كافراً؛ فما فائدةُ وصفه بعد ذلك بالفسق؟ . فالجوابُ: أنَّ الكافر قد يكونُ عدلاً في دينه، وقد يكون فَاسِقاً في دينه خبيثاً ممقوتاً عند قومه، بالكذب، والخداع، والمكر، وهذه أمورٌ مستقبحةٌ في جميع الأديان، فالمنافقون لمَّا كانوا موصوفين بهذه الصفات، وصفهم الله تعالى بالفسقِ بعد أن وصفهُم بالكفر، تنبيهاً على أنَّ طريقة النِّفاق طريقة مذمُومة عند جميع العالم. فإن قيل: قوله {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله} صريح بأنَّ ذلك النَّهي معلّلٌ بهذه العلة، وذلك يقتضي تعليل حكم الله تعالى، وهو محال، فإنَّ حكم الله قديمٌ، وهذه العلة محدثة، وتعليل المحدث بالقديم محال. فالجوابُ: أنَّ البحث في هذه المسألة طويل، وظاهرُ هذه الآية يدلُّ عليه. فصل قال القرطبي: قوله تعالى: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} نصّ في الامتناع من الصلاة على الكُفَّار، وليس فيه دليل على الصَّلاة على المؤمنين، واختلفوا هل يؤخذ من مفهومه وجوب الصلاة على المؤمنين؟ فقيل: يُؤخذ؛ لأنَّه علَّل المنع من الصَّلاة على الكُفَّار لكفرهم لقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَرَسُولِهِ} ، فإذا زال وجبت الصَّلاةُ، لقوله تعالى {كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15] يعني: الكفَّار؛ فدلَّ على أنَّ غير الكفار يرونه وهم المؤمنون. وقيل: إنَّما تؤخذ الصَّلاة من دليلٍ خارج، وهو الأحاديث، والإجماع. ومنشأ الخلاف القول بدليل الخطابِ وتركه. فصل جمهورُ العلماءِ على أنَّ التكبير في الصَّلاة على المَيّت أربع تكبيرات. وقال ابنُ سيرين: كان التكبير ثلاثاً فزادُوا واحدةً، وعن ابن مسعود، وزيد بن أرقم، يكبر خَمْساً وعن عليٍّ: ست تكبيرات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 164 فصل قال القرطبيُّ: ولا قراءة في صلاة الجنازة في المشهور من مذهب مالكٍ. وكذا أبو حنيفة والثوري، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إذا صلَّيْتُم على المَيِّت فأخْلِصُوا له الدُّعاءِ» وذهب الشافعيُّ، وأحمدُ، وإسحاقُ، ومحمدُ بنُ سلمة، وأشهب، وداوود: إلى أنه يقرأ بالفاتحة، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا صلاةَ لِمَنْ لا يَقْرَأ بفَاتِحَةِ الكتابِ» . والسُّنَّةُ أن يقفَ الإمامُ عند رأسِ الرجل، وعند عجيزةِ المرْأةِ. قوله تعالى: {وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ} الآية. قيل: هذا تأكيدٌ للآيةِ السَّابقة. وقال الفارسيُّ: «ليست للتأكيد؛ لأنَّ تيكَ في قومٍ وهذه في آخرين، وقد تغاير لفظا الآيتين؛ فهنا» ولاَ «بالواو، لمناسبة عطف نَهْي على نَهْي قبله في قوله:» ولا تُصَلِّ. . ولا تَقُمْ «،» ولاَ تُعْجِبكَ «، فناسبَ ذلك» الواو «، وهناك ب» الفاء «، لمناسبة تعقيب قوله: {وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ} [التوبة: 54] أي: للإنفاق، فهم مُعْجَبون بكثرة الأموالِ والأولادِ، فنهاهُ عن الإعجاب ب» فاء «التعقيب. وهنا» وأولاَدهُمْ «دون» لا «نهيٌ عن الإعجاب بهما مجتمعين، وهناك بزيادة» لا «لأنَّه نهيٌ عن كل واحد واحد، فدلَّ مجموعُ الآيتين على النَّهي بالإعجاب بهما مجتمعين ومنفردين» . قال ابنُ الخطيبِ «السَّبَبُ فيه: أنَّ مثل هذا التَّرتيب يبتدأُ فيه بالأدْنَى ثمَّ يترقَّى إلى الأشرف، فيقال: لا يُعْجِبُنِي أمر الأمير، ولا أمر الوزير، وهذا يدلُّ على عدم التفاوت بين الأمرين عندهم» . وهنا قال «أن يُعذِّبَهُم» ، وهناك قال «ليُعَذِّبَهُم» ، فأتى ب «اللاَّم» المشعرة بالغلية ومفعول الإرادةِ محذوفٌ، أي: إنَّما يريد الله اختبارهم بالأموالِ والأولادِ - وأتى ب «أنْ» ؛ لأنَّ مصبَّ الإرادة التَّعذيبُ، أي: إنَّما يريد الله تَعْذيبَهُم، فقد اختلف مُتعلَّقُ الإرادة في الآيتين. هذا هو الظَّاهر. وقال ابنُ الخطيب «فائدته: التَّنبيه على أنَّ التعليلَ في أحكام الله تعالى محالٌ، وإنَّما ورد حرفُ التعليل زائداً ومعناه» أنْ «لقوله تعالى {وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله} [البينة: 5] ، أي:» وما أمروا إلا بأن يعبدوا الله «. وهناك» فِي الحياةِ الدُّنْيَا «، وهنا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 165 سقطت» الحَيَاة «، تنبيهاً على خِسِّيَّة الدُّنْيَا وأنَّها لا تَسْتحق أن تُسمَّى حياة، لا سيما وقد ذُكرت بعد ذكر موتِ المنافقين؛ فناسبَ ألاَّ تُسَمَّى حياة» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 قوله تعالى: {وَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} الآية. «إذَا» لا تقتضي تكراراً بوضعها، وإن كان بعضُ النَّاسِ فهم ذلك منها هنا، وقد تقدَّم ذلك أوَّل البقرة؛ وأنشد عليه: [البسيط] 2824 - إذَا وَجَدْتُ أوَارَ الحُبِّ فِي كَبِدِي ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . وأنَّ هذا إنَّما يُفهَمُ من القرائنِ، لا منْ وضع «إذَا» . قوله: «أَنْ آمِنُواْ» فيه وجهان: أحدهما: أنَّها تفسيريةٌ؛ لأنَّه فيه تقدَّمها ما هو بمعنى القول لا حروفه. والثاني: أنَّها مصدريةٌ، على حذف حر الجرّ، أي: بأنْ آمنُوا. وفي قوله: «استأذنك» التفاتٌ من غيْبَةٍ إلى خطابٍ، وذلك أنَّهُ قد تقدَّم لفظُ «رسُوله» ، فلو جاء على الأصل لقيل: اسْتَأْذَنَهُ «. فصل اعلم أنَّهُ تعالى بيَّن في الآيات المتقدمة احتيال المنافقين في التَّخلف عن رسُول الله - عليه الصَّلاة والسَّلام -، والقعود عن الغَزْوِ، وزاد ههنا، أنَّهُ متى نزلت أية فيها الأمر بالغزو مع الرسولِ، استأذن أولو الثروة والقدرة منهم في التخلُّف عن الغزو، وقالوا للرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ذَرْنَا نكُن مع القاعدين، أي: مع الضُّعفاء من النَّاس والسَّاكنين في البلد. و» السُّورة «يجوزُ أن يراد تمامها وأن يراد بعضها، كما يقع القرآن والكتاب على كلِّه وبعضه وقيل: المرادُ ب» السُّورة «براءة؛ لأنَّ فيها الأمر بالإيمان والجهاد. قوله {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 166 الخَوالِفُ: جمع خالفٍ من صفة النِّساءِ، وهذه صفةُ ذمّ؛ كقول زهير: [الوافر] 2825 - ومَا أدْرِي وسَوْفَ إخَالُ أدْرِي ... أَقوْمٌ آلُ حِصْنٍ أمْ نِسَاءُ؟ فإنْ تَكُنِ النِّساءُ مُخَبَّآتٍ ... فحُقَّ لِكُلِّ مُحْصَنَةٍ هِدَاءُ وقال آخر: [الخفيف] 2826 - كُتِبَ القَتْلُ والقِتَالُ عَلَيْنَا ... وعَلَى الغَانياتِ جَرُّ الذُّيُولِ وقال النَّحَّاسُ» يجوزُ أن تكون الخوالف من صفة الرِّجالِ، بمعنى أنَّها جمعُ «خالفة» يقال: رجل خالفة، أي: لا خير فيه «. فعلى هذا يكونُ جمعاً للذكور، باعتبار لفظه. وقال بعضهم: إنَّه جمع» خالف «، يقال: رجل خالفٌ، أي: لا خير فيه. وهذا مردودٌ، فإنَّ» فواعِل «لا يكونُ جمعاً ل» فَاعلِ «، وصفاً لعاقل، إلاَّ ما شذَّ، من نحو: فَوَارِس، ونَواكِس وهَوالك. ثم قال تعالى: {وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ} [التوبة: 87] وقد تقدَّم الكلامُ في الطَّبْعِ والختم، أوَّل البقرة. قوله تعالى: {لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ} الآية. ومعنى هذا الاستدراك: أنَّه إن تخلَّف هؤلاء المنافقون عن الغزو؛ فقد توجه إليه من هو خير منهم ونظيره: {فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ} [الأنعام: 89] وقوله: {فَإِنِ استكبروا فالذين عِندَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار} [فصلت: 38] ، ولمَّا وصفهم بالمُسارعةِ إلى الجهادِ، ذكر ما حصل لهم من الفوائدِ، وهي أنواع، أوَّلها: قوله {وأولئك لَهُمُ الخيرات} والخيراتُ: جمع خَيْرة، على» فَعْلة «بكسون العين، وهو المُسْتَحْسَنُ من كُلِّ شيءٍ، وغلبَ استعماله في النِّساء، ومنه قوله تعالى: {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} [الرحمن: 70] ؛ وقول الشَّاعر: [الكامل] 2827 - ولقَدْ طَعَنْتُ مَجامِعَ الرَّبَلاتِ ... ربلاتِ هِنْدٍ خَيْرَةِ الملكاتِ قال المُفسَّرونَ: هي الجواري الحسان والجنَّة. وقال ابنُ عبَّاس: «الخيْرَاتُ» لا يعلم معناهُ إلاَّ الله، كما قال جلَّ ذكرهُ {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] ٍ. وقيل: المرادُ: ب «الخَيْرَات» الثَّواب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 167 وثانيها: قوله: {وأولئك هُمُ المفلحون} ، والمرادُ منه: التخلص من العقاب. وثالثها: قوله: {أَعَدَّ الله لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا} يحتملُ أن تكون هذه الجنات كالتَّفسير للخيراتِ والفلاحِ، ويحتملُ أن تحمل الجنات على ثواب الآخرة، والفلاح على منافع الدُّنيا، كالغزو، والثروة، والقدرةِ، والغلبةِ، و «الفَوزُ العظيمُ» عبارة عن كون تلك الحالة مرتبة رفيعه، ودرجة عالية. قوله تعالى: {وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب} الآية. لمَّا شرح أحوال المنافقين الذين كانُوا في المدينة، شرح في هذه الآية أحوال المنافقين من الأعراب. قرأ الجمهور «المُعذِّرُونَ» بفتح العين وتشديد الذَّال، وهي تحتمل وجهين: أن يكون وزنه «فعَّل» مضعّفاً، ومعنى التَّضعيف فيه التكليف، والمعنى: أنه توهَّم أنَّ لهُ عُذراً، ولا عذر لهُ. والثاني: أن يكون وزنه «افْتَعَل» ، والأصلُ: «اعتذرَ» ، فأدغمت التاءُ في الذال بأن قلبت تاءُ الافتعال ذالاً، ونُقِلت حركتها إلى السَّاكن قبلها، وهو العين، ويدلُّ على هذا قراءةُ سعيد بن جُبير «المُعْتَذِرُونَ» على الأصل، وإليه ذهب الأخفشُ، والفرَّاءُ وأبو عبيد، وأبو حاتم، والزَّجَّاجُ، وابن الأنباري، والاعتذار قد يكُون بالكذبِ، كما في قوله {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} [التوبة: 94] ، وكان ذلك الاعتذار فاسداً، لقوله: «لا تَعْتَذِرُوا» ، وقد يكون بالصِّدقِ، كقول لبيد: [الطويل] 2828 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ومَنْ يَبْكِ حَوْلاً كَامِلاً فَقدِ اعتذرْ يريد: فقد جاء بعُذْرٍ. وقرأ زيد بن عليّ، والضحاكُ، والأعرجُ، وأبو صالح، وعيسى بن هلال، وهي قراءة ابن عباس ومجاهد أيضاً، ويعقوب، والكسائي «المُعْذرُونَ» بسكون العين وكسر الذَّال مخففة من أعْذَر، يُعْذِر ك «أكْرَم، يُكْرِم» ، وهم المبالغون في العُذْرِ. وقرأ مسلمةُ «المُعَّذِّرُون» بتشديد العين والذال، من «تعذَّرَ» بمعنى اعْتذرَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 168 قال أبُو حاتمٍ: أراد «المتعذَّرون» والتاء لا تدغم في العين، لبُعد المخارجِ وهي غلطٌ منه، أو عليه. قوله: «ليُؤذنَ» متعلقٌ ب «جَاءَ» وحذفَ الفاعلُ، وأقيمَ الجارُّ مقامه، للعلم به، أي: ليأذن لهم الرسول. فصل أمَّا قراءةُ التخفيف فهم الكاذبون في العذر، وأمَّا قراءة التشديد، فمحتملة لأن يكونُوا صادقين، وأن يكُونُوا كاذبينَ. قال ابنُ عبَّاسٍ «هم الَّذِين تخلَّفُوا بعذرٍ بإذن رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» وهو قول بعض المفسرين أيضاً، قال: المعذرون، كانوا صادقين؛ لأنَّه تعالى لمَّا ذكرهم قال بعدهم {وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ} ، فلمَّا ميَّزهم عن الكاذبين دلَّ على أنَّهم لَيْسُوا كاذبينَ. وقال الضَّحَّاكُ: هُم رهطُ عامر بن الطفيل جاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دفاعاً عن أنفسهم، فقالُوا: يا نبيَّ الله: إنْ نحنُ غزونَا معك أغارت أعرابُ طيىءٍ على حلائلنا، وأولادنا، ومواشينا، فقال لهم رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد نَبَّأني الله من أخباركم، وسيغنيني الله عنكم. وروى الواحديُّ عن أبي عمرو: أنَّهُ لمَّا قيل له هذا الكلام قال: إنَّ أقواماً تكلَّفُوا عُذْراً بباطل فهمُ الذين عناهم بقوله: «وَجَآءَ المعذرون» ، وتخلَّف آخرون لا بعُذر ولا بشبهةِ عذرٍ جراءة على الله تعالى؛ فهم المرادون بقوله {وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ} ، فأوعدهُم بقوله: {سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ} في الدُّنيا بالقتلِ، وفي الآخرة بالنَّارِ. وإنَّما قال «مِنْهُم» ؛ لأنَّه تعالى كان عالماً بأنَّ بعضهم سيؤمن، فذكر بلفظة «مِنْ» الدَّالة على التَّبعيض. وقرأ الجمهور «كَذبُوا» بالتَّخفيف، أي: كذبُوا في أيمانهم. وقرأ الحسنُ في المشهور عنه وأبيٌّ، وإسماعيل «كذَّبُوا» بالتَّشديد، أي: لَمْ يُصدِّقُوا ما جاء به الرَّسولُ عن ربِّه ولا امتثلوا أمره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 169 ثمَّ ذكر أهل العذر فقال: {لَّيْسَ عَلَى الضعفآء} قال ابنُ عبَّاسٍ: يعني: الزَّمنى، والمشايخ والعجزة. وقيل: هم الصُّبيان. وقيل: النِّسوان. {وَلاَ على المرضى} وهم أصحاب العمى، والعرج والزمانة ومن كان موصُوفاً بمرض يمنعه من التمكن من المحاربة، {وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} يعني: الفقراء؛ لأنَّ حضورهُم يكون كلاًّ ووبالاً على المجاهدين، «حَرَجٌ» إثم. وقيل: ضيق عن القعود في الغزو. ثم إنَّه تعالى شرط في جواز هذا التأخير شرطاً مُعيَّناً، فقال {إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ} . قرأ أبو حيوةَ: «نَصَحُوا اللهَ» بغير لام. وقد تقدَّم أن «نَصَحَ» يتعدَّى بنفسه وباللامِ. والنُّصح: إخلاص العملِ من الغِشّ. ومنه: التَّوبة النصُوح. قال نفطويه: نصح الشيء: إذا خلص، ونصح له القول: أي: أخلصه له. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الدِّينُ النَّصيحَةُ» ثلاثاً. قالوا لمنْ؟ قال: «للهِ ولكتابِهِ ولرسُوله ولأئمَّةِ المسلمينَ وعامَّتهمْ» . قال العلماءُ: النَّصيحة للهِ: إخلاص الاعتقاد في الوحدانيَّةِ، ووصفه بصفات الألوهيَّةِ وتنزيهه عن النَّقائص، والرَّغبة في محابه، والبُعْد من مساخطه، والنَّصيحة لرسوله: التصديق بنُبُوَّتِهِ والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبَّتِهِ ومحبَّةِ آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنَّته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والنفقة فيها، والذب عنها، ونشرها، والدُّعاء إليها، والتخلُّق بأخلاقه الكريمة، وكذا النصح لكتاب الله قراءته، والتفقه فيه، والذَّب عنه، وتعليمه وإكرامه، والتخلُّق به. والنصح لأئمة المسلمين: ترك الخروج عليهم، وإرشادهم إلى الحقِّ، وتثبيتُهُمْ فيما أغفلوه من أمر المسلمين، ولزوم طاعتهم، والقيام بواجب حقهم. وأمَّا النصحُ للعامَّةِ: فهو ترك معاداتهم وإرشادهم، وحب الصَّالحين منهم، والدعاء لجميعهم، وإرادة الخير لكافتهم. والمعنى: أنَّهُمْ إذا أقاموا لا يلقوا الأراجيف، ولا يثيروا الفتنَ، ويسعوا في إيصال الخير إلى المجاهدين ويقوموا بإصلاح مهمَّات بيوتهم، ويسعوا في إيصال الأخبار السارة من بيوتهم إليهم، ويخلصوا الإيمان والعمل لله، فهذه أمورٌ جارية مجرى الإعانة على الجهادِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 170 ثم قال تعالى: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} فقوله «مِنْ سبيلٍ» فاعلٌ بالجار قبله لاعتماده على النَّفْي، ويجوز أن يكون مبتدأ، والجار قبله خبره. وعلى كلا القولين ف «مِنْ» مزيدةٌ فيه، أي: ما على المحسنين سبيل. والمعنى: أنَّهُ لا إثم عليه بسبب القعود عن الجهاد. {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . قال قتادةُ: نزلت في عائذ بن عمرو وأصحابه. وقال الضحاكُ نزلت هذه الآية في عبد الله ابن أم مكتوم، وكان ضريراً. فصل قال بعضهم: في هذه الآية نوعٌ من البديع، يُسمَّى التلميح، وهو أن يشارَ إلى قصةٍ مشهورةٍ، أو مثل سائرٍ، أو شعرٍ نادرٍ، في فحوى كلامك من غير ذكره؛ ومنه قوله: [البسيط] 2829 - اليَوْمَ خَمْرٌ ويبْدُو في غدٍ خبرٌ ... والدَّهْرُ مِنْ بيْنِ إنعامٍ وإبْآسِ يُشير إلى قول امرئ القيس لمَّا بلغه قتلُ أبيه: «اليوم خَمْرٌ، وغداً أمرٌ» . وقول الآخر: [الطويل] 2830 - فواللهِ مَا أدْرِي أأحلامُ نَائِمٍ ... ألمَّتْ بِنَا أم كان في الرَّكْبِ يُوشَعُ؟ يشير إلى قصَّة يوشع عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، واستيقانه الشَّمس. وقول الآخر: [الطويل] 2831 - لَعمرٌو مَعَ الرَّمضَاءِ والنَّارُ تَلتَظِي ... أرَقُّ وأحْفَى مِنْكَ في ساعةِ الكَرْبِ أشار إلى البيت المشهور: [البسيط] 2832 - المُسْتجيرُ بعمْرٍو عندَ كُرْبتِهِ ... كالمُسْتَجيرِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بالنَّارِ فكأنه قوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} اشتهر ما هو بمعناه بين النَّاس؛ فأشار إليه من غير ذكر لفظه. ولمَّا ذكر أبو حيان التلميح لم يُقَيِّدَهُ بقوله: «من غير ذكره» . ولا بُدَّ منه لأنَّه إذا ذكره بلفظه كان اقتباساً وتضميناً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 171 فصل اختلفوا في قوله: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} هل يفيدُ العموم؟ فقال بعضهم: لا؛ لأنَّ اللفظ مقصورٌ على أقوام مُعَيَّنينَ نزلت الآية فيهم. وقال آخرون: بلى؛ لأنَّ العبرةَ بعموم اللفظِ لا بخصوصِ السَّببِ، والمُحسن هو الآتي بالإحسان، ورأس الإحسان لا إله إلاَّ اللهَ، فكلُّ مَنْ قالها واعتقدها، كان من المسلمين، فاقتضت نفي جميع المسلمين؛ فدلَّ هذا اللفظ بعمومه على أنَّ الأصلَ حرمة القتلِ، وحرمة أخذ المالِ وأن لا يتوجه عليه شيء من التَّكاليفِ، إلاَّ بدليلٍ منفصل، فصارت هذه الآية بهذا الطريق أصلاً مُعتبراً في الشريعة، في تقرير أنَّ الأصل براءة الذِّمة، إلى أن يرد نص خاص. قوله: {وَلاَ عَلَى الذين} . فيه أوجه: أحدها: أن يكون معطوفاً على «الضُّعفاء» ، أي: ليس على الضعفاءِ، ولا على الذين إذا ما أتوكَ، فيكونون داخلين في خبر «ليس» مُخْبراً بمتعلقهم عن اسمها، وهو «حَرَجٌ» . الثاني: أن يكون معطوفاً على «المُحْسنينَ» فيكونون داخلين فيما أخبر به من قوله: «مِنَ سبيلٍ» ، فإنَّ «مِنْ سبيلٍ» يحتمل أن يكون مبتدأ، وأن يكون اسم «ما» الحجازية، و «مِنْ» مزيدةٌ في الوجهين. الثالث: أن يكون «ولا علَى الَّذِينَ» خبراً لمبتدأ محذوف، تقديره: ولا على الذين إذا ما أتوكَ. . إلى آخر الصلة، حرجٌ، أو سبيلٌ وحذف لدلالةِ الكلامِ عليه، قاله أبُو البقاءِ. ولا حاجةَ إليه، لأنَّه تقديرٌ مُسْتغنًى عنه إذ قدَّر شيئاً يقومُ مقامهُ هذا الموجودُ في اللفظ والمعنى. وهذا الموصولُ، أعني قوله: {وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ} ، يحتملُ أن يكون مندرجاً في قوله: {وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ} وذكروا على سبيل نفي الحرج عنهم، وألا يكونوا مندرجين، بل أن يكون هؤلاء وجدوا ما ينفقونَ، إلاَّ أنَّهُمْ لمْ يَجدُوا مرْكُوباً. وقرأ معقل بنُ هارون «لنَحْملَهُمْ» بنون العظمة، وفيها إشكالٌ، إذ كان مقتضى التركيب: قلت: لا أجدُ ما يحملكم عليه الله. قوله: «قُلْتَ» فيه أربعة أوجهٍ، أحدها: أنَّهُ جواب «إذا» الشَّرطيَّة، و «إذَا» وجوابها في موضع الصِّلةِ، وقعت الصِّلةُ جملة شرطية، وعلى هذا؛ فيكونُ قوله: «تولَّوا» جواباً لسؤال مقدر كأنَّ قائلاً قال: ما كان حالهم إذا أجيبوا بهذا الجواب؟ فأجيب بقوله: «تَوَلَّوْا» . الثاني: أنَّه في موضع نصب على الحال، من «أتوكَ» ، أي: إذَا أتوكَ، وأنت قائلٌ: لا أجدُ ما أحملكم عليه، و «قَدْ» مقدرة، عند من يشترطُ ذلك في الماضي الواقع حالاً، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 172 كقوله: {أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} [النساء: 90] في أحد أوجهه كما تقدَّم، وإلى هذا نحا الزمخشريُّ. الثالث: أن يكون معطوفاً على الشَّرط؛ فيكون في محلِّ جرٍ بإضافة الظرف إليه بطريق النسق وحذف حرف العطف، والتقدير: وقلت، وقد تقدَّم الكلام على هذه المسألة وإلى هذا ذهب الجرجاني، وتبعه ابنُ عطيَّة، إلا أنَّه قدَّر العاطف فاءً أي: فقلت. الرابع: أن يكون مستأنفاً. قال الزمخشريُّ «فإن قلت: هل يجُوزُ أن يكون قوله:» قلت لا أجدُ «استئنافاً مثله؟ - يعني مثل: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} [التوبة: 93]- كأنَّه قيل: إذا ما أتوك لتحملهم تولَّوا، فقيل: ما لهُم تولَّوا باكينَ؟ قلت لا أجدُ ما أحملهم عليه إلاَّ أنَّه وسط بين الشرط والجزاء، كالاعتراض؟ قلتُ: نعم، ويحسنُ» انتهى. قال أبُو حيَّان «ولا يجوزُ، ولا يحسن في كلام العربِ، فكيف في كلام الله؟ وهو فهم أعجمي» قال شهابُ الدين: وما أدري ما سببُ منعه، وعدم استحسانه له مع وضوحه وظهوره لفظاً ومعنًى؟ وذلك لأنَّ تولِّيهم على حالة فيض الدَّمع ليس مرتباً على مجرَّد مجيئهم له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لهم ذلك سببٌ في بكائهم؛ فحسن أن يجعل قوله: {قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ} جواباً لمنْ سأل عن علةِ تولِّيهم، وأعينُهم فائضةٌ دمعاً وهو المعنى الذي قصده أبُو القاسم وعلى هذه الأوجه الأربعة المتقدمة في «قُلْتَ» يكون جواب الشَّرط قوله: «تولَّوا» ، وقوله «لِتحْمِلهُمْ» علة ل «أتَوْكَ» . وقوله: «لا أجدُ» هي المتعديةُ لواحدٍ؛ لأنَّها من «الوُجْد» ، و «مَا» يجوز أن تكون موصولةً، أو موصوفةً. فصل قال أبُو العباس المقرىء: ورد لفظ التَّولِّي في القرآن على أربعة أوجه: الأول: بمعنى الانصراف، قال تعالى: {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} [التوبة: 92] ومثله قوله تعالى {ثُمَّ تولى إِلَى الظل} [القصص: 24] أي: انصرف. الثاني: بمعنى: «أبَى» ، قال تعالى {فَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم} [المائدة: 49] أي: أبَوْا أن يؤمنوا؛ ومثله قوله تعالى {فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ واقتلوهم} [النساء: 89] . الثالث: بمعنى: «أعرض» قال تعالى {وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} [النساء: 80] . الرابع: الإعراض عن الإقبال، قال تعالى {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار} [الأنفال: 15] . قوله: {وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ} في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «تولَّوا» . قال الزمخشريُّ «تفيضُ من الدَّمع، كقولك: تفيض دمعاً» . وقد تقدَّم الكلام على هذا في المائدة مستوفًى عند قوله {ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع} [المائدة: 83] وأنَّهُ جعل «من الدَّمع» تمييزاً، و «مِنْ» مزيدة وتقدَّم الرَّد عليه في ذلك هناك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 173 قوله: «حَزَناً» في نصبه ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّهُ مفعولٌ من أجله، والعاملُ فيه «تَفِيضُ» قاله أبو حيان. لا يقال: إنَّ الفاعل هنا قد اختلف، فإنَّ الفيض مسند للأعين، والحزنَ صادرٌ من أصحاب الأعين، وإذا اختلف الفاعل وجب جرُّه بالحرف؛ لأنَّا نقول: إنَّ الحزنَ يُسندُ للأعين أيضاً مجازاً، يقال: عين حزينةٌ وسخينةٌ، وعين مسرورةٌ وقريرة، في ضد ذلك. ويجوز أن يكون النَّاصب له «تولَّوا» ، وحينئذٍ يتَّحدُ فاعلا العلَّةِ والمعلولِ حقيقةً. الثاني: أنَّهُ في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: تولَّوا حزينين، أو تفيض أعينهم حزينةً، على ما تقدَّم من المجاز. الثالث: أنه مصدر ناصبُه مقدرٌ من لفظه، أي: يحزنون حزناً، قاله أبو البقاء. وهذه الجملةُ التي قدَّرها ناصبة لهذا المصدر هي أيضاً في محلِّ نصبٍ على الحال، إمَّا من فاعل «تولَّوا» ، وإمَّا من فاعل «تَفِيضُ» . قوله: «أَلاَّ يَجِدُوا» فيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ مفعولٌ من أجله، والعامل فيه «حزناً» إن أعربناه مفعولاً له، أو حالاً. وأمَّا إذا أعربناه مصدراً فلا؛ لأنَّ المصدر لا يعملُ إذا كان مؤكداً لعامله. وعلى القول بأنَّ «حَزَناً» مفعول من أجله، يكون «ألاَّ يَجِدُوا» علة العلة يعني أن يكون علَّل فيض الدَّمع بالحزن، وعلَّل الحزن بعدم وجدان النَّفقة، وهو واضحٌ وقد تقدَّم نظيرُ ذلك في قوله: {جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله} [المائدة: 38] . الثاني: أنه متعلق ب «تَفِيضُ» . قال أبو حيان: ولا يجوز ذلك على إعرابه «حَزَناً» مفعولاً له والعاملُ فيه «تفيضُ» ، إذ العاملُ لا يقتضي اثنين من المفعول له إلاَّ بالعطفِ، أو البدلِ. فصل قال المفسِّرون: هم سبعة نفر سموا البكائين، معقل بن يسار، وصخر بن خنساء وعبد الله بن كعب الأنصاري، وعلية بن زيد الأنصاري، وسالم بن عمير، وثعلبة بن غنمة، وعبد الله بن معقل المزني، أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا رسول الله: إنَّ الله ندبنا للخروج معك، فاحملنا. واختلفوا في قوله «لِتحْمِلهُم» قال ابنُ عبَّاس: سألوه أن يحملهم على الخفاف المرقوعة والنعال المخصوفة ليغزوا معه، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا أجِدُ ما أحملكُم عليهِ» فتولَّوا وهم يبكُون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 174 وقال الحسنُ: «نزلت في أبي موسى الأشعري، وأصحابه، أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستحملونه، ووافق ذلك منه غضباً فقال:» والله لا أحْملكُمْ ولا أجِدُ ما أحْملُكُم عليْهِ «فتولَّوا يبكون، فدعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأعطاهم ذوداً. فقال أبو موسى: ألست حلفت يا رسول الله؟ فقال:» أما إنِّي إن شاء الله لا أحْلِفُ فأرَى غيرَها خيراً منها، إلاَّ أتَيْتُ الذي هُو خَيْرٌ وكفَّرتُ عنْ يَمِيني «. ولمَّا قال تعالى: {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} قال في هذه الآية: {إِنَّمَا السبيل عَلَى الذين يَسْتَأْذِنُونَكَ} في التخلف:» وهُمْ أغنِيَاءُ «. قوله:» ... رضُوا «فيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ مستأنفٌ، كأنَّهُ قال قائلٌ: ما بالهم استأذنوا في القعودِ، وهُم قادرُون على الجهادِ؟ فأجيب بقوله: {رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الخوالف} ، وإليه مال الزمخشريُّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 175 والثاني: أنَّه في محلِّ نصب على الحالِ، و» قَدْ «مقدَّرةٌ في قول. وتقدَّم الكلام في:» الخَوالفِ «.» وطبعَ اللهُ على قُلوبِهِمْ «قوله:» وطبعَ «نسقٌ على» رَضُوا «تنبيهاً على أنَّ السَّبب في تخلُّفهم رضاهم بقُعُودهم، وطبعُ الله على قلوبهم، وقوله:» إنَّما السَّبيلُ على «فأتَى ب» عَلَى «، وإن كان قد يصلُ ب» إلَى «؛ لأنَّ» عَلى «تدلُّ على الاستعلاء، وقلة منعة من تدخل عليه، نحو: لي سبيل عليك، ولا سبيل لي عليك، بخلاف» إلى «فإذا قلت: لا سبيل عليك، فهو مُغايرٌ لقولك: لا سبيل إليك، ومن مجيء» إلَى «معه قوله: [الطويل] 2833 - ألاَ ليْتَ شِعْرِي هَلْ إلى أمِّ سالمٍ ... سبيلٌ؟ فأمَّا الصَّبْرُ عَنْهَا فلا صَبْرَا وقول الآخر: [البسيط] 2834 - هَلء مِنْ سبيلٍ إلى خَمْرٍ فأشْربهَا ... أمْ مِنْ سبيلٍ إلى نصْرِ بنِ حجَّاجِ قوله تعالى: {يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ} . روي أنَّ المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك كانوا بضعة وثمانين نفراً، فلمَّا رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جاءوا يعتذرون بالباطل، فقال الله {قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ} لم نصدقكم. قوله: {قَدْ نَبَّأَنَا الله} فيه وجهان: أحدهما: أنَّها المتعدِّيةُ إلى مفعولين. أولهما:» ن «، والثاني:» مِنْ أخْبارِكُمْ «، وعلى هذا ففي» مِنْ «وجهان: أحدهما: أنَّها غيرُ زائدةٍ، والتقدير، قد نبَّأنا اللهُ أخْبَاراً من أخباركم، أو جملة من أخباركم، فهو في الحقيقة صفةٌ للمفعول المحذوف. والثاني: أنَّ» مِنْ «مزيدةٌ عند الأخفشِ؛ لأنَّه لا يشترط فيها شيئاً، والتقدير: قد نبَّأنا الله أخباركم. الوجه الثاني - من الوجهين الأولين -: أنَّها متعديةٌ لثلاثة، ك» أعْلَم «، فالأولُ، والثاني ما تقدَّم، والثالث محذوفٌ اختصاراً للعلم به، والتقدير: نبَّأنا الله من أخباركم كذباً، ونحوه. قال أبو البقاء: «قد يتعدَّى إلى ثلاثةٍ، والاثنان الآخران محذوفانِ تقديره: أخباراً من أخباركم مثبتة. و» مِنْ أخباركُم «تنبيه على المحذُوف وليست» مِنْ «زائدة، إذ لو كانت زائدة، لكانت مفعولاً ثانياً، والمفعول الثالث محذوفٌ، وهو خطأ، لأنَّ المفعول الثاني متى ذُكِر في هذا الباب لزم ذكرُ الثالث» . وقيل: «مِنْ» بمعنى «عن» . قال شهابُ الدِّين «قوله: إنَّ حذف الثالث خطأ» إن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 176 عنى حذف الاقتصارِ فمُسلَّم، وإن عنى حذف الاختصار فممنوعٌ، وقد تقدَّم مذاهب النَّاس في هذه المسألة. وقوله: {قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ} علّة لانتفاءِ تصديقهم. ثم قال: {وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} فلمَ لَمْ يقل، ثُمَّ تردُّونَ إليْهِ؟ . فالجواب: أنَّ في وصفه تعالى بكونه {عَالِمِ الغيب والشهادة} ما يدلُّ على كونه مطلعاً على بواطنهم الخبيثة، وضمائرهم المملوءة بالكذب والكيد، وفيه تخويف شديد، وزجر عظيم لهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 قوله تعالى: {سَيَحْلِفُونَ بالله لَكُمْ إِذَا انقلبتم إِلَيْهِمْ} الآية. لمَّا حكى عنهم أنَّهم يعتذرون إليكم، ذكر هنا أنَّهم يؤكدون تلك الأعذار بالأيمانِ الكاذبة «إذَا انقَلبْتُم» انصرفتم إليهم أنهم ما قدروا على الخروجِ. «لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ» أي: لتصفحوا عنهم ولا تؤنبوهم. ثم قال تعالى: {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ} قال ابن عباس: يريد ترك الكلام والسلام. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 177 وقال مقاتل: قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين قدم المدينة: «لا تُجالسُوهم ولا تكلموهم» . ثمَّ ذكر العلَّة في وجوب الإعراض عنهم، فقال: «إنَّهُم رجْسٌ» والمعنى: أن خبث بواطنهم رجس روحاني، فكما يجبُ الاحتراز عن الأرجاس الجسمانية؛ فوجوب الاحتراز عن الأرجاس الروحانية أولى. وقيل: إنَّ عملهم قبيحٌ. {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} أي: منزلهم. قال الجوهريُّ: المأوى: كل مكان يأوي إليه شيء ليلاً أو نهاراً، وقد أوى فلانٌ إلى منزله يأوي أويًّا، على «فُعُول» ، وإوَاءً، وأوَيْتُه إذا أنزَلْتَهُ بك، فعلتُ وأفعلتُ، بمعنى عن أبي زيدٍ. ومَأوِي الإبل - بكسر الواو - لغةٌ في مأوى الإبل خاصَّةً، وهو شاذ. قوله: «جَزَاءً ... » يجوز أن ينتصب على المصدر بفعل من لفظه مقدر، أي: يُجْزونَ جزاء، وأن ينتصب بمضمون الجملة السابقة؛ لأنَّ كونهُم يأوونَ في جهنم في معنى المجازاة، ويجوزُ أن يكون مفعولاً من أجله. قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ} الآية. لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّهُم يحلفون بالله ليعرض المسلمون عن إيذائهم، بين ههنا أيضاً أنهم يحلفون ليرضى المسلمون عنهم، ثمَّ إنَّه تعالى نهى المسلمين عن أن يرضوا عنهم، وذكر العلَّة في ذلك النهي وهي أن: {الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين} . قوله تعالى: {الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً} الآية. لمَّا ذكر الله تعالى أحوال المنافقين في المدينة ذكر من كان خارجاً منها، ونائباً عنها من الأعراب فقال: كفرهم أشد. قال قتادةُ: «لأنَّهم أبعد عن معرفة السنن» وقيل: لأنَّهم أقسَى قلباً، وأكذبُ قولاً، وأغلظُ طبعاً، وأبعد عن استماع التنزيل، ولذا قال تعالى في حقِّهم: «وأجْدَرُ» أي: أخلق. «أَلاَّ يَعْلَمُواْ» . ولمَّا دلَّ ذلك على نقصهم من المرتبة الكاملة عن سواهم، ترتب على ذلك أحكام: منها: أنَّهُ لا حقَّ لهم في الفيء والغنيمة، لقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في حديث بريدة: « ... ولا يكُون لهُمْ فِي الغنيمةِ والفيءِ شيءٌ إلاَّ أنْ يُجاهدُوا مع المسلمينَ» ومنها: إسقاط شهادة أهل البادية عن الحاضرة، لتحقق التهمة. وأجازها أبو حنيفة؛ لأنَّها لا تراعى كل تهمة والمسلمون كلهم عنده عدول، وأجازها الشافعيُّ إذا كان عدلاً، وهو الصحيحُ. قوله: «الأعراب» صيغة جمعٍ، وليس جمعاً ل «عَرَب» قاله سيبويه، وذلك لئلاَّ يلزم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 178 أن يكون الجمع أخصَّ من الواحد، فإنَّ العرب هذا الجيل الخاص، سواء سكن البوادي، أم سكن القرى. وأمَّا الأعراب، فلا يطلق إلاَّ على من كان يسكن البوادي فقط، وقد تقدَّم عند قوله تعالى: {رَبِّ العالمين} [الفاتحة: 2] ، أوَّل الفاتحة. ولهذا الفرق نسب إلى «الأعْراب» على لفظه فقيل: أعرابي ويجمع على «أعَارِيب» . قال أهلُ اللغة: «يقال: رجلٌ عربيّ، إذا كان نسبه في العربِ، وجمعه العربُ، كما يقال: يهُوديٌّ ومجُوسيٌّ، ثم تحذف ياء النسب في الجمع، فيقال: اليهُودُ والمجُوسُ، ورجلٌ أعرابي بالألف إذا كان بدوياً، ويطلب مساقط الغيث والكلأ، سواء كان من العربِ، أو من مواليهم. ويجمع الأعرابي على الأعراب، والأعاريب، والأعرابي إذا قيل له: يا عربي، فرح والعربي إذا قيل له: يا أعرابيّ، غضب، فمن استوطن القرى العربية فهم عرب، ومن نزل البادية فهم أعرابٌ ويدلُّ على الفرق قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» حُبُّ العربِ من الإيمانِ «وأما الأعرابُ فقد ذمَّهم الله تعالى في هذه الآية. وأيضاً لا يجُوزُ أن يقال للمهاجرين والأنصار أعراب، إنَّما هُمْ عرب، وهم متقدِّمون في مراتب الدِّين على الأعراب، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» لا تُؤُمَّنَّ امرأةٌ رجُلاً ولا فاسقٌ مُؤمناً ولا أعرابيٌّ مُهاجِراً «. فصل قال بعضُ العلماء: الجمع المحلى بالألف واللاَّم الأصل فيه أن ينصرف إلى المعهود السابق فإن لم يوجد المعهود السابق، حمل على الاستغراق للضرورة، قالوا: لأنَّ صيغة الجمع تكفي في حصول معناها الثلاثة فما فوقها، والألف واللام للتعريف، فإن حصل جمع هو معهود سابق؛ وجب الانصراف إليه، وإن لم يوجد حمل على الاستغراق، دفعاً للإجمال. قالوا: إذا ثبت هذا فقوله:» الأعرابُ «المرادُ منه جمع مُعَيَّنُون من منافقي الأعراب، كانوا يوالون منافقي المدينة، فانصرف هذا اللَّفْظُ إليهم. فصل سمي العربُ عرباً، لأنَّ أباهُم: يعربُ بنُ قطعان، فهو أوَّلُ من نطق بالعربيَّةِ، وقيل: سمُّوا عرباً؛ لأنَّ ولد إسماعيل نشئوا ب» عربة «وهي تهامة، فنسبوا إلى بلدهم، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 179 وكلُّ من يسكن جزيرة العرب وينطقُ بلسانهم؛ فهو منهم؛ لأنَّهم إنَّما تولَّدُوا من ولد إسماعيل، وقيل: سمُّوا عرباً؛ لأنَّ ألسنتهم معربة عما في ضمائرهم، وهذه الأقوال ليست بشيء من الأول، فلأن إسماعيل حين ولدته هاجر نزلت عندهم» جُرهم «فربي بينهم، وكانوا عرباً قبل إسماعيل، ولأن» يعرب «من ولد إسماعيل، وكان حميلاً عربياً. وأمَّا الثاني لأن إسماعيل تعلَّم العربيَّة في» جُرهم «حين نزلوا عند هاجر بمكَّة. والصحيحُ أنَّ العرب العاربة قبل إسماعيل منهم: عادٌ وثمود، وطسْم، وجديس، وجرهم، والعماليق، وآدم يقال: إنَّه كان ملكاً، وأنه أول من سقف البيوت بالخشب المنشور، وكانت الفرس تسميه آدم الأصغر، وبنوه قبيلة يقال لها» وبار «هلكوا بالرما. انثال عليهم؛ فأهلكهم وطمَّ منازلهم، وفي ذلك يقول بعض الشعراء: [الرجز] 2835 - وكَرَّ دَهْرٌ على وَبَار ... فَهَلَكَتْ جَهْرَةً وبَارُ وأمَّا الثالثُ، فكلُّ لسان معرب عمَّا في ضمير صاحبه، وإنَّما يظهر ما قاله النسابُون، أنَّ سام بن نوح أبو العرب، وفارس، والروم، فدل على أنَّ العرب موجودون من زمن سام بن نوح. قال بعضهم: والصحيحُ إن شاء الله تعالى - أن آدم نطق بالعربيَّة، وغيرها من الألسنةِ، لقوله تعالى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الأسمآء كُلَّهَا} [البقرة: 31] . ولا شكّ أنَّ اللِّسان العربيّ مختصّ بأنواع الفصاحةِ والجزالة، لا توجدُ في سائرِ الألسنةِ. قال بعضُ الحكماءِ: حكمة الرُّوم في أدمغتهم؛ لأنَّهم يقدرون على التركيبات العجيبة، وحكمةُ الهندِ في أوهامهم، وحكمةُ اليونانِ في أفئدتهم لكثرةِ ما لهم من المباحث العقليَّةِ، وحكمة العرب في ألسنتهم بحلاوةِ ألفاظهم، وعذوبة عباراتهم. فصل اعلم أن الله تعالى حكم على الأعراب بحكمين: الأول: أنَّهُم أشدّ كفراً ونفاقاً، والسبب فيه وجوه: أحدها: أنَّ أهل البدو يشبهون الوحوش. وثانيها: استيلاءُ الهواء الحار اليابس عليهم، وذلك يزيدُ في التيه، والتَّكبر، والفخر، والطيش عليهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 180 وثالثها: أنَّهُم ما كانوا تحت سياسة سائس، ولا تأديب مؤدب؛ فنشأوا كما شاءوا، ومن كان كذلك؛ خرج على أشدِّ الجهات فساداً. ورابعها: أنَّ من أصبح وأمسى مشاهداً لوعظ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبياناته الشافية، كيف يكون مُساوياً لمن لم يؤثر هذا الخير، ولم يسمع خبره؟ وخامسها: قابل الفواكه الجبلية بالفواكه البستانية، لتعرف الفرق بين أهل الحضرِ والباديةِ. و «أشَدّ» أصله: أشدد، وقد تقدم. وقوله «كُفْراً» نصب على الحال، و «نِفَاقاً» عطف عليه، و «أجْدَرُ» عطف على «أشَدّ» . الحكم الثاني: قوله: {وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ. .} «أجْدَر» أي: أحَقُّ وأولى؛ يقال: هو جديرٌ وأجدرُ، وحقيقٌ وأحقُّ، وخليقٌ وأخلقُ، وقمنٌ بكذا، كلُّه بمعنى واحد، قال الليثُ: جَدَر يَجْدرُ جدارَةً، فهو جَديرٌ، ويُثَنَّى ويُجمع؛ قال الشاعر: [الطويل] 2836 - بخيْلٍ عليْهَا جِنَّةٌ عبْقريَّةٌ ... جَديرُونَ يَوْماً أنْ ينَالُوا فَيسْتَعْلُوا وقد نبَّه الرَّاغبُ على أصل اشتقاقِ هذه المادة، وأنَّها من الجدار، أي: الحائط، فقال: «والجديرُ: المُنتهى، لانتهاء الأمر إليه، انتهاءَ الشَّيء إلى الجدارِ» . والذي يظهر أنَّ اشتقاقه من: «الجَدْر، وهو أصل الشجرة؛ فكأنَّه ثابتٌ كثبوتِ الجدر في قولك: جدير بكذا. وقوله: {أَلاَّ يَعْلَمُواْ} أي: بألاَّ يعلمُوا، فحذف حرف الجر؛ فجرى الخلافُ المشهور بين الخليل والكسائي، مع سيبويه والفراء. والمراد بالحدُودِ: ما أنزل الله على رسوله، وذلك لبعدهم عن سماع القرآن ومعرفة السُّننِ. {والله عَلِيمٌ} بما في قلوب خلقه:» حَكِيمٌ «فيما ف رض عليهم من فرائضه. قوله تعالى: {وَمِنَ الأعراب مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً} . نزلت في أعراب أسد وغطفان وتميم. «مَنْ» بمتدأ، وهي إما موصولةٌ، وإمَّا موصوفةٌ. و «مَغْرَماً» مفعول ثانٍ؛ لأنَّ «اتَّخَذَ» هنا بمعنى «صيَّر» . والمَغْرَمُ: الخسران، مشتق من الغرام، وهو الهلاك؛ لأنَّه سببه، ومنه: {إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً} [الفرقان: 65] . وقيل أصله الملازمةُ، ومنه الغريمُ: للزومه من يطالبه، والمغرم: مصدر كالغرامةِ، والمغرم التزام ما لا يلزمُ. قال عطاءٌ: لا يرجُون على إعطائه ثواباً؛ ولا يخافون على إمساكه عقاباً، وإنَّما ينفقُ مغرماً ورياءً. و «يتربَّصُ» عطفٌ على «يتَّخِذ» ، فهو إمَّا صلة، وإما صفة. والتَّربُّصُ: الانتظارُ. وقوله: {بِكُمُ الدوائر} فيه وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 181 أظهرهما: أنَّ الياء متعلقةٌ بالفعل قبلها. والثاني: أنها حالٌ من «الدَّوائر» قاله أبو البقاءِ وليس بظاهرٍ، وعلى هذا يتعلقُ بمحذوفٍ على ما تقرَّر. و «الدَّوائرِ» جمعُ «دائرةٍ» وهي ما يُحيط بالإنسان من مُصيبة ونكْبَةٍ، تصوُّراً من الدَّائرة المحيطة بالشَّيء من غير انفلاتٍ منها، وأصلها: «دَاوِرَة» ؛ لأنَّها من دَارَ يدُورُ، أي: أحَاطَ، ومعنى «تَربُّص الدَّوائر» أي: انتظار المصائب؛ قال: [الطويل] 2837 - تَربَّصْ بهَا رَيْبَ المنُونِ لعلَّها ... تُطلَّقُ يوْماً أو يَمُوتُ حليلُهَا قال يمانُ بن رئابٍ: «يعني ينقلبُ الزَّمانُ عليكم فيموت الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويظهر المشركون» . قوله: {عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء} هذه الجملةُ معترضةٌ بين جمل هذه القصَّةِ، وهي دعاءٌ على الأعراب المتقدمين، وقرأ ابنُ كثير وأبو عمرو هنا: «السُّوءِ» ، وكذا الثانية في الفتحِ بالضَّم والباقون بالفتحِ. وأمَّا الأولى في الفتح، وهي «ظنَّ السوءِ» . فاتفق على فتحها السبعةُ. فأمَّا المفتوح فقيل: هو مصدر. قال الفرَّاءُ: «فتحُ السِّين هو الوجه؛ لأنَّه مصدرٌ يقالُ: سُؤتُه سَوْءاً، ومَساءةٌ، وسَوائِيَةٌ، ومَسَائِيَةٌ، وبالضَّم الاسم، كقولك: عليهم دائرةُ البلاءِ والعذاب» . قال أبُو البقاء: «وهو الضَّرَرُ، وهو مصدر في الحقيقة» . يعني أنَّه في الأصل كالمفتوح، في أنَّهُ مصدرٌ، ثُمَّ أطلقَ على كل ضررٍ وشرٍّ. وقال مكي: «مَنْ فتح السِّين فمعناه الفساد والرَّداءة، ومنْ ضمَّها فمعناه الهزيمةُ والبلاءُ والضَّرر» . وظاهرُ هذا أنَّهما اسمان لما ذكر. ويحتملُ أن يكونا في الأصل مصدراً ثم أطلقا على ما ذكر. وقال غيره: المضمومُ العذاب والضرر، والمفتوح: الذم، ألا ترى أنَّه أجمع على فتح {ظَنَّ السوء} [الفتح: 6] وقوله: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ} [مريم: 28] ، إذ لا يليقُ ذكرُ العذاب بهذين الموضعين. وقال الزمخشري فأحسن: «المضمومُ: العذاب، والمفتوحُ ذمٌّ ل» دائرة «كقولك: رجُل سوءٍ، في نقيض رجل عدل؛ لأنَّ منْ دَارتْ عليه يذُمُّهَا» . يعني أنَّها من باب إضافة الموصوف إلى صفته، فوصفت في الأصل بالمصدر مبالغةً، ثم أضيفَتْ لصفتها، كقوله تعالى: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ} [مريم: 28] . قال أبُو حيَّان «وقد حكي بالضَّمِّ» ؛ وأنشد الأخفشُ: [الطويل] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 182 2838 - وكُنْتَ كَذِئْبِ السُّوءِ لمَّا رَأى دَماً ... بِصَاحبهِ يَوْماً أحَالَ عَلى الدَّمِ وفي «الدائرة» مذهبان: أظهرهما: أنها صفةٌ على فاعلة، ك «قائمة» . وقال الفارسيُّ: «يجوز أن تكون مصدراً كالعافية، ولو لم تضف الدائرة إلى السوء، أو السوء لما عرف منها معنى السُّوء؛ لأنَّ دائرة الدَّهر لا تستعملُ إلاَّ في المكروهِ، والمعنى: يدور عليهم البلاءُ والحزنُ، فلا يرون في محمد، ودينه إلاَّ ما يَسُوؤهم» . ثم قال: {والله سَمِيعٌ} لقولهم، {عَلِيمٌ} بنيَّاتهم. قوله تعالى: {وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر} الآية. لمَّا بيَّن أنَّ في الأعرابِ من يتخذ إنفاقه في سبيل الله مَغْرَماً، بيَّن هنا أنَّ منهم أيضاً من يؤمن بالله واليوم الآخر. قال مجاهدٌ: هم بنو مقرن من مزينة. وقال الكلبيُّ هم أسلم، وغفار، وجهينة. وروى أبو هريرة قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لأسْلمُ وغفارٌ، وشيءٌ مِنْ مُزَيْنَة وجُهَيْنةَ، خَيْرٌ عِنْدَ الله يَوْمَ القِيَامَةِ، مِنْ أسَدٍ وغطفان وهوَازنَ وتَميمٍ» . قوله: {وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ} ف «قُرُباتٍ» مفعولٌ ثانٍ ل «يتَّخذَ» كما مرَّ في {مَغْرَماً} [التوبة: 98] ولم يختلف قُرَّاء السبعة في ضمِّ الرَّاء من «قُربَات» ، مع اختلافهم في راء «قُرْبة» كما سيأتي، فيحتملُ أن تكون هذه جمعاً ل «قُرْبة» بالضَّم، كما هي قراءة ورشٍ عن نافعٍ، ويحتملُ أن تكون جمعاً للساكنها، وإنَّما ضُمَّت إتباعاً، ك «غُرُفَات» ، وقد تقدَّم التَّنبيه على هذه القاعدة، وشروطها عند قوله: {فِي ظُلُمَاتٍ} [البقرة: 17] أول البقرة. قال الزجاجُ: يجوزُ في «القُرُبَات» أوجه ثلاثة، ضم الراء، وإسكانها، وفتحها. والمعنى: أنَّهم يتخذون ما ينفقونه سبباً لحصول القربات عند اللهِ. قوله: «عِندَ الله» في هذا الظرف ثلاثة أوجه: أظهرها: أنَّه متعلقٌ ب «يتَّخذ» والثاني: أنَّهُ ظرف ل «قُرُبات» ، قاله أبو البقاءِ. وليس بذلك. الثالث: أنه متعلقٌ بمحذُوفٍ، لأنَّه صفةٌ ل «قربات» . قوله: {وَصَلَوَاتِ الرسول} فيها وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 183 أظهرهما: أنَّها نسق على «قُربات» ، وهو ظاهرُ كلام الزمخشري، فإنَّه قال: «والمعنى أنَّ ما ينفقه سببٌ لحصول القربات عند اللهِ وصلوات الرسول، لأنَّهُ كان يدعو للمتصدِّقين بالخيرِ، كقوله:» اللَّهُمَّ صلِّ على ألِ أبِي أوْفَى «والثاني - وجوَّزهُ ابنُ عطية ولم يذكر أبُو البقاءِ غيره -: أنها منسوقةٌ على» ما يُنفقُ «، أي: ويتَّخذ بالأعمال الصَّالحة صلوات الرسول قربة. قوله: {ألاا إِنَّهَا قُرْبَةٌ} الضمير في» إنَّها «قيل: عائدٌ على» صَلواتِ «. وقيل: على النَّفقات أي: المفهومة من «يُنفِقُون» . وقرأ ورشٌ «قُرُبَة» بضمِّ القاف والرَّاء، والباقون بسكونها، فقيل: لغتان. وقيل: الأصلُ السكون، والضَّم إتباع. وقد تقدَّم الخلاف بين أهل التصريف، هل يجوزُ تثقيل «فُعْل» إلى «فُعُل» ؟ وأنَّ بعضهم جعل «يُسُرا، عُسُرا» بضمِّ السين فرعين على سكونها، وقيل: الأصلُ «قُرُبة» بالضَّمِّ، والسكون تخفيف، نحو: كتب ورسل، وهذا أجْرَى على لغة العرب، إذ مبناها الهرب من الثِّقل إلى الخفة. وفي استئناف هذه الجملة وتصدُّرها بحرفي التنبيه والتحقيق المؤذنين بثباتِ الأمر وتمكُّنه شهادةٌ من الله بصحة ما اعتقده من إنفاقه. قال معناه الزمخشريُّ، قال: وكذلك سيدخلهم وما في السِّين من تحقيقِ الوعدِ. ثم قال: {إِنَّ الله غَفُورٌ} لسيِّآتهم «رَّحِيمٌ» بهم حيث وفقهم لهذه الطَّاعات. قوله تعالى: {والسابقون الأولون} الآية. «وَالسَّابقُون» فيه وجهان: أظهرهما: أنَّه مبتدأ، وفي خبره ثلاثة أوجه: أظهرها: أنَّه الجملة الدعائية من قوله: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ} . والثاني: أنَّ الخبر قوله: «الأوَّلون» ، والمعنى: والسَّابقون إلى الهجرة الأوَّلُون من أهل هذه المِلَّةِ، أو السابقون إلى الجنَّة الأولون من أهل الهجرة. الثالث: أنَّ الخبر قوله: {مِنَ المهاجرين والأنصار} والمعنى فيه الإعلام بأنَّ السابقين من هذه الأمَّةِ من المهاجرين والأنصار، ذكر ذلك أبو البقاءِ. وفي الوجهين الأخيرين تكلُّفٌ. الثاني من وجهي «السَّابقين» : أن يكون نسقاً على «مَنْ يُؤمِنُ باللهِ» ، أي: ومنهم السابقون، وفيه بعدٌ، والجمهور على جرِّ «الأنْصارِ» نسقاً على «المُهاجِرينَ» يعني أنَّ السابقين من هذين الجنسين. وقرأ جماعة كثيرة أجلاَّء: عمرُ بنُ الخطَّابِ، وقتادةُ، والحسنُ، وسلامُ، وسعيدُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 184 ابنُ أبي سعيد، وعيسى الكوفيُّ، وطلحة، ويعقوب «والأنصارُ» برفعها، وفيها وجهان: أحدهما: أنَّه مبتدأ، وخبره «رضِيَ الله عنهُم» . والثاني: عطفه على «السَّابقُون» ، وقد تقدَّم ما فيه، فيُحكم عليه بحكمه. قوله: «بإِحْسانٍ» متعلقٌ بمحذوف، لأنَّه حالٌ من فاعل «اتَّبَعُوهُم» . وكان عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يرى أن الواو ساقطة من قوله: «والذين اتبعوهم» ويقول: إنَّ الموصول صفةٌ لمن قبله، حتى قال له زيدُ بنُ ثابتٍ: إنَّها بالواو، فقال: ائتوني بأبيّ، فأتوه به، فقال له: تصديق ذلك في كتاب اللهِ في أول الجمعة {وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ} [الجمعة: 2] ، وأوسط الحشر {والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ} [الحشر: 10] وآخر الأنفال {والذين آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ} [الأنفال: 75] . وروي أنَّهُ سمع رجلاً يقرؤها بالواو، فقال: من أقْرأكَ؟ فقال: أبيّ، فدعاه، فقال: أقرأنيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنَّك لتبيع القرظ بالبقيع، قال: صَدقْتَ، وإن شئت قل: شهدنَا وغبْتُم، ونصَرْنَا وخذلْتُم، وآوَيْنَا وطَرَدْتم، ومن ثمَّ عمرُ: لقد كنتُ أرانا رُفِعْنَا رفعة، لا يبلغُها أحدٌ بعدنا. فصل لمَّا ذكر فضائل الأعراب الذين يتَّخذُونَ ما ينفقُون قربات عند الله، وما أعد لهم، بين أنَّ فوق منزلتهم منازل أعلَى وأعظم منها، وهي منازلُ السَّابقين الأولين. واختلفوا فيهم، فقال ابنُ عبَّاس، وسعيدُ بنُ المسيب، وقتادة، وابن سيرين، وجماعة: هم الذين صلُّوا إلى القبلتين، وقال عطاءُ بن أبي رباح: هم الذين شهدوا معه بيعة الرضوان، وكانت بيعة الرضوان بالحديبية. وقال أبو مسلم: من تقدم موته بعد الإسلام من الشهداء وغيرهم. وقال ابنُ الخطيبِ: «والصحيحُ عندي أنَّهم السَّابقون في الهجرة، والنصرة، لكونه وصفهم بكونهم مهاجرين وأنصاراً» . واختلفوا هل يتناولُ جميع الصحابة الذين سبقوا إلى الهجرة، والنصرة أم يتناول بعضهم؟ فقال قومٌ: إنَّه يتناول الذين سبقوا في الهجرة والنصرة وعلى هذا، فلا يتناول إلا قدماء الصحابة، لأنَّ كلمة «مِنْ» للتَّبعيض. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 185 ومنهم من قال: بل يتناولُ جميع الصحابةِ؛ لأنَّ جملة الصَّحابة موصوفون بكونهم سابقين أولين بالنسبة إلى سائر المسلمين، وكلمة «مِنْ» في قوله «مِنَ المُهاجرينَ والأنصَارِ» ليست للتَّبعيض، بل للتبيين، كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ، وذهب إلى هذا كثيرٌ من النَّاس. روى حميدُ بن زيادٍ أنَّهُ قال: قلت يوماً لمحمَّدِ بن كعب القرظيِّ: ألا تُخْبرني عن أصحاب الرسول فيما كان بينه؟ وأردت الفتن، فقال: إنَّ الله قد غفر لجميعهم، وأوجب لهم الجنَّة في كتابه، محسنهم ومسيئهم، قلت له: وفي أيّ موضع أوجب لهم الجنّة؟ قال: سبحان الله! ألا تقرأ قوله: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار} [التوبة: 100] إلى آخر الآية؟ فأوجب الله لجميع أصحاب النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - الجنَّة والرضوان، وشرط على التابعين شرطاً، قلت: وما ذاك الشَّرط؟ فقال: شرط عليهم أن يتبعوهم بإحسان، وهو أن يقتدوا بهم في أعمالهم الحسنة، ولا يقتدوا بهم في غير ذلك، أو يقال: المرادُ أن يتبعوهم بإحسان في القول، وهو ألاَّ يقولوا فيهم سوءاً، وألاَّ يوجهوا الطَّعْنَ فيما أقدموا عليه. قال حميدُ بن زياد: فكأنِّي ما قرأتُ هذه الآية قط، قال أبو منصور البغداديُّ التميمي: أصحابنا مجمعون على أنَّ أفضلهم الخلفاء الأربعة، ثم الستة الباقون إلى تمام العشرة، ثم البدريُّون، ثم أصحاب أحد، ثم أهل بيعة الرضوان بالحديبية. فصل واختلفوا في أول من آمن برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بعد امرأته خديجة مع اتفاقهم على أنَّها أوَّلُ من آمن برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال جابر: أوَّل من أسلم وصلَّى عليُّ بن أبي طالبٍ. قال مجاهدٌ وابن إسحاق: أسلم وهو ابن عشر سنين. وقال ابنُ عباسٍ، وإبراهيم النخعي، والشعبي: أوَّلُ من آمن بعد خديجة أبو بكر الصديق. وقال الزهريُّ وعروة بنُ الزُّبير: أوَّلُ من أسلم زيدُ بن حارثة. وكان إسحاق بن إبراهيم الحنظلي بجمع بين هذه الأخبار فيقول: «أول من أسلم من الرجال أبو بكر، ومن النساءِ خديجة ومن الصِّبيان عليّ، ومن العبيد زيد بن حارثة» . قال ابن إسحاق: لمَّا أسلم أبُو بكر أظهر إسلامه، ودعا إلى الله وإلى رسوله، وكان رجُلاً محسناً سَهْلاً، وكان تَاجِراً، ذا خُلِقٍ، وكان رجال قومه يأتُونهُ ويألفونهُ، لعلمه وحُسن مجالسته. فجعل يدعو إلى الإسلام من وثق به من قومه فأسلم على يده فيما بلغني عثمان والزبيرُ بنُ العوام وعبدُ الرحمن بن عوفٍ وسعدُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 186 بنُ أبي وقَّاص وطلحةُ بنُ عبيد الله؛ فجاء بهم إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين أسلمُوا وصلُّوا معه، فكان هؤلاء الثمانية نفر الذين سبقوا إلى الإسلامِ، ثم تتابع النَّاسُ في الدُّخُولِ في الإسلامِ، أمَّا السابقُون من الأنصار الذين بايعُوا رسولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة العقبة الأولى وكانوا ستة نفر ثم أصحاب العقبة الثانية وكانوا اثني عشر رجلاً، ثم العقبة الثالثة وكانوا سبعين فهلاء سباق الأنصار. ثمَّ بعثَ رسُول الله، مصعب بن عمير إلى أهل المدينة يعلِّمهم القرآن؛ فأسلم على يده خلق كثير وجماعة من النساء والصبيان. والمراد بالمهاجرين الذين هاجروا قومه وعشيرتهم، وفارقُوا أوطانهم، والأنصار الذين نصروا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على أعدائه، وآووا أصحابه. {والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ} [التوبة: 100] قيل: هم بقية المهاجرين والأنصار سوى السابقين الأولين وعلى هذا أتي ب «مِنْ» للتبعيض. وقيل: هم الذين سلكُوا سبيلهم في الإيمان والهجرة والنصرة إلى يوم القيامة. وقال عطاءٌ: الذين يذكرُون المهاجرين والأنصار بالتَّرحم والدُّعاء. ثم جمع الله في الثَّواب فقال: {رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأنهار} وقرأ ابنُ كثير: «تَجْري من تحْتِهَا» ب «مِن» الجارَّة، وهي مرسومةٌ في مصاحف مكَّة. والباقون «تَحْتها» بدونها ولم تُرسَمْ في مصاحفهم. وأكثرُ ما جاء القرآن موافقاً لقراءةِ ابنِ كثير في غير موضع. قوله: {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ ... } خبر مقدَّم، و «مُنَافقُونَ» مبتدأ، و «مِنَ الأعْرابِ» لبيان الجنسِ. «ومِنْ أهْلِ المدينةِ» يجوزُ أن يكون نسقاً على «مَنْ» المجرورة ب «مِنْ» ، فيكون المجروران مشتركين في الإخبار عن المبتدأ، وهو «مُنافقُونَ» بهما، كأنَّه قيل: المنافقون من قوم حولكم، ومن أهل المدينة، وعلى هذا هو من عطف المفردات، إذ عطفت خبراً على خبر، وعلى هذا، فيكون قوله: «مَرَدُوا» مستأنفاً لا محلَّ له. ويجوز أن يكون الكلامُ تمَّ عند قوله: «مُنافقُونَ» ويكونُ قوله «ومِنْ أهْلِ المدينةِ» خبراً مقدماص، والمبتدأ بعده محذوفٌ قامت صفتُه مقامه وحذفُ الموصوفِ وإقامةُ صفته مقامه - وهي جملة - مُطَّردٌ مع «مِنْ» التَّبعيضية، وقد مرَّ تحريره، نحو: «مِنَّا صفته مقامه - وهي جملة - مُطَّردٌ مع» مِنْ «التَّبعيضية، وقد مرَّ تحريره، نحو:» مِنَّ ظعن، ومِنَّا أقامَ «والتقدير: ومن أهلِ المدينةِ قومٌ، أو أناسٌ مرَدُوا، وعلى هذا فهو من عطف الجمل. ويجوز أن يكون «مَرَدُوا» على الوجه الأوَّلِ صفةً ل «مُنَافِقُون» وقد فُصل بينه وبين صفته بقوله: «ومِنْ أهل المدينةِ» ، والتقدير: وممَّن حولكم، ومنْ أهْلِ المدينةِ منافقون ماردون. قال ذلك الزجاجُ، وتبعه الزمخشريُّ، وأبو البقاء، واستبعده أبو حيَّان، للفصل بين الصِّفة وموصوفها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 187 قال: «فيصير نظيره في الدَّارِ زيدٌ، وفي القصر العاقل» . يعني ففصلت بين «زيد» ، و «العاقل» بقولك: «وفي القصر» . وشبَّه الزمخشريُّ حذف المبتدأ الموصوف في الوجه الثَّاني، وإقامة صفته مقامه بقوله: [الوافر] 2839 - أنَا ابْنُ جَلاَ ... ... ... ... ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ... قال أبُو حيَّان: «إن عنى في مطلق حذف الموصوف فحسنٌ، وإن كان شبَّهه به في خصوصيته فليس بحسنٍ؛ لأنَّ حذفَ الموصوف مع» مِنْ «مُطَّردٌ؛ وقوله: [الوافر] 2840 - أنَا ابْنُ جَلاَ ... ... ... ... ... ....... ... ... ... ... ... ... ... ضرورة؛ كقوله: [الرجز] 2841 - يَرْمِي بِكَفِّي كَان مِنْ أرمَى البَشَرْ ... والبيت المشار إليه، هو قوله: [الوافر] 2842 - أنَا ابنُ جَلاض وطلاَّعُ الثَّنَايَا ... مَتَى أضَعِ العِمامةَ تَعرِفونِي وللنُّحاة في هذا البيت تأويلات: أحدها: ما تقدم. والآخر: أنَّ هذه الجملة محكيّة؛ لأنَّها قد سُمِّي بها هذا الرَّجلُ، فإنَّ» جَلاَ «فيه ضمير فاعل، ثم سُمِّي بها وحُكيَتْ كما قالُوا: شَابَ قَرْنَاهَا، وذَرَّى حَبّاً، وقوله: [الرجز] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 188 2843 - نُبِّئْتُ أخْوالِي بَنِي يَزِيدُ ... ظُلْماً عليْنَا لهُمُ فَدِيدُ والثالث: وهو مذهب عيسى بن عمر: أنَّهُ فعلٌ فارغ من الضَّمير، وإنَّما لم يُنوَّن؛ لأنَّه عنده غيرُ منصرفٍ، فإنه يُمْنَع بوزن الفعل المشترك، فلو سُمِّي ب» ضرب، وقتل «منعهما، أمَّا مجردُ الوزن من غير نقل من فعل فلا يمنع ألْبَتَّة، نحو: جَمَل، وجَبَل. والمراد بأهل المدينةِ: الأوس والخزرج. و» مَرَدُوا «أي: مَهَرُوا، وتمرَّنُوا، وثبتوا على النفاق. وقال ابن إسحاق: لجوُّا فيه وأبوا غيره. وقال ابنُ زيدٍ: أقاموا عليه ولم يتوبوا. وقد تقدَّم الكلام على هذه المادَّة في النِّساءِ، عند قوله: {شَيْطَاناً مَّرِيداً} [النساء: 117] . قوله:» لا تَعْلمُهُم «هذه الجملةُ في محلِّ رفعٍ أيضاً صفةً ل» مُنَافِقُون «، ويجوزُ أن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 189 تكون مستأنفةً، والعلم هنا يحتمل أن يكون على بابه؛ فيتعدَّى لاثنين، أي: لا تعلمهم منافقين فحذف الثَّاني للدلالة عليه بتقدُّم ذكر المنافقين؛ ولأنَّ النفاق من صفاتِ القلب، لا يطلع عليه. وأن تكون العرفانية فتتعدَّى لواحد، قاله أبُو البقاءِ. وأمَّا» نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ «فلا يجوزُ أن تكون إلاَّ على بابها، لما تقدَّم في الأنفال، وإن كان الفارسيُّ في إيضاحه صرَّح بإسناد المعرفة إليه تعالى، وهو محذُورٌ لما تقدَّم. قوله: «سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ» تقدَّم الكلامُ في نصب {مَرَّةٍ} [التوبة: 13] ، وأنَّه من وجهين، إمَّا المصدرية، وإمَّا الظرفية، فكذلك هذا، وهذه التثنيةُ يحتملُ أن يكون المرادُ بها شفعَ الواحد، وعليه الأكثر، واختلفُوا في تفسيرها، وألاَّ يُرادَ بها التثنية الحقيقية، بل يُراد بها التَّكثيرُ، كقوله تعالى: {ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} [الملك: 4] ، أي: كرَّاتٍ، بدليل قوله: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] ، أي: مزدجراً، وهو كليلٌ، ولا يصيبه ذلك إلاَّ بعد كرَّات، ومثله «لبَّيْكَ، وسعْديكَ، وحنَانيْكَ» . وروى عياشٌ عن أبي عمرو «سنُعذِّبْهُم» بسكون الباءِ، وهو على عادته في تخفيف توالى الحركاتِ ك {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160] وبابه، وإن كان باب «ينْصُركُم» أحسن تَسْكِيناً، لكون الرَّاءِ حرف تكرار؛ فكأنه توالى ضمَّتان، بخلاف غيره، وقد تقدَّم تحريره. وقال أبُو حيَّان: وفي مصحف أنس «سيُعذِّبهُم» بالياءِ، وقد تقدَّم أنَّ المصاحفَ كانت مهملة من النقط والضبط بالشكْلِ، فكيف يقال هذا؟! فصل وأمَّا اختلافهم في هذين العذابين: فقال السُّديُّ والكلبيُّ: قام النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خطيباً يوم الجمعة فقال: «اخْرُجْ يا فلانُ فإنَّك مُنافقٌ اخْرُجْ يا فُلانُ ... » فأخرج من المسجد ناساً، وفضحهم، فهذا هو العذابُ الأولُ. والثاني: عذاب القبر. وقال مجاهدٌ: الأولُ القتل والسبي، والثاني عذاب القبر، وعنه رواية أخرى عُذِّبُوا بالجوع مرَّتين. وقال قتادةُ: بالدبيلة في الدُّنيا، وعذاب القبر. وقال ابن زيد: الأولى المصائب في الأموال والأولاد في الدُّنيا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 190 والأخرى عذاب القبر. وعن ابن عبَّاسٍ: الأولى إقامة الحدود عليهم، والأخرى عذاب القبر. وقال ابنُ إسحاق: هو ما يدخل عليهم من غيظ الإسلام، ودخولهم فيه من غير حسبة، ثم عذاب القبر. وقيل: أحدهما ضرب الملائكة وجوههم، وأدبارهم عند قبض أرواحهم، ثم عذاب القبر، وقيل: الأولى إحراق مسجدهم مسجد الضّرار، والأخرى إحراقهم بنار جهنَّم ثُمَّ يردُّون إلى عذابٍ عظيم أي: عذاب جهنم يخلدون فيه وقال الحسنُ: الأولى أخذ الزكاة من أموالهم، وعذاب القبر. قوله تعالى: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} الآية. «وآخرون» نسقٌ على «مُنافِقُون» أي: وممَّن حولكم آخرون، أو من أهلِ المدينة آخرون. ويجوزُ أن يكون مبتدأ، و «اعترفُوا» صفته، والخبر قوله: «خلطُوا» . قوله: «وآخَرَ» نسقٌ على «عَمَلاً» . قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: قد جُعِلَ كُلُّ واحد منهما مخلُوطاً، فما المخلُوط به؟ قلتُ: كلُّ واحدٍ مخلوطٌ ومخلوطٌ به؛ لأنَّ المعنى: خلط كل واحدٍ منهما بالآخر، كقولك: خلَطْتُ الماءَ واللَّبن، تريدُ: خلطتُ كُلَّ واحدٍ منهما بصاحبه. وفيه ما ليس في قولك: خلطتْ الماءَ باللَّبَنِ؛ لأنَّك جعلت الماء مَخْلُوطاً، واللَّبنَ مخلوطاً به، وإذا قلته بالواو جعلتَ الماءَ واللَّبنَ مخلوطين، ومخلوطاً بهما، كأنَّك قلت: خلطتُ الماءَ باللبن، واللبن بالماءِ» . ثمَّ قال «ويجوزُ أن يكون من قولهم: بِعْتُ الشَّاة: شاةً ودرهماً، بمعنى: شاة بدرهم» . قال شهابُ الدِّينِ: «لا يريدُ أنَّ الواو بمعنى الباءِ، وإنَّما هذا تفسيرُ معنى» وقال أبُو البقاءِ: «ولو كان بالباءِ جاز أن تقول: خلطتُ الحنطة والشعير، وخلطت الحنطةَ بالشَّعير» . قوله: «عَسَى الله» يجوزُ أن تكون الجملةُ مستأنفةً، ويجوزُ أن تكون في محلِّ رفع خبراً ل «آخرون» ويكون قوله «خلطُوا» في محلِّ نصب على الحالِ، و «قَدْ» معه مقدَّرةٌ، أي: قد خلطوا. فتلخَّص في: «آخرُونَ» أنَّهُ معطوف على «مُنافِقُون» ، أو مبتدأ مخبر عنه ب «خَلطُوا» ، أو بالجملة الرجائية. فصل قيل: إنَّهم قوم من المنافقين، تابُوا عن النِّفاقِ؛ لأنَّهُ عطف على قوله {وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 191 الأعراب مُنَافِقُونَ} والعطفُ يوهم التَّشريكَ، إلاَّ أنَّهُ تعالى وفقهم للتوبة. وقيل: إنَّهُم قوم من المسلمين تخلَّفوا عن غزوة تبُوك، كسلاً، لا نفاقاً، ثم نَدِمُوا على ما فعلوا وتابوا. وروي أنهم كانوا ثلاثة: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر، وأوس بن ثعلبة ووديعة بن حزام. وروى عطية عن ابن عباس: كانوا خمسة، أحدهم أبو لبابة. وقال سعيد بن جبير: كانوا ثمانية. وقال قتادةُ والضحاك: كانوا سبعة. وقالو جميعاً أحدهم أبو لبابة. وقال قومٌ: نزلت في أبي لبابة خاصة، وروي عن علي بن أبي طلحة عن ابن عبَّاس: أنهم كانوا عشرة، فسبعة منهم أوثقوا أنفسهم لمَّا بلغهم ما نزل في المتخلفين، فأوثقوا أنفسهم بسواري المسجد، فقدم رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ودخل المسجد وصلى ركعتين، وكانت عادته كُلَّما قدم من سفرٍ، فرآهم موثقين، فسأل عنهم؛ فقالوا: هؤلاء تخلَّفُوا عنك، فعاهدُوا الله ألا يطلقوا أنفسهم حتى يكون رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يطلقهم ويرضى عنهم، فقال: «وأنا أقسم أن لا أحلهم حتى أومر فيهم» ؛ فنزلت هذه الآية فأطلقهم وعذرهم، فقالوا: يا رسُول الله هذه أموالنا التي خلَّفتنا عنك، فتصدق بها عنَّا وطهرنا، فقال: «ما أمرتُ أن آخذَ مِنْ أموالكُم شيئاً» ؛ فنزل قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الآية. والاعترافُ: عبارة عن الإقرار بالشَّيءِ عن معرفةٍ، ومعناه: أنَّهُم أقَرُّوا بذنبهم. والعمل الصَّالح: هو توبتهم واعترافهم بذنبهم وربطهم أنفسهم. والعمل السيّىء: هو تخلُّفهم. وقيل: العمل الصَّالح: خروجهم مع الرسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى سائر الغزوات، والعمل السيّىء: تخلفهم عن غزوة تبوك. فصل قالوا: إنَّ الكلام ينزلُ على عرف النَّاسِ، فالسُّلطانُ إذا التمس المحتاج منه شيئاً؛ فإنه لا يجيب إلاَّ بالتَّرجي ب «لعل، أو عسى» ، تنبيهاً على أنَّه ليس لأحد أن يلزمني شيئاً؛ بل كل ما أفعله فإنما أفعله على سبيل التفضّل، فهذا المعنى هو فائدة ذكر «عَسَى» . والاعتراف بمجرَّدِهِ لا يكون توبة، إلاَّ إذا اقترن به النَّدم على الماضي، والعزم على تركه في المستقبل. فصل دلَّت هذه الآيةُ على عدم القولِ بالإحباط، وأنَّ الطَّاعة تبقى موجبة للمدح الجزء: 10 ¦ الصفحة: 192 والثَّواب، والمعصية تبقى موجبة للذّم والعقاب؛ لأنَّ قوله تعالى: {خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً} [التوبة: 102] يدلُّ على أن كلَّ واحدٍ منهما يبقى كما كان من غير أن يتأثر أحدهما بالآخر، لأنه وصفه بالاختلاط، والمختلطان لا بد وأن يكونا باقيين حال اختلاطهم، لأن الاختلاط صفة للمختلطين، وحصول الوصفِ حال عدم الموصوف محال؛ فدلَّ على بقاء العملين حال الاختلاط. فصل قوله: {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} يقتضي أنَّ هذه التَّوبة إنَّما تحصل في المستقبل. وقوله: {وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ} يدلُّ على أنَّ ذلك الاعتراف حصل في الماضي، وذلك يدلُّ على أن ذلك الاعتراف ما كان مقروناً بنفس التوبة؛ بل كان مقدماً على التوبةِ، والتوبة إنما حصلت بعده. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} قال الحسنُ: هذا راجع إلى الذين تابُوا؛ لأنهم بذلُوا أموالهم للصَّدقة؛ فأوجب الله تعالى أخذها، وصار ذلك معتبراً في كمال توبتهم، فتكون جارية مجرى الكفارة. وليس المراد منها الصدقة الواجبة، وإنَّما هي كفارة الذنبِ. وهذا بناء على القول بأنَّهُم ليسوا منافقين، ويدلُّ عليه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ما أمرتُ أن آخُذَ مِنْ أموالكُمْ شَيْئاً» فلو كانت واجبة لم يقل ذلك. وأيضاً روي أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: أخذ الثلث وترك الثلثين. والواجبةُ ليست كذلك. وقيل: إنَّ الزكاة كانت واجبة عليهم، فلمَّا تابُوا عن تخلفهم عن الغزوِ، وحسن إسلامهم، وبذلوا الزكوات أمر الله رسوله أن يأخذها منهم. وهذا بناء على أنَّهم كانوا منافقين. وقيل: هذا كلام مبتدأ، والمقصود منه إيجاب أخذ الزَّكاة من الأغنياء، وعليه أكثر الفقهاء، واستدلُّوا بقوله {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} . فدلَّ على أنَّ المأخوذَ بعض تلك الأموال لا كلها؛ لأنَّ «مِنْ» للتبعيض، ثم إن مقدار ذلك البعض غير مصرّح به، بل المصرح به قوله: «صدقَة» ، وليس المراد منه التنكير حتى يكفي أخذ أيّ جزء كان، وإن كان في غاية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 193 القلَّة مثل الحبَّة الواحدة من الحنطة، أو الجزء الحقير من الذَّهبِ، فوجب أن يكون المراد منه صدقة معلومة الصفة والكيفيَّة والكمية عندهم، حتى يكون قوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] أمراً بأخذ تلك الصَّدقة المعلومة، لكي يزول الإجمالُ. وليست إلاَّ الصدقة التي وصفها رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أن يأخذ في خمس وعشرين بنت مخاض، وفي ست وثلاثين بنت لبون، إلى غير ذلك، وأجاب الأوَّلُون بأنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بيَّنها بأخذ الثلث فزال الإجمال، وظهر تعلق الآية بما قبلها، وعلى قولكم لا يظهر تعلق الآية بما قبلها. قوله: {. . مِنْ أَمْوَالِهِمْ. .} يجوزُ فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلقٌ ب «خُذْ» ، و «مِنْ» تبعيضية. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ؛ لأنَّها حالٌ من «صدقةً» ، إذ هي في الأصل صفةٌ لها، فلمَّا قُدِّمت نُصبَتْ حالاً. والصَّدقة: مأخوذة من الصِّدْقِ، وهي دليل على صحَّة إيمانه، وصدق باطنه مع ظاهره، وأنَّهُ ليس من المنافقين الذين يَلْمِزُون المُطَّوعين من المُؤمنينَ في الصَّدقاتِ. قوله: {تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ} يجوزُ أن تكون التَّاء في «تُطَهِّرُهمْ» خطاباً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأن تكون للتنبيه، والفاعل ضمير الصدقة، فعلى الأوَّل تكون الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «خُذْ» . ويجوز أن تكون صفةً ل «صَدقَةً» ، ولا بدَّ حينئذ من حذف عائد، تقديره: تُطهِّرُهُم بها، وحذف «بها» ، لدلالة ما بعده عليه. وعلى الثاني تكون الجملة صفة ل «صدقة» ليس إلاَّ، وأمَّا «تُزَكِّيهم» فالتاء فيه للخطاب لا غير، لقوله «بها» ، فإنَّ الضمير يعود على الصَّدقة فاستحال أن يعود الضميرُ من «تُزكِّيهم» إلى الصَّدقة. وعلى هذا فتكونُ الجملةُ حالاً من فاعل «خُذ» على قولنا: إنَّ «تَطهِّرهُم» حال منه، وإنَّ التَّاء فيه للخطاب. ويجوزُ أيضاً أن تكون صفةً إن قلنا: إنَّ «تُطهِّرهم» صفةٌ، والعائدُ منها محذوفٌ. وجوَّز مكيٌّ أن يكون «تُطهِّرُهُم» صفةً ل «صَدقةً» ، على أنَّ التَّاء للغيبة، و «تُزكِّيهم» حالاً من فاعل «خُذْ» ، على أنَّ التاء للخطاب، ورَدُّوهُ عليه بأنَّ الواو عاطفةٌ، أي: صدقة مطهِّرة، ومُزكياً بها، ولو كان بغير واوٍ جاز، ووجهُ الفسادِ ظاهرٌ، فإنَّ الواو مُشتركةٌ لفظاً ومعنى، فلو كانت «وتُزكِّيهم» عطفاً على «تُطهِّرُهم» للزمَ أن يكون صفةً كالمعطوفِ عليه؛ إذْ لا يجُوزُ اختلافهما، ولكن يجوزُ ذلك على أن «تُزكِّيهم» خبر مبتدأ محذوف، وتكون الواوُ للحالِ، تقديره: وأنت تزكِّيهم، وفيه ضعفٌ، لقلَّةِ نظيره في كلامهم. وتلخَّص من ذلك أنَّ الجملتين يجُوزُ أن تكونا حالين من فاعل «خُذْ» على أن تكون التاءُ للخطابِ، وأن تكونا صفتين ل «صَدقَة» على أنَّ التاء للغيبة، والعائد محذوفٌ من الأولى، وأن يكُون «تُطهِّرهُم» حالاً، أو صفة، و «تُزكِّيهم» حالاً على ما جوَّزه مكيٌّ، وأن يكون «تزكِّيهم» خبر مبتدأ محذوف، والواوُ للحال. وقرأ الحسنُ «تُطْهرُهم» مُخَفَّفاً من «أطهر» عدَّاهُ بالهمزة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 194 فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ الزَّكاة تتعلَّق بالأموال لا بالذِّمة، لقوله {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} فلو مات أخذَت من التَّركة. وقال الشَّافعيُّ: إنَّها تتعلَّق بالذِّمة، فلو فرط حتى هلك النصاب، وجبت الزَّكاةُ؛ لأنَّ الذي هلك ما كان محلاً للحق. ودلَّت الآية أيضاً على أنَّ الزَّكاة إنَّما وجبت طهرة للآثام؛ فلا تجبُ إلا على البالغِ. وهو قول أبي حنيفة. وإذا قلنا: تتعلَّق بالمالِ وجبت في مال الصَّبي، وفي مال المديُونِ. فصل معنى التَّطَهُّر ما روي أن الصدقة أوساخ النَّاسِ، فإذا أخذت الصدقة فقد اندفعت تلك الأوساخُ؛ فكان دفعها جارياً مجرى التَّطهر. والتَّزكية: مبالغة في التطهر، وقيل: التَّزكية بمعنى الإنماءِ، وقيل: الصَّدقة تطهرهم من نجاسةِ الذَّنب والمعصية، والرسول يزكيهم، ويعظم شأنهم ويثني عليهم عند إخراجها إلى الفقراء. ولذلك يقولُ السَّاعي له: آجرك اللهُ فيما أعطيت، وبارك لك فيما أبقيت، وجعله لك طهوراً. قوله: {وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَوَاتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ} . قرأ الأخوان، وحفص «إنَّ صلاتكَ» ، وفي هود {أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ} [هود: 87] بالتَّوحيد - والباقون «إنَّ صلواتك» «،» أصَلواتُك «بالجمع فيهما، وهما واضحتان، إلاَّ أنَّ الصلاة هنا: الدُّعاء، وفي تيكَ: العبادة. قال أبو عبيدٍ: وقراءة الإفراد أوْلَى؛ لأنَّ الصَّلاة أكثر، قال تعالى: {وَأَقِيمُواْ الصلاة} [البقرة: 43] والصلواتُ جمع قلَّة، تقول: ثلاث صلوات، وخمس صلوات. قال أبو حاتم: وهذا غلطٌ، لأنَّ بناء الصلوات ليس للقلة، قال تعالى: {مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} [لقمان: 27] ولم يرد التَّقليل، وقال: {وَهُمْ فِي الغرفات} [سبأ: 37] ، وقال {إِنَّ المسلمين والمسلمات} [الأحزاب: 35] . والسَّكَنُ: الطمأنينة. وقال ابنُ عبَّاسٍ: رحمة لهم. وقال أبو عبيدة: تَثْبِيتاً لقلوبهم؛ ومن الطمأنينة قوله: [البسيط] 2844 - يا جَارَة الحَيِّ ألاَّ كُنْتِ لِي سَكَناً ... إِذْ لَيْسَ بعضٌ مِنَ الجيرانِ أسْكننِي ف» فَعَل «بمعنى» مفعول «، كالقبض بمعنى: المقبوض، والمعنى: يَسْكُنون إليها. قال أبُو البقاءِ:» ولذلِكَ لمْ يُؤنِّثْهُ «. لكن الظَّاهر أنَّهُ هنا بمعنى» فاعل «، لقوله:» لهم «. ولو كان كما قال لكان التَّركيب» سكنٌ إليها «أي: مَسْكُون إليها، فقد ظهر أنَّ المعنى: مُسَكِّنة لهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 195 فصل قال ابنُ عبَّاسٍ: معنى الصَّلاةِ عليهم: أن يدعو لهم. وقال آخرون: معناه أن يقول لهم اللَّهُمَّ صلِّ على فلان، ونقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أنَّ آل أبي أوفى لمَّا أتوه بالصَّدقة قال:» اللَّهُمَّ صلِّ على آلِ أبِي أوْفَى «. واختلفوا في وجوب الدُّعاء من الإمام عند أخذ الصدقة، قال بعضهم: يجبُ. وقال بعضهم: يستحبُّ. وقال بعضهم: يجب في صدقة الفرضِ، ويستحب في التَّطوع. وقيل: يجب على الإمام، ويستحب للفقير أن يدعو للمعطي. ثم قال: {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} . قوله تعالى: {أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} الآية. لمَّا قال في الآية الأولى {عَسَى الله أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 102] ولمْ يُصرِّح في قبول توبتهم، صرَّح في هذه الآيةِ بأنه يقبلُ التَّوبةَ عن عباده، وأنَّهُ يأخذُ الصَّدقات، أي: يقبلها. قال أبُو مسلمٍ قوله:» أَلَمْ يعلموا «وإن كان بصيغة الاستفهام، إلاَّ أنَّ المقصود منه التقدير في النَّفس، ومن عادة العرب في إفهام المخاطب، وإزالة الشَّك عنه أن يقولوا: أما علمتَ أنَّ من علَّمكَ يجبُ عليك خدمته، أما علمت أنَّ من أحسن إليك يجبُ عليك شكره، فبشَّر اللهُ هؤلاء التَّائبين بقبول توبتهم وصدقاتهم. ثم زاده تأكيداً بقوله: {هُوَ التواب الرحيم} . وقرأ الحسن بخلاف عنه» ألَمْ تعْلمُوا «قال أبُو حيَّان:» وفي مصحف أبَيّ «ألَمْ تَعْلمُوا» بالخطاب، وفيه احتمالات، أحدها: أن يكون خطاباً للمتخلِّفين الذين قالوا: ما هذه الخاصّيّة التي اختصّ بها هؤلاء؟ وأن يكون التفاتاً من غير إضمارِ قولٍ، والمرادُ: التَّائبون، وأن يكون على إضمار قولٍ، أي: قل لهم يا محمد: ألمْ تعلمُوا «. قوله: «هُوَ يَقْبَلُ» «هو» مبتدأ، و «يَقْبَلُ» خبره، والجملةُ خبر «انَّ» ، و «أنَّ» وما في حيِّزها سادةٌ مسدَّ المفعولين، أو مسدَّ الأول. ولا يجوزُ أن يكون «هو» فصلاً، لأنَّ ما بعده لا يوهم الوصفيَّة، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك، قوله: «عَنْ عبادِهِ» معلقٌ ب «يَقْبَلُ» وإنَّما تعدَّى ب «عَنْ» فقيل: لأنَّ معنى «مِنْ» ومعنى «عَنْ» متقاربان. قال ابنُ عطيَّة: «وكثيراً ما يتوصَّل في موضع واحد بهذه وبهذه، نحو:» لا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 196 صدقَةَ إلاَّ عَنْ غنى، ومِنْ غنى «، وفعل ذلك فلانٌ من أشره وبطره، وعن أشره وبطره» . وقيل: لفظة «عَنْ» تُشْعر ببعدٍ ما، تقول: جلسَ عن يمين الأمير، أي: مع نَوْعٍ من البُعْدِ. والظَّاهِرُ أنَّ «عَنْ» للمجاوزة على بابها، والمعنى: يتجاوزُ عن عباده بقبول توبتهم، فإذا قلت: أخذت العلم عن زيد؛ فمعناه المجاوزةُ، وإذا قلت «منه» فمعناه ابتداء الغاية. قال القاضي: «لعلَّ» عَنْ «أبلغ؛ لأنَّهُ ينبىء عن القبُولِ مع تسهيل سبيله إلى التَّوبة التي قبلت» قوله: «وَيَأْخُذُ الصدقات» فيه سؤالٌ: وهو أنَّ ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الله تعالى، وقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} يدلُّ على أنَّ الآخذ هو الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمعاذ «خذها من أغنِيائهم» يدلُّ على أنَّ آخذ تلك الصدقات معاذ، وإذا دفعت إلى الفقير فالحسُّ يشهد أن آخذها هو الفقير، فكيف الجمع بين هذه الألفاظ؟ . والجوابُ من وجهين: الأول: أنَّهُ تعالى لمَّا قال {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} ثمَّ ذكر ههنا أنَّ الآخذ هو، علم منه أنَّ أخذ الرسول قائم مقام أخذ الله، والمقصود منه: التنبيه على تعظيم شأنِ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ونظيره قوله: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] . والثاني: أنَّهُ أضيف إلى الرسول، بمعنى أنَّهُ يأمر بأخذها، ويبلغ حكم الله في هذه الواقعة إلى النَّاس، وأضيف إلى الفقير، بمعنى أنَّهُ هو الذي يباشرُ الأخذ، ونظيره أنَّهُ أضاف التوفي إلى نفسه بقوله تعالى: {وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم} [الأنعام: 60] ، وأضافه إلى ملك الموتِ بقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت} [السجدة: 11] وأضافه إلى الملائكة الذين هم أتباع ملك الموت بقوله: {حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا} [الأنعام: 61] ، فأضيف إلى الله بالخلق، وإلى ملك الموت بالرئاسة في ذلك النَّوع من العمل، وإلى أتباع ملك الموت بالمباشرة التي عندها يخلق الله الموت، فكذا ههنا. قوله: «هُوَ التواب» يجوزُ أن يكون فصلاً، وأن يكون مبتدأ بخلاف ما قبله. فصل روى أبو هريرة قال: سمعتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقولُ: «والَّذي نَفْسِي بيدهِ مَا مِنْ عبْدٍ يتصدَّقُ بصدقةٍ من كَسْب طيِّب ولا يَقْبلُ اللهُ إلاَّ طيباً، ولا يصْعَدُ إلى السَّماء إلاَّ الطَّيِّبُ إلاَّ كأنما يضعُها في يدِ الرَّحمنِ فيُربيها لهُ كما يُرَبِّي أحدُكمْ فلُوَّهُ حتَّى إنَّ اللُّقْمةَ لتأتِي يَوْمَ القيامةِ، وأنَّها لمِثْلُ الجبل العظيم» ، ثم قرأ: {أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات} . قوله تعالى: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} الآية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 197 قال ابنُ الخطيبِ: «هذا كلامٌ جامع للتَّرغيب والتَّرهيب؛ لأنَّ المعبودَ إذا كان لا يعلمُ أفعال العباد لم ينتفع العبد بفعله أبداً، ولهذا قال إبراهيمُ لأبيه: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ} [مريم: 42] ، وليس المقصودُ من هذه الحُجَّة التي ذكرها إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - القدح في إلهيّة الصَّنم؛ لأنَّ كلَّ أحد يعلم بالضَّرورة أنَّهُ حجر وخشب، وأنَّه عرضة لتصرف المتصرفين، فمن شاء أحرقه، ومن شاء كسره، ومن كان كذلك كيف يتوهم العاقلُ كونه إلهاً؟ بل المقصودُ أنَّ أكثر عبدة الأصنام كانُوا في زمن إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أتباع الفلاسفةِ القائلين بأنَّ إله العالم موجب بالذَّات، وليس بموجد بالمشيئة والاختيار، فقال: الموجب بالذَّات إذا لم يكن عالماً بالجزئيات، ولم يكن قادراً على نفع ولا إضرار ولا يسمع دعاء المحتاجين، ولا يرى تضرُّع المساكين، فأيُّ فائدة في عبادته؟ فكان المقصودُ من دليل إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - الطَّعن في قول من يقول: إنَّ إله العالم موجب بالذَّات. أمَّا إذا كان فاعلاً مختاراً، وكان عالماً بالجزئيات، فحينئذٍ يحصلُ للعبادِ الفوائدُ العظيمةُ وذلك لأنذَ العبد إذا أطاع المعبود علم طاعته وقدر على إيصال الثواب إليه في الدُّنيا والآخرة وإن عصاه علم المعبود ذلك، وقدر على إيصال العقاب إليه في الدُّنيا والآخرة، فقوله: {وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ} ترغيبٌ عظيم للمُطيعين، وترهيبٌ عظيم للمذنبين فكأنَّه قال: اجتهدُوا في المستقبل، فإنَّ لعملكُم في الدنيا حكماً وفي الآخرة حكماً. أمَّا حكمه في الدُّنيا، فهو أنَّهُ يراه اللهُ ويراهُ الرسول ويراه المؤمنون، فإن كان طاعة حصل منه الثناء العظيم في الدنيا، والثواب في الآخرة، وإن كان معصية حصل منه الذَّم العظيم في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة، فثبت أنَّ هذه اللفظة جامعة لجميع ما يحتاجُ إليه المرء في دينه ودنياه ومعاده» . فصل دلَّت هذه الآيةُ على كونه تعالى رائياً للمرئيات؛ لأنَّ الرُّؤيةَ المعدَّاة إلى مفعول واحد، هي الإبصار، والمعدَّاة إلى مفعولين هي العلمُ، كقولك: رأيتُ زيداً فقيهاً، وههنا الرؤية معداة إلى مفعول واحد، فتكون بمعنى الإبصار، فدلَّت على كونه مبصراً للأشياء كما أنَّ قول إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ} [مريم: 42] يدلُّ على كونه مبصراً للأشياء، ويقوِّي هذا أنَّهُ تعالى وصف نفسه بالعلم بعده فقال: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} فلو كانت هذه الرؤيةُ هي العلم؛ لزم التِّكرارُ الخالي عن الفائدة. فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ كلَّ موجود فإنَّهُ يصحُّ رؤيته، لما بيَّنَّا من أنَّ الرُّؤية معدَّاة إلى مفعولٍ واحدٍ، والقوانين اللُّغوية شاهدةٌ بأنَّ الرؤية المعداة إلى المفعول الواحد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 198 معناها: الإبصار ثم إنَّه تعالى عدَّى هذه الرؤية إلى عملهم، والعمل ينقسمُ إلى أعمال القلوب، كالإرادات والكراهاتِ والخواطر، وإلى أعمال الجوارح، كالحركات والسَّكنات؛ فوجب كونه تعالى رائياً للكل وأما الجبائي فإنه استدل بهذه الآية على كونه تعالى رائياً للحركات والسَّكنات فلمَّا قيل له: فيلزمك كونه تعالى رائياً لأعمال القُلوبِ، فأجابَ بأنَّه تعالى عطف عليه قوله {وَرَسُولُهُ والمؤمنون} وهم إنَّما يَرَوْنَ أفعال الجوارحِ؛ فلما تقيَّدت هذه الرؤية بأعمالِ الجوارح في حقِّ المعطوف؛ وجب تقييدها بهذا القيد في حقِّ المعطوفِ عليه، وهذا استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ العطف لا يفيدُ إلاَّ أصل التَّشريك. فأمَّا التسوية في كُلِّ الأمُورِ فغير واجب فدخولُ التَّخصيص في المعطوف لا يوجبُ دخول التَّخصيص في المعطوف عليه، ويمكنُ بأن يقول الجبائيُّ: رؤيةُ الله تعالى حاصلة في الحالِ، ولفظ الآية مختصّ بالاستقبال، لقوله: {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} فدلَّ على أنَّ المرادَ ليس هو الرُّؤيةُ، بل المرادُ منه الجزاء على الأعمال، أي: فسيوصل لكم جزاء أعمالكم، وقد يجابُ: بأنَّ إيصال الجزاءِ إليهم مذكور بقوله: {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} فلوْ حملنا هذه الرُّؤيةِ على إيصال الجزاءِ، لزم التَّكرارِ وهو غير جائز. فصل ذكروا في الفائدة في ذكر الرسولِ، والمؤمنين بعد ذكر الله في أنهم يرون أعمال هؤلاء التائبين وجهين: الأول: أنَّ أجدر ما يدعو المرءُ إلى العمل الصَّالح هو ما يحصلُ له من المدح والتَّعظيم، فإذا علم أنَّهُ إذا فعل ذلك الفعل عظَّمه الرسولُ والمؤمنون، عظم فرحه بذلك وقويت رغبته فيه، فكأنه قيل: إن كنت من المُحِقِّين في عبودية الحق، فاعمل الأعمال الصالحة للفوز بثناء الخلقِ، وهو الرسول والمؤمنون. الثاني: ما ذكره أبو مسلم: أنَّ المؤمنين شهداء الله يوم القيامة، لقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس} [البقرة: 143] ، والرسول شهيد الأمَّة، لقوله: {وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] ؛ فثبت أنَّ الرسول والمؤمنين شهداء الله يوم القيامةِ، والشهادة لا تصحُّ إلاَّ بعد الرُّؤيةِ؛ فذكر الله أنَّ الرسول والمؤمنين يرون أعمالهم، والمقصودُ التنبيه على أنَّهم يشهدون يوم القيامة عند حضورِ الأولين والآخرين، بأنَّهم أهل الصِّدق والسّداد والعفافِ والرشاد. قوله: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} . قال ابنُ عباسٍ: الغيبُ: ما يسرونه والشهادة: ما يظهرونه. قال حكماءُ الإسلامِ: الموجوداتُ الغائبةُ عن الحسّ علل أو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 199 كالعلل للموجودات المحسوسة، وعندهم أنَّ العلم بالعلَّةِ علة للعلم بالمعلول؛ فوجب كونُ العلم بالغيب سابقاً على العلم بالشَّهادة؛ فلهذا السَّبب أينما جاء الكلامُ في القرآن كان الغيب مقدماً على الشهادة. فصل إن حملنا قوله تعالى: {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} على الرُّؤية، ظهر أنَّ معناه مُغايراً لمعنى قوله: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} ، وإنْ حملنا تلك الرُّؤية على العلم أو على إيصال الثواب، كان قوله {وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} جارياً مجرى التفسير لقوله {فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ} ومعناه: بإظهار المدح والثناء والإعزاز في الدُّنيا أو بإظهار أضدادها. وقوله: {وَسَتُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة} أي: ما يظهر في القيامة من حالِ الثَّوابِ والعقابِ. {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: يعرّفكم أحوال أعمالكم ثمَّ يجازيكم عليها؛ لأنَّ المجازاة من الله تعالى لا تحصلُ في الآخرة إلاَّ بعد التَّعريفِ، ليعرف كلُّ أحدٍ أن الذي وصل إليه عدل لا ظلم. قوله تعالى: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ} الآية. قرأ ابنُ كثير، وأبو عمرو، وابنُ عامرٍ، وأبُو بكرٍ عن عاصم «مُرْجؤونَ» بهمزة مضمومة بعدها «واو» ساكنة. والباقون «مُرجَوْنَ» دون همز، وهذا كقراءتهم في الأحزاب «ترجىء» [الأحزاب: 51] بالهمز، والباقون بدونه. وهما لغتان، يقال: أرْجَأتُه، وأرْجَيْتُه، ك: أعْطَيْته. ويحتملُ أن يكونا أصلين بنفسهما وأن تكون الياءُ بدلاً من الهمزة؛ ولأنه قد عهد تحقيقها كثيراً، ك: قرأت، وقرَيْت، وتوضَّأت وتوضَّيت. والإرجاء: التأخير. وسميت المرجئةُ بهذا الاسم؛ لأنَّهم لا يجزمون القولَ بمغفرة التَّائب ولكن يؤخرونها إلى مشيئةِ الله. وقال الأوزاعي: لأنهم يؤخرون العمل عن الإيمان. قوله: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ} يجوزُ أن تكون هذه الجملةُ في محل رفع خبراً للمبتدأ، و «مُرْجَونَ» يكونُ على هذا نعتاً للمبتدأ، ويجوزُ أن يكون خبراً بعد خبر، وأن يكون في محلِّ نصبٍ على الحال، أي: هم مؤخَّرُون إمَّا مُعذَّبين، وإمَّا متوباً عليهم، و «إمَّا» هنا للشَّك بالنسبة للمخطاب، فناسٌ يقولون: هلكوا إذ لم يقبل الله لهم عُذْراً، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم. وإمَّا للإبهامِ بالنِّسبة إلى أنَّه أبهمَ على المُخاطبين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 200 فصل اعلم أنَّه تعالى قسَّم المتخلفين ثلاثة أقسام: أحدها: المنافقون الذين مردُوا على النفاق. والثاني: التَّائبون وهم المُرادُون بقوله: {وَآخَرُونَ اعترفوا} وبيَّن تعالى أنَّه قبل توبتهم. والثالث: الذين بقوا موقوفين، وهم المذكورون في هذه الآية، والفرق بين هؤلاء وبين القسم الثاني، أنَّ هؤلاء لم يُسارعُوا إلى التَّوبة وأولئك سارعُوا إليها. قال ابنُ عبَّاسٍ: نزلت هذه الآية في الذين تخلَّفوا: كعبُ بنُ مالكٍ، ومرارةُ بن الربيع، وهلالُ بنُ أميَّة، لم يسارعوا إلى التوبة والاعتذار كما فعل أبو لبابة، فوقفهم رسُول الله خمسين ليلة، ونهى النَّاسَ عن مخالطتهم، حتَّى شفَّهم القلقُ، وضاقت عليهم الأرضُ بما رحبت وكانُوا من أهل بدر؛ فجعل أناس يقولون: هلكُوا، وآخرون يقولون: عسى الله أن يغفر لهم، فصاروا مرجئين لأمْرِ الله، إمَّا يعذبهم وإمَّا يرحمهم، حتى نزلت توبتهم بعد خمسين ليلة. {والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ} «عَليمٌ» بما في قلوبِ هؤلاء المرجئين «حَكِيمٌ» بما يحكم فيها. فإن قيل: إنَّهم ندموا على تأخرهم عن الغزوِ، وتخلفهم عن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ثمَّ إنَّهُ لم يحكم بكونهم تائبينَ، بل قال: {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} وذلك يدلُّ على أنَّ النَّدمَ وحده لا يكفي في صحَّة التوبةِ. فالجوابُ: لعلَّهم حين ندمُوا خافُوا أن يفضحهم الرَّسُولُ - عليه الصَّلاة والسَّلام -، وعلى هذا، فلا تكونُ توبتهم صحيحة، فاستمرّ عدم قبُولِ التوبة إلى أن نزل مدحهم؛ فعند ذلك ندمُوا على المعصيةِ لنفس كونها معصية، فحينئذٍ صحَّت توبتهم. فصل احتجّ الجُبائيُّ بهذه الآيةِ على أنَّه تعالى لا يعفو عن غير التَّائبِ؛ لأنَّهُ قال في حقِّ هؤلاء المذنبين {إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ} وذلك يدلُّ على أنَّه لا حكم إلاَّ أحد هذين الأمرين، وهو إمَّا التعذيب وإما التوبة، وأمَّا العفو عن الذَّنب من غير توبة؛ فهو قسم ثالث. فلمَّا أهمل الله تعالى ذكره، دلَّ على بطلانه. وأجيب: بأنَّا لا نقطع بحصول العفو عن جميع المذنبين، بل نقطعُ بحصول العفو في الجملة وأمَّا في حقِّ كل واحد؛ فذلك مشكوكٌ فيه، قال تعالى: {وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] فقطع بغفران ما سوى الشرك، لكن لا في حقِّ كل أحدٍ، بل في حقِّ من يشاء؛ فلم يلزم من عدم العفو في حق هؤلاء، عدم العفو على الإطلاق، وأيضاً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 201 فعدم الذِّكر لا يدلُّ على العدم، ألا ترى قوله تعالى {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38، 39] وهم المؤمنون {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} [عبس: 40 - 42] فذكر المؤمنين والكافرين، ثم إنَّ عدم ذكر القسم الثَّالث، لم يدل عند الجبائيُّ على نفيه؛ فكذا ههنا. قوله تعالى : {والذين اتخذوا مَسْجِداً ضِرَاراً} الآية. قرأ نافع، وابن عامر «الذين اتَّخَذُوا» بغير «واو» . والباقون بواو العطف. فأمَّا قراءةُ نافع وابن عامر فلموافقةِ مصاحفهم، فإنَّ مصاحف المدينة والشَّام حذفت منها الواوُ، وهي ثابتةٌ في مصاحف غيرهم. فمنْ أسقط الواوَ ففيه أوجه: أحدها: أنَّها بدلٌ من «آخرون» قبلها، وفيه نظر؛ لأنَّ هؤلاء الذين اتَّخَذُوا مسجداً ضراراً، لا يقال في حقِّهم: إنَّهم مُرجَوْن لأمر الله؛ لأنَّهُ رُوي في التفسير أنَّهم من كبار المنافقين، ك: أبي عامر الرَّاهب. الثاني: أنَّهُ مبتدأ، وفي خبره حينئذٍ أقوالٌ، أحدها: أنَّهُ «أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ» والعائدُ محذوفٌ تقديره: بنيانه منهم. الثاني: أنَّهُ «لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ» قاله النَّحاسُ والحوفيُّ وفيه بعدٌ لطول الفصل. الثالث: أنه «لا تقُمْ فيهِ» قالهُ الكسائيُّ. قال ابن عطيَّة: «ويتجه بإضمارٍ، إمَّا في أول الآية، وإمَّا في آخرها، بتقدير: لا تقمْ في مسجدهم» . الرابع: أنَّ الخبر محذوفٌ، تقديره: يعذبون، ونحوه، قاله المهدويُّ. الوجه الثالث: أنَّه منصوبٌ على الاختصاص، وسيأتي هذا الوجه أيضاً في قراءة الواو. وأما قراءةُ الواو ففيها ما تقدَّم، إلاَّ أنَّه يمتنع وجه البدل من «آخرون» ؛ لأجل العاطف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 202 وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: {والذين اتخذوا} ما محلُّه من الإعراب؟ قلتُ: محله النصب على الاختصاص، كقوله تعالى: {والمقيمين الصلاة} [النساء: 162] . وقيل: هو مبتدأ، وخبره محذوفٌ، معناه: فيمن وصفنا الذين اتَّخذُوا، كقوله: {والسارق والسارقة} [المائدة: 38] . يريد على مذهب سيبويه فإنَّ تقديرهُ: فيما يُتْلى عليكم السارق؛ فحذف الخبر، وأبقى المبتدأ، كهذه الآية. قال القرطبي: {والذين اتخذوا مَسْجِداً} معطوف، أيك ومنهم الذين اتَّخذُوا مسجداً، عطف جملة على جملة. قوله: «ضِرَاراً» فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنَّهُ مفعولٌ من أجله، أي: مُضَارَّةً لإخوانهم. الثاني: أنَّهُ مفعولٌ ثان ل «اتَّخذوا» قاله أبُو البقاءِ. الثالث: أنَّه مصدر في موضع الحال من فاعل «اتخذوا» ، أي: اتخذوه مضارين لإخوانهم. ويجوزُ أن ينتصبَ على المصدريَّةِ أي: يَضُرُّون بذلك غيرهم ضراراً. ومتعلقاتُ هذه المصادرِ محذوفةٌ، أي: ضراراً لإخوانهم، وكفراً بالله. فصل قال ابنُ عباسٍ، ومجاهدٌ، وقتادةُ، وعامة المفسِّرين: الذين اتَّخَذُوا مسجد الضرار كانوا اثني عشر رجلاً من المنافقين، وديعة بن ثابت، وخذام بن خالد ومن داره أخرج هذا المسجد، وثعلبة بن حاطب، وحارثة بن عامرٍ، وابناهُ مجمع وزيدُ بنُ حارثة، ومعتبُ بنُ قشير وعبادُ بنُ حنيفٍ أخو سهل بن حنيفٍ، وأبُو حبيبةَ بن الأزهرِ، ونبتل بن الحارث، وبجاد بن عثمان، ورجل يقال له: بحزَجٌ، بنوا هذا المسجد ضراراً، يعني مضارة للمؤمنين، والضرار: محاولة الضّر، كما أنَّ الشقاقَ محاولة ما يشُق. و «كُفْراً» قال ابنُ عباسٍ: يريدُ به ضراراً للمؤمنين، وكُفْراً بالنبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، وما جاء به. قال ابنُ عباسٍ، ومجاهد وقتادة وغيرهم: إنَّ أبا عامر الرَّاهب كان خرج إلى قيصر وتنصَّر، ووعدهم قيصر أنَّه سيأتيهم، فبنوا مسجد الضّرار يرصدون مجيئه فيه. وقال غيرهم: اتخذوه ليَكْفُرُوا فيه بالطَّعْنِ على النبيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. «وَتَفْرِيقاً بَيْنَ المؤمنين» أي: يفرقُون بواسطته جماعة المؤمنين وذلك لأن المنافقين قالوا: نبني مسجداً فنُصلِّي فيه؛ ولا نصلِّي خلف محمَّدٍ، فإن أتانا فيه صلينا خلفه وفرقنا بينه وبين الذين يصلون في مسجده، فيؤدي ذلك إلى اختلافِ الكلمة وإبطال الألفة. وكان يُصلِّي لهم مجمعُ بنُ حارثة، فلمَّا فرغوا أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو يتجهَّزُ إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 203 تبوك، فقالوا يا رسول الله: إنَّا بنينا مسجداً لذي العلَّة والحاجة، والليلةِ المطيرةِ، والليلة الشاتية، وإنَّا نحب أن تأتينا تصلي لنا فيه، وتدعو بالبركةِ، فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنِّي على جناح سفرٍ، ولو قدمنا إن شاء الله أتيناكم فصلينا لكم فيه» . فصل قال القرطبيُّ: «تفطَّن مالكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - من هذه الآية وقال: لا يُصلِّي جماعتان في مسجدٍ واحدٍ بإمامين، خلافاً لسائر العلماء. وروي عن الشَّافعي المنع؛ لأنَّ في ذلك تشتيتاً للكلمة، وإبطالاً لهذه الحكمة، وذريعة إلى أن نقول: من يريدُ الانفراد عن الجماعةِ كان له عذر فيقيمُ جماعة، ويقدم إمامه فيقعُ الخلاف بينهم، ويبطل الكلام وخفي ذلك عليهم» . قوله: {وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ} . الإرصاد: الانتظارُ، قاله الزجاجُ: وقال ابنُ قتيبة: الانتظارُ مع العداوةِ. قالوا: والمرادُ به: أبو عامر الرَّاهبُ، وهو والد حنظلة غسيل الملائكة، وكان قد ترهَّب في الجاهليَّة، وتنصَّر ولبس المسوح، فلمَّا قدم النبيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - المدينة قال له أبُو عامرٍ: ما هذا الذي جِئْتَ به؟ قال: «جئت بالحنيفية دين إبراهيم» ، قال أبو عامرٍ: أنا عليها، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنَّكَ لَسْتَ عليهَا» قال بلى، ولكنك أدخلتَ في الحنيفيَّة ما ليس منها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ما فعلتُ ولكنِّي جئتُ بها بيضَاءَ نقيَّةٌ» فقال أبُو عامرٍ، أمات اللهُ الكاذبَ طريداً وحيداً غريباً، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «آمين» وسمَّاه أبا عامر الفاسق فلمَّا كان يوم أحد، قال أبُو عامر لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا أجدُ قوماً يقاتلُونك إلاَّ قاتلتك معهم؛ فلمْ يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلمَّا انهزمت هوازن يئس، وخرج هارباً إلى الشَّام، وأرسل إلى المنافقين أن استعدُّوا لما استطعتم من قوَّة وسلاح، وابنُوا لِي مسجداً فإنِّي ذاهب إلى قيصر ملك الرُّوم، فآتي بجندٍ من الرُّوم، فأخرج مُحمَّداً وأصحابه من المدينة فبنوا مسجد الضرار إلى جنب مسجد قباء، فذلك قوله: {وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ الله وَرَسُولَهُ} [التوبة: 107] وهو أبو عامر الفاسق، ليصلي فيه إذا رجع من الشَّام. قوله: «مِنْ قبلُ» فيه وجهان: أحدهما - وهو الذي لم يذكر الزمخشريُّ غيره -: أنَّهُ متعلقٌ بقوله: «اتَّخَذُوا» ، أي: اتَّخذُوا مسجداً من قبل أن ينافق هؤلاء. والثاني: أنه متعلقٌ ب «حَاربَ» ، أي: حارب من قبل اتِّخاذ هذا المسجد. قوله: {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا} «ليَحْلفُنَّ» جوابُ قسم مقدر، أي: والله ليحْلِفنَّ. وقوله «إنْ أردْنَا» جوابٌ لقوله: «ليَحْلِفُنَّ» فوقع جوابُ القسم المقدر فعل قسم مجاب بقوله «إنْ أرَدْنَا» . و «إنْ» نافية، ولذلك وقع بعدها «إلاَّ» . و «الحُسْنَى» صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 204 أي: إلاَّ الخصلة الحسنى، أو إلاَّ الإرادة الحسنى. وقال الزمخشريُّ «مَا أرَدْنَا ببناء هذا المسجد إلاَّ الخصلة الحسنى، أو إلا الإرادة الحسنى، وهي الصلاةُ» . قال أبو حيَّان كأنَّه في قوله: «إلاَّ الخَصْلةِ الحسْنَى» جعله مفعولاً، وفي قوله: «أو إلاَّ الإرادة الحسنى» علةً؛ فكأنه ضمَّن «أرادَ» معنى «قَصَدَ» ، أي: ما قصدوا ببنائه لشيء من الأشياء إلاَّ الإرادة الحسنى. قال «وهذا وجهُ متكلف» وأرادوا بالفعلة الحسنى: الرفق بالمسلمين، والتوسعة على أهل الضعف، والعلة، والعجز عن المصير إلى مسجد رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنَّهم قالوا لرسُول الله: إنَّا بَنينا مسجداً لذي العلَّةِ والحاجة واللَّيلة المطيرة. ثم قال تعالى: {والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي: أنَّ الله أطلعَ الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على أنَّهم حلفُوا كاذبين. روي أنه لمّا انصرفَ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من تبوك؛ فنزل بذي أوان موضع قريب من المدينةِ، أتوهُ فسألوهُ إتيان مسجدهم، فدعا بقميصه ليلبسه، ويأتيهم، فنزل القرآن عليه وأخبره خبر مسجد الضرار، وما همُّوا به، فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مالك بن الدخشم، ومعن بن عديّ، وعامر بن السكن، والوحشي قاتل حمزة، وقال لهم: «انْطلقُوا إلى هذا المَسْجدِ الظَّالم أهلُه فاهدمُوهُ وأحْرِقُوهُ» فخرجوا مسرعين حتَّى أتوا سالم بن عوف وهم رهط مالك بن الدخشم فقال مالك: أنظروني حتى أخرج إليكم بنار من أهلي، فدخل أهلهُ فأخذ سعفاً من النخل، فأشعل فيه ناراً، ثم خرجوا يشتدون حتى دخلوا المسجد، وفيه أهله فحرقوه وهدموهُ، وتفرَّق عنه أهله، وأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يتخذ ذلك كناسة تلقى فيه الجيف، والنتن، والقمامة، ومات أبُو عامرٍ الرَّاهب بالشَّام وحيداً غريباً. ورُوي أنَّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء أتوا عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة، فيؤمّهم في مسجدهم، فقال: لا والله ولا نعمة عين! أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليّ، فوالله لقد صليتُ فيه وأنا لا أعلم ما أضمرُوا عليه، ولو علمتُ ما صلَّيتُ معهم، كنتُ غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شُيُوخاً لا يقرؤون فصليت ولا أحسب إلاَّ أنهم يتقرَّبُون إلى الله، ولم أعلم ما في أنفسهم فعذره عمر وصدَّقه وأمره بالصلاةِ في مسجد قباء. قال عطاءٌ «لمَّا فتح الله على عُمر الأمصار أمر المسلمين أن يبنوا المساجدَ، وأمرهم ألاَّ يبنوا في مدينة مسجدين يضار أحدهما صاحبه» . قوله: «لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً» . قال ابن عباس «لا تُصلّ فيه» منع اللهُ نبيَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يُصلِّي في مسجد الضِّرارِ. قال ابنُ جريج: فرغوا من إتمام ذلك المسجد يوم الجمعة، فصلُّوا فيه ذلك اليوم ويوم السبت والأحد، وانهار في يوم الاثنين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 205 ثم إنَّه تعالى بيَّن العلَّة في هذا النَّهْي، وهي أنَّ أحد المسجدين لمَّا كان مبنياً على التَّقوَى من أول يوم، وكانت الصَّلاة في مسجد آخر تمنع من الصَّلاة في مسجد التقوى، علم بالضرورة أنه يمنع من الصَّلاة في المسجد الثاني. فإن قيل: كون أحد المسجدين أفضل لا يوجب المنع من إقامة الصلاة في المسجد الثاني. فالجواب: علة المنع وقعت بمجموع الأمرين، أعني كون مسجد الضرار سبباً للمفاسد المذكورة وهي المضارة والكفر والتَّفريق بين المؤمنين وإرصاده لمن حارب الله ورسولهُ، وكون مسجد التقوى يشتمل على الخيرات الكثيرة. فصل قال القرطبي «قال علماؤنا: لا يجوز أن يُبنى مسجد إلى جانب مسجد، ويجب هدمه، والمنع من بنائه، لئلاَّ ينصرف أهل المسجد الأول فيبقى شاغراً، إلاَّ أن تكون المحلة كبيرة فلا يكفي أهلها مسجدٌ واحدٌ فيبنى حينئذٍ. وكذلك قالوا: لا ينبغي أن يبنى في المصر الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني، ومن صلَّى فيه الجمعة لم تجزه. وقال علماؤنا: كلَّ مسجد بُنِيَ على ضرارٍ أو رياء أو سمعة فهو في حكم مسجد الضِّرارِ لا تجوز الصلاة فيه» . فصل قال النقاش «ويلزمُ من هذا ألاَّ يصلى في كنيسة ونحوها؛ لأنَّها بنيت على شر» . قال القرطبي «وهذا لا يلزمُ؛ لأنَّ الكنيسة لم يقصد ببنائها الضَّرر بالغير، وإن كان أصل بنائها على شرٍّ، وإنما اتَّخذت النَّصارى الكنيسة واليهود البيعة موضعاً لعبادتهم بزعمهم كالمسجد لنا فافترقا، وقد أجمع العلماء على أن من صلَّى في كنسةٍ، أو بيعة على موضع طاهرٍ أنَّ صلاته صحيحةٌ جائزةٌ. وذكر البُخاريُّ أن ابن عباس كان يصلي في البيعة إذا لم يكن فيها تماثيل، وذكر أبو داود عن عثمان بن أبي العاص أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمره أن يبني مسجد الطائف حيثُ كان طواغيتُهم» . فصل قال القرطبيُّ «قال علماؤنا: من كان إماماً لظالم لا يصلِّي وارءه، إلاَّ أن يظهر عذره أو يتوب؛ لأنَّ بني عمرو بن عوف الذين بنوا مسجد قباء سألوا عمر بن الخطاب في خلافته ليأذن لمجمع بن حارثة أن يصلِّي بهم في مسجدهم، فقال: لا والله ولا نعمة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 206 عين! أليس بإمام مسجد الضرار؟ فقال له مجمع: يا أمير المؤمنين، لا تعجل عليَّ، فوالله لقد صليتُ فيه، وأنا لا أعلم ما أضمروا عليه، ولو علمتُ ما صلَّيْتُ بهم فيه، كنتُ غلاماً قارئاً للقرآن، وكانوا شُيُوخاً قد عاشوا على جاهليتهم، وكانوا لا يقرءون من القرآن شيئاً، فصلَّيْتُ ولا أحسب ما صنعت إثماً، ولمْ أعلمْ ما في أنفسهم؛ فعذرهُ عمر، وصدَّقه وأمره بالصلاة في مسجد قُبَاء» . فصل قال القرطبيُّ «قال علماؤنا: إذا كان المسجد الذي يتَّخذ للعبادة وحضَّ الشارع على بنائه بقوله:» مَنْ بنَى للهِ مسجداً، ولوْ كَمَفْحَصِ قطاةٍ بنى اللهُ لهُ بيتاً في الجنَّةِ «يُهْدم إذا كان فيه ضرر بغيره؛ فما ظنُّك بسواه بل هو أحرى أن يزال ويهدم. كمنْ بنى فرناً أو رحًى أو حفر بئراً، أو غير ذلك ممّا يدخل ضرراً على الغير. والضَّابطُ فيه: أنَّ منْ أدخَلَ ضرراً على أخيه منع، فإن أدخل على أخيه ضرراً بفعل ما كان له فعله في ماله، فأضرَّ ذلك بجاره، أو غير جاره، نظر إلى ذلك الفعل، فإن كان تركه أكبر ضرراً من الضَّررِ الدَّاخل على الفاعل قطع أكبر الضَّررين. مثل من فتح كُوة في منزله يطلع منها على دار أخيه وفيها العيال والأهلُ، ومن شأن النساء في بيوتهن التجرد من بعض ثيابهنّ والانتشار في حوائجهن، ومعلوم أنَّ الاطلاع على العورات محرّم، نهى الشَّارعُ عن الاطلاع إلى العورات فرأى العلماء أن يغلقوا الكُوَّة وإن كان فيها منفعة وراحة؛ لأنَّ ضرر الكُوَّة أعظم من ضرر سدِّها، خلافاً للشافعي، فإنَّ أصحابه قالوا: لو حفر في ملكه بئراً، وحفر آخر في ملكه بئراً يسرقُ منه ماء البئر الأولى جاز؛ لأنَّ كلَّ واحد حفر في ملكه؛ فلا يمنع، ومثله عندهم: لو حفر إلى جنب بئر جاره كنيفاً يفسد عليه ماءه لم يكن له منعه؛ لأنه تصرف في ملكه، والقرآنُ والسُّنَّةُ يردان هذا القول. ومن هذا النوع من الضَّرر الذي منع العلماء منه، دُخان الفرن والحمام وغبار الأندر والدُّود المتولد من الزبل المنشور في الرحاب؛ فإنه يمنع منه ما كثر ضرره وخشي تماديه» . قوله: « ... لمَسْجِدٌ ... «فيه وجهان: أحدهما: أنَّها لامُ الابتداء. والثاني: أنَّها جوابُ قسمٍ محذوف تقديره: والله لمسجدٌ أسِّسَ، أي: بني أصله على التقوى. وعلى التقديرين فيكون» لمَسْجِدٌ «مبتدأ، و» أسِّسَ «في محل رفع نعتاً له، و» أحقُّ «خبره. والقائمُ مقام الفاعل ضميرُ المسجد على حذف مضاف، أي: أسِّسَ بنيانه، و» مِنْ أوَّلِ «متعلقٌ به، وبه استدلَّ الكوفيون على أنَّ» مِنْ «تكون لابتداء الغاية في الزمان؛ واستدلُّوا أيضاً بقوله: [الطويل] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 207 2845 - مِنَ الصُّبْحِ حتَّى تطلُعَ الشَّمسُ لا تَرَى ... من القَوْمِ إِلاَّ خَارِجيّاً مُسَوَّمَا وقول الآخر: [الطويل] 2846 - تُخَيَّرنَ مِنْ أزمانِ يوْمِ حليمَةٍ ... إلى اليوْمِ قَدْ جُرِّيْنَ كُلَّ التَّجاربِ وقد تأوَّله البصريون على حذف مضاف، أي: من تأسيس أول يوم، ومن طلوع الصُّبحِ، ومن مجيء أزمان يوم. قال القرطبي:» مِنْ «عند النحويين مقابلة» مُنذ «، ف» منذ «في الزمان بمنزلة» من «في المكان، أي: من تأسيس أوَّل الأيام؛ فدخلت على مصدر الفعل الذي هو» أسس «؛ كقوله: [الكامل] 2847 - لِمَنِ الدِّيارُ بقُنَّةِ الحَجْرِ ... أقْويْنَ مِنْ حِجَجٍ ومِنْ دَهْرِ؟ أي من مرور حجج ومن مرور دهر، وإنَّما دعا إلى هذا أنَّ من أصول النحويين أنَّ» مِنْ «لا يجر بها الأزمان، وإنَّما تُجَرّ الأزمانُ ب» مِنْذُ «، تقولُ: ما رأيته منذُ شهرٍ، أو سنة. قال أبو البقاءِ» وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ التأسيسَ المقدر ليس بمكانٍ، حتَّى تكون لابتداءِ الغاية ويدلُّ على جواز ذلك قوله: {لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ} [الروم: 4] ، وهو كثيرٌ في القرآن وغيره «. قال شهابُ الدِّين: البصريون إنَّما فرُّوا من كونها لابتداء الغاية في الزَّمان، وليس في هذه العبارة ما يقتضي أنها لا تكونُ إلا لابتداء الغاية في المكان حتَّى يردّ عليهم بما ذكر، والخلاف في هذه المسألة قوي، ولأبي علي فيها كلامٌ طويلٌ. وقال ابنُ عطيَّة:» ويحْسُنُ عندي أن يستغنى عن تقدير، وأن تكون «من» تجر لفظة «أول» ؛ لأنَّها بمعنى: البداءة، كأنَّهُ قال: من مبتدأ الأيام، وقد حكي لي هذا الذي اخترته عن بعض أئمة النحو «. وقوله:» أَحَقُّ «ليس للتفضيل، بل بمعنى» حقيقٌ «، إذْ لا مفاضلة بين المسجدينِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 208 قال القرطبيُّ» أحقُّ «هو أفعل من الحق، و» أفعل «لا يدخلُ إلاَّ بين شيئين مشرتكين لأحدهما مزيَّة في المعنى الذي اشتركا فيه على الآخر، فمسجدُ الضِّرار وإن كان باطلاً لا حقَّ فيه، فقد اشتركا في الحقِّ من جهة اعتقاد بانيه، أو من جهة اعتقاد من كان يظُن أنَّ القيام فيه جائز للمسجدية، لكن أحد الاعتقادين باطل باطناً عند الله، والآخر حق باطناً وظاهراً، ومثله قوله تعالى: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24] ومعلومٌ أنَّه لا خيرية في النَّارِ، لكنه جرى على اعتقاد كلِّ فرقة أنَّها خير، وأنَّ مصيرها إلى خير، إذ كل حزب بما لديهم فرحُون. و «أنْ تقُوم» أي: بأن تقوم. والتاء لخطاب الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. و «فِيهِ» متعلقٌ ب÷. قوله: «فِيهِ رجالٌ» يجوزُ أن تكون «فيه» صفةً لمسجد و «رِجَالٌ» فاعلٌ، وأن تكون حالاً من الهاء في «فِيهِ» ، و «رِجَالٌ» فاعلٌ به أيضاً، وهذان أولى من حيث إنَّ الوصف بالمفرد أصل، والجارُّ قريبٌ من المفرد. ويجوزُ أن يكون «فيهِ» خبراً مقدَّماً، و «رِجَالٌ» مبتدأ مؤخر. وفي هذه الجملة أيضاً ثلاثة أوجه: أحدها: الوصف. والثاني: الحالُ على ما تقدم. والثالث: الاستئناف. وقرأ عبد الله بن زيدٍ «فِيهِ» بكسر الهاء، و «فِيهُ» بضمها، وهو الأصل، جمع بذلك بين اللغتين، وفيه أيضاً رفع توهُّم التوكيد، ورفع توهُّم أنَّ «رِجَالٌ» مرفوع ب «تَقُوم» . وقوله «يُحِبُّون» صفة ل «رِجَالٌ» ، و «أنْ» مفعول به. وقرأ طلحة بن مصرف، والأعمش «يَطَّهَّرُوا» بالإدغام، وعلي بنُ أبي طالب «المُتَطهِّرين» بالإظهار عكس قراءة الجمهور في اللفظتين. فصل معنى «أسس» أي: بُني أصله {عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ} بُني ووضع أساسه {أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ} مُصلياً. واختلفوا في المسجدِ الذي أسِّسَ على التقوى، فقال ابنُ عمر وزيدُ ابنُ ثابت، وأبو سعيد الخدري: هو مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويدلُّ عليه ما روى حميد الخراط قال: سمعتُ أبا سلمة بن عبدِ الرَّحمنِ قال: مرَّ بي عبدُ الرحمن بن أبي سعيدٍ الخُدريِّ قال: قُلتُ لهُ: كيفَ سمعت أباكَ يذكرُ في المسجدِ الذي أسِّسَ على التَّقْوَى؟ قال: قال أبِي: دخلتُ على رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في بيتِ بعضِ نسائِهِ فقلتُ يا رسُول الله، «أيُّ المَسْجدينِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 209 الذي أسِّسَ على التَّقْوَى؟ قال: فأخَذَ كفّاً من حَصْبَاءَ فضرب به الأرض ثُمَّ قال:» هُوَ مسجدُكُمْ هذا «لِمسجدِ المدينةِ. قال: فقُلتُ: أَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ أَبَاكَ هَكَذَا يَذكره. وهذا قول سعيد بن المسيّب. وقال قوم: إنَّهُ مسجد قباء، وهي رواية عطية عن ابن عباس، وهو قول عروة بن الزبير وسعيد بن جبير وقتادة لما روي عن ابن عمر قال: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يأتي مسجد قباء كلَّ سبتٍ ماشياً وراكباً، وكان عبدُ الله يفعله، وزاد نافع عن ابن عمر عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» فيُصلِّي فيه رَكعتَيْنِ «. وقوله: {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} أي: من الأحداث والجنابات والنجاسات. قال عطاءٌ: كانوا يستنجون بالماءِ، ولا ينامون الليل على جنابة. روى أبو هريرة عن النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: نزلت هذه الآيةُ في أهل قُباء {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} قال: كانوا يستنجون بالماءِ؛ فنزلت فيهم هذه الآية، {والله يُحِبُّ المطهرين} . وروي أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقف على باب مسجد قباء وقال: «يا معْشَر الأنْصَارِ إنَّ الله أثْنَى عليكُم، فما الذي تصْنَعُونَ فِي الوضُوءِ؟» فقالوا: نتبع الأحجار بالماءِ، فقرأ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} الآية. « قالوا: المرادُ منه: الطهارة بالماء بعد الحجر. وقيل: المرادُ منه: الطَّهارة من الذنوب والمعاصي. وقيل: محمول على الأمرين. فإن قيل: لفظ الطَّهارة حقيقة في إزالة النَّجاسات، ومجاز في البراءة عن المعاصي، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 210 واستعمال اللفظ الواحدة في الحقيقة، والمجاز معاً لا يجوزُ. فالجوابُ: أنَّ لفظ النَّجس اسم للمستقذر، وهذا القذرُ مفهوم مشترك فيه بين القسمين، فزال السُّؤال. قوله: {أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ} . قرأ نافع، وابن عامر» أسِّسَ «مبنياً للمفعول،» بُنيانُه «بالرفع، لقيامه مقام الفاعل. والباقون» أسَّسَ «مبنياً للفاعل،» بُنيانَهُ «مفعول به، والفاعل ضمير» مَنْ «وقرأ عمارة بن عائذ الأوَّل مبنياً للمفعول، والثاني مبنياً للفاعل، و» بُنْيَانهُ «مرفوع على الأولى ومنصوب على الثانية لما تقدَّم. وقرأ نصر بن علي، ونصر بن عاصم» أسسُ بُنيانِهِ «. وقرأ أبُو حيوة» أساسُ بُنيانِهِ «جمع» أُسِّ «. وروي عن نصر بن عاصم أيضاً» أَسُّ «بهمزة مفتوحة وسين مضمومة. وقرىء» إسَاسُ «بالكسر، وهي جموع أضيفت إلى» البُنيانِ «. وقرىء» أسَاسُ «بفتح الهمزة و» أسّ «بضم الهمزة وتشديد السين، وهما مفردان أضيفا إلى البنيان. ونقل صاحبُ اللوامح فيه» أسَسُ «بالتخفيف ورفع السين،» بنيانِهِ «بالجر، ف» أسس «مصدر أسس الحائط، يؤسسُه أسَساً، وأسًّا. فهذه عشر قراءات، والأسُّ والأسَاسُ القاعدةُ التي يبنى عليها الشيءُ. ويقالُ: كان ذلك على أس الدهر، كقولهم: على وجه الدهر. ويقال: أسَّ، مضعفاً: أي: جعل له أسَاساً، وآسَسَ، بزنة» فاعل «. و» البُنْيَان «فيه قولان: أحدهما: أنَّهُ مصدر، ك: الغُفْران، والشُّكران، وأطلق على المفعول ك» الخَلْق «بمعنى المخلوق، وإطلاق المصدر على المفعول مجاز مفهومٌ، يقالُ: هذا ضربُ الأمير ونسج زيدٍ، أي: مضروبه، ومنسوجه. والثاني: أنَّهُ جمعٌ، وواحده» بُنْيَانة «؛ قال الشاعرُ: 2848 - كَبُنْيَانَةِ القَرْيِيِّ موضِعُ رَحْلِهَا ... وآثَارُ نِسْعَيْهَا مِنْ الدَّفِّ أبْلَقُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 211 يعنون أنه اسم جنسٍ، ك: قمح وقمحة. قوله: «على تقوى» يجوزُ فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلقٌ بنفس «أسَّسَ» فهو مفعول في المعنى. والثاني: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من الضَّميرِ المستكن في «أسَّسَ» أي: قاصداً بنيانه التقوى، كذا قدَّره أبُو البقاءِ. وقرأ عيسى بن عمر «تَقْوًى» منونة. وحكى هذه القراءة سيبويه، ولم يرتضها الناسُ لأنَّ الفها للتأنيث، فلا وجهَ لتنوينها، وقد خرَّجها الناسُ على أن تكون ألفها للإلحاق. قال ابنُ جني: قياسُها أن تكون ألفها للإلحاق، ك «أرْطَى» . قوله: «خَيْرٌ» خبر المبتدأ. والتفضيل هنا باعتبار معتقدهم. و «أمْ» متصلة، و «مِنْ» الثانية عطف على «مِنْ» الأولى، و «أسَّسَ بُنْيانَهُ» كالأولى، قوله: «على شَفَا جُرُفٍ» كقوله: «على تقوى» في وجهيه. والشَّفا: الشَّفير، وشفا الشيء حرفه، يقال: أشْفَى على كذا إذا دنا منه. وتقدَّم الكلامُ عليه في آل عمران. وقرأ حمزة، وابنُ عامرٍ، وأبو بكر عن عاصم «جُرْفٍ» بسكون الرَّاءِ والباقون بضمها. فقيل: لغتان. وقيل: السَّاكن فرعٌ على المضموم، ك: «عُنْق» في «عُنُق» و «طُنْب» في «طُنُب» . وقيل: العكس ك: «عُسُر ويُسُر» . و «الجُرْف» البئر التي لم تُطْوَ. وقيل: هو الهُوَّةُ، وما يَجْرفُه السَّيْلُ من الأودية، قاله أبُو عبيدة. وقيل: هو المكان الذي يأكلهُ الماء، فيجْرفه، أي: يذهب به، ورجُلٌ جراف، أي: كثير النكاح كأنَّه يجرفُ في ذلك العملِ، قاله الراغبُ. قوله: «هَارٍ» نعت ل: «جُرُفٍ» ، وفيه ثلاثة أقوال: أحدها - وهو المشهورُ -: أنَّهُ مقلوبٌ بتقديم لامه على عينه، وذلك أنَّ أصله: هاورٌ، أو هايرٌ بالواو والياء؛ لأنه سمع فيه الحرفان قالوا: هَارَ يَهُور فانهارَ، وهَارَ يَهير، وتهَوَّر البناءُ، وتهَيَّر فقُدِّمت اللام، وهي «الراء» على العين - وهي «الواو» أو «الياء» - فصار ك: غازٍ، ورامٍ، فأعلَّ بالنقص كإعلالهما، فوزنه بعد القلب: «فَالِع» ، ثم تزنُه بعد الحذف ب «فَالٍ» . الثاني: أنه حذفت عينه اعتباطاً، أي: لغير موجبٍ، وعلى هذا، فيجري بوجوه الإعراب على لامه، فيقال: هذا هارٌ، ورأيت هاراً، ومررتُ بهارٍ، ووزنه أيضاً «فال» . والثالث: أنَّهُ لا قلب فيه ولا حذف، وأنَّ أصله «هَوِر» ، أو «هَيِر» بزنة «كَتِف» ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 212 فتحرك حرف العلة، وانفتح ما قبله، فقُلِب ألفاً، فصار مثل قولهم: كبشٌ صافٌ. أي: صَوِف، ويومٌ راحٌ، أي: روحٌ. وعلى هذا، فيجري بوجوه الإعراب أيضاً كالذي قبله، كما تقولُ: هذا بابٌ ورأيتُ باباً، ومررت ببابٍ. وهذا أعدل الوُجُوهِ، لاستراحته من ادِّعاءِ القلبِ، والحذف اللذين هما على خلاف الأصلِ، لولا أنه غير مشهور عند أهل التَّصريف. ومعنى: «هَارٍ» أي: ساقط متداع منهال. قال الليثُ: الهورُ: مصدر هَارَ الجُرفُ يهورُ، إذا انصدَعَ من خلفه، وهو ثابتٌ بعدُ في مكانه، وهو جرفٌ هارٍ أي: هائر، فإذا سقط؛ فقد انهارَ وتَهيَّر. ومعناه السَّاقط الذي يتداعى بعضه في أثر بعض كما ينهار الرَّمل والشيء الرخو. قوله: «فانهار» فاعله إمَّا ضميرُ البنيان، والهاءُ في «به» على هذا ضمير المؤسس الباني أي: فسقط بنيان الباني على شفا جرفٍ هار، وإمَّا ضمير الشَّفَا، وإمَّا ضمير الجرف أي: فسقط الشَّفَا، أو سقط الجرفُ، والهاء في «بِهِ» للبنيان، ويجوزث أن يكون للباني المؤسس. والأولى أن يكون الفاعل ضميرَ الجرف؛ لأنَّهُ يلزمُ من انهياره انهيارُ الشَّفَا والبنيان جميعاً، ولا يلزمُ من انهيارهما أو انهيار أحدهما انيهارهُ. والباءُ في «به» يجوز أن تكون المعدِّية، وأن تكون التي للمصاحبة، وقد تقدَّم الخلاف في أول الكتاب أنَّ المعدِّيةَ عند بعضهم تستلزم المصاحبة. وإذا قيل إنَّها للمصاحبة هنا؛ فتتعلقُ بمحذوفٍ؛ لأنَّها حال أي: فانهار مصاحباً له. فصل معنى الآية: أفمَنْ أسَّس بنيان دينه على قاعدةٍ قويَّة محكمة وهو الحق الذي هو تقوى الله ورضوانه خير، أمَّنْ أسَّسَ على قاعدة هي أضعف القواعد وأقلها بقاء، وهو الباطلُ والنِّفاق الذي مثله مثل شفا جرف هار من أودية جهنم؟ وكونه شفا جرف هار كان مشرفاً على السُّقوط ولكونه على طرف جهنم، كان إذا انهار فإنَّما ينهار في قعر جهنم، فالمعنى أنَّ أحد البنائين قصد بانيه ببنائه تقوى الله ورضوانه، والبناء الثاني قصد بانيه ببنائه المعصية والكفر فكان البناء الأول شريفاً واجب الإبقاء، والبناء الثاني خسيساً واجب الهدم؛ فلا يرى مثال أخس مطابقة لأمر المنافقين من هذا المثال، {والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين} . قوله: {لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ} . أي: ذلك البنيان صار سبباً لحصول الريبة في قلوبهم. و «بُنيَانهُم» يحتملُ أن يكون مصدراً على حاله، أي: لا يزالُ هذا الفعلُ الصَّادرُ منهم، ويحتملُ أن يكون مراداً به المبني، وحينئذٍ يضطرُّ إلى حذف مضاف، أي: بناء بنيانهم؛ لأن المبنيَّ ليس ريبةً، أو يقدَّر الحذف من الثاني أي: لا يزال مبنيُّهم سبب ريبة. وقوله: «الذي بَنَوا» تأكيدٌ دفعاً لوهم من يتوهَّم أنهم لم يَبْنُوا حقيقة، وإنَّما دبَّرُوا أموراً، من قولهم: كم أبني وتهدمُ، وعليه قوله: [الطويل] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 213 2849 - متى يبلغُ البُنْيانُ يَوْماً تَمَامَهُ ... إذَا كُنْتَ تَبْنيهِ وغيْرُكَ يَهْدِمُ؟ فصل في كونه سبباً للريبة وجوه: الأول: أنَّ المنافقين فرحوا ببناء مسجد الضَّرار، فلمَّا أمر الرسول بتخريبة ثقل ذلك عليهم وازداد بغضهم له وازداد ارتيابهم في نبوته. وثانيها: أنَّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما أمر بتخريبه، ظنُّوا أنَّهُ إنَّما أمر بتخريبه حسداص، فارتفع أمانهم عنه، وعظم خوفهم منه، وصاروا مرتابين في أنَّهُ هل يتركهم على ما هم فيه أو يأمر بقتلهم ونهب أموالهم؟ وثالثها: أنَّهم اعتقدوا كونهم محسنين في بناء ذلك المسجد، كما حبب العجل إلى قوم موسى، فلمَّا أمر الرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بتخريبه بقوا شاكين مرتابين في أنه لأي سبب أمر بتخريبه؟ قاله ابن عباس. وقال الكلبيُّ: «ريبة» أي: حسرة وندامة، لأنهم ندموا على بنائه. وقال السُّدي: لا يزال هدم بنيانهم ريبة، أي: حزازة وغيظاً في قلوبهم. قوله: «إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ» المستثنى منه محذوفٌ، والتقدير: لا يزالُ بنيانهم ريبةً في كلِّ وقت إلاَّ وقت تقطيع قلوبهم أو في كل حال إلاَّ حال تقطيعها. وقرأ ابن عامر، وحمزة، وحفص «تقطَّع» بفتح التَّاء، والأصل تتقطع بتاءين، فحذفت إحداهما. وعن ابن كثير «تَقْطع» بفتح الياء وتسكين القاف «قُلوبَهُم» بالنصب، أي: تفعلُ أنت بقلوبهم هذا الفعل. وقرأ الباقون «تُقَطَّع» بضمِّها، وهو مبني للمفعول، مضارع «قطَّع» بالتشديد. وقرأ أبيّ «تَقْطَع» مخففاً من «قطع» . وقرأ الحسنُ، ومجاهد وقتادة، ويعقوب «إلى أن» ب «إلى» الجارة. وأبو حيوة كذلك، وهي قراءةٌ واضحةٌ في المعنى، إلاَّ أنَّا أبا حيوة قرأ «تُقَطِّع» بضم التاء وفتح القاف وكسر الطاء مشددةً والفاعل ضميرُ الرسول، «قُلُوبَهُم» نصباً على المفعول به، والمعنى بذلك أنه يقتلهم ويتمكَّن منهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 214 كلَّ تمكُّن. وقيل: الفاعلُ ضمير «الرِّيبة» ، أي: إلى أنْ تقطع الرِّيبةُ قلوبهم وفي مصحف عبد الله «ولو قُطِّعَتْ» وبها قرأ أصحابه، وهي مخالفةٌ لسوادِ مصاحف الناس. والمعنى أنَّ هذه الريبة باقية في قلوبهم أبداً ويموتون على النِّفاق. وقيل: معناه إلاَّ أن يتوبوا توبة تنقطع بها قلوبهم ندماً وأسفاً على تفريطهم. وقيل: حتى تنشق قلوبهم غماً وحسرة. «والله عَلِيمٌ» بأحوالهم، «حَكِيمٌ» في الأحكام التي يحكمُ بها عليهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 قوله تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} الآية. لمَّا شرح أحوال المنافقين، عاد إلى بيانِ فضيلة الجهادِ. قيل: هذا تمثيلٌ كقوله تعالى {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى} [البقرة: 16] قال مُحمَّدُ بن كعب القرظيُّ: «لمَّا بايعت الأنصارُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة العقبة بمكَّة وهم سبعون نفساً، قال عبد الله بن رواحة: يا رسول الله اشترط لربِّك ولنفْسِكَ ما شئتَ. فقال:» أشترطُ لربِّي أن تعبُدُوهُ ولا تُشرِكُوا بِهِ شَيْئاً ولنفْسِي أن تمنعوني ممَّا منعون منه أنفسكُم وأموالكُم «قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال:» الجنَّة «قالوا ربح البيعُ لا نقيلُ ولا نستقيلُ» ، فنزل: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} . قال الحسنُ، ومجاهدٌ، ومقاتل: «ثامنَهُم فأغْلَى ثمنهُمْ» . قوله: «بِأَنَّ لَهُمُ» متعلقٌ ب «اشْتَرَى» ، ودخلت الباءُ هنا على المترُوكِ على بابها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 215 وسمَّاها أبُو البقاءِ «باء» المقابلةِ، كقولهم: «باء» العوض، و «باء» الثمنية. وقرأ عمرُ ابنُ الخطاب والأعمش «بِالجنَّةِ» . قال أهلُ المعاني: لا يجوزُ أن يشتري الله شيئاً في الحقيقة؛ لأنه مالك الكل، ولهذا قال الحسنُ: اشترى أنفساً هو خلقها، وأموالاً هو رزقها، وإنَّما ذكر اللهُ ذلك، لحسن التَّلُّطفِ في الدُّعاءِ إلى الطَّاعةِ؛ لأن المؤمنَ إذا قاتل في سبيل اللهِ حتى يقتل؛ فتذهب روحه، وينفق ماله في سبيل الله تعالى جزاؤه في الآخرة الجنَّة، فكان هذا استبدالاً وشراءً. قال الحسنُ: «والله بيعة رَابحةٌ، وكفةٌ راجحةٌ، بايع اللهُ بها كلَّ مُؤمِنٍ والله ما على الأرض مؤمن إلاَّ وقد دخل في هذه البيعة» . وفيه لطيفةٌ، وهي أن المشتري لا بدَّ وأن يغاير البائع، وههنا البائعُ هو اللهُ تعالى، والمشتري هو الله، وهذا إنما يصحُّ في حقِّ القيم بأمر الطفل الذي لا يمكُنُه رعاية المصالح في البيع والشراء وصحَّة هذا البيع مشروطة برعاية الغبطة؛ فهذا جارٍ مجرى التَّنبيه على كون العبد كالطِّفلِ الذي لا يهتدي إلى رعاية مصالح نفسه؛ وأنَّهُ تعالى هو الرَّاعي لمصالحه بشرط الغبطةِ. فصل قال القرطبيُّ: «هذه الآية دليلٌ على جواز معاملة السيد مع عبده، وإن كان الكل للسَّيد، لكن إذا ملكه عامله فيما جعل إليه، وجاز بين السيد وعبده ما لا يجوزُ بينه وبين غيره؛ لأنَّ ماله له، وله انتزاعه» . فصل أصل الشراءِ من الخلق أن يعوضوا بما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم، أو مثل ما خرج عنهم في النفع، فاشترى الله من العباد إتلاف أنفسهم، وأموالهم في طاعته، وإهلاكها في مرضاته وأعطاهم الجنَّة عوضاً عنها إذا فعلوا ذلك، وهو عوض عظيمٌ لا يدانيه المعوض، فأجرى ذلك على مجرى ما يتعارفونه في البيع والشراء، فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثَّواب والنَّوال فسمّي هذا شراء. فصل قال بعضُ العلماء: كما اشترى من المؤمنين البالغينَ المكلفين كذلك اشترى من الأطفال فآلمهم، وأسقمهم، لما في ذلك من المصلحة ومن الاعتبار للبالغين، فإنهم لا يكونُون عند شيءٍ أكثر صلاحاً، وأقل فساداً منهم عند ألم الأطفالِ، وما يحصلُ للوالدين من الثَّواب فيما ينالهم من الهم، ثم إنَّ الله تعالى يعوض هؤلاء الأطفال عوضاً إذا صارُوا إليه. قوله: «يُقَاتِلُون» يجوز أن يكون مستأنفاً، ويجوز أن يكون حالاً. وقال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 216 الزمخشري: «يُقَاتلُون» فيه معنى الأمر، كقوله: {وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ} [الصف: 11] . وعلى هذا فيتعيَّنُ الاستئناف، لأنَّ الطَّلبَ لا يقع حالاً. وقد تقدَّم الخلاف في {فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} في آل عمران قرأ حمزة والكسائيُّ: «فيُقْتلُونَ» بتقديم المفعول على الفاعل. وقرأ الباقون بتقديم الفاعل على المفعول. قوله: «وَعْداً» منصوبٌ على المصدر المؤكد لمضمون الجملة؛ لأنَّ معنى «اشْتَرَى» معنى: وعدهم بذلك، فهو نظير: «هَذَا ابني حقّاً» . ويجوزُ أن يكُون مصدراً في موضع الحال وفيه ضعفٌ. و «حَقّاً» نعت له. و «عَلَيْهِ» حالٌ من «حَقّاً» ؛ لأنَّهُ في الأصل صفةٌ لو تأخَّر. قوله: «فِي التوراة» فيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ متعلقٌ ب «اشْتَرَى» ، وعلى هذا فتكُونُ كل أمَّةٍ قد أمِرَت بالجهادِ، ووعدتْ عليه الجنَّة. والثاني: أنَّهُ متعلقٌ بمحذوفٍ؛ لأنَّه صفةٌ للوعد، أي: وعداً مذكوراً وكائناً في التَّوراة. وعلى هذا فيكون الوعد بالجنَّة مذكوراً في كتب الله المنزلةِ، وقال الزمخشريُّ في أثناء الكلامِ: «لا يجُوزُ عليه قبيحٌ قطّ» قال أبُو حيَّان: «استعمل» قَطْ «في غير موضوعه، لأنَّهُ أتَى به مع قوله» لا يجُوزُ عليه «، و» قطّ «ظرفٌ ماضٍ، فلا يعمل فيه إلاَّ الماضي» . قال شهابُ الدِّين «ليس المرادُ هنا زمناً بعينه» . ثم قال تعالى: {وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله} أي: أنَّ نقض العهد كذبٌ، ومكرٌ، وخديعة وكل ذلك من القبائح، وهي قبيحة من الإنسان مع احتياجه إليها، فالغني عن كلِّ الحاجات أولى أن يكون مُنزهاً عنها. أي لا أحد أوفى بعهده من الله، وهذا يتضمَّنُ وفاء الباري بالكل فأمَّا وعده فللجميع، وأمَّا وعيده فمخصوصٌ ببعض المذنبين وببعض الذُّنُوب، وفي بعض الأحوال. قوله: «فاستبشروا» فيه التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب؛ لأنَّ في خطابهم بذلك تشريفاً لهم و «استفعل» هنا ليس للطلب، بل بمعنى «أفعل» ، ك «اسْتوْقَدَ» ، و «أوقد» والمعنى: أظهروا السُّرورَ بذلك، والبشارة: إظهار السُّرور في البشرة. وقوله: {الذي بَايَعْتُمْ بِهِ} توكيد، كقوله: {الذي بَنَوْاْ} [التوبة: 110] ، لينصَّ لهم على هذا البيع بعينه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 217 قوله تعالى: {التائبون} الآية. لمَّا بينَّ أنَّه اشترى من المؤمنين أنفسهم، بيَّن ههنا أنَّ أولئك المؤمنين هم الموصوفون بهذه الصفات. وقال جماعةٌ: الآية الأولى مستقلة بنفسها، يقع تحت تلك المبايعة كل مُوحّد قاتل في سبيل الله لتكون كلمة الله هي العليا وإنْ لم يتصف بهذه الصفات في هذه الآية. قوله: «التائبون» فيه خمسةُ أوجه: أحدها: أنَّهُ مبتدأ، وخبره «العابدون» وما بعده أوصاف، أو أخبار متعددة عند من يرى ذلك. الثاني: أنَّ الخبر قوله «الآمرون» . الثالث: أنَّ الخبر محذوفٌ، أي: التَّائِبُون الموصوفون بهذه الأوصاف من أهل الجنة، أي من لم يجاهد غير معاندٍ، ولا قاصد لترك الجهادِ فله الجنَّةُ، قال الزجاجُ: وهو حسن، كأنه وعد الجنَّة لجميع المؤمنين، كقوله: {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} [النساء: 95] ويؤيده قوله: {وَبَشِّرِ المؤمنين} ، وهذا عند من يرى أنَّ هذه الآية منقطعةٌ ممَّا قبلها وليست شرطاً في المجاهدةِ. وأمَّا من زعم أنَّها شرطٌ في المجاهدة، كالضَّحاك وغيره فيكون إعراب التَّائبين خبر مبتدأ محذوف، أي: هم التائبون، وهذا من باب قطع النُّعُوتِ، وذلك أنَّ هذه الأوصاف عند هؤلاء القائلين من صفات المؤمنين في قوله تعالى: {مِنَ المؤمنين} ويؤيِّدُ ذلك قراءة أبيّ، وابن مسعود، والأعمش «التَّائبينَ» بالياءِ، ويجوزُ أن تكون هذه القراءةُ على القطع أيضاً؛ فيكون منصوباً بفعل مقدر، وقد صرَّح الزمخشري، وابنُ عطية بأنَّ التائبين في هذه القراءةِ نعتٌ للمؤمنين. الخامس: أنَّ «التَّائبُونَ» بدلٌ من الضمير المتصل في «يُقاتِلُونَ» . ولم يذكر لهذه الأوصاف متعلقاً فلم يقل: التَّائبُون من كذا لله، ولا العابدون لله لفهم ذلك، إلاَّ صفتي الأمر والنَّهي، مبالغةً في ذلك. ولم يأتِ بعاطفٍ بين هذه الأوصاف، لمناسبتها لبعضها، إلاَّ في صفتي الأمر والنَّهي، لتبايُن ما بينهما، فإنَّ الأمر طلبُ فعلٍ، والنَّهْيَ طلبُ تركٍ، أو كفٍّ. وكذا «الحَافِظُونَ» عطفه وذكر متعلقه وأتى بترتيب هذه الصفاتِ في الذِّكْر على أحسنِ نظمٍ، وهو ظاهرٌ بالتأمل، فإنَّهُ قدَّم التوبة أولاً، ثم ثنَّى بالعبادة إلى آخرها. وقيل: إنَّما دخلت الواوُ؛ لأنها «واوُ» الثمانية، كقولهم: {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] وقوله: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] لمَّا كان للجنَّة ثمانية أبواب أتى معها بالواو. قال بعض النَّحويين: هي لغة فصيحةٌ لبعض العربِ، يقولون إذا عدُّوا: واحد، اثنان، ثلاثة، أربعة خمسة، ستة، سبعة، وثمانية، تسعة، عشرة. قال القرطبيُّ: «وهي لغة قريش» وقال أبو البقاءِ: «إنَّما دخلت» الواو «في الصفة الثامنة، إيذاناً بأنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 218 السبعة عندهم عدد تام، ولذلك قالوا: سبع في ثمانية، أي: سبع أذرع في ثمانية أشبارٍ، وإنَّما دلَّت الواوُ على ذلك لأنَّ الواو تُؤذن بأنَّ ما بعدها غير ما قبلها، ولذلك دخلت في باب عطفِ النَّسق» . وهذا قولٌ ضعيفٌ جدّاً، لا تحقيقَ له. فصل في تفسير هذه الصفات قوله «التائبون» قال ابنُ عبَّاسٍ: التَّائِبُونَ من الشِّرْكِ وقال الحسنُ: من الشِّرك والنفاق. وقيل: التائبون الراجعون عن الحالة المذمومة قال القرطبيُّ: «الراجع إلى الطَّاعة أفضل من الراجع عن المعصية، لجمعه بين الأمرين» وقال الأصوليُّون: التَّائبُونَ من كلِّ معصيةٍ، لأنَّها صيغة عموم محلاة بالألف واللام فتتناول الكل، فالتخصيص تحكم. و «العَابِدُونَ» قال ابنُ عباسٍ «الذين يؤدُّون العبادة الواجبة عليهم» وقال غيره: المطيعون الذين أخلصُوا العبادة لله تعالى وقال الحسنُ «هم الذين عبدُوا الله في السَّراء والضَّراء» وقال قتادةُ «قوم أخذوا من أبدانهم في ليلهم ونهارهم» الحامدون «الذين يحمدون الله على كُلِّ حال في السّراء والضّراء. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» أوَّلُ مَنْ يُدعَى إلى الجنَّةِ يوْمَ القيامةِ الذين يَحمدُونَ الله فِي السَّراءِ والضَّراءِ «. » السائحون «قال ابنُ مسعودٍ: الصائمون. وقال ابن عباس» ما ذكر في القرآن من السياحة فهو الصيام «وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» سياحةُ أمتي الصيامُ «.» وعن الحسن «أنَّ هذا صوم الفرض» وقيل: هم الذين يديمون الصيام. قال سفيانُ بنُ عيينة «إنَّما سُميَ الصَّائمُ سائحاً، لتركه اللذات كلها، من المطعم والمشرب والنكاح» وقال عطاءٌ: «السَّائحون هم الغزاةُ في سبيل الله» وهو قول مسلم. وقال عكرمةُ: «هم طلبة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 219 العلم، ينتقلون من بلدٍ إلى بلدٍ» وقوله {الراكعون الساجدون} يعني: المُصلِّين. وقوله {الآمرون بالمعروف} بالإيمان {والناهون عَنِ المنكر} عن الشّرك. وقيل: المعروفُ: السنّةُ، والمنكر: البدعة. قوله: {والحافظون لِحُدُودِ الله} القائمون بأوامر الله. وقال الحسنُ «أهلُ الوفاءِ ببيعة الله» . قوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} الآيات. لمَّا بيَّن في أول السُّورة إلى هذا الموضع وجوب البراءة عن المشركين، والمنافقين من جميع الوجوه، بيَّن في هذه الآية وجوب البراءة عن أمواتهم، وإن كانوا في غاية القُرْبِ من الإنسان كالأب والأم، كما أوجب البراءة عن الأحياء منهم. قال ابنُ عباسٍ: لمَّا فتح رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكَّة، أتى قبر أمه آمنة، فوقف عليه حتى حميت الشمسُ، رجاء أن يؤذن له ليستغفر لها، فنزلت {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} وعن أبي هريرة قال: «زَارَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبرَ أمه فبكَى وأبْكَى من حولهُ، فقال:» اسْتأذَنْتُ ربِّي في أنْ أسْتَغْفِرَ لها؛ فَلمْ يُؤذَنْ لِي واسْتَأذَنتُهُ في أنْ أزُورَ قَبْرهَا فأذِنَ لِي، فزُورُوا القُبُور فإنَّهَا تُذكرُ المَوْتَ «. قال قتادة: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لأستغفرنَّ لأبي، كما استغفر إبراهيم لأبيه» فأنزل الله هذه الآية. وروى سعيد بن المسيب عن أبيه قال: «لمَّا حضرت أبَا طالب الوفاةُ جاءَهُ رسُول اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فوجدَ عندهُ أبَا جهْلٍ، وعبد الله بنَ أبِي أميَّة بن المُغِيرة - فقال: يا عم قُلْ لا إله إلاَّ اللهُ أحَاجُّ لَكَ بِها عند اللهِ» فقال أبو جَهْلٍ وعبدُ الله بنُ أبي أميَّة: أتَرغَبُ عن ملَّةِ عَبْدِ المُطلبِ؟ فلمْ يزلْ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَعْرِضُها عليْهِ ويُعيدُ لَهُ تِلكَ المقالةَ، حتَّى قَالَ أبُو طالب آخِرَ ما كَلَّمَهُمْ: على مِلَّة عبدِ المُطَّلبِ وأبَى أنْ يقُولَ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لأسْتَغفِرَنَّ لَكَ ما لَمْ أنه عَنْكَ» فأنزل الله هذه الآية، وقوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 220 القصص: 56] . وفي رواية قال رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لِعَمِّهِ «قُلْ: لا إله إلاَّ اللهُ أشْهَدُ لَكَ بِهَا يَوْمَ القيامةِ» ، قال: لَوْلاَ أنْ تُعَيِّرنِي قُريشٌ، يقُولُونَ: إنَّما حملهُ على ذَلِكَ الجَزَعُ لأقْرَرْتُ بها عيْنكَ؛ فنزل قوله: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] الآية. قال الواحديُّ: «وقد استبعده الحسينُ بنُ الفضلِ؛ لأنَّ هذه السُّورة من آخر القرآن نزولاً، ووفاة أبي طالب كانت بمكة أول الإسلام» . قال ابنُ الخطيب «وليس هذا بمُسْتَبعدٍ؛ فإنَّهُ يمكن أن يقال: إنَّ النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بقي يستغفر لأبي طالب من ذلك الوقت إلى حين نزول {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] وروي عن علي بن أبي طالبٍ أنَّه سمع رجُلاً يستغفر لأبويه وهما مشركان، قال: فقلت له: أتستغفر لأبويك وهما مشركان؟ فقال: أو ليس قد استغفر إبراهيم لأبويه وهما مشركان؟ فذكرت ذلك لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزلت هذه الآية» . وفي رواية: فأنزل اللهُ عزَّ وجلَّ {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] . فصل قال القرطبيُّ: «تضمَّنَتْ هذه الآية قطع موالاة الكُفَّارِ حيِّهم وميِّتهم؛ لأنَّ الله تعالى لم يجعل للمؤمنين أن يستغفروا للمشركين؛ فطلب الغفران للمشرك لا يجوز، فإن قيل: صحَّ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال يوم أحد حين كُسِرَتْ رباعيتُه وشُجَّ وجهه:» اللَّهُمَّ اغفر لِقوْمِي فإنَّهُم لا يَعْلمُونَ «فكيف الجمع بين الآية والخبر؟ فالجوابُ أنَّ ذلك القول من النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان على سبيل الحكاية عمَّنْ تقدَّمه من الأنبياء، بدليل ما رواه مسلم عن عبد الله قال: كأنِّي أنظرُ إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَحْكِي نبيّاً من الأنبياءِ ضربهُ قومهُ وهو يمسَحُ الدَّمَ عَنْ وجههِ ويقُولُ «ربِّ اغفرْ لِقوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ» وروى البخاريُّ نحوه وهذا صريح في الحكاية عمَّن قبله «. قال القرطبيُّ:» لأَنَّهُ قاله ابتداء عن نفسه. وجواب ثان: أنَّ المراد بالاستغفار في الآية: الصّلاة. قال عطاءُ بن أبي رباح: الآية في النَّهْي عن الصَّلاةِ على المشركين، والاستغفار هنا يراد به الصلاة. جواب ثالث: أنَّ الاستغفارَ للأحياءِ جائز؛ لأنَّهُ مرجو إيمانهم، ويمكن تألفهم بالقول الجميل، وترغيبهم في الدِّين بخلاف الأموات «. قوله: {وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى} كقوله:» أعطوا السائل ولو على فرس «وقد تقدَّم أنها حالٌ معطوفةٌ على حال مقدرة. وقوله: {مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم} [التوبة: 113] كالعلَّةِ للمنع من الاستغفار لهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 221 قوله: {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} . في تعلُّق هذه الآية بما قبلها وجوهٌ: أحدها: أنَّهُ لا يتوهم إنسان أنَّه تعالى منع محمّداً من بعض ما أذن لإبراهيم فيه. وثانيها: أنه تعالى لمَّا بالغ في وجوب الانقطاع عن المشركين الأحياء والأموات، بيَّن ههنا أن هذا الحكم غير مختص بدين محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، بل وجوب الانقطاع مشروع أيضاً في دين إبراهيم؛ فتكون المبالغة في تقرير وجوبِ المقاطعةِ أكمل، وأقوى. وثالثها: أنَّهُ تعالى وصف إبراهيم بكونه حليماً أي: قليل الغضب، وبكونه أوهاً، أي: كثير التَّوجع والتَّفجُّع عند نزول المضار بالنَّاس، ومن كان موصوفاً بهذه الصِّفةِ كان ميل قلبه إلى الاستغفار لأبيه شديداً؛ فكأنه قيل: إنَّ إبراهيم مع جلالة قدره، وكونه موصوفاً بالأواهية والحلمية منعه الله من الاستغفار لأبيه الكافر، فمنع غيره أولى. قوله:» وَعَدَهَآ إِيَّاهُ «. اختلف في الضمير المرفوعِ، والمنصوبِ المنفصل، فقيل - وهو الظاهرُ - إنَّ المرفوعَ يعودَ على» إبراهيم «، والمنصُوب على» أبيه «، يعني: أنَّ إبراهيم كان وعد أباه أن يستغفر له، ويؤيد هذا قراءةُ الحسنِ، وحماد الرَّاوية. وابنُ السَّميفَع ومعاذ القارئ» وعدهَا أباهُ «بالباءِ الموحَّدةِ. وقيل: المرفوع لأبي إبراهيم والمنصوب ل» إبراهيم «. وفي التفسير أنه كان وعد إبراهيم أنَّه يُؤمنُ؛ فذلك طمع في إيمانه. فصل دلَّ القرآن على أنَّ إبراهيم استغفر لأبيه، لقوله: {واغفر لأبي} [الشعراء: 86] وقوله: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب} [إبراهيم: 41] وقال: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47] وقال أيضاً {لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] ، والاستغفار للكافر لا يجوز. فأجاب تعالى عن هذا الإشكال بقوله {وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} والمعنى: أن أباه وعده أن يؤمن؛ فلذا استغفر لهُ، فلمَّا تبيَّن له أنَّهُ لا يؤمن وأنَّهُ عدو لله، تبرَّأ منه. وقيل: إنَّ الواعدَ» إبراهيم «وعد أباهُ أن يستغفر لهُ رجاء إسلامه وقيل في الجواب وجهان آخران: الأول: أنَّ المراد من استغفار إبراهيم لأبيه دعاؤه له إلى الإسلام، وكان يقول له آمنْ حتى تتخلَّص من العقاب، ويدعو الله أن يرزقه الإيمان فهذا هو الاستغفارُ، فلمَّا أخبره تعالى بأنَّه يموتُ كافراً وترك تلك الدَّعوة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 222 والثاني: أنَّ من النَّاس من حمل قوله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} على صلاة الجنازة لا على هذا الطريق، قالوا: ويدل عليه قوله: {وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً} [التوبة: 84] . فصل اختلفوا في السَّببِ الذي تبيَّن إبراهيم به أنَّ أباهُ عَدُوّ للهِ. فقيل: بالإصْرارِ والموت وقيل: بالإصْرارِ وحده. وقيل: بالوحي. فكأنه تعالى يقولُ: لمَّا تبيَّن لإبراهيم أنَّ أباهُ عدو لله تبَّرأ منه؛ فكونوا كذلك، لأنِّي أمرتكم بمتابعة إبراهيم في قوله: {اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] . قوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} . الأوَّاهُ: الكثيرُ التأوه، وهو من يقولُ: أوَّاه، وقيل: من يقولُ: أوَّهْ، وهو أنْسَبُ؛ لأنَّ «أوه» بمعنى: أتوجع، ف «الأوَّاهُ» : فعَّال مثالُ مبالغة من ذلك، وقياسُ فعله أن يكون ثلاثياً؛ لأنَّ أمثله المبالغة إنَّما تطَّرد في الثُّلاثي وقد حكى قطربٌ فعله ثلاثياً، فقال: يقال: آهَ يَئُوهُ، ك «قَامَ يقُومُ،» أوْهاً «. وأنكر النحويون هذا القول على قطرب، وقالوا: لا يقال من» أوَّهْ «بمعنى: أتوَجَّعُ، فعلٌ ثلاثي، إنما يقال: أوَّه تأويهاً، وتأوَّه تأوهاً؛ قال الراجز: [الرجز] 2850 - فَأوَّهَ الرَّاعِي وضَوْضَى أكْلُبُهْ ... وقال المثقبُ العَبْدِيُّ: [الوافر] 2851 - إِذَا ما قُمْتُ أرْحَلُهَا بليْلٍ ... تأوَّهُ آهَةَ الرَّجُلِ الحَزينِ وقال الزمخشريُّ:» أوَّاه: فعَّال، مِنْ أوَّهْ، ك: «لئَّالٍ» من اللُّؤلؤ، وهو الذي يكثر التَّأوُّه «. قال أبُو حيان» وتشبيه «أوَّاه» مِنْ «أوَّهْ» ك «لَئّال» من اللؤلؤ ليس بجيدٍ؛ لأنَّ مادة «أوَّهْ» موجودةٌ في صورة «أوَّاه» ، ومادة «لؤلؤ» مفقودةٌ في «لَئّال» ؛ لاختلاف التركيب إذ «لَئّال» ثلاثي، و «لؤلؤ» رباعيّ، وشرط الاشتقاق التوافق في الحروف الأصلية «. قال شهابُ الدِّين:» لَئّال «، و» لؤلؤ «كلاهما من الرُّباعي المكرر، أي: إنَّ الأصل لام وهمزة ثم كرَّرْنا، غاية ما في الباب أنَّهُ اجتمع الهمزتان في» لَئّال «فأدغمت أولاهما في الأخرى، وفُرق بينهما في» لؤلؤ «وقال ابن الأثير في قوله عليه السلام:» أوْه عن الرِّبا «كلمة يقولها الرجل عند الشكاية والتوجُّع وهي ساكنة الواو ومكسورة الهاء، وربَّما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 223 قلبُوا الواو ألفاً فقالوا: آهِ من كذا، وربَّمَا شدَّدُوا الواو وكسرُوها وسكَّنُوا الهاء فقالوا» أوّهْ «وربما حذفُوا مع التَّشديد الهاء فقالوا:» أوّ «وبعضهم فتح الواو مع التشديد فيقول» أوَّهْ «. وقال الجوهريُّ: بعضهم يقول «آوَّه» بالمد والتشديد وفتح الواو ساكنة الهاءِ؛ لتطويل الصوت بالشِّكاية، ورُبَّمَا أدخلُوا فيه التَّاء فقالوا «أوَّتَاهُ» بمدِّ وبغير مدّ. فصل قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الأوَّاه: الخاشع المُتضرِّع» وعن عمر: «الدُّعَّاءُ أنَّهُ سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الأوَّاه، فقال:» ويروى «أن زينب تكلَّمت عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما غيَّر لونه؛ فأنكر عمر، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: دعهَا فإنَّها أوَّاهَةٌ» فقيل يا رسُول الله، وما الأواهةُ؟ قال: «الدَّاعيةُ الخاشِعةُ المُتضرِّعَةُ» . وقيل: معنى كون إبراهيم أوَّاهاً، كلَّما ذكر لنفسه تقصيراً، أو ذكر له شيء من شدائد الآخرة كان يتأوَّه إشفاقاً من ذلك واستعظاماً لهُ. وعن عبَّاسٍ: الأوَّاه، المؤمن التَّواب. وقال عطاءٌ وعكرمةُ: هو الموقن. وقال مجاهدٌ والنخعيُّ: هو الفقيه. وقال الكلبيُّ وسعيد بنُ المسيِّب: هو المُسبِّحُ الذي يذكر الله في الأرض القفر الموحشة. وقال أبُو ذرٍّ: هو المتأوه؛ لأنه كان يقول «آهٍ من النَّار قَبْلَ ألا تنفعَ آهُ» . و «الحَلِيمُ» معلوم. وإنَّما وصفهُ بهذين الوصفين ههنا؛ لأنَّه تعالى وصفه بشدّة الرقة والشَّفقة والخوف، ومن كان كذلك فإنَّه تعظم رقته على أبيه وأولاده، ثم إنَّهُ مع هذه الصفات تَبَرَّأ من أبيه وغلظ قلبه عليه لمَّا ظهر له إصراره على الكُفْرِ، فأنتم بهذا المعنى أولى. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً} الآية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 224 لمَّا منع المسلمين من أن يستغفرُوا للمشركين، والمسلمون كانوا قد استغفروا للمشركين قبل نزول الآية، فلمَّا نزلت هذه الآية خافُوا بسبب ما صدر عنهم قبل ذلك من الاستغفار للمشركين. وأيضاً فإنَّ أقواماً من المسلمين الذين استغفروا للمشركين، كانوا ماتوا قبل نزولِ هذه الآية فوقع الخوفُ في قلوب المسلمين أنَّهُ كيف يكون حالهم؛ فأزال الله ذلك عنهم بهذه الآية وبيَّن أنه لا يؤاخذهم بعمل إلاَّ بعد أن يُبيِّنَ لهم أنَّه يجبُ عليهم أن يتَّقُوهُ ويحترزوا عنه فهذا وجهٌ حسنٌ في النَّظْمِ. فصل معنى الآية: ما كان الله ليحكم عليكم بالضَّلالةِ بترك الأوامرِ باستغفاركم للمشركين {حتى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ} . قال مجاهدٌ: «بيان الله للمؤمنين في ترْكِ الاستغفار للمشركين خاصة، وبيانه لهم في معصيته وطاعته عامة» . وقال الضحاك: «ما كان اللهُ ليُعذِّبَ قوماً حتى يُبيِّنَ لهم ما يأتون وما يذَرُونَ» . وقال مقاتلٌ والكلبيُّ: هذا في المنسوخ، وذلك أنَّ قوماً قدمُوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأسلمُوا قبل تحريم الخمر وصرف القبلة إلى الكعبةِ؛ فرجعوا إلى قومهم وهم على ذلك ثم حرمت الخمر وصرفت القبلة، ولا علمَ لهم بذلك، ثم قدمُوا بعد ذلك المدينة؛ فوجدُوا الخمر قد حُرِّمَتْ والقبلة قد صُرفتْ، فقالوا يا رسول الله: قد كنت على دينٍ ونحن على غيره، فنحن ضلال؟ فأنزل الله تعالى: {وَمَا كَانَ الله لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حتى يُبَيِّنَ لَهُم} الناسخ، وقيل: المعنى: أنَّهُ أضلهُ عن طريق الجنَّةِ أي: صرفه ومنعه من التوجّه إليه. وقالت المعتزلة: المراد من هذا الإضلال، الحكم عليهم بالضلال؛ واحتجُّوا بقول الكميت: [الطويل] 2852 - وطَائِفَةٍ قَدْ أكفرُونِي بحُبِّكُم ..... ... ... ... ... ... ... ... . قال ابنُ الأنباري «وهذا التَّأويلُ فاسدٌ؛ لأنَّ العرب إذا أرادوا ذلك المعنى قالوا: ضلل يضلل، واحتجاجهم ببيت الكميت باطلٌ؛ لأنه يلزم من قولنا: أكفر في الحُكْم صحة قولنا: أضَلّ. وليس كل موضع صح فيه» فعل «صح فيه» أفعل «. فإنَّه يجوزُ أن يقال» كسر «، و» قتل «، ولا يجوزُ» أكْسَرَ «، و» أقْتَلَ «؛ بل يجبُ فيه الرُّجوع إلى السماع» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 225 قوله: {إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض} الآية. فيها فوائد: أحدها: أنَّه تعالى لمَّا أمر بالبراءة من الكُفَّارِ، بيَّن أنَّه له ملك السموات والأرض، فإذا كان هو ناصركم فهم لا يقدرون على إضراركم. وثانيها: أنَّ المسلمين قالوا: لمَّا أمرتنا بالانقطاع عن الكُفَّار؛ فحينئذٍ لا يمكننا أن نختلط بآبائنا، وأولادنا، وإخواننا، فكأنَّهُ قيل: إن صرتم محرومين عن معاونتهم ومناصرتهم، فالإله المالكُ للسَّمواتِ والأرضِ، المُحْيِي المُمِيت ناصركم؛ فلا يضركم انقطاعهم عنكم. وثالثها: أنَّهُ تعالى لمَّا أمر بهذه التكاليف الشَّاقة كأنَّهُ قال: وجب عليكم أن تنقادوا لحكمي، لكوني إلهكم، ولكونكم عبيداً لي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 226 قوله: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار} الآية. لمَّا شرح أحوال غزوة تبوك، وأحوال المتخلِّفين عنها، عاد إلى شرح ما بقي من أحكامها فقال: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي} الآية. تاب الله: تجاوز وصفح، ومعنى توبته على النبيِّ: مؤاخذته بإذنه للمنافقين في التخلُّف، فقال: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} [التوبة: 43] ، وعلى المؤمنين من ميل قلوب بعضهم إلى التخلُّفِ عنه. وقيل: توبةُ الله عليهم استنقاذهم من شدَّةِ العسرةِ. وقيل: خلاصهم من نكايةِ العدوِّ وعبَّر عن ذلك بالتوبة - وإن خرج عن عرفها - لوجود معنى التَّوبة فيه، وهو الرُّجُوع إلى الحالة الأولى. وقيل: افتتح الكلام به؛ لأنَّه كان سبب توبتهم، فذكره معهم، كقوله تعالى: {فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ} [الأنفال: 41] . وقيل: لا يبعدُ أن يكون صدر عن أولئك الأقوام أنواع من المعاصي، إلاَّ أنَّه تعالى تاب عليهم، وعفا عنهم، لأجْلِ تحملهم مشاق السفر في شدة الحر للجهاد، ثم إنَّه تعالى ضمَّ ذكر الرسول إلى ذكرهم، تنبيهاً على عظم مراتبهم في الدِّين وأنهم قد بلغوا إلى الدرجة التي لأجلها ضم الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إليهم في قبول التوبة. قوله: « ... اتبعوه» يجوز فيه وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 226 أحدهما: أنَّهُ اتباعٌ حقيقي، ويكون عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ خرج أولاً، وتبعه أصحابه. وأن يكون مجازاً، أي: اتبعوا أمرهُ ونهيهُ. وساعةُ العُسْرة عبارةُ عن وقتِ الخروج إلى الغزوِ، وليس المرادُ حقيقة السَّاعة، بل كقولهم «يَوْم الكُلاَب» ، و: [الطويل] 2853 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... عَشِيَّة قَارعْنَا جُذَامَ وحمْيَرا فاستعيرت «السَّاعة» لذلك؛ كما استعير «الغداة» و «العَشيَّة» في قوله: [الطويل] 2854 - غَداةَ طفَتْ عَلماءِ بكرُ بنُ وَائِلٍ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... وقوله: [الطويل] 2855 - إذَا جَاءَ يَوْماً وارثي يبتَغِي الغِنَى ..... ... ... ... ... ... ... . فصل في المراد بساعة العسرةِ قولان: الأول: أنها غزوةُ تبوك، والمرادُ منها الزمان الذي صعب الأمر عليهم جدّاً في ذلك السَّفرِ. والعسرة: تعذر الأمر وصعوبته. قال جابِر «حصلت عسرة الظهر، وعسرة الماءِ، وعسرة الزَّادِ» . أمَّا عُسرةُ الظهرِ؛ فقال الحسنُ: كان العشرةُ من المسلمين يخرجون على بعير يعتقبونه بينهم. وأمَّا عسرة الزَّادِ، فريما مصَّ التمرة الواحدة جماعة يتناوبونها، حتَّى لا يبقى من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 227 التَّمرة إلاَّ النواة، وكان معهم شيء من شعير مُسَوَّسٍ، فكان أحدهم إذا وضع اللُّقْمَة في فيه أخذ أنفه من نتن اللُّقمةِ. وأمَّا عسرة الماءِ، فقال عمرُ: خرجنا في قيظٍ شديدٍ، وأصابنا فيه عطشٌ شديدٌ؛ حتَّى إنَّ الرجُل لينحر بعيرهُ فيعصر فرثهُ، ويشربهُ. وهذه تسمى غزوة العسرة، ومن خرج فيها فهو جيش العُسرةِ، وجهزهم عثمان وغيره من الصَّحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -. والثاني: قال أبو مسلم «يجوزُ أن يكون المراد بساعة العسرة جميع الأحوال، والأوقات الشديدة على الرَّسُولِ، وعلى المؤمنين؛ فيدخل فيه غزوة الخندق وغيرها. وقد ذكر الله تعالى بعضها في القرآن، كقوله: {وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر} [الأحزاب: 10] وقوله: {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حتى إِذَا فَشِلْتُمْ} [آل عمران: 152] الآية، والمقصود منه وصف المهاجرين، والأنصار بأنَّهُم اتَّبعُوا الرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في الأوقات الشديدة والأحوال الصعبة، وذلك يفيدُ نهاية المدح والتعظيم «. قوله: {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ} قرأ حمزة وحفص عن عصام» يَزِيغُ «بالياءِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 228 من تحت والباقون بالتاء من فوق. فالقراءةُ الأولى تحتمل أن يكون اسمُ» كاد «ضمير الشَّأن و» قلوبُ «مرفوع ب» يزيغُ «، والجملةُ في محلِّ نصبٍ خبراً لها، وأن يكونَ اسمها ضمير القوم، أو الجمع الذي دلَّ عليه ذكرُ» المهاجرين والأنصار «، ولذلك قدَّرهُ أبو البقاءِ، وابنُ عطيَّة:» من بعد مَا كَادَ القَوْمُ «. وقال أبو حيان - في هذه القراءة -» فيتعيَّن أن يكونَ في «كاد» ضميرُ الشَّأن، وارتفاع «قُلوبُ» ب «يزيغُ» ، لامتناع أن يكون «قلوب» اسم «كاد» ، و «يزيغُ» في موضع الخبر؛ لأنَّ النِّيةَ فيه التأخير ولا يجوزُ: من بعد ما كاد قلوب يزيغُ بالياء «قال شهابُ الدِّين: ولا يتعيَّن ما ذكر في هذه القراءة، لما تقدَّم من أنَّهُ يجوزُ أن يكون اسمُ» كاد «ضميراً عائداً على الجمع أو القوم، والجملة الفعليَّة خبرها، ولا محذور يمنع ذلك من ذلك. وقوله: لامتناع أن يكون» قُلُوب «اسم» كَادَ «لزم أن يكون» يزيغُ «خبراً مقدماً؛ فيلزمُ أن يرفع ضميراً عائداً على» قُلوبُ «، ولو كان كذلك للزم تأنيثُ الفعل؛ لأنَّهُ حينئذٍ مسندٌ إلى ضمير مؤنث مجازي؛ لأنَّ جمع التَّكسير يجري مجرى المؤنث مجازاً. وأمَّا قراءة التَّاء من فوق؛ فتحتمل أن يكون في» كَادَ «ضميرُ الشَّأن، كما تقدَّم، و» قلوبُ «مرفوع ب» تزيغُ «وأنَّثَ لتأنيث الجمع، وأن يكون» قُلبوُ «اسمها، و» تزيغُ «خبر مقدَّم، ولا محذور في ذلك؛ لأنَّ الفعل قد أنَّثَ. وقال أبُو حيَّان: وعلى كُلِّ واحدٍ من هذه الأعرايب الثلاثة إشكال على ما تقرَّر في علم النَّحو مِنْ أنَّ خبر أفعالِ المقاربةِ لا يكون إلاَّ مضارعاً رافعاً ضمير اسمها؛ فبعضهم أطلق وبعضهم قيَّد بغير» عَسَى «من أفعال المقاربة، ولا يكونُ سبباً، وذلك بخلاف» كان «فإن خبرها يرفع الضمير والسبي لاسم» كان «، فإذا قدَّرْنَا فيها ضمير الشَّأن كانت الجملةُ في موضع نصب على الخبرِ، والمرفوعُ ليس ضميراً يعود على اسم» كاد «، بل ولا سبباً له، وهذا يلزمُ في قراءة التَّاءِ أيضاً. وأما توسط الخبر؛ فهو مبنيٌّ على جوازِ مثل هذا التركيب في مثل: «كان يقُومُ زيد» ، وفيه خلافٌ والصحيحُ المنع. وأمَّا الوجه الأخير؛ فضعيف جداً، من حيثُ أضمر في «كاد» ضميراً، ليس له علىمن يعود إلاَّ بتوهُّم ومن حيثُ يكونُ خبر «كاد» رافعاً سبباً. قال شهابُ الدِّين: كيف يقولُ «والصَّحيحُ المنعُ» وهذا التركيب موجود في القرآن، كقوله تعالى: {مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ} [الأعراف: 137] {كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا} [الجن: 4] ، وفي قول امرىء القيس: [الطويل] 2856 - وإنْ تَكُ سَاءَتْكَ مِنِّي خَليقَةٌ ..... ... ... ... ... ... ... ... . . فهذا التركيبُ واقعٌ لا محالة. وإنَّما اختلفوا في تقديره: هل من باب تقديم الخبر، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 229 أم لا؟ فمن منع؛ لأنه كباب المبتدأ والخبر الصريح، والخبرُ الصريح متى كان كذلك؛ امتنع تقديمهُ على المبتدأ، لئلاَّ يلتبس بباب الفاعل؛ فكذلك بعد نسخه، ومن أجازَ فلأمن اللَّبْس. ثم قال أبُو حيَّان: «ويُخَلِّصُ من هذه الإشكالات اعتقادُ كون» كَادَ «زائدة، ومعناها مراد، ولا عمل لها إذ ذاك في اسم ولا خبر، فتكُون مثل» كَانَ «إذا زيدتْ، يُراد معناها ولا عمل لها، ويؤيِّدُ هذا التأويل قراءةُ ابن مسعودٍ» مِنْ بعْدِ ما زَاغَتْ «بإسقاط» كاد «وقد ذهب الكوفيون إلى زيادتها في قوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] مع تأثُّرها بالعامل وعملها فيما بعدها؛ فأحرى أن يُدَّعَى زيادتها، وهي ليست عاملةً ولا معمولةً» قال شهابُ الدِّين زيادتُها أباهُ الجمهور، وقال به من البصريين الأخفشُ وجعل منه {أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] وتقدَّم الكلام [البقرة: 205] على ذلك. وقرأ الأعمشُ، والجحدريُّ «تُزيغ» بضم التاء، وكأَّنه جعل «أزَاغَ» ، و «زَاغَ» بمعنى. وقرأ أبَيّ «كَادَتْ» بتاء التأنيث. فصل «كاد» عند بعضهم تفيد المقاربة، وعند آخرين تفيدُ المقاربة مع عدم الوقوع و «الزيغ» الميل، أي: من بعد ما كاد تميلُ قلوب فريق منهم، أو بعضهم، ولم يرد الميل عن الدِّين بل أراد الميل للتخلف، والانصراف؛ فهذه التوبةُ توبةٌ عن تلك المقاربة. واختلفوا في الذي وقع في قلوبهم، فقيل: هَمَّ بعضهم عند تلك الشدَّة العظيمة أن يفارق الرسول، لكنه صبر واحْتَسبَ؛ فلذلك قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} لمَّا صبرُوا وندمُوا على ذلك الأمر اليسير. وقال آخرون: بل كان ذلك تحدث النفس الذي كان مقدمة العزيمة، فلمَّا نالتهم الشِّدة، وقع ذلك في قلوبهم، ومع ذلك تلافوا هذا اليسيرَ خوفاً من أن يكون معصية؛ فلذلك قال تعالى: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} . فإن قيل: ذكر التوبة في أوَّل الآية، وفي آخرها، فما فائدة التَّكرارِ؟ فالجوابُ من وجوه: أحدها: أنَّهُ تعالى ابتدأ بذكر التَّوبةِ قبل ذكرِ الذَّنبِ تَطْيبباً لقلوبهم ثم لمَّا ذكر الذَّنبَ أردفه مرة أخرى بذكر التوبة؛ تعظيماً لشأنهم. وثانيها: إذا قيل: عفا السُّلطان عن فلان ثمَّ عفا عنه، دلَّ على أنَّ ذلك العفو متأكد بلغ الغاية القصوى في الكمالِ والقوَّةِ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إنَّ اللهَ ليغفِرُ ذَنْبَ الرَّجُلِ المُسلمِ عشرينَ مرَّة» وهذا معنى قول ابنِ عبَّاس في قوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 230 يريدُ ازداد عنهم رضا. قال ابنُ عبَّاسٍ: مَنْ تاب اللهُ عليه لمْ يُعذِّبْه أبَداً. وتقدمت هذه الآثار في سورة النساء. وثالثها: أنه قال {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة} وهذا الترتيبُ يدلُّ على أنَّ المراد أنَّهُ تعالى تاب عليهم من الوساوس التي كانت تقعُ في قلوبهم في ساعة العسرةِ، ثمَّ إنه تعالى زاد عليه فقال: {مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ} فهذه الزيادة أفادت حصول وساوس قوية، فلا جرم أتبعها تعالى بذكر التوبة مرة أخرى لئلاَّ يبقى في خاطر أحدٍ شك في كونهم مؤاخذين بتلك الوساوس. ثمَّ قال تعالى {إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} وهما صفتان لله تعالى، ومعناهما متقارب، ويمكنُ أن تكون الرَّأفة عبارة عن إزالة الضَّرر، والرحمة عبارة عن إيصال المنفعة. وقيل: إحداهما للرَّحمة السَّالفة، والأخرى للمستقبلة. قوله: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} الآية. قوله «وعَلى الثَّلاثةِ» يجوزُ أن ينسقَ على «النبيِّ، أي: تاب على النبي، وعلى الثلاثة، وأن ينسقَ على الضَّمير في» عَليْهِمْ «أي: تاب عليهم، وعلى الثلاثة، ولذلك كُرِّرَ حرفُ الجر. وقرأ جمهورُ النَّاس» خُلِّفُوا «مبنيّاً للمفعول مشدداً، من: خلَّفه يخلِّفه. وقرأ أبُو مالك كذلك إلاَّ أنَّه خفَّف اللاَّم. وقرأ عكرمةُ، وزر بنُ حبيشٍ، وعمرُو بنُ عبيدٍ، وعكرمة بنُ هارُونَ المخزميّ، ومعاذ للقارئ» خَلَفُوا «مبنيّاً للفاعل مخففاً من:» خَلَفَه «. والمعنى: الذين خلفوا، أي: فسدُوا، مِنْ: خُلُوف الفمِ. ويجُوزُ أن يكون المعنى أنهم خلفُوا الغازينَ في المدينة. وقرأ أبو العالية، وأبو الجوزاء كذلك، إلاَّ أنَّهُمَا شدَّدَا اللام وقرأ أبو رزين، وعلي بنُ الحسينِ، وابناه: زيدٌ، ومحمد الباقرُ، وابنه جعفر الصادقُ:» خَالفُوا «بألف، أي: لم يُوافِقُوا الغازين في الخروج. قال الباقرُ» ولوْ خُلِّفُوا لم يكن لهم «. وقرأ الأعمش» وعلى الثَّلاثة المخلَّفين «. و» الظَّن «هنا بمعنى العلم؛ كقوله: [الطويل] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 231 2857 - فقُلْتُ لهُم: ظُنُّوا بألْفَيْ مُدَجَّجٍ ... سراتهُم في الفَارسيِّ المُسَرَّدِ وقوله: {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] ؛ لأنَّه تعالى ذكر هذا الوصفَ في معرض المدح والثناء، ولا يكونُ ذلك إلا مع علمهم. وقيل: هو على بابه؛ لأنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقف أمرهم على الوحي، فهم لم يقطعوا بأنَّ الله ينزل في شأنهم قرآناً، بل كانوا مُجَوِّزين لذلك، أو كانُوا قاطعين بأنَّ الله ينزل الوحي ببراءتهم، ولكنهم جوَّزُوا أن تطول المدّة في بقائهم في الشِّدَّة، فالظَّن عاد إلى تجويز كون تلك المدة قصيرة. قوله: {أَن لاَّ مَلْجَأَ} «أنْ» هي المخففة سادَّة مسدَّ المفعولين، و «لا» وما في حيَّزها الخبرُ، و {مِنَ الله} خبرها، ولا يجوزُ أن تتعلق ب «مَلْجَأ» ، ويكون «إلاَّ إليْهِ» الخبر لأنه كان يلزم إعرابه؛ لأنَّهُ يكون مطوَّلاً. وقد قال بعضهم: إنَّه يجوزُ تشبيهُ الاسم المُطَوَّل بالمضاف فيُنتزعُ ما فيه من تنوينٍ ونونٍ، كقوله: [الطويل] 2858 - أرَانِي ولا كُفرانَ للهِ أيَّةً ..... ... ... ... ... ... ... . وقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا صَمْتَ يومٌ إلى اللَّيْلِ» برفع «يومٌ» وقد تقدم ذلك [الأنفال: 48] . قوله: «إلاَّ إليه» استثناء من ذلك العامِّ المحذوفِ، أي: لا ملجأ لأحدٍ إلاَّ إليه كقولك: «لا إله إلاَّ الله» . فصل هؤلاء الثلاثة هم المذكورون في قوله تعالى {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} [التوبة: 106] . واختلفوا في السبب الذي لأجله وصفوا بكونهم مخلفين فقيل: ليس المراد أنهم أمروا بالتَّخلفِ، أو حصل الرِّضا من الرَّسول بذلك، بل هو كقولك لصاحبك أين خلفت فلاناً؟ فيقولُ: بموضع كذا، لا يريدُ به أنَّهُ أمره بالتخلُّف، بل لعلَّه قد نهاهُ عنه، وإنَّما يريدُ أنَّهُ تخلَّف عنه. وقيل: لا يمتنعُ أن هؤلاء الثلاثة كان عزمهم الذهاب إلى الغزوِ؛ فأذن لهُمُ الرَّسُولُ - الجزء: 10 ¦ الصفحة: 232 عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في قدر تحصيل الآلات، فلما بقوا مدة ظهر التواني والكسل، فصح أن يقال: خلفهم الرسول. وقيل: إنه حكى قصة أقوام وهم المرادون بقوله {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} [التوبة: 106] والمرادُ من كون هؤلاء مخلفين كونهم مؤخرين في قبول التوبة. قال كعبُ بنُ مالكٍ، وهو أحد الثلاثةِ: قول الله في حقنا {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} ليس من تخلفنا إنَّما هو تأخيرُ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمرنا؛ يشير إلى قوله: {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} [التوبة: 106] فصل هؤلاء الثلاثةُ هم: كعب بنُ مالكٍ الشَّاعر، وهلالُ بنُ أميَّة الذي نزلت فيه آية اللعان، ومُرارةُ بنُ الرَّبيع. وفي قصتهم قولان: الأولُ: أنَّهم ذهبوا خلف الرَّسولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، قال الحسنُ: كان لأحدهم أرضٌ ثمنها مائة ألف درهم فقال: يا أرضاهُ ما خلَّفني عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلاَّ أمرك؛ فاذهبي في سبيل الله، فلأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفعل، وكان للثاني أهلٌ فقال: يا أهلاهُ ما خلَّفني عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا أمرك؛ فلأكابدن المفاوز حتَّى أصل إليه وفعل. والثالث: ما كان ذا مال ولا أهل فقال: ما لي سبب إلا الضَّن بالحياةِ، والله لأكابدن المفاوز حتى أصل إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فلحقوا برسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فنزل قوله {وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله} [التوبة: 106] . والثاني - وهو قول الأكثرين -: أنهم ما ذهبوا خلف الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال كعبٌ: «كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يحب حديثي، فلما أبطأت عليه في الخروج قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: ما الذي حبس كعباً فلمَّا قدم المدينة اعتذر المنافقون فعذرهم، وأتيته فقلتُ: إن كراعي، وزادي كان حاضراً، واحتبست بذنبي، فاستغفر لي فأبى رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك، ثمَّ إنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - نهى عن مجالسة هؤلاء الثلاثة، وأمر بمباينتهم، حتى أمر بذلك نساءهم؛ فضاقت عليهم الأرضُ بما رحبتْ وجاءت امرأة هلال بن أميَّة وقالت: يا رسول الله لقد بكى، حتَّى خفتُ على بصره، حتَّى إذا مضى خمسون يوماً أنزل الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين} [التوبة: 117] وقوله: {وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ} فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى حجرته، وهو عند أمِّ سلمة فقال: اللهُ أكبرُ؛ قد أنزلَ اللهُ عُذْرَ أصحَابِنَا» فلمَّا صلَّى الفَجْرَ ذكر ذلك لأصحابه، وبشرهم بأنَّ الله تاب عليهم؛ فانطلقُوا إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فتلا عليهم ما نزل فيهم فقال كعبٌ: توبتي إلى الله تعالى أن أخرج مالي صدقة فقال: «لا» فقلتُ: نصفه، قال: «لا» ، قلت: فثلثه، قال: «نعم» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 233 فصل معنى: {ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ} تقدَّم تفسيره في هذه السُّورةِ وسببه: إعراض الرسول عنهم، ومنع المؤمنين من مكالمتهم، وأمر أزواجهم باعتزالهم، وبقائهم على ذهه الحالة خمسين يوماً، وقيل: أكثر حتَّى ضاقت عليهم أنفسهم، أي: ضاقت صدورهم بالغمِّ والهمِّ، ومجانية الأولياء، ونظر الَّاس إليهم بعين الإهانةِ، و «ظَنُّوا» أي: استيقنوا «أن لا مَلْجَأ» لا مفزع من الله إلا إليه. قال ابنُ الخطيبِ: يقرب معناه من قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «أعوذُ برضَاكَ مِنْ سُخْطكَ وأعُوذُ بعَفوكَ مِنْ غضبِك، وأعوذُ بكَ مِنْكَ» . قوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} فيه وجوه: أحدها: قال أهلُ السُّنَّةِ: المرادُ منه أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى، فقوله: «تَابَ عليْهِمْ» يدلُّ على أنَّ التوبة فعل الله وقوله: «لِيتُوبُوا» يدلُّ على أنَّها فعل العبدِ؛ فهو نظير قوله: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} [التوبة: 82] مع قوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ} [النجم: 43] وقوله {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ} [الأنفال: 5] مع قوله {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} [التوبة: 40] وقوله {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ} [يونس: 22] مع قوله: {قُلْ سِيرُواْ} [الأنعام: 11] . وثانياً: تاب عليهم في الماضي ليكون داعياً لهم إلى التوبة في المستقبل. وثالثها: أصلُ التوبة الرُّجوع أي: تاب عليهم؛ ليرجعوا إلى حالهم وعادتهم في الاختلاط بالمؤمنين، وزوال المباينة فتسكن نفوسهم عند ذلك. ورابعها: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا} أي: ليداوموا على التوبةِ ولا يراجعوا ما يبطلها. وخامسها: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ} لينتفعوا بالتوبة {إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم} . واعلم أنَّ ذكر «الرَّحيم» عقب ذكر «التَّواب» يدلُّ على أنَّ قبول التوبةِ لمحض الرحمة والكرم، لا لأجل الوجوب، كما تقولُ المعتزلةُ، وذلك يقوي أنَّهُ لا يجبُ عقلاً على الله قبول قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله} الآية. لمَّا قبل توبة هؤلاء الثلاثة، ذكر ما يكون كالزَّاجر عن فعل مثل ما مضى، وهو التخلف عن رسول الله في الجهاد، أي: اتَّقُوا الله في مخالفة أمر الرسُول {وَكُونُواْ مَعَ الصادقين} أي: مع النبي وأصحابه في الغزوات، ولا تتخلَّفُوا عنها، وتجلسوا مع المنافقين في البيوتِ. قال نافعٌ: «مَعَ الصادقين» أي: مع محمد. وقال سعيدُ بن جبيرٍ: مع أبي بكر وعمر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 234 وقال ابن جريج: مع المهاجرين، لقوله تعالى: {لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ} [الحشر: 8] إلى قوله {أولئك هُمُ الصادقون} [الحشر: 8] . وقال ابن عباس: مع الذين صدقت نياتهم؛ فاستقامت قلوبهم وأعمالهم، وخرجُوا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى تبوك بإخلاصٍ ونيّة. وقيل: من الذين صدقوا في الاعتراف بالذَّنب، ولم يعتذروا بالأعذار الكاذبة. فصل دلَّت الآية على فضيلة الصِّدق، وكمال درجته، قال ابن مسعودٍ: إنَّ الكذب لا يصلحُ في جدٍّ ولا هزلٍ، ولا أن يعد أحدُكم صبيَّة شيئاً ثم لا ينجزُ له، اقرءوا إن شئتم، وقرأ الآية. «وروي أنَّ رجلاً جاء إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: إنّي أريد أن أومن بك إلاَّ أنِّي أحبُّ الزِّنا، والخمر، والسرقة، والكذب، والناس يقولون: إنك تُحرم هذه الأشياء، ولا طاقة لي على تركها بأسرهَا، فإن قنعت منِّي بتركِ واحد منها آمنت بك، فقال عليه الصَّلاةُ والسَّلام:» فقبل ذلك ثُمَّ أسلم، فلمَّا خرج من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عرضوا عليه الخمر، فقال: إن شربتُ الخمر فسألني رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن شربها، وكذبت فقد نقضت العهد، وإن صدقتُ أقام الحدَّ عليَّ، فتركها، ثمَّ عرضوا عليه الزِّنا؛ فجاء ذلك الخاطرُ، فتركه، وكذا في السرقة، فعاد إلى رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: ما أحسن ما قلت، لمَّا منعتني من الكذب انسدت أبوابُ المعاصي عليَّ، «وتاب عن الكُلِّ وقال ابنُ مسعود:» عَليْكُم بالصِّدقِ فإنَّه يقربُ إلى البرِّ، والبرُّ يقرب إلى الجنَّة، وإنَّ العبْدَ ليصدق؛ فيكتب عند الله صدِّيقاً، وإياكم والكذبَ، فإنَّ الكذب يقربُ إلى الفُجُورِ، والفُجُورِ يُقرِّبُ إلى النار، وإن الرَّجُلَ ليكذب حتى يكتب عند الله كذَّاباً، ألا ترى أنه يقال: صَدَقْتَ، وبَرَرْتَ، وكذَبْتَ، وفَجَرْتَ «. وقيل في قول إبليس: {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} [ص: 82، 83] إن إبليس لو لمْ يذكر هذا الاستثناء لصادر كاذباً في ادعاء إغواء الكلِّ، فكأنه استنكفَ عن الكذبِ؛ فذكر هذا الاستثناء، وإذا كان الكذبُ شيئاً يستنكفُ منه إبليس، فالمسلم أوْلَى أن يستنكفَ منه ومن فضائل الصِّدق أنَّ الإيمان منه لا من سائر الطَّاعات، ومن معايب الكذب أنَّ الكفر منه لا من سائر الذنوب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 235 قوله تعالى: {مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب} الآية. لمَّا أوجب عليهم موافقة الرسول في جميع الغزوات والمشاهد؛ أكد ذلك بالنَّهي في هذه الآية عن التخلف عنه. قال المفسرون: ظاهره خبر ومعناه نهي، كقوله تعالى {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله} [الأحزاب: 53] ، {وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِّنَ الأعراب} سكان البوادي: مزينة وجُهينة، وأشجع وأسلم، وغفار، قاله ابنُ عباسٍ. وقيل: يتناولُ جميع الأعراب الذين كانوا حول المدينة، فإنَّ اللفظ عامٌّ، والتخصيص تحكم، وعلى القولين فليس لهم أن يتخلَّفُوا عن رسُولِ الله إذا غزا، {وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنْفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ} أي: لا يطلبوا لأنفسهم الحفظ والدَّعة حال ما يكونُ رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الحرِّ والمشقَّةِ، والمعنى: ليس لهم أن يكرهُوا لأنفسهم ما يرضاه الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لنفسه. يقال: رَغِبْتُ بنفسي عن هذا الأمر، أي: توقفتُ عنه وتركته، وأرغب بفلان عن هذا الأمر، أي: أبخل به عليه ولا أتركه. وظاهر الآية وجوب الجهادِ على الكل، إلاَّ ما خصَّه الدَّليل من المرضى، والضعفاء، والعاجزين. ولمَّا منعهم من التخلف، بيَّن أنهم لا يصيبهم في ذلك السفر نوع من المشقة إلاَّ وهو يوجب الثَّواب العظيم عند الله تعالى. وذكر أموراً منها بقوله: «ذلك بِأَنَّهُمْ» مبتدأ وخبر، والإشارة به إلى ما تضمَّنهُ انتفاء التخلف عن وجوب الخروج معه. «لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ» وهو العطشُ، يقال: ظَمِىءَ يَظْمَأُ ظَمَأ، فهو ظمآنُ وهي ظَمْأى، وفيه لغتان: القصر والمد، وبالمد قرأ عمرو بنُ عبيدٍ، نحو: سَفِه سَفَاهاً، والظَّمءُ: ما بين الشَّربتيْنِ. ومنها: قوله: «ولاَ نَصَبٌ» أي: إعياء وتعب. {وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ الله} أي: مجاعة شديدة يظهر بها ضمور البطن، يقال: فلان خميص البطنِ، ومنها قوله: {وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار} . «مَوْطِئاً» مفعل، مِن: وَطِىءَ، ويحتملُ أن يكون مصدراً الجزء: 10 ¦ الصفحة: 236 بمعنى: الوطْء وأن يكون مكاناً، والأوَّلُ أظهر؛ لأنَّ فاعل «يَغِيظُ» يعودُ عليه من غير تأويل، بخلاف كونه مكاناً، فإنَّهُ يعُودُ على المصدر، وهو الوطْءُ، الدالُّ عليه مكان المُوطِىءُ. والمعنى: لا يضعُ الإنسان قدمه، ولا يضع فرسه حافره، ولا يضع بعيره خفه، بحيث يصير ذلك سبباً لغيظ الكفار. قوله: «يَغِيظُ الكفار» قال ابنُ الأعرابي: يقال: غَاظَه، وغيَّظَه، وأغَاظَه بمعنًى واحدٍ، أي: أغضبه. وقرأ زيدُ بنُ عليّ «يُغِيظُ» بضمِّ الياءِ. وقوله: {وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً} النَّيْلُ: مصدرٌ؛ فيحتمل أن يكون على بابه، وأن يكون واقعاً موقع المفعول به، وليس ياؤه مبدلةً من «واو» كما زعم بعضهم، بل نالهُ يَنولُه مادةٌ أخرى، وبمعنى آخر، وهو «المناولة» ، يقال: نِلْتُه أنوله، أي: تناولتُه، ونِلْتُه أنَالُهُ، أي: أدركتُه. والمعنى: ولا ينالهم من العدو أسراً، أو قتلاً، أو هزيمةً قليلاً كان أو كثيراً {إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} أي كان ذلك قربة عند الله لهم. قال قتادة: «هذا الحكم من خواص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا غزا بنفسه فليس لأحد أن يتخلَّف عنه إلاَّ بعذر» وقال ابنُ زيدٍ: هذا حين كان المسلمون قلّة فلمَّا كثروا نسخها الله بقوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} . وقال عطيَّة: ما كان لهم أن يتخلفوا عن رسول الله إذا دعاهم، وهذا هو الصحيحُ؛ لأنَّ إجابة الرَّسُولِ واجبة، وكذلك غيره من الأئمة. قال الوليدُ بنُ مسلم: سمعتُ الأوزاعيَّن وابن المباركِ، وابن جابرٍ، وسعيد بن عبد العزيز يقولون في هذه الآية: إنَّها لأوّلِ هذه الأمَّةِ وآخرها، وذلك لأنا لو سوَّغْنَا للمندوب أن يتقاعد لم يختص بذلك بعضٌ دون بعض فيؤدي ذلك إلى تعطيل الجهادِ. قوله: {وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} أي: تمرة فما فوقها، وعلاقة سوط فما فوقها {وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً} قال الزمخشريُّ: «الوَادِي» : كل منفرجٍ بين جبال وآكام يكونُ منفذاً للسبيل، وهو في الأصل فاعل من: ودَى، إذا سَالَ، ومنه «الوَدِيّ» . وقد شاع في استعمال العرب بمعنى الأرض. وجمع على «أوْدِيَة» ، وليس بقياس، وكان قياسُه «الأوداي» ، ك «أواصل» جمع: «واصل» ، والأصلُ: ووَاصل، قلبت «الواو» الأولى همزة. وهم قد يستثقلون واحده، حتى قالوا: «أقَيْتُ» في «وَقيْتُ» . وحكى الخليل، وسيبويه، في تصغير واصل اسم رجل «أوَيْصِل» ، ولا يقولون غيره قال النَّحَّاسُ «ولا أعرفُ فاعلاً وأفعلة سواهُ» وقد استدركَ هذا عليه؛ فزادُوا: نَادٍ وأندية؛ وأنشدوا: [الطويل] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 237 2859 - وفِيهمْ مقامَاتٌ حِسَانٌ وُجُوهُهُمْ ... وأنديَةٌ ينْتَابُهَا القوْلُ والفِعْلُ والنَّادي المجلسُ. وقال الفرَّاءُ: إنَّه يجمع على «أوْدَاء» ك «صاحب وأصحاب» ؛ وأنشد لجرير: [الوافر] 2860 - عَرَفتْ بِبُرقَةِ الأوْدَاءِ رَسْماً ... مُحِيلاً طَالَ عَهْدُكَ مِنْ رُسُومِ وزاد الرَّاغبُ في «فاعل وأفْعِلَة» : «نَاجٍ وأنْجِيَة» فقد كمُلَتْ ثلاثةُ ألفاظٍ، في «فاعل وأفْعِلَة» . ويقالُ: أوداه: أي: أهلكه؛ كأنهم تصَوَّرُوا منه إسالة الدَّم. وسمي الدِّية ديةً؛ لأنَّها في مقابلة إسالة الدَّم. ومنه «الوَدْيُ» وهو ماءُ الفَحْل عند المداعبة، وما يخرجُ عند البول، و «الوَدِيُّ» بكسر الدال وتشديد الياء: صغار النَّحل. قوله: «إلاَّ كُتِبَ» هذه الجملةُ في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «ظَمَأ» وما عطف عليه أي: لا يصيبهم ظمأٌ إلا مكتوباً. وأفرد الضَّمير في «به» ، وإن تقدَّمته أشياء، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة، أي: كُتبَ لهم بذلك عملٌ صالحٌ. قال ابنُ عبَّاسٍ: بكل روعة تنالهم في سبيل الله سبعين ألف حسنةٍ. وقوله: «إِلاَّ كُتِبَ» كنظيره. يُحتمل أن يعُود على العمل الصالح المتقدم، وأن يعود على أحد المصدرين المفهومين من «يُنفقُونَ» و «يقْطَعُونَ» ، أي: إلاَّ كتب لهم الإنفاق أو القطع. وقوله: «ليَجْزيهُم» متعلق ب «كُتِبَ» وقوله: {أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} فيه وجهان: الأول: أنَّ الأحسن من صفة فعلهم وفيها الواجب والمندوب والمباح، واللهُ تعالى يجزيهم على الأحسنِ، وهو الواجبُ والمندوب دون المباح. والثاني: أن الأحسن صفةٌ للجزاء، أي: يجزيهم جزاء هو أحسن من أعمالهم وأفضل، وهو الثواب. روى خريم بن فاتك قال: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «من أنفقَ نفقةً في سبيلِ اللهِ وكتب اللهُ لهُ سبعمائة ضعفٍ» . قوله تعالى: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} الآية. يمكن أن يقال هذه الآية من بقيَّةِ أحكام الجهادِ، ويمكن أن يقال إنَّهُ كلام مبتدأ لا تعلق لها بالجهادِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 238 أمَّا الأول فنقل عن ابن عبَّاسٍ أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان إذا خرج إلى الجهاد لم يتخلَّف عنه إلاَّ منافق أو صاحب علة. فلمَّا بالغ الله تعالى في عيوب المنافقين في غزوة تبوك قال المؤمنون: والله لا نتخلَّف عن شيء من الغزوات مع الرسولِ، ولا عن سرية. فلمَّا قدم الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - المدينة، وأرسل السَّرايَا إلى الكُفَّار، نفر المسلمون جميعاً إلى الغزو وتركوه وحدهُ بالمدينة؛ فنزلت هذه الآية. والمعنى: لا يجُوز للمؤمنين أن ينفروا كلهم إلى الجهاد، بل يجبُ أن يصيروا طائفتين، طائفةٌ تبقى في خدمة الرسول، وطائفة أخرى تنفرُ للجهاد، وذلك لأن الإسلام في ذلك الوقت كان محتاجاً إلى الجهاد، وأيضاً كانت التَّكاليف والشَّرائع تنزلُ، وكان بالمسلمين حاجة إلى من يكون مقيماً بحضرة الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يتعلَّم تلك الشرائع والتكاليف، ويبلغها للغائبين، وبهذا الطريق يتمُّ أمرُ الدِّين، وعلى هذا القول ففيه احتمالان: أحدهما: أن تكون الطَّائفة المقيمة هم الذين يتفقَّهُونَ في الدِّين لملازمتهم الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ومشاهدتهم التنزيل؛ فكُلما نزل تكليفٌ وشرع؛ عرفوه وحفظوه، فإذا رجعت الطائفةُ النَّافرة من الغزو؛ أنذرتهم المقيمة ما تعلموه من التَّكاليف والشرائع، وعلى هذا فلا بد من إضمار، والتقدير: فلولا نفر من كلِّ فرقة منهم طائفة وأقامت طائفة لتفقه المسلمين في الدين، ولينذروا قومهم، يعني النافرين إلى الغزو إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون معاصي الله تعالى. والاحتمال الثاني: أنَّ التفقهة صفة للطائفة النافرة قاله الحسنُ. والمعنى: فلولا نفر من كُلِّ فرقة منهم طائفة حتى تصير هذه الطائفة النافرة فقهاء في الدين، أي: أنهم إذا شاهدوا ظهور المسلمين على المشركين، وأنَّ العدد القليل منهم يغلبون العالم من المشركين؛ فيتبصروا ويعلموا أن ذلك بسبب أنَّ الله تعالى خصهم إلى قومهم من الكُفَّار أنذروهم بما شاهدوا من دلائل النصر، والفتح، والظفر، لعلهم يحذرون؛ فيتركوا الكفر والنفاق. وأما الثاني: وهو أن هذا حكم مبتدأ؛ فتقريره أنَّ الله تعالى، لمَّا بيَّن في هذه السورة أمر الهجرة، ثم أمر الجهاد، وهما عبادتان بالسَّفر، بيَّن أيضاً عبادة التفقه من جهة الرَّسُول وله تعلق بالسفر، فقال: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} إلى حضرة الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ليتفقهوا في الدِّين، بل ذلك غيرُ واجب، وليس حاله كحال الجهادِ مع الرسول الذي يجبُ أن يخرج فيه كل من لا عُذْرَ لهُ. ثم قال: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ} يعني من الفرق الساكنين في البلاد، طائفة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 239 إلى حضرة الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ليتفقهوا في الدِّين، وليعرفوا الحلال والحرام ويعودوا إلى قومهم؛ فينذروا ويحذروا قومهم، لكي يرجعوا عن كفرهم، وعلى هذا فالمرادُ وجوب الخروج إلى حضرة الرَّسُول للفقه والتعلُّم. فإن قيل: أفتدلُّ الآيةُ على وجوب الخروجِ للتفقه في كُلِّ زمان؟ فالجواب: متى عجز عن التفقه إلاَّ بالسَّفر؛ وجب عليه السَّفر، وفي زمان الرسول - عليه الصلاة السلام - كان الأمر كذلك؛ لأنَّ الشريعة ما كانت مستقرة، بل كان يحدث كل يوم تكليف جديد، وشرع حادث. وأمَّا الآن فقد صارت الشريعة مستقرة؛ فإذا أمكنه تحصيل العلم في الوطن لم يجب السَّفرُ. قوله: {فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ} «لولا» تحضيضية، والمرادُ به الأمر؛ لأنَّ «لوْلاَ» إذا دخل على الفعل كان بمعنى التحضيض مثل «هَلاَّ» ؛ لأنَّ «هَلاَّ» كلمتان «هل» وهو استفهام وعرض؛ لأنك إذا قلت للرَّجُلِ: هل تأكلُ؟ فكأنَّك عرضت ذلك عليه، و «لا» وهو جحد، ف «هلاَّ» مركب من أمرين: العرض، والجحد. فإذا قلت: هلا فعلت كذا؟ فكأنك قلت: هل فعلت. ثم قلت معه «لا» أي: ما فعلت، ففيه تنبيه على وجوب الفعل وتنبيه على أنه حصل الإخلال بهذا الواجب، وهكذا الكلام في «لوْلا» لأنك إذا قلت: لوْلاَ دخلتَ عليَّ، ولوْلا أكلتَ عِنْدِي، فمعناه أيضاً عرض وإخبار عن سرورك به، لو فعل، وهكذا الكلام في «لوما» ومنه قوله: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} [الحجر: 7] ف «لَوْلاَ» ، و «هَلاَّ» و «لوْمَا» ألفاظ متقاربة، والمراد بها: الترغيب والتحضيض. و «مِنْهُم» يجوزُ أن يكون صفةً ل «فِرْقَةٍ» ، وأن يكون حالاً من «طَائِفَةٌ» ؛ لأنَّها في الأصل صفة لها. وعلى كلا التَّقديرين فيتعلقُ بمحذوف. والذي ينبغي أن يقال: إنَّ «مِن كُلِّ فرقةٍ» حال من «طَائفَةٌ» و «مِنْهُم» صفة ل «فِرْقَةٍ» . ويجوزُ أن يكون «مِن كُلِّ» متعلقاً ب «نفر» . وفي الضمير من قوله «لتفَقَّهُوا» قولان: أحدهما: أنَّهُ للطَّائفة النَّافرة. والثاني: للطائفة القاعدة، والضَّمير في «رَجَعُوا» عائدٌ على النَّافرة. قال ابنُ العربي، والقاضي أبو بكرٍ، والشيخُ أبو الحسن: «إنَّ الطَّائفة ههنا واحد، ويقضون على وجوب العملِ بخبر الواحد، وهو صحيح، لا من جهة أن الطائفة تطلق على الواحد ولكن من جهة أنَّ خبر الشخص الواحد أو الأشخاص خبر واحد، وأنَّ مقابله وهو التَّواتر لا ينحصر» . قال القرطبي: «أنص ما يستدل به على أنَّ الواحد يقال له: طائفة قوله تعالى: {وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا} [الحجرات: 9] أي: نفسين، بدليل قوله: {فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10] فجاء بلفظ التثنية، وأما الضمير في:» اقْتَتلُوا «وإن كان ضمير جماعة فأقل الجماعة اثنان في أحد القولين» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 240 فصل دلَّت هذه الآيةُ على أنَّ خبر الواحد حجة، وأنَّ كلَّ ثلاثة فرقة، وقد أوجب الله تعالى أن يخرج من كلِّ فرقة طائفة، والخارج من الثلاثة يكون اثنين، أو واحداً؛ فوجب أن تكون الطائفة إمَّا اثنين أو واحداً، ثم إنه تعالى أوجب العمل بأخبارهم، لقوله «وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ» وهو عبارة عن أخبارهم. وقوله «لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ» إيجاب على قومهم أن يعملوا بأخبارهم، وذلك يقتضي أن يكون خبر الواحد أو الاثنين حجة في الشرع. قال القاضي: «لا تدل الآية على وجوب العمل بخبر الواحد؛ لأنَّ الطائفة قد تكونُ جماعة يقع بخبرها الحجة؛ ولأنَّ قوله:» وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ «يصجُّ وإن لم يجب القبول، كما أنَّ الشَّاهدَ الواحد يلزمه الشهادة، وإن لم يلزم القبول؛ ولأن الإنذار يتضمَّنُ التخويف، وهذا العذرُ لا يقتضي وجوب العمل به» . والجوابُ: أنَّا بينَّا أنَّ كل ثلاثة فرقة، وقد أوجب الله أن يخرج من كل فرقة طائفة؛ فلزم كون الطائفة إما اثنين أو واحداً؛ فبطل كون الطائفة جماعة يحصلُ العلم بخبرهم، فإن قيل: إنَّه تعالى أوجب العمل بقول أولئك الطوائف، فلعلهم بلغُوا في الكثرة إلى حيث يحصلُ العلم بخبرهم. فالجوابُ: أنه تعالى أوجب على كُلِّ طائفة أن يرجعوا إلى قومهم، فاقتضى رجوع كل طائفة إلى قوم خاص، ثم إنَّه تعالى أوجب العمل بقول تلك الطائفة، وهو المطلوب. وأمَّا قوله: «وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ» يصحُّ وإن لم يجب القبولُ؛ فالجوابُ: أنَّا لا نتمسَّكُ في وجوب العمل بخبر الواحد بقوله: «وليُنذِرُوا» بل بقوله: «لعَلَّهُم يَحْذرُون» فإنَّه ترغيبٌ منه تعالى في الحذرِ، بناءً على أن ذلك الإنذار يقتضي إيجاب العمل على وفق ذلك الإنذار. فصل الفقه معرفة أحكام الدِّين، وهو ينقسمُ إلى فرض عين، وفرض كفاية، ففرض العين مثل: علم الطهارة والصلاة والصوم، فعلى كل مكلف معرفته، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «طلبُ العِلْمِ فريضَةٌ على كُلِّ مُسْلِمٍ» وكذلك كل عبادة أوجبها الشَّرع على كل واحد يجب عليه معرفة علمها مثل: علم الزكاة إن كان له مال، وعلم الحج إن وجب عليه. وأما فرض الكفاية، فهو أن يتعلم حتى يبلغ رتبة الاجتهاد؛ فإذا قعد أهل بلد عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 241 تعلمه عصوا جميعاً، وإذا قام من كل بلد واحد بتعلمه سقط الفرض عن الآخرين، وعليهم تقليده فيما يقع لهم من الحوادث، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «فَضْلُ العَالم على العَابدِ كفَضْلِي على أدْنَاكُم» ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «فقيهٌ واحدٌ أشَدُّ على الشَّيطانِ من ألْفِ عابدٍ» وتقدم الكلام على حد الفقه في اللغةِ في سورة النساء عند قوله {لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: 78] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 242 قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار} الآية. نقل عن الحسن أنَّه قال هذه الآية نزلت قبل الأمر بقتال المشركين كافة. وأنكر المحقِّقُون هذا النسخ وقالوا: إنَّهُ تعالى لمَّا أمر بقتال المشركين كافة أرشدهم إلى الطَّريق الأصلح وهو أن يَبْتَدِئوا من الأقرب، فالأقرب، منتقلاً إلى الأبعدِ. ألا ترى أنَّ أمر الدعوةِ وقع على هذا الترتيب قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] وأمر الغزوات وقع على هذا الترتيب؛ لأنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حارب قومه أولاً، ثم انتقل إلى غزو سائر العربِ، ثم انتقل إلى غزو الشَّام، والصَّحابة لمَّا فرغوا من أمر الشَّام دخلوا العراق. والعلَّة في الابتداء بالأقرب وجوه: أحدها: أنَّ مقابلة الكل دفعة واحدة متعذّر، والكُلُّ متساوٍ في وجود القتال لما فيه من الكُفْرِ والمحاربة، والجمع متعذِّر، والقرب مرجح ظاهر كما في الدعوة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 242 وثانيها: أنَّ النفقات في الأقرب أقلّ، والحاجة إلى الدواب والآلات أقلّ. وثالثها: أن المجاهدين إذا تجاوزوا من الأقرب إلى الأبعد، فقد عرضوا الذراري للفتنة، وأموالهم إلى النهب. ورابعها: أنَّ المجاورين لدار الإسلام إمَّا أن يكونوا أقوياء ضعفاء، فإن كانوا أقوياء فتعرّضهم لدار الإسلام أشدّ وأكثر من تعرض الأبعد، والشَّرُّ الأكثر أولى بالدفع، وإن كان ضعفاء كان استيلاء المسلمين عليهم أسهل؛ فكأن الابتداء بهم أولى. وخامسها: أن القريب يعلم أكثر من علم حال البعيد، فيكون غزوه أسهل. وسادسها: أنَّ دار الإسلام واسعة، فإذا اشتغل أهلُ كل بلدٍ بقتال من يليهم من الكفار كانت المؤمنة أسهل. وسابعها: أنَّهُ إذا اجتمع واجبات قدم أيسرها حصولاً. وثامنها: ما تقدَّم من أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ابتداء في الدعوة بالأقرب، وبالغزو بالأقرب، وفي جميع المهمات كذلك. حتَّى إنَّ الأعرابي الذي جلس على المائدة، وكان يمد يده إلى الجوانب البعيدة من تلك المائدة قال له عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «كُلْ مِمَّا يَليكَ» فدلت الآيةُ على أنَّ الابتداء بالأقرب واجبٌ. فإن قيل: ربَّمَا كان التخطي من الأقرب إلى الأبعد أصلح؛ لأنَّ الأبعد يقع في قلبه أنما جاوز الأقرب؛ لأنَّهُ لا يقيمُ له وزناً. فالجوابُ: أنَّ ذلك احتمالٌ واحد، وما ذكرنا احتمالات كثيرة، ومصالح الدنيا مبنيةٌ على ترجيح الأكثر مصلحة، وهذا الذي قلناه إنَّما هو فيما إذا تعذَّر الجمعُ بين مقابلة الأقرب والأبعد وأما إذا أمكن الجمع بين الكل، فالأولى هو الجمع. قوله: «وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ» هو من باب: «لا أرينَّك ههنا» ، وتقدم شرحه [الأنفال: 25] . «غِلْظَةً» قرأ الجمهور بكسر الغين، وهي لغة أسد. وقرأ الأعمشُ، وأبانُ بن تغلب، والمفضَّلُ كلاهما عن عاصم بفتحها، وهي لغة الحجاز. وقرأ أبُو حيوة، والسُّلمي، وابنث أبي عبلة والمفضل، وأبانُ في رواية عنهما «غُلْظة» بالضَّم، وهي لغةُ تميم، وحكى أبُو عمرو اللغات الثلاث. والغِلْظَة: أصلها في الأجْرَام، فاستعيرت هنا للشِّدَّة والصَّبر والتَّجلد قال المفسرون: شجاعة، وقيل: عنفاً، وقيل: شدة. والغلظة ضد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 243 الرِّقة، وفائدتها أنها أقوى تأثيراً في الزَّجْرِ، والمنع عن القبيح، وهذا غيرُ مطَّرد، بل يحتاجُ تارة إلى الرِّفْقِ واللُّطفِ، وتارة إلى العنف، ولهذا قال: {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} تنبيهاً على أنه لا يجوز الاقتصار على الغلظة ألبتة فإنَّه ينفرُ ويوجب تفرق القوم، فقوله: {وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} يدلُّ على تقليل الغلظة، كأنَّهُ قيل لا بد وأن يكونوا بحيثُ لو فتَّشُوا عن أخلاقكم، وطبائعكم لوجدوا فيكم غلظة، وهذا الكلامُ إنَّما يصحُّ فيمن أكثر أحواله الرحمة والرأفة؛ فلا يخلو عن نوع غلظة. وهذه الغلظةُ إنَّما تعتبرُ فيما يتعلَّق بالدَّعوة إلى الدِّين، إمَّا بإقامة الحُجَّةِ، وإمَّا بالقتال فأمَّا فيما يتعلقُ بالبيع، والشراء، ونحوه فلا. ثم قال {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} أي: بالفوز والنصر، ويكون إقدامه على القتال بسبب تقوى الله لا بسبب طلب المال والجاه. قوله تعالى {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ} الآية. لمَّا ذكر مخازي المنافقين وأعمالهم القبيحة قال: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} «ما» صلة مؤكدة «فَمِنْهُم» أي: من المنافقين: «مَنْ يقُولُ» قيل: يقولُ بعضهم لبعض، ليثبتوهم على النِّفاقِ وقيل: يقولونه لعوام المسلمين، ليصرفوهم عن الإيمان، وقيل: يقولون ذلك على سبيل الهزؤ. قوله: «أيُّكُمْ» الجمهور على رفع «أيُّكُمْ» بالابتداءِ، وما بعده الخبر. وقرأ زيدُ بنُ عليّ وعبيد بن عمير بالنصب، على الاشتغال، ولكن يُقدَّر الفعل. متأخراً عنه من أجلِ أنَّ لهُ صدر الكلام. والنَّصب عند الأخفش في هذا النحو أحسنُ من الرفع؛ لأنَّهُ يجري اسم الاستفهام مجرى الأسماء المسبوقةِ بأداة الاستفهام، نحو: أزيداً ضربته، في ترجيح إضمار الفعلِ. قوله: {فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً} أي: يقيناً وتصديقاً؛ لأنَّهُم يقرُّون بها ويعترفون بأنَّها حقٌّ من عند الله، وتقدم الكلامُ في زيادة الإيمان، ونقصانه في أول سورة الأنفال [الأنفال: 2] ثم قال: {وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي: يفرحون بنزول القرآن، وقيل: بثوابِ الآخرة، وقيل: بالنَّصر والظفر. والاستبشار: استدعاء البشارة؛ لأنَّهُ كُلَّما يذكر النعمة حصلت البشارة فهو بالتذكر يطلب تجدُّد البشارة، ثم جمع للمنافقين أمرين مقابلين للمذكورين في المؤمنين. فقال: {وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي: شكٌّ ونفاق: {فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ} والمرادُ بالرِّجْسِ: إمَّا العقائد الباطلةُ، وإما الأخلاقُ المذمومة، فعلى الأول يكون المعنى: كانوا مكذبين بالسُّورِ النَّازلة قبل ذلك، والآن صاروا مكذِّبين بهذه السُّورة الجديدة، فقد انضمَّ كفرٌ إلى كفرٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 244 وعلى الثاني: أنَّهم كانُوا في الحسد والعداوة واستنباط وجوه المكر والكيد، والآن زادت تلك الأخلاق الذَّميمة بسبب نزول هذه السُّورة الجديدة. والأمر الثاني: أنَّهم يموتون على كفرهم، وهذه الحالة مضادة للاستبشار الذي حصل في المؤمنين، وهذه الحالة أقبحُ من الحالةِ الأولى؛ لأنَّ الحالة الأولى عبارة عن ازدياد الرَّجاسة وهذه الحالة عبارة عن مداومة الكُفْرِ وموتهم عليه. قال مجاهدٌ: «في هذه الآية الإيمان يزيدُ وينقصُ، وكان عمر يأخذُ بيد الرَّجُلِ والرجلين من أصحابه فيقولُ تعالوا نزداد إيماناً، وقال عليُّ بن أبي طالبٍ: إنَّ الإيمان يبدو نقطة بيضاء في القلب، وكلما ازداد الإيمان عظماً ازداد ذلك البياضُ حتَّى يبيضَّ القلب كله وأيْمُ الله لو شققتم عن قلبِ المؤمنِ لوجدتموه أبيضَ، ولو شققتم عن قلب المنافق لوجدتموه أسود. قوله:» أَوَلاَ يَرَوْنَ «قرأ حمزة، ويعقوب بتاء الخطابِ، وهو خطابُ للذينَ آمنُوا والباقون بياءِ الغيبة، رجُوعاً على {الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} . والرُّؤية هنا تحتمل أن تكون قلبية وأن تكون بصريةً. قال الواحديُّ: قوله:» أولا تَروْنَ «هذه ألف الاستفهام دخلت على» واو «العطف، فهو متصل بذكر المنافقين، وهو خطاب على سبيل التنبيه قال سيبويه عن الخليلِ في قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} [الحج: 63] المعنى: أنزل الله من السماءِ ماء؛ فكان كذا وكذا. قوله: {أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ} أي: يبتلون» في كُلِّ عام مرَّةً أو مرَّتين «بالأمراض والشدائد.» ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ «عن ذلك النِّفاق، ولا يتَّعظُون كما يتَّعظُ المؤمنُ إذا مرض، فإنَّهُ يتذكَّرُ ذنوبه، وموقفه بين يدي الله، فيزيده ذلك خوفاً وإيماناً، قاله ابنُ عبَّاسٍ. وقال مجاهدٌ: يفتنون بالقحطِ والشِّدة والجوع. وقال قتادة: بالغزو والجهاد؛ لأنَّهُم إذا تخلَّفوا وقعوا في ألسنة النَّاس باللَّعْن والخزي والذكر القبيح، وإن ذهبوا إلى الغزو مع كونهم كافرين فقد عرَّضُوا أنفسهم للقتل وأموالهم للنَّهْبِ من غير فائدة. قال مقاتل: يفضحون بإظهار نفاقهم. وقال عكرمةُ: ينافقون ثم يؤمنون ثم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 245 ينافقون. وقال يمان: ينقضون عهدهم في السَّنة مرة أو مرتين» ثُمَّ لا يتوبُونَ «من نقض العهدِ، ولا يرجعون إلى الله من النِّفاقِ؛» وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ «أي: لا يتَّعظُون بما يرونَ من تصديق وعد الله بالنَّصر والظفر للمسلمين. قوله تعالى: {وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ} الآية. هذا نوع آخر من مخازي المنافقين، وهو أنَّهُ كلما نزلت سورة مشتملة على شرح فضائح المنافقين وسمعوها تأذّوا من سماعها، ونظر بعضهم إلى بعض نظراً مخصوصاً دالاً على الطَّعْن في تلك السُّورة والاستهزاء بها، وتحقير شأنها، ويحتملُ أنَّهُمْ كانوا يستحقرون القرآن كُلَّهُ؛ فكلما سمعوا سورة، استهزءوا بها وطعنوا فيها، وضحكوا وتغامزوا، وقيل: نظر بعضهم إلى بعض يريدون الحرب. قوله: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} في محل نصب بقول مضمر، أي: يقولون: هل يراكم، وجملةُ القول في محل نصب على الحال، و» مِنْ أحَدٍ «فاعل. والمعنى: أنَّهم عند سماع تلك السُّورةِ يتأذون، ويريدون الخروج من المسجد، يقول بعضهم لبعض {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} من المؤمنين إن قمتم، فإن لم يراهم أحد خرجوا من المسجد وإن علموا أنَّ أحداً يراهم أقاموا وثبتوا. وقيل: إنهم كانُوا إذا نزلت سورةٌ اشتدَّ كفرهم ونفاقهم، وذلك النظر دالٌّ من الإنكار الشديد، والنفرة التامة، فخافوا أن يرى أحد من المسلمين ذلك النَّظر وتلك الأحوال الدَّالة على النِّفاقِ والكفر؛ فعند ذلك قالوا: {هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ} أي: لو رآكم أحد على هذا النظر وهذا الشكل لضركم جدّاً. ثم قال تعالى: {صَرَفَ الله قُلُوبَهُم} قال ابنُ عبَّاسٍ: عن كل رشد وخير وهدى وقال الحسن: طبع الله على قلوبهم. وقال الزجاج «أضلهم اللهُ تعالى مجازاةً على فعلهم» . ذلك: {بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون} عن الله دينه. قال ابنُ عبَّاسٍ: لا تقولُوا إذا صليتم انصرفنا من الصلاة فإنَّ قوماً انصرفوا؛ فصرف اللهُ قلوبهم، ولكن قولوا: قد قضينا الصلاة. والمقصود: التفاؤل بترك هذه اللَّفظة الواردة فيما لا ينبغي، والتَّرغيب في تلك اللفظةِ الواردة في الخير قال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} [الجمعة: 10] . قوله تعالى: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} الآية. لمَّا أمر رسوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يبلغ التكاليف الشاقَّة في هذه السورة إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 246 الخلق وهي مما يعسر تحملها؛ إلاَّ لمن خصَّه الله بالتوفيق، ختم هذه السورة بما يوجب سهولة تحمل تلك التكاليف، وهو أنَّ هذا الرسول منكم؛ فكلُّ ما يحصلُ له من العزّ والشَّرف، فهو عائدٌ إليكم فهو كالطبيب المشفق، والأب الرحيم في حقكم، وإن كان كذلك صارت تلك التكاليف، وتلك التأديبات جارية مجرى الإحسان. قوله «مِّنْ أَنفُسِكُمْ» صفة ل «رسُول» أي: من صميم العربِ. قال ابنُ عباسٍ: ليس من العرب قبيلة إلاَّ وقد ولدت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وله فيهم نسب. وقد قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَا ولدَنِي مِنْ سفاحِ أهْلِ الجاهليَّة شيءٌ، ما ولدَنِي إلاَّ نكاحٌ كنِكَاحِ الإِسلامِ» . وقرأ ابنُ عبَّاسٍ، وأبو العالية، والضحاك، وابن محيصن، ومحبوب عن أبي عمرو، والزهري، وعبدُ الله بن قسيط المكي، ويعقوبُ من بعض طرقه، وهي قراءةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وفاطمة، وعائشة بفتح الفاء، أي: من أشْرفكُم، من النَّفاسة. فصل اعلم أنه تعالى وصف الرسول في هذه الآية بخمس صفات، أولها: قوله «مِنْ أنفُسِكُم» وفيه وجوه: أحدها: ما تقدم عن ابن عباس، والمراد منه: ترغيب العرب في نصرته والقيام بخدمته، أي: كلّ ما يحصل له من الدولة والرفع في الدنيا، فهو سبب لعزكم، فإنه منكم، ومن نسبكم. وثانياً: يريد أنه بشر مثلكم، كقوله {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} [يونس: 2] وقوله: {إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [الكهف: 110] والمعنى: أنه لو كان من جنس الملائكة لصعب الأمر بسببه على النَّاسِ، كما قرر في الأنعام. وثالثها: أنَّ هذا خطاب لأهل الحرم؛ لأن العرب كانوا يسمون أهل الحرم أهل الله وخاصته، وكانوا يخدمونهم، فكأنه قيل للعرب: كنتم قبل مقدمه مجتهدين في خدمة أسلافه، فلم تتكاسلوا عن خدمته مع أنَّهُ أعلى في الشَّرفِ من أسلافه. والصفة الثانية: قوله «عَزِيزٌ» فيه أوجه: أحدها: أنَّهُ صفة ل «رسُول» ، وفيه أنه تقدَّم غيرُ الوصف الصَّريح على الوصف الصَّريح. وقد يجاب بأنَّ «مِنْ أنفُسِكُم» متعلق ب «جَاءَ» و «ما» يجوزُ أن تكون مصدرية، أو بمعنى «الذي» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 247 وعلى كلا التقديرين فهي فاعل ب «عَزِيز» ، أي: يعزُّ عليه عنتُكم، أو الذي عنتُّمُوهُ، أي: عنتُهم يُسيئه، فحذف العائد على التدرج؛ وهذا كقوله: [الوافر] 2861 - يَسُرُّ المَرْء ما ذهبَ اللَّيَالِي ... وكانَ ذهَابُهُنَّ لهُ ذَهَابَا أي: يَسُرُّه ذهاب الليالي. ويجوز أن يكون «عزيزٌ» خبراً مقدماً، و «مَا عَنتُّمْ» مبتدأ مؤخراً والجملةُ صفة ل «رسُول» وجوَّزَ الحوفي: أن يكون «عزيزٌ» مبتدأ، و «ما عنتم» خبره وفيه الابتداء بالنَّكرةِ؛ لأجْلِ عملها في الجارِّ بعدها. وتقدَّم معنى {العنت} [النساء: 25] . والأرجح أن يكون «عَزيزٌ» صفة ل «رسُولٌ» لقوله بعد ذلك «حَرِيصٌ» فلم يجعل خبراً لغيره وادِّعاءُ كونه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو حريصٌ، لا حاجة إليه. قال الفرَّاءُ: «ما» في قوله: «مَا عنِتُّم» في موضع رفع، أي: عزيز عليه عنتكم، أي: يشقُّ عليه مكروهكم. وقال القتيبيُّ: ما أعنتكم وضركم. وقال ابن عباس: ما ضللتم. وقال الضحاكُ والكلبيُّ: ما آثمكم. والصفة الثالثة: قوله: «حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ» والحريص يمتنع أن يكون متعلقاً بذواتهم، بل المراد حريص على إيصال الخيراتِ إليكم في الدُّنيا والآخرة، وعلى هذا التقدير يكونُ قوله: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} أي: شديد معزَّته عن وصول شيء من آفات الدنيا والآخرة إليكم؛ لأنَّ العزيز هو الغالب الشَّديد، وبهذا التقدير لا يحصلُ التَّكرار. والصفة الرابعة والخامسة قوله: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} «بالمُؤمنينَ» متعلقٌ ب «رَءُوفٌ» ولا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع؛ لأنَّ شرطه تأخُّر المعمول عن العاملين، وإن كان بعضهم قد خالف، ويجيزُ: زيداً ضربتُ وشتمته، على التَّنازع. وإذا فرَّعنا على هذا الضعيف، فيكون من إعمال الثاني، لا الأول، لما عُرف أنَّهُ متى أعمل الأوَّلُ أضمر في الثاني من غير حذف. فصل قال ابن عباس: سمَّاه الله تعالى ههنا باسمين من أسمائه. والمعنى: رءوفٌ بالمطيعين. فإن قيل: كيف يكون كذلك، وقد كلَّفهم في هذه السُّورة بأنواعٍ من التَّكاليفِ الشَّاقَّة التي لا يقدرُ على تحملها إلا من وفقه الله تعالى. فالجوابُ: قد ضربنا لهذا المعنى مثل الطبيب الحاذق، والأدب المشفق، والمعنى: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 248 أنه فعل بهم ذلك ليتخلَّصُوا من العقاب المؤبد، ويفُوزُوا بالثَّواب المؤبد. فإن قيل: لمَّا قال: {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ} فهذا النَّسق يوجب أن يقال: رءوف رحيم بالمؤمنين، فلم ترك هذا النسق وقال: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} . فالجواب: أنَّ هذا يفيد الحصر، أي: لا رأفة ولا رحمة إلا بالمؤمنين. فأما الكفار فليس له عليهم رأفة ولا رحمة، وهذا كالمتمم لقدر ما ورد في هذه السورة من التَّغليظِ، كأنَّهُ يقول: إنِّي وإن بالغت في التَّغليظِ في هذه السُّورة، إلاَّ أنَّ ذلك التَّغليظ على الكُفَّارِ والمنافقين، وأما رحمتي، ورأفتي فمخصوصة بالمؤمنين. قوله تعالى: {فَإِن تَوَلَّوْاْ} يعني: المشركين والمنافقين، أي: أعرضوا عنك وقيل: تولوا عن طاعة الله وتصديق الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقيل: تولوا عن قبول التكاليف الشاقة المذكورة في هذه السُّورة. وقيل: تولوا عن نصرتك في الجهاد. {فَقُلْ حَسْبِيَ الله لاا إله إِلاَّ هُوَ} والمرادُ: أنَّه لا يدخل في قلب الرسول حزن ولا أسف؛ لأنَّ الله حسبه وكافيه في نصره على الأعداء. «عليْهِ توكَّلتُ» أي: لا أتوكل إلاَّ عليه: {وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم} . فإن قيل: العرشُ غير محسوس، فلا يعرف وجوده إلاَّ بعد ثُبوتِ الشريعةِ، فكيف يمكنُ ذكره في معرض شرح عظمة الله تعالى؟ . فالجواب: وجود العرش أمرٌ مشهورٌ، والكفار سمعوه من اليهود والنصارى وأيضاً لا يبعد أنَّهُم كانوا قد سمعُوهُ من أسلافهم. وقرأ الجمهور بجرِّ الميم من «العَظيمِ» صفة للعرش. وقرأ ابنُ محيصنٍ برفعها نعتاً للرب ورويت هذه قراءة عن ابن كثير. قال أبو بكر الأصم: «وهذه القراءة أعجبُ إليَّ؛ لأنَّ جعل» العظيم «صفة لله تعالى أولى من جعله صفة للعرش» وأيضاً قال «فإن جعلناه صفة للعرش، كان المراد من كونه عظيماً كبر جثته وعظم حجمه واتساع جوانبه على ما ذكر في الأخبار وإن جعلناه صفة لله تعالى كان المرادُ من العظمة وجوب التقديس عن الحجمية والأجزاء والأبعاض، وكمال العلم والقدرة، وكونه منزَّهاً عن أن يتمثل في الأوهام، أو اتصل إليه الأفهام» . فصل روي عن أبيّ بن كعب والحسن قالا: آخر ما نزل من القرآن هاتان الآيتان: {لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ} [التوبة: 128] إلى آخرها. وقال أبي بن كعب: «هما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 249 أحدث الآيات بالله عهداً» وفي رواية: «أقرب القرآنِ من السَّماءِ عهداً» وهو قول سعيد بن جبير. وقيل: آخر ما نزل من القرآن قوله تعالى: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] . قال القرطبي «يحتمل أن يكون قول أبيّ: أقرب القرآن من السماء عهداً بعد قوله» واتقوا يَوْماً «والله أعلمُ. ونقل عن حذيفة أنَّهُ قال: أنتم تسمُّون هذه السورة بالتوبة وهي سورة العذاب، ما تركت أحداً إلاَّ نالتْ منه «. قال ابنُ الخطيبِ:» وهذه الرواية يجب تكذيبها؛ لأنَّا لو جوزنا ذلك؛ لكان ذلك دليلاً على تطرُّق الزيادة والنقصان إلى القرآن وهو باطلٌ «. وروت عائشة قالت: قال رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّه ما نزل عليَّ القرآنُ إلاَّ آيةً آيةً وحَرْفاً حَرْفاً ما خلا سُورة براءة، و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] فإنَّما نزلتَا عليَّ ومعهما سَبْعُونَ ألف صف مِنَ الملائكةِ كُلُّهُم يقُولُ: يا مُحمدَّدُ استوصِ بنسبةِ اللهِ خَيْراً «. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 250 سورة يونس - عليه السلام - قالت فرقة: نزل من أولها نحو من أربعين آية بمكة، وباقيها بالمدينة، وهي مائة وتسع آيات. وهي مكية في قول عكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس إلا ثلاثة آيات وقال مقاتل: إلا آيتين من قوله: {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك} [الآية 94] وقال الكلبي: إنها مكية إلا قوله {ومنهم من يؤمن به ومنهم من لا يؤمن به وربك أعلم بالمفسدين} [الآية 40] فإنها مدنية نزلت في اليهود، وعدد كلماتها ألف وثمانمائة واثنتان وثلاثون كلمة، وحروفها سبعة آلاف وخمس مائة وسبعة وستون حرفا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 251 قوله: بسم الله الرحمن الرحيم «الر» تقدم الكلامُ على الحروف المقطعة في أول الكتاب، واختلافُ القُرَّاء في إمالة هذه الحروف إذا كان في آخرها ألفٌ، وهي: را، وطا، وها، ويا، وحا. فأمال «را» من جميع سورها إمالة محضة الكوفيون إلا حفصاً، وأبو عمرو وابن عامر. وأما الأخوان وأبو بكر «طا» من جميع سورها نحو: {طس} [النمل: 1] ، {طسم} [الشعراء: 1] ، {طه} [طه: 1] ، و «يا» من «يس» ، وافقهم ابنُ عامر، والسوسي على «يا» من {كهيعص} [مريم: 1] ، بخلاف عن السوسي. وأمال الأخوان وأبو عمر، وورش، وأبو بكر «ها» من «طه» ، وكذلك أمالها من «كهيعص» أبو عمرو، والكسائي، وأبو بكر دون حمزة وورش. وأمال أبو عمرو، وورش، والأخوان، وأبو بكر، وابن ذكوان «حا» من جميع سورها السبع [غافر: 1] . إلاَّ أن أبا عمرو، وورشاً يميلان بين بين، وللقرَّاء في هذا عمل كثير مذكورٌ في كتب القراءات، وكلُّها لغات صحيحةٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 251 قال الواحدي: «الأصلُ ترك الإمالة في هذه الكلمات نحو» مَا «و» لا «؛ لأن ألفاتها ليست منقلبة عن الياء، وأمَّا من أمال فلأنَّ هذه الألفاظ أسماء للحروف المخصُوصة، فقصد بذكر الإمالة التَّنبيه على أنَّها أسماء لا حروف» . فصل اتفقوا على أنَّ قوله «الر» وحده ليس آية، واتفقوا على أنَّ قوله «طه» وحده آية، والفرق أن قوله «الر» لا يشاكل مقاطع الآي التي بعده، بخلاف قوله «طه» فإنه يشاكل مقاطع الآي التي بعده. قال ابن عبَّاس والضحاك: «الر» معناه: أنا الله أرى، وقيل: أنا الربُّ لا ربَّ غيري. وقال سعيد بن جبير: «الر» و «حم» و «ن» حروف اسم الرحمن مُفرقة، ورواه أيضاً يزيد عن عكرمة عن ابن عبَّاس. قال الرَّاوي: فحدَّثت به الأعمش فقال: «عندك أشباه هذا ولا تخبرني به» . قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب} «تلك» يحتمل أن تكون إشارة إلى آيات هذه السورة، وأن تكون إشارة إلى ما تقدَّم هذه السورة من آيات القرآن، لأن «تلك» إشارة إلى غائبٍ مؤنَّث، وقيل: «تلك» بمعنى «هذه» أي: هذه آياتٌ، ومنه قول الأعشى: [الخفيف] 2862 - تِلْكَ خَيْلِي منهُ وتِلْكَ رِكابِي ... هُنَّ صُفْرٌ أولادُهَا كالزَّبيبِ أي: هذه خَيْلِي، وهذه رِكَابِي. «والكتاب» : يحتمل أن يكون المراد به القرآن، ويحتمل أن يراد به الكتاب المخزون المكنون عند الله تعالى الذي نسخ منه كل كتاب، لقوله: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} [الواقعة: 77، 78] ، وقوله: {وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا} [الزخرف: 4] ، وقوله: {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [الرعد: 39] . وقيل: المراد من «الكتابِ الحكيمِ» : التوراة والإنجيل، والتقدير: إنَّ الآيات المذكورة في هذه السُّورة هي الآيات المذكورة في التوراة والإنجيل، والمعنى: إنَّ القصص المذكُورة في هذه السُّورة موافقة للقصص الجزء: 10 ¦ الصفحة: 252 المذكورة في التوراة والإنجيل، فحصول هذه الموافقة في هذه السورة موافقة للقصص لا يمكن إلا إذا خص الله محمداً بإنزال الوحي عليه، وقال أبُو مسلم: قوله «تِلْكَ» إشارة إلى حروف التهجِّي، فقوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب} يعني: أنَّ هذه الحروف هي الأشياء التي جعلت آيات وعلامات لهذا الكتاب الذي وقع به التَّحدِّي، فلولا امتياز هذا الكتاب عن كلام النَّاسِ بالوصف المعجز، وإلا لكان اختصاصُه بهذا النظم دون سائر النَّاس القادرين على التَّلفُّظ بهذه الحروف محالاً. قوله: «الحكيم» قيل: ذُو الحكمة، بمعنى اشتمال الكتاب على الحكمة. وقيل: وصف الكتاب بصفة من تكلم به؛ كقول الأعشى: [الكامل] 2863 - وغريبةٍ تَأتِي المُلُوكَ حَكيمَةٍ ... قَدْ قُلْتُهَا ليُقالَ: مَنْ ذَا قالهَا؟ فيكون «فعيل» بمعنى «مُفْعَلٍ» . وقال الأكثرون: «الحَكِيم» بمعنى الحاكم، «فعيل» بمعنى «فاعل» ؛ لقوله تعالى {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس} [البقرة: 213] وقيل: بمعنى: المُحْكَم، «فَعِيل» بمعنى «مُفْعَل» ، أي: محكم، والمحكم معناه: المنع من الفساد، فيكون المعنى: لا تُغَيِّرهُ الدُّهور، والمراد: براءته عن الكذب والتناقض. وقال الحسن «حكم فيه بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القُربى ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وحكم فيه بالجنَّة لمنْ أطاعهُ، وبالنَّار لمن عصاه» . فعلى هذا «الحَكيم» يكون بمعنى المحكُوم فيه. وقيل: «الحَكِيم» في أصل اللغة: عبارة عن الذي يفعل الحِكْمَة والصواب، فمن حيث إنَّه يدل على هذه المعاني صار كأنَّه هُوَ الحكيم في نفسه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 253 قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ} الهمزة للإنكار، و «أَنْ أَوْحَيْنَآ» «أن» والفعل في تقدير المصدر وهو اسم «كان» ، و «عَجَباً» خبرها، و «للنَّاس» متعلِّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من «عَجَباً» لأنه في الأصل صفة له، أو متعلِّقٌ ب «عَجَباً» ، ولا يضُرُّ كونه مصدراً؛ لأنَّه يُتَّسع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسع في غيرهما. وقيل: لأنَّ «عَجَباً» مصدرٌ واقعٌ موقع اسم الفاعل أو اسم المفعول، ومتى كان كذلك جاز تقديمُ معموله. وقيل: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 253 هو متعلِّق ب «كَانَ» النَّاقصة، وهذا على رأي مَنْ يُجيز فيها ذلك. وهذا مرتَّبٌ على الخلاف في دلالة «كان» النَّاقصة على الحدث، فإن قلنا: إنَّها تدلُّ على ذلك فيجُوزُ وإلاَّ فلا. وقيل: هو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على التَّبيين، والتقدير في الآية: أكان إيحاؤنا إلى رجُلٍ منهم عجباً لهم. و «منهم» صفة ل «رجُل» . وقرأ رُؤبة «رَجْل» بسكون الجيم، وهي لغة تميم، يُسَكِّنُون «فَعُلاً» نحو: سبع وعضد. وقرأ عبد الله بن مسعود «عَجَبٌ» . وفيه تخريجان، أظهرهما: أنَّها التَّامة، أي: أحدث للنَّاس عجب و «أنْ أوْحَيْنَا» متعلِّق ب «عجب» على حذف لامِ العلَّة، أي: عجبٌ ل «أنْ أوْحَيْنَا» ، أو يكون على حذف «مِنْ» ، أي: مِنْ أنْ أوحينا. والثاني: أن تكون الناقصة، ويكون قد جعل اسمها النَّكرة وخبرها المعرفة، على حدِّ قوله: [الوافر] 2864 - ... ... ... ... ... ... ... . ... يكُونُ مزاجها علسلٌ ومَاءُ وقال الزمخشري: والأجودُ أن تكون التَّامة، و «أنْ أوحَيْنَا» : بدلٌ من «عَجَبٌ» . يعني به بدل اشتمال أو كل من كل، لأنه جعل هذا نفس العجب مبالغة، والتخريج الثاني لابن عطيَّة. فصل التعجُّب: حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة، وسبب نزول هذه الآية: أنَّ الله - تعالى - لمَّا بعث محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً، تعجَّب كفار قريش وقالوا: إنَّ الله أعظم من أن يكون رسُوله بشراً، فأنكر الله عليهم ذلك التعجُّب، أما بيان تعجُّبهم من تخصيص محمَّدٍ بالرسالة فمن وجوه: الأول: قوله تعالى: {وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ} [ص: 4] إلى قوله: {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] . والثاني: أن أهل مكَّة كانوا يقولون: إنَّ الله تعالى ما وجد رسُولاً إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب. والثالث: أنهم قالوا: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] ؛ فأنرك الله عليهم هذا التعجُّب بقوله {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} فلفظه استفهام؛ ومعناه الإنكار لأنْ يكون ذلك عجباً، والمراد ب «النَّاس» : أهل مكة، والألف فيه للتوبيخ. فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: أكان عند الناس عجباً، بل قال: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} ؟ . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 254 فالجواب: أن قوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً} معناه أنهم جعلوه لأنفسهم أعجوبة يتعجَّبُون منها، وعيَّبوه ونصَّبُوه للاستهزاء والتعجُّب إليه وليس في قوله: «أكان عند النَّاس عجباً» هذا المعنى. وقوله: {أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} يعني: محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله: {أَنْ أَنذِرِ الناس} يجوز أن تكون المصدريَّة، وأن تكون التفسيريَّة، ثم لك في المصدريَّة اعتباران: أحدهما: أن تجعلها المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشَّأن محذوف. كذا قال أبو حيَّان، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ أخبارَ هذه الحروف لا تكون جملة طلبيَّة، حتى لو ورد ما يوهمُ ذلك يُؤوَّلُ على إضمار القول؛ كقول الشاعر: [البسيط] 2865 - ولوْ أصَابَتْ لقالتْ وهيَ صَادِقَةٌ ... إِنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشَّيبِ وقول الآخر: [البسيط] 2866 - إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سيِّدهُمْ ... لا تَحْسَبُوا ليْلَهُمْ عنْ ليْلِكُمْ نَامَا وأيضاً فإنَّ الخبر في هذا الباب إذا وقع جملة فعلية، فلا بد من الفصل بأشياء تقدَّمت في المائدة. ولكن ذلك الفاصل هنا متعذِّرٌ. والثاني: أنَّها التي بصدد أن تنصب الفعل المضارع، وهي توصل بالفعل المتصرِّف مطلقاً، نحو: «كَتبتُ إليْه بأنْ قُمْ» . وقد تقدم البحث في [النساء66] ، ولم يذكر المنذرُ به وذكر المُبَشَّرَ به؛ لأنَّ المقام يقتضي ذلك، وقدَّم الإنذار على التَّبشير، لأنَّ إزالة ما لا ينبغي مقدَّم في الرتبة على ما لا ينبغي، والإنذار للكفَّار والفساق ليرتدعوا عن فعل ما لا ينبغي، والتَّبشير لأهلِ الطَّاعةِ؛ لتقوى رغبتهم فيها. قوله: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} «أنَّ» وما في حيَّزها هي المُبشَّرُ بها، أي: بشِّرهُم باستقرارِ قدمِ صدْق، فحذفت الباءُ، فجرى في محلِّها المذهبان، والمرادُ ب «قدم صِدْقٍ» : السابقةُ والفضلُ والمنزلةُ الرَّفيعة، وإليه ذهب الزجاج والزمخشريُّ؛ ومنه قولُ ذِي الرُّمَّة: [الطويل] 2867 - لَكُم قدمٌ لا يُنْكِرُ النَّاسُ أنَّهَا ... مَعَ الحسَبِ العَاديِّ طمَّتْ على البَحْرِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 255 لمَّا كان السعي والسبقُ بالقدم سُمِّي السَّعي المحمود قدماً، كما سُمِّيت اليدُ نعمةً لمَّا كانت صادرةً عنها، وأضيف إلى الصدق دلالةً على فضله، وهو من باب «رجُلُ صدقٍ، ورجلُ سوءٍ» . وقيل: هو سابقةُ الخير التي قدَّمُوها؛ ومنه قول وضَّاح اليمن: [المنسرح] . 2868 - مَالكَ وضَّاحُ دَائِمَ العَزَلِ ... ألَسْتَ تَخْشَى تقارُبَ الأجَلِ صلِّ لذي العَرْشِ واتَّخِذْ قَدَماً ... يُنْجِيكَ يَوْمَ العَثَارِ والذَّلَلِ وقيل: هو التقدُّم في الشرف؛ ومنه قول العجَّاج: [الرجز] 2869 - ذَلَّ بنُو العوَّامِ عنْ آلِ الحَكَمْ ... وتَرَكُوا المُلْكَ لملكٍ ذي قَدَمْ أي: ذي تقدُّم وشرف. قال ابن عبَّاس: أجراً حسناً بما قدَّمُوا من أعمالهم، وروى عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو السعادة في الذكر الأول. وقال زيد بن أسلم: هو شفاعة الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. وقال عطاء: مقام صدق، لا زوال له، ولا بؤس فيه. وأضيف القدمُ إلى الصِّدق وهو نعته، كقولهم: مَسْجِد الجَامِع، {وَحَبَّ الحصيد} [ق: 9] . وقال أبُو عبيد: كل سابق في خير أو شرٍّ فهو عند العرب قدم، يقال لفُلان قدم في الإسلام، وله عندي قدم صدق وقدم سوءٍ، وهو يؤنثُ. وقد يذكر، فيقال: قدم حسن، وقدم صالحة. و «لَهُمْ» خبر مقدَّم، و «قَدَمَ» اسمها، و «عِندَ ربِّهِمْ» صفة ل «قَدَمَ» ، ومنْ جوَّز أن يتقدَّم معمُولُ خبر «أنَّ» على اسمها إذا كان حرف جرٍّ؛ كقوله: [الطويل] 2870 - فَلاَ تَلْحَنِي فيهَا فإنَّ بحُبِّهَا ... أخاكَ مُصَابُ القَلْبُ جَمٌّ بلابِلُهْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 256 قال: ف «بِحُبِّهَا» متعلقٌ ب «مُصَاب» ، وقد تقدَّم على الاسم، فكذلك «لَهُمْ» يجوز أن يكون متعلقاً ب «عِنْدَ ربِّهِمْ» لمَا تضمَّن من الاستقرار، ويكونُ «عندَ ربِّهِمْ» هو الخبر. قوله: {قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ} لمَّا جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشَّرهُم قالوا مُتعجِّبين: «إنَّ هذا لسَاحِرٌ مُبِينٌ» ، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر «لسِحْرٌ» والباقون «لَسَاحر» ، ف «هَذَا» يجوزُ أن يكون إشارةً للقرآن، وأن يكون إشارةً للرسُول على القراءة الأولى، ولكن لا بد من تأويل على قولنا: هو إشارة للرسول، أي: ذو سحر أو جعلوه إيَّاه مبالغةً، وعلى القراءة الثانية فالإشارةُ للرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقط. واعلم أنَّ إقدامهم على وصف القرآن بأنَّه سحرٌ، يحتمل أنَّهم ذكروه في معرض الذَّمِّ، ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح، فلهذا قال بعضُ المُفَسِّرين: أرَادُوا به أنَّه كلام مزخرف حسن الظَّاهر، لكنه باطِل في الحقيقة، ولا حاصل له، وقال آخرون: أرادُوا به أنَّه لكمال فصاحته، وتعذر مثله، جارٍ مجرى السِّحْر. وهذا كلام فَاسِد، فلهذا لم يذكر جوابه، وبيان فساده: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان منهم، ونشأ بينهم، وما غَابَ عنهم، ولم يُخالط أحداً سواهم، ولم تكن مكَّة بلدة العُلماء، حتى يقال: إنَّه تعلَّم السحر منهم، أو تعلم العلوم الكثيرة منهم، فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن. وإذا كان الأمر كذلك، كان حمل القرآن على السِّحْر كلاماً في غايةِ الفسادِ، فلهذا السَّبب ترك جوابه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 257 لمَّا حكى عن الكُفَّار تعجُّبهم من الوَحْي والبَعْثَة والرِّسالة، أزال ذلك التعجُّب بأنه لا يبعد أن يبعث خالق الخلْقِ إليْهِم رسولاً يُبشِّرهم على الأعمال الصَّالحة بالثَّواب، وعلى الأعمال الباطلة بالعقاب، وهذا الجوابُ إنَّما بإثبات أمرين آخرين: أحدهما: إثبات أنَّ لهذا العالم إلهاً قادراً قاهراً، نافِذَ الحُكم بالأمْر والنَّهي والتَّكليف. والثاني: إثبات الحَشْر والنَّشر والبعث والقيامة، حتى يحصل الثَّواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياءُ - عليهم الصلاة والسلام - عن حصولهما، فلذلك ذكر ما يدلُّ على تحقيق هذين الأمرين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 257 فإمَّا إثبات الإله، فبقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض} ، وأمَّا إثبات المعاد، فبقوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ الله حَقّاً} [يونس: 4] فهذا ترتيبٌ في غاية الحسن، فإن قيل: كلمة «الَّذي» وضعت للإشارة إلى شيء معروف عند السَّامع، كما إذا قيل لك: مَنْ زَيْدٌ؟ فتقول: الذي أبوه مُنْطلق، فهذا التعريف إنَّما يحسنُ لو كان أبوهُ منطلقاً أمراً معلوماً عند السَّامع، فهاهنا لما قال: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} يوجب أن يكون ذلك أمراً معلوماً عند السَّامع، والعرب ما كانوا عالمين بذلك، فكيف يحسن هذا التعريف؟ . فالجواب: أنَّ هذا كان مشهُوراً عند اليهود والنصارى؛ لأنَّه مذكور عندهم في التَّوراة والإنجيل، والعرب كانوا يُخالطُونَهُم، فالظَّاهر أنَّهم كانوا سمعُوه منهُم، فلهذا حَسُنَ هذا التعريف. فإن قيل: ما الفائدةُ في بيان الأيَّام التي خلق الله فيها السموات والأرض، مع أنَّه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقلِّ من لمْح البصرِ؟ فالجواب على قول أهل السُّنَّة: أنَّه تعالى يحْسُن منه كلّ ما أراد، ولا يُعَلَّلُ شيء من أفعاله بشيء من الحِكْمَة والمصالح، وأمَّا على قول المعتزلة: وهو أنَّ أفعالهُ تعالى مشتملةٌ على المصالحِ والحكمة، فقال القاضي: «لايبْعُد أنْ يكون خلق الله السموات والأرض في هذه المُدَّة المخصوصة، أدخل في الاعتبار في حقِّ بعض المُكَلِّفين» ثم قال: فإن قيل: فمن المُعْتَبر؟ ثم أجاب فقال: أما المعتبر فهو أنَّه لا بد من مُكلَّفٍ أو غير مكلَّف خلقه الله تعالى قبل خلقه السموات والأرض وإلاَّ لكان خلقُهُمَا عبثاً. فإن قيل: فَهَلاَّ جَازَ أن يَخْلقهمَا لأجل حيوان يَخْلقُهُ من بعد؟ . قلنا: إنَّه تعالى لا يخاف الفوْت، فلا يجُوزُ أن يقدم على خلق لأجل حيوان سيحدُث بعد ذلك، وإنَّما يصحُّ ذلك منَّا في مُقدِّمَات الأمُور، لأنَّا نخشى الفَوْت، ونخافُ العَجْز. قال: وإذا ثَبَتَ هذا، فقد صحَّ ما روي في الخبر أنَّ خلق الملائكة والجنِّ، كان سابقاً على خلقِ السموات والأرض. فإن قيل: أولئك الملائكةَ لا بدَّ لهم من مكانٍ، وقبل خلق السموات والأرض لا مكان، فكيف يمكن وُجُودهُم بلا مكان؟ قلنا: الذي يقدر على تَسْكِين العَرْش والسموات والأرض في أمكنتها، كيف يعجزُ عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته؟ وأمَّا وجه الاعتبار في ذلك فهُو أنَّه لمَّا حصل هناك مُعْتَبر، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما شاهده حالاً بعد حال أقوى. لأنَّ ما يحدث على هذا الوجه، فإنه يدلُّ على أنه صادر من فاعل حكيمٍ. وأمَّا المخلُوق دفعةً واحدةً فإنَّه لا يدلُّ على ذلك. فإن قيل: هذه الأيام كأيَّام الدُّنيا، أو كما قال ابن عباس: إنَّها ستَّة أيَّام من أيَّام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مِمَّا تعُدُّون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 258 فالجواب: قال القاضي: الظَّاهرُ في ذلك أنَّهُ تعريف لعباده مدَّة خلقه لهما، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفاً إلاَّ والمدَّة هذه الأيَّام المعلومة، ويمكن أن يقال: لمَّا وقع التعريف في الأيَّام المذكورة في التوراة والإنجيل، وكان المذكُورُ هناك أيَّام الآخرة لا أيَّام الدنيا، لم يكن ذلك قادحاً في صحَّة التعريف بها. فإن قيل: هذه الأيام إنما تعد بطُلوع الشمس وغروبها، وهذا المعنى مفقودٌ قبل خلقها، فكيف يعقل هذا التعريف؟ فالجواب: التعريف يحصل بما أنَّه لَوْ وقع حدوثُ السموات والأرض في مدَّة، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمسٌ وقمر، لكانت تلك المُدَّة مساوية لستَّة أيَّام. فإن قيل: هذا يقتضي حصول مدَّة قبل خلقِ العالم، يحصل فيها حدوث العالم، وذلك يوجبُ قدم المُدَّة. فالجواب: أن تلك المُدَّة غير موجودة، بل هي مفروضة موهُومة، لأنَّ تلك المُدَّة المعينة حادثةٌ، وحدوثها لا يحتاج إلى مدَّة أخرى، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محالٌ، فكلُّ ما يقولونه في حدوث المدَّة، فنحن نقوله في حدوث العالم. فإن قيل: اليومُ قد يُراد به اليوم مع ليلتِهِ، وقد يُرَاد به النَّهَار وحده، فما المرادُ بهذه الآية؟ فالجواب: أنَّ الغالبَ في اللُّغة هو اليوم بليلته. قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} قال ابنُ الخطيب: لا يمكن حمل الآية على ظاهرها، لأنَّ الاستواء على العرش معناه كونه مستقرًّا عليه، بحيث إنَّه لولا العرش لسقط ونزل، وإثبات هذا المعنى يقتضي كونه تعالى محتاجاً إلى العرش، وإنه لولا العرش لسقط ونزل، وذلك محالٌ، لإجماع المسلمين على أنَّه تعالى هو المُمْسِكُ له والحافظُ له، وأيضاً فإن قوله: «ثُمَّ استوى» يدل على أنه قبل ذلك ما كان مُسْتَوياً عليه، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى يتغيَّر من حالٍ إلى حالٍ، وكل متغير محدث، وذلك باطلٌ بالاتِّفاق. وأيضاً: لمَّا حدث الاستواء في هذا الوقت دلَّ على أنَّ تعالى كان قبل هذا الوقت مُضْطَرباً متحرِّكاً، وذلك من صفاتِ المُحدثات. وأيضاً ظاهرُ الآية يدلُّ على أنه تعالى إنَّما استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض؛ لأنَّ كلمة «ثُمَّ» للتَّراخي، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى كان قبل العرش غنيّاً عن العرش، فلمَّا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقتُه وذاته من الاستغناء إلى الحاجة، فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيّاً عن العرش، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقرّاً على العرش، فثبت بهذه الوجوه أنَّهُ لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها، وإذا كان كذلك امتنع بالاستدلال بها في إثبات المكان والجهة، وإذا تقرَّر هذا، فقال جمهور المفسِّرين: المراد بالعرش هنا: هو الجسم العظيم الذي في السَّماء، وهو مخلوق قبل خَلْق السموات والأرض، بدليل قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} [هود: 7] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 259 وقيل: المراد من العرش: الملك، يقال: فلان على عرشه أي: ملكه. وقال أبُو مسلم الأصفهاني. «المراد بالعَرْش: أنَّه تعالى لمَّا خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها، فإنَّ كلَّ بناء يسمَّى عَرْشاً، وبانيه يسمَّى عارشاً، قال تعالى {وَمِنَ الشجر وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} [النحل: 68] أي: يبنون، وقال: {وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا} [البقرة: 259] ، والمراد: أنَّ القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقفها، وقال: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} [هود: 7] أي: بناؤه على الماءِ، وإنَّما ذكر الله تعالى ذلك، لأنه أعجب في القدرة، لأنَّ الباني يتباعد عن الماء إلى الأرض الصلبة، لئلاَّ ينهَدِم بناؤُه، والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء، ليعرف العُقلاء كمال قُدْرتِهِ، فالمُرَاد بالاستواء على العرش: هو الاستعلاء عليه بالقَهْر، لقوله {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ} [الزخرف: 12، 13] ، فوجب حَمْلُ اللفظ على ذلك، ولا يجوزُ حمله على العرش الذي في السَّماء، لأنَّ الاستدلال على وجود الصَّانع، يجب أن يكون بشيء معلُوم ومشاهد، والعرش الذي في السماء ليس كذلك، وأمَّا أجرام السموات والأرض فهي مشاهدة مَحْسُوسة، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصَّانع صواباً حسناً» . وبهذا الوجه تصير هذه الآية موافقةٌ لقوله: {أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا} [النازعات: 27] الآية. قوله: {يُدَبِّرُ الأمر} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً ل «إنَّ» . الثاني: أنَّه حالٌ. الثالث: أنه مستأنفٌ لا محلَّ له من الإعراب. ومعنى «يدبِّر الأمر» : يقضيه وحده على حسب مقتضى الحكمة، أي: يُدبِّر أحْوَال الخَلْقِ، وأحوال ملكوت السموات والأرض. قوله {مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} أي: يدبر الأشياء، لا بشفاعة شفيعٍ، ولا تدبير مدبر، فمعناه: أن الشفعاء لا يشفعون إلا من بعد إذنِهِ. فإن قيل: كيف يليق ذكر الشَّفيع مع ذكر مَبْدَأ الخَلْقِ، وإنَّما يليق ذكره بأحْوال القيامة؟ فالجواب: قال الزَّجَّاج: إنَّ الكفَّار الذين كانوا مخاطبينَ بهذه الآية كانوا يقولون: إنَّ الأصنام شفعاؤنا عند الله. وهذا ردٌّ على النضر بن الحارث، كان يقول: إذا كان يوم القيامة تشفعني اللاَّت والعُزَّى. وقال أبو مسلم: «الشَّفيعُ هاهنا هو الثاني، مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر، كما يقال: الزوْج والفرد» . فمعنى الآية: خلق الله السموات والأرض وحدهُ لا شريكَ يعينه، ثم خلق الملائكة والجنَّ والبشر، وهو المراد من قوله {إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ} أي: لم يحدُث أحدٌ ولم يدخل في الوجود، إلاَّ من بعد أن قال له: كُنْ حتَّى كان. ثم قال الجزء: 10 ¦ الصفحة: 260 {ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه} مُبَيِّناً بذلك أنَّ العبادة لا تصلح إلا له، وأنه هو المستحقُّ لجميع العبادات، لأنه هو المنعمُ بجميع النِّعم التي ذكرها. ثم قال: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} دالاًّ بذلك على وُجُوب التَّفكُّر في تلك الدَّلائل القاهرة الباهرة. قوله تعالى: {إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً} الآية. لمَّا ذكر الدَّلائل الدَّالة على إثبات المبدأ، أردفه بما يدلُّ على صحَّة القول بالمعاد فقوله «إليه مرجعكم» الرجع بمعنى الرجوع و «جميعها» نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع وهذا يدل على أن المراد بالرجوع القيامة لا الموت. وقوله: «وعْدَ اللهِ» منصوبٌ على المصدر المؤكَّدِ؛ لأنَّ معنى «إلَيْهِ مرْجِعكُمْ» : وعدكم بذلك. وقوله: «حَقّاً» مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد، وناصبه مضمر، أي: أحَق ذلك حقّاً. وقيل: انتصب «حَقّاً» ب «وَعْدَ» على تقدير «في» ، أي: وَعْدَ الله في حق، يعني على التَّشْبيه بالظرف. وقال الأخفش الصغير: التقدير: وقت حق؛ وأنشد: [الطويل] 2871 - أحَقّاً عِبَادَ الله أنْ لَسْتُ ذَاهِباً ... وَلاَ وَالِجاً إِلاَّ عليَّ رَقيبُ «إنَّهُ يَبْدَؤا» الجمهور على كسر الهمزة للاستئناف، وقرأ عبد الله، وابن القعقاع، والأعمش، وسهيل بن شعيب بفتحها، وفيها تأويلاتٌ: أحدها: أن تكون فاعلاً بما نصب «حَقّاً» أي: حقَّ بدءُ الخَلْقِ، ثُمَّ إعادته؛ كقوله: [الطويل] 2872 - أَحَقّاً عبادَ اللهِ أنْ لَسْتُ جَائِياً ..... ... ... ... ... ... ... ... . . البيت. وهو مذهبُ الفرَّاء، فإنَّه قال «والتقدير: يحقُّ أنَّه يبدأ الخَلْق» . والثاني: أنه منصوبٌ بالفعل الذي نصب «وَعْدَ اللهِ» ، أي: وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته، والمعنى: إعادةُ الخلْقِ بعد بدئه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 261 الثالث: أنه على حذفِ لام الجرِّ، أي: لأنَّهُ ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري وغيره. الرابع: أنَّهُ بدلٌ من «وَعْدَ اللهِ» قالهُ ابن عطية. الخامس: أنه مرفوعٌ بنفس «حَقّاً» أي: بالمصدر المنون، وهذا إنَّما يتأتَّى على جَعْل «حَقّاً» غير مؤكدٍ، لأنَّ المؤكَّدَ لا عمل له إلاَّ إذا نَابَ عن فعله، وفيه بحث. السادس: أن يكون «حَقّاً» مشبهاً بالظَّرف خبراً مقدماً، و «إنَّه» في محلِّ رفع مبتدأ مؤخراً، كقولهم: أحقاً أنَّك ذاهبُ، قالوا: تقديره: أفي حقٍّ ذهابك. وقرأ ابن أبي عبلة «حَقٌّ أنَّه» برفع حق وفتح «أنّ» على الابتداء والخبر، قال أبو حيَّان: وكون «حق» خبر مبتدأ، و «أنه» هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب، كما تقول: صحيحٌ أنك مخرج؛ لأنَّ اسم «أن» معرفة، والذي تقدَّمه في هذا المثال نكرة، فظاهرُ هذه العبارة يُشْعر بجواز العكس، وهذا قد ورد في باب «إنَّ» ؛ كقوله: [الطويل] 2873 - وإنَّ حراماً أنْ أسُبَّ مُجَاشِعاً ... بآبَائِيَ الشُّمِّ الكِرَامِ الخَضَارِمِ وقوله: [الطويل] 2874 - وإنَّ شفَاءً عبْرَةٌ أنْ سَفَحْتُهَا ... وهَلْ عندَ رسْمٍ دارٍ مِنْ مُعَوَّلِ على جَعْلِ «أنْ سَفَحْتُهَا» بدلاً من «عَبْرَة» ، وقد أخبر في «كان» عن نكرةٍ بمعرفةٍ، كقوله: [الوافر] 2875 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولا يَكُ موقِفٌ مِنْكِ الوَدَاعَا وقوله: [الوافر] 2876 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... يكُونُ مِزاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ قال مكِّي: «وأجاز الفرَّاء رفع» وَعْد «، بجعله خبراً ل» مَرْجِعُكُمْ «. وأجاز رفعَ» وَعْد «و» حَقّ «على الابتداء والخبر، وهو حسنٌ، ولم يقرأ به أحد» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 262 قال شهابُ الدِّين: نعم لم يرفع «وَعْد» ، و «حَقّ» معاً أحد، وأمَّا رفعُ «حَقٌّ» وحده فقط تقدَّم أن ابن أبي عبلة قرأه، وتقدَّم توجيهه، ولا يجوز أن يكون «وعْد الله» عاملاً في «أنَّه» لأنه قد وُصِفَ بقوله «حَقّاً» قاله أبو الفتح، وقرىء «وعَدَ اللهُ» بلفظ الفعل الماضي ورفع الجلالة فاعلةً، وعلى هذه يكون «إنَّه يَبْدأ» معمولاً له إنْ كان هذا القَارِىءُ يفتح «أنه» ، والجمهُور على يَبْدَأ بفتح الياء من بَدَأ، وابنُ أبي طلحة «يُبْدِىء» مِنْ أبْدَأ، وبَدَأ وأبْدَأ بمعنى واحد. فصل في هذه الآية إضمار، تقديره: إنَّه يبدأ الخلق؛ ليأمرهم بالعبادة، ثم يُميتُهُم ثم يعيدهم، كقوله في البقرة: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} [البقرة: 28] . إلاَّ أنَّه - تعالى - حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا؛ لأنَّه - تعالى - قال من قبله {ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه} وحذف ذكر الإماتة، لأنَّ ذكر الإعادة يدلُّ عليها. وهذه الآية تدلُّ على أنَّه تعالى يعيد جميع المخلوقات، وإعادتها لا يمكن إلاَّ بعد إعدامها، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محالٌ، ونظيره قوله تعالى: {يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ} [الأنبياء: 104] فحكم بأنَّ الإعادة تكون مثل الابتداء. قوله: «ليَجْزِي» متعلِّق بقوله «ثُمَّ يُعِيدُهُ» ، و «بالقِسْطِ» متعلقٌ ب «يَجْزِيَ» ويجوز أن يكون حالاً: إمَّا من الفاعل أو المفعول، أي: يَجْزيهُم مُلْتَبِساً بالقِسْطِ أو ملتبسين به، والقِسْطُ: العدل. فصل قال الكعبيُّ: «اللاَّم في قوله» ليَجْزِيَ الذينَ آمَنُوا «تدل على أنَّه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة، وأيضاً فإنَّه أدخل» لام «التعليل على الثواب، ولم يدخلها على العقاب، بل قال: {والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ} فدل على أنَّه خلق الخلق للرَّحمةِ لا للعقاب، وذلك يدلُّ على أنَّه - تعالى - ما أراد منهم الكفر، ولم يخلق الكفر فيهم» . والجواب: أنَّ لامَ التعليل في أفعال الله - تعالى - محالٌ؛ لأنه - تعالى - لو فعل فعلاً لعلَّةٍ لكانت تلك العِلَّة، إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن كانت حادثة فيلزم التسلسل، وهو محال. فصل في تفسير «القِسْط» وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 263 الأول: أنَّه العدل، كما تقدم؛ والعدلُ هو الذي يكون لا زائداً ولا ناقصاً، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى لا يزيدهُم على ما يستحقونه بأعمالهم، ولا يتفضَّل عليهم بشيء. فالجواب: أنَّ الثواب أيضاً محضُ التَّفضُّل، وأيضاً فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق إلا أنَّ لفظ «القِسْطِ» يدلُّ على توفية الأجْرِ، فأمَّا المنع من الزِّيادة فلفظ «القِسْط» لا يدلُّ عليه، فإن قيل: لِمَ خصَّ المؤمنين بالقسطِ مع أنَّه - تعالى - يجازي الكافرين أيضاً بالقسطِ؟ فالجواب: أنَّ تخصيصَ المؤمنين يدلُّ على مزيد العناية في حقِّهم، وعلى كونهم مخصوصين بمزيد الإحسان. الوجه الثاني - في تفسير القِسْطِ -: أن المعنى: ليجزي الذين آمنُوا بقسطهم، وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حين آمنُوا وعملو الصَّالحات، لأنَّ الشِّركَ ظلمٌ، قال تعالى {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] ، والعصاة أيضاً قد ظلموا أنفسهم، قال تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} [فاطر: 32] وهذا أقوى؛ لأنه في مقابلة قوله: {بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} . قوله: {والذين كَفَرُواْ} يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداءِ، والجملة بعده خبره. والثاني: أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبله، وتكونُ الجملةُ بعده مُبَيِّنَة لجزائهم. و «شَرابٌ» يجُوزُ أن يكون فاعلاً، وأن يكون مبتدأن والأولُ أولَى. قوله: «بِمَا كَانُوا» الظَّاهرُ تعلُّقه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع خبراً، والتقدير: استقرَّ لهم شرابٌ من حميم وعذاب أليمٌ بما كانُوا. وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما: الأول: أن يكون صفة أخرى ل «عَذاب» . والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وهذا لا معنى له، ولا حاجة إلى العدول عن الأوَّل. قال الواحدي: الحَميمُ: الذي أسخنَ بالنَّار حتى انتهى حرُّه، يقال: حَمَمْتُ الماءَ، أي: أسْخَنْتُهُ، أحْمِيهِ، فهو حميمٌ، ومنه الحَمَّام. فصل دلَّت الآية على أنَّه لا واسطة بين أن يكون المكلَّف مُؤمناً، وبين أن يكون كافراً، لأنَّه اقتصر في الآية على ذكر هذين القسمين. وأجاب القاضي: بأنَّ ذكر هذين القسمين لا ينفي القسم الثالث؛ لأنَّ قوله تعالى: {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} [النور: 45] ولم يدلَّ على نفي القسم الرابع، بل ربما ذكر المقصود أو الأكثر، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 264 وترك ما عداه، إذا كان قد بيِّن في موضع آخر، وقد بيَّن الله حال القسم الثالث في سائر الآيات. وجوابه: إنَّما يترك القسمُ الذي يجري مجرى النَّادر، ومعلوم أنَّ الفسَّاق أكثر من أهل الطَّاعةِ، فكيف يجُوز ترك ذكرهم في هذا الباب؟ وأما قوله تعالى {والله خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ} [النور: 45] فإنَّما ترك ذكر القسم الرابع، لأنَّ أقسام دواب الأرض كثيرة، فكان ذكرها بأسرها يوجبُ الإطناب، بخلاف مسألتنا، فإنه ليس هنا إلاَّ القسم الثَّالث، وهو الفاسقُ الذي يزعم الخصمُ أنَّه لا مؤمنٌ ولا كافرٌ، فظهر الفرق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 265 قوله تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً} الآية. لمَّا ذكر الدلائل الدَّالة على الإلهيَّة، وهي التَّمسُّك بخلق السموات والأرض، ثم فرع عليها صحَّة القول بالحشر والنشر، عاد إلى ذكر الدَّلائل الدَّالة على الإلهيَّة، وهي التمسُّك بأحوال الشمس والقمر، وهو إشارةٌ إلى توكيد الدَّليل على الحشر والنشر؛ لأنَّه - تعالى - أثبت القول بالحشر والنشر بناءً على أنَّه لا بد من إيصالِ الثَّواب إلى أهل الطَّاعة، والعقاب إلى الكُفَّار، وأنَّه يجب تمييزُ المُحْسن عن المُسِيء. ثم ذكر في هذه الآية أنَّه جعل الشمس ضياءً والقمر نُوراً وقدَّرَهُ منازل، ليتوصَّل المُكلَّف بذلك إلى معرفة السنين والحساب، فيُرتِّب مهمات معاشه وزراعته وحراثته، ويُعدَّ مهمات الشِّتاء والصَّيف، فكأنَّه تعالى يقول: تمييز المحسن على المسيء، أوجب وأوْلَى من تعليم أحوال السِّنين والشُّهُور، فلمَّا اقتضت الحكمة بخلق الشمس والقمر لهذا المهمِّ الذي لا نفع له فبأن تقتضي الحكمة والرَّحمة تمييز المحسن عن المسيء بعد الموت، مع أنَّه يقتضي النفع الأبَدِيّ والسعادة السَّرمديَّة كان أولى، فلمَّا كان الاستدلال بأحوال الشَّمس والقمر من الوجه المذكور في هذه الآية ممَّا يدلُّ على التَّوحيد من وجهٍ، وعلى صحَّة القول بالمعاد من الوجه الذي ذكرناه، لا جرم ذكر الله تعالى هذا الدَّليل بعد ذكر الدَّليل على صحَّة المعاد. قوله: «ضِيَاءً» : إمَّا مفعولٌ ثانٍ على أنَّ الجعل للتصيير، وإمَّا حالٌ على أنَّه بمعنى الإنشاءِ، والجمهُور على «ضِيَاءً» بصريح اليَاءِ قبل الألف، وأصلها واو؛ لأنَّه من الضَّوْء. وقرأ قُنْبُل عن ابن كثيرٍ هنا وفي الأنبياء والقصص «ضِئَاء» بقلب الياء همزة، فتصير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 265 ألفٌ بين همزتين. وأوِّلت على أنه مقلوبٌ قدِّمت لامُه وأخِّرت عينه، فوقعت الياءُ طرفاً بعد ألف زائدة فقلبت همزة على حدِّ «رِدَاء» وأرْدِية، وإن شئت قلت: لمَّا قلبت الكلمة صارت «ضِيَاواً» بالواو، عادت العين إلى أصلها من الواو لعدم موجب قلبها ياء وهو الكسر لسابقها، ثم أبدلت الواو همزة على حدِّ «كِسَاء» . وقال أبو البقاء: «إنَّها قُلبتْ ألفاً، ثُمَّ قُلِبت الألفُ همزة، لئلاَّ تجتمع ألفان» ، واستُبْعِدت هذه القراءة من حيث إنَّ اللغة مَبْنِيَّة على تسهيل الهمزِ فكيف يتخيَّلُون في قلب الحرفِ الخفيف إلى أثقل منه؟ لا غرو في ذلك، فقد قلبُوا حروف العلَّة الألف والواو والياء همزةً في مواضع لا تُحْصرُ إلا بعُسْرٍ، إلاَّ أنه هنا ثقيلٌ؛ لاجتماع همزتين. وأكثر النَّاس على تغليط هذه القراءة؛ لأنَّ ياء «ضِيَاء» منقلبة عن واو، مثل: ياء قيام، وصيام، فلا وجه للهمزة فيها، قال أبو شامة: «وهذه قراءةٌ ضعيفةٌ، فإنَّ قياس اللُّغةِ الفرارُ من اجتماع همزتين إلى تخفيفِ إحداهُمَا، فكيف يُتَخيَّل بتقديمٍ وتأخيرٍ يُؤدِّي إلى اجتماع همزتين لم يكونا في الأصل؟ هذا خلافُ حكم اللُّغة» . وقال أبو بكر بن مُجاهد - وهو ممَّنْ قرأ على قنبل -: «قرأ ابن كثير وحده» ضِئَاء «بهمزتين في كل القرآن الهمزة الأولى قبل الألف، والثانية بعدها، كذلك قرأتُ على قنبل وهو غلط، وكان أصحاب البزّي، وابن فليح يُنكرُونَ هذا ويقْرؤُون» ضِيَاء «مثل الناس» . قال شهابُ الدِّين: «كثيراً ما يَتَجَرَّأ أبو بكر على شيخه ويُغَلِّطه، وسيمرُّ بكَ مواضع من ذلك، وهذا لا ينبغي أن يكون، فإنَّ قُنْبُلاً بالمكان الذي يمنع أن يتكلَّم فيه أحد» . وقوله في جانب الشمس: «ضِيَاءً» ؛ لأنَّ الضوءَ أقوى من النُّور، وقد تقدم ذلك أوَّل البقرة و «ضِيَاء ونُوراً» يحتمل أن يكونا مصدرين، وجُعِلا نفسَ الكوكبين مبالغة، كما يقال للكريم: إنه كرم وجود، أو على حذف مضافٍ أي: ذاتِ ضياء وذا نُورٍ، و «ضِيَاء» يحتمل أن يكون جمع «ضَوْء» كسَوْط وسِيَاط، وحَوْض وحِيَاض. قوله: «مَنَازِلَ» نُصب على ظرف المكان، وجعله الزمخشريُّ على حذفِ مضافٍ: إمَّا من الأول أي: قدَّر مسيره، وإمَّا من الثاني أي: قدَّرهُ ذا منازل، فعلى التقدير الأول يكون «مَنازِلَ» ظرفاً كما مَرّ، وعلى الثاني يكون مفعولاً ثانياً على تضمين «قدَّرَ» معنى صيَّره ذا منازل بالتقدير، وقال أبو حيَّان - بعد أن ذكر التقديرين، ولم يعزُهما للزمخشري: أو قَدَّر له منازل، فحذف وأوصل الفعل إليه، فانتصب بحسب هذه التَّقادير على الظَّرف أو الحال أو المفعول، كقوله: {والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} [يس: 39] وقد سبقهُ إلى ذلك أبُو البقاء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 266 والضمير في «قدَّرهُ» يعود على القمر وحده، لأنَّه هو عُمدةُ العرب في تواريحهم. وقال ابنُ عطيَّة: «ويحتمل أن يريدهما معاً بحسبِ أنهم يتصرَّفان في معرفة عدد السِّنين والحساب لكنَّه اجتزىء بذكر أحدهما، كقوله تعالى {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ؛ وكما قال الشاعر: [الطويل] 2877 - رَمَانِي بأمْرٍ كُنْتُ مِنْهث ووَالدِي ... بَرِيئاً ومنْ أجْلِ الطَّوِيِّ رمَانِي قوله:» لِتَعْلَمُواْ «: متعلِّق ب» قدَّرَهُ «، وسُئل أبو عمرو عن الحساب: أتَنْصبُه أم تَجُرُّه؟ فقال: ومن يدري ما عدد الحساب؟ يعني أنه سئل: هل تعطفه على» عَدَدَ «فتنصبه أم على» السِّنين «فتجرَّه؟ فكأنَّه قال: لا يمكن جرُّه، إذ يقتضي ذلك أن يعلم عدد الحسابِ ولا يقدر أحدٌ أن يعلم عدده. فصل معنى الآية: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً} بالنهار، {والقمر نُوراً} بالليل. وقيل: جعل الشمس ذات ضياء، والقمر ذا نُورٍ، {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ} أي: قدَّر له، يعنى: هَيَّأ له منازل لا يجاوزها ولا يقصُر دونها، ولم يقل قدرهما. قيل تقدير المنازل منصرفٌ اليهما، واكتفى بذكر أحدهما لما قدَّمنا. وقيل: ينصرف إلى القمر خاصة، لأن بالقمر خاصة يعرف انقضاء الشُّهور والسِّنين، لا بالشمس. ومنازل القمر هي: المنازل المشهورة، وهي الثمانية والعشرون منزلاً، وهذه المنازل مقسومة على البُروجِ الاثني عشر، لكل برج منزلتان واحدة إن كان الشهر تسعاً وعشرين، فيكون انقضاء الشهر مع نزوله تلك المنازل، ويكون مقام الشهر في كل منزلة ثلاثة عشر يوماً، فيكون انقضاء السنة مع انقضائها. واعلم: أنَّ الشمس سلطان النهار وأنَّ القمر سلطان الليل، وبحركة الشمس تنفصل السنة إلى الفصول الأربعة، وبالفصول الأربعة تنتظمُ مصالحُ هذا العالم، وبحركة القمر تحصُل الشهور، وباختلاف حاله في زيادة ضوئه ونقصانه تختلف أحوال رطوبات هذا العالم، وبسبب الحركة اليومية يحصل النهار والليل، فالنهار زمان التَّكسُّبِ والطلب، والليل زمان للرَّاحة، وهذا يدلُّ على كثرة رحمة الله - تعالى - للخلق وعظم عنايته لهم. قال حكماء الإسلام: هذا يدلُّ على أنه - تعالى - أودع في أجرام الأفلاك والكواكب خواصَّ معينة، وقوى مخصوصة باعتبارها تنتظم مصالح هذا العالم السُّفلي، إذ لَوْ لَمْ يكُنْ لها آثارٌ وفوائد في هذا العالم، لكان خلقها عبثاً وباطلاً بغير فائدة، وهذه النُّصوص تُنافي ذلك. قوله: {مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق} «ذلك» إشارةٌ إلى الخلق، والتقدير: ما خلق الله ذلك المذكور إلا ملتبساً بالحقِّ، فيكون حالاً: إمَّا من الفاعل وإمَّا من المفعول. وقيل: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 267 الباء بمعنى اللاَّم أي: للحقِّ، ولا حاجة إليه، والمعنى: لم يخلقه باطلاً، بل إظهاراً لصنعته، ودلالة على قدرته. قوله: «يُفَصِّلُ» قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وأبو جعفر، ويعقوب «يُفصِّل» بياء الغيبة جرياً على اسم الله - تعالى -، والباقون: بنون العظمة، التفاتاً من الغيبة إلى التَّكلُّم للتَّعظيم. ومعنى التَّفصيل: هو ذكر هذه الدلائل الباهرة، واحدة عقب الأخرى مع الشَّرح والبيان، ثم قال «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» قيل: المراد منه: العقل الذي يعمُّ الكل. وقيل: المراد منه تفكر وعلم فوائد مخلوقاته، وآثار إحسانه، لأنَّ العلماء هم المنتفعون بهذه الدلائل، كقوله {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] مع أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان منذراً للكُلِّ. قوله تعالى: {نَّ فِي اختلاف الليل والنهار} الآية. اعلم أنَّه تعالى استدلَّ على التوحيد والإلهية. أولاً: بتخليق السموات والأرض. وثانياً: بأحوال الشمس والقمر. وثالثاً: في هذه الآية بالمنافع الحاصلة من اختلاف الليل والنهار، وقد تقدم تفسيره في سورة البقرة عند قوله: {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} [البقرة: 164] . واعلم أنَّ الحوادث الحادثة في هذا العالم أربعة أقسام: أحدها: الأحوالُ الحادثة في العناصر الأربعة، ويدخل فيها أحوال الرَّعد والبَرْق والسَّحاب والأمطار والثُّلُوج، ويدخل فيها أحوال البحار، وأحوال المَدِّ والجزْرِ، وأحوال الصَّواعق والزَّلازل والخَسْفِ. وثانيها: أحوال المعادن وهي عجيبةٌ كثيرةٌ. وثالثها: اختلاف أحوال النَّبات. ورابعها: اختلاف أحوال الحيوانات، وكلُّها داخلةٌ في قوله: {وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض} . ثم قال: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ} خصَّها بالمتَّقين؛ لأنَّهم يحذرون العاقبة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 268 قوله تعالى: {إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} الآية. لمَّا ذكر الدَّلائل القاهرة على إثبات الإلهيَّة، وعلى صحَّة القول بالمعاد، والحَشْرِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 268 والنَّشْرِ، شرح بعده أحوال من يكفُر بها، ومن يؤمن بها؛ فأما شرح أحوال الكُفَّار، فهو المذكور في هذه الآية، وصفهم فيها بأربع صفاتٍ: الأولى: قوله: {إَنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} . قال ابن عبَّاس، ومقاتل، والكلبي: معناه: لا يخافون البعث؛ لأنَّهم لا يؤمنون به، والرَّجاء: الخوف؛ لقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] ، وقوله: {وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ} [الأنبياء: 49] ، وقوله: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً} [نوح: 13] ؛ وقال الهذليُّ: [الطويل] 2878 - إذَا لسَعَتْهُ النَّحْلُ لمْ يَرْجُ لسْعَهَا ... وخَالفَهَا في بَيْتِ نُوبٍ عَوَاسِلِ وقال الزَّجَّاج: الطَّمع؛ والمعنى: لا يطمعُون في ثوابنا، واعلم أنَّ اللِّقاء: هو الوصول إلى الشيء، وهذا في حقِّ الله - تعالى - محالٌ؛ لأنه مُنَزَّهٌ عن الحدِّ؛ فوجب أن يكون مجازاً عن الرُّؤية؛ فإنه يقال: لقيتُ فُلاناً، إذَا رأيْتَهُ. الصفة الثانية: قوله: {وَرَضُواْ بالحياة الدنيا} ، وهذه إشارة إلى استغراقهم في طلب اللَّذاتِ الجسمانيَّة. والصفة الثالثة: قوله: «واطمأنوا بِهَا» يجوز أن يكون عطفاً على الصِّلة، وهو الظاهرُ، وأن تكون الواو للحال، والتقدير: وقد اطمأنُّوا. وهذه صفةُ الأشقياء، وهي أن تحصل لهم الطُّمأنينة في حُبّش الدُّنْيا والاشتغال بلذَّاتها، فيزول عن قُلُوبهم الوجلُ، فإذا سمعُوا الإنذارَ والتَّخويفَ لم توجل قلوبهم وصارت كالميتة عند ذكر الله - تعالى -، وهذا بخلاف صفة السُّعداء، فإنَّهم يحصُلُ لهم الوجل عند ذكر الله - تعالى -، كما قال: {إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] ، ثُمَّ إذا قويت هذه الحالةُ اطمأنُّوا بذكر الله، كما قال: {وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} [الرعد: 28] . ومقتضى اللُّغة أن يقال: واطمأنُّوا إليها، إلاَّ أنَّ حروف الجرِّ يحسن إقامة بعضها مقام البعض. الصفة الرابعة: قوله: {والذين هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ} . يحتمل أن يكون من باب عطف الصفات، بمعنى أنَّهم جامعُون بين عدم رجاء لقاءِ الله وبين الغفلة عن الآياتِ، والمراد بالغفلة الإعراض، وأن يكون هذا الموصولُ غير الأولِ، فيكون عطفاً على اسم «إنَّ» ، أي: إنَّ الذين لا يَرْجُون، وإنَّ الذين هُمْ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 269 و «أولئك» مبتدأ، و «مَأواهُمُ» مبتدأ ثانٍ، و «النَّار» خبر هذا المبتدأ الثاني، والثاني وخبره خبر «أولئك» ، و «أولئك» وخبره خبر «إنَّ الذينَ» ، و «بِمَا كَانُوا» متعلِّقٌ بما تضمَّنتهُ الجملةُ من قوله: «مَأواهُمُ النَّارُ» والباءُ سببيَّةٌ، و «ما» مصدريةٌ، وجيء بالفعل بعدها مضارعاً دلالةً على استمرار ذلك في كلِّ زمان. وقال أبو البقاء: «إن الباء تتعلَّق بمحذوفٍ، أي: جُوزُوا بما كانُوا» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 270 قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية. لمَّا شرح أحوال المشركين ذكر أحوال المؤمنين، قال القفال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} أي: صدقُوا بقُلوبهم، ثم حَقَّقُوا التَّصديقَ بالعملش الصَّالحِ الذي جاءت به الأنبياء من عند الله. ثم ذكر بعد ذلك درجات كراماتهم فقال: {يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ} فقيل: يهديهم إلى الجنَّة ثواباً على إيمانهم وأعمالهم الصَّالحة، ويدلُّ عليه قوله - تعالى -: {يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} [الحديد: 12] ، وما روي أنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: «إنَّ المُؤمِنَ إذا خرج مِنْ قَبْرِهِ صوِّرَ لَهُ عملهُ في صُورةٍ حسنةٍ، فيقول لهُ: أنا عملك، فيكون له نُوراً وقائداً إلى الجنَّةِ، والكافر إذا خرج من قبرهِ صُوِّر لهُ عملهُ في صُورةٍ سيِّئةٍ، فيقول له: أنا عملُكَ، فينطلقُ به حتَّى يدخله النَّار» ، وقال مجاهد: المؤمنُ يكون له نُورٌ يَمْشِي به إلى الجنَّة. قال ابن الأنباري: إيمانهم يهديهم إلى خصائص المعرفة، ولوامع من النُّور تشرقُ بها قُلوبُهم، وتزول بواسطتها الشُّكُوك والشُّبهات، كقوله - تعالى -: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقُوَاهُمْ} [محمد: 17] وهذه الفوائدُ يجوزُ حصولها في الدُّنيا قبل الموت، ويجوز حصولها في الآخرة بعد الموت؛ قال القفال: وإذا حملنا الآية على هذا الوجه؛ كان المعنى: يهديهم ربُّهم بإيمانهم، وتجري من تحتهم الأنهار، إلاَّ أنَّه حذف الواو، وقيل: «تَجْرِي من تَحْتِهمْ» مُستأنفاص مُنقطعاً عمَّا قبله، ويجوز أن يكون حالاً من مفعول «يهديهم» . قوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار} المراد: أن يكونوا جالسين على سُرُرٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 270 مرفوعة في البساتين، والأنهار تجري من بين أيديهم، كقوله: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} [مريم: 24] ، وهي ما كانت قاعدة عليه بل المعنى: بين يديك، وكذا قوله: {وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا} [الزخرف: 51] أي: بين يدي، وقيل: {تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ} أي: بأمرهم. قوله: «فِي جَنَّاتِ» يجوز أن يتعلَّق ب «تَجْري» ، وأن يكون حالاً من «الأَنْهَار» ، وأن يكون خبراً بعد خبر ل «إنَّ» ، وأن يكون متعلِّقا ب «يَهْدِي» . قوله: «دَعْوَاهُمْ» مبتدأ، و «سُبْحانَكَ» معمول لفعل مقدَّر لا يجوز إظهاره هو الخبر، والخبرُ هنا هو نفسُ المبتدأ، والمعنى: أن دعاؤهم هذا اللفظ، ف «دَعْوَى» يجوزُ أن يكون بمعنى الدعاء، ويدلُّ عليه «اللَّهُمَّ» ؛ لأنَّه نداء في معنى يا الله، يقال: «دَعَا يَدْعُو دُعَاء ودَعْوَى» ، كما يقال: «شكى يَشْكُو شِكَايةً وشَكْوى» ، ويجوز أن يكون الدُّعاء هنا بمعنى العبادة، نظيره قوله تعالى: {وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [مريم: 48] أي: وما تعبدون، ف «دَعْوَى» : مصدرٌ مضاف للفاعل، ثم إن شئتَ أن تجعل هذا من باب الإسناد اللفظي، أي: دعاؤهُم في الجنَّة هذا اللفظُ بعينه، فيكون نفسُ «سُبْحانَكَ» هو الخبر، وجاء به مَحْكيّاً على نصبه بذلك الفعل، وإن شئتَ جعلتهُ من باب الإسناد المعنوي؛ فلا يلزمُ أن يقولوا هذا اللفظ فقط، بل يقولونه وما يؤدِّي معناه من جَميع صفات التنزيه والتَّقديس، وقد تقدَّم نظير هذا عند قوله تعالى: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [البقرة: 58] . وقيل: المراد من الدَّعْوَى: نفس الدَّعوى التي تكون للخَصْمِ على خَصْمِه. والمعنى: أنَّ أهل الجنَّة يعون في الدُّنيا وفي اآخرة تنزيه الله عن كل المعايب، والإقرار له بالإلهيَّة. قال القفال: وأصل ذلك من الدُّعاء، لأن الخصم يدعُو خصمهُ إلى من يحكم بينهما. قال أبو مسلم: «دَعْوَاهُمْ» أي: فعلهم وإقرارهم، ونداؤهُم هو قولهم «سُبْحَانَكَ اللهم» قال القاضي: «دَعْواهُمْ» أي: طريقتهم في تمجيد الله وتقديسه وشأنهم وسنَّتهم؛ لأنَّ قوله «سُبْحَانَكَ اللهم» ليس بدعاءٍ ولا بدعوى، إلاَّ أنَّ المُدَّعي للشيء يكون مواظباً على ذكره، لا جرم جعل لفظ «الدَّعْوى» كناية عن تلك المواظبة والملازمة. فأهلُ الجنَّة لمَّا كانُوا مواظبين على هذا الذكر، أطلق لفظ «الدَّعْوَى» عليهم، وقال القفال: قيل في قوله: {وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ} [يس: 57] أي: ما يتمنونهُ، والعرب تقول: ادع ما شئت عليّ أي: تمنّ ما شِئْتَ. وقال ابن جريج: أخبرت أن قوله {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم} : هو أنَّه إذا مرَّ بهم طيرٌ يشتهونه، قالوا: سبحانك اللَّهُمَّ، فيأتيهم الملك بذلك المشتهى. قال ابن الخطيب: «وفيه وجه آخر: وهو أن يكون المعنى: أنَّ تمنيهم في الجنَّة أن يسبحوا الله - تعالى -، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 271 أي: تمنيهم لما يتمنَّونهُ، ليس إلاَّ في تسبيح الله، وتقديسه، وتنزيهه» . قوله: «سُبْحَانَكَ اللهم» قال بعض المفسِّرين: إنَّ أهل الجنَّة جعلوا هذا الذِّكر علامة على طلب المشتهيات فيؤتَوْنَ بذلك المشتهى فإذا نالوا من شهرتهم، قالوا: {الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين} ، وضعف ابن الخطيبِ هذا من وجوهٍ: أحدها: أنَّ حاصل هذا الكلام يرجع إلى أنَّ أهل الجنَّة جعلوا هذا الذِّكر العالي المُقدَّس علامة على طلب المأكول والمنكوح، وهذا في غاية الخساسة. وثانيها: أنَّه - تعالى - قال في صفة أهل الجنة {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] ، فإذا اشتهوا أكل ذلك الطَّيْر، فلا حاجة بهم إلى الطَّلب، فسقط هذا الكلام. وثالثها: أنَّ هذا صرف للكلام عن ظاهره الشريف العالي، إلى محل خسيس لا إشعار للفظ به. وإنما المرادُ: أنَّ اشتغالَ أهل الجنَّة بتقديس الله - سبحانه -، وتحميده، والثناء عليه؛ لأنَّ سعادتهم، وابتهاجهم، وسرورهم بهذا الذِّكر. قال القاضي: إنَّه - تعالى - لمَّا وعد المتَّقين بالثَّواب العظيم، في قوله أوَّل السورة: {لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط} [يونس: 4] ، فإذا دخل أهلُ الجنَّة الجنَّة، ووجدوا تلك النعم العظيمة، عرفوا أن الله - تعالى - كان صادقاً في وعده إياهم بتلك النعم، فعند هذا قالوا: «سُبْحَانَكَ اللهم» أي: سبحانك من الخلف في الوعد، والكذب في القول. قوله: «وَتَحِيَّتُهُمْ» مبتدأ، و «سَلاَمٌ» خبره، وهو كالذي قبله، والمصدر هنا يحتمل أن يكون مضافاً لفاعله، أي: تحيَّتهم التي يُحيُّون بها بعضهم سلامٌ. ويحتمل أن يكون مضافاً لمفعوله، أي: تحيَّتهُم التي تُحَيِّيهم بها الملائكةُ سلامٌ؛ ويدلُّ له قوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23، 24] ، و «فيهَا» في الموضعين متعلقٌ بالمصدر قبله. وقيل: يجوز أن يكون حالاً ممَّا بعده، فيتعلَّق بمحذوفٍ، وليس بذاك، وقال بعضهم: يُحَيِّي بعضهم بعضاً، ويكون كقوله - تعالى -: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78] ، حيث أضافهُ ل «داود وسليمان» ، وهما الحاكما، وإلى المحكوم عليه، وهذا مبنيٌّ على مسألة أخرى، وهي أنَّه: هل يجوز الجمع بين الحقيقة والمجاز أم لا؟ . فإن قلنا: نعم، جاز ذلك، لأنَّ إضافة المصدر لفاعله حقيقةٌ، ولمفعوله مجاز، ومنْ منعَ ذلك، أجاب: بأنَّ أقلَّ الجمع اثنان، فلذلك قال: «لِحُكْمِهِمْ» . قوله: «وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ» مبتدأ، و «أنْ» : هي المخففة من الثَّقيلة، واسمها ضمير الأمر والشَّأن حذف، والجملةُ الاسمية بعدها في محلِّ الرفع خبراً لها؛ كقول الشَّاعر: [البسيط] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 272 2879 - فِي فِتْيَةٍ كسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ علمُوا ... أنْ هالكٌ كُلٌّ منْ يَحْفَى وينْتَعِلُ و «أن» واسمها وخبرها في محلِّ رفع خبراً للمبتدأ الأول، وزعم الجرجانيُّ: أن «أنْ» هنا زائدةٌ، والتقدير: وآخرُ دعواهم الحمدُ الله، وهي دعوى لا دليل عليها، مخالفةٌ لنص سيبويه والنحويِّين، وزعم المبرِّد أيضاً: أنَّ «أنْ» المخففة يجُوز إعمالها مخففة، كهي مشدَّدةً، وقد تقدَّم ذلك. وتخفيفُ «أنْ» ، ورفع «الحَمْدُ» هي قراءةُ العامة، وقرأ عكرمة، وأبو مجلز، وأبو حيوة، وقتادة، ومجاهد، وابن يعمر، وبلال بن أبي بردة، وابن محيصن ويعقوب بتشديدها، ونصب «الحَمْد» على أنَّهُ اسمها؛ وهذه تُؤيِّدُ أنَّها المخففةُ في قراءة العامَّة، وتردُّ على الجُرجاني، ومعنى الآية: أنَّ أهل الجنَّة يفتتحُون كلامهم بالتَّسبيحِ، ويختمُونَهُ بالتَّحْميدِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 273 قوله تعالى: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله ... } الآية. هذا الامتناعُ نفيٌ في المعنى، تقديره: لا يُعَجِّلُ الله لهم الشَّر، قال الزمخشري: «فإن قلت: كيف اتَّصل به قوله: {فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} ، وما معناها؟ قلت: قوله» وَلَوْ يُعَجِّلْ «متضمِّن معنى نفي التَّعجيلِ، كأنَّه قيل: ولا نُعَجِّل لهم بالشَّرِّ، ولا نقضي إليهم أجلهم» . قوله «استعجالهم» فيه أوجهٌ: أحدها: أنَّه منصوبٌ على المصدر التَّشبيهيِّ، تقديره: استعجالاً مثل استعجالهم، ثُمَّ حذف الموصوف، وهو «اسْتِعْجَال» ، وأقام صفته مقامه، وهي «مِثل» ، فبقي: ولو يعجِّل الله مثل استعجالهم، ثم حذف المضاف، وأقام المضاف إليه مقامه، قال مكِّي: «وهذا مذهبُ سيبويه» ، وقد تقدَّم مراراً أنَّ مذهب سيبويه في هذا، أنَّه منصوبٌ على الحالِ من ذلك المصدرِ المُقدَّرِ، وإن كان مشهورُ أقوالِ المُعْربين غيره، ففي نسبةِ ما ذكرناه أولاً لسيبويه نظرٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 273 والثاني: أن تقديره: تعجيلاً مثل استعجالهم، ثم فعل به ما تقدَّم قبله، وهذا تقديرُ أبي البقاء، فقدَّر المحذوف مطابقاً للفعل الذي قبلهُ؛ فإنَّ «تَعْجِيلاً» مصدر ل «عَجّلَ» ، وما ذكره مكِّي موافقٌ للمصدر الذي بعده. والذي يظهر؛ ما قدَّره أبو البقاء؛ لأنَّ موافقة الفعل أولى، ويكون قد شبَّه تعجيله تعالى باستعجالهم، بخلاف ما قدَّره مكِّ] ، فإنَّه لا يظهر؛ إذ ليس «اسْتِعْجَال» مصدراً ل «عَجَّل» ، وقال الزمخشري: «أصله: ولو يعجِّل الله للنَّاس الشرَّ تعجيله لهم الخير، فوضع» اسْتِعْجَالهُم بالخَيْرِ «موضع تعجيله لهم الخبرَ؛ إشعاراً بسُرعةِ إجابته لهُمْ وإسعافه بطلبهم، كأنَّ استعجالهُم بالخير تعجيلٌ لهُم» ، قال أبو حيَّان: «ومدلُولُ» عَجَّل «غير مدلول» اسْتَعْجَل «؛ لأنَّ» عَجَّل «يدلُّ على الوقوع، و» اسْتَعْجَل «يدلُّ على طلب التَّعجيل، وذلك واقعٌ من الله - تعالى -، وهذا مضافٌ إليهم، فلا يكون التقدير على ما قاله الزمخشري، فيحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون التقدير: تَعْجِيلاً مثل استعجالهم بالخير، فشبَّه التَّعجيل بالاستعجالِ؛ لأنَّ طلبهم للخَيْر، ووقوع تعجيله مقدَّمٌ عندهم على كلِّ شيء. والثاني: أن يكون ثمَّ محذوفٌ يدلُّ عليه المصدر تقديره: ولو يُعَجِّل اللهُ للنَّاسِ الشرَّ، إذا استعجلوا به اسْتعْجَالهُم بالخير؛ لأنَّهم كانوا يَسْتَعْجِلُون بالشرِّ ووقوعه على سبيل التَّهكم، كما كانُوا يَسْتعجلُون بالخير» . الثالث: أنَّه منصوبٌ على إسقاط الخافض، وهو كاف التَّشبيه، والتقدير: كاستعجالهم. قال أبُو البقاء: «وهو بعيدٌ؛ إذ لو جاز ذلك، لجاز» زيدٌ غلام عمرو «أي: كغلام عمرو» . وبهذا ضعَّفهُ جماعةٌ، وليس بتضعيفٍ صحيحٍ؛ إذ ليس في المثال الذي ذكر فعلٌ يتعدَّى بنفسه عند حذف الجارِّ، وفي الآية فعلٌ يَصِحُّ فيه ذلك، وهو قوله: «يُعَجل» ، وقال مكِّي: «ويَلزَمُ مَنْ يجُوِّز حذفَ حرفِ الجر منه، أن يُجيز» زيدٌ الأسدُ «، أي: كالأسد» . قال شهابُ الدِّين: «قوله: ويَلْزَمُ. . إلى آخره» ، لا رَدَّ فيه على هذا القائل، إذ يلتزمه، وهو التزامٌ صحيحٌ سائغٌ؛ إذ لا يُنكِرُ أحَدٌ «زيدٌ الأسد» ، على معنى: كالأسَد، وعلى تقدير التَّسليم، فالفرقُ ما ذكره أبو البقاء، أي: إنَّ الفعل يطلب مصدراً مُشَبَّهاً، فصار مدلُولاً عليه. وقال بعضهم: تقديره: في استعجالهم؛ نقله مكِّي، فلمَّا حذفت «في» انتصبَ، وهذا لا معنى له، وقال البغوي: المعنى «ولو يُعَجِّل الله إجابة دعائهم في الشرِّ والمكروه استعجالهم بالخير، أي: كما يحبُّون استعجالهم بالخير» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 274 وقال القرطبي: قال العلماء: التَّعجيلُ من الله، والاستعجال من العبدِ، وقال أبو عليّ: هُمَا من الله. فصل في كيفية النَّظم وجوه: أحدها: قال ابن الخطيب: «إنَّه ابتدَأ السورة بذكر شُبُهَاتِ المنكرينَ للنُّبوَّة مع الجواب عنها: فالشبهة الأولى: أنَّ القوم تعجَّبُوا من تخصيص الله محمداً بالنُّبوة، فأزال الله ذلك التعجُّب بقوله: {أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ} [يونس: 2] ، ثم ذكر دلائل التَّوحيد، ودلائل صحَّة المعاد. وحاصل الجواب أن يقول: إنِّي ما جئتُكُم إلاَّ بالتوحيد، والإقرار بالمعاد، وقد دَلَّلنا على صحتهما، فلمْ يَبْقَ للتعجُّب من نبوَّتِي معنى. والشبهة الثانية: أنَّهم كانوا يقولون: اللَّهُمَّ إن كان ما يقول محمدٌ حقاً في ادِّعاء النُّبوَّة والرٍِّسالة، فأمطر علينا حجارة من السَّماء، أو ائتِنَا بعذابٍ أليمٍ، فأجاب الله - تعالى - عن هذه الشبهة بهذه الآية. وثانيها: قال القاضي:» لمَّا بيَّن الله - تعالى - الوعْد والوعِيدَ، أتبعهُ بما يدلُّ على أن من حقِّهما، أن يتأخَّرا عن ههذ الحياة الدُّنيويَّة؛ لأنَّ حصولهما في الدُّنيا، كالمانع من بقاءِ التَّكليف. وثالثها: قال القفال: إنَّه لمَّا وصف الكفار بأنهم لا يرجون لقاء الله، ورضوا بالحياةِ الدُّنيا، واطمأنوا بها، وكانُوا عن آيات الله غافلين، بيَّن أنَّ من غفلتهم، أنَّ الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - متى أنذرهم استعجلوا العذاب جهلاً منهم وسفهاً. فصل أخبر - تعالى - في آيات كثيرة: أنَّ هؤلاء المشركين متى خُوفوا بنزول العذاب في الدُّنيا، استعجلوا ذلك العذاب، كقولهم: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] ، وقوله تعالى: {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} [المعارج: 1] الآية، ثم إنهم لما توعدوا بعذاب الآخرة في هذه الآية، بقوله {أولئك مَأْوَاهُمُ النار بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ} [يونس: 8] ، استعجلوا ذلك العذاب، وقالوا متى يحصل ذلك؟ كما قال - تعالى -: {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا} [الشورى: 18] ، وقال بعد هذه الآية، في هذه السورة: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 48] ؛ إلى قوله {الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} [يونس: 51] وقال - تعالى - في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 275 سورة الرعد: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات} [الرعد: 6] . فبيَّن - تعالى - أنه لا مصلحة في تعجيل إيصال الشرّ إليهم؛ لأنه - تعالى - لو أوصل ذلك إليهم لماتوا، لأن تركيبهم في الدنيا لا يحتمل ذلك ولا صلاح في إماتتهم، فربما آمنُوا بعد ذلك، أو خرج من صلبهم من يؤمن، وذلك يقتضي ألاَّ يُعَاجلهُم الله بإيصال الشرِّ إليهم. وسمى العذاب شرّاً؛ لأنه أذى في حقِّ المعاقب، كما سماه سيئة في قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} [الرعد: 6] ، وفي قوله: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] . والمراد من استعجالهم الخير: أنَّهم كانوا عند نزول الشدائد يدعون الله بكشفها؛ لقوله: {إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل: 53] ، {فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا} [الزمر: 49] . قوله: «لقُضِيَ» قرأ ابنُ عامر: «لقَضَى» بفتح القاف مبنياً للفاعل، «أجلهم» بالنصب مفعولاً، والباقون: بالضمِّ والكسر مبنياً للمفعول، «أجلهم» رفعاً لقيامه مقام الفاعل، وقرأ الأعمش، ويعقوب، وعبد الله: «لقَضَيْنَا» مسنداً لضمير المُعَظِّم نفسه، وهي مؤيِّدةٌ لقراءةِ ابنِ عامرِ. فصل معنى {لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ} أي: لفرغ من هلاكهم ولماتُوا جميعاً، وقيل: إنَّها نزلت في النَّضر بن الحارث، حين قال: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] الآية. قوله: {فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّه معطوفٌ على قوله: «ولوْ يُعجل اللهُ» ، على معنى أنَّه في قُوَّة النَّفي، وقد تقدَّم تحقيقه في سؤال الزمخشري، وجوابه فيه، إلاَّ أنَّ أبا البقاء ردَّ عطفه على «يُعَجِّلُ» ، فقال: «ولا يجُوزُ أن يكون معطوفاً على» يُعَجِّلُ «؛ إذ لو كان كذلك لدخل في الامتناع الذي تقتضيه» لَوْ «، وليس كذلك؛ لأنَّ التعجيل لم يقع، وتركهم في طغيانهم وقع» . قال شهاب الدِّين: «إنَّما يتمُّ هذا الرَّدُّ، لو كان معطوفاً على» يُعَجِّلُ «فقط، باقياً على معناه، وقد تقدَّم أنَّ الكلام صار في قُوَّة: لا نُعجل لهم الشَّرَّ: فنذرهم، فيكون» فَنَذَرُهُم «معطوفاً على جملة النَّفي، لا على الفعل الممتنع وحده، حتَّى يلزم ما قال» . والثاني: أنَّه معطوفٌ على جملةٍ مقدَّرة: أي: ولكن نمهلهم فنذر، قالهُ أبو البقاء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 276 والثالث: أن تكون جملة مستأنفة، أي: فنحنُ نذر الذين؛ قاله الحوفي. فصل المعنى: {فَنَذَرُ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا} : لا يخافون البعث، والحساب {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} . قال أهل السنة: إنَّه - تعالى - لمَّا حكم عليهم بالطُّغيان والعمه، امتنع أن لا يكونوا كذلك، وإلا لزم أن يَنْقَلِبَ خبر الله تعالى الصِّدق كذباً، وعلمهُ جهلاً، وحكمه باطلاً، وكلّ ذلك محالٌ. قوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر} : الجهد والشدة {دَعَانَا لِجَنبِهِ} أي: على جنبه مضطجعاً {أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} يريد في جميع حالاته؛ لأنَّ الإنسان لا يعدُو إحدى هذه الحالات، وفي كيفية النظم وجهان: الأول: أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية الأولى أنَّه لو أنزل العذاب على العبد في الدُّنيا، لهلك ولقُضِيَ عليه؛ فبيَّن في هذه الآية ما يدُلُّ على ضعفه، ونهاية عجزه؛ ليكون ذلك مؤكداً لما ذكره، من أنَّه لو أنزل عليه العذاب لمات. الثاني: أنه - تعالى - حكى عنهم: أنَّهُم يستعجلُون نُزُول العذاب، فبيَّن في هذه الآية، أنَّهم كاذبُون في ذلك الاستعجال؛ لأنَّه لو نزل بالإنسان أدنى شيء يُؤذيه، فإنَّه يتضرَّعُ في إزالته عنه، فدلَّ على أنَّهُ ليس صادقاً في هذا الطَّلب. قوله: «لِجَنْبِهِ» في محلِّ نصبٍ على الحال؛ ولذلك عطف الحال الصَّريحة عليه، والتقدير: دعانا مضطجعاً لجنبه، أو مُلْقياً لجنبه، واللاَّمُ على بابها عند البصريين، وزعم بعضهم: أنَّها بمعنى: «عَلَى» ، ولا حاجة إليه، واختلف في صاحب الحال: فقيل: الإنسان والعامل فيها «مسَّ» ، قاله ابن عطية، ونقله أبو البقاء عن غيره، واستضعفه من وجهين: أحدهما: أنَّ الحال على هذا واقعةٌ بعد جواب «إذا» ، وليس بالوجه، كأنه يعني: أنَّه ينبغي ألاَّ يجاب الشَّرطُ، إلاَّ إذا استوفى معمولاته، وهذه الحال معمولةٌ للشرط، وهو «مسَّ» ، وقد أجيب قبل أن يستوفي معموله. ثم قال: «والثاني: أن المعنى: كثرةُ دعائه في كلِّ أحواله، لا على أن الضُّرَّ يُصيبُهُ في كل أحواله، وعليه جاءت آياتٌ كثيرةٌ في القرآن» ، وقال أبو حيَّان: «وهذا الثاني يلزم فيه من مسِّه الضُّرَّ، دعاؤه في هذه الأحوال؛ لأنَّه جوابُ ما ذكرت فيه هذه الأحوال، فالقَيْدُ في الشرط قيدٌ في الجواب، كما تقول: إذا جاءنا زيدٌ فقيراً أحْسَنَّا إليه، فالمعنى، أحْسَنَّا إليه في حال فَقْرِه» . وقيل: صاحبُ الحال هو الضمير الفاعل في «دعانا» ، وهو واضحٌ، أي: دعانا في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 277 جميع أحواله؛ لأنَّ هذه الأحوال الثلاثة لا يخلو الإنسان عن واحدةٍ منها. فصل قيل: المراد ب «الإنسان» هنا: الكَافِر. وقيل: أبو حذيفة بن المغيرة، تصيبه البأساء والشدة والجهد، {دَعَانَا لِجَنبِهِ} أي: على جنبه مضطجعاً {أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً} وإنَّما أرادَ تسمية حالاته؛ لأنَّ الإنسانَ لا يعدُو هذه الحالات. وقيل: وإنَّما بدأ بالمضطجع؛ لأنَّه بالضُّر أشدّ في غالب الأمْرِ، فهو يدعُو أكثر، والاجتهاد فيه أشدّ، ثمَّ القاعد ثم القَائم. وقيل: المراد بالإنسان: الجنسُ، وهذه الأحوال بالنسبة إلى المجموع، أي: مِنْهم من يدعُو مُسْتلقياً، ومنهم مَنْ يدعُو قَائِماً، أو يرادُ به شخصٌ واحدٌ، جمع بين هذه الأحوال الثلاثة بحسب الأوقات، فيدعو في وقت على هذه الحال، وفي وقت على أخرى، والصحيحُ أنَّ المراد ب «الإنسان» : الجنس، وقال آخرون: كل موضع في القرآن ورد فيه ذكر الإنسان فالمراد به: الكافر، وهذا باطل؛ لقوله: {يا أيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاَقِيهِ فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} [الإنشقاق: 6، 7] لا شبهة في أنَّ المؤمنَ داخلٌ، وكذا قوله: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} [الإنسان: 1] ، وقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] ، {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ} [ق: 19] ، والحقُّ: أنَّ اللفظ المفرد، المحلَّى بالألف واللام، إن حصل معهودٌ سابقٌ، صرف إليه، وإن لم يحصل معهودٌ سابقٌ، حمل على الاستغراق صوناً له عن الإجمال والتَّعطيل، وقال صاحبُ النَّظْم: قوله {وَإِذَا مَسَّ الإنسان} وضعهُ للمستقبل، وقوله: {فَلَمَّا كَشَفْنَا} للماضي، فهذا النَّظْمُ يدلُّ على أنَّ معنى الآية يدل: على أنَّهُ كان هكذا فيما مضى، وهكذا يكون في المستقبل، فدل ما في الآية من الفعل المستقبل على ما فيه من المعنى المستقبل، وما فيه من الماضي، على الماضي «. قوله: {كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ} قد تقدَّم الكلامُ على مثل هذا، عند قوله: {كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ} [النساء: 73] ، تقديره: كأنَّه لم يدعنا، ثم أسقط الضمير تخفيفاً، كقوله تعالى {كَأَن لَّمْ يلبثوا} [يونس: 45] قال الزمخشري:» فحذف ضمير الشَّأن؛ كقوله: [الهزج] 2880 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... كأنْ ثَدْيَاهُ حُقَّانِ « يعني: على رواية من رواه» ثَدْيَاهُ «بالألف، ويروى:» كأن ثَدْيَيه «بالياء، على أنها أعملت في الظَّاهر، وهو شاذٌّ، وهذا البيت صدره: [الهزج] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 278 2881 - وَوجهٍ مُشْرقِ النَّحْرِ ... كَأنْ ثدْيَاهُ حقَّانِ وهذه الجملةُ التَّشبيهيَّةُ: في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل» مرَّ «، أي: مضى على طريقته، مشبهاً من لم يدعُ إلى كشف ضُرٍّ، و» مسَّهُ «صفةً ل» ضُرّ «، وقيل:» مَرَّ «عن موقف الابتهال والتضرُّع لا يرجع إليه، ونسي ما كان فيه من الجهدِ والبلاء، كأن لم يدعنا، ولم يطلُب منَّا كشف ضُرِّه. قوله: {كذلك زُيِّنَ} الكاف من» كذلِكَ «في موضع نصب على المصدر، أي: مثل ذلك التَّزيين والإعراض عن الابتهال، وفاعل» زُيِّنَ «المحذوف: إمَّا الله - تعالى -، وإمَّا الشيطان، و {مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} في محل رفع لقيامه مقام الفاعل، و» مَا «يجوز أن تكون مصدريَّة، وأن تكون بمعنى» الذي «. فصل قال أبو بكر الأصم: سُمّي الكافرُ مُسْرفاً؛ لأنَّه ضيَّع ماله ونفسه، أمَّا النَّفس، فإنه جعلها عبداً للوثن؛ وأمَّا المالُ؛ فلأنهم كانوا يُضَيِّعُون أموالهم في البحيرة، والسَّائبة، والوصيلة والحامِ. وقيل: من كانت عادتُه كثرة التضرُّع والدعاء، عند نزول البلاء، وعند زوال البلاء بعرضُ عن ذكرِ الله وعن شكره، يكون مُسْرِفاً في أمر دينه، وقال ابن الخطيب:» المُسرفُ هو الذي ينفقُ المال الكثير؛ لأجل الغرضِ الخسيس، ومعلومٌ أنَّ لذَّاتِ الدنيا وطيباتها خسيسةٌ جداً، في مقابلة سعادات الآخرة، والله - تعالى - أعطى الحواسَّ، والعقل والفهم، والقدرة، لاكتساب السعادات العظيمة الأخرويَّة، فمن بذل هذه الآلات العظيمة الشريفة؛ ليفوز بالسعادات الخسيسة، كان قد أنفق أشياء عظيمة؛ ليفوز بأشياء حقيرة؛ فوجب أن يكون من المسرفين «. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 279 قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ} الآية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 279 لما حكى عنهم أنَّهم كانوا يقولون: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً} [الأنفال: 32] الآية. وأجاب بأن ذكر أنَّه: لا صلاح في إجابة دعائهم، ثم بيَّن أنَّهم كانوا كاذبين في هذا الطلب؛ لأنَّه لو نزلت بهم آفةٌ، تضرَّعُوا إلى الله تعالى في إزالتها، بيَّن ههنا ما يجري مجرى التهديد: وهو أنَّه تعالى قد أنزل بهم عذاب الاستئصال ولا يزيله عنهم؛ ليكون ذلك رَادعاً لهم عن قولهم: {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ} [الأنفال: 32] ؛ لأنَّهم متى سمعُوا أنَّ الله قد يجيبُ دعاءهم، وينزل بهم عذاب الاستئصال، ثم سمعوا من اليهُود والنَّصارى، أنَّ ذلك قد وقع مراراً كثيرة، صار ذلك رَادِعاً عن ذكر هذا الكلام. قوله: «مِن قَبْلِكُمْ» متعلقٌ ب «أهْلَكْنَا» ، ولا يجوز أن يكون حالاً من «القُرُون» ؛ لأنَّه ظرف زمانٍ، فلا يقعُ حالاً عن الجثَّة، كما لا يقع خبراً عنها، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا أوَّل البقرة [البقرة: 21] ، وتقدم الكلامُ على «لمَّا» [البقرة: 17] ، قال الزمخشري: «لما» ظرف ل «أهْلَكْنَا» ، و «وَجَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم» يجوز أن يكون معطوفاً على «ظَلَمُوا» ، فلا محلَّ له عند سيبويه، ومحلُّه الجر عند غيره؛ لأنَّه عطف على ما هو في محلِّ جرِّ بإضافة الظرف إليه، ويجوز أن يكون في محلِّ نصب على الحال، أي: ظلمُوا بالتَّكذيب، وقد جاءتهُم رُسُلُهم بالحُجَجِ والشَّوَاهدِ على صدقهم. و «بالبَيِّنَاتِ» يجوز أن يتعلَّق ب «جَاءتْهُم» ، ويجوزُ أن يتعلَّقَ بمحذوفٍ، على أنَّه حالٌ من «رُسلهُمْ» ، أي: جاءُوا مُلتبسِين بالبيِّناتِ، مُصاحبين لها. قوله: «وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ» يجوز عطفه على «ظَلَمُوا» ، وهو الظَّاهرُ، وجوَّز الزمخشري أن يكون اعتراضاً قال: واللامُ لتأكيد نفي إيمانهم، ويعني بالاعتراض: كونه وقع بين الفعل، ومصدره التشبيهي في قوله: «كذلِكَ نَجْزِي» والضميرُ في «كانُوا» عائد على «القُرُون» ، وجوَّز مقاتلٌ: أن يكون ضمير أهل مكة، وعلى هذا يكونُ التفاتاً، إذ فيه خُرُوجٌ من ضمير الخطابِ في قوله: «قَبْلِكُمْ» ، إلى الغيبة، والمعنى: وما كنتم لتُؤمِنُوا. و «كذلِكَ» نعتٌ لمصدرٍ محذوف، أي: مثل ذلك الجزاء نجزي. وقرىء «يَجْزِي» بياء الغيبة؛ وهو التفاتٌ من التكلُّم في قوله: «أهْلَكْنَا» ، إلى الغيبةِ. قوله: «ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ» أي: خلفاء «فِي الأرض مِن بَعْدِهِم» أي: من بعد القرون التي أهلكناهم، وهذا خطابٌ للذين بعث إليهم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله: «لِنَنظُرَ» متعلق بالجعل، وقرأ يحيى الذماري بنون واحدة، وتشديد الظَّاء، وقال يحيى: «هكذا رأيتُه في مصحف عثمان» ، يعني: أنَّه رآها بنُون واحدة، ولا يعني أنَّهُ رآها مشددة؛ لأنَّ هذا الشَّكل الخاصَّ إنَّما حدث بعد عثمان، وخرجوها على إدغامِ النُّونِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 280 الثانية في الظَّاء، وهو رَدِيءٌ جداً، وأحسنُ ما يقال هنا: إنَّه بالغ في إخفاءِ غُنَّة النُّون السَّاكنة، فظنَّه السَّامع إدغاماً، ورؤيته له بنُونٍ واحدةٍ، لا يدلُّ على قراءته إيَّاه مشددة الظَّاءِ، ولا مُخَفَّفها. قال أبو حيان: «ولا يدلُّ على حذف النُّون من اللفظِ» وفيه نظرٌ؛ لأنه كيف يقرأ ما لم يكن مكتوباً في المصحف الذي رآه؟ وقوله: «كَيْفَ» منصوبٌ ب «تَعْملُون» على المصدر، أي: أيَّ عملٍ تعملُون، وهي معلِّقة للنَّظر. فإن قيل: كيف جاز النَّظرُ إلى الله تعالى وفيه معنى المقابلة؟ فالجواب: أنَّه استعير لفظُ النظرِ للعلم الحقيقيِّ، الذي لا يتطرَّقُ إليه الشَّكُّ، وشبه هذا العلم بنظرِ النظر، وعيان العاين. فإن قيل: قوله: «لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ» مُشْعرٌ بأنَّ الله - تعالى - ما كان عالماً بأحوالهم قبل وجودهم. فالجواب: أنَّه - تعالى - يعامل العباد معاملة من يطلب العلم بما يكون منهم؛ ليُجازيهُم بجنسه، كقوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود: 7] ، قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إنَّ الدُّنْيَا خضرةٌ حُلوةٌ وإنَّ الله مُستخْلفُكُمْ فيهَا فنَاظِرٌ كيف تعمَلُون» ، قال الزجاج: «موضع» كيف «نصب بقوله:» تَعْمَلُون «؛ لأنَّها حرف استفهام، والاستفهام لا يعمل فيه ما قبله» . قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} الآية. روي عن ابن عبَّاس: أن خمسة من الكفار كانوا يستهزءون بالرَّسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وبالقرآن: الوليدُ بن المغيرة المخزومي، والعاص بن وائل السهمي، والأسود بن المطلب، والأسود بن عبد يغوث، والحارث بن حنظلة، فقتل الله - تعالى - كل واحدٍ منهم بطريقٍ، كما قال: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين} [الحجر: 95] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 281 وقال مقاتل: هم خمسة: عبد الله بن أميَّة المخزومي، والوليد بن المغيرة، ومكرز بن حفص، وعمرو بن عبد الله بن أبي قيس العامري، والعاص بن عامر بن هشام، قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إن كنت تريد أن نؤمن بك، فأتِ بقرآنٍ ليس فيه تركُ عبادة اللاَّتِ، والعُزَّى، ومناة، وليسَ فيه عيبها، وإنْ لَمْ يُنْزلهُ الله، فقُلْ أنت من عند نفسك، أو بدله، فاجعل مكان آيةٍ عذابٍ آية رحمة، ومكان حرامٍ حلالاً، وحلال حراماً. فإن قيل: إذا بدَّل هذا القرآن فقد أتى بغير هذا القرآن، وإذا كان كذلك، كان كلُّ واحدٍ من هذين الأمرين هو نفس الآخر، وممَّا يدلُّ على أنَّ كلَّ واحدٍ منهما عين الآخر: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - اقتصر على الجواب بنفي أحدهما، فقال: «ما يكونُ لِي أنْ أبدِّلهُ مِنْ تِلْقاءِ نفْسِي إنْ أتَّبعُ إلاَّ ما يُوحَى إليَّ» ، فيكون التَّرديد فيه والتخيير باطلاً. فالجواب: أنَّ أحد الأمرين غيرُ الآخر، فالإتيان بكتاب آخر، لا على ترتيب هذا القرآن ولا على نظمه، يكون إتياناً بقرآن آخر، وأمَّا إذا أتى بهذا القرآن، إلاَّ أنَّه وضع مكان ذمِّ بعض الأشياء مدحها، ومكان آية رحمةٍ آية عذابٍ، كان هذا تبديلاً، أو تقول: الإتيان بقُرآن غير هذا، هو أن يأتيهم بكتاب آخر سوى هذا الكتاب، والتبديل: هو أن يُغيِّر هذا الكتاب، مع بقاء هذا الكتاب. وقوله: إنَّه اكتفى في الجواب بنفي أحد القسمين: قلنا: إنَّ الجواب المذكُور عن أحد القسمين، هو عينُ الجواب عن القسم الثاني، فاكتفى بذكر أحدهما عن الآخر؛ لأنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بيَّن، أنَّه لا يجُوز أن يُبدِّله من تلقاءِ نفسه؛ لأنَّه واردٌ من الله - تعالى -، ولا يقدر على مثله، كما لا يقدر على مثله سائر العرب؛ لأنَّ ذلك كان مُتقرراً عندهم، لمَّا تحدَّاهُم بالإتيانِ بمثله. واعلم: أنَّ التماسهُم لهذا يحتمل أن يكون سُخْريةً واستهزاءً، ويحتمل أن يكوّن ذلك على سبيل الجدِّ، ويكون غرضهم: أنه إن فعل ذلك، علمُوا كذبه في قوله: إنَّ هذا القرآن منزَّلٌ عليه من عند الله، ويحتمل أن يكون التماسهم كتاباً آخر؛ لأن هذا القرآن مشتملٌ على ذم آلهتهم، والطَّعن في طرائقهم، فطلبُوا كتاباً آخر ليس فيه ذلك، أو يكونوا قد جوَّزُوا كون القرآن من عند الله، لكنَّهُم التمسُوا منه نسخَ هذا القرآن، وتبديله بقرآن آخر. قوله: «تِلْقاءِ» مصدرٌ على تِفْعَال، ولم يجيءْ مصدر بكسر التَّاء، إلاَّ هذا والتِّبيان، وقُرِىء شاذّاً بفتح التَّاء، وهو قياسُ المصادر الدَّالة على التَّكرار، كالتَّطْواف، والتَّجوال، وقد يستعمل التِّلقاء بمعنى قُبالتُكَ، فينتصبُ انتصابَ الظُّرُوف المكانيَّة. قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} لمَّا أمرهُ أن يقول: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 282 نفسي} ، أمرهُ بأن يقُول: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ} فيما آمركم به، وأنهاكم عنه، وهذا يدلُّ على أنَّه لم يحكم قط بالاجتهاد. وتمسَّك نفاة القياس بهذه الآية؛ لأنَّها تدلَّ على أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ما حكم إلاَّ بالنَّصِّ. ثم قال: {إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} قالت المعتزلة: هذا مشروطٌ بعدم التوبة. قوله تعالى: {قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} الآية. لمَّا اتَّهمُوه بأنَّه أتى بهذا الكتاب من عند نفسه، احتجَّ عليهم بهذه الآية؛ وذلك بأنَّهم كانُوا عالمين بأحواله، وأنَّه ما طالع كتاباً، ولا تتلمَذ لأستاذ، ثم بعد أربعين سنة، أتى بهذا الكتاب العظيم المُشتَمل على نفائس علم الأصُول، ودقائق علم الأحكام، ولطائف علم الأخلاق، وأسرار قصص الأوَّلين، وعجز عن معارضته العلماء، والفُصحاء، والبُلغاء، فكل من له عقلٌ سليمٌ يعرف أنَّ مثل هذا، لا يحصُل إلاَّ بالوحْي، والإلهام من الله - تعالى -، والمعنى: لو شاء الله ما أنزل القرآن عليَّ. قوله: «وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ» أي ولا أعلمكم الله به، من دَريْتُ، أي: عَلِمْتُ. ويقال: دَرَيْتُ بكذا وأدْرَيْتُكَ بكذا، أي: أحطت به بطريق الدِّراية، وكذلك في «عَلِمْتُ به» ؛ فتضمَّن العلمُ معنى الإحاطة، فتعَدَّى تعْديتَهَا. وقرأ ابن كثير - بخلاف عن البزِّيِّ - «ولأدْرَاكم» ، بلام داخلة على «أدْرَاكم» مُثبتاً، والمعنى: ولأعْلِمكُم به من غير وساطتي: إمَّا بواسطة ملكٍ، أو رسولٍ غيري من البشر، ولكنَّه خَصَّنِي بهذه الفضيلةِ، وقراءةُ الجمهور «لا» فيها مُؤكَّدَةٌ؛ لأنَّ المعطوف على المنفيِّ منفيٌّ، وليست «لا» هذه هي التي يُنفى بها الفعلُ؛ لأنَّه لا يصحُّ نفي الفعل بها إذا وقع جواباً، والمعطوفُ على الجواب جوابٌ، ولو قلت: «ول كان كذا لا كان كذا» لم يجُزْ، بل تقول «ما كَانَ كذا» ، وقرأ ابنُ عبَّاس، والحسن، وابن سيرين، وأبو رجاء: «ولاَ أدْرَأكم» بهمزةٍ ساكنةٍ بعد الرَّاء، وفي هذه القراءة تخريجان: أحدهما: أنها مبدلةٌ من ألف، والألفُ منقلبةٌ عن ياءٍ، لانفتاحِ ما قبلها وهي لغةٌ لعقيلٍ حكاها قطرب، يقولون في أعطيتُك: أعطأتُك. وقال أبو حاتم: «قلب الحسنُ الياء ألفاً، كما في لغة بني الحرث، يقولون: علاكَ وإلاكَ، ثمَّ همز على لغة من قال في العالم: العألم» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 283 وقيل: أبدلتِ الهمزة من نفس الياء، نحو: لَبَأتُ بالحجِّ، ورثَأتُ فلاناً، أي: لَبَّيْتُ ورَثَيْتُ. والثاني: أنَّ الهمزة أصليَّة، وأنَّ اشتقاقه من الدَّرْء وهو الدَّفْع، كقوله: {وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب} [النور: 8] ، ويقال: أدْرَأته، أي: جعلته دَارئاً، والمعنى: ولأجعلنَّكم بتلاوته خُصماء تَدْرَؤونني بالجدال، قال أبُو البقاء: «وقيل هو غلط؛ لأنَّ قارئها ظَنَّ أنَّها من الدَّرْءِ وهو الدَّفْعُ؛ وقيل: ليس بغلطٍ، والمعنى: لو شاء اللهُ لدفعكم عن الإيمان به» . وقرأ شهر بن حوشب، والأعمش: «وَلاَأنذَرْتكُم» من الإنذار، وكذلك هي في مصحف عبد الله. قوله: «فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً» أي: حِيناً، وهو أربعون سنة، «مِّن قَبْلِهِ» أي: من قبل نُزُول القرآن، فقيل: الضَّمير في «قبلِه» يعود على النُّزول، وقيل: على القرآن، وقيل: على وقت النُّزُول، و «عُمُراً» مشبَّهٌ بظرف الزَّمان، فانتصب انتصابه، أي: مدة متطاولة، وقيل: هو على حذف مضافٍ، أي: مقدار عُمُر، وقرأ الأعمشُ: «عُمْراً» بسكون الميم، كقولهم «عَضْد» في «عَضُد» . ثم قال: «أَفَلاَ تَعْقِلُون» أنَّهُ ليس من قبلي، قال المفسِّرون: لبث النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم ومجدَّ وعظَّم فيهم قبل الوحْي أربعين سنة، ثم أوحي إليه، فأقام بمكَّة بعد الوحْي ثلاثة عشرة سنة، ثم هاجر إلى المدينة، فأقام بها عشر سنين، ثم تُوفي، وهو ابن ثلاث وستِّين سنة. وروى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنه أقام بمكَّة بعد الوحي عشر سنين، وبالمدينة عشر سنين، وتُوُفِّي وهو ابن ستين سنة، والأول أشهر وأظهر. قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} الآية. قال القرطبي: «هذا استفهامٌ بمعنى الجحد، أي: لا أحد أظلم ممَّن افترى على الله الكذب، وبدّل وأضاف شيئاً إليه ممَّا لم ينزل» ، والمعنى: أنَّ هذا القرآن لوْ لَمْ يكُن من عند الله، لما كان أحدٌ في الدُّنيا أظلم على نفسه منِّي، حيث افتريتُه على الله، ولمَّا أقمتُ الدَّليلَ على أنَّه ليس الأمر كذلك، بل هُو وحيٌ من الله - تعالى -، وجب أن يقال: إنَّه ليس في الدُّنيا أحد أجهل، ولا أظلم على نفسه منكم. والمقصود: نَفْي الكذب عن نفسه. وقوله: « ... أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ» فالمراد: إلحاق الوعيد الشديد بهم؛ حيث أنكروا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 284 دلائل الله - تعالى -، وكذَّبوا بآيات الله، وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وبالقرآن، ثم قال: «إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون» أي: لا يَنْجُو المشركُون، وهذا تأكيدٌ لما سبق من هذين الكلامين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 285 قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُمْ} الآية. لمَّا طلبُوا تبديل القرآن؛ لأنَّه مشتملٌ على ذمِّ الأصنامِ التي اتَّخذُوها آلهةً، ذكر في هذا الموضع قبح عبادة الأصنام، ليُبيِّنَ تحقيرَها. قوله: «مَا لاَ يَضُرُّهُمْ» : «ما» موصولةٌ، أو نكرةٌ موصوفةٌ، وهي واقعةٌ على الأصنامِ، ولذلك راعى لفظها، فأفرد في قوله «مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ» ، وراعى معناها فجمع في قوله: «هؤلاء شُفَعَاؤُنَا» . فصل المعنى: ما لا يضُرُّهُمْ إن عصوه، وتركُوا عبادته، ولا ينفعهم إن عبدوه، يعني: الأصنام {وَيَقُولُونَ هؤلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ الله} ، فقيل: إنَّهم اعتقدُوا أنَّ المُتولِّي لكل إقليم، روح معيَّن من أرواح الأفلاك، فعيَّنُوا لذلك الرُّوح صنماً معيَّناً، واشتغلوا بعبادة ذلك الصَّنَم، ومقصودهم عبادةُ ذلك الرُّوح، ثم اعتقدُوا أن ذلك الرُّوح، يكون عبداً للإله الأعظم، ومشتغلاً بعبوديَّته. وقيل: إنَّهم كانُوا يعبدُون الكواكب، فوضعُوا لها أصناماً مُعَيَّنة واشتغلوا بعبادتها، ومقصودُهُم عبادةُ الكواكبِ، وقيل: إنَّهم وضعُوا طلَّسْمَاتٍ معينةً على تلك الأوثان والأصنام، ثم تقرَّبوا إليها. وقيل: إنَّهُم وضعوا هذه الأوثان والأصنام، على صور أنبيائهم، وأكابرهم، وزعمُوا أنَّهُم متى اشتغلُوا بعبادةِ هذه التماثيل، فإنَّ أولئك الأكابر تكون شفعاء لهم عند الله. قوله: «قُلْ أَتُنَبِّئُونَ» قرأ بعضهم: «أتُنْبِئُونَ» مخففاً من «أنْبَأ» ، يقال: أنْبَأ ونَبَّأ كأخْبرَ وخبَّرَ، وقوله: «بِمَا لاَ يَعْلَمُ» «مَا» موصولةٌ، أو نكرة موصوفة كالتي تقدَّمت، وعلى كلا التقديرين: فالعائدُ محذوفٌ، أي: يعلمُهُ، والفاعلُ هو ضمير الباري - تعالى -، والمعنى: أتُنَبِّئُونَ الله بالمعنى الذي لا يعلمُهُ إلاَّ الله، وإذا لم يعلم الله شيئاً، استحال وجودُ ذلك الشيء؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 285 لأنَّه - تعالى - لا يغربُ عن علمه شيءٌ، وذلك الشيء هو الشَّفاعة، ف «مَا» عبارة عن الشفاعة. والمعنى: أنَّ الشَّفاعة لو كانت لعلمها الباري - تعالى -، ومثل هذا الكلام مشهورٌ في العرف، فإنَّ الإنسان إذا أراد نفي شيء عن نفسه، يقول: ما علم الله هذا منِّي، ومقصوده: أنَّ ذلكَ ما حصل أصلاً. وقوله: {فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} تأكيدٌ لنفيه؛ لأنَّ كلَّ موجودٍ لا يخرج عنهما. ويجوز أن تكون «مَا» عبارة عن الأصنام، وفاعل «يَعْلَمُ» : ضميرٌ عائدٌ عليها. والمعنى: أتُعلمون الله بالأصنامِ، التي لا تعلم شيئاً في السموات ولا في الأرض، وإذا ثبت أنها لا تعلم، فكيف تشفع؟ والشافع لا بدَّ وأن يعرف الشمفوع عنده، والمشفوع له؛ هكذا أعربه أبو حيَّان، فجعل «مَا» عبارة عن الأصنام، لا عن الشَّفاعة، والأول أظهر، و «مَا» في «عمَّا يُشْركُونَ» يحتمل أن تكون بمعنى: «الَّذي» أي: عن شركائهم الذين يشركونهم به في العبادة، أو مصدريةٌ، أي: عن إشراكهم به غيرهم، وقرأ الأخوان هنا «عمَّا يُشْرِكُونَ» ، وفي النَّحْل موضعين: الأول: {عَمَّا يُشْرِكُونَ يُنَزِّلُ الملاائكة} [النحل: 1، 2] . الثاني: {بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [النحل: 3] . وفي الروم: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُمْ مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم: 40] بتاء الخطاب، والباقون بالغيبة في الجميع، وهما واضحتان، وأتى هنا ب «يَشْرِكثونَ» مضارعاً دون الماضي، تنبيهاً على استمرار حالهم كما جاءُوا يعبدون، وتنبيهاً أيضاً على أنَّهم على الشرك في المستقبل، كما كانوا عليه في الماضي. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية. لمَّا أقامَ الدَّلالة على فسادِ القول بعبادة الأصنام؛ بيَّن السَّبب في كيفية حدوث هذه المسألة الباطلة، فقال: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي: على الدِّين الحقِّ؛ لأن المقصود من هذه الآية، بيان كون الكفر باطلاً؛ لأنَّ قوله: {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} [البقرة: 213] في الإسلام أو في الكفر، ولا يجوزُ أن يكونوا أمَّةً واحدة في الكفر، فبقي أنَّهُم كانوا أمَّة واحدة في الإسلام، لقوله - تعالى -: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} [النساء: 41] ، وشهيدُ الله لا بدَّ وأن يكون مُؤمناً، فثبت أنَّهُ لم تخل أمَّة من الأممِ، إلا وفيهم مؤمنٌ. وقد وردت الأحاديث، بأنَّ الأرض لا تخلُو عمَّن يعبد الله - عزَّ وجلَّ -، وعن أقوام بهم يمطرُ أهل الأرض، فثبت أنَّهُم ما كانُوا أمَّة واحدة في الكفر، فيكونوا أمَّة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 286 واحدة في الإيمان، ثم اختلفوا أنهم متى كانوا كذلك؟ فقال ابن عباس، ومجاهد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كانوا على عهد آدمَ وولده صلوات الله البرِّ الرحيم والملائكة المقربين عليهما وسلامه دائماً، واختلفوا عند قتل أحد ابنيه للآخر. وقيل إنَّهم بقُوا على الإيمان إلى زمن نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ثم اختلفوا على عهد نوح، فبعث الله إليهم نُوحاً. وقيل: كانُوا على الإيمان من زمن نُوح بعد الغرق، إلى أن ظهر الكفر فيهم. وقيل: كانُوا على الإسلام من عهد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إلى أن غيَّره عمرو بن لحيّ. وهذا القائل قال: إنَّ المراد بالنَّاس: العرب خاصَّة، والغرض منه: أنَّ العرب إذا علمُوا أنَّ عبادة الأصنام ما كانت أصلاً فيهم، وإنَّما هي حادثةٌ، لم يتأذوا من تزييفِ الطريقة، ولم تنفُر طباعهم من إبطال هذا المذهب الفاسد. وقال قوم: كانوا أمَّةً واحدة في الكفر، قالوا: وفائدة هذا الكلام: أنَّه - سبحانه وتعالى - جل ذكره - بيَّن للرسول - صلوات الله وسلامه عليه -، أنَّه لا تطمع في أن يصير كلُّ من تدعُوه إلى الدِّين مجيباً له، فإنَّ الناس كانُوا على الكفر، وإنَّما حدث الإسلام في بعضهم بعد ذلك، فيكف تطمعُ في اتِّفاق الكلِّ على الإيمان؟ . وقيل: المرادُ بكونهم أمَّةً واحدةً: أنَّهم خلقوا على فطرة الإسلام، ثم اختلفوا في الأديان، وإليه الإشارة بقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «كلّ مولُودٍ يُولَدُ على فِطْرَةِ الإسلام، فأبَواهُ يُهَوِّدَانهِ أو يُنَصِّرانِهِ أو يُمَجِّسَانِهِ» . ثم قال: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} مضت في حكمه، أنَّه لا يقضي بينهم فيما اختلفُوا فيه بالثَّواب والعقاب دون القيامة، «لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ» في الدنيا، فأدخل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 287 المُؤمن الجنَّة، والكافر النَّار، ولكن سبق من الله الأجل، فجعل موعدهم يوم القيامة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 288 قوله: «وَيَقُولُونَ» أي: كفَّار مكَّة، «لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ» أي: على محمَّد «آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ» على ما نقترحُه، وذلك أنَّهم قالوا: القرآن الذي جئنا به كتابٌ مشتملٌ على أنواع من الكلمات، والكتاب لا يكون معجزاً، كما أنَّ كتابَ موسى، وعيسى ما كان معجزاً لهما، بل كان لهما أنواع من المعجزات، دلَّت على نُبُوَّتهما سوى الكتاب، وكان في أهْل مكَّة من يدَّعي إمكان المعارضة، كما أخبر الله - تعالى - عنهم في قوله: {لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا إِنْ هاذآ} [الأنفال: 31] . فلذلك طلبُوا منه شيئاً آخر سوى القرآن؛ ليكون معجزاً، فأمر الله - تبارك وتعالى رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بأن يجيبهم بقوله: {إِنَّمَا الغيب للَّهِ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} [يونس: 20] . وتقريرُ هذا الجواب: أنه أقام الدلالة القاهرة على أنَّ القرآن معجزةٌ قاهرةٌ؛ لأنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - نشأ بينهُم، وعلموا أنَّهُ لم يُطالِعْ كتاباً، ولا تتلمذ لأستاذ، مدَّة أربعين سنة مُخالطاً لهُم، ولم يشتغل بالفِكْرِ والتَّعلم قط، ثم إنَّه أظهر هذا القرآن العظيم، وظهورُ مثل هذا الكتاب على مثل ذلك الإنسان، لا يكونُ إلاَّ بالوحي، وإذا كان كذلك، فطلب آية أخرى سوى القرآن يكون اقتراحاً لا حاجة إليه وعناداً، ومثل هذا يكون مُفَوَّضاً إلى مشيئة الله - تعالى -، فإن شاء أظهر، وإن شاء لم يظهر، فيكون من باب الغيب، فيجبُ على كلِّ أحدٍ أن ينتظر، هل يفعله الله أم لا؟ ولكن سواء فعل أم لم يفعل فقد ثبت نُبُوَّتُه، وظهر صدقُه، وهذا المقصُود لا يختلف بحُصُول تلك الزِّيادة وعدمها. قوله تعالى: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً} الآية. وهذا جوابٌ آخر لسُؤالهم، وطلبهم المعجزة، وذلك من وجهين: الأول: أنَّ عادتهُم العناد، والمكر، وعدم الإنصاف، فبتقدير أن يعطوا ما سألوه، فإنهم لا يُؤمنون، بل يبقون على كفرهم، وعنادهم؛ وبيانه أنَّ الله - تعالى - سلَّط القَحْط على أهل مكَّة سبع سنين، ثمَّ رحمهم، وأنزل المطر على أراضيهم، ثم إنَّهم أضافُوا المنافع إلى الأنواء والكواكب. الوجه الثاني: أنَّه لو أنزل عليهم المعجز لم يقبلُوه؛ لأنَّه ليس غرضهم من هذه الاقتراحات التَّشدد في الدِّين، وإنما غرضُهُم الدَّفع، والمبالغة في صون مناصبهم الدنيويَّة؛ لأنَّه - تعالى - لمَّا سلَّط البلاء عليهم، ثم أزالهُ عنهم، فهم مع ذلك استمرُّوا على الكُفْر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 288 قوله: «وَإِذَآ أَذَقْنَا» شرطيَّةٌ؛ جوابها «إذا» الفُجائيَّةُ في قوله: «إذا لهُم مكرٌ» ، والعاملُ في «إذَا» الفُجائيَّة؛ الاستقرارُ الذي في «لَهُمْ» ، وقد تقدَّم الخلافُ في «إذَا» هذه، هَلْ هِيَ حرفٌ أو ظرفُ زمان على بابها، أو ظرفُ مكان؟ قال أبو البقاءِ: «وقيل:» إذا «الثانية زمانيَّة أيضاً، والثانية وما بعدها جواب الأولى» ، وهذا الذي حكاهُ قولٌ ساقطٌ لا يفهم معناه. فصل معنى الآية: {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس} يعني: الكفار {رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ} أي: راحة ورخاء من بعد شدة وبلاء. وقيل: القطر بعد القحط، «مَسَّتْهُمْ» أي: أصابتهُم. واعلم: أنَّ رحمة الله لا تُذاق بالفَمِ، وإنَّما تُذاق بالعقْلِ. وقوله {إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا} قال مجاهد: تكذيب واستهزاء، وسُمِّي التكذيبُ مكراً؛ لأنَّ المكر عبارةٌ عن صرف الشَّيءِ عن ظاهره بطريق الحيلة، وهؤلاء يحتالُون لدفع آيات الله - سبحانه وتعالى - بكل ما يقدرون عليه من إلقاء الشُّبْهَة، أو التَّخْليط في المناظرة، أو غير ذلك من الأمور الفاسدة. وقال مقاتل: لا يقولون هذا من رزق الله، إنَّما يقولون سُقِينَا بِنَوء كذا، وهو كقوله: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 82] . وقوله: «في آيَاتِنَا» متعلقٌ ب «مَكْرٌ» ، جعل الآيات محلاًّ للمكر مبالغة، ويضعف أن يكون الجارُّ صفةً ل «مَكْرٌ» . قوله: {قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً} «أسرَعُ» مأخوذٌ من «سَرُعَ» ثلاثياً؛ حكاه الفارسي. وقيل: بل مِنْ «أسْرَع» وفي بناء أفعل وفِعْلى التعجُّب من «أفعل» ثلاثةُ مذاهب: الجواز مطلقاً. المنع مطلقاً. التَّفصيلُ: بين أن تكون الهمزةُ للتَّعدية فيمتنع، أو لا فيجوز. وقال بعضهم: «أسْرَعُ» هنا ليست للتفضيل. وهذا ليس بشيءٍ، إذ السِّياق يردُّه، وجعله ابن عطيَّة - أعني كون أسرع للتَّفضيل - نظير قوله: «لَهِي أسودُ مِنَ» قال أبو حيَّان: «وأما تنظيرُهُ» «أسود من القَار» ب «أسْرَع» ففاسد؛ لأنَّ «أسْوَد» ليس الجزء: 10 ¦ الصفحة: 289 فعلهُ على وزن «أفْعَل» ، وإنما هو على وزن «فَعِل» نحو: سَوِد فهو أسْود، ولم يمتنع التَّعجُّب، ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو: سَوِدَ، وحَمِرَ، وأدِمَ، إلاَّ لكونه لوناًن وقد أجاز ذلك بعضُ الكوفيين في الألوان مطلقاً، وبعضهم في السَّواد والبياض فقط «. قال شهاب الدِّين: تنظيره به ليس بفاسدٍ؛ لأنَّ مراده بناءُ أفعل ممَّا زاد على ثلاثة أحرُف، وإن لم يكن على وزن» أفْعَل «، و» سَوِد «وإن كان على ثلاثةٍ، لكنه في معنى الزَّائد على ثلاثة، إذ هو في معنى» أسْوَد «، و» حَمِرَ «في معنى أحْمَر؛ نصَّ على ذلك النحويُّون، وجعلوه هو العلَّة المانعة من التعجُّب في الألوان. و» مَكْراً «نصبٌ على التَّمييز، وهو واجبُ النَّصب؛ لأنَّكَ لو صُغْتَ من» أفْعَل «فعلاً، وأسندته إلى تمييزه فاعلاً، لصحَّ أن يقال:» سَرُع مَكْرُه «، وأيضاً فإنَّ شرط جواز الخفضِ، صِدْقُ التمييز على موصوفِ أفعل التَّفضيل، نحو:» زيدٌ أحسنُ فقيهٍ «، ومعنى» أسْرَعُ مَكْراً «: أعجل عُقُوبة، وأشدُّ أخذاً، وأقدر على الجزاء، أي: عذابه أسرع إليكم ممَّا يأتي منكم في دفع الحقِّ. قوله: {إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ} قرأ الحسن، وقتادة، ومجاهد، والأعرج، ويعقوب، ونافع - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - في رواية: «يَمْكُرُوْنَ» بياء الغيبة جرياً على ما سبق، والباقون بالخطاب: مبالغة في الإعلام بمكرهم، والتفاتاً لقوله: «قُلِ اللهُ» ؛ إذ التقدير: قُلْ لهُمْ، فناسب الخطاب، وقوله: «إنَّ رُسُلنَا» التفاتٌ أيضاً، إذ لو جرى على قوله: «قُلِ اللهُ» ، لقيل: إنَّ رسله، والمراد بالرُّسل: الحفظة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 290 قوله تعالى: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر} الآية. لمَّا ذكر في الآيةِ الأولى، مجيء الرَّحمة بعد الضرِّ، أو الرَّخاء بعد الشدَّة، ذكر في هذه الآية مثالاً لذلك، وبياناً لنقل الإنسان من الضرِّ إلى الرحمة، وذلك أنَّ الإنسان إذا ركب السَّفينة، ووجد الرِّيح الطيبة الموافقة لمقصوده، حصل له المسرَّة القويَّة، والنَّفْع التَّام، ثم قد تظهرُ علامات الهلاك؛ بأنْ تجيئهم الرِّياح العاصفة، أو تأتيهم الأمواج الجزء: 10 ¦ الصفحة: 290 العظيمة من كل جانبٍ، أو يغلب على ظنونهم أنَّ الهلاكَ واقعٌ بالانتقال من تلك الأحوال الطيِّبة، إلى هذه الأحوال الشديدة، فوجب الخوفُ العظيمُ، والإنسان في هذه الحالة، لا يطمعُ إلا في فضْلِ الله - سبحانه وتعالى -، ويقطع طعمهُ عن جيمع الخلق، ويصير بجميع أجزائه مُتضرِّعاً إلى الله - تعالى -، ثُمَّ إذا نجَّاهُ الله - تعالى - من هذه البليَّة العظيمة، نسي النِّعمة، ورجع إلى ما ألفهُ من العقائد الباطلةِ. قوله: «يَنْشُركم» قراءةُ ابن عامر من النَّشْرِ ضدَّ الطيّ، والمعنى: يُفَرِّقكم ويَبُثُّكُم، وقرأ الحسن: «يَنْشِركُم» من «أنْشَر» ، أي: أحْيَا، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً، وقرأ بعضُ الشَّاميين: «يُنَشِّركم» بالتشديد؛ للتَّكثير من النَّشْر الذي هو مطاوع الانتشار، وقرأ الباقون: «يُسَيِّركُم» من التَّسْييرِ، والتَّضعيفُ فيه للتعدية، تقول: سَارَ الرَّجُل، وسيَّرْتُهُ أنَا. وقال الفارسيُّ: «هو تَضْعيفُ مُبَالغةٍ لا تضعيفُ تعديةٍ؛ لأنَّ العرب تقول: سِرْتُ الرَّجُلَ وسيَّرته» . ومنه قول الهُذليِّ: [الطويل] 2882 - فَلا تَجْزَعَنْ مِنْ سُنَّةٍ أنْتَ سِرْتَهَا ... فأوَّلُ رَاضٍ سُنَّةً مَنْ يَسِيرُهَا وهذا الذي قالهُ أبو علي غير ظاهر؛ لأنَّ الأكثر في لسان العرب، أنَّ «سار» قاصرٌ، فجعلُ المضعف مأخوذاً من الكثير أولى. وقال ابن عطيَّة: «وَعَلى هذا البيت اعتراضٌ، حتَّى لا يكون شاهداً في هذا؛ وهو أن يكون الضَّمير كالظرف كما تقول: سِرْتُ الطريق» . قال أبو حيَّان: «وأمَّا جعلُ ابن عطيَّة الضَّميرَ كالظَّرفِ كما تقول: سِرْتُ الطَّريقَ. فهذا لا يجوزُ عند الجمهور؛ لأنَّ» الطَّريق «عندهم ظرفٌ مختصٌّ كالدَّار، فلا يصلُ إليها الفعلُ غير» دَخَلتُ «عند سيبويه، و» انطلقتُ «و» ذَهَبْتُ «عند الفرَّاء - إلاَّ بوساطة» في «، إلاَّ في ضرورة، وإن كان كذلك فضميرهُ أحرى أن لا يتعدَّى إليه الفعل» . وزعم ابنُ الطَّراوةِ أنَّ «الطَّريقَ» ظرفٌ غيرُ مختصٍّ، فيصلُ إليه الفعلُ بنفسه، وأباهُ النُّحَاة «. قوله:» حتى إِذَا «» حتَّى «متعلقةٌ ب» يُسَيِّركم «، وقد تقدَّم الكلامُ على» حتَّى «هذه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 291 الداخلة على» إذَا « [النساء: 6] ، قال الزمخشري:» كيف جعل الكونَ في الفُلكِ غاية التَّسيير في البَحْر، والتَّسييرُ في البَحْر، إنَّما هو بالكون في الفلك؟ قلت: لَمْ يجعلِ الكون في الفلكِ غاية التَّسيير، ولكنَّ مضمونَ الجملةِ الشرطيةِ الواقعةِ بعد «حتَّى» بما في حيِّزها، كأنَّه قال: يُسَيِّركُم حتَّى إذا وقعت هذه الحادثةُ، فكان كيت وكيت من مجيء الرِّيح العاصفِ، وتراكُم الأمواج، والظَّن للهلاك، والدُّعاء بالإنجاء «، وقرأ أبو الدَّرْدَاء وأمُّ الدرداء:» في الفُلْكِيّ «بياء النَّسب، وتخريجها يحتمل وجهين: أحدهما: أن يراد به الماءُ الغَمْرُ الكثيرُ، الذي لا يجري الفلكُ إلاَّ فيه، كأنَّه قيل: كنتم في اللُّجِّ الفلكيِّ، ويكون الضمير في» جَرَيْنَ «عائداً على الفلك؛ لدلالةِ» الفُلْكي «عليه لفظاً، ولزوماً. والثاني: أن يكون من باب النِّسبةِ، كقولهم: «أحْمَرِيٌّ» ، كقوله: [الرجز] 2883 - أطَرَباً وأنتَ قِنَّسْرِيُّ ... والدَّهْرُ بالإنسَانِ دَوَّارِيُّ وكنسبتهم إلى العلم، في قولهم: «الصَّلتَانيّ» ، كقوله: [الطويل] 2884 - أنَا الصَّلتانِيُّ الذي قَدْ عَلِمْتُمُ ..... ... ... ... ... ... ... ... . فزاد ياء النَّسب في اسمه. قوله: «وجَريْنَ» يجُوزُ أن يكون نسقاً على «كُنْتُم» ، وأن يكون حالاً على إضمار «قَدْ» ، والضمير عائدٌ على «الفُلْكِ» ، والمراد به هنا: الجمع، وقد تقدَّم أنه تكسير، وأنَّ تغييره تقديريٌّ [البقرة: 164] ، فضمَّتُه كضمَّةِ «بُدْن» ، وأنَّهُ ليس باسم جمع كما زعم الأخفشُ. وقوله: «بِهِمْ» فيه التفاتٌ من الخطاب إلى الغيبة. قال الزمخشري: «فإن قلت ما فائدةُ صرف الكلامِ، عن الخطابِ إلى الغيبةِ؟ قلت: المبالغةُ؛ كأنه يذكُرُ لغيرهم حالهُ ليُعَجِّبَهم منها، ويستدعي منهم الإنكارَ والتَّقبيحَ» ، وقال ابنُ عطيَّة: «بِهِمْ: خروجٌ من الخطاب إلى الغَيْبَة، وحسُنَ ذلك؛ لأنَّ قوله:» كُنتُمْ في الفُلْكِ «هو بالمعنى المعقُول، حتى إذا حصل بعضكم في السُّفُن» . انتهى، فقدَّر اسماً غائباً، وهو ذلك المضافُ المحذوف، فالضميرُ الغائب يعود عليه، ومثله {أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 292 بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ} [النور: 40] ، تقديره: أو كذي ظُلُمات، وعلى هذا فليس من الالتفات في شيءٍ. وقال أبو حيَّان: «والذي يظهر أنَّ حكمةَ الالتفاتِ هنا: هي أنَّ قوله {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ} خطابٌ فيه امتنانٌ، وإظهارُ نعمةٍ للمخاطبين، والمُسَيَّرون في البَرِّ والبَحْر مؤمنون وكُفَّار، والخطابُ شاملٌ، فحسُنَ خطابُهُم بذلك، ليستديمَ الصَّالحُ على الشُّكْر، ولعلَّ الطَّالحَ يتذكَّرُ هذه النّعْمَة. ولمَّا كان في آخر الآية ما يقتضي أنَّهم إذا نجوا بغَوا في الأرض، عدلَ عن خطابهم بذلك إلى الغَيْبة؛ لئلاَّ يخاطب المؤمنين بما لا يليقُ صُدُورُه منهم، وهو البغيُ بغير الحقِّ» . قوله: «بريحٍ» متعلِّقٌ ب «جَرَيْنَ» ، فيقال: كيف يتعدَّى فعلٌ واحدٌ، إلى معمولين بحرف جرٍّ متحدٍ لفظاً ومعنًى؟ فالجوابُ: أنَّ الياءَ الأولى للتَّعدية، كهي في «مَرَرْتُ بزَيْدٍ» ، والثانية للحالِ، فتتعلق بمحذُوف، والتقدير: جريْنَ بهم مُلتبسةً بريحٍ، فتكونُ الحالُ من ضميرِ الفُلْكِ. قوله: «وَفَرِحُواْ بِهَا» يجُوزُ أن تكون هذه الجملةُ نسقاً على «جَرَيْنَ» ، وأن تكُون حالاً، و «قد» معها مُضْمَرةٌ عند بعضهم، أي: وقد فَرِحَوا، وصاحبُ الحَالِ الضَّمير في «بِهِمْ» . قوله: «جَآءَتْهَا» الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة الفعليَّة جواب «إِذَا» ، وأنَّ الضمير في «جَاءَتْهَا» ضميرُ الرِّيح الطيِّبة، أي: جاءتِ الريحَ الطَّيبةَ ريحٌ عاصفٌ، أي: خَلَفْتْهَا، وبهذا بدأ الزمخشري، وسبقه إليه الفرَّاء وجوَّز أن يكون الضميرُ للفلك، ورجَّح هذا بأنَّ الفلك هو المُحَدَّث عنه. قوله: «وظَنُّوا» يجُوزُ أن يكون معطوفاً على «جَاءَتْهَا» ، الذي هو جوابُ «إذَا» ، ويجوز أن يكون معطوفاً على «كُنتُمْ» ، وهو قولُ الطبري؛ ولذلك قال: وظَنُّوا جوابه «دعوُا الله» . قال أبو حيَّان: «ظاهرُه العطفُ على جواب» إذَا «، لا أنَّه معطوفٌ على كُنتُمْ، لكنَّه محتمل، كما تقول:» إذا زَارك فلان أكرمهُ، وجاءكَ خالدٌ فأحسن إليه «، وكأنَّ أداةَ الشَّرطِ مذكورةٌ» . وقرأ زيد بن علي: «حِيطَ» ثلاثيّاً. قوله: «دَعَوُاْ الله» قال أبو البقاء: «هو جوابُ ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشَّرطِ، تقديره: لمَّا ظنُّوا أنَّهُم أحيط بهم دعوُا الله» ، وهذا كلامٌ فارغٌ، وقال الزمخشري: «هي بدلٌ من» ظَنُّوا «؛ لأنَّ دعاءهم من لوازم ظنِّهم الهلاكَ، فهو مُتلبسٌ به» ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 293 ونقل أبو حيَّان عن شيخه أبي جعفر: «أنَّه جوابٌ لسُؤال مقدَّر، كأنَّه قيل: فماذا كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل: دَعَوا الله» ، وهذا نقله ابنُ الخطيب عن بعضهم، و «مُخْلِصينَ» حال، و «لَهُ» متعلِّقٌ به، و «الدِّينَ» مفعوله. قوله: «لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا» : اللاَّمُ: موطئةٌ للقسم المحذوف، و «لنَكُونَنَّ» : جوابه، والقسمُ وجوابُهُ: في محلِّ نصب بقول مقدَّر، وذلك القولُ المقدَّر: في محلِّ نصبٍ على الحالِ، والتقديرُ: دعوا قائلين: لَئِن أنْجَيتنَا من هذه لنكُوننَّ، ويجوزُ أن يجرى «دعَوا» مجرى «قالُوا» لأنَّ الدُّعَاء والقول بمعنى؛ إذ هو نوعٌ من أنواعه، وهو مذهبٌ كوفيٌّ. قوله: «إِذَا هُمْ يَبْغُونَ» : جوابُ «لمَّا» ، وهي «إذَا» الفُجائيَّة، وقوله: «بِغَيْرِ الحق» : حالٌ، أي: ملتبسين بغير الحقِّ، قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى قوله:» بِغَيْرِ الحقِّ «والبغيُ لا يكون بحقٍّ؟ قلت: بلى، وهو استيلاءُ المسلمين على أرض الكُفَّار، وهدْمُ دُورهم، وإحراقُ زُرُوعهم، وقطع أشجارهم، كما فعل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ببني قريظة» ، وكان قد فسَّر البغي بالفساد، والإمعان فيه، مِن «بَغَى الجرحُ: إذا ترامى للفساد» . ولذلك قال الزجاج: «إنّه الترقِّي في الفساد» ، وقال الأصمعي أيضاً: «بَغَى الجرحُ: ترقَّى إلى الفساد، وبغتِ المرأةُ: فجرت» . قال أبو حيَّان: «ولا يصِحُّ أن يقال في المسلمين، إنَّهُم باغُون على الكفرة، إلاَّ إن ذكر أنَّ أصل البغي، هو الطلبُ مطلقاً، ولا يتضمَّن الفساد، فيحينئذٍ ينقسم إلى: طلبٍ بحقٍّ، وطلبٍ بغير حقٍّ» . قال الواحدي: «وأصلُ البغي: الطلب» ، وقد تقدم أنَّ هذه الآي، ترُدُّ على الفارسي، أنَّ «لمَّا» ظرف بمعنى «حين» ؛ لأنَّ ما بعد «إذَا» الفُجائيَّة، لا يعمل فيما قبلها، وإذا قد فرض كون «لمَّا» ظرفاً لزم أن يكون لها عاملٌ «. فصل دلَّت هذه الآية: على أن فعل العبد خلق لله - تعالى -؛ لأنَّه قال:» يُسَيِّركُمْ «، وقال: {قُلْ سِيرُواْ} [الأنعام: 11] وهذا يدل على أن سيرهم منهم، ومن الله، فيكون كسباً لهم وخلقاً لله. ونظيره قوله - تعالى -: {كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق} [الأنفال: 5] وقال في آيةٍ أخرى: {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ} [التوبة: 40] ، وقوله {وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى} [النجم: 43] ، مع قوله: {فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً} [التوبة: 82] ، قال القفال:» هو الذي يسيركم في البرِّ والبحْرِ؛ أي: هو الهادي لكم إلى السَّيْرِ في البحر والبر، طلباً للمعاش، وهو المسير لكم؛ لأنَّه هيَّأ لكم أسباب ذلك السَّيْر «، والجواب: لا شك أنَّ المسيِّر في الجزء: 10 ¦ الصفحة: 294 البحر هو الله - تعالى جلَّ ذكره -؛ لأنَّه هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السَّفينة، وإضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة، فيجبُ أن يكون مسيراً لهم في البرِّ والبحر، إذ لو كان مسيّراً لهم في البرِّ بمعنى إعطاء الآلات والأدوات، لكان مجازاً، فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازاً دفعةً واحدةً، وذلك باطلٌ، على ما تقرر في أصول الفقه، قال أبو هاشم:» لايبعُد أن يقال: إن الله تعالى تكلَّم به مرَّتين «، وهذا باطلٌ؛ لأن هذا القول لم يقل به أحدٌ من الأئمَّة، ممَّن كانوا قبله، فكان خلافاً للإجماع، فيكون باطلاً. فصل معنى الآية: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر} على ظهور الدَّوابِّ، وفي البحر على الفلك، {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك} أي: في السفن. والفلك: تكون واحداً، وجمعاً،» وَجَرَيْنَ بِهِم «أي: جرت الفلك بالنَّاس، رجع من الخطاب إلى الغيبة. والفائدة فيه من وجوه: أحدها: ما تقدم عن الزمخشري، وهو المبالغةُ بذكر حالهم لغيرهم؛ ليعجبوا منها، ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتَّقبيح. وثانيها: قال الجُبَّائي: «إنَّ مخاطبته - سبحانه جلَّ ذكره - لعباده، على لسان الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بمنزلة الخبر عن الغائب، وكل من أقام الغائب مقام المخاطب، حسن منه أن يردَّه مرة أخرى إلى الغائب» . وثالثها: قال ابن الخطيب: «إن الانتقال من لفظ الغيبة، إلى لفظِ الحضور، يدلُّ على مزيد التقريب، والإكرام، وأمَّا الانتقال من لفظ الحضور، إلى لفظ الغيبة، فإنه يدلُّ على المقتِ، والتعذيب، وهو اللاَّئق بحال هؤلاء، لأنَّ من كان صفته، أنَّه يقابل إحسان الله إليه بالكفر، أن يكون اللاَّئقُ به ذلك» . والأول كما في الفاتحة، فإن قوله: {بسم الله الرحمن الرَّحِيمِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1 - 3] خطاب غيبة، ثم قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] : وهذا يدل على أن العبد، كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور، وهو يوجب عُلُو الدرجة، وكمال القرب. ثم قال: «بريحٍ طيبةٍ» : لينة، «وفَرِحُوا بها» أي: بالرِّيح، «جَاءَتْهَا» أي: جاءت الفلك، أو جاءت الريح اللينة كما تقدَّم، «ريح عاصف» شديدة، ولم يقل عاصفة؛ لاختصاص الرِّيح بالعُصُوف، وقيل: «الرِّيح» يُذكَّر ويؤنث. قال الفراء، والزجاج: يقال: ريحٌ عاصفٌ، وعاصفةٌ، وقد عصفتْ عُصُوفاً وأعْصَفَتْ فهي مُعْصِف ومُعْصِفَة، وعصفت الريح: اشتدتْ وأصلُ العَصْف: السُّرعة، يقال: ناقةٌ عاصفٌ، وعصُوفٌ؛ سريعة، وإنما قيل: «ريحٌ عاصفٌ» لأنَّه يُراد ذات عُصُوف، كما قيل: لابنٌ وتامرٌ؛ أو لأنه لفظ يذكَّر ويؤنَّث. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 295 فإن قيل: الضميرُ في «جَاءتْهَا» يعودُ على الفلك، وهو ضمير الواحد، والضمير في قوله: «وجَريْنَ بهمْ» عائد على الفلك، وهو ضميرُ الجمع، فما السببُ فيه؟ . فالجواب من وجهين: الأول: لا نُسَلِّم أن الضمير في «جَاءتْهَا» ، عائدٌ إلى الفلك، بل يعُود على الرِّيح الطيِّبة. الثاني: لو سلَّمنا ذلك، إلاَّ أنّض لفظ الفكل يصلح للواحد والجمع. ثم قال: «وجَاءَهُم» أي: ركَّاب السفينة «الموج مِن كُلِّ مكانٍ» وهو حركةُ الماءِ واختلاطهُن وقيل: المَوْج ما ارتفع من الماء فوق البحر، «وظَنُّوا» : أيْقَنُوا «أنَّهُم أحيطَ بهم» أي: ظنُّوا القرب من الهلاك، وأصله: أنَّ العدوَّ إذا أحاط بقوم أو بلدٍ، فقد دنوا من الهلاك، {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} أي: أخلصُوا لله في الدعاء، ولم يدعُوا أحداً سواه، قال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد: ترك الشرك، ولم يشركوا به من آلهتهم شيئاً، وقال الحسن - رَحِمَهُ اللَّهُ: «دَعَوُا اللهُ مُخْلصينَ؛ جارياً مُجْرَى الإيمان الاضطراري» ، وقال ابن زيد: «هؤلاء المشركون يدعون مع الله ما يدعون، فإذا جاء الضُّرُّ والبلاء لم يدعُوا إلاَّ الله» وعن أبي عبيدة: أنَّ المراد من ذلك الدعاء قولهم: أهْيَا شر هَيَا، أي: يا حيُّ يا قيُّوم، وقالوا: لَئِنْ أنْجيتنا يا رب من هذه الريح العاصف، أو من هذه الأمواج، أو من هذه الشدائد، وهذه الألفاظ، وإن لم يسبق ذكرها؛ إلا أنه سبق ما يدلُّ عليها، {لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} لك بالإيمان والطَّاعة. واعلم: أنَّه يمكن أن يقدَّر في الآية إضمار، تقديره: دعوا اللهَ مخلصين لهُ الدِّ] ن، مريدين أن يقولوا: لَئِنْ أنْجَيْتَنا، ويمكن أن يقال: لا حاجة إلى الإضمار؛ لأنَّ قوله: «دعَوُا اللهَ» يصير مُفَسَّراً بقوله: {أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين} فهم في الحقيقة، ما قالُوا إلاَّ هذا القول. ولمَّا حكى عنهم التَّضرع الكامل، ذكر أنَّهُم بعد الخلاص من تلك البليَّة، أقدموا في الحالِ على البغي في الأرض بغير الحقِّ، قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد: بالفسادِ والتَّكذيب والجُرْأة على الله - عزَّ وجلَّ -. قوله: {يا أيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} أي: وباله راجعٌ إليها، وقيل: المرادُ: بغي بعضكم على بعض، كقوله: {اقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 66] ، {وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ} [النساء: 29] ، {وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات: 11] والمعنى: أنَّ بغي بعضهم على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 296 بعض، منفعة الحياة الدنيا، ولا بقاء لها، والبغي من منكرات المعاصي، قال: صلوات الله وسلامه عليه -: «أسْرَعُ الخَيْرِ ثواباً صلةُ الرَّحم، وأعجلُ الشَّرِّ عقاباً البغي، واليمين الفاجرة» ، وروي: «ثنتان يعجلهما الله - تعالى - في الدنيا: البَغْي، وعقُوقُ الوالدين» وعن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «لو بغى جَبَلٌ على جبلٍ، لاندَكَّ الباغِي» . وقال محمد بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ثلاثٌ من كنَّ فيه كنَّ عليه: البغيُ، والنَّكْثُ، والمَكْرُ، قال - تعالى -: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ} ، {وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ} [الأنعام: 123] ، {فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ} [الفتح: 10] . قوله: {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} قرأ حفص: «مَتَاعَ» بالنصب، ونصبُه على خمسة أوجه: أحدها: أنَّهُ منصوب على الظرف الزمانيُّ، نحو: «مَقْدمَ الحجَّاج» ، اي: زمن متاع الحياة. والثاني: أنَّه منصوبٌ على المصدرِ الواقع موقع الحالِ، أي: مَتَمتِّعينَ، والعاملُ فِي هذا الظرف، وهذه الحال: الاستقرارُ الذي في الخبر، وهو «عليكم» ، ولا يجوزُ أن يكونا منصوبين بالمصدر؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصلُ بين المصدر، ومعموله بالخبر، وقد تقدَّم أنَّه لا يخبرُ عن الموصول إلاَّ بعد تمام صلته. والثالث: نصبه على المصدر المؤكَّد بفعلٍ مقدرٍ، أي: يتمتَّعُون متاع الحياة الدُّنْيا. الرابع: أنه منصوبٌ على المفعول به، بفعلٍ مقدر يدلُّ عليه المصدر، أي: يَبْغُون متاع الحياةِ الدُّنيا، ولا جائزٌ أن ينتصب بالمصدر؛ لما تقدَّم. الخامس: أن ينتصب على المفعول من أجله، أي: لأجل متاع، والعامل فيه: إمَّا الاستقرارُ المقدَّرُ في «عَلَيْكُم» ، وإمَّا فعلٌ مقدَّرٌ، ويجوز أن يكون النَّاصبُ له، حال جعله ظرفاً، أو حالاً، أو مفعولاً من أجله: نفس البغي، لا على جعل «عَلَى أنْفُسِكُم» خبراً، بل على جعله متعلِّقاً بنفس البغي، والخبرُ محذوفٌ؛ لطول الكلام، والتقدير: إنَّما بغيكم على أنفسكم، متاع الحياة مذمومٌ، أو مكروهٌ، أو مَنْهيٌّ عنه. وقرأ باقي السبعة «مَتَاعُ» بالرفع - وفيه أوجه: أظهرها: أنَّه خبرُ «بَغْيُكُمْ» ، و «عَلَى أنفُسِكُمْ» : متعلقٌ بالبغي. ويجُوزُ أن يكون «عليكم» خبراً، و «مَتَاعُ» خبراً ثانياً. ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: هو متاع كقوله: {لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاَغٌ} [الأحقاف: 35] . أي: هذا بلاغٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 297 وقرأ ابن أبي إسحاق، «مَتَاعاً الحياةَ» بنصب «مَتَاعاً» و «الحَيَاة» ، ف «مَتَاعاً» : على ما تقدَّم، وأمَّا «الحَيَاة» : فيجُوزُ أن تكون مفعولاً بها، والنَّاصِبُ لها المصدر، ولا يجوزُ والحالةُ هذه، أن يكون «مَتَاعاً» مصدراً مؤكداً؛ لأنّض المؤكِّد لا يعمل. ويجُوزُ أن تنتصب «الحَيَاة» على البدل من «مَتَاعاً» لأنها مشتملةٌ عليه، وقرىء أيضاً: «مَتاعِ الحياة» ، بجرِّ «متاع» ، وخُرِّجت على النَّعت لأنفسكم، ولا بُدَّ من حذف مضافٍ حينئذٍ، تقديره: على أنفسكم ذوات متاع الحياة، كذا خرَّجهُ بعضهم، ويجُوزُ أن يكون ممَّا حذف منه حرفُ الجَرّ، وبقي عمله، أي: إنَّما بَغْيُكم على أنفسكم؛ لأجل متاع، ويدلُّ على ذلك؛ قراءةُ النَّصْب في وجه من يجعله مفعولاً من أجله، وحذفُ حرف الجرِّ، وإبقاءُ عمله قليلٌ، وهذه القراءةُ لا تتباعَدُ عنه. وقال أبُو البقاء: «ويجوزُ أن يكون المصدر، بمعنى اسم الفاعل، أي: مُتَمتِّعات» ، يعني: أنَّهُ يجعلُ المصدر نعتاً ل «أنْفُسِكُم» ، من غير حذف مضافٍ، بل على المبالغة، أو على جعل المصدر بمعنى: اسم الفاعل، ثم قال: «ويضعُف أن يكون بدلاً إذا أمكن أن يجعل صفة» . قال شهابُ الدِّين: «وإذا جعل بدلاً على ضعفه، فمنْ أيِّ قبيل البدلِ يجعل؟ والظاهر: أنَّه من بدلِ الاشتمال، ولا بُدَّ من ضميرٍ محذوفٍ حينئذٍ، أي: متاع الحياة الدُّنيا لها» . ثم قال: «ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ» أي: ما وعدنا من المُجازاة على أعمالكم {فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} والإنبَاءُ: الإخبار، وهو هُنَا وعيدٌ بالعذابِ، كقول الرَّجُل لغيره: سأخْبِرُكَ بما فعلتَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 298 قوله - تعالى - {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا} الآية. لمَّا قال - تعالى -: {إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ مَّتَاعَ الحياة الدنيا} [يونس: 23] ضرب هذا المثل لمن اغترَّ بالحياةِ الدُّنيا، واشتد تمسُّكه بها، وأعرض عن التأهُّبِ للآخرة، فقال: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا} وهذه الجملةُ سيقتْ؛ لتشبيه الدُّنْيَا بنباتِ الأرض، وقد شرح الله وجه الشَّبه بما ذكر. قال الزمخشري: «هذا من التَّشبيه المُركَّب، شُبِّهتْ حال الدُّنيا، في سرعةِ تقضِّيهَا، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 298 وانقراضِ نعيمها بعد الإقبالِ، بحالِ نباتِ الأرض في جفافه، وذهابه حطاماً بعدما التفَّ، وتكاثف، وزيَّن الأرض بخُضْرته، ورونقه» ، التَّشبيهُ المركبُ في اصطلاح البيانيِّين: إمَّا أن يكون طرفاهُ مركَّبين، أي: تشبيهُ مركَّبٍ بمركَّبٍ؛ كقول بشَّار بن بُردٍ: [الطويل] 2885 - كَأن مُثارَ النَّقْعِ فَوْقَ رُءُوسِنَا ... وأسْيَافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كواكِبُه وذلك أنَّه يُشبِّه الهيئة الحاصلة، من هُوِيِّ أجرام مشرقة، مستطيلة متناسبةِ المقدارِ، متفرقةٍ في جوانب شيءٍ مُظْلم، بليلٍ سقطتْ كواكبُه، وإمَّا أن يكون طرفاهُ مُخْتلفين بالإفرادِ والتَّركيب، وتقسيماتُه في غير هذا الموضوع. قوله: «كَمَآءٍ» : هو خبرُ المبتدأ، و «أَنزَلْنَاهُ» : صفة ل «مَاءٍ» ، و «مِنَ السَّمَاءِ» : متعلِّقٌ ب «أنزَلنَاهُ» ، ويضعفُ جعله حالاً من الضَّمير المنصوب، وقوله: «فاختلط بِهِ» في هذه الباءِ وجهان: أحدهما: أنها سببيَّةٌ، قال الزمخشري: «فاشْتبكَ بسببهِ، حتى خالط بعضه بعضاً» . قال ابن عطيَّة: «وصَلَتْ فِرْقَةٌ» النَّبات «، بقوله:» فاخْتَلَطَ «، أي: اختلط النَّبَاتُ بعضه ببعضٍ بسبب الماء» . والثاني: أنَّها للمُصاحبة، بمعنى: أنَّ الماء يجري مجرى الغذاء له، فهو مُصاحبه، وزعم بعضُهم: أنَّ الوقف على قوله: «فاختلط» ، على أنَّ الفاعِلَ ضميرٌ عائدٌ على الماءِ، وتبتدىءُ «بِهِ نَبَاتُ الأرض» على الابتداء والخبر، والضمير في «بِهِ» على هذا، يجُوزُ عودُه على الماءِ، وأن يعُود على الاختلاط الذي تضمَّنَهُ الفعل، قاله ابن عطيَّة، وقال أبو حيَّان: «الوقْفُ على قوله:» فاخْتلَطَ «لا يجُوزُ، وخاصَّةً في القرآن؛ لأنَّه تفكيكٌ للكلام المتَّصل الصحيح، والمعنى الفصيحِ، وذهابٌ إلى اللُّغْزِ، والتَّعقيد» . قوله «مِمَّا يَأْكُلُ» فيه وجهان: أحدهما: أنَّه متعلِّقٌ ب «اخْتَلَطَ» ، وبه قال الحُوفيُّ. والثاني: أنَّه حالٌ من «النَّبات» ، قاله أبو البقاء، وهو الظاهرُ، والعاملُ فيه محذوفٌ على القاعدة المُستقرَّة، أي: كائناً أو مُسْتقرّاً ممَّا يأكل. ولو قيل: إنَّ «مِنْ» لبيان الجنسِ، لجاز، وقوله: «حتَّى» غايةٌ فلا بُدَّ لها من شيءٍ مُغَيّاً، والفعلُ الذي قبلها - وهو «اخْتَلَطَ» - لا يصح أن يكون مُغَيّاً، لقصر زمنهِ، فقيل: ثمَّ فعل محذوفٌ، أي: لم يزلِ النباتُ ينمُو حتى كان كَيْتَ وكَيْتَ وقيل: يجوز «فاخْتَلَطَ» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 299 بمعنى: فدام اختلاطه، حتى كان كَيْتَ وكَيْتَ، و «إذَا» بعد «حتَّى» هذه تقدَّم التَّنبيه عليها، قوله: «وازينت» بوصل الهمزة، وتشديد الزاي والياء، والأصلُ «وتزَيَّنَتْ» فلمَّا أريدَ إدغامُ التَّاء في الزَّاي بعدها، قُلبت زاياً، وسُكِّنَت فاجتُلِبَت همزة الوصْل؛ لتعذُّر الابتداء بالسَّاكن، فصار «ازَّيَّنت» ، وتقدَّم تحريرُ هذا عند قوله - تعالى -: {فادارأتم فِيهَا} [البقرة: 72] . وقرأ أبيّ بن كعب وعبد الله وزيد بن علي، والأعمش: «وتَزيَّنَتْ» على تفعَّلَتْ، وهو الأصلُ المُشَار إليه، وقرأ سعد بن أبي وقَّاص، والسُّلمي، وابنُ يعمُر، والحسن، والشَّعبي، وأبُو العالية، ونصر بن عاصم، وابنُ هرمز، وعيسى الثقفي: «وَأزْيَنَتْ» على وزن أفعَلَتْ، وأفعل هنا بمعنى: صار ذا كذا، كأحْصَدَ الزَّرعُ وأغدَّ البعيرُ، والمعنى: صارت ذا زينة، أي: حضرت زينتها وحانَتْ، وكان من حقِّ الياءِ على هذه القراءة، أن تُقْلبَ ألفاً، فيقال: أزَانَتْ، كأنَابَت فتُعَلُّ بنقلِ حركتها إلى السَّاكِن قبلها، فتتحرَّك حينئذٍ، وينفتح ما قبلها، فتقلب ألفاً كما تقدَّم في نحو: أقامَ وأنابَ، إلاَّ أنَّها صحَّتْ شذُوذاً؛ كقوله: «أغْيَمت السماء، وأغْيَلَت المرأة» ، وقد ورد ذلك في القرآن، نحو: {استحوذ} [المجادلة: 19] وقياسه: اسْتَحَاذَ؛ كاستقام. وقرأ أبو عثمان النَّهديُّ - وعزاه ابن عطيَّة لفرقةٍ غير مُعيَّنة -: «وازْيأنَّتْ» بهمزة وصل، بعدها زايٌ ساكنةٌ، بعدها ياءٌ مفتوحةٌ خفيفةٌ، بعدها همزةٌ مفتوحةٌ، بعدها نونٌ مشددةٌ، قالوا: وأصلها: «وازْيَانَّتْ» بوزن «احْمَارَّتْ» بألف صريحة، ولكنَّهُم كرهُوا الجمع بين السَّاكنين، فقُلبتَ الألفُ همزة، كقراءة {الضآلين} [الفاتحة: 7] ، و {جَآنٌّ} [الرحمن: 39] ، وعليه قولهم: «احْمأرَّت» بالهمز، وأنشد: [الطويل] 2886 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... إذَا مَا احْمَأرَّتْ بالعَبيطِ العَوامِلُ وقد تقدَّم هذا مُشْبَعاً في آخر الفاتحة. وقرأ أشياخ عوف بن أبي جميلة: «وَازْيَأنَّت» بالأصل المشار إليه، وعزاها ابن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 300 عطيَّة لأبي عثمان النَّهْدي، وقرىء: «وازَّايَنَتْ» ، والأصلُ: تزاينت، فأدغم. وقوله: «أهْلُهَا» أي: أهل نباتها. و «أتَاهَا» : هو جوابُ «إذَا» ، فهو العاملُ فيها. وقيل: الضَّميرُ عائدٌ على الزِّينة. وقيل: على الغَلَّةِ، أي: القُوت فلا حذفَ حينئذٍ، و «لَيْلاً ونَهَاراً» ظرفان؛ للإتيان، أو للأمر، والجعل هنا تصْييرٌ، وحصيد: فَعِيل بمعنى: مفعول، ولذلك لم يؤنث بالتاء، وإن كان عبارة عن مُؤنَّث، كقوله: أمْرَأة جريحٌ. قوله: «كَأَن لَّمْ تَغْنَ» هذه الجملة يجُوزُ أن تكون حالاً من مفعول «جَعَلْنَاها» الأوَّل، وأن تكون مستأنفةٌ جواباً لسُؤالٍ مقدَّرٍ، وقرأ هارون بن الحكم «تتغَنَّ» ، بتاءين بنزنة تتفعَّل؛ كقول الأعشى: [المتقارب] 2887 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... طَويلَ الثَّواءِ طويلَ التَّغَنْ وهو بمعنى: الإقامة، وقد تقدَّم في الأعراف، وقرأ الحسن، وقتادة: «كأنْ لم يَغْنَ» بياء الغيبة، وفي هذا الضمير ثلاثة أوجه: أجودها: أن يعود على الحصيد؛ لأنَّه أقرب مذكور. وقيل: يعودُ على الزخرف، أي: كأن لم يَقُم الزُّخْرُف. وقيل: يعودُ على النَّبات أو الزَّرع الذي قدَّرته مضافاً، أي: كأن لم يَغْنَ زَرْعُها ونَبَاتُهَا. و «بالأمْسِ» : المرادُ به: الزَّمن الماضي، لا اليوم الذي قبل يومك؛ كقول زهير: [الطويل] 2888 - وأعْلَمُ عِلْمَ اليومِ والأمْسِ قبلهُ ... ولكنَّنِي عَنْ عِلْمِ ما فِي غَدٍ عَمِ لمْ يقْصِدْ بها حقائقها، والفرقُ بين الأمسيْن: أنَّ الذي يُرَاد به قبل يومك مبنيٌّ؛ لتضمُّنه معنى الألف واللاَّم، وهذا مُعْرَبٌ تدخل عليه «ألْ» ويضافُ، وقوله: «كَذلِكَ نُفَصِّلُ» نعت مصدرٍ محذُوف، أي: مثل هذا التَّفصيل الذي فصَّلناه في الماضي، نُفَصِّل في المستقبل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 301 فصل معنى الآية: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا} في فنائها، وزوالها {كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ} أي: بالمطر {نَبَاتُ الأرض} قال ابن عباسٍ: نبت بالماءِ من كل لون {مِمَّا يَأْكُلُ الناس} : من الحُبُوبِ والثِّمار، «والأنعام» من الحشيش {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا} : حسنها، وبهجتها، وظهر الزهْرُ أخضرُ، وأحمرُ، وأصفرُ، وأبيضُ، «وازينت» شبهها بالعروس، إذا لبست الثياب الفاخرة من كل لون {وَظَنَّ أَهْلُهَآ أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ} على جذاذها وقطافها وحصادها، ردَّ الكناية إلى الأرض، والمراد: النبات إذ كان مفهوماً، وقيل: إلى الغلَّة، وقيل: إلى الزِّينَة «أَتَاهَآ أَمْرُنَا» : قضاؤنا بالهلاك {لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً} أي: محصودة مقطوعة، وقال أبو عبيدة: «الحصيد: المستأصل» ، {كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس} من غني بالمكان: إذا أقام به. قال الليث «يقال للشيء إذا فني: كأن لم يَغنَ بالأمْسِ، أي: كأنْ لمْ يَكُنْ» . فصل اعلم: أن تشبيهَ الحياة الدنيا بالنبات يحتملُ وجوهاً، لخَّصها القاضي. أحدها: أنَّ عاقبةَ هذه الحياة التي يُنفقُهَا المرء في هذه الدنيا، كعاقبة هذا النَّبات، الذي حين عظُم الرَّجَاء في الانتفاع به، وقع اليأس منه؛ لأنَّ المُتَمسِّك بالدنيا، إذا عظمت رغبتُه فيها، يأتيه الموت، وهو معنى قوله: {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً} [الأنعام: 44] . وثانيها: أنَّه - تعالى - بيَّن أنَّه كما لم يحصل لذلك الزَّرْع عاقبةٌ تُحْمد، فكذلك المُغترُّ بالدُّنْيَا المُحبُّ لها، لا يحصل له عاقبة تحمد. وثالثها: أنَّ هذا التشبيه، كقوله - تعالى -: {وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً} [الفرقان: 23] أي: لمَّا صار سعي هذا الزَّرع باطلاً، بسببِ حدوث المهلك، فكذلك سعي المغترَّ بالدُّنْيَا. ورابعها: أنَّ مالكَ هذا البستان لمَّا أتْعَبَ نفسه في عمارته، وكذلك الرُّوحَ، وعلَّق قلبه بالانتفاع به، فإذا حدث السببُ المهلكُ، صار العناءُ الشديد، الذي تحملُه في الماضي، سبباً لحصول الشقاء الشَّديد لهُ في المستقبل، وهو ما يحصُل في قلبه من الحشرات. فكذلك حالُ من أحبَّ الدنيا، وأتعب نفسه في تحصيلها، فإذا مات، وفاتهُ كلُّ ما نال، صار العناء الذي تحمَّله في تحصيل الدنيا، سبباً لحُصُول الشقاء العظيم له في الآخرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 302 وخامسها: لعلَّه - تعالى - إنَّما ضرب هذا المثل لمنْ لا يُؤمن بالمعاد؛ لأنَّا نرى الزَّرْع الذي انتهى إلى الغايةِ في الحسن، ثمَّ إنَّ ذلك الحسنَ يزول بالكلِّيَّة، ثم تصير تلك الأرضُ موصوفة بتلك الزينة مرة أخرى، فذكر - تعالى - هذا المثال؛ ليدلَّ على أنَّ مَنْ قَدَر على ذلك، كان قادراً على إعادة الأحياء في الآخرة؛ ليَجَازيَهُم على أعمالهم. قوله تعالى: {والله يدعوا إلى دَارِ السلام} الآية. لمَّا نفر العقلاء عن الميل إلى الدُّنيا، رغَّبهُم في الآخرة بهذه الآية، قال قتادة: «السَّلام هو الله، وداره الجنَّة» . وسمِّي الله - تعالى - بالسَّلام لوجوه: أحدها: أنَّه لمَّا كان واجب الوُجُودِ لذاته، فقد سَلِمَ من الفناء والتَّغيير، وسلم في ذاته وصفاته من الافتقار إلى الغير، وهذه الصِّفةُ ليست إلاَّ له - سبحانه. وثانيها: وصف بالسلام، أي: أنَّ الخَلْق سَلِمُوا من ظُلْمِهِ؛ ولأنَّ كل ما سواه فهو مُلْكُه ومِلْكُه، وتصرُّفُ المالك في ملك نفسه لا يكون ظُلْماً. وثالثها: قال المُبَرِّد: «وصف بالسلام، أي: لا يقدر على السَّلام إلاَّ هو، والسَّلام: عبارة عن تخليص العاجزين عن الآفات، وهو المنتصف للمظلُومين من الظالمين» وعلى هذا التقدير: السَّلام مصدر «سَلِمَ» . وقيل: سُمِّيت الجنَّة دارَ السلام؛ لأنَّ من دخلها سلم من الآفات، وقيل: المرادُ بالسَّلام: التَّحية؛ لأنَّه - تعالى - يُسَلِّم على أهلها، قال - تعالى -: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] ، والملائكةُ يُسلِّمُون عليهم أيضاً، قال - تعالى -: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ} [الرعد: 23 - 24] ، وهم يُحيُّون بعضهم بعضاً بالسَّلام، قال - تعالى -: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [يونس: 10] . وروى جابرٌ، قال: «جاءت ملائكةُ إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو نائمٌ، فقالوا: إنَّ لصاحبكُم هذا مثلاً، مثله كمثل رجُل بنى داراً، وجعل فيها مأدُبَةً، وبعثَ داعياً فمنْ أجاب الدَّاعِي، دخل الدَّار، وأكل من المَأدبة، ومنْ لمْ يُجبِ الدَّاعي، لم يدخُل الدَّار، ولمْ يأكلْ من المأدُبةِ، فالدَّارُ الجنَّة، والدَّاعي محمَّدٌ، فمن أطاع محمداً، فقد أطاعَ اللهَ، ومنْ عَصَى مُحمداً، فقد عصى الله» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 303 فصل قال ابن عبَّاسٍ: «الجِنان سبعٌ: دار الجلال، ودار السَّلام، وجنَّة عدن، وجنَّةُ المأوى، وجنَّة الخُلْدِ، وجنَّة الفردوس، وجنَّة النَّعيم» . ثم قال تعالى: {وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : وهو الإسلام. وروي عن عليِّ بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - قال: سمعت رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: الصِّراط المستقيم: كتابُ الله. وقال قتادة، ومجاهد: هو الحق. وقيل: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأبو بكر، وعمر. واحتجَّ أهلُ السُّنَّة: على أنَّ الكفر والإيمان بقضاء الله - تعالى -؛ لأنَّه - تعالى - بيَّن في هذه الآيةِ، أنَّه دعا جميع الخلق إلى دارالسَّلام، ثم بيَّن أنَّه ما هدى إلاَّ بعضهم، فهذه الهدايةُ الخاصَّةُ، يجبُ أن تكون مغايرة لتلك الدعوة العامَّة، ولا شكَّ أنَّ الإقدار، والتمكين، وإرسال الرُّسُل، وإنزال الكُتُب أمورٌ عامَّة، فوجب أن تكون الهداية الخاصَّة مغايرة لكلِّ هذه الأشياء، وما ذاك إلاَّ أنَّه - تعالى - خصَّه بالعلم والمعرفة، دُون غيره. وأجاب القاضي بوجهين: الأول: أن المراد: ويهدي الله من يشاء، إلى إجابة تلك الدَّعوة، أي: أنَّ من أجاب الدُّعاء، وأطاع واتَّقَى، فإنَّ الله يهديه إليها. والثاني: أن المراد بهذه الهداية الألطافُ، وأجيب عن هذين الوجهين، بأنَّ عندكم يجب على الله فعل هذه الهداية، وما يكون واجباً، لا يكون معلَّقاً بالمشيئةِ، فامتنع حمله على ما ذكرتم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 304 قوله تعالى: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} الآية. لمَّا دعا عبادهُ إلى دار السَّلام، ذكر السَّعادات الحاصلة لهم فيها، فقال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} أي: أحسنوا العمل في الدُّنيا، فأتوا المأمورات، واجتنبوا المنهيات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 304 وقال ابن عبَّاسٍ: للذين ذكرُوا كلمة لا إله إلاَّ الله، فأمَّا الحُسْنَى: فهي الجنَّة وأمَّا الزيادة: فقال أبو بكر الصِّدِّيق، وحذيفة، وأبو موسى، وعبادة بن الصامت: هي النَّظرُ إلى وجه الله الكريم، وبه قال الحسن، وعكرمة، وعطاء، ومقاتل، والضحاك، والسدي. روى ابن أبي ليلى، عن صهيبٍ قال: «قرأ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} قال: إذا دخل أهلُ الجنَّةِ الجنَّة، وأهلُ النَّارِ النَّارَ، نادى منادٍ: يا أهل الجنَّة: إنَّ لكم عند الله موعداً، قالوا: ما هذا الموعدُ، ألمْ يُثقِّل موازِيننا، ويُبيض وُوجوهنا، ويدخِلْنَا الجنَّة، ويُنْجِنَا من النَّارِ؟ قال: فيرفعُ الحجابَ فينظرون إلى وجهِ الله - عزَّ وجلَّ -، قال:» فما أعْطُوا شَيْئاً أحَبَّ إليهم من النَّظر إليْهِ «ويؤيد هذا قوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22، 23] . وقالت المعتزلةُ: لا يجوزُ حملُ الزِّيادة على الرؤية، لوجوه: أحدها: أنَّ الدلائل العقليَّة دلَّت على أنَّ رؤية الله - تعالى - ممتنعةٌ. وثانيها: أنَّ الزيادة يجبُ أن تكون من جنس المزيد عليه، ورؤيةُ الله - تعالى - ليست من جنس نعيم الجنَّة. وثالثها: أنَّ الحديث المرويَّ يوجب التشبيه؛ لأنَّ النظر: عبارةٌ عن تقليب الحدقة، إلى جهة المرئيِّ، وذلك يقتضي كون المرئيِّ في الجهة؛ لأنَّ الوجه اسم للعضو المخصوص، وذلك يوجبُ التشبيه، فثبت أنَّ هذا اللفظ، لا يمكن حملُه على الرُّؤية، فوجب حملهُ على شيء آخر. قال الجبائي: الحُسْنَى: هي الثَّواب المستحق، والزِّيادة: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 305 ما يزيده الله على ذلك الثَّواب من التفضُّل، كقوله - تعالى -: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ} [فاطر: 30] ، ونقل عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، أنه قال:» الزِّيادة: غرفة من لُؤلؤة واحدة «. وعن ابن عبَّاسٍ:» الحُسْنَى: هي الحسنة، والزِّيادة عشرُ أمثالها «، وعن الحسن:» عشُر أمثالها إلى سبْعمائة ضعف «، وعن مجاهد:» الزيادة: مغفرة من الله ورضوان «. وعن يزيد بن سمرة:» الزِّيادة: أن تمُرَّ السَّحابة بأهْلِ الجنَّة، فتقول: ما تُرِيدُون أن أمطركُم، فلا يُريدُون شيئاً إلاَّ أمطرتهم «. وأجاب أهل السُّنَّة عن هذه الوجوه، فقالوا: أمَّا قولهم: إنَّ الدلائل العقليَّة دلَّت على امتناع رؤية الله - تعالى -، فهذا ممنوع؛ لأنَّا بيَّنا في كتب الأصُول: أن تلك الدلائل في غاية الفُتُور، وثبت بالأخبارِ الصحيحة إثبات الرُّؤية، كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» هل تُمَارُونَ في رُؤْيةِ الشَّمْسِ ليس دُونهَا سَحَاب؟ « حين سألوه عن رؤية الله - تعالى -، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «هل تُمارُونَ في رُؤيةِ القمرِ ليلة البدر؟» فوجب إجراؤها على ظواهرها. وقولهم: «الزِّيادة يجبُ أن تكُون من جنْسِ المزيد عليه» ، فنقول: المزيد عليه إذا كان مقدراً بمقدار معيَّن، كانت الزِّيادةُ من جنسها، وإذا كان مقدراً بمقدار غير معيَّن، وجب أن تكون الزِّيادة مخالفة له، مثال الأول: قول الرَّجُل لغيره: أعطْتُك عشرة أمدادٍ من الحنطة وزيادة، فتكون تلك الزيادة من الحنطة، ومثال الثاني: قوله أعطيتك الحنطة وزيادة، فيجبُ أن تكون الزِّيادة غير الحنطة. فلفظ: «الحُسْنَى» : وهي الجنَّة، مطلقة، وهي غير مقدَّرة بقدر معيَّن، فتكون الزِّيادة شيئاً مغايراً لما في الجنة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 306 وقولهم: «الحديثُ يدلُّ على إثبات الوجه، وذلك يوجب التشبيه» ، فنقولُ: قام الدَّليل على أنَّه - تعالى - ليس بجسم، ولم يقم الدَّليلُ على امتناع الرُّؤية، فوجب ترك العمل بما قام الدَّليل على فساده. فصل قال أبو العبَّاس المقري: وردت الحُسْنَى على أربعة معان: الأول: بمعنى الجنَّة، قال - تعالى -: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] . الثاني: الحسنى: الصَّلاح، قال - تعالى -: {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} [التوبة: 107] أي: الصَّلاح. الثالث: البنون، قال - تعالى -: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى} [النحل: 62] أي: البنُون. الرابع: الخلف في النفقة، قال - تعالى -: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى} [الليل: 5 - 6] أي: بالخلف، ومثله {وَكَذَّبَ بالحسنى} [الليل: 9] . قوله: «وَلاَ يَرْهَقُ» فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها مستأنفةٌ. والثاني: أنها في محل نصب على الحال، والعامل في هذه الحال: الاستقرار الذي تضمَّنَهُ الجارُّ، وهو «للَّذين» لوقوعه خبراً عن «الحُسْنَى» ، قاله أبو البقاء، وقدَّره بقوله: «استقرَّ لهم الحسنى، مضموناً لهم السَّلامة» ، وهذا ليس بجائزٍ؛ لأنَّ المضارع متى وقع حالاً منْفيَّا ب «لا» ، امتنع دخولُ واو الحال عليه كالمثبت، وإن ورد ما يُوهم ذلك، يُؤوَّل بإضمار مبتدأ، وقد تقدَّم تحقيقه مراراً [المائدة: 54] . والثالث: أنها في محلِّ رفع نسقاً على «الحُسْنَى» ، ولا بدَّ حينئذٍ من إضمار حرفٍ مصدريٍّ، يصحُّ جعلُه معه مخبراً عنه بالجارِّ، والتقدير: للذين أحسنوا الحسنى، وأنْ لا يرهق، أي: وعدم رهقهم، فلمَّا حذفت «أنْ» رفع الفعلُ المضارع؛ لأنَّه ليس من مواضع إضمار «أن» الناصبة، وهذا كقوله - تعالى -: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] أي: أن يريكم، وقوله: «تسْمَع بالمُعَيدي، خيرٌ من أن تراه» . وقوله: [الطويل] 2889 - ألاَ أيُّهَا الزَّاجري أحْضُرُ الوغَى ..... ... ... ... ... ... ... ... أي. أن أحضر، روي برفع «أحْضُر» ونصبه، ومنع أبو البقاء هذا الوجه، وقال: «ولا يجوز أن يكون معطوفاً على» الحُسْنَى «؛ لأنَّ الفعل إذا عطف على المصدر، احتاج الجزء: 10 ¦ الصفحة: 307 إلى» أنْ «ذكراً، أو تقديراً، و» أنْ «غير مقدَّرة؛ لأن الفعل مرفوعٌ» . فقوله: «وأنْ غيرُ مقدَّرةٍ؛ لأنَّ الفعل» مرفوع «ليس بجيِّد؛ لأن قوله - تعالى -: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] معه» أنْ «مقدَّرة، مع أنه مرفوع، ولا يلزم من إضمار» أنْ «نصب المضارع، بل المشهور أنَّهُ: إذا أضمرت» أنْ «في غير المواضع التي نصَّ النحويُّون على إضمارها فيها ناصبة، ارتفع الفعلُ، والنصب] قليلٌ جدّاً. فصل والرَّهق: الغشيان، يقال: رَهِقَهُ يَرْهقُه رَهَقاً، أي: غشيهُ بسرعة، ومنه {وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي} [الكهف: 73] ، {فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً} [الجن: 13] . يقال: رَهِقْتُه وأرْهَقْتُه نحو: رَدِفْتُه وأرْدَفْتُه، ففعل وأفعل بمعنًى، ومنه:» أرْهَقْت الصَّلاة «، إذا أخَّرْتَها، حتى غَشِي وقتُ الأخرى، ورجلٌ مُرْهقٌ، أي: يغشاه الأضياف. وقال الأزهريُّ:» الرَّهَقُ: اسم من الإرهاق، وهو أن يحمل الإنسان على نفسه ما لا يطيقُ، ويقال: أرْهَقْتُهُ عن الصَّلاةِ، أي: أعْجَلْتُه عنها «. وقال بعضهم: أصل الرَّهقِ، المقاربةُ، ومنه غلامٌ مراهقٌ، أي: قارب الحلم، ومنه الحديث» ارْهَقُوا القبلة «، أي: أقربُوا منها، ومنه: رهقت الكلابُ الصَّيدَ، أي: لحقته، والقَتَر والقَتَرة، الغُبَارُ معه سوادٌ؛ وأنشدوا للفرزدق: [البسيط] 2890 - مُتَوَّجٌ بِرِدَاءِ المُلْكِ يتْبَعُهُ ... مَوْجٌ تَرَى فوقَهُ الرَّاياتِ والقَتَرَا أي: غبار العسكر، وقيل: القَتَرُ: الدُّخان، ومنه: قُتارُ القِدْر، وقيل: القَتْر: التَّقليل، ومنه {لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [الفرقان: 67] ، ويقال: قَتَرْتُ الشَّيء وأقْتَرْتُهُ وقتَّرته، أي: قَلَّلتُه، ومنه {وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} [البقرة: 236] وقد تقدَّم، والقترة، نامُوس الصَّائد، وقيل: الحفرة، ومنه قول امرىء القيس: [المديد] 2891 - رُبَّ رامٍ بَنِي ثُعلٍ ... مُتْلِجٍ كَفَّيْهِ في قُتَرِه أي: في حُفرتهِ التي يحفُرها، وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر، وأبو رجاء، والأعمش:» قَتْرٌ «، بسكون التاء، وهما لغتان: قَتْر وقَتَر، كقَدْر وقَدَر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 308 فصل المعنى: لا يَغْشَى وجوههم قتر: غبار، جمع قترة، وقال ابن عبَّاس، وقتادة: سواد الوُجُوه،» ولا ذلَّةٌ «: هوان، وقال قتادة:» كآبة «قال ابن أبي ليلى:» هذا بعد نظرهم إلى ربِّهم «، {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} إشارة إلى كونها دائمة، آمنة من الانقطاع. قوله تعالى: {والذين كَسَبُواْ السيئات} الآية. لمَّا شرح حال المسلمين، شرح بعدهُ حال المُسيئين. قوله: {والذين كَسَبُواْ} : فيه سبعةُ أوجه: أحدها: أن يكون» والذين «: نسقاً على» لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ «، أي: لِلَّذينَ أحْسَنُوا الحُسْنَى، والذين كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جزاءُ سيِّئةٍ بمثلها، فيتعادل التَّقسيم، كقولك: في الدَّار زيدق، والحجرة عمرٌو، وهذا يسمِّيه النحويُّون: عطفاً على معمولي عاملين، وفيه ثلاثة مذاهب: أحدها: الجواز مطلقاً، وهو قول الفرَّاء. والثاني: المنعُ مطلقاً، وهو مذهبُ سيبويه. والثالث: التفصيل بين أن يتقدَّم الجارُّ نحو: في الدَّار زيدٌ، والحجرة عمرو، فيجوز، أو لا، فيمتنع نحو: إن زيداً في الدَّار، وعمراً في القصر، أي: وإنَّ عمراً في القصر، وسيبويه وأتباعهُ يُخَرِّجُون ما ورد منه على إضمار الجارِّ، كقوله - تعالى -: {واختلاف الليل والنهار وَمَآ أَنَزَلَ الله مِنَ السمآء مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرياح آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 5] بنصب «آيَات» في قراءة الأخوين، على ما سيأتي؛ كقوله: [المتقارب] 2892 - أكُلَّ امرىءٍ تَحْسَبينَ امْرَأ ... ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْلِ نَارَا وقول الآخر: [الرجز] 2893 - أوْصَيْتَ مَنْ تَوَّه قَلْباً حُرّاً ... بالكَلْبِ خَيْراً والحَمَاةِ شَرًّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 309 وسيأتي لهذا مزيد بيان - إن شاء الله -، وممَّن ذهب إلى أنَّ هذا الموصول مجرورٌ عطفاً على الموصول قبله: ابن عطيَّة، وأبو القاسم الزمخشري. الثاني: أن «الَّذينَ» مبتدأ، و «جَزَآءُ سَيِّئَةٍ» مبتدأ ثانٍ، وخبره «بمثلها» ، والباء فيه زائدةٌ، أي: وجزاءُ سيئةٍ مثلها، كقوله - تعالى -: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] كما زيدتْ في الخبرِ، كقوله: [الوافر] 2894 - فَلاَ تَطْمَعْ - أبَيْتَ اللَّعنَ - فيها ... ومنْعُكُهَا بشيءٍ يُسْتَطَاعُ أي: شيء يُستطاع. وكقول امرىء القيس: [الطويل] 2895 - أ - فإنْ عنْهَا حِقْبَةً لا تُلاقِهَا ... فإنَّكَ ممَّا أحْدَثَتْ بالمُجَرِّبِ أي: المُجرِّب، وهذا قولُ ابن كيسان في الآية. الثالث: أنَّ الباء ليست بزائدةٍ، والتقدير: مقدَّر بمثلها، والمبتدأ الثاني وخبرُهُ خَبَرٌ عن الأول. والرابع: أنَّ خبر «جزاء سيَّئةٍ» محذوفٌ، فقدَّرهُ الحُوفيُّ بقوله: «لهم جزاءُ سيئة» ، قال: ودلَّ على تقدير «لَهُمْ» ، قوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى} حتى تتشاكل هذه بهذه، وقدَّرهُ أبو البقاء: جزاءُ سيِّئة مثلها واقع، وهُو وخبرُهُ أيضاً خبرٌ عن الأول، وعلى هذين التقديرين، فالباء متعلقةٌ بنفس «جزاءُ» ؛ لأنَّ هذه المادَّة تتعدَّى بالباءِ، قال - تعالى -: {جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ} [سبأ: 17] ، {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ} [الإنسان: 12] إلى غير ذلك. فإن قلت: أين الرَّابطُ بين هذه الجملة، والموصول الذي هو المبتدأ. قلت: على تقدير الحوفيُّ، هو الضمرُ المجرور باللاَّم المقدَّر خبراً، وعلى تقدير أبي البقاء: هو محذوفٌ، تقديره: جزاءُ سيئة بمثلها منهُم واقعٌ، نحو: «السَّمْنُ منوانِ بدرهم» ، وهو حذفٌ مُطَّرِد، لما عرف. الخامس: أن يكون الخبرُ، الجملة المنفيَّة من قوله: {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} ، ويكون «مِنْ عَاصمٍ» إمَّا فاعلاً بالجارِّ قبله؛ لاعتماده على النَّفي، وإمَّا مبتدأ، وخبرُه الجارُّ مقدماً عليه، و «مِنْ» مزيدة فيه على كلا القولين، و «مِنَ الله» متعلِّق ب «عَاصِم» ، وعلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 310 كون هذه الجملة خبر الموصول يكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بجملتي اعتراضٍ، وفي ذلك خلافٌ عن الفارسيِّ تقدَّم التنبيهُ عليه، وما استدلَّ به عليه. السادس: أنَّ الخبر هو الجملةُ التشبيهيَّة، من قوله: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} ، و «كأنَّما» حرف مكفوف، و «مَا» هذه زائدة، تُسمَّى كافَّة ومُهيئة، وتقدَّم ذلك [البقرة: 11] . وعلى هذا الوجه، فيكون قد فصل بين المبتدأ وخبره بثلاث جمل اعتراضٍ. السابع: أنَّ الخبر هو الجملة من قوله: {أولئك أَصْحَابُ النار} ، وعلى هذا القول، فيكون قد فصل بأربع جمل معترضة. وهي: {جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} . والثانية: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} . والثالثة: {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} . الرابعة: {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ} ، وينبغي أن لا يجُوزَ الفصل بثلاث جُمل فضلاً عن أربع. قوله: «وَتَرْهَقُهمْ» فيها وجهان: أحدهما: أنَّها في محلِّ نصب على الحال، ولم يُبيِّنْ أبو البقاء صاحبها، وصاحبها هو الموصولُ أو ضميره، وفيه ضعفٌ؛ لمباشرته الواو، إلاَّ أنْ يجعل خبر مبتدأ محذوف. الثاني: أنَّها معطوفةٌ على «كَسَبُوا» . قال أبو البقاء: وهو ضعيفٌ؛ لأنَّ المستقبل لا يعطفُ على الماضي، فإن قيل: هو بمعنى الماضي فضعيفٌ جداً، وقرىء: «ويرْهَقُهمْ» بالياء من تحت؛ لأنَّ تأنيثها مجازيٌّ. قوله: «قطعاً» قرأ ابنُ كثير، والكسائي، «قِطْعاً» بسكون الطاء، والباقون بفتحها: «فأمَّا القراءة الأولى فاختلفت عبارات النَّاس فيها: فقال أهل اللغة:» القِطْع «: ظُلْمَة آخر الليل. وقال الأخفش في قوله: {بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} [الحجر: 65] بسواد من الليل، وقال بعضهم:» طائف من الليل «، وأنشد الأخفش: 2895 - ب - افتحي الباب فانظري في النجومِ ... كم علينا من قطعِ ليلٍ بهيم وأمَّا قراءةُ الباقين فجمعُ» قطعة «نحو: دِمْنة ودِمَن، وكِسْرة وكِسَر وعلى القراءتين يختلف إعراب» مظلماً «، فإنه على قراءة الكسائي وابن كثير يجوز أن يكون نعتاً ل» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 311 قِطْعاً «، ووصف بذلك مبالغة في وصف وجوههم بالسواد، ويجوز أن يكون حالاً ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه حالٌ من» قِطْعاً «، ووصف بذلك مبالغة في وصف وجوههم بالسواد، ويجوز أن يكون حالاً ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه حالٌ من» قِطْعاً «، وجاز ذلك لتخصُّصه بالوصف بالجارِّ بعده وهو» من الليل «. والثاني: أنه حالٌ من» الليل «. والثالث: أنه حالٌ من الضمير المستتر في الجارِّ لوقوعه صفة. قال الزمخشري: فإن قلت: إذا جعلت» مظلماً «حالاً من» الليل «فما العاملُ فيه؟ قلت: لا يخلو: إما أن يكون» أغْشِيَتْ «من قبل أنَّ» من الليل «صفةٌ لقوله:» قِطْعاً «، وكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة، وإما أن يكون معنى الفعل في» من الليل «. قال أبو حيان:» أمَّا الوجه الأول فهو بعيدٌ لأنَّ الأصل أن يكون العاملُ في الحال هو العامل في ذي الحال، والعاملُ في «من الليل» هو الاستقرار، و «أغْشِيَتْ» عاملٌ في قوله: «قطعاً» الموصوف بقوله: «من الليل» فاختلفا، فلذلك كان الوجهُ الأخير أولى، أي: قطعاً مستقرة من الليل، أو كائنة من الليل في حال إظلامه «. وقال شهاب الدِّين: ولا يعني الزمخشري بقوله: «إنَّ العامل أغْشِيَتْ» ، إلاَّ أن الموصوف، وهو «قِطْعاً» معمول ل «أغْشِيَتْ» ، والعامل في الموصوف هو عاملٌ في الصِّفة. قال شهاب الدين: والصِّفةُ هي «مِنَ الليل» فهي معمولةٌ ل «أغْشِيَتْ» ، وهي صاحبةُ الحال، والعامل في الحالِ هو العاملُ في ذي الحال، فجاء من ذلك أنَّ العامل في احال هو العاملُ في صاحبها بهذه الطريقة، ويجوز أن يكون «قِطْعاً» : جمع قِطْعَة، أي: اسم جنسٍ لها، فيجُوزُ حينئذٍ وصفُه بالتَّذكير، نحو: {نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ} [القمر: 20] ، والتأنيث، نحو: {نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] . وأمَّا قراءة الباقين، فقال مكِّي، وغيره: إنَّ «مظلماً» حالٌ من «اللَّيْلِ» فقط، ولا يجوز أن يكون صفة ل «قِطعاً» ، ولا حالاً منه، ولا من الضمير في «مِنَ اللَّيل» ؛ لأنَّه كان يجبُ أن يقال فيه: مظلمةٌ، يعنُون: أنَّ الموصوف حينئذ جمعٌ، وكذا صاحب الحال، فتجب المطابقةُ. وأجاز بعضهم ما منعهُ هؤلاء، وقالوا: جَازَ ذلك؛ لأنَّه في معنى الكثير، وهذا فيه تعسُّفٌ. وقرأ أبيٌّ «يَغْشَى وجوههم قطع» بالرفع، و «مُظْلمٌ» ، وقرأ ابن أبي عبلة كذلك، إلاَّ أنَّه فتح الطَّاء. وإذا جعلتَ «مُظْلماً» ، نعتاً ل «قِطْعاً» ، فتكون قد قدَّمتَ النَّعْتَ غير الصَّريح على الصَّريح. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 312 قال ابن عطيَّة: فإذا كان نعتاً - يعني: مُظلماً: نعتاً لقطع - فكان حقه أن يكون قبل الجملة، ولكن قد يجيء بعد هذا، وتقدير الجملة: قطعاً استقرَّ مظلماً، على نحو قوله: {وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام: 92] . قال أبو حيَّان: «ولا يتعيَّن تقدير العامل في المجرور بالفعل، فيكون جملة، بل الظاهرُ تقديره باسم الفاعل، فيكون من قبيل الوصف بالمفرد، والتقدير: قطعاً كائناً من اللَّيل مُظْلِماً» . قال شهاب الدِّين: «المحذُورُ تقديمُ غير الصَّريح على الصَّريح، ولو كان مُقدَّراً بمفرد» ، و «قِطَعاً» : منصوبٌ ب «أغْشِيتْ» ، مفعولاً ثانياً. فصل المعنى: {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَآءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} ؛ لقوله: {وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا} [الأنعام: 160] . والفرق بين الحسنات والسيئات: أنَّه إذا زاد في الحسنات يكون تفضُّلاً، وذلك حسن، وفيه ترغيبٌ في الطَّاعة، وأمَّا الزِّيادة على قدر الاستحقاق على السيئات، فهو ظلمٌ، والله منزله عنه، ثم قال: {وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي: هوانٌ وتحقير {مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ} أي: ما لهم عاصمٌ من الله في الدُّنيا، ولا في الآخرة، {كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ} أي: أُلْبِسَتْ وجوههم، {قِطَعاً مِّنَ الليل مُظْلِماً} والمراد: سوادُ الوجه. وقال حكماء الإسلام: المرادُ من هذا السَّواد، سوادُ الجَهْل، وظلمةُ الضَّلالة، فإنَّ العلم طبعه طبع النُّور، والجهل طبعُه طبع الظُّلْمَة. قيل: المراد بقوله: {والذين كَسَبُواْ السيئات} : الكفار؛ لأن سواد الوجه من علامات الكفر، قال تعالى: {مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا} [آل عمران: 160] وقال: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ أولئك هُمُ الكفرة الفجرة} [عبس: 40 - 42] . وقال القاضي: {والذين كَسَبُواْ السيئات} عامٌّ يتناول الكافر، والفاسق، وأجيبُ: بأن الصيغة وإن كانت عامَّة، إلاَّ أن الدلائل التي ذكرناها مخصِّصة، ثم قال: {أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 313 قوله - تعالى -: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً} الآية. «يَوْمَ» منصوب بفعلٍ مقدَّر، أي: خوَّفهم، أو ذكرهم يوم، والضميرُ عائد على الفريقين أي: الذين أحسنوا، والذين كسبوا. و «جَمِيعاً» : حال، ويجُوزُ أن يكون تأكيداً، عند من عدَّها من ألفاظ التَّأكيد. قوله: «مَكَانكُمْ» اسمٌ فعل، ففسَّره النحويُّون ب «اثبُتُوا» فيحمل ضميراً، ولذلك أكَّد بقوله: «أنْتُم» ، وعطف عليه «شُرَكاؤكُم» ؛ ومنه قول الشاعر: [الوافر] 2896 - وقَولِي كُلَّمَا جَشَأتْ وجاشَتْ ... مكانكِ تُحْمَدِي أوْ تَسْتَرِيحي أي: اثبتي، ويدلُّ على ذلك جزمُ جوابه، وهو «تُحْمَدي» ، وفسَّره الزمخشري: ب «الزمُوا» قال: مكانكُم، أي: الزموا مكانكُم، لا تبرَحُوا حتى تنظروا ما يفعل بكم «. قال أبو حيَّان: وتقديره له ب» الزمُوا «ليس بجيِّد، إذ لو كان كذلك؛ لتعدَّى كما يتعدَّى ما ناب هذا عنهُ، فإنَّ اسمَ الفعل يُعَامل معاملة مُسمَّاة، ولذلك لمَّا قدَّرُوا» عليك «، بمعنى:» الزم «عدَّوْه تعديته نحو: عليْكَ زيداً. قال شهابُ الدِّين» فالزمخشري قد سبق التَّفسير، والعُذرُ لمن فسَّرهُ بذلك، أنه قصد تفسير المعنى «، قال الحوفي:» مكانكُم نُصب بإضمار فعل، أي: الزمُوا مكانَكُم أو اثبُتوا «. وكذلك فسرهُ أبو البقاء، فقال:» مَكَانَكُمْ «ظرفٌ مبنيٌّ؛ لوقوعه موقع الأمر، أي:» الزمُوا «. وهذا الذي ذكره من كونه مبنيّاً، فيه خلاف للنحويين: منهم من ذهب إلى ما ذكر، ومنهم من ذهب إلى أنَّه حركةُ إعراب، وهذان الوجهان مبنيان على خلاف في أسماء الأفعال هل لها محلٌّ من الإعراب أو لا؟ فإن قلنا لها محلٌّ، كانت حركاتُ الظرفِ حركاتِ إعراب، وإن قلنا لا موضع لها، كانت حركاتِ بناءٍ، وأمَّا تقديره: ب» الزَمُوا «، فقد تقدَّم جوابه. قوله:» أنْتُم «فيه وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 314 أحدهما: أنَّه تأكيدٌ للضمير المستتر في الظرف، لقيامه مقام الفاعل، كما تقدَّم التنبيه عليه. والثاني: أجازهُ ابن عطيَّة، وهو أن يكون مبتدأ، و» شُرَكاؤُكُم «معطوفٌ عليه، وخبرُهُ محذوفٌ، قال:» تقديره: أنتم وشركاؤكم مهانون، أو معذبون «، وعلى هذا فيوقفُ على قوله:» مَكَانَكُم «ثم يبتدأ بقوله:» أنتُم «، وهذا لا ينبغي أن يقال، لأنَّ فيه تفكيكاً لأفصحِ كلام، وتبتيراً لنظمه، من غير داعيةٍ إلى ذلك؛ ولأنَّ قراءة من قرأ» وشُرَكاءكُمْ «نصباً، تدل على ضعفه، إذ لا تكونُ إلاَّ من الوجه الأوَّل؛ ولقوله:» فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ «، فهذا يدلُّ على أنَّهم أمروا هُم وشُركاؤهم بالثّبات في مكانٍ واحدٍ، حتى يحصل التَّنزيل بينهم. وقال ابن عطية أيضاً: «ويجوزُ أن يكون» أنتُمْ «تأكيداً للضمير الذي في الفعل المقدَّر الذي هو» قفوا «ونحوه» . قال أبُو حيَّان: وهذا ليس بجيّدٍ، إذ لو كان تأكيداً لذلك الضمير المتصل بالفعل، لجاز تقديمُه على الظَّرفِ، إذ الظرفُ لم يتحمَّل ضميراً على هذا القول، فيلزمُ تأخيره عنهُ، وهو غير جائزٍ، لا تقول: «أنت مكانك» ولا يحفظ من كلامهم. والأصحُّ: أنَّه لا يجوز حذفُ المؤكِّد في التَّأكيد المعنويِّ، فكذا هذا؛ لأنَّ التأكيد ينافي الحذف، وليس من كلامهم: «أنت زيداً» لمن رأيته قد شهر سيفاً، وأنت تُريد «اضرب أنت زيداً» ، إنَّما كلامُ العرب: «زيداً» تُريدُ: اضرب زيداً. قال شهاب الدِّين: «لَمْ يَعْنِ ابنُ عطيَّة، أنَّ» أنْتَ «تأكيد لذلك الضمير في» قِفُوا «من حيث إنَّ الفعل مرادٌ غير منُوبٍ عنهُ؛ بل لأنَّه ناب عنه هذا الظرفُ، فهو تأكيدٌ له في الأصل؛ قبل النِّيابة عنه بالظرف، وإنَّما قال: الذي هو» قفوا «تفسيراً للمعنى المقدر» . وقرأ فرقة «وشُرَكاءكُمْ» نصباً على المعيَّة، والنَّاصب له اسم الفعل. قوله: «فَزَيَّلْنَا» ، أي: فرَّقنا وميَّزنا؛ كقوله - تعالى -: {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا} [الفتح: 25] . واختلفوا في «زيَّل» هل وزنه فعَّل أو فيعل؟ . والظاهر الأول، والتضعيفُ فيه للتَّكثيرِ، لا للتَّعدية، لأنَّ ثلاثية مُتعدِّ بنفسه، حكى الفراء: «زِلْتُ الضَّأن من المعز، فلم تَزِل» ويقال زلتُ الشَّيء من مكانه أزيلُهُ، وهو على هذا من ذوات الياء. والثاني: أنه فَيْعَل كبيطر وبيقر، وهو من زالَ يزولُ، والأصل: «زَيْوَلْنَا» ، فاجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسُّكون، فأعلت بقلب الواو ياء، وإدغام الياء فيها، ك « الجزء: 10 ¦ الصفحة: 315 مَيِّت وسيِّد» في: ميوت سَيْود، وعلى هذا فهو من مادة الواو، وإلى هذا ذهب ابنُ قتيبة، وتبعه أبو البقاء. وقال مكِّي: «ولا يجوز أن يكون فعَّلنا من زال يزول؛ لأنَّه يلزم في الواو فيكون زَوَّلنا» . وهذا صحيحٌ، وقد تقدَّم تحرير ذلك في قوله: {أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ} [الأنفال: 16] . وردَّ أبو حيَّان كونه «فَيْعَل» ، بأنَّ «فَعَّلَ» أكثر من «فَيْعَل» ؛ ولأنَّ مصدره التَّنزيل، ولو كان «فَيْعل» ، لكان مصدره «فَيْعلة» كبيطرة؛ لأن «فَيْعَل» ملحقٌ «بفَعْلَلَ» ، ولقولهم في معناه: «زَايَل» ، ولم يقولوا: «زاول» ، بمعنى: «فارق» ، إنَّما قالوه بمعنى: «حَاول وخالط» ، وحكى الفرَّاء: «فَزايَلْنا» ، وبها قرأت فرقة، قال الزمخشري: «مثل صَاعَرَ خدَّه، وصعَّره، وكالمتُه وكلَّمتُه» . يعني: أنَّ «فاعل» بمعنى: «فعَّل» ، و «زَايلَ» بمعنى: «فَارَقَ» . قال: [الطويل] 2897 - وقَالَ العَذَارَى: إنَّما أنْتَ عَمُّنَا ... وكَانَ الشَّبَابُ كالخَليطِ يُزايلُهْ وقال آخر: [الطويل] 2898 - لعَمْري لمَوْتٌ لا عُقُوبةَ بعدَهُ ... لِذي البَثِّ أشْفَى من هَوًى لا يُزايلهْ أي: يفارقه. وقوله - تعالى -: «فَزيَّلْنا» ، و «قال» هذان الفعلان ماضيان لفظاً، مستقبلان معنًى؛ لعطفهما على مستقبل، وهو «ويَوْمَ نَحْشُرهُمْ» ، وهما نظيرُ قوله - تعالى -: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ} [هود: 98] . و «إِيَّانَا» : مفعولٌ مقدمٌ، قُدِّم للاهتمام به والاختصاص، وهو واجبُ التَّقديم على ناصبه؛ لأنَّه ضميرٌ منفصلٌ، لو تأخَّر عنه، لزم اتِّصاله، وقد تقدَّم الكلامُ على ما بعد هذا من «كَفَى» المخففة، واللاَّم التي بعدها، بما يُغْنِي عن الإعادة. [البقرة198] . فصل المعنى «ويَوْمَ نَحْشُرهُمْ» العابد والمعبُود، ثمَّ إن المعبود يتبرَّأ من العابد، ويتبيَّن لهُ أنَّه ما فعل ذلك بعلمه وإرادته، ونظيرهُ قوله - تعالى -: {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} [البقرة: 166] ، وقوله: {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] . و «الحَشْر» : الجمع من كل جانبٍ إلى موقفٍ واحدٍ {ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ} أي: الزَمُوا مكانكم «وشُرَكاؤكُم» يعني: الأوثان، حتَّى تسألوا، «فزيَّلْنَا بَيْنَهُم» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 316 أي: ميَّزنا وفرَّقنا بينهم، وجاءت هذه الكلمة على لفظ الماضي، بعد قوله: «ثُمَّ نقُولُ» وهو مستقبل؛ لأنَّ ما جاءكم الله بِهِ، سيكون صار كالكائن الآن، كقوله: {ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44] . وأضاف الشُّركاء إليهم؛ لأنَّهم جعلُوا لهم نصيباً من أموالهم. وقيل: لأنَّ الإضافة يكفي فيها أدنى تعليق، فلمَّا كان الكُفَّار هُم الذين أثبتُوا هذه الشَّركة، حسنت إضافة الشركاءِ إليهم، وقيل: لمَّا خاطب العابدين والمعبودين بقوله «مَكانَكُم» صارُوا شُركاء في هذا الخطاب. قال بعض المُفسِّرين: المراد بهؤلاء الشُّركاء: الملائكة، واستشهدُوا بقوله - تعالى -: {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] ، وقيل: هم الأصنام، ثم اختلف هؤلاء كيف ذكرت الأصنام هذا الكلام؟ فقيل: إن الله - تعالى - يخلقُ فيها الحياة والعقل والنُّطق، وقيل: يخلق فيهم الرُّوح من غير حياةٍ، حتَّى يسمعُوا منهم ذلك. فإن قيل: إذا أحياهُم الله هل يبقيهم أو يفنيهم؟ . فالجوابُ: أنَّ الكلَّ محتملٌ، ولا اعتراض على الله في أفعاله، وأحوال القيامة غير معلومة، إلاَّ القليل، ولا شك أن هذا خطاب تهديدٍ في حق العابدين، فهل يكُون تهديداً في حق المعبودين؟ قالت المعتزلة: لا يجُوزُ ذلك؛ لأنَّه لا ذنب للمعبود، ومن لا ذنب له، لم يصحَّ تهديده، وتخويفه، وقال أهلُ السُّنَّة: لا يسأل عما يفعل. فإن قيل: قول الشركاء: {مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ} وهم كانوا قد عبدوهم، يكون كذباً، وقد تقدَّم في سورة الأنعام، اختلاف الناس في أنَّ أهل القيامة هل يكذبون أم لا؟ . والجواب ههنا: أنَّ منهم من قال: المراد من قولهم: «مَا كُنتُمْ إيَّانَا تَعْبُدُونَ» : هو أنَّكُم ما عبدْتُمُونَا بأمرنا وإرادتنا؛ لأنَّهم استشهدوا بالله في ذلك بقولهم: {فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} ، وبقولهم: {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ} ، ومن النَّاس من أجْرَى الآية على ظاهرها، وقالوا: إنَّ الشُّركاء أخبروا أنَّ الكفار ما عبدوها لوجوه: الأول: أنَّ ذلك الموقف موقفُ دهشة وحيرة، فذلك الكذبُ جارٍ مجرى كذب الصبيان، والمجانين والمدهوشين. الثاني: أنَّهم ما أقامُوا لأعمال الكُفَّار وزناً، وجعلوها لبطلانها كالعدم، فلهذا قالوا: ما عبدونا. الثالث: أنهم تخيَّلوا في الأصنام التي عبدوها صفات كثيرة، فهم في الحقيقة إنَّما عبدوا ذواتاً موصوفة بتلك الصفات، ولمَّا كانت ذواتها خالية عن تلك الصفات، فهم ما عبدوها، وإنما عبدوا أموراً تخيَّلُوها ولا وجود لها في الأعيان، وتلك الصِّفات التي تخيَّلوها في الأصنام: أنها تضرُّ، وتنفع، وتشفع عند الله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 317 قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ} الآية. في «هُنالِكَ» وجهان: أظهرهما: بقاؤه على أصله، من دلالته على ظرف المكان، أي: في ذلك الموقف الدَّحض، والمكان الدَّهش. وقيل: هو هنا ظرف زمان على سبيل الاستعارة، ومثله {هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون} [الأحزاب: 11] ، أي: في ذلك الوقت؛ وكقوله: [الكامل] 2899 - وإذَا الأمُورُ تَعاظَمَتْ وتَشاكَلَتْ ... فهُناكَ يَعْترِفُون أيْنَ المفْزعُ وإذا أمكن بقاء الشيء على موضوعه، فهو أولى. وقرأ الأخوان «تَتْلُو» بتاءين منقوطتين من فوق، أي: تطلب وتتبع ما أسلفته من أعمالها، ومن هذا قوله: [الرجز] 2900 - إنَّ المُريبَ يتْبَعُ المُرِيبَا ... كَمَا رَأيْتَ الذِّيبَ يتلُو الذِّيبَا أي: يتبعه ويتطلَّبه، ويجوز أن يكون من التلاوة المتعارفة، أي: تقرأ كلُّ نفس ما عملته مسطَّراً في صحف الحفظة، لقوله - تعالى -: {ياويلتنا مَا لهذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] ، وقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً} [الإسراء: 13] . وقرأ الباقون: «تَبْلُوا» من البلاء، وهو الاختبار، أي: يعرف عملها: أخيرٌ هو أم شر، وقرأ عاصم في رواية «نَبلو» بالنُّون والباء الموحَّدة، أي: نَخْتَبر نحنُ، و «كُلَّ» منصُوب على المفعول به، وقوله «مَا أسْلفَتْ» على هذا القراءة يحتمل أن يكون في محلِّ نصبٍ، على إسقاطِ الخافض، أي: بما أسْلفَتْ، فلمَّا سقط الخافض، انتصب مَجْرُوره؛ كقوله: [الوافر] 2901 - تَمُرُّونَ الدِّيارَ فَلَمْ تَعُوجُوا ... كلامُكُمُ عليَّ إذنْ حَرَامُ ويحتمل أن يكون منصوباً على البدل من «كُلُّ نَفْسٍ» ويكون من بدل الاشتمال. ويجُوزُ أن يكون «نَبْلُو» من البلاء، وهو العذاب. أي: نُعَذبها بسبب ما أسلفت، و «مَا» يجوز أن تكون موصولةً اسمية، أو حرفية، أو نكرة موصوفة، والعائدُ محذوفٌ على التقدير الأول، والآخر دون الثاني على المَشْهُور. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 318 وقرأ ابنُ وثَّاب: «وَرِدُّوا» بكسر الرَّاء، تشبيهاً للعين المضعفة بالمعتلَّة، نحو: «قيل» و «بيع» ، ومثله: [الطويل] 2902 - ومَا حِلَّ مِنْ جَهْلٍ حُبَا حُلمائِنَا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... بكسر الحاء، وقد تقدَّم بيانُ ذلك [البقرة: 11] . قوله: «إِلَى الله» لا بُدَّ من مضاف، أي: إلى جزاءِ الله، أو موقف جزائه. والجمهور على «الحقِّ» جرًّا، وقرئ منصوباً على أحد وجهين: إمَّا القطع، وأصله أنَّه تابعٌ، فقطع بإضمار «أمدح» ، كقولهم: الحمدُ لله أهل الحمد. وإمَّا أنَّه مصدرٌ مؤكِّدٌ لمضمونِ الجملة المتقدمة، وهو «رُدُّوا إلى الله» وإليه نحا الزمخشريُّ. قال: كقولك: «هذا عبدُ الله الحَقُّ، لا الباطل» على التَّأكيد؛ لقوله: «رُدُّوا إلى اللهِ» . وقال مكِّي: «ويجوزُ نصبهُ على المصدر، ولم يُقرأ به» ، وكأنَّه لم يطلع على هذه القراءة، وقوله: «مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ» «مَا» تحتمل الأوجُه الثلاثة. المعنى: «هُنالِكَ» : في ذلك الوقت، «نَبْلُو» أي: نختبر، والمعنى: يفعلُ بها فعل المختبر، وعلى القراءة الأخرى: أنَّ كلَّ نفس نختبر أعمالها، في ذلك الوقت. {وردوا إِلَى الله} أي: رُدُّوا إلى جزاءِ الله، قال ابن عبَّاسٍ: «مولاهُمُ الحقّ» أي: الذي يجازيهم بالحق، وقيل: جعلوا ملجئين إلى الإقرار بإلاهيته، {مَوْلاَهُمُ الحق} [الأنعام: 62] في الأنعام. «وضلَّ عَنْهُم» : زال وبطل، «مَّا كانُوا يفْتَرون» أي: يعبدون، ويعتقدُون أنهم شفعاء، فإن قيل: قد قال: {وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ} [محمد: 11] ، قيل: المولى هناك هو الناصر، وههنا بمعنى الملك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 319 قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض} الآية. لمَّا ذكر فضائح عبدة الأوثان، أتبعها بذكر الدَّلائل الدَّالَّة على فسادِ هذا المذهب: وهي أحوال الرزق، وأحوال الحواس، وأحوال الموْتِ والحياة: أمَّا الرزقُ، فإنَّه إنَّما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 319 يحصل من السماء والأرض: أمَّا من السَّماء، فبنُزُول المطر الموافق، وأمَّا من الأرض، فلأنَّ الغذاء إمَّا أن يكون نباتاً، أو حيواناً: أمَّا النبات فلأنَّ الأرض تُنبتُه، وأمَّا الحيوانُ، فهو محتاجٌ أيضاً إلى الغذاء، ولا يمكن أن يكون غذاء كل حيوانٍ، حيواناً آخر، وإلا لزم التَّسلسل، وهو محالٌ، فثبت أنَّ غذاء الحيوان، يجب انتهاؤه إلى النَّبات، والنبات إنما يتولَّد من الأرض، فثبت أنَّ الرزق إنما يحصلُ من السَّماء والأرض، ولا مُدَبِّر لهما إلاَّ الله - تعالى -، وأمَّا أحوال الحواسِّ فكذلك، قال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: سبحان من بصر بشحم، وأسمع بعظمٍ، وأنْطَق بلحم. قوله: «مِّنَ السمآء» : «مِنْ» يجُوزُ أن تكون لا بتداء الغاية، وأن تكون للتبعيض، وأن تكون لبيان الجنس، ولا بُدَّ على هذين الوجهين من مضاف محذوف، أي: من أهل السَّماء، قوله: «أمْ» المنقطعة؛ لأنَّهُ لم تتقدَّمها همزةُ استفهام ولا تسوية، ولكن إنَّما تُقدَّر هنا ب «بل» وحدها، دون الهمزة، وقد تقرَّر أنَّ المنقطعة عند الجمهور تُقدَّر بهما، وإنما لم تتقدَّر هنا ب «بل» والهمزة؛ لأنَّها وقع بعدها اسم استفهام صريح، وهو «مَنْ» ، فهو كقوله - تعالى -: {أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل: 84] ، والإضرابُ هنا على القاعدةِ المقررة في القرآن، أنه إضرابُ انتقالٍ، لا إضرابُ إبطالٍ. قوله: {وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} . قيل: يخرج الإنسان من النطفة، والطائر من البيضة، {وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي} : يخرج النُّطفة والبيضة من الإنسان، والطَّار، وقيل: يخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، ثم قال: {وَمَن يُدَبِّرُ الأمر} وهذا كلام كليٌّ؛ لأنَّ تدبير أقسام الله في العالم العُلويِّ، والسُّفلي أمور لا نهاية لها، وذكرها كالمُتعذِّر، فلمَّا ذكر بعض تلك التفاصيل؛ عقَّبها بالكلام الكلِّي ليدلَّ على الباقي، ثم بيَّن أنَّ الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، إذا سألهم عن مُدَبِّر هذه الأمور، فسيقولون هو الله، وهذا يدلُّ على أنَّ المخاطبين بهذا الكلام، كانُوا يعرفون الله تعالى، ويقرون به، وهم الذين قالوا في عبادتهم الأصنام: إنَّها تُقربنا إلى الله زُلْفَى، وأنَّهم شفعاؤنا عند الله، وكانوا يعلمُون أنَّ هذه الأصنام، لا تنفع ولا تضرُّ، فعند ذلك قال لرسلوه: {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} الشرك مع هذا الإقرار، وقيل: أفلا تخافون عقابه في شِرْكِكُم؟ . قوله: {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ} الذي يفعل هذه الأشياء، هو ربُّكم الحقُّ. قوله: {فَمَاذَا بَعْدَ} يجوز أن يكون «مَاذَا» كلُّه اسماً واحداً؛ لتركُّبهما، وغُلِّب الاستفهامُ على اسم الإشارة، وصار معنى الاستفهام هنا النَّفْيَ، ولذلك أوجب بعده ب «إلاَّ» ، ويجوز أن يكون «ذَا» موصولاً بمعنى: «الَّذي» ، والاستفهام أيضاً بمعنى: النَّفْي؛ والتقدير: ما الذي بعد الحقِّ إلاَّ الضَّلال؟ . وإذا ثبت أنَّ الله هو الحقُّ، وجب أن يكون ما سواه ضلالاً، أي: باطلاً؛ لأنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 320 النَّقيضين يمتنع أن يكونا حقَّين، وأن يكونا باطلين، فإذا كان أحدهما حقّاً، وجب كون ما سواه باطلاً، ثم قال {فأنى تُصْرَفُونَ} أي: كيف تَعْدلُون عن عبادته، وأنتُم مُقِرُّون بذلك. قال الجُبَّائي: دلَّت هذه الآية على بطلان قول المُجبِّرة: أنَّه - تعالى - يصرف الكُفَّار عن الإيمان؛ لأنَّه لو كان كذلك، لما جاز أن يقول {فأنى تُصْرَفُونَ} كما لا يقول إذا عمي أحدهم إني عميتُ، وسيأتي جوابه. فصل المعنى: أنَّ الذي يفعل هذه الأشياء، هو ربُّكم الحقُّ، لا ما أشركتُم معه. قال بعضُ المتقدِّمين: ظاهرُ هذه الآية، يدلُّ على أنَّ ما بعد الله، هو الضلالُ؛ لأنَّ أوَّلها {فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق} ، وآخرها {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} فهذا في الإيمان، والكفر ليس في الأعمال، وقال بعضهم: إنَّ الكفر تغطية الحقِّ، وكل ما كان غير الحقِّ، جرى هذا المجرى، فالحرام ضلالٌ، والمُبَاحُ هُدًى، فإن الله هو المبيحُ، والمحرِّم. فصل قال القرطبي: «رُوي عن مالك، في قوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} قال اللَّعبُ بالشطرنج والنَّرد من الضلال، وسئل مالكٌ: عن الرَّجُل يلعبُ في بيته، مع امرأته بأربعة عشرة، فقال: ما يُعْجِبني، ليس من شأن المُؤمن، قال - تعالى -: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} ، وسئل مالكٌ: عن اللَّعبِ بالشطرنج، فقال: لا خَيْرَ فيه وهو من الباطل، واللَّعبُ كلُّه من الباطل» . وقال الشَّافعيُّ: «لاعب الشطرنج، وغيره - إذا لم يكن على وجه القمار - لا تُرَدّ شهادتهُ إذا كان عدْلاً، ولمْ تظهرْ منه ريبةٌ، ولا كبيرةٌ، فإن لعب بها قُماراً، وكان معروفاً بذلك، سقطت عدالتُهُ، لأكله المال بالباطل، وقال أبُو حنيفة:» يُكرَه اللعب بالشطرنج، والنَّرد، والأربعة عشر، وكل اللَّهْو فإن لم تظهر من اللاَّعب بها كبيرةٌ، وكانت مساوئه قليلة، قُبلتْ شهادته «. قال ابن العربي:» قال الشَّافعية: إنَّ الشطرنج يخالف النَّرد، لأنَّ فيه إكدار الفكر، واستعمال القريحة، وأمَّا النَّرْد: فلا يعلم ما يخرجُ له، فهو كالاستقسام بالأزلام «. وأنَّ النَّرد هو الذي يعرفُ بالباطل، ويعرف في الجاهليَّة بالأزلام، ويعرف أيضاً بالنَّردشير، وروي أنَّ ابن عمر، مرَّ بغلمان يعلبُون بالكجَّة، وهي حُفَر فيها حصى، يلعبُون بها، فسدَّها ابنُ عمر، ونهاهم عنها. ذكر الهروي في باب الكاف مع الجيم، في حديث ابن عبَّاس: في كل شيءٍ قمار، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 321 حتى في لعب الصبيان بالكُجَّةِ، وقال ابن الأعرابي:» الكجَّة هي: أنْ يأخذ الصبيُّ خرقةً، فيدورها كأنَّها كُرةً ثم يتقامرُون بها «. قوله: «كَذَلِكَ حَقَّتْ» : الكافُ في محلِّ نصبٍ، نعتاً لمصدرٍ محذوف، والإشارةُ بذلك إلى المصدر المفهوم من «تُصْرَفُون» ، أي: مثل صَرْفِهم عن الحقِّ، بعد الإقرار به، في قوله - تعالى -: {فَسَيَقُولُونَ الله} ، وقيل إشارةٌ إلى الحقِّ. قال الزمخشري: «كذلك: مثل ذلك الحقِّ حقَّت كلمةُ ربِّك» . قوله: {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنَّها في محلِّ رفع؛ بدلاً من «كَلِمةُ» ، أي: حقَّ عليهم انتفاءُ الإيمان. الثاني: أنَّها في محلِّ رفعٍ، خبراً لمبتدأ محذوف، أي: الأمر عدمُ إيمانهم. الثالث: أنَّها في محلِّ نصب، بعد إسقاطِ الحرف الجارِّ. الرابع: أنَّها في محلِّ جرٍّ، على إعماله محذوفاً، إذ الأصل: لأنَّهم لا يُؤمِنُون. قال الزمخشري: «أو أراد بالكلمة، العِدَة بالعذاب، و {أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} تعليلٌ، أي: لأنَّهم» ، وهذا إنباء على مذهبهم. وقرأ أبو عمرو، وابن كثير، والكوفيون: «كَلِمَات» بالجمع، وكذا في آخر السورة [يونس: 96] ، وتقدَّم ذلك في الأنعام، وقرأ ابنُ أبي عيلة: «إَِنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ» بكسر «إنَّ» على الاستئناف، وفيها معنى التَّعليل، وهذا يُقَوِّي الوجه الصَّائر إلى التَّعليل. فصل احتجَّ أهل السنة بهذه الآية: على أنَّ الكفر بقضاء الله، وإرادته، لأنه - تعالى - أخبر عنهم قطعاً أنَّهم لا يؤمنون، فلو آمنوا، لكان إمَّا أن يبقى ذلك الخبر صدقاً، أو لا، والأوَّل باطلٍ؛ لأنَّ الخبر بأنَّه لا يؤمن، يمتنع أن يبقى صدقاً حال ما يُوجد الإيمان. والثاني باطلٌ؛ لأنَّ انقلاب خبر الله - تعالى - كذباً محالٌ، فثبت أنَّ صدور الإيمان منهم محالٌ، والمحالُ لا يكون مراداً، فثبت أنَّه - تعالى - ما أراد الإيمان من هذا الكافر، وأنَّه أرادَ الكُفْر منه. ثم نقول إن كان قوله: {فأنى تُصْرَفُونَ} يدلُّ على صحَّة مذهب القدريَّة، فهذه الآيةُ الموضوعة بجنبه تدلُّ على فساده، وقد كان الواجبُ على الجُبَّائيِّ مع قوة خاطره، حين استدلَّ بتلك الآية على صحَّة قوله، أن يذكُر هذه الحجَّة، ويجيب عنها حتى يحصل مقصوده، والمراد ب «الكلمة» : حكمةُ السَّابق على الذينَ فَسَقُوا، أي: كفرُوا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 322 قوله - تعالى - {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} الآية. هذه هي الحجَّة الثانية عليهم. فإن قيل: القوم كانوا منكرين الإعادة، والحشر، والنشر، فكيف احتجَّ عليهم بذلك؟ فالجواب: أنَّه - تعالى - قدَّم في هذه السورة ما يدلُّ عليه، وهو وجوب التمييز بين المُحْسِن والمُسيءِ، وهذه الدَّلالة دلالةٌ ظاهرةٌ قويَّة، لا يمكن للعاقل دفعها؛ فلأجْلِ قُوَّتها، وظهورها تمسَّك بها، سواء الخَصْم عليها، أو لا. فإن قيل: لِمَ أمر رسوله أن يعترف بذلك، والإلزام إنَّما يحصلُ لو اعترف الخصمُ به؟ . فالجوابُ: أنَّ الدَّليل لمَّا كان ظاهراً جليّاً، فإذا أورد على الخَصْم في معرض الاستفهام، كأنَّه بنفسه يقول: الأمر كذلك، فكان هذا تنبيهاً، على أنَّ هذا الكلام بلغ في الوُضوح، إلى حيث لا حاجة فيه إلى إقرار الخصم به، وأنَّه سواء أقرَّ، أو أنكَرَ، فالأمرُ متقرِّر ظاهرٌ. قوله: {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق} : هذه الجملةُ جوابٌ لقوله: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، وإنَّما أتى بالجواب جملة اسمية، مصرَّحاً يجزأيها، مُعَاداً فيها الخبر، مطابقاً لخبر اسم الاستفهام؛ للتأكيد، والتَّثبيتِ، ولمَّا كان الاستفهام قبل هذا، لا مندوحة لهُم عن الاعتراف به، جاء الجملةُ محذوفاً منها أحدُ جزأيها، في قوله: {فَسَيَقُولُونَ الله} [يونس: 31] ، ولم يَحْتَجْ إلى التَّأكيد بتصريح جزأيها. فصل قال القرطبيُّ: ومعنى الآية: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق} ينشئه من غير أصل، ولا سبق مثال: «ثُمَّ يُعِيدُهُ» : يُحْييه بعد الموت كهَيْئتِهِ، فإن أجابُوك، وإلاَّ ف {قُلِ الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} ، ثم قال: {فأنى تُؤْفَكُونَ} أي: تصرفون عن قصد السَّبيل، والمُراد: التَّعجُّب منهم في الدُّنْيَا من هذا الأمر الواضح الذي دعاهُم الهوى والتَّقليد إلى مخالفته؛ لأنَّ الإخبار عن كون الأوثان آلهةً كذب، وإفكٌ الاشتغال بعبادتها، مع أنَّها لا تستحق العبادة أيضاً إفكٌ. قوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} الآية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 323 وهذه حجَّة ثالثة. واعلم أنَّ الاستدلالَ على وجودِ الصَّانع بالخلق أولاً، ثم بالهداية ثانياً، عادة مُطَّردة في القرآن، قال - تعالى - حكاية عن الخليلي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] ، وحكى عن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في جواب لفرعون: {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] ، وأمر محمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقال: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 1 - 3] . واعلم أنَّ الإنسان له جسدٌ وروحٌ، فالاستدلال على وجود الصَّانع بأحوال الجسد، هو الخلق، والاستدلال بأحوال الرُّوح، هو الهدايةُ. والمقصودُ من خلق الجسدِ: حصول الهداية للرُّوح، كما قال - تعالى -: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] ، وهذا كالتَّصريح بأنَّه تعالى إنَّما خلق الجسد، وأعطى الحواسّ؛ لتكون آلة في اكتساب المعارف، والعلم. قوله: {يهدي إِلَى الحق} ، قد تقدَّم في أول الكتاب: أنَّ «هَدَى» يتعدَّى إلى اثنين ثانيهما: إمَّا باللاَّم أو بإلى، وقد يحذفُ الحرفُ تخفيفاً [الفاتحة: 6] ، وقد جمع بين التعديتين هنا بحرف الجر، فعدَّى الأول والثالث ب «إلى» ، والثاني باللاَّم، وحذف المعفول الأول من الأفعال الثلاثة، والتقدير: هل من شركائكم من يهدي غيره إلى الحق، قل الله يهدي من يشاء للحقِّ، أفمنْ يهدي غيره إلى الحقِّ، وزعم الكسائي، والفرَّاء، وتبعهما الزمخشري: أنَّ «يَهْدِي» الأول قاصرٌ، وأنَّه بمعنى: اهتدى، وفيه نظر؛ لأنَّ مقابله، وهو {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} متعدٍّ، وقد أنكر المبرِّدُ أيضاً مقالة الكسائي، والفراء، وقال: لا نَعْرِفُ «هَدَى» بمعنى: «اهتدى» . قال شهاب الدِّين «الكسائي والفرَّاء أثبتاه بما نقلاه، ولكن إنَّما ضعف ذلك هنا؛ لما ذكرتُ لك من مقابلته بالمتعدِّي، وقد تقدَّم أنَّ التعدية ب» إلى «أو اللاَّم، من باب التَّمن في البلاغة، ولذلك قال الزمخشري:» يقال: هداه للحقِّ وإلى الحقِّ، فجمع بين اللغتين «، وقال غيره:» إنَّما عدَّى المسند إلى الله باللاَّم؛ لأنَّها أدلُّ في بابها على المعنى المراد من «إلى» ؛ إذ أصلها لإفادة الملك، فكأنَّ الهداية مملوكةٌ لله - تعالى - «. وفيه نظر؛ لأنَّ المراد بقوله: {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق} هو الله - تعالى -، مع تعدِّي الفعل المسند إليه ب» إلى «. قوله: {أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ} : خبرٌ لقوله:» أَفَنْ يهدي «، و» أنْ «في موضع نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذف الخافض، والمفضَّلُ عليه محذوفٌ، وتقدير هذا كلّه: أفمن يهدي إلى الحقِّ أحقُّ بأن يُتَّبَع ممَّن لا يهدي. ذكر ذلك مكِّي بن أبي طالب، فجعل» أحَقُّ «هنا على بابها من كونها للتفضيل، وقد منع أبو حيَّان كونها للتَّفضيل، فقال: و» أحَقُّ «ليست للتفضيل، بل المعنى:» حَقيقٌ بأن يُتَّبع «، وجوَّز مكِّي أيضاً في المسألة وجهين آخرين: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 324 أحدهما: أن تكون» مَنْ «مبتدأ أيضاً، و» أنْ «في محلِّ رفعٍ، بدلاً منها بدل اشتمال، و» أحَقُّ «خبرٌ على ما كان. والثاني: أن يكون» أنْ يُتَّبَع «في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و» أحَقُّ «خبره مقدَّمٌ عليه. وهذه الجملة خبر ل» مَنْ يَهْدِي «، فتحصَّل في المسألة ثلاثة أوجُه. قوله: {أَمَّن لاَّ يهدي} : نسقٌ على» أفَمَنْ «، وجاء هنا على الأفصح، مِنْ حيث إنَّهُ قد فصل بين» أمْ «وما عُطفتْ عليه بالخبر، كقولك: أزَيْدٌ قائمٌ أم عمرو، ومثله: {أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد} [الفرقان: 15] ، وهذا بخلاف قوله - تعالى -: {أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ} [الأنبياء: 109] وسيأتي هذا في موضعه، وقرأ أبو بكر عن عاصم: بكسر ياء «يهدِّي» وهائه، وحفص بكسر الهاء دون الياء، فأما كسر الهاء؛ فلالتقاء الساكنين، وذلك أنَّ أصله «يَهْتَدِي» ، فلمَّا قُصِدَ إدغامُه سكنتِ التاء، والهاءُ قبلها ساكنة، فكسرت الهاءُ لالتقاء الساكنين، وأبو بكر أتبع الياء للهاء في الكسر، وقال أبو حاتم: في قراءة حفصٍ «هي لغة سُفْلَى مُضَرَ» . ونقل عن سيبويه: أنَّه لا يجيز «يِهْدِي» ، ويجيز «تِهْدِي، وإهْدِي» ، قال: «لأنَّ الكسرة تثقلُ في الياء» ، يعني: يُجيز كسر حرفِ المضارعة من هذا النَّحو، نحو: تِهْدِي ونِهْدِي وإِهْدِي، إذ لا ثقل في ذلك، ولم يجزهُ في الياء؛ لثقل الحركة المجانسةِ لها عليها، وهذا فيه غضٌّ من قراءة أبي بكرٍ، لكنه قد تواتر قراءة، فهو مقبولٌ، وقرأ أبو عمرو وقالون، عن نافع: بفتح الياء، واختلاس فتحة الهاء، وتشديد الدَّال، وذلك أنَّهُمَا لمَّا ثقَّلا الفتحة للإدغام، اختلسا الفتحة؛ تنبيهاً على أنَّ الهاءَ ليس أصلها الحركة، بل السُّكون، وقرأ ابن كثير، وابن عامر، وورش: بإكمال فتحة الهاء على أصل النقل، وقد رُوي عن أبي عمرو، وقالوا: اختلاسُ كسرةِ الهاءِ، على أصل التقاء الساكنين، والاختلاسُ للتنبيه على أنَّ أصل الهاءِ السُّكون كما تقدَّم، وقرأ أهلُ المدينة - خلا ورشاً - بفتح الياء وسكون الهاء وتشديد الدَّال، وهذه القراءةُ استشكلها جماعةٌ من حيث الجمع بين السَّاكنين، قال المبرد: «مَنْ رَامَ هذا، لا بد أن يحرك حركة خفيَّة» قال أبو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 325 جعفر النَّحاس: لا يقدر أحدٌ أن ينطقَ به. قال شهاب الدِّين: «وقد قال في التيسير:» والنَّصُّ عن قالون بالإسكان «، قلت: ولا بعد في ذلك؛ فقد تقدَّم أنَّ بعض القُرَّاء يَقْرَأ {نِعْمَّا} [النساء: 58] و {لاَ تَعْدُواْ} [النساء: 154] بالجمع بين الساكنين، وتقدَّمت لك قراءاتٌ كثيرة، في قوله {يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} [البقرة: 20] ، وسيأتي مثل هذا في {يَخِصِّمُونَ} [يس: 49] . وقرأ الأخوان» يَهْدِي «بفتح الياء، وسكون الهاء، وتخفيف الدال، من هدى يَهْدي، وفيه قولان: أحدهما: أنَّ» هَدَى «بمعنى: اهتدى. والثاني: أنَّه متعدٍّ، ومفعوله محذوفٌ كما تقدَّم، وتقدم في قول الكسائي، والفرَّاء في ذلك، وردُّ المبرد عليهما. وقال ابن عطيَّة:» والذي أقول: قراءةُ حمزة، والكسائيُّ؛ تحتمل أن يكون المعنى: أمْ مَنْ لا يهدي أحداً، إلاَّ أنْ يهدي ذلك الأحدُ بهداية الله، وأمَّا على غيرها من القراءات التي مقتضاها: أمْ مَنْ لا يهتدي، إلاَّ أنْ يُهْدَى. فيتجه المعنى على ما تقدَّم «، ثم قال:» وقيل: تمَّ الكلامُ عند قوله: «أمْ مَنْ لا يَهَدِّي» ، أيك لا يهدِّي غيره «، ثم قال:» إلاَّ أنَّ يَهْدَى: استثناءٌ منقطع، أي: لكنه يحتاجُ إلى أن يُهْدَى، كما تقول: فلانُ لا يسمع غيره، إلاَّ أنْ يسمع، أي: لكنَّه يحتاجُ إلى أن يسمع «. انتهى، ويجوز أن يكون استثناءً متصلاً؛ لأنَّه إذ ذاك يكون فيهم قابليَّةُ الهداية، بخلافِ الأصنام، ويجوز أن يكون استثناء من تمامِ المفعول له، أي: لا يهدي لشيءٍ من الأشياء، إلاَّ لأجْل أن يُهْدَى بغيره. قوله: «فَمَا لَكُمْ» : مبتدأ وخبر، ومعنى الاستفهام هنا: الإنكارُ والتعجُّبُ، أي: أيُّ شيءٍ لكم في اتِّخاذ هؤلاء؛ إذا كانوا عاجزين عن هداية أنفسهم، فكيف يمكن أن يهدوا غيرهم؟ وقد تقدَّم: أنَّ بعض النحويين نصَّ على أنَّ مثل هذا التركيب، لا يتمُّ إلاَّ بحالٍ بعده، نحو: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ} [المدثر: 49] ، {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ} [المائدة: 84] إلى غير ذلك، وهنا لا يمكن أن تقدَّر الجملةُ بعد هذا التركيب حالاً؛ لأنَّها استفهاميَّة، والاستفهاميَّة لا تقع حالاً. وقوله: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ} : استفهامٌ آخر، أي: كيْفَ تحكمُونَ بالباطل، وتجعلُون لله أنْداداً، وشُركاء؟ . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 326 فصل المعنى: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي} : يرشد، «إِلَى الحق» فإذا قالوا: لا، ولا بدَّ لهم من ذلك {قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ} أي: إلى الحقِّ {أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى} أي: الله الذي يهدي إلى الحقِّ أحق بالاتِّباع، أم الصَّنم الذي لا يهتدي، إلاَّ أنْ يُهْدَى؟ فإن قيل: الأصنام جمادات لا تقبل الهداية، فكيف قال: {إِلاَّ أَن يهدى} ، والصَّنَمُ لا يتصوَّر أن يهتدي، ولا أنْ يُهْدَى؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أنَّ المراد من قوله: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ} الأصنام، والمراد من قوله: {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق} : رؤساء الكفر، والضلال، والدعاة إليهما؛ لقوله - تعالى -: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله} [التوبة: 31] إلى قوله: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31] أي: أن الله - تعالى - هدى الخلق إلى الدِّين، بالدَّلائل العقليَّة، والنقليَّة، وهؤلاء الدُّعاة لا يقدرون أن يهدُوا غيرهم، إلاَّ إذا هداهم الله، فكان التَّمسك بدين الله، أولى من قُبُول قول هؤلاء الجهال. وثانيها: أن معنى الهداية في حقِّ الأصنامِ: الانتقال، والهدى: عبارة عن النَّقل والحركة، يقال: أهديت المرأة إلى زوجها، إذا انتقلت إليها، والهَدْيُ: ما يُهْدى إلى الحرم من النَّعَم، وسميت الهديَّةُ هديَّة؛ لانتقالها من شخص إلى غيره، وجاء فلان يهادى بين رجلين، إذا كان يمشي مُعْتمداً عليهما؛ لضعفه وتمايله. وإذا ثبت ذلك فالمرادُ: أنَّه لا ينتقل من مكان إلى مكان، إلاَّ أن يحمل وينقل بين عجز الأصنام. وثالثها: أنه ذكر الهداية على وجه المجاز؛ لأنَّ المشركينَ لمَّا اتَّخذُوا الأصنام آلهةً، وأنَّها لا تشفع لهم في الآخرة، وأنَّهم نزَّلُوها منزلة من يعقل، فلذلك عبَّر عنها كما يُعبَّر عمَّن يعلم ويعقل. ورابعها: أنْ يُحْمل على التقدير، أي: أنَّها لو كانت بحيث يمكنها أن تهدي، فإنَّها لا تهدي غيرها، إلاَّ بعد أن يهديها غيرها، ثم قال: {فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} أي: تَقضُون، حين زعمتُم: أنَّ للهَ شريكاً. قوله: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً} الآية. أي: يقولون إنَّ الأصنامَ آلهة، وأنَّها تشفع لهم في الآخرة، «ظَنّاً» : لمْ يردْ به كتابٌ ولا رسولٌ. وأراد بالأكثر، جميع من يقول ذلك. وقيل: وما يتبع أكثرهم في إقرارهم بالله إلاَّ ظنّاً؛ لأنَّه قولٌ غير مسندٍ إلى برهانٍ عندهم، بل سمعُوه من أسلافهم، وهذا القول أولى؛ لأنَّا في الأول نحتاج إلى أن نُفَسِّر الأكثر بالكُلِّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 327 قوله: «لاَ يُغْنِي» : خبرُ «إنَّ» ، و «شيئاً» منصوبٌ على المصدر، أي: شيئاً من الإغناء، و «منَ الحقِّ» نصبٌ على الحالِ من «شَيْئاً» ؛ لأنَّهُ في الأصل صفةٌ له، ويجُوزُ أن تكون «مِن» بمعنى «بدل» ، اي: لا يُغْنِي بدل الحقِّ، وقرأ الجمهور: «يَفْعلُون» على الغيبة، وقرأ عبد الله: «تَفْعَلون» خطاباً، وهو التفاتٌ بليغٌ، ومعنى الآية: إنَّ الظَّنَّ لا يدفع عنهم من عذَابِ الله شيئاً، وقيل: لا يقوم مقام العلم. فصل تمسَّك نُفاةُ القياس بهذه الآية، فقالوا: العملُ بالقياس عمل بالظَّنِّ، فوجب أن لا يجوز لهذه الآية، وأجيبوا: بأنَّ الدَّليل الذي دلَّ على وجوب العمل بالقياس، دليلٌ قاطعٌ، فكان وجوبُ العمل بالقياس معلوماً، فلم يكن العملُ بالقياس مظنوناً، فأجابوا: بأنَّه لو كان الحكم المستفاد من القياس معلوماً، فلم يكن العملُ بالقياس مظنوناً، فأجابوا: بأنَّه لو كان الحكم المستفاد من القياس يعلم كونه حكماً لله - تعالى -، لكان ترك العمل به كُفْراً؛ لقوله - تعالى -: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] ولمَّا لمْ يكُن كذلك، بطل العمل به، ثم عبَّرُوا عن هذه الحُجَّة، فقالوا: الحكم المستفاد من القياس: إمَّا أن يعلم كونه حكماً لله - تعالى -، أو يظن، أو لا يعلم ولا يظن. والأرض باطل، وإلاَّ لكان من لم يَحْكُم به كافراً؛ لقوله - تعالى -: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] ، وبالاتِّفاق ليس كذلك. والثاني: باطلٌ؛ لأنَّ الحكم بالظَّنِّ لا يجوز؛ لقوله - تعالى -: {إَنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً} . والثالث: باطلٌ؛ لأنه إذا لم يكن كذلك الحكم معلوماً، ولا مظنوناً، كان مجرد التَّشهي، فكان باطلاً؛ لقوله - تعالى -: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59] . وأجاب مثبتُو القياس: بأنَّ حاصل هذا الدَّليل، يرجع إلى التَّمسك بالعمومات، والتَّمسُّك بالعمومات لا يفيد إلاَّ الظن، فإذا دلَّت العمومات، على المنع من التَّمسُّك بالظنِّ، لزم كونها دالَّة على المنع من التَّمسُّك بالظنِّ، وما أفْضَى ثُبُوته إلى نفيه، كان مَتْرُوكاً. دلَّت هذه الآيةُ: على أنَّ كلَّ من كان ظانّاً في مسائل الأصول، ولم يكُن قاطعاً؛ فإنَّه لا يكون مؤمناً. فإن قيل: فقول أهل السُّنَّة: أنَا مؤمنٌ - إن شاء اللهُ -، يمنع من القطع، فوجب أن يلزمَهُم الكفر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 328 فالجواب من وجوه: الأول: مذهب الشافعي: أنَّ الإيمان عبارةٌ عن مجموع الاعتقادِ، والإقرارِ، والعمل، والشَّك إنَّما هو ي هذه الأعمال، هل هي موافقةٌ لأمر الله - تعالى -؟ والشَّك في أحد أجزاء الماهيَّة، لا يوجب الشَّك في تمام الماهيَّة. الثاني: أنَّ الغرضَ من قوله: إن شاء اللهُ، بقاء الإيمان عند الخاتمة. الثالث: الغرض منه هضم النَّفْس وكسرُها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 329 قوله - تعالى -: {وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله} الآية. لمَّا تقدَّم قول القوم: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} [يونس: 20] ، وذكروا ذلك؛ لاعتقادهم؛ أنَّ القرآن ليس بمعجز، وأنَّ محمداً أنَّما أتَى به من عند نفسه؛ افتعالاً، واختلافاً، وذكر - تعالى - هنا: أنَّ إتيان محمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بهذا القرآن، ليس هو افتراءٌ على الله - تعالى -، وإنَّما هو وحي نازل عليه من عند الله، وأنَّه مُبَرَّأ عن الافتعال، والافتراء، ثم احتجَّ على صحَّة هذا الكلام، بقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] . قوله: «أن يفترى» : فيه وجهان: أحدهما: أنَّه خبرُ «كان» ، تقديره: وما كان هذا القرآن افتراء، أي: ذا افتراء، إذ جعل نفس المصدر مبالغةً، أو يكون بمعنى: مُفْتَرى. والثاني: زعم بعضهم: أنَّ «أنْ» هذه هي المضمرة بعد لام الجُحُودِ، والأصل: وما كان هذا القرآنُ ليفترى، فلمَّا حذفتْ لامُ الجحود، ظهرت «أنْ» ، وزعم: أنَّ اللاَّم، و «أنْ» يتعاقبان، فتحذف هذه تارة، وتَثْبُت الأخرى، وهذا قولٌ مرغوبٌ عنه، وعلى هذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 329 القول، يكون خبر «كان» محذُوفاً، و «أنْ» وما في حيِّزها، متعلقةٌ بذلك الخبر، وقد تقدَّم تحريرُ ذلك [البقرة143] ، و «مِن دُون اللهِ» متعلِّق ب «يُفْتَرَى» والقائمُ مقامَ الفاعل ضميرٌ عائدٌ على القرآن. قوله: {ولكن تَصْدِيقَ} : عطف على خبر «كانَ» ووقعت «لكن» هنا أحسن موقع؛ إذ هي بين نقيضين: وهُما التكذيبُ، والتَّصْديقُ المتضِّمن للصدق. وقرأ الجمهور: «تَصْدِيقَ» و «تَفْصِيلَ» بالنصب، وفيه أوجهٌ:. أحدها: العطفُ على خبر «كَانَ» كما تقدَّم، ومثله: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله} [الأحزاب: 40] . والثاني: أنَّه خبر «كَانَط مضمرةٌ، تقديره: ولكن كان تصديقَ، وإليه ذهب الكسائيُّ، والفرَّاء، وابن سعدان، والزجاج، وهذا كالذي قبله في المعنى. والثالث: أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله لفعل مقدَّر، أي: وما كان هذا القرآنُ أن يفترى، ولكن أُنزل للتَّصديق. والرابع: أنه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر أيضاً، والتقدير: ولكن يُصدِّق تصديقَ الذي بين يديه من الكتب. وقرأ عيسى بن عمر» تَصْدِيقُ «بالرفع، وكذلك التي في يوسف، ووجه الرَّفْعُ على خبر مبتدأ محذوفٍ، أي: ولكن هو تصديقُ؛ ومثله قول الشاعر: [الوافر] 2903 - ولَسْتُ الشَّاعِرَ السَّفْسَافَ فِيهِمْ ... ولكِنْ مِدْرَهُ الحَرْبِ العَوانِ برفع» مِدْرَةُ «، على تقدير: أنَا مِدْرَهُ. وقال مكي:» ويجوز عندهما - أي الكسائي والفرَّاء -. الرَّفعُ على تقدير: ولكن هو تصديقُ «، وكأنَّه لم يطَّلِعْ على أنَّها قراءةٌ، وقد ورد في قراءات السَّبعة: التَّخفيفُ، والتَّشديدُ في» لكن «، نحو: {ولكن الشياطين } [البقرة : 102] ، {ولكن الله رمى} [الأنفال: 17] . قوله: «لاَ رَيْبَ فِيهِ» : فيه أوجه: أحدها: أن يكون حالاً من «الكتاب» وجاز مجيءُ الحال من المُضاف إليه؛ لأنَّه مفعولٌ في المعنى، والمعنى: وتفصيل الكتاب مُنْتفياً عنه الرَّيْب. والثاني: أنَّه مستأنفٌ فلا محلَّ لهُ من الإعراب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 330 والثالث: أنَّه معترضٌ بين «تَصْديقَ» ، وبين «من ربِّ العالمينَ» . قال الزمخشري: «فإن قلت: بِمَ اتَّصلَ قوله: {لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} ؟ . قلت: هو داخلٌ في حيِّز الاستدراك، كأنَّه قيل: ولكن تصديقاً، وتفصيلاً منتفياً عنه الريبُ، كائناً من ربِّ العالمينَ، ويجُوزُ أن يراد به: ولكن كان تصديقاً من ربِّ العالمين، وتفصيلاً منه، لا ريب في ذلك، فيكون» من ربِّ العالمينَ «: متعلِّقاً ب» تَصْديقَ «، و» تَفْصِيلَ «، ويكون» لا رَيْبَ فيهِ «: اعتراضاً، كما تقول: زيدٌ - لا شكَّ فيه - كريمٌ» . انتهى. قوله: «مِن ربِّ» : يجوز فيه أوجهٌ: أحدها: أن يكن متعلِّقاً ب «تَصْدِيقَ» أو ب «تَفْصِيلَ» وتكون المسألة من باب التنازع، إذ يصحُّ أن يتعلَّق بكلِّ من العاملين، من جهة المعنى، وهذا هو الذي أراد الزمخشري، بقوله: فيكون «من ربِّ» : متعلقاً ب «تَصْدِيقَ» ، و «تَفْصِيلَ» ، يعني: أنه متعلِّقٌ بكلٍ منهما، من حيث المعنى، وأمَّا من حيث الإعرابُ، فلا يتعلَّق إلاَّ بأحدهما، وأمَّا الآخرُ فيعملُ في ضميره، كما تقدَّم تحريره، والإعمالُ هنا حينئذٍ إنَّما هو للثَّاني، بدليل الحذف من الأول. والوجه الثاني: أنَّ «مِن ربِّ» حال ثانية. والثالث: أنَّه متعلِّقٌ بذلك الفعل المقدَّر، أي: أنزل للتَّصديق من ربِّ العالمين. فصل المعنى: وما ينبغي لمثل هذا القرآن، أن يُفْتَرَى من دون الله، كقوله: {وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ} [آل عمران: 161] ، وقيل: «أنْ» بمعنى: اللاَّم، أي: وما كان هذا القرآنُ ليُفْتَرَى، كقوله: {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً} [التوبة: 122] ، و {مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين} [آل عمران: 179] ، و {وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب} [آل عمران: 179] أي: ليس وصفه هذا القرآن وصف شيء يمكن أن يفترى على الله، والافتراءُ: الافتعال، من أفريتُ الأديم: إذا قدَّرته للقطع، ثم استعمل في الكذب، كما استعمل قولهم: اختلق فلان الحديث في الكذب، ثم إنَّهُ - تعالى - احتجَّ على صحَّةِ الدَّعوى بأمور: الأول: قوله: {ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي: إنَّ محمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان رجُلاً أمِّيًّا، لم يتعلَّم العِلْمَ، وما كانت مكَّةُ بلدة العلماء، وليس فيها شيء من كتب العلم، ثم إنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أتى بهذا القرآن المشتمل على أقاصيص الأولين، والقومُ كانوا في غاية العداوة لهُ، فلوْ لمْ تكُن ههذ الأقاصيص موافقة لما في التَّوراة، والإنجيل، لقدحوا فيه وبالغُوا في الطَّعن، فلمَّا لم يقُل أحدٌ ذلك، مع شدَّة حرصهم على الجزء: 10 ¦ الصفحة: 331 الطَّعن فيه، علمنا أنَّه أتى بتلك الأقاصيص، مطابقة للتوراة والإنجيل، مع أنَّه ما طالعهما، ولا تتلمذ لأحدٍ فيهما، فدلَّ ذلك: على أنَّه إنما أتى بهذه الأشياء من قبل الوحي. الحجة الثانية: أنَّ كتب الله المنزَّلة، دلَّت على مقدم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كما تقدم في تفسير قوله: {وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة: 40] فكان مجيءُ محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ موافقاً لهما في تلك الكتب، ومصدقاً لما فيها من الباشرة بمجيئه، فكان هذا عبارة عن تصديق الذي بين يديه. والدليل الثاني: قوله تعالى: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف: 111] واعلم: أنَّ العُلُوم: إمَّا أن تكون دينيَّة، أو ليست دينيَّة. والقسم الأول أرفع حالاً، وأعظم شأناً من القسم الثاني، والدينيَّة: إمَّا أن تكون علم العقائد والأديان، أو علم الأعمال. فأما علم العقائد والأديان: فهو عبارةٌ عن معرفة ذاته، ومعرفة صفات جلاله، وصفات أفعاله، وأحكامه، وأسمائه، والقرآن مشتمل على دلائل هذه المسائل، وتفاريعها، وتفاصيلها على وجه لا يساويه شيءٌ من الكتب، ولا يقرب منه. وأمَّا علم الأعمال فهو: إمَّا عبارة عن علم التكاليف الظاهرة، وهو علم الفقه، ومعلوم أنَّ جميع الفقهاء إنما استنبطوا مباحثم من القرآن. وإمَّا عبارةٌ عن علم الباطن ورياضة القلوب، ففي القرآن من مباحث هذا العلم، ما لا يكادُ يوجدُ في غيره، كقوله: {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين} [الأعراف: 199] ، وقوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} [النحل: 90] الآية، إلى غير ذلك. فثبت أنَّ القرآن مشتملٌ على تفاصيل جميع العُلُوم الشريفة؛ فكان ذلك مُعْجِزاً. ثم قال: {لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين} وذلك لأنَّ الكتاب الطويل المشتمل على العلوم الكثيرة؛ لا بُدَّ وأن يقع فيه نوع من التناقض، وحيثُ خلا هذا الكتاب عنه، علمنا أنَّه من عند الله، قال - تعالى -: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] . قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} الآية. لمَّا أقام الدَّلائل على أنَّ هذا القرآن، لا يليقُ بحاله أن يكون مفترى، أعاد مرَّةً أخرى بلفظ الاستفهام، على سبيل الإنكار، إبطال هذا القول، فقال: «أم يقولون افتراه» ، وقد تقدَّم تقرير هذه الحجَّة في البقرة، عند قوله: {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا} [البقرة: 23] . قوله: «أم يقُولُونَ» : في «أمْ» هذه وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 332 أحدهما: أنَّها منقطعةٌ، فتقدَّر ب «بَلْ» ، والهمزة عند سيبويه، وأتباعه، والتقدير: بل أتقُولُون، انتقل عن الكلامِ الأول، وأخذ في إنكار قولٍ آخر. واثاني: أنَّها متصلةٌ، ولا بُدَّ حينئذٍ من حذف جملةٍ؛ ليصحَّ التعادلُ، والتقدير: أيقرون به، أم يقولون افتراهُ، وقال بعضهم: «أمْ» هذه بمنزلة الهمزة فقط، وعبَّر بعضهم عن ذلك، فقال: «الميمُ زائدة على الهمزة» وهذا قولٌ ساقطٌ؛ إذ زيادة الميم قليلةٌ جدّاً، ولا سيَّما هنا، وزعم أبو عبيدة: «أنها بمعنى: الواو، والتقدير: ويقولون افتراه» . قوله: «قُلْ فَأْتُواْ» : جواب شرطٍ مقدَّر، قال الزمخشري: «قُلْ: إنْ كان الأمرُ كما تزعمون، فأتُوا أنتم على وجْهِ الافتراءِ بسورةٍ مثله، فأنتم مثلي في العربيَّة، والفصاحة، والأبلغيَّة» . وقرأ عمرو بن فائد: «بسُورَةِ مثلِهِ» بإضافة «سُورة» إلى «مِثلِهِ» على حذف الموصول، وإقامة الصِّفة مقامه، والتقدير: بسورة كتاب مثله، أو بسُورة كلام مثله، ويجُوز أن يكون التقديرُ: فأتُوا بسورةِ بشر مثله، فالضَّمير يجوز أنْ يعُود في هذه القراءةِ على القرآنِ، وأن يعود على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وأمَّا في قراءة العامَّة؛ فالضمير للقرآن فقط. فإن قيل: لِمَ قال في البقرة: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ} [البقرة: 23] ، وقال هنا: «فأتُوا بسُورةٍ مثلهِ» ؟ . فالجواب: أنَّ محمداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان أمِّيّاً، لم يتلمذْ لأحدٍ، ولم يُطالع كتاباً فقال في سورة البقرة: «مِن مثله» أي: فلْيَأتِ إنسان يساوي محمَّداص في هذه الصِّفات، وعدم الاشتعال بالعُلُوم، بسورة تُسَاوي هذه السُّورة، وحيث لا يقدرُون على ذلك؛ فظهور مثل هذه السُّورة من إنسان مثل محمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، في عدم التتلمذ والتَّعلم، يكون معجزاً. وهُنا بيَّن أن السُّورة في نفسها مُعجزةٌ في نفسها؛ فإنَّ الخلق وإن تتلمذُوا وتعلَّمُوا؛ فإنَّه لا يمكنهم الإتيان بمعارضة سُورة واحدة من هذه السور؛ فلذلك قال - تعالى - ههنا: «فأتُوا بسُورةٍ مثلِهِ» . فصل تمسَّك المعتزلة بهذه الآية: على أنَّ القرآن مخلوقٌ؛ قالوا: إنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تحدَّى العرب بالقرآن؛ والمراد بالتَّحدِّي: أنَّه يطلب الإتيان بمثله منهم؛ فإذا عجزوا عنه، ظهر كونه حجَّة من عند الله - تعالى -، دالَّة على صدقه، وهذا إنَّما يمكن، إذا كان الإتيان بمثله صحيح الوجود في الجملة، ولو كان القرآنُ قديماً؛ لكان الإتيان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 333 بمثل القديم محالاً في نفس الأمر؛ فوجب ألا يصحَّ التَّحدِّي به. وأجيبُوا: بأنَّ القرآنَ اسمٌ يقال بالاشتراك على الصِّفة القديمة، القائمة بذات الله - تعالى -، وعلى هذه الحروف والأصوات، ولا نزاع في أنَّ هذه الكلمات المركَّبَة من هذه الحروف والأصوات، محدثة مخلوقة، والتَّحدي إنما وقع بها لا بالصِّفة القديمة. ثم قال تعالى: {وادعوا مَنِ استطعتم} : ممَّنْ تعبدُون {من دُونِ اللهِ} ليُعينُوكُم على ذلك، {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} في أنَّ محمداً افتراه، والمراد منه: كيف يمكن الإتيان بهذه المعارضة، لو كانوا قادرين عليها وتقريره: أنَّ الجماعة إذا تعاونت، وتعاضدت، صارت تلك العقول الكثيرة، كالعقل الواحد، فإذا توجَّهُوا نحو شيءٍ واحدٍ، قدر مجموعهم على ما يعجز عنه كل واحد عند انفراده، فكأنَّه - تعالى - يقول: هَبْ أنَّ عقل الواحد، والاثنين منكم، لا يفي باستخراج معارضة القرآن، فاجتمعوا، وليعن بعضكم بعضاً في هذه المعارضة، فإذا عرفتُم عجزم حالة الاجتماع، وحالة الانفراد عن هذه المعارضة، فحينئذٍ: يظهر أنَّ تعذر هذه المعارضة، إنما كان لأنَّ قدرة البشرِ عاجزةٌ عنها؛ فحينئذٍ يظهر أنَّ ذلك فعل الله، لا فعل البشر. فظهر بما تقرَّر: أنَّ مراتب تحدِّي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالقرآن ستٌّ: أولها: أنَّهُ تحدَّاهُم بكلِّ القرآن، في قوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] . وثانيها: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - تحدَّاهم بعشر سورٍ، في قوله: {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] . وثالثها: أنَّه تحدَّاهم بسورة واحدة، في قوله: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] . ورابعها: تحدَّاهم بحديث مثله، في قوله {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} [الطور: 34] . وخامسها: أنَّ في تلك المراتب الأربع، كان يطلب منهم أن يأتي بالمعارضة رجُلٌ، يساوي رسول الله في عدم التتلمذ والتعليم، ثُمَّ في سورة يونس: طلب منهم معارضة سورة واحدة من أي إنسان، سواء تعلَّم العلوم، أو لم يتعلَّمها. وسادساً: أنَّ في المراتب المتقدِّمة تحدَّى كل واحد من الخلق، وفي هذه المرتبة تحدَّى مجموعهم، وجوَّز أن يستعين البعضُ بالبعض في الإتيان بهذه المعارضة، كما قال: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] ، فهذا مجموع الدَّلائل التي ذكرها الله - تعالى - في إثبات أنَّ القرآن معجزٌ، ثُمَّ إنَّه - تعالى - ذكر السبب الذي لأجله كذَّبُوا القرآن. فقال: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ} يعني: كذَّبُوا بالقرآن، ولم يحيطوا بعلمه. قوله: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} : جملةٌ حاليةٌ من الموصول، أي: سارعُوا إلى تكذيبه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 334 حال عدم إتيان التأويل، قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى التوقُّع في قوله - تعالى -: {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} ؟ قلت: معناه: كذَّبُوا به على البديهة، قبل التَّدبرُّر، ومعرفة التأويل» ، ثمَّ قال أيضاً: «ويجُوزُ أن يكون المعنى: ولم يأتهم بعدُ تأويلُ ما فيه من الإخبار بالغيوب، أي: عاقبته حتى يتبيَّن لهم: أكذبٌ هو، أم صدقٌ» . انتهى. وفي وضعه «لَمْ» موضع «لمَّا» نظرٌ لما عرفت ما بينهما من الفرق، ونُفيتْ جملةُ الإحاطة ب «لم» ، وجملة إتيانِ التأويل ب «لمَّا» ؛ لأنَّ «لَمْ» للنَّفْي «المطلق على الصَّحيح، و» لمَّا «لنفي الفعل المُتَّصل بزمنِ الحالِ، فالمعنى: أنَّ عدمَ التَّأويلِ متَّصل بزمن الإخبار. فصل قيل المعنى: بل كذَّبُوا بالقرآن {وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ} أي: عاقبةُ ما وعد الله في القرآن؛ أنَّه يئول إليه أمرهم من العقوبة، يريد: أنَّهم لم يعلمُوا ما يئول إليه عاقبة أمرهم. وقيل: كُلَّما سمعُوا شيئاً من القصص، قالوا: ليس في هذا الكتاب، إلاَّ أساطير الأولين، ولم يعرفُوا أنَّ المقصود منها، ليس هو نفس الحكاية، بل أمور أخرى، وهي: بيانُ قدرة الله - تعالى - على التصرُّفِ في هذا العالم، ونقل أهله من العزِّ إلى الذُّل، ومن الذُّلِّ إلى العِزِّ، وذلك دليلٌ على القدرة الكاملة، وأيضاً: تدلُّ على أنَّ الدنيا فانيةٌ غير باقية؛ كما قال - تعالى -: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى} [يوسف: 111] ، وأيضاً فهي دلالة على العجز؛ لكون النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لم يتعلَّم، ولم يتتلمذ لأحدٍ؛ فدلَّ ذلك على أنَّه وحيٌ من الله - تعالى -، كما قال في الشعراء بعد ذكر القصص: {وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين} [الشعراء: 192 - 194] ، وقيل: إنَّهم كانُوا كُلَّما سمعوا حروف التَّهجِّي في أوائل السور، ولم يفهموها، ساء ظنُّهم بالقرآن؛ فأجاب - تعالى - بقوله: {هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ} [آل عمران: 7] ، وقيل: إنَّهم لمَّا سمعُوا القرآن ينزل شيئاً فشيئاً، ساء ظنهم، وقالوا: لو أنزل عليه القرآن جملة واحدة؛ فأجاب - تعالى -: {كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان: 32] ، وقيل: إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً من إثبات الحشر والنشر، وكانوا ألفُوا الحياة، فاستبعدُوا حصول الحياةِ بعد الموت، فكذَّبُوا بالقرآن، وقيل: إنَّ القرآن لمَّا كان مملوءاً بالصَّلاة، والزكاة، والعبادات، قال القوم: إن إله العالمين غنيٌّ عنَّا، وعن طاعتنا، وأنَّه - تعالى - أجلُّ من أن يأمرنا بشيء لا فائدة فيه، فأجاب الله عنه، بقوله: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] ، وبالجملة: فشبهات الكفارة كثيرة؛ فهم لما رأوا القرآن مشتملاً على أمورٍ عرفوا حقيقتها، ولم يطلعُوا على وجه الحكمة فيها، لا جرم كذَّبوا بالقرآن. قوله: «كذلِكَ» : نعتٌ لمصدر محذوفٍ، أي: مثل ذلك التَّكذيب، كذَّب الذين من قبلهم، أي: قبل النظر، والتدبُّر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 335 وقوله: {فانظر كَيْفَ كَانَ} كَيْفَ خبر ل «كَانَ» ، والاستفهام معلِّقٌ للنَّظر. قال ابن عطيَّة: «قال الزجاج:» كَيْفَ «في موضع نصبٍ على خبر» كان «، ولا يجوز أن يعمل فيها» انظر «؛ لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يعمل فيه، هذا قانونُ النحويِّين؛ لأنَّهم عاملُوا» كَيْفَ «في كلِّ مكان معاملة الاستفهام المحض، في قولك» كيف زيد «، ول» كيف «تصرفاتٌ أخرى؛ فتحلُّ محلَّ المصدر الذي هو» كيفيَّة «، وتخلعُ معنى الاستفهام، ويحتمل هذا الموضعُ أن يكون منها. ومن تصرُّفاتها قولهم:» كُنْ كيفَ شِئْتَ «، وانظر قول البخاريِّ:» كيف كان بدءُ الوحي؛ فإنه لم يستفهم «. انتهى. فقول الزجاج: لا يجوز أن تعمل «انظر» في «كيف» ، يعني: لا تتسلَّط عليها، ولكن هو متسلِّطٌ على الجملة المنسحب عليها حكمُ الاستفهام، وهكذا سبيلُ كُلِّ تعليقٍ. قال أبو حيَّان: «وقولُ ابن عطيَّة: هذا قانونُ النَّحويين. . إلى آخره، ليس كما ذكر، بل ل» كيف «معنيان: أحدهما: الاستفهامُ المحض، وهو سؤال عن الهيئة، إلاَّ أن يعلَّق عنها العامل، فمعناها معنى الأسماء التي يستفهمُ بها إذا علِّق عنها العاملُ. والثاني: الشرط؛ كقول العرب:» كيف تكونُ أكونُ «، وقوله: ول» كيف «تصرفات إلى آخرة ليس» كيف «تحلُّ محلَّ المصدر، ولا لفظ» كيفية «هو مصدرٌ؛ إنَّما ذلك نسبةٌ إلى» كَيْف «، وقوله:» ويحتمل أن يكون هذا الموضعُ منها، ومن تصرُّفاتهم قولهم: كن كيْفَ شِئْتَ «لا يحتمل أن يكون منها؛ لأنَّه لم يَثْبُتْ لها المعنى الذي ذكر، من كون» كيف «بمعنى:» كيفية «، وادِّعاءُ مصدرية» كيفية «. وأمَّا» كُنْ كيف شِئْتَ «: ف» كَيْفَ «ليست بمعنى:» كيفية «؛ وإنَّما هي شرطيَّةٌ، وهو المعنى الثاني الذي لها، وجوابها محذوفٌ، التقدير: كيف شئت فكن؛ كما تقول:» قُمْ مَتَى شِئْتَ «، ف» متى «اسمُ شرطٍ ظرفٌ لا يعمل فيه» قُمْ «، والجواب محذوف، تقديره: متى شئت فقم، وحذف الجوابُ؛ لدلالةِ ما قبله عليه؛ كقولهم:» اضربْ زَيْداً إنْ أسَاءَ إليْكَ «، التقدير: إن أساءَ إليك فاضْرِبْه، وحذف» فاضْرِبه «لدلالة» اضرِبْ «المتقدِّم عليه، وأمَّا قول البخاريُّ:» كيف كَانَ بَدْءُ الوحي «؛ فهو استفهامٌ محضٌ: إمَّا على سبيل الحكاية؛ كأنَّ سَائِلاً سأله، فقال: كيف كان بدءُ الوحي. وإمَّا أن يكون من قوله هو، كأنَّه سَألَ نفسه: كيف كان بدء الوحي، فأجاب بالحديث الذي فيه كيفيَّة ذلك» . وقوله: «الظالمين» من وضع الظَّاهر موضع المُضْمَر، ويجوز: أن يراد به ضميرُ من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 336 عَادَ عليه ضمير «بَلْ كذَّبُوا» ، وأن يُرادَ به {الذين مِن قَبْلِهِمْ} . ومعنى الآية: أنَّهم طلبُوا الدُّنْيَا، وتركُوا الآخرة، فبقُوا في الخسارِ العظيمِ، وقيل: المراد: عذاب الاستئصال الذي نزل بالأممِ السَّابقة. قوله تعالى: {وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ} لأنَّ «يُؤمِنُ» يصلح للحالِ، والاستقبال، فحمله بعضهم على الحال، أي: ومنهم من يُؤمِنُ بالقرآن باطناً؛ لكنَّه يتعمد الجحد. ومنهم من باطنه كظاهره. وقيل: المراد: الاستقبال، أي: ومنهم من يؤمنُ به في المستقبل؛ بأنْ يتوب عن الكفر، ومنهم من يُصِرُّ على الكفر. {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين } أي: بأحوالهم، أي: هل يبقُوا على الكفر أو يتُوبُوا. ثم قال: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي} ، وجزاؤه «ولكُم عملُكُم» ، وجزاؤه {أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41] ، هذا كقوله - تعالى -: {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} [الشورى: 15] ، ومعنى الكلام: الردع والزجر، وقيل: معناه: استمالة قلوبهم، قال مقاتلٌ والكلبيُّ: «هذه الآية منسوخة بآية السيف» ، وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ شرط النَّاسخ أن يكون رافعاً لحكم المنسوخِ، ومدلُول هذه الآية: اختصاص كلِّ واحد بأفعاله، وثمراتها من الثواب والعقاب، وذلك لا يقتضي حرمة القتال، فآية القتال ما رفعت شيئاً من مدلولات هذه الآية، فكان القولُ بالنسخ باطلاً. قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} الآية. لمَّا قسَّم الكفار في الآية الأولى إلى: «مَنْ يُؤمن، ومن لا يُؤمن، قسَّم من لا يؤمن ههنا إلى قسمين: منهم من يكُون في نهاية البغض والعداوة، ومنهم من لا يكون كذلك، فوصف ههنا القسم الأوَّل، فقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} مع أنَّه يكون كالأصمِّ، من حيثُ إنَّه لا ينتفع ألبتَّة بذلك الكلام، فإنَّ الإنسانَ إذا قوي بغضه لإنسانٍ آخر، كان مُعرضاً عن سماع كلامه، ولا يلتفتُ إليه، كما أنَّ الصَّمَمَ في الأذن يمنع إدراك الصوت، والعمى في العين يمنع إدراك البصر، فكذا البغضُ الشديد يمنع من الوُقُوف على محاسن كلامه، ويمنع الوقوف على محاسن من يعاديه. قوله:» مَّن يَسْتمِعُونَ «: مبتدأ، وخبره الجارُّ قبله، وأعاد الضمير جمعاً؛ مراعاة لمعنى» مَنْ «، والأكثر مراعاة لفظه، كقوله: {وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} [يونس: 43] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 337 قال ابن عطيَّة:» جاء ينظرُ على لفظ «مَنْ» ، وإذا جاء على لفظها، فجائزٌ أن يعطف عليه آخرٌ على المعنى، وإذا جاء أولاً على معناها، فلا يجوز أن يعطف بآخر على اللفظ؛ لأنَّ الكلام يُلبسُ حينئذٍ «. قال أبو حيَّان:» وليس كما قال، بل يجُوزُ أن تراعي المعنى أولاً، فتعيدَ الضَّميرَ على حسبِ ما تريد به من المعنى: من تأنيثٍ، وتثنيةٍ، وجمع، ثم تراعي اللفظ فتعيد الضمير مفرداً مذكراً، وفي ذلك تفصيل تقدم أول البقرة [البقرة8] . فصل أخبر - تعالى - في الآية أنَّ الإيمان، والتَّوفيق به لا بغيره، فقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} بأسماعهم الظاهرة، ولا ينفعهم، {أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم} يريد: صمم القلب {وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ} : بعينه الظاهرة ولا ينفعه، {أَفَأَنْتَ تَهْدِي العمي} يريد: عَمَى القلب، {وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ} وهذه التَّسلية من الله - عزَّ وجلَّ - لنبيِّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يقول: إنَّك لا تقدر أن تسمع من سلبته السَّمع، ولا أن تَهْدِي من سلبته البصر، ولا أن توفق للإيمان من حكمتُ عليه بأنَّه لا يُؤمن. والمقصُود: إعلامُ الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: بأنهم قد بلغُوا في معرض العقل، إلى حيث لا يقبلُون العلاج، فالطَّبيبُ إذا رأى مريضاً لا يقبل العلاج، أعرض عنهُ، ولم يستوحشْ من عدم قُبُولهِ للعلاج، فكذلك أنت لا تستوحش من حالِ هؤلاءِ الكُفَّار. فصل احتج أهلُ السُّنَّة بهذه الآية: على أنَّ أفعالَ العباد من الله؛ لأنَّ الآية دلَّت على: أنَّ قلوب الكفار بالنسبة إلى الإيمان، كالأصمِّ بالنسبة إلى استماع الكلام. وكالأعْمَى بالنسبة إلى نظر الأشياء، فكما أنَّ هذا ممتنعٌ؛ فكذلك حصول الإيمان في القلب ليس باختيارِ الإنسان، واحتجَّ المعتزلةُ على صحَّة قولهم، بقوله - تعالى - بعدها: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [يونس: 44] فدلَّ ذلك على: أنَّه - تعالى ما ألْجَأ أحداً إلى فِعْل القبائح، ولكنَّهم يقدمُون عليها باختيارهم، وأجاب الواحدي: «بأنَّه - تعالى - إنَّما نفى الظلم عن نفسه؛ لأنَّه يتصرف في ملك نفسه، ومن كان كذلك، لم يكن ظالماً، وإنَّما قال: {ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} لأنَّ الفعل منسوبٌ إليهم بسبب الكسب» . فصل احتجَّ ابن قتيبة بهذه الآية، على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر؛ لأنَّه - تعالى - قرن بذهاب السَّمع، ذهاب العقل، ولم يقرن بذهاب النَّظَر، إلاَّ ذهاب البصر، فكان السَّمْع الجزء: 10 ¦ الصفحة: 338 أفضل من البصر، وردَّه ابن الأنباري: بأنَّ الذي نفاهُ اللهُ من السَّمْع، بمنزلة ما نفاهُ من البصر؛ لأنَّه - تعالى - أراد إبصار القلوب، ولم يُرِدْ إبصار العُيُون، والذي يُبْصِره القلب، هو الذي يعقله. واحتجَّ ابن قتيبة بحجة أخرى، فقال: كُلَّما ذكر الله السَّمع في القرآن، فإنَّه غالباً يقدم السَّمع على البصر، فدل على أنَّ السَّمع أفضلُ من البصر، وذكر بعضُ النَّاس في تفضيل السمع على البصر وجوهاً أخر. أحدها: أنَّ العمى قد وقع في حقِّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وأمَّا الصَّمم فغير جائز عليهم؛ لأنَّه يخلُّ بأداء الرِّسالة؛ لأنَّه إذا لم يسمع كلام السائلين، تعذَّر عليه الجواب، فيعجزُ عن تبليغ الشَّرائع. وثانيها: أنَّ القوة السامعة تدرك المسموع من جميع الجهات، والقوة الباصرة لا تدرك المرئي إلاَّ من الجهة المقابلة وحدها. وثالثها: أنَّ الإنسانَ إنَّما يستفيد العلم من أستاذه، وذلك لا يمكن إلاَّ بقوَّة السمع، ولا يتوقفُ على قوَّة البصر، فكان السَّمعُ أفضل. ورابعها: أنَّه - تعالى - قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق: 37] ، والمراد بالقلب ههنا: العقل، فجعل السَّمع قريناً للعقل، ويؤيِّده قوله - تعالى -: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير} [الملك: 10] فجعلوا السَّمع سبباً للخلاص من عذاب السَّعير. وخامسها: أنَّ المعنى الذي به يمتاز الإنسان عن سائر الحيوانات؛ هو النُّطق والكلام، وإنما ينتفع بذلك القوَّة السَّامعة، فمتعلق السمع: النطق الذي شرف الإنسان به، ومتعلَّق البصر: إدراك الألوان والأشكال، وذلك أمر يشترك فيه النَّاس، وسائر الحيوانات؛ فوجب أن يكون السمع أفضل من البصر. وسادسها: أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يراهم النَّاس، ويسمعُون كلامهم؛ فنُبوَّتهم ما حصلت بما معهم من الصِّفات المرئيةَّة، وإنما حصلت بما معهم من الأقوال المسموعة، وهو تبليغ الشرائع والأحكام؛ فوجب أن يكون المسموع أفضل من المرئيِّ؛ فلزم كون السمع أفضل من البصر. وقال آخرون: البصر أفضلُ من السَّمع لوجوه: الأول: قولهم في المثل: «ليس ورَاءَ العيانِ بيان» ، فدلَّ على: أنَّ أكمل وجوه الإدراك هو البصر. الثاني: أنَّ آلة القوَّة الباصرة، هو النُّور، وآلة القوة السَّامعة هي الهواء، والنُّور أشرف من الهواء، فالقوَّة الباصرة أشرف من القوة السَّامعة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 339 الثالث: أنَّ عجائب حكمة الله - تعالى -، في تخليق العين التي هي محل الإبصار؛ أكثر من عجائب خلقته في الأذن، التي هي محل السماع، فإنَّه - تعالى - جعل تمام روح واحد من الأرواح السَّبعة الدِّماغيَّة من العصب، آلة للإبصار، وركَّب العين من سبع طبقات، وثلاث رطوبات، وجعل لحركات العين عضلات كثيرة على صور مختلفة. والأذنُ ليس كذلك، وكثرة العناية في تخليق الشيء، يدل على أنَّه أفضل من غيره. الرابع: أن البصر يرى ما حصل فوق سبع سماوات، والسمع لا يدرك ما بعد منه على فرسخ؛ فكان البصرُ أقوى وأفضل، وبهذا البيان يدفع قولهم: إنَّ السَّمع يدرك من كل الجوانب، والبصر لا يدرك إلاَّ من الجانب الواحد. الخامس: أنَّ كثيراً من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - سمع كلام الله في الدُّنيا، واختلفوا: هل رآه أحدٌ في الدُّنْيَا أم لا؟ وأيضاً: فإنَّ موسى أسمعه كلامه من غير سبق سؤال، ولمَّا سأل الرُّؤية، قال: {لَن تَرَانِي} [الأعراف: 143] فدل على أنَّ حال الرُّؤية أعلى من حال السَّمْع. السادس: قال ابن الأنباري: كيف يكون السَّمعُ أفضل من البصر، وبالبصر يحصل جمال الوجه، وبذهابه عيبه، وذهاب السمع لا يورث الإنسان عيباً، والعربُ تسمي العينين الكريمتين، ولا تصف السمع بمثل هذا، ومنه الحديث؛ يقول الله: «من أذهبت كريمتيه، فصبر واحتسب، لم أرض له ثواباً دون الجنة» . قوله تعالى: {لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً} يجوز أن ينتصب «شَيْئاً» على المصدر، أي: شيئاً من الظلم، قليلاً ولا كثيراً، وأن ينتصبَ مفعولاً ثانياً ل «يَظْلِمُ» ، بمعنى: لا ينقص النَّاس شيئاً من أعمالهم. قوله: {ولكن الناس} قرأ الأخوان: بتخفيف «لكن» ومن ضرورة ذلك: كسرُ النُّونِ؛ لالتقاءِ الساكنين وصلاً، ورفع «النَّاس» ، والبقاون بالتشديد ونصب «النَّاس» ، وتقدم توجيه ذلك في البقرة [102] ، ومعنى {لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً} ؛ لأنَّه في جميع أفعاله مُتفضل، وعادل، {ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} : بالكفر والمعصية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 340 قوله تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} الآية. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 340 لمَّا وصف الكفار بقلة الإصغاء، وترك التدبُّر؛ أتبعه بالوعيد، فقال: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ} . «يَوْمَ» منصوب على الظرف، وفي ناصبه أوجه: أحدها: أنَّه منصوبٌ بالفعل الذي تضمَّنه قوله: {كَأَن لَّمْ يلبثوا} . الثاني: أنَّه منصوبٌ ب «يتعَارَفُون» . الثالث: أنَّه منصوبٌ بمقدرٍ، أي: اذكر يوم. وقرأ الأعمش، وحفص عن عاصم: «يَحْشُرهُم» بياء الغيبة، والضمير لله تعالى لتقدم اسمه في قوله: {إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ} [يونس: 44] . قوله: {كَأَن لَّمْ يلبثوا} تقدَّم الكلامُ على «كأن» هذه، وهي المخفَّفة من الثَّقيلة، والتقدير: كأنَّهُم لم يلبثُوا؛ فخفَّفَ، كقوله: وكأن قد، ولكن اختلفُوا في محلِّ هذه الجملة على أوجه: أحدها: أنها في محلِّ نصبٍ صفةً للظرف، وهو «يوم» ، قاله ابن عطية. قال أبو حيان: «لا يصحُّ؛ لأن يوم يَحْشُرهُم معرفةٌ والجمل نكرات، ولا تنعتُ المعرفةُ بالنَّكرة، لا يقال: إنَّ الجمل التي يُضاف إليها أسماءُ الزَّمان نكرةٌ على الإطلاق؛ لأنَّها إنْ كانت في التقدير تنحَلُّ إلى معرفة، فإنَّ ما أضيف إليها يتعرَّفُ، وإن كانت تنحَلُّ إلى نكرة، كان ما أضيف إليها نكرةً، تقول:» مَرَرْتُ في يوم قدم زيدٌ الماضي «، فتصِفُ» يوم «بالمعرفة، و» جئت ليلة قدم زيدٌ المباركة علينا «، وأيضاً: فكأنْ لمْ يلبثُوا، لا يمكن أن يكون صفة لليوم من جهة المعنى، لأنَّ ذلك من وصف المحشورين، لا من وصف يوم حشرهم. وقد تكلَّف بعضهم تقدير رابطٍ يربطهُ، فقدره:» كأنْ لَمْ يلبثُوا قبله «، فحذف» قبله «، أي: قبل اليوم، وحذفُ مثل هذا الرَّابط لا يجوز» . قال شهاب الدِّين: قوله: «بعضهم» ، وهو مكِّي بن أبي طالب؛ فإنَّه قال: «الكافُ وما بعدها من» كأن «صفةٌ لليوم، وفي الكلام حذفُ ضميرٍ يعودُ على الموصوفِ، تقديره: كأْ لم يَلْبثُوا قبله؛ فحذف» قبله «، فصارت الهاءُ متَّصلةً ب» يَلْبثُوا «، فحذفتْ لطُولِ الاسم كما تحذفُ من الصِّلات» ، ونقل هذا التقدير أيضاً: أبو البقاء، ولمْ يُسَمِّ قائله، فقال: «وقيل» ، فذكره. والوجه الثاني: أن تكون الجملةُ في محلِّ نصب على الحال، من مفعول «يَحْشُرهُم» أي: يَحْشُرهم مُشبهين بمن لم يلبث إلاَّ ساعةً، هذا تقديرُ الزمخشري، وممَّن جوَّز أيضاً الحاليَّة: ابنُ عطيَّة، ومكِّيٌّ، وأبو البقاءِ، وجعله بعضهم هو الظَّاهر. الوجه الثالث: أن تكون الجملةُ نعتاً لمصدر محذوف، والتقدير: يَحْشُرهم حَشْراً، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 341 كأنْ لمْ يلبثُوا، ذكر ذلك ابن عطيَّة، وأبو البقاء، ومكِّي، وقدَّر مكِّي، وأبو البقاء: العائد محذوفاً، كما قدَّراه حال جعلهما الجملة صفة لليَوْمِ، وقد تقدَّم ما في ذلك. الرابع: قال ابنُ عطيَّة: «ويَصِحُّ أن يكون قوله: {كَأَن لَّمْ يلبثوا} كلاماً مجملاً» ولم يُبَيِّنْ الفعل الذي يتضمَّنهُ {كَأَن لَّمْ يلبثوا} ، قال أبو حيَّان: «ولعَلَّهُ أراد ما قاله الحوفيُّ؛ مِنْ أنَّ الكافَ في موضع نصبٍ، بما تضمَّنتهُ من معنى الكلام، وهو السُّرْعَة» . انتهى. قال: «فيكونُ التقدير: ويوم يَحْشُرهم يُسْرعون كأنْ لَمْ يَلْبَثُوا» ، فيكون «يسرعون» : حالاً من مفعول «يَحْشُرهُم» ، ويكون «كأن لمْ يَلْبَثُوا» : حالاً من فاعل «يُسْرعون» ، ويجُوز أن تكون «كَأنْ لَمْ» : مفسِّرة ل «يُسْرعون» المقدَّرة. فصل قال الضحَّاك: كَأنْ لَمْ يَلْبثُوا في الدنيا، إلاَّ ساعة من النَّهار، وقال ابن عبَّاس: كأن لم يلبثوا في قبورهم، إلاَّ قدر ساعة من النَّهار، قال القاضي: الأولُ أولَى، لوجهين: أحدهما: أنَّ حال المؤمنين كحالِ الكافرين: في أنَّهم لا يعرفون مقدار لبثهم بعد الموت إلى وقتِ الحشر؛ فيجبُ أن يحمل ذلك على أمْر يختصُّ به الكُفار؛ وهو أنَّهم لمَّا لم ينتفعُوا بعُمْرِهم استقلُّوه، والمؤمِنُ لمَّا انتفع بعمره؛ فكأنَّه لا يستقلُّه. الثاني: أنَّه قال: {يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ} والتَّعارف إنَّما يضاف إلى حال الحياةِ، لا إلى حال المَوْت، وفي سبب هذا الاستقلال وجوهٌ: الأول: قال أبو مسلم: إنَّهم لمَّا ضيَّعُوا أعمارهم في طلب الدنيا، والحِرْص على لذَّاتها؛ لم ينتفعُوا بعمرهم ألبتَّة، فكان وجودُ ذلك العمر كالعدم كما تقدَّم؛ فلهذا استقلوه، ونظيره قوله - تعالى -: {وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ} [البقرة: 96] . الثاني: قال الأصمُّ: إنَّهم لمَّا شاهدُوا أهوال الآخرة وعظمها، عظم خوفُهُم، فنسُوا أمور الدُّنيا، والإنسان إذا عظم خوفهُ، نسي الأمور الظَّاهرة. الثالث: قلَّ عندهم مقامهم في الدُّنيا، في جنب مقامهم في الآخرة. الرابع: قلَّ عندهم في الدنيا؛ لطولِ وقوفهم في الحَشْرِ. قوله: «يتعَارفُونَ» فيه أوجهٌ: أحدها: أنَّ الجملة في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل «يَلْبَثُوا» . قال الحوفيُّ: «يتعارفُونَ» : فعلٌ مستقبلٌ في موضع الحال من الضَّمير في «يَلْبَثُوا» ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 342 وهو العامل، كأنَّه قال: متعارفين، والمعنى: اجتمعوا متعارفين. والثاني: أنها حالٌ من مفعول «يَحْشُرهم» أي: يَحْشُرهم متعارفين، والعاملُ فعلُ الحشر، وعلى هذا فمنْ جوَّز تعدُّدَ الحالِ، جوَّز أن تكون «كأنْ لَمْ» : حالاً أولى، وهذه حالٌ ثانيةٌ، ومن منع ذلك، جعل «كأنْ لَمْ» على ما تقدم من غير الحاليَّة. قال أبُو البقاء: «وهي حالٌ مقدرة؛ لأنَّ التعارف لا يكُونُ حال الحَشْرِ» . والثالث: أنَّها مستأنفةٌ؛ أخبر - تعالى - عنهم بذلك. قال الزمخشري: «فإن قلت: كأنْ لمْ يلبثُوا إلاَّ ساعة» ، و «يتَعارفُونَ» كيف موقعهما؟ قلت: أمَّا الأولى: فحالٌ منهم، أي: يَحْشُرهم مُشبهين بمنء لَمْ يَلْبَثْ إلاَّ ساعة. وأمَّا الثانية: فإمَّا أن تتعلَّق بالظرف - يعني فتكون حالاً -، وإمَّا أن تكون مُبينة لقوله: {كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً} ؛ لأنَّ التَّعارفَ لا يَبْقَى مع طُولِ العهدِ، وينقلب تَنَاكُراً «. فصل في هذا التَّعارف وجوه: الأول: يعرف بعضهم بعضاً كما كانوا في الدُّنْيَا. الثاني: يعرف بعضهم بعضاً بما كانوا عليه من الخطأ والكفر، ثم تنقطع المعرفةُ إذا عاينُوا العذابَ، وتبرَّأ بعضهم من بعض. فإن قيل: كيف توافق هذه الأشياء قوله: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج: 10] . فالجواب من وجهين: أحدهما: أنَّهم يتعارفون بينهم بتوبيخ بعضهم بعضاً؛ فيقول كل فريق للآخر: أنت أضللتني يوم كذا، وزيَّنتَ لي الفعل القبيح الفُلاني، فهو تعارفُ توبيخٍ، وتباعدٍ، وتقاطع، لا تعارف عطفٍ، وشفقة. وأما قوله: {وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً} [المعارج: 10] فهو سؤال رحمة، وعطف. والثاني: أنَّ تحمل هاتين الآيتين على حالتين؛ وهو أنَّهم يتعارفُون إذا بعثوا ثم تنقطع المعرفة؛ فلذلك لا يسأل حميمٌ حميماً. قوله:» قَدْ خَسِرَ «فيها وجهان: أحدهما: أنَّها مستأنفةٌ، أخبر - تعالى - بأنَّ المكذِّبينَ بلقائِهِ خاسرون لا محالة؛ ولذلك أتى بحرفِ التَّحقيق، ويكون هذا شهادة عليهم من الله بالخُسْرَان، والمعنى: أنَّه من باع آخرته بدنياه، فقد خسر؛ لأنَّه أعطى الشَّريف الباقي، في أخْذِ الخسيسِ الفانِي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 343 والثاني: أن يكون في محلِّ نصبٍ بإضمار قولٍ، أي: قائلين قد خَسِر الذين. ثُمَّ لكَ في هذا القول المقدَّر وجهان: أحدهما: أنه حالٌ من مفعول» يَحْشُرهُم «أي: يحشرهم قائلين ذلك. والثاني: أنَّه حالٌ من فاعل» يتعَارفُونَ «، وقد ذهب إلى الاستئناف والحاليَّة من فاعل» يَتَعارفُونَ «: الزمخشريُّ؛ فإنَّه قال:» هو استئنافٌ فيه معنى التَّعجُّب، كأنَّه قيل: «ما أحْشرهُمْ» ، ثم قال: «قَدْ خَسِرَ» على إرادة القولِ، أي: يَتَعَارفُونَ بينهم قائلين ذلك «، وذهب إلى أنَّها حالٌ من مفعُول» يَحْشُرهُم «: ابنُ عطيَّة. قوله: {وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ} يجوزُ فيها وجهان: أحدهما: أن تكون معطوفةً على قوله:» قَدْ خَسِرَ «، فيكون حكمه حكمَهُ. والثاني: أن تكون معطوفةً على صلةِ» الذينَ «، وهي كالتَّوكيد للجملة التي وقعتْ صلةً؛ لأنَّ من كذَّب بلقاء الله، غيرُ مُهْتَدٍ، والمراد بالخسران: خُسْران النفس ولا شيء أعظم منه. قوله: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ} تقدَّم الكلامُ على» إِمَّا «هذه [البقرة38] ، وقال ابن عطيَّة:» ولأجلها، أي: لأجلِ زيادةِ «ما» ، جاز دخولُ النون الثقيلة، ولو كانت «إِنْ» وحدها لم يَجُزْ «أي: إنَّ توكيد الفعل بالنُّونِ مشروطٌ بزيادة» ما «بعد» إنْ «، وهو مخالفٌ لظاهرِ كلام سيبويه، وقد جاء التَّوكيد في الشَّرط بغير» إنْ «؛ كقوله: [الكامل] 2904 - مَنْ نَثْقَفَنْ مِنهُمْ فليْسَ بآيبٍ ... أبَداً وقَتْلُ بَنِي قُتَيبةَ شَافِي قال ابن خروف: أجاز سيبويه: الإتيان ب «ما» ، وألاَّ يؤتى بها، والإتيانُ بالنون مع «ما» ، وألاَّ يؤتى بها، والإراءَةُ هنا بصريَّة؛ ولذلك تعدَّى الفعلُ إلى اثنينِ بالهمزة، أي: نجعلك رائياً بعض الموعُودين، أو بمعنى: الذي نعدُهم من العذاب، أو نتوفَّيَنَّكَ قبل أن نُريكَ ذلك، فإنَّك ستراه في الآخرة. قال مجاهد: فكان البعضُ الذي رآه قتلهم ببدر، وسائر أنواع العذاب بعد موته. قوله: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} مبتدأ وخبر، وفيه وجهان: أظهرهما: أنَّه جوابٌ للشَّرطِ، وما عُطِفَ عليه، إذ معناه صالحٌ لذلك، وإلى هذا ذهب الحوفيُّ، وابنُ عطيَّة. والثاني: أنَّهُ جوابٌ لقوله: «أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ» ، وجواب الأول محذُوف. قال الزمخشري: «كأنَّه قيل: وإمَّا نُرينَّكَ بعضَ الذي نعدهُم فذاك، أو نتوفَّينَّك قبل أن نُريك، فنحن نُريك في الآخرة» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 344 قال أبو حيَّان: «فجعل الزمخشريُّ في الكلام شرطين لهما جوابان، ولا حاجة إلى تقدير جواب محذوف؛ لأنَّ قوله: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ} صالحٌ لأن يكون جواباً للشَّرطِ، والمعطوف عليه، وأيضاً: فقول الزمخشريّ:» فذاك «هو اسمٌ مفردٌ، لا ينعقدُ منه جوابُ شرطٍ، فكان ينبغي أن يأتي بجملة يصح منها جواب الشرط، إذ لا يفهمُ من قوله:» فَذَاكَ «الجزء الذي حذف، وهو الذي تحصل به فائدة الإسناد» . قال شهاب الدِّين: «قد تقرَّر: أنَّ اسم الإشارة قد يُشار به إلى شيئين فأكثر، وهو بلفظِ الإفراد؛ فكأ، َّ ذاكَ واقعٌ موقع الجملة الواقعة جواباً، ويجُوزُ أن يكون قد حُذف الخبرُ؛ لدلالةِ المعنى عليه، إذ التَّقديرُ: فذاك المرادُ، أو المتمنَّى، أو نحوه» . وقوله: «إذْ لا يُفْهم الجزء الذي حذف» إلى آخره، ممنوعٌ، بل هو مفهومٌ كما بينا؛ وهو شيءٌ يتبادر إلى الذِّهن. قوله: {ثُمَّ الله شَهِيدٌ} «ثم» ليست هنا للتَّرتيب الزَّماني، بل هي لترتيب الأخبار، لا لترتيب القصص في أنفسها، قال أبو البقاء: «كقولك: زيدٌ عالمٌ، ثم هو كريم» . وقال الزمخشريُّ: «فإن قلت: الله شهيدٌ على ما يفعلُون في الدَّاريْن، فما معنى» ثم «؟ . قلت: ذكرت الشهادة، والمراد: مقتضاها، ونيتجتها، وهو العقاب؛ كأنَّه قيل: ثم الله معاقبٌ على ما يفعلون» . وقرأ إبراهيم بن أبي عبلة: «ثَمَّ» بفتح الثاء، جعله ظرفاً لشهادة الله؛ فيكون «ثَمَّ» منصوباً ب «شَهِيدٌ» أي: اللهُ شهيدٌ عليهم في ذلك المكان، وهو مكانُ حشرهم، ويجوز أن يكون ظرفاً لِ «مَرْجعُهم» أي: فإليْنَا مرْجِعُهم، يعني: رجوعهم في ذلك المكانِ، الذي يُثَاب فيه المُحْسِن، ويعاقبُ فيه المُسيء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 345 قوله - تعالى -: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} الآية. لمَّا بيَّن حال محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في قومه، بيَّن أنَّ حال كل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مع أقوامهم كذلك. والآية تدلُّ على أنَّ كلَّ جماعة ممَّن تقدَّم، قد بعث الله إليهم رسُولاً، ولم يهمل أمَّة من الأمم ويؤيِّده قوله - تعالى -: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 345 فإن قيل: كيف يصحُّ هذا مع ما يعلمُه من أحْوالِ الفترة؟ . فالجواب: أنَّ الدَّليل الذي ذكرناه، لا يوجب أن يكون الرَّسُول حاضراً مع القوم؛ لأنَّ تقدم الرسول لا يمنع من كونه رسُولاً إليهم، كما لا يمنع تقدُّم رسولنا، من كونه مبعوثاً إلينا إلى آخر الأبد. وفي الكلام إضمار تقديره: فإذا جاء رسُولهُم وبلَّغ، وكذَّبه قوم وصدقه آخرون، قُضِيَ بَيْنَهُم، أي: حُكِمَ وفُصِلَ. والمراد من الآية: إمَّا بيان: أنَّ الرسول إذا بعث إلى كلِّ أمَّة، فإنَّه بالتبليغ، وإقامةِ الحُجَّةِ يزيح عللهم، ولم يبق لهم عُذْر؛ فيكون ما يُعَذَّبُونَ به في الآخرة عدلاً لا ظُلْماً، ويدُلُّ عليه قوله: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] ، وقوله: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] . وإمَّا أن يكون المرادُ: أنَّ القوم إذا اجتمعوا في الآخرة، جمع الله بينهم وبين رسلهم وقت المحاسبة، وبيان الفصل بين المُطِيعِ والعَاصِي؛ ليشهد عليهم بما شاهد منهم؛ وليقع منهم الاعتراف بأنَّه بلغ رسالات ربِّه، ويدل عليه قوله - تعالى -: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] . قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد} الآية. هذه شبهة خامسة من شبهات مُنْكِري النبوة؛ فإنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كُلَّما هدَّدهُم بنُزُول العذاب، ومرَّ زمان ولم يظهر ذلك العذاب، قالوا: متى هذا الوعد، فاحتجُّوا بعدم ظهوره، على القدح في نُبُوته، واعلم: أنَّهم قالوا ذلك على وجه التَّكذيبِ للرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا أخبرهم بنُزُول العذاب على الأعداء، وبنُصْرَة الأولياء - أو على وجه الاستبعاد، وتدلُّ الآية على أنَّ كلَّ أمَّة قالت لرسُولها مثل ذلك القول؛ بدليل قوله - تعالى - {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} لأنَّه جمع، وهو موافقٌ لقوله: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ} . ثم إنَّه - تعالى - أمره بأن يجيبَ عن هذه الشُّبهةِ بجواب يحسم المادَّة، وهو قوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} والمعنى: أنَّ إنزال العذاب على الأعداء، وإظهار النُّصرة للأولياء لا يقدر عليه إلاَّ الله - سبحانه -، وأنَّه - تعالى - ما عيَّن لذلك وقتاً معيناً، بل تعيين الوقت مُفوَّض إلى الله - سبحانه - بحسب مشيئته. قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ الله} فيه وجهان: أحدهما: أنَّه استثناءٌ متَّصل، تقديره: إلاَّ ما شاءَ الله أن أملكه، وأقدر عليه. والثاني: أنَّهُ منقطعٌ، قال الزمخشري: «هو استثناءٌ منقطعٌ، أي: ولكن ما شاء اللهُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 346 من ذلك كائن، فكيف أملك لكم الضَّرر وجَلْبَ العذابِ؟» . فصل احتجَّ المعتزلة بقوله: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَآءَ الله} بأن هذا الاستثناء، يدلُّ على أنَّ العبد لا يملك لنفسه ضرّاً ولا نفعاً، إلاَّ الطَّاعة والمعصية، فهذا الاستثناء يدل على كون العبد مستقبلاً بهما. وأجيبوا: بأنَّ هذه الاستثناء منقطعٌ، والتقدير: ولكن ما شاء الله من ذلك كائنٌ. قوله: {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي: مدَّة مضروبة {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} : وقت فناء أعمارهم، قرأ ابن سيرين: «إذا جَاءَ آجالهم فلا يستأخِرُون ساعةً ولا يسْتقدِمُونَ» أي: لا يتأخَّرُون، ولا يتقدمون، وهذه الآية تدلُّ على أنَّ أحداً لا يموت إلا بانقضاء أجله. فصل قوله: {إِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ} شرط، وقوله: {فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} أي: لا يتأخَّرون ولا يتقدمون، وهذه الآية تدل على جزاء، و «الفاء» حرف الجزاء؛ فوجب إدخاله على الجزاء، فدلَّت الآيةُ على أنَّ الجزاء يحصل مع حُصُول الشَّرطِ لا يتأخَّر عنه، وأنَّ حرف الفاء لا يدلُّ على التَّراخي؛ وإنَّما يدلُّ على كونه جزاء. وإذا ثبت هذا، فنقولُ: إذا قال الرجُل لامرأة أجنبيَّة: إن تزوجتك، فأنت طالقٌ؛ قال بعضهم: لا يصح هذا التعليق؛ لأنَّ هذه الآية دلَّت على أنَّ الجزاءَ إنَّما يحصل بحُصُول الشَّرط، فلو صحَّ هذا التعليق، لوجب أن يحصل الطلاق مقارناً للنِّكاح، لما ثبت أنَّ الجزاء يجبُ حصولهُ مع حصول الشرط، وذلك يوجبُ الجمع بين الضِّدَّين، ولمَّا بطل هذا اللاَّزم، وجب ألاَّ يصحَّ التعليق، وقال أبو حنيفة: يَصِحُّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 347 قوله - تعالى -: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً} الآية. هذا جواب ثانٍ عن قولهم: {متى هذا الوعد} [يونس: 48] وقد تقدَّم الكلام على «أرَأيْتَ» هذه، وأنَّها تتضمَّن معنى: أخبرني، فتتعدَّى إلى اثنين، ثانيهما غالباً جملةٌ استفهاميَّة، فينعقد منها مع ما قبلها مبتدأٌ وخبرٌ، كقولهم: «أرأيتكَ زيداً ما صنع» وتقدَّم مذاهبُ النَّاسِ فيها في «عذاب» ، والمسألةُ من إعمال الثاني؛ إذ هو المختار عند البصريِّين، ولمَّا أَعمله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 347 أضمر في الأول وحذفه؛ لأنَّ إبقاءه مخصوصٌ بالضَّرورة، أو جائزُ الذِّكْرِ على قلَّةٍ عند آخرين، ولو أعمل الأول، لأضمر في الثاني إذ الحذف منهُ لا يكونُ إلاَّ في ضرورة، أو في قليلٍ من الكلام. ومعنى الكلام: قل لهم يا محمد: أخبروني عن عذاب الله، إن أتاكم أيُّ شيءٍ تستعجلون منه، وليس شيءٌ من العذاب يستعجل به؛ لمرارته، وشدَّة إصابته، فهو مُقْتَضٍ لنُفُورِ الطبع منه. قال الزمخشري: «فإن قلت: بم يتعلَّق الاستفهامُ، وأين جوابُ الشَّرط؟ قلت: تعلَّق ب» أرَأيْتُمْ «لأنَّ المعنى: أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون، وجوابُ الشَّرط محذوفٌ، وهو: تندمُوا على الاستعجَال، أو تعرفُوا الخطأ فيه» . قال أبو حيَّان: «وما قدَّره غيرُ سائغ؛ لأنَّه لا يقدَّر الجوابُ إلاَّ ممَّا تقدَّمه لفظاً أو تقديراً، تقول:» أنت ظالمٌ إن فعلت «التقدير: إن فعلت، فأنت ظالمٌ، وكذلك {وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ} [البقرة: 70] التقدير: إن شاء الله نَهْتَدِ، فالذي يُسَوِّغ أن يقدر: إن أتاكم عذابه، فأخبروني ماذا يستعجلُ منهُ المجرمُونَ. وقال الزمخشريُّ أيضاً:» ويجوز أن يكون {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} جواباً للشرط كقولك: إن أتيتُك ما تُطْعمني؟ ثم تتعلَّق الجملةُ ب «أرأيْتُمْ» ، وأن يكون «أثمَّ إذا ما وقع آمنتُم به» جواباً للشَّرْطِ، و {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} اعتراضاً، والمعنى: إن أتاكم عذابه، آمنتم به بعد وقوع حين لا ينفعكم الإيمان. قال أبو حيَّان: «وأمَّا تجويزهُ أن يكون» مَاذَا «جواباً للشَّرط فلا يصحُّ؛ لأنَّ جواب الشَّرط إذا كان استفهاماً، فلا بُدَّ فيه من الفاءِ تقول: إنْ زارنا فلانٌ، فأيُّ رجلٍ هو، وإن زارنا فلانٌ، فأيُّ يدٍ لهُ بذلك، ولا يجوزُ حذفها إلاَّ إن كان في ضرورةٍ، والمثالُ الذي ذكره وهو» إنْ أتَيْتُكَ ما تُطعمني؟ «هو من تمثيله، لا من كلام العرب. وأمَّا قوله: ثُمَّ تتعلَّق الجملةُ ب» أرَأيْتُم «إن عنى بالجملة» مَاذَا يَسْتعجِلُ «فلا يصح ذلك؛ لأنَّه قد جعلها جواباً للشَّرْطِ، وإن عنى بالجملةِ جملة الشَّرطِ، فقد فسَّر هو» أرَأيْتُمْ «بمعنى: أخبرُوني، و» أخبرني «يطلب متعلِّقاً مفعولاً، ولا تقع جملةُ الشَّرطِ موقع مفعول» أخبرني «، وأمَّا تجويزه أن يكون:» أثُمَّ إذا ما وقعَ آمنتُم بِهِ «جواباً للشَّرطِ، و {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون} اعتراضاً، فلا يصحُّ أيضاً لما ذكرناه: من أن جملة الاستفهام لا تقع جواباً للشَّرط إلاَّ ومعها فاءُ الجواب، وأيضاً: ف» ثُمَّ «هنا حرف عطفٍ تعطفُ الجملة التي بعدها على التي قبلها، فالجملةُ الاستفهاميَّة معطوفة، وإذا كانت معطوفة، لم يصحَّ أن تقع جواب الشَّرط، وأيضاً: ف» أرَأيْتُمْ «بمعنى:» أخبروني «يحتاج إلى مفعول، ولا تقع جملة شرطٍ موقعه» . وكون «أرأيتم» بمعنى «أخبروني» هو الظاهر المشهور، وقال الحوفيُّ: «الرؤية من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 348 رؤية القلب التي بمعنى العلم؛ لأنَّها داخلةٌ على الجملة من الاستفهام التي معناها: التقرير، وجواب الشرط محذوفٌ، وتقدير الكلام: أرأيتم ما يستعجل من العذاب المجرمون، إن أتاكم عذابه» انتهى. فهذا ظاهرٌ في أنَّ «أرأيتم» غير مضمنةٍ معنى الإخبار، وأنَّ الجملة الاستفهاميَّة سدَّت مسدَّ المفعولين، ولكنَّ المشهور الأول. قوله: «مَاذَا يَسْتَعجلُ» قد تقدَّم الكلامُ على هذه الكلمة، ومذاهب النَّاس فيها [البقرة: 26] ، وجوَّز بعضهم هنا أن تكون «ما» مبتدأ، و «ذا» خبره، وهو موصولٌ بمعنى: «الَّذي» ، و «يَسْتَعْجِل» صلته، وعائده محذوفٌ تقديره: أيُّ شيء الذي يستعجله منه، أي: من العذاب، أو من الله - تعالى -. وجوَّز مكي، وغيره: أن يكون «مَاذَا» كلُّه مبتدأ، أي: يجعل الاسمان بمنزلةِ اسمٍ واحدٍ، والجملة بعده خبر، قال أبو عليٍّ: «وهو ضعيفٌ: لخلوِّ الجملة من ضمير يعُود على المبتدأ» . وقد أجاب أبو البقاء عن هذا، فقال: «ورُدَّ هذا القول بأنَّ الهاء في» مِنْهُ «تعودُ على المبتدأ؛ كقولك: زيدٌ أخذتُ منه درهماً» . قال شهاب الدِّين: «ومثلُ أبي علي لا يخفى عليه مثل ذلك، إلاَّ أنَّه لا يرى عود الهاء على الموصول؛ لأنَّ الظاهر عودها على العذاب» . قال أبو حيَّان: «والظَّاهرُ عودُ الضمير في» مِنْه «على العذاب، وبه يحصل الرَّبْطُ لجملة الاستفهام بمعفول» أرأيتم «المحذوف الذي هو مبتدأ في الأصل» . وقال مكي: «وإن شئت جعلت» ما «، و» ذا «بمنزلة اسمٍ واحدٍ في موضع رفع بالابتداء، والجملة التي بعدهُ الخبر، والهاءُ في» منهُ «تعود أيضاً على العذاب» . قال شهابُ الدِّين: «فقد ترك المبتدأ بلا رابطٍ لفظي، حيث جعل الهاءَ عائدةً على غير المبتدأ، فيكون العائدُ عنده محذوفاً، لكنَّه قال بعد ذلك:» فإن جعلت الهاء في «منهُ» تعود على الله - جلَّ ذكره -، و «ما» و «ذا» اسماً واحداً، كانت «ما» في موضع نصبٍ ب «يستعجل» والمعنى: أيَّ شيء يستعجلُ المجرمون من الله «فقوله هذا يؤذن بأنَّ الضمير لمَّا عاد على غير المبتدأ، جعله مفعولاً مقدماً، وهذا الوجه بعينه جائزٌ فيما إذا جعل الضمير عائداً على العذاب. ووجه الرَّفع على الابتداء جائزٌ، فيما إذا جعل الضمير عائداً على الله - تعالى -، إذ العائدُ الرَّابطُ مقدرٌ، كما تقدم التنبيهُ عليه «. حاصل الجواب: أن يقال لأولئك الكفار الذين يطلبون نزول العذاب: بتقدير أن يحصل هذا المطلوبُ، ما الفائدة لكم فيه؟ فإن قلتم نؤمن عنده، فذلك باطل؛ لأنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 349 الإيمان في ذلك الوقت لا يفيد نفعاً ألبتَّة؛ لأنَّه إيمان في وقت انحباس النفس؛ فثبت أنَّ الذي تطلبونه لو أتاكم، لم يحصل منه إلاَّ العذاب في الدنيا، ثم يحصل عقيبة يوم القيام عذابٌ آخر أشدُّ منه، ثم يقرون ذلك العذاب بكلام يدل على الإهانةِ، وهو قوله: {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} . فالحاصل: أنَّ هذا الذي تطلبونه محضُ الضَّرر العادي من جهات النفع، والعاقل لا يفعل ذلك. وقوله:» بَيَاتاً «أي: ليلاً يقال: بت ليلتي أفعل كذا؛ لأنَّ الظاهر أنَّ الإنسان يكون في البيت بالليل؛ فجعل هذا اللفظ كناية عن الليل، والبيات: مصدر مثل التَّبييت؛ كالوداع، والسراح، ويقال في النهار ظللت أفعل كذا؛ لأنَّ الظاهر أن الإنسان يكون في النهار في الظِّلِّ، وانتصب» بياتاً «على الظرف أي: وقت بيات. قوله:» أثُمَّ «قد تقدَّم خلافُ الزمخشري للجمهور في ذلك، حيث يقدِّر جملة بين همزة الاستفهام، وحرف العطف، و» ثمَّ «: حرفُ عطف. واعلم: أنَّ دخول حرف الاستفهام على» ثُمَّ «كدخوله على» الواوِ «و» الفاء «في قوله: {أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى} [الأعراف: 98] ، {أَهْلُ القرى} [الأعراف: 97] وهو يفيد التَّقريع والتَّوبيخ، وقال الطبري:» أثُمَّ «هذه بضمِّ الثاء ليست التي بمعنى: العطف، وإنَّما هي بمعنى:» هنالك «وهذا لا يوافقُ عليه؛ لأنَّ هذا المعنى لا يعرفُ في» ثُمَّ «بضم» الثاء «، إلاَّ أنَّه قد قرأ طلحة بن مصرِّف:» أثَمَّ «بفتح الثاء، وحينئذ يصحُّ تفسيرها بمعنى: هنالك. قوله:» ألآن «قد تقدَّم الكلام في {الآن} [البقرة: 72] ، وقرأ الجمهور:» ألآن «بهمزة الاستفهام داخله على» الآن «وقد تقدَّم مذاهبُ الفراء في ذلك، و» الآن «نصب بمضمر تقديره: الآن آمنتم، ودلَّ على هذا الفعل المقدَّر الفعلُ الذي تقدمهُ، وهو قوله: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ} ولا يجوز أن يعمل فيه» آمنتُم «الظَّاهرُ؛ لأنَّ ما قبل الاستفهام لا يعمل فيما بعده، كما أنَّ ما بعده لا يعملُ فيما قبله؛ لأنَّ له صدر الكلام، وهذا الفعلُ المقدَّرُ ومعمولُه على إضمار قول، أي: قيل لهم إذ آمنوا بعد وقوع العذابِ: آمنتُم الآن به، وقرأ عيسى، وطلحة:» آمنتم به الآن «بوصل الهمزة من غير استفهامٍ، وعلى هذه القراءة ف» الآن «منصوبٌ ب» آمنتم «هذا الظَّاهر. قوله: {وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} «وقَدْ كُنتُم» جملةٌ حاليةٌ، قال الزمخشري: «وقد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 350 كُنتُم به تَستعجلُون؛ يعني: تُكذِّبُونَ؛ لأنَّ استعجالهم كان على جهةِ التَّكذيب، والإنكار» . فجعله من باب الكناية؛ لأنَّه دلالةٌ على الشَّيء بلازمه، نحو «هو طويلُ النَّجاد» كنيت به عن طُول قامته؛ لأنَّ طولَ نجاده لازمٌ لطول قامته، وهو باب بليغٌ. وقوله: {ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} هذه الجملةُ على قراءة العامَّة؛ عطفٌ على ذلك الفعل المقدَّر الناصب ل «الآن» وعلى قراءة طلحة هو استئناف إخبار عمَّا يقال لهم يوم القيامة، و «ذُوقُوا» و «هَلْ تُجزَونَ» كلُّه في محلِّ نصبٍ بالقول، وقوله: «إلاَّ بِمَا» هو المفعولُ الثاني ل «تُجْزَون» ، والأولُ قائمٌ مقام الفاعلِ، وهو استثناءٌ مفرَّغٌ. فصل دلَّت الآية على أنَّ الجزاء يوجب العمل، أمَّا عند الفلاسفة: فهو أثر العمل، وأمَّا عند المعتزلة: فإنَّ العمل الصَّالح يوجب استحقاق الثَّواب على الله - تعالى -، وأما عند أهل السنة؛ فلأنَّ ذلك الجزاء واجب بحكم الوعد المحض. قالت المعتزلةُ: ودلَّت الآية على كون العبد مكتسباً، وعند أهل السُّنَّة معناها: أنَّ مجموع القُدْرَة مع الدَّاعية الحاصلة يوجب الفعل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 351 قوله تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} الآية. لمَّا أخبر - تعالى - عن الكفَّار، بأنهم يقولون: {متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} وأجاب عنه بما تقدَّم، حكى عنهم: أنهم رجعُوا إلى الرَّسُول مرَّة أخرى في هذه الواقعة، وسألوه عن ذلك السُّؤال مرَّة أخرى، وقالوا: أحقٌّ هو؟ واعلم: أنهم سالوا أولاً عن زمانِ وقوعه، وههنا سألوا عن تحقُّقه في نفسه، ولهذا اختلف جوابهما. فأجاب عن الأول، وهو السؤال عن الزمان، بقوله {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} [يونس: 49] . وأجاب عن الثاني: بتحققه بالقسم، بقوله {إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} وفائدته أن يستميلهم ويتكلم معهم بالكلام المعتاد؛ لأنَّ الظاهر أنَّ من أخبر عن شيء، وأكَّده بالقسم، فقد أخرجه عن الهَزل إلى الجدِّ، وأيضاً: فإنَّ النَّاس طبقات: فمنهم من لا يُقِرّ بشيءٍ إلاَّ بالبرهان الحقيقيِّ، ومنهم من ينتفع بالأشياء الإقناعيَّة، نحو القسم. قوله: «أحَقٌّ هُوَ» يجوز أن يكون «حَقٌّ» مبتدأ، و «هو» مرفوعاً بالفاعليَّة سدَّ مسدَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 351 الخبر، و «حَقَّ» وإن كان في الأصل مصدراً ليس بمعنى اسم فاعل ولا مفعول؛ لكنَّه في قوَّة «ثابت» فلذلك رفع الظَّاهر، ويجوز أن يكون «حقٌّ» خبراً مقدَّماً، و «هو» مبتدأ مؤخراً، واختلف في «يَسْتَنبئُونَك» هذه: هل هي متعدِّيةٌ إلى واحدٍ، أو إلى اثنين، أو إلى ثلاثة؟ . فقال الزمخشري: «ويَسْتنْبِئُونك» ، فيقولون: أحقٌّ هو فظاهرُ هذه العبارة أنَّها متعدية لواحدٍ، وأن الجملة الاستفهايمة في محلِّ نصب بذلك القول المضمر المعطوف على «يَسْتنبئُونَك» وكذلك فهم عنه أبو حيَّان، أعني: تعدِّيها لواحدٍ. وقال مكِّي: «أحقٌّ هو ابتداءٌ وخبرٌ في موضع المفعُولِ الثاني، إذا جعلْتَ» يستنبئونك «بمعنى: يَسْتخْبِرُونكَ، فإذا جعلتَ» يَسْتَنْبِئُونَ «بمعنى: يَسْتعْلِمُونك، كان» أحقٌّ هُوَ «ابتداء وخبراً في موضع المفعولين؛ لأنَّ» أنْبَأ «إذا كان بمعنى: أعلم، وكان متعدِّياً إلى ثلاثةِ مفاعيل، يجوزُ الاكتفاءُ بواحدٍ، ولا يجوز الاكتفاء باثنين دون الثالث، وإذا كانت» أنبأ «بمعنى: أخْبَر، تعدَّت إلى مفعولين، ولا يجوزُ الاكتفاءُ بواحد دون الثاني، وأنبأ ونبَّأ في التعدِّي سواءٌ» . وقال ابن عطيَّة: «معناه: يَسْتخبرونك، وهو على هذا يتعدَّى إلى مفعولين أحدهما الكافُ، والآخرُ في الابتداء والخبر» فعلى ما قال، تكون «يَسْتَنْبِئُونكَ» معلَّقة بالاستفهام، وأصل استنبأ: أن يتعدَّى إلى مقعولين أحدهما ب «عَنْ» تقول: اسْتَنْبَأتُ زيداً عن عمور، أي: طلبت منه أن يُنِْئَني عن عمرو، ثمَّ قال: «والظَّاهر أنَّها تحتاج إلى ثلاثة مفاعيل أحدها الكاف، والابتداء والخبر سدَّ مسدَّ المفعولين» . قال أبو حيَّان: «وليس كما ذكر؛ لأنَّ استعلم لا يحفظ كونها متعدِّيةٌ إلى مفاعيل ثلاثةٍ، لا يحفظ» استعملتُ زيداص عمراً قائماً «فتكون جملةُ الاستفهام سدَّت مسدَّ المفعولين، ولا يلزمُ من كونها بمعنى» يَسْتعْلمونك «أن تتعدَّى إلى ثلاثة؛ لأنَّ» استعْلَم «لا يتعدَّى إلى ثلاثةٍ، كما ذكرنا» . وقد سبق ابن عطية إلى هذا مكِّيٌّ، كما تقدَّم عنه والظاهرُ جوازُ ذلك، ويكون التَّعدِّي إلى ثالثٍ قد حصل بالسِّين؛ لأنَّهم نصُّوا على أنَّ السِّين تعدي، فيكون الأصل: «عَلِمَ زيدٌ عمراً قائماً» ثم تقول: «اسْتعلمْتُ زيداً عمراً قائماً» إلاَّ أنَّ النحويِّين نصُّوا على أنَّه لا يتعدَّى إلى ثلاثةٍ إلاَّ «عَلِمَ» و «رأى» المنقولين بخصوصية همزةِ التعدِّي إلى ثالثٍ، وأنْبَأ، ونَبَّأ، وأخبر، وخبَّر وحدَّث، وقرأ الأعمش: «آلحقُّ» بلام التعريف، قال الزمخشري: «وهو أدخَلُ في الاستهزاء، لتضمُّنه معنى التعريض، فإنه باطلٌ؛ وذلك لأنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 352 اللاًَّم للجنس، فكأنه قال: أهُو الحق لا الباطلُ، أو: أو الذي سمَّيتُمُوه الحق» والضمير، أعني: «هو» عائدٌ إمَّا على العذاب، أو على الشَّرع، أو على القرآن، أو على الوعيد، أو على أمر السَّاعة. قوله: «إي وربِّي» «إي» حرف جوابٍ بمعنى «نعم» ولكنَّها تختصُّ بالقسم، أي: لا تُستعمل إلاَّ في القسم بخلافِ «نعم» . قال الزمخشري: «وإي: بمعنى نعم في القسم خاصةً؛ كما كان» هَلْ «بمعنى» قَدْ «في الاستفهام خاصَّة، وسمِعْتُهُم يقولون في التَّصديق» إيْوَ «فيَصِلُونَه بواو القسم، ولا ينْطِقُون به وحده» . قال أبو حيَّان: «لا حُجَّة فيما سمعه لعدمِ الحُجَّة في كلام من سمعهُ؛ لفسادِ كلامه وكلام من قبله بأزمانٍ كثيرة» . وقال ابن عطيَّة: «هي لفظةٌ تتقدَّم القسم بمعنى: نعم، ويجيءُ بعدها حرفُ القسم وقد لا يجيءُ، تقول: إي وربِّي وإي رَبِّي» . قوله: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ} يجوزُ أن تكون الحجازيَّة وأن تكون التميميَّة؛ لخفاء النَّصْبِ، أو الرفع في الخبر. وهذا عند غير الفارسي، وأتباعه، أعني: جواز زيادة الباء في خبر التميمية، وهذه الجملة تحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون معطوفة على جواب القسم؛ فيكون قد أجاب القسم بجملتين؛ إحداهما: مثبتةٌ مؤكَّدةٌ ب «إنَّ واللاَّم، والأخرى: منفيةٌ مؤكَّدةٌ بزيادة الباءِ. والثاني: أنَّها مستأنفةٌ، سيقت للإخبار بعجزهم عن التَّعجيز، و» مُعْجَِز «من أعجز، فهو متعدِّ لواحدٍ، كقوله - تعالى -: {وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً} [الجن: 12] فالمعفول هنا محذوفٌ، أي: بمعجزين الله، وقال الزجاج:» أي: أنتم ممَّن يُعْجِزُ من يُعذِّبُكم «، ويجوز أن يكون استعمل استعمال اللازم؛ لأنَّه قد كثر فيه حذفُ المفعول، حتَّى قالت العرب:» أعْجَزَ فلانٌ «إذا ذهب في الأرض فلمْ يُقدر عليه، قال بعض المُفَسِّرين: المعنى: ما أنتم بمُعْجزين، أي: بفَائتينَ من العذاب؛ لأنَّ من عجز عن شيءٍ، فقد فاتهُ. قوله - تعالى -: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض} الآية. أي: أشركت ما في الأرض، {لاَفْتَدَتْ بِهِ} إلاَّ أنَّ ذلك يتعذر؛ لأنه في القيامةِ لا يملك شيئاً؛ لقوله - تعالى -: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً} [مريم: 95] وبتقدير: أن يملك خزائن الأرض لا يقبل منه الفداء؛ لقوله - تعالى -: {وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} [البقرة: 48] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 353 وقوله: «ظَلَمَتْ» في محل جرِّ صفةٍ ل «نَفْسٍ» أي: لكلِّ نفس ظالمة، و «ما فِي الأرض» اسمُ «أنَّ» و «لكلِّ» هو الخبر. قوله: {لاَفْتَدَتْ بِهِ} : «افتدى» يجوز أن يكون متعدياً، وأن يكون قاصراً، فإذا كان مطاوعاً ل «فَدَى» كان قاصراً، تقول: فَدَيتُهُ فافْتَدَى، ويكُون بمعنى: فَدَى «فيتعدَّى لواحدٍ، والفعلُ هنا يحتملُ الوجهين: فإن جعلناه مُتعدِّياً، فمفعوله محذوفٌ تقديره: لافتدت به نفسها، وهو في المجاز، كقوله: {كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111] . قوله:» وَأَسَرُّواْ «قيل:» أسرَّ «من الأضداد، يستعمل بمعنى: أظهر؛ كقول الفرزدق: [الطويل] 2905 - وَلَمَّا رَأَى الحَجَّاجَ جَرَّدَ سَيْفَهُ ... أَسَرَّ الحَرُورِيُّ الَّذِي كَانَ أَضْمَرَا وقول الآخر: [الوافر] 2906 - فأسْررتُ النَّدامَةَ يَوْمَ نَادَى ... بِرَدِّ جمالِ غاضِرَةَ المُنَادِي ويستعمل بمعنى:» أخْفَى «وهو المشهورُ في اللُّغةِ، كقوله - تعالى -: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} [البقرة: 77] . وهو في الآية يحتمل الوجهين، وقيل إنَّه ماض على بابه قد وقع، وقيل: بمعنى: المستقبل؛ لأنَّها لمَّا كانت واجبة الوقوع جعل مستقبلها كالماضي، وقد أبعد بعضهم، فقال: {وَأَسَرُّواْ الندامة} أي: بدتْ بالنَّدامة أسِرَّةُ وجوههم، أي: تكاسيرُ جباههم. قوله:» لَمَّا رَأَوُاْ «يجوزُ أن تكون حرفاً، وجوابها محذوفٌ لدلالة ما تقدَّم عليه، أو هو المتقدِّم عند من يرى تقديم جواب الشَّرطِ جائزاً، ويجوز أن تكون بمعنى:» حين «والنَّاصبُ لها:» أسَرُّوا «. فصل إذا فسرنا الإسْرار بالإخفاء ففيه وجوهٌ: الأول: أنهم لمَّا رَأوا العذابَ الشَّديد، صارُوا مبهُوتين، لم يطيقُوا بكاء ولا صراخاً سوى إسرار النَّدامة، كمن يذهبُ به ليُصلب، فإنَّه يبقى مبهُوتاً لا ينطق بكلمة. الثاني: أنَّهم أسرُّوا النَّدامة من سفلتهم، وأتباعهم، حياء منهم، وخوفاً من توبيخهم. فإن قيل: إنَّ مهابة ذلك الوقت تمنع الإنسان من هذا التَّدبير، فكيف أقدمُوا عليه؟ . فالجواب: أنَّ هذا الكتمان قبل الاحتراق، فإذا احترقوا، تركوا هذا الإخفاء الجزء: 10 ¦ الصفحة: 354 وأظهروه؛ لقوله - تعالى -: {رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} [المؤمنون: 106] . الثالث: أنَّهم أسرُّوا النَّدامة؛ لأنَّهم أخلصُوا لله في تلك الندامة، ومن أخلص في الدعاء أسرَّهُ، وفيه تهكُّمٌ بهم وبإخلاصهم، أي: أنَّهم إنَّما أتوا بهذا الإخلاص في غير وقته. ومن فسَّر الإسرار بالإظهار، فإنَّهم إنَّما أخفُوا النَّدامة على الكفر والفسق في الدُّنيا؛ لأجْلِ حفظ الرِّياسة، وفي القيامة يبطل هذا الغرض؛ فوجب الإظهار. قوله «وَقُضِيَ» يجوزُ أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون معطوفاً على «رَأوْا» فيكون داخلاً في حيَّز «لمَّا» والضَّميرُ في «بينهُم» يعودُ على «كُلِّ نفسٍ» في المعنى، وقال الزمخشري: «بين الظَّالمين والمظلومين، دلَّ على ذلك ذكرُ الظُّلْمِ» . وقيل: يعود على الرؤساء والأتباع، و «بِالقِسْطِ» يجوز أن تكون الباءُ للمصاحبةِ، وأن تكون للآلة، وقوله: «وإليه تُرْجعُون» قدَّم الجارَّ للاختصاص، أي: إليه لا إلى غيره ترجعُون؛ ولأجْل الفواصل، وقرأ العامَّةُ: «تُرجعُون» بالخطاب، وقرأ الحسن، وعيسى بن عمر: «يُرْجعُون» بياء الغيبة. قوله تعالى: {ألاا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض} [يونس: 66] . قيل: تعلُّق هذه الآية بما قبلها، هو أنَّه - تعالى - لمَّا قال: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ} قال ههنا: ليس للظَّالم شيء يفتدى به؛ فإنَّ الأشياء كلَّها ملكُ الله. وقيل: إنَّه - تعالى - لمَّا قال: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} ثم قال لهُ: {قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} أتبعهُ بهذا البرهان القاطع على إثبات الإله القادر الحكيم، وهو قوله: {ألاا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض} [يونس: 66] فدلَّ على أنَّ ما سواه فهو مِلْكُه ومُلْكُه، ولم يذكر الدَّليل على ذلك؛ لأنَّه قد استقصى تقريرهُ في أول السورة، في قوله: {إِنَّ فِي اختلاف الليل والنهار} [يونس: 6] الآية، وقوله: {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً} [يونس: 5] فاكتفى بذكره هناك، وإذا كان الأمر كذلك، كان قادراً على كلِّ المُمْكناتِ، عالماً بكلِّ المعلومات، غنيّاً عن جميع الحاجات، فيكون قادراً على صحَّة الميعاد، وعلى إنزال العذاب على الكُفَّار في الدُّنيا والآخرة، وعلى إيصال الرَّحْمَة للأولياء في الدُّنيا والآخرة، ويكُون قادراً على تأييدِ رسوله بالدَّلائل القاطعة، والمعجزات الباهرة، وكان كل ما وعد به، فهو حقٌّ لا بُدَّ وأن يقع، وأنَّه منزَّهٌ عن الخلف في وعده، فلمَّا أخبر عن نُزول العذاب بهؤلاء الكُفَّار، وبحصول الحشر والنشر، وجب القطع بوقوعه، فثبت بهذا البيان أن قوله: {ألاا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} يوجب الجزم بصحَّة قوله: {أَلاَ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} ثم قال: {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: غافلُون عن هذه الدَّلائل، ثُمَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 355 أكد هذا الدليل بقوله: {هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي: إنه لمَّا قدر على الإحياء في المرَّة الأولى، فإذا أماته، وجب أن يبقى قادراً على إحيائه ثانياً؛ فظهر أمرهُ لنبيه بأن يقول: {إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ} . قوله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 356 - تعالى -: {يا أيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ} الآية. اعلم: أنَّه - تعالى - لمَّا بيَّن أنَّ الرسول حقٌّ وصدقٌ بظهور المعجزات على يديه، في قوله: {وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله} [يونس: 37] إلى قوله {إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [يونس: 38] وصف القرآن هنا بصفاتٍ أربع: أولها: كونه موعظة. وثانيها: كوه شفاءً لما في الصُّدُور. وثالثها: كونه هُدًى. ورابعها: كونه رحمة للعالمين. قوله: «مِّن رَّبِّكُمْ» يجوز أن تكون «مِنْ» لابتداء الغاية، فتتعلَّق حينئذٍ ب «جَآءَتْكُمْ» ، وابتداءُ الغايةِ مجازٌ، ويجوز أن تكون للتَّبعيض، فتتعلق بمحذوف على أنَّها صفةٌ ل «موعظة» أي: موعظةٌ كائنةٌ من مواعظ ربِّكُم. وقوله: {مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ} من باب ما عطف فيه الصِّفات بعضها على بعضٍ، أي: قد جاءتكم موعظةٌ جامعةٌ لهذه الأشياء كلِّها، و «شِفَاءٌ» في الأصل مصدرٌ جعل وصفاً مبالغة، أو هو اسمٌ لما يُشْفَى به، أي: يُداوى، فهو كالدَّواءِ لما يُدَاوى، و «لِمَا في الصُّدورِ» يجوز أن يكون صفةً ل «شِفَاء» فيتعلق بمحذوفٍ، وأن تكون اللامُ زائدةً في المفعول؛ لأنَّ العامل فرعٌ إذا قلنا بأنَّه مصدرٌ. وقوله: «لِلْمؤمنينَ» محتملٌ لهذين الوجهين، وهو من التَّنازُع؛ لأنَّ كلاًّ من الهُدَى والرحمة يطلبُه. فصل أمَّا كون القرآن موعظةً؛ فلاشتماله على المواعظِ والقصص، وكونه شفاءً، أي: دواءً، لجهل ما في الصُّدورِ، أي: شفاء لعمى القُلُوب، والصُّدُور موضعُ القلب، وهو أعز موضع في الإنسان لجواز القلب، قال - تعالى -: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور} [الحج: 46] وكونه هُدًى، أي: من الضَّلالة، {وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} ، والرَّحْمَة: هي النعمة على المحتاج؛ فإنَّه لو أهدى ملكٌ إلى ملك شيئاً، فإنَّه لا يقال رحمة وإن كان ذلك نعمة؛ فإنَّه لم يصنعها إلى المحتاج. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 356 قوله: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ} : في تعلٌُّ هذا الجارِّ أوجهٌ: أحدها: أنَّ «بِفَضْلِ» و «بِرَحْمتهِ» متعلقٌ بمحذوفٍ، تقديره: بفضل الله وبرحمته ليفرحُوا، فبذلك فليَفْرَحُوا، فحذف الفعل الأول؛ لدلالة الثاني عليه، فهما جملتان. ويدلُّ على ذلك قول الزمخشري: «أصلُ الكلام: بفَضْلِ الله وبرحمته، فليفرحوا، فبذلك فليفرحوا، والتَّكرير للتَّأكيد، والتَّقرير، وإيجاب اختصاص الفضل والرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا، فحذف أحدُ الفعلين؛ لدلالةِ المذكور عليه، والفاءُ داخلةٌ لمعنى الشَّرطِ، كأنَّه قيل: إن فرحُوا بشيءٍ، فليَخُصُّوهُمَا بالفرح، فإنَّه لا مفروح به أحق منهما» . الثاني: أنَّ الجارَّ الأول متعلِّقٌ أيضاً بمحذوفٍ دلَّ عليه السِّياقُ والمعنى، لا نفس الفعل الملفوظ به، والتقديرُ: بفضل الله وبرحمته، فليعتنُوا، فبذلك فليَفْرَحُوا، قاله الزمخشري. الثالث: أن يتعلَّق الجارُّ الأوَّل ب «جَاءَتكُم» قال الزمخشري: «ويجوز أن يراد: قد جاءتكم موعظةٌ بفضلِ الله وبرحمتهِ، فبذلك فليفرحوا، أي: فَبِمجِيئهما فليَفْرَحُوا» . قال أبو حيَّان: «أمَّا إضمار» فليَعْتنُوا «فلا دليل عليه» . قال شهاب الدِّين: «الدَّلالةُ عليه من السِّياق واضحةٌ، وليس شرطُ الدَّلالةِ أن تكون لفظيَّة» . وقال أبو حيَّان: وأمَّا تعلُّقُه بقوله: «قَدْ جَاءتُكم» فينبغي أن يُقدَّرَ محذوفاً بعد «قُلْ» ، ولا يكونهُ متعلِّقاً ب «جَاءَتْكُم» الأولى؛ للفَصْل بينهما ب «قُلْ» ، وهذا إيراد واضحٌ، ويجُوزُ أن يكون «بِفَضْلِ اللهِ» صفةً ل «مَوْعِظَة» أي: موعظةٌ مصاحبةٌ، أو ملتبسةٌ بفضل اللهِ. الرابع: قال الحوفيُّ: «الباءُ متعلِّقةٌ بما دلَّ عليه المعنى، أي: قد جاءتكم الموعظة بفضل الله» . الخامس: أنَّ الفاء الأولى زائدةٌ، وأنَّ قوله: «بذلك» بدلٌ ممَّا قبله، وهو «بِفَضْلِ الله وبرحمتهِ» وأُشير بذلك إلى اثنين؛ كقوله: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . وقوله: [الرمل] 2907 - إنَّ للخَيْرِ وللشَّرِّ مدًى ... وكِلاَ ذلكَ وجْهٌ وقَبَلْ وفي هاتين الفاءين أوجهٌ: أحدها: أنَّ الأولى زائدةٌ، وقد تقدَّم في الوجه الخامس. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 357 الثاني: أنَّ الفاء الثانية مكررةٌ للتَّوكيد، فعلى هذا لا تكونُ الأولى زائدةً، ويكون أصل التَّركيب: فبذلك ليفرحوا، وعلى القول الأول قبلهُ يكون أصلُ التَّركيب: بذلك فليَفْرَحُوا. الثالث: قال أبو البقاء: الفاءُ الأولى مرتبطةٌ بما قبلها، والثانيةُ بفعلٍ محذوفٍ، تقديره: فليَعْجَبُوا بذلك فليَفْرَحُوا؛ كقولهم: زيداً فاضربه، أي: تعمَّد زيداً فاضربه والجمهورُ على «فَلْيَفْرَحُوا» بياء الغيبة. وقرأ عثمان بن عفان، وأبيُّ، وأنس، والحسن، وأبو جراء، وابن هرمز، وابن سيرين: بتاء الخطاب، وهي قراءةُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال الزمخشري: «وهو الأصلُ والقياسُ» . قال أبو حيَّان: «إنَّها لغةٌ قليلة» . يعنى أنَّ القياسَ أن يُؤمَرَ المخاطب بصيغةِ «افعل» ، وبهذا الأصل قرأ أبيُّ: «فَافْرَحُوا» وهي في مصحفه كذلك، وهذه قاعدةٌ كُلِّيَّةٌ: وهي أنَّ الأمر باللاَّم يكثر في الغائب، والمخاطب المبنيِّ للمفعول، مثال الأول: «لِيقم زيدٌ» وكالآية الكريمة في قراءة الجمهور، ومثال الثاني: لِتُعْنَ بحاجتي، ولتضرب يا زيد، فإن كان مبنياً للفاعل، كان قليلاً؛ كقراءة عثمان، ومن معه، وفي الحديث: «لتأخُذُوا مصافَّكُم» بل الكثير في هذا النَّوْع الأمرُ بصيغة «افْعَلْ» نحو: قُمْ يا زيد، وقوموا، وكذلك يضعف الأمر باللاَّم للمتكلم وحدهُ، أو معه غيره، فالأول نحو: «لأقُمْ» تأمر نفسك بالقيام، ومنه قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «قُومُوا فلأصَلَّ لكُم» ومثال الثاني: لِنَقُمْ، أي: نحن، وكذلك النَّهْي؛ ومنه قول الشَّاعر: [الكامل] 2908 - إذَا ما خَرَجْنَا مِنْ «دِمشْقَ» فلا نَعُدْ ... لهَا أبَداً ما دَامَ فِيهَا الجُرَاضِمُ ونقل ابنُ عطيَّة، عن ابن عامر: أنَّه قرأ: «فَلتَفْرَحُوا» خطاباً، وهذه ليست مشهورة عنه. وقرأ الحسن، وأبو التياح: «فَليَفْرَحُوا» بكسر اللام، وهو الأصل. قوله: {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} «هو» عائدٌ على الفضل والرَّحْمَةِ، وإن كانا شيئين؛ لأنَّهُمَا بمعنى شيء واحد، عُبِّر عنه بلفظتين على سبيل التأكيد؛ ولذلك أشير إليهما بإشارة واحدةٍ. وقرأ ابن عامر: «تَجْمَعُون» بتاء الخطاب، وهو يحتمل وجهين: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 358 أحدهما: أن يكون من باب الالتفات، فيكون في المعنى كقراءة الجماعة، فإنَّ الضَّمير يُراد من يُرادُ بالضَّمير في قوله: «فَلْيَفْرَحُوا» . والثاني: أنَّه خطاب لقوله: {يا أيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ} وهذه القراءةُ تناسبُ قراءة الخطاب في قوله «فَلْيَفْرَحُوا» كما نقلها ابنُ عطيَّة عنه أيضاً. فصل قال مجاهد وقتادةُ: فضل الله: الإيمان، ورحمته: القرآن. وقال أبو سعيدٍ الخُدريُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: فضل الله: القرآن، ورحمته أن جعلنا من أهله. وقال ابن عمر: فضلُ الله: الإسلام، ورحمته: تزيينهُ في القلب، وقال خالدُ بن معدان: فضلُ الله: الإسلام، ورحمته: السُّنَن. وقيل: فضل الله: الإيمان، ورحمته: الجنَّة، {فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ} أي: لِيَفْرَحِ المؤمنون أن جعلهم من أهله، {هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ} أي: خير ممَّا يجمعه الكُفَّار من الأموالِ؛ لأنَّ الآخرة خيرٌ وأبْقَى، وما كان عند الله، فهو أولى بالطَّلب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 359 قوله - تعالى - {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ} الآية. قال ابن الخطيب: ذكر النَّاسُ في تعلُّقِ هذه الآية بما قبلها وجوهاً، ولا أستحسن واحداً منها. والذي يخطر بالبال وجهان: الأول: أنَّ المقصود من هذا الكلام ذكر طريق ثالث في إثبات النبوة، وذلك أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال للقوم: «إنَّكُم تحكُمُون بحلِّ بعض الأشياء، وحرمة بعضها، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 359 فهذا الحكم تقولونه افتراءً على الله، أم تعلمُون أنَّهُ حكمٌ حَكَمَ اللهُ به» ؛ والأول باطلٌ بالاتِّفاق، فلم يبقَ إلاَّ الثَّاني، ومن المعلُوم أنَّه - تعالى - ما خاطبكم به من غير واسطةٍ، ولمَّا بطل هذا، ثبتَ أنَّ هذه الأحكام إنَّما وصلتْ إليكم بقول رسولٍ أرسله الله إليكم، ونبيِّ بعثهُ الله إليكم، وذلك يدلُّ على اعترافكم بصحَّةِ النبوة والرِّسالة، فكيف تُبالغُوا هذه المبالغاتِ العظيمةِ في إنكار النبوة؟ . الوجه الثاني: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا ذكر الدَّلائل الكثيرة على صحَّة نبوَّة نفسه، وبيَّن فساد سؤالاتهم، وشبهاتهم في إنكارها، أتبع ذلك ببيان فساد طريقتهم في شرائعهم وأحكامهم، وبيَّن أنَّ التمييز بين هذه الأشياء بالحلِّ والحرمةِ، مع أنَّه لم يشهد بذلك لا عقلٌ ولا نقلٌ، فدل على أنَّه طريق باطلٌ، وأنَّهم ليسُوا على شيءٍ. قوله: «أَرَأَيْتُمْ» : هذه بمعنى: «أخْبرُوني» . وقوله: «ما أنزلَ» يجُوز أن تكُون «مَا» موصولةً بمعنى: «الَّذي» ، والعائد محذوفٌ، أي: ما أنزله، وهي في محلِّ نصبٍ مفعولاً أولاً، والثاني هو الجملة من قوله: {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} ؟ والعائدُ من هذه الجملة على المفعول الأولِ محذوفٌ، تقديره: آلله أذن لكم فيه؛ واعترض على هذا: بأنَّ قولهُ «قُلْ» يمنع من وقوع الجملة بعده مفعولاً ثانياً. وأجيب عنه: بأنَّه كُرِّرَ توكيداً، ويجوز أن تكون «مَا» استفهاميَّة منصوبة المحلِّ ب «أنزل» وهي حينئذٍ معلَّقةٌ ل «أرأيْتُم» وإلى هذا ذهب الحوفيُّ، والزمخشريُّ، ويجوز أن تكون «ما» الاستفهاميَّةُ في محلِّ رفع بالابتداء، والجملةُ من قوله: {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} خبره، والعائدُ محذوفٌ كما تقدَّم، أي: أذن لكم فيه، وهذه الجملة الاستفهاميةُ معلِّقةٌ ل «أرَأيْتُم» ، والظاهرُ من هذه الأوجه هو الأول؛ لأنَّ فيه إبقاءاً ل «أرَأيْتَ» على بابها من تعدِّيها إلى اثنين، وأنَّها مؤثِّرةٌ في أولهما بخلاف جعل «ما» استفهامية، فإنَّها مُعلِّقةٌ ل «أرأيت» وسادَّةٌ مسدَّ المفعولين. قوله: «مِنْ رزقٍ» : يجوز أن يكون حالاً من الموصولٍ، وأن تكون «مِنْ» : لبيان الجنس، و «أنْزَلَ» على بابها، وهو على حذف مضافٍ، أي: أنزله من سبب رزقٍ وهو المطرُ، وقيل: تُجوِّز بالإنزال علن الخلق، كقوله: {وَأَنزْلْنَا الحديد} [الحديد: 25] {وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام} [الزمر: 6] . قوله: {أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} في «أم» هذه وجهان: أحدهما: أنها متصلةٌ عاطفةٌ، تقديره: أخبروني: آللهُ أذِنَ لكم في التحليل والتحريم، فإنكم تفعلون ذلك بإذنه، أم تكذبُون على الله في نسبة ذلك إليه. والثاني: أن تكون منقطعةً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 360 قال الزمخشري: «ويجوز أن تكون الهمزةُ للإنكارِ، و» أمْ «منقطعةٌ بمعنى: بل أتَفْتَرُونَ على الله، تقريراً للافتراء» والظَّاهرُ هو الأولُ؛ إذ المعادلةُ بين الجملتين اللتين بمعنى المفرد واضحةٌ، إذ التقدير: أيُّ الأمرين وقع إذن الله لكم في ذلك، أم افتراؤكم عليه؟ . فصل المراد بالشَّيء الذي جعلوه حراماً: ما ذكروه من تحريم السائبة، والوصيلة، والحام، وقولهم {هذه أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ} [الأنعام: 138] {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً} [الأنعام: 36] ، وقولهم: {مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا} [الأنعام: 139] وقولهم: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين} [الأنعام: 143] ويدلُّ على ذلك: أنَّ قوله: {فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً} إشارة إلى أمر تقدَّم منهم، ولمْ يحكِ الله - تعالى - عنهم إلاَّ هذا؛ فوجب توجيه الكلام إليه، ثم لمَّا حكى تعالى ذلك عنهم، قال لرسوله: {قُلْءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} وهذه قسمةٌ صحيحةٌ؛ لأنَّ هذه الأحكام: إمَّا أن تكون من الله - تعالى -، أو لم تكن، فإن كانت من الله فهو المراد بقوله: {ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ} وإنْ كانت ليست من الله، فهو المراد بقوله: {أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ} . فصل استدلَّ نفاةُ القياس بهذه الآية على بُطلان القياس. قال القرطبيُّ: «وهو بعيدٌ؛ لأنَّ القياس دليلُ قول الله - تعالى -؛ فيكون التَّحْليل والتَّحريم من الله - تعالى -، عند وجود دلالة نصبها الله تعالى على الحكم، فإن خالف في كون القياس دليلاً لله - تعالى -، فهو خروجٌ عن هذا الغرض، ورجوعٌ إلى غيره» . قوله: {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ} : «ما» مبتدأة استفهامية، و «ظَنَّ» خبرها، و «يَوْمَط منصوبٌ بنفس الظنِّ، والمصدر مضافٌ لفاعله، ومفعولا الظن محذوفان، والمعنى: وأيُّ شيءٍ يظُنُّ الذين يفترون يوم القيامة أنِّي فاعلٌ بهم: أأنجيهم من العذاب، أم أنتقمُ منهم؟ وقيل: أيحْسَبُون أنَّ الله لا يؤاخذهم به، ولا يعاقبهم عليه، والمراد منه: تعظيم وعيد من يفتري، وقرأ عيسى بن عمر:» وما طَنَّ الذين «جعله فعلاً ماضياً، والموصولُ فاعله، و» ما «على هذه القراءة استفهاميَّة أيضاً في محلِّ نصب على المصدر، وقُدِّمتْ لأنَّ الاستفهام لهُ صدرُ الكلام، والتقدير: أيَّ ظنَّ المفترون، و» مَا «الاستفهاميَّةُ قد تنُوبُ عن المصدرِ؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط] 2909 - مَاذَا يَغِيرُ ابْنَتَيْ رَبْعٍ عوِيلُهُمَا ... لا تَرْقُدان ولا بُؤسى لِمَنْ رَقَدَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 361 وتقول:» ما تَضْرب زَيْداً «، تريد: أيَّ ضربٍ تضربه، قال الزمخشريُّ:» أتى به فعلاً ماضياً؛ لأنَّه واقعٌ لا محالة، فكأنَّهُ قد وقع وانقضى «. وهذا لا يستقيم هنا؛ لأنَّه صار نصّاً في الاستقبال لعمله في الظرف المستقبل، وهو يومُ القيامة، وإن كان بلفظ الماضي، ثم قال: {إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس} بإعطاء العقل، وإرسال الرُّسُل، {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ} لا يستعملُون العقل في تأمل دلائل الله، ولا يقبلون دعوة أنبياءِ الله، ولا ينتفعُون باستماع كلام الله. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 362 قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ} الآية. لمَّا أورد الدلائل على فساد مذاهب الكُفَّار، وأمر الرسول بالجواب عن شبهاتهم، وتحمُّل أذاهُم، والرِّفْقِ بهم، ذكر هذا الكلام ليحصل به تمامُ السُّرور للمُطيعين، وتمامُ الخوف للمذنبين، وهو كونه تعالى عالماً بعمل كل واحدٍ، وما في قلبه من الدَّواعي والصَّوارف. قوله: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ} «ما» نافية في الموضعين؛ ولذلك عطف بإعادة «ما» النَّافية، وأوجب ب «إلا» بعد الأفعال؛ لكونها منفيةٌ، و «فِي شَأنٍ» خبر «تكُون» والضميرُ في «منه» عائدٌ على «شأن» و «مِن قُرآنٍ» تفسيرٌ للضَّمير، وخُصَّ من العموم؛ لأنَّ القرآنَ هو أعظمُ شئونه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وقيل: يعود على التنزيل، وفُسِّر بالقرآن؛ لأنَّ كلَّ جزء منه قرآن، وقال أبو البقاء: «من الشَّأن» أي: مِنْ أجْلِهِ، و «مِنْ قُرآن» مفعول «تَتْلُوا» و «مِنْ» زائدةٌ. يعنى: أنَّها زيدتْ في المفعول به، و «مِنْ» الأولى جارَّةٌ للمفعول من أجله، تقديره: وما تتلُو من أجل الشَّأنِ قُرآناً، وزيدَتْ لأنَّ الكلامَ غير موجبٍ، والمجرور نكرةٌ. وقال مكِّي: «منه» الهاء عند الفرَّاء تعُود على الشَّأن على تقدير حذف مضافٍ، تقديره: وما تتلو من أجْلِ الشَّأنِ، أي: يحدثُ لك شأنٌ، فتتلُوا القرآن من أجله. والشَّأنُ: مصدر شَأنَ يَشْأنُ شأنَهُ، أي: قصد يَقْصِدُ قَصْدَهُ، وأصله الهمز، ويجوز تخفيفه، والشأن أيضاً: الأمرُ، ويجمعُ على شئون، والشأنُ: الحال، تقول العرب: ما شأن فلان؟ أي: ما حاله، قال الأخفش: وتقول العرب: ما شأنْتُ شأنهُ، أي: ما عملت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 362 عمله، قال ابن عبَّاس: وما تكونُ يا محمَّدُ في شأن، أي: في عملٍ من أعمالِ البِرِّ، وقال الحسن: في شأن من شأن الدُّنْيَا. قوله: {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ} هذا خطابٌ للنبي وأمَّتِهِ، وخُصَّ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالخطاب أوَّلاً، ثم عُمِّمَ الخطاب مع الكلِّ؛ لأنَّ تخصيصهُ وإن كان في الظَّاهر مُخْتَصّاً بالرسول، إلاَّ أنَّ الأمَّة داخلُون فيه؛ لأنَّ رئيس القوم إذا خُوطب دخل قومُهُ في ذلك الخطاب؛ كقوله: {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ} [الطلاق: 1] . قوله: «إِلاَّ كُنَّا» هذه الجملةُ حاليةٌ، وهو استثناء مفرَّغ، ووليَ «إلا» هنا الفعلُ الماضي دون «قَدْ» لأنَّه قد تقدَّمها فعلٌ، وهو مُجَوِّزٌ لذلك، وقوله: «إذْ» هذا الظرفُ معمول ل «شُهُوداً» ولمَّا كانت الأفعالُ السَّابقةُ المرادُ بها الحالةُ الدَّائمةُ، وتنسحبُ على الأفعالِ الماضيةِ، كان الظَّرفُ ماضياً، وكان المعنى: وما كنت، وما تكون، وما عملتم، إلاَّ كُنَّا عليكم شُهُوداً، إلاَّ أفضتُم فيه، و «إذا» تُخَلِّصُ المضارع لمعنى الماضي، ومعنى «تُفِيضُونَ» أي: تدخلون فيه وتفيضون، والإفاضة: الدُّخُول في العملِ، يقال: أفاض القوم في الحديث؛ إذا اندفعُوا فيه، وقد أفَاضُوا من عرفة؛ إذا دفعوا منها بكثرتهم. فإن قيل: «إذ» ههنا بمعنى: «حين» ، فيصير التقدير: إلاَّ كُنَّا عليكم شُهُوداً حين تفيضون فيه، وشهادة الله - تعالى - عبارة عن علمه؛ فيلزم منه أنَّه - تعالى - ما علم الأشياءَ إلاَّ عند وجودها، وذلك باطلٌ. فالجواب: أنَّ هذا السُّؤال بناءً على أن شهادة الله عبارةٌ عن علمه، وهذا ممنوعٌ؛ فإنَّ الشهادة لا تكون إلاَّ عند المشهود عليه، أمَّا العلم فلا يمتنع تقدُّمه على الشَّيءِ، ويدلُّ على ذلك أنَّ الرسول لو أخبرنا عن زيدٍ أنَّهُ يأكل غداً، كنا من قبل حُصُول تلك الحالةِ عالمين بها، ولا نُوصفُ بكوننا شاهدين بها. قوله - تعالى -: {وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ} قرأ الكسائيُّ هنا، وفي سبأ [سبأ 3] : «يَعْزِب» بكسر الزَّاي، والباقون بضمها، وهما لغتان في مضارع «عَزَبَ» ، يقال: عَزَب يَعْزِب ويَعْزُب. أي: غَابَ حَتَّى خَفِي، ومنه الروض العازبُ؛ قال أبو تمام: [الطويل] 2910 - وقَلْقلَ نأيٌ مِنْ خُراسانَ جَأشهَا ... فقُلْتُ: اطمئنِّي، أنْضَرُ الرَّوضِ عازبُهْ وقيل للغائب عن أهله: «عازِب» ، حتَّى قالوا لِمَنْ لا زوج له: عازب. وقال الرَّاغب: «العازِبُ: المُتباعدُ في طلب الكلأ، ويقال: رجل عزبٌ وامرأة عزبةٌ، وعزبَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 363 عنه حلمه، أي: غاب، وقوم مُعزَّبُون، أي: عَزبتْ عنهم إبلُهُم» وفي الحديث: «مَنْ قرأ القرآن في أربعين يوماً، فقد عزَّب» ، أي: فقد بعُد عهدُه بالختمة، وقال قريباً منه الهرويُّ، فإنَّه قال: «أي: بعد عهده بما ابتدأ منه، وأبْطَأ في تلاوته، وفي حديث أم معبد:» والشَّاءُ عازبٌ حيال «. قال: والعَازِبُ: البعيدُ الذهابِ في المَرْعَى، والحَائِلُ: التي ضربها الفَحْلُ، فلمْ تَحْمل لِجُدوبَةِ السَّنة، وفي الحديث أيضاً:» أصْبَحْنَا بأرضٍ عزوبَةٍ صَحْراءَ «، أي: بعيدةِ المرعى. ويقال للمالِ الغائب: عازِب، وللحاضر: عاهن، والمعنى في الآية: وما يَبْعُد، أو ما يَخْفَى، أو ما يغيبُ عن ربِّك. و» مِن مِّثْقَالِ «فاعل، و» مِنْ «: مزيدةٌ فيه، أي: ما يبعد عنه مثقالُ، والمثقالُ هنا: اسمٌ لا صفةٌ، والمعنيُّ به الوزنُ، أي: وزن ذرَّة، ومثقال الشَّيءِ: ما يُساويهِ في الثِّقل، والمعنى: ما يساوي ذرَّة، والذرُّ: صغارُ النَّملِ واحدها ذرَّة، وهي تكون خفيفة الوزن جدَّاً. فإن قيل: لِمَ قدَّم الله ذكر الأرض هنا على ذكر السماء، مع أنَّهُ قال في سبأ: {لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} [سبأ: 3] ؟ فالجواب: حقُّ السَّماءِ أن تقدَّم على الأرض، إلاَّ أنه - تعالى - لمَّا ذكر في هذه الآية شهادته على أحوال أهل الأرض وأعمالهم، ثم وصل بذلك قوله: لا يعزُب عنه؛ ناسب أن تقدم الأرض على السَّماء في هذا الموضع. قوله: {وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولاا أَكْبَرَ} قرأ حمزة: برفع راء «أصغر» و «أكبر» ، والباقون: بفتحها. فأما الفتحُ ففيه وجهان: أحدهما: - وعليه أكثر المعربين - أنَّهُ جرٌّ، وإنما كان بالفتحةِ؛ لأنَّه لا ينصرف للوزن والوصف، والجرُّ لأجْلِ عطفه على المجرور، وهو: إمَّا «مِثْقَالُ» ، أو «ذَرَّةٍ» . وأمَّا الوجه الثاني: فهو أنَّ «لا» نافيةٌ للجنس، و «أصْغَرَ» و «أكْبَرَ» اسمها، فهما مبنيَّان على الفتح. وأمَّا الرَّفْعُ فمن وجهين: أشهرهما عند المعربين: العطفُ على محلِّ «مثقال» إذ هو مرفوعٌ بالفاعليَّة، و «مِنْ» مزيدة فيه؛ كقولك: «مَا قَامَ مِنْ رجُلٍ ولا امرأةٍ» بجرِّ «امرأة» ورفعها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 364 والثاني: أنَّهُ مبتدأ، قال الزمخشري: والوجهُ النَّصْبُ على نفي الجنس، والرَّفعُ على الابتداء ليكون كلاماً برأسه، وفي العطف على محلِّ «مثقالُ ذرَّةٍ» ، أو على لفظ «مِثقال ذرَّةٍ» فتحاً في موضع الجرِّ؛ لامتناع الصَّرف إشكالٌ؛ لأنَّ قولك: «لا يعزُب عنه شيءٌ إلاَّ في كتاب» مشكل؛ لأنَّه يلزم منه أن يكون ذلك الشيء الذي في الكتاب خارجاً عن علم الله، ويصير التقدير: إلا في كتاب مبينٍ فيعزبُ، وهو باطلٌ، وهذان الوجهان اختيار الزَّجَّاج. وقد يزول هذا الإشكالُ بما ذكره أبو البقاءِ: وهو أن يكون «إلاَّ في كتابٍ» استثناءً منقطعاً، قال: «إلاَّ في كتابٍ؛ أي: إلاَّ هو في كتابٍ، والاستثناءُ منقطع» . قال ابن الخطيب: «أجاب بعضُ المحقِّقين من وجهين: أحدهما: أن الاستثناء منقطع. والآخر: أن العُزُوب عبارةٌ عن مطلق البعد، والمخلوقات قسمان: أحدهما: قسمٌ أوجده الله ابتداءً من غير واسطةٍ، كالملائكةِ، والسمواتِ، والأرضِ. وقسمُ أوجدهُ بواسطةِ القسم الأوَّلِ، مثل الحوادث الحادثة في عالم الكون والفساد، وهذا قد يتباعدُ في سلسلة العلِّية والمعلُوليَّة عن مرتبة وجود واجب الوجود، فالمعنى: لا يبعد عن مرتبة وجوده مثقالُ ذرَّة في الأرض، ولا في السماء، إلا وهو في كتاب مبين كتبه الله، وأثبت فيه صور تلك المعلومات» . قال شهاب الدين: «فقد آل الأمرُ إلى أنَّهُ جعله استثناء مفرَّغاً، وهو حالٌ من» أصْغَرَ «و» أكبر «، وهو في قوَّة الاستثناء المتَّصل، ولا يقال في هذا: إنَّه متَّصلٌ ولا منقطع إذ المُفرَّغُ لا يقال فيه ذلك. وقال الجرجانيُّ:» إلاَّ «بمعنى:» الواو «، والتقدير:» وما يعزُب عن ربِّك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السَّماء ولا أصْغر من ذلك ولا أكبر «وههنا تمَّ الكلام وانقطع، ثم ابتدأ بقوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} أي: وهو في كتاب مبين، والعربُ تضعُ» إلاًَّ «موضع واو النَّسق؛ كقوله: {إِلاَّ مَن ظُلِمَ} [النساء: 148] {إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} [البقرة: 150] . وهذا الذي قاله الجرجانيُّ ضعيفٌ جداً، وقد تقدَّم الكلامُ في هذه المسألة في البقرة، وأنَّهُ شيءٌ قال به الأخفش، ولم يثبُتْ ذلك بدليلٍ صحيح. وقال أبو شامة: ويزيل الإشكال أن تُقدَّر قبل قوله: «إلاَّ في كتاب» «ليس شيء من ذلك إلاَّ في كتاب» وكذا تقدر في آية الأنعام [الأنعام: 59] . ولم يقرأ في سبأ إلا بالرفع، وهو يقوي قول من يقول: إنَّه معطوفٌ على «مِثْقَال» ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 365 ويُبَيِّنه أن «مثال» فيها بالرَّفع؛ إذ ليس قبله حرفُ جرٍّ. وقد تقدَّم الكلامُ على نظير هذه المسألة في سورة الأنعام، في قوله: {وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ} [الأنعام: 59] إلى قوله: {إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] وأنَّ صاحب النَّظم الجرجانيَّ أحال الكلام فيها على الكلامِ في هذه السورة، وأنَّ أبا البقاء قال: «لوْ جعَلْنَاهُ كذا، لفسد المعنى» . وتقدَّم بيانُ فساده، والجواب عنه هناك، فالتفت إيله [الأنعام: 59] . قوله: {ألاا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله} الآية. اختلفوا فيمن يستحقُّ هذا الاسم. فقال بعضهم: هم الذين ذكرهم اللهُ في كتابه، بقوله {الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} . وقال قوم: هم المتحابُّون في الله، لما روى أبو مالك الأشعري، قال: كنتُ عند النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: «إنَّ للهِ عباداً ليْسُوا بأنبياء ولا شهداء، يغبطُهُم النبيون والشُّهداء بقربهم ومقعدهم من الله يوم القيامةِ» ، قال: وفي ناحية المسجدِ أعربي، فجثا على ركبتيه، ورمى بيديه، ثم قال: حدِّثنا يا رسول الله عنهم، قال: فرأيتُ في وجهِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ البشر؛ فقال: «هُم عبادٌ من عبادِ اللهِ، من بلدانٍ شتَّى، وقبائل شتَّى لَمْ يكُنْ بينهُمْ أرحامٌ يتواصلون بها، ولا دُنْيَا يتباذلُون بها، يتحابُّون برُوحِ اللهِ، يجعل الله وجُوههُم نُوراً، ويجعل لهم منابر من لؤلؤٍ قدَّام الرحمن، يفزع الناسُ ولا يفزعُون، ويخافُ النَّاسُ ولا يخافُون» . قال أبو بكر الأصم: أولياء الله: هم الذين تولَّى الله هدايتهم بالبرهان وتولَّوُا القيامَ بحق العُبُوديَّةِ لله، والدَّعوة إليه. واعلم: أنَّ تركيب الواو، واللاَّم، والياءِ يدل على معنى القرب، فوليُّ كلِّ شيء هو الذي كون قريباً منه، والقُرْب من الله - تعالى - بالمكان والجهة محالٌ؛ فالقرب منه إنَّما يكونُ، إذا كان القلبُ مُسْتَغْرقاً في نُور معرفة الله - تعالى -، فإنْ رأى، رأى دلائلَ قُدْرَةِ الله، وإن سمع، سمع آيات الله، وإن نطقَ، نطقَ بالثناء على الله، وإن تحرَّك، تحرَّك في خدمة الله، وإن اجتهد، اجتهد في طاعةِ الله، فهنالك يكون في غاية القرب من الله؛ فحينئذ يكون وليّاً. قوله تعالى: {الذين آمَنُواْ} في محلِّه أوجهٌ: أحدها: أنَّه مرفوعٌ خبر مبتدأ مضمر، أي: هم الذي آمنوا، أو خبر ثان ل «إنَّ» ن أو مبتدأ، والخبر الجملةُ منق وله: {لَهُمُ البشرى} ، أو على النَّعْت على موضع «أوْليَاء» الجزء: 10 ¦ الصفحة: 366 لأنَّ موضعه رفعٌ بالابتداء قبل دخول «إنَّ» ، أو بدل من الموضع أيضاً، ذكرهما مكِّي، وهذان الوجهان على مذهب الكوفيين؛ لأنَّهم يجرُون التَّوابع كلَّها مجرى عطف النَّسق في اعتبار المحلِّ. وقيل: محله الجرُّ بدلاً من الهاءِ، والميم في «عليهم» . وقيل: منصوبُ المحلِّ نعتاً ل «أولياء» ، أو بدلاً منهم على اللفظِ، أو على إضمار فعلٍ لائقٍ وهو «أمدحُ» ، فقد تحصَّل فيه تسعةُ أوجهٍ: الرفعُ من خمسة، والجرُّ من وجه واحد، والنَّصبُ من ثلاثة، وإذا لم تجعل الجملة من قوله: «لهُمُ البُشْرَى» خبراً ل «الَّذين» جاز فيها الاستئنافُ، وأن تكون خبراً ثانياً ل «إنَّ» أو ثالثاً. قوله: {لَهُمُ البشرى} روى عبادة بن الصَّامت، قال: سألتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله - تعالى -: {لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} قال: هي الرُّؤيا الصَّالحةُ، يراها المسلمُ أو تُرى لهُ. وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «الرُّؤيا الصَّالحة جزءٌ من ستَّةٍ وأربعين جزءاً من النُّبوَّةِ.» وقيل: البُشْرَى في الدُّنيا هي: الثَّناءُ الحسن، وفي الآخرة: الجنَّة؛ لما روى أبو ذرٍّ، قال: قلت يا رسُول الله: الرَّجل يعمل لنفسه، ويحبُّه الناس، قال: تلك عاجلُ بُشْرَى المؤمِن. وقال الزهريُّ، وقتادة: هي نزول الملائكة بالبشارة من الله - تعالى عند الجزء: 10 ¦ الصفحة: 367 الموت، قال - تعالى -: {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة} [فصلت: 30] . وروى عطاء نحوه، عن ابن عباسٍ. وقال الحسن: هي ما بشَّر الله المؤمنين في كتابه من جنَّته، وكريم ثوابه، كقوله: {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ} [البقرة: 25] {وَبَشِّرِ المؤمنين} [البقرة: 223] {وَأَبْشِرُواْ بالجنة} [فصلت: 30] . وقيل: بشَّرهم في الدُّنيا بالكتاب والرسُول أنهم أولياء الله، وبشَّرهم في القبور، وفي كتب أعمالهم بالجنَّة. قوله: {فِي الحياة الدنيا} : يجوز فيه وجهان: أظهرهما: أنَّه متعلقٌ بالبشرى، أي: البشرى تقع في الدُّنيا، كما فُسِّرت بالرُّؤيا الصَّالحة. والثاني: أنَّها حالٌ من «البُشْرَى» فتتعلق بمحذوف، والعاملُ في الحال الاستقرارُ في «لهم» لوقوعه خبراً. قوله: «لا تبْديلَ» جملةٌ مستأنفةٌ، أي: لا تغيير لقوله، ولا خلف لوعده. وقوله: «ذَلِكَ» إشارةٌ للبُشْرَى، وإن كانت مؤنَّثةً؛ لأنَّها في معنى التَّبشير، وقال ابن عطيَّة: إشارةٌ إلى النَّعيم، وقال الزمخشري: «ذَلِكَ إشارةٌ إلى كونهم مُبشِّرين في الدَّارين» . قوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} وههنا تمَّ الكلام، واعلم أنَّ الله لمَّا حكى عن الكُفار شبهاتهم المتقدمة، وأجاب عنها عدلُوا إلى طريقٍ آخر، وهو أنَّهُم هدَّدُوه، وخوَّفُوه بأنهم أصحاب أموالٍ وأتباع؛ فنسعى في قهرك، وفي إبطالِ أمرك، فأجاب - تعالى - عن هذا الطريق بقوله: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ} . فإن قيل: كيف آمنهُ من ذلك، ولم يزل خائفاً حتى هاجر، ثم بعد ذلك يخاف حالاً بعد حالٍ. فالجواب: أنَّ الله وعدهُ بالنَّصر والظَّفر مطلقاً، والوقت ما كان معيَّناً، فهو في كُلِّ وقت كان يخاف من أن لا يكون هذا الوقتُ المعيَّنُ ذلك الوقت؛ فحينئذٍ يحصل الانكسارُ في هذا الوقت، وقوله: «قَوْلهُم» قيل: حذفت صفته؛ لفهم المعنى، إذا التقدير: ولا يحزنك قولهم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 368 الدَّال على تكذيبك، وحذف الصِّفة، وإبقاء الموصوف قليلٌ، بخلاف عكسه. وقيل: بل هو عامٌّ أريد به الخاصُّ. ثم ابتدأ فقال: {إِنَّ العزة للَّهِ} العامَّةُ على كسر «إنَّ» ، استئنافاً، وهو مُشْعِرٌ بالعلِّيَّة. وقيل: هو جوابُ سؤال مقدَّر؛ كأنَّ قائلاً قال: لِمَ لا يُحْزِنُه قولهم، وهو ممَّا يُحْزِن؟ فأجيب بقوله: {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} ، ليس لهم منها شيءٌ، فكيف تبالي بقولهم؟ والوقف على قوله: «قولهم» ينبغي أن يُعتمد، ثم يبتدأ بقوله: «إنَّ العزَّة» وإن كان من المستحيل أن يتوهَّم أحَدٌ أنَّ هذا من مقولهم، إلاَّ من لا يعتبرُ بفهمه، وقرأ أبو حيوة «أنَّ العزَّة» بفتح «أنَّ» وفيها تخريجان: أحدهما: أنَّها على حذف لام العلَّة، أي: لا يحزنك قولهم؛ لأجل أنَّ العزة لله جميعاً. الثاني: أنَّ «إنَّ» وما في حيِّزها بدلٌ من «قولهم» كأنَّه قيل: ولا يحزُنك أنَّ العزَّة لله، وكيف يظهرُ هذا التَّوجيهُ، أو يجوز القولُ به، وكيف ينهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن ذلك في المعنى، وهو لمْ يتعاطَ شيئاً من تلك الأسباب؟ وأيضاً؛ فمنْ أيِّ قبيلٍ الإبدالُ هذا؟ قال الزمخشريُّ: «ومنْ جعله بدلاً من» قولهم «ثم أنكره، فالمنكر هو تخريجه، لا ما أنكره من القراءة به» . يعني: أنَّ إنكارهُ للقراءة منكرٌ؛ لأنَّ معناها صحيحٌ على ما ذكر من التَّعليل، وإنَّما المنكر هذا التَّخريجُ، وقد أنكر جماعةٌ هذه القراءة، ونسبُوها للغلط ولأكثر منه. قال القاضي: «فتحُها شاذٌّ يقاربُ الكفر، وإذا كسرت كان استئنافاً، وهذا يدلُّ على فضيلة علم الإعراب» . وقال ابن قتيبة: لا يجوز فتح «إنَّ» في هذا الموضع وهو كفرٌ وغلوٌّ. قال أبو حيَّان: وإنَّما قالا ذلك بناءً منهما على أنَّ «أنَّ» معمولةٌ ل «قولهم» . قال شهاب الدين كيف تكون معمولة ل «قَوْلهُم» وهي واجبةُ الكسر بعد القول إذا حكيت به، فكيف يتوهَّم ذلك؟ وكما لا يتوهَّم هذا المعنى مع كسرها، لا يتوهَّم أيضاً مع فتحها ما دام له وجهٌ صحيحٌ. و «جَمِيعاً» حالٌ من العِزَّة، ويجوز أن يكون توكيداً ولمْ يُؤنَّثْ بالتَّاء؛ لأنَّ فعيلاً يستوي فيه المذكر والمؤنَّثُ، لشبهه بالمصادر، وقد تقدَّم تحريره في قوله: {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 56] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 369 فصل قيل: المعنى: إنَّ جميع العزَّة والقدرة لله - تعالى -، يعطي ما يشاء لعباده، والغرضُ منه: أنه لا يعطي الكفَّار قدرة عليه، بل يعطيه القدرة عليهم حتى يكون هو أعز منهم، ونظيره: {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي} [المجادلة: 21] {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا} [غافر: 51] . قال الأصمُّ: المراد: أن المشركين يتعزَّزُون بكثرة خدمهم وأموالهم، ويخوفونك بها، وتلك الأشياء كلها لله - تعالى -، فهو - تعالى - قادرٌ على أن يسلب منهم كل تلك الأشياء، وينصرك، وينقل أموالهم وديارهم إليك. فإن قيل: قوله: {إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} كالمُضادَّة لقوله: {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] . فالجواب: لا مضادَّة؛ لأنَّ عزَّة الرسول والمؤمنين كلها بالله، فهي لله. {هُوَ السميع العليم} أي: يسمع ما يقولون، ويعلمُ ما يعزمون، فيُكافئهم على ذلك. قوله تعالى : {ألاا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات وَمَنْ فِي الأرض} الآية. لمَّا ذكر في الآية المتقدمة: {ألاا إِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض} [يونس: 55] دل على أنَّ كلَّ ما لا يعقلُ، فهو مُلْكٌ لله - تعالى -، ومِلْكٌ لهُ، وههنا أتى بكلمة «مِنْ» وهي مختصَّة بالعقلاء؛ فدلَّ على أنَّ كلَّ العقلاء داخلون تحت ملك الله وملكه، فدلَّ مجموعُ الآيتين على أنَّ الكُلَّ مُلْكُه ومِلْكُه. وقيل: المراد ب «من في السَّمواتِ» : العقلاء المُمَيَّزُون، وهم الملائكة والثقلان، وخصَّهم بالذِّكر؛ ليدل على أن هؤلاء إذا كانوا له وفي ملكه، فالجمادات أولى بهذه العُبُوديَّة، فيكون ذلك قدحاً في جعل الأصنام شُركاء لله - تعالى -، فيكون ذلك من بابِ التنبيه بالأعلى على الأدنى، ويجوز أن يراد العموم، وغلب العاقل على غيره. قوله: «وَمَا يَتَّبِعُ» يجوز في «ما» هذه أن تكون نافية، وهو الظاهر، و «شُرَكَاء» مفعولُ « الجزء: 10 ¦ الصفحة: 370 يتَّبعُ» ومفعول «يَدْعُون» محذوفٌ لفهم المعنى، والتقدير: وما يتَّبعُ الذين يدعُون من دُون اللهِ آلهةً شُركَاءَ، فآلهة: مفعول «يَدْعُونَ» و «شركاء» : مفعول «يتبع» ، وهو قول الزَّمخشريّ. قال: «ومعنى وما يتَّبعون شركاء: وما يتَّبعون حقيقة الشُّركاء، وإن كانُوا يُسَمُّونها شركاء؛ لأنَّ شركة الله في الربوبية محال، إن يتَّبعُون إلاَّ ظنَّهم أنهم شركاءُ ثم قال:» ويجوز أن تكون «ما» استفهاماً، يعني: وأيَّ شيءٍ يتَّبعون، و «شركاء» على هذا نصب ب «يَدْعُونَ» ، وعلى الأوَّل ب «يتَّبع» وكان حقُّه: «وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء شركاء» فاقتصر على أحدهما للدلالة «. وهذا الذي ذكرهُ الزمخشريُّ قد ردَّه مكِّي وأبو البقاء. أما مكي، فقال: انتصب» شركاء «ب» يَدْعُون «ومفعول» يتَّبع «قام مقامه {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} لأنَّهُ هو، ولا ينتصبُ الشُّركاء ب» يتَّبع «لأنَّك تنفي عنهم ذلك، والله قد أخبر عنهم بذلك. وقال أبو البقاء:» وشركاء مفعولُ «يَدْعُونَ» ولا يجوزُ أن يكون مفعُول «يتَّبعون» لأنَّ المعنى يصير إلى أنَّهم لم يتَّبعوا شركاء، وليس كذلك «. قال شهاب الدِّين:» معنى كلامهما: أنَّه يئول المعنى إلى نفي اتِّباعهم الشركاء، والواقع أنَّهُم قد اتَّبَعُوا الشركاء «. وجوابه ما تقدَّم من أنَّ المعنى: أنهم وإن اتَّبعُوا شركاء، فليْسُوا بشركاءَ في الحقيقةِ، بل في تسميتهم هم لهم بذلك، فكأنَّهم لم يتَّخذوا شركاء، ولا اتبعوهم لسلب الصِّفة الحقيقيَّة عنهم، ومثله قولك:» ما رأيتُ رجلاً «، أي: مَنْ يستحقُّ أن يسمَّى رجلاً، وإن كنت قد رأيت الذَّكر من بني آدم، ويجوز أن تكون» ما «استفهاميَّة، وتكون حينئذٍ منصوبةً بما بعدها، وقد تقدَّم قولُ الزمخشري في ذلك. وقال مكِّي: لو جعلت «ما» استفهاماً بمعنى: الإنكار والتَّوبيخ، كانت اسماً في موضع نصبٍ ب «يتَّبع» . وقال أبو البقاء نحوه. ويجوز أن تكون «ما» موصولة بمعنى «الذي» نسقاً على «مَنْ» في قوله: {ألاا إِنَّ للَّهِ مَن فِي السماوات} . قال الزمخشري: ويجوز أن تكون «ما» موصولة معطوفة على «مَنْ» كأنَّهُ قيل: ولله ما يتَّبعه الذين يدعُون من دون الله شركاء، أي: وله شركاؤهُم. ويجوز أن تكون «ما» هذه الموصولة في محلِّ رفع بالابتداء، والخبرُ محذوفٌ تقديره: والذي يتَّبعه المشركون باطلٌ، فهذه أربعة أوجهٍ. وقرأ السلمي: «تَدعُون» بالخطاب، وعزاها الزمخشريُّ لعليّ بن أبي طالب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 371 قال ابنُ عطيَّة: وهي قراءةٌ غيرُ متَّجهة. قال شهاب الدِّين: قد ذكر توجيهها الزمخشريُّ، فقال: ووجهه أن يحمل «وما يتَّبع» على الاستفهام، أي: وأيُّ شيء يتَّبع الذين تدعُونهُم شركاء من الملائكة والنبيين، يعني: أنَّهم يتَّبعُون الله - تعالى - ويطيعُونه، فما لكم لا تفعلُون مثل فعلهم؛ كقوله: {أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} [الإسراء: 57] . قوله: «إن يتَّبِعُون» «إنْ» نافية، و «الظَّن» مفعولٌ به، فهو استثناءٌ مفرَّغ، ومفعولُ الظَّن محذوفٌ، تقديره: إن يتَّبعُون إلاَّ الظَّنَّ أنَّهُم شركاءُ، وعند الكوفيين: تكون «أل» عوضاً من الضمير، تقديره: إن يتَّبعُون إلاَّ ظنَّهُم أنهم شركاءُ، والأحسنُ أن لا يقدر للظَّنِّ معمولٌ؛ إذ المعنى: إن يتبعون إلا الظن، لا اليقين. وقوله: «إن يتَّبعُون» من قرأ «يَدْعُون» بياء الغيبة، فقد جاء ب «يتَّبِعُونَ» مطابقاً له، ومن رأ «تَدْعُونَ» بالخطاب، فيكون «يتَّبِعُون» : التفاتاً؛ إذ هو خروجٌ من خطابٍ إلى غيبة، والمعنى: إن يتَّبِعُون إلاَّ ظنونهم الباطلة، {وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} : يكذبون، وقد تقدَّم في الأنعام. قوله تعالى: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الليل} الآية. لمَّا ذكر أنَّ العزة لله جميعاً، احتجَّ عليه بهذه الآية، وانظر إلى فصاحتهم، حيث حذف من كل جملةٍ ما ثبت في الأخرى؛ وذلك أنَّه ذكر علَّة جعل الليل لنا، وهي قوله: «لِتَسْكُنُوا» وحذفها من جعل النهار، وذكر صفة النَّهار، وهي قوله: «مُبْصِراً» وحذفها من الليل، لدلالة المقابل عليه، والتقدير: هو الذي جعل لكم الليل مُظْلماً لتسْكُنُوا فيه، والنهار مُبْصِراً لتتحرَّكُوا فيه لمعاشكم، فحذف «مُظْلماً» لدلالة «مُبْصِراً» عليه، وحذف «لتتحرَّكُوا» لدلالة «لتسكنوا» وهذا أفصحُ كلامٍ. وقوله: «مُبْصِراً» أسند الإبصارَ إلى الظَّرف مجازاً كقولهم: «نهارُهُ صائم، وليله قائم ونائم» . قال: [الطويل] 2911 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... ونِمْتُ وما لَيْلُ المطِيِّ بِنَائِمِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 372 وقال قطرب: يقال: أظلم اللَّيْلُ: صار ذا ظلمة، وأضاء النَّهار: صار ذا ضياء؛ فيكون هذا من باب النسب؛ كقولهم: لابنُ وتامرٌ، وقوله - تعالى -: {عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] ، إلاَّ أنَّ ذلك إنما جاء في الثلاثيِّ، وفي «فعَّال» بالتضعيف عند بعضهم في قوله - تعالى -: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} [فصلت: 46] في أحد الأوجه. ثم قال: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} أي: يتدبَّرُون ما يسمعُون، ويعتَبِرُون. فإن قيل: قوله: {جَعَلَ لَكُمُ الليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ} يدل على أنَّه - تعالى - ما جعلهُ إلا لهذا الوجه، وقوله {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ} يدلُّ على أنَّه - تعالى - أراد بتخليقِ الليل والنهار أنواعاً كثيرة من الدلائل. فالجواب: أن قوله - تعالى -: «لِتسكُنوا» لا يدلُّ على أنَّه لا حكمة فيه إلاَّ ذلك، بل ذلك يقتضي حصول تلك الحكمة. قوله تعالى: {قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغني} الآية. هذا نوع آخر من أباطيلهم التي حكاها الله عنهم، «قالوا» يعني المشركين: الملائكة بنات الله، وقيل: قولهم: الأوثان أولاد الله، ويحتمل أن يكون قد كان فيهم قومٌ من النصارى قالوا ذلك، ثم استنكر هذا القول، فقال بعده: {هُوَ الغني لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} فكونه - تعالى - غنيّاً مالكاً لكلِّ ما في السموات والأرض، يدلُّ على أنه سبحانه يستحيل أن يكون لهُ ولد، وبيانه من وجوه: الأول: أنَّه لو كان محتاجاً، لافتقر إلى صانعٍ آخر، وهو محال، وكل من كان غنيّاً فلا بد أن يكون فرداً منزَّهاً عن الأعضاء والأبعاض، ومن كان كذلك يمتنع أن ينفصل عنه جزءٌ من أجزائه، والولد عبارةٌ عن انفصال جزء من أجزاء الإنسان، ثم يتولَّد من ذلك الجزء مثله، وإذا كان هذا محالاً، ثبت أنَّ كونه - تعالى - غنيّاً يمنع من ثُبُوت الولد لهُ. الثاني: أن من كان غنيّاً، كان قديماً أزليّاً باقياً سرمديّاً، وكل من كان كذلك امتنع عليه الانقراض، والولدُ إنما يحصل للشَّيءِ الذي ينقضي وينقرض، فيكون ولده قائماً مقامه؛ فثبت أنَّ كونه - تعالى - غنيّاً، يدل على أنه يمتنع أن يكون له ولد. الثالث: أنَّ كلَّ من كان غنيّاً يمتنع أن يكون موصوفاً بالشهوة واللذة، وإذا امتنع ذلك، امتنع أن يكون له صاحبةٌ وولد. وباقي الوجوه يطول ذكرها. ثم قال: {لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} وهذا نظيرُ قوله: {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً} [مريم: 93] ولمَّا بيَّن بالدليل الواضح امتناع ما أضافُوا إليه، عطف عليهم بالإنكار والتوبيخ، فقال: {إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} : «إنْ» نافية و «عندكُم» يجوز أن يكون خبراً مقدَّماً، و «مِنْ سلطانٍ» مبتدأ مُؤخَّراً، ويجوز أن يكون «من سلطان» مرفوعاً بالفاعليَّة بالظرف قبله؛ لاعتماده على النفي، و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا التقديرين، وبهذا يجوز أن يتعلق ب «سُلْطان» لأنَّه بمعنى الحُجَّة والبرهان، وأن يتعلَّق بمحذوف صفة له؛ فيحكم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 373 على موضعه بالجرِّ على اللفظ، وبالرفع على المحلِّ؛ لأنَّ موصوفه مجرور بحرفِ جرٍّ زائدٍ، وأن يتعلَّق بالاستقرار. قال الزمخشريُّ: الباءُ حقُّها أن تتعلَّق بقوله: «إنْ عندكُم» على أن يجعل القولُ مكاناً للسُّلطان؛ كقوله «ما عندكم بأرضكم موزٌ» كأنه قيل: إن عندكم بما تقولون سلطانٌ وقال الخوفيُّ: بهذا متعلقٌ بمعنى الاستقرار. يعنى: الذي تعلَّق به الظرف. ثم قال: {أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وقد تقدَّم أنَّ الآية يحتجُّ بها نُفاة القياس في إبطال التقليد. قوله - تعالى -: {قُلْ إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب} الآية. لمَّا بيَّن بالدليل القاطع أنَّ إثبات الولد لله قول باطلٌ، ثم بيَّن أنه ليس لهذا القائل دليلٌ على صحة قوله، ظهر أن ذلك المذهب افتراء على الله - تعالى -، فبيَّن أنَّ من هذا حاله، فإنَّه لا يفلحُ ألبتَّة، أي: لا ينجح في سعيه، ولا يفوز بمطلُوبه، بل خاب وخسر. قوله: {مَتَاعٌ فِي الدنيا} يجوز رفع «متاع» من وجهين: أحدهما: أنه خبرُ مبتدأ محذوف، والجملة جوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، فهي استئنافيةٌ، كأنَّ قائلاً قال: كيف لا يفلحُون، وهم في الدنيا مفلحون بأنواع ممَّا يتلذّذون به؟ فقيل: ذلك متاع. والثاني: أنه مبتدأ، والخبر محذوفٌ تقديره: لهُم متاعٌ، و «فِي الدُّنيا» يجوز أن يتعلق بنفس «متاع» أي: تمتُّعٌ في الدنيا، ويجوز أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه نعت ل «متاع» فهو في محلِّ رفعٍ، ولم يقرأ بنصبه هنا، بخلاف قوله: {مَّتَاعَ الحياة} [يونس: 23] في أول السُّورة. وقوله: {بِمَا كَانُواْ} الباءُ للسببية، و «ما» مصدريةٌ «، أي: بسبب كونهم كافرين. قوله تعالى : {واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ} الآية. لمَّا بالغ في تقرير الدَّلائل، والجواب عن الشُّبه، شرع في بيان قصص الأنبياء؛ لوجوه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 374 الأول: أنَّ الكلام إذا طال في تقرير نوع من أنواع العُلُوم؛ فربَّما حصل نوع من الملالة، فإذا انتقل الإنسان من ذلك الفنِّ إلى فنٍّ آخر، انشرح، ووجد في نفسه رغبةً شديدةً. الثاني: ليتأسَّى الرسول وأصحابه بمن سلف من الأنبياء؛ فإنَّ الرسول إذا سمع أن معاملة هؤلاء الكُفَّار مع الرسل ما كانت إلا على هذا الوجه، خفَّ ذلك على قلبه، كما يقال: إن المصيبة إذا عمَّتْ خفَّتْ. الثالث: أنَّ الكُفَّار إذا سمعُوا هذه القصص، وعلموا أنَّ الجُهَّال وإن بالغُوا في إيذاء الأنبياء المتقدِّمين، إلاَّ أنَّ الله - تعالى - أعانهم بالآخرة، ونصرهم، وأيَّدهُم، وقهر أعداءهم، كان سماع هؤلاء الكُفَّار لهذه القصص، سبباً لانكسار قلوبهم، ووقوعِ الخوف في صدورهم؛ فحينئذٍ يُقَلِّلُون من الأذى والسَّفاهة. الرابع: أنَّ محمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا لمْ يتعلَّم علماً، ولم يطالع كتاباً، ثم ذكر هذه القصص من غير تفاوُتٍ، ومن غير زيادة ولا نقصان، دلَّ ذلك على أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنَّما عرفها بالوحْي والتنزيل، وحذفت الواو من «اتْلُ» لأنه أمر. قوله: «إذْ قال» يجوز أن تكون «إذْ» معمولةً ل «نَبَأ» ويجوز أن تكون بدلاً من «نَبَأ» بدل اشتمال، وجوَّز أبو البقاء: أن تكون حالاً من «نَبَأ» وليس بظاهر، ولا يجوزُ أن يكون منصوباً ب «اتلُ» لفساده؛ إذ «اتْلُ» مستقبلٌ، و «إذ» ماضٍ، و «لِقوْمِهِ» اللام: إمَّا للتبليغ، وهو الظاهرُ، وإمَّا للعِلَّة، وليس بظاهرٍ. قال المفسرون: «قون نُوح هم: ولد قابيل» . قوله: {كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَّقَامِي} من باب الإسناد المجازيِّ؛ كقولهم: «ثَقُلَ عليَّ ظلُّه» . وقرأ أبو رجاء، وأبو مجلز، وأبو الجوزاء: «مُقَامِي» بضمِّ الميم، و «المقام» بالفتح: مكان القيام، وبالضم: مكان الإقامة، أو الإقامة نفسها. وقال ابن عطيَّة: «ولم يُقْرَأ هنا بضمِّ الميم» . كأنَّه لم يطَّلع على قراءة هؤلاء. قال الواحدي: يقال: كَبُرَ يَكبُرُ كِبراً في السِّنِّ، وكَبُرَ الأمرُ والشيء، إذا عظم، يَكْبُرُ كِبَراً وكُبَّارة، قال ابن عبَّاس: «ثقُل عليكم، وشقَّ عليكم» وأراد بالمقام ههنا: مُكْثَهُ. وسبب هذا الثِّقل أمران: الأول: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مكث فيهم ألف سنةٍ إلاَّ خمسين عاماً. والثاني: أنَّ أولئك الكُفَّار كانوا قد ألفوا تلك المذاهب الفاسدة، ومن ألف طريقة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 375 في الدِّين؛ فإنه يثقل عليه أن يدعي إلى خلافها؛ فإن اقترن بذلك طول مُدَّة الدُّعاءِ، كان أثقل، وأشدّ كراهية، وقوله {وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ الله} : بحُجَجِه وبيناته. قوله: {فَعَلَى الله} جواب الشَّرط، وقوله {فأجمعوا} عطف على الجواب، ولم يذكر أبُو البقاء غيره، واستُشْكِل عليه أنَّه متوكلٌ على الله دائماً، كبُر عليهم مقامُه أوْ لمْ يَكْبُرْ. وقيل: جوابُ الشَّرط قوله: «فأجْمِعُوا» وقوله: {فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ} : جملةٌ اعتراضية بين الشَّرطِ وجوابه؛ وهو كقول الشاعر: [الكامل] 2912 - إمَّا تَرَيْنِي قَد نَحَلٍْتُ ومَنْ يكُنْ ... غَرضاً لأطْرَافِ الأسنَّةِ يَنْحَلِ فلرُبَّ أبْلَجَ مثلِ ثِقْلِكِ بَادِنٍ ... ضَخْمٍ على ظَهْرِ الجَوَادِ مُهَيَّلِ وقيل: الجوابُ محذوفٌ، أي: فافْعَلُوا ما شِئْتُم. وقرأ العامَّة «» فأجْمِعُوا «أمْراً من» أجْمَع «بهزة القطع، يقال: أجمع في المعاني، وجمع في الأعيان، فيقال: أجْمَعْتُ أمري، وجمعتُ الجيشَ، هذا هو الأكثر. قال الحارثُ بن حلِّزة: [الخفيف] 2913 - أجْمَعُوا أمْرَهُمْ بِليْلٍ فلمَّا ... أصْبَحُوا أصْبَحَتْ لَهُمْ ضَوْضَاءُ وقال آخر: [الرجز] 2914 - يَا لَيْتَ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ ... هَلْ أغْدُوَنْ يَوْماً وأمْرِي مُجْمَعُ؟ وهل أجمع متعدِّ بنفسه، أو بحرف جر ثم حذف اتساعاً؟ فقال أبو البقاء: من قولك أجمعتُ على الأمْرِ: إذا عزمتَ عليه؛ إلاَّ أنَّه حُذفَ حرفُ الجر فوصل الفعل إليه، وقيل: هو متعدٍّ بنفسه، وأنشد قول الحارث. وقال أبو فيد السَّدُوسي: أجمعت الأمر، أفصحُ من أجمعت عليه. وقال أبو الهيثم: أجمع أمرهُ جعلهُ مجموعاً بعد ما كان متفرقاً، قال: وتفرقته أن يقول مرَّة افعل كذا، ومرَّة افعل كذا، وإذا عزم على أمرٍ واحدٍ، فقد جمعه أي: جعله جميعاً، فهذا هو الأصلُ في الإجماع، ثم صار بمعنى: العزْم، حتى وصل ب» عَلَى «فقيل: أجمعتُ على الأمر؛ أي: عَزَمْتُ عليه، والأصلُ: أجمعتُ الأمرَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 376 وقرأ العامَّةُ:» وشُركَاءَكُم «نصباً وفيه أوجه: أحدها: أنَّه معطوفٌ على» أمركُم «بتقدير حذف مضافٍ، أي: وأمر شركائكم؛ كقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] ، ودلَّ على ذلك ما تقدَّم من أنَّ» أجمع «للمعاني. الثاني: أنَّه عطفٌ عليه من غير تقدير حذف مضافٍ، قيل: لأنَّه يقال أيضاً: أجمعت شركائي. الثالث: أنَّه منصوبٌ بإضمار فعلٍ لائق، واجمعُوا شركاءكم بوصل الهمزة، وقيل: تقديره: وادعوا، وكذلك هي في مصحف أبيِّ» وادعوا «فأضمر فعلاً لائقاً؛ كقوله - تعالى -: {والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان} [الحشر: 9] ، أي: واعتقدوا الإيمان. ومثله قول الآخر: [الرجز] 2915 - عَلفتُهَا تِبْناً ومَاءً بَارِداً ... حتَّى شَتَتْ همَّالةً عَيْنَاهَا أي: وسقيتها ماءً؛ وكقوله: [مجزوء الكامل] 2916 - يا لَيْتَ زَوْجَكش قَدْ غَدَا ... مُتَقَلِّداً سَيْفاً ورُمْحَا وقول الآخر: [الوافر] 2917 - إذَا مَا الغَانِيَاتُ يَرَزْنَ يَوْماً ... وزجَّجْنَ الحَواجِبَ والعُيُونَا يريد: ومُعْتَقِلاً رمحاً، وكحَّلنَ العُيُونا، وقد تقدَّم أنَّ في هذه الأماكن غير هذا التخريج. الرابع: أنه مفعولٌ معه، أي:» مع شُركائكم «. قال الفارسيُّ: وقد يُنْصَب الشُّرَكاء بواو» مع «، كما قالوا: جاء البرد والطَّيالسة، ولم يذكر الزَّمخشريُّ غير قول أبي علي. قال الزَّجَّاج: «معناه: فأجمعُوا أمركم مع شُركائِكُم، فلما ترك انتصب» . قال أبو حيَّان: «وينبغي أن يكون هذا التخريجُ على أنَّه مفعولٌ معه من الفاعل، وهو الضمير في» فأجْمِعُوا «لا من المفعول الذي هو» أمْرَكُمْ «وذلك ‘لى أشهر الاستعمالين؛ لأنَّه يقال:» أجمع الشركاءُ أمرهم «ولا يقال:» جمع الشركاء أمرهم «إلا قليلاً» . قال شهاب الدين: يعني: أنَّهُ إذا جعلناه مفعولاً معه من الفاعل، كان جائزاً بلا خلافٍ، وذلك لأنَّ من النَّحويين من اشترط في صحَّة نصب المفعول معه: أن يصلح عطفُه على ما قبله، فإنْ لَمْ يصلح عطفه، لم يصحَّ نصبُه مفعولاً معه، فلو جعلناه من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 377 المفعول لم يجز على المشهور، إذ لا يصلح عطفه على ما قبله؛ إذ لا يقال: أجمعت شركائي، بل جمعت. وقرأ الزهري، والأعمش، والأعرج، والجحدري، وأبو رجاء، ويعقوب، والأصمعي عن نافع: «فاجْمَعُوا» بوصل الألف، وفتح الميم من جمع يجْمَعُ، و «شُرَكاءكُمْ» على هذه القراءةِ يتضح نصبه نسقاً على ما قبله، ويجوز فيه ما تقدَّم في القراءة الأولى من الأوجه. قال صاحبُ اللوامح: أجمعت الأمر: أي: جعلته جميعاً، وجمعتُ الأموال جمعاً، فكان الإجماع في الأحداث، والجمعُ في الأعيان، وقد يستعمل كلُّ واحدٍ مكان الآخر، وفي التنزيل: {فَجَمَعَ كَيْدَهُ} [طه: 60] وقد اختلف القراء في قوله: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} [طه: 64] . فقرأ الستَّة: بقطع الهمزة، جعلوه من «أجْمع» وهو موافق لما قيل: إنَّ «أجْمَع» في المعاني. وقرأ أبو عمرو وحدهُ «فاجْمَعُوا» بوصل الألف، وقد اتفقوا على قوله {فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أتى} [طه: 60] ، فإنَّه من الثلاثي، مع أنَّه متسلِّطٌ على معنًى، لا عينٍ. ومنهم من جعل للثلاثي معنى غير معنى الرُّباعي؛ فقال في قراءة أبي عمرو: من جمع يَجْمع ضد فرَّق يفرق، وجعل قراءة الباقين من: أجمع أمرهُ إذا أحكمه وعزم عليه، ومنه قول الشاعر: [الرجز] 2918 - يَا ليتَتْ شِعْرِي والمُنَى لا تَنْفَعُ ... هَلْ أغْذُونْ يوماً وأمْرِي مُجْمَع؟ وقيل: المعنى: فاجمعوا على كيدكم؛ فحذف حرف الجرِّ. وقرأ الحسن، والسلمي، وعيسى بن عمر، وابن أبي إسحاق، وسلام، ويعقوب: «وشُرَكاؤكُمْ» رفعاً، وفيه تخريجان: أحدهما: أنَّه نسقٌ على الضَّمير المرفوع ب «أجْمِعُوا» قبله، وجاز ذلك؛ إذ الفصل بالمفعول سوَّغ العطف. والثاني: أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: وشُركاؤكُم فليُجْمِعُوا أمرهم، وشذَّتْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 378 فرقةٌ فقرأت: «وشُرَكائِكُمْ» بالخفضِ، ووُجِّهَتْ على حذف المضاف، وإبقاء المضاف إليه مجرُوراً على حاله؛ كقول الشاعر: 2919 - أكُلَّ امرِىءٍ تَحْسِبينَ امْرَءًا ... ونَارٍ توقَّدُ باللَّيْل نَارَا أي: وكُلَّ نار، فتقدير الآية: وأمر شركائكم؛ فحذف الأمر، وأبقى ما بعده على حاله، ومن رأى برأي الكوفيين جوَّزَ عطفه على الضَّمير في «أمركم» من غير تأويل، وقد تقدَّم ما فيه من المذاهب، أعني: العطف على الضَّمير المجرور من غير إعادة الجارِّ في سُورة البقرة. قوله: «غُمَّةً» يقال: غمٌّ وغُمَّةٌ، نحو كَرْبٌ وكُربَةٌ. قال أبو الهيثم: هو من قولهم: غمَّ علينا الهلالُ، فهو مغمومٌ إذا التمسَ، فلم يُرَ؛ قال طرفةُ بن العبد: [الطويل] 2920 - لعَمْرُكَ ما أمْرِي عليَّ بغُمَّةٍ ... نَهَاري ولا لَيْلِي عليَّ بِسرمَدِ وقال اللَّيث: يقال: هُو في غُمَّةٍ من أمره، إذا لَمْ يتبيَّنْ لهُ. قوله: {ثُمَّ اقضوا} مفعول «اقضوا» محذوف، أي: اقضُوا إليَّ ذلك الأمر الذي تريدون إيقاعه بي؛ كقوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر} [الحجر: 66] فعدَّاه لمفعول صريح. وقرأ السَّري: «ثُمَّ أفْضُوا» بقطع الهمزة والفاء، من أفْضى يُفضِي إذا انتهى، يقال: أفضَيْتُ إليك، قال تعالى: {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء: 21] ، فالمعنى: ثُمَّ أفضُوا إليَّ سرَّكم، أي: انتهوا به إليَّ، وقيل: معناه: أسْرِعُوا به إليَّ، وقيل: هو مِنْ أفْضَى، أي: خَرَجَ إلى الفضاءِ، أي: فأصْحِرُوا به إليَّ، وأبرزُوه لي؛ كقوله: [الطويل] 2921 - أبَى الضَّيْمَ والنُّعْمَانُ يَحْرِقُ نابهُ ... عليه فأفْضَى والسُّيُوفُ معاقِلُه ولامُ الفضاءِ واوٌ؛ لأنَّه من فضا يَفْضُو، أي: اتَّسعَ، والمعنى: فأحكمُوا أمركُم، واعزِمُوا وادعُوا شُركَاءَكُم، أي: آلهتكُم، فاستعينوا بها لتجتمع. وروى الأصمعي، عن نافع: «فأجمعُوا ذوي الأمر منكم» فحذف المضاف، وجرى على المضاف إليه ما كان يجري على المضاف لو ثبت. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 379 قال ابن الأنباري: المرادُ من الأمر هنا: وجوه كيدهم، ومكرهم، والتقدير: لا تتركوا مِن أمركُم شيئاً إلا أحضرتُمُوه. والمراد من الشركاء: إما الأوثان؛ لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّها تَضُرُّ وتنفعُ، وإمَّا أن يكون المرادُ: من كان على مثل دينهم. {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أي: خفيًّا مبهماً، من قولهم: غَمَّ الهلالُ على النَّاسِ، أي: أشْكل عليهم، فهو مغمومٌ إذا خفي. «ثُمَّ اقضُوا» أي: امضُوا، «إليَّ» : بما في أنفسكم من مكروه وافرغوا منه، يقال: قضى فلان: إذا مات، وقضى دينه: إذا فرغ منه، وقيل معناه: توجَّهُوا إليَّ بالقتل والمكروه، وقيل: «فاقْضُوا ما أنتم قاضُون» كقول السَّحرة لفرعون « {فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ} [طه: 72] . قال القفال: ومجاز دُخُول كلمة» إلى «في هذا الموضع من قولهم: برئت إليك، وخرجت إليك من العهد، وفيه معنى الإخبار؛ فكأنَّه - تعالى - قال: ثم اقضُوا إليَّ ما يستقرُّ رأيكم عليه محكماً مفروغاً منه، ثم لا تنظرون أي: لا تمهلون ولا تُؤخِّرُون. وقد نظَّم القاضي هذا الكلام على أحسن الوجوه، فقال: إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال في أول الأمر: فعلى الله توكلت؛ فإنِّي واثقٌ بوعد الله، جازم بأنَّه لا يخلفُ الميعاد، فلا تظُنُّوا أنَّ تهديدكم إيَّاي بالقتلِ والإيذاء يمنعني من الدُّعاء إلى الله ثم إنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أورد عليهم ما يدل على صحة دعواهُ، فقال: {فأجمعوا أَمْرَكُمْ} كأنَّهُ يقول: اجمعوا ما تقدرُون عليه من الأشياء التي توجبُ حُصُول مطلوبكم، ثم لم يقتصر على ذلك، بل أمرهم أن يضُمُّوا إلى أنفسهم شركاءهم الذين كانوا يزعمون أنَّ حالهم يقوى بمكانتهم وبالتَّقَرُّب إليهم، ثم لم يقتصر على هذين، بل ضمَّ إليهما ثالثاً، وهو قوله: {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً} أراد أن يبلغوا فيه كل غايةٍ في المكاشفةِ والمجاهرة، ثم لم يقتصر على ذلك، بل ضمَّ إليها رابعاً، فقال: {ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ} والمراد: أن وجهوا كلَّ تلك الشُّرُور إليَّ، ثم ضمَّ إلى ذلك خامساً، وهو قوله: {لاَ تُنظِرُونَ} أي: عجِّلُوا ذلك بأشد ما تقدرون عليه من غير انتظار، ومعلومٌ أنَّ مثل هذا الكلام يدل على أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان قد بلغ الغاية في التوكل على الله، وأنَّه كان قاطعاً بأنَّ كيدهم لا يضرُّه، ولا يصل إليه، ومكرهم لا ينفذُ فيه. قوله: {فَإِن تَوَلَّيْتُمْ} أعرضتم عن قولي، وقُبُول نُصْحِي، {فَمَا سَأَلْتُكُمْ} على تبليغ الرِّسالة والدَّعوة {مِّنْ أَجْرٍ} جعل وعوض، {إِنْ أَجْرِيَ} : ما أجري وثوابي، {إِلاَّ عَلَى الله} . قال المفسِّرُون: وهذا إشارةٌ إلى أنَّه ما أخذ منهم مالاً على دعواهُم إلى دين الله، وكُلَّما كان الإنسانُ فارغاً من الطَّمع، كان قوله أقوى تأثيراً في القلب. قال ابن الخطيب: وعندي فيه وجه آخر: وهو أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بيَّن أنه لا يخافُ منهم بوجهٍ من الوجوه، وذلك لأنَّ الخوف إنَّما يحصل بأحد شيئين: إمَّا بإيصال الشَّر، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 380 أو بقطع المنافع، فبيَّن فيما تقدَّم أنه لا يخافُ شرَّهُم، وبيَّن في هذه الآية أنَّه لا يخاف منهم بسبب أن يقطعُوا عنه خيراً؛ لأنَّه ما أخذ منهم شيئاً، فكان يخافُ أن يقطعوا منه خيراً، ثم قال: {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} وفيه قولان: الأول: أنكم سواء قبلتم دين الإسلام، أو لم تقبلوا، فأنا مأمورٌ بأن أكون على دين الإسلام. الثاني: أنِّي مأمورٌ بالاستسلام لكلِّ ما يصل إليَّ لأجل هذه الدَّعوة، وهذا الوجهُ أليق بهذا الموضع؛ لأنَّه لمَّا قال اقضُوا إليَّ بيَّن أنَّه مأمورٌ بالاستسلام لكلِّ ما يصل إليه. قوله: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك} . لمَّا حكى كلام نُوحٍ مع الكُفَّار، ذكر - تعالى - ما آل أمرهم إليه: أمَّا في حقِّ نُوح وأصحابه، فنجَّاهم وجعلهم خلائف، أي: يخلفون من هلك بالغرق، وأمَّا في حق الكفار فإنَّه - تعالى - أهلكهم وأغرقهم، وهذه القصَّة إذا سمعها من صدَّق الرسول ومن كذب به، كانت زجراً للمكذِّبين فإنهم يخافون أن ينزل بهم مثل ما نزل بقوم نُوح، وتكون داعيةً للمؤمنين إلى الثَّبات على الإيمان؛ ليصلوا إلى مثل ما وصل إليه قوم نُوح. قوله {فِي الفلك} يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّق ب «نجَّيناه» ، أي: وقع الإنجاء في هذا المكان. والثاني: أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به الظرفُ، وهو «معهُ» لوقوعه صلة، أي: والذين استقرُّوا معه في الفلك، وقوله: «وجَعلْنَاهُم» أي: صيَّرناهُم، وجمع الضميرُ في «جَعلْنَاهُمْ» حملاً على معنى «مَنْ» ، و «خَلائِفَ» جمع خليفة، أي: يخلفُون الغارقين. قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد نوحٍ، {رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ} ولمْ يسمِّ الرسل، وقد كان منهم هودٌ، وصالحٌ، وإبراهيمُ، ولوطٌ، وشعيبٌ، {فَجَآءُوهُمْ بالبينات} ، وهي المعجزات الباهرة، و «بالبيِّنَاتِ» متعلقٌ ب «فَجاءوهُمْ» أو بمحذوف على أنه حال أي: ملتبسين بالبينات، {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} أي: أنَّ حالهم بعد بعثةِ الرسل، كحالهم قبلها في كونهم أهل جاهلية. قال القرطبيُّ: التقدير: بما كذَّب به قوم نُوحٍ من قبل، وقيل «بِمَا كذَّبُوا بهِ» أيْ: من قبل يوم الذرِّ فإنه كان فيهم من كذَّب بقلبه، وإن قال الجميعُ: بلى. وقال النحاس: أحسن ما قيل في هذا: أنَّه لقوم بأعيانهم، مثل: {أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] . و «بالبيِّنَاتِ» متعلق ب «جَاءوهُم» ، أو بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ، أي: مُلتبسين بالبيِّناتِ. وقوله: {لِيُؤْمِنُواْ} أتى بلام الجحود توكيداً، والضَّمير في {كَذَّبُواْ} عائدٌ على من عاد عليه الضَّمير في كانُوا، وهم قومُ الرُّسُل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 381 وقال أبُو البقاء ومكِّي: إنَّ الضمير في كانوا يعُود على قوم الرُّسُل، وفي «كَذَّبُوا» يعود على قوم نوح، والمعنى: فما كان قوم الرُّسُل ليؤمنوا بما كذَّب به قوم نُوح، أي: بمثله، ويجوز أن تكون الهاءُ عائدة على نوح نفسه، من غير حذف مضافٍ، والتقدير: فما كان قومُ الرُّسُل بعد نوح ليؤمنوا بنوحٍ؛ إذ لو آمنوا به، لآمنوا بأنبيائهم. و «مِنْ قَبْلُ» متعلقٌ ب «كَذَّبُوا» أي: من قبل بعثةِ الرُّسُل. وقيل: الضَّمائرُ كُلُّها تعودُ على قوم الرسل بمعنى آخر: وهو أنَّهم بادرُوا رسلهم بالتكذيب، كُلما جاء رسولٌ، لجُّوا في الكفر، وتمادوا عليه، فلم يكونوا ليؤمنوا بما سبق به تكذيبهم من قبل لجِّهم في الكفر، وتماديهم. وقال ابن عطية: ويحتمل اللَّفظُ عندي معنى آخر، وهو أن تكون «ما» مصدرية، والمعنى: فكذَّبُوا رسلهم، فكان عقابهم من الله أن لم يكونوا ليُؤمِنُوا بتكذيبهم من قبل، أي: من سببه ومن جرَّائه، ويُؤيِّد هذا التأويل: «كذلِكَ نَطْبَعُ» وهو كلام يحتاجُ إلى تأمُّل. قال أبو حيان: والظَّاهر أنَّ «ما» موصولةٌ؛ ولذلك عاد الضميرُ عليها في قوله: {بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ} ولو كانت مصدرية، بقي الضمير غير عائدٍ على مذكور؛ فتحتاج أن يُتكلَّفَ ما يعود عليه الضمير. قال شهاب الدِّين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «الشيخ بناه على قول جمهور النُّحاة: في عدم كونِ» ما «المصدريَّة اسماً؛ فيعُود عليها ضميرٌ، وقد تقدَّم مراراً، أنَّ مذهب الأخفش، وابن السراج: أنَّها اسمٌ فيعود عليها الضمير» . قرأ العامَّةُ: «نَطْبَع» بالنُّون الدَّالة على تعظيم المتكلِّم. وقرأ العبَّاس بن الفضل: بياء الغيبة، وهو الله - تعالى -؛ ولذلك صرَّح به في موضعٍ آخر: {كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله} [الأعراف: 101] . والكافُ نعتٌ لمصدر محذوف، أو حالٌ من ذلك المصدر على حسب ما عرفته من الخلاف، أي: مثل ذلك الطَّبع المحكم الممتنع زواله، نطبع على قلوب المعتدين على خلق الله. فصل احتجَّ أهل السُّنَّة على أنَّه - تعالى - قد يمنع المكلَّلإ عن الإيمان بهذه الآية. قالت المعتزلة: فقد قال - تعالى -: {بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 155] ولو كان هذا الطَّبع مانِعاً، لما صحَّ هذا الاستثناء، وقد تقدَّم البحث في ذلك عند قوله - تعالى -: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ} [البقرة: 7] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 382 قوله - تعالى - {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِمْ موسى وَهَارُونَ} الآية. قرأ مجاهد، وابن جبير، والأعمش: «إنَّ هذا لساحِرٌ» اسم فاعل، والإشارةُ ب «هَذَا» حينئذٍ إلى موسى، أشير إليه لتقدم ذكره، وفي قراءةِ الجماعةِ، المشارُ إليه الشَّيءُ الذي جاء به موسى، من قلب العصا حيَّة، وإخراج يده بيضاء كالشمس، ويجوز أن يشار ب «هذا» في قراءة ابن جبير: إلى المعنى الذي جاء به موسى مبالغةً؛ حيث وصفُوا المعاني بصفاتِ الأعيانِ؛ كقولهم: «شِعْرٌ شَاعِرٌ» ، و «جَدَّ جَدُّهُ» . فإن قيل: إنَّ القوم لمَّا قالوا: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} ، فكيف حكى موسى عنهم أنَّهُم قالوا: «أسِحْرٌ هذا» على سبيل الاستفهام؟ . فالجواب من وجهين: أحدهما: أنَّ معمول «أتقولون» : الجملة من قوله: «أسِحْرٌ هذا» إلى آخره، كأنهم قالوا: أجِئْتُمَا بالسِّحر تطلبان به الفلاح، ولا يفلح السَّاحِرُون؛ كقول موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - للسحرة: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} [يونس: 81] . والثاني: أنَّ معمول القول محذوفٌ، مدلولٌ عليه بما تقدم ذكرهُ، وهو {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} . ومعمولُ القول يحذف للدَّلالةِ عليه كثيراً، كما يحذف القول كثيراً، ويكون تقدير الآية: إن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال لهم: {أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ} ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 383 تقولون، ثم حذف منه مفعول «أتقولون» لدلالة الحالِ عليه، ثم قال: أسِحْرٌ هذا وهو استفهامٌ على سبيل الإنكار، ثم احتجَّ على أنَّه ليس بسحرٍ، بقوله: {وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون} ؛ ومثلُ الآية في حذف المقول قولُ الشاعر: [الطويل] 2922 - لنَحْنُ الألَى قُلْتُمْ فأنَّى مُلِئْتُمُ ... بِرُؤيتنَا قبْلَ اهتِمَامٍ بكُمْ رُعْبَا وفي كتاب سيوبيه: «متَى رَأيتَ أو قُلْتَ زيداً مُنْطلقاً» على إعمال الأول، وحذف معمول القول، ويجوز إعمالُ القول بمعنى الحكاية به، فيقال: «متى رايت أو قلت زيد مُنطلقٌ» وقيل: القول في الآية بمعنى: العَيْب والطَّعْن، والمعنى: أتَعِيبُونَ الحقَّ وتطعنُونَ فيه، وكان من حقِّكم تعظيمُه، والإذعانُ له، من قولهم: «فلان يخافُ القالة» و «بين الناس تقاولٌ» إذا قال بعضهم لبعضٍ ما يسوؤه، ونحو القولِ الذَِّكرُ في قوله: {سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ} [الأنبياء: 60] وكلُّ هذا مُلخّص من كلام الزمخشريِّ. قوله: «قَالُوا» يعني: فرعون وقومه، «أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا» اللاَّمُ متعلقةٌ بالمجيء، أي: أجِئْتَ لهذا الغرضِ، أنكروا عليه مجيئهُ لهذه العلَّة، واللَّفتُ: الليُّ والصَّرْفُ، لفته عن كذا، أي: صرفه ولواه عنه، وقال الأزرهي: «لفَتَ الشَّيء وفتلهُ» : لواه، وهذا من المقلوب. قال شهاب الدِّين: «ولا يُدَّعى فيه قلبٌ، حتى يرجع أحدُ اللفظين في الاستعمال على الآخر، ولذلك لم يَجْعَلُوا جذبَ وجبذَ، وحَمِدَ ومَدَحَ من هذا القبيل لتساويهما، ومطاوعُ لَفَتَ: التفَت، وقيل: انْفَتَلَ، وكأنَّهُم استغْنَوا بمطاوع» فَتَل «عن مطاوع لَفَتَ، وامرأة لفُوت، أي: تَلْتفتُ لولدها عن زوجها، إذا كان الولد لغيره، واللَّفيتةُ: ما يغلظُ من القصيدة» والمعنى: أنَّهم قالوا: لا نترك الذي نحن عليه؛ لأنَّا وجدنا أباءنا عليه، فتمسكُوا بالتقليد، ودفعُوا الحُجَّة الظاهرة بمجرد الإصرار. قوله: {وَتَكُونَ لَكُمَا الكبريآء فِي الأرض} الكبرياء: اسمُ «كان» ، و «لكم» : الخبر، و «في الأرض» : جوَّز فيها أبو البقاء خمسة أوجه: أحدها: أن تكون متعلقة بنفس الكبراي. الثاني: أن يتعلق بنفس «تكون» . الثالث: أن يتعلَّق بالاستقرار في «لكم» لوقوعه خبراً. الرابع: أن يكون حالاً من «الكبرياء» . الخامس: أن يكون حالاً من الضَّمير في «لَكُمَا» لتحمُّلِه إيَّاهُ «. والكبرياء مصدرٌ على وزن» فِعْلِيَاء «، ومعناها: العظيمة؛ قال عديُّ بن الرِّقَاعِ: [الخفيف] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 384 2923 - سُؤدُدٌ غَيْرُ فَاحِشٍ لا يُدَانِي ... يه تجبَّارةٌ ولا كِبْرياءُ وقال ابن الرّقيات يمدح مصعب بن الزبير: [الخفيف] 2924 - مُلْكُهُ مُلْكُ رَأفَةٍ ليس فيه ... جَبَرُوتٌ مِنْهُ ولا كِبْرِيَاءُ يعني: هو ليس عليه ما عليه المملوكُ من التجبُّر والتَّعظيم. والجمهور على» تكون «بالتَّأنيث مراعاةً لتأنيث اللفظ. وقرأ ابن مسعود، والحسن، وإسماعيل وأبو عمرو، وعاصم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - في روايةٍ:» يكون «بالياء من تحت؛ لأنَّه تأنيثٌ مجازيٌّ. قال المفسِّرون: والمعنى: ويكون لكُما الملكُ والعزُّ في أرض مصر، والخطابُ لموسى، وهارون - عليهما الصلاة والسلام -. قال الزَّجَّاج: سمى الملك كبرياء؛ لأنه أكبر ما يطلب من أمر الدنيا، وأيضاً: فالنبيُّ إذا اعترف القوم بصدقه، صارت مقاليدُ أرم أمته إليه؛ فصار أكبر القوم. واعلم: أنَّ القوم لمَّا ذكروا هذين الشيئين في عدم اتِّباعهم، وهما: التَّقليد، والحرصُ على طلب الرِّياسة، صرَّحُوا بالحكم، فقالوا: {وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ} ، ثم شرعُوا في معارضةِ معجزات موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بأنواعٍ من السحر؛ ليظهر عند الناس أن ما أتى به موسى من باب السِّحْر، فقال فرعون: {ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ} . قرأ الأخوان: سحَّار وهي قراءةُ ابن مُصرِّف، وابن وثَّاب، وعيسى بن عمر. {فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ} . فإن قيل: كيف أمرهُم بالسِّحْر، والسِّحر كفر، والأمر بالكفر كُفْرٌ؟ . فالجواب: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أمرهم بإلقاء الحِبال والعِصيّ؛ ليظهر للخلق أن ما أتوا به عملٌ فاسدٌ، وسعيٌ باطلٌ، لا أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أمرهم بالسِّحْرِ؛ فلمَّا ألقوا حبالهم وعصيَّهُم، قال لهم موسى: ما جئتم به هو السِّحْر، والغرض منهُ: أنَّهم لمَّا قالُوا لموسى: إنَّ ما جئتَ به سحر، فقال موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: إنَّ ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 385 ذكرتمُوه باطلٌ، بل الحقُّ: أنَّ الذي جئتُم به هو السِّحر الذي يظهر بطلانه، ثم أخبرهُم بأن الله يحق الحق، ويبطل الباطل. قوله: {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر} قرأ أبو عمرو وحده: «آلسِّحر» بهمزة الاستفهام، وبعدها ألف محضةٌ، وهي بدل عن همزة الوصلِ الدَّاخلة على لام التعريف، ويجوز أن تُسَهَّل بين بين، وقد تقدَّم تحقيق هذين الوجهين في قوله: {ءَآلذَّكَرَيْنِ} [الأنعام: 143] وهي قراءة مجاهد، وأصحابه، وأبي جعفر، وقرأ باقي السبعة: بهمزة وصلٍ تسقُط في الدَّرْج، فأمَّا قراءةُ أبي عمرو، ففيها أوجه: أحدها: أنَّ «ما» استفهاميَّة في محلِّ رفع بالابتداء، و «جِئْتُمْ بِه» : الخبرُ، والتقدير: أي شيءٍ جِئْتُم، كأنَّه استفهام إنكار، وتقليلٌ للشَّيءِ المُجاء به. و «السِّحْر» بدلٌ من اسم الاستفهام؛ ولذلك أعيد معه أداته؛ لما تقرَّر في كتب النحو، وذلك ليساوي المبدل منه في أنَّه استفهامٌ، كما تقول: كم مالك أعشرون، أم ثلاثون؟ فجعلت: أعشرون بدلاً من كم، ولا يلزم أن يضمر للسِّحر خبر؛ لأنَّك إذا أبدلته من المبتدأ، صار في موضعه، وصار ما كان خبراً عن المبدل منه، خبراً عنه. الثاني: أن يكون «السِّحْر» خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أهُو السِّحْر. الثالث: أن يكون مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: السحر هو، ذكر هذين الوجهين أبو البقاء، وذكر الثاني مكِّي، وفيهما بعد. الرابع: أن تكون «ما» موصولة بمعنى: الذي، و «جئتم به» صلتها، والموصولُ في محلِّ رفع بالابتداء، والسِّحر على وجهيه من كون خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: الذي جئتم به أهُو السِّحْر؟ أو الذي جئتم به السحر هو؟ وهذا الضميرُ هو الرَّابط، كقولك: الذي جاءك أزيدٌ هو؟ قاله أبو حيَّان. قال شهاب الدِّ] ن: قد منع مكِّي أن تكون «ما» موصولةً، على قراءة أبي عمرو، فقال: وقد قرأ أبو عمرو «» آلسحرُ «بالمدِّ، فعلى هذه القراءة: تكون» ما «استفهاماً مبتدأ، و» جِئْتُم بِهِ «: الخبر، و» السّحر «خبرُ ابتداءٍ محذوف، أي: أهو السِّحر؟ ولا يجوزُ أن تكون» مَا «بمعنى:» الَّذي «على هذه القراءة؛ إذ لا خبر لها. وليس كما ذكر، بل خبرها: الجملةُ المقدَّرُ أحدُ جُزأيها، وكذلك الزمخشري، وأبو البقاء لمْ يُجِيزَا كونها موصولةً، إلاَّ في قراءة غير أبي عمرو، لكنَّهُمَا لم يتعرَّضَا لعدم جوازه. الخامس: أن تكون» ما «استفهامية في محلِّ نصبِ بفعل مقدَّرٍ بعدها؛ لأنَّ لها صدر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 386 الكلام، و» جِئْتُم به «مفسِّر لذلك الفعل المقدَّر، وتكون المسألةُ حينئذٍ من باب الاشتغال، والتقدير: أيُّ شيءٍ أتيتُم جِئْتُم به، و» السِّحْر «على ما تقدَّم، ولو قُرىء بنصب» السِّحْر «على أنَّه بدلٌ مِنْ» ما «بهذا التقدير، لكان لهُ وجه، لكنَّه لم يقرأ به فيما علمت، وسيأتي ما حكاه مكِّي عن الفرَّاء من جواز نصبه لمدركٍ آخر، لا على أنَّها قراءةٌ منقولةٌ عن الفرَّاء. وأمَّا قراءةُ الباقين، ففيها أوجهٌ: أحدها: أن تكون «ما» بمعنى: «الذي» في محلِّ رفعٍ بالابتداء، و «جِئْتُم بِه» صلته وعائده، و «السِّحرُ» خبرهُ، والتقدير: الذي جئتم به السحر، ويؤيِّد هذا التقدير، قراءة أبيّ، وما في مصحفه: «ما أتيتم به سِحْرٌ» ، وقراءة عبد الله بن مسعود والأعمش: «مَا جِئْتُمْ بِهِ سحْرُ» . الثاني: أن تكون «ما» استفهامية في محلِّ نصبٍ، بإضمار فعل على ما تقرَّر و «السِّحْر» خبر ابتداء مضمر، أو مبتدأ مضمر الخبر. الثالث: أن تكون «ما» في محلِّ رفع بالابتداء، و «السِّحْر» على ما تقدَّم من كونه مبتدأ، أو خبراً، والجملة خبر «ما» الاستفهامية. قال أبو حيَّان - بعد ما ذكر الوجه الأول -: «ويجوز عندي أن تكون في هذا الوجه استفهاميَّة في موضع رفع بالابتداء، أو في موضع نصبٍ على الاشتغال، وهو استفهامٌ على سبيل التَّحقير، والتَّقليل لما جاؤوا به، و» السِّحْر «خبرُ مبتدأ محذوفٍ، أي: هو السِّحْر» . قال شهاب الدِّين: ظاهرُ عبارته: أنَّه لم يَرَ غيره، حيث قال وعندي، وهذا قد جوَّزه أبو البقاء ومكِّي. قال أبو البقاء - لمَّا ذكر قراءة غير أبي عمرو - «ويُقْرَأ بلفظ الخبر، وفيه وجهان» ، ثم قال: «ويجوزُ أن تكون» ما «استفهاميَّة، و» السِّحْر «خبر مبتدأ محذوف» . وقال مكِّي - في قراءة غير أبي عمرو، بعد ذكره كون «ما» بمعنى: الذي - ويجوز أن تكون «ما» رفعاً بالابتداء، وهي استفهامٌ، و «جِئْتُم بهِ» : الخبر، و «السِّحْر» خبر مبتدأ محذوف، أي: هو السِّحر، ويجُوزُ أن تكون «ما» في موضع نصبٍ على إضمار فعلٍ بعد «ما» تقديره: أيُّ شيءٍ جئتم به، و «السحرُ» : خبر ابتداء محذوف. الرابع: أن تكون هذه القراءةُ كقراءة أبي عمرو في المعنى، أي: أنَّها على نيةِ الاستفهامِ، ولكن حذفت أداته للعلم بها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 387 قال أبو البقاء: ويقرأ بلفظِ الخبر، وفيه وجهان: أحدهما: أنَّه استفهامٌ في المعنى أيضاً، وحذفت الهمزة للعلم بها وعلى هذا الذي ذكره: يكونُ الإعرابُ على ما تقدَّم، واعلم أنَّك إذا جعلت «ما» موصولة بمعنى: الذي، امتنع نصبُها بفعلٍ مقدَّرٍ على الاشتغال. قال مكِّي: ولا يجُوزُ أن تكون «ما» بمعنى: الذي، في موضع نصْبٍ لأنَّ ما بعدها صلتها، والصلةُ لا تعمل في الموصول، ولا يكون تفسيراً للعامل في الموصول وهو كلامٌ صحيحٌ؛ فتلخَّص من هذا: أنَّها إذا كانت استفهامية، جاز أن تكون في محلِّ رفع أو نصب، وإذا كانت موصولة، تعيَّن أن يكون محلُّها الرفع بالابتداء، وقال مكي: وأجاز الفرَّاءُ نصب «السِّحْر» فجعل «ما» شرطاً، وينصبُ «السِّحْر» على المصدر، وتضمرُ الفاءُ مع {إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} ، وتجعل الألف واللام في «السِّحْر زائدتين، وذلك كلُّه بعيدٌ، وقد أجاز عليُّ بن سليمان: حذف الفاءِ من جواب الشَّرط في الكلام، واستدلَّ على جوازه بقوله - تعالى -: {وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] ، ولم يجزه غيره إلاَّ في ضرورة شعر. قال شهاب الدِّين: وإذا مشينَا مع الفرَّاء، فتكون» ما «شرطاً يُراد بها المصدرُ، تقديره: أيَّ سحر جئتم به، فإنَّ الله سيبطله، ويُبَيِّن أنَّ» ما «يراد بها السحر قوله:» السِّحْر «؛ ولكن يقلقُ قوله:» إنَّ نصب السِّحْر على المصدريَّة «فيكون تأويله: أنَّه منصوبٌ على المصدر الواقع موقع الحال؛ ولذلك قدَّره بالنَّكرة، وجعل» أل «مزيدة فيه. وقد نُقِلَ عن الفرَّاء: أنَّ هذه الألف واللام للتعريف، وهو تعريف العهد، قال الفرَّاء:» وإنَّما قال «السِّحر» بالألف واللاَّم؛ لأنَّ النَّكرة إذا أعيدتْ، أعيدت بالألف واللاَّم «يعنى: أنَّ النَّكرة قد تقدَّمت في قوله: {إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} [يونس: 76] ، وبهذا شرحهُ ابنُ عطيَّة. قال ابن عطيَّة: والتعريف هنا في السحر أرْتَبُ؛ لأنَّه قد تقدَّم منكَّراً في قولهم:» إنَّ هذا لسحرٌ «، فجاء هنا بلام العهد، كما يقال أوَّل الرسالة:» سلامٌ عليك «. قال أبو حيَّان» وما ذكراه هنا في «السِّحْر» ليس من تقدُّم النكرة، ثُمَّ أخبر عنها بعد ذلك؛ لأنَّ شرط هذا أن يكون المعرَّفُ ب «أل» هو المنكر المتقدَّم، ولا يكون غيره، كقوله - تعالى -: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15، 16] . وتقول: «زارنِي رجلٌ، فأكرمتُ الرَّجُل» لمَّا كان إيَّاه، جاز أن يُؤتَى بضميره بدلهُ، فتقول: «فأكرمته» ، و «السِّحْر» هنا: ليس هو السحرَ الذي في قولهم: «إنَّ هذا لسحْرٌ» لأنَّ الذي أخبروا عنه بأنَّه سحرٌ، هو ما ظهر على يدي موسى من معجزة العصا، والسِّحْر الذي في قول موسى، إنَّما هو سحرهُم الذي جاؤوا به، فقد اختلف المدلولان، إذ قالوا هم عن معجزة موسى، وقال موسى عمَّا جاؤوا به؛ ولذلك لا يجُوز أن يؤتى هنا بالضَّمير بدل السِّحْر؛ فيكون عائداً على قولهم: لسحْرٌ «. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 388 قال شهاب الدِّين: «والجوابُ: أنَّ الفرَّاء، وبن عطيَّة إنَّما أرَادَا السِّحر المتقدِّم الذكر في اللفظ، وإن كان الثَّاني هو غير عين الأول في المعنى، ولكن لمَّا أطلق عليهما لفظ» السَّحْر «جاز أن يقال ذلك، ويدلُّ على هذا: أنَّهم قالوا في قوله - تعالى -: {والسلام عَلَيَّ} [مريم: 33] إنَّ الألف واللام للعهد؛ لتقدُّم ذكر السَّلام في قوله - تعالى -: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ} [مريم: 15] ، وإن كان السَّلامُ الواقعُ على عيسى، هو غير السلام الواقع على يحيى؛ لاختصاص كلِّ سلام بصاحبه من حيث اختصاصه به، وهذا النَّقْل المذكورُ عن الفرَّاء في الألف واللاَّم، ينافى ما نقلهُ عنه مكِّي فيهما، اللَّهُمَّ إلاَّ أن يقال: يحتمل أن يكون له مقالتان، وليس ببعيدٍ؛ فإنَّه كُلَّما كثر العلمُ، اتَّسعت المقالاتُ» . قوله: {إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} أي: سيهلكه، ويظهر فضيحة صاحبه، {إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين} أي: لا يقوِّيه ولا يكمِّله، وقوله: «المُفْسدينَ» من وقوع الظَّاهر موقع ضمير المخاطب؛ إذ الأصلُ: لا يصلح عملكم؛ فأبرزهم في هذه الصِّفة الذَّميمة شهادة عليهم بها، ثم قال: {وَيُحِقُّ الله الحق} أي: يظهره ويقوِّيه، {بِكَلِمَاتِهِ} أي: بوعده موسى، وقيل: بما سبق من قضائه وقدره، وقرىء: «بكَلمتهِ» بالتوحيد، وتقدَّم نظيره [الأنفال: 7] . قوله: {فَمَآ آمَنَ لموسى} الفاءُ للتَّعقيب، وفيها إشعارٌ بأنَّ إيمانهم لم يتأخَّر عن الإلقاء، بل وقع عقيبهُ؛ لأنَّ الفاء تفيد ذلك، وقد تقدَّم توجيهُ تعدية «آمن» باللاَّم، والضَّمير في «قَوْمِهِ» فيه وجهان: أظهرهما: أنَّه يعودُ على موسى؛ لأنَّهُ هو المُحدَّث عنه؛ ولأنَّه أقربُ مذكورٍ، ولو عاد على فرعون، لمْ يكرِّرْ لفظه ظاهراً، بل كان التركيب: «على خوفٍ منه» وإلى هذا ذهب ابنُ عبَّاس، وغيره، قال: المراد مؤمني بني إسرائيل الذين كانُوا بمصر، وخرجُوا معه. قال ابن عبَّاس: لفظ الذُّريَّة يُعَبَّر به عن القوم على وجه التَّحقير والتَّصغير، ولا سبيل لحمله على التقدير على وجه الإهانة ههنا؛ فوجب حمله على التصغير، بمعنى: قلة العدد. قال مجاهد: كانوا أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل، هلك الآباء، وبقي الأبناء. وقيل: هم قوم نَجَوْا من قتل فرعون؛ وذلك أنَّ فرعون لما أمر بقتل أبْنَاءِ بني إسرائيل، كانت المرأة في بني إسرائيل، إذا ولدت ابناً وهبته لقبطيَّة، خوفاً عليه من القتل، فنشئُوا بين القبط، وأسلمُوا في اليوم الذي غلب فيه موسى السَّحرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 389 والثاني: أنَّ الضمير يعُود على فرعون، ويُروى عن ابن عبَّاس أيضاً، ورجَّح ابنُ عطيَّة هذا، وضعف الأول، فقال: وممَّا يضعفُ عود الضَّمير على مُوسى: أنَّ المعروف من أخبار بني إسرائيل، أنهم كانوا قد فشتْ فيهم النبواتُ، وكانُوا قد نالهُم ذلٌّ مفرط، وكانوا يرجُون كشفهُ بظُهُورِ مولُود، فلمَّا جاءهُم موسى أصْفَقُوا عليه وتابعُوه، ولم يُحْفَظْ أنَّ طائفة من بني إسرائيل كفرتْ بمُوسَى، فكيف تُعْطِي هذه الآيةُ أنَّ الأقلَّ منهم كان الذي آمَنَ؟ فالذي يترجَّحُ عودُه على فرعون، ويؤيِّده أيضاً: ما تقدَّم من محاورة موسى وردِّه عليهم وتوبيخهم. قيل: المراد بالذرية: أقوام كان آباؤهم من قوم فرعون، وأمَّهاتُهُم من بني إسرائيل، فجعل الرَّجُل يتبع أمَّهُ وأخوالهُ. روي عن ابن عبَّاس: أنَّهم كانوا ستمائة ألفٍ من القبط. قيل: سُمُّوا ذُرِّيَّة؛ لأنَّ آباءهم كانوا من القبط، وأمهاتهم من بني إسرائيل، كما يقال لأولاد فارس - الذين سقطوا إلى اليمن -: الأبناء؛ لأنَّ أمُّهاتهم من غير جنس آبائهم. وقيل: المراد بالذُّرِّيَّة من آل فرعون: آسيةُ، ومُؤمنُ آلِ فرعون، وامرأته، وخازنه، وامرأةُ خازنه، وماشطتها. واعلم: أنَّه - تعالى - إنَّما ذكر ذلك تسلية لمحمَّد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -؛ لأنَّه كان يغتمُّ بسبب إعراض القوم عنه، واستمرارهم على الكُفْر، فبيَّن أنَّ له في هذا الباب أسوة بسائر الأنبياء؛ لأنَّ الذي ظهر من موسى كان في الإعجاز في مرأى العين أعظم، ومع ذلك فما آمن منهم إلا ذرية. قوله «عَلى خوفٍ» : حالٌ، أي: آمنوا كائنين على خوف، والضَّمير في «ومَلئِهِم» فيه أوجه: أحدها: أنَّه عائدٌ على الذُّرية، وهذا قولُ أبي الحسن، واختيارُ ابن جرير، أي: خوفٍ من ملأ الذرية، وهم أشراف بني إسرائيل. الثاني: أنه يعودُ على «قَوْمِهِ» بوجهيه، أي: سواءٌ جعلنا الضمير في «قومِهِ» لمُوسى، أو لفرعون، أي: وملأ قوم موسى، أو ملأ قوم فرعون. الثالث: أن يعود على فرعون؛ لأنَّهم إنَّما كانُوا خائفين من فرعون، واعترض على هذا؛ بأنَّهُ كيف يعودُ ضميرُ جمعٍ على مفرد؟ واعتذر أبو البقاء بوجهين: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 390 أحدهما: أنَّ فرعون لمَّا كان عظيماً عندهم، عاد الضَّمير عليه جمعاً، كما يقول العظيم: نحن نأمُرُ، وهذا فيه نظرٌ؛ لأنَّه لو ورد ذلك من كلامهم محْكِيّاً عنهم، لاحتمل ذلك. الثاني: أنَّ فرعون صار اسماً لأتباعه، كما أنَّ ثمود اسمٌ للقبيلة كلها. وقال مكِّي وجهين آخرين قريبين من هذين، ولكنَّهما أخلص منهما، قال: إنَّما جمع الضميرُ في مَلَئهم؛ لأنَّه إخبار عن جبَّار، والجبَّار يخبر عنه بلفظ الجمع، وقيل: لمَّا ذكر فرعونُ، عُلِمَ أنَّ معه غيرهُ، فرجع الضَّميرُ عليه، وعلى من معه. وقد تقدم نحوٌ من هذا عند قوله: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس} [آل عمران: 173] والمراد بالقائل الأول: نعيم بن مسعود؛ لأنَّه لا يخلُو من مساعدٍ لهُ على ذلك القول. الرابع: أنْ يعود على مضافٍ محذوف وهو آل، تقديره: على خوفٍ من آل فرعون، ومَلئِهم، قاله الفرَّاء، كما حذف في قوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] . قال أبو البقاء بعد أن حكى هذا ولم يعزُه لأحدٍ: «وهذا عندنا غلطٌ؛ لأنَّ المحذوف لا يعود إليه ضميرٌ، إذ لو جاز ذلك، لجاز أن يقول:» زَيْدٌ قاموا «وأنت تريد: غلمان زيد قامُوا» . قال شهاب الدِّين: قوله: «لأنَّ المحذوف لا يعودُ إليه ضمير» ممنوعٌ، بل إذا حذف مضافٌ، فللعرب فيه مذهبان: الالتفات إليه، وعدمُه وهو الأكثر، ويدلُّ على ذلك: أنَّه قد جمع بين الأمرين في قوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] أي: أهل قرية، ثم قال: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] وقد حققت ذلك في موضعه المشار إليه، وقوله: «لجازَ زيد قاموا» ليس نظيره، فإنَّ فيه حذفاً من غير دليلٍ، بخلاف الآية. وقال أبو حيان - بعد أن حكى كلام الفرَّاء -: ورُدَّ عليه: بأنَّ الخوف يمكنُ من فرعون، ولا يمكن سؤالُ القرية، فلا يحذفُ إلاَّ ما دلَّ عليه الدَّليلُ، وقد يقال: ويدلُّ على هذا المحذوف جمع الضمير في «ومَلئِهم» . يعني أنَّهم ردُّوا على الفراء، بالفرق بين {واسأل القرية} [يوسف: 82] وبين هذه الآية: بأنَّ سؤال القرية غير ممكنٍ، فاضطررنا إلى تقدير المضاف، بخلاف الآية فإنَّ الخوفَ تمكَّن من فرعون، فلا اضطرار بنا يدُلُّنا على مضاف محذوف. وجواب هذا: أنَّ الحذف قد يكون لدليلٍ عقلي أو لفظي، على أنَّه قيل في {واسأل القرية} [يوسف: 82] إنَّه حقيقةٌ، إذ يمكن النبيُّ أن يسأل القرية؛ فتُجِيبه. الخامس: أنَّ ثمَّ معطوفاً محذوفاً حذف للدَّلالةِ عليه، والدَّليلُ عليه؛ كونُ الملك لا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 391 يكونُ وحده، بل له حاشيةٌ، وعساكرُ، وجندٌ؛ فكان التقدير: على خوفٍ من فرعون، وقومه، وملئِهِم، أي: ملأ فرعون وقومه، وهو منقولٌ عن الفرَّاء أيضاً. قال شهاب الدِّين: حذف المعطوف قليلٌ في كلامهم، ومنه عند بعضهم، قوله - تعالى -: {تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] أي: والبرد؛ وقول الآخر: [الطويل] 2925 - كأنَّ الحصى من خلفها وأمَامِهَا ... إذَا حذفتْهُ رِجْلُها حذفُ أعْسَرَا أي: ويدها. قوله: «أن يفْتنَهُم» أي: يصرفهم عن دينهم، وفيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنَّه في محلِّ جرٍّ على البدل من «فِرْعَون» ، وهو بدلُ اشتمالٍ، تقديره: على خوفٍ من فرعون فتنة، كقولك: «أعْجَبني زيد علمُهُ» . الثاني: أنَّه في موضع نصب على المفعول به بالمصدر، أي: خوف فتنته، وإعمالُ المصدر المنوَّن كثيرٌ؛ كقوله: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيماً} [البلد: 14، 15] ، وقول الآخر: [الطويل] 2926 - فَلوْلاَ رَجَاءُ النَّصْرِ منْكَ ورهْبَةٌ ... عِقابَك قد كانُوا لنا بالمَوارِدِ الثالث: أنَّه منصوبٌ على المفعول من أجله بعد حذف اللام، ويجري فيها الخلافُ المشهورُ. وقرأ الحسن، ونبيح: «يُفْتِنَهم» بضمِّ الياءِ من «أفتن» وقد تقدَّم ذلك [النساء: 101] . قوله: {وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأرض} أي: مُتكبِّر، أو ظالمٌ، أو قاهر، و «فِي الأرض» متعلِّقٌ ب «عَالٍ» ؛ كقوله: [الكامل] 2927 - فاعْمَدْ لِمَا تعلُو فما لك بالَّذي ... لا تَسْتطيعُ مِنَ الأمُورِ يَدَانِ أي: لِمَا تَقْهَر، ويجوز أن يكون «فِي الأرْضِ» متعلِّقاً بمحذوف؛ لكونه صفة ل «عَالٍ» فيكون مرفوع المحلِّ، ويرجح الأول قوله: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض} [القصص: 4] ثم قال: {وَإِنَّهُ لَمِنَ المسرفين} : المجاوزين الحدَّ؛ لأنه كان عبداً، فادَّعى الرُّبُوبيَّة، وقيل: لأنه كان كثير القتل والتعذيب لمنْ يخالفُه، والغرضُ منهُ: بيان السَّبب في كون أولئك المؤمنين خائفين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 392 قوله تعالى: {وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله} الآية. قوله تعالى: «فَعَليْهِ» جوابُ الشرط، والشرط الثاني - وهو «إن كنتم مُسلمينَ» - شرطٌ في الأول، وذلك أنَّ الشَّرطين متى لمْ يترتَّبا في الوجودِ، فالشَّرطُ الثَّاني شرطٌ في الأول، ولذلك يجب تقدُّمُه على الأول، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك [البقرة: 38] . قال الفقهاء: المتأخر يجب أن يكون متقدماً، والمتقدِّم يجب أن يكون متأخراً، مثاله قول الرَّجُلِ لامرأته: إن دخلت الدار، فأنت طالقٌ إن كلمت زيداً، والمشروط متأخِّر عن الشَّرطِ، وذلك يقتضي أن يكون المتأخِّر في اللفظ، متقدماً في المعنى، وأن يكون المتقدم في اللفظ متأخراً في المعنى، فكأنَّه يقول لامرأته: حال ما كلمت زيداً إن دخلت الدَّار، فأنت طالقٌ، فلو حصل هذا التعليقُ، قيل: إن كلَّمَتْ زيداً لمْ يقع الطلاق. قوله: {ن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ} يقتضي أن يكون كونهم مسلمين شرطاً؛ لأن يصيروا مخاطبين بقوله: {إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا} فكأنَّه - تعالى - يقول للمسلم حال إسلامه: إن كنت من المؤمنين بالله فعلى الله توكَّلْ، والأمر كذلك؛ لأنَّ الإسلام عبارة عن الاستسلام، وهو الانقياد لتكاليف الله، وترك التمرد، والإيمان عبارةٌ عن صيرورة القلب، عارفاً بأن واجب الوُجُود لذاته واحدٌ، وأنَّ ما سواه محدث مخلُوق تحت تدبيره، وقهره، وإذا حصلت هاتان الحالتان، فعند ذلك يفوِّض العبدُ جميع أموره إلى الله - تعالى -، ويحصُلُ في القلب نور التَّوكُّل على الله - تعالى -. فصل إنما قال: «فعليه توكَّلُوا» ولم يقل: «توكَّلُوا على اللهِ» ، لأن الأول يفيد الحصر، كأنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أمرهم بالتَّوكُّل عليه، ونهاهُم عن التوكُّلِ على الغير، ثم بيَّن - تعالى - أنَّ موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا أمرهم بذلك قبلوا قوله {فَقَالُواْ على الله تَوَكَّلْنَا} أي: توكُّلُنا عليه واعتمادنا، ولم نلتفت إلى أحد سواه، ثم اشتغلوا بالدعاء، وطلبوا من الله شيئين: أحدهما: أن قالوا: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} . والثاني: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} أما قولهم: {لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} ففيه وجوه: الأول: لا تفتن بنا فرعون وقومه؛ لأنك لو سلطَّتهُم علينا، لوقع في قلوبهم أنَّا لو كنَّا على الحقِّ، لما سلَّطتهُم علينا؛ فيصير ذلك شبهةً قويَّةً في إصرارهم على الكفر؛ فيكون ذلك فتنةً لهم. الثاني: لو سلَّتهُم علينا، لاستوجبُوا العقاب الشَّديد في الآخرة، وذلك يكون فتنة لهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 393 الثالث: أنَّ المراد بالفتنة المفتُون؛ لأنَّ إطلاق لفظ المصدر على المفعول جائز، كالخلق بمعنى المخلوق والتقدير: لا تَجٍْعلْنا مفْتُونين بأنَّ ييقهَرُونا بالظُّلْمِ على أن ننصرف من هذا الدِّين الذي قبلناهُ، ويؤكِّد هذا قوله: {فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} [يونس: 83] وأمَّا المطلوبُ الثاني، فهو قوله: {وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ القوم الكافرين} . وهذا يدلُّ على أنَّ اهتمامهم بأمر دينهم كان فوق اهتمامهم بأمر دنياهم؛ لأنَّا إذا حملنا قولهم: {لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين} [يونس: 85] ، على تسليط الكفَّار عليهم وصيروة ذلك التسليط شبهة للكفار في أنَّ هذا الدِّين باطلٌ، فتضرعوا إلى الله - تعالى - في صون الكُفَّار عن هذه الشُّبهة، وتقديم هذا الدُّعاء على طلب النَّجاة لأنفسهم، وذلك يدل على أن اهتمامهُم بمصالح أديانهم فوق اهتمامهم بمصالح أبدانهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 394 قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إلى موسى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً} الآية. لمَّا شرح خوف المؤمنين من الكُفَّار، وما ظهر منهم من التَّوكُّل على الله، أتبعه بأن أمر موسى، وهارون باتخاذ المساجد، والإقبال على الصَّلوات. قوله {أَن تَبَوَّءَا} يجوز في «أنْ» أن تكون المفسِّرة؛ لأنَّه قد تقدَّمها ما هو بمعن القول وهو الإيحاء، ويجوز أن تكون المصدريَّة، فتكون في موضع نصب ب «أوْحَيْنَا» مفعولاً به، أي: أوحينا إليهما التَّبَوُّء. والجمهور على الهمزة في «تَبَوَّآ» وقرأ حفص «تَبَوَّيَا» بياء خالصة، وهي بدلٌ عن الهمزة، وهو تخفيفٌ غيرُ قياسي، إذ قياسُ تخفيف مثل هذه الهمزة: أن تكون بين الهمزة والألف، وقد أنكر هذه الرِّواية عن حفص جماعةٌ من القُرَّاءِ، وخصَّها بعضهم بحالة الوقف، وهو الذي لم يحكِ أبُو عمرو الدَّاني والشاطبي غيره، وبعضهم يُطلق إبدالها عنه ياء وصلاً ووقفاً، وعلى الجملة فهي قراءةٌ ضعيفةٌ في العربية، وفي الرواية. والتَّبَوُّؤُ: النزولُ والرجوعُ، يقال: تبوَّأ المكان: أي: اتخذه مُبَوَّأ، وقد تقدَّمت هذه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 394 المادة في قوله: {تُبَوِّىءُ المؤمنين} [آل عمران: 121] والمعنى: اجعلا بمصر بيوتاً لقومكما، ومرجعاً ترجعون إليه للعبادة. قوله: «لِقَوْمِكُما» يجوزُ أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول الأول، و «بُيُوتاً» مفعول ثان، بمعنى: بوِّآ قومكما بيوتاً، أي: أنزلوهم، وفعَّلَ وتَفَعَّلَ بمعنًى، مثل «عَلَّقَهَا» و «تعلَّقها» قاله أبو البقاء، وفيه ضعفٌ: من حيث إنَّه زيدت اللامُ، والعاملُ غير فرع، ولم يتقدم المعمُولُ. الثاني: أنَّها غير زائدة، وفيها حينئذٍ وجهان: أحدهما: أنَّها حالٌ من «البُيُوتِ» . والثاني: أنَّها وما بعدها مفعول «تَبَوَّءا» . قوله «بِمِصْرَ» جوَّز فيه أبو البقاء أوْجُهاً: أحدها: أنَّه متعلِّق ب «تَبَوَّءا» ، وهو الظَّاهرُ. الثاني: أنَّه حالٌ من ضمير «تَبَوَّءا» ، واستضعفهُ، ولمْ يُبَيِّنْ وجه ضعفه لوضوحه. الثالث: أنَّها حالٌ من «البُيُوت» . الرابع: أنَّهُ حالٌ من: «لِقَوْمِكُما» ، وقد ثنَّى الضمير في قوله: «تَبَوَّءَا» وجمع في قوله: «واجْعَلُوا» و «أقِيمُوا» وأفرد في قوله: «وبَشِّر» لأن الأول أمرٌ لهما، والثاني لهما ولقومهما، والثالث لمُوسى فقط؛ لأنَّ أخاهُ تبعٌ لهُ، ولمَّا كان فعلُ البشارة شريفاً خصَّ به موسى، لأنَّه هو الأصل، وقيل: وبشِّر المؤمنين يا محمَّد. فصل قال بعضهم: المراد من البُيُوتِ: المساجد؛ لقوله: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ} [النور: 36] وقيل: مطلق البيوت، أمَّا الأوَّلُون ففسَّرُوا القبلة بالجانب، الذي يستقبل في الصلاة، أي: اجعلُوا بيوتكُم مساجداً، تستقبلونها في الصَّلاة. وقال ابن الأنباريِّ: المعنى: اجعلوا بيوتكم قبلاً، أي: مساجد؛ فأطلق لفظ الواحد، والمراد: الجَمْع، ومن قال: المرادُ: مطلق البيوت ففيه وجهان: أحدهما: قال الفراء: أي: اجعلوا بيوتكم إلى القبلة. الثاني: المعنى: اجعلوا بيوتكم متقابلة، والمراد منه: حصول الجمعيَّة، واعتضاد البعض بالبعض. واختلفوا في هذه القبلة أين كانت؟ ظاهر القرآن لا يدلُّ على تعيينها، وروي عن ابن عبَّاس: كانت الكعبةُ قبلةَ مُوسى، وكان الحسن يقول: الكعبة قبلةَ كلِّ الأنبياء، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 395 وإنما وقع العُدُول عنها بأمر الله - تعالى - في أيَّام الرسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بعد الهجرة. وقال آخرون: كانت القبلة: بيت المقدس. فصل ذكر المُفَسِّرُون في كيفية هذه الواقعة وجوهاً: أحدها: أن موسى ومن معه كانوا مأمورين في أول أمرهم، بأن يُصَلُّوا في بيوتهم خُفيةً من الكُفَّار؛ لئلا يظهروا عليهم، فيُؤذُوهُم، ويفتنوهُم عن دينهم، كما كان المؤمنون في أول الإسلام بمكة. قال مجاهد: خاف موسى ومن معه من فرعون أن يصلُّوا في الكنائس الجامعة، فأمروا أن يجعلوا في بيوتهم مساجد جهة الكعبة، يُصَلُّون فيها سرّاً. وثانيها: أنَّه لمَّا أرْسِلَ مُوسى إلى فرعون، أمر فرعون بتخريب مساجد بني إسرائيل، ومنعهم من الصلاة، فأمرهُم الله - تعالى - باتِّخاذِ المساجد في بيوتهم، رواه عكرمة، عن ابن عبَّاس. وهو قول إبراهيم. وثالثها: أنَّه تعالى لمَّا أرسل مُوسى إليهم، وأظهر فرعون لهم العداوة الشديدة، أمر الله - تعالى - موسى، وهارون، وقومهما باتِّخاذِ المساجد على رغم الأعداء، وتكفَّل الله بصونهم عن شرِّ الأعداءِ. قوله تعالى: {وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً} الآية. لمَّا بالغ موسى في إظهار المعجزات، ورأى القوم مُصرِّينَ على الجُحُود والعنادِ؛ دعا عليهم، ومن حقِّ من يدعُو على الغير أن يذكُر سبب جرمه، وجرمهم: كان حُبَّ الدنيا؛ فلأجله تركوا الدِّين؛ فلهذا قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا} والزينة: عبارة عن الصحَّة، والجمال، واللباس، والدوابِّ، وأثاث البيت، والمال ما يزيد على هذه الأشياء من الصَّامت، والنَّاطق، وقرأ الفضل الرَّقاشي «أئنَّكَ آتيْتَ» . قوله: «ليُضِلُّوا» في هذه اللاَّم ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنَّها لامُ العلَّة، والمعنى: أنَّك آتيتهُم ما آتَيْتَهم على سبيل الاستدراج، فكان الإيتاءُ لهذه العلة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 396 والثاني: أنَّها لامُ الصَّيرورةِ والعاقبة؛ كقوله: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] ، وقوله: [الوافر] 2928 - لِدُوا للمَوْتِ وابنُوا لِلْخَرَابِ ..... ... ... ... ... ... ... ... . وقوله: [الطويل] 2929 - ولِلْمَوْتِ تَغْذُو الولِدَاتُ سِخالَهَا ... كمَا لِخرابِ الدُّور تُبْنَى المسَاكِنُ وقوله: [البسيط] 2930 - ولِلْمنَايَا تُرَبِّي كُلُّ مرضِعَةٍ ... ولِلْخَرابِ يُجِدُّ النَّاسُ عُمْرَانَا والثالث: أنَّها للدعاء عليهم بذلك؛ كأنه قال: ليثبتُوا على ما هم عليه من الضلال، وليكونُوا ضُلاَّلاً، وإليه ذهب الحسن البصريُّ، وبدأ به الزمخشريُّ، وقد استُبعدَ هذا التَّأويلُ بقراءة الكوفيين، «لِيُضِلُّوا» بضمِّ الياء، فإنه يبعد أن يدعُو عليهم بأن يُضِلُّوا غيرهم، وقرأ الباقون بفتحها، وقرأ الشعبيُّ بكسرها، فوالى بين ثلاث كسرات إحداها في ياء. وقال الجبائي: إنَّ «لا» مقدرةٌ بين اللاَّم والفعل، تقديره: لئلاَّ يضلُّوا، ورأي البصريين في مثل هذا تقدير: «كرَاهَةَ» ، أي: كراهة أن يضلُّوا. فصل احتج أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنه - تعالى - يضلُّ الناس من وجهين: أحدهما: أن اللام في «لِيضلُّوا» لام التَّعليل. والثاني: قوله: {واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ} فقال - تعالى -: {قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} قال القاضي: لا يجوز أن يكون المرادُ من الآية ما ذكرتُم لوجوه: الأول: لأنَّه - تعالى - منزَّهٌ عن فعل القبائح، وإرادة الكفر قبيحة. وثانيها: أنَّه - تعالى - لو أراد ذلك، لكان الكافرُ مطيعاً لله بكفره؛ لأنَّ الطاعة: هي الإتيان بمراد الأمر، ولو كان كذلك، لما استحقُّوا الدُّعاء عليهم. وثالثها: لو جوَّزْنَا إرادة إضلال العباد، لجوَّزْنَا أن يبعث الأنبياء بالدُّعاء إلى الضَّلالِ، ولجاز أن يقوي الكذَّابين الضَّالين بإظهار المعجزات، وفيه هدم الدِّين. ورابعها: أنَّه لا يجوز أن يقول لموسى وهارون: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 397 يخشى} [طه: 44] ، وأن يقول: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 130] ، ثم إنَّه - تعالى - إراد الضَّلال منهم، وأعطاهم النِّعم لكي يضلُّوا، وهذا كالمناقضة، فلا بُدّ من حَمْلِ أحدهما على الآخر. وخامسها: لا يجوز أن يقال: إن مُوسى دعا ربَّهُ بأن يُطْمِسَ على أموالهم؛ لأجل أن لا يؤمنوا، مع تشدده في إرادة الإيمان. وإذا ثبت هذا؛ وجب تأويلُ هذه الكلمة، وذلك من وجوه: الأول: أنَّ اللاَّم في «لِيُضِلُّوا» : لامُ العاقبة كما تقدَّم، ولما كانت عاقبة قوم فرعون، هو الضَّلال، عبَّر عن هذا المعنى بهذا اللفظ. الثاني: أنَّ التقدير: لئلاَّ يضلوا، كقوله: {يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء: 176] ، فحذف لدلالة المعقُول عليه، كقوله - تعالى -: {بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة} [الأعراف: 172] ، أي: لئلاَّ تقُولُوا. الثالث: أن يكون موسى ذكر ذلك على وجه التَّعجُّبِ المقرُون بالإنكار، أي: إنَّك أتيتهُم بذلك لهذا الغرض فإنَّهُم لا ينفقُون هذه الأموال إلاَّ فيه، كأنَّه قال: أتيتهم زينةً وأموالاً لأجْلِ أن يُضلُّوا عن سبيلك، ثم حذف حرف الاستفهام، كما في قوله: [الكامل] 2931 - كذَبَتْكَ عَيْنُكَ أمْ رأيْتَ بواسِطٍ ... غَلَسَ الظَّلامِ منَ الرَّبَابِ خَيَالاَ والمرادُ: أكذبتك فكذا ههنا. الرابع: أنَّ هذه لام الدُّعاء، وهي لام مكسورة تجزم المستقبل، ويفتتح بها الكلام، فيقال: ليغفرُ الله للمؤمنين، وليُعذِّب الله الكافرين، والمعنى؛ ربنا ابتليهم بالضَّلال عن سبيلك. الخامس: سلَّمنا أنَّها لامُ التَّعليل، لكن بحسب ظاهر الأمر، لا في نفس الحقيقة، والمعنى: أنه - تعالى - لمَّا أعطاهم هذه الأموال، وصارت سبباً لبغيهم وكفرهم، أشبهت حال من أعطى المال لأجل الإضلال، فورد هذا الكلامِ بلفظ التَّعليل لهذا المعنى. السادس: أنَّ الضَّلال قد جاء في القرآن بمعنى: الهلاك، يقال: ضلَّ الماءُ في اللَّبن، أي: هلك، فقوله: «ليضلُّوا عن سبيلك» أي: ليهلكوا ويموتوا، كقوله - تعالى -: {فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا} [التوبة: 55] . قال ابن الخطيب: واعلم: أنَّ الجواب قد تقدَّم مراراً، ونُعيد بعضه، فنقول: الذي يدُلُّ على أنَّ الإضلال من الله - تعالى - وجوه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 398 الأول: أنَّ العبد لا يقصدُ إلا حُصُول الهداية، فلمَّا لمْ تحصُل الهداية بل حصل الضَّلال الذي لا يُريده، علمنا أنَّ حصُوله ليس من العَبْدِ، بل من الله - تعالى -. فإن قالوا: إنَّه ظنَّ هذا الضَّلال هُدًى، فلذلك أوقعه في الوُجُود فنقول: إقدامُه على هذا الجهل، إن كان بجهل سابق، فذلك الجهل السابق يكون حُصُوله لسبق جهل آخر ويلزمُ التسلسل وهو محال؛ فوجب أنَّ هذه الجهالات والضَّلالات لا بُدَّ من انتهائها إلى جهل أوَّلٍ، وضلال أولٍ، وذلك لا يمكن أن يكون بإحداث العبد؛ لأنَّه يكرهُه ويُريد ضدَّهُ؛ فوجب أن يكون من الله - تعالى -. الثاني: أنَّه تعالى لمَّا خلق الخلق يُحِبُّون المال حُبّاً شديداً، بحيث لا يمكنهُم إزالة هذا الحُبِّ عن النَّفْسِ ألبتَّة، وكان حُصُول هذا الحُبِّ يوجب الإعراض عن خدمة الله وطاعته، ويوجب التَّكبُّر عليه، وترك اللُّزُوم؛ فوجب أن يكون فاعل هذا الكفر، هو الذي خلق الإنسان مجبُولاً على حُبِّ هذا المال والجاه. الثالث: أنَّ القُدْرة بالنِّسْبَة إلى الضِّدَّين على السَّويَّة، فلا يترجَّحُ أحدُ الطَّرفين على الآخر إلاَّ بمرجِّح، وذلك المُرجِّحُ ليس من العبد، وإلا لعاد الكلام فيه، فلا بُدَّ وأن يكون من الله - تعالى -، وإذا كان كذلك، كانت الهدايةُ والضلال من الله - تعالى -. وإذا عرفت هذا، فنقول: أما حملهم اللاَّم على لامِ العاقبة فضعيفٌ؛ لأنَّ موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما كان عالماً بالعواقب. فإن قالوا: إنَّ الله تعالى أخبرهُ بذلك. قلنا: فلمَّا أخبر الله عنهم أنَّهُم لا يُؤمِنُون، كان صدور الإيمان منهم مُحَالاً؛ لأنَّ ذلك يستلزمُ انقلاب خبر الله كذباً، وهو محال، والمفضي إلى المُحال محال. وأمّا قولهم: يحمل قوله: «لِيُضِلُّوا» على أنَّ المراد: لئلاَّ يُضِلُّوا، كما ذكره الجبائي، فأقول: إنَّه لمَّا فسَّر قوله - تعالى -: {مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ} [النساء: 79] نقل قراءة «فمنْ نفسِك» على سبيل الاستفهام بمعنى الإنكار، ثم إنَّه استبعد هذه القراءة، وقال: إنَّها تَقْتَضِي تحريف القرآن، وتغييرهُ، وتفتحُ تأويلات الباطنيَّة - والباطنية هم الملاحدة، ويقال لهم: القرامِطَة، والإسماعيلية القائلون: بأنَّ محمَّد بن إسماعيل نَسَخَ شريعة محمَّد بن عبد الله - ويقال لهم أيضاً: الناصرية أتباع محمد بن نصير، وكان من غلاة الروافض القائلين بالألوهية على توهُّم الدرزية أتباع بنشكين الدرزي، كان من موالي الحاكم أرسله إلى وادي تيم الله بن ثعلبة، فدعاهم إلى ألوهية الحاكم ويسمونه بالبازي، والغلام، ويحلفون به، ويقال لهم: الحرمية والمحمرة، وهم الآن يعرفون بالتيامنة لإسكانهم وادي التيم، ويقال لهم: الحرمية والمحمرة، وهم الآن يعرفون بالتيامنة لإسكانهم وادي التيم، ويقال لهم أيضاً: الفداوية والرافضة، وهم يحرفون كلام الله - تعالى - ورسوله عن مواضعه، ومقصودهم إنكار الإيمان وشرائع الإسلام، ويظهرون لهذه الأمور حقائق يعرفونها، فيقولون: إن الصلوات الخمس معرفة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 399 أسرارهم، والصيام المفروض من كتمان أسرارهم، وحج البيت زيارة شيوخهم، ويدا أبي لهب أبو بكر وعمر، والبناء العظيم والإمام المبين علي بن أبي طالب، فهم لا تحل ذبائحهم لا يناكحونا، وتجب مجاهدتهم؛ لأنهم مرتدون، قاله ابن تيمية، وبالغ في إنكار تلك القراءة. وهذا الوجه الذي ذكرهُ هنا شرٌّ من ذلك؛ لأنَّه قلب النَّفي إثباتاً، والإثبات نفياً، وتجويزه بفتح باب ألاَّ يعتمد على القرآن لا في نفيه، ولا في إثباته، وحينئذٍ يبطل القرآن بالكُلِّيَّة، وهذا بعينه هو الجواب عن قوله المراد فيه الاستفهام، بمعنى: الإنكار، فإنَّ تجويزهُ يوجبُ تجويز مثله في سائر المواضع، فلعله - تعالى - إنما قال: {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة} [البقرة: 43] على سبيل الإنكار والتعجُّب، ثم قال: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ} . قال مجاهد: أهلكها، والطَّمسُ: المَسْخُ. وقال أكثر المفسرين: مسخها الله وغيَّرها عن هيئتها. قال ابن عبَّاس: بلغنا أنَّ الدَّراهم والدَّنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها، صحاحاً وأنصافاً، وأثلاثاً، وجعل سكنهم حجارة. قال محمد بن كعب: «كان الرجل مع أهله في فراشه، فصارا حجرين، والمرأة قائمة تخبز فصارت حجراً» ودعا عمر بن عبد العزيز بخريطة فيها أشياء من بقايا أهل فرعون، فأخرج منها البيضة منقوشة، والجوزة مشقوقة وهي حجارة. {واشدد على قُلُوبِهِمْ} أي: أقسها واطبع عليها حتى لا تلين ولا تنشرح للإيمان. قال الواحدي: «وهذا دليلٌ على أنَّ الله يفعل ذلك بمن يشاء، ولولا ذلك لما حسن من موسى هذا السُّؤال» . قوله: «فَلاَ يُؤْمِنُواْ» يحتمل النَّصْبَ والجزمَ، فالنَّصْب من وجهين: أحدهما: عطفهُ على «لِيُضِلُّوا» . والثاني: نصبه على جواب الدُّعاءِ في قوله: «اطْمِسْ» ، والجزم على أنَّ «لا» للدُّعاءِ، كقولك: لا تُعذِّبْنِي يا ربِّ، وهو قريبٌ من معنى: «لِيُضلُّوا» في كونه دعاءً، هذا في جانب شبه النَّهي، وذلك في جانب شبه الأمر، و «حتَّى يروا» : غايةٌ لنفي إيمانهم، والأولُ قول الأخفش، والثاني بدأ به الزمخشري، والثالث: قول الكسائي، والفرَّاء؛ وأنشد قول الشاعر: [الطويل] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 400 2932 - فلا يَنْبَسِطْ منْ بَيْنِ عَيْنَيْكَ ... ولا تَلْقَنِي إلاَّ وأنفُكَ راغمُ وعلى القول بأنه معطوفٌ على «ليُضِلُّوا» يكون ما بينهما اعتراضاً. قوله: {قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا} : الضمير لمُوسى وهارُون. قيل: كان موسى يدعو وهارون يُؤمِّن، فنسب الدعاء إليهما؛ لأنَّ المؤمن أيضاً داعٍ؛ لأنَّ قوله: «آمين» أي: استجب. وقيل: المراد موسى وحده، ولكن كنًى عن الواحد بضمير الاثنين. وقيل: لا يبعُد أن يكون كلُّ واحدٍ منهما ذكر هذا الدُّعاء؛ غاية ما في الباب أن يقال: إنَّما حَكَى هذا الدعاء عن موسى، بقوله: {وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً} إلاَّ أنَّ هذا لا ينافي أن يكون هارون ذكر ذلك الدعاء أيضاً. وقرأ السلمي، والضحاك: «دَعواتُكُما» على الجمع. وقرأ ابن السَّميفع: «قَدْ أجبتُ دعوتكما» بتاء المتكلم، وهو الباري - تعالى -، «دَعوتَكُمَا» نصب على المفعول به. وقرأ الرِّبيع: «أجَبْتُ دعوتيكُما» بتاء المتكلم أيضاً، ودعوتيكما تثنيةٌ، وهي تدلُّ لمن قال: إنَّ هارون شارك موسى في الدُّعاء. قوله: «فاسْتَقِيمَا» أي: على الدَّعوة والرِّسالة، وامضيا لأمري إلى أن يأتيهم العذابُ، قال ابن جريج: لبث فرعون بعد هذا الدُّعاء أربعين سنة. «وَلاَ تَتَّبِعَانِّ» : قرأ العامَّةُ بتشديد التاء والنون، وقرأ حفص بتخفيف النُّون مكسورة، مع تشديد التَّاء وتخفيفها، وللقُرَّاء في ذلك كلامٌ مضطربٌ بالنِّسبة للنَّقْلِ عنهُ. فأمَّا قراءةُ العامَّة، ف «لا» فيها للنَّهي، ولذلك أكَّد الفعل بعدها، ويضعفُ أن تكون نافية؛ لأنَّ تأكيد المنفيِّ ضعيفٌ، ولا ضرورة بنا إلى ادِّعائه، وإن كان بعضهم قد ادَّعى ذلك في قوله: {لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ} [الأنفال: 25] لضرورةٍ دعتْ إلى ذلك هناك، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 401 وقد تقدَّم تحريره في موضعه، وعلى الصحيح تكون هذه جملة نهيٍ معطوفة على جملة أمرٍ. قال الزجاج: «ولا تتَّبعانِّ» : موضعه جزم، تقديره: ولاتتَّبِعَا، إلاَّ أنَّ النُّون الشديدة، دخلت على النهي مؤكدة وكسرت لسكونها، وسكون النون التي قبلها، فاختير لها الكسرة، لأنها بعد الألف تشبه نون التثنية. وأمَّا قراءة حفص، ف «لاَ» : تحتمل أن تكون للنَّفي، وأن تكون للنَّهْي. فإن كانت للنفي، كانت النون نون رفعٍ، والجملة حينئذٍ فيها أوجه: أحدها: أنَّها في موضع الحال، أي: فاسْتقيمَا غيرَ مُتَّبِعيْنِ، إلاَّ أنَّ هذا مُعترض بما قدَّمْتُه من أنَّ المضارعَ المفيَّ ب «لا» كالمثبت في كونه لا تباشره واو الحال، إلاَّ أن يقدَّر قبلهُ مبتدأ، فتكون الجملة اسميَّة أي: وأنتما لا تتَّبعَان. والثاني: أنَّهُ نفيٌ في معنى النَّهي؛ كقوله - تعالى -: {لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} [البقرة: 83] . الثالث: أنَّها خبرٌ محضٌ مستأنف، لا تعلُّق له بما قبله، والمعنى: أنَّهُمَا أخبرا بأنَّهما لا يتَّبعانِ سبيل الذين لا يعلمون. وإن كانت للنَّهي، كانت النون للتوكيد، وهي الخفيفة، وهذا لا يراه سيبويه، والكسائي، أعني: وقوع النون الخفيفة بعد الألف، سواء كانت الألف ألف تثنية، أو ألف فصلٍ بين نُون الإناث، ونون التوكيد، نحو «هل تضربنانِ يا نسوة» وقد أجاز يونس، والفرَّاء: وقوع الخفيفة بعد الألف وعلى قولهما تتخرَّج القراءةُ، وقيل: أصلها التشديد، وإنَّما خففت للثقل فيها؛ كقولهم: «رُبَ» في «رُبَّ» . وأمَّا تشديدُ التاء وتخفيفها، فلغتان، من اتَّبَع يتَّبع، وتَبع يتْبَع، وقد تقدَّم [الأعراف: 175] هل هما بمعنى واحد، أو مختلفان في المعنى؟ وملخصه: أنَّ تتبعه بشيءٍ: خلفه، واتَّبعه كذلك، إلاَّ أنه حاذاهُ في المشي واقتدى بِهِ، وأتبعه: لحقهُ. فصل المعنى: لا تسلك طريق الجاهلين الذين يظنُّون أنه: متى كان الدعاء مُجاباً، كان المقصُود حاصلاً في الحال، فربما أجاب الله تعالى الإنسان في مطلوبه، إلاَّ أنَّه يوصله إليه في وقته المقدَّر؛ فإنَّ وعد الله لا خلف له، والاستعجال لا يصدر إلا من الجُهَّال؛ كما قال لنُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - {إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} [هود: 46] ، وهذا النَّهي لا يدلُّ على صدور ذلك من موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كما أن قوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] لا يدل على صدور الشرك منه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 402 قوله تعالى: {وَجَاوَزْنَا ببني إِسْرَائِيلَ البحر} الآية. قد تقدَّم الكلام في نظير الآية [الأعراف: 138] ، وقرأ الحسن، «وجوَّزْنَا: بتشديد الواو. قال الزمخشري: وجوَّزْنَا: من أجَازَ المكان، وجَاوَزهُ، وجوَّزَهُ، وليس من» جَوَّز «الذي في بيت الأعشى: [الكامل] 2933 - وإذَا تُجَوِّزُها حِبَالُ قَبيلَةٍ ... أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا لأنَّه لو كان منه لكان حقَّهُ أن يقال: وجَوَّزْنَا بني إسرائيل في البحر؛ كما قال: [الطويل] 2934 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... كمَا جَوَّزَ السَّكِّيَّ في البَابِ فَيْتَقُ يعني أنَّ فعَّل بمعنى فاعل وأفْعَل، وليس التضعيفُ للتَّعدية، إذ لو كان كذلك لتعدَّى بنفسه كما في البيت المشار إليه دون الباء. وقرأ الحسن:» فاتَّبَعَهُمْ «بالتَّشديد، وقد تقدَّم الفرقُ. قال القرطبيُّ: يقالُ: تَبعَ، وأتْبع بمعنى واحد إذا لحقهُ، واتَّبَع - بالتَّشديد - إذا صار خلفهُ، وقال الأصمعيُّ: يقال: أتبعه - بقطع الألف - إذا لحقه، وأدْرَكَهُ، واتَّبَعَه بوصل الألفِ - إذا اتَّبَع أثره وأدركهُ، أو لم يدركهُ، وكذلك قال أبُو زيدٍ، وقرأ قتادة:» فأتبعهم «بوصل الألف وقيل: اتبعهُ - بوصل الألف في الأمْرِ - اقتدى به، وأتبعه بقطع خيراً وشرّاً. هذا قولُ أبي عمرو. وقيل: بمعنى واحدٍ. قوله:» بَغْياً وَعَدْواً «يجُوزُ أن يكونا مفعولين من أجلهما أي: لأجل البغيْ والعَدْوِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 403 وشروط النَّصب متوفرةٌ، ويجُوزُ أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي: باغين متعدِّين. وقرأ الحسنُ» وُعدواً «بضمِّ العين، والدَّالِ المشدَّدةِ، وقد تقدَّم ذلك في سُورة الأنعام [الأنعام: 108] ، وقوله:» حتى إِذَآ «: غاية لاتباعه. قوله:» آمَنتُ أَنَّهُ «قرأ الأخوان بكسر» إنَّ «وفيها أوجه: أحدها: أنَّها استئنافُ إخبار؛ فلذلك كسرت لوقوعها ابتداء كلامٍ. والثاني: أنَّه على إضمار القول أي: فقال إنَّهُن ويكون هذا القول مفسراً لقوله:» آمنتُ «. والثالث: أن تكون هذه الجملة بدلاً من قوله:» آمنتُ «، وإبدالُ الجملة الاسميَّة من الفعليَّة جائزٌ، لأنَّها في معناها، وحينئذٍ تكون مكسورة؛ لأنَّها محكيَّة ب» قَالَ «هذا الظاهرُ. والرابع: أنَّ» آمنتُ «ضُمِّنَ معنى القول؛ لأنَّه قولٌ. وقال الزمخشريُّ:» كرَّر المخذولُ المعنى الواحد ثلاث مرَّاتٍ في ثلاثِ عباراتٍ حِرْصاً على القبول «. يعني أنه قال:» آمنتُ «فهذه مرَّة، وقال: {أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ} فهذه مرة ثانية. وقال: {وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} فهذه ثالثةٌ، والمعنى واحد. وهذا جنوحٌ منه إلى الاستئناف في» إنَّه «. وقرأ الباقون بفتحها وفيها أوجه: أحدها: أنَّها في محلِّ نصب على المفعول به أي: آمنتُ توحيد الله؛ لأنَّه بمعنى صدَّقْتُ. الثاني: أنَّها في موضع نصب بعد إسقاط الجارِّ أي: لأنَّه. الثالث: أنَّها في محلِّ جرٍّ بذلك الجارِّ وقد تقدَّم ما فيه من الخلاف [يونس: 2] . فصل لمَّا أجاب الله دعاءهما، أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر، وكان فرعونُ غافلاً عن ذلك؛ فلمَّا سمع بخروجهم «أتْبَعَهُمْ» أي: لحقهُم، «بَغْياً وعَدْواً» أي: ظلماً واعتداءً. وقيل: بَغْياً في القولِ، وعدواً في الفعل، وكان البَحْرُ قد انفلق لموسى وقومه فدخلوا، وخرجوا، وأبقى الله تعالى ذلك الطريق يبساً، ليطمع فرعون، وجنودهُ في العُبُور، فلمَّا دخل مع جمعه، ودخل آخرهم، وهمَّ أوَّلهم بالخروج، انطبق عليهم البحرُ فلمَّا «أدْرَكَهُ الغرقُ» أي: غمره الماء، وقرب هلاكه «قال آمَنْتُ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 404 فإن قيل: إنَّ الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفَّظ بهذا اللفظ، فكيف حكى الله عنه أنَّهُ ذكر ذلك؟ . فالجوابُ من وجهين: الأول: أنَّ الكلام الحقيقيَّ هو كلام النَّفْسِ لا كلام اللسان، فذكر هذا الكلام بالنفس. الثاني: أن يكون المرادُ بالغرق مقدماته. فإن قيل: إنَّه آمن ثلاث مرات على ما تقدم عن الزمخشري، فما السَّببُ في عدم القبولِ؟ فالجواب: من وجوهٍ: أحدها: أنَّهُ إنَّمَا آمن عند نزول العذاب، والإيمان في هذا الوقت غير مقبول، قال تعالى: {فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر: 85] . الثاني: إنَّما ذكر هذه الكلمة ليتوسَّل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة، ولم يكن مقصودهُ بالكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى، فلم يَكُنْ مُخْلِصاً. وثالثها: أنَّ ذلك الإقرار كان تقليداً، فإنهُ قال: {لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ} فكأنه اعترف بأنَّه لا يعرفُ الله، وإنَّما سمع من بني إسرائيل أنَّ للعالم إلهاً، فهو أقَرّ بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يُقرُّونَ بوجوده، وهذا محضُ التَّقليدِ، وفرعون قيل إنَّهُ كان من الدَّهرية المنكرين لوجود الصَّانع، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا يزولُ إلاَّ بالحُجَّةِ القطعيَّة، لا بالتَّقليد المحضِ. ورابعها: أنَّ بعض بني إسرائيل لمَّا جاوزوا البحر عبدُوا العجل، فلما قال فرعون: {آمَنتُ أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ} انصرف ذلك إلى العجلِ الذي آمنوا بعبادته، فكانت هذه الكلمةُ في حقه سبباً لزيادة كُفْره. وخامسها: أنَّ أكثر اليهُودِ يقولون بالتَّشبيه والتَّجْسِيم، ولهذا اشتغلوا بعبادة العجل لظنِّهم أنَّهُ تعالى في جسد ذلك العجل، فلمَّا قال فرعونُ: {آمَنتُ أَنَّهُ لاا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ} فكأنَّهُ آمن بالله الموصوف بالجسميَّة، والحلول والنُّزول، ومن اعتقد ذلك؛ فهو كافرٌ، فلذلك ما صحَّ إيمانُهُ. وسادسها: أنَّ الإيمان إنَّما يتمُّ بالإقرارِ بوحدانية الله، والإقرار بنُبُوَّةِ موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فلمَّا أقرَّ فرعونُ بالوحدانية، ولمْ يقر بنبوَّةِ موسى لم يصحَّ إيمانه؛ كما لو قال الكافر ألف مرة: أشهد أن لا إله إلاَّ الله لم يصح إيمانه حتى يقول معه: وأشهدُ أنَّ محمداً رسول الله، فكذا ههنا. وسابعها: روى الزمخشري أنَّ جبريل - عليه السلام - أتى فرعون مُستفتياً: ما قولُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 405 الأمير في عبدٍ نشأ من مالِ مولاهُ ونعمته، فكفر بنعمته وجحد حقَّه، وادَّعَى السِّيادة دونهُ؟ فكتب فرعون يقولك أبو البعاس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيده، الكافر بنعمته أن يغرق في البحر، ثمَّ إنَّ فرعون لما غرق؛ رفع جبريل عليه السلام فتياه إليه. قوله: «الآن» منصوبٌ بمحذوفٍ أي: آمَنْتَ الآن، أو اتُؤمن الآن. وقوله: «وقَدْ عَصَيْتَ» جملةٌ حالية، تقدَّم نظيرها. واختلفوا في قائل هذا الكلام، فقيل: هو جبريلُ، وإنَّما قال: {وَكُنتَ مِنَ المفسدين} في مقابلة قوله {وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} . وقيل: القائلُ هو الله تعالى؛ لأنَّه قال بعدهُ: {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} إلى أن قال: {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} ، وهذا ليس إلاَّ كلام الله تعالى. فإن قيل: ظاهرُ اللفظ يدلُّ على أنَّه إنَّما لم تقبل التوبة للمعصية المتقدمة، والفساد السَّابق، وهذا التعليلُ لا يمنعُ من قبول التوبةِ. فالجوابُ من وجهين: الأول: أنَّ قبول التَّوبةِ غير واجب عقلاً، ويدُلُّ عليه هذه الآيةُ. الثاني: أنَّ التعليل ما وقع لمجرَّد المعصية السَّابقة، بل بتلك مع كونه من المفسدين. فصل روي أن جبريل - عليه السلام - أخذ يملأ فمه بالطِّين لئلاَّ يتوب غضباً عليه والأقربُ أنَّ هذا لا يصحُّ؛ لأنَّه في تلك الحالِ إمَّا أن يقال التكليف كان ثابتاً، أو ما كان ثابتاً، فإن كان ثابتاً لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة، بل يجبُ عليه أن يعينه على التوبةِ، وعلى كُلِّ الطَّاعات، لقوله تعالى: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} [المائدة: 2] وأيضاً، فلو منعه بما ذكر لكانت التَّوبة ممكنةً؛ لأنَّ الأخرس قد يتوبُ بأن يندمَ بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح، فلا يبقى لما فعله جبريل فائدة، وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر، والرِّضا بالكفر كفر وأيضاً كيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} [طه: 44] ثُمَّ يأمُرُ جبريل أن يمنعهُ من الإيمان. فإن قيل: إنَّ جبريل إنَّما فعل ذلك من قبل نفسه لا بأمر الله، فهذا يبطله قول جبريل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] وقوله تعالى في صفة الملائكة: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] . وإن قيل إنَّ التكليف كان زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت، فلا يبقى للفعل المنسوب لجبريل فائدة أصلاً. قوله: {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} في «بِبدنِكَ» وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 406 أحدهما: أنَّها باء المصاحبةِ بمعنى مصاحباً لبدنك، وهي الدَّرْع، فيكونُ «بِبدنِكَ» في موضع الحالِ. قال المفسِّرُون: لمْ يُصدِّقُوا بغرقه، وكانت لهُ دِرْعٌ تعرفُ فألقي بنجوة من الأرض، وعليه درعهُ ليعرفوهُن والعربُ تطلقُ البدنَ على الدِّرع، قال عمرو بن معد يكرب: [الوافر] 2935 - أعَاذِل شِكَّتِي بَدِنِي وسَيْفِي ... وكُلُّ مُقلَّصٍ سَلِسِ القِيَادِ وقال آخرُ: [الوافر] 2936 - تَرَى الأبْدانَ فِيهَا مثسْبَغَاتٍ ... عَلى الأبْطَالِ واليَلَبَ الحَصِينَا أراد بالأبدان: الدُّرُوع، واليَلَبُ: الدروع اليمانية كانت تتخذ من الجلود يُخْرَزُ بعضها إلى بعض، وهو اسم جنس، الواحد: يَلَبَةٌ. وقيل: بِبدنِكَ أيك عُرْيَان لا شيء عليه، وقيل: بَدَناً بلا رُوحٍ. والثاني: أن تكون سببيَّة على سبيل المجاز؛ لأنَّ بدنهُ سببٌ في تنجيته، وذلك على قراءةِ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع «بِندَائِكَ» من النِّداءِ، وهو الدُّعاء: أي: بما نادى به في قومه من كفرانه في قوله: {ونادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} [الزخرف: 51] {فَحَشَرَ فنادى فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 23، 24] {يا أيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} [القصص: 38] . وقرأ يعقوب «نُنْجِيكَ» مخففاً من أنجاه. وقرأ أبو حنيفة: «بأبْدانِكَ» جمعاً: إمَّا على إرادةِ الأدْرَاع، لأنَّهُ كان يلبسُ كثيراً منها خوفاً على نفسه، أو جعل كُلَّ جُزءٍ من بدنه بدناً كقوله: «شَابَتْ مَفارِقُهُ» ؛ قال: [الكامل] 2937 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... شَابَ المَفارِقُ واكتَسَيْْنَ قتيرَا وقرأ ابن مسعود، وابن السميفع، ويزيد البربري ننحيك بالحاء المهملة من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 407 التَّنْحِيةِ أي: نُلْقيكَ فيما يلي البحر، قال المفسرون: رماه إلى ساحل البحرِ كالثَّور. وهل تُنَجِّيك من النجاة بمعنى نُبْعِدك عمَّا وقع فيه قومُكَ من قَعْرِ البحر، وهو تهكُّم بهم، أو مِنْ ألقاه على نجوة أي: رَبْوة مرتفعة، أو من النَّجاة، وهو التَّرْكُ أو من النَّجاءِ، وهو العلامة، وكلُّ هذه معانٍ لائقة بالقصَّة، والظَّاهرُ أنَّ قولهُ: {فاليوم نُنَجِّيكَ} خبرٌ محض. وزعمَ بعضُهُم أنَّه على نيَّة همزةِ الاستفهامِ، وفيه بعدٌ لحذفها من غير دليلٍ، ولأنَّ التلعليل بقوله «لِتكُون» لا يُناسِبُ الاستفهام. و «لِتَكُونَ» متعلقٌ ب «نُنَجِّيكَ» و «آيَةً» أي: علامة وقيل: عِبْرةً وعِظَةً، و «لِمَنْ خَلْفكَ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «آيَةً» لأنَّه في الأصل صفةٌ لها. وقرأ بعضهم «لِمَنْ خلقك» آية كسائر الآيات. وقرئ «لِمَن خلَفكَ» بفتح اللاَّم جعله فعلاً ماضياً، أي: لِمَنْ خلفكَ من الجبابرة ليتَّعظُوا بذلك. وقرىء «لِمَنْ خلقَكْ» بالقاف فعْلاً ماضياً، وهو الله تعالى أي: ليجعلك الله آية له في عباده. فصل في كونه «لِمَنْ خلفه آيةً» وجوه: أحدها: أنَّ الذين اعتقدُوا إلاهيته لمَّا لم يُشَاهدُوا غرقه كذَّبُوا بذلك، وزعموا أنَّ مثله لا يموت، فأخرجه الله تعالى بصورته حتى أبصروه وزالت الشُّبْهةُ عن قلوبهم. الثاني: أنَّه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله: {أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى} [النازعات: 24] ليكون ذلك زَجْراً للخَلْقِ عن مثل طريقته. الثالث: أنه تعالى لمَّا أغرقه مع جميع قومه، ثُمَّ إنَّه تعالى ما أخرج أحداً منهم من قَعْر البَحْرِ، بل خصَّهُ بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة عجيبة دالة على قدرة الله تعالى، وعلى صدق موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - في دعوة النبوَّةِ. الرابع: تقدم في قراءة من قرأ لمن خالقك بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته. ثم قال تعالى {وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ} والظَّاهرُ أنَّ هذا الخطاب لأمة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - زجراً لهم عن الإعراض عن الدَّلائل، وباعثاً لهم على التأمُّلِ فيها والاعتبار بها، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} [يوسف: 111] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 408 قال تعالى: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بني إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ} الآية. لمَّا ذكر خاتمة فرعون ذكر خاتمة بني إسرائيل، فقال: «ولقدْ بوَّأنا» أي: أسكنا بني إسرائيل «مُبَوَّأ صِدْقٍ» أي: مكاناً محموداً. ويجُوزُ أن يكون «مُبَوَّأ صِدْقٍ» منصوباً على المصدر، أي: بَوَّأناهم مُبَوَّأ صدقٍ، وأن يكون مكاناً أي: مكان تبوُّء صدقٍ. ويجوز أن ينتصب «مُبَوَّأ» على أنَّه مفعولٌ ثانٍ كقوله تعالى: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً} [العنكبوت: 58] أي: لنُنْزلنَّهُمْ. ووصف المُبَوَّأ بكون صدقاً؛ لأنَّ عادة العربِ أنها إذا مدحتْ شيئاً أضافته إلى الصِّدْقِ، تقولُ: رَجُلٌ صدقٌ، وقدم صدقٍ، قال تعالى: {رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] . والمراد بالمبوَّأ الصدق: قيل: «مصر» ، وقيل: الأردن وفلسطين وهي الأرض المقدسة {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} الحلال «فَمَا اخْتَلَفُوا» يعنى اليهود الذين كانُوا في عَهْدِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في تصديقه وأنه نبيٌّ حقٌّ «حتَّى جاءَهمُ العِلْمُ» يعنى القرآن، والبيان بأنه رسول الله صدق ودينه حق، وسمى القرآن علماً؛ لأنه سببُ العِلْمِ، وتسمية المُسَبَّبِ باسم السبب مجاز مشهور. قال ابنُ عباس: هم قريظة والنَّضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق: ما بين المدينة، والشام ورزقناهم من الطيبات، وهو ما في تلك البلادِ من الرطب، والتمر الذي لا يوجد مثله في البلاد وقيل: المراد بني إسرائيل الذين نجوا من فرعون أورثهم الله جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق، والصامت، والحرث، والنسل، كما قال: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 409 فصل في كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان: الأول: أنَّ اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ويفتخرون به على سائر النَّاس، فلمَّا بعثه الله تعالى كذَّبوهُ حسداً، وبغياً وإيثارااً لبقاء الرِّياسة، وآمن به طائفةٌ منهم، فبهذا الطريق كان سبباً لحدوث الاختلاف فيهم. الثاني: أنَّ هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفاراً محضاً بالكلِّيَّة، وبقوا على هذه الحالة حتَّى جاءهم القرآنُ، فعند ذلك اختلفوا فآمن قومٌ وبقي قومٌ كفاراً. ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي: أنَّ هذا الاختلاف لا يمكن إزالته في دار الدنيا، وإنَّما يقضى بينهم في الآخرة، فيتميز المحق من المبطل. قوله: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ} الآية. قال الواحديُّ «الشَّك في اللغةِ، ضمَّ بعض الشَّيءِ إلى بعضٍ، يقال: شَكَكْتُ الصَّيْدَ إذا رميْتَه فنظمْتَ يدهُ إلى أو رجلهُ إلى رجله، والشِّكائِكُ من الهوادج ما شُكَّ بعضها ببعضٍ والشِّكاكُ: البُيوتُ المُصطفَّة، والشَّكائِكُ: الأدْعياءُ؛ لأنَّهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم، أي: يضُمُّون، وشكَّ الرَّجُلُ في السِّلاحِ، إذا دخل فيه وضمَّهُ إلى نفسه. فإذا قالوا: شكَّ فلانٌ في الأمور أرادوا أنَّه وقف نفسه بين شيئين، فيجوزُ هذا ويجوزُ هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه «. ولمَّا ذكر اختلافهم عندما جاءهم العلم ذكر في هذه الآية ما يُقَوِّي قلبه في صحَّة القرآن والنبوة. وفي» إن «هذه وجهان: أظهرهما: أنَّها شرطيةٌ، واستشكلوا على ذلك أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لم يكُن في شكٍّ قط قال الزمخشريُّ:» فإن قلت: كيف قال لرسوله: «فإن كُنت في شكٍّ» مع قوله للكفرة: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} [هود: 110] ؟ قلت: فرقٌ عظيم بين إثباته والتَّمثيل «. وقال أبو حيان: فإذا كانت شرطية فقالوا: إنَّها تدخلُ على الممكن وجوده أو المحقَّقِ وجوده، المبهم زمن وقوعه، كقوله تعالى: {أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ الخالدون} [الأنبياء: 34] قال:» والذي أقوله إنَّ «إن» الشرطية تقتضي تعليق شيءٍ على شيءٍ، ولا تستلزمُ تحقُّقَ وقوعه ولا إمكانه، بل قد يكونُ ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى {إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين} [الزخرف: 81] ، ومستحيلٌ أن يكون له ولدٌ فكذلك مستحيلٌ أن يكون في شك، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى: {فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض} [الأنعام: 35] لكنَّ وقوعها في تعليق المستحيل قليلٌ «. ثم قال:» ولمَّا خفي هذا الوجه على أكثر النَّاس؛ اختلفوا في تخريج هذه الآية فقال ابن عطيَّة: الصَّواب أنَّها مخاطبةٌ له، والمرادُ من سواه من أمته ممن يمكنُ أن يشُكَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 410 أو يعارض؛ كقوله: {ياا أَيُّهَا النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] وقوله: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] ويدلُّ على ذلك قوله في آخر السورة: {يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي} [يونس: 104] وأيضاً لو كان شاكّاً في نبوة نفسه؛ لكان شك غيره في نبوته أولى، وهذا يوجب سقوطُ الشريعة بالكلية، وأيضاً فبتقدير أن يكون شاكّاً في نبوَّةِ نفسه، فكيف يزول هذا الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم كفار، وإن كان قَدْ حصل فيهم مؤمن إلاَّ أن قوله ليس بحجة، لا سيَّما وقد تقرَّر أنهم حرَّفُوا التوراة، والإنجيل؛ فثبت أنَّ هذا الخطابَ وإن كان في الظَّاهر مع الرسول إلاَّ أنَّ المراد هو الأمة، وعلى هذا فإنَّ الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة: المصدقون، والمكذبون، والمتوقفون في أمره الشَّاكون فيه، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: أيُّها الإنسان: {فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ} من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحَّة نُبوَّته «. ولمَّا ذكر الله تعالى لهم ما يزيل الشَّك عنهم، حذَّرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني، وهم المكذِّبون، فقال: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} [يونس: 95] الآية. وقيل: كنى بالشَّك عن الضِّيق. وقيل: كنى به عن العجب، وجه المجازِ فيه أنَّ كُلاًّ منهما فيه تردُّد، وقال الكسائيُّ: إن كنت في شكٍّ أنَّ هذه عادتُهُم مع الأنبياء؛ فسلهم كيف صبر موسى - عليه السلام -؟ . وقيل: إنه تعالى علم أنَّ الرسول لم يشك في ذلك، إلاَّ أنَّ المقصود منه أنَّهُ متى سمع هذا الكلام فإنَّهُ يصرخ ويقول «يا ربّ لا أشك، ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب، بل يكفيني ما أنزلته عليَّ من الدلائل الظاهرة» ونظيره قوله تعالى للملائكة: {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] والمقصودُ أن يُصرِّحُوا بالجواب الحق ويقولوا: {سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن} [سبأ: 41] . وكقوله لعيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله} [المائدة: 116] والمقصود منه أن يصرح عيسى بالبراءة عن ذلك. وقيل: التقدير إنَّك لسيت بشاك البتة. ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة الشَّك كقوله تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] أي: أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً؛ لزم فيه المحال الفلاني، فكذا ههنا، ولو فرضنا وقوع الشَّك فارجع إلى التَّوراةِ، والإنجيل لتعرف بهما أنَّ هذا الشك زائل. والوجه الثاني من وجهي إنْ أنَّها نافيةٌ. قال الزمخشري: «أي: فما كنتَ في شكٍّ فاسأل، يعنى لا نأمرك بالسُّؤال لكونكَ شاكاً، ولكن لتزداد يَقِيناً كما ازداد إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بمعاينة إحياء الموتى» وهذا القول سبقه إليه الحسنُ البصريُّ والحسينُ بنُ الفضل، وكأنَّهُ فرارٌ من الإشكال المتقدِّم في جعلها شرطية، وقد تقدَّم جوابه من وجوهٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 411 قال القرطبي: قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزَّاهد: سمعت الإمامين: ثَعْلباً والمبرد يقولان: معنى: «فإن كُنتَ في شكٍّ» أي: قُلْ يا محمَّدُ للكافر: فإن كُنتَ في شكٍّ {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ} . وقال الفراء: أعْلمَ اللهُ أنَّ رسولهُ غير شاكٍّ، لكنَّه ذكره على عادة العرب، يقول الواحدُ لعبده: إن كنت عبدي فأطِعْني، ويقول لولده افعل كذا إن كنت ولدي، ولا يكونُ ذلك شكّاً. وقال الفقيه: وقال بعضهم: هذا الخطاب لمنْ كان لا يقطعُ بتكذيب محمدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ولا بتصديقه بل كان في شكٍّ. وقيل: المراد بالخطاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى: لو كنت ممَّن يلحقك شكٌّ فيما أخبرناك به، فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشَّكَّ. والمراد بالشَّك هنا: ضيق الصدر، أي: إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل الذين يقرَؤونَ الكتابَ من قَبْلكَ، يُخْبِرُوكَ صَبْرَ الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف كان عاقبة أمرهم. والشَّكُّ في اللغةِ: أصله الضِّيق، يقال: شكَّ الثَّوب، أي: ضمَّهُ بخلال حتى يصير كالوعاء، فالشكُّ يقبض الصدر، ويضمه حتَّى يضيق. فصل قال المُحَقِّقُون: المراد بالذين يقرءون الكتاب: المؤمنون من أهْلِ الكتابِ، كعبد الله بن سلام، وعبد الله بن صوريا، وتميم الدارين وكعب الأحبار، لأنَّهُم هم الذين يوثق بأخبارهم. وقال بعضهم: المراد الكل سواء كانوا من المسلمين أم من الكُفَّار؛ لأنَّهم إذا بلغُوا عدد التواتر، وقرؤوا آية من التَّوراة، والإنجيل، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدمِ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد حصل الغرضُ. وقرا يحيى، وإبراهيم: الكتب بالجمع، وهي مبنيةٌ أنَّ المراد بالكتاب الجنسٌ لا كتابٌ واحد. فإن قيل: إن كتبهم قد دخلها التَّحريفُ والتَّغييرُ، فكيف يمكنُ التعويلُ عليها؟ . فالجواب: أنهم إنما حرَّفُوها لإخفاء الآيات الدَّالة على نبوَّةِ محمدٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته؛ كان ذلك من أقوى الدَّلائل على صحَّة نبوَّة محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لأنَّها لمَّا بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دلَّ ذلك على أنَّها كانت في غاية الظهور. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 412 فصل قيل: السؤالُ كان عن القرآن، ومعرفة نُبوَّةِ الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. وقيل: السؤال راجعٌ إلى قوله {فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم} والأول أولى؛ لأنَّه الأهمُّ. ولمَّا بين هذا الطريق قال: {لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ} أي: ثبت عنده بالآيات والبراهين القاطعة أنَّ ما أتاك هو الحق: «فلا تكُوننَّ من المُمترينَ» أي: لا مدخل للمرية فيه {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله} أي: اثبت، ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية، وانتفاء التكذيب بآيات الله؟ وروي أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال عند نزوله: «لا أشُكُّ ولا أسْألُ بلْ أشهدُ أنَّهُ الحقُّ» . ثم لمَّا فصَّل تعالى هذا التفصيل، بيَّن أنَّ له عباداً، قضى عليهم بالشَّقاءِ، فلا تتغيَّر، وعباداً قضى لهم بالشَّقاء، فلا تتغيَّر، وعباداً قضى لهم بالكرامة، فلا تتغير، فقال: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} . قرأ نافعٌ وابن عامر كلمات على الجمع، والباقون: بالإفراد. فكلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة بحسب الجنسية. والمراد بهذه الكلمة: حكمُ الله بذلك، وإخباره عنه، وخلقه في العبد مجموع القدرة، والدَّاعية الموجبة لحصول ذلك الأثر. واحتجُّوا بهذه الآية على صحَّة القول بالقضاءش والقدرِ. ثم قال: {وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} أي: أنهم لا يؤمنون ألبتَّة، ولو جاءتهم الدَّلائل التي لا حدَّ لها ولا حَصْرَ؛ لأنَّ الدَّليل لا يهدي إلاَّ بإعانة الله، فإذا لم تحصيل الإعانة ضاعت تلك الدَّلائل. القصة الثالثة قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ} الآية. لمَّا بيَّن بقوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ} أتبعه بهذه الآية؛ لأنَّها دالةٌ على أنَّ قوم يونس آمنوا بعد كفرهم، وانتفعوا بذلك الإيمان، فدلَّ ذلك على أنَّ الكُفَّار فريقان: فريق ختم له بالإيمان. وفريق ختم له بالكفر، وكلُّ ما قضى الله به فهو واقعٌ. قوله: «فلولا» لولا هنا تحضيضيةٌ، وفيها معنى التَّوبيخ؛ كقول الفرزدق: [الطويل] 2938 - تَعُدُّونَ عَقْرَ النَّيبِ أفْضَلَ مَجْدِكُمْ ... بَنِي ضَوْطَرَى لولاَ الكَمِيَّ المقنَّعا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 413 وفي مصحف أبيِّ، وعبد الله - وقرأ كذلك - فَهَلاَّ، وهي نصٌّ في التحضيض وزعم عليُّ بنُ عيسى، والنَّحَّاس أنَّ لولا تأتي بمعنى ما النَّافية، وحملا على ذلك هذه الآية أي: ما كانت قرية نقله ابنُ قاسم، وهو منقولٌ أيضاً عن الهرويِّ، وكانت هنا تامة و «آمنت» صفة ل «قرية» ، وفنفعها نسق على الصِّفة. قوله: «إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ» فيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ استثناء منقطع، وإليه ذهب سيبويه، والكسائي، والأخفش، والفراء، ولذلك أدخلهُ سيبويه في باب «ما لا يكون فيه إلاَّ النصب لانقطاعه» وإنما كان منقطعاً؛ لأنَّ ما بعد «إلاَّ» لا يندرجُ تحت لفظ «قرية» . والثاني: أنَّه متصلٌ. قال الزمخشري: «استثناءٌ من القرى، لأنَّ المراد أهاليها وهو استثناء منقطع بمعنى: ولكن قوم يونس، ويجُوزُ أن يكون مُتَّصِلاً، والجملةُ في معنى النَّفي كأنَّه قيل: ما آمنت قريةٌ من القرى الهالكة إلاَّ قوم يونس» . وقال ابنُ عطيَّة: هو بحسب اللفظ استثناءٌ منقطعٌ، وكذلك رسمه النَّحويون، وهو بحسب المعنى متصلٌ لأنَّ تقديره: ما آمن أهل قريةٍ إلاَّ قوم يونس. قال شهاب الدين: «وتقدير هذا المضاف هو الذي صحَّح كونه استثناء مُتَّصلاً» ، وكذلك قال أبو البقاء ومكي وابن عطية وغيرهم. وأمَّا الزَّمخشري فإنَّ ظاهر عبارته أنَّ المُصَحِّحَ لكونه متصلاً كونُ الكلام في معنى النَّفي، وليس كذلك بل المسوِّغ كون القرى يُرادُ بها أهاليها من باب إطلاق المحلِّ على الحال، وهو أحدُ الأوجه المذكورة في قوله {واسأل القرية} [يوسف: 82] . وقرأ فرقة: «إلاَّ قومُ» بالرَّفع. قال الزمخشريُّ: وقُرىء بالرفع على البدل، روي ذلك عن الجرمي، والكسائي. وقال المهدويُّ: «والرَّفْعُ على البدل من قَرْية» . فظاهر هاتين العبارتين أنَّها قراءةٌ منقولةٌ، وظاهرُ قول مكِّي، وأبي البقاء أنَّها ليست قراءة، وإنَّما ذلك من الجائز، وجعلا الرَّفع على وجهٍ آخر غير البدلِ، وهو كون «إلاَّ» بمعنى «غير» في وقوعها صفةً. قال مكي «ويجوزُ الرَّفعُ على أن تجعل إلا بمعنى» غير «صفة للأهْلِ المحذوفين في المعنى، ثم يُعْرَب ما بعد إلاَّ بإعراب» غير «لو ظهرت في موضع» إلاَّ «. وقال أبو البقاء - وأظنه أخذه منه -: ولو كان قد قُرىء بالرَّفع لكانت إلاَّ فيه بمنزلة غير فيكون صفة، وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث لغات وقرئ بها. فصل قال البغويُّ: المعنى فلم تكن قرية؛ لأن في الاستفهام ضرباً من الجَحْدِ؛ أي: أهل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 414 قرية آمنت عند معاينة العذاب، «فنفعها إيمانها» في حال اليَأسِ «إلاَّ قوم يونس» ، فإنَّه نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، و «قوم» نصب على الاستثناء المنقطع، أي: ولكن قوم يونس «لما آمنوا كشفْنَا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدُّنْيَا، ومتعناهم إلى حين» ، وهي وقت انقضاء آجالهم، واختلفوا في أنَّهُمْ هل رأوا العذاب عياناً فقال بعضهم: رأوا دليل العذاب. والأكثرون على أنَّهُم رأوا العذاب عياناً لقوله: {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي} ، والكَشْفُ يكون بعد الوقوع، أو إذا قرب قوله: «ولو شاء ربُّك» يا مُحمَّدُ «لآمن من في الأرض كلهم جميعاً» . واعلم أنَّ هذه السُّورة من أوَّلها إلى هنا في بيان شبهات الكفار في إنكار النبوة، والجواب عنها، وكانت إحدى شبهاتهم؛ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يُهَدِّدهُم بنزول العذاب على الكُفَّار، وبعد أتباعه أن الله ينصرهم، ويعلي شأنهم، ويقوي جانبهم، ثمَّ إنَّ الكُفَّارَ ما رأوا ذلك؛ فجعلوا ذلك شبهة في الطَّعْنِ في نبوته، وكانوا يبالغون في استعجال العذاب على سبيل السخرية، ثم إن الله تعالى بيَّن أنَّ تأخير الموعود به لا يقدحُ في صحَّة الوعد، ومن ثم ضرب لهذا أمثلة، وهي قصَّة نوح - عليه السلام - وموسى - عليه السلام - إلى هاهنا، ثم في هذه الآية بيَّن أنَّ جدَّ الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفعُ، ومبالغته في تقريرِ الدلائل في الجواب عن الشبهات لا يفيدُ؛ لأن الإيمان لا يحصلُ إلا بخلق الله، ومشيئته وإرشاده، وهدايته، إذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمانُ. فصل استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ جميع الكائنات لا تحصلُ إلا بمشيئة الله تعالى؛ لأنَّ كلمة «لَوْ» تفيد انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره، فقوله: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} يقتضي أنَّه ما حصلت تلك المشيئة، وما حصل إيمانُ أهل الأرض بالكليَّة، فدلَّ هذا على أنَّه تعالى ما أراد الكل، وأجاب الجبائيُّ، والقاضي وغيرهما أنَّ المراد مشيئة الإلجاء، أي: لو شاءس الله أن يُلْجِئهُم إلى الإيمان لقدر عليه، ولكنَّهُ ما فعل ذلك؛ لأنَّ الإيمان الصَّادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه، ولا يفيده فائدة، ثم قال الجبائيُّ: ومعنى إلجاء الله تعالى إيَّاهُم إلى ذلك، أن يُعَرِّفهم أنَّهُمْ لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك، وعند هذا لا بُدَّ وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه. والجواب من وجوه: أحدها: أنَّ الكافر لو كان قادراً على الكفر، ولم يقدر على الإيمان، فحينئذٍ تكونُ القدرة على الكفر مستلزمة للكفر، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أنْ يقال: إنَّه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر؛ فوجب أن يقال: أراد منه الكفر، وإن كانت القدرة صالحة للضِّدين، فرجحان أحد الطَّرفين على الآخر - إن لم يتوقف على المرجح - فقد حصل الرجحانُ لا لمرجحٍ، وهو باطلٌ، وإن توقف على مرجح، فذلك المرجحُ إمَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 415 أن يكون من العبد، أو من الله، فإن كان من العبد عاد التَّقْسِيمُ ولزم التسلسل، وهو محالٌ، وإن كان من الله، كان مجموع تلك القدرة مع تلك الدَّاعية موجباً لذلك الكفر، فإذا كان خالق القدرة والدَّاعية هو الله تعالى عاد الإلزام. ثانيها: أن قوله: «ولو شاءَ ربُّكَ» لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء؛ لأنَّ النبي - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ما كان يطلب منهم إلاَّ إيماناً ينتفعون به في الآخرة، فبيَّن تعالى؛ أنَّه لا قدرة للرَّسُولِ على تحصيل هذا الإيمان، ثم قال: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً} فوجب أن يكون المرادُ /نه هذا الإيمان النَّافع حتى ينتظم الكلام، وحمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء لا يليقُ بهذا الموضع. وثالثها: أنَّ الإلجاء إمَّا أن يكون بأن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها، فيأتي بالإيمان عندها، وإمَّا أن يكون بخلق الإيمان فيهم، والأولُ باطلٌ؛ لأنه تعالى قال: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 96 - 97] وقال: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الأنعام: 111] فبيَّن أنَّ إنزال الإيمان لا يفيدُ، وإ، كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان، بل كان عبارة عن خلق الإيمان فيهم، فيصير المعنى: ولو شاء ربك حصول الإيمان لهم لخلق الإيمان فيهم، ثم يقال: لكنه ما خلق الإيمان فيهم، فدلَّ على أنَّه ما أراد حصول الإيمان لهم، وهو المطلوب. ثم قال: {أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} أي: أنه: لا قدرة لك على التَّصرف في أحد. قوله: «أفأنت» يجوز في «أنت» وجهان، أحدهما: أن يرتفع بفعل مقدَّر مفسَّر بالظَّاهر بعده، وهو الأرجحُ؛ لأنَّ الاسم قد ولي أدّاة هي بالفعل أولى. والثاني: أنَّه مبتدأ والجملةُ بعده خبره، وقد تقدَّم ما في ذلك من كون الهمزة مقدمة على العاطف أو ثمَّ جملةٌ محذوفةٌ كما هو رأي الزمخشري. وفائدة إيلاء الاسم للاستفهام إعلامٌ بأنَّ الإكراه ممكنٌ مقدورٌ عليه، وإنَّما الشَّأنُ في المكره من هو؟ وما هو إلا هو وحده لا مشاركة فيه لغيره. و «حتَّى» غايةٌ للإكراه. قوله: {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ} كقوله: {أَنْ تَمُوتَ} [آل عمران: 145] وقد تقدم في آل عمران [145] . والمعنى: ما ينبغي لنفس. وقيل: ما كانت لتؤمن إلاَّ بإذنِ الله. قال ابن عبَّاسٍ: بأمر الله. وقال عطاءٌ: بمشيئة الله. وقيل: بعلم الله. «ويَجْعَلُ» قرأ أبو بكر عن عاصم بنون العظمة. والباقون: بياء الغيبةِ وهو الله تعالى. وقرأ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 416 الأعمش «ويجعلُ الرجز» بالزاي دون السين، وقد تقدَّم هل هما بمعنى، أو بينهما فرقٌ؟ [الأعراف: 134] ثم قال: {عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} أي: من الله أمره ونهيه. فصل احتجُّوا بقوله: {وَيَجْعَلُ الرجس عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ} على أنَّ خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى، وتقريره: أنَّ الرِّجْسَ قد يراد به: العملُ القبيحُ، قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] والمراد من الرِّجْسٍ هنا: العملُ القبيحُ سواء كان كفراً أو معصية، وبالتَّطهير: نقل العبد من رجس الكفر، والمعصية إلى طهارة الإيمان، والطَّاعة، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أنَّ الإيمان إنَّما يحصلُ بمشيئة الله وتخليقه، ذكر بعد أنَّ الرِّجْسَ لا يحصلُ إلاَّ بتخليقه. والرِّجْسُ الذي يقابلُ الإيمان ليس إلاَّ الكفر. وأجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال: الرِّجْسُ، يحتمل وجهين آخرين. أحدهما: أن يكون المراد منه العذاب، فيكون المعنى: يلحق العذاب بالذين لا يعقلون، كقوله {وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات} [الفتح: 6] . الثاني: أنَّه تعالى حكم عليهم بأنَّهم نجس، كما قال: {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [التوبة: 28] أي: أنَّ الطَّهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم. وأجابُوا: أنَّ حمل الرجس على العذاب باطلٌ؛ لأنَّ الرِّجْسَ عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره فحمل هذا اللفظ على كفرهم وجهلهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقّاً صِدْقاً صواباً. وأمَّا حمل الرِّجْسِ على حكم الله برجاستهم، فهو في غاية البعد؛ لأنَّ حكم الله تعالى بذلك صفته، فكيف يجوز أن يقال: إنَّ صفة الله رجسٌ، فثبت أنَّ دلالة الآية على الكفر ظاهرةٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 417 قوله تعالى: {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض} الآية. لمَّا بيَّن في الآيات السَّالفة أنَّ الإيمان لا يحصلُ إلا بتخليق الله تعالى ومشيئته، أمر بالنَّظَرِ والاستدلال في الدَّلائل فقال: «قُلِ انظروا» . قرأ عاصم وحمزةُ «قُلِ انظُرُوا» بكسر اللام لالتقاء الساكنين، والأصل فيه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 417 الكسر، والباقون بضمها نقلوا حركة الهمزة إلى اللاَّمِ. قوله: «مَاذَا» يجوز أن يكون «مَاذَا» كله استفهاماً مبتدأ، و «فِي السماوات» خبرهُ أي: أيُّ شيءٍ في السَّمواتِ؟ ويجوزُ أن تكون «ما» مبتدأ، و «ذَا» بمعنى الذي، و «فِي السماوات» صلته وهو خبرُ المبتدأ، وعلى التقديرين فالمبتدأ وخبره في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الخافض لأنَّ الفعل قبله معلقٌ بالاستفهام، ويجوز على ضعفٍ أن يكون «ماذا» كله موصُولاً بمعنى «الَّذي» وهو في محل نصبٍ ب «انُظُروا» . ووجهُ ضعفه أنَّهُ لا يخلو: إمَّا أن يكون النظر بمعنى البصر فيعدَّى ب «إلى» ، وإمَّا أن يكون قلبيّاً فيُعَدَّى ب «في» ، وقد تقدَّم الكلامُ في «ماذا» . فصل المعنى: قل للمشركين الذين يسألونك عن الإيمانِ: {قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض} واعلم أنَّه لا سبيل إلى معرفةِ الله تعالى إلاَّ بالنَّظر في الدَّلائل. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «تفكَّرُوا في الخَلْقِ ولا تتفَكَّرُوا في الخالِق» والدَّلائل إمَّا أن تكون من عالمِ السموات، أو من عالم الأرض، أمَّا الدلائل السماوية، فهي حركات الأفلاك والكواكب ومقاديرها، وما يختص به كل واحد منها، وأمَّا الدلائل الأرضية، فهي النظر في أحوال العناصر العلوية، وفي أحوال المعادن والنبات، وأحوال الإنسان، وينقسم كل واحد من هذه الأجناس إلى أنواع لا نهاية لها. ولو أنَّ الإنسان أخذ يتفكرُ في كيفية حكمة الله تعالى في تخليق جناح بعوضة لانقطع عقلهُ قبل أن يصل إلى أوَّل مرتبة من مراتب تلك الفوائد. ثم لمَّا أمر بهذا التفكُّر بيَّن بعده أنَّ هذا التَّفكر والتَّدبر في هذه الآيات لا ينفعُ في حقِّ من حكم الله عليه في الأزلِ بأنَّه لا يؤمن فقال: {وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ} . قوله: «وَمَا تُغْنِي» يجوز في «ما» أن تكون استفهامية، وهي واقعةٌ موقع المصدر أي: أيَّ غناءٍ تُغني الآيات؟ ويجوزُ أن تكون نافيةً، وهو الظَّاهرُ. وقال ابن عطية: ويحتملُ أن تكون «ما» في قوله: «وما تُغْنِي» مفعولة بقوله: «انظُرُوا» معطوفة على قوله: «مَاذَا» أي: تأمَّلُوا قدر غناء الآيات والنُّذُر عن الكُفَّار. قال أبو حيان: وفيه ضعفٌ، وفي قوله: معطوفةٌ على «ماذا» تجوُّزٌ، يعنى أنَّ الجملة الاستفهامية التي هي «مَاذَا فِي السماوات» في موضع المفعول؛ لأنَّ «ماذا» وحدهُ منصوبٌ ب «انظُرُوا» فتكون «مَاذَا» موصلة، و «انظُرُوا» بصرية لما تقدَّم من أنَّه لو كانت بصرية الجزء: 10 ¦ الصفحة: 418 لتعدَّت ب «إِلَى» . و «النُّذُرُ» يجوزُ أن يكون جمع «نَذِير» ، المرادُ به المصدر فيكون التقدير: وما تُغْنِي الآياتُ والإنذارات، وأن يكون جمع «نذير» مراداً به اسم الفاعل بمعنى منذر فيكون التقدير والمُنْذِرُونَ وهم الرُّسُلُ. وقرىء «وما يُغْنِي» بالياء. قوله: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ} يعني: مشركي مكَّة إلاَّ مثلَ أيَّام الذين خلوا مضوا «من قَبلِهِمْ» من مُكَذِّبي الأمم. قال قتادةُ: «يعني وقائع الله في قوم نوح، وعاد، وثمود» والعربُ تُسمِّي العذاب والنِّعم أياماً، كقوله: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله} [إبراهيم: 5] وكُلُّ ما مضى عليك من خَيْرٍ وشرٍّ فهو أيَّام ثم إنَّه تعالى أمره بأن يقول لهم {فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين} . قوله: {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا} قال الزمخشريُّ: هو معطوفٌ على كلامٍ محذوف يدلُّ عليه قوله: {إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ} [يونس: 102] كأنَّه قيل: نُهلكُ الأمم ثم نُنَجِّي رسلنا، معطوفٌ على حكايةِ الأحوالِ الماضية. قرأ الكسائي في رواية «نصر» نُنْجِيط خفيفة، والباقون: مشددة، وهما لغتان، وكذلك في قوله «نُنْجِ المُؤمنينَ» والمعنى: ننجي رسلنا، والذين آمنوا معهم عند نزول العذابِ. معناه: نَجَّينَا، مستقبلٌ بمعنى الماضي، ونجَّيْنَا وأنْجَيْنَا بمعنى واحد «كذلِكَ» كما نَجَّيْناهم «حَقًّا» واجباً {عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين} . قوله: «حقّاً» فيه أوجهٌ: أحدها: أن يكون منصوباً بفعل مُقَدَّر أي: حقَّ ذلك حقّاً. والثاني: أن يكون بدلاً من المحذوف النَّائب عنه الكافُ تقديره: إنجاء مثل ذلك حقّاً. والثالث: ان يكون «كذلك» و «حقًّا» منصوبين ب «نُنْجِ» الذي بعدهما. والرابع: أن يكون «كَذلِكَ» منصوباً ب «نُنَجي» الاولى، وحقّاً ب «نُنْجِ» الثَّانية. وقال الزمخشري: مثل ذلك الإنجاء ننجي المؤمنين منكم، ونهلك المشركين، وحقّاً علينا اعتراضٌ، يعني حقَّ ذلك علينا حقّاً. وقرأ الكسائيُّ وحفصٌ «نُنْجي المؤمنين» مخففاً من أنجى يقال: أنْجَى ونجَّى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 419 كأنزل ونزَّل، وجمهور القرَّاءِ لم ينقلوا الخلاف إلاَّ في هذا دون قوله: {فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ} [يونس: 92] ودون قوله {ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا} [يونس: 103] . وقد نقل أبو علي الأزهري الخلافَ فيهما أيضاً، ورسِمَ في المصاحف بجيم دون ياء. فصل قال القاضي: قوله «حقًّا عليْنَا» المرادث به الوجوب؛ لأنَّ تخليصَ الرَّسُول - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - والمؤمنين من العذاب إلى الثَّواب واجبٌ، ولولاهُ ما حسن من الله تعالى أن يلزمهم الأفعال الشَّاقَّة، وهذا يجري مجرى قضاء الدَّين. والجوابُ، بأن نقُول: إنَّه حقٌّ بحسب الوعْدِ والحُكْمِ، ولا نقُولُ إنَّهُ حقٌّ بحسب الاستحقاق لما ثبت أنَّ العبد لا يستحقُّ على خالقه شيئاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 420 قوله تعالى: {قُلْ يا أيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي} الآية. لمَّا بالغ في ذكر الدليل أمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بإظهار دينه، وإظهار المباينة عن المشركين، لكي تزول الشكوك والشبهات في أمره. فإن قيل: كيف قال «في شكٍّ» وهم كافرون يعتقدون بطلان ما جاء به؟ . قيل: كان فيهم شاكون، فهم المرادُ بالآية، أو أنَّهم لمَّا رَأوا الآياتِ اضطربوا، وشكُّوا في أمرهم وأمر النبي - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه -. قوله: «فَلاَ أَعْبُدُ» جواب الشَّرط، والفعلُ خبر ابتداء مضمر تقديره: فأنَا لا أعبدُ، ولو وقع المضارعُ منفياً ب «لا» دون فاء لجزمَ، ولكنَّه مع الفاءِ يرفع كما تقدَّم ذكره، وكذا لوْ لمْ يُنْفَ ب «لا» كقوله تعالى: {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ} [المائدة: 95] ، أي: فهو ينتقُم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 420 ثم قال: {ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ} يميتكم، ويقبض أرواحكم. فإن قيل: ما الحكمةُ في وصف المعبود ههنا بقوله: {الذي يَتَوَفَّاكُمْ} ؟ . فالجواب: من وجوه: الأول: أنَّ المعنى أني أعبدُ الله الذي خلقكم أولاً، ثم يتوفَّاكم ثانياً ثم يعيدكم ثالثاً، فاكتفى بذكر التوفي لكونه مُنَبِّهاً على البواقي. الثاني: أنَّ الموت أشدُّ الأشياءِ مهابة، فخص هذا الوصف بالذكر ههنا، ليكون أقوى في الزَّجر والرَّدع. الثالث: أنَّهم لمَّا استعجلوا نزول العذاب قال تعالى: {فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فانتظروا إِنَّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ} [يونس: 102 - 103] وهذا يدلُّ على أنَّهُ تعالى يهلك أولئك الكفار، ويبقي المؤمنين ويقوي دولتهم، فلمَّا كان قريب العهد بذكر هذا الكلام لا جرم قال ههنا: {ولكن أَعْبُدُ الله الذي يَتَوَفَّاكُمْ} وهو إشارةٌ إلى ما قرَّره وبيَّنهُ في تلك الآية كأنه يقول: أعبد الله الذي وعدني بإهلاككم، وإبقائي بعدكم. قوله: {وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين} [يونس: 72] ، قال الزمخشري: أصله بأن أكون، فحذف الجارُّ، وهذا الحذف يحتمل أن يكون من الحذف المطرد الذي هو حذفُ الحروفِ الجارَّة مع أن وأنَّ، وأنْ يكون من الحذف غير المطَّرد؛ وهو كقوله: [البسيط] 2939 - أَمَرْتُكَ الخَيْرَ ... ... ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} [الحجر: 94] يعني: بغيرِ المُطَّرد أنَّ حذف حرف الجر مسموعٌ في أفعالٍ لا يجوزُ القياسُ عليها، وهي: أمَرَ، واسْتَغْفَرَ، كما تقدم [الأعراف155] ، وأشار بقوله: «أمَرْتُكَ» إلى البيت المشهور: [البسيط] 2940 - أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ مَا أمِرْتَ بِهِ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . وقد قاس ذلك بعضُ النَّحويِّين، ولكن يُشترط أن يتعيَّن ذلك الحرف، ويتعيَّن موضعه أيضاً، وهو رأي علي بن علي بن سليمان فيُجيز «بريتُ القلمَ السكين» بخلاف «صَكَكْتُ الحَجَرَ بالخشبةِ» . قوله: «وأنْ أقِمْ» يجوز أن يكون على إضمار فعلٍ أي: وأوحي إليَّ أن أقم، ثم لك في «أنْ» وجهان أحدهما: أن تكون تفسيريةً لتلك الجملةِ المقدَّرة، كذا قاله أبو حيان، وفيه نظرٌ، إذا المفسَّرُ لا يجوز حذفه، وقد ردَّ هو بذلك في موضع غير هذا، والثاني: أن تكون المصدرية، فتكون هي وما في خبرها في محلِّ رفع بذلك الفعل المقدر، ويحتمل أن تكون «أنْ» مصدرية فقط، وهي على هذا معمولةٌ لقوله: أمِرْتُ مراعى فيها معنى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 421 الكلام؛ لأنَّ قوله «أنْ أكُونَ» كون من أكوانِ المؤمنين، ووصلْ «أنْ» بصيغة الأمْر جائزٌ، كما تقَدَّم تحريره. وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: عطف قوله: «وأنْ أقِمْ» على «أنْ أكُون» فيه إشكالٌ؛ لأنَّ أنْ لا تخلو: إمَّا أن تكون التي للعبارة، أو التي تكونُ مع الفعلِ في تأويل المصدر، فلا يصحُّ أن تكون التي للعبارة، وإن كان الأمر ممَّا يتضمَّنُ معنى القول؛ لأنَّ عطفها علىلموصولة ينافي ذلك، والقولُ بكونها موصولة مثل الأولى لا يساعد عليه لفظ الأمْرِ وهو «أقِمْ» ؛ لأنَّ الصِّلة حقُّها أن تكون جملة تحتمل الصِّدق والكذب. قلت: قد سوَّغَ سيبويه أن توصلَ «أنْ» بالأمْرِ والنَّهْيِ، وشبَّه ذلك بقولهم: «أنت الذي تفعل» على الخطاب؛ لأنَّ الغرضَ وصلها بما تكونُ معه في تأويلِ المصدرِ، والأمْرُ والنَّهْيُ دالاَّنِ على المصدر دلالة غيرهما من الأفعال. قال شهاب الدين: وقد تقدَّم الإشكالُ في ذلك وهو أنَّه إذا قُدِّرت بالمصدر فاتت الدَّلالةُ على الأمْرِ والنَّهْي. ورجَّحَ أبُو حيَّان كونها مصدرية على إضمار فعل كما تقدَّم تقريره قال: «ليزولَ قلقُ العطفِ لوجودِ الكافِ، إذْ لوْ كانَ» وأنْ أقِمْ «عفطاص على» أنْ أكُونَ «لكان التَّركيبُ» وَجْهِي «بياء المتكلم، ومراعاةُ المعنى فيه ضعفٌ، وإضمارُ الفعل أكثر» . قال ابنُ الخطيبِ: الوا في قوله: «وأنْ أقِمْ وجْهكَ» حرف عطف، وفي المعطوف عليه وجهان: الأول: أنَّ قوله: وأمِرْتُ أنْ أكُون قائم مقام قوله: وقيل لي كن من المؤمنين ثم عطف عليه «وأنْ أقِمْ وجْهَكَ» . الثاني: أنَّ قوله «وأنْ أقِمْ وجْهَكَ» قائم مقام قوله: «وأمْرِتُ» بإقامة الوجه، فيصير التقدير: وأمرت بأن أكون من المؤمنين، وبإقامة الوجه للدِّين حنيفاً. قوله: «حَنِيفاً» يجُوزُ أن يكون حالاً من «الدِّين» ، وأن يكون حالاً من فاعل «أقِمْ» أو مفعوله. فصل قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: معنى قوله: {وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً} أي: عملك. وقيل: استقم على الدِّين حنيفاً. قال ابنُ الخطيبِ: «إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل بالكليَّةِ إلى طلبِ الدِّين؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 422 لأنَّ من يريدُ أن ينظر إلى شيءٍ نظر استقصاءٍ فإنَّه يُقيم وجههُ في مقابلته بحيثُ لا يصرفه عنه؛ لأنَّه لو صرفهُ عنه، ولو بالقليل، فقد بطلت تلك المقابلة، وإذا بطلت المقابلةُ اختلَّ الإبصار؛ فلهذا جعل إقامة الوجه كناية عن صرف العقل بالكليةِ إلى طلبِ الدِّين، وقوله» حَنِيفاً «أي: مائلاً إليه ميلاً كليّاً، معرضاً عن كُلِّ ما سواه إعراضاً كلياً» . ثم قال: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} وهذا لا يمكنُ أن يكون نهياً عن عبادة الأوثان؛ لأنَّ ذلك صار مذكوراً في قوله أول الآية: {فَلاَ أَعْبُدُ الذين تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [104] فلا بُدَّ من حمل هذا الكلام على فائدة زائدة، وهي أن من عرف مولاه فلو التفت بعد ذلك إلى غيره كان ذلك شركاً، وهذا هو الذي تسميه أصحابُ القلوبِ بالشِّرك الخفيِّ. قاله ابنُ الخطيبِ. قوله تعالى: {ولا تَدْعُ} يجُوزُ أن تكون هذه الجملة استئنافية، ويجوز أن تكون عطفاً على جملة الأمر وهي: «أَقِمْ» فتكون داخلة في صلة «أنْ» بوجهيها، أعني كونها تفسيرية أو مصدرية وقد تقدم. وقوله: «مَا لاَ ينفعُك» يجوز أن تكون نكرةً موصوفةً، وأن تكون موصولةً. قوله: «فإنَّكَ» هو جوابُ الشَّرطِ و «إذَنْ» حرفُ جوابِ توسَّطتْ بين الاسم، والخبرِ، ورتبتها التَّأخيرُ عن الخبرِ، وإنَّما وُسِّطتْ رعياً للفواصل. وقال الزمخشري: «إذَنْ» جواب الشَّرطِ وجوابٌ لسؤالٍ مقدَّر، كأنَّ سائلاً سأل عن تبعة عبادة الأوثان. وفي جعله «إذَنْ» جزاءً للشَّرطِ نظرٌ، إذ جوابُ الشَّرطِ محصورٌ في أشياء ليس هذا منها. فصل المعنى: «ولا تَدْعُ» أي: ولا تعبد «مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ» إن أطعته: «ولا يَضُرُّكَ» إن عصيتهُ «فإن فعلْتَ» فعبدتَ غير الله، أو لو اشتغلت بطلب المنفعة، والمضرَّةِ من غير الله {فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظالمين} الضَّارين لأنفسهم، الواضعين للعبادة في غير موضعها؛ لأنَّ الظلم عبارة عن وضع الشيء في غير وضعه. قوله تعالى: {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ} الآية. قوله: «وَإِنْ يَمْسَسْكَ» قد تقدَّم ما في ذلك من صناعة البديع في سورة الأنعام [الأنعام: 17] . وقال هنا في جواب الشَّرط الأول بنفي عام، وإيجاب، وفي جواب الثاني بنفي عام دون إيجاب؛ لأنَّ ما أرادَه لا يردُّه رادٌّ، لا هو ولا غيره، لأنَّ إرادتهُ قديمةٌ لا تتغيَّرُ، فلذلك لم يجىء التَّركيب فلا رادَّ لهُ إلاَّ هو، هذه عبارةُ أبي حيَّان، وفيها نظرٌ، وكأنَّهُ يقولُ بخلاف الكَشْفِ فإنه هو الفاعلُ لذلك وحدهُ دون غيره بخلاف إرادته تعالى، فإنَّهُ لا يتصوَّر فيها الوقوعُ على خلافها، وهي مسألةٌ خلافيَّةٌ بين أهل السُّنَّةِ والاعتزال. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 423 قال الزمخشريُّ: فإن قلت: لم ذُكر المسُّ في أحدهما والإرادةُ في الثاني؟ قلت: كأنَّه أراد أن يذكر الأمرين جميعاً: الإرادة والإصابة في كُلِّ واحدٍ من الضُّر والخَيْر، وأنَّه لا رادَّ لما يريده منهما، ولا مُزيلَ لِمَا يُصيب به منهما، فأوجز الكلام بأن ذكر المسَّ وهو الإصابةُ في أحدهما، والإرادة في الآخر ليدُلَّ بما ذكر على ما ترك، على أنَّه قد ذكر الإصابة في الخير في قوله: {يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ} [يونس: 107] . فصل اعلم أنَّ الشيء إمَّا أن يكون ضارّاً، وإمَّا أن يكون نافعاً، وهذان القسمان مشتركان في اسم الخير، ولمَّا كان الضر أمراً وجودياً، والخير قد يكون أمراً عدميّاً، لا جرم لم يذكر لفظ الإمساس فيه بل قال: {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} والآية دالَّة على أنَّ الضرَّ والخيْرض واقعان بقدرةِ الله وبقضائه، فيدخل فيه الكفر، والإيمان، والطاعةُ، والمعصيةُ، والسرورُ والخيراتُ والآلامُ واللَّذاتُ. ومعنى الآية: إن يُصبْكَ الله بضرٍّ أي: بشدَّة، وبلاء فلا دافع لهُ إلاَّ هُوَ، {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} رخاء ونعمة وسعة {فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ} لا دافع لرزقه، {يُصَيبُ بِهِ} بكل واحدٍ من الضر والخير {مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الغفور الرحيم} . قال الواحديُّ: قوله: {وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ} من المقلوب، معناه: وإن يرد بك الخَيْرَ، ولكنَّه لمَّا تعلَّق كل واحد منهما بالإرادةِ جاز تقديم كل واحد منهما. قال المفسِّرون: لمَّا بيَّن تعالى في الآية الأولى أنَّ الأصنامَ لا تضرّ ولا تنفعُ بيَّن في هذه الآية أنَّها لا تقدر على دفع الشَّر الواصل من الغير، ولا على دفع الخير الواصل من الغير. قوله تعالى: {قُلْ يا أيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الحق مِن رَّبِّكُمْ} الآية. قوله: «مِن ربِّكم» يجوز أن يتعلَّق ب «جَاءَكُمُ» و «مِنْ» لابتداء الغاية مجازاً، ويجُوزُ أن يكون حالاً من «الحَقِّ» . قوله: فَمَنُ اهْتَدَى ومن ضلَّ يجوز أن تكون «مَنْ» شرطاً، فالفاءُ واجبةُ الدُّخُولِ وأن تكون موصولة فالفاءُ جائزته. فصل المراد «بالحقّ» القرآن والإسلام {فَمَنُ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي: على نفسه. قوله: {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ} أي: بِكَفِيلٍ يحفظ أعمالكم، و «ما» يجوز أن تكون الحجازيَّة أو التميمية، لخفاء النصب في الخبر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 424 قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هذه الآية نسختها آية القتال. ثمَّ قال تعالى: {واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر حتى يَحْكُمَ الله} [يونس: 109] أمرهُ باتِّباعِ الوحي والتَّنزيل {حتى يَحْكُمَ الله} من نصرك وقهر عدوك وإظهار دينك {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} فحكم بقتل المشركين، وبالجزيةِ على أهل الكتاب يعطونها {عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29] . روي أبيّ بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَن قَرَأ سورة يونس - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدَّق بيونس وكذَّب به، وبعدد من غرق مع فرعون» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 425 سورة هود - عليه الصلاة والسلام - قال ابن عباس: هي مكية إلا قوله: {وأقم الصلاة طرفي النهار} [هود: 114] . وهنا سؤالان: الأول: أن سورة القصص لم يقص فيها إلا قصة واحدة، وهي قصة موسى - عليه الصلاة والسلام - وفي هذه السورة قص فيها قصصا كثيرة؛ فكان تسمية هذه بالقصص أولى من تسمية تلك، وكان ينبغي أن يسمى القصص بسورة " موسى " - عليه السلام - كما سميت سورة يوسف - عليه الصلاة والسلام -، وسورة " نوح " - عليه الصلاة والسلام -. السؤال الثاني: أن في هذه السورة قصصا كثيرة، فما الحكمة في أنها سميت باسم هود دون غيره من الأنبياء المذكورين فيها؟ . فصل يجوز في " هود " مرادا به السورة الصرف وتركه، وذلك باعتبارين: وهما أنك إن عنيت أنه اسم للسورة تعين منعه من الصرف، وهذا رأي الخليل وسيبويه. وكذلك " نوح "، و" لوط " إذا جعلتهما اسمين للسورتين المذكورين فيهما، فتقول: قرأت هود ونوح، وتبركت بهود، ونوح، ولوط. فإن قلت: قد نصوا على أن المؤنث الثلاثي الساكن الوسط؛ نحو: هند ودعد، والأعجمي الثلاثي الساكن الوسط؛ نحو: نوح ولوط حكمه الصرف وتركه، مع أن الصحيح وجوب صرف نوح. فالجواب: أن شرط ذلك ألا يكون المؤنث منقولا من مذكر إلى مؤنث، فلو سميت امرأة ب " زيد " تحتم منعه، وشرط الأعجمي ألا يكون مؤنثا، فلو كان مؤنثا تحتم منعه نحو: ماه وجور. وهود ونوح من هذا القبيل، فإن " هود " في الأصل لمذكر، وكذلك نوح، ثم سمي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 426 بهما السورة، وهي مؤنثة، وإن كان تأنيثها مجازيا، وإن اعتبرت أنها على حذف مضاف وجب صرفه، فتقول: قرأت هودا ونوحا يعني: سورة هود وسورة نوح، وقد جوز الصرف بالاعتبار الأول عيسى بن عمر، وفيه ضعف، ولا خفاء أنك إذا قصدت ب " هود " و" نوح " النبي نفسه صرفت فقط عند الجمهور في الأعجمي، وأما هود فإنه عربي فيتحتم صرفه. وقد عقد النحويون لأسماء السور، والألفاظ، والأحياء، والقبائل، والأماكن بابا في منع الصرف وعدمه، حاصله: أنك إن عنيت قبيلة أو أما أو بقعة أو سورة، أو كلمة منعت. وإن عنيت حيا أو أبا أو مكانا، أو غير سورة، أو لفظا صرفت بتفصيل مذكور في كتب النحو. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 427 «كِتَابٌ» يجوز أن يكون خبراً ل: «ألف لام راء» ، أخبر عن هذه الأحرف بأنَّها كتابٌ موصوفٌ بكَيْتَ وكَيْتَ. قال الزجاج: هذا غلطٌ؛ لأنَّ «الر» ليس هو الموصوف بهذه الصِّفة وحده قال ابنُ الخطيب: وهذا اعتراضٌ فاسدٌ؛ لأنَّه ليس من شرط كون الشَّيء مبتدأ أن يكون خبره محصوراً فيه، ويجُوزُ أن يكون خبر ابتداءٍ مضمرٍ تقديره: ذلك كتابٌ. قال ابن الخطيب: «وهذا عندي ضعيفٌ لوجهين» : الأول: أنَّه على هذا التقدير يقعُ قوله: «الر» كلاماً باطلاً لا فائدة فيه. والثاني: أنك إذا قلت: هذا كتابٌ، فقولك: «هذا» يكون إشارة إلى الآيات المذكورات، وذلك هو قوله: «الر» فيصير حينئذ «الر» مخبراً عنه بأنه {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} . وقد تقدم الكلام على ذلك عند قوله: {ذَلِكَ الكتاب} [البقرة: 2] قوله: {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ} في محلِّ رفع صفةً ل «كِتابٌ» ، والهمزةُ في «أُحْكِمَتْ» يجوز أن تكون للنَّقل من حَكُمَ بضمِّ الكافِ، أي: صار حكيماً بمعنى جعلت حكيمةٌ، كقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم} [لقمان: 2] . ويجوز أن يكونَ من قولهم: «أحْكمتُ الدَّابَّة» إذا وضعتَ عليها الحكمة لمنعها من الجماحِ؛ كقول جريرٍ: [الكامل] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 427 2941 - أبَنِي حَنيفَةَ أحْكمُوا سُفَهَاءكُمْ ... إنِّي أخافُ عليْكمُ أنْ أغْضَبَا فالمعنى: أنَّها مُنِعَتْ من الفسادِ. ويجوز أن يكون لغيرِ النَّقل، من الإحكام وهو الإتقان كالبناءِ المحكمِ المرصفِ، والمعنى: أنَّها نُظِمَتْ نظماً رصيناً متقناً. ويجوز أن يكون قوله: «أحْكِمَتْ» أي: لم تُنسخْ بكتابٍ كما نُسِخت الكُتُبُ والشَّرائع بها. قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -. قوله: «ثُمَّ فُصِّلَتْ» «ثُمَّ» على بابها من التَّراخي؛ لأنَّها أحكمت ثُمَّ فُصِّلت بحسب أسبابِ النُّزُولِ. وقرأ عكرمةُ والضحاكُ والجحدريُّ وزيدُ بنُ عليٍّ وابن كثير في رواية «فَصَلَتْ» بفتحتين خفيفة العين. قال أبو البقاء: والمعنى: فرقَتْ، كقوله: {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ} [البقرة: 249] ، أي: فارق وفسَّرها غيرهُ، بمعنى فصلتْ بين المُحِقِّ والمُبطلِ، وهو أحسنُ. وجعل الزمخشريُّ «ثم» للتَّرتيب في الإخبار لا لترتيب الوقوع في الزَّمانِ، فقال: فإن قلت: ما معنى «ثُمَّ» ؟ قلت: ليس معناها التَّراخِي في الوقت، ولكن في الحالِ، كما تقولُ: هي محكمةٌ أحسن الإحكام، مفصَّلةٌ أحسن التَّفصيل، وفلانٌ كريمُ الأصل، ثُمَّ كريمُ الفعل. وقرىء أيضاً: «أحْكمتُ آياتِهِ ثُمَّ فصَّلتُ» بإسناد الفعلين إلى «تاءِ» المتكلم، ونصب «آياته» مفعولاً بها، أي: أحكمتُ أنا آياته، ثم فصَّلتها، حكى هذه القراءة الزمخشري. فصل قال الحسن: أحكمت بالأمْر والنَّهي، ثم فصِّلت بالوَعْد والوعيد وقال قتادةٌ: أحْكمَها اللهُ فليس فيها اختلاف ولا تناقض. وقال مجاهدٌ: «فُصِّلتْ» أي: فسرت الجزء: 10 ¦ الصفحة: 428 وقيل: «فُصِّلَتْ» أي: أنزلت شيئاً فشيئاً كقوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيَاتٍ مّفَصَّلاَتٍ} [الأعراف: 133] ، وقيل: جعلت فصولاً: حلالاً، وحراماً، وأمثالاً، وترغيباً وترهيباً ومواعظ وأمراً ونَهْياً. فصل احتجَّ الجُبائي بهذه الآية على أنَّ القرآن محدثٌ مخلوق من ثلاثة أوجهٍ: الأول: قال: المحكم هو الذي أتقنه فاعله، ولولا أنَّ الله - تعالى - خلق هذا القرآن، لَمْ يصحَّ ذلك؛ لأنَّ الإحكام لا يكون إلاَّ في الأفعالِ، ولا يجوز أن يقال: كان موجُوداً غير محكم، ثم جعله الله مُحْكَماً؛ لأنَّ هذا يقتضي في بعضه الذي جعله محكماً بأن يكون محدثاً، ولم يقل أحدٌ بأنَّ القرآن بعضه قديمٌ وبعضه محدثٌ. الثاني: أنَّ قوله: «فُصِّلَتْ» يدلُّ على أنَّه حصل فيه انفصالٌ وافتراق، ويدلُّ على أنَّ ذلك الانفصال والافتراق إنَّما حصل بجعل جاعل. الثالث: قوله تعالى: {مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} ، والمرادُ من عنده، والقديمُ لا يقال: إنَّهُ حصل من عند قديم آخر؛ لأنَّهما إن كانا قديمين، لم يكن القول بأنَّ أحدهما حصل من عند الآخر أولى من العكس. وأجيب بأنَّ النُّعوت عائدةٌ إلى هذه الحُرُوفِ والأصواتِ، ونحن معترفون بأنَّها مخلوقةٌ؛ وإنَّما الذي يُدَّعى قدمه أمر آخر سوى هذه الحروف والأصوات. قوله: «مِن لَّدُنْ» أي: من عند، يجُوزُ أن تكون صفة ثاينة ل «كِتَابٌ» وأن تكون خبراً ثانياً عند من يرى جواز ذلك، ويجوز أن تكون معمولة لأحد الفعلين المتقدِّمين يعني: «أحْكِمَتْ» أو «فُصِّلَتْ» ويكون ذلك من باب التنازع، ويكون من إعمال الثاني، إذْ لوْ أعمل الأول لأضمر في الثاني، وإليه نحا الزَّمخشري فقال: وأن يكون صلة «أحكمت» «فُصِّلتْ» ، أي: من عندهُ أحكامُها وتفصيلهُا، والمعنى: أحكمها حَكِيمٌ وفصَّلها، أي: شرَحَهَا وبيَّنَها خبيرٌ بكيفياتِ الأمورِ. قال أبُو حيان: لا يريدُ أنَّ «مِنْ لدُن» متعلقٌ بالفعلين معاً من حيث صناعةُ الإعراب، بل يريدُ أن ذلك من باب الإعمال، فهي متعلقةٌ بهما من حيثُ المعنى، وهو معنى قولِ أبي البقاء أيضاً: ويجُوزُ أن يكون مفعولاً، والعاملُ فيه فُصِّلَتْ. قوله: «أن لا تَعْبدُوا» فيه أوجهٌ: أحدها: أن تكون أنْ المخففة من الثَّقيلة، و «لا تَعْبُدُوا» جملة نهي في محلِّ رفعٍ خبراً ل «أنْ» المخففة، واسمها على ما تقرَّر ضمير الأمر والشَّأن محذوفٌ. والثاني: أنَّها المصدرية النَّاصبة، ووصلت هنا بالنَّهي، ويجوز أن تكون «لا» نافية، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 429 والفعل بعدها منصوبٌ ب «أنْ» نفسها، وعلى هذه التقادير ف «أنْ» : إما في محلِّ جرٍّ أو نصبٍ أو رفع، فالجرُّ والنصبُ على أنَّ الأصل: لأنْ لا تعبدوا، أو بأن لا تعبدوا، فلما حذف الخافضُ جرى الخلافُ المشهور، والعاملُ: إمَّا «فُصِّلتْ» وهو المشهورُ، وإمَّا «أحْكِمَتْ» عند الكوفيين. فتكون المسألة من باب الإعمال؛ لأنَّ المعنى: أحْكِمَتْ لئلاَّ تعبدُوا أو بأن لا تعبدُوا. ف «أنْ لا تعبدُوا» هو المفعول الثاني ل «ضمَّن» والأولُ قام قمام الفاعل. والرفع فمن أوجه: أحدها: أنَّها مبتدأٌ، وخبرها محذوفٌ، فقيل: تقديره: من النَّظر أن لا تعبدوا إلاَّ الله. وقيل: تقديره: في الكتاب ألاَّ تبعدوا إلاَّ الله. والثاني: خبر مبتدأ محذوف، فقيل: تقديره: تفصيلُه ألاَّ تعبدوا إلا الله. وقيل: تقديره: هي أن لا تعبدوا إلاَّ الله. والثالث: أنه مرفوعٌ على البدل من «آياته» . قال أبو حيَّان: وأمَّا من أعربه أنَّهُ بدلٌ من لفظ «آيات» أو من موضعها، يعني: أنَّها في الأصْلِ مفعولٌ بها فموضعا نصبٌ، وهي مسألة خلافٍ، هل يجُوزُ أن يُراعَى أصلُ المفعولِ القائم مقام الفاعلِ، فيتبع لفظهُ تارة وموضعهُ أخرى، فيقال: ضُرِبَتْ هندٌ العاقلة بنصب العاقلة باعتبار المحلِّ، ورفعها باعتبار اللفظ، أمْ لا؟ . مذهبان، المشهور مراعاة اللفظ فقط. الوجه الثالث: أن تكون مفسرة؛ لأنَّ في تفصيل الآيات معنى القول؛ فكأنَّه قيل: لا تعبدوا إلاَّ الله إذْ أمركم، وهذا أظهرُ الأقوالِ، لأنَّهُ لا يُحْوِجُ إلى إضمار. قوله: «مِنْهُ» في هذا الضمير وجهان: أظهرهما: أنَّهُ يعودُ على الله تعالى، أي: إنَّ لكم من جهة الله نذيرٌ وبشير، نذير للعاصين، وبشير للمطيعين. قال أبو حيان: فيكون في موضع الصِّفةِ، فيتعلقُ بمحذوفٍ، أي: كائن من جهته، وهذا على ظاهره ليس بجيِّد؛ لأنَّ الصفة لا تتقدَّمُ على الموصوفِ، فيكف تجعل صفةً ل «نذير» ؟ وكأنَّه يريد أنه صفةٌ في الأصل لو تأخَّر، ولكن لمَّا تقدَّم صار حالاً، وكذا صرَّح به أبو البقاءِ، فكان صوابه أن يقول: فيكون في موضع الحالِ، والتقدير: كائناً من جهته. الثاني: أنَّهُ يعودُ على الكتابِ، أي: نذيرٌ لكم من مخالفته، وبشيرٌ منه لمن آمن وعمل صالحاً وفي متعلق هذا الجارِّ أيضاً وجهان: أحدهما: أنَّه حالٌ من نذير، فيتعلَّق بمحذوفٍ كما تقدَّم. والثاني: أنه متعلقٌ بنفس نذير، أي: أنذركم منه ومن عذابه إن كفرتم، وأبشركم بثوابه إن آمنتم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 430 وقدَّم الإنذار؛ لأنَّ التَّخويف أهمُّ إذ يحصل به الانزجارُ. قوله: {وَأَنِ استغفروا} فيها وجهان: أحدهما: أنَّها عطفٌ على «أن» الأولى، سواء كانت «لا» بعدها نَفْياً أو نَهْياً، فتعودُ الأوجهُ المنقولةُ فيها إلى «أنْ» هذه. والثاني: أن تكون منصوبةً على الإغراءِ. قال الزمخشريُّ في هذا الوجه: ويجوزُ أن يكون كلاماً مبتدأ منقطعاً عمَّا قبله على لسان النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم - إغراء منه على اختصاص الله - تعالى - بالعبادة، ويدل عليه قوله: {إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ} كأنه قال: ترك عبادةِ غير الله إنَّنِي لكم منهُ نذيرٌ كقوله تعالى: {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد: 4] . قوله: {ثُمَّ توبوا} عطفٌ على ما قبله من الأمْرِ بالاستغفار، و «ثُمَّ» على بابها من التَّراخي؛ لأنَّه يستغفرُ أولاً ثم يتوبُ ويتجرَّدُ من ذلك الذَّنب المُستغْفَرِ منهُ. قال الزمخشري: فإن قلت: ما معنى «ثُمَّ» في قوله {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} ؟ قلت: معناه: استغفروا من الشرك، ثم ارجعوا إليه بالطَّاعة، أو استغفروا - والاستغفارُ توبةٌ - ثُمَّ أخْلِصُوا التَّوبة واستقيموا عليها، كقوله: {ثُمَّ استقاموا} [الأحقاف: 13] . قال شهابُ الدِّين: قوله: «أو استغفروا» إلى آخره يعني أنَّ بعضهم جعل الاستغفار والتوبة بمعنى واحد، فلذلك احتاج إلى تأويل «تُوبُوا» ب «أخْلِصُوا التَّوبة» . قال الفراء: «ثُمَّ» ههنا بمعنى الواو، أي: وتوبوا إليه، لأنَّ الاستغفار هو التوبة والتوبة هي الاستغفار. وقيل: وأن استغفروا ربَّكُم في الماضي، ثُمَّ تُوبُوا إليه في المستأنف. وقيل: إنَّما قدَّم الاستغفار أوَّلاً لأنَّ المغفرة هي الغرض المطلوب، والتوبة هي السبب إليها، فالمغفرة أول في المطلوب وآخر في السبب. ويحتمل أن يكون المعنى استغفروهُ من الصَّغائر، ثُمَّ تُوبُوا إليه من الكبائر. قوله: «يُمَتِّعكُم» جوابُ الأمرِ. وقد تقدَّم الخلافُ في الجازمِ: هل هو نفسُ الجملةِ الطَّلبية أو حرفُ شرطٍ مقدر [البقرة: 40] . وقرأ الحسنُ وابنُ هرمز وزيد بنُ عليٍّ وابن محيصن «يُمْتِعُكُم» بالتخفيف من أمتع. وقد تقدَّم أنَّ نافعاً وابن عامرٍ قرآ {فأُمْتِعُهُ قَلِيلاً} بالتخفيف كهذه القراءة [البقرة: 126] . قوله «متَاعاً» في نصبه وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 431 أحدهما: أنَّه منصوبٌ على المصدر بحذفِ الزَّوائدِ، إذ التقديرُ: تَمْتِيعاً، فهو كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] . والثاني: أن ينصب على المفعول به، والمراد بالمتاع اسم ما يُتمتَّعُ به، فهو كقولك: «متعت زيداً أثواباً» . قال المفسِّرون: يعيشكم عيشاً في خفضٍ ودعةٍ وأمنٍ وسعةٍ «إلى أجلٍ مُسَمًّى» إلى حين الموتِ. فإن قيل: أليس أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الدُّنيا سِجْنُ المُؤمنِ وجنَّةُ الكافر» ؟ . وقال أيضاً: «خُصَّ البَلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأوْلياءِ فالأمْثَلِ فالأمْثَلِ» . وقال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] فدلَّت هذه النُّصوصُ على أنَّ نصيب المؤمن المطيع عدمُ الرَّاحة في الدُّنيا، فكيف الجمع بينهما؟ . فالجواب من وجوه: الأول: أنَّ المعنى لا يُعذِّبهم بعذاب الاستئصال كما استأصَلَ أهلَ القوَّة من الكُفَّار. الثاني: أنَّهُ تعالى يوصل إليهم الرزق كيف كان، وإليه الإشارةُ بقوله: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ} [طه: 132] . الثالث: أنَّ المشتغل بالعبادة مشتغلٌ بحب شيءٍ يمتنع تغيره وزواله وفناؤه، وكلما كان تمكنه في هذا الطريق أتم كان انقطاعه عن الخلقِ أتمُّ وأكملُ، وكلما كان الكمالُ في هذا البابِ أكثر كان الابتهاج والسرور أكمل؛ لأنَّهُ أَمِنَ من تغير مطلوبه، وأَمِنَ من زوال محبوبه. وأمَّا من اشتغل بحبِّ غير الله، كان أبداً في ألمِ الخوفِ من فوات المحبوب وزواله؛ فكان عيشهُ منغَّصاً وقلبه مضطرباً، ولذلك قال تعالى في حق المشتغلين بخدمته {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً} [النحل: 97] . فإن قيل: هل يدل قوله {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} على أنَّ للعبدِ أجليْنِ، وأنَّهُ يقع في ذلك التقديم والتَّأخير؟ . فالجواب: لا، ومعنى الآية أنَّهُ تعالى حكم بأنَّ هذا العبد لو اشتغل بالعبادة لكان أجله في الوقت الفلاني، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت الفلاني، ولو أعرض عنها لكان أجله في وقت آخر، لكنَّهُ تعالى عالم بأنَّهُ يشتغل بالعبادة، فلا جرم أنَّه كان عالماً بأنَّ أجله ليس إلاَّ في ذلك الوقتِ المعيَّنِ؛ فثبت أنَّ لكلَّ إنسانٍ أجلاً واحداً. وسمى منافع الدُّنيا متاعاً، تنبيهاً على حقارتهَا وقلَّتهَا، وأنَّها مُنقضيةٌ بقوله تعالى {إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} . قوله: {وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ} «كُلَّ» مفعول أوَّل، و «فَضلهُ» مفعولٌ ثانٍ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 432 وقد تقدَّم للسُّهيلي خلافٌ في ذلك. والضَّمير في «فَضْلَهُ» يجوز أن يعود على الله تعالى، أي: يُؤتِي كُلَّ صاحبِ فضلٍ فضله، أي: ثوابهُ، وأن يعود على لفظِ «كُلّ» ، أي: يعطي كُلَّ صاحب فضلٍ جزاء فضله، لا يبخَسُ منه شيئاً، أي: جزاء عمله. قال المفسِّرون: ويعطي كل ذي عمل صالح في الدنيا أجره وثوابه في الآخرة. وقال أبو العالية: من كثرت طاعته في الدنيا زادت درجاته في الجنَّة؛ لأنَّ الدَّرجاتِ تكون بالأعمال. وقال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «مَنْ زادَتْ حسناتهُ على سيِّئاتهِ دخل الجنَّة، ومن زادت سيئاته على حسناته، دخل النَّارن ومن استوت حسناته وسيئاته، كان من أهْلِ الأعرافِ، ثم يدخلون الجنة» . ثم قال: {وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ} وهو يومُ القيامةِ. وقرأ الجمهور «تَولَّوْا» بفتح التَّاءِ والواو واللاَّم المشدَّدة، وفيها احتمالان: أحدهما: أنَّ الفعل مضارعُ توَلَّى وحذف منه إحدى التاءين تخفيفاً نحو: «تَنَزَّلُ» . وقد تقدَّم أيتهما المحذوفةُ، وهذا هو الظَّاهر. ولذلك جاء الخطابُ في قوله: «عليْكُم» . والثاني: أنَّه فعلُ ماضٍ مسند لضمير الغائبين، وجاء الخطابُ على إضمار القولِ، أي: فقل لهم: إنِّي أخاف عليكم، ولولا ذلك لكان التركيب: فإنِّي أخاف عليهم. وقرأ اليماني وعيسى بن عمر: «تُوَلُّوا» بضمِّ التَّاءِ، وفتح الواوِ وضم اللام، وهو مضارعُ «ولَّى» ؛ كقولك: زكَّى يزكِّي. ونقل صاحب اللَّوامح عن اليماني وعيسى بن عمر: «وإن تُوُلُّوا» بثلاث ضمَّات مبنياً للمفعول، ولمْ يُبين ما هو ولا تصريفه؟ وهو فعلٌ ماضٍ، ولمَّا بُنِيَ للمفعولِ ضُمَّ أولهُ على الفاعل، وضُمَّ ثانيه أيضاً؛ لأنَّه مفتتحٌ بتاءِ مطاوعةِ، وكلُّ ما افتتح بتاءِ مطاوعةٍ ضُمَّ أوله وثانيه، وضُمَّت اللام أيضاً، وإن كان أصلها الكسر لأجْلِ واو الضمير، والأصلُ «تُوُلِّيُوا» نحو: تُدحْرجُوا، فاستثقلت الضَّمةُ على الياءِ، فحذفت فالتقى ساكنان؛ فحذفت الياءُ، لأنَّهما أولهما؛ فبقي ما قبل واو الضَّمير مكسوراً فضُمَّ ليُجانِسَ الضمير؛ فصار وزنهُ «تُفُعُّوا» بحذف لامه، والواو قائمةٌ مقام الفاعل. وقرأ الأعرجُ «تُولُوا» بضمِّ التاء وسكون الواو وضم اللام مضارع «أوْلَى» ، وهذه القراءةُ لا يظهرُ لها معنًى طائلٌ هنا، والمفعول محذوفٌ يقدَّرُ لائقاً بالمعنى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 433 و «كَبِيرٍ» صفةٌ ل «يَوْمٍ» مبالغة لما يقع فيه من الأهوالِ. وقيل: بل «كَبيرٍ» صفةٌ ل «عذابَ» فهو منصوبٌ، وإنَّما خفض على الجوارِ؛ كقوله: «هذا جُحر ضبٍّ خربٍ» بجرِّ خَربٍ وهو صفةٌ ل «جُحْرٌ» ؛ وقول امرىء القيس: [الطويل] 2942 - كأنَّ ثَبِيراً في عَرانينِ وبلهِ ... كَبيرُ أنَاسٍ في بِجاد مُزَمَّلِ بجر «مُزَمَّل» وهو صفةٌ ل «كبير» . وقد تقدَّم البحثُ في ذلك في سورة المائدة. ثم قال: {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . وهذا فيه تهديدٌ وبشارة، فالتَّهديد قوله {إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ} يدلُّ على أنَّ مرجعنا إليه، وهو قادرٌ على جميع المقدورات لا دافع لقضائه، ولا مانع لمشيئته، والرُّجوع إلى الحاكم الموصوف بهذه الصفة مع العيوب الكثيرة والذُّنوب العظيمة مشكل، وأمَّا البشارةُ، فإنَّ ذلك يدلُّ على قدرة عالية وجلالة عظيمة لهذا الحاكم، وعلى ضعف تام، وعجز عظيم لهذا العبد، والملك القادر القاهر الغالب إذا رأى أحداً أشرف على الهلاك؛ فإنهُ يخلصهُ من تلك الهلكة، ومنه المثل المشهور «إذَا ملكْتَ فأسْجِعْ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 434 لمَّا قال: «وإن تولَّوْا» عن عبادة الله وطاعته، بيَّن بعده صفة ذلك التولي فقال: {أَلا إِنَّهُمْ} يعني الكُفَّار {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} يقال: ثنيت الشَّيء إذا عطفته وطويته. وقرأ الجمهور: بفتح الياء وسكون الثَّاء المثلثة، وهو مضارع «ثَنَى يَثْني ثَنْياً» ، أي طوى وَزَوى، و «صُدُورهم» مفعول به، والمعنى: يَحْرفون صدورهم ووجوههم عن الحق وقبوله، والأصل «يَثْنِيُونَ» فأُعِلَّ بحذف الضَّمةِ عن الياء، ثُمَّ تحذفُ الياءُ لالتقاءِ الساكنين. وقرأ سعيدُ بن جبير «يُثْنُون» وهو مضارع «أثْنَى» كأكرم. واستشكل النَّاسُ هذه القراءة فقال أبُو البقاءِ: ماضيه أثنى، ولا يعرفُ في اللغةِ، إلاَّ أنْ يقال: معناه عرضُوها للانثناء، كما يقال: أبعت الفرسَ: إذا عرضته للبيع. وقال صاحبُ اللَّوامِحِ: ولا يعرفُ الإثناء في هذا الباب، إلاَّ أن يرادَ به، وجدتُهَا مثْنِيَّة، مثل أحْمَدْتُه وأمْجَدْتُه، ولعلَّه فتح النون، وهذا ممَّا فعل بهم فيكون نصب « الجزء: 10 ¦ الصفحة: 434 صُدُورَهُم» بنزع الخافض، ويجُوزُ على ذلك أن يكون «صُدُورَهُم» رفعاً على البدل بدل البعض من الكُلِّ يعني بقوله: ولعلَّهُ فتح النُّونِ أي: ولعل ابن جبير قرأ ذلك بفتح نونِ «يُثْنَون» فيكون مبنياً للمفعول، وهو معنى قوله: وهذا ممَّا فعل بهم أي وجدوا كذلك، فعلى هذا يكونُ «صُدورهُم» منصُوباً بنزعِ الخافضِ، أي: في صدورهم، أي يوجدُ الثَّنْيُ في صدورهم، ولذلك جوَّز رفعهُ على البدل كقولك: ضُربَ زيدٌ الظَّهْرُ. ومنْ جوَّز تعريف التمييز لا يبعدُ عنده أن ينتصب «صُدُورهُم» على التَّمييز بهذا التقدير الذي قدَّرهُ. وقرأ ابنُ عبَّاسٍ، وعليُّ بنُ الحسين، وابناه زيد، ومحمد، وابنه جعفر، ومجاهد، وابن يعمر، وعبد الرحمن بن أبزى، وأبو الأسود «تَثنَوْني» مضارع «اثْنَوْنَى» على وزنِ «افْعَوْعَلَ» من الثَّنْي كاحْلَوْلى من الحَلاوةِ وهو بناءُ مبالغةٍ، «صُدُورهُم» بالرَّفع على الفاعلية. ونُقل عن ابن عباس وابن يعمر ومجاهد وابن أبي إسحاق: «يَثْنَوْنَى صدورهم» بالياءِ والتَّاءِ؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ؛ فجاز تذكيرُ الفعل باعتبار تأويل فاعله بالجمع وتأنيثه باعتبار تأويل فاعله بالجماعةِ. وقرأ ابنُ عبَّاس أيضاً وعروة وابن أبزى والأعمش «تَثْنَوِنُّ» بفتح التاء وسكون الثَّاء وفتح النون وكسر الواو وتشديد النون الأخيرة، والأصل: «تَثْنَوْنِنُ» بوزن «تَفْعَوْعِلُ» من الثِّنُّ وهو ما هشَّ وضعف من الكَلأ، يريد مطاوعة نوفسهم للثَّنْي كما يثنى الهَشُّ من النَّبات، أو أراد ضعف إيمانهم ومرض قلوبهم. و «صدورهم» بالرَّفع على الفاعلية. وقرأ مجاهدٌ وعروة أيضاً كذلك، إلاَّ أنَّهما جعلا مكان الواو المسكورة همزة مكسورة فأخرجاها مثل «تطمئن» . وفيها تخريجان: أحدهما: أنَّ الواو قُلبتْ همزة لاستثقال الكسرة عليها، ومثله إعاء وإشاح في وعاء ووشاح، لمَّا استثقلوا الكسرة على الواوِ أبدلوها همزة. والثاني: أن وكنه «تَفْعَيِيلٌ» من الثِّن وهو ما ضعف من النَّبات كما تقدَّم، وذلك أنَّهُ مضارع ل «اثْنَان» مثل احْمَارَّ واصفارَّ، وقد تقدَّم [يونس: 24] أن من العرب من يقلبُ مثل هذه الألف همزة؛ كقوله: [الطويل] 2943 - ... ... ... ... ... ... ... ... ....... ... ... ... ... ... بالعَبِيطِ ادْهَأمَّتِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 435 فجاء مضارع «اثْنَأنَّ» على ذلك كقولك احْمَأرَّ يَحمَئِرُّ كاطمأنَّ يَطْمَئِنُّ. وأمَّا «صُدورُهم» فبالرَّفع على ما تقدَّم. وقرأ الأعمش أيضاً تَثْنَؤُونَ بفتح الياء وسكون المثلثة وفتح النون وهمزة مضمومة وواوٍ ساكنةٍ بزنة تَفْعَلُون كَتَرْهَبُون. صُدورَهُم بالنَّصْبِ. قال صاحبُ اللَّوامِحِ: ولا أعرف وجهه يقال: «ثَنَيْتُ» ولم أسمعْ «ثَنَأتُ» ، ويجوز أنَّهُ قلب الياء ألفاً على لغةِ من يقول: «أعْطات» في «أعْطَيْتُ» ، ثُمَّ همز الألف على لغةِ من يقول: {ولا الضَّأْلين} [الفاتحة: 7] . وقرأ ابنُ عبَّاس أيضاً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «تَثْنَوِى» بفتح التَّاءِ وسكون المثلثة، وفتح النُّونِ وكسر الواو بعدها ياءٌ ساكنةٌ بزنة «تَرْعَوِى» وهي قراءةٌ مشكلة جداً حتَّى قال أبو حاتم: وهذه القراءة غلطٌ لا تتجه، وإنَّما قال إنَّها غلطٌ؛ لأنَّه لا معنى للواوِ في هذا الفعل إذ لا يقالُ: ثَنَوْتُهُ فانْثَوَى كرعَوْتُه، أي: كففته فارعَوَى، أي: فانكفَّ، ووزنه افعلَّ كاحْمَر. وقرأ نصرُ بنُ عاصمٍ وابنُ يعمر وابن أبي إسحاق «يَنْثُونَ» بتقديم النُّون السَّاكنة على المثلثة. وقرأ ابنُ عباس أيضاً «لَتَثْنَونِ» بلام التأكيد في خبر «إنَّ» وفتح التَّاءِ وسكون المثلثة وفتح النون وسكون الواو بعدها نونٌ مكسورةٌ وهي بزنة «تَفْعَوْعِلُ» ، كما تقدَّم إلاَّ أنَّها حذفت الياء، التي هي لامُ الفعل تخفيفاً كقولهم: لا أدْرِ وما أدْرِ. و «صُدورهم» ، فاعل كما تقدم. وقرأ طائفة: «تَثنؤنَّ» بفتح التَّاءِ ثم ثاء مثلثة ساكنة ثم نُون مفتوحةٍ ثم همزة مضمومةٍ ثم نون مشددة، مثل تَقْرَؤنَّ، وهو مِنْ ثَنَيْتُ، إلاَّ أنَّه قلب الياءَ واواً؛ لأنَّ الضمة تُنافِرُهَا، فجعلت الحركةُ على مُجانِسها، فصار اللفظُ «تَثْنَوونَ» ثم قلبت الواوُ المضمومةُ همزة كقولهم: «أجُوه» في «وُجُوه» و «أقِّتَتْ» في «وقِّتَت» فصار «تَثْنَؤونَ» ، فلمَّا أكَّد الفعل بنونِ التَّوكيد حذفت نونُ الرَّفع فالتقى ساكنان: وهما واوُ الضمير والنون الأولى من نون التَّوكيد، فحذفت الواو وبقيت الضَّمةُ تدلُّ عليها؛ فصار «تَثْنَؤنَّ» كما ترى و «صُدورَهُم» منصوب مفعولاً به فهذه إحدى عشرةَ قراءةً مضبوطة. قوله تعالى: {لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ} فيه وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 436 أحدهما: أنَّ هذه اللاَّم متعلقةٌ ب «يَثْنُونَ» كذا قاله الحوفيُّ، والمعنى: أنَّهم يفعلون ثَنْي الصُّدور لهذه العلةِ. وهذا المعنى منقولٌ في التفسير ولا كلفة فيه. والثاني: أنَّ اللاَّم متعلقةٌ بمحذوفٍ. قال الزمخشريُّ: «لِيَسْتخُفُوا منهُ» يعنى ويريدون: ليستَخْفُوا من الله فلا يطلعُ رسوله والمؤمنون على ازْورَارهِمْ، ونظيرُ إضمار «يريدون» لعود المعنى إلى إضماره الإضمارُ في قوله: {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر فانفلق} [الشعراء: 63] معناه: «فضرب فانفلق» . قال شهاب الدين: وليس المعنى الذي يقُودُنا إلى إضمار الفعل هناك كالمعنى هنا، لأنَّ ثمَّ لا بد من حذف معطوفٍ يُضْطَر العقلُ إلى تقديره؛ لأنَّهُ ليس من لازم الأمْرِ بالضَّرْبِ إنفلاقُ البحر فلا بُدَّ أن يُتَعَقَّل «فضرب فانفلق» ، وأمَّا في هذه، فالاستخفاف علةٌ صالحةٌ لثَنْيهم صدورهم، فلا اضطرار بنا إلى إضمار الإرادةِ. والضَّميرُ في «مِنْهُط فيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ عائدٌ على رسُولِ الله - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - وهو ظاهرٌ على تعلُّق اللاَّم ب» يَثْنُونَ «. والثاني: أنَّهُ عائدٌ على الله تعالى كما قال الزمخشريُّ. قوله: {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} في هذا الظرف وجهان: أحدهما: أنَّ ناصبهُ مُضْمَرٌ، فقدَّره الزمخشري ب» يريدون «كما تقدم، فقال: ومعنى (ألا حين يستغشون ثيابهم) : ويريدون الاستخفاء حين يشتغشون ثيابهم أيضاً كراهة لاستماع كلام الله، كقول نُوحٍ {جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ} [نوح: 7] ، وقدَّره أبو البقاء فقال: (ألا حين يستغشون ثيابهم) : يستخفون. والثاني: أنَّ النَّاصب له» يَعْلَمُ «، أي: ألا يعلم سرَّهُم وعلنهم حين يفعلون كذا، وهذا معنى واضح، وكأنَّهُم إنَّما جوَّزُوا غيره؛ لئلا يلزم تقييد علمه تعالى بسرِّهم وعلنهم بهذا الوقت الخاصِّ، والله تعالى عالمٌ بذلك في كل وقت. وهذا غيرُ لازم؛ لأنَّه إذا عُلِمَ سرُّهم وعلنهُم في وقت التَّغْشِية الذي يخفى فيه السرُّ فأولى في غيره، وهذا بحسب العادةِ وإلاَّ فالله تعالى لايتفاوتُ علمهُ. و» ما «يجُوزُ أن تكون مصدرية، وأن تكون بمعنى» الذي «، والعائدُ محذوفٌ، أي: تُسِرُّونه وتُعْلِنُونه. فصل قال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - نزلت في الأخنس بن شريقٍ، وكان رجلاً حلو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 437 الكلام حلو المنظر، يلقى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بما يحبُّ، وينطوي له بقلبه على ما يكره. فقوله: {يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} أي يخفون ما في صدورهم من الشَّحْنَاءِ والعداوةِ. قال عبدُ الله بنُ شداد: نزلت في بعض المنافقين، كان إذا مرَّ بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثنى صدره وظهره، وطأطأ رأسه، وغطَّى وجهه، كي لا يراه النبي - صلوات الله وسلامه عليه -. قال قتادة: كانوا يخفون صدورهم، لكيلا يسمعُوا كلامَ الله ولا ذكره. وقيل: كان الرَّجلُ من الكُفَّار يدخل بيته، ويرخي ستره، ويحْنِي ظهرهُ، ويتغشَّى بثوبه، ويقول: هل يعلمُ الله ما في قلبي. وقال السُّدي: «يَثْنُونَ صُدورَهُمْ» أي: يُعرضُون بقلوبهم، من قولهم: ثنيت عناني ليَسْتخْفُوا مِنهُ أي: من رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه -. وقال مجاهدٌ: من الله عَزَّ وَجَلَّ. {أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ} يغطون رؤوسهم بثيابهم و «ألا» كلمة تنبيه أي: ألا إنهم يستخفون حين يستغشون ثيابهم. ثم ذكر أنَّهُ لا فائدة لهم في استخفافهم فقال سبحانه: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور} . قال الأزهري معنى الآية من أولها إلى آخرها: إنَّ الذين اضمرُوا عداوة رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يخفى علينا حالهم. وروى محمد بن جرير عن محمد بن عباد بن جعفر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -؛ أنه سمع ابن عباس يقرأ {أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ} قال: كان أناسٌ يستحيون أن يَخلوا فينفضوا إلى السَّماء، وأن يجامعوا نساءهم، فيفضوا إلى السَّماءِ؛ فنزل ذلك فيهم. لمَّا ذكر أنه: {يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أردفهُ بما يدلُّ على أنَّهُ تعالى عالمٌ بجيمعِ المعلومات وهو أنَّ رزق كلَّ حيوان إنَّما يصل إليه من الله؛ لأنَّه لو لم يكن عالماً بجيمع المعلُومات لما حصلت هذه المهمَّات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 438 قال الزجاجُ: الدَّابَّةُ: اسمٌ لكلِّ حيوان، مأخوذ من الدَّبيبِ، وبُنيتْ هذه اللفظة على هاء التأنيث، هذا موضوعها اللُّغوي، و «مِنْ» صلة، {إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} هو المتكفِّلُ بذلك فضلاً، وهو إلى مشيئته إن شاء رزق وإن شاء لم يرزق. وقيل: «على» بمعنى «من» أي: من الله رزقها. قال مجاهدٌ: ما جاءها من رزق فمن الله، ورُبَّما لم يرزقها حتَّى تمُوت جُوعاً. {وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} قال ابنُ مقسم: ويروى عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «مُسْتقرَّهَا» المكانُ الذي تأوي إليه، وتستقرُّ فيه ليلاً ونهاراً «ومُسْتوْدعهَا» الموضع الذي تُدْفَنُ فيه إذا ماتت. وقال عبد الله بن مسعودٍ: المستقرُّ: أرحامُ الأمَّهات، والمستودع: أصلابُ الآباء. ورواه سعيدُ بن جبيرٍ، وعليُّ بن أبي طلحة، وعكرمةُ عن ابن عبَّاس. وقيل: المستقر: الجنة أو النار، والمستودع: القبر، لقوله تعالى في صفة الجنة، والنار {حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 76] {سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً} [الفرقان: 66] . {كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} . قال الزَّجَّاجُ: «معناه: كلُّ ذلك ثابتٌ في علم الله» . وقيل: كل ذلك مثبت في اللوح المحفوظ قبل أن يخلقها. قوله: {مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا} يجوزُ أن يكونا مصدرين، أي: استقرارها واستيداعها، ويجوزُ أن يكونا مكانين، أي: مكان استقرارها واستيداعها، ويجوز أن يكون «مُستوْدعهَا» اسم مفعول لتعدِّي فعله، ولا يجوز ذلك في «مُسْتَقَر» ؛ لأنَّ فعله لازمٌ، نظيره في المصدرية قول الشاعر: [الوافر] 2944 - ألَمْ تعْلَمْ مُسَرَّحِيَ القَوافِي ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . . أي: تَسْريحي. و «كُلُّ» المضافُ إليه محذوفٌ تقديره: كُل دابةٍ ورزقها ومستقرُّها ومستودعُها في كتاب مبين. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 439 لمَّا أثبت بالدَّليلِ المتقدم كونه عالماً بالمعلومات، أثبت بهذا الدليل كونه قادراً على المقدورات وقد مضى تفسير {خَلَق السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} أول يونس. قوله: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء} قال كعب الأحبار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: خلق الله - عزَّ وجلَّ - ياقوتةٌ خضراء، ثمَّ نظر إليها بالهيبة فصار ماءً يرتعدُ، ثمَّ خلق الرِّيح؛ فجعل الماء على متنها، ثمَّ وضع العرش على الماء. وقال غيره: إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - كان عرشه على الماء، ثم خلق السموات والأرض، وخلق القلم؛ فكتب به ما هو خالق وما هو كائن من خلقه. قالت المعتزلةُ: في الآية دلالة على وجودِ الملائكة قبل خلق السموات والأرض، لأن خلقهما: إمَّا أن يكون لمنفعة، أو لا لمنفعة والثاني عبث، فينبغي أنَّهُ خلقهما لمنفعة، وتلك المنفعة إمَّا أن تكون عائدة على الله تعالى وهو محالٌ، لكونه متعالياً عن النفع والضر؛ فلزم أن يكون نفعهما مختصٌّ بالغير، فوجب كون الغير حيّاً؛ لأنَّ غير الحيِّ لا ينتفع، وكلُّ من قال بذلك قال كان ذلك الحي من الملائكة. فإن قيل: ما الفائدةُ في ذكر أنَّ عرشهُ كان على الماءِ قبل خلق السموات والأرض؟ . فالجوابُ أنَّ فيه دلالةً على كمالِ القدرة من وجوه: أحدها: أنَّ العرش مع كونه أعظم من السموات والأرض كان على الماءِ؛ فلولا أنه تعالى قادرٌ على إمساكِ الثَّقيل بغير عمدٍ لما صحَّ ذلك. وثانيها: أنَّه تعالى أمسك الماءَ لا على قرار، وإلاَّ لزم أن يكون أجسام العالمِ غير متناهية فدل على كمال القدرة. وثالثها: أن العرش الذي هو أعظم المخلوقات قد أمسكه الله فوق سبع سموات من غير دعامة تحته ولا علاقة فوقه، فدل على كمال القدرة. قوله: «لِيَبْلُوَكُمْ» في هذه اللاَّم وجهان: أحدهما: أنَّها متعلقةٌ بمحذوفٍ فقيل: تقديره: أعلم ذلك ليبْلُوكمْ، وقيل: ثمَّ جملٌ محذوفةٌ والتقدير: وكان خلقةُ لهما لمنافع يعودُ عليكم نفعها في الدُّنيا دون الآخرة، وفعل ذلك ليبلوكم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 440 وقيل: تقديره: وخلقكم ليبلوكم. والثاني: أنها متعلقةٌ ب «خلقكم» . قال الزمخشريُّ: أي: خلقهُنَّ لحكمةٍ بالغةٍ وهي أن يجعلها مساكن لعباده وينعم عليهم فيها بصنوف النِّعمِ ويُكلِّفهم فعل الطَّاعاتِ واجتناب المعاصي، فمن شكر وأطاع أثابه، ومن كفر وعصى عاقبة، ولمَّا أشبه ذلك اختبارَ المختبر قال «ليبلُوَكمْ» ، يريد: ليفعل بكم ما يفعل المبتلي. واعلم أنه لمَّا بين أنه إنما خلق هذا العالم لأجل ابتلاء المكلَّفين وامتحانهم وجب القطع بحصول الحشر والنشر؛ لأنَّ الابتلاء والامتحان يوجب الرَّحمة والثَّواب للمحسن والعقاب للمسيء، وذلك لا يتمُّ إلاَّ بالاعتراف بالمعادِ والقيامة، فعند هذا خطاب محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف، وكرم ومجد وبجل، وعظم، وقال: {وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت لَيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} أي: إنكم تنكرونَ هذا الكلام، وتحكمون بفساد القول بالبعث. قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ} مبتدأ وخبر في محلِّ نصبٍ بإسقاطِ الخافضِ؛ لأنَّهُ متعلقٌ بقوله «لِيَبْلُوكُمْ» . قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف جاز تعليقُ فعل البلوى؟ قلتُ: لما في الاختبار من معنى العلم؛ لأنَّه طريقٌ إليه فهو ملابسٌ له كما تقولُ: انظر أيُّهم أحسنُ وجهاً، واسمع أيُّهم أحسنُ صوتاً؛ لأنَّ النَّظر والاستماع من طرق العلم؛ لأنَّه طريقٌ إليه، فهو ملابسٌ له، وقد أخذه أبو حيَّان في تمثيله بقوله: «واسْتمِعْ» فقال: «لَمْ أعلمْ أحداً ذكر أنَّ» استمع «يعلق، وإنما ذكروا من غير أفعال القُلُوب» سَلْ «، و» انْظُر «وفي جواز تعليق» رَأى «البصرية خلاف» . قوله: «ولَئِن قُلْتَ» هذه لامُ التَّوطئة للقسم، و «ليَقُولنَّ» جوابه، وحذف جوابُ الشَّرط لدلالة جواب القسم عليه، و «إنَّكُم» محكيٌّ بالقول، ولذلك كُسِرَت في قراءةِ الجمهور. وقرىء بفتحها، وفيها تأويلان ذكرهما الزمخشري: أحدهما: أنها بمعنى «لَعَلَّ» قال: من قولهم: ائت السوق أنك تشتري لحْماً، أي: لعلَّك، أي: ولئنْ قلت لهم: لعلكم مبعوثون بمعنى توقَّعُوا بعثَكُم وظنُّوه، ولا تَبُثُّوا القول بإنكاره، لقالوا. والثاني: أن تُضَمِّنَ قلت معنى: «ذكَرْتَ» يعني فتفتح الهمزة، لأنَّها مفعولُ «ذَكَرْتَ» قوله: {إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ} قد تقدَّم أنَّه قُرىء «سِحْر» و «سَاحر» ، فمن قرأ «سِحْرٌ» ف «هذا» إشارةٌ إلى البَعْثِ المدلولِ عليه بما تقدَّم، أو إشارةٌ إلى القرآن، لأنَّهُ ناطقٌ بالبعثِ ومن قرأ « الجزء: 10 ¦ الصفحة: 441 سَاحِر» فالإشارةُ ب «هذا» إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويجوز أن يُرادَ ب «هذا» في القراءة الأولى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ويكون جعلوه سِحْراً مبالغةً، أو على حذف مضاف، أي: إلاَّ ذُو سحرٍ، ويجوز أن يراد ب «سَاحِر» نفسُ القرآن مجازاً كقولهم: «شِعرٌ شاعرٌ» و «جَدَّ جَدُّهُ» . فإن قيل: كيف يمكن وصفُ هذا القول بأنه سِحْرٌ؟ فالجواب: من وجوه. أحدها: قال القفال: معناه أنَّ هذا القول خديعة منكم، وضَعْتُمُوهُ لمنع الناس من لذَّاتِ الدنيا وإحرازاً لهم إلى الانقيادِ لكُم والدُّخُول تحت طاعتكم. وثانيها: أن قولهم {نْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ} معناه: أنَّ السِّحر أمرٌ باطلٌ، قال تعالى حاكياً عن موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - {مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ} [يونس: 81] . وثالثها: أنَّ القرآن هو الحاكمُ بحصول البعثِ، وطعنُوا في القرآن بكونه سِحْراً، والطعن في الأصل عين الطعن في الفرع. ورابعها: قراءة حمزة والكسائي «إن هذا إلاَّ ساحرٌ» والسَّاحرُ كاذبٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 442 قال الحسنُ: حكم الله أنه لا يعذب أحداً من هذه الأمة بعذاب الاستئصال، وأخَّر ذلك العذاب إلى القيامة؛ فلمَّا أخَّر عنهم ذلك العذاب قالوا على سبيل الاستهزاء: ما الذي حبسهُ عنَّا؟ . وقيل: المرادُ بالعذاب: ما نزل بهم يوم بدرٍ. وأصل «الأمَّة» الجماعة، قال تعالى: {وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس} [القصص: 23] وقوله: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] ، أي: انقضاء أمة، فكأنَّهُ قال: إلى انقراض أمةٍ ومجيء أخرى. وقيل: اشتقاق الأمَّةِ من الأمِّ، وهو القصد، كأنَّهُ يعني الوقت المقصود بإيقاع الموعود فيه. {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} أي شيء يحبسه، يقولون ذلك، استعجالاً للعذابِ واستهزاءً، يعنُون أنه ليس بشيء. قوله: «لَيَقولُنَّ» هذا الفعلُ معربٌ على المشهورِ؛ لأنَّ النُّون مفصولةٌ تقديراً، إذ الأصل: «لَيَقُولُوننَّ» النون الأولى للرفع، وبعدها نونٌ مشددة، فاستثقل توالي ثلاثةِ أمثال، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 442 فحذفت نونُ الرفع؛ لأنَّها لا تدلُّ من المعنى على ما تدلُّ عليه نون التَّوكيد، فالتقى ساكنان، فحذفت الواوُ التي هي ضميرُ الفاعل لالتقائهما، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك. و «مَا يَحْبِسُهُ» استفهامٌ، ف «ما» مبتدأ، و «يَحْبِسُهُ» خبره، وفاعل الفعل ضميرُ اسم الاستفهام، والمنصوبُ يعودُ على العذابِ، والمعنى: أيُّ شيءٍ من الأشياء يحبسُ العذاب؟ قوله: «ألا يَوْمَ يَأتيهِمْ» «يَوْمَ» منصوبٌ ب «مَصْرُوفاً» الذي هو خبرُ «ليس» ، وقد استدلَّ به جمهور البصريين على جواز تقديم خبر «ليس» عليهما، ووجهُ ذلك أنَّ تقديم المعمول يُؤذن بتقديم العامل، و «يوم» منصوب ب «مَصْرُوفاً» وقد تقدَّم على «ليس» فليَجُزْ تقديمُ الخبر بطريق الأولى، لأنَّه إذا تقدَّم الفرعُ فأولى أن يتقدَّم الأصلُ. وقد ردَّ بعضهم هذا الدليل بشيئين: أحدهما: أنَّ الظرف يُتوسَّعُ فيه ما لا يتوسَّع في غيره. والثاني: أنَّ هذه القاعدة مُنْخرمةٌ، إذ لنا مواضع يتقدَّمُ فيها المعمولُ ولا يتقدم فيها العاملُ، وأورد من ذلك نحو قوله تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 9، 10] ف «اليتيمَ» منصوبٌ ب «تَقْهَرْ» ، و «السَّائِل» منصوبٌ ب «تَنْهَرْ» وقد تقدَّما على «لا» النَّاهية، ولا يتقدَّمُ العاملُ - وهو المجزومُ - على «لا» ، وللبحث في هذه المسألة موضعق أليقُ به. قال أبُو حيَّان: وقد تتبَّعت جملة من دواوين العرب فلم أظفر بتقديم خبر «ليسَ» عليها، ولا بمعموله إلاَّ ما دلَّ عليه ظاهرُ هذه الآية وقول الشاعر: [الطويل] 2945 - فَيَأبَى فما يَزْدَادُ إلاَّ لجَاجَةً ... وكُنْتُ أبِيّاً في الخَنَى لسْتُ أقْدِمُ واسمُ «ليس» ضميرٌ عائدٌ على «العذاب» ، وكذلك فاعل «يأتيهم» ، والتقدير: ألا ليس العذاب مصرُوفاً عنهم يوم يأتيهم العذاب. وحكى أبو البقاءِ عن بعضهم أنَّ العامل في «يَوْمَ يأتيهم» محذوفٌ تقديره: أي: لا يصرفُ عنهم العذابُ يوم يأتيهم، ودلَّ على المحذوف سياق الكلام. قال: {وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ} وذكر «حَاقَ» بلفظ الماضي مبالغة في التَّأكيد والتقرير وأنَّ خبر الله تعالى واقعٌ لا محالة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 443 قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} الآية. لما ذكر أنَّ عذاب الكُفَّار وإن تأخَّر لا بد أن يحيق بهم، ذكر بعدهُ ما يدلُّ على كفرهم، وعلى كونهم مستحقين لهذا العذاب، فقال: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان} . وقيل: المراد منه مطلق الإنسان؛ لأنَّه استثنى {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} ؛ ولأنه موافق لقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ} [العصر: 2، 3] {إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً} [المعارج: 19] ولأنَّ مزاج الإنسان مجبولٌ على الضَّعف والعجز. قال ابنُ جريج في تفسير هذه الآية: يا ابنَ آدم إذا نزلت بك نعمةٌ من الله، فأنت كفورٌ، وإذا نزعت منك فيئوسٌ قنوط. وقيل: المرادُ به الكافر؛ لأنَّ الأصل في المفرد المعرف بالألف واللاَّم أن يعود على المعهود السَّابق إلاَّ أن يمنع مانع منه، وههنا لا مانع؛ فوجب حمله على المعهود السابق، وهو الكافر المذكور في الآية المتقدمة. وأيضاً فالصِّفاتُ المذكورة في الإنسان هنا لا تليقُ إلاَّ بالكافر؛ لأنَّهُ وصفهُ بكونه كفوراً، وهو تصريح بالكفر، ووصفه عند وجدان الراحة بقوله: {ذَهَبَ السيئات عنيا} وذلك جزاءة على الله تعالى، ووصفه بكونه فرحاً {إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} [القصص: 76] وصفه بكونه فخوراً، وذلك ليس من صفات أهل الدِّين. وإذا كان كذلك؛ وجب حمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع. واعلم أنَّ لفظ «الإذَاقة والذَّوق» يفيدُ أقل ما يوجدُ من الطَّعم، فكان المراد أنَّ الإنسان بوجدان أقل القليل من الخير في العاجلة يقعُ في الكفر والطُّغيان وبإدراك أقل القليل من البلاءِ يقع في اليأس والقنوط، قال تعالى: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً} نعمة وسعة {ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ} سلبناها منه {إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} في الشِّدة كفور بالنعمة. {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ} قال الوَاحديُّ: النَّعْمَاء إنعام يظهر أثرهُ على صاحبه، والضَّرَّاءُ مضرَّةٌ يظهر أثرها على صاحبها؛ لأنَّها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو: حمراء وسوداء، وهذا هو الفرق بين النِّعمةِ والنَّعماء، والمضرة والضَّراء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 444 والمعنى: إذا أذقناه نعمة بعد بلاء أصابه: {لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عنيا} زالت الشَّدائدُ عنِّي، إنَّهُ لفرحٌ فخورٌ أشر بطر، والفرح: لذَّة في القلب بنيل المشتهى. والفخرُ: هو التطاول على الناس بتعديد المناقب، وذلك منهيٌّ عنه. فصل اعلم أنَّ أحوال الدنيا أبداً في التَّغير والزَّوال، والتحوُّل والانتقال، فإمَّا أن يتحوَّل الإنسانُ من النِّعمة إلى المِحْنةِ أو العكس. فأمَّا الأوَّلُ: فهو المراد بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ} [هود: 9] أي أنه حال زوال تلك النعمة يصير يَئُوساً؛ لأنَّ الكافر يعتقدُ أنَّ السبب في حصول تلك النِّعمة سببٌ اتفاقي، ثُمَّ إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى، فلا جرم يسبعد تلك النعمة فيقع في اليأسِ. وأمَّا المسلمُ، فيعتقد أنَّ تلك النِّعمة إنَّما حصلت من فضل الله وإحسانه، فلا ييأس، بل يقول لعلَّه يؤخِّرها إلى ما هو أحسن، وأكمل ممَّا كانت، وأمَّا الإنسان يكونُ كفوراً حال تلك النعمة، فإنَّ الكافر لمَّا اعتقد أنَّ حصولها كان على سبيل الاتفاق، أو أنَّهُ حصلها بجدِّه واجتهاده، فحينئذٍ لا يشتغل بشكرِ الله على تلك النِّعمة والمسلم يشكر الله تعالى. والحاصلُ أنَّ الكافر يكون عند زوال النِّعمة يئوساً وعند حصولها كفوراً. وأمَّا انتقال الإنسان من المحنة إلى النِّعمة، فالكافرُ يكون فرحاً فخوراً؛ لأنَّ منتهى طبع الكافر هو الفوزُ بهذه السَّعادات الدُّنيوية، وهو منكرٌ للسعادات الأخرويَّة. قوله: «لفرحٌ» قرأ الجمهو بكسر الرَّاءِ، وهو قياسُ اسم الفاعل من «فَعِلَ» اللاَّزم بكسر العين نحو: أشِرَ فهو أشِرٌ، وبَطِرَ فهو بَطِرٌ، وقرئ شاذاً «لَفَرُحٌ» بضمِّ الرَّاء نحو: يَقِظٌ ويَقُظٌ، وندِس وندُس. قوله: {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على الاستثناء المتَّصل، إذا المرادُ به جنس الإنسان لا واحدٌ بعينه. والثاني: أنَّهُ منقطعٌ، إذ المراد بالإنسان شخصٌ معينٌ، وهو على هذين الوجهين منصوبُ المحلِّ. والثالث: أنه مبتدأ، والخبر الجملة من قوله: {أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} وهو منقطعٌ أيضاً. والمعنى: أنَّ هؤلاء لا يكُونُون عند البلاء من الصَّابرين وعند الرَّاحةِ والخير من الشَّاكرين. قال الفراء: هو استثناءٌ منقطع معناه: لكن الذين صبروا وعملوا الصَّالحات؛ فإنَّهم إن يأتهم شدة صبروا، وإن نالوا نعمة شكروا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 445 ثم قال: {أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ} يجوزُ أن يكون «مَغْفِرةٌ» مبتدأ، و «لهُم» الخبرُ، والجملة خبر «أولئكَ» ، ويجوز أن يكون «لَهُم» خبر «أولئكَ» و «مَغْفِرَةٌ» فاعلٌ بالاستقرار. فجمع لهم بين شيئين: أحدهما: زوال العقاب بقوله: «لَهُم مَغْفرةٌ» والثاني: الفوز بالثَّواب بقوله «وأجْرٌ كبيرٌ» . قوله: «فَلَعَلَّكَ» الأحسنُ أن تكون على بابها من التَّرجِّي بالنسبة إلى المخاطب. وقيل: هي للاستفهام كقوله - صلوات الله وسلامه عليه - «لعلَّنا أعْجلنَاكَ» . فإن قيل: «فَلعَلَّك» كلمة شك فما فائدتها؟ . فالجوابُ: أنَّ المراد منها الزَّجرُ، والعرب تقول للرجلُ إذا أرادوا إبعاده عن أمر: لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنَّهُ لا شك فيه، ويقول لولده: لعلك تقصر فيما أمرتك، ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك. وقوله: «وضَائِقٌ» نسقٌ على «تَاركٌ» ، وعدل عن «ضيِّق» وإن كان أكثر من «ضائق» . قال الزمخشريُّ: ليدُلَّ على أنَّهُ ضيِّق عارضٌ غيرُ ثابتٍ، ومثله سيدِّ وجواد - تريد السِّيادة والجود الثَّابتين المستقرين - فإذا أردت الحدوث قلت: سائِدٌ وجائدٌ. قال أبُو حيَّان: وليس هذا الحكمُ مختصّاص بهذه الألفاظ؛ بل كلُّ ما بني من الثلاثي للثبوتِ والاستقرارِ على غير فاعل رُدَّ إليه إذا أريد به معنى الحدوث تقول: حَاسِن وثَاقِل وسامِن في: «حَسُن وثقُلَ وسمُن» ؛ وأنشد قول الشاعر: [الطويل] 2946 - بمَنْزِلَةٍ أمَّا اللَّئِيمُ فسَامِنٌ ... بهَا وكرامُ النَّاسِ بادٍ شُحُوبُهَا وقيل: إنَّما عدل عن «ضيِّق» إلى «ضَائِقٌ» ليناسب وزن «تَارِكٌ» . والهاءُ في «به» تعود على «بعض» . وقيل: على «ما» . وقيل: على التَّكذيب و «صَدْرُكَ» مبتدأ مؤخَّرٌ، والجملةُ خبرٌ عن الكاف في «لعَلَّكَ» ؛ فيكون قد أخبر بخبرين: أحدهما: مفرد، والثاني: جملة عطفت على مفردٍ، إذ هي بمعناه، فهو نظير: «إنَّ زيداً قائمٌ، وأبوه منطلقٌ» . قوله: «أن يقُولُوا» في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلاف المشهور في «أنَّ» بعد حذف حرف الجرِّ أو المضاف، تقديره: كراهة أو مخافة أن يقولوا، أو لئلاَّ يقولوا، أو بأن يقولوا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 446 وقال أبو البقاء: لأن يقُولُوا أي: لأن قالوا، فهو بمعنى الماضي وهذا لا حاجة إليه، وكيف يُدَّعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٌّ في الاستقبال وهو الناصب؟ . و «لَوْلاَ» تحضيضيةٌ، وجملة التَّحضيض منصوبةٌ بالقول. فصل المعنى: فلعلَّك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك، فلا تبلغة إيَّاهم، وذلك أن كفار مكة قالوا: ائتِ بقرآن غير هذا، ليس فيه سب آلهتنا، فهمَّ النبيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم - أن يدع آلهتهم ظاهراً؛ فأنزل الله تعالى: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} يعنى سب الآلهة: {وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ} أي: ولعلَّ يضيق صدرك {أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ} يصدِّقه، قاله عبد الله بنُ أميَّة المخزُومي. وروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّ رؤساء مكَّة قالوا: يا محمد: اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً، وقال آخرون: ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك، فقال: لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية. وأجمع المسلمون على أنَّهث لا يجوزُ على الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يخُون في الوَحْي والتبليغ، وأن يترك بعض ما يوحى إليه؛ لأنَّ تجويزه يُؤدِّي إلى الشَّك في كل الشرائع وذلك يقدحُ في النبوةِ، وأيضاً فالمقصودُ من الرِّسالة تبليغ التكاليف، والأحكام، فإنه لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها. وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المرادُ من قوله: {فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ} شيئاً آخر سوى أنه فعل ذلك. وذكروا فيها وجوهاً أخر، قيل: إنَّهم كانوا لا يقبلون القرآن ويتهاونون به، فكان يضيق صدر الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فأهله الله لأداء الرِّسالة، وطرح المبالاة بكلماتهم الفاجرة، وترك الالتفات إلى استهزائهم، والغرض منه التنبيه على أنه إذا أدَّى ذلك الوحي وقع في سفاهتهم، وإن لم يُؤد ذلك وقع في ترك وحي الله - تعالى - وفي إيقاع الخيانةِ، وأنه لا بد من تحمل أحد الضَّررين؛ فتحمل ضرر سفاهتهم أسهل من تحمل الخيانة في وَحْي الله، والرغض من ذكر هذا الكلام: التنبيهُ على هذه الدقيقة؛ لأنَّ الإنسان إذا علم أنَّ كلَّ واحدٍ من طرفي الفعل والترك مشتملٌ على ضررٍ عظيم، على أنَّ الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف. فإن قيل: الكنز كيف ينزل؟ فالجواب: أنَّ المراد ما يكنز، وجرت العادة على أنَّ المال الكثير يسمَّى كنزاً، فقال القومُ: إن كنت صادقاً في أنَّك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كلِّ شيء وأنك عزيزٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 447 عنده فهلاَّ أنزل عليك ما تستغني به في مهماتك وتعين أنصارك، وإن كنت صادقاً فهلاَّ أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك، ويعينك على تحصيل مقصودك وتزول الشبهة في أمرك، فلمَّا لم يفعل لك ذلك فأنت غير صادقٍ، فبيَّن الله تعالى أنَّهُ رسول ينذر بالعقاب ويبشر بالثَّواب وليس له قدرة على إيجاد هذه المطلوبات، والذي أرسله هو القادرُ على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، ولا اعتراض لأحدٍ عليه. ومعنى «وكيلٌ» : حفيظ أي: يحفظُ عليهم أعمالهم، حتى يجازيهم بها، ونظير هذه الآية، قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] إلى قوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 93] . قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] . لمَّا طلبوا منه المعجز قال: معجزتي هذا القرآن، فلمَّا حصل المعجز الواحد كان طلب الزِّيادة بغياً وجهلاً. وفي «أمْ» هذه وجهان: أحدهما: أنها منقطعةٌ فتقدَّر ب «بَلْ» والهمزة، فالتقدير: بل أتقولون افتراه. والضمير في «افتراهُ لما يوحى. والثاني: أنَّها متصلة، فقدَّروها بمعنى: أيكفرون بما أوحينا إليك من القرآن أم يقولون إنَّهُ ليس من عند الله؟ قوله» مِثْلِهِ «نعت ل» سُورٍ «و» مثل «وإن كانت بلفظ الإفراد فإنه يوصف بها المثنى والمجموع والمؤنث، كقوله تعالى: {أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} [المؤمنون: 74] ويجوز المطابقة. قال تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ} [الواقعة: 22، 23] وقال تعالى: {ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم} [محمد: 38] . قال ابن الخطيب:» مِثلِهِ «بمعنى» مثاله «حملاً على كُلِّ واحدة من تلك السور، ولا يبعد أيضاً أن يكون المرادُ المجموع؛ لأنَّ مجموع السور العشرة شيء واحد. والهاء في» مِثْلِهِ «تعود لما يوحى أيضاً، و» مُفْترياتٍ «صفة ل» سُورٍ «جمع» مُفْتراة «ك» مُصْطفيَات «في» مُصْطَفاة «فانقلبت الألفُ ياءً كالتثنية. فصل قال ابنُ عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هذه السور التي وقع بها التَّحدي سور معينه، هي سورة البقرة وآل عمران والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس وهود، فقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} الإشارة إلى هذه السور وهذا فيه الجزء: 10 ¦ الصفحة: 448 إشكال، لأنَّ هذه السُّورة مكية، وبعض السُّور المتقدمة مدنية، فكيف يمكنُ أن يكون المراد هذه العشر عند نزول هذا الكلام؟ فالأولى أن يقال التحدي وقع بمطلق السور. فإن قيل: قد قال في سورة يونس {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] وقد عجزوا عنهُ. فكيف قال {فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ} فهو كرجل يقول لآخر: أعطني درهماً؛ فيعجز، فيقول: أعطني عشرة؟ . فالجوابُ: قد قيل: نزلت سورة هودٍ أولاً، وأنكر المبردُ هذا وقال: بل سورة يونس أولاً، وقال: ومعنى قوله في سورة يونس: {فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ} [يونس: 38] أي: مثله في الإخبار عن الغيب، والأحكام، والوعد والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في سورة هودٍ: إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الإخبار، والأحكام، والوعد، والوعيد (فأتوا بعشر سور مثله) من غير وعْدٍ ووعيدٍ، وإنما هي مجرد بلاغة. فصل اختلفوا في الوجه الذي كان القرآن لأجله معجزاً، فقيل: هو الفصاحةُ وقيل: الأسلوب، وقيل: عدم التناقض، وقيل: اشتمالهُ على الإخبار عن الغيوبِ، والمختار عند الأكثرين أن القرآن معجز من جهة الفصاحة، واستدلُّوا بهذه الآية، لأنَّهُ لو كان إعجازه هو كثرة العلوم، أو الإخابر عن الغيوب، أو عدم التناقض لم يكن لقوله: «مفترياتٍ» معنى، أمَّا إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صحَّ ذلك؛ لأنَّ فصاحة الفصيح تظهر بالكلام، سواء كان الكلام صدقاً أو كذباً، ثم إنه لمَّا قرر وجه التحدِّي قال: {وادعوا مَنِ استطعتم} واستعينوا بمن استطعتم {وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} يا أصحاب محمد، وقيل: لفظه جمع والمراد به الرسول - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه وحده - والمرادُ بقوله: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ} أي: الكفار، يحتمل أنَّ من يدعونه من دون الله لمْ يَسْتَجِيبُوا. قوله: {فاعلموا أَنَّمَآ أُنزِلِ} «ما» يجوز أن تكون كافة مهيئة، وفي «أنزِلَ» ضميرٌ يعودُ على {مَا يوحى إِلَيْكَ} [هود: 12] ، و «بعلْم» حال أي: ملتبساً بعلمه، ويجوز أن تكون موصولة اسمية أو حرفية اسماً ل «أنّ» والخبرُ الجارُّ تقديره: فاعلموا أن تنزيله، أو أن الذي أنزل ملتبسٌ بعلمٍ. وقرأ زيد بن علي «نزَّل» بفتح النون والزاي المشددة، وفاعل «نزَّل» ضميرُ الله تعالى، و {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} نسقٌ على «أنَّ» قبلها، ولكن هذه مخففةٌ فاسمها محذوفٌ، وجملة النَّفي خبرها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 449 فصل إن قلنا هذا خطاب للمؤمنين، فالمعنى: ابقوا على العلم الذي أنتم عليه؛ لتزدادوا يقيناً وثبات قدمٍ، على أنه منزَّل من عند الله. وقوله: {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} أي: مخلصون، وقيل: فيه إضمار، أي: فقولوا أيُّها المسلمون للكفار: اعلموا أنَّما أنزل بعلم الله، يعني القرآن. وقيل: أنزله، وفيه علمه، وإن قيل: إن هذا الخطاب مع الكفار، فالمعنى: إن الذين تدعونهم من دون الله، إذا لم يستجيبوا لكم في الإعانة على المعارضة، فاعلموا أيها الكفار؛ أن هذا القرآن، إنما أنزل بعلمه، فهل أنتم مسلمون، فقد وقعت الحجة عليكم، وأن لا إله إلا هو، فاعلموا أنَّهُ لا إله إلا هُو. {فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ} لفظهُ استفهام، ومعناه أمر، أي: أسلموا. قال بعض المفسِّرين: وهذا القول أولى؛ لأن القول الأول يحتاج فيه إلى إضمار القول، وهذا لا يحتاج إلى إضمار، وأيضاً: فعود الضمير إلى أقرب مذكور أولى، وأيضاً: فالخطابُ الأول كان مع الكفار بقوله: {مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله} ، وأيضاً فالأول أمر بالثبات. فإن قيل: أين يعلَّق الشرط المذكور في هذه الآية، وأين ما فيها من الجزاء؟ فالجواب: أن القوم ادعوا كون القرآن مفترًى على الله تعالى، فقال: لو كان متفرًى على الله تعالى، لوجب أن يقدر الخلقُ على مثله، ولما لم يقدروا عليه، ثبت أنَّهُ من الله، فقوله (إنا أنزل بعلم الله) : كنايةٌ عن كون من عند الله، ومن قبله؛ كما يقول الحاكم: هذا الحكم جدير بعلمي. فإن قيل: أي تعلُّق لقوله: {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} بعجزهم عن المعارضة؟ . فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه تعالى لمَّا أمر محمداً - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - بأن يطلب من الكفار ان يستعينوا بالأصنامِ في تحقيق المعارضة ثم ظهر عجزهم عنها فحينئذ ظهر أنَّها لا تنفعُ ولا تضرُّ في شيءٍ من المطالب ألبتة، ومن كان كذلك، فقد بطلت إلهيته، فصار عجزُ القوم عن المعارضة بعد الاستعانة بالأصنام مبطلاً لإلهية الأصنام، ودليلاً على إثبات نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم، فكان قوله: {وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ} إشارة إلى ظهور فسادِ إلاهيَّة الأصنام. وثانيها: أنَّهُ ثبت في علم الأصول أنَّ القول بنفي الشَّريك عن الله من المسائل التي يمكن إثباها بقول الرَّسُول - صلوات الله وسلام عليه - فكأنَّهُ قيل: لمَّا ثبت عجزُ الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقاً، وثبت كون قول محمد صدقاً في دعوى الرِّسالةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 450 وإذا ثبت ذلك فأعلمهم يا محمد أن لا إله إلا هو، واتركُوا الإصرار على الكفر، واقبلوا الإسلام. ونظيره قوله تعالى - في سورة البقرة عند ذكر آية التحدِّي - {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ} [البقرة: 24] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 451 قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا} الآية. قيل: إنَّها مختصةٌ بالكُفَّار لقوله: {أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [هود: 16] وهذا ليس إلاَّ للكفار، فيكون التقدير: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط، أي: تكون إرادته مقصورةٌ على حُبِّ الدنيا وزينتها، ومن طلب السعادات الأخرويَّة كان حكمه كذا وكذا. واختلف القائلون بهذا القول فقال الأصم: المرادُ مُنْكِرُو البعث فإنَّهم ينكرون الغنائم من غير أن يؤمنوا بالآخرة. وقال أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: المرادُ اليهود والنَّصارى. وقال القاضي: المراد من كان يريدُ بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها. وعمل الخير قسمان: العبادات وإيصال المنفعة إلى الحيوان كالبر، وصلة الرَّحمِ، والصَّدقة، وبناء القناطر، وتسوية الطرق، ودفع الشر، وإجراء الأنهار، فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافرُ لأجل الثناء في الدُّنيا، فإنَّ بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين، وهي من أعمال الخير، فقد تصدرُ من المسلم والكافر. وأمَّا العباداتُ فإمَّا أن تكون طاعات بنيَّاتٍ مخصوصة، فإذا لمْ يؤتَ بتلك النِّية، وإنَّما أتى فاعلها بها طلباً لزينة الدنيا، وتحصيل الرِّياء والسمعةِ؛ فلا تكونُ طاعةً ووجودها كعدمها بل هو شر منها. وعلى هذا فالمرادُ منه الطَّاعات التي يصحُّ صدورها من الكفار. وقيل: الآية على ظاهرها في العموم؛ فيندرج فيه المؤمنُ الذي يأتِي بالطَّاعات رياءً وسمعةً ويندرج فيه الكافرُ الذي هذا صفته. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 451 ويشكلُ على هذا قوله في آخر الآية {أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار} إلاَّ إذا قلنا: إنَّ المراد: أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار بسبب الأعمال الفاسدة، والأفعال الباطلة. والقائلون بهذا القول أكَّدُوا قولهم بما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - «تعوَّذُوا بالله من جُبِّ الحُزْنِ» قيل: وما جُبُّ الحُزنِ؟ قال: «وادٍ في جَهَنَّمَ يُلْقَى فيه القُرَّاء المُراءُونَ» . وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «أشدُّ النَّاسِ عذاباً يوْمَ القيامةِ مَنْ يَرَى النَّاسُ فيه خَيْراً ولا خَيْرَ فِيهِ» . وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إذا كَانَ يَوْمَ القيامةِ يُؤتى برجُلٍ جَمَعَ القرآنَ فيقالُ: ما عَمِلْتَ فيه؟ فيقولُ: يا رب قُمْتُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، والنَّهَارِ، فيقُول الله - تبارك وتعالى - كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقالَ: فلانٌ قارىءٌ، وقدْ قِيل ذلِكَ، ويُؤتى بصاحبِ المَالِ فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ ألَمْ أوسِّعْ عليكَ؟ فماذا عَمِلْتَ فيما آتَيْتُكَ؟ فيقُولُ: وصَلْتُ الرَّحِمَ وتصدَّقْتُ، فيقُولُ: كذَبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال فلانٌ جوادٌ، وقد قِيلَ ذلك، ويُؤتى بمن قُتِلَ في سبيل الله فيقول: قاتَلْتُ في سَبِيل اللهِ حتَّى قُتِلْتُ، فيقُولُ اللهُ عزَّ وجلَّ كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال: فلانٌ فارسٌ» . ثم ضربَ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ركبتي وقال: «يا أبا هريرة أولئك الثَّلاثةُ أوَّلُ خَلْقٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْم القِيامَةِ» . وقد روي أن أبا هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - ذكر هذا الحديث عند معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. قال الراوي: فبكى حتَّى ظننا أنَّهُ هالك ثمَّ أفاق وقال: صدق الله ورسوله {مَن كَانَ يُرِيدُ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15] . فصل نقل القرطبيُّ عن بعض العلماء: أنَّ معنى هذه الآية: هو قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّما الأعمالُ بالنِّياتِ» ، وهذا يدلُّ على من صام في رمضان لا عن رضمان لا يقعُ عن رمضان، وتدلُّ على أن من توضَّأ للتبرد والتنظف لا يقعُ عن جهة الصَّلاةِ، وكذلك كل من كان في معناه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 452 قوله: «نُوَفِّ» . الجمهور على «نُوفِّ» بنون العظمة وتشديد الفاء من «وفَّى يُوفِّي» . وطلحة وميمون بياءِ الغيبةِ، وزيد بن علي كذلك، إلاَّ أنَّه خفَّف الفاء من «أوْفَى يُوفِي» ، والفاعلُ في هاتين القراءتين ضميرُ الله تعالى. وقرئ «تُوفَّ» بضم التاء، وفتح الفاء مشددة من «وُفِّيَ يُوَفَّى» مبنياً للمفعول. «أعْمَالهم» بالرَّلإع قائماً مقام الفاعل. وانجزم «نُوَفِّ» على هذه القراءاتِ لكونه جواباً للشَّرطِ، كما في قوله تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا} [الشورى: 20] . وزعم الفرَّاء أنَّ «كان» هذه زائدة، ولذلك جزم جوابه، ولعلَّ هذا لا يصحُّ، إذ لو كانت زائدة لكان «يُرِيدُ» هو الشَّرط، ولو كان الشَّرط، لانجزم، فكان يقال: «مَنْ كَان يُرِدْ» وزعم بعضهم أنه لا يؤتى بفعل الشَّرط ماضياً، والجزاء مضارعاً إلاَّ مع «كان» خاصة، ولهذا لم يجىء في القرآن إلا كذلك، وهذا ليس بصحيح لوروده في غير «كان» ؛ قال زهير: [الطويل] 2947 - ومَنْ هَابَ أسْبابَ المنَايَا يَنَلْنَهُ ... ولو رَامَ أسبابَ السَّمَاءِ بسُلَّمِ وأمَّا القرآنُ فجاء من باب الاتفاق لذلك. وقرأ الحسنُ «نُوفِي» بتخفيف الفاء وثبوتِ الياء من «أوْفَى» ، ثمَّ هذه القراءةُ محتملةٌ: لأن يكون الفعل مجزوماً، وقُدِّر جزمه بحذفِ الحركةِ المقدرة؛ كقوله: [الوافر] 2948 - ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لاقَتْ لبُونُ بَنِي زِيادِ على أنَّ ذلك يأتي في السَّعةِ نحو: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ} [يوسف: 90] وسيأتي مُحَرَّراً في سورته، ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعاً لوقوع الشَّرط ماضياً؛ كقوله: [الطويل] . 2949 - وإنْ شُلَّ ريْعَانُ الجَميعِ مَخَافَةً ... نَقُولُ جِهَاراً: ويْلَكُمْ لا تُنَفِّرُوا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 453 وكقول زهير: [البسيط] 2950 - وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ ... يقُولُ لا غَائِبٌ مالِي ولا حَرِمُ وهل يجوزُ الرفع؛ لأنه على نيَّة التقديم، وهو مذهب سيبويه، أو على نيَّة الفاءِ، كما هو مذهب المبرد؛ خلافٌ مشهورٌ. ومعنى {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} أي: نُوفِّ إليهم أجور أعمالهم في الدنيا بسعةِ الرزق ودفع المكاره وما أشبهها. {وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ} أي: في الدنيا لا ينقص حظهم. «روى أنس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف ومجد وكرم وبجل وعظم قال:» إنَّ الله لا يَظْلِمُ المؤمنَ حَسَنَةً يُثاب عليْهَا الرزقَ في الدُّنيا، ويُجْزَى عليها فِي الآخِرةِ، وأمَّا الكَافِرُ فيُطْعَمُ بِحسنَاتِهِ في الدُّنْيَا حتَّى إذا أفْضَى إلى الآخرةِ لمْ تَكُنْ لهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بها خَيْراً «. قوله تعالى: {أولئك الذين لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخرة إِلاَّ النار وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} في الدنيا {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} هذه الآية إشارة إلى التَّخليد في النَّار، والمؤمن لا يخلدُ، لقوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ} [النساء: 48] . قوله: {وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا} يجوز أن يتعلَّق» فِيهَا «ب» حَبِطَ «والضميرُ على هذا يعودُ على الآخرة، أي وظهر حبوطُ ما صنعوا في الآخرة، ويجوزُ أن يتعلَّق ب» صَنَعُوا «فالضَّميرُ يعودُ على الحياةِ الدُّنيا كما عاد عليها في قوله: {نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا} [هود: 15] . و» ما «في» مَا صَنَعُوا «يجوز أن تكون بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ، أي: الذي صنعوه، وأن تكون مصدرية، أي: وحبط صنعهم. قوله: {وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قرأ الجمهورُ برفع الباطل، وفيه ثلاثةُ أوجه: أحدها: أن يكون» بَاطِلٌ «خبراً مقدماص، و» مَا كانُوا يَعْمَلُون «مبتدأ مؤخَّر، و» ما «تحتملُ أن تكون مصدرية، أي: وباطلٌ كونهم عاملين، وأن تكون بمعنى» الذي «والعائدُ محذوفٌ، أي: يعملونه، وهذا على أنَّ الكلام من عطف الجملِ، عطف هذه الجملة على ما قبلها. الثاني: أن يكون» باطل «مبتدأ، و» مَا كانُوا يَعْمَلُون «خبرهُ، قال مكي، ولم يذكر غيره، وفيه نظر. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 454 الثالث: أن يكون» بَاطِلٌ «عطفاً على الأخبار قبله، أي: أولئك باطلٌ ما كانوا يعملون و» ما كانُوا يَعْمَلُونَ «فاعلٌ ب» بَاطِلٌ «، ويرجح هذا ما قرأ به زيد بن علي» وبَطَلَ ما كانُوا يَعملُونَ «جعله فعلاً ماضياً معطوفاً على» حَبطَ «. وقرأ أبيّ وابن مسعود:» وبَاطلاً «. قال مكيّ:» وهي في مصحفهما كذلك «. ونقلها الزمخشري عن عاصم» وبَاطِلاً «نصباً، وفيها ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أنَّه منصوبٌ ب» يَعْمَلُون «و» ما «مزيدة، وإلى هذا ذهب مكي، وأبو البقاءِ وصاحب اللوامح، وفيه تقديمُ معمولِ خبر» كان «على» كان «وهي مسألةُ خلافٍ، والصحيحُ جوازها، كقوله تعالى {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] ، فالظاهرُ أنَّ «إيَّاكُمْ» منصوب ب «يَعْبُدُون» . والثاني: أن تكون «ما» إبهامية، وتنتصب ب «يَعْمَلُون» ومعناه: «باطلاً أي باطلٍ كانُوا يَعْمَلُون» . والثالث: أن يكون «بَاطِلاً» بمعنى المصدر على بطل بُطلاناً ما كانوا يعملون، ذكر هذين الوجهين الزمخشري، ومعنى قوله «ما» إبهامية أنها هنا صفةٌ للنَّكرة قبلها، ولذلك قدَّرها ب «باطلاً أيَّ باطلٍ» فهو كقوله: [المديد] 2951 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... وحَديثٌ ما عَلَى قِصَرِهْ و «لأمرٍ ما جدعَ قصيرٌ أنفهُ» ، وقد قدَّم هو ذلك في قوله تعالى: {مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً} [البقرة: 26] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 455 قوله تعالى: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ} الآية. وتقدير تعلقهما بما قبلها: (أفمن كان على بينة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها) . وقوله: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ} فيه وجهان: أحدهما: أنه مبتدأ والخبر محذوفٌ، تقديره: أفمن كان على هذه الأشياء كغيره، كذا قدَّرهُ أبو البقاءِ، وأحسن منه (أفمن كان كذا كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها) وحذف المعادل الذي دخلت عليه الهمزة كثيرٌ نحو: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ} [فاطر: 8] ، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ} [الزمر: 9] إلى غير ذلك، وهذا الاستفهام بمعنى التقرير. الثاني: - وإليه نحا الزمخشري - أن هذا معطوفٌ على شيءٍ محذوفٍ قبله، تقديره: «أمن كان يريد الحياة الدنيا، وزينتها كمن كان على بينةٍ» ، أي: لا يعقبونهم في المنزلة ولا يقاربونهم. يريد: أن بين الفريقين تفاوتاً، والمراد من آمن من اليهود كعبد الله بن سلام، وهذا على قاعدته من تقديره معطوفاً بين همزة الاستفهام، وحرفِ العطفِ، وهو مبتدأ أيضاً، والخبر محذوفٌ كما تقدم تقريره. قوله: «ويَتْلُوهُ» اختلفوا في هذه الضمائر، أعني في «يَتْلوهُ» ، وفي «مِنْهُ» ، وفي «قَبْلِهِ» : فقيل: الهاء في «يَتْلُوهُ» تعودُ على «مَنْ» ، والمراد به النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكذلك الضميران في «مِنْهُ» ، و «قَبلهِ» ، والمراد بالشَّاهد لسانه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والتقدير: ويتلو ذلك الذي على بيِّنةٍ، أي: ويتلو محمَّداً - أي: صِدْقَ محمدٍ - لسانه «ومِنْ قَبْلِهِ» أي: قبل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: الشَّاهدُ جبريلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - والضميرُ في «مِنْهُ» لله - تعالى -، وفي قبله للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: الشَّاهدُ الإنجيلُ، و «كِتابُ مُوسَى» - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عطف عى «شاهدٌ» ، والمعنى: أنَّ التوراة والإنجيل يتلُوان محمداً في التَّصديق، وقد فصل بين حرف العطف والمعطوف بقوله: «مِنْ قَبْلِهِ» ، والتقدير: شاهدٌ منهُ، وكتابُ موسى من قبله، وقد تقدَّم الكلامُ على الفصلِ بين حرفِ العطفِ، والمعطوفِ مُشْبَعاً في النِّساءِ [58] . وقيل: الضميرُ في «يتْلوهُ» للقرآن، وفي «مِنْهُ» لمحمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه -. وقيل: لجبريل، والتقدير: ويتلو القرآن شاهدٌ من محمدٍ، وهو لسانهُ، أو من جبريل والهاء في «مِنْ قبلِهِ» أيضاً للقرآن. وقيل الهاءُ في «يَتْلُوهُ» تعودُ على البيانِ المدلولِ عليه بالبيِّنة. وقيل: المرادُ بالشَّاهدِ إعجازُ القرآنِ، فالضَّمائر الثلاثة للقرآن. وقيل غير ذلك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 456 وقرأ محمد بن السَّائب الكلبي «كِتابَ مُوسَى» بالنَّصْب وفيه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ معطوفٌ على الهاءِ في «يَتْلوهُ» ، أي: يتلوه، ويتلو كتابَ مُوسَى، وفصل بالجارِّ بين العاطفِ والمعطوف. والثاني: أنَّهُ منصوبٌ بإضمار فعلٍ. قال أبُو البقاء: «وقد تمَّ الكلامُ عند قوله» منهُ «و» كتابُ مُوسَى «، أي:» ويتلُو كتابَ مُوسَى «فقدَّر فعلاً مثل الملفُوظ به، وكأَنَّهُ لَمْ يَرَ الفصل بين العاطف والمعطوف، فلذلك قدَّر فعلاً» . و «إماماً ورحمةً» منصوبان على الحالِ من «كِتابُ مُوسَى» سواءً أقرىء رفعاً أم نَصْباً. و «أولئك» إشارةٌ إلى مَنْ كان على بيِّنة، جمع على معناها، وهذا إن أريد ب «مَنْ كَانَ» النبيُّ وصحابته - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه، ورضي عن صحابته أجمعين - وإن أريد هو وحدهُ فيجوزُ أن يكون عظَّمَهُ بإشارة الجمع كقوله: [الطويل] 2952 - فإنْ شِئْتُ حَرَّمْتُ النِّساءَ سِواكُمُ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... والهاءُ في «بِهِ» يجوزُ أن تعود على «كِتَابُ مُوسَى» وهو أقربُ مذكورِ. وقيل: بالقرآن، وقيل: بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكذلك الهاء في «بِهِ» الثانية. و «الأحْزَابُ» الجماعةُ التي فيها غلظةٌ، كأنَّهم لكثرتهم وصفوا بذلك، وفيه وصفُ حمار الوحش ب «حَزَابِيَة» لغلظه. والأحزابُ جمع حِزب وهو جماعة النَّاس. فصل قيل: في الآية حذف، والتقدير: «أفمن كان على بيَّنةٍ من ربِّهِ كمن يريدُ الحياة الدنيا وزينتها» ، أو من كان على بيِّنةٍ من ربه كمن هو في الضَّلالةِ. والمرادُ بالذي هو عليه بيِّنةٍ: النبي - صلوات الله وسلامه عليه -. {وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ} أي: يتبعه من يشهد له بصدقه. واختلفوا في هذا الشَّاهد: فقال ابنُ عبَّاسٍ، وعلقمة، وإبراهيم، ومجاهد، وعكرمة، والضحاك وأكثرُ المفسِّرين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: إنَّه جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وقال الحسنُ وقتادةُ: هو لسانُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 457 وروى ابنُ جريج عن مجاهدٍ قال: هو ملك يحفظه ويسدده. وقال الحسينُ بن ُ الفضلِ: هو القرآن ونظمه. وقيل: هو عليّ بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه - قال علي: «مَا مِنْ رجُلٍ من قريش إلاَّ ونزلت فيه آية من القرآن» ، فقال له رجلٌ: «أي شيء نزل فيك» ؟ قال: «ويَتْلُوهُ شاهدٌ مِنْهُ» . وقيل: هو الإنجيلُ. و «مِنْ قَبْلِهِ» أي: من قبل مجيء محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: من قبل نزول القرآن. {كِتَابُ موسى} أي: كان كتاب موسى {إَمَاماً وَرَحْمَةً} لمن اتَّبعهُ، أي التَّوراة، وهي مصدقةٌ للقرآن، شاهدةٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ} يعني: أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: أراد الذين أسْلَمُوا من أهل الكتاب. {وَمَن يَكْفُرْ بِهِ} أي: بمحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل بالقرآن «مِنَ الأحزابِ» من الكفَّار وأهْلِ المللِ، {فالنار مَوْعِدُهُ} اسمُ مكانِ وعده؛ قال حسَّانُ: [البسيط] 2953 - أوْرَدْتُمُوهَا حِيَاضَ المَوْتِ ضَاحِيَةً ... فالنَّارُ مَوْعِدُهَا والمَوْتُ سَاقِيهَا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: والذي نفسُ محمدٍ بيدهِ لا يسمعُ بي أحدٌ من هَذِهِ الأمَّة، ولا يَهُودِيّ ولا نَصْرانيّ، ومات ولَمْ يؤمنْ بالَّذِي أرْسِلْتُ به إلاَّ كَانَ مِنْ أصْحابِ النَّارِ «. {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} أي: شكٍّ، و» المِرْيَة «بكسر الميم وضمِّها الشكُّ، لغتان: أشهرهما الكسرُ، وهي لغة أهْلِ الحجازِ، وبها قرأ الجمهور. والضَّمُّ لغةُ وتميم، وبها قرأ السلمي وأبو رجاء وأبو الخطاب السَّدُوسي. والمعنى: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ} أي: من صحَّة هذا الدِّين، ومن كون هذا القرآن نازِلاً من عند الله - تعالى -. وقيل: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} من أنَّ موعد الكفار النَّارُ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 458 قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أولئك يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} الآية. أورده في معرض المبالغة دليلاً على أنَّ الافتراء على الله - تعالى - أعظمُ أنواع الظُّلْمِ. {أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ} [الأنعام: 21] يعنى: القرآن،» أولَئِكَ «يعنى: الكاذبين والمكذبين. {يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ} فيسألهم عن إيمانهم، وخصَّهم بهذا العرض، وإن كان العرضُ عاماً في كُلِّ العباد لقوله تعالى: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً} [الكهف: 48] ؛ لأنهم يعرضون، فيفتضحون بأن يقول الأشهاد عند عرضهم: {هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ} فليحقهم من الخزي والنَّكالِ ما لا مزيد عليه. و» الأشهادُ «جمعُ شاهد، كصاحب وأصحاب، أو جَمْعُ شهيد كشريف وأشْراف. والمرادُ ب» الأشهادِ «قال مجاهدٌ هم الملائكة الحفظة. وقال قتادةُ، ومقاتلٌ:» الأشْهَادُ «النَّاس. وقيل: الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -. فإن قيل: إذا لمْ يجز أن يكون الله - تعالى - في مكان؛ فكيف قال {يُعْرَضُونَ على رَبِّهِمْ} فالجوابُ: أنَّهُم يُعْرضُونَ على الأماكنِ المعدَّة للحساب، والسؤال، ويجُوزُ أن يعرضوا على من شاء الله من الخلقِ بأمر الله من الملائكة والأنبياء والمؤمنين. ثُمَّ لمَّا أخبر عن حالهم في عقاب القيامة أخبر أنَّهُم في الحال ملعونون عند الله - عزَّ وجلَّ -. روى عبد الله بن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» إنَّ الله - تعالى - يُدْنِي المُؤمنَ يَوْمَ القيامةِ فيسْتُرهُ مِنَ النَّاسِ، فيقُولُ: أي عَبْدِي أتعرفُ ذَنْبَ كذا وكذا؟ فيقول: نَعَمْ حتّى إذا قرَّرهُ بذُنُوبهِ، قال: فإنِّي سترتُها عليْكَ في الدنيا، وقد غفرتها لك اليوم ثُمَّ يُعْطَى كتابَ حسناتهِ، وأمَّا الكُفَّار والمُنافقُون، فيقُولُ الأشْهَادُ: هؤلاء الذين كذبُوا على ربِّهمْ ألا لَعْنَةُ الله على الظَّالمينَ «. {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} يمنعون عن دين الله {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} أي: إنَّهم كما ظلموا أنفسهم بالتزام الكفر، والضَّلال، فقد أضافُوا إليه المنع من الدِّين الحق، وإلقاءِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 459 الشُّبهِ وتعويج الدَّلائلِ المستقيمة؛ لأنه لا يقال في العاصي: يبغي عوجاً، وإنما يقالُ ذلك في العالم بكيفيه الاستقامة وكيفية العوج بسبب إلقاء الشُّبهاتِ. ثم قال: {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} . قال الزَّجَّاجُ: «كرر كلمة» هُمْ «توكيداً لشأنهم في الكُفْرِ» . {أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ} . قال الواحديُّ: «معنى الإعجاز المنع من تحصيل المراد، يقال: أعجزني فلانٌ: أي: منعني من مرادي، ومعنى {مُعْجِزِينَ فِي الأرض} أي: لا يمكنهم أن يهربُوا من عذابنا، فإنَّ هربَ العبدِ من عذابِ الله - تعالى - محالٌ؛ لأنَّه - تعالى - قادرٌ على جميع الممكنات» . وقال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «سَابقين» . وقال مقاتلٌ: «فائتين» . {فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ} يعني أنْصَاراً يحفظونهم من عذابنا. {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} أي: يُزادُ في عذابهم. وقيل: تضعيف العذاب عليهم لإضلالهم الغير. وقيل سبب تضعيف عذابهم أنَّهُم كفروا بالبَعْثِ والنشور. قوله: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} يجوز في «ما» هذه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن تكون نافيةً، نفى عنهم ذلك لمَّا لمْ يَنْتَفعُوا به، وإن كانُوا ذوي أسماع وأبصار، أو يكون متعلَّقُ السَّمْعِ والبصر شيئاً خاصاً. والثاني: أن تكون مصدرية، وفيها حينئذٍ تأويلان: أحدهما: أنَّها قائمةٌ مقام الظرف، أي: مُدة استطاعتهم، وتكونُ «مَا» منصوبة ب «يُضاعَفُ» ، أي: لا يضاعفُ لهم العذابُ مُدة استطاعتهم السَّمْعَ والأبصار. والثاني: أنَّها منصوبة المحلِّ على إسقاطِ حرف الجر كما يحذف من «أنْ» و «أنّ» اختيها، وإليه ذهب الفرَّاءُ، وذلك الجَارُّ متعلقٌ أيضاً ب «يُضَاعَفُ» أي: يضاعفُ لهم بكونهم كانوا يسمعون، ويبصرون، ولا ينتفعون. والثالث: أن تكون «ما» بمعنى «الَّذي» ، وتكون على حذف حرف الجر أيضاً، أي: بالذي كانوا، وفيه بعدٌ لأنَّ حذف الحرفِ لا يطَّرد. والجملة من قوله: «يُضاعَفُ» مستأنفة. وقيل: إنَّ الضمير في قوله «مَا كَانُوا» يعودُ على «أوْليَاء» وهم آلهتهم، أي: فما كان لهم في الحقيقةِ من أولياء، وإن كانُوا يعتقدون أنَّهم أولياء، فعلى هذا يكون {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} معترضاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 460 فصل احتجُّوا بهذه الآية على أنه سبحانه وتعالى قد يخلقُ في المكلف ما يمنعه من الإيمان. روي عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّهُ قال: إنَّه تعالى منع الكافرين من الإيمان في الدنيا وفي الآخرة. أمَّا في الدنيا ففي قوله {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} . وأمَّا في الآخرة ففي قوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} [القلم: 42] . ثم قال تعالى: {أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ} أي: أنهم اشتروا عبادة الآلهة بعبادة الله، فكان هذا الخسران أعظم وجوه الخسران. {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} يزعمون من شفاعة الملائكة والأصنام. قوله: «لا جَرَمَ» في هذه اللفظةِ خلافٌ بين النحويين، ويتلخصُ ذلك في خمسة أوجهٍ: أحدها - وهو مذهبُ الخليل وسيبويه وجماهير النَّاس - أنََهُما رُكِّبتا من «لا» النَّافية و «جَرَم» وبُنيتَا على تركيبها تركيب خمسة عشر، وصار معناهما معنى فعل وهو «حقَّ» فعلى هذا يرتفعُ ما بعدهما بالفاعليَّة، فقوله - تعالى -: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62] أي: حق وثبت كون النَّار لهم، أو استقرارها لهم. الوجه الثاني: أنَّ «لا جَرَمَ» بمنزلة «لا رجُل» في كون «لا» نافية للجنس، و «جَرَمَ» اسمها مبنيٌّ معها على الفتح، وهي واسمها في محلِّ رفعٍ بالابتداء، وما بعدها خبر «لا» النافية، وصار معناها: لا محالة ولا بُدَّ، قاله الفرَّاءُ. الثالث: - كالذي قبله - إلاَّ أنَّ «أنَّ» وما بعدها في محلِّ نصبٍ، أو جرٍّ بعد حذف الجار، إذ التقدير: لا محالةَ أنَّهُم في الآخرة، أي: في خسرانهم. الرابع: أنَّ «لا» نافيةٌ لكلام متقدم تكلَّم به الكفرةُ، فردَّ الله ذلك عليهم بقوله: «لا» كما تُرَدُّ «لا» هذه قبل القسم في قوله - عزَّ وجلَّ - {لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد} [البلد: 1] وقوله تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [النساء: 65] وقد تقدَّم تحقيقه، ثم أتى بعدها بجملة فعلية، وهي «جرم أنَّ لهُم كَذَا» ، و «جرم» فعل ماضٍ معناه «كسب» ، وفاعله مستتر يعودُ على فعلهم المدلول عليه بسياق الكلام، و «أنَّ» وما في حيِّزها في موضع المفعول به، لأنَّ «جَرَمَ» يتعدَّى إذْ هو بمعنى «كَسَبَ» ؛ قال الشاعر: [الوافر] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 461 2954 - نَصَبْنَا رَأْسَهُ فِي جِذْعِ نَخْلٍ ... بِمَا جَرَمَتْ يَدَاهُ ومَا اعْتَدَيْنَا أي: بما كسبتْ يداهُ، وقد تقدَّم تحقيقُ ذلك في المائدة [6] وجريمةُ القوم كاسبهم؛ قال: [الوافر] 2955 - جَرِيمةُ نَاهِضٍ فِي رَأسِ نيقٍ ... تَرَى لِعظَامِ ما جَمَعَتْ صَلِيبا فتقدير الآية: كَسَبَهُم - فعلهم أو قولهم - خسرانهم، وهذا قول أبي إسحاق الزجاج، وعلى هذا فالوقفُ على قوله «لا» ثم يبتدأ ب «جَرَمَ» بخلاف ما تقدَّم. الوجه الخامس: أن معناها لا صدَّ ولا منع، وتكون «جَرَمَ» بمعنى «القطع» تقول: جرمتُ أي: قطعت، فيكون «جَرَمَ» اسمَ «لا» مبنياً معها على الفتح؛ كما تقدَّم، وخبرها «أنَّ وما في حيِّزها، أو على حذف حرف الجر، أي: لا منع من خسرانهم؛ فيعودُ الخلافُ المشهور وفي هذه اللفظةِ لغاتٌ: فيقال: لا جِرمَ بكسر الجمي، ولا جُرم بضمها، ولا جَرَ بحذف الميم، ولا ذا جرم، ولا إنَّ ذا جرم، ولا عن ذا جرم، ولا أنْ جرم، ولا ذُو جرم، ولا ذا جر والله لا أفعل ذلك. وعن أبي عمروٍ: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} [النحل: 62] على وزن لا كرم، يعني بضمِّ الراءِ، ولا جرَ، قال: «حذفُوه لكثرةِ الاستعمالِ كما قالوا:» سَو ترى «أي: سوف ترى» . وقوله: {هُمُ الأخسرون} يجوز أن يكون «هُمُ» فصلاً، وأن يكون توكيداً، وأن يكون مبتدأ وما بعده خبره، والجملةُ خبر «أنَّ» . قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وأخبتوا إلى رَبِّهِمْ} لمَّا ذكر عقوبة الكافرين وخسرانهم، أتبعهُ بذكر أحوالِ المؤمنين، والموصولُ اسم «إنَّ» ، والجملةُ من قوله {أولئك أَصْحَابُ الجنة} خبرها. والإخْبَاتُ: الاطمئنان والتذلُّل، والتَّواضع، والخضوع، وأصله من الخَبْتِ وهو المكانُ المطمئنُّ، أي المنخفضُ من الأرض، وأخْبَتَ الرَّجلُ: دخل في مكانٍ خبت، كأنْجَدَ وأتهم إذا دخل في أحذ هذين المكانين، ثُمَّ تُوُسِّعَ فيه فقيل: خَبَتَ ذكرهُ، أي: خَمَدَ، ويقال للشَّيءِ الدَّنيء الخبيث؛ قال الشاعر: [الخفيف] 2956 - يَنْفَعُ الطَّيِّبُ القليلُ مِنَ الرِّزْ ... قِ ولا ينفعُ الكثيرُ الخَبِيتُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 462 هكذا ينشدون هذا البيت في هذه المادة، الزمخشري وغيره. والظَّاهرُ أن يكون بالثَّاءِ المثلثة ولا سيما لمقابلته بالطَّيِّب، ولكن الظَّاهر من عباراتهم أنَّه بالتاء المثناة لأنَّهُم يسوقونهُ في هذه المادةِ، ويدل على أنَّ معنى البيت إنما هو على الثَّاء المثلثة قول الزمخشري: «وقيل: التَّاءُ فيه بدل من الثَّاءِ» . ومن مجيء «الخَبْت» بمعنى المكان المطمئن قوله: [الوافر] 2957 - أفَاطِمُ لَو شَهِدْتِ ببطْنِ خَبْتٍ ... وقَدْ قَتَلَ الهزَبْرُ أخَاكِ بِشْرَا وفي تركيب البيت قلقٌ، وحلُّهُ: لو شهدتِ أخاك بشراً وقد قتل الهِزَبْرَ، ففاعل «قتل» ضمير يعودُ على «أخاك» . و «أخْبَت» يتعدَّى ب «إلى» كهذه الآية، وباللاَّم كقوله تعالى: {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} [الحج: 54] ومعنى الآية: قال ابنُ عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - خافُوا. وقال قتادةُ: تابُوا وقال مجاهدٌ: اطمأنُّوا. وقيل: خشعُوا إلى ربِّهم. {أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 463 لمَّا ذكر الفريقين ذكر لهما مثالاً مطابقاً. {مَثَلُ الفريقين} مبتدأ، و {كالأعمى} خبره، ثُمَّ هذه الكاف يحتمل أن تكون هي نفس الخبر، فتقدَّر ب «مثل» ، تقديره: مثلُ الفريقين مثل الأعمى. ويجوزُ أن تكون «مَثَلُ» بمعنى «صفة» ، ومعنى الكافِ معنى «مِثْل» ، فيقدَّر مضافٌ محذوفٌ، أي: كمثل الأعمى. وقوله: {مَثَلُ الفريقين كالأعمى} يجوزُ أن يكون من باب تشبيه شيئين بشيئين، فقابل العمى بالبصَرِ، والصَّمَم بالسَّمْع، وهو من الطِّباق، وأن يكون من تشبيه شيءٍ واحد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 463 بوصفيه بشيءٍ واحدٍ بوصفيه، وحينئذٍ يكون قوله: {كالأعمى والأصم} وقوله: {والبصير والسميع} من بابِ عطف الصفات؛ كقوله: [المتقارب] 2958 - إلى المَلكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمَامِ ... وليْثِ الكتيبَةِ في المُزْدَحَمْ وقد أحسن الزمخشريُّ في التَّعبير عن ذلك فقال: شبَّه فريق الكافرين بالأعمى والأصم وفريق المؤمنين بالبصيرِ والسَّميعِ، وهو من اللفِّ والطِّباق، وفيه معنيان: أن يُشَبِّه الفريقين تشبيهين اثنين، كما شبَّه امرؤُ القيس قلوبَ الطَّير بالحشفِ والعُنَّاب، وأن يُشَبِّه بالذي جمع بين العمى والصَّمم، والذي جمع بين البصرِ والسَّمعِ، على أن تكون الواو في «والأصَمِّ» وفي «والسَّمِيع» لعطف الصِّفةِ على الصفة كقوله: [السريع] 2959 - ... ... ... ... ... ... ... . . الصْ ... صَابحِ فالغَانِمِ فالآيِبِ يريد بقوله: «اللَّف» أنه لفَّ المؤمنين، والكافرين اللَّذين هما مشبَّهان بقوله: «الفريقين» ولو فسَّرهما لقال: مثلُ الفريق المؤمن كالبصيرِ والسَّميع، ومثلُ الكافر كالأعمى والأصم، وهي عبارةٌ مشهورةٌ في علم البيان: لفظتان متقابلتان، اللَّفُّ والنشرُ، أشار لقول امرىء القيس: [الطويل] 2960 - كأنَّ قُلُوبَ الطَّيْر رَطْباً ويَابِساً ... لَدَى وكْرِهَا العُنَّابُ والحَشَفُ البَالِي أصلُ الكلامِ: كأنَّ الرَّطْبَ من قلوب الطَّيرِ: العُنَّابُ، واليابس منها: الحَشَفُ، فلفَّ ونشر، وللّف والنشر في علم البيان تقسيمٌ كثير، ليس هذا موضعه. وأشار بقوله: «الصَّابح فالغانم» إلى قوله: [السريع] 2961 - يَا وَيْحَ زيَّابةَ لِلْحَارثِ الصْ ... صَابِحِ فالغَانمِ فالآيِبِ وقد تقدَّم ذلك في أول البقرة. فإن قيل: لِمَ قدّضم تشبيه الكافر على المؤمن؟ فالجوابُ: لأنَّ المتقدِّمَ ذكر الكفَّار، فلذلك قدَّم تمثيلهم. فإن قيل: ما الحكمةُ في العدول عن هذا التركيب لو قيل: كالأعمى والبصير، والأصم والسَّميع، لتتقابل كلُّ لفظةٍ مع ضدها، ويظهر بذلك التَّضادُّ؟ . فالجوابُ: بأنَّه تعالى لمَّا ذكر انسدادَ العين أتبعهُ بانسدادِ الأذن، ولمَّا ذكر انفتاح العين أتبعهُ بانفتاح الأذن، وهذا التَّشبيهُ أحدُ الأقسام، وهو تشبيهُ أمْرٍ معقول بأمر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 464 محسوس، وذلك أنَّهُ شبَّه عمى البصيرة وصممها بعمى البصرِ وصمم السَّمع، ذاك متردِّدٌ في ظُلمِ الضَّلالات، كما أنَّ هذا مُتحير في الطُّرقاتِ. قوله: مَثَلاً «تمييز، وهو منقولٌ من الفاعليَّة، والأصلُ: هل يستوي مثلهما، كقوله تعالى {واشتعل الرأس شَيْباً} [مريم: 4] وجوَّز ابنُ عطية أن يكون حالاً، وفيه بعدٌ صناعةً ومعنى؛ لأنَّه على معنى» مِنْ «لا على معنى» في «. ثم قال: {أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} مُنَبِّهاً على أنَّهُ يمكنه علاج هذا العمى وهذا الصَّمَم، وإذا كان العلاجُ مُمْكناً، وجب على العاقل أن يسعى في ذلك العلاج بقدر الإمكان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 465 قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى قَوْمِهِ إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} الآية. اعلم أنَّه جرت عادته - تعالى - في القرآن بأنَّهُ إذا أورد على الكافر الدَّلائل أتبعها بالقصص ليُؤكِّد تلك الدَّلائل، وقد بدأ بذكر هذه القصَّة ليُؤكِّد تلك الدَّلائل، وقد بدأ بذكر هذه القصَّة في سورة يونس، وأعادها ههنا لما فيها من زوائد الفوائد. قوله {إِنَّي لَكُمْ} قرأ ابنُ كثير وأبو عمرو والكسائي بفتح همزة «إني» ، والباقون بكسرها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 465 فأمَّا الفتحُ فعلى إضمارِ حرفِ الجرِّ، أي: «بأنِّي لَكُمْ» . قال الفارسيُّ: في قراءةِ الفتح خروجٌ من الغيبةِ إلى المخاطبةِ. قال ابن عطيَّة: وفي هذا نظر، وإنَّما هي حكايةُ مخاطبته لقومه، وليس هذا حقيقة الخروج من غيبةٍ إلى مخاطبة، ولو كان الكلامُ أن أنذرهم ونحوه لصحَّ ذلك. وقد قال بهذه المقالة - أعني الالتفات - مكي - فإنَّهُ قال: الأصل: بأنِّي، والجارُّ والمجرور في موضع المفعول الثاني، وكان الأصلُ: أنَّهُ، لكنَّهُ جاء على طريق الالفتات. ولكن هذا الالتفات غيرُ الذي ذكره أبو علي، فإنَّ ذلك من غيبة إلى خطابٍ، وهذا من غيبةٍ إلى تكلم وكلاهما غير محتاج إليه، وإن كان قولُ مكي أقربَ. وقال الزمخشري: الجارُّ والمجرور صلةٌ لحالٍ محذوفة، والمعنى: أرسلناه ملتبساً بهذا الكلام، وهو قوله: {إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ} بالكسر، فلمَّا اتصل بها الجارُّ فُتِح كما فتح «كأنَّ» والمعنى على الكسر في قولك «إنَّ زيداً كالأسد» ، وأمَّا الكسرُ، فعلى إضمار القول، أي: فقال، وكثيراً ما يُضْمر، وهو غني عن الشَّواهد. و «النذيرُ» قيل: المرادُ به كونه مهدداً للعصاة بالعقاب، ومن المبين كونه مبيناً ما أعد الله للمطيعين من الثواب، وأنه يبين ذلك الإنذار على أكمل طرقه، ثم بيَّن تعالى أنَّ ذلك الإنذار إنما هو بنهيهم عن عبادة غير الله، والأمر بعبادته - جل ذكره -؛ لأنَّ قوله {أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله} استثناء من النَّهْي، فهو يوجب نفي غير المستثنى، وإيجاب المستثنى. قوله: {أَن لاَّ تعبدوا} كقوله: {أَن لاَّ تعبدوا} في أول السورة، ونزيد هنا شيئاً آخر، وهو أنَّها على قراءةِ من فتح «أني» تحتملُ وجهين: أحدهما: أن تكون بدلاً من قوله: «أنِّي لَكُم» ، أي أرْسلناهُ بأن لا تَعْبُدُوا. والثاني: أن تكون مفسِّرة، والمفسَّر بها: إمَّا «أرْسَلناهُ» وإما «نَذِيرٌ» . وأمَّا على قراءة من كسر فيجوزُ أن تكون المصدرية وهي معمولةٌ ل «أرسلنا» ويجوزُ أن تكون المفسرة بحاليها. قوله: «أليم» إسناد الألم إلى اليوم مجازٌ مثله؛ لأنَّ الأليمَ في الحقيقة هو المعذِّب، ونظيرها قولك نهارُكَ صائمٌ. قال أبُو حيَّان: «وهذا على أن يكون» ألِيم «صفةُ مبالغةٍ من» ألِمَ «وهو من كثر ألمه، وإن كان» ألِيم «بمعنى:» مُؤلم «فنسبته لليوم مجازٌ وللعذاب حقيقة» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 466 فصل قال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بعث نوح بعد أربعين سنة، ولبث يَدعو قومه تسع مائة وخمسين سنة، وعاش بعد الطُّوفانِ ستين سنة، فكان عمره ألفاً وخمسين سنة. وقال مقاتلٌ: بعث وهو ابن مائة سنة. وقيل: بعث وهو ابن خمسين سنة. وقيل: ابن مائتين وخمسين سنة، ومكث يدعو قومه تسعمائة سنة، وعاش بعد الطوفان مائتين وخمسين سنة، فكان عمره ألفاً وأربع مائة سنة. قوله: {فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ} . «المَلأُ» هم الأشراف والرُّؤساء. «مَا نَراكَ» يجوزُ أن تكون هذه الرُّؤيا قلبيةً، وأن تكون بصريةً. فعلى الأول تكون الجملةُ من قولك: «اتَّبَعَكَ» في محلِّ نصب مفعولاً ثانياً، وعلى الثَّاين في محل نصب على الحال، و «قَدْ» مقدرةٌ عند من يشترط ذلك. و «الأراذِلُ» فيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ جمع الجمع. والثاني: جَمْعٌ فقط. والقائلون بالأول اختلفوا فقيل: جمع ل «أرْذُلٍِ» ، و «أرْذُل» جمع ل «رَذْلٍ» نحو: كَلْب وأكْلُب وأكالب. وقيل: بل جمع ل «أرْذَال» ، و «أرْذَال» جمع ل «رَذْل» أيضاً. والقائلون بأنه ليس جمع جمع، بل جمعٌ فقط قالوا: هو جمعٌ ل «أرْذل» ، وإنَّما جاز أن يكون جَمْعاً لأرذل لجريانه مَجْرَى الأسماءِ من حيث إنه هُجِر موصوفه كالأبْطَح والأبرق. وقال بعضهم: هو جمع «أرْذَل» الذي للتفضيل، وجاء جمعاً كما جاء {أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا} [الأنعام: 123] و «أحاسنكم أخلاقاً» . ويقال: رجل رَذْل ورُذَال، ك «رَخْل» و «رُخَال» وهو المرغوبُ عنه لِردَاءتِهِ. قال الواحديُّ: هُمُ الدُّونُ من كُلِّ شيءٍ في منظره وحالاته. والأصلُ فيه أن يقال هو أرْذَلُ من كذا فكثُرَ حتى قالوا: هو الأرْذَلُ، فصارت الألف واللاَّم عوضاً عن الإضافة. قوله: «بَادِيَ الرَّأي» قرأ أبو عمرو وعيسى الثَّقفيُّ «بَادِىءَ» بالهمز، والباقون بياءٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 467 صريحة مكان الهمزة. فأما الهمزُ فمعناه: أول الرَّأي، أي: أنَّه صادرٌ عن غير رويَّةٍ وتأمُّل، بل من أولِ وهلةٍ. وأمَّا مَنْ لَمْ يهمز؛ فيحتمل أن يكون أصلُه كما تقدَّم، ويحتملُ أن يكون من بدا يبدُو أي ظَهَر، والمعنى: ظاهر الرَّأي دون باطنه، أيك لوْ تُؤمِّل لعُرِفَ باطنه، وهو في المعنى كالأولِ. وفي انتصابه على كلتا القراءتين سبعةُ أوجهٍ: أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على الظَّرفِ وفي العامل فيه على هذا ثلاثة أوجه: أحدها: «نَرَاكَ» ، أي: وما نَراكَ في أول رأينا، على قراءة أبي عمرو، أو فيما يظْهَر لنا من الرأي في قراءة الباقين. والثاني - من الأوجه الثلاثة -: أن يكون منصوباً ب «اتَّبَعَكَ» ، أي: ما نَرَاكَ اتَّبعَكَ أول رأيهم، أو ظاهر رأيهم، وهذا يحتمل معنيين: أحدهما: أن يريدوا اتبعوك في ظاهر أمرهم، وبواطنهم ليست معك. والثاني: أنَّهُم اتَّبعُوكَ بأول نظرٍ، وبالرَّأي البَادِي دُونَ تَثَبُّت، ولو تثبتُوا لما اتَّبَعُوك. الثالث - من الأوجه الثلاثة - أنَّ العامل فيه «أرَاذِلُنَا» والمعنى: أراذِلُنَا بأولِ نظرٍ منهم أو بظاهر الرَّأي نعلم ذلك، أي: إنَّ رزالتهم مكشوفةٌ ظاهرةٌ لكونهم أصحاب حرفٍ دنيَّة. والرَّأي على هذا من رأي العين لا من رأي القلب، ويتأكَّدُ هذا بما نُقل عن مجاهد أنَّهُ قرأ «إلاَّ الذينَ هُمْ أرَاذِلُنَا بادِيَ رَأي العَيْنِ» . ثم القائل بكون «بَادِيَ» ظرفاً يحتاج إلى اعتذار، فإنَّهُ اسمُ فاعلٍ وليس بظرفٍ في الأصلِ، قال مكيّ: وإنَّما جاز أن يكون فاعل ظرفاً كما جاز ذلك في «فَعِيل» نحو: قَرِيب ومليء، و «فاعل وفعيل» متعاقبان ك: رَاحِم ورَحِيم، وعَالِم وعَلِيم، وحسُن ذلك في «فَاعِل» لإضافته إلى الرأي، والرأي يضاف إليه المصدر، وينتصبُ المصدرُ معه على الظَّرْفِ نحو: «أمَّا جَهْدُ رأي فإنَّك منطلقٌ» أي: «في جَهْد» . قال الزمخشريُّ: وانتصابه على الظَّرف، أصله: وقْتَ حُدُوثِ أوَّلِ أمرهم، أو وقتَ حدوثِ ظاهرِ رأيهم، فحذفَ ذلك وأقم المضافُ إليه مقامه. الوجه الثاني - من السَّبعة -: أن لا ينتصب على المفعول به، حذف معه حرفُ الجر مثل: {واختار موسى قَوْمَهُ} [الأعراف: 155] . وفيه نظرٌ من حيث إنَّه ليس هنا فعلٌ صالحٌ للتعدِّي إلى اثنين، إلى ثانيهما بإسقاط الخافضِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 468 الثالث من السَّبعة: أن ينتصب على المصدر ومجيء المصدر على فاعل أيضاً ليس بالقياس، والعامل في هذا المصدر كالعامل في الظَّرف كما تقدَّم، ويكون من باب ما جاء فيه المصدرُ من معنى الفعل لا من لفظه، تقديره: رُؤية بدءٍ: أو ظهور، أو اتباع بدءٍ أو ظهور، أو رذالة بدءٍ. الرابع من السبعة: أن يكون نعتاً ل «بَشَر» ، أي: ما نَراكَ إلاَّ بشراً مثلنا بادِيَ الرأي، أي: ظاهرهُ، أو مبتدئاً فيه. وفيه بعدٌ للفصل بين النَّعْتِ والمَنْعُوتِ بالجملة المعطوفة. الخامس: أنَّهُ حالٌ من مفعول «اتَّبَعَكَ» ، أي: وأنت مكشوفُ الرَّأي ظاهرهُ لا قُوةَ فيه، ولا حصانة لك. السادس: أنه منادى والمراد به نوحٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، كأنَّهُم قالوا: يا بَادِي الرَّأي، أي: ما في نفسك ظاهرٌ لكلِّ أحدٍ، قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء به، والاستقلال له. السابع: أنَّ العامل فيه مضمر، تقديره: أتقُولُ ذلك بادي الرَّأي، ذكره أبُو البقاءِ، والأصلُ عدم الإضمار مع الاستغناء عنه، وعلى هذه الأوجه الأربعة الأخيرة هو اسمُ فاعلٍ من غير تأويلٍ، بخلاف ما تقدَّم من الأوجه فإنَّهُ ظرفٌ أو مصدرٌ. واعلم أنَّك إذا نصبت «بَادِيَ» على الظرف أو المصدر بما قبل «إلاَّ» احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال، نصبت «بَادِيَ» على الظرف أوالمصدر بما قبل «إلاَّ» احتجْتَ إلى جوابٍ عن إشكال، وهو أنَّ ما بعد «إلاَّ» لا يكون معمولاً لما قبلها، إلاَّ إن كان مستثنى منه نحو: مَا قَامَ إلاَّ زيداً القومُ، أو مستثنى نحو: قَامَ القومُ إلاَّ زيداً، أو تابعاً للمستثنى منه نحو: ما جاءني أحَدٌ إلاَّ زيدٌ أخيرُ من عمرو و «بَادِي الرَّأي» ليس شيئاً من ذلك. قال مكي: لو قلت في الكلام: ما أعْطَيْت أحَداً إلا زَيْداً درهماً؛ فأوقعت اسمين مفعولين بعد «إلاَّ» لم يَجُزْ؛ لأنَّ الفعل لا يصلُ ب «إلاَّ» إلى مفعولين، إنَّما يصل إلى اسم واحدٍ كسائر الحروفِ، ألا ترى أنَّك لو قلت: مررتُ بزيدٍ عمرو فأوصلت الفعل إليهما بحرفٍ واحدٍ لم يَجز، ولذلك لو قلت: استوى الماءُ والخشبة الحائط فتنصب اسمين بواو «مع» لمْ يَجُزْ إلاَّ أن تأتيَ في جميع ذلك بواو العطف، فيجوز وصولُ الفعل. والجوابُ الذي ذكرهُ هو أنَّ الظروف يُتَّسع فيها ما لا يُتَّسع في غيرها، وهذا جماعُ القولِ في هذه المسألة باختصارٍ. والرَّأيُ: يجوزُ أن يكون من رُؤية العيْنِ أو من الفكرة والتَّأمُّل. فصل اعلم أنَّ الله - سبحانه وتعالى - حكى عن قوم نُوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - شُبُهَاتٍ: الأولى: أنَّهُم قالوا: إنَّه بشرٌ مثلهم، وأنَّ التفاوت الحاصل بين آحاد البشر يمتنع انتهاؤه إلى حيث يصير الواحد منهم وجب الطَّاعة لجميع العاملين. الثانية: كونه ما اتبعه إلاَّ الأراذل من القوم كالحياكةِ، وأصحاب الصنائع الخسيسة؛ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 469 فلو كنت صادقاً لاتبعك الأشراف والرؤساء، ونظيره قوله تعالى في سورة الشعراء: {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111] . الثالثة: قولهم: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} لا في العَقْلِ ولا في رعايةِ المصالحِ العاجلة ولا في قوَّةِ الجدلِ فإذا لم نشاهد فضلك في شيءٍ من هذه الأحوال الظاهرة؛ فكيف نعترف بفضلك في أشرف الدرجات. واعلم أنَّ الشُّبْهَة الأولى لا تليقُ إلاَّ بالبراهمةِ الذين ينكرون نبوَّة البشر على الإطلاقِ، وتقدَّم الكلامُ على «الملأ» وتقدم الكلام على الشبهة الأولى في الأنعام في الأعراف [66] . واعلم أنَّه لو بُعِثَ إلى البشر ملكاً رسولاً لكانت الشبهةُ أقوى في الطَّعْنِ عليه في رسالته؛ لأنَّهُ يخطر بالبال أنَّ هذه المعجزة التي ظهرت على يدِ هذا الملك أتى بها من عند نفسه؛ لأنَّ قوَّتهُ أكمل؛ فلهذا ما بعث الله إلى البشر رسُولاً إلاَّ من البشر. وأمَّا قولهم {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} فهذا أيضاً جهلٌ؛ لأنَّ الرِّفعة في الدِّين لا تكون بالحسبِ ولا بالمالِ، ولا بالمناصب العاليةِ، بل الفقر أهونُ على الدِّين من الغنى، والأنبياء ما بعثُوا إلا لترْكِ الدُّنيا والإقبالِ على الآخرةِ، فكيف يجعل الفقرُ في الدُّنيا طَعْناً في النبوةِ والرسالة. وأمَّا قولهم: {وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} فهو أيضاً جهلٌ؛ لأنَّ الفضيلة المعتبرة عند الله - تعالى - ليست إلاَّ بالعلم والعمل، فكيف اطَّلَعُوا على بواطن الخَلْق حتَّى عرفوا نفي هذه الفضيلة. ثم قال لنُوح وأتباعه {بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ} وهذا خطاب مع نوحٍ وقومه، والمرادُ منه تكذيب نوح في دَعْوَى الرِّسالة. وقيل: خطاب مع الأرَاذِلِ، أي كذَّبُوهم في إيمانهم. قوله تعالى: {قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} . وهذا جوابٌ عن شبهتهم الأولى، والمعنى: أنَّ حصول المساواةِ في البشريَّةِ لا يمنع من حصولِ المفارقةِ في صفةِ النبوة والرسالةِ، وذكر الطَّريق الدَّال على إمكانه، وهو كونهُ على بيِّنةٍ من معرفةِ الله وصفاته - سبحانه - وما يجبُ وما يمتنعُ وما يجوزُ {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} وهي إمَّا النبوة، وإمَّا المعجزة الدَّالة على النبوَّة {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} أي: صارت مظنة خفيت، والتبست عليكم. قوله: «مِّن ربي» نعتٌ ل «بَيِّنَة» ، أي: بَيِّنَةٌ من بيِّنات ربِّي. قوله: «رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ» يجُوزُ في الجارِّ أيضاً أن يكون نعتاً ل «رَحْمَةً» وأن يكون متعلقاً ب «آتَانِي» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 470 قوله: «فَعُمِّيَتْ» قرأ الأخوان وحفص بضمِّ العين وتشديد الميم، والباقون بالفتح، والتخفيف. فأمَّا القراءة الأولى فأصلها: عماهَا اللهُ عليكم، أي: أبْهمها عقوبة لكم، ثُمَّ بُنِيَ الفعل لما لَمْ يُسَمَّ فاعله، فحذف فاعله للعلم به وهو الله تعالى، وأقيم المفعولُ وهو ضميرُ الرَّحْمَة مقامه ويدل على ذلك قراءةُ أبَيّ بهذا الأصل «فَعمَاهَا اللهُ عَليْكُم» . ورُوي عنه أيضاً وعن الحسن وعليّ والسُّلمي «فَعَمَاهَا» من غير ذكرِ فاعلٍ لفظي. وروي عن الأعمش وابن وثاب «وعُمِّيَتْ» بالواو دون الفاء. وأمَّا القراءة الثانية فإنَّه أسْنَدَ الفعل إليها مجازاً. قال الزمخشريُّ: فإذا قلتَ ما حقيقته؟ قلت: حقيقته أن الحجة كما جُعِلتْ بصيرةً ومُبْصرة، قال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً} [النمل: 13] جعلت عمياء، قال تعالى: {فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ} الآية؛ لأنَّ الأعمى لا يَهْتَدي ولا يَهْدِي غيرهُ، فمعنى فَعَمِيتْ عليكم البيِّنةُ: فَلمْ تَهْدِكُم كما لو عَمِيَ على القوم دليلهم في المفازَةِ بَقُوا بِغَيْر هادٍ. وقيل: هذا من باب القلبِ، وأصلها فعَميتم أنتم عنها كما تقول: أدخلتُ القلنسوة في رَأسِي، وأدخلت الخاتم في إصبعي، وهو كثيرٌ، وقد تقدَّم الخلافُ فيه، وأنشدوا على ذلك: [الطويل] 2962 - تَرَى النَّوْرَ فيها مُدْخلَ الظِّلِّ رَأسَه ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... قال أبُو علي: وهذا ممَّا يُقْلَبُ، إذ ليس فيه إشكال، وفي القرآن {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} [إبراهيم: 47] . وبعضهم يخرِّجُ البيت على الاتِّساع في الظَّرْفِ. وأمَّا الآيةُ ف «أخْلَفَ» يتعدَّى لاثنين، فأنت بالخيار: أن تُضيفَ إلى أيِّهما شئتَ فليس من باب القَلْبِ. وقد ردَّ بعضهم كون هذه الآية من باب المقلوب بأنه لو كان كذلك لتعدَّى ب «عَنْ» دُونَ «عَلَى» ، ألا ترى أنك تقولك «عَمِيتُ عن كذَا» لا «عَلَى كَذَا» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 471 واختلف في الضَّمير في «عُمِّيَتْ» هل هو عائدٌ على «البَيِّنة» ، أو على «الرَّحْمَة» ، أو عليهما معاً؟ . وجاز ذلك - وإن كان بلفظ الإفراد - لأنَّ المراد بهما شيءٌ واحد، وإذا قيل بأنه عائدٌ على «البيِّنة» فيكون قوله {وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ} جملة معترضة بين المتعاطفين، إذ حقُّهُ، {على بَيِّنَةٍ مِّن ربي وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ} . قال الزمخشريُّ: وآتَانِي رحْمَةً بإتيان البيِّنة، على أنَّ البيِّنة في نفسها هي الرَّحمة، ويجوزُ أن يُرَادَ بالبيِّنةِ المعجزة، وبالرَّحمة النبوَّة. فإن قلت: فقوله «فعُمِّيَتْ» ظاهر على الوجهِ الأوَّلِ فما وجهه على الوجه الثاني، وحقُّه أن يقال: فَعَمِيتَا؟ قلت: الوجهُ أن يُقدَّرَ: فعُمِّيَتْ بعد البيِّنة، وأن يكون حذفه للاقتصار على ذكره مرة. انتهى وقد تقدَّم الكلامُ على «أرأيْتُمْ» هذه في الأنعام، وتلخيصهُ هنا أنَّ «أرأيتُم» يطلب «البيِّنة» منصوبةً وفعل الشَّرط يطلبها مجرورةً ب «عَلَى» فأعمل الثَّاني وأضمر في الأول، والتقدير: أرأيْتُم البيِّنة من ربِّي إن كنتُ عليها أنلزِمُكمُوهَا، فحذف المفعولُ الأوَّل، والجملةُ الاستفهاميَّة هي في محلِّ الثاني، وجواب الشرط محذوفٌ للدَّلالةِ عليه. قوله: «أنُلْزمُكُمُوهَا» أتى هنا بالضَّميرين متصلين، وتقدَّم ضميرُ الخطاب؛ لأنَّهُ أخص، ولو جِيءَ بالغائب أولاً لانفصل الضَّميرُ وجوباً. وقد أجاز بعضهم الاتِّصال واستشهد بقول عثمان «أراهُمُني الباطل شَيْطَاناً» . وقال الزمخشريُّ: يجوزُ أن يكون الثاني منفصلاً كقوله: «أنُلْزِمكم إيَّاهَا» ونحوه {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة: 137] ويجوز «فَسَيكفيك إيَّاهُمْ» ، وهذا الذي قاله الزمخشريُّ ظاهرُ قول سيبويه وإن كان بعضهم منعهُ. وإشباعُ الميم في مثل التركيب واجبٌ، ويضعف سكونها، وعليه «أرَاهُمْني البَاطِل» . وقال أبُو البقاءِ: وقرىء بإسكان الميم فراراً من توالي الحركات فقوله هذ يحتمل أن يكون أراد سكون ميم الجمع؛ لأنَّه قد ذكر ذلك بعدما قال: «ودخلتِ الواوُ هُنَا تتمَّةٌ للميم، وهو الأصلُ في ميم الجمع، وقرىء بإسكان الميم» انتهى. وهذا إن ثبت قراءةً فهو مذهبٌ ليونس: يُجوَّزُ الدِّرهمَ أعطيتكه، وغيره يأباه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 472 ويحتملُ أن يريد سكون ميم الفعل، ويدلُّ عليه ما قال الزجاج. أجمع النَّحويون البصريون على أنه لا يجوز إسكانُ حركةِ الإعراب إلاَّ في ضرورة الشعر، فأمَّا ما رُوي عن أبي عمرو فلم يضبطه عنه القراء، وروى عنه سيبويه أنه كان يُخِفُّ الحركة ويختلسُها، وهذا هو الحقُّ وإنما يجُوزُ الإسكانُ في الشعر نحو قول امرىء القيس: [السريع] 2963 - فاليَوْمَ أشْرَبُ غَيْرَ مُسْتَحْقِبٍ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . وكذا قال الزمخشري أيضاً. وحكى عن أبي عمرو إسكانُ الميم، ووجهه أنَّ الحركة لم تكن إلاَّ خلسةً خفيفةً، فظنَّها الرَّاوي سُكُوناً، والإسكانُ الصَّريحُ لحنٌ عند الخليل، وسيبويه، وحُذَّاقِ البصرييين؛ لأنَّ الحركة الإعرابية لا يُسَوَّغ طرحها إلاَّ في ضرورة الشِّعْرِ. قال شهابُ الدِّين: وقد حكى الكسائيُّ والفرَّاءُ: «أنُلُزِمْكُمُوهَا» بسكون هذه الميم، وقد تقدَّم الكلامُ على ذلك مُشْبَعاً في سورة البقرة [54] ، أعني تسكين حركةِ الإعرابِ فكيف تجعلونه لحْناً؟ . و «ألزم» يتعدَّى لاثنين، أولهما ضمير الخطاب، والثاني ضمير الغيبة. و {وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ} جملة حالية، يجوز أن تكون للفاعل، أو لأحدِ المفعولين. وقدَّم الجارَّ لأجْل الفواصل، وفي الآية قراءاتٌ شاذَّةٌ مخالفةٌ للسَّواد أضْرَبْتُ عنها لذلك. والمعنى: «أنلزمكم البينة، وأنتم لها كَارهُون لا تُريدُونهَا» . قال قتادةُ: «لو قدر الأنبياء أن يُلزموا قومهُم لألزموا، ولكن لم يقدروا» . قوله تعالى: {وياقوم لاا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً} . الضَّمير في «عَلَيْهِ» يجوزُ أن يعود على الإنذار والمفهوم من «نَذِيرٌ» ، وأن يعودَ على الدِّين الذي هو الملَّة، وأن يعود على التَّبليغ. وهذا جوابٌ على الشُّبهةِ الثانية، وهي قولهم: اتَّبَعَك الأرَاذل، فقال: أنا لا أطلبُ على تبليغِ الرِّسالةِ مالاً حتَّى يتفاوت الحالُ بسبب كون المستجيب فقيراً، أو غنياً، وإنما أجري علَى هذه الطاعة على رب العالمين، وإذا كان كذلك فسواء كان غنياً أو فقيراً، لم يتفاوت الحال في ذلك. ويحتمل أنَّه قال لهم: إنكم لمَّا نظرتم إلى هذه الأمور وجدتُمُوني فقيراً، وظننتم أنِّي إنما أتيت بهذه الأمور لأتوسَّل بها إلى أخذ أموالكم، وهذا الظَّن منكم خطأ، وإنِّي لا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 473 أسألكم على تبليغ الرسالة أجْراً، {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ على رَبِّ العالمين} [الشعراء: 109] . قوله: {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين} قرىء «بطَاردٍ الذينَ» بتنوين «طارد» . قال الزمخشري: على الأصل يعنى أنَّ أصل اسم الفاعل بمعنى الحال والاستقبال العملُ وهو ظاهرُ قول سيبويه. قال أبُو حيَّان: يُمكن أن يقال: ألأصل الإضافةُ لا العَمَلُ، لأنَّهُ قد اعتورهُ شَبَهَان: أحدهما: الشبه بالمضارع وهو شبهٌ بغير جنسه. والآخر: شبههُ بالأسماءِ إذا كانت فيه الإضافةُ؛ فكان إلحاقه بجنسه أولى. وقوله: {إِنَّهُمْ مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} استئنافٌ يفيدُ التَّعليل، وقوله: «تَجْهَلُون» صفةٌ لا بُدَّ منها إذ الإتيانُ بهذا الموصوفِ دون صفته لا يفيدُ، وأتى بها فعلاً ليدلَّ على التَّجدُّد كلَّ وقتٍ. فصل قوله: {وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا} كالدَّليل على أنَّ القوم سألوه لئلاَّ يشاركوا الفقراءَ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ومَا أنَا بطارِدِ الذين آمنُوا» ، وأيضاً قولهم {وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} كالدَّليل على أنَّهم طلبوا منه طردهم؛ فكأنَّهم يقولون لو اتَّبَعَك الأشراف لوافقناهم. ثمَّ ذكر ما يوجب الامتناع من طردهم، وهو أنَّهم ملاقُو ربِّهم، وهذا الكلامُ يحتملُ وجوهاً: منها: أنَّهُم قالوا إنَّهم منافقون فيما أظهروا فلا تغترَّ بهم؛ فأجاب بأنَّ هذا الأمر ينكشفُ عند لقاءِ ربِّهم في الآخرة. ومنها: أنَّهُ جعله علَّة في الامتناع من الطَّرْدِ، وأراد أنهم ملاقو ربِّهم ما وعدهم، فإن طردتهم استخصموني في الآخرة. ومنها: أنَّهُ نَبَّه بذلك على أنَّا نجتمع في الآخرة؛ فأعاقب على طردهم فلا أجد من ينصرني. ثم بيَّن أنَّهم يَبْنُون أمرهُم على الجَهْلِ بالعواقب والاغترارِ بالظَّواهرِ فقال: {ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ} . ثم قال: {وياقوم مَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِن طَرَدتُّهُمْ} [هود: 30] من يمنعني من عذاب الله {إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ} تتَّعِظُونَ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 474 والمعنى: على أنَّ العقل والشرع تطابقا على تعظيم المؤمن التَّقي، وإهانةِ الفَاجرِ، فلو عظَّمْتُ الكافر وطردتُ المؤمن وأهنتهُ كنت على ضِدّ دين الله؛ فأسْتوْجبُ حينئذٍ العقابَ العظيمَ، فمن الذي ينصُرُني من الله، ومن الذي يُخَلِّصُني من عذابِ الله. واحتجَّ قوم بهذه الآية على صُدُورِ الذَّنب من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - فقالوا دلَّت الآيةُ على أنَّ طردَ المؤمنين لطلب مرضاة الكفار معصية، ثم إن محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - طرد المؤمنين لطلب مرضاة الكفار حتى عاتبه الله - عزَّ وجلَّ - في قوله: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي} [الأنعام: 52] . زالجوابُ: يحمل الطَّرد المذكور في هذه الآية على الطَّرد المطلق المؤبَّدِ، والطَّرد المذكور في واقعة محمدٍ - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - على المُقيَّدِ في أوقاتٍ معينةٍ رعاية للمصلحة. ثُمَّ أكَّدَ هذا البيان فقال: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله} فآتي منها ما تطلبون، {وَلاَ أَعْلَمُ الغيب} فأخبركم بما تُريدُونَ. وقيل: إنَّهم لمَّا قالوا لنوح: إنَّ الذين آمنُوا بك إنَّما اتَّبَعُوكَ في ظاهر ما ترى منهم، فأجابهم نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فقال: لا أقول لكم: عِنْدِي خزائن غيوب الله التي يعلم منها ما يضمره الناس، ولا أعلم علم الغيب فأعلم ما يسرونه في نفوسهم، فسبيلي قبول ما ظهر من إيمانهم، {وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} هذا جواب لقولهم: {مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا} [هود: 27] وقيل معناه: لا أقولُ إنِّي ملكٌ حتَّى أتعظَّمَ بذلك عليكم، بل طريقي الخضوع والتَّواضع، ومن كان طريقه كذلك فإنَّهُ لا يستنكفُ عن مخالطةِ الفقراءِ والمساكين. واحتجَّ قوم بهذه الآية على تفضيل الملائكةِ على الأنبياء قالوا: لأنَّ الإنسان إذا قال: لا أدَّعي كذا وكذا، إنما يحسنُ إذا كان ذلك الشيء أشرف من أحوال ذلك القائل. ثم أكَّدَ هذا البيان بطريق آخر فقال: {وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تزدري أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ الله خَيْراً} وهذا كالدلالة على أنهم يعيبون أتباعهم، ويحتقرونهم، فقال: لا أقولُ للذين يحتقرونهم: لن يؤتيهم الله خَيْراً، أي: توفيقاً وإيماناً وأجراً {الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ} لأنَّ ذلك من باب الغَيْبِ لا يعلمه إلا الله، فربَّما كان باطنهم كظاهرهم فيؤتيهم الله خير مُلكٍ في الآخرة؛ فأكون كاذباً فيما أخبرتُ به، فإن فعلتُ ذلك كنتُ من الظَّالمينَ لنفسي. وقوله: {وَلاَ أَعْلَمُ الغيب} الظَّاهرُ أنَّ هذه الجملة لا محلَّ لها عطفاً على قوله: {وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ} كأنَّه أخبر عن نفسه بهذه الجمل الثلاث. وقد تقدَّم في الأنعام أنَّ هذا هو المختار، وأنَّ الزمخشري قال: «إنَّ قوله تعالى: {وَلاَ أَعْلَمُ الغيب} معطوفٌ على {عِندِي خَزَآئِنُ الله} أي: لا أقول: عندي خزائنُ الله، ولا أقولُ: أنَا أعلمُ الغَيْبَ» . قوله: «تَزْدَرِي» تفتعل من زَرَى يَزْرِي، أي: حَقَرَ، فأبدلت تاءُ الافتعال دَالاً بعد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 475 الزَّاي وهو مطرد، ويقالك «زَرَيْتُ عَليْهِ» إذا عبته، و «أزْرَيْتُ بِهِ» أي: قصَّرت به. وعائدُ الموصول محذوفٌ، أي تَزْدَرِيهم أعينكم، أي: تحتقرهم وتُقَصِّر بهم؛ قال الشاعر: [الوافر] 2964 - تَرَى الرَّجُلَ النَّحِيفَ فتزْدَرِيهِ ... وفِي أثْوابِهِ أَسَدٌ هَصُورُ وقال الشارع أيضاً: [الوافر] 2965 - يُبَاعدهُ وتزْدَريهِ ... حَليلتُهُ وينْهَرهُ الصَّغِير واللاَّمُ في «للَّذينَ» للتَّعليل، أي: لأجْلِ الذين، ولا يجُوزُ أن تكون التي للتَّبليغ إذ لو كانت لكان القياس «لن يُؤتيكُم» بالخطاب. قوله تعالى: {قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} . قرأ ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «جَدَلنا» كقوله: {أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} [الكهف: 54] . ونقل أبو البقاء أنه قرىء «جَدَلْتنا فأكْثَرْتَ جدلنا» بغير ألفٍ فيهما، وقال: «هو بمعنى غلبتنا بالجَدلِ» . وقوله: «بِمَا تَعِدُنَا» يجوزُ أن يكون «ما» بمعنى «الذي» ، فالعائدُ محذوفٌ، أي: تَعدناه. ويجوزُ أن تكون مصدرية، أي: بوعدك إيَّانا. وقوله: «إن كنت» جوابه محذوفٌ أو متقدِّمق وهو «فَأتِنَا» . فصل دلَّت هذه الآية على أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - كان قد أكثر في الجدال معهم وذلك الجدالُ كان في بيان التَّوحيد، والنبوة، والمعاد، وهذا يدلُّ على أنَّ المجادلة في تقرير الدَّلائل وفي إزالةِ الشُّبُهاتِ حرفةُ الأنبياءِ، وأنَّ التقليدَ والجَهْلَ والإصرار حرفةُ الكفَّار، ودلَّت على أنَّهم استعجلوا العذاب الذي كان يعدهم به، فقالوا: {فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} ثُمَّ إنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أجابهم بقوله: {إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَآءَ} [هود: 33] أي: أنَّ إنزال العذاب ليس إليَّ، وإنما هو خلق الله فيفعله إن شاء، وإذا أراد إنزال العذاب فإنَّ أحداً لا يعجزه، أي: لا يمنعه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 476 ثم قال: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي} إن أردتُ أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم، أي: يضلكم، قوله: {إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ} قد تقدَّم حكم توالي الشرطين، وأن ثانيهما قيد في الأوَّل، وأنه لا بد من سبقه للأوَّل، وقال الزمخشريُّ هنا: «إنْ كانَ اللهُ» جزاؤه ما دل عليه قوله: «لا يَنْفعُكم نُصْحِي» . وهذا الدليل في حكم ما دلَّ عليه؛ فوصل بشرطٍ، كما وصل الجزاء بالشَّرط في قوله: «إنْ أحْسَنْتَ إليَّ أحْسَنْتُ إنْ أمكنني» . وقال أبو البقاء: حكمُ الشَّرطِ إذا دخل على الشَّرْطِ أن يكون الشَّرطُ الثَّاني والجواب جواباً للشَّرط الأول نحو: «إنْ أتَيْتَنِي إنْ كلَّمتَني أكْرَمْتُكَ» فقولك: «إنْ كَلَّمْتَني أكْرَمْتك» جوابُ «إنْ أتَيْتَني» جميعُ ما بعده، وإذا كان كذلك كان الشَّرطُ الأول في الذِّكر مؤخَّراً في المعنى، حتَّى إن أتاه ثم كلَّمه لم يجب الإكرام، ولكن إن كلَّمه ثمَّ أتاهُ وجب الإكرام، وعلَّةُ ذلك أنَّ الجواب صار معوَّقاً بالشَّرطِ الثاني، وقد جاء في القرآن منه {إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي} [الأحزاب: 50] . قال شهابُ الدِّين: أما قوله: «إنْ وهبَتْ ... إنْ أرادَ» فظاهرُهُ - وظاهرُ القصة المرويَّة - يدلُّ على عدم اشتراطِ تقدُّم الشَّرط الثاني على الأوَّلِ، وذلك أنَّ إرادته - صلوات الله وسلامه عليه - للنكاح إنما هو مُرتَّبٌ على هبة المرأةِ نفسها له وكذا الواقعُ في القصَّة، لمَّا وهبت أراد نكاحها، ولمْ يُرْوَ أنه أراد نكاحها، فوهبت، وهو يحتاجُ إلى جوابٍ، وسيأتي إن شاء الله - تعالى - في موضعه. وقال ابنُ عطيَّة هنا وليس نُصْحِي لكم بنافع، ولا إرادتي الخيرَ لكم مغنيةً إن أراد اللهُ - تعالى - بكم الإغواء، والشرطُ الثاني اعتراض بين الكلام، وفيه بلاغةٌ من اقتران الإرادتين، وأنَّ إرادة البشر غيرُ مُغْنِيةٍ، وتعلُّقُ هذا الشرط هو ب «نُصْحِي» وتعلُّقُ الآخر ب «لا يَنْفَعُ» . وتلخص من ذلك أنَّ الشرط مدلولٌ على جوابه بقوله: «ولا يَنْفَعُكُمْ» لأنَّهُ عقبهُ، وجواب الثاني أيضاً ما دلَّ على جواب الأول وكأنَّ التقدير: وإنْ أردت أنْ أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعُكمْ نُصحِي. وهو من حيث المعنى كالشَّرط إذا كان بالفاءِ نحو: إنْ كان الله يريدُ أن يُغويكُم فإن أردتُ أن أنصح لكم، فلا يَنفَعُكُمْ نُصْحِي. وقرأ الجمهور: «نُصْحي» بضم النونِ، وهو يحتملُ وجهين: أحدهما: المصدريةُ كالشُّكر والكُفْر والثاني: أنه اسمٌ لا مصدرٌ. وقرأ عيسى بن عمر «نَصْحي» بفتح النُّون، وهو مصدرٌ فقط. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 477 وفي غضون كلام الزمخشري: «إذا عرف اللهُ» وهذا لا يجوزُ؛ لأنَّ الله تعالى لا يسندُ إليه هذا الفعل ولا يوصف بمعناه، وقد تقدَّم علةُ ذلك في غضون كلام أبي حيَّان وللمعتزليِّ أن يقول: لا يتعيَّن أن تكون «إنْ» شرطيةً بل هي نافيةٌ، والمعنى: «ما كان اللهُ يريد أن يُغويكُمْ» . قال شهابُ الدِّين: لا اظن أحداً يرضى بهذه المقالة. فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ الله - تبارك وتعالى - قد يريدُ الكُفْرَ من العبدِ، فإذا أرادَ اله منه ذلك امتنع صدور الإيمان منه؛ لأنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} . قال شهابُ الدِّين: لا أظن أحداً يرضى بهذه المقالة. فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ الله - تبارك وتعالى - قد يريدُ الكُفْرَ من العبدِ، فإذا أرادَ الله منه ذلك امتنع صدور الإيمان منه؛ لأنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: {وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ} . قالت المعتزلةُ: ظاهرُ الآية يدلُّ على أن الله تعالى إذا أراد إغواء القوم لم ينتفعوا بنصح الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهذا مسلمٌ، فإنا نعلم أنَّ الله - تعالى - لو أراد إغواء عبدٍ فإنَّه لا ينفعهُ نصح النَّاصحين، لكن لم قلتم إنه تعالى أراد هذا الإغواء، والنزاع ما وقع إلا فيه؟ بل نقول إنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إنَّما ذكر هذا الكلام ليدل على أنَّهُ تعالى ما أغواهُم، بل فوَّضَ الاختيار إليهم، وبيانه من وجهين: الأول: أنه تعالى لو أراد إغواءهم لما بقي في النصح فائدة، ولو لمْ يكنُ فيه فائدة لما أمره بنصح الكفار، وأجمع المسلمون على أنه مأمورٌ بدعوة الكفار ونصيحتهم، فعلمنا أنَّ هذا النُّصح لا يخلُو من الفائدة، وإن لم يكن خالياً عن الفائدة وجب القطع بأنَّهُ تعالى ما أغواهم. الثاني: لو ثبت الحكم عليهم بأنَّ الله تعالى أغواهم؛ لصار هذا عذراً لهم في عدم الإتيان بالإيمان ولصار نوح منقطعاً في مناظرتهم؛ لأنَّهم يقولون له: إنَّك سلمت أنَّ الله تعالى إذا أغوانا فإنَّه لا يبقى في نصحك، ولا في اجتهادك فائدةٌ؛ فإذا ادَّعَيْتَ أنَّ الله تعالى أغوانا؛ فقد جعلتنا مغلُوبين، فلمْ يَلْزَمْنَا قبول هذه الدعوة؛ فثبت أنَّ الأمر لو كان كما قالهُ الخصمُ؛ لصار هذا حجة للكافر على نُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -؛ فثبت بما ذكرنا أنَّ هذه الآية لا تدلُّ على قول المجبرة، ثم إنَّهم ذكروا تأويلات: الأول: أنَّ أولئك الكُفَّار مجبرة، وكانوا يقولون إنَّ كفرهم بإرادة الله؛ فعند هذا قال نوحٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إن نصيحَتي لا تنفعُكُم إن كان الأمرُ كما تقولون. ومثاله: أن يعاقب الرَّجلُ ولدهُ على ذنبه، فيقول الولد: لا أقدرُ على غير ما أنا عليه؛ فيقول الوالدُ: فلن ينفعك إذنْ نُصْحِي، وليس المرادُ أنَّهُ يصدِّقهُ على ما ذكره، بل على وجه الإنكار لذلك. الثاني: قال الحسنُ: معنى «يُغْويكُم» أي: يُعَذِّبكم والمعنى: لا ينفعكم نُصْحِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 478 اليوم إذا نزل بكُم العذابُ؛ فأمنتم في ذلك الوقت؛ لأنَّ الإيمان عند نُزُول العقابِ لا يقبلُ وإنَّما ينفعُكم نصحي إذا آمنتم قبل مُشاهدةِ العذابِ. الثالث: قال الجُبائي: الغوايةُ هي الخيبة من الطَّلب بدليل قوله: {فَسَوْفَ يَلْقُونَ غَيّاً} [مريم: 59] ، أي: خيبة من خير الآخرة؛ قال الشاعر: [الطويل] 2966 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ومَنْ يَغْوَ لا يَعْدَمْ عَلى الغَيِّي لائِمَا الرابع: أنه إذا أصرَّ على الكُفْرِ، وتمادى فيه، منعه الله الألطاف، وفوَّضه إلى نفسه؛ فهذا شبيه بما إذا أراد إغواءهُ؛ فلهذا السَّبب حسن أن يقال: إنَّ الله أغواه، هذا جملة كلامِ المعتزلةِ في هذا البابِ، وتقدَّم الجوابُ عن أمثال هذه الكلمات، فلا فائدة في الإعادة، ثَم قال: {هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} فيجازيكم بأعمالكم، وهذا نهاية الوعيد والتهديد. قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} اختلقه، وافتعله، يعني نوحاً - عليه الصلاة السلام - قاله ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -. [وقال مقاتلٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يعني محمَّداً صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه] والهاء ترجع إلى الوحي الذي بلغه إليهم. {قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} أي: إثْمِي ووبال جرمي، والإجرامُ: كسب الذَّنب، وهذا من باب حذف المضاف؛ لأنَّ المعنى: فعليَّ عقاب إجْرامي، وفي الآية محذوفٌ آخر، وهو أنَّ المعنى: إن كنتُ افتريتُه فعليَّ عقاب جرمي، وإن كنتُ صادقاً وكذَّبْتُمونِي فعليكم عقاب ذلك التكذيب، إلاَّ أنَّه حذف هذه البقية لدلالة الكلام عليه. قوله: «فَعَلَيَّ إجْرَامِي» : مبتدأٌ وخبرٌ، أو فعلٌ وفاعلٌ. والجمهورُ على كسر همزة «إجْرَامِي» ، وهو مصدر أجْرَمَ، وأجْرمَ هو الفاشي، ويجوزُ «جَرَمَ» ثلاثياً وأنشدوا: [الوافر] 2967 - طَرِيدُ عَشيرةٍ ورَهِينُ ذَنْبٍ ... بِمَا جَرَمَتْ يَدِي وجَنَى لِسَانِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 479 وقرىء في الشاذّ «أجْرَامِي» بفتحها، حكاهُ النَّحَّاس، وخرَّجه على أنَّه جمعُ «جُرْم» كقفل وأقْفَال، واعلم أنَّ قوله {قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي} لا يدلُّ على أنَّهُ كان شاكّاً، إلاَّ أنَّهُ قولٌ يقال على وجهِ الإنكارِ عند اليأس من القبولِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 480 قوله تعالى: {وَأُوحِيَ إلى نُوحٍ} الجمهور على «أوحِيَ» مبنياً للمفعول، والقائمُ مقام الفاعل {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ} أي: أوحِيَ إليه عدمُ غيمان بعض القوم. وقرأ أبو البرهسم «أوْحَى» مبنياً للفاعل وهو الله - سبحانه وتعالى -، «إنَّهُ» بكسر الهمزة وفيها وجهان: أحدهما: - وهو أصلٌ للبصريين - أنَّهُ على إضمار القول. والثاني: - وهو أصلُ للكوفيين - أنَّهُ على إجراء الإيحاء مُجْرَى القول. قوله «فَلاَ تَبْتَئِسْ» هو تفتعل من البُؤسِ، ومعناه الحزنُ في استكانة، ويقال: ابتأسَ فلانٌ، أي: بلغه ما يكرهه؛ قال: [البسيط] 2968 - مَا يَقْسِمِ اللهُ أقْبَلَ غَيْرَ مُبْتَئِسٍ ... مِنْهُ وأقْعُدْ كَرِيماً نَاعِمَ البَالِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 480 وقال آخر: [البسيط] 2969 - وكَمْ مِنْ خَليلٍ أوْ حَميمٍ رُزِئْتُهُ ... فَلَمْ نَبْتَئِسْ والرُّزْءُ فِيهِ جَلِيلِ فصل دلَّت هذه الآية على صحة القول بالقضاءِ والقدرِ؛ لأنَّه تعالى أخبر بأنهم لا يؤمنون بعد ذلك، فلو حصل إيمانهم؛ لكان إمَّا مع بقاءِ هذا الخبر صدقاً، ومع بقاء هذا العلم علماً، أو مع انقلاب هذا الخبر كذباً ومع انقلابِ هذا العلم جهلاً. والأولُ باطلٌ؛ لأنَّ وجود الإيمان مع أن يكون الإخبار عن عدمِ الإيمانِ صدقاً، ومع كون العلم بعد الإيمان حاصلاً حال وجود الإيمان جمعٌ بين النَّقيضين. والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ انقلاب علم الله - تعالى - جهلاً وخبره كذباً محال، ولما كان صدور الإيمان منهم لا بدَّ وأن يكون على أحد هذين القسمين، وثبت أنَّ كلَّ واحدٍ منهما محالٌ كان صدور الإيمان منهم محالاً، مع أنَّهم كانوا مأمورين به، وأيضاً: فالقومُ كانُوا مأمورين بالإيمان، ومن الإيمان تصديق الله تعالى - في كُلِّ ما أخبر عنه، وقد أخبر أنَّهُ { ... لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} فينبغي أن يقال: إنَّهم كانُوا مأمورين بأن يؤمنوا بأنَّهم لا يؤمنون ألبتة، وذلك تكليفٌ بالجمع بين النَّقيضين. قوله تعالى: {واصنع الفلك بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} . «بأعْينِنَا» حالٌ من فاعل «اصْنَع» أي: محفُوظاً بأعيننا، وهو مجازٌ عن كلاء الله له بالحفظ. وقيل: المراد بهم الملائكة تشبيهاً لهم بعيون النَّاس، أي: الذين يتفقَّدُونَ الأخبارَ، والجمع حينئذٍ حقيقةٌ. وقرأ طلحةُ بنُ مصرف «بأعْيُنَّا» مدغمة. فصل قوله تعالى: {واصنع الفلك} الظَّاهر أنه أمر إيجاب؛ لأنَّه لا سبيل إلى صون روح نفسه، وأرواح غيره من الهلاكِ إلا بهذا الطريق، وصون النَّفْسِ من الهلاك واجب، وما لا يتم الواجب إلاَّ به فهو واجبٌ، ويحتملُ أن يكون أمر إباحةٍ، وهو بمنزلة أن يتخذ الإنسانُ لنفسه داراً يسكنها، أو يكون ذلك تعليماً له ولمن بعده كيفية عمل السفينة، ولا يكونُ ذلك من باب ما لا يتمُّ الواجب إلاَّ به، فإنَّ الله - تبارك وتعالى - خلَّص موسى وقومه من الطُّوفان من غير سفينةٍ، وكان ذلك معجزة له. وأما قوله: «بأعْيُنِنَا» فلا يمكنُ إجراؤه على ظاهره لوجوهٍ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 481 أحدها: أنه يقتضي أن يكون لله أعين كثيرة، وهذا يناقض قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ على عيني} [طه: 39] . وثانيها: أنَّهُ يقتضي أن يصنع الفلك بتلك الأعين، كقولك: قطعت بالسكين، وكتبت بالقلم، ومعلوم أن ذلك باطل. وثالثها: أنَّه - تعالى - مُنَزَّه عن الأعضاء، والأبعاض؛ فوجب المصيرُ إلى التأويل، وهو من وجوه: الأول: معنى «بِأعْيُنِنَا» أي: بنزول الملك؛ فيعرفه بخبر السفينة، يقال: فلان عين فلان أي: ناظر عليه. والثاني: أنَّ من كان عظيمَ العنايةِ بالشيء فإنه يضع عينه عليه؛ فلمَّا كان وضع العين على الشَّيء سبباً لمبالغة الحفظ جعل العين كناية عن الاحتفاظ، فلهذا قال المفسِّرون: معناه: بحفظنا إيَّاك حفظ من يراك، ويملك دفع السُّوء عنك. وحاصل الكلام أن عمل السَّفينة مشروط بأمرين: أحدهما: أن لا يمنعه أعداؤه من ذلك العمل. والثاني: أن يكون عالماً بكيفيَّة تأليف السَّفينة وتركيبها. وقوله: «وَوَحْيِنَا» إشارة إلى أنَّه تعالى يوحي إليه كيفية عمل السَّفينة. وقوله: {وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ} فقيل: لا تطلب منِّي تأخير العذاب عنهم، فإنِّي قد حكمتُ عليهم بهذا الحم، فلمَّا علمَ نوحٌ ذلك دعا عليهم بعد ذلك وقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] . وقيل: «لا تُخَاطِبْنِي» في تعجيلِ العذابِ فإنِّي لمَّا قضيتُ عليهم إنزال العذاب في وقت معين كان تعجيله ممتنعاً. وقيل: المرادُ ب «الذينَ ظلمُوا» بانه وامرأته. قوله: {وَيَصْنَعُ الفلك} قيل: هذا حكايةُ حال ماضيه أي: في ذلك الوقت كان يصدق عليه أنه يصنع الفلك. وقيل: ألتقديرُ: وأقبل يصنع الفلك، فاقتصر على قوله: «يَصْنَع» . قيل: إن جبريل أتى نُوحاً عليه السَّلام فقال: إنَّ ربَّك يأمُركُ أن تَصْنَعَ الفلك، فقال: كيف أصنع ولست بنجَّارٍ؟ فقال: إنَّ ربَّك يقولُ: اصْنَعْ فإنَّكَ بعَيْنِي، فأخذ القدوم، وجعل يصنعُ ولا يخطئ. وقيل: أوحى الله إليه يجعلها مثل جُؤجُؤ الطَّائر. روي أنَّ نوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لمَّا دَعَا على قومهِ وقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] استجاب الله دعاءه وأمره أن يَغْرِسَ شجرة ليعمل منها السفينة؛ فغرسها وانتظرها مائة سنة، ثم نجَّرها في مائة سنة أخرى. وقيل: في أربعين سنة، وكانت من خشب الساج. وفي التوراة أنها من الصنوبر. قال البغويُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أمره أن يجعل طولها ثمانين ذراعاً، وعرضها خمسين الجزء: 10 ¦ الصفحة: 482 ذراعاً، وأن يطلي ظاهرها وباطنها بالقارِ وقال قتادة: كان طولها ثلثمائة ذراع [وعرضها خمسين ذراعاً. وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - كان طولها ألفاً ومائتي ذراع في عرض ستمائة ذراع] . وقيل: ألف ذراعٍ في عرض مائة ذراعٍ. واتفقوا كلهم على أنَّ ارتفاعها ثلاثون ذراعاً، وكانت ثلاث طبقات كلُّ واحدة عشرة أذرع، فالسفلى للدَّواب والوحوش، والوسطى للنَّاس، والعليا للطيور، ولها غطاء من فوق يطبق عليها. قال ابنُ الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - والذي نعلمه أنَّ السَّفينة كانت سعتها بحيث تسعُ المؤمنين من قومه، ولما يحتاجون إليه، ولحصول زوجين لكلّ حيوان؛ لأنَّ هذا القدر مذكور في القرآن، فأما تعيينُ ذلك القدر فغير معلوم. قوله: «وَكُلَّمَا مَرَّ» العاملُ في «كُلَّمَا» «سَخِرَ» ، و «قَالَ» مستأنف، إذ هو جوابٌ لسؤال سائل. وقيل: بل العامل في «كُلَّما» «قال» ، و «سَخِرُوا» على هذا إمَّا صفة ل «مَلأ» ، وإمَّا بدلٌ مِنْ «مرَّ» ، وهو بعيدٌ جدّاً، إذ ليس «سَخِرَ» نوعاً من المرور، ولا هو هو فكيف يبدل منه؟ والجملةُ من قوله «كُلَّما» إلى آخره في محلِّ نصبٍ على الحالِ أي: يصنع الفلك والحالُ أنَّه كُلَّما مرَّ. فصل اختلفوا فيما كانوا لأجله يسخرون، فقيل: إنهم كاوا يقولون له: كنت تدَّعي الرسالة، فصرت نجَّاراً. وقيل: كانوا يقولون: لو كنت صادقاً في دعواك لكان إلهك يغنيك عن هذا العمل الشاق. وقيل: إنَّهم كانُوا ما رَأوا السَّفينة قبل ذلك وما عرفوا كيفية الانتفاع بها، فكانوا يتعجَّبُون منه ويسخرُون - وقيل: إنَّ تلك السَّفينة كانت كبيرة، وكان يصنعها في موضع بعيد عن الماء جدّاً، وكانوا يقولون له: ليس ههنا ماء، ولا يمكنك نقلها لماءِ البحار، فكانوا يُعدُّون ذلك من باب السخرية. وقيل: إنَّه لمَّا طال مكثه فيهم، وكان ينذرهم بالغرقِ، وما شاهدُوا من ذلك المعنى خبراً ولا أثراً غلب على ظنونهم كذبه في ذلك النقل، فلمَّا اشتغل بعمل السفينة، سخرُوا منه، وكل هذه الوجوه محتملة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 483 ثم إنَّه تعالى حكى عنه أنه كان يقول: {إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ} أي: مثل سخريتكُمْ إذا غرقتم في الدنيا ووقعتم في العذاب يوم القيامة. وقيل: إن حكمتم علينا بالجَهْلِ فيما نصنع فإنَّا نحكم عليكم بالجهلِ فيما أنتم عليه من الكفر، والتَّعرض لسخطِ الله وعذابه، فأنتم أولى بالسُّخرية مِنَّا. فإن قيل: كيف تجُوزُ السخرية من النبي؟ . فالجوابُ: هذا ازدواج للكلام يعنى: إن تَسْتجْهلوني فإنِّي أستجهلكم إذا نزل بكم العذاب. وقيل: معناه: إن تَسْخَرُوا منَّا فسترون عاقبة سخريتكم. وقيل: سمى المقابلة سخرية كقوله {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] . قوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} . في «مَنْ» وجهان: أحدهما: أن تكون موصولة. والثاني: أن تكون استفهاميَّة، وعلى كلا التقديرين ف «تَعْلَمُونَ» إمَّا من باب اليقينِ، فتتعدَّى لاثنين، وإمَّا من بابِ العرفان فتتعدَّى لواحد. فإذا كانت هذه عرفانية و «مَنْ» استفهامية كانت «مَنْ» ، وما بعدها سادَّة مسدَّ مفعول واحد، وإن كانت متعديةً لاثنين كانت سادَّة مسدَّ المفعولين وإذا كانت «تَعْلَمُونَ» متعديةً لاثنين، و «مَنْ» موصولة كانت في موضع المفعول الأوَّلِ، والثاني محذوفٌ قال ابن عطيَّة: «وجائزٌ أن تكون المتعدية إلى مفعولين، واقتصر على الواحدِ» . وهذه العبارةُ ليست جيِّدة؛ لأنَّ الاقتصار في هذا الباب على أحد المفعولين لا يجوز، لما تقرَّر من أنَّهما مبتدأ وخبر في الأصل، وأمَّا حذف الاختصار، فهو ممتنعٌ أيضاً، إذ لا دليل على ذلك. وإن كانت متعدِّية لواحدٍ و «مَنْ» موصولةٌ فأمرها واضحٌ. قوله: «وَيَحِلُّ عليْهِ» أي: يجبُ عليه، وينزل به «عذابٌ مقيمٌ» دائم. وحكى الزهراويُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «ويَحُلُّ» بضمِّ الحاءِ، بمعنى يجبُ أيضاً. قوله: {حتى إِذَا جَآءَ أَمْرُنَا} عذابنا، أو وقته، أو قولنا «كن» . {وَفَارَ التنور} اختلفوا في التَّنور: قال عكرمةُ والزهري: هو وجه الأرض، أي نبعث الأرض من سائر أرجائها حتى نبعث التنانير التي هي محال النار وذلك أنَّه قيل لنوح: إذ رأيت الماء قدْ فَارَ على وجه الأرض، فاركب السَّفينة أنت وأصحابك. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 484 وروي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: التنور طلوع الفجر، ونور الصَّباح وقيل: التَّنُّور أشرف مكان في الأرض وأعلاه. وقيل: «فَارَ التَّنُّورُ» يحتمل أن يكون معناه: اشتدَّ الحر كما يقالُ: حمي الوطيسُ. ومعنى الآية: إذا رأيتَ الأمر يشتد والماء يكثر فانْجُ بنفسك ومن معك إلى السفينة. وقال الحسنُ ومجاهدٌ والشعبيُّ: إنه التنور الذي يخبز فيه. وهو قول أكثر المفسِّرين، ورواه عطيَّة عن ابن عبَّاس. قال الحسنُ: كان تَنُّوراً من حجارةٍ، كانت حواء تخبزُ فيه، فصار إلى نُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - واختلفوا في موضعه فقال مجاهدٌ والشعبيُّ: إنَّه بناحية الكوفة وعن علي أنَّهُ في مسجد الكوفة. وقال مقاتلٌ بموضع يقال له: عين وَرْدة بالشَّام وقيل: عين بالهند. قال الزمخشريُّ: «حتَّى» هي التي يُبْتَدَأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشَّرطِ والجزاء، ووقعت غاية لقوله {وَيَصْنَعُ الفلك} أي: وكان يصنعها إلى أن جاء وقت الموعد والألف واللاَّم في «التَّنُّور» قيل: للعهدِ. وقيل: للجنس. ووزن «تَنُّور» قيل: «تَفْعُول» من لفظ النور فقلبت الواوُ لأولى همزة لانضمامها. ثم حذفت تخفيفاً، ثم شدَّدُوا النون كالعوضِ عن المحذوف، ويعزى هذا لثعلب. وقيل: وزنه «فَعُّول» ويعزى لأبي علي الفارسيِّ. وقيل: هو أعجميٌّ، وعلى هذا فلا اشتقاقَ له. والمشهورُ أنَّه ممَّا اتفق فيه لغة العرب والعجم كالصَّابون. ومعنى «فَارَ» أي: غلا قوة وشدة تشبيهاً بغليان القدر عند قوة النّضار، ولا شبهة في أنَّ نفس التَّنور لا يفوزُ، فالمرادُ: فار الماءُ في التَّنور. قال اللَّيْثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «التَّنُّور عمَّت بكل لسان وصاحبه تنَّار قال الأزهريُّ: وهذا يدلُّ على أن الاسم يكون أعْجَميّاً فتعربه العرب، فيصير عربيّاً، والدليلُ على ذلك أنَّ الأل» تَنَرَ «، ولا يعرفُ في كلام العرب» تنر «وهو نظير ما دخل في كلام العرب من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 485 كلام العجم الدِّيباج والدِّينار، والسُّندس، والإستبرق، فإنَّ العرب تكلَّمُوا بها؛ فصارت عربيةً» . قيل: إنَّ امرأته كانت تخبز في ذل التنور، فأخبرته بخروج الماءِ من ذلك التنور فاشتغل في الحالِ بوضع هذه الأشياء في السفينة. قوله: {قُلْنَا احمل فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين} قرأ العامَّة بإضافة «كُل» ل «زَوْجَيْنِ» . وقرأ حفص بتنوين «كُل» ، فأمَّا العامة فقيل: إنَّ مفعول «احْمِلْ» «اثْنَيْن» ، و «مِنْ» كُلِّ زَوْجَيْنِ «في محلِّ نصبٍ على الحالِ من المفعول؛ لأنه كان صفة للنَّكرة، فلمَّا قُدِّم عليها نُصب حالاً وقيل: بل» مِنْ «زائدة، و» كُل «مفعول به، و» اثْنَيْن «نعت ل» زَوْجَيْن «على التَّأكيدِ، وهذا إنَّما يتمُّ على قول من يرى زيادة» مِنْ «مطلقاً، أو في كلامٍ موجب. وقيل: قوله:» زَوْجَيْن «بمعنى العُمومِ أي: من كُل ما له ازدواجٌ، هذا معنى قوله: {مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ} وهو قولُ الفارسيِّ وغيره. قال ابنُ عطيَّة: ولو كان المعنى: احمل فيها من كل زوجين حاصلين اثنين، لوجب أن يحمل من كُلِّ نوع أربعة، والزوج في مشهور كلامهم للوحد ممَّا له ازدواجٌ. قال - سبحانه وتعالى -: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ} [الذاريات: 49] ، ويقال للمرأة زوجٌ، قال تعالى: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} [النساء: 1] يعني المرأة، وهو زوجها، وقال: {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى} [النجم: 45] فالواحدُ يقال له: زوجٌ، قال تعالى: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مَّنَ الضأن اثنين وَمِنَ المعز اثنين} [الأنعام: 143] ، {وَمِنَ الإبل اثنين وَمِنَ البقر اثنين} [الأنعام: 144] . فالزَّوجان: عبارة عن كل اثنين لا يَسْتغني أحدهما عن الآخر، يقال لكُلِّ واحدٍ منهما زوج، يقال زوج خفٍّ، وزوج نَعْلِ، والمراد بالزَّوجين ههنا: الذَّكر والأنثى. وأمَّا قراءة حفص فمعناها: من كلِّ حيوان أو من كلِّ صنف، و» زَوْجَيْن «مفعولٌ به، و» اثْنَيْنِ «نعتٌ على التأكيد، كقوله {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} [النحل: 51] ، و» مِنْ كُلّ «على هذه القراءة يجوز أن يتعلق ب» احْمِلْ «وهو الظَّاهرُ، وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنَّها حالٌ من» زَوْجَيْنِ «وهذا الخلاف والتخريج جاريان أيضاً في سورة» قَدْ أفْلَحَ «. فصل اختلفوا في أنه هل دخل في قوله: «زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ» غير الحيوانِ أم لا؟ فنقول فالحيوانُ مرادٌ ولا بد، وأما النَّباتُ فاللفظ لا يدل عليه، إلا أنه بقرينة الحال لا يبعد دخلوه لأنَّ الناس محتاجون إلى النبات بجميع أقسامه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 486 قال ابنُ الخطيب: «وروي عن ابن مسعودٍ أنه قال: لم يستطع نوحٌ أن يحمل الأسد حتَّى ألقيت عليه الحمى، وذلك أنَّ نُوحاً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: يا ربِّ فمن أين أطعم الأسد، إذا حملته؟ قال الله - تعالى -:» فسوف أشغله عن الطعام فسلَّط الله عليه الحمى «وأمثال هذه الكلمات الأولى تركها، فإنَّ حاجة الفيل إلى الطَّعام أكثر، وليست به حُمَّى» . وروى زيد بن أسلم عن أبيه مرسلاً أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: لمَّا حمل نوح في السفينة من كُلِّ زوجين اثنين، قال أصحابه: وكيف يطمئن، أو تطمئن المواشي، ومعنا الأسد، فسلَّط الله عليه الحمى، فكانت أوَّلُ حمى نزلت الأرض، ثم شكوا الفأرة فقالوا: الفويسقة تفسد علينا طعامنا ومتاعنا، فأوحى الله إلى الأسدِ، فعطس الأسد فخرجت الهرة؛ فتخبأت الفأرة منها. قوله: «وأهْلَك» نسقٌ على «اثْنَيْنِ» في قراءة من أضاف «كُل» ل «زَوْجَيْنِ» ، وعلى «زَوْجَيْنِ» في قراءة من نوَّن «كُل» وقوله: «إلاَّ من سبقَ» استثناءٌ متصل في موجب، فهو واجب النَّصْبِ على المشهُور. وقوله: «وَمَنْ آمَنَ» مفعول به نسقاً على مفعول «احْمِلْ» . فصل روي أنَّ نوحاً - عليه الصلاة السلام - قال يا رب: كيف أحملُ من كلِّ زوجين اثنين؟ فحشر الله - تعالى - إليه السباع والطير، فجعل يضربُ بيده في كل جنس فيقع الذَّكرُ في يده اليمنى والأنثى في يده اليسرى، فيجعلهما في السفينة. والمراد بأهله: ولده وعياله {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} بالهلاك يعني: امرأته واعلة وابنه كنعان. «ومَنْ آمَنَ» يعنى: واحمل من آمن بك، قال تعالى: {وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ} . قال قتادةُ بنين سام وحام ويافث ونساؤهم. وقال الأعمشُ: كانوا سبعة: نوحٌ وثلاثة بنين له وثلاثُ كنائن وقال ابن إسحاق: كانوا عشرة سوى نسائهم، نوح وبنوه: سام وحام ويافث، وستة أناس ممن كان به، وأزواجهم جميعاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 487 وقال مقاتل: كانوا اثنين وسبعين رجلاً وامرأةً، وبنيه الثلاث ونساءهُم. فجميعهم ثمانية وسبعون، نصفهم رجال، ونصف نساء. وعن ابن عباسٍ: كان في سفينة نوح عليه السلام ثمانون رجلاً، أحدهم جرهم، يقال: إنَّ في ناحية «المَوْصِل» قريةً، يقال لها: قريةُ الثَّمانين، سمِّيت بذلك؛ لأنَّهم لما خرجوا من السَّفينة بنوها، فسُمِّيت بهم. قال مقاتلٌ: حمل نوحٌ معه جسد آدم، فجعله معترضاً بني الرِّجال والنِّساء. وقال الحسنُ: لم يحمل نوحٌ في السفينة إلاَّ ما يلد ويبيض فأما ما يتولَّد من الطين؛ فالحشرات، والبقِّ، والبعوض؛ فلم يحمل منه. ثم قال تعالى {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} يعني: حكم الله عليه بالهلاك، وهو ابنه، وزوجته، وكانا كافرين، فأما ابنه فهو يام، وتسميه أهل الكتاب: كنعان، فهو الذي انعزل عنه، أما امرأةُ نوحٍ، فهي أمِّ أولاده كلهم: حام، وسام، ويافث، وهو أدرك؛ انعزل، وغرق، وعابر، وقد مات قبل الطوفان، فقيل مع من غرق وكانت خمس سبق عليها القول بكفرها، وعند أهل الكتاب أنها كانت في السفينة فيحتمل أنها ماتت بعد ذلك. فإن قيل: الإنسان أشرف من سائر الحيواناتِ، فما الفائدة من ذكر الحيوانات؟ فالجوابُ: أنَّ الإنسانَ عاقلٌ وهو لعقله كالمضطر إلى دفع أسباب الهلاكِ عن نفسه، فلا حاجة إلى المبالغة في التَّرغيب فيه، بخلاف السَّعْي في تخليص سائر الحيوانات؛ فلهذا وقع الابتداء به. فإن قيل: الذين دخلوا السَّفينة كانوا جماعة فلم لم يقل قليلون كما في قوله: {إِنَّ هؤلاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ} [الشعراء: 54] ؟ فالجواب: كلا اللفظين جائز، والتقدير - ههنا -: وما آمن معه إلا نفر قليل. فصل احتجوا بقوله {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} في إثبات الفضاءِ السَّابق والقدر الوجب، لأنَّ قوله {سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ} يدلُّ على أنَّ من سبق عليه القول ومن آمَنَ لا يغيَّرُ عن حاله، فهو كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «السعيد من سعد في بطن أمه والشقي من شقى في بطن أمه» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 488 قال تعالى: {وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مَجْرَاهَا} . يجُوزُ أن يكون فاعلُ «قَالَ» ضمير نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، ويجوزُ أن يكون ضمير الباري - تعالى جل ذكره - أي: وقال الله لنوح ومنه معهُ. و «فِيهَا» متعلقٌ ب «ارْكَبُوا» وعُدِّي ب «في» لتضَمُّنه معنى «ادخلوا فيها راكبين» أو سيروا فيها. وقيل: تقديره: اركبوا الماء فيها. وقيل: «في» زائدة للتَّوكيد. والركوب: العلو على ظهر الشيءِ، ومنه ركوب الدَّابة، وركوب السَّفينة، وركوب البحر، وكل شيء علا شيئاً، فقد ركبه، ويقال: ركبه الدَّين. قال الليثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وتسمي العربُ من يركبُ السَّفينة: رُكَّابَ السَّفينة، وأمَّا الركبانُ، والأركُوبُ، والرَّكْبُ: فركَّابُ الدَّوابِّ. قال الواحدي: ولفظة «فِي» في قوله «ارْكَبُوا فيهَا» لا يجوز أن تكون من صلة الركوب؛ لأنَّه يقال: ركبت السفينة ولا يقال: ركبت في السَّفينة، بل الوجهُ أن يقول مفعول «ارْكَبُوا» محذوف والتقدير: «اركبوا الماء في السَّفينة» . وأيضاً يجوز أن تكون فائدة هذه الزيادة، أنَّه أمرهم أن يكونوا في جوف الفلك لا على ظهرها فلو قال: اركبوها، لتوهَّمُوا أنَّه أمرهم أن يكونوا على ظهر السَّفينة. قال قتادةُ: ركبُوا السَّفينة يوم العاشر من شهر رجب؛ فسارُوا مائةً وخمسين يوماً، واستقرَّتْ على الجُودي شهراً، وكان خروجهم من السفينة يوم عاشوراء من المحرَّمِ. قوله: {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} . يجوز أن يكون هذا الجار والمجرور حالاً من فاعل «اركبوا» أو من «ها» في «فيها» ويكونُ «مجراها» ، و «مرساها» فاعلين بالاستقرار الذي تضمَّنهُ الجارُّ لوقوعه حالاً. ويجوز أن يكون «بِسْمِ اللهِ» خبراً مقدَّماً، و «مَجْراها» مبتدأ مؤخراً، والجملة أيضاً حالٌ ممَّا تقدَّم، وهي على كلا التقديرين حالٌ مقدرةٌ كذا أعربه أبو البقاء، وغيره. إلاَّ أنَّ مكيّاً منع ذلك لخلو الجملة من ضمير يعود على ذي الحال إذا أعربنا الجملة أو الجارَّ حالاً من فاعل «ارْكَبُوا» قال: ولا يَحْسُنُ أن تكون هذه الجملة حالاً من فاعل «اركبُوا» ؛ لأنَّه لا عائد في الجملةِ يعودُ على الضمير في «اركبُوا» لأن المضمر في «بِسْمِ اللهِ» إنْ جعلته خبراً ل «مَجْراهَا» فإنَّما يعودُ على المبتدأ، وهو مجراها، وإن رفعت «مَجْرَاهَا» بالظَّرفِ لم يكن فيه ضمير الهاءِ في «مَجْراهَا» وإنما تعودُ على الضمير في «فِيهَا» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 489 وإذا نصبت «مَجْرَاهَا» على الظرف عمل فيه «بِسْمِ الله» وكانت الجملةُ حالاً من فعل «ارْكَبُوا» . وقيل: بِسْمِ اللهِ «حال من فاعل» ارْكَبُوا «و» مَجْراهَا ومُرْسَاهَا «في موضع الظرف المكاني، أو الزماني. والتقدير: اركبوا فيها مُسَمِّين موضع جريانها، ورُسُوِّها، أو وقت جريانها ورسوِّها. والعامل في هذين الظرفين حينئذٍ ما تضمَّنه» بِسْمِ اللهِ «من الاستقرار، والتقدير: اركبوا فيها مُتبرِّكين باسم الله في هذين المكانين، أو الوقتين. قال مكي: ولا يجوز أن يكون العاملُ فيهما» ارْكَبُوا «؛ لأنه لم يُرِدْ: اركبُوا فيها في وقتِ الجَرْي، والرسُوِّ، إنَّما المعنى: سمُّوُا اسم الله في وقت الجَرْيِ والرُّسُوِّ. ويجُوزُ أيضاً أن يكون» مَجْرَاهَا ومُرْسَاها «مصدرين، و» بِسْمِ الله «حالٌ كما تقدَّم، رافعاً لهذين المصدرين على الفاعليَّة أي: استقرَّ بسم الله إجراؤها، وإرساؤها، ولا يكونُ الجارُّ حينئذٍ إلاَّ حالاً من» هَا «في» فيها «لوجود الرابط، ولا يكونُ حالاً من فاعل» اركبُوا «لعدم الرَّابط. وعلى هذه الأعاريب يكونُ الكلامُ جملةً واحدةً. ويجوز أن يكون {بِسْمِ الله مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا} جملة مستأنفة لا تعلُّق لها بالأولى من حيث الإعراب، ويكون قد أمرهم في الجملة الأولى بالرُّكُوب، وأخبر أنَّ مجراها ومرساها باسم الله. فجرت، وإذا أراد أن ترسو قال: بسم الله. قال بعضُ المفسِّرين: كان نوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إذا أراد إجراء السفينة قال: «بِسْمِ اللهِ مجرَاها» فتجري، وإذا أراد أن ترسُو قال: «بِسْمِ الله مرْساهَا» فترسو، فالجملتان محكيتان ب «قَالَ» . وقرأ الأخوان وحفص «مَجْرَاها» بفتح الميم، والباقون بضمها. واتَّفق السَّبعة على ضمِّ ميم «مُرْسَاها» . وقرأ ابن مسعود، وعيسى الثقفي وزيد بن علي، والأعمش «مَرْسَاها» بفتح الميم أيضاً. فالضمُّ فيهما، لأنهما من «أجْرَى وأرْسَى» ، والفتح لأنَّهُما من «جَرَتْ ورَسَتْ» وهما: إمَّا ظرفا زمان أو مكان أو مصدران على ما سبق من التقادير. وقرأ الضحاك، والنخعي، وابن وثابٍ، ومجاهدٌ، وأبو رجاء، والكلبي، والجحدري، وابن جندب مجريها ومرسيها بكسر الراء، والسين بعدهما ياء صريحة، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 490 وهما اسما فاعلين من «أجرى وأرسى» ، وتخريجهما على أنهما بدلان من اسم الله. قال ابنُ عطيَّة وأبو البقاء، ومكي: إنَّهما نعتان للهِ - تعالى -، وهذا الذي ذكروه إنَّما يتمُّ على تقدير كونهما معرفتين بتمحض الإضافة، وقال الخليلُ: «إنْ كُلَّ إضافةٍ غيرُ محضةٍ قد تُجعل محضة إلاَّ إضافة الصفةِ المشبهة، فلا تتمحَّض» . وقال مكي: «ولو جعلت» مَجْراهَا «، و» مُرْسَاها «في موضع اسم الفاعل لكانت حالاً مقدرة، ولجاز ذلك وكانت في موضع نصبٍ على الحال من اسم الله تعالى» . والرُّسوُّ: الثَّبات، والاستقرار، يقال: رَسَا يَرْسُو وأرْسَيْتُهُ أنَا؛ قال: [الكامل] 2970 - فَصَبرْتُ نفْساً عند ذلكَ حُرَّةً ... تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجبانِ تَطَلَّع أي: تَثْبُتُ وتَسْتَقِرُّ عندما تضطربُ وتتحرك نفسُ الجبان. قوله: {إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} فيه سؤال، وهو إن كان ذلك وقت إظهارِ الضر، فكيف يليق به هذا الذكر؟ . والجوابُ: لعل القوم الذين ركبوا السَّفينة اعتقدُوا في أنفسهم أنَّا إنَّما نجونا ببركةِ علمنا فالله تعالى نبَّههم بهذا الكلام لإزالة ذلك العجب، فإنَّ الإنسان لا ينفكُّ من أنواع الزلاتِ وظلمات الشبهات، وفي جميع الأحوال، فهو محتاجٌ إلى إعانةِ الله، وفضله، وإحسانه، وأن يكون غفوراً لذنوبه رحيماً لعقوبته. قوله: «وهِيَ تَجْرِي» في هذه الجملةِ، ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّها مستأنفةٌ، أخبر الله تعالى عن السفينة بذلك. والثاني: أنَّها في محلِّ نصب على الحالِ من الضَّمير المستتر في «بِسْمِ اللهِ» أي: جريانها استقرَّ بسم الله حال كونها جارية. الثالث: أنَّها حالٌ من شيءٍ محذوفٍ تضَمَّنته جملةٌ دلَّ عليها سياقُ الكلامِ. قال الزمخشريُّ: فإن قلت: بم اتَّصل قوله: «وهِيَ تَجْرِي بهِمْ» ؟ قلت: بمحذُوفٍ دلَّ عليه قوله: «اركبُوا فيها بسْمِ الله» كأنَّهُ قيل: فركبوا فيها يقولون: «بسم الله وهي تجري بهم» . وقوله «بِهِمْ» يجوزُ فيه وجهان: أحدهما: أن يتعلَّق ب «تَجْرِي» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 491 والثاني: أنَّه متعلقٌ بمحذوفٍ أي: تجري ملتبسةً بهم، ولذلك فسَّرهُ الزمخشريُّ بقوله: «أي: تجْرِي وهُمْ فيها» . وقوله: «كالْجِبَالِ» صفة ل «مَوْجٍ» . فصل قال ابن جرير، وغيره: إنَّ الطُّوفان كان في ثالث عشر شهر آب في عادة القبطِ، وإنَّ الماء ارتفع على أعلى جبل في الأرض خمسة عشر ذراعاً، وهو الذي عند أهل الكتاب، وقيل: ثمانين ذراعاً وعمَّ جميع الأرض طولاً وعرْضاً. والمَوْجُ جمع «مَوْجة» والموج: ما ارتفع من الماءِ إذا اشتدَّ عليه الريح. وهذا يدلُّ على أنَّهُ حصل في ذلك الوقت رياح عاصفة. فإن قيل: الجريانُ في الموج يوجب الغرقَ. فالجوابُ: أنَّ الأمواجَ لمَّا أحاطت بالسَّفينة من جوانبها أشبهت تلك السَّفينة كأنَّها جرت في داخل الأمواج. قوله تعالى: {ونادى نُوحٌ ابنه} الجمهور على كسْرِ تنوين «نوح» لالتقاء الساكنين. وقرأ وكيع بضمِّه إتباعاً لحركةِ الإعراب، واسترذلَ أبو حاتمٍ هذه القراءة، وقال: «هي لغةُ سوءٍ لا تُعْرَفُ» . وقرأ العامَّةُ: «ابنهُ» بوصل هاء الكناية بواو، وهي اللغةُ الفصيحةُ الفاشية. وقرأ ابنُ عباس بسكون الهاء. قال بعضهم: هذا مخصُوصٌ بالضَّرُورة؛ وأنشد: [البسيط] 2971 - وأشْرَبُ الماء ما بِي نحوهُ عطشٌ ... إلاَّ لأنَّ عُيُونه سَيْلُ وَادِيهَا وبعضهم لا يخُصُّه بها، وقال ابن عطية: إنَّا لغةٌ لأزْد السَّراة؛ ومنه قوله: [الطويل] 2972 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... ومِطْوايَ مُشْتاقَانِ لَهْ أرِقَانِ وقال بعضهم: «هي لغة عُقَيْل، وبني كلاب» . وقرأ السدي: «ابْنَاهُ» بألف وهاء السكت، قال ابنُ جنِّي: «وهو على النّداء» . وقال أبو البقاء: «ابناه» على الترثِّي وليس بندبة؛ لأنَّ النُّدبة لا تكونُ بالهمزة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 492 وهو كلامٌ مشكلٌ في نفسه، وأين الهمزةُ هنا؟ إن عنى همزة النِّداء، فلا نُسَلِّم أنَّ المقدَّر من حروفِ النِّداءِ هو الهمزةُ؛ لأنَّ النُّحاة نصُّوا على أنَّه لا يضمر من حروف النِّداءِ إلاَّ «يَا» لأنَّها أم الباب. وقوله: «الترثِّي» هو قريبٌ في المعنى من الندبة. وقد نصوا على أنَّه لا يجوزُ حذف [حرف] النداء من المندوب، وهذا شبيهٌ به. وقرأ عليٌّ - كرم الله وجهه -: «ابنها» إضافة إلى امرأته كأنه اعتبر قوله: «ليْسَ من أهلكَ» ، وقوله: «ابْنِي» و {مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] لا يدل له لاحتمالِ أن يكون ذلك لأجل الحنوّ، وهو قول الحسن، وجماعة. وقرأ محمد بن عليّ، وعروة بن الزبير: «ابْنَهَ» بهاء مفتوحة دون ألف، وهي كالقراءةِ قبلها، إلاَّ أنه حذف ألف «ها» مجتزئاً عنها بالفتحةِ، كما تحذف الياءُ مُجْتَزأ عنها بالكسرة، قال ابن عطيَّة: «هي لغةٌ» ؛ وأنشد: [البسيط] 2973 - إمَّا تقُودُ بِهَا شَاةً فتأكُلُهَا ... أو أن تَبِيعَه في بَعْضِ الأرَاكِيبِ يريد: تَبِيعهَا «فاجتزأ بالفتحةِ عن الألفِ، كما اجتزأ الآخر عنها في قوله: - وأنشده ابن الأعرابي على ذلك -: [الوافر] 2974 - فَلَسْتُ براجعٍ ما فَاتَ مِنِّي ... بِلَهْفَ، ولا بِلَيْتَ، ولا لَوَ انِّي يريد:» يَا لَهْفَا «فحذف، وهذا يخصُّه بعضهم بالضرورة، ويمنع في السَّعة:» يا غُلامَ «في: يا غُلامَا. وسيأتي في نحو {ياأبت} [يوسف: 4] بالفتح: هل ثمَّ الفٌ محذوفة أم لا؟ وتقدَّم خلاف في نحو: يا ابن أمَّ، ويا ابن عمَّ: هل ثمَّ ألفٌ محذوفة مجتزأٌ عنها بالفتحةِ أم لا؟ فهذا أيضاً كذلك، ولكن الظَّاهر عدم اقتياسه، وقد خطَّأ النَّحَّاسُ أبا حاتم في حذف هذه الألف، وفيه نظر. قوله: {وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ} جملةٌ في موضع نصب على الحالِ، وصاحبها هو» ابْنَهُ «والحالُ تأتي من المنادى لأنَّه مفعولٌ به. والمَعْزِل - بكسر الزاي - اسم مكن العزلة، وكذلك اسم الزمان أيضاً، وبالفتح هو الجزء: 10 ¦ الصفحة: 493 المصدر. قال أبو البقاء:» ولمْ أعلم أحداً قرأ بالفتح «. قال شهابُ الدِّ] ن: لأنَّ المصدر ليس حاوياً له ولا ظرفه؛ فكيف يقرأ به إلاَّ مجازٍ بعيد؟ . وأصله: من العَزْل، وهو التَّنحية، والإبعاد تقول: كنت بمعزلٍ عن كذا، أي: بموضع قد عُزِل منه، قيل: كان بمعزلٍ عن السفينة، لأنه كان يظنُّ أنَّ الجبل يمنعه من الغرق. وقيل: كان بمعزل عن أبيه وإخوته وقومه، وقيل: كان في معزل من الكفار كأنَّه انفرد عنهم فظنَّ نوحٌ أنَّ ذلك محبة لمفارقتهم. فصل اختلفوا في أنه هل كان ابناً له؟ فقيل: كان ابنه حقيقة لنصِّ القرآن، وصرفُ هذا اللفظ إلى أنَّهُ رباه، فأطلق عليه اسم الابن لهذا السَّبب، صرف للكلام عن حقيقته إلى مجازه من غير ضرورة، والمخالفُ لهذا الظَّاهر إنَّما خالفهُ استبعاداً لأن يكون ولد الرسول كافراً، وهذا ليس ببعيد؛ فإنَّه قد ثبت بنصِّ القرآن أنَّ والد الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان كافراً، فكذلك ههنا. فإن قيل: لمَّا دَعَا وقال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] فكيف نادى ابنه مع كفره؟ . فالجواب من وجوه: الأول: أنَّهُ كان ينافقُ أباه؛ فظنَّ نوحٌ أنَّهُ مؤمنٌ؛ فلذلك ناداه، ولولا ذلك لما أحب نجاته. الثاني: أنه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يعلمُ أنه كافرٌ لكن ظنَّ أنه لمَّا شاهد الغرق، والأهوال العظيمة فإنَّهُ يقبل الإيمان، فكان قوله: {يابني اركب مَّعَنَا} كالدَّلائلِ على أنَّهُ طالبٌ منه الإيمان، وتأكد هذا بقوله: {وَلاَ تَكُن مَّعَ الكافرين} أي: تابعهم في الكفر، واركب مع المؤمنين. الثالث: أنَّ شفقة الأبوة لعلَّها حملته على ذلك النداء، والذي تقدَّم من قوله: {إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول} [هود: 40] كان كالمجمل، فلعلَّه جوَّز ألاَّ يكون هو داخلاً فيه. وقيل: كان ابن امرأته، ويدلُّ عليه ما تقدَّم من القراءة. وقال قتادة: سألت الحسن عنه فقال: والله ما كان ابنه فقلت: إنَّ الله - تعالى - حكى عنه أنه قال: {إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} [هود: 45] وأنت تقولُ: ما كان ابناً له، فقال: لَمْ يقل: إنَّ ابني منِّي، وإنَّما قال: من أهلي، وهذا يدلُّ على قولي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 494 وقيل: ولد على فراشه، قالوا: لقوله تعالى في امرأة نوح، وامرأة لوط {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] . قال ابن الخطيب: وهذا قول خبيثٌ يجب صون منصب الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - عن هذه الفضيحةِ لا سيما هو على خلاف نصِّ القرآن. وأمَّا قوله تعالى: {فَخَانَتَاهُمَا} [التحريم: 10] فليس فيه أنَّ تلك الخيانة كانت بالسَّبب الذي ذكروه. قيل لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كيف كانت تلك الخيانةُ، فقال: كانت امرأة نوح تقول: زَوْجي مجنونٌ، وامرأة لوط تدلُّ الناس على ضيفه، إذا نزلُوا به، ويدلُّ على فسادِ هذا القول قوله تعالى: {الخبيثات لِلْخَبِيثِينَ والخبيثون لِلْخَبِيثَاتِ} [النور: 26] وقوله: {والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين} [النور: 3] . قوله: {يابني اركب مَّعَنَا} قرأ البزيُّ، وقالون، وخلاَّد بإظهار باء «ارْكَب» قبل ميم «مَنَعَنَا» والباقون بإدغامها في الميم، وقرأ عاصم هنا «يَا بُنَيَّ» بفتح الياء. وأمَّا في غير هذه السُّورة فإنَّ حفصاً عنه فعل ذلك. والباقون: بسكر الياء في جميع القرآن إلا ابن كثير؛ فإنَّهُ في الأول من لقمان، وهو قوله: {يابني لاَ تُشْرِكْ بالله} [لقمان: 13] فإنَّه سكَّنهُ وصْلاً ووقْفاً، وفي الثاني كغيره أنَّهُ يكسر ياءه، وحفص على أصله من فتحه. وفي الثالث وهو قوله: {يابني أَقِمِ الصلاة} [لقمان: 17] اختلف عنه فروى البزي كحفصٍ، وروى عنه قنبل السُّكون كالأول. هذا ضبط القراءة. وأمَّا تخريجها فمن فتح فقيل: أصلها: «يَا بُنَيَّا» بالألف فحذفت الألفُ تخفيفاً، اجترأ عنها بالفتحةِ كما تقدَّم. وقيل: بل حذفت لالتقاءِ الساكنين؛ لأنَّهما وقع بعدها راءُ «ارْكَبْ» وهذا تعليلٌ فاسدٌ جدّاً، بدليل سقوطها في سورة لقمان في ثلاثة مواضع حيث لا ساكنان. وكأنَّ هذا المُعلَّل لم يعلمْ بقراءةِ عاصم في غير هذه السورة، ولا بقراءة البزِّي في «لقمان» ، وقد نقل ذلك أبو البقاءِ ولمْ ينكرهُ. وكذلك قال الزمخشريُّ أيضاً. وأمَّا من كسر فحذفت الياءُ أيضاً: إمَّا تخفيفاً وهو الصحيحُ، وإما لالتقاء الساكنين، وقد تقدَّم فسادهُ. وأمَّا من سكَّن فلما رأى من الثِّقَلِ مع مطلق الحركةِ، ولا شكَّ أنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 495 السُّكونَ من أخفِّ الحركاتِ، ولا يقالُ: فلمَ وافق ابنُ كثير غير حفص في ثاني لقمان، ووافق حفصاً في الأخيرة في رواية البزي عنه، وسكَّن الأول؟ لأنَّ ذلك جمع بين اللغات، والمفرَّق آتٍ بمحالٍ. وأصلُ هذه اللفظة بثلاث ياءات: الأولى للتَّصغير، والثانيةُ لامُ الكلمة، وهل هي ياءٌ بطريق الأصالةِ أو مبدلةٌ من واوٍ؟ خلافٌ تقدَّم تحقيقُه أول الكتاب في لام «ابن» ما هي؟ والثالثة ياءُ المتكلِّم مضافٌ إليها، وهي التي طرأ عليها القلبُ ألفاً ثم الحذفُ، أو الحذفُ وهي ياءٌ بحالها. فصل لمَّا حكى عن نوح أنَّه دعا ابنه إلى رُكوبِ السَّفينة حكى عن ابنه أنَّهُ قال: {سآويا إلى جَبَلٍ} سأصير وألتَجِىءُ إلى جبل {يَعْصِمُنِي مِنَ المآء} يمنعني من الغرقِ، وهذا يدل على أنَّ الابنَ كان مُصِرّاً على الكفر، فعند هذا قال نوحٌ: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} أي: من عذابِ الله {إِلاَّ مَن رَّحِمَ} . وههنا سؤال: وهو أن الذي رَحِمَهُ اللَّهُ معصومٌ، فكيف يحسن استثناء المعصوم من العاصم؟ والجواب من وجوه: الأول: أنَّهُ استثناءٌ منقطع، وذلك أن تجعل «عَاصماً» على حقيقته، و «مَنْ رَحِمَ» هو المعصوم، وفي «رَحِمَ» ضميرٌ مرفوعٌ يعودُ على الله تعالى، ومفعولهُ ضميرُ الموصولِ وهو «مَنْ» حذف لاستكمالِ الشروطِ، والتقديرُ: لا عاصم اليوم ألبتة من أمر الله، لكن من رَحِمَهُ اللَّهُ فهو معصوم. الثاني: أن يكون المراد ب «مَنْ رَحِمَ» هو الباري تعالى كأنه قيل: لا عاصم اليومَ إلاَّ الرَّاحمَ. الثالث: أنَّ عاصماً بمعنى معصُوم، وفاعل قد يجيءُ بمعنى مفعول نحو: {مَّآءٍ دَافِقٍ} [الطارق: 6] أي: مَدْقُوق؛ وأنشدوا: [المتقارب] 2975 - بَطِيءُ القيامِ رَخِيمُ الكَلاَ ... مِ أمْسَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا أي: مَفْتُوناً، و «مَنْ» مرادٌ بها المعصومُ، والتقدير: لا معصوم اليوم من أمْرِ الله إلاَّ من رَحِمَهُ اللَّهُ فإنَّه يُعْصَمُ. الرابع: أن يكون «عاصم» هنا بمعنى النَّسب، أي: ذا عِصْمَة نحو: لابن وتامر، وذو العصمة ينطلق على العاصم وعلى المعصوم، والمراد به هنا المعصوم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 496 وهو على هذه التَّقادير استثناءٌ متصلٌ، وقد جعله الزمخشريُّ متصلآً لمدرك آخر، وهو حذفُ مضافٍ تقديره: لا يعصمك اليوم مُعْتَصمٌ قط من جبلٍ ونحوه سوى مُعْتَصمٍ واحدٍ، وهو مكان من رحمهم الله ونجاهم، يعني في السفينة. وأمَّا خبرُ «لا» فالأحسنُ أن يجعل محذوفاً، وذلك لأنَّهُ إذا دلًَّ عليه دليلٌ؛ وجب حذفه عند تميم، وكثر عند الحجاز، والتقدير: لا عاصم موجودٌ. وجوَّز الحوفيُّ وابنُ عطيَّة أن يكون خبرها هو الظرف وهو اليوم. قال الحوفيُّ: ويجوز أن يكون «اليَوْمَ» خبراً فيتعلَّق بالاستقرار، وبه يتعلق «منْ أمْرِ اللهِ» . وقد ردَّ أبو البقاءِ ذلك فقال: فأمَّا خبرُ «لا» فلا يجوزُ أن يكون «اليَوْمَ» ؛ لأنَّ ظرف الزَّمان لا يكون خبراً عن الجُثَّة، بل الخبرُ «مِنْ أمْرِ الله» و «اليَوْمَ» معمولُ «مِنْ أمْرِ اللهِ» . وأمَّا اليَوْمَ «و» مِنْ أمْرِ الله «فقد تقدَّم أنَّ بعضهم جعل أحدهما خبراً، فيتعلقُ الآخر بالاستقرار الذي يتضمَّنه الواقعُ خبراً، ويجوزُ في» اليَوْمَ «أن يتعلق بنفس» مِنْ أمْرِ الله «لكونه بمعنى الفعل. وجوَّز الحوفيُّ أن يكون» اليَوْمَ «نعتاً ل» عَاصِمَ «وهو فاسدٌ بما أفسدَ بوقوعه خبراً عن الجُثَّة. وقرىء» إلاَّ مَنْ رُحِمَ «مبنيّاً للمفعول، وهي مقويِّيةٌ لقول من يدعي أنَّ» مَنْ رَحمَ «في قراءةِ العامَّة المرادُ به المرحوم لا الرَّاحم، كما تقدَّم تأويلهُ. ولا يجوزُ أن يكون» اليوْمَ «ولا» مِنْ أمْرِ الله «متعلقين ب» عَاصم «وكذلك الواحد منهما؛ لأنَّه كان يكون الاسمُ مطوَّلاً، ومتى كان مُطَوَّلاً أعرب، ومتى أعرب نُوِّن، ولا عبرة بخلاف الزجاج حيثُ زعم أنَّ اسم» لا «معربٌ حذف تنوينه تخفيفاً. ثم قال سبحانه وتعالى: {وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ} فصار {مِنَ المغرقين} . روي أنَّ الماءَ علا على رؤوس الجبالِ قدر أربعين ذراعاً، وقيل: خمسة عشر ذراعاً. قوله تعالى: {وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ} قيل: هذا مجاز، لأنَّها موات. وقيل: جعل فيها ما تُمَيَّز به. والذي قال إنَّه مجازٌ قال: لو فُتِّشَ كلام العرب والعجم ما وُجِدَ فيه مثل هذه الآية على حسن نظمها، وبلاغة وصفها، واشتمال المعاني فيها. والبلعُ معروفٌ. والفعل منه مكسُورُ العين ومفتوحها: بَلِعَ وبَلَعَ حكاهما الكسائي والفراء. قيل: والفصيحُ» بَلِعَ «بكسر اللام» يَبْلَع «بفتحها. والإقلاعُ: الإمساك، ومنه» أقْلَعَت الحُمَّى «. وقيل: أقلع عن الشيء، أي: تره وهو قريبٌ من الأول. والغَيْضُ: النقصان، يقال: غاض الماءُ يغيضُ غَيَْضاً، ومغاضاً إذا نقص، وغضته أنا. وهذا من باب فَعَلَ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 497 الشيءُ وفعلتهُ أنا. ومثله فغر الفَمُ وفغرته، ودلع اللسانُ ودلعتهُ، ونَقَصَ الشَّيء ونقَصْتُه، وفعله لازم ومتعد، فمن اللازم قوله تعالى: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} [الرعد: 8] ، أي: تَنْقُص. وقيل: بل هو هنا مُتعدٍّ وسيأتي، ومن المتعدِّي هذه الآيةُ؛ لأنَّه لا يُبْنَى للمفعول من غير واسطة حرف جر إلاَّ المتعدِّ] بنفسه. والجُودِيُّ: جبلٌ بعينه بالموصل، وقيل: بل كلُّ جبلٍ يقال له جُوديٌّ، منه قول عمرو بن نفيل: [البسيط] 2976 - سُبْحانَهُ ثُمَّ سُبْحَاناً نَعُوذُ بِهِ ... وقَبْلَنَا سَبَّحَ الجُودِيُّ والجُمُدُ قال شهابُ الدين: ولا أدري ما في ذلك من الدَّلالةِ على أنَّهُ عامٌّ في كلِّ جبلٍ. وقرأ الأعمش وابنُ أبي عبلة بتخفيف ياء» الجُودِيْ «. قال ابنُ عطيَّة: وهما لغتان: والصَّوابُ أن يقال: خُفِّفَتْ ياءُ النَّسَب، وإن كان يجوزُ ذلك في كلامهم الفَاشِي. قوله» بُعْداً «منصوبٌ على المصدر بفعل مقدَّر، أي: وقيل: ابعدُوا بُعْداً، فهو مصدرٌ بمعنى الدعاء عليهم نحو: جَدْعاً، يقال: بَعِد يَبْعَد بَعَداً إذا هلك، قال: [الطويل] 2977 - يَقُولُونَ لا تَبْعَدْ وَهُمْ يَدْفِنُونَهُ ... ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُوارِي الصَّفَائِحُ واللاَّمُ إمَّا أن تتعلق بفعلٍ محذوفٍ، ويكونُ على سبيل البيانِ كما تقدَّم في نحو «سَقْياً لَكَ وَرَعْياً» ، وإمَّا أن تتعلق ب «قيل» ، أي: لأجلهم هذا القول. قال الزمخشري: ومجيءُ إخباره على الفعل المبني للمفعول للدَّلالة على الجلال والكبرياء، وأنَّ تلك الأمُور العظام لا تكونُ إلاَّ بفعل فاعلٍ قادرٍ، وتكوين مكوِّنٍ قاهرٍ، وأنَّ فاعل هذه الأفعال واحد لا يشاركُ في أفعاله، فلا يذهبُ الوهمُ إلى أن يقول غيره: يا أرضُ ابلعي ماءك، ولا أن يقضي ذلك الامر الهائل إلاَّ هو، ولا أن تستوي السفينة على الجُوديِّ، وتستقر عليه إلاَّ بتسويته وإقرارهِ، ولما ذكرنا من المعانِي والنُّكَث استفصَح عُلماءُ البيانِ هذه الآية، ورقصُوا لها رُءوسَهُم لا لتجانس الكلمتين وهما قوله: «ابلَعِي وأقلعي» ، وذلك وإن كان الكلامُ لا يخول مِنْ حُسْنٍ فهو كغير الملتفتِ إليه بإزاء تلك المحاسن التي هي اللُّبُّ وما عداها قشورٌ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 498 فصل في هذه الآية ألفاظٌ كل واحد منها دال على عظمةِ الله - تعالى -. فأولها: قوله: «وقِيلَ» وهذا يدلُّ على أنَّهُ سبحانه في الجلال والعظمة بحيثُ أنَّهُ متى قبل لم ينصرف الفعل إلاَّ إليه، ولم يتوجَّه الفكرُ إلاَّ إلى ذلك الأمر؛ فدلَّ هذا الوجهُ على أنَّهُ تقرر في العقول أنَّهُ لا حاكمَ في العالمين ولا متصرف في العالم العلوي والسفلي إلاَّ هُوَ. وثانيها: قوله: {ياأرض ابلعي مَآءَكِ وياسمآء أَقْلِعِي} فإنَّ الحسَّ يدلُّ على عظمة هذه الأجسامِ، والحقُّ - تعالى - مستولٍ عليها متصرف فيها كيف شاء وأراد، فصار ذلك سبباً لوقوف القوَّة العقليَّة على كمالِ جلالِ الله - تعالى - وعلوّ قدره وقدرته وهيبته. وثالثها: أَنَّ السَّماء والأرض من الجمادات، فقوله: «يَا أرضُ وَيَا سَمَاءُ» مشعرٌ بحسب الظَّاهر على أنَّ أمره وتكليفه نافِذٌ في الجمادات، وإذا كان كذلك حكم الوهم بأنَّ نفوذ أمره على العقلاء أولى، وليس المرادُ منه أَنَّهُ تعالى يأمرُ الجمادات فإنَّ ذلك باطل، بل المراد أنَّ توجيه صيغة الأمر بحسب الظَّاهر على هذه الجمادات القويَّة الشديدة يقرّر في الوهم قدر عظمته وجلاله تقريراً كاملاً. ورابعها: قوله: {وَقُضِيَ الأمر} ومعناه: أنَّ الَّذي قضى به وقدَّره في الأزل قضاء جزماً فقد وقع، ذلك يدلُّ على أنَّ ما قضى اللهُ - تعالى - به فهو واقعٌ في وقته وأنه لا دافع لقضائه، ولا مانع من نفاذ حكمه في أرضه وسمائه. فإن قيل: كيف يليق بحكمة الله - تعالى - أن يغرق الأطفال بسبب جُرم الكبار؟ . فالجواب من وجهين: الأول: قال أكثر المفسِّرين: إنَّ الله - تعالى - أعقم أرحام نسائهم قبل الغرق بأربعين سنة، فلمْ يغرق إلاَّ من بلغ سِنُّه أربعين سنة. ولقائل أن يقول: لو كان ذلك لكان آية عجيبة قاهرة ظاهرة، ويبعدُ مع ظهورها استمرارهم على الكفر، وأيضاً فهبْ أنَّ الأمر كما ذكرتم فما قولكم في إهلاكِ الطَّيْرِ الوحش مع أنَّه لا تكليف عليها ألبتَّة. الجوابُ الثاني: أنه لا اعتراض على الله - تعالى - في أفعاله: {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ} [الأنبياء: 23] وأجاب المعتزلةُ بأنَّ الإغراقَ في الحيوانات والأطفال كإذنه في ذبْحِ هذه البهائم وفي استعمالها في الأعمال الشاقة. وقوله: {وَقُضِيَ الأمر} أي: فرغ منه، وهو هلاك القوم. وقوله: {واستوت عَلَى الجودي} أي: استوت السَّفينة على جبلٍ بأرضِ الجزيرةِ بقرب الموصل يقال له الجُودي. قيل: استوت يَوْمَ عاشوراء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 499 {وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين} قيل: هذا من كلام اللهِ - تعالى - قال لهم ذلك على سبيل اللَّعْنِ والطَّرْدِ. وقيل: من كلام نوح وأصحابه؛ لأنَّ الغالب ممَّن سلم من الأمر الهائل بسبب اجتماعهم مع الظلمةِ فإذا هلكوا ونجا منهم قال مثل هذا الكلام. قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لمَّا عرف نوحٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أنَّ الماءَ قد نضب هبط إلى أسفل الجودي فابتنى قرية وسماها ثمانين بعدد من كان معه من المؤمنين؛ فأصبحوا ذات يومٍ، وقد تبلبلت ألسنتهم على ثمانين لغة إحداها لغة العربِ، فكان بعضهم لا يفقه كلام بعض، فكان نُوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يعبر عنهم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 500 قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ} الآية. قوله: «فَقَالَ» عطفٌ على «نَادَى» . قال الزمخشريُّ: فإن قلت: وإن كان النداءُ هو قوله «رَبّ» فكيف عطف «فقال رَبّ» على «نَادَى» بالفاء؟ قلت: أريد بالنداء إرادةُ النداء، ولو أريد النداء نفسه لجاء - كما جاء في قوله {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} [مريم: 3]- {قَالَ رَبِّ} [مريم: 4] بغير فاء. فصل تقدَّم الكلامُ في أنَّهُ هل كان ابناً له أم لا؟ فقوله: {رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي} وقد وعدتني أن تنجيني وأهلي {وَإِنَّ وَعْدَكَ الحق} لا خلف فيه {وَأَنتَ أَحْكَمُ الحاكمين} حكمت على قوم بالنَّجاةِ وعلى قوم بالكُفْر والهلاك؛ قال الله: {يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} واعلم أنَّه لمَّا ثبت بالدليل، أنه كان ابناً له، وجب أن يكون المراد: ليس من أهل دينك. وقيل: ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم معك. قوله: {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} : قرأ الكسائيُّ «عَمِلَط فعلاً ماضياً، و» غيرَ «نَصْباً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 500 والباقون:» عَمَلٌ «بفتح الميمِ وتنوينه على أنه اسمٌ، و» غَيْرُ «بالرَّفع. فقراءةُ الكسائي: الضميرُ فيها يتعيَّنُ عودهُ على ابنِ نوحٍ، وفاعل» عَمِلَ «ضميرٌ يعودُ عليه أيضاً، و» غَيْرَ «مفعولٌ به. ويجوزُ أن يكون نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، تقديره: عمل عملاً غير صالح كقوله {واعملوا صَالِحاً} [المؤمنون: 51] . وقيل: إنه ذو عمل باطل فحذف المضاف لدلالة الكلام عليه. وأمَّا قراءةُ الباقين، ففي الضَّمير أربعة أوجهٍ: أظهرها: أنَّه عائدٌ على ابن نوح، ويكونُ في الإخبار عنه بالمصدر المذاهب الثلاثة في» رجل عدل «، و» زيْدٌ كرمٌ وجُودٌ «. والثاني: أنه يعودُ على النداء المفهوم منق وله:» ونَادَى «أي: نداؤك وسؤالك. وإلى هذا ذهب أبو البقاء ومكيٌّ والزمخشريُّ. وهذا فيه خطرٌ عظيمٌ، كيف يقال ذلك في حقِّ نبي من الأنبياءِ، فضلاً عن أول رسول أرسل إلى أهل الأرض بعد آدم - عليهما الصلاة والسلام -؟ ولمَّا حكاه الزمخشريُّ قال:» ليسَ بذاك «ولقد أصاب. واستدلَّ من قال بذلك أنَّ في حرف عبد الله بن مسعود إنَّه عملٌ غيرُ صالحٍ أن تسألني ما لَيْسَ لك به علمٌ وهذا مخالفٌ للسَّواد. الثالث: أنَّهُ يعودُ على ركوب ابن نوح المدلول عليه بقوله:» اركب مَعَنَا «. الرابع: أنَّهُ يعودُ على تركه الرُّكُب، وكونه مع المؤمنين، أي: إنَّ تركه الركوبَ مع المؤمنين وكونه مع الكافرين عملٌ غير صالح، وعلى الأوجه لا يحتاج في الإخبار بالمصدر إلى تأويلٍ؛ لأنَّ كليهما معنى من المعاني، وعلى الوجه الرابع يكون من كلام نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، أي: إنَّ نوحاً قال: إنَّ كونك مع الكافرين وتركك الركوبَ معنا عمل غيرُ صالح، بخلاف ما تقدَّم فإنَّه من قول الله تعالى فقط، هكذا قال مكيٌّ وفيه نظرٌ، بل الظَّاهرُ أنَّ الكلَّ من كلام الله تعالى. وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: هلاَّ قيل: إنَّه عملٌ فاسدٌ. قلت: لما نفاه عن أهله نفى عنه صفتهم بلفظ النفي التي يستبقى معها لفظ المنفي، وآذن بذلك أنَّه إنَّما أنْجَى من أنْجَى لصلاحهم لا لأنَّهم أهلك. قوله: {فَلاَ تَسْأَلْنِي} قرأ نافع وابن عامرٍ «فلا تَسْألنِّ» بتشديدِ النون مكسورة من غير ياء. وابن كثير بتشديدها مع الفتح، وأبو عمرو والكوفيون بنونٍ مكسورةٍ خفيفة، وياءٍ وصلاً لأبي عمرو، ودون ياء في الحالين للكوفيين. وفي الكهف {فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ} [الكهف: 70] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 501 قرأه أبو عمرو والكوفيون كقراءتهم هنا، وافقهم ابنُ كثير في الكهف، وأما نافعٌ وابنُ عامر فكقراءتهما هنا ولابن ذكوان خلافٌ في ثبوتِ الياءِ وحذفها، وإنَّما قرأ ابن كثير التي في هود بالفتح دون التي في الكهفِ؛ لأنَّ الياء في هود ساقطة في الرسم؛ فكانت قراءته بفتح النون محتملةً بخلاف الكهف فإنَّ الياء ثابتةٌ في الرَّسْمِ، فلا يوافق فيها فتحها. وقد تقدَّم خلافُ ابن ذكوان في ثبوت الياء في الكهفِ. فمن خفَّف النون، فهي نونُ الوقاية وحدها، ومن شدَّدها فهي نون التوكيد. وابنُ كثير لم يجعل في هود الفعل متصلاً بياء المُتكلم، والباقون جعلوه. فلزمهم الكسرُ. وقد تقدَّم أنَّ «سَأَلَ» يتعدَّى لاثنين أوَّلهما ياء المتكلم، والثاني {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . قوله: «أن تكون» على حذف حرف الجر، أي: مِنْ أن تكون أو لأجْلِ أن، وقوله: {مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} يجوزُ في «بِهِ» أن يتعلَّق ب «عِلْم» . قال الفارسيُّ: ويكون مثل قوله: [الرجز] 2978 - كَانَ جَزائِي بالعَصَا أنْ أجْلَدَا ... ويجوز أن يتعلَّق بالاستقرار الذي تعلَّق به «لَكَ» ، والباء بمعنى «في» ، أي ما ليس لك به علمٌ. وفيه نظرٌ. ثم قال: {إني أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الجاهلين} يعني أن تدعو بهلاك الكفار، ثم تسأل نجاة كافر {قَالَ رَبِّ إني أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} وهذا إخبار بما في المستقبل وهو العزم على الترك. قوله: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي} لم تمنع «لا» من عمل الجازم كما لم تمنعْ من عمل الجارِّ في نحو: «جِئْتُ بلا زادٍ» قال أبو البقاء: «لأنَّها كالجزء من الفعل وهي غيرُ عاملةٍ في النَّفْي، وهي تنفي ما في المستقبل، وليس كذلك» مَا «فإنَّها تنفي ما في الحالِ؛ فلذلك لمْ يَجُزْ أن تدخُل» إنْ «عليها» . قوله : {قِيلَ يانوح } الخلافُ المتقدم في قوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ} [البقرة: 13 و91] وشبهه عائدٌ هنا، أي: في كونِ القائم مقام الفاعلِ الجملة المحكيةَ أو ضمير مصدرِ الفعل. قوله: «بِسَلاَمٍ» حالٌ من فالع «اهْبِطْ» أي: مُلْتَبساً بسلامٍ. و «مِنا» صفةٌ ل: «سَلام» فيتعلق بمحذوفٍ أو هو متعلقٌ بنفس «سلام» ، وابتداءُ الغاية مجازٌ، وكذلك «عَلَيْكَ» يجوز أن يكون صفة ل «بَركات» أو متعلقاً بها. ومعنى «اهْبِطْ» انزل من السفينة، وعدهُ عند الخروج بالسَّلامة أولاً، ثم بالبركةِ ثانياً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 502 والبركة: ثبوت الخير ومنه بروك البعير، ومنه البركةُ لثبوت الماء فيها، ومنه {تَبَارَكَ الله} [الأعراف: 54] أي: ثبت تعظيمه وقيل: البركةُ ههنا هي أنَّ الله - تعالى - جعل ذريته هم الباقين إلى يوم القيامة، ثم لمَّا بشَّرهُ بالسَّلامة والبركةِ شرح بعده حال أولئك الذين كانوا معه فقال: {وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} قيل: المرادُ الذين معه، وذرياتهم، وقيل: ذريَّة من معهُ. قوله {مِّمَّن مَّعَكَ} يجوز في «مَنْ» أن تكون لابتداء الغاية، أي: ناشئة من الذين معك، وهم الأمم المؤمنون إلى آخر الدَّهْر، ويجوز أن تكون «مِنْ» لبيان الجنس، فيراد الأمم الذين كانُوا معه في السفينة؛ لأنَّهم كانوا جماعاتٍ. وقُرِىء «اهْبُط» بضمِّ الباءِ، وقد تقدَّم أول البقرة، وقرأ الكسائيُّ - فيما نُقِل عنه - «وبركة» بالتوحيد. قوله: «وأمم» يجوزُ أن يكون مبتدأ، و «سَنُمَتِّعُهُمْ» خبره، وفي مسوغ الابتداء وجهان: أحدهما: الوصفُ التقديري، إذ التقديرُ: وأممٌ منهم، أي: ممَّن معك كقولهم: «السَّمْن منوان بدرهم» ف «مَنَوان» مبتدأٌ وصفَ ب «منه» تقديراً. والثاني: أنَّ المسوِّغ لذلك التفصيلُ نحو: «النَّاسُ رجلان: رجلٌ أهَنْتُ، وآخرُ أكْرَمْتُ» ومنه قول امرىء القيس: [الطويل] 2979 - إذَا مَا بَكَى مِنْ خَلْفهَا انحَرفَتْ لهُ ... بِشِقٍّ وشِقٍّ عندنَا لَمْ يُحَوَّلِ ويجوز أن يكون مرفوعاً بالفاعلية عطفاً على الضَّمير المستتر في «اهْبِطْ» وأغنى الفصل عن التأكيد بالضَّمير المنفصل، قاله أبو البقاء. قال أبو حيَّان: وهذا التقديرُ والمعنى لا يصلحان، لأنَّ الذين كانُوا مع نوح في السَّفينةِ إنَّما كانُوا مُؤمنين؛ لقوله: {وَمَنْ آمَنَ} ولم يكُونُوا كُفَّاراً ومؤمنين، فيكون الكفار مأمورين بالهبوطِ، إلاَّ إنْ قُدِّرَ أنَّ من المؤمنين من يكفر بعد الهبوطِ، وأخبر عنهم بالحال اليت يؤولُون إليها فيمكن على بُعْدٍ. وقد تقدَّم أنَّ مثل ذلك لا يجُوزُ، في قوله {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة: 35] لأمرٍ صناعي، و «سَنُمَتِّعُهُمْ» على هذا صفةٌ ل «أمم» ، والواوُ يجوز أن تكون للحال قال الأخفشُ: كما تقولُ: كلَّمْتُ زيداً وعمرٌو جالس «ويجُوزُ أن تكون لمجرَّدِ النَّسَق. واعلم أنَّهُ سبحانه أخبر بأنَّ الأمم النَّاشئة الذين كانوا مع نوحٍ لا بدَّ وأن ينقسمُوا إلى مؤمنٍ وكافرٍ. ثم قال: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب} وقد تقدَّم الكلامُ فيها عند قوله {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب} [آل عمران: 44] في آل عمران. و «تلك» في محلِّ رفع على الابتداء، و {مِنْ أَنْبَآءِ الغيب} الخبر، و «نُوحِيهَا إليْكَ» خبر ثان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 503 قوله: {مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ} يجوزُ في هذه الجملةِ أن تكون حالاً من الكاف في «إليك» وأن تكون حالاً من المفعول في «نُوحيهَا» وأن تكون خبراً بعد خبر. والمعنى: ما كنت تعلمُها أنت يا محمدُ ولا قومك، أي: إنَّك ما كنت تعرفُ هذه القصة وقومك أيضاً ما كانوا يعرفونها، كقول الإنسان لآخر: لا تعرف هذه المسألة لا أنت ولا أهل بلدك. فإن قيل: أليس قد كانت قصة الطوفان مشهورة عند أهل العلم؟ . فالجواب: أنها كانت مشهورة بحسب الإجمال، أمَّا التَّفاصيلُ المذكورة فما كانت معلومة. ثم قال تعالى: «فاصْبِرْ» يا محمد أنت وقومك على أولئك الكفار «إنَّ العافيةَ» آخر الأمر والنّصر والظّفر «لِلْمُتَّقين» . فإن قيل: إنَّه ذكر هذه القصة في سورة يونس ثم أعادها، فما فائدة هذا التكرار؟ . فالجوابُ: أنَّ القصة الواحدة قد ينتفعُ بها من وجوه، ففي السورةِ الأولى كان الكفار يستعجلُون نزول العذاب، فذكر - تعالى - قصة نوح وبيَّن أنَّ قومه كانُوا يكذبُونه بسبب أنَّ العذابَ ما كان يظره ثُمَّ في العاقبةِ ظهر، فكذا في واقعة محمد - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه -، وفي هذه السورة ذكر القصة لبيان أنَّ إقدامَ الكُفَّار على الإيذاء، والإيحاش كان حاصلاً في زمن نُوح، فلمَّا صبر نال الفتح والظفر، فكن، يا مُحمَّدُ، كذلك لتنال المقصود، فلمَّا كان الانتفاعُ بالقصة في كُلِّ سُورة من وجهٍ لم يكن تكريرها خالياً عن الفائدةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 504 قوله تعالى: {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً} القصَّةُ: معطوفان على قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إلى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 504 قَوْمِهِ} [هود: 25] في عطف مرفوع على مرفوع ومجرور، كقولك: ضرب زيدٌ عمراً، وبكرٌ خالداً وليس من باب ما فُصِل فيه بين حرفِ العطفِ والمعطوفِ بالجارِّ والمجرور نحو: «ضَرَبْتُ زيداً، وفي السُّوق عَمْراً» فيجيءُ الخلافُ المشهورُ. وقيل: بل هو على إضمار فعلٍ، أي: وأرْسَلْنَا هوداً، وهذا أوفق لطولِ الفصلِ. و «هوداً» بدلٌ أو عطفُ بيان لأخيهم. وقرأ ابنُ محيصنٍ «يَا قَوْمُ» بضم الميم، وهي لغةُ بعضهم يبنُون المضاف للياء على الضَّم كقوله تعالى: {قَالَ رَبِّ احكم} [الأنبياء: 112] بضمِّ الياء، ولا يجوز أن يكون غير مضافٍ للياءِ كما سيأتي في موضعه إن شاء الله. وقوله: {مِّنْ إله غَيْرُهُ} تقدّضم في الأعراف. فصل كان هود أخاهم في النسب لا في الدِّين؛ لأنه كان من قبيلةِ عادٍ، وهم قبيلةٌ من العربِ بناحية اليمنِ، كما يقالُ للرَّجُلِ: يا أخا تميم، ويا أخا سليمٍ، والمرادُ رجلٌ منهم. فإن قيل: إنَّه تعالى قال في ابن نُوح {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46] فبيَّن أنَّ قرابة النَّسبِ لا تفيدُ إذا لم تَحْصُلْ قرابةُ الدِّين، وههنا أثبت هذه الأخوة مع الاختلاف في الدِّين، فما الفرقُ بينهما؟ . فالجوابُ: أنَّ المراد من هذا الكلام استمالة قوم محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنَّ قومهُ كانُوا يستبعدُون في محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مع أنَّهُ واحدٌ من قبيلتهم أن يكون رسولاً إليهم من عند الله، فذكر الله تعالى أنَّ هوداً كان واحداً من عاد، وأنَّ صالحاً كان واحداً من ثمود، لإزالة هذا الاستبعاد. {قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله} [الأعراف: 65] وحدُوا الله، ولا تعبدُوا غيرهُ. فإن قيل: كيف دعاهم إلى عبادةِ قبل إقامةِ الدَّلالة على ثبوت الإله تعالى؟ . فالجواب: أنَّ دلائل ثُبوتِ وجود الله تعالى ظاهرة، وهي دلائلُ الآفاق والأنفس، وقلَّما تُوجد في الدنيا طائفة ينكرون وجود الإله؛ ولذلك قال تبارك وتعالى في صفة الكفار: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [لقمان: 25] . ثم قال: «إنْ أنتُمْ» ما أنتم «إلاَّ مُفْتَرُونَ» كاذبُون في إشراككم. ثم قال: {ياقوم لاا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً} أي: على تبليغ الرسالة جُعْلاً {إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الذي فطرني} وهذا عينُ ما ذكره نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 505 قرأ نافع، والبزي بفتح ياء «فَطَرني» ، وأبو عمرو وقنبل بإسكانها. ومعنى «فَطَرني» خلقني، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أني مصيبٌ في المنع من عبادة الأوثان. ثم قال: {وياقوم استغفروا رَبَّكُمْ} آمنوا به، والاستغفارُ - ههنا - بمعنى الإيمان. وقال الأصمُّ: {استغفروا رَبَّكُمْ} أي: سلُوه أن يغفر لكم ما تقدَّم من شرككم، ثم توبوا من بعده بالنَّدم على ما مضى، وبالعزمِ على أن لا تعودوا إلى مثله، فإذا فعلتُم ذلك فالله يكثرُ النّعْمَة عليكم. قوله: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} نصب «مِدْرَاراً» على الحالِ، ولم يُؤنِّثْهُ وإن كان من مُؤثَّث لثلاثةِ أوجهٍ: أحدها: أنَّ المراد بالسَّماء السحاب، فذكَّر على المعنى. الثاني: أنَّ مفعالاً للمبالغةِ فيستوي فيه المذكَّر والمؤنث ك: صَبُور، وشكُور، وفعيل. الثالث: أنَّ الهاءَ حذفت من «مِفْعَال» على طريقِ النَّسَب قاله مكيٌّ، وقد تقدَّم إيضاحه في الأنعام. والمعنى: يُرسل عليكم المطر متتابعاً مرةً بعد أخرى في أوقات الحاجةِ. {وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إلى قُوَّتِكُمْ} أي: شدة مع شدَّتكم. وقيل: المراد بالقوَّة: المال وذلك أنَّ الله تعالى لمَّا بعث هوداً إليهم، وكذَّبُوهُ حبس الله المطر عنهم ثلاث سنين، وأعقم أرحام نسائهم، فقال لهم هودٌ: إنْ آمنتم بالله أحْيَا اللهُ بلادَكم ورزقكم المالَ، والولدَ، فذلك قوله تعالى: {يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً} والمِدْرَارُ: بالكسر الكثير الدرّ وهو من أبنية المبالغة. فإن قيل: إنَّ هوداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - قال: لو اشتغلتم بعبادةِ الله لانفتحت عليكم أبوابُ الخيرات الدنيوية، وليس الأمرُ كذلك لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «خُصَّ البلاءُ بالأنبياءِ ثُمَّ الأولياءِ ثُمَّ الأمثلِ، فالأمْثل» فكيف الجمعُ بينهما؟ وأيضاً فقد جرتْ عادةُ القرآنِ بالتَّرغيب في الطَّاعاتِ بسبب ترتيب الخيرات الدنيويَّة، والأخرويَّةِ عليها، فأمَّا التَّرغيبُ في الطَّاعَاتِ لأجل ترتيب الخيرات الدنيوية عليها؛ فذلك لا يليقُ بالقرآن. فالجوابُ: لمَّا كثر التَّرغيب في سعاداتِ الآخرة لم يتغيَّر بالتَّرغيب أيضاً في خير الدنيا بقدر الكفايةِ. قوله: {إلى قُوَّتِكُمْ} يجوز أن يتعلق ب «يَزِدْكُم» على التَّضمين، أي: يُضيف إلى قُوَّتكم قُوَّةً أخرى، أو يجعل الجار والمجرور صفة ل «قُوَّة» فيتعلَّق بمحذوفٍ. وقدَّرهُ أبو البقاءِ: «مُضافةً إلى قُوَّتِكُم» ، وهذا يأباهُ النحاةُ، لأنَّهُم لا يقدِّرُون إلاَّ الكون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 506 المطلق في مثله، أو تجعل «إلى» بمعنى «مع» أي: مع قُوَّتكم، كقوله: {إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] . ثم قال: {وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ} أي: ولا تدبروا مشركين مصرِّين على الكفر. {قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ} ببرهانٍ وحُجَّةٍ واضحةٍ على ما تقول. والباء في «بيِّنَةٍ» يجوزُ أن تكون للتَّعدية؛ فتتعلَّق بالفعل قبلها أي ما أظهرت لنا بينةٌ قط. والثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ؛ إذ التقديرُ: مُسْتقراً أو مُلتبساً ببيِّنةٍ. قوله: {وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ} أي: وما نترك آلهتنا صادرين عن قولك، فيكون «عَنْ قَوْلِكَ» حالٌ من الضمير في «تَارِكي» ويجُوزُ أن تكون «عَنْ» للتَّعْليل كهي في قوله تعالى: {إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ} [التوبة: 114] ، أي: إلاَّ لأجل موعدةٍ. والمعنى هنا: بتاركي آلهتنا لقولك، فيتعلَّق بنفس «تاركي» . وقد أشَارَ إلى التعليل ابنُ عطية، ولكنَّ المختار الأول، ولم يذكُر الزمخشريُّ غيره. قوله: {وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ} بمصدِّقين. {إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء} الظَّاهر أن ما بعد «إلاَّ» مفعولٌ بالقول قبله، إذ المرادُ: إن نقُولُ إلاَّ هذا اللفظ فالجملةُ محكيةٌ نحو قولك «ما قُلْتُ إلاَّ زيدٌ قائمٌ» . قوال أبُو البقاءِ: «الجملةُ مفسرةٌ لمصدرٍ محذوفٍ، التقدير: إن نقول إلاَّ قولاً هو اعتراكَ، ويجُوزُ أن يكون موضعها نصباً، أي: ما نذكر إلاَّ هذا القول» . وهذا غيرُ مرضٍ؛ لأنَّ الحكاية بالقولِ معنى ظاهر لا يحتاج إلى تأويلٍ، ولا إلى تضمين القولِ بالذِّكْرِ. وقال الزمخشريُّ: «اعْتراكَ» مفعول «نَقُول» و «إلاَّ» لغوٌ، أي: ما نقُولُ إلاَّ قولنا «اعْتَرَاكَ» . انتهى. يعنى بقوله: «لغوٌ» أنَّهُ استثناءٌ مفرَّغ، وتقديره بعد ذلك تفسيرُ معنى لا إعراب، إذا ظاهرُهُ يقتضي أن تكون الجملةُ منصوبةً بمصدرٍ محذوفٍ، ذلك المصدرُ منصوبٌ ب «تَقُول» هذا الظَّاهرُ. ويقال: اعتراهُ يعتريه إذا أصابه، وهو افتعل من عراه يَعْرُوه، والأصلُ: اعترو مِنْ العَرْو، مثل: اغتَزَو من الغَزْو، فتحرَّك حرفُ العلَّة وانفتح ما قبله فقُلب ألفاً، وهو يتعدَّى لاثنين ثانيهما بحرفِ الجرِّ. والمعنى: أنَّك شَتَمْتَ آلهتنا، فجعلتكَ مجنوناً، وأفسدت عقلك، ثم قال لهم هودٌ: {إني أُشْهِدُ الله} على نفسي {واشهدوا} يا قومي {أَنِّي بريء مِّمَّا تُشْرِكُونَ} من دُونهِ، يعنى: الأوثان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 507 قوله: {أَنِّي بريء} يجوزُ أن يكون من بابِ الإعمال؛ لأنَّ «أشْهِدُ» يطلبه، و «اشْهَدُوا» يطلبه أيضاً، والتقديرُ: أشهدُ الله على أنِّي بريءٌ، واشهدُوا أنتم عليه أيضاً، ويكون من باب إعمال الثاني؛ لأنَّهُ لو أعمل الأول لأضمر في الثاني، ولا غرو في تنازع المختلفين في التعدِّي واللزوم. و «مِمَّا تُشْرِكُونَ» يجوز أن تكون «ما» مصدريةً، أي: من إشراككم آلهةٌ من دُونه، أو بمعنى «الَّذي» ، أي: من الذين تشركونه من آلهةٍ من دونه، أي: أنتم الذين تجعلُونها شركاء. وقوله: «جَمِيعاً» حالٌ من فاعل «فَكِيدُونِي» ، وأثبت سائرُ القرَّاء ياء «فَكِيدُونِي» في الحالين، وحذفوها في المرسلات. وهذا نظيرُ ما قاله نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لقومه: {فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ} [يونس: 71] إلى قوله: {وَلاَ تُنظِرُونَ} [يونس: 71] . وهذه معجزةٌ قاهرةٌ؛ لأنَّ الرَّجُل الواحدَ إذا أقبل على القوم العظام، وقال لهم: بالغُوا في عداوتي، وفي إيذائي، ولا تؤجلون فإنَّه لا يقُولُ هذا إلاَّ إذا كان واثقاً من الله بأنَّهُ يحفظه، ويصونه عن كيد الأعداءِ، وهذا هو المراد بقوله: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي: اعتمادي على الله ربِّي وربِّكُم. {مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ} قال الأزهريُّ: «النَّاصيةُ عند العربِ: مَنْبِتُ الشَّعر في مقدم الرأس، ويسمَّى الشعر النَّابتُ هناك أيضاً ناصية باسم منبته» . ونصَوْتُ الرَّجلَ: أخذتُ بناصيته، فلامُها واو، ويقال: ناصَاة بقلبِ يائها ألفاً، وفي الأخْذِ بالنَّاصية عبارةٌ عن الغلبة والتَّسلُّط وإن لم يكن آخذاً بناصيته، ولذلك كانُوا إذا منُّوا على أسيرٍ جزُّوا ناصيته ليكون ذلك علامة لقهره، والعربُ إذا وصفُوا إنساناً بالذلة، والخضوع قالوا: ما ناصية فلان إلاَّ بيد فلان، أي: إنَّه مطيعٌ له. ومعنى «آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ» قال الضحاكُ: «مُحْيِيهَا ومُمِيتها» . وقال الفرَّاء: «مالكها والقادر عليها» وقال القتيبيُّ: «بقهرها» . {إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} يعني: وإن كان ربِّي قادراً عليهم فإنه لا يظلمهم، ولا يعملُ إلا بالإحسان والعدل، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته. وقيل: معناه دين ربِّي صراط مستقيم. وقيل: فيه إضمار، أي: إن ربي يحثكم ويحملكم على صراط مستقيم. «فإن تولَّوْا» أي: تتولَّوا فحذف إحدى التَّاءين، ولا يجُوزُ أن يكون ماضياً كقوله: « الجزء: 10 ¦ الصفحة: 508 أبْلَغْتُكُم» ولا يجُوزُ أن يُدَّعى فيه الالتفات، إذ هو ركاكةٌ في التَّركيب، وقد جوَّز ذلك ابنُ عطية فقال: «ويُحْتَمل أن يكون» تَولَّوا «ماضياً، ويجيءُ في الكلام رجوعٌ من غيبةٍ إلى خطابٍ» . قال شهابُ الدِّين: «ويجُوزُ أن يكون ماضياً لكن لمَدْرَكٍ آخر غير الالتفات: وهو أن يكون على إضمار القولِ، أي: فقل لهم: قد أبْلَغْتَكم، ويترجَّح كونه بقراءة عيسى الثقفي والأعرج» فإن تُولُّوا «بضمِّ التَّاءِ واللام، مضارع» ولَّى «، والأصل: تُوَلِّيُوا فأعِلّ. وقال الزمخشريُّ:» فإن قلت: الإبلاغ كان قبل التَّولِّي، فكيف وقع جزاءً للشَّرْطِ؟ . قلت: معناه، وإن تتولَّوا لم أعاتِبْ على تفريط في الإبلاغ، وكنتم محجوبين بأنَّ ما أرسلتُ به إليكم قد بلغكم فأبيتم إلاَّ التَّكذيب «. قوله:» وَيَسْتَخْلِفُ «العامَّةُ على رفعه استئنافاً. وقال أبو البقاءِ: هو معطوفٌ على الجوابِ بالفاءِ. وقرأ عبد الله بن مسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بتسكينه، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون سُكِّن تخفيفاً لتوالي الحركات. والثاني: أن يكون مجزوماً عطفاً على الجواب المقترن بالفاءِ، إذ محلُّه الجزمُ وهو نظيرُ قوله: {فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] وقد تقدَّم تحقيقه، إلاَّ أنَّ القراءتين ثمَّ في المتواتر. والمعنى: إن تتولوا أهلككم الله، ويستبدلُ قوماً غيركم أطوع منكم يُوحِّدُونه ويعبدُونهُ. قوله:» ولا تَضُرُّونهُ «العامَّةُ: على النُّون؛ لأنَّه مرفوعٌ على ما تقدم، وابن مسعودٍ بحذفها، وهذا يُعيِّن أن يكون سكونُ» يَسْتَخْلف «جزماً ولذلك لم يذكر الزمخشريُّ غيره؛ لأنَّهُ ذكر جزم الفعلين، ولمَّا لم يذكر أبو البقاءِ الجزم في» تَضُرُّونَهُ «جوَّز الوجهين في» يَسْتَخْلف «. و «شيئاً» مصدرٌ، أي: شيئاً من الضَّرر. والمعنى: أنَّ إهلاككم لا ينقصُ من ملكه شيئاً، لأنَّ وجودكم وعدمكم عنده سواء. وقيل: لا تضرونهُ شيئاً بتوليكم وإعراضكم، إنما تضرُّون أنفسكم {إِنَّ رَبِّي على كُلِّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 509 شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي: يحفظ أعمال العباد حتى يجازيهم عليها. وقيل: يحفظني من شركم ومكركم. وقيل: حفيظ من الهلاكِ إذا شاء، ويهلك إذا شاء. قوله: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} أي: عذابنا، وهو ما نزل بهم من الريحِ العقيمِ، عذَّبهم الله بها سبع ليال، وثمانية أيَّام، تدخلُ في مناخرهم وتخرجُ من أدْبَارهم وتصرعهم على الأرض على وجوههم حتى صارُوا {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} [الحاقة: 7] . {نَجَّيْنَا هُوداً والذين آمَنُواْ مَعَهُ} وكانُوا أربعة آلاف «بِرَحْمَةٍ مِنَّا» بنعمة مِنَّا. وقيل: المراد بالرحمة: ما هداهُم إليه من الإيمان. وقيل: المرادُ أنَّهُ لا ينجو أحد، وإن اجتهد في الإيمان والعمل الصالح إلاَّ برحمةٍ من الله تعالى. ثم قال: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} فالمرادُ بالنَّجاةِ الأولى: هي النَّجَاةُ من عذاب الدُّنيا، والنَّجاةُ الثانية من عذاب القيامةِ. والمرادُ بقوله: «ونَجَّيْنَاهُم» أي: حكمنا بأنَّهُم لا يستحقون ذلك العذاب الغليظ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 510 ولما ذكر قصة عاد خاطب قوم محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: {وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} وهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال: سِيحُوا في الأرض فانظرُوا إليها واعتبروا. قوله: «جَحَدُوا» جملةٌ مستأنفة سيقت للإخبار عنهم بذلك، وليْسَتْ حالاً ممَّا قبلها، و «جَحَدَ» يتعدَّى بنفسه، ولكنه ضُمِّنَ معنى «كَفَر» ، فيُعدَّى بحرفه، كما ضمَّن «كَفَر» معنى «جَحَدَ» فتعدَّى بنفسه في قوله بعد ذلك: «كَفَرُوا ربَّهُمْ» . وقيل: إنَّ «كَفَر» ك «شَكَر» في تعدِّيه بنفسه تارةً وبحرفِ الجر أخرى. واعلم أنَّه تعالى وصفهم بثلاث صفاتٍ. الأولى: قوله: {جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ} أي: جحدوا دلائل المعجزات على الصِّدقِ، أو حجدُوا دلائل المحدثات على وجودِ الصانع الحكيمِ. والثانية: قوله: {وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ} ومعناه: أنهم إذا عصوا رسُولاً واحداً؛ فقد عصوا جميع الرُّسُلِ لقوله: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 258] . والثالثة: قوله: {واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} والمعنى: أنَّ السَّفلة كانُوا يقلدون الرؤساء في قولهم {مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [المؤمنون: 33] . وتقدَّم اشتقاقُ «الجبّار» [المائدة: 22] . والعَنِيدُ والعَنُود والمُعَاند: المنازع المعارض قاله أبو عبيدٍ وهو الطَّاغي المتجاوزُ في الظُّلم من قولهم: «عَنَدَ يَعْنِد» إذا حاد الجزء: 10 ¦ الصفحة: 510 عن الحقِّ من جانبٍ إلى جانب. ومنه «عندي» الذي هو ظرف؛ لأنه في معنى جانب، من قولك: عندي كذا، أي: في جانبي. ثم قال: {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً} أي: أردفُوا لعنة تلحقهم، وتصاحبهم في الدنيا وفي الآخرة. واللعنة: هي الإبعادُ، والطَّردُ عن الرَّحمةِ. ثم بيَّن السَّبب في نزول هذه الاحوال فقال: {ألاا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ} أي: كفروا بربهم فحذف الباء. وقيل: هو من باب حذف المضافِ، أي كفروا نعمة ربِّهم. ثم قال: {أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} قيل: بُعْداً من رحمةِ الله، وقيل: هلاكاً. وللبعد معنيان: أحدهما: ضدَّ القربِ، يقال منه: بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْداً. والآخر: بمعنى الهلاك فيقال منه: بَعِد يَبعِدُ بَعَداً وبَعُداً. فإن قيل: اللعن هو البُعْدُ، فلمَّا قال: {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة} فما فائدةُ قوله: {أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ} ؟ . فالجواب: كانوا عاديَيْن. فالأولى هم قوم هود الذين ذكرهم الله في قوله {أَهْلَكَ عَاداً الأولى} [النجم: 50] . والثانية أصحاب إرم ذات العمادِ. وقيل: المبالغة في التَّنْصيصِ تدلُّ على مزيد التأكيد. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 511 قوله تعالى: {وإلى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً} القصة. الكلامُ على أوَّلها كالذي قبلها. والعامَّةُ على منع «ثمُود» الصَّرْف هنا لعلَّتين: وهما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 511 العلمية والتَّأنيث، ذهبُوا به مذهب القبيلة، والأعمش ويحيى بن وثاب صَرَفاه، ذهبا به مذهب الحي، وسيأتي بيان الخلافِ إن شاءَ الله تعالى. قوله: {هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض} يجُوزُ أن تكون «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ، أي ابتداء إنشائكم منها إمَّا إنشاءُ أصلكم، وهو آدم - صلوات الله وسلامه عليه -. قال ابنُ الخطيب: «وفيه وجهٌ آخر وهو أقربُ منه؛ وذلك لأنَّ الإنسان مخلوقٌ من المنيّ ومن دم الطمث، والمنيُّ إنما تولد من الدَّم، فالإنسان مخلوق من الدَّم، والدَّم إنما تولد من الأغذية، والأغذيةُ إما حيوانية وإما نباتية، والحيوانات حالها كحال الإنسان؛ فوجب انتهاء الكل إلى النبات والنبات أنما تولد من الأرض؛ فثبت أنه تعالى أنشأنا من الأرض» . أو لأن كل واحد خلق من تربته؛ أو لأن عذائهم وسبب حياتهم من الأرض. وقيل: «من» بمعنى «في» ولا حاجة إليه. قوله: {واستعمركم فِيهَا} أي جعلكم عمَّارها وسكانها. قال الضحاكُ: «أطَالَ أعماركم فيها» . وقال مجاهدٌ: أعمركم من العمرى. أي جعلها لكم ما عِشْتُمْ. وقال قتادةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «اسكنكم فيها» . قال ابنُ العربي: «قال بعضُ علمائنا: الاستعمارُ: طلبُ العمارة، والطلب المعلق من الله - تعالى - على الوجوب، قال القاضي أبو بكرٍ: تأتي كلمة استفعل في لسانِ العربِ على معانٍ منها: استفعل بمعنى: طلبُ الفعل كقوله: اسْتَحْمَلْتُه أي: طلبت من حملاناً، وبمعنى اعتقد؛ كقوله: استسهلت هذا الأمر اعتقدته سهلاً، أو وجدتُه سهلاً، واستعظمتهُ أي: وجدته عظيماً، وبمعنى أصبت كقوله: استجدته أي: أصبته جيداً، وبمعنى» فَعَلَ «؛ كقوله: قرَّ في المكانِ، واستقر، قالوا وقوله: [ {يَسْتَهْزِءُونَ} [الأنعام: 5] و {يَسْتَسْخِرُونَ} [الصافات: 14] منه، فقوله تعالى: {واستعمركم فِيهَا} أي: خلقكم لعمارتها، لا على معنى: استجدته واستسهلته، أي: أصبته جيداً، وسهلاً، وهذا يستحيل] في حقِّ الخالق، فيرجع إلى أنَّه حلق لأنه الفائدة؛ وقد يعبّر عن الشيء بفائدته مجازاً، ولا يصحّ أن يقال إنه طلبٌ من الله لعمارتها، فإن هذا لا يجوز في حقه» ويصحُّ أن يقال: استدعى عمارتها، وفي الآية دليل على الإسكان والعُمْرَى. ثم قال: {فاستغفروه ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} وقد تقدَّم تفسيره. {إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ} أي: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 512 أقربُ بالعلم والسمعِ «مجيب» دعاء المحتاجين بفضله، ورحمته. ولمَّا قرَّر صالح هذه الدلائل {قَالُواْ ياصالح قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا} أي: كُنَّا نَرْجُو أن تكون سيّداً فينا. وقيل: كُنَّا نَرْجُو أن تعُود إلى ديننا، وذلك أنَّهُ كان رجلاً قوي الخاطر وكان من قبيلتهم، فقوي رجاؤهُم في أن ينصر دينهم، ويقرِّرُ طريقتهم، فلمَّا دعاهم إلى الله وترك الأصنام زعموا أنَّ رجاءهم انقطع منه فقالوا: {أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا} من الآلهة، فتمسَّكُوا بطريق التقليد. ونظير تعجُّبهم هذا ما حكاهُ الله - تعالى - عن كفَّار مكَّة في قولهم: {أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] . قوله: {وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ} مما تدعونا إليه مريب هذا هو الأصل، ويجوز «وإنَّا» بنونٍ واحدةٍ مشدَّدة كما في السورة الأخرى [إبراهيم: 9] . وينبغي أن يكون المحذوفُ النُّونَ الثَّانية من «إنَّ» ؛ لأنَّه قد عُهد حذفها دون اجتماعها مع «ن» ، فحذها مع «ن» أولى، وأيضاً فإنَّ حذف بعض الأسماءِ ليس بسهلٍ وقال الفرَّاءُ: «مَنْ قال» إنَّنَا «أخرج الحرف على أصله؛ لأنَّ كتابة المتكلمين» نَا «فاجتمع ثلاثُ نونات، ومن قال:» إنا «استثقل اجتماعها؛ فأسقط الثالثة، وأبقى الأوليين» انتهى. وقد تقدَّم الكلامُ في ذلك. قوله: «مُرِيبٍ» اسم فاعل من «أرَاب» يجوز أن يكون متعدِّياً من «أرابهُ» ، أي: أوقعه في الرِّيبة، أو قاصراً من «أرابَ الرَّجلُ» أي: صار ذا ريبة. ووصف الشَّكُّ بكونه مُريباً بالمعنيين المتقدمين مجازاً. والشَّك: أن يبقى الإنسان متوقفاً بين النَّفْي والإثبات، والمُريب: هو الذي يظن به السوء والمعنى: أنَّهُ لَمْ يترجَّحْ في اعتقادهم فساد قوله وهذا مبالغةٌ في تزييف كلامهِ. قوله: {أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً} تقدَّم نظيره [يونس: 50] ، والمفعول الثَّاني هنا محذوف تقديره: أأعْصيه ويدل عليه «إنْ عَصَيْتُه» . وقال ابنُ عطيَّة: هي مِنْ رؤيةِ القَلْبِ، والشَّرطُ الذي بعده وجوابه يَسُدُّ مسدَّ مفعولين ل «أرَأيْتُم» . قال أبُو حيَّان: «والذي تقرَّر أنَّ» أرَأيْتَ «ضُمِّن معنى» أخْبِرْنِي «، وعلى تقدير أن لا يُضَمَّن، فجملةُ الشَّرط والجواب لا تسدُّ مسدَّ مفعولي» عَلِمْتُ «وأخواتها» . قوله: {إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي} ورد بحرف الشَّك، وكان على يقين تام في أمره إلاَّ أنَّ خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبُولِ؛ فكأنه قال: قدِّرُوا أنِّي على بيِّنةٍ من ربِّي وأنِّي نبيٌّ على الحقيقةِ، وانظُرُوا إن تابعتكم، وعصيتُ أمر ربِّي، فمن يمنعني من عذابِ الله فما تزيدُونَنِي على هذا التقدير غير تَخْسِير. قوله: «غَيْرَ تَخْسِير» الظاهرُ أنَّ «غَيْرَ» مفعولٌ ثانٍ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 513 ل «تَزِيدُونَنِي» . قال أبُو البقاءِ: «الأقْوَى هنا أن تكُون» غير «استثناءً في المعنى، وهو مفعولٌ ثانٍ ل» تَزِيدُونَنِي «، أي: فمَا تَزِيدُونَنِي إلاَّ تَخْسِيراً. ويجوز أن تكون «غير» صفةً لمفعولٍ محذوفٍ، أي شيئاً غير تخسير، وهو جيد في المعنى. ومعنى التَّفْعِيل هنا النسبةُ، والمعنى: غير أن أخسركُم، أي: أنسبكم إلى التَّخْسير، قال الزمخشريُّ. قال الحسنُ بن الفضلِ: لم يكنْ صالح في خسارةٍ حتى قال: {فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ} وإنَّما المعنى: فما تَزِيدُونَنِي بما تقُولُون إلا نسبتي إيَّاكم إلى الخسارةِ. والتفسيقُ والتَّفْجِيرُ في اللغة: النسبة إلى الفِسْقِ والفُجُور، فكذلك التَّخْسيرُ هو النسبة إلى الخُسرانِ. وقيل: هو على حذف مضافٍ، أي: غير بضارِّه تخسيركم، قالهُ ابن عبَّاسٍ. قوله تعالى: {وياقوم هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً} الآية. «لَكُمْ» في محلِّ نصبٍ على الحالِ من «آيةً» ؛ لأنَّهُ لو تأخَّرَ لكان نَعْتاً لها، فلمَّا قُدِّم انتصب حالاً. قال الزَّمخشريُّ: فإن قلت: بِمَ تتعلَّقُ «لَكُمْ» ؟ قلتُ: ب «آيَةٌ» حالاً منها متقدمة، لأنَّها لو تأخَّرت لكانت صفة لها، فلما تقدَّمت انتصبت على الحالِ. قال أبُو حيَّان: وهذا متناقضٌ لأنَّهُ من حيثُ تعلق «لكُم» ب «آية» كان معمولاً ل «آية» وإذا كان معمولاً لها امتنع أن يكون حالاً منها، لأنَّ الحال تتعلَّقُ بمحذوفٍ. قال شهابُ الدِّين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ومثلُ هذا كيف يعترض به على مثلِ الزمخشري بعد إيضاحه المعنى المقصود بأنه التعلُّقُ المعنويُّ؟ . و «آيةً» نصب على الحالِ بمعنى علامة، والنَّاصبُ لها: إمَّا «ها» التَّنبيه، او اسمُ الإشارة، لما تضمَّناهُ من معنى الفعل، أو فعلٍ محذوف. فصل اعلم أنَّ العادة فيمن يدَّعي النبوة عند قوم يعبدون الأصنام لا بُدَّ وأن يطلبوا منه معجزة، فطلبوا منه أن يخرج ناقة عشراء من صخرةٍ معينةٍ، فدعا صالحٌ؛ فخرجت ناقة عشراء، وولدت في الحال ولداً مثلها. وهذه معجزة عظيمة من وجوه: الأول: خلقُهَا من الصَّخْرة. وثانيها: خَلْقُها في جوف الجبل ثم شق عنها الجبل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 514 وثالثها: خلقها على تلك الصُّورة دفعة واحدة من غير ولادة. ورابعها: أنَّهُ كان لها شرب يوم. وخامسها: أنه كان يحصلُ منها لبنٌ كثير يكفي الخلق العظيم. ثم قال: {فَذَرُوهَا تَأْكُلْ في أَرْضِ الله} من العشب، والنبات، فليس عليكم مؤنتها. وقرىء «تأكلُ» بالرفع: إمَّا على الاستئناف، وإمَّا على الحالِ. {وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء} ، ولا تصيبوها بعقر «فيَأخُذَكُمْ» إن قتلتموها «عذابٌ قريبٌ» يريد اليوم الثالث. {فَعَقَرُوهَا فَقَالَ} لهُم صالح: {تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ} أي: في دياركم، فالمراد بالدَّار: البلد، وتُسَمَّى البلاد بالدِّيار، لأنَّه يدار فيها، أي: يتصرف، يقال: ديار بكر أي: بلادهم. وقيل: المراد بالدِّيار: دار الدُّنيا، وقيل: هو جمع «دارة» كساحة وساحٍ وسُوحٍ، وأنشد ابنُ أبي الصَّلْت: [الوافر] 2980 - لَهُ دَاعٍ بِمَكَّة مُشْمَعِلٌّ ... وآخَرُ فوْقَ دَارَتِهِ يُنَادِي فصل قال القرطبيُّ: «استدلَّ العلماءُ بتأخير الله العذاب عن قوم صالح ثلاثة أيام على أنَّ المسافر إذا لمْ يُجمع على إقامة أربع ليالٍ قصر؛ لأنَّ الثلاثة أيام خارجة عن حكم الإقامة» . والتَّمتع: التَّلذُّذ بالمنافع والملاذ. {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} ، [أي: غير كذب] . قوله: «مَكْذُوب» يجُوزُ أن يكون مصدراص على زنة مفعولٍ، وقد جاء منه أليفاظ نحو: المَجْلود والمعقُول والمَيْسُور والمَفْتُون، ويجوزُ أن يكون اسم مفعولٍ على بابه، وفيه حينئذٍ تأويلان: أحدهما: غير مكذوبٍ فيه، ثم حذف حرف الجر فاتَّصل الضَّمير مرفُوعاً مستتراً في الصِّفة ومثله «يَوْمٌ مَشْهُودٌ» وقول الشاعر: [الطويل] 2981 - ويَوْمَ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً ... قَلِيلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهَالِ نوافِلُه والثاني: أنه جُعِل هو نفسُه غير مكذوب؛ لأنَّه قد وُفي به، فقد صُدِّق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 515 فصل قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «لمَّا أمهلهم ثلاثة أيَّام، قالوا وما علامةُ ذلك؟ قال: تصبحوا في اليوم الأوَّلِ وجوهكم مصفرة، وفي اليوم الثاني مُحْمَرة وفي اليوم الثالث مسودة، ثم يأتيكم العذابُ في اليوم الرَّابع فكان كما قال» . فإن قيل: كيف يُعقل أن تظهر هذه العلامات مطابقة لقول صالحٍ، ثم يبقون مصرين على الكفر؟ فالجواب: ما دامت الأمارات غير بالغة إلى حدِّ اليقينِ لم يمتنع بقاؤهم على الكفر وإذا صارت يقينيَّة قطعيَّة، فقد انتهى الأمرُ إلى حدِّ الإلجاء، والإيمان في ذلك الوقت غير مقبول. قوله {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} أي: عذابنا، وتقدَّم الكلامُ على مثله. قوله: {ومِنْ خِزْيِ} متعلِّقٌ بمحذوفٍ، أي: ونجَّيْنَاهم من خزي. وقال الزمخشريُّ: فإن قلت: علام عطف؟ قلت: على «نَجَّيْنَا» ؛ لأنَّ تقديره: ونجَّيناهم من خزي يومئذٍ كما قال: {وَنَجَّيْنَاهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} [هود: 58] أي: وكانت التنجيةُ من خزي. وقال غيرهُ: «إنَّه متعلقٌ ب» نَجَّيْنَا «الأول» . وهذا لا يجُوزُ عند البصريين غير الأخفش؛ لأنَّ زيادة الواو غيرُ ثابتة. وقرأ نافعٌ والكسائيُّ بفتح ميم «يومئذٍ» على أنَّها حركةُ بناءٍ لإضافته إلى غير متمكن؛ كقوله: [الطويل] 2982 - عَلَى حينَ عَاتَبْتُ المشيبَ على الصِّبَا ... فقُلْتُ ألمَّا أصْحُ والشَّيبُ وَازعُ وقرأ الباقون: بخفض الميم. فمن قرأ بالفتح فعلى أنَّ «يَوْم» مضاف إلى «إذْ» ، و «إذْ» مبني، والمضاف إلى المبني يجوزُ جعله مبنياً، ألا ترى أنَّ المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف فكذا ههنا، وأمَّا الكسرُ: فالسَّبب فيه أنَّهُ يضاف إلى الجملة من المبتدأ والخبر، تقولُ: «جئتك إذ الشَّمس طالعة» ، فلمَّا قطع عنه المضاف إليه نون ليدل التنوين على ذلك ثمَّ كسرت الذَّال لسكونها وسكون التنوين. وأما قراءةُ الكسر فعلى إضافة «الخِزْيِ» إلى «اليوم» ، ولم يلزم من إضافته إلى المبني أن يكون مبنيّاً لأنَّ إضافته غير لازمة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 516 وكذلك الخلافُ جارٍ في {سَأَلَ سَآئِلٌ} [المعارج: 11] . وقرأ طلحة وأبانُ بن تغلب بتنوين «خِزْي» و «يَوْمَئِذ» نصب على الظَّرف ب «الخِزْي» ، وقرأ الكوفيون ونافع في النَّمل {مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ} [الآية: 89] بالفتح أيضاً، والكوفيون وحدهم بتنوين «فَزَعٍ» ونصب «يَومئذ» به. ويحتملُ في قراءة من نوَّن ما قبل «يومئذ» أن تكون الفتحةُ فتحة إعرابٍ، أو فتحة بناء، و «إذْ» مضافةٌ لجملة محذوفة عُوِّض عنها التَّنوينُ تقديره: إذا جاء أمرنا. وقال الزمخشريُّ: ويجوزُ أن يراد يومُ القيامة، كما فُسِّرَ العذاب الغليظ بعذاب الآخرة. قال أبُو حيان: وهذا ليس بجيِّدٍ؛ لأنه لم يتقدَّم ذكرُ يومِ القيامة، ولا ما يكونُ فيها، فيكون هذا التَّنوين عوضاً عن الجملةِ التي تكون يومَ القيامةِ. قال شهابُ الدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قد تكونُ الدَّلالةُ لفظيةً، وقد تكون معنويةً، وهذه من المعنوية. والخِزْي: الذّل العظيم حتى يبلغ حدَّ الفضيحة كما قال الله تعالى في المحاربين: {ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا} [المائدة: 33] . ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القوي العزيز} وإنَّما حسن ذلكن لأنَّه تعالى بيَّن أنه أوصل العذاب إلى الكافر وصان أهل الإيمان عنه، وهذا لا يصحُّ إلاَّ من القادر الذي يقدر على قَهْرِ طبائع الأشياءِ، فيجعل الشَّيء الواحد بالنِّسبة إلى إنسان بلاء وعذاباً، وبالنسبة إلى إنسان آخر راحة وريحاناً. قوله: {وَأَخَذَ الذين} : حُذِفت تاءُ التَّأنيث: إمَّا لكونِ المؤنث مجازياً، أو للفصلِ بالمفعولِ أو لأنَّ الصَّيحة بمعنى الصياح، والصَّيْحةُ: فعله يدل على المرَّة من الصِّياح، وهي الصوتُ الشديدُ: صاح يصيح صِيَاحاً، أي: صوَّت بقوة. قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: المُرادُ الصَّاعقة. وقيل: صحية عظيمة هائلةٌ سمعوها فهلكوا جميعاً فأصبحوا جاثمين في دورهم. وجثومهم: سقوطهم على وجوههم. وقيل: الجثومُ: السُّكون، يقالُ للطَّيْرِ إذا باتَتْ في أوكارها إنها جثمت، ثم إنَّ العرب أطلقوا هذا اللفظ على ما لا يتحرك من الموات. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 517 فإن قيل: ما السَّببُ في كون الصَّيْحةِ موجبة للموت؟ . فالجوابُ من وجوه: أحدها: أنَّ الصَّيحة العظيمة إنما تحدثُ عن سببٍ قوي يوجب تموج الهواء، وذلك التموج الشديد ربما يتعدَّى إلى صمخ الإنسان فيُمزق غشاء الدِّماغِ فيورُ الموت. وثانيها: أنَّه شيء مهب فتحدث الهيبة العظيمة عند حدوثها والأعراض النَّفسانية إذا قويت أوجبت الموت. وثالثها: أنَّ الصَّيحة العظيمة إذا حدثت من السحاب فلا بد وأن يصحبها برقٌ شديدٌ محرق، وذلك هو الصَّاعقة التي ذكرها ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -. ثم قال تعالى: {كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} كأنَّهُم لم يُوجدوا. والمغنى المقام الذي يقيمُ الحي فيه يقال: غني الرَّجُلُ بمكان كذا إذا أقام به. قوله: {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ} قرأ حمزة وحفص هنا {أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ} ، وفي الفرقان: {وَعَاداً وَثَمُودَاْ} [الآية: 38] وفي العنكبوت: {وَعَاداً وَثَمُودَ} [الآية: 37] ، وفي النجم: {وَثَمُودَ فَمَآ أبقى} [الآية: 51] جميعُ ذلك بمنع الصرف، وافقهم أبو بكر على الذي في النَّجْم. وقوله: {أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ} منعه القراء الصرفَ إلاَّ الكسائيَّ فإنَّهُ صرفه، وقد تقدَّم أنَّ من منع الصرف جعله اسماً للقبيلةِ، ومن صرف جعله اسماً للحيِّ، أو إلى الأبِ الأكبرِ؛ وأنشد على المنع: [الوافر] 2983 - ونَادَى صالحٌ يَا ربِّ أنْزِلْ ... بآلِ ثمُودَ مِنْكَ غداً عَذَابَا وأنشد على الصَّرف قوله: [الطويل] 2984 - دَعَتْ أمُّ عَمْرٍو أمْرَ شرٍّ عَلِمْتُهُ ... بأرْضِ ثمُودٍ كُلِّهَا فأجَابَهَا وقد تقدَّم الكلامُ على اشتقاق هذه اللفظة في سورةِ الأعراف. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 518 قوله: {وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ إِبْرَاهِيمَ بالبشرى} القصة. قال النحويون: دخلت كلمة «قَدْ» ها هنا لأنَّ السَّامع لقصص الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يتوقع قصة بعد قصة، و «قَدْ» للتوقع، ودخلت اللاَّم في «لَقَدْ» تأكيداً للخبر. فصل لفظ «رُسُلُنَا» جمع وأقله ثلاثة، فهذا يدلُّ على أنهم كانوا ثلاثة، والزَّائِدُ على هذا العددِ لا يثبتُ إلاَّ بدليل آخر، وأجمعُوا على أنَّ الأصلَ فيهم كان جبريلُ - عليه السَّلامُ -. قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «كانوا ثلاثة جبريل، وميكائيل، وإسرافيل، وهم المذكورون في الذَّاريات {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الذاريات: 24] وفي الحجر {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} [الحجر: 51] . وقال الضحَّاكُ:» كانوا تسعة «. وقال محمد بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -» كان جبريل ومعه سبعة «وقال السُّديُّ:» أحد عشر ملكاً «وقال مقاتل:» كانوا اثني عشر ملكاً على صور الغلمان الوضاء وجوههم «. » بالبشرى «بالبشارة بإسحاق ويعقوب وقيل: بسلامة لوطٍ، وأهلاك قومه. قوله: {قَالُواْ سَلاَماً} : في نصبه وجهان: أحدهما: أنَّه مفعولٌ به، ثم هو محتملٌ لأمرينِ: أحدهما: أن يراد قالوا هذه اللفظ بعينه، وجاز ذلك لأنَّه يتضمَّن معنى الكلام. الثاني: أنَّهُ أراد قالوا معنى هذا اللفظ، وقد تقدَّم نحو ذلك في قوله تعالى: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [البقرة: 58] . وثاني الوجهين: أن يكون منصوباً على المصدر بفعل محذوفٍ، وذلك الفعلُ في محلِّ نصب بالقول، تقديره: قالوا: سَلَّمْنَا سلاماً، وهو من باب من ناب فيه المصدرُ عن العامل فيه، وهو واجب الإضمار. قوله:» سَلاَمٌ «في رفعه وجهان: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 519 أحدهما: أنَّهُ مبتدأ وخبره محذوفٌ، أي: سلامٌ عليكم. والثاني: أنَّه خبر مبتدأ محذوف أي: أمْرِي أو قَوْلِي سلام. وقد تقدَّم أنَّ الرفع أدلُّ على الثُّبوتِ من النَّصْبِ [الفاتحة: 2] ، والجملة بأسرها - وإن كان أحد جزأيها محذوفاً - في محلِّ نصب بالقول؛ كقوله: [الطويل] 2985 - إذَا ذَقْتُ فَاهَا قُلْتُ: طَعْمُ مُدَامَةٍ ..... ... ... ... ... ... ... . وقرأ الاخوان:» قَالَ سِلْم «هنا وفي سورة الذَّاريات بكسر السين وسكون اللاَّم. ويلزم بالضرورة سقوطُ الألف، قال الفرَّاءُ:» هُما لغتان كحِرْم وحَرَامٍ وحِلٍّ وحلالٍ «؛ وأنشد [الطويل] 2986 - مَرَرْنَا فَقُلْنَا: إيهِ سِلْمٌ فَسلَّمْتْ ... كَمَا اكْتَلَّ بالبَرْقِ الغَمَامُ اللَّوَائِحُ يريد: سلامٌ؛ بدليل: فسلَّمَتْ. وقال الفارسي:» السِّلْم «بالكسر ضد الحربِ، وناسبَ ذلك لأنَّهم لمَّا امتنعوا من تناول ما قدَّمهُ إليهم، أنكرهم، وأوجس منهم خيفة، فقال: أنا سِلْم، أي: مُسَالمكم غيرُ محارب لكم، فلم تمتنعوا من تناول طعامي؟ قال ابنُ الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ على هذا التقدير ينبغي أن يكون تكلُّم إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بهذا اللفظ بعد إحضار الطَّعام، والقرآن يدل على أنَّ هذا الكلام قبل إحضار الطَّعام؛ لأنَّه تعالى قال: {قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ} والفاءُ للتَّعقيب، فدلَّ على أنَّ مجيئَهُ بالعجل الحنيذِ بعد السَّلام. فصل أكثر ما يستعمل «سلامٌ عليكم» منكّراً؛ لأنَّهُ في معنى الدُّعاءِ كقولهم: خير بين يديك. فإن قيل: كيف جاز الابتداء بالنَّكرةِ؟ . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 520 فالجوابُ: إذا وصفت جاز، فإذا قلت: «سلامٌ عليكم» فالتَّنكير هُنا يدلُّ على الكمال والتَّمام، فكأنه سلام كامل تام عليك، ونظيره قوله تعالى: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} [مريم: 47] وقوله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] وقوله: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23، 24] . وأما قوله: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} [طه: 47] فالمراد منه الماهية والحقيقة. قال ابنُ الخطيب: قوله: «سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ» أكملُ من قوله: «السَّلامُ عليْكُم» ؛ لأنَّ التَّنْكيرَ يُفيدُ المبالغة والتَّمام، والتعريف لا يفيدُ إلاَّ الماهية. قوله: «فَمَا لَبِثَ» يجُوزُ في «ما» هذه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنَّها نافيةٌ، وفي فاعل «لَبِثَ» حينئذٍ وجهان: أحدهما: أنَّه ضميرُ إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أي: فَمَا لَبِثَ إبراهيم، وإن جاء على إسقاطِ الخافض، فقدَّرُوه بالباء وب «عَنْ» وب «في» ، أي: فمَا تأخَّر في أنْ، أو بأن، أو عن أن. والثاني: أنَّ الفاعل قوله: «انْ جَاءَ» ، والتقدير: فَما لبثَ، أي: ما أبْطَأ ولا تأخَّر مجيئُه بعجل سمين. وثاني الأوجه: أنَّها مصدريةٌ. وثالثها: أنَّها بمعنى الذي. وهي في الوجهين الأخيرين مبتدأ، وإن جاء خبرهُ على حذفِ مضاف تقديره: فلُبْثُه - أو الذي لبثه - قَدْرَ مجيئه. قال القرطبيُّ: قوله: «أنْ جَاءَ» معناه: حتَّى جَاءَ. والحَنِيذُ: المَشْوِيُّ بالرَّضْفِ في أخدود كفعل أهل البادية يشوون في حفرةٍ من الأرض بالحجارة المُحَمَّاة، يقال: حَنَذْتُ الشَّاة أحْنِذُهَا حَنْذاً فهي حَنِيذ، أي: مَحْنُوذة. وقيل: حَنيذ بمعنى يَقْطُرُ دَسَمُه من قولهم: حَنَذْتُ الفرس، أي: سُقْتُه شَوْطاً أو شَوْطَيْن وتضع عليه الجُلَّ في الشمس ليعرق. ثم قال: {فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ} أي: إلى العِجْلِ. وقال الفرَّاءُ: إلى الطَّعامِ وهو العجل. قوله: «نَكِرَهُمْ» أي: أنكرهم، فهما بمعنى واحد؛ وأنشدوا: [البسيط] 2987 - وأنكَرَتْنِي ومَا كَانَ الذي نَكِرَتْ ... مِنَ الحَوادثِ إلاَّ الشَّيْبَ والصَّلعَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 521 وفرَّق بعضهم بينهما فقال: الثلاثي فيما يُرَى بالبصرِ، والرباعي فيما لا يُرَى من المعاني، وجعل البيت من ذلك، فإنَّها أنكرتْ مودَّتهُ وهي من المعاني التي لا تُرَى، ونكِرَتْ شَيْبَتَهُ وصلعهُ، وهما يُبْصرانِ؛ ومنه قول أبي ذؤيبٍ: [الكامل] 2988 - فَنَكِرْتَهُ فَنَفَرْتُ وامْتَرَسَتْ بِهِ ... هَوْجَاءُ هَادِيَةٌ وهَادٍ جُرْشَعُ والإيجاس: حديث النَّفس، وأصله من الدُّخُول كأنَّ الخوف داخلهُ. وقال الأخفش: «خَامَر قلبه» . وقال الفرَّاء: «اسْتَشْعَرَ وأحسَّ» . والوَجَسُ: ما يَعْتَرِي النفس أوائل الفزع، ووجس في نفسه كذا أي: خطر بها، يَجِسُ وَجْساً ووُجُوساً ووَجِيساً، ويَوْجَسُ ويَجِسُ بمعنى يسمعُ؛ وأنشدوا على ذلك وقله: [الطويل] 2989 - وَصَادِقَتَا سَمْعِ التَّوجُّسِ للسُّرَى ... لِلَمْحِ خَفِيٍّ أو لِصَوْتٍ مُنَدَّدِ و «خفية» مفعول به أي: أحس خيفة أو أضمر خيفة. فصل اعلم أنَّ الأضياف إنَّما امتنعوا عن الطَّعام؛ لأنهم ملائكةٌ، والملائكةُ لا يأكلون، ولا يشربون، وإنَّما أتوهُ في صورة الأضياف، ليَكونوا على صفة يحبها؛ لأنه كان يحب الضيافة، وأمَّا إبراهيم، فإما أن يقال: إنه ما كان يعلم أنهم ملائكة بل كان يعتقدُ أنهم من البشر، أو يقال: إنَّه كان عالماً بأنهم ملائكة، فعلى الأول فسببُ خوفه أمران: أحدهما: أنَّهُ كان ينزل في طرف من الأرض بعيداً عن النَّاس، فلما امتنعوا عن الأكل، خاف أن يريدوا به مكروهاً. والثاني: أنَّ من لا يعرفه إذا حَضَر، وقدَّم إليه طعاماً، فإن أكل حصل الأمن، وإن لم يأكل، حصل الخوفُ. وإن كان عارفاً بأنَّهم ملائكة، فسبب خوفه أمران: أحدهما: أنه خاف أن يكون نزولهم لأمر أنكره الله تعالى عليه. والثاني: أنه خاف أن يكون نزولهم لتعذيب قومه. والأول أقرب؛ لأنَّهُ سارع إلى إحضار الطعام، ولو عرف كونهم من الملائكة لما فعل ذلك، ولما استدلَّ بترك الأكل على حصول الشَّرِّ، وأيضاً: فإنَّهُ رآهم في صورة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 522 البشر، قالوا: لا تخف يا إبراهيم، إنَّا ملائكة الله، أرسلنا إلى قوم لوط. فصل في هذه القصَّة دليل على تعجيل قرى الضيف، وعلى تقديم ما يتيسَّر من الموجود في الحال، ثم يُتبِعُهُ بغيره، إن كان له جدةٌ، ولا يتكلَّف ما يَضُرُّ به، والضيافة من مكارم الأخلاق، وإبراهيم أوَّل من أضاف، وليست الضيافةُ بواجبة عند عامة أهل العلم؛ قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ، ومَنْ كَانَ يُؤمِنُ باللهِ واليَوْمِ الآخِرِ، فلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ» . وإكرام الجار ليس بواجب، فكذلك الضَيْفُ، وفي الضيافة الواجبة يقولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لَيْلَةُ الضَّيْفِ حَقٌّ.» وقال ابن العربيِّ: وقد قال قَوْمٌ: إنَّ الضيافة كانَتْ واجبةً في صدْر الإسلام، ثم نُسِخَتْ. فصل اختلفوا في المخاطب بالضِّيافة، فذهب الشافعيُّ، ومحمد بنُ عبد الحكم إلى أنَّ المخاطب بها أهل الحضر والبادية. وقال مالكٌ: ليس على أهل الحضر ضيافة. قال سُحْنُون: إنَّما الضِّيافةُ على أهْلِ القُرى، وأمَّا أهل الحضر، فالفُنْدُق ينزل فيه المسافرُ؛ لما روى ابنُ عمر قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الضِّيافةُ عَلَى أهْلِ الوَبَرِ، ولَيْسَتْ عَلَى أَهْلِ المَدَرِ» . قال القرطبيُّ: «قال أبوعمر بن عبد البرِّ: وهذا حديثٌ لا يصحُّ» قال ابنُ العربي: «الضيافة حقيقة فرض على الكفاية» . فصل ومن أدب الضيافة أن يبادرَ المضيف بالأكل؛ لأنَّ كرامةَ الضَّيْفِ التعجيل بتقديم الضِّيافة، كما فعل إبراهيمُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ولما قبضوا أيديهم نكرهم إبراهيم فإذا أكل المضيف، طاب نفس الضَّيف للأكل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 523 قوله: {وامرأته قَآئِمَةٌ} في محلِّ نصب على الحالِ من مرفوع: «أرْسِلْنَا» . وقال أبو البقاءِ: من ضمير الفاعل في «أرْسِلْنَا» . وهي عبارةٌ غيرُ مشهورة، إذ مفعول مَا لَمْ يُسَمَّ فاعلهُ لا يطلقُ عليه فاعلٌ على المَشْهُورِ، وعلى الجملةِ فجعلها حالاً غير واضح بل هي استئناف إخبار، ويجوزُ جعلها حالاً من فاعل «قالُوا» أي: قالوا ذلك في حال قيام امرأته، وهي ابنة عم إبراهيم. وقوله: «وَهِي قَائمةٌ» أي تخدمُ الأضياف؛ وإبراهيم جالس معهم، يؤكد هذا التأويل قراءة ابن مسعود: «وامرأته قائمةٌ وهو قاعِدٌ» . قوله: «فَضَحِكَتْ» العامَّةُ على كسر الحاء وقرأ محمد بن زياد الأعرابي - رجل من مكة - بفتحها وهي لغتان، يقال: ضَحِكَ وضَحَكَ، وقال المهدويُّ: «الفتح غير معروف» ، والجمهورُ على أنَّ الضَّحكَ على بابِهِ. واختلف المفسِّرون في سببه فقال القاضي: إنَّ إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لما خاف قالت الملائكة {لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إلى قَوْمِ لُوطٍ} فعظم سرورها بسبب سرورهِ، وفي مثل هذه الحالة قد يضحك الإنسان، فكان ضحكها بسبب قول الملائكة لإبراهيم «لا تَخَفْ» فكان كالبشارة فقيل لها: نجعل هذه البشارة أيضاً بحصول الولد الذي كنتم تطلبونه من أوَّلِ العُمر إلى هذا الزَّمان، وقيل: لمَّا كانت عظيمة الإنكار على قوم لوط لكفرهم وعملهم الخبيث، فلما أخبروا أنهم جاءوا لإهلاكهم، لحقها السُّرور، فضحكت. وقيل: بشَّرُوها بحصول مطلق الولد فضَحِكَتْ إمَّا تعَجُّباً فإنَّهُ يقالُ: إنَّها كانت في ذلك الوقت بنت تسع وتسعين سنة وإبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ابن مائة سنة، وإمَّا على سبيل السُّرور، ثم لمَّا ضحكت بشَّرها الله - تعالى - بأنَّ ذلك الولد هو إسحاق، ومن وراء إسحاق يعقوب. وقيل: إنَّها ضحكت من خوف إبراهيم من ثلاثة نفر حال ما كان معه حشمه وخدمه. وقيل: هذا على التقديم والتأخير تقديره: وامرأته قائمة فبشَّرناها بإسحاق، فضحكت سروراً بتلك البشارة، فقدَّم الضَّحكَ، ومعناه التَّأخير، يقالُ ضحكت الأرنب، بمعنى: حَاضَتْ. وقال مجاهدٌ وعكرمة: «ضَحِكَتْ» بمعنى: حَاضَتْ. وأنكره أبو عبيدة، وأبو عبيد، والفرَّاء. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 524 قال ابنُ الأنباري: «هذه اللُّغة إن لم يَعْرِفها هؤلاء فقد عرفها غيرهم، حكى اللُّيثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في هذه الآية» فَضَحِكَتْ «طمثت، وحكى الأزهريُّ - عن بعضهم - أنَّ أصلهُ: من ضحاك الطَّلعةِ، يقال: ضَحِكَت الطلعة إذا انشقت، وأنشدوا: [المتقارب] 2990 - وضِحْكُ الأرَانبِ فَوْقَ الصَّفَا ... كَمِثْلِ دَمِ الجَوْفِ يَوْمَ اللِّقَا وقال آخر: [الطويل] 2991 - وعَهْدِي بِسَلْمَى ضَاحِكاً في لُبانةٍ ... ولَمْ يَعْدُ حقّاً ثَدْيُهَا أن تُحَلَّمَا أي: حَائِضاً. وضَحِكت الكافُورَةُ: تَشَقَّقَتْ. وضَحِكَت الشَّجَرةُ: سَالَ صَمْغُهَا، وضَحِكَ الحَوْضُ: امتلأ وفاض وظاهرُ كلام أبي البقاءِ أن «ضَحَكَ» بالفتح مختصٌّ بالحيْضِ فإنَّه قال: «بِمَعْنَى حَاضَتْ يقال: ضَحَكَت الأرنب بفتح الحَاء» . قوله: {وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} قرأ ابنُ عامر وحمزة وحفص عن عاصم بفتح الباء، والباقون برفعها. فأمَّا القراءةُ الأولى فاختلفوا فيها، هل الفتحةُ علامةُ نصبٍ أو علامة جرٍّ؟ والقائلون بأنَّها علامةُ نصب اختلفوا، فقيل: هو منصوبٌ عطفاً على قوله: «إسْحَاق» . قال الزمخشريُّ: كأنَّهُ قيل: وَوَهَبْنَا لهُ إسحاقَ، ومنْ وراءِ إسْحَاق يعقوب على طريقة قوله: [الطويل] 2992 - مَشَائِيمُ لَيْسُوا مُصْلِحينَ عَشِيرَةً ... ولا نَاعبٍ ... ... ... ... ... ... ... ... ... . . يعنى أنَّهُ عطف على التَّوهم فنصب، كما عطف الشَّاعرُ على توهُّم وجود الباء في خبر «ليس» فجرَّ، ولكنه لا ينقاس. وقيل: منصوبٌ بفعلٍ مقدَّرٍ، أي: وَوَهَبْنَا يعقوب وهو على هذا غيرُ داخلٍ في البشارة ورجَّحه الفارسي. وقيل: هو منصوبٌ عطفاً على محلِّ «بإسحاقَ» ؛ لأنَّ موضعهُ نصب كقوله: «وَأَرْجُلَكُمْ» بالنصب عطفاً على {بِرُؤُوسِكُمْ} [المائدة: 6] . والفرقُ بين هذا والوجه الأول: أنَّ الأول ضمَّن الفعل معنى: «وَهَبْنَا» توهُّماً، وهنا باقٍ على مدلوله من غير توهُّم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 525 ومن قال بأنه مجرورٌ جعله عطفاً على «بإسحاقَ» والمعنى: أنَّها بُشِّرت بهما. وفي هذا الوجه والذي قبله بحثٌ: وهو الفَضْلُ بالظَّرْفِ بين حرف العطف، والمعطوف، وقد تقدَّم ذلك مستوفى في النِّساءِ. ونسب مكي الخفض للكسائي ثم قال: «وهو ضعيفٌ إلاَّ بإعادة الخافض؛ لأنَّك فصلت بين الجار والمجرور بالظَّرف» . قوله: «بإعادة الخافض» ليس ذلك لازماً، إذ لو قدِّم ولم يفصلْ لم يلتَزِم الإتيان به. وأمَّا قراءةُ الرَّفْع ففيها أوجه: أحدها: أنَّه مبتدأ وخبره الظَّرف السَّابق فقدره الزمخشريُّ «موجود أو مولود» وقدَّره غيره ب: كائن ولمَّا حكى النَّحاسُ هذا قال: «الجملة حالٌ داخلةٌ في البشارة أيك فبشَّرناها بإسحاق مُتَّصلاً به يعقُوبُ» . والثاني: أنَّه مرفوعٌ على الفاعلية بالجارِّ قبله، وهذا يجيء على رأي الأخفش. والثالث: أن يرتفع بإضمارِ فعلٍ أي: ويحدث من وراء إسحاق يعقوب، ولا مدخل له في البشارة. والرابع: أنه مرفوعٌ على القَطْع يَعْنُونَ الاستئناف، وهو راجعٌ لأحَدِ ما تقدَّم من كونه مبتدأ وخبراً، أو فاعلاً بالجارِّ بعدهُ، أو بفعل مقدر. وفي لفظ «وَرَاء» قولان: أظهرهما: وهو قولُ الأكثرين أنَّ معناه «بَعْد» أي: بعد إسحاق يعقوب ولا مدخل له في البشارة. والثاني: أنَّ الوراء: ولد الولد. فصل ذكر المفسِّرون أنَّ «إسحاق» ولدَ ولأبيه مائة سنة بعد أخيه إسماعيل بأربع عشرة سنة وكان عمر أمه سارة حين بُشِّرَتْ به تسعين سنة. وذكر أهلُ الكتاب أنَّ إسحاق لمَّا تزوج ربقة بنت شاويل في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة، وأنَّها كانت عَاقِراً فدعا الله لها فحملتْ فولدت غلامين تَوْءَمَيْنِ؛ أولهما سمَّوهُ عيصو، وتسمية العرب «العِيصَ» وهو والدُ الرُّوم الثانية، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسمَّوهُ يعقوب، وهو إسرائيل الذي ينسبُ إليه بنو إسرائيل. قوله: {قَالَتْ ياويلتا} الظَّاهرُ كون الألف بدلاً من ياء المتكلم ولذلك أمالها أبو عمرو وعاصم في روايةٍ، وبها قرأ الحسن «يَا وَيْلَتِي» بصريح الياء. وقيل: هي ألف الجزء: 10 ¦ الصفحة: 526 الندبة، ويوقفُ عليها بهاء السَّكْتِ. وكذلك الألف في «يَا وَيْلَتَا» و «يَا عَجَبَا» . قال القفال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أصلُ الوَيْل هو الخِزْيُ، ويقال: وَيلٌ لفلان، أي الخزي والهلاك. [قال سيبويه: «وَيْح» زجر لمنْ أشرف على الهلاكِ، و «وَيْل» ] لمن وقع فيه. قال الخليلُ: ولَمْ أسْمَعْ على مثاله إلاَّ «وَيْح» ، و «وَيْد» ، و «وَيْه» ، وهذه كلمات متقاربة في المعنى. قوله: «أَأَلِدُ» قرأ ابنُ كثير ونافع وأبو عمر «آلد» بهمزة ومدة، والبقاون: بهمزتين بلا مدٍّ وقوله: {وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً} الجملتان في محلِّ نصبٍ على الحالِ من فاعل «ألِدُ» أي: كيف تقعُ الولادة في هاتينِ الحالتين المنافيتين لها؟ . والجمهورُ على نصب «شَيْخاً» وفيه وجهان: المشهورُ أنَّهُ حالٌ، والعاملُ فيه: إمَّا التَّنْبيهُ وإما الإشارةُ. وإمَّا كلاهما. والثاني: أنه منصوبٌ على خبر التَّقريب عند الكوفيين، وهذه الحالُ لازمةٌ عند من لا يَجْهَل الخبر، وأمَّا من جهله فهي غير لازمة. وقرأ ابنُ مسعُود والأعمش وكذلك في مصحف ابن مسعود «شَيْخٌ» بالرَّفْع، وذكروا فيه أوجهاً: إمَّا خبرٌ بعد خبر، أو خبران في معنى خبر واحد نحو: هذا حلو حامض، أو خبر «هَذَا» و «بَعْلي» بيانٌ، أو بدلٌ، أو «شيخٌ» بدلٌ من «بَعْلي» ، أو «بَعْلِي» مبتدأ و «شَيْخٌ» خبره، والجملة خبر الأول، أو «شَيْخٌ» خبر مبتدأ مضمر أي: هو شيخٌ. والشَّيْخُ يقابله عجوزٌ، ويقال: شَيْخَة قليلاً؛ كقوله: [الطويل] 2993 - وتَضْحَكُ مِنِّ] شَيْخَةٌ عَبْشمِيَّةٌ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . وله جموعٌ كثيرة، فالصَّريحُ منها: أشياخ وشُيُوخ وشِيخان، وشِيخَة عند من يرى أنَّ فعلة جمعٌ لا اسم جمع كغِلْمَة وفِتْيَة. ومن أسماءِ جمعه: مَشِيخَة وشِيَخَة ومَشْيُوخاً. وبَعْلُهَا: زوجها، سُمِّي بذلك لأنَّهُ قيِّمُ أمرها. قال الواحدي: وهذا من لَطِيفِ النَّحو وغامضه فإنَّ كلمة «هذا» للإشارة، فكان قوله {وهذا بَعْلِي شَيْخاً} قائمٌ مقام أن يقال: أشير إلى بَعْلِي حال كونه شَيْخاً. والمقصُودُ: تعريف هذه الحالة المخصوصة وهي الشَّيْخُوخة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 527 ثم قال: {إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} . فإن قيل: كيف تعجَّبَتْ من قُدْرَةِ الله - تعالى - والتَّعجُّبُ من قدرةِ الله يدلُّ على الجهْلِ بقُدْرةِ الله تعالى؛ وذلك يوجبُ الكُفْرَ؟ . فالجواب: أنَّها إنَّما تعجبت بحسب العُرْفِ والعادة لا بحسب القدرة، فإنَّ الرَّجُلَ المسلم لو أخبره رجلٌ آخرُ صادقٌ بأنَّ الله - تعالى - يقلبُ هذا الجبل إبْرِيزاً، فلا شكَّ أنه يتعجب نظراً إلى العادةِ لا استنكاراً للقدرةِ. ثم قالت الملائكةُ: {قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} أي: لا تعجبي مِنْ أمْرِ الله، فإنَّ الله إذا أراد شيئاً كان. قوله: {رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت} أي: بيت إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - والمعنى: رحمةُ الله عليكم متكاثرة، وبركاته عندكم متواليةٌ متعاقبة، وهي النبوة، والمعجزات القاهرةُ، فإذا خرق الله العادةَ في تخصيصكُم بهذه الكراماتِ العاليةِ الرَّفيعةِ، فلا تعجبي من ذلك. وقيل: هذا على معنى الدُّعاءِ من الملائكة. وقيل: على معنى الخَيْرِ والرَّحْمَةِ والنعمة. و «البركاتُ» جمع البركة وهي ثبوت الخَيْرِ. فإن قيل: ما الحكمةُ في إفرادِ الرَّحمةِ وجمع البركات، وكذلك إفراد السَّلام في التشهد وجمع البركات؟ . فالجواب: قد تقدَّم في سورة البقرة عند قوله: {أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ} [البقرة: 157] . وقال ابن القيِّم - هنا - إنَّ السلام إمَّا مصدرٌ محضٌ، فهو شيءٌ واحدٌ، فلا معنى لجَمْعِهِ، وإمَّا اسمٌ من أسماء الله - تعالى - فيستحيل أيضاً جمعه، وعلى التقديرين لا سبيل لجمعه. وأمَّا الرَّحمةُ فمصدرٌ كما تقدَّم، وأمَّا البركةُ: فإنها لمَّا كانت تتجدَّدُ شيئاً بعد شيءٍ كان لفظ الجمع أولى بها؛ لدلالتها على المعنى المقصود بها، ولهذا جاءت في القرآن كهذه الآية، وكذلك السَّلام في التشهُّدِ، وهو قوله: السَّلام عليكم أيُّها النبيُّ ورحمة الله وبركاته. وقوله: «عَلَيْكُم» حكى سيبويه «عَلَيْكم» بكسر الكافِ لمجاورتها الياء نقله القرطبي وفيه دليل على أنَّ الأزواجَ من أهلِ البيتِ. قوله: «أهْلَ البيتِ» في نصبه وجهان: أحدهما: أنه مُنَادَى. والثاني: أنه منصوبٌ على المدح. وقيل: على الاختصاص، وبين النَّصبين فرقٌ: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 528 وهو أنَّ المنصوب على المدح لفظٌ والمنصوبُ على الاختصاصِ لا يكونُ إلا لمدحٍ، أو ذمٍّ، لكن لفظه لا يتضمَّنُ بوضعه المدحَ، ولا الذَّم؛ كقوله: [الرجز] 2994 - بِنَا تَمِيماً يُكْشَفُ الضَّبَابُ ... كذا قاله أبو حيَّان، واستند إلى أنَّ سيبويه جعلهما في بابين، وفيه نظرٌ. ثم قال: إنه حميدٌ مجيدٌ، فالحميد: المحمود، والمجيدُ: فعيل، مثال مبالغة من مَجَد يَمْجُد مَجْداً ومَجَادَة، ويقال: مَجُد ك: شَرُف وأصله: الرِّفْعَة. وقيل: من مَجَدتِ الإبلُ تَمْجُدُ مَجَادَةً ومَجْداً، أي: شَبِعَتْ؛ وأنشدوا لأبي حيَّة النَّمَيْرِي: [الوافر] 2995 - تَزيدُ على صواحبها وليْسَتْ ... بِمَاجِدةِ الطَّعامِ ولا الشَّرابِ [أي] : ليست بكثيرة الطَّعام ولا الشَّرابِ. وقيل: مَجَد الشَّيءُ: أي: حَسُنَتْ أوصافُهُ. وقال الليثُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أمْجَدَ فلانٌ عطاءهُ ومجَّدهُ أي: كثَّرَهُ» . والمجيدُ: المَاجدُ، وهو ذُو الشَّرفِ والكرمِ. قوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع} ، أي: الفزعُ؛ قال الشَّاعرُ: [الطويل] 2996 - إِذَا أخَذَتْهَا هِزَّةُ الرَّوْعِ أمْسَكَتْ ... بِمَنْكِبِ مِقدامٍ على الهَوْلِ أرْوَعَا يقال: رَاعَهُ يَرُوعُه، أي: أفزعهُ؛ قال عنترةُ: [الكامل] 2997 - ما رَاعَنِي إِلاَّ حَمُولةُ أهْلِهَا ... وسْطَ الدِّيارِ تَسَفُّ حبَّ الخِمْخِمِ وارتاع: افتعل منه؛ قال النابغة: [البسيط] 2998 - فارْتَاعَ مِنْ صَوْتِ كلاَّبٍ فَبَاتَ لَهُ ... طَوْعَ الشَّوامِتِ مِنْ خَوْفٍ ومِنْ صَرَدِ وأمَّا الرُّوعُ - بالضمِّ - فهي النَّفْسُ لأنَّها محلُّ الرَّوْعِ. ففرَّقُوا بين الحالِّ والمَحَلِّ؛ وفي الحديث: «إِنَّ رُوحَ القُدُسِ نَفَثَ في رُوعي» . قوله: {وَجَآءَتْهُ البشرى} عطف على «ذَهَبَ» ، وجوابُ «لمَّا» على هذا محذوفٌ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 529 أي: فلمَّا كان كيت وكيت اجترأ على خطابهم، أو فطن لمجادلتهم، وقوله: «يَجَادِلُنَا» على هذا جملةٌ مستأنفةٌ، وهي الدَّالَّةُ على ذلك الجواب المحذوف. وقيل: تقديرُ الجواب: أقبل يُجَادلنا، أو أخذ يُجَادلُنَا، ف «يُجَادِلُنَا» على هذا حالٌ من فاعل «أقبل» . وقيل: جوابها قوله: «يُجَادلُنَا» وأوقع المضارع موقع الماضي. وقيل: الجوابُ قوله: {وَجَآءَتْهُ البشرى} والواوُ زائدةٌ. وقيل: «يُجَادِلُنَا» حال من «إبراهيم» ، وكذلك قوله: {وَجَآءَتْهُ البشرى} و «قَدْ» مقدرةٌ. ويجُوزُ أن يكون «يُجَادِلُنَا» حالاً من ضمير المفعول في «جَاءءَتْهُ» . و «فِي قَوْمِ لُوطٍ» أي: في شأنهم. قوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع} . هذا أوَّلُ قصة قوم لوط، والمعنى: أنَّهُ لمَّا زال الخوف وحصل السُّرورُ بسبب مجيء البُشْرَى بحصول الولد، أخذ يُجَادلنا أي: رسلنا، بمعنى: يكلمنا؛ لأنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لا يجادل ربه، إنَّما يسأله ويطلب إليه بدليل مدحه عقيب الآية بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} ولو كان جدلاً مذموماً لما مدحه بهذا المَدْح العظيم، وكانت مجادلته أن قال للملائكة: أرأيتم لو كان في مدائنِ لوطٍ خمسون رجلاً من المؤمنين أتهلكونها قالوا: لا. قال: أو أربعون. قالوا: لا. قال: أو ثلاثون. قالوا لا. حتَّى بلغ العشرة. قالوا: لا. قال: أرأيتم لو كان فيها رجلٌ مسلم أتهلكونها؟ قالوا: لا. فعند ذلك {قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته} [العنكبوت: 32] . ثم قال تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ} . والحليم: الذي لا يتعجَّلُ بمكافأة من يؤذيه، ومن كان كذلك فإنَّه يتأوَّهُ إذا شاهد وصول الشَّدائد إلى الغير فلمَّا رأي مجيء الملائكة لإهلاك قوم لُوط عظم حزنهُ، وأخذ يتأوَّهُ فوصفه، الله - تعالى - بأنَّهُ مُنِيبٌ؛ لأنَّ من ظهرت منه هذه الشفقة العظيمةُ على الخلق فإنَّهُ يتُوبُ ويرجع إلى الله - تعالى عزَّ وجلَّ - في إزالة ذلك العذابِ، أو يقال: من كان لا يَرْضَى بوقوع غيره في الشَّدائد، فبأن لا يرضى بوقوع نفسه فيها أولى، ولا طريق لتخليصِ النَّفْسِ من عذاب الله والوقوع فيه إلا بالتوبةِ والإنابةِ، فقالت الرُّسُلُ عند ذلك لإبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {يإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هاذآ} أي: أعرض عن هذا المقال، ف {إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ} ، أي: عذابُ ربِّك وحُكم ربِّك {إِنَّهُمْ آتِيهِمْ} : نازلٌ بهم {عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ} ، أي: غير مصروف عنهم. قوله: {آتِيهِمْ عَذَابٌ} يجوز أن يكون جملة من مبتدأ وخبر في محلِّ رفع خبراً ل «إنَّهُمْ» ، ويجوز أن يكون «آتِيهِمْ» الخبر «عَذابٌ» المبتدأ، وجاز الجزء: 10 ¦ الصفحة: 530 ذلك لتخصُّصِه بالوصفِ، ولتنكير «آتِيهِمْ» ؛ لأنَّ إضافته غيرُ محصنةٍ. ويجُوزُ أن يكون «آتِيهِمْ» خبر «إنَّ» ، و «عذابٌ» فاعلٌ به، ويدلُّ على ذلك قراءةُ عمرو بن هرم «وإنَّهُمْ أتاهُمْ» بلفظ الفعل الماضي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 531 قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً} قال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: انطلقُوا من عند إبراهيم إلى «لُوطٍ» [و] بين القريتين أربعة فراسخَ، ودخلوا عليه على صورة غلمان مرد حسان الوجوه. قوله: {سياء بِهِمْ} فعلٌ مبنيٌّ للمفعول، والقائمُ مقامَ الفاعل ضمير «لُوطٍ» من قولك: «سَاءَنِي كَذا» أي: حصل لي سُوءٌ، و «بِهِمْ» متعلقٌ به، أي: بسببهم، يقال: سؤته فسيء كما يقال: سَرَرْتُه فَسُرَّ، ومعناهُ: سَاءَهُ مَجِيئُهم وسَاءَ يَسُوءُ فعل لازم. قال الزجاجُ: «أصله» سُوىءَ بِهِمْ «إلاَّ أنَّ الواو أسكنت ونقلت كسرتها إلى السين» . و «ذَرْعاً» نصبٌ على التَّمييز، وهو في الأصل مصدر ذرع البعير يذرع بيديه في سيره إذا سار على قدر خطوه، اشتقاقاً من الذِّراع، تُوسِّع فيه فوضع موضع الطَّاقة والجهد. فقيل: ضاقَ ذَرْعُه، أي طاقته؛ قال: [البسيط] 2999 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... فاقْدِرْ بِذرْعِكَ وانْظُرْ أيْنَ تَنْسَلِكُ وقد يقعُ الذِّراعُ موقعهُ؛ قال: [الوافر] 3000 - إذَا التَّيَّازُ ذُو العضلاتِ قُلْنَا ... إلَيْكَ إلَيْكَ ضَاقَ بِهَا ذِرَاعا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 531 قيل: هو كنايةٌ عن ضيق الصَّدْرِ. وقوله: «عَصِيبٌ» العَصِبُ والعَصبْصَبُ والعَصُوب: اليومُ الشَّديدُ الكثيرُ الشَّرَّ، الملتفُّ بعضه ببعض قال: [الوافر] 3001 - وكُنْتَ لِزازَ خَصْمِكَ لَمْ أعَرِّدْ ... وَقَدْ سَلكُوكَ في يومٍ عَصِيبِ وعن أبي عبيدة: «سُمِّي عصيباً؛ لأنَّه يعصبُ النَّاسَ بالشَّرِّ» . كأنَّه عصب به الشَّر والبلاء أي: حشدوا والعِصَابةُ: الجماعةُ من النَّاس سُمُّوا بذلك لإحاطتهم إحاطة العصابة. والمعنى: أنَّ لوطاً لمَّا نظر إلى حسن وجوههم، وطيب روائحهم، أشفق عليهم من قومه أن يقصدوهم بالفاحشةِ، وعلم أنَّه سيحتاجُ إلى المدافعة عنهم، فلذلك ضاق بهم ذَرْعاً أي: قَلْباً. يقال: ضَاقَ ذَرْعُ فلان بكذا، إذا وقع في مكروهٍ، ولا يطيقُ الخُروج منه. قوله: {وَجَآءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ} «يُهْرَعُونَ» في محلِّ نصب على الحال. والعامَّةُ على «يُهْرَعُونَ» مبنياً للمفعول. وقرأ فرقة بفتح الياء مبنيّاً للفاعل من لغة «هَرَع» والإهراعُ: الإسْراعُ. ويقالُ: هو المَشْيُ بين الهرولة والجمز. وقال الهرويُّ: هَرَعَ وأهرع: استحث. وقيل: «الإهراعُ: هو الإسْرَاع مع الرّعدة» . قيل: هذا من باب ما جاء بصيغةِ الفاعلِ على لفظِ المفعولِ، ولا يعرف له فاعل نحو: أولع فلان، وأرْعِدَ زَيْدٌ، وزُهي عمرٌو من الزهو. وقيل: لا يجوزُ ورود الفاعل على لفظ المفعول، وهذه الأفعالُ عرف فاعلوها. فتأويلُ أولع فلانٌ أي: أولعهُ حبُّه، وأرْعدَ زيدٌ أي: أرعده غضبه، وزُهي عَمْرٌو أي: جعله ما لهُ زاهياً، وأهرع خوفه، أو حرصه. فصل روي أنَّه لمَّا دخلت الملائكةُ دار لوط - عليه السلام - مضت امرأته فقالت لقومه: دخل دارنا قوم ما رأيت أحسن منهم وجوهاً ولا أطيب منهم رائحة ف «جَاءَهُ قَوْمُهُ» مسرعين {وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات} أي: من قبل مجيئهم إلى لوطٍ كانوا يأتون الجزء: 10 ¦ الصفحة: 532 الرِّجال في أدبارهم، فقال لهم لوطٌ - عليه السلام -: حين قصدوا أضيافه فظنوا أنهم غلمان {ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} يعني: بالتزويج. قوله : {هؤلاء بَنَاتِي} جملةٌ برأسها، و {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} جملةٌ أخرى، ويجُوزُ أن يكون «هؤلاءِ» مبتدأ، و «بَنَاتِي» بدلٌ أو عطفُ بيان، وهُنَّ مبتدأ، و «أطْهَرُ» خبره، والجملة خبر الأول. ويجوز أن يكون «هُنَّ» فصلاً، و «أطْهَرُ» خبر: إمَّا ل «هَؤلاءِ» ، وإمَّا ل «بَنَاتِي» والجملةُ خبر الأوَّلِ. وقرأ الحسنُ وزيدُ بنُ عليّ، وسعيدُ بنُ جبير، وعيسى بن عمر، والسُّدي «أطْهَرَ» بالنَّصْب، وخُرِّجَتْ على الحالِ، فقيل: «هؤلاءِ» مبتدأ، و «بَنَاتِي هُنَّ» جملة في محلِّ خبره، و «أطْهَرَ» حال، والعاملُ: إمَّا التَّنبيهُ وإمَّا الإشارةُ. وقيل: «هُنَّ» فصلٌ بين الحالِ وصاحبها، وجعل من ذلك قولهم: «أكثر أكْلِي التفاحة هي نضيجةً» ومنعه بعضُ النحويين، وخرج الآية على أنَّ «لَكُم» خبر «هُنَّ» فلزمه على ذلك أن تتقدَّم الحالُ على عاملها المعنويِّ، وخرَّج المثل المذكور على أنَّ «نَضِيجَةٌ» منصوبة ب «كَانَ» مضمرة. فصل قال قتادةُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «المرادُ بناته لصلبه» ، وكان في ذلك الوقت تزويج المسلمة من الكافر جائزاً كما زوَّج النبي - صلوات الله البرّ الرحيم وسلامه عليه دائماً أبداً - ابنته من عُتْبة بن أبي لهبٍ، وزوج ابنته الأخرى من أبي العاص بن الربيع قبل الوحي، وكانا كافرين. وقال الحسنُ بن الفضل: عرض بناته عليهم بشرط الإسلام. وقال مجاهدٌ وسعيدُ بن جبير: أراد نساءهم، وأضاف إلى نفسه؛ لأنَّ كُلَّ نبيٍّ أبو أمته وفي قراءة أبي بن كعب « {النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} [الأحزاب: 6] وهو أب لهم» وهذا القول أولى؛ لأنَّ إقدام الإنسان على عرض بناته على الأوباش والفُجَّار أمر مستعبدٌ لا يليقُ بأهل المروءةِ، فكيف بالأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -؟ وأيضاً فبناته من صلبه لا تكفي للجمع العظيم، أمَّا بناتُ أمته ففيهن كفاية للكُلِّ، وأيضاً: فلم يكن له إلاَّ بنتان، وإطلاق البنات على البنتين لا يجوز؛ لما ثبت أنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة؛ وقال بعضهم ذكر ذلك على سبيل الدفع لا على سبيل التحقيق. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 533 فإن قيل: ظاهرُ قوله: {هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} يقتضي كون عملهم طاهراً، ومعلوم أنَّهُ فاسدٌ؛ ولأنه لا طهارة في نكاح الرَّجُل. فالجوابُ: هذا جارٍ مجرى قولنا: الله أكبرُ، والمرادُ: أنَّهُ كبيرٌ، وكقوله: {أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم} [الصافات: 62] ولا خير فيها، ولمَّا قال أبو سفيان يوم أحد اعْلُ هُبَلُ اعلُ هُبَلُ، قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أعلى وأجلُّ ولا مقاربة بين الله والصنم. قوله: {وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} قرأ أبُو عمرو ونافع بإثبات ياء الإضافة في «تُخْزُونِ» على الأصل والباقون بحذفها للتخفيف ودلالة الكسر عليها. والضَّيفُ في الأصل مصدرٌ كقولك: رجالٌ صومٌ، ثم أطلق على الطَّارق لميلانه إلى المُضِيف، ولذلك يقعُ على المفردِ والمذكر وضدِّيهما بلفظٍ واحدٍ، وقد يثنى فيقال: ضيفان، ويجمع فيقال: أضياف وضُيُوف كأبيات وبُيُوت وضيفان كحوض وحِيضان. والضَّيف قائمٌ هنا مقام الأضياف، كما قام الطفل مقام الأطفال في قوله: {أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء} [النور: 32] . فصل قال ابنُ عباسٍ: المرادُ: خافوا الله، ولا تفضحوني في أضيافي، يريد: أنَّهُم إذا هجمُوا على أضيافه بالمكروه لحقته الفضيحةُ. وقيل: معناه لا تخجلوني فيهم؛ لأنَّ مضيف الضَّيْفِ يلحقهُ الخجلُ من كُلِّ فعل قبيحٍ يتوجه إلى الضَّيف، يقال: خزي الرجل إذا استحيا. ثم قال: {أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ} أي: صالح سديدٌ يقول الحق، ويرد هؤلاء الأوباش عن أضيافي. وقال عكرمةُ: رجل يقول: لا إله إلاَّ الله. وقال ابن إسحاق: رجل يأمُرُ بالمعروفِ، وينهى عن المنكر. {قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ} يا لوطُ {مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} ، أي: لسن أزواجاً لنا فنستحقهنّ بالنكاح. قيل: ما لنا في بناتك من حاجةٍ، ولا شهوةٍ. وقيل: {مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ} لأنك دعوتنا إلى نكاحهن بشرط الإيمان، ونحنُ لا نجيبك إلى ذلك، فلا يكون لنا فيهن حقٌّ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 534 قوله: «مِنْ حقٍّ» يجوز أن يكون مبتدأ، والجارُّ خبره، وأن يكون فاعلاً بالجارِّ قبله لاعتماده على نفي، و «مِنْ» مزيدةٌ على كلا القولين. قوله: «ما نُرِيدُ» يجُوزُ أن تكون «ما» مصدرية، وأن تكون موصولة بمعنى «الَّذي» . والعلم عرفانٌ؛ فلذلك يتعدَّى لواحدٍ أي: لتعرف إرادتنا، أو الذي نريده. ويجوزُ أن تكون «ما» استفهامية، وهي معلقة للعلم قبلها. والمعنى: إنك لتعلم ما نريد من إتيان الرِّجال. قوله: «لَوْ أنَّ» جوابها محذوفٌ تقديره: لفعلتُ بكم وصنعتُ كقوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ} [الرعد: 31] قوله: «أَوْ آوِي» يجوز أن يكون معطوفاً على المعنى، تقديره: أو أنِّي آوي، قاله أبُو البقاءِ ويجوزُ أن يكون معطوفاً على «قُوَّةً» ؛ لأنه منصوبٌ في الأصل بإضمارِ أن فلمَّا حذفت «أنْ» رفع الفعلُ كقوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ} [الروم: 24] . واستضعف أبو البقاءِ هذا الوجه بعدم نصبه. وقد تقدَّم جوابه. ويدلُّ على اعتبار ذلك قراءةُ شيبة، وأبي جعفر: «أوْ آوِيَ» بالنصب كقوله: [الطويل] 3002 - ولوْلاَ رجالٌ منْ رِزَامٍ أعِزَّةٍ ... وآلُ سُبَيْعٍ أو أسُوءكَ عَلْقَمَا وقولها: [الوافر] 3003 - للُبْسُ عَبَاءَةٍ وتقرَّ عَيْنِي ... أحَبُّ إليَّ من لُبْسِ الشُّفُوفِ ويجوز أن يكون عطف هذه الجملةِ الفعلية على مثلها إن قدَّرت أنَّ «أنَّ» مرفوعة بفعل مقدرٍ بعد «لَوْ» عند المبرد، والتقدير: ول يستقر - أو يثبت - استقرار القوة أوْ آوي، ويكون هذان الفعلان ماضيي المعنى؛ لأنَّهما تقلب المضارع إلى المُضيِّ. وأمَّا على رأي سيبويه في كون أنَّ «أنَّ» في محلِّ الابتداء، فيكون هذا مستأنفاً. وقيل: «أوْ» بمعنى «بل» وهذا عند الكوفيين. و «بِكُمْ» متعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حالٌ من «قُوَّة» ، إذ هو في الأصلِ صفةٌ للنكرة، ولا يجوزُ أن يتعلق ب «قُوَّةً» لأنها مصدرٌ. والرُّكْنُ بسكون الكافِ وضمها الناحية من جبلٍ وغيره، ويجمع على أركان وأرْكُن؛ قال: [الرجز] 3004 - وَزَحْمُ رُكْنَيْكَ شَدِيدُ الأرْكُنِ ... الجزء: 10 ¦ الصفحة: 535 فصل المعنى: لو أنَّ لي قوة البدنِ، أو القوَّة بالأتباع، وتسمية موجب القوة بالقوَّة جائز قال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل} [الأنفال: 60] والمراد السلاح. {أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ} أي: موضع حصين، وقيل: أنضم إلى عشيرةٍ مانعةٍ. فإن قيل: كيف عطف الفعل على الاسم؟ . فالجوابُ قد تقدَّم. قال أبُو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «ما بعث الله بعده نبيّاً إلاَّ في منعة من عشيرته» . «وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» يَرْحَمُ اللهُ لُوطاً لقد كَانَ يَأوي إلى رُكْنٍ شديدٍ «. قال ابنُ عبَّاسٍ والمفسِّرُون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: أغلق لوطٌ بابه، والملائكة معه في الدَّار وهو يناظرهم ويناشدهم من وراءِ البابِ، وهم يُعَالجُونَ سور الجدار، فلما رأت الملائكةُ ما يلقى لوطٌ بسببهم: {قَالُواْ يالوط} إنَّ ركنك شديدٌ {إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ} بسوءٍ ومكروه فإنا نحولُ بينهم وبين ذلك، فافتح الباب، ودعنا وإيَّاهم؛ ففتح الباب ودخلوا، واستأذن جبريلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ربه - عزَّو جلَّ - في عقوبتهم فأذن لهُ - فقام في الصُّورة اليت يكون فيها؛ فنشر جناحيه، وعليه وشاح من دُرٍّ منظوم، وهو براق الثَّنايا، أجلى الجبين، ورأسه مثل المرجان كأنَّه الثلج بياضاً، وقدماه إلى الخضرة، فضرب بجناحيه وجوههم فطمس أعينهم فأعماهم فصاروا لا يعرفون الطَّريق، فانصرفوا وهم يقولون: النَّجاة النَّجاة في بيت لوطٍ أسحرُ قوم في الأرض، سحرونا، وجَعلوا يقولون: يا لوطُ كما أنت حتى تصبح، وسترى ما تلقى منَّا غداً، فقال لوطٌ للملائكةِ: متى موعد هلاكهم؛ فقالوا: الصُّبح، قال: أريدُ أسرع من ذلك فلو أهلكتموهم الآن، فقالوا {أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ} . قوله: «فَأَسْرِ» قرأ نافعٌ وابنُ كثيرٍ: (فأسر بأهلك) هنا وفي الحجر، وفي الدخان (فاسر بعبادي) ، وقوله: (أن اسر) في طه والشعراء، جميع ذلك بهمزة الوصل تسقط درجاً وتثبتُ مكسورة ابتداء. والباقُون: «فأسْرِ» بهمزة القطع تَثْبتُ مفتوحةً درجاً وابتداء، والقراءتان مأخوذتان الجزء: 10 ¦ الصفحة: 536 من لغتي هذا الفعل فإنَّهُ يقال: سَرَى، ومنه {والليل إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] ، وأسْرَى، ومنه: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وهل هما بمعنى واحدٍ أو بينهما فرقٌ؟ خلافٌ فقيل: هما بمعنى واحدٍ، وهو قولُ أبي عبيدٍ. وقيل: أسْرَى لأولِ الليل، وسرى لآخره، وهو قولُ اللَّيْثِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وأمَّا «سَارَ» فمختص بالنَّهار، وليس مقلُوباً من «سَرَى» . فإن قيل «السُّرى» لا يكون إلاَّ بالليل، فما الفائدةُ في قوله: {بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} قال: هو آخر الليل سحر وقال قتادةُ: بعد طائفة من اللَّيلِ. وتقدم في سورة يونس. ثم قال: {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} في الالتفات وجهان: أحدهما: نظر الإنسان إلى ما وراءه، فيكونُ المرادُ أنه كان لهم في البلد أموال نهوا عن الالتفات إليها. والثاني: أنَّ المراد بالالتفات الانصرافُ؛ كقوله تعالى: {أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا} [يونس: 78] أي: لتصرفنا والمراد نهيهم عن التَّخلُّفِ. قوله: {إِلاَّ امرأتك} قرأ ابنُ كثير، وأبو عمرو برفع «امْرأتُكَ» والباقون بنصبها. وفي هذه الآية كلامٌ كثيرٌ. أمَّا قراءةُ الرَّلإع ففيها وجهان: أشهرهما - عند المعربين - أنَّه على البدل من «أحد» وهو أحسنُ من النَّصب، لأنَّ الكلام غيرُ موجب. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 537 وهذا الوجهُ ردَّهُ أبو عبيد بأنه يلزمُ منه أنَّهُم نُهُوا عن الالتفاتِ إلاَّ المرأة، فإنَّها لم تُنْه عنه، وهذا لا يجُوزُ، ولوْ كان الكلامُ «ولا يَلْتَفِت» برفع «يَلْتَفتْ» يعني على أن تكون «لا» نافيةً، فيكون الكلامُ خبراً عنهم بأنَّهُم لم يلتفتُوا إلاَّ امرأته فإنَّها تلتفتُ لكان الاستثناء بالبدليَّة واضحاً، لكنَّهُ لم يقرأ برفع «يَلْتَفِتُ» أحد. واستحسن ابنُ عيطة هذا الإلزامَ من أبي عبيدٍ. وقال: «إنَّه واردٌ على القول باستثناءِ المرأة من» أحد «سواءً رفعت المرأة أو نصبتها» . وهذا صحيحٌ، فإنَّ أبا عبيد لم يُرد الرفع لخصوصِ كونه رفعاً، بل لفسادِ المعنى، وفسادُ المعنى دائر مع الاستثناء من «أحد» ، وأبو عبيد يخرِّجُ النصب على الاستثناء من «بِأَهْلِكَ» ولكنَّهُ يلزمُ من ذلك إبطالُ قراءة الرَّفع، ولا سبيل إلى ذلك لتواتُرها. وقد انفصل المبرِّدُ عن هذا الإشكال الذي أورده أبو عبيد بأنَّ النَّهْيَ في اللفظ ل «أحَد» وهو في المعنى للوط - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، إذ التقدير: لا تدعْ منهم أحداً يلتفتُ، كقولك لخادمك: «لا يَقُمْ أحَدٌ» النَّهْيُ ل «أحد» وهو في المعنى للخادم، إذ المعنى: لا تدعْ أحداً يقومُ. فآل الجوابُ إلى أنَّ المعنى لا تدعْ أحداً يلتفتُ إلاَّ امرأتك فدعها تلتفتُ، هذا مقتضى الاستثناء كقولك: «لا تدَعْ أحَداً يقوم إلاَّ زيداً معناه: فدعهُ يقوم. وفيه نظرٌ، إذ المحذور الذي قد فرَّ منه أبو عبيد موجودٌ هو أو قريب منه هنا. والثاني: أنَّ الرفع على الاستثناءِ المنقطع. وقال أبو شامة: قراءةُ النَّصب أيضاً من الاستثناء المنقطع، فالقراءتان عنده على حدِّ سواء، ولنسرُدْ كلامه قال:» الذي يظهرُ أنَّ الاستثناء على كلتا القراءتين منقطع، لم يقصدْ به إخراجها من المأمور بالإسراء بهم، ولا من المنهيين عن الالتفات، ولكن استؤنف الإخبار عنها، فالمعنى: لكن امرأتكَ يجري لها كذا وكذا، ويؤيدُ هذا المعنى أنَّ مثل هذه الآية جاءت في سورة الحجرِ، وليس فيها استثناءٌ ألبتَّة، قال تعالى: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ} [الحجر: 65] الآية. فلم تقع العنايةُ في ذلك إلاَّ بذكر من أنجاهم الله تعالى، فجاء شرح حالِ امرأته في سورة [هود] تبعاً لا مقصوداً بالإخراج ممَّا تقدَّم، وإذا اتَّضح هذا المعنى عُلم أنَّ القراءتين وردتا على ما تقتضيه العربية في الاستثناء المنقطع، وفيه النصبُ والرفعُ، فالنَّصب لغةُ أهلِ الحجاز، وعليه الأكثر، والرَّفعُ لغةُ تميم، وعليه اثنان من القراء «. قال أبُو حيَّان:» هذا الذي طوَّل به لا تحقيق فيه، فإنَّه إذا لم يقصد إخراجها من المأمُور بالإسراء بهم، ولا من المنهيِّين عن الالتفاتِ، وجعل اسثناءً منقطعاً، كان من الجزء: 10 ¦ الصفحة: 538 المنقطع الذي لمْ يتوجَّهْ عليه العاملُ بحالٍ، وهذا النَّوعُ يجبُ فيه النَّصْبُ على كلتا اللغتين وإنَّما تكون اللغتان فيما جاز توُّهُ العامل عليهن وفي كلا النوعين يكون ما بعد «إلاَّ» من غير الجنس المستثنى، فكونه جاز فيه اللغتان دليل على أنَّهُ يتوجَّه عليه العاملُ وهو أنه قد فرض أنه لم يقصد بالاستثناء إخراجها من المأمور بالإسراء بهم ولا من المنهيِّين عن الالتفاتِ؛ فكان يجبُ فيه إذ ذاك النَّصْبُ قولاً واحداً. قال شهابُ الدِّين: «أمَّا قوله:» إنَّه لم يتوجَّه عليه العامل «ليس بمسلَّم، بل يتوجَّهُ عليه في الجملة، والذي قاله النُّاة ممَّا لم يتوجَّه عليه العاملُ من حيثُ المعنى نحو: ما زاد إلاَّ ما نقص، وما نفع إلاَّ ما ضرَّ، وهذا ليس من ذاك، فكيف يعترض به على أبي شامة؟» . وأمَّا النصب ففيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّهُ مستثنى من «بأهلكَ» ، واستشكلُوا عليه إشكالاً من حيث المعنى: وهو أنه يلزمُ ألاَّ يكون سرى بها، لكن الفرض أنه سرى بها يدلُّ عليه أنَّها التفتت، ولو لم تكن معهم لما حسن الإخبار عنها بالالتفات، فالالتفاتُ يدل على كونها سرت معهم قطعاً. وقد أجيب عنه بأنه لم يَسْرِ هو بها، ولكن لمَّا سرى هو وبنتاه تبعتهم فالتفتت، ويؤيِّد أنَّه استثناء من الأهل ما قرأ به عبد الله وسقط من مصحفه، «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقطْعٍ من اللَّيْلِ إلاَّ امرأتك» ولم يذكر قوله {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} . والثاني: أنَّهُ مستثنى منْ «أحد» وإن كان الأحسنُ الرّفع إلاَّ أنَّهُ جاء كقراءة ابن عامرٍ: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [النساء: 66] ، بالنَّصْبِ مع تقدُّم النفي الصَّريح. وهناك تخريجٌ آخرُ لا يمكن هنا. والثالث: أنه مستثنى منقطعٌ على ما تقدَّم عن أبي شامة. وقال الزمخشري: «وفي إخراجها مع أهله روايتان، روي أنَّه أخرجها معهم، وأمر أن لا يلتفت منهم أحدٌ إلاَّ هي، فلمَّا سمعتْ هدَّة العذاب التفتت وقالت: يا قوماه، فأدركها حجرٌ فقتلها، وروي أنه أمر بأن يخلِّفها مع قومها فإنَّ هواها إليهم ولم يَسْرِ بها، واختلاف القراءتين لاختلاف الروايتين» . قال أبُو حيَّان: «وهذا وهمٌ فاحشٌ، إذْ بَنَى القراءتين على اختلاف الروايتين من أنَّه سرى بها أو لم يسر بها وهذا تكاذبٌ في الإخبار، يستحيلُ أن تكون القراءتان - وهما من كلام الله تعالى - يترتبان على التَّكاذُبِ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 539 قال شهابُ الدِّين: «وحاش لله أن تترتب القراءتان على التَّكاذُبِ، ولكن ما قاله الزمخشري صحيحٌ، الفرض أنَّهُ قد جاء القولان في التفسير، ولا يلزم من ذلك التَّكاذبُ؛ لأنَّ من قال إنَّه سرى بها يعني أنَّها سرتْ هي بنفسها مصاحبةً لهم في أوائل الأمر، ثمَّ أخذها العذابُ فانقطع سُراها، ومن قال إنَّه لم يسر بها، أي: لَمْ يأمرها، ولم يأخذها، وأنَّهُ لم يدُم سراها معهم بل انقطع فصحَّ أن يقال: إنَّهُ سرى بها ولم يَسْرِ بها، وقد أجاب النَّاسُ بهذا، وهو حسنٌ» . وقال أبو شامة: «ووقع لي في تصحيح ما أعربه النحاةُ معنى حسنٌ، وذلك أن يكون في الكلام اختصار نبَّه عليه اختلاف القراءتين فكأنَّهث قيل: فأسر بأهلك إلاَّ امرأتك، وكذا روى أبو عبيد وغيره أنها في مصحف عبد الله هكذا، وليس فيها:» ولا يلتفتْ منكمْ أحَدٌ «فهذا دليلٌ على استثنائها من السُّرَى بهم ثم كأنه سبحانه وتعالى قال: فإن خرجتْ معكم وتَبعتْكُم - غير أن تكون أنت سريتَ بها - فانْهَ أهلك عن الالتفات غيرها، فإنَّها ستلتفت فيصيبها ما أصاب قومها، فكانت قراءة النَّصب دالَّة على المعنى المتقدم، وقراءةُ الرَّفعِ دالَّةٌ على المعنى المتأخر، ومجموعهما دالٌّ على جملة المعنى المشروح» . وهو كلامٌ حسنٌ شاهدٌ لما ذكرته. قوله: {إِنَّهُ مُصِيبُهَا} الضَّميرُ ضمير الشَّأنِ، «مُصِيبُهَا» خبرٌ مقدَّم، و «مَا أصَابَهُمْ» مبتدأ مؤخَّر وهو موصولٌ بمعنى «الذي» ، والجملة خبرُ «إنَّ» ؛ لأنَّ ضمير الشَّأنِ يُفسَّر بجملةٍ مصرَّحٍ بجزأيها. وأعرب أبو حيان: «مُصِيبُهَا» مبتدأ، و «مَا أصَابهُمْ» الخبر وفيه نظرٌ من حيثُ الصَّناعة: فإنَّ الموصول معرفة، فينبغي أن يكون المبتدأ: «مُصِيبُهَا» نكرةً؛ لأنه عاملٌ تقديراً فإضافتهُ غير محضةٍ، ومن حيث المعنى: إنَّ المراد الإخبار عن الذي أصابهم أنه مُصيبها من غير عكس ويجوز عند الكوفيين أن يكون «مُصِيبُهَا» مبتدأ، و «ما» الموصولةُ فاعلٌ لأنَّهم يجيزون أن يفسَّر ضميرُ الشَّأن بمفرد عاملٍ فيما بعده نحو: «إنَّهُ قائمٌ أبواك» . قوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ} أي: موعد إهلاكهم. وقرأ عيسى بن عمر «الصُّبُح» بضمتين فقيل: لغتان، وقيل: بل هي إتباعٌ، وقد تقدَّم البحثُ في ذلك [الأنعام: 96] . قوله: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} قيل: المراد حقيقتهُ، وقيل: المرادُ بالأمر العذابُ، قال بعضهم: لا يمكن حملهُ هنا على العذاب؛ لأن قوله: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا} ، فالجعل هو العذاب فكان الأمر شرطاً، والعذاب الجزاءُ، والشرط غير الجزاء، فالأمر غير العذاب، فدلَّ على أن الأمر هو ضدُّ النهي؛ ويدل على ذلك قول الملائكة: {إِنَّا أُرْسِلْنَا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 540 إلى قَوْمِ لُوطٍ} [هود: 70] فدل على أنَّهم أمروا بالذهاب إلى قوم لوط بإيصال العذاب إليهم. فإن قيل: لو كان كذلك، لقال: «فلما جاء أمرنا، جعلوا عاليها سافلها» ، لأن الفعل صدر عن المأمور. فالجواب: أن فعل العبد فعل الله تعالى، وأيضاً: فالذي وقع إنَّما وقع بأمْر الله، وبأقداره، فلا يمتنع إضافته إلى الله تعالى؛ فكما يحسُنُ إضافتهُ إلى المباشرين، يحسنُ إضافته إلى المسَبِّب. قوله: {عَالِيَهَا سَافِلَهَا} مفعولا الجعل الذي بمعنى التَّصْيير، و «سِجِّيلٍ» قيل: هو في الأصل مركَّب من «سنك وكل» وهو بالفارسيَّة حجر وطين فعُرِّب، وغُيِّرت حروفهُ، كما عرَّبُوا الدِّيباج والدِّ] وان والاستبرق. وقيل: «سِجِّيل» اسمٌ للسَّماء، وهو ضعيفٌ أو غلطٌ، لوصفه ب «مَنْضُودٍ» . وقيل: من أسْجَلَ، أي: أرسل فيكون «فِعِّيلاً» ، وقيل: هو من التسجيل، والمعنى: أنه ممَّا كتب الله وأسجل أن يُعذَّب به قوم لوط، وينصرُ الأول تفسيرُ ابن عبَّاسٍ أنَّهُ حجرٌ وطين كالآجر المطبوخ وعن أبي عبيدة هو الحجر الصُّلب. وقيل: «سِجِّيل» موضع الحجارةِ، وهي جبالٌ مخصوصة. قال تعالى: {مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43] . قال الحسن: كان أصل الحجر هو الطين فشددت. و «مَنضُودٍ» صفةٌ ل «سِجِّيلٍ» . والنَّضد: جعلُ بعضهُ فوق بعضٍ، ومنه {وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ} [الواقعة: 29] أي: متراكب، والمراد وصفُ الحجارة بالكثرة. «مُسَوَّمَةً» نعتٌ ل «حِجَارة» ، وحينئذ يلزمُ تقدُّمُ الوصف غير الصَّريح على الصَّريح لأنَّ «مِنْ سِجِّيل» صفةٌ ل «حِجَارة» ، والأولى أن يجعل حالاً من «حِجَارة» ، وسوَّغ مجيئها من النكرة تخصُّص النكرة بالوصف. والتَّسْويم: العلامةُ. قيل: عُلِّم على كُلِّ حجرٍ اسمُ من يرمي به وتقدَّم اشتقاقُه في آل عمران [14] في قوله: {والخيل المسومة} وقال الحسنُ والسديُّ: كان عليها أمثال الخواتيم. قال أبو صالحٍ: رأيتُ منها عند أم هانىء، وهي حجارة فيها خطوط حمرٌ على هيئة الجَزْع. وقال ابنُ جريجٍ: كان عليها سيماء لا تشبه حجارة الأرض. و «عِنْدَ» إمَّا منصوبٌ ب «مُسَوَّمَةً» ، وإمَّا بمحذوفٍ على أنَّها صفةٌ ل «مُسَوَّمَةً» . وقله: «ومَا هِيَ» الظَّاهرُ عودُ هذا الضمير على القرى المهلكة. وقيل: يعودُ على الحِجَارة وهي أقربُ مذكور. وقيل: يعودُ على العُقوبةِ المفهومة من السِّياقِ، ولَمْ يُؤنِّثْ « الجزء: 10 ¦ الصفحة: 541 بِبَعيدٍ» إمَّا لأنَّهُ في الأصل نعتٌ لمكانٍ محذوف تقديره: وما هي بمكانٍ بعيدٍ بل هو قريبٌ، والمرادُ به السَّماء أو القُرَى المهلكة، أي: وما تلك القرى المهلكة من كفَّار مكة - ببعيدٍ؛ لأنَّ تلك القرى في الشَّام، وهي قريب من مكَّة، وإمَّا لأنَّ العقوبة والعقاب واحدٌ، وإمَّا لتأويل الحجارة بعذابٍ أو بشيءٍ بعيدٍ، والمراد بالآية كفار مكة، أي أنه تعالى يرميهم بهذه الحجارة. قال أنس بن مالك سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جبريل عن هذا فقال: «مَا مِنْ ظالمٍ إلاَّ وهو بمعرض حجرِ يسقطُ عليه من ساعةٍ إلى ساعةٍ» . وقال قتادةُ وعكرمةُ: يعنى ظالمي هذه الأمة، والله ما أجار اللهُ منها ظالماً. روي: أنَّ الحجر اتَّبع شُذَّاذهم ومسافريهم أين كانوا في البلادِ، ودخل رجلٌ منهم الحرم، فكان الحجرُ معلقاً بين السَّماء والأرض أربعين يوماً حتى خرج؛ فأصابه فأهلكه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 542 قوله تعالى: {وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً} القصة. أي: وأرسلنا إلى ولد مدين وهو اسم ابن إبراهيم - عليه السلام -، ثم صار اسماً للقبيلةِ. وقال كثير من المفسِّرين: مَدْيَنُ اسم مدينة، وعلى هذا فتقديره: وأرسلنا إلى أهل مدين، فحذف «أهل» ، كقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] أي: أهل القرية. واعلم أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أول ما يبدؤون بالدعوة إلى التَّوحيد، ولذلك قال شعيبٌ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ} ثم بعد الدَّعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم، فالأهم، ولما كان المتعادُ في أهل مدينَ البَخْسَ في المكيالِ والميزان، دعاهم إلى تركِ هذه العادة، فقال: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} . قوله: «وَلاَ تَنْقُصُوا» : «نَقَصَ» يتعدَّى لاثنين، إلى أولهما بنفسه، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ؛ وقد يحذفُ؛ تقولُ: نَقَصْتُ زيْداً من حقِّه، وحقَّهُ، وهو هنا كذلك، إذ المرادُ: ولا تنْقصُوا النَّاس من المكيالِ، ويجوز أن يكون متعدِّياً لواحدٍ على المعنى. والمعنى: لا تُقَلِّلُوا وتُطَفِّفُوا ويجُوز أن يكون «المِكْيَال» مفعولاً أول، والثاني محذوفٌ، وفي ذلك مبالغة، والتقدير: ولا تنقصُوا المكيال والميزان حقَّهما الذي وجب لهما، وهو أبلغُ في الأمر بوفائهما. قوله تعالى: {إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ} قال ابنُ عبَّاسٍ: موسرين في نعمة. وقال مجاهدٌ: كانوا في خصب وسعةٍ؛ فحذَّرهم زوال النعمة، وغلاء الأسعار، وحلول النقمة إنْ لم يتُوبُوا. {وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ} يحيطُ بكم فيهلككم. قال ابنُ عبَّاسٍ: أخافُ: أي: أعلم. وقال غيره: المراد الخوف؛ لأنه يجوز أن يتركُوا ذلك العمل خشية حُصُولِ العذابِ. قوله: «محيطٍ» صفة لليوم، ووصف به من قولهم: أحاط به العدوُّ، وقوله: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] . قال الزمخشري: إنَّ وصف اليوم بالإحاطة أبلغُ من وصفِ العذاب بها قال: لأنَّ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 543 اليوم زمانٌ يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمُعَذَّبِ ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه. وزعم قومٌ: أنه جُرَّ على الجوار؛ لأنَّهُ في المعنى صفةٌ للعذاب، والأصلُ: عذاب يوم مُحيطاً وقال آخرون: التقدير: عذابُ يومٍ محيطٍ عذابُه. قال أبو البقاءِ: وهو بعيدٌ؛ لأنَّ محيطاً قد جرى على غير من هو له، فيجب إبرازُ فاعله مضافاً إلى ضمير الموصوف. واختلفوا في المراد بهذا العذاب: فقيل: عذاب يوم القيامةِ. وقيل: عذاب الاستئصال في الدنيا؛ كما هُو في حق سائر الأمم. والأقربُ دخولُ كل عذاب فيه، وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدَّائرة بما فيها. قوله: {ويا قوم أَوْفُواْ المكيال والميزان بالقسط} أي: بالعدل. فإن قيل: وقع التَّكرار ههنا من ثلاثة أوجه، فقال: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} ثم قال {أَوْفُواْ المكيال والميزان} ، وهو عين الأول، ثم قال: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} ، وهو عين الأوَّل، فما فائدة التَّكرارِ؟ . فالجواب من وجوه: الأول: أن القوم كانوا مُصرِّين على ذلك العمل، فمنع منه بالمبالغة في التأكيد، والتكرارُ يفيد التَّأكيد وشدّة العناية والاهتمام. الثاني: قوله: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} نهي عن التنقيص، وقوله: {أَوْفُواْ المكيال والميزان} أمر بإيفاء العدل، والنَّهْي عن الشيء أمر بضده، وليس لقائل أن يقول النَّهي ضد الأمر، فكان التكرير لازماً من هذا الوجه، لأنَّا نقول: الجوابُ من وجهين: أحدهما: أنَّهُ تعالى جمع بين الأمر بالشَّيء، وبين النهي عن ضده للمبالغة، كما تقولُ: صل قرابتك، ولا تقطعهم؛ فدلَّ هذا الجمعُ على غاية التَّأكيد. وثانيهما: ألا نُسَلم أنَّ الأمر كما ذكرتم؛ لأنَّهُ يجُوزُ أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصلِ المعاملة، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحقِّ، ليدلَّ ذلك على أنَّهُ تعالى لم يمنع من المعاملات، ولم ينه عن المبايعات، وإنَّما منع في الآية الأولى من التَّنقِيصِ، وفي الأخرى أمر بالإيفاء، وأما قوله ثالثاً: {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} فليس بتكرير لأنَّهُ تعالى خصَّ المنع في الآية الأولى بالنُّقصان في المكيالِ والميزان. ثم إنَّهُ تعالى عمَّ الحكم في جميع الأشياء، فدل ذلك على أنها غير مكررة، بل في كل واحدة فائدة زائدة. الوجه الثالث: أنه تعالى قال في الآية الأولى: {وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان} وفي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 544 الثانية قال: {أَوْفُواْ المكيال والميزان} والإيفاءُ: عبارة عن الإتيان به على الكمالِ والتَّمام، ولا يحصلُ ذلك إلاَّ إذا أعطى قدراً زائداً على الحق، ولهذا المعنى قال الفقهاءُ: إنَّهُ تعالَى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصلُ إلاَّ عند غسل كلّ جزء من أجزاء الرَّأس. فالحاصلُ: أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النُّقصان، وفي الثانية أمَرَ بإعطاء شيءٍ مِنْ الزيادة، فكأنَّه تعالى نهى أولاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً ليحصل له تلك الزيادة، وفي الثانية أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج مالهُ من غير العوض. وقوله: «بالقسط» يعني: بالعدلِ، ومعناه الأمر بإيفاء الحقِّ بحيث يحصلُ معه اليقين بالخُروجِ عن العهدةِ، فالأمرُ بإيتاء الزِّيادةِ على ذلك غيرُ حاصل. والبخس: هو النَّقْضُ. ثم قال: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} . فإن قيل: العثوُّ: الفسادُ التَّامُّ، فقوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} جار مجرى قولك: ولا تفسدُوا في الأرض مفسدين. فالجوابُ من وجوه: الأول: أن من سعى في إيصال الضَّرر إلى الغير، فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} ولا تسعوا في إفسادِ مصالح الغير، فإنَّ ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم. والثاني: أن يكون المرادُ من قوله: {وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ} مصالح الأديان والشرائع. ثم قال: {بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} العامَّة على تشديد ياء «بقيَّة» . وقرأ إسماعيلُ بن جعفر - من أهل المدينة - بتخفيفها قال ابنُ عطيَّة: «هي لغةٌ» . وهذا لا ينبغي أن يقال، بل يقال: إنْ لم يقصد الدَّلالةُ على المبالغة جيء بها مخففة وذلك أنَّ «فِعَل» بكسر العين إذا كان لازماً فقياسُ الصِّفة منه: «فَعِل» بكسر العين نحو: سَجيَت المرأة فهي سجيَة فإن قصدت المبالغة قيل: سجيَّة، لأنَّ فعيلاً من أمثلة المبالغة فكذلك «بقيَّة وبقِية» أي: بالتَّشديد والتَّخفيف. قال المفسِّرون «بقيَّةُ اللهِ» هي تقواه. قال ابنُ عباسٍ: ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيلِ والوزن خيرٌ ممَّا تأخذونه بالتطفيف. وقال مجاهدٌ: «بقيَّةُ اللهِ» يعنى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 545 طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل؛ لأنَّ منفعة الطَّاعة تبقى أبداص. قوله: {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} قال ابنُ عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وجوابُ هذا الشَّرط متقدِّمٌ» يعنى: على مذهب من يراهُ لا على مذهب جمهور البصريِّين. وإنَّما شرط الإيمان لكونه خيراً لهُمْ؛ لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرِّين بالثَّواب والعقابِ عرفوا أنَّ السَّعي في تحصيل الثَّواب وفي الحذر من العقابِ خير لهم من السَّعي في تحصيل ذلك القليل. والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط؛ فدلَّ ظاهرُ الآية على أنَّ من لم يحترز عن هذا التطفيف لا يكون مُؤمناً. قوله: {وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ} أي: إنِّي نصحتكم، وأرشدتكم إلى الخير، وما عليّ منعكم من هذا الفعل القبيح. وقيل: لمَّا قال لهم: إنَّ البخس والتطفيف يزيل النعم عنكم، وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة؛ قالوا له: {أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ} قرأ حمزةُ والكسائيُّ وحفص عن عاصم، «أصلاتُكَ» بغير واو. والباقون بالواو على الجمع. قوله: {أَوْ أَن نَّفْعَلَ} العامَّةُ على نون الجماعةِ، أو التعظيم في «نَفْعلُ» و «نشاءُ» . وقرأ زيد بنُ عليّ، وابنُ أبي عبلة والضحاك بنُ قيس بتاءِ الخطاب فيهما. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة الأول بالنون والثاني بالتاء، فمن قرأ بالنون فيهما عطفه على مفعول «نَتْرُكَ» وهو «ما» الموصولةُ، والتقدير: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبدُ آباؤنا، أو أنْ نتركَ أن نفعل في أموالنا ما نشاءُ، وهو بخسُ الكيل والوزن المقدَّم ذكرهما. و «أوْ» للتنويع أو بمعنى الواو، قولان، ولا يجوز عطفه على مفعول «تأمُركَ» ؛ لأنَّ المعنى يتغيَّرُ، إذ يصير التقديرُ: أصلواتُك تأمُرك أن تفعل في أموالنا. ومن قرأ بالتاء فيهما جاز أن يكون معطوفاً على مفعول «تأمُركَ» ، وأن يكون معطوفاً على مفعول «نترك» ، والتقديرُ: أصلواتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاءُ أنت، أو أن نترك ما يعبدُ آباؤنا، أو أن نترك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت. ومن قرأ بالنُّون في الأوَّلِ وبالتَّاءِ في الثاني كان: «أن تفعل» معطوفاً على مفعول: «تأمُرُكَ» فقد صار ذلك ثلاثة أقسام، قسمٍ يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول: «نَتْرُكَ» وهي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 546 قراءةُ النُّونِ فيهما، وقسم يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول «تأمُرك» ، وهي قراءةُ النُّون في «نفعلُ» والتاء في «تشاء» ، وقسمٍ يجوزُ فيه الأمْران وهي قراءةُ التاء فيهما. والظَّاهرُ من حيثُ المعنى في قراءة التَّاء فيهما، أو في «تشاء» أنَّ المراد بقولهم ذلك هو إيفاءُ المكيال والميزان؛ لأنه كان يامرهم بهما. وقال الزمخشريُّ: «المعنى: تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأنَّ الإنسان لا يؤمرُ بفعل غيره» . واعلم أنَّ قوله: {أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ} إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد. وقوله: {أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ} إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس. فصل قيل: المرادُ بالصلاة هنا الدِّين والإيمان؛ لأنَّ الصلاة أظهر شعائر الدين؛ فجعلوا ذكر الصَّلاة كناية عن الدِّين. وقيل: أصل الصلاة الاتِّباعُ، ومنه أخذ المصلِّي من خيل المسابقة، وهو الذي يتلو السابق؛ لأنَّ رأسه يكون على صلوي السَّباق، وهما ناحيتا الفخذين، والمعنى: دينُك يأمرك بذلك. وقيل: المرادُ هذه الأفعال المخصوصة، روي أنَّ شُعَيْباً كان كثير الصَّلاةِ، وكان قومه إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكُون، فقصدوا بقولهم: أصلاتُكَ تأمرك السخرية والاستهزاء. {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} . قال ابن عباس: أرادوا السَّفيه الغاوي؛ لأنَّ العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون: للديغ سليم، وللفلاة مفازة. وقيل: قالوه على وجهِ الاستهزاء، كما يقال للبخيل الخسيس «لو رآكَ حاتمٌ، لسجد لك» ، وقيل: الحليم، الرشيد بزعمك. وقيل: على الصِّحَّة أي: إنَّكَ يا شعيبُ فينا حليم رشيد لا يحصل بك شقّ عصا قومك، ومخالفة دينهم، وهذا كما قال قومُ صالح: {قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا} [هود: 62] . قوله: «أَرَأَيْتُمْ» قد تقدَّم مراراً [يونس: 50] . وقال الزمخشريُّ هنا: فإنْ قلت: أين جوابُ «ارأيْتُم» وما له لم يثبتْ كما ثبت في قصَّة نوح، وصالح؟ قلتُ جوابهُ محذوفٌ، وإنَّما لم يثبتْ؛ لأنَّ إثباته في القصتين دلَّ على مكانه، معنى الكلام ينادي عليه، والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة واضحةٍ ويقين من ربِّي ونبيّاً على الحقيقة، أيصحُّ أن لا آمركم بترك عبادةِ الأوثان والكفِّ عن المعاصي، والأنبياءُ لا يبعثُون إلاَّ لذلك؟ . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 547 قال أبُو حيَّان: وتسميةُ هذا جواباً ل «أرَأيتُمْ» ليس بالمصطلح، بل هذه الجملةُ التي قدَّرها في موضع المفعول الثّضاني ل «أرَأَيْتُم» لأنَّ «أرَأَيْتُمْ» إذا ضُمِّنَتْ معنى أخبرني تعدَّت إلى مفعولين، والغالبُ في الثاني أن يكون جملة استفهامية ينعقدُ منها، ومن المفعول الأوَّل في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العربِ: «أرأيتك زيداً ما صنع» وقال الحوفيُّ: «وجوابُ الشَّرط محذوفٌ لدلالة الكلام على تقديره: أأعدلُ عمَّا أنا عليه» . وقال ابنُ عطيَّة: «وجوابُ الشَّرط الذي في قوله:» إنْ كُنتُ «محذوفٌ تقديره أضلُّ كما ضللتُمْ، أو أترك تبليغ الرسالة، ونحو هذا ممَّا يليقُ بهذه المُحاجَّة» . قال أبُو حيان: وليس قوله: «أضَلَّ» جواباً للشَّرط؛ لأنَّه إن كان مثبتاً فلا يمكنُ أن يكون جواباً لأنه لا يترتب على الشَّرط، وإن كان استفهاماً حذف منه الهمزة فهو في موضع المفعول الثاني ل «أرأيْتُمْ» وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ يدلُّ عليه الجملة السَّابقة مع متعلَّقها. فصل المعنى {أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي} بصيرة وبيان من ربِّي {وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً} حلالاً. قيل: كان شعيب كثير المالِ الحلال. وقيل: الرزق الحسنُ: العلم والمعرفة أي: لما أتاني جميع هذه السَّعادات، فهل ينبغي لي مع هذه النعم أن أخُونَ في وحيه، أو أنْ أخالفَ أمره ونهيه، وإذا كان العزّ من الله، والإذلال من الله، وذلك الرزقُ إنَّما حصل من عند الله فأنا لا أبالي بمخالفتكم، ولا أفرحُ بموافقتكم، وإنَّما أكون على تقرير بدين الله وإيضاح شرائعه. قوله: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ} قال الزمخشريُّ: خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده وأنت مُولِّ عنه، وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقولُ: «خالفَنِي إلى الماءِ» ، يريد أنه ذاهب إليه وارداً، وأنا ذاهبٌ عنه صادراً، ومنه قوله تعالى: {وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ} يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتُكم عنها لأستبدَّ بها دُونَكُم. وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ معنى حسنٌ لطيف، ولم يتعرَّض لإعراب مفراداته؛ لأن بفهم المعنى يفهم الإعراب. فيجوزُ أن يكون قوله: «أنْ أخَالِفَكُمْ» في موضع مفعول ب «أُرِيدُ» ، أي: وما أريد مُخالفتكُم، ويكون «فاعل» بمعنى «فعل» نحو: جاوتُ الشَّيء وجُزْته، أي: وما أريد أن أخالفكم، أي: أكون خلفاً منكم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 548 وقوله: {إلى مَآ أَنْهَاكُمْ} يتعلَّق ب «أخَالِفَكُمْ» ، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال، أي: مائلاً إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قدَّر بعضهم محذوفاً يتعلَّقُ به هذا الجارُّ تقديره: وأميل إلى أن أخالفكم، ويجُوزُ أن يكون «أنْ أخالِفكثمُ» مفعولاً من أجله، وتتعلق «إلى» بقوله «أريدُ» بمعنى: وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه. ولذلك قال الزجاج: وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه. ويجوزُ أن يرادَ بأن أخالفكم معناه من المخالفةِ، وتكون في موضع المفعول به ب «أُرِيد» ، ويقدَّر مائلاً إلى. والمعنى: وما أريدُ فيما آمركم به وأنهاكم عنه: {إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت} . قوله: {مَا استطعت} يجوزُ ما «مَا» هذه الوجوه: أحدهما: أن تكون مصدرية ظرفية أي: مدة استطاعتي. والثاني: أن تكون «ما» موصولة بمعنى «الذي» بدلاً من «الإصلاح» والتقديرُ: إن أريدُ إلاَّ المقدارَ الذي أستطيعه من الصَّلاح. الثالث: أن يكون على حذفِ مضاف، أي: إلاَّ الإصلاحَ إصلاحَ ما استطعتُ، وهو أيضاً بدلٌ. الرابع: أنَّها مفعول بها بالمصدر المعرَّف، أي: إنَّ أريدُ إلاَّ أن أصلح ما استطعت إصلاحُه؛ كقوله: [المتقارب] 3006 - ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعداءَهُ ... يَخَالُ الفِرَارَ يُراخِي الأجَلْ ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشريُّ، إلاَّ أنَّ إعمال المصدر المعرَّف قليلٌ عند البصريين، ممنوعٌ إعمالهُ في المفعول به عند الكوفيين، وتقدَّم الجارَّان في «عليهِ» و «إليهِ» للاختصاص أي: عليه لا على غيره، وإليه لا إلى غيره. فصل اعمل أنَّ القوم كانوا قد أقرُّوا إليه بأنَّهُ حليمٌ رشيدٌ؛ لأنَّهُ كان مشهوراً بهذه الصفة، فكأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال لهم: إنَّكُم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلاَّ في الإصلاح وإزالة الفسادِ، فلمَّا أمرتكم بالتَّوحيدِ وترك إيذاء النَّاس؛ فاعلموا أنَّهُ دينٌ حق وأنه لي غرضي منه إيقاع الخصومة، وإثارة الفتنةِ، فأنتُم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق، ولا أسْعَى إلاَّ إلى ما يوجب الصلاح بقدر جهدي وطاقتي، وذلك هو الإبلاغ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 549 والإنذار وأما الإجبارُ على الطَّاعة فلا أقدرُ عليه، ثمَّ أكَّد ذلك بقوله: {وَمَا توفيقيا إِلاَّ بالله} والتوفيق تسيهل سبيل الخير «عليْهِ توكَّلْتُ» اعتدمت «وإلَيْهِ أنيبُ» أرجع فيما ينزله علي من النَّوائِبِ، وقيل: في المَعَادِ. قوله: {لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ} العامَّةُ على فتح ياءِ المضارعة من «جرم» ثلاثيًّا. وقرأ الأعمشُ وابنُ وثابٍ بضمها من «أجرم» وقد تقدَّم [هود 22] أنَّ «جَرَمَ» يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل: كسب، فيقال: جَرَمَ زيدٌ مالاً نحو: كَسَبَهُ، وجرمْتُه ذَنْباً، أي: كسبته إياه فهو مثلُ كسب؛ وأنشد الزَّمشري على تعدِّية لاثنين قوله: [الكامل] 3007 - ولَقَدْ طَعَنْتُ أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً ... جَرَمَتْ فَزارضةُ بعدهَا أنْ يَغْضَبُوا فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول. والثاني: هو «أنْ يصيبكُم» أي: لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابة العذاب وقد تقدًَّم أنَّ جَرَمَ وأجْرم بمعنى، أو بينهما فرق. ونسب الزمخشريُّ ضمَّ الياءِ من أجرم لابن كثير. والعامَّةُ أيضاً على ضمِّ لام «مِثْلُ» رفعاً على أنَّه فاعل «يُصِيبَكُم» وقرأ مجاهدٌ والجحدريُّ بفتحها وفيها وجهان: أحدهما: أنَّها فتحةُ بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة، وإنَّما بُني على الفتح؛ لإضافته إلى غير متمكن؛ كقوله تعالى: {إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} [الذاريات: 23] وكقوله: [البسيط] 3008 - لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أنْ نَطَقَتْ ... حضمَامَةٌ في غُصُونٍ ذاتِ أوْقَالِ وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدة في الأنعام [الأنعام: 94] . والثاني: أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة لإعراب، والفاعل على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام، أي: يصيبكم العذاب إصابة مثل ما أصاب. فصل والمعنى: لا يكسبنكم «شِقَاقِي» خلافي: «أنْ يُصِيبكم» عاب الاستئصال في الدنيا « الجزء: 10 ¦ الصفحة: 550 مِثْلُ ما أصَابَ قوم نُوح» من الغرقِ، وقوم هود من الريح، وقوم صالح من الصَّيْحة والرَّجْفةِ، وقوم لوط من الخسْفِ. قوله: {وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ} أتى ب «بَعِيد» مفراداً وإن كان خبراً عن جمع لأحد أوجهٍ: إمَّا لحذف مضاف تقديره: وما إهلاك قوم، وإمَّا باعتبار زمانٍ، أي: بزمانً بعيد، فإنَّ إهلاك قوم لُوط أقرب الإهلاكات التي عرفها النَّاس في زمان شعيب، وإمَّا باعتبار مكان، أي: بمكان بعيد؛ لأنَّ بلاد قوم لوطٍ قريبة من مدين، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرهمان أي: بشيءٍ بعيد، كذا قدّره الزمخشريُّ، وتبعه أبو حيَّان، وفيه إشكالٌ من حيثُ إنَّ تقديرهُ بزمانٍ يلزم منه الإخبارُ بالزَمان عن الجُثَّةِ. وقال الزمخشريُّ أيضاً ويجوز أن يُسَوِّي في «قَرِيب» و «بَعِيد» و «قَلِيل» و «كَثير» بين المذكِّر والمؤنَّث لورودها على زنةِ المصادر التي هي كالصَّهيل، والنَّهيق ونحوهما. ثم قال: {واستغفروا رَبَّكُمْ} أي: من عبادة الأوثان، ثُمَّ تُوبُوا إلى الله - عزَّ وجلَّ من البَخْس والنُّقصان {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ} بأوليائه: «وَدُودٌ» الوَدُود: بناءُ مبالغة من ودَّ الشيء يوَدُّدُ وُدًّا، وودَاداً، ووِدَادَةً ووَدَادَةً أي: أحبًّه وآثره. والمشهورُ «وَدِدْت» بكسر العين، وسمع الكسائي «وَدَدْت» بفتحها، والوَدُودُ بمعنى فاعل أي: يَوَدّ عباده ويرحمهم. وقيل: بمعنى مفعولٍ بمعنى أنَّ عبادهُ يحبُّونه ويُوادُّون ألياءهُ، فهم بمنزلة «المُوادِّ» مجازاً. قال ابنُ الأنباري: الوَدُودُ - في أسماءِ الله تعالى - المُحِبُّ لعبادِهِ، من قولهم: وَدِدْتُ الرَّجُلَ أوَدُّهُ. قال الأزهريُّ - في «شرح كتاب أسماء الله الحسنى» -: ويجوزُ أن يكون «وَدُوداً فعُولاً بمعنى مفعول، أي: إنَّ عبادهُ الصَّالحين يودونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق. قال ابن الخطيب: واعلم أنَّ هذا التَّرتيب الذي رعاه شعيبٌ في ذكره الوجوه الخمسة ترتيبٌ لطيفٌ. لأنَّهُ ذكر أولاً أنَّ ظهور البيِّنةِ له وكثرة الإنعام عليه في الظَّاهر والباطن يمنعه من الخيانة في وحي الله، ويصده عن التَّهاون في تبليغه. ثم بيًَّن ثانياً أنَه مواظب على العمل بهذه الدَّعوة، ولو كانت باطلةً لما اشتغل هو بها مع اعترافهم بكون حَلِيماً رشيداً. ثم بيَّن صحته بطريق آخر، وهو أنَّه كان معروفاً بتحصيل موجبات الصلح، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 551 والصَّلاح وإخفاء موجبات الفتنِ، فلو كانت هذه الجعوة باطلة لما اشتغل بها، ثمَّ لمَّا بيَّن صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال: لا تحملكم عداوتي على مذهبٍ ودين تقعُون بسببه في العذاب الشَّديد من الله، كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين، ثم إنََّه لمَّا صحَّح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولاً وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله: {ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ} ثم بيَّن لهم أنَّ سبق الكفر والعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم ن الإيمان والطَّاعة؛ لأنَّه تعالى رحيمٌ ودودٌ يقبلُ الإيمان من الكافر والفاسق؛ لأنَّ رحمته بعباده وحبه لهم يوجبُ ذلك، وهذا تقرير في غاية الكمال. قوله: {قَالُواْ ياشعيب مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ} . قيل: المعنى: ما نفقه كثيراً ممَّا تقولُ؛ لأنَّهُم كانوا لايلقون إليه أفهامهم لشدَّة نفورهم من كلامه، كقوله: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 25] وقيل: إنَّهم فهموه، ولكنَّهم ما أقامُوا له وزناً، فذكروا هذا الكلام على سبيل الاستهانة، كقول الرَّجل لمنْ لم يعْبَأ بحديثه: ما أدري ما تقولُ. وقيل: ما ندري حصة الدَّليل الذي ذكرته على صحَّةِ التوحيد والنُّبوةِ والبعث، وما جيبُ من ترك الظُّلمِ والسرقة. فصل استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الفقه: اسمٌ لعلم مخصوص، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه؛ لأنه أضاف الفقه إلى القولِ، ثم صار اسماً لنوع مُعيَّن من علوم الدين، وقيل: إنَّه اسم لملطلق الفهم، يقال: اوتي فلانٌ فقهاً في الدِّين، أي: فَهْماً. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ» أي: يفهمه تأويله. ثم قال: {وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً} قيل: الضَّعيفُ الذي تعذر عليه منعُ القوم عن نفسه. وقيل: هو الأعمى بلغة حمير وهذا ضعيفٌ؛ لنه ترك للظاهر بغير دليل، وأيضاً فقوله: «فِينَا» يُبءطل هه الوجوه؛ لأنَّهم لو قالوا: إنَّا لنراك أعْمَى فِينَا كمان فاسداً؛ لأنَّ الأعمى أعْمَى فيهم وفي غيرهم، وأيضاً قولهم بعد ذلك «ولَوْلاَ رهْطُكَ لرجَمْناكَ» فنفوا عنه القُوَّة التي أثبتوها في رهطه وهي النُّصرة؛ فوجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النُّصرة. واستدلّ بعضُ العلماءِ بهذه الآية على تجويزِ العمى على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -. وذلك اللَّفظ لا يدلُّ عليه، لما بيَّناه. قال بعضُ المعتزلةِ: لا يجوزُ العَمَى على الأنبياء، فإنَّ الأعْمَى لا يمكنه التَّجوز عن الجزء: 10 ¦ الصفحة: 552 النَّجاسات، ولأنه يخل بجواز كونه حاكماً وشاهداً؛ فلأنْ يُمْنَع من النبوَّةِ أوْلَى. قوله: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} جماعةُ الرجل. وقيل: الرَّهْط والرَّاهط لما دُون العشرة من الرَّجالِ، ولا يقعُ الرَّهْطُ، والعَصَب، والنَّفَر، إلاَّ على الرِّجالِ. وقال الزمخشريُّ: «من الثَّلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى السِّبعةِ» ، ويجمع على «أرْهُط» و «أرْهُط» على «أرَاهِط» ؛ قال: [مجزوء الكامل] 3009 - يا بُؤسَ لِلْحَرْبِ الَّتِي ... وَضَعَتْ أرَاهِطَ فاسْتَراحُوا قال الرُّمَّانِيُّ: وأصلُ الكلمة من الرَّهْط، وهو الشدُّ، ومنه «التَّرْهيطُ» وهو شدَّة الأكل والرَّاهِطَاء اسم لجحر من جِحَرة اليَرْبُوع؛ لأنَّه يتوثَّقُ به ويَحْيَا فيه أولاده. فصل المعنى: ولولا حرمة رهطك عندنا لكونهم على ملتنا لرجمناك. والرَّجْمُ في اللغة: عبارة عن الرّمي، وذلك قد يكونُ بالحجارة عند قصد القتل، ولمَّا كان هذا الرَّجم سبباً للقتل سموا القتل رَجْماً، وقد يكون بالقول الذي هو القَذْفُ كقوله تعالى: {رَجْماً بالغيب} [الكهف: 22] وقوله: {وَيَقْذِفُونَ بالغيب} [سبأ: 53] ، وقد يكُونُ بالشَّتم واللعن، ومنه الشيطان الرجيم، وقد يكون بالطرد، قال تعالى: {رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] فعلى هذه الوجوه يكون المعنى: لقتلناك، أو لشتمناك وطردناك. قوله: {وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} قال الزمخشريُّ «وقد دلّ إيلاءُ ضميره حرف النَّفي على أنَّ الكلام واقعٌ في الفاعل لا في المفعول كأنَّهُ قيل: وما أنت بعزيز علينا بل رَهْطُك هم الأعزَّة علينا؛ فلذلك قال في جوابهم:» أرَهْطي أعزُّ عليْكُم مِنَ اللَّهِ «ولو قيلَ:» ومَا عَزَزْتَ عليْنَا «لم يصحَّ هذا الجوابُ» . والمعنى: أنك لمَّ لمْ تكن علينا عزيزاً، سهل علينا الإقدامُ على قتلك وإيذائك. واعلم أنَّ الوجوه التي ذكروها ليست مانعةً لما قرره شعيبٌ من الدَّلائل، بل هي جارية مجرة مقابلة الدلي والحدة بالشتم والسَّفاهة. قوله: {ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله واتخذتموه وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً} اعمل أنَّهم لمَّا خوَّفُوه بالتقتل، وزعمُوا أنهم إنَّما تركوا قتله رعاية لجانب قومه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 553 قال: أنتم تزعمون أنَّكم تركتم قَتْلي إكارماً لرَهْطِي، فالله تعالى أولى أنْ يتبع أمرهُ، أي: حفظكم إيَّاي رعاية لأمر الله أولى من حفظكم إيَّاي رعياة لحقِّ رهطي. قوله: {واتخذتموه} يجوزُ أن تكون المتعدية لاثنين. أوهما: «الهاء» والثاني: «ظِهْرِيًّا» ويجوز أن يكون الثاني هو الظَّرفُ و «ظِهْريًّا» حالٌ، وأن تكون المتعدية لواحدة؛ فيكون «ظِهْرِيًّا» حالاً فقط. ويجوز في «وَراكُم» أن يكون ظرفاً للاتخاذ، وأن يكون حالاً من ظِهْريًّا «، والضمير في» اتِّخَذْتُمُوهُ «يعودُ على الله؛ لأنَّهم يجهلون صفاته، فجعلوه أي: جعلوا أوامره ظِهْريًّا، أي: منبوذةً وراء ظهورهم. والظَّهْرِيُّ: هو المنسوبُ إلى» الظَّهْر «والكسر من تغييرات النسب كقولهم في النسبةِ إلى» أمْس «،» وإمْسِيّ «بكسر الهمزة، وإلى الدَّهْر: دُهْرِيّ بضم الدَّالِ. وقي: الضَّميرُ يعودُ على العصيان، أي: واتخذتم العصيان عوناً على عداوتِي، فالظَّهْرِيُّ على هذا بمعنى المُعين المُقَوِّي. ثم قال: {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} أي: عالم بأحوالكم، فلا يخفى عليه شيء منها. قوله تعالى : {وياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} الآية. المكانةُ: الحالةُ التي يتمكن بها صاحبها من عمله، أي اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة، وكل ما في وسعكم، وطاقتكم من إيصال الشر إليَّ فإني أيضاً عاملٌ بقدر ما آتانِي الله من القدرة. «سَوْفَ تَعْلَمُونَ» أيُّنا الجاني على نفسه، والمخطي في فعله. قوله: {مَن يَأْتِيهِ} تقدَّم نظيرهُ في قصة نوح. قال ابنُ عطيَّة - بعد أن حكى عن الفرَّاء أن تكون موصولة مفعولةً ب «تَعْلَمُون» -: «والأوَّلُ أحسنُ» ثم قال: «ويقْضَى بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة» . وهي قوله: {وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ} . قال أبُو حيَّان: «لا يتعيَّن ذلك، إن من الجائزِ أن تكون الثَّانية استفهاميَّة أيضاً معطوفةً على الاستفهاميَّة قبلها، والتقديرُ: سوف تعلمُونَ أيُّنَا يأتيه عذابٌ، وأيُّنَا هو كاذبٌ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 554 قال الزمخشريُّ: فإن قُلت: أيُّ فرقٍ بين إدخالِ الفاءِ ونزعها في «سَوْفَ تَعْلَمُونَ» ؟ . قلت: إدخالُ الفاءِ وصلٌ ظاهرة بحرفٍ موضوع للوصل، ونزْعُهَا وصلٌ خفيُّ تقديريٌ بالاستئناف الذي هو جوابٌ لسُؤالٍ مقدَّر كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحنُ على مكانتنا، وعملت أنت عما مكانتك؟ فقيل سوف تعلمُون، فوصل تارةً بالفاءِ، وتارةً بالاستئناف للتَّفنُّن في البلاغةِ، كما هو عادةُ البُلغاءِ من العربِ، وأقوى الوصلين وأبلغُهُما الاستئنافُ «. ثم قال: {وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} أي: وانتظرُوا العذاب إنّي معكُم منتظرٌ. والرقيب: بمعنى الرَّاقب من رقبه كالضَّريب والصَّريم بمعنى الضَّارب والصَّارم، أو بمعنى المراقب، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمترفع. قوله تعالى: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} الآية. قال الزمخشريُّ: فإن قتل: ما بالُ ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو، والسَّاقتان الوسطيان بالفاءِ؟ قلت: قد وقعت الوسيطان بعد ذكر الوعدِ، وذلك قوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} [هود: 81] {ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ} [هود: 65] فجاء بالفاء التي للتسبُّب كما تقولُ:» وعدته فلما جاء المعيادُ كان كَيْتَ وكَيْتَ «، وأمَّا الأخريان فلم تقعا بتلك المنزلة، وإنَّما وقعتا مبتدأتين فكان حقُّهما أن تعطفها بحرف الجمع على ما قبلهما، كما تُعطفُ قصةٌ على قصَّةٍ» . قوله: {نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} . روى الكلبي عن ابن عبَّاس قال: لَمْ يُعذب الله أمتين بعذاب واحدٍ إلاَّ قوم شعيب وقوم مصالح، فأمَّا قوم صالح؛ فأخذتم الصحيةُ من تحتهم، وقوم شعيبٍ أخذتهم من فوقهم. وقوله: {وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} يحتملُ أن يكون المرادُ منه، ولما جاء وقت أمرنا ملكاً من الملائكة بتلك الصَّيْحة، ويحتمل أن يكون المرادُ من الأمر العذاب، وعلى التدقرين فأخبر الله أنّه نجَّى شُعَيْباً ومن معه من المؤمنين. وفي وله: {بِرَحْمَةٍ مِّنَّا} وجهان: الأول: أنَّه تعالى إنَّما خلَّصه من ذلك العذاب لمحض رحمته، تنبيهاً على أنَّ كلَّ ما يصل إلى العبد ليس إلاَّ بفضلِ الله ورحمته. والثاني: أنَّ المراد من الرَّحمةِ الإيمان والطَّاعة وهي أيضاً وهي أيضاً ما حصلت إلاَّ بتوفيق الله. ثم قال: {وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ} وعرَّف «الصَّيحة» بالألف واللاَّم إشارة إلى المعهود السَّابق وهي صيحةُ جبريل {فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ} تقدم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 555 الكلام على ذلك [هود: 67، 68] وإنَّما ذكر هذه اللفظة، وقاس حالهم على ثمود؛ لأنه تعالى عذَّبهم بمثل عذاب ثمود. قوله: {كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ} العامَّةُ: على كسر العين من «بَعِدَ يَبْعَد» بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك؛ قال: [الطويل] 3010 - يقُولُون لا تَبعَدوَهُم يَدْفنُونهُ ... ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُواري الصَّفَائِحُ أرادت العربُ أن تفرقَ بين المعنيين بتغيير فقالوا: «بَعْد» بالضمِّ ضد القرب، و «بَعِد» بالكسر ضد السَّلامة، والمصدرُ البَعَدُ بالفتح في العين. وقرأ السُّلمي وأبو حيوة «بَعْدت» بالضم أخذه من ضدِّ القرب؛ لأنَّهُم إذا هلكوا فقد بعدوا، ومن هذا قولُ الشَّاعر: [الكامل] 3011 - مَنْ كَانَ بَيْنَكَ في التُّرابِ وبَيْنَهُ ... شِبْرانِ فهُوَ بغايةِ البُعْدِ وقال النَّحَّاسُ: المعروفُ في اللغةِ: بَعِدَ يَبْعَد بَعَداً وبُعْداً، وإذا هلك، وبَعْد يَبْعُدُ في ضدِّ القُرْب. وقال ابنُ قتيبة: بَعِدَ يَبْعد إذا كان بعده هلكهة، وبَعُد يَبءعُد إذا نأى فهو موافقٌ للنحاس. وقال المهدوي: «بَعُد» يستعمل في الخَيْرِ والشّر، و «بَعِد» في الشرِّ خاصة. وقال ابنُ الأنباري: مِنَ العرب مَنْ يُسَوِّي بين الهلاكِ والبُعْدِ والذي هو ضدُّ القرب، فيقولُ فيهماك بَعُدَ يَبْعثدُ، وبَعِدَ يَبْعَدُ؛ وأنشدوا قول مالكٍ: [الطويل] 3012 - يقُولُونَ لا تَبْعَدْ وهُمْ يَدْفِنُونِني ... وأيْنَ مَكَانَ البُعْدِ إلاَّ مَكَانِيَا قيل: يروى «لا تَبْعُدْ» بالوجهين. وفي هذه الآية نوعٌ من علم البيان يسمَّى الاستطراد، وهو أن تمدحَ شيئاً أوتذُمَّه، ثم تأتي آخر الكلام بشيءٍ هو غرضكَ في أوَّلِه، قالوا: ولم يَأتِ في القرآن غيره، وأنشدوا في ذلك قول حسان: [الكامل] 3013 - إنْ كُنْتِ كاذِبَة الذي حَدَّثْتِنِي ... فَنَجَوْتِ مَنْجى الحَارِثِ بن هشام تَرَك الأحِبَّةَ أن يَقاتِلَ دونَهُمْ ... ونَجَا بِرَأسِ طِمِرَّة ولِجَامِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 556 قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ} القصة. قيل: المراد ب «الآيات» التَّوارة مع ما فيها من الشَّرائع والأحكام، ومن السُّلطان المبين المعجزات الباهرةِ. وقيل: المرادُ ب «الآيات» المعجزات، وبالسُّلطانِ الحجَّة كقوله: {إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ} [يونس: 68] وقوله: و {مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [يوسف: 40] وقيل: المرادُ بالسلطان المبين: العصا؛ لأنَّها أبهرُ الآيات، وذلك أنَّ الله تعالى أعطى موسى تسع آيات بينات، وهي: العصا، واليدُ البيضاءُ، والطُّوفان، والجرادُ والقُمَّلُ، والضَّفادعُ، والدمُ ونقصٌ من الثمرات والأنفس، ومنهم من أبدل نقص الثمرات والأنفس بإظلال الجبل وفلق البحر واختلفوا في تسمية الحُجَّة بالسلطان، فقيل: لأنَّ صاحب الحُجَّة يقهر من لا حجَّة له عند النَّظر كما يقهر السُّلطان غيره. وقال الزَّجّاج: السُّلطان هو الحُجَّةُ، وسُمِّي السلطان سلطاناً؛ لأنه حُجَّة الله في أرضه، واشتقاقه من السَّليط الذي يُستضاء به، ومنه قيل للزَّيت السَّليط. وقيل: مشتقٌ من التَّسليط، والعلماءُ سلاطين بسبب كمالهم في القُوَّةِ العلميَّةِ، والملوك سلاطين بسبب قدرتهم ومكنتهم، إلاَّأنَّ سلطنة العلماءِ أكمل، وأبقى من سلطنة الملوك؛ لأنَّ سلطنة العلماءِ لا تقبل النَّسخ والعَزْل، وسلطنة الملوك تقبلهما، وسلطنة العلماء من جنس سلطنة الأنبياء وسلطنة الملوك من جنس سلطنة الفراعنةِ، وسلطنة الملوك تابعة لسلطنة العلماء. فإن قيل: إذا حملتم الآيات على المعجزات والسُّلطان على الدَّلائل، ولامُبين أيضاً معناه كونه سبباً للظهورن فما الفرقُ بين هذه المراتبِ الثَّلاثِ؟ . فالجوابُ: أنَّ الآيات اسم للقدر المشترك بين العلامات التي تفيد الظَّنْ، وبين الدَّلائل التي تفيد اليقينَ، وأمَّا السُّلطانُ فهو اسمٌ لما يُفيد القطع واليقين. وكانت معجزةُ موسى هكذا، فلا جرم وصفها الله تعالى بأنَّها سلطانٌ مبين. ثم قال: {إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي: جماعته. {فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْن} قيل: أمره إياهم بالكفر بموسى، وقيل: الأمر الطريق. ثم قال: {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي: بمُرشدٍ إلى خيرٍ. وقيل: ذو رشد؛ لأنَّهُ كان دهريًّا نافياً للصَّانع وللمعاد، فلهذا كان خالياً عن الرشد بالكليَّةِ. ثم وصفه فقال: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة} يقالُ: قدمَ فلانٌ فلاناً بمعى تقدَّمهُ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 557 ومنه قادمة الرَّجُل كما يقالُ: قدَّمهُ بمعنى تقدَّمهُ، ومنه: مقدَّمة الجيش. والمعنى: أنَّ فرعون كان قُدوةً لقومه في الضَّلال حال ما كانوا في الدنيا، وكذلك مقدمهم إلى النَّار، وهم يتبعونه ويجُوزُ أن يكون معنى قوله: {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} أي: وما أمره بصالحٍ حميد العاقبةِ، ويكون قوله: «يَقْدمُ قومُه» تبييناً لذلك وإيضاحاً، أي: كيف يكون أمره رشيداً مع أنَّ عاقبته هكذا؟ . قوله: {فَأَوْرَدَهُمُ} يجوزُ أن تكون هذه المسألةُ من باب الإعمال، وذلك أنَّ «يقدمُ» يصلح أن تسلَّط على «النَّارِ» بحرف الجر، أي: يقدمُ قومه إلى النَّار، وكذا: «أوْرَدهُم» يصحُّ تسلّثطه عليها أيضاً، ويكون قد أعمل الثاني للحذفِ من الأوَّل، ولو أعمل الأوّل لتعدَّى ب «إلى» ولأضمر في الثاني، ولا محلَّ ل «أوْرَدَ» لاستئنافه، وهو ماضٍ لفظاً مستقبلٌ معنى؛ لأنَّهُ عطف على هو نص في الاستقبال. والهمزةُ في «أوْرَدَ» للتعدية؛ لأنَّه قبلها يتعدَّى لواحدٍ، قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} [القصص: 23] . وقيل: أوقع المستقبل بلفظ الماضي هنا لتحققه. وقيل: بل هو ماض على حقيقته، وهذا قد وقع وانفصل وذلك أنَه أوردهم في الدُّنيا النَّار. قال تعالى: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46] وقيل: أوردهم موجبها وأسبابها، وفيه بعدٌ لأجْلِ العطف بالفاءِ. والوِرْد: يكون مصدراً بمعنى الوُرُود، ويكون بمعنى الشيء المُورَد كالطِّحن والرِّعي. ويُطلق ايضاً على الواردِ، وعلى هذا إنْ جعلت الورد مصدراً أو بمعنى الوارد فلا بدَّ من حذفِ مضاف تقديرهُ: وبئس مكانُ الورد المورود، وهو النَّارُ، وإنَّما احتيج إلى هذا التقدير؛ لأنَّ تَصَادُقَ فاعل «نِعْمَ» و «بِئْسَ» ومخصوصهما شرطٌ، لا يقال: نِعْمَ الرَّجُلُ الفرس. وقيل: بل المورود صفة للوردِ، والمخصوصُ بالذَّمِّ محذوفٌ تقديره: بئس الوردُ المورود النَّارُ، جوَّز ذلك أبُو البقاءِ، وابنُ عطيَّة، وهو ظاهر كلام الزمخشري. وقيل: التقديرُ: بئس القومُ المورودُ بهم هم، فعلى هذا «الورد» المرادُ به الجمعُ الواردُون، قال تعالى: {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً} [مريم: 86] والمورود صفةٌ لهم، والمخصوصُ بالذَّمِّ الضميرُ المحذوف وهو «هم» ، فيكونُ ذلك للواردين لا لموضع الورد كذا قالهُ أبو حيَّان وفيه نظرٌ من حيث إِنَّه: كيف يراد بالورد الجمع الواردُون، ثم يقولُ: والمورودُ صفةٌ لهم؟ . وفي وصف مخصوص «نِعمَ» و «بِئْسَ» خلافٌ بين النَّحويين منعه ابن السَّراج وأبو علي. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 558 قال الواحديُّ: لفظ «النار» مؤنث، ينبغي أن يقال: وبئست الورد المورود، إلاَّ أنَّ لفظ «الورد» مذكر؛ فكان التَّذكيرُ والتَّأنيثُ جائزين، كما تقولُ: نعم المنزلُ دارك، ونعمت المنزل دارك، فمن ذكَّر عن المنزل ومن أنَّث عن الدَّار. فصل والمعنى: أدخلهم النَّار وبئس المدخلُ المدخولُ؛ وذلك لأنَّ الورد إنَّما يراد لتسكين العطش وتبريد الأكباد، والنَّار ضدُّه. ثم قال: {وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً} أي: أنَّ اللَّعن من الله، والملائكة، والأنبياء ملتصقٌ بهم في الدُّنيا والآخرة لا يزولُ عنهم، كقوله: {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين} [القصص: 42] . ثم قال: {بِئْسَ الرفد المرفود} والكلامُ فيه كالذي قبله. وقوله: {وَيَوْمَ القيامة} عطفٌ على موضع «في هَذِه» والمعنى: أنَّهُم ألحِقُوا لعنةً في الدُّنيا وفي الآخرة، ويكونُ الوقف على هذا تامًّا، ويبتدأ بقوله «بِئْس» . وزعم جماعةٌ أنَّ التَّقسيم: هو أنَّ لهم في الدُّنيا لعنةً، ويوم القيامةِ بِئْس ما يرفدُون به، فهي لعنةٌ واحدةٌ أولاً، وقبح إرفاد آخراً. وهذا لايصحُّ؛ لأنه يُؤدّي إلى إعمال «بِئْسَ» فيما تقدم عليها، وذلك لا يجُوزُ لعدم تصرُّفها؛ أمَّا لو تأخَّر لجاز؛ كقوله: [الكامل] 3014 - ولَنْعْمَ حَشْوُ الدِّرْعِ أنتَ إذَا ... دُعِيِتْ نَزالِ ولُجَّ في الذُّعْر وأصلُ الرِّفْد كمال قال الليثُ: العطاءُ والمعونةُ، ومنه رفاده قريش، رَفَدْتُه أرْقِدهُ رِفْداً بكسر الرَّاء وفتحها: أعْطَيته وأعنته. وقيل بالفت مصدر، وبالكسر اسم، كأنَّهُ نحو: الرِّعْي والذِّبْح ويقال: رفَدْت الحائِطَ، أي: دَعَمْتُه، وهو من معنى الإعانةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 559 قوله: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ} الآية. «ذلك» إشارة إلى الغائبِ، والمرادُ منه ههنا الإشارة إلى القصص المتقدمة، وهي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 559 حاضرة إلاَّ أنَّ الجواب عنه تقدَّم في قوله: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] . ولفظ «ذلك» إشارة إلى الواحد والجماعة، كقوله: {لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] . ويحتمل أن يكون ذلك الذي ذكرناهُ هو كذا وكذا. قال الزمخشريُّ: «ذلك» مبتدأ، و «نقُصُّهُ عليْكَ» خبرٌ بعد خبر، أي ذلك المذكور بعض أنباء القرى مقصوص عليك وقال شهابُ الدِّين: يجُوزُ أن يكون «نَقُصُّه» خبراً و «مِنْ أنباء» حال، ويجوزُ العكسُ، قيل: وثمَّ مضافٌ محذوف، أي من أنباءِ أهل القرى، ولذلك أعاد الضمير عليهم في قوله: «ومَا طَلمْنَاهُم» . ثم قال: ويجُوزُ في «ذلك» أوجه: أحدهما: أنَّه مبتدأ كما تقدم [هود: 49] . والثاني: أنَّهُ منصوبٌ بفعلٍ مقدر يفسِّره «نَقُصُّه» فهو من باب الاشتغال، أي: نقُصُّ ذلك في حال كونه من أنباء القرآن وقد تقدَّم في قوله: {ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ} [يوسف: 44] أوجه، وهي عائدةٌ هنا. قوله: {مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} «حصيدٌ» مبتد محذوفُ الخبر، لدلالة خبر الأوَّلِ عليه، أي: ومنها حصيد، وهذا لضرورة المعنى. و «الحَصِيدُ» بمعنى المحصودِ، وجمعه: حَصْدَى وحِصَادٌ مثل: مريضٌ ومَرْضَ ومِرَاضٌ، وهذا قول الأخفشِ، ولكن باب «فَعِيل» ، و «فَعْلَى» أن يكون في العقلاء؛ نحو: قَتِيل وقَتْلَى. والضميرُ في «مِنْهَا» عائدٌ على القرى، شبه ما بقي من آثار القرى وجدارنها بالزرع القائم على ساقة، وما عقا منها وبطل بالحصيد. والمعنى: أنَّ تلك القرى بعضها بقي منه شيء وبعضها هلك وما بقي منه أثر ألبتَّة. قال بعضُ المفسرين: القائمُ: العامر، والحصيدُ: الخرابُ: وقيل: القائمُ ما بقيت حيطانه، وسقطت سقوفهن وحصيد: انمحى أثره. وقال ماقتلٌ: قائم يرى له أثر، وحصيد لا يرى له أثر. ثم قال: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ} بالعذاب والإهلاك: {ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ} بالكُفْر والمعصية وقيل: الذي نزل بالقوم ليس بظلم من الله، بل هو عدلٌ وحكمةٌ؛ لأنَّ القوم أولاً أنفسهم بإقدامهم على الكفر والمعاصي، فاستوجبوا بتلك الأعمالِ من الله العذاب. وقال ابن عباس: وما نقصناهم في الدنيا من النعم والرزق، ولكن نُقِصُوا حظ أنفسهم حيثُ استخفُّوا بحقوقِ الله تعالى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 560 {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ التي يَدْعُونَ مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ} أي: ما نفعتهم تلك الآلهة في شيء ألبتة. قوله: {لَّمَّا جَآءَ أَمْرُ رَبِّكَ} أي: عذاب ربك. قال الزمخشريُّ: «لمَّا» منصوب ب «أغْنَتْ» وهو بناءً منه على أنَّ «لمَّا» ظرفية. والظَّاهر أنَّ «مَا» نافية، أي: لم تُغْن. ويجوز أن تكون استفهاميةً، و «يَدْعُونَ» حكاية حال، أي: التي كانُوا يدعُون، و «مَا زادُهُمْ» الضًَّميرُ المرفوع للأصنام، والمنصوبُ لعبدتها وعبَّر عنهم بواو العقلاء؛ لأنهم نزَّلُوهم منزلتهم. والتَّتبِيْتُ: التَّخسيرُ، يقالُ: تبَّ الرجلُ غيره إذا أوقعه في الخسران. يقال تَبَّبَ غيره وتبَّ هو بنفسه، فيستعمل لازماً ومتعدياً، ومنه «تَبَّتْ يدا أبيِي لهبٍ وتبَّ» . وتَبَّيْتُهُ تَتْبِيباً، أي: خسَّرته تَخْسِيراً قال لبيدٌ: 3105 - ولقَدْ بَلِيتُ وكُلُّ صاحبِ جدَّةٍ ... لِبِلًى يعُودُ وذاكُمُ التَّتْبِيبُ وقيل: التَّتْبيب: التَّدْمير. والمعنى: أنَّ الكفار يعتقدون في الأصنام أنها تنفعُ وتدفع المضار، ثم أخبر أنَّهُم عند الحاجِة إلى المُعين ما وجدُوا فيها شيئاً لا جلب نفعٍ، ولا دفع ضرٍر، وإنَّما وجدُوا ضدَّ ذلك، وهذا أعظم الخسران. قوله: {وكذلك} خبرٌ مقدَّم، و «أخْذُ» مبتدأ مؤخر، والتقدير: ومثلُ ذلك الأخْذِ أي: أخْذِ الله الأمم السَّالفة أخذُ ربك. و «إذا ظرفُ متحِّض، ناصبه المصدر قبله، وهو قريبٌ من حكاية الحالِ، والمسألةُ من بابِ التنازع فإنَّ الأخذ يطلب» القُرَى «، و» أخْذ «الفعل أيضاً يطلبها، وتكون المسألة من إعمال الثاني للحذف من الأوَّلِ. وقرأ عاصمٌ وأبو رجاء والجحدريُّ» أَخَذَ ربك، إذا أخذَ «جعلهُما فعلين ماضيين، و» رَبُّك «فاعل وقرأ طحلةُ بن مصرف كذلك إلاَّ أنَّهُ ب» إذَا «. قال ابن عطيَّة وهي قراءةٌ متمكنة المعنى، ولكن قراءة الجماعةِ تُعْطِي الوعيد، واستمراره في الزَّمانِ، وهوالباب في وضع المستقبل موضع الماضي. وقوله:» وهِيَ ظالمةٌ «جملةٌ حاليّة. والضميرُ في» وهِيَ ظالمةٌ «عائد إلى القُرَى، وهو في الحقيقة عائد إلى أهلها، كقوله: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} [الأنبياء: 11] {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا} [القصص: 58] . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 561 ثم لمَّا بيَّن كيفية أخذ الأمم الظَّالمة أكَّده بقوله: {إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} فوصف ذلك العذاب بالإيلامِ وبالشدَّةِ. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 562 ثم قال: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} قال القفال: تقرير الكلام أن يقال: إنَّ هؤلاء إنَّما عذبُوا في الدُّنيا لتكذيبهم الأنبياء، وإشراكهم بالله، فإذا عُذِّبوا في الدُّنيا على ذلك وهي دارُ العملِ، فلأنْ يُعذَّبُوا عليه في الآخرة التي هي دارُ الجزاءِ، كان أولى. وهذا قولُ كثير من المفسِّرين. قال ابنُ الخطيب: وعلى هذا الوجه الذي ذكره القفالُ يكونُ ظهور عذاب الاستئصال في الدُّنيا دليلاً على أنَّ القول بالقيامة والبعث حقٌّ، وظاهرُ الآية يقتضي أنَّ العلم بأنَّ القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بعذاب الاستئصال، وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال؛ لأنَّ القفال يجعل العمل بعذابِ الاستئصال أصلاً للعلم بأنَّ القيامة حق؛ فبطل ما ذكره القفالُ، والأصوبُ عندي أن يقال: العلم بأنَّ القيامة حق موقوف على العلم بأنَّ لوجود السموات والأرض فاعل مختار لا موجب بالذَّاتِ، وما لم يعلم الإنسان أنَّ إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكمنات، وأنَّ جميع الحوادث الواقعة في السموات والأرض لا تحصلُ إلا بتكوينه وقضائه، لا يمكنه أن يعتبر بعذابِ الاسئصال؛ لأنَّ الذين يذهبون إلى انَ المؤثَر في وجود هذا العالم موجبٌ بالذَّات، لا فاعلٌ مختارٌ، يزعمون أنَّ هذه الأحوال التي ظهرت في أيَّام الأنبياء؛ كالغرق، والخسق، والمسخ، والصَّيْحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب وإيصال بعضها ببعض، وإذا كان الأمرُ كذلك، فحينئذٍ لا تكون حصولها دالاًّ على صدق الأنبياء. فأما المؤمن بالقيامة؛ فلا يتم له ذلك الإيمانُ إلا إذا اعتقد أنَّ إله العالم فاعل مختار، وأنه عالمٌ بجمعي الجزيئات، وإذا كذلك لزم القطعُ بأن حدوث هذه الوقائع العظيمة إنَّما كان بسبب أنَّ إله العالم خلقها وأوجدها لا بسبب طوالع الكواكب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 562 واتصالاتها، وحينئذ يسمع هذه القصص، ويستدلّ بها على صدق الأنبياء؛ فثبت بذلك صحة قوله: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخرة} . قوله تعالى: {ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ} «ذلك» : إشارة إلى يوم القيامة المدلول عليه بالسياق من قوله: {عَذَابَ الآخرة} و «مَجْموعٌ» صفةٌ ل «اليوم» جرت على غير من هي له، فلذلك رفعت الظَّاهر وهو «الناس» وهذا هو الإعراب نحو: «مَررْتُ برجُلٍ مضروبٍ غلامهُ» . وأعرب ابن عطيَّة «النَّاس» مبتدأ مؤخراً، و «مَجْمُوعٌ» خبره مقدماً عليه. وفيه ضعف إذ لو كان كذلك لقيل: مجموعون، كما يقالُ: النَّاسُ قائمون ومضربون، ولا لليوم، أي: النَّاس مجموع له، و «مَشْهُودٌ» متعيِّنق لأن يكون صفة فكذلك ما قبله. وقوله: {مَّشْهُودٌ} من باب الاتِّساعِ في الظرف بأن جعلهُ مشهوداً، وإنَّما هو مشهودٌ فيه؛ وهو كقوله: [الطويل] 3016 - ويَوْمٍ شَهِدْنَاهُ سُلَيْماً وعَامِراً ... قَليلٌ سِوَى الطَّعْنِ النِّهالِ نَوافِلُهْ والأصلُ: مشهودٌ فيه، وشهدْنَا فيه، فاتُّسِع فيه بأنْ وصل الفعلُ إلى ضميره من غير واسطة، كما يصلُ إلى المفعول به. قال الزمخشريُّ: «فإن قتل: أيُّ فائدة في أن أوثر اسمُ المفعول على فعله؟ قلت: لما في اسم المفعول من دلالته على ثبات معنى الجمع لليوم، وأنَّهُ لا بدَّ أن يكون ميعاداً مضروباً لجمع النَّاس له، وأنَّه هو الموصوفُ بذلك صفة لازمة» قال ابنُ عبَّاسٍ: يشهده البر والفاجرُ. وقيل: يشهده أهلُ السموات وأهلُ الأرضِ. قوله: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ} الضَّميرُ يعود على «يَوْم» . وقال الحوفيُّ: «على الجزاءِ» وقرأ الأعمش: «ومَا يُؤخِّره» - بالياء - أي: الله تعالى «إلاَّ لأجَلٍ معدُودٍ» وكل ما له عدد، فهو متناهٍ، وكل ما كان متناهياً، فلا بُدَّ أن ينفي، فتأخير القيامة ينتهي إلى وقت لا بد وأن يقيم اله القيامة فيه، وكُلُّ ما هو آتِ قريب. قوله: {يَوْمَ يَأْتِ} قرأ أبو عمرو والكسائيُّ ونافعٌ «يَأتِي» بإثبات الياءِ وصْلاً وحذفها وقْفاً. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 563 وقرأ ابنُ كثير بإثباتها وصْلاً ووقفاً وباقي السبعة: قرءوا بحذفها وصلاً ووقْفاً. وقد وردتْ المصاحفُ بإثباتها وحذفها: ففي مصحف أبيّ إثباتُها، وفي مصحق عثمان حذفها، وإثباتها هو الوجه؛ لأنَّها لامُ الكلمة، وإنَّما حذفُوها في القوافي، والفواصل، لأنَّها محلُّ وقوف وقالوا: لا أدْرِ، ولا أبَالِ. وقال الزمخشريُّ «والاجتزاءُ بالكسرة عن الياءِ كثيرةٌ في لغةِ هذيلٍ» . وأنشد ابنُ جريرٍ في ذلك: [الرجز] 3017 - كَفَّاكَ كَفٌّ ما تُليقُ دِرْهَمَا ... جُوداً وأخْرَى تُعْطِ بالسِّيْفِ الدَّما والنّاصبُ لهذا الظرف فيه أوجه: أحدها: أنه «لا تكلَّمُ» والتقديرُ: لا تكلَّمُ نفسٌ يوم يأتي ذلك اليوم. وهذا معنى جيد لا حاجة إلى غيره. الثاني: أن ينتصب ب «اذْكُر» مقدراً. والثالث: أن نتصب بالانتهاءِ المحذوف في وله: {إِلاَّ لأَجَلٍ} أي: ينتهي الأجل يوم يأتي. والرابع: أنَّهُ منصوبٌ ب «لا تكلَّمُ» مقدَّراً، ولا حاجة إليه. والجملةُ من قوله: «لا تكلَّمُ» في محلِّ نصب على الحال من ضمير اليوم المتقدم في «مَشْهُود» أو نعتاً له لأنه نكرة. والتقدير: لا تكلَُّ نفسٌ فيه إلاَّ بإذنه، قاله الحوفيُّ. وقال ابن عطيَّة: «لا تكلَّمُ نفسٌ» يصحُّ أن تكون جملة في موضع الحال من الضَّمير الذي في «يَأتِ» وهو العائدُ على قوله: {وَذَلِكَ يَوْمٌ} ، ويكون على هذا عائدٌ محذوف تقديره: لا تكلمُ نفسٌ فيه، ويصحُّ أن يكون قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} صفةً لقوله: {يَوْمَ يَأْتِ} . وفاعل «يَأتِ» فيه وجهان: أظهرهما: أنَّهُ ضميرُ «يَوْم» المتقدِّم. والثاني: أنَّه ضمير الله تعالى كقوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} [البقرة: 210] وقوله: «أوْ يَأتِي ربُّكَ» . والضميرُ في قوله: «فَمِنْهُمْ الظاهرُ عودهُ على» النَّاس «في قوله: {مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} وجعله الزمخشريُّ عائداً على أهل الموقف وإن لمْ يذكرُوا، قال: لأن ذلك الجزء: 10 ¦ الصفحة: 564 معلومٌ، ولأنَّ قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ} يدلُّ عليه» وكذا قال ابنُ عطية. وقوله: {وَسَعِيدٌ} خبره محذوف: أي: ومنهم سعيدٌ، كقوله: {ذَمِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} [هود: 100] . فصل هذه الآية توهم المناقضة لقوله {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111] ولقوله {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 35 - 36] وقوله: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] . والجواب: قال بعضهم: إنَّهُ حيثُ ورد المنعُ من الكلامِ، فهو محمولٌ على الجوابات الصَّحيحة؛ قال تعالى: {لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً} [النبأ: 38] وقيل: إنَّ ذلك اليوم يوم طويل، وله مواقف، ففي بضعها يجادلُون عن أنفسهم، وفي بعضها يختم على أفواههم، وتتكلم أيديهم وتشهد أرجلهم. وقيل: ورد المنع عن الكلام مطلقاً، وورد مقيداً بالإذن فيحمل المطلق على المقيِّد. قوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} قال الزمخشريُّ: الضميرُ في قوله: «مِنْهُمْ» لأهل الموقف ولمْ يذكرُوا؛ لأنَه مفهومٌ، ولأنَّ قوله: {لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} يدلُّ عليه؛ ولأنه مذكورٌ في قوله: {مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس} . واستدلَّ القاضي بهذه الآية على فساد القول بأنَّ أهل الأعراف لا في الجنة ولا في النَّارِ. وجوابه: أنَّ الأطفال والمجانين أيضاً خارجون عن هذا التَّقسيم؛ لأنَّهُم لا يحاسبُون، فلم لا يجوزُ أيضاً أن يقال: إنَّ أصحاب الأعراف خارجون عنه أيضاً؛ لأنهم لا يحاسبون لأنَّ الله - تعالى - علم من حالهم أنَّ ثوابهم يساوي عذابهم، فلا فائدة في حسابهم. واستدلَّ القاضي أيضاً بهذه الآية على أنَّ كلَّ من حضر عرضه القيامة فلا بد وأن يكون ثوابه زائداً أو عذابه، فأمَّا من كان ثوابه مساوياً لعقابه، فإنَّه وإن كان جائزاً في العقل، إلا أن هذا النص يدلُّ على انَّهُ غيرُ موجودٍ. وأجيب بأنَّ تخصيص هذين القسمين بالذِّكر لا يدلُّ على نفي القسم الثالث؛ لأنَّ أكثر الآيات مشتملةٌ على ذكر المؤمن والكافر، وليس فيه ذك ثالث لا يكون مؤمناً ولا كافراً مع أنَّ القاضي أثبته، فإذا لم يلزمْ من عدم ذكر الثالث عدمه فكذلك لا يلزمُ من عدم ذكر هذا الثالث عدمه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 565 فصل «روى أبو عبد الرحمن السلمي عن علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: خرجناعلى جنازة، فبينما نحنُ بالبقيع إذْ خرج رسُولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبيده مخصرةٌ، فجاء، فجلس، ثم نكت بها الأرض ساعة، ثم قال:» ما مِنْ نفس منفُوسةٍ إلاَّ قد كُتِبَ مكانُها من الجنّة، أو النَّار، وإلاَّ قد كُتبتْ شقيَّةً، أو سعيدةً «قال: فقال رجلٌ: أفلا نتكلُ على كتابنا يا رسول الله وندعُ العمل؟ قال:» لا، ولكن اعملوا فكُلٌّ ميسرٌ لما خلق لهُ، وأمَّا أهلُ الشقاء فسييسرون لعمل أهل الشقاء، وأمَّا أهلُ السَّعادة فسييسرون لعمل أهل السعادة « ثم تلا: {فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى وَصَدَّقَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى وَكَذَّبَ بالحسنى فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى} [الليل: 5 - 10] . قوله: {فَأَمَّا الذين شَقُواْ} الجمهورُ على فتح الشين؛ لأنَّهُ من «شَقى» فعلٌ قاصر وقرأ الحسن بضمها فاستعمله متعدِّياً، فيقال: شقاهُ الله، كما يقالُ: أشقاء الله وقوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} في هذه الجملة احتمالان: أحدهما: أنَّها مستأنفةٌ، كأنَّ سائلاً سأل حين أخبر أنَّهُم في النَّار: ماذا يكون لهم؟ فقيل: لهم كذا. والثاني: أنها منصوبةُ المحلِّ، وفي صاحبها وجهان: أحدهما: أنَّهُ الضميرُ في الجرِّ والمجرور وهي «فَفِي النَّار» . الثاني: أنها حالٌ من «النَّار» و «الزَّفير» بمنزلة ابتداء صوت الحمار، والشّهيق «آخره قال رؤبة: [الرجز] 3018 - حَشْرَجَ في الصَّدْرِ صَهِيلاً أوْ شَهَقْ ... حتَّى يُقالَ نَاهِقٌ وما نَهَقْ وقال ابن فارس: الزَّفيرُ ضد الشَّهيق؛ لأنَّ الشَّهيق ردُّ النَّفَس والزَّفير: إخراجُ النَّفس من شدَّة الحزنِ مأخوذة من الزَّفْرِ وهو الحِمْل على الظَّهْرِ، لشدَّته. وقال الزمخشري نحوه؛ وأنشد للشَّمَّاخِ: [الطويل] 3019 - بَعِيدٌ مَدَى التَّطْريبِ أوَّلْ صوْتِهِ ... زفيرٌ ويتلوهُ شهيقٌ مُحَشْرِجُ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 566 وقيل الشَّهيقُ: النَّفس الممتدُّ، مأخوذٌ من قولهم:» جبلٌ شاهقٌ أي: عالٍ «. وقال اللَّيْثُ: الزَّفير: أن يملأ الرَّجُلُ صدرهُ حال كونه في الغمِّ الشَّديد من النَّفس ويخرجهُ، والشَّهيق أن يخرج ذلك النَّفس، وهو قريبٌ من قولهم: تنفَّس الصعداء. قال ابن الخطيب: إنَّ الإنسان إذا عظم غمه انحصر روح قلبه في داخل القلبن فتقوى الحرارةُ وتعظم، وعند ذلك يحتاجُ الإنسان إلى النفس القوي لأجل أن يستدخل هواء بارداً حتى يقوى على تريوح تلك الحرارة، فلهذا السَّببب يعظم في ذلك الوقتِ استدخال الهواء في داخل الصَّدْرِ، وحينئذٍ يرتفع صدره، ولمَّا كانت الحرارةُ الغريزيةُ، ولاروح الجوانيُّ محصُوراً في داخل القلبِ؛ أستولت البرودةُ على الأعضاءِ الخارجة؛ فرُبَّما عجزت آلات النفس عن دفع ذلك الهوى فيبقى ذلك الهواء الكثير منحصراً في الصدر. فعلى قول الأطباء: الزَّفير: هو استدخالُ الهواءِ الكثير لترويح الحرارة الحاصلة في القلب بسبب انحصار الروح فيهن والشَّهيق: هو إخراج ذلك الهواء عند مجاهدة الطَّبيعة في إخراجه، وكلُّ من هاتين الحالتين تدل على كرب شديد. وقال أبُو العالية والربيع بن أنس: الزَّفير في الحلق، والشَّهيق في الصدر وقيل: الزَّفيرُ للحمار والشهيق للبغل. وقال ابن عباس: الزَّفيرُ الصوت الشديد، والشَّهيق الصوت الضعيف وقال الضحاك ومقاتلٌ: الزَّفير أول صوت الحمار والشهيق آخره، إذا ردَّهُ في صدره وقال الحسنُ: الزَّفيرُ لهيبُ جهنّم يرفعهم بقوته حتى إذا وصلُوا إلى أعلى جهنم، وطمعوا في أن يخرجوا منها ضبربتهُم الملائكة بمقامع من حديد وردوهم إلى الدرك الأسقل من جهنَّم، وهو قوله تعالى: {كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا} [السجدة: 20] فارتفاعهم في النَّار وهو الزَّفير، وانحطاطهم مرة أخرى هو الشهيق. وقال أبو مسلم: الزَّفيرُ ما يجتمع في الصَّدْرِ من النَّفس عند البكاء الشَّديد فيقطع النفس، والشهيقُ هو الصَّوت الذي يظهرُ عند اشتداد الكرب، وربما تبعه الغشية، وربما حصل عقيبه الموت. وروي عن ابن عبَّاس في قوله: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} أي: ندامةً ونفساً عالياً وبكاء لا ينقطع وحزناً لا يندفع. قوله: {خَالِدِينَ} منصوبٌ على الحال المقدرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 567 قال شهاب الدِّينِ: «ولا حاجَة إلى قولهم» مقدّرة «، وإنَّما احتاجُوا إلى التقدير في مثل قوله: {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] ؛ لأنَّ الخلود بعد الدُّخول، بخلافه هنا» . قوله: {مَا دَامَتِ} «ما» مصدرية ظرفية، أي: مدَّة دوامهما. و «دَامَ» هنا تامةٌ، لأنَّها بمعنى: بَقِيت. فصل اختلفوا في تأويل هذا، قالت طائفة منهم الضحَّاك: المعنى ما دامت سمواتْ الجنَة والنَّار وأرضهما، والسماء كل ما علاك وأظلك، والأرض ما استقر عليه قدمك، قال تعالى: «وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حين نشاء» وقيل: أراد السِّماء والأرض المعهودتين في الدنيا؛ وأجرى ذلك على عادة العرب في الإخبار عن دوام الشيء وتأبيده، كقولهم: «لا آتيك ما جنَّ ليلٌ، أو سَالَ سيلٌ، وما اختلفَ اللَّيلُ والنهار» . وعن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أنَّ جميع الأشياء المخلوقة أصلها من نُور العرش، وأنَّ السموات والأرض في الآخرة تردَّان إلى النور الذي أخذتا منه، فهما دائمتنان أبداً في نور العرش. فصل قال ابن الخطيب: قال قوم: إنَّ عذاب الكفَّار منقطعٌ، وله نهاية، واحتجُّوا بالقرآن والمعقول، أما القرآنُ فبآيات منها هذه الآيةن والاستدلال بها من وجهين: أحدهما: قوله: {مَا دَامَتِ السماوات والأرض} يدل على أنَّ مدة عقابهم مساوية لمدَّة بقاءِ السموات والأرض، ثم توافقنا على أنَّ مدة بقاءِ السموات والأرض متناهية؛ فلزم أن تكون مدة عقاب الكفار منقطعة. والثاني: قوله: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} استثناءٌ من مدَّةِ عقابهم، وذلك يدلُّ على أنَّ زوال ذلك العقاب في وقت هذا الاستثناء، ومنها قوله تعالى: {لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً} [النبأ23] بيَّن تعالى أنَّ لبثهم في ذلك العقاب لا يكون إلاَّ أحقاباً، والأحقابُ معدودة. وأمَّا العقلُ فمن وجهين: الأول: أنَّ معصية الكافر متناهيةٌ، ومقابلة الجرم المتناهي بعذابٍ لا نهاية له ظلم وإنَّهُ لا يجوزُ. الثاني: أنَّ ذلك العقاب ضرر خال عن النَّفع فيكون قبيحاً. بيان خلوه عن النفع أن ذلك النفع لا يجوزُ أن يرجع إلى الله تعالى تعاليه عن النَّفع والضَّرر، ولا إلى ذلك العقاب؛ لأنَّهُ في حقِّه ضربٌ محض، ولا إلى غيره؛ لأن أهل الجزء: 10 ¦ الصفحة: 568 الجنَّة مشغولون بلذاتهم، فلا فائدة لهم في الالتذاذِ بالعقابِ الدَّائم في حقِّ غيرهم؛ فثبت أنَّ ذلك العذاب ضرر خال عن جميع النَّفْعِ؛ فوجب أن لا يجوز وهذا قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وعبد الله بن مسعود وأبي هريرة وأنس بن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - وذهب إلي الحسنُ البصريُّ وحمَّادُ بنُ سلمة وبه قال عليُّ بن طلحة وجماعة من المفسِّرين، رواه عنهم ابنُ تيمية. وأما الجمهورُ الأعظمُ من الأمَّةِ، فقد اتفقوا على أنَّ عذاب الكافر دائمُ، وعند هذا احتاجوا إلى الجواب عن التمسُّكِ بهذه الآيةِ، فذكروا جوابين: أحدهما: قالوا المرادُ سماوات الآخرة وأرضها، قالوا: والدليلُ على أنَّ في الآخرة سماء وأرضاً قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48] وقوله: {وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ} [الزمر: 74] وأيضاً: لا بدَّ لأهْل الآخرة ممَّا يقلهم ويُظلهم؛ وذلك هو الأرض والسَّموات. ولقائل أن يقول: التشبيه إنما يصحُّ ويجوزُ إذا كان حال المشبه به مقرراً معلوماً، فيشبه غيره به تأكيداً لثبوت الحكم المشبه، ووجود السَّموات والأرض في الآخرة غير معلوم، وبتقدير أن يكون وجوده معلوماً إلاَّ أنذَ بقاءهما على وجه لا يفنى ألبتَّة غير معلوم، فإذا كان تشبيه عقاب الأشقياء به في الدَّوام بهما كلاماً عديم الفائدة: أقصى ما في الباب أن يقال: لمَّا ثبت بالقرآن وجود سموات وأرض في الآخرة، وثبت دوامهما؛ وجب الاعترافُ به، وحينئذٍ يحسُنُ التَّشبيه، إلاّ أنَّا نقُولُ: لمَّا كان الطَّريقُ في إثبات دوام سموات أهل الآخرة، ودوام أرضهم هو السَّمعُ، ثُمَّ السمعُ دالَّ على دوام عقاب الكافر، فحينئذ الدَّليلُ الذي دلَّ على ثبوت الحم في الأصل حال بعينه في الفرع، وفي هذه الصورة أجمعُوا على أنَّ القياس ضائعٌ والتَّشبيه باطلٌ، فكذا ههنا. الوجه الثاني - في الجواب - قالوا: إنَّ العرب يُعبِّرون عن الدَّوام والأبد بقولهم: لا آتيك ما دامت السموات والأرض، وقولهم: ما اختلف الليل والنهار، وما طَمَا البَحرُ، وما أقام الجبل وأنَّهُ تعالى خاطب القوم على عرفهم في كلامهم، فلمَّا ذكروا هذه الأشياء بناءً على اعتقادهم أنَّها باقية أبداً، علمنا أنَّ هذه الألفاظ في عرفهم تُفيدُ الأبد والدَّوام. ولقائل أن يقول: هل تسلمون أنَّ قول القائل: {خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء الله} يمنع من بقائها موجودة بعد فناء السموات؟ أو تقولون: إنَّه لا يدلُّ على هذا المعنى، فإن كان الأوَّل؛ فالإشكال لازم؛ لأنَّ النصَّ لمَّا دل على أنَّهُ يجبُ أن تكون مدة مقامهم في النار مساوية لمدة بقاءِ السموات والأرض، ويمنع، من حصولِ بقائهم في النَّارِ بعد فناءِ السموات، وثبت أنَّهُ لا بدُّ من فناء السموات، فعند هذا يلزمكم القول بانقطاع ذلك العقابِ، وإن قلتم إنَّ هذا لا يمنع من بقائهم في النَّارِ بعد فناءِ الجزء: 10 ¦ الصفحة: 569 السَّمواتِ والأرض، فلا حاجة بكم إلى هذا الجواب ألبتَّة، فثبت أنَّ هذا الجواب على كلا التقريرين ضائعٌ. قال: والحقُّ عندي أنَّ المفهوم من الآية أنَّه متى كانت السَّموات والأرض دائمتينن كان كونهم في النَّار باقياً، وهذا يقتضي أنه كلما حصل الشرطُ حصل المشروط، ولا يقتضي أنَّهُ إذا عدم الشرط أن يعدم المشرو «، ألا ترى أنَّا نقول: إن كان هذا إنسان فهو حيوان، فإذا قلنا: لكنَّهُ إنسان، فإنه ينتج أنَّهُ حيوان، أمَّا إذا قلنا لكنَّه ليس بإنسان لم ينتج أنَّه ليس بحيوان؛ لأن يثبتُ في علم المنطق أنَّ استثناء نقيض المقدمة لا ينتج شيئياً، فكذا ههنا إذا قلنا: متى دامت السموات والأرض دام عقابهم، فإذا قلنا: لكن السموات والأرض دائمة لزم أن يكون عقابهم حاصلاً، أمَّا إذا قلنا: لكنه ما بقيت السَّموات والأرض لم يلزم عدم دوام عقابهم. فإن قالوا: إذا كان العقابُ حاصلاً سواء بقيت السَّموات، أو لم تبقَ، لم يبقَ لهذا التَّشبيه فائدة. قلنا: بل فيه أعظم الفوائد، وهو أنه يدلُّ على بقاءِ ذلك العذاب زماناً دائماً طويلاً، لا يحيط العقلُ بطوله وامتداده، فأمَّا أنه هل يحصلُ له آخر أم لا؟ فذلك يُستفادُ من دليلٍ آخر. وأمَّا الشبهة وهي تمسّكهم بقوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} فذكروا عنه أجوبة: أحدهما: قال ابن قتيبة وابنُ الأنباري والفرَّاء هذا استثناء استثناه الله تعالى، ولا يفعله ألبتَّة، كقولك: والله لأضربنك إلاِّ أن أرى غير ذلك، وعزيمتك أن تضربه. ولقائل أن يقول: هذا ضعيفٌ؛ لأنه إذا قال: لأضربنك إلاَّ أن أرى غير ذلك، معناه: لأضربنك إلاَّ إذا رأيت أن الأولى تركُ الضربِ، وهذا لايدلُّ ألبتَّة على أنَّ الرُّؤية قد حصلت أم لا؟ بخلاف قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} فإن معناه الحكم بخلودهم فيها إلاَّ المدة التي شاء ربك، فهاهنا اللفظُ يدلُّ على أنَّ هذه المشيئة قد حصلت جزماً، فكيف يحصلُ قياس هذا الكلام على ذلك الكلام. وثانيها: قال الزمخشريُّ: فإن قلت: ما معنى الاستثناءِ في قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ} وقد ثبت خلود أهل الجنَّة والنَّار في الأبد من غير استثناء؟ قلت: هو استثناء من الخلودِ في عذاب أهل النَّار، ومن الخود في نعيم أهل الجنَّة، وذلك أنَّ أهل النَّار لا يُخلَّدون في عذابها وحده، بل يُعذَّبُون بالزَّمهرير، وبأنواعٍ آخر من العذاب، وبما هو أشدُّ من ذلك وهو سخط الله عليهم، وكذا أهل الجنة لهم مع نعيم الجنة ما هو أكثر منه كقوله: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72] والدَّليل عليه قوله: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108] وفي مقابله قوله: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] أي: يفعلُ بهم ما الجزء: 10 ¦ الصفحة: 570 يردُ من العذاب، كما يعطي أهل الجنَّة ما لا انقطاع له. قال أبو حيَّان: ما ذكره في أهل النّارِ قد يتمشَّى؛ لأنَّهم يخرجون من النَّارِ إلى الزَّمهرير فيصيح الاستثناء، وأمَّا أهلُ الجن! ة، فلا يخرجون من الجنَّة، فلا يصحُّ فيهم الاستثناء. قال شهاب الدين: والظَّاهرُ أنَّهُ لا يصحُ فيهما؛ لأنَّ أهل النَّارِ مع كونهم يُعذَّبُون بالزَّمهرير هم في النَّار أيضاً. وثالثها: أنَّه استثناء من الزَّمان الدَّال عليه قوله: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض} . والمعنى: إلاَّ الزمان الذي شاء الله فلا يُخَلَّدون فيها. ورابعها: إنه استثناءٌ من الضمير المستتر في الجارِّ والمجرورِ، وهو قوله: «فَفِي النَّارِ» و «فَفِي الجنَّة» لأنه لمَّا وقع خبراً تحمَّل ضمير المبتدأ. وخامسها: أنه استثناء من الضَّمير المستتر في الحالِ وهو: {خَالِدِينَ} ، وعلى هذين القولين تكون «ما» واقعةً على من يعقل عند من يرى ذلك، أو على أنواع من يعقلُ كقوله: {مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] والمرادُ ب «مَا» حينئذٍ العصاةُ من المؤمنين في طرف أهل النار، وأمَّا في طرف أهل الجنَّة فيجوز أن يكونوا هم، أو أصحابُ الأعراف؛ لأنهم لم يدخلُوا الجنَّة لأولِ وهلةٍ، ولا خُلِّدُوا فيها خلودَ من دخلها أولاً. وسادسها: قال ابنُ عطيَّة: قيل: إنَّ ذلك على طريق الاستثناء الذي ندبَ الشَّارعُ إلى استعماله في كُلِّ كلامٍ، فهو كقوله: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27] استثناء في واجب، وهذا الاستثناء هو في حكم الشَّرط، كأنه قال: إن شاء الله؛ فليس يحتاج أن يوصف بمتَّصلٍ، ولا منقطع. وسابعها: هو استثناءٌ من طول المُدَّةِ، ويروى عن ابن مسعدٍ وغيره أنَّ جهنم تخلُوا من النَّاس وتخفق أبوابها فذلك قوله تعالى: {إِلاَّ مَا شَآءَ} وهذا مردُودٌ بظواهر الكتاب والسُّنة، وما ذكر عن ابن مسعودٍ فتأوليه: أنَّ جهنَّم في الدَّرك الأعلى، وهي تخلون العصاة المؤمنين، هذا على تقدير صحَّة ما نُقِل عن ابنِ مسعُودٍ. وثامنها: أنَّ «إلاَّ» حرفُ عطفٍ بمعنى الواو، والمعنى: وما شاء ربُّكَ زائداً على ذلك. وتاسعها: أنَّ الاستثناء منقطعٌ، فيقدَّرُ ب «لكن» أو ب «سوى» ، ونظروه بقولك: «لي عليك ألفا درهم، إلاَّ الألف التي كنت أسلفتك» أي: سوى تلك، فكأنه قالك خالدينَ فيها ما دامتِ السمواتُ والأرضُ سوى ما شاء ربُّك زائداً على ذلك. وقيل: سوى ما أعدَّ لهم من عذابٍ غير عذابِ النار كالزمخرير ونحوه. عاشرها: أنه استثناءٌ من مدَّة السموات والأرض التي فرضت لهم في الحياة الدنيا. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 571 وحادي عشرها: أنَّهُ استثناءٌ من البرزخ الذي يبين الدنيا والآخرة. وثاني عشرها: أنَّهُ استثناءٌ من المسافات التي بينهم في دُخُولِ النَّار، إذا دخولهم إنَّما هو زُمَراً بعد زُمَر. وثالث: عشرها: أنَّه استثاءٌ من قوله: «فَفِي النَّارِ» كأَّنَّه قال: إلاَّ ما شاءَ ربُّك من تأخُّر قوم عن ذلك، وهذا مرويُّ عن أبي سعيد الخدري وجابر. ورابع عشرها: أنَّ «إلاَّ ما شاء» بمنزلة: كما شاء؛ كقوله: {مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ} [النساء: 22] ، أي: كما سلف. وخامس عشرها: أن معناه: لو شك ربُّك، لأخرجهم منها، ولكنه لا يشاءُ؛ لأنَّه حكم لهم بالخُلود، فتكون «ما» نافية. وسادس عشرها: أنَّه استثناء من قوله: {فَفِي النار} و {فَفِي الجنة} ، أي: إلاَّ الزَّمان الذي شاءهُ الله فلا يكون في النَّار ولا في الجنَّة، ويمكن أن يكون هذا الزَّمانُ المستثنى هو الزَّمانُ الذي يفصلُ فيه بين الخلق يوم القيامة إذا كان الاستثناءُ من الكون في النَّار، أو في الجنَّة؛ لأنه زمانٌ يخلُو فيه الشَّقيُّ والسَّعيدُ من دخُولِ النَّار والجنة، وأمَّا إذا كان الاستثناءُ من الخلودِ فيمكن ذلك بالنسبة إلى أهل النار، ويكوز الزَّمانُ المستثنى هو الزمانُ الذي فات أهل النار العصاةً من المؤمنين الذي يخرجُون من النَّار ويدخُلون الجنَّة، فلسُوا خالدين في النار، إذ قد أخرجوا منها وصارُوا إلى الجنَّة، وهذا مرويُّ عن قتادة والضَّحاك وغيرهما والذين شقُوا على هذا شامل للكافر والعصاة هذا في طرفِ الأشقياء العصاة ممكنٌ، وأمَّا في الطَّرف الآخر فلا يتأتَّى هذا التأويل فيه، إذ ليس منهم من يدخلُ الجنة ثمَّ لا يخلَّد فيها. قال أبو حيَّان: يمكنُ ذلك باعتبار أن يكون أريد الزَّمان الذي فات أهل النَّار العُصاة من المؤمنون فيها الجنَّة وخُلَّدوا فيها صدق على العصاةِ المؤمنين وأصحابِ الأعراف أنهم ما خُلِّدُوا في الجنة تخليدَ من دخلها لأوَّلِ وهلة. ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} وهذا يحسُ انطباقه على هذه الآية إذا حملنا الاستثناء على إخراج الفسَّاق من النَّارِ، كأنَّه تعالى يقول: اظهرتُ القهر والقدرة، ثم أظهرتُ المغفرة والرَّحمة؛ لأنَّي فعالٌ لما أريدُ، وليس لأحد عليَّ حكم ألبتَّة. قوله: {وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ} الجزء: 10 ¦ الصفحة: 572 قرأ الأخوان حفصٌ «سُعِدُوا» بضمِّ السين. والباقون بفتحها، فالأولى من قولهم: عسده اللَّهُ، أي: أسعدهُ حكى الفرَّاءُ عن هذيل أنها تقولُ: سعده الله بمعنى أسعده. وقال الجوهريُّ: سَعِد فهو سَعِيد ك: سَلِمَ فهو سليم وسُعِد فهو مسعود. وقال ابن القشيري: ورد سعده الله فو مسعود، وأسْعَده فهو مُسْعَد. وقيل: يقال: سعده وأسْعده فهو مسعُود، استغنوا باسم مفعول الثلاثي. وحكي عن الكسائي أنَّه قال: هما لغتنان بمعنى يعني: فعل وأفعل. وقال أبو عمرو ابن العلاءِ: يقال: سُعِدَ الرجلُ، كما يقال: أسعده الله وقال بعضهم: احتجَّ الكسائيُّ بقولهم: «مَسْعو» قيل: ولا حُجَّة فيه؛ لأنه يقال: مكان مسعود فيه ثم حذف «فهي» وسُمِّي به. وكان عليُّ بن سليمان يتعجَّب من قراءة الكسائي «سُعِدوا» مع علمه بالعربيَّةِ، ولعجبُ من تعجُّبه. قال مكيُّ: قراءةُ حمزة والكسائي «سُعدِدوا» بضمِّ السِّين حملاً على قوله: «مسعود» وهي لغةٌ قليلة شاذةٌ، وقولهم: «مسود» ، إنَّما جاء على حذف الزَّواد: كأنَّهُ من أسعده الله، ولا يقالك سعده الله، وهو مثل قولهم: أجنَّهُ الله فهو مجنون، أتى على جَنَّةُ الله، وإن كان لا يقال ذلك، كما لا يقال: سعده الله. وضمُّ السين بعيدٌ عند أكثر النحويين إلا على حذف الزوائد وقال أبو البقاء: وهذا غيرُ معروفٍ في اللغةِ، ولا هو مقيسٌ. فصل قال ابنُ الخطيب: الاستثناءُ في اباب السُّعداءِ يجبُ حمله على كل الوجوهِ المذكورة فيما تقدَّم، وها هنا وجه آخر، وهو أنُ ربما اتفق لبعضهم أن يرفع من الجنَّة إلى المنازل الرَّفيعة التي لا يعلمها إلاَّ الله تعالى، لقوله: {وَعَدَ الله المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ} [التوبة: 72] إلى أن قال: {وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72] . قوله: {عَطَآءً} نُصِبَ على المصدر المؤكذ من عنى الجملة قبله؛ لأن قوله: ففِي الجنَّةِ خالدينَ «يقتضي إعطاءً وإنعاماً فكأنَّهُ قيل: يعطيهم عطاءً، و» عطاء «اسم مصدر والمصدر في الحقيقة الإعطاء على الأفعال، أو يكونُ على حذف الزَّوائد، كقوله: {والله الجزء: 10 ¦ الصفحة: 573 أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ، أو منصوب بمقدَّرِ موافق له، أي: فنبتُّم نباتاً، وكذلك هنا، يقال: عطوتُ معنى: تناولتُ. و» غَيرَ مجذُوذِ «نعته، والمجذوذُ: المقطوع، ويقال لفُتات الذَّهب والفضَّة والحجارة جُذاذ من ذك، وهو قريب من الجدِّ وبالمهلة في المعنى، إلاَّ أنَّ الرَّاغب جعل جدَّ بالمهملة بمعنى: قطع الأرض المستوية، ومنه: جدَّ في سيره يَجِدُّ جدًّا، ثم قال:» وتُصُوِّر من جددتث الأرض القطعُ المُجرد، فقيل: جددتُ الثوبَ إذا قطعته على وجه الإصلاح، وثوبٌ جديد أصله المقطوع، ثم جعل الكل ما أحدث إنشاؤه «والظَّاهر أنَّ الماتدتين متقاربتان في المعنى، وقد ذكرت لها نظائر نحو: عتا وعثَا، وكتب وكثب. فصل قال ابن زيد: أخبرنا الله بالذي يشاء لأهل الجنَّة، فقال: {عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} ولم يخبر بالذي يشاءُ لأهل النَّار. وقال ابن مسعود: ليأتينَّ على جهنَّم زمان ولي فيها أحدٌ، وذلك بعدما يلبثوا فيها أحقاباً وعن أبي هريرة مثلهُ، وقد تقدَم، ومعناه عند أهل السُّنة: ألاَّ يبقى فيها أحدٌ من أهل الإيمان، وأما مواضع الكافر فممتلئه أبداً. قوله: {فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ} أي: شك» مِمَّا يعبدُ هؤلاءِ «لما شرح أقاصيص عبدة الأوثان، وأتبعه بأحوال الأشقياء، وأحوال السعداء شرح للرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أحوال الكفار من قومه، فقال:» فلا تَكُ في مريةٍ ممَّا يعبدُ هؤلاءِ «وحذف النون؛ لكثرة الاستعمال؛ ولأنَّ النون إذا وقعت طرف الكلام، لم يبق عند التلفظ به إلا مجرّد الغنَة، فلا جرم أسقطوه و» ما «في» مِمَّا يعبُدُونَ «و» مِمَّا يعبدُ آباؤنَا «مصدرية، ويجوز أن تكون الأولى اسمية دون الثانية، والمعنى أنَّهُم ضلال» ما يعبدون إلاَّ كما يعبد «، وفيه إضمار، أي: كما كان يعبدُ آباؤهُمْ من قبل،» وإنَّا لمُوفُّوهُم نَصِيبهُم «حقَّهم من الجزاء» غير منقُوص «ويحتمل أن يكون المراد أنهم، وإن كفروا، وأعرضوا عن الحقِّ، فإنا موفوهم نصيبهم من الرِّزق والخيرات الدنيويَّة، ويحتمل أن يكون المراد: إنَّا لموفُّوهم نصيبهم من إزاحة العذر وإظهار الدلائل وإرسال الرسُل وإنزال الكتب. قوله «غير منقُوصٍ» حالٌ من «نَصِيبهُم» وفي ذلك احتمالان: أحدهما: أن تكون حالاً مؤكِّدة؛ لأن لفظ التوفيه يشعرُ بعدم النقص، فقد استفيد معناها من عاملها، وهو شأنُ المؤكدة. والثاني: أن تكون حالاً مبنة. قال الزمخشريُّ: فإن قلت: كيف نُصب «غيْر منقُوصٍ» حالاً من النَّصب المُوفَّى؟ قلتُ: يجوز أن يُوفَّى، وهو ناقصٌ، ويوفَّى وهو كامل؛ ألا تراك تقولُ: «وفَّيْتُه شطر الجزء: 10 ¦ الصفحة: 574 حقَّه، وثُلثَ حقِّه، وحقِّه كاملاً وناقصاً» فظاهر هذه العبارة أنها مبنيةٌ، إذ عاملها محتمل لمعناها ولغيره. إلا أن أبا حيَّان قال: هذه مغلطة، إذا قال: «وفيته شطر حقِّه» فالتوفية وقعتْ في الشَّطْر، وكذا في الثُلُث، والمعنى: أعطيته الشطر والثلث كاملاً لم أنقصه شيئاً، وأما قوله: «وحقِّه كاملاً وناقصاً» فلا يقالُ لمنافاته التَّوفية. قال شهابُ الدِّين: «وفي منع الشيخ أن يقال:» وفِّيْتُه حقِّه ناقصاً «نظرٌ، إذ هو شائعٌ في تركيبات النَّاس المعتبر قولهم؛ لأ المراد بالتَّوفيه مطلقُ التَّأدية» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 575 قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى الكتاب فاختلف فِيهِ} الآية. لمَّا بيَّن إصرار كُفَّار مكَّة على إنكارِ التَّوحيدِ، وبيَّن إصرارهم على إنكار نُبُوَّةِ محمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتكذبيهم بكتابة، بيَّن أنَّ هؤلاء الكُفَّار كانوا على هذه السيرة الفاجرةِ، مع كل الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، وضرب لذلك مثلاً، وهي إنزالُ التوراة على موسى فاختلفوا فيه فقبله بعضهم وأنكره بعضهم، وذلك يدلُّ على أنَّ عادة الخلق هكذا. قوله: {فاختلف فِيهِ} أي: في الكتابِ، و «في» على بابها من الظَّرفية، وهو هنا مجاز، أي: في شأنه. وقيل: هي سببية، أي: هو سببُ اختلافهم، كقوله تعالى: {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} [الشورى: 11] أي: يُكثِّرهم بسببه. ومعنى اختلافهم فيه: أي: فمن مصدق به ومكذب كما فعل قومك بالقرآن، يُغَزِّي نبيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: «فِي» بمعنى «عَلَى» ويكون الضًَّمير لموسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أي: فاختلف عليه «ولْولاَ كملةٌ سبقتْ من ربِّكَ» في تأخير العذاب عنهم: «لقُضِيَ بينَهُم» أي: لعذَّبُوا في الحالِ، لكن قضاؤه أخَّر ذلك عنهم في دنياهم. وقيل: معناه أنَّ الله إنَّما يحكم بين المختلفين يوم القيامة، وإلاَََّ لكان الواجب تمييز المُحقِّ من المبطل في دار الدنيا. وقيل: المعنى ولولا أنَّ رحمته سبقت غضبه، وإلاَّ لقضي بينهم. ثم قال: {وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ} يعني أنَّ كفَّار مكَّة لفي شكِّ من هذا القرآن «مُريبٍ» من أراب إذا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 575 حصل الرِّيب لغيره، أو صار هو في نفسه ذا رَيْب، وقد تقدَّم. قوله تعالى: {وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُم} الآية. هذه الآية الكريمة ممَّا تكلم النَّاس فيها وحديثاً، وعسر على أكثرهم تلفيقها وتخريجاً فقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر عن عاصم «وإنْ» بالتخفيف، والباقون بالتشديد. وأمَّا «لمّا» فقرأها مشدَّدةً هنا وفي «يس» وفي سورة الزخرف، وفي سورة الطارق، ابن عامر وعاصمٌ وحمزة، إلاَّ أنَّهُ عن ابن عامر في الزخرف خلافاً، فروى عنه هشامٌ وجهين، وروى عنه ابن ذكوان التخفيف فقط، والباقون قرءوا جميع ذلك بالتخفيف، وتلخَّص من هذا أنَّ نافعاً وابن كثير قرأ «وإنْ» و «لمَا» مخففتين، وأنَّ أبا بكر عن عاصم خفَّف «إنْ» وثقَّل «لمَّا» وأنَّ ابن عامر وحمزة حفصاً عن عاصم شدَّدُوا «إنَّ» و «لمَّا» معاً، وأن أبا عمرو والكسائي شدَّدَا «إنَّ» وخففا «لما» فهذه أربعُ مرات للقراءة في هذين الحرفين، هذا في المتواتر. وأمَّا في الشَّاذ فقد قرئ أربعُ قراءاتٍ أخر: إحداهما: قراءة أبي والحسن وأبان بن تغلب «وإنْ كلٌّ» بتخفيفها، ورفع «كل» ، و «لمَّا» بالتشديد. الثانية: قراءة اليزيدي وسليمان بن أرقم «لمَّا» مشددة منونة، لمْ يتعرَّضُوا لتخفيف «إنَّ» ولا تشديدها. الثالثة: قراءة الأعمش وهي في حرف ابن مسعود كذلك: «وإنْ كلٌّ» بتخفيف «إن» ورفع «كل» . الرابعة: قال أبو حاتم: الذي في مصحف أبي «وإنْ من كلّ إلاَّ ليُوفِّينهُمْ» وقد اضطرب الناسُ فيه اضطراباً كثيراً، حتى قال أبو شامة وأمّا هذه الآية فمعناها على هذه القراءات من أشكل الآيات؛ قال شهاب الدين فأمَّا قراءةُ الحرميين ففيها إعمال «إن» المخففة، وهي لغةٌ ثانيةٌ عن العرب. قال سيبويه: «حدَّثنا من نثقُ به أنَّه سمع من العرب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 576 من يقول:» إنْ عمراً لمُنْطلقٌ «؛ كما قالوا: [الهزج] . 3020 - ... ... ... ... ... ... ... كَانْ ثَدْيَيْهِ حُقَّان قال: وَوَجْهُه من القياس: أنَّ» إنْ «مُشبهةٌ في نصبها بالفعل، والفعلُ يعمل محذُوفاً كما يعمل غير محذوفٍ، نحو:» لَمْ يكُ زيداً مُنطلقاً «» فلا تكُ في مريةٍ «وكذلك: لا أدْر. قال شهابُ الدٍّين: وهذا مذهبُ البصريين، أعني: أنَّ هذه الأحرف إذا خُفِّف بعضها جاز أن تعمل، وأن تهمل ك:» إنْ «والأكثرُ الإهمالُ، وقد أجمع عليه في قوله: {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] وبعضها يجبُ إعماله ك» أنْ «بالفتح، و» كأنْ «ولكنَّهُما لا يعملان في مظهر ولا ضمي بارز إلا ضرورة، وبعضها يجب إهماله عند الجمهور ك» لكن «. وأمَّا الكوفيون فيُوجبون الإهمال في» إن «المخففةِ، والسَّماعُ حُجَّةٌ عليهم؛ بدليل هذه القراءة المتواترة؛ وقد أنشد سيبويه على إعمال هذه الحروف مخففة قول الشَّاعر: [الطويل] 3021 - ... ... ... ... ..... كَأنْ طبيةٌ تَعْطُو إلى وِارقِ السَّلم وقال الفراء: لم نسمع العربَ تُخفِّفُ وتعملُ إلا مع المكنيِّ؛ كقوله: [الطويل] 3022 - فلو أنْكِ في يومِ الرَّخاءِ سألتني ... طلاقكِ لمء أبْخَلْ وأنتِ صديقُ قال:» لأنَّ المكني لا يظهرُ فيه إعرابٌ، وأمَّا مع الظاهر فالرفع «وقد تقدَّم ما أنشدهُ سيبويه، وقول الآخر: [الرجز] 3023 - كأنْ وريديهِ رشاءُ خُلْبِ ... الرَّشاء: الحَبْلُ. والخُلْبُ: اللِّيفُ هذا ما يتعلق ب» إنْ «. وأمَّا» لما «في هذه القراءة فاللاَّمُ فيها هي لامُ» إنْ «الدَّاخلةُ في الخبر،» ومَا «يجوز أن تكون موصولة بمعنى» الذي «واقعةً على ما يعقلُ، كقوله تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] ، فأوقع» ما «على العاقل، واللاَّمُ في» ليُوفِّينَّهُمْ «جوابُ قسم مضمر، والجملةُ من القسم وجوابه صلةٌ للموصولِ، والتقديرُ: وإن كلاًّ للذين والله ليُوفِّينَّهُمْ، ويجوز أن تكون» ما «نكرةً موصوفة، والجملة القسمية وجوابها صفةٌ ل» ما «والتقدير وإنْ كلاًّ لخلقٌ أو لفريقٌ والله ليوفينَّهم. والموصولُ وصلته أو الموصوفُ وصفته خبرٌ ل «إنْ» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 577 وقال بعضهم: اللاَّمُ الأولى هي الموِّطئة للقسم، ولمَّا اجتمع اللاَّمان واتفقا في اللفظ فصل بينهما ب «ما» ، كما فصل بالألف بين النُّونين في «يَضْربانِّ» وبين الهمزتين؛ نحو: آأنْت، فظاهرُ هذه العبارة أنَّ «ما» هنا زائدٌ جيء بها للفصل، إصلاحاً للفظ، وعبارةُ الفارسي مؤذنةٌ بهذا، إلاَّ أنَّهُ جعل اللاَّم الأولى لام «إنْ» فقال: العُرْفُ أن تدخل لام الابتداء على الخبرِ، والخبرُ هنا هو القسمُ، وفيه لامٌ تدخل على جوابه، فلمَّا اجتمع اللاَّمان، والقسمُ محدوفٌ واتفقا في اللفظ وفي تلقي القسم، فصلوا بينهما ب «مَا» كما فصلُوا بين «إنَّ» واللاَّم وقد صرَّح الزمخشريُّ بذلك فقال: واللاَّم في «لما» موطئةٌ للقسم، و «ما» مزيدةٌ. وقال أبُو شامة: واللاَّمُ في «لما» هي الفارقةُ بين المخفَّفةِ من الثقيلة والنَّافية. وفي هذا نطرٌ؛ لأنَّ الفارقة إنَّما يؤتى بها عند التباسها بالنَّافية، والالتباسُ إنَّما يجيءُ عند إهمالها؛ نحو: إن زيدٌ لقائمٌ وهي في الآية الكريمة معملةٌ، فلا التباسَ بالنَّافية، فلا يقال: إنَّها فارقةٌ. فتلخص في كلِّ من «اللاَّم» ، و «ما» ثلاثة أوجه: أحدهما: في اللام أنها للابتداء الدَّاخلةِعلى خبر «أن» . الثاني: لام موطئة للقسم. الثالث: أنها جواب القسم كررت تأكيداً. وأحدهما في «ما» : أنها موصولة. الثاني: أنها نكرة الثالث: أنها مزيدة للفصل بين اللاَّمين. وأمَّا قراءة أبي بكر ففيها أوجه: أحدهما: قولُ الفرَّاءِ وجماعة من نحاة البصرة، والكوفة، وهو أنَّ الأصل «لمِنْ مَا» بكسر الميم على أنَّها «مِنْ» الجارة، دخلت على «ما» الموصولة، أو الموصوفة، كما تقرَّر، أي: لمن الذين الله ليوفِّينَّهُم، أو لمنْ خلقٍ والله ليوفِّينَّهُمْ، فلمَّا اجتمعت النونُ ساكنة قبل ميم: «ما» وجب إدغامها؛ فقُلبتُ ميماً وأدغمت، فصار اللفظ اللفظ ثلاثة أمثال، فخففت الكلمة بحذف إحداها، فصار اللفظ كما ترى «لمَّا» قال نصر بن علي الشيرازي: «وصل» مِنْ «الجارَّة ب» مَا «فانقلبت النُّونُ أيضاً ميماً للإدغام، فاجتمعت ثلاثُ ميمات، فحذفت إحداهُنَّ فبقى» لمَّا «بالتشديد» . قال: و «ما» هنا بمعنى «مَنْ» وهو اسمٌ لجماعة النَّاسِ، كما قال تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] أي: من طاب، والمعنى: وإنْ كلاًّ من الذين ليوفينَّهم ربُّك أعمالهم، أو جماعة ليوفِّينَّهُم ربُّك أعمالهم. وقد عيَّن المهدويُّ الميم المحذوفة فقال: «حذفت الميم المكسورة، والتقدير: لمنْ خلق ليوفينَّهم» . الثاني: قول المهدويّ ومكي: أن يكون الأصل: «لمَنْ مَا» بفتح ميم: «مَنْ» على أنَّها موصولة، أو موصوفة، و «ما» بعدها مزيدةٌ، قال: فقلبت النون ميماً، وأدغمت في الميم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 578 التي بعدها، فاجتمع ثلاثُ ميماتن فحذفت الوسطى منهنَّ، وهي المبدلةُ من النون، فقيل: «لمَّا» قال مكي والتقديرُ: وإن كلاًّ لخلقٌ لوفينَّهُم ربك أعمالهم، فترجعُ إلى معنى القراءة الأولى بالتخفيف، وهذا الذي حكاه الزجاج عن بعضهم فقال: زعم بعضُ النَّحويين أن اصلهُ «لمَنْ مَا» ثُم قلبت النُّونُ ميماً، فاجتمعت ثلاثُ ميمات فحذفت الوسطى قال: وهذا القولُ ليس بشيءٍ؛ لأنَّ «مَنْ» لايجوزُ بعضها؛ لأنَّها اسمٌ على حرفين. وقال النحاسُ: قال أبو إسحاق: هذا خطأ؛ لأنَّهُ تحذف النونُ من «مَنْ» فيبقى حرفٌ واحد وقد ردَّه الفارسيُّ أيضاً فقال: إذ لم يقو الإدغام على تحريك السَّاكن قبل الحرفِ المدغم في نحو: «قدم مالك» فأن لا يجوز الحذفُ أجدرُ قال: على أنَّ في هذه السورة ميماتٍ اجتمعتْ في الإدغام أكثر ممَّا كانت تجتمع في «لمنْ مَا» ولمْ يحذف منها شيءٌ، وذلك في قوله تعالى: {وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ} [هود: 48] فإذا لم يحذف شيءٌ من هذا فأنْ لا يحذف ثم أجدرُ. قال شهابُ الدين: اجتمع في «أمم ممَّن معك» ثمانيةُ ميماتٍ، وذلك أنَّ «أمماً» فيها ميمان وتنوين، والتنوين يقلب يميماً لإدغامه في ميم «مِنْ» ومعنا نونان: نونُ «مِنْ» الجارة، ونون «مَنْ» الموصولة فيقلبان أيضاً ميماً لإدغامها في الميم بعدهما، ومعنا ميم «طمعك» فتحصَّل معنا خمسُ ميماتٍ ملفوظِ بها، وثلاثٌ منقلبةٌ إحداهما عن تنوين، واثنتان نون، واستدلَّ الفراءُ على أنَّ أصل «لمَّا» «لِمنْ ما» بقول الشَّاعر: [الطويل] 3024 - وإنَّا لمِمَّا نَضْرِبُ الكَبْشَ ضرْبة ... عَلى رأسِهِ تُلْقِي اللِّسانَ مِنَ الفَمِ وقول الآخر: [الطويل] 3052 - وإنِّي لمِمَّا أصْدِرُ الأمْرَ وجْهَهُ ... إذَا هُوَ أعْيَا بالسَّبيلِ مَصادِرُهْ وقد تقدَّم في آل عمران في قراءة من قرأ: {وإذا أخذ الله ميثاق النبين لمَا آتيتكم} [الآية: 81] بتشديد «لمَّا» أنَّ الأصل: «لمن ما» ففعل فيه ما تقدَّم، وهذا أحدُ الأوجه المذكورة في تخريج هذا الحرف هناك في سورته، فالتفت إليه. وقال أبو شامة: وما قاله الفرَّاء استنباطٌ حسنٌ، وهو قريبٌ من قولهم في قوله {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي} [الكهف: 38] إنَّ أصله: لكنم أنا ثُمَّ حذفت الهمزةُ، وأدغمت النون في النُّون، وكذا في قولهم: أمَّا أنت منطلقاً انطلقت، قالوا المعنى لأن كنت منطلقاً. وفيما قاله نظرٌ، لأنَّهُ ليس فيه حذفٌ ألبتَّة، وإنَّما كان يحسنُ التنظيرُ أن لو كان فيما جاء به إدغامٌ حذف، وأمَّا مجرَّدُ التَّنظير الجزء: 10 ¦ الصفحة: 579 بالقلب والإدغام فغيرُ طائلِ، ثم قال أبو شامة: وما أحسن ما استخرج الشَّاهد من البيت يعني: الفرَّاء، ثَم الفراء أراد أن يجمع بين قراءتي التَّخفيف والتَّشديد من «لمَّا» في معنى واحد، فقالك «ثُمَّ تُخفَّفُ، كما قرأ بعضُ القرَّاءِ {والَغْ يَعِظُكُم} [النحل: 90] بحذف الياء عند الياء؛ أنشدني الكسائيُّ: [الوافر] . 3026 - وأشْمَتَّ العُداةَ بِنَا فأضْحَوْا ... لَدَيْ يَتباشَرُونَ بِمَا لَقِينَا فحذفت ياؤه لاجتماع الياءات «. قال شهابُ الدِّين: الأولى أن يقال: حذفت ياءُ الإضافة من» لَدَيّ «فبقيت الياءُ السَّاكنةُ قبلها المنقلبةُ عن الألف في» لَدَى «وهو مثلُ قراءةِ من قرأ {يا بُنَيْ} [هود: 42] بالإسكان على ما سبق، وأمَّا الياءُ من» يَتَبَاشرُونَ «فثابتةٌ لدلالتها على المضارعة. ثم قال الفرَّاءُ: [الرجز] 3027 - كأنَّ مِنْ آخِرِهَا إلقَادِمِ ... يريد: إلى القادمِ؛ فحذف اللاَّم وتوجيهُ قولهم من آخرها إلقادم أنَّ ألف» إلى «حذفت لالتقاءِ الساكنينِ، وذلك أنَّ ألف» إلى «ساكنةٌ، ولام التَّعريف من القادم ساكنة، وهمزة الوصل حذفت درجاً، فلما التقيا حذف أولهما فالتقى لامان: لام» إلى «ولام التعريف، فحذفت الثانية على رأيه، والأولى حذف الأولى؛ لأنَّ الثانية دالة على التعريف، فلم يبق من حرف» إلى «غير الهمزة فاتصلت بلام» القادمِ «فبقيت الهمزة على كسرها؛ فلهذا تلفظ بهذه الكلمة» مِنْ آخرِهَا إلقادِمِ «بهمزة مكسورة ثابتةً درجاً؛ لأنها همزة قطع. قال أبُو شامة: وهذا قريبٌ من قولهم:» مِلْكذبِ «و» عَلْماءِ بنُو فُلانٍ «و» بَلْعَنْبَرِ «يريدون: من الكذبِ، وعلى الماءِ بنُو فُلانٍ، وبنُو العَنْبرِ، قال شهابُ الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يريدُ قوله: [المنسرح] 3028 - أبْلِغْ أبَا دَخْتَنُوسَ مألُكَة ... غَيْرُ الذي قَد يُقَالُ مِلْكَذبِ المأكلة: الرِّسالة، وقول الآخر: [الطويل] 3029 - أ - فَمَا سَبَقَ القَيْسِيُّ مِنْ سُوءِ فعلهِ ... ولكِنْ طَفَتْ عَلْمَاءِ غُرْلَةُ خَالدِ الغُرْلة القُلفة، وقول الآخر: [الخفيف] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 580 3029 - ب - نَحْنُ قَوْمٌ مِلْجِينِّ في زيِّ ناسٍ ... فَوْقَ طَيْرِ لَهَا شُخُوصُ الجِمالِ يريد: مِن الجنِّ. قال التبريزي في شرح الحماسة: وهذا مقيسٌ، وهو أن لام التعريف، إذا ظهرت في الاسم حذف الساكنُ قبلها؛ لأن الساكن لا يدغم في الساكن؛ تقول: أكلتُ مالخُبْزِ، ورَكْبَتْ مِلخَيْلِ، وحَملتُ مِلْجَمَلِ. وقد ردَّ بعضهم قول الفرَّاء بأنَّ نون» مِنْ «لا تحذف إلاَّ ضرورة، وأنشد: [المنسرح] 3030 - ... ... ... ... . ..... ... ... ... . . ملْكَذب الثالث: أنَّ أصلها» لمَا «بالتَّخفيف، ثمَّ شددت، وإلى هذا ذهب أبو عثمان، قال الزَّجَّاج:» وهذا ليس بشيءٍ؛ لأنَّا لَسنَا نُثَقِّل ما كان على حرفين، وأيضاً فلغةُ العربِ العكس من ذلك يُخَفِّفُون ما كان مُثَقَّّلاً نحو: «رُبَ» في «رُبَّ» وقيل: في توجيه إنَّه لمَّا وقف عليها شدَّدها، كما قالوا: رأيتُ فرجًّا، وقصبًّا، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّ التَّضعيف إنَّما يكونُ في الحرف إذا كان آخراً، والميمُ هنا حشوٌ؛ لأنَّ الألف بعدها، إلاَّ أن يقال: إنَّه أجرى الحرف المتوسط مجرة المتأخِّر؛ كقوله: [الرجز] 3031 - مِثْلَ الحَريقِ وَافَقَ القَصَبَّا ... يريد: القَصَبَ، فلمَّا أشبع الفتحة تولَّدت منها ألفٌ، وضعَّف الحرف؛ وكذلك قوله: [الرجز] 3032 - بِبَازلٍ وجْنَاءَ أوْ عَيْهَلِّي ... كأنَّ مَهْواهَا عَلى الْكَلْكَلِّ شدَّد اللام مع كونها حشْواً بياء الإطلاقِ، وقد يُفرَّق بأنَّ الألف والياء في هذين البيتين في حكم الطَّرح؛ لأنَّهما نَشَآ من حركةٍ بخلاف ألف: «لمَّا» فإنَّها أصليةٌ ثابتةٌ، وبالجملة فهُو وجهٌ ضعيفٌ جدًّا. الرابع: أنَّ أصلها «لمًّا» بالتنوين ثم بين منهُ «فَعْلى» فإن جعلت ألفهُ للتَّأنيث، لم تصرفه، وإنْ جعلتها للإلحاق صرفتهُ، وذلك كما قالوا في «تَتْرى» بالتنوين وعدمه، وهو مأخوذ من قولك: لَمَمْتُهُ: أي جمعتُهُ، والتقدير: وإن كُلاًّ جميعاً لويفينَّهُمْ، ويكون «جَميعاً» فيه معنى التوكيد ك «كل» ، ولا شكَّ أنَّ «جميعاً» يفيدُ معنى زائداً على «كل» عند الجزء: 10 ¦ الصفحة: 581 بعضهم قال: ويدلُّ على ذلك قراءة من قرأ: «لمَّا» بالتنوين. الخامس: أنَّ الأصل «لمًَّا» بالتنوين أيضاَ، ثمَّ أبدل التنوين ألفاً وقفاً، ثم أجري الوصل مجرى الوقف، وقد منع من هذا الوجه أبو عبيدة قال: لأنَّ ذلك إنَّما يجوز في الشعر يعني إبدال التنوين ألفاً وصلاً إجراءً لهُ جرى الوقف، وسيأتي توجيه قراءة «لمَّا» بالتنوين. وقال ابنُ الحاجبِ: «استعمالُ» لمَّا «في هذا المعنى بعيد، وحذفُ التنوين من المُنْصَرف في لاوصل أبعدُ، فإن قيل:» لمَّا «فعلى من اللَّمِّ، ومُنِعَ الصرف لأجل ألف التأنيث، والمعنى فيه مثل معنى» لمَّا «المُنْصَرف فهو أبعدُ، إذ لا يعرفُ» لمَّا «فعلى بهذا المعنى ولا بغيره، ثم كان يلزمُ هؤلاء أن يميلوا كمن أمال، وهو خلافُ الإجماع، وأن يكتبوها بالياء، وليس ذلك بستقيم» . السادس: أنَّ «لمَّا» زائدة كما تزاد «إلا» قالهُ أبو الفتح وغيره، وهذا وجهٌ لا اعتبار به، فإنَّه مبنيُّ على وجهٍ ضيف أيضاً، وهو أنَّ «إلاَّ» تأتي زائدة. _ _ السابع: أنَّ «إنْ» نافيةٌ بمنزلة «ما» ، و «لمَّا» بمعنى «إلاّ» فهي كقوله: {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] أي: ما كلُّ نفس إلاَّ عليها {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ} [الزخرف: 35] أي: ما كل ذلك إلا متاع. واعترض على هذا الوجه بأنَّ «إنْ» النافية لا تنصبُ الاسم بعدها، وهذا اسمٌ منصوبٌ بعدها وأجابَ بعضهم عن ذلك بأنَّ «كلاًّ» منصوبٌ بإضمار فعلٍ، فقدَّرهُ قومٌ منهم أبو عمرو ابنُ الحاجبِ: وإن أرى كلاًّ، وإن أعلمُ ونحوه، قال: ومِن هنا كانتْ أقلَّ إشكالاً من قراءة ابن عامر لقبولها هذا الوجه غيرُ مُسْتبعدٍ ذلك الاستعباد وإنْ كان في نَصْبِ الاسم الواقعِ بعد حرف النًَّفِي استبعادٌ، ولذلك اختلف في مثل: [الوافر] 3033 - ألاَ رَجُلاً جزاهُ اللَّهُ خَيْراً ... يَدُلُّ عَلى مُحَصِّلةٍ تَبِيتُ هل هو منصوب بفعل مقدَّر، أو نوِّن ضروةً؟ فاختار الخليلُ إضمار الفعلِ، واختار يونس التنوين للضَّرورة، وقدَّرهُ بعضهم بعد «لمَّا» من لفظ: «ليُوفِّينَّهُم» ، والتقدير: وإن كلاً إلاَّ ليوفِّينَّ ليُوفِّينَّهم. وفي هذا التقدير بعدٌ كبيرٌ أو امتناع؛ لأنَّ ما بعد «إلاَّ» لا يعمل فيما قبلها، واستدل على مجيء: «لمَّا» بمعنى: «إلاَّ» بنصِّ الخليل وسبويه على ذلك ونصره الزَّجَّاج. قال بعضهم: وهي لغةُ هذيل، يقلولون: سألتك بالله لمَّا فعلت أي: إلاَّ فعلت. وأنكر الفرَّاء وأبو عبيدة وردود: «لمَّ» بمعنى: «إلاًّ» قال أبو عبيدٍ: «أمَّا من شدَّد» لمَّا «بتأويل» إلاَّ «فلمْ نجدْ هذا في كلام العربِ، ومن قال هذا لزمهُ أن يقول: قام القوم الجزء: 10 ¦ الصفحة: 582 لمَّا أخاك، يريدُ: إلاَّ أخاكَ، وهذا غيرُ موجودٍ» وقال الفرَّاءُ: «وأمَّا من جعل» لمَّا «بمنزلة» إلاَّ «فهو وجهُ ضعيفٌ، وقد قالت العربُ في اليمين: بالله لمَّا قمت عنا، وإلاَّ قمت معنا، فأمَّا في الاستثناء فلم تقله في شعر، ولا غير غيره، ألا ترى أنَّ ذلك لو جاء لسمعت في الكلام: ذهب النَّاسُ لمَّا زيداً» فأبو عبيد أنكر مجيء «لمَّاط بمعنى» إلاَّ «مُطلقاً، والفراء جوَّز ذلك في القسم خاصةً، وتبعه الفرسي في ذلك، فقال - في تشديد» لمَّا «ههنا -:» لا يصلحُ أن تكونَ بمعنى «إلاَّ» ، لأنَّ «لمَّا» هذه لا تفارق القسم «وردَّ النَّاس قوله بما حكاه الخليل وسيبويه، وبأنَّها لغة هُذيْل مطلقاً، وفيه نظرٌ، فإنَّهُمْ لمَّا حكوا لغة هذيل حكوها في القسم كما تقدّضم من نحو: نشدتك بالله لمَّا فعلت، وأسألك بالله لمَّا فعلت. وقال أبو علي أيضاً مستشكلاً لتشديد:» لمَّا «في هذه الآية على تقدير أنَّ» لمَّا «بمعنى» إلاَّ «لا تختص بالقسم ما معناه: أنَّ لتشديد:» لمَّا «في هذه الآية على تقدير أنَّ» لمَّا «بمعنى» إلاَّ «لا تختص بالقسم ما معناه: أنَّ تشديد» لمَّا «ضعيفٌ سواء شدَّدت» إن «أم خفَّفت، قال:» لأنَّه قد نُصِبَ بها «كلاً» ، وإذا نصب بالمُخَفَّفةِ كانت بمنزلة المثقلة، وكا لا يَحْسُن: إنَّ زيداً إلاَّ منطلق؛ لنَّ الإيجابَ بعد نفي، ولم يتقدَّم هنا إلاَّ إيجاب مؤكدة، فكذا لا يحسن: إنَّ زيداً لمَّا منطلق، لأنَّهُ بمعناه، وإنَّما ساغ: نشدتُك الله إلاَّ فعلت، ولمَّا فعلت؛ لأنَّ معناه الطَّلب، فكأنَّهُ قال: ما أطلبُ منك إلاَّ فِعْلك، فحرفُ الن َّفي مرادٌ مثل {تَالله تَفْتَأُ} [يوسف: 85] ، ومثَّل ذلك أيضاً بقولهم: «شرُّ أهرُّ ذا ناب» أي: ما أهرَّه إلاَّ شرُّ، قال: «وليس في الآية معنى النَّفي ولا الطَّلب» . وقال الكسائي: لا أعرف وجه التَّثقيل في «لمَّا» قال الفرسيُّ: ولم يبعد فيما قال وروي عن الكسائي أيضاً أنَّه قال: اللَّهُ عزَّ وجلَّ أعلمُ بهذه القراءة، لا أعرفُ لها وجهاً. _ _ الثامن: قال الزَّجَّاجُ: قال بعضهم قَوْلاً، ولا يجوز غيره: أنَّ «لمَّا» في معنى «إلاَ» مثل {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق: 4] ثمَّ أتبع ذلك بكلام طويل مشكل حاصلهُ يرجع إلى أنَّ معنى «إنْ زيدٌ لمنطلق: ما زيدٌ إلاَّ منطلق» ، فأجريتَ المشددة كذلك في المعنى إذا كانت اللام في خبرها، وعملها النَّصيب في اسمها باقٍ بحالة مشددة ومخففة، والمعنى نفيٌ ب «إنْ» وإثباتٌ باللاَّم التي بمعنى «إلاَّ» و «لمَّا» بمعنى «إلاَّ» ، وقد تقدَّم إنكارُ أبي عليّ على جواز «إلاَّ» في مثل هذا التركيب، فكيف يجُوزُ «لمَّا» التي بمعناها؟ . وأمَّا قراءةُ ابن عامر وحمزة وحفصل ففيها وجوه: أحدهما: أنَّها «إنَّ» المشددة على حالها، فلذلك نصب ما بعدها على أنَّه اسمها، وأمَّا «لمَّا» فالكلامُ فيها كما تقدَّم من أنَّ الأصل «لَمِنْ مَا» بالكسر، أو لَمَنْ مَا «بالفتح، وجميع تلك الأوجه المذكورة تعودُ هنا، والقولُ بكونها بمعنى» إلاَّ «مشكلٌ كما تقدَّم تحريره عن أب علي وغيره. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 583 الثاني: قال المازنيُّ: إنَّ» هيا لمخففة ثقلت: وهي نافيةٌ معنى «مَا» كما خففت «إنَّ» ومعناها المثقلة، «ولمَّا» بمعنى «إلاَّ» وهذا قولٌ ساقطٌ جدًّا لا اعتبار به، لأنَّهُ لم يُعْهَدْ تثقيلُ «إنْ» النافية، وأيضاً ف «كلاًّ» بعدها منصوبٌ، والنافيةُ لا تنصبُ. قال أبُو عمرو بنُ الحاجب - في أماليه -: «لمَّا» هذه هي الجازمة فحذف فعلها للدَّلالةِ عليها، لما ثبت من جوازِ حذف فعلها في قلوهم: «خرجتُ ولمَّا، وسافرتُ ولمَّا» وهو سائغٌ فصيح، ويكونُ المعنى: وإنَّ كُلاً لمَّا يهملوا أو يتركُوا لما تقدَّم من الدَّلالةِ عليه من تفصيل المجموعين بقوله: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} [هود: 105] ، ثمَّ فصَّل الأشقياءَ والسُّعداء، ومجازاتهم ثُمَّ بيَّن ذلك بقوله: {لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ} قال: «وما أعرفُ وجهاً أشبهَ من هذا، وإن كانت النفوسُ تَسْتبعدُهُ من جهة أنَّ مثلهُ لمْ يردْ في القرآن» ، قال: «والتَّحْقِيقُ يَأبَى استعادهُ» . قال شهابُ الديِّن: وقد نصَّ النَّحويون على أنَّ «لمَّا» يحذفُ مجزومها باطِّرادٍ، قالوا: لأنَّها لنفي قَدْ فعل، وقد يحذف بعدها الفعل؛ كقوله: [الكامل] 3034 - أفِدَ التَّرْحُّلْ غَيْرَ أنذَ رِكَابنَا ... لمَّا تزلْ بِرحَالِنَا وكأنْ قَدِ أي: وكأن قد زالت، فكذلك منْفيهُ، وممَّن نصَّ عليه الزمخشريُّ، على حذف مجزومها، وأنشد يعقوب على ذلك في كتاب «معانِي الشِّعر» قول الشَّاعِر: [الوافر] 3035 - فَجِئْتُ قُبُورَهُمْ بَدْءاً ولمَّا ... فَنادَيْتُ القُبورَ فَلَمْ يُجِبْنَهْ قال: «قوله:» بَدْءاً «أي: سيّداً وبدءُ القوم سيِّدهم، وبدءُ الجزُور خيرُ أنْصِبَائِهَا» . قال: وقوله: «ولمَّا» أي: ولمّا أكُنْ سيِّداً إلاَّ حين ماتُوا، فإنِّي سدتُ بعدهم؛ كقول الآخر: [الكامل] 3036 - خَلَتِ الدِّيَارُ فَسُدْتُ غَيْرَ مُسَوَّد ... ومن العناءِ تفرُّدِى بالسُّؤدُدِ ما نِلْتُ ما قَدْ نِلْلتُ إلاَّ بَعْدَمَا ... ذَهَبَ الكِرامُ وسَادَ عَيْرُ السَّيِّد قال ونظير السُّكُوتِ على «لمَّا» دون فعلها السكُّوتُ على «قَدْ» دون فعلها في قول النابغة: [الكامل] 3037 - أفِدَ التًّرَحُّلُ ... ... ... ..... ... ... ... ... ... ... . . قال شهابُ الدِّين: وهذا الوجهُ لا خصوصية لهُ بهذا القراءة، بل يَجِيءُ في قراءة من شدَّد «لمَّا» سواءً شدَّد «إن» أو خففها. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 584 وأمَّا قراءةُ أبي عمرو، والكسائي فواضحةٌ جدًّا، فإنَّها «إنَّ» المشدَّدة عملت عملها، واللاَّم الأولى لام الابتداء الدَّاخلة على خبر «إنَّ» ، والثانية جواب قسم محذوف، أي: وإنَّ كلاًّ للذين والله ليوفِّينَّهُم، وقد تقدَّم وقوعُ «ما» على العُقلاء؟ ِ مُقرَّرا، ونظيرُ هذه الآية: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] غير أنَّ اللاَّم في «لمنْ» داخلةٌ على الاسم، وفي «لمَّا» داخلة على الخبر. وقال بعضهم: «مَا» هذه زئادةٌ زيدت للفصل بين اللامين، لام التَّوكيد، ولام القسم، وقيل: اللاَّم ُ في «لمَّا» موطئة للقسم مثل اللاَّم في قوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] والمعنى: وإنَّ جميعهم واللَّه ليُوفِّينَّهُم ربُّك أعمالهُم من حُسْنٍ وقُبْحٍ وإيمانٍ وجحودٍ. وقال الفرَّاء عند ذكر هذه الآية -: جَعَلَ «مَا» اسماً للنَّاس كما جاز {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] ثم جعل اللاَّم التيفيها جواباً ل «إنَّ» وجعل اللاَّم التي في «ليُوفِّينَّهُمْ» لاماً دخلت على نيَّةِ يمينٍ فيما بين «مَا» وصلتها، كما تقول: هذا من ليَذْهبنَّ، وعندي ما لغيرهُ خيرُ منه، ومثله: {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ} [النساء: 72] . ثم قال بعد ذلك ما يدلُّ على أنَّ اللاَّم مكررةٌ فقال: إذا عجَّلت العربُ باللاَّم في غير موضعها أعادوها إليه، نحو: إنَّ زيداً لإليك لمُحْسِنٌ؛ ومثله: [الطويل] 3038 - ولَوْ أنَّ قَوْمِي لمْ يكُونُوا أعِزَّة ... لبَعْدُ لقَدْ لا قَيْتُ لا بُدَّ مَصْرَعَا قال: أدخلها في «بَعْد» وليس بموضعها، وسمعت أبا الجرَّاحِ يقولُ: «إنِّي ليحمد الله لصالحٌ» . وقال الفارسيُّ - في توجيه القراءة -: «وجهُهَا بيِّن وهو أنَّه نصب» كُلاًّ «ب» إنَّ «وأدخل لام الابتداء في الخبر، وقد دخلت في الخبرِ لامٌ أخرى، وهي التي يُتلقَّى بها القسم، وتختصُّ بالدُّخُول على الفعل، فلمَّا اجتمعت اللاَّمان فُصِل بينهما كما فُصِل بين» إنَّ «واللاَّم فدخلتها وإن كانت زائدة للفصل، ومثله في الكلام: إن زيداً لينطلقنَّ» . فهذا ما تلخَّص من توجيهات هذه القراءات الأربع، وقد طعن بعضُ النَّاس في بعضها بِمَا لا تحقق له، فلا ينبغي أن يلتفت إلى كلامه. قال المبردُ - وهي جرأةٌ منه - «هذا لحنٌ» يعين تشديد «لمَّا» قال: «لأنَّ العرب لا تقول: إنَّ زيداً لمَّا خارجٌ» وهو مردودٌ عليه. قال أبو حيان: وليس تركيبُ الآية كتركيب المثال الذي قال وهو: إنَّ زيداً لمَّا الجزء: 10 ¦ الصفحة: 585 خارج، هذا المثالُ لحنٌ. قال شهابُ الدِّين: إن عنى أنَّهُ ليس مثله في التركيب من كل وجه فمُسلَّم، ولكن ذلك لا يفيدُ فيما نحن تصدده، وإن عنى أنه ليس مثله في كونه دخلت «لمَّا» المشددة على خبر «إنَّ» فليس كذلك، بل هو مثلُه في ذلك، فتسليمُهُ اللَّحْنَ في المثال المذكور ليس بصوابٍ؛ لأنه يستلزم ما لا يجوز أن يقال. وقال أبو جعفرٍ: القراءةُ بتشديدهما عند أكثر النَّحويين لحنٌ، حكي عن محمد بن يزيد أنه قال: إنَّ هذا لا يجوز، ولا يقال: إنَّ زيداً إلا لأضربنَّه، ولا «لمَّا لأضربنَّه» قال: وقال الكسائي: «اللَّه أعلم لا أعرف لهذه القراءة وجهاً» وقد تقدم ذلك، وقتدم أيضاً أنَّ الفرسي قال: كما لا يحسن: إنَّ زيداً إلاَّ لمنطلق؛ لأنَّ «إلاَّ» إيجاب بعد نفي، ولم يتقدَّم هنا إلاَّ إيجابٌ مؤكَّد، فكذا لا يحسن: إنَّ زيداً لما منطلق، لأنه بمعناه، وإنَّما ساغ نشدتك بالله لمَّا فعلت ... إلى آخر كلامه. وهذه أقوالٌ مرغوبٌ عنها؛ لأنَّها معارضة للمتواتر القطعي. وأمَّا القراءات الشَّاذة فأوَّلها قراءةُ أبي ومن تبعه «وإنْ كلٌّ لمَّا» بتخفيف «إنْ» ورفع «كل» على أنَّها «إن» النافية «وكل» مبتدأ، و «لمَّا» مشددة بمعنى «إلاَّ» ، و «ليُوفِّينَّهُم» جوابُ قسمٍ حذوف، وذلك القسم وجوابه خبر المبتدأ وهي قراءةٌ جليَّة واضحةٌ كما قرؤوا كلُّهّم {وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ} [يس: 32] ومثله {وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ} [الزخرف: 35] ، ولا التفاتَ إلى قول من نفى أنَّ «لمَّا» بمنزلةِ «إلاَّ» فقد تقدَّمت أدلته. وأما قراءةُ اليزيدي وابن أرقم «لمَّا» بالتشديد منونة ف «لمَّا» فيها مصدرٌ من قولهم: «لمَمْتُه - أي: جمعته - لمَّا» ومنه قوله تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 19] ثم في تخريجه وجهان: أحدهما: ما قاله أبو الفتح، وهو أن يكون منصوباً بقوله: «ليُوفِّينَّهُمْ» على حدِّ قولهم: قياماً لأقومنَّ؛ وقعوداً لأقَعدنَّ، والتقديرُ: توفيةً جامعةً لأعمالهم ليوفينهم، يعني أنه منصوبٌ على المصدر الملاقي لعامله في المعنى دون الاشتقاق. والثاني: ما قالهُ أبو علي الفارسي وهو: أن يكون وصفاً ل «كُلّ» وصفاً بالمصدر مبالغة، وعلى هذا فيجبُ أن يقدَّر المضافُ إليه «كل» نكرةً، ليصحَّ وصفُ «كل» بالنَّكرةِ، إذْ لو قُدِّر المضافُ معرفة لتعرَّفتْ «كل» ، ولو تعرَّفت لامتنع وصفُها بالنَّكرةِ، فلذلك قُدِّر المضافُ إليه نكرة، ونظيره قوله تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التراث أَكْلاً لَّمّاً} [الفجر: 19] فوقع «لمَّا» نعتاً ل «أكْلاً» وهو نكرةٌ. قال أبو علي: ولا يجوز أن يكون حالاً؛ لأنه لا شيء في الكلام عاملٌ في الحالِ. وظاهرُ عبارة الزمخشري أنَّهُ تأكيدٌ تابعٌ ل «كلاًّ» كما يتبعها أجمعون، أو أنَّهُ منصوبٌ على النَّعت ل «كُلاًّ» فإنه قال: «وإنْ كلاًّ لمًّا ليُوفِينَّهُمْ» كقوله: «أكْلاً لمًّا» والمعنى: وإن كلاًّ ملمومين بمعنى: مجموعين، كأنه قيل: وإن كلاًّ جميعاً كقوله تعالى: {فَسَجَدَ الملاائكة الجزء: 10 ¦ الصفحة: 586 كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 30] انتهى لا يريدُ بذلك أنَّهُ تأ: يدٌ صناعيُّ، بل فسَّر معنى ذلك وأراد: أنَّهُ صفةٌ ل «كُلاًّ» ولذلك قدَّرهُ: بمجموعين، وقد تقدَّم في بعض توجيهات «لمَّا» بالتَّشديد من غير تنوين، أنَّ المنون أصلا، وإنَّما أُجري الوصلُ مجرى الوقف، وقد عُرف ما فيه وخبر «إنْ» على هذه القراءة هي جلمة القسمِ المقدَّرِ وجوابه سواءَ في ذلت تخريجُ أبي الفتح وتخريجُ شيخه. وأمَّا قراءةُ الأعمشِ فواضحةٌ جداًّ، وهي مفسَّرةٌ لقراءة الحسنِ المتقدَّمة، لولا ما فيها من مخالفة سوادِ الخط. وأمَّا قراءةُ ما في مصحفِ أبي كما نقلها أبُو حاتم ف «إنْ» فيها نافية، و «مِنْ» زائدةٌ في النَّفي، و «كل» مبتدأ، و «ليُوفِّينَّهُم» مع قسمة المقدَّر خبرها، فتؤول إلى قراءة الأعمش التي قبلها، إذ يصيرُ التقديرُ بدون «مِنْ» : «وإنْ كلٌّ إلاَّ ليُوفِّينَهُم» والتنوين في «كلاً» عوضٌ من المضافِ إليه قال الزمخشري: يعني: وإنَّ كُلُّهُم، وإنَّ جميع المختلفين فه. وقد تقدَّم أنَّهُ على قراءةِ «لمًّا» بالتنوين في تخريج أبي عليّ لهُ، لا يقدَّر المضافُ إليه «كل» إلاّ نكرةً لأجْلِ نعتها بالنَّكرةِ. التوكيد ب «إنَّط وب» كُلّ «وبلام الابتداءِ الدَّاخلة على خبر» إنَّ «وبزيداة» ما «عل رأي، وبالقسم المقدَّر وباللاَّم الواقعة جواباً له، وبنون التوكيد، وبكونها مشددة، وإردافها بالجملة لاتي بعدها من قوله {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فإنَّه يتضمَّنُ وعيداً شديداً للعاصي، ووعداً صالحاً للطَّائع. وقرأ العامَّةُ: «يَعْمَلُون» بياء الغيبة، جرياً على ما تقدَّم من المختلفين، وقرأ ابنُ هرمز «بِمَا تعملُونَ» بالخطابِ، فيجُوزُ أن يكون التفاتاً من غيبة إلى خطابِ، ويكونُ المخاطبون الغيب المتقدِّمين، ويجوز أن يكون التفاتاً إلى خطاب غيرهم. فصل معنى الآية: أنَّ من عجلت عقوبته، ومن أخرت ومن صدَّق الرُّسل، ومن كذَّب فحالهم سواء في أنَّهُ تعالى يوفيهم أجر أعمالهم في الآخرة، فجمعت الآية الوعد، والوعيد فإنَّ توفية جزاء الطاعات وعدٌ عظيمٌ، وتوفية جزاءِ المعاصي وعيدٌ عظيمٌ، وقوله: {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} توكيد للوعْدِ والوعيد، فإنَّه لمَّا كان عالماً بجميع المعلومات كان عالماً بمقادير الطَّاعات والمعاصي، فكان عالماً بالقدر اللاَّئق بكل عمل من الجزاءِ، فحينئذٍ لا يضيع شيء من الحقوق وذلك نهاية البيان. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 587 قوله تعالى: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} الآية. لمَّا شرح الوعد الوعيد قال لرسوله «فاسْتقِمْ كما أمِرْتَ» وهذه كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يتعلَّق بالعقائدِ والأعمال، سواء كان مختصَّا به، أو متعلقاً بتبليغ الوحي وبيان الشَّرائع، ولا شكَّ أنَّ البقاء على الاستقامة الحقيقيَّة مشكلٌ جدًّا. قال ابنُ الخطيب: وأنا أضربُ لذلك مثلاً يقربُ صعوبة هذا المعنى إلى العقل السَّليم، وهو انَّ الخطَّ المستقيم الفاصل بين الظِّلِّ وبين الضَّوء جزء واحد لايقبلُ القسمة في العرض، وذلك الخط ممَّا لا يدركه الحس، فإنَه إذا قرب طرف الظل من طرف الضَّوءِ اشتبه البعضُ بالبعض في الحسّ، فلم يقع الحس على إدراك الخط بعينه بحيثُ يتميز عن كلِّ ما سواهُ. وإذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية. فأولها: معرفة الله وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العقل مصوناً في طرف الإثبات عن التَّشبيه، وفي طرف النَّفي عن التَّعطيل في غاية الصعوبة، واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك، وأيضاً فالقوَّة الغضبية والقوّةُ الشهوانية حصل لك واحد منهما طرفُ إفراط وتفريط، وهما مذمومان، والفاصلُ هو المتوسط بينهما بحيثُ لا يميلُ إلى أحدِ الجانبين، والوقوفُ عليه صعبٌ؛ فثبت أنَّ معرفة الصِّراط المستقيم في غاية الصُّعوبة، لا جرم قال ابنُ عبَّاسِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ما نزلت على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرم وبجَّل ومجَّد وعظَّم - في جميع القرآن آية أشق من هذه، ولهذا قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «شيبَّني هُود وأخواتها» وروى عن بعضهم قال: رأيت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المنام، فقلت لهُ: روي عنك أنك قلت: «شَيَّبَتْنِي هُود وأخواتُها» فقال: نَعَمْ «قلت: وبأي آية؟ فقال: قوله:» فاسْتَقِمْ كما أمِرْتَ «. قوله: {كَمَآ أُمِرْتَ} الكافُ في محلِّ النصب، إمَّا على النَّعت لمصدرٍ محذوفٍ، كما هو المشهورُ عند المعربين قال الزمخشريُّ: أي اسْتقم استقامةً مثل الاستقامةِ الَّتِي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 588 أمرتَ بها على جادًّة الحقِّ غير عادلٍ منها. وإمَّا على الحالِ من ضميرِ ذلك المصدر. واستفعل هنا للطَّلب، كأنه قيل: اطلب الإقامة على الدِّين، كما تقول: استغفر أي: اطلب الغفران. قوله: {وَمَن تَابَ مَعَكَ} في «مَنْ» وجهان، أحدهما: أنَّهُ منصوب على المفعول به، كذا ذكره أبو البقاء ويصير المعنى: استقم مصاحباً لمنْ تاب مُصاحباً لك، وفي هذا المعنى نقوٌّ عن ظاهر اللفظ. والثاني: أنَّهُ مرفوعٌ فإنَّه نسقٌ على المستتر في «اسْتَقمْ» ، وأعنى الفصلُ الجارِّ عن تأكيده بضميرٍ منفصل في صحَّةِ العطف، وقد تقدَّم هذا البحث في قوله: {اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ} [البقرة: 25] ، وأنّ الصحيح أنَّهُ من عطف الجمل لا من عطف المفرادات، ولذلك قدَّرهُ الزمخشريُّ فاستقم أنتَ، وليستقم من تاب مَعَكَ، فقدَّر الرافع له فعلاً لائقاً برفعه الظَّاهر. وقال الواحدي: محلها ابتداء تقديره: ومن تَابَ معكَ فلْيَستقِمْ فصل معنى الآية: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} على دين ربِّك، والعمل به، والدُّعاء إليه، كما أمرت، {وَمَن تَابَ مَعَكَ} أي: مَنْ معك فليَسْتَقِيمُوا، قال عمرُ بنُ الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الاستقامةُ أن تَسْتَقِيمَ على الأمْرِ والنَّهْي، ولا تروغ روغان الثَّعلب. روى هشام بن عُروة عن أبيه عن سفيان بن عبدِ الله الثَّقفي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «قلتُ يا رسُول الله قُلْ لِي فِي الإسلامِ قَوْلاُ لا أسْألُ عنهُ أحداً بعدك، قال:» قُلْ آمنْتُ باللَّهِ ثم اسْتٌقِمْ «. فصل هذه الآية أصلٌ عظيم في الشَّريعة، وذلك أنَّ القرآن لمَّا ورد بترتيب الوضوء في اللفظ وجب اعتبار الترتيب فيه، لقوله: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} ، ولمَّا» ورد الأمرُ في الزَّكاةِ بأداء الإبل من الإبل، والبقرِ من البقرِ وجب اعتبارها، وكذا القولُ في كل ما ورد أمرُ الله به. قال ابنُ الخطيبِ: وعندي أنه لا يجوزُ تخصيص النصِّ بالقياسِ؛ لأنَّهُ لمَّا دلَّ عموم النَّص على حكم وجب العمل بمقتضاه، لقوله تعالى -: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} فالعملُ بالقياسِ انحراف عنه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 589 ثم قال: {وَلاَ تَطْغَوْاْ} أي: لا تجوزوا أمري ولا تعصوني وقيل: لا تغلُوا فتزيدُوا على أمرت ونهيت والطُّغيان: تجاوز الحدًّ. وقيل: لا تطغوا في القرآن فتحلُّوا حرامهُ وتحرِّمُوا حلالهُ وقال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «تواضعوا لله ولا تتكبورا على أحد» {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} قرأ العامَّة «تَعْمَلُونَ» بالتَّاء «جرياً على الخطابِ المتقدم. وقرأ الحسن والأعمش وعيسى الثقفيُّ بياء الغيبة، وهو التفاتٌ من خطابٍ لغيبةٍ عكس ما تقدَّم في {إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . قوله تعالى: {وَلاَ تركنوا} قرأ العامَّةُ بفتح التَّاءِ والكاف، والماضي من هذا «رَكِن» بكسر العين ك «عَلِمَ، وهذه الفصحى، كذا قال الأزهريُّ وقال غيره:» وهي لغةُ قريش «وقرأ أبو عمرو في رواية:» تِرْكَنُوا «بكسر حرف المضارعة وقد تقدَّم ذلك في قوله:» نَسْتعِينُ «. وقرأ قتادةُ، وطلحةُ، والأشهب، ورويت عن أبي عمرو» تَرْكُنُوا «بضمِّ العين وهو مضارع» رَكَنَ «بفتحها ك: قَتَلَ يَقْتُل، وقال بعضهم: هو من التَّداخُلِ، يعني من نطق ب» رَكَنَ «بكسر العين قال:» يَرْكُن «بضمها، وكان من حقِّه أن يفتحَ، فلمذَا ضمّ علمنا أنه استغنى بلغةِ غيره في المضارع عن لغته، وأمَّا في هذه القراءةِ فلا ضرورة بنا إلى ادِّعاءِ التَّداخُل، بل ندَّعي أنَّ من فتح الكاف أخذه من:» رَكِنض «بالكسرِ، ومن ضمَّها أخذه من» رَكَنَ «بالفتح، ولذلك قال الراغبُ:» والصحيحُ أن يقال: رَكِنَ يَرْكَنُ ورَكَنَ يَرْكُنُ بالكسر في الماضي مع الفتح في المضارع، وبالفتح في الماضي مع الضمِّ في المضارع «وشذَّ أيضاً قولهم: رَكَن يَرْكَن بالفتح فيهما، وهو التداخل؛ فتحصًّل من هذا أنَّه قال:» رَكِنَ «بكسر العين وهي اللغة العالية كا تقدَّم، و» ركَنَ «بفتحها، وهي لغة قيس وتميم، وزاد الكسائيُّ:» ونَجْد «وفي المضارع ثلاثٌ: الفتحُ، والكسرُ، والضمُّ. وقرأ ابنُ أبي عبلة:» تُرْكَنُوا «مبنياً للمفعول من: أرْكَنَهُ إذا أمالهُ، فهو من باب» لا أرَيَنَّكَ ههنا «و {فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ} الأعراف: 2] وقد تقدم. والرُّكُونُ: المَيْلِ، ومنه الرُّكْنُ للاستنادِ إليه. قوله: {فَتَمَسَّكُمُ} منصوبٌ بإضمار» أنْ «في جوابِ النهي. وقرأ ابنُ وثاب وعلقمةُ، والأعمشُ في آخرين» فَتِمَسَّكُمُ «بكسر التَّاءِ. قوله: {وَمَا لَكُمْ} هذه الجملةُ يجوزُ أن تكون حاليةً، أي: تَمَسَّكم حال انتفاءِ ناصركم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 590 ويجوز أن تكون مستأنفة و» مِنْ أولياءَ «» مِنْ «فيه زائدةٌ، إمَّا في الفاعل، وإمَّا في المبتدأ، لأنَّ الجارَّ إذا اعتمد على أشياءَ - أحدها النَّفيُ - رفع الفاعل. قوله: {ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ} العامَّةُ على ثبوتِ نُون الرَّفعِ؛ لأنه مرفوع، إذ هو من باب عطف الجمل، عطف جملة فعلية على جملة اسميةَ. وقرأ زيد بن علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - بحذف نون الرفع، عطفه على» تمسَّكُم «، والجملةُ على ما تقدَّم من الحاليةِ أو الاستئناف، فتكون معترضةً، وأتى ب» ثمَّ «تنبيهاً على تباعد الرُّتْبَة. فصل معنى الآية: قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -:» ولا تميلُوا «. والرُّكُونُ: هو المحبَّة والميل بالقلب. وقال أبو العاليةِ: لا ترضوا بأعمالهم. وقال السدي: لا تداهِنُوا الظَّلمة. وعن كرمة: لا تطيعوهم وقيل لاتسكنوا إلى الذين ظلمُوا «فتَتَمسَّكُم» ، فتصيبكم «النَّارُ وما لَكُم من دُونِ الله من أولياءَ» أي: ليس لكم أولياء ولا أعوان يخلصونكم من عذاب الله، ثُمَّ لا تجدُوا من ينصركُمْ. قوله تعالى: {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} الآية. لمَّا أمره بالاستقامة أردفهُ بالأمر بالصَّلاة، وذلك يدلُّ على أنَّ أعظم العبادات بعد الإيمان بالله هو الصلاة. قوله: {طَرَفَيِ النهار} ظرفٌ ل «أقِم» ويضعف أن يكون ظرفاً للصلاة، كأنه قيل: أي أقم الصَّلاة الواقعة في هذين الوقتين، والطرف، وإن لم يكن ظرفاً، ولكنَّه لمَّا أضيف إلى كلها على الظرف لمَّّا أضيفت إليه، وإن كانت ليست موضوعة للظَّرفية. وقرأ العامَّةُ «زُلَفاً» بضمِّ الزاي، وفتح اللام، وهي جمعُ «زُلْة» بسكون اللام، نحو: غُرَف في جمع غُرفة، وظُلَم في جمع ظُلمه. وقرأ أبو جعفر وابنُ أبي إسحاق بضمها، وفي هذه القراءةِ ثلاثةُ أوجه: الجزء: 10 ¦ الصفحة: 591 أحدهما: أنَّهُ جمع «زُلْفَة» أيضاً، والضَّمُّ للإتباع، كما قالوا: بسْرة وبُسُر بضم السين إتباعاً لضمَّة الباء. الثاني: أنَّهُ اسمٌ مفرد على هذه الزِّنةِ ك: عُنُق. الثالث: أنه جمعُ «زَلِيف» قال أبو البقاءِ: «وقد نُطِف به» ، يعني أنَّهم قالوا زَليف، و «فعيل» يجمعُ على «فُعُل» نحو: رَغِيف ورغف، وقَضِيب وقضُب. وقرأ مجاهدٌ وابنُ محيصنٍ بإسكان اللاَّم وفيها وجهان: أحدهما: أنَّهُ يحتمل أن تكون هذه القراءةُ مخفَّفةً من ضمِّ العين فيكون فهيا ما تقدَّم. والثاني: أنَّهُ سكونُ أصلٍ من باب اسم الجنس نحو: بُسْرة وبُسْ من غير إتباع. وقرأ مجاهد وابن محيصنٍ وأيضاً في رواية: «وزُلْفَى» بزنة: «حُبْلَى» جعلوها على صفةِ الواحدة المؤنثة اعتباراً بالمعنى؛ لأنَّ المعنى على المنزلة الزُّلفى، أو الساعة الزُّلْفَى، أي: القريبة. وقد قيل: إنَّه يجوز أن يكون أبدلا التنوين ألفاً ثم أجرياص الوصل مجرى الوقف فإنَّهُما يقرآن بسكون اللاَّم وهو محتملٌ. وفي انتصاب: «زُلَفاً» وجهان: أظهرهم: أنه نسقٌ على «طَرفي» فينتصب الظَّرف، إذ المراد بها ساعات الليل القريبة. والثاني: أن ينتصب انتصابَ المفعول به نسقاً على الصَّلاة. قال الزمخشريُّ - بعد أن ذكر القراءات المتقدمة -: وهو ما يقرب من آخر النَّهار ومن الليل، وقيل: زُلَفاً من الليل وقُرْباً من الليل، وحقُّها على هذا التفسير أن تعطف على الصلاة، أي: أقم الصلاة طرفي النَّهار، وأقم زُلفاً من اللَّيل على معنى صلوات تقرَّبُ بها إلى الله تعالى في بعض الليل. والزُّلفةُ: أول ساعات الليل، قاله ثعلبُ. وقال الأخفش وابنُ قتيبة: «الزلف: ساعات الليل وآناؤه، وكلُّ ساعة منه زلفة» فلم يخصصاه بأوَّلِ الليلِ؛ وقال العداد: [الرجز] 3039 - ناجٍ طواهُ الأيْنُ ممَّا وجَفَا ... طَيَّ اللَّيَالِي زُلَفاً فزُلفَا سماوةَ الهلالِ حَتَّى احقوْقَفا ... الجزء: 10 ¦ الصفحة: 592 وأصلُ الكلمة من «الزُلْفَى» والقرب، يقال: أزْلفه فازْدلفَ، أي: قربَّهُ فاقتربَ قال تعالى: {وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين} [الشعراء: 64] وفي الحديث: «ازْدَلِفُوا إلى الله بركعتيْنِ» . وقال الرَّاعب: والزُّلفةُ: المَنْزِلَةُ والحُظْوة، وقد استعملت الزُّلفة في معنى العذابِ كاستعمال البشارة ونحوها، والمزالِفُ: المراقي: وسُمِّيت ليلة الزدلفة لقربهم من منى بعد الإفاضة. وقوله: «من اللَّيل» صفةٌ ل «زُلَفاً» . فصل معنى «طَرَفَي النَّهارِ» أي: الغداوة والعشي. قال مجاهدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: طرفا النهار الصبح، والظهر، والعصر «وزُلفاً من اللَّيْل» يعني: صلاة المغرب والعشاء. وقال الحسنُ: طرفا النَّهارِ: الصبح، والظهر والعصر «وزُلفاً من اللَّيل» المغرب والعشاء وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: طرفا النهار الغداوة والعشي، يعني صلاة الصبح والمغرب. فصل قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «الأشهر أنَّ الصلوات التي في طرفي النهار هي الفجر والعصر، وذلك لأنَّ أحد طرفي النهار طُلوعُ الشَّمس، والطَّرف الثاني غروب الشمس. فالأول: هو صلاة الفجر. والطرف الثاني لا يجوز أن يكون صلاة المغرب؛ لأنها داخلة تحت قوله: {وَزُلَفاً مِّنَ الليل} فوجب حملُ الطَّرفي الثاني على صلاة العصر. وإذا تقرَّر هذا كانت الآية دليلاً على قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في أنَّ التنوير بالفجرِ أفضل، وفي أنَّ تأخير العصر أفضل؛ لأنَّ ظاهر الآية يدلُّ على وجوب إقامة الصَّلاة في طرفي النهار، وبينا أنَّ طرفي النهار هم الزمان الأول لطلوع الشمس، والزَّمان الثَّاني لغروب الشمس، وأجمعت الأمة على أنَّ إقامة الصَّلاة في ذلك الوقت من غير ضرورة غير مشروعة فقد تعذَّر العملُ بظاهر الآية، فوجب حلمه على المجاز، وهو أن يكون المرادُ: إقامة الصلاة في الوقت الذي يقرب من طرفي النهار؛ لأنَّ ما يقرب من الشَّيءِ يجوزُ أن يطلقَ عليه اسمه، وإذا كان كذلك فكل وقتٍ كان أقرب لطلوع الشمسِ، الجزء: 10 ¦ الصفحة: 593 وإلى غروبها كان أقربُ إلى ظاهر اللفظ، وإقامة صلاة الفجر عند التنوير أقرب إلى وقت الطُّلوع من إقامتها عند التغليس، وكذلك إقامة صلاة العصر عندما يصير ظل كل شيء مثليه، أقرب إلى وقت الغروب من إقامتها عندما يصير ظلُّ كل شيءٍ مثله، والمجازُ كلَّما كان أقرب إلى الحقيقة، كان حملُ اللفظ عليه أولى. فصل قال أبو بكر الباقلاني - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إنَّ الخوارجَ تمسَّكُوا بهذه الآية في إثبات أنَّ الواجب ليس إلاَّ الفجر والعشاء من وجهين: الأول: أنَّهُمَا واقعان على طرفي النهار؛ فوجب أن يكون هذا القدر كافياً. فإن قيل: قوله {وَزُلَفاً مِّنَ الليل} يوجب صلوات أخرى. قلت: لا نُسلِّمُ، فإنَّ طرفي النهار موصوفان بكونهما زُلفاً من اللَّيْلِ، فإن ما لا يكون نهاراً يكون ليلاً غاية ما في الباب أنَّ هذا يقتضي عطف الصفة على الموصوف، وذلك كثير في القرآن والشعر. الوجه الثاني: أنه تعالى قال: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} وهذا يقتضي أنَّ من صلًَّى طرفي النَّهار كان إقامتهما كفارة لكلّ ذنب، فبتقدير أن يقال: إنَّ سائرَ الصلوات واجبة إلاَّ أنَّ إقامتها يجب أن تكون كفارة لترك سائر الصلوات، وهذا القولُ باطلٌ بإجماع الأمَّةِ فلا يلتفتُ إليه. فصل قيل قي قوله تعالى: {وَزُلَفاً مِّنَ الليل} أنه يقتضي الأمر بإقامة الصلاة في ثلاث زلفٍ من الليل؛ لأنَّ أقلَّ الجمع ثلاثة، والمغربُ والعشاءُ وقتان؛ فجيب الحكمُ بوجوب الوتر. قوله: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} قال ابن عبَّاسِ: إنَّ الصَّلوات الخمس كفارة لسائر الذُّنوب بشرط الجتناب الكبائر ووري عن مجاهدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «إنَّ الحسنات هي قول العبد: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. وروي أنَّها نزلت في أبي اليسر، قال: أتتني امرأة تبتاع تَمْراً، فقلتُ لها إنَّ في بتي تَمراً أطيب من هذا؛ فدخلت معي في البيت، فأهويت إليها فقبَّلتُهَا، فأَيْتُ أبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وعن الصحابة أجمعين - فذكرتُ ذلك له فقال: اسْتُرْ على نفسك وتب، فأتيتُ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقالك اسْتُرْ على نفسك وتُب فلم أصْبِرْ، فأتيتُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكرتُ ذلك، فقال:» أخلفت غازياً في سبيل الله في أهلهِ بمثلِ هذا؟ «حتَّى تمنَّى أنَّهُ لمْ يكُنْ أسلم إلاَّ تلك السَّاعة حتَّى ظنَّ أنَّهُ من أهْلِ النَّارِ فأطرق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتَّى الجزء: 10 ¦ الصفحة: 594 أوحي إليه {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار} الآية، فقال أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ألِهذا خاصة أم للناس عامة؟ قال:» بَلْ للنَّاسِ عامَّة «وعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يقول:» الصَّواتُ الخمسُ، والجمعةُ إلى الجمعةِ، ورمضانُ إلى رمضان مُكفّراتٌ ما بينهُنَّ إذا اجتُنِبت الكبائِرَ «. وعن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - قال:» أرأيتُم لوْ أنَّ نهراً بباب أحكمْ يغتَسِلُ فيه كلَّ يومٍ خمسَ مرَّاتٍ، هل يبْقَى من دَرَنِهِ شيءٌ «؟ قالوا: لا، قال:» فذلِكَ مثلُ الصَّلواتِ الخمسِ، يَمْحُوا اللَّهُ بهنَّ الخطايا «. فصل احتجَّ من قال إنَّ المعصية لا تضرُّ مع الإيمان بهذه الآية؛ لأنَّ الإيمان أشرفُ الحسنات، وأجلها، وأعظمها، ودلَّت الآية على أنَّ الحسنات تذهبُ السيئات، والإيمان يذهب الكفر الذي هو أعلى درجة في العصيان؛ فلأن يذهب المعصية التي هي أقل درجة أولى، فإن لم يفد إزالة العقاب بالكلية فلا أقلَّ من أن يفيد إزالة العقابِ الدَّائم المؤبَّد. ثم قال تعالى: {ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ} أي: ذلك الذي ذكرناه، وقيل: إشارة إلى القرآن» ذِكْرَى «موعظة،» للذَّاكرينَ «أي: لمن ذكره» واصْبِرْ «يا محمَّدُ على ما تلقى من الأذى. وقيل: على الصَّلاة، نظيرهُ: قوله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا} [طه: 132] {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} في أعمالهم، وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -» يعني المصلِّينَ «. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 595 قوله تعالى: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ} من الآية. لمَّا بيَّن أنَّ الأمم المتقدمين حلَّ بهم عذاب الاستئصال، بيَّن أنَّ السبب فيه أمران: الأول: أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض، فقال: {فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ القرون مِن قَبْلِكُمْ} ، «لوْلاَ» تخضيضيه دخلها معنى التَّفجُّع عليهم، وهو قريبٌ من مجاز قوله تعالى: {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30] وما يروى عن الخليل - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قال: كل ما كان في القرآن من «لَوْلاَ» فمعناه «هَلاَّ» إلاَّ التي في الصافات «لوْلاَ أنَّهُ» ، لا يصحُّ عنه لورودها كذلك في غير الصافات {لَّوْلاَ أَن تَدَارَكَهُ} [القلم: 49] {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} [الإسراء: 74] {وَلَوْلاَ رِجَالٌ} [الفتح: 25] . و «مِنَ القُرونِ» يجوز أن يتعلَّق ب «كان» ؛ لأنَّها هنا تامَّة، إذا المعنى: فهلاَّ وُجِد من القُرونِ، أو حدث، أو نحو ذلك، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّهُ حالٌ من: «أُولُوا بقيَّةٍ» لأنه لو تأخَّر عنه لجاز أن يكون نعتاً لهُ، و «مِن قَبْلِكُم» حالٌ من «القُرُون» و «يَنْهَون» حالٌ من «أولوا بقيَّة» لتخصُّصه بالإضافةِ، ويجوز أن يكون نعتاً ل «أُولُوا بقيَّّةٍ» وهو أولى. ويضعفُ أن تكون «كان» هذه ناقصة لبُعْد المعنى من ذلك، وعلى تقديره يتعيَّن تعلُّق «من القُرونِ» بالمحذُوف على أنَّهُ حالٌ؛ لأنَّ «كَانَ» النَّاقصة لا تعملُ عند جمهورالنُّحاةِ، ويكون «يَنْهَوْنَ» في محلِّ نصب خبراً ل «كان» . وقرأ العامَّةُ «بقيَّة» بفتح الباء وتشديد الياءِ، وفيها وجهان: أحدهما: أنَّها صفةٌ على «فَعِيلة» للمبالغةِ، بمعنى «فاعل» ؛ وذلك دخلت التَّاءُ فيها، والمرادُ بها حينئذٍ الشيء وخياره، وإنَّما قيل لجنْدِه وخياره: «بقيَّة» في قولهم: فلان بقيةُ النَّاس، وبقيةُ الكرام؛ لأنَّ الرَّجُل يستبقى ممَّا يخرجه أجوده وأفضله والرجل يبقى بعده ذكر جوده وفضله؛ وعليه حمل بيتُ الحماسِة: [البسيط] 3040 - إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأتينِي بقِيَّتُكُمْ ..... ... ... ... ... ... وفي المثل: «في الزَّويا خبايا، وفي الرِّجالِ بَقايَا» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 596 والثاني: أنَّها مصدرٌ بمعنى البقوى قال الزمخشريُّ ويجوزُ أن تكون البقيَّة بمعنى البَقْوَى كالتقيَّة بمعنى التَّقوى، أي: فهلا كان منهم ذوو إبقاءٍ على أنفسهم، وصيانةٍ لها من سخطِ الله وعقابه. والمعنى: فهلاّ كان منهم أولوا مراقبة وخشية من انتقام الله. وقرأت فرقةٌ «بَقِيَة» بتخفيفِ الياءِ، وهي اسمٌ فاعل من بقي ك: شَجِيَة من شَجِي، والتقدير أولُوا طائفةِ بقيةِ أي: باقية وقرأ أبو جعفرٍ وشيبة «بُقْية» بضمِّ الفاء وسكون العين. وقُرِئَ «بَقْيَة» على المرَّة من المصدر. و «فِي الأرْضِ» متعلقٌ بالفسادِ، والمصدرُ المقترن ب «أل» يعمل المفاعيل الصريحة فكيف في الظروف؟ ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذُوفٍ عل أنه حالٌ من «الفَسادِ» . فصل المعنى: فهلاَّ «كان مِنَ القُرونِ» التي أهلكناهم، «مِن قَبْلكُمْ» أولُوا تمييز وقيل: أولُوا طاعة وقيل: أولُوا خير، يقال: فلانٌ على بقيَّةٍ من الخير إذا كان على خصلة محمودة. و «ينْهَوْنَ عن الفسادِ في الأرضِ» أي: يقُومُون بالنَّهْي عن الفسادِ، ومعناه جحداً، أي: لم يكن فيهم أولُو بقية. قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً} فيه وجهان: أحدهما: أن يكون استثناء منقطعاً؛ وذلك أن يحمل التخضيض على حقيقته، وإذا حُمل على حقيقته تعين أن يكون الاستثناءُ منقطعاً لئلاَّ يفسد المعنى. قال الزمخشريُّ: معناه: ولكن قليلاً ممَّن أنْجينَا من القرون نهوا عن الفساد، وسائرهُم تاركون النَّهي ثم قال: فإن قلت: هل لوقوع هذا الاستثناء متصلاً وجهٌ يحملُ عليه؟ قلتُ: إن جعلتهُ متَّصلاً على ما هو عليه ظاهرُ الكلام كان المعنى فاسِداً؛ لأنَّهُ يكون تحضيضاً لأولي البقية على النَّهي عن الفساد إلاَّ للقليل من النَّاجين منهم، كما تقولُ: هلا قرأ قومك القرآن إلاَّ الصلحاء منهم، تريدُ استثناء الصُّلحاء من المحضَّضينَ على قراءة القرآن. فيَئُول الكلام إلى أنَّ الناجين لم يحضُّوا على النَّهْي عن الفاسد، وهو معنَّى فاسدٌ. والثاني: أن يكون متًّصِلاً، وذلك بأن يؤوَّل التحضيض على قراءة القرآن بمعنى النَّفي، فيصحَّ ذلك؛ إلاَّ أنَّهُ يُؤدِّي إلى النصب غير الموجب، وإن كان غير النصب أولى. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 597 قال الزمخشري: فإن قلت: في تحضيضهم على النَّهي عن الفاسد معنى نفيه عنهم، فكأنَّهُ قيل: ما كان من القُرُونِ أولُوا بقية إلاَّ قليلاً كان استثناءً متصلاً ومعنى صحيحاً، وكان انتصابهُ على أصل الاستثناء، وإن كان الأفصحُ أن يرفع على البلد. ويؤيد أنَّ التحضيض هنا في معنى النَّفْي قراءةُ زيد من عليّ «إلاَّ قليلٌ» بالرفع، لاحظ معنى النَّفي فأبدل على الأفصحِ، كقوله: {مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ} [النساء: 66] . وقال الفراء: المعنى: فلمْ يكن؛ لأنَّ في الاستفهام ضَرْباً من الجَحْدِ سمَّى التَّحضيض استفهاماً. ونُقل عن الأخفش أنه كان يرى تعيُّن اتصال هذا الاستثناء كأنَّهُ لحظَ النَّفْيَ و «مِنْ» في: «مِمَّنْ أنْجَيْنَا» للتبعيض. ومنع الزمخشريُّ أن تكون للتعيضي بل للبيانِ فقال: حقُّها أن تكون للبيانِ لا للتبعيض؛ لأنَّ النَّجاة إنَّما هي للنَّاهينَ وحدهم، بدليل قوله: {أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] . فعلى الأول يتعلق بمحذوفٍ على أنها صفةٌ ل «: قَلِيلاً» . وعلى الثاني: يتعلق بمحذوف على سبيل البيان، أي: أعني. قوله: {واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ} هذا السببُ الثاني في نزولِ عذاب الاستئصال. قرأ العامَّةُ: «اتَّبَعَ» بهمزة وصلٍ وتاءِ مشددةٍ، وياءٍ، مفتوحتين، فعلاً ماضياً مبنياً للفاعل وفيه وجهان: أحدهما: أنَّهُ معطوفٌ على مضمرٍ. والثاني: أنَّ الواو للحالِ لا للعطفِ، ويتَّضحُ ذلك بقول الزمخشري فإن قلت: علام عطف قوله: {واتبع الذين ظَلَمُواْ} ؟ قلت: إن كان معناه: واتَّبعُوا الشَّّهواتِ كان معطوفاً على مضمرٍ؛ لأنَّ المعنى: إلاَّ قليلاً ممَّنْ أنجينا منهم نُهُا عن الفسادِ، واتَّبع الذين ظلمُوا شهواتهم، فهو عطفٌ على «نُهُوا» وإنْ كان معناه: واتَّبعُوا جزاءَ الإترافِ، فالواو للحال، كأنَّه قيل: أنْجَيْنَا القليل، وقد اتتبع الذين ظلموا جزاءهم. فجوز في قوله: «مَا أتْرِفُوا» وجهين: أحدهما: أنَّه مفعول من غير حذف مضافِ، و «مَا» واقعة على الشَّوات وما بطرُوا بسببه من النِّعم. والثاني: أنَّهُ على حذف مضاف، أي: جزاء ما أتْرِفُوا، ورتَّب على هذين الوجهين القول في «واتَّبَع» . الجزء: 10 ¦ الصفحة: 598 والإتْراف: إفعالٌ من التَّرف وهو النِّعمة، يقال: صبيُّ مترفٌ، أي: مُنْعَم البدن، وأتْرِفُوا نَعِمُوا وقيل: التَّرفُّهُ: التوسُّع في النِّعمةِ. وقال مقاتلٌ: «أتْرِفُوا» خُوَّلُوا. وقال الفراء: عُوِّدُوا، أي: واتَّبع الذين ظلمُوا ما عُوِّدُوا من النَّعيم، وإيثار اللذات على الآخرة. وقرأ أبو عمرو في رواية الجعفي، وأبو جعفر «وأتْبعَ» بضم همزة القطع وسكون التَّاءِ وكسر الباء مبنيَّا للمعفول، ولا بدَّ حينئذِ من حذف مضاف، أي: أتبعُوا جزاء ما أترفُوا فيه. و «ما» يجوز أن تكون معنى «الذي، وهو الظَّاهرُ لعودِ الضمير في» فيه «عليه، ويجوز أن تكون مصدرية، أي: جزاء إترافهم. قوله» وكانُوا مُجْرمينَ «كافرين وفيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أن تكون عطفاً على» أْرِفُوا «إذا جعلنا» ما «مصدرية، أي: اتَّبعوا إترافهم وكونهم مجرمين. والثاني: أنه عطفٌ على» اتَّبَعَ «، أي: اتَّبَعُوا شهواتهم وكانوا مجرمين بذلك، لأنَّ تابعَ الشَّواتِ مغمورٌ بالآثامِ. الثالث: أن يكون اعتراضاً وحكماً عليهم بأنَّهُم قومٌ مجرمون ذكر ذلك الزمخشريُّ. قال أبو حيَّان:» ولا يُسَمَّى هذا اعتراضاً في اصطلاح النَّحْو؛ لأنه آخرُ آيةٍ، فليس بين شيئين يحتاج أحدهما إلى الآخر «. قوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ} الآية. في» لِيُهْلِكَ «الوجهان المشهوران، وهما: زيادة اللام في خبر:» كان «دلالةً على التَّأكيد - كما هو رأي الكوفيين - أو كونها متعلقة بخبر» كان «المحذوف، وهو مذهبُ البصريي، و» بِظُلْمِ «متعلق ب» يُهْلِكَ «والباءُ سببيةٌ، وجوَّز الزمخشريُّ أن تكون حالاً من فاعل» لِيُهْلِكَ «، وقوله» وأهْلُهَا مُصْلِحُون «جملة حالية. فصل قيل: المرادُ بالظلم هنا: الشرك، قال تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لابْنِهِ وَهُوَ {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان: 13] الجزء: 10 ¦ الصفحة: 599 والمعنى: أنه تعالى لا يهلك أهل القرى بمجرد كونهم مشركين إذا كانوا مصلحين في المعاملات فيما بينهم، ولهذا قال الفقهاءُ: إنَّ حقوق الله مبناها على المسامحِة، وحقوق العباد بمناها على التَّضييقِ ولاشح، ويقالُ: إنَّ الملك يبقى مع الكفر ولا يبقى مع الظُّلم، ويدلُّ على هذا التأويل أنَّ قوم هود، وصالح، ولوط، وشعيب إنَّما نزل بهم عذابُ الاستئصال، لما حكى الله تعالى عنهم من إياءِ النَّاس وظلم الخلق وهذا تأويل أهل السنة وقالت المعتزلة: إنَّهُ تعالى لو أهلكهم حال كونهم مصلحين لكان ظلماً، ولمَّا كان متعالياً عن الظلم، لا جرم أنَّهُ إما يهلكهم لأجل سُوء أفعالهم. وقيل: معنى الآية: أنَّهُ لا يُهلكُهُمْ بظلم منه، وهم مُصْلِحثونَ في أعملاهم، ولكن يهلكهم بكفرهم وركوبهم السَّيئات، وهذا بمعنى قول المعتزلة. ثم قال تعالى: {وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} كلهم على دين واحدٍ، {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} على أديان شتَّى، من يهوديِّ، ونصرانيِّ، ومجوسيِّ، ومشركِ، ومسلم، وقد تقدم الكلام على ذلك. قوله: {إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} ظاهرهُ أنه متَّصلٌ، وهو استثناءٌ من فاعل «يَزالُون» ، أو من الضَّمير في «مُختلفينَ» وجوَّز الحوفي أن يكون استثناءً منقطعاً، أي: لكن من رحمَ، لم يختلفُوا، ولا ضرورة تدعُوا على ذلك. قوله: «ولذلِكَ» في المشار إليه أقوال كثيرة. أظهرها: أنَّهُ الاختلافُ المدلولُ عليه ب «مُخْتلفينَ» ؛ كقوله: [الوافر] . 3041 - إذَا نُهِيَ السَّفِيهُ جَرَى إلَيْهِ ... وخَالفَ والسَّفِيهُ إلى خِلافِ رجع الضَّمير في «إليه» على السَّفة «، ولا بدَّ من حذف مضافٍ على هذا، أي: ولثمرة الاختلاف خلقهم، واللام في الحقيقةِ للصَّيروةِ، أي: خلقهم ليصير أمرهم إلى الاختلاف. وقيل: المرادُ به الرحمة المدلول عليها بقوله:» رَحِمَ «وإنَّما ذكرَّ ذهاباً بها إلى الخير وقيل: المرادُ به المجموعُ منهما، وإليه نحا ابنُ عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كقوله: {عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} [البقرة: 68] وقيل: إشارةٌ إلى ما بعده من قوله: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وهو قولٌ مرجوحٌ؛ لأنَّ الأصل عدمُ ذلك. فصل قال الحسنُ وعطاء: وللاختلاف خلقهم قال أشهب: سألتُ مالكاً رَحِمَهُ اللَّهُ - عن هذه الاية فقال: خلقهم ليكون فريقٌ في الجنَّةِ وفريقٌ في السَّعير. قال أبو عبيدة: الذي الجزء: 10 ¦ الصفحة: 600 أختاره قول من قال: خلق فريقاً لرحمته، وفريقاُ لعذابه، ويُؤيده قوله تعالى:» وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين «. وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» خلق الله الجنَّة وخلق لها أهلاً، وخلق النَّار وخلق لها أهلاً «. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - ومجاهدٌ، وقتادة، والضحاك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: وللرَّحمةِ خلقهم، يعني الذين رحمه وقال الفراء: خلق أهل الرَّحْمةِ، وأهل الاختلاف للاختلاف ومحصول الآية أنَّ أهل الباطلِ مختلفُون، وأهل الحقِّ متَّفقُون، فخلق أهل الحق للاتفقا، وأهل الباطل للاختلاف. وذهبت المعتزلةُ إلى قولِ ابن عبَّاسٍ، وهو أنَّهُ خلقهم للرَّحمةِ، قالوا: ولا يجوز أن يقال: وللاختلاف خلقهم لوجوه: الأول: أنَّ عود الضَّمير إلى أقرب المذكورين ألوى من عوده إلى أبعدهما: والثاني: لو خلقهم للاختلاف وأراد منهم ذلك لام يجز أن يعذبهم عليه، إذا كانوا مطيعين له بذلك الاختلاف. الثالث: أنَّا إذ فسرنا الآية بالرحمةِ مطابقاً لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . فإن قيل: لو كان المراد، وللرَّحمة خلقهم لقال: ولتك خلقهم، ولم يقل: وللك خلقهم قلنا: إن تأنيث الرَّحمةِ لي حقيقيًّا، فكان محمولاً على الفضل والغفرانِ، كقوله: {هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي} [الكهف: 98] وقوله: {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} [الأعراف: 56] . فصل احتج من قال بأنَّ الهداية والإيمان لا يحصل إلاَّبخلقِ الله تعالى بهذه الآية، وذلك لأنَّها تدلُ على أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين لا يحصلُ إلاَّ لمنْ خصَّهُ الله برحمته، وتلك الرحمة ليست عبارة عن إعطاء القدرة والعقل، وإرسال الرسل، وإنزال الكتب، وإزاحة العذر، فإن كُلَّ ذلك حاصل للكفار، فلم يبق إلاَّ أن يقال: تلك الرحمة هو أنَّ الله - تعالى - يخلق فيه تلك الهداية والمعرفة. قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} قال القاضي معناه: إلا من رحم ربُّك بأن يصير من أهل الجنة، والثواب الجزء: 10 ¦ الصفحة: 601 في رَحِمَهُ اللَّهُ بألطافه وتسهيله، وهذان الجوابان في غاية الضعف. أمَّا الأولُ فلأنَّ قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ} بأن يصير من أهل الجنة، يفيدُ أنَّ ذلك الاختلاف إنما زال بسبب هذه الرحمة؛ فوجب ان تكون هذه الرَّحمة جارية مجرة السَّّبب المتقدم على زوال هذا الاختلاف، والثَّواب شيء متأخر عن زوال هذا الاختلاف، فالاختلاف جارٍ مجرى السبب له فحملُ هذه الرَّحمة على الثَّواب لا يجوزُ. وأمَّا الثاني - وهو حملُ هذه الرَّحمة على الألطافِ التي فعلا في حقِّ المؤمن - فهي مفعولة أيضاً في حقِّ الكافر، وهذه الرحمة أمر اختص به المؤمن؛ فوجب أن يكون شيئاً زائداً عل تلك الألطاف، وأيضاً فحصول الألطاف هل يوجبُ رجحان وجود الإيمان على عدمه أم لا يوجبه؟ فإن لم يوجبه كان وجود تلك الألطاف وعدمها، بالنسبة غلى حصول هذا المقصود سيان، فلم يكُ لطفاً منه، وإذا وجب تلك الألطاف وعدمها، بالنسبة إلى حصول هذا المقصود سيان، فلم يكُ لطفاً منه، وإذا وجب الرُّجحان فقد ثبت في العقليات أنه متى حصل الرجحان، فقد وجب حينئذٍ أن يكون حصول الإيمان من الله، وما يدل على أنَّ حصول الإيمان لا يكون إلاَّ بخلق الله تعالى؛ لأنَّهُ ما لم يتميز الإيمان عن الكفر، والعمل عن الجهلِ امتنع القصد إلى تكوين الإيمان والعلم، وهذا الامتياز إنما يحصلُ إذا علم كون احد هذين الاعتقادين مطابقاً للمعتقد، وكون الآخر ليس كذلك، وإنَّما يصح هذا العلم إذاعرف ذلك المعتقد كيف يكون، وهذا يوجب أنَّهُ لا يصح من العبدِ القصد إلى تكوين العلم بالشيء إلا بعد أن كان عالماً، وذلك يقتضي تكوين الكائن وتحصيل الحاصل وهو محالٌ، فثبت أنَّ زوال الاختلاف في الدِّين، وحصولِ العلم والهداية لا يحصل إلاَّ بخلق الله تعالى. ثم قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ} وتم حكم ربك {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} فقوله: «أجْمَعِينَ» تأكيد، والأكثر أن يسبق ب «كُل» وقد جاء هنا دونها. والجنَّةُ والجِنُّ: قيل: واحد، والتاء فيه للمبالغة. وقيل: الجنَّةُ جمع جِنّ، وهو غريبٌ، فيكون مثل «كَمْءِ» للجمع، و «كَمْأة» للواحد. قوله تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ} الآية. لمَّا ذكر القصص الكثيرة في هذه السورة، ذكر في هذه الآية نوعين من الفائدة. أحدهما: تثبيت الفؤاد على أداء الرِّسالة، وعلى الصَّبر واحتمال الأذى؛ وذلك لأنَّ الإنسان إذا ابتلي بمحنة وبلية، فإذا رأى له فيه مشاركاً خف ذلك على قلبه؛ كما يقال: المصيبة إذا عمت خفت، فإذا سمع الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه القصص، وعلم أنَّ حال جميع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - مع أتباعهم هكذا، سهل عليه تحمل الأذى من قومه، وأمكنه الصبر عليه. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 602 والفائدة الثانية: قوله {وَجَآءَكَ فِي هذه الحق وَمَوْعِظَةٌ وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ} . قوله تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ} في نصبه أوجه: أحدها: أنه مفعولٌ به، والمضاف إليه محذوفٌ، عوض منه التنوين، تقديره: وكلُّ نبأ نقصُّ عليك. و «مِنْ أنباءِ» بيانٌ له أو صفةٌ إذا قُدِّر المضاف إليه نكرة. وقوله: {مَا نُثَبِّتُ بِهِ} يجوز أن يكون بدلاً من: «كُلاًّ» وأن يكون خبر مبتدأ مضمر: أي: هو ما نُثَبِّتُ، أو منصوبٌ بإضمار أعني. الثاني: أنه منصوبٌ على المصدر، أي: كلَّ اقتصاصٍ نقصُّ، و «مِنْ أنباءِ» صفةٌ: أو بيان، و «ما نُثَبتُ» هو مفعول «نَقُصُّ» . الثالث: كما تقدم، إلاَّ أنه يجعل «ما» صلة، والتقدير: وكلاًّ نقصُّ من أبناءِ الرُّسُل نُيَبِّتُبه فؤادك، كذا أعربه أبو حيان وقلا: كَهِي في قوله: {قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} [الأعراف: 3] . الرابع: أن يكون «كُلاًّ» منصوباً على الحال من «ما نُثَبِّتُ» وهي في معنى: «جَمِيعاً» وقيل: بل هي حال من الضمير في «بِهِ» وقيل: بل هي حالٌ من «أنْبَاء» وهذان الوجهان إنما يجوزان عند الأخفش، فإنَّهُ يجيزُ تقديم حال المجرورِ بالحف عليه؛ كقوله تعالى: {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] في قراءة من نصب «مَطويَّاتٍ» وقول الآخر: [الكامل] 3042 - رَهْطُ ابْنِ كُوزِ مُحْقِبِي أدْراعِهِمْ ... فِيهِمْ ورهْطُ رَبِيعةَ بْنِ حُذَارِ والمعنى: وكل الذي تحتاجُ إليه من أبناء الرسل، أي: من أخبارهم، وأخبار الأمم نقصها عليك؛ لنثبت به فؤادك؛ لنزيدك يقيناً، ونقوي قلبك، وذلك أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا سمعها كان في ذلك تقوية لقلبه على الصَّبْرِ لأذى قومه. {وَجَآءَكَ فِي هذه الحق} قال الحسنُ وقتادةُ: في هذه الدنيا وقال الأكثرون: في هذه السورة خص هذه السورة تشريفاً، وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور. وقيل: في هذه الآية. والمراد به «الحق» البراهين الدَّالة على التَّوحيدِ والعدلِ والنبوة، «مَوْعظةٌ» أي: وجاءتك موعظة «وذكْرى للمُؤمنينَ» والمرادُ ب «الذكرى» الأعمال الباقية الصالحة في الدَّار الآخرة. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 603 ثم قال تعالى: {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ} . وهذا تهديدٌ ووعيدٌ؛ لأنَّه تعالى لمَّا بالغ في الإعذار والإنذار والتَّرغيب والتَّرهيب، أبتع ذلك بأن قال للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - {وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} ولم تؤثر فيهم هذه البيانات البالغة: {اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ} وهذا عين ما حكاه عن شعيب - عليه السلام - أنه قال لقومه {وارتقبوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ} [هود: 93] . والمعنى: افعلوا كلَّ ما تقدرُون عليه في حقِّي من الشر، فنحن أيضاً عاملون. وقوله: «اعملُوا» وإن كان صيغته صيغة أمر، إلاَّ أنَّ المراد به التَّهديد، كقوله: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 4] وكقوله: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] «وانتَظِرُوا» ما يعدكم الشيطان من الخذلان ف «إنَّا مُنتَظِرُونَ» ما وعدنا الرَّحمن من أنواع الغفران والإحسان، قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «وانتَظِرُوا» اهلاك ف «إنَّا مُنتَظِرُونَ» لكم العذاب وقيل: «انتظرُوا» ما يحلُّ بنا من رحمة الله «إنَّا مُنتضِرُونَ» ما يحل بكم من نقمته. ثم إنَّه تعالى ذكر خاتمة شريفة عالية جامعة لكل المطالب الشَّريفة فقال: {وَللَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} [هود: 123] أي: علم ما غاب من العبادِ، أي: أن علمه نافذ في جمعي الكفليات والجزئيات، والمعدومات، والموجودات {وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأمر كُلُّه} في المعاد. قرأ نافع وحفص «يُرجَع» بضم الياءِ وفتح الجيم، أي: يرد. وقرأ الآخرون بفتح الياء وكسر الجيم، أي: يعودٌ الأمرُ كلُّه إليه حتَّى لا يكون للخلق أمر {فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} وثق به {وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} قرأ نافع وابن عامر وحفص «تَعْمَلُون» بالخطاب، لأنَّ قبله «اعْمَلُوا» والباقون بالغيبة رجوعاً على قوله: {لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ} وهذا الخلاف أيضاً في آخر النمل. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 604 قال كعبُ الإحبار: خاتمة التَّوارة خاتمة سورة هود روى عكرمة عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يا رسول الله قد شبت، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «شَيَّبتْنِي هُودٌ والواقعةُ، والمرسلاتُ، وعمَّ يتَساءَلُون، وإذا الشَّمسُ كُوِّرَتْ» ويروى: «شَيَّبتْنِي هودٌ وأخواتها» ويروى: «شَيَّبتْنِي هودٌ وأخواتها الحاقَّةُ، والواقعةُ، وعمَّ يتساءَلُون، وهل أتاكَ حديث الغاشيةِ» . قال الحكيم: الغزع يورث الشَّيْب، وذلك أنَّ الفزع يذهل النفس فينشف رطوبة الجسدِ، وتحت كُلِّ شعره منبع، ومنه يعرق، فإذا انتشف الفزغُ رطوبته يبست المنابع؛ فَيبس الشَّعر وابيض، كما ترى الزَّرعَ بسقائه، فإذا ذهب سقاءهُ يبس فابيض، وإنَّما يبيض شعر الشيخ لذهاب رطوبته ويُبْس جلده، فالنفس تذهل بوعيد الله بالأهوال؛ فتبل وينشَّف ماءها ذلك الوعيد والهول الذي جاء به، ومنه تشيب؛ قال تعالى: {يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً} [المزمل: 17] وقال الأصمُّ: ما حلَّ بهم من عاجل أمر الله، فأهلُ اليقين إذا اتلوها تراءى على قلوبهم من ملكهِ وسلطانهِ البطش بأعدائهِ، فلو ماتُوا من الفزع لحق له، ولكن الله - تبارك وتعالى - يلطف بهم في الأيان حتَّى يقرؤوا كلامهُ، وكذلك لآخر آية في سورة هود، فإنَّ تلاوة هذه السُّورة ما يكشف لقلوب العارفين سلطانهُ وبطشهُ ما تذهل منه النفوس، وتشيب منه الرءوس. قال القرطبيُّ: وقيل: إنِّ الذي شَيَّبَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من سورة «هود» قوله تعالى: {فاستقم كَمَآ أُمِرْتَ} [هود: 112] وقال عمرو بن أبي عمرو العبادي: قال يزيد بن أبان رأيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المنام فقرأت عليه سورة هود، فلمَّا ختمتها قال لي «يا يزيدُ قرأت فأيْنَ البُكاء» واسند أبو محمد الدَّارمي في مسنده عن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اقْرؤُوا سُورة هود يوم الجمعة» والله أعلم. الجزء: 10 ¦ الصفحة: 605 سورة يوسف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 رب يسر برحمتك. سورة يوسف - عليه السلام - وهي مكية وفي قول ابن عباس، وقتادة: إلا أربع آيات منها. وهي مائة وإحدى عشرة آية، وعدد كلماتها: ألف، وتسعمائة، وست وتسعون كلمة، وعدد حروفها سبعة آلاف، ومائة، وست وستون حرفا قوله تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} قد تقدم الكلام على قوله: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} في أول سورة يونس، فالإشارة ب «تِلْكَ» إلى آيات هذه السورة على الابتداء اةلخبر. وقيل: «الر» اسم للسورة، أي: هذه السورة المسمَّاة: {الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} والمراد ب «الكِتَاب» : القرآن، وأما قوله: «المُبِين» فيحتمل أن يكون من بانَ، بمعنى: ظهر، أي: المبين حلاله، وحرامه، وحدوده، وأحكامه قال قتادة رَحِمَهُ اللَّهُ: «المبين والله بركته، وهداه ورشده» . وقال الزجاج: «من أبَان بمعنى: أظهر، أي: أبان الحقَّ من الباطل، والحلال من الحرام، وقصص الأولين والآخرين» . ويحتمل أن يكون من البينونة بمعنى: التَّفريق، أي: فرَّق بين الحق والباطل، والحلال والحرام. قوله تعالى: {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} يعنى: الكتاب، في نصب: «قُرْآناً» ثلاثة أوجه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 3 أحدها: أن يكون بدلاً من ضمير «أنْزلْنَاهُ» أو حالاً موطئة منه، والضمير في: «أنْزَلْنَاهُ» على هذين القولين يعود على الكتاب، وقيل: «قُرْآناً» مفعول به، والضمير في «أنْزَلْنَاهُ» ضمير المصدر، و «عربياً» نعت للقرآنِ، وجوَّز أبو البقاء: أن يكون حالاً من الضمير في: «قُرْآناً» إذا تحمَّل ضميراً، يعنى: إذا حعلناهُ حالاً مؤولاً بمشتقِّ، أي: أنزَلنَاه مُجْتمعاً في حال كونهِ عَربيًّا والعربيّ منسُوب إلى العرب؛ لأنَّه نزل بلغتهم، وواحد العرب: عربيٌّ، كما أن واحد الرُّوم: رُومِيٌّ، أي: أنزلناه بلغتكم، لكي تعلمُوا مَعانيَهُ، وتفهَمُوا ما فيه، و «عَرَبَة» بفتح الرَّاء ناحية دار إسماعيل عليه السلام قال الشاعر: [الطويل] 3043 - وعَرْبَةُ أرْضٍ مَا يُحِلُّ حَرامَهَا ... مِنَ النَّاسِ إلاَّ اللَّوذَعِيُّ الحُلاحِلُ سكن راءها ضرورة؛ فيجوزُ أن يكون العربي منسُوباً إلى هذه البقعة. فصل احتج الجُبَّائيُّ بهذه الآية: على كون القرآن مخلوقاً، لقوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ} والقديم لا يجوزُ إنزالهُ وتحويله من حالٍ إلى حالٍ؛ ولأنَّه تعالى وصفهُ بكونه: «عَرَبيًّا» والقديم لا يكون عربيًّا؛ ولأنَّ قوله تعالى {إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} يدلُّ على أنَّه سبحانه وتعالى قادرٌ على أن ينزله لا عربيًّا؛ ولأنَّ قوله: {تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين} يدلُّ على أنَّه مركبٌ من الآيات والكلمات، والمركَّبُ محدثٌ. قال ابن الخطيب: «والجواب عن هذه الوجوه أن نقول: المركَّب من الحروف والكلمات محدثٌن وذلك لا نزاع فيه، إنَّما الذي ندَّعي قدمه شيء آخر، فسقط هذا الاستدلال» . قوله: {لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} : قال الجبائي: «كلمة» لعَلَّ «نحملها على اللاَّم، والتقدير: إنَّا أنزلناهُ قُرآناً عربيًّا لتعقلُوا معانيه في أمْر الدِّين، إذ لايجوز أن يراد ب» لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ «: الشَّكح لأنَّه على الله تعالى محالٌ، فثبت أنَّ المراد: لكي تعرفوا الأدلَّة، وذلك يدلُّ على أنَّهُ سبحانه وتعالى ت أراد من كلِّ العباد أن يعقلوا توحيده، وأمر دينه، من عرف منهم، ومن لم يعرف» . قال ابن الخطيب: «والجواب: هَبْ أنَّ الأمْر كمَا ذَكْرتُمْ، إلاَّ أنَّهُ يدلُّ على أنه تعالى أنزل هذه السورة وأراد منهم معرفة كيفيَّة هذه القصَّة، لكن لِمَ قلتم: إنَّها تدلُّ على أنه تعالى أراد من الكُلِّ الإيمان والعمل الصالح» ؟ . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 4 قوله تعالى: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} الآية. {نَحْنُ نَقُصُّ} : مبتدأ وخبر، والقاصُّك الذي يتتبَّعُ الآثار ويأتي بالخبر على وجهه، قال تعالى: {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ} [القصص: 11] ، أي: أتَّبعي أثره، {فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً} [الكهف: 64] ، أي اتِّباعاًنن وسميت الحكايةَ قصصاً؛ لأنَّ الذي يقصُّ الحديث، يذكرُ تلك القصَّة شيئاً فشيئاً، كما يقال: تلا القرآنَ إذا قرأهُ؛ لأنَّه يتلُو، أي: يتبعُ ما حَفِظَ مِنهُ آيةً بعد آيةٍ، والمعنى: نُبين لكَ أخبارَ الأممِ السَّالفةِ، والقرُونِ الماضية. روى سعدُ بن أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: لمَّا أنْ نَزلَ القُرآنُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فتَلاهُ عَليْهِمْ زمَاناً، فقالوا: يَا رسُولَ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لوْ حَدَّثتنَا ت فأنْزَل اللهُ عَزَّ وَجَلَّ ذكره {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} [الزمر: 23] فقالوا: يا رسول الله، لو ذكرتنَا، فأنزل الله عزَّ وجلَّ {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله} [الحديد: 16] . قوله: {أَحْسَنَ القصص} في انتصابه وجهان: أحدهما: أن يكُونَ منصُوباً على المفعول به، وذلك إذا جعلتَ القصص مصدراً واقعاً موقع المفعول، كالخلقِ بمعنى: المخلُوقِ، أو جعلته فعلاً بمعنى: مفعُول، كالقَبْضِ، والنَّقْضِ بمعنى: المَقْبُوض، والمَنْقُوض، أي: نقصُّ عليك أحسن الأشياءِ المقتصةن فيكون معنى قوله: {أَحْسَنَ القصص} : لِمَا فيه من العبرة، والنُّكتة، والحكمةِ، والعجائب التي ليست في غيرها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 5 فإحدى الفوائد في هذه القصة: أنه لا دافع لقضاءِ الله، ولا مانع من قدر الله، وأنَّهُ تعالى إذا قضى لإنسان بخير؛ فلو اجتمع العالمُ، لمْ يقدروا على دفعه. والفائدة الثانية: أنََّهَا تدلُّ على أنَّ الحسد سببُ الخُذلانِ، والنُقصَانِ. والفائدة الثالثة: أنَّ الصَّبر مفتاحُ الفرج، كما في حقِّ يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ فإنَّه لما صبر، نال مقصُوده، وكذلك يُوسُف صلوات الله وسلامه عليه. والوجه الثاني: أن يكون منصوباً على المصدر المبين، إذا جعلتَ القصص مصدراً غير مراد به المفعُول، ويكون المقصُوص على هذا محذوفاً، أي: نقُصُّ عليك أحسن الاقتصاص. وعلى هذا؛ فالحسنُ يعُود إلى حسن البيان، لا إلى القصَّة، والمراد بهذا الحسن: كون هذه الألفاظ فصيحة بالغة في الفصاحة إلى حدِّ الإعجاز، ألا ترى أنَّ هذه القصَّة مذكورةٌ في كمتب التَّواريخ، مع أنَّ شيئاً منها لا يشبه هذه السورة في الفصاحة، والبلاغة. و «أحْسَنَ» : يجوز أن يكون: أفعل تفضيل على بابها، وأن يكُون لمُجرَّد الوصف بالحسن، وتكون من باب إضافة الصِّفة لموصوفها، أي: القصص الحسن. قال العلماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: ذكر الله أقاصيصَ الأنبياء في القرآن، وكرَّرها بمعنى واحدٍ، في وجوهٍ مختلفة، بألفاظ متباينة على درجات المبالغة، وقد ذكر قصة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولم يكرِّرها؛ فلم يقدر مخالفٌ على معارضة ما تكرر، ولا على معارضة غير المتكرِّر. فصل قال القرطبي: وذكر العُلماءُ لكَوْنِ هذه القصَّة أحسنَ القصصِ وجوهاً: أحدها: أنه ليست قصَّة في القرآن تتضمنُ من العبر والحكم، ما تتضمن هذه القصَّة؛ لقوله تعالى في آخرها {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} [يوسف: 111] . وثانيها: لحُسن مجاوزة يوسف إخوته، وصبْرِه على أذاهُم، وعفوه عنهُم بعد التقائهم عن ذكر فعلهم، وكرمه في العفو عنهُم، حتَّى قال: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ اليوم} [يوسف: 92] . وثالثها: أن فيها ذكر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والصَّالحين، والملائكة، والجنِّ، والشياطين، والإنس، والطيرِ، وسير الملوكِ، والمماليكِ، والتُّجارِ، والعلماءِ، والجهال، والرِّجال، والنِّساء وحيلهنَّ ومكرهنَّ، وذكر التَّوحيد، والفقهِ، والسِّير، وتعبيرِ الرُّؤيا، والسِّياسةِ، والمعاشرةِ، وتدبير المعاشِ، وجُمَل الفوائد تصلُح للدِّين والدُّنيا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 6 ورابعها: أنَّ فيها ذكر الحبيب، والمحبُوب، وسيرهما. وخامسها: أنَّ «أحْسنَ» هنا بمعنى: أعجب. وسادسها: سُمِّيت أحسن القصص؛ لأنَّ كل من ذكر فيها كان مآله إلى السَّعادة، وانظُر إلى يوسف، وأبيه وإخوته، وامرأة العزيز، قيل: والملكُ أيضاً أسلم بيُوسُف، وحسن إسلامهُ، ومستعبر الرؤيا، والسَّاقي، والشَّاهد فيما يقال، فما كان أمْر الجَمِيع إلاَّ إلى خير، والله تعالى أعلم. قوله: {بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} «الباء سببيَّة» ، وهي متعلقةٌ ب «نَقُصُّ» و «مَا» مصدريَّة، أيك بسبب إيحائنا «. قوله: {هذا القرآن} يجوز فيه وجهان: أظهرهما: أن ينتصب على المفعولية ب» أَوْحَيْنَا «. والثاني: أن تكون المسألة من باب التنازع، أعني: بَيْن» نَقُصُّ «وبين» أوْحَيْنَا «فإن كلاًّ منهما يطلب» هذا القُرآنَ «وتكون المسألةُ من إعمال الثاني، وهذا إنما يتأتَّى على جعلنا» أحْسنَ «: منصوباً على المصدر، ولم يقدَّر ل» نَقُصُّ «مفعولاً محذوفاً. قوله: {وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الغافلين} [يوسف: 3] تقدّم إعراب نظيره، والمعنى: قد كنت من قبله، أي: من قبل وحينان لمن الغافلين، أي: لمن الساهين عن هذه القصَّة لا تعلمُهَا. وقيل: لمن الغافلين: عن الدِّين والشَّريعة قبل ذلك، كقوله تعالى: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] . قال بعض المفسرين: سمى قصَّة يُوسف خاصَّة أحسن القصص؛ لما فيها من العبر، والحكم، والنُّكتِ، والفوائد التي تصلْح للدِّين والدُّنيا، من سير الملوكِ، والمماليكِ، والعلماء، ومكرِ النِّساء، والصبْر على أذى الأعداء، وحسن التَّجاوزِ عنهم بعد الالتقاء، وغير ذلك من الفوائد. قال خالد بن معدان:» سورة يوسف، وسورة مريم يتفكَّه بهما أهل الجنَّة في الجنَّة «. وقال عطاء رَحِمَهُ اللَّهُ:» لا يَسْمع سُورةَ يُوسف محْزُونُ إلا استراح لهَا «. قوله تعالى: {إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ} الآية. رُوِي أن علماء اليهود قالوا لكبراء المشركين: سلْوا محمَّداً لم انتقل يعقوب من الشَّام إلى مصر؟ وعن كيفيَّة قصَّة يوسف؟ فأنز الله تعالى هذه السورة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 7 وفي العامل في «إذْ» أوجهٌ: أظهرها: أنه منصُوب ب «قَالَ يَا بُنَيَّ» أي: قال يعقوب: يا بني وقت قول يُوسف لهُ: كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا أسهل الوجوه؛ إذ فيه إبقاء «إذْ» كونها ظرفاً ماضياً. وقيل: الناسب له: «الغَالفينَ» قاله مكيٌّ. وقيل: هو منصوبٌ ب «نَقُصُّ» أي: نقصُّ عليك وقتَ قوله كَيْتَ وكَيْتَ، وهذا فيه [إخراج] «إذْ» عن المضيِّ، وعن الظرفيَّة، وإن قدَّرت المفعول محذوفاً، أي: نقصُّ عليك الحال وقت قوله، لزم أخراجها عن المضيِّ. وقيل: هو منصوب بمضمر، أي: اذكُر. وقيل: هو منصُوب على أنَّه بدل من «أحسن القصص» بدل اشتمال. قال الزمخشري: «لأنَّ الوقت يشتمل على القصص وهو المقصوص» و «يُوسفُ» اسم عبرانيٌّ، ولذلك لا ينصرف، وقيل: هو عربيٌّ، فقال الزمخشريُّ: «الصَحيحُ أنه اسم عبرانيٌّ؛ لأنه لو كان عربيًّا، لانصرف» وسئل أبو الحسن الأقطع عن الأسف فقال: «الأسف في اللغة: الحُزن، والأسف: العَبْد، واجتمعا في يوسف؛ فسُمِّي بهما» . روي ابن عمر عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «الكَرِيمُِ ابنُ الكَريمِ ابْنِ الكريمِ ابن الكريم، يُوسف بنُ يعقُوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبْراهيمَ صَلواتُ اللهِ وسلامه عليهم أجمعين» . قوله: «يَا أبَتِ» قرأ ابن عامر: بفتح التَّاء، والباقون بكسرها، وهذه التَّاء عوض عن ياء المتكلم؛ ولذلك لا يجوز الجمع بينهما. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 8 وهذا مختصٌّ بلفظتين: يا أبَتِ ويَا أمَّتِ، ولا يجُوز في غيرهما من الأسماء، لو قلت: «يَا صَاحِبتِ» لم يجُز ألبتَّة؛ كما اختصَّت لفظة الأم والعم بحكم في نحو: «يا ابْنَ أمَّ» ويجوز الجمع بين هذه التَّاء، وبين كلِّ من الياءِ والألفِ ضرورةً؛ كقوله: [الرجز] 3044 - يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا ... وقول الآخر: [المتقارب] 3045 - أيَا أبَتَا لا تَزْلْ عِنْدنَا ... فإنَّا نَخافُ بأنْ تُخْتَرَمْ وقول الآخر: [الطويل] 3046 - أيَا أبَتِي لا زلْتَ فينَا فإنَّمَا ... لنَا أمَلٌ فِي العَيْشِ ما دُمْتَ عَائِشَا وكلامُ الزمخشريِّ يؤذن بأنَّ الجمع بين التَّاء والألفِ ليس ضرورةً؛ فإنَّه قال: «فإن قلت: فما هَذه الكسْرة؟ قلتُ: هي الكسْرة الَّتي كَانتْ قبل الياءِ في قولك:» يا أبي «قد زُحلقَتْ إلى التاء؛ لاقتضاء تاءِ التَّأنيث أن يكُون ما قبْلَها مفتوحاً. فإن قلت: فما بالُ الكسرة لم تَسْقُطْ بالفَتْحَة الَّتي اقْتَضَتْهَا التَّاء، وتبقَى التَّاءُ ساكنةً؟ . قلت: امتنع ذلك فيها؛ لأنَّها اسم، والأسماءُ حقُّها التحريكُ؛ لأصالتها في الإعراب، وإنما جاز تسكينُ الياء، وأصلها أن تحرَّك تخفيفاً؛ لأنها حرف لين، وأما التاء، فحرفٌ صحيحٌ، نحو كافِ الضمير؛ فلزم تحريكها. فإن قلت: يشبه الجمع بين هذه التَّاء وبين هذه الكسرة الجمع بين العوض والمعوَّض منه؛ لأنَّها في حكم الياء، إذا قلت: يا غُلام، فكَمَا لا يَجُوز: «يا أبتي» لا يجوز «يا أبتِ» قلت: الياءُ والكسرة قبلها شيئان، والتَّاء عوض من أحد الشيئين، وهو الياء، والكسرة متعرَّض لها؛ فلا يجمع بين العوض والمعوَّض منه، إلا إذا جُمِعَ بين التَّاء والياء لاغير؛ ألا ترى إلى قولهم: «يَا أبَتَا» مع كونِ الألف فيه بدلاً من الياءِ، كيف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 9 جاز بينها وبين التاء، ولم يعدَّ ذلك جمعاً بين العوض والمعوَّض منه؟ فالكسرة أبعد من ذلك. فإن قلت: قد دلَّت الكسرة في «يا غُلام» على الإضافة؛ لأنَّها قرينة الياءِ ولصيقتها، فإن دلَّت على مثل ذلك في: «يا أبت» فالتَّاء الَمعوَّة لغو، وجودها كعدمها. قلت: [بل] حالها مع التَّاء كحالها مع الياءِ إذا قلت: «يا أبِي» . وكذا عبارة أبي حيَّان، فإنه قال: وهذه التَّاء عوض من ياءِ الإضافة فلا تجتمعان، وتجامع الألف التي هي بدل من التاء، كما قال: [الرجز] 3047 - يَا أبَتَا عَلَّكَ أوْ عَسَاكَا ... وفيه نظر؛ من حيث إن الألف كالتاء لكونها بدلاً منها، فينبغي أن لا يجمع بينهما، وهذا تاء أصلها للتأَنيث. قال الزمخشريُّ: «فإن قلتك ما هذه التَّاء؟ قلتك تاءُ التأنيث وقعت عوضاً من ياء الإضافة، والدَّليل على أنَّها تاء التَّأنيث: قلبُهَا هاءً في الوقف» . قال شهاب الدِّين: وما ذكرهُ من كونها تقلب هاءً في الوقف، قرأ به ابنُ كثير، وابن عامرٍ، والباقُون وقفوا عليها بالتَّاء، كأَنَّهم أجروها مجرى تاء الإلحاق في «بِنْت وأخْت» وممن نصَّ على كونهخا للتَّأنيث: سيبويه؛ فإنه قال: «سَألْت الخليل عن التَّاء في:» يَا أبتِ «فقال: هي بِمنزِلَة التَّاء في تاء» يا خالة وعمَّة «يعنى: أنَّها للتَّأنيث» ويدلُّ أيضاً على كونها للتأنيث: كتبُهم إيَّاها هاءً، وقياس من وقف بالتَّاء: أن يكُبهَا تاء، ك «بِنْت وأخْت» . ثم قال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز إلحاق تاءِ التَّأنيث بالمذكَّر؟ . قلت: كما جاز نحو قولك: حمامة ذكر، وشاةٌ ذكر، ورجل ربعة، وغلامٌ يفعة قلت: يعني: أنها جيء بهَا لمُجرَّد تأنيث اللفظ، كما في الأسماء المستشهد بها. ثم قال الزمخشري: «فإن قلت: فلم ساغ تعويض تاءِ التأنيث من ياءِ الإضافة؟ . قلت: لأن التأنيث والإضافة تناسبان؛ في أنَّ كل واحدٍ منهما زيادة مضمومة إلى الاسم في آخره» . قال شهاب الدين: «وهذا قياسٌ بعيدٌ لا يعمل به عند الحُذاق، فإنَّه يسمَّى الشَّبه الطَّردِي، أي: أنه شَبَهٌ في الصُّورة» . وقال الزمخشري: «إنه قرىء» يَا أبتِ «بالحركات الثلاث: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 10 فأما الفتح والكسر فقد تقدَّم ذكر من قرأ بهما. وأما الضم فغريبٌ جدًّا وهو يشبه من يبني المنادى المضاف لياء المتكلِّم على الضمِّ؛ كقراءة من قرأ: {قَالَ رَبِّ احكم بالحق} [الأنبياء: 112] بضم الباء، وسيأتي توجيهها هناك إن شاء الله تعالى ولما قلنا: إنَّه مضافٌ للياءِ، ولم نجعله مفرداً من غير إضافةٍ. وقد تقدَّم توجيهُ كسر هذه التَّاء بما ذكره الزمخشريُّ من كونها هي الكسرة التي قبل الياء زحلقت إلى التاء وهذا أحدُ المذهبين. والمذهبُ الآخر: أنَّها كسرة أجنبيَّة، جيء بها لتدُلَّ على الياءِ المعوَّض منها. فأما الفتح ففيه أربعة أوجه، ذكر الفارسي منها وجهين: أحدهما: أنه اجتزأ بالفتحة عن الألف المنقلبة عن الياءِ؛ كما اجتزَأ عنها الآخرْ بقوله: [الوافر] 3048 - ولَسْتُ بِراجِعٍ ما فَاتَ منِّي ... بِلهْفَ ولا بِليْتَ ولا لَوَنِّي وكما اجتزأ بها في:» يَا بْنَ أمَّ «و» يَا بْنَ عَمّ «. والثاني: أنه رخم بحذف التاء، ثم اقحمت التَّاءُ مفتوحة؛ كقول النابغة الجعديِّ: [الطويل] 3049 - كِلِينِي لِهمِّ يا أمَيْمةَ نَاصبِ ... وليْلٍ أقَاسيهِ بَطيءِ الكَواكبِ بفتح تاء أميمة. الثالث: ما ذكره الفرَّاء، وأبو عبيدة، وأبو حاتم، وقطرب في أحد قوليه: وهو أن الألف في:» يَا أبَتَا «للنُّدبة، ثم حذفها مجتزئاً عنها بالفتحة، وهذا قد ينفع في الجواب بين العوض والمعوض منه، ورد بعضهم هذاح بأنَّ المضع ليس موضع نُدبة. الرابع: أن الأصل» يا أبَة «بالتنوين، فحذف التنوين، لأنَّ النداء بابُ حذفٍ، وإلى هذا ذهب قطرُب في القول الثاني. وردَّ هذا: بأ، التَّنوين لا يحذف من المنادى المنصُوب نحو:» يَا ضَارِباً رجُلاً «. وقرأ أبو جعفر:» يا أبِي «بالياءِ ولم يعوض منها التَّاء، وقرأ الحسن، والحسين، وطلحة بن سليمان، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم» أحَدَ عَشَر «بسُكُون العين؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 11 كأنهم قصدّوا التنبيه بهذا التَّخفيفِ على أنَّ الاسمين جُعِلا اسماً واحداً. قوله {والشمس والقمر} يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن تكون الواو عاطفة، وحينئذ: يحتمل أن يكُون من باب ذكر الخاصِّ بعد ذكر العام تفصيلاً له؛ لأن الشَّمس والقمر دخلا في قوله: {أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} فهذا كقوله: {وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] بعد قوله:» ومَلائِكتهِ «ويحتمل أن لا تكون كذلك، وتكون الواوُ لعطف المغايرة؛ فيكون قد رأى الشمس والقمر زيادة على ال» أحَدَ عَشَرَ «ومن جملتها الشمس والقمر، وهذان الاحتمالان نقلهما الزمخشريُّ. والوجه الثاني: أن تكون الواو بمعنى:» مَعَ «إلا أنَّه مرجوحٌ؛ لأنَّه متى أمكن العطف من غير ضعفٍ، ولا أخلال بمعنى، رُجِّح على المعيَّة؛ وعلى هذا فيكون كالوجه الذي قبله، بمعنى: أنه رأى الشمس، والقمر زيادةً على الأحد عشر كوكباً. قوله: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} يحتمل وجهين: أحدهما: أنَّها جملة كُرِّرت للتوكيد؛ لما طال الفصل بالمفاعيل، كما كُرِّرت «أنكُم» في قوله تعالى: {أَنَّكُمْ إِذَا مِتٌّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ} [المؤمنون: 35] . كذا قالهُ أبو حيَّان، وسيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. والثاني: أنه ليس [بتأكيد] ، وإليه نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «فإن قلت: ما معنى تكرار» رَأيْتُمْ «؟ قلتُ: ليس بتكرار؛ إنَّما هو كلام مُستأنَف على تقدير سؤال وقع جواباً له؛ كأنَّ يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال لهُ عند قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر} كيف رأيتها؟ سائلاً عن حال رؤيتها، فقال: (رأيتهم لي ساجدين) وهذا أظهر؛ لأنَّه متى دار الكلام بين الحمل على التأكيد والتأسيس، فحمله على التَّأسيس أولى» . و «سَاجِدينَ» : صفة جُمِعَ جَمْ العقلاء، فقيل: لأنَّه لما عاملهُم معاملة العقلاء في إسناد فعلهم إليهم، جمعهم جمع العقلاء، فقيل: لأنَّ الشيء قد يعامل مُعالمة شيء آخر، إذا شاركه في صفةٍ ما؛ كما قال في صفة الأصنام: {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198] ، وكقوله عَزَّ وَجَلَّ: {يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] . والرُّؤية هنا: مناميَّة، وقد تقدم أنَّها تنصب مفعولين؛ كالعلميَّة؛ وعلى هذا قد حذف المعفول الثاني من قوله: {رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} ، ولكن حذفه اقتصاراً ممتنع، فلم يبق إلا اختصاراً، وهو قليلٌ، أو ممتنع عند بعضهم. وقال بعضهم: إن إحداهما من الرُّؤية، والأخرى من الرُّؤيا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 12 قال القفَّال: ذكر الرُّؤية الأولى؛ ليدل على أنَّه شاهد الكواكبِ، والشَّمس والقمر، والثانية؛ ليدل لا على مشاهدة كونها ساجدة لهُ. فصل ذكر المفسرون: أنَّ يوسف عليه السلام رأى في المنام أحد عشر كوكباً، والشمس والقمر يسجدون لهُ، كان لهُ احد عشر من الإخوة يُسْتضاء بهم؛ كما يُسْتضاء بالنُّجوم، ففسَّر الكواكب: بالإخوة، والشمس والقمر: بالأب والأم، والسجُود: بتواضعهم له، ودخولهم تحت أمره، وإنما حملنا الرُّؤية على رُؤية المنام؛ لأن الكواكب لا تسجُج في الحقيقَةن ولقول يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ} . وقال السديُّ: «القمر: خالته، والشَّمسُ: أبُوه؛ لأن أمَّه راحِيل كانت قد ماتت» . وقال ابن جريج: القَمَر: أبُوه، والشَّمسُ أمُّه؛ لأن الشمس مؤنثة، والقمر مذكَّر. وقال وهب بن مُنبِّه رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «إن يُوسفُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت رأى وهو ابنُ سبع سنين، إحدى عشرة عصاً طوالاً كانت مركُوزة في الأرض كهيئة الدَّائرة، وإذا عَصاً صغيرة وثبت عليها حتى اقتلعتها، فذكر ذلك لأبيه؛ فقال: إيَّاك أن تذكر هذا لإخوتك، ثمَّ رأى وهو ابن اثنتي عشرة سنة، الشَّمس، والقمر والكواكب، تسجُد له؛ فقصَّها على أبيه؛ فقال: لا تذكرها له فيَكيدُوا لَك كَيْداً» . روى الزمخشريُّ: رَحِمَهُ اللَّهُ: «أن يهُودِيًّا جاء إلى النبيِّ صلى الله عليه سولمن فقال يا محمَّد: أخبرني عن النُّجُوم التي رآهُن يوسف، فسكت النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ فنزل جبريل عليها لسلام فأخبره بذلك؛ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لليهوديَّ: إن أخبرتك بذلك هل تسلم؟ قال: نَعمْ؛ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم: حرثان، والطارق والذيال، وقابس، وعمودان، والفليق، والمصبح، والقرع، والضروح ووثاب، وذو الكتفين رآها يوسف، والشمس والقمر [نَزلْنَ] من السَّماء، وسجدن لهُ، فقال اليهوديُّ: أي والله إنَّها لأسماؤها» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 13 واعلم ان كثيراً من هذه الأسماء غير مذكورة في الكتب المصنفة في صُور الكواكب. فصل زعمت طائفةٌ من العلماء: أ، هـ لم يكن في أولاد يعقُوب نبيٌّ غير يُوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وباقي إخوته لم يوح إليهم، واستدلُّوا بظاهر ما ذُكر من أفعالهم، وأحوالهم في هذه القصَّة، ومن استدلَّ على نُبوتهم، استدلَّ قوله تعالى: {آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط} [البقرة: 136] وزعم أنَّ هؤلاء: هم الأسباط، وهذا استدلال ضعيفٌ؛ لأن المراد بالأسباط: شُعوب بني إسرائيل، ما كان يوجد فيهم من الأنبياء الذين نزل عليهم الوحي، وأيضاً: فإنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هو المخصُوص من بين إخوته بالنبوة والرسالة؛ لأنَّه نصَّ على نُبوَّته، والإيحاء إليه في آيات من القرآن ولم ينصَّ على أحد إخوته سواه؛ فدلَّ على ما ذكرنا. فصل في الآية دليل على تحذير المسلم أخاهُ المسلم، ولا يكُون ذلك داخلاً في معنى الغيبة؛ لأنَّ يعقُوب قد حذَّر يوسف أن يقُصَّ رُؤياه على إخوته؛ فيَكِيدُوا لهُ كيْداً، وفيها أيضاً: دليل على جواز ترك إظهار النِّعمة عند من يخشى غائلته حسداً، وفيها أيضاً: دليلٌ على مع رفة يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بتأويلِ الرُّؤيا؛ فإنه علم من تأويلها: أنَّه سيظهر عليْهم. قوله {لاَ تَقْصُصْ} قرأ حفص: «يا بُنيَّ» بفتح الياء، والباقون بكسرها، وقرأ العامة: بفك الصادين، وهي لغةُ الحجاز، وقرأ زيد بن عليك بصادٍ واحدةٍ مشددة، والإدغام لغة تميم، وقد تقدَّم تحقيق هذا في المائدة، عند قوله: {مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ} [المائدة: 54] والرُّؤيا مصدر كالبُقْيَا. وقال الزمخشريٌّ: «الرُّؤيا بمعنى: الرُّؤية، إلا أنَّها ختصةٌ بما كان في النَّوم دون اليقظة، فُرِّق بينهما بحرفي التأنيث؛ كما قيل: القربة والقربى» . وقرأ العامَّة: «الرُّؤيا» مهموزة من غير إمالة، وقرأها الكسائيُّ في رواية الدُّوريِّ عنه بالإمالةِ: وأما (الرؤيا) [يوسف: 100] : و «رُؤيَاي» الاثنتان في هذه السورة، فأمالهما الكسائيُّ من غير خلافِ في المشهور، وأبو عمرو يبدل هذه الهمزة واواً في طريق السوسيِّ. وقال الزمخشري: وسمع الكسائيُّ: «رُيَّايَ وريَّاكَ» بالادغام، وضم الرَّاء، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 14 وكسرها، وهي ضعيفة؛ لأن الواو في تقدير الهمزة؛ فلم يقو إدغامها؛ كما لم يقو إدغام «اتَّزَر» من الإزراِ، و «اتَّجرَ» من «الأجْر» . يعنى: أن العارض لا يعتدُّ به، وهذا هو الغالبُ، وقد اعتدَّ القراء بالعارض في مواضع يأتي بعضها إن شاء الله تعالى نحو قوله: «رِئْياً» في قوله: {أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً} [مريم: 74] عند حمزة، و {عَاداً الأولى} [النجم: 50] وأما كسر «ريَّاكَ» فلئلا يُؤدِّي إلى ياء ساكنة بعد ضمَّة، وأما الضمُّ فهو الأصل، والياء قد استهلكت بالإدغام. قوله «فيَكِيدُوا» : منصُوب في جواب النَّهي، وهو في تقدَير شرطٍ وجزاءٍ، وذلك قدَّره الزمخشريُّ بقوله: «إن قصَصْتهَا عليْهِم كادُوكَ» . و «كَيْداً» فيه وجهان: أظهرهما: أنه مصدر مؤكدٌ، وعلى هذا ففي اللام في قوله: «لَكَ» خمسة أوجه: أحدها: أن يكون «يَكيدُ» ضمن معنى ما يتعدَّى باللاَّم؛ لأنَّه في الأصل يتعدَّى بنفسه، وقال: {فَكِيدُونِي جَمِيعاً} [هود: 55] والتقدير: فيحتالوا لك بالكيد. قال الزمخشري مقدِّراً لهذا الوجه: «فإن قلت: هلا قيل: فَيَكيدُوكَ» كما قيل: الفعل المضمَّن، فيكون آكد وأبلغ في التَّخويف، وذلك نحو: فيَحْتالُوا لك؛ ألا ترى إلى تأكيده بالمصدر «. الوجه الثاني من أوجه اللاَّم: أن تكون اللاَّم معدية، ويكون هذا الفعل ممَّا يعتدَّى بحرف الجرِّ تارة، وبنفسه أخرى؛ ك» نَصَحَ «و» شَكَرَ «كذا قالهُ أبو حيَّان، وفيه نظر؛ لأنَّ ذلك باب لا ينقاس، إنَّما يقتصر فيه على ما ذكره النُّحاة، ولم ْ يذكُروا منه كَادَ. والثالث: أن تكون اللاَّمُ زائدة في المفعول به؛ كزيادتها في قوله: {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] ، قاله أبو البقاء؛ وهو وضعيفٌ؛ لأن اللام لا تزاد إلا بأحد شرطين: تقديم المعمول، أو كون العامل فرعاً. الرابع: أن تكون اللام للعلَّة، أي: فيَكِيدوا لأجْلِك؛ وعلى هذا فالمفعُول محذوفٌ اقتصاراً، أو اختصاراً. الخامس: أن تتعلَّق بمحذُوف؛ لأنَّها حالٌ من» كَيْداً «إذ هي في الأصل يجوز أن تكون صفة له لو تأخَّرت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 15 الوجه الثاني من وجهي» كَيْداً «: أن يكون مفعولاً به، أي: فيصنعوا لك كيداً، أي: أمراً يكيدُونك به، وهو مصدر في موضع الاسم، ومنه: {فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ} [طه: 64] ، أي: ما تكيدُون به؛ ذكره أبو البقاء، وعلى هذا ففِي اللاَّم في:» لَكَ «وجهان فقط: كونُها صفة في الأصل، ثم صارت حالاً، أو هي للعلَّة، وأما الثلاثة الباقية، فلا تتأتَّى بعد، فامتناعها واضحٌ. ثمّ قال: {إِنَّ الشيطان لِلإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} أي: يزيِّن لهم الشيطان، ويحملهم على الكيد بعداوته القديمة. فصل قال أبو سلمة: كنت أرى الرُّؤيا تهُمُّنِي، حتى سمعتُ أبا قتادة يقول: كنت أرى الرُّؤيا، فتُمْرضُنِي، حتى سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «الرُّؤيا الصَّالحة من الله، فإذا رأى أحَدكُمْ ما يُحِبُّ، فلا يُحدِّثْ به إلاَّ من يحبُّ، وإذا رَأى ما يكرهُ، فلا يُحدِّثْ به، وليتفُل عن يساره، وليَتَعوَّذْ باللهِ من الشيطانِ الرَّجيم، من شر ما رأى فإنَّها لنْ تَضْره» وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الرُّؤيا جُزءٌ من أربعينَ أو ستَّة وأربعينَ جُزءاً من النُّبوَّةِ، وهيَ على رجل طائرْ فإذا حدَّث بها وقعتْ» . قال الراوي: وأحسبه قال: «لاتُحدِّثْ بِهَا حَبِيباً، أوْ لَبِيباً» . قال الحكماء: الرؤيا الرَّديئة يظهرُ تعبيرُها عن قُرب، والرُّؤيا الجيَّدة، إنَّما يظهر تعبيرُها بعد حين، قالوا: والسَّبب فيه أنَّ رحمة الله تقتضي ألاَّ يحصل الإعلام بوصُول الشَّر، إلا عند قُرب وصُوله حتى يقل الحُزْنُ، والغَمُّ الحاصِل بسبب توقُّعِه، وأمَّا الإعلام بالخير، فإنه يحصُل متدِّماً على ظهوره، بزمانٍ طويلٍ؛ حتى يكون السُّرورُ الحاصِل بسبب توقُّع حصُولهِ كَثِيراً. فصل قال القرطبيُّ: «الرُّؤيا حالةٌ شريفة، ومنزِلةٌ رفيعَةٌ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لَمْ يَبقَ بعدي من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 16 المبشراتِ إلاَّ الرُّؤيا الصَّالحة، يَراهَا [الرجل] الصَّالحُ، أو ترى له «وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [أصْدقُكم رُؤيَا، أصدقكُمْ حَديثاً، وحكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ] بأنَّها جزءٌ من ستَّةٍ وأرْبعينَ جُزءاً من النُّبوَّة وروي: من سبعين، وروي: من [تسعة] وأرْبعينَ، وروي: من خَمسِينَ جُزءاًن ورويك من ستَّةٍ وعشْرينَ جُزءاً من النُبوَّةِ، وروي: من أرْبعينَ، والصحيح: حديث السِّت والأربعين، ويتلوه في الصِّحة حديث السَّبعين. فإن قيل: إن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت كان صغيراً، والصغير لا حكم لفعله، فكيف يكون لرُّؤياه حكم، حتى يقول له أبو: {لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ} . فالجواب: أن الرُّؤيا إدراكُ حقيقةٍ، فتكون من الصَّغير كما يكُون منه الإدراك الحقيقيُّ في اليقظة، وإذا أخبر عمَّا رأى في اليقظة، صدق؛ فكذلك إذا أخبر عمَّا رأى في المنامِ، ورُوِي: أن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان ابن اثنتي عشر سنة. فصل في الآية دليلٌ على أن الرُّؤيا لا تقصُّ على غير شقيق ولا ناصح، ولا على امرىءٍ لا يحسن التأويل فيها. وروى الترمذيُّ: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» الرُّؤيا برجْل طائرْ، ما لَمْ يحدِّث بها صَاحبُهَا، فإذا حدَّث بها، وقعتْ، فلا تُحدِّثُوا بهَا إلا عارفاً، أو مُحبًّا، أوْ ناصحاً «. قوله {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} الكاف في موضع نصب، أو رفع. فالنَّصبُ إما على الحال من ضمير المصدر المقدَّر، وقد تقدم أنه رأي سيبويه، وإمَّا على النعت لمصدر محذوف، والمعنى: مثل ذلك الاجتباء العظيم يجتبيك. والرَّفع على أنَّه خبر ابتداء مضمر، يعني: الأمر كذلك، وقد تقدم نظيره. قوله: {وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} مستأنف ليس داخلاً في حيِّز التشبيه، والتقدير: وهو يعلمك، والأحاديث: جمع تكسير، فقيل: لواحد ملفوظٍ به، وهو «حَدِيث» ولكنَّه شذَّ جمعه على: أحاديث، وله أخوات في الشُّذُوذ؛ كأباطيلنو أقَاطِيع، وأعَارِيض، في «بَاطل وقَطيع وعَروض» . [وزعم] أبو زيد: «أن لهَا واحداً مقدراً، وهو» أحْدُوثة «ونحوه، وليس باسم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 17 جمع؛ لأن هذه الصِّغة مختصًّة بالتكسير، وإذا كانوا قد التزمُوا ذلك فيما لم يصرح له مفردٌ من لفظه، نحو:» شَماطِيط «، و {أَبَابِيلَ} [الفيل: 3] ففي أحاديث أولى» . ولهذا ردَّ على الزمخشري قوله: «وهي اسمُ جمع للحديث، وليس بجمع أحدوثة» بما ذكرنا، ولكن قوله: «ليس بجمع أحدُوثة» صحيح؛ لأن مذهب الجمهُور خلافه، على أنَّ كلامه قد يُريد به غير ظاهره من قوله: «اسم جمع» . فصل قال الزجاج: الاجتباء مشتقٌّ من جببتُ الشيء: إذا أخلصته لنفسِك، ومنه: جَبُبت الماء في الحوض، والمعنى: كما رفع منزلتك بهذه الرُّؤيَا العظيمة الدَّالة على الشَّرفِ والعز، كذلك يَجْتَبِيك ربُّك، ويصْطَفِيك ربُّك بالنُّبوَّة. وقيل: بإعلاء الدَّرجة (ويعلمك من تأويل الأحاديث) : يريد تعبير الرُّؤيا، وسُمِّي تأويلاً؛ لأنَّه يئول أمره إلى ما رأى في منامه، والتأويل: ما يئول إليه عاقبة الأمْر، كان عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ غاية في علم التَّعبير. وقيل: في تأويل الأحاديثِ في كتبه تعالى، والأخبار المرويَّة عن الأنبياء المتقدمين عليهم الصلاة والسلام. وقيل: الأحاديث: جمع «حَدِيث» ، والحديث هو الحَادثُ، وتأويلُها: مآلهُا ومآل الحوادث إلى قُدرَة الله تعالى، وتكوينه، وحكمته، والمراد من تأويل الأحاديث: كيفية الاستدلالِ بأصناف المخلوقات على قدرة الله تعالى وحمته، وجلاله. قوله: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} يجوز أن يتعلق «عَليْكَ» ب «يُتِمُّ» وأن يتعلق ب «نِعْمتَهُ» ، وكرَّر «عَلَى في قوله:» وعَلى آلِ «لتمكنِ العطف على الضمير المجرورنن وهذا مذهبُ البصريِّين. وقوله {مِن قَبْلُ} أي: من قبلك: واعلم: أنَّ من فسر الاجتباء بالنُّبوَّة، لا يمكِنُه أن يفسِّر إتمام النِّعمة ههنا بالنبوة، وإلا لزم التكرارن بل يفسر إتمام النِّعمة ههنا: بسعادات الدنيا والآخرة. أما سعادات الدنيا؛ فالإكثار من الولدِ، والخدمِ، والأتباع، والتَّوسُّع في المال والجاه، والجلال في قلوب الخلقِ، وحسن الثَّناء وَالحمد، وَأما سعادات الآخرة، فالعُلُوم الكثيرةن والأخلاق الفاضلة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 18 وقيل: المراد من إتمام النِّعمة: خلاصته من المحن، ويكون وجه التَّشبيه ب» إبراهيم وإسحاق عليهما الصلاة والسلام «وهو إنعام الله تعالى على إبراهيم بإنجائه من النَّارن وعلى ابنه إسحاق بتخليصه من الذَّبح وقيل: إن إتْمَام النَّعمة هو: وصْل نعم الدُّنْيَا بنِعَم الآخرة؛ بأن جعلهُم في الدُّنيَا أنبياء مُلُوكاً، ونقلهُم عنها إلى الدَّرجات العُلَى في الآخرة. وقيل:: إتمام النِّعمة على إبراهيم: خُلَّتهُ، ونعلى إسحاق بأخراج يعقُوب والأسباط من صلبه. ومن فسر الاجتباء: بالدَّرجات العالية؛ فسَّر: إتمام النِّعمة: بالنُّبوَّة؛ لأنَّ الكمال المطلق، والتَّمام المطلق في حقَّ البشرِ ليْس إلاَّ النُّبوَّة، يدلُّ عليه قوله تعالى: {وعلى آلِ يَعْقُوبَ} أي: على أولاده؛ لأن أولاده كلهم كانُوا أنبياء، وقوله: {كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} والنِّعمة التَّامة التي بها حصل امتياز إبراهيم وإسحاق من سائر النَّاس ليس إلا النبوة؛ فوجب أن يكون المرادُ بإتمام النِّعمة: هو النبوة، وعلى هذا فيلزم الحكم بأنَّ أولاده يعقوبكلهم كانوا أنبياء؛ كقوله تعالى: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وعلى آلِ يَعْقُوبَ} . فإن قيل: كيف يجوز أن يكُونُوا أنبياء، وقد أقدموا على ما أقدمُوا عليه في حقِّ يُوسُف عليه السلام؟ . فالجواب: أنَّ ذلك وقع قبل النبوَّة، العصمة، إنَّما تثبتُ في وقتِ النُّبوَّة، لا قبلها. قوله {إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ} «يجُوز أن يكونا بدلاً من» أبَويْكَ «أو عطف بيان، أو على إضمار أعني» ، ثم لما وعد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بهذه الدرجات الثلاث، ختم [الآية] بقوله: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فقوله «عَلِيمٌ» إشارة إلى قوله: {الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام: 124] ، وقوله: «حَكِيمٌ» إشارة إلى أنه مقدَّس عن العبث، فلا يضع النبوة إلا في نفسٍ قُدسيَّة ط فإن قيل: هذه البشارات التي ذكرها يعقوب هل كان قاطعاً بصحَّتها، أم لا؟ فإن كان قاطعاً بصحَّتها، فيكف حزن على يوسف؟ وكيف جاز أن يشتبه عليه أنَّ الذئب أكلهُ؟ وكيف خاف عليه من إخوته أن يهلكوه؟ وكيف قال لإخوته: {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} [يوسف: 13] مع علمه بأن الله تعالى سيُنَجِّيه، ويبعثُه رسولاً؟ . وإن قلت: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما كان عالماً بهذه الأحوال، فكيف قطع بها؟ وكيف حكم بوقوعها جزماً من غير تردُّدٍ؟ . فالجواب قال ابنُ الخطيب: «لا يبعُد أن يكون: قوله: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} مشروطاً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 19 بألا يكيدُوه؛ لأن ذكر ذلك قد تقدَّم، وأيضاً: فيبعُد أن يقال: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ سيصلُ إلى هذه المناصب، إلا أنه لا يمتنعُ أن يقع في المضايق الشديدة، ثم يتخلَّص منها، أو يصل إلى تلك المناصب، وكان خوفه بهذا السَّبب، ويكُون معنى قوله: {وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب} [يوسف: 13] الزَّجز عن التهاون في حقِّه وإن كان يعلم أن الذئب لا يصل إليه» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 20 قوله تعالى: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ} الآية. قال الزمخشري: «أسماء إخوة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يهوذا ورُوبيل، وشمعُون، ولاوي، وزبالون، ويشجر، وأمهم: ليا بن ليان، وهي ابنة خال يعقوب، وولد له من سريتين تسمى إحداهما زلفة والأخرى بلهة أربعة أولاد: دان، ونفتالي، وجاد وآشر، فلما توفيت» ليا «تزوج يعقوب أختها راحيل، فولدت له يوسف وبنيامين» . قوله تعالى قرأ ابن كثير «آية» بالإفراد، والمراد بها: الجِنْس، والباقون الجمع تصريحاً بالمراد؛ لأنها كانت علامات كثيرة، وزعم بعضهم: أن ثمَّ معطوفاً محذوفاً، تقديره: للسَّائلين ولغيرهم، ولا حاجة إليه، و «للسَّائلِينَ» : متعلقٌ بمحذوفٍ نعتاً ل «آياتٌ» . فصل معنى: {آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} أنه عبرة للمتعبرين؛ فإنها تشتمل على حسد إخوة يوسف، وما آل إليه أمرهم من الحسدن وتشتمل على صبر يوسف عن قضاء الشُّهُود، وعلى الرقِّ والسِّجن، ما آل إليه أمرهُ من الوُصول إلى المراد، وغير ذلك. وقيل: {آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} ، أي دلالة على نُبُوَّة الرسول صلوات الله وسلام عليه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 20 وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما دخل حبر من اليهُود على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فسمع منه [قراءة] سورة يوسف، فعاد إلى اليهودِ، فأعلمهم أنَّه سمع كما في التَّوراة، فانطلق نفرٌ منهم، فسَمِعُوا كما سَمِع؛ فقالوا له: من علَّمك هذه القصَّ؟ فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «الله عَلَّمَنِي» فنزلت: {لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ} . قال ابن الخطيب: «وهذا الوجه عندي بعيد؛ لأن المفهوم من الآية: أن في واقعة يُوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت آياتٌ للسَّائلينَ، وعلى ما قلناه: ما كانت الآيات في قصَّة يُوسف، بل كانت في إخبار محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عنها، من تعلُّم ولا مطالعة. الثاني: أن أكثر أهل مكَّة كانُوا أقارب الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، وكانُوا يُنْكِرُون نُبوَّته، ويظهرُون العداوة الشَّديدة معهُ بسبب الحسد، فذكر الله تعالى هذه القصَّة، وبيَّن أنَّ إخوة يُوسُف بالغُوا في إيذائه لأجل الحسد، وبالآخرة إن الله نصره، وقواه، وجعلهم تحت يده، ومثل هذه الواقعة إذا سمعها العاقل، كانت زاجرة له عن الإقدام على الحسد. الثالث: أن يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما عبر رُؤيا يُوسُف، وقع ذلك التَّعبير، ودخل في الوُجُود بعد ثمانين سنة، فكذلك أن الله تعالى ت كما وعد مُحمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالنَّصر والظفر، كان الأمر كما قدَّره الله تعالى لا كما سعى فيه الأعداء في إبطال أمره» . قوله: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا} اللام في «ليُوسفُ» : لام الابتداء أفادت توكيداً لمضمون الجملة، وأرادُوا أنَّ زيادة محبَّته لهما أمر ثابتٌ لا شبهة فيه «وأخُوهُ» ك هو بنيامين، وإنَّما قالوا: «وأخُوهُ» وهُمْ جَمِيعاً إخوة؛ لأن أمُّهُمَا كانت واحدة، و «أحَبُّ» أفعل تفضيلن وهو مبنيٌّ من «حُبَّ» المبنيِّ للمفعُول، وهو شاذٌّ، وإذا بنيت أفعل التَّفضيل، من مادَّة الحُبِّ والبغضِ، تعدَّى إلى الفاعل المعنوي ب «إلى» وإلى المفعول المعنوي ب «اللام، أو ب» في «فإذا قلتَ: زيدٌ أحبُّ إِليَّ من بكرٍ، تعني: أنك تحبُّ زيداً أكثر من بكر، فالمُتكلِّم هو الفاعل، وكذلك:» هو أبغضُ إليَّ منْهُ «أنت المبغض، وإذا قلت: زيدٌ أحبُّ إليَّ من عمرو، أو أحَبُّ فيَّ مِنهُ، أي: إنَّ زيداً يُحِبُّني أكثر من عمْرِو؛ قال امرؤ القيس: [الطويل] 3050 - لعَمْرِي لَسعْدٌ حَيْثُ حُلِّتْ دِيَارهُ ... أحَبُّ إليْنَا مِنْكَ فافرَسٍ حَمِرْ وعلى هذا جاءت الآية الكريمة؛ فإن الإب هو فاعل المحبَّة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 21 و» أحَبُّ «: خير المبتدأ، وإنَّما لم يطابق؛ لما عرفت من حكم أفعل التَّفضيل. وقيل: اللاَّم في:» ليُوسُفُ «: جواب القسم، تقديره: والله ليُوسف وأخُوه، والواوُ في:» ونَحْنُ عُصْبَةٌ «: للحال، فالجملة بعدها في محلِّ نصب على الحال، والعامة على رفع» عُصْبةٌ «خبراً ل» نَحْن «. وقرأ أمير المؤمنين رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بنصبها على أنَّ الخبر محذوف، والتقدير: ونحن نرى أو نجتمع، فتكون» عُصْبَةٌ «حالاً، إلا أنَّه قليلٌ جدًّا؛ وذلك لأنَّ الحال لا يسدُّ مسدَّ الخبر إلا بشُروطٍ ذكرها النُّحاة، نحو: ضربي زيداً قَائِماً، وأكثر شُربِي السُّويق مَلْتُوتاً. قال ابن الأنباري:» هذا كما تقُولُ العربُ: إنَّمَا العَامريُّ عمَّتهُ، أي: يتعمم عِمَّته «. قال أبو حيَّان:» وليس مثله؛ لأن «عُصْبَةٌ» ليس بمصدر ولا هيئة، فالأجود أن يكون من باب: حُكمُكَ مُسمَّطاً «. قال شهاب الدِّين:» ليس مراد ابن الأنباري إلاَّ التشبيه؛ من حيث إنه حذف الخبر، وسدَّ شيءٌ آخر مسدَّه في غير المواضع المُنقَاس فيها ذلكن ولا نظر لكون المنصُوب مصدراً أو غيره «. وقال المبرد: هو من باب:» حُكمُك مُسمًّطاً «أي: لك حكمك مسمَّطاً، قال الفرزدقُ: 3051 - يا لهْذَمُ حُكْمُكَ مُسَمَّطاً ... أراد لك حكمك مُسمَّطاً. قال: واستعمل هذا فكثُر حتى حذفَ استخفافاً؛ لعلم ما يريد القائل؛ كقولك: الهلال والله، أي: هذا الهلال، والمُسَمَّط: المرسل غير المردُودِ وقدره غير المبرِّد: حكمُك ثبت مُسمَّطاً، وفي هذا المثال نظر؛ لأن النَّحويِّين يجعلُون من شرط سدِّ الحالِ مسدّ الخير: أن لا يصلُح جعل الحالِ خبراً لذلك المبتدأ، نحو: ضَرْبِي زيداً قائماً، بخلاف:» ضَرْبِي زيْداً شديدٌ «فإنَّها ترفع على الخبريَّة، وتخرُج المسألة من ذلك، وهذه الحال، أعني:» مُسَمَّطاً «يصلح جعلها خبراً للمبتدأ، إذ التقدير: حكم مرسل لا مردودٌ، فيكون هذا المثل على ما تقرَّر من كلامهم شاذًّا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 22 والعُصْبَة: ما زاد على العشرة، عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما؛ وعنه: مابين العشرة إلى الأربعين. وقيل: الثلاثة نفر، فإذا زادت على ذلك إلى تسعة؛ فهو رهطٌ، فإذا بلغُوا العشرة فصاعداً، فعُصْبَة. وقيل: مابين الواحد إلى العشرة. وقيل: من عشرة إلى خمسة عشر. وقيل: ستة. وقيل: سَبْعَة. والمادَّة تدلُّ على الإحاطة من العصابة؛ لإحاطتها بالرَّأس. فصل بيَّنُوا السبب الذي لأجله قصدوا إيذاء يوسف: وهو أن يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يفضِّل يوسف وأخاه على سائر أولاده في الحبِّ، فتأذَّوا منه لوجوه: أحدها: كانوا أكبر منه سنًّا. وثانيها: أنَّهم كانوا أكثر قوَّة، وأكثر قياماً بمصالح الأب منهما. وثالثها: أنَّهم القائمون بدفع المضار والآفات، والمشتغلُون بتحصيل المنافع والخيرات، وإذا كانُوا كذلك لا جرم قالوا: {إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} . قال ابن الخطيب: «وها هنا سؤالات: السؤال الأول: أن من المعلُوم أن تفضيل بعض الأولاد على بعض، يُورِث الحقد والحسد، وهما يورثان الآفات، فملا كان يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عالماً بذلك، فلم أقدم على التفضيل؟ وأيضاً: فالأسنُّ، والأعلم، والأنفع مقدَّم، فلم قلب هذه القضية؟ . فالجوابك أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما فضلهما على سائر أولاده إلا في المحبَّة، والمحبَّة ليست في وسع البشر، فكان معذُوراً فيه، ولا يلحقه بسبب ذلك لومٌ، قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» اللَّهُمَّ هذا قسمِي فيمَا أملكُ، فلا تَلُمنِي فيمَا لا أمْلك «حين كان يحبُّ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها. السؤال الثاني: أن أولاد يعقوب كانوا قد آمنوا بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 23 فكَيْفَ اعتَرضُوا؟ وكيْفَ زَيَّفُوا طريقتهُ وطعنُوا في فعلِهِ؟ وإن كانُوا مُكذِّبينِ بنُبوته، غير مقرِّين بكونه رسًُولاً حقًّا من عند الله، فهذا مُوجِبُ تكفيرهم؟ . والجواب: أنَّهُم كانوا مُؤمِنين بنبوَّة أبيهم، مُقرين بكونه رسُولاً حقًّا من عند الله، إلاَّ أنَّهُم لعلَّهم جوَّزُوا من الأنبياء أن يفعلوا أفعالاً مخصوصة بمجرد اجتهادهم، ثم إنَّ الاجتهاد أدَّى إلى تخطئة أبيهم في ذلك الاجتهادح وذلك لأنَّهم كانوا يقولون: هما صبيان ما بلغا العقل الكامل، ونحن متقدِّمُون عليهما في السنِّ، والعقل، الكفاية، والمنفعة، وكثرة الخدمة، والقيام بالمهمات، فإصراره على تقديم يوسف علينا، يخالف هذا الدَّليل، وأما يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فلعله كان يقُول: زيادة المحبَّة ليست في الوسع والطَّاقة، فليس لله عليًّ فيه تكليفٌ، وأما تخصيصهما بمزيد البرِّ، فيحتمل أنه كان لوجوه: أحدها: أن أمَّهُمَا ماتتْ وهم صغار. وثانيهما: أنه كان يرى فيه من آثار الرُّشد، والنَّجابة ما لم يجدْ في سائر الأولاد، والحاصل: أن هذه المسألة كانت اجتهاديَّة، وكانت بميْل النَّفس، وموجبات الفطرة، فلا يلزم من وقوع الاختلاف فيها طعن أحد الخصمين في دين الآخرِ، أو في عرضه. السؤال الثالث: أنهم نسبُوا أباهم إلى الضَّلال المبين، وذلك مبالغة في الذمِّ والطَّعن، ومن بالغ في الطَّعن في الرسُول كفر، لا سيَّما إذا كان الطّاعن ابناً؛ فإن حقَّ الأبُوَّة يُوجِب مزِيد التَّعظِيم. والجواب: المُراد من الضلال: غير رعاية مصالحِ الدِّين، لا البعد عن طريق الرُّشد، والصواب. السؤال الرابع: أن قولهم: {لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا} محضُ الحسد، والحسد من أمهات الكبائر، لا سيَّما وقد أقدموا بسبب ذلك الحسد على تضييع ذلك الأخ الصالح، وإلقائه في ذلِّ العبوديَّة، وتبعيده عن الأب المشفقِ، والقوا أباهم في الحُزن الدائم، والأسف العظيم، وأقدموا على الكذب، وأتوا بهذه الخصالِ المذمُومَة وكل ذلك يقدح في العصمة. والجواب: أن المعتبر عصمة الأنبياء في وقت حًصول النُّبوَّة، فأمَّا قبلها فذلك غير واجب «. {اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً} الآية. في نصب» أرْضاً «ثلاثة أوجه: أحدهاك أن تكون منصوبة على إسقاط الخافض تخفيفاً، أي: في أرض؛ كقوله: {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم} [الأعراف: 16] ، وقول الشاعر: [الكامل] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 24 3052 - لَدْنٌ بِهَزِّ الكفِّ يَعْسِلُ مَتنُهُ ... فِيهِ كَمَا عَسلَ الطَّريقَ الثَّعلبُ وإليه ذهب ابن عطيَّة. قال النَّحاس:» إلا أنَّه في الآية حسن كثيراً؛ لأنَّه يتعدى إلى مفعولين، أحدهما بالحرف، فإذا حذفت الحرف، تعدَّى الفعل إليه «. والثاني: النصب على الظرفيَّة. قال الزمخشريُّ:» أرْضاً منكُورة مجهولة بعيدة عن العمران، وهو معنى تنكيرها، وأخلائها من النَّاسِ؛ ولإبهامِها من هذا الوجه، نُصِبت نصب الظُّروف المُبْهَمة «. وردَّ ابن عطيَّة هذا الوجه فقال:» وذلك خطأ؛ لأن الظَّرف ينبغي أن يكون مُبهماً، وهذه ليست كذلك، بل هي أرض مقيَّدة بأنَّها بعيدةٌ، أو قاصية أو نحو ذلك، فزال بذلك إبهامُهَا، ومعلُوم أن يوُسف لم يَخْل من الكون في أرض، فتبيَّن أنَّهم أرادُوا أرضاً بعيدة، غير التي هو فيها قريبة من أبيه «. واسَتحْسَن أبو حيَّان هذا الرَّد، وقال:» وهذا الردُّ صحيحٌ، لو قلت: «جَلستُ داراً بعيدة، أوْ مكاناً بعيداً» لم يصحَّ إلا بواسطة في ولا يجوز حذفها، إلا في ضرورة شعرٍ، أو مع «دخلْت» على الخلاف في «دَخلت» أهي لازمة أم متعدِّية «. وفي الكلامين نظر؛ إذ الظَّرف المُبْهَم: عبارة عمَّا ليس له حُدُود تحصرهن ولا أقطار تحويه، و» أرضاً «في الآية الكريمة من هذا القبيل. الثالث: أنها مفعول ثان، وذلك أن معنى:» اطْرحُوهُ «أنزلوه، و» أنزلوه «يتعدى لاثنين، قال تعالى: {أَنزِلْنِي مُنزَلاً مُّبَارَكاً} [المؤمنين: 29] وتقولن: أنزلت زيداً الدَّارَ. والطَّرح: الرَّميُ، ويعبرُ به عن الاقتحام في المخاوف؛ قال عروة بن الوردِ: [الطويل] 3053 - ومَنْ يَكُ مِثْلِي ذا عِيالٍ ومُقْتِراً ... مِنَ المَالِ يَطرَحْ نَفسَهُ كُلَّ مَطْرحِ والمعنى: اطرحُوه إلى أرض تبعُد من أبيه، وقي: في أرض تأكله السِّباعُ. و «يَخْلُ لكُمْ» جوابٌ الأمر، وفيه الإظهار والإدغام، وتقدَّم تحقيقها عند قوله {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً} [آل عمران: 85] . قوله: {وَتَكُونُواْ} يجُوز أن يكُون مجزوماً نسقاً على ما قبله، أو منصوباً بإضمار «أن» بعد الواو في جواب لأمر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 25 فصل اعلم: أنَّه لما قوي الحسد، وبلغ النِّهاية، قالوا: لا بُدَّ من تبعيد يُوسف من أبيه، وذلك لا يحصل إلا بأحد طريقين: القتل، أو التَّغريب، ثم ذكروا العلَّة فيه، وهي قوله: {يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ} أي: أنَّ يوسف شغله عنَّا، وصرف وجهه إليه، فإذا فقده، أقبل علينا بالميل والمحبَّة، {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ} أي: من بعد قتل يوسف، {قَوْماً صَالِحِينَ} : أي: نتُوب بعد قتلهِ. وقيل: يصلُح شأنكم، تتفرغوا لإصلاح شأن أمَّهاتكُم، واختلفُوا في قائل هذا القول. فقيل: شَاورُوا أجْنَبياً؛ فأشار عليهم بقتله، ولم يقُل ذلك أحدٌ من إخوته. وقيل: القائل بعض إخوته، واختلفوا فيه. فقال وهب: شمعون، وقال كعب: دان، وقال مقاتل: رُوبيل. فإن قيل: كيف يليق هذا بهم، وهم أنبياء؟ فأجاب بعضهم: بأنَّهم كانوا في هذا الوقت مراهقين لم يبلُغوا، وهذا ضعيفٌ؛ فإنه يبعد في مثل يعقُوب أن يبعث جماعة من الصِّبيان من غير أن يكون معهم قائمٌ عاقلٌ يمنعهم من القبائح. وأيضا: فإنَّهم قالوا: {وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ} وهذا يدلُّ على أنَّهُم قب النبوَّة لا يكونوا صالحين، وذلك يُنَافِي كونهم من الصِّبيان، وأيضاً: قولهم: {ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ} [يوسف: 97] والصغير لا ذنب له. فأجاب بعضهم: بأنَّ هذا من باب الصَّغائر، وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأن إيذاء الأبِ الذي هو نبيٌّ معصوم، والكيد معهُ، والسعي في إهلاك الأخ الصَّغير، فكل واحدٍ من ذلك من أمَّهات الكبائر، بل الجواب الصحيح: أنَّهم ما كانُوا أنبياء، وإن كانوا أنبياء، إلا أن هذه الواقعة أقدموا عليها قبل النبوة. ثم إنَّ قائلاً منهم قال: {لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ} . قيل: إنه رُوبيل، وكان ابن خالة يُوسُف، وكان أحسنُهم رأياً فيه؛ فمنعهم من قتله، وقيل: يهُوذا، وكان أقدمهم في الرَّأي والفضلِ، والسِّنِّ، وهو الصحيح. قوله: «فِي غَيَابَةِ» قرأ نافع: «غَيابَات» بالجمع في الحرفين من هذه السُّورة، جعل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 26 ذلك المكان أجزاء، وسمَّى لك جزءٍ غيابة؛ لأن للجُبِّ أقطاراً ونواحِي، فيكون فيها غيابات، والباقون: بالإفراد؛ لأن المقصُود: موضع واحد من الجُبِّ يغيب فيه يوسف، وابن هُرْمز كنافع، إلا أنَّه شدَّد الياء، والأظهر في ههذه القراءة: أن يكُون سُمِّي باسم الفاعل الذي للمبالغة، فهو وصف في الأصل، وألحقه الفارسي بالاسم الجائي على فعَّال، نحو ما ذكره سيبويه من الفيَّاد قال ابن جني: «ووجدت من ذلك الفخَّار: للخَزَف» . وقال صاحب اللَّوامح: «يجوز أن يكو على» فعَّالات «كحمَّامات، ويجوز أن يكون على» فيْعَالات «، كشَيْطَانَات، جمع شَيْطَانَه، وكلٌّ للمبالغة» . وقرأ الحسن: «في غَيَبةِ» بفتح الياء، وفيه احتمالان: أحدهما: أن يكون في الأصل مصدراً؛ كالغلبة. والثاني: أن يكون جمع غائب، نحو: صَانِع وصنَعَة. قال أبو حيَّانك «وفي حرف أبيَّ:» في غيْبَةِ «بسكون الياء، وهي ظلمة الرَّكيَّة» . قال شهاب الدين: «والضبط أمر حادثٌ، فكيف يعرفُ ذلك من المصحف، وتقدَّم نحو ذلك، والغيابة، قال الهروي: شبه لجف أو طاقٍ في البئر فُويْق الماء يغيب ما فيه عن العُيُون» . وقال الكلبيُّ: «الغيابة تكون في قَعْر الجُبِّ؛ لأَنَّ اسفله واسعٌ، ورأسه ضيِّق، فلا يكاد النَّاظر يرى ما في جوانبه» . وقال الزمخشري: «هي غورة، وما غب منه عن عين النَّاظر، وأظلم من أسفله» . قال المنخل: [الطويل] 3054 - فإنْ أنَا يَوْماً غَيَّبَتْنِي غَيَابَتِي ... فَسِيرُوا بسَيرِي في العَشِيرةِ والأهْلِ أراد: غيابة حُفرته التي يدفن فيها، والجبُّ: البشر الذي لم تُطْوَ، وسمِّي بذلك: إما لكونه مَحْفُوراً في جبُوب الأرض، أي: ما غلظ منها؛ وإما لأنه قطعَ في الأرضِ والجبُّ: القطعُ، ومنه: الجبُّ في الذَّكر؛ قال الأعشى: [الطويل] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 27 3055 - لَئِنْ كُنْتَ في جُبِّ ثَمانِينَ قَامَةً ... ورُقِّيتَ أسْبَابَ السَّماءِ بسُلَّمِ ويجمع على جُنُبٍ، وجِبَاب، وأجْبَاب. فصل والألف واللام في «الجُبِّ» تقتضي المعهُود السَّابق، واختلفوا فيه: فقال قتادة: هو جُبُّ بئر بيت المقدِس، وقيل: بأرض الأرْدُن. وقال مقاتل: هو على ثلاثة فراسِخ من منْزِل يعقُوب، وإنَّما عيَّنوا ذلك الجُبَّ؛ للعلَّة التي ذكروها، وهي قوله: «يَلتَقطهُ بَعْضُ السَّيارةِ» لأن تلك البِئْر كانت معروفة يَردُونَ عليها كثيراً، وكانوا يعلمُون أنَّه إذا طُرِحَ فيها، كان إلى السَّلامة أقْرب؛ لأن السيارة إذا ورَدُوهَا، شاهدوا ذلك الإنسان فيهن فيخرجوه، ويذهبوا به فكان إلقاءه فيها أبعد عن الهلاك. قوله «يَلتَقِطْهُ» قرأ العامَّةك «يَلْتَقِطْهُ» بالياء من تحت، وهو الأصلُ وقرأ الحسن، ومجاهد، وأبو رجاء، وقتادة: بالتَّاء من فوقح للتَّأنيثِ المعنويِّن والإضافة إلى مؤنَّث، وقالوا: قُطِعَت بعضُ أصَابعه. قال الشَّاعر: [الوافر] 3056 - إذَا بَعْضُ السِّنينَ تَعرَّقَتْنَا ... كَفَى الأيْتامَ فقدَ أبِي اليَتِيمِ وتقدَّم الكلام بأوسع من هذا في الأنعام والأعراف [الأنعام: 160 الأعرافَ: 56] . والإلتِقَاط: تناول الشيء المطروح، ومنه: اللُّقطَة واللَّقِيط؛ قال الشاعر: [الرجز] 3057 - ومَنْهَلٍ ورَدْتهُ التِقَاطَا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... قال ابن عرفة: الالتقاط وجود الشيء على غير طلب، ومنه قوله تعالى {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} أي: يجده من غير أن يحتسب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 28 فصل اختلفوا في الملقوط فقيل: إن أصله الحرية؛ لغلبة الأحرار على العبيد، وروي الحسين بن علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قضى بأن اللقيط حُرٌّ، وتلا قوله تعالى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} [يوسف: 20] وهذا قوله عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ويروى عن علي وجماعته، وقال إبراهيم النخعي: إن نوى رقه فهو مملوك، وإن نوى الاحتساب فهو حر. فصل والسيَّارة: جمع سيَّار، وهو مثال مبالغة، وهُمُ الجماعة الذين يسيرون في الطريق للسَّفَر، وقال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريد: المارَّة، ومفعول «فَاعِلينَ» محذُوف، أي: فاعلين ما يحصل به غرضكم. وهذا إشارة إلى أن الأولى: أن لا تفعلوا شيئاً من ذلك، وأما إن كان ولا بد، فاقتصروا على هذا القدر، ونظيره قوله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126] يعني: الأولى ألاَّ تفعلوا ذلك. قوله تعالى: {قَالُواْ يَأَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ} الآية. «تَأمَنَّا» حال وتقدَّم نظيره، وقرأ العامَّة: تأمنَّا بالإخفاء، وهو عبارة عن تضعيف الصَّوت بالحركة، والفصل بين النُّونين؛ لا لأن النون تسكن رأساً؛ فيكون ذلك إخفاءً، لا إدغاماً. قال الدَّاني: «وهو قول عامَّة أئِمَّتنا، وهو الصواب؛ لتأكيد دلالته وصحَّته في القياس» . وقرأ بعضهم ذلك: بالإشمام وهو عبارة عن ضمِّ الشفتين، إشارة إلى حركة الفعل مع الإدغام الصَّريح، كما يشير إليها الواقف، وفيه عسر كثير، قالوا: وتكون الإشارة إلى الضمة بعد الإدغام، أو قبل كماله، والإشمام يقع بإزاء معانٍ هذا من جملتها. ومنها: [إشراب] الكسرة شيئاً من الضمِّ [نحو قيل، {وَغِيضَ} [هود: 44] وبابه، وقد تقدم في أول سورة البقرة] . ومنها إشمام أحد الحرفين شيئاً من الآخر؛ كإشمام الصاد زاياً في {الصراط} [الفاتحة: 6] ، {وَمَنْ أَصْدَقُ} [النساء: 87، 122] وبابهما، وقد تقدم في الفاتحة، والنساء، فهذا خلط حرف بحرف، كما أن ماقبلهُ خلطُ حركة بحركةٍ. ومنها: الإشارة إلى الضَّمَّة في الوقف خاصَّة، وإنما يراه البصير دُون الأعمى، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 29 وقرأ أبو جعفر: الإدغام الصَّريح من غير إشمام، وقرأ الحسن ذلك: بالإظهار مبالغة في بيان إعراب الفعل. وللمحافظة على حركة الإعراب، اتَّفق الجمهُور على الإخفاء، أو الإشمام، كما تقدَّم تحقيقه. وقرأ ابن هرمز: «لا تَأمُنَّا» بضم الميم، نقل حركة النُّون الأولى عند إرادة إداغمها، بعد سلب الميم حركتها، وخط المصحف بنون واحدة، ففي قراءة الحسن مخالفة لها. وقرأ أبو رزين، وابن وثَّابٍ: «لا تِيْمَنًّا» بكسر حرف المضارعة، إلا أنَّ ابن وثَّاب سهَّل الهمزة. قال ابو حيَّانك «ومجيئُه بعد» مَا لَكَ «والمعنى: يرشد إلى أنَّه نفيٌ لا نهي، وليس كقولهم:» ما أحْسَنًّا «في التعجُّبح لأنه لو أدغم، لالتبس التَّعجب بالنَّفْي» . قال شهاب الدِّين: وما أبْعَد هذا عن توهُّم النَّهي، حتى ينُصَّ عليه بقوله: «لالتبس بالنَّفْي الصحيح» . فصل هذا الكلام يدلُّ على أن يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يخافُهم على يُوسف، ولولا ذلك، لما قالوا هذا القول. واعلم: أنَّهم لما أحكمُوا العزم، أظهروا عند أبيهم أنَّهم في غاية المحبَّة ليوسُف، ونهاية الشفقة عليه، كانت عادتهم أن يغيبُوا عنه مُدَّة إلى الرَّعين فسألوه إرساله معهم، كان يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يحب تطيب قلب يوسف، فاغترَّ بقولهم، وأرسلهُ معهم حين قالوا له: {وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ} والنُّصْح هنا: القيام بالمصلحة. وقيل: البرُّ والعطف، أي: عَاطِفُون عليه قَائِمُون بمصلحته، نحفظه حتَّى نردهُ إليك. قيل للحسن: أيَحْسُد المُؤمن؟ قال: ما أنْسَاك ببَنِي يعقوب، ولهذا قيل: الأب جلاَّبٌ، والأخ سَلاَّب، وعند ذلك أجمعوا عل التًَّفريق بينه وبين ولده بضرب من الاحتيال، وقالوا ليعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 30 وقيل: لما تفاوضوا وافترقوا على راي المتكلِّم الثاني، عادوا إلى يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقالوا هذا القول، إذ فيه دليلٌ على أنَّهُم سألوه قبل ذلك أن يخرج معهم يوسف، فأبى. قوله: {أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} في: «يرْتَعْ ويَلعَبْ» أربع عشرة قراءة: أحدها: قراءة نافع: بالياء من تحت، وكسر العين. الثانية: قراءة البزِّي، عن ابن كثيرٍ: «نَرْتَعِ ونلعب» بالنُّون وكسر العين. الثالثة: قراءة قنبل، وقد اختلف عليه، فنقل عه ثُبُوت الياء بعد العين وصلاً ووقفاً، وحذفها وصلاً ووقفاً، فيوافق البزِّي في أحد الوجهين عنه، فعنه قراءتان. الخامسة: قراءة أبي عمرو، وابن عامر: «نَرتَعْ ونَلعَبْ» بالنُّون، وسكون العين، والباء. السادسة: قراءة الكوفيين: «يَرْتَعْ ويَلعبْ» بالياء من تحت وسكون العين والباءِ. وقرأ جعفر بن محمد: «نَرْتَعْ» بالنُّون، «ويَلْعَبْ» بالياء، ورُويت عن ابن كثيرٍ. وقرأ العلاء بن سيابة: «يَرْتَعِ ويَلْعَبُ» بالياء فيهما، وكسر العين وضمّ الباء. وقرأ أبو رجاء كذلك، إلا أنَّه بالياء من تحت فيهما. والنخعي ويعقوبك «نَرْتَع» بالنون، «ويَلْعَب» بالياء. وقرأ مجاهدٌ، وقتادةُ، وابن محيصِن: «يَرْتَعْ ويَلْعَب» بالياء، والفعلان في هذه القراءات كلها مبنيان للفاعل. وقرأ زيد بن علي: «يُرْتَع ويُلْعَب» بالياء من تحت فيهما مبنيين للمعفول. وقرىء: «نَرْتَعِي ونَلْعَبُ» بثبوت الياء، ورفع الباء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 31 وقرأ ابن أبي عبلة: «نَرْعَى ونَلْعَب» . فهذه اربع عشرة قراءة منها ستٌّ في السَّبع المتواتر وثمان في الشواذٍّ. فمن قرأ بالنُّون، فقد أسند الفعل إلى إخوة يوسف. سُئل أبو عمرو بن العلاء: كيف قالوا: نلعب وهم أنبياء؟ قال: كان ذلك قبل أن يُنَبِّئهُم الله عزَّ وجلَّ. قال ابن الأعرابي: الرَّتْع: الأكل بشدة، وقيل: إنه الخَصْبُ. وقيل: المراد من اللَّعب: الإقدام على المُباحات، وهذا يوصف به الإنسان، كما رُوِي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال لجابر: «هَلاَّ بِكْراً تُلاعِبُهَا وتُلاعِبُك» . وقيل: كان لعبهم الاستباق، والغرض منه: تعليم المحاربة، والمقاتلة مع الكُفَّار، ويدلُّ عليه قولهم: «إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتبِقُ» وإنما سمَّوه لعباً؛ لأنه في صُورة اللَّعِب. وأما من قرأ بالياءِ، فقد أسند الفعل إليه دونهم، فالمعنى: أنه يبصر رَعْي الإبلِ؛ لتيدرَّب بذلك، فمرَّة يرتع، ومرَّة يلعب؛ كفعل الصِّبيان. ومن كسر العين، اعتقد أنه جزم بحذف حرف العلَّة، وجعلهُ مأخُوذاً من يفتعِل من الرَّعي؛ كيَرْتَمِي من الرَّمْي، ومن سكن العين، واعتقد أنه جزم بحذق الحركة، وجعلهُ مأخوذاً من: رَتَعَ يَرْتَعُ، إذا اتَّسع في الخِصْب قال: 3058 - ... ... ... ... ... ... ..... وإذَا يَحْلُولَهُ الحِمَى رَتَعْ ومن سكَّن الباء جعلهُ مَجزُوماً، ومن رفعها، جعله مرفوعاً على الاستئناف، أي: وهو يلعبُ، ومن غاير بين الفعلين، فقرأ بالباء من تحت في «يَلْعَب» دون «نَرْتَع» ؛ فلأن رَعْياً، إذا أكلته فالارتعاء للمواشِي، وأضافوه إلى أنفسهم؛ لأنه السَّبب، والمعنى: نرتع إبلنا، فنسبُوا الارتعاء والقيام بحفظ المال إلى أنفسهم؛ لأنهم بالغون. ومن قرأ: «نُرْتع» رُباعياً، جعل مفعُوله محذوفاً، أي: يَرْعى مَواشينا، ومن بناها للمفعول، فالوجه: أنه أضمر المفعُول الذي لم يُسمَّ فاعله، وهو ضمير الغدِ، والأصل: نُرْتَع فيه، ونُلعَبُ فيه، ثم اتسع فيه؛ فحذف حرف الجرِّ، فتعدى إليه الفعل بنفسه، فصار الجزء: 11 ¦ الصفحة: 32 نُرْتعه ونَلْعَبُه، فلما بناهُ للمفعول، قام الضمير المنصُوب مقام فاعله، فانقلب مرفوعاً فاستتر في رافعه، فهو في الاتِّساع كقوله: [الطويل] 3059 - ويَوْمٍ شَهِدْنَا سَلِمياً وعَامِراً ..... ... ... ... ... ... ... . ومن رفع الفعلين، جعلهما حالين، وتكون مقدَّرة، وأمَّا إثبات الياء في «نَرْتَعي» مع جزم «يَلْعَب» وهي قراءة قنبل، فقد تجرَّأ بعضُ النَّاس وردَّها. وقال ابن عطيَّة: هي قراءة ضعيفةٌ لا تجوز إلا في الشِّعْر، وقيل: هي لغة من يجز بالحركة المقدَّرة، وأنشد: 3060 - ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ..... ... ... ... ... ... ... . . وقد تقدَّمت هذه المسألة. و «نَرْتَع» يحتمل أن يكون وزنه: «نَفْتَعِل من الرَّعْي وهي أكلُ المرعى؛ كما تقدَّم، ويكون على حذف مضاف، أي: نرتع مواشينا، أو من المراعاة للشيء؛ قال: [الخفيف] 3061 - تَرْتعِي السَّفحَ فالكَثِيبَ فَذا قَارِ ... فَروضَ القَطَا فَذاتَ الرِّئالِ ويحتمل أن يكون وزنه» نَفْعَل «من رَتَعَ يَرْتَع: إذا أقام في خصب وسعة، ومنهُ قول الغضبان بن القبعثرى:» القَيْدُ والرَّتعة وقِلَّة المَنعَة «؛ وقال الشاعر: [الوافر] 3062 - أكُفْراً بَعْدَ ردِّ المَوْتِ عَنِّي ... وبَعدَ عَطائِكَ المِائة الرِّتاعَا قوله: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} جلمة حالية، والعاملُ فيها أحد شيئين: إمَّا الأمر، وإمَّا جوابه. فإن قيل: هل يجوز أن تكون المسألة من الإعمال؛ لأن كلاًّ من العاملين يصح تسلُّطه على الحال؟ . فالجواب: لا يجُوز ذلك؛ لأنَّ الإمال يستلزم الإضمار، والحالُ لا تضمر؛ لأنَّها لا تكون إلا نكرةً، أو مؤولةً بها. قوله: {أَن تَذْهَبُواْ بِهِ} فاعل: «يَحْزُنُنِي» ، أي: يَحْزُننِي ذهابُكم، وفي هذه الآية دلالة على أنَّ المضارع المقترن بلام الابتداء لا يكون حالاً، والنُّحاة جعلوها من القرائن المخصصة للحال، ووجه الدلالة: أنَّ «أن تذْهَبُوا» مستقبل؛ لاقترانه بحرف الاستقبال، وهي وما في حيِّزها فاعل، فلو جعلنا «ليَحْزُنُنِي» حالاً، لزم سبق الفعل لفاعله، وهو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 33 مُحل وأجيبَ عن ذلك بإنَّ الفاعل في الحَقيقَة مقدَّر، حذف هو وقام المضاف إليه مقامه، والتقدير: ليَحْزُوننِي توقع ذهابكم، وقرأ زيد بن علي وابن هرمز، وابن محيصن: «ليَحْزُنِّي» بالإدغام. وقرأ زيد بن علي: «تُذْهِبُوا بِهِ» بضم التَّاء من «أذْهَبَ» وهو كقوله: {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] في قراءة من ضمَّ التَّاء، فتكون التاء زائدة أو حالية. والذئبُ يُهْمز ولا يُهْمزُ، وبعدم الهمز قرأ السُّوسيُّ، والكسائيُّ، وورش، وفي الوقف لا يهمزه حمزة، قالوا وهو مشتقٌّ من: تَذاءَبتٍ الرِّيحُ إذَا هَبَّت من كُلِّ جهةٍ؛ لأنه يأتي كذلك، ويجمع على ذائب، وذُؤبان، وأذْؤبح قال: [الطويل] 3063 - وأزْوَرَ يَمْشِي في بلادٍ بَعيدَةٍ ... تَعَاوَى بِهِ ذُؤبَانُهُ وثَعالِبُهْ وأرضٌ مذْأبة: كثيرة الذِّئاب، وذُؤابةٌ الشَّعر؛ لتحرُّكها، وتقلبها من ذلك. وقوله: {وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ} : جملة حاليَّة، العامل فيها: «يَأكلهُ» . فصل لما طلبوا منه إرسال يوسف عليه السلام معهم اعتذر إليهم بشيئين: أحدهما: ليُبَيِّن لهم أنَّ ذهابهم به مما يُحزنُه؛ لأنه كان لا يصبر عنه ساعةً. والثاني: خَوْفه عليه من الذِّب إذا غفلوا عنه برعهيم، أو لعبهم أو لقلة اهتامهم به. فقيل: إنه رأى في النَّوم أن الذِّئب شدَّ على يوسف فكان يحذره، فألأجل هذا ذكر ذلك. وقيل: إن الذِّئاب كانت كثيرة في أرضهم، فلما قال بعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هذا الكلام، أجابوه بقولهم: {لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} وفائدة اللام في «لَئِنْ» من وجهين: أحدهما: أن كلمة «إنْ» تفيد كون الشِّرط مستلزماً للجزاء، أي: إن وقعت هذه الواقعة، فنحن خاسرون، فهذه اللام خلت؛ لتأكيد هذا الاستلزام. والثاني: قال الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ «هذه اللام تدلُّ على إضمار القسم، [تقديره:] والله لئن أكلهُ الذئب، لكنَّا خاسرين» . والواوُ في: «ونَحْنُ عُصْبَةٌ» واو الحال؛ فتكون الجملة من قوله: «وَنحْنُ عُصْبةٌ» : جملة حاليَّة. وقيل: معترضة، و {إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} جواب القسم، و «إذاً» : حرف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 34 جواب، وحذف جوابُ الشرط، وقد تقدَّم الكلام فيه مشبعاً. فصل ونقل أبو البقاء: أنه قرىء «عُصْبَةً» بالنصب، وقدر ما تقدم في الآية الأولى. في المراد بقولهم: {إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ} وجوه: الأول: [عاجزون] ضعفاء، نظيره قوله تعالى: {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِّثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ} [المؤمنون: 34] أي: لعاجزون. الثاني: أنهم يكونون مستحقِّين لأن يدعى عليهم بالخسارة والدَّمار، وأن يقال: أخسرهُم الله، ودمَّرهُم حين أكل الذِّئب أخاهُم وهم حاضرون عُصبةٌ: عشرةٌ تعصب بهم الأمُور، تكفي الخطوب بمثلهم. الثالث: إذا لم نقدر على حفظ أخينا، فقد هلكت مواشينا، وخسرنا. الرابع: أنَّهم كانوا قد أتبعوا أنفسهم في خدمة أبيهم، واجتهدوا في القيام بمهمَّاته، ليفوزوا منه بالدعاء والثناء، فقالوا: لو قصَّرنا في هذه الخدمة، فقد أحبطنا كل تلك الأعمال، وخسرنا كمل ما صدر منَّا من أنواع الخدمة. فإن قيل: إنَّ يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ اعتذر بعذرين: شدة حبِّه، وأكل الذئب له، فلم أجابُوا عن أحدهما دون الآخر؟ فالجواب: أن حقدهم، وغيظهم كان بسبب المحبَّة، فتغافلوا عنه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 35 قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} الآية: لا بُدَّ من الإضمار في هذه الآية في موضعين: الأول: التقدير: قالوا: لئن أكلهُ الثئب ونحن عصبةٌ إنَّا إذاً لخاسرون فأذن له، وأرسله معهم، ثم يصتل به قوله تعالى: {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} . الثاني: في جواب {فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ} أوجه: أحدهما: أنه محذوف، أي: عرفناه، وأوصلنا إليه الطمأنينة، وقدره الزمخشريُّ: «فعلوا به ما فعلوا من الأذى» وقدره غيره: عظمت فتنتهم، وآخرون: جعلوه فيها، وهذا أولى؛ لدلالة الكلام عليه. الثاني: أن الجواب مثبت، وهو قوله: {قَالُواْ يَأَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا} [يوسف: 17] أي: لمَّا كان كَيْتَ وكَيْتَ، قالوا. وفيه بعد؛ لبعد الكلام من بعضه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 35 الثالث: أن الجواب هو قوله: «وأوْحَيْنَا» والواو فيه زائدة، أي: فلما ذهبوا به أوحينا، وهو رأي الكوفيين، وجعلُوا من ذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} [الصافات: 103] أي: تله، «ونَاديْنَاهُ» ، وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] وقول امرىء القيس: [الطويل] 3064 - فَلَمَّا أحَزْنَا سَاحةَ الحَيِّ وانْتحَى ... بِنَا بَطْنُ حِقْفٍ [ذِي رُكامٍ عَقَنْقَلِ] تقدم أي فلما أجزنا انتحى وهو كثيرٌ عندهم بعد «لمَّا» . قوله: «أن يَجعلُوهُ» «مَفْعُول» «أجْمعَوا» أي: عزمُو على أن يجعلوه؛ لأنه يتعدَّى بنفسه، وب «عَلَى» فإنه يحتمل أن يكون على حذف الحرف، وألاّ يكون، فعلى الأول: يحتمل موضعه النصب والجرَّ، وعلى الثاني: يتعين النَّصب، والجمعل يجوز أن يكون بمعنى: الإلقاء، وأن يكون بمعنى: التَّصيير فعلى الأول: يتعلَّق في «غَيَابةِ» بنفس الفعل قبله، وعلى الثاني: بمحذُوف، والفعل من قوله: «وأجْمَعُوا» يجوز أن يكُون معطوفاً على ما قبله، وأن يكُون حالاً، و «قَدْ» معه مضمرة عند بعضهم، والضمير في «إليْهِ» الظاهر عوده على يوسف، وقيل: يعود على يعقُوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. وقرأ العامَّة: «لتُنَبئَنَّهُمْ» بتاء الخطاب، وقرأ ابن عمر: بياء الغيبة، أي: الله سبحانه وتعالى. قال أبو حيَّان: «وكذا في بعض مصاحف البصرة» وقد تقدَّم أن النقط حادث فإن قال: مصحف حادث غير مصحف عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فليس الكلام في ذلك. وقرأ سلاَّم: «لنُنَبئَنَّهُمْ» بالنون، وهذا صفة لقولهم. وقيل: بدل. وقيل: بيان. قوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} جملة حالية، يجوز أن يكون العامل فيها «أوحينا» أي: أوحينا غليه من غير شعور إخوته بالوحي، وأن العامل فيها «لتُنَبئَنَّهُمْ» أي تخبرهم وهم لا يعرفونكم لبعد المدة وتغير الأحوال. فصل في المراد بقوله: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ} قولان: الأول: المراد منه الوحي والنبوة والرسالة، وهو قول أكثر المحققين، ثم اختلف هؤلاء في أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ هل كان في ذلك الوقت بالغاً أو كان صابياً؟ . قال بعضهم: كان بالغاً وكان ابن سبع عشرة سنة. وقال آخرون: كان صغيراً إلا أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 36 الله تعالى أكمل عقله وجعله صالحاً لقبول الوحي والنبوة كما في حق عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين قالوا: {كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} [مريم: 29] فأجابهم بقوله: {قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً} [مريم: 30] . والقول الثاني: أن المراد بهذا الوحي: الإلهام، كقوله {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى} [القصص: 7] {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] . والأول أولى؛ لأنه الظاهر من الوحي. فإن قيل: كيف يجعله نبياً في ذلك الوقت وليس هناك أحد يبلغه الرسالة؟ . فالجواب: لا متنع أن يشرفه الله تعالى بالوحي ويأمره بتبليغ الرسالة بعد أوقات ويكون فائدة تقديم الوحي تأنيسه وزوال الغم والوحشة عن قلبه والفائدة في أخفاء ذلك [الوحي] عن إخوته: أنهم لو عرفوه فربما ازداد حسدهم فكانوا يقصدون قتله. فصل إنما حملنا كقوله تبارك وتعالى {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} بأنك يوسف، أي: لا يعرفونك لبعد المدة وتغير الأحوال، لأن هذا أمراً من الله تعالى ليوسف ف يأن يستر نفسه عن أبيه [وأن لا يخبره بأحوال نفسه، فلهذا السبب كتم أخبار نفسه عن أبيه] طول تلك المدة مع علمه بوجد أبيه عليه خوفاً من مخالفة أمر الله تعالى، فصبر على تجرع تلك المرارة، وكان الله سبحانه قد قضى على يعقوب أن يوصل إليه تلك الغموم الشديدة والهموم العظيمة ليوصله إلى الدرجات العالية التي لا يمكن الوصل إليها إلا بتحصيل المحن الشديدة. قوله تعالى : {وجآءوا أَبَاهُمْ عِشَآءً يَبْكُونَ} الآية في «عِشَاءً» وجهان: أصحهما: وهو الذي لا ينبغي أن [يقال] غيره أنه ظرف، أي: ظرف زمان أي: جاءوا في هذا الوقت. قال أهل المعاني: جاءوا في ظلمة العشاء ليكونوا أجرأ على الاعتذار بالكذب. و «يَبْكُونَ» جملة حالية، أي: جاءوه باكين. والثاني: أن يكون «عِشَاءً» جمع عاشٍ، كقَائِم وقِيَام. قال أبو البقاء: «ويقرأ بضم العين، والأصل: عُشَاة، مثل: غازٍ وغزاة فحذفت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 37 الهاء وزيدت الألف عوضاً عنها، ثم قلبت الألف همزة» . وفيه كلام قد تقدم في آل عمران عند قوله {أَوْ كَانُواْ غُزًّى} [آل عمران: 156] . ويجوز أن يكون جمع فاعل على فعال، كما جمع فَعِيل على فُعال، لقرب ما بين الكسر والضم، ويجوز أن يكون كنؤام ورباب وهو شاذ. وهذه قراءة الحسن، وهو من العشْوة. والعُشْوَة: هي الظلام. رواه ابن جني «عُشَاءً» بضم العين وقال: عشوا من البكاء. وقرأ الحسن: «عُشاً» على وزن «دُحَى» نحو غازٍ وغُزاة، ثم حذفت منه تاء التأنيث [كما حذفوا تاء التأنيث من] «مَألِكَة» فقالوا: مَألِك، وعلى هذه الأوجه يكون منصوباً على الحال. وقرأ الحسن أيضاً: «عُشَيًا» مصغراً. و «نَسْتَبْقُ» نتسابق. والافتِعَال والتَّفاعُل يشتركان نحو قولهم: نَنْتَضِل ونتناضل ونرتمي ونترامى، و «نَسْتَبِقَ» في محل نصب على الحال و «تَركْنَا» حال من نَسْتَبقُ و «قد» معه مضمرة عند بعضهم. قال الزجاج: «يسابق بعضنا بعضاً في الرمي» ، ومنه قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا سَبقَ إلاَّ في نصْلٍ أو خفِّ أو حافرٍ» يعنى بالنصل: الرمي وأصل السبق: الرمي بالسهم، ثم يوصف المتراميان بذلك، يقال: استبقا وتسابقا: إذا فعلا ذلك السبق ليتبين أيهما أسبق. ويدل على صحة هذا التفسير ما روي في قراءة عبد الله: «إنَّا ذَهبْنَا نَنْضِلُ» وقال السدي ومقاتل: «نَسْتبِقُ» نشتد ونعدو. فإن قيل: كيف جاز أن يستبقوا وهم رجال بالغون، وهذا من فعل الصبيان فالجواب: أن الاستباق منهم كان مثل الاستباق في الخيل، وكانوا يجربون بذلك أنفسهم ويدربونها على العدو، لأنه كالآلات لهم في محاربة العدو، وقوله «فأكلهُ الذِّئْبُ» قيل: أكل الذئب يوسف وقيل: عرَّضُوا، وأرادوا أكل الذئب المتاع، والأول أصح. ثم قالوا: «ومَا أنْتَ بمُؤمٍ لنَا» ، أي بمصدق لنا. وقولهم «ولوْ كُنَّا صَادقينَ» جملة حالية، أي: ما أنت بمصدق لنا في كل حال حتى في حال صدقنا لما غلب على ظنك في تهمتنا ببغض يوسف وكراهتنا له. فإن قيل: كيف قالوا ليعقوب: أنت لا تصدق الصادقين؟ . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 38 قيل: المعنى أنك تتهمنا في هذا الأمر؛ لأنك خفتنا في الابتداء، واتهمتنا في حقه. وقيل: المعنى لا تصدقنا؛ لأنه لا دليل لنا على صدقنا وإن كنا صادقين عند الله تعالى. فصل احتجوا بهذه الآية على أن الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق لقوله تعالى: {وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} ، أي بمصدق. روي أن امرأة تحاكمت إلى شريح فبكت، فقال الشعبي: يا أبا أمية: أما تراها تبكي؟ قال: قد جاء إخوة يوسف يبكون وهم ظلمة كذبة لا ينبغي للإنسان أن يقضي إلا بالحق. قوله تعالى: {وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} الآية «علَى قَمِيصهِ» في محل نصب على الحال من الدم. قال ابو البقاء: «لأن التقدير: جاءوا بدم كذب على قيمصه» . يعنى أنه لو تأخر لكان صفة للنكرة. ورد الزمخشري هذا الوجه. قال: فإن قلت: هل يجوز أن تكون حالاً متقدمة «. قلت: لا، لأن حال المجرور لا يتقدم عليه» . وهذا الذي رد به الزمخشري أحد قولي النحاة، قد صحح جماعة جوازه؛ وأنشد: [الطويل] 3065 - ... ... ... ... ... ..... فَلنْ يَذْهَبُوا فِرغاً بِفتْلِ حِبَالِ وقول الآخر: [الطويل] 3066 - لَئِنْ كَان بَرْدُ الماءِ هَيْمانَ صَادِياً ... ِ إليَّ حَبِيباً إنَّها لَحبِيبُ وقول الآخر: [الخفيف] 3067 - غَافِلاً تعْرِضُ المنِيَّةُ لِلمرْءِ ... فيُدْعَى ولاتَ حِينَ إبَاءُ وقال الحوفيُّ: «علَى قَميصِهِ» : متعلقٌّ ب «جَاءُوا» ، وفيه نظرٌ؛ لأنَّ مجيئهم لا يصلحُ أن يكُونَ على القَميصِ. وقال الزمخشري: «فإن قلت:» عَلى قَميصِهِ «ما محلهُ؟ قلتُ: محلُّهُ النَّصب على [ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 39 الظَّرفيةِ] ، كأنَّه قيل: وجاءُوا فوقَ قَميصِه بدمٍ، كما تقولُ: جَاءُوا على جِمالهِ بأحمال» . قال أبو حيان: ولا يُسَاعدُ المعنى على نَصْبِ «عَلَى» على الظرفية، بمعنى: فوق لأن العامل فيه إذ ذاك «جَاءُوا» وليس الفرق ظرفاً لهم [بل يستحيل أن يكُون ظرفاً لهم] . وهذا الردُّ هو الذي ردَّ به على الحوفيِّ في قوله: إنَّ «عَلَى» متعلقة ب: «جَاءُوا» . ثمَّ قال أبو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ: «وأمَّا المثالُ الذي ذكره وهو: [جاء] على جماله بإحمالٍ، فيمكنُ أن يكون ظرفاً للجانئي؛ لأنَّه تمكن الظرف فيه باعتبار تبدُّلهِ من حمل إلى حمل، ويكُونُ» بأحْمالٍ «في موضع الحالِ، أي: مصحوباً بأحمال» . وقرأ العامَّةُ: «كَذبٍ» بالذَّال المعجمة، وهو من الوصفِ بالمصادرِ، فيمكنُ أن يكُون على سبيل المبالغةِ، نحو: «رَجُلٌ عدْلٌ» . وقال الفراء، والمبرِّد والزجاج، وابن الأنباريِّ: «بدمٍ كذبٍ» ، أي: مكذُوبٍ فيه، إلا أنَّه وصف بالمصدر، جعل نفس الدَّم كذباً؛ للمبالغة، قالوا: والمفعُول، والفاعل يسميان بالمصدر، كما يقال: ماءٌ سكبٌ، أي: مسكوبٌ، والفاعل كقوله: {إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً} [الملك: 30] ، ولما سُمِّيا بالمصدر سمي المصدرُ بهما، فقالوا للعقل: المعقول، وللجلد: المجلُود، ومنه قوله تعالى: {المفتون} [القلم: 6] أو على حذف مضاف، إي: ذي كذبٍ، ونسب فعل فاعله إليه. وقرأ زيد بن عليٍّ: «كذِباً» بالنصب، فاحتمل أن يكون مفعولاً من أجله، واحتمل أن يكون مصدراً في موضع الحالِ، وهو قليلٌ، أعني: مجيء الحال من النكرة، وقرأت عائشة الحسنُ [رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما] : «كّدِبٍ» بالدَّال المهملة. قال صاحب اللَّوامحك «معناهُ: ذي كدب، أي أثر؛ لأنَّ الكدِبَ هو بياضٌ، يخرج في [أظافير الشبان] ويؤثر فيها، فهو كالنقش، ويسمى ذلك البياض: الفُوف، فيكون هذا استعارة لتأثيرة في القميص، كتأثير ذلك في الأظافر» . وقيل: هو الدَّمُ الكدرُ، وقيل: الطَّريُّ، وقيل: اليابس. فصل قال الشعبيُّ: قصة يوسف كلُّها في قميصه، وذلك أنَّهم لمَّا ألقوه في الجبّ، نزعوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 40 قميصه، ولطَّخوهُ بالدَّم، وعرضوه على أبيه، ولمَّا شهد الشَّاهدُ قال: {وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [يوسف: 27 - 28] وقال: {اذهبوا بِقَمِيصِي هذا} [يوسف: 93] ولما أتى البشيرُ إلى يعقوب بقميصه، وألقى على وجهه، فارتدَّ بصيراً. قال القرطبِيُّ: «هذا مردودٌ، فإنَّ القميص الذي جاءوا عليه بالدذَم غير القميص الذي قُدَّ، وغيرُ القميص الذي أتى به البَشيرُ، وقيل: إنَّ القميص الذي أتى به البَشيرُ إلى يعقوب، فارتدَّ بصيراً هو القميص الذي قُدَّ مِنْ دُبُرٍ» . فصل قال بعض العلماءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: لمَّا أرادوا أن يجعلوا الدَّم علامة على صدقهم؛ قرن اللهُ بهذه العلامة علامةً تعارضُهَا، وهي سلامةٌ القميص من التَّخريقِ، إذْ لا يمكن افتراسُ الذِّئب ليوسف، وهو لابسٌ القميس، ويسلمُ القميص من التَّخريق ولمَّا تأمَّل يعقوب عليه السَّلام القميص لم يجدْ فيه خرقاً، ولا أثراً، استدلَّ بذلك على كذبهم، وقال لهم: تزعُمُون أن الذِّئب أكله، ولو أكلهُ لشقَّ قميصه. فصل استدلَّ العلماءُ بهذه [الآية] في إعمال الأمارات في مسائلَ من الفقهِ كالقسامةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 41 وغيرها، كما استدلَّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت على كذكبهم بصحَّة القميص، فيجبُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 42 على النَّاظر أن يلحظ الآيات، والعلامات إذا تعارضت، فما ترجَّح منها قضى بجانب التَّرجيحِ، وهي قُوَّة التُّهمةِ، [قال ابن الربي] ولا خلاف في الحكم بها. فصل قال محمد بن إسحاقَ: اشتمل فعلهم على جَرائمَ من قطعيعةٍ الرَّحم وعُقوقِ الوالدِ، وقلَّة الرًَّأفةِ الصَّغير الذي لا ذنْبَ له، والغدر بالأمانة، وترك العهد، والكذب مع أبيهم وعفا اللهُ عنهم ذلك كلَّه حتى لا ييأس العبد من رحمة الله تعالى. قال بعضُ العلماءِ: إنَّهم عزموا على قتله، وعصمهم الله رحمة بهم، ولو فعلوا لهلكوا. قوله تعالى: {بَلْ سَوَّلَتْ} قبل هذه الجملة جلمة محذوفة تقديرها: لم يأكله الذِّئب بل سوَّلت، أي: زيَّنتْ وسهّلتْ، قاله ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. والتَّسويلُ: تقدير معنى في النَّفس مع الطَّمع في إتمامه. قال الأزهريُّ: «كأن التسويلُ تفعيلٌ من سؤال الإنسان، وهو أمنيتُه التي يطلبها، فتزين لطالبها الباطل وغيره» . وأصله مهموزٌ على أنَّ العرب يستثقلون فيه الهمز. قال الزمخشري: «سوَّلتْ: سهُلتْ من السَّولِ، وهو الاسْتْخَاءُ» . وإذا عرفت هذا فقوله: «بَلْ» ردُّ لقولهم: «أكَلهُ الذِّبُ» كأنه قال: ليس كما تقولون، بل سولت لكم أنفسكم أمراً في شأنه، أي: زيَّنَتْ لكم أنفسُكم أمراً غير ما تصفون. واختلف في السَّبب الذي عرف به كونهم كاذبين، فقيل: عرف ذلك بسبب أنَّه كان عيرف الحسد الشَّديدَ منهم في قلوبهم، وقيلك كان عالماً بأنه حيٌّ، لقوله ليوسف: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف: 6] وذلك دليلٌ قاطعٌ على كونهم كاذبين في ذلك الوقتِ. وقال سعيدُ بن جبيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لما جاءُوا على قميصه بدم كذب، وما كان مُخْرّقاً، قال: كذبتم لو أكله الذِّب لخرق قميصه. وعن السدي أنه قال: إنَّ يعقوب عليه السلام قال: إنَّ الذِّئب كان رَحِيماً، كيف أكل لحمه، ولم يخرقْ قميصه؟ . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 43 وقيل: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما قال ذلك قال بعضهم: بل قتله اللصوصُ، فقال: كيف قتلوه، وتركوا قميصه، وهم إلى القميص أحْوَجُ منه إلى قتله، فلمَّا اختلفت أقوالهم؛ عرف بذلك كذبهم. وقال القاضي: «لعلَّ غرضهم في نزع قميصه عند إلقائه في الجبّ أن يُلطِّخوهُ بالدَّم توكيداً لصدقهم؛ لأنَّهُ يبعدُ أن يفعلوا ذلك طمعاً في نفس القميص، ولا بد في المعصية من أن يقرن بهذا الخذلان، فلو خرقوه مع لطخِهِ بالدَّم، لكان الإيهامُ أقوى، فلما شاهد يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ القميص صحيحاً؛ علم كذبهم» . قال عند ذلك: «فصَبْرٌ جميلٌ» يَجُوز أن يكون مبتدأ، وخبره محذوف، أي: صبرٌ جميلٌ أمثلُ بي، ويجوز أن يكون خبراً محذوف المبتدأ، أي: أمري صبرٌ جميلٌ قال الخليل: الذي أفعله صبر جميل. وقال قطربٌ: معناه فصبري صبرٌ جميلٌ. وهل يجب حذف مبتدأ هذا الخبر، أو خبر هذا المبتدأ؟ . وضابطه: أن يكون مصدراً في الأصل بدلاً من اللفظ بفعله، فعبارة بعضهم تقتضي الوُجوبَ، وعبارةٌ آخرين تقتضي الجواز، ومِنَ التصريح بخبر هذا النَّوع، ولكنه في اصورةِ شعرٍ، قوله: [الطويل] 3068 - فقَالَتْ على اسْمِ اللهِ أمْرُكَ طاعَةٌ ... وإنْ كُنْتُ قَد كُلِّفتُ ما لَمْ أعَوَّدِ وقول الشاعر: [الرجز] 3069 - يَشْكُو إِليًَّ جَملِي طُول السُّرى ... صَبْرٌ جَميلٌ فكِلانَا مُبْتَلى ويحتمل أن يكون مبتدأ أو خبراً كما تقدم. وقرأ أبيّ وعيسى بن عمر: «فَصْبراً جَمِيلاً» نصباً، ورويت عن الكسائي وكذكل هي في مصحف أنس بن مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وتخريجها على المصدر الخبري، أي: أصبر أنا صبراً، وهذه القراءة صعيفة إن خرجت هذا التَّخريج؛ لأنَّ سيبويه لا ينقاس ذلك عنده، إلاَّ في الطَّلب، فالأولى أن يجعل التَّقديرُ: أنَّ يعقوب رجع، وأمر نفسه، فكأنَّه قال: اصْبرِي يا نفسُ صبراً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 44 وروي البيت أيضاً بالرَّفعِ، والنَّصب على ما تقدَّم، والأمرُ فيه ظاهرٌ. فصل روى الحسنُ قال: سُئل النبيٌّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله «فَصبْرٌ جميلٌ» فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «صَبْرٌ لا شكْوَى فيهِ، فمَنْ بثَّ لمْ يَصْبِرْ» ، ويدلُّ على ذلك قوله: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} [يوسف: 86] وقال مجاهدٌ «فَصبرٌ جَمِيلٌ» ، أي: من غير جزعٍ. وقال الثوريُّ: «من الصًّبْر ألاّ تُحدِّثَ بوجعك، ولا بمُصيبتكَ» . وقال ابنُ الخطيبِ: «وههُنا بحثٌ، وهو أنَّ الصَّبْر على قضاءِ الله واجبٌ، وأما الصَّبرُ على ظُلم الظَّالمِ، فغيرُ واجبٍ، بل الواجبُ إزالتهُ لا سيِّما في الضَّرر العائدِ إ لى الغير، وههنا أنَّ إخوة يوسف قد ظهر كذبهم، وخيانتهم، فلم صبر يعقوب على ذلك؟ ولِمَ لَمْ يبالغ في التَّفتيش، ولا البحث عنه، ولا السّعي في تخيص يوسف من البليّة، والشِّدَّة إن كان حيًّا، وفي إقامة القصاص إن صحَّ أنهم قتلوه فثبت أنَّ الصَّبرَ في هذا المقام مذموم» . ويُقوِّي هذا السُّؤال أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان عالماً بأنه حي؛ لأنَّهُ قال له: {وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ} [يوسف: 6] . الظَّاهر أنه إنَّما قال هذا الكلام من الوحي، وإذا كان عالماً بأنَّه حيٌّ سليم؛ فكان من الواجب أن يسعى في طلبه. وأيضاً: فإنَّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان رجلاً عظيم القدر في نفسه، وكان من بيتٍ عظيم شريفٍ، وأهلُ العالم كانوا يعرفونه، ويعتقدون تعظيمه، فلو بالغ في البحث، والطلب لظهر ذلك، واشتهر، ولزال وجهُ التَّلبيسِ، فما السَّبب في أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع شدَّة رغبته في حضورِ يوسف، ونهاية حبِّه له لم يطلبه مع أنَّ طلبه كان من الواجبات؛ فثبت أنَّ هذا الصَّبر مذمومٌ عقلاً وشرعاً. فالجواب أن نقول: إن الله سبحانه وتعالى منعه من الطَّلب تشديداً للمحنة عليه، وتغليطاً للأمر عليه، وأيضاً: لعلَّهُ عرف بقرائن الأحوال أنَّ أولاده أقوياء، وأنَّهم لا يمكنونه من الطَّلب، والفحص، وأنَّه لو بالغ في البحثِ فربما أقدموا على إيذائه، وأيضاً: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 45 لعلَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ علم أنَّ الله ت تبارك وتعالى سيصون يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن البلاءِ والمحنةِ، وأن أمرهُ سيظهرُ بالآخرةِ ولم يرد هتْك ستر أولاده، وإلقائهم في ألسنةِ النَّاس وذلك لأنَّ أحَد الولدينِ إذا ظلم أخاه، وقع أبوه في العذابِ الشَّديدِ؛ لأنه إذا لم ينتقمْ؛ يحترق قلبه على الولد المظْلُوم، وإن انتقم، احترق قلبه على الولدِ المُنتقَم منه، فلمَّا وقع يعقوب في هذه البلية رأى أنَّ الأصوب الصَّبرُ، والسُّكونُ، وتفويضُ الأَمْرِ بالكُليَّةِ إلى اللهِ تعالى. فصل قال ابنُ رفاعة «ينبغي لأهل الرَّاي أن يتَّهِمُوا رأيهم عند ظنّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهو نبيٌّ حين قال له بنوه: {إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذئب} [يوسف: 17] فقال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} [يوسف: 18] فأصاب هنا، ثمَّ لما قالوا له: {إِنَّ ابنك سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} [يوسف: 81] ، قال: {بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ} [يوسف: 83] فلم يُصِبْ» . فصل قوله: «فَصْبرٌ جَميلٌ» يدل على أنَّ الصّبر قسمان: أحدهما: جميلٌ، والآخر: غيرُ جميلٍ، فالصَّبرٌ الجميلُ هو: أن يعرف أنَّ مُنزِّلَ ذلك البلاء هو الله تعالى ثمَّ يعلم أنَّهُ سبحانه مالكُ المُلكِ، ولا اعتراض على المالكِ في أنْ يتصرَّف في ملكه، فيصيرُ استغراق قلبه في هذا المقام مانعاً من الشِّكايةِ. وأيضاً: يعلمُ أن منزِّل هذا البلاءِ حليمٌ لا يجهلُ، عالمٌ لا يغفلُ، وإذَا كان كذلك، فكان كلُّ ماصدر عنه حكمةً وصواباً، فعند ذلك يسكتُ ولا يعترضُ. وأمَّا الصَّبرُ غير الجميل: فهو الصَّبرُ لسائر الأغراض، لا لأجل الرِّضا بقضاءِ الله سبحانه وتعالى والضَّابطُ في جميع الأقوال والأفعال والاعتقادات: أنه لكما كان لطلب عبودية الله تعالى كان حسناً وإلا فلا. ثم قال: {والله المستعان على مَا تَصِفُونَ} أي: استعين بالله على الصَّبر على ما تكذبون. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 46 قوله تعالى: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ} [الآية: 19] واعلم أنه تعالى بيَّن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 46 كيف السَّبيلُ في خلاصِ يوسف من تلك المحنةِ فقال: {وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ} . قال ابنُ عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أي قوم يسيرون من مدْين إلى مِصْرَ فأخطئوا الطريق، وانطلقوا يهيمون على غير طريق، فهبطوا على أرضٍ فيها جُبُّ يوسف، وكان الجبُّ في قَفْرٍ بعيدٍ من العمرانِ لم يكن إلاّ للرُّعاةِ. وقيل: كان ماؤه مِلْحاً، فعذُبَ حين ألقي يوسفُ فيه، وأرسلوا واردهم الذي يردُ الماء ليستقي للقوم قال القُرطبيُّ: «فأرسَلُواْ وَارِدهُمْ» ذكَّر على المعنى، ولو قال: فأرسلت واردها؛ لكان على لفظ «وجَاءَتْ» . والوَارِدُ: هو الذي يتقدَّمُ الرُّفقة إلى الماءِ فيهىء الأرْشيةَ، والدَّلاء، وكان يقال له: مالكُ بنُ دعر الخُزاعِيُّ «. قوله: {فأدلى دَلْوَهُ} يقال: أدلَى دلوهُ، أي: أرسلها في البِئْرِ، ودلاَّها إذا أخرجها ملأى؛ قال الشاعر: [الرجز] 3070 - لا تَقْلُواهَا وادْلُواهَا دَلْوَا ... إنَّ مَعَ اليَومِ أخاهُ غَدْوَا يقال: أدْلَى يُدْلِي إدْلاءً: إذا أرسل، وَدلاَ يَدلُوا دَلْواً: إذا أخرج وجذبَ، والدَّلوُ معروفةٌ، وهي مؤنثةٌن فتصغَّرُ على» دُليَّةِ «، وتجمع على دلاءٍ، أدلٍ والأصلُ: دِلاوٌ، فقلبت الواو همزة، نحو» كِسَاء «، و» أدلوٌ «، فأعلَّ إلال قاضٍ و» دُلُوو «بواوين، فقلبا ياءين، نحو» عِصِيّ «. قوله:» يَابُشْرَايَ: ههنا محذوف، تقديره: فأظهروا يوسف، قرأ الكوفيون بحذف ياء الإضافة، وأمال ألف «فُعْلَى» الأخوانِ وأمالها ورشٌ بين بين على أصله، وعن أبي عمرو الوجهان، ولكن الأشر عنه عدمُ الإمالةِ، وليس ذلك من أصله عن ما قُرِّر في علم القراءاتِ، وقرأ الباقون «يَا بُشْرَاي» مضافة إلى ياء المتكلِّم. فصل في قوله: «يابشراي» قولان: الأول: أنَّها كلمةٌ تذكَّر عند البشارةِ، كقولهم: يا عجبا من كذا، وقوله: {ياأسفا عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] وعلى هذا القول ففي تفسير النِّداء وجهان: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 47 الأول: قال الزجاج «معنى النِّداء في هذه الأشياء: تنبيه المخاطلبين، وتوكيد القصَّة، فإذا قلت: يا عجباهُ، فكأنك قلت: أعْجَبُوا. الثاني: قال أبو عليٍّ:» كأنه يقول: يا أيتها البشرى هذا الوقت وقت، ولو كنت ممَّن يخاطب لخوطبت، ولأمرت بالحضورِ «. واعلم أنَّ سبب البشارةِ: أنهم وجدوا غلاماً في غاية الحسن فقالوا: نَبيعهُ بثَمنٍ عظيم، ويصيرُ ذلك سبباً للغناءِ. والقول الثاني: قال السديّ: الذي نادى كان اسمُ صاحبهِ بُشْرَى فناداه فقال: يا بُشْرَاي، كما تقول:» يَا زْيْدُ «. وعن الأعمش أنه قال: دعا امْرأةً امسها بُشْرَى. قال أبو علي الفارسيُّ إن جعلنا البشرى اسماً للبشارة، وهو الوجه؛ جاز أن يكون في محلّ الرفع، كما قيل:» يَا رجُلُ «لاختصاصه بالنِّداء، وجاز أن يكون موضع نصب على تقدير: أنه جعل هذا النِّداء شائعاً في جنس البشرى، ولم يخص كما تقول: يا رجُلاً، و {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30] . وقرأ ورش عن نافع: «يَا بُشْرَايْ» بسكون الياء، وهو جمع بين ساكنين على غير حدِّه في الوصل، وهذا كما تقدم في {عَصَايَ} [طه: 18] وقال الزمخشري: «وليس بالوجهِ، لما فيه من التقاءِ السَّاكنين على غير حدِّه إلاَّ أن يقصد الوقف» . وقرأ الجحدريُّ، وابن أبي إسحاق، والحسن: «يَا بُشْرَيَّ» بقلب الألف ياءً وإغامها في ياء الإضافة، وهي لغة هُذليَّةٌ، تقدم الكلام عليها في البقرة عند قوله: {فَمَن تَبِعَ هُدَايَ} [البقرة: 38] . وقال الزمخشري: «وفي قراءة الحسن:» يَا بُشْرَيَّ «بالياء مكان الألف جعلت الياءُ بمنزلة الكسرة قبل ياء الإضافة، وهي لغةٌ للعرب مشهورةٌ، سمعت أهل السروات في دعائهم يقولون: يا سيِّديَّ، وموليَّ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 48 قوله: «وأسَرُّوهُ» الظَّاهرُ أن الضمير المرفوع يعود على السَّيَّارة، وقيل: هو ضمير إخوته، فعلى الأول: أن الوارد، وأصحابه أخفوا من الرفقةِ أنهم وجدوهُ في الجبّ، وقالواك إن قلنا للسَّيَّارة التقطناه شاركونا، وإن قلنا: اشتريناه سألونها الشّركة، فلا يضرُّ أن نقول: إنَّ أهل الماءِ جعلوه بضاعة عندنا على أن نبيعه بمصر. وعلى الثاني: نقل ابنُ عبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «وأسَرُّوهُ» يعني إخوة يوسف أخفوا كونه أخاهم، بل قالوا: إنَّهُ عبدٌ لنا أبقَ منا، ووافقهم يوسف على ذلك؛ لأنهم توعَّدوهُ بالقتلِ بلسانِ العِبرانيَّةِ. و (بضاعَةً) نصب على الحال. قال الزَّجَّاج كأنه قال: «وأَسرّوه حال ما جعلُوه بضاعةً» ، وقيل: مفعول ثانٍ على إن يُضَمَّن «أَسَرُّوهُ» معنى صَيَّروه بالسِّرِّ. والبضاعة: هي قطعةٌ من المالِ تعدُّ للتَّجارة من بضعت، أي: قطعت ومنه: المبضعُ لما يقطع به. ثم قال: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} والمعنى: أنَّ يوسف لما رأى الكواكبَ والشمس، والقمر في النَّوم سجدتْ له، وذكر ذلك؛ حسده إخوته، فاحتالُوا في إبطال ذلك الأمر عليه، فأوقعوه في البلاءِ الشَّديد، حتى لا يتم له ذلك المقصود؛ فجعل الله تعالى وقوعه في ذلك البلاءٍ سبباً لوصوله إلى «مِصْرَ» ، ثمَّ تتابع الأمرُ إلى أن صار ملك مصر، وحصل ذلك الذي رآه في النَّوم، فكان العملُ الذي عمله إخوته دفعاً لذلك المطلوب، صيَّره الله سبباً لحصولِ ذلك المطلوب، ولهذا المعنى قال: {والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} . قوله: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ} شَرَى بمعنى اشترى، قال الشاعر: [الطويل] 3071 - ولَوْ أنَّ هَذَا المَوْتَ يَقبَلُ فِذْيةً ... شَرَيْتُ أبَا زيْدٍ بمَا مَلكتْ يَدِي وبمعنى: باع؛ قال الشاعر: [مجزوء الكامل] 3072 - وشَريْتُ بُرْداً ليْتَنِي ... مِنْ بعْدِ بُردٍ كُنْتُ هَامَهْ فإن قلنا: المراد من الشِّراء نفس الشراءِ، فالمعنى: أنَّ القوم اشتروه، وكانوا فيه من الزَّاهدينَ؛ لأنهم علموا بقرائن الأحوال أنَّ إخوة يوسف كذبُوا في قولهم: إنَّهُ عبدُ لنا، وأيضاً عرفوا أنَّه ولدُ يعقوب، فكرهوا أيضاً شراءه؛ خوفاً من الله تعالى من ظهور تلك الواقعة، إلاَّ أنَّهُم مع ذلك اشتروه بالآخة؛ لأنُّهُم اشتروه بمثنٍ بخسٍ، وطمعوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 49 في بيعه بثمن عظيمٍ، ويحتملُ أن يقال: إنهم اشتروه مع أنهم أظهرُوا من أنفسهم كونهم فيه من الزَّاهدين، وغرضهم أن يتوصَّلُوا بذلك إلى تقلل الثَّمن، ويحتمل أن يقال: إنَّ الإخوة لما قالوا: إنه عبدٌ أبق منا صار المشتري عديم الرغبة فيه. قال مجاهدُ رَحِمَهُ اللَّهُ كانوا يقولون: لئلا يأبق. وإن قلنا: إنَّ المراد من الشِّراء البيع ففي ذلك البائع قولان: الأول: قال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما إنَّ إخوة يوسف لمَّا طرحوه في الجبّ، ورجعوا عادوا بعد ثلاثٍ يتعرَّفُونَ خبره، فلمَّا لم يروه في الجبّ، ورأوا آثار السَّيارة طلبوهم، فلمَّا رأوا يوسف قالوا:: هذا عبدٌ لنا أبق منا فقالوا لهم: فبيعوه منَّا، فباعوه منهم، وإنَّما وجب حملُ الشِّراء على البيع؛ لأن الضمير في قوله: «وشَرَوْهُ» وفي قوله: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} عائدٌ إلى شيءٍ واحدٍ، وإذا كان كذلك فهم باعوه؛ فوجب حملُ الشراء على البيع. والثاني: أن بائع يوسف هم الَّذين اسْتَخْرجُوه من الجُبّ. وقال محمد بن إسحاق: وربُّك أعلمُ أإخوته باعوه، أم السيارة؟ . والبَخْسق: النَّاقصُ، وهو في الأصل مصدرٌ، وصف به مبالغة. وقيل: هو بمعنى مفعولٍ، و «دَراهِمَ» بدلٌ من «بِثَمَنٍ» ، و «فِيهِ» متعلق بما بعده، واغتفر ذلك للاتِّساعِ في الظروف، والجار، أو بمحذوف وتقدم [البقرة: 130] مثله. فصل اعلم أنه تعالى وصف ذلك الثمن بصفات ثلاثٍ: إحداها: كونه بخساً، قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريدُ حراماً؛ لأنَّ ثمن الحُرَّ حرامٌ، وقال: وكلٌّ بخس في كتابِ اللهِ نقصان إلاَّ هذا فإنهُ حرامٌ. قال الواحدي: «سمي الحرامُ بخساً؛ لأن ناقصُ البركة» . وقال قتادة: بخس: ظلم، والظُّلمُ نقصان، يقال: ظلمهُ، أي: نقصهُ وقال عكرمةُ والشعبيُّك قليل. وقيل: ناقص عن القيمة نقصاناً ظاهراً وقيل: كانت الدَّراهمُ زيوفاً ناقصة العيارِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 50 قال الواحديُّ: وعلى الأقوال كُلِّها، فالبخسُ مصدرٌ وقع موصع الاسمِ، والمعنى: بثمنٍ مبخُوسٍ. وثانيها: قوله: {دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ} قيل: تعدُّ عدًّا، ولا توزن إلا أنهم كانوا يزنون إذا بلغ الأوقية، وهي أربعون ويعدُّون ما دونها. فقيل للقليل معدودٌ، لأن الكثير لا يعدُّ لكثرته، بل يوزن قال ابن عباسٍ، وابنُ مسعود، وقتادةٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: كانت عشرين درهماً، فاقتسموها درهمين درهمين إلا يهوذا، فإنَّه لم يأخذ شيئاً. الثالث: أن الذين اشتروه كانوا فيه مِنَ الزَّاهدين، وقد سبق توجيه هذه الأقوال. وقال مجاهدٌ والسديُّ: اثنين وعشرين درهماً. فإن قيل: إنَّهم لما ألقوه في الجبِّ حسداًن فأرادوا تضييعه عن أبييه، فلمَ باعوه؟ . فالجواب: أنَّهم لعلَّهم خافوا أن تذكر السيارة أمره، فيردوه إلى أبيه، لأنَّه كان أقرب إليهم من مصر. فإن قيل: هب أنَّهم أرادوا ببيعه أيضاً تبعيده عن أبيه؛ فلمَ أحلَّ له أخذ ثمنه «. فالجواب: أن الذي اشترى يوسف كان كافراً، وأخذُ مالِ الكافرِ حلالٌ. وثالثها: قوله: {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين} ومعنى الزُّهد: قلَّة الرغبة، يقال زهد فلان في كذا إذا لم يرغب فيه، وأصله من القلَّة، يقال: رجلٌ زهيدٌ، إذا كان قليل الجِدةِ، وفيه وجوه: الأول: أنَّ إخوة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ باعوه؛ لأنهم كانوا فيه من الزَّاهدينَ الثاني: أنَّ السيَّارة كانُوا فيه من الزَّاهدين؛ لأنَّهم التَقطُوهُ، والملتَقِطُ يتهاونُ، ولا يباللاي بأي شيءٍ يباعُ، أو لأنَّهُم خافوا أن يظهر المستحق، فينزعه من يدهم، فلا جرم باعوه بالأوكس من الأثمان. والضمير في قوله:» فِيهِ «يحتمل أن يعود إلى يوسف، ويحتمل أن يعود إلى الثَّمن البَخْسِ. فصل قال القرطبيُّ:» في الآية دليلٌ على شراءِ الشَّيء الخطيرِ بالثَّمنِ اليسير، ويكونُ البيع لازماً «. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 51 قوله: {وَقَالَ الذي اشتراه} [الآية: 21] اعلم أنَّه ثبت أنَّ الذي اشتراه [إما] من الإخوة، وما من الواردين على الماء ذهب به إلى مصر وباعه. قيل: إن الذي اشتراه هو العزيزُ، كان اسمه» قطفير «، وقيل: إطْفيرُ الذي يلي خزائن مصر، والملك يومئذ: الرَّيَّان بنُ الوليدِ، رجل من العماليق، وقد آمن بيوسف، ومات في حياةِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لما دخلوا مِصْر تلقَى العزيز مالك بن دعرٍ فابتاع منه يوسف، وهو ابنُ سبع عشرة سنة، [وأقام في منزله ثلاث عشرة سنة، وقيل: سبْع عشرة سَنَة] ، واستوزره الرَّيان، وهو ابن ثلاثين سنة، وآتاه اللهُ العِلم، والحُكم، وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، وتوفي، وهو ابنُ مائة وعشرين سنة. وقال الذي اشتراهُ من مصر لا مرأته قيل: كان اسمها زليخا وقيل:» راعيلُ «. قال ابن كثير:» الظّاهرُ أنَّ زليخا لقبها «. قوله:» مِنْ مِصرَ «يجوز فيه أوجه: أحدها: أن يتعلَّق بنفس الفعل قبله، أي: اشتراه من مصر، كقوله: اشْتَريْتُ الثَّوب من بغداد، فهي لابتداء الغايةِ، وقول أبي البقاءِ: أي:» فيها، أو بها «لا حاجة إليه. والثاني: أنه حالٌ من الضمير المرفوع في:» اشْتراهُ «فيتعلق بمحذوفٍ أيضاً. وفي هذين نظرٌ؛ إذ لا طائل في هذا المعنى. و» لامْرَأتهِ «متعلقٌ ت ب» قَالَ «فهي للتبليغ، وليست متعلقة ب» اشْتراهُ «. قوله: «أكْرمِي مَثوَاهُ» ، أي: منزله، ومقامه عندك، من قولك: ثويتُ بالمكان، إذا أقمت فيه، ومصدره الثَّواء، والمعنى: اجعلي منزلته عندك كريماً حسناً مرضيًّا، بدليل قوله تعالى: {إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} [يوسف: 23] قال المحققون: أمر العزيز امرأته بإكرام مثواهُ دون إكرام نفسه، يدلُّ على أنه كان ينظرُ إليه على سبيل الإجلال، والتعظيم. {عسى أَن يَنفَعَنَآ} أي: نبيعه بالرِّبح إذا أردنا بيعه، أو يكفينا إذا بلغ بعض أمورنا {أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} نَتبنَّاهُ. قال ابن مسعودٍ: «أفرْسُ النَّاس ثلاثة: العزيزُ في يوسف حيثُ قال لامرأته: {أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ} [يوسف: 21] وابنة شعيب حين قالت لأبيها في موسى: {استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين} [القصص: 26] ، وأبو بكر في عمر حين استخلفه» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 52 قوله: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} الكاف كما تقدم في نظائره حالٌ من ضمير المصدر، أو نعتٌ له، أي: ومثل ذلك الإنجاء من الجبّ والعطف مكَّنا له، أي: كما أنجيناه، وعطفنا عليه العزيز مكَّنا له في أرض مصر، أي: صار متمكناً من الأمرِ والنهي في أرض مصر، وجلعناه على خزائنها. قوله: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} وهي تعبير الرُّؤيا. واللام في «ولنُعَلِّمُه» فيها أوجه: أحدها: أن تتعلقَّق بمحذوف قبله، أي: وفعلنا ذلك لنعلمه. والثاني: أنها تتعلَّق بما بعده، أي: ولنعلمه، فعلنا كيت، وكيت. [الثالث: أن يتعلَّق ب «مَكَّنَّا» على زيادة الواو] . قوله: {والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ} الهاء في «أمْرهِ» يجوز أن تعود على الجلالةِ أي: أنه تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16] لا يغلبه شيءٌ، ولا يردُّ حكمهُ رادٌّ، لا دافع لقضائه، ولا مانع من حكمه في أرضه، وسمائه. ويجوز أن تعود على يوسف، أي: أنه يدبره، ولا يكله إلى غيره، فقد كادوه إخوته، فلم يضروه بشيء {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} أنَّ الأمر كله بيد الله. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 53 قوله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} الآية لما بيَّن تعالى أن إخوته لمَّا أساءوا إليه ثمَّ صبر على تلك الإساءة، والشَّدائد مكَّنهُ اللهُ في الأرض، ثم لما بلغ أشدهُ آتاه اللهُ الحكم، والعلم، والمقصود أن جميع ما قام به من النِّعمِ كان جزاء على صبره. قوله: «أشدَّهُ» فيه ثلاثة أقوال: أحدها: وهو قولُ سيبويه: أنَّهُ جمع مفرده شدَّة، نحو نعمة وأنعم. الثاني: قول الكسائي أنَّ «أشدّه» مفردة: «شدَّ» بزنة «فعل» نحو: «صَكَّ» ، وأصكَّ «ويؤيدهُ قول الشاعر: [الكامل] 3073 - عَهْدِي بِهَا شدَّ النَّهارُ كأنَّما ... خُضِبَ البَنَانُ ورَأسهُ بالعِظْلِم والثالث: أنه جمعٌ لا واحد له من لفظه، قاله أبو عبيدة، وخالفه الناس في ذلكن وقد سمع» شدَّه وشُدَّ «وهما صالحانِ له، وهو من الشدِّ، وهو الرَّبطُ على الشيء، والعقد عليه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 53 قال الراغب: وقوله تعالى: {حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ} [الأحقاف: 15] فيه تنبيهٌ على أنَّ الإنسان، إذا بلغ هذا القرار استوى خلقه الذي هو عليه، فلا يكادُ يزايله، ما أحسن ما [نبه له] الشاعر حين قال: [الطويل] 3074 - إذَا المَرْءُ وافَي الأرْبعينَ ولمْ يَكُنْ ... لَهُ دُونَ ما يَهْوَى حَياءُ ولا سِتْرُ فَدعْهُ ولا تَنفِسْ عَليْهِ الَّذي مَضَى ... وإنْ جَرَّ أسَبابَ الحَياةِ لهُ العُمْرُ والأّشدَّ: منتهى شبابه، وشدَّته، وقوَّته. قال مجاهدٌ عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: ثلاثاً وثلاثين سنة. وقال السديُّ: ثلاثين سنة وقال الضحاكُ:» عشرين سنة «وقال الكلبيُّ: ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين سنة. وسئل مالكٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن الأشد قال: هو الحلم، وقد تقدَّم الكلامُ على الأشد في سورة الأنعام عند قوه: {حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152] . قوله: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً} فالحُكْمُ: النبوةُ، والعلمُ: التفقَهُ في الدِّين، وقيل: يعني: إصابة في القول، وعلماً [بتفاصيل] الرُّؤيا. وقيل: الفرقُ بين الحكيمِ والعالمِ: أن العالم هو الذي يعلم الأشياء، والحكيمُ: الذي يَحكمُ بما يوجبه العلمُ. قوله:» وكَذِلكَ «إمَّا نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ من ضمير المصدر، وتقدَّم نظائره. {نَجْزِي المحسنين} قال ابنُ عبًّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المؤمنين، وعنه أيضاً: المهتدين. وقال الضحاك: الصَّابرين على النَّوائب كما صبر يوسفُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 54 قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ التي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ} [الآية: 23] أعلم أنَّ يوسف عليه الصلاةوالسلام كان في غاية الجمال، فملا رأته المرأةُ؛ طمعت فيه. «وَرَاوَدتْهُ» ، أي طالبته برفقٍ ولين قول، والمُاردودَةُ: المصدرُ، والرِّيادةُ: طلب النِّكاح، يقال: وَاوَدَ فلانٌ جاريته عن نفسها، وراودته عن نفسه، إذا حاول كُلُّ واحدٍ منها الوطء، ومشى رويداً، أي: برفقٍ في مِشْيتهِ، والرَّودُ: الرِّفقُ في الأمورِ، والتَّأنِّي فيها، وراودت المرأةُ في مشيها ترودُ رَوَدَاناً من ذلك. والمِرْودةٌ هذه الآية منه، والإرادة منقوله من رَادَ يَرُودُ إذا سعى في طلب حاجة، وتقدَّم ذلك في البقرة: [26] . وتعدى هنا ب «عَنْ» لأنه ضمن معنى خادعتهُ، أي: خادعته عن نفسه، والمفاعلة هنا من الواحدِ، نحو: داويت المريض، ويحتملُ أن تكون على بابها، فإنَّ كلاًّ منهما كان يطلبُ من صاحبه شيئاً برفق، هي تطلبُ منه الفعل، وهو يطلبُ منها التَّرْكَ. والتشديدُ في «غَلّقتْ» للتكثير لتعدُّدِ المحالِّ، اي: أغلقت الأبواب وكانت سبعةً. قال الواحدي: «وأصل هذا من قولهم في كلِّ فعل تشبث في شيء فلزمه قد غلق، يقال: غلق في الباطل، وغلق في غضبه، ومنه غلق الرهن ثم يعدى بالألف، فيقال: أغلق الباب إذا جعله بحيث يعسر فتحه، والسبب في تغليق الأبواب أنَّ [هذا الفعل] لا يُؤتى به إلاَّ في المواضع المستُورةِ لا سيَّما إذا كان حراماً، ومع الخوف الشديد» . قوله: «هَيْتَ لَكَ» اختلف أهلُ النَّحو في هذه اللفظة، هل هي عربيةٌ أم معربةٌ؟ . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 55 فقيل: معربةٌ من القبطيَّة بمعنى: هلمَّ لك، قاله السديُّ. وقيل: من السِّريانيَّة، قاله ابن عبَّاس، والحسن. وقيل: من العبرانية، وأصلها: هَيْتَلخَ أي: تعاله فعربه القرآن، قاله أبو زيدٍ الأنصاري. وقيل: هي لغة حورانيَّة وقعت [إلى أهل] الحجاز، فتكلموا بها، معناها: تعالى، قاله الكسائي والفراء، وهو منقولٌ عن عكرمة. والجمهور على أنَّها عربيةٌ. قال مجاهدٌ: هي كلمةٌ حثِّ، وإقبال. ثمَّ هي في بعض اللغات تتعيَّن فعلتيها وفي بعضها اسميتها، وفي بعضها يجوز الأمران كما ستعرفه من القراءات المذكورة فيها. فقرأ نافع، وابن ذكوان: «هِيْتَ» بكسر الهاءِ، وسكون الياءِ، وفتح التَّاء. وقرأ ابن كثير «هَيْتَ» بفتح الهاء، وسكون الياء، وتاء مضمومة. وقرأ هشام «هِئْتُ» بكسر الهاء، وهمزة ساكنة، وتاء مفتوحة، أو مضمومة. وقرأ الباقون: «هَيْتَ» بفتح الهاء، وياء ساكنة، وتاء مفتوحة. فهذه خمسُ قراءاتٍ في السَّبعِ. وقرأ ابن عباسٍ، وأبو الأسود، والحسنُ، وابن محيصن بفتح الهاء، وياء ساكنة وتاء مكسورة. وحكى النحاس: أنه قرىء بكسر الهاء والتاء بينهما ياء ساكنة. وقرأ ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أيضاً: «هُيِيْتُ» بضمِّ الهاءٍ، وكسر الياء بعدها ياء ساكنة ثم تاء مضمومة بزنة «حُيِيْتُ» . وقرأ زيد بن علي، وابن إبي إسحاق: بكسر الهاء، وياء ساكنة، وتاء مضمومة، فهذه أربع قراءات في الشاذ، فصارت تسع قراءات. وقرأ السلمي، وقتادة بكسر الهاء وضم التاء مهموزاً، يعنى تهيأت لك، انكره أبو عمرو، والكسائي، ولم يحك هذا عن العرب، فيتعين كونها اسم فعلٍ في غير قراءة ابن عبَّاس «هُيِيْتُ» بزنة، «حُيِيْتُ» وفي غير قراءة كسر الهاء سواء كمان ذلك بالياء، أم بالهمز، فمن فتح التاء بناها على الفتح تخفيفاً، نحنو: أين، وكيف، ومن ضمَّها كابن كثيرٍ شبهها ب «حَيْثُ» ، ومن كسر فعلى أصل التقاء الساكنين ك: «جَيْر» ، وفتح الهاء، وكسرها لغتان، ويتعيَّن فعليتها في قراءة ابن عبَّاس «هُيِيْتُ» بزنة: «حُيِيْتُ» فإنها فيها فعل ماض مبني للمفعول مسند لضمير المتكلِّم من «هَيَّاتُ الشَّيءَ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 56 ويحتمل الأمرين في قراءة من كسر الهاء، وضمَّ التاء، فتحتمل أن تكون فيه أسم فعل [بنيت على] الضم، ك «حَيْثُ» ، وأن تكون فعلاً مسنداً لضمير المتكلم، من: هاء الرَّجل يَهيءُ، ك «جَاء يَجِيءُ» ، وله حينئذ معنيان: أحدهما: أن يكون بمعنى: حسنت هيئته. والثاني: أن يكون بمعنى تَهَيَّأ، يقال: «هَيُئْتُ، أي: حَسُنَتْ هَيْئتي، أوْ تَهَيَّأتُ. وجواز أبو البقاءِ: أن تكون» هِئْتَ «هذه من:» هَاءَ يَهَاءُ «ك» شَاءَ يَشَاءُ «. وقد طعن جماعةٌ على قراءة هشام الَّتي بالهمز، وفتح التَّاء، فقال الفارسي: يشبه أن يكون الهمز وفتح التاء وهماً من الراوي؛ لأنَّ الخطاب من المرأة ليوسف، ولم يتهيَّأ لها بدليل قوله:» وَرَاودَتْهُ «، و» أنِّي لَمْ أخُنْهُ بالغَيْبِ «، وتابعه على ذلك جماعة. وقال مكي بنُ أبي طالب:» يجبُ أن يكون اللفظ «هِئْتَ لي» أي: تهَيَّأتْ لِي، ولم يقرأ بذلك أحدٌ، وأيضاً: فإنَّ المعنى على خلافه؛ لأنَّه [لم يزل] يفرُّ منها، وتباعد عنها، وهي تراوده، وتطلبه، وتقدُّ قميصهن فكيف تخبر أنه تهيأ لها؟ «. وأجاب بعضهم عن هذين الإشكالين بأن المعنى: تهيأ لي أمرك لأنها لم تكن تقدر على الخلوة به في كل وقت، أو يكون المعنى: حَسُنَتْ هَيْأتُكَ. أو» لَكَ «متعلق بمحذوف على سبيل البيانِ، كأنها قالت: القول لك، أو الخطاب لك، كهي في» سَقْياً لَكَ ورَعْياً لَكَ «. قال شهابُ الدِّين:» واللاَّم متعلقة بمحذوف على كلِّ قراءة إلاَّ قراءة ثبت فيها كونها فعلاً، فإنَّها حينئذ تتعلق بالفعل، إذ لا حاجة إلى تقدير شيء آخر «. وقال أبو البقاءِ: «والأضبهُ أن تكون الهمزةُ بدلاً من الياءِ، أو تكون لغة في الكلمة التي هي اسم للفعل، وليست فعلاً، لأن ذلك يوجب أن يكون الخطاب ليوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» . وهو فاسدٌ لوجهين: أحدهما: أنَّهُ لم يَتهيَّأ لها، وإنَّما تَهيَّأت لهُ. الثاني: أنه قال: «لَكَ، ولو أراد الخطاب لقال:» هِئْتَ لي «، وتقدم جوابه وقوله:» إنَّ الهمزة بدلٌ من الياء «. هذا عكس لغة العرب، إذ قد عهدناهم يبدلون الهمزة السَّاكنة ياء إذا انكسر ما قبلها، نحو:» بِير «و» ذِيب «ولا يقبلون الياء المكسور ما قبلها همزة، نحو: مِيل، ودِيك، وأيضاً: فإنَّ غيرهُ جعل الياء الصَّريحة مع كسر الهاء كقراءة نافع، وابن ذكوان محتملة؛ لأن تكون بدلاً من الهمزة، قالوا فيعودُ الكلامُ فيها، كالكلام في قراءة هشامٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 57 واعلم أنَّ القراءة التي استشكلها الفارسي هي المشهورةُ عن هشامٍ، وأمَّا ضمُّ التاء فغير مشهورٍ عنه. ثمَّ إنَّهُ تعالى أخبر أنَّ المرأة لما ذكرت هذا الكلام، قال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} » مَعاذَ اللهِ «منصوب على المصدر بفعل محذوفٍ، أي: أعوذُ بالله معاذاً، يقالُ: عَاذَ يعُوذُ عِيَاذاً [وعِيَاذةً] ، ومعاذاً، وعوْذاً؛ قال: [الطويل] 3075 - مَعاذَ الإلهِ أن تكُونَ كَظبْيةٍ ... ولا دُمْيةٍ ولا عَقِيلةِ ربْرَبِ قوله» إنَّهُ «يجوز أن تكون الهاء ضمير الشَّأن، ما بعده جملة خبرية له، ومراده بربه: سيِّده، ويحتمل أن تكون الهاء ضمير الباري تعالى، و» ربِّي «يحتمل أن يكون خبرها، و» أحسنَ «جملةٌ حاليةٌ لا زمةٌ، وأن تكون مبتدأ،» وأحْسنَ «جملة خبرية له، والجلمة خبر ل» أنَّ «وقرأ الجحدريُّ، وأبو الطفيل الغنوي» مَثْويَّ «بقلب الألف ياء، وإدغامها ك» بُشْرَيَّ «و» هُدَيَّ «. و: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ} هذه الهاء ضمير الشأن ليس إلاَّ؛» فعلى قولنا: إنَّ الضمير في قوله: {إِنَّهُ ربي} يعود إلى زوجها قطفير، أي: إنه ربِّي سيِّدي، ومالكي أحسن مثواي حين قال لها: {أَحْسَنَ مَثْوَايَ} ، فلا يليقُ بالعقل أن أجازيه على ذلك الإحسان بهذه الخيانة القبيحة وقيل: إنها راجعةٌ إلى الله تبارك وتعالى أي: أنَّ الله ربي أحسن مثواي، أي: تولاَّنِي، ومن بلاء الجبّ عافاني: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} يعني: إن فعلتْ هذا فخنته في أهله بعدما أكرم مثواي، فأنا ظالمٌ، ولا يفلحُ الظالمُونَ. وقيل: أراد الزناةح لانهم ظالمون لأنفسهم؛ لأنَّ عملهم يقتضي وضع الشيء في غير موضعه. فصل ذكر ابنُ الخطيبِ هاهنا سؤالات: الأول: أن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان حراً، وما كان عبداً، فقوله: {إِنَّهُ ربي} يكون كذباً، وذلك ذنبٌ وكبيرة. والجواب: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أجرى هذا الكلام بحسب الظاهر على وفق ما كانوا يعتقدون فيه من كونه عبداً. وأيضاً: إنَّه ربه، وأنعم عليه بالوجوه الكثيرة، فعنى بقوله: {إِنَّهُ ربي} كونه مربياً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 58 وهو من باب المعاريض الحسنةٍ، فإنَّ الظَّاهرِ يحملونه على كونه ربًّا، وهو كأنه يعني به أنه كان مربياً له ومنعماً عليه. السؤال الثاني: ذكر يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الجواب في كلامه ثلاثة أشياء: أحدها: قوله: «مَعَاذ اللهِ» . والثاني: قوله: {إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} . والثالث: قوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} فما وجه تعلُّق هذه الجوابات بعضها ببعض «. والجواب: هذا الترتيب في غاية الحسنح لأن الأنقياد لأمر الله تعالى وتكاليفه أهم الأشياء لكثرة إنعامه، ألطافه في حق العبدِ، فقوله: {مَعَاذَ الله} إشارة أنَّ حقَّ اللهِ يمنعُ من هذا العملِ. وأيضاً: حقوق الخلق واجبة الرعاية، فلما كان هذا الرجل قد أنعم في حقّي، فيثبحُ معاملة [إنعامه] بالإساءة. وأيضاً: صونُ النَّفسِ عن الضَّرر واجب، وهذه اللذَّة قليلة، ويتبعها خزيٌ في الدُّنيا وعذابٌ في الآخرة، وهذه اللذَّة القليلة إذا تبعها ضررٌ شديدٌ؛ ينبغي تركها والاحتراز عنها، لقوله: {إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون} فهذه الجواباتُ الثلاثة مرتبة على أحسن وجوه: التريب. السؤال الثالث: هل يدلُّ قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» مَعاذَ اللهِ «على صحَّةِ القضاء والقدر؟ . والجوةابُ: أنه يدل دلالة ظاهرة؛ لأنه طلب من الله أن يعيذهُ من العمل، وتلك الإعاذة ليست عبارة من لفظ الفعل، والقدرة وإزاحة الأعذار، وإزالة الموانع وفعل الألطاف؛ لأن كل هذا قد فعله الله تعالى، فيكونُ طلبه إمَّا طلباً لتحصيل الحاصل، أو طلباً لتحصيل الممتنع، وأنَّه محالٌ، فلعمنا أنَّ تلك الإعاذة التي طلبها يوسف من الله تعالى لا معنى لها إلا أن يخلق فيه داعية جازمة في جانب الطاعة، وأن ينزل عن قلبه داعية المعصية، وهو المطلوبُ. ويدلُّ على ذلك: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقع بصره على زينب قال:» يا مُقلِّبَ القُلوبِ ثَبِّتْ قَلبِي على دِينِك «وكان المراد منه تقوية داعية الطَّاعة، وإزالة داعية المعصية، فكذا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 59 وكذلك قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» قَلْبُ المُؤمنِ بَيْنَ أصْبُعيْنِ من أصَابع الرَّحْمنِ «قال: والمراد من الأصعبين: داعية الفعل وداعية التَّركِ، وهَاتَانِ الدَّاعيتانِ لاَ يَحْصُلانِ إلا بِخلْقِ الله تعالى وإلا لافْتقرَتْ إلى داعيةٍ أخرى، ولزم التَّسلسلُ؛ فثبت أن قول يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» مَعَاذَ اللهِ «من أدل الدَّلائلِ على صحَّة القول بالقضاءِ، والقدرِ. قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [الآية: 24] جواب» لولاَ ما تقدَّم عليها، وقوله: «وهَمَّ بِهَا» عند من يجيز تقديم جواب أدوات الشرط عليها، وإما محذوف لدلالة هذا عليه عند من لا يرى ذلك، وقد تقدَّم تقريرُ المذهبين مراراً، كقولهم: «أنْتَ ظَالمٌ إنْ فَعلْتَ» ، أي: فعلت، فأنت ظالزٌ، ولا تقول: إن «أنت ظَالمٌ» هو الجوابُ، بل دلَّ عليه دليلٌ، وعلى هذا فالوقف عند قوله: «بُرْهَانَ ربِّه» والمعنى: لولا رُؤيته برهان ربه لهمَّ بها، لكنه امتنع همَّهُ بها لوجودِ رُؤية برهانِ ربِّه، فلم يحصل منه همِّ ألبتَّة، كقولك: لولا زيدٌ لأكرمتك، فالمعنى: إنَّ الإكرام ممتنعٌ لوجود زيد، وبهذا يتخلَّص من الإشكال الذي يورد، وهو: كيف يليقُ بنبي أن يهم بامرأة. قال الزمخشري: «فإن قلت: قوله» وهمَّ بِهَا «داخل تحت القسم في قوله:» وَلقَدْ هَمَّتْ بِهِ «أم خارج عنه؟ . قلت: الأمران جائزان، ومن حقِّ القارىء إذا قصد خروجه من حكم القسم، وجعله كلاماً برأسه أن يقف على قوله:» ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ «يبتدىء قوله: {وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ، وفيه أيضاً إشعارٌ بالفرقِ بين الهمَّينِ. فإن قلت: لِمَ جعلت جواب» لَوْلاَ «محذوفاً يدلٌّ عليه:» هَمَّ بِهَا «، وهلاَّ جعلته هو الجواب مقدماً؟ . قلت: لأن» لوْلاً «لا يتقدم عليها جو ابها من قبل أنَّه في حكم الشرطِ، وللشَّرطِ صدر الكلام، وهو وما في حيِّزهِ مم الجملتين، مثل كلمة واحدة، ولا يجوزُ تقديمُ بعض الكلمة على بعضٍ، وأما حذف بعضها إذا دلَّ عليه دليلٌ؛ فهو جاءزٌ» . فقوله: «وأما حذف بعضها ... . إلخ» جواب عن سؤال مقدرٍ، وهو أنَّهُ إذا كان جواب الشَّرط مع الجملتين بمنزلة كلمةٍ؛ فينبغي أن لا يحذف منهما شيء؛ لأنَّ الكلمة لا يحذفُ منها شيء. فأجاب بأنَّهُ يجوز إذا دلَّ دليل على ذلك، وهو كما قال، ثم قال: فإن قلتَ لمَ جعلتَ «لَوْلاَ» متعلقة ب «هَمَّ بِهَا» وحدة، ولم تجعلها متعلقة بجلمة وقله: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} ؛ لأن الهمَّ لا يتعلق بالجواهر، ولكن بالمعاني، ولا بد من تقدير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 60 المخالطةِ، والمخالطة لا تكون إلا من اثنين معاً، فكأنه قيل: همَّا بالمخالطة لولا أن منع مانعٌ أحدهما؟ قلتُ: نعم ما قلت: ولكن الله سبحانه وتعالى قد جاء بالهمين على سبيل التفضيل حيث قال: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} اه. والزجاج لم يرتض هذه المقالة، أي: كون قوله: «لَوْلاَ» متعلقة ب «هَمَّ بِهَا» فإنه قال: ولو كان الكلام «لَهمَّ بِهَا» لكان بعيداً، فيكف مع سُقوطِ الكلام؟ [يعني] الزجاج أنه: لا جائز أن يكون «هَمَّ بِهَا» جواباً ل: «لَوْلاَ» ؛ لأنه لو كان جوابها لاقترن باللاَّمِ؛ لأنه مُثبتٌ، وعلى تقدير أنَّهُ كان مقترناً باللاَّم كان يبعد من جهة أخرى، وهي تقديمُ الجواب عليها. وجواب ما قاله الزجاجُ: ما تقدم عن الزمخشري من أن الجواب محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم. وأما قوله: [ولو كان] الكلام: «ولهمَّ بِهَا» فغيرُ لازم؛ لأنَّه متى كان جواب «لَوْ» ، و «لَوْلاَ» مثبتاً جاز فيه الأمران: اللام وعدمها، وإن كان الإتيانُ اللاَّم هو الأكثر. وتابع ابنُ عطيَّة في هذا المعنى فقال: «قول من قال: إنَّ الكلام قد تمَّ في قوله:» ولقَدْ هَمَّتْ بِهِ «، وأن جواب» لَوْلاَ «في قوله:» وهَمَّ بَهَا «؛ وأنَّ المعنى: لولا أن رأى البرهان لهم بها، فلم يهمَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال: وهذا قولٌ يردُّه لسان العرب، وأقوال السَّلف» . فقوله: «يردُّه لسانُ العرب» فليس كذلك؛ لأنَّ وزن هذه الآية قوله: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولاا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا} [القصص: 10] فقوله: {إِن كَادَتْ} أمَّا أن تكون جواباً عند من يرى ذلك، وإمَّا أن يكون دالاً على الجواب، وليس فيه خروجٌ عن كلامِ العربِ، هذا ما ردَّ عليه أبو حيَّان. وكأن ابن عطيَّة إنما يعني بالخروج عن لسان العرب تجرد الجواب من اللاَّم على تقدير جواز تقديمه، والغرض أن اللاَّم لم توجد. فصل الهمُّ هو المقاربةٌ من الفعل من غير دخولٍ فيه، فهَمُّهَا: عزمُها على المعصية، وأما همُّه: فرُوِيَ عن أبن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنه حلَّ الهميان، وجلس منها مجلسَ الخاتنِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 61 وعن مجاهد رَحِمَهُ اللَّهُ أنَّه حلّ سراويله، وجعل يعالجُ ثيابه، وهذا قولُ سعيد بن جبير، والحسن، وأكثر المتقدمين رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. وقيل غير ذلك. وقال أكثرُ المتأخِّرين: إنَّ هذا لا يليقُ بحال الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وقالوا: تم الكلام عند قوله: «ولقد همَّتْ بِهِ» ، ابتدأ الخبر عن يوسف فقال: {وَهَمَّ بِهَا لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} على التَّقديمِ، والتأخير، أي: لولا أنه رأى برهان ربِّه لهم بها، لكنه رأى البُرهان، فلم يهمّ. قال البغويُّ: «وأنكره النُّحاة، وقالوا: إنَّ العربَ لا تُؤخِّرُ» لَوْلاَ «عن الفعلِ فلا يقولون: قُمْتُ لولا زيدٌ، وهي تريدُ: لولا زيدٌ لقُمْتُ» . وذكر ابنُ الخطيبِ: عن الواحديِّ أنه قال في البسيطِ: «قال المفسِّرُون: هم يوسف أيضاً بالمرأة همَّا صحيحاً، وجلس منها مجلس الرجُل من المرأةِ فلمَّا رأى البُرهانَ من ربه؛ زالت كلُّ شهوة عنه. قال أبُو جعفرٍ الباقرُ بإسناده عن عليِّ كرَّم الله وجهه أنه قال: طمعت فيه، وطمع فيها «. ثمَّ إنَّ الواحديَّ طول في كلمات عاريةٍ عن الفائدة في هذا الباب، ولم يذكر فيما احتج به حديثاً صحيحاً يعوَّل عليه في هذه المقالة، ورُويَ أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا قال: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} [يوسف: 52] قال له جبريل عليه السلام: ولا جين هممت يَا يوسف فقال عند ذلك:» ومَا أبرِّىءُ نَفْسِي «. وقال بعضُ العلماءِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: الهمُّ همَّان: همٌّ يخطرُ بالبالِ من غير أن يبرز إلى الفعل. وهمٌّ يخطرُ بالبالِ، ويبرز إلى الفعل، فالأوَّلُ مغفورٌ، والثاني: غير مغفورٍ إلا أنْ يشاءَ اللهُ، ويشهدُ لذلك قوله تعالى: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} ، فهمُّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان خُطُراً بالبال من غير أن يخرج إلى الفعلِ، وهمُّها خرج إلى الفعل بدليل أنَّها {وَغَلَّقَتِ الأبواب وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} [يوسف: 23] ، {وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ} [يوسف: 25] . ويشهد للثاني قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» إذَا التَقَى المُسْلمَانِ بسيفَيْهِمَا فالقَاتِلُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 62 والمقْتولُ في النَّار، فَقيلَ يا رسُول اللهِ هَذا القَاتِلُ فمَا بَالُ المَقْتُولِ؟ قال: لأنَّه كَانَ حَرِيصاً عَلَى قَتْلِ صَاحِبهِ «. قال ابن الخطيب: وقال المُحققُونَ من المُفسِّرين، والمتكلِّمين: إنَّ يُوسفَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت كان بَرِيئاً من العملِ البَاطلِ، والهَمّ المُحرَّم، وبه نقولُ، وعنه نذبُّ، والدلائل الدَّالةُ على وُجوبِ عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مذكورة مقرّرة ونزيد هاهنا وجوههاً: الأول: أن الزِّنا من منكرات الكبائرِ، الخيانةٌ في معرض الأمانةِ أيضاً من منكرات الذُّنوبِ وأيضاً: الصبيُّ إذا تربَّى في حجر الإنسان، وبقي مكفيَّ المؤنةِ، مصون العرضِ من أوَّلِ صباهُ إل زمان شبابه، وكما قوَّته، فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم المفضل من منكرات الأعمال، وإذا ثبت هذا فنقول: إن هذه المعصية إذا نسبوها إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كانت موصوفة بجميع الجهالات، ومثلُ هذه المعصية إذا نسيت إلى أفسقِ خلقِ الله، وأبعدهم من كلِّ حسنٍ، لا ستنكف منه، فكيف يجوز إسنادهُ إلى الرَّسولِ المُؤيّد بالمعجزات الباهرة مع قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء} وأيضاً فلا يليق بحكمة الله تعالى وذلك يدلُّ على أنَّ ما هيَّة السُّوء، ما هية الفحشاء مصروفةٌ عنه، والمعصية التي نسوها إليه أعظم أنواع السوء، والفحشاء، وأيضاً فلا يليق بحمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية، ثم يمدحه، ويثني عليه بأعظم المدائح والأثنية عقيب ما حكى عنه ذلك الذَّنب العظيم، فإنَّ مثاله ما إذا حكى السطان عن بعض عبيده أقبح الذنوب، وأفحش الأعمال، ثم يذكره بالمدح العظيم، والثناءِ البالغ عقيبه، فإنَّ ذلك متسنكرٌ جدًّا، فكذا هاهنا. وأيضاًَ: فإن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام متى صدرت عنهم زلةٌ، أو هفوةٌ؛ استعظموا ذلك، وأتبعوه بإظهار النَّدامةِ، والتوبة، والتَّواضع، ولو كان يوسف أقدم ههنا على هذه الكبيرة المنكرة، لكان من المحال أن لا يتبعها بالتَّوبةِ، والاستغفار، ولو أتى بالتَّوبةِ لحكى الله ذلك عنه كما في سائر المواضع، وحيثُ لم يقع شيءٌ من ذلك علمنا أنه ما صدر عنه في هذه الواقعة ذنب، ولا معصية. وأيضاً: فكلُّ من كان له تعلق بهذه الواقعة، فقد شهد ببراءة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عن المعصية، والذين لهم تعلق بهذه الواقعة: يوسف والمرأة وزوجها، والنسوة الشهود، ورب العالم، وإبليس. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 63 فأمَّا يوسف صلوات الله وسلامه عليه فأدَّعى أنَّ الذنب للمرأة وقال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} [يوسف: 26] و {قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} [يوسف: 33] وأما المرأة، فاعترفت بذلك، وقالت للنسوة: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ} [يوسف: 32] وقالت: {الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} [يوسف: 51] وأمَّا زوج المرأة فقوله: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفري لِذَنبِكِ} [يوسف: 28 29] . وأمَّا الشهود فقوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ} [يوسف: 26] . وأمَّا شهادة الله تعالى: فقوله: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} [يوسف: 24] فقد شهد الله تعالى في هذه الآية على طهارته أربع مرات. أولها: قوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء} . وثانيها: قوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء} . والثالث: قوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا} مع أنه تعالى قال: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا} [الفرقان: 63] . والرابع: قوله: «المُخْلصِينَ» ، وفيه قراءتا، تارة باسم الفاعل، وأخرى بسام المفعول وهذا يدلُّ على أنَّ الله تعالى استخلصه لنفسه، وأصطفاه لحضرته، وعلى كل [وجه] فإنَّه أدلُّ الألفاظ على كونه منزهاً عمَّا أضافوه إليه. وأما إقرار إبليس بطهارته فقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص: 8283] فهذا إقرارٌ من إبليس بأنه ما أغواهُ، وما أضله عن طريف الهدى، فثبت بهذه الدَّلائل أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بريءٌ عمَّا يقوله هؤلاء. وإذا عرفت هذا فنقول: الكلام على ظاهر هذه الآية [يقع] في مقامين: المقام الأول: أن نقول: إنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما همَّ بها، لوقله تعالى: {لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ، وجواب «لَوْلاَ» ههنا مقدمٌ، وهو كما يقالُ: قد كنت من الهَالكينَ لولا أنَّ فلاناً خلصك، وطعن الزَّجاجُ في هذا الجواب من وجهين: الأول: أن تقديم جواب «لَوْلاَ: شاذٌّ، وغير موجود في الكلامِ الفصيحِ. الثاني: [أنَّ] «لَوْلاَ» يجابُ جوابها باللاَّمِ، فلو كان الأمرُ على ما ذكرتم لقال: ولقد همَّت به، ولهم بها لوْلاَ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 64 وذكر غير الزجاج سؤالاً ثالثاً، وهو: أنَّهُ لو لم يوجد الهمُّ لما كان لقوله: {لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فائدة. واعلم أنَّ ما ذكَرهُ الزجاجُ بعيدٌ؛ لأنَّا [لا] نُسلِّم أنَّ تأخير جواب «لَوْلاَ» حسنٌ جائزٌ، إلا أنَّ جوازه لا يمنعُ من جواز تقديم هذا الجواب، فكيف وقد نُقل عن سيبويه أنَّه قال: «إنَّهم يُقدِّمون الأهمَّ فالأهَمَّ» ، والذي همَّ بشأنه أعنى؛ فكان الأمر في جواز التقديم، والتَّأخير مربوطاًً ذكرُ بشدَّة الاهتمام، فأمَّا تعينُ بعض الألفافظِ بالمنع، فذلك ممَّا لا يلييقٌ بالحكمةِ، وأيضاً ذكر جوابِ «لَوْلاَ» باللاَّم جائزٌ، وذلك يدلُّ على أنَّ ذكره بغير اللاَّم لا يجوزُ، وممَّا يدل على فسادِ قول الزجاجِ قوله تعالى: {إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا} [القصص: 10] . وأما قوله: لو لم يوجد الهم لم يبق لقوله: {لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فائدة. فنقولُ: بل فيه أعظم الفوائدِ: وهو بيان أنَّ ترك الهمَّ بها ما كان لعدم رغبته في النسِّاءِ، ولا لعدمِ قدرته عليهنَّ؛ بل لأجلِ أنَّ دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، ثم نقول: الذي يدلُّ على أنَّ جواب: «لَوْلاَ» ما ذكرناه أن «لَوْلاَ» تستدعي جواباً، وهذا المذكور يصلح جواباً له؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال: أنَّ نضمر له جواباً، وهذا المذكور يصلح جواباً له؛ فوجب الحكم بكونه جواباً له لا يقال: إنَّا نضمر له جواباً، وتركُ الجواب ذكر في القرآن، فنقول: لا نزاع أنه ذكر في القرآن، إلا أنَّ الأصل ألاّ يكون محذوفاً. وأيضاً: فالجواب إنَّما يحسن تركه، وحذفه، إذا حصل في الملفوظ ما يدلُّ على تعيينه، وههنا بعيد أن يكون الجواب محذوفاً؛ لأنَّه ليس في اللفظِ ما يدلُّ على تعيين ذلك الجواب، فإن ههنا أنواعاً من الإضمارات، يحسن إضمار كل واحد منها، وليس إظمار بعضها أولى من إضمار البعض الباقي فظهر الفرقُ. المقام الثاني: سلمنا أنَّ الهمّ قد حصل إلاَّ أنّا نقول: إن قوله: «وهمَّ بِهَا» لا يمكنُ حمله على ظاهره؛ لأنَّ تعليق الهمّ بذات المرأة مُحالٌ؛ لأنَّ الهمّ من جنس القصد، والقصدُ لا يتعلق بالذَّوات؛ فثبت أنَّهُ لا بد من إضمار فعلٍ محذوف يجعل متعلق ذلك الفعل غير مذكور، فهم زعموا أنَّ ذلك الفعل المضمر هو إيقاع الفاحشة بها، ونحن نضمر شيئاً آخر يغاير ما ذكروه وهو من وجوه: الاول: المراد أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ همَّ بدفعها عن نفسه، ومنعها من ذلك القبيح؛ لأنَّ الهمَّ هو القصدُ، وفجب أن يحمل في حق كُلِّ واحدٍ على القصدِ الذي يليقُ به، فالأليقُ بالمرأة القصد إلى تحصيل اللَّذة، والتَّمتُّع، وأليق بالرسُولِ المعبوث غلى الخلقِ القصد إلى زَجْرِ العاصي عن معصيته، وإلى الأمرِ بالمعروف والنهي عن المنكر، يقال: هَمَمْتُ بفلان، أي: قصدته ودفعته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 65 فإن قيل: فعلى هذا التدقير لا يبقى لقوله: {لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} فائدة قلنا: بل فيه أعظمُ الفوائد، وبيانه من وجهين: الأول: أنه تعالى أعلم يوسف أنه لو همَّ بدفعها لقتلته، أو لكانت تأمر الحاضرين بقتله، فأعلمه الله تعالى أنَّ الامتناع من ضربها أولى، لصون النَّفس عن الهلاك. الثاني: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لو اشتغل بدفعها عن نفسه، فرُبَّما تعلقت به، فكان يتخرق ثوبه من قُدَّام، وكان في علم الله أنَّ الشَّاهد سيشهد أن ثوبه لو خرق من قدام، لكان يوسف هو الخائنُ، ولو كان ثوبه مخرَّقاً من خلفه لكانت المرأة هي الخائنة، والله تعالى أعلمه بهذا المعنى، فلا جرم لم يشتغل بدفعها عن نفسه، بل ولَّى هارباً منها حتى صارت شهادةُ الشَّاهد حجَّة له على براءته عن المعصية. الوجه الثاني في الجواب: أن يفسر الهَمُّ بالشَّهوةِ، وهذا مستعملٌ في اللغة الشَّائعة، يقولُ القائلُ فيما لا يشتهيه: لا يهمُّنِي هذا، وفيما يشتهيه: هذا أحبُّ الأشياءِ إليّ، فسمَّى الله شهوة يوسف همًّا. والمعنى: لقد اشتهته، واشتهاها لولا أن رأى برهان ربِّه لدخل ذلك العملُ في الوجود. الثالث: أن يفسر الهمُّ بحديث النَّفس؛ وذلك لأنَّ المرأة الفائقة في الحسن والجمال، إذا تزينت، ونهيّأت للرَّجل الشَّاب القوي، فلا بد أن يقع هناك بين الشهوة والحكمة، وبين النفس، والعقل محادثات، ومنازعات، فتارة تقوى داعيةُ الطبيعة والشهوة، وتارة تقوى داعية العقل والحكمة، والهمُّ عبارة عن محادثات الطبيعة ورؤية البرها عبارة عن جواذب العبودية، ومثاله: أنَّ الرَّجل الصَّالح الصَّائم ف يالصيف الصَّائف، إذا رأى الجلاب المبرِّد بالثَّلج، فإن طبيعته تحمله على شربه إلا أنَّ دينه يمنعه منه، فهذا لا يدلُّ على حصول الذنب، بل كلما كانت هذه الحالة أشد كانت القوة في القيام بلوازم العبوديَّة أكمل، فظهر بحمد الله صحَّة القول الذي ذهبنا إليه، ولم يبق في يد الواحدي إلا مجرَّد التَّصلف، وتعديد أسماءِ المفسرين، ولو ذكر في تقرير ذلك القول شهبة لأجبنا عنها إلا أنَّه ما زاد عن الرواية عن بعض المفسِّرين. واعلم أنَّ بعض الحشويَّة روى عن النبي المختار صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما كّذبَ إبْراهِيمُ إلاَّ ثلاثَ كَذبَاتٍ» فقلت: الأولى ألاَّ تقبل مثل هذه الأخبار فقال على [طريق] الاستنكار: إن لم نقبله لزمنا تكذيبُ الرُّواةِ، فقلت له: يا مسكينُ إن قبلناه لزمنا الحكم بتكذيب إبراهيم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 66 صلوات الله وسلامه عليه وإن رددناه لزمنا الحكم بتكذيب الرواة، ولا شك أن صون إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عن الكذب أولى من صون طائفةٍ من المجاهيل عن الكذب. إذا عرفت هذا الأصل، فنقولُ للواحدي: ومن الذي يضمنُ لنا أنَّ الذين نقولا هذه القول عن هؤلاء المفسرين كانوا صادقين، أو كاذبين. والله أعلم. فصل اختلوفوا في البرهان ما هو؟ . فقال المحققون المثبتون للعصمة: رُؤيةُ البُرهانِ على وجوهٍ: الاول: أنه حجَّة الله تعالى في تحريم الزِّنا، والعلمُ بما على الزَّاني من العذاب. الثاني: أن الله تعالى طهَّر نفوس الأنبياء عن الأخلاق الذَّميمة، بل نقول: إنه تعالى، طهر نفوس المتصلين بهم عنها، كما قال تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] والمراد برؤية البرهان: هو حصولُ ذلك الإخلاص، وترك الأحوال الدَّاعية به إلى الإقدام على المنكرِات. الثالث: أنه رأى مكتوباً في سقف البيت: {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} [الإسراء: 32] . الرابع: أنًَّهُ النبوة المانعةُ من ارتكاب الفواحشِ، ويدلُّ عليه أنَّ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بعثوا لمنع الخلقِ من القبائح، فلو أنَّهم منعوا النَّاس عنها، ثم أقدموا على أقبح أنواعها لدخلوا تحت قوله {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2] وايضاً: فإن الله تعالى عيَّر اليهود بقوله {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] ما كان عيباً في حق اليهود، كيف ينسب إلى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ المؤيد بالمعجزات. وأمَّا الذين نسبوا المعصية إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فذكروا في ذلك البرهان وجوهاً: الأول: أنَّ المرأة قامت إلى صنم مكلَّلٍ بالدُّرِّ، والياقوت في زاوية البيت، فسترته بثوبٍ، فقال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، [ولم؟ قالت: أستحي من إلهي أن يراني على المعصية، فقال يوسف:] أتستحين من صنم لايسمعُ، ولا يبصرُ ولا أستحي من إلهي القائمِ على كلِّ نفس بما كسبت، فوالله لا أفعلُ ذلك أبداً، قال هذا هو البُرهَانُ. الثاني: نقلُوا عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّهُ تمثَّل له يعقوب، فرآه عاضًّا على أصبعه يقول له: لا تعمل عمل الفُجَّار، وأنت مكتوبٌ في زمرة الأنبياء عليهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 67 الصلاة والسلام فاستحى منه. قالوا: وهو قول عكرمة، ومجاهدٍ، الحسن، وسعيد بن جبير. وروى سعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما تمثَّل له يعقوب، فضرب في صدره فخرجت شهوته من أنامله. الثالث: قالوا: إنَّه سمع في الهواء قائلاً: يا بْنَ يعقوب، لا تكن كالطَّير له ريش، فإذا زنا ذهب ريشه. الرابع: نقلوا عن ابن عباس أن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم ينزجر بكلامِ يعقوب حتى ركضه جبريلُ، فلم يبقَ به شيءٌ من الشَّهوة إلا خرج. قال ابنُ الخطيب: «ولما ذكر الواحديُّ هذه الروايات تصلف وقال: هذا الذي ذكرنا قول أئمَّة التَّفسير الذين أخذوا التَّأويل عمن شاهدوا التنزيل فيقال له: إنَّك لا تأتينا ألبتة إلا بهذه التصلفات التي لا فائدة فيها، فأين هذا من الحجة والدليل الذي ذكرناه، وأيضاً: فإن ترادف الدلائل على الشَّيء الواحد جائزٌ وإنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان ممتنعاً من الزِّنا بحسب الدَّلائل الأصلية، فلما انضاف إليها هذه الزَّواجِر ازدادت قوةً. وأيضاً: روي أن جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ امتنع من دخول حجرة النبي المختار صلوات الله وسلامه عليه بسبب وقع هناك بغير علمه؛ قالوا: فامتنع جبريل عليه السلام من الدخول [عليه] أربعين يوماً، وههنا زعموا أنَّ يوسف حين اشتغاله بالفاحشة ذهب إليه جبريل، والعجب أيضاً أنَّهم زعموا أنه لم يمتنع عن ذلك العمل بسبب حضور جبريل عليه السلام، ولو أنَّ أفسق الخلق، وأكفرهم كان مشتغلاً بفاحشة، فإذا دخل عليه رجلٌ في زِيّ الصَّالحين استحى منه؛ وترك [ذلك] العمل وهاهنا يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عضّ على أنامله، فلم يلتفت، ثمَّ إنَّ جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على جلالة قدره دخل عليه، فلم يمتنع أيضاً عن ذلك القبيح بدخوله حتى احتاج جبريل إلى أن ركضه على ظهره «. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 68 فنسأل الله أن يصوننا عن الغي في الدين، الخذلان في طلب اليقين. فصل والفرق بين السوء، والفحشاء من وجهين: الأول: أنَّ السوء: جناية اليد، والفحشاء: الزِّنا. الثاني: السُّوء: مقدمات الفاحشة من القُبلةِ، والنَّظر بالشَّهوة. والفحشاءُ: هو الزنا. قوله:» وكَذلِكَ «في هذه الكاف أوجه: أحدها: أنَّها في محل نصبٍ، وقدَّره الزمشخريُّ مثل ذلك التَّثبيتِ ثبَّتناه. وقدَّرهُ الحرفيُّ أريناه البراهين بذلك، وقدَّره ابنُ عطيَّة: جرت أفعالنا، وأقدارنا كذلك، وقدره أبو البقاء: نراعيه كذلك. الثاني: أن الكاف في محل رفع، فقدَّره الزمخشريًّ، وأبو البقاء: الأمر مثل ذلك، وقدَّره أبنُ عيطةك عصمته كذلك. وقال الحوفيُّ: أمر البراهين بذلك ثمَّ قال: والنصب أجودُ لمطالبة حروف الجرّ للأفعال أو معانيها. الثالث: أنَّ في الكلام تقديماً، وتأخيراً، وتقديره: همَّت به، وهمَّ بها كذلك ثم قال: لولا أن رأى برهان ربه، كذلك لنصرف عنه ما هم بها هذا نص ابن عطيَّة. وليس بشيءٍ؛ إذْ مع تسليم جوازِ التَّقديم، والتَّأخير لا معنى لما ذكره. قال أبو حيَّان: وأقولُ: إنَّ التقديرك مثل تِلْك الرُّؤية، أو مثل ذلك الرَّأي نري براهيننا، لنصرف عنه، فتجعل الإشارة إلى الرَّأي، أو الرُّؤيةِ، والنَّاصب الكاف مما دل عليه قوله: {لولاا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} ، و» لِنَْرفَ «متعلق بذلك الفعل النَّاصب للكاف، ومصدر» رَأى «» رُؤيةٌ ورأيٌ «؛ قال: [الرجز] 3067 - ورَأيُ عَيْنَيَّ الفَتَى أبَاكَا ... [يُعْطِي الجَزيلَ فعَليْكَ ذَاكَا] وقرأ الاعمش «ليَصْرِفَ» بياء الغيبةِ، والفاعل هو الله سبحانه وتعالى، قوله تعالى: {المخلصين} قرأ هذه اللفظة [حيث وردت] إذا كانت معرفة بأل مكسورة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 69 اللام: ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر أي: الذين أخلصوا دينهم لله على اسم الفاعلِ، والمفعول محذوفٌ، والباقون بفتحها على أنَّه اسم مفعولٍ من أخصلهم الله، أي: اجتباهم، واختارهم، وأخلصهم من كلِّ سوءٍ، ويحتمل أن يكون لكونه من ذرية إبراهيم قال فيهم: {إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار} [ص: 46] . وقرأ الكوفيُّون في مريم {إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً} [مريم: 51] بفتحِ اللاَّم بالمعنى المقتدِمِ والباقون بكسرها بالمعنى المتقدم. قوله تعالى: {واستبقا الباب} [الآية: 25] «البَابَ» منصوبٌ إمَّا على إسقاطِ الخافض اتّساعاً، إذ أصلُ «اسْتبَقَ» أن يتعدَّى ب «إلى» ، وإما على تضمين «اسْتَبقَ» معنى ابتدر، فينصب مفعولاً به. قوله تعالى: {وَقَدَّتْ} يحتمل أن تكون الجملة نسقاً على «اسْتبقَا» أي: استبق، وقدت، ويحتمل أن يكون في محل نصب على الحال، أي: وقد قدَّت. والقدّ: الشَّقُّ مطلقاً، قال بعضهم: القدُّ: فيما كان يشقُّ طولاً القطُّ: فيما كان يشقُّ عَرْضاً. قال ابن عطية «وقرأت فرقة: وقَطّ» قال أبو الفضل بنُ حربٍ: رأيت في مصحب «وقطَّ مِنْ دبُرٍ» أي: شقَّ. قال يعقوب: القطُّ في الجلدِ الصحيح، والثوب الصحيح؛ وقال الشاعر: [الطويل] 3077 - تَقُدُّ السَّلُوقيَّ المُضاعفَ نَسْجهُ ... وتُوقِدُ بالصفَّاحِ نَارَ الحُباحِبِ فصل قال العلماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وهذا الكلامْ من اختصار القرآن المعجز الذي يجتمع فيه المعاني، وذلك أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما رأى برهان ربِّه، خرج حينئذ هارباً، وتبعته المرأة فتعلقت بقميصه من خلفه، فجذبته إليها حتى لا يخرج «وقدَّتْ قَميصَهُ» [أي] : فشققته المرأة من دبر. والاستباقُ: طلبُ السَّبْق، أي: يجتهدُ كلُّ واحدٍ منهما أن يسبق صاحبهُ فإن سبق يوسف فتح الباب، وخرج، وإن سبقت المرأةُ أمسكتِ الباب لئلا يخرج فسبقها يوسف عليه السلام إلى الباب، والمرأة تعدو خلفه، فلم تصلْ إلا إلى دبر القميص، فتعلقت به فقدته من خلفه، فلمَّا خرجا «ألْفَيَا» ، أي: وجدا «سيِّدهَا» ، وإنما لم يقل سيدهما؛ لأنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 70 يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لم يكن مملوكاً لذلك الرجل حقيقة «لَدى البابِ» أي: عند البابِ، والمرأة تقول لبعلها: سيِّدي. فإن قيل: فالمرأةُ أيضاً ليست مملوكة لبعلها حقيقة. فالجواب: أن الزَّوج لما ملك الانتفاع بالمرا’ من الوطء والخلوةِ، والمباشرةِ، والسفر بها من غير اختيارها أشبهت المملوكة، فلذلك حسن إطلاقُ السيِّد عليه. قال القرطبيُّ: «والقبط يسمون الزوج سيداً، ويقال: ألفاه، وصادفهُ، وواله ووَالطَه، ولاطَهُ، وكلٌّ بمعنى واحدٍ» . فعند ذلك، خافتِ المرأةُ من التُّهمِ، فبادرت إلى أن رمتْ يوسف عليه السلام بالعفلِ القبيح، {وقالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} يعنى الزِّنا، ثم خافت عليه أن يقتل فقالت: {إلاَّ أن يُسجنَ} ، أي: يحبس، {أوْ عذابٌ أليمٌ} أي: يُعَاقبُ بالضَّربِ. قوله: «مَا جزاءُ» يجوز في «مَا» هذه أن تكون نافية، وأن تكون استفهاميَّة، و «مَنْ» يجوز أن تكون موصولة، أو نكرة موصوفة. قوله: «إلاَّ أن يُسْجنَ» خبر المبتدأ، ولما كان «أن يُسْجنَ» في قوَّة المصدر عطف عليه المصدر، وهو قوله: «أو عذابٌ» . و «أوْ» تحتملُ معانيها، وأظهرها التنويع. وقرأ زيد بن علي: (أو عذاباً أليماً] بالنصب، وخرَّجه الكسائي على إضمار فعل، أو أن يعذَّب عذباً أليماً. قوله: «هِيَ» ولم يقل هذه، ولا تلك، لفرط استحايئه «وهو أدبٌ حسنٌ حيث أتى بلفظ الغيبة دون الحضور. فصل قال ابن اخلطيب: في الآية لطائف: إحداها: أن حُبَّها الشَّديد ليوسف، حملها على رعايةِ دقيقتين في هذا الموضع، وذلك لأنهَّا بدأت بذكر السِّجن، وأخرت ذكر العذاب؛ لأنَّ المحبَّة لا تسعى في إيلام المحبوب، وأيضاً: لم تقل إنَّ يوسف يجب أن يقابل بهذين الأمرين، بل ذكرت ذلك ذكراً كليًّا صوناً للمحبوب عن الذِّكر بالشر وأيضاً قالت:» إلاَّ أنْ يُسْجنَ «والمرادُ أن يسجن يوماً، أو يومين، أو أقل على سبيل التخفيف، فأمَّا الحبسُ الدَّائمُ فإنَّه لا يعبِّر عنه بهذه العبارة، بل يقال: يجبُ أن يجعل من المسجونين، كما قال فرعون لموسى عَلَيْهِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 71 الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين هدَّدُ {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} [الشعراء: 29] وأيضاً: لما شاهدت من يوسف أنه استعصم، مع أنه كان في عنفوان العمر، وكمال القوة، ونهاية الشهوة، وعظم اعتقادها في طهارته، ونزاهته، فاستحيتْ أن تقول: إنَّ يوسف قصدني بالسُّوءِ، ولم تجد من نفسها أن ترميهُ بالكذبِ، وهؤلاء نسبُوا إليه هذا الذَّنب القبيحَ. وأيضاً: يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أراد أن يضربها، ويدفعها عن نفسه [وكان] ذلك بالنسبة إليها جارياً مجرى السُّوء، فقولها {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} له ظاهر وباطن، باطنه أنَّها التي أرادت السُّوء، وظاهره دفعه لها ومنعها، فأرادت بقولها: {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} فعل نفسها بقلبها، أو في ظاهر الأمر، أو همت أنه قصدني بما لا ينبغي، ولما لطَّخت عرض يوصف بهذا الكلام؛ احتاج يوسف إلى إزالة هذه التهمة فقال: {هي راودتني عن نفسي} واعلم أنَّ العلاماتِ الكثيرة دالةٌ على صدق يوسف: منها: أنَّ يوسف عليه السلام في ظاهر الأمر كان عبداً لهم، والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذه الحدّ. ومنها: أنَّهم شاهدوا يوسف هارباً ليخرج، والطالبُ للمرأة لا يخرج من الدَّار على هذا الوجه. ومنها: أنهم رأوا المرأة زينت نفسها على أكمل الوجوه، ويوسف لم يكن عليه أثر من آثار تزيين النَّفس. ومنها: أنَّهم كانوا شاهدوا أحوال يوسف في المُدَّة الطَّويلة، فما رأوا عليه حالة تناسب إقدامه على مثل هذا الفعل المنكر. ومنها: أنَّ المرأة ما نسبته إلى طلب الفاحشة على سبيل التصريح، بل ذكرت كلاماً مجملاً، وأما يوسف فإنَّه صرَّح بالأمر، ولو كان مطاوعاً لها، ما قدر على التَّصريح، فإنَّ الخائنَ خائفٌ. وكلُّ هذه الوجوه مما يقوِّي غلبة الظن ببراءة يوسف في هذه المسألة، ثم إنَّه تعالى أظهر ليوسف دليلاً يقوي تلك الدَّلائل على براءته من الذَّنب، وأن المرأة هي المذنبةن وهو قوله تعالى: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} فقوله: «مِنْ أهْلِهَا» صفة ل: «شَاهِدٌ» ، وهو المسوغ لمجيء الفاعل من لفظ الفعل، إذْ لا يجوزُ قام القائم، ولا: قعد القاعدُ، لعدم الفائدةِ. واختلفوا في ذلك الشَّاهد على ثلاثةِ أقوالٍ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 72 الأول: أنه كان ابن عمَّها، وكان رجلاً حكيماً، واتَّفق في ذلك الوقت أنَّهُ كان ممع زوجها، يريد أن يدخل عليها، وفقال الحكيمُ: {إنْ كَانَ قَميصهُ قُدَّ مِنْ قُبلِ} ، فأت صادقة، والرَّجلُ كاذبٌ، {وإنْ كانَ قَمِيصهُ قُدَّ مِنْ دُبرٍ} ، فالرَّجلُ صادقٌ، وأنت كاذبة فلما نظرُوا إلى القميصِ رأوا الشقَّ من خلفه، قال ابن عمِّها: {إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} [اي: من عَملكن] ثم قال ليوسف: «أعْرِضْ عَنْ هَذَا» أي اكتمهُ، وقال لها: {واستغفري لِذَنبِكِ} ، وهذا قولُ السدي، وطائفة من المفسرين. قال السُّهيلي: وهذا من باب الحكم بالأمارات، وله أصلٌ في الشَّرعِ، قال تعالى: {وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ} [يوسف: 18] حيثُ لا أثر لأنياب الذئب فيه، وقال تعالى: {إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ} وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الحدّ: «انْظرُوا فإنْ جَاءَتْ بِهِ أبْيضَ خَالياً فَهُو للَّذي رُمِيَتْ بِهِ» . قال السهيلي: كان عامر بن الظرف العدوانيُّ لا يكون بين العرب ثائر إلا تحاكموا إليه فيرضون بما يقضي به، فتحاكموا إليه في ميراث خنثى بات ليلة ساهراً يرى ماذا يحم به؟ فرأته جارية له ترعى، وكان اسمها سخيلة، فقالت له: ما لك، لا أبا لك اللَّيلة ساهِراً؛ فذكر لها ما هو مفكر فيه، وقال: لعلها يكون عندها في ذلك شيء، فقالت له: «اتْبَع القضاء المَبال» فقال: فرجتها والله يا سخيلة، وحكم بذلك القول. القول الثاني: منقولٌ عن ابن عبَّاسٍ، وسعيد بن جبيرٍ، والضحاك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أن ذلك الشَّاهد كان صبيًّا في المهد، أنطقه اللهُ. قال ابن عبًّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: تكلَّم في المهدِ ثلاثةُ صغارٍ: شاهدُ يوسف، وعيسى ابن مريم عليه السلام، وصاحبُ جريج الرَّاهب. قال الجبائيُّ: القول الأول أولى لوجوه: الأول: أنَّه سبحانه وتعالى لو أنطق الطفل بهذا الكلام، لكان مجرد قوله: «إنَّها كَاذبةٌ» كافياً، وبرهاناً قاطعاً؛ لأنَّه من المعجزات العجيبة الباهرة والاستدلال بتمزيق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 73 القميص من قُبُل ومن دُبُرٍ دليل ظنيّ ضعيف، والعدول عن الحجَّة الواضحة القاطعة حال حصولها إلى الدلالة الظَّنية لا يجوزُ. الثاني: أنه تبارك وتعالى قال: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ} يشيرُ بذلك إلى أنَّ شهادة الشَّاهد على قريبه، أولى بالقبولِ من شهادته له؛ لأن الظاهر من حال القريب أن يشهد لقريبه، لا أن يشهد عليه، وهذا التَّرجيحُ إنما يُصَارُ إليه إذا كانت دلالة الشَّهادة ظنية، وذلك إنَّما يكون في شهادة الرجل، ولو يكون هذا القول صادراً من الصَّبي الذي كان في المهد، لكان قوله حجَّة قاطعة، ولا يتفاوتُ الحال بين أن يكون من أهلها، وبين ألا يكون، وحينئذٍ لا يبقى لهذا القيد وجه. الثالث: أن لفظ الشَّاهد لا يقعُ في العرف، إلا على من تقدَّمت معرفته بالواقعة، وإحاطته بها. القول الثالث: أن هذا الشاهد هو القميص، قال مجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْه الشاهد: «قُدَّ قيمصه من دُبُر» ، وهذا في غاية الضعف؛ لأن القميص لا يوصف بهذا ولا ينسب إلى الأهل. واعلم أنَّ القول الأول عليه إشكال، وذلك أنَّ العلامة المذكورة لا تدلُّ قطعاً على براءة يوسف من المعصية؛ لأن من المحتملِ أنَّ الرجل قصد المرأة لطلب الزِّنا، والمرأة غضبت عليه، فهرب الرجل، فعدتِ المرأةُ خلف الرجل، وجذبته لقصد أن تضربه ضرباً وجيعاً، فعلى هذا الوجه يكون قدُّ القميص من دبرٍ، مع أنَّ المرأة تكون بريئة عن [الذنب] وأنَّ الرجل يكون مذنباً. جوابه: أنَّا بيَّنا أنَّ علامات كذب المرأة كانت كثيرة بالغة مبلغ اليقين، فضمّ إليها هذه العلامة الأخرى، لا لأجل أن يُعوِّلُوا في الحكم عليها، بل لأجل أن يكون ذلك جارياً مجرى المقدمات، والمرجّحات. قوله: «إنْ كَانَ ... » هذه الجملة الشرطية، إما معمولةٌ لقولٍ مضمر تقديره: «فقال» إن كان عند البصريين، وإمَّا معمولة «لِشَهدِ» ؛ لأنه بمعنى القول عند الكوفيين. قوله «مِنْ دُبرٍ. .» ، و «مِنْ قُبُلٍ ... » قرأ العامَّة جميع ذلك بضمتين، والجر والتنوين، بمعنى: من خلف، من قدام، أي: من خلف القميص، وقدامه وقرأ الحسن، وأبو عمرو في رواية بتسكين لعين تخفيفاً، وهي لغة الحجاز، وأسد، وقرأ ابن يعمر، وابن أبي إسحاق [والعطاردي والجارود بثلاث ضمات، وروي عن الجارود وابن أبي إسحاق وبن يعمر] أيضاً بسكون العين وبنائها على الضم ووجه ضمهما: أنَّهم جعلوهما ك «قَبلُ، وبعْدُ» في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 74 بنائهما على الضم عند قطعهما عن الإضافة، فجعلوهما غاية، ومعنى الغاية: أن يجعل المضاف غاية نفسه، بعد ما كان المضاف إليه غايته، والأصل إعرابهما؛ لأنَّهما اسمان متمكنان، وليسا بظرفين. قال أبو حاتم: وهذا رديءٌ في العربية، وإنما هذا البناء في الظروف. وقال الزمخشري: «والمعنى: من قبل القميص، ومن دُبرهِ، وأما التنكيرُ فمعناه: من جهةٍ يقال لها قبلٌ، ومن جهة يقال لها دبرٌ» وعن ابن أبي إسحاق: أنَّهُ قرأ «مِنْ قُبْلَ» ، و «مِنْ دُبْرَ» بالفتح كأنَّه جعلهما علمين للجهتين، فمنعهما الصرف للعملية، والتَّأنيث، وقد تقدم [البقرة: 235] الخلاف في «كان» الواقعة في حيز الشرط، هل تبقى على معناها من المضي، وإليه ذهب المبرِّدُ، أم تنقلب إلى الاستقبال كسائر الأفعالِ، وأنَّ المعنى على التَّبيينِ؟ . قوله: «فَكذَبَتْ» ، و «صَدقَتْ» على إضمار «قَدْ» ، لأنها تقرب الماضي من الحالِ، هذا إذا كان الماضي متصرِّفاص، فأما إذا كان جامداً، فلا يحتاجُ إلى «قَدْ» لا لفظاً، ولا تقديراً. قوله: {فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ} : أي: فلمَّا رأى زوجها قميصه قُدّ من دُبُرٍ؛ عرف خيانة امرأته، وبراءة يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال لها: «إنَّهُ» ، هذا الصَّنِيعُ، أو قولك {ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً} {مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ} وقيل: هذا من قول الشاهد. فإن قيل: إنه تعالى قال: {وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} [الإنسان: 28] فكيف وصف كيد المرأة بالعظيم، وأيضاً: فيكدُ الرِّجال قد يزيدُ على كيد النِّساءِ؟ . فالجواب عن الأوَّل: أن خلقة الإنسان بالنِّسبة إلى خلقة الملائكة، والسموات، والكواكب خلقة ضعيفة، وكيد النسوان بالنسبة إلى كيد البشر عظيمٌ؛ ولا منافاة بين القولين، وأيضاً: فالنِّساءُ لهُنَّ من هذا الباب من المكرِ، والحِيل، ما لا يكون للرجال؛ لأنَّ كيدهنَّ في هذا الباب، يورث من العار ما لا يورثه كيدُ الرَّجال. ولما ظهر للقوم براءةٌ يوسف عن ذلك الفعل قال زوجها ليوسف: «أعْرِضٍ عَنْ هَذَا» الحديث، فلا تذكرة لأحدٍ حتى لا ينتشر، ولا يحصلُ العارُ العظيم وقيل: إنَّهُ من قول الشَّاهد. ثم قال للمرأة [ «واستغفري لِذنبكِ» إي: إلى الله {إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين} وقيل هذا من قول الشاهد] «واسْتَغفِري» ، أي: اطلبي من زوجك المغفرة، والصَّفح؛ حتَّى لا يعاقبك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 75 قال أبو بكرٍ الأصمُّ: إنَّ ذلك الزوج كان قليل الغيرةِ، فاكتفى منها بالاستغفار وقيل: إنَّ الله تعالى عزَّ وجلَّ سلبه الغيرة لطفاً بيوسف، حتى كفى بادرته وحلم عنها. قال الزمخشري: «وإنما قال: {مِنَ الخاطئين} ؛ تغليباً للذكور على الإناث» ويحتملُ أن يقال: إنك من قبيل الخاطئين، فمن ذلك القبيل جرى ذلك العرفُ فيك. قال البغوي رَحِمَهُ اللَّهُ: تقديره: إنَّك من القوم الخاطئين، ولم يقصد به الخبر عن النِّساء؛ بل قصد الخبر عن كُلِّ من يعفعلُ ذلك؛ كقوله تعالى: {وَكَانَتْ مِنَ القانتين} [التحريم: 12] ، وبيانه قوله: {إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ} [النمل: 43] . قوله تعالى: «يُوسُفُ» ، منادى محذوفٌ منه حرفُ النداءِ. قال الزمشخريُّ: «لأنه منادى قريب مقاطن للحديث، وفيه تقريبٌ له، وتلطيفٌ بمحله» انتهى. وكُلُّ منادي يجوز حذف حرفُ النِّداء منه، إلا الجلالة المعظمة، واسم الجنس غالباً، والمستغاثَ، والمندوب، واسم الإشارة عند البصريين، وفي المضمر إذا نودِيَ. والجمهورُ على ضمِّ فاءِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ؛ لكونه مفرداً معرفةً، وقرأ الأعمش بفتحها، وقيل لم تثبت هذه القراءة عنه، وعلى تقدير ثبوتها، فقال أبو البقاء: فيها وجهان: أحدهما: أن يكون أخرجه على أصل المنادى؛ كما جاء في الشِّعر: [الخفيف] 3078 - ... ... ... ... ... ... ... يَا عَدِيًّا لقَدْ وقَتْكَ الأوَاقِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 76 يريد بأصلِ المنادى: أنه مفعولٌ به، فحقه النصب؛ كالبيت الذي أنشده، واتفق أن يوسف لا ينصرف، ففتحته فتحةُ إعرابٍ. والثاني، وجعله الأشبه: أن يكون وقف على الكلمة، ثم وصل، وأجرى الوصل مجرى الوقف؛ فألقى حركة الهمزة على الفاء، وحذفها؛ فصار اللفظ بها: «يُوسفَ أعْرض» ؛ وهذا كما حي: «اللهُ أكبرَ، أشْهَدَ ألاّ» ، بالوصلِ والفتح في الجلالةِ وفي «أكْبر» ، وفي أشْهد «؛ وذلك أنه قدَّر الوقف على كل كلمة من هذا الكلم، وألقى حركة الهمزة [من] كل من الكلمِ الثَّلاث، على السَّاكن قبله، وأجرى الوصل مجرى الوقف في ذلك. والذي حكوه الناسُ، إنَّما هو في» أكْبَر «خاصَّة؛ لأنَّها مظنة الوقف، وتقدم ذلك في سورة آل عمران [الآية: 1] . ورىء» يُوسفُ أعْرضَ «بضمِّ الفاءِ، و» أعْرضَ «فعلاً ماضياً، وتخريجها أن يكون» يُوسفُ «مبتدأ، و» أعْرضَ «جلمة من فعلٍ وفاعلٍ خبره. قال أبو البقاءِ:» وفيه ضعفٌ؛ لقوله: «واسْتَغْفرِي» ، وكان الأشبه أن يكون بالفاء: «فاسْتَغفِري» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 77 قوله تعالى: {وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة} الآية، النسوة فيها أقوالٌ: [أشهرها] : أنه جمعُ تكسير للقلَّة، على فعلة؛ كالصبية والغلمة، ونصَّ بعضهم على عدم أطَّرادها، وليس لها واحدٌ من لفظها. الثاني: أنها اسمٌ مفردٌ، لجمع المرأة قاله الزمخشريُّ. الثالث: أنَّها اسم جمعٍ؛ قاله أبو بكرٍ بنُ السَّراج رَحِمَهُ اللَّهُ، وكذلك أخواتها، كالصِّبيةِ، والفِتْيَةِ. وقيل: على كُلِّ قولٍ، فتأنيثها غير حقيقي، باعتبارِ الجماعةِ؛ ولذلك لم يلحق فعلها تاء التأنيث. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 77 وقال الواحديُّ: تقديمُ الفعل يدعُو إلى إسقاطِ علامِ التأنيثِ، على قياس إسقاط علامة التَّثنية، والجمع. والمشهورُ: كسر نونها، ويجوز ضمُّها في لغةٍ، ونقلها أبو البقاءِ عن قراءة، قال القرطبي: وهي قراءة الأعمش، والمفضل والسلمي. وإذا ضُمَّتْ نونه، كان اسم جمع بلا خلافٍ، ويكسَّرُ في الكثرة على نسوانٍ، والنساءُ: جمعٌ كثرةٍ أيضاً، ولا واحداَ لَهُ مِنْ لفظه، كذا قالهُ أبو حيَّان. ومقتضى ذلك ألاَّ يكون النساءُ جمعاً لنسوةٍ؛ لقوله: لا واحِدَ له من لفظه. و «فِي المَدينَةِ» يجوزُ تعلُّقه بمحذوفٍ، صفةٍ ل «نِسْوةٌ» ، وهو ظاهرٌ، ويقال: ليس بظاهرٍ. فصل في عدد النسوة في: إنَّهن خمسُ: امرأة حاجب الملك، وامرأةُ صاحب دوابه، وامرأةُ الخازن، وامرأة السَّاقي، وامرأة صاحب السِّجن، قاله مقاتل. وقال الكلبيُّ: أربعٌ؛ فأسقط امرأة الحاجب. والأشبه أنَّ تلك الواقعة شاعت في البلد، واشتهرت، وتحدث بها النساء، والمراد بالمدينة: مِصْرُ، وقيل: مدينة عَين شَمْسٍ. قوله: «تُروادُِ» خبرُ «امْرأةُ العَزيزِ» ، وجيءَ بالمضارع، تنبيهاً على أنَّ المراودة صارت سجيةً لها، ودَيْدناً، دون الماضي فلم يقلْ: رَاودتْ، ولامُ الفتى ياءٌ؛ لقولهم: الفتيان، وفتى، وعلى هذا؛ فقولهم: الفُتُوَّة في المصدر شاذٌّ. قال: «فَتَاهَا» ، وهو فتى زوجها؛ لأن يوسف كان عندهم في حكم المماليك، وكان ينفذُ أمرها فيه. وروى مقاتلٌ، عن أبي عثمان النهدي، عن سلمان الفارسي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «إنَّ امرأة العزيز استوهبتْ يوسف من زوجها، فوهبهُ لها، وقال: ما تصنعين به؟ قالت: اتخذه ولداً، قال: هو لك؛ فربَّتُهُ حتى [أيفع] ، وفي نفسها منه ما في نفسها، فكانت تتكشَّلإ له، وتتزيَّن، وتدعوه من وجه اللُّطفِ؛ فعصمه الله» . قوله: {قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً} ، وهذه الجملة يجوز أن تكمون خبراً ثانياً، وأن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً؛ إمَّا من فاعل «تُرَاوِدُ» ، وإمَّا من مفعوله، و «حُبًّا» تمييزٌ؛ وهو منقولٌ من الفاعليَّة، وإذ الأصل: قد شغفها حبُّه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 78 والعامةُ على «شَغَفَهَا» بالغين المعجمة المفتوحمةِ، بمعنى: خَرقَ شِغافَ قلبها، وهو مأخوذٌ من الشِّغاف، والشِّغاف: حجابُ القلب، جليدةٌ رقيقةٌ، وقيل: سويداءُ القلبِ. فعلى الأول، يقال: شَغفتُ فلاناً، إذا أصبت شِغفافهُ؛ كما تقولُ: كبدتهُ إذا أصبتَ كبدَه، فمعنى: «شَغَفَهَا حُبّاً» أي: خرق الحبُّ الجلدَ؛ حتَّى أصاب القلب، أي: أنَّ حبَّه أحاط بقلبها، مثل إحاطةِ الشِّغاف بالقلبِ، ومعنى إحاطة ذلك الحبِّ بقلبها: هو أنَّ اشتغالها بحبه صار حجاباً بينها، وبين كلِّ ما سوى هذه المحبَّة، فلا يخطر ببالها سواه، وإن قلنا: إنَّ الشِّغافُ سويداء القلبِ، فالمعنى: أنَّ حبُّهُ وصل إلى سويداءِ قلبها. وقيل: الشِّغافُ داء يصلُ إلى القلب مِنْ أجل الحبِّ، وقيل: جليدةٌ رقيقةٌ يقال لها: لسانُ القلبِن ليست محيطةً به. ومعنى: «شَغَفَ قلبَهُ» أي: خرق حجابهُ، إذا أصابه؛ فأحرقه بحرارةِ الحبِّ، وهو من شغف البعير بالهِناءِ، إذا طلاهُ بالقطرانِ، فأحرقهُ. [والمشغوف من وصل الحب لقلبه] قال الأعشى: [البسيط] 3079 - يَعْصِي الوُشَاةَ وكَانَ الحُبُّ آونَةٌ ... مِمَّا يُزَّينُ للمَشْغُوفِ ما صَنَعَا وقال النابغةُ الذبيانيُّ: [الطويل] 3080 - وقَدْ حَالَ هَمٌّ دُونَ ذلِكَ والِجٌ ... مَكَانَ الشِّغافِ تَبْتغيِهِ الأصَابعُِ وقرأ ثابت البناني: بكسر الغين، وقيل: هي لغة تميم، وقرأ أمير المؤمنين عليُّ بن أبي طالب كرم الله وجهه، وعليُّ بن الحسين، وابنه محمدٌ، وابنه جعفر والشعبي، وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بتفحِ العين المهملةِ. وروي عن ثابت البناني، وأبي رجاء: كسر العين المهملة أيضاً، واختلف الناسُ في ذلك: فقيل: هو من شغف البعير، إذا هنأهُ، فأحرقه بالطقرانِ، قاله الزمخشريُّ؛ وأنشد: [الطويل] 3081 - ... ... ... ... ... ... ... . ... كَمَا شَعَفَ المَهْنُوءةَ الرَّجلُ الطَّالِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 79 وهذا البيتُ لامرىء القيس: [الطويل] 3082 - أتَقْتُلنِي وقدْ شَعَفْتُ فُؤادهَا ... كَما شَعَفَ المَهْنُوءةَ الرَّجلُ الطَّالِي والناسُ إنما يروونهُ بالمعجمة، ويسفرونه بأنه أصاب حبُّه شغاف قلبها، أي: أحرقَ حجابهُ، وهي جليدةٌ رقيقةٌ دونه، كما شغف، أي: كما أحرق، وأراد بالمَهْنُوءةِ: المطليَّة بالهناءِ، أي: القطران، ولا ينشدونه بالمهملة، وكشف أبو عبيدة عن هذا المعنى؛ فقال: «الشَّغف: إحراقُ الحُبِّ للقلب مع لذة يجدها؛ كما أنَّ البعير إذا طُلِيَ بالقطرانِ، بلغ منه مثل ذلك، ثم يَسْتَرْوحُ إليه» . وقال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ لما حكى هذه القراءة: «مِن قولِكَ: فلانٌ مشغوفٌ بكذا، أي: مغرمٌ به» . وقال ابنُ الأنباريِّ: «الشَّغفُ: رُءوسُ الجبالِ، ومعنى شغف بفلانٍ: إذا ارتفع حبُّه إلى أعْلَى موضعٍ من قلبهِ» . وعلى هذه الأقوال فمعناهما متقاربٌ، وفرق بعضهم بينهمان فقال ابنُ زيدٍ: «الشَّغفُ يعني بالمعجمة في الحبِّ، والشعف: في البغضِ» . وقال الشعبيُّ: الشَّغَفُ، والمشغوفُ بالغينِ منقوطة في الحبِّ، والشَّعفُ: الجنونُ، والمَشْعُوفُ: المَجنْونُ «. قوله: {إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} ، أي: خطأ مبين ظاهر، وقيل: معناه: إنَّها تركت ما يكون عليه أمثالها من العفاف والستر. » فلَّما سَمِعَتْ «راعيلُ» بِمكْرهِنَّ «؛ بقولهنَّ، وسمى قولهنَّ مكراً؛ لوجوه: الأول: أنَّ النسوة، إنما قلن ذلك؛ مكراً بها؛ لتُريهنَّ يوسف، كان يوصف لهن حسنهُ وجماله؛ لأنَّهن إذا قلن ذلك، عرضتْ يوسف عليهنَّ؛ ليتمهد عذرها عندهن. الثاني: أنَّها أسرَّت إليهنَّ حبَّها ليوسف استكتمهُنَّ، فأفشين ذلك السرَّ؛ فلذلك سمَّاه مكراً. الثالث: أنهن وقعن في الغيبة، والغيبة إنما تذكر على سبيل الخفيةِ، فأشبهت المكر. {أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ} : قال المفسرون: اتخذت مأدبة، ودعت جماعة من أكابرهن، «وأعْتدَتْ» أي: أعدَّت «لهُنَّ مُتَّئاً» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 80 قرأ العامة: «مُتَّكئاً» بضم الميم، وتشديد التاءِ، وفتح الكاف والهمز، وهو مفعولٌ به، ب «أعْتَدتْ» أي: هيَّأتْ، وأحضَرتْ. والمُتَّكأ: الشيءُ الذي يتكأ عليه، من وسادةٍ ونحوها، والمُتَّكأ: مكان الاتِّكاءِ، وقيل: طعام يُجزُّ جزًّا. قال ابن عباسٍ، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «مُتَّكَئاً، أي: طعاماً، سمَّاه» مُتَّكَئاً «؛ لأنَّ أهل الطعامِ إذا جلسوا، يتكئُون على الوسائدِ، فسمى الطعامُ متكئاً؛ على الاستعارة» . وقيل: «مُتَّكئاً» ، طعام يحتاج إلى أن يقطع بالسكِّين؛ لأنه إذا كان كذلك، احتاج الإنسانُ إلى أن يتكىء عليه عند القطع. وقال القتبي: يقالُ: اتكأنا عند فلانٍ، أي أكلنا. وقال الزمخشري: من قولك: اتكأنا عند فلانٍ، طعمنا على سبيل الكناية؛ لأنه من دعوتهُ ليطعمَ عندك اتخذت له تكأةً يتكىءُ عليها؛ قال جميلٌ: [الخفيف] 3083 - فَظَلِلْنَا بنِعْمَةٍ واتَّكأنَا ... وَشَرِبْنَا الحلالَ مِنْ قُلَلِهْ فقوله: «وشَرِبْنَا» مرشحٌ لمعنى «اتَّكأنَا» : أكلنا. وقرأ أبو جعفر، والزهريُّ رحمهما الله: «مُتَّكأً» مشددة التاء، دون همزٍ، وفيه وجهان: أحدهما: أن يكون أصله: متكأ «كقراءة العامَّة، وإنما خفف همزُهُ؛ كقولهم:» تَوضَّيْتُ «في توضَّأتُ، فصار بوزن» مُتَّقى «. والثاني: أن يكون» مُفْتَعَلاً «من أوكيتُ القِربَة، إذا شدَدْتَ فَاهَا بالوكاءِ. فالمعنى: أعْتدَتْ شيئاً يَشْتدِدْنَ عليه؛ إمَّا بالاتِّكاءِ، وإمَّا بالقطْعِ بالسكِّين، وهذا الثاني تخريجُ أبي الفتحِ. وقرأ الحسن، وابن هرمز:» مُتَّكاءً «بالتشديد والمد، وهي كقراءةِ العامة، إلاَّ أنه أشبع الفتحة؛ فتولد منها الألفُ؛ كقوله: [الوافر] 3084 - ... ... ... ... ... ..... الجزء: 11 ¦ الصفحة: 81 ومِنْ ذمِّ الرِّجالَ بمُنْتزَاحِ وقول الآخر: [الكامل] 3085 - يَنْبَاعُ مِنْ ذِفْرَى أسيلٍ جَسْرَةٍ ..... ... ... ... ... ... ... ... . وقوله: [الرجز] 3086 - أعُوذُ باللهِ من العَقرَابِ ... الشَّائِلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ بمعنى: بِمُنتزحٍ، وينبع، والعقرب الشَّائلة. وقرأ ابن عباسٍ، وابن عمر، ومجاهدٌن وقتادة، والضحاك، الجحدري، وأبان بن تغلب رحمهم الله:» مُتْكاً «بضمِّ الميم، وسكون التاء، وتنوين الكافِ، وكذلك قرأ ابن هرمزٍ، وعبد الله، ومعاذ؛ إلاَّ أنهما فتحا الميم. والمُتْكُ: بالضم والفتح: الأترجُ، ويقال: الأترنج، لغتان؛ وأنشدوا: [الوافر] 3087 - نَشْرَبُ الإثْمَ بالصُّواعِ جِهَارَا ... وتَرَى المُتْك بَيْنَنا مُسْتَعَارَا قيل: هو من متك، بمعنى بَتَكَ الشيء، أي: قطعه، فعلى هذا يحتمل أن تكون الميم بدلاً من الباء، وهو بدلٌ مطردٌ في لغة قومٍ، ويحتمل أن تكون مادة أخرى وافقتم هذه. وقيل: بالضمِّ: العسلُ الخالصُ عند الخليل، والأترجُّ عند الأصمعيِّ، ونقل أبو عمرو فيه اللغات الثلاث؛ أعني: ضمَّ الميم، وفتحها، وكسرها، قال: وهو الشرابُ الخالصُ. وقال المفضلُ: هو بالضم: المائدة، أو الخمر، في لغة كندةن وقال ابن عباس: هو الأترجُّ بالحبشة، وقال الضحاك: الزَّمَاوْرَد، وقال عكرمةك كل شيء يقطع بالسكين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 82 وقوله: «لهُنَّ مُتَّكَئاً» إما أن يريد: كُلَّ واحدةٍ متكئاً؛ ويدلُّ له قوله: {وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً} ، وإما أن يريد: الجِنْسَ. والسِّكينُ: تذكرُ وتؤنث، قاله الكسائي: والفراء، وأنكر الأصمعي تأنثه، والسكِّينةُ: فعلية من السكون، قال الراغب: سُمي به لإزالة حركةِ المذبُوحِ بهِ، فقوله: «وأتتْ» ، أي: أعطتْ {كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً} ، إما لأجل الفواكه، أو لأجل قطع اللحم، ثم أمرت يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بأن يخرج عليهن، وأنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما قدر على مخالفتها؛ خوفاً منها. {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} ، الظاهرُ أنَّ الهاء ضميرُ يوسف، ومعنى «أكْبَرنَهُ» أعظمنهُ، ودهشن من حسنه، وقيل: هي هاءُ السكتِ؛ قال الزمخشري. وقيل: «أكْبَرْنَ» بمعنى: حِضْنَ، والهاءُ للسَّكتِ؛ يقال: أكبرت المرأةُ: إذا حاضتْ، وحقيقته: دخلت في الكبرِح لأنها بالحيض تخرج عن حدَّ الصِّغر إلى الكبرِ؛ فإنَّ أبا الطَّيب رَحِمَهُ اللَّهُ أخذ من هذا التفسير قوله: [الطويل] 3089 - خَفِ الله واسْترْ ذَا الجَمالَ بِبُرقُعٍ ... فإنّْ لُحْتَ حاضتْ في الخُدورِ العَواتِق وكون الهاء للسَّكتِ، يردُّه ضم الهاءِ، ولو كانت للسكتِ، لسكنتن وقد يقال: إنه أجراها مجرى هاء الضمير، وأجرى الوصل مجرى الوقف في إثباتها. قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: «وإجماع القراء على ضم الهاء في الوصل، دليلٌ على أنها ليست هاء السَّكت، إذا لو كانت هاء السَّكت، فكان من أجرى الوصل مجرى الوقف لم يضمّ الهاء» . قال شهابُ الدِّين: «وهاءُ السَّكت قد تحرك بحركةِ هاء الضمير؛ إجراءً لها مجراها» ، وقد تقدَّم تحقيقُ هذا في الأنعامِ، وقد قالوا ذلك في قول المتنبيّ أيضاً: [البسيط] 3090 - واحَرَّ قَلْبَاهُ مِمَّنْ قَلْبهُ شَبِمُ ... قإنه رُوي بضم الهاء في «قَلْبَاهُ» ، وجعلوها هاء السَّكتن ويمكن أن يكون «أكْبَرْنَ» بمعنى حضن، ولا تكون الهاء للسكت؛ بل تجعل ضميراً للمصدر المدلول عليه بفعله، أي: أكبرن الإكبار، وأنشدوا على أنَّ الإكبار بمعنى الحيضِ، قوله [البسيط] 3091 - يَأتِي النِّساءَ على أطْهَارِهنَّ وَلاَك ... يَأتِي النِّساءً إذَا أكْبَرْنَ إكْبَارَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 83 قال الطبريُّ: البيت مصنوعٌ. فصل في صفة يوسف الخلقية روى أبو سعيد الخدريُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رَأيْتُ ليلةُ أسْرِيَ بِي إلى السَّماء يُوسفَ، كالقَمرِ ليْلةَ البَدْرِ» . وقال إسحاقُ بنُ أبي فروة: «كان يوسفُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إذا سَار في أزِقََّةِ مِصر يُرى تَلألُوء وجْههِ على الجُدرانِ، كمَا يُرَى نُورُ الشَّمس في الماءِ عَليْهَا» . وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في حديث الإسراء: «فَمَررْتُ بيُوسفَ فإذَا هُوَ قَدْ أعْطِي شَطْرَ الحُسنِ» . قال العلماءُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: معناه أنه كان على النِّصفِ من حسن آدم صلوات الله وسلامه عليه. قال أبو العالية: «هَالهُنّ أمره إنَّهُن من دهْشتهِنَّ، وحيْرتِهنَّ؛ قطَّعن أيْديهُنَّ، وهُنَّ يَحْسبنَ أنَّهن يقطِّعْنَ الأرتجَ، ولم يجدن الألَم؛ لشغلِ قلوبهنَّ بيوسف» . وقال مجاهدٌ: ما أحْسَسْنَ إلا بالدَّمِن وذلك كنايةٌ عن الجرحِ، لا أنَّهن ابنَّ أيديهنَّ، كما قال قتادة. وقيل: إنهن لما دهشن، صارت المرأةُ منهن بحيثُ لا تميز نصاب السِّكين من حديدها؛ فكانت تأخذُ الجانب الحادِّ من تلك السكينة بكفِّها؛ فكان تحصل تلك الجراحةُ بكفها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 84 قال وهبٌ: ماتت جماعةٌ منهن. قال ابن الخطيب: وعندي أنَّهُ يحتملُ وجهاً آخر، وهو أنهنَّ إنَّما أكبرنه؛ لأنَّهن رأين عليه نُور النبوَّة، وبهاء الرِّسالة وآثار الخضوع، والإنابة، وشاهدنَ منه معاني الهيْبَة، والسكينة، وهي عدمُ الالتفاتِ إلى المطعُومِ المنكُوحِ، وعدم الاعتدادِ بهنَّ، واقرانِ هذه الهيبة الإلهية، بذلك الجمال العظيم، فَتعجبن من تلك الحالةِ، فلا جرم أكبرنه، وعظمنهُ، ووقع الرُّعبُ والمهابة في قولبهن، وهذا عندي أولى. فإن قيل: كيف يطابقُ على هذا التَّأويل قوله: «فَذلكُنَّ الَّذي لمتنَّني فيه» ؟ وكيف تصير هذه الحالة عذراً لها في قوَّة العشق، وإفراط المحبَّة؟ . قلت: تقرر أن المحبُوب متبوع، فكأنَّها قالت لهُنَّ: هذا الخلق العجيب انضمَّ إليه هذه السيرةُ الملكية الطَّاهرة المطهرة. فحسنه يوجب الحب الشَّديد، والسِّيرة الملكية توجب اليأسَ عن الوصول إليه، فلهذا وقعت في المحبَّة والحسرةِ، وهذا التأويل أحسنُ، ويؤيده قولهم: {مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} . قوله: «حَاشَا للهِ» عدَّها النحويون من الأدواتِ المترددة بين الحرفية والفعلية، فإن جرَّت، فهي حرفٌ، وإن نصبت، فهي فعلٌ، هي من أدوات الاستثناء، ولم يعرف سيبويه فعليَّتها، وعرفها غيره، وحكوا عن العرب: «غَفَرَ اللهُ لِي، ولِمَنْ سَمِعَ دُعائِي، حَاشَا الشَّيطانَ، وابن أبي الأصْبَعِ» بالنصب، وأنشدوا: [الوافر] 3092 - حَشَا رَهْطَ النبيِّ فإنَّ مِنهُمْ ... بُحُوراً لا تُكدِّرُها الدِّلاءُ بنصب «رَهْطَ» ، و «حَشَا» لغة في «حَاشَا» كما سيأتي. قال الزمخشري: «حَاشَى» كلمةٌ تفيد التنزيه، في باب الاستثناء، تقول: أساء القوم حَاشَى زَيدٍ، وقال: [الكامل] 3093 - حَاشَى أبِي ثَوْبَانَ إنَّ بهِ ... ضَنًّا عَنِ المَلْحَاةِ والشَّتْمِ وهي حرفٌ من حروف الجرِّ؛ فوضعت موضع التنزيه، والبراءةٍ، فمعنى حاشا للهِ: براءة الله، وتنزيه الله، وهي قراءة ابن مسعودٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 85 قال أبو حيَّان: وما ذكر أنها تفيد التنزيه في باب الاستثناء، غير معروفٍ عند النحويين، لا فرق في قولك: قَامَ القومُ إلاَّ زيداًن وقَامَ القوْمُ حَاشَا زيْد ولمَّا مثل بقوله: أساء القوم حاشا زيد، وفهم من هذا التمثيل براءة زيدٍ من الإساءةِن جعل ذلك مستفاداً منها في كل موضعٍ، وأما ما أنشده من قوله: [الكامل] حَاشَا إبِي ثَوْبانَ ... البيت. فهكذا ينشدهُ ابن عطيَّة، وأكثر النحاة، وهو بيتٌ ركَّبوا فيه صدر بيتٍ على عجز آخر من بيتين، وهما: [الكامل] 3094 - حَاشَى أبِي ثَوْبانَ إنَّ أبَا ... ثَوْبانَ لَيْسَ بِبَكْمَةٍ فَدْمِ عَمرو بنِ عَبْدِ اللهِ إنَّ بِهِ ... ضنًّا عن المَلْحَاةِ والشَّتْمِ قال شهابُ الدِّين: «قوله:» إنَّ المعنى الذي ذكره الزمخشريُّ لا يعرفه النحاة «ولم ينكروه؛ وإنما لم يذكروه في كتبهم؛ لأنَّ غالب: فَنِّهِمْ» صناعة الألفاظ دون المعاني، ولما ذكروا مع أدوات الاستنثاءِ «لَيْسَ» ، و «لا يكُونُ» و «غَيْر» ، لم يذكروا معانيها. إذ مرادهم مساواتها ل «إلاَّ» في الإخراج، وذلك لا يَمْنَع من زيادة معنى في تلك الأدوات «. وزعم المبردُ، وغيره كابن عطيَّة: أنَّها تتعينُ فعليتها، إذا وقع بعدها حرف جرٍّ كالآية الكريمةن قالوا: لأن حرف الجرِّ لا يدخل على مثله إلا تأكيداً؛ كقوله: [الوافر] 3095 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وَلا لِمَا بِهِمْ أبَداً دَواءُ وقول الآخر: [الطويل] 3096 - فأصْبَحنَ لا يَسْألنَهُ عَن بِمَا بِهِ ..... ... ... ... ... ... ... . . فيتعيَّن أن يكون فعلاً فاعله ضمير يوسف، أي: حَاشَى يوسف، و» للهِ «جارٌّ ومجرورٌ، متعلق بالفعل قبله، واللام تفيد العلَّة، أي: حَاشَا يوسف أن يُقارِفَ ما رمته به؛ لطاعة الله، ولمكانه منه، أو لترفيع الله أن يرمى بما رمتهُ به، أي: جَانَبَ المعصية؟ لأجل الله. وأجاب النَّاسُ عن ذلك: بأنَّ» حَاشَا «في الآية الكريمة، ليست حرفاً ولا فعلاً وإنَّما هي اسم مصدر بدلٌ من اللفظِ بفعله؛ كأنه قيل: تنزيهاً للهِ، وبراءة له، وإنما لم ينون؛ مراعاة لأصله الذي نقل منه، وهو الحرف، ألا تراهم قالوا:» مِنْ عَنْ يَمِينه «فجعلوا» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 86 عَنْ «اسماً، ولم يعربوه، وقالوا:» مِن عليه «فلم يثبتوا ألفه مع الضمر بل أبقوا» عَنْ «على بنائه، وقلبوا ألف» عَلى مع المضمر؛ مراعاة لأصلها، كذا أجاب الزمخشريُّ، وتابعه أبو حيَّان، ولم يَعزُ لهُ الجواب، وفيه نظرٌ؛ أما قوله: «مراعاة لأصله» فيقتضي أنه نقل من الحرفيَّة، إلى الاسمية، وليس ذلك إلاَّ في جانب الأعلام، يعني أنهم يُسمّون الشَّخص بالحرفِ، ولهم ذلك مذهبان: الإعرابُ، الحكايةٌ. أما أنهَم ينقلون الحرف إلى الاسم، أي: يجعلونه اسماً، فهذا غير معروف. وأما استشهاده ب «عَنْ» ، و «عَلَى» فلا يفيده ذلك؛ لأنَّ «عَنْ» حال كونها اسماً بنيت، لشبهها بالحرف في الوضع على حرفين، لا أنَّها باقيةٌ على بنائها، وأما قلب ألف «عَلَى» مع الضمير، فلا دلالة فيه؛ لأنَّا عهدنا ذلك، فيما هو ثابتُ الاسمية بالاتفاق كالذي، والأولى أن يقال: الذي يظهرُ في الجواب عن قراءة العامَّة، وأنها اسمٌ منصوبٌ كما تقدم، ويدلُّ عليه قراءة أبي السَّمال: «حَاشاً للهِ» منصوباً منوناً، ولكنهم أبدلوا التنوين ألفاً؛ كما يبدلونه في الوقف، ثم إنهم أجروا الوصل مجرى الوقف، كما فعلوا ذلك في مواضع كثيرةٍ، تقدم منها جلمةٌ، وسيأتي مثلها، إن شاء الله تعالى. وقيل: في الجواب عن ذلك: بل بُنِيَتْ «حَاشَا» في حال اسميتها؛ لشبهها ب «حَاشَا» في ح الِ حرفيَّتها، لفظاً ومعنى، كما بُنيَتْ «عَنْ» ، و «عَلَى» لما ذكرناه. وقال بعضهم: إنَّ اللام زائدة، وهذا ضعيف جدًّا بابه الشِّعر. واستدلَّ المبرد وأتباعه على فعليتها، بمجيء المضارع منها؛ قال النَّابغة الذبيانيُّ: [البسيط] 3097 - وَلا أرَى فَاعِلاً في النَّاسِ يُشْبِههُ ... وَلا أحَاشِى من الأقْوامِ من أحَدِ قالوا: تصرف الكلمةِ من الماضي إلى المستقبل، دليلٌ على فعليتها، لا محالة. وقد أجاب الجمهور عن ذلك: بأنَّ ذلك مأخوذٌ من لفظ الحرف؛ كما قالوا: سوَّفت بزيدٍ، ولو كيت له، أي: قلت له: سوف أفعل، وقلت له: لو كان، ولو كان، وهذا من ذلك، وهو محتملٌ. وممن رجح جانب الفعلية، أبو علي الفارسي رَحِمَهُ اللَّهُ قال: «لا تَخْلُوا حَاشَى في قوله» حَاشَى للهِ «من أن يكون الحرف الجارُّ في الاستثناءِ، أو يكون فعلاً على فاعل، ولا يجوز أن يكون الحرف الجار؛ لأنه لا يدخل على مثله؛ ولأن الحروف لا يحذف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 87 منها، إذا لم يكن فيها تضعيفٌ، فثبت أنه فاعلٌ من» الحَشَا «الذي يراد به الناحية. والمعنى: أنه صار في حشا، أي: في ناحية، وفاعل» حَاشَى «يوسف، والتقدير: بعد من هذا الأمر؛ لله، أي: لخوفهِ» . فقوله: «حرفُ الجرِّ لا يدخل على مثله» مُسلَّمٌ، ولكن ليس هو هنا حرفُ جرِّ، كما تقدم تقريره. وقوله: «لا يحذفُ من الحرفِ إلا إذا كان مُضَعَّفاً» ، ممنوعٌ، ويدل له قولهم: «مُذْ» في «مُنْذُ» إذا جُرَّ بها، فحذفوا عينها ولا تضعيف، قالوا: ويدلَّ على أنَّ أصلها: «منذ» بالنون، تصغيرها على «مُنَيْذ» وهذا مقررٌ في بابه. وقرأ أبو عمرو وحده: «حَاشَا» بألفين الفٌ بعد الحاءِ، وألفٌ بعد الشين، في كلمتي هذه السورة وصلاً، ويحذفها وقفاً؛ اتباعاً للرسم، كما سيأتي، والباقون بحذف الألف الأخيرة؛ وصلاً، ووقفاً. فأما قراءة أب عمرو، فإنه جاء فيها بالكلمةِ على أصلها، وأما الباقون: فإنهم ابتعوا في ذلك الرسم، ولما طال اللفظُ، حسن تخفيفه بالحذف، ولا سيَّما على قول من يدَّعي فعليتها، كالفارسيّ. قال الفارسي: «وأما حذفُ الألف، فعلى: لمْ يَكُ، وَلا أدْرِ، وأصَابَ النَّاس جهدٌ، ولو تَرَ ما أهْلَ مَكَّة، وقوله: [الرجز] 3098 - وصَّانِي العَجَّاجُ فِيمَا وَصَّني ... في شعر رُؤبة، يريد: لَمْ يكن، ولا أدْرِي، ولو ترى، ووصَّاني» . وقال أبو عبيدة: رأيتها في الذي يقال له إنه الإمامُ مصحف عثمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «حَاشَ لله» بغير ألف، والآخرى مثلها. وحكى الكسائيُّ: أنه رآها في مصحف عبد الله، كذلك. قالوا: فعلى ما قال أبُوا عبيد، والكسائي: تُرجَّح هذه القراءةُ، ولأن عليها ستةٌ من السبعةِ. ونقل الفراء: أن الإتمام لغةُ بعض العرب، والحذف لغة أهل الحجاز، قال: ومِنَ العرب من يقول «حَاشَى زَيْداً» أراد «حَشَى لزيدٍ» ، فقد نقل الفراء: أنَّ اللغات الثلاثة مسموعةٌ ولكنَّ لغة أهل الحجازِ مُرجحةٌ عندهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 88 وقرأ الأعمش، في طائفة «حِشَى للهِ» بحذف الألفين، وقد تقدم أنَّ الفراء حكاها لغة عن بعض العرب؛ وعليه قوله: [الوافر] 3099 - حَشَى رَهْطَ النَّبيِّ ... ... ... ..... ... ... ... ... ... ... ... . لبيت. وقرأ أبي، وعبد الله: «حَاشَى اللهِ» بجر الجلالةِ، وفيها وجهان: أحدهما: أن تكون اسماً مضافاً للجلالة، نحو سبحان الله، وهو اختيارُ الزمخشريِّ. والثاني: أنه حرف استنثاءٍ، جر به ما بعده؛ وإليه ذهب الفارسيُّ. وفي جعله: «حَاشَا» حرف جرِّ مُراداً به الاستثناء، نظرٌ، إذْ لم يتقدم في الكلام شيءٌ يستثنى منه الاسم المعظَّم، بخلاف: قام القومُ حَاشَا زيدٍ، واعلم أنَّ النحويين لما ذكروا هذا الحرف، جعلوه من المتردِّد بين الفعلية، والحرفية كما عند من أثبت فعليّته، وجعله في ذلك ك «خَلاَ» و «عَدَ» ، وهذا عند من أثبت حرفيته، وكان ينبغي أن يذكروه من المتردد بين الاسمية، والفعلية، والحرفية، كما فعلوا ذلك في «عَلَى» فقالوا: يتكون حرف جرٍّ في «عَلْكَ» ، واسماً في قوله: «مِنْ عَليْه» ، وفعلاً في قوله: [الطويل] 3100 - عَلاَ زَيْدُنَا يوْمَ النَّقَا ... ... . ..... ... ... ... ... ... ... ... . . وإن كان فيه نظرٌ، تلخيصه: أنَّ «عَلاَ» حال كونها فعلاً غيرُ «عَلَى» ، حال كونها غير فعلٍ؛ بدليل أنَّ الألف الفعلية منقلبةٌ عن واوٍ، ويدخلها التصريفُ، والاشتقاقُ دون ذينك. وقد يتعلق من ينتصر للفارسي بهذا، فيقول: لو كان «حَاشَا» في قراءة العامَّة اسماً، لذكر ذلك النحويون عند ترددها بين الحرفية، والفعلية، فلمَّا لم يذكروه، دلَّ على عدم اسميتها. وقرأ الحسن: «حَاشْ» بسكون الشين، وصلاً ووقفاً، كأنه أجرى الوصل مجرى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 89 الوقف، ونقل ابن عطية عن الحسن أنه قرأ: «حَاشَ الإله» قال محذوفاً من «حَاشَا» يعني أنه قرأ بحذف الألف الأخيرةِ، ويدلُّ لى ذلك، ما صرَّح به صاحبُ اللوامح، فإنه قال: «بحذف الألف» ثم قال: وهذا يدلُّ على أنه حرف جرٍّ، يجر به ما بعده. فأما الإله: فإنه فكَّه عن الإدغام، وهو مصدرٌ أقيم مقام المفعول، ومعناه: المبعودُ، وحذف الألف من «حَاشَ» ؛ للتخفيف. قال أبو حيَّان: «وهذا الذي قاله ابن عطية، وصاحب اللوامح: من أنَّ الألف في» حَاشَا «في قراءة الحسنِ، محذوفةٌ، لا يتعيَّن إلاَّ أن ينقل عنه أنه يقف في هذه القراءة بسكون الشِّين، فإنه لم ينقل عنه في ذلك شيء، فاحتمل أن تكون الألف حذفت؛ لالتقاء الساكنين، والأصل: حاشا الإله، ثم نقل فحذف الهمزة، وحرَّك اللام بحركتها، ولم يعتدَّ بهذا التحريك؛ لأنه عارضٌ، كما تحذف في نحو» يخشى الإله «ولو اعتد بالحركة لم يحذف الألف» . قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: الظاهر أن الحسن يقف في هذه القراءة بسكون الشِّين، ويستأنس له، بأنه سكَّن الشين في الراوية الآخرى عنه، فلما جيء بشيءٍ محتمل، ينبغي أن يحمل على ما خرج به، وقول صاحب اللّوامح: وهذا يدلُّ على أنه حرف جرٍّ بجرُّ به ما بعده، لا يصحُّ؛ لما تقدم من أنَّه لو كان حرف جرٍّ، لكان مُستثنى به، ولم يتقدم ما يُسْتثنى منه بمجروره. واعلم أنَّ اللام الداخلة على الجلالة، متعلقةٌ بمحذوفٍ على سبيل البيانِ، كهي في «سَقْياً لَكَ» ، و «رَعْياً لزيد» عند الجمهور، وأما عند المبرد، والفارسي: فإنها متعلقةٌ بنفس «حَاشَى» ؛ لأنها فعلٌ صريحٌ، وقد تقدَّم أن بعضهم يرى زيادتها. قال المفسِّرون: معنى قوله: «حَاشَى لله» أي: تنزَّه الله تعالى عن العجز، حيث قدر على خلق جميلٍ مثله، وقيلك معاذ الله أن يكون هذا بشراً. قوله: «مَا هَذا بشراً» العامة على إعمال «ما» على اللغة الجازيَّة وهي اللغة الفُصْحَى، ولغة تميم الإهمالُ، وقد تقدَّم تخفيف هذا، أول البقرة [البقرة: 8] ، وما أنشده عليه من قوله: [الكامل] 3101 - وأنا النذيرُ بحَرَّةٍ مُسْودًّةٍ ..... ... ... ... ... ... البيتين. ونقل ابن عطيَّة: أنه لم يقرأ أحدٌ إلاَّ بلغة الحجاز، وقال الزمخشري: ومن قرأ على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 90 سليقته من بني تميمٍ، قرأ «بشرٌ» بالرفع، وهي قراءة ابن مسعودٍ. فادعاءُ ابن عطية، أنه لم يقرأ به، غير مسلم. وقرأ العامة: «بَشَرا» بفتح الباءِ على أنها كلمةٌ واحدةٌ، ونصب ينزع حرفِ الخفض، أيّ: بِبشَرٍ. وقرأ الحسن، وأبو الحويرث الحنفي: «بِشرَى» بكسر الباء، وهي باءُ جرَّ، دخلت على «شِرَى» فهما كلمتان، جارٌّ ومجرورٌ، وفيها تأويلات: أحدهما: ما هذا بمُشْتَرَى، فوضع المصدر موضع المفعول به، ك «ضَرَبَ الأميرِ» . الثاني: ما هذا بمباع، فهو أيضاً مصدرٌ واقعٌ موقع المفعول به، إلاَّ أنَّ المعنى مختلفٌ. الثالث: ما هذا بثمنٍ، يعنين أنه أرفعُ من أن يجري عليه شيءٌ من هذه الأشياء، وروى عبدُ الوارث، عن أبي عمرو كقراءة الحسن، وأبي الحويرث، إلاَّ أنه قرأ عنه إلا «مَلِك» بكسر اللام، واحد الملوكِ، نفو عنه ذُلَّ المماليك، وأثبتوا له عزَّ المُلوكِ، وذكر ابنُ عطية: كسْرَ اللام عن الحسنِ، وأبي الحُوَيْرث. وقال أبو البقاءِ: وعلى هذا قُرىء «مَلِك» بكسر اللام، كأنه فهم أنَّ من قرأ بكسرِ الباءِ، وقرأ بكسرِ اللام أيضاً؛ للمناسبة بين المعنيين، ولم يذكر الزمخشريُّ هذه القراءة مع كسر الباء ألبتة؛ بل يفهم من كلامه أنَّه لم يطلْ عليها، فإنه قال: وقُرِىء ما هذا بِشِرَى أي: ما هو بعبدٍ مملوكِ لئيمٍ، «إنْ هَذَا إلاَّ ملكٌ كَريمٌ» ، تقول: «هذا بِشرَى» ، أي: حاصلٌ بِشرَى، بمعنى مُشْترَى، وتقولك هذا لك بِشرَى، أو بِكِرَى «والقراءةُ هي الأولى؛ لموافقتها المصحف، ومطابقة» بَشَر «ل» مَلِك «. قوله» لموافقتها المصحف «يعني أنَّ الرَّسم:» بَشَراً «بالألفِ، لا بالياءِ، ولو كان المعنى على» بُشْرَى «لرسم بالياءِ، وقوله:» ومُطابَقة بشراً الملك «، دليلٌ على أنه لم يطلع على كسرِ اللامِ، فضلاً عمن قرأ بكسرِ الباءِ. فصل في معنى قوله: {مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} وجهان: أشهرهما: أن المقصود منه إثباتُ الحسن العظيم له، قالوا: لأنه تعالى ركب في الطبائع أنَّ لا حيَّ أحسنُ من الملكِ، كما ركَّب فيها أنَّ لا حيَّ أقبحُ من الشَّيطان، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 91 ولذلك قال في صفة شجرةٍ جهنَّم: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين} [الصافات: 65] وذلك لما تقرَّر في الطبائع، أنَّ أقبح الأشياءِ، هو الشيطانُ، فكذا هاهنا، تقرَّر في الطبائع أنَّ أحسن الأشياءِ، هو الملكُ، فلما أرادت النسوةُ المبالغة في وصفِ يوسف في الحسنِ، لا جرم شبَّهنهُ بالملك، وقلن:» إنْ هَذَا إلاَّ مَلكٌ كَرِيمٌ «على الله من الملائكة. والوجه الثاني: قال ابنُ الخطيب: وهو الأقربُ عندي، أن المشهور عند الجمهور، أنَّ الملائكة مطهَّرون عن بواعثِ الشهوةِ، وحوادث الغضب، ونوازع الوهم، والخيال، فطعامهم توحيد الله، وشرابهم الثناءُ على الله، ثم إنَّ النسوة لما رأين يوسف، لم يلتفتْ إليهن، ورأين عليه هيبة النُّبوةِ، وهَيْبة الرسالةِ، وسيما الطَّهارة، قلن: ما رأينا فيه أثراً من الشَّهوة، ولا شيئاً من البشرية، ولا صفة من الإنسانيةِ، ودخل في الملائكة، فإن قالوا: فإن كان المرادُ ما ذكرتم، فكيف يتمهدُ عُذْرٌ المرأةِ عند النسوةِ؟ فالجواب قد سبق. فصل فيمن احتج بالآية على أن الملك أفضل من البشر احتج القائلون بأ الملك أفضلُ من البشر بهذه الآية فقالوا: لا شك أنهن إنما ذكرن هذا الكلام في مع رض تعظيم يوسف صلوات الله وسلامه عليه، فوجب أم يكون إ خراجه من البشرية، وإدخاله في الملكيِّة، سبباً لتعظيم شأنه، وإعلاء مرتبتة، وإنما يكون كذلك، إذا كان الملك أعلى حالاً من البشر. ثم نقول: لا خلُوا إما أن يكون المقصودُ بيان كماله في الحسنِ الظاهر، أو بيان كمال حُسْنِ الباطنِ الذي هو الخلق الباطن، والأول باطلٌ لوجهين: الأول: أنهن وصفنه بكونه كريماً؛ بحسب الأخلاق الباطنة، لا بحسب الخلقةِ الظاهرة. والثاني: أنا نعلمُ بالضرورة أنَّ وجه الإنسان لا يشبه وجوه الملائكةِ ألبتة، وأما كونه بعيداً عن الشهوة، والغضب، معرضاً عن اللَّذات الجسمانية، مُتوجِّهاً إلى عبوديةِ الله، مستغرق القلبِ والرُّوحِ، فهو مشتركٌ فيه بين الإنسان الكاملِ، وبين الملائكةِ. إذا ثبت هذا فنقول: تشبيه الإنسانِ بالملكِ، في الأمرِ الذي حصلت المشابهةُ فيه على سبيلِ الحقيقة، أولى من تشبيهه بالملك فيما لم تحصل فيه المشابهة ألبتة؛ فثبت أن تشبيه يوسف بالملك في هذه الآية، إنَّما وقع في الخُلق الباطن، لا في الصُّورة الظاهرةِ، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الملك أعلى حالاً من الإنسان في هذه الفضائل. قوله: «فَذلِكُنَّ» مبتدأ، والموصول خبره، أشارت إليه إشارة البعيد، وإن كان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 92 حاضراً؛ تعظيماً له، ورفعاً منه لتُظهرَ عذرها في شغفها. وجوَّز ابنُ عطية: «أن يكون» ذَلِكَ «إشارةٌ إلى حبِّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ والضمير في» فِيهِ «عائدٌ على الحبِّ، فيكون» ذَلِكَ «إشارةً إلى غَائبٍ على بابه» . يعنى بالغائب: البَعيِدَ، وإلا فالإشارةُ لا تكون إلاَّ لحاضرٍ مُطلقاً. وقال ابن الأنباري: «أشارت بصيغةِ» ذَلِكَ «إلى يوسف بعد انصرافه من المجلسِ» . وقال الزمخشري: «إنَّ النسوة كُنَّ قلن: إنها عَشقَتْ عبْدَها الكنْعَانيَّ، فلمَّا رأينه، وفعن في تلك الدَّهشة، قالت: هذا الذي رأيتموهُ، هو العبد الكنعاني الذي لمُتُنَّنِي فيه، يعني: أنكَّن لم تصورنه بحقِّ صورتهن فلو حصلت في خيالكُنَّ صُرتهُ، لتركتن هذه الملامةً» . واعلم أنها لما أظهرت عذرها عند النسوة، في شدَّة محبَّتها له، كشف عن حقيقة الحال؛ فقالت: {ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ} وهذا تصريحٌ بأنه عليه الصلاة واسلام كان بريئاً من تلك التُّهمةِ. وقال السديُّ: «فاسْتَعْصمَ» بعد حلِّ السَّراويل. قال ابن الخطيب: «وما أدري ما الذي حمله على إلحاقِ هذه الزيادةِ الفَاسدةِ الباطلةِ بنص الكتاب؟! وذل أنَّها صرَّحتْ بما فعلت: {ولقَدْ رَاوَدتُهُ عَنْ نَفسِهِ فاسْتَعْصمَ} أي: فامتنع، وإنما صرَّحت به؛ لأنها علمت أنه لا ملامة عليها منهنَّ، وقد أصابهنَّ ما أصابهن، من رُؤيته. قوله: «فاسْتَعْصمَ» في هذه السين وجهان: أحدهما: أنها ليست على بابها من الطلب، بل «اسْتَفْعَل» هنا مبعنى «افْتَعَل» فاستعصم و «اعْتصَمَ» واحدٌ وقال الزمخشريُّ: «الاستعصام بناءُ للمبالغة يدلُّ على الامتناع البليغ، والتحفُّظ الشَّديد، كأنه في عصمةِ، وهو مجتهدٌ في الزيادة فيها، والاستزادة منها، ونحوه: اسْتمْسَكَ، واسْتوْسَعَ الفتقُ، واسْتجْمَعَ الرَّأيُ، واستفحل الخَطْبُ» فردّ السين إلى بابها من الطلبِ، وهو معنّى حسنٌ، ولذلك قال ابن عطية: «معناه طَلبَ العِصْمَةَ، واسْتمْسَكَ بها وعصاني» قال أبو حيان: ذكره التَّصريفيَّون في «اسْتَعْصَم» : أنه موافقٌ ل «اعتصم» ، و «اسْتَفْعَلَ» فيه: موافق ل «افتعل» وهذا أجودُ من جعل «استعفل» فيه للطلبِ؛ لأن «اعْتَصَمَ» يدلُّ على اعتصامه، وطلبُ المعصمةِ لا يدلُّ على حصولها، وأما أنه بناءُ مبالغةٍ يدلُّ على الاجتهادِ في الاستزادة من العصمة، فلم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 93 يذكر التصريفيون هذا المعنى ل «اسْتَفْعَلَ» ، وأما «اسْتَمْسكَ، واسْتَجْمَعَ الرأي، واسْتوْسَعَ الفَتْقُ، ف» اسْتَفْعَل «فيه لموافقةِ» افْتَعَلَ «، والمعنى: امتسك، واتسع، واجتمع، وأما» اسْتَفْحَلَ الخَطْبُ «ف» فاستَفْعَلَ «فيه موافقة ل» تَفعَّل «أي: تفَحَّل الخطب نحو» استْتَكْبرَ وتَكبَّرَ «. قوله:» مَا آمُرُهُ «في» مَا «وجهان: أحدهما: مصدريةٌ. والثاني: أنها موصولةٌ، وهي مفعولٌ بها بقوله:» يَفْعَل «، والهاءُ في» آمرُرُهُ «تحتمل وجهين: أحدهما: العودُ على» مَا «الموصولة، وإذا جعلناها بمعنى الذي. الثاني: العودُ على يوسف. ولم يجوِّز الزمخشريُّ عودها على يوسف إلا إذا جعلت» ما «مصدرية، فإنه قال: فإنْ قلت: الضميرُ في:» مَا آمُرُهُ «راجعٌ إلى الموصول أم إلى يوسف؟ قلتُ: بل إلى الموصول، والمعنى: ما آمرُ به، فحذف الجار؛ كما في قوله: [البسيط] 3102 - أمَرْتُكَ الخَيْرَ ... ... ... ....... ... ... ... ... ... ... ... . . ويجوز أن تجعل» ما «مصدرية، فيعود على يوسف، ومعناه: ولئنْ لم يفعل أمري إيَّاه، أي: موجبُ أمري، ومُقْتَضَاهُ» . وعلى هذا، فالمفعولُ الأول محذوفٌ، تقديره: ما آمره به، وهو ضمير يوسف عليه السلام. قوله: {وَلَيَكُوناً} قرأ العامة يتخفيف نون «وليَكُوناً» ، ويقفون عليها بالألف؛ إجراءً لها مجرى التنوين، ولذلك يحذفونها بعد ضمةٍ، أو كسرةٍ، نحو: هل تقومون؛ وهل تقومين؟ في: هل تقومن؟ والنونُ الموجودة في الوقف، نونُ الرفع، رجعوا بها عند عدم ما يقتضي حذفها، وقد تقرر فيما تقدَّم أنَّ نون التوكيدِ تثقَّلن وتخفف، والوقفُ على قوله: «ليُسْجَنَنَّ» بالنُّونِ؛ لأنَّها مشددةٌ، على قوله: «وليَكُوناً» بالألف؛ لأنها مخففةٌ، وهي شبيهةٌ بنون الإعراب في الأسماءْ؛ كقولك: رأيتُ رجلاً، وإذا وقفت قلت: رجلا، بالألف، ومثله: {لَنَسْفَعاً بالناصية } [العلق: 15] . و «مِنَ الصَّاغرينَ» من الأذلاَّءِ، وقرأت فرقة بتشديدها وفيها مخالفةٌ لسوادِ المصحف؛ لكتبها فيه ألفاً؛ لأ، الوقف عليها كذلك؛ كقوله: [الطويل] 3103 - وإيَّاكَ والمَيْتَاتِ لا تَقْربنَّهَا ... ولا تَعْبُدِ الشَّيطانَ واللهَ فاعْبُدَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 94 أي: فاعْبُدونْ، فأبدلها ألفاً، وهو أحدُ الأقوالِ في قول امرىء القيس: [الطويل] 4104 - قِفَا نَبْكِ ... ... ....... ... ... ... ... ... . . وأجرى الوصل مجرى الوقف. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 95 قوله: {رَبِّ السجن} العامة على كسر الباء؛ لأنه مضافٌ لياء المتكلم، اجتزىء عنها باكسرة، وهي الفصحى، و «السِّجنُ» : بكسر السين، ورفع النُّون، على أنَّه مبتدأ، والخبر: «أحَبُّ» و «السِّجنُ» الحبسُن والمعنى: دخول السِّجنِ. وقرأ بعضهم: «ربُّ السِّجنُ» بضمِّ الباءِ، وجرِّ النون، على أنَّ «ربُّ» مبتدأ و «السِّجن» خفض بالإضافة، وأَحبُّ «: خبره، والمعنى: ملاقاةُ صاحب السجن، ومقاساته أحبُّ إليَّ. وقرأ عثمان، ومولاه طارق، وزيد بن علي، والمرهريُّ، وابن أبي إسحاق، وابن هرمز، ويعقوب: بفتح السِّين، وفي الباقي كالعامَّة. والسِّجنُ: مصدرٌ، أي: الحبسُ أحبُّ [إليَّ] ، و» إليَّ «متعلقٌ ب» أحَبُّ «، وقد تقدم [يوسف: 8] : وإنَّما هذان شرَّان، فآثر أحد الشَّرينِ على الآخر. فصل الظَّاهر أنَّ النسوة لما سمعن هذا التهديد، قلن له: لا مصحلة لك في مخالفة أمرها، وإلاَّ وقعت في السِّجنِ وفي الصَّغار، فعند ذلك اجتمع في حقِّ يوسف، أنواع الترغيب في الموافقة: أحدهما: أنَّ» زُلَيْخَا «كانت في غاية الحسن. والثاني: أنها كانت على عزم أن تبذُل الكُّلَّ ليوسف، إن طاوعها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 95 الثالث: أن النسوة اجتمعن عليه، وكلُّ واحدةٍ منهم كانت ترغبه، وتخوفه بطريقٍ غير طريقِ الأخرى، ومكرُ النساءِ في هذا الكتاب شديدٌ. الرابع: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان خائفاً من شرِّها، ومن إقدامها على قتله، وإهلاكه. فاجتمع في حقِّه جميع جهات الترغيب؛ على موافقتها، وجميع جهات التَّخويف؛ على مخالفتها، فخاف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن تؤثر هذه الأسباب الكثيرة فيه، والوقوة البشريَّة لا تفي بحصول هذه القضية القوية؛ فعند ذلك التجأ إلى الله تعالى وقال: {رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ} وقدَّم محبته السِّجن وإن كانت معصية؛ لأنها أخفُّ، وذلك أنه متى لزم ارتكابُ أحد قسمين، كلِّ واحدٍ منهما يضرُّ، فارتكابُ اقلِّ الضررين أولى؛ والأولى بالمرءِ أن يسأل الله العافية. فإن قيل: كيف قال:» يَدْعُوننِي إليْهِ «وإنما دعتْه زُلَيْخَا خاصَّة؟ . فالجواب: أضافهُ إليهنَّ؛ خُروجاً من التصريح إلى التعريض، وأراد الجنس، وقيل إنهن جميعاً دعونه إلى أنفُسهِنَّ، وقيل أراد ترغيبهنّ له في مُطَاوعِتهَا. فصل {وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} قرأ العامة بتخفيف الباء، من: صَبَا يَصْبُو، أي: رقَّ شوقُه، والصَّبْوة: الميلُ إلى الهوى، ومنه» الصَّبَا «؛ لأن النُّفوسَ تصبُّو إليها، أي: تميِلُ إلى نسيمها ورَوْحِهَا، يقال: صَبَا يَصْبُو صَبَاءً وصُبُوًّا، وصَبِيَ يُصبْي صَباً، والصِّبَا بالكسرة: اللَّهو، واللَّعب. وقرأت فرقةٌ» أصُبَّ «بتشديدهخا من صَبَيْتُ صَبَابَةً، فأنا صبٌّ، والصَّبابَةُ: رقَّةُ الشْوقِ، وإفراطه؛ كأنه لفَرْطِ حُبِّه يَنْصَبُّ فِيمَا يَهْوَاه كما يَنصَبُّ المَاءُ. فصل احتجُّوا بهذه الآيةِ على أنَّ الإنسان لا ينصرفُ عن المعصية، إلاَّ إذا صرفه الله عنها. قالوا: لأن هذه الآية تدلُّ على أنه إنْ لم يصرفه عن ذلك القبيح، وقع فيه. وتقريره: أنَّ الداعي إلى الفعل، والترْكِ، إن استويا، امتنع الفعل؛ لأن الفعل أحدْ رجحان الطرفين، ومَرْجُوحيَّة الطرفِ الآخرن وحصولهما حال استواء الطرفين جمع بين النقيضين؛ وهو محالٌ، فإن حص الرجحانُ في أحد الطرفين، فذلك الرجحانُ ليس من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 96 العبدِ، وإلا لذهبت المراتب إلى غير نهايةٍ، بل نقول: من الله تعالى، فالصَّرفُ عبارةٌ عن جعله مَرْجُوحاً؛ لأنه متى صار مَرْجُوحاً، صار ممتنع الوقوع؛ لأن الوقوع رجحانٌ، فلو وقع في حالِ المرجوحةِ، لحصل الرجحان حال حصولِ المرجوحيَّة، وهو مقتضى حصول الجمع بين النقيضين؛ وهو محالٌ. فثبت بهذا أنَّ انصراف العبد عن القبيح ليس إلا الله من الله. وأيضاً: فإنَّه كان قد حصل في «يُوسفَ» جميعُ الأسباب المرغِّبةِ في المعصية، وهو الانتفاعُ بالمالِ والجاه، والتَّمتُّع بالمطعومِ، فقد فويتْ دواعي الفعل، وضعفت الدَّواعي المعارضة لدواعي المعصيةِ؛ إذْ لو لم يحصل هذا التعارضُ، لحصل الترجيحُ للوقوع في المعصية خالياً عما يعارضه؛ وذلك يوجبُ وقوع الفعل، وهو المراد من قوله {أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين} وفيه دليلٌ على أنَّ المؤمن إذا ارتكب ذنباً، يرتكبه عن جهالةٍ. قوله: {فاستجاب لَهُ رَبُّهُ} ، أجاب له ربُّهُ، {فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ} ؛ وذلك يدلُّ على أنَّ الصارف عنه، هو الله تعالى {إِنَّهُ هُوَ السميع} لدعائه، {العليم} بمكرهن. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 97 قوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ} ، في [فاعل «بدا» ] أربعةُ أوجه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 97 أحسنها: أنَّه ضميرٌ يعود على «السَّجْن» فتح السِّين، أي: ظهر لهم حبسُه؛ ويدلُّ على ذلك اللَّفظ ب: السِّجْن «في قراءةِ العامَّة، وهو بطريقِ اللازمِ، ولفظ» السَّجْن «في قراءةِ العامَّة، وهو بطريقِ اللازمِ، ولفظ» السَّجْن «في قراءة من فتح السين. والثاني: أنَّ الفاعل ضمير المصدر المفهوم من الفعل؛ وهو» بَدَا «، أي: بدا لهُم بداءٌ، وقد صرَّح الشاعرُ به قول قوله: [الطويل] 3105 - ... ... ... ... ... ..... بَدَا لَكَ فِي تِلْكَ القَلُوصِ بَدَاءُ والثالث: أنَّ الفاعل مضمرٌ يدلُّ عليه السِّياقُ، أي: لهم رأيٌ. والرابع: أنَّ نفس الجملة من» لَيَسْجننَّهُ «هي الفاعل، وهذا من أصولِ الكوفيين، وهذا يَقْتضِي إسنادَ الفعلِ إلى فعلٍ آخر؛ واتفق النحاة على أنَّ ذلك لا يجوزٌ. فإذا قلت:» خَرَجَ ضَرَبَ «، لم يفذْ ألبتة، فقدَّروا: ثمُّ بدا لهم سجنهُ، إلاَّ أنه أقيمَ هذا الفعل مقام ذلك الاسم. قال ابنُ الخطيب: الاسمُ قد يكون خبراً؛ كقولك: زيدٌ قائمٌ، ف» قائم «اسمٌ وخبرٌ، فعلمنا أنَّ كون الشيءِ خبراً، لا ينافي كونه مخبراً عنه، وفي هذا الباب شكوكٌ: أحدها: أنَّا إذا قلنا:» ضَرَبَ فَعَلَ «، والمخبر عنه بأنَّه فعل هو ضرب، فالفعل صار مُخْبراً عنه. فإن قالوا: المخبر عنه هو هذه الصيغةُ، وهذه الصيغة اسم، فنقول: فعلى هذا التقدير؛ يلزم أن يكون المخبر عنه بأنه فعل هو هذه الصيغة وهذه الصيغة اسم، لا فعلٌ، وذلك كذبٌ باطلٌ، بل نقول: المخبر عنه بأنه فعلٌ: إن كان فعلاً، فقد ثبت أنَّ الفعل يصحُّ الإخبار عنه، وإن كان اسماً، كان معناه: أنَّا أخبرنا عن الاسم بأنه فعلٌ، وذلك باطلٌ. و» حتَّى «: غاية لما قبله، وقوله:» ليَسْجُنُنَّهُ «؛ على قول الجمهور: جوابٌ لقسم محذوفٍ، وذلك القسم وجوابه معمولٌ لقولٍ مضمرٍ، وذلك القول المضمر في محلِّ نصبٍ على الحالِ، أي: ظهر لهم كذا قائلين: والله، لنَسْجُننَّهُ حتَّى حينٍ. وقرأ الحسن:» لتَسْجُنُنَّهُ «، بتاء الخطاب، وفيه تأويلان: أحدهما: أن يكون خاطب بعضهم بعضاً بذلك. والثاني: أن يكون خُوطبَ به العزيزُ؛ تعظيماً له. وقرأ ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» عَتَّى «بإبدال حاءِ» حتَّى «عيناً، وأقرأ بها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 98 غيره، فبلغ ذلك عمر بن الخطَّاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فكتب إليه:» إنَّ هَذَا القُرآنَ نَزلَ بلُغةِ قُريشٍ فأقْرىءِ النَّاس بُغتِهِمْ «وإبدالُ الحاءِ عيناً لغةٌ هُذيلٍ. فصل في معنى الآية المعنى: ثُمَّ بَدَا للعزيزِ، وأصحابه في الرأي؛ وذلك أنَّهم أرادوا أن يقتصروا من أمر» يُوسفَ «على الإعراض عنه، ثم بدا لهم أن يحبسُوه من بعد ما رأوا الآياتِ الدَّالة على براءةِ» يُوسفَ «من: قدِّ القميصِ، وكلام الشَّاهِد، وقطع النساءِ أيديهنَّ، وذهابِ عقولهنَّ» ليَسْجُنُنَّهُ حتَّى حِينٍ «: إلى مُدَّةٍ يرون فيهَا رأيهم. وقال عطاء عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: إلى أن تنقطع قالة النَّاس، قال عكرمةٌ: تِسْع سِنينَ، وقال الكلبيُّ: خمس سنين. قال السديُّك وذلك أنَّ المرأة قالت لزوجها: إنَّ هذا العبرانيَّ قد فَضحَنِي في الناس؛ يُخْبرهم بأنِّي رَاودْتُه عن نفسه، فإمَّا أن تأذن لي أن أخرج، فأعتذرَ إلى الناسِ، وإما أن تحبسه، فحبسه. قال ابنُ عبَّاس عَثرَ يُوسفُ ثلاثَ عثراتٍ: حِينَ هَمَّ بها؛ فسُجِنَ، وحين قال: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] ؛ {فَلَبِثَ فِي السجن بِضْعَ سِنِينَ} [يوسف: 42] ، وحين قال لإخوته: {إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] ؛ {قالوا إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] . قوله: {وَدَخَلَ مَعَهُ السجن فَتَيَانَ} يوسف: 36] قيل: هما غُلامانِ للملك الأكبر بمصر: أحدهما: خَبَّازٌ، صاحبُ طعامه. والآخر: صاحبُ شَرابه، غضب الملكُ عليهما فحَبسَهُما. قوله: «قَالَ أحَدهُمَا» : مُسْتأنفٌ لا محلَّ له، ولا يجوز أن يكون حالاً؛ لأنهما لم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 99 يقولا ذلك حال الدُّخولِ، ولا جائزٌ أن تكون مقدَّرة؛ لأنَّ الدخول لا يَئُولُ إلى الرؤيا، و «إنِّي» وما في حيِّزه: في محل نصبٍ بالقول. و «أَرَانِي» : مُتعدِّيةٌ لمفعولين عند بعضهم؛ إجراءً للحلمية مجرى العلمية؛ فتكون الجملة من قوله: «أعْصِرُ» في محلِّ المفعول الثاني، ومن منع، كانت عنده في محلِّ الحالِ. وجرت الحلمية مجرى العلمية أيضاً في اتحاد فاعلها، ومفعولها ضميرين متَّصلين؛ ومنه الآيةٌ الكريمةُ؛ فإنَّ الفاعل المفعول مُتَّحدانِ في المعنى؛ إذ هما للمتكلِّم، وهما ضميران متصلان، ومثله: رأيتك في المنام قائماً، وزيدٌ رآه قائماً، ولا للمتكلِّم، وهما ضميران متصلان، ومثله: رأيتك في المنام قائماً، وزيدٌ رآه قائماًن ولا يجوزُ ذلك في غير ما ذكر. لا تقول: «أكْرَمتُنِي» ، ولا «أكرمتَك» ، ولا «زيدٌ أكْرمَهُ» ؛ فإ، أردت بذلك، قل: أكْرمْتُ نَفْسِي، أو إيَّاي ونفسكَ، أوْ [أكْرَمْتَ] إيَّاك ونفسهُ، وقَدْ تقدَّم تحقيق ذلك. وإذا دخلت همزةٌ النقل على هذه الحلمية، تعدت لثالثٍ، وتقدم هذا في قوله تعالى: {إِذْ يُرِيكَهُمُ الله فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً} [الأنفال: 42] . والخَمْرُ: العِنَبُ، أطلق عليه ذلك؛ مجازاً؛ لأنه آيلٌ إليه؛ كما يطلق الشيء على الشيء؛ باعتبار ما كان عليه؛ كقوله {وَآتُواْ اليتامى} [النساء: 2] ، ومجاز هذا أقربُ، وقيل: بل الخَمْرُ: العِنَبُ حقيقةً في لغةِ غسَّانٍ، وإزْدِ عمان. وعن المُعْتَمر: لقيتُ أعْرابياً حاملاً عنباً في وعاءٍ، فقلتُ: ما تحمل؟ قال: خَمْراً. وقراءة «أبيَّ» ، وعبد الله: «أعْصِرُ عِنَباً» ، لا تدلُّ على الترادف؛ لإرداتهما؛ لإرادتهما التفسير، لا التلاوة، وهذا كما في مصحف عبد الله: «فَوْقَ رأسِي ثَرِيداً» ، فإنه اراد التَّفسيرَ فقط. و «تَأكُلُ الطَّيْرُ» : صفةٌ ل «خُبْزاً» ، و «فَوْقَ» يجوز أن يكون ظرفاً للحملِ، وأن يتعلق بمحذوفٍ، حالاً من «خُبْزاً» إلاّ أنه في الأصل صفة له، والضمير في قوله «نَبِّئْنَا بِتَأويلهِ» : قال أبو حيَّان: «عائدٌ على ما قَصَّا عليه، أجري مُجْرَى اسم الإشارةِ؛ كأنَّه قيل: تأويله ما رَأيْتَ» . وقد سبقه إليه الزمخشريُّ، وجعله سُؤالاً، وجواباً، وقال اغيره: إنَّما واحد الضمير؛ لأن كلَّ واحدٍ سأل عن رُؤياه؛ وكأن كلَّ واحد منهما قال: نبئنا مارأيتُ. و «تُرْزَقانِهِ» صفةٌ ل «طَعَامٌ» ، وقوله «إلاَّ نَبَّأتُكُمَا» : استثناء مفرَّغٌ، وفي موضِ الجملة بعدها وجهان: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 100 أحدهما: أنَّها في محلِّ نصبٍ على الحالِ، وساغ ذلك من النكرةِ؛ لتخصُهصا بالوصف. الثاني: أن تكون في محلِّ رفعٍ؛ نعتاً ثانياً ل «طَعَامٌ» . والتدقير: لا يأتيكما طعامٌ مرزوقٌ إلا حال كونه مُنَبَّاً بتأويله، أو مُنَبَّاٌ بتأويله، و «قَبْلَ: الظاهرُ أنَّها ظرفٌ ل» نَبَّأتُكُما «، ويجوز أن يتعلق بتأويله، أي: نبأتكما بتأويله الواقع قبل إتيانه. فصل قيل: إنَّ جماعة من أهل مصر، أرادوا المكر بالملك، فَضَمِنُوا لهذين الرجلين مالاً، ليَسُمَّا الملك في طعامه، وشرابه، فأجابهم، ثمَّ إن الساقي نكل عنه، وقبل الخبازُ الرشوة فسمَّ الطَّعام، فلما أحضروا الطعام، قال السَّاقي: لا تأكلْ أيُّها الملك؛ فإنَّ الطعام مسمومٌ، وقال الخبَّازُ: لا تشربْ أيها الملكُ؛ فإنَّ الشراب مسمومٌ، فقال الملك للساقي: اشربْ، فشربهُ فلم يضرُّه، وقال للخبَّاز: كل من طعامك، فأبى، فجرَّب ذلك الطعام على دابَّة، فأكلتهُ: فهلكتْ؛ فأمر الملك بحبسهما. وكان يوسف حين دخل السِّجن، جعل ينشر عمله، ويقول: إنِّي أعبِّر الأحلام، فقال أحدٌ الفتين لصاحبه: هلُمَّ فلنجرب هذا العبد العبرانيِّ، فتراءيا له، فسألاه من غير أن يكون رأياً شيئاً. قال ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» مَا رَأيَا شَيْئاً وإنَّما تَحالَمَا ليُجَرِّبَا يُوسفَ «عليه السلام. وقيل: بل رأيا حقيقة، فرآهما يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهما مهمومان، فسألهما عن شأنهما، فكذرا أنَّهما صاحبا الملك حبسهما وقد رأيا رؤية همَّتهما، فقال يوسف صلوات الله وسلام عليه وعلى الأنبياء والمرسلين: قُصَّا عليَّ ما رأيتما! فقصَّا عليهن فعبَّر لهما ما رأياهُ، وعرف حرفة كلِّ واحدٍ من منامه. وتأويلُ الشَّيء: ما يرجعُ إليه، وهو الذي يَئُولُ إليه آخرُ ذلك الأمر. ثم قالا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} : في أمر الدين، أي: نراك تُؤثِرُ الإحسانَ، وتأتي مكارمَ الأخلاق. وقيل: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} في علم التعبير؛ وذلك أنَّه حين عبَّر لم يخطىء. [وقيل: إنه كان يعود مرضاهم ويوقّر كبيرهم، فقالوا إنَّا لنراك من المحسنين في حقّ الأصحاب] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 101 فصل في حقيقة علم التعبير وحقيقة علم التَّعبير: أنه تعالى خلق جوهر النَّفس الناطقة، بحيث يمكنها الصعودُ إلى عالم الأفلاكِ، ومطالعةُ اللَّوحِ المحفوظِ، والمانعُ لها من ذلك: اشتغالها بتدبير البدنِ، فوقت يقلُّ هذا الاشتغال، يقوى على هذه المطالعة، فإن وقعت على حالةٍ من الأحوال، ترك آثاراً مخصوصة مناسبة لذلك الإدراكِ الرَّوحاني، إلى علم الخيال، فالمعبِّر يستدلُّ بتلك الآثار الخيالية على تلك الإدراكات القلبيَّة. قال صلوات الله وسلامه عليه: «الرُّؤيَا ثلاثةٌ: رُؤيَا ما يُحدِّثُ الرَّجلُ بِهِ نفسهُ، ورُؤيَا تحدثُ من الشَّيطانِ، ورُؤيَا جُزءٌ مِنْ ستَّةٍ وأرْبَعينَ جُزْءاً مِنَ النُّبوَّةِ» . فصل في قوله يوسف ما أحد قط الإ دخل عليّ من حبه بلاء، أو في البلاء الذي حل بيوسف بسبب حب الناس له: رُويَ أنَّ الفتيين لمَّا رأيا يُوسُفَ، قالا: لقد أحببناك حين رأيناك، فقال لهما يوسفُ: ناشدتكما، لا تُحِبَّاني؛ فواللهِ ما أحبَّنِي أحدٌ قط؛ إلاَّ دخل عليَّ مِنْ حبِّه بلاءٌ، لقد أحَبَّتْنِي عمَّتي، فدخل عليَّ بلاءٌ، ثم أحبَّني أبِي، فألقيتُ في الجبِّ، وأحبَّتْنِي امرأةُ العزيز، فحُبِسْتُ. فلما قصَّا عليه الرؤية، كره يوسفُ أن يعبِّر لهما ما سألاه، لما علم ما في ذلك من المكروه على أحدهما، فأعرض عن سؤالهما، وأخذ في غيره، من إظهار المعجزة، والدُّعاءِ إلى التَّوحيدِ. فقال: «لا يأتيكما طعام ترزقانه» قيلك أراد به في النوم، أي لا يأتيكما طعام ترزقانه في نومكما، إلاَّ نبأتكما بتأويله في اليقظةِ، وقيل: أراد به في اليقظةِ؛ فقوله {لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ} في منازلكما تطعمانه، وتأكلانه «إلاَّ نَبَّأتُكمَا» أخبرتكما «بتأويلهِ» بقدره، ولو، والوقت الذي يصلُ إليكما، قبل أن يصل، وأيَّ طعام أكلتم، وكم أكلتم ومتى أكلتم. وهذا مثلُ معجزةِ عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حيثُ قال: {وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران: 49] . فقال: هذا فعلُ القوَّافين والكهنةِ، فمن أين لك هذا العلم؟ . فقال: ما أنا بكاهنٍ، وإنما ذلك العلمُ مما علَّمني ربِّي. ثم قال: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} ، وفي سؤالٌ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 102 وهو قوله: {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله} يوهمُ أنه صلوت الله وسلامه عليه كان في هذه الملَّة؟ . والجوابُ من وجوه: الأول: أنَّ التَّرك عبارةٌ عن عدمِ التعرُّضِ للشيء، وليس من شرطه أن يكون قد كان خائضاً فيه. والثاني: أن يقال: إنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان عبداً لهم بحسب زعمهم ولعلَّه قبل ذلك كان لا يظهرُ التوحيد، والإيمان؛ خوفاً منهم، ثم إنَّه أظهره في هذا الوقت؛ فكان هذا جارياً مجرى تركِ ملَّة أولئك الكفرة بحسب الظاهر. قوله: (إني تركت) يجُوز أن تكون هذه مستأنفة، أخبر بذلك عن نفسه، ويجوز أن تكون تعليلاً لقوله: {ذلك مما علمني ربي} ، أي: تركي عبادة غير الله، سببٌ لتعليمه إيَّاي ذلك، وعلى الوجهين لا محلَّ لها من الإعراب، و «لا يُؤمِنُونَ» : صفةٌ ل «قومٍ» . وكرَّر «هُمْ» في قوله: {وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ} ؛ قال الزخشريُّ: «للدَّلالة على أنهم خُصُوصاً كافرون بالآخرة، وأنَّ غيرهم مؤمنون بها» . قال أبُوا حيَّان: «وليستْ» هُمْ «عندنا تدلُّ على الخُصوصِ» . قال شهابٌ الدِّينك «لم يَقل الزمخشريُّ إنها تدلُّ على الخُصُوصِ، وإنَّما قال:» وتكرير «هُمْ» للدلالةِ على الخصوصِ «فالتكريرُ هو الذي أفاد الخصوص وهو معنٌى حسنٌ» . وقيل: «كرَّر» هُمْ «؛ للتوكيد. وسكَّن الكوفيُّون الياء مِنْ:» آبَائِي «، ورويت عن أبي عمرٍو، وإبراهيم، وما بعده: بدلٌ، أو عطفٌ بيانِ، أو منصوبٌ على المدح. قوله {واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ} ، لمَّا أدَّعى النبوة، وتحدَّى بالمعجزة وهوعلمُ التَّعبير قرَّر كونه من أهل النبوة، وأنَّ أباه وأجداه كانوا أنبياء عليهم الصلاة والسلام فإنَّ الإنسان متى ادَّعى حرفة أبيه وجده، لم يستبعد ذلك منه، وأيضاً: فكما أنَّ درجة إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وإسحاق، ويعقوب، كان أمْراً مشهوراً في الدنيا، فإذا ظهر أنَّه ولدهم، عظَّموه، ونظروا إليه بعينِ الإجلالِ؛ فكان انقيادهم له أتمَّ وتتأثر قلوبهم بكلامه. فإن قيل: إنَّه كان نبيَّا، فكيف قال: {واتبعت مِلَّةَ آبآئي} ، والنبيُّ لا بدَّ وأن يكون مختصاً بتشريعة نفسه؟ . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 103 فالجواب: لعلَّ مراده أنَّ التوحيد كلا يتغيَّر، ولعله كان رسُولاً من عند الله؛ إلاَّ أنه كان على شريعةِ إبراهيم صلوات الله وسلام عليه وعلى الأنبياء المرسلين. قوله: {مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ} فيه سؤال: وهو أنَّ حال كُلِّ من المكلفين كذلك؟ . والجواب: ليس المراد بقوله:» مَاكَانَ لنَا «أنَّهُ حرَّم ذلك عليهم، بل المرادُ أنه تبارك وتعالى طهَّره، وطهر آباءه عن الكفر؛ كقوله {مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35] . قوله:» مِنْ شيءٍ «يحوز أن يكون مصدراً، أي: شيئاً من الإشراك، ويجوزُ أن يكون واقعاً على الشِّرك، أي: ما كان لنا أن نُشرِكَ شيئاً غيره من ملكِ، أو إنسٍ، أو جنٍّ، فكيم بصنَم؟ . و» مِنْ « [مزيدة] على التَّقديرين؛ لوجود الشرطين. ثم قال: «ذلِكَ» أي: التَّوحيد والعلمُ {مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس} ، بِمَا بيَّن لهم من الهدى؛ {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ} نعم الله على الإيمان. حُكِيَ أنَّ واحداً من أهْلِ السُّنَّةِ دخل على بشرِ بن المعتمر، وقال له: يا هذا: هل تشكرُ الله على الإيمان أم لا؟ فإنْ قلت لا، فقد خالفت الإجماع، وإن شكرته، فكيف تشكرُ على ما ليس فعلاً له؟ . فقال له بشرٌ: إنَّا نشكرُ الله على أنه تعالى أعطانا: القدرة، والعقل، والآلة، فيجبُ علينا أن نشكره على إعطاءِ القدرةِ والآلةِ، فأمَّا أن نشكرهُ على الإيمان، مع أنَّ الإيمان ليس فعلاً، فذلك باطلٌ، فدخل عليهم ثمامةُ بن الأشرسِ، وقال: إنَّا لا نشكرُ الله على الإيمان، بل اللهُ يشكرنا عليه؛ كما قال تعالى: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 19] فقال بشرٌ: «لمَّا صعب الكلامُ، سهُلَ» . قال ابن الخطيب: «واعلم أنَّ الذي اقترحه ثمامة باطلٌ؛ بنص هذه الآية؛ لأنَّه تعالى بين أن عدم الإشراك من فضل الله، ثم بيَّن أنَّ أكثر الناس لا يشكُرون هذه النعمةَ، وإنما ذكره على سبيل الذَّمِّ، فدل هذا على أنه يجبُ على كل مؤمن أن يشكُر الله على نعمةِ الإيمانِ، وحينئذٍ تقوى الحجَّةُ، وتكمُل الدلالة» . قال القاضي: قوله: ذلِكَ «إن جعلناه إشارة إلى التمسك بالتوحيدِ، فهو من فضل الله تعالى لأنه إنما حصل بإلطافه، وتسهيله، ويحتملُ أن يكون إشارة إلى النبوة. والجواب: أنَّ» ذَلِكَ إشارة إلى المذكورِ السابقِ، وذلك هو تركُ الإشراكِ فوجب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 104 أن يكون ترك الإشراك من فضل الله تعالى والقاضي يصرفه إلى الإلطاف والتسهيل؛ فكان هذا تركاً للظاهر، وأمَّا صرفه إلى النبوة، فبعيدٌ؛ لأن اللفظ الدالَّ على الإشارة يجبُ صرفه إلى أقرب المذكورات، وهو هنا عدمُ الإشراك. قوله تعالى: {ياصاحبي السجن} : يجوزُ أن يكون من باب الإضافة للظروف؛ إذ الأصل: يا صاحبيّ في السِّجن، ويجوز أن تكون من باب الإضافة إلى المشبه بالمعفول به، والمعنى: يا سَاكِني السِّجن، وذكر الصُّحبة، لطُولِ مقامهما فيه؛ كقوله تعالى: {أَصْحَابُ النَّارِ} [الأعراف: 44 50] . وقوله: {أَمِ الله} ، هنا: متًّصلةٌ؛ عطفت الجلالة على «أرْبَابٌ» . فصل اعلم أنه عليه الصلاة والسلام لما أدَّعى النبوة في الآية الأولى، وكان إثباتُ النبوة مبينًّا على إثبات الإلهيَّة، لا جرم شرع في هذه الآيةِ في تقريرِ الإلهياتِ، ولما كان أكثرُ الخلقِ مقرِّين بوجودِ الإله العالم القادر، وإنما الشأنُ في أنهم يتخذُون أصناماً على صُورِ الأرواح الفكلية، ويعبدونها، ويتوقَّعُون حصول النَّفْعِ والضُّر منها، لا جرم كان سعيُ أكثر الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم في المنع من هذه، وكان الأمر على هذا إلى زمانِ يوسف صلوات الله وسلامه عليه وعلى الأنبياء والمرسلين. فلهذا السبب، شرع في ذكر ما يدلُّ على فسادِ العقول بعبادةِ الأصنام؛ فقال: {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} ، والمراد منه الاستفهام على سبيل الإنكارِ، وتقريرُ فساد القول بعبادة الأصنام: أنه تعالى بيَّن أن كثرة الآلهةِ توجب الخلل والفاسد في هذا العالم؛ لقوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فلمَّا قرَّر أنَّ كثرة الآلهة تُوجبُ الخلل والفساد، وكونُ الإله واحدٌ، يقتضي حصول الأنتظام، وحسن الترتيب قال هاهنا: {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} . وأما تقرير كون كثرةِ الآلهةِ، توجب الخلل والفساد في العالم: إنَّه لو كان اثْنانِ أو ثلاثةُ، لم نعلم من الذي خلقنا، ورزقنا، ودفع الآفاتِ عنَّا؛ فيقع الشِّرْكُ في أنَّا نعبدُ هذا أم ذاك. ومعنى: كونهم متفرقين، أي: شتَّى، هذا من ذهب، وهذا من فضةٍ، وها من حديدٍ، وهذا أعلى، وهذا أوسط، وهذا أدْنَى، متباينون لا تضر ولا تنفعُ. {خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} ، «الوَاحِدُ» : لا ثاني لهُ، «القَهَّارُ» الغالبُ عل الكلِّ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 105 ثُمَّ عجز الأصنام، فقال: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً} أي: من دون الله، وإنما ذكر بلفظ الجمعِ، وقد ابتدأ الخطاب لاثنين؛ لأنه أراد جميع أهل السِّجن، وكلَّ من هو على مثل حالهمَا من الشرك. فإن قيل: لم سمَّاها أرباباً، وليست كذلك؟ . فالجوابك لا عتقادهم فيها أنَّها كذلك، وأيضاً: الكلامُ خرج على سبيل الفرضِ، والتقدير، والمعنى: أنَّها إن كانت أرباباً، فهي خيرٌ أم الله الواحدج القهار؟ . فإن قيل: كيف يجوزُ التفاضلُ بين الأصنامِ، وبين الله تعالى، حتَّى قيل: إنها خيرٌ أم اللهِ؟ . فالجوابُ: أنَّهُ خرج على سبيل الفرض، والمعنى: لو سلمنا أنَّه حصل فيها ما يوجبُ الخير، فهي خيرُ أم اللهُ الواحدُ القهار؟ . قوله تعالى: {إِلاَّ أَسْمَآءً} ، إما أن يراد بها المسميات، أو على حذف مضاف، أي: ذواتُ المُسمَّيات، و «سَمِّتُمُوهَا» ك صفةٌ، وهي متعديةٌ لاثنين حذف ثانيهما، أي: سَمَّيتُمُوها آلهة. و «مَا أنْزَلَ» : صفةٌ ل: أسْمَاء «، و» مِنْ «: زائدةٌ في:» مِنْ سُلطَانٍ «، أي: حُجَّةٍ. و» إن الحُكْمُ «:» إنْ «نافيةٌ، ولا يجوز الإتباع بضمَّة الحاء؛ كقوله: {وَقَالَتِ اخْرُجْ} [يوسف: 31] ، ونحو؛ لأنَّ الألف واللام كلمةٌ مستقلةٌن فهي فاصلةٌ بينهما. فصل قال في الآية: {أَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار} ، وذلك يدلُّ على وجودِ هذه المسميات، ثم قال في عقبه: {مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ} ، وهذا يدلُّ على أنَّ المسمى غير حاصلٍ، وبينها تناقضٌ. والجوابُ: أنَّ الذوات موجودةٌ حاصلةٌ إلاَّ أنَّ المسمى بالإله غيرُ حاصلٍ؛ وبيانه من وجهين: الأول: أن ذوات الأصنام، وإن كانت موجودةً، إلاَّ أنَّها غيرُ موصوفةٍ بصفاتِ الإلهية، وإذا كان كذلك، كان الشيءُ الذي هو مسمَّى بالإلهيَة في الحقيقة غير موجودٍن ولا حاصلٍ. الثاني: رُوِيَ أنَّ عبدةً الأصنام مشبهةٌ، فاعتقدوا أنَّ الإله هو النورُ الأعظمُ، وأن الملائكة أنوارٌ صغيرةٌ؛ فوضعوا علَى صورة تلك الأنوارِ هذه الأرباب، ومعبودهم في الحقيقةِ هو تلك الأنوارُ، ثُمَّ إنَّ جماعة ممن يعبدون الأصنام، قالوا: نحن لا نقولُ إنَّ هذه الأصنام آلهةٌ للعالم، بمعنى أنَّها هي التي خلقت العالم، إلاَّ أنَّا نسميها آلهةٌ نعبدها؛ لا عتقادنا أنَّ الله أمرنا بذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 106 فأجاب الله تعالى عنه، فقال: أمَّا تسميتها بالآلهةِ، فما أمر الله بذلك، ولا أنزل في هذه التَّسمية حُجَّة، ولا برهاناً، وليس لغيرِ الله حكمٌ يجبُ قبوله، ولا أمرٌ يجبُ إلزامهُ بل الحُكْمُ والأمرُ ليس إلاَّ للهِ. ثم إنه تعالى: {أَمَرَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} : لأنَّ العبادة نهايةُ التعظيم؛ فلا يليقُ إلاَّ بمن حصل منه: الخلقُ، والإحياءُ، والعقلُ، والرزقُ، والهدايةُ، ونَعمُ الله كثيرةٌ، وإحسانه إلى الخلق غير متناهِ. ثم قال تعالى: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} ، وذلك أنَّ أكثر الخلق ينسبون حدُوثَ الحوادثِ الأرضية إلى الاتصالاتِ الفلكية، والمناسباتِ الكوكبيَّة؛ لأجل أنه تقرر في العقولِ أنَّ الحادثَ لا بُدَّ له من سببٍ، فاعتبروا أحْوالَ الشمسِ في أرباع الفلكِ، وربطُوا الفُصُول الأربعة بحركة الشمسِ. ثم إنهم لما شاهدوا أحوال النَّباتِ والحيوان، تختلفُ باختلافِ الفصول الأربعة غلب على طباع أكثرِ الخلقِ، أنَّ المدبِّر [لحدوث] الحوادث في العالم، هو الشمسُ والقمر، وسائرُ الكواكب. ثم إنه تعالى إذا وفَّق إنساناً حتَّى ترقَّى في هذه الدَّرجةِ، وعرف أنَّها في ذواتها، وصفاتها مُفتقرةٌ إلى موجودٍ، مبدع قادرٍ، قاهر، عليم، حكيمٍ، فذلك الشخصًُ يكون في غاية النُّدرةِ؛ فلهذا قال: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} . قوله «أمَرَ» يجوز أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، وأن يكون حالاً، و «قد» معه مرادة عند بعضهم. قال أبو البقاءِ: وهو ضعيفٌ لعضف العامل فيه. يعني بالعامل: ما تضمنه الجَارُّ في قوله «إلاَّ الله» من الاستقرار. قوله تعالى: {ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي} ، العامَّة على فتح الياء، من سقاه يسقيه، وقرأ عكرمة في رواية «فيُسْقِي» بضم حرفِ المضارعة من «أسْقَى» وهما لغتان، قال: سقاه، وأسقاه، وسيأتي أنَّهُما قراءتان في السبع، و {نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] ، هي هما بمعنَى أم بينهما فرقٌ؟ . ونقل ابنُ عطيَّة، عن كرمة، والجحدريِّ: أنَّهما قرءا «فيُسْقَى ربُّهُ» مبنيًّا للمعفول، ورفع «ربُّهُ» ، ونسبها الزمخشريُّ لعكرمة فقط. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 107 فصل اعلم أنه صلوات الله وسلامه عليه لما قرَّر التوحيد والنبوة، عاد إلى الجواب عن السُّؤالِ الذي ذكر، ففسَّر رُؤياهما، فقال: {ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا} ، وهو صاحبُ الشَّراب «فيَسْقِي ربَّهُ» : يعني الملك، وأما الآخرُ: يعنى الخبَّاز، فيدعوه الملكُ، ويخرجه، ويصلبه؛ فتأكل الطيرُ مِنْ رأسه. قال ابنُ مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «لمَّا سَمِعَا قول يوسف صلوات الله وسلامه عليه قالا: مَا رَأيْنَا شَيْئاً إنَّما كُنَّا نلعَبُ» ، قال يوسف: «قُضَيَ الأمْرُ الذي فِيهِ تَسْتفتيَانِ» . فإن قيل: هذا الجوابُ الذي ذكره يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ذكره؛ بناءً على أنَّ الوحي من قب لالله تعالى أو نباءً على علم التَّعبير. والأول باطلٌ؛ لأن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما نقل أنَّما ذكره على سبيل التعبير، وأيضاً قال الله: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا} ، ولو كان ذلك التعبير مبنيًّا على الوحي، كان الحاصلُ مه القطعُ واليقينُ، لا الظنُّ والتَّخمينُ. والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأن علم التعبير مبنيٌّ على الظنِّ، والقضاءُ: هو الإلزامُ الجزمُ والحكمُ البتُّ، فكيف بني الجزم والقطع على الظنِّ والحسبانِ؟ . والجواب: لا يبعد أن يقال: إنهما سألاه عن ذلك المنام، صدقا فيه أو كذبا، فإنَّ الله تعالى أوحى إليه أنَّ عاقبة كُلَّ واحدٍ منهما تكون على ذلك الوجهِ المخصوص، فملا نزل الوحيُ بذلك الغيب عند ذلك السؤال، وقع في الظنَّ أنَّه ذكره على سبيل [التَّعبير] . ولا يبعد أيضاً أن يقال: إنه بنى ذلك الجواب على علم التعبير. وقوله «قُضِيَ الأمْرُ الَّذي فِيهِ تَسْتفْتيانِ» ما عنى به أنَّ الذي ذكره واقعٌ لا محالة، بل عنى أنَّ حكمه في تعبير ما سألاه عنه ذلك الذي ذكره. قوله: «قُضِيَ الأمْرُ» قال الزمخشريُّ: «ما اسْتفْتَيَا في أمرٍ واحدٍ، بل في أمرين مختلفين، فما وجهُ التوحيدِ؟ قلتُ: المرادُ بالأمرِ ما أتهما به من سمِّ الملك، وما يُجِنَا من أجله، والمعنى: فُرغَ من الأمر الذي عنه تسألان» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 108 قوله تعالى: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ} ، فاعلُ «ظنَّ» : يجوزُ أن يكون يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إن كان تأويله بطريقِ الاجتهادِ، وأن يكون الشَّرابي إن كان تأويله بطريقِ الوحي، أو يكون الظنُّ بمعنى اليقين؛ كقوله تعالى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] و {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ} [الحاقة: 20] قال الزمخشريُّ. يعني أنه إن كان الظنُّ على بابه، فلا يستقيمُ إسناده إلى يوسف؛ إلاَّ ان يكون تأويله بطريق الاجتهاد، لأه منتى كان بِطَريقِ الوحْيِ، كان يَقِيناً؛ فينسب الظنُّ حينئذٍ للشرابيّ لا ليوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. وأمَّا إذا كان الظنُّ بمعنى اليقينِ، فيصح نسبتُه إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إن كان تأويله بطريق الوحْيِ. وذهب قتادة: إلى كونِ الظن على بابه وهو مسندٌ إلى يوسف إن كان تأويله بطريق الاجتهاد، فإنه قال: «الظنُّ هو على بابه؛ لأنّ عبارة الرُّؤيا ظنٌّ» . قوله: «مِنْهُمَا» ، يجوزُ أن يكون صفةً ل «نَاجٍ» ، وأن يتعلَّق بمحذوفٍ؛ على أنَّهُ حالٌ من الموصول. قال أبو البقاءِ: ولا يكونُ متعلقاً ب «نَاجِ» لأنَّه ليس المعنى عليه «قال شهاب الدين: لو تعلق ب» نَاجِ «لأفْهم أنَّ غيرهما نَجَا منهما، أي: انفلت منهما، والمعنى: أنَّ أحدهما هو النَّاجي، وهذا المعنى الذي نبه عليه بعيدٌ توهُّمهُ. والضميرُ في» فَأنْسَاهُ «، يعودُ على الشرابيِّ، وقيل: على يوسف؛ وهو ضعيفٌ. فصل في الاختلاف فيمن أنساه الشيطان ذكر ربه قال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ للناجي من الرجلين: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} ، إي: عند الملك، أي: اذكرني عنده أنَّهُ مظلومٌ من جهة إخوته، لما أخرجوه، وباعوه، ثم إنَّه مظلوم في هذه الواقعة؛ التي لأجلها حُبِسَ. ثم قال تعالى: {فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ} قيل: أنْسَى الساقي ذكر يوسف للملك، تقديره: فأنساه الشيطان ذكره لربه. ورجَّح بعضُ العلماء هذا القول، فقال: لو أنَّ الشيطان أنْسَى يوسف ذكر الله، لما استحقَّ العقاب باللَّبثِ في السِّجْنِ؛ إذ النَّاسي غيرٌ مُؤاخذٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 109 وقد يجابُ عن ذلك بأنَّ النِّسيانَ قد يكونُ بمعنى التَّركِ، فلما ترك ذكر اللهِ، ودعاهُ الشَّيطانُ إلى ذلك، عوقب. وأجيب عن هذا الجواب بقوله تعالى: {وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] ، فدلَّ على أن النَّاسي هو السَّاقِي لا يوسف، مع قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] ، فكيف يصحُّ أن يضاف نسيانه إلى الشيطان، وليس له على الأنبياء سلطان؟ . وأجيب عن هذا بأن النيسان لا عصمة للأنبياء عنه، إلاَّ في وجه واحد وهو الخبرُ من الله تعالى، فيما يلقَّونه؛ فإنَّهم مَعْصُومُون فيه، وإذا وقع منهم النيسان حيثُ يجوزُ وقوعه، فإنَّه ينسبُ إلى الشيطان؛ وذلك إنَّما يكونُ فميا أخبر الله عنهم، ولا يجوز لنا نحن ذلك فيهم، قال عليه السلام:» نَسِيَ آدمُ فنَسِيَتْ ذُريته «وقال:» إنَّما أنا بشرٌ، أنْسَى كما تَنْسَوْن «. وقال ابنُ عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وعليه الأكثرون:» أنسى الشيطانُ يوسف ذكر ربِّه؛ حتَّى ابتغى الفرج من غيره، واستعان بمخلوقٍ؛ وتلك غفلة عرضتْ ليُوسفَ مِنَ الشَّيطانِ «. » فَلبِثَ «: مكث» في السِّجنِ بضْعَ سِنينَ «قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يَرْحَمُ اللهُ أخِي يُوسفَ؛ لوْ لَمْ يقُلْ: «اذْكرنِي عِنْدَ ربِّكَ» ؛ ما لبثَ فِي السِّجن «ومما يدلُّ على أنَّه المراد قوله: {فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ} ولو كان المراد الساقي لقال فأنساه الشيطان ذكر يوسف. واعلم أنَّ الاستعانة بغيرِ الله في دفع الظلمن جائزةٌ في الشريعة، لا إنكار عليه. وإذا كان كذلك، فلم صار يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مُؤاخذاً بهذا القدر؟ وكيف لا يصيرُ مؤاخذاً بالإقدام على الزِّنا؟ ومكافأة الإحسان بالإساءة [أولى] ؟ . فلما رأينا الله أخذ يوسف بهذا القدرِ، ولمْ يؤاخذه في تلك القضية ألبتَّة، وما عابهُ، بل ذكره بأعظمِ وجوهِ المدحِ والثناءِ علمنا أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان مُبَرًّأ ممَّا نسبوهُ إليهِ. فصل في اشتقاق البضع وما يدل عليه قال الزجاج: «اشتقاقُ الضْعِ من بَضعْتُ بمعنى قَطْعْتُ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 110 قال النَّواوي: «والبِضْعُ بكسر الباء، وقد تفتح: ومعناه القطعةُ من العدد» . قال الفراء: لا تذكرُ إلاَّ مع عشرةٍ، أو عشرينَ إلى التِّسعينَ؛ وذلك يقتضي أن يكون مخصوصاً بما بين الثلاثة إلى التسعةِ، قال: وهكذا رأيتُ العرب يقولون، وما رأيتهم يقولون: بضعٌ ومائةٌ، قال: وإنما يقالُ نيِّفٌ مائة؛ والقرآنُ يردُّ عليه. ويقال: بضعُ نسوة، وبضعةُ رجالٍ. روى الشعبيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قيل لهُ: كم البِضْعُ؟ قال: مَا دُونَ العَشرة» . وقال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «مَا دُونَ العشرة» . وقال مجاهدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: مابين الثَّلاث إلى السَّبع. وقيل إلى الخمسِ. وقال قتادةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: مابين الثَّلاث إلى التِّسعِ. وأكثر المفسرين على أن البِضْعَ في هذه الآية سبعُ سنينَ، وقد لبث قبلهُ خمس سنين فجملته، اثنتا عشرة سنة. قال ابن عبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «لما تضرَّع يوسفُ صلوات الله وسلامه عليه لذلك الرجلِ، كان قد قرُبَ وقتُ خروجه، فلما ذكر ذلك لبث في السجن بعده سبع سنينَ» . وقيل: البِضْعُك فوق الخمسةِ ودُون العشرة. وقد تقدم عند قوله {بِضَاعَةً} [يوسف: 19] ، والبَعْضُ قد تقدَّم أه من هذا المعنى، عند ذكر البعوضةِ. وفي المدَّة التي أقامها يوسف في السجن أقوالٌ: أحدهما: قال ابنُ جريجٍ، وقتادة، ووهبُ بنُ منبِّه: أقام أيوبُ في البلاءِ سبعَ سنينَ، وأقام يوسفُ في السِّجن سبع سنينَ. وقال ابن عباسك اثنتَيْ عَشْرة سنة. وقال الضحاكُ: أرْبع عشرة سنة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 111 قوله تعالى: {وَقَالَ الملك إني أرى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ} الآية. اعلم أنَّه تعالى عزَّ وجلَّ إذا أرادَ شيئاً، هيّأ أسبابه، ولما دنا فرجُ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ رأى ملكُ مصر في النوم سبع بقراتٍ سمانٍ خرجن من نهرٍ يابسٍ، ثم خرج عَقِيبَهُنَّ سبعُ بقراتٍ عجافٍ في غايةِ الهُزال، فابتلعتِ العجافُ السِّمان، ورأى سبعَ سُنبلاتٍ خُضرٍ، قد انعقد حبُّها، وسبعاً أخر يابساتٍ، قد استحصدت، فالتوتِ اليابساُ على الخضرِ حتَّى غلبْنَ عليها، فلم يبق من خضرتها شيءٌ؛ فجمع الكهنة، والسَّحرة، والنجامة، والمُعبِّرين، وقصَّ عليهم رؤياه؛ وهو قوله {يا أيها الملأ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} ، أخلاط أحلامٍ مُشْتبهَةٌ أهاويلُ. فصل قال عليٌّ بنُ أبي طالب كرم الله وجهه: «المعز والبقر إذا دخلت المدينة، فإن كانت سماناً، فهي سِني رخاءٍ، وإن كانت عجافاً، كانت شداداً، وإن كانت المدينة مدينة بحرٍ، وأبَّان سفرٍ، قدمت سفنٌ على عددها، وحالها؛ وإلاَّ كانت فتناً مترادفةً كأنها وجوهُ البقر يشبه بعضها بعضاً؛ كما قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ في الفتنِ:» كأنَّها صَياصِيُّ البقَرِ «؛ لتشابهها، إلاَّ أن تكون صفراً كلَّها، فإنَّها أمراضٌ تدخل على النَّاس، وإن كانت مختلفة الألوان شنيعة القرون، كان الناسُ ينفرون منها، أو كان النارُ والدخانُ يخرج من أفواهها؛ فإنها عسكر، أو غارة أو عدوّ، يضرب عليهم، وينزلُ بساحتهم، وقد تدلُّ البقرة على الزَّوجة، والخادم، والغلَّة والسَّنة: لما يكونُ فهيا من الغلَّةِ، والولدِ، والنباتٍ» . قوله: «سِمَانٍ» ، صفةٌ ل «بَقَراتٍ» ، وهو جمعُ سمينةٍ، ويجمع «سَمِين» أيضاً عليه يقال: رجالٌ سمانٌ ونساءُ سمان؛ كما يقال: رجالُ كرامٌ ونساءٌ كرامٌ، و «السِّمن» : الجزء: 11 ¦ الصفحة: 112 مصدر سَمِنَ يَسْمَنُ فهو سَمِينٌ، فالاسمُ والمصدر، جاءا على غير قاسٍ؛ إذا قياسهما «سَمَن» بفتح الميم فهو سَمِن بسكرها؛ نحو فَرِحَ فرحاً فهو فرح. قال الزمخشريُّ: «فإن قلتَ: هل من فوقٍ بين إيقاع سمانٍ صفة للتمييز: وهو بقراتٍ دون المُميَّزِ: سَبْعَ بقرات سماناً؟ قلتُ: إذا أوقعتها صفة ل» بقَراتٍ «، فقد قصدت إلى أن تميِّز السبع بنوعٍ من البقرات، وهو السِّمان منهم، لا بِجِنْسهِنَّ، ولو وصفت السبع بها، لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقراتِ لا بنوع منها، ثم رجعت فوصفت المُميَّز بالجنس بالسمن. فإن قلت: هلا قيل:» سبع عجافٍ «على الإضافة. قلت: التمييز موضوع الجنسِ، والعجافُ وصفٌ لا يقع البيان به وحده، فإن قلت: فقد يقولون: ثلاثة فرسانٍ، وخمسة أصحابٍ، لبيانِ؛ قلتُ: الفارسُ، والصاحبُ، والرَّاكب، ونحوها صفاتٌ جرت مجرى الأسماءِ؛ فأخذت حكمها، وجاز فيها ما لم يجز في غيرها، ألا تراك ألا تقول: عندي ثلاثةً ضخامٌ ولا أربعةٌ غلاظٌ. فإن قلت: ذلك مما يشكل، وما نحنُ بسبيله لا إشكال فيه، ألا ترى أنه لم يقل: وبقرات سبع عجاف؛ لوقوع العلم بأن المراد البقرات قلت: ترك الأصل لا يجوز مع وقوع الاستغناء عما ليس بأصل، وقد وقع الاستغناء عن قولك: سبع عجاف عمَّا تقترحهُ من التمييز بالوصف «انتهى. وهي أسئلةٌ وأجوبةٌ حسنة، وتحقيق السؤال الأول وجوابه: أنه يلزمُ من وصفِ التَّمييز بشيء وصف المميز به، ولا يلزم من وصف المميز وصف التمييز بذلك الشيء؛ بيانه: أنك إذا قلت:» عندي أربعة رجالٍ حسانٍ «بالجر، كان معناه: أربعةٌ من الرجال الحسانِ؛ فيلزُم حسنُ الإربعةِ؛ لأنهم بعض الرجالِ الحسانِ، وإذا قلت: عندي أربعة رجالٍ حسانٌ برفع حسان كان معناه: أربعةٌ من الرجال حسان، وليس فيه دلالة على وصف الرجال بالحسن. وتحقيق الثاني وجوابه: أنَّ أسماء العدد لا تضافُ إلى الأوصاف إلا في ضرورة وإنما يجاء بها تابعة لأسماء [العدد] ؛ فيقال: عندي ثلاثةٌ قُرشيُّونَ، ولا يقال ثلاثة قرشيِّين بالإضافة إلا في شعرٍ، ثم أعترض بثلاثةٍ فرسانٍ، وأجاب بجريانِ ذلك مجرى الأسماء. وتحقيقُ الثالث: أنه إنَّما امتنع» ثلاثةُ ضخامٍ «ونحوه؛ لأنه لا يعلم موصوفه، بخلاف الآية الكريمة، فإنَّ الموصوف معلومٌ، ولذلك لم يصرخ به. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 113 وأجاب عن ذلك: بأنَّ الأصل عدم إضافةِ العددِ إلى الصِّفة كما تقدم، فلا يترك هذا الأصل مع الاستغناء عنه بالفرع. وبالجملةِ: ففي هذه العبارةِ قلقٌ، هذا مُلخَّصُهَا. ولم يذكر أبو حيَّان نصه ولا اعترض عليه، بل لخًّص بعض معانيه، وتركهُ على إشكاله. فصل في اشتقاق» عجاف « جمعُ عجفاء: عِجَاف والقياس: عُجْف؛ نحو: حَمْرَاء، وحُمْر؛ حملاً له على سمانٍ؛ لأنَّه نقيضُه، ومن دأبهم حملُ النظير على النظيرِ، والنَّقيضِ على النقيض، قاله الزمخشريُّ والعَجَفُ: شدةُ الهزالِ الذي ليس بعده هزال؛ قال: [الكامل] 3106 - عَمْرُو الَّذي هَشَمَ الشَّريدَ لقَوْمِهِ ... ورِجَالُ مَكَّة مُسْنِتُونَ عِجَافُ قال الليث: العَجَفُ: ذهابُ السِّمن، والفِعْلُ: عجف يَعجفُ، والذَّكرُ: أعْجفُ، والأنثى: عَجْفاء، والجمع عِجَافٌ في الذكران والإناث. وليس في كلام العربِ: أفْعَلُ، وفعلاء، وجمعها على: فِعَالٍ غَيْر أعْجفُ، وعِجَاف، هي شاذة حملوها على لفظ سمانٍ، وعجافٍ؛ لأنهما نقيضان، ومن عادتهم حملُ النَّظيرِ على النظير، والنَّقيضِ على النَّقيضِ. وقال الرَّاغب: هو من قولهم: نَصْلٌ أعجفُ، أي: رقيقٌ. وعَجَفَتْ نفسي عن الطَّعام وعن فلانٍ: إذا نبت عنهما، وأعْجفَ الرَّجل أي: صارتْ [إيله] عِجَافاً. » وأخَرَ يَابِساتٍ «، قوله:» وأخَرَ «نسقٌ على قوله» سَبْعَ «لا على» سُنْبُلاتٍ «ويكون قد حذف اسم العددِ، من قوله:» وأخَرَ يَابِساتٍ «والتقدير: سَبْعاً أخَرَ، وإنما حذف؛ لأنَّ التقسيم في البقرات نقيضُ التَّقسيم في السنبلات. قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: هل في الآية دليلٌ على أنَّ السنبلات اليابسة كانت كالخُضرِ؟ قلت: الكلامُ منبيٌّ على انصبابه إلى هذا العددِ في البقراتِ السِّمان والعجافِ، والسنبلات الخضرِ، فوجب أن يتناول معنى الأخر السبع، ويكون قوله:» وأخَرَ يَابسَاتٍ «بمعنى: وسبعاً أخر» انتهى. وإنَّما لم يَجُز عطفُ أخر على التمييز، وهو «سُنْبُلاتٍ» ، فيكون أخر مجروراً لا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 114 منصًوباً؛ لأنه من حيثُ العطف عليه يكونُ من جملة مميز سبع ومن جهة كونه أخر يكون مبايناً لسبع فتدافعا ولو كان ترتيبُ الآية الكريمة سبع سُنبلآتٍ خُضرس ويابِساتٍ، لصحَّ العطف، ويكون من توزيع السنبلات إلى هذينِ الموضعين أعني: الاخضرار واليبس. وقد أوضح الزمخشريُّ هذا حيث قال: «فإن قلتَ: هل يجوز أن يعطف قوله» وأخَرَ يَابسَاتٍ «على» سُنْبُلاتٍ خُضرٍ «، فيكون مجرور المحلِّ؟ قلت: يؤدِّي إلى تدافع؛ وهو أنَّ عطفها على» سُنبُلاتٍ خُضرٍ «يقتضي أن يكون داخلاً في حكمها فيكون معها مميز السبع المذكور، ولفظ» أخَر «يقتضي أن يكون غير السَّبْعِح بيانه تقول عنده سبعة رجال قيام وقعود بالجر فيصحّ لأنك ميَّزت السبعة برجالٍ موصوفين بالقيام والقعودِ على أنَّ بعضهم قيام، وبعضهم قعودٌ، فلو قلت: عنده سبعةٌ قيامٌ وآخرين قعودٌ؛ تدافع؛ ففسد» . قوله للرُّؤيَا فيه أربعة أقوالٍ: أحدهما: أن اللام فيه مزيدة، فلا تعلق لها بشيء؛ وزيدت لتقدم المعمول مقوية للعامل؛ كما زيدت فيه إذا كان العامل فرعاً؛ كقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ} [هود: 107] ، ولا تزاد فيما عدا ذنبك إلا ضرورة؛ كقوله: [الوافر] 3107 - فلمَّا أنْ تَوافَيْنَا قَلِيلاً ... أنَخْنَا للكَلاكِلِ فارْتَمَيْنَا يريد: أنخنا الكلاكِلَ، فزيدت مع فقدان الشرطين، هكذا عبارة بعضهم يقول: إلا في ضرورة. وبعضهم يقول: الأكثر ألاَّ تزاد، ويتحرزُ من قوله تعالى {رَدِفَ لَكُم} [النمل: 72] ، لأنَّ الأصل: ردفكُم، فزيدتْ فيه اللامُ، ولا تقدم، ولا فرعيَّة، ومن أطلق ذلك جعل الآية من باب التَّضمين، وسيأتي في مكانه إن شاء الله تعالى، وقد تقدم من ذلك طرفٌ جيدٌ. الثاني: أن يضمَّن تعبرون معنى ما يتعدَّى باللام، تقديره أي: إن كنتم تنتدبون لعبارةِ الرؤيا. الثالث: أن يكون «للرُّؤيا» خبرُ «كنتم» ؛ كما تقول: «كان فلانٌ لهذا الأمرِ» ، أي: إذا استقلّ به متمكِّناً منه، وعلى هذا فيكون في «تَعْبرُونَ» وجهان: أحدهما: أنًَّهُ خبر ثانٍ ل «كُنْتُمْ» . الثاني: أنه حالٌ من الضمير المُرتفعِ بالجار؛ لوقوعه خبراً. الرابع: أن تتعلق اللام بمحذوفٍ على أنَّها للبيان؛ كقوله تعالى {وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 115 الزَّاهِدِينَ} [يوسف: 20] تقديره: أعني فيه، وكذلك هذا، تقديره: أعني للرُّؤيا، وعلى هذا يكون مفعولُ «تَعْبُرُونَ» محذوفاً تقديره: تعبرونها. وقرأ أبو جعفر: الرُّيَّا [وبابها الرؤيا] بالإدغام؛ وذلك أنَّه قلب الهمزة واواً؛ لسكونها بعد ضمةٍ، فاجتمعت «واوٌ» ، و «ياءٌ» وسبقت إحداهما بالسكون؛ فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياءُِ في الياءِ. وهذه القراءة عندهم ضعيفةٌ؛ لأن البدل غير لازمٍ، فكأنَّه لم يوجد واوٌ؛ نظراً إلى الهزة. فصل في معنى «تعبرون» يقال: عَبَرْتُ الرُّؤيَا أعبرها عبارة، وعبَرةً بالتخفيف، قال الزمخشريُّ: «وهو الذي اعتمدهُ الأثباتُ، ورأيتهم يُنْكِرُونَ» عَبَّرتُ «بالتشديد، والتَّعبير والمُعبِّر» قال: وقد عثرتُ على بيتٍ أشده المبرِّد في كتاب الكاملِ لبعضِ الأعرابِ: [السريع] 3108 - رَأيتُ رُؤيَا ثُمَّ عبَّرتُهَا ... وكُنْتُ للأحْلامِ عَبَّارَا قال وحقيقة تعبير الرؤيا: ذكرُ عاقبتها، وآخر أمرها؛ كما تقول: عبرتُ النَّهر إذا قطتعهُ حتَّى تبلغ آخرَ عرضه. قال الأزهريُّ: «مأخوذٌ من العُبْرِ، وهو جانبُ النَّهر، ومعنى عبرتُ النَّهرَ والطريق: قطعتهُ إلى الجانب الآخر، فقيل لعابرِ الرؤيا: عابرٌ؛ لأنَّه يتأمل جانبي الرُّؤيا، ويتفكرُ في أطرافها وينتقل من أحد الطَّرفين إلى الآخر» . قال بعضُ أهل اللغة: العينُ، والباءُ، والراءُ، تضعها العرب: لجوار الشيء، ومضيفه، وقلَّة تمكنه، ولبثه، وهو فعل، يقال: عبر الرؤيا: أخرجها من حال النَّوم إلى حال اليقظةِ، كعبور البحر من جانب إلى جانبٍ. وناقة عبراء سفار، أي: يقطعُ بها الطريق ويعبرُ. والشِّعرى: العبُورُ؛ لأنها عبرت المجرَّة. والاعتبارُ بالشيء: هو التَّمثيلُ بينه وبين حاكيه. والعبرةُ: الدَّمعةٌ؛ لعبورها العين، وخروجها من الجفنِ. والعَنْبَرُ: منهح لأنَّ نونه زائدةٌ، وهو عبر لحي طفاوة على الماء لا يعرف معدته. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 116 والعَنْبَرُ أيضاً سمكةٌ في البحرِ، والعنبرُ: اسمُ قبيلة، والعنبرُ: شدَّة الشتاء. قال بعضهم: ثلاثةُ أشياء لا يعرف معدنها: أحدها: العَنْبَرُ يجيءُ ظفاؤه على وجه الماءِ. وثانيها: المومياء بأرض فارس، ومعناه: مُومٌ، أي: شمعُ الماء لا يعرف من أين يجيءُ، ولا من أين ينبع، يُعْمَلُ له حوضٌ في البحر وينصب عليه مصفاة كالغربال يجري منه الماء، وينبع منه تبقى المومياء؛ فتؤخذ إلى خزانة السُّلطان. وثالثها: الكهلُ: وهو نوعٌ من الخَرزِ أصفر يطفو على وجهِ الماءِ في بحر المغرب وبحر طبرستان، ولا يعرف معدنه. قوله جلَّ وعلا: {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} ، خبر متبدإ مضمر، أي: هي أضغاث، يعنون: ما قصصته علينا، والجملة منصوبةٌ بالقول. والأضغاثُ: جمع ضِغْث بكسر الضاد وهو ما جمع من النبات، سواءٌ كان جنساً واحداً، أو أجناساً مختلطة. قال بن الخطيب: بشرط أن يكون مما قام على ساقٍ، وهو أصغرُ من الحزمة، وأكبر من القبضة، فمن مجيئه من جنسٍ واحدٍ، قوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً} [ص: 44] ، ويُروى أنه أخذ عثكالاً من نخلةٍ، وفي الحديث: «أنَّه أتي بمريضٍ وحب عليْهِ الحدُّ ففعل به ذلِكَ» . وقال ابن مقبل: [الكامل] 3109 - خَودٌ كأنَّ فِراشَهَا وضِعَتْ بِهِ ... أضْغَاثُ ريْحَانٍ غَداةَ شَمالِ ومن مجيئه من أخلاط النبات قولهم في أمثالهم: «ضِغثٌ على إبَّالةٍ» . وقال الرَّاغب رَحِمَهُ اللَّهُ: الضَّغْثُ: قبضة ريحانٍ، أو حشيشٍ، أو قصبان، وقد تقدم أنه أكثر من القبضةِ. واستعمال الأضغاث هنا من باب الاستعارة، فإن الرؤيا إذا كانت مخلوطةً من أشياء غير متناسبةٍ، كانت شبهية بالضِّغثِ. والإضافة في {أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ} ، إضافةٌ بمعنى «مِنْ» ، والتقدير: أضغاثُ من أحلام. والأحلامُ: جمعُ حلم، وهو الرؤيا، والفعل منه حلمتُ أحلم، بفتح اللام في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 117 الماضي وضهما في الغابر حُلُماً، وحُلْماً: مثقلٌ، ومخففٌ. قوله تعالى: «بتأويل» الباء متعلقةٌ ب «عَالمِينَ» ، والباءُ في «بِعَالمِينَ» لا تعلق لها؛ لأنها زائدة إمَّا في خبر الحجازيَّة أو التَّميميَّة، وقولهم ذلك يحتمل أن يكون نفياً للعلم بالرؤيا مطلقاً، وأن يكون نفياً للعلم بتأويل الأضغاث منها خاصة دون المنام الصَّحيح. وقال أبو البقاءِ: أي: بتأويل أضغاثِ الأحلام لا بد من ذلك؛ لأنَّهم لم يدَّعوا الجهل [بتعبير] الرؤيا انتهى. وقوله «الأحلام» وإنَّما كان واحداً، قال الزمخشريُّ: «كما تقولُ: فلان يركب الخيل، ويلبسُ عمائمَ الخزِّ، لمن لا يركبُ إلا فرساً واحداً، ولا يتعمَّمُ إلاَّ بعمامةٍ واحدةٍ تأكيداً في الوصف، ويجوز أن يكون قصَّ عليهم مع هذه الرؤيا غيرها» . والتأويلُ: هو ما يَئُولُ الشيء إليه، أي: يرجعُ الشيء إليه، ومنه تأوَّل وهو معنى التفسير؛ لأنَّ التأويل تفسير اللفظ الراجع إلى المعنى. فصل اعلم أنه سبحانه وتعالى جعل هذه الرؤيا سبباً لخلاص يوسف صلوات الله وسلامه عليه من السِّجن؛ وذلك أنَّ الملك لمَّا رأى ذلك، قلق واضطرب بسببه؛ لأنه شاهد أن الناقِصَ الضَّعيف استولى على الكاملِ، فشهدت فطرته بأن هذا أمرُ عداوةٍ ومقدّرٍ بنوع من أنواع الشرِّ، إلا أنه ما عرف كيفية الحالِ فيه. والشيء إذا صار معلوماً من وجهٍ، وبقي مجهُولاً من وجه آخر عظم شوقُ النفس إلى تمام تلك المعرفةِ، وقويتِ المعرفةُ في إتمام الناقصِ لا سيِّما إذا كان الإنسان عظيمَ الشَّأنِ، واسِعَ المملكةِ، وكان ذلك الشيء دالاًّ علَى الشرِّ من بعض الوجوه، فبهذا الطريق قوَّى الله داعية ذلك الملك في تحصيل العلم، بتفسير هذه الرؤيا، وأنه تعالى عجَّز المُعبِّرين الحاضرين عن جواب هذه المسألة؛ ليصير ذلك سبباً لخلاصِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من تلك المحنةِ. واعلم أنَّ القوم ما نفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بعلم التعبير؛ بل قالوا إنَّ علم التعبير على قسمين: منه ما يكون الرؤيا فيه منتظمة، فيسهلُ الانتقال من الأمور المتخيلةِ إلى الحقائق العقلية. ومنه ما يكون مختلطاً مضطرباً، ولا يكون فيه ترتيبٌ معلومٌ، وهو المسمَّى بالأضغاث. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 118 فقالوا: إنَّ رؤيا الملكِ من قسم الأضغاث، ثُمَّ أخبرُوا أنهم غير عالمينَ بتعبير هذا القسم، وفيه [إبهام] أنَّ الكامل في هذا العلم، والمُتبحِّر فيه يهتدي إليها، فعند هذه المقالة تذكَّر السَّاقي واقعة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لأنه كان يعتقدُ فيه كونه مُتَبحِّراً في هذا العلم. قوله: «وادَّكَرَ» فيه وجهان: أظهرهما: أنَّها جملة حالية، إمَّا من الموصول، وإما من عائده، وهو فاعل نَجَا. والثاني: أنها عطف على نَجَا فلا محل لها؛ لنسقها على ما لا محل له. والعامَّةُ على ادَّكَرَ بدالٍ مهلمة مشدَّدة، وأصلها: اذْتَكَرَ، افْتَعَلَ، من الذكر فوقعت تاءُ الافتعال بعد الدال؛ فأبدلت دالاً، فاجتمع متقارن؛ فأبدل الأول من جنس الثاني، وأدغم. قال الزخشريُّ: وادَّكَرَ بالدال هو الفصيحُ. وقرأ الحسن البصريُّ: بذالٍ معجمة. ووجَّهوها بأنه أبدل التَّاء ذالاً؛ من جنس الأولى، وأدغم، وكذا الحكمُ في مًُدِّكِر كما سيأتي إن شاء الله تعالى. والعامةُ: على (أمة) بضم الهمزة، وتشديد الميم، وتاء منونةِ، وهي المدة الطويلة. وقرأ الأشهب العقيليُّ: بكسر الهمزة؛ وفسَّروها بالنعمةِ، أي: بعد نعمةٍ [أنعم بها] عليه؛ وهي خلاصه من السِّجن، ونجاته من القَتلِ؛ وأنشد الزمخشريُّ لعديِّ: [الخفيف] 3110 - ثُمَّ بَعْدَ الفَلاحِ والمُلْكِ والإمْمَةِ ... وارتْهُمُ هُناكَ القُبُورُ وأنشد غيره: [الطويل] 3111 - ألاَ لاَ أرَى ذَا أمَّةٍ أصْبَحَتْ بِهِ ... فَتتْرُكُه الأيَّامُ وهيَ كَماهِيَا وقرأ ابن عبَّاس، وزيدُ بنُ عليّ، وقتادة، الضحاك، وأبو رجاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «أَمَه» فتح الهمزة وتخفيف الميم منونة وهي المدة من الأمة وهو النيسان يقال أمِه يَأمَهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 119 أمَهَاً بفتح الميم وسكونها، والسكون غير مقيسٍ؛ قال الشاعر: [الوافر] 3112 - أمِهْتُ وكُنْتُ لا أنْسَى حَدِيثاً ... كَذاكَ الدَّهْرُ يُودِي بالعُقُولِ وقرأ مجاهدٌ، وشبل بن عزرة: بعد أمْه بسكون الميم، وتقدَّم أنه مصدر ل «أَمِهَ» على غير قياسٍ. قال الزمخشري: «ومن قرأ بسكون الميم، فقد خُطِّىءَ» . قال أبو حيَّان: «وهذه على عادته في نسبةِ الخطأ إلى القراء» . قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: لَمْ يسنبْ إليهم خطأ؛ وإنما حكى أنَّ بعضهم خطَّأ هذا القارىء؛ فإنه قال: «خُطِّىءَ» بلفظ ما لم يسمَّ فاعله ولم يقل: فقد أخطأ، على أنَّه إذا صحَّ أنَّ من ذكره قرأ بذلك فلا سبيل إلى نسبة الخطأ إليه ألبتَّة. وبَعْدَ منصوب ب «ادَّكَرَ» وقوله أنَا أنَبِّئُكمْ هذه الجملة هي المحكية بالقول. وقرأ العامة أنَبِّئُكُمْ من الإنْباءِ، وقرأ الحسن أنا آتِيكُم مضارع أتى من الإتيانِ، وهو قريب من الأول. فصل لمَّا اعترف الحاضرون بالعجز عن الجواب، فذكر الشَّرابيُّ قول يوسف {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] ، {بَعْدَ أُمَّةٍ} بعد حينٍ، بعد سَبْعِ سنينَ، وذلك أنَّ الحينَ أنَّما يحصل عند اجتماع الأيام الكثيرة، كما أن الأمة إنما تحصل عند اجتماع الجمع العظيم، فالحين كان أمة من الأيام والسَّاعاتِ. فإن قيل: قوله {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} يدل على أنّ الناسي هو الشرابي، وأنتم تقولونك إنَّ النَّاسي هو يوسف عليه السلام. فالجواب: قال ابنُ الأنباري: ادَّكرَ بمعنى: ذَكَرَ وأخْبَر، فهذا لا يدلُّ على سبقِ النسيان، فلعلَّ الساقي إنما لم يذكر يوسف عليه السلام عند الملكِ، خوفاً عليه من أن يكون ادِّكَاراً لذنبه الذي من أجله حُبس، فترك للشر، ويحتمل أن يكون حصل النسيانُ ليوسف صلوات الله وسلامه عليه [وحصل] أيضاً لذلك الشرابي. رُوِيَ أنَّ الغلام جثا بين يدي الملك، وقال إنَّ بالسجْنِ رجُلاً يُعبِّر الرؤيا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 120 «فأرْسِلُون» خطابٌ، إما للملك، والجمع، أو للملك وحده؛ على سبيل التعظيم، وفيه اختصارٌ، تقديره: فأرسلْنِي إيها الملكُ إليه، فأرسله فأتى السِّجن. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: ولم يكن السجُ في المدينة. فقال: يُوسُف، أي: يا يُوسف «أيُّها الصِّديقُ» والصِّدِّيقُ: هو المبالغ في الصدقِ، وصفهُ بهذه الصفة؛ لأنه لم يجرب عليه كذباً، وقيل: لأنه مصدق في تعبير رؤياه، وهذا يدلُّ على أنَّ الساقي الخباز لم يكذبا على يوسف في منامهما، ولم يذكراه امتحاناً له، كما زعم بعضهم ثم إنَّه أعاد السؤال باللفظ الَّذي ذكره الملكُ؛ فإن تعبير الرُّؤيا قد تخلتفُ باختلافِ الألفاظِ؛ كما هو مذكورٌ في علم التعبير لعَلِّي أرجعُ إلى النَّاس بفتواك؛ لأنه عجز سائرُ المُعبِّرين على جواةب، فخاف أني يعجز هو أيضاً؛ فلهذا السبب قال: {لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون} منزلتك من العلم. قوله: «تَزْرعُونَ» ظاهر هذا، إخبار من يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بذلك. وقال الزمخشريُّ: تَزْرعُونَ خبرٌ في معنى الأمر؛ كقوله {تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ} [الصف: 11] ، وإنما خرج الأمر في صورة الخبر؛ للمبالغة في إيجاب المأمور به فيجعل كأنَّه وجد، فهو مخبر عنه؛ والدليلُ على كونه في معنى الأمر قوله: {فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} . قال أبو حيان: ولا يدلُّ الأمر بتركه في سنبلة على أنَّ تَزْرعُونَ في معنى: ازْرَعُوا، بل تَزْرعُونَ إخبار غيب، وأمَّا فَذرُوهُ فهو أمرُ إشارةٍ بما ينبغي أن يفعلوه. وهذا هو الظاهرُ، ولا مدخل لأمر الله لهم بالزراعةِ، لأنهم يزرعون على عادتهم أمرهم، أو لم يأمرهم، وإنما يحتاج إلى الأمر فيما لم يكن من عادة الإنسان أن يفعله كقوله في سُنبلهِهِ. قوله دَأباً قرأ حفصٌ: بفتحِ الهمزة، والباقون: بسكونها؛ وهما لغتان في مصدر: دَأبَ يدأبُ دأباً، أي: دَاومَ على الشيء ولازمه. وقيل: بجدٍّ، واجتهادٍ؛ وهذا كما قالوا: ضأنُ وضَأن، ومعَز ومَعْز: بفتحِ العين وسكونها. قال أبو علي الفارسي: الأكثرون في «دَأبَ» الإسكانُ، ولعلَّ الفتح لغةٌ وفي انتصابه أوجه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 121 أحدها: وهو قول سيبويه: أنه منصوبٌ بعفلٍ محذوفٍ، تقديره: تدْأبُون دأباً. والثاني: وهو قول أبي العبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أنه منصوبٌ ب: تَزْرعُونَ «؛ لأنه من معناه، فهو من باب: قعدت القُرْفُصَاء. وفيه نظرٌ؛ لأنه ليس نوعاً خاصًا به بخلافِ القرفصاء مع القعودِ. والثالث: أنه مصدر واقعٌ موقع الحال، فيكون فيه الأوجه المعروفةُ، إما للمبالغة وإما وقوعه موقع الصِّفة، وإما على حذف مضاف، أي: دائبين أو ذوي دأبٍ، أو جعلهم نفس الدَّأب؛ مبالغة. وقد تقدم الكلامُ على الدَّأب في» آل عمران «عند قوله ت عَزَّ وَجَلَّ {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ} [آل عمران: 11] . قوله: {فَمَا حَصَدتُّمْ} ، يجوز أن تكون شرطيَّة أو موصولة. قوله: {فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ} أمرهم بترك الحنطةِ في النسبل؛ لتكون أبقى على الزمان، ولا تفسد. قوله: {إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ} ، أي تدرسون قليلاً؛ للأكل، أمرهم بحفظ الأكثر، والأكل قدر الحاجة. وقرأ أبو عبد الرحمن يَأكُلونَ بالغيبة، أي: الناسُ، ويجوز أن يكون التفاتاً. فصل قال القرطبيُّ:» هذه الآية أصلٌ في القول بالمصالح الشرعية التي هي حفظ للأديان، والنفوس، والعقول والأنساب، والأموال، فكل ما يضمن تحصيل شيء من هذه الأمور، فهو مصلحةٌ وكل ما يفوت شيئاً منها، فهو مفسدةٌ؛ ودفعه مصلحةٌ، ولا خلاف أنَّ مقصود الشرائع إرشادُ النَّاس إلى مصالحهم الدُّنيويَّة، ليحصل لهم التمكن من معرفة الله تعالى، وعبادته [الموصلتين] إلى السعادةِ الأخرويَّة، ومراعاةُ ذلك فضلٌ من الله ورحمة «. قوله تعالى: {ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذلك سَبْعٌ شِدَادٌ} حذف المميز، وهو الموصوف؛ لدلالة ما تقدَّم عليه، ونسب الأكل إليهن، مجازاً؛ كقوله: {والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67] لمَّا كان الأكل، والإبصار فيهما، جعلا كأنهما واقعان منهما، مبالغة. و» الشِّدادُ «: الصِّعابُ التي تشتدُّ على الناس؛ فلذلك سمَّى السنين المجدبة شداداً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 122 يَأكْلْنَ، أي: يُفْنِين، ويهلكن الطعام إلاَّ قليلاً ممَّا تُحْصِنُونك تحرزُونَ، وتدَّخِرُونَ؛ للبذر. » والإحصانُ: الإحرازُ، وهو [إبقاء] الشيء في الحصنِ، يقال: أحْصَنَهُ إحصاناً، إذا جعله في حِرْزٍ «. قوله [تعالى] : {يُغَاثُ الناس} يجوز أن تكون الألف عن واوٍ، وأن تكون عن ياءٍ: إما من الغوث، وهو الفرج، وفعله رباعي، يقال: أغَاثَنا اللهُ إذَا أنْقذنَا من كرْبٍ أو غمٍّ، ومعناه: يغاثُ الناسُ من كَرْبِ الجَدبِ. وإما من الغيثِن وهو المطرُ، يقال: أغْيَثَت الأرض، أي: أمطرتْ، وفعله ثلاثي، يقال: أغَاثَنَا الله من الغَيْثِ، وقالت اعرابيةٌ: غِثْنَا ما شِئْنَا، اي: أمْطِرنا ما أردْنَا. فصل يقال: أسْنَتُوا، أي: دخلوا في سنةٍ مجدبة:» وقال المفسِّرون: السبعة المتقدمةُ: هي الخصبُ وكثرةُ النِّعم، والسَّبعة الثانية: هي القَحْطُ، وهي معلومةٌ من الرؤيا، وأمَّا حالُ هذه السنةِن فما حصل في ذلك المنام ما يدلُّ عليه، بل حصل ذلك مِنَ الوَحْيِ «. قال قتادةُ رَحِمَهُ اللَّهُ: زادهُ الله علمَ سنةٍ. فإن قيل: لما كانت العِجافُ سَبْعاً، دلَّ على أنَّ السنين المجدبة لا تزيدْ على هذا العدد، ومن المعلوم أنَّ الحاصل بعد انقضاء القحطِ، هو الخصبُ، فكان هذا أيضاً من مدلُولاتِ المنامِ، فلم قلتم: إنَّه حصل بالوحي والإلهام؟ . فالجواب: هَبْ أنَّ تبدل القحْطِ بالخصب معلومٌ، وأما تفصيلُ الحال فيه، وهو قوله: {فِيهِ يُغَاثُ الناس وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} لا يعلمُ إلا بالوحي. قوله يَعْصِرونَ قرأ الأخوان: «تَعْصِرُونَ» بالخطاب، والباقون بياء الغيبة، وهما واضحتان؛ لتقدم مخاطبٍ أو غائبٍن فكلُّ قراءةٍ ترجعُ إلى ما يليقُ بها. و «يَعْصِرُونَ» يحتمل أوجهاً: أظهرها: أنه من عصر العِنبِ، والزيتونِ، والسمسمِ، ونحو ذلك. والثاني: أنَّه من عصر الضَّرع، إذا حلبه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 123 والثالث: أنه من العصرةِ، وهي النجاةٌ، والعُصْر: المنجي. وقال أبو زيد في عثمان رضي الله ع نه: [الخفيف] 3113 - صَادِياً يَسْتغِيثُ غَيْرَ مُغاثٍ ... ولقَدْ كَان عُصْرةَ المَنجُودِ [ويعضدُ] هذا الوجه مطابقة قوله: {فِيهِ يُغَاثُ الناس} يقال: عَصَرَه يَعْصِرهُ، أي: أنجاه. وقرأ جعفر بن محمدٍ، والأعرجك «يُعْصَرُونَ» بالياء من تحت، وعيسَى بالتاءِ من فوقُ، وهو في كلتا القراءتين مبني للمفعولِ، وفي هاتين القراءتين تأويلان: أحدهما: أنها من عصره، إذا أنجاه: قال الزمخشريُّ: «وهو مطابق للإغاثةِ» . والثاني: قاله قُطربٌ أنَّهما من الإعْصارِ، وهو إمطار السحابةِ الماء؛ كقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً} [النبأ: 14] ، وقال الزمخشريُّ: وقُرىء: «يُعْصَرُون، تُمْطرُونَ» ، من أعصرتِ السَّحابةُ، وفيه وجهان: إمَّا أن يضمَّن أعصرت معنى مُطِرَت، فيعدّى تعْدِيتَه، وإما أن يقال: الأصلُ: أعْصِرَتْ عليهم، فحذف الجار وأوصل الفعل إلى ضميرهم أو يسندُ الإعصارُ إليهم؛ مجازاً، فجعلوا معصرين. وقرأ زيد بن عليّ: «تِعِصّرُون» بكسر التاء، والعين، والصاد مشددة، وأصلها يعْتَصِرُون، فأدغم التاء في الصاد، وأتبع العين للصادِ، ثمَّ أتبعَ التاء للعين وتقدم [تقريره] في قوله {إِلاَّ أَن يهدى} [يونس: 35] . ونقل النقاشُ قراءة «يُعَصِّرُونَ» بضمِّ الياء، وفتح العين، وكسر الصّاد مشددة؛ من «عَصَّر» للتكثير، وهذه القراءة، وقراءة زيدٍ المقتدمة، تحتملان أن يكونا من العصرِ للنبات، أو الضَّرع، أو النَّجاة؛ كقول الشاعر: [الرمل] 3114 - لَوْ بِغيْرِ الماءِ حَلقِي شَرقٌ ... كُنْتُ كالغَصَّانِ بالمضاءِ اعتِصَارِي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 124 قوله تعالى: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ} الآية. اعلم أنَّ الساقي لما رجع إلى الملك، وأخبره بما أفتاه يوسف من تأويل رؤياه، وعرف الملك أنَّ الذي قاله كائنٌ قال ائتُونِي به، فلمَّا جَاءه الرسُول قال: أجب الملكَ، فأبى أن يخرج مع الرسول، حتَّى تظهر براءته، فقال للرسول: ارْجِعْ إلى ربِّكَ، أي: سيِّدك، قال عليه الصلاة السلام: «عَجِبْتُ مِن يُوسفَ وكَرمهِ وصَبْرهِ واللهُ يَغْفرُ لهُ حِينَ سُئِلَ عَنِ البَقراتِ العِجِافِ والسِّمانِ، ولوْ كُنْتُ مَكانَهَ ما أخْبرْتُهمْ حتَّى أشْترطَ أنْ يُخْرِجُونِي ولقَدْ عِجِبْتُ منهُ حِينَ أتاهُ الرَّسولُ فقَال لَهُ: ارْجِعْ إلى ربِّك، ولوْ كُنْتُ مَكَانَهُ ولَبِثْتُ في السِّحن طول ما لبِثَ لأسْرعْتُ إلى الإجَابةِ وبَادرتُهثم البَابَ» . قال ابن الخطيب: الذي فعله يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت من الصَّبر، والتَّوقٌُّف إلى أن يفحص الملك عن حاله، هو الأليقُ بالحزم والعقل، وبيانه من وجوه: الأول: أنه لو خرج في الحالِ، فربما كان يبقى في قلب الملك أثر ما، فلما التمس من الملكِ أن يفحص عن حال تلك الواقعةِ، دلَّ ذلك على براءته من التهمةِ، فبعد خروجه لا يقدر أحدٌ أن يلطِّخه بتلك الرذيلة، وأن يتوصل بها إلى الطعن فيه. والثاني: أن الإنسان الذي يبقى في [السجن] اثنتي عشرة سنةً، إذا طلبه الملك، وأمر بأخراجه، فالظاهر أنه يبادرُ إلى الخروكج، فحيث يخرج، عرف منه أنه في نهايةِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 125 العقلِ، والصَّبر، والثباتِ؛ وذلك [يكون] سبباً لاعتقادِ البراءةِ فيه عن جميع أنواع التهم، وأن يحكم بأنَّ كلَّ ما قيل فيه، كان كذباً. الثالث: أن التماسهُ من الملك أن يفحص عن حاله من تلك النسوةِ، يدل أيضاً على شدَّة طهارته، إذ لو كان ملوثاً بوجه ما، لكان يخاف أن يذكر ما سبق. الرابع: أنه قال للشَّرابي: «اذكُرْنِي عندَ ربِّكَ» فبقي بسبب هذه الكلمة في السجن [بضع] سنين، وهنا طلبهُ الملك فلم يلتفت إليه، ولم يقمْ لطلبه وزناً، واشتغل بإظهار براءته من التُّهمةِ، ولعلَّه كان غرضه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من ذلك ألاَّ يبقى في قلبه التفاتٌ إلى ردِّ الملك وقبوله، وكان هذا العمل جارياً مجرى التَّلافي، لما صدر منه من التوسُّلِ إليه، في قوله: «اذْكُرنِي عِندَ ربِّك» ، وليظهر هذا المعنى لذلك الشرابي؛ فإنه هو الذي كان واسطةً في الحالين معاً. قوله: {فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة} قرأ ابن كثير، والكسائي: «فَسَلهُ» ، بغير همز، والباقون: بالهمز؛ وهما لغتان. والعامة على كسر نونِ «النِّسوةِ» وضمها عاصم في رواية أبي بكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وليست بالمشهورة، وكذلك قرأها أبو حيوة. وقرىء «اللاَّئِي» بالهمز، وكلاهما جمع ل: «الَّتي» ، و «الخَطْبُ» : الأمْرُ والشَّأن الذي فيه خطرٌ؛ وأنشد [الطويل] 3115 - ومَا المَرْءُ ما دَامتْ حُشَاشَةُ نَفْسهِ ... بمُدْرِك أطرْافِ الخُطوبِ ولا آلِ وهو في الأصل مصدر: خَطَبَ يُخْطبُ وإنَّما يُخْطَبُ في الأمور العظام. فصل ما في الآية من لطائف أولها: أنَّ المعنى؛ قوله تعالى {فَاسْأَلْهُ} سئل الملك {مَا بَالُ النسوة} ليعلم براءتي من تلك التهمة إلا أنَّه اقتصر على سؤال الملك عن تلك الواقعة؛ لئلاًَ يشتمل اللفظ على ما يجرى مجرى أمر الملك بعمل أو فعلٍ. وثانيها: أنَّه لم يذكر سيدته مع أنها التي سعت في إلقائه في السجن الطويل، بل اقتصر على ذكر سائر النسوة. وثالثها: أنَّ الظاهر أن أولئك النسوة نسبنه إلى عملٍ قبيحٍ عند الملك، فاقتصر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 126 يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على مجرَّد قوله: {مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ} ، وما شكى منهم على سبيل التَّعيين، والتفصيل. ثم قال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {إنّ ربي بكيدهن عليم} . وفي المراد بقوله «إنَّ ربِّي» وجهان: أحدهما: أنه هو الله تعالى فإنه هو العالم بخفيَّات الأمور. والثاني: المراد به الملك، وجعله ربًّا؛ لكونه مربِّياً، وفيه إشارةٌ إلى كون ذلك الملك عالماً بمكرهنَّ وكيدهنَّ. واعلم أنَّ كيدهن في حقه يحتمل وجوهاً: أحدها: أنَّ كل واحدٍ منهن طمعت فيه، فلما لم يجدن المطلوب أخذن يطعن فيه، وينسبنه إلى القبيح. وثانيها: لعلَّ كلَّ واحدةٍ منهمن بالغت في ترغيب يوسف في موافقته سيدته على مرادها، ويوسف علم أنَّ مثل هذه الخيانة في حقِ السَّيِّد المنعم لا تجوزُ. وثالثها: أنه استخرجد منهنَّ وجوهاً من المكرِ والحيل في تقبيح صورة يوسف عند الملك، فكان المراد منهم اللفظ ذلك. ثم إنه تعالى حَكَى أنَّ يوسف عليه السلام لما التمس من الملك ذلك، أمر الملكُ بإحْضَارهنَّ، وقال لهُّنَّ: «مَا خَطْبُكُنَّ» : ما شَأنُكُنَّ، وأمركنَّ «إذْ رَاودتُّنَّ يوسف عَنْ نَفْسِهِ» ، وفيه وجهان: الأول: أن قوله: «إذْ رَاودتُّنَّ يُوسفَ» ، وإن كان صيغة جمع، فالمراد منها الواحد؛ كقوله جلَّ ذكره: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران: 173] . والثاني: أنَّ المراد منه خطابُ الجماعة، ثم هاهنا وجهان: الأول: أنَّ كلَّ واحدة منهنَّ روادتْ يوسف عن نفسه. والثاني: أنَّ كلَّ واحدةٍ منهنَّ روادتْ يوسف؛ لأجل امرأة العزيز، فاللفظ محتمل لكل هذه الوجوه. وعند هذا السؤال {قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء} ، وهذا كالتأكيد؛ لما ذكرنا في أوَّل الأمر في حقه، وهو قولهنَّ: {مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] . وقوله «إذْ رَوادتنَّ» ، هذا الظرف منصوبٌ ب «خَطْبُكُنَّ» ؛ لأنه في معنى الفعل إذ المعنى: ما فعلتُنَّ، وما أردتنَّ به في ذلك الوقتِ. وكانت امرأةُ العزيز حاضرة، وكانت تعلم أن هذه المناظرات، والتفحصات، إنما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 127 وقعت بسببها، ولأجلها. وقيل: إ نَّ النسوة أقبلن على امرأة العزيز يقررنها. وقيل: خَافتْ أن يَشْهدْنَ عليها؛ فأقرَّت، وقالت: {الآن حَصْحَصَ الحق} أي: ظهر، وتبيَّن: {أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} ، في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} [يوسف: 26] . هذه شهادةٌ جازمةٌ من تلك المرأة أنَّ يوسفَ صلوات الله وسلامه عليه راعى جانب العزيز حيثُ قال: {ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن} ؛ ولم يذكر تلك المرأة ألبتة؛ فعرفت المرأةُ أنَّهُ ترك ذكرها؛ رعايةً، وتعظيماً لجانبها، وإخفاءً للأمر عليها؛ فأرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن، فلا جرم كشفت الغطاء، واعترفت بأنَّ الذنب كُلَّه من جانبها، وأنَّ يوسف كان مُبَرّأ عن الكل. حُكِيَ أنَّ امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي، فادَّعت عليه المهر، فأمر القَاضِي أن يَكْشفَ عَنْ وَجْهِها؛ حتَّى يتمَكَّنَ الشُّهودُ من إقَامةِ الشَّهادةِ، فقال الزَّوحُ: لا حَاجةَ إلى ذلِكَ؛ فإنِّي مقرٌّ بصَداقِهَا في دَعْواهَا، فقالت المرأةُ: أكْرمْتَنِي إلى هذا الحد؟ اشْهَدُوا أنِّي أبْرَأتُ ذمَّتهُ من كُلِّ حقِّ لِي عليْهِ. قوله «الآنَ» منصوب بما بعده، و «حَصْحَصَ» معناه: تبيَّن وظهر بعد خفاءٍ، قاله الخليل رَحِمَهُ اللَّهُ. وقال بعضهم: هو مأخوذٌ من الحصَّة، والمعنى: بانتْ حصَّةُ الحق من حصَّة الباطل، كما تتميَّزُ حِصَصُ الأرَاضِي وغيرها، وقيل: بمعنى ثبت واستقرَّ. وقال الرَّاغب: «حَصْحَصَ الحقُّ» ، أي: وضَحَ ذلِكَ بانكِشافِ ما يُقهِره، وحصَّ وحَصْحَصَِ، نحو: كفَّ وكَفْكَفَ، وكَبَّ وكَبْكَبَ، وحصَّه: قطعهُ؛ إمَّا بالمباشرة وإمَّا بالحكمِ؛ فمن الأولِ قوله الشاعر: [السريع] . 3116 - قَدْ حَصَّتِ البَيْضَةُ رَأسِي فَمَا ..... ... ... ... ... ... ... ... . . ومنه: رجلٌ أحَصّ: انقطع بعض شعره، وامرأةٌ حصَّاءُ، والحَصَّةُ: القطعة من الجملة، ويستعمل استعمال النصيب. وقيل: هو مِنْ حَصْحَصَ البعير، إذا ألقى ثفناته؛ للإناخَةِ؛ قال الشاعر: [الطويل] 3117 - فَحَصْحَصَ في صُمِّ القَنَا ثَفِنَاتِهِ ... ونَاءَ بِسلمَى نَوْءَة ثُمَّ صَمَّمَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 128 قوله تعالى: «ذَلِكَ» خبرُ مبتدإٍ مضمرٍ، أي: الأمرُ ذلك، و «لِيَعْلمَ» ، متعلقٌ بضميرٍ، أي: أظهر ذلك؛ ليعلم، أو مبتدأ، وخبره محذوفٌ، أي: ذلك الذي صرَّحتُ به عن براءته، أمرٌ من الله لا بُدَّ منه، و «لِيَعْلمَ» متعلقُ بذلك الخبر، أو يكون «ذَلِكَ» مفعولاً لفعلٍ مقدَّرٍ يتعلق به هذا الجار أيضاً، أي: فعل الله ذلك، أو فعلته أنا بتيسير الله. قوله: «بِالغَيْبِ» يجوز أن تكون الباءُ ظرفية قال الزمخشريُّ: أي مكان الغيب، وهو الخفاء، والاستتارُ وراء الأباب السبعة المغلقةِ، ويجوز أن تكون الباءُ للحالِ، إمَّا من الفاعل، على معنى: وأنا غائبٌ عنه خفي عن عينه. وإمَّا من المعفولِ على معنى: وهو غائب عني خفي عن عيني. «وأنَّ اللهَ» نسقٌ على «أنِّي» ، أي: ليعلم الأمرينِ، وهذا من كلام يوسف صلوات الله وسلامه عليه وبه بدأ الزمخشري، كالمختار له. وقال غيره: إنه من كلام امرأة العزيزِ، وهو الظَّاهرُ. فإن قلنا: هو من كلام يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فمتى قالهُ؟ . وروى عطاءٌ، عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: أنَّ يوسف لما دخل على الملك، قال «ذلكَ» ، وإنما ذكره بلفظِ الغيبة تعظيماً للملك عن الخطاب. قال ابنُ الخطيب: «والأولى أنه صلوات الله وسلامه عليه إنما قال ذلك عند عود الرسول إليه، لأنَّ ذكر هذا الكلام في حضرةِ الملك، سوء أدبٍ» . فإن قيل: هذه الخيانة لو وقعت، كانت في حقِّ العزيزِ، فكيف قال: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ؟ . فالجوابُ: قيل: المرادُ ذلك ليعلم الملك أنِّي لم أخنِ العزيز بالغيبِ، فتكون الهاءُ في «أخُنْهُ» تعود على العزيز. وقيل: إنَّه إذا خان وزيره، فقد خانه من بعض الوجوه. وقيل: إن الشرابي لما رجع إلى يوسف عليه السلام وهو في السجن، قال: {ذلك لِيَعْلَمَ} ، العزيزُ {أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} . ثم ختم الكلام بقوله: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} ، ولعلَّ المراد منه: أني لو كنت خائناً، لما خلَّصني الله من هذه الورطةِ، وحيث خلصني منها، ظهر أنِّي كنت بريئاً مما نسبوني إليه. وإن قلنا: إن قوله: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} كلام امرأة العزيز، فالمعنى: أني الجزء: 11 ¦ الصفحة: 129 ولو أدخلت الذنب عليه عند حضوره، لكنني لم أدخل الذنب عليه عند غيبته؛ لأني لم أقلْ فيه وهو في السجن خلاف الحقِّ، ثم إنها بالغت في تأكيد هذا القول وقالت: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} ، أيك لما أقدمتُ على الكيدِ، والمكرِ، لا جرم افتضحْتُ؛ فإنه لمَّا كان بريئاً، لاجرم أظهره الله، عز وعلا. قال صاحبُ هذا القولِ: الي يدلُّ على صحَّتهِ: أنَّ يوسف صلوات الله وسلامه عليه ما كان حاضراً في ذلك الملجلس حتَّى يقال: لمَّا ذكرتِ المرأةُ قولها: {الآن حَصْحَصَ الحق أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين} ، ففي تلك الحالة قال يوسف: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، بل يحتاج فيه إلى أن يرجع الرسول عن ذلك المجلس إلى السجن، ويذكر تلك الحكاية. ثم إنَّ يوسف يقول ابتداء: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ومثلُ هذا الوصل بين الكلامين الأجنبيين، ما جاء ألبتة في نثر ولا نظم؛ فعلمنا أن هذا من تمام كلام المرأة. قال القرطبي: وهو متصلٌ بقولِ امرأة العزيز: «الآنَ حَصْحَصَ الحقٌّ» أي: أقررتُ بالصدقِ؛ {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} بالكذب عليه، ولم أذكره بسوءٍ، وهو غائبٌ، بل صدقتُ، وزجرت عنه الخيانة، ثم قالت: «ومَا أبرِّىءُ نَفسِي» ؛ بل أنا روادته وعلى هذا هي كانت مقرة بالصانع؛ ولهذا قالت: {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} . وقيل : {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، مِنْ قولِ العزيز، وإنِّي لم أغفل عن مجازاته على أمانته. {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} معناه: إنَّ الله لا يهدي الخائنين بكيدهم. فصل دلَّت هذه الآية على ظهارةِ يوسف صلوات الله وسلامه عليه من الذنب من وجوه: الأول: أن الملك لما أرسل إلى يوسف صلوات الله وسلامه عليه وطلبه، فلو كان يوسف متهماً بفعلٍ قبيحٍ، وقد كان صدر منه ذنبٌ، وفحشٌ؛ لاستحال بحسب العرفِ العادةِ، أن يطلب من الملك أن يفحص عن تلك الواقعة، وكان ذلك سعياً منه في فضيحةِ نفسه، وفي حمل الأعداءِ على أن يبالغوا في إظهار عيوبه. والثاني: أنَّ النسوة شهدن في المرة الأولى بطهارته، ونزاهته، {وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31] ، وفي المرة الثانية: {حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 130 والثالث: أنَّ امرأة العزيز اعترفت في المرة الأولى بطهارته، حيثُ قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم} [يوسف: 32] ، وفي المرة الثانية قولها: {الآن حصحص الحق أنا روادته عن نفسه وإنه لمن الصادقين} ، وهذا إشارةٌ إلى أنَّه صادقٌ في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} [يوسف: 26] . والرابع قول يوسف {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} . قال ابن الخطيب: «الحشويَّةُ يذكرون أنَّه لما قال هذا الكلام، قال جبريل عليه السلام: ولا حين هَمَمْتَ، وهذا من رواياتهم الخبيثة، وما صحَّت هذه الرواية في كتابٍ معتمدٍ، بل هم يلحقونها بهذا الموضع سعياً منهم في تحريفِ ظاهر القرآن» . والخامس: قوله: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين} ، يقتضي أن الخائن لا بدَّ أن يفتضح، فلو كان خائناً، لوجب أن يفتضحح ولما خلصه الله من هذه الورطة، دلَّ ذلك على أنه لم يكن من الخائنين. ووجه آخر: وهو أنَّ ت في هذا الوقت تلك الواقعة صارت مندرسةً، فإقدامه في قوله {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، مع أنَّهُ [خانه] بأعظم وجوه الخيانة وأقدم على فاحشةٍ عظيمةٍ، وعلى كذبٍ عظيمٍ من غير أن يتعلق به مصلحة بوجهٍ ما، والإقدامُ على مثل هذه الوقاحة من غير فائدة أصلاًح لا يليق بأحدٍ من العقلاءِ، فكيف يليق إسناده إلى سيِّد العقلاء، وقدوة الأصفياء، فثبت أنَّ هذه الآية تدلُّ دلالة قطعيَّة على براءته مما يقول الجُهَّال. قوله تعالى: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} الآية اعلمْ أنَّ تفسير هذه الآية يختلف باخلاف ما قبلها؛ لأنَّه إن قلنا قوله {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، كلام يوسف، كان هذا أيضاً كلام يوسف، وإن قلنا:: إنه من تمام كلام المرأة، كان هذا أيضاً كذلك، وإذا قلنا: إنه من كلام يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فقالوا: إنه صلوات الله وسلامه عليه لما قال: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، قال جبريلُ عليه السلامُ ولا حين هَمَمْتَ، فعند هذا، قال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} ، أي: بالزِّنا، {إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي} أي عصم، {إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لِلْهمِّ الذي همَّ به، «رَحِيمٌ» ، أي لو فعلته، لتابَ عليَّ. قال ابنُ الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: «هذا ضعيفٌ؛ فإنَّا بينا في الآية الأولى برهاناً قاطعاً على براءته من الذنب» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 131 فإن قيل: ما جوابكم عن هذه الآية؟ . فنقول: فيه وجهان: الأول: أنه صلوات الله وسلامه عليه لما قال {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، كان ذلك جارياً مجرى المدحِ لنفسه، وتزيكتها؛ وقال سبحانه {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ} [النجم: 32] فاستدركه على نفسه بقوله: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} ، والمعنى: فلا أزكِّى نفسيح {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} ، ميَّالةٌ إلى القبائحِ، راغبٌ في المعصيةِ. الثاني: أنَّ الآية لا تدلُّ البتة على شيءٍ مما ذكروه؛ لأنَّ يوسف صوات الله وسلامه عليه لما قال: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، بيَّن أنَّ ترك الخيانة ما كان لعدمِ الرغبة، ولعدم ميل النفس، والطعبيةِ؛ لأنَّ النفس أمَّارة بالسوءِ، توَّاقةٌ إلى اللذات، فبيَّن بهذا الكلام أن ترك الخيانة، ما كان لعدم الرغبةِ، بل لقيام الخوف من الله تعالى. وإذا قلنا: إنَّ هذا الكلام من بقية كلامِ المرأةِ، ففيه وجهان: الأول: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} ، عن مراودته، ومرادها تصديقُ يوسف في قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} [يوسف: 26] . والثاني: أنها لما قالت: {ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب} ، قالت: {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي} ، من الخيانة مطلقاً؛ فإنٍّي قد خنته حين أحلت الذنب عليه، وقلت: {مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [يوسف: 25] ؛ وأودعته في السِّجن، كأنَّها أرادت الاعتذارَ مما كان. فإن قيل: أيُّهما أولى، جعل هذا الكلام كلاماً ليوسف، أم جعله كلاماً للمرأة. قلنا: جعله كلاماً ليوسف مشكل؛ لأنَّ قوله: «قالت امرأة العَزيزِ الآن حَصْحَصَ الحقٌّ» كلامٌ موصولٌ بغضه ببعضٍ إلى آخره، فالقول بأنَّ بعضه كلام المرأةِ، والبعض كلام يوسف، تخلُّل الفواصل الكثيرة بين القولين، وبين المجلسين بعيد. فإن قيل: جعله كلاماً للمرأة مشكل أيضاً؛ لأن قوله {وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي} كلامٌ لا يحسنُ صدوره إلاَّ ممَّن احترز عن المعاصِي، ثم يذكر هذا الكلام على سبيل النَّفس، ولا يليق ذلك بالمرأةِ التي استفرغت جهدها في المعصية. قوله: {إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي} فيه أوجهٌ: أحدها: أنه مستثنى من الضمير المستكنِّ في «أمَّارةٌ» كأنه قيل: إن النفس لأمارةٌ بالسوءِ إلاَّ نفساً رحمها ربِّي، فيكون أراد بالنفس الجنس؛ فلذلك ساغ الاستثناء منها؛ لقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [العصر: 2، 3] وإلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 132 هذا نحا الزمخشريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فإنه قال: «إلا البعض الذي رحمهُ ربِّي بالعصمة؛ كالملائكة» . وفيه نظرٌ؛ من حيث إيقاع «ما» على من يعقل، والمشهور خلافه. قال ابن الخطيب: «ما» بمعنى «مَنْ» أي: إ لا من رحم ربي، و «مَا» و «مَنْ» كلُّ واحدٍ منهما يقوم مقام الآخر؛ قال تعالى: {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء} [النساء: 3] ، وقال: {وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} [النور: 45] . والثاني: أنَّ «مَا» في معنى الزمان؛ فيكون مستثنى من الزمنِ العامِ المقدر، والمعنى: إنَّ النَّشفس لأمارة بالسوءِ في كل وقتٍ وأوانٍ، إلاَّ وقت رحمة ربِّي إيَّاها بالعصمةِ. ونظره أبو البقاءِ بقوله: {وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ} [النساء: 92] ، وقد تقدَّم [النساء: 92] أنَّ الجمهور لا يجيزون أن تكون «أنْ» واقعة موقع ظرف الزمان. والثالث: أنه مستثنى من معفولِ «أمَّارةٌ» ، أي: لأمَّارة صاحبها بالسُّوءِ إلا الذي رَحِمَهُ اللَّهُ، وفيه إيقاع «مَا» على العاقل. والرابع: أنه استثناء منقطع، قال ابن عطيَّة: وهو قول الجمهور. وقال الزمخشريُّ: ويجوز أن يكن استثناء منقطعاً، أيك ولكن رحمةُ ربي التي تصرفُ الإساءة؛ كقوله: {وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا} [يس: 43، 44] . فصل في أن الإيمان والطاعات لا يحصلان للعبد إلا برحمة الله له هذه الآية تدل على أن الطاعات والإيمان لا يحصلان إلا من الله تعالى؛ لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي} فدلَّ ذلك على إنَّ انصراف النفس من السوءِ لا يكون إلا برحمة الله، ودلَّت الآية على أنَّ من حصلت تلك الحرمةُ له، حصل ذلك الانصرافُ، ولا يمكن تفسيرُ هذه الرحمة بإعطاءِ العقل، والقدرةِ، والألطافِ، كما قاله القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ؛ لأنَّ كلَّ ذلك مشتركٌ بين الكافر والمؤمن، فوجب تفسيرها بشيءٍ آخر، وهو ترجيحُ داعية الطاعة على داعيةِ المعصيةِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 133 قوله تعالى: {وَقَالَ الملك ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} . لما تبيَّن للملكِ عذرُ يوسف وعرف أمانتهُ وعلمهُ، قال: {ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} ، أي: أجعله خالصاً لنفسي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 133 قال القرطبيُّ: «انظر إلى قول الملكِ أولاً حين تحقَّق علمهُ:» ائتُونِي بِهِ «، فقط فلمَّا فعل يوسف ما مفعل، قال ثانياً {ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} والاستخلاصُ: طلب خلوصِ الشَّيء من شوائبِ الإشراكِ» . قال القرطبي: «أسْتَخْلصهُ» جزم؛ لأنه جواب الأمرِ؛ وهذا يدل على أنَّ قوله: «ذلِكَ ليَعْلمَ» ، جرى في السجن، ويحتمل أنه جرى عند الملك، ثم قال في جلس آخر: «ائتُوني بِهِ» ؛ تأكيداً. واختلفوا في هذال الملك، فقيل: هو العزيز، وقيل هو الملك الأكبر. وهذا هو الاظهر لوجهين: الأول: لقول يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض} . الثاني: أن قوله: {أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} يدلُّ على أنه قبل ذلك، ما كان خالصاً له، وكان خالصاً للعزيزن فدلَّ على أنَّ هذا الملك هو الملك الأكبر. قوله: «فَلمَّا كَلَّمهُ» ، يجوز أن يكون الفاعل ضمير الملكِ، والمفعول يوسف صلوات الله وسلامه عليه هو الظاهر؛ لأنَّ مجالس الملوكِ لا يحسنُ لأحدٍ أن يبدأ فيها بالكلام، وإنما الملك هو الذي يبدأن ويجوز العكس، وفي الكلام اختصارٌ تقديره: فجاء الرسول يوسفن فقال له: أجب الملك الآن. فصل رُوِيَ أنَّه قام، ودعا لأهلِ السِّجن، فقال: اللَّهُمَّ اعطف عليهم قلوب الأخيار، ولا تعمِّ عليهم الأخبار، فهم أعلمُ النَّاس بالأخبار في كل بلدٍ. فلما خرج من السِّجن، كتب على السجن: هذا قبرُ الأحياءِ، وبيتُ الأحزانِ، وتجربة الأصدقاءِ، وشماتةُ الأعداءِ، ثمَّ اغتسل، وتنظَّف من درنِ السِّجن، ولبس ثِياباً حسنة وقصد الملكَ. وقال وهبٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ يوسفُ يومئذ ابن ثلاثين سنة، ولما دخل عليه دعا، وقال: اللهمَّ إني أسالك بخيرك من خيره، وأعوذُ بعزَّتكَ وقُدرتِكَ من شرِّه، ثمَّ سلَّم عليه العربيَّة، فقال الملك: ما هذا اللسانُ؟ قال: لِسانُ عمِّي، إسماعيل، ثم دعا لهُ بالعِبرانِيّةِ، فقال: ما هذا اللسانُ؟ قال: لِسانُ آبائي: إبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وكان الملك يتكلَّم بسبعين لساناً، وكُلمَّا كَلَّمَ يوسف بلسانٍ، أجابه بذلك اللسان؛ فأعجب الملك أمرهُ، كان يوسف إذ ذاك ابن ثلاثين سنة، فلما رآه الملكُ حدثاً شابًّا، قال الجزء: 11 ¦ الصفحة: 134 للشرابي هذا هو الذي علم تأويل رُؤياي؟ قالك نعم، فأقبل على يوسف، فقال الملك: أحبُّ أن أسمع منك تأويل رؤياي شفاهاً. فأجابه بذلك الجواب شفاهاً، وشهد قلبه بصحته؛ فعند ذلك قال له الملك: {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} يقال: فلانٌ مكينٌ عند فلانِ، بَيِّنُ المكانة، أي: المنزلة، وهي حالةٌ يتمكن بها صاحبها مما يريد، وقوله: «أمِينٌ» أي: قد عرفنا أمانتكَ، وبراءتك مما نسبت إليه. واعلم أن قوله: «أمِينٌ» كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يحتاج إليه من الفضائلِ، والمناقبِ؛ وذلك لأنَّه لا بُدَّ في كونه أميناً من القدرة والعلم، أما القدرة؛ فلأن يحصل بها المكنةُ، وأما العلم؛ فلأنَّ كونه متمكِّناً من أفعال الخيرِ لا يحصل إلاَّ به، إذ لو لم يكن عالماً بما ينبغي، وبما لا ينبغي، لا يمكن تخصيص بيان ما ينبغي بالفعل، ولا تخصيص ما لا ينبغي بالتِّرك؛ فثبت أنَّ كونه مكيناً لا يحصل إلاَّ بالقدرةِ والعلمِ، وأما كونه أميناً، فهو عبارةٌ عن كونه لا يفعل الفعل لداعي الشَّهوة، وإنَّما يفعله لداعي الحكمةِ، فثبت أنَّ كونه مكيناً أميناً يدلُّ على كونه قادراً، وعلى كونه عالماً بمواضع الصًَّلاح، والفسادِ، وعلى كونه يفعل لداعي الحكمة، لا لداعي الشَّهوة، وكل من كان كذلك، فإنَّه لا يصدر عنه فعلُ السُّوء والفحشاء. ثم حكى سبحانه وتعالى أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال في هذا المقام: {اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} قال المفسرون: لمَّا عبَّر يوسف رؤيا الملك بين يديه، قال له الملك: فما ترى أيُّها الصديقُ؟ فقال: أرى أن تزرع في هذه السنين المخصبة زرعاً كثيراً، وتبني الخزائنن وتجمع فيها الطَّعام، فإذا جاءت السنون المجدبةُ بعت الغلات، فيحصل بهذا الطريق مالٌ عظيمٌ، فقال الملك: ومن لي بهذا الشُّغل؟ فقال يوسف: {اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض} ، أي: على خزائن أرض مصر. أدخل الألف واللام على الأرض والمراد منه المعهود السابق. روى ابنُ عبَّاسٍ رضي البله عنهما عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّهُ قال: «رحِمَ اللهُ أخي يوسف، لو لَمْ يقُل: اجعلنِي على خَزائنِ الأرض لا ستَعْملهُ من سَاعتهِ لكنَّهُ لمَّا قال ذلِكَ أخَّرهُ عنهُ سنَةً» . قال ابن الخطيب: «وهذا من العجائب؛ لأنه لما تأبَّى عن الخروج من السِّجن، سهَّل الله عليه ذلك على أحسنِ الوجوه، ولما سارع في ذكر هذا الالتماسِ، أخَّر الله ذلك الجزء: 11 ¦ الصفحة: 135 المطلوب عنه، وهذا يدلُّ على أنَّ ترك التَّصرفِن والتفويض إلى الله تعالى أولى. فإن قيل: لِمَ طلب يوسف الإمارة، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال لعبدِ الرَّحمنِ بن سمُرة:» يَا عَبْدَ الرَّحمنِ: لا تَسْألِ الإمَارَةَ « ؟ . وأيضاً: فكيف طلب الإمارة من سُلطانٍ كافرٍ؟ وأيضاً: لِمَ لَمْ يصبر مُدَّة فأظهر الرغبة في طلب الإمارة؟ وأيضاً: لم طلب أمر الخزائنِ في أوَّل الأمْرِ، مع أنَّ هذا يورثُ نوع تهمةٍ؟ وأيضاً: كيف مدح نفسه بقوله:» إني حفيظ عليم «؟ مع أنه تعالى قال: {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ} [النجم: 32] ، وأيضاً ما الفائدة في قوله: «إنِّي حفيظٌ عليمٌ» ؟ ولِمَ لَمْ يقل: إن شاء الله تعالى؛ لقوله تعالى {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 2324] ؟ . فالجوابك أن الأصل في جواب هذه المسألةِ: أنَّ التَّصرف في أمور الخَلقِ كان واجباً عليه فجاز له أن يتوصل إليه بأي طريق كان إنما قلنا إن ذلك التصرف كان واجبابً عليه لوجوه: الأول: أنه كان رسُولاً حقًّا من الله تعالى إلى الخلق، والرسول تجب عليه مصالحُ الأمةِ بقدر الإمكانِ. والثاني: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ علمَ بالوحي أنًَّهُ سَيحْصُلُ القَحْطُ والضيقُ الشديد، الذي ربَّما أفضى إلى هلاك الخلق، فلعلَّه تعالى أمره بأن يدبِّر في ذلك الوقت، ويأتي بطريقٍ في آجله يقلُّ ضَررُ ذلك القحْطِ في حق الخلق. الثالث: أنَّ السَّعي في إيصال النفع إلى المُستضعفين، ودفع الضرر عنهم أمرٌ مستحسنٌ في العقول. وإذا ثبت هذا، فنقولُ: إنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مكلَّفاً برعاية المصالح من هذه الوجوه، وما كان يمكنه رعايتها إلاَّ بهذا الطريق، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به، فهو واجبٌ، فكان هذا الطريق واجباً، ولمَّا كان واجباً، سقطتِ الأسئلة بالكلية. وأما تركُ الاستثناءِ، فقال الواحديُّ: «كان ذلك من خطيئةٍ أوجبتْ عُقوبةٌ وهو أنه تعالى أخَّر عنه حصول ذلك المقصودِ سنةً» . قال ابنُ الخطيب: «لعلَّ السبب فيه أنه لو ذكر هذا الاستثناء، لاعتقد الملكُ فيه أنه ذكره لعلمه بأنه لا قدرة له على ضبط هذه المصلحة كما ينبغي؛ فالأجل هذا المعنى ترك الاستثناء» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 136 وأما قوله لِمَ مَدحَ نفسه؟ فجوابه من وجوه: الأولك لا نُسلِّمُ أنه مدح نفسه، بل بيَّن كونه موصوفاً بهاتين الصفتين الوافيتين بحصولِ هذا المطلوبِ، فاحتاج إلى ذكر هذا الوصفِ؛ لأنَّ الملك وإن علمَ كمالهُ في علومِ الدين ما كان عالماً بأنه يفي بهذا الأمر. ثم نقول: هبْ أنَّه مدح نفسه، إلاَّ أنَّ مدح النفس لا يكونُ مذموماً؛ إلا إذا قصد به الرجل التَّطاول، والتفاخر، والتوصل إلى ما لا يحلُّ، وأمَّا على هذا الوجه، فلا نسلِّم أنه يحرمُ، وقوله تعالى {فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ} [النجم: 23] ، والمراد منه: تزكيةٌ النفس وهو يعلمُ كونها غير زَكيَّةٍ؛ ويدلُّ عليه قوله تعالى بعده: {هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى} [النجم: 23] أما إذا كان عالماً بأنه صدقٌ، فهو غير ممنوعٍ منه، والله أعلم. وأما القول: ما الفائدة في وصف نفسه بأنه حفيظٌ عليمٌ؟ . قلنا: إنه جار مجرى أن يقول: حفيظٌ بجميع الوجوه التي منها يمكن الرجل تحصيل المالِ، وعليمٌ بالجهاتِ التي تصلح لأن يصرف المال إليها، أو حفيظ للخزائن عليمٌ بوجوه مصَالِحهَا أو كاتبٌ حَاسِبٌ، أو حفيظٌ لِمَا اسْتودَعْتَنِي، عليمٌ بما وليتني، أو حفيظ للحساب، عليمٌ بالألسن، أعلمُ لغة من يأتيني. وقال الكلبيُّ: «حفيظٌ بتقديره في السِّنين الخصبةِ، عليم بوقت الجوعِ حين يقعُ في الأرض الجَدبةِ» . فقال الملك: من أحقُّ به مِنْكَ فولاَّهُ ذلك، وقال له: {إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ} ذُو مكانةٍ ومنزلةٍ، أمينٌ على خزائنِ الأرض. قوله تعالى : {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} الآية قال المفسرون: لما التمس من الملكم أن يجعله على خزائن الأرض، لم يذكر الله عن الملك أنه قال: قد فعلتُ؛ بل قال: {وكذلك مكنا ليوسف في الأرض} ؛ فقال المفسرون: ف يالكلام محذوفٌ تقديره: قال الملك: قد فعلت؛ لأنَّ تمكين الله له في الأرض يدلُّ على أن الملك قد أجابه ما سأل. قال ابن الخطيب: «وما قالوه حسنٌ، إلا أنَّ هاهنا ما هو أحسن منه، وهو أنَّ ما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 137 أجابه الملك في عالم الظاهر، وأمَّا المؤثر الحقيقيُّ، فليس إلاَّ أنه تعالى هو الذي مكَّنه في الأرض، وذلك؛ لأنَّ الملك كان متمكناً من القبول والرد فنسبة قدرته إلى القبول والرد على التَّساوي وما دام يبقى هذا التَّساوي، يمتنعُ حصولُ القبولِ، فلا بُدَّ وأن يرجح القبولُ على الردِّ في خاطر ذلك الملك؛ وذلك لأنَّ الترجيح لا يكونُ إلاَّ بمرجعٍ يخلقهُ الله تعالى وإذا خلق الله ذلك المرجح، حصل القبولُ لا محالة، فالتمكين ليوسف في الأرض ليس إلاَّ من خلق الله تعالى بمجموع القدرة والدَّاعية الجازمة التي عند حصولها، يجب ُ ألاَّ يؤخَّر هذا السببُ، فترك الله إجابة الملك، واقتصر على ذكر التَّمكينِ الإلهي؛ لأنَّ المؤثِّر الحقيقيَّ ليس إلا هو» . قوله: «وكَذلِكَ» الكافُ منصوبةٌ بالتمكين، و «ذلِكَ» إشارةٌ إلى ما تقدم أي: ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا عليه في تقريبنا إياه من قلب الملكِ، وإنجائنا إياه من غمِّ الحَبْس، {مَكنا له في الأرض} . ووله: «لِيُوسُف» يجوز في هذه اللام أن تكون متعلقة ب «مَكَّنَّا» على أن يكن مفعول «مَكَّنَّا» محذوفاً، تقديره: مكنا ليسوف الامورَ، أو على أن يكون المفعول به «حَيْثُ» ، كما سيأتي، ويجوز أن تكون زائدة عند من يرى ذلك. وقد تقدَّم أنَّ الجمهور يأبون ذلك إلاَّ في موضعين. وقله «يَتَبَوَّأ» جملةٌ حاليةٌ من «يُوسفَ» ، و «مِنْهَا» يجوز أن تتعلَّق ب «يَتَبَوَّأ» ، وأجاز أبو البقاءِ: أن يتعلق بمحذوفٍ، على أنَّها حالٌ من «حَيْثُ» ، و «حَيْثُ» يجوز أن يكون ظرفاً ل «يَتَبَوَّأ» ، ويجوز أن يكون مفعولاً به وقد تقدم تحقيقه في الأنعامِ. وقرأ ابن كثير: «نَشَاءُ» بالنُّون على أنَّها نونُ العظة لله تعالى. وجوَّز أبو البقاء: أن يكون الفاعل ضمير يوسف صلوات الله وسلامه عليه قال: «لأنَّ مشيئتهُ من مشيئةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ» ؛ وفيه نظرٌ؛ لأن نظم الكلام يأباهُ. والباقون: بالياء على أنه ضمير يوسف، ولا خلاف في قوله: «نُصِيبُ بِرحْمتِنَا من نَشاءُ» ، أنَّها بالنون. وجوزَّ أبو حيَّان: أن يكون الفاعل في قراءة الياء ضمير الله تعالى، ويكون التفاتاً. ومعنى «يَتَبَوَّأ منها» أي: ينزلُ مها حيث يشاء ويصنع فيها ما يشاء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 138 فصل روى الزمخشريُّ: أنَّ الملك أخرج خاتم الملك، ووضعه في أصعبه، وقلَّده سيفه، ووضع له سريراً من ذهب مُكَلَّلاً بالدُّرِّ والياقوت، فقال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أما السريرُ، فأشدُّ به ملكك، وأما الخاتمُ، فأدبِّر به أمرك، وأمَّا التَّاجُ، فليس من لِباسِي، ولا لِباسِ آبائي، وجلس على السَّرير، ودان له القومُ، وأنَّ قُطْفِير زوج المرأةِ مات بعد ذلك، وزُوج يوسف راعيل امرأة قطفير، فلما دخل عليها قال: أليس هذاخيراً مما طلبتِ؟ فوجدها عذراء، فأصابها، فولدت له إفرائيم، وميشا، وأقام العدل بمصر، وأحبه الرجال والنساء، وأسلم على يديه الملك، وكثير من النَّاس، وفوَّض الملك أمر مصر إلى يوسف. قال وهبٌ، السديُّ، وابن عبَّاس، وغيرهم: ثم دخلت السنون المحصبة، فأمر يوسف بإصلاح الزراع، وأمرهم أن يتوسَّعُوا في الزراعةِ، فلما أدركت الغلةُ أمر بها فجمعت، ثم بنَى لها المخازن، فجمعت فيها ف يتلك السنة غلةٌ ضاقت عنها المخازن؛ لكثرتها، ثم جمع غلَّة كُلِّ سنةٍ كذلك، حتى انقضتِ السبع المخصبة، وجاءت السنونُ المجدبةُ، فنزل جبريلُ عليه السلام وقال: يا أهلَ مِصْر: جوعوا فإنَّ الله سلَّط عليكم الجوع سبع سنين، فجعل الناسُ ينادون: الجُوع الجُوع، وأباع من أهل مصر في سنين القحط بالدراهم والدنانير في السنة الأولى، وبالحليِّ والجواهر في السنة الثانية، ثم بالدَّوابِّ، ثم بالضياع، ثم بالعقار، ثم ترقَّى بهم حتَّى استرقَّهم؛ فقالوا: والله، ما رأينا ملكاً أعظم ثباتاً من هذا، فلما صار كلُّ الخلق عبيداً له، قال: إنيِّ أشهدُ الله أنِّي اعتقتُ أهل مصر عن آخرهم، ورددت عليهم أملاكهم، وكاتن لا يبيعُ من أحدٍ ممن يطلب الطعام أكثر من حملٍ؛ لئلا يضيق الطعامُ عن الباقين. فصل قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «نُصِيبُ بِرَحْمتِنَا مَن نشَاءُ» أي: بنِعْتِنَا. {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} يعني الصابرينَ، هذا في الدنيا، {وَلأَجْرُ الآخرة} : ثواب الآخرة خير. قال ابن الخطيب قوله تعالى: {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} ؛ لأن إضافة الأجر إما أن تكون للعجزِ، أو للجهلِ، أو للبخلِ، والكلُّ ممتنعٌ في حقِّ الله سبحانه وتعالى فكانت الإضاعة ممتنعة، وهذه شهادةٌ من الله تعالى على يوسف أنَّه كان من المُحْسنِينَ، ولو صدق بأنه جلس بين شعبها الأربع لامتنع أن يقال إنه كان من المحسنين؛ فهاهنا لزم إمَّا تكذيبُ الله في حكمه على يوسف أنَّه كان من المحسنين؛ وهو عينُ الكفرِ أو لزوم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 139 تكذيب ما رووهُ بأنَّه جلس منها موضع الرجلِ من امرأته، وهو عينُ الإيمانِ بالحقِّ. واعلم أنَّ لفظ الخيرِ قد يستعملُ لكونِ أحدٍ الخيرينِ أفضل من الآخر؛ كما يقال: الجلابُ خيرُ من الماءِ، وقد يستعمل لبيانِ كونه في نفسه خيراً من غير أن يكون المراد منه بيان التفضيل؛ كما يقال: «الثَّريدُ خيرٌ مِنْ عِند الله تعالى» . يعني: الثَّريدُ خير من الخيراتِ حصل من الله. وإذا ثبت هذا فنقول: قوله: {وَلأَجْرُ الآخرة} : إن حملناه على الوجه الأوَّل، لزم أن تكون ملاذُّ الدنيا موصوفة بالخيرية أيضاً، وإذا حملتْ على الوجه الثاني، لزم أن يقال: منافع الآخرة خيرات، ولا شكَّ أن قوله تعالى: {وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} ، شرح حال يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وجب أن يصدق في حقه أنَّه من {الذين آمنوا وكانوا يتقون} ، وهذا تنصيص من الله عَزَّ وَجَلَّ أنه كان في الزمنِ السَّابق من المتقين، وليس هاهنا زمنٌ سابقٌ ليوسف يحتاج إلى أنه كان فيه من المتَّقين، إلاَّ الوقت الذي قال الله فيه: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} [يوسف: 24] ، فكان هذا شهادة من الله تعالى على أنَّهُ عليه السلام كان في ذلك الوقت من المتَّقين. وأيضاً: قوله تعالى: {وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} شهادة من الله عَزَّ وَجَلَّ أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ من المحسنين، قوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين} [يوسف: 24] وكل هذه التأكيدات تبطل ما رووهُ عنه، والله أعلم. فصل قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: قوله: {وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ} يدلُّ على بطلان قول المرجئةِ الذين يزعمون أنَّ الثواب يحصل في الآخرة لمن لمْ يتَّق الكبَائرِ. وهذا ضعيفٌ؛ لأنا إن حلمنا لفظ «خَيْرٌ» على التَّفضيل، لزم أن يكون الثَّواب الحاصل للمتقين أفضل، ولا يلزمُ ألا يحصل لغيرهم أصلاً، وإن حلمناه على أصل معنى الخيرِ، فهذا يدلُّ على حصول هذا الخير للمتقين، ولا يدلُّ على أنَّ غيرهم لا يحصل له هذا الخير، والله أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 140 قوله: {وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ} الآية: ورُوِيَ أنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لا يشبعُ من طعامٍ في تلك الأيَّام؛ فقيل له: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 140 أتجوعُ ويبدِكَ خزائِنُ الأرض؟ فقال: أخافُ إن شبعتُ نسيت الجياع، وأمر يوسفُ طبَّاخِي الملك أن يَجْعلُوا غذاءه نصف النهار؛ وأراد بذلك أن يذوق الملك طعم الجُوعِ، ولا يَنْسَى الجَائعِينَ، من ثمَّ جعل الملوكَ غذاءهم نصف النَّهار. وعمَّ القَحْطُ البلاد حتَّى أصاب أرض كنعان وبلاد الشام. ونزل بيعقوب ما نزل بالنَّاس؛ فأرسل بنيه إلى مصر؛ للميرة، وأمسك بنيامين أخا يوسف لأمه، فذلك قوله تعالى: {وَجَآءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ} وكانوا عشرة، وكان منزلهم بالقُرياتِ من أرض فلسطين بغور الشام، وكانوا أهل باديةٍ، وإبل، وشاء، فقال لهم يعقوب: بلغنِي أنَّ بمصرَ مَلِكاً صالِحاً يبيعُ الطعامَ فتجهَّزوا، واذهبُوا؛ لتَشْتَروا منه الطعام، فقدوا على مصر، فدخلوا على يوسف، فعرفهم يوسفُ. قال ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، ومجاهدٌ: عرفهم بأول ما نظر إليهم، وهم ما عرفوه ألبتة. وقال الحسنُك لَمْ يعْرِفهُمْ حتَّى تعرَّفُوا إليه. وكان كلُّ من وصل إلى بابه من البلادِ، وتفَحَّصَ عنهُم، وتعرَّف أحوالهم؛ ليعرف هل هُمْ إخوتهُ أمْ لاَ، فلما وصل إخوة يوسف إلى باب داره تفحص عن أحوالهم فظهر له أنهم إخوته، وأما كونهم ما عرفوه؛ فلأنه صلوات الله وسلامه عليه أمر حُجَّابُه بأنْ يُوقِفُوهم على البعد وما كان يتكلم معه إلاَّ بالواسطة أيضاً، فمهابة الملكِ، وشدةُ الحاجةِ، توجِبُ كثرة الخوفِ. وأيضاً: إنما رأوهُ بعد وُفُورِ اللَّحيةِ، وتغير الزيِّ والهيئةِ؛ لأنَّهم رأوه جالساً على سريرٍ، وعليه ثيابُ الحرير، وفي عُنقِهِ طوقٌ من ذهبٍ، وعلى رأسه تاجٌ من ذهبٍ، وايضاً نسوا واقعة يُوسفَ؛ لطول المُدَّة، ويقال: إنَّ من وقْتِ ما ألقوهُ في الجُبِّ إلى هذا الوقت أربعين سنةً، وكلُّ واحدٍ من هذه الأسباب يَمْنَعُ حصول المعرفةِ لا سيّما عند اجتماعها. قوله: {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ} العامة على فتح الجيم وقرىء بكسرها، وهما لغتان، فيما يحتاجه الإنسان من زادٍ ومتاعٍ. منه: جِهَاز العرُوس، وجِهازُ الميت. قال الليثُ رَحِمَهُ اللَّهُ: جَهَّزْتُ القَوْمَ تَجْهِيزاً: إذا تكلَّفت لهُمْ جِهَازهُمْ للسَّفرِ، وقال: وسمعت أهل البصرة يقولون: الجِهازُ بالكسر. قال الأزهريُّ: «القراءُ كلُّهم على فتح الجيم، والكسر لغةٌ ليست بجيدةٍ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 141 فصل قال المفسرون: حمل لكُلِّ واحدٍ منهم بعيراً، أكرمهم بالنزُولِ وأعطاهم ما احتاجوا إليه؛ فذلك قوله تعالى: {وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائتوني بِأَخٍ لَّكُمْ مِّنْ أَبِيكُمْ} ولم يقل بأخيكم بالإضافة؛ مبالغة في عدم تعرفه بهم. ولذلك فرَّقوا بين مررت بغلامك، وبغلام لك. فإنَّ الأول يقتضي عرفانك بالغُلامِ، وأنَّ بينك وبين مُخَاطِبك نوعُ عهدٍ. والثاني لا يَقْتَضِي ذلك، وقد تخبرُ عن المعرفةِ إخبار النكرةِ، فتقول: قال رجلٌ كذا، وأنت تعرفه؛ لصدقِ إطلاقِ النكرةِ على المعرفةِ. واعلم أنَّهُ لا بُدَّ من كلامٍ سابقٍ يكون سبباً لعرفان يوسف صلوات الله وسلامه عليه ت [وطلبه ل] أخيهم، وذكروا فيه وجوهاً: الأول وهو أحسنها: أنَّ عادة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع الكلِّ أن يعطي كل احدٍ حمل بعيرٍ، وكان إخوته عشرةً؛ فأعطاهم عشرة أحمال؛ فقالوا: إنَّ لنا أباً شيخاً كبيراً، وأخاً آخر بقي معه، وذكروا أنَّ أباهم لاجل كبر سنِّه، وشدَّة حزنه لم يحضرْ، وأنَّ أخاهم بقي في خدمةِ أبيه، فلما ذكروا ذلك قال يوسف: هذا يدلُّ على أنَّ حبَّ أبيكم له أزيدُ من حُبَّه لكم، وهذا شيءٌ عجيبٌّ {لأنكم مع جمالكم، وعقلكم، وأدبكم، إذا كانت محبةُ أبيكم لذلك الأخ أكثر من محبته لكم، دل هذا على أن ذلك أعجوبةٌ في العقلِ، الفضلِ، والأدبِ، فائتُونِي به حتى أراهُ. الثاني: لعلَّهم لما ذكروا أباهم، قال يوسف: فَلِمَ تركتموه وحيداً فريداً؟ . قالوا ما تركناه وحيداً بل بقي عنده واحد، فقال لهم: ولِمَ استخلصه لنفسه؟ لأجل نقصِ في جسده؟ فقالوا: لا بل لأجلِ أنه يُحبُّه أكثر من محبته لسائرِ الأولادِ، فقال: لما ذكرتم أن أباكم رجلٌ عالمٌ حكيمٌ، ثم إنه خصَّه بمزيدِ المحبةِ، وجب أن يكن زائداً عليكم في الفضلِ، والكمالِ مع أنِّي أراكم فضلاء علماء حكماء؛ فاشتاقت نفسي إلى رؤية ذلك الأخ؛ فائتُونِي بهِ. الثالث: قال المفسرون: ولما دخَلُوا عليه وكلَّمُوه بالعِبرانيَّةِ، قال لهم: مَنْ أنتُمْ؟ وما أمركم؟ فإني أنكرتُ شأنكم؟ . قالوا: قومٌ من أرضِ الشام رعاة، أصابنا الجَهْد؛ فجِئْنَا نَمْتَارُ، فقال: لعلكم جِئتُم عُيُونا تنظرون عَوْرَة بلادِي، قالوا: معَاذ اللهِ} ما نحن بجَواسِيسَ؛ إنما نحنُ إخوةٌ بنو إبٍ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 142 واحدٍ، وهو شيخٌ صدِّيقٌ يقال له يعقوب نَبِيٌّ من أنبياء الله تعالى؟ قال: كم أنتم؟ قالوا: كُنَّا اثني عشر، هلك مِنَّا واحدٌ، وبقي واحدٌ مع الأب؛ يتسلَّى به عن ذلك الولدِ الذي هلك، ونحن عشرةٌ. قال: فمن يعلم أنَّش الذي تقولونه حق؟ . قالوا: أيُّها الملك: إننَّا ببلادٍ لا يعرفنا فيها أحدٌ. قال: فدعوا بعضكم عندي؛ رهينةً، وائْتُونِي بأخٍ لكم، ليبلغ لكم رسالة أبيكم إن كنتم صادقين. فعند هذا أقرعوا بينهم؛ فأصبت القرعُة شمعون، وكان أحسنهم رأياً في يُوسُفَ، فخلفوه عنده. ثم إنه تعالى حَكَى عنه أنَّه قال: {ألا ترون إني أوفي الكيل} ، أي: أوَفِّيه، ولا أبخسُه، وأزيدكم حمل بعيرٍ؛ لأجل أخيكم. {وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين} أي: خَيُْ المضيفين؛ لأنه أحسن إنزالهم، وأحسن ضيافتهم. قال ابنُ الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا الكلامُ يُضعِّفُ ما نُقِل عن المفسرين بأنَّه أتَّهَمَهُم، ونسبهُم إلى أنَّهم جواسِيسَ، ولم يشافههم بذلك الكلام فلا يليقُ به أن يقول لهم: {ألا ترون أني أوفي الكيل وأنا خير المنزلين} ، وأيضاً: بعيدٌ من يوسف مع كونه صديقاً ت أن يقول لهم: أتنم جواسيسُ وعيون، مع أنه يعرف براءتهم عن هذه التُّهمةِ؛ لأن البُهْتَان لا يليق بحال الصديق. ثم قال: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي} ، أي: ليس لكم عندي طعام أكيله لكم، {وَلاَ تَقْرَبُونِ} أي: لا تقربوا داري وبلادي، وكانوا في نهاية الحاجةِ إلى الطعام، وما يمكنهم تحصيله إلاَّ من عنده، فإذا منعهم من الحضورِ، كان ذلك نهاية التَّخويف. قوله: {وَلاَ تَقْرَبُونِ} يتحمل أن تكون «لا» ناهية؛ فيكون {تَقْرَبُونِ} مجزوماً، ويحتمل أن تكون لا النافية، وفيها وجهان: أحدهما: أن يكون داخلاً في حيز الجزاءِ معطوفاً عليه، فيكون أيضاً مجزوماً على ما تقدم. والثاني: أنه نفي مستقل معطوفٍ على جزاءِ الشرطِ، وهو خبرٌ ف يمعنى النَّهي؛ كقوله: {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة: 192] . فصل لما سَمِعُوا هذا الكلام من يوسف صلوات الله وسلامه عليه {قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ} ، أي: نطلبه، ونجتهد في أن يرسله معنا، {وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ} ما امَرْتنَا به، والغرض من التكريرِ؛ التأكيد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 143 وقيل: «وإنا لفاعلون» أيْْ: كل ما في وسعنا من هذا الباب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 144 قوله تعالى: {لِفِتْيَانِهِ} قرأ الأخوان، وحفص: «لِفِتْيَانهِ» ، والباقون: «لِفِتْيَتهِ» قال أبو عليِّ الفارسيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «الفِتْيَان جمعُ كثرة، والفِتْيَةُ: جمعُ قلَّةٍ، فالتكثير بالنسبة إلى المأمُورينَ، والقلةُ بالنسبة إلى المُتنَاولينَ، وفتًى: يجمعُ على فِتيَانٍ، وفِتْيَة، وقد تقدَّم هل فِعْلة في الجموع اسم جمعٍ، أو جمعُ تكسير، ومثله» أخ «؛ فإنه جمع على أخوةٍ وإخوان؛ وهما لغتانح بمثل الصِّبيان والصِّبْيَة» . فصل اتفق الأكثرون على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أمر بوضعِ تلك البضاعة وهي ثمُ طعامهم، في رحالهم بحيثُ لا يعرفون ذلك. وقيل: إنَّهم كانوا عارفين به. وهي ضعيفُ؛ لقوله: {لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَآ إِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} . وذُكِر في السبب الذي لأجله أمر يوسف بوضع بضاعتهم في رحالهم وجوهاً: أولها: أنَّهم إذ فتحُوا المتاع، فوجدوا بضاعتهم فيهح علموا أنَّ ذلك كرمٌ من يوسف؛ فيبعثهم ذلك على العود إليه. وثانيها: خاف ألاَّ يكون عندهم غيره؛ لأنَّه زمان قحطٍ. وثالثها: رأى أنَّ أخذ ثمنِ الطّعامِ من أبيه، وإخوته شدة حاجتهم إلى الطعام لؤمٌ. ورابعها: قال الفراء رَحِمَهُ اللَّهُ: إنَّهم متى شاهدُوا بضاعتهم في رحالهم؛ فيحسبوا أنَّ وقع سهواً، وهم أنبياء وأولاد أنبياء؛ فيحملهم ذلك على رد البضاعةِ؛ نفياً للغلطِ ولا يستحلُّون إمساكها. وخامسها: أراد أن يُحسِنَ إليهم على وجهٍ لا يلحقهم منه عتب، ولا منَّة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 144 وسادسها: قال الكلبيُّ: تخوَّف ألاَّ يكون عند أبيه من الورقِ ما يرجعون به مرة أخرى. وسابعها: أنَّ مقصودهُ أن يعرفوا أنَّه لم يطلب أخاهم؛ لأجل الإيذاء والظلم؛ وإلا لطلب زيادةَ في الثمَّنِ. وثامنها: أن يعرف أباه أنه أكرمهم، وطلبهم بعد الإكرام؛ فلا يثقلُ على أبيه إرسالُ أخيه. وتاسعها: أراد أن يكون ذلك المالُ معونةً لهم على شدَّة الزمن وكان يخافُ اللصوص من قطع الطَّريق، فوضع الدَّراهم في رحالهم؛ حتى تبقى مخفية إلى أن يصلوا إلى أبيهم. وعاشرها: أنه قالب مبالغتهم في الإساءة مبالغة في الإحسان إليهم. وقوله: {يَرْجِعُونَ} يحتمل أن يكون متعدٍّياً، وحذف مفعوله، أي: يرجعون البضاعة؛ لأنه عرف دينهم ذلك، وأن يكون قاصراً بمعنى يرجعون إلينا. قوله تعالى: {فَلَمَّا رَجِعُوا إلى أَبِيهِمْ قَالُواْ ياأبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل} فيه قولان: أحدهما: أنَّهُم لما طلبوا الطعام لأبيهم وللأخ الباقي عند أبيهم، منعوا منه. والثاني: أنَّه منع الكيل في المستقبلِ، وهو قول يوسف: {فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ} [يوسف: 60] ، قال الحسنُ رَحِمَهُ اللَّهُ: معناه: يمنعُ منَّا الكيل إنْ لم نحمل أخانا معنا، وهذا أولى؛ لأنه لم يمنعهُم الكيل؛ بل اكتالَ لهم، وجهَّزهم، ويدلُّ على ذلك قوله تعالى: {فَأَرْسِلْ مَعَنَآ أَخَانَا نَكْتَلْ} ، والمراد بالكَيْلِ: الطعامُ؛ لأنه يكالُ. قوله: «نَكْتَلْ» قرأ الأخوان: بالياءِ من تحتُ، أي: يَكِيلُ أخونا. والباقون بالنون، أي: نَكِيلُ نحنُ، وهو الطعامُ، وهو مجزومٌ على جواب الأمرِ. ويحكى أنَّه جرى بحضرةِ المتوكِّل، أو وزيره ابن الزَّيات: بين المازنِيّ، وابنِ السِّكيت مسألةٌ، وهي: ما وزنُ «نَكْتَل» ؟ فقال يعقوبُ: نَفْتَل، فَسَخِرَ بِهِ المازني وقال: إنَّما وزنُها نَفْتَعِل. قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا ليس بخطأح لأنَّ التَّصريفيين نصُّوا على أنَّه إذا كان في الكلمةِ حذفٌ أو قلبٌ حذفت في الزنة، وقلبت، فتقول في وزن: قُمْتُ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 145 وبعِْتُ: فُعْتُ، وفِعْتُ، ووزن» عِدَة «» عِلَة «، وإن شئت أتيتَ بالأصل؛ فعلى هذا لا خطأ في قوله: وزن» نَكْتَلْ «: نَفْتَل؛ لأنه اعتبر اللفظ، لا الأصل، ورأيت في بعض الكتب أنَّ وزنها:» نَفْعَل «بالعينِ، وهذا خطأٌ محضٌ، على أنَّ الظاهر من أمر يعقوب أنه لم يتقنْ هذا، ولو أتقنه لقال: وزنه على الأصل كذا، وعلى اللفظ كذا، ولذلك أنحى عليه المازنيُّ، فلم يرد عليه بشيء» . ثم قال سبحانه وتعالى: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ضمنوا كونهم حافظين له: لما قالوا ذلك، قال يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ} والمعنى: أنكم ذكرتم مثل هذا الكلام في يوسف، وضمنتم لي حفظه حيث قلت: {وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} وهاهنا ذكرتم هذا اللفظ بعينه، فهل يكون هاهنا إلا ما كان هناك، فكما لا يحصل الأمانُ هناك لا يحصلُ هنا. قوله: {إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ} منصوبٌ على نعتِ مصدرٍ حذوفٍ، أو على الحال منه إي: إلاَّ أئتماناً كائتمانه لكم على أخيه، شبه ائتمانه لهم على هذه بائتمانه لهم على ذلك، و «مِن قَبْلُ» متعلق ب «أمِنْتُكمْ» . قال: {فالله خَيْرٌ حَافِظاً} ، قرأ الأخوان، وحفص «حَافِظاً» وفيه وجهان: أظهرهما: أنه تمييزٌ؛ كقوله: هو خيْرهُمْ رجُلاً، واللهِ دَرُّهُ فَارِساً. قال أبُو البقاءِ: «ومثلُ هذا يجُوزُ إضافته» وقد قرأ بذلك الأعمشُ: فاللهُ خيرُ حافظٍ «والله تعالى متَّصفٌ بأن حفظهُ يزيدُ على حفظِ غيره؛ كقولك: هُوَ أفضلُ عالمٍ والثاني: أنه حالٌ ذَكَر ذلك الزمخشريُّ وأبُوا البقاءِ، وغيرهما. قال أبو حيَّان: وقد نقله عن الزمخشري وحده:» وليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ فيه تقييدَ خيرٍ بهذه الحال «. قال شهابُ الدِّين:» ولا محذُور، فإنَّ هذه الحال لازمةٌ؛ لأنَّها مؤكدةٌ لا مبينةٌ وليس هذا بأول حال وردتْ لازمةً «. وقرأ الباقون» حِفْظاً «ولم يجيزُوا فيهاغير التَّمييزِ؛ لأنَّهم لو جعلوها حالاً، لكانت من صفة ما يصدقُ عليه» خَيْرٌ «ولا يصدقُ ذلك على ما يصدق عليه» خَيْرٌ «؛ لأن الحفظ معنى من المعاني. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 146 ومن يتأولُ: «زَيْدٌ عَدْلٌ» على المبالغةِ أو على حذفِ مضافٍ، أو على وقوع المصدر موقع الوصفِ يجيزُ في «حِفْظاً» أيضاً الحاليَّة بالتأويلاتِ المذكورة، وفيه تعسُّفٌ وقرأ أبو هريرة: «خَيْر الحَافظينَ» ، وأرْحَمُ الرَّاحِمينَ «قيل: معناهُ: وثِقْتُ بكم في حفظِ يوسف، فكان ما كان، والآن أتوكَّلُ على الله في حفظ بِنيَامِينَ. فإن قيل: لِمَ بعثه معهم وقد شاهد ما شاهد؟ . فالجوابُ من وجوهٍ: الأول: أنهم كبروا، ومالُوا إلى الخبرِ والصَّلاحِ. والثاني: أنه كان يشَاهِدُ أنَّه ليس بينهم وبين بنيامين من الحسدِ، والحقدِ مثل ما كان بينهم وبين يوسف عليه السلام. والثالث: أن ضرورة القَحْطِ أحوجتُه إلى ذلك. الرابع: لعلَّه تعالى أوحى إليه، ضمن له فحظه، وإيصاله إليه، فإن قيل: هل يدلُّ قوله: {فالله خَيْرٌ حَافِظاً} على أنَّه أذن في ذهاب بنياميَنَ في ذلك الوقت. فقال الأكثرون: يدلُّ عليه. وقال آخرون: لا يدل عليه، وفيه وجهان: الأول: أنَّ التقدير: أنَّه لو أذن في خُروجهِ معهم، لكان في حفظِ اللهِ تعالى لا في حفظهم. الثاني: لما ذكر يُوسف صلوات الله وسلامه عليه قال: {فالله خَيْرٌ حَافِظاً} أي ليُوسُفَ؛ لأنه كان يعلم أنه حيٍّ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 147 قوله تعالى: {وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ} الآية: المتاعُ: ما يصلح لأن يُستمتع به، وهو عامًّ في كلِّ ما يُسْتَمْتعُ به، والمراد به ههنا: الطعامُ الذي حملوه، ويجوز أن يرادُ به أوعيةُ الطعام، {وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ} ، ثمن البضاعة. {رُدَّتْ إِلَيْهِمْ} ؛ قرأ الأكثرون بضمِّ الراء، وقرأ علقمة ويحيى، والأعمش: « الجزء: 11 ¦ الصفحة: 147 رِدَّتْ» بكسر الرَّاءِ، على نقل حركة الدَّال المدغمةِ إلى الراء بعد توهُّم خلوها من حركتها، وهي لغةُ بني ضبَّة. على أنَّ قطرُباً حكى عن العرب: نقل حركةِ العين إلى الفاء في الصحيح؛ فيقولون: ضِرْبُ زَيْد، بمعنى: ضُرِبَ زيد، وقد تقدم ذلك في قوله: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ} [الأنعام: 28] في الأنعام. قوله: «مَا نَبْغِي» في «مَا» هذه وجهان: أظهرهما: أنها استفهاميةٌ، فهي مفعولٌ مقدمٌ، واجبُ التقديم؛ لأن لها صدر الكلام، أي: أيَّ شيء نبغِي، أعطانا الطعام على أحسنِ الوجوه، فأي شيء نبغي وراء ذلك. والثاني: أن تكون نافية ولها معنيان: أحدهما: قال الزجاج رَحِمَهُ اللَّهُ: ما بقي لنا ما نطلبُ، أي: بلغَ الإكرامُ إلى غايةٍ، ما نَبْغِي وراءها شيئاً آخر. وقيل: المعنى أنَّه ردَّ بضاعتنا إلنا، فنحن لا نَبْغِي عند رجوعنا إليه بضاعة أخرى، فإنَّ هذه التي معنا كافية لنا. والثاني: ما نَبْغِي، من البَغْيِ، أي: ما أفْتريْنا، ولا كذبنا على هذا الملك في إكرامهِ وإحسانه. قال الزمخشريُّ: «ما نَبْغِي في القولِ، ومانتزيَّد فيما وصفنا لك من إحسانِ الملكِ» . وأثبت القرأء هذه الياء في «نَبْغِي» وصلاً ووقفاً، ولم يجعلوها من الزَّوائد، بخلاف التي في الكهفِ، في قوله عزَّ وجلَّ: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} [الكهف: 64] ، والفرقُ أنَّ «ما» هناك موصولةٌ، فحذف عائدها، والحذف يؤنس بالحذف. وهذه عبارةٌ مستفيضة عند أهلِ هذه الصناعة؛ يقولون: التغييرُ يُؤنسُ بالتغيير، بخلافها هنا، فإنها: إما إستفهاميةٌ، وإما نافيةٌ، ولا حذف على القولين حتى يؤنس بالحذفِ. وقرأ عبد الله، وأبو حيوة، وروتها عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما تَبْغِي» بالخطاب و «مَا» تحتملُ الوجهين أيضاً في هذه القراءةِ، والجملة من قوله: «هَذِه بِضَاعَتُنَا» يحتملُ أن تكون مفسرةً لقولهم «مَا نَبْغِي» وأن تكون مستأنفة. قوله «ونميرُ» معطوفةٌ على الجملة الاسميةِ، وإذا كانت «مَا» نافية جاز أن تعطف على «نَبْغِي» فيكون عطف جملة فعلية على مثلها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 148 وقرأت عائشة، وأبو عبد الرحمن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما «ونُمِيرُ» من أمارهُ إذا جعل لَهُ المِيرَة، يقال: مَارَهُ يَمِيرهُ، وأمَارَهُ يُمِيرُه، والمِيرَةُ: جَلْبُ الخَيْرِ؛ قال: [الوافر] 3118 - بَعَثْتُكَ مَائراً فَمَكثْتَ حَوْلاً ... مَتَى يَأتِي غِيَاثُكَ مَنْ تُغِيثُ والبعير لغة يقع على الذكر خاصة، وأطلقه بعضهم على الناقةِ أيضاً وجعلهُ نظير «إنْسَانٍ» ويجوز كسر بائه إتباعاً لعينه، ويجمع في القلَّة على أبعرة، وفي الكثرة على بعران. والمعنى: ونزدادُ كيل بعيرٍ بسبب حُضُور أخينا؛ لأنه كان يكيلُ لكل رجلٍ حمل بعير. ثم قال: {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ} قال مقاتل رَحِمَهُ اللَّهُ: ذلك كيلٌ يسير على هذا الرجل المحسن، وحرصه على البذل، وهو اختيار الزجاج. وقيل: {ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ} ، أي قصير المدة ليس سبيل مثله أن تطول مدته بسبب الحَبْسِ والتَّأخير. وقيل: ذلك الذي يدفع إلينا بدُون أخينا شيئاً يسيراً قليلاً، لا يكفينا وأهلنا؛ فابعثْ أخانا معنا؛ لكي يكثر ما نأخذه. وقال مجاهدٌ: البعِيرُ ههنا الحمارُ، «كَيْلُ بعيرٍ» أي: حِمْلُ حمار، وهي لغة، يقال للحَمير بَعِير، وهم كانوا أصحاب حُمُر، والأول أصحُّ؛ بأنه البعيرُ المعروف. قوله تعالى: {قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله} الآية. الموْثِق: مصدر بمعنى الثقةِ، ومعناه: العَهْدُ الذي يُوثق به، فهو مصدرٌ بمعنى المفعول، يقول: لن أرسله معكم حتى تعطوني عهداً يوثقُ به وقوله «مِنْ اللهِ» أيك عهداً موثوقاً به؛ بسبب تأكد الشهادة من الله، أو بسببِ القسمِ بالله عليه. والمَوْثِقُ: العهدُ المؤكَّد بالقسم، وقيل: المؤكَّد بإشهادِ الله على نفسه. قوله: {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} هذا جوابٌ للقسم المضمر في قوله «مَوْثِقاً» ؛ لأنَّ معناه حتى تحلفوا لي لتأتنني به. قوله {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} في هذا الإستثناء أوجه: أحدها: أنه منقطع، قاله أبو البقاء. يعني فيكون تقدير الكلام: لكن إذا أحيط بكم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 149 خرجتم من عتبي، وغضبي عليكم إن لم تَأتُوني به؛ لوضوحِ عُذْركُم. والثاني: أنه متصلٌ، وهو استثناء من المفعول له العام. قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: أخبرني عن حقيقة هذا الاستثناءِ، ففيه إشكالٌ.؟ قلتُ:» أنْ يُحاطَ بِكُمْ «معفولٌ له، والكلام المثبت، الذي هو قوله» لتَأتُنَّنِي بهِ «في معنى النَّفي، معناه: لا تَمْتنِعُون من الإتيان به؛ إلا للإحاطة بكم، أو لا تمتنعون منه لعلةٍ واحدة وهي {أَن يُحَاطَ بِكُمْ} فهو استثناءُ من أعمِّ العامِّ في المفعول له، والاستثناءُ من أعم العام لا يكونُ إلا في النفي وحده؛ فلا بُدَّ من تأويله بالنَّفي، ونظيره في الإثبات المتأول بالنفي بمعنى النفي قولهم: أقْسَمْتُ باللهِ لما فعَلتَ وإلاَّ فعلتَ بزَيْدٍ يريد ما أطلب منك إلاًَّ الفعل» . ولوضوح هذا الوجه لم يذكره غيرهُ. الثالث: أنه مستثنى من أعمَّ العام من الأحوال قال أبو البقاء: تقديرهك لتَأتُنَّنِي به على كلِّ حالٍ، إلا في حالٍ، إلا في حالِ الإحاطةِ بكم. قال شهابُ الدِّين: «قد نصُّوا على أنَّ أنْ الناصبة للفعلِ، لا تقعُ موقع الحال وإن كانت مُؤولةً بمصدرٍ، يجوز أن تقع موقع الحالِ؛ لأنهم لم يَغتَفِرُوا في المؤولِ ما يَغْتفرونه في الصَّريح، فيجيزون: جِئْتُك رَكْضاً، ولا يجيزون: جِئْتُكَ أن أرْكُض وإنْ كانا في تأويله» . الرابع: أنُّه مسثنى من أعمَّ العامِّ في الأزمان، والتقدير: لتَأتُنَّنِي به في كل وقتٍ إلا في وقت الإحاطة بكم، وقد تقدم [البقرة: 258] الخلافُ في هذه المسألة، وأنَّ أبا الفتح أجاز ذلك كما يجوزه في المصدر الصريح، فكما تقول: «آتيك صِيَاحَ الدِّيك» يجوز أن تقول: آتيك أنْ يَصِيحَ الدِّيكُ، جعل من ذلك قول تأبَّط شرًّا: [الطويل] 3119 - وقَالُوا لهَا: لا تَنْكِحِيهِ فإنَّهُ ... لأوَّلِ نَصْلٍ أنْ يُلاقِيَ مَجْمَعَا وقول أبِي ذُؤيبٍ الهُذليِّ: [الطويل] 3120 - وتَاللهِ مَا إنْ شَهْلَةٌ أمُّ واحدٍ ... بأوْجَدَ مِنِّي أنْ يُهانَ صَغِيرُهَا قال: تقديره: وقت ملاقاته الجمع، ووقت إهانة صغيرها. قال أبو حيَّان: «فعلى ما قاله يجوز تخريج الآية، ويبقى {لَتَأْتُنَّنِي بِهِ} على ظاهره من الإثبات» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 150 قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «الظَّاهر من هذا أنه استثناء مفرغ، ومتى كان مُفرغاً وجب تأويله بالنفي» . ومنع ابن الأنباري ذلك في «إنْ» وفي «مَا» أيضاً، قال: «فيجوزُ أن تقول: خُروجُنَا صِيَاح الدِّيك، ولا يجوز: خُرُوجنَا أن يَصِيحَ الدِّيكُ، أوْ مَا يَصِيح الديك. فاغتفر في الصريح ما لم يغتفر في المؤوَّل، وهذا قياسُ ما تقدم في منع وقوع أن وما في حيِّزها موقع الحالِ، ولك أن تفرق بينهما بأنَّ الحال تلزم التنكير، و» أنْ «وما في حيزها نصُّوا على أنها في رتبة المضمر في التعريف، وذلك يغني عن وُقُوعِهَا موقع الحال، بخلاف الظَّرف، فإنه لا يشترط تنكيره، فلا يمتنع وقوعُ» أنْ «وما في حيزها موقعه» . فصل قال الواحيُّ: للمفرسين في الإحاطةِ قولان: الأول: معناه الهلاكُ. قال مجاهد: إلاَّ أن تموتوا كلكم فيكمون ذلك عذراً عندي، والعرب تقول: أحيط بفلانٍ إذا قرب هلاكه. قال الزمخشري: قال تعالى: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} [الكهف: 42] أي أصالبه ما أهلكه، وقال تعالى: {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ} [يونس: 22] ، وأصله؛ أنَّ من أحاط به العدوُّ، وانسدت عليه مسالكُ النجاةِ، ودنا هلاكه؛ فقد أحيط به والثاني: قال قتادة: ومعناه إلاَّ أن تَصِيرُوا مَغلُوبِين مَقْهُورين، لا تقدرون على الرجوع. {فلما ءاتوه موثقهم} ، أي: أعطوه عهدهم. قال يعقوب صلوات الله وسلامه عليه {الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} أي: شهيدٌ بمعنى شاهدٍ. وقيل: حافظاً، أي: أنه موكلٌ إليه هذا العهد فإن وفيتم به، جازاكم خير الجزاءِ، وإن غدرتم به، كافأكم بأعظم العقوبات. قوله تعالى: {وَقَالَ يابني لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ} الآية، وذلك أنه كان يخافُ عليهم العين؛ لأنَّهم كانوا أعطوا جمالاً، وقوة، وامتداد قامة، وكانوا ولد رجلٍ واحد، فأمرهم أن يتفرَّقُوا في دخولها؛ لئلا يصابوا بالعين، فإن العين حقٌّ، ويدل عليه وجوه: الأول: رُويَ عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه كان يعوِّذُ الحسن فيقول: «أعُودُ بِكلمَاتِ اللهِ التّامةِ من كُلِّ شيْطَانٍ وهَامَّةٍ، ومن كُلِّ عَْنٍ لامَّةٍ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 151 ويقول: هكذا يُعوذُ إبراهيم إسماعيل وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. ورُوِيَ عن عبادة بن الصَّامت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: «دَخَلْتُ على رسُولِ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في أوَّلِ النَّهارِ فَرَأيْتهُ شَديدَ الوَجع، ثُمَّ عدت إليْهِ آخِرَ النَّهارِ فوَجَدتهُ مُعَافى، فقال:» إنَّ جِبْريلَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أتَانِي فرقَانِي، فقال: بسمِ اللهِ أرْقِيكَ مِنْ كُلِّ شَيءٍ يُؤذِيكَ، ومِنْ كُلِّ عَيْنٍ وحَاسدٍ اللهُ يَشْفِيكَ، قال صلواتُ اللهِ وسلامُه عليْهِ فأفَقْتُ «. » وأتِيَ بابْنَي جَعْفَرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكانوا غلماناً بيضاً، فقيل: يا رسول الله «إنَّ العيْنَ تسرعُ إليْهِمَا، أفأسْتَرقِي لهُمَا مِنَ العيْنِ، فقال صلوات الله وسلامه عليه: نَعَم» . «ودخل رسول الله بيت أم سلمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وعندها صَبِيٌّ يَشْتَكِي فقَالُوا يَا رَسُول اللهِ: أصَابَتْهُ العَيْنُ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ألا تَسْتَرقُونَ لَهُ مِنَ العَيْنِ «. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» العَيْنُ حقٌّ ولوْ كَانَ شَيءٌ يَسْبِقُ القَدرَ لسَبقَتِ العيْنُ القدرَ «. وجاء في الأثرِ:» إن العين تُدخِلْ الرَّجُلَ القبر والجَمَل القِدْرَ «. وقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما:» كَانَ يَأمرُ العَائِنَ أنْ يَتوضَّأ، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ المَعِينُ الذي أصيبَ بالعَيْنِ «. والذين أثبتُوا العين قالوا: إنه يبدو من العَيْنِ أجزاءُ، فتتصل بالشيء المستحسن؛ فتُؤثِّر، وتسري فيه، كما يؤثر السُّم النار، والنصوصُ النبويةُ نطقت به، والتجاربُ من الزمن القديم ساعدت عليه. وروى الزمخشري في كتاب» ربيع الأبْرارِ «، قال الجاحظُ: علماءُ الفرس، والهندِ، وأطباءُ اليونانيين، ودهاةُ العرب، وأهل التجربة من نازلة الأمصار، وحذَّاق المتكلمين، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 152 يكرهُون الأكل بني يدي السٍّباع؛ يَخافُونَ عُيُونها؛ لِمَا فيها من النَّهم، والشَّره، ولما ينحلُّ عند ذلك من أجوافها من البخار الرَّديءِ، وينفصل من عيونها إذا خالط الإنسان نقصه وأفسده، وكانوا يكرهون قيام الخدم بالباب والأشربة على رُءُوسهِم مخافة العين، وكانوا يأمرون بإشباعهم قبل أن يأكلوا، وكانوا يقولون في الكلب السِّنورِ: إمَّا أن يطرد، وإمَّا أن يشغل بما يطرح له، قال: ونظيره: أن الرجل يضربُ الحية بعصاً؛ فيموتُ الضاربُ؛ لأنَّ السُّمَّ فصل من الحيةِ، فسرى فيه حتى داخله، ويديم الإنسانُ النظر إلى العين المحمرة؛ فيعتري عينه حمرة. وعن الأصمعيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّ عَيُوناً كان يقول: إذا رأت الشَّيْ يعجبني، وجدتُ حرارة تخرج من عيني. وعنه: كان عندنا عيَّانان، فمرَّ أحدهما بحوض من حجارةٍ، فقال: بالله، ما رأيت كاليوم مثله، فانصدع فلقتين، فصُبَّ، فمرَّ عليه فقال: رأيتك تقل ما خزرت أهْلَكَ فيكَ، فتَطَايَرَ أرْبعاً. وسمع آخرُ صوت بولِ من وراء جدار فقال: إنَّك تراني كثير الشَّخب جيِّد البول، قالوا: هذا آتيك، قال: وانقطاع ظهراهُ، فقيل: لا بأس فقال: لا يبولُ بعدها أبداً، فما بال حتَّى مات. وسمع صوت شخب بقرة فأعجبه، فقال: أيتهُنَّ هذه، فواروا بأخرى عنها؛ فهلكتا جميعاً، المُورَى بها، والمُورَى عنها. والمنقولاتُ في هذا كثيرة؛ فثبت أنَّ الإصابة بالعين حقٌّ، لا يمكن إنكارهُ. قال القرطبيُّ: وإذا كان هذا معنى الآيةِ؛ فكيون فيها دليلٌ على التَّحرُّزِ من العين، وواجب على كل مسلم إذا أعجبه شيء أن يبرك، فإنه إذا دعا بالبركة صرف المحذور لا محالة، ألا ترى لقوله صلوات الله وسلامه عليه: «ألاَ برَّكْتَ» فدلَّ على أنَّ العين لا تضرُّ، ولا تعدوا إذا برَّك العَائِنُ، وأنها إنَّما تعدو؛ إذا لم يبرك، والتَّبْرِيكُ أن يقول: «تَبارَك اللهُ أحْسَنُ الخَالقينَ، اللَّهُمَّ بَارِك فِيهِ» وإذا أصاب العائن بعينه؛ فإنَّه يُؤمَرُ بالاغتِسَالِ، ويجبرُ على ذلك إن أبى؛ لأنَّ الأمر للوجوب، ولا سيِّما هنا، فإنَّه يخاف على المعين الهلاك، ولا ينبغي لأحدٍ أن يمنع أخاهُ ما ينتفع به، ولا يضرهُ هو، ولا سيما غذا كان بسببه، كان الجاني عليه. قال القرطبيُّ: «مَنْ عُرِفَ بالإصاَبَةِ بالعيْنِ مُنِعَ مِنْ مُداخَلةِ النَّاس دفعاً للضَّرُورةِ» . وقال بعضُ العلماءِ: يأَمره الإمامُ بلزوم بيته، وإن كان فقيراً رزقه ما يقوم بهِ، ويكفّ أذاه عن الناس. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 153 وقيل: يُنفَى. والَّذي ورد في الحديث أنَّهُ لم ينفِ العَائن، ولا أمره بِلزُومِ بيته ولا حبسه، بل قالوا: يكونُ الرَّجُل الصَّالحُ عائناً، وأنه لا يقدحُ فيه، ولا يفسَّقُ به ومن قال: يحبس، ويؤمر بلزوم بيته؛ فذلك للاحتياط، ودفع ضرره. قال الجبائيُّ: إنَّ أبناء يعقوب اشتهروا، وتحدَّث النَّاسُ بهم، وبحسنهم، وكمالهم فقال: «لا تَدْخُلُوا» تلك المدينة «مِنْ بابِ واحدٍ» على ما أنتم عليه من العددِ، والهيئة، ولم يأمن عليهم حسد النَّاس، أو قالك لم يأمن عليهم أن يخافهم الملك على ملكه، فحيبسهم. وهذا وجهٌ محتملٌ لا إنكار فيه إلاَّ أنَّ القول الأوَّل أولى؛ لأنَّه لا امتناع فيه بحسب العقلِ، والعرف كما بيَّنا، والمتقدِّمُون من المفسرين أطبقوا عليه، فوجب المصيرُ إليه. ونقل عن الحسنِ أنه قال: خاف عليهم العين، فقال: {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ} ثُمَّ رجع إلى علمه، فقال: {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} ، وعرف أن العين ليست بشيء. وكان قتادة يفسِّر الآية بإصابة العين، ويقول: ليس في قوله: {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} إبطال له؛ لأن العين، وإن صحّ فاللهُ قادر على دفع أثره. وقال النَّخعيُّ: كان عالماً بأنَّ مالك مصر هو ولده يوسف إلاَّ أنَّ الله تبارك وتعالى ما أذن لهُ في إظهار ذلك، فلمَّا بعث أولاده إليه، وقال: {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} ، وكان غرضه أن يصل بنيامني إلى يوسف في وقت الخلوة، وقوله: {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} فالإنسان مأمورٌ بأن يراعي الأسباب المُعتبرة في هذا العالم، ومأمورٌ بأن يجزم بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله تعالى وأنَّ الحذر لا يُنْجِي من القدرِ، فإنَّ الإنسان مأور بالحَذرِ عن الأشياءِ المُهلكةِ، والأغذيةِ الضَّارةِ، وبالسَّعي في تحصيل المنافع، ودفع المضار بقدر الإمكان، ثمَّ مع ذلك ينبغي أن يكن جازماً بأنَّه لا يصل إليه إلاَّ ما قدره الله ولا يحصل في الوجود إلاَّ ما أراد اللهُ، فقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وادخلوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ} إشارة إلى رعاية الأسباب المعتبرة في هذا العالم، وقوله {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} إشارة إلى عدم الالتفات إلى الأسباب وإلى الالتفات إلى التَّوحيدِ المحض، والبراءة عن كُلِّ شيءٍ سوى الله تعالى. فإن قيل: كيف السَّبيلُ إلى الجمعِ بين هذه القولين؟ . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 154 فالجوابُ: أنَّ هذا السُّؤال غير مختصٍّ به، فإنه لا نزاع في أنَّه لا بدَّ من إقامة الطَّاعات والاحْترازِ من السَّيئاتِ، مع أنَّا نعتقدُ أنَّ السَّعيدَ من سعد في بطن أمه، والشَّقي من شَقِيَ في بطن أمِّه، فكذ هاهنا. وأيضاً: نأكلُ، ونشربُ، ونحترزُ عن السموم، وعن الدُّخولِ في النَّار، مع أنَّ الموت والحياة لا يحصلان إلا بتقدير الله سبحانه وتعالى، فكذا ههنا، فظهر أنَّ السؤال ليس مختصًّا بهذا المقام، بل هو بحثٌُ عن سرٍّ مسألة الخيرِ، والشرِّ. والحقُّ أن العبد يجبُ عليه أن يسعى بأقصى الجهد، والقدرة، وبعد السَّعي البليغ، يعلم أنَّ كل ما يدخل في الوجود لا بُدَّ وأن يكن بمشيئة الله عزَّ وجلَّ وسابق حكمه، وحكمته. ثم إنَّهُ تعالى أكَّد هذا المعنى، فقال: {إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ} ، وهذا من أدلِّ الدَّلائل على صحَّةِ القول بالقضاءِ، والقدر؛ لأنَّ الحكم عبارة عن الإلزام والمنع ومنه سميت حكمة الدَّابَّة بهذا الاسم؛ لأنَّها تمنع الدَّابَّة من الحركاتِ الفاسدةِ والحكم إنَّما يمسى حكماً؛ لأنه يرجح أحد طرفي الممكنِ على الآخر، بحيثُ يصيرُ الطَّرفُ «الآخر» ممتنع الحصولِ، فبيَّن تعالى أنَّ الحكم ليس إلاَّ لله، وذلك يدلُّ على أنَّ جميع الممكنات ترجع إلى قضائه، وقدرته، ومشيئته، وحكمه إمَّا بواسطةٍ، أو بغير واسطةٍ، ولذلك فوَّض يعقوب أمرهُ إلى الله تعالى. ثم قال: {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} اعتمدت: {وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون} ، والمعنى: أنَّهُ لمَّا ثبت أنَّ الكُلَّ من الله تعالى ثبت أنَّهُ لا يتوكل إلاَّ على اللهِ سبحانه وتعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 155 قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم} الآية في جواب «لمَّا» هذه ثلاثة أوجه: أظهرها: أنَّه الحملة المنفيَّةُ من قوله: {مَّا كَانَ يُغْنِي} ، وفيه حجَّةٌ لمن يدَّعي كون [لمَّا] حرفاً لا ظرفاً، إذ لو كانت ظرفاً لعمل فيها جوابها، إذْ لا يصلحُ للعمل سواه لكن ما بعد: «مَا» النَّافية لا يعمل فيها قبلها، ولا يجوز حين قَامَ أبُوكَ مَا قَامَ أخُوكَ، مع جوازِك لمَّا قَامَ أخُوكَ مَا قَامَ أبُوكَ. والثاني: أنَّ جوابها محذوف، فقدَّشره أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: امتثلوا وقضوا حاجته، وإليه نحا ابن عطيِّة أيضاً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 155 وهو تعسًّفٌ؛ لأَنَّ في الكلام ما هو جوابٌ صريحٌ كما تقدَّم. والثالث: أنَّ الجواب هو قوله: «آوَى» قال أبو البقاء: «وهو جواب:» لمَّا «الأولى، والثانية، كقولك: لمَّا كلَّمْتُكَ أجَبْتَنِي، وحسَّن ذلك أن دخولهم على يوسف صلوات الله وسلامه عليه تعقب دخولهم من الأبواب. يعنى أنَّ» آوَى «جواب الأولى، والثانية، وهو واضحٌ. فصل قال المفسرون: لمَّا قال يعقوبُ صلوات الله وسلامه عليه: {وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ} [يوسف: 67] صدَّق الله يعقوب فميا قاله، أي: وما كان ذلك التَّفيق يغني من الله من شيءٍ. قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: ذلك التَّفريق ما كان يرد من قضاء الله تعالى ولا أمراً قدره الله تعالى. وقال الزجاجك لو قدر أن يصيبهم لأصابهم، وهم مُتفرِّقون كما يصيبهم، [وهم مجتمعون] . وقال ابنُ الأنباري: لو سبق في علم الله تعالى أنَّ العين تهلكهم عند الاجتماع؛ لكان تفرقهم كاجتماعهم، وهذه كلمات متقاربة وحاصلها: أنَّ الحذر لا يدفع القدر. وقوله:» مِنْ شيءٍ «يحتملُ النَّصب بالمفعولية، والرفع بالفاعلية. أمَّا الأول فهو كقولك: مَا رأيتُ من أحدٍ، والتقدير: ما رَأيتُ أحداً، كذا ههنا، وتقدير الآية: أن تفرقهم ما كان يغني من قضاء الله شيئاً. وأما الثَّاني: فكقولك: ما جَاءَنِي من أحدٍ وتقديره: ما جَاءنِي أحدٌ، فيكون التقدير هنا: ما كان يغني عنهم من الله شيء مع قضائه. قوله: إلاَّ حَاجةٌ» فيه وجهان: أحدهما: أنه استثناء منقطعٌن وتقديره: ولكن حاجة في نفس يعقوب قضاها، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره. والثاني: أنه مفعولٌ من أجله، ولم يذكر أبو البقاءِ غيره، ويكون التقدير: ما كان يغني عنهم بشيء من الأشياء إلاَّ لأجل حاجة كانت في نفس يعقوب عليه السلام، وفاعل: «يُغْنِي» ضمير التفريق المدلول عليه من الكلام المتقدِّم. وفيما أجازه أبو البقاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى نظر من حيث المعنى لا يخفى على مُتأمِّلهِ. و «قَضَاهَا» صفة ل: «حاجة» . فصل قال بعضُ المفسرين: من تلك الحَاجةِ: خوفهُ عليهم من إصابةِ العينِ وقيل: خوفه عليهم من حسدِ أهل مصرَ، وقيل: خوفه عليهم من أن يصيبهم ملكُ مصر بسُوءٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 156 ثم قال: {وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ} قال الواحدي: «مَا» مصدريَّة، والهاء عائدةٌ إلى يعقوب صلوات الله وسلام عليه أي: وإنَّ يعقوب لذو علم للشيء الذي علمناه، يعني: أنَّا لما علمناه شيئاً حصل له العلم بذلك الشيء. والمراد بالعلم: الحفظُ، أي: وإنه لذو حفظ لماعلمناه. وقيل: المراد بالعلم: العمل، أي وإنه لذَوا عمل بفوائد ما علمناه. ثم قال: {ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ} مثل ما علم يعقوب، لأنهم لم يسلكوا طريق إصابة العلم. وقيل: لا يعلمون أنَّ يعقوب بهذه الصِّفة. وقال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لا يعلم المشركون ما آلهم الله [أولياءه] . فالمراد ب: «أكْثرَ النَّاسِ» المشركون. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 157 قوله تعالى: {وَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ} قالوا: هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئنا به، فأكرمهم، وأحسن إليهم، وأجلس كل اثنين على مائدة، فبقي بنيامين وحده، فقال: لو كان أخي يوسف حيًّا لأجلسني معه فقال يوسف: بقي أخوكم وحيداً؛ فأجلسه معه على مائدته؛ فجعل يُؤاكلهُ فلما كان اللَّيل أمر لهم بمثل ذلكح فأمر أن ينزل كل اثنين منهم بيتاً، وقال: هذا لا ثاني له أخذه معي، فآواه إليه، فلمَّا خلا به قال: ما اسمك؟ قال: بنيامين قال: وما بنيامين؟ قال: أبنْ المُيكلِ. وذلك أنَّه لما ولد؛ هلكت أمُّه، قال: وما اسم أمك، قال راحيل بن لاوي، فلمَّا تأسُّفهُ على أخ له هلك، فقال له أتحبُّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: ومن يجدُ أخاً مثلَك، ولكنَّك لم يلدك يعقوب ولا راحيلُ، فَبكَى يوسف صلوات الله وسلامه عليه، وسار إليه [وعَانقَهُ] . و: {قَالَ إني أَنَاْ أَخُوكَ} قال وهبٌ: لم يُرِدْ أنه أخوه من النَّسب، وإنَّما أراد به: إني أقُومُ لك مقَامَ أخيك في الإيناس، لئلا تستوحش بالأنفراد. والصحيحُ: ما عليه سائرٌ المسِّرين من أنَّهُ أراد تعريف النَّسب؛ لأنَّ ذلك أقوى في إزالة الوحشة، وحصول الأنس، والأصل في الكلام الحقيقة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 157 {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قال أهل اللغة: تَبْتَئِسْ: تَفْتَعِل من البُؤسِ وهو الضَّررُ والشِّدةُ، والابتِئَاس: اجتِلابُ الحُزْنِ والبُؤسِ. وقوله: {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} من إقامتهم على حسدنا، والحرص على انصراف وجه أبينا عنَّا. وقال ابنُ إسحاق وغيره: «أخبره بأنَّه أخوه حقيقة، واستكتمه، وقال لهُ: لا تُبَالِي بكلِّ ما تراه من المكوره في تحيلي في أخذك منهم» . وعلى هذا التَّأويل يحتمل أن يشير بقوله: {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} إلى ما يعمله فتيان يوسف من أمر السِّقاية، ونحو ذلك. وقيل: إنَّ يوسف صلوات الله وسلامه عليه ما بقي في قلبه شيءٌ من العداوةِ وصار صافياً لإخوته؛ فأراد أن يجعل قلب أخيه صافياً معهم أيضاً، فقال: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: لا تلتفت إلى صنيعهم فيم تقدَّم. وقيل: إنما فعلوا بيوسف ما فعلوا حسداً لإقبال الأب عليه، وتخصيصه بمزي الإكرام فخاف بنيامين أن يحسدوه، بسبب تخصيص الملكِ له بالإكرام، فآمنه منهم، وقال ك لا تفتلت إلى ذلك، فإنَّ الله قد جمع بيني وبينك. وروى الكلبيُّ عن ابن عبَّاسٍ: رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّ إخوة يوسف عليه السلام: كانوا يُعيِّرُونَ يوسف، أخاه بسبب أنَّ جدهما أبا أمَّهما كان يعبدُ الأصنام، فإنَّ أمَّ يوسف أمرت يوسف بسرقة جونة كانت لأبيها، فيها أصنام رجاء أن يترك عبادتها، إذا فقدها، فقال له: {فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي: من التَّعيير لنا مبما كان عليه جدّنا. اللهُ أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 158 قوله تعالى: {فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السقاية فِي رَحْلِ أَخِيهِ} . تقدَّم الكلامُ في الجهَازِ. أمَّا قوله: {جَعَلَ السقاي} فالعامة على: «جعلش» بلا واو قبلها، وقرأ عبدُ الله «وَجَعَلَ» وهي تحتمل وجهين: أحدهما: أن الجواب محذوفٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 158 والثاني: أنَّ الواو مزيدة في الجواب على رأي الكوفيين، والأخفش. قال أبو حيَّان: وقرأ عبدُ الله فيما نقل عن الزمخشري {وجعل السقاية في رحل أخيه} : أمْهَلهُمْ حتّى انطلقوا. {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} ، وفي نقل ابنِ عطيَّة: «وَجَعلَ» بزيادة واوٍ في: «جَعَلَ» دون الزيادة التي زادها الزمخشريُّ، بعد قوله: «في رَحْل أخيهِ» فاحتمل أن تكون الواو زائدة على مذهب الكوفيِّين، واحتمل أن يكون جواب: «لمَّا» محذوفاً تقديره: فقدها حافظها كما قيل: إنَّما أوحي إلى يوسف بأن يجعل السِّقاية فقطن ثمَّ إنَّ صاحبها فقدها فنادى برأيه فيما ظهر له، ورجَّحهُ الطبريُّ، وتفتيتش الأوعية يردُّ هذا القول. قال شهابُ الدِّين: «لم ينقل الزمخشريُّ هذه الزِّيادة كلها قراءة عن عبد الله، إنَّما جعل [الزِّيادة] المذكورة بعد قوله:» رحْلِ أخِيهِ «تقدير جواب من عنده، وهذا نصُّه: قال الزمخشريُّ:» وقرأ ابنُ مسعودٍ: وجَعَلَ السِّقاية «على حذف جواب» لمَّا «كأنه قيل: فلمَّا جهزهم بجهازهم، وجعل السِّقاية في رحل أخيه؛ أمهلهم حتى انطلقوا، ثمَّ أذَّن مؤذِّنٌ» فهذا من الزمخشريُّ إنما هو تقدير لا تلاوة منقولة عن عبد الله، ولعلَّهُ وقع للشَّيخ نسخةٌ سقيمةٌ «. فصل قال الزمخشريُّ:» السِّقاية: مَشْربةٌ يُسْقَى بها وهِيَ الصواع «. قيل: كَانَ يُسْقى بها الملكُ، ثُمَّ جعلت صاعاً يكالُ به، وقيل: كانت الدَّوابُّ تسقى بها، ويُكَالُ بِهَا أيضاً، وقيل: كانت من فضَّةٍ، وقيل: كَانتْ من ذهَبٍ، وقيل: كَانتْ مُرصَّعة بالجَواهرِ. والأولى أن يقال: كان ذلِكَ الإنَاء شيئاً لهُ قِيمَة، أمَّا إلى هذا الحدِّ الذي ذكروهُ فَلاً؟ فصل روي أنَّ يوسف صلوت الله وسلامه عليه قال لأخيه: لا تُعْلِمهُمْ شيئاً ممَّا أعلمتك، ثمَّ أوفى يوسف لإخوته الكيل، وحمل لكلِّ واحدٍ بعيراً، ولبنيامين بعيرٌ باسمه، ثمَّ أمر بسقاية الملك، فجعلت في رحل بنيامين. قال السديُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: لما قال له يوسف: {إني أَنَاْ أَخُوكَ} [يوسف: 69] قال بنيامني: فأنا لا أفارقك، فقال له يوسف: قد علمت اغتمام والدي بي، وإذا أجلستك، ازداد غمه ولا يمكنني هذا إلاَّ بعد أن أشهرك بأمر فظيع، وأنسبك إلى ما لا يُحْمدُ، قال لا أبالي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 159 فافعل ما بدا لك؛ فإني لا أفارقك، قال: فإنِّي أدس صاعي في رحلك، ثمَّ أنادي عليك بالسِّرقةِ ليتهيأ لي ردّك بعد تسريحك، قال: فافعل. فعند ذلك جعل السِّقاية في طعام أخيه بنيامين، إمَّا بنفسه بحيثُ لم يطِّلعْ عليه أحدٌ، أو أمر أحداً من بعض خواصه بذلك، ثمَّ ارتحلوا وأمهلهم يوسف حتَّى نزلوا منزلاً. وقيل: حتَّى خرجوا من العمارة، ثمَّ بعث خلفهم من استوقفهم، وحبسهم. {ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ} نادى منادٍ: {أَيَّتُهَا العير} ، وهي القافلةُ التي فيها الأحمال، يقال: أذَّن، أي: أعلمَ. وفي الفرق بين «أذَّنَ» ، و «آذَنَ» وجهان: قال ابن الأنباريِّ: «أذن بمعنى أعلم إعلاماً بعد إعلام، لأنَّ» فعَّل «يوجب تكرير الفعل، قال: ويجوز أن يكون إعلاماً واحداً، من قبل أنَّ العرب يجعل فعَّل بمعنى أفعل، في كثير من المواضع» . وقال سيبويه: الفرقُ بين أذنتُ وآذنْتُ معناه: أعلمتُ، لا فرق بينهما والتَّأذينُ معناه: النِّداءُ، والتَّصويتُ بالإعلام. {أَيَّتُهَا العير} منادى حذف منه حرف النِّداء، والعير مؤنثٌ، ولذلك أنث أي المتوصل بها إلى ندائه، والعير فيها قولان: أحدهما: أنها في الأصل جماعة الإبل، سُمِّت بذلك؛ لأنها تعير، أي: تذهب وتجيء به. والثاني: أنَّها في الأصل قافلة الحمير؛ كأنها جمع عير، والعِيرُ: الحِمارُ؛ قال الشاعر: [البسيط] 3121 - ولاَ يُقِيمُ عَلى ضَيْمٍ يُرادُ بِهِ ... إلاَّ الأذَلانِ عَيْرُ الحيِّ والوَتِدُ وأصلُ «عُيْرٌ» ، بضم العين، ثمَّ فعل به ما فعل ب «بيض» ، والأصل [بُيض] بضم الأول، ثم أطلق العير على كلِّ قافلة حميرٍ كُنَّ أو غيرها، وعلى كلِّ فتقدير نسبة النداء إليها على سبيل المجاز؛ لأنَّ المنادى في الحقيقة أهلها، ونظره الزمخشريُّ بقوله: «يَاخَيْل اللهِ ارْكبِي» ولو التفت لقال: اركَبُوا «. ويجوز أن يعبر عن أهلها بها للمجاورة، فلا يكون من مجاز الحذف، بل من مجاز العلاقة، وتجمعه العرب قاطبةٌ على» عيرات «بفتح الياءِ، وهذا ممَّا اتُّفق على شذوذِهِ؛ لأن فعلة المعتلة العين حقها في جمعها بالألف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 160 والتاء أن تسكن عينها، نحو: قِيمَة وقِيمَات، ودِيمَة ودِيمَات، وكذلك» فِعْل «دون ياء إذا جمع حقه أن تسكن عينه؛ قال امرؤ القيس: [الطويل] 3122 - غَشِيتُ دِيَارَ الحيِّ بالبَكرَاتِ ... فعَارِمَةٍ فبُرْقَةِ العِيَراتِ قال الأعلمُ الشَّنتمَرِيُّ: العِيرَات هنا موضع الأعيار، وهي الحمر. قال شهابُ الدِّين:» وفي عِيرَات «شذوذ آخر، وهو جمعها بالألف، والتَّاء مع جمعها على أعيار أيضاً جمع تكسيرٍ، وقد نصُّوا على ذلك، قيل: ولذلك لحن المتنبي في قوله: [الطويل] 3123 - إذَا كَانَ بَعَث النَّاسِ سُيْفاً لِدوْلَةٍ ... فَفِي النَّاس بُوقاتٌ لهَا وطُبُولُ قالوا: فجمع:» بُوقاً «على:» بُوقَات «مع تكسيرهم له على» أبْوَاق «. وقال أبُو الهيثم:» كلُّ ما يسير عليه من الإبل، والحمير، والبغال فهو عير خلافاً لقول من قال: العيِرُ: الإبلُ خاصَّة «. فإن قيلك هل كان ذلك النداء بأمر يوسف عليه السلام، أو ماكان بأمره؟ فإن كان بأمره فكيف يليق الرًَّسُول الحق من عند الله أن يتهمهم وينسبهم إلى السرقة كذباً وبهتاناً؟ . وإنْ لم يكن بأمره، فهلا أظهر براءتهم عن تلك التُّهمةِ؟ . فالجواب من وجوه: الأول: ما تقدَّم من أنَّه صولات الله وسلامه عليه أظهر لأخيه أنَّه يوسف وقال: لا سبيل إلى حبسك هنا إلاَّ بهذه الحيلة، فرضي أخوهُ بها، ولم يتألم قلبه. والثاني: أراد إنكم لسارقون يوسف من أبيه، والمعاريض لا تكون إلا كذلك. والثالث: أن [المؤذن] إنما نادى مستفهماً. والرابع: هو الظاهر أنَّهم نادوا من عند أنفسهم؛ لأنهم طلبوا السِّقاية فلم يجدوها، ما كان هناك غيرهم، فغلب على ظنهم أنَّهم هم الَّذين أخذوها، وليس في القرآن أنَّهم نادوا عن أمر يوسف صلوات الله وسلامه عليه. وقيل: إنَّهم لما كانوا باعوا يوسف استجاز أن يقال لهم هذا، وأنَّه عوقب على ذلك بأن قالوا: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 161 وقيل: أراد أيتها العيرُ حالكم حال السارق، والمعنى: إن شيئاً لغيركم صار عندكم، من غير رضى الملك، ولا علم له. وقيل: إنَّ ذلك كان حيلة لاجتماع شمله بأخيه، وفصله عنهم إليه، وهذا بناءً على أنَّ بنيامين لم يعلم بدسّ الصَّاع في رحله، ولا أخبره بنفسه. وقيل: معنى الكلامِ: الاستهفام، أي: أو إنكم لسارقون، كقوله: {وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ} [الشعراء: 22] والغرضُ ألا يعزى الكذب إلى يوسف. فإن قيل: كيف رضي بنيامين بالقعود طوعاً، وفيه عقوق الأب بزيادة الحزن، ووافقه على ذلك يوسف؟ . فالجواب: أنَّ الحزن كان قد غلب على يعقوب بحيث لا يؤثِّر فيه فقد بنيامين كل التأثير، ألا تراهُ لما فقده قال: {يا أسفا على يوسف} ، ولم يعرج على بنيامين ولعلَّ يوسف إنَّما وافقه على القعود بوحي، فلا اعتراض. قوله: {وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِمْ} هذه الجملة حاليةٌ من فاعل قالوا أي: قالوا: وقد أقبلوا، أي: في حال إقبالهم عليهم. {مَّاذَا تَفْقِدُونَ} تقدم الكلام على هذه المسألة أوَّل الكتاب. وقرأ العامة: «تَفْقِدُونَ» بفتح حرف المضارعة؛ لأن المستعمل منه «فَقَدَ» ثلاثياً وقرأ السلميُّ بضمةٍ من أفقدتُّه إذا وجدته مفقوداً كأحمدتهُ وأبخلته، [إذا] وجدته محموداً وبخيلاً. وضعَّف أبو حاتمٍ هذه القراءة، ووجهها ما تقدَّم. قوله: {نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك} «الصَّواعُك هو المِكْيَال، وهو السِّقاية المتقدِّمة سمَّاه تارة والسِّقايةُ: وصفٌ. وقيل:» ذُكِّرَ؛ لأَنَّه صاعٌ، وأنْثَ لأنَّهُ سِقايَة. والصّواع السّقاية: إناءٌ له رأسان في وسطه مقبض، كان الملك يشربُ منه من الرَّأسِ الواحدة ويكالُ الطَّعام بالرَّأسِ الآخرِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 162 وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: كلُّ شيء يُشربُ به فهو صُواعٌ؛ وأنشد: [الخفيف] 3124 - نَشْرَبُ الخَمْرَ بالصُّواعِ جِهَاراً ..... ... ... ... ... ... ... قيل: إنما كان الطعَّام بالصَّواع مبالغة في إكرامهم. وقال مجاهدٌ، وأبو صالح: الصُّواع الطرجهالة بلغة حميرٍ. وإنَّما اتخذ هذا الإناء مكيلاً لعزة ما يكال به في ذلك الوقت. وفيه قراءات كلُّها لغات في ذلك الحرف، ويُذكِّر، ويؤنَّث فالعامة: «صُوَاع» بزنة: «غُرَاب» ، العين مهملة، وقرأ ابن جبير، والحسن كذلك إلاَّ أنه بالغين المعجمة وقرأ يحيى بن يعمر كذلك؛ إلا أنه حذف الألف، وسكن الواو، وقرأ زيد بن عليِّ «صَوْغ» كذلك إلا أنه فتح الصَّاد، وجعله مصدراً ل: «صَاغَ» يَصُوغُ. والقراءتان [قبله] مشتقان منه وهو واقع موقع مفعول. أي: مصوغ الملك. وقرأ أبو حميرة وابن جبير والحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم في رواية عنهما «صِواعَ» كالعامة إلا أنهم كسروا الفاء. وقرأ أبو هريرة ومجاهد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «صَاع» بزنة بَاب وألفه كألفه في كونها منقلبة عن واو مفتوحة وقرأ أبو رجاء: «صَوْع» بزنة «قَوْس» . وقرأ عبد الله بن عون كذلك إلا أنه ضم الفاء فهذه ثمان قراءات متواترة وواحدة في الشاذ. قوله: {وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ} أي من الطعام، {وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} . قال مجاهد: الزعيم هو المؤذن الذي أذن، والزعيم: الكفيل. قال الكلبيُّ: الزَّعيمُ: هو الكفيل بلسانِ أهل اليمنِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 163 روى أبو عبيدة عن الكسائيِّ: زعمْتُ بِهِ أزعُم زُعْماً وزَعَامَةً، أي: تكفلت به. وهذه الآية تدلُّ على أنَّ الكفالة كانت صحيحة في شرعهم، وقد حكم بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في قوله: «الزَّعيمُ غَارِمٌ» . فإن قيل: هذه الكفالةُ شيءٌ مجهولٌ؟ . فالجواب: حمل البعير من الطَّعام كان معلوماً عندهم، فصحت الكفالةُ به إلاَّ أن هذه الكفالة ما لرد السَّرقة، وهي كفالةٌ بما لم يجب؛ لأنَّه لا يحلُّ للسَّارقِ أن يأخذ شيئاً على ردّ السِّرقةِ، ولعلّ مثل هذه الكفالة كانت تصحُّ عندهم. فصل قال القطربيُّ: «تجوز الكفالةُ عن الرِّجلُ؛ لأنَّ المؤذن هو الضَّامنُ وهو غير يوسف صلوات الله وسلامه عليه. قال علماؤنا: إذا قال الرجلُ: تحمَّلتُ، أو [تكفلت] أو ضمِنتُ، أو أنا حميلٌ لكل أو زعيمٌ، أو كفيلٌ، أو ضامنٌ، أو قبيلٌ، أو لك عندي، أو علي، أو إليّ، أو قبلي، فذلك كلُّه [حَمالةٌ] لازمةٌ. واختلفوا فيمن تكفل بالنفس، أو بالوجه هل يلزمه ضمانُ المالِ» . فقال الشافعيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في المشهور عنه، وأحمد: مَن تكفَّل بالنَّفس لم يلزمه الحقٌّ الذي على المطلوب إن ماتَ. وقال مالكُ، والليثُ، والأوزاعيُّ: إذا تكفل نفسه، وعليه مال، فإن لم يأت به غرم المال، ويرجع به على المطلوب، فإن اشترط ضمان نفسه، أو وجهه، وقال: لا أضمن المال، فلا شيء عليه من المال «. فصل واختلفوا فيما إذا تكفَّل رجلٌ عن رجلٍ بمالٍ، هل للطالب أن يأخذ من شاء منهما؟ . فقال الأوزاعيُّ، والشافعيُّ، وأحمد، وإسحاق: يأخذ من شاء منهما، وهذا كان قولم مالكٍ، ثمُّ رجع عنه فقال: لا يأخذُ من الكفيل إلاَّ أن يفلس الغريمُ، أو يغيبُ؛ لأنَّ البداءة بالذي عليه الحق أولى إلاَّ أن يكون معدماً، فإنَّه يأخذُ من الحميل؛ لأنه معذورٌ في أخذه في هذه الحالةِ، وهذا قولٌ حسنٌ، والقياسُ: أنَّ للرَّجُلِ مطالبة من شاء منهما. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 164 وقال ابنُ أبي ليلى: إذا ضمن الرَّجلُ عن صاحبه مالاً؛ تحوَّل على الكفيل، وبرىء الأصيل، إلاَّ أن يشترط المكفول له عليهما أن يأخذ من أيهما شاء. قوله «تاللهِ» التاء حرف قسم، وهي عند الجمهور بدل من واو القسم ولذلك لا تدخل إلاَّ على الجلالة المعظمة، أو الرب مضافاً للكعبة، أو الرحمن في قول ضعيف، ولو قلت: تالرحْمن «لم يجز، وهي فرعُ الفرعِ. وهذا مذهب الجمهور. وزعم السيهليُّ: أنهَّا أصلٌ بنفسها، ويلازمها التَّعجب غالباً كقوله: (تالله تفتأ تذكر يوسف) . وقال ابنُ عطيَّة:» والتَّاء في «تَاللهِ» بدلٌ من واو، كما أبدلت في تراثٍ، وفي التَّوراةِ، وفي التخمة، ولا تدخلُ التَّاء في القسم، إلاَّ في المكتوبة، من بين أسماء الله تعالى وغير ذلك لا تقول تالرحمنِ، وتَا الرَّحيم «انتهى وقد تقدَّم أنَّ السُّهيليَّ خالف في كونها بدلاً من واوٍ. وأمَّا قوله:» في التَّوراةِ «يريد عند البصريين، وزعم بعضهم أنَّ التَّاء فيها زائدةٌ، وأمَّا قوله» إلا في المكتُوبَةٍ «هذا هُوا المشهور، وقد تقدَّم دخولها على غير ذلك. قوله:» مَا جِئْنَا «يجوز أن يكون معلقاً للعلم، ويجوز أن يضمن العلم نفسه معنى القسم فيجاب بما يجاب به القسم، وقيل هذان القولان في قول الشاعر: [الكامل] 3125 - ولقَدْ عَلمْتُ لتأتِينَّ مَنيِّتِي ... إنَّ المَنايَا لا تَطِيشُ سِهَامُهَا قوله {وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ} يحتمل أن يكون جواباً للقسم فيكونون قد أقسموا على شيئين: نفي الفساد، ونفي السَّرقة. فصل قال المفسرونك حلفوا على أمرين: أحدهما: على أنهم ما جاءوا لأجل الفسادِ في الأرض؛ لأنَّه ظهر من أحوالهم وامتناعهم من التصرف في أموال النَّاس بالكليَّة لا بأكل، ولا بإرسال في مزارع النَّاس حتَّى روي أنهم كانوا يسدون أفواه دوابهم لئلا يفسد زرع النَّاس، وكانوا مواظبين على أنواع الطَّاعات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 165 والثاني: أنهم ما كانوا سارقين، وقد حصل لهم في شاهد قاطع، وهو أنهم لما وجدوا بضاعتهم في رحالهم حملوها من بلادهم إلى مصر، ولم يستحلُّوا أخذها والسارق لا يفعل ذلك ألبتَّة، فلمَّا بينوا براءتهم من تلك التهمة قال أصحابُ يوسف صلوات الله عليه: {فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ} فأجابوه، {قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: كانوا يستعبدون في ذلك الزمان كُلَّ سارقٍ بسرقته، فلذلك قالوا: {جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} أي: فالسَّارقُ جزاؤه، أي: فيسلم السَّارق إلى المسرُوق منه، وكان سنة آل يعقوب في حكم السَّارق، وكان حكم ملك مصر أن يضرب السَّارق، ويغرمه قيمة المسروق، فأراد يوسف أن يحبس أخاه عند فردَّ الحكم إليهم؛ ليتمكن من حبسه عنده على حكمهم. قوله تعالى: {جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} فيه أربعة أوجه: أحدهما: أن يكون «جَزاؤهُ» مبتدأ، والضمير للسَّارق، و «مَنْ» شرطيَّة أو موصولة مبتدأ ثاني، والفاء جواب الشَّرط، أو مزيدة في خبر الموصول لشبهه بالشَّرطِ و «مَنْ» وما في حيزها على وجهيها خبر المبتدأ الأوَّلِ، قاله ابن عطيَّة، وهو مردودٌ؛ لعدم رابط بين المبتدأ، وبين الجملة الواقعة خبراً عنه، هكذا ردَّه أبو حيَّان عليه. وليس بظاهر؛ لأنَّه يجاب عنه بأن هذه المسألة من باب إقامة الظاهر مقام الضمير ويتَّضح هذا بتقدير الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ فإنَّه قال: «ويجوز أن يكون» جَزاؤهُ «مبتدأ، والجملة الشرطية كما هي خبره، وعلى إقامة الظَّاهر فيها مقام المضمر، والأصل: جزاؤه، من وجد في رحله فهو هو، فوضع الجزاء موضع» هو «كما تقول لصاحبك: مَنْ أخُوا زيدٍ؟ فيقول لك: من يقْعُد إلى جَنْبِهِ فهُوا هو يرجع الضمير الأول إلى:» مَنْ «، والثاني إلى الأخِ، فتقولُ:» فهو أخوه «مقيماً الظاهر مقام المضمر» . وأبو حيان جعل هذا المحكيّ عن الزَّمخشري وجهاً ثانياً بعد الأوَّلِ، ولم يعتقد أنه هو بعينه، ولا أنه جوابٌ عما ردَّ به على ابن عطيَّة. ثمَّ قال: «وضع الظَّاهر موضع المضمر للرَّبطِ، وإنَّما هو فيصحٌ في مواضع التفخيم والتَّهويل، وغير فصيح فيما سوى ذلك، نحو: قام زيدٌ، وينزه عنه القرآن. قال سيبويه:» لو قلت: كان زيدٌ منطلقا زيدٌ «لم يكن حدُّ الكلام وكان ههنا ضعيفاً، ولم يكن كقولك: مازيدٌ مُنْطكلقاً هُوَ؛ لأك قد استغنيت عن إظَهاره، وإنَّما ينبغي لك أن تضمره» . قال شهابُ الدِّين: ومذهبُ الأخفش أنَّه جائزٌ مطلقاً، وعليه بنى الزمخشريُّ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 166 وقد جوَّز أبو البقاء ما توهم أنَّهُ جواب عن ذلك فقال: والوجه الثالث: أن يكون «جَزاؤهُ» مبتدأ، و «مَنْ وُجِدَ» متبدأ ثان، و «هُوَ» مبتدأ ثالثُ، و «جَزَاؤهُ» خير الثالث، والعائدُ على المبتدأ الأول الهاء الأخيرة وعلى الثاني «هُوَ» انتهى. وهذا الذي ذكره أبو البقاء لا يصح؛ إذ يصير التقدير: فالذي وجد في رحله جزاؤه الجزاء؛ لأنَّه جعل «هُوَ» عبارة عن المبتدأ الثاني، وهو: {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} وجعل الهاء الأخيرة، وهي التي في: «جَزاؤهُ» الأخير عائدةٌ على: «جَزاؤهُ» الأوَّل، فصار التقدير كما ذكرنا. الوجه الثاني من الأوجه المتقدمة: أن يكون: «جَزَاؤهُ» مبتدأ، والهاء تعود على المسروق، و {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ} خبره، و «مَنْ» بمعنى الذي، والتقدير: جزاء الصّواع الذي وجد في رحله. ولذلك كانت شريعتهم يسترق السَّارق؛ لذلك استفتوا في جزائه، وقوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} متبدأ، وخبر مؤكدٌ لمعنى الأولد، ولما ذكر أبو حيَّان هذا الوجه ناقلاً له عن الزمخشريُّ، قال: «وقال معناه ابنُ عطيَّة إلاَّ أنَّهُ جعل القول الواحد قولين، قال: ويصحُّ أن يكون» مَنْ «خبراً على أن المعنى: جزاء السَّارق من وجد في رحله، ويكون قوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} زيادة بيانٍ وتأكيد، ثم قال: ويحتمل أن يكون التقدير: جزاؤه استرقاق من وجد في رحله، ثم يؤكد قوله: {فَهُوَ جَزَاؤُهُ} ، وهذا القول هو الذي قبله غير أنَّهُ أبرز المضاف المحذوف في قوله: استرقاق من وجد في رحله، وفيما قبله لا بدَّ من تقديره؛ لأنَّ الذَّات لا تكُون خبراً عن المصدرِ، فالتَّقدير في القول قبله: جزاؤهُ أخذ من وجد في رحله أو استرقاقه، هذا لا بُدَّ منه على هذا الإعراب. وهذا ظاهره، أنه جعل المقول الواحد قولين. الوجه الثالث من الأوجه المتقدمة: أن يكون:» جَزاءهُ «خبر مبتدأ محذوف أي: المسئول عنه جزاؤه، ثمَّ أفتوا بقولهم: {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} كما تقول: من يَسْتَفتِ] في جزاء صَيْدِ المحرمِ جزاءُ صَيْدِ المحرمِ، ثمَّ يقول: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم} [المائدة: 95] قاله الزمخشري. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 167 قال أبو حيَّان:» وهو متكلف، إذ تصير الجملة من قوله «المسئول عنه جزاؤه» على هذا التقدير، ليس فيه كبير فائدة، إذ قدلم علم من قوله: «فما جَزاؤهُ» أي الشيء المسئولُ عنه جزاء سرقته، فأيُّ فائدة في نطقهم بذلك، وكذلك القول في المثال الثَّاني الذي مثل به من قول المستفتي «. قال شهابُ الدِّين:» قوله: «ليس فيه كبيرة فائدة» ممنوعٌ، بل فيه فائدة الإضمار المذكور في علم البيان، وفي القرآن أمثال ذلك «. الوجه الرابع: أني كون» جَزَاؤهُ «مبتدأ، وخبره محذوف، تقديره: جزاؤه عندنا كجزائه عندكم، والهاء تعود على السَّارق، أو على المسروق، وفي الكلام المتقدِّم دليل عليهما، ويكون قوله: {مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} على ما تقدَّم في الوجه الذي قبله وبها الوجه بدأ أبُوا البقاءِ رَحِمَهُ اللَّهُ ولم يذكره الشَّيخُ. قوله: {كذلك نَجْزِي الظالمين} محل الكاف نصب إمَّا على أنَّها نعت لمصدر محذوفٍ، إمَّا حال من ضميره، أي: مثل ذلك الجزاء الفضيع نجزي الضالمين أي: إذا سرق استرق. قيل: هذا من بقيَّة كلام أخوة يوسف صلوات الله وسلامه عليه. وقيل: إنهم لما قالوا: {جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} قال أصحاب يوسف: {كذلك نَجْزِي الظالمين} ماليس لهم فعلُهُ من سرقة مال الغير، فعند ذلك قال لهم المؤذن: لا بُدَّ من تفتيش أوعيتكم، فانصرف بهم إلى يوسف. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 168 {فَبَدَأَ} يوسف: {بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَآءِ أَخِيهِ} لإزالة التُّهمة. قرأ العامة: «وعَاءِ» بكسر الواو. وقرأ الحسن بضمها، وهي لغةٌ نقلت عن نافع أيضاً، وقرأ سعيد بن جبير: «مِنْ إعَاءِ أخيهِ» بإبدال الواو همزة وهي لغة هذيليَّة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 168 يبدلون من الواو المكسورة، أوَّل الكلمة همزة، فيقولون: إشاح وإسادة، وإعاء في «وِشَاح، ووِسَادة، ووِعَاء» وقد تقدَّم ذلك في الجلالة المعظمة أول الكتاب. والأوعية: جمع وِعَاء. هو كلُّ ما إذا وضع فيه أحاط به. قوله تعالى: {ثُمَّ استخرجها} في الضمير المنصوب قولان: أحدهما: أنَّه عائد على الصّواع؛ لأنَّ فيه التَّذكير، والتَّأنيث، كما تقدَّم. وقيل: لأنه حمل على معنى الساقية. قال أبو عبيدٍ: قولك: «الصُّواعُ» يؤنَّث من حيُ هو سقاية، ويذكَّر من حيث هو صواع. قالوا: وكأنَّ أبا عبيد لم يحفظ في الصواع التَّأنيث. وقال الزخشريُّ: «قالوا رجع بالتَّأنيث على السِّقاية» ثم قال: ولعلَّ يوسف كان يسمِّه سقاية، وعبيدة صواعاً، فقد وقع فيما يتَّصل به من الكلام سقاية، وفيما يتَّصل بهم منه صواعاً «. وهذا الأخيرُ أحسنُ. والثاني: أنَّ الضمير عائد على السَّرقة. وفيه نظرٌ؛ لأنَّ السرقة لا تستخرج إلا بمجاز. فصل قال قتادة: ذكر لنا أنه كان لا يفتح متاعاً، ولا ينظرُ من وعاءٍ ألاَّ استغفر الله تعالى تائباً ممَّا قذفهم به، حتى إذا لم يبق إلاَّ رحْلُ بنيامين قال: ما أظنُّ هذا أخذه، فقال إخوتهُ: والله لا يتركُ حتَّى ينظر في رحله، فإنه أطيبُ لنفسكن ولأنفسنا، فلما فتحوا متاعه استخرجوه منه؛ فنكس إخوته رءوسهم من الحياء وقالوا: إنَّ هذه الواقعة عجيبةٌ، إنَّ راحيل ولدت ولدين لصين، وأقبلوا على بنيامين، وقالوا: أيش الذي صنعتن فضحتنا، وسوَّدت وجُوهنا، يا بني راحيل لا يزال لنا منكم بلاءٌ [حتى أخذت هذا الصواع، فقال بنيامين: بل بنو راحيل لا يزال لهم منكم بلاء] ذهبتهم بأخي، ثم أهلكتموه في البريَّةن ثم تقولون لي هذاه الكلام، قالوا له: كيف خرج الصُّواعُ من رحلك؟ فقال: وضع هذا الصوع في رحلي الذي وضع البضاعة في رحالكم، قالوا: فأخذ بنيامين رقيقاً. قوله: {كذلك كِدْنَا} الكلام فيك {كذلك كِدْنَا} [75] كالكلام فيما كان قبلها أيك مثل ذلك الكيد العظيم، أيك كما فعلوا في الابتداء بيوسف من الكيد فعلنا بهمن وقد مقال يعقوب ليوسف صلوات الله وسلامه عليه {فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً} [يوسف: 5] ، فكدنا ليوسف في أمرهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 169 فالمراد من هذا الكيد: هو أنَّهُ تعالى ألقى ف يقلب أخوته: أن احكموا بأنَّ جزاء السَّارق هو أن يسترقَّ، لا جرم لما ظهر الصُّواعُ في رحله؛ حكموا عليه بالاسترقاق؛ وصار ذلك سبباً لتمكُّنِ يوسف صلوات الله وسلام عليه من إمساكِ أخيه عند نفسه. واعلم أنَّ الكيد يشعر بالحِيلةِ، والخَديعة، وذلك في حقل الله تعالى محال إلا أنَّه قد تقدم أصل معتبر في هذا الباب، وهو أنَّ أمثال هذه الألفاظ في حق الله تعالى تحمل على نهايات الأغراض، لا على بداياتها، وتقرَّر ذلك عند قوله: {إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى} [البقرة: 26] فالكيدُ: السَّعي في الحلية، والخديعة، ونهايته اشتغال الإنسان من حيث لا يشعر في أمرٍ مكروهٍ، ولا سبيل له إلى دفعه، فالكَيْدُ في حقِّ اله محمولٌ على هذا المعنى. وقيل: المرادُ بالكيد ههنا: أنَّ أخوة يوسف سعوا في إبطال أمره، والله نصرهُ وقوَّاه، وأعلى أمرهُ. قال القرطبي: قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «كِدْنَا» معناه: صنعنا. وقال القتبيُّ: دبَّرنا. وقال ابنُ الأنباري: أردنا؛ قال الشاعر: [الكامل] 3126 - كَادَتْ وكِدْتُ وتِلْكَ خَيرٌ إرَادَةٍ ... لَوْ مِنْ عَهْدِ الصِّبَا ما قَدْ مَضَى قوله: {مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ} تفسير للكيد، وبيان له، وذلك أنه كان في زمان ملك مصر أن يغرَّم السَّارق مثلي ما أخذ لا أنه يستعبد. فصل قال القرطبيُّ: «في الآية دليلٌ على جواز التَّوصل إلى الأغراض بالحيل إذا لم تخالف شريعة، ولا هدمت أصلاً خلافاً لأبي حنيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في تجويز الحيل وإن خالفت الأصول، وخرمت التحليل، وأجمعوا على أنَّ للرَّجُلِ التَّصرف في ماله قبل حُلولِ الحوْلِ بالبيع، والهبةِ إذا لم ينوا الفرارَ من الزَّكاةِ، وأجمعوا على أنَّه إذا حال الحولُنو أظلَّ السَّاعِي أنه لا يحلّ له التّحيل، ولا النُّقصانُ ولا أن يفرق بين مجتمع ولا أن يجمع بين متفرق» . فصل قال ابنُ العربيّ: قال بعضُ الشَّافيعة: في قوله تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} [يوسف: 21] دليل على وجه الحيلة إلى المباح، واستخراجِ الحقوق، وهذا وهمٌ عظيم، وقوله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 170 تعالى: {وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض} [يوسف: 21] قيل فيه: لمَّا مكَّنا ليوسف ملك نفسه عن امرأة العزيز مكَّنَّا له ملك الأرض عند العزيز، وهذا لا يشبهُ ما ذكروهُ. قال الشعفوي: ومثله قوله: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ} [ص: 44] هذا ليس حيلة، إنما هو حمل [اليمين] على الألفاظ، أو على المقاصد. قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} فيه وجهان: أحدهما: أنه استنثاءٌ منقطعٌ تقديره: ولكن بمشيئة الله أخذه في دينٍ غير دينِ الملكِ، وهو دينُ آلِ يعقوب أنَّ الاسترقاق جزاءُ للسَّارقِ. قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «فِي دِين الملِكِ» أي في سلطانه. {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} أي: أنَّ يوسف لم يتمكن من حبس أخيه في حكم الملك لولا ما كدنا له بلطفنا، حتى وجد السبيل إلى ذلك، وهو ما جرى على [السنة] الإخوة أنَّ جزاء السارق الاسترقاق فحصل مراد يوسف بمشيئة الله. والثاني: أنَّه مفرغ من الأحوال العامَّة، والتقدير: ما كان ليأخذه من كلِّ حالٍ إلا في حال التباسه بمشيئة الله عزَّ وجلَّ أي: إذنه في ذلك. وكلاُ ابن عطيَّة محتملٌ فإنه قال والاستثناء حكاية حال، والتقدير: إلاَّ أن يشاء ما وقع من هذه الحيلة. قوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} تقدَّم القراءتان فيها في الأنعام [الأنعام: 83] . وقرأ يعقوب بالياء من تحت «يَرْفعُ:، و» يَشاءُ «والفاعل الله تعالى. وقرأ عيسى البصري» نَرْفَعُ «بالنون» دَرجَاتٍ «منونة، و» يَشَاءُ «بالياء. قال صاحبُ اللَّوامحُ:» وهذه قراءة مرغوبٌ عنها تلاوة، وجملة، وإن لم يمكن إنكارها «. قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ:» وتوجيهها: أنَّهُ التفت في قوله «يَشَاءُ» من التَّكلُّم إلى الغيبةِ، والمراد واحدٌ «. قوله: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قرأ عبد الله بن مسعود: (وفوق كل ذي عالم) . وفيها ثلاثة أوجه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 171 أحدها: أن يكون» عَالِم «هنا مصدراً، قالوأ: مثل الباطل فإنَّهُ مصدر فهي كالقراءة المشهورة. الثاني: أنَّ ثمَّ مضافاً محذوفاً، تقديره: وفوق كل ذي مسمى عالمٍ؛ كقوله: [الطويل] 3127 - إلى الحَوْلِ ثمَّ اسْمُ السَّلامِ عَليْكُمَا ... أي: مُسمَّى السِّلام. الثالث: أنَّ» ذو «زائدة؛ كقوله الكميت: [الطويل] 3128 - ... ... . ذَوِي آلِ النَّبيِّ ... ... . ..... ... ... ... ... ... فصل قوله: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} بالعلم كما رفعنا درجة يوسف على إخوته والمعنى: أنه خصَّه بأنواع العلوم. وهذه الآية تدلُّ على أنَّ العلم أشرف المقامات، وأعلى الدَّرجات لأنه تعالى لما هدى يوسف إلى هذه الحيلة مدحه لأجل ذلك فقال: {نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ} . ثم قال: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: {وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ} على إلى أن ينتهي العلم إلى الله عَزَّ وَجَلَّ فالله فوق كلِّ عالمٍ. والمعنى: أنَّ إخوة يوسف كانوا علماء فضلاء، إلاَّ أنَّ يوسف كان زائداً عليهم في العلم. واحتجَّ المعتزلةُ بهذه الآيةِ على أنَّهُ تعالى عالم لذاته؛ لأنَّه لو كان عالماً بالعلم، لكان ذا علم، ولو كان كذلك لحصل فوقه عليهم تمسكاً بهذه الآية. قال ابن الخطيب:» وهذا باطلٌ؛ لأن أصحابنا قالوا: دلَّت سائر الآيات على إثبات العلم باللهِ تعالى وهو قوله: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] {أَنزَلَهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 172 بِعِلْمِهِ} [النساء: 166] ، {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ} [البقرة: 255] ، {وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ} [فاطر: 11] وإذا وقع التَّعارضُ، فنحن نحملُ الآية التي تمسَّك بها الخصمُ على واقعة يوسف وإخوته، غاية ما في الباب أنه يوجب تخصيص عموم إلا أنَّه لا بد من المصير إليه؛ لأن العالم مشتقٌّ من العلم، والمشتقُّ منه مفردٌ، وحصول المركب بدون حصول المفرد محالٌ في بديهة العقلِ، فكان التَّرجيحُ من جانبنا «. قوله: {فَقَدْ سَرَقَ} الجمهور على «سرقَ» مخففاً مبنيًّا للفاعل، وقرأ أحمدُ بن جبير الأنطاكيُّ، وابن شريحٍ عن الكسائيِّ، والوليد بن حسان عن يعقوب في آخرين: «سُرِّقَ» مشدداً مبينًّا للمفعول أي: نسب إلى السرقة؛ لأنَّهُ ورود في التَّفسيرِ: أنَّ عمته ربته، فأخذاهُ أبوه منها؛ فشدت في وسطه منطقة كانوا يتوارثونها من إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه ففتشوا فوجودها تحت ثيابه، فقالت: هو لي، فأخذته كما في شريعتهم، ومن هنا تعلم يوسف وضع السِّقاية في رحل أخيه، كما فعلت به عمَّتهُ، وهذه القراءة منطبقةٌ على هذا. وقال سعيدُ بن جبيرٍ: كان لجدِّهِ أبي أمه صنمٌ يعبده، فأخذه سراً، وكسره وألقاهُ في الطَّريق. وقال مجاهدٌ: أخذ بيضةً من البيتِ فأعطاها سائلاً. وقيل: دجاجة وقال وهبٌ رَحِمَهُ اللَّهُ: كان يُخبىءُ الطَّعام من المائدة للفقراء فقالوا للملك: إنَّ هذا ليْسَ بغَريبٍ منهُ، فإنَّ أخاهُ الَّذي هلك كان أيضاً سارقاً، أي إنَّا لسنا على طريقته، ولا على سيرته، وهو وأخوه مختصان بهذه الطَّريقةِ؛ لأنهما من أم أخرى. قوله: «فأسرَّها» قال بعضهم: الضَّمير المنصوب مفسَّر لسياق الكلام، أي: فأسرَّ الحزازة التي حصلت له من قولهم: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ} ؛ كقوله: [الطويل] 3129 - أمَاوِيَّ ما يُغْنِي الثَّراءُ عَنِ الفَتَى ... إذَا حَشْرجَتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدرُ فالضمير في «حَشْرَجَتْ» يعود على النَّفسِ، كذا ذكرهُ أبو حيَّان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 173 وقد جعل بعضهم البيت ممَّا فُسِّر فيه الضمير بذكْرِ ما هُو كلُّ لصاحبِ الضَّمير، فلا يكُونُ ممَّا فُسِّر فيه بالسِّياقِ. وقال الزخشريُّ إضمارٌ على شريطةِ التَّفسيرِ، يفسره «أنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً» وإنَّما أنَّث؛ لأن قوله: «شَرٌّ مَكَاناً» جملة، أو كلمة على تسميتهم الطَّائفة من الكلام كلمة، كأنَّه قيل: فأسر الجملة، أو الكلمة التي هي قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} قال: لأن قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} بدل من «أسَرَّها» . قال شهابُ الدِّينك وهذا عند من يبلد الظاهر من المضمر في غير المرفوع؛ نحو ضَرَبتهُ زيداً، والصحيح وقوعه؛ كقوله: [الرجز] 3130 - فَلاَ تَلُمْهُ أنْ يَخَافَ البَائِسَا ... وقرأ عبد الله وابنُ أبِي عبلة: «فأسَرَّهُ» بالتَّذكيرِ قال الزخشريُّ «يريد القول، أو الكلام» . وقيل: في الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ، وتقديره: قال في نفسه: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} وأسرَّها أي هذه الكلمة. قال شهاب الدين: ومثل هذا ينبغي ألاَّ يقال، فإنَّ القرآن ينزَّهُ عنه و «مَكَاناً» تتميز، أي: منزلة من غيركم، والمعنى: أنتم شرٌّ منزلاً عند الله ممن رميتموه بالسَّرقةِ في صنيعكم بيوسف؛ لأنه لم يكن من يوسف سرقة حقيقة، وخيانتكم حقيقة. وقد طعن الفارسيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ على كلام الزمخشريِّ من وجهين: الأول: قال الإضمارُ على شريطة التفسير يكون على ضربين: أحدهما: أن يفسَّر بمفردٍ، كقولنا: نِعْمَ رجُلاً زيدٌ، ففي: «نعم» ضمير فاعلها و «رَجُلاًُ» تفسير لذلك الفاعل المضمر. والآخر: أن يفسر بجملة، وأصلُ هذا يقع به الابتداء، كقوله: {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 174 أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ} [الأنبياء: 97] و {قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ} [الإخلاص: 1] والمعنى: القصَّة شاخصة أبصار الذين كفروا والأمر: الله أحد، ثمَّ إنَّ العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر تدخل عليه أيضاً، كقوله {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً} [طه: 74] {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار} [الحج: 46] . وإذا عرفت هذا فنقول: نفس المضمر على شريطة التَّفسير في كلا الجملتين متَّصلٌ بالجملة التي فهيا الإضمار، ولا يكون خارجاً عن تلك الجملة، ولا مبايناً لها، وههنا التفسير منفصل عن الجملة الَّتي حصل فيها الإضمار؛ فوجب ألاَّ يحسن. والثاني: أنَّهُ تعالى قال: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} وذلك يدل على أنه ذكر ذكر ذلك الكلام، ولو قلنا: إنَّهُ صلوات الله وسلامه عليه أضمر هذا الكلام لكان قوله: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} كذباً. قال ابن الخطيب: «وهذا الطَّعنُ ضعيفٌ من وجوه: الأول: لا يلزمُ من حسن القسمين الاولين قبح قسمٍ ثالثٍ. وأما الثاني: فلأنا نحملُ ذلك على أنه صلوات الله وسلامه عليه قال ذلك على سبيل الخفيبة، وبهذا [التقسيم] سقط السُّؤالُ. والوجه الثاني: وهو أنَّ الضمير في قوله:» فأسَرَّهَا «عائدٌ إلى الإجابة، كأنَّهم لما قالوا: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} أسرَّ يوسف عليه السلام إجابتهم في نفسه في ذلك الوقت، ولم يبدها لهم في تلك الحالة إلى وقتٍ ثانٍ، ويجوز أن يكون إضماراً للمقالة، والمعنى: أسرَّ يوسف مقالتهم، والمراد من المقالةِ متعلق تلك المقالة؛ كما يرادُ بالخلقِ الملخوقُ، وبالعِلْمِ المَعْلُوم، يعني: أسرَّ يوسف كيفية تلك السَّرقة، ولم يبين لهم أنها كيف وقعت، وأنه ليس فيها ما يوجب الطَّعن» . رُوِيَ عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: عُوقِبَ يوسف ثلاث مرَّاتِ: لأجْلِش همِّه بها؛ فعُوقِبَ بالحَبْسِ، وبقوله: {اذكرني عِندَ رَبِّكَ} [يوسف: 42] ؛ عوقب بالحبل الطَّويل، وبقولهك «إنَّكُم لسَارقُونَ» ح عوقب بقوله: {فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} . ثم قال: {أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً} ، أي: أنتم شرٌّ منزلة عند الله، بما أقدمتم عليه من ظلم أخيكم، وعقوق أبيكم؛ ثم بعتموه بعشرين درهماً، ثمَّ بعد المدَّة الطويلة، والزَّمان المديد، ما زال الحقدُ والغضبُ عن قلوبكم؛ فرميتموه بالسَّرقة، {والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ} ، أي: إن سرقة يوسف كانت لله رضا؛ فلا توجب عود الذمِّ، واللَّوم إليه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 175 قوله تعالى: {يا أيها العزيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} الآية. اعلم: أنهم لمَّا قالوا: {إن سرق فقد سرق أخ له من قبل} ، أحبُّوا موافقته، والعدول إلى طريق الشَّفاعة، وأنهم، وإن كانوا قد اعترفوا بأن حكم الله في السارق أن يستعبد، إلاَّ أنَّ العفو وأخذ الفداء كان أيضاً جائزاً؛ فقالوا: {يا أيها العزيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً} ، في السنِّ، ويجوز أن يكون في القدر، والدِّين؛ لأن قولهم: «شَيْخاً» يعلم منه كبر سنه، وإنَّما ذكروا ذلك؛ لأنَّ كونه ابناً لرجلٍ كبير القدرِ يوجب العفو [والصفح] . قوله: مَكانَهُ «فيه وجهان: أظهرهما: أنَّ» مَكَانهُ «: نصب [على الظرف] ، والعامل فيه:» خُذْ «. والثاني: أنه ضمَّن» خُذْ «معنى:» اجْعَلْ «، فيكونُ:» مَكَانهُ «في محلٌ المفعول الثاني. واقل الزمخشريُّ:» فخُذْ بدله على جهةِ الاسترهانِ؛ حتَّى نردّ الفداء إليك، أو الاستعباد «. ثم قالوا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} ، لو فعلت ذلك. وقيل: من المحسنين إلينا في توفية الكيل، وحسن الضِّيافة، وردِّ البضاعة. وقيل: من المحسنين في أفعالك، وقيل: لما اشتدّ القحطُ على القوم، ولم يجدوا ما يشترون به من الطَّعام، وكانوا يبيعون أنفسهم، فصار ذلك سبباً لصيرورة أكثر أهل مصر عبيداً له، ثم أعتق الكُلّ قالوا: {إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين} إلى عامة النَّاس بالإعتاق، فكن محسناً أيضاً إلى هذا الإنسان بالإعتاق من هذه المحنة. فقال يوسف: {مَعَاذَ الله} أي أعوذ بالله معاذاً {أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ} أي أعوذُ باللهِ أن نأخذ بريئاً بمذنب. قال الزجاج:» موضع «إنْ» نصب، والمعنى: أعوذُ باللهِ من أخذِ أحدٍ بيغره، فلمَّا سقطت كلمة: «مَنْ» تعدَّى الفعل «. وقوله: {إِنَّآ إِذاً} حرف جواب وجزاء، تقدَّم الكلام [النساء: 67 البقرة: 14] على أحكامها. والعنى: لقد تعدّيت، وظلمت، إن إخذت بريئاً بجُرمٍ صدر من غيره، فقال: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 176 {مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ} ولم يقل:» مَنْ سَرَقَ «تحرُّزاً من الكذب. فإن قيل: هذه الواقعةُ من أوَّلها إلى آخرها، تزوير وكذب، فكيف يجوز ليوسف مع رسالته الإقدام على التَّزوير، وإيذاء النَّاس من غير ذنب لا سيَّما ويعلم أنَّهُ إذا حبس أخاه عنده بهذه التُّهمةِ فإنه يعظمُ حزنُ إبيه، ويشتدُّ غمُّه، فكيف يليقُ بالرسول المعصوم المباغلة في التَّزويرِ إلى هذا الحدّ؟! . فالجواب: لعلَّه تعالى أمره بذلك تشديداً للمحنة على يعقوب، ونهاه عن العفوِ والصَّفح، وأخذ البدل، كما أمر تعالى صاحب موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقتل من لو بَقِي لَطَغَى وكفَر. قوله : {فَلَمَّا استيأسوا } «اسْتَفْعَلَ» هنا بمعنى «فَعِلَ» المجرَّد يقال: يَئِسَ، واسْتَيْأس [بمعنى] نحو «عَجِبَ واسْتَعْجَبَ، وسَخِرَ، واسْتَخَرَ. وقال الزمخشري: وزيادة التَّاء والسِّين في المبالغة نحو ما مرَّ في:» اسْتَعْصَمَ «وقرأ البزيُّ عن ابن كثير بخلاف عنه:» اسْتَأيَسُوا «بألف بعد التاء ثم ياء وكذلك في هذه السورة: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} [يوسف: 87] إنَّه لا يَيْأسُ {حتى إِذَا استيأس الرسل} [يوسف: 110] ، وفي الرعد: {أَفَلَمْ يَيْأَسِ} [الرعد: 31] الخلاف واحد. فأمَّا قرأءة العامة: فهي الأصل، إذ يقال: يَئِسَ، فالفاء ياء، والعين همزة وفيه [لغة] أخرى، وهي القلبُ [الرعد: 31] بتقديم العين على الفاءِ، فيقال: أيِسَ، ويدلُّ على ذلك شيئان: أحدهما: المصدر الذي هو اليأسُ. والثاني: أنَّه لو لم يكن مقلوباً للزم قلبُ الياءِ ألفاً، لتحركها، وانفتاح ماقبلها، ولكن منع من ذلك كون الياءِ في موضع لا تعلُّ فيه ما وقعت موقعه، وقراءة ابن كثير من هذا، ولما قلب الكلمة أبدل من الهمزة ألفاً لسكونها بعد فتحة، إذ صارت كهمزة رأس، وكأس، وإن لم يكن من أصله قلب الهمزة السَّاكنة حتىعلَّةِ وهذا كما تقدَّم أنه يقرأ» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 177 القرآن «بالألف، وأنَّه يحتملُ أن يكون نقل حركة الهمزة، وإن لم يكن من أصله النقل. قال أبو شامة بعد أن ذكر هذه الكلمات الخمسِ الَّتي وقع فيها الخلافُ» وكذلك رسمت في المصحف، يعني كما قرأها البزيُّ يعنى بالألف مكان الياءِ، وبياء مكان الهمزة «. وقال أبو عبد الله: واختلفت هذه الكلمات في الرَّسم، فرسم:» يَأيَس «،» ولا تَأيسُوا «بألف، ورسم الباقي بغير ألف. قال شهابُ الدين:» وهذا هو الصَّوابُ، وكأنَّه غفلة من أبي شامة «. ومعنى الآية:» فلمَّا أيسُوا من يوسف أن يجيبهم إلى ما سألوا «. وقال أبو عبيدة:» اسْتَيْأسُوا «: استيقنوا أنَّ الأخ لا يرد إليهم. قوله: {خَلَصُواْ نَجِيّاً} قال الواحديُّ: يقال: خلص الشَّيء يخلصُ خلوصاً إذا انفصل من غيره، ثم فيه وجهان: أحدهما: قال الزجاج، خلصوا: أي: انفردوا، وليس معهم أخوهم. وقال الباقون: تميزوا عن الأجانب، وهذا هو الأظهر، أي: خلا بعضهم ببعضٍ يتناجون ويتشاورون لا يخالطهم غيرهم. وأمَّا قوله:» نَجِيًّا «حال من فاعل:» خَلصُوا «أي: اعتزلوا في هذه الحالِ وإنَّما أفردت الحال، وصاحبها جمع، إمَّا لأن النَّجيَّ فعيلٌ بمعنى مفاعل كالعشير والخليط بمعنى المُخالِط والمُعاشِر، كقوله {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52] أي: مناجياً وهذا في الاستعمال يفرد مطلقاً، يقال: هُم خَليطُكَ وعَشِيرتُك، أي: مخالطوك ومعاشروك وإما لأنَّه صفة على فعيل بمنزلة صَدِيق، وبابه يوحد، لأنه يزنة المصارد كالصَّهيل، والوجيب والذَّميل، وإمَّا لأنه مصدرٌ بمعنى التَّناجي كما قيل: النَّجْوى بمعناه، قال تعالى: {وَإِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47] ، وحينئذ يكون فيه التأويلات المذكورات في: «رجُلٌ عدلٌ» وبابه، ويحمع على «أنْجِيَة» ، وكان من حقِّه إذا جعل وصفاً أن يجمع على «أفْعِلاء» ، ك «غَنِيّ» ، وأغْنِيَاء «و» شَقِيّ، وأشْقِيَاء «؛ ومن مجيئه على» أنجِيَة «قول الشاعر: [الرجز] 3131 - إنِّي إذَا ما القَوْمُ كَانُوا أنْجِيَهْ ... واضْطَرَبَ القَوْمُ اضطِرابَ الأرْشِيَهْ هناك أوصيني ولا تُوصِي بِيَهْ ... وقول لبيد: [الكامل] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 178 3132 - وشَهِدْتُ أنْجِيةً الأفَاقةِ عَالِياً ... كَعبي وَأرْدَافُ المُلوكِ شُهُودُ وجمعه كذلك يقوي كونه جامداً، إذ يصيرُ كرغيب، وأرغِفَة. وقال البغويُّ: النَّجِي يصلحُ للجماعة، كما قال ههنا، وللواحد كما قال: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} [مريم: 52] وإنما جاز للواحد والجمع؛ لأنه مصدر جعل نعتاً كالعدل، ومثله النَّجوى يكونُ اسماً، ومصدراً، قال تعالى {وَإِذْ هُمْ نجوى} [الإسراء: 47] أي: مُتنَاجِين، وقال حل ذكره {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ} [المجادلة: 7] وقال في المصدر {إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان} [المجادلة: 10] . قال ابن الخطيب:» وأحسنُ الوجوه أن يقال: إنَّهم تمحَّضُوا تناجياً؛ وأنَّ من كمل حصول أمرٍ من الأمُورِ فيه وصف بأنَّه صار غير ذلك الشَّيء فلما أخذوا في التَّناجي على غاية الجدِّ؛ صاروا كأنهم في أنفسهم صاروا نفس التَّناجِي في الحقيقة «. » قالَ كَبيرُهمْ «في العقل، والعلم لا في السنِّ، وهو» يَهُوذَا «، قاله ابن عباسٍ، والكلبي. وقال مجاهدٌ: شمعون، وكانت له الرِّئاسةُ على إخوته. وقال قتادة، والسديُّ، والضحاك: وهو روبيلُ، كان أكبرهم في السنِّ، وهو الذي نهاهم عن قتل يوسف عليه السلام. {أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً} : عهداً: {مِّنَ الله} ، وأيضاً: نحنُ متَّهمُونَ بواقعة يوسف. قوله {وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ} في هذه الآية وجوه ستة: أظهرها: أنَّ» مَا «مزيدة فيتعلَّق الظَّرف بالعفل بعدها، والتقدير: ومن قبل هذا فرَّطتم، أي: قصَّرتم في حقِّ يوسف، وشأنه، وزيادة» مَا «كثيرة، وبه بدأ الزمخشري وغيره. الثاني: أن تكون» مَا «مصدرية في محلِّ رفع بالابتداء، والخبر الظَّرف المتقدم قال الزمخشريُّ: على أنَّ محل المصدر الرَّفع بالابتداء، والخبر الظرف وهو» مِنْ قَبْلُ «، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 179 والمعنى: وقع من قبل تفريطكم في يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وإلى هذا نحا ابنُ عطيَّة أيضاً فإنَّه قال: ولا يجوز أن يكون قوله:» مِنْ قَبْلُ «متعلقاً ب:» مَا فَرَّطْتُمْ «، وأنَّ» مَا «تكون على هذا مصدرية، والتقدير: ومن قَبْلِ تفريطكم في يوسف واقعٌ، أو مستقرٌ وبهذا المقدر يتعلق قوله:» مِنْ قَبْلُ «. قال أبو حيَّان: هذا وقول الزمخشريُّ راجعان إلى معنى واحد، وهو أن» مَا فرَّطتُمْ «يقدَّرُ بمصدرٍ مرفوع بالابتداء، و:» مِنْ قَبْلُ «في موضع الخبر وذهلا عن قاعدة عربيَّة، وحقَّ لهما أن يذهلا وهي أنَّ هذه الظروف التي هي غايات إذا بُنيت لا تقع أخباراً للمبتدأ جرَّت، أو لم تجرَّ، تقول: يومُ السَّبت مُباركٌ والسَّفر بعدهُ، ولا تقول: والسَّفر بَعد و» عَمْرٌو وزيْدٌ خَلفهُ «ولا يجوز: عمرٌو وزيدٌ خلف، وعلى ما ذكراه يكون:» تَفْريطُكُم «مبتدأ، و» مِنْ قَبْلُ «خبر وهو مبنيُّ وذلك لا يجوز، وهو مقررٌ في علم العربيِّة» . قال شهابُ الدِّين: «قوله:» وحُقًّ لهُمَا أنْ يَذْهَلا «تحامل على هذين الرجلين، وموضعهما من العلم معروفٌ، وأمَّا قوله:» إنَّ الظرف المقطوع لا يقعُ خبراً «، فمسلَّم، قالوا: لأنَّه لا يفيد، وما لا يفيد، لا يقع خبراً، ولذا لا يقع صفة، ولا صلة، ولا حالاً والآية الكريمةُ من هذا القبيل لو قلت:» جاء الذي قبل «أو» مررت برجل قبل «لم يجز لما ذكرت. ولقائلٍ أن يقول: إنَّما امتنع ذلك؛ لعدم الفائدة، وعدم الفائدة لعدم العلم بالمضافِ إليه المحذوف، فينبغي إذا كان المضاف إليه معلوماً مدلولاً عليه أن يقع ذلك الظَّرف المضاف إلى ذلك المحذوف خبراً، وصفة، وصلة، وحالاً والآية الكريمة من هذا القبيل، أعني ممَّا علم فيه المضاف إليه كما مرَّ تقريره» . ثمَّ هذا الرَّد الذي ردّ به أبو حيَّان سبقه إليه أبو البقاءِ، فقال: «وهذا ضعيف؛ لأن» قَبْل «إذا وقعت خبراً أو صلة لا تقطع عن الإضافة لئلا تبقى ناقصة» . الثالث: أنها مصدرية أيضاً، في محل رفع بالابتداء، والخبر هو قوله «فِي يُوسفَ» أي: وتفريطكم كائن، أو مستقر في يوسف، وإلى هذا ذهب الفارسي كأنه استشعر أن الظرف المقطوع لا يقعُ خبراً؛ فعدل إلى هذا، وفيه نظر؛ لأنَّ السِّياق، والمعنى يجريان إلى تعلق: «فِي يُوسفَ» ب «فَرَّطْتُمْ» ، فالقولُ بما قاله الفارسي يؤدِّي إلى تهيئة العامل [للعمل] ، وقطعه عنه. الرابع: أنَّها مصدرية أيضاً، ولكن محلها النَّصب على أنَّها منسوقة على «إنَّ أباكُمْ قد أخَذَ» أي: ألم تعلموا أخذ أبيكم الميثاق، وتفريطكم في يوسف. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 180 قال الزمخشري: «كأنه قيل: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقاً، وتفريطكم من قبل في يوسف» وإلى هذا ذهب ابن عطية أيضاً. قال أبو حيَّان: «وهذا الذي ذهبا إليه ليس بجيِّد؛ لأنَّ فيه الفصل بالجار والمجرور بين حرف العطف الذي هو حرفٍ واحدٍ، وبين المعطوف؛ فصار نظير: ضَربْتُ زيداً، وبِسَيفٍ عمراً، وقد زعم الفارسيُّ أنه لا يجوز ذلك إلاَّ في ضرورة الشِّعر» . قال شهابُ الدِّين: هذا الرَّدُّ سبقه إليه أبُو البقاءِ، ولم يرتضه وقال: «وقيل: هو ضعيفٌ؛ لأنَّ فيه الفصل بين حرفِ العطفِ، والمعطوفِ، وقد بينا في سورة النِّساء أن هذا ليس بشيء» . قال شهاب الدين: «يعني أنَّ منع الفصل بين حرفِ العطفِ، والمعطوفِ ليس بشيءِ، وقد تقدَّم إيضاحُ هذا، وتقريره في سورة النساء، كما أشار إليه أبو البقاء» . ثمَّ قال أبو حيَّان: «وأمَّا تقديرُ الزمخشري: وتفريطكم من قبل في يوسف؛ فلا يجوز؛ لأن فيه تقديم معمول المصدر المنحل لحرف مصدري، والفعل عليه، وهو لا يجوز» . وقال شهابُ الدِّين: «ليس في تقدير الزمخشريِّ شيء من ذلك؛ لأنَّه لمَّا صرح بالمقدر أخَّر الجارين، والمجرورين عن لفظ المصدر المقدَّر كما ترى، وكذا هو في سائر النسخ، وكذا ما نقله عنه الشيخ بخطهِ، فأين تقديمُ المعمولِ على المصدر ولو رد عليه، وعلى ابن عطيَّة بأنه يلزمُ من ذلك تقديمُ معمولِ الصِّلةِ على الموصول لكان ردًّا واضحاً، فإنَّ:» مِنْ قَبْلُ «متعلق» فَرَّطْتُمْ «، وقد تقدَّم الكلامُ على ما المصدرية، وفيه خلافٌ مشهورٌ» . الخامس: أن تكون مصدرية أيضاً، ومحلها النصب عطفاً على اسم: «أنَّ» أي: ألم تعلموا أنَّ أباكم، وأن تفريطكم من قبل في يوسف، وحينئذٍ يكون في خبر «أنَّ هذه المقدرة وجهان: أحدهما: هو:» مِنْ قَبْلُ «. والثاني: هو» فِي يُوسَفُ «واختاره أبو البقاء، وقد تقدَّم ما في كلِّ منهما، ويردُّ على هذا الوجه الخامس ما ردَّ به على ما قبله من الفصل بين حرف العطف، والمعطوف، وقد عرف ما فيه. السادس: أن تكون موصولة اسمية، ومحلُّها الرفع، والنَّصب علكى ما تقدَّم في المصدريَّة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 181 قال الزمخشريُّ: يعنى ومن قبل هذا ما فرطتموه، أي: قدَّمتموهُ في حقِّ يوسف من الجنايةِ، ومحلُّها الرَّفع، أو النَّصب على الوجهين. يعنى بالوجهين رفعها بالابتداء، وخبرها» مِنْ قبل «، ونصبها على مفعولِ» ألمْ تَعْلمُوا «، فإنَّهُ لم يذكر في المصدرية غيرهما، وقد تقدَّم ما اعترض به عليهما، وما قيل في جوابه. فتحصل في» مَا «ثلاثة أوجه: الزيادة، وكونها مصدرية، أو بمعنى الذي، وأن في محلها وجهين: الرفع، أو النصب. قوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض} برح هنا تامة، ضمنت معنى أفارقُ ف:» الأرْضَ «معفول به، ولا يجوز أن تكون تامَّة من غير تضمين؛ لأنها إذا كانت كذلك؛ كان معناها: ظهر أو ذهب، ومنه: بَرحَ الخفاءُ، أي: ظهر، أو ذهب، ومعنى الظهور لا يليق، والذهابُ لا يصلُ إلى الظَّرف المخصوص إلاَّ بواسطةِ» في «: تقول:» ذَهَبْتُ في الأرضِ «ولا يجوز ذهبتُ الأرْضَ، وقد جاء شيءٌ لا يقاس عليه. وقال ابو البقاء: «ويجوز أن يكون ظرفاً» . قال شهابُ الدِّين: «يحتمل أن يكون سقط من النُّسخِ لفظ» لاَ «، كان:» ولا يجوز أن يكون ظرفاً «. واعلم أنه لا يجوز في» أبْرَحَ «هنا أن تكون ناقصة؛ لأنَّه لا ينتظم من الضمير الذي فيها، وما» من الأرض «مبتدأ أو خبرٌ، ألا ترى أنَّك لو قلت: أنَا الأرض لم يجز من غير» فِي «بخلاف» أنَا في الأرْضِ وزيدٌ في الأرْضِ «. قوله: {أَوْ يَحْكُمَ الله} في نصبه وجهان: أظهرهما: عطفه على:» يَأذَنَ «. والثاني: أنه منصوبٌ بإضمار» أنْ «في جواب النَّفي، وهو قوله: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض} أي: لنْ أبْرحَ الأرْضَ إلاَّ أن يحكم، كقولهم: لالزَمنَّكَ أوْ تَقْضِيَنِي حقِّي، أي: إلا أن تَقْضِيَنِي. قال أبو حيَّان:» ومَعْنَاهُ ومعنى الغية مُتقَارِبَان «. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 182 قال شهابُ الدِّين:» وليْسَ المعنى على الثَّاني، بل سِياقُ المعنى على عطفه على «بَأذَنَ» فإنه غيًّا الأمر بغايتين: أحداهما خاصة، وهي إذْنُ أبيه والثانية عامة؛ لأنَّ إذن أبيه له في الانصراف هو من حكم الله عزَّ وجلَّ «. فصل اعلم أنَّهم لما أيسوا من تخليصه، وتناجوا فميا بينهم، قال كبيرهم: {أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً} أي: عهداً {مِّنَ الله وَمِن قَبْلُ} هذا فرَّطتم في شأن يوسف، ولم تحفظوا عهد أبيكم، {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض} التي أنا بها، وهي أرض مصر، فلن أفارق أرض مصر {حتى يَأْذَنَ لي أبيا} في الانصراف إليه والخروج مهنا {أَوْ يَحْكُمَ الله لِي} بالخروج منها بردّ أخي إليّ، أو خروجي، وترك أخي، أو بالانتصاف ممَّن أخذ أخي. وقيل: أو يحكم الله لي بالسَّيفن وأقاتلهم واسترد أخي {وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين} ؛ لأنه لا يحكم إلا بالعدل، والحق، فحينئذ تفكَّروا في الأصوب ماهو؟ فظهر لهم أنَّ الأصوب هو الرُّجوع، وأن يذكروا لأبيهم كيفية الواقعة، فقال الأخ المحتبس بمصر لإخوته: {ارجعوا إلى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ ياأبانا إِنَّ ابنك} بنيامين» سَرَقَ «. قرأ العامة:» سَرَقَ «مبنيًّا للفاعل مخففاً، وابن عباس، وأبو رزين، والضحاك، والكسائي في رواية» سُرِّقَ «بضمِّ السِّين، كسر الرَّاء مشدداً مبنيًّا للمفعول يعني: نسب إلى السَّرقة، كما يقال: خَوَّنته، أي: نسبته إلى الخِيانةِ، قال الزجاج:» سُرِّقَ «يحتمل معنيين: أحدهما: علم منه السرقة، والآخر: اتهم بالسَّرقة. قال الجوهريُّ:» والسَّرِق والسَّرِقة بكسر الراء فيهما هو اسم الشيء المسروق، والمصدر: سَرَق، يَسْرِق، َرَقاً بفالتح «. وقرأ الضحاك:» سَارِق «جعله اسم فاعل. {وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} فإنَّا رأينا أخراج صاع من متاعه. وقيل: معناه {وَمَا شَهِدْنَآ} أي: ما كانت منَّا شهادة في عمرنا على الشَّيء إلاَّ بما علمنا، وليست هذه الشَّهادة منَّا، إنَّما هو خبرٌ عن صنيعِ ابنكَ بزعمهم. فإن قيل: كيف حكموا عليه بأنَّه سرق من غير بينة، لا سيَّما وقد أجابهم بالنَّفي فقال: الذي جعل الصَّواع في رحلي، وهو الذي جعل البضاعة في رحالكم؟ فالجواب من وجوهٍ: أحدها: أنهم شاهدوا أنَّ الصواع كان موضوعاً في [محلٍّ] لم يدخله غيرهم، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 183 فلمَّا شاهدوا إخراج الصواع من رحله؛ غالب على ظنهم أنَّه هو الذي أخذ الصواع. وأما قوله: «وضَعَ الصُّواعَ في رحْلِي الذي وضع البِضاعَة في رحالكم» فالفرق ظاهرٌ؛ لأنهم لمَّا رجعوا بالبضاعة إليهم اعتروفا بأنهم هم الذين وضعوها في رحالهم، وأمَّا الصُّواع، فلم يعترف أحدٌ بأنه هو الذي وضع الصُّواعَ؛ فلهذا غلب على ظنونهم أنه سرق؛ فشهدوا بناء على غلبة الظَّنِّ، ثمَّ بينوا أنهم غيرُ قاطعين بهذا الأمر بقوله: {وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} . وثانيها: تقدير الكلام: {إِنَّ ابنك سَرَقَ} في قول الملك، وأصحابه، ومثله كثيرٌ في القرآن، قال تعالى: {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] أي: عند نفسك وأمَّا عندنا فلا فكذا هاهنا. وثالثها: أنَّ ابنك ظهر عليه ما يشبه السَّرقة، ومثل هذال المعنى قد يسمَّى سرقة، فإن إطلاق أحد الشَّيئين على الشبيه الآخر جائزٌ، مثله في القرآن {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] . ورابعها: أنهم ما كانوا أنبياء في ذلك الوقت، فلا يبعد أن يقال: إنهم ذكروا هذا الكلام على سبيل المجازفة، لا سيَّما، وقد شاهد سائرهم ذلك. وخامسها: قراءة ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه المتقدمة «سُرِّقَ» أي: نسب إلى السَّرقة، فهذه لا تحتاجُ إلى تأويلٍ، إلاَّ أنه تقدَّم أنَّ أمثال هذه القراءة لا تدفعُ السَّؤال؛ لأنَّ الإشكال إنَّما يندفعُ إذا كانت القراءة الأولى باطلة، وهذه القراءة حقّ أمَّا إذا كانت الأولى حقّ، كان الإشكال باقياً صحَّت القراءة، أو لم تصحّ، فلا بدّ من الرجوعِ إلى أحدِ الوجوه المذكورة. فصل دلَّ قولهم: {وَمَا شَهِدْنَآ إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} على أنَّ الشَّهادة غير العلم؛ لأن هذا الكلام يقتضي كون الشَّهادةِ مغايرة للعلم، ولقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «إذَا عَلمْتَ مثلَ الشَّمْسِ فاشْهَدْ» ... وليست الشَّهادةٌ عبارةً عن قوله «اشْهَد» ؛ لأنه إخبار عن الشَّهادة، والأخبار عن الشَّهادة غير الشهادة. وإذا ثبت هذا؛ فنقول: الشَّهادةُ عبارةٌ عن الحكم الذِّهنيِّ وهو الذي يسميه المتكلمون ب «الكلام» النفسي «. فصل قال القرطبيُّ: تضمنت هذه الآية جواز الإشهاد بأيّ [وجه] حصل العلمُ بها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 184 فإنَّ الشَّهادة مرتبطةٌ بالعلم عقلاً وشرعاً، فلا تسمعُ إلاَّ ممَّن علم، ولا تقبلُ إلاَّ منهم، وهذا هو الأصل في الشَّهادات. ولهذا قال أصحابنا: شهادة الأعمى جائزة، وشهادة المستمع جائزةٌ، وشهادة الأخرس إذا فهمت إشارته جائزة، وكذلك الشَّهادة على الخطّ أي: إذا تبيَّن أنه خطُّه، أو خطُّ فلان صحيحةٌ، فكلُّ من حصل كله العلم بشيء؛ جاز أن يشهد به، وإن لم يشهدهُ المشهودُ عليه. قال الله تعالى: {إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف: 86] وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «ألاَ أخْبِرُكمْ بِخيْرِ الشُّهداءِ؟ الذي يأتِي بشهادة قَبْل أنْ يُسْألَها» . قوله تعلى: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} قال مجاهدٌ وقتادة: وما كنا نعلم أنَّ ابنك يسرق، ويصيِّر أمرنا إلى هذا، ولو علمنا بلك ما ذهبنا به معنا، وإنَّما قلنا: ونحفظ أخانا مما لنا إلى حفظه من سبيل. وقال عكرمة: لعلَّ الصُّواع دفن في اللَّيلِ، فإنَّ الغيب هو اسم لليل على بعض اللغات. وقيل: رأيناهم أخرجوا الصواع من رحله، أمَّا حقيقة الحالِ، فغير معلومة لنا، فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى. وعن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما ما كنا لليله، ونهاره، ومجيئه، وذهابه حافظين. وقيل: إنَّ يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ قال لهم: فهبْ أنه سرق، ولكن كيف علم الملكُ أن شرع بني إسرائيل أنَّه من سرقَ يُسترقُّ بل أنتم ذكرتموه له لغرض لكم، فقالوا عند ذلك: إنَّا ذكرنا له هذا الحكم قبل أن نعلم أنّ هذه الواقعة نقع فيها، فوله: {وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ} أي: ما كنا نعلم أن الواقعة تصبينا. فإن قيل: فهل يجوز من يعقوب أن يخفي حكم الله؟ . فالجواب: لعلَّ ذلك الحكم كان مخصوصاً بما إذا كان المسروق منه مسلماً، فلهذا أنكر ذلك الحكم عند الملك الذي ظنَّه كافراً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 185 قوله تعالى: {واسأل القرية} يحتمل ثلاثة أوجهٍ: أشهرها: أنه على حذف مضافٍ، أي: واسألْ أهل القرية، وأهل العِير، وهو مجازٌ شائعٌ، قاله ابن عطيِّة وغيره. وقال أبو عليِّ الفارسي: ودافع جواز هذا في اللغةِ كدافعِ الضَّرورات، وجاحد المحسوسات، وهذا على خلافٍ في المسألةِ، هل الإضمار من باب المجازِ، أو غيره؟ المشهور أنه قسم منه، وعليه اكثر النَّاسِ. قال أبو المعالي: قال بعض المتكلمين: «هذا من الحذف، وليس من المجاز إنَّما المجازُ لفظة استعيرت لغير ما هي له، قال: وحذف المضاف هو عينُ المجاز وعظمه، هذا مذهب سيبويه وغيره، وحكي أنَّه قول الجمهور» . وقال ابن الخطيب: إن الإضمار، والمجاز [قسمان لا قسيمان] ، فهما متباينان. الثاني: أنَّه مجاز، ولكنه من باب إطلاق اسم المحل على الحال للمجاورة كالرواية. الثالث: أنَّه حقيقة لا مجاز فيه، ولذلك قال أبو بكر الأنباري: المعنى: واسْألِ القرية والعير؛ فإنَّها تجيبك، وتذكر لك صحَّة ما ذكرنا؛ لأنك من أكابر الأنبياء، فيجوز أن ينطق الله لك الجماد، والبهائم. وقيل: إنَّ الشيء إذا ظهر ظهوراً تامًّا كاملاً فقد يقال فيه: سل السماءَ والأرض وجميع الأشياء عنه، والمراد أنه بلغ في الظُّهور إلى الغاية حتَّى لم يبق للشكِّ فيه مجالٌ، والمراد من القرية: مصر، وقيل: قرية على باب مصر قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هي قرية من قرى مصر، كانوا ارتحلوا منها. وأما قوله: {والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا} أي القافلة التي كُنَّا فيها. قال المفسِّرون: كان صحبهم قوم من الكنعانيين من جيران يعقوب. قال ابنُ إسحاق: عرف الأخ المحتبس بمصر أنَّ إخوته أهل تهمة عند أبيهم لمَا كانوا صنعوا في أمر يوسف عليه السلام، فأمرهم أن يقولوا هذا لأبيهم. ثم إنَّهم لما بالغوا في التَّأكيد، والتقرير قالوا: {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} يعنى سواء نسبتنا إلى التُّهمة، أم لم تنسب؛ فنحن صادقون، وليس غرضهم أن يثبتوا صدق أنفسهم؛ لأنَّ هذا يجري جرى إثبات الشيء بنفسه، بل الإنسان، إذا قدم ذكر الدَّليل القاطع على صحَّة الشيء، فقد يقول بعده: وأنَّا صادق في ذلك، يعني فتأمل فيما ذكرته من الدَّلائل، والبينات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 186 فصل قال القرطبي: «دلَّت هذه الآية على أنَّ كل من كان على حقٍّ، وعلم أنه قد يظن به أنَّه على [خلاف] ما هو عليه، أو يتوهم أن يرفع التُّهمة، وكلَّ ريبةٍ عن نفسه ويصرِّح بالحق الذي هو عليه، حتَّى لا يبقى متكلِّم، وقد فعل هذا نبينا عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقوله للرجلين اللَّذين مرًّا، وهو قد خرج مع صفيَّة بن حييّ من المسجد:» على رسلكما، إنّما هي صفيّة بن حييّ «؛ فقالا: سبحان الله! وكبر علهيما، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» إنَّ الشَّيطَان يَجْرِي مِنَ آدم مُجْرَى الدَّم، وإِنِّي خَشِيتُ أن يَقْذِفَ في قُلوبِكُمَا شرًّا، أو قال: شَيْئاً «متفرقٌ عليه. فإن قيل: كيف استجاز يوسف أن يعمل هذا بأبيه، ولم يخبره بمكانه، ويحبس أخاه مع علمه بشدّة وجد أبيه عليه، ففيه معنى العقوق، وقطيعة الرَّجمِ، وقلَّة الشَّفقةِ؟ . فالجواب: أنَّه فعل ذلك بأمر الله عزَّ وجلَّ أمره به ليزيد في بلاءِ يعقوب، فيضاعف له الأجر، ويلحقه في الدَّرجةِ بآبائه الماضين. وقيل: إنَّه لم يظهر نفسه لإخوته؛ لأنَّه لم يأمن أن يدبِّروا في أمره تدبيراً، فيكتموه عن أبيه، والأول أصح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 187 قوله: {قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} هذا الإضراب لا بدَّ له من كلامٍ قبله متقدم عليه يضرب هذا عنه، والتقدير: فرجعوا إلى إبيهم، وذكروا له ما قال كبيرهم، وفقال يعقوب: ليس الأمر كما ذكرتم حقيقة، {بل سولت} : زيَّنَتْ {لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً} أي حمل أخيكم إلى مصر، وليس المراد منه الكذب كواقعة يوسف. وقيل: {سولت لكم أنفسكم} أنَّه سرق، ما سرق. {فصبر جميل} وتقدَّم الكلام على نظيره، وقال هناك: {والله المستعان على ما تصفون} وقال ههنا {عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 187 قال بعضهم: يعنى يوسف، وبنيامين، وأخاهم المقيم بمصر. وإنَّما حكم بهذا الحكم؛ لأنَّه لما طال حزنه وبلاؤه علم أنَّ الله سيجعل له فرجاً ومخرجاً عن قريب، فقال ذلك على سبيل حسن الظنِّ برحمة الله تعالى. وقيل: لعلَّه كان قد أخبر من بعد محنته بيوسف أنه حي، أو ظهرت له علامات على ذلك. ثم قال: {إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم} العليم بحقائقِِ الأمْرِ، الحكيم فيها على الوجه المطابق للفضل، والإحسان. وقيل: العليم بحزني، ووجدي على فقدهم، الحكيم في تدبير خلقه. قوله تعالى: {وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأسفا عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ} الآية. لما سعم يعقوب كلام بنيه، ضاق قلبه، وهاج حزنهُ على يوسف، فأعرض عنهم: {وقال يا أسفى على يوسف} يا حزنا على يوسف. والأسفُ: أشدُّ الحُزْنِ، وإنما عظم حزنهُ على مُفارقةِ يوسف عند هذه الواقعة لوجوه: الأول: أنَّ الحزن القديم الكامل إذا وقع عليه حزن آخر كان أوجع، قال متمّم بن نويرة: [الطويل] 3133 - فَقَالَ أتَبْكِي كُلَّ قَبْرٍ رأيتَهُ ... لِمَيْتٍ ثَوَى بَيْنَ اللِّوى والدَّكَادِكَ فقُلْتُ لَهُ: إنَّ الأسَى يَبْعَيُ الأسَى ... فدَعْنِي فَهذَا كُلُّهُ قَبْرُ مَالِكِ وذلك؛ لأنه كلما رأى قبراً تجدَّ عليه حزنه على أخيه مالك، فلاموهُ؛ فأجاب: إنَّ الأسى يبعث الأسى. الثاني: أنَّ ينيامين، ويسوف كانا من أمٍّ واحدة، وكانت المشابهة بينهما في الصِّفة متقاربة، فكان يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ يتسلّى برؤيته عن رؤية يوسف عليه السلام، فلما وقع ما وقع، زال ما يوجبُ السَّلوة، فعظم الألم. الثالث: أنَّ المصيبة بيوسف كانت أصل مصائبه الَّتي عليها ترتب سائر المصائب، فكان الأسفُ عليه أسفاً على الكُلِّ. الرابع: أنَّ هذه المصائب كانت أسبابها جارية مجرى الأمور المعلومةِ، فلم يبحث الجزء: 11 ¦ الصفحة: 188 عنها وأما واقعة يوسف صلوات الله وسلامه عليه فهو عليه السلام كان يعلمُ كذبهم في السَّببِ الذي ذكروه، وأما السَّببُ الحقيقي، فلم يعلمه. وأيضاً: أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان يعلم حياة هؤلاء، وأمَّا يوسف فما كان يعلم أنَّه حي، أو ميت، فلهذه الأسباب عظم حزنه على مفارقته. قوله: {ياأسفا} الألف منقلبة عن ياء المتكلم، وإنَّما قلبت ألفاً؛ لأنَّ الصَّوت معها أتم، ونداؤه على سبيل المجازِ، كأنَّه قال: هذا أوانُك فاحضر، نحو: «يَا حَسْرَتَا» . وقيل هذه ألف الندبة، وحذفت هاء السَّكت وصلاً. قال الزمخشريُّ: والتَّجانس بين لفظتي الأسف، ويوسف ممَّا يقعُ مطبوعاً غير متعمل فيملح، ويبدع، ونحوه: {اثاقلتم إِلَى الأرض أَرَضِيتُمْ} [التوبة: 38] {يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ} [الأنعام: 26] {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} [الكهف: 10] {مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ} [النمل: 22] . قال شهابُ الدِّين: ويسمَّى هذا النَّوع تجنيس التَّصريف، وهو أن تشترك الكلمتان في لفظ، ويفرق بينهما بحرف ليس في الأخرى، وقد تقدَّم [الأنعام: 26] . وقرأ ابن عباسٍ، مجاهدٌ «مِنَ الحَزَن» بفتحتين، وقتادة بضمتين والعامة بضمة فسكون. فالحُزْن، والحَزَن، كالعُدْمِ، والعَدَم، والبُخْل والبَخَل، وأمَّا الضمتان فالثانية إتباعٌ. وقال الواحديُّ: اختلفوا في الحُزْنِ، الحَزَن، فقال قومٌ: الحُزْن: البُكاء والحَزَن ضد الفرحِ، وقال قومٌ: هما لغتان، يقال: أصَابهُ حُزْنٌ شديدٌ وحَزنٌ شديدٌ، إذا كان في مواضع النَّصب، فتحوا الحاء، والزَّاي كقوله: {تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً} [التوبة: 92] ، وإذا كان في موضع الرفع، والخفض فبضم الحاءِ، كقوله: {مِنَ الحزن} وقوله: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} قال: هما في موضع رفع بالابتداء. و «كَضِيمٌ» يجوز أن يكون مبالغة بمعنى فاعل، وأن يكون بمعنى مفعول، كقوله: {وَهُوَ مَكْظُومٌ} [القلم: 48] وبه فسَّرهُ الزمخشريُّ، فإن كان بمعنى الكَاظِم فهو الممسكل على حزنه فلا يظهره، وإن كان بمعنى المكظُومِ، فقال ابنُ قتيبةك «معناه المملوء من الهمّ، والحزن مع سدّ طريق نفسه المصدور، من كَظَمَ السِّقاء، إذا اشتدّ على ملئه، ويجوز أن يكون بمعنى مَمْلُوء من الغيظِ على أولاده» . فصل تقدَّم الكلام على الأسفِ، وأمَّا قوله: {وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن} فقيل: إنَّه لما قال: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 189 {يا أسفا عَلَى يُوسُفَ} غلبه البُكَاءُ، وعند غلبةِ البُكاءِ يكثرُ الماء في العين، فتصير العينُ كأنها ابيضَّت من بياض ذلك الماءِ، فقوله: {وابيضت عَيْنَاهُ} كناية عن غلبة البكاءِ. رواه الواحدي عن ابن عبَّاسٍ. وقال مقاتلٌ: كناية عن العمى، فلم يبصر بهما شيئاً حتى كشفهُ اللهُ تعالى بقميص يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بقوله: {فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} [يوسف: 93] ، وقال: {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير أَلْقَاهُ على وَجْهِهِ فارتد بَصِيراً} [يوسف: 96] : ولأنَّ الحزن الدَّائم، يوجب البكاء الدائم وهو يوجب العمىح لأنَّه يوجب كُدُورة على سوادِ العين. وقيل: ما عمي، ولكنَّه صار بحيثُ يدرك إدراكاً ضعيفاً؛ كما قال: [الطويل] 3134 - خَلِيليَّ إنِّي قَدْ غَشِيتُ مِنَ البُكَا ... فهَلْ عِنْدَ غَيْرِي مُقلَةٌ اسْتَعِيرُهَا قيل: ما صحَّت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه، وتلك المدة ثمانون سنةن وما كان على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. قولهك «تَفْتَؤ» هذا جواب القسم في قوله: «تَاللهِ» وهو على حذف لا أي: لا تفتؤ كقول الشَّاعر: [البسيط] 3135 - تَاللهِ على الأيَّامِ ذُو حَيَدٍ ... بمُشْمَخرِّ بِهِ الظَّيَّانُ والآسُ أي: لا تبقى، ويدلُّ على حذفها: أنَّهُ لو كان مثبتاً؛ لاقترن بلام الابتداء ونون التَّوكيد معاً عند البصريين، أو إحداهما عن الكوفيين، وتقول: واللهِ أحبُّك: تريد لأحبك، وهو من التَّوريةِ، فإن كثيراً من النَّاس يتبادر ذهنه إلى إثباتِ المحبَّة، و «تَفْتَأ» هنا ناقصة بمعنى لا تزال. قال ابنُ السِّكيت: «ما زِلتُ أفعله، ما فَتِئت أفعلهُ، ما بَرحْتُ أفْعَلُه، ولا يتكلم بهنَّ إلاَّ في الجحد» . قال ابن قتيبة: «يقال: مَا فترت ومَا فَتِئت، لغتان، ومعناه: ما نسيته، وما انقطعتْ عنه» ، وإذا كانت ناقصة؛ فهي ترفع الاسم، وهو الضمير، وتنصب الخبر، وهو الجملة من قوله: «تَذْكرُ» أي: لا تزالُ ذاكراً له، يقال: ما فَتِىء زيدٌ ذاهباً؛ قال أوس بن حجرٍ: [الطويل] 3136 - فَمَا فَتِئَتْ حَتَّى كَأنَّ غُبَارهَا ... سُرَادِقُ يَوْمٍ ذِي ريَاحٍ تُرَفَّعُ وقال أيضاً: [الطويل] 3137 - فَمَا فَتِئَتْ خَيلٌ تَثوبُ وتدَّعِي ... ويَلحَقُ منهَا لاحِقٌ وتُقطَّعُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 190 وعن مجاهدٍ: لا تفتر؛ قال الزمخشريُّ: كأنه جعل الفُتُوء، والفُتُورَ أخوين، كما تقدَّم عن ابنِ قتيبة، وفيهما لغتان: «فَتَأ» على وزن «ضَرَبَ» ، و «أفْتَأ» على وزن «أكْرَمَ» ، ويتكون تامَّة بمعنى: «سَكَنَ وأطْفَأ» كذا قاله ابنُ مالكٍ. وزعم أبُو حيَّان: أنه تصحيفٌ منه، وإنَّما هي فَثَأ بالثَّاءِ المثلثة، ورسمت هذه اللَّفظة «تَفْتَؤ» بالواو، والقياس «تَفْتَأ» بالألفن وكذلك يوقف لحمزة بالوجهين اعتباراً بالخطِّ، والقياس. قوله: «حَرَضاً» : الحَرَضُ: الإشفاءُ على الموت، يقال منه: حَرَضَ الرَّجلُ يحرُض حرضاً بفتح الرَّاء، فهو حرض بكسرهَا، فالحرض مصدر من هذه المادَّة فيجيء في الآية الأوجه التي في «رجُلُ عدلٌ» كما تقدم. ويطلق المصدر من هذه المادَّة على: «الحُثث» إطلاقاً شائعاً؛ ولذلك يستوي فيه المفرد، والمثنى، والمجموع، والمذكر، والمؤنث، تقول: هو حرضٌ، وهما حرضٌ وهُم حَرَضٌ، وهي حَرَضٌ، وهُنَّ حَرَضٌ؛ ويقال: رجلٌ حُرُضٌ بضمتين، نحو: جُنُب، وشُلْل. ويقال: أحْرَضهُ كذا، أي أهلكهُ؛ قال: [البسيط] 3138 - إنِّي أمرؤُ لجَّ بِي حُبِّ فأحْرَضنِي ... حتَّى بَلِيتُ وحتَّى شَفَّنِي السَّقمُ فهو مخرض. . قال الشَّاعر: [الطويل] 3139 - أرَى المَرْءَ كالأذْوَادِ يُصْبحُ مُحْرَضاً ... كإحْرَاضِ بكرٍ في الدِّيارِ مَريضِ وقرأ بعضهم «حَرِضاً» بكسر الرَّاء. وقال الزمخشريُّ: «وجاءت القراءة بهما جميعاً» يعنى بفتح الراء، وكسرها. وقرأ الحسن: «حُرُضاً» بضمتين، وقد تقدَّم أنه ك: «جُنُبٍ، وشُلُلٍ» ، وزاد الزمخشريُّ: وغُرُب «. وقال الراغب: الحَرَض: ما لا يعتدُّّ به، ولا خيرَ فِيهِ، ولذلك يقال لمن أشرف على الهلاك: حَرَض، قال تعالى: {حتى تَكُونَ حَرَضاً} [يوسف: 85] ، وقد أحرصهُ كذا قال الشَّاعر: [البسيط] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 191 3140 - إنِّي امْرُؤٌ لجَّ بِي همٌّ فأحْرَضْنِي ... والحُرْضَة: من لا يأكل إلاَّ لحم الميسر لنذالتهِ، والتَّحريضُ: الحثُّ على الشَّيء بكثرة التَّزيينِ، وتسهيل الخطب فيه، كأنَّه إزالة الحرض نحو: قَذَّيتُه، أي: أزلتُ عنه القَذَى، وأحرضتهُ: أفسدتهُ، نحو: أقذيتهُ: إذا جعلت فيه القَذَى «انتهى» . والحُرُضُ: الأشنانُ، لإزالته الفساد، والمِحْرضَة: وعاؤه، وشذوذها كشذوذ: مُنْخُل، ومُسْعُط، ومُكْحُلة. وحكى الواحديُّ عن أهل المعاني: أنَّ أصل الحَرَض: فساد الجسم، والعقل للحزن، والحبِّ، وقولهم: حرَّضتُ فلاناً على فلانٍ، تأويله: أفسدته وأحميته عليه، قال الله تعالى: {حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال} [الأنفال: 65] . وإذا عرفت هذا فوصف الرَّجُل بأنه حرض إمَّا أن يكون المراد منه: ذو حرض فحذف المضاف، أو المراد منه: أنَّه لما تناهى في الفسادِ، والضعفح فكأنَّه صار عين الحرض، ونفس الفسادِ، وأمَّا الحَرِض بكسر الراء فهو الصِّفة كما قرىء بها وللمفسِّرين فه عباراتُ: أحدها: الحَرَض، والحَارِضُ، وهو الفساد في جسمه، وعقله. وثانيها: قال نافع بن الأزرق: سئل ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما فقال: الفاسد الرَّأي. وثالثها: أنه هو الذي يكون لا كالأحياء، ولا كالأموات. وذكر أبو روق أنَّ أنس بن مالك قرأ: {حتى تَكُونَ حَرَضاً} بضمِّ الحاء وسكن الرَّاء. ثم قال تعالى: {أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين} من الأموات، والمعنى: لا تزال تذكر يوسف بالحزن، والبكاء عليه حتى تصير بحث لا تنتفع بنفسك، أو تموت من الغمّ، وأرادوا بذلك منعه من كثرةِ البُكاءِ، والأسف. فإن قيل: لم حلفوا على ذلك مع أنَّهم لم يعلموا ذلك قطعاً؟ . فاالجواب: أنَّهم بنوا الأمر على الظَّاهر. قال المفسِّرون: القائل هذا الكلام، وهوقوله: {تالله تفتؤ تذكر يوسف} هم إخوة يوسف، وقال بعضهم: ليسوا الإخوة، بل الجماعة الذين كانوا في الدَّار من أولاده وخدمه، فقال يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {إنما أشكو بثي وحزني إلى الله} والبَثُّ: أشدُّ الحزن، كأنَّه لقوته لا يطاق حمله، فيبثه الإنسان، أي: يفرِّقه، ويذيعه وقد تقدَّم [آل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 192 عمران: 186] أنَّ أصل هذه المادَّة الدلالة على الانتشار، وجوَّز فيه الرَّاغب هنا وجهين: أحدهما: أنه مصدر في معنى المعفولِ، قال: «أي: غمّي الذي يبثه عن كتمانٍ، فهو مصدر في تقدير مفعول، أو يعني غمِّي الذي بثَّ فكري، فيكون في معنى الفاعل» . وقرأ الحسن وعيسى «وحَزَنِي» بفتحتين، وقتادة بضمتين، وقد تقدم. فصل المعنى: أن يعقوب عليه السلام لما رأى غلظتهم، قال: إنَّما أشكو شدَّة حزني إلى الله، وسمَّى شدَّة الحزن بثًّا؛ لأنَّ صابحه لا يبصر عليه حتى يبثه، أي: [يظهره] . وقال الحسن: بَثِّي، اي: حاجتي، والمعنى: أنَّ هذا الذي أذكره لا أذكره معكم، وإنَّما أذكره في حضرةِ الله تعالى والإنسان إذا ذكر شكواه إلى الله تعالى كان ف يزمرة المحققين. وروي أنَّهُ قيل له: يا يعقوبك ما الذي أذهب بصرك، وقوَّص ظهرك؟ قال: أذهب بصري بكائي على يوسف، وقوس ظهري حزني على أخيه؛ فأوحى الله إليه: أتشكوني وعزتي لا أكشف ما بك حتى تدعوني، فعند ذلك قال: {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله} ثم قال: {وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} أي: أعلمُ من رحمته وأحسانه ما لا تعلمون، وهو أنَّه تعالى يأتيني بالفرج من حيث لا أحتسبه، وهو إشارة إلى أنه كان يتوقَّع رجوع يوسف إليه، وذكروا لسبب هذا التوقع وجوهاً: أحدها: أنَّ مالك الموت أتاهُ فقال له: يا مالك الموت! هل قبضت روح ابني يوسف قال: لا يا نبيَّ الله، ثمَّ أشار إلى جانب مصر، وقال: اطلبهُ هاهنا. وثانيها: أنه علم من رؤيا يوسف عليه السلام أنَّها صادقةٌ، وأنا وأنتم سنسجد له. وثالثها: لعلَّه تعالى أوحى إليه أنَّه سيوصله إليه، ولكنَّه تعالى ما عيَّن الوقت؛ فلهذا بقي في القلب. ورابعها: قال السديُّ: لما أخبره بنوه بسيرة الملك، وحاله في أقواله، وأفعاله؛ طمع أن يكون هو يوسف، وقال: لا يبعدُ أن يملك الكفَّار مثلُ هذا. وخامسها: علم قطعاً أن بنيامين لا يسرقُ، وسمع أنَّ الملك ما آذاه، ولا ضربه؛ فغلب على [ظنه] أنَّ ذلك الملك هو يوسف عليه السلام، فعند ذلك قال: {يا بني اذهبوا تحسّسوا من يوسف وأخيه} أي: استقصوا خبره بحواسِّكم، والتَّحَسُّسُك لطب الشَّيء بالحاسَّة. قال ابنُ الأنباريِّ «يقالُ: تَحَسَّسْتُ عن فلانٍ، ولا يقال: من فلان، وقيل: ههنا من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 193 يوسف؛ لأنه أقيم:» مِنْ «مقام:» عَنْ «قال: ولا يجوز أن يقال:» مِنْ «للتعبيض، والمعنى: تحَسَّسُوا خبراً من أخبار يوسف، واستعملوا بعض أخبار يوسف فذكرت كلمة» مِنْ «لما فيها من الدلالة على التبعيض» . والتحسُّسُ: يكون في الخيرِ والشَّر، وقيل: بالحاء في الخير، وبالجيم في الشَّر، ولذلك قال هاهنا: «فتَحَسَّسُوا» ، وفي الحجرات: {وَلاَ تَجَسَّسُواْ} [الحجرات: 12] . وليس كذلك فإنه قد قرىء بالجميم هنا. ثم قال: {وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله} وتقدَّم الخلاف في قوله: {وَلاَ تَيْأَسُواْ} . وقرأ الأعرج: «ولا تَيْسُوا» وقرأ العامة: «رَوْحِ اللهِ» بالفتح، وهو رحمته وتنفيسه. قال الأصمعيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ «الرَّوحُ ما يجدهُ الإنسان من نسيم الهوى، فيسكن إليه، وتركيب الرَّاء، والواو، والحاء يفيد الحركة، وهو الاهتزازُ، فكلُّ ما يهتزُّ له الإنسان، ويلتذُّ بوجوده فهو روح» . قال ابن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: {لا تيأسو من روح الله} أي من رحمته وعن قتادة من فضل الله، وقيل: مِن فَرِجِِ اللهِ. وقرأ الحسن، وعمر بن عبد العزيز، وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بضمِّ الراء. قال الزمخشريُّ: «لا تَيْأسوا، أي: من رحمته التي يحيى بها العباد» . وقال ابن عطية: وكأن معنى هذه القراءة لا تيأسوا من حي معه روح الله الذي وهبه فإن من بقي روحه يرجى؛ ومن هذا قول الشاعر: [الطويل] 3141 - ... ... ... ... ... ... ... ... وفِي غَيْرِ من قَدْ وَارتِ الأرضًُ فاطْمَعِ ومن هذا قول عبيد بن الأبرص: [مخلع البسيط] 3142 - وكُلُّ ذِي غيبَةٍ يَئُوبُ ... وغَائِبُ المَوتِ لا يَئُوبُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 194 وقرأ أبي: مِنْ رحْمةِ اللهِ، و «عِنْدَ اللهِ» : «مِنْ فضلِ الله» تفسير لاتلاوة. وقال أبو البقاء: «والجمهور على فتح الرَّاء، وهو مصدر في معنى الرَّحمة إلا أنَّ استعمال الفعل منه قليل، وإنِّما يستعمل بالزِّيادة، مثل أراح، ويقرأ بضمِّ الرَّاء، وهي لغةٌ فيه، وقيل: هو اسم للمصدر، مثل الشُّربِ والشَّرب» . ثم قال: {إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ الله إِلاَّ القوم الكافرون} قال ابن عبَّاس: إن المؤمن من من الله على خير يرجوه في البلاءِ، ويحمده في الرَّخاء. واعلم أنَّ اليأس من رحمة الله لا يحصلُ إلاَّ إذا اعتقد الإنسان أنَّ إله العالم غير قادر على الكمالِ، أو غير عالم بجميع المعلوماتِ، أو ليس بكريمٍ، بل هو بخيلٌ، وكل واحد من هذه الثلاثة يوجب الكفر، والمعنى: أنَّ اليأس لا يحصل إلاَّ لمن كان كافراً، والله أعلم. فصل روي عن عبد الله بن يزيد بن أبي فروة: أنَّ يعقوب كتب كتاباً إلى يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ حين حبس بنيامين: «من يعقوب إسرائيل الله بن إسحاق ذبيح الله بن إبراهيم خليل الله صلوات الله وسلامه عليه إلى ملك مصر، أما بعد: فإنا أهلُ بيتٍ، وكل بناء البَلاءُ، أما جدّي إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فشُدَّتْ يداه، ورجلاه، وألقي في النَّار؛ فجلعها الله عليه برداً وسلاماً، وأمَّا أبي فشدَّت يداه ورجلاه، ووض السِّيكن على قفاه؛ ففداه الله، وأمَّا أنا فكان لي ابنٌ، وكان أحبَّ أولادي إليّ، فذهب به إخوته إلى البرِّيةِ، ثم أتوني بقيمصه ملطّخاً بالدَّم، فقال: أكله الذِّئب؛ فذهبت عيناي، ثمَّ كان لي ابن، وكان أخاه من أمه، وكنت أتسلى به، وأنِّك حبسته، وزعمتَ أنَّه سرق، وأنَّا أهل بيتٍ لا نسرقُ، ولا نَلِدُ سَارقاً، فإن ردَدْتَهُ عليّن وإلاَّ دَعوتُ علَيْكَ دعْوة تُدرِكُ السَّابعَ من وَلدِك» . فلما قرأ يوسف لم يتمالك البُكاء، [وعيل] صبره، وأظهر نفسه على ما يأتي إن شاء الله تعالى. قال ابن الخطيب: في الآية سؤالات: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 195 الأول: أنَّ بلوغ يعقوب في محبة يوسف إلى هذا الحدِّ العظيم لا يليقُ إلا لمنْ كان غافلاً عن الله تعالى؛ لأنَّ من عرف اللهِ؛ أحبه، من أحبَّ اللهَ لم يتفرغْ قلبه بحب شيءٍ سوى اللهِ تعالى وأيضاً: القلبُ الواحدُ لا يسع الحب المستغرب لشيئين، فلمَّا كان قلبه مستغرقاً ف يحبّ ولده؛ امتنع أن يقال: إنَّه كان مستغرقاً في حبّ الله تعالى؟ . السؤال الثاني: أنّضه عند استيلاء الحزن الشَّديد عليه؛ كان من الواجب عليه أن يشتغل بذكر اللهِ تعالى والتفويض، والتَّسليم لقضائه. وأما قوله: {يا أسفا على يوسف} ، فذلك لا يليقُ بأهل الدِّين والعلم فضلاً عن أكابرِ الأنبياء صلواتا لله وسلامه عليهم أجمعين؟ . السؤال الثالث: لا شكّ أن يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ت كان من أكابر الأنبياء وكان أبوه، وجده، وعمه كلهم من أكابر الأنبياء المشهورين في جميع الأنبياء ومن كان كذلك، ثم وقعت له واقعةٌ هائلة في أعزِّ أولاده، لم تبق تلك الواقعة خفيَّة، بل لا بدَّ، وأن تبلغ في الشُّهرة إلى حيث يعرفها كل أحدٍ، لا سيما، وقد انقضت المدَّة الطويلة فيها، وبقي يعقوب على حزنه الشديد، وأسفه العظيم، وكان يوسف في مصر، وكان يعقوب في بعض [بوادي] الشَّام قريباً من مصر، فمع قرب المسافة يمتنع بقاء هذه الواقعة خفية. السؤال الرابع: لِمَ لَمْ يبعث يوسف إلى يعقوب ويعلمه أنَّه من الحياة صلاة الله عليهما وفي السِّلامة ولا يقال: إنه كان يخاف إخوته؛ لأنه بعد أن صار ملكاً قاهراً يمكنه إرسال الرسول إليه، وإخوته ما كانوا يقدرون على دفع رسوله؟ . السؤال الخامس: كيف جاز ليوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يضع الصَّواعَ في وعاءٍ أخيه، ثم يستخرجه ويلصقُ به تهمة السرقة مع أنَّه كان بريئاً عها. السؤال السادس: كيف رغب في إلصاق هذه التُّهمة له، وحبسه عند نفسه مع أنَّهُ كان يعلم أنه يزداد حزن أبيه ويقوى؟ . والجواب عن الأول: أنَّ مع مثل هذه المحبة الشَّديدة يكون كثير الرُّجوع إلى الله تعالى كثير الاشتغال بالدُّعاء، والتضرُّع، وذلك يكون سبباً لكما الاستغراق وعن الثاني: أنَّ الداعية الإنسانية لا تزول في الحياة العاجلة، فتارة كان يقول {يا أسفى على يوسف} وتارة كان يقول: {فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون} وأما بقية الأسئلة، فالقاضي أجاب عنها فقال: هذه الوقائعُ الَّتي نقلت إلينا إمَّا أن يمكن تخريجها على الأحوال المعتادة أو لايمكن، فإن كان الأوَّل، فلا إشكالَ وإن كان الثاني فنقول: كان الزَّمان زمان الأنبياء، وخرق العادة في ذلك الزمان غير مستبعدٍ، فلم يمتنع أن يقال: إنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 196 بلدة يعقوب مع أنها كانت قريبة من بلدة يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ولكن لم يصل خبر أحدهما إلى الآخر على سبيل يقتضي العلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 197 قوله تعالى: {فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يا أيها العزيز} الآية اتفق المفسِّرون على أنَّ هنا محذوفاً، وتقديره: فخرجوا راجعين إلى مصر، ودخلوا على يوسف، فقالوا: يا أيُّها العزيزُ. فإن قيل: إذا كان يقعوب أمرهم أن يتحسسوا من يوسف وأخيه، فلم عادوا إلى الشكوى؟ . فالجواب: أنَّ المتحسِّسَ يصل إلى مطلوبه بجميع الطُّرقِ، والاعترافِ باِلعجز، وضموا رقَّة الحال، وقلَّة المال، وشدَّة الحاجة، وذلك ممَّا يرقِّقٌ القلب، فقالوا: نُجرِّبهُ في هذه الأمورِ، فإن قلبه لنا ذكرنا له المقصود، وإلا سكتنا، فلهذا قدَّموا ذكر فقالوا: «أيُّها العزيزُ» والعزيزُ: الملكُ القادرُ الممتنع: «مسَّنَا وأهْلنَا الضُرُّ» وهو الفقر، والحاجة، وكثرة العيال وقلَّة الطَّعام، وعنوا بأهلهم من خلفهم. قوله: «مُزجَاةٍ» أي مدفوعة يدفعها كلُّ أحدٍ عنه لزهادته فيها، ومنه: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً} [النور: 43] أي: يسوقها بالريح؛ وقال حاتم [الطويل] 3143 - لِيًَبْكِ على مِلحَان ضَيْفٌ مُدفَعٌ ... وأرْمَلةٌ تُزْجِي مَعَ اللَّيْلِ أرْمَلاَ ويقال: أزْجيتُ رَدِيء الدرهم فزُجِي، ومنه استعير زَجَا الجِرَاح تزْجُوا زجاً وجراح زَاج. وقول الشاعر: [البسيط] 3144 - وحَاجَةٍ غَيْرِ مُزْجاةٍ مِن الحَاجِ ... أي: غير يسيرة يمكنُ دفعها، وصرفها لقلَّة الاعتداد بها، فألف «مُزجَاةٍ» منقلبة عن واو. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 197 فصل وإنَّما وصفوا تلك البضاعة بأنها مزجاة إمَّا لنقصها، أو لدناءتها أو لهما جميعاً، قال بعضهم: المُزْجَاةُ القليلة. وقيلك كانت رَدِيئةً. وقال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما كانت دراهم رديئة لا تقبل في ثمن الطَّعام وقيل: أمتعة رديئة. وقيل: متاع الأعراب الصُّوفُ والسَّمْن. وقيل: الحبة الخضراء، وقيل: الأقط، وقيل: النعال والأدم، وقيل: سويق المقل. وقيل: إنَّ الدَّراهم كانت منوقشة عليها صورة يوسف، والدَّراهم الَّتي جاؤا بها، ما كان فيها صورة يوسف. وإنَّما سيمت البضاعة القليلة الرَّديئة مزجاة، قال الزجاج: من قولهم: فلانٌ يزْجِي العَيْشَ، أي: يدفع الزَّمان بالقليلِ، أي: إنَّا جئنا ببضاعة مزجاة ندافع بها الزَّمان، وليست مما ينتفعُ بها، وعلى هذا فالتقديرُ ببضاعة مزجاةٍ ندافع بها الأيام. قال أبو عبيد: إنَّما قيل للدَّراهم الرّّديئةِ مزجاة؛ لأنَّها مردودة مدفوعة غير مقبولة ممَّن ينفقها، قال: وهي من الإزجاء، والإزجاء عند العرب: الدَّفعُ. وقيل: مزجاة، أي: مؤخرة مدفوعة عن الإنفاقِ لا يقبل مثلها إلاَّ من اضطر، واحتاج إليها لفقد غيرها ممَّا هو أجود مها. وقال الكلبيُّ: «مزجاة لغة العجم، وقيل: هي من لفظ القِبْطِ» . قال ابن الأنباريي: لا ينبغي أن يجعل لفظ عربي معروف الاشتقاق منسوباً إلى القبط. وقرأ حمزة والكسائي: «مُزْجَاةٍ» بالإمالة؛ لأن اصله الياء، والباقون بالفتح والتفخيم. ثمَّ لما وصفوا شدَّة حالهم، ووصفوا بضاعتهم بأنها مزجاة قالوا له: «فأوْفِ لنَا الكيْلَ: يجوز أن يراد به حقيقة من الآلة، وأن يراد به الكيل، فيكون مصدراً، والمعنى إنَّا نريدٌ أن نقيم النَّاقص مقام الزَّائد أو نقيم الرَّديء مقام الجيِّد. {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ} : أي تفضل علينا بما بين الثمنين الجيّد، والرَّديء، وسامحنا ولا تنقصنا. وقال ابن جريج، والضحاك، أي: تصدَّق علينا بردِّّ أخينا لنا: {إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} يثيب المتصدقين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 198 قال الضحاك: لم يقولوا: إنَّ الله يجزيك؛ لأنَّهم لم يعلموا أنَّه مؤمنٌ. وسُئل سفيان بن عيينة: هل حرمت الصدقة على نبيّ من الأنبياء سوى نبيِّنا صلوات الله وسلامه عليه؟ . قال سفيان: ألم تسمع قوله: {وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ الله يَجْزِي المتصدقين} . يريد: أنَّ الصَّدقة كانت حلالاً لهم، وأنكر الباقون ذلك، وقالوا: حالُ الأنبياء وحالُ أولادِ الأنبياء في طلب الصَّدقة سواء؛ لأنَّهم يأنفون من الخضوع إلى المخلوقين ويغلب عليهم الانقطاع إلى الله، والاستغناء به عمَّنْ سواه. وروي عن الحسنِ ومجاهدٍ: أنَّهما كرها أن يقول الرَّجل في دعائه: اللَّهُمَّ تصدَّق علينا، قالوا: لأنَّ الله لا يتصدَّق، وإنَّما التَّصدُّق بمعنى الثَّواب، وإنما يقول اللَّهُمَّ أعطني وتفضَّل علينا. فصل قال القرطبيُّ: «استدلًَّ العلماء بهذه الآية على أنَّ أجرة الكيال على البائع، لقولهم ليسوف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ» فأوْفِ لَنَا الكَيْلَ «فكان يوسفُ هو الذي يكيل، وكذلك الوزَّانُ، العدَّادُ وغيرهم؛ لأنَّ الرَّجُلَ إذا باع عدّة من طعامه معلومة، وأوجب العقد عليه؛ وجب عليه أن يبرزها، ويُمَيِّز حقَّ المشتري من حقِّه إلا إن كان المبيعُ فيه معيناً صبره، أو ما ليس فيه حق موفيه، فيخلي ما بينه وبينه، وما جرى على المبيع فهو ضمان المبتاع، وليس كذلك ما يتعلَّق به حقُّ موفيه من كيل أو وزنٍ، ألا ترى: أنَّه لا يستحقُّ البائع الثمن إلاَّ بعد التَّوفية، كذلك أجرة النقد على البائع أيضاً؛ لأنَّ المتباع الدَّافع لدراهمه يقول: إنَّها طيبة فأنت الذي تدّعي الرَّداءة، فانظر لنفسك، فيقع له فكان الأجرُ عليه، وكذلك لا يجبُ أجرة القاطع على من يجب عليه القصاص لأنه لا يجب عليه أن يقطع نفسه، ولا أن يمكن من ذلك طائعاً؛ ألا ترى أنَّ فرضاَ عليه أن يفدي يده، ويصالح عليه، إذا طلب المقتص ذلك. وقال الشَّافعيُّ: إن الأجرة على المقتص منه كالبائع؛ لأنَّه يجب عليه تسليم يده. فصل روي: أنهم لما قالوا: {مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر} وتضرَّعُوا إليه، أدركته الرِّقَّة، فارفضَّ دمعه، فباح الذي كان يكتمُ، فقال: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} وقيل: دفعوا إليه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 199 كتاب يعقوب، فلما قرأ الكتاب ارتعدت مفاصله واقشعرَّ جلدهُ، ولانَ قلبه، وكثر بكاؤه؛ فصرح بأنه يوسف. قوله: {هَلْ عَلِمْتُمْ} يجوز أن تكون استفهامية للتَّوبيخ، وهو الأظهر وقيل: هو خبر و» هَلْ «بمعنى» قَدْ «. وقال الكلبيُّ: «إنما قال: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ} حين حكى لإخوته أنَّ مالك بن دعر قال: إنِّي وجدت غلاماً في بئر من حلاعه كَيْتَ وكيْتَ فأبتعته بكذا وكذا درهماً، فقالوا أيُّها الملك: نحن بِعْنَا ذلك الغلام منه؛ فغاظ يوسف عليه السلام ذلك، وأمر بقتلهم، فذهبوا بهم ليقتلوهم، فولى يَهُوذا وهو يقول: كان يعقوب قد حزن لِفقْدِ واحدة منَّا حتَّى كفَّ بصره، فكيف إذا أتاهُ قتل بنيه كلِّهم، ثم قالوا له: إن فعلت ذلك، فابعثْ بأمتعتنا إلى أبينا، فإنَّه بمكان كذا وكذا، فذلك حين رحمهم وبكى، وقال ذلك القول» . وفي هذه الآية تصديق قوله تعالى: {وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15] ، وأمَّا قوله: «وَأخِيهِ» فالمراد ما فعلتم من تعريضه للغمِّ بسبب إفراده عن أخيه لأبيه وامِّه، وأيضاًك كانوا يؤذونه، ومن جملة الإيذاء، قالوا في حقه: {إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ} [يوسف: 77] وأما قوله: {إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ} فهو يجرى مجرى الغدرِ لهم كأنه قال: أنتم أقدمتم على ذلك الفعل القبيح المنكر حال كونكم من حالة الصِّبا، وفي جهالة الغرور، يعني: والآن لستُم كذلكن ونظيره قوله تعالى: {مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم} [الانفطار: 6] وقيل: إنما ذكر تعالى ذلك الوصف ليكون ذلك جارياً مجرى الجواب، فيقول العبدُ: يا ربِّ غرَّنِي كرَمُكَ، فكذا ههنا إنَّما قال لهم يوسف ذلك الكلام إزالة للخجل عنهم، وتخفيفاً للأمر عليهم. وقيل: المعنى: إذ أنتم جاهلون بما يئول إليه أمر يوسف صلوات الله وسلامه عليه. فإن قيل: كيف قال: {مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ} ، ولم يكن منهم إلى أخيه شيء، ولم يسعوا في حبسه؟ . قيل: هو قولهم حين أخرجوا الصواع من رحله، ما رأينا منكم يا بني راحيل إلاَّ البلاء. وقيل: تفريقهم بينه، وبين أخيه يوسف، وكانوا يؤذونه بعد فقد يوسف. قوله: «أئِنَّكَ» قرأ ابن كثير، وأبو جعفر: «إنَّكَ» بهمزة واحدة على الخبر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 200 والباقون بهمزتين استفهاماً، وقد تقدَّم قراءتهم في هاتين الهمزتين تخفيفاً، وتسهيلاً وغير ذلك، فأمَّا قراءة ابن كثير، فيحتمل أن تكون خبراً محضاً واستبعد هذا من حيث تخالف القراءتين مع أنَّ القائل واحد. وقد أجيب عن ذلك بأنَّ بعضهم قاله استفهاماً، وبعضهم قاله خبراً، ويحتمل أن يكون استفهاماً حذف منه الأداة لدلالة السِّياق، والقراءة الأخرى عليه، وقد تقدَّم نحو هذا في الإعراب. وقرأ أبيّ (أَوَأَنْتَ يوسف) فمن قرأ بالاستفهما قالوا: إنَّ يوسف لما قال لهم: {هل علمتم ما فعلتم} تبيَّنوا يوسف، فأبصروا ثناياه كاللّؤلؤ المنظُوم. وروى الضحاكُ عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما لما قال هذا القول تبسَّم فرأوْا ثناياه كاللّؤلؤن فشبهوه بيوسف، ولم يعرفوه، فقالوا استفهاماً: {أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ} ويدلُّ على أنه استفهام قوله: «أنَا يُوسفُ» ، وإنَّما أجابهم عما اسْتَفْهَمُوا عنه، ومن قرأ على الخبر فحجته ما روى الضحاك عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّه قال: إنَّ أخوة يوسف لم يعرفوه حتّى وضع التَّاج عن رأسه، كان في قرنه شامة وكان لإسحاق، ويعقوب مثلها تشبه التَّاج عرفوه بتلك العلامة. وقال ابن إسحاقك «كان يتكلَّم من وراء ستر، فلما قال: {هَلْ عَلِمْتُمْ مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ} رفع الحجاب فعرفوه» وقيل: قالوه على التَّوُّهمِ. «واللام في:» لأنْتَ «لام الابتداء، و» أنْتَ «مبتدأ، و» يُوسفُ «خبره والجملة خبر» إنَّ «ويجوز أن تكون» أنْتَ «فصلاً، ولا يجوز أن يكن تأكيداً لاسم» إنَّ «لأنَّ هذه اللام لا تدخل على التوكيد» . وقرأ أبي: (أئنك أو أنت يوسف) وفيها وجهان: أحدهما: قال أبُوا الفتح: إنَّ الأصل: أئنك لغير يوسف، أو أنت يوسف فحذف خبر «إن» لدلالة المعنى عليه. والثاني: ما قاله الزمخشريُّ: المعنى: أئنَّك يوسف، أو أنت يوسف فحذف الأول لدلالته، وهذا كلام متعجب مستغرب لما يسمع، فهو يكرِّر الاستثبات فقال: {أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي} وإنَّما صرَّح بالاسم تعظيماً لما نزل به من ظلم إخوته، وما عوضه الله من الظَّفر والنَّصر، فكأنه قال: أنا الذي ظلمتموني على أعظم الوجوه، والله أوصلني إلى أعظم المناصب، أنا ذلك العاجزُ الذي قصدتم قتله، وإلقاءه في الجبِّ، ثمَّ صرتُ كما ترون، ولهذا قال: «وهَذا أخِي» مع أنَّهم كانوا يعرفونه؛ لأن مقصوده أن يقول: وهذا أيضاً كان مظلوماً كما كنت، ثم إنه صار منعماً عليه من قبل الله كما ترون. {قَدْ مَنَّ الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 201 عَلَيْنَآ} قال ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه بكلِّ عزِّ في الدنيا والآخرة. . وقيل: بالجمع بيننا بعد الفرقة. قوله: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} قرأ قنبل «يتقي» بإثبات الياء وصلاً ووقفاً، والباقون بحذفها فيهما. فأمَّا قراءة الجماعة فواضحة؛ لأنَّه مجزومٌ، وأمَّا قراءة قنبلٍ، فاختلف فيها النَّاس على قولين: أحدهما: أنَّ إثبات حرف العلَّة في الجزم لغة لبعض العرب؛ وأنشدوا: [الوافر] 3145 - أَلَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ... بِمَا لاقَتْ لبُونُ بَنِي زِيَادِ وقول الآخر: [البسيط] 3146 - هَجَوْتَ زبَّات ثُمذَ جِئتَ مُعْتَذِراً ... مِنْ هَجْوِ زبَّان لَمْ تَهْجُوا ولَمْ تَدعِ وقول الآخر: [الرجز] 3147 - إذَا العَجُوزُ غَضِبَتْ فَطلِّقِ ... ولا تَرضَّاهَا ولا تَملَّقِ وقول الآخر: [الرجز] 3148 - إنِّي إذَا مَا ما القَوْمُ كَانُوا أنْجِيَهْ ... واضْطَربَ القَوْمَ اضطرابَ الأرْشِيَهْ هُنَاكَ أوْصِينِي ولا تُوصِي بِيَهْ ومذهب سيبويه: أنَّ الجازم بحذف الحركة المقدرة، وأنَّما تبعها حرف العلَّة في الحذف تفرقة بين المرفوع، والمجزوم. واعترض عليه: بأنَّ الجازم يبين أنَّه مجزوم، وعدمه يُبيِّنُ أنه غيرُ مجوزم. وأجيب: بأنه ف بعض الصُّورِ يلتبس فاطرد الحذف، بيانه: أنَّك إذا قلت «زُرْنِي أعْطِتكَ» بثبوت الياءِ، احتمل أن يكون «أعْطِيكَ» جزاء الزيارة، وأن يكون خبراً مستأنفاً، فإذا قلت: «أعْطِكَ» بحذفها تعين أن يكون جزاء له؛ فقد وقع اللَّبس بثبوت حرف العلِّة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 202 وفقد بحذفه، فيقالُ: حرف العلَّة يحذف عند الجازمِ لا به. ومذهب ابنِ السَّراجك أنَّ الجازم أثَّر في نفس الحرف فحذفه، وفيه البحثُ المتقدم. والثاني: أنَّه مرفوعٌ غير مجزومٍ و «مَنْ» موصولةٌ، والفعل صلتها؛ فلذلك لم يحذف لامه. واعترض على هذا بأنَّهُ قد عطف عليه مجزوم وهو قوله: «ويَصْبِرْ» فإنَّ قُنْبُلاً لم يقرأ إلا بإسكان الرَّاء. وأجيب عن ذلك: بأنَّ التَّسكين لتوالي الحركات، وإن كان من كلمتين كقراءة أبي عمرو {يَنصُرْكُمُ} [آل عمران: 160] ، و {يَأْمُرَكُمْ} [آل عمران: 80] ، وأجيب أيضاً: بأنه جزم علكى التوهم يعني لما كانت «مَنْ» الموصولة تشبه «مَنْ» الشرطية، وهذه العبارة فيها غلظ على القرآن، فينبغي أن يقال فيها مراعاة للشَّبهة اللَّفظي، ولا يقال للتَّوهُّم. وأجيب أيضاً: بأنه سكن للوقف ثم أجرى الوصل مُجْرَى الوقف. وأجيب أيضاً: بأنه إنما جزم حملاً ل «مَنْ» الموصولة على «مَنْ» الشَّرطيَّة؛ لأنَّها مثلها ف يالمعنى، ولذلك دخلت [الفاء] في خبرها. قال شهابُ الدِّين: وقد يقالُ على هذا: يجوز أن تكون «مَنْ» شرطيَّة، وإنَّما ثبتت الياء، ولم تجزم «من» لشبهها ب «مَنْ» الموصولة ثمَّ لم يعتبر هذا الشبه في قوله: «ويَصْبِرْ» ، فلذلك جزمه، إلاَّ أنه يبعد من جهة أنَّ العامل لم يؤثر فيما بعده، ويليه، ويؤثر فيما هو بعيد منه، وقد تقدَّم الكلام على مثل هذه المسألة أوَّل السُّورة في قوله: {يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ} [يوسف: 12] . وقوله: {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ} الرَّابطُ بين جملة الشَّرط، وبين جوابها: إمَّا العموم في «المُحْسِنيِنَ» ، وإمَّا الضمير المحذوف، أي: المحسنين منهم، وإمَّا لقيام: «ألْ» مقامه، والأصل: محسنيهم، فقامت «ألْ» مقام ذلك الضَّمير. فصل معنى الآية: من يتَّق معاصي الله، ويصبر على أذى النَّاسِ. وقيل: من يتَّق بأداء الفرائض، واجتناب المعاصي ويصبر على ما حرم الله عليه. وقال ابنُ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يتّقي في الزِّنا، ويصبر على العُزوبةِ، وقال مجاهدٌ: يتقي المعصية، ويصبر على السجن. {فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين} قال ابن الخطيب: «واعلم أنَّ يوسف عليه السلام وصف نفسه في هذا المقام الشَّريف بكونه متقِياً، ولو أنه أقدم على المعصية كما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 203 قالوه في حق زليخا، لكان هذا القول كذباً منه، وذكر الكذب في مثل هذا المقام الذي يؤمن فيه الكافر، ويتوب فيه العاصي لا يليق بالعقلاء» . قوله : {تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا} أي تفضَّل عليك، والإيثارُ: التفضيل بأنواع جميع العطايا، آثرهُ يُؤثِرهُ إيثَاراً، وأصله من الأثر، وهو تتبع الشيء، فكأنه يَسْتقْصٍي جميع أنواع المَكارمِ، وفي الحديث: «سَتكُون بعدي أثرةٌ» أي: يستأثر بعضكم على بعض، ويقال: اسْتأثَر بكذا، أي: اختص به، واستأثر اللهُ بفلان، كناية عن اصطفائه له. وقال الشاعر: [الرجز] 3149 - واللهُ اسْماكَ سُماً مُبَاركَا ... آثَركَ الله بِهِ إيثَاركَا قال الأصمعيُّ: يقالُ: آثَرَكَ الله إيثاراً، أي: فضَّلك، والمعنى: لقد فضلك الله علينا بالعلمِ، والعملِِ، والحسنِ، والملكِ. فصل احتجَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ إخوة يوسف ما كانوا أنبياء؛ لأنَّ جميع المناصب المغايرة لمنصب النبوة كالعدم بالنِّسبة لمنصب النُّبوة لما قالوا: {تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا} ، وعلى هذا يذهب سؤال من يقول: آثره عليهم بالملك، وإن شاركوه في النبوة؛ لأنَّا بيَّنا أنَّ سائر المناصب لا تعتبر في جنب منصب النُّبوًَّة. ثم قالوا: {وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ} والخَاطِىءُ: هو الذي أتى بالخطيئة عمداً وهذا هو الفرقُ بين الخَاطىءِ، ولهذا يقالُ للمُجْتهدِ الذي لمْ يُصِبْ أنَّهُ مخطىءٌ، ولا يقال: إنه خاطىءٌ. فصل أكثر المفسرين على أن الذي اعتذروا منه هو إقدامهم على إلقائه في الجُبِّ وبيعه وتبعيده عن أبيه. وقال أبو عليّ الجبائيٌّ: لم يعتذروا من ذلك؛ لأنَّ ذلك كان منهم قبل البلوغ، فلا يكون ذنباً، فلا يعتذر منه، وإنَّما اعتذروا من حيثُ إنهم أخطئوا بعد ذلك بأن لم يظهروا لأبيهم ما فعلوه ليعلم أنَّه حي، وأنَّ الذِّئب لم يأكله. وأجاب ابنُ الخطيب عن ذلك: «بأنَّه لا يجوز أن يقال: إنهم أقدموا على ذلك الفعل في زمن الصِّبا؛ لأنه من البعيد في [مثل] يعقوب جمعاً غير بالغين من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 204 غير أن يبعث معهم رجلاً عاقلاً يمنعهم عمَّا لا ينبغي، ويحملهم على ما ينبغي» . قوله: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} عليكم يجوز أن يكون خبر «لاَ» و «اليَوْمَ» يحتمل أن يتعلق بما تعلَّق به هذا الخبر أي: لا تثريب مستقرٌ عليكم ويجوز أن يكون «اليَوْمَ» خبر «لاَ» ، و «عَليْكُمْ» متعلق بما تعلق به هذا الظرف ويجوز أن يكون: «عليكم» صفة لاسم: «لا» ، و «اليَوْمَ» خبرها أيضاً ولا يجوز أن يتعلق كل من الظرف، والجار ب: «تَثْرِيب» ؛ لأنه يصيرُ مطولاً شبيهاً بالمضاف ومتى كان كذكل أعرب ونُوِّن، نحو: «لا خَيْراً من زَيْدٍ عندكَ» ويزيدُ عليه الظرف بأنه يلزم الفصل بين المصدر المؤول بالموصول، ومعموله بأجنبي وهو: «عَليْكُمْ» لأنه إما خبر وإما صفة. وقد جوَّز الزمخشريُّ: أن يكون الظَّرف متعلقاً ب: تَثْرِيبَ «فقال: فإن قلنا: بم يتعلق» اليوم «؟ قلت: بالتثريب، أو بالمقدر في» عَليْكُم «من معنى الاستقرار أو ب: يَغْفِرُ» ، فجعله أنه متعلق ب «تَثْرِيب» وفيه ما تقدَّم. وقد أجرى بعضهم الاسم العامل مجرى المضاف لشبهه به، فنزع ما فيه من تنوين أو نون؛ وجعل الفارسيُّ من ذلك قول الشاعر: [الطويل] 3150 - أرَانِي ولا كُفْرانَ للهِ أيَّةً ... لِنفْسِي لقَدْ طَالبْتُ غَيْرَ مُنِيلِ قال: فإية منصوب ب: «كُفْرانَ» أي: أكفر الله أية لنفسي، ولا يجوز أن تنصب «أيَّةً» ب: «أوَيْتُ» مضمراً، لئلا يلزم الفصل بين مفعولي: «أرَى» بجملتين أي: ب «لاَ» ، وما في خبرها، وب «أوَيْتُ» المقدرة، ومعنى «أوَيْتُ» رققت وجعل منه بانُ مالكٍ ما جاء في الحديث: «لا صُمْتَ يومٌ إلى اللَّيلِ» برفع «يَوْمٌ» على أنه مرفوعٌ بالمصدر المنحل لحرف مصدريّ، وفعل مبني للمعفول وفي بعض ما تقدَّم خلافٌ، وأمَّا تعليقه بالاستقرار المقدَّر فواضح، ولذلك وقف أكثرُ القراء عليه، وابتدأ ب: «يَغفِرُ اللهُ لكُمْ» وأما تعليقه ب: «يَغْفِرُ» فواضحٌ أيضاً ولذلك وقف بعض القراء على: «عَليْكُمْ» ، وابتدأ: «اليَوْم يغفرُ اللهُ لكُمْ» وجوَّزوا أن يكون خبر: «لا» محذوفاً، و «عَلَيْكُمْ» ، و «اليَوْمَ» كلاهما متعلقان بمحذوف آخر يدلُّ عليه: «تَثْريبَ» ، والتقدير: لا تثريبَ يتثرب علكيم اليوم كما قدروا في: {لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 43] لا عاصم يعصمُ اليوم. قال أبو حيَّان: «لو قيل به لكان قويًّا» ، وقد يفرَّق بينهما: بأنّ هنا يلزم كثرة المجاز، وذلك أنَّك تحذف الخبر، وتحذف هذا الذي تعلق به الظرف وحرف الجر، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 205 وتنسب الفعل إليه، لأنَّ التثريب لا يثرب إلا مجازاً، كقولهم: «شِعرٌ شاعرٌ» بخلاف: «لا عَاصِمَ يَعْصِم» فإن نسبة الفعل إلى العاصم حقيقة، فهناك حذف شيءٍ واحد من غير مجاز، وهنا حذف شيئين مع مجاز. والتَّثْرِيبُ: العَتبُ، والتَّأنيب، وعبَّر بعضهم عنه بالتَّعيير من عيَّرته بكذا إذا عتَبْته وفي الحديث: «إذَا زَنَتْ أمَةٌ أحدكُم، فليَجْلدْهَا، ولا يُثرِّبْ» أي: لا يعيِّر، وأصله من الثَّرب، وهو ما تغشى الكرش من الشَّحم، ومعناه: إزالةٌ الثَّرب، كما أنَّ التَّجليد إزالةٌ الجلدِ، فإذا قلت: ثرَّبتُ فلاناً، فكأنَّنك لشدَّة عتبك له أزلت ثربه، فضرب مثلاً في تزيق الأعراض. وقال الرَّاغب: «ولا يُعْرَفُ من لفظه إلاَّ قولهم: الثَّرْبُ، وهو شحمةٌ رقيقةٌ وقوله تعالى: {ياأهل يَثْرِبَ} [الأحزاب: 13] يصحُّ أن يكون أصله من ذها الباب، والياء فيه مزيدية» . فصل قال المفسريون: التَّثْريبُ: التَّوبيخُ، قال عطاءٌ الخراسانيُّ: طلب الحوائج إلى الشَّباب أسهل منها إلى الشيُّوخ ألا ترى إلى قول يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «لا تَثْريب عَليْكُمْ» ، وقول يعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} [يوسف: 98] . واعلم أنَّا إذا جعلنا: «اليَوْمَ» متعلِّقاً ب: «لا تَثْريبَ» أي: لا أثرِّبُكمُ اليوم وهو اليوم الذي مظنته التَّثريب، فما ظنُّكم بسائر الأيَّام، ويحتمل أنِّي حكمت في هذا اليوم ألاّ تثريب مطلقاً؛ لأنَّ قوله: «لا تَثْرِيبَ» نفي للماهيَّة، ونفي الماهيَّة يقتضي نفي أفراد جميع الماهية، فكان ذلك مفيداً للنَّفي المتناول لكلِّ الأوقات والأحوال. ثمَّ إنَّه أزال عنهم ملامة الدُّنيا طلب من اللهِ أن يزيل عنهم عقاب الآخرةِ، فدعا لهم بقوله: {يَغْفِرُ الله لَكُمْ} . وإن قلنا: «اليَوْمَ» متعلق بقوله: {يَغْفِرُ الله لَكُمْ} كأنه لما نفى الذَّنب عنهم مطلقاً بشَّرهم بأنَّ الله يغفر ذنبهم في ذلك اليوم، وذلك أنَّهم لما خجلوان واعترفوا وتابوا، فالله تعالى قَبِلَ توتبهم، وغفر ذنوبهم؛ فلذلك قال: {اليوم يَغْفِرُ الله لَكُمْ} . «روي أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أخذ بعِضَادتي الكعبة يوم الفتحِ وقال لقريش: ما تَرونَ؟ قالوا: خيراً أخٌ كريمٌ، وابنُ أخٍ كريمٍ، وقد قدرتَ، قال: أقُولُ ما قَالَ أخي يوسف:» لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ «» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 206 وروي أنَّ أبا سفيان لما جاء ليًسلم، قال لهُ العبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «إذا أتيت رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاتْلُ عليه: {قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} ففعل، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ غفر الله لَكَ ولمن علَّمك» . وروي: أنَّ أخوة يوسف لما عرفوه أرسلوا إليه: إنَّا نستحي منك لما صدر منَّا من الإساءة إليك، فقال يوسف: إنَّ أهل مصر لو ملكت فيهم، فإنهم ينظرون إليَّ بالعين الإولى، ويقولون: سبحان الذي بلغ عبداً بِيعَ بِعشرينَ درهماً ما بلغ، ولقد شَرُفتُ بإتيانكم، وعظُمتُ في العيون لما جئتم، علم النَّاس أنكم إخوتي، وأنِّي من حفدةِ إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ثم سألهم عن أبيه، فقال: ما فعل أبي من بعدي قالوا: ذهبت عيناه؛ فأعطاهم قميصه وقال: {اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيراً} أي يعيده مبصراً، وقيل: يأتيني بصيراً. قال الحسنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لم يعلم أنه يعود بصيراً إلا بالوحي؛ لأنَّ العقل لا يدلُّ عليه وقال الضحاك: كان ذلك القميص من نسيج الجنَّة. وعن مجاهدٍ: أمره جبريل صلوات الله عليه أن يرسل قميصه، وكان ذلك القميص قميص إبراهيم عليه الصلام وذلك أنه جُرِّد من يثابه، وألقي في النَّار عرياناً، فآتاه جبريل بمقيص من حرير الجنَّة، فألبسه إياه، فكان ذلك عند إبراهيم فلما مات إبراهيم عليه السلام ورِثهُ إسحاق، فلما مات إسحاق ورثهُ يعقوب، فلمَّا شبَّ يوسف عليه السلام جعل ذلك يعقوب في قصبةٍ من فضة وسد رأسها، وعلقها في عنقه لما كان يخافُ عليه من العين كانت لا تفارقه، فلمَّا ألقى في الجُبِّ عُرياناً جاءهُ جبريلُ عليه السلام وعلى يوسف ذلك التَّعويذُ؛ فأخرج القميص منه، وألبسه، ففي ذلك الوقت جاءهُ جبريل، وقال: أرسل ذلك القميص فإنَّ فيه ريحَ الجنَّة لا يقع على مبتلى، ولا سقيم إلا عُوفِي، فدفع يوسف ذلك القميص إلى إخوته، وقال: {فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً} أي: مبصرا وإنَّما أفرد بالذِّكر تعظيماً له، وقال في الباقين: {وائتوني بأهلكم أجمعين} . قال ابن الخطيب: «ويمكن أن يقال: لعلَّ يوسف علم أنَّ أباهُ ما صدر أعمى إلاَّ من كثرة البكاءِ، وضيق القلبت، وذلك يضعفُ البصر، وإذا ألقي عليه قميصه، فلا بد وأن ينشرح صدره، وأن يحصل في قلبه الفرحُ الشديد، وذلك يقوِّي الرُّوحَ، ويزيلُ الضَّعف عن القوى فحينئذ يقوى بصره، ويزول عنه ذلك، فهذا القدرُ ممَّا يُمِكنُ معرفته بالقلبِ فإنَّ القوانين الطبيَّة تدلُّ على صحَّة هذا المعنى» . قوله: «بِقَمِيصِي» يجوز أن يتعلَّق بما قبله على أنَّ الباء معدِّية كهي في «ذَهَبتُ بهِ» وأن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 207 تكون للحال فتتعلق بمحذوف، أي: اذهبوا معكم بقميصي، و «هَذَا» نعتٌ له، أو بدلٌ، أو بيانٌ، و «بَصِيراً» حالٌ، و «أجْمَعِينَ» توكيد له، وقد أكد بِهَا دُون كل، ويجوز أن تكون حالاً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 208 قوله: {وَلَمَّا فَصَلَتِ العير} يقال: فَصَل فلانٌ عن فلانٍ فُصُولاً إذا خرج من عنده، و «فَصَلَ» كذا إذا أنفذ، و «فَصَلَ» يكون لازماً، ومتعديًّا، فإن كان لازماً فمصدره فصولاً، وإن كان متعدياً فمصدره فصلاً. قال المفسرونك لما توجَّه العير من مصر إلى كنعان، قال يعقوب لمن كان عنده من ولد ولده: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} قال مجاهدٌ: أصاب يعقوب ريحُ القميص من مسيرة ثلاثة أيامٍ. وعن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه من مسيرة ثماني ليال. وقال الحسنُ: كان بنيهما ثمانون فرسخاً، وقال مجاهد: هبَّ ريح يوسف فصفق القميص؛ ففاحت روائح الجنَّة في الدُّنيا، واتَّصلت بيعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فعلم أنَّه ليس في الدنيا من ريح الجنَّة إلاَّ ما كان من ذلك القميص فمن ثمَّ قال: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} وروي أنَّ ريح الصِّبا استأذنت ربَّها أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشيرُ. واعلم أنَّ وصول تلك الرائحة إلى يعقوب من هذه المسافة البعيدة أمر مناقض للعادة فكان ذلك معجزة، ولكن لمن منهما؟ والأقرب أنَّها ليعقوب حيثُ أخبروه عنه، ونسبوه إلى ما لا ينبغي؛ فظهر الأمر كما قال؛ فكانت معجزة لهُ. قال أهل المعاني: إنَّ الله تعالى أوصل ريح يوسف عند انقضاء مدَّة المحنة ومجيء وقت الروح والفرج من المكانِ البعيدِ، ومنع من وصولِ خبره إليه مع قرب إحدى البلدين من الأخرى في مدَّة ثمانين سنة، وذلك يدلُّ على أنَّ كلَّ سهلٍ فهو في زمنِ المحنةِ صعبٌ، وكلَّ صعبٍ في زمنِ الإقبال سهلٌ، ومعنى: {إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ} : أشم، وعبَّر عنه بالوجود؛ لأنه وجدان له بحاسة الشَّمِّ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 208 قوله: {لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ} التَّفنيدُ: الإفسادُ، يقال: فنَّدت فلاناً، أي: أفدستُ رأيه ورددته. قال الشاعر: [البسيط] 3150 - ب يَا صَاحبيَّ دَعَا لَوْمِي وتَفْنِيدِي ... فَليْسَ مَا فَاتَ مِنْ بِمَرْدُودِ ومنه: أفْنَدَ الدَّهرُ فلاناً؛ قال الشاعر: [الطويل] 3151 - دَِ الدَّهْرُ يَفْعَلُ ما أرَاد فإنَّهُ ... إذَا كُلِّفَ الإفْنادَ بالنَّاسِ أفْنَدا والفَنَدُ: الفسادُ؛ قال النابغة: [البسيط] 3152 - إلاَّ سُليْمان إذْ قَالَ الإلهُ لَهُ ... قُمْ فِي البَريِّيةِ فاحْدُدْهَا عنِ الفَندِ والفِنْدُ: شمراخ: «يقالُ: شَيْخٌ مفنَّدٌ، ولا يقال: عجُوزٌ مُفنَّدة؛ لأنَّها لم تكن في شبيبتها ذات رأي فتفنَّد في كبرها وهو غريبٌ» . وجواب «لَوْلاَ» الامتناعية محذوفٌ، تقديره: لصَدَّقْتُمونِي ويجوز أن يكون تقديره: لأخبرتكم. قال ابنُ الأنباريّ: «أفْنَدَ الرَّجلُ: إذا انْحَرفَ، وتغيَّر عَقْلهُ، وفند إذا جهل ونسب ذلك إليه» . وعن الأصمعيِّ قال: إذا كثر كلامٌ الرَّجلِ من خرفٍ فهو الفَنَد والتَّفنيد. فصل قال المفسرون: «لَوْلاَ أن تُفنِّدُون» تسفهون، وعن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: تَجْهلُون، وقال الضحاك: تَهْرَمُون، تقولون: شَيْخٌ كبيرٌ قد خرفَ، وذهب عقلهُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 209 «قَالُوا» : يعني أولاد أولاده {إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم} أي في ذهاب عن طريق الصَّواب. وقال ابن عبَّاس، وابن زيدٍ، لفي خطئك الماضي من حُبِّ يوسف لا تنساه. وقال مقتالٌ الضَّلالُ هنا الشَّقاءُ، يعني: شقاء الدُّنيا، أي: إنَّك في شقائك القديم بما تُكَابدُ من الأحزان على يوسف. وقال قتادة: لفي حُبِّك القديم لا تنساه، ولا تذهل عنه، قال قتادة: لقد قالوا كلمة [غليظة] لم يجز قولها لنبي الله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. وقال الحسن: إنَّما خاطبوه بذلك، لاعتقادهم أنَّ يوسف قد مَاتَ. {فَلَمَّآ أَن جَآءَ البشير} وهو المبِّر، في موضع: «أنْ» قولان: أحدهما: لا محلَّ لها من الإعراب، فقد تذكَّر تارة كما هنا، وقد تحذف كقوله: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع} [هود: 74] . والثاني: قال البصريُّون: هي في موضع رفعٍ بفعلٍ تقديره: فلمَّا ظهر أن جاء البشر أي: ظهر على البشير؛ فأضمر الرَّافع. وقال جمهورُ المفسِّيرين البشيرُ هو يهوذا قال: أنا ذهبتُ بالقميص مُلطَّخاً بالدَّم، وقلت: إنَّ يوسف أكلهُ الذِّئبُ، فأذهب اليوم بقميصه، وأخبره أنه حي فأفرحهُ كما أحزنته، وقيل: البشيرُ مالكُ بنُ دُعْرٍ. قوله: «ألقاهُ» الظَّاهرُ أنَّ الفاعل هو ضمير البشير، وقيل: هو ضمير يعقوب وفي «بَصِيراً» وجهان: أحدهما: حال، أي: يرجع في هذا الحال. والثاني: أنَّه خبرها؛ لأنَّها بمعنى صار عند بعضهم، و «بَصِيراً» من بصُر بالشيء ك «ظَرِيف» من «ظَرُفَ» . وقيل: هو مثالُ مبالغةٍ، ك «عَلِيم» وفيه دلالة على أنَّه لم يذهب بصره بالكلِّية ومعنى الارتداد: انقلابُ الشَّيء إلى حالٍ كان عليها. وقوله: {فارتد بَصِيراً} أي صيَّرهُ اللهُ بصيراً، كما يقال: طالت النَّخلة والله أطالها. قال بعضهم: إنه كان قد عمي بالكلية، فجعله اللهُ بصيراً في هذا الوقت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 210 وقال آخرون: بل كان ضعف بصره من كثرة البكاءِ والحزن، فلمَّا ألقوا القميص على وجهه، وبشَّره بحياةِ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عظم فرحه وانشرح صدرهُ وزالت أحزانه فعند ذلك قَوي بصره، وعادت قُوَّته بعد الضَّعف، وقال: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من حياة يوسف من جهة رُؤيَاه، وهو أنَّ الله يجمع بيننا، وهو إشارةٌ إلى قوله: {قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86] . روي أنَّه قال للبشير: كيف حاله؟ قال: إنَّه ملكُ مصر، قال: ما أصنعُ بالملك، على أي دين تركته؟ قال: على دين الإسلام، قال: الآن تمَّت النِّعمة. ثمَّ إن أولاد يعقوب أخذوا يعتذرون، و {قَالُواْ ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي} فوعدهم بأنه يستغفر لهم. قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أخَّر الاستغفار لهم إلى وقتِ السَّحر، وهو الوقت الذي يقول الله فيه: {هل من داع فأستجيب له} . وروي عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما رواية أخرى: أنَّه أخَّر الاستغفار إلى ليلة الجمعة؛ لأنَّها أوفق الأوقات لرجاءِ الإجابة. وقيل: أخَّر الاستغفار ليعلم هل تابوا حقيقة أم لا؟ وهل أخلصوا في التَّوبة أم لا؟ . وقيل: استغفر لهم في الحالِ، ومعنى: {سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ} أي أداوم على الاستغفار في المستقبل. وروي: أنه كان يستغفر لهم في كلِّ ليلةِ جمعةٍ في نيّق وعشرين سنة. روي أنَّ يوسف بعث مع البشير إلى يعقوب مائتي راحلة، وجهازاً كثراً، لياتوا بيعقوب وأهله وولده، فخرجوا وهم اثنان وسبعون ما بين رجل وامرأة، فلمَّا دنا من مصر كلَّم يوسف الملك الذي فوقه، فخرج يوسف، والملك في أربعة آلاف من الجُندِ، وركب أهل مصر معهما فتلقوا يقعوب، وهو يتوكأ على يهوذا ماشياً؛ فنظر إلى الجبل، وإلى الناس فقالوا: يا يهوذا: هذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ابنُك يوسفُ، فلمَّا تدانيا ذهب يوسف يبدأ بالسَّلام، فقال جبريل عليه السلام: لا حتّى يبدأ يعقوب بالسلام، فقال يعقوب: السَّلام عليك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 211 قال الثوريُّ: لما التقَى يعقوب ويوسف صلوات الله وسلامه عليهما عانق لك واحد منهما صاحبه وبكيا، فقال يوسف: يا أبتِ! بكيت عليَّ حتى ذهب بصرك، ألم علم أنَّ القيامة تجمعنا؟ قال: بلى يا بُنَيّ، ولكن خشيت أن تسلب دينك، فيحال بيني وبينك. قيل: دخل يعقوب وولده مصر، وهم اثنان وسبعون ما بين رجل، وامرأة، وخرجوا منها مع موسى، والمقاتلون ستمائة ألف وخمسمائة وبضع وسبعون رجلاً يوى الصبيان والشيوخ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 212 قوله: {فَلَمَّا دَخَلُواْ على يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} الآية قال أكثر المفسرين المراد: أبوه خالته «ليَّا» وكانت أمه قد ماتت في نفاسها بنيامين وقال الحسنُ: أبوه وأمه، وكانت حية. وروي: أنَّ الله تعالى أحيَا أمّه حتَّى جاءت مع يعقوب إلى مصر حتَّى سجدت له تحقيقاً لرؤيا يوسف. وقيل: إن الخالة أم كما أنَّ العم أبٌ، قال تعالى: {إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} [البقرة: 133] ، ومعنى {آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ} ضمهما إليه، واعتنقهما. فإن قيل: ما معنى دخولهما عليه قبل دخولهم مصر؟ . فالجواب: أنَّهُ حين استقبلهم أنزلهم في خيمة، أو بيت هناك، فدخلوا عليه وضم إليه أبويه وقال: {ادخلوا مِصْرَ إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} ، أي: أقيموا بها آمنين، سمَّى الإقامة دخولاً؛ لاقتران أحدهما بالآخر. قال السديُّ في هذا الاستثناء قولان: الأول: أنه عائدٌ إلى الأمن إلى الدخول، والمعنى: ادخلوا مصر آمنين إن شاء الله، كقوله تعالى: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله آمِنِينَ} [الفتح: 27] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 212 وقيل: إنَّه عائدٌ إلى الدُّخول كما تقدَّم. وقيل: «إنْ» هنا بمعنى: «إذْ» يريدُ: إ ن شاء الله، كقوله: {وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: 139] أي: إذ كنتم مؤمنين. ومعنى قوله: «آمِنينَ» أي على أنفسكم، وأموالكم، وأهليكم لا تخافون أحداً، وكان فيما سلف يخافون ملك مصر، وقيل: آمنين من القحطِ والشّدة وقيل آمنين من أن يضرهم يوسف بالجرم السالف. {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ} من باب التَّغليب، يريد: أباه وأمه أو خالته {عَلَى العرش} قال أهل اللغة: العرشُ: السَّريرُ الرَّفيعُ، قال تعالى: {وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23] . والرفع: هو النقل إلى العلو، و «سُجَّداً» حال. قال أبو البقاء: «حال مقدرةٌ؛ لأنَّ السجود يكن بعد الخُرُورِ» . فإن قيل: إن يعقوب عليه السلام، كان أبا يوسف فحقُّه عظيم، قال تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] فقرون حق الوالدين بحق نفسه، وأيضاً: فإنَّه كان شيخاً كبيراً [والشاب] يجبُ عليه تعظيم الشيخ وأيضاً: كان من أكابر الأنبياء، ويوسف، وإن كان نبياً إلا أن يعقوب كان أعلى حالاً منه. وأيضاً: فإن جدّ يعقوب، واجتهاده في تكثير الطّاعات أكثر من جد يوسف، واجتماع هذه الجهات الكثيرةِ يوجب المبالغة في خدمة يعقوب، فكيف استجاز يوسف أن يسجد له يعقوب؟ . فالجواب من وجوه: الأول: روى عطاءٌ عن ابن عبَّاسٍ: أنَّ المراد بهذه الآية أنهم خرُّوا سجداً لأجل وجدانه، فكيون سجود شكر لله تعالى لأجل وجدانه يوسف، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} . وذلك يشعر بأهم صعدوا على السرير، ثمَّ سجدوا لله، ولو أنهم سجدوا ليوسف لسجدوا له قل الصُّعود على السَّرير؛ لأنَّ ذلك أدخل في التَّواضع. فإن قيل: هذا التَّأويلُ لا يطابق قوله: {ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} [يوسف: 100] . والمراد منه قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] قيل: معناه لأجلي، لطلب مصلحتي، وللسعي في إعلاء منصبي، وإذا احتمل هذا سقط السؤال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 213 الثاني: أن يقال: إنهم جعلوا يوسف كالقبلة وسجدوا لله شكراً لنعمته. وهذا تأويلٌ حسنٌ، فإنه يقال: صليت للكعبة كما يقال: صليتُ إلى الكعبة؛ قال حسَّانُ رَحِمَهُ اللَّهُ: [البسيط] 3153 - ألَيْسَ أوَّل من صَلَّى لِقبْلتِكُمْ ... وأعْرَفَ النَّاس بالآثَارِ والسُّنَنِ فدلَّ على أنَّه يجوز أن يقال: فلانٌ صلَّى للقلبةِ، فكذلك يجوز أن يقال: سجد لِلْقِبْلةِ. وقوله: {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} أي جعلوه كالقبلة ثمَّ سجدوا لله شكراً لنعمة وجدانه. الثالث: التَّواضع يسمى سجوداًح كقوله: [الطويل] 3154 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... تَرَى الأكْمَ فِيهَا سُجَّداً للحَوَافِرِ فالمراد هنا التَّواضعُ، وهذا يشكلُ بقوله تعالى: {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} والخرور مشعر بالإتيان بالسُّجود على أكمل الوجوه. وأجيب: بأنَّ الخرور يعني به المرور فقط، قال تعالى: {لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً} [الفرقان: 73] يعنى: لم يمروا. الرابع: أن يقال الضمير في قوله: {وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً} عائد إلى إخوته وإلى سائر من كان يدخل عليه لأجل التَّهنئةِ، والتقدير: ورفع أبويه على العرش مبالغة في تعظيمها، وأمَّا الإخوةُ وسائر الدَّاخلين، فخروا له ساجدين. فإن قيل: هذا لا يلائم قوله: {ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ} . فالجواب: أن يعتبر الرُّيؤيا لا يجب أن يكون مطابقاً للرُّؤيا بحسب الصُّورةِ، والصِّفة من كُلِّ الوجوه، فسجودُ الكواكب والشَّمس والقمر معبر بتعظيم الأكابر من النَّاس ولا شك أنَّ ذهاب يعقوب من كنعان مع أولاده إلى مصر نهاية التعظيم له، فكفى هذا القدر من صَّحة الرُّؤيا، فأمَّا كون التَّعبير مساوياً في الصُّورةِ والصِّفة، فلم يوجبه أحد من العقلاءِ. الخامس: لعلَّ الفعل الدَّال على التَّحية في ذلك الوقت، كان هو السُّجودُ وكان مقصودهم من السجود تعظيمه، ثمَّ نسخ ذلك في شرعنا. وهذا بعيد؛ لأنَّ المبالغة في التَّعظيم كانت أليق بيوسف منها بيعقوب، فلو كان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 214 الأمر كما قلتم، لكان من الجواب أن يسجد يوسف ليعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. السادس: لعلَّ إخوته حملتهم الأنفة، والاستعلاءُ على ألاّ يسجدو له على سبيل التَّواضع، وعلم يعقوب أنهم إن لم يفعلوا ذلك لصار ذلك سبباً لثوران النَّفس، وظهور الأحقاد القديمة بعد كُمونِها، فيعقوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع جلالته وعظم قدره بسبب الأوبة والشَّيخوخة، والتَّقدُّم في الدِّين، والعلم، والنبوة فعل ذلك السُّجود حتَّى تصير مشاهدتهم لذلك سبباً لزوال تلك الأنفة، والنفرة عن قلوبهم. السابع: لعلَّ الله تعالى أمر يعقوب بتلك السَّجدة لحكمة خفية لا يعلمها إلا هو [كما أمر الملائكة بالسجود لآدم صلوات الله وسلامه عليه لحكمة لا يعلمها إلا هو] ، ويوسف ما كان راضياً بذلك في قلبه إلا أنَّه لما علم أنَّ الله أمره بذلك سكت. ثم إنَّ يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لما رأى هذه الحالة: {وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} ، وهي قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} [يوسف: 4] وهاذ يقوّي الجواب السَّابع. والمعنى: أنَّه لا يليق بمثلك على حالتك، في العلم، والدين، والنبوة أن تسجد لولدك إلا أنَّ هذا أمر أمرت به، وأن رؤيا الأنبياء حقٌّ، كما أنَّ رؤيا إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ذبح ولده كان سبباً لوجوب ذلك الذبح عليه في اليقظةِ، لذلك صارت هذه الرُّؤيا التي رآها يوسف سبباً لوجوب السُّجودِ على يعقوب. قوله: {مِن قَبْلُ} يجوز أن يتعلق ب «رُؤيَايَ» أي تأويل رؤياي في ذلك الوقت ويجوز أن يكون العامل فيه: «تأوِيلُ» ؛ لأن التَّأويل كان من حين وقوعها هكذا والآن ظهر له، ويجوز أن يكون حالاً من: «رُؤيَايَ» قاله أبو البقاء. وقد تقدَّم أنَّ المقطوع عن الإضافة لا يقع حالاً. قوله: {قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} حال من: «رُؤيَايَ» ، ويجوز أن تكون مستأنفة وفي «حَقًّا» وجوه: أحدها: أنه حال. والثاني: أنه مفعول ثانٍ. والثالث: أنه مصدر مؤكد لفعل من حيث المعنى، أي: حقَّقها ربي حقاً بجعله. قوله: «أحْسنَ بِي» «أحْسنَ» أصله أن يتعدَّى بإلى، قال تعالى: {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} [القصص: 77] فقيل: ضمن معنى: «لَطفَ» متعدّياً بالباءِ، كقوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} وقول كثير عزَّة: [الطويل] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 215 3155 - أسِيئِي بِنَا، أو أحْسِنِي لا مَلُومةً ... لَديْنَا ولا مَقْليَّةً إنْ تَقلَّتِ وقيل: بل يتعدى بها أيضاً، وقيل: هي بمعنى «إلى» وقيل: المفعول محذوف. تقديره: أحسن صنعه بِى، ف: «بي» متعلقة بذلك المحذوف، وهو تقدير أبي البقاءِ. وفيه نظرٌ؛ من حيث حذف المصدر، وإبقاء معموله، وهو ممنوع عند البصريين. و «إذْ» منصوب ب «أحْسَنَ» ، أو المصدر المحذوف، قاله أبو البقاء وفيه النظر المتقدِّمُ. والبَدْوُ: ضد الحضارة، وهو من الظُّهورِ، بَدَا يَبْدُوا: إذ سكن البادية. يروى عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «إذَا بَدوْنَا جَفوْنَا» أي: تخلقنا بأخلاق البدويين. قال الواحديُّ: البدو بسيطٌ من الأرض يظهرُ فيه الشخص من بعيدٍ، أصله من بَدَا يَبْدُوا بَدْواً، ثم سمي المكان باسم المصدر، ويقال:: بَدْوٌ وحَضَرن وكان يعقوب وولده بأرض كعنان أهل مواشٍ وبريَّةٍ. وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: [كان يعقوب قد تحوَّل إلى بدا وسكنها] ومنها قدم على يوسف، وبها مسجد تحت جبلها. قال ابن الأنباري «بدا» اسم موضع معروف، ياقل: بين شعيب عليه السلام وبدا، وهما موضعان ذكرهما جميعاً كثيرٌ: [الطويل] 3156 - وأنْتِ الَّتِي حَبَّبْتِ شَعْباً إلى بَدَا ... إليَّ وأوْطَانِي بِلادٌ سِواهُمَا والبدو على هذا القول معناه: قصد هذا الموضع الذي يقال له بدا، يقال: بَدَا القَوْمُ بدواً إذا أتوا بَدَا، كما يقال: غَارَ القوم غَوْراً، إذا أتوا الغُوْر، وكان معنى الآية: وجاء بكم من قصد بدا، وعلى هذا القول كان يعقوب، وولده حضريِّين، لأن البدو لم يرد به البادية لكن عني به قصد بدا. فصل اعلم أن قوله {ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً} وهو قوله: {إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً} [يوسف: 4] ، {وَقَدْ أَحْسَنَ بي} أنعم عليَّ {إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن} ولم يقل من الجُبّ مع كونه أشدّ من السجن استعمالاً للكرم كيلا تخجل إخوته بعدما قال: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 216 اليوم} [يوسف: 92] ولو ذكر الجبّ كان تثريباً لهم؛ ولأن نعمة الله عليه في أخراجه من السجن أعظم؛ لأنَّه بعد الخروج من الجُبّ صار إلى العبودية والرق وبعد الخروج من السجن صار الملك ولأنه لما خرج من الجُب وقع في المضار بسبب تهمة المراة، ولما خرج من السِّجن، وصل إلى أبيه وإخوته وزالت عنه التُّهمة. وقال الواحديُّ: «النِّعمة في إخراجه من السجن أعظم؛ لأنَّ دخوله في السجن كان بسبب ذنب هَمَّ به، وهيا ينبغي أن يحمل على ميل الطبع، ورغبة النَّفس، وهذا وإن كان في محل العفو في حقّ غيره إلا أنه كان سبباً للمؤاخذة في حقه؛ لأنَّ حسناتِ الأبرار سيئاتُ المقربين» . فصل دلَّت هذه الآية على أنَّ فعل العبد خلق الله تعالى؛ لأنَّه أضاف إخراجه من السجن إلى [الله تعالى] ومجيئهم من البدو إليه، وهذا صريحٌ في أن فعل العبد فعل الله تعالى فإن حملوه على أن المراد أن ذلك إنَّما حصل بإقدار الله، وتدبيره، فذلك عدولٌ عن الظَّاهر. ثم قال: {مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان} أفسد وأغوى، وأصله من نَزَغَ الرَّاكض الدَّابة حملها على الجَرْي إذا نخسها. احتجَّ الجبائيُّ، الكعبيُّ، والقاضي أبو إسحاق بهذه الآية: على بُطلانِ الجبر قالوا لأنه تعالى، أخبر عن يوسف ت عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه أضاف الإحسان إلى الله تعالى وأضاف النَّزْغَ إلى الشِّيطان، ولو كان ذلك أيضاً من الرحن، لوجب أن لا ينسب إلا إليه كما في النعمة. الجواب: أنَّ إضافة هذا القول إلى الشيطان مجاز؛ لأنَّ عندكم الشِّيطان لا يتمكنَّن من الكلام الخفيّ، كما أخبر الله عنه، فقال: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي} [إبراهيم: 22] فظاهر القرآن يقتضي إضافة هذا الفعل إلى الشيطان مع أنه ليس كذلك، وأيضاً: فإن كان إقدام المرءِ على المعصية بسبب الشِّيطان، فإقدام الشيطان على المعصية إن كان بسبب شيطان آخر؛ لزم التسلسل وهو محالٌ، وإن لم يكن بسبب شيطان آخر، فليقل مثله في حق الإنسان، فثبت أن إقدام المرء على الجهل والفسق بسب الشيطان وليس بسبب نفسه لأن أحداً لا يميل طبعه إلى اختيار الجهل الفسق الذي يوجب وقوعه في الذَّم في الدُّنيا، وعذاب الآخرة ولما كان وقوعه في الكفر، والفسق لا بد له من موقع، وقد بطل القسمان لم يبق إلا أن يقال: ذلك من الله تعالى ويؤيد ذلك قوله: {أَخْرَجَنِي مِنَ السجن وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو} وهذا صريحٌ في أنَّ الكل من الله تعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 217 ثم قال: {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ} «لطيف» أصله أن يتعدَّى بالباء، وإنَّما يتعدى بللاَّم لتضمنه معنى مدبر، أي: أنت بلطفك لما تشاءُ. والمعنى: أنه ذو لطف لما يشاء، وقيل: بمن يشاء، وحقيقته أللُّطفِ: الذي يوصل الإحسان إلى غيره بالرفق. والمعنى: أن اجتماع يوسف، وإخوته مع الأُلْفِ، والمحبَّة، وطيب العيشِ، وفراغ البال كان في غاية البُعدِ عن العقول، إلا أنه تعالى لطيفٌ، فإذا أراد حصول شيءٍ سهل أسبابه، فحصل، وإن كان في غايةِ البعدِ عن الحصولِ. {إِنَّهُ هُوَ العليم الحكيم} يعني أنَّ كونه لطيفاً في أفعاله إنَّما كان لأنه عليم بجميع الاعتبارات الممكنة التي لا نهاية لها، فيكون عالماً بالوجه الذي يسهل تحصيل ذلك الصعب. فصل اختلفوا في مقدار الوقت ما بين الرُّؤيا واجتماعهم. فقيل: ثمانون سنة، وقيل: سبعون، وقال الأكثرون: أربعون، ولذلك يقولون: إنَّ تأويل الرُّؤيا إنَّما صحَّت بعد أربعين سنة. وقيل: ثماني عشرة سنة وبقي في العبودية، والملك، والسجن ثمانين سنة، ثمَّ وصل إليه أقاربه، وعاش بعد ذلك ثلاثاً وعشرين سنة. وقال: أقام يعقوبُ بمصر عند يوسف أربعاً وعشرين سنة، ثم مات بمصر، فلما حضرته الوفاة أوصى ابنه يوسف أن يحمل جسده حتى يدفن عد أبيه إسحاق، ففعل يوسف ومضى به حتَّى دفنه بالشَّام، ثم رجع إلى مصر. قال سعيد بن جبيرٍ: نُقل يعقوب في تابوت من ساج إلى بيت المقدس فوافق ذلك يوم مات عيصُو، فدفنا في قبرٍ واحدٍ، وكانا ولدا في بطنٍ واحدٍ، وكان عمرهما مائة وسبعة وأربعين سنة، وعاش يوسف بعد ذلك عشرين سنة، وقيل: ستين سنة ومات وهو ابن مائة عشرين سنة، وفي التوراة مائة وعشرين، وولد له إفرائيم، وميشا وولد لإفرائيم نو، ولاوي، ويوشع فتى موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ورحمة امرأة أيوب عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وأنه تمنى الموت. وقيل: ما تمنَّاه نبيُّ قبله، ولا بعده فتوفَّاه الله طيباً طاهراً، فتخاصم أهل مصر في دفنه كل أحد يحبُّ أن يدفنه في محلتهم، فرأوا أن الأصلح أن يعمل له صندوقاً من مرمر، ويجعلوه فيه، ويدفنوه في النِّيل ليمر الماء عليه، ويصل إلى مصر، وبقي هناك إلى أن بعث موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فأخرج عظمه من مصر، ودفنه عند أبيه. قوله تعالى: {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك} الآية قرأ عبد الله: (آتيتن وعملتن) بغير الجزء: 11 ¦ الصفحة: 218 ياء فيهما. وحكى ابنُ عطية أن أبا ذر قرأك «أتَيْتَنِي» بغير ألف بعد الهمزة، و «مِن» في «مِنَ المُلْكِ» ، وفي: «مِنْ تَأويلِ» للتبعيض والمفعول محذوف أي: عظيماً من الملك، فهي صفة لذلك المحذوف. وقيل: زائدة. وقيل: لبيان الجنس، وهذان بعيدان. و «فَاطِرَ» يجوز أن يكون نعتاً ل «ربِّ» ويجوز أن يكون بدلاً أو بياناً، أو منصوباً بإضمار أعني أو نداء ثانياً. فصل لما جمع الله شمل يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ عَلِمَ أنَّ نعيم الدُّنيا لا يدوم فسأل الله حسن العاقبة، فقال: {رب قد ءاتيتني من الملك} يعني ملك مصر، والملك اتساع المقدور لمن له السياسة، والتدبير. {وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث} يعني تعبير الرؤيا. قوله: {فَاطِرَ السماوات والأرض} يعني: يا فاطر السموات والأرض، أي: خالقهما قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: ما كنت أدري ما معنى الفاطر حتى احتكم إليَّ اعرابيان في بئر، فقال أحدهما: أنا فَطرتَهَا وأنا ابْتدأت حَفْرهَا. وقل أهلُ اللغة: أصلُ الفَطْر: الشَّقُّ، يقال: فطرت نابُ البعير، إذا بدا، وفطرتُ الشَيء، فانفطر، إذا شَقَقْتهُ، فانشقَّ، وتفطَّرتِ الأرض بالنَّبات والشَّجر بالورق، إذا تصدَّعتْ. هذا أصله في اللغة، ثمَّ صارت عبارة عن الإيجاد؛ لأنَّ ذلك الشيء في حال عدمه كأنَّه في ظلمة وخفاءٍ، فلمَّا دخل في الوجود، صار كأنَّه انشقَّ، وخرج ذلك الشيء منه. {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} أي: اقبضني إليك مسلماً، وألحقين بالصالحين يريد بآبائي النبيين. قال قتادة: لم يسأل نبيٌّ من الأنبياء الموت إلا يوسف، وبه قال جماعة من المفسرين. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في رواية عطاء: يريد: إذا توَفَّيْتني، فتوفَّني على الإسلام. فصل دل قوله {تَوَفَّنِي مُسْلِماً} على أنَّ الإيمان من الله؛ لأنَّه لو كان من العبد، لكان تقديره: كأنَّه يقول: افعل يا مَنْ لا يَفْعَل. قالت المعتزلة: إذا كان الفعل من الله، فكيف يجوزُ أن يقال للعبد: افعل مع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 219 أنَّك لست فاعلاً؟ فيقال لهم: إذا كان تحصيل الإيمان، وابقاؤه من العبد لا من الله، فكيف يطلب ذلك من الله تعالى. قال الجبائي والكعبي: معناه: أطلب اللُّطف في الإقامة على الإسلام إلى أن أموت عليه، وهذا الجواب ضعيفٌ، لأن السؤال وقع عن الإسلام، فحمله على اللطف عدول عن الظاهر، وأيضاً: فكُلّ ما كان في مقدور الله من الإلطاف، فقد فعله، كان طلبه من الله محالاً. فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام يعلمون أنَّهم يموتون لا محالة على الإسلام، فكان هذا الدُّعاء طلباً لتحصيل الحاصل، وأنَّه لا يجوز. فالجواب: أن كمال حال المسلم: أن يستسلم لحكم الله على وجه يستقرُّ قلبه على ذلك الإسلام، ويرضى بقضاء الله، وتطمئن النفس، وينشرح الصدر في هذا الباب، وهذه حالةٌ زائدة عن الإسلام الذي هو ضدُّ الكفر، والمطلوب هاهنا هو الإسلام بهذا المعنى. فإن قيل: إن يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ كان من أكابر الأنبياء، والصَّلاح أول درجات المؤمنين؛ فالواصل إلى الغية كيف يليق به أن يطلب البداية؟ . قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وغيره: يعني ب «آبَائهِ» : إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. والمعنى: ألحقني بهم في ثوابهم، ودرجاتهم، ومراتبهم. «روي عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، عن جبريل عليه السلام عن ربِّ العزَّة قال:» مَنْ شغلهُ ذِكرِي عَن مَسْألتِي أعْطَيتهُ أفضلَ ما أعْطِي السَّائلين «. فلهذا من أراد الدعاء، لا بُدَّ وأن يقدِّم عليه الثَّناء على الله تعالى فههنا يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ لمَّا أراد الدعاء قدَّم عليه الثناء، فقال {رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث فَاطِرَ السماوات والأرض أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة} ثم دعا عقبه، فقال: {تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين} وكذلك فعل إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فقال: {الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 78] إلى قوله: {يَوْمَ الدين} [الشعرا: 82] فهذا ثناءٌ ثمَّ قال: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً} [الشعراء: 83] إلى آخر كلامه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 220 قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب} الآية «ذَلِكَ» : مبتدأ و {مِنْ أَنْبَآءِ الغيب} : خبره، و «نُوحِيهِ» : حالٌ، ويجوز أن يكون خبراً ثانياً، أو حالاً من الضمير في الخبر، وجوز الزمخشري: أن يكون موصولاً بمعنى: الذي، وتقدَّم نظيهر، والمعنى: ذلك الذي ذكرت من أنباء الغيب نوحيه إليك، وما كنت يا محمَّد عند أولاد يعقوب، {إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ} أي عزموا على إلقاء يوسف في الجبِّ، وما كنت هناك، ذكره على وجه التَّهكُّم، وتقدَّم الكلام على هذا اللفظ عند قوله: {فأجمعوا أَمْرَكُمْ} [يونس: 71] وقوله: {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} أي: بيوسف والمقصود من هذا إخبار عن الغيبن فكيون معجزاً؛ لأنَّ محمداً صلوات الله وسلامه عليه لم يطالع الكتب، ولم يتلمذْ لأحد، ما كانت بلدته بلدة العلماء؛ فإتيانه بهذه القصَّة الطويلة، على وجه لم يقع فيها تحريف، ولا غلطٌ من غير مطالعةٍ، ولاتعلم، كيف لا يكون معجزاً؟ . روي أن اليهود وقريشاً سألوا رسو الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قصَّة يوسف؛ فلما أخبرهم على موافقة التَّوراة لم يسلموا، فحزن النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقيل: إنهم لا يؤمنون، ولو حرصت على إيمانهم. قوله {وَهُمْ يَمْكُرُونَ} : حال، {وَلَوْ حَرَصْتَ} معترض بين «مََا» وخبرها، وجواب مقدَّماً عليها، فلا يجوز أن يقال: «قُمْتُ لو قمُتَ» . وقال الفراء في «المصادر» : حَرَصَ يَحْرِصً حِرْصاً، وفي لغة أخرى: حَرِصَ يَحْرَصُ حَرْصاً، ومعنى الحَرْص: طلب الشيء بأقصى ما يكون من الاجتهاد، {إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} : حالٌ. قوله {وَمَا تَسْأَلُهُمْ} على تبليغ الرِّسالة، والدُّعاء إلى الله عزَّ وجلَّ «مِنْ أجْرٍ» جعلوا خبر «إن» هو «مَا» أي: القرآن، «إلاَّ ذِكْرٌ» : عظة وتذكير «للْعَالمِينَ» . ثم قال: «وَكَأيِّنْ» : وكم، «من آيةٍ» : عبرة ودلالة، {فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا} : لا يتفكرون فيها ولا يتعبرون. واعلم: أن دلائل التَّوحيد، والعلم، والقدرة، والحكمة والرحمة لا بد وأن تكون من أمور محسوسة، وهي: إما الأجرام الفلكيَّة، وإما الأجرام العنصرية. أما الأجرام الفلكيَّة فهي قسمان: إما الأفلاك، وإما الكواكب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 221 فأما الأفلاك فقد يستدل بمقاديرها المعينة على وجود الصَّانع، وقد يستدل بكون بعضها فوق بعضه أو تحته، وقد يستدلُّ بحركتها، إمَّا بسرعة حركتها، وإمَّا باختلاف جهة تلك الحركات. وأمَّا الأجرام الكوكبيَّة، فتارة تدلُّ على وجود الصَّانع بمقاديرها، وأجرامها، وحركاتها في سرعتها وبطئها، وتارة بألوانها وأضوائها، وتارة بتأثيراتها في حصول الأضواء والظلال. وأما دلائل الأجرام العنصرية: فإمَّا أن تكون مأخوذة من بسائطها، وهو البر والبحر، وإما مأخوذ من [المواليد] ، وهي أقسام: أحدها: العلويِّة كالرعد، والبرق، والسَّحاب، والمطر، والثلج، والهواء، وقوس قُزَح. وثانيها: المعادن على اختلاف طابعئها وصفاتها، وكيفياتها. وثالثها: النَّبات وخاصيَّة الخشب والورق بخصوصه. ورابعها: اختلاف حال الحيوانت في أشكالها، وطبائعها، وأصواتها، وخلقها. وخامسها: تشريح أبدان الناس، وتشريح القوى الإنسانية، وبيان المنافع الحاصلة منها، ومن هذا الباب أيضاً قصص الأولين والملوك الذين استولوا على الأرض، وقهروا العباد، وخربوا البلاد. ماتوا ولم يبق لهم في الدنيا خبر، ثم بقي الوزرُ والعقاب عليهم، قال ابن الخطيب: فلهذا ضبط أنواع هذه الدَّلائل. فصل الجمهور على جر الأرض عطفاً على السموات، والضمير في «عَلَيْهَا» للآية، فيكون «يمُرُّون» صفة للآية، وحالاً لتخصُّصها بالوصف بالجر. وقيل: يعود الضمير في «عَليْهَا» للأرض فيكون «يمُرُّون عليها» حالاً منها. وقال أبو البقاء: وقيل: منها ومن السَّموات، أي: يكون الحال من الشيئين جميعاً، وهذا لا يجوز؛ إذا كان يجب أن يقال: عليهما، وأيضاً: فإنهم لا يمرُّون في السَّماوات إلا أن يراد: يمرّون على آياتها، فيعود المعنى على عود الضمير للآية، وقد يجاب عن الأول بأنه من باب الحذف؛ كقوله تعالى: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] . وقرأ السديُّ: «والأرْضَ» بالنَّصب، ووجهه أنه من باب الاشتغال، ويفسَّر الفعل بما يوافقه معنى، أي: يطوفون الأرض، أو يسلكون الأرض. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 222 «يمُرُّون علَيْهَا» كقولك: زَيْداً مررتُ بِهِ، وقرأ عكرمة، وعهمرو بن فايد: «والأرْضُ» على الابتداء، وخبره الجملة بعده، والضمير في هاتين القراءتين يعود على الأرض فقط. قوله {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ} والمعنى: أنَّهم كانوا مقرِّين بوجود الإله، قال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [الزمر: 38] إلا أنَّهم كانوا [يُثْبِتُون] له شريكاً في العبودية. وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: نزلت في تلبية المشريكن من العرب، كانوا يقولون: «لَبِّيكَ اللَّهُمَّ لبَّيْكَ، لبَّيْكَ لا شريكَ لَكَ إلاَّ شرِيكاً هو لَكَ تمْلِكهُ ومَا مَلَك» . وعن عطاء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه هذا في الدعاء، قال تعالى: {وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [يونس: 22] {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] . وعن ابن عبَّاس: إن أهل مكة قالوا: الله ربَّنا لا شريك له، والملائكة بناتُه، فلم يوحِّدوا بل أشركوا، وقالت اليهود: ربُّنا الله وحده، وعزيزٌ ابن الله، وقالت النصارى: الله وحده، والمسيح ابن الله. واحتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان: عبارة عن الإقرار باللسان فقط؛ لأنه تعالى حكم بكونهم مؤمنين مع أنَّهم مشركون، وذلك يدلُّ على أن الإيمان عبارةٌ عن مجرَّد الإقرار، وجوابه معلُوم. قوله تعالى: {أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله} : عقوبة تغشاهم، وتنبسط عليهم، وتغمرهم. {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} . قرأ أبو حفص، ومبشر بن عبد الله: {أَوْ تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً} بالياء من تحت؛ لأنه مؤنَّث مجازي؛ وللفصل أيضاً، و «بَغْتَةً» : نصب على الحال، يقال: بغَتهُمُ الأمْرُ بغتاً وبَغْتَةً، إذا فاجأهم من حيث لم يتوقَّعوا. وقوله: {وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ} الناصب لقوله: «بغْتَةً» . قوله : {قُلْ هذه سبيلي} الآية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 223 قل يا محمد هذه الدعوة التي أدعو إليها، والطريقة التي أنا عليها ومثله: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 135] والسَّبيل في أصل اللغة: الطريق، ثم شبهوا بها التعبُّدات؛ لأن الإنسان يمر عليها إلى الجنَّة. قوله: {أَدْعُو إلى الله} يجوز أن يكون مستأنفاً، وهو الظاهر، وأن يكون حالاً من الياءِ، و {على بَصِيرَةٍ} حال من فاعل «أدْعُوا» أي: أدعوا كائناً على بصيرةٍ. وقيل: تمَّ الكلام عند قوله: {أَدْعُو إلى الله} ثم استأنف {على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني} . قوله {وَمَنِ اتبعني} عطفٌ عليه، أي: على فاعل «أدْعوا» ولذلك أكد بالضمير المنفصل، ويجوز أني كون متبدأ، والخبر محذوف، أي: ومن اتَّبعني يدعو أيضاً، ويجوز أن يكون «عَلَى بَصِيرةٍ» : خبراً مقدماً، و «أنَا» : مبتدأ مؤخر، و «مَنِ اتَّبعَنِي» عطف عليه أيضاً، ومفعول «أدْعُوا» يجوز أن لا يراد، أي: أنا من أهل الدُّعاء إلى الله، ويجوز أن يقدَّر: أن أدعواالناس. وقرأ عبد الله: «هذَا سَبِيلِي» بالتَّذكيرن وقد تقدَّم [الأنعام: 55] أنه يذكَّر ويؤنَّث. فصل والمعنى: أدْعُوا إلى شالله على بصيرةٍ على يقين، والبصيرةُ: هي المعرفة التي يميز بها بين الحقِّ والباطل، وهي الحجَّة والبرهان، «أنَا ومَنِ اتَّبعَنِي» : آمَنَ بي، وسار في طريقي، وسيرهُ: اتِّباع الدَّعوة إلى الله عزَّ وجلَّ. قال الكلبيُّ، وابنُ زيد: حقٌّ على من اتَّبعه أن يدعو إلى ما دعى إليه ويذكِّر بالقرآن. قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يعني: أصحاب رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا على أحسن طريقةٍ، وأقدص هداية معدن العلم، وكنز الإيمان وجند الرَّحمن. قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «العُلمَاءُ أمَناءُ الرُّسلِ على عِبَادهِ، حيثُ يَحْفَظُونَ ما يدْعُونَ إليْهِ» . ثم قال {وَسُبْحَانَ الله} أي: وقل: سبحان الله تنزيهاً عمَّا يشركون. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 224 {وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين} الذين اتَّخذوا من الله ضدًّا وندًّا. وهذه الآية تدلُّ على أنَّ علم الأصول حرفة الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، وأن الله تعالى ما بعثهم إلى الخلقِ إلا لأجلها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 225 قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} الآية: وهذا يدلُّ على أنَّه ما بعث رسولاً إلى الخلق من النِّسوان، ولا من أهل البادية، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ بَدَا جَفَا» . قول: «نُوحِي» العامة معلى «يُوحَى» بالياء من تحت مبنيًّا للمفعول. وقرأ حفص: «نُوحِي» بالنون، وكسر الحاء مبنيًّا للفاعل، اعتبارا بقوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا} [النحل: 43] وكذكل قرا ما في النحل، وأوَّل الأنبياء، ووافقه الاخوان على قوله: {نوحي إِلَيْهِمْ} في الأنبياء على ما سيأتي إن شاء الله تعالى والجملة صفة ل «رِجَالاً» و {مِّنْ أَهْلِ القرى} صفة ثانيةٌ، وكان تقديم هذه الصِّفة على ما قبلها أكثر استعمالاً، لأنَّها أقرب إلى المفرد، وقد تقدَّم تحريره في المائدة. فصل قوله: {مِّنْ أَهْلِ القرى} أي من أهل الأمصار دون أهل البوادي؛ لأن أهل الأمصار أعقل وأفضل وأعلم وأحلم. قال الحسن: لم يبعث الله نبيًّا من أهل البادية ولا من الجن ولا من الملائكة وقيل إنما لم يبعث من أهل البادية لغلظهم وجفاهم كا تقدَّم. {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض} يعني: [هؤلاء] المشركين المكذبين، {كَيْفَ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 225 كَانَ عَاقِبَةُ} : آخر أمر، {الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعنى: الأمم المكذِّبين فيعتبروا، {وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا} يقول سبحانه وتعالى: هذا فعلنا بأهل ولا يتنا وطاعتنا أن نُنجِّهم عند نزول العذاب، وما في الدرار الآخرة لهم خير، فترك ذلك اكتفاء به لدلالة الكلام عليه، والمعنى: ولدار الحالِ الآخرة. وقيل: هو إضافة الشيء إلى نفسه؛ كقوله: {إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95] ، وكقولهم: يومُ الخَميِسِ، وربيعُ الآخر، {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} فتؤمنون، قرأ نافع، وابن عامرٍ، ورواية عن عاصم: «تَعْقِلُون» بتاء الخطاب، والباقون بياء الغيبة. قوله تعالى: {حتى إِذَا استيأس الرسل} الآية. ليس في الكلام شيء يكون، «حتَى» غاية له؛ فلذلك اختلفوا في تقدير شيءٍ يصحُّ حلعه مغيًّا ب «حتَّى» . فقدره الزمخشري: ما أرسلنا من قبلكَ رجالاً، فتراخى نصرهم حتَّى. وقدره القرطبيُّ: ما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالاً، ثم لم نعاقب أممهم بالعقاب حتَّى إذا. وقدره ابن الجوزي: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً، فدعوا قومهم فكذَّبوهم، فطال دعاؤهم، وتكذيب قومهم حتَّى إذا، وأحسنها المقدم. وذكر ابن عطيَّة شيئاً من معنى قوله: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ} فقال: ويتضمن قوله «أفَلمْ يَسِيرُوا» إلى من قبلهم، أنَّ الرُّسل الذين بعثهم الله تعالى من أهل القرى دعوهم، فلم يؤمنوا حتى نزلت به المُثُلاث، فصبروا في حيِّز من يعتبر بعاقبته؛ فلهذا المضمَّن حسن أن تدخل «حتَّى» في قوله: «حتَّى إذَا» . قال أبو حيان: ولم يتلخًّص لنا من كلامه شيء يكون ما بعد «حتَّى» غاية لهُ؛ لأنَّه علَّق الغاية بما ادَّعى أنَّه فهم ذلك من قوله: «أفَلمْ يَسِيرُوا» ، قال شهاب الدِّين: قوله: «دَعوهُمْ فَلم يُؤمِنُوا» هو المُغَيَّا. قوله {وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ} قرأ الكوفيُّون: «كُذِبُوا» بالتخفيف، والباقون بالتثقيل. فأما قراءة التَّثقيل، فاضطربت فيه الأقوال: فرُوِي إنكارها عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 226 عَنْها قالت: «مَعاذَ اللهِ؛ لمْ تَكُنِ الرسُل لتظُنَّ ذلِكَ بِربِّهَا» وينبغي ألاَّ يصحَّ لك عنها؛ لتواتر هذه القراءة، وقد وجَّهت بأربعة [أوجه] : أحدها: أن الضمير في «وظَنُّوا» عائدٌ على المرسل إليهم؛ لتقدُّمهم في قوله: {كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} ولأنَّ الرسل تستدعي مرسلاً إليهم، والضمير في «أنَّهُمْ» و «كُُذِبُوا» عائد على الرسل والمعنى: وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا، أي: كذَّبهم من أرسلوا غليه بالوحي، وينصرهم عليهم. الثاني: أن الضمائر الثلاثة عائدة على الرسل. قال الزمخشري في تقديره هذا الوجه: «حتَّى إذا اسْتَيئَسُوا من النَّصر، وظنوا أنهم قد كذبوا، أي كذَّبتهم أنفسهم حين حدَّثتهم أنهم ينصرون، أو رجاؤهم؛ لقولهم: رَجاءٌ صادقٌ، ورجاءٌ كاذبٌ، والمعنى: أن مدَّة التَّكذيب والعداوة من الكفَّار، وانتظار، وتوهَّموا أن لا نصر لهم في الدنيا؛ فجاءهم نصرنا» انتهى. فقد جعل الفاعل المقدر: إما «أنْفُسُهم» ، وإما «رَجَاؤهم» ، وجعل الظَّنَّ بمعنى: التَّوهُّم، فأخرجه عن معناه الأصليِّ، وهو يرجِّحُ أحد الطرشفين، وعن مجازه، وهو استعماله في المتيقين. الثالث: أن الضمائر كلَّها عائدة على الرسل، والظنُّ على بابه من التَّرجيح، وإلى هذا نحا ابنُ عبَّاسٍ، وابن مسعود، وابن جبير، وقالوا: والرُّسُل بشر؛ فضعفوا، وساء ظنُّهُم. وهذا لا ينبغي أن يصحَّ عن هؤلاء: فإنها عبارة غليظة على الأنبياء، وحاشا الأنبياء من ذلك، ولذلك ردَّت عائشة، وجماعة كثيرة هذا التأويل، وأعظموا أن ينسبوا الأنبياء إلى شيء من ذلك. قال الزمخشريُّ: «إن صحَّ هذه عن ابن عبَّاس، فقد أراد بالظَّنِّ؛ ما يخطر بالبالِ، ويهجُس في القلب من شبه الوسوسة، وحديث النَّفس على ما عليه البشريِّة، وأما الظَّنُ الذي هو ترجيح أحد الجائزين عل الآخر؛ فغير جائزٍ على رجلٍ من المسلمين، فما بالُ رُسل الله الذين هم أعرف بربِّهم» . قال شهاب الدِّين: «ولا يجوز أيضاً أن يقال: خطر ببالهم شبه الوسوسة، فإن الوسوسة من الشيطان، وهم معصومون منه» . وقال الفارسي أيضاً: «إن ذهب ذاهبٌ إلى أن المعنى: ظن الرُّسل الذين وعد الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 227 أممهم على لسانهم قد كذبوا؛ فقد أتى عظيماً لا يجوز أن ينسب مثله إلى الأنبياء، ولا إلى صالح عباد الله، وكذلك من زعمك أنَّ ابن عبَّاس ذهب إلى أن الرسل قد ضعفوا، [فظنوا] أنهم قد أخلفوا؛ لأن الله لا يخلف الميعاد، ولا مبدِّل لكلماته» . وقد روي عن ابن عباس أيضاً، أنه قال: معناه: وظنوا حين ضعفوا وغلبوا؛ أنهم قد أخفلوا ما وعدهم الله به من النصر، وقال: وكانوا بشراًح وتلا قوله تعالى: {وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول} [البقرة: 214] . الرابع: أن الضمائر كلَّها ترجع إلى المرسل إليهم أي: وظنَّ المرسل إليهم أنَّ الرسل قد كذبوهم فيما ادَّعوه من النبوة، وفيما يوعدون به من لم يؤمن بهم من العقاب قبل، وهذا هو المشهور من تأويل ابن عباس، وابن مسعود، وابن جبير، ومجاهد، قالوا: «ولايجوز عود الضمائر على الرسل؛ لأنَّهم معصومون» . ويحكى: أنَّ ابن جبير حين سئل عنها، فقال: نعم، حتَّى إذا استيأس الرسل من قومهم أن يصدِّقوهم، وظنَّ المرسل إليهم أن الرُّسل قد كذبوهم؛ فقال الضحاك بن مزاحم وكان حاضراً: «لَوْ رحَلْتُ فِي هَذه إلى اليَمنِ كَانَ قَلِيلاً» . وأمَّا قراءة التشديد فواضحة، وهو أن تعود الضمائر كلها على الرسل، أي: وظنَّ الرُّسل أنهم قد كذبهم أممهم فيما جاءوا به؛ لطول البلاءِ عليهم. وفي صحيح البخاري عن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أنَّها قالت: «إنَّهُم أتْبَاعُ الأنْبيَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا بِربهم وصدَّقُوا، طَالَ عَليهِمُ البَلاءُ واسْتأخَرَ عَنْهُم النَّصْر، حتَّى إذَا اسْتَيْأسَ الرُّسلُ ممَّن كذَّبَهُمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، وظنَّتِ الرُّسلُ أنَّهُمْ قَد كذَّبُوهُم، جَاءَهُمْ نَصْرُ اللهِ عِندَ ذلِكَ» . وبهذا يتَّحد معنى القراءتين، والظَّن هنا يجوز أن يكون على بابه، وأن يكن بمعنى: اليقين، وأن يكن بمعنى: التوهُّم كما تقدَّم. وقرأ ابن عبَّاس، ومجاهد، والضحاك رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «كَذبُوا» بالتخفيف مبنيًّا للفاعل، والضمير على هذه القراءة في «وظنُّوا» عائدٌ على الأمم، في أنَّهُم قد كذبوا، عائد على الرسل، أي: ظنَّ المرسلُ إليهم أنَّ الرسل قد كذبوهم فيما وعدوهم به من النَّصر، أو من العقاب. ويجوز أن يعود الضمير في «ظَنُّوا» على الرسل، وفي «أنَّهُمْ قَدْ كذِبُوا» على المرسل إليهم، أي: وظنَّ الرسل إنَّ الأمم كذبتهم فميا وعدهم به من أنَّهم لا يؤمنون به، والظنُّ هنا بمعنى: اليقين واضح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 228 ونقل أبو البقاء: «أنه قرىء مشدّداً مبنياً للفاعل، وأوله: بأن الرسل ظنّوا أن الأمم قد كذبوهم» . وقال الزمخشري بعد ما حكى قراءة المبني للفاعل: «ولو قرىء بها مشددة لكان معناه: وظن الرسل أن قومهم قد كذَّبُوهم فيما وعدوهم» فلم يحفظها قراة، وهي غريبة، وكان قد جوَّز في القراءة المتقدمة: أن الضَّمائر كلَّها تعود على الرُّسل، وأن يعود الأول على المرسل إليهم وما بعده على الرسل أنهم قد كذبوا فيما حدَّثوا به قومهم من النُّصرة: إمَّا على تأويل ابن عبَّاس، وإمَّا على أنَّ قومهم إذا لم يروا لموعدهم أثراً، قالوا لهم: قد كذبتمونا، فيكونون كاذبين عند قومهم، أي: وظنَّ المرسل إليهم أنَّ الرسل قد كذبوا «. وقوله «جَاءَهُمْ» : جواب الشِّرط، وتقدَّم الكلام في «حتَّى» هذه ما هِي؟ . أي: لمَّا بلغ الحال إلى الحدِّ المذكور؛ جاءهم نصرنا. فإن قيل: لم يجر ذكر المرسل إليهم فيما سبق، فكيف يحسن عود الضَّمير إليهم؟ . فالجواب: ذكر الرسل يدلُّ على ذكر المرسل إليهم، أو يقول: إن ذكرهم جرى في قولهم: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ} ويكون الضمير عائداً عل الذين من قبلهم، من مكذِّبي الرسل. قوله: {فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ} قرأ عاصمٌ، وابن عامر بنون واحدة، وجيم مشددة، وياء مفتوحة؛ على أنَّه فعلٌ ماضي مبنيٌّ للمفعول، و «مَنْ» : قائمة مقام الفاعل، والباقون بنونين ثانيتهما ساكنة والجيم خفيفة، والياء الساكنة على أنه مضارع أنْجَى، و «مَنْ» مفعوله، الفاعل ضمير المتكلم المعظم نفسه على الاستقبال، على معنى: فنفعل بهم ذلك، وهه حكاية حالٍ، ألا ترى أنَّ القصَّة فيما مضى، وإنَّما حكى الحالح كقوله تعالى {هذا مِن شِيعَتِهِ وهذا مِنْ عَدُوِّهِ} [القصص: 15] إشارة إلى الحاضر، والقصَّة ماضية. وقرأ الحسن، والجحدريُّ، ومجاهد في آخرين كقراءة عاصم، إلا أنَّهم سكَّنوا الياء، والأجود في تخريجها ما تقدَّم، وسكِّنت الياء تخفيفاً، كقراءة: {تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وقد سكِّن الماضي الصَّحيح، فكيف بالمعتلِّ؟ كقوله: [مجزوء الرمل] 3157 - ... ... ... ... ... . ... الجزء: 11 ¦ الصفحة: 229 قَدْ خُلِطْ بِجُلْجُلانْ وتقدم من أمثاله. وقيل: الأصل «نُنْجِي» بنونين؛ فأدغم النون في الجيم، وليس بشيء؛ إذا النون لا تدغم في الجيم على أنَّه قد قيل بذلك في قوله: {نُنجِي المؤمنين} [الأنبياء: 88] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وقرأ جماعة كقراءة الباقين إلا أنَّهم فتحوا الياء، قال ابن عطيَّة: «رواها ابن عبيرة، عن حفص، عن عاصم، وهي غلط من ابن هبيرة» . قال شهابُ الدِّين: «توهَّم ابن عطيِّة أنه مضارع باقٍ على رفعة، فأنكر فتح لامه وغلَّط راويها، وليس بغلط؛ وذلك أنه إذا وقع بعد الشرط والجزاء معاً مضارع مقرون بالفاء، جاز فيه أوجه: أحدهما: نصبه بإضمار» أن «بعد الفاء، وقد تقدَّم عند قوله: {وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 284] إلى أن قال:» فَيَغْفِر «قرىء بنصبه، وقد تقدم توجيهه، ولا فرق بين أن تكون أداة الشرط جازمة كآية البقرة، أو غير جازمة كهذه الآية. وقرأ الحسن أيضاً» فنُنَجِّي «بنونين، والجيم مشددة، والياء ساكنة مضارع» نَجَّى «مشددة للتكثير، وقرأ هو أيضاً ونصر بن عاصم، وأبو حيوة:» َفَنَجَا «فِعْلا ماضياً مخففاً، و» مَنْ «فاعله. ونقل الدَّاني: أنه قرأ لابن محيصن كذلك، إلا أنه شدِّد الجيم، والفاعل ضمير النَّصر، و «مَنْ: مفعوله، ورجح بعضهم قراءة عاصم؛ بأن المصاحف اتفقت على كتبها» فَنُجِّيَ «بنون واحدة، نقله الداني، ونقل مكي: أن أكثر المصاحب عليها، فأشعر هذا بوقوع الخلاف في الرَّسم، ورجَّح أيضاً: بأنَّ فيها مناسبة لما قبلها من الأفعال الماضية، وهي جارية على طريقة كلام الملوك والعظماء، منحيث بناء الفعل [للمعفول] . وقرأ أبو حيوة:» يَشَاءُ «بالياء، وتقدَّم أنه قرأ» فَنَجَا «، أي: فنجا من يشاء الله نجاته، وهم المؤمنون المطيعون. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 230 قوله: {وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا} : عذابنا، وقرأ الحسن» بَأسهُ «والضمير لله، وفيها مخالفة للشواذُ،» عَنِ القومِ المُجْرمينَ «أي: المشركين. قوله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 231 : {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} أي: في خبر يوسف وإخوته، «عِبْرَةٌ» : موعظة «لأولِي الألبابِ» . ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون} . قوله: {لقد كان في قصصهم} أي: في خبر يوسف وإخوته، " عبرة ": موعظة " لأولي الألباب ". قرأ أبو عمرو في رواية عبد الوارث، والكسائي في رواية الأنطاكي: " قصصهم " بكسر القاف وهو جمع قصة، وبهذه القراءة رجح الزمخشري عود الضمر في " قصصهم " في القراءة أبو عمرو في رواية عبد الوارث، والكسائيُّ في رواية الأنطاكي: «قِصَصِهِمْ» بكسر القاف هو جمع قصَّة، وبهذه القراءة رجَّح الزمخشري عود الضمر في «قَصصِهمْ» في القراءة المشهورة على الرسل وحدهم. وحكى غيره: أنه يجوز أن يعود على الرسل، وعلى يوسف وإخوته جميعاً كما تقدم. قال أبو حيان: «ولا ينصره يعني هذه القراءة؛ إذ قصص يوسف، وأبيه، إخوته تشتمل على قصص كثيرة، وأنباء مخلفة» . فصل الاعتبار: عبارة عن العبور من الطريق المعلومة إلى الطريق المجهولة، والمراد منه: التأمُّل والتَّفكر، ووجه الاعتبار بقصصهم أمور: أحدها: أنَّ الذي قدر على إعزاز يوسف عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، بعد إلقائه في الجبِّ وإعلائه بعد سجنه، وتمليكه مصر بعد أن كانوا يظنون أنه عبد لهم وجمعه مع أبيه وإخوته على ما أحبَّ بعد المدة الطويلة؛ لقادرٌ على إعزاز محمد صلى عليه وسلم، وإعلاء كلمته. وثاينها: أن الأخبار عنه إخبارٌ عن الغيب، وفكان معجزة دالَّة على صدق محمد صلوات الله وسلامه عليه. وثالثها: أنه قال في أوَّل السورة: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص} [يوسف: 3] ثم قال هنا: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} وذلك تنبيه على أن حسن هذه القصَّة، إنَّما هو لأجل حصول العبرة منها، ومعرفة الحكمة والقدرة. فإن قيل: لم قال: {عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب} مع أن قوم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانوا ذوي عقول وأحلام، وقد كان الكثير منهم لم يعتبرْ؟ . فالجواب: أنَّ جميعهم كانوا متمكِّنين من الاعتبار، والمراد من وصف هذه القصَّة بكونها عبرة كونها بحيث يتعبرها العاقل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 231 قوله {مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى} في «كَانَ» ضمير عائدٌ على القرآن، أي: ما كان القرآن المتضمن لهذه القصَّة الغريبة حديثاُ مختلقاً. وقيل: بل هو عائدٌ على القصص، أي: ما كان القصص المذكور في قوله: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ} . وقال الزمخشري: «فإن قلت: فإلام يرجع الضمير في: {مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى} فيم قرأ بالكسر؟ قلت: إلى القرآن أي: ما كان القرآن حديثاً. قال شهاب الدين:» لأنه لو عاد على «قِصَصِيهم» بكسر القاف؛ لوجب أن يكون «كَانَتْ» بالتاء «لإسناد الفعل حينئذ إلى ضمير مؤمث، وإن كان مجازيًّا. قوله: {ولكن تَصْدِيقَ} العامة عل نصب» تصيدقَ «والثلاثة بعده، على أنَّها منسوقة على خبر» كان «أي: ولكن كان تصديق. وقرأ حمدان بن أعين، وعيسى الكوفي، وعيسى القفي: برفع» تَصْديقَ «وما بعده، على أنَّها أخبار لمبتدأ مضمر، أي: ولكن هو تصديق، أي: الحديث ذو تصديق، وقد سمع من العرب مثل هذا بالنصب والرفع؛ قال ذو الرمَّة: [الطويل] 3158 - ومَاك كَانَ مالِي من ثُراثٍ وَرِثتهُ ... ولا دِيةً كَانتْ ولا كَسْبَ مَأثَم ولكِنْ عَطاءُ اللهِ من كُلِّ رحْلَةٍ ... إلى كُلِّ مَحْجُوبِ السُّرادقِ خِضْرمِ وقال لوطُ بن عبيد الله: [الطويل] 3159 - وإنِّي بَحمْدِ الله لا مَالَ مُسلمٍ ... أخَذْتُ ولا مُعطِي اليَمينِ مُخالفِ ولكنْ عَطاء اللهِ منْ كُلِّ فَاجرٌ ... قَصِيِّ المحَلِّ مُعْورٍ للمَقَارِفِ يروى: «عَطاءَ الله» في البيتين منصوباً على: «ولكن كان عطاء الله» ومرفوعاً على: «ولكن هُو عطاءُ الله» . قال الفراء والزجاج: «ونصي» تَصْديقَ «على تقدير: ولكن كان تصديق الذي بين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 232 يديه، كقوله تعالى: {مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله} [الأحزاب: 40] ثم قالا: ويجوز رفعه في قياس النحو على معنى: ولكن هو تصديق الذي بين يديه؛ فكأنَّهما لم يطَّلعا على أنهما قراءة. فصل معنى الآية: أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يصحُّ منه أن يفترى هذه القصَّة، بحيث تكون مطابقة لها من غير تفاوت. وقيل: إن القرآن ليس بكذب في نفسه؛ لأنَّه لا يصحُّ أن يفترى، ثم أكَّد كونه غير مفترى بقوله: {ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ} وهو إشارة إلى أنَّ هذه القصَّة وردت موافقة لما في التوراة، وسائر الكتب الإلهيَّة، ثم وصفه بأن فيه: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} . قيل: كل شيء في واقعة يوسف مع أبيه، وإخوته. وقيل: يعود على كلِّ القرآن؛ كقوله تعالى: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] . والأولى: أن يجعل هذا الوصف وصفاً لكلِّ القرآن، ويكون المراد ما تضمَّنه من الحلال، والحرام، وسائر ما يتَّصل بالدِّين. قال الواحدي:» وعلى هذين التفسرين جميعاً؛ فهو من العام الذي أريد به الخاصُّ؛ كقوله تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ} [الأعراف: 156] يريد: وسعت كل شيء أن يدخل فيها، {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23] . ثمَّ وصفه بكونه هدّى في الدنيا، وسبباً لحصول الرحمة في القيامة، {لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خصَّهم الله بالذِّكرح لأنَّهم الذين انتفعوا به، كقوله تعالى {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] . وروى أبيُّ بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف كرَّم وبجَّل وعظَّم: «عَلِّموا أرقَّاءكُمْ سُورَةَ يُوسُفَ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، فإنَّهُ أيُّما مسلم تلاها، وعلَّمَها أهْلهُ ومَا مَلكَتْ يَمِينهُ، هَوَّنَ اللهُ عَليْهِ سَكرَاتِ المَوْتِ، وأعْطَاهُ القُوَّة أن لا يَحْسُدَ مُسْلِمَا» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 233 سورة الرعد مكية إلا قوله تعالى: {ولا يزال الذين كفروا} [الآية: 31] وقوله تعالى: {ويقول الذين كفروا لست مرسلا} [الآية: 43] إلى آخرها. وقال الكلبي، ومقاتل: هي مدنية، وقال ابن عباس والأصم: هي مدنية إلا قوله تعالى: {ولو أن قرآنا سيرت به الجبال} [الآية: 31] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 234 وهي ثلاثة وأربعون آية، وعدد كلماتها ثمانمائة وخمس وخمسون كلمة، وعدد حروفها ثلاثة آلاف وخمسمائة وستة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {المر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب} قال ابن عبَّاس: معناه أنا الله أعلمُ. وقال أيضاً في رواية عطاءٍ: أنَا اللهُ الملكُ الرَّحمنُ. وأمالها أبو عمرو والكسائي وفخمها عاصم، وجماعةٌ. قوله {تِلْكَ آيَاتُ} يجوز في «تِلْكَ» أن تكون مبتدأ، والخبر «آيَاتُ» ، والمشار إليه آيات السُّورةِ، والمراد ب «الكِتَابِ» : السُّورةُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 234 وقيل: إشارة إلى ما قصَّ عليه من أنباء الرسل، وهذا الجملة لا محلَّ لها إن قيل: إن «المر» كلامٌ مستقلٌّ، أو قصد به مجرَّد التنبيه، وفي محل رفع على الخبر إن قيل: «المر» مبتدأ، ويجوز أن يكون «تِلْكَ» خبراً ل «المر» و {آيَاتُ الكتاب} بدل، أو بيان، وتقدم تقريرُ هذا أوَّل الكتابِ. قوله: {والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ} يجوز في أوجه: أحدها: أن يكون مبتدأ، و «الحَقُّ» خبره. الثاني: أن يكون مبتدأ و «مِنْ ربِّكَ» خبره، وعلى هذا ف «الحَقُّ» خبر مبتدأ مضمر، أي هو الحق. الثالث: أن «الحَقَّ» خبر بعد خبرٍ. الرابع: أن يكون «مِن ربِّك الحقُّ» كلاهما خبر واحد، قاله أبو البقاءِ، والحوفيُّ وفيه بعد، إذ ليس هو مثل: «حُلْوٌ حَامضٌ. الخامس: أن يكون» الَّذي «صفة للكتاب. قال أبو البقاءِ:» وادخلت الواو في لفظه، كما أدخلت في «النَّازِلينَ والطيبين» يعني أنَّ الواو تدخل على الوصف، والزمخشري يجيزهن ويجعل الواو في ذلك تأكيداً، وسيأتي إن شاء الله تعالى في الحجر في قوله {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] . وقوله: (في النزالين والطيبين) يشير إلى بيت الخرنقِ بنت هفّان في مدحها لقومها: [الكامل] 3160 - لا يَبْعدَنْ قَوْمِي الَّذينَ هُمُ ... سُمُّ العُداةِ وَآفةُ الجُزْرِ النَّازِلينَ بِكُلِّ مُعتَركٍ ... والطَّيبينَ مَعَاقِدَ الأُزْرِ فعطف «الطَّيبين» على «النَّازلينَ» وهما صفتان لقومٍ معينين، إلاَّ أن القوم بين الآية، والبيت واضحٌ، من حيث إنَّ البيت فيه عطف صفةٍ على مثلها، والآية ليست كذلك. وقال أبو حيَّان: أن تكون الآية مما عطف [فيه] وصف على مثله، فقال: وأجاز الحوفي أيضاً أن يكون «والَّذِي» في موضع رفع عطفاً على «آيَاتُ» ، وأجاز هو، وابن عطيَّة: أن يكون «والَّذي» في مضع خفضٍ، وعلى هذين الإعرابين، يكون «الحقُّ» خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الحق، ويكون «والَّذي» ممَّا عطف فيه الوصفُ على الوصفِ، وهما لشيءٍ واحدٍ، كما تقول: جاءني الظريف العاقلُ، وأنت تريدُ شخصاً واحداً، من ذلك قول الشاعر: [المتقارب] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 235 3161 - إلى المَلكِ القَرْمِ وابنِ الهُمَامِ ... ولَيْثِ الكَتِيبةِ في المُزْدَحَمْ قال شهابُ الِّدين: وأين الوصف المعطوف عليه؛ حتى نجعله مثل ابيت الذي أنشده. السادس: أن يكون «الَّذي» مرفوعاً نسقاً على «آيَاتُ: كما تقدَّمت حكايته عن الحوفي. وجوَّز الحوفي أيضاً: أن يكون» الحقُّ «نعتاً ل» الَّذي «حال عطفه على» آيَاتُ الكِتَابِ «. فتلخَّص في» الحق «خمسة أوجه. أنَّهُ خبرٌ أوَّل، أو ثان، أو هو ما قبله، أو خبراً لمبتدأ مضمر، أو صفة ل» الَّذي «إذا جعلناه معطوفاً على» آيَاتُ «. فصل قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أراد ب: الكِتابِ» القرآن ومعناه: هذه آيات الكتاب، يعني: القرآن، ثمَّ ابتدأ، وهذا القرآن {والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الحق ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} وهذا زجرٌ وتهديدٌ. وقال مقاتلُ: نزلت في مشركي مكَّة حين قالوا: إنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقوله من تلقاء نفسه فردَّ قولهم. فصل تمسَّك نفاةُ القياس بهذه الآية وقالوا: الحكمُ المستنبطُ بالقياس غير ما نزل من عند الله تعالى وإلاَّ لكان من لم يحكم به كافر، لقوله تعالى {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] ، وبالإجماع لا يكفرُ، فثبت أنَّ الحكم المثبت بالقياس غير نازلٍ من عند الله تعالى، وإذا كان كذلك، وجب ألاَّ يكون حقًّا، وإذا لم يكن حقًّا، وجب أن يكون باطلاً، لقوله تعالى: {فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال} } [يونس: 32] وأجيبك بأن الحكم المثبت بالقياس نازل أيضاً؛ لأنَّه تعالى أمر العملِ بالقياسِ، فكان الحكمُ الَّذي دلَّ عليه القياس نازلاً من عند الله تعالى. قوله تعالى {الله الذي رَفَعَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الآية: 2] لما ذكر انَّ أكثر النَّاس لا يؤمنون، ذكر عقبهُ ما ديلُّ على صحَّة التَّوحيد، والمعاد، وهو هذه الآية. قوله: «اللهُ» قال الزَّمخشريُّ: «اللهُ» مبتدأ، و {الذي رَفَعَ السماوات} خبره بدليل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 236 قوله تعالى: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} ويجوز أن يكون {الذي رَفَعَ السماوات} صفة، وقوله: {يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات} خبراً «. وقوله:» بِغَيْرِ عمدٍ «هذا الجار في محلِّ نصب على الحال من» السَّمواتِ «أي: رفعها خالية من عمدٍ، ثمَّ في هذا الكلام وجهان: أحدهما: انتفاء العمدِ، والرؤية جميعاً، أي: لا عمد؛ فلا رؤية، يعني: لا عمد لها؛ فلا ترى، وإليه ذهب الجمهور. والثاني: أنَّ لهما عمداً، ولكنها غير مرئيَّة. وعن ابن عبَّاسٍ: ما يدريك أنّضها بعمدٍ لا ترى، وإليه ذهب مجاهد وهذا قريب من قولهم:» مَا رأيتُ رجُلاً صالحاً «، ونحو: {لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً} [البقرة: 273] [الطويل] 3162 - على لا حِبٍ لا يُهْتَدَى بِمنَارِهِ ..... ... ... ... ... ... . . وقد تقدَّم هذا، إذا قلنا: إنَّ «تَروْنَهَا» صفة أمَّا إذا قلنا: إنَّها مستأنفةٌ كما سيأتي؛ فيتعيّن أن لا عمد لها. والعامة على فتح العين، والميم، وهو اسم جمع، وعبارة بعضهم: أنه جمع نظراً إلى المعنى دون الصناعة، وفي مفرده احتمالان: أحدهما: أنَّه عماد مثل «إهَاب وأهُب» . والثاني: أنه عمودٌ، كأدِيم وأدُم، وقَضِيتم وقُضُم، كذا قاله أبو حيَّان: وقال أبو البقاءِ: «جمع عماد، أو عمود مثل: إدِيم وأدُم، وأفِيق وأفُق، وإهَاب وأهُب، ولا خامس لها» ، فجعلوا فعلاً كفعيل في ذلك. وفيه نظر؛ لأنَّ الأوزان لها خصوصية، فلا يلزمُ من جمع «فعيل» وعلى كذا أن يجمع عليه «فعول» ، فكان ينبغي أن ينظروه بأن: «فَعُلاً» جمع على «فَعَل» ، ثم قول أبي البقاءِ «ولا خامس لها» يعني أنه لم يجمع على: «فُعُل» إلاَّ هذه الخمسة «عِمادٌ وعَمُودٌ وأدِيمٌ وأفِيقٌ وإهَابٌ» . وهذا الحصرُ ممنوعٌ لما تقدَّم من نحو: قَضِيمٌ وقُضُمٌ، ويجمعان في القلَّة على أعمدة. وقرأ أبو حيوة، ويحيى بن وثاب: «عُمُد» بضمتين، ومفرده يحتمل أن يكون عِمَاداً، كشِهَاب، وشُهُب، وكِتَاب، وكُتُب، وأ، يكون عَمُوداً، كرسُولٍ، ورُسُل وقد قرىء في السبع: {فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ} [الهمز: 9] بالوجهين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 237 وقال ابن عطية في «عَمَد: اسم جمع عمود، والباب في جمعه» عُمُد «بضم الحروف الثلاثة، كرسول ورُسُلٌ. قال أبو حيان:» وهذا وهمٌ، وصوابه: بضمِّ الحرفين؛ لأنَّ الثالث هو حرف الإعراب، فلا يعتبر ضمه في كيفية الجمعِ «. والعِمَادُ والعَمود: ما يعمدُ به، أي: يسند، ويقال: عمدت الحائطَ أعمدهُ عَمْداً، أي: أدْعمتهُ، فاعْتمدَ الحائطُ على العِمَادِ، والعَمَدُ: الأساطينُ قال النابغة: [البسيط] 3163 - وخَيِّسِ الجِنَّ إنِّي قَدْ أذِنْتُ لَهُمْ ... يَبْنُونَ تَدْمُرَ بالصُّفَّاحِ والعَمدِ والعَمْدُ: قصد الشيء، والاستناد إليهن فهو ضدُّ السَّهو، وعمودُ الصُّبْحِ: ابتداءُ ضوئهِ تشبيهاً بعمُودِ الحديدِ في الهَيئةِ، والعُمْدَة: ما يُعْتمدُ عليه من مالِ وغيرهِ والعَمِيدُ: السَّيِّد الذي يعمدهُ النَّاسُ، أي: يَقْصدُونَهُ. قوله» تَرَوْنَها «في الضَّمير المنصُوب وجهان: أحدهما: أنَّهُ عائدٌ على:» عَمَدٍ «، وهو أقرب مذكورٍ، وحينئذ تكون الجملة في محل جر صفة ل» عَمَدٍ «، ويجيء فيه الاحتمالانِ المتقدِّمانِ من كون العمد موجودة لكنَّها لا ترى، أو غير موجودة ألبتََّة. والثاني: أنَّ الضَّمير عائد على» السَّمواتِ «، ثمَّ في هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنَّها مستأنفة لا محلَّ لها، أي: استشهد برؤيتهم لها لذلك، ولم يذكر الزمخشري غيره. والثاني: أنها في محل نصب على الحال من هاء:» تَرَوْنهَا «وتكون حالاً مقدرة؛ لأنها حين رفعها لم نكن مخلوقين، والتقدير: رفعها مرئية لكم. وقرأ أبي: «تَرَوْنهُ» بالتَّذكير مراعة للفظ «عَمَدٍ» إذ هو اسمُ جمع، وهذه القراءة رجح بها الزمخشري كون الجملة صفة ل «عَمَدٍ» ، وزعم بعضهم أن «تَرَوْنَهَا» خبر لفظاً، ومعناه الأمر، أي روها، وانظروا إليها لتعتبروا بها، وهو بعيد؛ ويتعين على هذا أن يكون مستأنفاً، لأن الطَّلب لا يقع صفة، ولا حالاً. و «ثُمَّ» في «ثُمَّ اسْتَوَى» لمجرَّدِ العطف لا للترتيبح لأنَّ الاستواء على العرشِ غير مرتب على رفع السموات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 238 قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} علا عليه: {وَسَخَّرَ الشمس والقمر} لمنافع خلقه، فهما مقهوران يجريان على ما يريد الله عزَّ وجلَّ. قال ابن عبَّاسٍ: للشَّمس مائة وثمانون منزلاً كُلَّ يوم لها منزلٌ، وذلك يتمُّ في ستَّة أشهرٍ، ثم تعود مرة أخرى إلى واحدٍ منها في ستَّة أشهر أخرى، وكذلك للقمر ثمانية وعشرون منزلاً، فهذا هو المراد من قوله سبحانه وتعالى: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} . وتحقيقه: أن الله قدَّر لكلِّ واحدٍ من هذه الكواكب سيراً خاصًّا إلى جهة خاصَّة بمقدارٍ خاص من السُّرعةِ، والبُطءِ، وإذا كان كذلك؛ لزم أن يكون لها بحسب كلِّ لحظة لمحة حالة أخرى لم تكن حاصلة قبل ذلك. وقيل: المراد بقوله: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى} كونها متحركين إلى يوم القيامة فتنقطع هذه الحركات كما وصف تعالى في قوله: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] {إِذَا السمآء انشقت} [الانشقاق: 1] و {إِذَا السمآء انفطرت} [الإنفطار: 1] {وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9] كقوله تعالى: {ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ} [الأنعام: 2] . قوله: {يُدَبِّرُ الأمر يُفَصِّلُ الآيات} قرأ العامة هذين الحرفين بالياء من تحت جرياً على ضمير اسم الله تعالى وفيهما وجهان: أظهرهما: أنهما مستأنفان للإخبار بذلك. والثاني: أنَّ الاولى حالٌ من فاعل «سخَّر» ، والثاني حالٌ من فاعل: «يُدبِّرُ» . وقرأ النخعي، وأبان بن تغلب: (ندبر الأمر نفصل) بالنون فيهما، والحسن والأعمش: «نُفَصِّلُ» بالنون «يُدبِّرُ» بالياء. قال المهدويُّ: لم يختلف في: «يُدبِّرُ» يعني أنَّه بالياء، وليس كما ذكر لما تقدَّم عن النخعي، وأبان بن تغلب. فصل قوله: {يُدَبِّرُ الأمر} يقضيه وحده، وحمل كل واحد من المفسرين التَّدبير على نوع آخر من أحوال العالم، والأولى حمله على الكل، فهو يدبِّرهم بالإيجاد، والإعدامِ والإحياءِ، والإماتةِ، والاعِدتمادِ، والانقيادِ، ويدخل فيه إنزال الوحي، وبعث الرسلَ وتكليف العبادِ، وفيه دليلٌ عجيبٌ على كمال القدرةِ والرحمة؛ لأنًَّ هذا العالم من أعلى العرش إلى أطباق الثَّرى يحتوي على أجناسٍ، وأنواع لا يحيطُ بها إلا الله تعالى. والدليل المذكور على تدبير كلِّ واحدٍ بوصفه في موضعه وطبيعته، ومن المعلوم أنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 239 من اشتغل بتدبير شيءٍ، فإنَّهُ لا يمكنه تدبير شيء آخر، فإنه لا يشغله شأنٌ عن شأن، وإذا تأمَّل العاقل في هذه الآية علم أنَّهُ تعالى يدبِّر عالم الأجسام ويدبر عالم الأرواح، ويدبر الكبير كما يدبر الصغير، ولا يشغله شأن عن شأن، ولا يمنعه تدبيرٌ عن تدبير، وذلك يدل على أنه في ذاته، وصفاته، وعلمه، وقدرته غير مشابه للمخلوقات، والممكنات. قوله {يُفَصِّلُ الآيات} يبين الدلالات الدَّالة على إلا هيته، وعلمه، وحكمه. واعلم أنَّ الدَّلائل الدالَّة على وجود الصَّانع قسمان: أحدهما: الموجودات الباقية الدائمةُ كالأفلاكِ، والشمس، والقمر، والكواكب وهذا القسم تقدَّم ذكره. والثاني: الموجودات الحادثة المتغيرة، وهي الموتُ بعد الحياة، والفقرُ بد الغنى، والهرم بعد الصحَّة، وكون الأحمق في أهنأ العيش، والعاقل في أشد الأحوال، فهذا النَّوعُ من الموجودات، والأحوال دلالتها على وجود الصَّانع الحكيم ظاهرةٌ. فقوله: {يُفَصِّلُ الآيات} إشارة إلى أنَّه يحدث بعضها عقيب بعض على سبيل التمييز، والتفصيل. ثم قال: {لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} لكي توقنوا بوعده، وتصدِّقوا. واعلم أنَّ الدلائل الدالة على وجود الصَّانع الحكيم تدلُّ ايضاً على صحَّة القول بالحشرِ والنشر؛ لأنَّ من قدر على خلق هذه الأشياء، وتدبيرها على عظمها، وكثرتها فبأن يقدر على الحشر، والنشر أولى. وروي أنَّ رجلاً قال لعليِّ بن أبي طالبٍ كرَّم الله وجهه: كيف يحاسب الله الخلق دفعة واحدة؟ قال: كما يرزقهم الآن دفعة واحدة، وكما يسمعُ نداءهم ويجيب دعاءهم الآن دفعة واحدة. واعلم أنَّهُ تعالى كما قدر على بقاء الأجرام الفلكيِّة، والنيرات الكوكبية في الجو العالي، وكما يمكنه تدبير ما فوق العرش إلى ما تحت الثَّرى لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ، كذلك يحاسبُ الخلق بحيث لا يشغله شأنٌ عن شأنٍ. واعلم أنَّ لفظ «اللِّقاءِ» يدل على رؤية اللهِ تعال وقد تقدَّم تقريره. {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} [الآية: 3] لما قرر الدلائل السماوية أردفها بتقرير الدلائل الأرضية فقال: {وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض} بسطها، قال الأصم: المد: البسط إلى ما لا يدرك منتهاه فقوله: {مَدَّ الأرض} ليشعر بأنَّه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً، لا يقع البصر على منتهاه، وقال قومٌ كانت الأرض مكورة فمدَّها، ودحاها من مكَّة من تحت الجزء: 11 ¦ الصفحة: 240 البيت، فذهبت كذا وكذا وقال آخرون: كانت مجتمعة عند بيت المقدس، فقال لها: اذهبي كذا، وكذا. قال ابن الخطيب: وهذا القول إنَّما يتمٌّ إذا قلنا: الأرض مسطحةٌ لا كرةٌ وأصحاب هذا القول، احتجوا عليه بقوله تعالى: {والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 30] وهو مشكل من وجهين: الأول: أنَّه ثبت بالدليل أنَّ الأرض كرةٌ، فإن قالوا: قوله تعالى: مد الأرض ينافي كونها كرة. قلنا: لا نسلم؛ لأنَّ الأرض جسم عظيم، والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان لكم قطعة منها تشاهدُ كالسَّطح، والتَّفاوت الحاصل بينه، وبين السَّطح، لايصحلُ إلاَّ في علم الله تبارك وتعالى إلا في قوله تعالى {والجبال أَوْتَاداً} [النبأ: 7] مع أن العالم من النَّاس يستقرُّون عليه، فكذلك هنا. والثاني: أنَّ هذه الآية إنَّما ذكرت ليستدلّ على وجود الصَّانع؛ والشروط فيه أن يكون ذلك أمراً مشاهداً معلوماً، حتى يصح الاستدلال به على وجود الصانع لأنَّ الشيء إذا رأيت حجمه، ومقداره، صار ذلك الحجم، وذلك المقدار عبرة؛ فثبت أنَّ قوله: {مَدَّ الأرض} إشارة إلى أنه تعالى هو الذي جعل الأرض مختصة بمقدار معيَّن لا يزيدُ ولا ينقص، والدليل عليه أن كون الأرض أزيد مقداراً ممَّا هو الآن، وأنقص منه أمر جائز ممكن في نفسه، فاختصاصه بذلك المقدار المعيَّن لا بدَّ وأن يكون بتخصيص مخصَّصِ، وتقدير مقدِّرٍ. قوله: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ} وهي الجبالُ الثَّوابت، وقاعدة هذا الوصف لا تطَّرد إلا الإناث إلا أن المكسر مما لا يعقل يجري مجرى جمع الإناث، وأيضاً كثرة استعماله الجوامد، فجمع حائط حوائطن وكاهل كواهل. وقيل: هو جمع راسية، والهاء للمبالغة، والرسوُّ: الثبوت، قال الشاعر: [الطويل] 3164 - بِهِ خَالدَاتٌ مَا يرِمْنَ وهَامِدٌ ... وأشْعَثُ أرْسَتْهُ الوَلِيدةُ بالفِهْرِ فصل قال بان عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كان أبو قبيسٍ أوَّل جبلٍ وضع على وجه الأرض. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 241 واعلم أنَّ الاستدلال بوجود الجبال على وجود الصَّانع القادر الحكيم من وجوه: أولها: أنَّ طبيعة الارض واحدة، فحصول الجبل في بعض جوابنها دون البعضِ لا بدّ وأن يكون بتخليق القادر العليم. قالت الفلاسفة: الجبال إنّضما تولّدت من البخارات؛ لأنَّ البخارات كانت في هذا الجانب من العالمِ، كان تتولدُ في البحر طيناً لزجاً، ثم يقوى فيه تأثير الشمس؛ فينقلب حجراً كما نشاهده، ثمَّ إنَّ الماء كان يفور ويقلّ؛ فلهذا السببت تولّدت هذه الجبالُ وإنما حصلت هذه الجبالُ في هذا الجانب من العالمك لأن في الدّهر الأقدم كان حضيض الشمس في جانب الشمال، والشمس متى كانت في حضيضها كانت أقرب إلى الأرض، فكانل التسخين أقوى، وشدّة والسُّخونة توجب انجذاب الطوبات، فحين كان الحضيض في جانب الشمالِ، كان البخارُ في جانب الشمال، ولما انتقل الأوج إلى جانب الشمال، والحضيض إلى جانب الجنوب انتقلت البحار إلى جانب الجنوب فبقيت هذه الجبالُ في جانب الشمال، وهذا ضعيفٌ من وجوه: الأول: أنَّ حصول الطِّين في البحر أمر عام، ووقوع الشَّمس عليها أيضاً أمر عامٌّ، فلم حصل هذا الجبل في بعض الجوانب دون العبضِ؟ . الثاني: أنَّا نشاهدُ بعض الجبال كأنَّ تلك الأحجار موضوعة أقساماً كأن البنَّاءَ بناه من لبِنَاتٍ كثيرة موضوع بعضها فوق بعضٍ، ويبعدُ حصول مثل هذا التركيب من السَّبب الذي ذكروه. الثالث: أنَّ أوج الشَّمس الآن قريب من أوَّل السَّرطان، فعلى هذا من أوَّل الوقت الذي انتقل أوجُ الشمس إلى الجانب الشَّمالي مضى قريباً من تعسة آلاف سنة، وبهذا التقدير: أنَّ الجبال في هذه المدَّة الطويلة كانت في التفتت، فوجب أن لايبقى من الأحجار شيءٌ، لكن ليس الأمرُ كذلك؛ فعلمنا أنَّ السب بالذي ذكروه ضعيف. الوجه الثاني من الاستدلال بأحوال الجبالِ على وجود الصَّانع: ما يحصلُ فيها من المعادن، ومواضع الجواهر النفيسة، وما يحصل فيها من معادن الدخان ومعادن النفط، والكبريت، فتكون طبيعة الأرض واحدة، وكون الجبل واحداً في الطَّبع وكون تأثير الشمس واحداً في الكل يدلُّ ظاهراً على أنَّ بتدقير قادر قاهر متعال عن مشابهة المحدثات. الوجه الثالث من الاستدلال بأحوال الجبال: وذلك أنَّ بسببها تتولدُ الأنهار على وجه الأرض؛ لأنَّ الحجر جسمٌ صلبٌ، فإذا تصادعت الأبخرة من قعْرِ الأرض، ووصلت إلى الجبال انحبست هناك، فلا تزال تتكامل، فيحصل بسبب الجبل مياه عظيمة ثمَّ إنَّها لكثرتها، وقوتها تثقب، وتخرج، وتسيل على وجه الأرض، فمنفعة الجبال في تولدِ الأنهارِ هو من هذا الوجه، ولهذا السَّبب ما ذكره الله الجبال إلاَّ وذكر بعدها الأنهار في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 242 أكثر الأمر كهذه الآية، وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً} [المرسلات: 27] . فصل قال القرطبي: في هذه الآية ردٌّ على من زعم أنَّ الأرض كالكرةِ لقوله: {مَدَّ الأرض} ، ورد على من زعم أن الأرض تهوي أبداً بما عليها، وزعم ابنُ الرَّوانديُّ: أنَّ تحت الأرض جسماً صاعداً كالرِّيحِ الصعادة، وهي منحدرة فاعتدل الهاوي، والصعَّاعدي في الجرم والقوة فتوافقا. وزعم آخرون: أن الأرض مركبة من جسمين. أحدهما: منحدرٌ، والآخر: مصدع فاعتدلا، فلذلك وقفت، والذي عليه المسلمون، وأهل الكتاب القول بوقوف الأرض، وسكونها، ومدِّها، وأنَّ حركتها إنَّما تكونُ في العادةِ بزلزلةٍ تصيبها والله أعلم. قوله: {وَمِن كُلِّ الثمرات} يجوز فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتعلق ب «جَعَلَ» [بعده] ، أي: وجعل فيها زوجين اثنين من كلِّ صنفٍ من أصناف الثمرات، وهو ظاهرٌ. والثاني: أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حالٌ من: «اثْنَيْنِ» ؛ لأنَّه في الأصل صفة لهُ. الثالث: أن يتمَّ الكلام على قوله: {وَمِن كُلِّ الثمرات} فيتعلق ب «جَعَلَ» الأولى على أنه من باب عطف المفردات، يعني عطف على معمول «جعل» الأولى تقديره: أنه جعل في الأرض كذا، وكذا ومن كل الثمرات. قال أبو البقاء: ويكون «جَعل» الثاني مستأنفاً، و «يُغْشِي اللَّيْلَ» تقدَّم الكلام فيه، وهو إمَّا مستأنفٌ، وإمَّا حال من فاعل الأفعال. فصل المعنى: ومن كلِّ الثمرات جعل فيها زوجين، أي: صنفين اثنين: أصفر، وأحمر، وحلواً، وحامضاً. وهذا النوعُ الثالث في الاستدلال بعجائب خلقة النبات. واعلم أن الحبَّة إذا وقعت في الأرض ربت وكبرت؛ فبسبب ذلك ينشقُّ أعلاها وأسفلها، فيخرج من الشق الأعلى الشجرة الصَّاعدة، ويخرج من الشق الأسفل العروق الجزء: 11 ¦ الصفحة: 243 الغائصة في الأرض، وهذا من العجائب؛ لأنَّ طبيعة تلك الحبَّة واحدة وتأثير الطبائع، والأفلاك، والكواكب فيها واحد، ثم إنه يخرد من الجانب الأعلى من تلك الحبَّة جرمٌ صاعدٌ إلى الهواء، ومن الجانب الأسفل جرمٌ غائصٌ في الأرض، ومن المحال أن يتولَّد من الطبيعة الواحدة طبيعتان متضادتان، فعلمنا أنَّ ذلك إنَّما كان بتدبير المدبِّر العليم الحكيمِ لا بسبب الطَّبع، والخاصة، ثم إنَّ الشجرة النَّامية في تلك الجهة بعضها يكون خشباً، وبعضها يكون نوراً، وبعضها يكون ثمرة، ثم إن تلك الثمرة أيضاً يحصل فيها أجسامٌ مختلفة الطَّبائع مثل الجوز ففيه أربعة أنواع من القشور، فالقشرة الأعلى، وتحته القشرة الخشبية، وتحته القشرة المحيطة باللبَّ، وتحت تلك القشرة قشرة أخرى في غاية الرَّقة تمتازُ عمَّا فوقها حال كون الجوز واللوز رطباً وأيضاً: فقد يحصل في الثمرة الواحدة الطبائع المختلفة فالأترجد قشرهُ جارّ يابس ولحمه وماؤه حارّان رطبان؛ فثبت أنَّ هذه الطَّبائع المختلفة من الحبة الواحدة مع تساوي تأثيرات الطبائع، وتأثيرات الأنجم، والأفلاك على زعم من يدعيه لا بد وأن يكون بتدبير العليمِ القدير. فإن قيل: الزَّوجان لا بدَّ وأن يكونا اثنين، فما الفائدة في قوله: «زَوْجيْنِ اثْنَيْنِ» ؟ . فالجواب: أنه تعالى أوَّل ما خلق العالم، وخلق فيه الأشجار، خلق من كل نوع من الأنواع اثنين فقط، فلو قال: «زَوْجَيْنِ» لم يعلم أنَّ المراد النوع، أو الشخص فلما قال: «اثْنَيْنِ» علمنا أنه تعالى أوَّل ما خلق من كل زوجين اثنين [لا أقل ولا أزيد، والحاصل أن الناس فيهم الآن كثرة، إلا أنهم ابتدءوا من زوجين اثنين] بالشَّخص وهما: آدم وحواء عليهما السلام وكذلك القول في جميع الأشجار، والزروع، والله أعلم. النوع الرابع: الاستدلال بأحوال الليل، والنهار، وإليه الإشارة بقوله: {يُغْشِي الليل النهار} وقد سبق الكلام فيه فأغنى عن الإعادة. ثم قال تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} فيستدلون، والتَّفكر: تصرف القلب في طلب المعاني. قوله: {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} العامة على رفع: «قِطَعٌ» «وجَنَّاتٌ» إمَّا على الابتداء، وإما على الفاعلية بالجار قبله. وقرىء «قِطَعاً متَجَاورَاتٍ» بالنصب، وكذلك هي في بعض المصاحف على إضمار جعل. وقرأ الحسن: «وجَنَّاتِ» بكسر التَّاءِ وفيها أوجهٌ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 244 أحدها: أنه جر عطفاً على «كُلِّ الثَّمراتِ» . الثاني: أنه نصب نسقاً على: «زَوحَيْنِ اثْنَينِ» قاله الزمخشري. الثالث: أنه نصبه نسقاً على: «رَواسِيَ» . الرابع: أنه نصبه بإضمار جعلن وهو أولى لكثرة الفواصل في الأوجه قبله. قال أبو البقاء: ولم يقرأ أحد منهم «وزَرْعاً» بالنصب «. قوله: {وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} قرأ ابن كثيرٍن وأبو عمرو، وحفص: بالرفع في الأربعة، والباقون بالخفض، فالرفع في «زَرْعٌ ونَخِيلٌ» للنسق على «قِطَعٌ» وفي «صِنْوانٌ» لكونه تابعاً ل «نَخِيلٌ» ، و «غَيْرُ» لعطفه عليه. وعاب أبو حيَّان على ابن عطيَّة قوله: «عطفاً على: قِطَعٌ» . قال: وليست عبارة محررة؛ لأنَّ فيها ما ليس بعطفٍ، وهو «صِنوانٌ» «. قال شهابُ الدين:» ومثل هذا [غير معيب] ؛ لأنَّه عطف محقق غاية ما فيه أنَّ بعض ذلك تابع، فلا يقدحُ في هذه العبارة، والخفض مراعاة ل «أعنابٍ» «. وقال ابن عطيَّة:» عطفاً على «أعْنابٍ» ، وعابها أبو حيان بما تقدَّم وجوابه ما تقدَّم. وقد طعن قومٌ على هذه القراءة، وقالوا: ليس الزَّرعُ من الجنَّات، وروي لك عن أبي عمر. وقد أجيب عن ذلك: بأنَّ الجنَّة احتوت على النَّخيل، والأعناب، لقوله تعالى {جَعَلْنَا لأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} [الكهف: 32] . وقال أبو البقاءِ: «وقيل: المعنى، ونبات زرع فعطفه على المعنى» . قال شهاب الدين: «ولا أدري ما هذا الجوابُ؛ لأنَّ الذي يمنعُ أن يكون الجنة من الزَّرعِ بمعنى أن يكون من نبات الزَّرعِ، وأي فرق» . والصنوان: جمع صنوٍ كقنوان جمع قنو، وقد تقدَّم تحقيق هذا التّنبيه في الأنعام. و «الصِّنْوُ» : الفرع يجمعه وفرعاً آخر أصل واحد، وأصله المثل، وفي الحديث: «عمَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 245 الرَّجل صِنْوُ أبيه» ، أي: مثله؛ أو لأنهما يجمعهما أصل واحدٌ والعامة على كسر الصاد. وقرأ السلميُّ، وابن مصرف، وزيد بن عليٍّ: بضمها، وهي لغة قيسٍ، وتميم كذئب، وذُؤبان. وقرأ الحسنُ، وقتادة: بفتحها، وهو اسم جمعٍ لا جمع تكسير؛ لأنه لس من أبنية «فعلان» ، ونظير «صنْوان» بالفتح «السَّعْدَان» هذا جمعه في الكثرةِ، وأمَّا القلَّة، فيجمع على «أصْنَاء» ك «جَمَل، وأجْمَال» . قوله: {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ} قرأ ابنُ عامرٍ، وعاصمٌ «يُسْقَى» بالياء من تحت أي يسقى بما ذكرنا، والباقون بالتاء من فوق مراعاة للفظ ما تقدَّم، وللتأنيث في قوله «وجَنَّاتٍ» ، ولقوله: «بَعْضَهَا» . قوله «ونُفَصِّلُ» قرأة بالياء من تحت مبنيًّا للفاعل: الأخوان، والباقون بنون العظمة، ويحيى بن يعمر، وأبو حيوة: «يُفَضَّلُ» بالياء منبيًّا للمفعول و «بَعضُهَا» رفعاً. وقال أبو حاتم: وجدته كذلك في مصحف يحيى بن يعمر، وهو أوَّل من نقط المصاحف، وتقدَّم [الخلاف] في الأكل في البقرةِ. وفي «الأكلٍ» وجهان: أظهرهما: أنَّه ظرفٌ [ل «نُفَضِّلُ» ] . والثاني: أنه حال من «بَعْضِهَا» ، أي: نُفَضِّلُ بعضها مأكولاً، أي: وفيه الأكل، قاله أبو البقاءِ. وفيه بعد جهة المعنى، والصناعة. فصل قوله: {وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ} قال الأصمُّ: أرضٌ قريبةٌ من أرض أخرى واحدة طيبة، وأخرى سبخة، وأخرى رملة، وأخرى حصباء وحصى، وأخرى تكون حمراء، وأخرى تكونُ سوداء. وبالجملة: فاختلافُ بقاع الأرضِ في الارتفاع، والانخفاضِ، والطبعِ، والخاصيةِ أمر معلوم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 246 «وجَنَّاتٍ» بساتين: {مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ} تقدَّم الكلام على الصنو، والصنوان، وهي النخلات يجمعهن أصلٌ واحد، «وغيْرُ صِنْوانٍ» هي النَّخلةُ المنفردةُ بأصلها. قال المفسريون: الصنوان: المجتمع، وغير الصنوان متفرق، ولا فرق في الصنوانِ، والقنوان بين التثنية والجمع إلاَّ في الإعرابِ، وذلك أنَّ النُّونَ في التثنية مكسورةٌ غير منونة وفي الجمع منونة. {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ} والماء: جسم رقيق مائع به حياة كلِّ نامٍ. {وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل} في الثَّمر، والطَّعم، جاء في الحديث: «ونُفصِّلُ بعضهَا على بَعْضٍ في الأكلِ» قال: «الفارسي والدقلُ الحلوُ والحَامضُ» . قال مجاهد: كمثل بني آدم صالحهم وخبيثهم وأبوهم واحد. وحكى الواحديُّ عن الزجاج: أنَّ الأكل: الثَّمر الذي يؤكل، وحكى عن غيره أنَّ الأكل: المهيّأ للأكل. قال ابنُ الخطيب: «وهاذ أولى؛ لقوله تعالى في صفة الجنة: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا} [الرعد: 35] : وهو عامٌّ في جميع المطعومات» . قال الحسن: هذا مثلٌ ضرب لقلوب بني آدم، كانت الأرض طينة واحدة في يد الرحمن، فسطحها؛ فصارت قطعاً متجاورات، فينزل عليها الماءُ من السَّماءِ فتخرج هذه زهرتها، وشجرتها، ونباتها، وثمرها، وتخرجُ هذه سبخها وملحها وخبيثها، وكلٌّ يصقى بماء واحد، كذلك النًّاسُ خلقوا من آدم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فتنزل عليهم من السَّماءِ تذكرة، فترق قلوب قوم، فتخشع، وتقْسُو قلوب قوم فتلهو. قال الحسنُ: والله ما جالس القرآن أحدٌ، إلاَّ قام من عنده بزيادة، أو نقصان، قال الله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً} [الإسراء: 82] {إِنَّ فِي ذلك} الذي ذكر: {لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . فصل قال ابنُ الخطيب: المقصُودُ من هذه الآية: إقامة الدَّلالة على أنه لا يجوز أن يكون حدوث الحوادث في هذا العالم لأجل الاتصالات الفلكية الحركات الكوكبية من وجهين: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 247 الأول: أنه جعل الأرض قطعاً مختلفة في الماهيَّة والطبيعة، وهي مع ذلك متجاورةٌ، فبعضها سبخةٌ، وبضعها طيِّبةٌ، وبعضها صلبة وبعضها حجريةٌ، وبعضها رمليةٌ، وتأثير الشمس، وتأثير الكواكب في تلك القطع على السَّويَّة؛ فدلَّ ذلك على أن اختلافها في صفاتها بتقدير العليم القدير. الثاني: أنَّ القطعة الواحدة من الأرض تسقى بماءٍ واحدٍ، ويكون تأثير الشمس فيها [متساوياً] ، ثمَّ إنَّ تلك الثمار تجيءُ مختلفة في اللَّون، والطَّعم، والطَّبيعة، والخاصية؛ حتى أنَّك قد تأخذ عنقوداً واحداً من العنب، فتكون جميع حبَّاته ناضحة حلوة إلاَّ حبة واحدة منه، فإنها تبقى حامضة يابسة، ونحن نعلم بالضرورة أن نسبة الطبائع والأفلاك إلى الكل على السوية، بل نقول ههنا ما هو أعجب منه، وهو أنَّه يوجد في بعض أنواع الورد ما يكون في أحد وجهيه في غاية الحمرة، والوجه الثاني في غاية السَّواد، مع أنَّ ذلك الورد يكون في غاية الرقة والنُّعومة، ويستحيل أن يقال: وصل تأثير الشمس إلى أحد طرفيه دون الثاني، وهذا يدلُّ دلالة [قطعية] على أنَّ الكل بتقدير الفاعل المختار لا بسبب الأتصالات الفلكيَّة، وهذا هو المراد بقوله تعالى: {يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل} ، ولهذا قال: {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} . فصل قال القرطبي: وهذا الآية تدلُّ على بطلان القول بالطبع، إذا لو كان ذلك بالماء، والتراب، والفاعل له الطبيعة؛ لما وقع الاختلاف. وذهب الكفرةُ لعنهم الله إلى أنَّ كلَّ حادث يحدث من نفسه لا من صانع وادعوا ذلك في الثِّمار الخارجة من الأشجار، وأقرُّوا بحدوثها، وأنكروا الأعراض، وقالت فرقةُ بحصول الثِّمار لا من صانع، وأثبتوا للأعراض فاعلاً. والدَّليل على أنَّ الحادث لا بد له من محدثٍ: أنَّه يحدثُ في وقت، ويحدث ما هو من جنسه في وقت آخر، فلو كان حدوثه في وقته لاختصاصه به؛ لوجب أن يحدث في وقته كل ما هو من جنسه، وإذا بطل اختصاصه بوقته صح أنَّ اختصاصه لأجل مخصص خصصه به، لولا تخصيصه إيَّاه لم يكن حدوثه في وقته أولى من حدوثه قبل ذلك أو بعده. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 248 قوله: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} الآية لما ذكر الدَّليل على معرفة المبدأ ذكر بعده ما يدلُّ على المعادِ. قال ابن عبَّاس رضي الله عهما: «إنْ تعجب من تكذيبهم إيَّاك بعد ما حكموا عتليك بأنَّك من الصَّادقين، فهذا عجبٌ» . وقيل: إن تعجب يا محمَّدُ من عبادتهم ما لا يملك لهم ضرًّا، ولا نفعاً بعد ما عرفوا الدلائل الدِّالة على التوحيد، فهذا عجبٌ. وقيل: تقدير الكلام: وإن تعجب يا محمد صلوات الله عليه فقد تعجبت في موضع العجب، لأنهم لما اعترفوا بأنه تعالى مدبِّر السموات، والأرضيين، وخالق الخلق أجمعين، وأنَّه هو الذي رفع السموات بغير عمدٍ ترونها، وأنَّه الذي سخر الشَّمس، والقمر على وفق مصالح العباد، وهو الذي أظهر في العالم أنواع العجائب، والغرائب، فمن كانت قدرته وافية بهذه الأشياء العظيمة، كيف لا تكون وافية بأعادة الإنسان بعد موته؛ لأنَّ القادر على الأقوى يكون قادراً على الأضعفِ بطريق الأولى، وهذا تقرير موضع التَّعجُّب. قوله: {فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} يجوز فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه خبر مقدم، و «قَوْلُهمْ» مبتدأ مؤخَّرٌن ولا بد من حذف [صفة] لتتمْ الفائدة، أي: فعجب أي عجب، أو غريب، ونحوه. الثاني: أنه مبتدأ، وسوَّغ الابتداء ما ذكر من الوصف المقدر، ولا يضر حنيئذٍ كون خبره معرفة، هذا كما أعرب سيبويه: كم مالك وخير من أقصد رجلاً خير منه أبوه مبتدأين لمسوغ الابتداء بهما، وخبرهما معرفةٌ، قاله أبو حيَّان. وللنزاع فيه مجال؛ على أنَّ هناك علّة لا تتأتى هنا، وهي: أنَّ الذي حمل سيبويه على ذلك من المسألتين أن أكثر ما تقع موقع «كَمْ» ، وخبر «مَا» هو مبتدأ؛ فلذلك حكم عليهما بحكم الغالب بخلاف ما نحنُ فيه. الثالث: أنَّ «عَجَبٌ» مبتدأ بمعنى معجب، و «قَوْلُهمْ» فاعل به، قاله أبو البقاء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 249 ورد عليه أبو حيَّان: بأنهم نصُّوا على أنَّ «فعلاً وفعَلة وفُعْلاً» ينوبُ عن «مَفْعُول» في المعنى، ولا يعمل عمله، فلا تقول: «مَرَرْتُ بِرجُل [ذبح] كَبْشَهُ ولا غَرَفَ مَاءهُ ولا قَبضَ مالهُ، وأيضاً فإنَّ الصفات لا تعمل إلاَّ إذا اعتمدت على أشياء مخصوصة وليس منها هنا شيء. والعَجَبُ: تغير النَّشفس برؤية المستبعد في العادة. وقال القرطبيُّ: العَجَبُ تغير النفس بما يخفى أسبابه. قوله تعالى: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} يجوز في هذه الجملة الاستفهامية وجهان: أظهرهما: أنَّها منصوبة المحل لحكايتها بالقول. والثاني: أنَّها، وما في حيزها في محل رفع بدلاً من:» قَوْلهِمْ «وبه بدأ الزمخشريُّ وعلى هذا فقولهم بمعنى مقولهم ويكونُ بدل كُلِّ؛ لأنَّ هذا هو نفس» قَوْلُهُم «، و» إذَا «هنا ظرفٌ محضٌ، وليس فيها معنى الشَّرط، والعاملُ فيها مقدر يفسره {لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} تقديره: أئذا كُنَّا تراباً نبعث، أو نحشر، ولا يعمل فيها: {خَلْقٍ جَدِيدٍ} ؛ لا، ما بعد» إذَا «لا يعملُ فيما قبلها، ولا يعمل فيها» كُنَّا «لأضافتها إليها. واختلف القراء في هذا الاستفهام المكرر اختلافاً منتشراً، وهو في أحد عشر موضعاً في تسع سور من القرآن ولا بد من تعيينها، [وبيان] مراتب القرَّاء فيها، فإن ضبطها عسر ليسهل ذلك بعون الله تعالى. فأولها: ما في هذه السورة. والثاني، والثالث: الإسراء وهما: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} [الإسراء: 49] موضعان. الرابع في المؤمنون: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [المؤمنون: 82] . الخامس في النمل: {أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً وَآبَآؤُنَآ أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ} [النمل: 67] . السادس في العنكبوت: {لَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّنَ العالمين أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال} [العنكبوت: 28، 29] . السابع في «الم» السجدة: {أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} [السجدة: 10] . الثامن، والتاسع في الصافات موضعان [الصافات: 16] . العاشر: في الواقعة: {أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ} [الواقعة: 47] . الحادي عشر في النازعات: {أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً} [النازعات: 10، 11] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 250 فهذه هي المواضع الختلف فيها، وأمَّا ضبط الخلاف فيها بالنِّسبة إلى القراء فيه طريقان: أحدهما: بالنِّسبةإلى ذكر القرَّاءِ. والثاني: بالنسبة إلى ذكر السُّور. فاعلم أنَّ هذه المواضعِ تنقسم قسمين: قسم منها سبعة مواضع لها حكم واحد، وقسم منها أربعة مواضع، لكلِّ منها حكم على حدته. أمَّا القسمُ الأوَّل فمنه في هذه السورة، والثاني، والثالث في: «سُبْحَانَ» والرابع: في «المؤمنون» ، والخامس: في «الم» السجدة، والسادس، والسابع: في الصافات وحكمها: «أنَّ نافعاً، والكسائي يستفهمان في الأول، ويخبران في الثاني، وأن ابن عامر يخبر في الأول، ويستفهم في الثاني، والباقين يستفهمون في الأول والثاني. وأما القسم الثاني، فأوله ما في سورة النمل، وحكمه: أن نافعاً يخبر عن الأول، ويستفهم في الثاني، وأن ابن عامر والكسائي بعكسه، وأن الباقين يستفهمون فيهما. الثاني: ما في العنكبوت، وحكمه: أن نافعاً، وابن كثير، وابن عامر، وحفصاً يخبرون في الأول، ويستفهمون في الثاني، والباقون، يستفهمون فيهما. الثالث: ما في سورة الواقعة، وحكمه: أن نافعاً، والكسائي يستهفمان في الأول، ويخبران في الثاني، والباقون يستفهمون فيهما. الرابع: ما في سورة النازعات، وحكمه: أن نافعاً وابن عامر والكسائي يستفهمون في الأول، وخبرون في الثاني، والبقاين يستفهمون فيهما. وأما الطريق الآخر بالنسبةإلى القراء؛ فإنهم فيها على أربع مراتب: الأول: أن نافعاً قرأ بالاستفهام في الأول، وبالخبر في الثاني، إلا في النمل والعنكبوت فإنه العكس. المرتبة الثانية: أنَّ ابن كثير، وحفصاًم قرآ بالاستفهام في الأول والثاني إلا الأول من العنكبوت فقرآه بالخبر. المرتبة الثالثة: أنَّ ابن عامرٍ قرأ بالخبر في الأوَّل، والاستفهام في الثَّاني إلا في النمل، والواقعة، والنازعات، فقرأ في النمل، والنازعات بالاستفهام في الأول، وبالخبر في الثاني، وفي الواقعة بالاستفهام فيهما. المرتبة الرابعة: الباقون وهم: أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر رضيه الله عنهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 251 أجمعين قرءوا بالاستفهام في الأول، والثاني، ولم يخالف أحدٌ منهم أصله. قال شهاب الدين: «وإنما ذكرت هذين الطريقين لعسرهما، وصعوبة استخراجهما من كتب القراءات. فأمَّا وجه قراءة من استفهم في الأوَّل، والثاني؛ فقصد المبالغة في الإنكار، فأتى به في الجملة الأولى، وأعاده في الثانية تأكيداً له، ووجه من أتى به مرة واحدة: حصول المقصود به؛ لأنَّ كل جملة مرتبطة بالأخرى، فإذا أنكر في إحداها حصل الإنكارُ في الأخرى، وأمَّا من خالف أصله في شيءٍ من ذلك، فلاتباع الأثر» . فصل هذا الخطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومعناه: أنَّك تعجبُ من إنكارهم النَّشأة الأخرى مع إقرارهم باتبداءِ الخلق، فعجب أمرهم، وكان المشركون ينكرون البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق من الله عزَّ وجلَّ وحقد تقرَّر في القلوب أنَّ الإعادة أهون من الابتداء، فهذا موضع العجب. ثم قال: {أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ} وهذا يدلُّ على أنَّ من أنكر البعث والقيامة فهو كافرٌ، وإنما لزم من إنكار البعثِ الكفر بالله تعالى؛ لأنَّ إنكار البعث لا يتمُّ إلا بإنكار القدرة، والعلم، والصدق، وأما إنكار القدرة فكقوله: الله غير قادر على الإعادة، وأما إنكار العلم فكقوله: الله غير عالم بالجزيئات، فلا يمكنه تمييز المطيع عن العاصي، وأمَّا إنكار الصِّدق فكقولهم: إنَّه أخبر عنه، ولكنه لا يفعل؛ لأنَّ الكذب جائز عليه، وكل ذلك كفرٌ بالله تعالى. ثم قال: {وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ} قال الأصمُّ: المراد بالأغلالِ: كفرهم وذلهم، وانقيادهم للأصنام، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً} [يس: 80] ؛ وقال الشاعر: [البسيط] 3165 - ... ... ... ... ... ... ... لَهُمْ عَنِ الرُّشْدِ أغْلالٌ وأقْيَادُ ويقال للرَّجلُ: هذا غلٌّ في عنقك للعمل الرَّديء، معناه: أنَّه [ملازم] لك، وأنت مُجازًى عليه بالعذابِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 252 قال القاضي: هذا وإن كان محتملاً؛ لكن حمل اللفظ على الحقيقة أولى. قال ابن الخطيب: «أقول على نصرة الأصم، بأن ظاهر الآية يقتضي حصول الأغلال في أعناقهم في الحالِ، وذلك غير حاصل، فإنهم يحملون هذا اللفظ على أنًَّه سيحصل هذا المعنى، ونحنُ نحمله على أنه حاصلٌ من الحالِ، والمراد بالأغلال ما ذكره فكلُّ واحدٍ منا تارك للحقيقة من بعض الوجوه، فلمَ كَانَ قولكم أقوى؟» . وقيل: المعنى: أنَّهُ تعالى يجعل الأغلال في أعناقهم يوم القيامة، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ} [غافر: 71] إلى قوله: {ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ} [غافر: 72] . ثم قال: {وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} والمراد منه التَّهديد بالعذاب المخلد المؤبّد، وذلك يدلُّ على أنَّ العذاب المؤبَّد ليس إلا للكفَّار؛ لأن قولهم: {هُمْ فِيهَا خَالِدونَ} يدلُّ على أنَّهم هم الموصوفون بالخُلودِ لا غيرهم فدل على أنَّ أهل الكبائر لا يخلدون في النَّارِ. فإن قيل: العجبُ هو الذي لا يعرف بسبب، وذلك في حق الله تعالى محالٌ، فكيف قال: «فعجَبٌ قَولُهُمْ» ؟ . فالجواب: المعنى: فعجب عنك. فإن قيل: قرأ بعضهم: «بَل عَجِبْتُ» بإضافة العجب إلى نفسه. فالجواب: أنَّا قد بيَّنا أنَّ مثل هذه الألفاظ يجبُ تنزيهها عن مبادىْ الأعراض ويجب حملها على نهايات الأعراض ونهاية التعجب أن الإنسان إذا تعجّب من الشيء أنكره، فكان التعجب في حقِّ الله تعالى محمولاً على الإنكار. قوله تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} وعلم أ، النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يهددهم تارة بعذاب القايمة، وتارة بعذاب الدنيا، والقوم كلَّما هددهم بعذاب القيامة، أنكروا القيامة، والبعث، والنشر كما تقدَّم في الآية الأولى، وكلما هددهم بعذاب الدنيا استعجلوه، وذلك أنَّ مشركي مكَّة كانوا يطلبون العقوبة بدلاً من العافية استهزاء منهم يوقلون: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] . قوله «قَبْلَ الحَسَنةِ» فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلقٌ بالاستعجالِ ظرفاً لهُ. والثاني: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنَّه حال مقدرة من السيئة، قاله أبو البقاء. قوله: «وقَدْ خَلتْ» يجوز أن تكون حالاً وهو الظاهر، ويجوز أن تكون مستأنفة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 253 والعامة على فتح الميم، وضم المثلثة الواحدة مثله، ك «سَمُرَة» وسَمْرَات «و» صَدُقَة وصَدُقَات «وهي العقوبة الفاضحة. قال ابن عباس:» العقوبات المتأصلاتُ كمثلات قطع الأذن، والأنف، ونحوهما «. سُمَّيت بذلك لما بين العقاب، والمعاقب عليه من المماثلة، كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] ، ولأخذها من المثال بمعنى القصاصِ. يقال: أمثلتُ الرَّجل من صاحبه، وأقصصته بمعنى واحدٍ، أو لأخذها من ضربِ المثل لعظم شأنها. وقرأ ابن مصرف» المَثْلات «بفتح الميم، وسكون الثاء، وقيل: وهي لغة الحجاز في مثله. وقرأ ابن وثاب: بضم الميم، وسكون الثاء، وهي لغة تميم. وقرأ الأعمش، ومجاهد بفتحهما، وعيسى بن عمرو، وأبو بكر في رواية بضمهما. فأما الضم، والإسكان: فيجوز أن يكون أصلاً بنفسه لغة، وأن يكون مخففاً في من قراءة الضم، والإسكان نحو» العُشْر في العَشَر «وقد عرف ما فيه. قال ابنُ الأنباري:» المَثُلَة: العقوبة المبينة في المعاقب شيئاً، وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة، وهو من قولهم: مثل فلانٌ بفلانٍ: إذا قبح صورته إمَّا بقطع أنفه، أو أذنه، أو سمل عينيه، أو بقر بطنه؛ فهذا هو الأصل، ثم يقال للعار الباقي والخزي الدائم اللازم مُثْلَه «. وقال الواحدي: «وأصل هذا الحرف من المثل الذي هو الشبه، ولما كان الأصل أن يكون العقاب مشابهاً للمعاقب عليه، ومماثلاً له سمي بهذا الاسم» . والمعنى: يستعجلونك بالعذابِ الذي لم نعاجلهم به، وقد علموا ما نزل من عقوباتنا بالأمم الخالية، أفلا يعتبرون بها. ثم قال {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} وهذا يدلُّ على أنه سبحانه وتعالى قد يعفو عن صاحب الكبيرة قبل التوبةن لأن قوله: {لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} ، أي: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 254 حال اشتغالهم بالظلم كما يقال: رأيت الأمير على أكله، أي حال اشتغاله بالأكل، وهذا يقتضي كونه تعالى غافراً للناس حال اشتغالهم بالظلم، ومعلوم أنَّ حال اشتغال الإنسان بالظلم لا يكون تائباً؛ فدلَّ هذا على أنه تعالى قد يغفر الذُّنوب قبل الاشتغالِ بالتوبة، وترك العمل بهذا الدليل في حق الكفر؛ فوجب أن يبقى معمولاً به في حق غير الكفرة، وهو المطلوبُ. ويقال: إنَّهُ تعالى لم يقتصر على قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ} بل عطف عليه قوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} ؛ فوجب أن يحمل الأول على أصحاب الكبائر، ويحتمل الثاني على الكفَّار. قال المفسريون: «لَذُو مَغْفرةٍ» لذو تجاوز عن المشركين إذا آمنوا وعن المذنبيين إذا تابوا. وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أرجى آية في القرآن هذه الآية: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} إذا أصرُّوا على الكفر. وروى حمّضاد بن سلمة عن عليِّ بن زيد عن سعيد بن المسيب رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى قال: لما نزلت: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب} قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «لَوْلاَ عَفْوُ اللهِ ورَحْمتهُ وتَجاوُزهُ لمَا هَنأ أحَدا عَيْشٌ ولوْلاَ عِقابهُ ووَعِيدهُ وعَذابَهُ لاتَّكلَ كُلُّ أحدٍ» . فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد: لذو مغفرة لأهل الصَّغائر لأجل أنَّ عقوبتهم مكفرة، ثم نقول: لم لا يجوز أن يكون المراد إنَّ ربك لذو مغفرة إذا تابوا، وأنه تعالى إنَّما لا يعجل العقاب إمهالاً لهم في الإتيان بالتَّوبة، فإن تابوا فهو ذو مغفرة لهم، ويكون المراد من هذه المغفرة [تأخير العقاب] إلى الآخرة، بل نقول: يجب حمل اللفظ عليه؛ لأنَّ القوم طلبوا تعجيل العذاب، فجيب أن تحمل المغفرة على تأخير العذاب حتى ينطبق الجواب على السُّؤال. ثم يقال: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد بقوله: {لَذُو مَغْفِرَةٍ} إمهالهم بالتَّوبة، ولا يعجل بالعقوبة، فإن تابوا، فهو ذو مغفرة، وإن لم يتوبوا؛ فهو شديد العقاب؟ . فالجواب عن الأوَّل: أن تأخير العذاب لا يمسى مغفرة، وإلاَّ لوجب أن يقال: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 255 إن الكفار كلهم مغفور لهم؛ لأنَّ الله تعالى أخَّر عقابهم إلى الآخرة. وعن الثاني: أنَّ الله تمدَّح بهذا، التَّمدُّح إنما يصحل بالتفضيل، أما أداء الواجب، فلا تمدح فيه، وعندكم يجب غفران الصغائر. وعن الثالث: أن ظاهر الآية يقتضي حصول المغفرة؛ فسقطت الأسئلةُ. قوله: {على ظُلْمِهِمْ} حال من «النَّاسِ» والعامل فيها، قال أبو البقاءِ «مَغْفرةٍ» يعني: أنه هو العامل في صاحبها. قوله تعالى: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} الآية شلما بين تعالى أنَّهم طعنوا في النبوة بسبب طعنهم في الحشر والنشر ثم طعنوا في النبوَّة أيضاً بسبب طعنهم في صحَّة ما ينذرهم به من نزول العذابِ، بين أيضاً أنهم طعنوا في نبوَّته، وطلبوا منه المعجزة. والسَّببُ في كونهم أنكروا كون القرآن معجزة: أنهم قالوا هذا كتابٌ مثلُ سائر الكتب، وإتيان الإنسان بتصنيف معين لا يكون معجزاً، وإنَّما يكون المعجز مثل معجزات موسى. واعلم أنَّ من الناس من زعم أنَّهُ لم يظهر معجزة لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سوى القرآن، قالوا: لأن هذا الكلام إنَّما يصحُّ إذا طعنوا في كونِ القرآنِ معجزاً ولم يظهر معجزاً غيره؛ لأنه لو ظهر معجزة مغيره لم يحسن أن يقال: {لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} وهذا يدلُّ على أنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ ما كان له معجزة سوى القرآنِ. والجواب: عنه من وجهين: الأول: لعلََّ المراد منه طلب معجزات سوى المعجزات التي شاهدوها من حينين الجزع، ونبع الماء من بين أصابعه، وإشباع الخلق الكثير الطعام القليل؛ فطلبوا منه معجزاتن قاهرة غير هذه، مثل: فلقِ البَحْرِ لموسى، وقلب العصا ثُعْبَاناً. فإن قيل: فما السبب في أنَّ الله منعهم، وما أعطاهم؟ . فالجواب: أن الله تعالى لما أظهر المعجزة الواحدة، فقد تَمَّ الغرض، فيكون طلب الثاني تحكماً، وظهور القرآن معجزةم، فما كان من ذلك حاجة إلى معجزات آخر. وأيضاً: فلعلَّه تعالى علم أنَّهم يصرُّون على العناد بعد ظهور المعجزة الملتمسة وكونهم يصيرون حينئذٍ يستوجبون عذاب الاستئصال، فلهذا السبب ما أعطاهم ملطوبهنم، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله: {وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ} [الأنفال: 23] فبيَّن أنَّه لم يعطهم مطلوبهم، لعلمه أنَّهم لا ينتفعون به. وأيضاً: ففتح هذا الباب يفضي إلى ما لا نهاية له، وهو أنَّه كلَّما أتى بمعجزة جاء آخر، وطلب معجزة أخرى، وذلك يوجب سقوط دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وهو باطلٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 256 والوجه الثاني: لعلَّ الكفار قالا ذلك قبل مشاهدة سائر المعجزات. ثم قال: «إنَّما أنْتَ منذرٌ» مخوف. قوله: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّ هذا الكلام مستأنف مستقبل من مبتدأ، وخبر. والثاني: أنَّ «لكُلِّ قَوْمٍ» متعلقٌ «هَادٍ» ، و «هاد» نسق على «مُنْذِرٌ» ، أي: إنَّما أنت منذرٌ وهادٍ لكل قوم، وفي هذا الوجه الفصل بين حرف العطف، والمعطوف بالجار وفيه خلاف تقدم. ولما ذكر أبو حيان هذا الوجه، لم يذكر هذا الإشكال، ومن عادته ذكره ردًّا به على الزمخشري. الثالث: أنَّ «هادٍ» خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: إنَّما أنت منذرٌ، وهو لكلِّ قوم هادٍ، ف «لكُلِّ» متعلقٌ به أيضاً. ووقف ابن كثير على «هَادٍ» [الرعد: 33] [الزمر: 23، 36] و «واقٍ» حيث وقعا، وعلى «والٍ» ن و «باقٍ» [النحل: 96] [الرعد: 34، 37] في النحل بإثبات الياء، وحذفها الباقون. ونقل ابن مجاهد عنه: أنه يقف بالياء في جميع الياءات. ونقل عن ورش: أنَّه خير في الوقف بين الياء، وحذفها. والباب: هو كل منقوصٍ منونٍ غير منصرف، واتفق القراء على التوحيد في «هَادٍ» . فصل إذا جعلنا «ولكُلِّ قوم هادٍ» كلاماً مستأنفاً، فالمعنى: أنَّ الله تعالى خصَّ كلَّ قوم بنبيٍّ، ومعجزة تلائمهم، فَلمَّا كان الغالب في زمن موسى عليه السلام السحر؛ جعل معجزته ما هو أقرب إلى طريقتهم، ولما كان الغلب في زمن عيسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الطب، جعل معجزته ما كان من تلك الطريقة، وهي إحياء الموتى، وإبراء الأكمة، والأبرص، ولما كان الغالبُ في زمان محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الفصاحة، والبلاغة جعل معجزته ما كان لائقاً بذلك الزمان، وهو فصاحة القرآن، فلمَّا لم يؤمنوا بهذه المعجزة مع أنَّها أليق بطبائهم، فبأن لا يؤمنون بباقي المعجزات أولى، هذا تقرير القاضي، وبه ينتظم الكلام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 257 وقيل: المعنى أنهم إذا جحدوا كون القرآن معجزة لا تضيق قلبك بسببه، و «إنَّما أنْتَ مُنذِرٌ» ، أي ما عليك إلاَّ الإنذار، وأمَّا الهداية فليست عغليك، فإنَّ: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} قادر على هدايتهم. والمعنى: إنَّ الهداية من الله. فصل قيل: المنذر، والهادي شيءٌ واحدٌ، والتقدير: إنَّما أنتَ مُنذِرٌ {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} منذر على حدةٍ، ومعجزة كل واحد غير معجزة الآخر. وقيل: المنذر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والهادي: هو الله تعالى قاله ابن عباس، وسعيد بن جبير، ومجاهد، والضحاك. وقال عكرمة: الهادي محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: أنت منذر، وأنت هاد لكل قوم، أي: داع. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 258 قوله تعالى: {الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} الآية في النَّظم وجوهٌ: أحدها: أنَّ الكفار لما طلبوا آيات أخر غير ما أتى به الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بين أنَّه تعالى عالم بجميع المعلومات، فلو علم من حالهم أنهم إنما طلبوا الآية الآخرى للاسترشاد، وطلب البيان أظهرها، وما منعها، لكنه تعالى عالم أنهم لم يقولوا ذلك إلا لمحض العناد؛ فلذلك منعهم، ونظيره قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ} [يونس: 20] ، وقوله: {إِنَّمَا الآيات عِندَ الله} [العنكبوت: 50] . وثانيها: أنه تعالى لما قال: {وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ} [الرعد: 5] في إنكار البعث بسبب أنَّ أجزاء أبدان الحيوانات تتفرَّق، وتختلط بعضها ببعض، ولا يتميَّز، فبين الله تعالى أنه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 258 إنما لم يتميز في حق من لا يكون عالماً بجميع المعلومات فأمّضا من: {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} كيف لا يميزها؟ . وثالثها: أنَّه متصلٌ بقوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة} [الرعد: 6] . والمعنى: أنه تعالى عالم بجميع المعلومات، فهو إنَّما ينزل العذاب بحسب ما يعلم كونه مصلحة فيه. قوله: {الله يَعْلَمُ} يجوز في الجلالة وجهان: أحدهما: أنَّها خبر مبتدأ مضمر، أي: هو الله، وهذا على قول من فسَّر «هادٍ» بأنه هو الله [تعالى، فكان هذه الجملة تفسير له، وهذا [ما] عنى الزمخشري بقوله: وأن يكون المعنى: هو الله] تفسيراً ل «هادٍ» على الوجه الأخير، ثم ابتدأ فقال: «يَعْلمُ» . والثاني: أنَّ الجلالة مبتدأ «ويَعْلمُ» خبرها، وهو كلامٌ مستأنفٌ مستقلٌّ. قال أبو حيَّان، «و» يَعْلمُ «هاهنا متعدية إلى واحدٍ؛ لأنَّه لا يراد هنا النسبة إنَّما المراد تعلق العلم بالمفردات» . قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ: «وإذا كانت كذلك، كانت غير فائتة» وقد تقدَّم أنه لا ينبغي أنه يجوز نسبة هذا إلى الله عزَّ وجلَّ وتقدم تحقيقه في الأنفال فالتفت إليه. قوله: «مَا تَحْمِلُ» «مَا» تحتمل ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن تكون موصولة أسمية، والعائد محذوف، أي: ما تحمله. والثاني: أن تكون مصدرية، فلا عائد. والثالث: أن تكون استفهامية، وفي محلها وجهان: أحدهما: أنها في محلِّ رفع بالابتداء، و «تَحْمِلُ» خبره، والجملة معلقة للعلم. والثاني: أنها في محلِّ نصب ب «تَحْمِلُ» قاله أبو البقاء. وهو أولى؛ لأنَّه لا يحتاج إلى حذف عائد لا سيَّما عند البصريين؛ فإنهم لا يجيزون زيداً ضَرَبتُ. ولم يذكر أبو حيان غير هذا، ولم يتعرض لهذا الاعتراض. و «مَا» في قوله: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ} محتملة للأوجه المتقدِّمة و «غاض، وزاد» سمع تعدِّيهما، ولزومهما، ولك أن تدَّعي حذف العائد على القول بتعديهما، وأن تجعلهما مصدريّة عل القول بمصدريتها. فصل إذا كانت «مَا» موصولة فالمعنى: أنه تعالى يعلم ما تحمل كل أنثى من الولد أهو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 259 ذكرٌ، أم أثنى، أم ناقصٌ، وحسنٌ، أم قبيحٌ، وطويلٌ، أم قصيرٌ أو غير ذلك من الأحوال. وقوله سبحانه: {وَمَا تَغِيضُ الأرحام} الغيضُ: النقصان سواء كان لازماً، أو متعدياً فيقال: غاض الماء وغضته أنا، ومنه قوله تعالى: {وَغِيضَ المآء} [هود: 44] والمعنى: ما تغضيه الأرحام إلاَّ أنه حذف الرَّافع. و «مَا تَزْدادُ» ، أي تأخذه زيادة، تقول: أخذت منه حقي، وازددت منه كذا، ومنه قوله تعالى: {وازدادوا تِسْعاً} [الكهف: 25] . ثم اختلفوا فيما تفيضه الرحم، وما تزداده على وجوهٍ: الأول: عدد الولد فإنَّ الرَّحم قد يشتمل على واحدٍ، وعلى اثنين، وثلاثة، وأربعة. يروى أن شريكاً كان رابع أربعة في بطن أمه. الثاني: عند الولادة قد تكون زائدة، وقد تكون ناقصة. الثالث: [مدة الولادة] قد تكون تسعة أشهر [فأزيد] إلى سنتين عند أبي حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ وإلى أربع عند الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، وإلى خمس عند مالكٍ رضي الله. قيل: إنَّ الضحاك ولد لسنتين، وهرم بن حيان بقي في بطن أمِّه أربع سنين، ولذلك سميي هرماً. الرابع: الدم؛ فإنه تارة يقلُّ، وتارة يكثرُ. الخامس: ما ينقصُ بالسَّقط من غير أن يتم، وما يزداد بالتَّمامِ. السادس: ما ينقصُ بظهور دم الحيض؛ لأنَّه إذا سال الدَّم في وقت الحمل ضعف الولد، ونقص بمقدار ذلك النقصان، وتزداد أيام الحمل، لتصير هذه الزيادة جابرة لذلك النُّقصان. قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «كلَّما سال الحيضُ في وقت الحمل يوماً، زاد في مدَّة الحمل يوماً، ليحصل الجبرُ، ويعتدلُ الأمر» . وهذا يدلُّ على أنَّ الحامل تحيضُ، وهو مذهب مالكٍ، وأحد قولي الشَّافعي لقول ابن عباس في تأويل هذه الآية: إنَّه حيض الحبالى، وهو قول عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها وأنها كانت تفتي النِّساء الحوامل إذا حضن أن يتركن الصَّلاة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 260 وقال المخالف: لو كانت الحاملُ تحيض مكان ما تراه المرأة من الدَّم حيضاً، لما صحَّ استراءُ الأمة بحيضة، وهذا بالإجماع. السابع: أن دم الحيض فضلة تجتمع في [بطن] المرأة، فإذا امتلأت عروقها من تلك الفضلات؛ فاضت، وخرجت، وسالت من دواخل تلك العروض، ثم إذا سالت تلك المواد، امتلأت تلك العروض مرَّة أخرى. هذا كلُّه إذا قلنا: إن «ما: موصولة. فإذا قلنا: إنَّها مصدرية: فالمعنى أنَّه تعالى يعلمُ حمل كلَّ شيءٍ، ويعلم غيض الأرحام، وازديادها لا يخفى عليه شيء من ذلك، ولا أوقاته، وأحوالهن. ثم قال: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} يحتمل أن يكون المراد بالعنديَّة: العلم ومعناه: أنَّه تعالى يعلم كمية كل شيء، وكيفيته على الوجه المفصل المبين ومتى كان الأمر كذلك امتنع وقوع التغيير في تلك المعلومات، ويحتمل أن يكون المراد من العنديَّة أنه تعالى خصَّص كل حادث بوقت معين، وحال معينة بمشيئة الأزليَّة وإرادته السرمدية. وعند حكماء الإسلام: أنه تعالى وضع أشياء كلّيّة، وأودع فيها قوى، وخواصَّ، وحركها بحيث يلزم من حركاتها المقدرة بالمقادير المخصوصة أحوال جزيئة متعينة ومناسبات مخصوصة [مقدرة] ، ويدخل في هذه الآية أفعالُ العبادِ، وأحوالهم، وخواطرهم، وهي من أدلِّ الدَّلائلِ على بطلان قول المعتزلةِ. قوله: «عِنْدَهُ» يجوز أن يكون مجرور المحل صفة ل «شَيْءٍ» ، أو مرفوعة صفة ل «كُلُّ» ، أو منصوبة ظرفاً لقوله: «بِمقْدارٍ» ، أو ظرفاً للاستقرار الذي تعلق به الجار لوقوعه خبراً. قوله: {عَالِمُ الغيب} يجوز أن يكون مبتدأ، وخبره: «الكَبيرُ المتعَالِ» ، وأن يكون خبراً لمبتدأ محذوفٍ، أي: هو عالمٌ. وقرأ زيد بن عليى «عَالِمَ» نصمباً على المدحِ. ووقف ابنُ كثير، وأبو عمرو في رواية على ياءِ «المُتعَالِ» وصلاً ووقفاً، وهذا هو الأشهر في لسانهم، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً لحذفها في الرَّسم. واستسهل سيبويه حذفها الفواصل، والقوافي، ولأنَّ «ألْ» تعاقب التنوين، فحذفت معها إجراء لها مجراها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 261 فصل قال ابن عباس رضي اكلله عنه: يريد علم ما غاب عن خلقه وما شاهدوه. قال الواحديُّ: «فعلى هذا» الغَيْب «مصدر يرادُ به الغائب، والشهادة أراد بها الشَّاهد» . واختلفوا في المراد بالغائب، والشَّاهد؛ فقيل: المراد بالغائب: [المعدوم] ، وبالشَّاهد: الموجود. وقيل: الغائب مالا يعرفه الخلق. واعلم أنَّ المعلومات قسمان: المعدمات، والموجودات. والمعدومات منهنا معدوماتٌ يمتنع وجودها، ومعدومات لا يمتنع وجودها. والموجودات قسمان: موجودات يمتنع عدمها، وموجودات لا يمتنع عدمها، وكل واحدٍ من هذه الأقسام الأربعة له أحكام، وخواص، والكل معلوم لله تعالى. قال إمامُ الحرمين: الله تعالى معلوماتٌ لا نهاية لها وله في كل واحد من تلك المعلومات معلومات أخرى لا نهاية لها؛ لأن الجوهر الفرد يعلم الله تعالى من حاله أنه يمكن وقوعه في أحياز لا نهاية لها على البدل، وموصوف بأوصاف لا نهاية لها على البدل، وهو تعالى عالمٌ بكلِّ الأحوال على التفصيل وكل هذه الأقسام داخلة تحت قوله: {عَالِمُ الغيب والشهادة} . ثم قال: «الكَبِيرُ المُتعَالِ» وهو تعالى يمتنع أن يكون كبيراً بحسب الجثَّة والمقدار؛ فوجب أن يكون كبيراً بحسب القدرة الإلهيَّة، و «المُتعَالِ» المتنزه عن كلِّ ما لا يجوز عليه في ذاته، وصفاته. قوله تعالى: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ} . في «سَواءٌ» وجهان: أحدهما: أنه خبرٌ مقدمٌ، و: «مَنْ اسرَّ» ، و «مَنْ جَهرَ» هو المبتدأ، وإنما لم يثن الخبر؛ لأنَّه في الأصل مصدر، وهو ههنا بمعنى متسوٍ، و «مِنكُمْ» على هذا حالٌش من الضمير المستتر في «سَواءٌ» ؛ لأنه بمعنى مستوٍ. قال أبو البقاء: «ويضعف أن يكون حالاً من الضمير في» أسرَّ «، و» جَهَرَ «لوجهين: أحدهما: تقديم ما في الصلة على الموصول، أو الصِّفة على الموصوف. والثاني: تقديم الخبر على» مِنْكُم «وحقُّه أن يقع بعده» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 262 قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «وحقُّه أ، يقع بعده يعني: بعدهُ، وبعد المبتدأ، ولا يصير كلامه لا معنى له» . والثاني: أنه مبتدأ وجاز الابتداء به لوصفه بقوله: «مِنْكُم» . وأعرب سيبويه: «سواءٌ» عليه الجهر والسِّر كذلك، وقول بن عطيَّة: إنَّ سيبويه ضعَّف ذلك بأنه ابتداء بنكرة غلط عليه. قال ابنُ الخطيب: لفظ «سواء» يطلب اثنين، تقول: «سواء زيد، وعمرو» ، ثم فيه وجهان: الأول: أنَّ «سواءٌ» مصدر، والمعنى: ذو سواء، كما تقول: عدل زيد وعمرو، أي: ذو عدلٍ. الثاني: أن يكون «سواءٌ» بمعنى مستوٍ، وعلى هذا التقدير، فلا حاجة إلى الإضمار، إلا أنَّ سيبويه يستقبحُ أن يقال: مستو زيد وعمرو؛ لأنَّ اسماء الفاعل إذا كانت نكرة لا يبتدأ بها. ولقائلٍ أن يقول: بل هذا الوجه أول؛ لأنَّ حمل الكلام عليه يغني عن التزامِ الإضمار الذي هو خلاف الأصل. قوله: {وَسَارِبٌ بالنهار} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون معطوفاً على «مُسْتَخْفٍ» ، ويراد ب «مَنْ» حينئذ اثنان، وحمل المبتدأ الذي هو لفظ «هُوَ» على لفظها، فأفرده، والخبر على معناها فثناه. والوجه الثاني: أن يكون عطفاً على «من هُوَ» في «ومَنْ هُو مُسْتخْفٍ» لا على: مُستَخفٍ «وحده. ويوضح هذين الوجيهن ما قاله الزمخشريُّ قال:» فإن قلت: كان حق العبارةِ أن يقال: ومن هو مستخف باللَّيل، ومن هو ساربٌ بالنَّهار حتَّى يتنول معنى الاستواء المستخفي، والسارب، وإلا فقد تناول واحد هو مستخف وسارب. قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن قوله: «سَارِبٌ» عطف على: «مَنْ هُو مُسْتَخْفٍ» [لا على:: مُسْتَخْفٍ «. والثاني: أنَّه عطف على:» مُسْتَخْفٍ «إلا أنَّ:» مَنْ «في معنى الاثنين؛ كقوله: [الطويل] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 263 3166 - ... ... ... ... ... . ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئْبُ يَصْطحِبَانِ كأنه قيل: سواء منكم اثنان مستخف بالليل، وسارب بالنَّهار «. قال شهابُ الدِّين: وفي عبارته بقوله: كان حق العبارة كذا سوء أدب، وقوله كقوله:» نَكُنْ مِثلَ مَنْ يا ذئب «يشير إلى البيت المشهور في قصة بعضهم مع ذئبٍ يخاطبه: [الطويل] 3167 - تَعَشَّ فإنْ عَاهَدْتَنِي لا تَخُونُنِي ... نَكُنْ مِثْلَ مَنْ يَا ذِئبُ يَصْطحِبَانِ وليس في البيت حملٌ على اللفظ والمعنى، وإنَّما فيه حملٌ على المعنى فقط، وهو مقصوده. وقوله:» وإلا فقد تناتول واحدٌ هو مستخق وسارب «لو قال بهذا قائل لأصاب الصَّواب وهو مذهب ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما ومجاهد ذهبا إلى أن المستخفي والسَّاب شخص واحد يستخفي بالليل، ويسرب بالنَّهار، ليري تصرفه في النَّاس. الثالث: أن يكون على حذف» مَنْ «الموصولة، أي: ومن هو سارب، وهذا إنَّما يتمشى عند الكوفيين، فإنهم يجيزون حذف الموصول، وقد استدلالهم على ذلك. والسَّاربُ: اسم فاعل من» سَرَبَ، يَسْرُبُ «، أي: تصرف كيف يشاء؛ قال: [الكامل] 3168 - أنَّى سَربْتِ وكُنْتِ غَيرَ سَرُوبِ ... وتُقرَّبُ الأحلامُ غَيْرَ قَريبِ وقال آخر: [الطويل] 3169 - وكُلُّ أنَاسٍ قَاربُوا قَيْدَ فَحْلِهِمْ ... ونَحْنُ خَلعْنَا قَيْدُهُ فهو سَارِبُ أي: متصرف كيف توجَّه، ولا يدفعه أحدٌ عن مرعى قومه بالمنعة، والقوة. فصل معنى الكلام: أي: يستوي في علم الله المسر في القول، والجاهر به. وفي المستخفي، والسَّارب وجهان: الأول: يقال: أخفيت الشيء أخفيه فخفي، واستخفى فلان من فلان، أي: توارى واستتر منه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 264 والسَّارب: قال الفراء والزجاج: أي: ظاهر بالنهار في سربه، أي: طريقه يقال: خلا له سربه، أي: طريقه، والسَّرب بفتح السِّين، وسكون الراء الطريق. وقال الأزهري:» تقول العرب: سَربتِ الإبلُ تسرب سَرَباً، أي: مضت في الأرض ظاهرة حيث شاءت «. فمعنى الآية: سواء كان الإنسان مستخفياً في الظُّلماتِ، وكان ظاهراً في الطرقاتِ فعلم الله تعالى محيطٌ بالكلِّ. قال ابن عباس:» سواء ما أضمرته القلوب، أو أظهرته الألسنة «. وقال مجاهد: سواء من أقدم على القبائح في ظلمات الليل، ومن أتى بها في النهار الظاهر على سبيل التَّوالي. وقال ابن عباس أيضاً:» هو صاحب ريبة مستخسف بالليل، وإذا خرج النهار أرى النَّاس أنه بريء من الإثم «. والقول الثاني: نقل الواحدي عن الأخفش، وقطرب قال: المستخفي: الظاهر والسارب: المتواري، ومنه يقال: خفيت الشيء، أي: أظهرته، وأخفيت الشيء أي: استخرجته، ويسمى النَّبَّاش: المستخفي، والسَّارب: المتواري، أي: الداخل سرباً، وانسرب الوحش: إذا دخل في السِّرب، أي: في كناسه. قال الواحديُّ:» وهذا الوجه صحيح في اللغة إلا أنَّ الأول هو المختارُ لإطباق أكثر المفسرين عليه، وأيضاً: فالليل يدلُّ على الاستتار، والنهار على الظهور «. قوله: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} الضمير فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه عائد على «مِنْ» المكررة، أي: لمن أسرّ القول، ولمن جهر به ولمن استخفى: «مُعَقباتٌ» ، أي: جماعة من الملائكة يعقب بعضهم بعضاً. الثاني: أنه يعود على «مِنْ» الأخيرة، وهو قول ابن عبَّاسٍ. قال ابن عطية: والمعقبات على هذا: حرسُ الرجل وجلاوزته الذين يحفظونه، قالوا: والآية على هذا في الرؤساء الكفار، واختاره الطبريُّ وآخرون إلاَّ أنَّ المارودي ذكر على هذا التأويل: أنَّ الكلام نفي، والتقدير: لا يحفظونه، وهذا ينبغي ألاّ يمسع ألبتة، كيف يبرز كلام موجب، ويراد به نفي، وحذف «لا» إنما يجوز إذا كان المنفي مضارعاً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 265 في جواب قسم، نحو {تَالله تَفْتَأُ} [يوسف: 85] وقد تقدَّم تحريره وإنّضما معنى الكلام كما قال المهدويُّ: يحفظونه من أمر الله في ظنه، وزعمه. الثالث: أن الضمير في «لهُ» يعود على الله تعالى وفي «يَحْفظُونَهُ» للبعد أي: للهِ ملائكة يحفظون العبد من الآفات، ويحفظون عليه أعماله قاله الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. الرابع: عود الضميرين على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإن لم يجر له ذكر قريب، ولتقدُّم ما يشعر به في قوله: «لوْلاَ أنْزِلَ عليْهِ» . و «مُعقِّباتٌ» جمع معقب بزنة مفعل، من عقب الرجل إذا جاء على عقب الآخر؛ لأن بعضهم يعقبُ بعضاً، أو لأنَّهم يعقبون ما يتكلَّم به. وقال الزمخشري: «والأصل: معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، كقوله: {وَجَآءَ المعذرون} [التوبة: 90] فلا يتعيَّن أن يكون أصله» المُتعذِّرُون «وقد تقدَّم توجيهه، وأنه لا يتعيَّن ذلك فيه. وأما قوله: ويجوز» مُعِّبات «بكسر العين، فهذا لا يجوز؛ لأنه بناه على أن أصله: معتقبات، فأدغمت التاء في القاف، وقد بيَّنا أن ذلك وهم فاحشٌ وفي» مُعَقِّباتٌ «احتمالان: أحدهما: أن يكون معقبة بمعنى معقب، والتَّاء للمبالغة، كعلاَّمة، ونسَّابة. أي: ملك معقب، ثم جمع هذا كعلامات، ونسَّابات. والثاني: أن يكون معقبة صفة لجماعة، ثم جمع هذا الوصف، وذكر ابنُ جريرٍ: أن معقبة جمع معقب، وشبه ذلك ب» رَجُلٍ، ورجالٍ، ورِجَالاتٍ «. قال أبو حيَّان: وليس كما ذكر، إنما ذلك ك» جَمَلٍ، وجِمَالٍ، وجمالاتٍ «ومعقب، ومعقبات إنَّما هو كضارب، وضاربات. ويمكن أن يجاب عنه: بأنه يمكن أن يريد بذلك أنَّه أطلق من حيث الاستعمال على جمع معقب، وإن كان أصله أن يطلق على مؤنث» معقب «، فصار مثل:» الواردة «للجماعة الذين يريدون، وإن كان أصله للمؤنثة من جهة أنَّ جموع التَّكسير في العقلاء تعامل معاملة المؤنثة في الإخبار، وعود الضَّمير، ومنه قولهم: الرِّجحالُ وأعضادها، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 266 والعلماء ذاهبةٌ إلى كذا، وتشبيهنه ذلك برجل، ورجالات من حيث المعنى لا الصناعة» . وقرأ أبي، وإبراهيم، وعبيد الله بن زيادٍ: له معاقيب. قال الزمخشريُّ: «جمع معقب، أو معقبة، والياء عوضٌ من حذف إحدى القافين في التكسير» . ويوضح هذا ما قاله ابنُ جنِّي؛ فإنه قال: «مَعَاقِيب» تكسير مَعْقِب بسكون العين، وكسر القاف، ك «مُطْعِم، مطاعم» و «مَقْدِم، ومَقَادِيم» ، فكأن «مُعْقباً» جمع على معاقبة، ثم جعلت الياء في «معاقيب» عوضاً من الهاء المحذوفة في «مُعَاقبةٍ» . فصل قال: المعقب من كلِّ شيء ما خلف يعقب ما قبله، ويجوز أن يكون عقبه، إذا جاء على عقب، والمعنى في كلا الوجهين واحد. والتَّعقيب: العود بعد البدءِ، وإنَّما ذكر بلفظ التَّأنيث؛ لأن واحدها معقب وجمعه معقبة، ثم جمع المعقبة معقبات، كقولك: رجالات مكسر، وقد تقدَّم. وفي المراد ب «المعقبات» قولان: أشهرهما: أن المراد الحفظة، وإنَّمام وصفوا بالمعقبات، إما لأجل أن ملائكة اللَّيل تعقب ملائكة النَّهار، وبالعكس، وإما لأجل أنهم يعقبون أعمال العباد ويتبعونها بالحفظ، والكتابة، وكل من عمل عملاً ثم معاد إليه؛ فقد عقَّبهُ. فعلى هذا المراد من المعقبات: ملائكة الليل، والنَّهار، قال تعالى جلًَّ ذكره {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَاماً كَاتِبِينَ يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} [الانفطار: 10، 11، 12، 13] . قوله: {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ} يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة ل «مُعقِّباتٌ» ويجوز أن يتعلق ب: مُعقِّباتٌ «، و» مِنْ «لابتداء الغاية، ويجوز أن تكون حالاً من الضمير الذي هو الظرف الواقع خبراً والكلامم على هذه الأوجه تام عند قوله: {وَمِنْ خَلْفِهِ} . وقد عبَّر ِأبو البقاء، رَحِمَهُ اللَّهُ عن هذه الأوجه بعبارة مشكلة، وهي قوله: {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ} يجحوز أن يكون صفة ل» مُعقِّباتٌ «، وأن يكون ظرفاً، وأن يكون حالاً من الضمير الذي فيه، فعلى هذا يتمُّ الكلام عنده» انتهى «. ويجوز أن يتعلق ب» يَحْفَظُونَه «أي: يحفظونه من بين يديه، ومن خلفه. فإن قيل: كيف يتعلَّق حرفان متحدان لفظاً ومعنى بعاملٍ واحدٍ، وهما» مِنْ «الداخلة على» بَيْنِ «و» مِنْ «الداخلة على:» أمْرِ اللهِ «؟ . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 267 فالجواب: أنَّ» مِنْ «الثانية مغايرة للأولى في المعنى كما ستعرفه. قوله:» يَحْفَظُونهُ «يجوز أن يكون صفة ل» مُعقِّباتٌ «، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في الجار الواقع [خبراً] ، و» مِنْ أمْرِ اللهِ «متعلق به، و» مِنْ «إمَّا للسَّببِ أي: بسبب أمر الله. ويدل له على قراءة عليِّ بن أبي طالبٍ، وابن عبَّاسٍ، وزيد بن عليّ، وعكرمة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: بأمر الله. وقيل: المعنى على هذا يحفظون عمله بإذن الله، فحذف المضاف. قال ابن الأنباري: كلمة «مِنْ» معناها الباء، وتقديره: يحفظونه بأمر الله وإعانته، والدَّليل عليه: أنه لا بد من المصير إليه؛ لأنَّه لا قدرة للملائكة، ولا لأحد من الخلقِ على أن يحفظوا أحداً من أمر الله، ممَّا قضاه الله عليه؛ وإمَّا أن تكون على بابها. قال أبُو البقاء: «مِنْ أمْرِ اللهِ» من الجنِّ، والإنس، فتكون «مِنْ» على بابها. «يعني: أن يراد بأمر الله: نفس ما يحفظ منه كمردة الإنس، والجن، فتكون» مِنْ «لابتداء الغاية» . ويجوز أن تكون بمعنى «عَنْ» ، وليس عليه معنى يليق بالآية الكريمة، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه صفة ل: «مُعقِّباتٍ» أيضاً فيجيء الوصف بثلاثة أشياء في بعض الأوجه المتقدمة بكونها {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} وبكونها «يَحفظه» ، وبكونها «مِنْ أمْرِ اللهِ» ولكن يتقدَّم الصوف بالجملة على الوصف بالجار، وهو جائزٌ فصيحٌ، وقد ذكر الفراء فيه وجهين: الأول: أنه على التَّقديم، والتأخير، والتقدير: له معقبات من أمر الله يحفظونه من بين يديه. قال شهاب الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «والأصل عدم ذلك مع الاستغناء عنه» . والثاني: أن فيه إضماراً، أي: ذلك الحفظ من أمر الله، أي: ممَّا أمر الله به، فحذف الاسم، وأبقى خبره، كما يكتب على الكيس: ألفان، والمراد الذي فيه ألفان. فصل ذكر المفسرون: أن للهِ ملائكة يتعاقبون بالليل، والنهار؛ فإذا صعدت ملائكمة الليل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 268 جاء في عقبها ملائكة النهار، وإذا صعدت ملائكة النَّهار، جاء في عقبها ملائكة الليل. لما روى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: قال «يَتَعَاقَبُونَ فِيكُمْ مَلائِكَةٌ باللِّيلِ ومَلائكِةٌ بالنَّهارِ يَجْتمِعُونَ عِنْدَ صلاةِ الفَجْرِ وصلاةِ العَصْرِ، ثُمَّ يَعْرجُ الَّذينَ باتُواة فيكُم؛ فيَسْألهُم وعو أعملُ بِهِم: كَيْفَ تَرَكْتُمْ عِبَادي؟ فَيقُولُون: تَركْنَاهُم، وهُمْ يُصَلُّونَ، وأتَيْنَاهُمْ، وهُمْ يُصَلُّون» . وقوله: {مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ} يعنى من قدام، هذا استخفى باللَّيل والسَّارب بالنَّهار، ومن وراء ظهره يحفظونه من أمر الله يعني بإذنِ الله ما لم يجىء القدر، فإذا جاء القدر خلوا عنه. وقيل: يحفظونه ممَّا أمر الله به من الحفظ عنه. قال مجاهدٌ: ما من عبدٍ إلا وله ملك وكلٌ به يحفظه في نومه ويقظته من الجنِّ والإنس، والهوام. وقيل: المراد بالآية الملكين القاعدين على اليمين، وعلى الشمال يكتبان الحسنات والسيئات «يحفظونه» أي يحفظون عليه، «من أمر الله» يعني الحسنات والسيئات قال الله تعالى: {مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق. 18] . وقال عبد الرحمن بن زيد: نزلت هذه الآية في عامر بن الطُّفيل وأربد بن ربيعة، وكانت قصَّتهما على ماروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما، قال: «أقبل عامر بن الطُّفيل، وأربد بن ربيعة، وهما عامريان يريدان رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وهو جالس في المسجد في نفرٍ من أصحابه، فدخلا المسجد، فاسْتشْرَفَ الناسُ لجمالِ عامرٍ، وكان أعورَ، وكان من أجمل النَّاس، فقال رجل: يا رسول الله هذا عامر بن الطُّفيل قد أقبل نحوك فقال: دعه؛ فإن يرد الله به خيراً يهده، مفأقبل حتى قام عليه، فقال: يا محمد ما لي إن أسلمت؛ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لك ما للمسلمين، وعليك ما على المسلمين، قال: تجعلي لي الأمر بن بعدك؛ قال: ليس ذلك إليَّ، إنما ذلك إلى الله عَزَّ وَجَلَّ يجعله حيث يشاءُ، فقال: تجعلني على الوبر والمدرِ، قال: لا، قال: فما تجعلي لي؟ قال أجعل لك أعنَّة الخيل تغزُو عليها قال: أوليس ذلك لي اليوم، قم معي أكلمك، فقام معه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكان عامر أوصى إلى أربد بن ربيعة: إذا رأيتني أكلمه فدُرْ من خلفه، فاضربه بالسيف، فجعل يخاصم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويراجعه، فدار أربدُ من خلف النبي ليضربه، فاخترط من سيفه شبراً، ثمذَ حبسه الله عزَّ وجلَّ عنده، فلم يقدر على سلّه، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 269 وجعل عامرُ يومىء إليه، فالتفت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فرأى أربد وما يصنع بسيفه، فقال:» اللَّهُمَّ أكْفِنِيهما بِمَا شِئْتَ «فأرسل الله على أربد صاعقة في يوم مصحوٍ صائفٍ، فأحرقته، وولّى عامر بنُ الطفيل هارباً، وقال: يا محمد! دعوت ربك فقتل أربد، والله لأملأنَّها عليك خيلاً جرداً، وفتياناً مرداً، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» يَمْنَعُكَ اللهُ مِنْ هذا، وأبْناءُ قيْلة «يريد الأوس، والخزرج؛ فنزل عامرٌ بيت امرأة سلوليّة فلما أصبح، ضم عليه سلاحه، وقد تغير لونه، فخرج يركض في الصحراء ويقول: ابرز يا ملك الموت، ويقول الشِّعر، ويقول: واللات لئن أصبح لي محمداً وصاحبه يعني ملك المت لأنفذتهما برمحي؛ فأرسل الله تبارك وتعالى ملكاً فلطمه بجناحه، فأذراه في التراب، وخرجت على ركبته في الوقت غدة عظيمة، فعاد إلى بيت السلولية، وهو يقول:» غُدَّةٌ كغُدةِ البَعيرِ، ومَوْتٌ في بَيْتِ سَلُوليَّة «، ثم دعا بفرسه، فركبه، ثمَّ أجراه حتَّى مات على ظهره، فأجاب الله دعاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقُتلَ عامرٌ بالطعن، وأربد بالصَّاعقة» ، وأنزل الله في هذه القصَّة: {سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بالليل وَسَارِبٌ بالنهار لَهُ مُعَقِّبَاتٌ} يعنى للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معقبات يحفظونه من بين يديه ومن خلفه من أمر الله، يعنىم: تلك المعقبات من أمر الله، وفيه تقديرم وتأخير. ونقل عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما واختاره أبو مسلم الأصفهاني رَحِمَهُ اللَّهُ أن المراد يستوي في علم الله السرُّ، والجهر، والمستخفي في ظلمة اللَّيل والسارب بالنهار المستظهر بالمعاونين، والأنصار، وهم الملوك، والأمراء فمن لجأ إلى الله فلن يفوِّت الله سبحانه وتعالى أمره، ومن سار نهاراً بالمعقبات، وهم الأحراس والأعوان الذين يحفظونه لم ينجه حراسه من الله تعالى والمعقب هو العون؛ لأنه إذا نصر هذا وذاك؛ فلا بد وأن ينصر ذاك هذا؛ فنصر كل واحد منهما معاقبة لنصرة الآخر؛ فهذه المعقبات لا تخلص من قضاء الله، وقدره، وهم وإن ظنُّوا أنهم يخلصون مخدومهم من أمر الله، ومن قضائه؛ فإنهم لا يقدرون على ذلك ألبتَّة. والمقصود من الكلام: بعث السلاطين، والأمراء، والكبراء على أن يطلبوا الخلاص من المكاره من الله، ويعلولوا على حفظه وعصمته ولا يعولوا في دعفها على الأعوان والأنصار؛ ولذلك قال تعالى جل ذكره بعده: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} . قال القرطبي: «قيل: إن في الكلام نفياً محذوفاً تقديره: لا يحفظونه من أمر الله تعالى ذكره الماورديُّ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 270 قال المهدوي: ومن ج عل المعقٍِّبات: الحرس، فالمعنى: م يحفظونه من أمر الله على ظنه، وزعمه. وقيل: سواء من أسر القول، ومن جهر، فله حراس، وأعوان يتعاقبون عليه، فيحملونه على المعاصي، و» يَحْفظُونَهُ «من أن ينجع فيه وعظٌ. قال القشيريُّ: وهذا لا يمنع الرب من الإمهال إلى أن يحق العذابل، وهو إذا غير هذا العاصي ما بنفسه بطول الإصرار، فيصير ذلك سبباً للعقوبة، فكأنه الذي يحل العقوبة» . وقال عبد الرحمن بن زيد: «المعقِّبات: ما تعاقب من أمر الله تعالى وقضائه في عباده» . قال الماورديُّ: «ومن قال بهذا القول، ففي تأويل قوله: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله} وجهان: أحدهما: يحفظونه من الموت ما لم يأت أجله، قاله الضحاك. الثاني: يحفظونه من الجنِّ، والهوام المؤذية، ما لم يأت قدرٌ، قاله أبو أمامة، وكعب الأحبار رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما فإذا جاء القدر خلوا عنه؟ . قوله: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ} : من العافية والنعمة {حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} من [الحالة الجميلة] فيعصون ربَّهم. قال الجبائي، والقاضي: هذه الآية تدلُّ على مسألتين: الأولى: أنَّه سبحانه لا يعاقبُ أطفال المشركين بذنوب آبائهم؛ لأنَّهم لم يغيِّروا ما بأنفسهم من نعمه، فيغير الهلن حالهم من النِّعمة إلى العذاب. الثانية: قالوا: الآية تدلُّ على بطلان قول المجبرة: إنَّه تعالى ابتدأ العبد بالضَّلال، والخذلان أوَّل ما يبلغ؛ لأنَّ ذلك أبلغ في العقاب، مع أنَّه ما كان منه تغيير. قال ابن الخطيب: «والجواب أن ظاهر الآية يدل على أن فعل الله تعالى في التغيير يترتب على فعل العبد، وقوله {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [التكوير: 29] يدلُّ على أن فعله مقدم على فعل العبد، فوقع التَّعارض. وقوله تعالى: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} يدلُّ على أنَّ العبد غير مستقل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 271 بالفعل، فلو كان العبد مستقلاً بتحصيل الإيمان، ولكان قادراً على ردّ ما أراد الله تعالى من كفر، وحينئذٍ بطل قوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ} ؛ فثبت أنَّ الآية السابقة، وإن أشعرب بمذهبهم إلا أن هذا من أقوى الدلائل على مذهبنا. روى الضحاك عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لم تغن المعقبات شيئاً وقال عطاء عنه: لا رادّ لعذابي، ولاناقض لحكمي: {وَمَا لَهُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ} ، أي: ليس لهم من دون الله من يتولاهم، ويمنع قضاء الله عنهم، أي: مال هم والٍ يتولَّى أمرهم، ويمنع العذاب عهم. قوله: {وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ} » العامل في «إذَا» محذوف لدلالة جوابها عليه تقديره: لم يرد أو وقع، أو نحوهما، ولا يعمل فيها جوابها؛ لأنَّ ما بعد الفاء لا يعملُ فيما قبلها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 272 قوله تعالى: {هُوَ الذي يُرِيكُمُ البرق} الآية لما خوَّف العباد بإنزال ما لا مرد له، أتبعه بذكر هذه الآية المشتملة على قدرة الله تعالى وحكمته، وهي تشبه النعم والإحسان من بعض الوجوه، وتشبه العذاب، والقهر من بعض الوجوه. قوله: «خوفاً وطمعاً» يجوز أن يكونا مصدرين ناصبهما محذوف، أي: يخافون خوفاً، ويطمعون طمعاً، ويجوز أن يكونا مصدرين في موضع نصب على الحالِ، وفي صاحب الحال حينئذ وجهان: أحدهما: أنه مفعول: «يُرِيكُمْ» الأول، أي: خائفين طامعين، أي: تخافون صواعقه وتطمعون في مطره، كما قال المتنبي: [الطويل] 3170 - فَتًى كالسَّحابِ الجُونِ يُخْشَى ويُرْتَجَى ... يُرجَّى الحَيَا مِنهَا وتُخْشَى الصَّوعِقُ والثاني: أنَّه البرق، أي: يريكموه حالَ كيف ذا خوفٍ وطمعٍ، إذ هو ف ينفسه خوف وطمع على المبالغة، ولمعنى كما تقدَّم. ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله، ذكره أبو البقاء، ومنعه الزمخشريُّ لعدم اتِّحادِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 272 الفاعل، يعني أنَّ «الإرادة» وهو الله تعالى غير فاعل الخوف، والطمع، وهو ضمير المخاطبين، فاخلتف فاعل الفعل المعلل، وفاعل العلة وهذا يمكن أن يجاب عنه: بأنَّ المفعول في قوَّة الفاعل، فإن معنى «يُرِيكُم» يجعلكم رائين، فتخافون، وتطمعون. ومثله ف يالمعنى قوله النابغة الذبياني: [الطويل] 3171 - وحَلَّتْ بُيوتِي في يَشفاعٍ مُمنَّعٍ ... تَخالُ بهِ رَاعِي الحَمُولةِ طَائِرَا حِذَاراً على الاَّتَنالَ مَقادَتِي ... ولا نِسْوتِي حتَّى يَمُتْنَ حَرائِرَا ف «حذارا» مفعول من أجله، فاعله هو المتكلم، والفعل المعلل الذي هو: «حَلَّت» فالعه «بُيُوتِي» فقد اختلف الفاعل، قالوا: لكن لما كان التقدير: وأحللت بيوتي حذاراً صحَّ ذلك. وقد جوَّز الزمخشريُّ ذلك أيضاً على حذف مضاف فقال: «إلاَّ على تقدير حذف مضاف، أي: إرادة خوفٍ، وطمع، وجوَّزه، أيضاً على أن بعض المصادر ناب عن بعض. يعني أن الأصل: يريكم البرق إخافة، وإطماعاً» . فإنَّ المرئي، المخيف، والمطمع هو الله تعالى فناب خوف عن أخافة، وطمع عن إطماع، نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] على أنه قد ذهب ابن خروف، وجماعة على أنَّ اتحاد الفعل ليس بشرط. فصل في كون البرق خوفاً وطمعاً وجوه: قيل: يخاف منه نزول الصَّواعق، وطمع في نزول الغيثِ. وقيل: يخافُ المطر من يتضرر به كالمسافر، ومن في جرابه التمر والزبيب، والحب، ويطمع فيه من له فيه نفعٌ. وقيل: يخاف منه في غير مكانه، وأمانه، يطمع فيه إذا كان في مكانه وأمانه، ومن البلدان إذا مطروا، قحطوا، وإذا لم يمطروا خصبوا. قال ابن الخطيب: «البرقُ جسمٌ مركبٌ من أجزاء رطبة مائية، ومن أجزاء هوائية ولا شك أنَّ الغالب عليه الأجزاء المائية، والماء جسمٌ باردٌ رطبٌ، والنَّار جسم حار يابس فظُورُ الضدِّ من الضد التام على خلافِ العقل، فلا بد من صانع مختاار يظهر الضدّ من الضدّ» . ثم قال: «ويُنْشِىءُ السَّحاب الثِّقَال» بالمطر، ويقال: أنشأ الله السحابة، فنشأت، أي: أبدأها فبدأت. قال الزمخشري: «السَّحابُ: اسم جنس الواحدة سحابة، والثقال: جمع ثقيلة؛ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 273 لأنَّك تقول: سحابةٌ ثقيلةٌ وسحابٌ ثِقَال، كما تقول: امرأةٌ كريمة، ونساءٌ كِرام» . وقال البغوي: «السَّحاب جمع، واحدتها: سحابة، ويقال في الجمع: سُحُبٌ وسَحَائِبُ أيضاً، قال عليٌّ: السحاب غربال الماءِ» . فصل قال ابن الخطيب: «وهذا من دلائل القدرة والحكمة، وذلك لأنَّ هذه الأجزاء المائية إمَّا أن يقال: حدثيت في جو جو الهواءِ أو تصاعدت من وجه الأرض، فإن كان الأوَّل وجب أن يكون [حدوثها] بأحداث محدث حكيم قادر، وهو المطلوب، وإن كان الثاني هو أن يقال: تلك الأجزاء تصاعدت من الأرض، فلمَّا وصلت إلى الطبقة الباردة من الهواء بردت، فثقلت، فرجعت إلى الأرض. فنقول: هذا باطلٌ؛ لأن الأمطار مختلفة، فتارة تكمون القطرات كبيرة، وتارة تكون صغيرة، وتارة تكون متقاربة، وأخرى تكون متباعدة، وتارة تطول مدة نزول المطر، وتارة تقصر واختلاف الأمطار في هذه الصفِّات مع أنَّ طبيعة الأرض واحدة، وطبيعة الشمس واحدة فلا بد وأن يكون تخصيص الفاعل المختار، وأيضاً فالتَّجربة دلَّت على أنَّ للدعاءن والتَّضرع في نزول الغيث أثراً عظيماً كما في الاستسقاء ومشروعيته، فعلمنا أنَّ المثؤر فيه [قدرة] الفاعل لا الطبيعة، والخاصية» . قوله: {وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ} قال أكثر المفسرين: الرَّعدُ اسم ملكٍ يسوقُ السَّحاب، والصوت المسموع تسبيحه. قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «مَنْ سَمِعَ صوتَ الرَّعدِ فقال: سُبْحانَ الَّذي يُسبِّحُ الرَّعْدُ بحَمْدهِ والمَلائِكةُ مِنْ خِيفتهِ وهُوَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ قدير، فإنْ أصَابهُ صَاعِقةٌ فَعَلى دِينه» . وعن ابن عبَّاس: أنَّ اليهود سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن الرَّعدِ ما هو؟ . فقال صلى لله عليه وسلم «ملكٌ من الملائكةِ وُكِلَ بالسَّحابِ معهُ مخَارِيق من نَارِ يسُوقُ بِهَا السَّحابَ حيثُ شَاء اللهُ، قالوا: فَمَا الصَّوتُ الذي نَسْمَع؟ قال: زَجْرةُ السَّحابِ» . وعن الحسن: أنَّه خلق من خلق اكلله ليس بملكٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 274 قال ابن الخطيب: «فعلى هذا القولِ: الرَّعدُ هو الملكُ الموكل بالساحب، وذلك الصَّوت يسمّى بالرَّعدِ، ويؤكد هذا ما روي عن النبيِّ صلى الله عليه سلم أنه قال:» إنَّ اللهَ يُنشِىءُ السَّحاب، فتَنْطِقُ أحسنَ النُّطقِ وتَضحَكُ أحسن الضِّحكِ فنُطقه الرَّعدُ وضِحْكهُ برق «. وهذا القول غير مستبعد؛ لأن عند أهل السنة البينة ليست شرطاً لحصولِ الحياة، فلا يبعد من الله تعالى أن يخلق الحياة، والعلم، والقدرة، والنُّطق في أجزاء السَّحاب، فيكون هذا الصوت المسموع فعلاً له، وكيف يستبعد ذلك، ونحن نرى أنَّ السمندل يتولد في النَّار، والضفادع تتولّد في الماءِ، والدُّوجة العظيمة ربما تولدت في الثلوج القديمة، وأيضاً: فإذا لم يبعد تسبيحُ الحِبالِ في زمن داود صلوات الله وسلامه عليه ولا تسبيح الحصى في زمن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكيف يبعدُ تسبيحُ السَّحاب؟ . وعلى هذا القول ففي هذا المسموع قولان: أحدهما: أنه ليس بملك؛ لأنَّه عطف عليه الملائكة فقال: {والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ} المعطوف عليه مغايرٌ للمعطوف. والثاني: لا يبعد أن يكون من جنس الملائكة، وإنَّما أفرده بالذِّكر تشريفاً كقوله تعالى: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] وقوله تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] . وقيل: الرعدُ اسم لهذا الصوت المخصوص، ومع ذلك فإنَّه يسبحُ، قال تعالى {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ} [الإسراء: 44] . وقيل: المراد من كون الرَّعد مسبحاً، أن من يسمع الرَّعد فإنَّه يسبح الله تعالى فلهذا المعنى أضيف التسبيح إليه. قوله: {والملائكة مِنْ خِيفَتِهِ} ، أي: الملائكة يسبحون من خيفة الله، وخشيته، وقيل: أراد بهؤلاء الملائكة أعوان الرعد جعل الله تعالى له أعواناً، فهم خائفون خاضعون طائعون. قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «خائفون من الله لا كخوف بني آدم، فإنَّ أحدهم لا يعرف من على يمينه، ومن على يساره لا يشغله عن عبادة الله طعامٌ، ولا شراب ولا شيء» . قال ابن الخطيب: «والمحققون من الحكماء يقولون: إنَّ هذه الآثار العلوية إنَّما هي تتمُّ بقوى روحانية فكليَّة، فللسّضحاب روح معيَّن في الأرواح الفلكيَّة يدبره، وكذا الرِّياح، وسائر الآثار العلوية، وهذا عين ما قلنا: إنَّ الرعد اسمٌ لملك من الملائكة يسبِّح الله تعالى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 275 فالذي قاله المفسِّرون بهذه العبارة، هو عين ما ذكره المحققون من الحكماء، فيكيف يليق بالعاقل الإنكار؟» . قوله: {وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ} كما أصاب أربد بن ربيعة. «الصَّواعِقَ» جمع صاعقة، وهي العذاب المهلك ينزل من البرقِ، فتحرق من تصيبه وتقدَّم الكلام عليه في أوَّل البقرةِ. قال المفسرون: نزلت هذه الآية في عامر الطُّفيل، وأربد بن ربيعة أخي أسد بن ربيعة كما قدمنا. واعلم أنَّ أمر الصاعقة عجيبٌ جدًّا؛ لأنَّها نارٌ تتولَّد في السَّحاب، وإذا نزلت من السَّحاب فربما غاصت في البحرِ، وأحرقت الحيتان. قال محمدُ بن عليّ الباقر: «الصَّاعقة تصيبُ المسلم، وغير المسلمِ، ولا تصيب الَّذاكر» . قوله: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله} يجوز أن تكون الجملة مستأنفة أخبر عنهم بذلك ويجوز أن تكون حالاً. وظاهر كالام الزمخشري أنَّها حال من مفعول «تَصِيبُ» فإنَّه قال: «وقيل: الواو للحال، أي: يصيب بها من يشاء في حال جدالهم» وجعلها غيره: حالاً من مفعول «يَشَاء» . فصل معنى الكلام: أنه تعالى بيَّن دلائل العلم بقوله: {يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى} [الرعد: 8] ، ودلائل كمال القدرة في هذه الآية، ثم قال تعالى: {وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله} يعنى أنَّ الكفار مع ظهور هذه الدلائل يجادلون في الله. قيل: المراد بها الرَّد على الكافر يعني أربد بن ربيعة الذي قال: أخبرنا عن ربِّنا، أهو من نحاسٍ، أم من حديد، أم من درٍّ، أم من ياقوت، أم من ذهب؟ فنزلت الصاعقة من السماء؛ فأحرقته. وقيل: المراد جدالهم في إنكار البعث، وقيل المراد الرد على جدالهم في طلب سائر المعجزات. وقيل: المراد الرد عليهم في استنزال عذاب الاستئصال. وسئل الحسن عن قوله: {وَيُرْسِلُ الصواعق} الآية قال: كان رجلٌ من طواغيت العرب بعث إليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقرّ بدعوته إلى الله ورسوله، فقال لهم: أخبروني عن رب محمدٍ، هذا الذي تدعُوني إليه، مِمَّ هو «من ذهبٍ، أو فضةٍ، أو حديدٍ أو نحاس؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 276 فاستعظم القوم مقالته، فانصرفوا إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: يا رسول الله: ما رأينا رجُلاً أ: فر قلبا، ولا أعتى على الله منه، فقال: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ارجعوا إليه «فرجعوا إليه؛ فجعل لايزيدهم على مثل مقالته الأولى، وقال: أجيب محمداً إلى رب لا أراه، ولا أعرفه! وانصرفوا، وقالوا: يا رسول الله: ما زادنا على مقالته الأولى، وأخبث. فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» ارجعوا إليه «، فرجعوا إليه، فبينما هم عنده ينازعونه ويدعونه، وهو يقول هذه المقالة، إذا ارتفعت سحابة، فكانت فوق رءوسهم، فرعدت، وبرقت ورمت بصاعقة؛ فأحرقت الكافر، وهم جلوسٌ، فجاءوا يسعون؛ ليخبروا رسول الله صلى الله عليه سلم؛ فاستقبلهم قومٌ من أصحاب رسول الله صلى لله عليه وسلم فقالوا:» احْترَقَ صَاحبُكُم «فقالوا: من أين علمتم؟ فقالوا: أوحى الله إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله وَهُوَ شَدِيدُ المحال} . قوله: {وَهُوَ شَدِيدُ المحال} هذه الجملة حال من الجلالة الكريمة، ويضعف استنأفها. وقأ العام: بكسر الميم وهو القوَّة والإهلاكُ. قال عبد المطلب: [الكامل] 3172 - لا يَغْلبَنَّ صَلِبُهُمْ ... ومِحَالُهُمْ عَدواً مِحَالَك وقل الأعشى: [الخفيف] 3173 - فَرْغُ نَبْغٍ يَهتزٌ في غُصُنِ المَجْدِ ... عَظيمُ النَّدى شديدُ المحالِ والمحال أيضاً: أشدُّ المكايدة، والممكارة، يقال: ما حله، ومنه تمحَّل فلان بكذا أي: تكلَّف له استعمال الحيلة. وقال أبو زيدٍ: هو النِّقمةُ. وقال ابن عرفة: هو الجدالُ، وفيه على هذا مقابلة معنوية كأنه قيل: وهم يجادلون في الله، وهو شديد المحالِ. وقال عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: شديد الأخذ. وقال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه شديد المحال. وقال الحسن: نشديد الحقدِ. قالوا: وهذا لايصح للحقد؛ لأن الحقد لا يمكن في حق الله تعالى إلاَّ أنَّه تقدم أنَّ أمثال هذه الكلمات إذا وردت في حقِّ الله تعالى فإنَّها تحمل على نهايات الجزء: 11 ¦ الصفحة: 277 الأغراض لا على مبادي الأعراض، فيكون المراد بالحقد ههنا: هو أنه تعالى يريد إيصال الشَّر إليه، مع أنه أخفى عنه تلك الإرادة. وقال مجاهدٌ: شديد القوَّة. وقال أبو عبيدة: نشديد العقوبة. وقيل: شديد المكرِ، والمحال، والمماحلة، والمماكرة، والمغالبة. واختلفوا في ميمه: فالجمهور على أنَّها أصلية من المحل، وهو المكر، والكيد، وزنها فعال: كمِهَاد. وقال القتبيُّ: إنَّه من الحيلةِ، وميمه مزيدة، ك «مكان» من الكون، ثم يقال: تمكنت، وقد غلَّطه الأزهريُّ، وقال: لو كان: «مِفْعَلاً» من الحيلة لظهرت الواو، مثل: مرودةٍ، ومحولٍ، ومحودٍ. وقرأ الأعرج والضحاك بفتحها والظاهر أنه لغة في المكسورة، وهو مذهب ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فإنه فسره بالحول كما تقدم، وفسره غيره: بالحيلة. وقال الزمخشري: «وقرأ الأعرج بفتشح الميم على أنه مفعل من: من حال يحول محالاً إذا احتال، ومنه:» أحْوَل مِنْ ذئْبٍ «أي: أشد حيلة، ويجوز أن يكون المعنى شديد الفقار، ويكون مثلاً في القوة، والقدرة كما جاء: فساعد الله أشد، وموساه أحد؛ لأن الحيوان إذا اشتد محاله كان منعوتاً بشدة القوَّة، والإضطلاع بما يعجز عنه غيره ألا ترى إلى قولهم: فقَرَتْهُ الفَواقِر، وذلك أنَّ الفقار عمود الظَّهر، وقوامه» . قوله: {لَهُ دَعْوَةُ الحق} من باب إضافة الموصوف إلى صفة، والأصل له الدعوة الحق، كقوله {وَلَدَارُ الآخرة} [يوسف: 109] على أحد الوجيهن. وقال الزمخشري فيه وجهان: أحدهما: أن تضاف الدعوة إلى الحق الذي هو نقيضُ الباطل، كما يضاف الكلمة إليه في قوله: «كَلمةُ الحَقُّ» . الثاني: أن تضاف إلى «الحقِّ» الذي هو «لله» على معنى: دعوة المدعو الحق الذي يسمع فيجيب. قال أبو حيَّان: «وهذا الوجه الثاني لا يظهر؛ لأنه مآله إلى تقدير: لله دعوة الله، كما تقول:» لزيد دعوة زيد «، وهذا التركيب لا يصحُّ» . قال شهاب الدين: «وأين هذا ممَّا قاله الزمخشريُّ حتى يرد عليه به» ؟ . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 278 فصل معنى قوله: «دَعْوةُ الحقِّ» ، أي لله دعوة الصدق. قال عليُّ: دَعْوةُ الحقِّ: التَّوحيد. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه شهادة أن لا إله إلا الله. وقيل: الدُّعاء بالإخلاص عند الخوف، فإنَّه لا يدعى فيه إلا أياه «، كما قال: {ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 67] . قال الماورديُّ: وهو أشبه لسياق الآية؛ لأنه قال: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} يعنى الأصنام: {لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ} ، أي لا يجيبون لهم دعاء، ولا يسمعون لهم نداء. {إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} . ضرب الله عزَّ وجلَّ الماء مثلاً لما يأتيهم من الإجابة لدعائهم. قوله: {والذين يَدْعُونَ} يجوز أن يراد ب «الَّذينَ» المشركون، فالواو في: «يَدعُونَ» عائدة، ومفعوله محذوف، وهو الأصنام، والواو في «لا يستجيبون» عائدة على مفعول «تَدْعَونَ» المحذوف، وعاد عليه الضمير كالعقلاء لمعاملتهم إيّاه معاملتهم، والتقدير: والمشركون الذي يدعون الأصنام لا تستجيب لهم الأصنام وإلا استجابة كاستجابة باسط كفيه أي: كاستجابة الماء من بسط كفيه إليه يطلب منه أن يبلغ فاه، والماء جماد، ولا يشعر ببسط كفيه، ولا بعطشه، ولا يقدر أن يجيبه، ويبلغ فاه، قال معناه الزمخشريُّ. وما ذكره أبو البقاء قريب من هذا، وقدر التقدير المذكور، قال: «والمصدر في هذا التقدير مضاف إلى المفعول، كقوله: {لاَّ يَسْأَمُ الإنسان مِن دُعَآءِ الخير} [فصلت: 49] وفاعل هذا المصدر مضمر، وهو ضمير الماءِ أي: لا يجيبونهم إلا كما يجيب الماء باسط كفيه إليه، والإجابة هنا كناية عن الانقياد» . وقيل: ينزلون في قلَّة فائدة دعائهم لآلهتهم منزلة من أراد أن يغرق الماء بيده؛ ليشرب، فيبسطها ناشراً أصابعه، ولم تصل كفاه إلى ذلك الماء، ولم يبلغ مطلوبه من شربه. قال الفراء: المراد بالماء هاهنا: البئر؛ لأنَّها معدن الماءِ، ويجوز أن يراد ب «الَّذينَ» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 279 الأصنام أي: والآلهة، والذين يدعونهم من دون الله لا يستجيبون لهم بشيءٍ إلا استجابة، والتقدير: كما تقدَّم في الوجه قبله. وإنَّما جمعهم جمع القعلاء؛ إمَّا للاختلاط، لأنَّ آلهتهم عقلاء وجماد، وإمَّا لمعاملتهم إيَّاها معاملة العقلاء في زعمهم، قالوا: الواو في «يَدعُونَ» للمشركين والعائد المحذوف للأصنام، وكذا واو: «يَسْتَجِيبون» . وقرأ اليزيديُّ عن أبي عمرو: «تَدْعُونَ» بالخطاب: «كبَاسِطٍ كَفَّيْهِ» بالتنوين وهي مقوية للوجه الثانين، ولم يذكر الزمخشريُّ غيره. قوله: «ليَبْلُغَ» في: «بَاسط» ، وفاعل: «يَبلُغَ» ضمي الماء؟ قوله: {وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ} في «هُوَ» ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ضمير الماءِ، والهاء في: «بِبَالغِه» للفم، أي: وما الماء ببالغ فيه. الثاني: أنه ضمير الفم، والهاء في «بِبالغِهِ» للماء، أي: وما الفم ببالغ الماء إذ كل واحد منهما لا يبلغ الآخر على هذه الحالِ، فنسبةُ الفعلِ إلى كل واحد وعدمه صحيحان. الثالث: أن يكون ضمير الباسط، والهاء في: «بِبالغِهِ» للماء، أي: وما باسط كفيه إلى الماء ببالغ الماء. ولا يجوز أن يكون «هُوَ» ضمير «البَاسط» ، وفاعل «بِبَالغهِ» مضمراً والهاء في «بِبَالغهِ» للماء؛ لأنَّه حينئذٍ يكون من باب جريان الصِّفة على غير من هي له، ومتى كان كذلك لزم إبراز الفاعل، فكان التركيب هكذا: وما هو ببالغ الماء، فإن جعلنا الضمير في «ببَالغهِ» للماء؛ جاز أن يكون: «هُوَ» ضمير الباسط كما تقدَّم تقريره. والكاف في «كباسط» إما نعت لمصدر محذوف، وإما حال من ذلك المصدر، كما تقدم تقريره. وقال أبو البقاء: «والكاف في» كَباسطِ «إن جعلتها حرفاً كان فيها ضمير يعودُ على الموصوف المحذوف، وإن جعلتها اسماً لم يكن فيها ضمير» . قال شهابُ الدِّين: «وكون الكاف اسماً في الكلام، لم يقل به الجمهور، بل الأخفش. ويعني بالموصوف ذلك المصدر، والذي قدره فيما تقدَّم» . ثم قال: {وَمَا دُعَآءُ الكافرين} أصنامهم: {إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} يضلّ عنهم إذا احتاجوا إليه، كقوله تعالى: {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ} [فصلت: 48] . وعن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: {وَمَا دُعَآءُ الكافرين} ربهم: {إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} ؛ لأن أصواتهم محجوبة عن الله عزََّ وجلَّ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 280 وقيل: {إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} ؛ في ضياع لا منفعة فيه؛ لأنَّ الله لم يجبهم، وإن دعوا الآلهة لم تستطع إجابتهم. قوله: {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض} الآية في المراد بهذا السجود قولان: أحدهما: السجود بوضع الجبهة على الأرض، وعلى هذا القول، ففيه وجهان: د أحدهما: أنَّ اللفظ، وإن كان عامًّا إلا أنَّ المراد المؤمنون، فبعضهم يسجدُ لله طوعاً بنشاط، وبضعهم يسجد لله كرهاً لصعوبة ذلك عليه، ويتحمل مشقَّة العبادة. وقيل: المراد بقوله: «طَوعاً» الملائكة، والمؤمنون، و «كَرْهاً» المنافقون، والكافرون الذين أكرهوا على السجود بالسَّيف. والثاني: أنَّ اللفظ عام. فإن قيل: ليس المراد: {مَن فِي السماوات والأرض} يسجد لله؛ لأن الكفَّار لا يسجدون. فالجواب من وجهين: الأول: أن المعنى أنه يجب على كلٍّ من في السموات، والأرض أن يعترف بعبودية الله، كما قال: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [الزمر: 38] . والقول الثاني: أنَّ السُّجود عبارة عن الانقياد، والخضوع، وترك الامتناع، كلُّ من في السموات، والأرض ساجد لله بهذا المعنى؛ لأنَّ قدرته، ومشيئته نافذة في الكُل. قوله: {طَوْعاً وَكَرْهاً} إمَّا معفول من أجله، وإمَّا حال، أي: طائعين، كارهين وإمَّا منصوب على المصدر المؤكد بفعل مضمر. قوله: {وَظِلالُهُم بالغدو والآصال} قرأ أبو مجلز: والإيصال، بالياء قبل الصَّاد وخرَّجها ابن جني على أنه مصدر «آصل» ، كضارب، أي: دخل في الأصيل، كأصبح أي: دخل في الصَّباح، و «ظِلالُهمْ» عطف على «من» ، و «بِالغُدوِّ» متعلق ب «يَسْجدُ» والباء بمعنى «فِي» ، أي: في هذين الوقتين. قال المفسرون: كل شخص سواء كان مؤمناً، أو كافراً فإنَّ ظله يسجد لله. قال مجاهد: ظل المؤمن يسجد لله طوعاً، وهو طائع، وظل الكافر يسجد لله كرهاً وهو كاره. وقال الزجاج: «جاء في التفسير أن الكافر يسجد لغيرِ الله، وظله يسجد لله» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 281 وعند هذا قال ابن الأنباري: لا يبعد أن يخلق تعالى للظلال عقولاً، وأفهاماً تسجد بها، وتخشع كما جعل للجبال أفهاماً حتى اشتغلت بتسبيح الله وظهر اسم التجلي فيها، كما قال تعالى: {فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً} [الأعراف: 143] . قال القشيري رَحِمَهُ اللَّهُ: «وفي نظر؛ لأن الجبل عين، فيمكنُ أن يكون له عقل بشرط تقدير الحياة، وأمَّا الظلال، فآثار وأعراض، ولا يتصور تقدير الحياة لها» . وقيل: المراد من سجود الظلال [ميلانها] من جانب إلى جانب، وطولها بسبب انحطاطِ الشمس، وقصرها بسبب ارتفاع الشمس، وهي منقادة [مستسلمة] في طولها، وقصرها وميلها من جانب إلى جانب، وإنَّما خص الغدو، والآصال بالذِّكر؛ لأنَّ الظلال إنما تعظم، وتكثر في هذين الوقتين «. و» الآصَال «جمع الأُصُل، والأُصل: جمع الأصيل، وهو ما بين العصر إلى غروب الشمس. وقيل:» ظِلالُهمْ «، أي: أشخاصهم بالغدو، والآصال بالبكر والعشايا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 282 قوله تعالى: {قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض} الآية لما بيَّن أنَّ كل من في السَّموات، والأرض ساجد لله بمعنى كونه خاضعاً له؟ ، عدل إلى الرَّد على عبدة الأصنام فقال: {قُلْ مَن رَّبُّ السماوات والأرض قُلِ الله} ولمَّا كان هذا الجواب يقرّ به المسئولُ ويعترف به، ولا ينكره، أمره عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يكون هو الذاكر لهذا الجواب تنبيهاً على أنهم لا ينكرونه ألبتَّة. قال القشيري: «ولا يبعد أن تكون الآية واردة فيمن لا يعترف بالصانع، أي: سلهم عن خالق السموات والأرض؛ فإنه يسهل تقرير الحجة عليهم ويقربُ الأمر من الضرورة، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 282 فإن عجز الجماد، وعجز كل مخلوق عن خالق السموات، والأرض معلوم» ؟ ولما بين الله أنَّه هو الرب لكلِّ الكائنات [قاله له] : قل لهم على طريق الإلزام للحجة فلم اتخذتم من دونه أولياء، وهي جمادات، وهي لا تملكُ لأنفسها نفعاً، ولا ضرًّا، ولما كانت عاجزة عن تحصيل المنفعة [لأنفسها، ودفع المضرة عن نفسها، فلأن تكون عاجزة عن تحصيل المنفعة] لغيرها، ودفع المضرة عن غيرها بطريق الأولى، وإذا كانت عاجزة عن ذلك كانت عبادتها محض العبث، والسَّفه، ولما ذكر هذه الحجة الظاهرة بين أنَّ الجاهل بمثل هذه الحجة لا يساوي العالم بها. فقال: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور} قرأ الأخوان، وأبو بكر عن عاصم: «يَسْتَوِي» بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق، والوجهان واضحان باعتبار أن الفاعل مجازي التَّأنيث، فيجوز في فعله التذكير، والتأنيث، كنظائر له مرت. وهذه مثل ضربه اللهُ سبحانه وتعالى للكفَّار؟ قوله: «أمْ هَلْ» هذه أم المنقطعة، فتقدر ب «بل» ، والهمزة عند الجمهور، وب «بل» وحدها عند بعضهم، وقد تقدَّم تحريره، وهذه الآية قد يتقوى بها من يرى تقديرها ب «بَلْ» فقط بوقوع: «هَلْ» بعدها، فلو قدَّرناها ب «بَلْ» والهمزة لزم اجتماع حرفي معنى؛ فتقدرها ب «بل» وحدها، «ولا» تقويةٌ له، فإن الهمزة قد جامعت: «هَلْ: في اللفظ، كقوله الشاعر: [البسيط] 3173 - ... ... ... ... ... ... ..... أهَلْ رَأوْنَا بِوادِي القُفِّ ذي الأكَمِ فأولى أن يجامعها تقديراً. ولقائل أن يقول: لا نسلم إنَّ:» هَلْ «هذه استفهاميَّة، بل بمعنى:» قَدْ «، وإليه ذبله جماعةٌ، وإن لم تجامعها همزة، كقوله تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} [الإنسان: 1] أي: قد أتى، فههنا أولى، والسماع قد ورد بوقوع:» هَلْ «بعد:» أم «وبعدمه. فمن الاول هذه الآية، ومن الثاني: ما بعدها من قوله:» أمْ جَعلُوا «. وقد جمع الشاعر بين الاستعمالين في قوله: [البيسط] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 283 3175 - هَلْ مَا عَلمْتَ ومَا اسْتُودعْتَ مكْتومُ ... أمْ حَبْلُهَا إذ نَأتْكَ اليَوْمَ مَصرُومُ أمْ هَلْ كثيرٌ بَكَى لمْ يَقْضِ عَبرتَهُ ... إثْرَ الأحِبَّة يَوْمَ البَيْنِ مَشْكُومُ فصل قوله: {هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير} كذلك لايستوي المؤمن، والكافر: {أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور} اي كما لا تستوي الظلمات والنور، لايستوي الكفر، والإيمان. قوله: {أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} الجملة من قوله: «خَلقُوا» صفة ل: «شُرَكاءَ» ، {فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ} ، أي: اشتبه ماخلقوه بما خلقه الله عزَّ وجلَّ فلا يدرون ما خلق الله، وما خلق آلهتهمخ. والمعنى: أنَّ هذه الأشياء الَّتي زعموا أنها شركاء لله ليس لها خلق يشبه خلق الله حتَّى يقولوا: إنها تشارك الله في الخالقيَّة؛ فوجب أن تشاركه في الإلهيَّة بل هؤلاء المشركون يعلمون بالضرورة أنَّ هذه الأصنام لم يمصدر عنها فعلٌ، ولا خلق، ولا أثر ألبتة، وإذا كان كذلك كان حكمهم بكونها شركاء لله في الإلهيَّة محض السَّفه، والجهل. فصل قال ابن الخطيب: «زعمت المعتزلة أنَّ العبد يخلق حركات، وسكنات مثل الحركات، والسكنات التي يخلقها الله، وعلى هذا التقدير: فقد {جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ} والله تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الذَّم، والإنكارِ؛ فدلت على أنَّ العبد لا يخلق أفعال نفسه» . قال القاضي: «نحن وإن قلنا:» إنَّ العبد يخلق إلاَّ أنَّا لا نطلق القول بأنه يخلق كخلق الله؛ لأن أحداً ما يفعل كقدرة الله، وإنما يفعل لجلب منفعة، ودفع مضرة، والله تعالى منزه عن ذلك؛ فثبت أنَّ بتقدير كون العبدِ خالقاً إلا أنَّه لا يكون خلقه كخلق الله، وأيضاً: فهذا الإلزامُ للمجبرة أيضاً؛ لأنَّهم يقولون عين ما هو خلق الله تعالى فهو كسبٌ للعبد، وفعلٌ له، وهذا عين الشرك؛ لأنَّ الإله، والعبد في ذلك الكسب كالشريكين اللذين لا مال لأحدهما إلا وللآخر فيه أيضاً نصيبٌ، وهو أنه، تعالى إنَّما ذكر هذا الكلام عيباً للكفَّار أن يقولوا: إنَّ الله تعالى خلق هذا الكفر فينا؛ فلم يذمنا، ولم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 284 ينسبنا للجهل، والتقصير، مع أنه حصل فينا بغير فعلنا، ولا باختيارنا «. والجواب عن الأول: هو أنَّ لفظ الخلق عبارة عن الإخراج من العدم إلى الوجود، أو عبارة عن التقديرين، وعلى الوجهين: فبتقدير أن يكون العبد محدثاُ، فإنه لا بد أن يكون حادثاً، أما قوله: والعبد وإن كان خالقاً إلاَّ أنه ليس خلقه كخلق الله تعالى. قلنا: الخلق عبارةٌ عن الإيجاج التكوين والإخراج من العدم إلى الوجود، ومعلومٌ أنَّ الحركة الواقعة بقدرة العبد لما كانت مثلاً للحركة الواقعة بقدرة الله تعالى كان أحد المخلوقين مثلاً للمخلوق الثاني، وحينئذ يصحُّ أن يقال: إنَّ هذا الذي هو مخلوقٌ للعبد مثل لما هو مخلوق لله تعالى، ولا شك في حصول المخالفة في سائر الاعتبارات، إلاَّ أنَّ حصول المخالفة في سائر الوجوه لا يقدح في المماثلة من هذا الوجه، وهذا القدر يكفي في الاستدلال. وأما قوله: «هذا لازم على المجبرة حيث قالوا: إنَّ فعل العبد مخولق لله تعالى» . فنقول: هذا غير لازم؛ لأنَّ هذه الآية [دالة] على أنَّه لا يجوز ِأن يكون العبد مثلاً كخلق الله تعالى ونحن لا نثبت للعبد خلقاً ألبتَّة، فكيف يلزمنا ذلك؟ . وأما قوله: «لو كان فعل العبد خلقاً لله لما حسن ذمُّ الكفَّار على هذا المذهب» . قلنا: حاصلة يرجع إلى أنَّه لما حصل الوجود، وجب أن يكون العبد مستقلاً بالفعل وهنو منقوض؛ لأنَّه تعالى ذمَّ أبا لهب على كفره مع أنَّه علم منه أنَّه يموت على الكفر، وخلاف المعلوم محال الوقوع. قوله: {قُلِ الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الواحد القهار} وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخولق لله تعالى؛ لأنَّ فعل العبد شيء، فوجب أن يكون خالقه هو الله تعالى وأيضاً: فقوله: {وَهُوَ الواحد القهار} لا يقال فيه: إنه تعالى واحد في أي المعاني، بل الواحد في الخالقية؛ لأن المذكور السابق هو الخالقية، فوجب أن يكون المراد هو الواحد في الخالقية، القهار لكل ما سواه. فصل زعم جهم أن الله تعالى لا يقع عليه اسم الشيء. قال الخطيب: «وهذا الخلاف ليس إلا في اللفظ، وهو أن اسم الشيء هل يقع عليه أم لا؟ فزعم قوم أنهن لا يقع، وجوّزه قومٌ» . واحتج المانعون: بأنه لو كان شيئاً لوجب أن يكون خالقاً لنفسه، لقوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] وذلك محالٌ؛ فثبت أنه لا يقع عليه اسم الشيء، ولا يقال: إنَّ هذا عام دخله التخصيص؛ لأنَّ العام المخصوص إنَّما يحسن إذا كان الجزء: 11 ¦ الصفحة: 285 المخصوص أقل من الباقي، وأحسن منه، كما يقال: هذه الرُّمَّانة مع أنَّه سقطت حبات ما أكلها، وههنا ذات الله أعلى الموجودات، وأشرفها، فكيف يمكن ذكر اللفظ العام الذي يتناوله مع كون الحكم مخصوصاً في حقِّه. واستدلُُّوا أيضاً بقوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] ٍ والمعنى: ليس مثل مثله شيء، ومعلوم أن كل حقيقة [فإنها] مثل مثل نفسها، فالباري تعالى مثل مثل نفسه مع أنه تعالى نصَّ على أنَّ مثل مثله ليس بشيء، فهذا تنصيصٌ على أنه تعالى غير مسمى باسم الشيءِ. واستدلُّوا أيضاً بقوله تعالى: {وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا} [الأعراف: 180] قالوا: دلَّت على أنه لا يجوز أن يدعى الله إلا بالأسماء الحسنى، ولفظ الشيء يتناول أحد الموجودات، فلا يكون هذا اللفظ مشعراً بمعنى حسن؛ فوجب ألاَّ يجو دعاء الله بهذا اللفظ. وتمسك من جوَّز إطلاق هذه التسمية عليه بقوله تعالى: {قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] . وأجاب الألولون: بأنَّ هذا سؤال متروك الجواب، وقوله: {قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ} [الأنعام: 19] مبتدأ مستقل بنفسه لا تعلق له بما قبله. فصل تمسَّك المعتزلة بهذه الآية في أنَّه تعالى عالم لذاته لا بالعلم وقادر لذاته لا بالقدرة، وقالوا: لأنه لو حصل لله تعالى علم، وقدرة وحياة لكانت هذه الصفات إمَّا أن تحصل يخلق الله تعالى أو لا تحصل بخلق الله والأول باطل، وإلا لزم التسلسل، والثاني باطلٌ؛ لأنََّ قول الله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62] يتناول الذات، والصفات حكمنا بدخول التخصيص في ذات الله تعالى؛ فوجب أن يبقى على عمومه في سائر الأشياء، والقرآن ليس هو الله؛ فوجب أن يكون مخلوقاً لدخوله في هذا العموم. والجواب أن يقال: أقصى ما في الباب أنَّ الصِّيغة عامة؛ لأن تخصيصها في حق صفات الله تعالى بالدلائل العقليَّة. قوله تعالى: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} الآية لما شبَّه المؤمن والكافر، والإيمان، والكفر بالأعمى، والبصير، والظلمات، والنور، ضرب للإيمان، والكفر مثلاً آخر فقال: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} «أنْزلَ» يعني الله: {مِنَ السمآء مَآءً} يعني المطر «فَسَالتْ» من ذلك الماء: {أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} أي: في الصغر، والكبر {فاحتمل السيل} الذي حدث من ذلك الماء: {زَبَداً رَّابِياً} الزّبد: الخبث الذي يظهر على وجه الماء وكذلك على وجه القدر «رَابِياً» أي: عالياً مرتفعاً فوق الماءِ، فالماءُ الصًّافي الباقي هو الحق، والذاهب الزائل الذي يتعلق بالأشجار، وجوانب الأودية هو الباطل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 286 وقيل: هذا مثل القرآن: {أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} وهو القرآن، والأودية: قلوب العباد، يريد: ينزل القرآن، فيحتمل منه القلوب على قدر اليقينِ، والعقل والشك وكما أنَّ الماء يعلوهُ زيدٌ، والأجساد يخالطها خبثٌ، ثمَّ إنَّ ذلك الزبد، والخبث يذهب، ويضيع، ويبقى جوهر الماء، وجوهر الأجساد السبعة، كذلك ههنا بيانات القرآن يختلط بها شكوك وشهبات، ثمَّ إنها تزول بالآخرة وتضيع ويبقى العلم والدين والحكمة في العاقبة كذلك ههنا؟ قوله: «أوْديَةٌ» جمع وادٍ، وجمع فال على أفعلة، قال أبو البقاءِ: «شاذٌّ، ولم نسمعه في غير هذا الحرف. ووجهه: أنَّ فاعلاً قد جاء بمعنى فعيل، وكما جاء فعيل وأفعلة كَجرِيب وأجْرِبَة كذلك فاعل» . قال شهابُ الدين: «قد سمع فَاعِلَة، وأفْعِلَة في حرفين آخرين: أحدهما: قولهم جَائِر وِأجْوِرَة. والثاني: نَادجٍ وأنْجِيَة» . وقال الفارسي: «أودية: جع واد ولا نعلم فاعلاً جمع على أفْعِلَة، قال:» ويشبه أن يكون ذلك لتعاقب فاعل، وفعيل على الشيء الواحد، كعَالِم وعَلِيم، وشَاهِد وشَهِيد، ونَاصِر ونَصِير، ووزن فاعل يجمع على أفعالٍ كصاحب وأصحابٍ، وطائرْ وأطيارٍ، [ووزن] فعيلٍ يجمع على أفْعِلَة كجَرِيبٍ، وأجْرِبَة، ثم لما حصلت المناسبة المذكورة بين فاعل، وفعيل لا جرم يجمع الفاعل جمع العفيل، فيقال: وادٍ وأودية، ويجمع الفعيل على جمع الفاعل فيقال: يَتِيمٌ وأيْتامٌ، وشَرِيفٌ وأشْرافٌ «. وقال غيره: ن ظير وادٍ، وأوْدِيَة: نادٍ، وأنْديَة للمجالس وسمي وادِياً: لخروجه وسيلانه، والوادي على هذا اسم للماء السَّائل. وقال أبو علي:» سَالتْ أوْديةٌ «فيه توسع، أي: يسالُ ماؤها فحذف، ومعنى» بِقدَرِهَا «أي: بقدر مياهها؛ لأنَّ الأودية ما سالت بقدرِ نفسها» . قوله: «بِقَدِرهَا» فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلقٌ ب: سَالَتْ «. والثاني: أنَّه متعلق بمحذوف؛ لأنه صفةٌ للأودية. وقرأ العامة بفتح الدال، وزيد بن عليّ، والأشهب العقيلي، وأبو عمرو في رواية بسكونها، وقد تقدَّم في البقرة. قال الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: القَدْرُ والقَدَر: مبلغ الشَّيء، يقال: كم قَدْر هذه الدَّراهم الجزء: 11 ¦ الصفحة: 287 وقَدَرُهَا ومِقْدَارُها؟ أي: كم بلغ في القدر وما يكون مساوياً لها في الوزن فهو قَدرُوهَا» . والمَعنى: بدقرها، من الماء فإن صغر الوادي قل الماء، وإن اتَّسع الوادي كثر الماء. و «احْتَمَلَ» بمعنى حَمَلَ فافتعل بمعنى المجرَّرد، وإنَّما نكَّر الأودية، وعرف السيل؛ لأنَّ المطر ينزلُ في البقاع على المناوبة، فيسيل بعض أودية الأرض دون بعض، وعرف السي؛ لأنه قد فهم من الفعل قبله، وهو قوله: «فَسَالَتْ» ، وهو لو نُكِّر لكان نكرة، فلمَّا أعيد أعيد بلفظ التَّعريف نحو «رَأْتَ رجُلاً فأكْرَمْتُ الرَّجُلَ» . والزَّبدُ: وضرُ الغليان وخبثه؛ قال النابغة: [البسيط] 3176 - فَمَا الفُرَاتُ إذا هَبَّ الرِّياحُ لَهُ ... تَرْمِي غَوارِبهُ العِبْرَيْنِ بالزَّبدِ وقيل: هو ما يحمله السِّيل من غثاءٍ ونحوه، وما يرمى به ضَفَّتاه من الحباب، وقيل: هو ما يطرحه الوادي إذا [سال] ماؤه، وارتفعت أمواجه، وهي عباراتٌ متقاربةٌ. والزَّبدُ: المستخرج من اللَّبن. قيل: هو مشتقٌّ من هذه لمشابهته إيَّاه في اللون، ويقال: زبدته زبداً، أي: أعطيته مالاً كالزَّبدِ يضرب به المثل في الكثرةِ، وفي الحديث: «غُفِرتْ ذُنوبهُ، ولوْ كَانتْ مِثْلَ زَبدِ البَحْرِ» . وقوله تعالى: «رَابِياً» قال الزجاج: طافياً عالياً فوق الماءِ «. وقال غيره: زائداً بسب انتفاخه، يقال: رَبَا يربُوا إذا زاد. قوله {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} هذا الجار خير مقدم، و» زَبدٌ «مبتدأ، و» مثْلُهُ «صفة المبتدأ، والتقدير: ومن الجواهر التي هي كالنُّحاسِ، والذهب، والفضة زبد، أي: خبثن مثله، أي:» مِثْل زبدِ الماءِ «. و «مِنْ» في قوله: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ} تحتمل وجهين: [أحدهما] : أن تكون لابتداء الغاية، أي: ومنه ينشأ زبد مثل زبد الماءِ. والثاني: أنَّها للتبعيض بمعنى: وبعض زبد، هذا مثل آخر. فالأول: ضرب المثل بالزَّبد الحاصل من المثال، ووجه المماثلة: أنَّ كلاَّ منهما ناشىء من الأكدار. وقرأ الأخوان، وحفص: «يُوقدُون» بالياء من تحت، أي: النَّاس، والباقون بالتاء من فوق على الخطاب، و «عَليْهِ» متعلق ب: «تُوقِدُونَ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 288 وأمَّا «فِي النَّار» ففيه وجهان: أحدهما: أنَّه متعلق ب «تُوقِدُونَ» وهو قول الفارسي، والحوفي، وأبي البقاء. والثاني: أنه متعلقٌ بمحذوف، أي: كائناً، أو ثابتاً، قاله مكيٌّ، وغيره ومنعوا تعلُّقه ب «يُوقِدُونَ» ؛ لأنهم زعموا أنَّه لا يوقد على الشَّيء إلا وهو في النَّار، وتعليق حرف الجر ب «تُقِدُونَ» يقتضي تخصيص حال من حال أخرى، وهذ غيرُ لازمٍ. قال أبو علي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: وقد يُوقَدُ على الشَّيء، وِإن لم يكن في النَّار، كقوله تعالى: {فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين} [القصص: 28] فالطينُ لم يكن [فيها] ، وإنَّما يصيبه لهبها، وأيضاً: فقد يكون ذلك على سبيل التَّوكيد، كقوله تعالى: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] . والمراد بالحيلةِ: الذهب، والفضة، والمتاع: كل ما يتمتع به. قوله: «ابْتِغاءَ حِليَةةٍ» فيه وجهان: أظهرهما: أنه مفعول من أجله. والثاني: أنه مصدر في موضع الحالِ، أي: مبتغين حلية، و «حِليَةٍ» مفعولٌ [في] المعنى، «أوْ مَتاعٍ» نسق على «حِيلْيةٍ» . فالحِليَةُ: ما تتزين به. والمتَاعُ: ما يقضون به حوائجهم كالمساحي من الحديد ونحوها. قوله: «جُفَاءً» حالٌ، والجفاء: قال ابن الأنباري: المتفرق، يقال: جفأتِ الرِّح السَّحاب، أي: قطعته وفرقته، وقال الفراء: الجفاءُ: الرَّمي، والاطراحُ. يقال: جَفَا الوادي، أي: غُثَاءه يجفوهُ: جفاءً، إذا رماه، والجفاء اسم للمجتمع منه [المنضمّ] بعضه إلى بعض، ويقال: جفَأتِ القِدرُ بزُبْدِهَا تَجْفَأ، وحفاءُ السَّيل: زبده، وأجْفَأ وأجْفَلَ وباللام قرأ رؤبة بن العجاج. قال أبو حاتم: لا يقرأ بقراءة رؤبة؛ لأنَّه كان يأكل الفأر، يعني أنه أعرابي جاف وقد تقدم ثناء الزمخشري عليه أوَّل البقرة، وذكروا فصاحته، وقد وجَّهوا قراءته بأنها من أجفأت الرِّح الغيم، أي: فرقته قطعاً، فهي في المعنى كقراءة العامة بالهمزة. وفي همزة «جَفَأ» وجهان: أظهرهما: أنها أصل لثبوتها في تصاريف هذه المادة. والثاني: أنه بدل من واو، وكأنه مختار أبي البقاء. وفيه نظر؛ لأن مادة «جَفَا يَجْفُو» لا يليقُ معناها، والأصل: عدم الاشتراك. فصل المعنى: أنَّ الباقي الصَّافي من هذه الجواهر مثل الحق، والزَّبد الذي لا ينتفعُ به الجزء: 11 ¦ الصفحة: 289 مثل الباطل، فأمَّا الزَّبد الذي علا السيل والفلز، فيذهب جفاء، أي: ضائعاً باطلاً، والجفاء، ما رمى به الوادي من الزَّبد، والقدر إلى جنباته. والمعنى: أنَّ الباطل، وإن علا في وقت فإنه يضمحلُّ، ويبقى الحق ظاهراً لا يشوبه شيء من الشُّبهات. قوله: {كذلك يَضْرِبُ الله} الكاف في محل نصب، أي: مثل ذلك الضَّرب يضربُ. قيل: إنَّما تمَّ الكلام عند قوله: {كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال} ثم استأنف الكلام بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى} وملحه الرفع بالابتداء، و «للذين» خبره، وتقديره: لهم الخصلة الحسنى، أو الحالة الحسنى. وقيل: متصل بما قبله، والتقدير: كأنه الذي يبقى، وهو مثل المستجيب، والذي يذهب جفاء مثل الذي لا يستجيب، ثمَّ بين الوجه في كونه مثلاً، أي: لمن يستجيب «الحُسْنَى» وهي الجنَّة، ولمن لا يستجيب الحسرة والعقوبة. وفيه وجه آخر: وهو أنَّ التقدير: كذلك يضرب الله الأمثال للذين استجابوا لربهم الحسنى، أي: الاستجابة الحسنى. واعلم أنه تعالى ذكر هاهنا أحوال السعداء، وأحوال الأشقياء، أما أحوال السعداء، فهي قوله جل ذكره: {لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ الحسنى} ، أي: أنَّ الذين أجابوه إلى ما دعاهم إليه من التوحيد، والتزام الشرائع، فلهم الحسنى. قال ابن عبَّاس: «الحُسْنَى» الجنَّة. وأمَّا أحوال الأشقياء، فهي قوله عزَّ وجلَّ: {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ} ، أي لبذلوا ذلك يوم القيامة افتداءً من النار. قوله: {لِلَّذِينَ استجابوا} فيه وجهان: أحدهما: أنَّه متعلقٌ ب «يَضْرِبُ» ، وبه بدأ الزمخشري قال: «أي: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين الذين استجابوا؛ وللكافرين الذين لم يستجيبوا، و» الحُسْنَى «صفة لمصدر» اسْتَجَابُوا «، أي: استجابوا الاستجابة الحسنى، وقوله {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض} كلام مبتدأ في ذكر ما أعدّ لغير المستجيبين» . قال أبو حيان: «والتفسير الأول أولى» يعني به أن «لِلَّذينَ» خبرٌ مقدمٌ و «الحُسْنَى» متبدأ مؤخَّر كما سيأتي. إيضاحه قال: «لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيد بمثل هذين، والله تعالى قد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 290 ضرب أمثالاً كثيرة في هذهي وفي غيرهما؛ ولأنَّ فيه ذكر ثواب المتسجيبين بخلاف قول الزمخشري، فكما ذكر ما لغير المستجيبين من العقاب ذكر للمستجيبين من الثواب؛ ولأن تقديره: الاستجابة الحسنى مشعرٌ بتقييد الاستجابةِ وما قبلها ليس نفي الاستجابة مطلقاً، إنما مقابلها نفي الاستجابة الحسنى، والله سبحانه وتعالى قد نفى الاستجابة مطلقاً، ولأنه على قوله يكون قوله: {لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً} كلاماً مفلتا ممَّا قبله، أو كالمفلتِ، إذ يصير المعنى: كذلك يضرب الله الأمثال للمؤمنين، والكافرين لو أنَّ لهم ما في الأرض، فلو كان التركيب بحذفِ رابط» لو «بما قبلها زال التفلت، وأيضاً: فتوهم الاشتراك في الضمير، وإن كان تخصيص ذلك بالكافرين معلوماً» . قال شهاب الدين: «قوله:» لأن فيه ضرب الأمثال غير مقيَّد «ليس ف يقول الزمخشري ما يقتضي التّقييد، وقوله: لأن فيه ذكر ثواب المستجيبين إلى آخر ما ذكره الزمخشري أيضاً. على أن يؤخذ من فحواه ثوابهم، وقوله:» والله تعالى نفي الاستجابة مطلقاً «ممنوع، بل نفى تلك الاستجابة الأولى لا يقال: فثبتت لنا استجابة غير حسنى؛ لأنَّ هذه الصفة لا مفهوم لها، إذ الواقع أنَّ الاستجابة لله لا تكون إلا حسنى. وقوله:» يصيرُ مُفْلتاً «كيف يكون مع قولِ الزمخشريِّ مبتدأ في ذكر ما أعدَّ لهم، وقوله» وأيضاً فيتوهَّم الاشتراك «كيف يتوهّم هذا بوجه من الوجوه؟ وكيف يقول ذلك مع قوله: وإن كان تخصيصُ ذلك بالكافرين معلوماً؟ فإذا علم كيف يتوهَّم؟» . والوجه الثاني:: أن يكون «لِلَّذينَ» خبراً مقدماً، والمبتدأ «الحُسْنَى» ، و {والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ} مبتدأ، وخبره الجملة الامتناعيَّة بعده. وإنَّما خصَّ بضرب الأمثال الذين استجابوا لانتفاعهم دون غيرهم ومفعول «افتَدَوا» محذوف، تقديره: لا فتدوا به أنفسهم، أي: جعلوه فداء أنفسهم من العذاب، والهاء في «بِهِ» عائد إلى: «مَا» في قوله: «مَافي الأرضِ» . ثم قال: {أولئك لَهُمْ سواء الحساب} . [قال الزجاج: وذلك لأن كفرهم أحبط أعمالهم. وقال إبراهيم النخعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: سوء الحساب] أن يحاسب الرجل بذنبه كله، ولا يغفر له منه شيء «ومَأوَاهُمٍ» في الآخرة: {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد} والفراشُ، أي: بئس ما مهد لهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 291 قوله تعالى: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق} الآية قد تقدَّم تقرير القولين في «أفَلمْ» وهو نظيرُ «أفَمَنْ» ، ومذهب الزمخشريِّ فه بعد هنا. والمعنى: أنَّ العالم بالشَّيء كالبصير، والجاهل به كالأعمى، وليس أحدهما كالآخر، لأن الأعمى إذا مشى من غير قائدٍ، فرُبَّما وقع في المهالك، أو أفسد ما كان في طريقهن من الأمتعة النافعة، وأمَّا البصير، فإنه يكون آمناً [الهلاك] ، والإهلاك. قيل: نزلت في حمزة، وأبي جهلٍ، وقيل: في أبي عمَّار، وأبي جهلٍ، فالأوَّل حمزة، أو عمَّار، والثاني: أبو جهل، وهو الأعمى، أي: لا يستوي من من يبصر الحق ويتبعه، ومن لا يبصره، ولا يتبعه. {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ} يتعظ {أُوْلُواْ الألباب} ذوو العقول. {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} بما أمرهم به، وفرضه عليهم، ولا يخالفونه. ويجوز أن يكون قوله: {الذين يُوفُونَ} صفة ل «أولي الألباب» ، ويجوز أن يكون صفة لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق} . وقيل: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} مبتدأ: و {أولئك لَهُمْ عقبى الدار} خبره لقوله تعالى: {والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله} [الرعد: 25] أولئك لهم اللعنة. وهذه الآية من أوَّلها إلى آخرها جملة واحدة شرطيَّة، وشرطها مشتملٌ على قيودٍ. القيد الأول قوله: {الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله} قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يريد الذين عاهدهم حين كانوا في صلب آدم صلوات الله وسلامه عليه: {وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتَ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى} [الأعراف: 32] وقيل: المراد ب «عَهْدِ اللهِ» كل أمرٍ قام الدليل على صحَّته. والقيد الثاني: قوله سبحانه: {وَلاَ يِنقُضُونَ الميثاق} ، وهذا قريبٌ من الوفاء بالعهد؛ فإن الوفاء بالعهد قريب من عدم نقض الميثاق؛ فهما متلازمان. وقيل: الميثاق ما وثقه المكلف على نفسه من الطاعات كالنذر، والوفاء بالعهد ما كلف العبد به ابتداء. وقيل: الوفاءُ بالعهدِ: عهد الربوبيَّة، والعبودية، والمراد بالميثاق: المواثيق المذكورة في التوراة والإنجيل وسائر الكتب الإلهية على وجوب الإيمان بنبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عند ظهوره. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 292 وقيل: المراد من الوفاء بالعهد: أن لا يغدر فيه، قال عليه أفضل الصلاة والسلام: «مَنْ عَاهدَ اللهَ فَغَدرَ كَانَ فِيهِ خَصْلةٌ مِنَ النِّفاقِ» . القيد الثالث: قوله تعالى: {والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} . قيل: أراد به الإيمان بجميع الكتب والرسل، و: {لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ} [البقرة: 285] . وقال الأكثرون: المراد صلة الرَّحم. فِإن قيل: الوفاء بالعهد، وترك نقض الميثاقِ اشتمل على وجوب الإتيان بجميع المأمورات، والاحتراز عن كل المنهيات. فما الفائدة في ذكر هذه القيود بعدهما؟ فالجواب من وجهين: [الأول] : ذكر ذلك لئلا يظنَّ طانٌّ أنَّ ذلك، فيمابينهن، وبين ربه، فلا جرم أفرد ما بينه، وبين العباد، بالذكر. والثاني: أنه تأكيدٌ، وفي [تفسير] هذه الصِّلة وجوه: أحدهما: صلة الرَّحم، قال صلوات الله وسلامه عليه حاكياً عن ربِّه عَزَّ وَجَلَّ أنا الرَّحمنُ، وهِيَ الرَّحمُ شققتُ لها اسماً من اسْمِي فمنْ وصلها وصلتهُ ومن قَطهَا [قَطَعْتُهُ] قال تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ} [محمد: 22] . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ثَلاثَةٌ يَأتِينَ يَوْمَ القِيامة لها ذَلَق: تأتي الرَّحِمُ تقول: أيْ ربِّ قُطِعْتُ، والأمَانَةُ تقول: أي ربِّ تُركت، والنِّعمة تقول: أي ربِّ كُفِرْتُ» . وثانيها: المراد صلة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ومؤازرته ونصرته في الجهادِ. وثالثاً: رعاية جميع الحقوق الواجبة للعباد، فيدخل فيه صلة الرَّحم، وأخوة الإيمان قال تعالى: {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10] ويدخل في هذه الصلة أيضاً إمدادهم بالخيرات، ودفع الآفات بقدر الإمكان، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، وإفشاء السلام والتبسم في وجوههم، وكف الأذى عنهم، ويدخل فيه كل حيوان حتى الهرة، والدجاجة. القيد الرابع: قوله: «وَخْشَوْنَ ربَّهُمْ» معناه: أنَّ العبد، وإن قام بكُلِّ ما جَاءَ عليه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 293 من تعظيم الله، والشفقة على خلق الله إلا أنه لا بد من وأن تكون الخشية من الله عَزَّ وَجَلَّ والخوف منه مستويان. والفرق بين الخشية، والخوف: أنَّ الخشية أن تخشى وقوع خلل إمَّا بزيادةٍ، أو نقصٍ فيما يأتي به، والخوفُ: هو مخافة الهيبة والجلال. القيد الخامس: قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ} . وهذا القيد هو المخافة من سوءِ الحسابِ، وهو خوف الجلال، والعظمة، والمهابة، وإلا لزم التكرار. القيد السادس: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ} . قال ابن عبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «عَلى أمْرِ اللهِ» . وقال عطاء: «على المصائب» . وقيل: على الشَّهوات. واعلم أنَّ العبد قد يصبر لوجوه: إما أن يصبر ليقال: ما أصبره، وما أشد قوته على تحمل النَّوائب. وإما أن يصبر لئلا يعاب على الجزع. وإما أن يصبر لئلا تحصل شماتة الأعداء، وإما أن يصبر لعلمه أنَّ الجزع لا فائدة فيه. فإذا كان أتى بالصَّبر لأحد هذه الوجوه، لم يكن داخلاً في كمالِ النفس، أمَّا إذا صبر على البلاء لعلمه أن البلاء قسمة القاسم الحكيم العلام المنزه عن العبث، الباطل، والسَّفه وأنَّ تلك القسمة مشتملةٌ على حكمةٍ بالغةٍ، ومصلحةٍ راجحةٍ، ورضي بذلك؛ لأنَّه لا اعتراض على المالك في تصرُّفه في ملكه، فهذا هو الذي يصدق عليه أنه صبر ابتغاء وجه ربه؛ لأنه صبر لمجرَّد طلب رضوان الله. القيد السابع: قوله تعالى: {وَأَقَامُواْ الصلاة} واعلم أنَّ الصَّلاة، والزَّكاة، وإن كانتا داخلتين في الجملة الأولى، إلاَّ أنه تعالى أفردهما بالذِّكر تنبيهاً على كونهما أشرف سائر العبادات، ولا يتمنع دخول النَّوافل فيه أيضاً. القيد الثامن: قوله تعالى: {وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً} قال الحسنُ رضي اكلله عنه: المراد الزكاة المفروضة فِإن لم يتَّهم بتركها أدَّاهَا سرًّا، وإن اتهم بتركها فالأولى أداؤها في العلانية. وقيل: السرُّ: ما يؤديه بنفسه، والعلانية: ما يؤديه إلى الإمام. وقيل: العلانية: الزكاة، والسر: صدقة التَّطوع. القيد التاسع: قوله تعالى: {وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة} قيل: إذا أتوا المعصية، درءوها، أو دفعوها بالحسنة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 294 قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «يدفعون بالصَّالح من العمل السيّىء من العمل، وهو معنى قوله تعالى: {إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات} [هود: 14] . وقال صلوات الله وسلامه عليه لمعاذ بن جبلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» إذا عَملْتَ سَيِّئةً فاعْمَلْ بِجَنْبهَا حَسَنةً تَمْحُهَا، السِّرُّ بالسِّرِّ، والعَلانيةُ بالعَلانِيَة «. وقيل: لا تقابلوا الشَّر بالشَّر، بل قابلوا الشَّر بالخير، كما قال تعالى: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] قال الحسن: إذا حرموا أعطوا، وإذا ظلموا عفوا، وإذا قطعوا وصلوا. قال عبد الله بن المبارك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» فهذه ثماني خلال مشيرة إلى ثمانية أبواب الجنَّة «. واعلم أنَّ هذه القيود هي القيودُ المذكورة في الشَّرط، وأمَّا القيودُ المذكورة في الجزاء، فهي قوله تعالى: {أولئك لَهُمْ عقبى الدار} ، أي عاقبة الدار، وهي الجنَّة. قال الواحديُّ:» العُقْبَى كالعاقبة، ويجوز أن يكون مصدراً كالشُّورى والقُربى والرُّجعى، وقد يجيء مثل هذا أيضاً على «فَعْلَى» كالنَّجْوى والدَّعوى وعلى «فِعْلَى» كالذِّكرى والضِّيزى، ويجوز أن يكون اسماً وهو هاهنا مصدر مضاف إلى الفاعل، والمعنى: أولئك لهم أن تعاقب أحوالهم الدار التي هي الجنة «. قوله:» أؤْلئِكَ «مبتدأ، و» عُقْبَى الدَّارِ «يجوز أن يكون مبتدأ خبره الجار قبله والجملة خبر» أوْلئِكَ «، يجوز أن يكون» لهم «خبر» أولئك «و» عقبى «فاعل بالاستقرار. قوله:» جنات عدن «يجوز أن يكون بدلاً من» عُقْبَى «وأن يكون بياناً، وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون متبدأ خبره» يَدْخُلونهَا «. وقرأ النخعي:» جَنَّة «بالإفراد، وتقدم الخلاف في {يَدْخُلُونَهَا} [الرعد: 13] والجملة من» يَدْخُلونَهَا «تحتمل الاستئناف أو الحالية المقدرة. قوله:» ومَنْ صَلَحَ «يجوز أن يكون مرفوعاً عطفاً على الواو، وأغنى الفصل بالمفعول عن التأكيد بالضمير المنفصل، وأن يكون منصوباً على المفعول معه، وهو مرجوح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 295 وقرأ ابن أبي عبلة» صَلُحَ «بضم اللام، وهي لغة مرجوحة. قوله: {مِنْ آبَائِهِمْ} في محل الحال من» مَنْ صَلَحَ «و» مِنْ «لبيان الجنس. وقرأ عيسى الثقفي: «ذُرِّيتَهُم» بالتوحيد؟ فصل قوله تعالى: {جَنَّاتُ عَدْنٍ} هو القيد الثاني، وقد تقدم الكلام في {جَنَّاتُ عَدْنٍ} عند قوله {وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} [التوبة: 72] . والقيد الثالث: هو قوله «ومَنْ صَلَحَ» قال ابن عباس: يريد من صدق بما صدقوا به وإن لم يعلم مثل أعمالهم. وقال الزجاج: «بين تعالى أن الأنتساب لا تنفع إذا لم يحصل معه أعمال صالحة» ، بل الآباء والأزواج والذريات لا يدخلون الجنة إلا بالأعمال الصاحلة. قال الواحدي: «والصحيح ما قاله ابن عباس؛ لأن الله تعالى جعل من ثواب المطيع سروره بحضور أهله في الجنة، وذلك يدل على أنهم يدخلونها كرامة للمطيع، الآتي بالأعمال الصالحة، ولو دخلوها بأعمالهم الصالحة لم يكن في ذلك كرامة للمطيع، فلا فائدة في الوعد به، إذ كل من كان صالحاً في عمله فهو يدخل الجنة» . قال ابن الخطيب: «وهذه الحجة ضعيفة؛ لأن المقصود بشارة المطيع بكل ما يزيده سروراً وبهجة، فإذا بشر الله المكلف أنه إذا دخل الجنة يجد أباه وأولاده، فلا شك يعظم سروره بذلك وهذا الذي قاله وإن كان فيه مزيد سرور، لكنه إذا علم أنهم إنما دخلوا الجنة إكراماً له كان سروره أعظم وبهجته أتم» . قوله: «وأزْوَاجُهُمْ» ليس فيه ما يدل على التمييز بين زوجة وزوجة، ولعل الأولى من مات عنها أو ماتت عنه، قاله ابن الخطيب. وفيه نظر؛ لأنه لو مات عنها فتزوجت بعده غيره لم تكن من أزواجه، بل الأولى أن يقال: إن من ماتت في عصمته فقط. والقيد الرابع: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ} [قيل: من أبواب الجنة، وقيل: من أبواب القصور، وقال الأصم: من كل باب] من أبواب البر كباب الصلاة وباب الزكاة وباب الصبر، يقولون: نعم ما أعقبكم الله بهذه الدار. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 296 فصل تمسّك بعضهم بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر فقال: ِإنه سبحانه ختم مراتب سعادات البشر بدخول الملائكة عليهم على سبيل التحية والإكرام والتعظيم والسلام، فكانوا أجل مرتبة من البشر لما كان دخولهم عليهم موجباً علو درجتهم وشرف مراتبهم، ألا ترى أن من عاد من سفره أو مرضه فعاده الأمير والوزير والقاضي والمفتي فتعظم درجته عند سائر الناس فكذا هاهنا. قوله: {سَلاَمٌ عَلَيْكُم} الآية قال الزجاج: «ههنا محذوف تقديره والملائكة يدخلون عليهم من كل باب ويقولون: سلام عليكم، فأضمر القول ههنا؛ لأن في الكلام دليلاً عليه والجملة محكية بقول مضمر والقول المضمر حال من فاعل» يَدخُلون «أي يدخلون قائلين. قوله» بِمَا صَبرْتُمْ «متعلق بما تعلق به» عَلَيْكُمْ «. قال ابن الخطيب: متعلق بمحذوف، أي: أن هذه الكرامات التي ترونها إنما حصلت بصبركم و «ما» مصدرية، أي: سبب صبركم، ولا يتعلق ب «سَلامٌ» ، لأنه لا يفصل بين المصدر ومعموله بالخبر قاله أبو البقاء. وقال الزمخشري: «ويجوز أن يتعلق ب» سَلامٌ «أي: نسلم عليكم ونكرمكم بصبركم» . ولما نقله عنه أبو حيان لم يعترض عليه بشيء. والظاهر أنه لا يعترض عليه بما تقدم لأن ذلك في المصدر المؤول بحرف مصدري وفعل هذا المصدر ليس من ذلك، والباء إما سببية كما تقدم، وإما بمعنى بدل أي: بدل صبركم، أي: بما احتملتم مشاق الصبر؟ وقيل: «بمَا صَبَرتُم» خبر مبتدأ مضمر، أي: هذا [الثواب] الجزيل بما صبرتم. وقرأ الجمهور: «فَنِعْمَ» بكسر النون وسكون العين، وابن يعمر بالفتح والكسر وقد تقدم أنها الأصل؛ كقوله: [الرمل] 3177 - ... ... ... ... ... ... . ... نَعِمَ السَّاعُون في الأمْرِ الشُّطُرْ وابن وثاب بالفتح والسكون، وهي تخفيف الأصل، ولغة تميم تسكين عين فعل مطلقاً والمخصوص بالمدح محذوف، أي: الجنة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 297 قوله: {والذين يَنقُضُونَ} مبتدأ، والجملة من قوله {أولئك لَهُمُ اللعنة} خبره، والكلام في «اللعنة» تقدم في «عُقْبَى الدَّارِ. ولما ذكر صفة السعداء وما يترتب عليها من الأحوال الشريفة، ذكر صفة الأشقياء وما يترتب عليها من الأحوال المخزية، وابتع الوعد بالوعيد فقال عَزَّ وَجَلَّ {والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} وقد تقدم أن عهد الله ما ألزم عباده مما يجب الوفاء به وهذا في الكفار، والمراد من نقض العهد: ألا ينظر في الأدلة وحينئذ لا يكون العمل بموجبها أو ينظر ويعلم صحتها ثم يعاند فلا يعمل بعمله أو ينظر في الشبهة فيعتقد خلاف الحق، والمراد من قوله:» مِن بَعْدِ ميثاقهِ «أن وثق الله تلك الأدلة وأحكامها. فإن قيل: العهد لا يكون إلا مع الميثاق، فما فائدة اشتراطه بقوله: {مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ} ؟ . فالجواب: لا يمتنع أن يكون المراد بالعهد هو ما كلف العبد به والمراد بالميثاق الأدلة؛ لأنه تعالى قد يؤكد [العهد] بدلائل أخر سواء كانت تلك المؤكدات دلائل عقلية أو سمعية. ثم قال {وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ} فيدخل فيه قطع كل ما أوجب الله وصله مثل: أن يؤمنوا ببعض الأنبياء ويكفرون ببعض، ويقطعون وصل الرسول بالموالاة والمعاونة، ووصل المؤمنين ووصل الأرحام وسائر ما تقدم. ثم قال: {وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض} إما بالدعاء إلى غير دين اكلله وإما بالظلم كما في النفوس والأموال وتخريب البلاد ثم قال: {أولئك لَهُمُ اللعنة} وهي الإبعاد من خيري الدنيا والآخرة {وَلَهُمْ سواء الدار} وهي جنهم. قوله {الله يَبْسُطُ الرزق لِمَنْ يَشَآءُ وَيَقَدِرُ} الآية لما حكى عن ناقضي العهد في التوحيد والنبوة بأنهم ملعونين ومعذبون في الآخرة فكأنه قيل: لو كان أعداء الله لما أنعم عليهم في الدنيا؟ فأجاب الله تعالى عنه بهذه الآية وهو أنه تعالى يبسط الرزق على البعض، وبسط الرزق لا تعلق له بالكفر والإيمان، فقد يوجد الكافر موسعاً عليه دون المؤمن، والدنيا دار امتحان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 298 قال الواحدي:» ومعنى القدر في اللغة: قطع الشيء على مساوة غيره من غير زيادة ولا نقصان «. وقال المفسرون في معنى» يَقْدرُ «ههنا: يضيق، لقوله {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] ومعناه: أنه يعطيه بقدر كفايته لا يفضل عنه شيء. وقرأ زيد بن علي:» ويَقْدُر «بضم العين. قوله:» وفَرِحُوا «هذا استئناف إخبار. وقيل: بل هو عطف على صلة» الذين «قبل. وفيه نظر؛ من حيث الفصل بين أبعاض الصلة بالخبر، وأيضاً: فإن هذا ماض وما قبله مستقبل ولا يدعي التوافق في الزمان إلا أن يقال: المقصود استمرارهم بذلك أو أن الماضي متى وقع صلة صلح [للماضي] والاستقبال. قوله «فِي الآخِرَةِ» ، أي في جنب الآخرة. «إلاَّ مَتاعٌ» وهذا الجار في موضع الحال تقديره: وما الحياة القريبة الكائنة في جنب الآخرة إلا متاع ولا يجوز تعلقه بالحياة ولا بالدنيا لأنهما لا يقعان إلا في الآخرة. ومعنى الآية: أن [مشركي] مكة أشروا وبطروا، والفرح: لذة في القلب بنيل المشتهى وفيه دليل على أن الفرح بالدنيا حرام محال {وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ} أي قليل ذاهب. قوله: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ} ألآية اعلم أن كفار مكمة قالوا: يا محمد فأجابهم الله بقوله {إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} . وبيان كيفية هذا الجواب من وجوه: أحدها: كأنه يقول: إن الله أنزل عليه آيات ظاهرة ومعجزات قاهرة، لكن [الإضلال] والهداية من الله فأضلهم عن تلك الآيات وهدى إليها آخرين، فلا فائدة في تكثير الآيات والمعجزات. وثانيها: أنه كلام يجري مجرى التعجب من قولهم، وذلك لأن الآيات الباهرة المتكاثرة التي ظهرت على رسول الله عليه أفضل الصلاة والسلام كانت أكثر من أن تصير مشتبه على العاقل فلما طلبوا بعدها آيات أخر كان في موضع التعجب والاستنكار، فكأنه قيل لهم: ما أعظم عنادكم {إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ} من كان على صنيعكم من التصميم على الكفر فلا سبيل إلى هدايتكم وإن نزلت كل آية: «ويَهْدِي» من كان على خلاف صنيعكم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 299 وثالثها: لما طلبوا سائر الآيات والمعجمزات فكأنه قال لهم: لا فائدة في ظهور الآيات والمعجزات، فإن الإضلال والهداية من الله تعالى فلو حصلت الآيات الكثيرة ولم تحصل الهداية من الله فإنه لم يحصل الانتفاع بها. ورابعها: قال الجبائي: المعنى: أنه يضل من يشاء عن رحمته وثوابه عقوبة له على كفره فلستم ممن يجيبه الله تعالى إلى ما يسأل لاستحقاقكم الإضلال عن الثواب {ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} ، أي: يهدي إلى جنته من [تاب] وآمن. قال: وهذا يبين أن الهدى هو الثواب من حيث إنه عقبه بقوله: «من أناب» ، أي: من تاب. والهدى الذي يفعله بالمؤمن هو الثواب؛ لأنه يستحقه على إيمانه وذلك يدل على أنه تعالى إنما يضل عن الثواب بالعقاب لا عن الدين بالكفر على ما ذهب إليه من خالفنا هذا تمام كلام الجبائي. والضمير في «إليه» عائد على الله، أي: إلى دينه وشرعه. وقيل على الرسول صلوات الله وسلامه عليه. وقيل: على القرآن. قوله: {الذين آمَنُواْ} يجوز فيه خمسة أوجه: أحدها: أن يكون مبتدأ خبره الموصول الثاني وما بينهما اعتراض. الثاني: أنه بدل من «مَنْ أنَابَ» . والثالث: أنه عطف بيان له. الرابع: أنه خبر مبتدأ مضمر. الخامس: أنه منصوب بإظمار فعل. فصل قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: إذا سمعوةا القرآن خشتع قلوبهم واطمأنت. فإن قيل: أليس قال في سورة الأنفال: {إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2] والوجل ضد الاطمئنان، فكيف وصفهم هنا بالاطمئنان؟ . فالجواب من وجوه: أحدها: أ، هم إذا ذكروا العقوبات ولم يأمنوا أن [يقربوا] المعاصي فهناك الوجل وإذا ذكروا ما وعد الله به من الثواب والرحمة سكنت قلوبهم، فإن أحد الأمرين لا ينافي الآخر؛ لأن الوجل هو بذكر العقاب والطمأنينة بذكر الثواب. وثانيها: أن المراد أن يكون القرآن معجزاً يوجب حصو الطمأنينة لهم في كون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 300 محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نبياً حقاً من عند الله، ولما شكوا في أنهم أتوا بالطاعات كاملة فيوجب حصول الوجل في قلوبهم. وثالثها: أنه حصل في قلوبهم أنهم هل أتوا بالطاعات الموجبة للثواب أم لا؟ وهل احترزوا عن المصعية الموجبة للعقاب أم لا؟ . وقيل: الوجل عند ذكر الله: الوعيد والعقاب، الطمأنينة عند ذكر الله عزّ وجل: الوعد والثواب، فالعقاب توجل إذا ذكرت عدل الله وشدة حسابه، وتطمئن إذا ذكرت فضل الله وكرمه {أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب} تسكن قلوب المؤمنين ويستقر فيه اليقين. قال ابن عباس رَحِمَهُ اللَّهُ: «هذا في الحلف، يقول: إذا حلف السملم بالله على شيء تسكن قولب المؤمنين إليه» . قوله {بِذِكْرِ الله} يجوز أن يتعلق ب «تَطْمئِنُّ» فتكون الياء سببية، أي: بسبب ذكر الله. وقال أبو البقاء: ويجوز أن مفعولاً به، أي: الطمأنينة تحصل لهم بذكر الله. الثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من «قلوبهم» ، أي: تطمئن وفيها ذكر الله. قوله: {الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فيه أوجه: أن يكون بدلاً من «القُلوب» على حذف مضاف أي: قلوب الذين أمنوا وأن يكمون بدلاً من «مَنْ أنَابَ» ، وهذا على قول من لم يجعل الموصول الأول بدلاً من «مَنْ أنَابَ» وإلا كان يتوالى بدلان، وأن يكون مبتدأ، و «طُوبَى» جملة خبرية، وأن تكون خبر مبتدأ مضمر، وأن يكون منصوباً بإضمار فعل، والجملة من «طُوبى لَهُمْ» على هذين الوجهين حال مقدرة، والعامل فيها ءامَنُوا «و» عَمِلُوا:. قوله «طُوبى لَهُم» وتاو «طُوبَى» منقلبة عن ياء، لأنها من الطيب وإنما قلبت لأجل الضمة قبلها، كموسر وموقن من اليسر واليقين واختلفوا فيها، فقيل: هي اسم مفرد مصدري، كبُشْرَى ورُجْعَى من طَابَ يطِيبُ. وقيل: بل هي جميع طيبة، كما قالوا: كوسى في جمع كيسة، وضُوقَى في جمع ضِيقَة. ويجوز أن يقال: طِيبى، بكسر الباء، وكذلك الكِيسَى والضِّيقَى. وهل هي اسم شجرة بعينها أو اسم للجنة بلغة الهند أو الحبشة؟ . وجاز الابتداء ب «طُوبَى» إما لأنها علم لشيء بعينه، وإما لأنها نكرة في معنى الدعاء، كسلام عليك، وويل لك، كذا قال سيبويه. وقال ابن مالك رَحِمَهُ اللَّهُ: «إنه يلتزم رفعها بالابتداء، ولا يدخل عليها نواسخه» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 301 وهذا يرد عليه: أن بعضهم جعلها في هذا الآية منصوبة بإضمار فعل، اي: وجعل لهم طوبى، وقد تأيد ذلك بقراءة عيسى الثقفي «وحُسْنَ مآبٍ» بنصب النون، قال: إنه معطوف على «طُوبَى» وأنها في موضع نصب. قال ثعلب: و «طُوبَى» على هذا مصدر، كما قال: «سقيا» . وخرج هذه القراءة صاحب اللوامح على النداء، كيا أسَفَى على الفوت، يعنى أن «طُوبَى» مضاف للضمير معه واللام مقحمة؛ كقوله: [البسيط] 3178 - ... ... ... ... ..... يَا بُؤسَ لِلجَهْلِ ضَرَّاراً الأقْوامِ وقوله: [مجزوء الكامل] 3178 - يَا بُؤسَ لِلحَرْبِ الَّتِي ... وضَعْتْ أرَاهِطَ قاستراحُوا ولذلك سقط التنوين من «بُؤسَ: كأنه قيل: يا طيبا، أي: ما أطيبهم وأحسن مآبهم. قال الزمخشري:» ومعنى «طُوبَى لَكَ» : أصحبت خيراً، و «طيبا» ومحلها النصب أو الرفع، كقولك: طيبا لك وطيبٌ لك، وسلاماً لك وسلام لك والقراءة ف يقوله «وحُسن مَآبٍ» بالنصب والرفع يدل على محلها، واللام مفي «لَهُمْ» للبيان مثلها في «سقيا لك» فهذا يدل على أنها تتصربف، ولا يلزم الرمفع بالابتداء. وقرأ مكوزوة الأعرابي: «طِيبَى» بكسر الطاء لتسليم الياء، نحو: بيض ومعيشة. وقرىء: «وحُسْنَ مَآبٌ» بفتح النون ورفع «مآبٌ» على أنه فعل ماض، أصله حَسُنَ فنقلت ضمة العين إلى الفاء قصداً للمدح، كقوله: حسن ذا أدب، و «مَآبُ» فاعله. فصل قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: طوبى، فرح لهم وقرة عين. وقال عكرمة: نعم ما لهم. وقال قتادة: حسنى لهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 302 وقال معمر عن قتادة: هذه كلمة عربية، يقول الرجل: طوبى لك، أي: أصبت خيراً. وقال إبراهيم رَحِمَهُ اللَّهُ: خير لهم وكرامة. وقال الفراء: وفيه لغتان: تقول العرب: طوباك، وطوبى لك، أي لهم الطيب «وحُسْنَ مَآبٍ» أي: حسن المنقلب. وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: «طُوبَى: اسم الجنة بالحبشية. وقال الربيع: البستان بلغة الهند. وقال الزجاج: العيش الطيب لهم وروي عن أبي أمامة وأبي هريرة وأبي الدرجاء قالوا: طوبى شجرة في الجنة تظل الجنان كلها وقيل فيها غير ذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 303 قوله: {كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ} الكاف في محل نصب كانظائرها. قال الزمخشري: «مثل ذلك الإرسال أرسلناك يعن: إرسالا ً له شأن» . وقيل: الكاف متعلقة بالمعنى الذي قبله في قوله: {إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ} [الرعد: 27] ، أي كما أنفذ الله هذا كذلك أرسلناك. وقال ابن عطية: «الذي يظهر لي أن المعنى كما أجرينا العادة بأن الله يضل ويهدي لا بالآيات المقترحة فكذلك فعلنا أيضاً في هذه الأمة أرسلناك إليها بوحي لا بأيآت مقترحة» . وقال أبو البقاء: وكذلك: «الأمر كذلك» فجعلها في موضع رفع. وقال الحوفي: الكاف للتشبيه في موضع نصب، أي: كفعلنا الهداية والإضلال والإشارة بذلك إلى ما وصف به نفسه من أن الله يضل من يشاء ويهدي من يشاء وتكون الكاف للتشبيه. قال ابن عباس والحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أي: أرسلناك كما أرسلنا الأنبياء قبلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 303 وقيل: كما أرسلنا إلى أمم وأعطيناهم كتباً تتلى عليهم كذلك [أعطيناك] هذا الكتاب وأنت تتلوه عليهم. قوله: «قَد خَلتْ» جملة في محل جر صفة ل «أمَّة» ، و «لِتَتْلُ» متعهلق ب «أرْسلْنَاك» والمعنى: أنه فسر كيف أرسله فقال: {في أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَآ أُمَمٌ} أي: أرسلناك في أمة قد تقدمها أمم وهم آخر الأمم وأنت آخر الأنبياء «لتتلو» لتقرأ عليهم الذي أوحينا إليك وهو الكتاب العظيم. قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ} يجوز أن تكون هذه الجملة استئنافية، وأن تكون حالية والضمير في «وهم يكفُرون» عائد على «أمَّة» من حيث المعنى، ولو عاد على لفظها لكان التركيب: وهي تكفر. وقيل: الضمير عائد على «أمَّة» وعلى «أممٍ» . وقيل: عائد على الذين قالوا: «لوْلاَ أنْزِلَ» . فصل قال قتادة ومقاتل وابن جريح: الآية مدنية نزلت في صلح الحديبية وذلك أن سهل بن عمرو لما جاءوا واتفقوا على أن يكتبوا كتاب الصلح، فقال رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لعلي كرم الله وجهه: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم. قالوا لا نعرف إلى الرحمن إلا صاحب اليمامة يعنون: مسليمة الكذاب، اكتب كما كممنت تكتب: باسمك اللهم فهذا معنى قوله: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} والمعروف أن الآية مكية، وسبب نزولها: أن أبا جهل سمع النبي س صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو في الحجر يدعو الله يا رحمن فرجع إلى المشركين، وقال: إن محمداً يدعو إلهين: يدعو الله ويدعو الرحمن إلهاً آخر يسمى الرحمن، ولا نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة فنزلت هذه الآية، ونزل قوله تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى} [الإسراء: 110] وروى الضحاك عن ابن عباس: أنها نزلت في كفار قريش حين قال لهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرف وكرم وبجل وعظم: «اسجدوا للرحمن» ، قالوا: وما الرحمن؟ قال الله تعالى: «قل لهم يا محمد إن الرحمن الذي أنكرتم معرفته هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت» اعتمدت «وإليه متاب» أي: توبتي ومرجعي. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 304 فصل اعلم أن قوله {يَكْفُرُونَ بالرحمن} أنا إن حملناه على هذه الروايات كان معناه: يكفرون بإطلاق هذا الاسم على الله تعالى لا أنهم كفروا بالله تعالى وقال آخرون: بل كفروا بالله إما جحداً له، وإما لإثباتهم الشركاء معه. قال القاضي: وهذا القول أليق بالظاهر؛ لأن قوله تعالى {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} يقتضي أنهم كفروا بالله وهو المفهوم به فكان المفهوم هو دون اسمه تعالى. قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31] نزلت في نفر من مشركي مكة منهم: أبو جهل بن هشام وعبد الله بن أمية المخزومي جلسوا في فناء الكعبة فأتاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعرض عليهم الإسلام، فقال عبد الله بن أمية المخزومي: إن سرك أن نتبعك فسيِّر لنا جبال مكة بالقرآن فأذهبها حتى تنفسح علنيا فإنها أرض ضيقة لمزارعنا، واجعل لنا فيها عيوناً وأنهاراً لنغرس الأشجار ونزرع، فلست كما زعمت بأهون على ربك من داود حيث سخر له الجبال تسبح معه، أو [سخر لنا الريح، فنركبها إلى الشام والبلاد لميرتنا وحوائجنا، ونرجع في يومنا؛ فقد] سخر الريح لسليمان صلوات الله وسلامه عليه كما زعمت فلست على ربك بأهون من سليمان، أو أحْي لنا جدك قصي، أو من شئت من موتانا نسأله عن أمرك، أحق ما تقول أوة باطل فقد كان عيسى يحيي الموتى، ولست بأهون على الله منه، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض} [الرعد: 31] أي: شققت فجلعت أنهاراً وعيوناً {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} [الرعد: 31] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 305 قوله: {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ} جوابها محذوف، أي: لكان هذا القرآن، لأنه في غاية ما يكون من الصحة، واكتفى بمعرفة السامعين من مراده؛ كقوله الشاعر: [الطويل] 3180 - فأقْسِمُ لو شَيءٌ أتَاناَ ... سِواكَ ولكِنْ لَمْ نَجْدْ عنْكَ مَدْفَعَا أراد: لرددناهن، وهذا معنى قول قتادة: قالوا: لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 305 وقيل: تقديره لما آمنوا. ونقل عن الفراء: جواب «لو» هي الجملة من قوله {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن} [الرعد: 30] وفي الكلام تقديم وتأخير وما بينهما اعتراض، وتقدير الكلام: وهم يكفرون بالرحمن لو أن قرآناً سيرت به الجبال كأنه قيل: لو سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم الموتى به لكفروا بالرحمن ولم يؤمنوا لما سبق من علمنا فيهم، كقوله: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملاائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا} [الأنعام: 111] وهذا في الحقيقة دال على الجواب. وإنما حذفت التاء شفي قوله {أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى} وثبتت في الفعلين قبله؛ لأنه من باب التغليب، لأن الموتى تشمل المذكر والمؤنث. قوله {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} أصل اليأتس: قطع الطمع عن الشيء والقنوط منه، واختلف الناس فه ههنا، فقال بعضهم هو هنا على بابه، والمعنى أفلم ييأس الذين آمنوا من إيمان الكفار من قريش، وذلك أنهم لما سألوا هذه الآيات طمعوا في إيمانهم وطلبوا نزول هله الآيات ليؤمن الكفار، وعلم الله أنهم لا يؤمنون فقال: أفلم ييأس الذين آمنوا من آيات الكفار، أي: ييأس من إيمانهم قال الكسائي. وقال الفراء: «أوقع الله للمؤنين أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً فقال: أفلم ييأسوا علماً» يقول: يؤيسهم العلم، فكان فيهم العلم مضمراً كما تقول في الكلام: «يئست منك إن لا تفلح» كأنه قال: علمه علماً، قال: فيئست بمعنى علمت، وإن لم يكن سمع فإنه يتوجه لذلك بالتأويل «. وقال ابن عطية: ويحتمل أن يكون اليأس في هذه الآية على بابه وذلك لأنه لما أبعد إيمانهم في قوله عَزَّ وَجَلَّ {وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ} على [التأويلين] في المحذوف المقدر، قال في هذه الآية» أفلمْ يَيْأسٍ «المؤمنون من إيمان هؤلاء علماً منهم {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً} . وقال الزمخشري:» ويجوز أن يتعلق {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله} ب «آمَنَوا» على أو لو يقنط عن إيمان هؤلاء الكفرة الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً ولهداهم «. وهذا قد سبقه إليه أبو العباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وقال أبو حيان: ويحتمل عندي وجه آخر غير الذي ذكروه، وهو: أن الكلام تام الجزء: 11 ¦ الصفحة: 306 عند قوله تعالى {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} إذ هو تقرير، أي: قد يئس المؤمنون من إيمان هؤلاء المعنادين، و {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله} جواب قسم محذوف، أي: وأقسم أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعاً، ويدل على هذا القسم [وجود] » أنْ «مع» لَوْ «في قول الشاعر: [الوافر] 3181 - أمَا واللهِ أن لوْ كُنَْ حُرًّا ... وما الحُرِّ أنْتَ ولا العَتِيقِ وقول الآخر: [الطويل] 3182 - فأقْسِمُ أن لَوِ التَقيْنَا وأنتمُ ... لكَانَ لكُم يَوْمٌ مِنَ الشَّر مُظْلِم وقد ذكر سيبويه أن «أن» تأتي بعد القسم، وجعلها ابن عصفور رابطة للقسم بالجملة المقسم عليها، وقال بعضهم بل هو ههنا بمعنى «عَلِمَ» و «تَبيَّن» . قال القاسم بن مَعنٍن وهو من ثقاب الكوفيين: هي من لغة هوازن. وقال الكلبي: هي لغة حي من النَّخع، ومنه قول رباح بن عدي: [الطويل] 3183 - ألَمْ يَيأسِ الأقْوامُ أنِّي أنَا ابنهُ ... وإن كُنْتُ عن أرْضِ العَشِيرةِ نَائِيا وقول سحيم بن وثيل الرياحي: [الطويل] 4184 - أقُولُ لهُمْ بالشِّعْبِ إذ يَأسِرُونَنِي ... ألمْ تَيأسُوا أنِّي ابنُ فارسِ زَهْدمِ وقول الآخر: [الكامل] 3185 - حتَّى إذَا يَئسَ الرُّماةُ فأرْسَلُوا ... غُضْفاً دَواجِنَ قافِلاً أعْصامُهَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 307 ورد الفراء هذا وقال: «لم أسمع» يَئِسْتُ «بمعنى عَلْمتُ» . وردَّ عليه بأن من حفظ حجة على من لكم يحفظ، ويدل على ذلك: قراءة علي وابن عباس وعكرمة وابن أبي مليكة والجحدري وعلي بن الحسين وابنه زيد وجعفر بن محمد وابن يزيد المدني وعبد الله بن يزيد، وعلي بن بذيمة: (أفلم يتبين) من: «تبينت كذا» إذا عرفته، وقد افترى من قال: إنما كتبه الكاتب وهو ناعس، كان أصله: «أفلم يتبين» فسوى هذه الحروف [فتوهَّم] أنها سين. قال الزمخششري: «وهذا ونحوه مما لا يصدق في كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكيف يخفى هذا حتى يبقى بين دفتي الإمام، وكان متقلباً في أيدي أولئك الأعلام المحتاطين في دين الله المهيمنين عليه، لا يغفلون عن جلائله ودقائقه خصوصاً عن القانون الذي إليه المرجع، والقاعدة التي عليها المبنى، هذه والله فرية ما فيها مرية» . وقال الزمخشري أيضاً: «وقيل: إنما استعمل اليأس بمعنى العلم؛ لأن الآيس عن الشيء عالم بأنه لا يكون، كما استعمل الرجاء في معنى الخوف، والنيسان في معنى الترك لتضمنه ذلك» . وتحصل في «أنْ» قولان: أحدهما: أنها «أن» المخففة من الثقيلة، فأسمها ضمير الشأن، والجملة الامتناعية بعدها خبرها، وقد وقع الفصل ب «لو» و «أن» وما في حيزها إن علقنا ب «ءامنوا» يكون في محل نصب، أو جر على الخلاف بين الخليل وسيبويه، إذا أصلها الجر بالحرف، أي: آمنوا بأن لو يشاء الله، وإن علقناها ب: يَيْأس «على أنه بمعنى علم كانت في محل نصب لسدها سمد المفعولين. والثاني: رابطة بين القسم والمقسم عليه، كما تقدم. فصل قال المفسرون: إن أصحاب رسول الله صلوات الله وسلامه عليه لما سعموا كلام المشركين طمعوا في أن يفعل الله تعالى ما سألوا فيؤمنوا، فنزل {أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا} يعني الصحابة من إيمان هؤلاء، يعني: الم ييأسوا وكل من علم شيئاً ييِأس عن خلافه. يقول: ألم يؤيسهم العلم {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله} . فصل احتج أهل السنة بقوله: {أَن لَّوْ يَشَآءُ الله} وكلمة «لَوْ» تفيد انتفاء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 308 الشيء لانتفاء غيره، والمعنى: أنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس والمعتزلة تارة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الإلجاء، وتارة يحملون هذه المشيئة على مشيئة الهداية إلى طريق الجنة، ومنهم من يجري الكلام على الظاهر، ويقول: إنه تعالى ما شاء هداية جميع الناس لأنه ما شاء هداية الأطفال والمجانين فلا يكون مبايناً لهداية جميع الناس، وقد تقدم الكلام على هذه المسألة مراراً. قوله تعالى: {وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ} ألآية قيل: أراد جميع الكفار؛ لأن الوقائع الشديدة [التي وعقت لبعض الكفار من القتل والسبي، أوجب حصول الغم] في قلوب الكل. وقيل: أراد بعض الكفار وهم جماعة معينون، فتكون الألف واللام للعهد، والمعنى لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا من كفرهم وأعمالهم القبيحة «قارِعَةٌ» أي: نازلة وداهيةٌ تقرعهم من أنواع البلاء أحياناً بالجدب وأحياناً بالسلب وأحياناً بالقلب. يقال: قرعه أمر إذا أصابه، والجمع قوارع، والأصل في القرع: الضرب أي: لا يزال الكافرون تصيبهم داهية مهلكة من صاعقة كما أصاب أربد، أو من قتل أو أسر أو جدب أو غير ذلك من العذاب والبلاء كما نزل يخاطب المستهزئين من رؤساء المشركين. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أراد كفار قريش يصيبهم بما صنعوا برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من العداوة والتكذيب بأن لايزال يبعث السرايا فتغير حول مكة وتختطف منهم وتصيب من مواشيهم «. قوله» أوْ تَحُلُّ «يجوز أن يكون فاعله ضمير الخطاب، أي: تحل أنت يا محمد وأن يكون ضمير القارعة، وهذا أبين، أي: تصيبهم قارعة أو تحل القارعة، وموضعها نصب عطف علىخبر» يَزالُ «. وقرأ ابن جبير ومجاهد:» أوْ يَحُلُّ «بالياء من تحت، والفاعل على ما تقدم إما ضمير القارعة وإنما ذكر العفل؛ لأنها بمعنى العذاب ولأن التاء للمبالغة، والمراد: قارع وإما ضمير الرسول صلوات الله وسلامه عليه أتى به غائباً، وقرأ أيضاً:» مِن دِيَارهِمْ «جمعاً، وهي واضحة. المعنى: أو تحل القارعة أو أنت يا محمد صلوات الله وسلامه عليك بجيشك قريباً من دراهم كما حل بالحديبية {حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله} وهو فتح مكة، وكان قد وعده ذلك. وقيل: يوم القيامة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 309 {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} والغرض منه: [تقوية] قلب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإزالة الحزن عنه وتسليته. فصل قال القاضي: قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد} يدل على بطلان قول من يجوز الخلف على الله تعالى في ميعاده، وهذه الآية وإن كانت واردة في حق الكفار إلا أن العبرة بمعموم اللفظ لا بخصوص السبب وعمومه يتناول كل وعيد ورد في حق [الفساق] من العناد. والجواب: أن الخلق غير، وتخصيص العموم غير، ونحن لا نقول بالخلف، ولكننا تخصص عمومات الوعيد بالآيات الدالة على العفو. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 310 قوله تعالى: {وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ} الآية لما طلبوا المعجزات من الرسول صلوات الله وسلامه عليه على سبيل الاستهزاء، وكان يتأذى من تلك الكلمات، فأِنزل الله تعالى هذه الآية تسلية له وتصبيراً على سفاهتهم فقال: إن أقوام سائر الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ استهزؤوا بهم كما أن قومك يستهزئون بك {فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أمهلتهم وأطلت لهم المدة بتأخير [العقوبة] {ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} عاقبتهم في الدنيا بالقتل، وفي الآخرة بالنار {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} لهم؟ . والإملاء: الإمهال وإن تركوا مدة من الزمان في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها ف يالمرعى، ومنه الملوان وهو الليل والنهار؟ قوله: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ} «مَنْ» موصولة، وصلتها «هُو قَائِمٌ» والموصول مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف تقديره: كمن ليس كذلك من شركائهم التي لا تضر ولا تنفع، ودل على هذا المحذوف، قوله {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} ونحوهن قوله {أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ} [الزمر: 22] تقديره: كمن قسا قبله. يدل عليه أيضاً {فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله} [الزمر: 22] وإنما حسن حذفه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 310 كون الخبر مقابلاً للمبتدأ، وقد جاء مبيناً، كقوله {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] {أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى} [الرعد: 19] . والمعنى: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت، أي: حافظها ورازقها وعالم بها ومجازيها بما علمت، وجوابه محذونف، تقديره: كمن ليس بقائم بل عاجز عن نفسه. قوله {وَجَعَلُواْ للَّهِ} يجوز أن يكون استئنافاً، وهو الظاهر، جيء به للدلالة على الخبر المحذوف كما تقدم تقريره. وقال الزمخشري: «يجوز أن تقدر ما يقع خبر للمبتدأ ويعطف عليه:» وجَعَلُوا «وتمثيله: أفمن هو بهذه الصفة لم يوحدوه» جعلوا لهُ «وهو الله تعالى أي: وهو الذي يستحق العبادة» . قال أبو حيان: «وفي هذا التوجيه إقامة الظاهر مقام المضمر في قوله تعالى {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} أي: له، وفيه حذف الخبر غير المقابل، وأكثر ما جاء الخبر مقابلاً» . وقيل: الواو للحال، والتقدير: أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبت موجودة والحال أنهم جعلوا له شركاء، فأقيم الظاهر وهو «اللهُ» مقام المضمر تقريراً للإلهية وتصريحاً بها، قاله صاحب العقد. وقال ابن عطية: «ويظهر أن القول مرتبط بقوله {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ} كان التقدير: أفمن له القدرة والوحدانية، ويجعل له شريك أهل ينتقم ويعاقب أم لا؟» . وقيل: «وَجَعلُوا» عطف على «استُهْزِىءَ» بمعنى: وقد استهزؤوا وجعلوا. وقال أبو البقاء: «هو معطوف على» كَسبَتْ «أي: ويجعلهم لله شركاء» ولما قر هذه الحجة زاد في الحجاج فقال: «قُلْ سمُّوهُمْ» وإنما يقال ذلك في الأمر المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى ألا يذكر، ولا يوضع له اسم فعند ذلك يقال: سمه إن شئت، يعني أنه [أخس] من أن يسمى ويذكر، ولكن إن شئت أن تضع له أسماً فافعل، وقيل: «سموهم» : أي: صفوهم، ثم انظروا: هل هي أهلٌ أن تعبد؟ على سبيل التهديد، والمعنى: سواء سيمتموهم باسم الآلهة أو لم تسموهم فإنها في الحقارة بحيث لا تستحق أن يلتفت العاقل إليها، ثم زاد في الحجاج. قوله {أَمْ تُنَبِّئُونَهُ} «أمْ» هذه منقطعة مقدرة ب «بل» والهمزة والاستفهام للتوبيخ بل أتنبؤنه شركاء لا يعلمهم في الأرض ونحوه {قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض} [يونس: 18] فجعل الفاعل ضميراً عائداً على الله، والعائد على «ما» محذوف تقديره: بما لا يعلمه الله، وقد تقدم في تلك الآية: أن الفاعل ضمير يعود على «ما» وهو جائز هنا أيضاً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 311 قوله «أمْ بِظاهِرِ» أنها منقعطة. والظاهر هنا، قيل: الباطن؛ وأنشدوا: [الطويل] 3186 - اعَيَّرْتنَا ألْبانهَا ولحُومَهَا ... وذلِكَ عَارٌ يَا ابْنَ رَيْطة ظَاهِرُ أي: باطن. وفسره مجاهد: بكذب، وهو موافق لهذا. وقيل: «أمْ» متصلة، أي: تنبئونه بظاهر لا حقيقة له. والمعنى: أم يخبرون الله بأمر يعلمونه وهو لايعمله، فإنه لا يعلم لنفسه شريكاً وإنما خص الأرض بنفي الشريك عنها وإن لم يكن له شريك التبة؛ لا، هم ادعوا أن له شريكاً في الأرض لا في غيرها أم تموهو بظاهر من القول لا حقيقة له وهو كقوله {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} [التوبة: 30] . ثم إنه تعالى بعد هذا الحجاج بيّن طريقتهم، فقال على وجه التحقير لما هم عليه {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} . قال الواحدي: «معنى» بَلْ «ههنا كأنه يقول: دع ذلك زين له مكرهم لأنه تعالى لما ذكر الدلائل على فساد قولهم فكأنه يقول: دع ذلك الدليل فإنه لا فائدة فيه، لأن زين لهم كفرهم ومكرهم فلا ينتفعون بذكر هذه الدلائل» . فصل قالت المعتزلة: لا شبهة في أنه إنما ذكر ذلك لأجحل أن يذمَّهم به وإذا كان كذلك امتنع أن يكون ذلك المزين هو الله تعالى، فلا بد إما أن يكون شياطين الإنس وما شياطين الجن. قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: وهذا التأويل ضعيف من وجوه: الأول: أنه إن كان المزين هو أحد شياطين الإنس أو الجن فالمزين لذلك الشيطان إن كان شيطاناً آخر لزم التسلسل، وإن كان هو الله فقد زال السؤال. والثاني: أن أفعال القلوب لا يقدر عليها إلا الله عَزَّ وَجَلَّ. والثالث: أنا دللنا على أن ترجيح الداعي لا يحصل إلا من الله عَزَّ وَجَلَّ وعند حصوله يجب الفعل. قوله {وَصُدُّواْ عَنِ السبيل} قرأ الكوفيون ويعقوب «وصُدَّوا» مبنياً للمفعول، وفي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 312 غافر {وَصُدَّ عَنِ السبيل} [غافر: 37] كذلك، وابقي السبعة مبنيّين للفاعل، و «صد: جاء لازماً ومتعدياً، فقراءة الكوفية من التعدي فقط، وقراءة الباقين: يحتمل أن تكون من المتعدي ومفعوله محذوف، أي: صدوا غيرهم أو أنفسهم، وأن يكون من اللازم، أي: أعرضوا وتولوا. وقرأ ابن وثاب:» وصِدُّوا عَن السَّبيال «بكسر الصاد، وهو مبني للمفعول أجراه مجرى» قِيلَ «و» بِيعَ «فهو كقراءة: {رُدَّتْ إِلَيْنَا} [يوسف: 65] . قوله: [الطويل] 3187 - ومَا حِلَّ مِنْ جَهْلِ حُبَا حُلمَائِنَا ..... ... ... ... ... ... ... ... . وقد تقدم. فأما قراءة المبني للمعفول، فعند أهل السنة: أن الله صدهم. المعتزلة وجهان: قيل: الشيطان وبعضهم لبعض، هو قول أبي مسلم رَحِمَهُ اللَّهُ. ومن فتح الصاد: يعني الكفار أعرضوا إن كان لازماً، وصدوا غيرهم إن كان متعدياً. وحجة القراءة الأولى مشاكلتها لما قبلها من بناء الفعل للمفعول، وحجة القراءة الثانية قوله جل ذكره {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ} [محمد: 11] ثم مقال: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} . وتمسك أهل السنة بهذه الآية من وجوه: أحدها: قوله {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ} وقد تقدم بالدليل أن المزين هو الله تعالى. وثانيها: قوله {وَصُدُّواْ عَنِ السبيل} بضم الصاد، وبينا ِأيضاً أن ذلك الصاد هو الله تعالى. وثالثها: قوله سبحانه وتعالى: {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} ، وهو صريح في المقصود، ثم قال تعالى: {لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا} بالقتل والأسر {وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ} أي: أشد {وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ} مانع يمنعهم من العذاب. وقال الواحي: أكثر القراء وقفوا على القاف من غير إثبات ياء، مثل قوله عَزَّ وَجَلَّ {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [غافر: 33] وكذلك {مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ} [الرعد: 37] وهو الوجه؛ لأنه يقال في الوصل:» هادٍ ووالٍ وواقٍ «محذوف الياء لسكونها والتقائها مع التنوين، فإذا وقفت انحذف التنوين في الوقف في الرفع والجر، والياء [كانت] انحذفت ف يالوصل فيصادف الوقف الحركة التي كسرت فتحذف كما يحذف سائر الحركات التي يوقف عليها، فيقال:» هَاد «و» وَال «و» وَاق «. وابن كثير يقف بالياء، ووجهه ما حكى سيبوبه: أن بعض من يوثق به من العرب يقفون بالياء، وقد تقدم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 313 قوله: {مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون} الآية لما ذكر عذاب الكفار في الدنيا والآخرة أتبعه بذكر ثواب المتقين فقال «مثلُ الجَنَّة» . قال سيبويه: «مثَلُ الجنَّة» مبتدأ، وخبره محذوف، والتقدير: فيما قصصنا أو فما يتلى عليكم مثل الجنة وعلى هذا فقوله {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} تفسير لذلك المثل. وقال أبو البقاء: «فعلى هذا» تَجْرِي «حال من العائد المحذوف في» وُعِدَ أي: وعدها مقدراً جريان أنهارها «. ثم نقل عن الفراء: أنه جعل الخبر قوله:» تَجْرِي «قال:» وهذا خطأ عند البصريين، قال: لأن المثل لا تجري من تحته الأنهار وإنما هو من صفات المضاف إليه، وشبهته: أن المثل هنا بمعنى الصفة فهو كقوله: صفة زيد أنه طيل ويجوز أن يكون «تَجْرِي» مستأنفاً. وهذا الذي ذكره أبو البقاء نقل نحنوه الزمخشري، ونقل غيره عن الفراء في الآية تأويلين آخرين: أحدهما: على حذف لظفه «أنها» والأصل: صفة الجنة أنها تجري وهذا منه تفسير معنى لا إعراب، وكيف تحذف «أنها» من غير دليل؟ . والثاني: أن لفظة «مثلُ» زائدة، والأصل: الجنة تجري من تحتها الأنهار، وزيادة «مثِلُ» في لسانهم كثير، ومنه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ} [البقرة: 137] وقد تقدم. قال الزمخشري: «وقال غيره، أي غير سيبويه: الخبر {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} كما تقول: صفة زيد أسمر» . قال أبو حيان: «وهذا أيضاً لا يصح أن يكون: تجْري» خبراً عن الصفة ولا « الجزء: 11 ¦ الصفحة: 314 أسمر» خبراً عن الصفة، وإنما يتاول «تَجْرِي» على إسقاط «أن» ورفع الفعل، والتقدير أن تجري، أي: جريانها «. وقال الزجاج:» مثلُ الجنَّةِ «» جنة «على حذف المضاف تمثيلاً لما غاب بمان نشاهده. ورد عليه أبو علي قال:» لا يصح ما قال الزجاج لا على معنى الصفة ولا على معنى الشبه؛ لأن الجنة التي قدرها جثَّة ولا تكون الصفة، ولأن الشبه عبارة عن المماثلة بين المتماثلين وهوحدث والجنة جثة فلا تكون [المماثلة] «. والجمهور على أن المثل هنا بمعنى الصفة، فلس هنا ضرب مثل، فهو كقوله تعالى: {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} [النحل: 60] ، وأنكر أبو علي أن يكون بمعنى الصفة، وقال: معناه: الشبه. وقرأ علي وابن مسعود» أمْثَالُ الجنَّةِ «، أي: صفاتها وقد تقدم خلاف القراء فيه في البقرة. فصل اعلم أنه تعالى وصف الجنة بصفات ثلاث: أولها: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} . وثانيها: {أُكُلُهَا دَآئِمٌ} أي: لا ينقطع ثمرها ونعيهما بخلاف جنات الدنيا. و «أكلها دائم» كقوله: «تجري» في الاستئناف التفسيري، أو الخبري، أو الحالية، وقد تقدم. وثالثها: ظلها ظليل لا يزول، أي: ليس هناك حر ولا برد ولا شمس ولا قمر ولا ظله نظيره قوله تعالى: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} [الإنسان: 13] وهذا رد على الجهمية حيث قالوا: نعيم الجنة يفنى. ولما وصف الجنة بهذه الصفات الثلاث، بين أن تلك عقبى المتقين، أي: عاقبتهم، يعنى الجنة، وعاقبة الكافرين النار. قوله: {والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} يعنى القرآن وهم أصحاب محمد صلوات الله وسلامه عليه {يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} من القرآن {وَمِنَ الأحزاب} أي: الجماعات، يعني الكفار الذين تحزبوا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من اليهود والنصارى {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} هذا قول الحسن وقتادة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 315 فإن قيل: الأحزاب ينكرون كلّ القرآن. فالجواب: أن الأحزاب لا ينكرون كل القرآن؛ لأنه ورد في إثبات الله تعالى وإثبات قدرته وعلمه وحكمه وقصص الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهم لا ينكرون هذه الأشياء. وقيل: المراد بالكتاب: التوراة والإنجيل، وعلى هذه ففي الآية قولان: الأول: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: {الذين ءاتيناهم الكتاب} كعبد الله بن سلام وكعب وأصحابهما ومن آمن من النصارى وهم ثمانون رجلاً: أربعو بنجران وثمانية باليمن، واثنان وثلاثون بأرض الحبشة، فرحوا بالقرآن، لأنهم آمنوا به وصدقوه. وسبب فرحهم به أن ذكر الرحمن كان في القرآن قليلاً في الابتداء فلما أسلم عبد الله بن سلام وأصحابه ساءهم قلة ذكره في القرآن مع كثرة ذكره في التوراة فلما كرر الله ذكره في القرآن فرحوا به فنزلت الآية. والأحزاب بقية أهل الكتاب وسائر المشركين. قال القاضي: وهذا القول أول من الأول؛ لأنه لا شبهة في أن من أوتي القرآن فإنهم يفرحون بالقرآن، فإذا حملناه على هذا الوجه ظهرت الفائدة. ويمكن أن يقال: إن الذين أوتوا القرآن يزداد فرحهم به لما رأوا فيه من العلوم الكثيرة والفوائد العظيمة، ولهذا السبب حكى الله فرحهم به. والثاني: أن الذي أتيناهم الكتاب: اليهود أعطوا التوراة، والنصارى الإنجيل يفرحون بما أنزل في القرآن، لأنه مصدق لما معهم {وَمِنَ الأحزاب} سائر الكفار {مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} وهو قول مجاهد. قال القاضي: وهذا لا يصح لقوله {يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} أي جميع ما أنزل الله إليك ويمكن أن يجاب فيقال:: إن قوله {بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ} لا يفيد العموم بدليل جواز إدخال لفظة الكل والبعض عليه، ولو كانت كلمة «ما» للعموم لكان إدخال لفظ الكل عليه تكراراً، وإدخال لفظ البعض عليه نقصاً. ثم إنه تعالى لما بين هذا جمع كل ما يحتاج المرء إليه في معرفة المبدأ والمعاد في ألفاظ قليلة فقال {قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولاا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ} وهذا كلام جامع لكل ماورد التكليف به، وفيه فوائد. أولها: كلمة «إنَّمَا» للحصر، ومعناه: إني ما أمرت إلا بعبادة الله تعالى وذلك يدل على أنه لا تكليف ولا أمر ولا نهي إلا بذلك. وثانيها: أن العبادة غاية التعظيم، وذلك يدل على أن المرء كلف بذلك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 316 وثالثها: أن عبادة الله لا تمكن إلا بعد معرفته ولا سبيل إلى معرفته إلا بالدليل وهذا يدل على أن المرء مكلفٌ بالنظر والاستدلال، في معرفة الصانع وصفاته وما يجب ويجوز ويستحيل عليه. ورابعها: أن عبادة الله واجبة، وهي تبطل قول نفاة التكليف ويبطل القول بالجبر المخض. وخامسها: قوله {ولاا أُشْرِكَ بِهِ} وهذا يدل على نفي الأضداد والأنداد بالكلية ويدخل فيه إبطال قول كل من أثبت معبوداً سوى الله تعالى من الشمس والقمر والكواكب الأصنام والأوثان والأرواح، وهو على ما يقوله المجوس أو النور والظلمة على ما تقوله الثنوية. وسادسها: قوله (إليه أدعو) أي: كلما وجب عليه الإتيان بهذه العبادات يجب عليه الدعوة إلى [عبودية] الله تعالى وهو إشارة إلى الحشر والنشر والبعث والقيامة. قوله: {ولاا أُشْرِكَ} قرأ نافع في رواية عنه برفع «ولا أشْرِكُ» وهي تحتمل الطقع، أي: وأنا لا أشرك. وقيل: هي حال. وفيه نظر؛ لأن المنفي ب «لا» كالمثبت في عدم مباشرة واو الحال. قوله: {وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً} الكاف في محل نصب، أي: وكما يسرنا هؤلاء للفرح وهؤلاء لإنكار البعض كذلك {أَنزَلْنَاهُ حُكْماً} و «حُكْماً» حال من مفعول «أنْزلْنَاهُ» . وقيل: شبه إنزاله حكماً عربياً بما أنزل على من تقدم من الأنبياء أي: كما أنزلنا الكمتب على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بلسانهم كذلك أنزلنا إليك القرآن. وقيل: كما أنزلنا إليك الكتاب يا محمد فأنكره الأحزاب كذلك أنزلنا الحكم والدين «عربياً» نسب إلى العرب، لأنه منزل بلغتهم فكذب به الأحزاب، ولما كان القرِآن مشتملاً على جميع أنواع التكاليف وكان سبباً للحكم جعل نفس الحكم مبالغة. فصل قالت المعتزلة: دلت الآية على حدوث القرآن من وجوه: الأول: أنه تعالى وصفه بكونه منزلاً وذلك لا يليق إلا بالمحدث. والثاني: وصفه بكونه عربياً، والعربي هو الذي حصر بوضع العرب واصطلاحهم وما كان كذلك كان محدثاُ. والثالث: أن الآية دلت على أنه إنما كان حكماً عربياً؛ لأن الله جعله كذلك والموصوف بهذه الصفة محدث. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 317 والجواب: أن كل هذه الوجوه دالة على أن المركب من الحروف والأصوات محدث لانزاع فيه. قوله: {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم} روي أن المشركين كانوا يدعونه إلى ملة آبائهم، فتوعدوه الله على موافقتهم على تلك المذاهب مثل أن يصلي إلى قبلتهم بعد ما حوله الله عنها. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الخطاب مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد أمته. وقيل: المراد منه حث الرسول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ على القيام بحق الرسالة وتحذيره من خلافها، وذلك يتضمن تحذير جميع المكلفين بطريق الأولى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 318 قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ} الآية اعمل أن القوم كانوا يذكرون أنواعاً من الشهبات في [إبطال] النبوة: فالشهبة الأولى: قولهم: {مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق} [الفرقان: 7] وهذه الشبهة ذكرها الله في سورة أخرى. والشبهة الثانية: قولهم: الرسول الذي يرسله الله تعالى إلى الخلق لا بد أن يكون من جنس الملائكة كما قال: {لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ} [الأنعام: 8] وقالوا: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} [الحجر: 7] . الشهبة الثالثة: عابوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بكثرة الزوجات، وقالوا لو كان رسولاً من عند الله لما اشتغل بالنسوة بل كان معرضاً عنهن مشتغلاً بالنسك والزهد فأجاب الله عَزَّ وَجَلَّ بقوله {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً} وهذا أيضاً يصلح أن يكون جواباً عن الشبهات المتقدمة فقد كان لسليمان صلوات الله وسلامه عليه ثلاثمائة امرأة ممهرة وسبعمائة سرية، ولداود صلوات الله وسلامه عليه مائة امرأة. والشبهة الرابعة: قولهم: لو كان رسولاً من عند الله لكان أي شيء طلبناه منه من المعجزات أتى به ولم يتوقف، فأجاب الله تعالى عنه بقوله {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} . الشبهة الخامس: أنه صلوات الله وسلامه عليه كان يخوفهم ينزول العذاب [وظهور النصرة له ولقومه، فلما تأخر ذلك احتجوا بتأخره للطعن في نبوته وصدقه، فأجاب الله تعالى عنه بقوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} يعنى نزول العذاب على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 318 الكفار] وظهور النصر والفتح للأولياء فقضى الله بحصولها في أوقات معينة ولكل حادث وقت معين و {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} فقيل: حضور ذلك الوقت لا يحدث ذلك الحادث، وتأخر تلك المواعيد لا يدل على كونه كذاباً. الشبهة السادسة: قالوا: لو كان صادقاً في دعوى الرسالة لما نسخ الأحكام التي نص الله على ثبوتها في الشرائع المتقدمة، كالتوارة والإنجيل، لكنه نسخها وحرفها كما في القبلة، ونسخ أكثر أحكام التوراة والإنجيل، فوجب أن لا يكون نبياً حقاً. فأجاب الله تعالى عنه بقوله {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} ويمكن أيضاً أن يكون قوله: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} كالمقدمة لتقرير هذا الجةاب، وذلك لأِنا نشاهد أنه تعالى يخلق حيواناً عجيب الخلقة بديع الفطرة من قطرة من النطفة، ثم يبقيه مدة مخصوصة، ثم يميته ويفرق أجزاءه وأبعاضه، فلما لم يمتنع أن يحيي أولاً ثم يميت ثانياً، فكيف يمتنع أن يشرع الحكم في بعض الأوقات؟ فكان المراد من قوله {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} ما ذكرنا. ثم إنه تعالى لما قرر تلك المقدمة قال {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} أي: أنه يوجد تارة ويعدم أخرى، ويحيي تارة ويميت أخرى، ويغني تارة ويفقر أخرى، فكذلك لا يبعد أن يشرع الحكم تارة ثم ينسخه أخرى بحسب ما تقضيه المشيئة الإلهية عند أهل السنة، أو بحسب رعاية المصالح عند المعتزلة. قوله {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} أي: لكل شيء وقت مقدر وقيل: لكل حادث وقت معين قضي الله حصوله فيه كالحياة والموت والغنى والفقر والسعادة والشقاوة، ولا يتغير البتة عن ذلك الوقت. وقيل: هذا من المقلوب أي: فيه تقديم وتأخير، أي: لكل كتاب أجل ينزل فيه، أي: لكل تاب وقت يعمل به، فوقت العمل بالتوراة قد انقضى، ووقت العمل بالقرآن قد أتى وحضر. وقيل: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} عند الملائكة، فللإنسان أحوال: أولها نظفة ثم علقة ثم مضغة يصير شاباً ثم يصير شيخاً، وكذلك القول في جميع الأحوال من الإيمان والكفر السعادة والشقاوة والحسن والقبح. وقيل: لكل وقت مشتمل على مصلحة خفية ومنفعة لا يعملها إلا الله عَزَّ وَجَلَّ فإذا جاء ذلك الوقت حدث الحادث، ولا يجوز حدوثه في غيره. وهذه الآية صريحة من أن الكل بقضاء الله وقدره. قوله: {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم: «ويُثْبِتُ» مخففاً من « الجزء: 11 ¦ الصفحة: 319 أثْبَتَ» والباقون بالتشديد والتضعيف، والهمزة للتعدية ولا يصح أن يكون التضعيف للتكثير، إذ من شرطه أن متعدياً قبل ذلك، ومفعول «يُثْبِتُ» محذوف، أي: ويثبت ما يشاء والمحو: ذهاب أثر الكتابة، يقال: مَحَاهُ يَمْحُوهُ مَحْواً، إذا أذهب أثره. قوله: «ويُثْبِتُ» قال النحويون: ويثبته إلا أنه استغنى بتعدية الفعل الأول عن تعدية الفعل الثاني، وهو كقوله عَزَّ وَجَلَّ {والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات} [الأحزاب: 35] . فصل قال سعيد بن جبير وقتادة «يمحو الله مايشاء» من الشرائع والفرائض فينسخه ويبدله «ويُثْبِتُ» ما يشاء منها فلا ينسخه. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ} الرزق والأجل والسعادة والشقاوة. وعن ابن عمر وابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنهما قالا: «يمحو السعادة والشقاوة ويمحو الرزق والأجل ويثبت ما يشاء. وروي عن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أنه كان يطف بالبيت وهو بيكي يقول:» اللهم إن كنت كتبتي في أهل السعادة فأثبتني فيها، وإن كانت كتبتني في أهل الشقاوة فامحني منها بفضلك وأثبتني في أهل السعادة والمغفرة، فإنك تمحو ما تشائ وتثبت وعندك أم الكتاب «. ومثله عن ابن مسعود وفي بعض الآثار: أن الرجل قد يكون بقي له من عمره ثلاثون سنة، فيقطع رحمه فيرد إلى ثلاثة أيام، والرجل قد بقي له من عمره ثلاثة أيام فيصل رحمه فيرد إلى ثلاثين سنة. روي عن أبي الدرداء رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه سلم: «ينْزِلُ اللهُ سبحانه وتعالى في آخر ثلاث سَاعاتِ يبقين من اللَّيل فنظر في الساعة الاولى منهنَّ في أم الكتاب الذي لا نظر فيه أحد غيره فيمحو ما يشاء ويثبت» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 320 وقيل: الحفظة يكتبون جميع أعمال بني آدم وأقوالهم فيمحوا الله من دويان الحفظة ماليس فيه ثواب ولا عقاب، كقوله: أكلت. شربت. دخلت. خرجت، ونحوها من الكلام هو صادق فيه، ويثبت ما فيه ثواب وعقاب، قاله الضحاك والكلبي ورواه أبو بكر الأصم لأن الله تعالى قال في وصف الكتاب {لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا} [الكهف: 49] . وقال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة: 78] . فأجاب القاضي عنه: بأنه لا يغادر من الذنوب صغير ولا كبيرة، ويمكمن أن يجاب عن هذا: بانكم خصصتم الكبيرة والصغيرة بالذنوب بمجرد اصطلاحكم، وأمام في أصل اللغة فالصغيرة والكبيرة تتناول كل فعل وعرضٍ، لأنه إن كان حقيراً فهو صغير وإن ك ان غير ذلك فهو كبير، وعلى هذا يتناول المباحات. وقال عطية عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «هو الرجل يعمل بطاعة الله ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلاله، فهو الذي يمحو اوالذي يثبت هو الرجل يعمل بطاعة الله فيموت في طاعته فهو الذي يثبت» . وقال الحسن: {يَمْحُو الله مَا يَشَآءُ} أي: من جاء أجله يذهب به ويثبت من لم يجىء أجله إلى أجله. وعن سعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يمحو الله ما يشاء: من ذنوب العباد ويغفرها وثبت ما يشاء فلا يغفرها. وقال عكرمة: ما يشاء من الذنوب بالتوبة، ويثبت بدل الذنوب حسنات، كما قال الله تعالى {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] وقيل غير ذلك. قوله {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} أي: أصل الكتاب وهو اللوح المحفوظ الذي لايبدل ولا يغير، والأم: أصل الشيء، والعرب تسمي كل ما يجري مجرى الأصل للشيء أمَّا له، ومنه أم الرأس للدماغ، وأم القرى لمكة، وكد مدينة فهي أمّ لما حولها من القرى. قال ابن عباس في رواية عكرمة: هما كتابان: كتاب سمي أم الكتاب يمحو ما يشاء منه ويثبت وأم الكتاب لا يغيرمنه شيء، وعلى هذا فالكتاب الذي يمحو منه ويثبت هو الكتاب الذي تكتبه الملائكة على الخلق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 321 وعن عطاء عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم قال: إن لله لوحاً محفوظاً مسيرة خمسمائة عام من درة بيضاء له دفتان من ياقوت، لله فيه كل ثوم ثلاثمائة وستون لحظة يمحوا ما يشاء ويثبت {وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب} [وسأل ابن عباس كعباً عن أم الكتاب] فقال: «علم الله ما خلقه ما هو خالقه إلى كيوم القيامة» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 322 قوله: {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ} من العذاب قبل وفاتك {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} قبل ذلك {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} ليس عليك إلا ذلك {وَعَلَيْنَا الحساب} والجزاء يوم القيامة. قوله: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} جواب للشرط قبله. قال أبو حيان: «والذي تقدم شرطان، لأن المعطوف على الشرط شرط، فأما كونه جواباً للشرط الأول فلس بظاهر؛ لأنه لا يترتب عليه، إذ يصير المعنى: وإما نرينك بعض ما نعدهم من العذاب {وَعَلَيْنَا الحساب} وأما كونه جواباً للشرط الثاني وهو {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ} فكذلك لأنه يصير التقدير: إنما نتوفينك فإنما عليك البلاغ ولا يترتب جواب التبليغ عليه وعلى وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لأن التكليف ينقطع [عند الوفاة] فيحتاج إلى تأويل، وهو أن يقدر لكل شرط ما يناسب أن يكون جزاء مترتباً عليه، والتقدير: وإما نرينك بعض الذي نعدهم به من العذاب فذلك شافيك من أعدائك أو نتوفينك قبل حلوله بهم، فلا لوم عليك ولا عتب» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 322 قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} الآية. لما وعد رسول الله صلوات الله وسلامه عليه بأن يريد بعض ما وعده أو يتوفاه قبل ذلك، بين ههنا أن آثار حصول تلك المواعيد وعلاماتها قد ظهرت، فقال {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} يعني أن أهل مكة الذي يسألون محمداً عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ الآيات {أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أكثر المفسرين على أن المراد: فتشح ديار الشرك فإن ما زاد من دار الإسلام قد نقص من دار الشرك؛ لأن المسلمين يستولون على أطراف مكة ويأخذونها من الجزء: 11 ¦ الصفحة: 322 الكفرة قهراً وجبراً، فانتقاض أحوال الكفرة وازدياد قوة المسلمين من أقوى العلامات على أن الله تبارك وتعالى ينجز وعده فلا يعتبرون بهذا ونظيره قوله تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون} [الأنبياء: 44] وقوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ} [فصلت: 53] . وقال قوم: هو خراب الأرض، أي: أو لم يروا أنا نأتي الأرض فنخربها، ونهلك أهلها، أفلا تخافون أن يفعل بكم ذلك؟ وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أيضاً: ننقصها من أطرافها، المراد موت كبرائها وأشرافها وعلمائها وذهاب الصلحاء. قال الواحدي: «وهذا القول وإن احتمله اللفظ إلا أن اللائق بهذا الموضع هو الوجه الأول، ويمكن أن يقال: هذا الوجه أيضاً لا يليق بهذا الموضع؛ لأن قوله {أَوَلَمْ يَرَوْاْ} أنا نحدث في الدنيا من الاختلافات خراب بعد عمارة، وموت بعد حياة، وذل بعد عز، ونقص بعد كمال، وإذا كانت هذه التغيرات مشاهدة محسوسة فما الذي يؤمنهم أن الله يقلب الأمر على هؤلاء الكفرة ويصيرهم ذليلين بعد عزهم ومقهورين بعد قهرهم، فناسب هذا الكلام ماقبله» . قوله: نَنْقُصهَا «حال إما من فاعل» نَأتِي «أو من مفعوله. وقرأ الضحاك» نُنَقِّصها «بالتضعيف، عداه بالتضعيف. قوله:» لا مُعَقِّبَ «جملة حالية، وهي لازمة. والمعقب: هو الذي يكرّ على الشيء فيبطله، قال لبيد: [الكامل] 3188 - ... ... ... ... ... ..... طَلبُ المُعقِّبِ حَقَّهُ المظْلُومُ والمعنى: والله يحكم لا رادَّ لحكمه. والمعقب: هو الذي يعقبه بالرد والإبطال ومنه قيل لصاحب الحق معقب؛ لأنه يعقب غريمه بالاقتضاء والطلب كأنه قيل: والله يحكم نافذاً حكمه خالياً عن المدافع والمعارض والمنازع {وَهُوَ سَرِيعُ الحساب} قال بان عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الانتقام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 323 قوله: {وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} يعني من قبل مشركي مكمة والمكر: إيصال المكروه إلى الإنسان من حيث لا يشعر {فَلِلَّهِ المكر جَمِيعاً} أي: عند الله جزاء مكرهم. قال الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: يعني أن مكر جمعي الماكرين حاصل بتخليقه وإرادته لأنه تعالى هو الخالق لجميع العباد والمكر لا يضح إلا بإذنه، ولا يؤثر إلا بتقديره وفيه تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمانٌ لهن من مكرهم، فكأنه قيل: إذا كان حدوث المكر من الله وتأثيره في المأمور به من الله تعالى وجب أن لا يكون الخوف إلا من الله. ثم قال جل ذكره {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} ، أي: أن اكتساب العباد معلوم لله تعالى وخلاف المعلوم ممتنع الوقوع، وإذا كان كذلك فلا قدرة للعبد على الفعل والترك، فكان الكل من الله تعالى. قالت المعتزلة: الآية الأولى إن دلت على قلوكم، فقوله {يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ} دليل على قولنا، لأن الكسب هو الفعل المشتمل على دفع مضرة أو جلب منفعة، ولو كان حدوث الفعل [بخلق] الله تعالى لم تكن لقدرة العبد فيه أثر، فوجب أن لا يكون للعبد فيه كسب. والجواب: أن جميع القدرة مع الداعي مستلزم للفعل وعلى هذا التقدير فالكسب حاصل للعبد. ثم إنه تعالى أكد ذلك التهديد فقال جل ذكره {وَسَيَعْلَمُ الكفار} قرأ ابن عامر والكوفيون «الكُفَّار» جمع تكسير والباقون: «الكَافِرُ» بالإفراد ذهاباً إلى الجنس. وقرأ عبد الله «الكَافِرُونَ» جمع سلامة. قال الزمخشري: «قرىء: الكَّفارُ والكَافرُون والذين كفرُوا، والكَافِرُ» . قال المفسرون: والمراد بالكافر: الجنس، كقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [العصر: 2] . وقال عطاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: يريد المستهزئين وهم خمسة، والمقتسمين وهم ثمانية وعشرون «وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريد أبا جهل، والأول هو الصواب. قوله: {وَيَقُولُ الذين كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً} الآية لما حكى عن القوم أنهم أنكروا كونه رسولاً من عند الله احتج عليهم بأمرين: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 324 الاول: شهادة الله تعالى على نبوته، والمراد من تلك الشهادة تعالى أظهر المعجزات على صدقه في ادعاء الرسالة، وهذا أعظم مراتب الشهادة لأن الشهادة قول يفيد غلبة الظن، وإظهار المعجزة فعل مخصوص يوجب القطع بكونه رسولاً من عند الله، فكان إظهار المعجزة أعظم مراتب الشهادة. والثاني: قوله {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} العامة على فتح ميم» مَنْ «وهي موصولة، وفي محلها أوجه: أحدها: أنها مجرورة المحل نسقاً على لفظ الجلالة، أي: بالله وبمنْ عِندْهُ علمُ الكتابِ كعبد الله بن سلام ونحوه. والثاني: أنها في محل رفع عطفاً على محل الجلالة، إذ هي فاعلة، والباء مزيدة فيها. والثالث: أن يكون مبتدأ وخبره محذوف، أي: ومن عنده علم الكتاب أعدل وأمضى قولاً، و {عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يجوز أن يكون الظرف صلة و» عِلْمُ «فاعل به، واختاره الزمخشري وتقدم تقريره. وأن يكون مبتدأ، وما قبله الخبر، والجملة صلة ل «مَنْ» . والمراد بمن عنده علم الكتاب: ابن سلام، أو جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ. قال ابن عطية: «ويعترض هذا القول بأن فيه عطف الصفة على الموصوف ولا يجوز وإنما يعطف الصفات» . فاعترض أبو حيان عليه: بأن «مَنْ» لا يوصف بها ولا يغيرها من الموصولات إلا ما استثني، وبأن عطف الصفات بعضها على بعض لا يجوز إلا بشرط الاختلاف. قال شهاب الدين: نما عنى ابن عطية الوصف المعنوي لا الصناعي، أما شرط الاختلاف فمعلوم. وقرأ أبيّ وعلي وابن عباس وعكرمة وعبد الرحمن بن أبي بكرة والضحاك وابن أبي إسحاق ومجاهد رضوان الله عليهم في خلق كثير {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} جعلوا «من» حرف جر، و «عنده» مجرور بها، وهذا الجار خبر مقدم، و «عِلْمُ» مبتدأ مؤخر، و «منْط لابتداء الغاية أي: ومن عند الله حصل علم الكتاب. وقرأ علي أيضاً والحسن وابن السميفع {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} يحعلون» من «جارة، و» عُلِمَ «مبنياً للمعفول و» الكِتابُ «رفع بهن. وقرىء كذلك؛ إلا أنه بتشديد» عُلِّمِ «والضمير في» عِنْده «على هذه القراءات لله تعالى فقط. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 325 وقرىء أيضاً:» وبِمَن «بأعادة الباء الداخلة على» مَنْ «عطفاتً على [» باللهِ «] . فصل على هذه القراءة الأولى المراد: شهادة مؤمني أهل الكتاب، كعبد الله بن سلام وسلمان الفارسي وتميم الداري. وقال أبو البشر: قلت لسعيد بن جبير: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أهو عبد الله بن سلام؟ ، فقال: وكيف يكون عبد الله بن سلام وهذه السورة مكية، وهو ممن آمنوا بالمدينة بعد الهجرة؟ . وأجيب: بأن هذه السورة وإن كانت مكية إلا إن هذه الآية مدنية. ويعترض هذا أيضاً: بأن إثبات النبوة بقول الواحد والاثنين مع كونهما غير معصومين لا يجوز. وقال الحسن ومجاهد وسعيد بن جبير والزجاج {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} هو الله سبحانه وتعالى. وقال الأصم: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي: ومن عنده علم القرآن. والمعنى: أن الكتاب الذي جئتكم به معجز قاهر، إلا أنه لا يحصل العلم بكونه معجزاً إلا لمن علم ما فيه من الفصاحة والبلاغة واشتماله على الغيوب وعلى العلوم الكثيرة فمن عرف هذا الكتاب من هذا الوجه دل على كونه معجزاً. وقيل: {وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب} أي: الذي حصل عنده علم التوارة والإنجيل يعني كل من كان عالماً بهذين الكتابين علم اشتمالهما على البشارة بمقدم محمد صلوات الله وسلامه عليه فإذا انصف ذلك العالم ولم يكذبه كان ذلك شاهداً على أن محمداً رسول حق من عند الله صلوات الله وسلامه عليه. وأما معنى القراءة الثانية: أي: أن أحداً لا يعلم الكتاب إلا من فضل وإحسانه وتعليمه، والمراد العلم الذي هو ضل الجهل. وأما القراءة على مالم يسم فاعله، فالمعنى: أنه تعالى لما أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يحتج عليهم بشهادة الله على نبوته، وكان لا معنى لشهادة الله على نبوته إلا إظهار القرآن على وفق دعواه، ولا يعلم كون القرآن معجزاً إلا بعد الإحاطة بمعاني القرآن وأسراره، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 326 بين الله تعالى أن هذا العلم لا يحصل إلا من عند الله، والمعنى: أن الوقوف على كون القرآن معجزاً لا يحصل إلا لمن شرفه الله من عباده بأن يعلمه علم القرآن. روى ابن عباس عن أبي بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ قَرَأ سُورةَ الرَّعدِ أعْطيَ مِنَ الأجْرِ عَشْر حَسنَاتٍ بِوزْنِ كُلِّ سَحابٍ مَضَى وكُلِّ سَحابِ يكُونُ إلى يَوْمِ القِيامَةِ، وكَانَ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ المُوفِينَ بِعهْدِ اللهِ عزَّ وجلَّ سُبحَانهُ لا إلهَ إلاَّ هُوَ المَلِكُ الحقُّ المُبِينُ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 327 سورة إبراهيم مكية في قول الحسن، وعكرمة، وجابر. وقال ابن عباس، وقتادة - رضي الله عنهم - وهي مكية إلا اثنتين، وقيل: ثلاث من قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفرا} [الآية: 28] إلى قوله تعالى: {فإن مصيركم إلى النار} فإنها مدنية. وهي اثنتان وخمسون آية، وعدد كلماتها ثمان مائة وإحدى وثلاثون كلمة وعدد حروفها ثلاثة آلاف وأربعمائة وأربعة وثلاثون حرفا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 328 قال ابن الخطيب: ومتى لم يكن في السورة ما لا يتصل بالأحكام فمكة والمدينة فيه سواء، وإنما يختلف الغرض في ذلك إذا حصل في السورة ناسخ ومنسوخ؛ فيكون فيه فائدة عظيمة والله أعلم. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ} يجوز أن يرتفع «كِتابٌ» على أنَّه خبر ل «الر» : إن قلنا: إنَّها مبتدأ، والجملة بعد صفة، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هذا، وأن يرتفع بالابتداء خبره الجملة بعده، وجاز الابتجاء بالنكرة؛ لأنَّها موصوفة تقديراً، تقديره: كتماب، أي: كتاب يعني عظيماً من بين الكتب السماوية. قالت المعتزلة: النَّازلُ، والمنزلُ لا يكون قديماً. والجواب: أنَّ الموصوف بالمنزل هو هذه الحروف وهي محدثةٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 328 قوله: {لِتُخْرِجَ الناس} متعلق ب «أنْزَلناهُ» . وقرىء (ليَخْرُجَ الناس) بفتح الياءِ وضمِّ الراء، من خَرَجَ يَخْرُجُ. «النَّاسُ» رفعاً على الفاعليَّة. قالت المعتزلة: اللاَّم في «لِتُخْرِجَ» لام الغرض والحكمة، تدلُّ على أنه تعالى إنما أنزل هذا الكتاب لهذا الغرض، فدل على أنَّ أقوال الله تعالى وأفعاله معللة برعاية المصالح. وأجيب: بأن من فعل فعلاً لأجل شيءٍ أخر، فهذا إنَّما يفعله إذا كان عاجزاً عن تحصيل ذلك المقصود إلاَّ بهذه الواسطة، وذلك محالٌ في حقِّ الله تعالى، وإذا ثبت بالدَّليل منع تعليل أفعال الله تعالى وأحكامه بالعلل؛ ثبت أنَّ كل ظاهر أشعر به فهو مؤول على معنى آخر. فصل قوله تعالى: {مِنَ الظلمات} أي: لتدعوهم من ظلمات [الظَّلال] إلى نُورِ الإيمان. قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: هذه الآية تبطل القول بالجبر من جهات: أحدها: أنَّه تعالى لو خلق الكفر في الكافر، فكيف يصحُّ إخراجه منه الكتاب. وثانيها: أنَّه تعالى أضاف الإخراج من الظُّلمات إلى النور إلى الرَّسُول عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ فإن كان خالق الكفر هو الله تعالى فكيف يصحُّ من الرسول صلوات الله وسلامه عليه إخراجهم منه، وكان للكافر أن يقول: إنَّك تقول: إن الله خلق الكفر فينا فكيف يصحُّ منك أن تخرجنا؟ . فإن قال لهم: أنا أخرجكم من الظُّلماتِ التي هي كفر مستقبل لا واقع فلهم أن يقولوا: إنه كان الله سيخلقه فينا لم يصح ذلك الإخراج، وإن لم يخلقه الله فنحن خارجون منه بلا إخراج. وثالثها: أنه صلواتُ الله وسلامه عليه إنَّما يخرجهم من الكفر بالكتاب بأن يتلوه عليه ليتدبروهن؛ ولينظروا فيه فيعلموا بالنَّظر، والاستدلال كونه تعالى علماً قادراً حكيماً، ويعلموا بكون القرآن معجزة صدق الرسول صلوات الله وسلامه عليه فحينئذ يقبلوا منه كلَّ ما جاءهم من الشَّرائع، وذلك إنَّما يكون إذا كان الفعل ويقع باختيارهم، ويصحُّ منهم أن يقدموا عليه ويتصرَّفوا فيه. والجواب عن الكل: أن يقال: الفعل الصادر من العبد. إمَّا أن يصدر عنه حال استواء الدَّاعي إلى الفعل والترك. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 329 أو حال رجحان أحد الطرفين على الآخر. والأول باطل؛ لأنَّ صدور الفعل يقتضي رجحان جانب الوجودِ على جانب العدم وحصول الرُّجحان حال حصول الاستواء محال، والثاني عين قولنا؛ لأنَّه يمتنع صدور الفعل عنه ألاَّ بعد حصول الرجحان، فإن كان ذلك الرجان منه عاد السؤال، وإن لم يكون منه بل من الله، فحينئذ يكون المؤثر الأول هو الله تعالى وهو المطلوب. قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} يجوز أن يتعلق بالإخراج، أي: بتيسيره وتسهيله، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حالٌ من فال: «يُخْرِجُ» أي: مأذوناً لك. وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوق لله تعالى، فإنَّ قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} معناه: أنَّ الرسول صلوات الله وسلامه عليه لا يمكنه إخراج النَّاس من الظلمات إلى النُّور إلا بإذن الله تعالى. والمراد بهذا الإذن: إما الأمر وإما العلم وإما المشيئة والخلق، وحمل الإذن على الأمر محالٌ، لأنَّ الإخراج من الجهلِ إلى العلم لا يتوقف على الأمر فإنَّهُ سواء حصل الأمر أم لم يحصل، فإنَّ الجهل متميزٌ على العلم، والباطل متيمزٌ عن الحقّ. وأيضاً: حمل الإذن على العلم محال؛ لأنَّ العلم يتبع المعولم على ماهو عليه فالعلمُ بالخروج من الظُّلمات إلى النُّور تابع لذلك الخروج، ولا يمتنع أن يقال: إن حصول ذلك الخروج تابع للعلم بحصول ذلك الخروج، ولما بطل هذان القسمان لم ببق إلا أن المراد من الإذن: المشيئة، والتخليق، وذلك يدلُّ على أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لا يمكنه إخراج النَّاس من الظللمات إلى النُّور إلاَّ بمشيئة الله تعالى. فإن قيل: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد من الإذن الإلطاف؟ . فالجواب: لفظ الإذن مجمل، ونحن نفصل القول فيه. فنقول: المراد بالإذن إمَّا أن يكون أمراً يقتضي رجحان جانب الوجود على جانب العدم، أو لا يقتضي ذلك، فإنَّ كان الثاني لم يكن له فيه أثر ألبتة، وامتنع أن يقال: إنه إنَّما حصل بسببه، ولأجله فبقي الأول، وهو أنَّ المراد من الإذن معنى يقتضي رجحان ترجيح جانب الوجود على جانب العدم، ومتى حص الرجحان فيه حصل الوجود ولا معنى لذلك إلا الداعية الموجبة وهو قولنا. فصل دلّت الآية على أنَّ طرق الكفر، والضلالات كثيرة، وأنَّ طريق الحقّ ليس إلاَّ واحداً؛ لأنَّ الله تعالى عبر عن الجهلِ، والكفر بالظلمات، وهي صيغة جمع، وعبَّر عن الإيمان والهداية بالنُّور وهو لفظ مفردٌ. قوله: {إلى صِرَاطِ} فيه وجهان: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 330 أحدهما: أنه بدلٌ من قوله «إلى النُّورِ» بإعادة العامل، ولا يضر الفصل بالجارّ؛ لأنه من معمولات العامل في المبدل منه. والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنَّه جواب سؤال مقدَّر، كأنه قيل: إلى أيِّ نورٍ؟ فقيل: «إلى صِرَاطِ» ، والمراد بالصِّراط: الدّين والعزيز هو الغالب و «الحَمِيدِ» المستحق للحمد. وقد قكر العزيز على ذلك الحميدِ؛ لأنَّ أول العلم بالله العلم بكونه تعالى قادراً، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه عالماً، ثمَّ بعد ذلك يعلم كونه غنيًّا عن جميع الحاجات والعزيز هو القادر، والحميدُ هو العالم الغنيّ؛ فلذلك قدّم ذكر «العَزيز» على ذكر «الحَميد» . قوله: {الله الذي} قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر برفع الجلالة والباقون بالجر ورواها الأصمعي، وكان يعقوب إذا وصل خفض. وأما الرفع فعلى وجهين: أحدهما: أنه مبتدأ خبره الموصول بعده، أو محذوف، تقديره: الله الذي له ما في السموات، وما في الأرض العزيز الحميد، حذف لدلالة ما تقدَّم. والثاني: أنَّه خبر لمبتدأ مضمر، أي: هو الله، وذلك على المدح، وأمَّا الجرّ فعلى البدلِ عند أبي البقاءِ، والحوفي، وابن عطيَّة والبيان عند الزمخشري قال: «لأنه جرى مجرى الأسماء لغلبته على المعبود بحقّ، كالنَّجم للثُّريَّا» . قال أبو حيان: «وهذا التعليل لا يتمُّ إلاَّ أن يكون أصله» الإله «ثم فعل فيه ما تقدم أول الكتاب» . وقال ابن عصفور: «لا تقدّم صفة على موصوف إلاَّ حيث سمع» وهو قليل، وللعرب فيه وجهان: أحدهما: أن تتقدم الصفة بحالها، وفيه إعرابان للنحويين: أحدهما: أن يعرب صفة متقدمة. والثاني: أن يجعل الموصوف بدلاً من صفته. والثاني: من الأولين أن تضيف الصفة إلى الموصوف، فعلى هذا يجوز أن يعرب «العَزيزِ الحَميدِ» صفة متقدمة. ومن مجيء تقديم الصفة قوله: [البسيط] 3189 - والمُؤمِنِ العَائذَاتِ الطَّيْر يَمْسحُهَا ... رُكْبَانُ مكَّة بَيْنَ الفيْلِ والسَّعَدِ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 331 وقول الآخر: [الرجز] 3190 - وبِالطَّوِيلِ العُمْرِ عُمْراً حَيْدَار ... يريد: الطير العائذات، وبالعمر الطويل. قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا فيما لم يكن الموصوف نكرة، أمَّا إذا كان نكرة فتنصب تكل الصفة على الحال» . قال ابن الخطيب: «اللهُ» اسم علم لذاته المخصوصة وإذا كان كذلك، فإذا أردنا أن نذكر الصفات ذكرنا أولاً قولنا: «اللهُ» ، ثم وصفناه كقوله: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم} [الحشر: 22] الملكل القدُّوسُ، ولا يمكمننا أن نعكس الأمر فنقول: هو الرحمن الرحيم الله، فعلمنا أنَّ «اللهَ» اسم علم للذَّات المخصوصة، وسائر الألفاظ دالة على الصِّفات. وإذا ظهرت هذه المقدمة فالترتيب الحسن: أن يذكر الاسم ثم يذكر عقيبه الصفات، كقوله: {هُوَ الله الخالق البارىء المصور} [الحشر: 24] فأمَّا أن تعكس فتقول: هو الخالق المصور البارىء الله؛ فذلك غير جائز، وإذا ثبت هذا فنقول: الذين قرؤوا برفع الجلالة على أنَّه مبتدأ، وما بعده خبر هو الصحيح، والذين قرءوا بالجرِّ إتباعاً لقوله: {العزيز الحميد} مشكل لما بيِّنا من أنَّ الترتيب الحسن أن يقال: الله الخالق، وعند هذا اختلفوا في الجواب: فقال أبو عمرو بن العلاء: القراءةُ بالخفض على التَّقديم، والتَّأخير، والتقدير: صراط الله العزيز الحميدِ الذي له ما في السموات [والأرض] . وقيل: لا يبعد أن تذكر الصفة أولاً ثمَّ يذكر الاسم، ثم تذكر الصِّفة مرة أخرى كما يقال: الإمام الأجلّ محمد الفقيه، وهنو بعينه نظير قوله: {صِرَاطِ العزيز الحميد الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} . وتحقيق القول فيه: أنَّا بيَّنا أن الصِّراط إنَّما يكون ممدوحاً محموداً إذا كانا صراطاً للعالم القادر الغنيّ، والله تعالى عبَّر عن هذه الأمور الثلاثة بقوله: {العزيز الحميد} فوقعت الشبهة في أن ذلك: {العزيز الحميد} من هو؟ فعطف عليها قوله {الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} إزالة لتلك الشُّبهة. قوله: «وَويْلٌ» مبتدأ، وجاز الابتداء به؛ لأنه دعاء ك «سَلامٌ عَليكُمْ» ، و «لِلْكافِرينَ» خبره، و «مِنْ عذَابٍ» متعلِّق بالويلِ. ومنعه أبو حيَّان؛ لأنَّه يلزمُ منه الفصل بين المصدر ومعموله، وهو ممنوعٌ حيث الجزء: 11 ¦ الصفحة: 332 يتقدَّم المصدر بحرف مصدري وفعل، وقد تقدم. ولذلك جوزوا تعلق «بِمَا صَبرْتُمْ» ب {سَلاَمٌ} [الرعد: 24] ، ولم يعترضوا عليه بشيءٍ، ولا فرق بين الموضعين. وقال الزمخشريُّ: «فإن قلت: ما وجه اتِّصالِ قوله: {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} بالويل؟ قلت: لأنَّ المعنى يولولون من عذاب شديد» . قال أبو حيان: فظاهر يدلُّ على تقدير عامل يتعلق به {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} . ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه صفة للمبتدأ، وفيه سلامة من الاعتراض المتقدم ولا يضر الفصل بالخبر. فصل والمعنى: أنَّهم لما تركوا عبادة الله المالك للسموات، والأرض، وكل ما فيها وعبدوا ما لا يملك نفعاً، ولا ضرَّا، ويُخلَقُ، ولا يَخْلِقُ، ولا إدراك له، فالويل كل الويل لمن هو كذلك، وإنما خصه بالويل، لأنهم يولولون من عذابٍ شديدٍ، ويقولون: يا ويلاه نظيره قوله تعالى: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13] ثم وصفهم الله تعالى بثلاثة أنواع: الأول: قوله: {الذين يَسْتَحِبُّونَ} يجوز أن يكون مبتدأ، خبره: «أوْلئِكَ» وما بعده. وأن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي هم الَّذينَ. وأن يكون منصوباً بإضمار فعل على [المدح] فيهما. وأن يكون مجروراً على البدل، أو البيان، أو النعت، قاله الزمخشريُّ، وأبو البقاء والحوفي وغيرهم. ورده أبو حيان: بأن فيه الفصل بأجنبيّ، وهو قوله جل ذكره {مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} قال: «ونظيره إذا كان صفة أن تقول: الدَّارُ لِزيدِ الحَسنةُ القُرشِي وهذا لا يجوز، لأنك فصلت بين» زَيْدٍ «وصفته بأجنبي منهما، وهو صفة الدَّار وهو لا يجوز، والتركيب الصحيح أن تقول: الدَّارُ الحسنةُ لزيدٍ القُرشيِّ، أو الدَّارُ لزَيدٍ القُرشي الحَسنَةُ» . و «يَسْتحِبُّونَ» استفعل فيه بمعنى أفْعَلَ، كاسْتَجابَ بمعنى أجَابَ، أو يكون علتى بابه، وضمن معنى الإيثار، ولذلك تعدّى ب «عَلَى» . وقرأ الحسن: «يُصدُّونَ» بضم الياء من «أصَدَّ» ، و «أصَدَّ» منقولٌ من «صَدَّ» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 333 اللازم، والمفعول محذوف، أي: غيرهم أو أنفسهم، ومنه قوله: [الطويل] 3191 - أنَاسٌ أصَدُّوا النَّاسَ بالسَّيْفِ عَنهُمْ ..... ... ... ... ... ... ... ... . . {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} تقدم مثله [آل عمران: 99] . قوله تعالى: {الذين يَسْتَحِبُّونَ الحياة الدنيا عَلَى الآخرة} فيه إضمار تقديره: يستحبّون الحياة الدنيا، ويؤثرونها على الآخرة؛ فجمع تعالى بين هذين الوصفين ليبين بذلك أن الاستحباب للدُّنيا وحده لا يكون مذموماً إلاَّ أن يضاف إليه إيثارها على الآخرة، [وأما] من أحبَّها ليصل بها إلى منافع النَّفس بثوابِ الآخرة؛ فذلك لا يكونُ مذموماً. والنوع الثاني من أوصاف الكفار: قوله عزَّ وجلَّ {وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} أي: يمنعوا النَّاس من قبول دين الله. والنوع الثالث من تلك الصفات قوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} . واعلم انَّ الإضلال على مرتبتين. الأولى: أن يسعى في صدّ الغير. والثانية: أن يسعى في إلقاء الشُّكوكِ، والشبهات في المذهب الحق، ويحاول تقبيح الحق بكل ما يقدر عليه من الحيلِ، وهذا هو النهاية في الضلال، والإضلال، وإليه أشار بقوله: {وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً} . قال الزمخشريُّ: «الأصل في الكلام أن يقال: ويبغون لها عوجاً؛ فحذف الجار وأوصل الفعل» . وقيل: الهاء راجعة إلى الدُّنيا معناه: يطلبون الدُّنيا على طريق الميل عن الحق، أي: بجهة الحرام. ولما ذكر الله تعالى هذه المراتب قال في وصفهم: {أولئك فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ} وإنَّما وصف الله تعالى هذا الضلال بالبعد لوجوهٍ: الأول: أنَّ أقصى مراتب الضلال هو البعد عن الطريق الحقّ، فإنَّ شرط الضدين أن يكونا في غاية التَّباعدِ كالسَّواد، والبياض. الثاني: أن المراد بعد ردّهم عن الضَّلال إلى الهدى. الثالث: أن امراد بالضَّشلال: الهلاك، والتقدير: أولئك في هلاك يطُولُ عليهم فلا ينقطع، وأراد بالبعد: امتداده وزوال انقطاعه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 334 قوله: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} الآية لما ذكر في أوّل السورة: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] فكان هذا إنعاماً من الله على الرسول من حيث إنَّه فوض إليه صلوات الله وسلامه عليه هذا الأمر العظيم وإنعاماً على الخلقِ حيثُ أرسل إليهم من خلصهم من ظلمات الكفر [إلى الرشد] ، وأرشدهم إلى نور الإيمان. ذكر في هذه الآية ما يجري مجرى تعهد النعمة، والإحسان في الوجيهن؛ أمَّا بالنسبة إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه؛ فلأنه تعالى بين أنَّ سائر الأنبياء عليه الصلاة والسلام أجمعين كانوا مبعوثين إلى قومهم خاصة، وأنت يا محمد فمبعوث إلى عالم البشر، فكان هذا الإنعام في حقك أفضل وأكمل، وأما بالنسبة إلى عامة الخلق فهو أنه تعالى ما بعث رسولاً إلى قوم إلا بلسانهم ليسهل عليهم فهم تلك الشريعة فهذا وجه النظم. قوله: {إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} يجوم أن يكون حالاً، أي: إلاَّ [متكلماً] بلغة قومه. قال القرطبي: «وحَّد اللسان، وإن أضافه إلى القوم؛ لأن المراد به اللغة فهو اسم حنسٍ يقع على القليلِ، والكثير» . وقرأ العامة: «بلِسانِ» بزنة كتابِ، أي: بلغةِ قومهِ. وقرأ أبو الجوزاء وأبو السمالِ وابو عمران الجوني: بكسر اللام وسكون السين، وفيه قولان: أحدهما: أنَّهما بمعنى واحد، كالرِّيشِ والرِّياش. والثاني: أنَّ اللسان يطلق على العضو المعروف وعلى اللغةِ، وأمَّا اللِّسنُ فخاص باللغة، ذكره ابن عطيَّة، وصاحب اللَّوامح. وقرأ أبو رجاء، وأبو المتوكل، والجحدريُّ: بضم اللام والسين، وهو جمع الجزء: 11 ¦ الصفحة: 335 لِسَان كَكِتَاب وكُتُب، وقرىء بسكون السين فقط، وهو تخفيفٌ للقراءة قبله، نحو «رُسْل في رُسُل» ، و «كُتْب» في «كُتُب» ، والهاء في «قَوْمِهِ» الظاهر عودها على «رَسُولٍ» المذكور وعن الضحاك أنَّها تعود على محمد صلوات الله وسلامه عليه وغلطوه في ذلك إذ يصير المعنى: إنَّ التوراة وغيرها أنزلت بلسان العرب ليبين لهنم النبي عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ التوراة. فصل احتجَّ بعضهم بهذه الآية على أنَّ اللُّغات اصطلاحية، فقال: لأنَّ التوقيف لجميع الرسل لا يكون إلاَّ بلغة قوم، وذلك يقتضي تقدُّم حصول اللغات على إرسال الرسل، وإذا كان كذكل؛ امتنع حصول تلك اللغات بالتوقيف؛ فوجب حصولها بالاصطلاح. ومعنى الآية: وما أرسلنا من رسولٍ إلاَّ بلغة قومه. فإن قيل: هذه الآية تدلُّ على أنَّ النبي المصطفى صلوات الله وسلامه عليه إنَّما بُعِثَ للعرب خاصة، فكيف الجمع بين هذه الآية وبين قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وبُعِثْتُ إلى النَّاس عَامَّة» . فالجواب: بُعِثَ إلى العرب بلسانهم والناس تبعٌ لهم، ثم بعث الرُّسلُ إلى الأطلاف يدعوهم إلى الله تعالى ويترجمون لهم بألسنتهم. وقيل: المراد من قومه أهل بلدته، وليس المراد من قومه أهنل دعوته بدليل عموم الدعوة في قوله: {قُلْ يا أيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف: 158] وإلى الجنّ أيضاً؛ لأن التَّحدي ثابت لهم في قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن} [الإسراء: 88] . قال القرطبي: «ولا حجة للعجم، وعغيرهم في هذه الآية؛ لأنَّ كل من ترجم له ما جاء به النبي صلوات الله وسلامه عليه ترجمةً يفهمها لزمته الحجة وقد قال الله عَزَّ وَجَلَّ {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ: 28] ، وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» أرْسلَ كُلُّ نبي إلى أمَّتهِ بِلسَانهَا وأرْسَشلنِي اللهُ إلى كُلِّ أحْمَرَ وأسْودَ مِنْ خَلْقِهِ «. وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لا يَسْمعُ بِي أحَدٌ مِنْ هَذهِ الأمَّة يَهُوديّ، ولا نَصْرانِيّ ثُمَّ لَمْ يُؤمِنْ بالَّذي أرسِلْتُ بِهِ إلاَّ كَانَ مِنْ أصْحَابِ النَّارِ «وخرجه مسلم رَحِمَهُ اللَّهُ. فصل زعمت طائفة من اليهود يقال لهم: [العيسوية] أنَّ محمداً رسول الله ولكن إلى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 336 العرب خاصة، وتمسكوا بهذه الآية من وجهين: الأول: أنَّ القرآن لما نزل بلغة العرب لم يعرف كونه معجزة بسبب ما فيه من الفصاحة إلا العرب، فلا يكون القرآن حجة إلاَّ على العربِ، ومن لم يكن عربياً لم يكن القرآن حجة عليه؛ لأنه ليس بمعجزة في حقه لعدم علمه بفصاحته. الثاني: قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ} ، ولسانه لسان العرب فدلَّ على أنَّه ليس له قوم سوى العرب. والجواب ما تقدَّم في السُّؤال قبله. قوله:» فَيُضِلُّ «استنئاق إخبار، ولا يجوز أن نصبه عطفاً على ما قبله؛ لأنَّ المعطوف كالمعطوف عليه في المعنى، والرسل أرسلت للبيان لا [للإضلال] . قال الزجاج:» لو قرىء بنصبه على أنَّ اللاَّم لام العاقبة جاز «. قوله: {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الحكيم} تمسّك أهل السُّنَّة بهذه الآية على أنَّ الهداية، والضلال من الله سبحانه وتعالى جل ذكره. قالوا: وممَّا يؤكد هذا المعنى أن أبا بكرٍ، وعمر رضوان الله عنهما وعن الصَّحابة أجمعين أقبلا في جماعة من الناس، وقد ارتفعت أصواتهما، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما هذا؟ فقال بعضهم يا رسول الله: يقول أبو بكرٍ: الحسنات من الله، والسيئات من أنفسنا ويقول عمر: كلاهما من الله، وتبع بعضهم أبا بكر، وتبع بعضهم عمر، فتعرف الرسول ما قاله أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأعرض عنه حتى عرف في وجهه، ثم أقبل على عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه فتعرف ما قاله، وعرف السرور في وجهه، فقال صلوات الله وسلامه عليه:» أقضي بينكما كما قضي إسرافيل بين جبريل وميكائيل صلوات الله وسلامه عليه عليهما فقال جبريلُ مثل مقالتك يا عمر، وقال ميكائيل مثل مقالتك يا أبا بكرٍ، فقضاء إسرافيل صلوات الله عليه أن القدر كله خيره وشره من الله تعالى وهذا قضائي بينكما؟ . قالت المعتزلة: لا يمكن أجراءُ هذه الآية على ظاهرها لوجوه: الأول: أنه تبارك وتعالى قال: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} أي: ليبين لهم التكاليف بلسانهم فيكون إدراكهم لذلك التبيان أسهل ووقوفهم على الغرض أكمل وهذا الكلامُ إنَّما يصحُّ إذا كان مقصود الله تعالى من إرسال الرَّسول صلوات الله وسلامه عليه حصول الإيمان للمكلفين، فلو كان مقصوده الإضلال، وخلق الكفر فيهم لم يكن ذلك الكلام ملائماً لهذا المقصود. والثاني: أنَّه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ إذا قال لهم: إنَّ الله يخلقُ الكفر والإضلال فيكم، فهلم أن يقولوا: فما لنبوتك فائدة، وما المقصود من إرسالك؟ وهل يمكننا أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 337 نزيل كفراً خلقه الله فينا؟ وحينئذ تبطل دعوة النبوة، وتفسد بعثة الرسل. الثالث: إذا كان الكفر حاصلاً بتخليق الله تعالى وميشئته، فيجب أن يكون الرضا به واجباً؛ لأن الرِّضا بقضاء الله واجب، وذلك لا يقوله عاقل. الرابع: أنَّ مقدمة الآية، وهي قوله جل ذكره {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] يدلُّ على العدل، وأيضاً مؤخر الآية يدلُّ عليه وهو قوله جلَّ ذكره {وَهُوَ العزيز الحكيم} فكيف يكون حكيماً من كان خالقاً للكفر والقبائح؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّه لا يمكن جعل قوله: {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} دليل على خلق الكفر في العبد، فوجب المصير إلى التأويل وهو من وجوه: الأول: المراد من الإضلال هو الحكم بكونه ضالاًّ كما يقال: فلانٌ يُكفِّرُ فُلاناً ويضله أي: يحكمُ بكونه كافر ضالاً. والثاني: أنَّ الإضلال عبارة عن الذهاب بهم عن طريق الجنَّة إلى النَّار. والثالث: أنَّه يقال: إنه تعالى لما ترك الضّال على ضلاله، ولم يتعرض له فكأنه أضله والمهتدي أنَّه بالألطاف صار كأنه هداه. قال الزمخشري: «والمراد بالإضلال التخلية، ومنع الإلطاف وبالهداية: اللّطف، والتَّوفيق» . قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: «والجواب قوله عزَّ وجلَّ {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} لا يليق به أن يضلهم. قلنا قال الفراء: إذا ذكر فعل، وبعده آخر، فإن كان الفعل الثَّاني مشاكلاً للأول نسقه عليه، وإن لم يكن مشاكله، استأنفه ورفعه، نظيره: {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ ويأبى الله} [التوبة: 32] وفي موضع رفع لا يجوز إلا ذلك؛ لأنَّه لا يحسن أن يقال: يريدون أن يأبى الله، فلما لم يكن وضع الثاني في موضع الأول بطل العطف. ونظيره أيضاً قوله: {لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام} [الحج: 5] ومن ذلك قولهم: «أردت أن أزُوركَ فمَنعَنِي المطرُ» بالرفع غير منسوق على ما قبله كما ذكرناه؛ ومثله قول الشاعر: [الرجز] 3192 - يُرِيدُ أنْ يُعْربَهُ فيُعْجِمُهْ ... الجزء: 11 ¦ الصفحة: 338 وإذا عرفت هذا فنقول: ههنا قال الله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} ثمَّ قال: {فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ} ذكر: «فَيُضِلُّ» بالرفع فدلَّ على أنَّه مذكور على سبيل الاستئناف وأنه غير معطوف على ما قبله، وتقديره من حيث المعنى كأنَّه قال عزَّ وجلَّ: وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليكون بيانه لهم الشرائع بلسانهم الذي ألفوه واعتادوه، ثم قال: ومع أنَّ الأمر كذلك فإنَّه تعالى يضلّ من يشء، ويهدي من يشاء، والغرضُ منه: التنبيه على أن تقوية البيان لا توجب حصول الهداية، وإنما كان الأمر كذلك؛ لأنَّ الهداية، والضلال لا يحصلان إلاَّ من الله تعالى. وأما قولهم: لو كان الضلال حاصلاً بخلق الله تعالى لكان للكافر أن يقول: ما الفائدة في نبوتك ودعوتك؟ فالخَصْم يُسلِّم أن هذه الآيات إخبار عن كونه ضالاًّ فيقول له الكافر: لما أخبر إلهك عن كوني كافراً فإن آمنت صار إلهك كاذباً، وهل أقدر على جعل علمه جهلاً؟ وإذا لم أقدر عليه، فكيف يأمرني بهذا الإيمان؟ فالسؤال وارد عليه. وأما قولهم ثالثاً: يلزم أن يكون الرضا بالكفر واجباً؛ لأنَّ الرِّضا بقضاء الله واجب قلنا: ويلزمُ أيضاً على مذهبك أن يكون السعي في تكذيب الله وفي تجهيله واجباً؛ لأنَّه تعالى لما أخبر عن كفره، وعلم كفره، فإزالته الكفر عن قلب علمه جهلاً، وخبره الصدق كذباً، وما لا يتمُّ الواجبُ إلا به فهو واجبٌ؛ فيلزمك على مذهبك، وهذا أشد استحالة ممَّا ألزمته علينا. وأمَّا قولهم رابعاً: إن مقدمة الآية، وهو قوله تعالى: {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] يدلُّ على صحَّة الاعتزال. فنقول: قد ذكرنا أن قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} [إبراهيم: 1] يدلُّ على صحَّة مذهب أهل السنة. وأما قولهم خامساً: إنَّه تعالى وصف نفسه في آخر الآية بكونه حكيماً، وذلك ينافي كونه تعالى خالقاً للكفر مريداً له، فنقول: وصف نفسه بكونه عزيزاً، والعزيزُ: هو الغالب القاهر، فلو أراد بالإيمان من الكافر مع أنه لا يحصل، وأراد عدم الكفرمنهم، وقد حصل لما بقي عزيزاً غالبا؛ فثبت أن الوجوه التي ذكروها صعيفة، وقد تقدَّم البحث في هذه المسألة في البقرة عند قوله جل ذكره: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} [البقرة: 26] . قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 339 النور} الآية لما بين أنَّه إنَّما أرسل محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليخرجهم من الظُّلمات إلى النُّور، وذكر كمال نعمة الله عليه وعلى قومه بذلك الإرسال أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الرسل صلوات الله وسلامه عليهم إلى أقوامهم ليكون ذلك تصبيرأ للرسول صلوات الله وسلامه عليه على أذى قومه فقال: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَآ} قال الأصم: آيات موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وهي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وفلق البحر، وانفجار العيون من الحجر، وإظلال الجبل، وإنزوال المن والسلوى. وقال الجبائي آياته: دلائله وكتبه المنزلة عليه، فقال في صفة محمد عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] وقال في حق موسى صلوات الله وسلامه عليه {أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 5] والمقصود من بعثة سائر الرسل عليهم الصلاة والسلام واحد وهو أن يسعو في أخراج الخلق من الضَّلالات إلى نور الهدايات. قوله: «أنْ أخْرِجْ» يجوز أن تكون «أنْ» مصدرية، أي: بأن أخرج والباء في «بِآيَاتِنا» للحال، وهذه للتعدية، ويجوز أن تكون مفسرة للرسالة بمعنى أي، ويكون المعنى: أي: أخرج قومك من الظلمات، أي: قلنا له: أخرج قومك كقوله {وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ امشوا} [ص: 6] . وقيل: بل هي زائدة، وهو غلط. قوله: «وذَكِّرْهُمْ» يجحوز أن يكون منسوقاً على «أخْرِجْ» فيكون من التفسير، ويجوز أن لا يكون منسوقاً؛ فيكون مستأنفاً. و «أيَّام: عبارة عن نعمة تعالى؛ كقوله: [الوافر] 3193 - وأيَّامٍ لنَا غُرٍّ طِوَالٍ ... عَصيْنَا المَلْكَ فِيهَا أنْ نَدِينَا أو نقمه؛ كقوله: [الطويل] 3194 - وأيَّامُنَا مَشْهُورَة في عَدُوِّنَا ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ووجهه: أن العرب تتجوز فتسند الحدث إلى الزمان، مجازاً أو تضيفه إليها كقولهم: نَهارٌ صَائمٌ، ولَيلٌ قَائمٌ، و {مَكْرُ الليل} [سبأ: 33] . قال الواحديُّ:» أيَّام جمع يوم، واليوم هو مقدار المدَّة من طلوع الشَّمس إلى غروبها، وكان في الأصل: أيوامٌ، فاجتمعت الياء، والواو، وسبقت إحداهما بالسُّكونِ فقلبت الراء ياء، وأدغمت إحداهما في الأخرى فقلبت ياء «. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 340 فصل قال ابنُ عبَّاسٍ، وأبيُّ بن كعب، ومجاهدٌ وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم وذكرهم بنعم الله. وقال مقاتلٌ: بوقائع الله في الأمم السَّالفة. يقال: فلان عالم بأيَّام العرب، أي: بوقائعهم، فأراد بما كان في أيَّام الله من النَّعمة، والمحنة فاجتزأ بذكر الأيام عنه؛ لأنَّها كانت معلومة عندهم، والمعنى: عظهم بالترغيب والترهيب، والوعد، والوعيد، فالتّرغيب، والوعد: أن يذكرهم ما أنعم الله عليهم وعلى من قبلهم ممن آمن بالله ممن سلف من الأمم والترهيب والوعيد أن يذكرهم بأس الله وعذابه النازل بمن كذب بالرسل فيما سلف من الأيَّام، كعادٍ، وثمود وغيرهم. واعلم أن أيَّام الله في حقِّ موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ منها ما كانت أيام محنة وبلاء، وهي الأيام التي كانت بنو إسرائيل تحت قهر فرعون. ومنها: ما كانت راحة ونعماً كأيَّام إنزال المن، والسلوى، وفلق البحر، وتظليل الغمام. {إِنَّ فِي ذلك} التّذكر «لآياتِ» دلائل {لِّكُلِّ صَبَّارٍ} كثير الصّبر {شَكُورٍ} كثير الشُّكر. فإن قيل: ذلك التذكر آيات للكلّ، فلم خصّ الصَّبَّار الشَّكور بالذِّكر؟ . فالجواب: أنهم هم المنتفعون بالذكر بتلك الآيات كقوله: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] . وقيل: لأن الانتفاع بهذا النَّوع من الذكر لا يمكن حصوله إلا للصَّبَّار الشَّكور. ولما أمر موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أن يذكرهم بأيَّام الله، وحكى عن موسى عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ، أنَّه ذكَّرهم فقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ} . فقوله: {أَنجَاكُمْ} ظرف للنعمة، بمعنى الإنعام، أي: اذكروا نعمة الله عليكم في ذلك الوقت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 341 قوله: {إِذْ أَنجَاكُمْ} يحجوز في ثلاثة أوجه: أحدها: أن يكون منصوباً ب «نِعْمَةَ» . الثاني: أن يكون منصوباً ب «عَلْكُمْ» ، ويوضح ذلك ما ذكره الزمخشري رحمه فإنه قال: «إذْ أنْجَاكُمْ» ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي: إنعامه عليكم ذلك الوقت. فإن قلت: هل يجوز أن ينتصب ب «عَليْكُمْ» . قلت: «لا يخلُو إما أن يكون [إنعام] صلة للنعمة بمعنى الإنعام [أو غير] صلة، إذا أردت بالنعمة العطية، فإذا كان صلة لم يعمل فيه ويتبين الفرق بين الوجيهن، أنَّك إذا قلت: نعمة الله عليكم، فإن جعلته صلة لم يكن كلاماً حتى تقول فائضة أو نحوها وإلا كان كلاماً» . الثالث: أنه بدل من عمة أي: اذكروا وقت إنجازكم، وهو بدل اشتمال، وتقدم الكلام في «يسومونكم» . قوله: «ويذبحون» حال أخرى من آل فرعون، وفي البقرة دون «واو» لأن قصد التفسير لسؤال العذاب، وفي التفسير لا يحسن ذكر الواو، وتقول: أتاني القوم: زيدٌ وعمرو، وذلك قوله تعالى: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ} [الفرقان: 68، 69] لما فسر الآثام بمضاعفة العذا بحذف الواو، وهاهنا أدخل الواو بمعنى أنهنم يعذبونهم بالتذبيح وبغيره، فالسوم هنا غير السوم هناك. وقرأ بان محيصن «يَذْبَحُونَ» مخففاً، و «يستحيون نساءكم» يتركونهن أحياء، «وفي ذلك بلاء من ربكم عظيم» ، وفي كونه بلاء وجهان: الأول: أن تمكين الله أياهم من ذلك الفعل بلاءٌ من الله. والثاني: أن ذلك إشارة إلى الإنجلاء، وهو بلاء عظيم، والبلاء هو الابتلاء، وذلك قد يكون بالنعمة تارة، وبالمحنة أخرى، قال تعالى: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً} [الأنبياء: 35] وهذا أولى لأنه موافق لأول الآية وهو قوله: {اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} ، قاله ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ. قوله: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ} يجوز أن يكون نسقاً على: {إِذْ أَنجَاكُمْ} ، وأن يكون منصوباً ب «اذْكُرُوا» مفعولاً لا ظرفاً. وجوَّز فيه الزمخشري: أن يكون نسقاً على: «نِعْمةَ» فهو من قول موسى، والتقدير وإذ قال موسى اذكروا نعمة الله، واذكروا حين تأذن، وقد تقدَّم نظير ذلك في الأعراف. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 342 ومعنى: «تَأذَّنَ» آذن ربكم إيذاناً بليغاً، أي: أعلم، يقال: أذَّن وتَأذَّن بمعنى واحد مثل: أوعد وتوعَّد، وروي ذلك عن الحسن وغيره ومنه الأذان؛ لأنه إعلام قال الشاعر: [الوافر] 3195 - فَلمْ نَشْعُر بضَوْسِ الصُّبْحِ حَتَّى ... سَمِعْنَا في مَجَالِسنَا الأذِينَا وكان ابن مسعود يقرأ «وإذْ قال ربُّكُمْ» والمعنى واحد. فيقال: «لَئِنْ شَكرْتُم» نعمتي، وآمنتم، وأطعتم: «لأزيدَنَّكُم» في النعمة. وقيل: لئن شكرتم بالطَّاعة «لأزيدنكم» في الثواب. والآية نصُّ في أنَّ الشكر سبب المزيد: «ولَئِنْ كَفرتُمْ» نعتمي فجحدتموها، ولم تشكروها: «إنَّ عذَابِي لشَديدٌ» . وقيل: المراد الكفر؛ لأن كفران النعمة لا يحصل إلا عند الجهل بكون تلك النعمة من الله تعالى. قوله: {وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} أي: غني عن خلقه حميد محمود في أفعاله. والمعنى: أن منافع الشكر ومضار الكفر لا تعود إلا إلى الشَّاكر والكافر، أمَّا المعبود والمشكور فإنَّه متعالٍ عن أن ينتفع بالشُّكر، أو يستضر بالكفران، فلا حرم قال تعالى: {وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} . والغرض منه: بيان أنه تعالى إنَّما أمر بهذه الطَّاعات لمنافع عائدة إلى العابد لا إلى المعبود. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 343 ثم قال: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِكُمْ} الآية النَّبأ: الخبر، والجمع الانباء؛ قال الشاعر: [الوافر] 3196 - ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي ..... ... ... ... ... ... ... ... . قال أبو مسلم: «يحتمل أن يكون خطاباً من موسى صلوات الله وسلامه عليه [لقومه، يخوفهم بمثل هلاك من تقدمهم، ويجوز أن يكون مخاطبة من الله تعال على لسان موسى عليه السلام] لقومه: يذكرهم أمر القرون الأولى؛ ليعتبروا بأحوال المتقدمين. روي عن عبد الله ابن مسعود رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنه قرأ هذه الآية ثمَّ قال:» كَذبَ النَّسَّابُونَ «. وعن عبد الله بن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال: بين إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ وبين عدنان ثلاثون [أباً] لا يعلمهم إلا الله وكان مالك ابن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يكره أن يسنب الإنسانت [نفسه أباً أباً] إلى آدم صلوات الله وسلامه عليه وكذلك في حق النبي صلوات الله وسلامه عليه؛ لأنه لايعلم أولئك الآباء أحد إلا الله تعالى، ونظيره: قوله تعالى {وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً} [الفرقان: 38] وقوله: {مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} [غافر: 78] وكان صلوات الله وسلامه عليه في نسبه لا يجاوز معد بن عدنان. وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ:» تَعلَّمُوا من أنْسَابِكُم ما تصلُونَ بِه أرحَامَكُمْ وتعلمُوا مِنَ النُّجُوم ما تَسْتدِلُّونَ بِهِ على الطَّريقِ «. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 344 وقيل: المراد بقولهم:» لا يَعْلمُهمْ «أي: عددهم، وأعمارهم، وكيفياتهم. وقال عروة بن الزبير:» ما وجدنا أحداً يعرف ما بين عدنان، وإسماعيل «. قوله:» قَوم نُوحٍ «بدل، أو عطف. قوله: {والذين مِن بَعْدِهِمْ} » يجوز أن يكون عطفاً من الموصول الأول، أو على المبدل منه، وأن يكون مبتدأ خبره: {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} ، {جَآءَتْهُمْ} خبر آخر وعلى ما تقدم يكون: {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} حالاً من «الَّذينَ» أو من الضمير في: «مِنْ بعْدِهمْ» لوقوعه صلة «. وهذا عَنَى أبو البقاءِ بقوله: حال من الضمير في:» مِنْ بَعْدهِمْ «ولا يريد به الضمير المجرور؛ لأنَّ مذهبه منع الحال من المضاف، وإن كان بعضهم جوزه في صورة وجوز أيضاً هو والزمخشري:» والجملة من قوله: {لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ الله} اعتراض «. ورد عليه أبو حيان: بأن الاعتراض إنما يكون بين جزءين، أحدهما يطلب الآخر. ولذلك لما أعرب الزمخشريُّ:» والَّذينَ «مبتدأ، و» لا يَعْلمُهُمْ «خبره، قال:» والجملة من المبتدأ، والخبر اعتراض «، واعترضه أبو حيَّان أيضاً بما تقدَّم. ويمكنُ أن يجاب عنه في الموضعين: بأن الزمخشري يمكن أن يعتقد أن:» جَاءَتْهُم «حال مما تقدَّم، فيكون الاعتراض واقعاً بين الحال وصاحبها، وهو كلامٌ صحيحٌ. قوله تعالى : {فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} يجوز أن تكون الضمائر للكفار، أي: فردّ الكفار أيديهم في أفواههم من الغيظ، لقوله: {عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ} [آل عمران: 119] قاله أبو عباس، وابن مسعود، والقاضي. قال القرطبيُّ: وهذا أصح الأقوال، قال الشاعر: [الرجز] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 345 3197 - لَوْ أنَّ سَلْمَى أبْصرَتْ تَخَدُّدِي ... ودِقَّةً في عَظْمِ سَاقِي ويَدِي وبُعْدَ أهْلِي وجَفَاءَ عُوَّدِي ... عَضَّتْ مِنَ الوَجْدِ بأطْرافِ اليَدِ وقد مضى هذا المعنى في آل عمران [119] ف «في» على بابها من الظرفية، أي: فردُّوا أيديهم على أفواههم ضحكاً، واستهزاء، ف «فِي» بمعنى «عَلَى» وأشاروا إلى ألسنتهم وما نطقوا به من قولهم: إنَّا كَفرنا، ف «عَنْ» بمعنى «إلى» ويوجوز أني كون المرفوع للكفار، والأحزان للرسل صلوات الله وسلامه عليهم على أن يراد بالأيدي: النّعم، أي: ردوا نعم الرسل وهي مصالحهم في أفواه الرسل؛ لأنهم إذا كذبوها كأنهم رجعوا بها من حيث جاءت على سبيل المثال، ويجوز أن يراد المعنى، والمراد بالأيدي: الجوارح، ويجوز أن يكون الأولان للكفَّار، والأخير للرسل، فرد الكفار أيديهم في أفواههم أي في أفواه الرسل، أي أطبقوا أفواههم يشيرون إليهم بالسُّكوت، أو وضعوها على أفواههم يمنعونهم بذلك من الكلامِ. وقيل: «في» هنا بمعنى الباء. قال الفراء: «قد وجدنا من العرب من يجعل» في «موضع الباء، يقال: أدخلتُ بالجنَّة، أدخلت في الجنَّة» وأنشد: [الطويل] 3198 - وأرْغَبُ فِيهَا عَنْ لَقِيطٍ ورَهْطهِ ... ولكنَّنِي عَنْ سِنْبِسٍ لسْتُ أرْغَبُ أي: أرغب بها. وقال أبو عبيد رَحِمَهُ اللَّهُ: هذا ضرب مثل يقوله العربُ: رد يده إلى فيه إذا ترك ما أمره به. ورد عليه: بأن من حفظ حجَّة على من لم يحفظ. وقال أبو مسلم: المراد باليدِ: ما نطقت به الرُّسل من الحجج؛ لأنَّ إسماع الحجَّة إنعام عظيم، والإنعام يسمى يداً، يقال لفلان عندي، يد إذا أولاه معروفاً وقد يذكر اليد والمراد منها صفقة البيع والعقد، كقوله تعالى: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: 10] فالبينات التي ذكرها الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وقرَّرها لهم نعم وأياد، وأيضاً: العهود التي أتوابها مع القوم أيادي. وجمع اليد في القلة: أيْدِي، وفي الكثرة أيَادي. وإذا ثبت أنَّ بيانات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم وعهودهم يصح تسميتها بالأيدي والنصائح، والعهود إنَّما تظهر من الفمِ، فإذا لم تقبل صارت مردودة إلى حيث جاءت فلما كان القبول تلقياً بالأفواه عن الأفواه كان الدفع ردًّا في الأفواه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 346 ونقل محمد بن جرير عن بعضهم: أنَّ معنى قوله تعالى: {فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ} أي: سكتوا عن الجواب، يقال للرجل إذا أمسك عن الجواب: ردَّ يدهُ في فيه، إذ لم يجبه، ثمَّ زيف هذا الوجه وقال: إنَّهم أجابوا بالتَّكذيب وقالوا: إنَّا بما أرسلتم به كافرون وقالوا: «إنَّا كَفرْنَا بِمَا أرْسِلْتُم بِهِ» قوله تعالى: {وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ} قرأ طلحة: «تَدعُونَّا» بإدغام نون الرفع في نون الضمير كما يدغم في نون الوقاية، والمعنى: في شكِّ مريب موقع في الريبة أي: ذي ريبة من أرابه، والريبة: لقلق النفس، وألاّ [تطمئن] إلى الأمر. فإن قيل: لما ذكروا أنهم قالوا: إنَّا كافرون برسالتكم، وإن لم ندع هذا الجزم واليقين، فلا أقل من أن نكون شاكين مرتابين في صحة نبوتكم وعلى هذا التقدير فلا سبيل إلى الاعتراف بنبوتكم. قوله تعالى: {قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي الله شَكٌّ} الآية لما قالوا للرُّسلِ: وإنا لفي شك، قالت لهم رسلهم وهل تشكون في الله، وهو فاطر السموات، والأرض وفاطر أنفسنا، وأرواحنا، وأرزاقنا إنَّا لا ندعوكم إلا لعبادة هذا الإله المنعم، ولا نمنعكم إلا من عبادة غيره، وهذه المعاني يشهد لها العقل بصحتها، فكيف قلتم: وإنَّا لفي شكٍّ؟ . قوله: {أَفِي الله شَكٌّ} استفهام بمعنى الإنكار، وفي «شكٌّ» وجهان: أظهرهما: أنه فاعل بالجار قبله، وجاز ذلك لاعتماده على الاستفهام. والثاني: أنه مبتدأ، وخبره الجار، والأولى أولى؛ بل كان ينبغي أن يتعين؛ لأنه يلزم من الثاني الفصب لبين الصفة، والموصوف بأجنبيّ، وهو المبتدأ وهذا بخلاف الأوَّل، فإ، الفاصل ليس أجنبيًّا، إذ هو فاعله، والفاعل كالجزء من رافعه. ويدلُّ على ذلك تجوزيهم: «مَا رَأيْتُ رجلاً أحْسنَ في عَيْنهِ الكُحْلُ مِنهُ في عَيْنِ زيْدٍ» بنصب «أحْسَنَ» صفة ورفع «الكُحْلُ» فاعلاً ب «أفعل» ولم يضر الفصل به بين «أفْعَلَ» وبين «مِنْ» لكونه كالخبر من رافعه ولم يجيزوا رفع: أحْسَن «خبراً مقدماً، و» الكُحْلُ «مبتدأ مؤخر لئلا يلزم الفصل بين» أفعل «وبين» من «بأجنبي. ووجه الاستشهاد في هذه المسألة: أنَّهم جعلوا المبتدأ أجنبيًّا بخلاف الفاعل ولهذه المسألة موضع غير هذا. وقرأ العامة» فاطِرِ «بالجر وفيه وجهان: النعت والبدلية. قال أبو البقاء وفيه نظر؛ لأنَّ الإبدال بالمشتقات يقلّ ولو جعله عطف بيان كان أسهل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 347 قال الزمخشريُّ:» أدخلت همزة الإنكار على الظرف؛ لأنَّ الكلام ليس في الشكِّ إنَّما هو في المشكوك فيه، وأنَّه لا يحتمل الشَّك لظهور الأدلَّة، وشهادته عليه «. قوله: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ} اللام متعلقة بالدُّعاءِ، أي: لأجل غفران ذنوبكم؛ كقوله: [المتقارب] 3199 - دَعَوْتُ لمَّا نَابَنِي مِسْوراً ... فَلبَّى فَلَبَّيْ يدي مِسْورِ ويجوز أن تكون اللام معدية كقولك: «دعوتك لزيد» ، وقوله: «إذا تدعون إلى الإيمان» ، والتقدير: يدعوكم إلى غفران ذنوبكم. لما استفهم بعمنى نفي ما اعتقدوه، أردفعه بالدلائل الدالة على وجود الصانع المختار، فقال: «فاطر السموات والأرض» : أي خالق السماوات والأرض «يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم» أي: ذنوبكم و «من» صلة، وقيل: «من» تبعيضية، وقيل: بمعنى البدل، أي: بدل عقوبة ذنوبكم كقوله تعالى: {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} [التوبة: 38] وسيأتي الكلام على هذه الوجوه. {وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} إلى حين استيفاء أجلكم، ولا يعالجكم بالعذاب، قال بعض العلماء: إن الفطرة شاهدة بوجود الصانع المختار قبل الوقوف على الدلائل، وذلك من وجوه: الأول: قال بعضش العقلاء: إن من لطم وجه سبي لطمة، فتلك اللطمة تدل على وجود الصانع المختار، وعلى وجود التكليف، وعلى وجود دار الجزاء، وعلى وجود النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. أما دلالتهم على وجود الصانع؛ فإن الصبي العاقل إذا لطم يصيح ويقول من ذا الذي لطمني؟ وما ذاك إلا أن فطرته شاهدة بأن هذه اللطمة لما حدثت بعد عدمها موجب أن يكون حدوثها لأجل فعل فاعلها، فلما شهدت فطرته الأصلية بافتقار ذلك الحادث الحقير إلى الفاعل، فبأن تشهد جميع حوادث العالم بالافتقار إلى الفاعل أولى. وأما دلالتها على وجود التكليف؛ فبأن الصبي يصيح ويقول: ضربني ذلك الضارب، وهذا يدل على أن فطرته شهدت بأن الأفعال الإنسانية داخلة تحت الأمر والنهي، ومندرجة تحت التكليف، وأن الإنسان ما خلق ليفعل ما اشتهى. وأما دلالتها على وجود الجزاء فهو: أن ذلك الصبي يطلب بطبعة الجزاء على تلك اللَّطمة ولا يتركه، فلما شهدت فطرته الأصلية بوجوب الجزاء على ذلك العمل القليل، فبأن تشهد على وجوب الجزاء على جميع العباد والأعمال أولى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 348 وأما دلالتها على وجوب النبوة للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإنهم يحتاجون إلى إنسان يبين لهم مقدار العقوبة الواجبة في تلك الجناية، كم هي؟ ولا معنى للنبي إلا الإنسان الذي قدر هذه وبين هذه الأحكام؛ فثبت أن فطرة العقل حاكمة بأن الإنسان لا بد له من هذه الأربعة. الوجه الثاني: في أنَّ الإقرار بوجود الصَّانع بديهي: وهو أنَّ الفطرة شاهدة بأن حدوث دار بنقوش عجيبة، وتركيبات لطفية موافقة للحكمة، والمصلحة تستحيلُ إلاَّ من نقاش عالم، وبانٍ حكيمٍ، ومعلوم أنَّ آثار الحكمة ف يالعالم العلوي، والسفلي أكثر من الآثار الموجودة في تلك الدار المختصرة، فلمَّا شهدت الفطرة الأصليَّة بافتقار النَّقش إلى النَّقاش، والبناء إلى البَاني، فبأن تشهد بافتقار كل هذا العالم إلى الفاعل المختار الحكيم أولى. الوجه الثالث: أنَّ الإنسان إذا وقع في محنة شديدة، فإنه بأصل فطرته، وخلقته يتضرَّع إلى من يخصله منها، وما ذاك إلاَّ شهادة فطرته بالافتقار إلى الصَّانع القادرم المدبر. الرابع: أن الموجود إمَّا أن يكون غنيًّا عن المؤثر، أو لا يكون، فإن كان غنياً عن المؤثر فهو الموجود الواجب لذاته؛ لأنه لا معنى للواجب لذاته إلاَّ الموجود الذي لا حاجة له إلى غيره، وإن لم يكن غنيًّا عن المؤثر فهو محتاج، والمحتاجُ لا بد له من المحتاج إليه، وذلك هو الصَّانع المختار. الوجه الخامس: أن الاعتراف بوجودو الصانع المختار المكلف وبوجود المعاد أحوط فوجب المصير إليه، أما كون الإقرار بوجود الصَّانع أحوط لأنه لو لم يكن موجوداً فلا ضرر في الإقرار بوجوده، وإن كان موجوداً ففي إنكاره أعظم المضار. وأمَّا كون الإقرار بكونه فاعلاً مختاراً أحوط، فلأنهن إن لم يكن موجوداً فلا خير في الإقرار بكمونه مختاراً. أمَّا لو كان موجوداً ففي إنكار كونه مختاراً أعظم المضار. وأما كان كون الإقرار بكونه مكلفاً لعباده أحوط، فلأنه لو لم يكلف أحداً من عبيده شيئاً فلا ضرر في اعقاد أنه كلف العباد ففي إنكار التكاليف أعظم المضار. وأمَّا كون الإقرار [بوجود] المعاد أحوط؛ فلأنه إن كان الحق أن لا معاد؛ فلا ضرر في الإقرار بوجود المعاد فإنه لا يفوت إلا هذه اللذات الجمسانية، وهني منقضية فانينة، فإن كان الحق وجوب المعاد ففي إنكاره أعظم المضار، فظهر أن الإقرار بهذه المقامات أحوط فوجب المضير إليه، لأن بديهة العقل حاكمة بوجوب دفع الضرر عن النَّفس بقدر الإمكان، والله أعلم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 349 فصل لما استدلْ بكونه فاطر السموات والأرض وصف نفسه بكمال الرحمة والكرم، والجود من وجهين: الأول: قوله: {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} . قال الزمخشريًُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: «لو قال قائل: ما معنى التعبيض في قوله تعالى: {مِّن ذُنُوبِكُمْ} » ؟ . ثم أجاب: فقال ما جاء هكذا إلاَّ في خطاب الكفار، كقوله تعالى {واتقوه وَأَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} [نوح: 3، 4] ، و {ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} [الأحقاف: 31] وقال في الخطاب للمؤمنين: {هَلْ أَدُلُّكمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10] إلى أن قال: {يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ} [الصف: 12] قال: والاستقراء يدلُّ على صحَّة ما ذكرناه. ثم قال: وكان ذلك للتَّفرقة بين الخطابين لئلا يسوَّى بين الفريقين في المعاد. وقيل: أريد به: يغفر لهم ما بينهم وبين الله بخلاف ما بنيهم وبين العباد من المظالم. وقال الواحدي: قال أبو عبيدة: «مِنْ» زائدة، وأنكر سيبويه زيادتها وإذا قلنا: ليست بزائدة، ففيها وجهان: أحدهما: أنه ذكر البعض هنا، وأراد الجمع توسعاً. والثاني: أن «مِنْ» ههنا للبدل، أي: لتكون المغفرة بدلاً من الذُّنوبِ فدخلت «مِنْ» لتضمن المغفرة معنى إبدالها م الذُّنوبِ. وقال القاضي: ذكر الأصم أنَّ كلمة «مِنْ» ههنا تفيد التبعيض، أي: أنكم إذا [تبتم] يغفر لكم الذُّنوب التي هي من الكبائر، وأمَّا التي تكون من الصغائر، فلا حاجة إلى غفرانها؛ لأنها في أنفسها مغفورة. قال القاضي: وقد أبعد في هذا التأويل؛ لأنَّ الكفار صغائرهم، ككبائرهم لا تغفر إلا بالتَّوبة، وإنما تكون الصَّغائر مغفورة من الموحدين من حيث يزيد ثوابهم على عقابهم فأمَّا من لا ثواب له أصلاً، فلا يكون شيء من ذنوبه صغيرة، فلا يغفر له له شيء، ثم قال: وفيه وجه آخر: وهو أنَّ الكافر قد ينسى بعض ذنوبه في حال توبته، وإيمانه؛ فلا يغفر له شيء من ذنوبه، فلا تكون المغفرة إلا لما ذكره وتاب عنه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 350 فصل قال ابن الخطيب: دجلت الآية على أنه تعالى يغفر الذنوب من غير توبة في حق المؤمن، لأنه قال {يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} وعد بغفران الذنوب مطلقاً من غير اشتراط التوبة؛ فوجب أن يغفر بعض الذنوب مطلقاً من غير التوبة، وذلك البعض ليس هو الكفر لانعقاد الإجماع على أنه تعالى لا يغفر الكفر إلا بالتوبة عنه والدخول في الإيمان؛ فوجب أن يكون البعض الذي يغفر من غير التوبة ما عدا الكفر من الذنوب. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: إن كلمة «مِنْ صلة على ما قاله أبو عبيدة أو نقول: المراد منه تمييز خطاب المؤمن عن الكافر على ما قاله الزمخشريُّ، أو نقول: المراد تخصيص الغفران بالكبائر على ما قاله الأصم، أو نقول: المراد منه الذنوب التي ذكرها الكافر عند إسلامه، كما قاله القاضي. فنقول هذه الوجوه بأسرها ضعيفة، أمَّا كونها صلة فمعناه الحكم على كلمة من كلام الله عزَّ وجلَّ بأنَّها عبثٌ والعاقل لا يجوز له المصير إليه من غير ضرورة. وأما قوله الواحدي: المراد من كلمة» مِنْ «ههنا الكل فهو عين ما قاله أبو عبيدة؛ لأن حاصه أنَّ قوله تعالى جل ذكره {يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ} أي: يغفر لكم ذنوبكم، وهذا عينُ ما نقله عن أبي عبيدة، وحكى عن سيبويه إنكاره. وأما قوله: المراد منه إبدال السيئة بالحسنة، فليس في اللغة أنَّ كلمة» مِنْ «تفيد الإبدال. وأما قول الزمخشري: المراد تمييز خطاب المؤمنين من خطاب الكافرين بمزيد التشريف فهو من باب الطاعات، لأن هذا التعبيض إن حصل، فلا حاجة إلى ذكر هذا الجةاب وإن لم يحصل كان هذا الكلام فاسداً. وأما قول الأصم، فقد سبق بطلانه. وأمَّا قول القاضي: فجوابه أنَّ الكافر إذا أسلم؛ غُفِرَت ذُنوبُه بأسرها، لقوله عليه السلام:» التّائِبُ مِنَ الذنبِ كَمنْ لا ذَنْبَ لَهُ «. وقال تعالى: {قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: 38] فثبت أنَّ جميع ما ذكروه من التأويلات ضعيف ساقط، بل المراد ما ذكرناه هو أنَّه يغفر بعض ذنوبه من غير توبةٍ؛ بشرط أن يأتي بالإيمان، فبأن تحصل هذه الحال للمؤمن أولى. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 351 قال تعالى: {وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} . قيل: المعنى: إن آمنتم، أخر الله موتكم إلى أجل مسمى، وإلا عاجلكم بعذاب الاستئصال. وقال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يمنعكم في الدُّنيا باللذات إلى الموت. فِإن قيل: أليس قال: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] . فكيف قال هنا: {وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى} ؟ . قلنا: تقدَّم الكلام في هذه المسألة في قوله: {ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى} [الأنعام: 2] في الأنعام. ولما ذكر الرسل عليهم الصلاة والسلام هذا الكلام للكفار قالوا: {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} وهذا الكلام يشتمل على ثلاثة أنواع من الشبه: الأولى: أن الأشخاص الإنسانية متساوية في تمام الماهية فيتمنع أن يبلغ التفاوت بين تلك الأشخاص إلى هذا الحد وهو أن الواحد منهم رسولاً من الله تعالى مطلعاً على الغيب، مخالطاً لزمرة الملائكة، والباقون غافلون عن هذه الأحوال أيضاً كانوا يقولون: إن كنت قد فارقتنا في هذه الأحوال العالية الإلهية الشريفة وجب أيضاً أن تفارقنا في الأحوال الخسيسة، وهي الحاجة إلى ألاكل، والشرب، والحديث والوقاع، وهذه الشبهة هي المراد من قولهم {إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا} : أي في الصورة ولستم ملائكة، وإنَّما تريدنون بقولكم أن تصدُّونا عمَّا كان يعبد آباؤنا. وهذه الشبهة الثانية: وهي التمسك بالتقليد، وهي أنهم وجدوا آباءهم وعلماءهم مطبقين على عبادة الأوثان. قالوا: ويبعد أن أولئك القدماء على كثرتهم وقوة خاطرهم لم يعرفوا بطلان هذا الدين. الشبهة الثالثة: قالوا: المعجز لا يدلُّ على الصدق؛ لأن الذي جاء به أؤلئك الرسل طعنوا فيه وزعموا أنَّها أمور متعادة ليست من باب المعجزات الخارجية عن قوَّة البشر؛ فلذلك قالوا: «فأتُونَا بسُلْطانٍ مُبِينٍ» أي: بحجة بينة على صحَّة دعواكم. قوله «تُرِيدُونَ» يجوز أن يكون صفة ثانية ل «بَشرٌ» وحمل على معناه، لأنه بمنزلة القوم والرهط، كقوله: {أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} [التغابن: 6] وأن يكون مستأنفاً. وقوله: «أنْ تَصدُّونَا» العامة على تخفيف النون، وقرأ طلحة بتشديدها كما شدد: «تدعونّا» وفيها تخريجان: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 352 أحدهما: ما تقدَّم في نظيرتها على أن تكون هي المخففة لا النَّاصبة، واسمها ضمير الشأن، وشذّ عدم الفصل بينها، وبين الجملة الفعلية. والثاني: أنَّها ناصبة، ولكن أهلمت حملاً على «مَا» المصدرية كقراء: {أَن يُتِمَّ} [البقرة: 233] . برفع «يُتِمُّ» وقد تقدَّم القول فيه. قوله تعالى: {قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} الآية لما حكمة عن الكفَّارم طعنهم في النُّبوة حكى عن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم جابهم فقالوا: {إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} سلموا أنَّ الأمر كذكل لكنهم بيَّنوا أن التماثل في البشرية لا يمننع من اختصاص بعض البشرِ بمنصب النبوة؛ لأنَّ هذا المنصب يمُنُّ الله به على من يشاء من عباده، وإذا كان كذلك سقطت شبهتكم. وأمَّا الجواب عن شبهة التقليد وهي قولهم: إطباقُ السلف لذلك الدين يدل على كونه حقًّا، فجوابه عين الجواب المذكور، وهو أنَّه لا يبعدُ أ، يظهر الرَّجل الواحد مالم يظهر للخلق الكثير؛ لأن التمييز بين الحق، والباطل، والصدق، والكذب عطية من الله وفضل منه؛ فلا يبعد أن يخص عبده بهذه العطية، ويحرم الجمع العظيم منها. وأما الجواب عن الشهبة الثالثة وهي قولهم: إنا لا نرضى بهذه المعجزات التي أتيتم بها، وإنما نريد معجزات قاهرة أوقى منها، فأجابوا عنها بقولهم: {وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} أي: أنَّ المعجزة التي أتينا بها حجة قاطعة قوية ودليل تام، وأمَّا الأشياء التي تطلبتموها، فأمور زائدة والحكم فيه لله تعالى فإن أظهرها فله الفضل، وإن لم يظهرها فله العدل، ولا يحكم بعد ظهور قدر الكفاية. قوله: {وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ} يجوز أن يكون خبر: «كَانَ» «لَنَا» ، و: «إنْ نَأيِتَكُمْ» أسمها، أي: وما كان لنا إتيانكم بسورة، و {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} حالٌ، ويجوز أن يكون الخبر {إِلاَّ بِإِذْنِ الله} ، و «لَنا» تبين. والظاهر أنَّ الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لما أجابوا عن شبهاتهم بهذا الجواب أخذ القوم التَّخويف، والوعيد فعند ذلك قال الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم لا نخاف من تخويفكم بعد أن تولكنا على الله: {وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون} . قوله: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله} كقوله سبحانه: {وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله} [البقرة: 246] . والمعنى: ما لنا أن لا نتوكل على الله، وقد عرفنا أنه لاينال شيء إلا بقضائه وقدره: {على مَآ آذَيْتُمُونَا} بين لنا الرشد وبصرنا النجاة. قوله: «ولنَصْبِرنَّ، جواب قسم، وقوله: {وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا} يجوز أن تكون» مَا «مصدرية، وهو الأرجح لعدم الحاجة إلى رابط ادعي حذفه على غير قياس. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 353 والثاني: أنها موصولة اسمية، والعائد محذوف على التدرج؛ إذ الأصل: آذيتمونا به، ثم حذف الباء فوصل الفعل إليه بنفسه وقرأ الحسن رَحِمَهُ اللَّهُ: بكسر لام الأمر في» فَليتَوكَّل «وهو الأصل. والمراد بهذا التوكل على الله في دفع شر الكفار فلا يلزم التكرار وقيل: الأول لاستحداث التوكل، والثاني طلب دوامه. قوله تعالى: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ} الآية لما حكى عن الأنبياء صلوات لله وسلامه عليهم توكلهم على الله في دفع شرور أعدائهم حكى عن الكفار أنهم بالغوا في السفاهة وقالوا: {لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} أي لا بد من أحد الأمرين. قوله: «لنخرنكم» جواب قسم مقدر، كقوله: «ولنصبرن» وقوله: «أو لتعدن» في «أوْ» ثلاثة أوجه: أحدها: أنها على بابها من كونها لأحد الشيئين. والثاني: أنها بمعنى: «حتَّى» . والثالث: أنها بمعنى «إلاَّّ» كقولهم: لألزمَنَّكَ أوْ تَقْضِينِي حَقِّي. والقولان: الأخيران مردودان، إذ لا يصح تركيب «حتَّى» ولا تركيب «إلاَّ» مع قوله «لتَعُودُن» بخلاف المثال المتقدم، والعود هنا يحتمل أن يكون على بابه أي: لترجعن و «في ملَّتنا» متعلق به، وأن يكون بمعنى الصيرورة، فيكون الجار في محل نصب خبراً لها. فإن قيل: هذا يوهم أنهم كانوا على ملتهم في أول الأمر حتى يعودا فيها. فالجواب من وجوه: أحدها: أن الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم إنَّما نشئوا في تلك البلاد؛ وكانوا من تلك القبائل وفي أول الأمر ما ظهروا المخالفة مع الكفار، بل كانوا ساكتين إلى حين الوحي فظن القوم أنهم كانوا على ملتهم لسكوتهم، فلهذا قالوا: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا} . وثانيها: أن هذا الكلام الكفار ولا يجب في كل ما قالوه أن يكونوا صادقين. وثالثها: قال الزمخشريُّ: «لعَوْدُ هنا بمعنى الصِّيرورة كثير في كلام العرب كثرة فاشية لا تكاد تسمعهم يستعملون:» صَارَ «ولكن عاد: ما عدت أراه، وعاد لا يكلمني ما عاد لفلان مالٍ» . ورابعها: أن الخطاب وإن كان في الظاهر مع الرسل إلا أنَّ المقصود بهذا الخطاب أتباعهم وأصحابهم، فغلبوا في الخطاب الجماعة، ولا بأس أن يقال: إنهم قبل ذلك الوقت كانوا على دين أولئك الكفار. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 354 وخامسها: لعل أولئك الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم كانوا قبل إرسالهم على ملَّة من الملل، ثم إنه تعالى نسخه تلك الملة وأمرهم بشريعة أخرى وبقي تلك الأقوام على تلك الشريعة المنسوخة مصرين عليها، وعلى هذا التقدير، فلا يبعد أن يطلبوا من الأنبياء صلوات الله عليهم أن يعودوا إلى تلك الملّة. ولما ذكر الكفَّار هذا الكلام أو حى الله عزَّ وجلَّ أليهم {لَنُهْلِكَنَّ الظالمين} . قوله: «لنُهْلِكنَّ» جوب قسم مضمر، وذلك القسم وجوابه فيه وجهان: أحدهما: أنه على إضمار القول، أي: قال لنهلكن. والثاني: أنه أجرى الإيحاء مجرى القول؛ لأنه ضرب منه. وقرأ أبو حيوة «ليُهْلِكنَّ» و «ليُسْكِننَّكُمْ» بياء الغيبة مناسبة لقوله: «ربُّهُمْ» والمراد بالأرض: أرض الظالمين، وديارهم، وأموالهم وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «مَنْ أذَى جَارهُ ورَّثُه اللهُ دارهُ» وهذه الآية تدلُّ على أن من يتوكل على الله في دفع عدوه كفاه الله أمر عدوه. قوله: {لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ} «ذلِكَ» مبتدأ، وهو مشار به إلى توريث الأرض، ولمَنْ خَافَ «هو الخبر، و» مَقامِي «فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مقحم، وهو بعيد؛ إذ الأسماء لا تقحم. الثاني: أنه مصدر مضاف للفاعل. قال الفراء:» مَقامِي «مصدر مضاف لفاعله أي: مقامي عليه بالحفظ. الثالث: أنه اسم مكان. قال الزجاج:» مكان وقوفه بين يدي الحساب، كقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [الرحمن: 46] فأضاف قيام العبد إلى نفسه، كقولك: نَدِمْتُ على ضَربِكَ، أي: على ضَرْبِي أيَّاك، و «خَافَ وعِيدِ» أي: عقابي، أثبت الياء هنا، وفي «ق» في موضعين: {كُلٌّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 14] ، {فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ} [ق: 45] وصلاً، وحذفها وقفاً ورش، والباقون وصلاً ووقفاً «. فصل في تفسير المقام وجوه: الأول: موقفي وهو موقف الحساب؛ لأنَّه الذي يقف فيه العباد يوم القيامة، كقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ} [النازعات: 10] . الثاني: أن المقام مصدر كالقيام، يقال: قَامَ قِيَاماً، ومقَاماً، أي: لمن خاف مقامي، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 355 أي: مقام العباد عندي، وهو من باب إضافة المصدر إلى المفعول. الثالث: لمن خاف مقامي، أي: لمن خافني، وذكر المقام هنا، كقولك سلامٌ على المَجْلسِ الفُلاني، والمراد: السَّلام على فلان. قوله: {وَخَافَ وَعِيدِ} قال الواحدي: الوعيد اسمٌ من أوْعَد إيعَاداً وهو التَّهديد. قال ابن عباس: خاف ما أوعدت من العذاب. وهذا الآية تدلُّ على أنَّ الخوف من الله تعالى غير الخوف من عيده؛ لأن العطف يقتضي المغايرة. قوله : {واستفتحوا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 356 } العامة على «اسْتفْتَحُوا» فعلاً ماضياً، وفي ضميره أقوال: أحدها: أنه عائد على الرًّسلِ الكرام، ومعنى الاستفتاح: الاستنصار كقوله: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح} [الأنفال: 19] . وقيل: طلب الحكم من الفتاحة، وهي الحكومة، كقوله تعالى: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين} [الأعراف: 89] . الثاني: أن يعود على الكفار، أي أستفتح أمم الرسل عليهم؛ كقوله تعالى: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} [الأنفال: 32] وقيل: عائد على القولين؛ لأن كلاَّ طلب النصر على صاحبه. وقيل: يعود على قريش؛ لأنهم في سني الجدب استمطروا فلم يمطروا، وهو على هذا مستأنف، وأما علىغيره من الأقوال فهو عطف على قوله: «فاوحى إليهم» . وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «واستفتحوا» على لفظ الأمر أمراً للرسل بطلب النصرة، وهي تقوية لعوده في المشهورة على الرسل، والتقدير: قال لهم: لنهلكن، وقال لهم: استفتحوا. قوله: «وخاب» هو في قراءة العامة عطف على محذوف، وتقيدره: استفتحوا، فنصروا، وخاب، ويجوز أن يكون عطفاً على «استفتحوا» على أن الضمير فيه للكفار، وفي غيرها على القول المحذوف وقد تقدم أنه يعطف الطلب على الخبر وبالعكس. إن قلنا: المستفتحون الرسل عليهم الصلاة والسلام، فنصورا وظفروا، وهو قول مجاهد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 356 وقتادة، وذلك أنهم لما أيسوا من إيمان قومهم استنصروا الله، ودعوا على قومهم بالعذاب، كما قال نوح صلوات الله عليه: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً} [نوح: 26] . وإن قلنا: المستفتحون الكفرة كان المعنى أن الكفار استفتحوا على الرسل ظنًّا منهم أنهم على الحق والرسل على الباطل، وذلك أنههم قالوا: «اللهم إن كان هؤلاء الرسل صادقين فعذبنا» نظيره: {وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] . «وخَابَ» ما أفلح. وقيل: خر. وقيل: هلك كل جبّار عنيد. والجبَّارُ الذي لا يرى فوقه أحداً، والجبريةُ طلب العلوْ بما لا غاية وراءه، وهذا الوصف لا يكون إلا الله عزَّ وجلَّ. وقيل: الجبَّار الذي يجبر الخلق على مراده، والجبَّار هنا: المتكبر على طاعة الله سبحانه وتعالى وعبادته، ومنه قوله تعالى: {وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً} [مريم: 14] . قال أبو عبيدة: «الأجْبَر يقال فيه جبريّة، وجَبرُوَّة، وجَبرُوت» . وحكى الزجاج: «الجِبْرُ، والجِبْرِية، والجِبَّارة، الجِبْرِيَاءُ» . قال الواحديُّ: «فهذه سبع لغات في مصدر الجبَّار، ومنه الحديث:» أن امرأة حضرت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأمَرهَا بِأمْرٍ فأبتْ عليْهِ، فقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «دَعُوهَا فإنَّها جَبَّارةٌ» أي: مستكبرة «، وأمَّا العنيد فقال أهلُ اللغة في اشتقاقه: قال البصريون: أصل العُنُود: الخلاف، والتباعد، والترك. وقال غيرهم: أصله من العَنْد وهو النَّاحية، يقال: هو يمشي عنداً، أي: ناحية فهو المُعانِدُ للحق بجانبه، قاله مجاهد. وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هوالمعرض عن الحق. وقال مقاتلٌ: هو المتكبّر وقال قتادة: العَنِيدُ الذي أبى أن يقال: لا إلهَ إلاَّ الله. ثم ذكر كيفية عذابهن فقال:» مِنْ وَرائِهِ «جملة في محلّ جر صفة ل» جبَّارٍ «ويجوز أن تكون الصفة وحدها الجار، و» جهنم: فاعل به. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 357 وقوله: «ويسقى» صفة معطوفة على الصفة قبلها. عطف جملة فعلية على اسمية فإن جعلت الصفة الجار وحده، وعلقته بفعل كان من عطف فعلية على فعلية. وقيل: عطف على محذوف، أي: يلقى فيها، ويُسْقَى. و «وَرَاءِ» هنا على بابها، وقيل بمعنى أمام، فهو من الأضداد، وهذا عنى الزمخشري بقوله: «مِنْ بَيْنِ يَديْهِ» وأنشد: [الوافر] 3200 - عَسَى الكَرْبُ الَّذي أمْسَيْتُ فِيهِ ... يَكونُ وَراءَهُ فَرجٌ قَرِيب وهو قول أبي عبيدة وابن السِّكيت، وقطرب، وابن جريرٍ؛ وقال الشاعر في ذلك: [الطويل] 3201 - أيَرْجُو بنُو مَرْوان سَمْعِي وطَاعتِي ... وقَوْمُ تَميمٍ والفَلاةُ وَرَئِيَا أي: قُدَّامي؛ وقال الآخر: [الطويل] 3202 - أليْسَ وَرائِي إنَّ تَراخَتْ مَنيَّتِي ... لزومٌ العَصَا عليْهَا الأصابِعُ وقال ثعلب: هو اسم لما توارى عنك سواء كان خلفك، أم قدامك فيصح إطلاق لفظ الوراء على الحذف وقدام، ويقال: المَوْتُ وراء كُلُّ أحدٍ، وقال تعالى: {وَكَانَ وَرَآءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً} [الكهف: 79] أي: أمامهم. وقال ابن الأنباري: وراء بمعنى بعد، قال الشاعر: [الطويل] 3203 - ... ... ... ... ... ... . ... وليْسَ ورَاءَ اللهِ للْخَلْقِ مَهْرَبُ ومعنى الآية: أنه بعد الخيبة يدخلهم جهنم. قوله: {مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ} في «صديد» ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّه نعت ل «مَاءٍ» . وفي تأويلان: أحدهما: أنه على حذف أداة التشبيه، أي: ماء مثل صديد، وعلى هذا فليس الماء الجزء: 11 ¦ الصفحة: 358 الذي تشربونه صديداً، بل مثله في النَّتنِ، والغلظ، والقذارة، كقوله تعالى: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل} [الكهف: 29] . والثاني: أنَّ الصديد لما كان يشبه الماء أطلق عليه ماء، وليس هو بماء حقيقة، وعلى هذا فيكون يشربون نفس الصديد المشبه للماء، وهو قول ابن عطية، وإلى كونه صفة ذهب الحوفي وغيره. وفيه نظرٌ، إذ ليس بمشتق إلاَّ على من فسَّره بأنه صديدق بمعنى مصدود، أخذه من الصَّدِّ، وكأنه لكراهته مصدودٌ عنه، أي: يمتنع عليه كل أحد. الثاني: أنه عطف بيان ل «مَاءٍ» ، وإليه ذهب الزمخشري، وليس مذهب البصريين [جريانه] في النكرات إنَّما قال به الكوفيون وتبعهم الفارسي أيضاً. الثالث: أن يكون بدلاً، وأعرب الفارسي «زَيْتُونةٍ» من قوله تعالى {مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ} [النور: 35] عطف بيان أيضاً. واستدلّ من جوَّز كونه عطف بيان، ومتبوعه نكرتين بهاتين الآيتين. والصَّديد: ما يسيلُ من أجسادٍ أهلِ النَّار. وقيل: ما حَالَ بين الجلدِ واللَّحمِ من القَيْحِ. قوله: «يتَجرَّعهُ» يجوز أن تكون الجملة صفة ل «مَاءٍ» وأن تكمون حالاً من الضمير في «يُسْقَى» ، وأن تكمون مستأنفة، وتجرَّع: «تَفعَّل» وفيه احتمالات: أحدها: أنه مطاو ل «جَرَّعْته» نحو «علَّمتهُ فتعلَّمَ» . والثاني: أنه يكون للتكلف، نحو «تحَلَّم» ، أي: يتَكلَّف جرعهُ، ولم يذكر الزمخشري غيره. الثالث: أنه دالٌّ على المهلة، نحو تفهَّمتهُ، أي: يتنوله شيئاً فشيئاً بالجرع كما يفهم شيئاً فشيئاً بالتفهيم. الرابع: أنه بمعنى جرع المجرد، نحو: عَددْتُ الشيء وتعَدَّيتُه. والمعنى: يتحسَّاه ويشربه لا بمرة واحدة، بل يجرعهُ لِمرارَتهِ وحَرارَتهِ. قوله: {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} في «يَكادُ» قولان: أحدهما: أن نفيهُ إثبات، وإثباتهُ نفيٌ، فقوله: {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي: يسيغه بعد إبطاء؛ لأن العرب تقول: ما كدت أقومُ أي: قمتُ بعد إبطاءٍ، قال تعالى: {فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ} [البقرة: 71] أي: فعلوا بعد إبطاء، ويدلّ على حصول الإساغة قوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} [الحج: 20] ولا يحصل الصهر إلا بعد الإساغة. وقوله: «يَتجرَّعهُ» يدل على أنهم ساغوا الشيء بعد الشيء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 359 والقول الثاني: أنَّ «كَادَ» للمقاربة، فقوله «وَلا يَكادُ» لنفي المقاربة يعني ولم يقارب أن يسيغه، فكيف تحصل إلا ساغة؟ . كقوله تعالى: {لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا} [النور: 40] ، أي: لم يقرب من رؤياها، فكيف يراها؟ . فإن قيل: فقد ذكرتم الدليل على الإساغة، فكيف يجمع بين القولين؟ . فالجواب من وجهين: أحدهما: أنَّ المعنى: ولا يسيغ جميعه. والثاني: أنَّ الدَّليل الذي ذكرتم إنَّما دلَّ على وصول بعض ذلك الشَّراب إلى جوف الكافر، إلاَّ أن ذلك ليس بإساغة؛ لأنَّ الإساغة في اللغة: إجراء الشرب في [الحلق] بقبول النفس، واستطابة المشروب، والكافر يتجرّع ذلك الشرب على كراهية ولا يسيغه، أي: لا يستطيبه ولا يشربه شرباً مرة واحدة وعلى هذين الوجهين يصح حمل: «لا يَكَادُ» على نفي المقاربة. قوله: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} أي: أن موجبات الموت أحاطت به من جميع الجهات. واعلم أن الموت يقع على أنواع بحسب أنواعه الحياة. فمنهنا: ماهو بإزاء القوة النامية الموجودة في الحيوان والنبات، كقوله تعالى: {يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [الحديد: 17] . ومنها: زوال القوة العاقلة، وهي الجهالة، كقوله تعالى: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] {إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى} [النمل: 80] . ومنها: الحزن والخوف المكدران للحياة، كقوله تعالى: {وَيَأْتِيهِ الموت مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} [إبراهيم: 17] . ومنهنا: النوم، كمقوله تعالى عزَّ وجلَّ {والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} [الزمر: 42] . وقد قيل: النوم: الموتُ الخفيف، والموتُ: النوم الثقيل، وقد يستعار الموت للأحوال الشاقة كالفقر والذل، والسؤال، والهرم، والمعصية، وغير ذلك، ومنه الحديث «أوْل من مَاتَ إبليسُ لأنَّهُ أوَّلُ من عَصَى» . وحديث موسى صلوات الله سلامه عليه حين قال له ربه: « [أمَا] تَعْلَمْ أنَّ مَنْ أفْقرتُهُ فقَدْ أمَتُّهُ» . ولنرجع إلى التفسير، فنقول: قيل: بحدوث ألم الموت من كل مكان من أعظائه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 360 وقيل: يأتيه الموت من الجهات السّت {وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ} فيستريح. قال ابن جريج: تعلق روحه عند حنجرته، ولا تخرج من فيه فيموت، ولا ترجع إلى مكانها من جوفه فيستريح فَتَنْفَعهُ الحياة، نظيره: {لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى} [طه: 74] . قوله: {وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ} في الضمير وجهان: أظهرهما: أنه عائد على «كُلِّ جبَّارٍ» . والثاني: أنه عائد على العذاب المتقدم. قيل: العذاب الغليظ: الخلود في النار. وقيل: إنَّهُ في كل وقت يستقبله يتلقى عذاباً أشدّ مما قبله، وتقدم الكلام على معنى «مِن وَرائهِ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 361 قوله تعالى: {مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ} الآية لما ذكر أنواع عذابهم بين عبده أن سائر أعمالهم تصير ضائعة باطلة، وذلك هو الخسران الشديد. وفي ارتفاع: «مَثَلُ» أوجه: أحدها: وهو مذهب سيبويه أنَّه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا ربهم، وتكون الجملة من قوله: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} مستأنفة جواباً لسؤالٍ مقدر، كأنه قيل: كيف مثلهم؟ فقيل: كَيْتَ وكَيْتَ «والمثل: مستعار للصفة التي فيه غرابة، كقوله: صِفةٌ زيدٍ عِرْضهُ مصُونٍ، مالهُ مَبْذولٍ» . الثاني: أن يكون «مثل» مبتدأ، و «أعمالهم» مبتدأ ثان، و «كَرمَادٍ» خبر الثاني، والثاني وخبره خبر المبتدأ الأوَّل. قال ابن عطيَّة: «وهذا عندي أرجحُ الأقوال، وكأنك قلت: المتحصل في النفس مثالاً للذين كفروا هذه الجملة المذكورة» وإليه نحا الحوفي. قال أبو حيان: «وهو لا يجوز؛ لأن الجملة التي وقعت خبراً للمبتدأ لا رابط فيه يربطها بالمبتدأ، وليست نفس المبتدأ فيستغنى ع رابط» . قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «بل الجملة نفس المبتدأ، فإن نفس مثلهم هو» أعْمَالهُمْ كَرمَادٍ «في أنَّ كلاًّ منهما لا يفيد شيئاً، ولا يبقى له أثر، فهو نظير قولك:» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 361 هِجِّيرى أبي بكرٍ لا إلهَ إلاَّ اللهُ «وإلى هذا الوجه ذهب الزمخشري أيضاً؛ فإنه قال:» أي صفة الذين كفروا أعمالهم كرماد، كقولك: «صفةٌ زيْدٍ عرضهُ مصُون ومالهُ مَبذُول» فنفس عرضه مصون هو نفس صفة زيد «. الثالث: أنَّ» مَثَلُ «زائدة، قاله الكسائي والفراء، أي: الذين كفروا أعمالهم كرماد، ف» الَّذينَ «مبتدأ، و» أعْمالهُمْ «مبتدأ ثاني، و» كَرَمادٍ «خبره، وزيادة الأسماء ممنوعمة. الرابع: أن يكون» مثلُ «مبتدأ، و» أعْمَالهُم «بدل منه على تقدير: مثل أعمالهم و» كَرمَادٍ «الخبر، قاله الزمخشري. وعلى هذا فهو بدل كلِّ من كلِّ على حذف مضاف كما تقدم. الخامس: أنه يكون» مثل «مبتدأ، و» أعمالهم «بدلٌ منه بدل اشتمال و» كرماد «الخبر. كقول الزباءِ: [الرجز] 3204 - مَا لِلْجمَالِ مَشْيهَا وَئيدَا ... أجَنْدَلاً يَحْملنَ أمْ حَديدَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 362 السادس: أن يكون التقدير: مثل أعمال الذين كفروا، أو هذه الجملة خبراً لمبتدأ، قال الزمخشريُّ. السابع: أن يكون» مَثَلُ «مبتدأ، و» أعْمَالهُم «خبره، أي: مثل أعمالهم فحذف المضاف، و» كَرمَادٍ «على هذا خبر مبتدأ محذوف. وقال أبو البقاءِ حين ذكر وجه البدل:» ولو كان في غير القرآن لجاز إبدال «أعْمالهُمْ» من: «الَّذينَ» ، وهو بدل اشتمال «. يعنى أنَّه كان يقرأ «أعْمَالهُمْ» مجرورة لكنَّه لم يقرأ به «والرَّمادُ معروف وهو ما سحقته النار من الأجرام، وجمعه في الكثرة على رمُدٍ وفي القلة على أرْمِدةٍ، كجَمادٍ وجُمُد وأجْمِدَة، وجمعه على أرْمِدَاء شاذ» . والرَّمادُ: الشبه المحكم، يقال: أرْمدَ الماءُ، أي: صار بلونِ الرَّمادِ. والأرْمَدُ: مَا كَانَ على لَونِ الرَّمادِ، وقيل للبعوض: رمدٌ لذلك، ويقال: رمادٌ رَمْدٌ، أي: صار هباء. قوله تعالى: {اشتدت بِهِ الريح} في محل جر صفة ل «رَمَادٍ» ، و «فِي يَوْمٍ» متعلق ب «اشْتَدَّتْ: وفي» عَاصِفٍ «أوجه: أحدها: أنه على تقرير: عاصف ريحه، أو عاصف الريح، ثم حذف الريح وجعلت الصفة ل» يَوْم «مجازاً، كقولهم: يَومٌ ماطرٌ، وليْلٌ قَائمٌ. قال الهرويُّ: فحذفت لقتدم ذكرها، كما قال: [الطويل] 3205 - إذَا جَاءَ يَومٌ مُظلِمُ الشَّمسِ كَاسفٌ ..... ... ... ... ... ... ... الجزء: 11 ¦ الصفحة: 363 أي: كاسف الشمس. الثاني: أنه عائد على النِّسب، أي: ذي عصوف، كلابن وتامر. الثالث: أنه خفض على الجوار، أي: كان الأصل أن يتبع العاصف الريح في الإعراب، فيقال: اشتدت الريحُ العاصفة في يومٍ، فلمَّا وقع بعد اليوم أعرب بإعرابه، كقولهم:» جُحْرُ ضَبٍّ خربٍ «. وفي جعل هذا من باب الفخض على الجوار نظر؛ لأنَّ من شرطه أني يكون بحيث لو جعل صفة لما قطع عن إعرابه ليصحَّ كمثال المذكور، وهنا لو جعلت صفة للريح لم يصحَّ لتخالفها تعريفاً، وتنكيراً في هذا [التركيب] الخاص. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق: [» يَوْمٍ عَاصفٍ «] وهني على حذف الموصوف، اي: في يوم ريح عاصف، فحذف لفهم المعنى الدال على ذلك. ويجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف إلى صفته عند من يرى ذلك نحو:» البَقْلةُ الحَمْقَاء «. ويقال: ريحٌ عاصفٌ ومُعْصِفٌ، وأصله من العصف، وهو ما يكبر من الزرع، فقيل ذلك للريح الشديد؛ لأنَّها تعصف، أي: تسكر ما تمرُّ به قوله:» لاَ يَقدِرُونَ «مستأنف، ويضعف أن يكون صفة ب» يَوْمٍ: على حذف العائدِ أي: لا يقدرون فيه، و «ممَّا كَسبُوا» متعلق بمحذوف لأنه حالٌ من «شَيءٍ» إذ لو تأخر لكان صفة، والتقدير: على شيء مما كسبوا. فصل وجه المشابهة بين هذا المثل وبين أعمالهم: هو أنَّ الريح العاصفة تُطير الرماد وتفرق أجزاءه بحيث لا يبقى لذلك الرماد أثر، فكذا كفرهم يبطل أعمالهم ويحبطها بحيث لا يبقى من أعمالهم معه أثرٌ. واختلفوا ف يالمراد بتلك الأعمال، فقيل: ما علموه من أعمال البرِّ كالصدقة، وصلة الرحم، وبر الواليدن، وإطعام الجائع، فتبطل وتحبط بسبب كفرهم بالله، ولولا كفرهم لانتفعوا بها. وقيل: المراد بتلك الأعمال عبادتهم الأصنام، وكفرهم الذي اعتقدوه إيماناً وطريقاً لخلاصهم، وأتبعوا أبدانهم دهراً طويلاً لينتفعوا بها، فصارت وبالاً عليهم. وقيل: المراد من أعمالهم كلا القسمين؛ لأن أعمالهم التي كانت في أنفسها خبرات قد بطلت، والأعمال التي اعتقدوها خيراً، وأفنوا فيها أعمالهم بطلت أيضاً، وصارت في الجزء: 11 ¦ الصفحة: 364 أعظم الموجبات لعذابهم، ولا شك أنَّه يعظم حسرتهم وندامتهم ولذلك قال: {هُوَ الضلال البعيد} . قوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله خَلَقَ السماوات والأرض بالحق} الآية لما بين بطلان أعمالهم بسبب كفرهم، وإعراضهم عن قبول الحق، وأنَّ الله تعالى لا يبطل أعمال المخلصين ابتداءً، وكيف يليق بالححكمةم أن يفعل ذلك والله تعالى ما خلق هذا العالم إلا لرعاية الحكمة والصواب؟ قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ} قرأ أبو عبد الرحمن رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: بسكون الراء، وفيه وجهان: أحدهما: أنه أجرى الوصل مُجْرَى الوقف. والثاني: أنَّ العرب حذفت لام الكلمة عند عدم الجازم، فقالوا: «ولوْ تَرَ مَا الصِّبْيَان» فلما دخل الجازم تخيلوا أنَّ الراء محل الجزم، ونظيره «لَمْ أبَلْ» فإن أصله: أبالِي، ثم حذفوا لامه رفعاً، فلمَّا جزموه لم يعتدوا بلامه، وتوهموا الجزم في اللام، والرُّؤية هنا قلبية ف «أنَّ» في محل المفعولين، أو أحدهما على الخلاف. وقرأ الأخوان هنا: « (خالق السماوات والأرض) » خَالِقُ «اسم فاعل مضاف لما بعده فلذلك خفضوا ما عطف عليه، وهو» الأرض «، وفي» النور «:» خالقُ كُلِّ دابّةٍ « [أية: 45] اسم فاعل مضاف لما بعده، والباقون:» خَلَقَ «فعلاً ماضياً، ولذلك نصبوا:» الأرْضَ «و {كُلَّ دَآبَّةٍ} [النور: 45] وكسر» السَّمواتِ «في قراءة الأخوين خفض، وفي قراءة غيرهما نصب، ولو قيل: في قراءة الأخوين: يجوز نصب» الأرْضَ «على أحد وجهين، إمَّا على المحمل وإمَّا على حذف التنوين لالتقاء الساكنين، فتكون» السَّموات «منصوبة لفظاً وموضعاً لم يمتنع ولكن لم يقرأ به. و» بِالحقِّ «متعلق به» خَلَقَ «على أنَّ الباء سببيَّة، أو بمحذوف على أنَّها حالية إمَّا من الفاعل، أي: محقَّا، أو من المفعول، أي: متلبسة بالحق. قوله» بالحَقِّ «تقدم نظيره في يونس {مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق} [يونس: 5] أي: لم يخلق ذلك عبثاً بل لغرض صحيح. قم قال عزَّ وجلَّ {إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} والمعنى: من كان قادراً على خلق السموات والأرض بالحق، فبأن يقدر على [إفناء] قوم إماتتهم وعلى أيجاد آخرين الجزء: 11 ¦ الصفحة: 365 أولى؛ لأنَّ القادر على الأصعب الأعظم؛ يقدر على الأسهل الأضعف بطريق الأولى. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هذا الخطاب مع كفَّار مكَّة يريد أميتكم يا معشر الكفَّار، وأخلق قوماً خيراً منكم وأطوع منكم. {وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ} أي: ممتنع لما ذكرنا من الأولوية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 366 قوله: {وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً} الآية لما ذكر عذاب الكفار وبطلان أعمالهم ذكر هنا كيفية حجتهم عند تمسك أتباعهم، وكيفية افتضحاهم عندهم. و «بَرَزَ» معناه في اللغة: ظَهَرَ بَعْدَ الخفاءِ، ومنه يقال للمكانِ الواسع البرَازُ لظهوره. وقيل: في قوله تعالى: {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} [الكهف: 47] أي: ظاهرة لا يسترها شيء وامْرأةٌ بَرْزَةٌ: إذا كانت تعظهر للنَّاس، ويقال: فلانٌ برز على أقرانه، إذا فاقهم وسبقهم، وأصله في الخيل إذا سبق أحدهما قيل: بَرَزَ عَليْهَا كأنَّهُ قد خرج من غُمارها. وورد بلفظ الماضي وإن كان معناه الاستقبال؛ لأنَّ كل ما أخبر الله عنه فهو حقٍّ وصدق، فصار كأنه قد حصل، ودخل في الوجود، كقوله تعالى: {ونادى أَصْحَابُ النار} [الأعراف: 50] . فصل البُرُوزُ في اللغة قد تقدَّم أنه بمعنى الظُّهور بعد الاستِتَارِ وهذا في حق الله محالٌ، فلا بد من التأويل، وهو من وجوه: الأول: أ، هم كانوا يستترون من الغير عند ارتكاب الفواحش ويظنون أن ذلك يخفى على الله تعالى فإذا كان يوم القيامة انكشفوا عند الله تعالى وعلموا أن الله لا يخفى عليه خافية. والثاني: أنَّهم خرجوا من قبورهم، فبرزوا لحساب الله تعالى قالت الحكماءُ: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 366 إنَّ النفس إذا فارقت الجسد فكأنه زال الغطاء، وبقيت متجردة بذاتها عارية عن كل ما سواها وذلك هو البروز لله تعالى. ثم حكى أن الضعفاء يقولون للرؤساء «إنّا كنا لكم تعباً» أي: إنما اتبعناكم لهاذ اليوم «فَهلْ أنتُم مُّغنُونَ» دافعون: {عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ} . و «تَبَعاً» يجوز أن يكون جمع تابع، كخَادِم وخَدَم، وغَائِب وغَيَب ونَافِر ونَفَر، وحَارِس وحَرَس، ورَاصِد ورَصَد. ويجوز أن يكون مصدراً، نحو: قَوْمٌ عَدْلٌ، ففيه التأويلات المشهورة. قوله: {مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ} في «مِنْ» و «مِنْ» [أربعة] أوجه: أحدها: أنَّ «مِنْ» الأولى للتبيين، والثانية للتبعيض، تقديره: مغنون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب اله، قاله الزمشخريُّ. قال أبو حيان: هذا يقتضي التقديم في قوله: «مِنْ شيءٍ» علتى قوله: «من عذاب الله؛ لأنه جعل» من شيء «هو المبين بقوله:» من عذاب الله «و» من «التبيينية مقدم عليها ما تبينه ولا يتأخر. قال شهاب الدِّين: كلام الزمخشري صحيح من حيث المعنى؛ فإن» من عذاب الله «لو تأخر عن» شيء «كان صفة له، ومبيناً، فلما تقدم انقلب إعرابه من الصفة إلى الحال، وأما معناه وهو البيان فباق لم يتغير. الثاني: أن يكونا للتبعيض معاً، بمعنى: هل أنتم مغنون عنا بعض شيء هو بعض عذاب الله؛ أي: بعض بعض عذاب الله، قاله الزمخشري. قال أبو حيان: وهذا يقتضى أن يكون بدلاً، فيكون بدل عام من خاص، وهذا لا يقال؛ فإن بعضيه الشيء مطلقة، فلا يكون لها بعض. قال شهاب الدين: لا نزاع أنه يقال: بعض البعض، وهي عبارة متداولة، وذلك البعض المتبعض هو كل لأبعاضه بعض لكله، وهذا كالجنس المتوسط، هو نوع لما فوقه، جنس لما تحته. الثالث: أن «مِنْ» في «مِنْ شَيءٍ» مزيدة، و «مِنْ» في «مِنْ عذابِ» فيها وجهان: أحدهما: أن تتعلق بمحذوف؛ لأنها في الأصل صفة ل «شيء» فلما تقدمت نصبت على الحال. والثاني: أنها تتعلق بنفس «مغنون» على أن يكون «من شيء» واقعاً موقع المصدر، أي: غناء، ويوضح هذا ما قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى قال: و «من» زائدة أي شيئاً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 367 كائناً من عذاب الله سبحانه وتعالى، ويكون محمولاً على المعنى، تقديره: هل تمنعون عنا شيئاً؟ ويجوز أن يكون «شيء» واقعاً موقع المصدر، أي غناء، فيكون «من عذاب الله» متعلقاً ب «مغنون» ، و «من» في «من شيء» لاستغرق الجنس زائدة للتوكيد. فصل هذه التعبية يحتمل أن يكون المراد منها التعبية في الكفر، ويحتمل أن يكون المراد منها التعبية في أحوال الدنيا، فعند ذلك قال الذين استكبروا للضعفاء: «لو هدانا الله لهديناكم» قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: معناه لو أرشدنا الله لأرشدناكم. قال الواحدي: معناه أنهم إنما دعوهم إلى الضلال؛ لأن الله تعالى أضلهم فلم يهدهم، فدعوا أتباعهم إلى الضلال، ولو هداهم لدعوهم إلى الهدى. قال الزمخشري: لعلهم قالوا ذلك مع أنهم كذبوا فيه، ويدل عليه قوله تعالى حكاية عن المنافقين: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ} [المجادلة: 18] . واعلم أن المعتزلة لا يجوزون صدور الكذب على أهل القيامة، فكان هذا القول منه مخالفاً لأصول مشايخة، فلا يقبل. وقال الزمخشري: يجوز أن يكون المعنى: لو كنا من أهل اللطف، فلطف بنا ربنا فهدانا إلى الإيمان لهديناكم إلى الإيمان. وذكر القاضي هذا الوجه وزيفه بأن قال: لا يجوز حمل هذا على اللطف؛ لأن ذلك قد فعله الله تعالى. وقيل: لو خلصنا الله من العذاب، وهدانا إلى طريق النجنة، لهديناكم؛ بدليل أن هذا هو الذي التمسوه وطلبوه. قوله: {سَوَآءٌ عَلَيْنَآ} إلى آخره فيه قولان: أحدهما: أنه من كلام المستكبرين. والثاني: أنه من كلام المستكبرين والضعفاء معاً، وجاءت كل جملة مستقلة من غير عاطف دلالة على أن كلاًّ من المعاني مستقل بنفسه كافٍ في الإخبار، وقد تقدَّم الكلام في التسوية والهمزة بعده في أول البقرة. والجَزَعُ: عدمُ احتمالِ الشدَّة، قال امرؤ القيس: [الطويل] 3206 - جَزِعْتُ ولَمْ أجْزَعْ مِنَ البيْنِ مَجْزَعاً ... وعَزَّيْتُ قلْباً بالكَواعِبش مُولعَا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 368 وقال الراغب: «أصل الجَزْعِ: نقطعُ الحَبْلِ، يقال: جَزعْتهُ فانْجَزعَ ومنه: جِزْعُ الوادي لمنقطعة، ولانقطاع اللون بتغيره. وقيل للخرز المتلون: جِزْع، واللحم المُجَزَّعُ: ما كان ذا لونين والبسرة المجزعة: أن تبلغ الأرطاب نصفها، والجَاذِعُ: خشبة تجعل في وسط لبيت فتلقى عليها رؤوس الخشب من الجانبين، وصور الجزعة لما حمل عليه من العبء أو لقطعه بطوله وسط البيت» . والجَزَع أخص من الحزن، فإن الجزع حزنٌ يصرف الإنسان عما هو بصدده. والمَحِيصُ: يكون مصدراً كالمَغِيب والمَشِيب، ويكون اسم مكان، كالمَبِيت والمَضِيق ويقال: حَاصَ عنه وحَاضَ بمعنى واحد، ويقال: خاض بالضاد المعجمة، وجصنا بها بالجيم. والمعنى: مالنا من ملجأ ولا مهرب. فقام إبليس عند ذلك فخطبهم فقال {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} . قوله: {وَعْدَ الحق} يجوز أن يكون من باب إضافة الموصوف الصفته، كقوله تعالى: {وَحَبَّ الحصيد} [ق: 9] ومسجد الجامع، أي: الوعد الحق، وأن يراد ب «الحقِّ» صفة الباري تعالى، أي: وعدكم الله وعده الحق، وأن يراد ب «الحَقِّ» البعث، والجزاء على الأعمال، فتكون إضافة صريحة. وقيل: وعدكم الحق ثمَّ ذكر المصد تأكيداً، وفي الكلام إضمارٌ من وجهين: الأول: التقدير: أن الله وعدكم وعد الحق فصدقكم ووعدتكم فأخلفتكم وحذف لدلالة الحال على صدق ذلك الوعد؛ يقتضي مفعولاً ثانياً، وحذف للعلم به تقديره: ووعدتكم أن لا جنّة، ولا نار، ولا حشر، ولا حساب. فصل لما [ذكر] الله سبحانه وتعالى المناظرة التي وقعت بين الرؤساء والأتباع أردفها بالمناظرة التي وقعت بين الشيطان وأتباعه فقال: {وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر} قال المفسرون: إذا استقر أهلُ الجنَّة في الجنَّة، وأهل النَّار في النَّار أخذ أهل النار في لوم إبليس وتقريعه، فيقوم فيما بينهم خطيباً، فيقول: «إنَّ اللهَ وعدَكُمْ وعْدَ الحقِّ ووَعدتُّكُمْ فأخْلفَتُكُمْ» . وقيل: المراد من قوله تعالى: {لَمَّا قُضِيَ الأمر} أي: لما انقضت المحاسبة والمراد من الشيطان: إبليس لعنه الله! . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 369 قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} أي: قدرة وتسلط، وقهر فأقهركم على الكفر والمعاصي. قوله: {إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ} فيه وجهان: أظهرهما: أنه استثناء منطقع؛ لأنَّ دعاءه ليس من جنس السُّلطان، وهو الحجة البينة فهو كقولكم: ما تَحِيَّتُم إلاَّ الضرب. والثاني: أنه متصل؛ لأن القدرة على حمل الإنسان على الشر تارة تكون بالقهر وتارة بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوسوسة في قلبه، فهو نوع من التسلُّط. وقرىء «فَلا يَلُومُونِي» بالياء من تحت الالتفات، كقوله تعالى: {حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم} [يونس: 22] . ظاهر هذه الآية يدل على أن الشيطان لا قدرة له على صرع الإنسان وتعويج أعضائه وجوارحه وإزالة عقله كما يقوله العوام. ومعنى الآية: ما كان مني إلا الدعاء والوسوسة وأنتم سمعتم دلائل الله وشاهدتم مجيء أنبياء الله؛ فكان من الواجب أن لا تغتروا بقولي، ولا تلتفتوا إليَّ، فملا رجحتم الوسوسة على الدلائل الظاهرة كان اللََّوم عليكم لا عليَّ. قالت المعتزلة: هذه الآية تدل على أشياء: أحدها: أنه لو كان الكفر والمعصية من الله تعالى لوجب أن يقال: فلا تلوموني ولا تلوموا أنفسكم فإنَّ الله تعالى قضى عليكم بالكفر، وأجبركم عليه. والثاني: أن ظاهر هذه الآية يدلُّ على أنَّ الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان، ولا على تعويج أعضائه وإزالة عقله. والثالث: يدل على أنَّ الإنسان لا يجوز لومه، وذمه، وعقابه بسبب فعل الغير، وعند هذا يظهر أنه لا يجوز عقاب أولاد الكفار بسبب كفر آبائهم. وأجاب بعضهم عن هذه الوجوه: بأن هذا قول الشيطان، فلا يجوز التمسك به. وأجاب الخصم عنه: بأنه لو كان هذا الوقل منه باطلاً لبينه الله تعالى وأظهر إنكاره، فلا فائدة من ذلك اليوم في ذكر الكلام الباطل، والقول الفاسد. ألا ترى أن قوله: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ} كلام حق، وقوله {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} قول حق بدليل قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين} [الحجر: 42] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 370 قال ابن الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: دلت هذه الآية على أنَّ الشيطان [الأصلي] هو النفس؛ لأن الشيطان بين أنَّه ما أتى إلاَّ بالوسوسة، فلولا الميل الحاصل بسبب الشهوة، والغضب، والوهم، والخيال لم يكن لوسوسته تأثير ألبتَّة، فدل على أنَّ الشيطان الأصلي هو النفس. فإن قيل: لِمَ قال الشيطان: «فَلا تَلُومونِي ولُومُوا أنْفُسكمْ» وهو ملوم بسبب وسوسته؟ . فالجواب: أراد لا تلوموني على فعلكم: «ولوموا أنفسكم» عليه؛ لأنكم عدلتم عما توجه من هداية الله تعالى لكم. قوله تعالى: {مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} العامَّة على فتح الياءِ؛ لأ، الياء المدغم فيها تفتح أبداً، لاسيما وقبلها كسرتان. وقرأ حمزة بكسرها، وهي لغة بني يربوع، وقد اضطربت أقوال النَّاسِ في هذه القراءة اضراباً شديداً، فمن مجترىء عليها، ملحن لقارئها، ومن مجوِّز لها من غير ضعف قال: إنَّها لغة بني يربوع، والأصل: بمُصرخينَ لي [فحذفت] النون للإضافة وأدغمت ياء الجماعة في ياء الإضافة، ومن مجوِّز لها بضعف. قال حسين الجعفيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: سألت أبا عمرو عن كسر الياء؛ فأجازه وهذه الحكايةُ تحكى عنه بطرق كثيرة منها ما تقدَّم. ومنها: سألت أبا عمرو، قلت: إنَّ أصحاب النحو يلحنوننا فيها، فقال: هي جائزة عن القرآن، فوجته به عالماً، فسألته عن شيء قرأ به الأعمش، [واستقرأ] به: {وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} بالجر، فقلا: هي جائزة، فلما أجازها وقرأ بها الأعمش أخذت بها. وقد أنكر أبو حاتم على أبي عمرو تحسينه لهذه القراءة، ولا التفات إليه؛ لأَنَّه علم من أعلام القرآن، واللغة، والنحو، واطلع على ما لم يطلع عليه من فوق السجستاني: [البسيط] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 371 3207 - وابْنُ اللَّبُونِ إذا ما لُزَّ في قَرنٍ ... لمْ يَسْتطِعْ صَوْلشةَ البُزْلِ القَناعِيسِ ثم ذكر العلماؤ في ذلك التوجيهات: منها: أن الكسر على أصل التقاء الساكنين، وذلك أنَّ ياء الإعراب ساكنة وياء المتكلم أصلها السُّكون، فلما التقيا كسرت؛ لالتقاء الساكنين. الثاني: أنها تشبه هاء الضمير في أنَّ كلاًّ منهما ضمير على حرف واحد و «هاء» الضمير توصل بواو إذا كانت مضمومة، وبياء إذا كانت مكسورة، وتكسر بعد الكسرة والياء ساكنة؛ فتكسر كما تكسر الهاء في: «عَليْهِ» ، وبنو يربوع يصلونها بياء كما يصل ابن كثير نحو « عليهي» بياء، فحمزة كسر هذه الياء من غير صلة، إذ أصله يقتضي عدمها. وزعم قطربٌ أنها لغة بني يربوع. قال: يزيدون على ياء الإضافة ياء؛ وأنشد: [الرجز] 3208 - مَاضٍ إذَا ما هَمَّ بالمُضِيِّ ... قَال لهَا: هَلْ لَكِ يَا تَفِيِّ وأنشده الفراء وقال: فإن يك ذلك صحيحاً، فهو مما يلتقي من السكانيني فنخفض الآخر منها. وقال أبو علي: قال الفرَّاءُ في كتاب التصريف له: زعم القاسم بن معنٍ أنه صواب، وكان ثقة بصيراً. وممن طعن عليها أبو إسحاق قال: هذه القرءاة عند جميع النحويين رديئةٌ مرذولة، ولا وجه لها إلا وجه ضعيف. وقال أبو جعفر: «صار هذا إدغاماً، ولا يجوز أن يحمل كتاب الله عزَّ وجلَّ على الشذوذ» . وقال الزمخشري: هي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول: [الرجز] 3209 - قَال لهَا: هَلْ لكِ يَا تَافيِّ ... قالتْ لهُ: مَا أنْتَ بالمَرْضِيِّ وكأن قدر ياء الإضافة ساكنة، وقبلها ياء سكانة فحركها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح؛ لأنَّ ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو: عَصَاي، فما بالها وقبلها ياء؟ . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 372 فإن قلت: جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام، فكأنها ياء وقعت بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل. قلت: هذا قياس حسنٌ، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات. قال أبو حياان رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: «أما قولهن: واستشهدوا لها ببيت مجهول، فقد ذكر غيره أنه للأغلب العجلي، وهي لغة باقية في أفواه كثير من النَّاس إلى اليوم، يقولون: ما فيِّ أفعلُ كذا بكسر الياء» . قال شهابُ الدِّين: الذي ذكره صاحب هذا الرجز هو الشيخ أو شامة قال ورأيته أنا في أوَّل ديوانه، وأول هذا الرجز: 3210 - أقْبَلَ فِي ثَوْبٍ مَعَافِريِّ ... عِنْدَ اختلاطِ اللَّيْلِ والعَشِيَّ ثم قال أبوة حيان: «وأما التقدير الذي ذكره فهو توجيه الفراء نقله عن الزجاج وأما قوله: في غضون كلامه حيثُ قبلها ألف، فلا أعلم» حيث «يضاف إلى الجملة المصدرة بالظرف، نحو:» قعد زيد حيث أمام عمرو بكر، فيحتاج هذا التركيب إلى سماع «. قال شهابُ الدين رَحِمَهُ اللَّهُ:» إطلاق النحاة قولهم: إنها تضاف إلى الجمل كاف في هذا، ولا يحتاج تتبع كلَّ فرد فرد مع إطلاقهم القوانين الكلية «. ثم قال: وأما قوله: لأن ياء الإضافة إلى آخره، قد روي بسكون الياء بعد الألف، وقد قرأ بذلك القراء، نحو: {وَمَحْيَايَ} [الأنعام: 162] . قال شهاب الدين: مجيء السُّكون في هذه الياء لا يفيده ههنا، وإنَّما كان يفيده لو جاء بها مكسورة بعد الألف فإنهن محل البحث، وأنشد النحاة بيت الذبياني بالكسر والفتح، وهو قوله: [الطويل] 3211 - عَليَّ لِعمْرٍو نِعْمةٌ بَعْندَ نِعْمةٍ ... لِوالِدهِ ليْسَتْ بِذاتِ عَقارِبِ وقال الفراء في كتاب» المَعانِي «له:» وقد خفض الياء من «مصرخي» الأعمش الجزء: 11 ¦ الصفحة: 373 ويحيى بن وثاب جميعاً حدّثني بذلك القاسم بن معنٍ عن الأعمش، ولعلها من وهنم القراء فِإنه قلَّ من سلم منهم من الوهم، ولعله ظن أنَّ الياء في {بِمُصْرِخِيَّ} خافضة للفظ كله، والياء للمتكلم خارجة عن ذلك؟ قال: ومما [نرى] أنهم وهموا فيه قوله {نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ} [النساء: 115] بالجزم في الهاء «، ثمَّ ذكر غير ذلك. وقال أبوعبيدٍ: أمَّا الخفض فإنا نراه غلطاً؛ لأنَّهم ظنوا أنَّ الياء تكسر كل ما بعدها، وقد كان في القراء من يجعله لحناً، ولا أحبُّ أن أبلغ به هذا كله، ولكن وجه القراءة عندنا غيرها. وقال الأخفش:» ما سمعت بهذا من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين «. قال النحسا: فصار هذا إجماعاً، ولا يجوز، فقد تقدَّم ما حكاهُ النَّاس من أنها لغة ثابتة لبعض العرب. وقد انتدب لنصرة هذه القراءة أبو علي الفارسي قال في حجَّته:» وجه ذلك أن الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع نصب أو جر، فالياء في النصب والجر كالهاء فيهما وكالكاف في «أكْرَمْتُكَ» وهذا لك، فكما أنَّ الهاء قد لحقها الزيادة في «هذال لهو، وضربهو» ، ولحق الكاف أيضاً الزيادة في قول من ق ل: «أعْطَاكهُ» و «أعْطَيْتكَهُ» فيما حكاهُ سيبويه وهما أختا الياء، ولحقت الياء الزيادةم في قول الشاعر: [الهزج] 3212 - ، رَمَيْتِيهِ فأصْمَيْتِ ... ومَا أخْطَأتِ [في] الرَّميَه كذلك الحقوا الياء الزائدة من المد، فقالوا: فيِّ، ثمَّ حذفت الياء الزائدة على الياء كما حذفت الزيادة من الهاء في قول من قال: [الطويل] 3213 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... ... ... ... ... ... ... . . لَهْ أرِقَانِ وزعم أبو الحسن: أنَّها لغة «. ومراد أبي علي بالتنظير بالبيت في قوله:» له أرِقَانِ «حذف الصلة، واتفق أن في البيت أيضاً حذف الحركمة ولو مثل بنحو» عَليْهِ «و» فِيهِ «لكان أولى. ثمَّ قال الفارسي: كما حذفت الزيادة من الكاف فقيلك أعطيتكه، وأعطيتكيه كذلك حذفت الياء اللاحقة للياء كما حذفت من أختها، وأقرت الكسرة التي كانت تلي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 374 الياء المحذوفة فبقيت الياء على ما كانت عليه من الكسرِ. قال\: فإذا كانت الكسرة في الياء على هذه اللغةِ، وإن كان من غيرها أفشى منها، وعضده من القياس ما ذكرنا ما لم يجز. لقائل أن يقول: إنَّ القراءة بذلك لحن، [لاستقامة] ذلك في السَّماع والقياس، وما كان كذلك لا يكون لحناً، وهذا [التوجيه] يوضح التوجيه الثاني الذي تقدَّم ذكره، وأما التوجيه الأول فأوضحه الفراء أيضاً. قال الزجاج:» أجاز الفراء على وجه ضعيف الكسر؛ لأن أصل التقاء السكانين الكسر «. قال الفراء:» ألا ترى أنهم يقولون: مذُ اليوم، ومُذِ اليوم، والرفع في الذال هو الوجه؛ لأنه أصل حركة «مُذْ» والخفض جائز، فكذلك الياء من «مُصرخِيِّ» خفضت ولها أصل في النصب «. قال شهاب الدين: تشبيه الفراء المسألة ب» مُذُ اليَوْم «فيه نظر؛ لأن الحرف الأول صحيح لم يتوالى قبله كسر، بخلاف ما نحن فيه، وهذا هو الذي عناه الزمخشريُّ قوله المتقدم: فكأنَّها وقعت فبعد حرف صحيح، وقد اضطرب النقل عن الفراء في هذه المسألة كما ترى من [نقل] بعضهم عنه، التخطئة مرة [والتصويب] أخرى، ولعل الأمر كذلك فإنَّ العلماء يسألون فيجيبون مما يحضرهم حال السؤال، وهني مختلفة التوجيه. الثالث: أن الكسر للإتباع لما بعدها، وهو كسر الهمزة من» إنِّي «كقراءة» الحَمْدِ للهِ «وكقولهم: بِعِير وشِعِير، وشِهِيد، سكر أوائلها إتباعاً لما بعدها وهو ضعيف جدًّا. التوجيه الرابع: أنَّ المسوغ لهذا الكسر في الياء، وإن كان مستقلاً أنها لما أدغمت فيها التي قبلها قويت بالإدغام، فأشبهت الحروف الصحاح فاحتملت الكسر لأنه إنما يستثقل فيها إذا حذفت، وانكسر ما قبلها، ألا ترى أن حركات الإعراب تجري على المشدد، ما ذاك إلا إلحاقه بالحروف الصحاح. والمُصْرِخ: المُغِيثُ: يقال: استصرختُه فأصرخني، أي: فأغَاثِني فكأن همزة للسكت، أي: أزَالَ صُراخِي. والصَّارخُ: هو المُسْتَغِيثُ، قال: [الطويل] 3214 - فَلاَ تَجْزَعُوا إنِّي لَكُمْ غَيْرُ مُصْرِخٍ ... ولَيْسَ لَكُمْ عِنْدِي غَنَاءُ ولا نَصْر ويقال: صَرَخَ يَصْرخُ صَرْخاً وصرخة؛ قال: [البسيط] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 375 3215 - كُنَّا إذَا مَا أتَانَا صَارِخٌ فَزِعٌ ... كَانَ الصُّرَاخُ لَهُ قرْعَ الظَّنَابِيبِ يريد: كان [الصراخ] ، فحذف المضاف، وأقام المصدر الثلاثي مقام المصدر الرباعي، نحو {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] . والصَّريخُ: القومُ المُسْتَرخُونَ، قال: [الكامل] 3216 - قَوْمٌ إذَا سَمِعُوا الصَّريخَ رأيْتهُمْ ... مَا بَيْنَ مُلْجمِ مُهرهِ أو سَافِعِ والصَّريخُ: أيضاً: المعينون، فهو من الأضداد، وهو محتملٌ أن يكون [وصفاً] على «فَعِيل» كالخليطِ، وأن يكو مصدراً في الأصل، قال «فَلا صَريخَ لَهُمْ» ، فهذا يحتمل، وأن يكون فعيلاً بمعنى المفعل، أي: فلا مُصْرِخَ لهم، أي: ناصر وتصرَّخَ تكلَّف الصُّراخ. قوله: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} يجوز في «ما» وجهان: [أحدهما: أن يكون بمعنى الذي، ثمَّ في المراد بعد الموصول وجهان:] أحدهما: أنه الأصنام، تقديره: بالصَّنم الذي أشركتموني به، أي: بالصنم الذي «اطعتموني كما أطعتموه، كذا قال أبو البقاء، والعائد محذوف، فقدره أبو البقاء: بما أشركتموني به، ثم حذف يعني بعد حذف الجار، ووصول العفل إليه، ولا حاجة إلى تقديره مجروراً بالياء؛ لأن هذا الفعل متعدّ لواحد، نحو: شركتُ زيداً، فلما دخلت همزة الفعل أكسبته ثانياً، هو العائد، تقول: أشْرَكْتُ زيْداً عَمْراً، أي جعلتهُ شريكاً له. الثاني: أنه الباري تعالى، أي: بما أشركتموني به، أي: بالله تعالى. قال القرطبي: المعنى: أن إبليس قال: إني كفرت بالله الذي أشركتموني به من قبل كفركم، أي: أنَّ كفره كان قبل كفر أتباعه، وتكون» مَا «بمعنى» مَنْ «والكلام في العائد كما تقدَّم، إلا أن فيه إيقاع» مَا «على العاقل والمشهور أنَّها لغير العاقل. قال الزمخشري:» ونحو «مَا» هذه «مَا» في قوله: «سُبْحانَ مَا سخَّركُنَّ لنَا» ومعنى إشراكهم الشيطان بالله تعالى طاتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان «. قال أبو حيان:» ومن منع ذلك جعل سبحان هنا علماً على معنى التَّسبيح، كما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 376 جعل «برَّة» علماً للمبرة، و «ما» مصدرية ظرفية «، أي: فيكون على حذف مضاف أي: سبحان صاحب تسخيركن؛ لأن التسبيح لا يليقُ إلا بالله عزَّ وجلَّ. . الوجه الثاني: أن» ما «مصدرية، اي: بإشراككم إياي مع الله، لي الطاعة. قوله» مِنْ قَبْلُ «متعهلق ب» كَفرْتُ «على القول الأوَّل؛ أي كفرت من قبل حين أبَيْتُ السجود لآدم عليه السلام بالذي أشركتموني وهو الله سبحانه وتعالى، وب» أشْرَكْتُ «على الثاني، أي: كفرت اليوم بإشراككم إيَّاي من قبل هذا اليوم أي: في الدنيا، كقوله {وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} [فاطر: 14] ، هذا قول الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ. وجوَّز أبو البقاء متعلقه ب» كَفرْتُ «وب» أشْرَكْتمُونِي «من غير ترتيب على كون:» مَا «مصدرية أوموصولة. فقال: و «مِنْ قَبْلُ» متعلق ب «أشْرَكْتمُونِي» ، أي: كفرت الآن بما أشركتموني من قبل. وقيل: هي متعلقة ب «كَفرْتُ» أي: كفرت من قبل إشراككم، فلا أنفعكم شيئاً. وقرأ ابو عمرو بإثبات الياء في «أشْرَكْتمُونِي» وصلاً، وحذفها وقفاً، وحذفها الباقون وصلاً ووقفاً، وهنا تم كلام الشيطان. وقوله {إِنَّ الظالمين} من كلام الله تعالى، ويجوز أن يكون من كلام الشيطان. و «عَذابٌ» يجوز رفعه بالجار قبله على أنَّه الخبر، وعلى الابتداء وخبره الجار. قوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية لما شرح حال الأشقياء شرح أحوال السُّعداءِ فقال، عزَّ وجلَّ {وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ} قرأ العامة «أدْخِلَ» ماضياً مبنياً للمفعول، والفاعل الله أو الملائكة. وقرأ الحسن وعمرو بن عبيد: «أدخلُ» مضارعاً مستنداً للمتكلم وهو الله تعالى فمحل الموصول على الأولى رفع، وعلى الثانية نصبٌ. قوله: {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} في قراءة العامة يتعلق ب «أدْخِلَ» أي: أدخلوا بأمره، وتيسيره. ويجوز تعلقه بمحذوف على أنَّه حال، أي: ملتبسين بأمر ربهم. وجوز أبو البقاء ِأن يكون من تمام: «خَالِدينَ» يعني: أنه متعلق به، وليس بممتنع، وكذا على قراءة الشَّيخين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 377 فقال الزمخشريُّ: فإن قلت: «فَبِمَ يتعلَّق في القراءةِ الأخرى، وقولك: وأدخل أنا بإذن ربهم كلام غير ملتئم؟ . قلت: الوجه في هذه القراءة أنَّه يتعلق بما بعده، أي: تحيتهم فيها سلام بإذنِ ربهم» . ورد عليه أبو حيَّان هذا بأنه لا يتقدم معمول المصدر عليه. وقد علقه غير الزمخشريِّ ب «أدْخِلَ» ، ولا تنافر في ذلك؛ لأنَّ كلَّ أحد يعلم أنَّ المتكلم في قوله: «وأدْخِلَ» أنه هو الله تعالى. وأحسن من هذين أن يتعلق بما بعده، أي: تحيتهم فيها سلامٌ بإن ربهم ورد في هذه القراءة بمحذوف على أنَّه حال كما تقدَّم تقديره. و «تَحِيَّتُهُمْ» مصدر مضاف لمفعوله، أي: يحييهم الله تعالى، أو ملائكته، ويجوزم أن يكون مضافاً لفاعله، أي: يحيى بعضهم بعضاً. ويعضد الأول {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23، 24] و {فِيهَا} متعلق به. فصل أعلم أنَّ الثَّواب منفعة خالصة دائمة مقرونة بالتعظيم، فأشار بقوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} إلى المنفعة الخالصة واشار بقوله: {خَالِدِينَ فِيهَا} إلى دوامها، وأشار إلى كونها مقرونة بالتعظيم بقوله {بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي: بإذن الله وأمره، وبقوله عزَّ وجلَّ {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} [يونس: 10] أي: أنهم يحيى بعضهم بعضاً بهذه الكلمة، أو الملائكة يحيونهم بها، كما قال تعالى: {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم} [الرعد: 23، 24] والرَّب الرحيم أيضاً يحييهم [بهذه الكلمة] {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} [يس: 58] والسلام مشتقش من السلامة، أي: أنهم سلموا من آفات الدنيا آمنوا من أمرضها وأسقامها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 378 قوله تعالى: {ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ الله مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ} لما شرح الجزء: 11 ¦ الصفحة: 378 أحوال الأشقياء، وأحوال السعداء ذكر مثالاً للقسمين وف «ضَرَبَ» أوجه: أحدها: أنه متعد لواحد بمعنى اعتمد مثلاً ووضعه، و «كَلِمةً» على منصوبة بمضمر، أي: جعل كلمة طيبة كشجرة طييبة، وهو تفسير لقوله: «ضَربَ اللهُ مَثلاً» كقولك: شَرفَ الأمير زيْداً كَساهُ حُلَّةً، وحلمه على ضربين، وبه بدأ الزمخشريُّ. قال أبو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ: «وفيهن تكلف إضمار، ولا ضرورة تدعو إليه» . قال شهاب الدين: «بل معناه محتاج إليه فيضطر إلى تقديره محافظة على لمح هذا المعنى الخاص» . الثاني: أنَّ «ضَرَبَ» متعدية لاثنين؛ لأنها بمعنى «صَيَّرَ» لكن مع لفظ المثل خاصة، وقد تقدَّم تقرير هذا أوَّل الكتاب، فيكون «كَلمَةٌ» مفعولاً أولا، و «مَثلاً» هوالثاني مقدم. الثالث: أنَّه متعدٍّ لواحد، وهو «مَثَلاً» ، و «كَلمَةً» بدل منه، و «كَشجَرةٍ» خبر مبتدأ مضمر، أي: هي كشجرة طيبة وعلى الوجهين قبله يكون «كَشجَرةٍ» نعتاً ل: «كَلِمَةً» . وقرىء «كَلِمةٌ» بالرفع، وفيه وجهان: أحدهما: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو، أي: المثل كلمة طيبة، ويكون «كَشجَرة» على هذا نعتاً ل «كَلِمَةٍ» . والثاني: أنَّها مرفوعة بالابتداء، و «كَشجَرةٍ» خبر. وقرأ أنس بن مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «ثَابِتٌ أصْلُهَتا» . قال الزمخشريُّ: فِإن قلت: أي فربق بين القراءتين؟ قلت: قراءة الجماعة أقوى معنى؛ لأنَّ قراءة أنس أجرت الصفة على الشجرة، ولو قلت: مررتُ برجُلٍ أبُوهُ قَائِمٌ، فهو أقوى من «رَجُل قَائِم أبوهُ» ؛ لأنَّ المخبر عنه إنَّما هو الأب، لا «رجل» . والجملة من قوله: «أصْلُهَا ثَابتٌ» في محلِّ جرٍّ نعتاً ل «شَجَرةٍ» . وكذلك «تُؤتِي أكلها» ويجوز فيهما أن يكونا مستأنفين، وجواز أبو البقاء في «تُوتِي» أن يكون حالاً من معنى الجملة التي قبلها، أي: ترتفع مؤتية أكلها، وتقدم الخلاف في «أكُلَهَا» . فصل المعنى: ألم تعلم، والمثل: قول سائر كتشبيه شيء بشيء: «كَلِمة طَيِّبةً» هي قول: لا إله إلا الله «كَشجَرةٍ طَيِّبةٍ» وهي النَّخلةُ يريد: كشجرة طيبة الثمر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 379 وقال أبو ظيبان عن ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هي شجرة في الجنَّة أصلها ثابت في الأرض، وفرعها أعلاها في السماء، كذلك أصل هذه الكلمة راسخ في قلب المؤمن بالمعرفة، والتصديق، فإذا تكلَّم بها عرجت، فلا تحجب حتى تنتهي إلى الله عزَّ وجلَّ قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10] . ووصف الشجرة بكونها طيبة وذلك يشمل طِيبَ الصورة والشكل والمنظر، والطعم، والرائحة والمنفعة ويكون أصلها ثابت، اي: راسخٌ آمن من الانقطاع، والزوال ويكون فرعها في السماء؛ لأن ارتفاع الأغصان يدلُّ على ثبات الأصل، وأنَّها متى ارتفعت كانت عبدية عن عفونات الأرض، فكانت ثمارها نقيّة طاهرة عن جميع الشَّوائبِ، ووصفها أيضاً بأنها: «تُؤتِي أكلها كُلَّ حينٍ بإذنِ ربِّها» والحين في اللغة هو الوقت، والمراد أنَّ ثمار هذه الشجرة تكون أبداً حاضرة دائمة في كلِّ الأوقات ولا تكون مثل الأشجار التي تكون ثمارها حضارة في بعض الأوقات دون بعض. وقال مجاهد وعكرمة: والحين: سنة كاملة؛ لأنَّ النخلة تثمر كلَّ سنةٍ. وقال سعيد بن جبير، وقتادة والحسن: ستة أشهر من وقت إطلاعها إلى حين صرامها وروي ذلك عن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. وقيل: أربعة أشهر من حين ظهورها إلى إدراكها. وقال سعيد بن المسيب: شهران من حين أن يؤكل منها إلى الصرام. وقال الربيع بن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كل حين، أي: كل غدوة، وعشية، لأن ثمرة النخل تؤكل أبداً ليلاً ونهاراً صيفاً وشتاء إما تمراً رطباً أو بسراً، كذلك عمل المؤمن يصعد أوَّل النهار وآخره، وبركة إيمانه لا تنطقع أبداً، بل تتصل في كلِّ وقت. والحكمةٌ في تمثيل الإيمان بالشجرة، وهي أن الشجرة لا تكون إلا ثلاثة أشياء: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 380 عِرقٌ رَاسخٌ، وأصلٌ قَائِمٌ، وفَرعٌ عالٍ، كذلك الإيمان لا يتمُّ إلا بثلاثة أشياء: تصديق بالقلب وقول باللسان، وعمل بالأبدان. ثم قال تعالى جل ذكره {وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} والمعنى: أن في ضرب الأمثال زيادة إفهام، وتذكير وتصوير للمعاني. وقوله: {وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ} قرىء بنصب «مثَل» عطفاً على: «مَثلَ» الأوَّلِ. و «اجْتُثَّتْ» «صفة ل» شَجَرَةٍ «، ومعنى:» اجْتُثَّتْ «قلعت جثتها، أي: شخصها والجثة شخص الإنسان قاعداً أو قائماً ويقال: اجتث الشيء أي اقتلعه، فهو افتعال من لفظ الجثة، وجَثَثْتُ الشيء: قلعتهُ. قال لقيط الإيادي: [البسيط] 3217 - هذَا الجَلاءًُ الَّذي يَجْتَثُّ أصْلَكُمُ ... فمَنْ رأى مِثْلَ ذَا يَوْماً ومنْ سَمِعَا وقال الراغب:» جُثَّةٌ الشيء: شخصه النَّاتىء، والمُجَيَّةُ: ما يجثُّ بِهِ والجَثِيثَةُ لما بَانَ جُثَّتهُ بعد طَبْخهِ، والجَثْجَاثُ: نَبْتٌ «. و» مِنْ قرارٍ «يجوز أن يكون فاعلاً بالجار قبله لاعتماده على النَّفي، وأن يكون مبتدأ، والجملة المنفية إمَّا نعت ل» شَجَرةٍ «وإمَّا حال من ضمير:» اجْتُثَّتْ «. فصل في المراد بالشجرة الخبيثة الكلمة الخبيثة هي الشرك:» كَشجَرةٍ خَبِيثةٍ «وهي الحنظلُ وقيل: هي الثوم. وقيل: هي الكشوث وهل العسَّة، وهي شجرةٌ لا ورق لها، ولا عروق في الأرض. [قال الشاعر:] [البسيط] 3218 - ... ... ... ... ... ... ... ... ..... وهيَ كَشُوثٌ فلا أصْلٌ ولا ثَمَر وعن ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنَّها شجرة لم تخلق على وجهِ الأرض. «اجْتُثَّت» اقتلعت من فوق الأرض «مَا لهَا من قرارٍ» ثابت، أي: ليس لها أصلٌ ثابتٌ في الأرض ولا فرع صاعد إلى السماء، كذلك الكافر لا خير فيه، ولا صعد له قولٌ طيب، ولا عمل صالح. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 381 فصل قوله تعالى: {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت} كلمة التوحيد، وهي قوله: لا إله إلا الله {فِي الحياة الدنيا} يعني قبل الموت، {وَفِي الآخرة} يعني في القبر هذا قول أكثر المفسرين. وقيل: {فِي الحياة الدنيا} في القبر عند السؤال {وَفِي الآخرة} عند البعث، والأول أصح، لما روى البراء بن عازب أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «المُسْلِمُ إذَا سُئِلَ في القَبْرِ يَشهَدُ أنَّ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ مُحمَّداً رَسُولُ اللهِ، فذَلِكَ قولهُ سُبحانَهُ {يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة} قال حين يُقالُ لَهُ: مَن ربُّكَ؟ ومَا دِينُكَ؟ ومَنْ نَبيُّكَ؟ فيقول: الله ربِّي، ودينِي الإسلامُ، ونَبِيِّي مُحمَّدٌ» واالمشهور أن هذه الآية وردت في سؤال الملكين في القبر، فيلقّن الله المؤمن لكمة الحق في القبر عند السؤال، ويثبته على الحق. ومعنى «الثَّابِتِ» هو أنَّ الله تعالى إنَّما يثبتهم في القبر لمواظبتهم في الحياة الدنيا على هذا القول. قوله: «بالقَوْلِ» فيه وجهان: أحدهما: تعلقه ب «يُثَبِّتُ» . والثاني: أنه متعلق ب «آمنُوا» . وقوله تعالى: {فِي الحياة} متعلق ب «يُثَبِّتُ» ويجوز أن يتعلق ب «الثَّابتِ» . ثمَّ قال تعالى: {وَيُضِلُّ الله الظالمين} أي: لايهدي المشركين للجواب بالصواب في القبر {وَيَفْعَلُ الله مَا يَشَآءُ} من التوفيق والخذلان والتثبيت، وترك التثبيت. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 382 قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} الآية اعلم أنَّه تعالى عاد إلى وصف الكافرين فقال عَزَّ وَجَلَّ {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ} . قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: {الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} هم والله كفار قريش «بدَّلُوا» أي: غيروا «نعِْمةَ اللهِ» عليم في محمد صلوات الله وسلامه عليه حيث ابتعثه الله الجزء: 11 ¦ الصفحة: 382 منهم كفروا به: «أحَلُّوا» أنزلوا: «قَوْمهُمْ» من على كفرهم: «دَارَ البَوارِ» الهلاك. ثم بيَّن دار البوار فقال: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار} المستقر، وقال عليٌّ: هم كفار قريش نُحروا يوم بدرٍ. وقال عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه هم الأفجران من قريش بنو أمية وبنو [مخزوم] ، فأما بنو أمية فمُتِّعُوا إلى حين، وأما بنو مخزوم، [فأهلكوا] يوم بدر قاله على ابن أبي طالب، وعمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما. وعن ابن عباس وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: نزلت في منتصري العرب جبلة بن الأيهم وأصحابه. وقال الحسنُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هي عامَّة في جميع المشركين. قوله تعالى: {بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} فيه أوجه: أحدها: أن الأصل: بدلوا شكر نعمة الله كفراً، كقوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة: 83] أي شكر رزقكم؛ وجب عليهم الشكر؛ فوضعوا موضعه الكفر. والثاني: أنَّهم بدلوا نفس النعمة كفراً على أنَّهم لما كفروها سلبوها، فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر حاصلاً لهم، قالهما الزمخشريُّ، وعلى هذا فلا يحتاج إلى حذف مضاف، وقد تقدَّم أن «بدَّل» يعتدى لاثنين: أولهما: من غير حرف. والثاني: بالباء، وأن الجمهور هو المتروكم والمنصوب هو الحاصل، ويجوز حذف الحروف فيكون المجرور بالباء هنا هو «نِعْمَةٌ» ؛ لأنها المتروكة. وإذاً عرف أنَّ قول الحوفي، وأبي البقاءِ: أن «كُفْراً» هو المفعولُ الثاني ليس بجيد؛ لأنه هو الَّذي يصلُ إليه الفعل بنفسه لا بحرف الجر، ما كان كذا فهو المفعول الأول. قوله: {جَهَنَّمَ} فيه ثلاثة أوجه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 383 أحدها: أنه بدلٌ من «دَارَ» . الثاني: أنه عطف بيان لها، وعلى هذين الوجهين؛ فالإحلال يقع في الآخرة. الثالث: أن ينتصب على الاشتغل بفعل مقدر، وعلى هذا، فالإحلال يقع في الدُّنيا، لأن قوله: {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا} أي: واقع في الآخرة. ويؤيَّدُ هذا التأويل: قراءة ابن أبي عبلة «جَهَنَّمُ» بالرفع على أنها مبتدأ، والجملة بعده الخبر. وتحتمل قراءة ابن أبي عبلة وجهاً آخر: وهو أن ترتفع على خبر [مبتدأ] مضمر. و «يَصْلونهَا» حال إمَّا من: «قَوْمَهُمْ» ، وإمَّا من «دَارَ» ، وإمَّا من: «جَهنَّمَ» . وهذا التوجيه أولى من حيث إنه لم يتقدم ما يرجح النصب، ولا ما يجعله مساوياً والقراء الجماهير على النصب، فلم يكونوا ليتركوا الأفصح؛ إلا لأنَّ المسألة ليست من الاشتغال في شيء، وهذا الذي ذكرناه أيضاً مرجح لنصبه على البديلة أو البيان على انتصابه على الاشتغال. و «البَوار» : الهلاكُ؛ قال الشاعر: [الوافر] 3219 - فَلمْ أرَ مِثْلهُم أبْطالَ حَربٍ ... غَداةَ الرَّوْع إذْ خِيفَ البَوارُ وأصله من [الكساد] كما قيل: كَسَدَ حتَّى فسَدَ، ولما كان الكَسَاد يُؤدِّي إلى الفَساد والهلاك أطلق عليه البوار. ويقال: بَارَ يَبُورُ بُوراً وبَوَاراً، ورجُلُ جَائِرٌ بائِرٌ، وقوله عزَّ وجلَّ: {وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً} [الفتح: 12] ويحتمل أن يكون مصدراً وصف به الجمع، وأن يكون جمع بائرٍ في المعنى، ومن وقوع «بُور» على الواحد قوله: [الخفيف] 3220 - يَا رسُولُ المَلِيكِ إنَّ لِسَانِي ... رَائِقٌ ما فَتقْت إذْ أنَا بُورُ أي: هَالِكٌ. قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ} والمراد بهذا الجعل: الحم والاعتقاد، والفعل، والأنداد الأشباه، والشركاء. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 384 «لِيُضلُّوا» قرأ ابن كثير وأبو عمرو هنا: {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ} بفتح الياءِ والباقون بضمها من أصله، واللام هي لام الجر مضمرة: «أنْ» بعدها، وهي لام العاقبة لما كان مآلهم إلى ذلك ويجز أن تكون لللتعليل. وقيل: هي مع فتح الياء للعاقبة فقط، ومع ضمها محتملة للوجهين كأنَّ هذا القائل توهم أنهم لم يجعلوا الأنداد لضلالهم، وليس كما زعم، لأن منهم من كفر عناداً واتخذ الآلهة ليضل بنفسه. قوله تعالى: {قُلْ تَمَتَّعُواْ} عيشوا في الدنيا: {فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار} {إِلَى النار} خبر «إنَّ: والمصير مصدر، و» صَارَ «التامة، أي: فإنَّ مرجعكم كائن إلى النَّار. وأجاز الحوفيُّ أن يتعلق {إِلَى النار} ب» مَصِيرَكُمْ «. وقد ردَّ هذا بعضهم: بأنَّه لو جعلناه مصدراً صَارَ بمعنى انتقل، و {إِلَى النار} متعلق به، بقيت» إنَّ «بلا خبر، لا يقال: خبرها حينئذ محذوف؛ لأنَّ حذفه في مثل هذا يقلُّ، وإنَّما يكثر حذفه إذا كان الاسم نكرة، والخبر ظرفاً أو جارًّا، كقوله: [المنسرح] 3221 - إنَّ مَحَلا وإنَّ مُرْتَحَلاَ ... وإنَّ في السَّفْرِ ما مضَى مَهَلا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 385 لما هدد الكفار، وأوعدهم بالتَّمتُّع بنعيم الدنيا أمر المؤمنين بترك التمتع في الدنيا، والمبالغة في الجهاد بالنفس والمال. وفي «يُقِيمُوا» أوجه: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 385 أحدها: أنه مجزومٌ بلام محذوفة، تقديره: ليقيموا، فحذفت وبقي عملها، كما يحذف الجار ويبقى عمله، كقوله: [الوافر] 3222 - مُحَمَّدُ تَفْدِ نفْسكَ كُلُّ نَفْسٍ ... إذَا مَا خِفْتَ من شَيءٍ تَبَالا يريد: لتفدِ. وأنشده سيبويه إلا أنَّه خصه بالشعرِ. قال الزمخشري: «ويجوز أن يكون:» يُقِيمُوا، و «يُنْفِقُوا» بمعنى: ليقيموا ولينفقوا، وليكون هذا هو المقولُ، قالوا: وإنَّما جَازَ حذف اللاَّم؛ لأنَّ الأمر الذي هو «قُلْ» عوض منها، ولو قيل: يقيموا الصلاة، وينفقوا بحذف اللاَّم لم يجز «. ونحا ابنُ مالكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ إلى قريب من هذا، فإنَّه جعل محذف هذه اللاَّم على أضربٍ: قليل، وكثير ومتوسط. فالكثير: أن يكمون قبله قول بصيغة الأمر، كلآية الكريمة. والقليل: ألا يتقدم قول؛ كقوله: [الوافر] 3233 - مُحَمَّدُ تَفْدِ ... ... ... . ..... ... ... ... ... ... ... . . والمتوسطُ: أن يتقدَّم بغير صيغة الأمر، كقوله: [الرجز] 3224 - قُلْتُ لبَوَّابٍ لَديْهِ دَرُهَا ... تِيذَنْ فإنِّي حَمؤُهَا وجَارُهَا الثاني: أن» يُقِيمُوا «مجزوم على جواب:» قُلْ «، وإليه نحا الأخفش والمبرد. وقد رد النَّاس عليهما هذا؛ بأنه لا يلزمُ من قوله لهم: أقيموا أن يفعلوا ذم من تخلف عن هذا الأمر. وقد أجيب عن هذا: بأنَّ المراد بالبعادِ المؤمنون، ولذلك أضافهم إليه تشريفاً والمؤمنون متى أمروا؛ امتثلوا. الثالث: أنه مجزومٌ على جواب المقولِ المحذوفِ، تقديره: قل لعبادي أقيموا وأنفقوا، أي: يقيموا وينفقوا، قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ وعزاه للمبرّد، كذا ذكره جماعةٌ ولم يتعرّضوا لإفساده، وهو فاسدٌ من وجهين: أحدهما: أن جواب الشَّرط يخالف الشَّرط إما في الفعل، وإما في الفاعل، أو الجزء: 11 ¦ الصفحة: 386 فيهما وأمَّا إذا كان مثله في الفعل والفاعل، فهو خطأ، كقولك: قُمْ يَقُمْ، والتقدير على ما ذكره في وهذا الوجه: أن يُقِيمُوا يُقِيمُوا. والوجه الثاني: أنَّ الأمر المقدر للمواجهة، و» يُقِيمُوا «على لفظ الغيبة، وهو خطأ إذا كان الفاعل واحداً. قال شهاب الدين:» أمَّا الإفساد الأوَّل فقريب، وأمَّا الثاني، فليس بشيء لأنَّه يجوز أن يقول: قل لعبدي أطعني يطعك، وإن كان للغيبة بعد الموجهة باعتبار حكاية الحال «. الرابع: أن التقدير: أن يقول هلم: أقيموا يقيموا، وهذا مروي عن سيبويه فيما حكاه ابن عطية، وهذا هو القول الثاني. الخامس: قال ابن عطية:» يحتمل أن يكون «يُقِيمُوا» جواب الأمر الذي يعطينا معناه قوله «قُلْ» وذلك أن تجعل «قُلْ» في هذه الآية بمعنى بَلَّغ وَأدِّ الشَّريعة يقيموا الصَّلاة «. السادس: قال الفراء: الأمر معه شرط مقدر، تقولُ: أطِعِ الله يُدخِلْكَ الجنَّة والفرق بين هذا، وبين ما قبله: أنَّ ما قبله ضمن فيه الأمر نفسه معنى الشَّرط، وفي هذا قدر فعل الشرط بعد فعل الأمر من غير تضمينٍ. السابع: قال الفارسي إنَّه مضارع صرف عن الأمر إلى الخبر، ومعناه: أقيموا. وهذا مردودٌ؛ لأنه كان ينبغي أن تثبت نونه الدالةٌ على إعرابه. وأجيب عن هذا: بأنه بني لوقوعه موقع المبني، كما بني المنادى في نحو: يَا زَيْدُ لوقوعه موضع الضمير. ولو قيل: بأنَّه حذفت نونه تخفيفاً على حد حذفها في قوله: «لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابروا» . وفي معمول «قُلْ» ثلاثة أوجه: الأول: الأمر المقدر، أي: قل لهم أقيما يقيموا. الثاني: أنه نفس «يُقِيمُوا» على ما قاله ابن عطية. الثالث: أنَّه الجملة من قوله: {الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض} إلى أخره، قاله ابن عطية؟ وفيه تفكيك النَّظم، وجعل الجملة: {يُقِيمُواْ الصلاة} إلى آخرها مفلتاً مما قبله وبعده، أو يكون جواباً فصل به بين القولين، ومعموله، لكنه لا يترتب على قوله ذلك: إقامة الصلاة، والإنفاق إلا بتأويل بعيد جدًّا. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 387 وقرأ حمزة والكسائي: «لِعبَادِيْ» بسكون الياء، والباقون بفتح الياءِ لالتقاءِ الساكنين. قوله: {سِرّاً وَعَلانِيَةً} في نصبهما ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّهما حالان مما تقدجم، وفيهما الثلاث التأويلات في: زيْدٌ عدْلٌ، أي: ذَوِي سرٍّ، وعلانيةٍ، أو مُسرِّينَ مُعلِنينَ، أو جعلوا نفس السر والعلانية مبالغة. الثاني: أنهما منصوبان على الظرف، أي: وقتي سر وعلانية. الثالث: أنهما منصوبان على المصدر، أي: إنفاق سرِّ، وإنفاق علانية. قوله: {مِن قَبْلِكُمْ} متعلق ب: «يُقِيمُوا» و «يُنْفِقُوا» أي: يفعلون ذلك قبل هذا اليوم. وقد تقدَّم خلاف القراء في: «لا بيعٌ فيه ولا خلالٌ» . والخِلال المُخالة، وهي المُصاحبة، يقال: خاللته خِلالاً، ومخالَّة؛ قال طرفة: [السريع] 3225 - كُلُّ خَليلٍ كُنْتُ خَالَلْتُهُ ... لا تَراكَ اللهُ لَهُ وَاضِحَه وقال امرؤ القيس: [الطويل] 3226 - صَرْتُ الهَوَى عَنْهُنَّ مِنْ خَشْيةِ الرَّدَى ... وَلسْتُ بِمقْليِّ الخِلالِ ولا قَالِ وقال الأخفش: خِلال جمع ل «خلة» ، نحو «بُرمَة وبِرَام» . فصل قال مقاتلٌ: يوم لا بيع فيه، ولا شراء، ولا مخالفة، ولا قرابة. وقد تقدَّم الكلام على نحو هذه الآية في البقرة [254] . فإن قيل: كيف نفى الخلة هاهنا وأثبتها في قوله: {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف: 67] ؟ . فالجواب: أن الآية الدَّالة على نفي المخالة محمولة على نفي المُخَاللَة بسبب ميل الطبع، ورغبة النفس، والآية الدَّالة على حصول المُخَاللَة، محمولة على الخُلَّة الحاصلة بسبب عبودية الله تعالى ومحبَّتهِ. قوله تعالى: {الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض} الآية لما وصف أحوال السعداء، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 388 وأحوال الأشقياء، وكانت العمدة العظمى في حصول السَّعادة معرفة الله تعالى بذاته وصفاته، وحصول الشقاوة فقدان هذه المعرفة لا جرم ختم الله تعالى هذين الوصفين بالدَّلائل الدالة على وجود الصَّانع، وكمل عمله وقدرته وذكر ههنا عشرة أنواع من الدلائل: أولها: خلق السَّموات. وثانيها: خلق الأرض. وثالثها: قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} . «مِنَ السَّماءِ: يجوز أني تعلق ب» أنْزلَ «، و» من «لابتداءِ الغايةِ، وأن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من» مَاءٍ «؛ لأ، هـ صفته في الأصل، وكذلك» مِنَ الثَّمراتِ «في الوجهين. وجوَّز الزمخشري وابن عطية: أن تكون:» مِنْ «لبيان الجنس، أي: ورزقاً هو الثمرات. وردت عليهما بأن التي للبيان إنَّما تجيء بعد المبهم، وقد يجاب عنهما؛ بأنهما أرادا ذلك من حيث المعنى لا الإعراب، وقد تقدم ذلك في البقرة [البقرة 23، 25] . ورابعها: قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ} يجوز أن يتعلق» بأمْرهِ «ب» تَجْرِي «أي: بسببه، أو بمحذوف على أنَّها للحال، أي: ملتبسة به. وخامسها: قوله {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} . وسادسها، وسابعها: {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ} دائبين حال من» الشمسِ والقَمرِ «، وتقدم اشتقاق الدَّأبِ. وثامنها وتاسعها: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار} . وعاشرها: قوله تعالى: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} العكامة على أضافة:» كُلِّ «إلى ما. وفي» مِنْ «قولان: أحدهما: أنَّها زائدة في المفعول الثاني، أي: كل ما سألتموه وهذا إنَّما يتأتَّى على قول الأخفشِ. والثاني: أن تكون تبعيضية، أي: آتاكم بعض جميع ما سألمتوه نظراً لكم ولمصالحكم وعلى هذا فالمفعول محذوف، تقديره: وآتاكم من كل ما سألتموه، وهو رأي سيبويه و» مَا «يجوز فيها أن تكون موصولة اسمية، أو حرفية، أو نكرة موصوفة، والمصدر واقع موقع المفعول، أي: مسئولكم، فإن كانت مصدرية فالضمير في:» سَألتُموهُ «عائد على الله تعالى وإن كانت موصولة، أو موصوفة كان عائداً عليها، ولا يجوز أن يكون عائداً على الله تعالى، وعائد الموصول أو الموصوف محذوف، لأنه إما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 389 أن يقدر متصلاً سألتموهوه، أو منفصلاً سألتموه إيَّاه، وكلاهما لا يجوز فيه الحذف لما تقدم أول البقرة في قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} . وقرأ ابن عباس، ومحمد بن علي، وجعفر بن محمد، والحسن، والضحاك، وعمرو بن فائد وقتادة، وسلام، ويعقوب، ونافع رضشي الله عنهم في رواية:» مِنْ كُلِّ «منونة، وفي» مَا «على هذه القراءة وجهان: أحدهما: أنَّها نافية، وبيه بدأ الزمخشري، فقال: و» مَا سَألتْمُوهُ «نفي ومحله النَّصب على الحال، أي: آتاكم من جميع ذلك غير سائلين. قال شهاب الدين: ويكون المفعول الثاني هو الجار من قوله: «مِنْ كُلِّ» كقوله تعالى {وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 16] . والثاني: أنها موصولة يمعنى الذي، وهي المفعول الثاني ل «آتَاكُمْ:. وهذا التخريج الثاني أولى؛ لأنَّ في الأول منافاة ف يالظ اهر لقراءة العامة. قال أبو حيَّان: ِ» ولما أحس الزمخشري بظهور التنافي بين هذه القراءة، وبين تلك قال: ويجوز أن تكون: «مَا» موصولة على: وآتاكم من كلِّ ذلك ما احتجتم إليه، ولم تصلح أحوالكم ولا معايشكم إلا به، فكأنكم طلبتموه، وسألتموه بلسان الحالِ فتأول: «مَا سَألتْمُوهُ» بمعنى ما احتجتم إليه «. فصل اعلم أنَّه تعالى بدأ بذكر خلق السموات، والأرض، لأنهما الأصلان اللذان يتفرع عليهما سائر الأدلة المذكورة بعده. ثمَّ قال: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} فإنَّه لولا السماء لم يصحّ إنزال الماء منها، ولولا الأرض لم يوجد ما يستقر الماء فيه، فلا بد من وجودهما حتى يصح هذا المقصود. واعلم أنَّ الماء إنمّا ينزلُ من السَّحاب إلى الأرض، وسمي السحاب سماء اشتقاقاً من السمو؛ وقيل: ينزل من السماء إلى السحاب، ثم ينزل من السحاب إلى الأرض ثم قال تعالى: {فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} . قال أبو مسلم رَحِمَهُ اللَّهُ: لفظ» الثَّمراتِ «يقع في الاغلب على ما يحصل من الأشجار، ويقع أيضاً على الزَّرعِ والنبات، كقوله تعالى: {كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 390 ثم قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك لِتَجْرِيَ فِي البحر بِأَمْرِهِ} [إبراهيم: 32] نظره {وَمِنْ آيَاتِهِ الجوار فِي البحر كالأعلام} [الشورى: 32] . واعلم أنَّ الانتفاع بما ينبت من الأرض إنَّما يكمل بوجود الفلك؛ لأنَّ الله تعالى خص كل طرف من أطراف الأرض بنوع آخر من النعم حتى إن نعمة هذا الطرف إذا نقلت إلى الطرف الآخر من الأرض، وبالعكس، كثرت الأرباح في التجارات وهذا الفعل لا يمكن إلا بسفن البرّ، وهي الجمال، أو بسفن البحر، وهي الفلك. فإن قيل: ما معنى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الفلك} منع أنَّ تركيب السفينة من أعمال العبادِ؟ . فالجوابُ: أنَّ فعل العبد خلقُ الله تعالى عند أهنل السُّنَّة، فلا سؤال. وأمَّا عند المعتزلة: فأنه تعالى خلق الأشجار التي تركب منها السُّفن وخلق الحديد، وسائر الآلات، وعرف العباد صنعه التركيب، وخلق الرياح، وخلق الحركات القوية فيها، ووسّع الأنهار وعمقها تعميقاً لجري السفن فيها، ولولا ذلك لما حصل الانتفاع بالسفن. وأضاف التسخير إلى أمره؛ لأنَّ الملك العظيم لا يوصف بأنَّه فعل، وإنَّما يقال: أمر، قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] وسخر الفلك مجازاً؛ لأنها جمادات، ولما كانت تجري على وجه الماء، وعلى وفق إرادة الملاح صارت كأنها حيوان مسخَّر. ثم قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الأنهار} ، لأنَّ ماء البحر لا ينتفع به في الزراعات، فأنعم الله تعالى على الخلق بتفجير الأنهار، والعيون حتى انبعث الماء منها إلى موضع الزرع والنبات، وأيضاً: فماء البحر لا يصلحُ للشرب، وإنَّما يصلح له مياه الأنهار. ثم قال عَزَّ وَجَلَّ {وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر} والانتفاع بهما عظيم قال الله سبحانه وتعالى {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً} [نوح: 16] {وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان: 61] {هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس: 5] ، وتأثيرهما في إزالة الظلمة، وإصلاح النبات والحيوان، فالشمس سلطان النهار، والقمر سلطان الليل، فلولا الشمس لما حصلت الفصول الأربعة، ولولاها لاختلت مصالح العالم بالكليِّة. ثم قال: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار} ومنافعهما مذكورة في القرآن، كقوله {وَجَعَلْنَا الليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً} [النبأ: 10، 11] ، وقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص: 73] . قال المتكلمون: تسخير الليل، والنهار مجاز؛ لأنهما عرضٌ، والأعراض لا تسخَّر. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 391 ثم قال عزَّ وجلَّ: {وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ} أي: أنه لم يقتصر على هذه النعم بل أعطى عباده من المنافع مالا يأتي على بعضها التَّعداد. ثمَّ قال {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} قال الواحديُّ: «النِّعْةُ ههنا أسم أقسم مقام المصدر، يقال: أنْعَمَ اللهُ عليْهِ ينعم إنْعَاماً، ونِعْمةً، أقيم الاسم مقام الإنعام، كقوله: أنْفَقتُ عليْكَ إنْفَاقاً ونَفقَةً شيئاً واحداً، ولذلك يجمع لأنَّهُ في معنى المصدر» . وقال غيره: «النِّعمة هنا بمعنى المُنْعَم به» . وخُتِمَت هذه الآية ب {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ} ونظيرها في النحل ب {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18] لأن في هذه تقدم قوله عَزَّ وَجَلَّ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً} [إبراهيم: 28] وبعده {وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً} [أبراهيم: 30] فجاء قوله {إِنَّ الإنسان} شاهداً بقبح من فعل ذلك فناسب ختمها بذلك. والتي في النَّحل ذكر فيها عدة تفضيلات، وبالغ فيها، وذكر قوله جلّ ذكره {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} [النحل: 17] أي: من أوجد هذه النعم السابق ذكرها كمن لم يقدر منها على شيء، فذكر أيضاً أن من جملة تفضلاته اتصافه بهاتين الصفتين. وقال ابن الخطيب: «كأنه يقول: إذا حصلت النعم الكثيرة؛ فأنت الذي أخذتها وأنا الذي أعطيتها؛ فحصل لك عند أخذها وصفان: وهما: كونك ظلوماً كفاراً، ولي وصفان عند أعطائها وهما: كوني غفوراً رحيماً، فكأنه تعالى يقول: إن كنت ظلوماً فأنا غفورٌ، وإنت كنت كفاراً فأنا رحيم، أعلم عجزك، وقصورك، فلا أقابل جفاك إلا بالوفاء» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 392 قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} الآية لما استدل على أنَّه لا معبود إلا الله تعالى وأنَّه لا يجوز عبادة غير الله تعالى ألبتَّة، وحكة عن إبراهيم عليه السلام أنَّه طلب من الله تعالى أشياء: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 392 أحدها: قوله: {رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً} ، وتقدَّم تحريه في البقرة «وهذا البلد آمناً» ، ومسوِّل الجعل التَّصيير. قال الزمخشري: «فإن قلت: فرق بين قوله: {اجعل هذا البلد آمِناً} وبين قوله {هذا بَلَداً آمِناً} [البقرة: 126] . قلت: قد سأل في الأول أن يجعله من جملة البلاد التي يأمن أهلها، ولا يخافون، في الثاني أن يخرجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدها من الأمن كأنه قال: هو بلد مخوف فاجعله آمناً» . قوله «واجْنُبْنِي» ، يقال: جنَّبهُ شرًّا، وأجْنَبهُ إيَّاه ثلاثياً، ورباعياً، وهي لغة نجد وجنَّبهُ إيَّاهُ مشدَّداً، وهي لغة الحجاز وهو المنعُ، وأصله من الجانب. وقال الراغب: «قوله تعالى: {واجنبني وَبَنِيَّ} من جَنَبْتهُ عن كذا، أي: أبْعدتهُ منه، وقيل: من جَنَبْتُ الفرس، [كأنَّما] سألهُ أن يقُودَهُ عن جانبِ الشِّرك بألطافِ منهُ وأسبابٍ خفيَّة» . و «أنْ نعبد» على حذف الحرف، أي: عن أن نَعْبُد. وقرأ الجحدري وعيسى الثقفي رحمهما الله «وأجْنِبْنِي» بطقع الهمزة من «أجَنَبَ» . قال بعضهم: يقال: جَنَبْتهُ الشَّيء، وأجْنَبْتُه تَجَنُّباً، وأجْنبتهُ إجْنَاباً، بمعنى واحد. فإن قيل: ههنا إشكالٌ من وجوه: أحدهما: أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه دعا ربَّه أن يجعل مكَّة بلداً آمناً وقد خرب جماعة الكعبة، وأغاروا على مكَّة. وثانيها: أن الأنبياء عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ معصومون من عبادة الأصنام، فما فائدة هذا الدعاء. وثالثها: أنَّ كثيراً من أبنائه عبدوا الأصنام؛ لأنَّ كفَّار قريش كانوا من أولاده وكانوا يعبدون الأصنام فأين الإجابة؟ . فالجواب عن الأوَّل من وجهين: الأول: أنه نقل عن إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ أنه لما فرغ من بناء الكعبة دعا بأن يجعل الله الكعبة، وتلك البلدة آمنة من الخراب. والثاني: أنَّ المراد جعل أهلها آمنين، كقوله تعالى: {واسأل القرية} [يوسف: 82] والمراد أهلها، وعلى هذا أكثر المفسرين، وعلى هذا التقدير، فالمراد بالأمن ما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 393 اختصت به مكة من زيادة الأمن، وهو أنَّ من التجأ إلى مكَّة أمن، وكان النَّاس مع شدة عداوتهم إذا التقوا بمكَّة لا يخاف بعضهم بعضاً، ولذلك أمن الوحش، فإنهم يقربون إذا كانوا بمكة ويستوحشون من النَّاس إذا كاناو خارج مكَّة. وعن الثاني قال الزجاج: معناه: ثَبِّتْنِي على اجتناب عبادتها، كما قال: {واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} [البقرة: 128] أي: ثبتنا على الإسلام. ولقائل أن يقول: السؤال باقٍ، لأنه من المعلوم أنَّ الله تبارك وتعالى ثبت الأنبياء على الإسلام، واجتناب عبادة الأصنام، فما الفائدةٌ من هذا السؤال؟ . قال ابن الخطيب: والصحيح عندي في الجواب وجهان: الأول: أنه صلوات الله وسلامه عليه وإن كان يعلم أنَّ الله تعالى يصعمه من عبادة الأصنام، إلاّ أنه ذكر ذلك للنفس وإظهاراً للحاجة والفاقة إلى فضل الله تعالى في كل المطالب. والثاني: أنَّ الصوفية يقولون: إنَّ الشرك نوعان: شركٌ ظاهرٌ، وهو الذي يقوله المشركون، وشرك خفي، وهو تعلق القلب بالأسباب الظاهرة. والتوحيد هو أن يقطع نظره عن الوسائط، وأن لا يرى متوسطاً سوى الحق سبحانه وتعالى فيحتمل أن يكون قوله {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} المراد أن يعصمه عن هذا الشرط الخفي، والله تعالى أعمل. والجواب عن الثالث من وجوه: أحدها: قال الزمخشري: «قوله» وبَنِيَّ: أراد بنيه [من صلبه] «. والفائدة في هذا الدعاء غير الفائدة التي ذكرناها في قوله:» واجْنُبْنِي وبَنِيََّ «. وثانيها: قال بعضهم: أراد من أولاده، وأولاد أولاده كل من كان موجوداً حال الدُّعاء، ولا شك أنَّ دعوته مجابة فيهم. وثالثها: قال مجاهد: لم يعبد أحد من ولد إبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ صنماً، والصنم هو التمثال المصور، وما ليس بصنم هو من الوثن، وكفَّار قريش ما عبدوا التمثال، وإنما كانوا بعبدون أحجاراً مخصوصة. وهذا الجواب ليس بقوي؛ لأنَّه صلوات الله وسلامه معليه لا يجوز أن يريد بهذا الدعاء إلا عبادة غير الله، والحجر كالصَّنم في ذلك. واربعها: أنًَّ هذا الدعاء مختص بالمؤمنين من أولاده، بدليل قوله في آخر الآية الجزء: 11 ¦ الصفحة: 394 {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} ، وذلك يفيد أنَّ من لم يتبعه على دينه فإنه ليس منه، وقوله تبارك وتعالى لنوح عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46] . وخامسها: لعلَّه، وإن كان عمّ في الدعاء إلاَّ أنَّه تعالى أجاب دعاءه في حق البعض دون البعض، وذلك لا يوجب تحقير الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ونظيره قوله تعالى في حق إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه {قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] . قوله: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} دليل على أن الكفر، والإيمان من الله تعالى لأنًَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه طلب من الله تعالى أن يجنبه، ويجنب أولاده من الكفر. والمعتزلة يحملون ذلك على الإلطاف، وهو عدول عن الظَّاهر، وتقدم فسادهذا التأويل. قوله: {رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً} الضمير في:» إنَّهُنَّ «و» أضْلَلْنَ «عائد على الأصنام، لأنها جمع تكسير غير عاقل. وقوله: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} أي: من أشياعي، وأهل ديني. وقوله {وَمَنْ عَصَانِي} شرط، ومحل «مَنْ» الرفع بالابتداء، الجواب: {فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والعائد محذوف، أي: لهخ. فصل قال السديُّ: ومن عصاني ثمَّ تاب. وقال مقاتلٌ: {وَمَنْ عَصَانِي} فيما دون الشرط. وقيل: قال ذلك قبل أن يعلمه الله أنَّهُ لا يغفر الشرك، وهذه الآية تدلُّ على إثبات الشَّفاعة في أهل الكبائر؛ لأنَّه طلب المغفرة، والرَّحمة لأولئك العصاة، ولا تخلو هذه الشفاعة من أن تكون للكفار [أو للعصاة، ولا يجوز أن تكون للكفار] ؛ لأنه تبرَّأ منهم بقوله: {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} . وقوله: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي} فإنه يدلُّ بمفهومه على أنَّ من لم يتعبه على دينه، فليس منه، والأمة مجتمعة على أنَّ الشفاعة في حق الكفَّار غير جائزة؛ فثبت أن قوله: م {وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} شفاعة في العصاة غير الكفَّار. ووتلك المعصية: إمَّا أن تكون من الصغائر، أو من الكبائر بعد التَّوبة [أو من الكبائر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 395 قبل التوبة، والأول والثاني بطلان؛ لأن وقوله: {وَمَنْ عَصَانِي} اللفظ فيه مطلق، فتخصيصه بالصغيرة عدول عن الظاهر، وأيضاً فالصغائر والكبائر بعد التوبة] وجبة الغفران عند الخصوم، فلا يمكن حمل اللفظ عليه، فثبت أنَّ هذه الشفاعة في إسقاط العقاب عن أهل الكبائر قبل التَّوبة. وإذا ثبت حصول الشفاعة لإبراهيثم صلوات الله وسلامه عليه ثبت حصولها لمحمَّد عليه أفضل الصلاة والسلام لأنه لا قائل بالفرق، ولأنََّ الشفاعة أعلى المناصب، فلو حصلت لإبراهيم عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ مع أنَّها لم تحصل لمحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان ذلك نقصاً في حقِّ محمدٍ صلوات الله وسلامه عليه. قوله: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي} يجوز أن يكون هذا الجار صفة لمفعول محذوف، أي: أسكنت ذرية من ذريتي، ويجوز أن تكون «مِنْ» مزيدة عند الأخفش. «بوَادٍ» أي: في وادٍ، وهو مكّة؛ لأن مكَّة وادٍ بين جبلين. وقوله: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} كقوله {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] . قوله: {عِندَ بَيْتِكَ المحرم} يجوز أن تكون صفة ل «وَادٍ» . وقال أبو البقاء: يجوز أن يكون بدلاً منه، يعني أنَّه يكون بدل بعضه من كل؛ لأنَّ الوادي أعم من حضرة البيت. وفيه نظرٌ، من حيث أن «عِنْدَ» لا يتصرف. فصل سماه محرّماً؛ لأنه يحرم عنده ما لا يحرم عند غيره. وقيل: لأنَّ الله حرم التعرض له، والتهاون به. قيل: لأنه لم يزل ممتنعاً عزيزاً يهابه كل جبَّار كالشيء المُحرَّم الذي يجب أن يجتنب. وقيل: لأنه حُرِّمَ من الطوفان، أي: منع منه، كما يسمى عتيقاً؛ لأنه أعْتِقَ من الطوفان وقيل: لأن موضع البيت حرم يوم خلق الله السموات، والأرض وحفَّ بسبعة من الملائكةِ وجعل مثل البيت المعمور الذي نباه آدم صلوات الله وسلامه عليه فرفع إلى السَّماءِ. وقيل: إنَّ الله حرَّم على عباده أن يقربوه الدماء، والأقذار وغيرها. قوله: «لِيُقِيمُوا» : يجوز أن تكون هذه اللام لام الأمر، وأن تكون لام علة، وفي متعلقها حينئذ [وجهان] : أحدهما: أنها متعلقة ب «أسْكَنْتُ» وهو ظاهنر، ويكون النداء معترضاً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 396 الثاني: أنَّها متعلقة ب «ألأجْنُبْنِي» أي: أجنبهم الأصنام. ليقيموا. وفيه بعد. قوله: {اجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس} العامة على: «أفْئِدةً» جمع فؤاد، ك «غُرَاب وأغْرِبَة» وقرأ هشام عن بان عامر بياء بعد الهمزة، فقيل: إشباع؛ كقوله: [الطويل] 3227 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... يُحِبَّكَ عَظْمٌ فِي التُّرابِ تَرِيبُ أي: ترب؛ وكقوله: [الرجز] 3228 - أعُوذُ باللهِ مِنَ العَقْرَابِ ... الشَّائلاتِ عُقدَ الأذْنَابِ وقد طعن جماعة على هذه القراءة، وقالوا: الإشباعُ من ضرائر الشعر، فكيف يجعل في أفصح الكلام؟ . وزعم بعضهم: أنَّ هشاماً إنَّما قرأ بتسهيل الهمزة بين بين فظنها الراوي [أنها زائدة] ياء بعد الهمزة، قال: كما توهم عن أبي عمرو اختلاسه في: «بَارِئكُمْ» ، و «يَأمُرُكمْ» أنه سكن. وهذا ليس بشيءٍ، فإنَّ الرُّواة أجلُّ من هذا. وقرأ زيد بنُ عليِّ: «إفادة» بزنة «رِفادة» ، وفيها وجهان: أحدهما: أن يكون مصدراً ل «أفَادَ» ك «أقَامَ إقَامَة» أي: ذوي إفادَةِ، وهم النَّاس الذين ينتفع بهم. والثاني: أن يكون أصلها: «وفَادة» فأبدلت الواو همزة، نحو إشاح وإعَاء. وقرأت أم الهيثم: «أفْوِدَة» بكسر الواو وفيها وجهان: أحدهما: أن يكون جمع: «فُؤاد» المُسَهَّل وذلك أنَّ الهمزة المفتوحة المضموم ما قبلها يطرد قبلها واواً، نحو «جُون» ففعل في: «فُؤاد» المفرد ذلك فأقرت في الجمع على حالها. والثاني: قال صاحب اللَّوامح رَحِمَهُ اللَّهُ: هي جمع «وَفْد» . قال شهاب الدين: «فكان ينبغكمي أن يكون اللفظ» أوْفِدَة «يتقدم الواو؛ إلا أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 397 يقال: إنه جمع» وَفْداً «على» أوْفِدَة «، ثم قبله فوزنه» أعْفِلَة «كقولهم: آرام» في «أرْآم» وبابه، إلاَّ أنَّه جمع «فَعْل» على «أفْعِلَة» نحو: «نَجْد وأنْجِدَة» و «وَهْي وأوْهِيَة» وأم الهيثم امرأة نقل عنها شيء من اللغةِ. وقرىء «آفِدة» بزنة ضاربة وهو يحتمل وجهين: أحدهما: أن تكون مقلوبة من «أَفْئِدَة» بتقديم الهمزة على الفاء، فقلبت الهمزة ألفاً فوزنه: «أعْفِلَة» ك «آرام» في «أرآم» . والثَّاني: أنها اسم فاعل: من «أَفَدَ يَافَدُ» ، أي: «قَرُبَ ودَنَا» . المعنى: جماعمةٌ آفدة أو جماعات آفدة. وقرِىء: أَفِدَة «بالقصر، وفيها وجهان أيضاً: أحدهما: أن تكون اسم فالع على» فَعِل «ك» فَرِح فهو فَرِحٌ «، وأن تكون مخففة من» أفْئِدَة «بنقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها، وحذف الهمزة. و» مِنْ «في» مِنَ النَّاسِ «فيها وجهان: أحدهما: أنها لابتداء الغاية. قال الزمخشريُّ:» ويجوز أن يكون «مِن» الابتداء الغاية، كقولك: القلبُ منِّي سقيمٌ، تريد: قَلْبي، كأنه قال: أفْئدةُ ناسٍ، وإنَّما نكرت المضاف إليه في هذا التمثيل، لتنكير «أفْئِدَة» لأنَّها في الآية نكرة ليتناول بعض الأفئدة «. قال أبو حيَّان:» ولا ينظر كونها للغاية؛ لأنَّه ليس لنا فعل يبتدأ فيه بغاية ينتهي إلهيا، إذ لا يصح حعل ابتداء الأفئدة من الناس «. والثاني: أنها للتعبيض، وفي التفسير: لو لم يقل من النَّاس لحج النَّاس كلهم. قوله: تَهْوِي» هذا هو المفعول الثاني للجعل، والعامة على: «تَهْوِي» بكسر العين، بمعنى تسرع وتطير شوقاً إليه؛ قال: [الكامل] 3229 - وإذَا رَمَيْتَ بِهِ الفِجَاجَ رَأيْتَهُ ... يَهْوِى مَخَارِمَها هُويَّ الأجْدلِ وأصله أن يتعدى باللام، كقوله: [البسيط] 3230 - حتَّى إذَا ما هَوتْ كفُّ الوَليدِ بِهَا ... طَارتْ وفِي كفِّه مِنْ رِشهَا بِتَكُ وإنَّما عدي بإلى؛ لأ، هـ ضمن معنى تميلُ، كقوله: [السريع] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 398 3231 - يَهْوِي إلى مكَّة يَبْغِي الهُدَى ... ما مُؤمِنُ الجِن ككُفَّارِهَا وقرأ أمير المؤمنين علي، وزيد بن علي ومحمد بن علي وجعفر بن محمد، ومجاهدٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم بفتح الواو، وفيه قولان: أحدهما: أن «إلى» زائدة، أي: تهواهم. والثاني: أنه ضمن معنى تنزع وتميل، ومصدر الأول على «هُوّى» ؛ كقوله: [الكامل] 3232 - ... ... ... ... ... ... ... . ... يَهْوِي مَخارِمَها هُوي الأجْدلِ ومصدر الثاني على «هَوًى» . وقال أبو البقاء: «معناهما متقاربان، إلا أنَّ» هوى «يعني بفتح الواو متعمد بنفسه، وإنَّما عدِّي ب:» إلَى «حملاً على تميلُ» . وقرأ مسلمة بن عبد الله: «تُهْوى» بضم التاءِ، وفتح الواو مبنياً للمفعول، من «أهْوى» المنقول من «هَوَى» اللازم، أي: يسرع بها إليهم. فصل قال المفسرون: قوله {أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي} أدخل «مِنْ» للتعبيض، والمعنى: أسكنت من ذريتي ولداً: {بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} وهو مكة؛ لأنَّ مكَّة وادٍ بين جبلين: {عِندَ بَيْتِكَ المحرم} . روي عن ابن عبَّاسٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: أول ما أتَّخذ النساء المنطق من قبل أم إسماعيل صلوات الله وسلامه عليه اتخذت منطلقاً لتعفي أثرها على سارة، ثم جاء بها إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه وبابنها إسماعيل، وهي ترضعه حتى وضعها عند البيت، وليس بمكَّة يومئذ أحد، وليس فيها ماء، ووضع عندها إناء فيه تمرٌ، وسقاء فيه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 399 ماء ثمَّ قال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه منطلقاً، فتبعته هاجر، فقالت: يا إبراهيم إلى من تكلنا؟ فقال صلوات الله وسلامه عليه إلى الله، فقالت له: الله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا، ثمَّ رجعت، فانطلق إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حتَّى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت، ثمَّ دعا الله بقوله: {رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ} الآية ثمَّ إنها عطشت وعطش الصبي؛ فجعل يتلوى، وهي تنظر إليه، فانطلقت كراهية أن تنظر إليه، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها، فقامت عليه، ثمَّ استقبلت الوادي تنظر أحداً، فلم تر أحداً، وهبطت من الصَّفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها، ثمَّ سمعت سعي المجهود، حتى جاوزت الوادي، ثم أتت المروة فقالت عليها ونظرت هل ترى أحداً؟ فمل ترا أحداً، ففعلت ذلك سبع مرات. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فلِذلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهمَا» فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً، فقالت: صه {تريد نفسها، ثم تسمعت فسمعت، فقالت: قد أسمعتن إن كان عندك غواث} فإذا هي بالملك عند مضع زمزم؛ فضرب بعقبه حتَّى ظهر الماء، أو قال: فضرب بجناحه فغارت عينها، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رَحِمَ الله أمَّ إسْمَاعِيلَ لَولا أنَّها عَجلتْ لكَانَتْ زَمْزمُ عَيْناً مَعيناً» . ثمَّ إنَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عاد بعد كبر إسماعيل، وأقرَّاهو وإسماعيل قواعد البيت. قال القاضي: «أكثر الأمور المذكورة في هذه القصَّة بعيدة؛ لأنه لا يجوز لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أن ينقل ولده حيث لا طعام ولا ماء معه مع أنه كان يمكنه أن ينقلهما إلى بلدة أخرى من بلاد الشام لأجل قول سارة إلا إذا قلنا: إنَّ الله أعلمه أنه يجعل هناك ماء وطعام» . وقوله: {مِن ذُرِّيَّتِي} ، أي إسماعيل وأولاده بهذا الوادي الذي لا زرع فيه. {لِيُقِيمُواْ الصلاة فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس} قال المفسرون: جمع، وقد تهوى: تحن وتشتاقُ إليهم. قال السدي: معناه: وأمل قلوبهم إلى هذا الموضع. قال مجاهدٌ: لو قال: أفئدة النَّاس لزاحمكم فارس والروم والترك والهند. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 400 وقال سعيد بن جبير: لحجَّتِ اليهود، والمجوس، ولكنه قال: {أَفْئِدَةً مِّنَ الناس} فهم المسلمون. {ارزقهم مِّنَ الثمرات} ممَّا رقزت سكان القرى ذوات الماء: {لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} وذلك يدعل على أن المقصود من منافع الدنيا: أن يتفرغ لأداء العبادات. ثم قال صلوات الله وسلامه عليه: {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} ما أمرونا. قال ابن عباس ومقاتل: من الوجد بإسماعيل، وأمه حيث أسكنهما بوادٍ غير ذي زرع. {وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء} . قيل: هذا كله قول إبراهيم عليه السلام، وقال الأكثرون: قول الله تعالى؛ تصديقاً لقول إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله تعالى: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر} وجهان: أحدهما: أن «عَلَى» على بابها من الاستعلاء المجازي. والثاني: أنها معنى «مع» كقوله: [المنسرح] 3233 - إنِّي على مَا تَريْنَ مِنْ كِبَرِي ... أعْلَمُ من حَيْثُ تُؤكَلُ الكَتِفُ قال الزمخشري: «ومحلّ هذا [الجار] النصب على الحال من الياء في» وهَبَ لِي «» . الآية تدلُّ على أنه تعالى أعطى إبراهيم، وإسماعيل، وإسحاق صلوات الله وسلامه عليهم على الكبر والشيخوخة فأمَّا مقدار السنة فغير معلوم من القرآن، فالمرجعُ فيه إلى الروايات. فروي لما ولدت إسماعيل كمان سن إبراهيم صولات الله وسلامه عليه تسعاً وتعسين سنة، ولما ولد إسحاق ك ان سنة مائة واثنتي عشرة سنة. وقيل: ولد إسماعيل لأربع وستين سنة، وولد إسحاق [لتسعين] سنة. وعن سعيد بن جبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لم يولد لإبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلا بعد مائة وسبع عشرة سنة، [وإنما ذكر هذا الكبر؛ لأن المنة بهبة الولد في هذا السن أعظم؛] لأنه زمن اليأس من الولد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 401 فإن قيل: إن إبراهيم صلوت الله وسلامه عليه إنَّما دعا بهذا الدُّعاء عندما أسكن هاجر وابنها إسماعيل في ذلك الوادي، وفي ذلك الوقت لم يكن ولد إسحاق فيكف قال: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ؟ . فالجواب: قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: «هذا الدَّليل يقتضي أن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه، إنَّما ذكر هذا الكلام في زمان آخر لا عقيب ما تقدَّم من الدعاء ويمكن إيضاً أنه صلوت الله وسلامه عليه إنَّما ذكر هذا [الدعاء] بعد كبر إسماعيل وظهرو إسحاق صلوات الله وسلامه عليهما وإن كان ظاهر الروايات بخلافه» . فصل المناسبة بين قوله {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يخفى عَلَى الله مِن شَيْءٍ فَي الأرض وَلاَ فِي السمآء} وبين قوله {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} ، وذلك أنه كان في قلبه أن يطلب من الله سبحانه وتعالى إعانتهما، وإعانة ذريتهما بعد موته، ولكنَّه لم يصرِّح بهذا المطلوب بل قال: {رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ} أي: تلعم ما في قلوبنا وضمائرنا، فقوله: {الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ} يدلُّ ظاهراً على أنَّهما يبقيان بعد موته على سبيل الرمز والتعريض، وذلك يدلُّ على أن الاشتغال بالثناء عند الحاجة إلى الدعاء أفضل من الدعاء. قال صلوات الله وسلامه عليه حاكياً عن ربِّه عَزَّ وَجَلَّ أنه قال: «مَنْ شَغلهُ ذِكْرِي عَنْ مَسْألتِي أعْطَيتهُ أفْضَل ما أعْطِي السَّائلينَ» . ثم قال: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء} لما ذكر الدعاء على سبيل التعريض لا على وجه التصريح، قال: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء} من قولك: «سَمِعَ الأميرُ كلامَ فلانٍ» إذا اعتدَّ بِهِ وقلبهُ، ومنه «سَمِعَ اللهُ لمَنْ حَمدَهُ» . قوله: {لَسَمِيعُ الدعآء} فيه أوجه: أحدهما: أن يكون «فَعِيل» مثال مبالغة مضافاً إلى مفعوله وإضافته من نصب، وهذا دليل سيبويه على أن «فعيلاً» يعمل عمل اسم الفاعل، ون كان قد خالفهُ جمهور البصريين والكوفيين. الثاني: أنَّ الإضافة ليست من نصب، وإنَّما هو كقولك: «هذا ضَارِب ازيد أمس» . الثالث: أن «سميعاً» مضاف لمرفوعه، ويجعل دعاء الله سميعاً على المجاز والمراد: سماع الله، قاله الزمخشريُّ. قال أبو حيَّان: «وهو بعيد لاستلازمه أن يكون من الصفة المشبهة والصفة متعدية الجزء: 11 ¦ الصفحة: 402 وهذا إنما يتأتى على قول الفارسي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى فإنه يجيز أن تكون المشبهة من الفعل المتعدي بشرط أمن اللبس، نحو: زيدٌ ظالم العبيدَ، إذا علم أنَّ له عبيد ظالمين، وأما ههنا فاللبس حاصل، إذ الظاهر من إضافته المثل للمفعول لا الفاعل» . قال شهاب الدين: «واللَّبس أيضاً هنا منتف؛ لأنَّ المعنى على الإسناد المجازي كما تقرر» . قوله: {رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة} أي: من المحافظين عليها. واحتجُّوا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى لأنَّ قول إبراهيم عليه الصلاة والسلا م {واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام} يدلُّ على أنت ترك المنيهات لا يحصل إلا من الله تعالى. وقوله: {رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة وَمِن ذُرِّيَتِي} يدل على أن فعل المأمورات لا يحصل إلا من الله تعالى. قوله: {وَمِن ذُرِّيَتِي} «عطف على المفعول الأول ل» اجْعَلْنِي «أي: واجعل بعض ذريتي مقيم الصلاة، وهذا الجار في الحقيقة صفةٌ لذلك المفعول المحذوف، أي: وبعضاً من ذريتي» . وإنَّما ذكر هذا التعبيض؛ لأنه علم بإعلام الله سبحانه وتعالى أنَّه يكون في ذريته جمعاً من الكفار لقوله: {لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين} [البقرة: 124] . وقوله {رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ} قرأ ابو عمرو، وحمزة وورش، والبزي بإثبات الياء وصلاَ وحذفها وقفاً، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً، ووقد روى بعضهم بإثباتها وقفاً أيضاً. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: معناه: تتقبل عملي، وعبادتي، سمى العبادة دعاء. قال صلوات الله وسلامه عليه «الدُّعَاءُ مُخٌّ العِبادَةِ» . وقال إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه: {وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [مريم: 48] وقيل: معناه: استجب دعائي. قوله: {رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ} العامة على «والديَّ» بالألف بعد الواو وتشديد الياء، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 403 وإبن جبير كذلك إلا أنه سكن الياء أراد والده وحده، كقوله {واغفر لأبي} [الشعراء: 86] . وقرأ الحسين بن علي، ومحمد بن زيد ابنا علي بن الحسين وابن يعمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «ولِولدَيَّ» ودمن ألف، تثنية «وَلد» ، ويعنى بهما: إسماعيل، وإسحاق وأنكرها الجحدري بأن في مصحف أبي «ولأبويَّ» فهي مفسرة لقراءة العامة. وروي عن ابن يعمر أنه قرأ: «وَلِوُلدِي» بضم الواو، وسكون الياء، وفيها تأويلان: أحدهما: أنه جمع ولد كأسْد في أسَد. وأن يكون لغة في الولد، الحُزْنِ والحَزَن، والعُدْمِ والعَدَم، والبُخْلِ والبَخَل، وعليه قول الشاعر: [الطويل] 3234 - فَليْتَ زِيَاداً كَان فِي بَطْنِ أمِّهِ ... وليْتَ زِيَاداً كَانَ وُلْدَ حِمَارِ وقد قرىء بذلك في مريم، والزخرف، ونوح في السبعة، كما سيأتي إن شاء الله تعالى. و «يَوْمَ» [نصب] ب «اغْفِرْ» . فِإن قيل: طلب المغفرة إنَّما يكون بعد الذنب، وهو صلوات الله وسلامه عليه كان قاطعاً بأن الله يغفر له، فكيف طلب ما كان قاطعاً بحصوله؟ . فالجواب: المقصود منه الالتجاء إلى الله، وقطع الطَّمع إلاَّ من فضل الله تعالى وكرمه. فإن قيل: كيف جاز أن يستغفر لأبويه، كانا كافرين؟ . فالجواب: من وجوه: الأول: أن المنع لا يعلم إلا بالتوقيف، فلعله لم يجد [منعاً] ، فظن جوازهن. الثاني: أراد بالوالدين آدم وحواء صلوات الله وسلامه عليهما. الثالث: كان ذلك بشرط الإسلام. فإن قيل: لو كان الأمر كذلك لما كان ذلك الاستغفار باطلاً، ولو لم يكن باطلاً لبطل قوله: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة4] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 404 فالجواب: أن الله تعالى بين عذر خليله في استغفاره لأبيه في سورة التوبة. وقال بعضهم: كانت أمه مؤمنة، ولهذا خص أباه بالذكر في قوله: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ} [التوبة: 114] . في قوله: {يَوْمَ يَقُومُ الحسابيوم يَقُومُ الحساب} قولان: الأول: يقوم إلى بيت المقدس، وهو مشتقّ من قيام القائم على الرجل، كقولهم: قَامِتِ الحرُ على ساقها، ونظيره: قوله: قامت الشمس أي: اشتعلت، وثبت ضوؤها كأنَّها قامت على رجل. الثاني: أن يسند إلى الحساب قيام أهله على سبيل المجاز، كقوله: {واسأل القرية} [يوسف: 82] ٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 405 قوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} لما بين دلائل التَّوحيد ثمَّ حكاى عن إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أنه طلب من الله العظيم أن يصونه عن الشرك، وأن يوفقه للأعمال الصَّالحة، وأن يخصه بالرحمة والمغفرة في يوم القيامة، ذكر بعده ما يدل على وجود القيامة، فهو قوله عزَّ وجلَّ {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون} وذلك تنبيه على أنَّه تبارك وتعالى لو لم ينتقم للمظلوم من الظَّالم للزم إمَّا أن يكون غافلاً عن ذلك الظَّالم، أو عاجزاً عن الانتقام، أو كان راضياً بذلك الظُّلم ولما كانت الغفلة، والعجز، والرِّضا بالظُّلم محالاً على الله امتنع أن لاينتقم من الظَّالم للمظلوم. فإن قيل: كيف يليقُ بالرَّسُول صلوات الله وسلامه عليه أن يحسب الله عزَّ وجلَّ موصوفاً بالغفلةِ؟ . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 405 فالجواب من وجوه: الأول: المراد به التثبيت على ما كان عليه من أنه لا يحسب إن كان غافلاً، كقوله تعالى: {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام: 14] {وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ} [القصص: 88] . والثاني: المقصود منه بيان أنه لو لم ينتقم لكان عدم الانتقام لأجل غفلته عن ذلك الظالم، ولما كان امتناع هذه الغفلة معلوماً للك أحد لا جرم كان عدمُ الانتقام محالاً. الثالث: أنَّ المراد: ولا تحسبنه يعاملهم الله معاملة الغافل عمَّا يعملون، ولكن معالمة الرَّقيب عليهم المحاسب على النقير، والقطمير. الرابع: أنَّ هذا الخطاب، وإن كان خطاباً للنبِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الظاهر إلا أنه خطاب مع الأمَّة. قال سفيان بن عيينة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: هذا تسلية للمظلوم، وتهديد للظَّالم. قوله: {إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ} أي: لأجل يوم، فاللام للعلَّة. وقيل: بمعنى «إلى» أي: للغاية. وقرأ العامة «يُؤخِّرهُمْ» بالياء، لتقدم اسم الله تعالى. وقرأ الحسن والسلمي، والأعرج، [وخلائق] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «نُؤخِّرهُم» بنون العظمة. ويروى عن أبي عمرو «نُؤخِّرُهمْ» بنون العظمة. و «تَشْخَصُ» صفلة ل «يَوْمِ» . ومعنى شُخُوصِ البصرِ حدَّةُ النَّظر، وعدم استقراره في مكانه، ويقال: شَخَصَ سَمْعُه، وبَصَرُه، وأشْخَصَهُمَا صَاحِبهُما، وشَخَصَ بَصَره، أي: لم يطرف جفنهُ، وشخوص البصر يدلُّ على الحيرة والدهشة، ويقال: شخص من بلده أي: بعد والشخصُ: سواد الإنسان المرئيّ من بعيد. قوله: {مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ} حالان من المضاف المحذوف إذا التقدير: أصحاب الأبصار، إذا يقال: شَخَسَ زَيْدٌ بصرهُ، أو تكون الأبصار دلَّت على أربابها فجاءت الحال من المدلول عليه، قالهما أبو البقاءِ. وقيل: «مُهْطِعين» منصوب بفعل مقدر، أي: تبصرهم مهطعين، ويجوز في «مُقْنِعِي» أن يكون حالاً من الضمير في: «مُهْطِعِينَ» فيكون حالاً، وإضافة: «مُقْنِعِي» غير حقيقة؛ فلذلك وقع حالاً. والإهْطَاعُ: قيل: الإسرْاعُ في المشيِ؛ قال: [البسيط] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 406 3235 - إذَا دَعانَا فأهْطَعْنَا لِدَعْوتهِ ... دَاعٍ سَمِيعٌ فَلفُّونَا وسَاقُونَا وقال: [الكامل] 3236 - وبِمُهْطِعٍ سُرُحٍ كأنَّ عِنانَهُ ... فِي رَأْسِ جِذْعٍ ... ... ... ... ... ... ... وقال أبو عبيدة: قد يكون الإسراع [مع] إدامة النَّظر. وقال الراغب: «هَطَعَ» الرَّجلُ بِبصَرهِ إذَا صَوَّبهُ، وبَعِيرٌ مُهْطِعٌ إذا صوَّب عُنُقهُ «. وقال الأخفش: هُو الإقْبَالُ على الإصغاءِ، وأنشد: [الوافر] 3237 - بِدجْلةَ دَراهُم ولقَدْ أرَاهُمْ ... بِدجْلةَ مُهْطِعينَ إلى السَّماعِ والمعنى: مُقبلينَ برءوسهم إلى سماعِ الدَّاعِي. وقال ثعلبٌ:» هَطَعَ الرَّجلُ إذا نظرَ بذُلِّ وخُشوعٍ لا يقلع بِبصَره إلى السماء «. وهذا موافقٌ لقول أبي عبيدة؛ فقد سمع فيه:» أهْطََعَ وهَطَعَ «رباعيًّا وثلاثيًّا. والإقناعُ: رفع الرَّأسِ، وإدامة النَّظر من غير التفات إلى شغيره، قاله القتبيُّ، وابنُ عرفة. ومنه قوله يصف إبلاً ترعى أعالي الشَّجر؛ فترفع رءوسها: [الوافر] 3238 - يُبَاكِرْنَ العِضاهَ بِمُقنَعَاتٍ ... نَواجِذُهُنَّ كالحِدَإ الوَقِيعِ ويقال: أقْنَعَ رأسه، أي: طأطأها، ونكَّسها فهو من الأضداد، والقَناعةُ: الاجتزاءُ باليسيرِ، ومعنى قَنَعَ عن كذا: أي: رفع رأسه عن السؤال. وفَمٌ مُقَنَّعٌ: معطوف الأسنان إليه داخلة، ورجُلٌّ مُقنَّعٌ بالتشديد، ويقال: قَنِعَ يَقْنَعُ قَناعَةً، وقَنَعاً، إذا رَضِيَ، وقنع قُنُوعاً، إذا سَألَ، [فوقع] الفرق بالمصدر. وقال الراغب: قال بعضهم: أصل هذه الكلمة من القناعِ، وهو ما يُغطِّي الرَّأس الجزء: 11 ¦ الصفحة: 407 والقَانِعُ: من يَلِجُّ في السؤال فيرضى بِما يَأتيهِ، كقوله: [الوافر] 3239 - لَمَالُ المَرْءِ يًصْلِحُه فيُغْنِي ... مَفَاقِرهُ أعَفُّ مِنَ القُنُوعِ ورجل مقنَّعٌ: تَقنَّعَ بِهِ؛ قال: [الطويل] 3240 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... شُهُودِي على ليْلَى عُدولٌ مَقانِعُ ومنى الآية: أنَّ المعتاد فيمن شاهد البلاء أنَّه يطرق رأسه عنه لئلا يراه، فبين تعالى أنَّ حالهم بخلاف هذا المعتاد، وأنهم يرفعون رءوسهم. والرُّءُوسُ: جمعُ رأسِ، وهو مؤنَّثٌ، ويُجمع في القلَّةِ على أرؤس، وفي الكثرة على» رُءُوس «والأرَاسُ: العظيم الرأس، ويعبر به عن الرَّجل العظيم كالوجه، والرِّسُّ مشتقًّ من ذلك ورِيَاسُ السَّيف مقبضه، وشاةٌ رَأْسَى: أسودَّتْ رأسَها. قوله: {لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ} في محل نصب على الحال من الضمير في:» مُقْنِعِي «ويجوزو أن يكون بدلاً من:» مُقْنِعِي «، كذا قاله أبو البقاء، يعني أنه يحل محله، ويجوز أن يكون استئنافاً، والطرف في الأصل مصدر، وأطلق على الفاعل، كقولهم:» مَا فِيهِمْ عينٌ تَطْرف «، الطَّرفُ هنا: العَيْنُ قال الشاعر: [الكامل] 3241 - وأغُضُّ طَرْفِي ما بَدتْ لِي جَارتِي ... حتَّى يُوارِي جَارتِي مَاوَاهَا والطَّرفُ: الجِفْنُ أيضاً، يقال: ما طبق طرفهُ، أي: حفنهُ على الآخر، الطَّرفُ أيضاً: تحركُ الجِفْنِ. ومعنى الآية: دوام ذلك الشُّخوصِ. قوله: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ} » يجوز أن يكون استئنافاً، وأن يكون حالاً، والعامل فيه إمَّا «يَرتَدُّ» وإمَّا ما قبله من العوامل، وأفرد: «هَواءٌ» ، وإن كان خبراً عن جمع؛ لأنَّه في معنى فارغة متجوفة، ولو لم يقصد ذلك لقال: أهوية ليطابق الخبر مبتدأه «. والهَواءُ: الخَالِي من الأجسامِ ويُعبَّرُ به عن الجُبْنِ، يقال: جوفهُ هواء، أي: فارغ؛ قال زهيرٌ: [الوافر] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 408 3242 - كَانَّ الرَّجلَ مِنْهَا فوقَ صَعْل ... مِنَ الظِّلمانِ جُؤجؤهُ هَواءُ وقال حسَّان بن ثابت رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: [الوافر] 3243 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... فانْتَ مُجَوَّفٌ نَخْبٌ هَواءُ النَّخْبُ: الذي أخذت نخبته أي: خِيارهُ، ويقال: قلب فلانٍ هواء: إذا كان جَباناً للقوة في قلبه. والمعنى: أنَّ قلوب الكفار خالية يوم القيامة عن جمع الخواطر، والأفكار لعظم ما نالهم من الحيرة لما تحقَّقوهُ من العذاب، وخيالة من كلِّ سرور لكثرة ما هم فيه من الحزِنِ. قوله: {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} قال أبو البقاء: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ} معفول ثان ل: «أنْذر» ، أي: خوفهم عذاب يوم، وكذا قاله الزمخشريُّ. وفيه نظرٌ، إذ يؤول إلى قولك: أنذرهم عذاب يوم يأتيهم العذاب، ولا حاجة إلى ذلك، ولا جائز أن يكون ظرفاً؛ لأنَّ ذلك اليوم لا إنذار فيه سواء قيل: إنه يوم القيامة، أو يوم هلاكهم، أو يوم تلقاهم الملائكةُ. والألف واللام في: «العَذابُ» للمعهود السَّابق، أي: وأنذرهم يوم يأتيهم العذاب الذي تقدَّم ذكره، وهو شخوصُ الأبصار، وكونهم مهطعين مقنعي رءوسهم. فصل حمل أبو مسلم قوله: {يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} على أنه حال المعاينة، لأنَّ هذه الآية شبيهة بقوله تعالى: {وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولاا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين} [المنافقون: 10] ، وظاهر الآية يشهد بخلافه؛ لأنه تعالى وصف اليوم بأن العذاب يأتيهم فيه، وأنهم يسألون الرجعة، ويقال لهم: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ} ؟ ولا يليق ذلك إلا بيوم القيامة. ثمَّ حكى تعالى عنهم ما يقولون في ذلك اليوم: {فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} قال بعضهم: طلبوا الرجعة إلى الدنيا ليتلافوا ما فرَّطوا فيه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 409 وقيل: طلبوا الرُّجوع إلى حال التَّكليف لقولهم: {نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل} ، فقوله: «نُجِبْ» جواب الأمرِ. قوله: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ} قال الزمشخري: «على إرادة القول وفيه وجهان: أن تقولوا ذلك أشراً وبطراً، أو تقولوه بلسان الحال حيث بنوة شديداً، وأملوا بعيداً» . و «مَا لكُمْ» جواب القسم، وإنَّما جاء بلفظ الخطاب لقوله: «أقْسَمْتُمْ» ، ولو جاء بلفظ المقسمين لقيل: «مَا لنَا» . وقدَّر أبو حيَّان ذلك القول هنا من قول الله عزَّ وجلَّ أو الملائكة عليهم السلام أي: فيقال لهم: «أو لم تكونوا» ، وهوأظهر من الأول، أعني؟ : جريان القول من غيرهم لا منهم، والمعنى: {أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ} أراد قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا} [الأنعام: 109] إلى غير ذلك ممَّا كانوا ينكرونه. قوله: {وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ} وأصل «سَكَنَ» التَّعدي ب «في» كما في هذه الآية، وقد يتعدى بنفسه. قال الزمخشريُّ: «السكنى من السكونِ الذي هو اللَّبثُ، من الأصل تعديه ب» في «كقولك: قرَّ في الدَّارِ وأقام فيِهَا، ولكنَّه لما نقل إلى سكون خاص تصرف فيه، فقيل: سكن الدَّار كما قيل: تَبَوَّأها، وأوطنَها، ويجوز أن يكون من السُّكونِ، أي: قرُّوا فيها واطمأنُوا» . والمعنى: وسكنتم في مساكن الذين كفورا قبلكم كقوم نوح، وعادٍ، وثمود و: {ظلموا أَنفُسَهُمْ} بالكفر؛ لأن من شاهد هذه الحال؛ وجب عليه أنّ يعتبر، وإذا لم يعتبر يستوجب الذَّم والتقريع. قوله: «وتَبيَّنَ لَكُمْ» فاعله مضمر لدلالة الكلام عليه، أي حالهم وخبرهم وهلاكهم، و «كَيْفَ» نصب ب «فَعلْنَا» وحملة الاستفهام ليست معمولة ل «تَبيَّنَ؛ لأنه من الأفعال التي لا تعلق، ولا جائز أن يكون:» كَيْفَ «فاعلاً؛ لأنَّها إمَّا شرطية، أو استفهامية وكلاهما لايعمل فيه ما تقدمه، والفاعل لا يتقدَّم عندنا. وقال بعض الكوفيين: إنَّ جملة:» كَيْفَ فَعلْنَا «هو الفاعل، وهم يجيزون أن تكون الجملة فاعلاً، وقد تقدَّم هذا في قوله: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] . والعامة على» تَبيَّنَ «فعلاً ماضياً، وقرأ عمر بن الخطاب، والسلمي رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 410 عَنْهما في رواية عنهما:» ونُبيِّنُ «بضمِّ النون الأولى والثانية، مضارع:» بيَّن «، وهو خبر مبتدأ مضمر، والجملة حالٌ، أي: ونحن نبين. وقرأ السلمي فيما نقل المهدويُّ كذلك إلا أنه سكن النون للجزم نسقاً على» تَكُونُوا «فيكون داخلاً في حيز التقدير. فصل والمعنى: عرفتم عقوبتنا إياهم، وضربنا لكم الأمثال في القرآن ممَّا يعلم به أنَّه قادر على الإعادة كما قدر على الابتداء، وقادر على التَّعذيب المؤجَّل كما يفعل الهلاك المعجَّل. قوله: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} قيل: الضمير عائدٌ إلى الذين سكنوا في مساكن الذين ظلموا أنفسهم. وقيل: أراد قوم محمد صلى الله عليه سلم لقوله تعالى: {وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب} يا محمد، وقد مكروا قومك مكرهم وذلك في قوله تعالى {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} [الأنفال: 30] . وقيل: المراد من هذا المكر ما نقل: أن نمروذاً حاول الصُّعود إلى السماءِ، فاتَّخذ لنفسه تابوتاً، وربط قوائمه الأربعة بأربعة نسورٍ، وكان قد جوَّعها، وجعل لها في جوانب التابوت الأربعة عصياً، وعلم عليها اللحم، ثم جلس مع صاحب له في التابوت، فلمَّا أبصرت النسور اللحم تصاعدت في الجو ثلاثة أيام، وغابت الدنيا عن عين نمروذ، ثمَّ نكَّس العصيّ التي كان عليها اللحم فهبطت النُّسور إلى الأرض. قال القاضي رَحِمَهُ اللَّهُ: «وهذا بعيد جدًّا؛ لأنَّ الخطر فيه عظيم، ولا يكاد العاقل يقدم عليه، وما جاء فيه خبر، ولا دليل» . قال القشيري: وهذا جائزٌ بتقدير خلق الحياةِ في الحبالِ، وذكر الماورديُّ عن بان عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما أنَّ النمرود بن كعنان بنى الصَّرح في قرية الرسِّ من سواد الكوفة، وجعل طوله خمسة آلاف ذراع، وخمسة وعشرين ذراعاً، وصعد فيه مع النُّّسور، فلمَّا علم أنه ليس له سبيل إلى السماء اتَّخذ حصناً، وجمع فيه أهله وولده ليتحصن فيه، فأتى الله بنيانه من القواعد، فتداعى الصَّرح علهيم، فهلكوا جميعاً فهذا معنى قوله عزَّ وجلَّ: {وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ} . قوله: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} يجوز أن يكون هذا المصدر مضافاً لفاعله كالأول بمعنى الجزء: 11 ¦ الصفحة: 411 أنَّ مكرهم الذي مكروه جزاؤه عند الله، أو للمفعول، بمعنى أن عند الله مكرهم الذي يمكرهم به، أي: يعذبهم قالمها الزمخشريُّ. قال أبو حيان: «وهذا لايصحُّ إلاَّ إن كان» مَكَرَ «يتعدى بنفسه كما قال هو إذ قد يمكرهم به، والمحفوظ أن» مَكَرَ «لا يتعدَّى إلى مفعولٍ به بنفسه، قال تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ} [الأنفال: 30] وتقول: زيدٌ ممكور به، ولا يحفظ: زيدٌ ممكورٌ بسبب كذا. قوله: {وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال} قرأ العامة بكسر لام» لِتَزولَ «الأولى، والكسائي بفتحها. فأما القراءة الأولى، ففيها ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّها نافيةٌ، واللام بعدها لام الجحودِ؛ لأنَّها بعد كونٍ منفيّ، وفي» كَانَ «حينئذ قولان: أحدهما: أنَّها تامَّة، والمعنى؛ تحقير مكرهم، أنَّه ما كان لتزول منه الشَّرائع التي كالجبال في ثبوتها وقوَّتها. ويؤيد كونها نافية قراءة عبد الله: (وما كان مَكْرُهُمْ) . القول الثاني: أنَّها ناقصةٌ، وفي خبرها القولان المشهوران بين البصريين والكوفيين، هل هو محذوف، واللام متعلقة به؟ وإليه ذهب البصريون، أو هو اللام، وما جرته كما [هو مذهب] الكوفيين؟ وقد تقرَّر هذا في آخر آل عمران. الوجه الثاني: أن تكون المخففة من الثقيلة. قال الزمخشري:» وإن عظم مركهم وتبالغ في الشدة، فضرب زوال الجبال منه مثلاً لتفاقمه وشدته، أي: وإن كان مكرهم معدًّا لذلك «. وقال ابن عطية:» ويحتمل عندي أن يكون معنى هذه القراءة: تعظيم مكرهم، أي: وإن كان شديداً إنما يفعل ليذهب به عظام الامور «، فمهوم هذين الكلامين أنها مخففةٌ؛ لأنَّه إثبات. والثالث: أنها شرطيةٌ، وجوابها محذوفٌ، أي: وإن كان مكرهم مقدراً لإزالةِ أشباه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 412 الجبال الرَّواسي، وهي المعجزات، والآيات، فالله مجازيهم بمكرهم، وأعظم منه. وقد رجِّح الوجهان الأخيران على الأوَّل، وهو: أنها نافية؛ لأنَّ فيه معارضة لقراءة الكاسئي في ذلك؛ لأنَّ قراءته تؤذن بالإثبات، وقراءة غيره تؤذن بالنَّفي. وقد أجاب بعضهم عن ذلك: بأنَّ الجبال في قراءة الكسائي مشار بها إلى أمور عظام غير الإسلام، ومعجزاته لمكرهم صلاحية إزالتها، وفي قراءة الجماعة مشار لها إلى ما جاء به النبيُّ المختار صلوات الله وسلامه عليه من الدين الحق، فلا تعارض إذ لم يتوارد على معنى واحد نفياً، وإثباتاً. وأمَّا قراءة الكسائيِّ ففي: «إنْ» وجهان: مذهبُ البصريين أنََّها المخففة واللام فارقة، ومذهب الكوفيين أنَّها نافية، واللام بمعنى: «إلاَّ» وقد تقدَّم تحقيق المذهبين. وقرأ عمر، وعلي، وعبد الله، وزيد بن علي، وأبو سلمة وجماعة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم (وإن كاد مكرهم لتزول) كقراءة الكسائي، إلاََّ أنهم جعلوا مكان نون: «كَانَ» دالاً، فعل مقاربة، وتخريجها كما تقدَّم، ولكن الزوال غير واقع. وقرىءك «لَتَزُولَ» بفتح اللامين، وتخريجها على إشاكالها أنها جاءت على لغة من لا يفتح لام كي. فصل في الجبال التي عني زوالها بمكرهم وجهان: أحدهما: جبال الأرض. الثاني: الإسلامُ، والقرآن؛ لأنَّ ثبوته، ورسوخه كالجبالِ. وقال االقشيريُّ: {وَعِندَ الله مَكْرُهُمْ} أي: هو عالم بذلك فيجازيهم، أو عند الله جزاء مكرهم فحذف المضاف. قوله تعالى: {فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} لما بين في الآية الأولى أنه ينتصر للمظلوم من الظَّالم بين هاهنا أنه لا يخلف الوعد. قوله: {مُخْلِفَ وَعْدِهِ} العامة على إضافة: «مخْلِفَ» إلى «وعْدِهِ» وفيها وجهان: أظهرهما: أن «مُخْلفَ» يتعدَّى لاثنين كفعله، فقدم المفعول الثاني، وأضيف إليه إسم الفاعل تخفيفاً، نحو: هذا كَاسِي جُبَّةِ زيْدٍ. قال الفراء وقطرب: لما تعدَّى إليهما جميعاً، لم يبالِ بالتقديم والتأخير. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 413 وقال الزمخشري: فإن قلت: هلاَّ قيل: مُخْلف رسله وعده؟ ولم قدَّم المفعول الثاني على الأول؟ . قلت: قدم الوعد ليعلم أنه لا يخلف الوعد، ثم قال: «رُسلهُ» ليؤذن أنه إذا لم يخلف وعده أحداً، وليس من شأنه إخلاف المواعيد، كيف يخلف رسله؟ . وقال أبو البقاء: هو قريبُ من قولهم: [الرجز] 3244 - يَا سَارِقَ اللَّيْلَةِ أهْلَ الدَّارِ ... وأنشد بعضهم نظير الآية الكريمة قول الشاعر: [الطويل] 3245 - تَرَى الثَّورَ فِيهَا مُدخِلَ الظلِّ رَأسَهُ ... وسَائرِهُ بَاردٍ إلى الشَّمْسِ أجْمعُ والحسبان هنا: الأمر [المتيقن] ، كقوله: [الطويل] 3246 - فَلا تَحْسَبنْ أنِّي أضلُّ مَنيَّتِي ... وكُلُّ امرىءٍ كَأسَ الحِمام: ِ يَذُوقُ الثاني: أنه متعد لواحد، وهو «وعْدهِ» ، وأمَّا «رُسلهُ» فمنصوب بالمصدر فإنَّه ينحلْ بحرف مصدريّ، وفعل تقديره: مخلف ما وعد رسله، ف «ما» مصدريَّة لا بمعنى الذي؟ وقرأت جماعة: {مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ} بنصب: «وَعْدهُ» وجر: رسُلهِ «فصلاً بالمفعول بين المتضايفين، هي كقراءة ابن عامرٍ: {قَتْلُ أوْلادَهُمْ شُكرائِهِمْ) . قال الزمخشري مجرأة منه: «وهذه في الضعف [كقراءة] (قَتْلُ أوْلادَهُمْ شُركائِهِمْ) . ثم قال: {إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام} غالب لأهل المكر، ذو انتقام لأوليائه منهم. قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [لما بين أنه عزيز ذو انتقام، بين وقت انتقامه، فقال: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} ] ويجوز في» يَوْمَ «عدة أوجه: أحدها: أن ينتصب منصوباً ب» انتقام «أي: يقع انتقامه في ذلك اليوم. الثاني: أن ينتصب ب» اذكُر «. الثالث: ِأن ينتصب بما يتلخص من معنى عزيز ذو انتقام. الرابع: أن يكون بدلاً من:» يَوْمَ يَأتِيهِمْ «. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 414 الخامس: أن ينتصب ب:» مُخْلِفَ «. السادس: أن ينتصب ب» وَعْدِهِ «، و» إنَّ «وما بعدها اعتراض. ومنع أبو البقاء هذه الآخرين، قال:» لأن ما قبل «إنَّ» لا يعمل فيما بعدها «. وهذا غير مانع؛ لأنه كما تقدَّم اعتراض، فلا يبالى به فاصلاً. فصل التَّبديلُ يحتمل وجهين: الأول: أن تكون الذَّات باقية، وتبدل الصفة بصفة أخرى، كما تقول: بدلت الحلقة خاتماً، إذا أذبتها وسويتها خاتماً فنقلتها من شكل إلى شكل آخر، منه قوله تعالى: {فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] ، ويقال: بدلَّلتُ قَمِيصِي جُبَّة، إذا قلبت عَيْنَهُ فجعلتهُ جُبَّةٌ، وقال الشاعر: [الطويل] 3247 - فَمَا النَّاسُ بالنَّاسِ الذينَ عَرَفْتهُمْ ... ولا الدَّارُ بالدَّارِ الَّتي أنْتَ تَعْلمُ الثاني: أنْ تُفني الذات، وتحدث ذاتاً أخرى، كقولك: بدَّلتُ الدَّراهمَ دنَانِيرَ ومنه قوله تعالى: {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ} [سبأ: 16] . وإذا عرفت أن اللفظ محتمل للوجهين ففي الآية قولان: الأول: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: هي تلك الأرض، إلاَّ أنها تغير صفتها فتسيرُ عنها جبالها، وتفجر أنهارها، وتسوى، فلا {ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً} [طه: 107] وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» تُبدَّلُ الأرضُ غيكر الأرْضِ، فيَبْسُطهَا، ويمُدُهَا مدَّ الأدِيم [العكاظي] لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً «وتبدل السموات باتثارِ كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها؛ وخسوف قمرها، وكونها تكن تارة كالمهل، وتارة كالدهان. والقول الثاني: تبديل الذات. قال ابن مسعود رضي الله عه: تبدل بأرض كالفضَّة البيضاء النَّقية، لم يسفك فيها د مٌ، ولم يعمل عليها خطيئة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 415 والقائلون بالقول الأول هم الذين يقولون عند قيام القيامةِ: لا يعدم الله الذوات والأجسام، وإنَّما يعدم صفاتها. وقيل: المراد من تبديل الأرض والسموات: هو أنَّ الله تعالى، يجعل الأرض جهنم، ويجعل السموات الجنة بدليل قوله تعالى: {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ} [المطففين: 7] وقوله عزَّ وجلَّ {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأبرار لَفِي عِلِّيِّينَ} [المطففين: 18] . وقالت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها: سألتُ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48] أيْنَ تكُون النَّاس يَوْمئذٍ؟ فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «على الصِّراطِ» . وروى ثوبانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أن حبْراً من اليهودِ سأل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أيْنَ تكُونُ النَّاسُ يَومَ تُبدَّلُ الأرضُ غير الأرْضِ؟ قال: «هُمْ في الظُّلمةِ دون الجِسْرِ» . قوله «والسَّمواتِ» تقديره: وتبدل السموات غير السموات. وقرىء: «نُبَدّلُ» بالنون: «الأرض» نصباً «والسَّمواتِ» نسق عليه. قوله «وبَرَزُوا» فيه وجهان: أحدهما: أنها حملةٌ مستأنفة، أي: يبرزون، كذا قدَّره أبو البقاءِ، يعنى أنه ماض يراد به الاستقبال، والأحسن أنه مثل {ونادى أَصْحَابُ النار} [الأعراف: 50] {ونادى أَصْحَابُ الجنة} [الأعراف: 44] {رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} [الحجر: 2] {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] لتحقُّّق ذلك. والثاني: أنها حال من «الأرض» ، و «قَدْ» معها مرادة، قاله أبو البقاءِ ويكون الضمير في: «بَرَزُوا» للخلق دلّ عليه السِّياق، والرَّابط بين الحال، وصاحبها الواو. وقرأ زيد بن علي «وبُرِّزُوا» بضم الباء، وكسر الرَّاء مشددة عل التَّكثير في الفعل ومفعوله، وتقدَّم الكلام في معنى البروز عند قوله تعالى {وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً} [إبراهيم: 21] ، وإنما ذكر «الوَاحدِ القهَّارِ» هنا؛ لأنَّ الملك إذا كان لمالك واحد غالبٍ لا يغلبُ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 416 قهَّار لا يقهر، فلا يستغاث بأحد عغيره، فكان الأمر في غية الصعوبة ولما وصف نفسه تعالى بكونه قهاراً، بيَّن عجزهم، وذلتهم فقال: «وتَرَى المُجْرمينَ» وصفهم بصفات: الأولى: قوله: {مُّقَرَّنِينَ فِي الأصفاد} «يجوز أن يكون حالاً على أنَّ الرؤية بصريّة، وأن يكون مفعولاً ثانياً على أنَّها علمية، و» فِي الأصْفادِ «متعلق به. وقيل: بمحذوف على أنه حال أو صفة ل» مُقرَّنينَ «» . والمُقرن: من جمع في القَرَن، وهون الحبل الذي يربط به، قال: [البسيط] 3248 - أوابنُ اللَّبُون إذَا ما لُزَّ فِي قرنٍ ... لَمْ يَستَطعْ صَولةَ البُزْلِ القَناعِيسِ وقال آخر: [البسيط] 3248 - ب والخَيْرُ والشَّرُّ مَلْزُوزان في قَرنٍ ... وقال آخر: [البسيط] 3248 - ج إنِّي لَدَى الباب كلمَلزُوزِ في قَرنٍ ... يقال: قَرنْتُ الشَّيء بالشَّيء إذا شددتهُ بِهِ، ووَصلتهُ، والقرنُ: اسم للحَبْلِ الذي يُشَدُّ بِهِ، ونكَّرهُ لِكثرةِ ذلِك. والأصْفَادُ: جمع صفدٍ، وهو الغلُّ، والقيد، يقال: صَفَدَهُ يَصْفِده صَفْداً، قيَّدهُ، بِهِ، والاسم الصَّفَد، وصفَّدهُ مشدداً للتكثير؛ قال: [الوافر] 3249 - فآبُوا بالنّهَابِ وبالسَّبَايَا ... وأبْنَا بالمُلُوكِ مُصفَّدِينَا والأصفادُ من الصَّفْد، وأصفْدَه، أي: أعطاه، ففرَّقُوا بين «فَعَل» و «أفْعَلَ» . وقيل: بل يستعملان في القَيْدِ، والعَطاءِ، قال النابغة الذبياني: [البسيط] 3250 - ... ... ... ... ... ..... فَلمْ أعرِّضْ أبَيْتَ اللَّعْنَ بالصَّفدِ أي: بالإعطاءِ، وسمي العطاء صفداً، لأنَّه يُقيَّدُ من يعطيه، منه: أنا مغلول أياديك، أسير نعمتك. فصل قيل: يقرن كل كافرٍ مع شيطانٍ في سلسلة، بيانهن قوله: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} [ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 417 الصافات: 22] يعنى: قرناءهم من الشَّياطين، وقوله جل ذكره: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} [التكوير: 7] . أي قرنت. وقيل: مقرونة أيديهم، وأرجلهم إلى رقابهم بالأصفاد أي: بالقيود. قوله: {سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ} مبتدأ وخبر في محل نصب على الحال من «المُجْرمينَ» وإمَّا من: «مُقرَّنِينَ» ، وإما من ضميره، ويجوز أن تكون مستأنفة وهو الظاهر. والسَّرابِيلُ: الثِّيابُ، وسَرْبلتهُ، أي: ألْبَستهُ السِّربالَ؛ قال: [السريع] 3251 - ... ... ... ... ... ... . ... أوْدَى بِنعْليَّ وسِرْبَالِيَه وتطلق على ما يحصن في الحرب من الدِّرع، وشبهه قال تعالى: {وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ} [النحل: 8] . والقَطرانُ: ما يستخرج منن شجر يسمَّى الأبهل، فيطبخ ويطلى به الإبل الجُرْب ليذهب جربها [بحدته، وقد تصل حرارته إلى داخل الجوف، ومن شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار] ، وهو أسود اللَّون منتن الرَّائحةِ، وفيه لغاتٌ: «قِطرانٍ» بفتح القاف وكمسر الطاء، وهي قراءة العامة. و «قَطْران» بزنة سكران، وبها قرأ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وقال أبو النَّجْم: [الرجز] 3252 - لَبَّسَهُ القَطْرانَ والمُسُوحَا ... و «قِطْرَان» بكسر القاف، وسكون الطاء بزنة «سِرْحَان» ولم يقرأ بها فيما علمتُ. قال شهابُ الدين رَحِمَهُ اللَّهُ: وقرأ جماعة كثيرة منهم عليُّ بن أبي طالب وةابن عباس، وأبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: «قَطِرِ» بفتح الْقاف، وكسرها وتنوين الراء «آنٍ» بوزن «عَانٍ» جعلوها كلمتين، والقَطِر: النَّحاس، وال «آنِ» اسم فالع من أنَى يأني، أي: تَناهى في الحرارةِ؛ كقوله تعالى: {بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ} [الرحمن: 44] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 418 وعن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ليس بالطقران، ولكنَّه النحاس الذي يصير بلونه. قال ابن الأنباري: «تلك النَّار لا تبطل ذلك القطران، ولا تفنيه، كما لا تهلك أجسادهم النَّار، والأغلال التي عليهم» . واعلم أنه يطلى بذلك القطران جلود أهل النَّار حتَّى يصير ذلك الطِّلاء كالسِّربال، وهو القميص، فيحصل بسببه أربعة أنواع من العذاب: لذع القطران وحرقته، وإسراع النَّار في جلودهم، واللون الوحش، ونتن الرِّحِ، وأيضاً: التفاوت بين قطران القيامة، وقطران الدنيا كالتَّفاوت بين النارين. قوله: {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} قرىٍ «وتَغَشَّى» بتشديد الشِّين، أي: وتتغشى فحذفت إحدى التَّاءين. وقرىء برفع: «وُجوهُهُم» ونصب «النَّار» على سبيل المجازِ، جعل ورود الوجوه النار غشياناً. والجملة من قوله: «وتَغْشَى» قال أبو البقاءِ: «حال أيضاً» . يعني أنَّها معطوفة على الحالِ، ولا يعني أنَّها حال، والواو للحال، لأنَّه مضارع مثبت. فصل المعنى: [تعلو] النَّار وجوههم، ونظيره قوله تعالى: {أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب} [الزمر: 24] وقوله: {يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48] . واعلم أنَّ موضع المعرفة والنَّكرة، والعلم، والجهل هـ والقلبُ، وموضع الفكر، والوهم والخيال هو الرَّأس، وتأثير هذه الأحوال يظهر في الوجه، فلهذا السبب خص الله تعالى هذين العضوين بظهور آثار العقاب فيهما، قال الله تعالى [في القلب] : {نَارُ الله الموقدة التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة} [الهمزة: 6، 7] وقال تعالى في الوجه: {وتغشى وُجُوهَهُمْ النار} . قوله: {لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} في هذه الأيام وجهان: أظهرهما: أنَّها تتعلق ب «بَرَزُوا» وعلى هذا فقوله: «وتَرَى» جلمة معترضة بين المتعلق، والمتعلق به. والثاني: أنها تتعلق بمحذوف، أي: فعلنا بالمجرمين، ذلك ليجزي كل نفس لأنه إذا عاقب المجرم؛ أثاب الطَّائع. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 419 قال الواحدي: «المرادُ: أنفسُ الكفَّار؛ لأن ما سبق ذكره لا يليق أن يكون جزاء لأهعل الإيمان، ويمكن إجراء اللفظ على عمومه، وأنه تعالى يجزي كلَّ نفسٍ ما كسبتن من عملها اللائق بها، فيجزي الكفار بهذا العقاب المذكور، ويجزي المؤمن المطيع الثَّواب وأيضاً، فالله تعالى لما عاقب المجرمين بجرمهم، فلأن يثيب المطيعين أولى» . ثم قال تعالى: {إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب} أي: لا يظلمهم، ولا يزيد على عقابهم الذي يستحقه. قوله تعالى: {هذا بَلاَغٌ} إشارة إلى ما تقدَّم من قوله: «ولا تحْسَبنَّ» إلى هنا، أو إلى كلِّ القرآن، نزل منزلة الحاضر بلاغ، أي: كافية في الموعظة. قوله تعالى: {وَلِيُنذَرُواْ بِهِ} فيه أوجه: أحدها: أنه متعلقٌ بمحذوف، أي: ولينذروا أنزلنا عليك. الثاني: [أنه معطوف على محذوف، وذلك المحذوف متعلق ب «بلاغ» ، تقديره: لينصحوا ولينذروا] . الثالث: أن الواو مزيدة: «ولِيُنْذَرُوا» متعلق ب «بَلاغٌ» ، وهو رأي الأخفش نقله الماورديُّ. الرابع: أنه محمولٌ على المعنى، أي: ليبلغوا، ولينذروا. الخامس: أن اللام لام الأمر، وهو حسنٌ، لولا قوله: «ولِيَذَكَّرَ» فإن منصوب فقط. قال شهاب الدين: قال بعضهم: لا محذور في ذلك، فإن قوله: «لِيَذَّكرَ» ليس معطوفاً على ما تقدمه، بل متعلق بفعل مقدر، أي: وليذكر أنزلناه وأوحيناه. السادس: أ، هـ خبر لمبتدأ مضمر، التقدير: هذا بلاغ، وهو لينذروا قاله ابن عطيَّة. السابع: أنه عطف مفرداً على مفردٍ، أي: هذا بلاغ وإنذار، قاله المبردُ وهو تفسير معنى لا إعراب. الثامن: أنه معطوف على قوله: «يُخْرجَ النَّاسَ» في أول السورة، وهذا غريب جدًّا. التاسع: قال أبو البقاء: «المعنى هذا بلاغٌ للنَّاسِ، والإنذارُ متعلق بالبلاغ أو بمحذوف إذا جعلت النَّاس صفة. ويجوز أن يتعلق بمحذوف، وتقديره: ولينذروا به أنزل، أو تلي» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 420 قال شهاب الدين: «فيؤدّي التقدير إلى أن يبقى التركيب: هذا بلاغ للإنذار والإنذار لا يتأتي فيه ذلك» . وقرأ العامة: «لِيُنذَرُوا» مبنيًّا للمفعول. وقرأ مجاهدٌ وحميد بن قيس: «ولتُنْذِرُوا» بتاء مضمومة، وكسر الذال كأن البلاغ للعموم، والإنذار للمخاطبين، وقرأ يحيى بن عمارة الدراع من أبيه وأحمد بن يزيد بن أسيد السلمي «ولِيَنْذَرُوا» بفتح الياء والذال من نَذرَ بالشَّيء، أي: علم به فاستعد له. قالوا: ولو لم يعرف مصدر فهو ك «عَسَى» ، وغيرها من الأفعال التي لا مصارد لها. فصل معنى «لِيُنْذَرُوا» أي: وليخوفوا به {وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} أي: يستدلُّوا بهذه الآيات على وحدانيَّة الله تعالى: {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} أي: يتّعظ أولو العقول. قال القاضي: أول هذه السورة، وأخرها يدلُّ على أنَّ العبد مستقل بفعله إن شاء أطاعه، وإن شاء عصى. أمَّا أوَّل هذه السورة فقوله تعالى: {لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور} [إبراهيم: 1] وقد ذكرناه هناك. وأمَّا آخر السورة فقوله تعالى: {وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب} يدلُّ على أنَّه تعالى إنَّما أنزل هذه السورة، وذكر هذه المواعظ؛ لأجل أن ينتفع بها الخلق؛ ليصيروا مؤمنين مطيعين، ويتركوا الكفر والمعصية، وقد تقدم جوابه. روى أبو أمامة عن أبي بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورة إبْرَاهِيم أعْطِيَ مِنَ الأجْرِ عَشر حَسناتٍ بِعدَدِ مَنْ عَبدَ الأصْنامَ، ومَنْ لَمْ يَعْبُدهَا» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 421 سورة الحجر الجزء: 11 ¦ الصفحة: 422 سورة الحجر مكية بالإجماع. وهي تسع وتسعون آية، وستمائة وأربعة وخمسون كلمة، وعدد حروفها: ألفان وتسعمائة حرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {ال ? رَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ} تقدَّم نظير {تِلْكَ آيَاتُ} أول الرعد، والإشارة ب «تِلْكَ» إلى ما تظمنته السورة من الآيات، ولم يذكر الزمشخريُّ غيره. وقيل: إشارة إلى الكتاب السالف، وتنكير القرآن للتفخيم، والمعنى: تلك آياتُ ذلك الكتاب الكالم في كونه كتاباً، وفي كونه قرآناً مفيداً للبيان. والمراد ب «الكِتَابِ» وال «قُرآن المبينِ» : الكمتاب الذي وعد به محمد صلوات الله وسلام عليه، أي: مبين الحلال من الحرامِ، والحقَّ من الباطل. فإن قيل: لِمَ ذكر الكتاب، ثم مقال: «وقُرْءَانٍ» ، وكلاهما واحدٌ؟ . قيل: كلُّ واحدٍ يفيد فائدة أخرى؛ فإنَّ الكتاب ما يكتبُ، والقرآن ما يجمع بضعه إلى بعض. وقيل: المراد ب «الكِتَابِ» التَّوراةُ والإنجيلُ، فيكون اسم جنسٍ، وبال «قرآن» : هذا الكتاب. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 422 قوله: {رُّبَمَا يَوَدُّ} في «رُبَّ» قولان: أحدهما: أنها حرف جرٍِّ، وزعم الكوفيُّون، وأبو الحسنِ، ابنُ الطَّراوة: أنها اسمٌ، ومعناها: التَّقليلُ على المشهور. وقيل: تفيد التكثير في مواضع الاتفخار؛ كقوله: [الطويل] 3253 - فَيَا رُبَّ يَوْمٍ قَدْ لَهوْتَُ ولَيْلةٍ ... بآنِسَةٍ كأنَّها خَطُّ تِمْثَالِ وقد أجيب عن ذلك: بأنها لتقليل النَّظير. وفيها سبعة عشرة لغة وهي: «رُبَّ» بضمِّ الراءِ وفتحها كلاهما مع تشديتد الباء، وتخفيفها، فهذه أربع، ورويت بالأوجه الأربعة، مع تاء التأنيث المتحركة، و «رُب» بضم الراء وفتحها مع إسكان الباء، و «رُبُّ» بضم الراء وةالباء معاً مشددة ومخففة، و «رُبَّت» . وأشهرها: «رُبَّ» بالضم والتشديد والتخفيف، وبالثانية قرأ عاصمٌ ونافعٌ وباتصالها بتاء التأنيث، قرأ طلحة بن مصروف، وزيد بن علي: «رُبَّتما» ، ولها أحكام كثيرة: منها: لزوم تصديرها، ومنها تنكير مجرورها؛ وقوله: [الخفيف] 3254 - رُبَّما الجَاملِ المُؤبل فِيهمْ ... وعَناجيجُ بَينهُنَّ المَهارِي ضرورة في رواية من جرَّ «الجَاملِ» . ويجر ضمير لازم التفسير بعده، ويستغنى بتثنيتها وجمعها، وتأنيثها عن تثنية الضمير، وجمعه، وتأنيثه؛ كقوله: [البسيط] 3255 - ... ... ... ... ... ... ... . ... ورُبَّهُ عَطِباً أنْقَذْتَ مِنْ عَطَبِهْ والمطابقة؛ نحو: ربَّهُما رجُلَيْنِ، نادر، وقد يعطف على مجرورها ما أضيف إلى ضميره، نحو: رُبَّ رجُلٍ وأخيه، وهل يلزم وصف مجرورهنا؛ ومضيُّ ما يتعلق به على ضميره، نحو: رُبَّ رجُلٍ وأخيه، وهل يلزم وصف مجرورها؛ ومضيُّ ما يتعلق به على الجزء: 11 ¦ الصفحة: 423 خلاف، والصحيح عندم ذلك؛ فمن مجيئه غير موصوف قول هند: [مجزوء الكامل] 3256 - يَا رُبَّ قائلةٍ غَدًا ... يَا لَهْفَ أم مُعاوِيًَه ومن مجيء المستقبل، قوله: [الوافر] 3257 - فَإن أهْلِكَ فرُبَّ فتًى سَيَبْكِي ... عَليَّ مُهذَّبٍ رَخْصِ البَنانِ وقول هند: [مجزوء الكامل] 3258 - يَا رُبَّ قَائلةٍ غَداً ..... ... ... ... ... ... ... ... ... وقول سليم: [الطويل] 3259 - ومُعْتَصِمٍ بالحيِّ من خَشْيَةِ الرَّدَى ... سَيَرْدَى وغَازٍ مُشفِقٍ سَيَئُوبُ فإن حرف التنفيس، و «غداً» خلَّصاه للاستقبال. و «رُبَّ» تدخل على الاسم، و «رُبَّما» على الفعل، ويقال: ربَّ رجُلٍ جَاءنِي، ورُبَّما جَاءنِي. و «ما» في «رُبمَا» ، تحتمل وجهين: أظهرهما: أنها المهيئة، بمعنى أنَّ «رُبَّ» مختصة بالأسماءِ، فلما جاءت هنا «ما» هيَّأت دخولها على الأفعال وقد تقدم نظير ذلك [يونس: 27] في «إنَّ» وأخواتها ويكفها أيضاً عن العمل؛ كقوله: [الخفيف] 3260 - رُبَّما الجَامِلُ المُؤبَّلش فِيهِمْ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... في رواية من رفعه كما جرى ذلك في كاف التشبيه. والثاني: أنَّ «مَا» نكرة موصوفة بالجملة الواقعة بعدها، والعائد على «ما» محذوف تقديره: ربَّ شيء يوده الذين كفروا، ومن لم يلتزم مضيَّ متعلقها، لم يحتج إلى تأويل، ومن التزم ذلك قال: لأن المترقب في إخبار الله تعالى واقعٌ لا محالة، فعبَّر عنه بالماضي، تحقيقاً لوقوعه؛ كقوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] ونحوه. قوله: «لَوْ كَانُوا» يجوز في «لَوْ» وجهان: أحدهما: أن تكون الامتناعيَّة، وحينئذ، يكون الجزء: 11 ¦ الصفحة: 424 جوابها محذوفاً، تقديره لو كانُوا مسلمين لسرُّوا أو تخلصوا مما هم فيه، ومفعول «يوَدُّ» محذوف على هذا التقدير، أي: ربما يودُّ الذين كفروا النجاة، دلَّ عليه الجملة الامتناعية. والثاني: أنَّها مصدرية عند من يرى ذلك، كما تقدم تقريره في البقرة [البقرة: 96] ؛ وحنيئذ يكون هذا المصدر المؤولُ هو المفعول للودادة، أي: يودُّون كونه مسلمين، إن جعلنا «ما» كافة، وإن جعلناها نكرة، كانت «لَوْ» وما في حيِّزها بدلاً من «مَا» . فصل المعنى: يتمنَّى الذين كفورا لو كانوا مسلمين، واختلفوا في الحال التي يتمنى الكافر فيها. قال الضحاك: حال المعاينة. وقيل: يوم القيامة. والمشهور: أنه حين يخرجُ الله المؤمنين من النار. روى أبو موسى الأشعريُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إذَا اجْتمعَ أهْلُ النَّار في النَّارِ، ومعهُمْ من شَاءَ اللهُ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ، قال الكفَّارُ لمِنْ في النَّار من أهْلِ القِبْلةِ: ألَسْتُم مُسْلمينَ؟ قالوا: بَلى، قالوا: فَمَا أغْنَى عَنْكُم إسْلامكُم، وأنْتُمْ معنا في النَّارِ، قالوا: كَانَتْ لنَا ذُنوبٌ فأُخِذْنَا بِهَا، [فيغفر] الله لَهُمْ، بِفضْلِ رَحْمتهِ، فيَأمرُ بإخْراجِ كُلِّ مَنْ كانَ مِنْ أهْلِ القِبْلةِ في النَّار، فيَخْرجُونَ مِنْهَا، فحنيئذٍ يودُّ الذين كفروا لَوْ كَانُوا مُسْلمينَ» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 425 فإن قيل: «رُبمَا» للتقليل، وهذا التَّمني يكثر من الكفار. فالجواب: أنَّ «رُبمَا» يراد بها التكثير، والمقصود إظهار الترفع، والاستغناءُ عن التَّصريح بالغرض؛ فيقولون: ربَّما نَدمتُ على ما فعلتُ، ولعلَّكَ تَندمُ على فِعلِكَ؛ إذا كان العلمُ حَاصلاً بكثر النَّدمِ، قال: [البسيط] 3261 - أتْرك القِرْنَ مُصْفرًّا أنَاملهُ ..... ... ... ... ... ... ... ... . . وقيل: التقليل أبلغ في التهديد، والمعنى: أنَّ قليل الندم كافٍ في الزجر عن هذا العمل، فكيف كثره؟ . وقيل: إنْ شغلهم بالعاذب لا يفزعهم للندامة فيخطر ذلك ببالهم أحياناً. فإن قيل: إذا كان أهل القيامةِ، يتمنَّون أمثال هذه الأحوال، وجب أن يتمنى المؤمن الذي يقلُّ ثوابه عن درجةِ المؤمنِ الذي يكثر ثوابه، والمُتمنِّي لما لم يجده يكونُ في الغصَّة وتَألُّمِ القلبِ. فالجواب: أحوالُ أهل الآخرةِ، لا تقاس بأحوال الدنيا؛ فإن الله تعالى يُرضي كُلَّ واحدٍ بما هو فيه، وينزع عن قلوبهم الحسد، وطلب الزيادتِ؛ كما قال تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} [الحجر: 47] . قوله تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} [الحجر: 3] الآية، أي دعْ يا محمد، الكفَّار يأخذوةا حفوظهم من دنياهم، فتلك خلاقهم، ولا خلاق لهم في الآخرةِ، {وَيُلْهِهِمُ} يشغلهم «الأملًُ» عن الأخذ بحظِّهم من الإيمان والطَّاعة، {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} إذا [وردوا] القيامة، وذاقوا وبال [صنعهم] وهذا تهديدٌ ووعيدٌ. وقال بعض العلماء: «ذَرْهُمْ» ، تهديدٌ، و {سَوْفَ يَعْلَمُونَ} ، تهديدٌ آخر، فمتى يهدأ العيش بين تهديدين؟! والآية نسختها آية القتالِ. قوله: «وذَرْهُمْ» ، هذا الأمرُ لا يستعمل له ماضٍ إلا قليلاً؛ استغناءً عنه ب «تَرَكَ» ، بل يستعمل منه المضارع نحو: {وَيَذَرُهُمْ} [الأعراف: 186] ، ومن مجيء الماضي قوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ «ذَرُوا لحَبشَة ما وَذَرتْكُم» ، ومثله: دَعْ ويَدَعْ، ولا يقال: ودَعَ إلا نادراً، وقد قرىء: {مَا وَدَّعَكَ} [الضحى: 3] مخففاً؛ وأنشدوا: [الرمل] 3262 - أسَلْ أمِيري مَا الذي غَيَّرهُ ... عَنْ وصَالِي اليَوْمَ حتَّى وَدَعهْ؟ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 426 و «يَأكلُوا» مجزومٌ على جواب الأمر، وقد تقدم [البقرة: 17، 278] أنَّ «تَرَكَ» و «وَذرَ» يكونان بمعنى «صيَّر» ، فعلى هذا يكون المفعول الثاني محذوفاً، أي: ذرهُم مهملين. قوله تعالى: {وَيُلْهِهِمُ الأمل} ، يقال: لهيتُ عن الشَّيء ألهي لُهِيَّا؛ جاء في الحديث: أنَّ ابن الزبير رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كان إذا سمع صوت الرَّعدِ لَهِيَ عن الحديث «. قال الكسائيُّ، والأصمعيُّ: كلُّ شيءٍ تركتهُ، فقد لهيتهُ؛ وأنشد: [الكامل] 3262 - ب صَرمتْ حِبالَكَ فالْهَ عَنْهَا زَيْنَبُ ... أي: اتركها، وأعرض عنها. فصل في سبب شقاء العبد قال القرطبي: أربعةٌ من الشقاءِ؛ جمودُ العين، وقساوة القلبِ، وطُولُ الأملِ، والحرصُ على الدُّنيا. فطُول الأملِ: داء عضالٌ، ومرض مزمن، ومتى تمكن من القلب فسد مزاجه، واشتدَّ علاجه، ولم يفارقه داءٌ، ولا نجع فيه دواء، بل أعيا الأطبَّاء، ويئس من بُرئه الحكماء والعلماء. وحقيقة الأمل: الحرص على الدنيا، والانكباب عليها، والحبُّ لها، والإعراض عن الآخرة، قال صلوات الله وسلامه عليه:» نَجَا أوَّلُ هذهِ الأمَّة باليَقِينِ والزُّهْدِ، ويهْلِكُ آخِرُهَا بالبُخْلِ والأمَلِ «. وقال الحسن: ما أطال عبدٌ الأمل، إلا أساء العمل. قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ} ، أي: من أهل قرية، {إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ} فيه أوجه: أظهرها: أنها واو الحال، ثم لك اعتباران: أحدهما: أن تجعل الحال وحدها الجارَّ، ويرتفع «كِتَابٌ» به فاعلاً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 427 والثاني: أن تجعل الجارَّ مقدماً، و «كِتَابٌ» مبتدأ، والجملة حالٌ، وهذه الحال لازمةٌ. الوجه الثاني: أنَّ الواو مزيدة، ويؤيده قراءة ابن أبي عبلة: «إلاَّ لَهَا» بإسقاطها، والزيادة ليست بالسهلةِ. الثالث: أن الواو داخلة على الجملة الواقعة صفة؛ تأكيداً، قال الزمخشريُّ: والجملة واقعة صفة ل «قَرْيَةٍ» ، والقياس: ألاَّ تتوسط هذه الواو بينهما؛ كما قوله تعالى: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208] وإنما توسَّطت، لتأكيد لصُوقِ الصفة بالموصوف؛ كما تقول: «جَاءنِي زيْدٌ عليْهِ ثَوبهُ، وجَاءنِي وعليْهِ ثوْبهُ» . وقد تبع الزمخشري في ذلك أبا البقاء، وقد سبق له ذلك أيضاً في البقرة عند قوله: {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] . قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ: «ولا نعلم أحداً قاله من النَّحويين» . قال شهاب الدين: وفي محفوظِي أنَّ ابن جنّي سبقهما إلى ذلك «. ثم قال أبو حيان:» وهو مبنيٌّ على جواز أنَّ ما بعد «إلاَّ» يكون صفة؛ وقد منعوا ذلك «. قال الأخفش: لا يفصل بين الصفة والموصوف ب» إلا «، ثم قال: وأما نحو:» مَا جَاءَنِي رجٌلٌ إلاَّ راكِبٌ «على تقدير: إلاَّ رجلٌ راكبٌ، ففيه قُبح؛ لجعلك الصفة كالاسم. وقال أبو علي: تقول ما مررتُ بأحَدٍ إلاَّ قائماً، وقائماً حالٌ، ولا تقول: إلاَّ قائمٌ؛ لأنَّ» إلاَّ «لا تعترض بين الصِّفة والموصوف. قال ابن مالكٍ: وقد ذكر ما ذهب إليه الزمخشريُّ في قوله» مَا مَررْتُ بأحَدٍ إلاَّ زَيْدٌ خَيْرٌ مِنْهُ «: إنَّ الجملة بعد» إلاَّ «صفة ل» أحَدٍ «: إنه مذهبٌ لا يعرف لبصريِّ، ولا كوفي فلا يلتفت إليه، وأبطل قوله:» إنَّ الواو توسَّطت لتأكيد لصوف الصفة بالموصوف «. قال شهابُ الدين رَحِمَهُ اللَّهُ: قولُ الزمخشريِّ قويٌّ من حيث القياس؛ فإنَّ الصفة في المعنى كالحال، وإن كان بينهما فرقٌ من بعض الوجوه. فكما أنَّ الواو تدخل على الجملة الواقعة حالاً؛ كذلك تدخل عليها واقعة صفة، ويقويه أيضاً [نصره] به من الآية الأخرى في قوله: {مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ} [الشعراء: 208] . ويقويه أيضاً: قراءة ابن أبي عبلة المتقدمة، وقال منذرُ بن سعيد: هذه الواو هي التي تعطي أن الحالة التي بعدها في اللفظ، هي في الزمن قبل الحالة التي الجزء: 11 ¦ الصفحة: 428 قبل الواو، ومنه قوله تعالى: {حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] . فصل لما توعد مكذِّبي الرسل بقوله: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ} الآية أتبعه بما يؤكد الزجر، وهو قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} في الهلاك والعذاب، أي: أجلٌ مضروبٌ، لا يتقدم العذاب عليه، ولا يتأخر عنه، والمراد بهذا الهلاك: عذاب الاستئصال، وقيل: الموتُ. قال القاضي: والأول أقرب؛ لأنه أبلغ في الزَّجر، فبيَّن تعالى أن هذا الإمهال لا ينبغي أن يغترَّ به العاقل. وقيل: المراد بالهلاك مجموع الأمرين. قوله: {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا} «مِنْ أمةٍ» فاعل «تَسْبِقُ» ، و «مِنْ» مزيدة للتأكيد؛ كقولك: ما جَاءنِي من أحَدٍ. قال الواحدي: «وقيل: ليست بزائدةٍ؛ لأنَّها تفيد التبعيض، أي: هذا الحكم لم يحصل في بعض من أبعاض هذه الحقيقة، فيكون ذلك في إفادة عموم النَّفي، آكد» . قال الزمخشري: «معنى:» سَبَقَ «: إذا كان واقعاً على شخصٍ، كان معناه أنَّه [جاز] ، وخلف؛ كقولك: سَبَقَ زيدٌ عمْراً، أي: جَاوزَهُ وخَلفهُ وراءهُ، ومعناه: أنه قصَّر عنه وما بلغه، وإذا كان واقعاً على زمانٍ، كان بالعكس في ذلك، كقولك: سَبٌ فُلانٌ عام كذا، معناه: أنه مضى قبل إتيانه، ولم يبلغه، فقوله: {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} معناه: أنه لا يحصل الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده، وإنَّما يحصل الأجل قبل ذلك الوقت ولا بعده، وإنَّما يحصل في ذلك الوقت بعينه» . وحمل على لفظ «أمََّةٍ» في قوله: «أجَلهَا» ، فأفرد وأنَّث، وعلى معناها في قوله: {وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} ، فجمع وذكَّر، وحذف متعلق «يَسْتَأخِرُون» وتقديره: عنه؛ للدلالة عليه، ولوقوعه فاصلاً. وهذه الآية تدلُّ على أنَّ كل من ما أو قتل، فإنما مات بأجله، وأنَّ من قال: يجوز أن يموت قبل أجله مخطىء. قوله: «وقَالُوا» ، يعنى مشركي مكَّة {يا أيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر} ، أي: القرآن، وأراد به محمداً صلى الله وعليه وسلم. والعامة على: «نُزِّلَ» مشدَّداً، مبنيًّا للمفعول، وقرأ زيد بن علي: «نَزلَ» ، مخفََّاً مبنيًّا للفاعل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 429 {إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ} وذكروا نزول الذِّكر؛ استهزاء، وإنما وصفوه بالجنون، إما لأنه صلوات الله وسلامه عليه كان يظهر عليه عند نزول الوحي، حالةٌ شبيهةٌ بالغشي؛ فظنُّوا أنَّها جنونٌ، ويدلُّ عليه قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ} [الأعراف: 184] . وإما لأنه كانا يستبعدون كونه رسولاً حقًّا من عند الله؛ لأن الرجل إذا سمع كلاماً مستبعداً من غيره، فربما قال: به جنون. قوله: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} ، «لَوْ مَا» : حرف تحضيضٍ؛ ك «هَلاًّ» ، وتكون أيضاً حرف امتناع لوجودٍ، وذلك كما أنَّ «لولا» متردَّدةٌ بين هذين المعنيين، وقد عرف الفرق بينهما، وهو أنَّ التحضيضيَّة لا يليها إلاَّ الفعل ظاهراً أو مضمراً؛ كقوله: [الطويل] 3263 - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... لَوْلاَ الكَمِيَّ المُقَنَّعَا والامتناعية لا يليها إلا الأسماء: لظفاً أو تقديراً عند البصريين. وقوله: [الوافر] 3264 - ولَوْلاَ يَحْسِبُونَ الحِلْمَ عَجْزاً ... لمَا عَدِمَ المُسِيئُونَ احْتِمَالِي مؤولٌ؛ خلافاً للكوفيين. فمن مجيء «لَوما» حرف امتناعٍ قوله: [البسيط] 3265 - لَوْمَا الحيَاءُ ولَوْمَا الدِّينُ عِبْتُكمَا ... بِبعْضِ ما فِيكُمَا إذْ عِبْتُما عَورِي واختلف فيها: هل هي بسيطة أم مركبة؟ . فقال الزمخشري: «لَوْ» ركبت مع «لا» ، ومع «مَا» ؛ لمعنيين، وأمَّا «هَلْ» فلم تركَّب إلاَّ مع «لا» وحدها؛ للتحضيض. واختلف أيضاً في «لَوْمَا» هل هي أصلٌ بنفسها، أم فرعٌ على «لَوْلاَ» وأنَّ الميم مبدلة من اللام، كقولهم: خاللته، خالمته، فهو خِلِّي وخِلْمِي، أي: صديقي. وقالوا: استولى على كذا، [واسْتَوَى] عليه؛ بمعنًى، خلاف مشهور، وهذه الجملة من التحضيض، دالةٌ على جواب الشرط بعدها. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 430 فصل في معنى الآية المعنى: لو كنت صادقاً في أدَّعائك النُّبوَّة، لأتيتنا بملائكة يشهدون عندنا بصدقكم فيما تدَّعيه من الرسالة؛ ونظيره قوله تعالى في الأنعام: {وَقَالُواْ لولاا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر} [الأنعام: 8] ويحتمل أن النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا خوَّفهُم بنزول العذاب، قالوا: لو ما تأتينا بالملائكة الذين ينزلون العذاب، وهو المراد من قوله: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب} [العنكبوت: 53] . ثم إنه تعالى أجاب عن شبهتهم بقوله: {مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ} فإذا كان المراد الأول، كان تقرير الجواب: أنَّ إنزال الملائكة لا يكون إلا بالحقِّ، وقد علم الله تعالى من حال هؤلاء الكفار، أنه لو أنزل عليهم ملائكة، لبقوا مصرِّين على كفرهم، فيصير إنزالهم عبثاً باطلاً، ولا يكون حقًّا، فلهذا السبب ما أنزل الله تعالى الملائكة. قال المفسرون: المراد بالحق هنا الموت، أي: لا ينزلون إلا بالموتِ، أو بعذابٍ الاستئصال، ولم يبق بعد نزولهم إنظارٌ، ولا إمهال، ونحن لا نريد عذاب الاستئصال بهذه الأمة؛ فلهذا السبب ما أنزلنا الملائكة، وإن كان المراد استعجالهم بنزول العذاب فتقرير الجواب: أنَّ الملائكة لا تنزل إلاَّ بعذاب الاستئصال، ولا تفعل بأمَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك؛ بل يمهلهم لما علم من إيمان بعضهم، ومن إيمان أولاد الباقين. قوله: {مَا نُنَزِّلُ الملائكة} ، قرأ أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «ما تُنزَّلُ» بضمِّ التاء، وفتح النون، والزاي مشدَّدة، مبنيًّا للمفعول، «المَلائِكةُ» : مرفوعاً لقيامه مقام فاعله، وهو موافقٌ لقوله تعالى: {وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً} [الفرقان: 25] ؛ لأنها لا تنزل إلاَّ بأمر من الله تعالى فغيرها هو المنزِّلُ لها، وهو الله تعالى. وقرأ الأخوان، وحفص: بضمِّ النون الأولى، وفتح الثانية، وكسر الزاي مشددة مبنيًّا للفاعل المعظم نفسه وهو الباري جل ذكره. «المَلائِكةَ» ، نصباً: مفعول به؛ وهو موافق لقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة} [الأنعام: 111] ، ويناسب قوله قبل ذلك: «ومَا أهْلَكْنَا» ، وقوله بعده: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} [الحجر: 9] ، وما بعده من ألفاظ التَّعظيم. والباقون من السبعة ما تنزَّلُ بفتح التاء والنون والزاي مشددة، و «المَلائِكةُ» مرفوعة على الفاعلية، والأصل: تَتنَزَّلُ، بتاءين، فحذفت إحداهما، وقد تقدم تقريره في: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 431 {تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] ، ونحوه، وهو موافق لقوله سبحانه وتعالى: {تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا} [القدر: 4] . وقرأ زيد بن علي: «مَا نَزلَ» مخففاً مبنيًّا للفاعل، و «الملائكةُ» مرفوعة على الفاعلية، وهو كقوله: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعرا: 193] . قوله: {إِلاَّ بالحق} يجوز تعلقه بالفعل قبله، أو بمحذوف على أنه حالٌ من الفاعل أو المفعول، أي: ملتبسين بالحق، وجعله الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ نعتاً لمصدر محذوف، أي: إلاَّ تنزُّلاً ملتبساً بالحقِّ. قوله «إذَنْ» قال الزمخشري: «إذَنْ حرف جواب وجزاء؛ لأنها جواب لهم، وجزاء الشرط مقدر، تقديره: ولو نزلنا الملائكة ما كانوا منظرين، وما أخر عذابهم» . قال صاحب النظم: «لفظة» إذَنْ «مركبة من» إذْ «، وهو اسم بملنزلة» حِينَ «؛ تقول: أتيتك إذْ جِئْتنِي، أي: حِينَ جِئْتنِي، ثم ضم إليه» إنْ «فصار: ِإذْ أنْ، ثما استثقلوا الهمزة؛ فحذفوها، فصار» إذَنْ «، ومجيْ لفظة» أنْ «دليل على إضمار فعلٍ بعدها، والتقدير: وما كانوا منظرين إذ كان ما طلبوا» . قوله: «نَحْنُ» إما مبتدأ، وإما تأكيدٌ، ولا يكون فصلاً؛ لأنه لم يقع بين اسمين، والضمير «لَهُ» للذكر، وهو الظاهرُ، وقيل: للرسول صلوات الله وسلامه عليه قاله الفراء، وقوَّاه ابن الأنباري، قال: لما ذكر الله الإنزال، والمنزل، دلَّ ذلك على المنزل عليه، فحسنت الكناية عنه؛ لكونه أمراً معلوماً، ك ما في قوله تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر} [القدر: 1] فإنَّ هذه الكناية عائد على القرآن، مع أنه لم يتقدم ذكره؛ وإنما حسنت الكناية لسبب معلوم، فكذا هاهنا، والأول أوضحُ «. فإذا قلنا: الكناية عائدة إلى القرآن، فاختلفوا في أنه تعالى كيف يحفظ القرآن؟ . فقيل: بأن جعله معجزاً مبايناً لكلام البشر يعجز الخلق عن الزيادة، والنقصان فيه، بحيث لو زادوا فيه أو نقصوا عنه، بغير نظم القرآن. وقيل: صانه، وحفظه من أن يقدر أحدٌ من الخلق على معارضته. وقيل: قيَّض جماعة يحفظونه، ويدرسونه فيما بين الخلق إلى آخر بقاءِ التكليفِ. وقيل: المراد بالحفظِ: هو أنَّه لو أنَّ احداً حاول تغيير حرفٍ أو نقطةٍ، لقال له أهل الدنيا: هذا كذب، وتغيير لكلام الله تعالى حتى أن الشيخ المهيب لو اتَّفق له لحنٌ أو هفوة في حرف من كتاب الله تعالى لقال له كل الصبيان: أخطأت أيُّها الشيخ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 432 واعلم أنه لم يتفق لشيءٍ من الكتب مثل هذه الحفظ؛ فإنه لا كتاب إلا وقد دخله التصحيف، والتحريف، والتغيير، إما في الكثير منه، أو في القليل، وبقاء هذا الكتاب مصوناً عن جميع جهات التَّحريف، مع أنَّ دواعي الملاحدة، واليهود، والنصارة، متوفرة على أبطاله وإفساده، فذلك من أعظم المعجزات. فإن قيل: لم اشتغلت الصحابة بجمع القرآن في المصحف، وقد وعد الله عَزَّ وَجَلَّ بحفظه وما حفظ الله عَزَّ وَجَلَّ فلا خوف عليه؟ . فالجواب: أنَّ جمعهم للقرآن كان من أسباب حفظ الله إياه، فإنه تعالى لما أراد حفظه، فيَّضهم لذلك، وفي الآية دلالةٌ قويةٌ على كون البسملةِ آية من كل سورة؛ لأن الله تبارك وتعالى قد وعد بحفظ القرآن، والحفظُ لا معنى له إلاَّ أن يبقى مصُوناً عن التغيير وعن الزيادة، وعن النقصان فلو لو تكن التسمية آية من القرآن، لما كان مصوناً من التغيير والزيادة، ولو جاز أن يظنَّ بالصحابة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم أنهم زادوا، لجاز أيضاً أن يظنَّ بهم النقصان؛ وذلك يوجب خروج القرآن عن كونه حجَّة، وهذا لا دليل فيه؛ لأن أسماء السور أيضاً مكتوبةٌ معهم في المصحف، وليست من القرآن بالأجماع. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 433 قوله: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا} مفعوله محذوف، أي: أرسلنا رُسُلاً {مِن قَبْلِكَ} ف {مِن قَبْلِكَ} يجوز أن يتعلق ب «أرْسَلْنَا» ، وأن يتعلق بمحذوف على أنه نعتٌ للمعفو ل المحفوف. و {فِي شِيَعِ الأولين} ، قال الفراء: هو من إضافة المصوف لصفته، والأصل: في الشِّيعِ الأوَّلين؛ كصَلاةِ الأولى، وجَانبِ الغربي حقِّ اليَقينِ، وجين القيمة. والبصريون: يؤولنه على الحذف [الموصوف، أي: في شيعِ الأممِ الأولين، وجانب المكان الغربي، وصلاةِ السَّاعةِ الأولى. والشِّيعُ: قال الفراء: الشَّاعُ واحدهم: شِيعَة، وشِيعَةُ الرجُلِ: أتْباعهُ، والشِّيعَةُ: وهم القوم المجتمعة المتفقة، سموا بذلك؛ لأن بعضهم يُشَاعُ بعضاً، وتقدم الكلام على هذا الحرف عند قوله تعالى: {أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً} [الأنعام: 65] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 433 قوله: {وَمَا يَأْتِيهِم} قال الزمخشري: «حكاية حال ماضية؛ لأنَّ» مَا «لا تدخل على المضارع إلاَّ وهو في موضعِ الحالِ، ولا على ماضٍ إلا وهو قريبٌ من الحال» . وهذا الذي ذكره هو الأكثر في لسانهم؛ لكنَّه قد جاءت ما مقارنة للمضارع المراد به الاستقبال؛ كقوله تعالى: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي} [يونس: 15] ، وأنشدوا للأعشى يمدحُ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [الطويل] 3266 - لَهُ نَافِلاتٌ ما يَغِبُّ نَوالُهَا ... ولَيْسَ عطَاءُ اليَوْمِ مَانِعَهُ غَدا وقال أبُو ذؤيب: [الكامل] 3267 - أوْدَى بَنِيَّ وأوْدَعُونِي حَسْرَةً ... عِنْدَ الرُّقَادِ وعَبْرَةً مَا تٌقلِعُ قوله: «إلا كانوا» هذه الجملة يجوز أن تكون حالاً من مفعول «تَأتيهم» ، ويجوز أن تكمون صفة ل «رسُولٍ» فيكون في محلِّها وجهان الجرُّ باعتبار اللفظ، والرفع باعتبار الموضع، وإذا كانت حالاً فهي حالٌ مُقدَّرةٌ. فصل في معنى الآية المعنى: أنَّ عادة هؤلاء الجهَّال مع جميع الأنبياء والرسول صلوات لله وسلامه عليهم الاستهزاءُ بهم؛ كما فعلًُوا بك؛ ذكره تسليةً للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. واعلم أنَّ السَّبَبَ الذي يحمِلُ هؤلاء الجهال على هذه العادة الخبيثة: إما لأنَّ الانتقال من المذاهب يشقُّ على الطِّباع. وإمَّا لكونِ الرسول صلوات الله وسلامه عليه يكون فقِيراً، وليس له أعوان، ولا أنصارٌ؛ فالرؤساءُ يَثقُل عليهم خدمة من يكون بهذه الصِّفة. وأمّا خذلانُ الله تعالى لهم، فبإلقاء دواعي الكفرِ والجهلِ في قلوبهم، وهذا هو السبب الأصليّ. قوله: {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين} ، يجوز في الكاف أن تكون مرفوعة المحلِّ على خبرها متبدأ مضمر، أي: الأمر كذلك، و «نَسْلكهُ» مستأنف، ويجوز أن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 434 تكون منصوبة المحل، إمَّا نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: مثل ذلك السلك؛ ويجوز نسلكه، أي: نسلكُ الذكر، إما ح حالاً من المصدر المقدَّر، والهاء في «نَسْلكُهُ» يجوز عودها للذكر، وهو الظاهر، وقيل: يعود للاستهزاء، قيل: على الشركِ. والهاء في «بِهِ» يجوز عودها على ما تقدم من الثَّلاثة، ويكون تأويلُ عودها على الاستهزاء والشرك، أي: لا يؤمنون بسببه. وقيل: للرسول صلوات الله وسلامه عليه وقيل: للقرآن. وقال ابو البقاء: «ويجوز أن يكون حالاً، أي: لا يؤمنون مستهزئين» كأنه جعل «بِهِ» متعلقاً بالحالِ المحذوفة قائمة مقامها. وهو مردودٌ، لأن الجارَّ إذا وقع حالاً أو نعتاً أو صلة أو خبراً، تعلَّق بكون مطلق لا خاصِّ، وكذا الظرف. ومحل «لا يُؤمِنُونَ» النَّصب على الحالِ، ويجوز ألاَّ يكون لها محلٌّ؛ لأنها بيان لقوله {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ} ، وقوله تعالى: {وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين} استئنافٌ، والسَّلكُ: الإدخال، يقال: سَلكْتُ الخَيْطَ في الإبْرةِ، والرُّمحَ في المَطْعُونِ ومنه {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} [المدثر: 42] . قال أبو عبيدة، وأبو عبيد: يقال: سَلكْتهُ وأسْلَكتهُ، أي: نظمته، قال: [الوافر] 3268 - وكُنْتُ لِزازَ خَصْمكَ لَمْ أعَرِّدْ ... وقَدْ سَلكُوكَ في يَوْمٍ عَصِيبِ وقال الآخر في «أسْلكَ» : [البسيط] 3269 - حتَّى إذَا أسْلَكُوهُمْ فِي قُتَائِدةٍ ... شَلاًّ كَمَا تَطْردُ الجَمَّالةُ الشُّردا فصل في المعنى الإجمالي للآية ق ل الزجاج: المعنى: قد مضت سنة الله في الأولين بأن سلك الكفر والضَّلال في قلوبهم. وقيل: نه تهديدٌ لكفار مكة، أي: قد مضت سنة الله بإهلاك من كذب الرسل من القرون الماضية، والأول أليق بظاهر اللفظ. قوله تعالى: {وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء} الآية، هذا هو المراد في سورة الأنعام، في قوله تعالى: {وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ} [الأنعام: 7] الآية يعني: أنَّ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 435 الذين يقولون: {لَّوْ مَا تَأْتِينَا بالملائكة} [الحجر: 7] ، فلو أنزلنا الملائكة «،» فظلُّوا فيه «أي: فظلت الملائكة فيها» يَعْرجُونَ «، وزهم يرونها عياناً. و» ظلَّ «هذه الناقصة، والضمير في» فظَلُّوا «يعود على الملائكةِ، وهو الصحيح وقال الحسن رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يعود على الكفَّار المفتح لهم الباب. وقرأ الأعمش، وأبو حيوة» يَعْرجُونَ «بكسر الراء؛ وهي لغةُ هذيل في عَرَجَ: يَعْرِجُ، أي: صعد. قوله : {لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا} قرأ ابن كثير:» سُكِرَتْ «مبنياً للمعفول، مخفَّف الكاف، وباقي السبعة كذلك إلا أنهم شدَّدوا الكاف، والزهري: بفتح السين، وكسر الكاف خفيفة مبنياً للفاعل. فأما القراءة الأولى: فيجوز أن تكون بمعنى المشددة؛ فإن التخفيف يصلح للقليل والكثير، وهما مأخوذتان من: السِّكر، بكسر السين، هو السَّدُّ. والمعنى: حُبِسَتْ أبصارنا، وسُدَّت، وقيل: بمعنى: أخذت، وقيل: بمعنى: سُحِرَت، وقيل المشدد من: سَكِرَ الماءُ بالكسر، والمخفف من سَكُرَ الشَّراب بالضم. والمشهور أن» سَكِرَ «لا يتعدى فيكف بُنِي للمفعول؟ . فقال أبو علي:» يجوز أن يكون سمع متعدِّياً في البصر «. والذي قاله المحقِّقون من أهل اللغةِ: أنَّ» سَكِر «إن كان من:» سَكِرَ الشَّرابُ، أو مِنْ سَكِرَ الرِّيحشُ «فالتضعيف فيه للتعدية، وإن كان من» سَكِرَ الماءً «فالتضعيف فيه للتكثير؛ لأنه متعد مخفَّفاً، وذلك أنه يقال: سَكرَت الرِّيحُ تَسْكرُ سَكْراً، إذا رَكدَت، وسَكِرَ الرَّجلُ منَ الشِّرابِ سَكْراً، ذا رَكَدَ، ولم ينقد لحاجته. فهذان قاصران فالتضعيف فيها للتعدية، ويقال: سَكِرتُ الماء في مجاريه: إذا منعتهُ من الجَرِّي، فهذا متعدِّ، فالتضعيف فيه للتكثير. وأما قراءةٌ ابن كثير: فإن كانت من «سَكِرَ الماءًُ» فهي واضحةٌ؛ لأنه متعدِّ، وإن كانت من «سَكُرَ الشَّرابُ أو سَكِرَ الرِّيحُ» فيجوز أن يكون الفعل استعمل لازماً تارة، ومتعدياً أخرى، نحو: «رَجَعَ زيْدٌ» ، ورَجَعه غَيْرُه، وسَعِندَ وسَعِدَه غَيْرُه «وقال الزمخشريُّ:» الجزء: 11 ¦ الصفحة: 436 وسُكِّرَتْ: حُيِّرت أو حبست من السِّكرِ أو السُّكر، وقرىء: «سُكرَتْ» بالتخفيف، أي: حُبسَتْ كمَا يُحْبَسًُ المُهْرُ عنِ الجري «، فجعل قراءة التشديد محتملة لمعنيين، وقراءة التخفيف محمتلة لمعنى واحدٍ. وأما قراءة الزهريِّ، فواضحةٌ، أي: غطيت، وقيل: هي مطاوع: اسْكرتُ المكان فَسَكرَ: أي: سَددْتهُ فانْسَدَّ. {بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ} ، أي عمل فينا السِّحْرُ، وسحرنا محمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. فإن قيل: كيف يجوزز من الجماعة العظيمة أن يكونوا شاكِّين في وجود ما يشهدونه بالعين السليمة في النهار الوضاح؛ ولو جاز حصول الشكِّ في ذلك، ك انت السَّفسطةٌ لازمة، ولا يبقى حنيئذٍ اعتمادٌ على الحس والمشاهدة؟ . أجاب القاضي رحمهن الله: بأنه تعالى ما وصفهم بالشكِّ فيما يبصرون، وإنما وصفهم بأنهم يقولون هذا القول، وقد يجوز أن يقدم الإنسانُ على الكذب على سبيل العنادِ والمكابرة، ثم سأل نفسه، أيصحُّ من الجمع العظيم أن يظهر الشك في المشاهدات؟ . وأجاب: بأنه يصحُّ ذلك، إذا جمعه9م عليه غرضٌ صحيحٌ معتبر من مواطأةٍ على دفع حجَّةٍ أو غلبة خصم، وأيضاً: فهذه الحكاية إنما وقعت عن قوم مخصوصين، سألُوةا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنزال الملائكةِ، وهذا السؤال إنما كان من رؤساءِ القوم، وكانوا قليلي العددِ، وإقدامُ العددِ القليلِ على ما يجري مجرى المكابرة، جائزٌ. قوله:» فظلُوا «يقال: ظلّ فُلانٌ نَهارهُ يفعل كذا: إذا فعلهُ بالنَّهارِ، ولا تقول العربُ:» ظَلّ يَظَلْ «إلاَّ لكلِّ عملٍ بالنهارِ؛ كما لا يقولون: بَاتَ يَبِيتُ إلا بالليل، والمصدر الظُّلُول. والعُروجُ: الصُّعودُ، يقال: عَرَج يَعْرجُ عُرُوجاً، ومنه: المَعَارجُ، وهي المصاعدُ التي يصعد عليها. فإن قلنا: إن الضمير في:» فَظلُّوا «للملائكة، فقد تقدم بيانه، وإن قلنا: يعود على المشركين، فقال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما:» فظلَّ المشركون يصعدون في تلك المعارج، وينظرون إلى ملكوتِ الله سبحانه وتعالى وقدرته، وسلطانه، وإلى عباده، وملائكته عليهم السلام لشكُّوا في تلك الرؤية، وأصرُّوا على جهلهم وكفرهم؛ كما جحدوا سائر المعجزات من انشقاقِ القمرِ، ومجيء القرآن الذي لا يستطيع الجنُّ والإنس أن يأتوا بمثله «. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 437 قوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً} الأية، «جَعلْنَا» : يجوز أن يكون بمعنى «خَلقْنَا» فيتعلق به الجارُّ، وأن يكون بمعنى صيِّرنا؛ فيكون مفعلوه الأول: «بُرُوجاً» ومفعوله الثاني: الجارَّ، فيتعلق بمحذوفٍ، و «للنَّاظِرينَ» متعلق ب «زَينَّاهَا» ، والضمير ل «السَّماءِ» أي: زيَّناها بالشَّمس، والقمرِ، والنجوم. وقيل: للبروج: وهي الكواكب، زَّنَّاها بالضوءِ، والنظر عينيّ. وقيل: قلبي وحذف متعلقة؛ ليعُمَّ. فصل في دلائل التوحيد السماوية والأرضية لما أجاب عن منكري النبوة، وقد ثبت أنَّ القول بالنبوةِ فرعٌ على القول بالتوحيد، أتبعه تعالى بدلائل التوحيد وهي: منها سماويَّة، ومنها أرضية، فبدأ بذكر السماوية، فقال وعَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} . قال اللَّيثُ رَحِمَهُ اللَّهُ: البُرُوج واحدها بُرْج من بُروجِ الفلك، والبُرُوج: هي النجوم الكبار، مأخوذة من الظهور، يقال: بَرجَتِ المرأةُ، أي: ظهرت، وأراد بها المنازل التي تنزلها الشمس، والقمر، والكواكب السيارة. والعرب تعدُّ المعرفة بمواقعِ النُّجوم، وأبوابها من أجلِّ العُلومِ، ويستدلُّون بها على الطُّرقاتِ، والأوقاتِ، والخصب، والحدْبِ، وقالوا: الفلكُ: اثنَا عشر بُرْجاً، كلُّ برجٍ ميلان، ونصر للقمر. وقال ابن عطية: هي قصورٌ في السماءِ، وعليها الحرسُ. {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} مَرجُومٍ، وقيل: ملعُون. قال ابنُ عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه كانت الشياطين لا يحجبون عن السمواتِ، وكانوا يدخلونها، ويأتون بأخبارها؛ فيلقون على الكهنة، فلما ولد عيسى صلوات الله وسلامه عليه منعوا من ثلاث سماواتٍ، فلما ولد محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من السموات أجمع، فما منهم من أحدٍ يريد استراق السمع، "إلاَّ رمي بشهابٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 438 فلمَّا منعُوا من تلك المقاعد، ذكروا ذلك لإبليس، فقال: حدث في الأرض حدثٌ، قال: فبعثهم، فوجد رسول الله صلواتالله وسلامه عليه يتلوا القرآن، فقالوا والله حدث. فإن قيل: ما معنى: {وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ} والشيطانُ لا قدرة له على هدم السماء، فإيُّ حاجة إلى حفظ السماء منه؟ قلنا: لما منعمه من القرب منها، فقد حفظ السماء من مقاربة الشيطان، فحفظ الله السماء منهم، كما قد يحفظ منازلنا ممَّن يخشى منه الفساد. والرَّميُ في اللغة: الرميُ بالحجارة، والرَّجمُ أيضاً: السبُّ والشتمُ؛ لأنه رميٌ بالقولِ القبيح، والرجمُ: القول بالظنِّ؛ ومنه قوله تعالى: {رَجْماً بالغيب} [الكهف: 22] ؛ لأنه يرميه بذلك الظنِّ، والرجم أيضاً: اللَّعن، والطَّرد. قوله: {إِلاَّ مَنِ استرق} فيه خمسة أوجه: أحدهما في محل نصب على الاستثناء المتصل، والمعنى: فإنها لم تحفظ منه؛ قاله غير واحدٍ. الثاني: منقطعٌ ومحله النصب أيضاً، أي: لكن من استرق السمع. قال الزجاج رَحِمَهُ اللَّهُ. موضع «» مَنْ «نصبٌ على التقدير، قال:» وجاز أن يكون في موضع خفض، والتقدير: إلا ممَّن «. الثالث: أنه بدلاٌ من» كُلِّ شَيطانٍ «فيكون محله الجرَّ، قاله الحوفي، وأبو البقاءِ، وتقدم عن الزجاج، وفيه نظر؛ لأن الكلام موجبٌ. الرابع: أنه نعتٌ ل» كُلِّ شَيْطانٍ «فيكون محله الجر، على خلاف في هذه المسألة. الخامس: أنَّه في محلِّ رفع بالابتداءِ، وخبره الجملة من قوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ} ، وإنما دخلت الفاء؛ لأنَّ» مَنْ «إمَّا شرطيةٌ، وإمَّا موصولةٌ، مشبهةٌ بالشرطية. قاله أبو البقاء وحينئذٍ يكونُ من باب الاستثناءِ المنقطعه. والشِّهَابُ: الشُّعلةُ مِنَ النَّارِ، وسُمِّي بها الكوكبُ؛ لشدَّة ضَوئِه، وبَريقه، وكذلك سُمَّي السِّنانُ شِهَاباً، ويجمع على:» شُهُبٍ «في الكثرةِ، و» أشْهُبٍ «في القلَّة، والشُّهْبَةُ: بياضٌ مختلطٌ بسوادٍ؛ تَشْبِيهاً بالشِّهاب؛ لاختلاطه بالدُّخانِ، ومنه: كَتيبةٌ شهباءُ لسوادِ القَوْمِ، وبياض الحديدِ، ومِنْ ثمَّ غلط الناس في إطلاقهم الشُّبهة على البياضِ الخالص. وقال القرطبيُّ:» أتْبَعَه «: أدركهُ ولَحِقهُ، شهابٌ مُبِينٌ، أي: كوكبٌ مُضيءٌ، وكذلك: {بِشِهَابٍ قَبَسٍ} [النمل: 7] أي: شُعلة نارٍ في رَأسِ عُودٍ، قاله ابن عزيزٍ؛ وقال ذُو الرُّمَّ: [البسيط] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 439 3270 - كَأنَّه كَوكَبٌ فِي إثْرِ عِفْريَةٍ ... مُسَوَّمٌ فِي سَوادِ اللَّيْلِ مُنْقَضبُ وسُمِّي الكَوكَبُ شِهَاباً، لأنَّ بَريقَهُ يُشْبِه النَّار. وقيل: شهابٌ شُعلة من نار تبين لأهل الأرضِ، فتحرقهم ولا تعود إذا أحرقتهم، كما إذا أحرقت النارُ، لم تعد، بخلاف الكواكب فِإنه إذا أحرق، عاد إلى مكانه. فصل قال ابن عبَّاسٍِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه:» إلاَّ مِنَ اسْترقَ السَّمْعَ «يريد الخفطة اليسيرة، وذلك أن الشياطين يركبُ بعضهم بعضاً إلى سماء الدنيا يسترقون السمع من الملائكة، فيُرمون من الكواكب، فلا تخطيء أبداً، فمنهم من يقتله، منهم من يحرقُ وجهه وجنبه ويده حيث يشاء الله، ومنهم من تخبله؛ فيصير غولاً؛ فيقتل الناس في البراري. روى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» إذَا قَضَا اللهُ الأمْرَ فِي السَّماءِ، ضَربَتِ المَلائِكةُ بأجْنِحَتهَا خضعاناً لقوله كَأنَّه سِلسِلَةٌ على صِنْوانٍ، فإذَا فزعَ عَنْ قُلوبِهمْ، قالوا: مَاذَا قَال ربُّكُمْ؟ قَالُوا: الَّذي قَالَ الحَقُّ وهُوَ العليُّ الكَبيرُ، فَيُسْمعها مُسْترِقُ السَّمع، مُسْترِقُ السمعِ هَكَّذَا بَعضهُ فَوْقَ بَعْضٍ، ووَصفَ سُفْيَانُ بِكفِّه فحرَّقها وبدَّدَ بيْنَ أصَابعهِ، فيَسْمَعُ الكَلِمة، فيُلْقِهَا إلى مَنْ تَحْتهُ ثُمَّ يُلْقيها الآخرُ إلى مَنْ تَحْتهُ، حتَّى يُلقِيهَا على لِسانِ السَّاحر، والكَاهنِ، ورُبّضما أدْركهُ الشِّهابُ قبْلَ ِِأنْ يلقِيهَا، ورُبَّما ألْقَاهَا قبلَ أن يُدرِكَهُ، فيَكذِب مَعَهَا مِائةَ كِذْ، فيقالُ: ألَيْس قد قَالَ لَنَا اليَوْمَ كَذَا وكَذَا، فيصدق بتِلْكَ الكَلمةِ الَّتي سُمِعَتْ مِنَ السَّماءِ «. وهذا لم يكن ظاهراً قبل أن يبعث الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولم يذكره شاعر من العرب قبل زمانه عليه السلام وإنما ظهر في بدء أمره وكان ذلك أساساً لنبوته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال يعقوب من عتبة بن المغيرة بن الأخنسِ بن شريق: إنَّ أول من قرع للرَّمي بالنجوم، هذا الحيُّ من ثقيف، وأنهم جاءوا إلى رجُلٍ منهم يقال له: عمر بنُ امَّة، أحدُ بني علاج، وكان أدْهَى العرب، فقالوا له: ألَمْ تَرَ مَا حَدثَ في السماء من القذف بالنُّجُومِ؟ قال: بلى فانظروا، فإن كانت معالمُ النجوم التي يُهْتدَى بها في البرِّ، والبَحْر، ويعرف بها الأنواءُ من الصيف، والشتاء، لما يصلحُ الناس من معايشهم، هي التي يرمى بها، فهي والله طيُّ الدنيا، وهلاك الخلق الذين فيها، وإن كان نجوماً غيرها، وهي ثابتة على حالها، فهذا الأمر أراد الله لهذا الخلق. قال معمرٌ: قلت للزهريِّ: أكان يرمى بالنجوم في الجاهلية؟ قال: نعم، قال: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 440 أفرأيت قوله: {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ} [الجن: 9] الآية قال: وقد غلظتْ، وشدِّد أمرها حيث بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال ابن قتيبة: إنَّ الرجم كان قبل مبعثه، ولكن لم يكن في شدة الحراسة بعد مبعثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: إن النجم ينقضُّ، ويرمي الشيطان، ثم يعود إلى مكانه. فصل قال القرطبي: «اختلفوا في الشِّهاب: هل يقتل أم لا؟ . فقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما الشِّهاب يَجرح، ويَحرِقُ، ويُخْبلُ، ولا يَقْتلُ. وقال الحسنُ، وطائفةٌ: يقتل، فعلى هذا في قتلهم بالشهب قبل إلقائها السمع إلى الجنِّ قولان: أحدهما: يقتلون قبل إلقائهم ما استرقوه من السمع إلى غيرهم من الجن، ولذلك ما يعودون إلى استراقه. والثاني: أنهم يقتلون بعد إلقائهم، ولو لم يصل لا نقطع الاستراق، وانقطع الاحراقُ، ذكره الماوردي» . قال القرطبي: «والقول الأول أصح؛ على ما يأتي بيانه في» الصافات «» . فصل قال ابن الخطيب: «في هذا الموضع أبحاثٌ دقيقة على ما ذكرناها في سورة الملك، وفي سورة الجن، ونذكر ههنا إشكالاً واحداً وهو: أنّ لقائل أن يقول: إذا جوَّزتم في الجملة، أن يصعد الشيطان إلى السماوات، ويختلط بالملائكةِ، ويسمع أخبار الغيوب منهم، ثم إنه ينزل، ويلقي تلك الغيوب، فعلى هذا يجب أن يخرج الإخبار عن المغيَّبات عن كونه معجزاً، لأنَّ كل غيبٍ يخبر عنه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقوم فيه هذا الاحتمال؛ فيخرجُ عن كونه معجزاً دليلاً عل الصدقِ، ولا يقال: إن الله تعالى أخبر عنهم أنَّهم عجزوا بعد مولد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنَّا نقول: هذا العجز لا يمكن إثباته إلا بعد القطع بكون محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبكون القرآن الكريم حقًّا، والقطع بهذا، لا يمكن إلاَّ بواسطة المعجز، وكون الإخبار عن الغيب معجزاً، ولا يثبت إلا بعد إبطال هذا الاحتمال، وحينئذٍ يلزم الدور، وهو محالٌ باطلٌ. ويمكن أن يجاب عنه: بانا نثبت كون محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رسولاً، بسائر المعجزات، ثم بعد الجزء: 11 ¦ الصفحة: 441 العلم بنبوته، نقطع بأن الله عَجَّزَ الشياطين عن تلقف الغيب، وبهذا الطريق يندفع الدَّور «. قوله: {والأرض مَدَدْنَاهَا} » الأرْضَ «: نصبٌ على الاشتغال، ولم يقرأ بغيره؛ لأنه أرجع من حيث العطف على جملة فعلية قبلها، وهي قوله: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً} [الحجر: 16] . وقال أبو حيَّان:» ولما كانت هذه الجملة بعدها جملة فعلية، كان النَّصب أرجح من الرفع «. قال شهاب الدين: لَمْ يعدُّوةا هذا من القرائن المرجحة للنصب، إنما عندو عطفها على جملة فعلية قبلها، لا عطف جمعلة فعلية عليها، ولكنه القياس، إذ يعطف فيه فعلية على مثلها، بخلاف ما لو رفعت، إذ تعطف فعلية على اسمية، لكنهم لم يعتبروا ذلك. والضمير في» فِيهَا «: للأرض. وقيل: للرَّواسي. وقيل: لهما. فصل لما شرح الدلائل السماوية في تقرير التَّوحيد، أتبعها بذكر الدلائل الأرضية وهي أنواع: الأول: قوله: {والأرض مَدَدْنَاهَا} قال ابن عباسٍ: بسطناها على وجه الماءِ، وبسطت من تحته الكعبة. النوع الثاني: قوله: {وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ} وهي الجبال الثوابت واحدها راسٍ، والجمع راسية وجم الجمع رواسي، قال ابن عباسٍ: لما بسط الله الأرض على الماء، مالت بأهلها كالسفينة؛ فأرساها الله بالجبال؛ لكيلا تميل بأهلها. النوع الثالث: قوله تعالى: {وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} ، يجوز فِي» مِنْ «أن تكمون تبعيضية، وهو الصحيح، وأن تكون مزيدة عند الكوفيين، والأخفش، والضمير في قوله:» فِيهَا «يحتمل أن يكون راجعاً إلى الأرض، وأن يكون راجعاً إلى الجبال الرواسي، إلاَّ أنَّ رجوعها إلى الأرض أولى؛ لأن أنواع النبات المنتفع بها، إنما تتولَّد في الأرض، وأما الجبلية، فقليلة النفع. وقيل: رجوع الضمير إلى الجبال أولى؛ لأنَّ المعادن من الذهب، والفضة، والحديد، والنحاس، وغيرها؛ إنَّما تتولد في الجبال، والأشياء الموزونة في العرف والمعادة، هي المعادن لا النبات. وفي المراد بالموزون وجوه: قيل: المقَّدر بقدر الحاجة، أي: أنَّ الله تعالى يثبت ذلك المقدر بقدر ما يحتاج الجزء: 11 ¦ الصفحة: 442 إليه الناس؛ لقوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8] وقوله تعالى: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] . وقيل: المناسب المطابق للحكمة كقولهم: كلامٌ موزونٌ، أي: متناسب بعيد عن اللغو، والمعنى: موزونٌ بميزان الحكمة، والعقل. وقيل: موزونٌ؛ بمعنى أنَّ الذي تنبته الأرض نوعان: المعادنُ، والنباتُ، أما المعادن: فهي بأسرها موزنة، وأما النبات: فيرجع عاقبته إلى الوزنِ، كالمخترف، والفواكة في الأكثر. قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ} جحمع معيشة، أراد الله بها المطاعم، والمشارب، والملابس، وقيل: ما يعيش به المرءُ في الدنيا، وقد تقدَّم الكلام على المعايش في الأعرافِ. قوله تعالى: {وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ} ، يجوز في خمسة أوجه: أحدها: قول الزجاج: أنه منصوب بفعلٍ مقدرٍ، تقديره: وأغنينا من لستم له برازقين، كالعبد، والدَّواب، والوحوش. الثاني: أنه منصوب عطفاً على «مَعايِشَ» ، أي: وجعلنا لكم فيها معايش ومن لسْتُمْ له برازقين من الدَّواب المنتفع بها. الثالث: أنه منصوب عطفاغً على محل «لَكُمْ» . الرابع: أنه مجرور عطفاً على «كُمْ» المجرور بها اللام؛ وجاز ذلك من غير إعادة الجار على رأي الكوفيين، وبعض البصريين، وتقدم تحقيقه في البقرة، عند قوله: {وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة: 217] . الخامس: أنه مرفوع بالابتداء، وخبره محذوف، أي: ومن لستم له برازقين، جعلنا له فيها معايش، وسمع من العرب: ضربت زيداً، وعمروا، برفع «عمرو» ؛ مبتدأ محذوف الخبر، اي: وعمرو ضربته، و «مَنْ» يجوز أن يراد بها العقلاء، أي: من لستم له برازقين من مواليكم الذين تزعمون أنكم ترزقونهم، أو يراد بها غير العقلاء، أي: من لستم له برازقين من الدوابِّ، وإن كنتم تزعمون أنكم ترزقونهم؛ قال الله تعالى: {فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ} [النور: 45] ، وقال سبحانه: {يا أيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل: 18] فذكرها بصيغة جمع العقلاء، ويجوز أن يراد بها النوعان؛ وهو حسنٌ لفظاً ومعنًى. قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ} ، و «إنْ» : نافية، و «مِنْ» مزيدة في المبتدإ، و «عِنْدَنَ» خبره، و «خَزائِنهُ» فاعل به؛ لاعتماده على النَّفي، ويجوز أن يكون «عِندَنَا» خبراً ل «ما» بعده، والجملة خبر الأولى، والأولى أولى؛ لقرب الجارِّ من المفرد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 443 قال الواحدي: «الخَزائِنُ: جمع الخِزانَة، وهي اسمُ المكمان الذي يُخْزنُ فيه الشيء، أي: يحفظ، والخِزانةٌ أيضاً عمل الخازن، ويقال: خَزَنَ الشَّيء يَخْزنهُ، إذ أحْرزَهُ» . و «خَزَائِنهُ» هو المطر؛ لأنه سبب الأرزاق، والمعايش لبني آدم، وسائر الحيوانات. قوله: «إلاَّ بقدَرٍ معلوم» يجوز أن يتعلق بالفعل قبله، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنهخ حالٌ من المفعول، اي: إلا ملتبساً بقدرٍ. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يريد: قدر الكفايةِ، لكل ارضِ حدُّ مقدرٌ، وقال الحكم: ما من عامٍ بأكثر مطرٍ، من عام آخر؛ ولكنه يمطر قومٌ، ويحرمُ آخرون، وربما كان في البرح، يعني أنه تعالى ينزل المطر كلَّ عامٍ بقدرٍ معلومٍ، غير أنَّه يصرفه إلى من يشاء حيث يشاء. ولقائل أن يقول: لفظ الآية لا يدلُّ على هذا المعنى، فإن قوله تعالى: {وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} ، لا يدلُّ على أنه تعالى ينزله في جميع الأعوامِ على قدر واحد، فتفسير الآية بهذا المعنى تحكُّمٌ بغير دليلٍ. وقال ابنُ الخطيب: «وتخصيص قوله تعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} بالمطر تحكم محضٌ؛ لأن قوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ} يتناول جميع الأشياء، إلا ما خصه الدليل» . روى جعفر، عن محمدٍ، عن أبيه، عن جده، قال: في العرش مثال جميع ما خلق الله في البر، والبحر، وهو تأويل قوله: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ} . قوله: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} الآية «لَواقِحَ» : حاتلٌ مقدرة من «الرِّياحِ» ، وفي اللواقح أقوال: أحدها: أنها جميع «مُلْقِح» ؛ لأنه من ألْقَحَ يُلقحُ، فهو ملقحٌ، وجمعه مَلاقح، فحذفت اليمم؛ تخفيفاً، يقال: ألْقحَتِ الريحُ السَّحاب، كما يقال: ألْقحَ الفَحْلُ الأنثَى؛ ومثله: الطَّوائِحشُ، وأصله المطارحُ؛ لأنه من أطَاحَ يُطِيحُ، قال: [الطويل] 3271 - لِيُبْكَ يَزِيدُ ضَارعٌ لِخصًومَةٍ ... ومُخْتَبِطٌ ممَّا تُطِيحُ الطَّوائِحُ وهذا قول أبي عبيدة. والثاني: أنه جمع لاَقِح، يقال: لقَحَتِ الريحُ: إذا حملتِ الماء، وقال الأزهري: حَوامِلُ تَحْمِلُ السَّحابَ؛ كقولك: ألقحتِ الناقةُ، فلَقِحتْ، إذا حملتِ الجَنين: َ في بَطْنِهَا، فشُبِّهتِ الريحُ بِهَا؛ ومنه قوله: [الطويل] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 444 3272 - إذّا لَقِحَتْ حَرْبٌ عَوانٌ مُضرَّةٌ ... ضَرُوسٌ تُهِرُّ النَّاس أنْيَابُهَا عُصْلُ الثالث: أنَّها جمع لاقحٍ، على النسب؛ كالابنِ وتامرِ، أي: ذات لقاحٍ، لأنَّ الرِّحَ إذا مَرَّت على الماءِ، ثُم مرَّت على السَّحابِ، والماءِ، كان فيها لقاحٌ قاله الفراء. فصل قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: الرياحُ لوَاقِحُ الشَّجر والسَّحاب؛ وهو قول الحسن، وقتادة، والضحاك؛ لأنها تحمل الماء إلى السحاب؛ وأصله من قولهم: لقَحتِ الناقة، وألْقَحَهَا الفحلُ، إذا ألقى الماء فيها فحملت. قال ابن مسعودٍ في تفسير هذه الآية: بعث الله الرياحَ؛ لتلقيح السحاب، فتحمل الماغء، وتمجّه في السحاب، ثم إنه يعصرُ السحاب، ويدره كما يدر اللقحة. وقال عبيدٌ بن عيمر: يبعثُ الله الريح المبشرة، فتقم الأرض قماً، ثم يبعث المثيرة فتثير السحاب، ثم يبعث المؤلفة، فتؤلف السحاب بعضه إلى بعضٍ، فتجعله ركاماً، ثم ثبعث اللوَاقِحُ الشَّجر ثم تلا عبيد: «وأرسلنا الرياح لواقح» قال أبو بكر بنِ عيَّاشٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: لا تقطر القطرةُ من السماء إلا بعد أن تعمل الرياحُ الأربعة فيها، فالصَّبا تُهيِّجه، والشَّمالُ تَجمعُه والجَنوبُ تُدرُّه، والدَّبُور تُفرِّقه. فصل قال القرطبيُّ: «روي عن مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه في قوله تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} ، أي: ذوات لقح، فلقاحُ القمح عندي أن يحبب ويسنبل، ولقاح الشَّجر كُلها: أن تثمر ويسقط منها ما يسقط، ويثيبت منها ما يثبت» . قال ابن العربيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ: إنما عوَّل مالكٌ على هذا التفسير على تشبيه الشجر بلقاح الجملِ، وإنَّ الولد إذا عقد وخلق ونفخ فيه من الروحُ، كان بمنزلةِ تحبب الثَّمر، وتسنبله؛ لأنه سمِّي باسم تشتركُ فيه كلُّ حاملةٍ، وهو اللِّقاحُ، وعليه جاء الحديث: «نَهَى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَنْ بَيْعِ الحبِّ حتَّى يَشْتد» . قال ابن عبد البرِّ: «الإبارُ عند أهل العلم في النخل: التَّلقيحُ، وهو أن يأخذ شيئاً الجزء: 11 ¦ الصفحة: 445 من طَلع ذكور النخلِ؛ فيدخله بين ظهراني طلع الإناث، [ومعنى] ذلك في سائر الثمار [ظهور الثمرة] من التِّين، وغيره، حتَّى تكون الثَّمرة مرئية، حين ينظر إليها، والمعتبر عند مالك رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وأصحابه فيما يذكر من الثِّمار التذكر، وفيما لا يذكر أن يثبت من نواره ما يثبت ويسقط ما يسقط، وفي الزروع ظهوره من الأرض» . فصل قال عليه الصلاة ولاسلام «مِنَ ابتَاعَ نَخْلاً بَعْندَ أن تُؤبَّر، فَثمَرتُهَا لِلبَائعِ، إلاَّ أن يَشْترِطَ المُبتَاعُ» فلا يدخل الثمر المؤبَّر مع الأصولِ ف يالبيع إلا بالشرط؛ لأنها موجودة يحاطُ بها أَمَنَةً من السقوط غالباً، بخلاف التي لم تؤبَّر، إذ ليس سقوطها غالباً، بخلاف التي لم تؤبر، إذ ليس سقوطها مأموناً، فلم يتحقق لها وجود، فلم يجز للبائع اشتراطها، ولا استثناؤها؛ لِأنها كالجنين. فصل هل يجوز لمن اشترى النخل فقط أن يشتري الثمر قبل طيبه؟ اشترى النَّخل، وبقي الثمر للبائع، جاز لمشتري الأصل شراءُ الثمرة قبل طيبها، في المشهور عن مالكٍ رَحِمَهُ اللَّهُ ويرى لها حكم التعبيةِ، وإن انفردت بالعقدِ، وعنه في رواية أنه لا يجوز، وبه قال الشافعيُّ، وأبو حنيفة، والثَّوريُّ، وأهل الظاهر. فصل في النهي عن بيع الملاقح والمضامين نهي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن بَيعِ المَلاقحِ والمَضامِنيِ والمَلاقِحُ: الفحول من الإبلن، الواحد مقلحٌ، والمَلاقِحُ ما في بطون النوقِ من الأجنَّة، الواحدة: مَلْقُوحةٌ، من قولهم: لَقحْتُ، كالمَحْمُومِ من حَمّ، والمَجْنُون من جنّ، وفي هذا جاء النَّهيُ. قال أبو عبدية: المَضامِينُ ما في البطونِ وهي الأجنَّةِ، والمَلاقِيحُ: ما في أصلابِ الفحُولِ، وهو قول سعيد بن المُسيَّبِ، وغيره. وقيل: بالعكسِ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 446 ونهى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن بيع [المَجْر] وهو بيع ما في بطُونِ الأمَّهاتِ. قال ابن عابس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما ما هَبَّتْ ريح قَطُّ إلاَّ جَثَا النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عَلى رُكْبتَيْهِ، وقال: «اللَّهُمَّ اجْعلهَا رحْمةتً، ولا تَجْعلهَا عَذاباً، اللَّهُمَّ اجْعَلهَا رِيَاحاً ولا تَجْعلهَا رِيحاً» قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما في كتاب الله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً} [القمر: 19] ، {إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم} [الذاريات: 41] وقال تعالى: {وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ} [الحجر: 22] وقال تعالى: {يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ} [الروم: 46] . قوله تعالى: {فَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} ، قد تقدّم أنَّ الماء: هل ننزل من السماء أو من السحاب. وقوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} ، قال الأزهريُّ: «تَقُولُ العربُ لِكُلِّ ما فِي بُطونِ الأنْعَامِ، ومِنَ السَّماءِ، أو نهْرٍ يَجْري: أسْقَيْتُه، أي: جعلته شَرْباً له، وجعلتُ له منها مَسْقى لشرب أرضه أو ماشيته، فإذا كانت السُّقْيَا لِسقْيهِ، قالوا: سَقاهُ، ولم يقولوا: أسْقَاه» . ويؤكده اختلاف القراء في قوله: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} [النحل: 66] ، فقرؤا باللغتين، وسيأتي بيانهما في السورة التي بعدها، ولم يختلفوا في قوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ} [الإنسان: 21] ، وفي قوله: {والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79] . قال أبو علي: سَقَيْتُه حتَّى رَوِيَ، وأسْقَيتهُ نَهْراً، جعلتهُ شُرْباً، وقوله: {فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ} جعلناه سُقْياً لكم، وربما قالوا في «أسْقَى» سَقَى؛ كقول لبيدٍ يصفُ سحاباً: [الوافر] 3273 - أقُولُ وصَوْبُهُ منِّي بَعِيدٌ ... يَحُطُّ السَّيْبُ مِنْ قُللِ الجِبَالِ سَقَى قَوْمِي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى ... نُمَيْراً والقَبائِلَ مِنْ هِلالِ فقوله: «سَقَى قَوْمي» ليس يريد به ما يروى عطاشهم، ولكن يريد رزقهم سَقْياً لبلادهم، يخصبون بِها، وبعيدٌ أن يَسْألَ لِقومِهِ ما يروي العطاش به ولغيرهم ما يخصبون به، فأما سَقَيَا السَّقيَّة، فلا يقال فيها: أسْقاهُ. وأما قول ذي الرُّمة: [الطويل] 3274 - وأسْقِيهِ حتَّى كَادَ ممَّا أبُثُّهُ ... تُكلِّمُنِي أحْجَارهُ ومَلاعِبُه [يريد بقوله: «أسقيه» : أدعو له بالسقاء، وأقول: سقاه الله] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 447 واتَّصل الضميران هنا: لاختلافهما ربتة، ولو فصل ثانيهما، لجاز عند غير سيبويه وهذا كما تقدم في قوله تعالى: {أَنُلْزِمُكُمُوهَا} [هود: 28] . قوله تعالى: {وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} جملة مستأنفة، و «لَهُ» متعلق ب «خَازِنينَ» ، والمعنى: أنَّ المطر في خَزائِننِا، ولا في خَزائِنكُمْ. [وقال سفيان: لستم بمانعين] . قوله تعالى: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} الآية، هاذ النَّوع السادس من دلائل التوحيد، وهو الاستدلال بالإحياء، والإماتةِ على وجودِ الإلهِ القادر المختار. قوله: «لَنَحْنُ» يجوز أن يكون مبتدأ، و «نُحْيِي» خبره، والجملة خبر «إنا» ويجحوز أن يكون تأكيداً ل «إنَّا» ، ولا يجوز أ، يكون فصلاً؛ لأ، هـ لم يقع بين اسمين، وقد تقدم نظيره [الحجر: 9] . وقال أبو البقاء: لا يكون فصلاً لوجهين: أحدهما: أن بعده فعلاً. والثاني: أنَّ معه اللام. قال شهابُ الدِّين رَحِمَهُ اللَّهُ: «الوجه الثاني: غلطٌ؛ فشإن لام التوكيد لا يمنع دخولها على الفصل، نصَّ النحاة على ذلك، ومنه قوله {إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق} [آل عمران: 62] ٍ، جوَّزوا فيه الفصل مع إقرانه باللام» . فصل من العلماءِ من حمل الأحياء على القدرِ المشتركِ بين إحياءِ النبات والحيوان، ومنهم من قال: وصف النبات بالإحياء مجاز؛ فوجب تخصيصه بإحياء الحيوان، وقوله جل ذكره: {وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ} يفيد الحصر، أي: لا قدرة على الإحياء والإماتة إلا لنا، «ونَحْنُ الوَارثُونَ» إذا مات جميع الخلائق، فحينئذٍ يزول الملك كلِّ أحدٍ، ويكون الله سبحانه هو الباقي المالك لكلِّ المملوكات، وحده لا شريك له، فكان شبيهاً بالإرثِ. قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين} قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما المستقدمين: الأموات، والمستأخرين: الأحياءُ. وقال الشعبيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الأولين، والآخرين. وقال عكرمة: المستقدمون: من خلق الله، والمستأخرون: من لم يخلق. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 448 وقيل: المستقدمين: القرون الأولى، والمستأخرين: أمة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقال الحسن: المستقدمين: في الطَّاعة والخير، والمستأخرين: في صفِّ القتال. وقال ابن عيينه: أراد من سلم، ومن لم يسلم. وقال الأوزاعيُّ: أراد المصلِّين في أول الوقت، المؤخِّرين إلى آخره. روى أبو الجوزاء، عن ابن عباس: كانت امرأةٌ حسناء تصلِّي خلق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان قومٌ يتقدمون إلى الصف الأول؛ لئلا يرونها، وآخرون يتأخَّرون، ليرونها. وفي رواية: أنَّ النساء كنَّ يخرجن إلى الجماعة، فيقفن خلف الرجال، من النساء من في قلبها ريبة، فتقدم إلى أول صفِّ النساء؛ لتقرب من الرجال؛ فنزلت الآية، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خَيْرُ صُفوفِ الرِّجالِ أوَّلُها وشَرُّها أخرُهَا، وخَيْرُ صُفوفِ النِّساءِ آخرُهَا وشَّرُّهَا أوَّلُهَا» . وروري أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رغَّب في الصف الأول في الصلاة [فازدحم] النس عليه؛ فأنزل الله تبارك وتعالى هذه الآية. والمعنى: إنَّا نجزيهم على قدر نيَّاتهم. فصل قال القرطبي: «الآية تدلُّ على فضل أول الوقت في الصلاة، وعلى فضل الصف الأوَّل، كما تدل على فضل الصف الأول في الصَّلاة، كذلك تدلُّ على فضل الصفِّ الأول في القتال‘ فإنَّ القيام في وجه العدوِّ، وبيع العبد نفسه من الله تعالى لا يوازيه عملٌ، ولا خلاف في ذلك» . واعلم أنَّ ظاهر الآية يدل على أنه لا يخفى على الله شيء من أحوالهم؛ فيدخل فيه الجزء: 11 ¦ الصفحة: 449 علمه بتقدّمهم، وتأخرهم، في الحدوثِ، الوجود في الطاعات وغيرها؛ فلا ينبغي أن تخص بحالةٍ دون حالةٍ. ثم قال تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ} على ما علم منهم، وذلك تنبيه على أنَّ الحشر، والنشر، البعث، والقيامة، أمرٌ واجبٌ {إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} أي: أنَّ الحكمة تقتضي وجوب الحشر، والنشر، وعلى ما تقرر في أول سورة يونس عليه السلام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 450 قوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ} الآية هذا هو النوع السابع من دلائل التوحيد؛ لأنه ثبت بالدلائل القاطعه أنه يمتنع القول بوجود حوادث لا أوَّل لها، وإذا ثبت هذا وجب انتهاء الحوادث إلى حادث أوَّل، هو أولُ الحوادث، وإذا كان كذلك، وجب انتهاء الناس إلى إنسانٍ هو أول الناس، وذلك الإنسان الأول، غير مخولقٍ من الأوبين؛ فيكون مخلوقاً لا محالة بقدرة الله تعالى. فقوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان} إشارة إلى ذلك الإنسان الأول، وأجمع المفسرون على أن المراد آدمُ صلوات الله وسلامه عليه. ونقل في كتب الشِّيعة، عن محمد بن علي الباقر، أنَّه قال: قد انقضى قبل آدم صلوات الله عليه الذي هو أبونا ألف ألف آدم، أو أكثر. قال ابنُ الخطيب رَحِمَهُ اللَّهُ: «وها لا يقدحُ في حدوث العالم، بل الأمر كيف كان لا بدَّ من الانتهاء إلى إنسانٍ أول، هو أول الناس، فأما أن ذلك الإنسان الأول هو أبونا آدم، فلا طريق له إلاََّ من جهة السمع» . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 450 واعلم أنه تعالى قال: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] ، وقال تعالى: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن طِينٍ} [ص: 71] ، وقال هاهنا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} ، فطريقُ الجمع أنه جعل التُّرابَ طيناً، ثم تركه حتَّى صار حمأ مسنوناً، ثم خلقه منه، وتركه حتى جفّ، ويبس وصار له صلصلة. واعلم أنه تعالى قادر على خقله من أي جنس أراد، بل هو قادرٌ على خلقه ابتداء، وإنما خلقه على هذا الوجه؛ إما لمحض المشيئة، أو لما فيه من دلالة الملائكة؛ لأنَّ خلق الإنسان من هذه الأمور أعجب من خلقِ الشَّيءِ من جنسه. وسمِّي إنساناً: إما لظهوره وإدراك البصر إياه، وإمَّا من النسيان؛ لأنه عهد إليه فنسِي. عن ابن مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: بعث الله تعالى جِبْريلَ عليه السلا إلى الأرض؛ ليأتيه بطينٍ منها، فقالت الأرض: أعوذ بالله منك أن تنقص منِّي؛ فرجع ولم يأخذ، فقال يا ربِّ: أنها عاذتْ بك، فأعذتها، فبعث ميكايئيل صلوات الله عليه فعاذت منه، فأعاذها؛ فرجع، فقال كما قال جبريل، فبعث ملك الموتِ، فعاذت منه، فقال: وأنا أعوذُ بالله أن أرجع ولم أنفذ أمره، فأخذ من وجه الأرض، وخلطه، لم يأخذ من مكان واحدٍ، وأخذ من تربةٍ حمراء، وبيضاء، وسوجحاء، فلذلك خرج بنو آدم مختلفين. وسُمِّي آدم؛ لأنه خلق من أديم الإرض، وصعد به، فقال الله تبارك وتعالى: «أما رَحِمْتَ الأرض حين تضرعت إليك» ؟ فقال: رأيتُ أمرك وأوجب من قولها، فقال جل ذكره: «أنت تقبض أرواح ولده قبل التراب حتى عاد طيناً لازباً، وهو يلتصُ بعضه ببعضٍ، ثم ترك، حتى أنتن، وصار حمأ مسنوناً، وهو المنتنُ. ثم قال للملائكة: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} ، فخلقه الله بيده؛ لئلا يتكبَّر إبليس عليه، لقوله الله تعالى: أتتكبَّر على ما علمت بيدي، ولم أتكبر أنا عليه؟ . فخلقه فكان جسداً من طينٍ أربعين عاماً، فلما رأتهُ الملائكة، فزعوا منه، وكان أشدَّهم منه فزعاً إبليسُ فكان يمرُّ به، فيضربه؛ فيصوتُ الجسدُ كما يصوتُ الفخَّار، وتكون له صلصلةٌ؛ فذلك قوله: {مِن صَلْصَالٍ كالفخار} [الرحمن: 14] ، ويقول: لأمر ما خلقت! ويدخل في فيه، ويخرج من دبره، ويقول للملائكة: لا ترهبوا منه؛ فإنه أجوف، ولئن سُلِّطت عليه، لأهلكنَّه، فلمَّا نفخ فيه الروح، ووصل إلى رأسه، عطس، فقالت الملائكة عليه السلام: قُل: الحمد لله، فقال: الحمد لله، فقال الله له: رحمك ربُّك، فلما دخل الروح في عينيه، نظر إلى ثمار الجنة، فلما دخلت الروحُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 451 جوفه، اشتهى الطعام؛ فوثب قبل أن تبلغ الورح رجليه؛ عجلان إلى ثمار الجنَّة، فذلك قوله تعالى: {خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ} [الأنبياء: 37] . قوله تعالى: {مِن صَلْصَالٍ} ، «مِنْ» : لابتداء الغاية، أو للتبعيضن، والصلصالُ: قال أبو عبيده هو الطين المختلط بالرمل، ثم يجفُّ؛ فسمع له صلصلةٌ، أي: تصويت، قال: والصلصلةُ: الصَّوتُ؛ وأنشدوا: [الكامل] 3275 - شَرِبَتْ أسَاوِيُّ القُطاةِ مِنَ الكَدرْ ... وسَرَتْ فَتَرْمِي أحْيَاؤهَا بِصَلاصِلِ أراد: صوتَ أجْنحَةِ أفراخِهَا، حين تطيرُ، أو أصواتَ أفراخها. وقال الزمخشريُّ: «الطِّينُ اليابس الذي يُصلصِلُ من غير طبخٍ، فإذا طبخ، فهو فخار» . وقال أبو الهيثم: «هو صوتُ اللِّجامِ، وما أشبهه؛ كالقعقعة في الثوب» . وقال الزمخشري أيضاً: قالوا: إذا توهَّمت في صوته مدًّا، فهو صليلٌ، وإن توهمت فيه خفاءً، فهو صلصلةٌ، وقيل: هو من تضعيف «صَلَّ» ، إذا أنتن أنتهى. و «صَلْصَالٍ» هنا، بمعنى مُصَلْصِل؛ كزَلْزالٍ، بمعنى مُزَلْزِل، ويكون «فَعْلال» أيضاً مصدراً، ويجوز كسره أيضاً، وفي هذا النَّوع، أي: ما تكررت فاؤه، وعينه خلافٌ. فقيل: وزنه: فَعْفَع؛ كُرِّرتِ الفاء والعين، ولا لام للكلمة؛ قاله الفراء، وغيره. وهو غلطٌ؛ لأنَّ أقلَّ الأصول ثلاثة: فاءٌ، وعينٌ، ولامٌ. والثاني: أنَّ وزنه «فَعْفَل:؛ وهو قول الفرَّاء. الثالث: أنه» فَعَّل «بتشديد العين، وأسله» صَلَّل «فلما اجتمع ثلاثة أميالٍ، أبدل الثاني من مجنس فاء الكلمة، وهومذهب كوفيٌّ، خصَّ بعضهم هذا لخلاف بما إذا لم يختل المعنى، بسقوطِ الثالث، نحو» لَمْلَمَ «و» كَبْكَبَ «فإنَّك تقول فيهما:» لَمَّ «، و» كَبَّ «، فول لم يصحَّ المعنى بسقوطه؛ نحو: سَمْسَمَ» ، قال: فلا خلافَ في أصالة الجميع. قوله تعالى: {مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} فيه وجهان: أحدهما أنه في محلِّ جر صفة ل «صَلْصَالِ» ؛ فيتعلق بمحذوف. والثاني: أ، هـ بدل من «صَلْصالٍ» بإعادة الجارِّ. والحَمَأ: الطِّينُ الأسودُ المنتنُ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 452 قال الليث رَحِمَهُ اللَّهُ: واحده «حَمَأة» بتحريك العين جمعله اسم جنسٍ؛ وقد غلط في ذلك؛ فإن أهل اللغة قالوا: لا يقال إلاَّ «حَمْأة» [بالإسكان] ، ولا يعرف التحريك؛ نصَّ عليه أبو عبيدة، وجماعة؛ وأنشدوا لأبي الأسودِ: [الوافر] 3276 - تَجِيءُ بمِلْئِهَا طُوْراً وطَوْراً ... تَجِيءُ بِحَمْأةٍ وقَلِيلِ مَاءِ فلا يكون «الحَمَأة» واحدة «الحَمْأ» ؛ لاختلاف الوزنين. والمَسْنُون: المَصْبُوب؛ من قولهم: سَنَنتُ الشَّرابَ، كأنَّه لِرُطُبتهِ جعل مَصْبُوباً، كغيره من المائعات، فكأن المعنى: أفرغ صورة إنسانٍ، كما تفرغ الجواهر المذابة. قال الزمخشريُّ: وحقُّ «مَسْنُونٍ» بمعنى مصور: أن يكون صفة ل «صَلْصالٍ» ؛ كأنه أفرغ الحمَأ، فصوَّر منه تمثال شخصٍ. يعني أنه يصيرُ التقدير: من صلصالٍ مصوَّرٍ، ولكن يلزم تقديم الوصف المؤول على الصَّريح؛ إذا جعلنا: «مِنْ حَمَأ» صفة ل «صَلْصَالٍ» ، أمَّا إذا جعلناه بدلاً منه؛ فلا. وقيل: مسنونٌ: مصوَّرٌ من سنَّة الوجه، وهي صورته؛ قال الشاعر: [البسيط] 3277 - تُرِيكَ سُنَّة وجْهٍ غَيْرَ مُقْرِفَةٍ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... . وقال الزمخشريُّ: والمَسْنُونُ: المَحْكُوكُ، مأخوذٌ من سننت الحجر، إذا حككته به، فالذي يسيل بينهما سَنَنٌ ولا يكون إلاَّ مُنْتِناً. ومنه يسمَّى المسَن مسَنًّا؛ لأنَّ الحديد يحكُّ عليه. وقيل: المسنونُ: المنسوب إليه، والمعنى ينسب إليه ذريته، وكأن هذا القائد أخذه من الواقع، وقيل: هو من أسنَّ الماء إذا تغيَّر، وهذا غلط؛ لاختلافِ المادتين. رُوِيَ أنَّ الله تعالى خمَّر طينة آدم، وتركه حتى صار متغيِّراً أسود، ثم خلق منه آدم صلوات الله وسلامه عليه. قوله: {والجآن خَلَقْنَاهُ} منصوب على الاشتغال، ورجَّح نصبه؛ لعطف جملة على جملة فعليةٍ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 453 والجَّانُّ: أبُو الجنّ، هو إبليس؛ كآدم أبي الإنسِ، وقيل: هو اسمٌ لجنسِ الجن. وقرأ الحسن: «والجَأن» بالهمز، وقد تقدّم الكلام في ذلك في أواخر الفاتحة. فصل قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: الجان ِأبو الجن؛ كما أن آدم أبو البشر، وهو قول الأكثرين. وروي أيضاً عن ابن عباسٍ، والحسن، ومقاتل، وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: هو إبليس، خلق قبل آدم. وقيل: الجانُّ أبو الجن: وإبليس أبو الشياطين، وفي الجنِّ: مسلمون، وكافرون، ويحيون ويموتون، وأما الشيَّاطين؛ فليس سفهم مسلمون، ويموتون إذا مات إبليس. وذكر وهبٌ: أنَّ من الجن من يولد له، ويأكلُونَ، ويشربون بمنزلة الآدميِّين، ومن الجن من هم بمنزلةِ الرِّيح: لاتوالدون، ولا يأكلون، ولا يشربون. قال ابن الخطيب: «والأصحُّ أن الشياطين قسمٌ من الجن، فمن كان منهم مؤمنٌ فإنه لا يسمَّى بالشيطان، ومن كان منهم كافرٌ، سمِّي بهذا الاسم. وسمُّوا جنًّا؛ لاستتارهم عن الأعين، ومنه يسمَّى الجنينُ؛ لاستتاره عن الإعين، في بطن أمِّه، والجنَّةُ: ما تَقِي صابحها، وتستره، ومنه سمِّيت الجنة؛ لا ستتارها بالأشجار» . قوله تعالى: {مِن قَبْلِكَ} ، و «مِن نَارٍ» متعلقان ب: خَلَقْنَاهُ «؛ لأنَّ الأولى لابتداءِ الغاية، والثانية للتعبيض، وفيه دليلٌ على أنَّ» مِنْ «لابتداءِ الغاية في الزمان، وتأويل البصريين له، ولنظائره بعيد. فصل قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما:» يريد قبل خلق آدم صلوات الله وسلامه عليه «ز والسَّمومُ: ما يقتل من إفراطِ الحرّ من شمس، أو ريح، أو نار؛ لأنها تدخل المسامَّ فتَقْتلُ. قيل: سُمِّيت سمُوماً؛ لأنها بلطفها تدخل في مسامِّ البدن، وهي الخروقُ الخفيَّة التي تكون في جلد الإنسان، يبرز منها عرقه وبخار بطنه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 454 وقيل: السَّمومُ ما كان ليلاً، والحرورُ ما كان نهاراً. وعن ابن عباس: نارٌ لا خانلها. قال أبو صالح: والصَّواعِقُ تكون منها، وهي نار بين السماء وبين الحجاب، فإذا أحدث الله أمراً، خرقت الحجاب فهوت إلى ما أمرت به، فالهَدَّةُ التي تسمعون؛ خرق ذلك الحجاب. وقيل: نار السموم: لهب النَّار. وقيل: نارُ جهنَّم. وروى الضحاك، عن ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: كان إبليس من جنسِ من الملائكة، يقال لهم الجن، خلقوا من نارِ السَّمومِ، وخلقت الجنُّ الذين ذكروا من مارج من نارِ، والملائكة خلقوا من نورٍ. وقيل: {مِن نَّارِ السموم} من إضافةِ الموصوف لصفته. قوله: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ} الآية، لما استدلَّ بحدوثِ الإنسان؛ على وجود الإله القادر المختار؛ ذلك بعده واقعته، وهو أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود له، والمراد بكونه بشراً، أي: جسماً يباشر ويلاقى، والملائكة، والجن لا يبشارون؛ للطف أجسامهم، والبشرة: ظاهر الجِلدِ مِنْ كُلِّ حيوانٍ، وتقدَّم ذكر الصلصالِ، والحَمأ المَسْنُونِ. {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ} أي: شكلته بالصورة الإنسانية، والخلقة البشرية. وقيل: سوَّيتُ أجزاء بدنه: باعتدالِ الطَّبائعِ، وتناسب الأمشاجِ، نَفخْتُ فيه من روحي؛ فصار بشراً حيًّا. والرُّوحُ: جسمٌ لطيفٌ، يحيا به الإنسان، وقيل: الرُّوحُ: هي الرِّيح؛ لأنَّ النَّفخ أخذ الريح في تجاويف جسم آخر؛ فظاهر قوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} يشعر بأنَّ الروح هي الريح، وإلا لما صحَّ وصفها بالنَّفخ، وسيأتي بقيةُ الكلام على الروح عند قوله: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85] ، وأضاف روح آدم صلوات الله وسلامه عليه إلى نفسه تشريفاً وتكريماً. قوله تعالى: {فَقَعُواْ لَهُ} ، يجوز أن تتعلق اللام بالفعل قبلها، وأن تتعلق ب» سَاجِدينَ «. فصل ظاهر قوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} يدل على وجوب الجزء: 11 ¦ الصفحة: 455 السجود على الملائكة؛ لأنه مذكمور بفاء التَّعقيب؛ وذلك يمنُ التَّراخي. قوله «أجْمَعُونَ» تأكيد ثانٍ، ولا يفيد الاجتماع في الوقت؛ خلافاً لبعضهم. وقال سيبويه: قوله: {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} «توكيدٌ بعد توكيدٍ» . وسئل المبرد عن هذه الآية فقال: لو قال: فَسجَدَ الملائِكَةُ «احتمل أن يكون سجد بعضهم فلما قال: كُلُّهم زال هذا الاحتمال، فظهر أنهم بأسرهم سجدوا، ثم بعد هذا بقي احتمال وهو أنَّهم: هل سجدوا دفعة واحدة؟ أو سجد كل واحدٍ في وقت؟ . فلما قال: أجْمَعُون ظهر أن الكلَّ سجدوا دفعةً واحدةً. ولما حكى الزجاج هل القول، عن المبرد، قاتل:» وقول الخليل، وسيبويه أجودُ؛ لأن «أجْمَعِينَ» معرفةٌ؛ فلا يكون حالاً «. قال أبو البقاء:» لكان حالاً لا توكيداً «. يعنى أنَّه يفيد إفادة الحال مع أنه توكيدٌ؛ وفيه نظر؛ إذ لا منافاة بينهما بالنسبة إلى المعنى، ألا ترى أنه يجوز:» جاؤوني جَمِيعاً «مع إفادته، وقد تقدم تحريرُ هذا [البقرة: 38] ، وحكاية ثعلب مع ابن قادم. قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى أَن يَكُونَ مَعَ الساجدين} تقدَّم الكلام على هذا الاستثناء في البقرة. قال القرطبيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ:» الاستثناء من الجنس غير الجنس صحيح عند الشافعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، حتَّى ولو قال له: عليَّ دينارٌ إلا ثوباً، أو عَشْرة أثْوابٍ، إلاَّ قفيز حِنظَةٍ، وما جانس ذلك يكون مقبُولاً، ويسقط عنه من المبلغ قيمة الثوبِ، والحِنْطةِ ويستوي في ذلك: المكِيلات، والمَوزونَات، والمُقدَّرات «. وقال مالكٌ، وأبو حنيفة رضي الهل عنهما: استثناء المكيل من الموزون، والموزون من المكيل جائزٌ؛ حتى لو ساتثنى الدَّراهم من الحنطةِ، والحنطة من الدراهم، قُبِلَ، أمَّا إذا استثنى المقوَّماتِ من المكيلاتِ، أو الموزوناتِ، والمكيلاتِ من المقوماتِ؛ فلا يصحُّ؛ مثمل أن يقول: له عشرة دنانير إلاَّ ثوباً، أو عشرة أثواب إلاَّ ديناراً، فيلزم المقرُّ جميع المبلغ. قوله تعالى: {أبى أَن يَكُونَ} ، استئنافٌ؛ وتقديره: أنَّ قائلاً قال: هلاَّ سجد؟ فقيل: أبي ذلك، واستكبر عنه. قوله تعالى: {قَالَ ياإبليس مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ الساجدين قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} قال بعض المتكلمين: إنه تعالى أوصل هذا الخطاب إلى إبليس، على لسان بعض رسله؛ وهذا ضعيف؛ لأنَّ إبليس قال في الجواب: {لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ} ، فقوله:» خَلَقْتهُ «خطاب الحضورِ، لا خطاب الغيبة؛ فظاهره يقتضي أنَّ الله تعالى تكلم مع إبليس بعغير واسطة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 456 فإن قيل: كيف يعقل هذا؛ مع أنَّ مكالمة الله تعالى من غير واسطةٍ من أعظم الناصب، وأعلى المراتب، فكيف يعقل حصوله لرأسِ الكفرِةِ؟ . فالجواب: أنَّ مكالمة الله إنما تكون منصباً عالياً، إذا كان على سبيل الإكرامِ والإعظام، فأما إذا كان على سبيل الإهانة، والإذلال، فلا. وقوله: {لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ} لتأكيد النَّفي، معناه: لا يصحُّ منَّي أن أسجد لبشر. وحاصل كلامه: أن كون بشراً يشعر بكمونه جسماً كثيفاً، وهو كان روحانيًّا لطيفاً، فكأنه يقول: البشر جسماني كثيف، وأنا روحاني لطيف، والجسماني الكثيف أدون حالاً من الروحاني اللطيف، فيكف يكون للأدنى سجود للأعلى؟ . وأيضاً: فآدم مخلوقٌ من صلصالٍ، تولَّد من حمأ مسنون، وهذا الأصل في غاية الدناءة، وأصل «إبْليسَ» : هو النار، والنار هي أشرف العناصر فكان أصل إبليس أشرف من أصل آدم؛ فوجب أن يكون إبليس أشرف من آدم، والأشرف يقبح أن يؤمر بالسجود للأدنى؛ فهذا مجموع [شبهة] إبليس. {قَالَ فاخرج مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} ، وهذا ليس جواباً عن الشُّبهة على سبيل التصريح، بل جواب على سبيل التنبيه. وتقديره: أن الذي قاله الله تعالى نصٌّ، والذي قاله إبليس قياس، ومن عارض النصَّ بالقياس، كان رجيماً ملعوناً، وتمام الكلام في هذا المعنى مذكور في سورة الأعراف. والضمير في: «مِنْهَا» : قيل: من جنَّة عدنٍ، وقيل: من السمواتِ، وقيل: من زمرة الملائكةِ. {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللعنة إلى يَوْمِ الدين} قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: يريد يوم الجزاء حيث يجازى العبادُ بأعمالهم. و {إلى يَوْمِ} يجوز أن يتعلق بالاستقرار في: «عَليْكَ» ، ويجوز أن يتعلق بنفس اللعنة. فإن قيل: كلمة «إلى» تفيد انتهاء الغايةِ؛ فهذا يشعر بأنَّ اللعن لا يحصل إلاَّ يوم الدِّين، وعند القيامة يزول اللَّعن. فالجواب من وجوه: الأول: أن المراد التأبيد، وذكر القيامة أبعد غاية تذكرها الناس في كلامهم؛ كقولهم: {مَا دَامَتِ السماوات والأرض} [هود: 108] في التَّأيد. والثاني: أنك مذموم مدعو عليك باللعنة في السموات والأرض إلى يوم الدين، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 457 من غير أن يعذب، فإذا جاء ذلك اليوم، عذِّب عذاباً [ينسى] اللعن معه، فيصير اللَّعن حنيئذٍ كالزائلِ؛ بسبب أنَّ شدّضة العذاب تذهل عنه. قوله: {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وهذا متعلق بما تقدم، والتدقير: إذا جعلتني رجيماً إلى يوم القيامة؛ فأنظريني، أراد ألاَّ يموت، والمراد من قوله: {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} ، يوم البعثِ، والنُّشورِ، وهو يوم القيامة؛ فقال تعالى: {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين إلى يَوْمِ الوقت المعلوم} قيل: وقت النفخةِ الأولى حين يموت الخلائق؛ لأن من المعلوم أن تموت الخلائق فيه. وقيل: سمِّي معلوماً؛ لأنه لا يعلمه إلا الله تعالى؛ لقوله عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] . وقيل: يوم الوقت المعلوم: يوم القيامة. فإن قيل: لمَّا أجابه الله إلى مطلوبه لزم ألاَّ يموت إلى وقت قيام القيامة، [و] وقت قيام القيامة لا موت، فلزم ألا يموت بالكلية فالجواب: يحمل قوله {إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} : إلى ما يكون قريباً منه، و [الوقت] الذي يموت فيه كلُّ المكلفين قريبٌ من يوم البعث. وقيل: {يَوْمِ الوقت المعلوم} لا يعلمه إلا الله. قيل: لم تكن إجابة الله تعالى له في الإمهالِِ إكرماً له، بل كان زيادة في بلائه وشقائه. قوله: {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} الباء للقسم، و «مَا» مصدرية، وجواب القسم {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ} والمعنى: أقسم بإغوائك إيايّ، لأزينن؛ كقوله: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] إلاَّ أنه في هذا الموضع أقسم بعزة الله تعالى وهي من صفاتِ الذات، وفي قوله: {بِمَآ أَغْوَيْتَنِي} ، أقسم بإغواء الله، وهو من صفات الأفعال، والفقهاء قالوا: القسم بصفاتِ الذَّات صحيحٌ، واختلفوا في القسم بصفاتِ الأفعال. ونقل الواحديُّ هنا عن بعضهم: أنَّ الباء هاهنا سببية، أي: بسبب كوني غاوياً، لأزيننَّ؛ كقول القائل: «أقْسمَ فُلانٌ بِمعْصِيتهِ، ليَدْخُلنَّ النَّار، وبِطاعَتهِ ليَدْخُلنَّ الجَنَّة» . ومعنى: {أَغْوَيْتَنِي} : أضْللْتَنِي، وقيل: خَيَّبْتَنِي من رحمتك، {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأرض} حبَّ الدنيا، ومعاصيك. والضمير في: «لَهُمْ» لذرية آدم عليه السلام وإن لم يجر لهم ذكر؛ للعلم بهم. و «لإْغْوِيَنَّهُمْ» : لأضلَّنَّهُم أجمعين. إلا عبادك منهم المخلصين قرأ ابن كثير، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 458 وابن عامر، وأبو عمرو: «المُخْلصِينَ» بكسر اللام، والباقون: بفتح اللاَّم. ومعنى القراءة الأولى: أنهم أخلصوا دينهم عن الشَّوائب؛ ومن فتح اللاَّم، فمعناه: الذين أخلصهم الله بالهداية. فصل قال ابن الخطيب: «واعلم أنَّ الذي حمل» إبليس «على ذكر هذا الاستثناء ألاَّ يصير كاذباً في دعواه، فلما احترز» إبليس «عن الكذب، علمنا أنَّ الكذب في غاية الخساسةِ» . فصل قال رويمٌ: «الإخلاص في العمل: وهو الأَّ يريد صاحبه عليه عوضاً في الدَّارين، ولا عوضاَ من المكلفين» . وقال الجندي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: الإخلاص: سرُّ بين العبد، وبين الله تعالى لا يعلمه ملكٌ فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوًى فيمليه. وذكر القشيريُّ، وغيره عن النبي صلى الله علي هوسلم أنه قال: «سَألتُ جِبْريلَ عليه السلام عن الإخْلاًِ ما هُو؟ فقالَ: سَألتُ ربَّ العِزَّةِ عَنِ الإخْلاصِ ما هُو؟ فقال: سِرِّي اسْتودَعْتهُ قلبَ مَنْ أحْبَبْتهُ مِنْ عِبَادي» . قوله تعالى: {قَالَ هَذَا صِرَاطٌ} «هَذَا» إشارة إلى الإخلاص المفهوم من المخلصين. وقيل: إلى انتفاء تزْيينه، وأغوائهه على من مرَّ عليه، أي: على رضواني، وكرامتي. وقيل: «عَلى» بمعنى: «إلَى» ، نقل عن الحسنِ. وقال مجاهدٌ: الحقُّ يرجع إلى الله تعالى وعليه طريقة، لا تعرج على شيءٍ. وقال الأخفش: يعني عليَّ الدَّلالةُ على الصراطِ المستقيم. وقال الكسائي: هذا على التّهديد والتوعيد؛ كما يقول الرجل لمن يخاصمه: طريقتك علي أن لا تفلت منِّي، قال تعالى: {لبالمرصاد} [الفجر: 14] . وقرأ الضحاك، وقتادة، وأبو رجاء، وأبن سيرين، ويعقوب في آخرين: «عليُّ» ، أي: عالٍ مرتفعٌ. وعبَّر بعضهم عنه: رفيع أن ينال «مُسْتقِيمٌ» أن يمال. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 459 قوله تعالى: {عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} أعلم أن إبليس لما قال {وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين} أوهم أنَّ له سلطاناً على غير المخلصين، فبيَّن الله تعالى في هذه الآية أنه ليس له سلطانٌ على أحد م نعبيد الله سواء كان مخلصاً أو غير مخلص، لكن من اتبع منهم إبليس باختياره؛ ونظيره قوله حكاية عن إبليس: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ} [إبراهيم: 22] ، وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} [النحل: 99، 100] فعلى هذا يكون استثناء منقطعاً. قال الجبائيُّ: «هذه الآية تدلُّ على بطلان قول من زعم أنَّ الشيطان، والجنَّ يمكنهم صرع الناس، وإزالة عقولهم» . وقيل: الاستثناء متصلٌ؛ لأنَّ المراد ب «عِبَادي» العموم، طائعهم، وعاصيهم وحينئذ يلزم استثناء الأكثر من الأقلِّ. وأراد بالعباد الخلَّص؛ لأنه أضافهم إليه إضافة تشريفٍ، فلم يندرج فيه الغوون؛ للضمير في موعدهم. قال القرطبي: «قال العلماء في معنى قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} : يعني على قلوبهم» . وقال ابن عيينة: «يلقيهم في ذنب ثم أمنعهم بعفوي: أو: هم الذين هداهم الله، واجتباهم، وأختارهم، واصطفاهم» . فإن قيل: قد أخبر الله تعالى، عن آدم، وحواء صلوات الله وسلامه عليهما بقوله: {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان} [البقرة: 36] وعن جلمة من أصحاب نبيَّه {إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ} [آل عمران: 155] . فالجواب: أنه ليس له سلطان على قلوبهم، ولا موضع إيمانهم، ولا يلقيهمخ في ذنب يؤول إلى عدم العفو، بل يزيله بالتوبة، ولم يكن خروج آدم عقوبة على ما تقدم بيانه في البقرة. وأما أصحاب النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقد مضى القول عليه في «آل عمران» ، ثم إنَّ قوله تعالى: {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} يحتمل أن يكون حاصلاً فيمن حفظ الله، ويحتمل أن يكون في أكثر الأوقات، وقد يكون ي تسليطه تفريج كربه، وإزالة عمه؛ كما فعل ببلالٍ، إذْ أتاه يهديه، كما يهدَّى الصبيُّ حتى نام، ونام النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فلم يستيقظوا حتى طلعت الشمس، وفزعوا، وقالوا: ما كفَّارةُ ما صَنعنَا في تَفْريطِنَا في صَلاتِنَا؟ فقال لهُم النبيُّ صلى الله عليه سلم «ليْسَ في النَّوْمِ تَفْرِيطٌ» ؛ ففرَّج عَنْهُم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 460 وقال ابن عطيَّة: تأكيد فيه معنى الحال من الضمير في «مَوْعِدهُم» ، والعامل فيه معنى الإضافة، قاله أبو البقاء «. وفي مجىء الحال من المضاف إليه، خلافٌ، ولا يعمل فيها الموعد، إن أريد به الكان، فإن أريد به المصدر، جاز أن يعمل؛ لأنه مصدرٌ، ولكن لا بدَّ من حذف مضاف، عي: مكان موعدهم. قوله تعالى: {لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ} يجوز في هذه الجملة أن تكون مستأنفة، وهو الظاهر، ويجوز أن تكمون خبراً ثانياً، ولا يجوز أن تكون حالاً من» جَهنَّم «؛ لأن» إنَّ: «لا تعمل في الحال، قال ابو البقاء. وقياس ما ذكروه في» لَيْتَ، وكأنَّ، ولعلَّ «من أخواتها من أعمالها في لحال؛ لأنَّها بمعنى: تمنيَّتُ وشبهت، وترجيت أ، تعمل فيها» إنَّ «أيضاً؛ لأنَّها بمعنى أكدتُ، ولذلك عملت عمل الفعل، وهي أصل الباب. فصل قال عليٌّ كرم الله وجهه: هل تدرون كيف أبوا النًَّار؟ ووضع أحدى يديه على الأخرى، أي: سبعةٌ أبوابٍ، بضعها فوق بعض، وأنَّ الله تعالى وضع الجنان على العرض، ووضع النِّيران بعضها على بعض. قال ابن جريج: النار سبع دركاتٍ: أولها جهنَّم، ثمَّ لظى، ثم الحطمة، ثم السعير، ثم الجحيم، ثم الهاوية. قال الضحاك: الطبقة الأولى: فيها أهل التوحيد، يعذَّبون على قدر أعمالهم ثم يخرجون منها، والثانية: لليهود والثالثة: للنَّصار، والرابعة: للصابئين، وروي أن الثانية: للنصارى، والثالثة: لليهودِ، والرابعة للصابئين، والخامسة: للمجوسِِ، والسادسة: للمشركين، والسابعة: للمنافقين؛ قال تعالى: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار} [النساء: 145] . قوله:» مِنهُمْ «يجوز أن يكون حالاً من» جُزءٌ «؛ لأنَّه في الأصل صفة له، فلما قدمت، انتصبت حالاً، ويجوز أن يكون حالاص من الضمير المستتر في الجارِّ، وهو:» لكُلِّ بابٍ «، والعامل في هذه الحال، ما عمل في هذا الجارِّ، ولا يجوز أن يكون حالاً من الضمير المستكن في:» مَقسُومٌ «؛ لأنَّ الصفة لا تعمل فيها قبل الموصوف، ولا يجوز أن تكون صفة ل» بابٍ «؛ لأنَّ الباب ليس من النَّاس. وقرأ أبو جعفر:» جُزٌّ «بتشديد الزَّاي من غير همزٍ، فكأنه ألقى حركة الهمزة على الزَّاي، ووقف عليها فشدَّدها؛ كقولك:» خَبّ «في» خبءُ خالد «ثم أجري الوصل مجرى الوقف. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 461 الجُزِْءُ: بعض الشيء، والجمع: أجزاء، وجَزَّأتهُ: جعلته أجزاء. والمعنى: أنه تعالى يُجزِّىء أبتاع إبليس أجزاءَ، أي: يجعلهم أقساماً، ويدخل في كل باب من أبواب جهنَّم طائفة؛ والسبب في ذلك: أنَّ مراتبَ الكفر مختلفةٌ بالغلظةِ والخفة. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 462 قوله تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} الآياتِ، لمَّا شرح أحوال أهل العقاب، أتبعه بصفة أهل الثَّواب. وروي أنَّ سلمان الفارسيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لما سمع قوله تعالى: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 43] مَرَّ ثلاثةُ أيَّام من الخوفِ لا يعقلُ، فَجيء به إلى رسول الله صلى لله عليه وسلم فسأله، فقال: يا رسول الله، نزلت هذه الآية: {وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 43] : فوالذي بعثك بالحق نبيًّا، لقد قطعت قلبي فأنزل الله تعالى {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} . قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: [أراد] بالمتقين: الذين اتقوا الشِّرك بالله تعالى، والكفر به، وبه قال جمهور الصحابة، والتَّابعين. وهو الصحيح؛ لأنَّ المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة، كما أن الضَّارب هو الآتي بالضرب، والقاتل هو الآتي بالقتل مرة واحدة، فكما أنه ليس من شرط صدق الوصف بكونه ضارباً، وقاتلاً، أن يكون آتياً بجميع أنواع الضرب والقتل، ليس من شرط صدق الوصف بكونه متَّقياً كونه آتياً بجميع أنواع التقوى؛ لأنَّ الآتي بفردِ واحدٍ من أفراد التقوى، يكون آتياً بالتقوى؛ لأنَّ كل فردٍ من أفراد الماهية، يجب كونه مشتملاً على تلك الماهيَّة، وبهذا التحقيق استدلُّوا على أنَّ الأمرَ لا يفيد التَّكرار. وإذا ثبت هذا فنقول: أجمعت الأمة على أنَّ التقوى عن الكفر شرط في حصول المحكم بدخول الجنة. وقال الجبائي، وجمهور المعتزلةِ: المتقين: هم الَّذين اتَّقوا جميع المعاصي، قالوا: لأنه اسم مدحٍ، فلا يتناولُ إلاَّ من [كان] كذلك. واعلم أنَّ الجنات أربعةٌ؛ لقوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ثم قال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] فيكمن [المجموع] أربعة. قوله: «وعُيُونٍ» : قرأ ابن كثيرٍ، والأخوان، وأبو بكر، وابن ذكوان: بكسر عين « الجزء: 11 ¦ الصفحة: 462 عِيُونٍ» منكراً، والعينُّ معرف حيث وقع؛ والباقون: بالضمِّ، وهو الأصل. فصل الجنَّاتُ: البَساتِينُ، والعُيونُ: يحتمل أن يكون المراد بها الأنهار المذكمورة في قوله تعالى: {فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى} [محمد: 15] ، ويحتمل أن يكمون امراد من هذه العيون منافع مغايرة لتلك الأنهار. قوله: {ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ} العامة على وصل الهمزة من: دَخَلَ يَدخُل، وقد تقدم خلاف القراء في حركة هذا التنوين، لالتقاءِ السَّاكنين في البقرة: [173] . وقرأ يعقوب رَحِمَهُ اللَّهُ بفتح التنوين وكسر الخاء، وتوجيهها: أنَّه أمرٌ من: أدْخَلَ يَدْخلُ فلما وقع بعد «عُيونِ» ألقى حركة الهمزة على التنوين؛ لأنها همزة قطع ثمَّ حذفها، والأمر من الله تعالى، للملائكةِ، أي: أدخلوها أيَّاهم. وقرأ الحسن، ويعقوب أيضاً: «أُدخِلُوها» ماضياً مبنياً للمفعول، إلا أنَّ يعقوب ضمَّ التنوين ووجهه: أنه أخذه من أدخل رباعياً، فألقى حركة همزة القطع على التنوين كما ألقى حركة المفتوحةِ في قراءته الأولى، والحسن كسرهُ على أصل التقاءِ الساكنين، ووجهه: أن يكون أجرى همزة القطع مجرى همزة الوصل في الإسقاط. وقراءة الأمر على إضمار القول، أي: يقال لأهل الجنَّة: أدخلوها، أو يقال للملائكة: أدخلوها إياهم، وعلى قراءة الإخبار يكون مستأنفاً من غير إضمارٍ، وقوله «بِسَلامٍ» حالٌ: أي: ملتبسين بالسلامة أو مسلماً عليكم. و «آمنِينَ» حال أخرى، وهي بدلٌ مما قبلها، إما بدل كلُ من كلِّ وإما بدل اشتمالِ؛ لأن الأمن مشتملٌ على التحية أو بالعكسٍ، والمعنى: أمنين من الموت، والخورج، والآفات. فإن قيل: إن الله تعالى [حكم] قبل هذه الآية بأنهم في جنات وعيون، وإذا كانوا فيها فكيف يقال لهم: «ادْخُلُوها» ؟ . فالجواب: أنَّهم لما ملكوا جنات كثيرة، فكلما أرادوا أن ينتقلوا من جنة إلى أخرى قيل لهم: {ادخلوها بِسَلامٍ آمِنِينَ} . قوله تعالى: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ} الغِلُّ: الشَّحناءُ، والعداوة الحقد الكامن الجزء: 11 ¦ الصفحة: 463 في القلب، مأخوذ من قولهم: أغلَّ في جوفه، وتغلغل. قوله: «إخْوَاناً» يجوز أن يكون حالاً من «هُمْ» في «صُدُورهِمْ» ، وجاز ذلك‘ لأنَّ المضاف جزءُ المضاف إليه. وقال أبو البقاءِ: والعامل فيها معنى الإلصاق، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل «ادْخُلوهَا» على أنها حال مقدرة، قاله أبو البقاء. ولا حاجة إليه بل هو حال مقارنة. ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في قوله: «جَنَّاتٍ» . قوله «على سُررٍ» ، يجوز أن يتعلق بنفس «إخواناً» ، لانه بمعنى متصافين، أي: متصافين على سُررٍ، قاله أبو البقاء؛ وفيه نظر؛ حيث تأويل جامدٍ بمشتقٍّ، بعيد منه. و «مُتَقابِلينَ» على هذا حالٌ من الضمير في «إخْواناً» ، ويجوز أن يتعلق بمحذوف، على أنه صفة ل «إخْواناً» ، وعلى هذا ف «مُتقَابِلينَ» حالٌ من الضمير المستطنِّ في الجارِّ، ويجوز أن يتعلق ب «مُتَقَابلينَ» ، أي: متقابلين على سررٍ، وعلى هذا ف «مُتَقَابلينَ» من الضمير في «إخْواناً» أو صفة ل «إخْوَاناً» . ويجوزم نصبه على المدحِ، يعني: أنه لا يمكن أن يكون نعتاً للضمير فلذلك قطعَ. والسُّررُ: جمع سَريرٍ، وهو معروفٌ، ويجوز في «سُررٍ» ، ونحوه مما جمع على هذه الصيغةِ من مضاعف «فَعِيل» فتح العين؛ تخفيفاً؛ وهي لغة بني كلبٍ وتميم، فيقولون: سُرَرٌ وجُدَدٌ، وذلك في جمع سرير وجديد. قال المفضل: لأنَّهم يستثقلون الضمتين المتوالتين في حرفين من جنس واحد. فصل قال بعض أهل المعاني: السَّريرُ: مجلسٌ رفيعٌ مهيَّأ للسُّرورِ، وهو مأخوذ منه؛ لأنه مجلس سرورٍ. متقابلينَ: يقالب بعضهم بعضاً، ولا ينظر أحد منهم إلى قفا صاحبه، والتَّقابلُ: التواجه، وهو نقيضُ التَّدابر. قوله: {يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ} يجوز أن تكون هذه مستأنفة، ويجوز أن تكون حالاً من الضمير في «مُتَقَابلينَ» . والنَّصَبُ: التَّعَبُ، يقال منه: نَصِبض يَنْصَبُ فهو نَصِبٌ ونَاصِبٌ، أنصبني كذا، قال: [الطويل] 3278 - تَأوَّبَنِي هَمٌّ مَعَ اللَّيْلِ مُنصِبُ ..... ... ... ... ... ... ... ... وهمَّ ناصبٌ، أي: ذُو نصبٍ، كلابن وتامر؛ قال النابغة: [الطويل] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 464 3279 - كِلينِي لِهَمِّ يَا أمَيْمة نَاصبٍ ... ولْلٍ أقَاسيهِ بَطيءٍ الكَواكِبِ و «مِنْهَا» متعلقه «بمُخْرجين» . وهذه الآية أنصُّ آيةٍ في القرآن على الخلود. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 465 قوله تعالى: {نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم} أثبت الهمزة الساكنة في «نَبِّىء» صورة، وما أثبت في قوله: «دِفْءٌ» ؛ لأنَّ ما قبلها ساكنٌ، فهي تحذف كثيراً، وتلقى حركتها على الساكن قبلها ف «نَبِّىءْ» في الخط على تحقيق الهمزة، وليس قبل همزة «نَبِّىْ» ساكن؛ فأخَّروها على قياس الأصل. وقوله: أنَا الغَفورُ «يجوز في» أنَا «أن يكون تأكيداً، أن يكون فصلاً» . وقوله: {هُوَ العذاب} يجوزم في «هُوَ» الابتداء، والفصل، ولا يجوز التوكيد؛ إذ المظهر لا يؤكَّد بالمضمر. فصل ثبت في أصول الفقه أنَّ ترتيب الحكم على الوصف المناصب يشعر بغلبةِ ذلك الوصف، فهاهنا وصفهم بكونهم عباده، ثم ذكر عقب هذا الوصف الحكم بكونه غفوراً رحيماً، وهذا يدلُّ على أنَّ كلَّ من اعترف بالعبودية، وكان في حقِّه غفوراً رحيماً، ومن أنكر ذلك، كان مستوجباً للعذاب الأليم. وفي الآية لطائف: أولها: أنه أضاف العباد إلى نفسه بقوله: «عِبَادي» وهذا تشريفٌ عظيمٌ، ويدل عليه قوله: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] . وثانيها: أنه لما ذكر المغفرة، والرحمة بالغ في التَّأكيدات بألفاظٍ ثلاثة: أولها: قوله: «أنِّي» . وثانيها: «أنَا» . وثالثها: إدخال الألف واللام على قوله: «الغَفُور الرَّحيمُ» ، ولما ذكر العذاب، لم يقول: إني إنا ولَمْ يَصفْ نفسهُ بِذلكَ، بل قال عزَّ وجلَّ: {عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} . وثالثها: أنه تعالى أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يبلغ إليهم هذا المعنى، فكأنه أشهد رسوله على نفسه بالتزام المغفرة، والرحمة. ورابعها: أنه تعالى لمَّا قال: {نَبِّىءْ عِبَادِي} كان معناه: كلّ من اعترف الجزء: 11 ¦ الصفحة: 465 بعبوديَّتي، وهنذا يشمل المؤمن، والعاصي، وكذلك يدل على تغليب جانب الرحمة من الله تعالى. قال قتادة: بلغنا أن نبيَّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «لَو يَعْلمشُ العَبدُ قَدْرِ عَفْوِ الله لمَا تورَّع عن حرامٍ، ولوْ عَلِمَ قدر عِقابِهِ لبَخَعَ نَفْسَهُ» أي: قتلها. وعن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه مرَّ بِنفَرٍ من أصحابه، وهم يضحكُون، فقال: أتَْضحَكُون وبيْنَ أيديكمُ النَّارُ «فنزَل جِبريلُ صلوات الله وسلامه عليه بِهذِهِ الآية، وقال:» يقول لك يا محمَّد: لِمَ تقنط عِبادِي «. وقال بان عبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: معنى: {أَنَا الغفور الرحيم} لمن تاب منهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 466 قوله تعالى: {وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ} القصَّة: لما قرَّر أمر النبوة، أردفه بدلائل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 466 التوحيد، ثمَّ عقبه بذكر أحوال القيامةِ، وصفة الأشقياء، والسعداء، أتبعه بذكر قصص الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ليكن سماعها مرغِّباً للعبادة الموجبة للفوز بدرجاتِ الأولياءِ، ومحذراً عن المعصية الموجبةِ لاستحقاقِ دركاتِ الأشقياءِ. فقوله: «ونَبِّئْهُم» ، هذا الضمير راجعٌ إلى قوله عَزَّ وَجَلَّ: عِبَادِي «، أي: ونبِّىء عبادي، يقال: أنْبأتُ القوم إنباءً ونَبَّأتهُم تَنْبئةً إذا أخبرتهم. قوله:» عَن ضَيْفِ «، أي [أضياف إبراهيم] ، والضَّيْفُ في الأص مصدر ضَافَ يضيفُ: إذا أتى إنساناً يطلب القوى، وهو اسمٌ يقع على الواحدِ، والاثنين، والجمع، والمذكر، والمؤنَّث. فِإن قيل: كيف سمَّاهم ضيفاً، مع امتناعهم من الأكلِ؟ . فالجواب: لمن ظنَّ إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه أنَّهم إنَّما دخلوا عليه لطلب الضِّيافة، جاز تسميتهم ذلك. وقيل: من دخل [دار] إنسان، والتجأ إليه سمِّي ضيفاً، ون لم يأكل، وكان إبراهيم صلوات الله وسلامه علثيه يكنَّىأبا الضيفان، كان لقصره أربعة أبوابٍ، لكي لا فوته أحدٌ. وسمِّي الضيف ضيفاً؛ لإضافته إليك، ونزوله عليك. قال القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ:» ضَافهُ مَالَ إليه، وأضَافهُ: [أماله] ، ومنه الحديث: حِينَ تضيفلإ الشَّمسُ للغُروبِ. وضَيفُوفَةُ السَّهم، والإضافةُ النَّحوية «. قوله: {إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ} في» إذْ «وجهان: أحدهما: أنه مفعول لفعل مقدر، أي: اذكر إذ دخلوا. والثاني: أنه ظرف على بابه، وفي العامل فيه وجهان: أحدهما: أنه محذوف، تقديره: خبر ضيف. والثاني: أنه نفس» ضَيْفِ «، وفي توجيه ذلك وجهان: أحدهما: أنه لما كان في الأصل مصدراً اعتبر ذلك فيه، ويدلُّ على اعتبار مصدريته بعد الوصف به: عدم مطابقته لما قبله تثنية، وجمعاً وتأنيثاً في الأغلب، ولأنه قائم مقام وصفه، والوصف يعمل. والثاني: أنه على حذف مضاف، أي: أصحاب ضيف إبراهيم، أي: ضيافته، فالمصدر باقٍ على حاله، فلذلك عمل. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 467 قال أبو البقاء بعد أن قدر أصحاب ضياتفه: والمصدر على هذا مضاف إلى المفعول. قال شهابُ الدِّين: وفيه نظر، إذ الظَّاهر إضافته لفاعله؛ لأنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله تعالى: {فَقَالُواْ سَلاماً} ، أي نُسلِّم لك سلاماً أو سلَّمتُ سلاماً، أو سلمُوا سَلاماً، قاله القرطبي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى. قال: {إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ} أي: خائفون؛ لأنهم لم يأكلوا طعامه، وقيل: لأنهم دخلوا بغير إذن، وبغير وقت. قوله:» لا تَوجَلْ «العامة على فتح التاء من» وجِلَ «ك:» شَرِبَ «يَشربُ، والفتح قياس» فَعِلَ «إلا أن العرب آثرت [يفعل بالكسر] في بعض الألفاظ إذا كانت واواً، نحو:» نَبِقَ «وقرأ الحسن:» لا تُوجَل «مبنياً للمفعول من الإيجال. وقرىء: «لا تَأجَلْ» ، والأصل: «تَوْجل» كقراءة العامة، إلاَّ أبدل من الواو ألفاً لانفتاح ما قبلها، وإن لم تتحرَّك كقولهم: «تَابةٌ» ، و «صَامةٌ» في «تَوْبة» ، و «صَوْمة» وسمع: اللَّهُم تقبَّل تَابتِي، وصَامتِي. وقرىء أيضاً: «لا تُواجِل» من المواجلة. ومعنى الكلام: لاتخف؛ «إنَّا نَبشِّرُكَ» ، قرأ حمزة: «إنَّا نَبْشُركَ» بفتح النون وتخفيف الباء، والباقون بضم النون، وفتح الباء، و «إنَّا نُبشِّركَ» استئناف بمعنى التعليل للنهي عن الوجل، والمعنى إنَّك بمثابة الآمن المبشر فلا توةجل. واعلم أنَّهم بشروهن بأمرين: أحدهما: أنَّ الولد ذكرٌ، والثاني: أنه عليمٌ. فقيل: بشَّروه بنبوته بعده، وقيل: عليم بالدِّين، فعجب إبراهيم أمره و {قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر} قرأ الأعرج: «بشَّرتُمونِي» بإسقاط أداة الاستفهام، فيحتمل الأخبار، ويحتمل الاستفهام، وإنما حذفت أدلته للعلم به. وِ «على أنْ مسَّنيَ» في محل نصبٍ على الحال. وقرأ ابن محيصن: «الكُبْر» بزنة «فُعْقولهخ:» فبمَ تبشّرون «» بِمَ «متعلقٌ ب» تُبشِّرُون «، وقدم وجوباً؛ [لأنه] استفهام وله صدر الكلام. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 468 وقرأ العامة: بفتح النون مخففة على أنها نون الرفع؟ ولم يذكر مفعنول التبشير، وقرأ نافع بكسرها، والأصل: تبشروني فحذف الياء مجتزئاً عنها بالكسرة. وقد غلطه أبو حاتم، وقال: هذا يكون في الشعر اضطراراً. وقال مكي:» وقد طعن في هذه القراءة قومٌ لبُعدِ مخرجِها في العربيَّة؛ لأنَّ حذف النون التي تصحبُ الياء لا يحسنُ إلاَّ في الشِّعر، وإن قُدِّر حذف النون الأولى حذفت [علم] الرفع من غير ناصب، ولا جازم؛ ولأنَّ نون الرفع كسرها قبيحٌ، إنَّما حقُّها الفتح «. وهذا الطعن لا يتلفت إليه، لأنَّ ياء المتكلم قد كثر حذفها مجتزءاً عنها بالكسرة، وقد قرىء بذلك في قوله تعالى: {قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمرونيا} [الزمر: 64] كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. ووجهه: أنَّه لما اجتمع نونان أحدهما نون الرفع، والأخرى نون الوقاية استثقل اللفظ، فمنهم من أدغم، ومنهم من حذف، ثم اختلف في المحذوفة، هل هي الأولى، أو الثانية، وتقدَّم الكلام على ذلك في سورة الأنعام [الأنعام: 80] . وقرأ ابن كثير بتشديدها مكسورة، أدغم الأولى في الثانية، وحذف ياء الإضافة، والحسن: أثبت الياء مع تشديد النون، ورجح قراءة من أثبت مفعول:» يُبشِّرُون «وهو الياء. قوله: {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق} » بَشَّرناكَ «، و» بالحقِّ «متعلق بالفعل قبله، وضعف أن يكون حالاً، أي: قالوا بَشَّرنَاكَ. ومعنى:» بالحَقِّ «هنا استفهام بمعنى التعجُّب، كأنه قيل: بأيَّ أعجوبةٍ تبشروني؟ . فِإن قيل: كيف استبعد قدرة الله تعالى على خلقِ الولدِ منه في زمانِ الكبرِ؟ وما فائدة هذا الاستفهام مع أنهم قد بينوا ما بشَّروا به؟ . فِأجاب القاضي: بأنه أراد أن يعرف أنه تعالى هل يعطيه الولد مع أنه يبقيه على سفة الشيخوخة، أو يقلبه شابًّا، ثم يعطيه الولد؟ . وسبب هذا الاستفهام: أن العادة جارية بأنه لا يحصل الولد حال الشيخوخة التامَّة، وإنما يحصل في حال الشَّبابِ. فإن قيل: فإذا كان معنى الكلام ما ذكرتم، فلم قالوا: {بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين} ؟ . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 469 قلنا: إنهم بيَّنوا أنه تعالى بشَّرهُ بالولد مع إبقائه على صفة الشَّيخوخَةِ، وقولهم {بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين} لايدل على أنه كان كذلك بدليل أنه صرَّح في جوابهم بما يدلُّ على أنَّه ليس كذلك فقال: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضآلون} . وأجاب غيره: بأن الإنسان إذا كان عظيم الرغبة في شيءٍ، وفاته الوقت الذي يغلب على ظنِّه حصول المراد فيه، فإذا بشِّر بعد ذلك بحصوله عظم فرحه، وسروره، ويصير ذلك الفرحُ القويُّ كالمدهش له، والمزيل لقوَّة فهمه، وذكائه، فربَّما تكلم بكلماتٍ مضطربة في ذلك الوقت. وقيل أيضاً: إنه يستطيب تلك البشارة، فربَّما يعيد السؤال ليسمع تلك البشارة مرَّة أخرى ومرتين وأكثر طلباً للالتذاذ بسماع تلك البشارة، أو طلباً لزيادة الطمأنينة والوثوق، كقوله: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] وقيل أيضاً: استفهم: أبأمرِ الله تبشروني، أم من عند أنفسكم، واجتهادكم. قوله: {قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق} قال ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما يريد بما قضى الله تعالى. وقوله: {فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين} نهي لإبراهيم صلوات الله وسلامه عليه عن القنوطِ، وقد تقدَّم أنَّ النهي لإنسان عن الشَّيء لا يدل على كون المنهي فاعلاً للمنهيّ عنه، كقوله جلَّ وعزَّ {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 48] {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [القصص: 78] . قوله: {وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ} هذا استفهام معناه النفي، ولذلك وقع بعد الإيجاب ب «إلاَ» . وقرأ أبو عمرو، والكسائي: «يَقْنِطُ» بكسر عين هذا المضارع حيث وقع، والباقون بفتحها وزيد بن علي والأشهب بضمها، وفي الماضي لغتان «قنط» بكسر النون، «يَقنَطُ» بفتحها، وقنط «يقْنطُ» بكسرها، ولولا أن القراءة سنة متبعة، لكان قياس من قرأ {مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ} [الشورى: 28] وافلتح في الماضي هو الأكثر، ولذلك أجمع عليه. قال الفارسي: فتح النون في الماضي، وكسرها في المستقبل من أعلى اللغات، ويرجحُ قراءة «يَقْنَطُ» بالفتح قراءة أبي عمرو في بعض الروايات «فلا تكن من القنطين» كفَرِحشَ يفرح فهو فَرِحٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 470 والقُنُوط: شدَّة اليأسِ من الخَيرٍ، وحكى أبو عبيدة: «قَنُطَ» يَقْنُطُ بضمِّ النون. قال ابن الخطيب: «وهذا يدلُّ على أنَّ» قَنَطَ «بفتح النون أكثر؛ لأن المضارع من» فَعَل «يجيء على» يَفْعِلُ ويَفْعُل «مثل: فَسقَ: ويَفْسُقُ، لا يجيء مضارع فَعَلَ على يَفْعَلُ» . فصل جواب إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه حق؛ لأنَّ الفنوط من رحمة الله تعالى لا يحصل إلاَّ عند الجهل بأمور: أحدها: أن يجهل كونه تعالى قادراً عليه. وثانيها: أن يجهل كونه تعالى عالماً باحتياج ذلك العبد إليه. وثالثها: أ، يحجهل كونه تعالى، منزّهاً عن البخل، والحاجة. والجهل بكلِّ هذه الأمور سبب للضَّلالِ، القُنوط من رحمة الله كبيرة، كالأمن من مكرهِ. قوله تعالى: {فَمَا خَطْبُكُمْ} الخطب: الشأن، والأمر، سألهم عمَّا لأجله أرسلهم الله تعالى. فِإن قيل: إنَّ الملائكة لما بشَّروه بالولد الذَّكر العليمِ، كيف قال لهم بعد ذلك «فَمَا خَطْبُكمُ» ؟ . فالجواب: قال الأصم: معناه: ما الذي وجتهم له سوى البُشْرَى؟ . وقال القاضي: إنه علم أنه لو كان المقصود أيضاً البشارة، لكان الواحد من الملائكة كافياً، فلمَّا رأى جمعاً من الملائكة؛ علم أنَّ لهم غرضاً آخر سوى إيصال البشارة، فلا جرم قال: «فَما خَطْبكُمْ» ؟ . قيل: إنَّهم قالوا: إنَّا نُبشِّركَ بغُلامٍ عَليم لإزالة الخوف، والوجل، ألا ترى أنّه لما قال: {إنا منكم وجلون} قالوا له: {لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم} ، فلو كان المقصود من المجيء هو البشارة؛ كانوا ذكروا البشارة في أوَّل دخولهم، فلمَّا لم يكن الأمر كذلك علم إبراهيم صلوات الله وسلام عليه أنَّ مجيئهم ما كان لمجرَّد البشارة، بل لغرض آخر فلا جرم سألهم عن ذلك الغرض، قال: {فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون قَالُواْ إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ} مشركين، وإنَّما اقتصوار على هذا القدر، لعلم إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بأنَّ الملائكة إذا أرسلوا إلى المجرمين، كان ذلك لأهلاكهم. ويدل ع لى ذلك قوله: {إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} قوله «إلا آل لُوطٍ» فيه وجهان: الجزء: 11 ¦ الصفحة: 471 أحدهما: أنه استثناء متصل علىأنه مسثنى من الضمير المستكن في: «مُجرمِينَ» بمعنى أجرموا كلهم إلاَّ آل لوطٍ؛ فإنَّهم لم يجرموا، ويكون قولهم «إنَّا لمنجوهم» استئناف إخبار بنجاتهم، لكنهم لم يجرموا ولكن الإرسال حينئذ شاملاً للمجرمين ولآل لوط لإهلاك أولئك وأنجاء هؤلاء. والثاني: أنه اسثناء منقطع؛ لأن آل لوط لم يندرجوا في المجرمين آلبتَّة. قال أبو حيان: وإذا كان استثناء منقطعاً، فهو مما يجبُ فيه النصب؛ لأنه من الاستثناء الذي لا يمكن توجيه العامل إلى المستثنى منه؛ لأنهم لم يرسوال إليهم، إنما أرسلوا إلى القوم المجرمين خاصَّة، ويكون قوله: «إنَّ لمُنجَّوهُمْ» جَرَى مَجْرى خبر لكن في اتِّصاله ب «آل لوطٍ» ؛ لأن المعنى: لكنَّ آل لوط منجوهم، وقد زعم بعض النحويين في الاستثناء المنقطع المقدَّر بلكن، إذ لم يكن بعده ما يصحُّ أن يكون خبراً: أنَّ الخبر محذوف، وأنه في موضع رفع لجريان: «إلاَّ» ، وتقديرها ب «لَكِن» . قال شهابُ الدِّين: «وفيه نظرٌ؛ لأن قوله لا يتوجه إليه العامل أيك لا يمكن، نحو: ضحك القوم إلا حمارهم، وصهلت الخيلُ إلا الإبل. أمَّا هذا، فيمكن الإرسال إليهم من غير منع، وأمَّا قوله: لأنهم لم يرسلوا إليهم فصحيح؛ لأنَّ حكم الاستثناء كلَّه هكذا، وهو أن يكون خارجاً عمَّا حكم به على الأوَّل، لكنَّه لو سلط عليه لصحَّ ذلك بخلاف ما تقدَّم من أمثلتهم» . قوله: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} قرأ الأخوان: «لمُنْجُوهمْ» مخففاً؛ وكذلك خففا أيضاً فعل هذه الصيغة في قوله تعالى في العنكبوت {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32] ؛ وكذلك خففا أيضاً قوله فيها: {إِنَّا مُنَجُّوكَ} [العنكبوت: 33] فهما جاريتان على سننٍ واحدٍ. وقد وافقهما ابن كثير، وأبو بكر على تخفيف: «مُنجوكَ» كأنهما جمعا بَيْنَ اللغتين، وباقي السبعة بتشديد الكل. والتخفيف والتشديد لغتان مشهورتان من: نَجَّى وأنْجى، وأنزلَ، ونزَّل، وقد نطق بفعلهما، قال: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} [العنكبوت: 65] وفي موضع {أَنجَاهُمْ} [يونس: 23] . قوله: {امرأته} فيه وجهان: أحدهما: أنه استثناء من «آل لُوطٍ» . قال أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ: «والاستنثاء إذا جاء عبد الاستثناء كان الاستثناء الثاني مضافاً إلى المبتدا كقولك:» لهُ عِندِي عشرةٌ إلا الجزء: 11 ¦ الصفحة: 472 أربعة إلا درهماً «فإن الدرهم يستثنى من الأربعة، فهو مضاف إلى العشرة، فكأنك قلت: أحد عشرة إلاَّ أربعة، أوعشرة إلاَّ ثلاثة» . والثاني: أنها مستثناةٌ من الضمير المجرور في قوله «لمُنَجوهمْ» . وقد منع الزمخشري رحمهن الله الوجه الأول، وعيَّن الثاني فقال: «فإن قلت: قوله:» إلا امرأتهُ «مِمَّ استثني؟ وهل هو استثناء نم استثناء؟ . قلت: مستثنى من الضمير المجرور في قوله:» لمُنَجُّوهم «، وليس من الاستثناء في شيء؛ لأن الاستثناء م الاستثناء إنَّما يكون فيما اتَّحد الحكم فيه، وأن يقال: أهلكناهم إلا آل لوط إلا امرأتهُ، كما اتَّحد في قول المطلِّق: أنت طالقٌ ثلاثاً إلا اثنين إلا واحدة، وقول المقرّ: لفلان علي عشرة درارهم إلا ثلاثة إلا درهماً، اما الآية فقد اختلف الحكمان؛ لأنّ:» آل لوطٍ «متعلق ب» أرْسَلْنَا «أوة ب» مُجرمِينَ «، و» إلاَّ امْرأتهُ «قد تعلَّق بقوله:» لمُنجوهم «فأنَّى يكون استثناء من استثناء» . قال أبو حيَّان: ولما استسلف الزمخشري أنَّ «امرأتهُ» استثناء من الضمير في لمُنجُّوهم «أبى أن يكون استثناء من استثناء، ومن قال: إنه استثناء من استثناء، فيمكن [تصحيح قوله] بأحد وجهين: أحدهما: أنه لما كان امرأته مستثنى من الضمير في» لمُنَجوهُم «، وهو عائدٌ على» آل لوطٍ «صار كأنَّه مستثنى من:» آل لوطٍ «؛ لأنَّ المضمر هو الظاهر. والوجه الآخر: أن قوله «إلاَّ آل لوطٍ» لمَّا حكم عليهم بغير الحكم الذي حكم به على قوم مجرمين، اقتضى ذلك نجاتهم فجاء قوله: {إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ} تأكيداً لمعنى الاستثناء، إذ المعنى: إلا آل لوط لم نرسل إليهم بالعذاب، وجاتهم مرتبة على [عدم] الإرسال إليهم بالعذاب، فصار نظير ذلك: قام القومُ إلاَّ زيداً لم يقم أو إلاَّ زيداً فإنه لم يقم، فهذه الجملة تأكيدٌ لما تضمَّنهُ الاستثناء من الحكم على ما بعد إلاَّ بضدِّ الحكم السَّابق على المستثنى منه، ف: «إلاَّ امْرَأتهُ» على هذا التدقير الذي قرَّرناه مستثنى من: «آلَ لُوطٍ» ؛ لأنَّ الاستثناء ممَّا جيء به للتَّأسيس أولى من الاستثناء ممَّا جيء به للتأكيد. قوله «قدَّرْنَا» قرأ أبو بكر ههنا، وفي سورة النمل بتخفيف الدَّال، والباقون بتشديدها، وهما لغتان: قَدَّر، وقَدَر. قوله: «إنَّها» كسرت من أجل اللاّم في خبرها، ولولا [لَفُتِحَتْ] ، وهي معلقة الجزء: 11 ¦ الصفحة: 473 لما قبلها؛ لأنَّ فعل التقدير قد يعلق إجراء له مجرى العلم إمَّا لكونه بمعناه، وإمَّا لأنه مترتب عليه. قال الزمخشري: «فإن قلت: لم جاز تعليق فعل التقدير في قوله: {قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} ، والتعليق من خصائص أفعال القلوب؟ قلت: لتضمن فعل التقدير معنى العلم» . قال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى «وكسرت» إِنَّها «إجراء لفعل التقدير مجرى العلم» . وهذا لا يصحُّ علة لكسرها، إنَّما يصحُّ علةً لتعليقها الفعل قبلها. فصل معنى التقدير في اللغة: جعل الشيء على مقدار غيره، يقال: قدر هذا الشيثء بهذا، أي: اجعله على مقداره، وقدَّر الله سبحانه الأقوات، أي: جعلها على مقدار الكفاية، ثمَّ يفسر التقدير بالقضاء فيقال: قضى الله عليه، وقَدرَ عليه، أي: جعله على مقدار ما يكفي في الخير، والشر. وقيل: معنى: «قَدَّرْنَا» كتبنا. وقال الزجاج: دبرنا. فإن [قيل] لم أسند الملائكة فعل التقدير إلى أنفسهم مع أنه لله عزَّ وجلَّ؟ فالجواب: إنَّما ذكروا هذه العبارة لما لهم من القرب والاختصاص بالله، كما يقول خاصة الملك: دبرنا كذا [وأمرنا بكذا] ، والمدبر، والآمر هو الملك لا هم، وإنَّما يريدون بهذا الكلام إظهار ما لهم من الاختصاص بذلك الملك، فكذا هنا. قوله تعالى: {إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين} في موضع مفعول، التقدير: قضينا أنها تتخلف، وتبقى مع من يبقى حتَّى يهلك، فتلحق بالهالكين. قوله تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ آلَ لُوطٍ المرسلون} القصة لما بشروا إبراهيم صلوات الله وسلامه عليه بالولد، وأخبروه بأنهم مرسلون بالعذاب إلى قوم مجرمين ذهبوا بعد ذلك إلى لوط عليه السلام، وإلى آله، وإنَّ لوطاً، وقومه ما عرفوا أنهم ملائكة لله. فقالوا: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} ؛ لأنهم لما هجموا عليه؛ استنكرهم، وخاف من دخولهم لأجل شر يوصلونه إليه. وقيل: خاف؛ لأنهم كانوا شبايا مرداً حسان الوجوه، فخاف أن يهجم قومه عليهم لطلبهم، فقال هذه الكلمة. وقيل: إنَّ النكرة ضدّ المعرفة، فقوله: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} ، أي: لا أعرفكم، وأعرف أنكم من أي الأقوام، ولأي غرض دخلتم عليّ، فقال: {قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ} . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 474 قوله: {بَلْ جِئْنَاكَ} إضراب عن الكلام المحذوف، تقديره: ما جئناك بما ينكر، {بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا [كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} ] . وقد تقدَّم الخلاف في قوله: «فأسْرِ» قعاً ووصلاً في هود: [81] . وقرأ اليماني فيما نقل ابن عطية، وصاحب اللوامح: «فَسِرْ» من السير. وقرأت فرقة بفتح الطاء، وقد تقدَّم في يونس أنَّ الكسائي، وابن كثير قرآه بالسكون في قوله «قِطْعاً» والباقون بالفتح. قوله: قالت الملاكئة {بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ} يشكون أنه نازلٌ بهم، وهو العذاب؛ لأنه كان يوعدهم بالعذاب، فلا يصدقونه، ثمَّ أكدوا ذلك بقولهم: {وَآتَيْنَاكَ بالحق} قال الكلبيُّ: بالعذاب، [وقيل] باليقين والأمر الثابت الذي لا شك فيه وهو العذاب] ثم أكدوا هذه التَّأكيد بقولهم {وَإِنَّا لَصَادِقُونَ} . {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} والقِطْعُ والقَطع: آخر الليل؛ قال: [الخفيف] 3280 - افْتَحِي البَابَ وانظُرِي في النُّجُومِ ... كَم عليْنَا مِن قِطْعِ ليْلٍ بَهِيمِ {واتبع أَدْبَارَهُمْ} ، أي سر خلفهم {وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ} لئلا ترتاعوا من أمر عظيم فأنزل بهم من العذاب. وقيل: معناه الإسراع، وترك الاهتمام لما خلف وراءه، كما يقول: امض لشأنك، ولا تعرج على شيءٍ. وقيل: المعنى لو بقي [منه] متاعٌ في ذلك الموضع، فلا يرجعن بسببه ألبتَّة. وقيل: جعل الكله ذلك علامة لمن ينجو من آل لوطٍ. {وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يعني «الشَّام» . وقال المفضل: حيث يقول لكم جبريل. وقال مقاتل: يعني زغر. وقيل: «الأرْدن» . قوله: {حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} «حَيْثُ» على بابها من كونها ظرف مكان مبهمٍ، ولإبهامها الجزء: 11 ¦ الصفحة: 475 تعدي إليها الفعل من غير واسطةٍ، على أنه قد جاء في الشِّعر تعديته إليها ب «في» كقوله: [الطويل] 3281 - فَأصْبحَ في حَيْثُ التَقيْنَا شَردُهمْ ... طَليقٌ ومكْتوفُ اليَديْنِ ومُزْعِفُ وزعم بعضهم أنها هنا ظرف زمانٍ، مستدلاً بقوله: {بِقِطْعٍ مِّنَ الليل} ثم قال {وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ} أي: في ذلك الزَّمان. وهو ضعيف، ولو كان كما قال، لكان التركيب وأمضوا حيث أمرتهم على أنه لو جاء التَّركيب كذا لم يكن فيه دلالة. قوله: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ} ضمَّن القضاء معنى الإيجاء؛ فلذلك تعدَّى تعيدته «إلى» ، ومثله {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ} [الإسراء: 4] . و «ذَلكَ الأمْرَ» «ذَلِكَ» مفعول القضاءِ، والإشارة به إلى ما وعد من إهلاكِ قومه، و «الأمْرَ» إمَّا بدلٌ منه، أو عطف بيانٍ له. قوله: {أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ} العامة على فتح «أنَّ» وفيها أوجه: أحدها: أنها بدل من «ذَلِكَ» إذا قلنا: «الأمْرَ» عطف بيان. الثاني: أنَّها بدلٌ من «الأمْرَ» سواء قلنا: إنه بيان أو بدل مما قبله. الثالث: أنه على حذف الجار، أي: بأنَّ دابر، ففيه الخلاف المشهور. وقرأ زيد بن علي، والأعمش بكسرها؛ لأنه بمعنى القول. وعلَّله أبو حيان: بأنه لمَّا علق ما هو بمعنى العلم؛ كسر. وفيه النظر المتقدم. ويؤيِّد إضمار القول قراءة ابن مسعودٍ: وقلنا إنَّ دابر هؤلاء. ودابرهم: آخرهم «مَقطوعٌ» مستأصل، يعني مستأصلون عن آخرهم؛ حتى لا يبقى منهم أحد «مُصْبحينَ» ، أي في حال ظهور الصبح، فهو حال من الضمير المستتر في: «مَقطُوعٌ» ، وإنَّما جمع حملاً على المعنى، وجعله الفرَّاء، وأبو عبيدة خبراً لكان المضمرة، قالا: تقديره: إذا كانوا مصبحين، نحو «أنْتَ مَاشِياً أحسنُ مِنْكَ رَاكِباً» . وهو تكلفٌ، و «مُصْبحِينَ» داخلين في الصَّباحِ. قوله: {وَجَآءَ أَهْلُ المدينة} ، أي: مدينة لوط، يعني: «سدُوم» «يَسْتبشِرُونَ» حالٌ، أي: يستبشرون بأضياف لوطٍ، يبشر بعضهم بعضاً في ركوب الفاحشة منهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 476 قيل: إنَّ الملائكة لما كانوا في غاية الحسن اشتهر خبرهم. وقيل: أخبرتهم امرأة لوطٍ بذلك؛ فذهبوا إلى دارِ لوطٍ؛ طلباً منهم لأولئك المردِ. فقال لهم لوط صلوات الله وسلامه عليه: «هَؤلاءِ ضَيْفِي» وحق على الرجل إكرام ضيفه، «فلا تَفْضحُونِ» فيهم. يقال: فَضحَهُ يَفضحُه فَضْحاص، وفَضِيحَةً، إذا أظهر من أمره ما يلزمه به العار، والفَضِيحُ والفَضِيحةُ: البيان، والظُّهورُ، ومنه: فَضِيحَةُ الصُّبْحِ؛ قال الشاعر: [البسيط] 3282 - وَلاحَ ضَوءُ هِلالِ اللَّيْلِ يَفْضحُنَا ... مِثْلَ القُلامَةِ قَدْ قُصَّتْ مِنَ الظُّفُرِ إلا أنَّ الفضحية اختصت بما هو عارٌ على الإنسان عند ظهوره. ومعنى الآية: أن الضيف يجب إكرامه، فإذا قصدتموه بالسُّوءِ كان ذلك إهانة بي، ثمَّ أكد ذلك بقوله: {واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ} ولا تخجلون، فأجابوه بقولهم: {أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين} ، أي: عن أن تضيِّف أحداً من العالمين. وقيل: ألم ننهك أن تدخل الغرباء المدينة؛ فإنا نركبُ منه الفاحشة. قوله: {هَؤُلآءِ بَنَاتِي} يجوز فيه أوجه: أحدها: أ، يكون {هَؤُلآءِ بَنَاتِي} مفعولاً بفعل مقدرٍ، أي: تزوَّجُوا هؤلاء، و «بَناتِي» بدلٌ، أو بيانٌ. الثاني: أن يكون {هَؤُلآءِ بَنَاتِي} مبتدأ وخبراً، ولا بدَّ من شيء محذوف تتمُّ به الفائدة، أي: فتزوَّجُوهنَّ. الثالث: أن يكون «هَولاءِ» مبتدأ، و «بَناتِي» بدلٌ، أو بيان والخبر محذوف، أي: هُنَّ أطهر لكم كما جاء في نظيرتها. وتقدَّم الكلام على هذه المعاني في هود. قوله {لَعَمْرُكَ} مبتدأ محذوف الخبر وجوباً، ومثله: لايْمُن الله، و «إنَّهُمْ» ، وما في حيزه جواب القسم، تقديره: لعمرك قسمي، أو يميني إنهم، والعُمُرُ والعَمْر بالفتح والضم هو البقاء، إلا أنَّهم التزموا الفتح في القسم. قال الزجاج: لأنه اخفُّ عليهم، وهم يكثرون القسم ب «لعَمْرِي ولعَمْرُكَ» . وله أحكام كثيرة: منها: أنه متى اقترن بلام الابتداء؛ ألزم فيه الرفع بالابتداء، وحذف خبره لسد جواب القسم مسدَّه. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 477 ومنها: أنه يصير صريحاً في القسم، أي: يتعيَّن فيه، بخلاف غيره نحو: عَهْدُ اللهِ ومِثَاقُه. ومنها: أنه يلزم فتح عينه. فإن لم يقترن به لام الابتداء، جاز نصبه بفعلٍ مقدرٍ، نحو: عَمْرُ اللهِ لأفعلنَّ، ويجوز حينئذٍ في الجلالة وجهان: النَّصبُ والرفع فالنصب على أنه مصدرٌ مضاف لفاعله، وفي ذلك معنيان: أحدهما: أن الأصل: أسألك بعمرك الله، أي: بوصفك الله تعالى بالبقاء، ثم حذف زوائد المصدر. والثاني: أن المعنى: بعبادتك الله، والعَمْرُ: العِبادةُ. حكى ابن الأعرابي: إنِّي عمرتُ ربِّي، أي: عبدته، وفلان عامر لربِّه، أي: عابده. وأمَّا الرفع: فعلى أنه مضاف لمفعوله. قال الفارسي رَحِمَهُ اللَّهُ: معناه [عَمَّرك] الله تعميراً، وقال الأخفش: أصله: أسْألك بِيُعمرك الله، فحذف زوائد المصدر، والفعل، والياء، فانتصب، وجاز أيضاً ذكر خبره، فتقول: عمرك قسمي لأقومن، وجاز أيضاً ضمُّ عينه، وينشد بالوجهين قوله: [الخفيف] 3283 - أيُّهَا المُنْكِحُ الثُريَّا سُهَيلاً ... عَمركَ الله كيْفَ يَلتقِيَانِ هِيَ شَامِيَّةٌ إذَا ما استقلَّتْ ... وسُهَيْلٌ إذا اسْتقل يَمانِي ويجوز دخول باء الجر عليه؛ نحو: بعمرك لأفعلنَّ؛ قال: [الوافر] 3284 - رُقيَّ بِعمْرِكُم لا تَهْجُرينَا ... ومَنِّينَا المُنَى ثُمَّ امْطُلينا وهو من الأسماء اللازمة للإضافة، فلا يقطع عنها، ويضاف لكل شيء، وزعم بعضهم: أنه لا يضاف إلى الله تعالى. قيل: كان هذا يوهم أنه لا يستعمل إلا شفي الانقطاع، وقد سمع إضافته للباري تعالى. قال الشاعر: [الوافر] 3285 - إذَا رَضِيَتْ عليَّ بَنُو قُشيْرٍ ... لعَمْرُ الله أعْجَبنِي رِضَاهَا ومنع بعضهم إضافته إلى ياء المتكلِّم، قال لأنه حلف بحياة المقسم، وقد ورد ذلك، قال النابغة: [الطويل] الجزء: 11 ¦ الصفحة: 478 3286 - لعَمْرِي وما عمْرِي عليَّ بِهيِّنٍ ... لقد نَطقَتْ بُطلاً عليَّ الأقَارعُ وقد قلبته العرب لتقديم رائه على لامه، فقالوا: وعملي، وهي رديئة. «إنَّهُمْ» العامة على كسر «إنَّ» لوقوع اللام في خبرها، وقرأ أبو عمرو في رواية الجهضمي له «أنَّ» فتحها، وتخريجها على زيادة اللام، وهي كقراءة ابن جبيرٍ (ألا أنهم ليأكلون الطعام] بالفتح. وقرأ الأعمش: «سَكْرهُمْ» بغير تاء، وابن أبي عبلة «سَكرَاتهِمِ» جمعاً، والأشهب: «سُكْرتِهِم» بضم السين. و «يَعْمَهُونَ» حال إمَّا من الضمير المستكن في الجار، وإمَّا من الضمير المجرور بالإضافة، والعامل إمَّا نفس سكرة، لأنَّها مصدر، وإمَّا معنى الإضافة. فصل قيل: إن الملائكة عليهم السلام قالت للوطٍ صلوات الله وسلامه عليه «لعَمُركَ إنَّهم لَفِي سَكرتِهمْ يَعْمَهُونَ» : يتحيَّرون. وقال قتادة: يلعبون فكيف يعقلون قولك ويتلفتون إلى نصيحتك؟ . وقيل: إنَّ الخطاب لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإنَّه أقسم بحياته وما أقسم بحياة أحدٍ. روى أبو الجوزاء عن ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما قال ما خلقَ الله نفساً أكرم على الله من محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وما أقْسمَ بحياةِ أحدٍ إلاَّ بحياتهِ. قال ابن العربي: قال المفسرون بإجماعهم: أقسم الله تعالى ها هنا بحياةِ محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 479 تشريفاً له، أنَّ قومه من قريش في سكرتهم يعمهون وفي حريتهم يترددون، وقال القاضي عياضٌ: اتفق أهل التفسير في هذا: أنَّه قسم من الله تعالى بمدة حياة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصله ضمُّ العين من العمر، ولكنها فتحت بكثرة. قال ابن العربي: ما الذي يمنعُ أن يقسم الله تعالى بحياة لوطٍ، ويبلغ به من التشريف ما شاء، وكلُّ ما يعيطه الله للوطٍ من فضل، يعطي ضعفه لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنَّه أكرم على الله منه؛ أو لات تراه سبحانه أعطى إبراهيم الخلَّة، وموسى التكليم، وأعطلى ذلك لمحمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فإذا أقسم بحياة لوطٍ، فحياة محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أرفعُ، ولا يخرج من كلام إلى كلام لم يجر له ذكرٌ لغير ضرورةٍ. قال القرطبيُّ: ما قاله حسنٌ، فإنَّه كان يكون قسمة سبحانه بحياة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، كلاماً معترضاً في قصَّة لوط. قال القشيريُّ: يحتمل أن يرجع ذلك إلى قوم لوطٍ؛ أي كانوا في سكرتهم يعمهون، أي لمَّا وعظ لوطٌ قومه وقال: هؤلاء بناتي، قالت الملائكة: يا لوط لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون، ولا يدرون ما يحلُّ بهم صباحاً. فإن قيل: فقد أقسم الله تعالى بالتِّين، والزَّيتونِ، وطور سنين، وما في هذا من الفضل؟ قيل له: ما من شيء أقسم الله به، إلاّ وفي ذلك دلالة على فضل على ما يدخل في عداده، فكذلك محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ثم قال: {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} ، ولم يذكر في الآية صيحة من هي فإن ثبت بدليل قوي أن تلك صيحة جبريل قيل به وإلا فليس في الآية دليلٌ على أنه جاءتهم صيحة مهلكة. قوله «مُشْرقينَ» «حال من مفعول» أخَذتْهُمْ «، أي داخلين في الشروق، أي: بزوغِ الشَّمسِ. يقال: شَرَق الشارق يَشْرُق شُرُوقاً لكل ما طلع من جانب الشرع، ومنه قوله: ما ذرَّ شَارِقٌ، أي طلع طَالعٌ فكان ابتداء العذاب حين أصبحوا وتمامه حين أشرقوا. والضمير في:» عَاليهَا وسَافِلهَا «للمدينة. وقال الزمخشريُّ:» لقرى لقوم لوط «. ورجح الأول بأنه تقدَّم ذكر المدينة في قوله {وَجَآءَ أَهْلُ المدينة} فعاد الضمير إليها بخلاف الثاني، فإنه لم يتقدَّم لفظ القرى. {وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً} تقدم الكلام على ذلك كله في هود: [82] . قوله {لِلْمُتَوَسِّمِينَ} متعلق بمحذوف على أنه صفة ل» آيَاتٌ «وأجود أن يتعلق بنفس» آيَاتٌ «؛ لأنَّها بمعنى العلامات. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 480 والتوسُّم: تفعل من الوسم، والوسمُ أصله: التَّثبت، والتَّفكر مأخوذ من الوسمِ، وهو التَّأثير بحديد في جلد البعير، أو غيره. وقال ثعلب: الوَاسِمُ النَّاظر إليك من [قرنك] إلى قدمك، وفيه معنى التَّثبيت. وقال الزجاج: حقيقة المتوسِّمين في اللغة: المثبتون في نظرهم حتَّى يعرفوا سمة الشيء، وصفته وعلامته وهو استقصاءُ وجوه التَّعرف قال: [الكامل] 3287 - أوَ كُلما وردَتْ عُكاظَ قَبيلَةٌ ... بَعَثَتْ إليَّ عَريفَهَا يَتوسَّم وقيل: هو تفعُّل من الوسمِ، وهو العلامة، توسَّمتُ فيك خيراً، أي: ظهر لي مِيسَمُهُ عليك. قال ابن رواحة يمدحُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: [البسيط] 3288 - إنِّي تَوسَّمْتُ فِيكَ الخَيرَ أعْرفهُ ... واللهُ يَعْلمُ أنِّي ثَابتُ البَصرِ وقال آخر: [الطويل] 3289 - تَوسَّمْتهُ لمَّا رَأيْتُ مَهَابَةٌ ... عَليْهِ، وقُلْتُ المَرْءُ مِنْ آلِ هَاشمِ ويقال: اتَّسمَ الرَّجلُ، إذا اتَّخذَ لِنفْسِه عَلامةً يُعرف بِهَا، وتوسَّم: إذا طلبَ كلأ الوسمي، أي: العُشْبَ النَّابت في أوَّل المطر. واختلف المفسِّرون: فقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما للنَّاظرين. وقال مجاهدٌ للمتفرِّسين، وقال قتادة للمعتبرين، وقال مقاتلٌ للمتفكرين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 481 قوله: {وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ} الظاهر عود الضمير على المدينة، أو القرى وقيل على الحجارة وقيل: على الآيات، والمعنى: بطريقٍ قال مجاهد هذا طريق معلم، وليس بخفيّ، ولا زائلٍ. ثم قال: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ} ، إي: كل من آمن بالله، ويصدق بالأنبياء، والرُّسلِ صلوات الله وسلامه عليهم؛ عرف أنَّما كان انتقامُ الله من الجُهَّال لأجل مخالفتهم، وأمَّا الذين لا يؤمنون؛ فيحملونه على حوادث [العالم] ، وحصول القرانات الكوكبية، والاتصالات الفلكية. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 482 قوله تعالى: {وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأيكة لَظَالِمِينَ} «إنْ» هي المخففة، واللم فارقة وهي للتأكيد، وقد تقدَّم حكم ذلك [البقرة: 143] . و «الأيْكَة» : الشَّجرة الملتفَّّة، واحدة الإيْكِ. قال: [الكامل] 3290 - تَجْلُو بِقَادمتَي حَمامَةِ أيْكَةٍ ... بَرَاداً أسِفَّ لِثاتهُ بالإثْمِدِ ويقال: لَيْكَة، وسيأتي بيانه عند اختلاف القرَّاء فيه الشعراء: [176] إن شاء الله تعالى. وأصحاب الأيكة: قوم شعيب كانوا أصحاب غياضٍ، وشجرٍ متلفٍّ. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: وكان عامة شجرهم الدوم، وهو المقل. {فانتقمنا مِنْهُمْ} بالعذاب. روي أنَّ الله تعالى سلَّط عليهم الحر سبعة أيَّام، مفبعث الله سبحانه سحابة فالتجئوا إليها يلتمسون الرَّوْحَ؛ فبعث الله عليهم ناراً، فأحرقتهم، فهو عذابُ يوم الظُّلة. قوله تعالى: {وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} في ضمير التثنية أقوال: أرجحها: عوده على [قريتي] قوم لوطٍ، وأصحاب الأيكةِ، وهم: قوم شعيبٍ؛ لتقدُّمها ذكراً. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 482 وقيل: يعود على لوطٍ وشعيبٍ، [وشعيبٌ] لم يجر له ذكر، ولكن دلَّ عليه ذكر قومه. وقيل: يعود على الخبرين: خبر هلاك قوم لوطٍ، وخبر إهلاك قوم شعيبٍ. وقيل: يعود على أصحاب الأيكةِ، وأصحاب مدين؛ لأنه مرسلٌ إليهما، فذكر أحدهما يشعر بالأخرى. وقوله جل ذكره {لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ} أي: بطريق واضح، والإمام [اسم لما] يؤتمُّ به. قال الفراء، والزجاج: «إنَّما جعل الطَّريقُ إماماً؛ لأنه يؤمُّ، ويتبع» . قال ابن قتيبة: لأنََّ المسافر يأتمُّ به حتى يصير إلى الموضع الذي يريده. وقوله: «مُبينٍ» يحتمل أنه مبين في سنفسه، ويحتمل أنه مبين لغيره، لأن الطريق تهدي إلى المقصد. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 483 قوله: {وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحجر المرسلين} . قال صاحبُ «ديوان الأدبِ» الحِجْر: بكسر الحاء المهملة، وتسكين الجيم له ستَّة معانٍ: فالحِجْر: منازل ثمود، وهو المذكور هاهنا، والحِجْرُ: الأنثى من الخيل. والحِجْرُ: الكعهبة. والحِجْرُ: لغة في الحجرِ، هو واحد الحجور في قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ} [النساء: 23] والحِجْرِ: العَقْلُ، قال تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ} [الفجر: 5] ، والحِجْرُ: الحرامُ في قوله تعالى: {وَحِجْراً مَّحْجُوراً} [الفرقان: 53] أي: حراماً محرماً. فصل قال «المُرْسلينَ» ، وإنَّما كذبوا صالحاً وحده؛ لأنَّ من كذَّب نبيًّا؛ فقد كذَّب الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم ملأنهم على دين واحد ولا يجوز التَّفرييقُ بينهم. وقيل: كذَّبُوا صالحاً، وقيل: كذَّبوا صالحاً ومن تقدمه من النَّبيين أيضاً، والله تعالى أعلم. قال المفسرون: والحِجْرُ: اسم وادٍ كان يسكنه ثمود قوم صالحٍ، وهو بين المدينة، والشام، والمراد ب «المُرْسلينَ» صالحٌ وحده. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 483 قال ابن الخطيب: «ولعلَّ القوم كانوا براهمة منكرين لكل الرسل» . {وَآتَيْنَاهُمْ} يعني النَّاقة، وولدها، والبئر، والآيات في النَّاقة: خروجها من الصَّخرة، وعظم خلقها، وظهور نتاجها عند خروجها، وقُرب ولادتها، وغزارة لبنها، وأضاف الإيتاء إليهم، وإن كانت النَّاقة آية صالحٍ؛ لأنَّها آيات رسولهم، فكانوا عنها معضرين؛ فذلك يدلُّ على أنَّ النَّظر، والاستدلال واجب، وأنَّ التقليد مذموم. {وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً} تقدَّم كيفيَّة النَّحت في الأعراف: [74] ، وقرأ الحسن، وأبو حيوة: بفتح الحاءِ. «ءَامِنينَ» من عذاب الله. وقيل: آمنين من الخرابِ، ووقوع السَّقف عليهم. {فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة} ، أي: صيحة العذاب «مُصْبِحينَ» ، أي وقت الصُّبح. قوله: «فَمَا أغْنَى» يجوز أني تكون نافية، أو استفهامية فيها [معنى] التعجب، وقوله: «مَا كَانُوا» يجوز أن تكون «مَا» مصدرية، أي: كسبهم، أو موصوفة، أو بمعنى «الَّذي» ، وةالعائد محذوف، أي: شيء يكسبونه، أو الذي يكسبونه. فصل وروى البخاري عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا نزل الحجر في غزوة تبوك، أمرهم ألاَّ يشربوا من بئرها، ولا يستقوا منها، فقال واحدٌ: عَجَنَّا، وأسْتقَيْنَا، فأمرهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يهريقوا ذلك الماء، وا، يطرحوا ذلك العجين» ، وفي رواية: «وأ، ْ يَعْلِفُوا الإبل العجِين» . وفي هذا دليل على كراهة دخول تلك المواضع، وعلى كراهةِ دخول مقابر الكفار، وعلى تحريم الانتفاع بالماء المسخوط عليه؛ لأنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمرهم بإهراقه وطرح العجين، وهكذا حكم الماء النَّجسِ، ويدلُّ على أنَّ ما لا يجوز استعماله من الطعام، والشراب، يجز أن يعلفه البهائم. قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق} الآية. لما ذكر أهلاك الكفَّار، فكأنه قيل: كيف يليق الإهلاك بالرحيم؟ . فأجاب: بأني ما خلقت الخلق إلا ليشتغلوا بعبادي، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فإذا تركوها، وأعرضوا عنها؛ وجب في الحكمة إهلاكهم، وتظهير وجه الأرض منهم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 484 وهذا النَّظم حسنٌ، إلا أنَّه إنما يستقيمُ على قوله المعتزلة، وفي النظم وجه آخر: وهو أنه تعالى إنَّما هذه القصَّة تسلية لنبيِّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأن يصبره على سفاهة قومه، فإنه إذا سمع [أنَّ] الأمم السَّالفة كانوا يعاملون بمثل هذه المعاملات؛ سهُل تحمُّل تلك السَّفاهات على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم: إنَّه تعالى لما بيَّن أنه أنزل العذاب على الأمم السَّالفة، قال لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ السَّاعةَ لآتيِةٌ» ، وإنَّ الله لينتقم لك من أعدائك، ويجازيهم، وإيَّاك، فإنه ما خلق السماوات، والأرض، وما بينهما إلا بالحق، والعدل والإنصاف، فكيف يليق بحكمته إهمال أمرك؟ . ثم إنَّه تعالى لما صبَّره على أذى قومه، رغَّبة بعد ذلك في الصَّفح عنهم، فقال: {فاصفح الصفح الجميل} . قوله:: إلاَّ بالحقِّ «نعت لمصدر محذوف، أي: ملتسبة بالحقِّ. قال المفسِّرون: هذه الآية منسوخة بآية القتال، وهو بعيد؛ لأنَّ المقصود من ذلك أن يظهر الخلق الحسن، والعفوا، والصفح، فكيف يصير منسوخاً؟ . ثم قال: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الخلاق العليم} ، أي خلق الخلق مع اختلاف طبائعهم، وتفاوت أحوالهم، مع علمه بكونهم كذلك وإذا كان كذلك، فإنَّما خلقهم مع هذا التَّفاوت، ومع العلم بذلك التَّفاوت، أمَّا على قول أهل السنة فلمخض مشيئته، وإرادته، وعلى قول المعتزلة: لأجل المصلحة، والحكمة. وقرأ زيد بن علي، والجحدري:» إنَّ ربَّك هُو الخَالِقُ «، وكذا هي في مصحف أبيّ وعثمان. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 485 قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني} يحتمل أن يكون سبعاً من الآيات، وأن يكون سبعاً من السُّورِ، وأن يكون سبعاً من الفوائد، وليس في اللفظ ما يدلُّ على التَّعيين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 485 والثاني: صيغة جمع، واحدة مثناةُ، والمثناةُ: كل شيءٍ يُثَنَّى، وأي: يجعل اثنين من قولك: ثَنَيْت الشَّيء ثَنْياً، أي: عَطفْتهُ، أو ضممت إليه آخر، ومنه يقال لرُكْبتَي الدَّابة ومِرْفقَيْهَا مثانِي؛ لأنها تثنى بالفخذ، والعضد؛ ومثاني الوادي معاطفه. وإذا عرف هذا، فقوله: {سَبْعاً مِّنَ المثاني} مفهومه سبعة أشياء من جنس الأشياء التي تثنى، وهذا القدر مجملٌ، ولا سبيل إلى تعيينه، إلا بدليلٍ منفصلٍ، وللنَّاس فيه أقوال: أحدها: قال عمرُ، وعليٌّ، وابن مسعودٍ، وأبو هريرة، والحسن، وأبو العالية، ومجاهدٌ والضحاك، وسعيد بن جبير، وقتادة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم: إنه فاتحة الكتاب. روى أبو هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم «أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قرأ فاتحة الكتاب، وقال:» هِيَ السَّبْعُ المَثانِي «. وإنَّما سمِّيت بالسَّبع؛ لأنها سبعُ آياتٍ، وفي تمسيتها بالمثاني وجوه: أولها: قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما والحسن، وقتادة لا، ها تثنى في الصلاة، فتقرأ في كلِّ ركعةٍ. ثانيها: قال الزجاج: لأنَّها تثنى مع ما يقرأ معها. وثالثها: لأنها قسمت قسمين: نصفها ثناءُ، ونصفها دعاءٌ، كما ورد في الحديث المشهور. ورابعها: قال الحسين بن الفضل: لأنَّها نزلت مرَّتين، مرة بمكَّة، ومرة بالمدينة. وخامسها: لأنَّ كلماتها مثناة، مثل: {الرحمن الرحيم مالك يَوْمِ الدين إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ اهدنا الصراط المستقيم صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين} [الفاتحة: 37] . وفي قراءة عمر: (غير المغضوب عليهم وغير الضالين) . نقل القاضي عن أبي بكر الأصم أنَّه قال: كان ابن مسعودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه لا يكتب في مصحفه فاتحة الكتاب؛ رأى أنَّها ليست من القرآن. قال ابن الخطيب:» لعلَّ حجَّته أنه عطف السَّبع المثاني على القرآن والمعطوف مغاير للمعطوف عليه؛ فوجب أن تكون غير القرآن العظيم «، ويشكل هذا بقوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [الأحزاب: 7] ، وكذلك قوله تعالى: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . الجزء: 11 ¦ الصفحة: 486 وللخَصْم أن يجيب بأنه يجوز أن يذكر الكلَّ، ثمَّ يعطف عليه ذكر بعض أقسامه لكونه أشرف الأقسام، وأمَّا إذا ذكر شيءٌ ِآخر كان المذكور أولاً مغايراً للمذكور ثانياً، وها هنا ذكر سبع المثاني. ثم عطف عليه القرآن فوجب التغاير. ويجاب عليه: بأنَّ بعض الشَّيء مغاير لمجموعه، فلم لا يكفكي هذا القدر من المغايرة في حسن العطف؟ . واعلم أنَّه لمَّا كان المراد بالسَّبع المثاني هو الفاتحة؛ دلَّ على أنَّها أفضل سور القرآن، لأن إفرادها بالذِّكر مع كونها جزءاً من القرآن؛ يدلُّ على مزيد اختاصها بالفضلية، وأيضاً: لما أنزلها مرَّتين دلَّ ذلك على أفضليتها، وشرفها، ولما واظب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على قرءاتها في جميع الصلوات طول عمره، وما أقام [سورة أخرى] مقامها في شيءٍ من الصلوات، دل على على وجوب قراءتها، وألاَّ يقوم شيء من القرآن مقامها. القول الثاني: السَّبع المثاني: هي السبع الطوال، قاله ابن عمر، وسعيد بن جبيرٍ في بعض الروايات عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما وإنما سميت السبع الطوال مثاني؛ لأنَّ الفرائض، والحدود، والأمثال والخبر، والعبر ثنيت فيها. وأنكر الربيع هذا القول، وقال: الآيةُ مكية، وأكثر هذه السورة مدنيَّة، وما نزل منها من شيءٌ في مكَّة، فكيف تحمل هذه الآية عليها؟ . وأجاب قومٌ عن هذا بأنه تعالى جلَّ ذكره أنزل القرآن كلَّه إلى سماءِ الدنيا، ثم أنزل على نبيه منه نجوماً، فلمَّا أنزله إلى سماءِ الدُّنيا، وحكم بإنزاله عليه فهو جملة من آتاه، وإن لم ينزل عليه بعدُ. وفي هذا الجواب نظرٌ، فإن قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ المثاني} ذكره في [معرض] الامتنان، وهذا الكلامُ إنَّما يصدق، إذا وصل ذلك إلى محمَّدٍ صلوات الله وسلامه عليه فأمَّا ما لم يصله بعد، فلا يصدق ذلك عليه. وأما قوله: إنه لما حكم بإنزاله على محمد، كان ذلك جارياً مجرى ما نزل عليه، فضعيف؛ لأنَّ إقامة مالم ينزل عليه مقام النَّازل عليه مخالف للظَّاهرِ. القول الثالث: أنَّ السَّبع المثاني: هون القرآن، وهو منقولٌ عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 487 عَنْه في بعض الروايات، وهوق ول طاوس رضي الكله عنه لقوله تعالى: {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ} [الزمر: 23] فوصف كلَّ القرآن بكونه مثاني؛ لأنه كرَّر فيه دلائل التَّوحيدِ، والنبوَّة، والتَّكاليف. قالوا: وهو ضعيف؛ لأنه لو كان المراد بالسَّبع المثاني القرآن لكان قوله: {والقرآن العظيم} ، عطفاً على نفسه، وذلك غير جائزٍ. وأجيب عنه: بأنه إنَّما حسن العطف فيه لاختلاف اللفظين؛ كقول الشاعر: 3291 - إلى المْلِكِ القَرْمِ وابْنِ الهُمامِ ... وليْثِ الكَتِيبَةِ في المُزدحَم واعلم أن هذا، وإن كان جائزاً إلا أنَّهم أجمعوا على أن الأصل خلافه. القول الرابع: أنه يجوز أن يكون المراد بالسبع الفاتحة، وبالمثاني كل القرآن، ويكون التقدير: ولقد آتيناك سبع آياتٍ هي الفاتحة، وفي من جملة المثاني الذي هو القرآن، وهذا عين الأول. و «مِن» في قوله: «مِنَ المثَانِي» . قال الزجاج رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: فيها وجهان: أحدهما: أن تكون للتبعيض من القرآن، أي: ولقد آتيناك سبع آياتٍ من جملة الآيات التي يثنى بها على الله، وآتيناك القرآن العظيم. ويجوز أن تكون «مِن» صفة، والمعنى: أتيناك سبعاً هي المثاني، كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] ، أي اجتنبوا الأوثان؛ لان بعضها رجس. قوله: «والقرآن» فيه أوجه: أحدها: أنه من عطف بعض الصفات على بعض، أي: الجامع بين هذه النعتين. الثاني: أنه من عطف العام على الخاص، إذ المراد بالسَّبع: إمَّا الفاتحة، أو الطوال، فكأنه ذكر مرتين بجهة الخصوص، ثم باندراجه في العموم. الثالث: أنَّ الواو مقحمة، وقرىء «وَالقُرآنِ» بالجر عطفاً على: «المَثَانِي» . قوله تعالى: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا} الآية لما عرف رسوله عظيم نعمه عليه فما يتعلق بالدِّين، وهو أنه تعالى آتاه سبعاً من المثاني، والقرآن العظيم نهاه عن الرغبة في الدنيا فقال: {لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ} ، أي لا تشتغل سرك، وخاطرك بالالتفات إلى الدينا، وقد أوتيت القرآن العظيم. قال أبو بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه «مَنْ أوتِي القرآن فرَأى أنَّ أحَداً أوتِي مِنَ الدنيَا أفضل الجزء: 11 ¦ الصفحة: 488 ممَّا أوتِي، فقَد صَغَّرَ عَظِيماً وعَظَّمَ صَغِيراً» . وتأوَّل سفيان بن عيينة هذه الآية بقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ليْسَ مِنَّا من لمْ يتغنَّ بالقُرآنِ» أي لم يستغن. وقال ابن [عبَّاسٍ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: «لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» ، أي لا تتمنّ ما فضلنا به أحداً من متاع الدُّنيا. وقرَّر الواحديُّ هذا المعنى فقال: «إنَّما يكون مادًّا عينيه إلى الشيء، إذا أدام النَّظر نحوه، وإدامةٌ النَّظر إلى الشَّيء تدلُّ على استحسانه، وتمنِّيه، وكان النبي صلى لله عليه وسلم لا ينظر إلى ما يستحسن من متاع الدنيا» . وروي أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «نظر إلى نَعَم بَنِي المُصطلقِ، وقد [عَبِسَتْ] في أبْوالِهَا، وأبْعارِهَا؛ فَتٌنَّعَ في ثَوْبهِ؛ وقَرأ هذِه الآية» . قوله: «عَبِستْ في أبْوالِهَا وأبْعَارِهَا» هون أن تجف أبعارها، وأبوالها على أفخاذها، إذا تركت من العمل أيَّام الربيع؛ فيكثر شحومها، ولحومها، وهي أحسن ما تكون. قوله: {أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ} . قال ابن قتيبة: أي أصنافاً من الكُفَّار، والزَّوْجُ في اللغة: الصِّنف {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} ؛ لأنهم لم يؤمنوا لم يؤمنوا، فيتقوى بإسلامهم، ثم قال عَزَّ وَجَلَّ {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} . الخفض: معناه في اللغة: نقيض الرفع، ومنه قوله تعالى في وصف القيامة {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} [الواقعة: 3] ، أي: أنَّها تخفض أهل المعاصي، وترفع أهل الطَّاعة، وجناح الإنسان: يدهُ. قال الليثُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه يد الإنسان: جناحه، قال تعالى: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} [القصص: 32] ، وخفض الجناح كناية عن اللِّين، والرّفقِ، والتَّواضع، والمقصود: أنه نهاه عن الالتفات إلى الأغنياء من الكفار، وأمره بالتَّواضع لفقراءِ المؤمنين [ونظيره] {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} [المائدة: 54] ، وقوله: {أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] . قوله: {وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} لما أمر رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالزُّهدِ في الدنيا، وخفض الجناح للمؤمنين، أمره أن يقول للقوم: {أَنَا النذير المبين} ، وهذا يدخل تحته كونه مبلغاً لجميع التَّكاليف، وكونه [شارحاً لمراتب] الثَّواب والعقاب، والجنَّة والنَّار، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 489 ومعنى «المَبِين» الآتي بجميع البيِّنات الوافية. قوله : {الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } فيه أقوال: أحدها: أنََّ الكاف [تتعلق] ب «آتَيْنَاكَ» ، وإليه ذهب الزمشخريُّ فإنه قال: «أنزلنا عليك» ، مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب، وهم المقتسمون: {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} . الثاني: أنه نعت لمصدر محذوف منصوب ب «آتَيْنَاكَ» تقديره: آتيناك إتياناً كما أنزلنا. الثالث: أنه منصوب نعت لمصدر محذوف، ولكنَّه ملاق ل «آتيْنَاكَ» ومن حيث المعنى لا من حيث اللفظ، تقديره: أنزلنا إليك إنزالاً كما أنزلنا؛ لأنَّ «آتَيْنَاكَ» بمعنى أنزلنا إليك. الرابع: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوف، والعامل فيه مقدَّر أيضاً، وتقديره: ومتعناهم تمتيعاً كما أنزلنا، والمعنى: نعمنا بعضهم كما عذَّبنا بعضهم. الخامس: أنه صفة لمصدر دلَّ عليه التقدير، والتقدير: أنا النَّذير إنذاراً كما أنزلنا، أي: مثل ما أنزلنا. السادس: أنه نعتٌ لمفعول محذوف، النَّاصب له: «النَّذيرُ» ، تقديره: النَّذيرُ عذاباً {كَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَى المقتسمين} وهم قوم صالح؛ لأنهم قالوا: «لنُبَيتنَّه» وأقسموا على ذلك، أو يراد بهم قريش حين قسموا القرآن إلى سحرٍ، وشعرٍ، وافتراءٍ. وقد ردَّ بعضهم هذا: بأنه يلزم منه إعمال الوصف موصوفاً، وهو غير جائز عند البصريين جائز عند الكوفيين، فلو عمل ثمًَّ وصف جاز عند الجمعي. السابع: أنَّه مفعول به ناصبه: «النَّذيرُ» أيضاً. قال الزمخشريُّ: «والثاني: أن يتعلق بقوله: {وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} ، أي: وأنذر قريشاً مثل ما أنزلنا على المقتسمين، يعني اليهود، وما جرى على بني قريظة، والنضيرِ» . وهذا مدرودٌ بما تقدَّم من إعمال الوصف موصوفاً. قال ابن الخطيب: وهذا الوجه لا يتمُّ إلاَّ بأحد أمرين: إمَّا التزامُ إضمارٍ، ِأو التزام حذفٍ. أمَّا الإضمار فهو أن يكون التقدير: إني أنا النذير [المبين] عذاباً، كما أنزلنا على المقتسمين، وعلى هذا الوجه: المفعول محذوف، وهو المشبه، ودلَّ عليه المشبه به، كما الجزء: 11 ¦ الصفحة: 490 تقول: رأيت كالقمر في الحسن، أي: رأيت إنساناً كالقمرِ في الحسن، وأمَّا الحذف، فهو أن يقال: الكاف زائدة محذوفة، والتقدير: إني أنا النذير [المبين ما] أنزلناه على المقتسمين، وزيادة الكاف له نظير، وهو قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] . الثامن: أنه منصوب نعتاً لمفعولٍ به مقدرب، والناصب لذلك المحذوف مقدرٌ أيضاً لدلالة لفظ «النَّذِير» عليه، أي: أنذركم عذاباً مثل العذاب المنزَّل على المقتسمين، وهنم قوم صالحٍ، أو قريش، قاله أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ وكأنه فرَّ من كونه منصوباً بلفظ «النَّذير» كما تقدَّم من الاعتراض البصريّ. وقد ردَّ ابن عطية على القول السادس بقوله: والكاف في قوله: «كَمَا» متعلقة بفعلٍ محذوفٍ، تقديره: وقل إنِّي أنا النذير المبين عذاباً كما أنزلنا، فالكاف: اسم في موضعِ نصبٍ، هذا قول المفسِّرين. وهو غير صحيح؛ لأنَّ: «كما أنزلنا» ليس ممَّا يقوله محمد صلوات الله وسلامه عليه بل هو من كلام الله تعالى فيفصل الكلام، وإنَّما يترتب هذا القول بأن يقدر أن الله تعالى قال له: أنذر عذاباً كما. والذي أقول في هذا المعنى: «وقل إنّي أنا النذيرُ المبين كما قال قلبك رسلنا وأنزلنا عليهم كما أنزلنا عليك» . ويحتمل أن يكون المعنى: وقل: إنِّي أنا النذيرُ المبينُ، كما قد أنزلنا في الكتب أنَّك ستأتي نذيراً على أن المقتسمين، هم أهل الكتاب، وقد اعتذر بعضهم عمَّا قاله أبو محمد فقال: الكاف متعلقة بمحذوف دلَّ عليه المعنى، تقديره: أنا النذير بعذاب مثل ما أنزلنا، وإن كان المنزل الله، كما تقول بعض خواصِّ الملكِ: أ/رنا بكذا، وإن كان الملك هو الآمرُ. وأما قول أبي محمدٍ: «وأنزلنا عليهم، كما أنزلنا عليك» ؛ كلامٌ غير منتظم، ولعلَّ أصله: وأنزلنا عليك كما أنزلنا عليهم:، كذا أصلحه أبو حيان. وفيه نظر، كيف يقدر ذلك، والقرآن ناطق بخلافه، وهو قوله: {عَلَى المقتسمين} . التاسع: أنه متعلق بقوله: «لنَسَألنَّهُمْ» تقديره: لنسألنَّهم أجمعين، مثل ما أنزلنا. العاشر: أنَّ الكاف مزيدة، تقديره: أنا النذير ما أنزلناه على المقتسمين. ولا بد من تأويل ذلك على أنَّ «ما» معفولٌ ب «النذير» عند الكوفيين، فإنَّهم يعملون الوصف للموصوف، أو على إضمار فعل لائقٍ أي: أنذركم ما أنزلناه كما يليق بمذهب البصريين. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 491 الحادي عشر: أنه متعلق ب «قل» ، التقدير: وقيل قولاً كما أنزلنا على المقتسمين أنك نذير لهم، فالقول للمؤمنين في النَّذارةِ كالقول للكفَّار المقتسمين؛ لئلا يظنُّوا أنَّ إنذارك للكفار مخالف لإنذار المؤمنين، بل أنت في وصف النذارة لهم بمنزلة واحدة، تنذر المؤمن، كما تنذر الكافر، كأنه قال: أنا النذيرُ لكم، ولغيركم. فصل قال ابن عبَّاسِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: المقتسمون: هم الَّذين اقتسموا طرق مكَّة يصدُّون النَّاس عن الإيمان برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويقرب عددهم من أربعين. وقال مقاتل بن سليمان رَحِمَهُ اللَّهُ: كانوا ستَّة عشر رجلاً بعثهم الوليد بن المغيرة أيَّام الموسم، فاقتسموا شعاب مكَّة، وطرقها يقولون لمن سلكها: لا تغتروا بالخارج منَّا، والمدعي للنبوَّة، فإنه مجنونٌ، وكانوا ينفِّرُونَ النَّاس عنه بأنه ساحرٌ، أو كاهنٌ، أو شاعرٌ، فطائفة منهم تقول: ساحرٌ،، وطائفة تقول: إنه كاهنٌ، وطائفة تقول: إنه شاعرٌ، فأنزل الله عَزَّ وَجَلَّ بهم خزياً؛ فماتوا أشدَّ ميتة. وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه أنهم اليهود، والنصارى {جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ} جزءوه أجزاء، فآمنوا بما وافق التَّوراة، وكفروا بالباقي. وقال مجاهد: قسموا كتاب الله تعالى ففرقوه، وبدلوه. وقيل: قسَّموا القرآن، وقال بعضهم: سحر، وقال بعضهم: شعر، وقال بعضهم: كذبٌ، وقال بعضهم: ِأساطير الأولين. وقيل: الاقتسام هو أنهم فرَّقوا القول في رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال بعضهم: شاعرٌ، وقال بعضهم: كاهنٌ. قوله: {الذين جَعَلُواْ} فيه أوجه: أظهرها: أنه نعت ل «المٌقْتَسمِينَ» . الثاني: أنه بدلٌ منه. الثالث: أنه بيانٌ. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 492 الرابع: أنه منصوبٌ على الذَّمِّ. الخامس: أنه خبر مبتدأ مضمرٍ. السادس: أنه منصوب ب «النَّذيرُ المبِينُ» كما قاله الزمخشريُّ. وهو مردود بإعمال الوصف بالموصوف عند البصريين كما تقدَّم. و «عِضِينَ» جمع عِضَة، وهي الفرقة، والعِضِين: الفِرَق، وتقدم معنى جعله القرآن كذلك، ومعنى العِضَة: السِّحر بلغة قريش، يقولون: هو عَاضهُ، وهي عَاضِهَة، قال: [المتقارب] 3292 - أعُودذُ بِربِّي مِنَ النِّافِثَاتِ ... في عٌقَدِ العَاضِهِ المُعْضهِ وفي الحديث: «لَعنَ اللهُ العَاضِهةً والمُسْتعضِهَة» ، أي السَّاحربة، والمسُتسْحِرَة وقيل: هو من العضه، وهو: الكذب، والبهتان، يقال: عَضَهُ عَضْهَاً، وعضيهةً، أي: رماه بالهتان، وهذا قول الكسائي رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى. وقيل: هو من العِضَاه، وهو شجر له شوكٌ مؤذٍ، قاله الفرَّاء. وفي لام «عِضَة» قولان يشهد لكلِّ منهنما التصريف: الاول: الواو، لقولهم: عِضَوات، وعَاضَة، وعَاضِهَة، وعِضَة، وفي الحديث «لا تَعْضِية في مِيراثٍ» ، وفسِّر: بأ، لا تفريق فيما يضر بالورثة تفريقه كسيفٍ يكسر نصفين فينقص ثمنه. وقال الزمخشريُّ: «عِضِينَ» : أجزاء، جمع عِضَة، وأصلها عِضْوَة، فعلة من عضَّى الشاة، إذا جعلها أعضاءِ؛ قال: [الزاجر] 3293 - وليْسَ دِينُ اللهِ بالمُعَضَّى ... وجمع «عِضَة» على «عِضِين» ، كما جمع سنة، وثبة، وظبة وبعضهم يجري النون بالحركات مع التاء، وقد تقدم تقرير ذلك، وحينئذ تثبت نوه في الإضافة، فيقال: هذه عضينك. وقيل: واحد العِضِين: عِضَةٌ، وأصلها: عِضْهَةٌ، فاستثقلوا الجمع بين هاتين، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 493 فقالوا: عِضَةٌ، كما قالوا: شَفَةٌ، والأصل: شَفْهَةٌ، بدليل قولهم: شافهنا. قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} يحتمل أن يعود الضمير إلى المقتسمين؛ لأن الأقرب، ويحتمل أن يعود إلى جميع المكلفين، لأنَّ ذكرهم تقدَّم في قوله تعالى: {وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} أي: لجميع [الخلائق] . {عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} قال القرطبي: في البخاري: قال عدَّة من أهل العلم في وقوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} عن لا إله إلا الله. فإن قيل: كيف الجمع بين قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وبين قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} [الرحمن: 39] . فأجابوا بوجوه: أولها: قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: لا يسألون سؤال استفهامٍ؛ لأنه تعالى عالم بكلِّ أعمالهم، بل سؤال تقريع، فيقال لهم: لم فعلتم كذا؟ . وهذا ضعيد؛ لأنه لو كان المراد من قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ} [الرحمن: 39] سؤال استفهام، لما كان في تخصيص هذا النفي بقولهم «يَومئِذٍ» فائدة؛ لأنَّ مثل هذا السؤال على الله محالٌ في كلِّ الأوقات. وثانيها: أنه يصرف للنفي إلى بعض الأوقات، والإثبات إلى وقت آخر؛ لأنَّ يوم القيامة، يوم طويل، وفيه مواقف يسألون في بعضها، ولا يسألون في بعضها، قاله عكرمة عن ابن عباس ونظيره قوله تعالى: {هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ} [المرسلات: 35] ، وقال في آية أخرى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31] . ولقائلٍ ِأن يقوله: قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ} [الرحمن: 39] الآية: تصريحٌ بأنه لايحصل السؤال في ذلك اليوم، فلو حصل السؤال في جزء من أجزاء اليوم، لحصل التَّناقض. وثالثها: أن قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ} [الرحمن: 39] تفيد الآية النَّفي، وفي قوله {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ} يعود إلى المقتسمين، وهذا خاص فيقدم على العام. قوله: {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} أصل الصَّدع: الشَّقُّ، صدعته فانصدع، أي: شَقَقتهُ، فانْشَقّ. قال ابن السكِّيت: الصَّدعُ في اللغة: الشَّقٌّ، والفصل؛ وانشد لجرير: [البسيط] 3294 - هذَا الخَليفَةُ فارضَوْا ما قَضَى لَكُمُ ... بالحَقِّ يَصْدعُ ما فِي قَولهِ جَنَفُ الجزء: 11 ¦ الصفحة: 494 ومنه التفرقة أيضاً؛ كقوله: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} [الروم: 43] وقال: [الوافر] 3295 - ... ... ... ... ... ... ... ... كَأنَّ بَياضَ غُرَّتهِ صَدِيعُ والصَّديعُ: ضوءُ الفجر لانشقاقِ الظُّلمةِ عنه، يقال: انْصدعَ، وانْفلقَ، وانْفجرَ، وانْفطرَ الصُّبحُ، ومعنى «فَاصدَعْ» فرق بني الحقِّ والباطلِ وافْصِلْ بينهما. وقال الراغب: الصَّدعُ: الشقُّ في الأجسام الصَّلبةِ كالزجاج، والحديد، وصدّعته بالتشديد، فتصدع وصَدعتهُ بالتخفيف، فانْصَدعَ، وصَدْعُ الرأس لتوهُّم الانشقاق فيه، وصدع الفلاة، أي: قطعها، من ذلك، كأنَّه تونهم تفريقها. ومعنى «فاصْدَعُ» اقل ابن عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: أظهر. وقال الضحاك: أعلم. وقال الأخفش: فرِّق بين الحقِّ والباطل، وقال سيبويه: اقْضِ. و «مَا» في قوله «بِمَا تُؤمَرُ» مصدرية، أو بمعنى الذي، والأصل تؤمر به، وهذا الفعل يطرد حذف الجار معه، فحذف العائد فيصح، وليس هو كقولك: جَاءَ الذي مررتُ، ونحوه: [البسيط] 3296 - أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أمِرْتَ بِهِ ..... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . والأصل: بالخَيْرِ. وقال الزمخشريُّ: «ويجوز أن تكون» مَا «مصدرية، أي: بأمرك مصدر مبنيّ للمعفول» انتهى. وهو كلامٌ صحيحٌ، والمعنى: فاصدع بأمرك، وشأنك. قالوا: وما زال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ مستخفياً حتى نزلت هذه الآية. ونقل أبو حيَّان عنه أنه قال: ويجوز أن يكون المصدر يراد به «أنْ» ، والفعل المبني للمفعول. ثم قال أبو حيان: «والصحيح أنَّ ذلك لا يجوز» . قال شهابُ الدين: الخلاف إنَّما هو في المصدر، والمصرح به هل يجوز أن ينحل بحرف مصدري، وفعل مبني للمفعول أم لا يجوز. خلاف المشهور، أمَّا أنَّ الحرف المصدري هل يجوز فيه أن يوصل بعفلٍ مبني للمفعولٍ، نحو: يعجبني أن يكرم عمرو أم لا يجوز؟ فليس محل النِّزاع. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 495 ثم قال تعالى: {وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين} ، أي لا تبال عنهم، ولا تلتفت إلى لومهم إيَّاك على إظهار الدَّعوة. قال بعضهم: هذا منسوخٌ بآية القتال، وهو ضعيف؛ لأنَّ معنى هذا الإعراض ترك المبالاة، فلا يكون منسوخاً. قوله: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين} يقول الله لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ} ، ولا تخف أحداً غير الله، فإن الله كافيك ِأعداءك كما كفاك المستهزيئن، وهم خمسة نفرٍ من رؤساء قريش: الوليد بن المغيرة المخزوميُّ، وكان رأسهم، والعاص بن وائلٍ [السهمي] ، والأسود بن عبد المطلب بن الحارث بن أسد بن عبد العزى أبو زمعة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قد دعا عليه، فقال: «اللَّهُمَّ أعْمِ بصَرهُ، وأثْكلهُ بِولَدهِ» ، والأسود بن عبد يغوث بن وهب بن عبد منافٍ بن زهرة، والحررث بن قيس بن الطلالة؛ فأتى جبريل محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمستهزءون يطوفون بالبيت، فقام جبريل صلوات الله وسلامه عليه وقام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى جنبه، فمرّ به الوليد بن المغعيرة، فقال جبريل عليه السلام: يا محمد: كيف تجدُ هذا؟ قال: «بئس عبد الله» قال: قد كَفَيْتُكَه، وأؤْمَأ إلى ساق الوليد، فمرَّ برجلِ من خزاعة نبَّال يَرِيشُ نَبْلاً، وعليه برد يمان، وهو يهز إزاره، فتعلَّقت شظية نبلٍ بإزاره، فمنعه الكبرُ أن يتطامن، فينزعها، وجعلت تضربُ ساقه؛ فخدشته فمرض منها حتَّى مات. ومرَّ به العاس بن وائلٍ، فقال جبريلُ: كيف تجد هذا يا محمد؟ قال: بِئْسَ عبد الله، فأشار جبريل عليه السلام إلى أخْمَصِ رجليه، وقال: قد كفيتكه، فخرج على راحلته، ومعه ابنان له يتنزَّه؛ فنزل شِعْباً من تلك الشِّعاب، فوطىء على شبرقة، فدخلت شوكة في أخمص رجله، فقال: لُدِغْتُ لُدِغْتُ؛ فطلبوا، فلم يجدوا شيئاً، وانتفخت رجله حتى صارت مثل عنق البعير، فمات مكانه. ومرّ به مربد بن الأسود بن المطلب، فقال جبريل: كيف تجدُ هذا يا محمَّد؟ قال: «عَبْدُ سوءٍ» ، فأشار بيده إلى عينيه، وقال: قد كَفَيْتُكَهُ، فعمي. قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: رماه جبريل بورقةٍ خضراء؛ فذهب بصره، ووجعت عينه، فجعل يضرب برأسه الجدار حتَّى هلك، ومرَّ به الأسود بن عبد يغوث، فقال جبريل عليه السلام: كَيْفَ تَجِدُ هذا يا محمد؟ قال: بئس عبد الله على أنه [ابن] خالي، فقال جبريل عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: قد كفيتكه فأشار إلى بطنه فاستسقى فمات، ومرَّ به الحارث بن قيسٍ، فقال جبريل عليه السلام كيف تجد هذا يا محمَّد؟ صلوات الله وسلامه عليك، قال: عَبدُ سُوءٍ فأومأ، فامتخط قيحاً؛ فمات. قيل: استهزاؤهم، وااقتسامهم أنَّ الله تعالى لمّا أنزل في القرآنِ سورة البقرةِ، الجزء: 11 ¦ الصفحة: 496 وسورة النحل، وسورة العنكبوت، كانوا يجتمعون، ويقولون استهزاء، يقول هذا إلى سورة البقرة، ويقول هذا إلى سورة النحل، ويقول هذا إلى سورة العنكبوت فأنزل الله تعالى: {نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ} . قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: فصلّ بأمر ربك: «وكُنْ مِنَ السَّاجدِينَ» المصلين [المتواضعين] . قال بان العربي «ظنَّ بعضه الناس أنَّش المراد هنا بالسجود نفسه، فرأى هذا الموضع محل سجود في القرآن، وقد شاهدت الإمام بمحراب زكريا من البيت المقدس ظهره الله تعالى يسجدُ في هذا الموضع، وسجدت معه فيها، ولم يره [جماهير] العلماء» . قال [القرطبي] ، وقد ذكر أبو بكر النقاش أنَّ ههنا سجدة عند أبي حذيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ويمان بن رئاب، ورأى أنها واجبة، قال العلماء: إذا أنزل بالعبد بعض المكاره فزع إلى [الطاعات] وروي أن رسول الله صلى لله عليه وسلم «كَانَ إذا حَزبه أمْرٌ فَزع إلى الصَّلاةِ» . {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} قال ابن عباسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: يريد الموت؛ لأنه أمر متيقن. فإن قيل: فأيُّ فائدة لهذا التَّوقيت مع أنَّ كلَّ واجد يعلم أنه إذا مات سقطت عنه العبادات؟ . فالجواب: المراد: «واعبد ربَّك» في جميع زمان حياتك، ولا تخل لحظة من لحظات الحياة من العبادة. روى أبيُّ بن كعب رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورة الحِجْرِ كان لَهُ مِنَ الأجْرِ عَشْرُ حَسناتٍ بِعدَدِ المُهَاجرِينَ والأنصَارِ والمُسْتَهزِئينَ بمُحمَّدٍ» صلى الله عليه وسلّم وشرَّف، وبجَّل، ومجَّد، وعظَّم. الجزء: 11 ¦ الصفحة: 497 سورة النحل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 مكية إلا قوله - سبحانه وتعالى - {وإن عاقبتم} [الآية: 126] إلى آخر السورة وحكى الأصم رحمه الله عن بعضهم أنها كلها مدنية. وقال آخرون: من أولها إلى قوله {كن فيكون} مدني، وما سواه فمكي، وعن قتادة: بالعكس، وتسمى سورة النعم بسبب ما عدد الله فيها من النعم على عباده. وهي مائة وثمانية وعشرون آية، وألفان وثمانمائة وأربعون كلمة، وعدد حروفها سبعة آلاف وسبعمائة وسبعة أحرف. بسم الله الرحمن الرحيم قوله: {أتى أَمْرُ الله} في «أتَى» وجهان: أشهرهما: أنه ماضٍ لفظاً مستقبل معنى، إذ المراد به يوم القيامة، وإنَّما أبرز في صورة ما وقع وانقضى تحقيقاً له ولصدق المخبر به. والثاني: أنَّه على بابه. والمراد به مقدماته وأوائله، وهو نصر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، أي: جاء أمر الله ودنا وقرب. وقال ابن عرفة: «تقول العرب: أتاك الأمرُ وهو متوقَّع بعد أي: أتى امر الله وعداً فلا تستعجلوه وقوعاً» . وقال قومٌ: المراد بالأمر ههنا عقوبة المكذِّبين والعذاب بالسيف وذلك أنَّ النَّصر بن الحارث قال: {اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} [الأنفال: 32] فاستعجل العذاب فنزلت هذه الآية، وقتل النضر يوم بدر صبراً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 3 وقال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: قوله تعالى: {اقتربت الساعة} [القمر: 1] قال الكفار بعضهم لبعض: إنَّ هذا يزعمُ أنَّ القيامة قد قربت فأمسكوا عن بعض ما كنتم تعملون حتَّى [ننظر] ما هو كائن، فلما لم ينزل، قالوا: ما نرى شيئاً، [فنزل قوله تعالى] {اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} [الأنبياء: 1] فأشفقوا، فلما امتدَّت الأيام، قالوا: يا محمد ما نرى شيئاً مما تخوِّفنا به، فنزل قوله تعالى {أتى أَمْرُ الله} فوثب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ورفع الناس رءوسهم وظنُّوا أنها قد أتت حقيقة، فنزل قوله {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} فاطمأنُّوا. والاستعجال: طلب الشيء قبل حينه. واعلم أنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - لمَّا كثر تهديده بعذاب الدنيا والآخرة ولم يروا شيئاً نسبوه إلى الكذب فأجابهم الله - تعالى - بقوله {أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} وتقرير هذا الجواب من وجهين: أحدهما: أنه وإن لم يأتِ العذاب ذلك الوقت إلاَّ أنه واجب الوقوعِ، والشيءُ إذا كان بهذه الحالة والصِّفة فإنه يقال في الكلام المعتاد: إنه قد أتى ووقع إجراء لما يجب وقوعه مجرى الواقع، يقال لمن طلب الإغاثة وقرب حصولها جاء الفوت. والثاني: أن يقال: إنَّ أمر الله بذلك وحكمه قد أتى وحصل ووقع، فأمَّا المحكوم به فإنَّما لم يقع، لأنَّ الله - تعالى - حكم بوقوعه في وقتٍ معينٍ فلا يخرج إلى الوجود قبل مجيء ذلك الوقت، والمعنى: أن أمر الله وحكمه بنزولِ العذاب قد وجد من الأزلِ إلى الأبدِ إلاَّ أنَّ المحكومَ إنَّما لم يحصل، لأنَّه - تعالى - خصَّص حصوله بوقتٍ معيَّنٍ {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} قبل وقته، فكأنَّ الكفار قالوا: سلَّمنا لك يا محمد صحة ما تقول: من أنَّه - تعالى - حكم بإنزال العذاب علينا إمَّا في الدنيا وإمَّا في الآخرة، إلاَّ أنا نعبد هذه الأصنام لتشفع لنا عند الله فنتخلص من العذاب المحكوم به فأجابهم الله - تعالى - بقوله {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} . قوله: {عَمَّا يُشْرِكُونَ} يجوز أن تكون «ما» مصدرية فلا عائد لها عند الجمهور أي: عن إشراكهم به غيره، وأن تكون موصولة اسمية. وقرأ العامة {فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ} بالتاء خطاباً للمؤمنين أو للكافرين وقرأ ابن جبير بالياء من تحت عائداً على الكفار أو على المؤمنين. وقرأ الأخوان «تُشْرِكُونَ» بتاء الخطاب جرياُ على الخطاب في «تَسْتَعْجِلُوهُ» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 4 والباقون بالياء عوداً على الكفار، وقرأ الأعمش وطلحة والجحدري وجم غفير بالتاء من فوق في الفعلين. قوله {يُنَزِّلُ الملاائكة} قد تقدم الخلاف في «يُنَزِّلُ» بالنسبة إلى التشديد والتخفيف في البقرة. وقرأ زيد بن عليٍّ والأعمش وأبو بكر عن عاصم «تُنَزَّلُ» [مشدداً] مبنيًّا للمفعول وبالتاء من فوق. «المَلائِكَةُ» رفعاً لقيامه مقام الفاعل، وقرأ الجحدري: كذلك إلا أنه خفَّف الزَّاي. وقرأ الحسن، والأعرج، وأبو العالية - رحمهم الله - عن عاصم بتاء واحدة من فوق، وتشديد الزاي مبنياً للفاعل، والأصل تتنزل بتاءين. وقرأ ابن أبي عبلة: «نُنَزِّلُ» بنونين وتشديد الزَّاي «المَلائِكةَ» نصباً، وقتادة كذلك إلاَّ أنَّه بالتخفيف. قال ابن عطية: «وفيهما شذوذٌ كبيرٌ» ولم يبين وجه ذلك. ووجهه أنَّ ما قبله وما بعده ضمير غائبٌ، وتخريجه على الالتفات. قوله: «بِالرُّوحِ» يجوز أن يكون متعلقاً بنفس الإنزالِ، وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الملائكة، أي: ومعهم الروحُ. قوله «مِنْ أمْرهِ» حال من الروح، و «مِنْ» إمَّا لبيانِ الجنس، وإما للتبعيض. قوله «أنْ أنْذِرُوا» في «أنْ» ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنَّها المفسرة؛ لأن الوحي فيه ضرب من [القول] ، والإنزال بالروح عبارةٌ عن الوحي؛ قال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] وقال: {يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} [غافر: 15] . الثاني: أنها المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الشأن محذوف، تقديره: أنَّ الشأن أقول لكم: أنه لا إله إلا أنا، قاله الزمخشري. الثالث: أنها المصدرية التي من شأنها نصب المضارع، ووصلت بالأمر؛ كقولهم: كتبت إليه بأن قُمْ، وتقدم البحث فيه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 5 فإن قلنا: إنَّها المفسرة فلا محلَّ لها، وإن قلنا: إنها المخففة، أو الناصبة ففي محلّها ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنَّها مجرورة المحل بدلاً من «الرُّوحِ» لأنَّ التوحيد روحٌ تحيا به النفوس. الثاني: أنَّها في محل جرٍّ على إسقاطِ الخافض؛ كما هو مذهب الخليل. الثالث: أنَّها في محلِّ نصبٍ على إسقاطه؛ وهو مذهب سيبويه. والأصل: بأن أنذروا؛ فلما حذف الجار جرى الخلاف المشهور. قوله: {أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ} هو مفعول الإنذار، والإنذار قد يكون بمعنى الإعلام؛ يقال: أنْذرتهُ، وأنْذَرتهُ بكذا، أي: أعلموهم بالتوحيد. وقوله: «فاتَّقُونِ» التفاتٌ إلى التكلم بعد الغيبة. فصل وجه النَّظم: أنَّ الله - تعالى - لما أجاب الكفار عن شبهتهم؛ تنزيهاً لنفسه - سبحانه وتعالى - عما يشركون؛ فكأنَّ الكفار قالوا: هب أنَّ الله قضى على بعض عبيده بالشرّ، وعلى آخرين بالخير، ولكن كيف يمكنك أن تعرف هذه الأمور التي لا يعلمها إلا الله؟ وكيف صرت بحيث تعرف أسرار الله وأحكامه في ملكه وملكوته؟ . فأجاب الله - تعالى - بقوله: {يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون} وتقرير هذا الجواب: أنَّه - تعالى - ينزل الملائكة على من يشاء من عباده، ويأمر ذلك العبد أن يبلغ إلى سائر الخلق أن إله الخلق كلفهم بالتوحيد، وبالعبادة، وبين لهم أنَّهم إن فعلوا، فازوا بخيرِ الدنيا والآخرة، فهذا الطريق ضربٌ مخصوصٌ بهذه المعارف من دون سائر الخلق. فصل روى عطاء عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: يريد ب «المَلائِكة» جبريل وحده. وقال الواحديُّ: يسمَّى الواحد بالجمع؛ إذا كان ذلك الواحد رئيساً مقدَّماً جائز، كقوله تعالى: {إِنَّآ أَرْسَلْنَا} [القمر: 19] ، و {إنَّآ أَنزَلْنَا} [النساء: 105] ، و {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا} [الحجر: 9] . والمراد بالروح الوحي كما تقدم، وقيل: المراد بالروح هنا النبوة، وقال قتادة رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: الرحمة، وقال أبو عبيدة: إنَّ الروح ههنا جبريل عليه السلام. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 6 والباءُ في قوله «بِالرُّوحِ» بمعنى «مع» كقولهم: «خَرجَ فلانٌ بِثيَابهِ» أي: ومعه ثيابهُ. والمعنى: نُنزِّلُ الملائكة مع الروح؛ وهو جبريل، وتقرير هذا الوجه: أنَّه - تعالى - ما أنزل على محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - جبريل وحدهُ في أكثر الحوالِ؛ بل كان يُنزِّلُ مع جبريل - عليه السلام - أقواماً من الملائكة؛ كما في يوم بدرٍ، وفي كثيرٍ من الغزواتِ، وكان ينزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ تارة ملك الجبال، وتارة ملك البحار، وتارة رضوان، وتارة غيرهم. وقوله «مِنْ أمْرهِ» أي أنَّ ذلك النُّزُولَ لا يكون إلا بأمر الله؛ كقوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] وقوله تعالى: {وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] ، وقوله: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] . وقوله: {على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ} يريد الأنبياء المخصوصين برسالته: «أنْ أنْذِرُوا» قال الزجاج: «أنْ» بدلٌ من «الرُّوحِ» . والمعنى: ينزِّل الملائكة بأن أنذروا، أي: أعلموا الخلائق، أنَّه لا إله إلا أنا، والإنذار هو الإعلامُ مع التخويف. «فاتَّقُون» فخافون. يروى أن جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - نزل على آدم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - اثنتي عشرة مرة، وعلى إدريس أربع مراتٍ، وعلى نوح - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - خمسين مرَّة، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة وعلى موسى أربع مرات، وعلى عيسى عشر مراتٍ، وعلى محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعلى سائر الأنبياء أربعة وعشرين ألف مرَّةٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 قوله: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى} ارتفع {عَمَّا يُشْرِكُونَ} اعلم أنَّ دلائل الإلهيات وقعت في القرآن على نوعين: أحدهما: أن يتمسَّك بالأظهر مترقياً إلى الأخفى، فالأخفى كما ذكره في سورة البقرة في قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ} [البقرة: 21] فجعل تغير أحوال الإنسان دليلاً على احتياجه إلى الخالق. ثم استدل بتغير أحوال الآباءِ، والأمهاتِ؛ قال تعالى: {والذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة: 21] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 7 ثم استدلَّ بأحوال الأرض؛ فقال تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} [البقرة: 22] لأن الأرض أقرب إلينا من السماء. ثُمَّ استدلَّ بأحوال السماء بعد الأرض؛ فقال تعالى: {والسماء بِنَآءً} [البقرة: 22] . ثم استدلَّ بالأحوال المتولدة من تركيب السماء، والأرض؛ فقال سبحانه: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ} [البقرة: 22] . النوع الثاني: أن يستدل بالأشرف، فالأشرف نازلاً إلى [الأدون فالأدون] ؛ كما ذكر في هذه الآية، فاستدل على وجود الإله المختار بذكر الأجرام الفلكية العلوية، فقال: {خَلَقَ السماوات والأرض بالحق تعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} وقد تقدم الكلام على الاستدلال بذلك أول الأنعام، ثم استدل ثانياً بخلق الإنسان، فقال عَزَّ وَجَلَّ: {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} . واعلم أنَّ أشرف الأجسام بعد الأفلاكِ والكواكبِ هو الإنسانُ. وعلمْ أنَّ الإنسان مركبٌ من بدنٍ ونفسٍ، فقوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ} إشارةٌ إلى الاستدلال ببدنه على وجود الصانع الحكيم سبحانه. وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {خَصِيمٌ مُّبِينٌ} إشارة إلى الاستدلال بأحوال نفسه على الصانع الحكيم جل ذكره، أمَّا الاستدلال ببدنه فإنه النطفة متشابهة الأجزاءِ بحسب المشاهدة؛ إلاَّ أنَّ بعض الأطباءِ يقول: إنه مختلف الأجزاءِ في الحقيقة؛ لأنَّ النطفة تتولد من فضلة الهضم. الثالث: أنَّ الغذاء يحصل له: في المعدةِ هضم أولٌ، وفي الكبد هضمٌ ثانٍ، وفي العروق هضم ثالثٌ، وعند وضوله إلى جواهر الأعضاء هضم رابعٌ. ففي هذا الوقت حصل بعض أجزاءِ الغذاء إلى العظمِ، وظهر فيه أثرٌ من [الطبيعة] العظيمة، وكذا يقول في اللحمِ والعصبِ والعروقِ، وغيرها. ثم عند استيلاء الحرارة على البدن عند هيجان الشَّهوة ويحصل ذوبان من جملة ذلك الأعضاء؛ وذلك هو النطفة، وعلى هذا التقدير تكون النطفة جسماً مختلف الأجزاء والطبائع. وإذا عُرف هذا، فالنطفةُ: إمَّا أن تكون جسماً متساوي الأجزاءِ في الطبيعةِ، والماهيةِ، أو مختلف الأجزاءِ، فإن كان الأول لم يجز أن يكون المقتضي لتوليدِ البدن منها هو الطبيعة الحاصلة في جوهر النطفة ودمِ الطَّمثِ؛ لأنَّ الطبيعة تأثيرها بالذات والإيجاب لا بالتدبير والاختيار، والقوة الطبيعية إذَا عملت في مادة متشابهة الأجزاء وجب أن يكون فعلها هو الكره. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 8 وعلى هذا الحرف عوَّلوا في قولهم: البَسائطُ يجب أن يكون شكلها الكرة؛ وحيث لم يكن الأمر كذلك؛ علمنا أنَّ المقتضي لحدوث الأبدان الحيوانية ليس هو الطبيعة؛ بل فاعل مختار، وهو يخلق بالتَّدبير، والحكمة، والاختيار، وإن قلنا: إنَّ النطفة جسمٌ مركبٌ من أجزاء مختلفة في الطبيعةِ والماهيةِ، فنقول: بتقدير أن يكون الأمر كذلك، فإنه يجب أن يكون تولد البدنِ منها تدبير فاعل مختار حكيم، وبيانه من وجهين: الأول: أن النطفة رطوبة سريعة الاستحالة، وإذا كان كذلك؛ كانت الأجزاء الموجودة فيها لا تحفظ الوضع والنسبة، فالجزء الذي هو مادة الدماغ قد يصير أسفل، والجزء الذي هو مادة القلب قد يحصل فوقُ، وإذا كان كذلك وجب اختلاف أعضاءِ الحيوان وحيث لم يكن الأمر كذلك وجب أن لا تكون أعضاء الحيوانِ على هذا الترتيب المعيَّن أمراً دائماً؛ علمنا أنَّ حدوث هذه الأعضاء على هذا الترتيب الخاصِّ ليس إلا بتدبير الفاعل المختار. الوجه الثاني: أنَّ النطفة بتقدير أنَّها جسمٌ مركبٌ من أجسامٍ مختلفة الطبائع إلاَّ أنَّه يجب أن ينتهي تحليل تركيبها إلى آخر يكون كل واحدٍ منها في نفسه جسماً بسيطاً. وإذا كان كذلك، فلو كان المدبِّر لها قوة طبيعية لكان كل واحدٍ من تلك البسائطِ يجب أن يكون شكله هو الكرة فيلزم أن يكون الحيوان على شكل كراتٍ مضمومة بعضها إلى بعض. وحيث لم يكن الأمر كذلك علمنا أنَّ مدبِّر أبدان الحيوانات ليس هي الطبائع، ولا تأثيرات النجوم والأفلاك، لأنَّ تلك التأثيرات متشابهة؛ فعلمنا أنَّ مدبر أبدانِ الحيوانات فاعلٌ مختارٌ حكيمٌ. قوله تعالى: {مِن نُّطْفَةٍ} متعلق ب «خَلَقَ» و «مِنْ» لابتداءِ الغايةِ. والنُّطفَةُ: القطرة من الماءِ؛ نطَفَ رَأسهُ مَاءً، أي: قطر، وقيل: هي الماء الصافي، ويعبر بها عن ماءِ الرجل، ويكنى بها عن اللؤلؤةِ، ومنه: صَبِي منَطَّفٌ إذا كان في أذنه لؤلؤة، ويقال: ليلةٌ نطوفٌ إذا جاء فيها المطر، والنَّاطفُ: ما سال من المائعات يقال: نَطَفَ يَنطفُ، أي: سال فهو نَاطِف، وفلانٌ يُنْطَفُ بسُوءٍ. قوله: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ} عطف هذه الجملة على ما قبلها، فإن قيل: الفاءُ تدل على التعقيب، ولا سيَّما وقد وجد معها «إذا» التي تقتضي المفاجأة، وكونه خصيماً مبيناً لم يعقب خلقه من نطفةٍ، إنما توسَّطتْ بينهما وسائطُ كثيرةٌ. فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه من باب التعبير عن حال الشيء بما يؤولُ إليه، كقوله تعالى: {أَعْصِرُ خَمْراً} [يوسف: 36] . والثاني: أنه أشار بذلك إلى سرعة نسيانهم مبدأ خلقهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 9 وقيل: ثمَّ وسائط محذوفة. والذي يظهر أن قوله «خَلقَ» عبارة عن إيجاده، وتربيته إلى أن يبلغ حدَّ هاتين الصفتين. و «خَصِيمٌ» : فعيلٌ مثالُ مبالغةٍ من خَصِمَ بمعنى اخْتَصَمَ، ويجوز أن يكون بمعنى مخاصم، كالخَليطِ والجَليسِ، ومعنى «خَصِيمٌ» جدولٌ بالبَاطلِ. فصل اعلم أنَّه - سبحانه وتعالى - إنَّما يخلق الإنسان من نطفة بواسطة تغيراتٍ كثيرةٍ مذكورة في قوله: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] الآيات إلاَّ أنِّه - تعالى - اختصرها ها هنا استغناء بذكرها هناك. قال الواحديُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: الخصيمُ بمعنى المخاصم. وقال أهل اللغة: خصِيمُكَ الذي يُخاصِمُك، وفعيل بمعنى مفاعل معروف، كالنَّسيبِ والعَشيرِ. ووجه الاستدلال بكونه خصيماً على وجود الإله المدبِّر الحكيم: أنَّ [النفوس] الإنسانيَّة في أولِ الفطرة أقلُ فهماً وذكاةءً من نفوس سائر الحيوانات؛ ألا ترى أنَّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضةِ يميِّزُ التصديق والعدوَّ، ويهرب من الهرَّةِ، ويلتجيءُ إلى الأمِّ ويميزُ الغذاء الموافق، والغذاء الذي لم يوافق. وأمَّا ولد الإنسان فإنَّه حال انفصاله من بطنِ الأمِّ لا يميزُ البتَّة بين العدوِّ والصديق ولا بين الضارِّ والنافع، فظهر أن الإنسان في أولِ الفطرة أقلُ فهماً وذكاءً من نفوس سائر الحيوانات؛ ألا ترى أنَّ ولد الدجاجة حالما يخرج من قشر البيضةِ يميِّزُ الصديق والعدوَّ، ويهرب من الهرَّةِ، ويلتجئُ إلى الأمِّ ويميزُ الغذاء الموافق، والغذاء الذي لم يوافق. وأمَّا ولد الإنسان فإنَّه حال انفصاله من بطنِ الأمِّ لا يميزُ البتَّة بين العدوِّ والصديق ولا بين الضارِّ والنافع، فظهر أنَّ الإنسان في أول الحدوثِ أنقص حالاً، وأقلُّ فطنة من سائر الحيوانات. ثم إنَّ الإنسان بعد كبره يقوى عقله ويعظم فهمه، ويصير بحيث يقوى على مساحة السماوات والأرض، وقوى على معرفة الله - عزَّ وجلَّ - وصفاته، وعلى معرفة أصناف المخلوقات من الأرواح والأجسام والفلكيات والعنصريات، ويقوى على إيراد الشبهات القوية في دين الله - تعالى - والخصومات الشديدة في كل المطالب، فانتقال نفس الإنسان من تلك البلادة المفرطة إلى هذه الكياسة المفرطة لا بدَّ وأن يكون بتدبير مدبر مختارٍ حكيم بنقل الأرواحِ من نقصانها إلى كمالاتها، ومن جهالاتها غلى معارفها بحسب الحكمةِ والاختيارِ فهذا هو المراد من قوله تعالى: {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ} . الأول: أنه يجادل عن نفسه منازعاً للخصوم بعد أن كان نطفة قذرة وجماداً، لا حسَّ فيه ولا حركة، والمقصود منه أنَّ الانتقال من تلك الحالةِ الخسيسة إلى هذه الحالةِ العالية الشريفة لا يحصل إلا بتدبير مدبرٍ حكيم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 10 والثاني: فإذا هو خصيمٌ لربِّه، منكر على خالقه، قائل: {مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ} [يس: 78] والغرض وصف الإنسان بالإفراط في الوقاحة والجهل والتَّمادي في كفران النِّعمة. كما نقل أنَّها نزلت في أبي بن خلفٍ الجمحي؛ وكان ينكر البعث جاء بعظمٍ رميمٍ، فقال للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أتقول إنَّ الله - تعالى - يحيي هذه بعدما قد رُمّ؟ . والصحيح أنَّ الآية عامة؛ لأنَّ هذه الآيات ذكرت لتقرير الاستدلال على وجودِ الصَّانع الحكيم لا لتقرير وقاحةِ النَّاسِ وتماديهم في الكفر والكفران. قوله تعالى: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ} الآية هذه الدلالة الثالثة؛ لأنَّ أشرف الأجساد الموجودة في العالم السفليِّ بعد الإنسان سائرُ الحيوانات لاختصاصها بالقوى الشريفة، وهي الحواسُّ الظاهرة والباطنة والشهوةُ والغضب. قوله : {والأنعام خَلَقَهَا} العامة على النصب، وفيه وجهان: أحدهما: أنه نصب على الاشتغال وهو أرجح من الرفع لتقدم جملة فعليَّة. والثاني: أنه نصب على عطفه على «الإنْسانَ» ، قاله الزمخشريُّ، وابن عطيَّة فيكن «خَلقَهَا» على هذا مؤكداً، وعلى الأول مفسراً. وقرئ شاذًّا «والأنْعَامُ» رفعاً وهي مرجوحةٌ. قوله: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} يجوز أن يتعلق «لكم» ب «خلقها» ، أي: لأجلكم ولمنافعكم، ويكون «فيها» خبراً مقدماً، و «دفء» مبتدأ مؤخرٌ، ويجوز أن يكون «لَكُمْ» هو الخبر، أو يكون حالاً من «دفء» قاله أبو البقاء. وردَّه أبو حيَّان: بأنَّه إذا كان العاملُ في الحال معنويًّا، فلا يتقدم على الجملة بأسرها، ولا يجوز «قَائماً في الدَّارِ زيْدٌ» فإن تأخَّرت نحو «زَيْدٌ في الدَّارِ قَائِماً» جاز بلا خلافٍ، أو توسَّطت بخلاف أجازه الأخفش ومنعه غيره. ولقائل أن يقول: لما تقدم العامل فيها، وهي معه جاز تقديمها عليه بحالها إلا أن نقول: لا يلزم من تقديمها وهو متأخر تقديمها عليه وهو متقدم لزيادة الفتح. وقال أبو البقاء أيضاً: «ويجوز أن يرتفع» دِفْءٌ «ب» لَكُمْ «أو ب» فِيهَا «والجملة كلُّها حالٌ من الضمير المنصوب» . قال أبو حيان «ولا يسمَّى جملة، لأنَّ التقدير: خلقها كائنٌ لكم فيها دفءٌ، أو خلقها لكم كائناً فيها دفءٌ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 11 قال شهابُ الدِّين: «قد تقدم الخلاف في تقدير متعلق الجار إذا وقع حالاً أو صفة أو خبراص، هل يقدر فعلاً أو اسماً، ولعلَّ أبا البقاءِ نحا إلى الأول فتسميته له جملة صحيحٌ على هذا» . والدِّفءُ: اسم لما يدفأ به، أي: يسخنُ. قال الأصمعيُّ: ويكون الدفءُ السخونة، يقال: اقعد في دفء هذا الائط، أي: في كنفه، وجمعه أدفَاء، ودَفِئَ يومنا فهو دَفيءٌ، ودَفِئَ الرَّجُل يَدْفأ فهو دَفْآنُ، وهي دَفْأى، كَسَكْران، وسَكْرَى. والمُدفِّئَةُ بالتخفيف والتشديد، الإبل الكثيرة الوبر الكثيرة الوبر والشَّحم، وقيل: الدِّفْءُ: نِتاجُ الإبل وألبَانُهَا وما ينتفعُ به منها. وقرأ زيد بن علي: «دِفٌ» بنقل حركة الهمزة إلى الفاءِ، والزهريُّ: كذلك إلاَّ أنَّه شدَّد الفاء، كأنَّه أجرى الوصل مجرى الوقف، نحو قولهم: هذا فرخٌّ بالتشديد وقفاً. وقال صاحب اللَّوامحِ: «ومنهم من يعوض من الهمزة فيشدِّد الفاء وهو أحد وجهي حمزة بن حبيبٍ وقفاً» . قال شهابُ الدِّين: والتشديد وقفاً: لغة مستقلة وإن لم يكن ثمَّ حذف من الكلمة الموقوف عليها. قوله «ومَنافِعُ» أراد النَّسْل، والدَّرَّ، والركوب، والحملَ، وغيرها، فعبر عن هذا الوصف بالمنفعة؛ لأنَّه الأعمُّ، والدر والنسل قد ينتفع به بالبيع بالنقودِ، وقد ينتفع به بأن تبدَّل بالثياب، وسائر الضَّرورياتِ، فعبَّر عن جملة الأقسامِ بلفظ المنافع ليعمَّ الكل. فصل الحيوانات قسمان: منها ما ينتفع به الإنسان، ومنها ما لا يكون كذلك، والقسم المنتفع به [أفضل] من الثاني، والمنتفع به إمَّا أن ينتفع به الإنسان في ضروراته، مثل الأكلِ واللبسِ أو في غير ضروراته، والأول أشرف وهو الأنعام، فلهذا يدأ بذكره فقال: {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ} وهي عبارة عن الأزواج الثمانية، وهي الضَّأنُ والمعز والبقر والإبل. قال الواحديُّ: تمَّ الكلام عند قوله: {والأنعام خَلَقَهَا} ثم ابتدأ وقال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} . قال صاحبُ النَّظم: أحسنُ الوجهين أن يكون الوقف عند قوله: «خَلَقَهَا» ؛ لأنه عطف عليه {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} والتقدير: لكم فيها دفءٌ ولكم فيها جمالٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 12 ولما ذكر الأنعام، أتبعه بذكر المنافع المقصودة منها، وهي إما ضرورية، أو غير ضرورية، فبدأ بذكر المنافع الضرورية؛ فقال: {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} وقد ذكر هذا المعنى في آية أخرى، فقال سبحانه: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ} [النحل: 80] . والمعنى: ملابسُ ولحفاءُ يستدفئون بها، ثم قال: «ومَنافِعُ» والمراد ما تقدم من نسلها ودرِّها. ثم قال: {وَمِنْهَا تَكُلُونَ} ، «مِنْ» ها هنا لابتداء الغاية، والتبعيض هنا ضعيفٌ. قال الزمخشري: «فإن قلت: تقديم الظرف مؤذنٌ بالاختصاص، وقد يؤكل من غيرها، قلت: الأكل منها هو الأصل الذي يعتمده الناس، وأمَّا غيرها من البط والدجاج ونحوها من الصَّيد، فكغير المعتد به؛ بل جارٍ مجرى التَّفكُّهِ» . قال ابن الخطيب: «ويحتمل أن غالب أطعمتكم منها؛ لأنَّكم تحرثون بالبقر، والحب والثّمار التي تأكلونها، وتكتسبون بها، وأيضاً بإكراء الإبل وتبيعون نتاجها، وألبانها، وجلودها، وتشترون بها جميع أطعمتكم» . فإن قيل: منفعة الأكل مقدمة على منفعة اللَّبس، فلم أخَّر منفعة الأكْلِ في الذكر؟ . فالجواب: أنَّ الملبوس أكثر من المطعوم؛ فلهذا قدِّم عليه في الذِّكر فهذه المنافع الضرورية الحاصلة من الأنعام، وأمَّا المنافع غير الضرورية الحاصلة من الأنعام فأمورٌ: الأول: قوله {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} كقوله {لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ} . و «حِينَ» منصوب بنفس «جمالٌ» أو بمحذوفٍ، على أنه صفة له، أو معمولٌ لما عمل في «فِيهَا» أو في «لَكُمْ» . وقرأ عكرمة، والضحاك، والجحدري - رحمهم الله -: «حِيناً» بالتنوين؛ على أنَّ الجملة بعده صفة له، والعائد محذوف، أي: حيناً تريحون فيه وحيناً تسرحون فيه، كقوله: {واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ} [البقرة: 281] وقدِّمت الإراحة على [السرح] ؛ لأنَّ الأنعام فيها أجمل لملءِ بطونها وتحفُّل ضروعها، بخلاف التسريح؛ فإنها عند خروجها إلى المرعى تخرج جائعة عادمة اللَّبن ثم تتفرق وتنتشر. فصل قد ورد الحين على أربعة أوجهٍ: الأول: بمعنى الوقت كهذه الآية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 13 الثاني: منتهى الأجل، قال: {وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ} [يونس: 98] ، أي: إلى منتهى آجالهم. الثالث: إلى ستة اشهر، قال تعالى: {تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ} [إبراهيم: 25] . الرابع: أربعون سنة، قال تعالى: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر} [الإنسان: 1] . أي: أربعون سنة، يعني آدم - صلوات الله وسلامه عليه - حين خلقه من طينٍ قبل أن ينفخ فيه الروح. والجمالُ: مصدر جَمُلَ بضمِّ الميم يجمُل فهو جَمِيلٌ وهي جَمِيلةٌ، وحكى الكسائي: جَمْلاء كحَمْرَاء؛ وأنشد: [الرمل] 3297 - فَهْيَ جَمْلاءُ كَبَذرٍ طَالعٍ ... بذَّتِ الخَلْقَ جَمِيعاً بالجَمالِ ويقال أراح الماشية وهراحها بالهاء بدلاً من الهمزة، وسرح الإبل يسرحها سرحاً، أي: أرسلها، وأصله أن يرسلها لترعى، والسَّرحُ: شجرٌ له ثمرٌ، الواحدة سرحةٌ، قال أبيّ: [الطويل] 3298 - أبَى الله إلاَّ أنَّ سَرحَة مَالكٍ ... عَلي كُلِّ أفْنانِ العِضاهِ تَرُوقُ وقال: [الكامل] 3299 - أ - بَطلٌ كَأنَّ ثِيَابَهُ في سَرْحَةٍ ... يُحْذَى نِعَالَ السِّبْتِ ليْسَ بِتَوْءَمِ ثم أطلق على كلِّ إرسالٍ، واستعير أيضاً للطلاق، يقال: سَرحَ فلانٌ امْرأتهُ كما استعير الطلاقُ أيضاً من إطلاق الإبل من عقلها، واعتبر من السَّرح المضي فقيل: ناقة [سرحٌ] ، أي: سريعة، وقيل: [الكامل] 3299 - ب - سُرُحُ اليَديْنِ كَانَّهَا ... ..... ... ... ... ... ... ... . . وحذف مفعولي «تُرِيحُونَ وتَسْرَحُونَ» مراعاة للفواصل مع العلم بها. فصل الإراحةُ: ردُّ الإبل بالعشيّ إلى مراحها حيث تأوي إليه ليلاً، وسرح القوم إبلهم سرحاً، إذا أخرجوها بالغداة إلى المرعى. قال أهل اللغة: هذه الإراحةُ أكثر ما تكون أيَّام الربيع إذا سقط الغيث، وكثر الكلأُ، وخرجت العرب للنّجعةِ، وأحسن ما يكون النعمُ في ذلك الوقت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 14 ووجهُ التجملِ بها أنَّ الراعيَ إذا روحها بالعشيَّ وسرَّحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح الأفنية، وكثر فيها النفاء والرغاء، وعظم وقعهم عند الناس لكونهم مالكين لها. والمنفعة الثانية قوله: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ} . الأثقالُ: جمع ثِقَل، وهو متاع السَّفر إلى بلدٍ. قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «يريد من مكة إلى [المدينة] والشام ومصر» . وقال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «والمراد كلُّ بلدٍ لو تكلفتم بلوغه على غير إبلٍ لشقَّ عليكم» . وخصَّ ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - هذه البلاد لأنَّها متاجر أهل مكة. قوله {لَّمْ تَكُونُواْ} صفة ل «بَلدٍ» ، و «إلاَّ بشقِّ» حال من الضمير المرفوع في «بَالغِيهِ» ، أي: لم تبلغوه إلا ملتبسين بالمشقةِ. والعامة على كسر الشِّين. وقرأ أبو جعفر ورويت عن نافع، وأبي عمرو بفتحها؛ فقيل: هما مصدران بمعنى واحد، أي: المشقَّة فمن الكسرِ قول الشاعر: [الطويل] 3300 - رَأى إبلاً تَسْعَى ويَحْسِبُهَا لَهُ ... أخِي نَصبٍ مِنْ شِقِّهَا ودُءُوبِ أي: من مشقّتها. وقيل: المفتوح المصدر، والمكسور الاسم. وقيل: بالكسر نصف الشيء. وفي التفسير: إلاَّ بنصف أنفسكم، كما تقول: لَمْ تَنلهُ إلا بقطعه من كيدك على المجاز. فصل أذا حملنا الشقَّ على المشقَّةِ كان المعنى: لم تكونوا بالغيه إلاَّ بالمشقَّة، وإن حملناها على نصف الشيء كان المعنى: لم تكونوا بالغيه إلا عند ذهاب نصف قوتكم ونقصانها. قال بعضهم: المراد من قوله تعالى {والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ} الإبل فقط، لأنه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 15 وصفها في آخر الآية بقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ} وهذا لا يليق إلاَّ بالإبل فقط. والجواب: أنَّ هذه الآيات وردت لتعديدِ منافع الأنعام، فبعض تلك المنافع حاصل في الكلِّ، وبعضها يختص بالبعض، لأنَّ قوله تعالى: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ} حاصل في البقر والغنم أيضاً. {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} بخلقه حيث جعل لهم هذه المنافع. فصل احتجَّ منكرو كرامات الأولياءِ بهذه الآية، لأنَّ هذه الآية دلت على أنَّ الإنسان لا يمكنه الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ إلا بشقِّ الأنفس، وحملِ الأثقالِ على [الجمال] ، فيكون الانتقال من بلدٍ إلى بلدٍ بعيدٍ في ليلةٍ واحدةٍ من غير تعبٍ، وتحمُّل مشقة خلاف هذه الآية، فيكون باطلاً. ولمَّا بطل القول بالكرامات في هذه الصورة، بطل القول بها في سائر الصُّورِ؛ لأنه لا قائل بالفرق. والجواب: أنَّا نَخُصُّ هذه الآية بالأدلَّة الدالة على وقوع الكرامات. قوله: {والخيل والبغال والحمير} العامة على نصبها؛ نسقاً على الأنعام، وقرأ ابن أبي عبلة برفعها على الابتداء، والخبر محذوف، أي: مخلوقةٌ ومعدَّة لتركبوها، وليس هذا ممَّا ناب فيه الجارُّ مناب الخبر لكونه كوناً خاصًّا. قال القرطبي: «وسُمِّيت الخيل خيلاً لاختيالها في مشيها، وواحد الخيل خائل، كضَائن واحد ضأن. وقيل: لا واحد له، ولما أفرد - سبحانه وتعالى - الخيل، والبغال، والحمير، بالذكر؛ دلَّ على أنَّها لم تدخل في لفظ الأنعام. وقيل: دخلتْ؛ ولكن أفردها بالذكر لما يتعلق بها من الركوب، فإنَّه يكثر في الخيل والبغال والحمير» . قوله: «وَزِينَةً» في نصبها أوجهٌ: أحدها: أنه مفعولٌ من أجله وإنَّما وصل الفعل إلى الأول باللام في قوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا} وإلى هذا بنفسه لاختلاف الشَّرط في الأول، وعدم اتحاد الفاعل، وأنَّ الخالق الله والراكب المخاطبون. الثاني: أنَّها منصوبة على الحال، وصاحبُ الحال إمَّا مفعول «خَلَقَهَا» وإمَّا مفعول «لِترْكَبُوهَا» فهو مصدر، وأقيم مقام الحالِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 16 الثالث: أن ينتصب بإضمار فعلٍ، فقدره الزمخشريُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وخلقها زينة. وقدره ابن عطيَّة وغيره: وجعلها زينةً. الرابع: أنَّه مصدرٌ لفعلٍ محذوف أي: «ولتتَزيَّنُوا بِهَا زينةً» . وقرأ قتادة عن ابن أبي عامر: «لتَرْكَبُوهَا زِينَةً» بغير واوٍ، وفيها الأوجه المتقدمة؛ ويريد أن يكون حالاً من فاعل «لِترْكبُوهَا» متزينين. فصل لمَّا ذكر منافع الحيوان التي ينتفع بها من المنافع الضرورية، ذكر بعده منافع الحيوانات التي ليست بضرورية فقال: {والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} ، والخيل اسم جنسٍ لا واحد له من لفظه كالإبل. واحتجَّ القائلون بتحريمِ لحومِ الخيلِ؛ وهو قول ابن عباسٍ، والحكم، ومالك، وأبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - بهذه الآيةِ، قالوا: منفعة الأكل أعظم من منفعة الركوب، فلو كان أكل لحوم الخيل جائزاً؛ لكان هذا المعنى أولى بالذِّكر، وحيث لم يذكره الله - تعالى - علمنا تحريم أكله. ويقوِّي هذا الاستدلال: أنَّه قال - تعالى - في صفة الأنعام {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} وهذه الكلمة تفيد الحصر، فيقتضي أن لا يجوز الأكل من غير الأنعامِ فوجب أن يحرَّم أكل لحوم الخيل بمقتضى هذا الحصرِ. ثمَّ إنَّه - تعالى - ذكر بعد هذا الكلام الخيل والبغال والحمير، وذكر سبحانه أنها مخلوقة للركوب، وهذا يقتضي أن منفعة الأكلِ مخصوصة بالأنعام. وأيضاً قوله تعالى: {لِتَرْكَبُوهَا} يقتضي أنَّ تمام المقصود من خلق هذه الأشياء الثلاثة، هو الركوبُ والزينةُ، ولو حلَّ أكلها لما كان تمامُ المقصود من خلقها هو الركوب، بل كان حلُّ أكلها أيضاً مقصوداً؛ وحينئذٍ يخرج جواز ركوبها عن أن يكون تمام المقصودِ؛ بل يصير بعض المقصودِ. وأجاب الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بأنَّه لو دلَّت هذه الآية على تحريم أكل الخيل؛ لكان تحريم أكلها معلوماً في مكَّة؛ لأنَّ هذه السورة مكية. ولو كان الأمر كذلك لكان قول عامة المفسرين والمحدِّثين إنَّ تحريم لحوم الحمر الأهلية كان عام خيبر باطلاً؛ لأنَّ التحريم لما كان حاصلاًُ قبل هذا اليوم، لم يبق لتخصيص هذا التَّحريم بهذه [السنة] فائدة. وأجاب غيره: بأنه ليس المراد من الآية بيان التَّحليل والتحريم؛ بل المراد منه أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 17 يعرِّف الله - تعالى - عباده نعمه، وتنبيههم على كمالِ قدرته وحكمته. واحتجُّوا بقولِ جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «نَهَى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يَوْمَ خَيْبرٍ عَنْ لَحومِ الحُمرِ ورخَّصَ في لُحومِ الخَيْلِ» . ولمَّا ذكر - تعالى - أصناف الحيوانات المنتفع بها، ذكر بعده الأشياء التي لا ينتفع غالباً بها فذكرها على سبيل الإجمال. فقال سبحانه وتعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وذلك لأنَّ أنواعها وأصنافها خارجة عن الإحصاء؛ فذكر ذلك على سبيل الإجمال. وروى عطاء ومقاتل والضحاك عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - قال: «إنَّ عَنْ يَمِينِ العَرْشِ نَهْراً مِنْ نُورٍ مِثلَ السَّمواتِ السَّبْع والبِحار السَّبعَة والأرضين السبع يَدخُل فيه جِبْريلُ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كُلَّ سحرٍ فيزْدادُ نُوراً إلى نُورهِ وجَمالاً إلى جَمالهِ، ثُمَّ ينتفِضُ فيَخْلقُ الله - سبحانه وتعالى - مِنْ كُلِّ نُقْطَة تقع مِن رِيشهِ كذا وكذا ألْفَ مَلك، يَدخلُ مِنهُم كُلَّ يَومٍ سَبعُونَ ألفاً البيتَ المَعْمُورَ، وفي الكَعْبةِ أيضاً سَبْعُون ألفاً لا يعُودُونَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ» . قوله: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} الآية والمعنى: إنما ذكرت هذه الدلائل وشرحتها؛ إزاحةً للعذرِ؛ وإزالة للعلَّة {لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ} [الأنفال: 42] . قوله: {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} الضمير يعود على السبيل؛ لأنَّها تؤنث {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي} [يوسف: 108] أو لأنَّها في معنى سُبلٍ، فأنَّث على معنى الجمع، والقَصْدُ مصدرٌ يوصف به فهو بمعنى قاصد، يقال: سبيلٌ قصدٌ وقاصدٌ، أي: مستقيمٌ، كأنه يَقْصِدُ الوجه الذي يؤمه السالك لا يعدل عنه. وقيل: الضمير يعود على الخلائق؛ ويؤيده قراءة عيسى، وما في مصحف عبد الله: «ومِنْكُمْ جَائِرٌ» ، وقراءة عليّ: «فَمِنكُْ جَائِرٌ» بالفاء. وقيل: «ألْ» في «السَّبيلِ» للعهد؛ وعلى هذا يعود الضمير على السبيل التي تتضمنها معنى الآية؛ لأنَّه قيل: ومن السبيل فأعاد عليها، وإن لم يجر له ذكر؛ لأنَّ مقابلها يدلُّ عليها، وأما إذا كانت «ألْ» للجنس فيعود على لفظها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 18 والجَوْرُ: العدول عن الاستقامة؛ قال النابغة: [الطويل] 3301 - ... ... ... ... ... ... ... ... يَجُورُ بِهَا المَلاَّحُ طَوْراً ويَهْتَدِي وقال آخر: [الكامل] 302 - ومِنَ الطَّريقَةِ جَائِرٌ وهُدًى ... قَصْدُ السَّبيلِ ومِنْهُ ذُو دَخْلِ وقال أبو البقاء: و «قَصْدُ» مصدرٌ بمعنى إقامة السَّبيل، أو تعديل السبيل، وليس مصدر قصدته بمعنى أتَيْتهُ. فصل قوله: {وعلى الله قَصْدُ السبيل} يعني بيان طريق الهدى من الضَّلالة، وقيل: بيان الحقِّ من الباطل بالآيات والبراهين، والقصد: الصراط المستقيم. {وَمِنْهَا جَآئِرٌ} يعني: ومن السَّبيل جائر عن الاستقامة معوجّ، والقصد من السبيل دينً الإسلامِ، والجائر منها: اليهوديَّة والنَّصرانيةُ وسائر مللِ الكفرِ. قال جابر بن عبد الله: «قَصْدُ السَّبيلِ» بيانُ الشَّرائع والفرائض. وقال ابن المبارك وسهل بن عبد الله: «قَصْدُ السَّبيلِ» السنة، «ومِنْهَا جَائِرٌ» الأهواء والبدع؛ لقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ} [الأنعام: 153] . فصل قالت المعتزلة: دلت الآية على أنَّه يجب على الله الإرشاد والهداية إلى الدِّين وإزالةُ العلل [والأعذار] ؛ لقوله {وعلى الله قَصْدُ السبيل} وكلمة «عَلَى» للوجوب، قال تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97] ودلت الآية أيضاً على أنه تعالى لا يضلُّ أحداً ولا يغويه ولا يصده عنه، لأنه لو كان - تعالى - فاعلاً للضَّلال؛ لقال {وعلى الله قَصْدُ السبيل} وعليه جائرها، أو قال: وعليه الجائر فلمَّا لم يقل ذلك، بل قال في قصد السبيل أنه عليه، ولم يقل في جور السبيل أنه عليه، بل قال: «ومِنْهَا جَائِرٌ» دلَّ على أنَّه - تعالى - لا يضلُّ عن الدينِ أحداً. وأجيب: بأنَّ المراد على أنَّ الله - تعالى - بحسب الفضلِ والكرمِ؛ أن يبين الدِّين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 19 الحق، والمذهب الصحيح، فأما أن يبين كيفية الإغواء والإضلال؛ فذلك غير واجب. قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} يدل على أنَّه - تعالى - ما شاء هداية الكفار، وما أراد منهم الإيمان؛ لأنَّ كلمة «لَوْ» تفيد انتفاء الشيء لانتفاء غيره، أي: ولو شاء هدايتكم لهداكم أجمعين، وذلك يفيد أنه - تعالى - ما شاء هدايتهم فلا جرم ما هذاهم. وأجاب الأصمُّ: بأنَّ المراد: لو شاء أن يلجئكم إلى الإيمان لهداكم، وهذا يدل على أنَّ مشيئة الإلجاءِ لم تحصل. وأجاب الجبائيُّ: بأنَّ المعنى: ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة وإلى نيل الثواب؛ لكنَّه لا يفعل ذلك إلا بمن يستحقه، ولم يرد به الهدى إلى الإيمان؛ لأنَّه مقدور جميع المكلَّفين. وأجاب بضعهم؛ فقال المراد: ولو شاء لهداكم إلى الجنَّة ابتداء على سبيل التفضل، إلاَّ أنَّه - تعالى -[عرَّفكمُ] للمنزلة العظيمة بما نصب من الأدلة وبيَّن، فمن تمسَّك بها فاز، ومن عدل عنها فاتته وصار إلى العذاب. وتقدم الجواب عن ذلك مراراً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 20 قوله تعالى: {هُوَ الذي أَنْزَلَ مِنَ السماء مَآءً} لمَّا استدلَّ على وجود الصانع الحكيم بأحوال الحيوان، أتبعه بذكر الاستدلال على وجود الصانع الحكيم بعجائب أحوال النبات. واعلم أنَّ الماء المنزَّل من السماء هو المطر وهو قسمان: أحدهما: الذي جعله الله شراباً لنا، ولكل حيٍّ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 20 فإن قيل: دلت الآية على أنَّ شراب الخلق ليس إلاَّ من المطرِ، ومن المعلوم أنَّ الخلق يشربون من المياه التي في قعر الأرض؛ وأجاب القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: بأنه تعالى بين أنَّ المطر شرابنا، ولم ينفِ أن نشرب من غيره. وأجاب غيره: بأنه لا يمتنع أن يكون الماء العذب تحت الأرض من جملة ما ينزل من السماء؛ لقوله تعالى: {وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 18] ولا يمتنع أيضاً في العِذاب من الأنهار أن يكون أصلها من المطر. والقسم الثاني من المياه النازلة من السماء ما يجعله الله سبباً لتكوين النبات، وهو قوله {وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ} . قوله: «لَكُمْ» يجوز أن يتعلق ب «أنْزَلَ» ويجوز أن يكون صفة ل «مَاءً» فيتعلق بمحذوفٍ، فعلى الأول يكون [ «شراب» مبتدأ، و «منه» خبره مقدم عليه، والجملة ايضاً صفة ل «ماء» ، وعلى الثاني يكون «شراب» فاعلاً] بالظرف، و «مِنْهُ» حال من «شَرابٌ» ، و «مِنَ» الأولى للتبعيض، وكذا الثانية عند بعضهم، لكنَّه مجازٌ؛ لأنَّه لما كان سقاه بالماء جعل كأنه من الماء؛ كقوله: [الرجز] 3303 - أسْنِمَةُ الآبَالِ في رَبَابَهْ ... أي: في سحابة، يعني به المطر الذي ينبت به الكلأ الذي تأكله الإبل فتسمن أسنمتها. وقال ابنُ الأنباري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «هو على حذف مضافٍ إمَّا من الأول؛ يعني قبل الضمير، أي: ومن جهته أو سقيه شجر، وإمَّا من الثاني، يعني قبل شجر، أي: شربُ شجرٍ أو حياة شجر» . وجعل أبو البقاءِ: الأولى للتبعيض، والثانية للسببية؛ أي: وبسببه غنباتُ شجرٍ، ودل عليه قوله - سبحانه وتعالى - {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع} . والشجر ها هنا: كلُّ نباتٍ من الأرض حتَّى الكلأ، وفي الحديث: «لا تَأكلُوا ثمنَ الشَّجرِ فإنَّهُ سُحْتٌ» يعني: الكلأ ينهى عن تحجر المباحاتِ المحتاج إليها، وأنشدوا شعراً: [الرجز] 3304 - نُطْعِمُهَا اللَّحْمَ إذَا عَزَّ الشَّجَرْ ... يريد: يسقون الخيل اللبن إذا أجدبت الأرض، قاله الزجاج. وقال ابن قتيبة في هذه الآية: المراد من الشجر: الكلأ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 21 فإن قيل: قال المفسرون في قوله تعالى: {والنجم والشجر يَسْجُدَانِ} [الرحمن: 6] : إن المراد بالنجم: ما ينجم من الأرض ممَّا ليس له ساق، ومن الشجر ما له ساق، وأيضاً: عطف الشجر على النَّجم؛ فيوجب مغايرة الشجر للنجم. فالجواب: أنَّ عطف الجنس على النع وبالضدِّ مشهور وأيضاً: فلفظ الشجرِ يشعر بالاختلاط، يقال: تشاجر القوم إذا اختلط أصوات بعضهم ببعض، وتشاجرتِ الرِّماح إذا اختلطت، وقال تعالى: {حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] ، ومعنى الاختلاط حاصل في العشب، والكلأ؛ فوجب إطلاق لفظ الشجر عليه. وقيل المراد بالشجر ما له ساقٌ؛ لأنَّ الإبل تقدر على رعي ورق الأشجار الكبار وإطلاق الشجر على الكلأ مجازٌ. قوله: {فِيهِ تُسِيمُونَ} هذه صفة أخرى ل «مَاءً» ، والعامة على «تُسِيمُونَ» بضم التاء من أسام، أي: [أرسلها] لترعى. وقرأ زيد بن علي بفتحها، فيحتمل أن يكون متعدياً، ويكون فعل وأفْعَل بمعنى، ويحتمل أن يكون لازماً على حذف مضافٍ، أي: تُسِيمُ مَواشِيكُمْ. يقال: أسمت الماشية إذا خلَّيتها ترعى، وسامت هي تسُومُ سَوْماً، إذا رعتْ حيثُ شاءتَ فهي سَوام وسَائِمَة. قال الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أخذ ذلك من السومةِ وهي العلامة؛ لأنَّها تؤثر في الأرض برعيها علاماتٍ» . وقال غيره: لأنها تعلَّم الإرسال والمرعى، وتقدم الكلام في هذه المادة في آل عمران عند قوله تعالى: {والخيل المسومة} [الآية: 14] . قوله تعالى: {يُنْبِتُ لَكُمْ} تحتمل هذه الجملة الاستئناف والتبعيَّة، كما في نظيرتها، ويقال: أنْبتَ الله الزَّرْعَ فهو منبُوت، وقياسه: مُنْبَت. وقيل: أنْبتَ قد يجيء لازماً، ك «نَبَتَ» ؛ وأنشد الفراء: [الطويل] 3305 - رَأيْتُ ذَوِي الحَاجَاتِ حولَ بُيوتِهِمْ ... قَطِيناً لهُمْ حتَّى إذَا أنْبتَ البَقْلُ وأباه الأصمعيُّ؛ والبيت حجة عليه، وتأويله: ب «أنبت» البقل نفسه على المجاز بعيد جدًّا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 22 وقرأ أبو بكر «نُنْبِتُ» بنون العظمة، والزهري «تنَبِّتُ» بالتشديد، والظاهر أنَّهُ تضعيف التَّعدي، وقيل: بل للتَّكرير، وقرأ أبي: «تُنْبُتُ» بفتح الياء وضمِّ الباءِ. «الزَّرْعَ» وما بعده رفع بالفاعلية، وتقدم خلافُ القراء في رفع «الشَّمْس» وما بعدها ونصبها، وتوجيه ذلك في سورة الأعراف. فصل النبات قسمان: أحدهما: لرعي الأنعام؛ وهو المراد من قوله «تُسِيمُونَ» . والثاني: المخلوق لأكل الإنسانِ؛ وهو المراد من قوله: {يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب} . فإن قيل: إنه - تعالى - بدأ في هذه الآية بذكر مأكول [الحيوان] وأتبعه بذكر مأكولِ الإنسانِ، وفي ىية أخرى عكس الترتيب؛ فقال: {كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُم} [طه: 54] فما الفائدة فيه؟ . فالجواب: أنَّ هذه الآية مبنيَّةٌ على مكارم الأخلاق؛ وهو أن يكون اهتمام الإنسانِ بمن يكون تحت يده، أكمل من اهتمامه بنفسه، وأمَّا الآية الأخرى، فمبنيةٌ على قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «ابْدَأ بِنَفْسِكَ، ثُمَّ بِمَنْ تَعُولُ» . فصل اعلم أنَّ الإنسان خلق محتاجاً إلى الغذاء، والغذاء، إمَّا من الحيوانات، وإمَّا من النبات، والغذاء الحيوانيُّ أشرف من الغذاء النباتي؛ لأنَّ تولد أعضاءِ الإنسانِ من [أكل] أعضاء الحيوان أسهل من تولدها من غذاء النبات؛ لأنَّ المشابهة هناك أكمل وأتم، والغذاء الحيواني إنما يحصل من إسامةِ الحيواناتِ وتنميتها بالرعي؛ وهو الذي ذكره الله في الإسامةِ. وأمَّا الغذاء النباتيُّ، فقسمان: حبوب، وفواكه: أمَّا الحبوب، فإليها الإشارة بقوله: «الزَّرْعَ» ، وأما الفواكه، فأشرفها: الزيتونُ، والنَّخيلُ، والأعناب أما الزيتون؛ فلأنه فاكهة من وجه، وإدامٌ من وجه آخر؛ لما فيه من الدهنِ، ومنافع الهنِ كثيرة: للأكلِ، والطلاءِ، وإشعالِ السِّراج. وأما امتياز النَّخيل والأعناب من سائر الفواكه، فظاهر معلوم، وكما أنَّه - تعالى - لما ذكر الحيوانات المنتفع بها على التفصيل، ثم وصف البقية بقوله تعالى: {وَيَخْلُقُ مَا لاَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 23 تَعْلَمُونَ} [النحل: 8] فكذلك ههنا، لمَّا ذكر الأنواع المنتفع بها من النبات، قال في وصف البقية: {وَمِن كُلِّ الثمرات} تنبيهاً على أن تفصيل أنواعها، وأجناسها، وصفاتها، ومنافعها، ما لم يكن ذكره، فالأولى أن يقتصر فيه على الكلام المجملِ، ثم قال سبحانه وتعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . واعلم أن وجه الدَّلالة من هذه الآية على وجود الله - تعالى -: هو أنَّ الحبة الواحدة تقع في الطين، فإذا مضى عليها زمنٌ معينٌ، نفذت في تلك الحبة أجزاء من رطوبة الأرض؛ فتنتفخ وتنشقُّ أعلاها وأسفلها؛ فيخرج من أعلاها شجرة صاعدة إلى الهواء، ومن أسفلها شجرة أخرى غائصة في [قعرِ] الأرض؛ وهي عروقُ الشجرِ، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة لا تزال تزدادُ، وتنمو وتقوى، ثم يخرج منها الأوراق، والأزهارُ، والأكمام، والثمار، ثمَّ إنَّ تلك الشجرة تشتمل على أجسام مختلفة الطبائع؛ كالعنب فإنَّ قشوره وعجمه باردان يابسان كثيفان، ولحمه وماؤه حارٌ رطبٌ، فنسبة هذه الطبائع السفلية إلى هذا الجسم متشابهة، ونسبة التأثيرات الفلكية، والتحريكات الكوكبيَّة إلى الكلِّ متشابهة، فمع تشابه هذه الأشياء، ترى هذه الأجسام مختلفة في الطبع، والطَّعم، واللَّون، والرائحة، والصفة؛ فدلَّ صريح العقل على أنَّ ذلك ليس إلا بفعل فاعل قادرٍ حكيمٍ رحيمٍ. وختم هذه الآية بقوله: {يَتَفَكَّرُونَ} لأنه تعالى ذكر أنَّه أنزل من السماءِ ماء، فأنبت به الزرع، والزيتون، والنخيل، والأعناب، فكأنَّ قائلاً قال: لا نسلِّم أنه - تعالى - هو الذي أنبتها، بل يجوز أن يكون حدوثها لتعاقبِ الفصولِ الأربعةِ، وتأثيرات الشمس والقمر والكواكب، فما لم يقُم الدليل على فساد هذا الاحتمالِ لا يكون هذا الدليل وافياً بإفادة هذا المطلوب، بل يكون مقام الفكر والتأمل باقياً، فلهذا ختم الآية بقوله: {لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} . قوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر} الآية وهذه الآية هي الجواب عن السؤال المتقدم تقريره من وجهين: الأول: أن يقول: هبْ أن حدوث الحوادث في هذا العالم السفلي مستندة إلى الاتِّصالات الفكليَّة إلاَّ أنه لا بدَّ لحركتها واتصالاتها من أسباب، وأسباب تلك الحركات: إما ذواتها، وإمَّا أمورٌ مغايرةٌ لها، والأول باطل من وجهين: الأول: أنَّ الأجسام متماثلةٌ، فلو كان الجسم علَّة لصفة، لكان كل جسمٍ واجب الاتصاف بتلك الصفةِ؛ وهو محالٌ. والثاني: أنَّ ذات الجسم لو كانت علَّة لحصول هذه الحركة، لوجب دوامُ هذه الحركة بدوام تلك الذات، ولو كان كذلك لوجب بقاءُ الجسم على حالةٍ واحدةٍ من غير تغيير أصلاً؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 24 وذلك يوجبُ كونه ساكناً لذاته، وما أفضى ثبوته إلى عدمه، كان أصلاً باطلاً. فثبت أنَّ الجسم يمتنع أن يكون متحرِّكاً لكونه جسماً، فبقي أن يكون متحركاً لغيره، وذلك الغير: إمَّا أن يكون سارياص فيه، أو مبايناً عنه، والأول باطلٌ لأن البحث المذكور عائد في أن ذلك الجسم بعينه لم اختص بتلك القوة بعينها دون سائر الأجسام؛ فثبت أن محرك أجسام الأفلاك والكواكب أمور مباينة عنها، وذلك المباين إن كان جسماً أو جسمانياً، عاد التقسيم الأول فيه، وإن لم يكن جسماً ولا جسمانياً، فإما أن يكون موجباً بالذات أو فاعلاً مختاراً، والأول باطل لأنَّ نسبة ذلك الموجب بالذات إلى جميع الأجسام على التسوية؛ فلم يكن بعض الأجسام بقبولِ بعض الآثار المعينة أولى من بعض؛ فثبت أنَّ محرك تلك الأفلاك والكواب هو الفاعل القادر المختار المنزَّهُ عن كونه جسماً، وجسمانيًّا؛ وذلك هو الله - تعالى -. فالحاصل أنَّا وإن حكمنا باستثناء حوادث العالم السفليِّ إلى الحركات الفلكية والكوكبية، فهذه الحركاتُ الفلكية لا يمكن إسنادها إلى [أفلاكٍ أخرى] ؛ وإلاَّ لزم التَّسلسلُ؛ وهو محالٌ؛ فوجب أن يكون خالق هذه الحركات ومدبرها هو الله - تعالى - وإذا كان كذلك، كان هذا اعترافاً بأنَّ الكُلَّ من الله - تبارك وتعالى - وبإحداثه وتخليقه، وهذا هو المراد من قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الليل والنهار والشمس والقمر} يعني: أنَّ تلك الحوادث كانت لأجل تعاقبِ الليل والنَّهار، وحركاتِ الشَّمس والقمر، فهذه الأشياء لا بدَّ وأن يكون حدوثها بتخليق الله - تعالى - وتسخيره؛ قطعاً للتسلسل. ولمَّا تم هذا الدليل، ختم الآية بقوله: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: كلّ عاقل يعلم أنَّ القول بالتسلسل باطل، وأنه لا بدَّ من الانتهاءِ إلى الفاعل المختار. والجواب الثاني عن ذلك السؤال: أنَّ تأثير الطبائع، والأفلاك، والكواكب؛ بالنسبة إلى الكلِّ واحد، ثمَّ إنَّا نرى تولد العنب: قشره على طبع، وعجمه على طبعٍ، ولحمه على طبع ثالثٍ، وماؤه على طبع رابع، ونرى في الورد ما يكون أحد وجهي الورقة الواحدة منه في غاية الصُّفرةِ، والوجه الثاني من تلك الورقةِ في غاية الحمرة، وتلك الورقة في غاية الرقة واللَّطافة، ونعلم بالضرورة أنَّ نسبة الأنجم، والأفلاكِ، إلى وجهي تلك الورقة الرقيقة نسبة واحدة، والطبيعة الواحدة هي المادة الواحدة لا تفعل إلا فعلاً واحداً؛ ألا ترى أنهم قالوا: شكل البسيط هو الكرة؛ لأن تأثير الطبيعة الواحدة في المادة الواحدة يجب أن يكون متشابهاً، والشكل الذي يتشابه جميع جوانبه هو الكرة، وأيضاً إذا أضأنا الشمع، فإذا استضاء خمسة أذرع من ضوء ذلك الشمع من أحد الجوانب، وجب أن يحصل مثل هذا الأثر في جميع الجوانب؛ لأن الطبيعة المؤثرة يجب أن تتشابه نسبتها إلى كل الجوانب، وإذا ثبت هذا، فنسبة الشمس، والقمر، والأنجم، والأفلاك، والطبائع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 25 إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة، والطبائع إلى وجهي تلك الورقة اللطيفة نسبة واحدة، وثبت أنَّ الطبيعة المؤثرة، متى كانت نسبتها واحدة كان الأثر متشابهاً، وثبت أنَّ الأثر غير متشابهٍ؛ لأنَّ أحد وجهي تلك الورقة في غاية الصفة، والوجه الثاني منها في غاية الحمرة، وهذا يفيد القطع بأنَّ المؤثِّر في حصول تلك الصفات، والألوان، والأحوال - ليس هو الطبيعة؛ بل الفاعل فيها هو الفاعل المختار الحكيم، وهو الله - تعالى - وهذا هو المراد من قوله تعالى: {وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ} . ولما كان مدار هذه الحجَّة على أنَّ المؤثر الموجب بالذاتِ وبالطبيعةِ، يجب أن تكون نسبته إلى الكل متشابهة - لا جرم ختم الآية بقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ} فلمَّا دلَّ الحسُّ في هذه الأحكام النباتيَّة على اختلاف صفاتها، وتنافر أحوالها - على أنَّ المؤثِّر فيها ليس هو الطبيعة - ظهر أنَّ المؤثر فيها ليس موجباً بالذاتِ؛ بل الفاعل المختار - سبحانه وتعالى -. فإن قيلك لا يقال: سخَّرتُ هذا الشيء مسخَّراً. فالجواب: أنَّ المعنى: أنه - تعالى - سخر لنا هذه الأشياء حال كونها مسخرةً تحت قدرته وإذنه. فإن قيل: التسخيرُ عبارة عن القهر والقسر، ولا يليق ذلك إلاَّ بمن هو قادر يجوز أن يقهر؛ فكيف يصحُّ ذلك في اللَّيل والنهار، وفي الجمادات؛ كالشمس والقمر؟ . فالجواب من وجهين: الأول: أنه - تعالى - لما دبَّر هذه الأشياء على طريقة واحدة مطابقة لمصالح العباد، صارت شبيهة بالعبدِ المنقادِ المطواع؛ فلهذا المعنى أطلق على هذا النَّوع من التَّدبير لفظ التَّسخيرِ. والجواب الثاني: لا يستقيمُ إلاَّ على مذهب علماء الهيئة؛ لأنهم يقولون: الحركة الطبيعية للشمس والقمر، هي الحركة من المغرب إلى المشرقِ، والله تعالى سخر هذه الكواكب بواسطة حركة الفلك الأعظم من المشرق إلى المغرب، فكانت هذه الحركة قسرية؛ فلذلك أطلق عليها لفظ التسخير. فإن قيل: إذا كان لا يحصل للنهار والليل وجود إلا بسبب حركات الشمس؛ كان ذكر الليل والنهار مغنياً عن ذكر الشمس، فالجواب: حدوث النهار واللّيل ليس بسبب [حدوث] حركةِ الشمس؛ بل حدوثهما سبب حركة الفلك الأعظم الذي دلَّ الدليل على أن حركته ليست إلا بتحريكِ الله - تعالى - وأما حركةُ الشمسِ، فَإنَّها علة لحدوث السنة، لا لحدوث اليومِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 26 فإن قيل: المؤثر في التسخير هو القدرة، لا الأمر؛ فكيف قال الله: {مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ} ؟ . فالجواب: هذه الآية مبنيّة على أنَّ الأفلاك والكواكب جماداتٌ، أم لا، وأكثر المسمين على أنَّها جمادات؛ فلهذا حملوا الأمر في هذه الآيةِ على الخلق [والتقدير] ، ولفظ الأمر بمعنى الشَّأنِ والفعل كثيرٌ؛ قال تعالى: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40] . ومنهم من قال: إنها ليست بجماداتٍ، فههنا يحمل الأمر على الإذنِ والتكليفِ. قوله: {وَمَا ذَرَأَ} عطف على الليل والنهار؛ قاله الزمخشري؛ يعني: ما خلق فيها من حيوانٍ وشجر. وقال أبو البقاء: «في موضعِ نصبٍ بفعلٍ محذوفٍ؛ أي: وخلق، أو أنبت» . كأنه استبعد تَسلطَ «وسَخَّرَ» على ذلك؛ فقدَّر فعلاً لائقاً، و «مُخْتلِفاً» حال منه، و «ألْوانهُ» فاعل به. وختم الآية الأولى بالتفكُّر؛ لأنَّ ما فيها يحتاج إلى تأملٍ ونظر، والثانية بالعقل؛ لأنَّ مدار ما تقدم عليه، والثالثة بالتذكر؛ لأنه نتيجة ما تقدم. وجمع «آيَاتٍ» في الثانية دون الأولى والثالثة؛ لأنَّ ما يناط بها أكثر؛ ولذلك ذكر معها الفعل. قوله تعالى: {وَهُوَ الذي سَخَّرَ البحر لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا} الآية لما استدلَّ على إثباتِ الإله أولاً بأجرامِ السَّمواتِ، وثانياً ببدن الإنسان، وثالثاً بعجائبِ خلق الحيوانات، ورابعاً بعدائب النبات - ذكر خامساً عجائب العناصرِ فبدأ بالاستدلال بعنصر الماءِ. قال علماء الهيئةِ: ثلاثة أرباع كرة الأرض غائصة بالماءِ، وذلك هو البحر المحيط، وحصل في هذا الرابع المسكون سبعة أبحرٍ؛ قال تعالى: {والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُر} [لقمان: 27] والبحر الذي سخره الله للناس هو هذه البحار، ومعنى تسخيرها للخلق: جعلها بحيث يتمكن [الناس] من الانتفاع بها: إمَّا بالركوبِ، أو بالغوصِ. واعلم أنَّ منافع البحارِ كثيرةٌ، فذكر منها - تعالى - هنا ثلاثة أنواعٍ: الأول: قوله تعالى {لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّا} يجوز في «منهُ» تعلقه ب «لِتَأكُلوا» وأن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حال من النكرة بعده، و «مِنْ» لابتداءِ الغاية أو للتبعيض، ولا بدَّ من حذف مضافٍ، أي: من حيوان، و «طَريًّا» فعيلٌ من: طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً؛ ك «سَرُوَ يَسْرُو سَرَاوَة» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 27 وقال الفراء: [بل يقال:] «طَرِيَ يَطْرَى طَرَاءً ممدوداً وطَراوَةً؛ كما يقال: شَقِيَ يَشْقَى شَقاءً وشَقاوةً» . والطَّراوَةُ ضد اليُبوسَةِ أي: غضًّا جديداً، ويقال: طَريْتُ كذا، أي: جدَّدْتهُ، ومنه الثياب المُطرَّاة، والإطْراءُ: مدحٌ تجدَّد ذكرهُ؛ وأمَّا «طَرَأ» بالهمز، فمعناه: طَلَعَ. قال ابن الأعرابي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لحمٌ طَريٌّ غير مهموز، وقد طَرُوَ يَطْرُو طَراوَةً. فصل اعلم أنَّه - تعالى - لما أخرج من البحر الملح الزُّعاقِ الحيوان الذي لحمه في غاية العذوبة، علم أنَّه إنَّما حدث لا بحسبِ الطب؛ بل بقدرة الله - تعالى - وحكمته بحيث أظهر الضد من الضدِّ. فصل لو حلف لا يأكل اللحم فأكل لحم السَّمك، قال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لا يحنثُ؛ لأنَّ لحم السَّمك ليس بلحم. وقال آخرون: يحنثُ لأنَّ الله - تعالى - نصَّ على تسميته لحماً، وليس فوق بيان الله بيانٌ. روي أنَّ أبا حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لما قال بهذا، وسمعه سفيان الثوري فأنكر عليه ذلك محتجاً بهذه الآية؛ فبعث إليه أبو حنيفة رجلاً وسأله عن رجلٍ حلف لا يصلِّي على البساطِ فصلَّى على الأرضِ، هل يحنث أم لا؟ . فقال سفيان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لا يحنثُ، فقال السائل: أليس أنَّ الله - تعالى - قال: {والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطا} [نوح: 19] قال: فعرف سفيان أنَّ ذلك بتلقين أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قاله ابن الخطيب. وهذا ليس بقويِّ؛ لأنَّ أقصى ما في الباب أنَّا تركنا العمل بظاهرِ القرآنِ في لفظ البساط لدليل قام، فكيف يلزمنا ترك العمل بظاهر القرآن في آية أخرى من غير دليل، والفرق بين الصورتين من وجهين: الأول: أنه لما حلف لا يصلِّي على البساط، فلو أدخلنا الأرض تحت لفظ البساطِ؛ لزمنا أن نمتعه من الصلاة؛ لأنه إن صلَّى على الأرض حنث، وإن صلَّى على البساط حنث، بخلاف ما إذا أدخلنا لحم السمك تحت لفظِ اللحم؛ لأنه ليس في منعه من أكل اللَّحم على الإطلاق محذورٌ. الثاني: أنَّا نعلم بالضرورة من عرف أهل اللغة، أنَّ وقوع اسم البساط على الأرض مجازٌ ولم نعرف أن وقوع اسم اللحم على لحم السمك مجاز وحجة أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أنَّ الأيمان مبناها على العرف؛ لأن الناس إذا ذكروا اللحم على الإطلاقِ، لا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 28 يفهم منه لحم السَّمك؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه: «اشْترِ بهذا الدِّرهمِ لحماً» فجاء بلحمِ سمكٍ استحق الإنكار. والجواب: أنا رأيناكم في كتاب الأيمان تارة تعتبرون اللفظ، وتارة تعتبرون المعنى، وتارة تعتبرون العرف، وليس لكم ضابط؛ بدليل أنَّه إذا قال لغلامه: اشتر بهذا الدرهم لحماً فجاء بلحم العصفور استحق الإنكار، مع أنَّكم تقولون: إنه يحنث بأكل لحم العصفور؛ فثبت أنَّ العرف مضطربٌ، والرجوع إلى نصِّ القرآن متعين. النوع الثاني من منافع البحر: قوله: {وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} «الحليةُ: اسم لما يتحلَّى به، وأصلها الدَّلالةُ على الهيئة؛ كالعِمَّة والخِمرة» . «تَلْبَسُونهَا» صفة، و «مِنْهُ» يجوز فيه ما جاز في «مِنْهُ» قبل، والمراد بالحلية: اللؤلؤ والمرجان. فصل المراد: يلبسهم لبس نسائهم؛ لأنَّهن من جملتهم، ولأنَّ تزينهنَّ لأجلهم فكأنها زينتهم، وتمسك بعض العلماءِ في عدم وجوب الزكاةِ في الحليِّ المباح لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا زَكَاةَ في الحُلِيّ» . ويمكن أن يجاب على تقدير صحَّة الحديث: بأنَّ لفظ «الحُلِيّ» مفرد محلى بالألف واللام؛ فيحمل على المعهود السابق، وهو المذكور في هذه الآية، فيصير تقدير الحديث: لا زكاة في اللآلئ، وحينئذٍ يسقط الاستدلال بالحديث. النوع الثالث من منافع البحر: قوله تعالى: {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} قال أهل اللغة: مَخْرُ السَّفينةِ شقُّها الماء بصدرها. وعن الفراء: أنه صوتُ جَرْي الفلك بالرِّياحِ. إذا عرفت هذا، فقول ابن عبَّاسٍ: «مَواخِرَ» أي: جَوارِي، إنما حسن التفسير به؛ لأنها لا تشقُّ الماء إلاَّ إذا كانت جارية. وقوله تعالى: {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} يعني: لتركبوه للتجارة؛ فتطلبوا الريح من فضل الله، وإذا وجدتم فضل الله تعالى وإحسانه؛ فلعلكم تقدمون على شكره. قال القرطبي: «امتنَّ الله على الرِّجالِ والنساء امتناناً عامًّا بما يخرج من البحر، فلا يحرم عليهم شيء منه، وإنَّما حرَّم الله - تعالى - على الرجال الذهب والحرير. قال - صلوات الله وسلامه عليه - في الحرير والذهب:» هَذا حَرامٌ على ذُكورِ أمَّتِي حلٌّ لإنَاثهَا «. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 29 وروى البخاريُّ أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ اتَّخذَ خاتماً من فضَّة ونقش فيه محمَّد رسول الله» . فصل من حلف لا يلبس حلياً، فلبس لؤلؤاً لم يحنث، وهو قول أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. وقال بعض المالكية: «هذا، وإن كان الاسم اللغويُّ يتناوله فلم يقصده باليمين، والأيمان مبنية على العرف، ألا ترى أنه لو حلف لا ينام على فراش فنام على الأرض لم يحنث وكذلك لو حلف لا يستضيء بسراج، وجلس في ضوء الشمس لا يحنث، وإن كان الله سمى الأرض فراشاً والشمس سراجاً» . قوله: {وَتَرَى الفلك مَوَاخِرَ فِيهِ} ، «تَرَى» جملة معترضة بين التعليلين: وهما «لِتأكُلوا» ، «ولِتَبْتغُوا» ، وإنما كانت اعتراضاً، لأنه خطاب لواحدٍ بين خطابين لجمعٍ. و «فِيهِ» يجوز أن يتعلَّق ب «تَرَى» وأن يتعلق ب «مَوَاخِرَ» لأنها بمعنى شواقٍّ، وأن يتعلق بمحذوفٍ؛ لأنه حال من «مَواخِرَ» أو من الضمير المستكنِّ فيه. و «مَواخِرَ» جمع مَاخِرَة، والمَخْرُ: الشقُّ، يقال: مَخرتِ السَّفينةُ البَحْرَ، أي: شقَّتهُ، تَمْخرُه مَخْراً ومُخوراً، ويقال للسُّفنِ: بَناتُ مَخْرٍ وبَخْرٍ، بالميم والباء بدل منها. وقال الفراء: هُوَ صوتُ جري الفلك، وقيل: صوتُ شدَّة هُبوبِ الرِّيح، وقيل بنات مَخْر لسحاب [ينشأ] صيفاً، وامْتخَرْتَ الرِّيحَ واسْتَخْرْتَهَا: إذا استقبلتها بأنفك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 30 وفي الحديث: «اسْتَمخِرُوا الرِّيحَ وأعِدُّوا النبْلَ» يعني في الاستنجاءِ، اي: ينظر أين مجراها وهبوبها؛ فليستدبرها؛ حتَّى لا يرد عليه البول. والمَاخُورُ: الموضع الذي يباع فيه الخمر، و «تَرَى» هنا بصرية فقط. قوله {وَلِتَبْتَغُواْ} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: عطفٌ على «لِتَأكُلوا» وما بينهما اعتراضٌ كما تقدم، وهذا هو الظاهر. وثانيها: أنه عطفٌ على علَّةٍ محذوفةٍ، تقديره: لتنتفعوا بذلك ولتبتغوا، ذكره ابن الأنباري. وثالثها: أنه متعلق بفعلٍ محذوفٍ، أي: فعل ذلك لتبتغوا. وفيهما تكلُّف لا حاجة إليه. ومعنى {وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} يعني: لتركبوها للتجارة؛ لتطلبوا الرِّبْحَ من فضلِ الله، فإذا وجدتم فضل الله فلعلكم تشكرونه. قوله تعالى: {وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُم} والمقصود منه: ذكرُ بعض النعم التي خلقها الله في الأرض، وتقدم ذكر الرواسي. قوله {أَن تَمِيدَ بِكُم} أي: كراهة أن تميدَ، أو لئلاَّ تميد، أي: تتحرَّك، والميدُ: هو الاضطرابُ [والتكفؤ] ، ومنه قيل للدوار الذي يعتري راكب البحرِ: ميدٌ. قال وهب: «لما خلق الله الأرض جعلت تمورُ؛ فقالت الملائكة: إنَّ هذه غير مقرَّة أحدٍ على ظهرها، [فأصبحت] وقد أُرسيتْ بالجبالِ، فلم تدر الملائكة ممَّ خلقت الجبال؛ كالسفينة إذا ألقيت في الماءِ، فإنها تميل من جانب إلى جانب، وتضطرب، فإذا وضعت الأجرام الثقيلة فيها، استقرت على وجه الماء» . قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - وهذا مشكلٌ من وجوهٍ: الأول: أنَّ هذا التعليل؛ إمَّا أن يكون مع القولِ بأن حركاتِ هذه الأجسام بطبعها، أو ليست بطبعها؛ بل هي واقعةٌ بتحريكِ الفاعل المختارِ، أمَّا على التقدير الأول فمشكلٌ؛ لأن الأرض أثقل من الماءِ، والأثقل من الماء يغوص في الماءِ، ولا يبقى طافياً عليه، وإذا لم يبق طافياً، امتنع أن يقال: إنَّها تميلُ، وتميدُ وتضطرب، وهذا بخلاف السفينة؛ لأنها متخذة من الخشب، وفي داخل الخشب تجويفات مملوءة من الهواء، فلهذا السَّبب تبقى الخشبةُ طافية على الماء، [فحينئذ] تميل وتميد وتضطرب على وجه الماء، فإذا أرسيت بالأجرام الثقيلة، استقرت وسكنت؛ فافترقا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 31 وأمَّا على التقدير الثاني: وهو أنَّه ليس للأرض والماء طبع يوجب الثقل والرسوب، وإنَّما - الله تعالى - أجرى عادته بجعلها كذلك، وصار الماء محيطاً بالأرض لمجردِ إجراءِ العادة، وليس ههنا طبيعة للأرض، ولا للماء، توجب حالة مخصوصة، فعلى هذا التقدير؛ علَّة سكون الأرض: هي أنَّ الله - تعالى - خلق فيها السكون. وعلة كونها مائدة مضطربة: هي أنَّ الله يخلق فيها الحركة، وعلى هذا، فيفسد القول بأنَّ الأرض كانت مائدة مائلة، فخلق الله تعالى الجبال وأرساها بها؛ لتبقى ساكنة؛ لأنَّ هذا إنما يصح إذا كانت طبيعة الأرض توجبُ الميلان، وطبيعة الجبال توجبُ الإرساء، والثبات، ونحن نتكلم على تقدير نفي الطبائع الموجبة لهذه الأحوال، فثبت أن هذا التعليل مشكلٌ على كلِّ تقديرٍ. الثاني: أنَّ إرساء الأرض بالجبال إنَّما كان؛ لأجل أن تبقى الأرض على وجه الماء ساكنة من غير أن تميد وتميل، وهذا إنما يعقل إذا كان الماء الذي استقرت الأرض على وجهه واقفاً. فنقول: فما المقتضي لسكونه في ذلك الحيِّز المخصوص؟ فإن كان طبعه المخصوص أوجب وقوفه في ذلك الحيز المعين، فلم لا نقولُ مثله في الأرض؟ وهو أنَّ طبيعة الأرض المخصوصة أوجبت وقوفها في ذلك الحيِّز المعيَّن، وحينئذٍ يفسد القول بأنَّ الأرض إنما وقفت؛ بسبب أنَّ الله أرساها بالجبال، وإن كان المقتضي لسكون الماء في حيِّزه المعين، هو أنَّ الله - تعالى - سكَّن الماء بقدرته في ذلك الحيز المخصوص، فلم لا نقول مثله في سكون الأرض؟ وحينئذ يفسد هذا التعليل أيضاً. الثالث: أنَّ الأرض كلها جسم، فبتقدير أن تميل وتضطرب على وجه البحر المحيط، فلم لم تظهر تلك الحالة للناس؟ . فإن قيل: أليس أنَّ الأرض تحرِّكها البخارات المحتبسة في داخلها عند الزلزال، وتظهر تلك الحركات للناس، فبم تنكرون على من يقول: إنه لولا الجبال لتحركت الأرض، إلاَّ أنَّه - تعالى - لما أرساها بالجبال الثقالِ، لم تقو الريحُ على تحريكها؟ . قلنا: تلك البخارات احتبست في [داخل] قطعة صغيرة من الأرض، فلما حصلت الحركة في تلك القطعة الصغيرة، ظهرت تلك الحركة، فظهور تلك الحركة في تلك القطعة المعينة من الأرض يجري مجرى اختلاج يحصل في عضوٍ معينٍ من بدن الإنسانِ، أما لو تحركة كلية الأرض لم تظهر تلك الحركةُ؛ ألا ترى أنَّ الساكن في السفينة لا يحسُّ بحركة كليةِ السفينة، وإنْ كانت على أسرع الوجوه، وأقواها، فكذا ها هنا. قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والذي عندي ههنا أن يقال: ثبت بالدلائل اليقينية الجزء: 12 ¦ الصفحة: 32 أنَّ الأرض كرة، وثبت أنَّ الجبال على سطح الكرة جاريةٌ مجرى خشوناتٍ تحصل على وجه هذه الكرة. وإذا ثبت هذا فنقول: لو فرضنا أنَّ هذه الخشوناتِ ما كانت حاصلة؛ بل كانت الأرض كرة حقيقية، خالية عن الخشونات، والتضريسات - لصارت بحيث تتحركُ بالاتسدارة بأدنى سبب؛ لأنَّ الجرم البسيط المستدير: إمَّا ن يجب كونه متحركاً بالاستدارة؛ وإن لم يجب ذلك عقلاً، إلاَّ أنَّها بأدنى سبب تتحركُ على [هذا الوجه] ، فلما حصل على ظاهر سطح الكرة من الأرض هذه الجبال، وكانت الخشونات الواقعة على وجهِ الكرةِ، فكل واحدٍ من هذه الجبال إنَّما يتوجه بطبعه نحو مركز العالم، وتوجُّه ذلك الجبل نحو مركز العالم بثقله العظيم، وقوته الشديدة، يكون جارياً مجرى الوتد الذي يمنع كرة الأرض من الاستدارة، فكان تخليقُ هذه الجبال على وجه الأرض كالأوتادِ المغروزةِ في الكرة المانعة من الحركة المستديرة، فكانت مانعة للأرض من المَيْدِ، والمَيْلِ، والاضطراب، بمنى أنها منعت الأرض من الحركةِ المستديرة والله أعلم. قوله: «وأنْهَاراً» عطف على «رَواسِيَ» ؛ لأنَّ الإلقاء بمعنى الخلقِ، وادَّعى ابن عطيَّة رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّه منصوب بفعلٍ مضمرٍ، أي: وجعل فيها أنهاراً. وليس كما ذكر. وقيل: الإلقاءُ معناه الجعلُ، قال تعالى: {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا} [فصلت: 10] وقدره أبو البقاء: «وشقَّ فيها أنْهاراً» وهو مناسبٌ. واعلم أنَّه ثبت في العلوم العقليَّة، أنَّ أكثر الأنهار إنما يتفجرُ منابعها في الجبال، فلهذا [السبب] لمَّا ذكر الجبال، أتبع ذكرها بتفجير العيون والأنهار. قوله «وسُبُلاً» أي: وذلَّل، أو وجعل فيها طرقاً؛ لتهتدوا بها في أسفاركم؛ كقوله تعالى: {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} [طه: 53] إلى ما تريدون. وقوله: {وَعَلامَاتٍ} أي: وضع فيها علاماتٍ. قوله: «وبِالنَّجْمِ» متعلق ب «يَهْتَدُون» والعامة على فتح النون، وسكون الجيم، بالتوحيد، فقيل: المراد به: كوكب بعينه وهو الجَدْي أو الثُّريَّا. وقيل: بل هو اسم جنس، وقرأ ابنُ وثَّاب: بضمهما، والحسن: بضمِّ النون فقط، وعكس بعضهم النقل عنهما. فأمَّا قراءة الضمتين، ففيها تخريجان: أظهرهما: أنه جمع صريح؛ لأنَّ فعلاء يجمع على فعل؛ نحو: «سَقْقٌ وسُقُف، وزَهْر وزُهُر» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 33 والثاني: أنَّ أصله النجوم، وفعل يجمع على فعول؛ نحو: فَلْس وفُلُوس، ثم خفِّف بحذف الواو، كما قالوا: أسُد وأسُود وأسْد. قال أبو البقاء؛ «وقالوا في» خِيَام: خُيُم «يعني أنَّه نظيرهُ من حيث حذفوا فيه حرف المدِّ. وقال ابن عصفورٍ:» إنَّ قولهم: «النُّجُم» من ضرورات الشِّعر «وأنشد: [الرجز] 3306 - إنَّ الذي قَضَى بِذَا قاضٍ حِكمْ ... أن تَرِدَ الماءَ إذَا غَابَ النُّجُمْ يريد النجوم. كقوله: [الرجز] 3307 - حَتَّى إذَا بُلَّتْ حَلاقِيمُ الحُلُقْ ... يريد الحُلُوق. وأمَّا قراءة الضمِّ، والسكون، ففيها وجهان: أحدهما: أنها تخفيف من الضمِّ. والثاني: أنها لغة مستقلة. وتقديم كلِّ من الجارِّ، والمبتدأ، يفيد الاختصاص، قال الزمخشريُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:» فإن قلت: قوله تعالى: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} مختصٌّ بسفرِ البحر؛ لأنه تعالى لما ذكر صفة البحر، ومنافعه، بيَّن أنَّ من يسير فيه يهتدون بالنجم. وقال بعضهم: هو مطلقٌ في سفر البحر والبرِّ. فصل في المراد بالعلامات المراد بالعلاماتِ: معالمُ الطريق، وهي الأشياء التي يهتدى بها، وهذه العلامات هي الجبالُ والرياحُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 34 قال ابنُ الخطيب: «ورايتُ جماعة يشمُّون التراب؛ فيعرفون الطرقان بشمِّه» . قال الأخفش - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تم الكلام عند قوله: «وعَلامَاتٍ» ثم ابتدأ: {وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ} . وقال محمد بن كعبٍ القرظيِّ، والكلبيُّ - رحمهما الله -: الجبالُ علاماتُ النَّهار، والنجوم علامات الليل. قال السديُّ: أراد بالنجم: الثُّريَّا، وبنات نعش، والفرقدين، والجدي، يهتدى بها إلى الطرق، والقبلة. قال القرطبيُّ: سأل ابنُ عباس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وشرَّف وكرَّم - عن النَّجم؛ فقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «هُوَ الجَديُ عليْهِ قِبْلتكُمْ وبِهِ تَهْتَدونَ في بَرِّكُمْ وبَحْرِكُمْ» ، وذلك أنَّ آخر الجدي بناتُ نعشٍ الصغرى، والقطب الذي تستوي عليه القبلة بينهما. قوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} الآية لمَّا ذكر الدَّلائلَ الدالة على وجود الإله القادر الحكيم، أتبعه بذكر إبطال عبادة غير الله - تعالى - والمقصود أنَّه لما دلت الدلائل [القاهرة] على وجود إله قادرٍ حكيم، وثبت أنَّه هو المُولِي لجميع هذه النعم، والمعطي لكلِّ هذه الخيراتِ، فكيف يحسنُ في العقولِ الاشتغال بعبادة غيره، لا سيَّما إن كان غيره جماداً لا يفهم، ولا يعقل؟ . فلهذا قال تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ} هذه الأشياء التي ذكرناها {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} ، أي كمن لا يقدر على شيء ألبتة؛ {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} فإنَّ هذا القدر لا يحتاج إلى تدبُّر، ونظر؛ بل يكفي فيه أن تتنبهوا على ما في عقولكم، من أنَّ العبادة لا تليق إلا بالمنعم الأعظم، وأنتم ترون في الشاهد إنساناً عاقلاً فاهماً ينعم بالنعم العظيمة ومع ذلك فتعلمون أنَّ عبادته تقبح، فهذه الأصنام جمادات محضة، ليس لها فهمٌ، ولا قدرة ولا غحساس، فكيف تعبدونها؟ . قوله {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} إن أريد ب {كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} جميع ما عبد من دون الله، كان ورود «مَنْ» واضحاً؛ لأنَّ العاقل يغلب على غيره، فيعبر عن الجميع ب «مَنْ» ولو جيء أيضاً ب «ما» لجاز، وإن أريد به الأصنام، ففي إيقاع «مَنْ» عليهم أوجهٌ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 35 أحدها: إجراؤهم لها مجرى أولي العلم في عبادتهم إيَّاها، واعتقادِ أنَّها تضرُّ، وتنفع كقول الشاعر: [الطويل] 3308 - بَكيْتُ إلى سِرْبِ القَطَا إذْ مَرَرْنَ بِي ... فقُلْتُ: ومِثْلِي بالبُكَاءِ جَدِيرُ أسِرْبَ القَطَا هَلْ مَنْ يُعِيرُ جَناحَهُ؟ ... لَعلِّي إلى مَنْ قَدْ هَويتُ أطِيرُ فأوقع «مَنْ» على السرب، لمَّا عاملها معاملة العقلاء. الثاني: المشاكلة بينه وبين «مَنْ يَخْلقُ» . [الثالث: تخصيصه بمن يعلم، والمعنى: أنه إذا حصل التباين بين من يخلق] وبين «مَنْ لا يخلقُ» من أولي العلم، وأنَّ غير الخالق لا يستحقُّ العبادة ألبتة، فكيف يستقيم عبادة الجمادِ المنحطِّ رتبة، السَّاقط منزلة عن المخلوقِ من أولي العلم؛ كقوله تعالى: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ} [الأعراف: 195] إلى آخره؛ وأمَّا من يجيز إيقاع «مَنْ» على غيرِ العقلاءِ من غير شرطِ كقطرب فلا يحتاج إلى تأويل. قال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: فإن قلت: هو إلزامٌ للذين عبدوا الأوثان، ونحوها؛ تشبيهاً بالله تعالى - جلَّ ذكره - وقد جعلوا غير الخالق مثل الخالق - سبحانه لا إله إلا هو - فكان حقُّ الإلزامُ أن يقال لهم: أفمن لا يخلق كمن يخلق. قلت: حين جعلوا غير الله مثل الله عَزَّ وَجَلَّ، بتسميتهم والعبادة له، جعلوا الله من جنسِ المخلوقات، وتشبيهاً بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} . فصل في الاحتجاج بالآية احتجَّ أهل السنَّة بهذه الآية على أنَّ العبد غير خالقٍ لأفعالِ نفسه؛ لأنَّه سبحانه - عَزَّ وَجَلَّ - ميَّز نفسه عن الأشياءِ التي يعبدونها بصفة الخالقية؛ لأنَّ الغرض من قوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ} بيان تميُّزه عن الأصنام بصفة الخالقية، وأنَّه إنَّما يستحق الإلهية، والمعبوديَّة؛ لكونه خالقاً، وهذا يقتضي أنَّ العبد لو كان خالقاً لشيءٍ؛ وجب أن يكون إلهاً معبوداً، ولما كان ذلك باطلاً، علمنا أنَّ العبد لا يقدر على الخلق، والإيجاد. أجاب المعتزلة من وجوه: الأول: المراد من قوله تعالى {أَفَمَن يَخْلُقُ} ما تقدم ذكره من السماوات والأرض، والإنسان، والحيوان، والنبات، والبحار، والنجوم، والجبال، كمن لا يقدر على خلق الجزء: 12 ¦ الصفحة: 36 شيءٍ أصلاً، وهذا يقتضي أنَّ من كان خالقاً لهذه الأشياءِ؛ فإنه يكون إلهاً، ولم يلزم منه أنه إن قدر على خلق أفعال نفسه أن يكون إلهاً. الثاني: أنَّ معنى الآية: أنَّ من كان خالقاً كان أفضل ممَّن لا يكون خالقاً، فوجب امتناع التسوية بينهما في الإلهيَّة، والمعبوديَّة، وهذا القدر لا يدلُّ على انَّ كلَّ من كان خالقاً؛ فإنَّه يجب أن يكون إلهاً؛ لقوله: {أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَآ} [الأعراف: 195] . ومعناه أنَّ الذي له رجلٌ يمشي بها يكون أفضل من الذي له رجلٌ لا يمشي بها، وهذا يوجب كون الإنسان أفضل من الصَّنم، والأفضل لا يليقُ به عبادة الأخسِّ. فهذا هو المقصود من هذه الآية، ثم إنها لا تدل على أن من له رجل يمشي بها أن يكون إلهاً، فلذلك ها هنا المقصود من هذه الآية: أنَّ الخالق أفضل من غير الخالق، فيمتنع التسويةُ بينهما في الإلهية والمعبودية، ولا يلزم منه أنَّه بمجرَّد حصول صفة الخالقيَّة يكون إلهاً. الثالث: أنَّ كثيراً من المعتزلةِ لا يطلقون لفظ الخالق على العبد. قال الكعبيُّ في تفسيره: إنا لا نقول: إنا لا نخلق أفعالنا، ومن أطلق ذلك ققد أخطأ؛ إلاَّ في مواضع ذكرها الله تعالى؛ كقوله تعالى: {وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير} [المائدة: 110] ؛ وفي قوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] واعلمْ أنَّ أصحاب أبي هاشم يطلقون لفظ الخالق على العبد حقيقة؛ حتَّى إنَّ أبا عبد الله البصري بالغ وقال: إطلاق لفظ الخالق حقيقة على العبد، وعلى الله مجاز؛ لأنَّ الخلق عبارةٌ عن التقدير، وذلك عبارة عن الظنِّ، والحسبان، وهو في حقِّ العبد حاصلٌ، وفي حق الله تعالى محالٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 37 قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ} لمَّا بيَّن أنَّ الاشتغال بعبادة غير الله باطلٌ، بيَّن ههنا أنَّ العبد لا يمكنه الإتيانُ بعبادة الله، وشكر نعمه على سبيل التَّمامِ، والكمال، بل العبد وإن أتعب نفسه في القيام بالطاعاتِ، والعبادات، وبالغ في شُكْرِ نعم الله؛ فإنه يكون مقصِّراً؛ لأنَّ الاشتغال بشكر النِّعم مشترطٌ بعلمه بتلك النعم على سبيل التفصيل، فإنَّ من لا يكون متصوراً، ولا مفهوماً بمتنع الاشتغال بشكره، والعلم بنعمة الله على سبيل التفصيل غير حاصل للعبد؛ لأنَّ نعم الله كثيرة، وأقسامها عظيمة، وعقول الخلق قاصرة عن الإحاطة بمبادئها فضلاً عن غايتها، لكنَّ الطريق إلى ذلك أن يشكر الله على جميع نعمه مفصَّلها، ومجملها. ثم قال - جلَّ ذكره -: {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، «لَغَفُورٌ» لتقصيركم في شكر نعمه، « الجزء: 12 ¦ الصفحة: 37 رَحِيمٌ» بكم حيث لم يقطع نعمه عنكم لتقصيركم. قال بعضهم: إنَّه ليس لله على [الكافر] نعمةٌ. وقال الأكثرون: لله على الكافر والمؤمن نعمٌ كثيرةٌ؛ لأنَّ الإنعامَ بخلق السمواتِ، والأرض، وخلق الإنسان من نطفةٍ، والإنعام بخلق الخيلِ، والبغال والحمير، وجميع المخلوقات المذكورة للإنعام يشترك فيها المؤمن، والكافر. قوله تعالى: {والله يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} قرأ العامة «تُسِرُّونَ» و «تُعْلِنُونَ» بناء الخطاب، وأبو جعفرٍ، وشيبة بالياء من تحت، وقرأ عاصم وحده: «يَدْعُونَ» بالياء، والباقون بالتاء من فوق، وقراءة «يُدْعَونَ» مبنيًّا للمفعول، وهن واضحات، والمعنى: أنَّ الكفار كانوا مع اشتغالهم بعبادة غير الله يسرُّون ضروباً من المكر بمكايد الرسول؛ فذكر هذا زجراً لهم عنها. قوله تعالى: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} تكريرٌ؛ لأن قوله تعالى: {أَفَمَن يَخْلُقُ} يدلُّ على أنَّ الأصنام لا تخلق شيئاً. فالجواب: أنَّ الأول أنَّهم لا يخلقون شيئاً، وههنا أنَّهم لا يخلقون شيئاً، وأنهم مخلوقون كغيرهم؛ فكان هذا زيادة في المعنى. قوله «أمْوات» يجوز أن يكون خبراً ثانياً، أي: وهم يخلقون وهم أمواتٌ، ويجوز أن يكون «يُخْلَقُونَ» ، و «أمْواتٌ» كلاهما خبر من باب: هذا حُلْوٌ حَامِضٌ ذكره أبو البقاء رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر، أي: هم أمواتٌ. قوله: {غَيْرُ أَحْيَآءٍ} يجوز فيه ما تقدم ويكون تأكيداً. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون قصد بها أنهم في الحال غير أحياء؛ ليدفع به توهُّم أنَّ قوله تعالى: {أَمْوَاتٌ} فيما بعد، إذ قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ} [الزمر: 30] . قال شهابُ الدِّين: «وهذا لا يخرجه عن التأكيد الذي ذكره قبل ذلك» . فصل في وصف الأصنام اعلم أنه - تعالى - وصف الأصنام بصفات: أولها: أنها لا تخلق شيئاً. وثانيها: أنها مخلوقة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 38 وثالثها: أنهم أموات غير أحياءٍ، أي: أنها لو كانت آلهة حقيقية؛ لكانت أحياء غير أموات، أي: لا يجوز عليها الموت، كالحيِّ الذي لا يموت - سبحانه - وهذه الأصنام بالعكسِ. فإن قيل: لما قال «أمْواتٌ» علم أنَّها «غَيْرُ أحياءٍ» ، فما فائدة قوله تعالى: {غَيْرُ أحْيَاءٍ} ؟ . والجواب: أنَّ الإله هو الحيُّ الذي لا يحصل عقيب حياته موتٌ، وهذه الأصنام أموات لا يحصل عقيب موتها حياة، وأيضاً: فهذا الكلام مع عبدة الأوثان، وهم في نهاية الجهالة، ومن تكلَّم مع الجاهل الغرِّ الغبي، فقد يعبر عن المعنى الواحد، بعباراتٍ كثيرة، وغرضه الإعلام بأنَّ ذلك المخاطب في غاية الغباوة، وإنما يعيد تلك الكلمات؛ لأنَّ ذلك السامع في نهاية الجهالة، وأنه لا يفهم المعنى المقصود بالعبارة الواحدة. ورابعها: قوله: {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} والضمير في قوله: «يَشْعرُونَ» عائد على الأصنام، وفي الضمير في قوله: «يُبْعَثُونَ» قولان: أحدهما: أنه عائد إلى العابد للأصنام، أي: ما يدري الكفار عبدةُ الأصنام متى يبعثون. الثاني: أنه يعود إلى الأصنام، أي: الأصنام لا يشعرون متى يبعثها الله تعالى. قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: إنَّ الله - تعالى - يبعث الأصنام لها أرواحٌ، ومعها شياطينها، فتتبرَّأ من عابديها، فيؤمرُ بالكلِّ إلى النَّارِ. فصل هل توصف الأصنام بموت أو حياة الأصنام جمادات، والجمادات لا توصف بأنها أمواتٌ، ولا توصف بأنها لا تشعر بكذا وكذا. فالجواب من وجوه: الأول: أنَّ الجماد قد يوصف بكونه ميتاً؛ قال تعالى: {يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} [الأنعام: 95] . الثاني: أنهم لما وصفوا بالإلهيَّة قيل لهم: ليس الأمر كذلك؛ بل هي أمواتٌ، لا يعرفون شيئاً، فخوطبوا على وفق معتقدهم. الثالث: أنَّ المراد بقوله تعالى: {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله} [الملائكة] وكان أناسٌ من الكفَّار يعبدونهم؛ فقال الله تعالى: إنهم «أمْواتٌ» أي: لا بدَّ لهم من الموت «غَيْرُ أحْيَاءٍ» أي: غير باقيةٍ حياتهم، {وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ} أي لا علم لهم بوقت بعثهم. انتهى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 39 قوله تعالى: «أيَّانَ» منصوب بما بعده لا بما قبله؛ لأنَّه استفهام، وهو معلق ل «مَا يَشْعرُونَ» فجملته في محل نصب على إسقاطِ الخافض، هذا هو الظاهر. وقيل: إن «أيَّانَ» ظرف لقوله {إلهكم إله وَاحِدٌ} [النحل: 22] يعني: أنَّ الإله واحدٌ يوم القيامة، ولم يدَّع أحد [تعدُّد] الآلهةِ في ذلك اليوم، بخلاف أيَّام الدنيا، فإنه قد وجد فيها من ادَّعى ذلك، وعلى هذا فقد تم الكلام على قوله «يَشْعُرونَ» إلاَّ أنَّ هذا القول مخرجٌ ل «أيَّانَ» عن [موضوعها] ، وهو إمَّا الشرط، وإمَّا الاستفهام إلى محضِ الظرفية، بمعنى وقت مضاف للجملة بعده؛ كقولك «وقْتَ يَذهَبُ عَمرٌو مُنْطلِقٌ» ف «وَقْتَ» : منصوبٌ ب «مُنْطَلِقٌ» مضاف ل «يَذْهَبُ» . قوله تعالى : {إلهكم إله وَاحِدٌ} لما زيف طريقة عبدة الأصنام وفساد مذاهبهم، قال {إلهكم إله وَاحِدٌ} ثمَّ ذكر ما لأجله أصرَّ الكفار على الشركِ؛ فقال: {فالذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ} جاحدة {وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ} مستعظمون أي: إنَّ المؤمنين في الآخرة يرغبون بالفوز في الثواب الدائم، ويخافون العقاب الدائم، فإذا سمعوا الدلائل خافوا، وتأملوا، وتفكروا فيما يسمعون، فلا جرم ينتفعون بسماع الدلائل، ويرجعون إلى الحقِّ. وأمَّا الذين لا يؤمنون بالآخرة وينكرونها، فإنهم لا يرغبون في الثواب ولا يرهبون عن الوقوع في العقاب، فيبقون منكرين لكلِّ كلامٍ يخالف قولهم، ويستكبرون عن الرجوع إلى قول غيرهم، فيبقون مصرِّين على الجهل والضلال. قوله تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} . قد تقدم الكلام على لفظة «لا جَرمَ» في سورة هودٍ - عليه السلام - والعامة على فتح الهمزة من «أن اللهَ» ، وكسرها عيسى الثقفي رَحِمَهُ اللَّهُ، وفيها وجهان: أظهرهما: الاستئناف. والثاني: جريان «لا جرمَ» مجرى القسم فيتلقى بما يتلقى به. وقال بعض العرب: «لا جَرمَ واللهِ لا [فَارَقْتَُ] » وهذا يضعف كونها للقسم؛ لتصريحه بالقسم بعدها، وإن كان أبُو حيَّان أتى بذلك مقوِّياً لجريانها مجرى القسم. قوله: {إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين} ، أي: أنَّ إصرارهم على الكفر ليس لأجل شبهة تصوروها، بل لأجل التقليد لأسلافهم، والتَّكبُّر؛ قال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ: «لا يَدْخُل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 40 الجَنَّة مَنْ كَانَ في قَلْبهِ مِثْقَالُ ذرَّةٍ مِنْ كِبْر، ولا يدْخُلُ النَّارَ مَنْ كَانَ في قَلْبِه مِثقَالُ ذرَّةٍ من إيمانٍ، فقال رجُلٌ: يا رسُولَ الله - صلّى الله عَليْكَ - إنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أنْ يكُونَ ثَوْبهُ حَسناً، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّ الله - تعَالَى - جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ، الكِبْرُ: بَطرُ الحقِّ، وغَمْطُ البَاطلِ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 41 قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين} الآيات. لمَّا قرر دلائل التوحيد، وأبطل مذاهب عبدة الأصنام، ذكر بعد ذلك شبهات منكري النبوة مع الجواب عنها. فالشبهة الأولى: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما احتجَّ على صحة بعثته بكون القرآن معجزة؛ طعنوا فيه، وقالوا: إنه أساطير الأولين، واختلفوا في هذا القول. فقيل: هو كلام بعضهم لبعض. وقيل: قول المسلمين لهم. وقيل: قول المقتسمين الذين اقتسموا [مكَّة] ومداخل مكة؛ ينفِّرون عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا سألهم وفود الحاجِّ عمَّا أنزل الله على رسوله. قوله: «مَاذَا» تقدم الكلام عليها أول البقرة. وقال الزمخشريُّ: «أو مرفوعٌ بالابتداءِ، بمعنى أي شيء أنزله ربُّكم» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 41 قال أبو حيَّان: «وهذا غيرُ جائزٍ عند البصريِّين» . يعني: من كونه حذف عائده المنصوب، نحو «زَيْدٌ ضَربْتُ» وقد تقدم خلاف النَّاس في هذا، والصحيح جوازه، والقائم مقام الفاعل، قيل: الجملة من قوله {مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ} لأنها المقولة، والبصريون يأبون ذلك، ويجعلون القائم مقامه ضمير المصدر؛ لأنَّ الجملة لا تكون فاعلة، ولا قائمة مقام الفاعل، والفاعل المحذوف: إمَّا المؤمنون، وإما بعضهم، وإمَّا المقتسمون. وقرئ «أسَاطيرَ» بالنصب على تقدير: أنزل أساطير، على سبيل التهكُّم، أو ذكرتم أساطير. والعامة برفعه على أنَّه خبر مبتدأ مضمر فاحتمل أن يكون التقدير: المنزَّل أساطير على سبيل التَّهكُّم، أو المذكور أساطير، وللزمخشريُّ هنا عبارة [فظيعة] . قوله «لِيَحملُوا» لمَّا حكى شبهتهم قال: «لِيَحْمِلُوا» وفي هذه اللام ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنها لامُ الأمر الجازمة على معنى الحتم عليهم، والصغار الموجب لهم، وعلى هذا فقد تمَّ الكلام عند قوله: «الأوَّلِينَ» ثم استؤنف أمرهم بذلك. الثاني: أنها لام العاقبة، أي: كان عاقبة [قولهم] ذلك؛ لأنَّهم لم يقولوا أساطير ليحملوا؛ فهو كقوله تعالى: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] . قال: [الوافر] 3309 - لِدُوا لِلْمَوْتِ وابْنُوا للخَرابِ ..... ... ... ... ... ... الثالث: أنها للتعليل، وفيه وجهان: أحدهما: أنه تعليل مجازي. قال الزمخشريُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: واللام للتعليل من غير أن تكون غرضاً؛ نحو قولك «خَرجْتُ مِنَ البَلدِ مَخافَةَ الشَّرِّ» . والثاني: أنه تعليلٌ حقيقة. قال ابن عطيَّة بعد حكاية وجه لامِ العاقبةِ: «ويحتمل أن يكون صريح لام كي؛ على معنى قدِّر هذا؛ لكذا» انتهى. لكنه لم يعلِّقها بقوله «قَالُوا» إنما قدَّر لها عاملاً، وهو «قدَّر» هذا. وعلى قول الزمخشري يتعلق ب «قَالُوا» لأنها ليست لحقيقة العلَّة، و «كَامِلةً» حالٌ، والمعنى لا يخفَّف من عقابهم شيءٌ، بل يوصل ذلك العقاب بكليته إليهم، وهذا يدل على أنَّه - تعالى - قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلاً الجزء: 12 ¦ الصفحة: 42 للكل، لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفَّار بهذا التكميل فائدة. قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «أيُّمَا دَاعٍ دَعَى إلى الهُدَى، فاتُّبعَ، كَانَ لهُ مِثْلُ أجْرِ مَن اتَّبعَهُ لا يَنقصُ مِنْ أجُورِهِمْ شيءٌ، وأيُّمَا داعٍ دَعَى إلى الضَّلالِ فاتُّبعَ؛ كَان عَليْهِ وِزْرُ من اتَّبعَه لا ينقص مِنْ آثامهمْ شيءٌ» . قوله: {وَمِنْ أوْزَارِ} فيه وجهان: أحدهما: أنَّ «مِنْ» مزيدة، وهو قول الأخفش، أي: وأوزار الذين، على معنى: ومثل أوزار؛ كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «كَانَ عَليْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ منْ عَمِلَ بِهَا» . الثاني: أنها غير مزيدة، وهي للتبعيض، أي: وبعض أوزار الذين، وقدَّر أبو البقاءِ: مفعولاً حذف، وهذه صفته، أي: وأوزار من أوزار، ولا بد من حذف «مثل» أيضاً. ومنع الواحديُّ أن تكون «مِنْ» للتبعيض، قال: «لأنَّهُ يستلزم تخفيف الأوزار عن الأتباع، وهو غير جائز، لقوله - صلوات الله وسلامه عليه -:» مِنْ غَيْرِ أن يَنقُصَ مِنْ أوْزَارِهِمْ شيء «لكنها للجنس، أي: ليحملوا من جنس أوزار الأتباع» . قال أبو حيان: «والتي لبيان الجنس لا تقدَّر هكذا؛ وإنَّما تقدر الأوزار التي هي أوزارُ الذين يذلونهم فهو من حيث المعنى موافق لقول الأخفش، وإن اختلفا في التقدير» . قوله تعالى: {بِغَيْرِ عِلْمٍ} حال وفي صاحبها وجهان: أحدهما: أنه مفعول يُضِلُّونَ «أي: يضلون من لا يعلم أنهم ضلالٌ؛ قاله الزمخشريُّ. والثاني: أنه الفاعل، ورجَّح هذا بأنَّه المحدث عنه، وتقدم الكلام في إعراب نحو:» سَاء مَا يَزرُونَ «وأنَّها قد تجري مجرى بِئْسَ، والمقصود منه المبالغة في الزَّجْرِ. فإن قيل: إنه - تعالى - حكى هذه الشُّبهة عنهم، ولم يجب عنها، بل اقتصر على محض الوعيد، فما السبب فيه؟ . فالجواب: أنه - تعالى - بين كون القرآن معجزاً بطريقين: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 43 الأول: أنه - صلوات الله وسلامه عليه - تحدَّاهم تارة بكل القرآن، وتارة بعشر سورٍ، وتارة بسورةٍ واحدةٍ، وتارة بحديثٍ واحدٍ، وعجزوا عن المعارضة؛ وذلك يدل على كون القرآن معجزاً. الثاني: أنه - تعالى - حكى هذه الشُّبهة بعينها في قوله: {اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفرقان: 5] ، وأبطلها بقوله: {قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات} [الفرقان: 6] أي: أنَّ القرآن مشتملٌ على الإخبارِ عن الغيوب، وذلك لا يتأتَّى إلا ممَّن يكون عالماً بأسرار السماوات، والأرض، ولما ثبت كون القرآن معجزاً بهذين الطريقين، وتكرر شرحهما مراراً؛ لا جرم اقتصر ههنا على مجرد الوعيد. قوله تعالى: {قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ} ذكر هذه الآية مبالغة في وصف أولئك الكفار. قال بعض المفسرين: المراد بالذين من قبلهم نمرودُ بن كنعان بنى صَرْحاً عظيماً بِبَابلَ طوله خمسة آلافِ ذراع، وعرضه ثلاثة آلافِ ذراع - وقيل: فرسخاً - ورام منه الصُّعودَ إلى السماء؛ ليقاتل أهلها، فَهَبَّتْ ريحٌ وألقت رأسها في البحر، وعزَّ عليهم الباقي وهم تحته، ولما سقط الصَّرحُ تبلبلت ألسن النَّاس من الفزع يومئذ؛ فتكلموا بثلاثة وسبعين لساناً؛ فلذلك سمِّيت بابل، وكانوا يتكلمون قبل ذلك بالسريانية؛ فذلك قوله تعالى: {فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد} أي: قصد تخريب بنيانهم من أصولها. والصحيح: أنَّ هذا عامٌّ في جميع المبطلين الذين يحاولون إلحاق الضَّرر والمكر بالمحقِّين. واعلم أنَّ الإتيان ها هنا عبارةٌ عن إتيان العذاب، أي: أنهم لمَّا كفروا؛ أتاهم الله بزلزال تقلقلتْ منها بنيانهم من القواعد، والأساس؛ والمراد بهذا محض التَّمثيلِ والمعنى: أنَّهم رتبوا منصوباتٍ؛ ليمكروا بها أنبياء الله؛ فجعل هلاكهم مثل قوم بنوا بنياناً، وعمدوه بالأساطين، فانهدم ذلك البناءُ، وسقط السقف عليهم؛ كقولهم: «مَنْ حَفَرَ بِئْراً لأخِيهِ أوْقعَهُ اللهُ فِيهِ» . وقيل: المراد منه ما دل عليه الظاهر. قوله تعالى: {مِّنَ الْقَوَاعِدِ} «مِن» لابتداءِ الغايةِ، أي: من ناحية القواعد، أي: أتى أمر الله وعذابه. قوله «مِنْ فَوقِهِمْ» يجوز أن يتعلَّق ب «خَرَّ» ، وتكون «مِن» لابتداءِ الغاية، ويجوز يتعلَّق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من «السَّقف» وهي حال مؤكدة؛ إذ «السَّقفُ» لا يكون تحتهم. وقيل: ليس قوله: «مِنْ فَوقِهِمْ» تأكيدٌ؛ لأنَّ العرب تقول: «خَرَّ عَليْنَا سَقفٌ، ووقَعَ عَليْنَا حَائِطٌ» إذا كان عليه، وإن لم يقع عليه، فجاء بقوله «مِنْ فَوْقِهِم» ليخرج به هذا الذي في كلام العرب، أي: عليهم وقع، وكانوا تحته فهلكوا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 44 وهذا غير طائل، والقول بالتوكيد أظهر. وقرأ العامة: «بُنْيَانَهُمْ» ، وقوم: بُنْيَتَهُمْ، وفرقة منهم أبو جعفر: بَيْتَهُم. والضحاك: بُيوتَهُم. والعامة: «السَّقْفُ» أيضاً مفرداً، وفرقة: بفتح السِّين، وضمِّ القاف بزنة «عَضُد» وهي لغة في «السَّقفِ» ولعلَّها مخففة من المضموم، وكثر استعمال الفرع؛ لخفَّته، كقولهم في لغة تميم «رَجُلٌ» ولا يقولون: رجَُلٌ. وقرأ الأعرج: «السُّقُف» بضمتين، وزيد بن علي: بضم السين، وسكون القاف، وقد تقدم مثل ذلك في قراءة {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} [النحل: 16] ثم قال: {وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} إن حملنا الكلام على محض التمثيل؛ فالمعنى: أنَّهُمْ اعتمدوا على منصوباتهم، ثم تولَّد البلاء منها بأعيانها، وإن حملناه على الظاهر، فالمعنى: أن السَّقف نزل عليهم بغتة. ثم بين - تعالى - أن عذابهم لا يكون مقصوراً على هذه القدر، بل الله - تعالى - يخزيهم [يومَ] القيامة، والخِزْيُ: هو العذاب مع الهوانِ؛ فإنه يقول لهم: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ} . قال أبو العبَّاس المقريزيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ورد لفظ «الخِزْي» في القرآن على أربعة [معانٍ] : الأول: بمعنى العذاب؛ كهذه الآية؛ وكقوله تعالى: {وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] أي: لا تُعذِّبني. الثاني: بمعنى القَتْلِ؛ قال تعالى: {فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا} [البقرة: 85] ، أي: القتلُ. قيل: نزلت في بني قريظة، ومثله: {ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله لَهُ فِي الدنيا خِزْيٌ} [الحج: 9] أي: فضيحة. قيل: نزلت في النضر بن الحارث. الثالث: بمعنى الهوان، قال تعالى: {كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْىِ} [يونس: 98] أي الهوان. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 45 الرابع: بمعنى الفضيحة قال تعالى: {رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ} [آل عمران: 192] أي فضحته، ومثله: {وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} [الشعراء: 87] ومثله: {وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي} [هود: 78] ومثله: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض ذلك لَهُمْ خِزْيٌ} [المائدة: 33] . قوله: {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} مبتدأ وخبر، والعامة على «شُركَائِيَ» مدوداً، مهموزاً، مفتوح الياءِ، وفرقة كذلك تسكنها فتسقط وصلاً؛ لالتقاء الساكنين، وقرأ البزي - بخلاف عنه - بقصره مفتوح الياء، وقد أنكر جماعة هذه القراءة، وزعموا أنها غير مأخوذ بها؛ لأنَّ قصر الممدود لا يجوز إلاَّ ضرورة. وتعجب أبو شامة من أبي عمرٍو الدانيِّ، حيث ذكرها في كتابه؛ مع ضعفها، وترك قراءاتٍ شهيرة واضحة. قال شهاب الدِّين: «وقد روى ابن كثيرٍ - أيضاً - قصر التي في القصص، وروي عنه - أيضاً - قصرُ» وَرائِي «في مريم، وروي عنه أيضاً قَصْرُ: {أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 7] في سورة العلق، فقد روى عنه قصر بعض الممدودات، فلا يبعد رواية ذلك هنا عنه» . وبالجملة: قصر الممدود ضعيفٌ؛ ذكره غير واحدٍ؛ لكن لا يصلُ به على حدِّ الضرورة. قوله: «تُشَاقُّون» قرأ نافع: بكسر النن خفيفة، والأصل: تُشاقُّونِّي فحذفها مجتزئاً عنها بالكسرة. والباقون: بفتحها، خفيفة، ومفعوله محذوف، أي: تشاقُّون المؤمنين، أو تشاقُّون الله؛ بدليل القراءة الأولى. وضعَّف أبو حاتم هذه القراءة؛ أعني: قراءة نافع، وقرأت فرقة: بتشديدها مكسورة، والأصل: تُشَاقُّوننِي؛ فأدغم، وقد تقدم تفصيل ذلك في: {أتحاجواني} [الأنعام: 80] و {فَبِمَ تُبَشِّرُونَ} [الحجر: 54] وسيأتي في قوله تعالى: {أَفَغَيْرَ الله تأمرونيا} [الزمر: 64] . فصل قال الزجاج: قوله {أَيْنَ شُرَكَآئِيَ} ، أي: في زعمكم، واعتقادكم، ونظيره: {أَيْنَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 46 شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ} [الأنعام: 22] وحسنت هذه الإضافة لأنه يكفي في حسن الإضافة أدنى سببٍ؛ كما يقال لمن يحمل خشبة: «خُذْ طَرفَكَ، وآخُذُ طَرفِي» فأضاف الطَّرفَ إليهِ. ومعنى «تُشَاقُّونَ» أي: تعادون، وتخاصمون المؤمنين في شأنهم، والمشاقَّة: عبارة عن كون أحد الخصمين في شقٍّ، والخصم الآخر في الشق الآخر. ثم قال تعالى: {قَالَ الذين أُوتُواْ العلم} قال ابن عباسٍ: يريد الملائكة، وقال آخرون: هم المؤمنون الذين يقولون حين يرون خزي الكفار في القيامة: {إِنَّ الخزي اليوم والسواء} العذاب {عَلَى الكافرين} وفائدة هذا الكلام: أنَّ الكفار كانوا يتكبَّرون على المؤمنين في الدنيا، فإذا ذكر المؤمنون هذا الكلام يوم القيامة؛ كان هذا الكلام في إيذاء الكفار أكمل وحصول الشماتة أقوى. فصل في احتجاج المرجئة بالآية احتج المرجئة بهذه الآية على أنَّ العذاب مختصٌّ بالكافرين، [قالوا:] فإن قوله تعالى: {إِنَّ الخزي اليوم والسواء} في يوم القيامة مختص بالكافرين، ويؤكد هذا قول موسى - عليه السلام -: {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} [طه: 48] . قوله: «اليَوْمَ» منصوب ب «الخِزْيَ» وعمل المصدر فيه «ألْ» وقيل: هو منصوب بالاستقرار في {عَلَى الكافرين} إلاَّ أنَّ فيه فصلاً بالمعطوف بين العامل ومعموله؛ واغتفر ذلك؛ لأنهم يتوسَّعون في الظروف. قوله: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ} يجوز أن يكون الموصول مجرور المحلِّ؛ نعتاً لما قبله، أو بدلاً منه، أو بياناً له، وأن يكون منصوباً على الذم أو مرفوعاً عليه، أو مرفوعاً بالابتداء، والخبر قوله {فَأَلْقَوُاْ السلم} والفاء مزيدة في الخبر؛ قاله ابن عطية. وهذا لا يجيء إلاَّ على رأي الأخفش؛ في إجازته زيادة الفاء في الخبر مطلقاً؛ نحو: «زيْدٌ فقامَ» ، أي: قام، ولا يتوهم أنَّ هذه الفاء هي التي تدخل مع الموصول المضمَّن معنى الشَّرط؛ لأنَّه لو صرَّح بهذا الفعل مع أداة الشرط، لم يجز دخول الفاء عليه؛ فما ضمِّن معناه أولى بالمنع؛ كذا قاله أبو حيان، وهو ظاهر. وعلى الأقوالِ المتقدمة، خلا القول الأخير يكون «الَّذينَ» وصلته داخلاً في القول، وعلى القول الأخير، لا يكون داخلاً فيه، وقرأ «يَتوفَّاهُمُ» بالياءِ في الموضعين حمزة، والباقون: بالتاء من فوق؛ وهما واضحتان مما تقدم في قوله: {فَنَادَتْهُ الملاائكة} [آل عمران: 39] وناداه، وقرأت فرقة: بإدغام إحدى التاءين في الأخرى، وفي مصحف عبد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 47 الله: «تَوفَّاهمُ» بتاء واحدة، وهي محتملة للقراءةِ بالتشديد على الإدغام، وبالتخفيف على حذف إحدى التَّاءين. و {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} حالٌ من مفعولٍ «تَتوفَّاهُمُ» ، و «تَتوفَّاهُمُ» يجوز أن يكون مستقبلاً على بابه؛ إن كان القول واقعاً في الدنيا، وإن كان ماضياً على حكاية الحال إن كان واقعاً يوم القيامةِ. قوله «فألْقوا» يجوز فيه أوجهٌ: أحدها: أنه خبر الموصول، وقد تقدم فساده. الثاني: أن يكون عطفاً على «قَالَ الَّذِينَ» . الثالث: أن يكون مستأنفاً، والكلام قد تمَّ عند قوله: «أنْفُسهمْ» ثمَّ عاد بقوله: «فألْقَوا» إلى حكاية كلام المشركين يوم القيامة؛ فعلى هذا يكون قوله: {قَالَ الذين أُوتُواْ العلم} إلى قوله «أنْفُسهِمْ» جملة اعتراضٍ. الرابع: أن يكون معطوفاً على «تَتوفَّاهُم» قاله أبو البقاءِ. وهذا إنَّما يتمشى على أنَّ «تَتوفَّاهُم» بمعنى المضيِّ؛ ولذلك لم يذكر أبو البقاء في «تَتوفَّاهُم» سواه. قوله {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} فيه أوجهٌ: أحدها: أن يكون تفسيراً للسلم الذي ألقوه؛ لأنَّه بمعنى القول؛ بدليل الآية الأخرى: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول} [النحل: 86] قاله أبو البقاء، ولو قال: يُحْكى بما هو بمعنى القول؛ لكان أوفق لمذهبِ الكوفيِّين. الثاني: أن يكون منصوباً بقولٍ مضمرٍ، ذلك القول منصوبٌ على الحالِ، أي: فألقوا السَّلم قائلين ذلك. و «مِنْ سُوءٍ» مفعول «نَعْملُ» زيدت فيه «مِنْ» ، و «بَلَى» جوابٌ ل «مَا كُنَّا نعمل» فهو إيجابٌ له. فصل قال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: استسلموا، وأقرُّوا لله بالعبودية عند الموت، وقالوا {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} ، والمراد من هذا السوء الشِّرك، فقالت الملائكة تكذيباً لهم {بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} من التكذيب، والشرك، وقيل: تمَّ الكلام عند قوله: {ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} ثم عاد إلى حكايةِ كلام المشركين إلى يوم القيامة، والمعنى: أنَّهم يوم القيامة ألقوا السَّلم؛ وقالوا: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} على سبيل الكذب، ثمَّ ههنا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 48 اختلفوا: فالذين جوَّزوا الكذب على أهلِ القيامة قالوا: إنَّ قولهم: {مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء} لغاية الخوف، والَّذينَ لم يجوِّزوا الكذب عليهم قالوا: المعنى: ما كنَّا نعمل مِنْ سُوءٍ عند أنفسنا وفي اعتقادنا، وقد تقدَّم الكلام في قوله الأنعام: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] هل يجوز الكذب على أهل القيامة، أم لا؟ . وقوله: {بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} يحتمل أن يكون من كلام الله أو بعض الملائكة. ثم يقال لهم: {فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} وهذا يدلُّ على تفاوت منازلهم في العقاب، وصرَّح بذكر الخلود؛ ليكون الغمُّ [والحزن] أعظم. قوله: «فَلَبِئْسَ» هذه لام التأكيد؛ وإنما دخلت على الماضي لجموده وقربه من الأسماء، والمخصوص بالذم محذوفٌ، أي: جهنَّم. قوله تعالى: {وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتقوا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً} الآية. لما بين أحوال الكافرين، أتبعه ببيان أحوال المؤمنين. قال القاضي [المتقي هو:] تارك جميع المحرَّمات وفاعل جميع الواجبات. وقال غيره: المتَّقي: هو الذي يتَّقي الشرك. قوله: «خَيْراً» العامة على نصبه، أي: أنزل خيراً. قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: لِمَ رفع» أسَاطِيرُ الأولين «ونصب هذا؟ . قلت: فصلاً بين جواب المقر، وجواب الجاحد، يعني: أنَّ هؤلاء لما سئلوا لم يَتَلعْثَمُوا، وأطبقوا الجواب على السؤال بيِّناً مكشوفاً مفعولاً للإنزال ف» قَالُوا خَيْراً «أي: أنزل خيراً وأولئك عدلوا بالجواب عن السؤال، فقالوا: هو أساطير الأوَّلين، وليس هو من الإنزال في شيءٍ» . وقرأ زيد بن عليٍّ: «خَيْرٌ» بالرفع، أي: المُنزَّلُ خيرٌ، وهي مُؤيِّدة لجعل «مَاذَا» موصولة، وهو الأحسن؛ لمطابقة الجواب لسؤاله، وإن كان العكس جائزاً، وقد تقدم تحقيقه في البقرة. قوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} هذه الجملة يجوز فيها أوجه: أحدها: أن تكون منقطعة عما قبلها استئناف إخبار بذلك. الثاني: أنَّها بدلٌ من «خَيْراً» . قال الزمخشري: «هو بدلٌ من» خَيْراً «؛ حكاية لقول» الَّذينَ اتَّقوا «، أي: قالوا هذا القول فقدَّم تسميته خبراً ثمَّ حكاه» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 49 الثالث: أنَّ هذه الجملة تفسير لقوله: «خَيْراً» ، وذلك أنَّ الخير هو الوحيُ الذي أنزل الله فيه: من أحسن في الدنيا بالطاعةِ؛ فله حسنةٌ في الدنيا، وحسنةٌ في الآخرة. وقوله: {فِي هذه الدنيا} الظاهر تعلقه ب «أحْسَنُوا» ، أي: أوقعوا الحسنة في دار الدنيا، ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوفٍ على أنَّه حكاية حالٍ من «حَسنةً» ، إذ لو تأخر؛ لكان صفة لها، ويضعف تعلقه بها نفسها؛ لتقدمه عليها. فصل قال المفسرون: إنَّ أحياء من العرب كانوا يبعثون أيام الموسم من يأتيهم بخبر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فإذا جاء [سائل] المشركين الذين قعدوا على الطريق عن محمدٍ - صلوات الله وسلامه عليه - فيقولون: ساحر، وكاهن، وشاعر وكذاب، كذبوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فيأتي المؤمنين فيسألهم عن محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وما أنزل عليه؛ فيقولون «خَيْراً» ، أي أنزل خيراً، ثم ابتدأ فقال: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} أي كرامة من الله. قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هي تضعيفُ الأجر إلى العشرة. وقال الضحاك: هي النصرة والفتح. وقال مجاهدٌ: هي الرزقُ الحسن، ويحتمل أن يكون الذي قالوه من الجواب موصوف بأنه خيرٌ. وقولهم «خَيْراً» جامع لكونه حقاً وصواباً، ولكونهم معترفين بصحته، ولزومه وهذا بالضدِّ من قول الذين لا يؤمنون: إن ذلك أساطير الأولين. وتقدم الكلام على «خَيْرٌ» في سورة الأنعام في قوله تعالى: {وَلَلدَارُ الآخرة خَيْرٌ} [الأنعام: 32] . ثم قال تعالى: {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ} ، أي ولنعم دار المتقين دارُ الآخرة فحذفت؛ لسبق ذكرها. هذا إذا لم تجعل هذه الآية متصلة بما بعدها، فإن وصلتها بما بعدها قلت: {وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين جَنَّاتُ عَدْنٍ} برفع «جَنَّاتُ» على أنها اسم ل «نِعْمَ» كما تقول: نِعْمَ الدَّارُ دَارٌ يَنْزلُهَا زَيْدٌ. قوله {جَنَّاتُ عَدْنٍ} يجوز أن يكون هو المخصوص بالمدح؛ فيجيء فيها ثلاثة أوجهٍ: رفعها بالابتداءِ، والجملة المتقدمة خبرها. أو رفعها بالابتداءِ، والخبر محذوف؛ وهو أضعفها، وقد تقدم تحقيق ذلك. ويجوز أن يكون «جَنَّاتُ عَدنٍ» خبر مبتدأ مضمرٍ لا على ما تقدم، بل يكون المخصوص [بالمدح] محذوفاً؛ تقديره: ولنعم دارُ المتقين دارهم هي جنات. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 50 وقدره الزمخشري: {ولنِعْمَ دارُ المتَّقِينَ دَارُ الآخرة} «ويجوز أن يكون مبتدأ، والخبر جملة، من قوله» يَدْخُلونهَا «ويجوز أن يكون الخبر مضمراً، تقديره: لهم جنَّات عدنٍ، ودلَّ على ذلك قوله: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ} . والعامة على رفع» جَنَّات «على ما تقدم، وقرأ زيد بن ثابت، والسلميُّ» جَنَّاتِ «نصباً على الاشتغالِ بفعلٍ مضمرٍ، تقديره: بدخُلونَ جنَّاتِ عدْنٍ يَدخُلونهَا، وهذا يقوي أن يكون» جَنَّاتُ «مبتدأ، و» يَدْخُلونهَا «الخبر في قراءةِ العامَّة، وقرأ زيد بن عليٍّ:» ولنِعْمَتْ «بتاءِ التأنيث، مرفوعة بالابتداء و» دَارِ «خفض بالإضافة، فيكون» نِعْمَت «مبتدأ و» جَنَّات عَدْنٍ «الخبر. و» يدخلونها «في جميع ذلك نصب على الحال، إلا إذا جعلناه خبراً ل» جنات «، وقرأ نافع في رواية:» يُدخَلُونهَا «بالياء من تحت؛ مبنياً للمفعول. وقرأ أبو عبد الرحمن:» تَدْخُلونهَا «بتاء الخطاب مبنياً للفاعل. قوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} يجوز أن يكون منصوباً على الحال من» جَنَّاتُ «قاله ابن عطيَّة، وأن يكون في موضع الصفة ل» جنَّات «قاله الحوفيُّ، والوجهان مبنيَّان على القول في» عَدْنٍ «هل هي معرفة؛ لكونه علماً، أو نكرة؟ فقائل الحال: لحظ الأول، وقائل النَّعتِ: لحظ الثاني. قوله: {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ} الكلام في هذه الجملة، كالكلام في الجملة قبلها، والخبر إمَّا» لَهُمْ «وإمَّا» فِيهَا «. قوله:» كَذلِكَ «الكاف في محل نصب على الحال من ضمير المصدر؛ أو نعتاً لمصدرٍ مقدَّر، أو في محل رفع خبر المبتدأ مضمر، أي: الأمر كذلك و {يَجْزِي الله المتقين} مستأنف. فصل قال الحسن: دار المتقين هي الدُّنيَا؛ لأنَّ أهل التَّقوى يتزوَّدون فيها للآخرة. وقال أكثرُ المفسرين: هي الجنَّة، ثم فسرها فقال: {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} فقوله» جَنَّاتُ عدْنٍ «يدلُّ على القصور، والبساتين، وقوله:» عَدْنٍ «يدل على الدَّوامِ، وقوله: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} يدل على أنه حصل هناك أبنية يرتفعون عليها، والأنهار جارية من تحتهم، {لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ} من كلِّ الخيراتِ، {كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين} أي: هذا جزاء التَّقوى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 51 ثم وصف المتقين فقال: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة طَيِّبِينَ} وهذا مقابلٌ لقوله {الذين تَتَوَفَّاهُمُ الملائكة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} [النحل: 28] . وقوله:» طَيِّبِينَ «كلمة مختصرة جامعة لمعان كثيرة؛ فيدخل فيها إتيانهم بالمأموراتِ، واجتنابهم عن المنهيات، واتصافهم بالأخلاق الفاضلة، وبراءتهم عن الأخلاق المذمومة. وأكثر المفسرين يقول: إن هذا التَّوفي قبض الأرواح. وقال الحسن: إنه وفاةُ الحشر؛ لقوله بعد {ادخلوا الجنة} واحتج الأولون بأن الملائكة لما بشروهم بالجنة، صارت الجنة كأنها دارهم، فيكون المراد بقوله: {ادخلوا الجنة} أي: خاصة لكم، «يَقُولونَ» يعني الملائكة: «سَلامٌ عَلَيْكُم» وقيل: يُبلِّغونَهم سلام الله. قوله: {الذين تَتَوَفَّاهُمُ} يحتمل ما ذكرناه فيما تقدم، وإذا جعلنا «يَقُولون» خبراً فلا بدَّ من عائدٍ محذوفٍ، أي: يقولون لهم، وإذا لم نجعله خبراً، كان حالاً من الملائكة؛ فيكون «طَيِّبينَ» حالاً من المفعول، و «يَقُولُونَ» حالاً من الفاعل، وهي يجوز أن تكون حالاً مقارنة، أي: كان القول واقعاً في الدنيا، ومقدرة إن كان واقعاً في الآخرة. ومعنى «طَيِّبينَ» ، أي ظاهرين من الشرك، وقيل: صالحين، وقيل: زاكية أعمالها وأقوالهم، وقيل: طيِّبي الأنفس؛ ثقة بما يلقونه من ثواب الله - تعالى - وقيل: طيبة نفوسهم، بالرجوع إلى الله، وقيل: طيِّبين، أي: يكون وفاتهم طيبة سهلة. و «ما» في «بِمَا» مصدرية، أو بمعنى الذي؛ فالعائد محذوف. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 52 قوله تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ} الآية. هذه شبهة ثانية لمنكري النبوة؛ فإنهم طلبوا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن ينزل الله ملكاً من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 52 السماء؛ يشهد على صدقه في ادِّعاء النبوة؛ فقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ} في التصديق بنبوتك {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الملائكة} شاهدين بذلك، ويحتمل أنَّ القوم لما طعنوا في القرآن بقولهم: {أَسَاطِيرُ الأولين} وذكر أنواع التهديد، والوعيد، ثم أتبعه بذكر الوعد لمن وصف القرآن بكونه خيراً، عاد إلى بيان أنَّ أولئك الكفار لا ينزجرون عن كفرهم، وأقوالهم الباطلة بالبيانات التي ذكرناها، إلا إذا جاءتهم الملائكة بالتهديد، أو أتاهم أمر ربِّك، وهو عذاب الاستئصال، وعلى كلا التقديرين قال تعالى: {كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ} ، أي: أفعال هؤلاء، وكلامهم يشبهُ كلام الكفار المتقدمين وأفعالهم، وتقدم الكلام على قوله: {إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملاائكة} [الأنعام: 158] في آخر الأنعام، وأنَّ الأخوين يقرآن بالياء من تحت، والباقين بالتاء من فوق، وهما واضحتان؛ لكونه تأنيثاً مجازيًّا. قوله: {وَمَا ظَلَمَهُمُ الله} بتعذيبه إياهم، فإنه أنزل بهم ما استحقوه بكفرهم {ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} أي ولكنهم ظلموا أنفسهم؛ بكفرهم، وتكذيبهم الرسل. {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ} أي: عقاب سيئات ما عملوا، فقوله: «فأصَابَهُمْ» عطف على «فَعلَ الَّذينَ» وما بينهما اعتراضٌ، «وَحَاقَ» نزل «بِهِمْ» على وجه الإحاطة بجوانبهم، {مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} أي: عقاب استهزائهم. قوله تعالى: {وَقَالَ الذين أَشْرَكُواْ لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا} الآيات. هذه شبهة ثالثة لمنكري النبوة لأنهم تمسكوا بالقول بالجبر على الطَّعن في النبوة؛ فقالوا: لو شاء الله الإيمان، لحصل لنا سواء جئت، أو لم تجئ، ولو شاء الكفر لحصل الكفر، جئت أو لم تجئ، فالكلُّ من الله، ولا فائدة في مجيئك ولا في إرسالك وهذا غير ما حكاه الله عنهم في سورة الأنعام في قوله: {سَيَقُولُ الذين أَشْرَكُواْ} [الأنعام: 148] . واستدلال المعتزلة به، مثل استدلالهم بتلك الآية، والكلام فيه استدلال واعتراض عين ما تقدم هناك، فلا فائدة، ولا بأس بأن نذكر منه القليل، فنقول: الجواب عن هذه الشبهة هي: أنَّهم قالوا: لما كان الكل من الله - تعالى - كانت بعثة الأنبياء عبثاً؛ فنقول: هذا اعتراضٌ - على الله - تعالى فإن قولهم: إذا لم يكن في بعثة الرسول مزيد فائدة في حصول الإيمان، ودفع الكفر؛ كانت بعثة الأنبياءِ غير جائزة من الله - تعالى -. فهذا القول جارٍ مجرى طلب العلةِ في أحكام الله - تعالى - وفي أفعاله، وذلك باطل؛ بل الله تعالى يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد، ولا يعترض عليه في أفعاله. وقال بعضُ المتكلمين والمفسرين: إنهم ذكروا هذا الكلام استهزاء؛ كقول قوم شعيبٍ: {إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد} [هود: 87] ولو قالوا ذلك اعتقاداً لكانوا مؤمنين. قوله: {فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين} قالت المعتزلة: إنه - سبحانه وتعالى - ما منع أحداً من الإيمان، وما أوقعه في الكفر، والرسل ليس عليهم إلا التبليغُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 53 وأهل السنة قالوا: معناه أنه - تعالى - أمر الرسول بالتبليغ فوجب عليهم، فأمَّا أن الإيمان هل يحصل، أو لا يحصل؟ فذلك لا يتعلق بالرسولِ - صلوات الله وسلامه عليه - ولكنه تعالى يهدي من يشاءُ بإحسانه، ويضل من يشاء بخذلانه، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} فإنه يدلُّ على أنه - تعالى - كان أبداً في جميع الأمم؛ آمراً بالإيمان، وناهياً عن الكفر. ثم قال: {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة} أي: فمنهم من هداه الله إلى الإيمان، ومنهم من أضله عن الحق، وأوقعه في الكفر، وهذا يدلُّ على أنَّ أمر الله لا يوافق إرادته؛ بل قد يأمر بالشيء ولا يريده، وينهى عن الشيء وييده، وقد تقدم تأويلات المعتزلةِ، وأجوبتهم مراراً. والطاغوتُ: كل معبودٍ من دون الله، وقيل: اجتنبوا الطَّاغوت: أي طاعة الشيطان. قوله: {أَنِ اعبدوا الله} يجوز في «أنْ» أن تكون تفسيرية؛ لأنَّ البعث يتضمن قولاً، وأن تكون مصدرية، أي: بعثناه بأن اعبدوا. قوله: {فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة} يجوز في «مَنْ» الأولى أن تكون نكرة موصوفة، والعائد على كلا التقديرين محذوف من الأول، وقوله «حقَّتْ» يدل على صحة مذهب أهل السنةِ؛ لأنَّه تعالى لمَّا أخبر عنه أنَّه حقت عليه الضلالة، امتنع أن لا يصدر منه الضلالة، وإلاَّ لانقلب خبر الله تعالى الصدق كذباً، وهو محال؛ ويؤيده قوله: {فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة} [الأعراف: 30] ، وقوله: {إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ} [يونس: 96] وقوله: {لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ} [يس: 7] ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين} أي: مآل أمرهم، وخراب منازلهم بالعذاب، والهلاك؛ فتعتبروا، ثم أكد أنَّ من حقت عليه الضلالة؛ فإنه لا يهتدي؛ فقال تعالى: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} أي: تطلب بجهدك ذلك؛ {فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ} . قوله {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} قرأ العامة بكسر الراء، مضارع حرص بفتحها، وهي اللغة الغالبة لغة الحجاز. وقرأ الحسن، وأبو حيوة: «تَحْرَص» بفتح الراء، مضارع حرص بكسرها، وهي لغة لبعضهم، وكذلك النخعيُّ: إلاَّ أنه زاد واواً قبل: «إنْ» فقرأ: «وإنْتحرصْ» . قوله: «لا يَهْدِي» قرأ الكوفيون بفتح الياءِ، وكسر الدَّال، وهذه القراءة تحتمل وجهين: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 54 أحدهما: أن يكون الفاعل ضميراً عائداً على الله - تعالى - أي: لا يهدي الله من يضله؛ ف «مَنْ» مفعول «يَهْدِي» ؛ ويؤيده قراءة أبي: «فإنَّ الله لا هَادِي لمَنْ يضلُّ ولمَنْ أضلَّ» وأنه في معنى قوله: {مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ} [الأعراف: 186] . والثاني: أن يكون الموصول هو الفاعل، أي: لا يهدي المضلين، و «يَهْدي» يجيء في معنى يهتدي، يقال: هداهُ فهدى، أي: اهتدى. ويؤيد هذا الوجه: قراءة عبد الله «يَهِدِّي» بتشديد الدال المكسورة، والأصل يهتدي؛ فأدغم. ونقل بعضهم في هذه القراءة كسر الهاء على الإتباع، وتحقيقه ما تقدم في يونس، والعائد على «مَنْ» محذوف، أي: الذي يضله الله. والباقون «لا يُهْدَى» بضمِّ الياء، وفتح الدال، مبنيًّا للمفعول، و «مَنْ» قائم مقام فاعله، وعائده محذوف أيضاً. وجوَّز أبو البقاء: أن تكون «مَنْ» مبتدأ، و «لا يَهْدِي» خبره - يعني - تقدم عليه. وهذا خطأ؛ لأنه متى كان الخبر فعلاً رافعاً لضميرٍ مستترٍ وجب تأخيرهُ نحو: «زيْدٌ لا يَضْرِب» ، ولو قدمت لالتبس بالفاعل. وقرئ «لا يُهْدِي» بضم الياء وكسر الدال. قال ابن عطية - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وهي ضعيفة» . قال ابن حيَّان: «وإذا ثبت أن» هَدَى «لازم بمعنى اهتدى، لم تكن ضعيفة؛ لأنه أدخل همزة التعدية على اللازم، فالمعنى لا يجعل مهتدياً من أضله الله» . وقوله تعالى: «ومَا لَهُمْ» حمل على معنى «مَنْ» فلذلك جمع. وقرئ: «مَنْ يَضِلُّ» بفتح الياء من «ضَلَّ» أي: لا يهدي من ضل بنفسه {وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ} ، أي: [ما يقيهم] من العذاب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 55 قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} الآية هذه شبهة رابعة لمنكري النبوة، وهو قولهم: بأنَّ الحشر، والنشر، باطلٌ، لأن هذه البِنْيَة إذا مات صاحبها، وتفرقت أجزاؤه، امتنع عوده بعينه، وإذا بطل القول بالبعث، بطل القول بالنبوة من وجهين: الأول: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو إلى تقرير القول بالمعاد، وهو باطل؛ فيكون داعياً إلى الباطل؛ ومن كان كذلك لم يكن رسولاً. والثاني: أنه يقرر نبوة نفسه، ووجوب طاعته؛ بناء على الترغيب في الثواب والترهيب من العقاب، وإذا بطل ذلك، بطلت نبوته. فقوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} . معناه: أنهم كانوا يدعون العلم الضروريَّ بأن الشيء إذا فني وعدم، فإنه لا يعود بعينه، وأن عوده بعينه محال في بديهة العقل. وأمَّا بيان أنَّه لما أبطل القول بالبعث بطل القول بالنبوة، فلم يصرِّحوا به، فتركوه، لأنَّه كلام متبادر إلى العقول، ثمَّ إنه تعالى بيَّن أنَّ القول بالبعث ممكن؛ فقال: «بَلَى وعْداً عليْهِ حَقًّا» أي حق على الله التمييز بين المطيع، والعاصي، وبين المحق، والمبطل، وبين المظلوم، والظالم؛ وهو قوله تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ} وسيأتي بيان تقرير هذه الطريقة في سورة «يس» إن شاء الله تعالى، ثم بين إمكان الحشر، والنشر؛ بأن كونه - تعالى - موجداً للأشياء، لا يتوقف على سبق مادة، ولا مدة، ولا آلة؛ وهو تعالى إنما يكونها بقوله: «كُنْ» . فقال: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} وكما أنه قدر على ابتداء إيجاده؛ وجب أن يكون قادراً على إعادته. قوله: «وأقْسَمُوا» ظاهره أنه استئناف خبر، وجعله الزمخشريُّ نسقاً على «وقَالَ الَّذِينَ أشْرَكُوا» إيذاناً بأنهما كفرتان عظيمتان، وقوله «بَلَى» إثبات لما بعد النفي. قوله «وعْداً عَليْهِ حقًّا» هذان المصدران منصوبان على المصدر المؤكد، أي: وعد ذلك وعداً وحق حقًّا. وقيل: «حقًّا» نعت ل «وعْداً» والتقدير: بلى يبعثهم، وعد بذلك وعداً حقًّا. وقرأ الضحاك: «وعْد عَليْهِ حَقٌّ» برفعهما؛ على أنَّ «وعْدٌ» خبر مبتدأ مضمر، أي: بلى يبعثهم وعد على الله، و «حَقٌّ» نعت ل «وعْدٌ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 56 قوله: «لِيُبَيِّنَ» هذه اللام متعلقة بالفعل المقدَّر بعد حرف الإيجاب، أي: بلى يبعثهم، ليبيَّن، وقوله «كُنْ فَيكُونُ» تقدم في البقرة، «واللام» في «لِشيْءٍ» وفي «لَهُ» لام التبليغ؛ كهي في قوله قلت لهُ قُمْ فقَامَ، وجعلها الزجاج للسبب فيهما، أي: لأجل شيء أن يقول لأجله، وليس بواضح. وقال ابن عطية: «وقوله» أنْ نَقُولَ «ينزَّل منزلة المصدر، كأنه قال: قولنا؛ ولكن» أنْ «مع الفعل تعطي استقبالاً ليس في المصدر في أغلب أمرها، وقد يجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن؛ كهذه الآية؛ وكقوله - سبحانه وتعالى -: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ} [الروم: 25] إلى غير ذلك» . قال أبو حيَّان: وقوله: «ولكن» أنْ «مع الفعل يعني المضارع» وقوله: «في أغلب أمرها» ليس بجيدٍ؛ بل تدل على المستقبل في جميع أمورها، وقوله: «قد تجيء ... إلى آخره» لم يفهم ذلك من دلالة «أنْ» وإنما فهم من نسبة قيام السماءِ، والأرض بأمر الله؛ لأنه يختصُّ بالمستقبل دون الماضي في حقه - تعالى -. ونظيره: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [الأحزاب: 5] فكان تدلُّ على اقتران مضمون الجملة بالمزمن الماضي، وهو - سبحانه وتعالى - متَّصف بذلك في كل زمان. قوله «قَولُنَا» مبتدأ، و «أن نقُول» خبره، و «كُنْ فَيكُونُ» : «كُنْ» من «كَانَ» التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، أي: إذا أردنا حدوث شيء، فليس إلاَّ أن نقول له احدث فيحدث عقيب ذلك من غير توقفٍ. وقرأ ابن عامر، والكسائي «فيكون» بنصب النون، والباقون بالرفع. قال الفراء: ولقراءة الرفع وجهها: أن يجعل قوله «أن نقُول له» كلاماً تاماً، ثم يخبر عنه بأنه سيكون، كما يقال: «إنَّ زَيْداً يَكْفيهِ إنْ أمِرَ فيَفْعَلُ» برفع قولك «فَيَفْعَلُ» على أن تجعله كلاماً مبتدأ. وأما وجه القراءة الأولى: فأن تجعله عطفاً على «أن نَقُول» والمعنى: أن نقول كن فيكون. هذا قول الجمهور. وقال الزجاج: «ويجوز أن يكون نصباً على جواب» كُنْ «» . ويجاب بأن قوله كُنْ وإن كانت على لفظ الأمر، فليس القصد به ههنا الأمر، إنما هو - والله أعلم - الإخبار عن كون الشيء وحدوثه، وإذا كان كذلك بطل قوله: إنه نصب على جواب «كُنْ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 57 فإن قيل: قوله «كُنْ» إن كان خطاباً مع المعدون؛ فهو محالٌ، وإن كان خطاباً مع الموجود، كان أمراً بتحصيل الحاصل؛ وهو محالٌ. فالجواب: أن هذا تمثيل لنفي الكلام والمعاياة وخطاب مع قوم يعقلون ليس هو خطاب المعدوم؛ ولأن ما أراده فهو كائن على كُلِّ حالٍ، وعلى ما أراده من الإسراعِ، ولو أراد خلق الدنيا، والآخرة بما فيهما من السماوات، والأرض، في قدر لمحِ البصر لقدر على ذلك؛ ولكن خاطب العباد بما يعقلون. فصل في دلالة الآية على قدم كلام الله دلت هذه الآية على قدم القرآن؛ لأنَّ قوله تعالى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فلو كان قوله حادثاً؛ لافتقر إحداثه إلى أن يقول له: كن فيكون، وذلك يوجب التسلسل؛ وهو محال؛ فثبت أنَّ كلام الله قديمٌ. قال ابن الخطيب: وهذا الدليل عندي ليس بالقوي من وجوه: أحدها: أنَّ كلمة «إذَا» لا تفيد التكرار؛ لأن الرجل إذا قال لامرأته: «إذا دخَلْتِ الدَّارَ فأنْتِ طالقٌ» فدخلت الدَّار مرة واحدة طلِّقت واحدة، ولو دخلت ثانياً لم تطلَّق طلقة ثانية، فعلمنا أنَّ ذلك لا يفيد التكرار؛ وإذا كان كذلك ثبت أنَّه لا يلزم من كل ما يحدثه الله تعالى أن يقول له: كن فيكون، فلم يلزم التَّسلسلُ. وثانيها: أن هذا الدليل إن صح، لزم القول بقدم لفظ «كُنْ» وهذا معلوم البطلان بالضرورة؛ لأنَّ لفظة «كُنْ» مركبة من الكاف والنُّون، وعند حصول الكاف لم تكن النون حاضرة، وعند مجيء النون تفوت الكاف، وهذا يدلُّ على أنَّ لفظة «كُنْ» يمتنع كونها قديمة، وإنَّما الي يدعي أصحابنا قدمه صفة [مغايرة] للفظ: «كُنْ» فالذي تدل عليه الآية لا يقول به أصحابنا، والذي يقولون به لا تدلُّ عليه الآية؛ فسقط التمسك به. ثالثها: أنَّ الرجل إذا قال: إنَّ فلاناً لا يقدم على قولٍ، ولا على فعل، إلا ويستعين فيه بالله كان عاقلاً؛ لأنا نقول إن استعانته بالله فعل من أفعاله؛ فيلزم أن يكون كل استعانةٍ مسبوقةٍ باستعانة أخرى إلى غير نهاية؛ وهذا كلام باطل بحسب العرف؛ فكذلك ما قالوه. ورابعها: أنَّ هذه الآية مشعرة بحدوث الكلام من وجوه: الأول: أن قوله تعالى {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ} يقتضي كون القول واقعاً بالإرادة؛ فيكون محدثاً. الثاني: أنه علق القول بكلمة «إذَا» وهي إنَّما تدخل للاستقبال. الثالث: أن قوله تعالى: {أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} لا خلاف أنَّ ذلك ينبئُ عن الاستقبال. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 58 الرابع: أن قوله «كن فَيكُونُ» كلمة مقدمة على حدوثِ الكونِ بزمان واحدٍ، والمتقدم على المحدث بزمان واحد؛ يجب أن يكون محدثاً. الخامس: أنه معارض بقوله تعالى: {وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً} [الأحزاب: 37] و {وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً} [الأحزاب: 38] و {الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث} [الزمر: 23] و {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} [الطور: 24] و {وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً} [الأحقاف: 12] فإن قيل: فهب أنَّ هذه الآية لا تدل على قدم الكلام لكنكم ذكرتم أنَّها تدل على حدوث الكلام، فما الجواب عنه؟ . قلنا: نصرف هذه الدلائل إلى الكلام المسموع الذي هو مركب من الحروف، والأصوات، ونحن نقول بكونه محدثاً. قوله: {والذين هَاجَرُواْ فِي الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} الآية. لما حكى عن الكفَّار أنَّهم أقسموا بالله جهد أيمانهم، على إنكار البعث، دلَّ ذلك على تماديهم في الغيِّ والجهل، ومن هذا حاله، لا يبعد إقدامه على إيذاء المسلمين؛ بالضَّرب، وغيره من العقوبات؛ وحينئذ يلزم على المؤمنين أن يهاجروا عن ديارهم، ومساكنهم فذكر - تعالى - في هذه الآية حكم تلك الهجرة، وبيَّن ما للمهاجرين من الحسنة في الدنيا والآخرة؛ من حيث هاجر، وصبر، وتوكَّل على الله - عَزَّ وَجَلَّ - وذلك ترغيبٌ لغيرهم في طاعة الله - عَزَّ وَجَلَّ -. قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: نزلت هذه الآية في صهيب، وبلال، وعمار، وخبَّاب، وعابس، وجبير، وأبي جندل بن سهيل، أخذهم المشركون بمكة فجعلوا يعذبونهم؛ ليردوهم عن الإسلام، فأما صهيب فقال لهم: أنا رجل كبيرٌ إن كنت لكم لم أنفعكم، وإن كنت عليكم لم أضركم؛ فافتدى منهم بماله، فلما رآه أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: رَبِحَ البيعُ يا صهيب، وقال عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «نِعْمَ الرَّجلُ صهيبٌ، لوْ لَمْ يَخفِ الله لَمْ يَعْصِه» ، يريد لو لم يخلق الله النار لأطاعه. وقال قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هم أصحاب النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ظلمهم أهل مكة، وأخرجوهم من ديارهم؛ حتَّى لحق طائفة منهم بالحبشة، ثم بوَّأهم الله المدينة بعد ذلك؛ فجعلها لهم دار هجرة، وجعلهم أنصاراً للمؤمنين، وبسبب هجرتهم ظهرت قوة الإسلام، كما أن نصرة الأنصار قوَّت شوكتهم، ودل عليه قوله تعالى: {والذين هَاجَرُواْ فِي الله} على أنَّ الهجرة إذا لم تكن لله، لم يكن لها موقع، وكانت بمنزلة الانتقال من بلدٍ إلى بلد. قوله: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} الآية هذه شبهة رابعة لمنكري النبوة، وهو قولهم: بأنَّ الحشر، والنشر، باطلٌ، لأن هذه البِنْيَة إذا مات صاحبها، وتفرقت أجزاؤه، امتنع عوده بعينه، وإذا بطل القول بالبعث، بطل القول بالنبوة من وجهين: الأول: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدعو إلى تقرير القول بالمعاد، وهو باطل؛ فيكون داعياً إلى الباطل؛ ومن كان كذلك لم يكن رسولاً. وقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ} أي أنهم كانوا مظلومين في أيدي الكفار. قوله: «حَسنَةً» فيها أوجه: أحدها: أنها نعتٌ لمصدر محذوف، أي: تبوئة حسنة. الثاني: أنها منصوبة على المصدر الملاقي لعامله في المعنى؛ لأنَّ معنى {لَنُبَوِّئَنهُمْ «لنحسنن إليهم. الثالث: أنها مفعول ثانٍ؛ لأن الفعل قبلها مضمن لمعنى لنعطينهم، و» حَسَنةً «صفة لموصوف محذوفٍ، أي: داراً حسنة؛ وفي تفسير الحسن: دار حسنة وهي المدينة على ساكنها - أفضل الصلاة والسلام -. وقيل: تقديره: منزلة حسنة، وهي الغلبة على أهل المشرق. وقيل: حسنة بنفسها هي المفعول من غير حذف موصوف. وقرأ أمير المؤمنين، وابن مسعود، ونعيم بن ميسرة:» لنُثوينَّهُمْ «بالثاء المثلثة والياء، مضارع أثوى المنقول بهمزة التعدية من» ثَوَى بالمكان «أقام فيه وسيأتي أنَّه قرئ بذلك في السبع في العنكبوت، و» حَسنَةً «على ما تقدم. ويريد أنه يجوز أن يكون على نزع الخافض أي «في حَسَنة» والموصول مبتدأ، والجملة من القسم المحذوف وجوابه خبره، وفيه ردٌّ على ثعلب؛ حيث منع وقوع جملة القسم خبراً. وجوَّز أبو البقاء في: « الجزء: 12 ¦ الصفحة: 59 الَّذينَ» النصب على الاشتغالِ بفعلٍ مضمر، أي: لنبوأنَّ الذين. ورده أبو حيان: بأنه لا يجوز أن يفسر عاملاً، إلا ما جاز أن يعمل، وإن قلت «زَيْداً لأضْربنَّ» لم يجز، فكذا لا يجوز «زَيْداً لأضْربنَّه» . قوله: {لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ} يجوز فيه أن يعود الضمير على الكفار، أي: لو كانوا يعلمون ذلك لرجعوا مسلمين. أو على المؤمنين، أي: لاجتهدوا في الهجرة والإحسان كما فعل غيرهم. فصل: الإحسان عند الإعطاء روي أنَّ عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاء يقول: خُذه بَاركَ الله لَكَ فِيهِ، هذا ما وَعدكَ الله في الدُّنيَا وما ادَّخرَ لَكَ في الآخرةِ أفضلُ، ثم تلا هذه الآية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 60 وقيل: المعنى: لنحسنن إليهم في الدنيا. وقيل: الحسنة في الدنيا التوفيق والهداية. قوله تعالى: {الذين صَبَرُواْ} محلُّه رفعٌ على أنه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: هم الذين صبروا، أو نصب على تقدير أمدح، ويجوز أن يكون تابعاً للموصول قبله نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً فمحله محله. والمعنى: أنَّهم صبروا على العذاب، وعلى مفارقة الوطن، وعلى الجهاد، وبذل الأموال، والأنفس في سبيل الله. قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً} الآية هذه الآية شبهة خامسة لمنكري النبوة، كانوا يقولون: الله أعلى، وأجلُّ من أن يكون رسوله واحداً من البشر؛ بل لو أراد بعثة رسولٍ غلينا كان يبعث ملكاً، وتقدم تقريرُ هذه الشبهة في سورة الأنعام؛ فأجاب الله عن هذه الشبهة بقوله: {نوحي إِلَيْهِمْ} والمعنى: أنَّ عادة الله من أول زمان التكليف لم يبعث رسولاً إلاَّ من البشر، وهذه العادة مستمرةٌ، فلا يلتفت إلى طعن هؤلاء الجهال. ودلت هذه الآية على أنه ما أرسل أحداً من النساءِ، ودلت على أنه ما أرسل أحداً من النساءِ، ودلت على أنه - تعالى - ما أرسل ملكاً، إلاَّ أن ظاهر قوله تعالى: {جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً} [فاطر: 1] يدل على أن الملائكة رسل الله إلى سائر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، ثم قال الله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر} . قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يريد أهل التوراة، ويدل عليه قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر} [الأنبياء: 105] يعني التوراة. وقال الزجاج: معناه سلوا كلَّ من يذكر بعلم وتحقيق. واختلف الناس في أنه هل يجوز للمجتهد تقليد المجتهد؟ منهم من أجازه محتجاً بهذه الآية؛ فقال: لمَّا لم يكن أحد المجتهدين عالماً، وجب عليه الرجوع إلى المجتهد العالم بالحكم؛ لقوله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر إنْ كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فإن لم يجب؛ فلا أقل من الجواز. واحتج نفاة القياس بهذه الآية فقالوا: المكلف إذا نزلت به واقعة، فإن كان عالماً بحكمها، لم يجز له القياس، وإن لم يكن عالماً بحكمها، وجب عليه سؤال من كان عالماً بها؛ لظاهر هذه الآية، ولو كان القياس حجة، لما وجب عليه سؤال العالم؛ لأنه يمكنه استنباط ذلك الحكم بالقياس، فثبت أن تجويز العمل بالقياس يوجب ترك العمل بظاهر هذه الآية؛ فوجب أن لا يجوز. والجواب: أنه ثبت جواز العمل بالقياس بإجماع الصحابة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - فالإجماع أقوى من هذا الدليل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 61 قوله «بِالبَيِّناتِ» فيه ثمانية أوجه: أحدها: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه صفة ل «رِجَالاً» فيتعلق بمحذوفٍ، أي رجالاً ملتبسين بالبينات، أي: مصاحبين لها وهو وجه حسنٌ لا محذور فيه، ذكره الزمخشريُّ. الثاني: أنه متعلق ب «أرْسَلْنَا» ذكره الحوفي، والزمخشريُّ، وغيرهما، وبه بدأ الزمخشريُّ، فقال: «يتعلق ب» أرْسَلْنَا «داخلاً تحت حكم الاستثناء مع» رِجَالاً «أي: وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات، كقولك: ما ضَربْتُ إلاَّ زيْداً بالسَّوطِ؛ لأن أصله: ضَربتُ زَيْداً بالسَّوطِ» . وضعفه أبو البقاء: بأن ما قبل «إلاَّ» لا يعمل فيما بعدها، إذا تم الكلام على «إلا» وما يليها، قال: إلا أنه قد جاء في الشعر: [البسيط] 3310 - نُبِّئْتهُمْ عَذَّبُوا بالنَّارِ جَارتَهُم ... ولا يُعَذِّبُ إلاَّ الله بالنَّارِ وقال أبو حيَّان: «وما أجازه الحوفي، والزمخشري، لا يجيزه البصريون؛ إذ لا يجيزون أن يقع بعد» إلاَّ «إلاَّ مستثنى، أو مستثنى منه، أو تابع لذلك، وما ظن بخلافه قدر له عامل، وأجاز الكسائي أن يليها معمول ما بعدها مرفوعاً، أو منصوباً أو مخفوضاً، نحو: ما ضَربَ إلا عمراً زيدٌ، وما ضَربَ إلاَّ زيْدٌ عَمْراً، وما مرَّ إلاَّ زيْدٌ بِعَمْرٍو» . ووافقه ابن الأنباري في المرفوع، والأخفش، في الظرف، وعديله؛ فما قالاه يتمشَّى على قول الكسائي، والأخفش. الثالث: أنه يتعلق ب «أرْسَلْنَا» أيضاً؛ إلاَّ أنه على نية التقديم قبل أداة الاستثناء تقديره: وما أرسلنا من قبلك بالبينات والزبر إلا رجالاً؛ حتى لا يكون ما بعد «إلاَّ» معمولين متأخرين لفظاً ورتبة داخلين تحت الحصر لما قبل «إلاَّ» ، حكاه ابن عطية. وأنكر الفراء ذلك وقال: «إنَّ صلة ما قبل» إلاَّ «لا يتأخر إلى ما بعد» إلا «لأن المستثنى منه هو مجموع ما قبل» إلاَّ «مع صلته، فلما لم يصر هذا المجموع مذكوراً بتمامه؛ امتنع إدخال الاستثناء عليه» . الرابع: أنه متعلق ب «نُوحِي» كما تقول: أوحى إليه بحق. ذكره الزمخشري، وأبو البقاء. الخامس: أنَّ الباء مزيدة في «بالبَيِّناتِ» وعلى هذا؛ فيكون «البَيِّنَات» هو القائم مقام الفاعل؛ لأنها هي الموحاة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 62 السادس: أن الجارَّ متعلق بمحذوف؛ على أنَّه حالٌ من القائم مقام الفاعل، وهو «إليْهِمْ» ذكرهما أبو البقاء. وهما ضعيفان جدًّا. السابع: أن يتعلَّق ب «لا تَعْلَمُون» على أنَّ الشرط في معنى: التبكيت والإلزام؛ كقول الأجير: إن كنت عملت لك فأعطني حقِّي. قال الزمخشريُّ: وقوله تعالى: {فاسألوا أَهْلَ الذكر} اعتراضٌ على الوجوه المتقدمة، ويعني بقوله: «فاسْئَلُوا» الجزاء وشرطه، وأما على الوجه الأخير، فعدم الاعتراض واضحٌ. الثامن: أنه متعلق بمحذوف جواباً لسؤالٍ مقدرٍ؛ كأنه قيل: بِمَ أرسلوا؟ فقيل: أرسلوا بالبينات، والزُّبرِ، كذا قدره الزمخشري. وهو أحسن من تقدير أبي البقاءِ: بعثوا لموافقته للدالِّ عليه لفظاً ومعنى. فصل في تأويل «إلا» قال البغوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «إلاَّ» بمعنى «غَيْرَ» ، أي: وما أرسلنا قبلك بالبينات، والزبر، غير رجالٍ يوحى إليهم، ولو لم نبعث إليهم ملائكة. وقيل: تأويله: وما أرسلنا من قبلك إلاَّ رجالاً يوحى إليهم بالبينات والزبر، والبينات والزبر: كل ما يتكامل به الراسالة؛ لأن مدارها على المعجزات الدالة على صدق مدعي الرسالة، وهي البينات على التكاليفِ، التي يبلغها الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - إلى العباد، وهي الزبر. ثم قال تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} أراد بالذكر الوحي وكان - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - مبيناً للوحي، وبيان الكتاب يطلب من السنة. انتهى. فصل القرآن ليس كله مجملاً بل منه المجمل والمبين ظاهر هذه الآية يقتضي أن هذا الذكر مفتقر على بيان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمفتقر إلى [البيان] مجملٌ، فهذا النص يقتضي أنَّ هذا القرآن كله مجمل؛ فلهذا قال بعضهم: متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر؛ لأن القرآن مجمل؛ فلهذا قال بعضهم: متى وقع التعارض بين القرآن والخبر وجب تقديم الخبر؛ لأن القرآن مجملٌ بنص هذه الآية، والخبر مبين لهذه الآية، والمبين مقدم على المجمل. وأجيب: بأن القرآن منه محكمٌ، ومنه متشابه، والمحكم يجب كونه مبيناً؛ فثبت أن القرآن كله ليس مجملاً، بل فيه المجمل. فقوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} محمول على تلك المجملات. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 63 فصل هل الرسول مبين لكلم ما أنزل الله ظاهر هذه الآية يقتضي أن يكون الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هو لمبين لكلِّ ما أنزل الله على المكلفين، وعند هذا قال نفاة القياس: لو كان القياس حجة، لما وجب على الرسول بيانُ كلِّ ما أنزل الله تعالى على المكلفين من الأحكام؛ لاحتمال أن يبين لمكلف ذلك الحكم بطريق القياس، ولما دلت هذه الآية على أنَّ المبين للتكاليف، والأحكام؛ هو الرسول، علمنا أنَّ القياس ليس بحجةٍ. وأجيب عنه: بأنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما بين أنَّ القياس حجة فمن رجع في تبيين الأحكام والتكاليف إلى القياس؛ كان ذلك في الحقيقة رجوعاً إلى بيان الرسولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قالوا: لو كان البيان بالقياس من بيان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لما وقع فيه اختلافٌ. قوله تعالى: {أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات} الآية في «السَّيِّئاتِ» ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنها نعت لمصدر محذوف، أي: المكرات السيئات. الثاني: أنه مفعول به على تضمين: «مَكرُوا» عملوا وفعلوا، وعلى هذين الوجهين، فقوله {أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض} مفعولٌ ب «أمِنَ» . الثالث: أنه منصوب ب «أمن» ، أي: أمنوا العقوبات السيئات، وعلى هذا فقوله {أَن يَخْسِفَ الله} بدل من «السَّيِّئات» . والمكرُ في اللغة: هو السعي بالفسادِ خفية، ولا بد هنا من إضمارٍ، تقديره المكرات السيئات، والمراد أهل مكة، ومن حول المدينة. قال الكلبيُّ: المراد بهذا المكر: اشتغالهم بعبادة غير الله - تعالى - والأقربُ أن المراد سعيهم في إيذاءِ الرسول، وأصحابه على سبيل الخفيةِ، أي: يخسف الله بهم الأرض؛ كما خسف بالقرون الماضية. قوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ} أي: يأتيهم العذاب من السماء من حيث يفجؤهم؛ فيهلكهم بغتة؛ كما فعل بالقرون الماضية. {أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ} أي: أسفارهم {لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد} [آل عمران: 196] . وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: في اختلافهم. وقال ابن جريج: في إقبالهم وإدبارهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 64 وقيل: في حال تلقُّبهم في أمكارهم، فيحول الله بينهم، وبين إتمام تلك الحيل. وحمل التقلُّب على هذا المعنى، مأخوذ من قوله تعالى: {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} [التوبة: 48] . {أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ} هذا الجارُّ متعلق بمحذوفٍ؛ فإنه حال، إمَّا من فاعل «يَأخُذهُمْ» وإما من مفعوله، ذكرهما أبو البقاء. والظاهر كونه حالاً من المفعول دون الفاعل. والتَّخَوُّفُ: تفعُّلٌ من الخَوفِ، يقال: خِفْتُ الشَّيء، وتخَوَّفتهُ. والتَّخوُّفُ: التَّنقُّص، أي: نقص من أطرافهم، ونواحيهم، الشيء بعد الشيء حتًّى يهلك جميعهم، يقال: تخوَّفته الدَّهرَ؛ وتخوفه، إذا نقصه، وأخذ ماله، وحشمه، ويقال: هذه لغة بني هذيل. وقال الأعرابيِّ: تخوَّفتُ الشَّيءَ وتخيَّفتهُ إذا تنقَّصتهُ. حكى الزمخشريُّ أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سألهم على المنبر عن هذه الآية فسكتوا، فقام شيخٌ من هذيل، فقال: هذه لغتنا، التخَوُّف التنقُّص، فقال عمر: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ . قال: نعم، قال شاعرنا: [البسيط] 3311 - تخوَّف الرَّحلُ منهَا تَامِكاً قَرِداً ... كمَا تَخوَّفَ [عُودَ] النَّبْعةِ السَّفن فقال عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أيُّها الناس عليكم بديوانكم لا تضلُّوا، قالوا: وما ديواننا؟ قال: شعر الجاهلية؛ فإنَّ فيه تفسير كتابكم، وكان الزمخشري نسب البيت قبل ذلك لزهير، وكأنه سهوٌ؛ فإنه لأبي كبير الهذلي؛ ويؤيد ذلك قول الرجل: قال شاعرنا، وكان هذيلياً كما حكاه هو، فعلى هذا يكون المراد ما يقع في أطراف بلادهم، كما قال تعالى: {أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ} [الأنبياء: 44] أي: لا نعاجلهم بالعذاب، ولكن ننقص من أطراف بلادهم حتى يصل إليهم فيهلكهم. ويحتمل أن النَّقص من أموالهم وأنفسهم يكون قليلاً قليلاً حتى يفنوا جميعهم. وقال الضحاك، والكلبيُّ: من الخوف، أي: لا يأخذهم بالعذاب، أولاً؛ بل يخيفهم، أو بأن يعذب طائفة؛ فتخاف التي يليها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 65 ثم قال: {فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} أي يمهل في أكثر الأمر؛ لأنه رءوف رحيم، فلا يعاجل بالعذاب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 66 قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} الآية قرأ الأخوان: «تَرَوْا» بالخطاب جرياً على قوله: «فإنَّ ربّكُمْ» . والباقون: بالياء جرياً على قوله: {أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ} [النحل: 45] . وأما قوله {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير} [الملك: 19] فقراءة حمزة أيضاً بالخطاب، ووافقه ابن عامر فيه؛ فحصل من مجموع الآيتين: أنَّ حمزة بالخطاب فيهما، والكسائي بالخطاب في الأولى، والغيبة في الثانية، وابن عامر بالعكس، والباقون: بالغيبة فيهما. وأما توجيهُ الأولى فقد تقدم، وأما الخطاب في الثانية؛ فجرياً على قوله تعالى: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} [النحل: 78] وأمَّا الغيبة؛ فجرياً على قوله تعالى {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} [النحل: 73] إلى آخره، وأمَّا تفرقة الكسائي، وابن عامرٍ بين الموضعين؛ فجمعاً بين الاعتبارين، وأنَّ كلاًّ منهما صحيح. فصل لمَّا خوَّف المشركين بأنواع العذاب المتقدمةِ، أردفه بما يدلُّ على كمال قدرته في تدبير أحوال العالم العلوي، والسفلي؛ ليظهر لهم أنَّ مع كمال هذه القدرة القاهرة والقوة الغير متناهية، كيف يعجز عن إيصال العذاب إليهم؟ وهذه الرؤية لما كانت بصرية وصلت ب «غلى» ؛ لأن المراد بها الاعتبارُ، والاعتبار لا يكون بنفس الرؤية، حتى يكون مع النظر غلى الشيء الكامل في أحواله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 66 قوله: {مِن شَيْءٍ} هذا بيان ل «مَا» في قوله: {مَا خَلَقَ الله} فإنها موصولة بمعنى الذي. فإن قيل: كيف يبين الموصول وهو مبهم ب «شيء» وهو مبهم؛ بل أبهم ممَّا قبله؟ . فالجواب: أن شيئاً قد اتضح، وظهر بوصفه بالجملة بعده؛ وهي: «يَتفيَّؤ ظِلالهُ» . قال الزمخشري: و «مَا» موصولة ب «خَلقَ الله» وهو مبهمٌ؛ بيانه في قوله {مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} . وقال ابن عطية: «مِنْ شيءٍ» لفظ عامٌّ في كل ما اقتضته الصفة من قوله: «يتَفيَّؤُ ظِلالهُ» . قال الزمخشري: و «مَا» موصولة ب «خَلقَ الله» وهو مبهمٌ؛ بيانه في قوله {مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ} . وقال ابن عطية: «مِنْ شيءٍ» لفظ عامٌّ في كل ما اقتضته الصفة من قوله: «يتَفيَّؤُ ظِلالهُ» . فظاهر هاتين العبارتين: أن جملة «يَتَفيَّؤ ظِلالهُ» صفة ل «شَيءٍ» فأما غيرهما؛ فإنه قد صرح بعدم كون الجملة صفة؛ فإنه قال: والمعنى: من كل شيءٍ له ظلٌّ من جبل، وشجر، وبناء، وجسم قائم، وقوله «يَتفيَّؤُ ظِلالهُ» إخبار من قوله «مِنْ شَيءٍ» ليس بوصف له، وهذا الإخبار يدلُّ على ذلك الوصف المحذوف الذي تقديره: هو له ظل. وفيه تكلف لا حاجة إليه، والصفة أبين و «مِنْ شيءٍ» في محل نصبٍ على الحالِ من الموصول، أو متعلق بمحذوف على جهة البيان؛ أعني: من شيء. والتَّفَيُّؤ: تَفعُّلٌ من فَاءَ يَفِيءُ، أي: رَجَعَ، و «فاء» : قاصر فإذا أريد تعديته عدِّي بالهمزة كقوله {مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ} [الحشر: 7] أو بالتضعيف نحو: فَيَّأ الله الظِّلَ فتَفيَّأ، وتَفيَّأ: مطاوع فَيَأ، فهو لازم، ووقع في شعر أبي تمَّامٍ متعدِّياً في قوله: [الكامل] 3312 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... وتَفَيَّأتْ ظِلاَلَهَا مَمْدُودَا واختلف في الفيء، فقيل: هو مطلق الظل، سواء كان قبل الزوالِ، أو بعده، وهو الموافق لمعنى الآية ههنا. وقيل: ما كان قبل الزوال فهو ظلٌّ فقط، وما كان بعده فهو ظل وفيءٌ، فالظل أعم. يروى ذلك عن رؤبة بن العجَّاج، وأنكر بعضهم ذلك، وأنشد أبو [زيد] للنَّابغة الجعدي: [الخفيف] 3313 - فَسلامُ الإلهِ يَغْدُو عَليْهِمْ ... وفُيُوءُ الفِرْدَوْسِ ذَاتِ الظِّلالِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 67 فأوقع لفظ «الفَيءِ» على ما لم تنسخه الشمس؛ لأن ظلَّ الجنة ما حصل بعد أن كان زائلاً بسبب ضوء الشمس. وقيل: بل تختصُّ الظلُّ: بما قبل الزوال، والفيء: بما بعده. قال الأزهري: تَفيُّؤ الظِّلال: رُجوعُهَا بعد انتِصَافِ النَّهارِ، فالتفيؤ: لا يكون إلا بالعشيِّ بعدما انصرفت عنه الشمس، والظل ما يكون بالغداةِ، وهو ما لم تنله الشمس؛ قال الشاعر: [الطويل] 3314 - فَلا الظِّلُّ مِنْ بَرْدِ الضُّحَى تَسْتَطِيعهُ ... ولا الفَيءُ مِنْ بَرْدِ العَشيِّ تَذُوقُ وقال امرؤ القيس: [الطويل] 3315 - تَيَمَّمتِ العَيْنَ الَّتي عِندَ ضَارجٍ ... يَفِيءُ عليْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِ وقد خطأ ابن قتيبة الناس في إطلاقهم الفيء على ما قبل الزوال وقال: إنما يطلق على ما بعده؛ واستدل بالاشتقاق؛ فإن الفيء هو الرجوع، وهو متحقق بما بعد الزَّوال [قال: وإنما يطلق على ما بعده] ، فإن الظل يرجع إلى جهة المشرق بعد الزوال بعد ما نسخته الشمس قبل الزوالِ. وتقول العربُ في جمع فَيء: «أفْيَاء» للقليل، و «فُيُؤٌ» للكثير؛ كالبيوت، والعيون، وقرأ أبو عمرو «تَتفَيَّؤُ» بالتاء من فوق مراعاة لتأنيث الجمع، وبها قرأ يعقوب، والباقون بالياء لأنه تأنيث مجازي. وقرأ العامة: «ظِلاله» جمع ظلٍّ، وعيسى بن عمر «ظِلَلُه» جمع ظِلَة؛ ك «غُرْفَة، وغُرَف» . قال صاحب اللَّوامح في قراءة عيسى «ظِلَلُه» : والظَّلَّة: الغَيْمُ: وهو جسم، وبالكسر: الفيء، وهو عرض فرأى عيسى: أنَّ التفيؤ الذي هو الرجوع بالأجسام أولى منه بالإعراض، وأما في العامة فعلى الاستعارةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 68 قال الواحدي: «ظِلالهُ» أضاف الظلال إلى مفرد، ومعناه الإضافة إلى ذوي الظلال، وإنما حسن هذا؛ لأنَّ الذي يرجع إليه الضمير، وإن كان واحداً في اللفظ، وهو قوله تعالى {إلى مَا خَلَقَ الله} إلاَّ أنه كثير في المعنى؛ كقوله تعالى {لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ} [الزخرف: 13] فأضاف الظُّهور، وهو جمع إلى ضمير مفرد؛ لأنه يعود إلى واحد أريد به الكثرة في المعنى، وهو قوله تعالى: {مَا تَرْكَبُونَ} انتهى. قوله تعالى: {عَنِ اليمين} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن يتعلق ب «يَتفيَّؤُ» ومعناها المجاوزة أي: يتجاوز الظلال عن اليمين إلى الشمائل. الثاني: أنها متعلقة بمحذوف على أنها حال من «ظِلالهُ» . الثالث: أنها اسم بمعنى جانب، فعلى هذا يبنتصب «إلى» على الظرف. وقوله: {عَنِ اليمين والشمآئل} فيه سؤالان: أحدهما: ما المراد باليمين والشمائل؟ . والثاني: كيف أفرد الأول، وجمع الثاني؟ . وأجيب عن الأول بأجوبة: أحدها: أنَّ اليمين يمين الفلك؛ وهو المشرق، والشمائل شماله، وهو المغرب، وخصَّ هذان الجانبان؛ لأنَّ أقوى الإنسان جانباه؛ وهما يمينه وشماله، وجعل المشرق يميناً؛ لأن منه تظهر حركة الفلك اليومية. الثاني: البلدة التي عرضها أقلُّ من الميل تكونُ الشمس صيفاً عن يمين البلد فيقع الظل عن يمينهم. الثالث: أن المنصوب للعبرة كلُّ جرمٍ له ظلٌّ، كالجبل، والشجر، والذي يترتب فيه الأيمان، والشمائلن إنما هو البشر فقط، ولكن ذكر الأيمان، والشمائل، هنا على سبيل الاستعارة. الرابع: قال الزمخشريُّ: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله} من الأجرام التي لها ظلال متفيئة عن أيمانها، وشمائلها عن جانبي كل واحد منها وشقَّيه استعارة من يمين الإنسان، وشماله لجانبي الشيء، أي: يرجع من جانب إلى جانب. وهذا قريب ممَّا قبله، وأجيب عن الثاني بأجوبة: أحدها: أن الابتداء يقع من اليمين، وهو شيءٌ واحدٌ؛ فلذلك وحد اليمين، ثم ينتقص شيئاً فشيئاً وحالاً بعد حال، فهو بمعنى الجمع، فصدق على كل حال لفظة الشمائل؛ فتعدُّد بتعدُّد الحالات، وإلى قريب منه نحا أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 69 والثاني: قال الزمخشريُّ: واليمين بمعنى الأيمان، يعني أنَّه مفرد قائم مقام الجمع، وحينئذ فهما في المعنى جمعاً؛ كقوله تعالى {وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] أي الأدبار. الثالث: قال الفراء: لأنه إذا وحَّد ذهب إلى واحد من ذوات الظِّلال، وإذا جمع ذهب إلى كلِّها؛ لأن قوله تعالى {مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ} لفظه واحد، ومعناه الجمع، فعبر عن أحدهما بلفظ الواحد؛ كقوله تعالى {وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1] وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] . الرابع: أنَّا إذا فسَّرنا اليمين بالمشرق؛ كانت النقطة التي هي مشرق الشمس واحدة بعينها، فكانت اليمين واحدة، وأما الشمائل فهي عبارة عن الانحرافات الواقعة في تلك الظلال بعد وقوعها على الأرض، وهي كثيرة؛ فلذلك عبَّر عنها بصيغة الجمع. الخامس: قال الكرمانيُّ: «يحتمل أن يراد بالشمائل الشمال، والخلف، والقُدَّام؛ لأنَّ الظل يفيء من الجهات كلها، فبدأ باليمين؛ لأنَّ ابتداء الفيء منها، أو تيمُّناً بذكرها، ثم جمع الباقي على لفظة الشمال؛ لما بين اليمين، والشمال من التضادِّ، ونزَّل القدَّام والخلف منزلة الشمال؛ لما بينهما وبين اليمين من الخلاف» . السادس: قال ابن عطية: «وما قال بعض الناس من أنَّ اليمين أول وقعةٍ للظل بعد الزوالِ، ثم الآخر إلى الغروب، هي عن الشمائلِ؛ ولذلك جمع الشمائل، وأفرد اليمين؛ لتخليطٌ من القول، ومبطل من جهات» . وقال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «إذا صليتَ الفجر كان ما بين مطلع الشمس، ومغربها ظلاَّ، ثم بعث الله عليه الشمس دليلاً؛ فقبض إليه الظِّلَّ؛ فعلى هذا فأول دورة الشمس فالظلُّ عن يمين مستقبل الجنوب، ثم يبدأ الانحرافُ، فهو عن الشمائل؛ لأنه حركاتٌ كثيرة، وظلالٌ منقطعة، فهي شمائلُ كثيرة؛ فكان الظل عن اليمين متصلاً واحداً عامًّا لكل شيءٍ» . السابع: قال ابن الضائع رَحِمَهُ اللَّهُ: «وجمع بالنظر إلى الغايتين؛ لأنَّ ظل الغداة يضمحلُّ حتى لا يبقى منه إلا اليسيرُ، فكأنه في جهة واحدة، وهي بالعشيِّ - على العكس - لاستيلائه على جميع الجهات، فلحظت الغايتان في الآية، هذا من جهة المعنى، وأما من جهة اللفظ، ففيه مطابقة؛ لأنَّ» سُجَّداً «جمع، فطابقه جمع الشَّمائل؛ لاتصاله به؛ فحصل في الآية مطابقة اللفظ للمعنى، ولحفظهما معاً؛ وتلك الغاية في الإعجاز» . قوله «سُجَّداً» حال من «ظِلالهُ» ، وسُجَّداً جمع ساجدٍ، كشَاهِدٍ وشُهَّد ورَاكِع ورُكَّع. والسجودُ: الميل، يقال: سَجدتِ النَّخلةُ إذا مالتْ، وسَجدَ البَعيرُ إذَا طَأطَأ رأسه؛ وقال الشاعر: [الطويل] 3316 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... الجزء: 12 ¦ الصفحة: 70 تَرَى الأكْمَ فِيهَا سُجَّداً للحَوافرِ فالمراد بهذا السجود التواضعُ. واعلم أن انتقاص الظلِّ بعد كماله إلى غاية محدودة ثمَّ ازدياده بعد غاية نقصانه، وتنقله من جهة إلى أخرى على وفقِ تدبير الله، وتقديره بحسب الاختلافاتِ اليوميَّة الواقعة في شرق الأرض، وغربها، وبحسب الاختلافات الواقعة في طول السنة على وجه مخصوصٍ، وترتيب معيِّنٍ لا يكون إلا لكونها منقادة لله تعالى خاضعة لتقديره وتدبيره؛ فكان السجود عبارة عن تلك الحال. فإن قيل: لم لا يجوز أن يقال: اختلاف هذه الظلال معلَّلٌ باختلاف سير الشمس لا لأجل تقدير الله؟ . فالجوابُ: أنَّا وإن سلمنا ذلك، فمحرك الشمس بالحركة الخاصَّة ليس إلاَّ الله - تعالى - فدل على أنَّ اختلاف أحوال هذه الظلال لم يقع إلا بتدبير الله تعالى، وقيل: هذا سجود حقيقة؛ لأن هذه الظلال واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد، قال أبو العلاء المعرِّي، في صفة وادٍ: [الطويل] 3317 - بِخَرْقٍ يُطِيلُ الجُنْحَ فِيهِ سُجودَهُ ... وللأرْضِ زِيّ الرَّاهبِ المُتعبِّدِ فلمّا كان شكل الأظلال يشبه شكل الساجدين، أطلق عليه السجود، وكان الحسنُ يقول: أما ظلُّلك، فسجد لربِّك، وأما أنت، فلا تسجد له؛ بئسما صنعت. وعن مجاهدٍ: ظلُّ الكافر يصلِّي، وهو لا يصلِّي، وقيل: ظلُّ كلِّ شيءٍ يسجد لله، سواء كان ذلك ساجداً لله، أم لا. قوله: {وَهُمْ دَاخِرُونَ} في هذه الجملة ثلاثة أوجه: أحدها: أنها حال من الهاء في «ظِلالهُ» . قال الزمخشريُّ: «لأنه في معنى الجمع، وهو ما خلق الله من كلِّ شيءٍ له ظل، وجمع بالواو والنون؛ لأنَّ الدُّخورَ من أوصاف العقلاء، أو لأنَّ في جملة ذلك من يعقل فغلب» . وقد ردَّ أبو حيَّان هذا بأن الجمهور لا يجيزون مجيء الحالِ من المضاف إليه، وهو نظير جَاءنِي غُلامُ هِندٍ ضَاحِكَةً، قال: «ومن أجاز مجيئها منه إذا كان المضاف جزءاً، أو كالجزءِ جوز الحالية منه هنا؛ لأنَّ الظل كالجزء؛ إذ هو ناشئ عنه» . الثاني: أنها حال من الضمير المستتر في «سُجَّدًا» فهي حال متداخلة. الثالث: أنها حال من «ظِلالهُ» فينتصب عنه حالان، ثم لك في هذه الواو اعتباران: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 71 أحدهما: أن تجعلها عاطفة حالاً على مثلها، فهي عاطفة، وليست بواو حالٍ، وإن كان خلو الجملة الاسميَّة الواقعة حالاً من الواو قليلاً أو ممتنعاً على رأي، وممن صرح بأنها عاطفة: أبو البقاءِ. والثاني: أنها واوُ الحال، وعلى هذا فيقال: كيف يقتضي العامل حالين؟ . فالجواب: أنه جاز ذلك؛ لأن الثانية بدلٌ من الأولى، فإن أريد بالسجود التَّذلل والخضوع، فهو بدل كل من كل، وإن أريد به [حقيقته] ، فهو بدل اشتمالٍ، إذ السجود مشتمل على الدخور. ونظير ما نحن فيه: «جَاءَ زيْدٌ ضَاحِكاً وهو شاك» فقولك: «وهو شاك» يحتمل الحاليَّة من «زَيْدٍ» أو ضمير «ضَاحِكاً» ، والدُّخورُ: التواضع؛ قال الشاعر: [الطويل] 3318 - فَلمْ يَبْقَ إلاَّ دَاخِرٌ في مُخَيَّسٍ ... ومُنْجَحِر في غَيْرِ أرْضِكَ في جُحْرِ وقيل: هو القهر والغلبة، ومعنى «داخرون» أذلاَّء صاغرين. قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} الآية قد تقدم أن السجود على نوعين: سجود كسجود الصلاة بوضع الجبهة على الأرض، وسجود هو انقياد وخضوع؛ فلهذا قال بعضهم: المراد بالسجود ههنا: الانقيادُ والخضوع؛ لأنه اللائق بالدابة. وقيل: السجود حقيقة؛ لأنه اللائق بالملائكة عليهم الصلاة والسلام. وقيل: السجود لفظ مشتركٌ بين المعنيين، وحمل اللفظ المشترك [على إفادة مجموع معنيين جائز، فيحمل لفظ السجود ههنا على المعنيين معاً، أما في حق الدابة فبمعنى التواضع، وأما في حق الملائكة فبمعنى السجود الحقيقي؛ وهذا ضعيف؛ لأن استعمال اللفظ المشترك] في جميع مفهوماته معاً غير جائز. قوله تعالى: {مِن دَآبَّةٍ} يجوز أن يكون بياناً ل {مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض} ويكون لله تعالى في سمائه خلق؛ يدبون كما يدبُّ الخلق الذي في الأرض، ويجوز أن يكون بياناً ل {مَا فِي الأرض} فقط. قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: هلاَّ جيء ب» مَنْ «دون» ما «تغليباً للعقلاءِ على غيرهم؟ . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 72 قلت: إنه لو جيء ب «مَنْ» لم يكن فيه دليلٌ على التغليب، بل كان متناولاً للعقلاء خاصة، فجيء بما هو صالح للعقلاء، وغيرهم؛ إرادة للعموم «. قال أبو حيَّان:» وظاهر السؤال تسليم أنَّ مَنْ قد تشتمل العقلاء، وغيرهم على جهة التغليب، وظاهر الجواب تخصيص «مَنْ» بالعقلاءِ، وأنَّ الصالح للعقلاء ما دون «مَنْ» ، وهذا ليس بجوابٍ لأنه أورد السؤال على التسليم، ثمَّ أورد الجواب على غير التسليم، فصار المعنى أنَّ من يغلب بها؛ والجواب لا يغلب بها، وهذا في الحقيقة ليس بجواب «. فصل قال الأخفش: قوله:» مِنْ دَابَّةٍ «يريد من الدَّواب، وأخبر بالواحدِ؛ كما تقول: ما أتَانِي من رجلٍ مثله، وما أتَانِي من الرِّجالِ مثلهُ. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -:» يريد كل دابَّة على الأرضِ «. فإن قيل: ما الوجه في تخصيص الملائكة، والدواب بالذكر؟ . فالجواب من وجهين: الأول: أنَّه تعالى بيَّن في آية الظلال أن الجمادات بأسرها منقادة لله - سبحانه وتعالى - وبين بهذه الآية أنَّ الحيوانات بأسرها منقادة لله - تعالى - لأن أخسَّها الدوابُّ، وأشرفها الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - فلما بين في أخسها، وفي أشرفها كونها منقادة خاضعة لله - تعالى - كان ذلك دليلاً على أنها بأسرها منقادة خاضعة لله تعالى. الثاني: قال حكماءُ الإسلام: الدابَّةُ: اشتقاقها من الدَّبيب، والدبيب عبارة عن الحركة الجسمانيَّة؛ فالدابة اسمٌ لكلِّ حيوان يتحرك ويدبُّ، فلما ميَّز الله الملائكة عن الدابة؛ علمنا أنَّها ليست مما يدبُّ؛ بل هي أرواحٌ محضةٌ مجردة، وأيضاً فإن الطيران بالجناح مغاير للدبيب؛ لقوله {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] . {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} يجوز أن تكون الجملة استئنافاً أخبر عنهم بذلك، وأن يكون حالاً من فاعل» يسجد «. قوله» يَخَافُونَ «فيها وجهان: أن تكون مفسرة لعدم استكبارهم، كأنه قيل: ما لهم يستكبرون؟ فأجيب بذلك، ويحتمل أن يكون حالاً من فاعل» لا يَسْتَكْبِرُونَ «، ومعنى» يَخافُونَ ربَّهُمْ «، أي: عقابه. قوله:» مِنْ فَوْقِهِمْ «يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه ينعلق ب» يَخَافُونَ «، أي: يخافون عذاب ربهم كائناً من فوقهم فقوله» مِنْ فوقِهِمْ «صفة للمضاف، وهو عذابٌ، وهي صفة كاشفةٌ؛ لأن العذاب إنَّما ينزل من فوق. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 73 الثاني: أنه متعلق بمحذوفٍ على أنه حال من» رَبِّهمْ «، أي: يخافون ربَّهم عالياً عليهم علوَّ الرتبة والقدرة قاهراً لهم، ويدل على هذا المعنى قوله تعالى: {وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18] . فصل دلالة الآية على عصمة الملائكة دلت الآية على عصمة الملائكة عن جميع الذنوب؛ لأن قوله {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} يدلُّ على أنهم منقادون لخالقهم، وأنهم ما خالفوه في أمرٍ من الأمور، كقوله {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] ، وقوله: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] ، وكذلك قوله - جل وعز -: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6] وذلك يدل على أنهم فعلوا كلَّ ما أمروا به، فدل على عصمتهم عن كل الذنوب. فإن قيل: هب أن الآية دلت على أنَّهم فعلوا كلَّ ما أمروا به، فلم قلتم: إنها تدلُّ على أنهم تركوا كل ما نُهوا عنه؟ . فالجواب: أنَّ كلَّ من نهى عن شيءٍ، فقد أمر بتركه؛ وحينئذ يدخل في اللفظ، فإذا ثبت بهذه الآية كون الملائكة معصومين من كلِّ الذنوب، وثبت أنَّ إبليس ما كان معصوماً من الذنوب، بل كان كافراً؛ لزم القطع بأنَّ إبليس ما كان من الملائكةِ، وأيضاً: فإنه - تعالى - قال في صفة الملائكة: {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} ، ثم قال عَزَّ وَجَلَّ لإبليس {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75] وقال: {فاهبط مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا} [الأعراف: 13] وثبت أنَّ الملائكة لا يستكبرون، وثبت أنَّ إبليس تكبَّر، واستكبر، فوجب أن لا يكون من الملائكة. وللخصم أن يجيب بأن إبليس لو لم يكن من الملائكة، لما ذمَّ على تركه المعهود من ترك مخالفة الأمرِ، ومن الاستكبار، فلما خالف الأمر، واستكبر، خرج من حيّز الملائكة، ولعن، وطرد؛ لأنه خالف المعهود من حاله. قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - «ولما ثبت بهذه الآية وجوب عصمة الملائكة، ثبت أنَّ القصة الخبيثة التي يذكرونها في حقِّ هاروت وماروت باطلة، فإن الله - تبارك وتعالى - وهو أصدق القائلين لما شهد في هذه الآية على عصمة الملائكة وبراءتهم من كل ذنبٍ؛ وجب القطع بأن تلك القصة باطلة كاذبة» . واحتجَّ الطاعنون في عصمة الملائكة بهذه الآية فقالوا: إنَّ الله - تعالى - وصفهم بالخوف، ولولا أنهم يجوِّزون من أنفسهم الإقدام على الذنوب، وإلاَّ لم يحصل الخوفُ والجواب من وجهين: الأول: أنه - تعالى - حَذَّرهم من العقاب؛ فقال {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] فللخوف من العذاب يتركون الذنب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 74 الثاني: أن ذلك الخوف خوف الإجلال؛ هكذا نقل عن ابن عباس؛ كقوله تعالى {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر: 28] وكقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «إنِّي لأخْشَاكُم للهِ» حين قالوا له وقد بكى: أتَبْكِي وقد غَفرَ الله لَكَ مَا تقدَّم من ذَنْبِكَ وما تَأخَّر؟ . وهذا يدلُّ على أنه كلَّما كانت معرفة الله أتمَّ، كان الخوف منه أعظم. وهذا الخوف لا يكون إلا خوف الإجلال والكبرياء. فصل في استدلال المشبهة بالآية والرد عليهم استدل المشبهة بقوله تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ} على أنه - تعالى - فوقهم بالذات. والجواب: أن معناه: يخافون ربَّهم؛ من أن ينزل عليهم العذاب من فوقهم، وإذا احتمل اللفظ هذا المعنى؛ سقط استدلالهم، وأيضاً يجب حمل هذه الفوقية على الفوقية بالقدرة، والقهر والغلبة؛ لقوله تعالى: {وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ} [الأعراف: 127] ويقوِّي هذا الوجه أنه تعالى قال: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ} فوجب أن يكون المقتضي لخوفهم هو كون ربِّهم فوقهم؛ لأنَّ الحكم المرتب على وصف يشعر بكون ذلك الحكم معلَّلاً بذلك الوصف، وهذا التعليل، إنَّما يصدح إذا كان المراد بالفوقية، القهر والقدرة؛ لأنَّها هي الموجبة للخوف، وأما الفوقية بالجهة، والمكان، فلا توجب الخوف؛ لأنَّ حارس البيت فوق الملك بالمكان والجهة مع أنَّه أخسُّ عبيده. فصل في أن الملك أفضل من البشر تمسك قومٌ بهذه الآية على أن الملك أفضل من البشر من وجوه: الأول: قوله تعالى: {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملاائكة} وقد تقدم أنَّ تخصيص هذين النوعين بالذكر، إنَّما يحسن إذا كان أحد الطرفين أخسَّ المراتب، وكان الطرف الثاني أشرفها، حتَّى يكون ذكر هذين الطرفين منبهاً على الباقي، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الملائكة أشرف خلق الله - عَزَّ وَجَلَّ -. الثاني: أن قوله {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} يدلُّ على أنه ليس في قلوبهم تكبر، وترفع، وقوله تعالى: {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} يدل على أنَّ أعمالهم خالية عن الذنب، والمعصية، فمجموع هذين الكلامين يدلُّ على أنَّ بواطنهم، وظواهرهم، مبرأةٌ عن الأخلاق الفاسدة، والأفعال الباطلة، وأما البشر، فليسوا كذلك ويدلُّ عليه القرآن والخبر. أما القرآن فقوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ} [عبس: 17] وهذا الحكم عامٌّ في الإنسان، وأقلُّ مراتبه أن تكون طبيعة الإنسان مقتضية لهذه الأحوال الذَّميمة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 75 وأما الخبر، فقوله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَا منَّأ إلاَّ وقدْ عصى أو هَمَّ بِمعْصِيةٍ غير يَحْيَى بن زكريَّا» . ونعلم بالضرورة أن المبرَّأ عن المعصية، ومن لم يهمَّ بها أفضل ممَّن عصى، أو همَّ بها. الثالث: أنَّ الله - تعالى - خلق الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - قبل البشر بأدوار متطاولة، وأزمان ممتدة، ثم إنه - تعالى - وصفهم بالطاعة، والخضوع، والخشوع طول هذه المدَّة، وطول العمر مع الطاعة يوجب مزيد الفضيلة لوجهين: الأول: قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «الشَّيخ في قَومِه كالنَّبيِّ في أمَّتهِ» فضَّل الشيخ على الشابّ؛ وما ذاك إلاَّ لأنَّه لما كان عمره أطول، فالظاهر أنَّ طاعته أكثر؛ فكان أفضل. والثاني: قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ سَنَّ سُنَّة حَسنةً فلهُ أجْرهَا وأجْرُ من عَملَ بها إلى يَوْمِ القِيامَةِ» فلما كان شروع الملائكة في الطاعات قبل شروع البشر فيها، لزم أن يقال: إنهم هم الذين سنُّوا هذه السنة، وهي طاعة الخالق، والبشر إنما جاءوا بعدهم، واستنُّوا بسُنَّتهِم؛ فوجب بمقتضى هذا الخبر أن كلَّ ما حصل للبشر من الثواب، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 76 فقد حصل مثله للملائكةِ، ولهم ثواب القدر الزائد من الطاعة؛ فوجب كونهم أفضل. قوله تعالى: {وَقَالَ الله لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} الآية لمَّا بين أن كلَّ ما سوى الله فهو منقادٌ لجلاله وكبريائه، أتبعه في هذه الآية بالنهي عن الشرك، وبأن كل ما سواه، فهو ملكه؛ وأنه غنيٌّ عن الكل. قوله تعالى: «اثْنَيْنِ» فيه قولان: أحدهما: أنه مؤكد ل «إلهَيْنِ» وعليه أكثر الناس، و «لا تتَّخِذُوا» على هذا يحتمل أن تكون متعدية لواحدٍ، وأن تكون متعدية لاثنين، والثاني منهما محذوف، أي: لا تتخذوا اثنين إلهين، وفيه بعدٌ. وقال أبو البقاءِ: «هو مفعولٌ ثانٍ» . وهذا كالغلط؛ إذ لا معنى لذلك ألبتة. وكلام الزمخشريِّ هنا يفهم أنَّه ليس بتأكيد؛ فإنه قال: طفإن قلت: إنَّما جمعوا بين العدد، والمعدود؛ فيما وراء الواحد والاثنين، فقالوا: عندي رجال ثلاثة، وأفراسٌ أربعةٌ؛ لأنَّ المعدود عارٍ عن الدَّلالةِ عن العدد الخاص، فأمَّا رجلٌ ورجلان، وفرسٌ وفرسان؛ فمعدودان فيهما دلالة على العدد؛ فلا حاجة إلى أن يقال: رجل واحد، ورجلان اثنان، فما وجه قوله تعالى: {إلهين اثنين} ؟ . قلت: الاسم الحامل لمعنى الإفراد، والتثنية دال على شيئين، على الجنسية، والعدد المخصوص، فإذا أريدت الدلالة على أنَّ المعنيَّ به منهما، والذي يساق إليه الحديث هو العدد شفع بما يؤكد العدد، فدلَّ به على القصد إليه، والعناية به، ألا ترى أنك لو قلت: «إنَّما هُوَ إلهٌ» ، ولم تؤكده بواحدٍ لم يحسن، وخُيِّلَ أنك أثبت الإلهية، لا الواحدانيَّة «. وقال أبو حيَّان رَحِمَهُ اللَّهُ:» لما كان الاسمُ الموضوع للإفراد، والتثنية قد يتجوَّز فيه؛ فيراد به [الجنس] ؛ نحو: نِعْمَ الرَّجلُ زَيْدٌ، ونِعْمَ الرَّجلانِ الزيدان. وقول الشاعر: [الوافر] 3319 - فإنَّ النَّارَ بالعُودَيْنِ تُذْكَى ... وإنَّ الحَرْبَ أوَّلُهَا الكَلامُ أكد الوضوع لهما بالوصف، فقيل: إلهَيْنِ اثْنَينِ، وقيل: إلهٌ واحدٌ «. فصل قال ابن الخطيب: الفائدة في قوله:» اثْنَيْنِ «: أن الشيء إذا كان ميتنكراً الجزء: 12 ¦ الصفحة: 77 مستقبحاً، فإذا أريد المبالغة في التنفير عنه عبر عنه بعبارات كثيرة ليصير توالي تلك العبارات سبباً لوقوف العقل على قبحه، والقول بوجودِ إلهين مستقبحٌ في العقول؛ فإنَّ أحداً من العقلاءِ لم يقل بوجود إلهين متساويين في الوجودِ، والعدمِ، وصفات الكمال فالمقصود من تكرير» اثْنَيْنِ «تأكيدُ التنفير عنه، وتوقيف العقل على ما فيه من القبح، وأيضاً فقوله» إلهَيْنِ «لفظ واحد يدل على أمرين: ثُبوتِ الإلهِ، وثبوتِ التعددِ. فإذا قيل: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين} لم يفهم من هذا اللفظ أنَّ النهي، وقع عن إثبات الإله، وعن إثبات التعدد، وعن مجموعهما، فلما قال: {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} ظهر أن قوله:» لا تَتَّخِذُوا «نهيٌ عن إثبات التعدد فقط، وأيضاً فإنَّ التثنية منافية للإلهية، وتقريره من وجوه: الأول: أنَّا لو فرضنا موجودين، يكون كل واحدٍ منهما واجباً لذاته؛ لكانا مشتركينِ في الوجوب البالتعيين، وما به المشاركة، غير ما به المباينة؛ فكلُّ واحدٍ منهما مركبٌ من جزءين، وكل مركَّب فهو ممكنٌ؛ فثبت أنَّ القول بأن واجب الوجود أكثر من واحدٍ ينفي القول بكونهما واجبي الوجودِ. الثاني: أنَّا لو فرضنا إلهين، وحاول أحدهما تحريك جسم، والآخر تسكينه؛ امتنع كون أحدهما أولى بالفعل من الثاني؛ لأنَّ الحركة الواحدة والسكون الواحد، لا يقبل القسمة أصلاً، ولا التفاوت أصلاً؛ وإذا كان كذلك امتنع أن تكون القدرة على أحدهما أكمل من القدرة على الثاني؛ وإذا ثبت هذا، امتنع كون إحدى القدرتين أولى بالتأثير من الثانية، وإذا ثبت هذا، فإمَّا أن يحصل مراد كل منهما، وهو محال، أو لا يحصل مراد كلِّ واحدٍ منهما ألبتَّة؛ وحينئذٍ يكون كل واحدٍ منهما عاجزاً؛ والعاجز لا يكون إلهاً. فثبت أن كونهما اثنين ينفي كون كل واحد منهما إلهاً. الثالث: لو فرضنا غلهين اثنين، لكان إمَّا أن يقدر أحدهما على أن يستر ملكه عن الآخر، أو لا يقدر، فإن قدر؛ فذلك الآخر ضعيفٌ، وإن لم يقدر، فهو ضعيفٌ. الرابع: أن أحدهما: إمَّا أن يقوى على مخالفة الآخر، أو لا يقوى عليه، فإن لم يقو عليه، فهو ضعيف، وإذا قوي عليه، فالأول المغلوبُ ضعيف؛ فثبت أنَّ الاثنينيَّة والإلهية متضادان. فالمقصود من قوله {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} هو التنبيه على حصول المنافاة، والمضادة بين الإلهية، وبين الاثنينية. ولما ذكر هذا الكلام قال: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} ، أي: إنه لمَّا دل الدليل على أنَّه لا بد للعالم من الإله، وثبت أنَّ القول بوجود إلهين محالٌ؛ ثبت أنه لا إله إلا الواحد الأحد. ثم قال {فَإيَّايَ فارهبون} وهذا رجوعٌ من الغيبة إلى حضور، والتقدير: أنه لما ثبت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 78 أنَّ الإله واحد، وأنَّ المتكلم بهذا الكلام إلهٌ؛ ثبت حينئذٍ أنَّه لا إله للعالم إلاَّ المتكلم بهذا الكلام، فحينئذ يحسن منه أن يعدل من الغيبة إلى الحضور؛ ويقول: {فَإيَّايَ فارهبون} . قوله تعالى: { {فَإيَّايَ} منصوب بفعلٍ مضمرٍ مقدَّر بعده، يفسره هذا الظاهر، أي: إيَّاي ارهبوا فارهبون، وقدَّرهُ ابن عطيَّة: ارهبوا إيَّاي، فارهبون. قال أبو حيَّان: وهو ذهولٌ عن القاعدة النحوية؛ وهي أنَّ المفعول إذا كان ضميراً متصلاً، والفعل متعدِّ لواحدٍ، وجب تأخيرُ الفعل؛ نحو: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} [الفاتحة: 5] ولا يجوز أن يتقدم إلاَّ في ضرورة؛ كقوله: [الرجز} 3320 - إليْكَ حَتَّى بَلغَتْ إيَّاكا ... وقد مرَّ تقريره أول البقرة. وقد يجابُ عن ابن عطيَّة: بأنه لا يقبحُ في الأمور التقديريَّة ما يقبحُ في اللفظيَّة. وفي قوله: «إيَّاي» التفاتٌ من غيبة؛ وهي قوله «وقَالَ اللهُ» إلى تكلم، وهو قوله «فإيَّاي» ثم التفت إلى الغيبة أيضاً، في قوله تعالى: {وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض} . فصل قوله «فارْهَبُونِ» يفيد الحصر، وهو أنَّه لا يرهب الخلق إلاَّ منه، ثم قال: {وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض} . قال ابن عطية: «والواو في قوله: {وَلَهُ مَا فِي السماوات والأرض} عاطفة على قوله» إلهٌ واحدٌ «، ويجوز أن تكون واو ابتداءٍ» . قال أبو حيَّان: «ولا يقال: واو ابتداءٍ إلاَّ لواو الحال، ولا يظهر هنا الحال» . قال شهابُ الدين: وقد يطلقون واو ابتداء، ويريدون بها واو الاستئناف؛ أي: التي لم يقصد بها عطف ولا تشريك، وقد نصُّوا على ذلك؛ فقالوا: قد يؤتى بالواو أول الكلام، من غير قصدٍ إلى عطفٍ، واستدلوا على ذلك بإتيانهم بها في أول اشعارهم وهو كثيرٌ جدًّا. ومعنى قوله: «عاطفة على قوله: إلهٌ واحدٌ» أي: أنها عطفت جملة على مفرد، فيجب تأويلها بمفردٍ؛ لأنها عطفت على الخبر؛ فيكون خبراً، ويجوز - على كونها عاطفة - أن تكون عاطفة على الجملة بأسرها، وهي قوله تعالى: {إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 79 وكأن ابن عطية - رَحِمَهُ اللَّهُ - قصد بواو الابتداء هذا؛ فإنَّها استئنافيةٌ. فصل قال أهل السنة: هذه الآية تدل على أنَّ أفعال العباد مخلوقة لله تعالى؛ لأنَّها من جملة ما في السماوات والرض، وليس المراد من كونها لله، أنَّها مفعولة لأجله، ولطاعته؛ لأنَّ فيها المباحاتِ، والمحظورات التي يؤتى بها، لغرضِ الشَّهوةِ، واللَّذةِ، لا لغرضِ الطاعة؛ فوجب أن يكون المراد من كونها لله تعالى أنَّها واقعة بتكوينه وتخليقه. قوله: {وَلَهُ الدين وَاصِباً} حال من «الدِّينُ» والعامل فيها الاستقرار المتضمن الجارَّ الواقع خبراً، والواصبُ: الدَّائمُ؛ قال حسَّان: [المديد] 3321 - غَيَّرتهُ الرِّيحُ تَسْفِي بِهِ ... وهَزِيمٌ رَعْدهُ وَاصِبُ وقال ابو الأسود: [الكامل] 3322 - لا أبْتَغِي الحَمْدَ القَليلَ بَقاؤهُ ... يَوْماً بِذمِّ الدَّهْرِ أجْمعَ وَاصِبَا والواصب: العليل لمداومةِ السقم له؛ قال تعالى: {وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ} [الصافات: 9] أي: دائمٌ، وقيل: من الوصبِ، وهو التَّعب؛ ويكون حينئذٍ على النسب، أي: ذا وَصَبٍ؛ لأنَّ الدِّين فيه تكاليف، ومشاقٌّ على العباد؛ فهو كقوله: [المتقارب] 3323 - ... ... ... ... ... ... ... ..... أضْحَى فُؤادِي بِهِ فَاتِنَا أي: ذا فُتونٍ، وقيل: الواصب: الخالص، ويقال: وصَب الشَّيءُ، يَصِبُ وصُوباً، إذا دام، ويقال واظَبَ على الشَّيءِ، وَواصَبَ عليه إذا دَامَ، ومَفازَةٌ واصِبَةٌ، أي: بعيدة، لا غاية لها. وقال ابن قتيبة: ليس من أحدٍ يدان له، ويطاع إلاَّ انقطع ذلك بسبب في حال الحياة، أو بالموتِ إلا الحقَّ - سبحانه وتعالى - فإنَّ طاعته دائمة لا تنقطع. قال ابنُ الخطيب: وأقولُ: الدين قد يعنى به الانقياد؛ يقال: يا من دَانتْ لهُ الرِّقَابُ، أي: انقادت لذاته، أي: وله الدينُ واصِباً، أي: انقياد كل ما سواه له لازمٌ أبداً؛ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 80 لأنَّ انقياد غيره له معلَّل، بأنَّ غيره ممكنٌ لذاته، والممكن لذاته يلزم أن يكون محتاجاً إلى السبب، في طرفي الوجود، والعدمِ، فالماهيَّات يلزمها الإمكان لزوماً ذاتيًّا والإمكان يلزمه الاحتياج إلى المؤثر لزوماً ذاتيًّا، ينتج أنَّ الماهيات يلزمها الاحتياج إلى المؤثِّر لزوماً ذاتيًّا، فهذه [الماهيات] موصوفة بالانقياد لله - تعالى - اتصافاً، دائماً، واجباً، لازماً، ممتنع التَّغير. ثم قال {أَفَغَيْرَ الله تَتَّقُونَ} ، أي: تخافون؛ استفهام على طريق الإنكارِ، أي: أنكم بعد ما عرفتم أن إله العالم واحد، وأن كلَّ ما سواه محتاجٌ إليه، في حدوثه وبقائه، فبعد العلم بهذه الأصول، كيف يعقل أن يكون للإنسان رغبة في غير الله أو رهبة من غير الله؟! . قوله تعالى: {وَمَا بِكُم} يجوز في «مَا» وجهان: أحدهما: أن تكون موصولة، والجارُّ صلتها، وهي مبتدأ، والخبر قوله: «فَمِنَ اللهِ» والفاء زائدة في الخبر؛ لتضمن الموصول معنى الشرط، تقديره: والذي استقرَّ بكم، و «مِنْ نِعْمَةٍ» بيانٌ للموصولِ. وقدَّر بعضهم متعلق «بِكُمْ» خاصًّا، فقال: «ومَا حَلَّ بِكُمْ أو نَزلَ بِكُمْ» . وليس بجيِّد؛ إذ لا يقدر إلاَّ كوناً مطلقاً. الثاني: أنها شرطية، وفعل الشرط بعدها محذوف، وإليه نحا الفراء، وتبعه الحوفيُّ وأبو البقاء. قال الفرَّاء: التقدير «وما يكن بكم» . وقد ردَّ هذا؛ بأنَّه لا يحذف فعلٌ إلا بعد «إنْ» خاصَّة في موضعين: أحدهما: أن يكون من باب الاشتغال؛ نحو {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ} [التوبة: 6] لأن المحذوف في حكم المذكور. الثاني: أن تكون «إن» متلوة ب «لا» النافية، وأن يدلَّ على الشرط ما تقدَّمه من الكلام؛ كقوله: [الوافر] 3324 - فَطلِّقْهَا فَلسْتَ لهَا بِكُفءٍ ... وإلاَّ يَعْلُ مَفرِقكَ الحُسَامُ أي: وإلا تطلقها، فحذف؛ لدلالة قوله «فَطلِّقُهَا» عليه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 81 فإن لم توجد «لا» النافية، أو كانت الأداة غير «إنْ» لم تحذف إلا ضرورة، مثال الأول قول الشاعر: [الرجز] 3325 - قَالتْ بَناتُ العَمِّ: يَا سَلمَى وإنْ ... كَانَ فَقِيراً مُعْدماً؛ قالتْ: وإنْ أي: وإن كان فقيراً راضية؛ ومثال الثاني قول الشاعر: [الرمل] 3326 - صَعْدَةٌ نَابتَةٌ في حَائرٍ ... ايْنَمَا الرِّيحُ تُمَيِّلهَا تَمِلْ وقول الآخر: [الخفيف] _3327 - فَمَتى وَاغِلٌ يَنُبْهُمْ يُحَيُّو ... هُ وتُعْطَفْ عَليْهِ كَأسُ السَّاقِي فصل لما بيَّن أنَّ الواجب على العاقل أن لا يتَّقي غير الله، بين ههنا أنه يجب عليه أن لا يشكر أحداً إلا الله تعالى؛ لأنَّ الشكر إنما يلزم على النعمةِ، وكلُّ نعمةٍ تحصل للإنسانِ، فهي من الله تعالى، لقوله {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} . واحتجُّوا على أن الإيمان حصل بتخليقِ الله بهذه الآية؛ فقالوا: الإيمانُ نعمة وكلُّ نعمة فهي من الله، فالإيمان من الله تعالى، وأيضاً: فالنعمة عبارة عن كل ما ينتفع به، وأعظم الأشياء نفعاً هو الإيمان، فثبت أنَّ الإيمان نعمةٌ، وكل نعمة فهي من الله؛ لقوله {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} وهذا اللفظ يفيد العموم، وأيضاً: فالموجود إمَّا واجب لذاته، وهو الله - تعالى - وإما ممكنٌ لذاته، والممكن لذاته، لا يوجد إلا لمرجح؛ إن كان واجباً لذاته، كان حصول ذلك الممكن بإيجادِ الله - تعالى - وإن كان مُمْكِناً لذاته، عاد التقسيمُ الأول فيه والتسلسل؛ وهو محال، فلا بدَّ أن ينتهي إلى إيجاد الواجب لذاته؛ فثبت بهذا أنَّ كل نعمة فهي من الله. واعلم أنَّ النعم: إمَّا دينيَّة أو دنيويَّة، أما النعمُ الدينية: فهي إمَّا معرفة الحقِّ لذاه، وإما معرفة الخير؛ لأجل العمل به، وأما النعمُ الدنيوية فهي: إمَّا نفسانية، وإما بدنيةٌ، وإما خارجية، وكل واحدٍ من هذه الثلاثة جنس تحته أنواع خارجة عن الحصر والتحديد؛ كما قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] انتهى. قوله: {إِذَا مَسَّكُمُ الضر} قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد الأسقام، والأمراض، والقحط، والحاجة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 82 [قوله] : {فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} الفاء جواب «إذَا» والجُؤارُ: رفع الصَّوت؛ قال رؤبة يصف راهباً: [المتقارب] 3328 - يُداوِمُ من صَلواتِ المَلِيكِ ... طَوْراً سُجُوداً وطَوْراً جُؤار ومنهم من قيَّده بالاستغاثة؛ وأنشد الزمخشريُّ: [الكامل] 3329 - ... - جَأَّرُ سَاعَاتِ النِّيامِ لِربِّهِ ... ... ... ... ... . ... وقيل: الجُؤارُ: كالخُوارِ، جَأرَ الثَّوْرُ، وخَارَ: واحِدٌ، إلاَّ أنَّ هذا مهموز العين، وذلك مُعتلها. وق لالراغب: «جَأرَ إذا أفْرطَ في الدُّعاءِ، والتَّضرُّعِ تَشْبِيهاً بجُؤارِ الوحشيات» وقرأ الزهري: «تَجَرُونَ» محذوف الهمزة، وإلقاء حركتها على الساكن قبلها، كما قرأ نافع: «رِداً» في {رِدْءاً} [القصص: 34] . ومعنى الآية: أنَّه - تعالى - بيَّن أن جميع النِّعم من الله، ثم إذا اتفق لأحدٍ مضرةٌ تزيل تلك النعم؛ فإلى الله يستغيث؛ لعلمه بأنَّه لا مفزع للخلق إلا الله، فكأنه - تعالى - قال لهم: فأين أنتم عن هذه الطريقة في حال الرخاءِ، والسلامة. قوله: {ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر} «إذَا» الأولى شرطية، والثانية: فجائية جوابها، وفي الآية دليل على أنَّ «إذَا» الشرطية لا تكون معمولة لجوابها؛ لأنَّ ما بعد «إذَا» الفجائية لا يعمل فيما قبلها. [وقرأ قتادة] : «كَاشِفٌ» على فاعل. قال الزمخشريُّ: «بمعنى» فعل «وهو أقوى من» كَشَف «لأن بناء المغالبة يدل على المبالغة» . قوله: «مِنْكُمْ» يجوز أن يكن صفة ل «فَرِيقٌ» ، و «مِنْ» للتبعيض، ويجوز أن يكون للبيان، قال الزمخشريُّ: «كأنه قال: إذا فريقٌ كافرٌ، وهم أنتم» . فصل بين - تعالى - أنَّ عند كشف الضرِّ، وسلامة الأحوال، يفترقون: فريق منهم يبقى على ما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 83 كان عليه عند الضَّراء، أي: لا يفزع إلاَّ إلى الله، وفريق منهم يتغيَّرون فيشركون بالله - تعالى - غيره؛ وهذا جهلٌ وضلالٌ؛ لأنَّه لما شهدت فطرته الأصليَّة عند نزول البلاءِ، والضرِّ في ألاَّ يفزع إلا إلى الله، ولا يستغاث إلا بالله - فعند زوال البلاءِ يجب ألاَّ يزول عن ذلك الاعتقاد؛ ونظير هذه الآية قوله تعالى: {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ} [لقمان: 13] . قوله: {لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ} في هذه اللام ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن تكون لام كي، وهي متعلقة ب «يُشْرِكُونَ» ، أي: أن إشراكهم سببه كفرهم به. الثاني: أنَّها لام الصَّيرورةِ، أي: صار أمرهم إلى ذلك. الثالث: أنَّها لام الأمر، وإليه نحا الزمخشريُّ. وقرأ ابو العالية، ورواها مكحول عن أبي رافع مولى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «فيُمْتَعُوا» بضمِّ الياءِ من تحت، ساكن الميم، مفتوح الياء مضارع «مُتِعَ» مبنيًّا للمفعول، «فسَوْفَ يَعْلمُونَ» بالياء من تحت أيضاً، وهذا المضارع في هذه القراءة، يجوز أن يكون حذف منه النون فيه؛ إما للنصب، عطفاً على «لِيَكْفُروا» وإن كانت لام «كي» ، أو للصيرورة، وإما لنصب أيضاً، ولكن على جواب الأمر إن كانت اللام للأمر، ويجوز أن يكون حذفها للجزم؛ عطفاً على «لِيَكْفرُوا» وإن كانت للأمر أيضاً. فصل قال بعض المفسرين: هذه لام العاقبة؛ كقوله تعالى: {فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [القصص: 8] يعني: أنَّ عاقبته تلك التضرعات، ما كانت إلا هذا الكفر. والمراد بقوله: «بِمَاءَاتَيْناهُمْ» كشف الضرِّ، وإزالة المكروه، وقيل: لمراد به القرآن وما جاء به محمدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من النبوة والشرائع. ثمَّ توعَّدهم فقال: «فتَمتَّعُوا» ، [والمراد منه التهديد] ؛ كقوله {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] وقوله: {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} أمركم، وما ينزل بكم من العذاب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 84 قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً} الآية لما بيَّن فساد قول أهل الشرك بالدلائل القاهرة، شرح في هذه الآية تفاصيل أقوالهم. قوله: {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} الضمير في قوله: «يَعْلمُونَ» يجوز أن يعود للكفار، أي: لما يعلم، ومعنى «لا يَعْلمُونَ» أنهم يسمُّونها آلهة، ويعتقدون أنَّها تضرُّ، وتنفع، وتشفع؛ وليس الأمر كذلكز ويجوز أن تكون للآلهة، وهي الأصنام، أي: الأشياء غير موصوفةٍ بالعلمز قال باضهم: والأوَّل أولى؛ لأنَّ نفي العلم عن الحي حقيقةٌ، وعن الجمادِ مجازٌ، وأيضاً: الضمير في «ويَجْعَلُونَ» عائدٌ غلى المشركين، فكذلك في قوله {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} ، وأيضاً فقوله: {لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ} جمعٌ بالواو والنون؛ وهو بالعقلاءِ أليق منه بالأصنام. وقيل: الثاني أولى؛ لأنَّا إذا أعدناه إلى المشركين؛ افتقرنا إلى إضمار؛ فإن التقدير: ويجعلون لما لا يعلمون إلهاً، أو لما لا يعلمون كونه نافعاً ضارًّا، وإذا اعدناه إلى الأصنام، لم نفتقر إلى الإضمار؛ لأن التقدير: ويجعلون لما لا علم لها. وأيضاً: لو كان هذا العلم مضافاً إلى المشركين، لفسد المعنى؛ لأنه من المحال أن يجعلوا نصيباً مما رزقهم، لما لا يعلمونه. فإذا قلنا بالقول الأول، احتجنا إلى الإضمار، وذلك يحتمل وجوهاً: أحدها: ويجعلون لما لا يعلمون له حقًّا، ولا يعلمون في طاعته [نَفْعاً] ، ولا في الإعراضِ عنه ضُرًّا. قال مجاهدٌ: يعلمون أنَّ الله خلقهم ويضرُّهم وينفعهم، ثم يجعلون لما لا يعلمون أنَّه ينفعهم، ويضرُّهم نصيباً. وثانيها: ويجعلون لما لا يعلمون إلهيَّتها. وثالثها: ويجعلون لما لا يعلمون السبب في صيرورتها ىلهة معبودة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 85 قوله «نَصِيباً» هو المفعول الأول للجعل، والجارُّ قبله هو الثاني، أي: ويصيِّرون الأصنام. [وقوله:] {مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} يجوز أن يكون نعتاً ل «نَصِيباً» وأن يتعلق بالجعل؛ ف «مِنْ» على الأول للتبعيض، وعلى الثاني للابتداء. فصل في المراد بالنصيب احتمالات: أحدها: أنهم جعلوا لله نصيباً من الحرثِ، والأنعامِ؛ يتقرَّبون به إلى الله، ونصيباً للأصنام؛ يتقربون به إليها، كما تقدم في آخر سورة الأنعام. والثاني: قال الحسنُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المراد بهذا النصيب: البَحِيرةُ، والسَّائبةُ، والوَصِيلةُ، والحَامِ. والثالث: ربما اعتقدوا في بعض الأشياء، أنَّه لما حصل بإعانة بعض تلك الأصنام، كما أنَّ المنجمين يوزِّعون موجودات هذا العالم على الكواكب السبعة، فيقولون: لرجلٍ كذا وكذا من المعادن، والنبات، والحيوان، وللمشتري أشياء أخرى. ثمَّ لمَّا حكى عن المشركين هذا المذهب، قال: {تالله لَتُسْأَلُنَّ} وهذا في هؤلاء الاقوام خاصة بمنزلة قوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92، 93] ، فأقسم الله سبحانه وتعالى - جل ذكره - على نفسه أنَّه يسسألهم، وهذا تهديد شديد؛ لأن المراد من هذا أنه يسألهم سؤال توبيخٍ، وتهديدٍ، وفي وقت هذا السؤال احتمالان: الأول: أنه يقع هذا السؤال عند قرب الموت، ومعاينة ملائكة العذاب، وقيل: عند عذاب القبر، وقيل: في الآخرةِ. الثاني: أنه يقع ذلك في الآخرة، وهذا أولى؛ لأنه - تعالى - قد أخبر بما يجري هناك من ضروب التوبيخ عند المسألة، فهو إلى الوعيد أولى. النوع الثاني من كلماتهم الفاسدة: قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} ونظيره قوله: {وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً} [الزخرف: 19] كانت خزاعة، وكنانة تقول: الملائكة بنات الله. قال ابن الخطيب: «أظنُّ أنَّ العرب إنَّما أطلقوا لفظ البنات على الملائكة؛ لأن الملائكة - عليهم الصلاة والسلام - لما كانوا مستترين عن العيون، أشبهوا النساء في الاستتار، فأطلقوا عليهم البنات» . وهذا الذي ظنَّه ليس بشيءٍ، فإن الجنَّ أيضاً مستترون عن العيون، ولم يطلقوا عليها لفظ البنات. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 86 ولمَّا حكى عنهم هذا القول قال: «سُبْحَانهُ» والمراد: تنزيه ذاته عن نسبة الولد إليه. وقيل: تعجيب الخلق من هذا الجهل الصَّريح، وهو وصف الملائكة بالأنوثةِ، ثم نسبتها بالولدية إلى الله - سبحانه وتعالى - والمعنى: معاذ الله. قوله: {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن هذا الجملة من مبتدأ، وخبر، أي: يجعلون لله البنات، ثمَّ أخبر أنَّ لهم ما يشتهون. وجوَّز الفرَّاء، والحوفيُّ، والزمخشري، وأبو البقاء - رحمهة الله عليهم - أن تكون «مَا» منصوبة المحلّ؛ عطفاً على «البَناتِ» و «لَهُمْ» عطف على الله، أي: ويجعلون لهم ما يشتهون. قال أبو حيَّان: وقد ذهلوا عن قاعدةٍ نحويَّة، وهو أنه لا يتعدَّى فعل المضمر إلى ضميره المتَّصلِ، إلاَّ في باب «ظنَّ» وفي «عَدمَ» و «فَقَد» ولا فرق بين أن يتعدى الفعل بنفسه، أو بحرف الجرِّ؛ فلا يجوز: زَيْدٌ ضربه، أي: ضرب نفسهُ، ولا «زَيْدٌ مَرَّ بِِهِ» ، أي: مر بنفسه، ويجوز: «زيد ظنه قائماً» ، و «زيد فقده وعدمه» أي: [ظن نفسه قائماً، وفقد] نفسه، وعدمها. إذا تقرَّر هذا، فجعل «مَا» منصوبة عطفاً على «البَناتِ» يؤدِّي إلى تعدِّي فعل الضمير المتَّصل، وهو واو «يَجْعلُونَ» إلى ضميره المتَّصل، وهو «هُمْ» في «لَهُمْ» انتهى. وهذا يحتاجُ إلى إيضاح أكثر من هذا، وهو أنَّه لا يجوز تعدي فعل الضمير المتصل، ولا فعل الظاهر إلى ضميرها المتصل، إلا في باب «ظنَّ» وأخواتها من أفعال القلوب، وفي «فَقَد» و «عَدمَ» فلا يجوز زيدٌ ضربهُ زيدٌ، أي: ضَربَ نفسه، ويجوز: زَيْدٌ ظنَّه قَائماً، وظنَّه زَيْدٌ قَائِماً، وزيْدٌ فقَدهُ وعدمهُ، وفقَدهُ وعَدمهُ زَيْدٌ، ولا يجوز تعدي فعل المضمر المتصل إلى ظاهر، في باب من الأبواب، لا يجوز: زيدٌ ضربَ نَفسَهُ، وفي قولنا «غلى ضميرها المتصل» قيدان: أحدهما: كونه ضميراً، فلو كان ظاهراً كالنَّفس لم يمتنع، نحو: زَيْدٌ ضرب نفسهُ وضَرَب نفسه زيد. والثاني: كونه متَّصلاً، فلو كان منفصلاً؛ جاز، نحو: زيدٌ ما ضرب إلاَّ إيَّاه، وما ضَربَ زيْدٌ إلاَّ إياه، وأدلَّة هذه المسألة مذكورة في كتب النَّحو. وقال مكي: «وهذا لا يجوز عند البصريين، كما لا يجوز: جعلت لي طعاماً إنَّما يجوز جعلت لنفسي طعاماً، فلو كان لفظ القرآنِ: ولأنفسهم ما يشتهون، جاز ما قال الفرَّاء عند البصريين، وهذا أصلٌ يحتاج إلى تعليل، وبسطٍ كثيرٍ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 87 وقال أبو حيَّان - بعدما حكى أنَّ «مَا» في موضع نصبٍ عن الفرَّاء، ومن تبعه -: وقال أبو البقاءِ، وقد حكاهُ؛ وفيه نظرٌ. قال شهابُ الدِّين: «وأبو البقاء لم يجعل النَّظر في هذا الوجه، إنَّما جعله في تضعيفه، بكونه يؤدِّي غلى تعدي فعل المضمر المتَّصل إلى ضميره المتصل في غير ما استثني، فإنه قال:» وضعَّف قومٌ هذا الوجه، وقالوا: لو كان كذلك لقال: ولأنفسهم، وفيه نظرٌ «فجعل النظر في تضعيفه لا فيه» . وقد يقال: وجه النَّظر أنَّ الممتنع تعدى ذلك الفعل، أي: وقوعه على ما جر بالحرف، نحو: «زيد مرَّ بِهِ» فإن المرور واقعٌ ب «زيدٍ» ، وأمَّا ما نحن فيه، فليس الجعل واقعاً بالجاعلين، بل ما يشتهون. وكان أبو حيَّان يعترض دائماً على القاعدة المتقدمة بقوله تعالى: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} [مريم: 25] {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب} [القصص: 32] . والجواب عنهما ما تقدَّم، وهو أنَّ الهزَّ، والضَّم ليسا واقعين بالكاف، وقد تقدَّم لنا هذا البحث في مكانٍ آخر، وإنَّما أعدته لصعوبته، وخصوصيته، هذا بزيادة فائدة، وأراد بقوله: {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57] أي: الشيء الذي يشتهونه، وهو السَّترُ. ثمَّ إنه - تعالى - ذكر أنَّ الواحد من هؤلاء المشركين لا يرضى بالبنت لنفسه فالذي لا يرتضيه لنفسه كيف ينسبه لله - تعالى - فقال تعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى} . التَّبْشيرُ في عرف اللغة: مختصٌّ بالخبر الذي يفيد السرور، إلا أنَّ أصله عبارة عن الخبر الذي يؤثر في تغيير بشرة الوجه، ومعلومٌ أن السُّرورَ كما يوجب تغير البشرة، فكذلك الحزن يوجبه؛ فوجب أن يكون التَّبشيرُ حقيقة في القسمين، ويؤكِّده قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] . وقيل: المراد بالتَّبشير ههنا الإخبار. قوله: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً} يجوز أن تكون «ظلَّ» ليست على بابها من كونها تدلُّ على الإقامة نهاراً على الصِّفة المسندة إلى اسمها، وأن تكون بمعنى: «صَارَ» وعلى التقديرين هي ناقصة، و «مُسْودًّا» خبرها. وأما «وجهه» ففيه وجهان: أشهرهما، وهو المتبادر إلى الذّهن أنه اسمها. والثاني: أنه بدلٌ من الضمير المستتر في «ظلَّ» : بدل بعضٍ من كلٍّ، أي: ظلَّ أحدهم وجهه، أي: ظل وجه أحدهم. قوله: «كَظِيمٌ» يجوز أن يكون بمعنى فاعل، وأن يكون بمعنى مفعول كقوله: {وَهُوَ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 88 مَكْظُومٌ} [القلم: 48] ، والجملة حالٌ، وبجوز أن يكون: «وهُوَ كَظيمٌ» حالاً من الضَّمير في «ظلَّ» أو من «وَجْههِ» أو من الضمير في: «مُسْودًّا» . وقال أبو البقاءِ: «فلو قرئ هنا» مُسْوَدٌّ «يعني بالرفع، كلان مستقيماً على أن يجعل اسم» ظل «مضمراً فيها، والجملة خبرها» . وقال في سورة الزخرف [الآية: 17] : «ويقرآن بالرفع على أنه مبتدأ، وخبر في موضع خبر ظلَّ» . قوله: {يتوارى} يحتمل أن تكون مستأنفة، وأن تكون حالاً ممَّا كانت الأولى حالاً منه إلا «وجْههُ» فإنه لا يليق ذلك به، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في: «كَظِيمٌ» . قوله {مِنَ القوم مِن سواء} تعلق هنا جاران بلفظ واحد لاختلاف معناهما فإنَّ الأولى للابتداء، والثانية للعلَّة، أي: من أجل سوء ما بشِّر به. قوله: «أيُمْسِكهُ» قال أبو البقاء: «في موضع الحال، تقديره: يتوارى، أي: مُتردِّداً هل يمسكه أم لا؟» . وهذا خطأٌ عند النحويين؛ لأنهم نصوا على أنَّ الحال، لا تقع جملة طلبيَّة، والذي يظهر أن هذه الجملة الاستفهامية معمولة لشيءٍ محذوف هو حال من فاعل «يَتوارَى» ، ليتم الكلام، أي: يتوارى ناظراً، أو متفكِّراً: «أيُمسِكهُ على هُونٍ ... أمْ يدُسُّه» على تذكير الضمائر اعتباراً بلفظ «مَا» . وقرأ الجحدريُّ: أيُمْسِكُها، أم يدسُّها مراعاة للأنثى، أو لمعنى «مَا» . وقرئ: أيمسكهُ أم يدسُّها، والجحدري، وعيسى - رحمهما الله - على «هَوان» بزنة فدان، وفرقة على «هَوْنٍ» وهي قلقة؛ لأنَّ الهون بفتح الهاء: الرِّفقُ، واللينُ، ولا يناسب معناه هنا، وأمَّا الهوان فمعنى «هُونٍ» المضموم. قوله: {على هُونٍ} فيه وجهان: أحدهما: أنه حال من الفاعل، وهو مروي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - فإنه قال: أيمسكه مع [رضاء] بهوان نفسه، وعلى رغم أنفه. والثاني: أنه حالٌ من المفعول، أي: يمسكها ذليلة مهانة. والدَّس: إخفاء الشيء، وهو هنا عبارة عن الوَأدِ. فصل معنى الآية: أنَّ وجهه يتغير تغير المغموم، ويقال لمن لقي مكروهاً قد اسود وجهه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 89 غمًّا، وحزناً، وإنما جعل اسوداد الوجه كناية عن الغمِّ؛ لأنَّ الإنسان إذا قوي فرحه انشرح صدره، وانبسط روح قلبه من داخل البدن، ووصل إلى الأطراف، ولا سيَّما إلى الوجه لما بين القلب، والدِّماغ من التَّعلق الشَّديد، وإذا وصل الرُّوح إلى ظاهر الوجه أشرق الوجه، وتلألأ، واستنار، وإذا قوي غمُّ الإنسان احتقن الروحُ في داخل القلب، ولم يبق منه أثرٌ قويٌّ في ظاهر الوجه، فلا جرم يصفرُّ الوجه، ويسودُّ، ويظهر فيه أثر الأرضية، والكآبة؛ فثبت أنَّ من لوازم الفرح استنارة الوجه، وإشراقه، ومن لوازم الغمِّ كمودة الوجه، وغبرته، وسواده، فلهذا قال: {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ} أي ممتلئ غمًّا «يتوارى» به من القوم يتنحى عنهم ويتغيَّب من سوء ما بشِّر. قال المفسِّرون: كان الرجلُ في الجاهليَّة إذا ظهر آثار الطَّلق بامرأته توارى واختفى عن القوم إلى أن يعلم ما يولد له، فإن كان ذكراً؛ ابتهج به وإن كان أنثى حزن، ولم يظهر أياماً يدبر فيها رأيه ماذا يصنع بها؟ وهو قوله: {أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ} ، أي: أيحتبسه؟ والإمساك هنا: الحبس، كقوله: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ} [الأحزاب: 37] والهُونُ: الهَوان. قال النضر بن شميلٍ: يقال: إنه أهون عليه هوناً، وهَواناً، وأهَنْتُه هُوناً وهواناً، وقد تقدَّم الكلام فيه في سورة الأنعام عند قوله تعالى: {عَذَابَ الهون} [الأنعام: 93] . {أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب} والدَّسُ: إخفاءُ الشيء في الشيء، كانت العرب يدفنون البنات أحياء خوفاً من الفقر عليهن، وطمع غير الأكفاءِ فيهنَّ. قال قيس بن عاصم: يا رسول الله: «إني واريت ثماني بنات في الجاهليَّة، فقال - صلوات الله وسلامه عليه -: أعتِقْ عَنْ كُلِّ واحِدةٍ منهُنَّ رقبة» ، فقال: يا نبيَّ الله إنِّي ذُو إبلٍ، فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «أهدِ عن كُلِّ واحدةٍ مِنهُنَّ هَدْياً» . وروي «أنَّ رجلاً قال: يا رسول الله: والذي بعثك بالحق نبيًّا ما أجدُ حلاوة الإسلام منذ أسلمت قد كان لِيَ بنتٌ في الجاهليَّة، وأمرتُ امْرأتي أن تُزيِّنهَا وتطيبها، فأخْرَجتْهَا إليّ فلمَّا انْتهَيْتُ بِهَا إلى وادٍ بَعيدٍ القعْر ألقَيْتُهَا فيهِ، فقالت: يا أبَتِ قَتَلتَنِي، فكُلَّما تَذَكَّرتُ قَوْلهَا لَمْ يَنْفَعْنِي شيءٌ، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» مَا كانَ في الجاهليَّة فقد هَدمهُ الإسلامُ، ومَا كَانَ في الإسلامِ يَهدمهُ الاستِغفَارُ «. واعلم أنَّهم كانوا مختلفين في قتل البنات، فمنهم من يذبحها، ومنهم من يحفر الحفيرة، ويدفنها إلى أن تموت، ومنهم من يرميها من شاهق جبلٍ، ومنهم من يغرقها، وكانوا يفعلون ذلك تارة للغيرة، وتارة للحميَّة، وتارة خوفاً من الفقر، والفاقة، ولزومِ النَّفقةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 90 وكان صعصعة عم الفرزدق إذا أحسَّ شيئاً من ذلك، وجه إلى والد البنت إبلاً يستحييها بذلك، فقال الفرزدق مفتخراً به: [المتقارب] 3330 - وعَمِّي الذي مَنعَ الوَائِداتِ ... وأحْيَا الوئِيدَ فَلمْ تُوءَدِ {أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ} ؛ لأنهم بلغوا في الاستنكاف من البنت إلى أعظم الغايات. أولها: أنه يُسوِّدُّ وجهه. ثانيها: أنَّه يختفي عن القوم من شدَّة نفرته عنها. وثالثها: يقدم على قتلها مع أنَّ الولد محبوبٌ بالطبع، وذلك يدلُّ على أنَّ النفرة من البنت تبلغ مبلغاً لا مزيد عليه، فالشيء الذي يبلغ الاستنكاف عنه إلى هذا الحدِّ العظيم، كيف يليقُ بالعاقل أن ينسبه لإله العالم القديم المقدَّس العالي عن مشابهة جميع المخلوقات؟ . ونظير هذه الآية قوله تعالى: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى} [النجم: 21، 22] . فصل قال القرطبيُّ: ثبت في صحيح مسلم أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «من ابتُلِي من البَناتِ بشيءٍ، فأحْسنَ إليْهِنَّ كُنَّ لهُ سِتْراً من النَّارِ» . وعن أنس بن مالكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «مَنْ عَالَ جَارِيتيْنِ حتَّى تَبلُغَا، جَاء يَوْمَ القِيامةِ أنَا وهُوَ كهَاتيْن، وضمَّ أصَابعهُ» أخرجهما مسلم. فصل قال القاضي: «دلَّت هذه الآية على بطلانِ الجبر؛ لأنَّهم يضيفون إلى الله - تعالى - من الظُّلمِ، والفواحش ما إذا أضيف إلى أحدهم أجهد نفسه في البراءة منه، والتَّباعد عنه، فحكمهم في ذلك مشابهٌ لحكم هؤلاء المشركين، بل أعظم؛ لأنَّ إضافة البنات إلى الله إضافة قبح واحد، وذلك أسهل من إضافة كل القبائح والفواحش إلى الله - تعالى -» . وجوابه: لما ثبت بالدَّليل استحالة الصاحبة والولد على الله أردفه الله - تعالى - بذكر هذا الوجه الإقناعي، وإلا فليس كل ما قبح في العرف قبح من الله - تعالى - ألا ترى أنَّه لو زيَّن رجلٌ إماءه، وعبيده، وبالغ في تحسين صورهم، ثمَّ بالغ في تقوية الشَّهوةِ فيهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 91 وفيهن، ثم جمع بين الكل، وأزال الحائل، والمانع، فإنَّ هذا بالاتِّفاقِ حسن من الله - تعالى - وقبيح من كلِّ الخلق، فعلمنا أنَّ التعويل بالوجوه المبنية على العرف إنَّما تحسن إذا كانت مسبوقة بالدَّلائل القطعيَّة اليقينيَّة، وقد ثبت بالبراهين القطعيَّة امتناع الولد على الله، فلا جرم حسنت تقويتها بهذه الوجوه الإقناعية. وأمَّا أفعال العباد فقد ثبت بالدَّلائل القطعيَّة أنَّ خالقها هو الله سبحانه وتعالى فكيف يمكن إلحاق أحد البابين بالآخر. ثم قال: {لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء} والمثلُ السُّوءِ: عبارة عن الصِّفةِ السوء، وهي احتياجهم إلى الولدِ، وكراهيتهم الإناث خوفاً من الفقر والعار {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} ، أي: الصِّفة العالية المقدسة، وهي كونه تعالى منزّهاً عن الولد. قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: مثل السُّوءِ: النَّار، والمثل الأعلى شهادة أن لا إله إلا الله {وَهُوَ العزيز الحكيم} . فإن قيل: كيف جاء {وَلِلَّهِ المثل الأعلى} مع قوله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} [النحل: 74] . فالجواب: أنَّ المثل الذي يضربهُ الله حقٌّ وصدقٌ، والذي يذكره غيره باطل. قال القرطبي في الجواب: «إن قوله تعالى: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} ، أي: الأمثال التي توجب الأشباه، والنَّقائص، أي: لا تضربوا لله مثلاً يقتضي نقصاً وتشبهاً بالخلق، والمثل الأعلى: وصفه بما لا شبيه له ولا نظير» . قوله تعالى: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} الآية لما حكى عن القوم عئم كفرهم، وقبيح قولهم، بين أنه يمهل هؤلاء الكفار، ولا يعاجلهم بالعقوبة إظهاراً للفضل، والرحمة، والكرمِ. قالت المعتزلة: هذه الآية دالَّة على أنَّ الظلم والمعاصي ليست فعلاً لله تعالى، بل تكون أفعالاً للعباد؛ لأنه - تعالى - أضاف ظلم العباد إليهم، فقال - عزَّ وجلَّ - {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِظُلْمِهِمْ} ، وأيضاً: لو كان خلقاً لله لكانت مؤاخذتهم بها ظلماً من الله، ولما منع الله - تعالى - العباد من الظلم، فبأن يكون منزّهاً عن الظلم أولى؛ ولأنَّ قوه تعالى: «بِظُلمهِمْ» الباء فيه تدلُّ على العليَّة، كما في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ} [الحشر: 4] . وقد تقدَّم الجواب مراراً. فصل ظاهر الآية يدلُّ على أنَّ إقدام الناس على الظُّلم؛ يوجب إهلاك جميع الدَّواب، وذلك غير جائزٍ؛ لأن الدَّابَّة لمَّا لم يصدر عنها ذنبٌ، فكيف يجوز إهلاكها بسبب ظلم النَّاس؟ . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 92 وأجيب بوجهين: أحدهما: أنَّا لا نسلم أن قوله: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} يتناول جميع الدَّوابِّ. قال الجبائي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن المراد لو يؤاخذهم الله بما كسبوا من كفر، ومعصية لعجَّل هلاكهم، وحينئذ لا يبقى لهم نسلٌ، ومن المعلوم أنه لا أحد إلاَّ وفي أحد آبائه من يستحق العذاب، وإذا هلكوا؛ فقد بطل نسلهم، فكان يلزمه أن لا يبقى في العالم أحد من النَّاس، وإذا [هلكوا] ، وجب ألا يبقى أحد من الدَّواب أيضاً، لأن الدَّواب مخلوقةٌ لمنافع العباد، وهذا وجهٌ حسن. الثاني: أنَّ الهلاك إذا ورد على الظَّلمةِ، ورد أيضاً على سائر النَّاس والدَّواب، فكان ذلك الهلاك في حق الظلمة عذاباً، وفي حق [غيرهم امتحاناً] ، وقد وقعت هذه الواقعة في زمن نوحٍ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. الثالث: أنه تعالى لو أخذهم لانقطع القطر، وفي انقطاعه انقطاع النَّبْت، فكان لا يبقى على ظهرها دابَّة. عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سمع رجُلاً يقول: إن الظَّالمَ لا يضُرُّ إلاَّ نفسه فقال: «لا والله، بل إنَّ الحبارى لتموتُ في وكْرِهَا بظلم الظالم» . وعن ابن مسعودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كَادَ الجُعل يهلك في جحره بذنب ابن آدم؛ فهذه الوجوه الثَّلاثة مبنيةٌ على أنَّ لفظ الدابة يتناول جميع الدَّواب. والجواب الثاني: أنَّ المراد بالدَّابة الكافر، قوله تعالى: {فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} [الأعراف: 34] . قوله: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ} ، أي: البنات التي يكرهونها لأنفسهم ومعنى: « الجزء: 12 ¦ الصفحة: 93 ويجعلون» : يصفون الله بذلك، ويحكمون به له، كقولك: جعلتُ زيداً على النَّاس، أي: حكمت بهذا الحكم. وتقدَّم معنى الجعل عند قوله تعالى: {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] . قوله: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب} بسكون التَّاء تخفيفاً، وهي تشبه تسكين لام {بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} [الزخرف: 80] ، وهمزة {بَارِئِكُمْ} [البقرة: 54] ونحوه. والألسنةُ: جمع لسان مراداً به التذكير، فجمع كما جمع فعال المذكر نحو: «حِمَار وأحْمِرَة» ، وإذا أريد به التَّأنيث جمع جمع أفعل، كذِرَاعٍ، وأذْرُع. وقرأ معاذ بن جبل رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «الكُذُبُ» بضم الكافِ والذَّال، ورفع الباء، على أنَّه جمع كذُوب، كصَبُور وصُبُر، وهو مقيسٌ. وقيل: هو جمع كاذب، نحو «شَارِف وشُرُف» ؛ كقول الشاعر: [الوافر] 3331 - ألاَ يَا حَمْزَ للشَّثرفِ النِّواءِ ..... ... ... ... . . وهو حينئذٍ صفة ل: «ألْسِنتُهمُ» ، وحينئذ يكون «أنَّ لهُم الحُسْنَى» مفعولاً به والمراد بالحسن: البَنُونَ. وقال يمانُ: يعني بالحسنةِ: الجنة في المعادِ. فإن قيل: كيف يحكمُون بذلك، وهم منكُرونَ القيامة؟ . فالجواب: أنَّ جميعهم لم ينكر القيامة، فقد قيل: إنَّه كان في العرب جمعٌ يقرُّونَ بالبعثِ، ولذلك كانوا يربطون البعير النَّفيسَ على قبرٍ، ويتركنه إلى أن يموت ويقولون: إنَّ ذلك الميت إذا حشر؛ يحشر معه مركوبه. وقيل: إنهم كانوا يقولون: إن كان محمداً صادقاً في قوله بالبعث، تحصل لنا الجنَّة بهذا الدين الذي نحن عليه. قيل: وهذا القول أولى، لقوله بعد: «لا جَرمَ أنَّ لهُم النَّارَ» فردّ عليهم قولهم، وأثبت لهم النَّار؛ فدلَّ على أنهم حكموا لأنفسهم بالجنَّة. قوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} ، أي: حقًّا. قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - نعم إن لهم النَّار. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 94 قال الزجاج: «لا» رد لقولهم، أي: ليس الأمر كما وصفوا، «جرم» [فعلهم] أي: كسب ذلك القول لهم النار، فعلى هذا اللفظ «أنَّ» في محلِّ نصبٍ بوقوع الكسب عليه. وقال قطربٌ: «أنَّ» في موضع رفع، والمعنى: وجب أن لهم النَّار، وكيف كان الإعراب، فالمعنى: أنه يحق لهم النَّار، ويجبُ. قوله: {وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ} قرأ نافعٌ بكسر الراء، اسم فاعل من أفرط، إذا تجاوز فالمعنى: أنهم متجاوزون الحد في معاصي الله - تعالى - أو في الإفراط، فأفعل هنا قاصر. وقال الفارسيُّ: كأنه من أفرط، أي: صار ذا فرطٍ، مثل: أجرب، أي: صار ذا جرب، والمعنى: أنَّهم ذُو فرطٍ إلى النَّار كأنَّهم قد أرْسِلُوا إلى من يُهَيِّئُ لهُم مواضع إلى النَّار. والباقون بفتحها، اسم مفعولٍ من: أفرطته، وفيه معنيان: أحدهما: أنه من أفرطته خلفي، أي: تركته ونسيته، حكى الفراء أنَّ العرب تقول أفرطتُ منهم ناساً، أي: خلفتهم، والمعنى: أنَّهم مَنْسيُّونَ مَترُوكونَ في النَّار. والثاني: أنه من أفرطته، أي: قدمته إلى كذا، وهو منقولٌ بالهمزة من فرط إلى كذا، أي: تقدَّم إليه، كذا قاله ابو حيان، وأنشد للقطامي: [البسيط] 3332 - واسْتَعْجلُونَا وكَانُوا مِنْ صَحابَتِنَا ... كَمَا تعجَّل فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ فجعل «فَرَطَ» قاصراً، و «أفْرَطَ» منقولاً. وقال الزمخشريُّ: «بمعنى مقدَّمُون إلى النَّار معجَّلون إليها، من أفرطت فُلاناً وفرَّطتهُ، إذا قدَّمتهُ إلى المَاءِ» . فجعل «فَعَلَ» ، و «أفْعَل» بمعنى؛ لأنَّ «أفْعَلَ» منقولٌ من «فَعَل» والقولان محتملان، ومنه الفرطُ، أي: المتقدم، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنَا فَرطُكمْ على الحَوْضِ» ، أي: سابقكم، ومنه «جَعَلهُ فَرطاً لأبويه وذُخْراً» ، أي: متقدماً بالشَّفاعة، وبتثقيل الموازين، والمعنى على هذا: أنهم قدموا إلى النَّار، وأنهم فرط الذين يدخلون بعدهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 95 وقرأ أبو جعفر في رواية «مُفرِّطُونَ» بتشديد الرَّاءِ مكسورة من فرَّط في كذا، أي: قصَّر، وفي رواية مفتوحة من فرَّطتهُ معدى بالتَّضعيف؛ أي من «فرط» بالتخفيف أي: تقدَّم، وسبق. وقرأ عيسى بن عمر والحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «لا جَرمَ إنَّ لهم النار وإنهم» بكسر «إن» فيهما على أنهما جواب قسم، أغنت عنه: «لا جرم» . ثم بين - تعالى - أن هذا الصُّنع الذي صدر من مشركي قريش، قد صدر عن سائر الأمم السَّابقة في حق أنبيائهم - صلوات الله وسلامه عليهم -. فقال: {تالله لَقَدْ أَرْسَلْنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ} أي: كما أرسلنا إلى هذه الأمَّة، وهذا تسليةٌ للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيما كان يناله من الغم بسبب جهالات القوم. قالت المعتزلة: هذه الآية تدلُّ على فساد قول المجبرة من وجوهٍ: أحدها: أنَّه إذا كان خالقُ أعمالهم هو الله - تعالى -، فلا فائدة في التَّزيينِ. والثاني: أنَّ ذلك التزيين لما كان بخلق الله - تعالى - لم يجز ذمُّ الشيطان بسببه. والثالث: أنَّ ذلك التزيين هو الذي يدعو الإنسان إلى الفعل، وإذا كان حصول الفعل بخلق الله - تعالى - كان ضرورياً، فلم يكن التَّزيينُ داعياً. والرابع: أنَّ على قولهم: الخالق لذلك العمل، أجدر بأن يكون ولياً لهم من الدَّاعي إليه. الخامس: أنه - تعالى - أضاف التزيين إلى الشَّيطان، ولو كان ذلك المزيِّن هو الله - تعالى - لكانت إضافته إلى الشَّيطان كذباً. والجواب: إنْ كان مزين القبائح في أعين الكفَّار هو الشيطان، فمزين تلك الوساوس في عين الشيطان إن كان شيطاناً آخر؛ لزم التَّسلسل، وإن كان هو الله - تعالى - فهو المطلوبُ. قوله: {فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ} يجوز أن تكون هذه الجملة حكاية حال ماضية، أي: فهو ناصرهم، أو آتية. ويرادُ باليوم يوم القيامةِ، والمعنى: فهو وليّ أولئك الذين زيِّن لهم أعمالهم يوم القيامةِ، وأطلق اسم اليوم على يوم القيامةِ لشهرته، والمقصود أنَّهُ لا وليَّ لهم، ولا ناصر لهم؛ لأنهم إذا عاينوا العذاب، وقد نزل بالشَّيطان كنزوله بهم، رَأوْا أنه لا مخلِّص له منه كما لا مخلص لهم منه؛ جاز أن يوبَّخوا بأن يقال لهم: «هذا وليُّكم اليوم» على وجْه السُّخريةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 96 وجوَّز الزمخشري أن يعود الضمير على قريشٍ، فيكون حكاية حال في الحال لا ماضية، ولا آتية، والمعنى: أنَّ الشيطان يتولى إغواءهم، وصرفهم عنك كما فعل بكفَّار الأمم قبلك، فعلى هذا رجع عن الإخبار عن المم الماضية إلى الإخبار عن كفَّار مكَّة، وسمَّاه ولياً لهم؛ لطاعتهم له، ولهم عذاب أليم في الآخرة. وجوَّز الزمخشري أيضاً أن يكون عائداً على «أممٍ» ، ولكن على حذف مضاف تقديره: فهو ولي أمثالهم اليوم. واستبعده أبو حيان، وكأن الذي حمله على ذلك قوله: «اليَوْمَ» فإنه ظرف خالٍ، وقد تقدَّم أنه على حكاية الحال الماضية، أو الآتية. ثمَّ ذكر - تعالى - أنه مع هذا الوعيد الشَّديد، قد أقام الحجَّة، وأزاح العلَّة فقال تعالى: {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الذي اختلفوا فِيهِ} ، أي وما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين بواسطة بيانات القرآن الأشياء التي اختلفوا فيها يعني أهل الملل، والنحل، والأهواء، مثل التوحيد، والشرك، والجبر، والقدر، وإثبات المعاد ونفيه، ومثل: تحريمهم الحلال كالبحيرة والسائبة وغيرهما، وتحليلهم أشياء محرمة كالميتة. فصل قالت المعتزلة: واللام في «لتُبَيِّنَ» تدلُّ على أنَّ أفعال الله معللة بالأغراض، كقوله تعالى: {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس} [إبراهيم: 1] وقوله عزَّ وجلَّ {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . والجواب: أنه لما ثبت بالعقل امتناع التعليل، وجب صرفه إلى التَّأويل. قوله: {وَهُدًَى وَرَحْمَةً} فيه وجهان: أحدهما: أنهما انتصبا على أنهما مفعولان من أجلهما؛ والناصب: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ} ولما اتحد الفاعل في العلَّة، والمعلول؛ وصل الفعل إليهما بنفسه، ولما لم يتَّحد في قوله: {وَمَآ أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب إِلاَّ لِتُبَيِّنَ} ، أي: لأن تبين على أنَّ هذه اللاَّم لا تلزم من جهة أخرى، وهي كون مجرورها «أنْ» ، وفيه خلاف في خصوصية هذه المسألةِ، وهذا معنى قول الزمخشري فإنه قال: «معطوفان على محل» لتُبيِّنَ «إلا أنهما انتصبا على أنهما مفعول بهما؛ لأنهما فعلا الذي أنزل الكتاب، ودخلت اللام على:» لتُبيِّنَ «؛ لأنه فعل المخاطب لا فعل المنزل، وإنما ينتصب مفعولاً له ما كان فعلاً لذلك الفعل المعلل» . قال أبو حيَّان - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «قوله: معطوفان على محل» لتُبيِّنَ «ليس بصحيح؛ لأنَّ محلَّه ليس نصباً، فيعطف منصوب، ألا ترى أنَّه لو نصبه لم يجز لاختلافِ الفاعل» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 97 قال شهابُ الدِّين: «الزمخشريُّ لم يجعل النَّصب لأجل العطفِ على محلِّه إنَّما جعله بوصول الفعل إليهما لاتِّحادِ الفاعل، كما صرح به فيما تقدَّم آنفاص، وإنما جعل العطف لأجل التشريك في العلَّة لا غير، يعني: أنهما علَّتان، كما أنَّ» لتُبيِّنَ «علة، ولئن سلمنا أنه نصب عطفاً على المحل، فلا يضر ذلك، وقوله:» لأنَّ محله ليس نصباً «ممنوع، وهذا ما لا خلاف فيه من أن محل الجار، والمجرور النصب؛ لأنه فضلة، إلا أن تقوم مقام مرفوع، ألا ترى إلى تخريجهم قوله:» وأرْجُلكُمْ «في قراءة النصب على العطف على محل» برءُوسِكمْ «، ويجيزون: مررت بزيد وعمرو على خلاف في ذلك بالنسبة إلى القياس، وعدمه لا في أصل المسالة، وهذا بحقُ حسنٌ» . فصل قال الكلبيُّ: وصف القرآن بكونه هدى، ورحمة لقوم يؤمنون، يدل على أنَّه ليس كذلك في حق الكلِّ، لقوله في أوَّل البقرة: {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] ، وإنَّما خص المؤمنين بالذ1كر؛ لأنهم هم المنتفعون به، كقوله: {إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا} [النازعات: 45] ؛ لأنَّ المنتفع بالإنذار هؤلاء القوم فقط. قوله تعالى : {والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} الآية اعلم أنَّ المقصود الأعظم من هذا القرآن العظيم تقرير أصول اربعة: الإلهيَّات، والنبوات، والمعاد، وإثبات القضاء والقدر، والمقصود الأعظم من هذه الأصول الأربعة: تقرير الإلهيَّات، فلهذا السَّبب كلَّما امتد الكلام في فصل من الفصول، عاد إلى تقرير الإلهيَّات، فههنا لمَّا امتد الكلام في وعيد الكفار، عاد إلى تقرير الإلهيَّات، فقال: {والله أَنْزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} وقد تقدَّم تقرير هذه الدَّلائلِ. وقال تعالى: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} سماع إنصاف وتدبُّر؛ والمراد: سماع القلوب لا سماع الآذان. والنوع الثاني من الدَّلائلِ: الاشتدلالُ بعجائب أحوالِ الحيواناتِ. قوله تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ} والعِبرةُ: العِظةُ. قرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وحفص عن عاصم، وحمزة والكسائي «نُسْقِيكمْ» بضمِّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 98 النون هنا، وفي المؤمنين، والباقون بفتح النون فيهما. وهذه الجملة يجوز أن تكون مفسِّرة للعبرة، كأنه قيل: كيف العبرة؟ فقيل: نسقيكم من بين فرثٍ، ودم لبناً خالصاً، ويجوز أن يكون خبراً لمبتدأ، [مضمر] ، والجملة جواب لذلك السؤال، أي: هي، أي: العبرة نسقيكم، ويكون كقوله: «تَسْمعُ بالمُعيْديِّ خَيرٌ مِنْ أن تَراهُ» . واختلف النَّاس: هل سَقَى، وأسْقَى لغتان بمعنى واحدٍ، أم بينهما فرقٌ؟ . خلافٌ مشهورٌ، فقيل: هما بمعنى واحد، وأنشد جمعاً بين اللغتين فقال: [الوافر] 3333 - سَقَى قَومِي بَنِي مَجْدٍ وأسْقَى ... نُمَيْراً والقَبائِلَ من هِلال دعى للجميع بالسقي، والخصب، و «نُمَيْراً» هو المفعول الثاني، أي: ما نميراً، وللداعي لأرض بالسقيا وغيرها: أسقى فقط. وقال الأزهري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: العرب تقول لكلِّ ما كان من بطُونِ الأنعام، ومن السَّماء، أو نهر يجري أسقيته، أي: جعلته شرباً له، وجعلت له منه مسقى، فإذا كان للمنفعة قالوا: «سَقَى» ، ولم يقولوا: «أسْقَى» . وقال الفارسيُّ: «سقيْتهُ حتَّى رَوِيَ، وأسْقَيتهُ نَهْراً جَعَلتهُ لَهُ شرباً» . وقيل: سقاهُ إذا ناوله الإناء؛ ليشرب منه، ولا يقال من هذا أسقاه. وقرأ أبو رجاء «يُسْقِيكُمْ» بضمِّ الياء من أسفل، وفي فاعله وجهان: أحدهما: هو الله - تعالى -. والثاني: أنه ضمير النَّعم المدلول عليه بالأنعام، أي: نعماً يجعل لكم سقياه. وقرئ: «تَسْقِيكُمْ» بفتح التاء من فوق. قال ابن عطيَّة: وهي ضعيفةز قال أبو حيَّان: «وضعفها عنده - والله أعلم - أنه أنَّث في:» نُسقِيكُم «وذكر في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 99 قوله:» ممَّا في بطُونهِ «، ولا ضعف من هذه الجهة؛ لأنَّ التَّذكير، والتَّأنيث باعتبارين» . قال شهابُ الدِّين: وضعفها عنده من حيث المعنى، وهو أنَّ المقصود الامتنان على الخلقِ، فنسبة السقي إلى الله هو الملائمُ لا نسبته إلى الأنعام. قوله: {مِمَّا فِي بُطُونِهِ} يجوز أن تكون «مِنْ» للتبعيض، وأن تكون لابتداء الغاية وعاد الضمير ها هنا على الأنعام مفرداً مذكراً. قال الزمخشريُّ: ذكر سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة الواردة على أفعال، كقولهم «ثَوْب أسْمَال» ، ولذلك رجع الضمير إليه مفرداً، وأمَّا {فِي بُطُونِهَا} [المؤمنون: 21] في سورة المؤمنين، فلأنَّ معناه الجمع، ويجوز أن يقال في «الأنعام» وجهان: أحدهما: أن يكون جمع تكسير: «نَعَم» كأجْبَال في جَبَل. وأن يكون اسماً مفرداً مقتضياً لمعنى الجمعِ، فإذا ذكر، فكما يذكر «نَعَم» في قوله: [الرجز] 3334 - في كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ يَحْوُونَهُ ... يُلْقِحهُ قَومٌ ويَنتِجُونَهُ وإذا أنَّث ففيه وجهان: أنه تكسير نعم، وأنه في معنى الجمع. قال أبو حيَّان: أمَّا ما ذكرهُ عن سيبويه، ففي كتابه في هذا الباب، ما كان على مثال مفاعل، ومفاعيل ما نصُّه: «وأمَّا أجمال، وفلوس فإنَّها تنصرف، وما أشبهها؛ لأنها ضارعت الواحد، ألا ترى أنك تقول: أقْوَال، وأقَاوِيل، وأعْرَاب، وأعَارِيب، وأيْدٍ، وأيَادٍ فهذه الأحرف تخرج إلى مثال: مفَاعِل، ومفَاعِيل كما يخرج إليه الواحد، إذا كسر الجمع، وأما مفاعل، ومفاعيل، فلا يكسر؛ فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا البناء؛ لأنَّ هذا البناء هو الغاية فلما ضارعت الواحد صرفت» . ثمَّ قال: وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس؛ لأن يجمع جمعاً لأخرجته إلى فَعائِل كما تقول: جَدُود، وجَدائِد، ورَكُوب، ورَكائِب، وركاب. ولو فعلت ذلك بمفاعل، ومفاعيل، لم يجاوز هذا البناء، ويقوي ذلك أنَّ بعض العرب تقول: «أُتي» للواحد فيضم الألف، وأمَّا أفعال؛ فقد تقع للواحد، من العرب من يقول: «هو الأنعامُ» ، قال - الله عزَّ وجلَّ -: {نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ} . وقال أبو الخطَّاب: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 100 سمعت من العرب من يقول: هذا ثوب أكياش. قال: والذي ذكره سيبويه: هو الفرق بين مفاعل ومفاعيل، وبين أفعال وفُعول وإن كان الجميع أبنية للجمع من حيث إنَّ مفاعل، ومفَاعِيل لا يجمعان، وأفعالٌ وفعولٌ قد يخرجان إلى بناء شبه مفاعل، أو مفاعيل فلما كانا قد يخرجان إلى ذلك انصرفا، ولم ينصرف «مفاعل» و «مفاعيل» لشبه ذينك بالمفرد من حيث إنه يمكن جمعها وامتناع هذين من الجمع، ثمَّ قوي شبههما بالمفرد بأن بعض العرب يقول في «أَتى» «أُتى» بضم الهمزة، يعني أنه قد جاء نادراً فعول، من غير المصدر للمفرد، وبأن بعض العرب قد يوقع أفعالاً للمفرد من حيث أفرد الضمير فيقول: هو الأنعامُ، وإنَّما ذلك على سبيل المجاز؛ لأنَّ الأنعام في معنى النعم والنَّعَم يفرد؛ كحما قال الشاعر: [الوافر] 3335 - تَركْنَا الخَيْلَ والنَّعََ المفدَّى ... وقُلْنَا للنِّساءِ بها: أقِيمِي ولذلك قال سيبويه: طوأمَّا أفعال فقد يقع للواحد «فقوله:» قد يقع للواحد «دليلٌ على أنه ليس ذلك بالوضع، فقول الزمخشريُّ:» إنَّه ذكره في الأسماءِ المفردةِ على أفعال «تحريف في اللفظ، وفهم عن سيبويه ما لم يرده، ويدلُّ على ما قلناه: أنَّ سيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة نص على أنَّ أفعالاً ليس من أبنيتها. قال سيبويه في باب ما لحقته الزِّيادة من بنات الثلاثة:» وليس في الكلام أفعيل، ولا أفْعَول، ولا أُفْعَال، ولا أفْعِيل، ولا أفعالُ إلا أن تكسِّر عليه اسماً للجمع «، قال:» فهذا نصٌّ منه على أنَّ أفعالاً لا يكون في الأسماء المفردة «. قال شهاب الدِّين: الَّذي ذكره الزمخشريَّ، وهو ظاهر عبارة سيبويه، وهو كافٍ في تسويغ عودِ الضمير مفرداً، وإن كان أفعالاً قد يقع موقع الواحد مجازاً، فإنَّ ذلك ليس بصائرٍ فيما نحن بصدده، ولم يحرِّف لفظه، ولم يفهم عنه غير مراده لما ذكرناه من هذا المعنى الذي قصده. وقيل: إنَّما ذكر الضمير؛ لنه يعود على البعض، وهو الإناثُ؛ لأنَّ الذُّكور لا ألبان لها، والعبرة إنَّما هي في بعض الانعام. وقال الكسائي - رَحِمَهُ اللَّهُ -:» أي في بطون ما ذُكِر «. قال المبرِّد: وهذا سائغ في القرآن، قال تعالى: {كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ} [عبس: 11، 12] اي: هذا الشيء الطَّالع، ولا يكون هذا إلاَّ في التَّأنيث المجازي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 101 ولا يجوز: جاريتك ذهب، وغلامك ذهبت، وعلى هذا خرج قوله: [الرجز] 3336 - فِيهَا خَطوطٌ من سَوادٍ وبَلقْ ... كأنَّهُ في الجِلْدِ تَوليعُ البَهَقْ أي: كأن المذكور. وقيل: جمع التكسير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة، ومعاملة الجمع. ففي هذه السورة اعتبر معنى الجمع، وفي سورة المؤمنين، اعتبر معنى الجماعة، ومن الأوَّل قول الشَّاعر: [الرجز] 3337 - مِثْلُ الفِراخِ نُتفَتْ حَواصِلُه ... وقيل: لأنه يسدُّ مسدَّ الواحد يُفهم الجمع فإنه يسد مسده نعم، ونعم يفهم الجمع؛ ومثله قول الشاعر: [الرجز] 3338 - وطَابَ ألبَانُ اللِّقاحِ وبَرَد ... لأنه يسد مسدَّها» لبن «. ومثله قولهم هو أحسن الفتيان، وأجمله أي: أحسن فتى إلاَّ أنَّ هذا لا ينقاس عند سيبويه وأتباعه. وذكر أبو البقاء ستَّة أوجهٍ تقدم منها في غضون ما ذكر خمسة، والسادس: أنه يعود على الفحل؛ لأنَّ اللبن يكون من طرق الفحلِ الناقة، فأصل اللَّبن من الفحل. قال:» وهذا ضعيف؛ لأنَّ اللبن، وإن نسب إلى الفحل، فقد جمع البطون وليس في فحل الأنعام إلاَّ واحداً، ولا للواحد بطون، فإن قيل: أراد الجنس، فقد ذكر «. يعني أنه قد تقدَّم أنَّ التَّذكير باعتبار جنس الأنعام، فلا حاجة إلى تقدير عوده على فحلٍ المراد به الجنس، وهذا القول نقله مكي عن إسماعيل القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ - ولم يعقبه بنكير. قال القرطبي: واستنبط القاضي إسماعيل من عود هذا الضمير أن لبن الفحل يقبل التَّحريم. وقال: إنَّما جيءَ به مذكَّراً؛ لأنَّه راجع إلى ذكر النِّعم؛ لأنَّ اللَّبن للذَّكرِ محسوب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 102 ولذلك قضى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأنَّ اللبن محرِّمٌ حين أنكرته عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - في حديث: «أفْلحَ أخي أبِي القعيس فلِلمَرْأةِ السَّقيُ وللرَّجُلِ اللِّقاحُ» . أحدها: أنَّه متعلق بالسّقي على أنَّها لابتداء الاية، فإن جعلنا ما قبلها كذلك، تعين أن يكون مجرورها بدلاً من مجرور «من» الأولى، لئلا يتعلَّق عاملان متَّحدان لفظاً ومعنى [بمعمول] واحد، وهو ممتنع إلا في بدل الاشتمال؛ لأنَّ المكان مشتملٌ على ما حلَّ فيه، وإن جعلتها للتَّبعيض هان الأمر. الثاني: أنَّها في محل نصبٍ على الحالِ من «لَبناً» ، إذ لو تأخَّرت، لكانت مع مجرورها نعتاً. قال الزمخشريُّ: «وإنَّما قدِّم؛ لأنه موضع العِبرة، فهو قمنٌ بالتَّقدم» . الثالث: أنَّها مع مجرورها حالٌ من الضمير الموصول قبلها. والفَرْثُ: فضالة ما يبقى من العلفِ في الكرشِ، وكثيفُ ما يبقى من الأكل في الأمعاء، ويقال: فرث كبده، أي: فتَّتها، وأفرث فلانٌ فلاناً؛ أونقعه في بليَّة يجرى مجرى الفرث. روى الكلبيُّ عن أبي صالح عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنه قال: «إذا استقرَّ العلف في الكرش، صار أسفله فرثاً، وأعلاه دماً، وأوسطه لبناً، فيجري الدَّمُ في العروقِ واللبن في الضَّرع، ويبقى الفرث كما هو» . قوله: «لَبَناً» هو المفعول الثاني للسَّقي. وقرئ: «سَيِّغاً» بتشديد الياءِ، بزنة «سَيِّد» وتصريفه كتصريفه. وخفف عيسى بن عمر، نحو «مَيْتٍ» ، و «هَيْنٍ» ، ولا يجوز أن يكون فعلاً، إذ كان يجب أن يكون سوغاً كقول. ومعنى: «سَائغاً للشَّاربينَ» ، أي هنيئاً يجري بسهولة في الحلق، وقيل: إنه لم [يشرق] أحدٌ باللَّبن قطُّ. فصل قال ابن الخطيب: اللَّبنُ والدَّم لا يتولدان ألبتَّة في الكرشِ، والدَّليلُ عليه الحسُّ، فإنَّ هذه الحيوانات تذبحُ ذبحاً متوالياً، وما رأى أحدٌ في كرشها لا دماً، ولا لبناً، ولو كان تولد الدَّم، واللَّبن في الكرش؛ لوجب أن يشاهد ذلك في بعض الأحوال، والشيء الذي دلَّت المشاهدة على فساده؛ لم يجز المصير إليه، بل الحق أنَّ الحيوان إذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 103 تناول الغذاء، ووصل ذلك العلف إلى معدته إن ك ان إنساناً، وإلى كرشه إن كان من الأنعام وغيرها، فإذا طبخ، وحصل الهضمُ الأول فيه، فما كان منه صافياً انجذب إلى الكبد، وما كان كثيفاً، نزل إلى الأمعاء، ثمَّ ذلك الذي يحصل منه في الكبد ينطبخ فيها، ويصير دماً، وذلك هو الهضم الثاني، ويكون ذلك الدم مخلوطاً بالصَّفراءِ، والسَّوداء، وزيادة المادة المائية، أمَّا الصفراء، فتذهب إلى المرارة، والسَّوداءُ إلى الطحالِ، والماء إلى الكلية، ومنها إلى المثانة، وأما ذلك الدم فإنه يدخل في الأوردة، وهي العروقُ النابتة من الكبدِ، وهناك يحصل الهضمُ الثالث، وبين الكبد، وبين الضَّرع عروق كثيرة، فينصبُّ الدَّم من تلك العروق إلى الضَّرع والضرع لحمٌ غدديٌّ رخو أبيض، فيقلب الله - تعالى - الدم عند إصبابه إلى ذلك اللَّحم الغددي الرَّخو الأبيض، من صورة الدَّم إلى صورة اللَّبن فهذا هو القول الصحيح في كيفية تولد اللبن. فإن قيل: هذه المعاني حاصلةٌ في الحيوان الذَّكر، فلم لم يحصل منه اللَّبنُ؟ قلنا: الحكمة الإلهيَّة قد اقتضت تدبير كلِّ شيءٍ على الوجه اللائق به الموافق لمصلحته، فمزاج الذَّكر من كلِّ حيوان يجب أن يكون حاراً يابساً، ومزاج الأنثى يجب أن يكون بارداً رطباً، والحكمة فيه أنَّ الولد إنَّما يتكوَّن في داخل بدن الأنثى؛ فوجب أن يكون بدن الأنثى مختصاً بمزيد الرطوبات لوجهين: الأول: أنَّ الولد إنما يتولَّد من الرطوبات، فوجب أن يحصل في بدن الأنثى رطوبات كثيرة لتصير مادة لتولد الولد. والثاني: أنَّ الولد إذا كبر، وجب أن يكون بدن الأم قابلاً للتَّمدد؛ حتى يتسع لذلك الولد، فإذا كانت الرُّطوبات غالبة على بدنِ الأم، كان بدنها قابلاً للتَّمدد؛ فيتسع للولد، فثبت بما ذكرنا أنه - تعالى - خصَّ بدن الأنثى من كل حيوانٍ بمزيد الرُّطجوبات لهذه الحكمة، ثم إنَّ تلك الرطوبات التي كانت تصير مادة لازدياد بدن الجنين حين كان في رحم الأم، فعند انفصال الجنين، تنصب إلى الثَّدي، والضرع، ليصير مادَّة لغذاءِ ذلك الطفل الصَّغير، فظهر أنَّ السبب الذي لأجله يتولَّد اللَّبن من الدَّم في حق الأنثى غير حاصل في حق الذَّكر، فظهر الفرقُ. وقد تقدَّم ما نقل عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في أنَّ الفرث يكون في أسفل الكرش، والدم يكون في أعلاه، واللبن يكون في الوسطِ، وبيَّنَّا أنَّ هذا القول على خلاف الحس والتجربة. واعلم أنَّ حدوث اللَّبن في الثدي، واتِّصافه بالصِّفات الموافقة لتغذية الطفل مشتمل على حكم عجيبة، يشهد صريح العقل بأنَّها لا تحصل إلاَّ بتدبير الفاعل الحكيمِ والمدبر الرحيم، وبيانه من وجوه: الأول: أنه - تعالى - خلق في أسفل المعدة منفذاً يخرج منه ثقل الغذاءِ فإذا تناول الجزء: 12 ¦ الصفحة: 104 الإنسان غذاء، أو شربة رقيقة؛ انطبق ذلك المنفذُ انطباقاً كليًّا، لا يخرج منه شيء من ذلك المأكول، والمشروب إلى أن يكمل انهضامه في المعدة، وينجذب ما صفا منه إلى الكبد، ويبقى الثقل هناك، فحينئذ ينفتح ذلك المنفذ، وينزل منه ذلك الثقل، وهذا من العجائب التي لا يمكن حصولها إلا بتدبير الفاعل الحكيم؛ لأنه متى كانت الحاجة إلى خروج ذلك الجسم من المعدة انفتح فحصل الانطباق تارة، والانفتاح أخرى، بحسب الحاجة، وتقدير المنفعة ممَّا لا يتأتَّى إلا بتدبير الفاعل الحكيم. الثاني: أنه - تعالى - أودع في الكبدة قوةً، تجذب الأجزاء اللطيفة الحاصلة في ذلك المأكول، والمشروب، ولا تجذب الأجزاء الكثيفة، وخلق في الأمعاءِ قوَّة تجذب تلك الأجزاء الكثيفة التي هي الثقل، ولا تجذب الأشياء اللطيفة ألبتَّة، ولو كان الأمر بالعكس، لاختلفت مصلحة البدن، ولفسد نظامُ هذا التركيب. الثالث: أنه - سبحانه وتعالى - أودع في الكبد قوَّة هاضمة طابخة، حتَّى إنَّ تلك الأجزاء اللطيفة؛ تنطبخُ في الكبد، وتنقلب دماً، ثمَّ إنه - تعالى - أودع في المرارة قوَّة جاذبة للصَّفراء، وفي الطحال قوَّة جاذبة للسَّوداء، وفي الكلية قوة جاذبة لزيادة المائيَّة، حتى يبقى الدم الصَّافي الموافق لتغذية البدن، وتخصيص كلِّ واحد من هذه الأعضاء بتلك القوَّة الحاصلة، لا يمكن إلا بتدبير الحكيم العليم. الرابع: أنَّ في الوقت الذي يكون الجنين في رحم الأم ينصب من ذلك الدم نصيب وافر إليه حتى يصير مادة تنمي أعضاء ذلك الولد، وازدياده، فإذا انفصل ذلك الجنين عن الرَّحم ينصب ذلك النَّصيب إلى جانب الثَّدي ليتولد منه اللبن الذي يكون غذاء له، فإذا كبر ذلك الولد لم ينصب ذلك النَّصيب لا إلى الرَّحم، ولا إلى الثدي، بل ينصبُّ على مجموع بدن المتغذي، فانصبابُ ذلك الدَّم في كلِّ وقتٍ إلى عضوٍ آخر انصباباً موافقاً للمصلحة، والحكمة لا يتأتَّى إلاَّ بتدبير الفاعل المختار الحكيم. الخامس: أنَّ عند تولد اللَّبن في الضرع أحدث - تعالى - في حلمة الثَّدي ثُقوباً صغيرة ومسامًّا ضيِّقة، ولما كانت هذه المسامُّ ضيِّقة جدًّا، فحينئذ لا يخرج منها إلا ما كان في غاية الصَّفاء، واللَّطافة، وأمَّا الأجزاء الكثيفة فإنَّه لا يمكنها الخروج من تلك المنافذ الضيِّقة فتبقى في الدَّاخل، والحكمة في إحداث تلك الثُّقوب الصَّغيرة والمنافذ الضيِّقة في رأسِ الحلمة؛ لكي تكون كالمصفاة، فكل ما كان لطيفاً خرج، وما كان كثيفاً؛ احتبس في الدَّاخلِ، فبهذا الطريق يصير ذلك اللَّبن خالصاً موافقاً لبدن الصَّبي «سَائِغاً للشَّاربين» . السادس: أنه - تعلى - ألهم ذلك الصبي إلى المص؛ فإنَّ الأم إذا ألقت حلمة الثَّدي في فم الصبي، فذلك الصبيُّ في الحال يأخذ في المص، ولولا أنَّ الفاعل المختار الرحيم قد ألهم ذلك الطفل الصغير ذلك العمل المخصوص، وإلا لم يحصل تخليق ذلك اللبن في الثَّدي. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 105 السابع: أنَّا بيَّنا أنه - تعالى - إنَّما خلق اللَّبن من فضلة الدَّم، وإنما خلق الدَّم من الغذاء الذي يتناوله الحيوان، فالشَّاة لمَّا تناولت العشب، وتولَّد منه الدم، وتولَّد اللبن من بعض أجزاء ذلك الدَّم، ثمَّ إنّ اللبن حصلت فيه أجزاء ثلاثة على طبائع متضادة، فما فيه من الدهن يكون حاراً رطباً، وما فيه من المائيَّة يكون بارداً رطباً، وما كان فيه من الجبنية يكون بارداً يابساً، وهذه الطبائع ما كانت حاصلة في العشب الذي تناولته الشَّاة، فظهر بهذين أنَّ هذه الأجسام لا تزال تنقلب من صفة غلى صفة، ومن حالة إلى حالة، مع أنَّه لا يناسب بعضه بعضاً، ولا يشاكل بعضه بعضاً، وعند ذلك فإنَّ هذه الأحوال إنما تحدث بتدبير فاعل مختار حكيم رحيم، يدبِّر أحوال هذا العالم على وفق مصالح العبادِ. قال المحققون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: اعتبار حدوث اللَّبن كما يدلُّ على وجود الصَّانع المختار، فكذلك يدل على إمكان الحشر والنشر؛ لأنَّ العشب الذي يأكله الحيوان إنَّما يتولد من الماء والأرض، فخالق العالم دبَّر تدبيراً آخر، فقلب ذلك العشب دماً، ثم دبَّر تدبيراً آخر فقلب ذلك الدَّم لبناً خالصاً، ثمَّ أحدث من ذلك اللبن الدهن والجبن، وهذا الاستقرار يجل على أنه - تعالى - قادرٌ على تقليب هذه الأجسام من صفة إلى صفة، ومن حالة غلى حالة، وإذا كان كذلك، لم يمتنع أيضاً أن يكون قادراً على قلب أجزاء ابدان الموات إلى صفة الحياة والعقل كما كانت قبل ذلك، فبهذا الاعتبار يدلُّ من هذا الوجه على أنَّ البعث والقيامة أمرٌ ممكنٌ غير ممتنع. قوله: {وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل} فيه أربعة أوجه: أحدها: أنه متعلق بمحذوف، فقدَّره الزمخشري: ونسقيكم من ثمرات النَّخيل والأعناب، أي: من عصيرها؛ وحذف لدلالة «نُسْقِيكُمْ» قبله عليه قال: «وتتَّخِذون بيان وكشف عن كيفية الإسقاء» . وقدَّره ابو البقاء: خلق لكم أو جعل لكم وما قدَّره الزمخشري أليقُ. لا يقال: لا حاجة إلى تقدير نسقيكم، بل قوله: «ومِنْ ثَمراتِ» عطف على قوله: «ممَّا في بُطونهِ» فيكون عطف بعض متعلقات الفعل الأوّل على بعض؛ كما تقول: سَقيْتُ زيْداً من اللَّبنِ ومن العسَلِ، فلا يحتاج إلى تقدير فعل قَبْل قولك: من العسل. لا يقال ذلك؛ لن «نُسْقِيكُمْ» الملفوظ به وقع تفسير ل «عِبْرَة» الأنعام، فلا يليق تعلُّق هذا به؛ لأنه ليس من العبرة المتعلِّقة بالأنعام. قال أبو حيان: وقيل: متعلق ب «نُسْقِيكُمْ» فيكون معطوفاً على ممَّا في بُطونهِ «أو: ب» نسقيكم «محذوفة دلَّ عليها» نُسْقِيكُمْ «انتهى. ولم يعقبه تنكير، وفيه ما تقدَّم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 106 الثاني: أنه متعلق ب» تتَّخذُونَ «، و» مِنْهُ «تكرير للظرف توكيداً؛ نحو: زيْدٌ في الدَّار فيها، قاله الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - وعلى هذا فالهاء في» مِنْهُ «فيها ستَّة أوجه: أحدها: أنها تعود على المضاف المحذوف الذي هو العصير؛ كما رجع في قوله تعالى: {أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] إلى الأهل المحذوف. الثاني: أنها تعود على معنى الثمرات؛ لأنها بمعنى الثَّمر. الثالث: أنها تعود على النَّخيل. الرابع: أنها تعود على الجنس. الخامس: أنها تعود على البعض. السادس: أنها تعود على المذكور. الوجه الثالث من الأوجه الأول: أنه معطوف على قوله: «فِي الأنعَام» فيكون في المعنى خبراً عن اسم إنَّ في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً} التقدير: وإن لكم في الأنعام ومن ثمرات النخيل لعبرة، ويكون قوله: «تَتَّخِذُون» بياناً وتفسيراً للعبرة، كما وقع «نُسْقِيكُمْ» تفسيراً لها أيضاً. الرابع: أن يكون خبراً لمبتدأ محذوف، فقدَّره الطبري: ومن ثمرات النَّخيل والأعناب ما تتَّخذون. قال أبو حيان: «وهو لا يجوز على مذهب البصريِّين» . قال شهاب الدين: وفيه نظر؛ لأنَّ له أن يقول: ليست «ما» هذه موصولة، بل نكرة موصوفة، وجاز حذف الموصوف والصِّفة جملة؛ لأنَّ في الكلام «مِنْ» ، ومتى كان في الكلام «مِنْ» اطرد الحذف، نحو: «مِنَّا ظَعَنَ ومنَّا أقَامَ» ؛ ولهذا نظَّره مكيٌّ بقوله - تعالى -: {وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ} [الصافات: 164] ، أي: إلاَّ من له مقام معلوم، قال: فحذفت «مَنْ» لدلالة «مِنْ» عليها في قوله: «ومَا منَّا إلاَّ لهُ» . ولمَّا قدَّر الزمخشري الموصوف، قدره: «ثمر تتَّخذون منه» ؛ ونظَّره بقول الشاعر: [الرجز] 3339 - يَرْمِي بكفَّي كان مِنْ أرْمَى البَشرْ ... تقديره: بكفَّي رجلٍ، إلا أنَّ الحذف في البيت شاذٌّ؛ لعدم «مِنْ» . ولما ذكر أبو البقاء هذا الوجه؛ قال: «وقيل: هو صفة لمحذوفٍ تقديره: شيئاً تتخذون منه بالنصب، أي: وإن من ثمرات النَّخيل وإن شئت» شيءٌ «- بالرفع - على الابتداء، و» مِنْ ثمراتِ «خبره» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 107 قال الواحدي: «و» الأعْنابِ «عطف على الثَّمرات لا على» النَّخيل «؛ لنَّه يصير التقدير: ومن ثمرات الأعناب، والعنب نفسه ثمرة وليس له ثمرة أخرى» . والسَّكرُ: بفتحتين فيه أقوال: أحدها: أنه من أسماء الخمر؛ كقول الشاعر: [البسيط] 3340 - بِئْسَ الصُّحَاةُ وبِئْسَ الشَّرْبُ شَرْبُهُم ... إذَا جَرَى فِيهِمُ المُزَّاءُ والسَّكرُ الثاني: أنه في الأصل مصدر، ثم سمِّي به الخمر، يقال: سَكرَ يَسْكَرُ سُكْراً وسَكَراً؛ نحو: رَشِد يَرشَدُ رُشْداً ورَشَداً؛ قال الشاعر: [الوافر] 3341 - وجَاءُونَا بِهمْ سَكَرٌ عَليْنَا ... فأجْلَى اليَومُ والسَّكرانُ صَاحِي قاله الزمخشري. الثالث: أنه اسم للخلِّ بلغة الحبشة؛ قاله ابن عبَّاس. الرابع: أنه اسم للعصير ما دام حلواً؛ كأنَّه سمِّي بذلك لمىله لذلك لو ترك. الخامس: أنه اسم للطعم، قاله ابو عبيدةح وأنشد: [الرجز} 3342 - جَعَلتُ أعْراضَ الكِرامِ سَكَرَا ... أي: تنقلتُ بأعراضهم. وقيل في البيت بأنه من الخمر، وأنه إذا انتهك أعراض النَّاس كان يخمر بها. وقال الضحاك والنَّخعي ومن يبيحُ شرب النبيذ: السَّكر هو النبيذ؛ وهو نقيع التمر والزبيب إذا اشتدَّ، والمطبوخ من العصير. ومن حرَّمه يقول: المراد من الآية: الإخبار لا الإحلال. قوله: {وَرِزْقًا حَسَنًا} يجوز أن يكون من عطف المتغايرات، وهو الظاهر؛ كما قال المفسرون: إنه كالزَّبيب والخلِّ والدِّبس ونحو ذلك وأن يكون من عطف الصِّفات بعضها على بعضٍ، أي: تتَّخذون منه ما يجمع بين السَّكر والرِّزق الحسن؛ كقوله: [المتقارب] 3343 - ... - الجزء: 12 ¦ الصفحة: 108 إلى المَلِكِ القَرْمِ وابنِ الهُمام ... ... ... ... ... ... . ... فصل ذهب ابن مسعود، وابن عمر، وسعيد بن جبير، والحسن، ومجاهد إلى أن السَّكر الخمر، والرزق الحسن الخلُّ والربُّ والتَّمر والزَّبيب. قالوا: وهذا قبل تحريم الخمر؛ لأن هذه السورة مكية، وتحريم الخمر نزل في سورة المائدة. قال بعضهم: ولا حاجة إلى التزام النَّسخ؛ لأنه - تعالى - ذكر ما في هذه الأشياء من المنافع، وخاطب المشركين بها؛ لأنها من أشربتهم، فهي منفعة في حقِّهم. ثم إنه - تعالى - نبَّه في هذه الآية أيضاً على تحريمها؛ لأنه ميَّز بينها وبين الرزق الحسن في الذكر، فوجب أنَّ السَّكر لا يكون رزقاً حسناً؛ وهو حسن بحسب الشَّهوة، فوجب أن يقال: بأن الرجوع عن كونه حسناً بحسب الشَّريعة، وإنَّما يكون كذلك إذا كانت محرَّمة. ثم إنه - تعالى - لمَّا ذكر هذه الوجوه الَّتي هي دلائل على التَّوحيد من وجه، وتعديد للنِّعم العظيمة من وجه آخر - قال - جل ذكره -: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} أي: من كان عاقلاً، علم بالضرورة أن هذه الأحوال لا يقدر عليها إلا الله تعالى -، فيحتجُّ بأصولها على وجود الإله القادر الحكيم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 109 قوله تعالى {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} الآية لما بيَّن أن إخراج الألبان من النَّعم، وإخراج السَّكر من ثمرات النَّخيل والأعناب دلائلٌ قاهرة على أنَّ لهذا العالم إلهاً قادراً الجزء: 12 ¦ الصفحة: 109 مختاراً حكيماً فكذلك إخراج العسل من النحل دليلٌ قاطع على إثبات هذا المقصود. اعلم أنه - تعالى - قال: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} يقال: وحَى وأوْحَى وهو هنا الإلهام، والمعنى: أنَّه - تعالى - قرَّر في أنفسها هذه الأعمال العجيبة التي يعجز عنها العقلاء من البشر، وبيانه من وجوه: الأول: أنها تبني البيوت مسدَّسة من أضلاع متساوية، لا يزيد بعضها على بعض بمجرَّد طبائعها، والعقلاء من البشر لا يمكنهم بناء مثل تلك البيوت إلا بآلات وأدوات مثل: المسطرة والبيكار. الثاني: أنه ثبت في الهندسة أنَّ تلك البيوت لو كانت مشكلة باشكال سوى المسدَّسات، فإنه يبقى بالضَّرورة فيما بين تلك البيوت فرجٌ خالية ضائقة أما إذا كانت تلك البيوت مسدسة، فإنه لا يبقى فيها فرج خالية ضائقة فاهتداء ذلك الحيوان الضَّعيف إلى تلك الحكمة الخفيَّة الدَّقيقة اللَّطيفة من الأعاجيب. الثالث: أن النَّحل يحصل فيما بينها واحد يكون كالرَّئيس للبقيَّة، وذلك الواحد يكون أعظم جثَّة من الباقي، ويكون نافذ الحكم على البقيَّة وهم يخدمونه ويحملونه عند تعبه، وذلك أيضاً من الأعاجيب. الرابع: أنها إذا نفرت وذهبت من وكرها مع الجماعة إلى موضع آخر، فإذا أرادوا عودها إلى وكرها، ضربوا الطبول وآلات الموسيقى، وبواسطة تلك الألحان يقدرون على ردِّها إلى أوكارها، وهذه أيضاً حالةٌ عجيبةٌ، فلمَّا امتاز هذا الحيوان بهذه الخواصِّ العجيبة الدالَّة على مزيد الذَّكاء والكياسة، ليس إلا على سبيل الإلهام، وهي حالة شبيهة بالوحي، لا جرم قال - سبحانه وتعالى - في حقِّها: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} . فصل قال أبو العباس أحمد بن علي المقري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الوحي يردُ على ستَّة أوجه: الأول: الرِّسالة؛ قال - تعالى -: {إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} [النساء: 163] ، أي: أرسلنا إليك. الثاني: الإلهام؛ قال - تعالى -: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] . الثالث: الإيماءُ، قال - تعالى -: {فأوحى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ} [مريم: 11] أي: أومأ إليهم. الرابع: الكتابة، قال - تعالى -: {وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ} [الأنعام: 121] أي: يكتبون إليهم. الخامس: الأمر، قال - تعالى -: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] ، أي: أمرها. السادس: الخلق، قال - تعالى -: {وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا} [فصلت: 12] ، أي: خلق. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 110 قال القرطبي: الإلهام هو ما يخلقه الله - تعالى - في القلب ابتداء من غير سبب ظاهرٍ؛ قال - تعالى -: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} [الشمس: 7، 8] ومن غير ذلك البهائم وما يخلقه الله فيها من إدراك منافعها، واجتناب مضارِّها، وتدبير معاشها، وقد أخبر الله - تعالى - عن الأرض فقال: {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 4، 5] . واعلم أن الوحي قد ورد في حقِّ الأنبياء؛ قال - تعالى -: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] ، وفي حقِّ الأولياء؛ قال - تعالى -: {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} [المائدة: 111] وبمعنى الإلهام في حقِّ بقية البشر؛ قال - تعالى -: {وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى} [القصص: 7] وفي حقِّ سائر الحيوانات بمعنى خاصّ. قال الزجاج: يجوز أن يقال: سمِّي هذا الحيوان نحلاً؛ لأن الله - تعالى - نحل النَّاس العسل الذي يخرج من بطونها. وقال غيره: النَّحل يذكَّر ويؤنث على قاعدة أسماء الأجناس، فالتأنيث فيها لغة الحجاز، ولذلك أنثها الله - تعالى - وكذلك كل جمع ليس بينه وبين واحده إلاَّ الهاء. وقرأ ابن وثَّاب: «النَّحَل» بفتح الحاء، فيحتمل أن يكون لغة مستقلة، وأن يكون إتباعاً. قوله «أن اتَّخذِي» يجوز أن تكون مفسِّرة، وأن تكون مصدريَّة. واستشكل بعضهم كونها مفسِّرة، قال: لأنَّ الوحي هنا ليس فيه معنى القول؛ إذ هو الإلهام لا قول فيه. وفيه نظر؛ لأن القول لكل شيء بحسبه. و «مِنَ الجِبَالِ» «من» فيه للتبعيض؛ إذ لا يتهيَّأ لها ذلك في كل جبلٍ ولا شجر، وتقدَّم القول في «يَعْرِشُون» ومن قرأ بالكسر والضم في الأعراف. والمراد ب «ممَّا يَعْرِشُونَ» ما يبنون لها من الأماكن التي تأوي إليها، وقرئ: «بِيُوتاً» بكسر الباء. فصل اعلم أن النَّحل نوعان: أحدهما: ما يسكن الجبال والغياض ولا يتعهَّدها أحد من النَّاس. والثاني: ما يسكن البيوت ويتعهَّدها الناس، فالأول هو المراد بقوله عَزَّ وَجَلَّ: {أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً وَمِنَ الشجر} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 111 والثاني هو المراد بقوله - عَزَّ وَجَلَّ - {وَمِمَّا يَعْرِشُونَ} وهو خلايا النحل، واختلفوا فيه. فقال بعضهم: لا يبعد أن يكون لهذه الحيوانات عقول مخصوصة، بحيث يمكن أن يتوجَّه عليها أمر الله ونهيه. وقال آخرون: المراد منه أنه - تعالى - خلق غرائز وطبائع توجبُ هذه الأحوال، وسيأتي الكلام على ذلك في قوله - تعالى -: {يا أيها النمل} [النمل: 18] إن شاء الله - تعالى -. ثم قال - تعالى -: {ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثمرات} «مِنْ» هنا للتبعيض؛ لأنها لا تأكل من كلِّ الثمرات؛ فهو كقوله: {وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 23] أو لابتداء الغاية. قال ابن الخطيب: رأيتُ في كتب الطبِّ أن الله - تعالى - دبًَّر هذا العالم على وجه يحدث في الهواء طلٌّ لطيف في الليل، ويقع ذلك الطّلُّ على أوراق الأشجار، وقد تكون الأجزاء الطليَّة لطيفة صغيرة متفرِّقة على الأوراق والأزهار، وقد تكون كثيرة بحيث يجمع منها أجزاء متساوية محسوسة كالترنجبين، فإنه طلٌّ ينزل من الهواء يجتمع على أطراف أوراق الشَّجر في بعض البلدان، وذلك محسوس، فالقسم الأول: هو الذي الهم الله - تعالى - هذا النَّحل، حتى أنَّها تلتقط تلك الذرات من الأزهار والأوراق والأشجار بأفواهها، وتأكلها وتتغذى بها، فإذا شبعت، التقطت بأفواهها مرة أخرى شيئاً من تلك الأجزاء، ثم تذهبُ بها إلى بيوتها وتضعها هناك كأنها تدَّخر لنفسها غذاءها، فإذا اجتمع في بيوتها من تلك الأجزاء الطلية شيء كثير، فذلك هو العسل. ومنهم من يقول: إنَّ النَّحل تأكل من الزهار الطَّيبة والأوراق العطرة أشياء، ثم إنه - تعالى - يقلِّب تلك الأجسام في داخل أبداناه عسلاً، ثمَّ إنها تقيء مرَّة أخرى؛ فذلك هو العسل. والأول أقربُ، ولا شكَّ أنه طلٌّ يحدث في الهواء ويقع على أطراف الأشجار والأزهار، فكذلك ههنا، ونحن نشاهد أن النَّحل إنَّما يتغذَّى بالعسل؛ ولذلك إذا أخرجوا العسل من بيوت النَّحل تركوا لها بقية من العسل لأجل أن يتغذى بها، فعلمنا أنها تتغذَّى بالعسل، وأنَّها إنما تقع على الأشجار والأزهار؛ ليتغذى بتلك الأجزاء الطلِّية العسليَّة الواقعة من الهواء، وإذا كان ذلك، فقوله: «مِنْ كلِّ الثَّمراتِ» أن «مِنْ» هنا لابتداء الغاية لا للتبعيض. قوله: {فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ} أي: إذا أكلت من كل الثمرات، فاسلكي سبل ربك الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل، أو اسلكي في طلب تلك الثَّمرات سبل ربك. قوله تعالى: «ذُلُلاً» جمع ذَلُول، ويجوز أن يكون حالاً من السبل، أي: ذلَّلها لها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 112 الله - تعالى -؛ كقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً} [الملك: 15] وأن يكون حالاً من فاعل «اسْلُكِي» ، أي: مطيعة منقادة، بمعنى أنَّ أهلها ينقلونها من مكانٍ إلى مكانٍ ولها يعسوب إذا وقف وقفت وإذا سار سارت. وانتصاب «سُبُل» يجوز أن يكون على الظرفية، أي: فاسْلُكِي ما أكلت في سبل ربك، أي في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النوار ونحوه عسلا، وأن يكون مفعولاً به أي: اسلكي الطُّرق التي أفهمك وعلَّمك في عمل العسل. قوله: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا} التفات وإخبار بذلك، والمقصود منه أن يحتجَّ المكلف به على قدرة الله وحكمته وحسن تدبيره. واعلم أنَّا إذا حملنا الكلام على أنَّ النَّحل تأكل الأوراق والثَّمرات ثم تتقيَّأ، فذلك هو العسل فظاهرٌ، وإذا ذهبنا إلى أنَّ النحل يلتقط الأجزاء الطلية بفمه، فالمراد من قوله: {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا} ، أي: من أفواهها، فكل تجويف في داخل البدن يسمى بطناً، كقولهم: بُطونُ الدِّماغِ، أي: تجاويف الدماغ، فكذا قوله - تعالى - {يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا} أي: من أفواهها. قوله: {شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أنَّه تارة يشرب وحده، وتارة نتَّخذ منه الأشربة، و {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} أبيض وأحمر وأصفر. وقوله - تعالى -: {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} ، أي: في العسل. روى أبو سعيد الخدري - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «جَاءَ رجلٌ إلى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: إنَّ أخِي اسْتطلقَ بَطْنهُ، فقال رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: اسْقِه عَسَلاً، فَسَقاهُ، ثمَّ جَاءَ فقال: إني سَقيْتهُ فَلمْ يزِدهُ إلاَّ اسْتِطلاقاً، رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» صَدَقَ الله وكَذبَ بَطْنُ اخِيك، فَسقاهُ فَبَرأ «. وقال عبد الله بن مسعود:» العَسلُ شِفاءٌ من كُلِّ داءٍ «. فإن قيل: كيف يكون شفاء للناس وهو يضرُّ بالصفراء ويهيج المرار؟ . فالجواب: أنه - تعالى - لم يقل: إنه شفاءٌ لكلِّ الناس وشفاء لكل داءٍ في كلِّ حال، بل لمَّا كان شفاء للبعض ومن بعض الأدواء، صلح بأن يوصف بأنه فيه شفاءٌ؛ والذي يدل على أنه شفاء في الجملة: أنه قلَّ معجون من المعاجين إلا وتمامه وكماله إنما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 113 يحصل بالعجن بالعسل، والأشربة المتَّخذة منه في الأمراض البلغميَّة عظيمة النَّفع. وقال مجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: المراد بقوله - تعالى -: {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} القرآن؛ لقوله - تعالى -: {وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57] . وقال - صلوات الله وسلامه عليه -:» عَلَيكُم بِالشِّفاءَيْنِ: العَسلِ والقُرآنِ «. وعلى هذا تمَّ الكلام عند قوله: {مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ} ، ثم ابتدأ وقال: {فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ} أي: في هذا القرآن. وهذا القول ضعيف؛ لما تقدم من الحديث؛ ولأنَّ الضمير يجب عوده إلى أقرب مذكور وهو الشَّراب، وأما عوده إلى غير مذكور، فلا يناسب. فإن قيل: ما المراد بقوله - صلوات الله وسلامه عليه -:» وكَذبَ بَطْنُ أخِيكَ « ؟ . فالجواب: لعلَّه - صلوات الله وسلامه عليه - علم بالوحي أنَّ ذلك العسل سيظهر نفعه بعد ذلك، فلمَّا لم يظهر نفعه في الحال - مع أنه - عليه الصلاة والسلام - كان عالماً بأنه سيظهر نفعه بعد ذلك - كان هذا جارياً مجرى الكذب، فلهذا أطلق عليه هذا اللفظ. ثم إنه - تعالى - ختم الآية بقوله - تعالى -: {إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي: ما ذكرنا من اختصاص النَّحل بتلك العلوم الدقيقة والمعارف الغامضة؛ مثل بناء البيوت المسدَّسة واهتدائها إلى جمع تلك الأجزاء الواقعة من جو الهواء على أطراف أوراق الأشجار بعد تفرُّقها، فكل ذلك أمور عجيبة دالَّة على أنَّ إله هذا العالم رتَّبه على رعاية الحكمة والمصلحة. قوله - تعالى -: {والله خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} الآية لمَّا ذكر - تعالى - عجائب أحوال الأنهار والنَّبات والأنعام والنَّحل، ذكر بعض عجائب أحوال الناس في هذه الآية. واعلم أن العقلاء ضبطوا مراتب عمر الإنسان في أربع مراتب: أولها: سنُّ النشوء والنَّماء. وثانيها: سن الوقوف وهو سنُّ الشباب. وثالثها: سن الانحطاط القليل، وهو سنُّ الكهولة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 114 ورابعها: الانحطاط الكبير، وهو سن الشيخوخة. فاحتجَّ - تعالى - بانتقال الحيوان من بعض هذه المراتب إلى بعض، على أن ذلك النَّاقل هو الله - تعالى - ثم قال: {ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ} عند قضاء آجالكم صبياناً، أو شباباً، أو كهولاً أو شيوخاً. {وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر} ، أي: أردأه لقوله - عزَّ وجلَّ -: {واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111] وقوله - تعالى -: {إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا} [هود: 27] . قال مقاتل: يعني الهرم. وقال قتادة: تسعون سنة. وقيل: ثمانون سنة. قيل: هذا مختصٌّ بالكافر؛ لأن المسلم لا يزداد بطول العمر إلا كرامة على الله، ولا يجوز أن يقال إنه رده إلى أرذل العمر؛ لقوله - تعالى -: {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} [التين: 5، 6] ، فبيَّن أن الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات ما ردُّوا إلى أسفل سافلين. وقال عكرمة: من قرأ القرآن، لم يردَّ إلى ارذل العمر. قوله: «لِكَيْلا» في هذه اللاَّم وجهان: أحدهما: أنَّها لام التعليل، و «كَيْ» بعدها مصدرية ليس إلا وهي ناصبة بنفسها للفعل بعدها، وهي منصوبة في تأويل مصدر مجرور باللام، واللام متعلقة ب «يُرَدُّ» . قال الحوفيُّ: إنها لام «كَيْ» ، و «كَيْ: للتأكيد. وفيه نظر؛ لأنَّ اللام للتَّعليل و» كَيْ «بعدها مصدريَّة لا إشعار لها بالتَّعليل والحالة هذه، وأيضاً فعملها مختلف. والثاني: أنها لام الصَّيرورة. قوله:» شَيْئاً «يجوز فيه التنازع؛ لأنه تقدمه عاملان: يعلمُ وعِلْم، أي: الفعل والمصدر، فعلى رأي البصريِّين - وهو المختار - يكون منصوباً ب» عِلْمٍ «وعلى رأي الكوفيين يكون منصوباً ب» يَعْلمَ «. وهو مردود؛ إذ لو كان كذلك لأضمر في الثاني، فيقال: لكيلا يعلم بعد علم إيَّاه شيئاً. ومعنى الآية: لا يعقل بعد عقله الأوَّل شيئاً، إن الله عليم قدير. قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يريد بما صنع أولياؤه وأعداؤه،» قَدِيرٌ «على ما يريد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 115 فصل هذه الآية كما دلَّت على وجود الإله العالم القادر الفاعل المختار، فهي أيضاً تدلُّ على صحَّة البعث والقيامة؛ لأنَّ الإنسان كان معدوماً محضاً، ثمَّ أوجده الله، ثم أعدمه مرَّة ثانية، فدلَّ على أنَّه لمَّا كان معدوماً في المرة الأولى، وكان عوده إلى العدم في المرَّة الثانية جائزاً؛ فلذلك لمَّا صار موجوداً ثم عدم، وجب أن يكون عوده إلى الوجود في المرَّة الثانية جائزاً، وأيضاً: كان ميّتاً حين كان نطفة، ثم صار حيًّا، ثمَّ مات فلما كان الموت الأوَّل جائزاً، كان عود الموت جائزاً؛ وكذلك لمَّا كانت الحياة الأولى جائزة، وجب أن يكون عود الحياة جائزاً في المرَّة الثانية، وأيضاً الإنسان في أول طفولته جاهلٌ لا يعرف شيئاً، ثم صار عالماً عاقلاً، فلما بلغ أرذل العمر، عاد إلى ما كان عليه في زمان الطفولة؛ وهو عدم العقل والفهم فعدم العقل والفهم في المرة الأولى عاد بعينه في آخر العمر، فكذلك العقل الذي حصل ثمَّ زال، وجب أن يكون جائز العود في المرَّة الثانية، وإذا ثبتت هذه الجملة، ثبت أنَّ الذي مات وعدم فإنه يجوز عود وجوده، وعود حياته، وعود عقله مرَّة أخرى، ومتى كان الأمر كذلك، ثبت أن القول بالبعث والحشر والنَّشر حقٌّ. قوله : {والله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ فِي الرزق} الآية هذا اعتبار بحال أخرى من أحوال الإنسان؛ لأنَّا نرى أكيس النَّاس وأكثرهم عقلاً يفني عمره في طلب القدر القليل من الدنيا ولا يتيسَّر له ذلك، ونرى أجلاف النَّاس وأقلهم عقلاً وفهماً ينفتح عليه أبواب الدنيا، وكلُّ شيءٍ خطر بباله أو دار في خياله، فإنه يحصل له في الحال، ولو كان السَّببُ هو جهد الإنسان وعقله، لوجب أن يكون العاقل أفضل في هذه الأحوال، فلمَّا رأينا أن الأعقل الأفضل أقلُّ نصيباً، والأجهل الأخس أوفر نصيباً - علمنا أنَّ ذلك بسبب قسمة القسام؛ كما قال - تعالى -: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا} [الزخرف: 32] وهذا التفاوت غير مختصٌّ بالمال، بل حاصل في الذَّكاء والبلادة، والحسن والقبح، والعقل والحمق والصحة والسقم وغير ذلك. قوله: {فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ على مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} فيه قولان: الأول: أنَّ المراد من هذا الكلام تقرير ما تقدَّم من أن السَّعادة والنُّحوسة لا يحصلان إلا من الله - تعالى -، والمعنى: إنا رزقنا الموالي والمماليك جميعاً، فهم في رزقي سواء، فلا يحسبنَّ الموالي أنَّهم يرزقون مماليكهم من عندهم شيئاً، وإنما ذلك رزقي أجريته على أيديهم إلى مماليكهم. والحاصل: أن الرَّزاق هو الله - تعالى -، وأن المالك لا يرزق العبد؛ وتحقيق القول فيه: أنه ربما كان العبد أكمل عقلاً، وأقوى جسماً، وأكثر وقوفاً على المصالح والمفاسد من المولى؛ وذلك يدلُّ على أن ذلَّة العبد وعزة ذلك المولى من الله؛ كما قال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 116 جل ذكره -: {وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ} [آل عمران: 26] . الثاني: أن المراد من الآية: الرد على من أثبت شريكاً لله - عزَّ وجلَّ -، وعلى هذا القول ففيه وجهان: الأول: أن يكون هذا ردًّا على عبدة الأصنام؛ كأنه قيل: إنَّه - تعالى - فضَّل الملوك على مماليكهم، فجعل المملوك لا يقدر على ملكٍ مع مولاه، فإذا لم يكن عبيدكم معكم سواءً في الملك، فكيف تجعلون هذه الجمادات معي سواء في العبودية. والثاني: قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «نزلتْ هذه الآية في نصارى نجران، حين قالوا: إنَّ عيسى ابن مريم ابن الله» ، والمعنى: أنكم لا تشركوني عبيدكم فيما ملكتم فتكونوا سواء، فكيف جعلتم عبدي ولداً وشريكاً لي في هذه الألوهية؟ . قوله: {فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} في هذه الجملة أوجه: أحدها: أنَّها على حذف أداة الاستفهام، تقديره: أفهم فيه سواء، ومعناه النفي، أي: ليسوا مستوين فيه. الثاني: أنها إخبار بالتَّساوي، بمعنى أنَّ ما يطعمونه ويلبسونه لمماليكهم، إنَّما هو رزقي أجريته على أيديهم فهم فيه سواءٌ. الثالث: قال ابو البقاء: إنَّها واقعة موقع الفعل، ثم جوز في ذلك الفعل وجهين: أحدهما: أنه منصوب في جواب النَّفي، تقديره: فما الَّذين فضَّلوا برادِّي رزقهم على ما ملكتْ أيمانهم، فيستووا. الثاني: أنه معطوفٌ على موضع «بِرَادِّي» فيكون مرفوعاً، تقديره: فما الذين فضِّلوا يردُّون، فما يستوون. قوله: {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} [فيه وجهان: أحدهما: لا شبهة في أن المراد من قوله {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} الإنكار على المشركين الذين أورد الله تعالى هذه الحجة عليهم. الثاني] : الباء في قوله: {أَفَبِنِعْمَةِ الله} يجوز أن تكون زائدة؛ لأنَّ الجحود لا يتعدَّى بالباء؛ كما تقول: خُذِ الخِطامَ وبالخِطَام، وتعلَّقت زيداً وبِزَيْدٍ، ويجوز أن يراد بالجحود الكفر، فعدي بالباء لكونه بمعنى الكفر. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر: «تَجْحَدُونَ» بالخطاب؛ لقوله: «بَعضَكُم» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 117 و «خَلقَكُمْ» ، والباقون بالغيبة؛ مراعاةً لقوله - عزَّ وجلَّ -: {فَمَا الذين فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ} وقوله: {فَهُمْ فِيهِ سَوَآءٌ} واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم؛ لقرب المخبر عنه، وأيضاً فظاهر الخطاب أن يكون مع المسلمين، والمسلمون لا يخاطبون بجحد النّعمة، وهذا إنكار على المشركين. فإن قيلك كيف يصيرون جاحدين بنعمة الله عليهم بسبب عبادة الأصنام؟ . فالجواب من وجهين: الأول: أنَّه لمَّا كان المعطي لكل الخيرات هو الله - تعالى -، فالمثبت له شريكاً، فقد أضاف إليه بعض تلك الخيرات، فكان جاحداً لكونها من عند الله، وأيضاً فإنَّ أهل الطبائع وأهل النجوم يضيفون أكثر هذه النِّعم إلى الطبائع وإلى النُّجوم، وذلك يوجب كونهم جاحدين لكونها من عند الله. الثاني: قال الزجاج: إنه - تعالى - لمَّا بين الدلائل، وأظهرها بحيث يفهمها كل عاقل، كان ذلك إنعاماً عظيماً منه على الخلق، فعند ذلك قال: {أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ} في تقرير هذه البيانات وإيضاح هذه البينات «يَجْحدُونَ» . قوله: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} الآية هذا نوع آخ رمن أحوال الناس استدلَّ به على وجود الإله المختار الحكيم، وتنبيهاً على إنعام الله على عبيده بمثل هذه النعم، وهذا الخطاب للكلِّ، فتخصيصه بآدم وحوَّاء - صلوات الله وسلامه عليهما - خلافٌ للدَّليل، والمعنى: أنه - تعالى - خلق النِّساء ليتزوج بها الذُّكور، ومعنى «مِنْ أنْفُسِكُمْ» كقوله - تعالى -: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} [البقرة: 54] وقوله: {فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ} [النور: 61] ، أي: بعضكم بعضاً؛ ونظيره: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} [الروم: 21] . قال الأطباء وأهل الطبيعة: المنيُّ إذا انصبَّ إلى الخصية اليمنى من الذَّكر، ثم انصبَّ منه إلى الجانب الأيمن من الرَّحم، كان الولدُ ذكراً تامًّا، وإن انصبَّ إلى الخصية اليسرى، ثمَّ انصبَّ منها إلى الجانب الأيسر من الرَّحم، كان الولد أنثى تامًّا في الأنوثة، وإن انصبَّ منها إلى الخصية اليمنى، وانصبَّ منها إلى الجانب الأيسر من الرَّحم، كان ذكراً في طبيعة الإناث، وإن انصبَّ إلى الخصية اليسرى، ثم انصبَّ إلى الجانب الأيمن من الرَّحم، كان هذا الولدُ أنثى في طبيعة الذُّكور. وحاصل كلامهم: أن الذُّكور الغالب عليها الحرارة واليبوسة، والغالب على الإناثِ البرودة والرطوبة، وهذه العلَّة ضعيفة، فإنَّا رأينا في النِّساء من كان مزاجه في غاية السُّخونة، وفي الرِّجالِ من كان مزاجه في غاية البرودة، ولو كان الموجب للذُّكورة والأنوثة ذلك، لامتنع ذلك؛ فثبت أنَّ خالق الذَّكر والأنثى هو الإله القادر الحكيم. قوله: «وَحفَدةً» فيه أوجه: أظهرها: أنه معطوف على «بَنِينَ» بقيد كونه من الأزواج، وفسِّر هذا بأنَّه أولاد الأولاد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 118 الثاني: أنه من عطف الصفات لشيء واحد، أي: جعل لكم بنين خدماً، والحفدة: الخدم. الثالث: أنه منصوب ب «جَعَلَ» مقدَّرة، وهذا عند من يفسِّر الحفدة بالأعوان والأصهار، وإنما احتيج إلى تقدير «جَعَلَ» ؛ لأن «جَعَلَ» الأولى مقيَّدة بالأزوا، والأعوانُ والأصهارُ ليسوا من الأزواج، والحفدة: جمع حافدٍ؛ كخادمٍ وخَدم. قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «ويقال في جمعه: الحفد بغير هاءٍ؛ كما يقال: الرَّصد، ومعنى الحفدة في اللغة: الأعوان والخدم» . وفيهم للمفسِّرين أقوال كثيرة، واشتقاقهم من قولهم: حَفَدَ يَحْفِدُ حَفْداً وحُفُوداً وحَفَداناً، أي: أسرع في الطَّاعة، وفي الحديث: «وإليك نَسْعَى ونَحْفِدُ» ، أي: نُسرع في طَاعتِكَ؛ وقال الآخر: [الكامل] 3344 - حَفَدَ الوَلائِدُ حَوْلهُنَّ وأسْلِمَتْ ... بأكُفِّهِنَّ أزِمَّةُ الأجْمالِ ويستعمل «حَفَدَ» أيضاً متعدياً؛ يقال: حَفدنِي فهو حافدٌ؛ وأنشد أيضاً: [الرمل] 3345 - يَحْفدُونَ الضَّيْفَ في أبْيَاتِهِمْ ... كَرماً ذلِكَ مِنهُمْ غَيْرَ ذُلْ وحكى أبو عبيدة أنه يقال: أحفد رباعيًّا، وقال بعضهم: الحَفدةُ الأصهارُ؛ وأنشد: [الطويل] 3346 - فَلوْ أنَّ نَفْسِي طَاوعَتْنِي لأصْبحَتْ ... لهَا حَفدٌ ممَّا يُعَدُّ كَثِيرُ ولَكنَّهَا نَفْسٌ عليَّ أبيَّةٌ ... عَيُوفٌ لإصْهَارِ اللِّئامِ قَذُورُ ويقال: سَيفٌ مُحْتَفِدٌ، أي: سريعُ القطع؛ وقال الأصمعي: أصل الحفد مقاربة الخُطَى. قوله: {وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات} ولمَّا ذكر إنعامه على عبيده بالمنكوح وما فيه من المنافع والمصالح، ذكر إنعامه عليهم بالمطعومات الطبية، و «مِنْ» في «مِنَ الطَّيباتِ» للتبعيض. ثم قال {أفبالباطل يُؤْمِنُونَ} قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يعني: بالأصنام وقال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 119 مقاتل: يعني: بالشيطان، وقال عطاء: يصدِّقون أن لي شريكاً وصاحبة وولداً. {وَبِنِعْمَةِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ} أي: بأن يضيفوها إلى غير الله ولا يضيفونها إلى الله، وقيل: يكفرون بالتَّوحيد والإسلام. وقيل: يحرِّمون على أنفسهم طيِّباتٍ أحلَّها الله لهم؛ مثل: البَحيرَة والسَّائبةِ والوَصِيلَة والحَامِ، ويبيحون لأنفسهم محرَّمات حرمها الله عليهم، وهي الميتة ولحم الخنزير {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] ، أي: يجحدون ويكفرون إنعام الله في تحليل الطيِّبات وتحريم الخبائث، ويحكمون بتلك الأحكام الباطلة. قوله - تعالى -: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً} الآية لمَّا شرح الدَّلائل الدالة على صحَّة التَّوحيد، وأتبعها بذكر أقسام النِّعم العظيمة، أتبعها بالردِّ على عبدة الأصنام؛ قال {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات} يعني: المطر والأرض، ويعني النَّبات والثِّمار. قوله تعالى: {مِّنَ السماوات} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه متعلق ب «يَمْلِكُ» ، وذلك على الإعرابين الأولين في نصب «شَيْئاً» . الثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه صفة ل «رِزْقاً» . الثالث: أن يتعلق بنفس «رِزْقاً» إن جعلناه مصدراً. وقال ابن عطية - بعد أن ذكر إعمال المصدر منوناً -: والمصدر يعمل مضافاً باتِّفاق؛ لأنه في تقدير الانفصال، ولا يعمل إذا دخله الألف واللاَّم؛ لأنه قد توغَّل في حال الأسماء وبعد عن الفعليَّة، وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله؛ وقد جاء عاملاً مع الألف واللام في قول الشاعر: [المتقارب] 3347 - ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعْدَاءَهُ ..... ... ... ... ... ... . . وقوله: [الطويل] 3348 - ... ... ... ... ... ... . ..... ... ... . . فَلمْ أنْكُلْ عَنِ الضَّرْبِ مِسْمَعَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 120 قال أبو حيَّان: أما قوله: «باتِّفاقٍ» إن عنى به من البصريين، فصحيحٌ، وإن عنى به من النَّحويين، فليس بصحيح؛ إذْ قد ذهب بعضهم غلى أنَّه وإن أضيف لا يعمل، فإن وجد بعده منصوب أو مرفوع قدَّر له عاملاً، وأما قوله: «في تقدير الانفصال» فليس كذلك، إلا أن تكون إضافته غير محضة؛ كما قال به ابن الطراوة وابن برهان، ومذهبهما فاسد؛ لأن هذا المصدر قد نعت وأكد بالمعرفة، وقوله: «لا يعمل ... إلى آخره» ناقضه بقوله: «وقد جاء عاملاً ... إلى آخره» . قال شهاب الدِّين: فغاية ما في هذا أنَّه نحا إلى أقوال قال بها غيره، وأمَّا المناقضة، فليست صحيحة؛ لأنه عنى أولاً أنَّه لا يعمل في السَّعة، وثانياً أنه قد جاء عاملاً في الضرورة، ولذلك قيَّده فقال: «في قول الشَّاعر» . قوله: «شَيْئاً» فيه ثلاثة أوجه: أحدها: انه منصوبٌ على المصدر، أي: لا يملك لهم ملكاً، أي: شيئاً من الملك. والثاني: أنه بدلٌ من «رِزْقاً» أي: لا يملك لهم رزقاً شيئاً، وهذا غير مقيَّد؛ إذ من المعلوم أن الرزق شيء من الأشياء، ويؤيِّد ذلك أن اببدل يأتي لأحد معنيين: البيان أو التَّأكيد، وهذا ليس فيه بيان؛ لأنه أعمٌّ، ولا تأكيد. الثالث: أنه منصوب ب «رِزْقاً» على أنه اسمُ مصدر، واسم المصدر يعمل عمل المصدر، على خلاف في ذلك. ونقل مكِّي: أن اسم المصدر لا يعمل عند البصريين إلا في شعر، وقد اختلف النقلة عن البصريِّين؛ فمنهم من نقل المنع، ومنهم من نقل الجواز. وقد ذكر الفارسي انتصابه ب «رِزْقاً» كما تقدَّم. ورد عليه ابن الطراوة: بأن الرِّزق اسم المرزوق، كالرِّعي، والطحن. وردَّ على ابن الطراوة؛ بأنّ الرزق بالكسر أيضاً مصدر، وقد سمع فيه ذلك، وظاهر هذا أنه مصدر بنفسه لا اسم مصدر. قوله تعالى: {وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ} يجوز في الجملة وجهان: العطف على صلة «مَا» ، والإخبار عنهم بنفي الاستطاعة على سبيل الاستئناف، ويكون قد جمع الضمير العائد على «مَا» باعتبار معناها؛ إذ المراد بذلك آلهتهم. ويجوز أن يكون الضمير عائداً على العابدين. فإن قيل: قال - تعالى -: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ} فعبَّر عن الأصنام بصيغة «ما» وهي لغير العاقل، ثم جمع بالواو والنون فقال: «ولا يَسْتَطِيعُون» ، وهو مختص بأولي العلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 121 فالجواب: أنه عبَّر عنها بلفظ «مَا» اعتباراً باعتقادهم أنَّا آلهة، والفائدة في قوله: «ولا يَسْتَطِيعُونَ» أنَّ من لا يملك شيئاً قد يوصف باستطاعته أن يمتلكه بطريقٍ من الطرق فبيَّن - تعالى - أنَّ هذه الأصنام لا تملك وليس لها استطاعة تحصيل الملك. ثم قال - تعالى -: {فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال} يعني: الأشباه فتشبهونه بخلقه وتجعلون له شريكاً؛ فإنه واحد لا مثل له - سبحانه وتعالى -. ثم قال: {إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} يعني: أن الله يعلم ما عليكم من العقاب العظيم، وأنتم لا تعلمون خطأ ما تضربون من الأمثال، وحذف مفعول العلم اختصاراً أو اقتصاراً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 122 ثم ضرب مثلاً للمؤمن والكافر؛ فقال - تعالى -: {ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} ، هذا مثل الكافر رزقه الله مالاً فلم يقدم فيه خيراً. قوله: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ} يجوز في «مَنْ» هذه أن تكون موصولة، وأن تكون موصوفة، واختاره الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ، قال: «كأنه قيل: وحرًّا رزقناه ليطابق عبداً» ومحلها النصب على «عَبْداً» ، وقد تقدَّم الكلام [إبراهيم: 24] في المثل الواقع بعد «ضَرَب» . وقوله: {سِرّاً وَجَهْراً} يجوز أن يكون منصوباً على المصدر، أي: إنفاق سرْ وجهر، ويجوز أن يكون حالاً. وهذا مثل المؤمن من أعطاه الله مالاً، فعمل فيه بطاعةِ الله وأنفقه في رضاه سرًّا وجهراً، فأثابه الله عليه الجنَّة. قوله تعالى: {هَلْ يَسْتَوُونَ} إنَّما جميع الضمير وإن تقدَّمه ثنان؛ لأنَّ المراد: جنس العبيد والأحرار المدلول عليهما ب «عَبْداً» وب «مَن رزقنَاهُ» . وقيل: على الأغنياء والفقراء المدلول عليهما بهما أيضاً، وقيل: اعتباراً بمعنى «مَنْ» فإنَّ معناها جمع فراعى معناها بعد أن راعى لفظها. فصل قيل: المراد بقوله: {عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} هو الصَّنم؛ لأنَّه عبد بدليل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 122 قوله: {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً} [مريم: 93] وهو مملوك لا يقدر على شيء، والمراد بقوله: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً} : عابد الصَّنم؛ لأن الله - تعالى - رزقه المال، فهو ينفقُ منه على نفسه وعلى أتباعه سرًّا وجهراً فهما لا يتساويان في بديهة العقل، بل صريح العقل شاهدٌ بأن عابد الصَّنم أفضل من الصَّنم، فكيف يجوز الحكم بأنه مساوٍ لربِّ العالمين في المعبوديَّة؟ . وقيل: المراد بالعبد: المملوك عبد معيَّن، قيل: أبو جهل، وب {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} أبو بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. وقيل: عامٌّ في كل عبد بهذه الصفة، وفي كل حرٍّ بهذه الصفة. فصل دلَّت هذه الآية على أن العبد لا يملك شيئاً. فإن قيل: دلَّت الآية على أنَّ عبداً من العبيد لا يقدر على شيءٍ، فلم قلتم: إن كل عبد كذلك؟ . فالجواب: أنه ثبت في أصول الفقه: أن الحكم المذكور عقيب الوصف المناسب يدلُّ على كون ذلك الوصف علَّة لذلك الحكم، وكونه عبداً وصفٌ مشعرٌ بالذلِّ والمقهورية وقوله: {لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} حكم مذكور عقيبه، وهذا يقتضي أنَّ العلَّة لعدم القدرة على شيءٍ، هو كونه عبداً، وأيضاً قال بعده: {وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً} [فميز هذا القسم الثاني عن القسم الأول، وهو العبد بهذه الصفة، وهو أنه رزقه رزقاً حسناً] فوجب ألا يحصل هذا الوصف للعبد، حتَّى يحصل الامتيازُ بين الثاني وبين الأوَّل، ولو ملك العبد، لكان الله قد آتاهُ رزقاً حسناً؛ لن الملك الحلال رزق حسن. ثم اختلفوا؛ فروي عن ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وغيره التشدد في ذلك، حتى قال: لا يملك الطَّلاق أيضاً. وأكثر الفقهاء على أنَّه يملك الطلاق، واختلفوا في أنَّ المالك إذا ملكه شيئاً، هل يملكه ام لا؟ وظاهر الآية ينفيه. فإن قيل: لم قال: {عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} وكل عبدٍ فهو مملوك وغير قادر على التصرُّف؟ . فالجواب: ذكر المملوك ليحصل الامتياز بينه وبين الحرِّ؛ لأنَّ الحر قد يقال: إنه عبد الله، وأما قوله: {لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} للتَّمييز بينه وبين المكاتب والعبد المأذون؛ لأنهما يقدران على التصرُّف. قوله {الحمد لِلَّهِ} قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: على ما فعل بأوليائه وأنعم عليهم بالتَّوحيد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 123 وقيل: المعنى أنَّ الحمد كلّه لله، وليس شيءٌ من الحمد للأصنام؛ لأنها لا نعمة لها على أحدٍ. وقوله عزَّ وجلَّ -: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ، أي: أنهم لا يعلمون أنَّ كل الحمد لي، وليس شيء منه للأصنام. وقال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: قال للرَّسُول - صلوات الله وسلامه عليه -: {قُلِ الحمد لِلَّهِ} [النمل: 59] . وقيل: هذا خطاب لمن رزقه الله رزقاً حسناً أن يقول: الحمد لله على أن ميَّزه في هذه القدرة على ذلك العبد الضعيف. وقيل: لما ذكر هذا المثل مطابقاً للغرض كاشفاً عن المقصود، قال بعده: {الحمد لِلَّهِ} يعني: الحمد لله على قوَّة هذه الحجَّة وظهور هذه البيِّنة. ثم قال: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} ، أي: أنَّها مع غاية ظهورها ونهاية وضوحها، لا يعلمونها هؤلاء الجهَّال. قوله - تعالى -: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ} الآية وهذا مثل ثانٍ لإبطالِ قول عبدة الأصنام؛ وتقريره: أنَّه لما تقرَّر في أوائل العقول أنَّ الأبكم العاجز لا يساوي في الفضل والشَّرف النَّاطق القادر الكامل مع استوائهما في البشرية فلأن يحكم بأنَّ الجماد لا يكون مساوياً لربِّ العالمين في المعبوديَّة أولى. قال الواحدي: قال أبو زيد: الأبكم هو العَيِيُّ المفحم، وقد بكم بكماً وبكامةً وقال أيضاً: الأبكمُ: الأقطع اللسان، وهو الذي لا يحسن الكلام. روى ثعلب عن ابن الأعرابي: الأبكم الذي لا يعقل. وقال الزجاج: الأبكم المطبق الذي لا يسمعُ ولا يبصر. ثم قال: {لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ} إشارة إلى العجز التَّام والنُّقصان الكامل. وقوله: {كَلٌّ على مَوْلاهُ} الكلُّ الثَّقيلُ، والكلُّ العيال، والجمع: كلُول، والكلُّ: من لا ولد لهُ ولا وَالِد، والكلُّ أيضاً: اليَتيمُ. سمِّي بذلك؛ لثقله على كافله؛ قال الشاعر: [الطويل] 3349 - أكُولٌ لمَالِ الكُلِّ قَبْلَ شبَابهِ ... إذَا كانَ عَظْمُ الكَلِّ غَيْرَ شَديدِ قال أهل المعاني: «أصل الكلِّ من الغلط الذي هو نقيضُ الحدَّة، يقال كلَّ السِّكينُ: إذا غلظت شفرته فلم تقطع، وكلَّ اللسانُ: إذا غلظ فلم يقدر على الكلام، وكلَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 124 فلانٌ عن الأمْرِ: إذا ثقل عليه فلم ينبعث فيه، فمعنى» كلٌّ على مولاهُ «، أي: غليظٌ وثقيلٌ على مولاه أهل ولايته» . قوله: {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ} شرط وجزاؤه، وقرأ ابن مسعود، وابن وثَّاب، وعلقمة: «يُوَجِّهْ» بهاء واحدة ساكنة للجزم، وفي فاعله وجهان: أحدهما: ضمير الباري - تعالى -، ومفعوله محذوف؛ [تقديره كقراءة العامة] . والثاني: أنه ضمير الأبكم، ويكون «يُوجِّهْ» لازماً بمعنى «يَتوَجَّهُ» . يقال: وجَّه وتوجَّهَ بمعنًى، وقرأ علقمة أيضاً وطلحة كذلك، إلاَّ أنه بضم الهاءِ، وفيها أوجه: أحدها: أنَّ «أيْنَمَا» ليست هنا شرطيَّة، و «يُوَجِّهُ» خبر مبتدأ مضمر، أي: أيْنَمَا هو يوجه، أي: الله - تعالى -، والمفعول محذوف، وحذفت الياء من قوله: «لا يَأتِ» تخفيفاً؛ كما حذفت في قوله: {يَوْمَ يَأْتِ} [هود: 105] و {إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 4] . والثاني: أن لام الكلمة حذفت تخفيفاً لأجل التضعيف، وهذه الهاء هي الضمير، فلم يحلها جزم، ذكر هذين الوجهين أبو الفضل الرَّازي. الثالث: أن «أيْنَمَا» أهملت حملاً على «إذَا» ؛ لما بينهما من الأخُوَّةِ في الشرط؛ كما حملت «إذا» عليها في الجزم في بعض المواضع، وحذفت الباء من «يَأتِ» تخفيفاً أو جزم على التوهُّم، ويكون «يُوجِّهُ» لازماً بمعنى: «يَتوجَّهُ» كما تقدَّم. وقرأ عبد الله أيضاً: «تُوَجِّههُ» بهاءين بتاء الخطاب، وقال أبو حاتم - وقد حكى هذه القراءة -: «إنَّ هذها لقراءة ضعيفة؛ لأن الجزم لازم» وكأنه لم يعرف توجيهها، وقرأ علقمة وطلحة أيضاً: «يُوجَّهْ» بهاء واحدة ساكنة للجزم، والفِعْل مبني للمفعول؛ وهي واضحة. وقرأ ابن مسعود أيضاً: «تُوَجِّههُ» كالعامة إلا أنه بتاء الخطاب، وفيه التفاتٌ، وفي الكلام حذف وهو حذف المقابل؛ لقوله: {أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ} كأنه قيل: والآخر ناطقٌ متصرف في ماله، وهو خفيف على مولاه {أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ} ، ودلَّ على ذلك {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} . ونقل أبو البقاءِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه قرئ: «أيْنَمَا تَوجَّه» بالتَّاء وفتح الجيم والهاء فعلاً ماضياً فاعله ضمير الأبكم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 125 قوله: {وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} الرَّاجح أن يكون مرفوعاً؛ عطفاً على الضمير المرفوع في «يَسْتَوِي» ، وسوَّغه الفصل بالضمير، والنصب على المعيَّة مرجوح، والجملة من قوله: {وَهُوَ على صِرَاطٍ} إمَّأ استئنافٌ أو حال. فصل لمَّا وصف الله أحد الرَّجُليْن بهذه الصِّفات الأربع، وهذه صفات الأصنام وهو أنَّه أبكم لا يقدر على شيءٍ، أي: عاجز كلٌّ على مولاه، ثقيل، أينما يرسله لا يأت بخير؛ لأن أبكم لا يفهم، قال: هل يستوي هذا الموصوف بهذه الصفات الأربع، وهذه صفات الأصنام لا تسمع ولا تعقل ولا تنطق، وهو كلٌّ على عابده يحتاج إلى أن يحمله ويخدمه ويضعه، {هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} يعني: الله قادر متكلِّم يأمر بالتَّوحيد، {وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} . قال الكلبي: يدلكم على صراط مستقيم. وقيل: هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: كِلا المثلين للمؤمن والكافر، يرويه عطيَّة عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه. قال عطاء: الأبكم: أبيُّ بن خلف، {وَمَن يَأْمُرُ بالعدل} : حمزة، وعثمان بن عفان وعثمان بن مظعون - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -. وقال مقاتل: نزلت في هاشم بن عمرو بن الحارث بن ربيعة القرشي، وكان قليل الخير، يعادي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: نزلت في عثمان بن عفَّان ومولاه، كان مولاه يكره الإسلام. وقيل: المراد كل عبد موصوف بهذه الصفات الذَّميمة، وكل حرٍّ موصوف بتلك الصفات الحميدة، وهذا أولى من القول الول؛ لأن وصفه - تعالى - إياهما بكونهما رجلين يمنع من حمل ذلك على الوثن، وكذلك وصف الآخر بأنه على صراط مستقيم يمنع من حمله على الله - تعالى -. قوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} الآية لما مثَّل الكافر بالأبكم العاجز، ومثَّل نفسه بالذي يأمر بالعدل وهو على صراط مستقيم، ومعلومٌ أنه لا يكون آمراً بالعدل وهو على صراط مستقيم إلاّ إذا كان كاملاً في العلمِ والقدرةِ فذكر في هذه الآية بيان كونه كاملاً في العلم والقدرة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 126 أمَّا بيان كمال العلم، فقوله - تعالى -: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السماوات والأرض} أفاد الحصر بأنَّ العلم بهذه الغيوب ليس إلا لله - تعالى -. وأما بيان كمال القدرة، فقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر} والسَّاعة: هي الوقت الذي تقوم فيه القيامة، سمِّيت ساعة؛ لأنَّها تفجأ الإنسان في ساعة يموت الخلق كلهم بصيحة واحدة أي إذا قال له: {كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82] والمراد ب «لَمْحِ البَصرِ» : طرفةُ العين وهو النظر بسرعة، يقال: لَمحَهُ بِبصَرِه لَمْحاً ولَمحَاناً، وقيل: أصله من لَمحَانِ البَرْق، وقولهم: لأرينَّك لَمْحاً بَاصِراً، أي: أمْراً وَاضِحاً، والمراد بيان كمال القدرة. وقوله: {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} ليس المراد منه الشَّك، بل المراد: بل هو أقرب. قال الزجاج: المراد به: الإبهام على المخاطبين أنه - تعالى - يأتي بالسَّاعة إما بقدر لمح البصر، أو بما هو أسرع؛ لأنَّ لمح البَّصر عبارة عن انتقال الطَّرف من أعلى الحدقةِ إلى أسفلها، والحَدقةُ مركبة من أجزاء لا تتجزَّأ، فلمح البصر عبارة عن المرور على جملة أجزاءِ الحدقةِ، ولا شكَّ أنَّ تلك الأجزاء كثيرة، والزَّمانُ الذي يحصل فيه لمحُ البصر مركب من أزمانٍ متعاقبةٍ، والله - تعالى - قادرٌ على إقامة القيامة في زمان واحد من تلك الأزمان؛ فلهذا قال - تعالى -: {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} تنبيهاً على ذلك، فقوله: {أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} ، أي: أمره، فالضمير للأمر، والتقدير: أو أمر الساعة أقرب من لمح البصر. {إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} نزلت في الكفَّار الذين استعجلوا القيامة استهزاءً. قوله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 127 - تعالى -: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} لما بين كمال القدرة والعلم، عاد إلى الدلائل الدالة على وجود الصانع المختار، فقال: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ} . قرأ حمزة والكسائي: «إمَّهاتِكُمْ» بكسر الهمزة، والباقون بضمِّها، وأصل « الجزء: 12 ¦ الصفحة: 127 أمَّهاتِكُم» : إمَّاتكُم، إلا أنه زيدت الهاء فيه كما زيدت في «أراق» فقيل: أهراق، وشذَّت زيادتها في الواحدة في قوله: [الرجز] 3350 - أمَّهَتِي خِندِفُ واليَاسُ أبِي ... والجملة من قوله: {لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} حالٌ من مفعول «أخْرَجَكُمْ» غير عالمين و «شَيْئاً» إمَّا مصدر، أي: شيئاً من العلم، وإمَّا مفعول به والعلم هنا العرفان، وتقدَّم الكلام في «أمَّهَاتِكُمْ» في النِّساء. فصل خلق الإنسان في مبدأ الفطرة خالياً عن معرفة الأشياء. ثم قال تعالى -: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} والمعنى: أن النَّفس الإنسانية ك انت في أول الخلقةِ خالية عن المعارف والعلوم ثم إن الله تعالى أعطاها هذه الحواس؛ لتستفيد بها المعارف والعلوم، وتحقيق الكلام فيه أن يقال: التَّصوُّرات والتَّصديقات إمَّا أن تكون كسبيَّة أو بديهيَّة؛ والكسبيَّة لا يمكن حصولها إلا بواسطة تركيبات البديهيَّات، فلا بد من سبق العلوم البديهيَّة. فإن قيل: هذه العلوم البديهية إمَّا أن يقال: كانت حاصلة منذ خلقنا، أو ما كانت حاصلة؛ ولأول باطل؛ لأنا بالضرورة نعلمُ أنَّا حين كنَّا جنيناً في رحم الأمِّ ما كنَّا نعرفُ ن النَّفي والإثبات لا يجتمعان، وما كنَّا نعرف أن الكلَّ أعظم من الجزء. وأما القسم الثاني: فإنه يقتضي أن هذه العلوم البديهية حصلت في نفوسنا بعد أنَّها ما كانت حاصلة، وحينئذٍ لا يمكن حصولها إلا بكسب وطلب، وكلُّ ما كان كسباً فهو مسبوق بعلوم أخرى إلى غير نهاية، وذلك محال. فالجواب: أن هذه العلوم البديهيَّة ما كانت حاصلة في نفوسنا أولاً، ثم إنها حدثت، وحصلت، أما قوله: فيلزم أن تكون كسبية، فهذه المقدمة ممنوعة، بل نقول: إنها إنما حدثت في نفوسنا بعد عدمها، بواسطة إعانة الحواسِّ التي هي السَّمع والبصر، فإن النفس كانت في مبدأ الخلقة خالية عن جميع العلوم، إلا أنه تعالى خلق السمع والبصر فإذا أبصر الطفل شيئاً أو سمعه مرة بعد أخرى، ارتسم في خياله ماهيَّة ذلك المبصر والمسموع؛ وكذلك القول في سائر الحواسِّ، فيصير حصول الحواسِّ سبباً لحضور ماهيَّات المحسوسات في النَّفس والعقل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 128 ثم إنَّ تلك الماهيَّات على قسمين: أحدهما: ما يكون حضوره مزجباً تاماً في جرم الذِّهن، بإسناد بعضها إلى بعض بالنَّفي أو الإثبات، مثل أنه إذا حضر في الذِّهن أن الواحد ما هو؟ وأن نصف الاثنين ما هو؟ كان حضور هذين التَّصوُّرين في الذهن علَّة تامة في جرم الذِّهن؛ بأنَّ الواحد محكوم عليه بأنَّه نصلف الاثنين، وهذا القسم هو العلوم البديهيَّة. والقسم الثاني: ما لا يكون كذلك، وهو العلوم النَّظريَّة؛ مثل أنَّه إذا حضر في الذِّهن بأنَّ الجسمَ ما هو؟ والمحدث ما هو؟ فإن مجرَّد هذين التصوُّرين في الذِّهْن لا يكفي في جزم الذهن بأنَّ الجسم محدث، بل لا بدَّ فيه من [دليل] منفصل وعلوم سابقة. والحاصل أن العلوم الكسبيَّة إنما يمكن اكتسابها بواسطة العلوم البديهيَّة، وحدوث العلوم البديهيَّة إنما تكون عند حدوث تصوُّر موضوعاتها، وتصوُّر محمولاتها، وحدوث التَّصورات إنَّما كان بسبب إعانة هذه الحواس على إحداثها؛ فظهر أن السبب الأول لحدوث هذه المعارف في النُّفُوس والعقول هو أنَّه - تعالى - أعطى هذه الحواس. فلهذا قال - تعالى -: {والله أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} ليصير حصول هذه الحواس سبباً لانتقال نفوسكم من الجهل إلى العلم بالطَّريق المذكور. وقال المفسرون: «وجَعلَ لَكُمُ السَّمْعَ» لتسمعوا مواعظ الله تعالى، «والأبْصَارَ» لتبصروا دلائل [آلاء] الله، «والأفْئِدةَ» لتعقلوا عظمة الله. و «الأفْئِدَة» جمع فُؤادِ؛ نحو: أغْرِبة وغُراب، قال الزجاج: ولم يجمع «فُؤاد» على أكثر العددِ، وما قيل: «فِئْدَان» كما قيل: «غُرَاب وغِرْبَان» . ولعلَّ الفؤاد إنَّما جُمِع على جمع القلَّة؛ تنبيهاً على أنَّ السَّمع والبصر كثيران، وأن الفؤاد قليلٌ؛ لأن الفؤاد إنَّما خلق للمعارف الحقيقيَّة، والعلوم اليقينيَّة، وأكثر الخلق ليسوا كذلك، بل يكونوا مشغولين بالأفعال البهيميَّة والصِّفات السبعية، فكأن فؤادهم ليس بفؤادٍ؛ فلهذا جمع جمع القلَّة قاله ابن الخطيب. وقال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «إنَّه من الجموع التي استعملت للقلَّة والكثرة، ولم يسمع فيها غير القلَّة، نحو:» شُسُوع «، فإنَّها للكثرة، وتستعمل في القلَّة، ولم يسمع غير شسوع. كذا قال وفيه نظر فقد سمع فيهم» أشساع «فكان ينبغي أن يقال: غلب» شسوع «. فإن قيل: قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار} ، عطف على قوله:» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 129 أخْرَجَكُم «وهذا يقتضي أن يكون جعل السَّمع والبصر متأخِّراً عن الإخراج من البطن؛ وليس كذلك. فالجواب: أنَّ حرف الواو لا يوجب التَّرتيب، وأيضاً إذا حملنا السمع على الإسماع والبصر على الرؤية، زال السؤال، هذا إذا جعلنا قوله - تعالى -:» وجَعلَ «معطوفاً على» أخْرَجَكُم «فيكون داخلاً فيما أخبر به عن المبتدأ ويجوز أن يكون مستأنفاً. فصل قيل: معنى الكلام: لا تعلمون شيئاً ممَّا أخذ عليكم من الميثاق في أصلاب آبائكم، وقيل: لا تعلمون شيئاً ممَّا قضى عليكم به من السَّعادة والشقاوة، وقيل: لا تعلمون شيئاً، أي: من منافعكم. قال البغوي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «تمَّ الكلام عند قوله - تعالى -: {لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً} ثمَّ ابتدأ فقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} ؛ لأنَّ الله - تعالى - جعل هذه الأشياء لهم قبل الخروج من بطون الأمَّهات، وإنَّما أعطاهم العلم بعد الخروج» . وسيأتي الكلام في حكمة ذكره السمع بلفظ المصدر، والأبصار والأفئدة بلفظ الاسم في سورة السَّجدة إن شاء الله - تعالى -. وقوله - تعالى -: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع} ، أي لتسمعوا به الأمر والنهي، «والأبْصَارَ» أي: لتبصروا بها آثار منفعة الله، «والأفْئِدةَ» لتصلوا بها إلى معرفته - سبحانه وتعالى - وقوله: {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ، أي: نِعَمه. قوله - تعالى -: {أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ} الآية هذا دليلٌ آخر على كمال قدرة الله وحكمته. قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي: «ألَمْ تَروْا» بالتاء من فوق، والباقون: بالياء على الحكاية لمن تقدَّم ذكره من الكفَّار. قوله: {مَا يُمْسِكُهُنَّ} يجوز أن تكون الجملة حالاً من الضمير المستتر في «مُسخَّراتٍ» ، ويجوز أن تكون حالاً من الطير، ويجوز أن تكون مستأنفة. ومعنى «مُسخَّراتٍ» : مذللات، «في جوِّ السَّماءِ» وهو الهواءُ بين السَّماء والأرض؛ قال: [الطويل] 3351 - فَلسْتُ لإنْسيٍّ ولكِنْ لمَلأكٍ ... تَنزَّلَ من جوِّ السَّماءِ يَصُوبُ وقيل: الجوُّ ما يلي الأرض في سمت العلوِّ واللوح والسُّكاك أبعد منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 130 قال كعب الأحبار - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إنَّ الطير يرتفع اثنا عشر ميلاً ولا يرتفع فوق هذا، وفوق الجوِّ السُّكاك، وفوق السُّكاك السماء، و {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله} تعالى، أي: في حال القبض، والبسط، والاسطفاف ينزلهم كيف يعتبرونها في وحدانيَّته. {إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} خصَّ هذه الآيات بالمؤمنين؛ لأنَّهم هم المنتفعون بها. فصل جسد الطائر جسم ثقيل، يمتنع بقاؤه في الجوِّ معلَّقاً بلا علاقة ولا دعامة، فوجب أن يكون الممسك له في الجوِّ هو الله - تعالى -، والظاهر أن إبقاءه في الجوِّ فعله باختياره، وهذا يدلُّ على أنَّ فعل العبد خلق الله - تعالى -. قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّما أضاف - تعالى - هذا الإمساك إلى نفسه؛ لأنه - تعالى - هو الذي أعطى الآلات التي يمكن الطير بها من تلك الأفعال، فلما كان - تعالى جلَّ ذكره - هو المسبب لذلك، صحَّت هذه الإضافة. والجواب: هذا تركٌ للظاهر من غير دليل. قوله - تعالى -: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} الآية وهذا نوعٌ آخر من دلائل التوحيد. قوله: «سَكَناً» يجوز أن يكون مفعولاً أولاً، على أنَّ الجعل تصيير والمفعول الثاني أحد الجارين قبله، ويجوز أن يكون الجعل بمعنى الخلقِ فيتعدَّى لواحدٍ، وإنَّما وحد السكن؛ لأنه بمعنى ما يسكنون فيه، قاله أبو البقاء. وقد يقال: إنه في الأصل مصدر، وإليه ذهب ابن عطية، فتوحيده واضح إلا أن أبا حيَّان منع كون مصدراً ولم يذكر وجه المنع، وكأنه اعتمد على قول أهل اللغة: إن السكن «فَعْل» بمعنى «مَفْعُول» : كالقَبْضِ والنقْضِ بمعنى المَنْقُوض والمَقْبُوض؛ وأنشد الفراء فقال: [البسيط] 3352 - جَاءَ الشِّتاءُ ولمَّا أتَّخِذْ سَكَناً ... يَا وَيْحَ نَفْسِي مِنْ حَفْرِ القَرامِيصِ والسَّكنُ: ما سكنتَ إليه وما سَكنْتَ فيه، قال الزمخشري: «السَّكن ما يسكن إليه وينقطع إليه من بيت أو إلفٍ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 131 واعلم أنَّ البيوت الَّتي يسكن فيها الإنسان على قسمين: أحدهما: البيوت المتَّخذة من الحجر والمدر، وهي المرادة من قوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} وهذا القسم لا يمكن نقله بل الإنسان ينتقل إليه. والثاني: البيوت المتَّخذة من القباب والخيام والفساطيط، وهي المرادة بقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا} وهذا القسم يمكن نقله مع الإنسان. قوله: {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} قرأ نافع، وابن كثير، وأبو عمرو بفتح العين، والباقون بإسكانها، وهما لغتان كالنَّهْر والنَّهَر. وزعم بعضهم أن الأصل الفتح، والسكون تخفيف لأجل حرف الحلق؛ كالشَّعْر والشعَر «. والظَّعنُ مصدر ظعن، أي: ارتحل، والظَّعينةُ: الهوجد فيه المرأة وإلا فهو محمل، ثم كثر حتى قيل للمرأة: ظعينة. فصل والمعنى: جعل لكم من جلودِ الأنعام بيوتاً، يعني: الخِيَام، والقِبَاب والأخبية، والفَساطِيط من الأنطاع والأدم:،» تَسْتَخِفُّونَها «أي: يخف عليكم حملها {يَوْمَ ظَعْنِكُمْ} رحلتكم في سفركم، والظَّعْنُ: سير [البادية] لنجعة أو لحضور ماء أو طلب مرتع، والظَّعْنُ أيضاً: الهَوْدَج؛ قال: [الهزج] 3353 - ألاَ هَلْ هَاجكَ الأظْعَانُ إذ بَانُوا ... وإذْ جَادتْ بِوشْكِ البَيْنِ غِرْبَانُ {وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ} في بلدكم لا يثقل عليكم في الحالتين، و» مِنْ «راجعة إلى الحالتين {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ} يعني: أصواف الضَّأن، وأوبار الإبل، وأشعار المعز، والكنايات راجعة إلى الأنعام، وذكر الأصواف والأوبار ولم يذكر القطن والكتاب؛ لأنهما لم يكونا ببلاد العرب. قوله:» أثَاثاً «فيه وجهان: أحدهما: أنه منصوب عطفاً على» بُيُوتًا «أي: وجعل لكم من أصوافها أثاثاً، وعلى هذا يكون قد عطف مجروراً على مجرورٍ، ومنصوباً على منصوب، ولا فصل هنا بين حرف العطف والمعطوف حينئذ. وقال أبو البقاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -:» وقد فصل بينه وبين حرف العطف بالجار الجزء: 12 ¦ الصفحة: 132 والمجرور، وهو قوله عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا} وهو ليس بفصل مستقبح كما زعم في الإيضاح؛ لأنَّ الجارَّ والمجرور مفعول، وتقديم مفعول على مفعول قياس «. وفيه نظر؛ لأنه عطف مجروراً على مثله، ومنصوباً على مثله. والثاني: أنه منصوب على الحال، ويكون قد عطف مجروراً على مثله تقديره: وجعل لكم من جلود الأنعام، ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها بيوتاً حال كونها أثاثاً، ففصل لالمفعول بين المتعاطفين، وليس المعنى على هذا، إنما هو على الأول. والأثاث: متاع البيت إذا كان كثيراً، وأصله: مِنْ أثَّ الشعرُ والنَّباتُ؛ إذا كشفا وتكاثرا؛ قال امرؤ القيس: [الطويل] 3354 - وفَرْعٍ يُغَشِّي المَتْنَ أسْودَ فَاحمٍ ... أثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخلَةِ المُتعَثْكِلِ ونساءٌ أثائِثُ، أي: كثيرات اللحم كأنّ عليهن أثاثاً، وفلان كثر أثاثهُ. وقال الزمخشري: الأثاث ما جدَّ من فرش البيت، والخُرثيُّ: ما قدم منها؛ وأنشد: [البسيط] 3355 - تَقادمَ العَهْدُ من أمِّ الوليدِ بِنَا ... دَهْراً وصَارَ أثَاثُ البيتِ خُرثِيَّا وهل له واحدٌ من لفظه؟ فقال الفراء: لا، وقال أبو زيد: واحده أثاثة وجمعه في القلَّة: أثثة؛ ك «بَتَات» و «أبتَّة» ، وقال أبو حيَّان: وفي الكثير على أثث، وفيه نظر؛ لأن «فعالاً» المضعَّف يلزم جمعة على أفعلة في القلَّة والكثرة، ولا يجمع على «فُعُل» إلا في لفظتين شذَّتا، وهما: عُيُن وحُجُج جمع عيَّان وحجَّاج، وقد نص النحاة على منع القياس عليهما، فلا يجوز: زمام وزُمُم بل أزمَّة وقال الخليل: الأثاث والمتاع واحد، وجمع بينهما لاختلاف لفظهما؛ كقوله: [الوافر] 3356 - ... ... ... ... ... ... ... وألْفَى قَوْلهَا كَذِباً ومَيْنَا وقوله: [الطويل] 3357 - ... ... ... ... ... ... ... وهِنْدٌ أتَى من دُونِهَا النَّأيُ والبُعْدُ وقيل: متاعاً: بلاغاً ينتفعون به، «إلى حين» يعني: الموت، وقيل: إلى حين البِلَى. قوله - تعالى -: {والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً} الآية فالإنسانُ إما أن يكون مقيماً أو مسافراً، والمسافر إمَّا أن يكون غنيًّا يستصحب معه الخيام أو لا. فالقسم الأول أشار إليه بقوله: {جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً} ، وأشار إلى القسم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 133 الثاني بقوله: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً} وأشار إلى القسم الثالث بقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً} فإن المسافر إذا لم يكن له خيمة يستظل بها، فإنَّه لا بد وأن يستظلَّ إما بجدار أو شجرٍ أو بالغمامِ؛ كما قال - سبحانه -: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الغمام} [الأعراف: 160] . قوله تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً} جمع «كِنّ» ؛ وهو ما حفظ من الرِّيحِ والمطرِ، وهو في الجبل: الغار، وقيل: كلُّ شيءٍ وقَى شيْئاً، ويقال: اسْتكن وأكَنّ، إذا صار في كنٍّ. واعلم أبلاد العرب شديدة الحرِّ، وحاجتهم إلى الظلِّ ودفع الحرِّ شديدة؛ فلهذا ذكر الله - تعالى - هذه المعاني في معرض النِّعمة العظيمة، وذكر الجبال ولم يذكر السهول وما جعل لهم من السهول أكثر؛ لأنهم كانوا أصحاب جبال، كما قال - تعالى -: {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ} ؛ لأنَّهم كانوا أصحاب وبر وشعر، كما قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ} [النور: 43] وما أنزل من الثلج أكثر لكنهم كانوا لا يعرفون الثَّلج. وقال {تَقِيكُمُ الحر} وما يَقِي من البرد أكثر؛ لأنهم كانوا أصحاب حرٍّ. ولمَّا ذكر الله - تعالى - أمر المسكن، ذكر بعده أمر الملبُوسِ؛ فقال - جل ذكره -: {وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} والسَّرابيل: القُمص واحدها سربال. قال الزجاج - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «كل ما لبسته فهو سِرْبال، من قميصٍ أو دِرْعٍ أو جَوشنٍ أو غيره» ؛ وذلك لأن الله - تعالى - جعل السَّرابيل قسمين: أحدهما: ما يقي الحرَّ والبرد. والثاني: ما يتقى به من البأسِ والحروب. فإن قيل: لم ذكر الحرَّ ولم يذكر البرد؟ . فالجواب من وجوه: أحدها: قال عطاء الخراساني: المخاطبون بهذا الكلام هم العرب، وبلادهم حارَّة [يابسة] ، فكانت حاجتهم إلى ما يدفع الحرَّ أشدَّ من حاجتهم إلى ما يدفع البرد: كما قال - سبحانه وتعالى - {وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ} وسائر أنواع الثياب أشرف، إلا أنه - تعالى - ذكر هذا النَّوع؛ لأن عادتهم بلبسها أكثر. والثاني: قال المبرِّد: ذكر أحد الضِّدَّين تنبيه على الآخر؛ كقوله: [الطويل] 3358 - كَأنَّ الحَصَى من خَلْفِهَا وأمَامِهَا ... إذَا حَذفَتْهُ رجْلُهَا خَذفُ أعْسَرَا لمَّا ثبت في العلوم العقليَّة أن العلم بأحد الضِّدين يستلزم العلم بالضدِّ الآخر، فإنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 134 الإنسان إذا خطر بباله الحر، خطر بباله البرد أيضاً وكذا القول في النُّور والظلمة، والسَّواد والبياض. الثالث: قال الزجاج: «وما وقَى من الحرِّ وقى من البرد، فكان ذكر أحدهما مغنياً عن الآخر» . فإن قيل: هذا بالضدِّ أولى؛ لأن دفع الحرِّ يكفي فيه السَّرابيل التي هي القُمص دون تكلُّف زيادة، أما البرد فإنَّه لا يندفع إلا بزيادة تكلُّف. فالجواب: أن القميص الواحد لمَّا كان دافعاً للحر، كانت السَّرابيل التي هي الجمع دافعة للبرد. قوله: {كَذَلِكَ يُتِمُّ} ، أي: مثل ذلك الإتمام السابق، {يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ} في المستقبل. وقرأ ابنُ عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «تَتِمُّ» بفتح التاء الأولى، «نِعْمَتُهُ» بالرفع على الفاعلية، وقرأ أيضاً: «نِعَمَهُ» جمع نعمة مضافة لضمير الله - تعالى -، وقرأ أيضاً: «لعلكم تَسْلَمُونَ» بفتح التاء واللام مضارع سَلِمَ من السلامة، وهو مناسب لقوله: «تَقِيكُم بَأسكُمْ» ؛ فإنَّ المراد به الدُّروع الملبوسة في الحبب، أو تؤمنوا فتسلموا من عذاب الله. قوله: «فإنْ تَولَّوا» يجوز أن يكون ماضياً، ويكون التفاتاً من الخطاب المتقدِّم، وأن يكون مضارعاً، ولأصل: تتولَّوا، قحذف نحو: «تَنزَّلُ وتَذَّكرُونَ» ولا التفات على هذا، بل هو جارٍ على الخطاب السَّابق. ومعنى الكلام: فإن أعرضوا، فلا يلحقك في ذلك عتب ولا تقصير، وليس عليك إلاَّ ما فعلت من التَّبليغ التَّام. قوله: {فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ} هو جواب الشَّرط، وفي الحقيقة جواب لشرط محذوف، أي: فأنت معذور، وأتى ذلك على إقامة السَّبب مقام المسبب؛ وذلك لأن تبليغه سبب في عذره، فأقيم السَّبب مقام المسبب، ثمَّ ذمَّهم بأنهم يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها، وذلك نهاية في كفران النِّعمة، وجيء ب طثُمَّ «هنا للدَّلالة أن إنكارهم أمر مستبعد بعد حصول المعرفة؛ لأنَّ من عرف النِّعمة حقُّه أن يعترف لا أن ينكر، وفي المراد بالنِّعمة وجوه: قال القاضي: هي جميع ما ذكر الله تعالى في الآيات المتقدِّمة، ومعنى إنكارهم: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 135 أنهم ما أفردوه - تعالى - بالشُّكر والعبادة، بل شكروا غيره وقالوا: إنما حصلت هذه النعمة بشفاعة الأصنام. وقيل: المراد بالنِّعمة هنا: نُبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عرفوا أنَّها حق ثمَّ أنكروها، ونبوته نعمة عظيمة؛ كما قال - تعالى -: {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] . وقيل: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا} ، أي: لا يستعملونها في طلب رضوان الله، ثم قال جل ذكره: {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} . فإن قيل: ما معنى قوله: {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} مع أنَّهم كلهم كافرون؟ . فالجواب من وجوه: الأول: إنما قال - عَزَّ وَجَلَّ - {وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون} ؛ لأنه كان فيهم من لم تقم عليه الحجَّة؛ كالصَّبي وناقص العقل، فأراد بالأكثر؛ البالغين الأصحاء. والثاني: أن المراد بالكافر: الجاحد المعاند، فقال: «وأكْثَرهُم» ؛ لأنه كان فيهم من لم يكن معانداً، بل جاهلاً بصدق الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ولم يظهر له كونه نبيًّا حقًّا من عند الله. الثالث: ذكر الأكثر وأراد الجميع؛ لأن أكثر الشيء، يقوم مقام الكل؛ كقوله: {الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} [لقمان: 25] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 136 قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} الآية لما بيَّن أنهم عرفوا نعمة الله ثمَّ أنكروها، وذكر أن أكثرهم كافرون أتبعه بذكر الوعيد؛ فذكر حال يوم القيامة. قوله: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ} فيه أوجه: أحدها: منصوب بإضمار «اذْكُرْ» . الثاني: بإضمار «خوفهم» . الثالث: تقديره: ويوم نبعث، وقعوا في أمر عظيم. الرابع: أنه معطوف على ظرف محذوف، أي: ينكرونها اليوم ويوم نبعث. والمراد بأولئك الشهداء: الأنبياء - صلوات الله عليهم؛ كما قال - سبحانه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 136 وتعالى -: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] . قوله: {ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} قال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى» ثُمَّ «هذه؟ قلت: معناه: أنهم يُمْنَعُونَ بعد شهادة الأنبياء عليه السلام بما هو أطمّ منه، وهو أنهم يمنعون الكلام، فلا يؤذن لهم في إلقاء معذرة ولا [إدلاء] حجة:. انتهى. ومفعول الإذن محذوف، أي: لا يؤذن لهم في الكلام؛ كما قال - تعالى -: {وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} [المرسلات: 36] أي: في الرُّجوع إلى الدنيا. وقيل: لا يؤذنُ لهم في الكلام أصلاً، {وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ} أي: لا تزال عتابهم وهي ما يعتبون عليها ويلامون؛ يقال: اسْتَعْتَبْتُ فلاناً بمعنى: أعْتَبْتُه، أي: أزلت عُتْبَاه، و» اسْتَفْعَل «بمعنى:» أفْعَلَ «غير مستنكرٍ، قالوا: اسْتدنَيتُ فلاناً وأدْنَيتهُ بمعنًى واحد. وقيل: السِّين على بابها من الطَّلب، ومعناه: أنهم لا يسألون أن يرجعوا عما كانوا عليه في الدُّنيا، فهذا استعتاب معناه طلب عتابهم. وقال الزمخشري» ولا هم يسترضون، أي: لا يقال لهم: أرضوا ربكم؛ لأن الآخرة ليست بدار عمل «. وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله - تعالى - في سورة حم السجدة؛ لأنه أليق لاختلاف القراء فيه. ثم إنَّه - تعالى - أكَّد هذا الوعيد فقال: {وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ العذاب} أي: أن هؤلاء المشركين إذا رأوا العذاب ووصلوا إليه، فعند ذلك {فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} ولا يؤخِّرون ولا يمهلون؛ لأن التوبة هناك غير موجودة. قوله:» فَلا يُخَفَّفُ «هذه الفاء وما حيِّزها جواب» إذَا «، ولا بدَّ من إضمار مبتدأ قبل هذه الفاء، أي: فهو لا يخفف؛ لأن جواب» إذا «متى كان مضارعاً، لم يحتج إلى فاء سواء كان موجباً؛ كقوله - تعالى -: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ} [الحج: 72] أم منفيًّا؛ نحو:» إذَا جَاءَ زَيْدٌ لا يكرمك «. قوله تعالى: {وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ} وهذا من بقيَّة وعيد المشركين، وفي الشركاء قولان: الأول: أن الله - تعالى -: يبعث الأصنام فتكذِّب المشركين، ويشاهدونها في غاية الذُّلِّ والحقارة، وكل ذلك مما يوجب زيادة الغمِّ والحسرة في قلوبهم. والثاني: أن المراد بالشركاء: الشَّياطين الذين دعوا الكفَّار إلى الكفر؛ قاله الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، وإنَّما ذهب إلى هذا القول؛ - لأنه - تعالى - حكى عن الشركاء أنَّهم كذَّبوا الكفار، والأصنام جمادات فلا يصحُّ منهم هذا القول. وهذا بعيد؛ لأن الله - تعالى - قادرٌ على خلق الحياة في الأصنام وعلى خلق العقل والنُّطق فيها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 137 قوله: {وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} العامة على فتح السين واللام. وقرأ أبو عمرو في رواية بسكون اللام، ومجاهد بضمِّ السين واللام، وكأنَّه جمع سلام؛ نحو: قُذال وقُذُل، والسَّلَمُ واحد، وقد تقدَّم الكلام عليهما في سورة النساء. فصل والمعنى: أن المشركين إذا رأوا تلك الشُّركاء، {قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاءآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِك} ، وفائدة هذا القول من وجهين: الأول: قال أبو مسلم - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «مقصود المشركين إحالةُ الذَّنب على الأصنام؛ ظنًّا منهم أن ذلك ينجيهم من عذاب الله، أو ينقص من عذابهم، عند هذا تكذِّبهم تلك الأصنام» . قال القاضي: «هذا بعيدٌ؛ لأن الكفار يعلمون علماً ضروريًّا في الآخرة أنَّ العذاب ينزل بهم، ولا ينفعهم فدية ولا شفاعة» . والثاني: أن المشركين يقولون هذا الكلام تعجُّباً من حضور تلك الأصنام، مع أنه لا ذنب لها، واعترافاً بأنَّهم كانوا مخطئين في عبادتها. ثم حكى - تعالى - انَّ الأصنام يكذبونهم، فقال: {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} ، والمعنى: أنه - تعالى - يخلق الحياة والعقل والنطق في تلك الأصنام فيلقوا إليهم، أي: يقولون لهم: «إنَّكُم لكَاذِبُونَ» . فإن قيل: إن المشركين لم يقولوا، بل أشاروا إلى اًنام، فقالوا: هؤلاء شركاؤنا الذين كنَّا ندعو من دونك، وقد كانوا صادقين في كلِّ ذلك، فكيف قالت الأصنام طإنَّكم لكَاذبُونَ «؟ . فالجواب من وجوه: أصحها: أن المراد من قولهم:» هؤلاء شُركاؤنَا «، أي: أنَّ هؤلاء هم الَّذين كنَّا نقول: إنهم شركاء الله في المعبودية، فالأصنام كذَّبوهم في إثبات هذه الشركة. وقيل: المراد: إنَّهم لكاذبون في قولهم: إنَّا نستحقُّ العذاب بدليل قوله - تعالى - {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} [مريم: 82] . ثم قال: {وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم} قال الكلبي: استسلم العابد والمعبود، وأقرُّوا لله بالرُّبوبية وبالبراءة عن الشركاء والأنداد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 138 وقيل: استسلم المشركون يومئذ إلى الله تعالى وإنفاذ الحكمة فيهم ولم تغنِ عنهم آلهتهم شيئاً، {وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} : زال عنهم ما كانوا يفترون من أنَّها تشفع لهم عند الله، وقيل: ذهب ما زيَّن لهم الشيطان من أن لله صاحبة وشريكاً. وقوله: {الذين كَفَرُواْ} يجوز أن يكون مبتدأ، والخبر» زِدنَاهُم «وهو واضح، وجوَّز ابن عطية أن يكون» الَّذينَ كَفروا «بدلاً من فاعل» يَفْترُونَ «، ويكون» زِدْناهُم «مستأنفاً. ويجوز أن يكون «الَّذينَ كَفرُوا» نصباً على الذَّمِّ أو رفعاً عليه، فيضمر النَّاصب والمبتدأ وجوباً. فصل لما ذكر وعيد الذين كفروا، أتبعه ب «وعيد» من ضمَّ إلى كفره صدَّ الغير عن سبيل الله، وهو منعهم عن طريق الحقِّ. وقيل: صدهم عن المسجد الحرام، {زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب} ؛ لأنهم زادوا على كفرهم صَدَّ الغير عن الإيمان. قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ سَنَّ سُنَّة سَيِّئةً فعَلَيْهِ وِزْرُهَا وَوِزْرُ من عَمِلَ بِهَا » . «قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -[ومقاتل] :» المراد بتلك الزيادة خمسة أنهار من صفر مذابٍ؛ تسيل من تحت العرش، يعذَّبون بها ثلاثة بالليل واثنان بالنَّهار «. وقال سعيد بن جبير: زدناهم عذاباً بحيّات كالبخت، وعقارب كالبغال تلسعهم، وقيل: يخرجون من حرِّ النار إلى زمهرير. وقيل: يضعَّف لهم العذاب بما كانوا يفسدون، أي: بذلك الصَّد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 139 قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ} الآية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 139 وهذا نوع آخر من التَّهديد، والأمة عبارة عن القرن والجماعة، والمراد أن كلَّ نبيٍّ شاهدٌ على أمَّته؛ لأن الأنبياء كانت تبعث إلى الأمم من أنفسهم لا من غيرهم. وقيل: المراد أن كل جمع وقرن يحصل في الدنيا، فلا بدَّ وأن يحصل فيهم واحداً يكون شهيداً عليهم، أمَّا الشَّهيد على الذين كانوا في عصر الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - فهو الرسول؛ لقوله - تعالى -: {وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً} [البقرة: 143] وقوله: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاءآء} . وقال الأصم: المراد بالشَّهيد هو أنَّه - تعالى - ينطق عشرة من أعضاء الإنسان تشهد عليه، وهي: الأذنان، والعينان، والرجلان، واليدان، والجلد واللسان. قال: والدَّليل عليه أنه قال في صفة الشّهيد أنَّه من أنفسهم، وهذه الأعضاء لا شكَّ أنها من أنفسهم. وأجاب القاضي عنه: بأنه - تعالى - قال: {شَهِيداً عَلَيْهِمْ} ، أي: على الأمَّة، فيجب أن يكون غيرهم، وأيضاً قال: «مِنْ كل أمةٍ» فيجب أن يكون ذلك الشَّهيد من الأمَّة، وآحاد الأعضاء لا يصح وصفها أنها من الأمة، وأما حمل الشهداء على الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - فبعيد؛ لأن كونهم مبعوثين إلى الخلق أمر معلوم بالضَّرورة، فلا فائدة في حمل هذه الآية عليه. قوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً} يجوز أن يكون «تِبْيَاناً» في موضع الحال، ويجوز أن يكون مفعولاً من أجله، وهو مصدر ولم يجئ من المصادر على هذه الزِّنة إلا لفظتان: هذا والتِّلقاء، وفي الأسماء كثيراً، نحو «التِّمساح والتِّمثال» وأما المصادر فقياسها فتح الأول؛ دلالة على التكثير ك «التَّطوافِ» و «التَّجْوالِ» . وقال ابن عطية: إنَّ «التِّبْيَان» اسمٌ وليس بمصدر والنحويُّون على خلافه. قال شهاب الدين - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وقد رَوَى الواحديُّ بإسناده، عن الزجاج أنه قال: «التِّبيان» اسمٌ في ممعنى البيان. وجه تعلُّق هذا الكلام بما قبله: أنه - تعالى - قال: {وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاءآء} أي: أنه أزاح علتهم فميا كلِّفوا، فلا حجَّة لهم ولا معذرة. وقال نفاةُ القياس: دلَّت هذه الآية على أنَّ القرآن تبْيَانٌ لكل شيءٍ، والعلوم إمَّا دينية، أو غير دينية، فالتي ليست دينية، لا تعلُّق لها بهذه الآية؛ لأنَّا نعلمُ بالضرورة أنه تعالى إنما مدح القرآن بكونه مشتملاً على علوم الدين، وأمَّا غير ذلك، فلا التفاتَ إليه، وأما علومُ الدِّين: فإمَّا الأصول، وإما الفروع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 140 فأما علم الأصول: فهو بتمامه موجوٌ في القرآن. وأما علم الفروع: فالأصل براءة الذِّمَّة، إلا ما ورد على سبيل التفصيل في هذا الكتاب، وذلك يدلُّ على أنه لا تكليف من الله إلاَّ ما ورد في هذا القرآن، وإذا كان كذلك، كان القول بالقياس باطلاً، وكان القرآن وافياً بتبيان كل الأحكام. قال الفقهاء: إنَّما كان القرآن «تِبياناً لكل شَيْءٍ» ؛ لأنه دلَّ على أنَّ الإجماع حجةٌ، وبر الواحد، والقياس حجة، فإذا ثبت حكم من الأحكام بأحد هذه الأصولِ، كان ذلك الحكم ثابتاً بالقرآن، وقد تقدمت هذه المسألة في سورة الأعراف. قال المفسرون: «تِبْياناً لكُلِّ شَيْءٍ» يحتاج إليه الأمرِ، والنهيِ والحلالِ، والحرامِ، والحدودِ، والأحكامِ، «وهُدًى» من الضَّلالةِ، «ورحْمَةٌ» و «بشرى» وبشارة «للمسلمين» ، قوله: «للمسلمين» متعلق ب «بشرى» ، وهو متعلق من حيث المعنى ب «هدى ورحمة» أيضاً. وفي جواز كون هذا من التنازع، نظر، من حيث لزوم الفصل بين المصدر، ومعموله بالظرف، حال إعمالك غير الثالث؛ فتأمَّلهُ. وقياس من جوَّز [التنازع] في فعل التعجب، والتزام إعمال الثاني؛ لئلاَّ يلزم الفصل أن يجوم هذا على هذه الحالة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 141 قوله تعالى: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} الآية لما شرح الوعد، والوعيد، والتَّرغيب، والتَّرهيب، أتبعه بقوله: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} فجمع في هذه الآية ما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 141 يتصل بالتكاليف؛ فرضاً، ونفلاً، وما يتصل بالأخلاق، والآداب: عموماً وخصوصاً. روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أن عثمان بن مظعون الجمحيَّ قال: ما أسلمتُ أولاً إلاَّ حياء من محمد - صلوات الله وسلامه عليه - ولم يتقرر الإسلام في قلبي فحضرته ذات يوم، فبينما هو يحدِّثني، إذ رأيت بصره شخص إلى السماءِ، ثم خفضه عن يمينه، ثم عاد لمثل ذلك؛ فسألته - صلوات الله وسلامه عليه - فقال: «بينما أنا أحدِّثك إذ بجبريل - صلوات الله وسلامه عليه - ينل عن يميني، فقال: يا محمد، إنَّ الله - تعالى - يأمرك بالعدل: شهادة أن لا إله إلا الله، والإحسان: القيام بالفرائض، وإيتاء ذي القربى، أي: صلة القربى، وينهى عن الفحشاء: الزِّنا، والمنكرِ: ما لا يعرف في شريعة، ولا سنة، والبغي: الاستطالة» . قال عثمان: فوقع الإيمان في قلبي، فأتيت أبا طالب؛ فأخبرته، فقال: يا معشر قريش، أتَّبعُوا ابن أخي؛ ترشدوا، ولئن كان صادقاً أو كاذباً، فإنه ما يأمركم إلا بمكارم الأخلاق، فلما رأى الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من عمه اللِّين قال: يا عمَّاه، أتأمر الناس أن يتَّبعوني، وتدع نفسك! وجهد عليه؛ فأبى أن يسلم؛ فنزل: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص: 56] . وعن ابن مسعود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - «إنَّ أجمع آيةٍ في القرآن لخيرٍ وشرٍّ هذه الآية» . وعن قتادة: ليس في القرآن من خلقٍ حسنٍ، كان في الجاهلية يعمل، ويستحسن، إلاَّ أمر الله - تعالى - به في هذه الآية، وليس من خلقٍ سيِّءٍ، إلاَّ نهى عنه في هذه الآية. وعن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: طأمر الله - تعالى - نبيَّهُ أن يعرض نفسه على قبائل العرب؛ فخرج، وأنا معه وأبو بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فوقفنا على مجلسٍ عليهم الوقارُ، فقال أبُو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ممَّن القوم؟ فقالوا: من شيبان، فدعاهم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى الشهادتين إلى أن ينصروه؛ فإنَّ قريشاً كذَّبوه، فقال مقرون بن عمرو: إلام تدعونا، أخا قريش؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: {إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان} الآية فقال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 142 مقرون: دعوت والله، إلى مكارم [الأخلاق] ومحاسن الأعمال، ولقد أفك قومٌ كذَّبوك، وظاهروا عليك «. فصل قال ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: العدلُ: التوحيدُ، والإحسانُ: أداءُ الفرائضِ، وعنه: العدلُ: الإخلاصُ في التوحيد، وهو معنى قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أنْ تَعْبُدَ الله كأنَّكَ تَراهُ» وسمِّي هذا إحساناً؛ لأنه محسن إلى نفسه. وقيل: العدلُ: في الأفعال، والإحسان: في الأقوال؛ فلا تفعل إلاَّ ما هو عدلٌ، ولا تقل إلاَّ ما هو إحسانٌ. قوله: {وَإِيتَآءِ ذِي القربى} مصدرٌ مضافٌ لمفعوله، ولم يذكر متعلقات العدلِ والإحسان والبغي؛ ليعمَّ جميع ما يعدل فيه، ويحسن به وإليه ويبغي فيه، ولذلك لم يذكر المفعول الثاني للإيتاء، ونصَّ على الأول حضًّا عليه؛ لإدلائه بالقرابة، فإنَّ إيتاءه صدقة وصلة. قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «إنَّ أعجلَ الطَّاعةِ ثَواباً صِلةُ الرَّحمِ» . وقوله: {وينهى عَنِ الفحشاء} قيل: الزِّنا، وقيل: البُخل، وقيل: كل [ذنب] صغيرة كانت أو كبيرة، وقيل: ما قبح من القول أو الفعل، وأما المنكر فقيل: الكفر بالله، وقيل: ما لا يعرف في شريعة ولا سنة، والبغي: التَّكبر والظُّلم. فصل قال ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - كلاماً حاصله: «إنَّ في المأمورات كثرة، وفي المنهيَّات كثرة، وإنتما يحسن في تفسير لفظ بمعنًى إذا كان بين ذلك اللفظ والمعنى مناسبة، وألا يكون ذلك التفسير فاسداً، فإذا فسَّرنا العدل بشيء مثلاً، وجب أن يتبيَّن مناسبة العدل لذلك المعنى، وألاَّ يكون مجرَّد تحكم، فنقول: إنه - تعالى - أمر في هذه الآية بثلاثة أشياء؛ وهي: العدل والإحسان وإيتاءِ ذي القربى، ونهى عن ثلاثة أشياء؛ وهي: الفحشاء والمنكر والبغي، فوجب أن يكون كل ثلاثة منها متغايرة؛ لأن العطف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 143 يوجب المغايرة، فنقول: العدل عبارة عن الأمور المتوسِّطة بين طرفي الإفراط والتَّفريط، وذلك واجب الرِّعاية في جميع الأشياء، فنقول: التَّكليف إمَّا في الاعتقادات وإما في أعمال الجوارح. أما الاعتقاد فنذكر منه أمثلة: أحدها: ما قاله ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: إن العدل هو قولنا: لا إله إلاَّ الله، وتحقيقه: أنَّ نفي الإله تعطيلٌ محضٌ، وإثبات أكثر من إله واحد إشراك وتشبيه، وهما مذمومان، والعدل هو إثبات إلهٍ واحد. وثانيها: أن القول بأنَّ الإله ليس بموجود ولا شيء تعطيل محضٌ، والقول بأنه جسم مركب ومتحيِّز تشبيه محضٌ، والعدل: إثبات إلهٍ واحدٍ موجودٍ منزَّه عن الجسميَّة والأجزاء والمكان. وثالثها: أن القول بأنَّ الإله غير موصوف بالصِّفات من العلم والقدرة تعطيل محضٌ، والقول بأنَّ صفاته حادثة متغيِّرة تشبيه محض، العدل: إثبات أن الإله عالم قادرٌ حيٌّ، وأن صفاته ليست محدثة ولا متغيرة - سبحانه وتعالى -. ورابعها: أن القول بأن العبد ليس له قدرة ولا اختيار جبر محضٌ، والقول بأن العبد مستقلٌّ بأفعاله قدر محضٌ؛ وهما مذمومان، والعدل أن يقال: إن العبد يفعل الفعل بواسطة قدرة وداعية يخلقهما الله فيه. وأما رعاية العدل في أفعال الجوارح فنذكر منه أمثلة: أحدها: قال قوم: لا يجب على العبد شيء من الطَّاعات، ولا يجب عليه الاحتراز عن شيء من المعاصي، ونفورا التَّكاليف أصلاً. وقال المانويَّة وقوم من الهند: إنه يجب على الإنسان أن يجتنب الطيِّبات، ويحترز عن كل ما يميل الطَّبع إليه، ويبالغ في تعذيب نفسه، حتى إن المانويَّة يخصُّون أنفسهم ويحترزون عن التزوج، ويحترزون عن أكل الطَّعام الطيِّب، والهند يحرقون أنفسهم، ويرمون أنفسهم من شاهق الجبل، فهذان الطريقان مذمومان، والعدل هو شرعنا. وثانيها: قيل: إنه كان في شرع موسى - صلوات الله وسلامه عليه - في القتلِ العمد استيفاءُ القصاص لا محالة، وفي شرع عيسى - صلوات الله وسلامه عليه - العَفو، وأمَّا في شرعنا: فإن شاء استوفى القصاص، وإن شاء عفا عن الدِّية، وإن شاء عفا مطلقاً. وقيل: كان في شرع موسى - صلوات الله وسلامه عليه - الاحتراز العظيم عن الحائض؛ حتَّى إنَّه يجب إخراجها من الدَّار، وفي شرع عيسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حلُّ وطئها، والعدل ما حكم به شرعنا؛ وهو تحريم وطئها فقط. وثالثها: قال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] وقال - جل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 144 ذكره -: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] وقال - جل ذكره -: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] ، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خَيْرُ الأمُورِ أوْسَطُهَا» . ورابعها: أن شريعتنا أمرت بالختان، والحكمة فيه: أن رأس الذَّكر جسم شديد الإحساس، فلو بقيت القلفة، لبقي العضو على كمال قوَّته، فيعظم الالتذاذ، أمَّا إذا قطعت الجلدة، بقي العضو عارياً، فيلقى الثياب وسائر الأجسام، فيتصلب فيضعف حسُّه ويقل شعوره، فيقلُّ الالتذاذُ بالوقاع، فتقلُّ الرغبة فيه، فأمرت الشريعة بالختان؛ سعياً في تقليل تلك اللذة، حتَّى يصير ميلُ الإنسان إلى الوقاع معتدلاً، وألاّ تصير الرَّغبة فيه داعية غالبة على الطَّبع. فالذي ذهب إليه المانويَّة من الإخصاء وقطع الآلات مذموم؛ لأنه إفراطٌ، وإبقاء تلك الجلدة مبالغة في تقوية تلك اللذة، والعدل الوسط هو الختانُ. واعلم أن الزِّيادة على العدل قد تكون إحساناً، وقد تكون إساءة؛ فالعدل في الطاعات هو أداءُ الواجبات، والزيادة على الواجبات طاعاتٌ، فهي من جملة الإحسانِ؛ ولهذا قال - صلوات الله وسلامه عليه - لجبريل - صلوات الله وسلامه عليه - حين سأله عن الإحسان: «أنْ تَعْبُدَ الله كأنَّك تَراهُ فإن لَمْ تَكُنْ تَراهُ فإنَّه يَراكَ» . وسمِّي هذا المعنى بالإحسان؛ لأنه بالمبالغة في الطاعة، كأنه يحسن إلى نفسه بإيصالِ الخير والفعل الحسن، ويدخل في الإحسان التعظيم لأمر الله، والشَّفقة على خلق الله، ويدخل في الشَّفقة على خلق الله أقسامٌ كثيرة، وأعظمها: صلة الرحم؛ فلهذا أفرده - تعالى - بالذِّكر، فقال - تعالى -: {وَإِيتَآءِ ذِي القربى} وأما الثَّلاثة التي نهى الله عنها؛ وهي: «الفحشاء والمنكر والبغي» فنقول: إنه - تعالى - أودع في النَّفس البشرية قوى اربعة؛ وهي: الشَّهوانيَّة البهيميَّة، والغضبية والسبعيَّة، والوهميَّة الشيطانية، والعقلية الملكية. فالعقلية الملكيَّة لا يحتاج الإنسان إلى تهذيبها؛ لأنه من جوهر الملائكة. وأما القوَّة الشهوانية فرغبتها في تحصيل اللذَّات الشهوانية، وهذا النَّوع مخصوص بالفحشاءِ، ألا ترى أنه - تعالى - سمى الزنا فاحشة؛ فقال - جل ذكره -: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً} [الإسراء: 32] ، وقوله - تعالى -: {وينهى عَنِ الفحشاء} المراد منه: المنع من تحصيل اللذات الشهوانيَّة. وأما القوَّة الغضبية السبعية: فهي أبداً تسعى في إيصال الشرور والأذى إلى سائر النَّاس، وهذا ممَّا ينكره الناس، فالمنكر عبارةٌ عن الإفراطِ الحاصل من آثار القوَّة الغضبيَّة. وأما القوة الوهمية الشيطانية: فهي أبداً تسعى في الاستعلاء على الناس، والترفع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 145 وإظهار الرِّياسة والتكبُّر، وذلك هو المراد من البغي؛ فإنه لا معنى للبغي إلا التَّطاول على الناس والترفُّع عليهم. قوله: «يَعِظُكمْ» يجوز أن يكون مستأنفاً في قوَّة التعليل للأمر بما تقدم، أي: أن الوعظ سبب في أمره لكم بذلك، وجوَّز أبو البقاء أن يكون حالاً من الضمير في «يَنْهَى» . وفي تخصيصه الحال بهذا الفاعل فقط نظر؛ إذ يظهر جعله حالاً من فاعل «يَأمرُ» أيضاً، بل أولى؛ فإنَّ الوعظ يكون بالأوامر والنَّواهي، فلا خصوصية له بالنَّهي. ثم قال تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} قال الكعبي: دلَّت الآية على أنَّه - تعالى - لا يخلق الجور والفحشاء من وجوه: الأول: أنه - تعالى - كيف ينهاهم عما يخترعه فيهم، وكيف ينهى ويريد تحصيله فيهم؟ ولو كان الأمر ما قالوه، لكان كأنَّه - تعالى - قال: إنَّما يأمركم بخلاف ما خلقه فيكم، وينهاكم عن أفعال خلقها فيكم، وذلك باطلٌ في بديهة العقل. الثاني: أنه - تعالى - أمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنهكر والبغي، فلو أنَّه - تعالى - أمر بتلك الثلاثة، ثم إنه - تعالى - ما فعلها، لدخل تحت قوله - تعالى -: {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 44] ، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} [الصف: 2، 3] . الثالث: أن قوله - تعالى -: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} ليس المراد منه الترجِّي والتَّمني؛ فإن ذلك محالٌ على الله - تعالى -، فوجب أن يكون معناه: أنه - تعالى - يعظكم لإرادة أن يذكروا طاعته، وذلك يدلُّ على أنه يريد الإيمان من الكلِّ. الرابع: أنه - تعالى - لو صرَّح وقال: إن الله يأمر بالعدل، والإحسان، وإيتاء ذي القربى، ولكنَّه يمنع منه ويصدُّ عنه، ولا يمكن العبد منه، ثم قال - تعالى -: {وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر والبغي} ، ولكنَّه يوجد كل هذه الثلاثة في العبد شاء أم أبى، وأراده منه ومنعه من تركه، ومن الاحتراز عنه؛ لحكم كل واحدٍ عليه بالرَّكاكة وفساد النظم والتركيب، وذلك يدلُّ على كونه - تعالى - منزَّهاً عن فعل القبائح. والمعتمد في الجواب مسألة العلم والدَّاعي. فصل اتَّفق المتكلِّمون من أهل السنَّة ومن المعتزلة على أن تذكُّر الأشياء من فعل الله - تعالى - لا من فعل العبد؛ لأنَّ التذكُّر عبارة عن طلب المتذكر، فحال الطَّلب إمَّا أن يكون لديه شعور أو لا يكون؛ فإن كان له شعور به، فذلك الذِّكر حاصلٌ، والحاصل لا يطلب تحصيله، وإن لم يكن له به شعور، فكيف يطلبه بعينه؛ لأنَّ توجيه الطلب إليه بعينه حال ما لا يكون بعينه متصوراً محال. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 146 إذا ثبت هذا، فقوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} معناه: أن المقصود من هذا الوعظ أن يقدموا على تحصيل ذلك التذكُّر، فإذا لم يكن التذكر فعلاً له، فكيف طلب منه تحصيله؟ وهذا هو الذي يحتجُّ به أهل السنَّة على أنَّ قوله: {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} لا يدلُّ على أنه - تعالى - يريد ذلك منه. قوله - تعالى -: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ} الآية لما جمع المأمورات والمنهيَّات في الآية الأولى على سبيل الإجمال، ذكر في هذه الآية بعض تلك الأقسام، فبدأ بذكر الوفاء بالعهد. قال الزمخشري: عهد الله: هي البيعة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الإسلام؛ لقوله - تعالى -: {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} [الفتح: 10] ، {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} وقيل: كل عهدٍ يلتزمه الإنسان باختياره. قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: والوَعْدُ من العهد. وقال ميمون بن مهران: من عاهدته، أوْفِ بعهده مسلماً كان أو كافراً، فإنَّماوفاء العهد لله - تعالى -. وقال الأصم: المراد منه الجهاد، وما فرض الله في الأموال من حق، وقيل: عهد الله هو اليمين بالله. قال الشعبي: العهد يمين الله، وكفَّارته كفارة يمين، وإنما يجب الوفاء باليمين إذا لم يكن الصلاح في خلافه؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «مَنْ حَلفَ علَى يَمِينٍ فَرَأى غَيْرهَا خَيْراً مِنْها فلْيَأتِ الَّذي هُوَ خَيْرٌ وليكفرْ عن يَمينهِ» . واعلم أن قوله - تعالى -: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ} يجب أن يكون مختصًّا بالعهود التي يلتزمها الإنسان باختيار نفسه، ويؤيِّده قوله - عَزَّ وَجَلَّ - بعد ذلك: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} ، وأيضاً: يجب ألا يحمل العهد على اليمين؛ لأنَّا لو حملناه على اليمين، لكان قوله بعد ذلك: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} تكرار؛ لأنَّ الوفاء بالعهد والمنع من النقض متقاربان؛ لأن الأمر بالفعل يستلزم النَّهي عن التَّرك؛ إلاَّ إذا قلنا: إن الوفاء بالعهد عامٌّ يدخل تحته اليمين، ثم إنَّه تعالى - خصَّ اليمين بالذِّكر؛ تنبيهاً على أنَّه أولى أنواع العهد على ما اتقدَّم، يلتزمه الإنسان باختياره، ويدخل فيه عهد الجهاد، وعهد الوفاءِ بالملتزمات من المنذورات والمؤكدات بالحلف. قوله: «بَعْدَ تَوكِيدهَا» متعلق بفعل النَّهي، والتَّوكيد مصدر وكَّد يُوكِّدُ بالواو وفيه لغة أخرى: أكَّد يُؤكِّدُ بالهمز، ومعناه: التقوية؛ وهذا كقولهم: أرَّخْتُ الكتابَ ووَرَّخْتهُ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 147 وليست الهمزة بدلاً من واو كما زعم أبو إسحاق؛ لأن الاستعمالين في المادَّتين متساويان، فليس ادِّعاء كون أحدهما أصلاً أولى من الآخر، وتبع مكي الزجاج - رحمهما الله تعالى - في ذلك، ثم قال: طولا يحسن أن يقال: الواو بدل من الهمزة، كما لا يحسن أن يقال ذلك في «أحد» ، إذ أصله «وحَد» فالهمزة بدلٌ من الواو «يعني: أنه لا قائل [بالعكس] . وكذلك تبعه في ذلك الزمخشري أيضاً، و» تَوْكيدِهَا «مصدر مضافٌ لمفعوله، وأدغم أبو عمرو الدَّال في التَّاء، ولا ثاني له في القرآن، أعني: أنه لم يدغم دال مفتوحة بعد ساكنٍ إلاَّ في هذا الحرف. قوله تعالى: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله} الجملة حال: إمَّا من فاعل» تَنْقضُوا «، وإمَّا من فاعل المصدر وإن كان محذوفاً. فصل المعنى: ولا تنقضوا الأيمان بعد تشديدها فتحنثوا فيها، و {وَقَدْ جَعَلْتُمُ الله عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} : شهيداً عليكم بالوفاء. {إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} قالت الحنفيَّة: يمين اللَّغو هي يمين الغموس؛ لقوله - تعالى -: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} فنهى عن نقض الأيمان فوجب أن يكون كل يمين قابلاً للبر والحنث، ويمين الغموس غير قابلة للبر والحنث، فوجب ألا يكون من الأيمان. وقال غيرهم: هي قول الإنسان في معرض حديثه: لا والله، وبلى والله؛ لأن قوله - تعالى - {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} إنما تقال للفرق بين الأيمان المؤكَّدة بالعزم وبالعقد، وبين غيرها. واعلم أن قوله - تعالى -: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} عامٌّ دخله التخصيص؛ لما تقدَّم من قوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» مَنْ حَلفَ على يمينٍ فَرأى غَيْرهَا خيْراً منهَا، فليَأتِ الَّذِي هو خَيْرٌ وليُكفر عن يَمينهِ «. ثم إنه - تعالى - ضرب مثلاً لنقض العهد، فقال - جل ذكره -: {وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ} ، أي: من بعد إبرامه وإحكامه. قال الكلبيُّ ومقاتل - رحمهما الله تعالى -: هي امرأة خرقاء حمقاء من قريش، يقال لها: ريطة بنت عمرو بن سعد بن كعب بن زبد مناة بن تميم، وتلقب ب» جعراء «، وكانت بها وسوسة وكانت اتخذت مغزلاً بقدر ذراع، وصنَّارة مثل الأصبع، وفلكة عظيمة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 148 على قدرها، وكانت تغزل الغزل من الصوف أو الشعر والوبر هي وجواربها، فكُنَّ يغزلنَ إلى نصف النَّهار، فإذا انتصف النَّهار، أمرتهنَّ بنقض جميع ما غزلن، فكان هذا دأبها. والمعنى: أنَّها لم تكلَّ عن العمل، ولا حين عملت كفَّت عن النقض، فكذلك أنتم إذا نقضتم العهد لا كفَّيتم عن العهد، ولا حين [عهدتم] وفيتم به. وقيل: المراد بالمثل: الوصف دو التَّعيين؛ لأن القصد بالأمثال صرف المكلَّف عن الفعل إذا كان قبيحاً، والدُّعاء إليه إذا كان حسناً، وذلك يتم دون التَّعيين. قوله تعالى: «أنكاثاً» فيه وجهان: أظهرهما: أنه حال من «غَزلِهَا» ، والأنْكَاثُ: جمع نِكْث بمعنى منكُوث، أي: منقوض. والثاني: أنه مفعول ثان لتضمين «نَقضَتْ» معنى صيَّرت؛ كما تقول: فرقته أجزاء. وجوَّز الزجاج فيه وجهاً ثالثاً، وهو النصب على المصدرية؛ لأنَّ معنى نكثت: نقضت، ومعنى نقضت: نكثت؛ فهو ملاق لعامله في المعنى. قيل: وهذا غلط منه؛ لأنَّ الأنكاث جمع نكث، وهو اسمٌ لا مصدر، فكيف يكون قوله: «أنْكَاثاً» بمعنى المصدر؟ . والأنْكَاث: الأنقاض، واحدها نِكْث؛ وهو ما نقض بعد الفتل غزلاً كان أو حبلاً. فصل قال ابن قتيبة: هذه الآية متَّصلة بما قبلها، والتقدير: وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها، فإنَّكم إن فعلتم ذلك، كنتم مثل امرأة غزلت غزلاً وأحكمته، فلما استحكم، نقضته فجعلته أنكاثاً. قوله تعالى: {تَتَّخِذُونَ} يجوز أن يكون الجملة حالاً من واو «تكونوا» ، أو من الضمير المستتر في الجارِّ؛ إذ المعنى: تكونوا مشبهين كذا حال كونكم متَّخذين، وهذا استفهام على سبيل الإنكار. قوله: «دَخَلاً بَيْنكُمْ» هو المفعول الثاني ل «تَتَّخِذُونَ» ، والدَّخلُ: الفساد والدَّغل. وقيل: «دَخَلاً» مفعول من أجله، وقيل: الدَّخل: الدَّاخل في الشيء ليس منه. قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «الدَّخلُ والدَّغلُ: الغِشُّ والخِيانةُ» . وقيل: الدَّخل: ما أدخل في الشيء على فسادٍ، وقيل: الدَّخل والدَّغل: أن يظهر الوفاء به ويبطن الغدر والنقض. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 149 وقوله تعالى: «أنْ تَكُونَ» أي: بسبب أن تكون، أو مخافة أن تكون، و «تكون» يجوز أن تكون تامة؛ فتكون «أمَّةٌ» فاعلها، وأن تَكُونَ ناقصة، فتكون «أمَّةٌ» اسمها وهي مبتدأ، و «أرْبَى» خبره، والجملة في محلِّ نصب على الحال على الوجه الأول، وفي موضع الجر على الوجه الثاني، وجوَّز الكوفيون أن تكون «أمَّةٌ» اسمها، و «هِيَ» عماد، أي: ضمير فصل، و «أرْبَى» خبر «تَكونُ» ، والبصريُّون لا يجيزون ذلك؛ لأجل تنكير الاسم، فلو كان الاسم معرفة، لجاز ذلك عندهم. فصل قال مجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كانوا يحالفون الحلفاء، فإذا وجدوا قوماً أكثر منهم وأعزَّ، نقضوا حلف هؤلاء، وحالفوا الأكثر، فالمعنى: طلبتم العز بنقص العهدِ؛ بأن كانت أمة أكثر من أمةٍ، فنهاهم الله - تعالى - عن ذلك. ومعنى «أرْبَى من أمَّةٍ» ؛ أي: أزيدُ في العدد، والقوَّة، والشَّرف. ثم قال - جل ذكره -: {إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ} ، أي يختبركم الله بأمره إيَّاكم بالوفاءِ بالعهد. والضمير في «به» يجوز أن يعود على المصدر المنسبك من «أنْ تَكُونَ» ، تقديره: إنَّما يَبلُوكمُ الله بكون أمَّة، أي: يختبركم بذلك. وقيل: يعود على الرِّبا المدلول عليه بقوله: «هي أرْبَى» . وقيل: على الكثرة؛ لأنَّها في معنى الكثير. قال ابن الأنباري رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى: ملا كان تأنيثها غير حقيقي، حملت على معنى التَّذكير؛ كما حملت الصَّيحة على الصِّياح ولم يتقدم للكثرة للفظ، وإنما هي مدلول عليها بالمعنى من قوله تعالى: {هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} . ثم قال: {وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} في الدُّنيا، فيميِّز المحقَّ من المبطل. قوله - تعالى -: {وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} الآية لما أمر القوم بالوفاء بالعهد وتحريم نقضه، أتبعه ببيان أنه - تعالى - قادرٌ على أن يجمعهم على هذا الوفاء، وعلى سائر أبواب الإيمان، ولكنَّه - سبحانه وتعالى جل ذكره - بحكم الألوهية يضلُّ من يشاء ويهدي من يشاء. والمعتزلة حملوا ذلك على الإلجاء، أي: لو أراد أن يلجئهم إلى الإيمان أو إلى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 150 الكفر، لقدر عليه، إلاَّ أنَّ ذلك يبطل التَّكليف، فلا جرم ما ألجأهم إليه، وفوَّض الأمر إلى اختيارهم، وقد تقدَّم البحث في ذلك. وروى الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: أنَّ عزيراً قال: ربِّ، خلقت الخلق فتضلُّ من تشاء وتهدي من تشاء، فقال: يا عزير، أعرض عن هذا، فأعاده ثانياً، فقال: يا عزير أعرض عن هذا، فأعاده ثالثاً، فقال: أعرض عن هذا وإلا محوتُ اسمك من [ديوان] النبوَّة. قالت المعتزلة: ومما يدلُّ على أن المراد من هذه المشيئة مشيئته الإلجاء أنه - تعالى - قال بعده: {وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} فلو كانت أعمال العباد بخلق الله - تعالى -، لكان سؤالهم عنها عبثاً، وتقدَّم جوابه. قوله تعالى -: {وَلاَ تتخذوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ} وليس المراد منه التَّحذير عن نقض مطلق الأيمان، وإلاَّ لزم التكرار الخالي عن الفائدة في موضع واحد، بل المراد نهي أولئك الأقوام المخاطبين بهذا الخطاب عن بعض أيمان مخصوصة أو أقدموا عليها. فلهذا قال المفسرون: المراد: نهي الذين بايعوا الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - عن نقض عهده؛ لأن قوله: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} لا يليق بنقض عهد قبله، وإنما يليق بنقض عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الإيمان به وبشرائعه. وقوله - تعالى -: {فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا} منصوب بإضمار «أنْ» على جواب النهي. وهذا مثل يذكر لكل من وقع في بلاءٍ بعد عافيةٍ، أو سقط في ورطة بعد سلامة، أو محنة بعد نعمة. قوله: {بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله} «مَا» مصدرية، و «صَددتُّمْ» يجوز أن يكون من الصُّدود، وأن يكون من الصدِّ، ومفعوله محذوف، ونكِّرت «قدم» ؛ قال الزمخشري «فإن قلت: لِمَ وحِّدث القدم ونكِّرت؟ . قلت: لاستعظام أن تزلَّ قدم واحدة عن طريق الحقِّ بعد أن ثبتت عليه، فكيف بأقدام كثيرة؟» . قال أبو حيَّان: «الجمع تارة يلحظ فيه المجموع من حيث هو مجموع، وتارة يلحظ فيه اعتبار كل فرد فرد، فإذا لوحظ فيه المجموع، كان الإسناد معتبراً فيه الجمعيَّة، وإذا لوحظ فيه كل فردٍ فردٍ، فإنَّ الإسناد مطابق للفظ الجمع كثيراً، فيجمع ما أسند إليه، ومطابق لكل فردٍ فرد فيفرد؛ كقوله: {وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ} [يوسف: 31] لما كان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 151 لوحظ في قوله:» لَهُنَّ «معنى لكل واحدة، ولو جاء مراداً به الجمعيَّة أو على الكثير في الوجه الثاني، لجمع المتَّكأ؛ وعلى هذا يحمل قول الشاعر: [الطويل] 3359 - فإنِّي رأيْتُ الضَّامرينَ مَتاعهُمْ ... يَموتُ ويَفْنَى فَارضِخِي مِنْ وِعَائيَا أي: رأيت كلَّ ضامرٍ، ولذلك أفرد الضمير في» يَموتُ ويَفْنَى «، ولمَّا كان المعنى: لا يتخذ كل واحدٍ منكم جاء» فتَزلَّ قدَمٌ «مراعاةً لهذا المعنى. ثم قال:» وتَذُوقُوا السوء «مراعاة للمجموع أو للفظ الجمع على الوجه الكثير، إذا قلنا: إنَّ الإسناد لكل فرد فرد، فتكون الآية قد تعرَّضت للنَّهي عن اتِّخاذ الأيمان دخلاً باعتبار المجموع، وباعتبار كل فرد فرد، ودلَّ على ذلك بإفراد» قَدمٌ «وبجمع الضمير في» وتَذُوقُواْ «. قال شهاب الدين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: وبهذا التقدير الذي ذكره أبو حيان يفوت المعنى الجزل الذي اقتنصه الزمخشري من تنكير» قَدمٌ «وإفرادها، وأمَّا البيت المذكور، فإن النحويين خرَّجوه على أن المعنى: يَموتُ من ثم ومن ذكر، وأفرد الضمير لذلك لا لما ذكر. فصل المعنى: وتذوقوا العذاب بصدِّكم عن سبيل الله، وقيل: معناه: سهَّلتم نقض العهد على النَّاس بنقضكم العهد، {وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ، أي: ذلك السوء الذي تذوقونه» عَذابٌ عَظيمٌ «. ثم أكَّد هذا التَّحذير فقال - جل ذكره -: {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً} أي: لا تنقضوا عهودكم تطلبون بنقضها عرضاً قليلاً من الدنيا، ولكن أوفوا بها فإنَّ ما عند الله من الثَّواب لكم على الوفاء {هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} فضل ما بين العوضين. ثم ذكر الدَّليل القاطع على أنَّ ما عند الله خير فقال: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} ، أي الدنيا وما فيها تفنى، {وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} فقوله: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ} مبتدأ وخبر، والنَّفادُ: الفَناءُ والذهاب، يقال:» نَفِدَ «بكسر العين» يَنْفَدُ «بفتحها نفَاداً ونُفوداً، وأما نقذَ بالذَّال المعجمة ففعله نَفَذَ الفتح ينفذُ بالضمِّ، وسيأتي. ويقال: أنفد القوم إذا فَنِيَ زادهم، وخَصْمٌ مُنافِدٌ لينفد حجة صاحبه، يقال: نافدته فنفدته. وقوله: «بَاقٍ» تقدَّم الكلام عليه في الوقف في سورة الرعد، وهذه الآية حجة عليه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 152 قوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا} قرأ ابن كثيرٍ، وعاصم وابن ذكوان: «وَلنَجْزينَّ» بنون العظمة التفاتاً من الغيبة إلى التكلُّم، وتقدم تقرير الالتفات. والباقون بياء الغيبة رجوعاً إلى الله - تعالى -؛ لتقدم ذكره العزيز في قوله: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ} . قوله: {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ} يجوز أن يكون [ «أفعل» ] على بابها من التفضيل، وإذا جازاهم بالأحسن، فلأن يجازيهم بالحسن أولى. وقيل: ليست للتَّفضيل، وكأنهم فرُّوا من مفهوم أفعل؛ إذ لا يلزم من المجازاة بالأحسن المجازاة بالحسن، وهو وهمٌ، لما تقدَّم من أنَّه من مفهوم الموافقة بطريق الأولى، والمعنى: ولنجزين الذين صبروا على الوفاءِ في السَّراء والضَّراء {بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} . ثم إنه رغَّب المؤمنين في الإتيان بكلِّ ما كان من شرائع الإسلام؛ فقال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} وفيه سؤالٌ: وهو أن لفظة «مَنْ» في قوله: «مَن عَملَ» تفيد العموم، فما الفائدة في ذكر الذَّكر والأنثى؟ . والجواب: أن هذه الآية للوعد بالخيراتِ، والمبالغة في تقرير الوعد من أعظم دلائل الكرم والرَّحمة، فأتى بذكر الذَّكر والأنثى للتأكيد، وإزالة الوهم بالتخصيص. قوله: «مِنْ ذَكرٍ» «مِنْ» للبيان، فتتعلق بمحذوف، أعني: من ذكرٍ، ويجوز أن يكون حالاً من فاعل «عَمِلَ» ، وقوله: «وهُوَ مُؤمِنٌ» جملة حاليَّة أيضاً. وهذه الآية تدلُّ على أن الإيمان مغاير للعمل الصالح؛ لأنه - تعالى - جعل الإيمان شرطاً في كون العمل الصَّالح موجباً للثَّواب، وشرط الشيء مغاير لذلك الشيشء. فإن قيل: ظاهر الآية يقتضي أنَّ الإتيان بالعمل الصَّالح إنما يفيد الأثر بشرط الإيمان، وظاهر قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} [الزلزلة: 7] يدل على أن العمل الصالح يفيد الأثر سواء كان مع الإيمان أو عدمه. فالجواب: أن إفادة العمل الصالح للحياة الطيبة مشروط بالإيمان، أمَّا إفادته لأثرٍ غير هذه الحياة الطيبة وهو تخفيف العذاب؛ فإنَّه لا يتوقف على الإيمان. فصل قال سعيد بن جبير - رَحِمَهُ اللَّهُ - وعطاء: «الحياة الطَّيِّبة: هي الرِّزقُ الحلال» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 153 وقال الحسن: هي القناعة، وقال مجاهد وقتادة: هي الجنة. قال القاضي: الأقرب أنها تحصل في الدنيا؛ لقوله تعالى: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} والمراد: ما [لا] يكون في الآخرة. قوله: «ولنَجْزِينَّهُمْ» راعى معنى «مَنْ، فجمع الضمير بعد أن راعى لفظها، فأفرد في» لنحيينه «وما قبله، وقرأ العامة:» ولنجزينه «بنون العظمة؛ مراعاة لما قبله، وقرأ ابن عامر في رواية بياء الغيبة، وهذا ينبغي أن يكون على إضمار قسم ثان، فيكون من عطف جملة قسميَّة على جملة قسمية مثلها، حذفتا وبقي جوابهما، ولا جائز أن يكون من عطف جواب على جواب؛ لإفضائه إلى [إخبار] المتكلم عن نفسه إخبار الغائب، ولا يجوز؛ لو قلت:» زيد قال: والله لأضربن هِنْداً وليَنْفِينَّهَا زَيْدٌ «لم يجز، فإن أضمرت قسماً آخر، جاز، أي: وقال: والله لينفينَّها فإن لك في مثل هذا التركيب أن تحكي لفظه، ومنه {وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى} [التوبة: 107] وأن يحكي معناه، ومنه {يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ} [التوبة: 74] ولو جاء على اللفظ، لقيل ما قلنا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 154 قوله - تعالى - {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} الآية لما قال - تعالى -: {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] ، أرشد إلى العمل الذي به يخلِّص أعماله من الوساوس، فقال - جل ذكره -: {فَإِذَا قَرَأْتَ القرآن} أي: فإذا أردت، فأضمر الإرادة. قال الزمخشري: «لأنَّ الفعل يوجد عند القصد والإرادة من غير فاصل، على حسبه، فكان منه بسببٍ قويٍّ وملابسة ظاهرة» . وقال ابن عطيَّة: «» فإذَا «وصلة بين الكلامين، والعرب تستعملها في هذا، وتقدير الآية: فإذا أخذت في قراءة القرآن، فاستعذ» . وهذا مذهب الجمهور من القرَّاء والعلماء، وقد أخذ بظاهر الآية - فاستعاذ بعد أن قرأ - من الصحابة - أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، ومن الأئمة: مالكوابن سيرين وداود، ومن القرَّاء حمزة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم؛ قالوا: لأنَّ الفاء في قوله: {فاستعذ بالله} للتعقيب، والفائدة فيه: أنه إذا قرأ القرآن يستحقُّ به ثواباً عظيماً، فإذا لم يأت بالاستعاذة، وقعت الوسوسة في قلبه، وذلك الوسواس يحبط ثواب القراءة، فإذا استعاذ بعد القراءة، اندفعت تلك الوساوس، وبقي الثَّواب مصوناً عن الانحطاط. وذهب الأكثرون: إلى أنَّ الاستعاذة مقدمة على القراءة، والمعنى: إذا أردت أن تقرأ القرآن، فاستعذ؛ كقوله: إذَا أكلت، فقل: بِسْم الله، وإذا سافرت، فتأهَّب، وقوله - تعالى - {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ} [المائدة: 6] ، وأيضاً: قد ثبت أن الشَّيطان ألقى الوسوسة في أثناء قراءة الرَّسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ بدليل قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ} [الحج: 52] ، ومن الظاهر أنه - تعالى - إنما أمر الرَّسول - صلوات الله وسلامه عليه - بالاستعاذة عند القراءة؛ لدفع تلك الوساوس، وهذا المقصود إنَّما يحصل عند تقديم الاستعاذة. وذهب عطاء إلى أنَّ الاستعاذة واجبة عند قراءةِ القرآن، كانت في الصَّلاة أو غيرها. ولا خلاف بين العلماء في أن التَّعوذ قبل القراءة في الصَّلاة أوكد. واعلم أنَّ هذا الخطاب للرسول - صلوات الله وسلامه عليه -، والمراد منه الكلُّ؛ لأن الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - إذا كان محتاجاً للاستعاذة عند القراءةِ، فغيره أولى، والمراد بالشيطان في هذه الآية: قيل: إبليس، وقيل: الجنس؛ لأنَّ جميع المردة لهم حظٌّ في الوسوسة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 155 ولما أمر رسوله - صلوات الله وسلامه عليه - بالاستعاذة من الشيطان، وكان ذلك يوهم أنَّ للشيطان قدرة على التصرُّف في أبدان النَّاس، فأزال الله تعالى هذا الوهم وبيَّن أنه لا قدرة له ألبتَّة على الوسوسة؛ فقال - تعالى -: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ويظهر من هذا أنَّ الاستعاذة إنما تفيد إذا حضر في قلب الإنسان كونه ضعيفاً، وأنَّه لا يمكنه التحفُّظ عن وسوسة الشيطان إلا بعصمة الله تعالى، ولا قوَّة على طاعة الله إلا بتوفيق الله، والتَّفويض الحاصل على هذا الوجه هو المراد من قوله: {وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} ، والاستعاذة بالله هي الاعتصام به. ثم قال: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: «يطيعونه، يقال: توليته، أي: أطعته، وتولَّيت عنه، أي: أعرضت عنه. قوله: {والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} الضمير في» بِهِ «الظاهر عوده على الشيطان، لتتحد الضمائر، والمعنى: والذين هم به مشركون بسببه؛ كما تقول للرجل إذا تكلَّم بكلمة مؤدِّية إلى الكفر: كفرت بهذه الكلمة، أي: من أجلها؛ فكذلك قوله: {والذين هُم بِهِ مُشْرِكُونَ} والمعنى: من أجل حمله إيَّاهم على الشِّرك صاروا مشركين. وقيل: والذين هم بإشراكهم إبليس مشركون بالله، ويجوز أن يعود على» ربِّهِمْ «. قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} والتَّبدِيل: رفع الشيء مع وضع غيره مكانه، وهو هنا النسخ. قوله: {والله أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ} في هذه الجملة وجهان: أظهرهما: أنها اعتراضٌ بين الشرط وجوابه. والثاني: أنَّها حاليَّة؛ فعلى الأول يكون المعنى: والله أعلم بما ينزِّل من الناسخ والمنسوخ، والتغليظ والتخفيف، أي: هو أعلم بجميع ذلك في مصالح العباد، وهذا توبيخٌ للكفار على قولهم:» إنَّما أنْتَ مُفْتَرٍ «، أي: إذا كان هو أعلم بما ينزِّل، فما بالهم ينسبون محمداً إلى الافتراء؛ لأجل التَّبديل والنسخ، وقوله: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: لا يعلمون حقيقة القرآن، وفائدة النسخ والتبديل، وأن ذلك لمصالح العباد، وقولهم:» إنَّما أنْتَ مُفتَرٍ «نسبوا إليه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الافتراء بأنواع من المبالغات وهي الحصر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 156 والخطاب، واسم الفاعل الدال على الثُّبوت والاستقرار، ومفعول» لا يعلمون «محذوف للعلم به، أي: لا يعلمون أنَّ في نسخ الشَّرائع وبعض القرآن حكماً بالغة. قوله: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} تقدَّم تفسيره في البقرة. قال الزمخشري رَحِمَهُ اللَّهُ:» رُوحُ القدس: جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - أضيف إلى القدس وهو الطُّهْر؛ كما تقول: حاتم الجُودِ، وزيد الخَيْرِ، والمراد: الرُّوح المقدس، وحاتم الدواد، وزيد الخيِّر «. و» مِنْ «في قوله:» مِن رَّبِّكَ «صلة للقرآن، أي أن جبريل نزَّل القرآن من ربك؛ ليثبِّت الذين آمنوا، أي: ليبلوهم بالنسخ، حتَّى إذا قالوا فيه: هو الحقُّ من ربِّنا، حكم لهم بثبات القدم في الدِّين، وصحَّة اليقين بأن الله حكيم فلا يفعل إلا ما هو حكمة وصواب. قوله تعالى: {وَهُدًى وبشرى} يجوز أن يكون عطفاً على محلِّ» لِيُثبِّتَ «فينصبان، أو على لفظه باعتبار المصدر المؤوَّل؛ فيجران، والتقدير: تثبيتاً لهم، وإرشاداً وبشارة، وقد تقدم كلام الزمخشري في نظيرهما وما ردَّ به أبو حيَّان عليه وجوابه. وجوَّز أبو البقاء ارتفاعهما خبر مبتدأ محذوف، أي: وهو هدى، والجملة حال وقرئ: «لِيُثبتَ» مخففاً من «أثْبَت» . فصل قد تقدَّم أن أبا مسلم الأصفهاني ينكر النسخ في هذه الشريعة، فقال: المراد ههنا: وإذا بدَّلنا آية مكان آية، أي: في الكتب المتقدمة؛ مثل آية تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الككعبة، قال المشركون: أنت مفترٍ في هذا التبديل، وأكثر المفسرين على خلافه، وقالوا: إن النسخ واقعٌ في هذه الشريعة. فصل قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: القرآن لا ينسخ بالسنة؛ لقوله - تعالى -: {وَإِذَا بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ} وهذا يقتضي أن الآية لا تنسخ إلا بآية أخرى، وهذا ضعيف؛ لأن هذه الآية تدلُّ على أنَّه - تعالى - يبدِّل آية بآيةٍ أخرى، ولا دلالة فيها على أنه - تعالى - لا يبدِّل آية إلا بآيةٍ، وأيضاً: فجبريل - عليه السلام - قد ينزل بالسنة كما ينزل بالآية. قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ} الآية هذه حكاية شبهة أخرى من شبهات منكري نبوَّة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ وذلك لأنهم ك انوا يقولون: إن محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - إنَّما يذكر هذه القصص، وهذه الكلمات إنما يستفيدها من إنسان آخر ويتعلمُّها منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 157 واختلفوا في ذلك البشر: فقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلِّم فتى بمكة اسمه «بلْعَام» ، وكان نصرانيًّا أعجمي اللسان يقال له: أبو ميسرة، وكان يتكلم بالروميَّة، فكان المشركون يرون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يدخل عليه ويخرج، فكانوا يقولون: إنما يعلمه «بلعام» . وق لعكرمة: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يقرئ غلاماً لبني المغيرة، يقال له: «يَعِيش» ، وكان يقرأ الكتب، فقالت قريش: إنما يعلمه «يَعِيش» . وقال الفراء: كان اسمه «عائش» مملوك لحويطب بن عبد العزى، وكان قد أسلم وحسن إسلامه، وكان أجميًّا، وقيل: اسمه «عدَّاس» غلام «عتبة بن ربيعة» . وقال ابن إسحاق: كان رسول الله - صلوات الله وسلامه عليه - كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام روميٍّ نصراني عبد لبني الحضرمي، يقال له: «جَبْر» ، وكان يقرأ الكتب، وقال عبد الله بن مسلم الحضرمي: كان لنا عبدان من أهل عين التَّمر، يقال لهما: يسار ويكنى: أبا فكيهة، وجبر، وكانا يصنعان السيوف بمكَّة، وكانا يقرآن التوراة والإنجيل، فربما مر بهما النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهما يقرآن، فيقف ويسمع. قال الضحاك: وكان - صلوات الله وسلامه عليه - إذا آذاه الكفَّار يقعد إليهما، فيستروح بكلامهما، فقال المشركون: إنما يتعلَّم محمد منهما فنزلت الآية. وقيل: سلمان الفارسي رَضِيَ اللَّهُ عَنْه، فكذبهم الله - تعالى - بقوله: {لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ} . قوله تعالى: {لِّسَانُ الذي} العامة على إضافة «لِسانُ» إلى ما بعده، والمراد باللسان هنا: القرآن، والعرب تقول للغة: لسان. وقرأ الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: اللِّسان معرفاً ب «أل» ، و «الَّذِي» نعت له وفي هذه الجملة وجهان: أحدهما: لا محلَّ لها؛ لاستئنافها، قاله الزمخشري. والثاني: أنَّها حال من فاعل «يَقُولونَ» ، أي: يقولون ذلك والحال هذه؛ أي: علمهم بأعجميَّة هذا البشر، وإبانة عربيَّة هذا القرآن كان ينبغي أن يمنعهم من تلك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 158 المقالة؛ كقولك: تَشْتمُ فلاناً وهُو قَدْ أحْسنَ إليْكَ، أي: وعلمك بإحسانه إليك كان يمنعك من شتمه، قاله أبو حيان رَحِمَهُ اللَّهُ. ثم قال: «وإنَّما ذهب الزمخشري إلى الاستئناف لا إلى الحال؛ لأن من مذهبه أنَّ مجيء الحال جملة اسميَّة من غير واو شاذٌّ، وهو مذهب مرجوح تبع فيه الفراء» . و «أعجَميٌّ خبر على كلتا القراءتين، والإلحاد في اللغة: الميل، يقال: لَحَدَ وألْحَدَ؛ إذا مال عن القصد، ومنه يقال للعادل عن الحقِّ: مُلِْد. وقرأ حمزة والكسائي:» يَلْحَدُونَ «بفتح الايء والحاء، والباقون بضم الياء وكسر الحاء. قال الواحدي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: والألى ضم الياء؛ لأنه لغة القرآن، ويدلُّ عليه قوله - تعالى -: {وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ} [الحج: 25] وتقدَّم خلاف القراء في المفتوح في الأعراف. والإلحاد قد يكون بمعنى الإمالة؛ ومنه يقال: الْحَدت له لَحْداً؛ إذا حفرت له في جانب القبر مائلاً عن الاستواء، وقبر مُلْحَد ومَلْحُود، ومنه المُلْحِد؛ لأنه أمال مذهبه عن الأديان كلِّها، لم يمله عن دينٍ إلى دينٍ، وفسِّر الإلحاد في هذه الآية بالقولين. قال الفراء: يَمِيلُون من المَيْلِ. وق لالزجاج: يَمِيلُونَ من الإمالةِ، أي: لسان الذي يميلون القول إليه أعجمي. والأعجمي: قال أبو الفتح الموصلي:» تركيب «» ع ج م «وضع في كلام العرب للإبهام والإخفاء، وضدُّه البيان والإيضاح؛ ومنه قولهم: رَجُلٌ أعجم وامْرأةٌ عَجماء؛ إذا كانا لا يفصحان، والأعجمي: من لم يتكلم بالعربية. وقال الراغب: العجم خلاف العرب، والعجم منسوب إليهم، والأعجم: من في لسانه عجمه عربيًّا كان أو غير عربي؛ اعتباراً بقلَّة فهمه من العجمة. والأعجمي منسوب إليه، ومنه قيل للبهيمة: عجماء؛ لأنها لا تفصح عما في نفسها، وصلوات النَّهار عجماء، أي: لا يجهر فيها، والعجَمُ: النَّوى لاختفائه. قال بعضهم: معناه أن الحروف المجرَّدة لا تدلُّ على م اتدلُّ عليه الموصولة وأعْجَمتُ الكتابَ ضد أعربتهُ، وأعجمتهُ: أزلت عمتهُ؛ كأشْكَيتهُ: أزلتُ شِكايَتهُ. قال الفراء وأحمد بن يحيى: الأعجم: هو الذي في لسانه عجمة، وإن كان من العرب، والأعجمي والعجمي: الذي أصله من العجم قال أبو علي الفارسي: الذي لا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 159 يفصح سواءٌ كان من العرب أو من العجم؛ ألا ترى أنهم قالوا: زياد الأعجم؛ لأنه كانت في لسانه عجمة مع أنَّه كان عربيًّا؟ وسيأتي لهذا مزيد بيان إن شاء الله تعالى في «الشعراء» ، و «حم السجدة» . وق لبعضهم: العجمي منسوب إلى العجم وإن كان فصيحاً، والعربي منسوب إلى العرب وإن لم يكن فصيحاً. فصل المعنى: إنَّ لسان الذي ينسبون التعلّم منه أعجمي، وهذا القرآن عربي فصيح، فتقرير هذا الجواب كأنه قال: هب أنه يتعلَّم المعاني من ذلك الأعجمي، إلا أنَّ القرآن إنَّما كان معجزاً لما في ألفاظه من الفصاحة، فبتقدير أن تكونوا صادقين في أن محمَّداً - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - يتعلم تلك المعاني من ذلك الرجل، إلا أن ذلك لا يقدح في المقصود؛ لأن القرآن إنما كان معجزاً لفصاحته اللفظيَّة. ولما ذكر - تعالى - هذا الجواب، أردفه بالتهديد؛ فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله لاَ يَهْدِيهِمُ الله} قال القاضي: لا يهديهم إلى طريق الجنَّة لقوله بعده: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: أنهم لما تركوا الإيمان بالله، لا يهديهم الله إلى الجنَّة، بل يسوقهم إلى النَّار، ثم إنه - تعالى - بين كونهم كاذبين في ذلك القول، فقال - تعالى -: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله وأولئك هُمُ الكاذبون} والمقصود منه أنه - تعالى - بيَّن في الآية السابقة أن الذي قالوه بتقدير أن يصح لم يقدح في المقصود، ثم بين في هذه الآية أن الذي قالوه لم يصحَّ، وهم كذبوا فيه، والدليل على كذبهم وجوه: أحدها: أنهم لا يؤمنون بآيات الله تعالى وهم كافرون، وإذا كان الأمر كذلك، كانوا أعداء للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وكلام العدو ضرب من الهذيان ولا شهادة لمتَّهم. وثانيها: أن التعلُّم لا يتأتَّى في جلسه واحدة ولا يتم بالخفية، بل التعلُّم إنما يتمُّ إذا اختلف المتعلِّم إلى المعلِّم أزمنة متطاولة، وإذا كان كذلك، اشتهر فيما بين [الخلق] أن محمداً - صلوات الله وسلامه عليه - يتعلم العلوم من فلان ومن فلان. وثالثها: أن العلوم الموجودة في القرآن كثيرة، وتعلُّمها لا يتأتى إلا إذا كان المعلم في غاية الفضل والتحقيق، فلو حصل فيهم إنسان بلغ في العلم والتحقيق إلى هذا الحد، لكان مشاراً إليه بالأصابع في التحقيق والتدقيق في الدنيا، فكيف يمكن تحصيل هذه العلوم العالية الشريفة والمباحث النفيسة من عند فلان وفلان؟ وإذا كان الأمر كذلك، فالطَّعن في نبوة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأمثال هذه الكلمات الرَّكيكة يدلُّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 160 على أن الحجة لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كانت ظاهرة باهرة، وهذه الآية تدلُّ على أن الكذب من أكبر الكبائر وأفحش الفواحش؛ لأن كلمة «إنَّما» للحصر، والمعنى: أن الكذب والفرية لا يقدم عليهما إلا من كان غير مؤمن بآيات الله - تعالى -. فإن قيل: قوله {لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله} فعل، وقوله تعالى: {وأولئك هُمُ الكاذبون} اسم وعطف الجملة الاسميَّة على الجملة الفعلية قبيح فما السَّبب في حصولها ههنا؟ . فالجواب: الفعل قد يكون لازماً وقد يكون مفارقاص، ويدلُّ عليه قوله - تعالى -: {ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيات لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] ذكره بلفظ الفعل تنبيهاً على أن ذلك الحبس لا يدوم. وقال فرعون لموسى: {لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين} [الشعراء: 29] ذكره بصيغة الاسم تنبيهاً على الدَّوام، وقالوا في قوله - تعالى -: {وعصىءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} [طه: 121] لا يجوز أن يقال: إن آدم - صلوات الله وسلامه عليه - عاصٍ وغاوٍ؛ لأن صيغة الفعل لا تفيد الدَّوام، وصيغة الاسم تفيده. إذا عرفت هذه المقدمات، فقوله - تعالى -: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الكذب الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله} تنبيه على أنَّ من أقدم على الكذب فإنه دخل في الكفر. ثم قال - جل ذكره - {وأولئك هُمُ الكاذبون} ؛ تنبيهاً على أن صفة [الكذب] فيهم ثابتة [راسخة] دائمة؛ كما تقول: كذبت، وأنت كاذب، فيكون قولك: «وأنت كاذب» زيادة في الوصف بالكذب، ومعناه: إنَّ عادتك أن تكون كاذباً. واعلم أن الآية تدلُّعلى ان الكاذب المفتري هو الذي لا يؤمن بآيات الله، والأمر كذلك؛ لأنه لا معنى للكفر إلا إنكار الإلهيَّة ونبوَّة الأنبياء، ولا معنى لهذا الإنكار. روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قيل له: هَلْ يَكْذبُ المُؤمِنُ؟ قال: «لاَ» ثم قرأ هذه الآية. قوله تعالى: {مَن كَفَرَ بالله} يجوز فيه أوجه: أحدهما: أن يكون بدلاً من «الَّذينَ لا يُؤمِنُونَ» ، أي: إنَّما يفتري الكذب من كفر، واستثنى منهم المكره، فلم يدخل تحت الافتراء. الثاني: أنه بدل من «الكَاذبُونَ» . الثالث: أنه بدلٌ من «أوْلئِكَ» ، قاله الزمخشري. فعلى الأول يكون قوله: {وأولئك هُمُ الكاذبون} جملة معترضة بين البَدَل والمُبْدَل منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 161 واستضعف ابو حيَّان الأوجه الثلاثة؛ فقال: «لأن الأوَّل يقتضي أنه لا يفتري الكذب إلا من كفر بالله من بعد إيمانه، والوجود يقتضي أن المفتري هو الذي لا يؤمن بالله سواء كان ممن كفر بعد إيمانه أو كان ممن لم يؤمن قطّ؛ بل الأكثر الثاني، وهو المفتري. قال: وأما الثاني: فيؤول المعنى إلى ذلك؛ إذ التقدير: وأولئك، أي: الذين لا يؤمنون هم من كفر بالله من بعد إيمانه، والذين لا يؤمنون هم المفترون. وأما الثالث: فكذلك؛ إذ التقدير: أن المشار إليهم هم من كفر بالله من بعد إيمانه، مخبراً عنهم بأنهم الكاذبون «. الوجه الرابع: قال الزمخشري:» أن ينتصب على الذَّمِّ «. قال ابن الخطيب: وهو أحسن الوجوه عندي وأبعدها من التَّعسُّف. الخامس: أن يرتفع على أنه خبر مبتدأ مضمر على الذَّمِّ. السادس: أن يرتفع على الابتداء، والخبر محذوف، تقديره: فعليهم غضب؛ لدلالة ما بعد» مَنْ «الثانية عليه. السابع: أنها مبتدأ أيضاً، وخبرها وخبر» مَنْ «الثانية قوله:» فَعَليْهم غَضب «. قال ابن عطية رَحِمَهُ اللَّهُ:» إذ هو واحد بالمعنى؛ لأنَّ الإخبار في قوله - تعالى -: {مَن كَفَرَ بالله} إنَّما قصد به الصنف الشارح بالكفر «. قال أبو حيَّان:» وهذا وإن كان كما ذكر، إلا أنَّهما جملتان شرطيتان، وقد فصل بينهما بأداة الاستدراك، فلا بدَّ لكل واحدة منهما على انفرادها من جواب لا يشتركان فيه، فتقدير الحذف أجرى على صناعة الإعراب، وقد ضعَّفوا مذهب الأخفش في ادِّعائه أن قوله - تعالى -: {فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين} [الواقعة: 91] وقوله - جل ذكره -: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89] جواب ل «أمَّا» و «إنْ» ، هذا، وهما أداتا شرط وليست إحداهما الأخرى «. الثامن: أن تكون» مَنْ «شرطية، وجوابها مقدَّر، تقديره: فعليهم غضبٌ؛ لدلالة ما بعد» مَنْ «الثانية عليه، وقد تقدَّم أن ابن عطيَّة جعل الجزاء لهما معاً، وتقدم الكلام معه فيه. قوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} فيه أوجه: أحدها: أنه مستثنى مقدم من قوله:» فأولئك عليهم غضب «وهذا يكون فيه منقطعاً؛ لأن المكره لم يشرح بالكفر صدراً. وقال أبو البقاء: وقيل: ليس بمقدَّم؛ فهو كقول لبيد: [الطويل] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 162 3360 - ألاَ كُلُّ شَيءٍ ما خَلا اللهَ بَاطلُ ..... ... ... ... ... ... . فظاهر كلامه يدلُّ على أن بيت لبيد لا تقديم فيه، وليس كذلك؛ فإنه ظاهر في التقديم جدًّا. الثاني: أنه مستثنى من جواب الشرط، أو من خبر المبتدأ المقدَّر، تقديره: لعليهم غضب من الاه إلا من أكره، ولذلك قدر الزمخشري جزاء الشَّرط قبل الاستثناء وهو استثناء متصل؛ لأنَّ الكفر يكون بالقول من غير اعتقاد كالمكره، وقد يكون - والعياذ بالله - باعتقاد، فاستثنى الصنف الأول. {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} جملة حاليَّة {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} في هذه الحالة، وهذا يدلُّ على أن محلَّ الإيمان القلب، والذي [محله] القلب إما الاعتقاد، وإما كلام النَّفس؛ فوجب أن يكون الإيمان عبارة: إما عن المعرفة، وإما عن التصديق بكلام النَّفس. قوله تعالى: {ولكن مَّن شَرَحَ} الاستدراك واضح؛ لأن قوله: {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ} قد يسبق الوهم إلى الاستثناء مطلقاً، فاستدرك هذا، وقوله: {وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ} لا ينفي ذلك الوهم، و» مَنْ «إما شرطية أو موصولة، ولكن متى جعلت شرطية، فلا بدَّ من إضمار مبتدأ قبلها، لأنه لا يليها الجمل الشرطيَّة، قاله أبو حيَّان؛ ثم قال: ومثله: [الطويل] 3361 - ... ... ... ... ... ... ..... ولكِنْ مَتى يَسْترفِدِ القَوْمُ أرْفدِ أي: ولكن أنا متى يسترفد القوم. وإنَّما لم تقع الشرطية بعد «لكِنْ» ؛ لأنَّ الاستدراك لا يقع في الشروط، هكذا قيل، وهو ممنوع. وانتصب «صَدْراً» على أنه مفعول للشرح، والتقدير: ولكن من شرح بالكفر صدره، وحذف الضمير؛ لأنه لا يشكل بصدر غيره؛ إذ البشر لا يقدر على شرح صدر غيره، فهو نكرةٌ يراد بها المعرفة، والمراد بقوله: {مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً} ، أي: فتحه ووسعه لقبُول الكفر. فصل قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: نزلت هذه الآية في عمَّار بن ياسر؛ وذلك أن المشركين أخذوه وأباه ياسر وأمَّه سميَّة وصهيباً وبلالاً وخبَّاباً وسالماً فعذبوهم. وأما سميَّة: فإنها ربطت بين بعيرين ووجئ في قُبُلها بحربة، فقتلت وقتل زوجها، وهما أول قتيلين في الإسلام - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 163 وقال مجاهد: أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأبو بكر، وخبَّاب، وصهيب، وبلال، وعمَّار، وسميَّة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -. أما الرَّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فمنعه أبو طالب، وأما أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فمنعه قومه، وأخذ الآخرون، وألبسوا الدروع الحديد، ثم أجلسوهم في الشمس، فبلغ منهم الجهد لحرِّ الحديد والشمس، وأتاهم أبو جهل يشتمهم ويشتم سميَّة، ثم طعنها في فرجها بحربة. وقال آخرون: ما نالوا منهم غير بلال؛ فإنهم جعلوا يعذِّبونه، ويقول: أحَدٌ أحَدٌ، حتى ملوه فتركوه. وقال خبَّاب: ولقد أوقدوا لي ناراً ما أطفأها إلا ودك ظهري، وقال مقاتل: نزلت في جبر مولى عامر الحضرمي، أكرهه سيِّده على الكفر، فكفر مكرهاً وقلبه مطمئنٌّ بالإيمان، ثم أسلم مولى جبر وحسن إسلامهما، وهاجر جبر مع سيِّده. فصل الإكراه الذي يجوز عنده التلفُّظ بكلمة الكفر: هو أن يعذِّب بعذابٍ لا طاقة له به؛ مثل: التَّخويف بالقتل؛ ومثل الضَّرب الشَّديد، والإتلافات القويَّة، وأجمعوا على أن عند ذكر كلمة الكفر يجب عليه أن يبرئ قلبه عن الرِّضا، وأن يقتصر على التَّعريضات؛ مثل أن يقول: إن محمداً كذَّاب، ويعني عند الكفار أو يعني به محمَّداً آخر، أو يذكره على نيَّة الاستفهام بمعنى الإنكار، وهنا بحثان: الأول: أنه إذا أعجله من أكرهه عن إحضار هذه النيَّة، أو لأنه لمَّا عظم خوفه زال عن قلبه ذكر هذه النيَّة كان ملوماً وعفو الله متوقَّع. البحث الثاني: لو ضيَّق المكره الأمر عليه وشرح له أقسام التَّعريضات، وطلب منه أن يصرِّح بأنه ما أراد شيئاً منها، وما أراد إلاَّ ذلك المعنى - فههنا يتعيَّن إما التزام الكذب، وإما تعريض النفس للقتل، فمن الناس من قال: يباح له الكذب ههنا، ومنهم من قال: ليس له ذلك، وهو الذي اختاره القاضي؛ قال: لأن الكذب إنما يقبح لكونه كذباً، فوجب أن يقبح على كل حال، ولو جاز أن يخرج عن القبح لرعاية بعض المصالح، لم يمنع أن يفعل الله الكذب لرعاية بعض المصالح، وحينئذٍ لا يبقى وثوق بوعد الله ولا وعيده؛ لاحتمال أنَّه فعل ذلك الكذب لرعاية بعض المصالح التي لا يعرفها إلا الله - تعالى -. فصل أجمعوا على أنه لا يجب عليه التكلم بكلمة الكفر، ويدل عليه وجوه: أحدها: أن بلالاً صبر على العذاب، وكان يقول: أحد أحد، ولم يقل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 164 بئس ما صنعت، بل عظَّمه عليه، فدل ذلك على أنه لا يجب التكلُّم بكلمة الكفر. وثانيها: ما روي أن مسيلمة الكذَّاب أخذ رجلين، فقال لأحدهما: ما تقول في محمَّد؟ فقال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فقال: ما تقول فيَّ؟ قال: أنت أيضاً فتركه، وقال للآخر: ما تقول في محمد؟ قال: رسول الله، فقال: ما تقول فيَّ؟ قال: أنا أصمُّ، فأعاد عليه ثلاثاً، فأاد جوابه، فقتله، فبلغ ذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: أما الأول فقد أخذ برخصة الله، وأما الثاني: فقد صدع بالحقِّ، فهنيئاً له فسمَّى التلفظ بكلمة الكفر رخصة، وعظَّم حال من أمسك عنه حتى قتل. وثالثها: أن بذل [النفس] في تقرير الحق أشق، فوجب أن يكون أكثر ثواباً؛ لقوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «أفْضَلُ العِبادَاتِ أحْمزُهَا» أي: أشقُّها. ورابعها: أن الذي أمسك عن كلمة الكفر طهَّر قلبه ولسانه عن الكفر، وأمَّا الذي تلفَّظ بها فهب أن قلبه طاهرٌ، إلا أنَّ لسانه في الظاهر قد تلطخ بتلك الكلمة الخبيثة؛ فوجب أن يكون حال الأول أفضل. فصل الإكراه له مراتب: أحدها: أن يجب الفعل المكروه عليه؛ كما لو أكره على شرب الخمر، وأكل الخنزير، وأكل الميتة، فإذا أكره عليه بالسَّيف فهاهنا، يجب الأكل؛ وذلك لأن صون الرُّوح عن الفواتِ واجبٌ، ولا سبيل إليه في هذه الصورة إلا بالأكل، وليس في هذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 165 الأكل ضررٌ على حيوان، وإلا إهانةٌ لحقِّ الله، فوجب أن يجب؛ لقوله - تعالى -: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] . المرتبة الثانية: أن يصير ذل كالفعل مباحاً ولا يصير واجباص؛ كما لو أكره على التلفُّظ بكلمة الكفر، فههنا يباح له ذلك، ولكنه لا يجب. المرتبة الثالثة: أنه لا يجب ولا يباح، بل يحرم؛ كما لو أكرهه إنسان على قتل إنسان، أو على قطع عضو من أعضائه، فههنا يبقى الفعل على الحرمةِ الأصلية، وهل يسقط القصاص عن المكره أم لا؟ . قال الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في أحد قوليه: يجب القصاص؛ لأنَّه قتله عمداً عدواناً، فوجب عليه القصاص؛ لقوله - تعالى -: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] ، وأيضاً: أجمعنا على أن المكره إذا قصد قتله فإنَّ له أن يدفعه عن نفسه ولو بالقتل، فلما كان يوهم إقدامه على القتل، أوجب إهداء دمه، فلأن يكون عند صدور القتل عنه حقيقة يصير دمه مهدراً أولى. فصل من الأفعال ما يمكن الإكراه عليه كالقتل والتكلم بكلمة الكفر، ومنها ما لا يقبل الإكراه، قيل: وهو الزِّنا؛ لأن الإكراه يوجب الخوف الشديد، وذلك يمنعُ من انتشار الآلة، فحيث دخل الزِّنا في الوجود، دل على أنَّه وقع بالاختيار لا على سبيل الإكراه. وقيل: الإكراه على الزِّنا مقصور؛ كما لو انتشر ذكره وهو نائمٌ فاستدخلته المرأة في تلك الحالة، أو كان به مرض الانتصاب، فلا يزال منتشراً، أو علم أنَّه لا يخلص من الإكراه إلا باستحضار الأسباب الموجبة للانتشار. فصل قال القرطبي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: ذهب بعض العلماء إلى أنَّ الرُّخصة إنما جاءت في القول، وأما في الفعل فلا رخصة فيه؛ مثل أن يكره على السُّجود لغير الله تعالى أو الصَّلاة لغير القبلة، أو قتل مسلم، أو ضربه، أو أكل ماله، أو الزِّنا، أو شرب الخمر، أو أكل الرِّبا، روي ذلك عن الحسن البصري، وهو قول الأوزاعي والشافعي وبعض المالكيَّة - رضي الله تعالى عنهم -. فصل قال القرطبي: وأما بيع المكره والمضغوط فله حالتان: الأول: أن يبيع ماله في حق وجوب عليه، فذلك ماضٍ سائغ لا رجوع فيه؛ لأنَّه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 166 يلزمه أداء الحقِّ من غير المبيع، وأما بيع المكره ظلماً أو قهراً، فذلك لا يجوز عليه، وهو أولى بمتاعه يأخذه بلا ثمن، ويتبع المشتري بالثَّمن ذلك الظالم فإنْ فات المتاع، رجع بثمنه أو بقيمته بالأكثر من ذلك على الظالم إذا كان المشتري غير عالم لظلمه، وأما يمين المكره فغير لازمةٍ عند مالك والشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وأكثر العلماء، قال ابن العربي: «واختلفوا في الإكراه على الحنث هل يقع أم لا؟» . قال ابن العربي رَحِمَهُ اللَّهُ: «وأي فرقٍ بين الإكراه على اليمين في أنَّها لا تلزم، وبين الحنث في أنه لا يقع» . فصل إذا أكره الرَّجل على أن يحلف وإلاَّ أخذ ماله، فقال مالك: لا تقيَّة في المال، فإنَّما يدرأ المرء بيمينه عن بدنه. وقال ابن الماجشون: «لا يحنث وإن درأ عن ماله أيضاً» . قال القرطبي: وأجمع العلماء على أنَّ من أكره على الكفر فاختار القتل، أنَّه يكون أعظم أجراً عند الله ممَّن اختار الرخصة «. فصل قال الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: لا يقع طلاق المكره، وقال أبو حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يقع. واستدلَّ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - بقوله - تعالى -: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين} [البقرة: 256] ، ولا يمكن أن يكون المراد نفي ذاته؛ لأن ذاته موجودة؛ فوجب حمله على نفي آثاره، أي: لا أثر له ولا عبرة به، وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «رُفِعَ عن أمَّتي الخَطأ والنِّسيَانُ وما اسْتكْرِهُوا عليْهِ» . وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا طَلاقَ في إغلاقٍ» ، أي: إكراه. فإن قالوا طلقها، فيدخل تحت قوله - تعالى -: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ} [البقرة: 230] . فالجواب: لمَّا تعارضت الدلائل، وجب أن يبقى ما كان على ما كان هو لنا. فصل قال القرطبي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وأما نكاح المكره: فقال سحنون: أجمع أصحابنا على إبطال نكاح المكره والمكرهة وقالوا: لا يجوز المقام عليه؛ لأنَّه لم ينعقد، فإن وطئها المكره على النِّكاح، لزمه المسمَّى من الصَّداق ولا حد عليه» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 167 قوله: {فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ الله} أي: إنه - تعالى - حكم عليهم بالعذاب، ثم وصف ذلك العذاب فقال - تعالى -: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . قوله: {ذلك بِأَنَّهُمُ} مبتدأ وخبره؛ كما تقدم، والإشارة ب «ذلك» إلى ما ذكر من الغضب والعذاب؛ ولذلك وحَّد، كقوله: «بين ذلك» و: [الرجز] 3362 - كَأنَّهُ في الجِلْدِ ..... ... ... ... ... قوله: {استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} أي: ذلك الارتداد وذلك الإقدام على الكفر؛ لأجل أنَّهم رجَّحوا الدنيا على الآخرة، {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} أي: ذلك الارتداد إنما حصل لأجل أنه - تعالى - ما هداهم إلى الإيمان، وما عصمهم عن الكفر. قال القاضي: المراد أن الله تعالى لا يهديهم إلى الجنَّة، وهذا ضعيف؛ لأن قوله - تعالى -: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} معطوف على قوله: {ذلك بِأَنَّهُمُ استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة} فوجب أن يكون قوله: {وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} علَّة وسبباً موجباً لإقدامهم على ذلك الارتداد، وعدم الهداية يوم القيامة إلى الجنة ليس سبباً لذلك الارتداد ولا علَّة، بل كسباً عنه ولا معلولاً له، فبطل هذا التَّأويل. ثم أكد أنه - تعالى - صرفهم عن الإيمان؛ فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ} قال القاضي: الطبع ليس يمنع من الإيمان لوجوه: الأول: أنه - تعالى - أشرك ذكر ذلك في معرض الذَّم، ولو كانوا عاجزين عن الإيمان به لما استحقوا الذَّم بتركه. الثاني: أنه - تعالى - أشرك بين السَّمع، والبصر، والقلب في هذا الطبع، ومعلوم أن مع فقد السمع والبصر قد يصحُّ أن يكون مؤمناً، فضلاً عن طبع يلحقهما في القلب. الثالث: وصفهم بالغفلة، ومن منع من الشيء لا يوصف بأنه غافل عنه، فثبت أن المراد بهذا الطَّبع السِّمة والعلامة التي يخلقها في القلب، وتقدَّم الجواب في أول سورة البقرة. ثم قال - تعالى -: {وأولئك هُمُ الغافلون} قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أي: عما يراد بهم في الآخرة. ثم قال: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون} ، أي: المغبونون، والموجب لهذا الخسران أنه - تعالى - وصفهم بصفاتٍ ستة: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 168 أولها: أنهم استوجبوا غضب الله. وثانيها: أنَّهم استحقُّوا العذاب الأليمَ. وثالثها: أنَّهم استحبُّوا الحياة الدُّنيا على الآخرة. ورابعها: أنه - تعالى - حرمهم من الهِدايةِ. وخامسها: أنه - تعالى - طبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم. وسادسها: أنه - تعالى - جعلهم من الغافلين عما يراد بهم من العذاب الشديد يوم القيامة، فكل واحد من هذه الصِّفات من أعظم الموانع عن الفوز بالسعادات والخيرات، ومعلوم أنه - تعالى - إنما أدخل الإنسان في الدنيا؛ ليكون كالتَّاجر الذي يشتري بطاعته سعادات الآخرة، فإذا حصلت هذه الموانع العظيمة، عظم خسرانه؛ فلهذا قال - تعالى -: {لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون} أي هم الخاسرون لا غيرهم. قوله - تعالى -: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ} الآية لما ذكر في الآية المتقدمة حال من كفر بالله من بعد إيمانه، وحال من أكره على الكفر ذكر [بعده] حال من هاجر من بعد ما فتن. في خبر «إنَّ» هذه ثلاثة أوجه: أحدها: قوله - تعالى -: {لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} ، و «إنَّ ربَّكَ» الثانية، واسمها تأكيد للأولى واسمها؛ فكأنه قيل: ثمَّ إنَّ ربّك إنَّ ربَّك لغفور رحيم، وحينئذ يجوز في قوله: «للَّذِينَ» وجهان: أحدهما: أن يتعلق بالخبرين على سبيل النتازع، أو بمحذوف على سبيل البيان؛ كأنه قيل: الغفران والرحمة للَّذين هاجروا. الثاني: أن الخبر هو نفس الجار بعدها؛ كما تقول: إنَّ زيداً لك، أي: هو لك لا عليك، بمعنى: هو ناصرهم لا خاذلهم، قال معناه الزمخشري، ثم قال: «كما يكون الملك للرجل لا عليه، فيكون محميًّا منفُوعاً غير مضرورٍ» . قال شهاب الدِّين: «قد يتوهَّم أن قوله:» مَنْفُوعاً «استعمال غير جائز؛ لما قاله الأهوازي عليه رحمة الله في شرح موجز الرماني: إنَّه لا يقال: مَنْفُوع» اسم مفعول من نفعته، فإن الناس قد ردُّوا على الأهوازي «. الثالث: أن خبر الأولى مستغنًى عنه بخبر القانية، يعني: أنه محذوف لفظاً؛ لدلالة ما بعده عليه، وهذا معنى قول أبي البقاء:» وقيل: لا خبر ل «إنَّ» الأولى في اللَّفظ؛ لأنَّ خبر الثانية أغنى عنه «. وحينئذ لا يحسن ردُّ أبي حيَّان عليه بقوله: «وهذا ليس بجيّد؛ لأنه ألغى حكم الأولى، وجعل الحكم للثانية، وهو عكس ما تقدَّم، وهو لا يجوز» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 169 قوله: {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} قرأ ابن عامر: «فَتَنُوا» مبنيًّا للفاعل، أي: فتنوا أنفسهم فإن عاد الضمير على المؤمنين، فالمعنى: فتنوا أنفسهم بما أعطوا المشركين من القول ظاهراً، أو أنهم صبروا على عذاب المشركين، فكأنهم فتنوا أنفسهم. وإن عاد على المشركين، فهو واضح، أي: فتنوا المؤمنين. والباقون «فُتِنُوا» مبنياً للمفعول، والضمير في «بَعْدهَا» للمصادر المفهومة من الأفعال المتقدمة، أي: من بعد الفتنة، والهجرة، والجهاد. وقال ابن عطيَّة: «عائدٌ على الفتنة، أو الفتنة والهجرة أو الجهاد أو التوبة» . فصل وجه القراءة الأولى أمور: الأول: أن يكون المراد أنَّ أكابر المشركين - وهم الذين آذوا فقراء المسلمين - لو تابوا وهاجروا وصبروا، فإنَّ الله يقبل توبتهم. والثاني: أن «فَتَن» و «أفْتنَ» بمعنى واحد؛ كما يقال: مَانَ وأمَان بمعنى واحد. والثالث: أن أولئك الضعفاء لما ذكروا كلمة الكفر على سبيل التقيَّة؛ فكأنهم فتنوا أنفسهم؛ لأن الرخصة في إظهار كلمة الكفر ما نزلت في ذلك الوقت. وأما وجه القراءة الثانية فظاهر؛ لأن أولئك المفتونين هم المستضعفون الذين حملهم المشركون على الرجوع عن الإيمان، فبين - تعالى - أنهم إذا هاجروا وجاهدوا وصبروا، فإن الله تعالى يغفر لهم تكلمهم كلمة الكفر. فصل يحتمل أن يكون المراد بالفتنةِ: هو وأنهم عذِّبوا، وأنهم خوِّفوا بالتَّعذيب، ويحتمل أن يكون المراد: أن أولئك المسلمين ارتدُّوا. وقال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هؤلاء الذين هاجروا من المؤمنين كانوا بمكَّة، فعرضت لهم فتنة فارتدُّوا، وشكُّوا في الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ثم أسلموا وهاجروا، ونزلت هذه الآية فيهم. وقيل: نزلت في عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وكان يكتب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاستزلَّه الشيطان فلحق بالكفَّار، فأمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يوم فتح مكَّة بقتله، فاستجار له عثمان، وكان أخاهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 170 لأمه، فأجاره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثم إنه أسلم وحسن إسلامه فأنزل الله هذه الآية؛ قاله الحسن وعكرمة. وهذه الرِّواية إنا تصحُّ إذا جعلنا هذه السورة مدنية أو جعلنا هذه الآية منها مدنيَّة، ويحتمل أن يكون المراد: أنَّ أولئك الضعفاء المعذَّبين تكلموا بكلمة الكفر على سبيل التقيَّة، فقوله: {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} يحتمل كلَّ واحدٍ من هذه الوجوه، وليس في اللفظ ما يدل على التَّعيين. وإذا كان كذلك، فهذه الآية إن كانت نازلة فيمن أظهر الكفر، فالمراد أن ذلك مما لا إثم فيه، وأن حاله إذا هاجر وجاهد وصبر كحال من لم يكره، وإن كانت نازلة فيمن ارتدَّ، فالمراد أن التوبة والقيام بما يجب عليه يزيل ذلك العقاب، ويحصل له الغفران والرحمة. قوله: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ} يجوز أن ينتصب «يَوْمَ» ب «رَحِيمٌ» ولا يلزم من ذلك [تقييد] رحمته بالظرف؛ لأنه إذا رحم في هذا اليوم، فرحمته في غيره أحرى وأولى. وأن ينتصب ب «اذكُر» مقدَّرة، وراعى معنى «كل» فأنث الضمائر في قوله «تُجَادلُ ... إلى آخره» ؛ ومثله قوله: [الكامل] 3363 - جَادَتْ عَليْهِ كُلُّ عَيْنٍ ثَرَّةٍ ... فَتركْنَ كُلَّ قَرارَةٍ كالدَّرهَمِ إلا أنه زاد في البيت الجمع على المعنى، وقد تقدَّم أول الكتاب. وقوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} حملاً على المعنى؛ فلذلك جمع. فإن قيل: النَّفس لا تكون لها نفس أخرى، فما معنى قوله: «تُجادِلُ عن نَفْسِهَا» ؟ . فالجواب: أن النَّفْس قد يراد بها بدن [الإنسان] الحيّ، وقد يراد بها ذات الشيء وحقيقته، فالنفس الأولى هي الجثَّة والبدن، والثانية: عينها وذاتها؛ فكأنه قيل: يوم يأتي كل إنسان يجادل عن ذاته، ولا يهمه شأن غيره، قال - تعالى -: {لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37] . روي أن عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال لكعب الأحبار: خوِّفنا، قال يا أمير المؤمنين: والذي نفسي بيده لو وافيت يوم القيامة بمثل عمل سبعين نبيًّا، لأتت عليك تارات وأنت لا يهمُّك إلا نفسك، وإن لجهنَّم زفرة ما يبقى ملك مقرَّب، ولا نبي مرسلٌ غلا وقع جاثياً على ركبتيه، حتَّى إن إبراهيم خليل الرحمن - صلوات الله وسلامه عليه - ليدلي بالخلَّة فيقول: يا ربِّ، أنا خليلك إبراهيم لا أسألك إلا نفسي، وأن تصديق الجزء: 12 ¦ الصفحة: 171 ذلك الذي أنزل عليكم: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} ، ومعنى المجادلة عنها: الاعتذار؛ كقولهم: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} ، ومعنى المجادلة عنها: الاعتذار؛ كقولهم: {هؤلاء أَضَلُّونَا} [الأعراف: 38] ، وكقولهم: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] . {وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ} فيه محذوف، أي: جزاء ما عملت من غير بخسٍ ولا نقصان، {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} لا ينقصون. روى عكرمة عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في هذه الآية قال: «ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة، حتى تخاصم الرُّوح الجسد، فتقول الرُّوح: يا رب، لم تكن لي يدٌ أبطش بها، ولا رجلٌ أمشي بها، ولا عينٌ أبصر بها، ولا أذن أسمع بها، ولا عقل أعقل به، حتى جئت فدخلت في هذا الجسد فضعِّف عليه أنواع العذاب، ونجِّني، ويقول الجسد: يا ربِّ، أنت خلقتني بيدك، فكنت كالخشبة، وليس لي يد أبطش بها، ولا رجل أمشي بها، ولا عينٌ أبصر بها، ولا سمع أسمع به، فجاء هذا كشُعَاع النُّور، فيه نطق لساني، وأبصرت عيني، ومشت رجلي، وسمعت أذني، فضعِّف عليه أنواع العذاب، ونجِّني منه، قال: فيضرب الله لهما مثلاً؛ أعمى ومقعداً دخلا [بستاناً] فيه ثمار، فالأعمى لا يبصر الثَّمر، والمقعد لا يتناوله، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثمر، [فغشيهما] العذاب» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 172 قوله - تعالى -: {وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً} الآية. اعلم أنه - تعالى - هدَّد الكفار بالوعيد الشَّديد في الآخرة، وهدَّدهم أيضاً بآفاتِ الدنيا، وهي الوقوع في الجوع والخوف؛ كما ذكر - تعالى - في هذه الآية. واعلم أن المثل قد يضرب بشيء موصوف بصفة معيَّنة، سواءٌ كان ذلك الشيء موجوداً أو لم يكن، وقد يضرب بشيء موجود معيَّن، فهذه القرية يحتمل أن تكون موجودة ويحتمل أن تكون غير موجودة. فعلى الأول، قيل: إنها مكَّة، كانت آمنة، لا يهاجُ أهلها ولا يغار عليها، مطمئنة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 172 قارة بأهلها لا يحتاجون إلى الانتجاع كما يفعله سائر العرب، {يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ} يحمل إليها من البرِّ والبحر، {فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله} جمع النِّعمة، وقيل: جمع نُعمى، مثل: بؤسَى وأبؤس فأذاقهم لباس الجوع، ابتلاهم الله بالجوع سبع سنين، وقطعت العرب عنهم المِيرة بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، حتى جهدوا وأكلوا العظام المحرقة، والجيف، والكلاب الميَّتة والعلهز: وهو الوبر يعالج بالدَّم. قال ابن الخطيب: والأقرب أنَّها غير مكَّة؛ لأنها ضربت مثلاً لمكَّة، ومثل مكَّة يكون غير مكَّة. وهذا مثل أهل مكة؛ لأنَّهم كانوا في الطمأنينة والخصب، ثم أنعم الله عليهم بالنِّعمة العظيمة، وهو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكفروا به، وبالغوا في إيذائه، فسلَّط الله عليهم البلاء، وعذَّبهم بالجوع سبع سنين، وأمَّا الخوف فكان يبعث إليهم السَّرايا فيغيرون عليهم. وفي الآية سؤالات: السؤال الأول: أنه - تعالى - وصف القرية بصفات: أحدها: كونها آمنة، والمراد: أهلها، لأنها مكان الأمن، ثم قال «مُطْمَئنَّةٌ» ، والاطمئنان هو الأمن، فلزم التَّكرار. والجواب: أن قوله: «آمِنَ"ً» إشارة إلى الأمن، وقوله: «مُطْمَئِنَّةً» إشارة إلى الصحَّة؛ لأن هواء هذه البلد لمَّا كان ملائماً لأمزجتهم، فلذلك اطمأنُّوا واستقرُّوا فيه؛ قال العقلاء: [الرجز] 3364 - ثَلاثَةٌ ليْسَ لهَا نِهايَهْ ... الأمْنُ والصِّحَّةُ والكِفايَهْ السؤال الثاني: الأنعم جمع قلَّة، فكان المعنى: أنّ أهْلَ تلك القريةِ كفرت بأنواعٍ قليلة من نعم الله، فعذبها الله، وكان اللائقُ أن يقال: إنهم كفروا بنعم عظيمة لله تعالى، فاستوجبوا العذاب، فما السَّبب في ذكر جمع القلَّة؟ . والجواب: أن المقصود التَّنبيه بالأدنى على الأعلى، يعني: أنَّ كفران النِّعم القليلة لما أوجب العذاب، فكفران النِّعم الكثيرة أولى بإيجاب العذاب. و «أنْعُم» فيها قولان: أحدهما: أنها جمع «نِعْمة» ؛ نحو: «شِدَّة وأشُدّ» . قال الزمخشري: «جمع نِعْمَة على ترك الاعتداد بالتاء؛ كدِرْع وأدْرُع» . وقال قطرب: هي جمع «نُعْم» ، والنُّعم: النَّعيم؛ يقال: «هذه أيَّام طُعْمٍ ونُعْمٍ فلا تَصُومُوا» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 173 السؤال الثالث: نقل أن ابن الرَّاونْدِي قال لابن الأعرابي الأديب: هل يذاق اللِّباس؟ قال ابن الأعرابي: لا باس ولا لباس؛ يا أيُّها النِّسْنَاس، هب أنَّك تشكُّ أن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان نبيًّا أَوَما كان عربيًّا؟ وكان مقصود ابن الرَّاوندِي الطَّعنَ في هذه الآية، وهو أن اللِّباس لا يذاق بل يلبس، فكان الواجب أن يقال: فكساهم الله لِبَاس الجوع، أو يقال: فأذاقهم الله طعم الجوع. والجواب: من وجوه: الأول: أن ما أصابهم من الهزال والشحوب، وتغيير ظاهرهم عمَّا كانوا عليه من قبل كاللِّباس لهم. الثاني: أن الأحوال التي حصلت لهم عند الجوع نوعان: أحدهما: المذوق هو الطَّعام، فلما فقدوا الطعام صاروا كأنهم يذوقون الجوع. والثاني: أن ذلك الجوع كان شديداً كاملاً، فصار كأنه أحاط بهم من كل الجهاتِ، فأشبه اللِّباس. فالحاصل أنه حصل في ذلك الجوع حالة تشبه المذوق، وحالة تشبه الملبوس، فاعتبر تعالى كلا الاعتبارين، فقال: {فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف} . الثالث: أن التقدير: عرفها الله لباس الجوع والخوف، إلا أنه - تعالى - عبَّر عن التعريف بلفظ الإذاقة، وأصل الذَّوق بالفم، ثم يستعار فيوضع موضع التعريف والاختيار الذَّواق بالفم، تقول: ناظر فلاناً وذُقْ ما عنده؛ قال الشاعر: [الطويل] 3365 - ومَنْ يَذُقِ الدُّنْيَا فإنِّي طَعِمْتُها ... وسِيقَ إليْنَا عَذْبُهَا وعَذابُهَا ولباس الجوع والخوف: ما ظهر عليهم من الضمور، وشحوب اللون، ونهكة البدن وتغيُّر الحال؛ كما تقول: تعرَّفت سوء أثر الخوف والجوع على فلان، فكذقتُ لباس الجوع والخوف على فلان. الرابع: أن يحمل لفظ اللباس على المماسَّة، فصار التقدير: فأذاقها الله مساس الجوع والخوف. ثم قال - تعالى -: {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد تكذيبهم للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإخراجه من مكَّة وهمهم بقتله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال الفراء: ولم يقل بما صنعت، ومثله في القرآن كثير؛ كقوله: {فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] ولم يقل: قائلة. وتحقيق الكلام: أنه - تعالى - وصف القرية بأنَّها مطمئنَّة يأتيها رزقها رغداً فكفرت الجزء: 12 ¦ الصفحة: 174 بأنعم الله، فكلّ هذه الصِّفات وإن أجريت بحسب اللفظ على القرية، إلا أن المراد في الحقيقة أهل القرية، فلذلك قال: {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} . قوله: «والخَوْفِ» العامة على جرِّ «الخَوْفِ» نسقاً على «الجُوعِ» ، وروي عن أبي عمرو نصبه، وفيه [أوجه] : أحدها: أنه يعطف على «لِباسَ» . الثاني: أنه يعطف على موضع الجوع؛ لأنه مفعول في المعنى للمصدر، التقدير أي: ألبسهم الجوع والخوف، قاله أبو البقاء. وهو بعيد؛ لأن اللباس اسم ما يلبس وهو استعارة بليغة. الثالث: أن ينتصب بإضمار فعل؛ قاله أبو الفضل الرَّازي. الرابع: أ، يكون على حذف مضافٍ، أي: ولباس الخوف، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه، قاله الزمخشري. ووجه الاستعارة ما قال الزمخشري: «فإن قلت: الإذاقة واللباس استعارتان، فما وجه صحَّتهما والإذاقة المستعارة موقعة على اللباس المستعار فما وجه صحَّة إيقاعها عليه؟ . قلت: الإذاقة جرت عندهم مجرى الحقيقة؛ لشيوعها في البلايا، والشدائد، وما يمس الناس منها، فيقولون: ذاق فلانٌ البؤس والضر وإذاقة العذاب شبَّه ما يُدْرك من أثر الضَّرر والألم، بما يُدْرَك من طعم المُرّ والبشع، وأما اللِّباس فقد شُبِّه به؛ لاشتماله على اللاَّبس ما غشي الإنسان، والتبس به من بعض الحوادث، وأمَّا إيقاع الإذاقة على لباس الجوع والخوف، فلأنَّه لما وقع عبارة عما يغشى منهما ويلابس؛ فكأنه قيل: فأذاقهم ما غشيهم من الجوع والخوف، ولهم في هذا طريقان: أحدهما: أن ينظروا فيه إلى المستعار له، كما نظروا إليه ههنا؛ ونهحوه قول كثيرة عزَّة: [الكامل] 3366 - غَمْرُ الرِّدَاءِ إذَا تَبسَّمَ ضَاحِكاً ... غَلقَتْ لِضَْكتِهِ رِقَابُ المَالِ استعار الرداء للمعروف، لأه يصون عرض صاحبه صون الرِّداء لما يلقى عليه، ووصفه بالغمر الذي هو وصف المعروف والنَّوال لا وصف الرداء؛ نظراً إلى المستعار له. والثاني: أن ينظر فيه إلى المستعار؛ كقوله: [الوافر] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 175 3367 - يُنَازِعُنِي رِدائِي عَبْدُ عَمرٍو ... رُوَيْدكَ يا أخَا عَمْرِو بِنِ بَكْرِ لِيَ الشَّطْرُ الذي مَلكَتْ يَمِينِي ... ودُونكَ فاعْتَجِرْ مِنْهُ بشَطْرِ أراد بردائه: سيفه، ثم قال:» فاعْتَجْرْ منهُ بِشطْرٍ «فنظر إلى المستعار في لفظ الاعتجار، ولو نظر إليه فيما نحن فيه لقال: فكساهم لباس الجوع والخوف، ولقال كثير: صافي الرِّداء إذا تبسَّم ضاحكاً» انتهى. وهذا نهاية ما يقال في الاستعارة. وقال ابن عطية: لمَّا باشرهم، صار ذلك كاللِّباس؛ وهذا كقول الأعشى: [المتقارب] 3368 - إذَا ما الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدهَا ... تَثَنَّتْ عَليْهِ فَكانَتْ لِبَاسَا ومثله قوله - تعالى -: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ} [البقرة: 187] ؛ ومثله قول الشاعر: [الطويل] 3369 - وَقَدْ لَبِستْ بَعْدَ الزُّبَيْرِ مُجاشِعٌ ... لِباسَ الَّتي حَاضَتْ ولمْ تَغْسل الدِّمَا كأن العار لما باشرهم ولصق بهم، كأنهم لبسوه. وقوله: «فأذَاقَهَا» نظير قوله {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} [الدخان: 49] ؛ ونظيره قول الشاعر: [الرجز] 3370 - دُونَكَ ما جَنَيْتَهُ فاحْسُ وذُقْ ... وفي قراءة عبد الله: «فأذاقها الله الخوف والجوع» وفي مصحف أبيّ: «لِبَاسَ الخَوفِ والجُوعِ» . قوله: {بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ} يجوز أن تكون «مَا» مصدريَّة أو بمعنى الذي، والعائد محذوف، أي: بسبب صنعهم، أو بسبب الذي كانوا يصنعونه. والواو في «يَصْنعُونَ» عائدة على «أهْل» المقدَّر قبل «قَرْيةٍ» ، ونظيره قوله: {أَوْ هُمْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 176 قَآئِلُونَ} [الأعراف: 4] بعد قوله: {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} [الأعراف: 4] . قوله - تعالى -: {وَلَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ} الآية لما ذكر المثل ذكر الممثل فقال: «ولقَدْ جَاءَهُم» يعني: أهل مكة، «رسُولٌ مِنهُمْ» ، أي: من أنفسهم يعني: محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العذاب} قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يعني الجوع. وقيل: القتل يوم بدر، والأول أولى؛ لقوله - تعالى - بعده: {فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلالاً طَيِّباً واشكروا نِعْمَةَ الله إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} ، أي: إنَّ ذلك الجوع بسبب كفرهم، فاتركوا الكفر حتى تأكلوا. وقوله: {مِمَّا رَزَقَكُمُ الله} [المائدة: 88] ، أي من [الغنائم] ؛ قاله ابن عبَّاس - رضي اله عنه -. وقال الكلبي: «إن رؤساء مكَّة كلَّموا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين جهدوا، وقالوا: عاديت الرِّجال، فما بال النِّساء والصِّبيان؟ وكانت الميرة قد قطعت عنهم بأمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فأذن بحمل الطعام إليهم» . قوله تعالى: {واشكروا نِعْمَةَ الله} صرَّح هنا بالنِّعمة؛ لتقدم ذكرها مع من كفر بها، ولم يجئ ذلك في البقرة، بل قال: {واشكروا للَّهِ} [البقرة: 172] لما تقدَّم ذلك، وتقدَّم نظير ما هنا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 177 قوله - تعالى -: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} الآية وقد تقدَّم الكلام عليها في سورة البقرة، وحصر المحرَّمات في هذه الأشياء الأربعة مذكور عليها في سورة الأنعام؛ عند قوله - تعالى -: {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً} [الأنعام: 145] ، وفي سورة المائدة في قوله: {أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} [المائدة: 1] ، وأجمعوا على أن المراد بقوله: {إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ} هو قوله - تعالى - في سورة البقرة: {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} [البقرة: 173] وقوله - تعالى -: {والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] فهذه الأشياء داخلة في الميتة. ثم قال - تعالى -: {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة: 3] وهذا أحد الأقسام الداخلة تحت قوله {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} [البقرة: 173] ، فثبت أن هذه السُّور الأربعة دالَّة على حصر المحرَّمات، فيها سورتان مكِّيتان، وسورتان مدنيَّتان، فإن البقرة مدنيّة، وسورة المائدة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 177 من آخر ما أنزل الله تعالى بالمدينة، فمن أنكر حصر التحريم في هذه الأربعة، إلا ما خصَّه الإجماع والدلائل القاطعة ك ان في محلِّ أن يخشى عليه؛ لأن هذه السورة دلَّت على أن حصر المحرَّمات في هذه الأربعة كان مشروعاً ثابتاً في أول زمان مكَّة وآخره، وأول زمان المدينة وآخره وأنه - تعالى - أعاد هذا البيان في هذه السورة، قطعاً للأعذار وإزالة للرِّيبة. قوله - تعالى -: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} الآية لما حصر المحرَّمات في تلك الأربعة، بالغ في تأكيد زيادة الحصر، وزيف طريقة الكفَّار في الزِّيادة على هذه الأشياء الأربعة تارة، وفي النُّقصان عنها أخرى؛ فإنَّهم كانوا يُحرِّمُونَ البَحيرةَ والسَّائبة والوَصِيلةَ والحَام، وكانوا يقولون: {مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَ} [الأنعام: 139] فقد زادوا في المحرَّمات وزادوا أيضاً في المحلَّلات؛ لأنهم حلَّلوا الميتة، والدَّم، ولحم الخنزير، وما أهلَّ به لغير الله، فبيَّن - تعالى - أن المحرَّمات هذه هي الأربعة، وبيَّن أن الأشياء التي يقولون: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، كذبٌ وافتراء على الله تعالى، ثم ذكر الوعيد الشديد على هذا الكذب. قوله: «الكَذِبَ» العامة على فتح الكاف، وكسر الذَّال، ونصب الباء، وفيه أربعة أوجه: أظهرها: أنه منصوب على المفعول به، وناصبه: «تَصِفُ» ، و «مَا» مصدرية ويكون معمول القول الجملة من قوله: {هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} ، و «لِمَا تَصفُ» علّة للنَّهْي عن قول ذلك، أي: ولا تقولوا: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ؛ لأجل وصف ألسنتكم بالكذب، وإلى هذا نحا الزجاج [رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى] والكسائي. والمعنى: لا تحلِّلُوا ولا تحرِّمُوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم من غير حجَّة. فإن قيل: حمل الآية عليه يؤدِّي إلى التِّكرار؛ لأن قوله: {لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب} ليحصل فيه هذا البيان الزَّائد؛ ونظائره في القرآن كثيرة وهو أنه تعالى يذكر كلاماً، ثم يعيده بعينه مع فائدة زائدة. الثاني: أن ينتصب مفعولاً به للقول، ويكون قوله: «هذَا حَلالٌ» بدلاً من «الكَذِب» ؛ لأنه عينه، أو يكون مفعولاً بمضمر، أي: فيقولوا: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، و «لِمَا تَصِفُ» علَّة أيضاً، والتقدير: ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم، وهل يجوز أن تكون المسألة من باب التَّنازع على هذا الوجه؛ وذلك أن القول يطلب الكذب، و «تَصِفُ» أيضاً يطلبه، اي: ولا تقولوا الكذب لما تصفه السنتكم، وفيه نظر. الثالث: أن ينتصب على البدل من العائد المحذوف على «مَا» ، إذا قلنا: إنَّها بمعنى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 178 الذي، والتقدير: لما تصفه، ذكر ذلك الحوفي وأبو البقاء رحمهما الله تعالى. الرابع: أن ينتصب بإضمار أعني؛ ذكره أبو البقاء، ولا حاجة إليه ولا معنى عليه. وقرأ الحسن، وابن يعمر، وطلحة: «الكَذبِ» بالخفض، وفيه وجهان: أحدهما: أنه بدلٌ من الموصول، أي: ولا تقولوا لوصف ألسنتكم الكذب، أو للذي تصفه ألسنتكم الكذب، جعله نفس الكذب؛ لأنَّه هو. والثاني: - ذكره الزمخشري -: أن يكون نعتاً ل «مَا» المصدرية. ورده أبو حيَّان: بأن النُّحاة نصُّوا على أن المصدر المنسبك من «أنْ» والفعل لا ينعت؛ لا يقال: يُعْجِبني أن تخرج السريع، ولا فرق بين باقي الحروف المصدرية وبين «أنْ» في النَّعت. وقرأ ابن أبي عبلة، ومعاذ بن جبل - رحمهما الله -: بضمِّ الكاف والذَّال، ورفع الباء صفة للألسنة، جمع كذوب؛ كصَبُور وصُبُر، أو جمع كَاذِب، كشَارِف وشُرُف، أو جمع كَذَّاب؛ نحو «كتَّاب وكُتُب» ، وقرأ مسلمة بن محارب فيما نقله ابن عطيَّة كذلك، إلا أنه نصب الباء، وفيه ثلاثة أوجهٍ ذكرها الزمخشري: أحدها: أن تكون منصوبة على الشَّتم، يعني: وهي في الأصل نعت للألسنة؛ كما في القراءة قبلها. الثاني: أن تكون بمعنى الكلم الكواذب، يعني: أنها مفعول بها، والعامل فيها إما «تَصِفُ» ، وإمَّا القول على ما مرَّ، أي: لا تقولوا الكلم الكواذب أو لما تصف ألسنتكم الكلم الكواذب. الثالث: أن يكون جمع الكذاب، من قولك: كذب كذاباً، يعني: فيكون منصوباً على المصدر؛ لأنه من معنى وصف الألسنة، فيكون نحو: كُتُب في جمع كِتَاب. وقد قرأ الكسائي: «ولا كِذَاباً» بالتخفيف، كما سيأتي في سورة النبأ إن شاء الله - تعالى -. واعلم أن قوله: {تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب} من فصيح الكلام وبليغه، كأن ماهيَّة الكذب وحقيقته مجهولة، وكلامهم الكذب يكشف عن حقيقة الكذب، ويوذِّح ماهيته، وهذه مبالغة في وصف كلامهم بكونه كذباً؛ ونظيره قول ابي العلاء المعريِّ: [الوافر] 3371 - سَرَى بَرْقُ المَعرَّةِ بَعْدَ وَهْنٍ ... فَباتَ بِرامَةٍ يَصِفُ الكَلالا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 179 المعنى: إذا سرى ذلك البرق يصف الكلال، فكذا هاهنا. فصل وروى الدَّارمي بإسناده عن الأعمش قال: «ما سمعت إبراهيم قط يقول: حلالاً ولا حراماً، ولكن كان يقول: كانوا يتكرَّهون، وكان يستحبُّون» وقال ابن وهب: قال مالك: لم يكن من فتيا النَّاس أن يقولوا: هذا حلالٌ وهذا حرامٌ، ولكن يقولوا: إيَّاكم كذا وكذا، لم أكن لأصنع هذا، ومعنى هذا: أن التَّحليل والتَّحريم إنَّما هو لله - عَزَّ وَجَلَّ - وليس لأحد أن يقول أو يصرِّح بهذا في عين من الأعيان، إلا أن يكون الباري - سبحانه وتعالى - فيخبر بذلك عنه، فأما ما يئول إليه اجتهاده، فإنه يحرم عليه أن يقول ذلك، بل يقول: إني أكره كما كان مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يفعل. قوله: «لِتَفْتَرُوا» في هذه اللاَّم ثلاثة أوجه: أحدها: قال الواحدي: إنه بدلٌ من «لِما تَصِفُ» ؛ لأن وصفهم الكذب هو افتراءٌ [على الله] . قال أبو حيَّان: «وهو على تقدير جعل» ما «مصدرية، أما إذا كانت بمعنى الذي، فاللاَّم فيها ليست للتَّعليل، فيبدل منها ما يفهم التعليل، وإنَّما اللام في» لِمَا «متعلِّقة ب» لا تَقُولوا «على حدِّ تعلقها في قولك: لا تقولوا لما أحل الله هذا حرام، أي: لا تسمُّوا الحلال حراماً، وكما تقول: لا تقل لزيد: عمرو أي: لا تطلق عليه هذا الاسم» . قال شهاب الدين: وهذا وإن كان ظاهراً، إلا أنه لا يمنع من إرادة التعليل وإن كانت بمعنى الذي. الثاني: أنها للصَّيرورة؛ إذ لم يفعلوه لذلك الغرض؛ لأن ذلك الافتراء ما كان غرضاً لهم. والمعنى: أنهم كانوا ينسبون ذلك التحريم والتحليل إلى الله - تعالى - ويقولون: إن الله أمرنا بذلك. قال ابن الخطيب: فعلى هذا تكون لام العاقبة؛ كقوله - تعالى -: {لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَنا} [القصص: 8] . الثالث: أنها للتعليل الصريح، ولا يبعد أن يصدر عنهم مثل ذلك. ثم إنَّه - تعالى - أوعد المفترين فقال: {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ} ثم بيَّن أن ما هم فيه من [متاع] الدنيا يزول عنهم عن قربٍ، فقال: {مَتَاعٌ قَلِيلٌ} قال الزجاج: معناه: متاعهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 180 قليلٌ. وقال ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما: بل متاع كلِّ الدنيا متاع قليل، ثم يردُّون إلى عذاب أليم. وفي «متاعٌ» وجهان: أحدهما: أنه مبتدأ، و «قَليلٌ» خبره. وفيه نظر؛ للابتداء بالنَّكرة من غير مسوِّغ، فإن ادُّعي إضافة نحو: متاعهم قليلٌ، فهو بعيد جدًّا. الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: بقاؤهم، أو عيشهم، أو منفعتهم فيما هم عليه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 181 قوله تعالى -: {وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ} الآية لما بيَّن ما يحلُّ وما يحرم لأهل الإسلام، أتبعه ببيان ما خصَّ اليهودية من المحرَّمات، فقال: {وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ} وهو المذكور في سورة الأنعام عند قوله - تعالى -: {وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} [الأنعام: 146] . وقوله: «مِنْ قَبْلُ» متعلق ب «حَرَّمْنَا» أو ب «قَصَصْنَا» والمضاف إليه قبل تقديره: من قبل تحريمنا على أهل ملتك. «ومَا ظَلمْنَاهُمْ» بتحريم ذلك عليهم {ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} فحرَّمنا عليهم ببغيهم، وهو قوله: {فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ} [النساء: 160] . قوله - تعالى -: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء بِجَهَالَةٍ} الآية بين ههنا أن الافتراء على الله ومخالفة أمره، لا يمنعهم من التوبة وحصول المغفرة والرحمة، ولفظ «السُّوء» يتناول كل ما لا ينبغي، وهو الكفر والمعاصي، وكل من يفعل السوء فإنما يفعله جهلاً، أما الكفر فلأن أحداً لا يرضى به مع العلم بكونه كفراً؛ لأنه لو لم يعتقد كونه حقًّا، فإنَّه لا يختاره ولا يرتضيه، وأما المعصية، فلأن العالم لم تصدر عنه المعصية ما لم تصر الشَّهوة غالبة للعقل، فثبت أن كلَّ من عمل السوء فإنما يقدم عليه بسبب الجهالة، ثم تابوا من بعد ذلك، أي: من بعد تلك السَّيئة. وقيل: من بعد تلك الجهالة، ثم إنَّهم بعد التوبة عن تلك السَّيِّئات أصلحوا، أي: آمنوا وأطاعوا الله. قوله: «من بعدها» أي: من بعد عمل السوء والتوبة، والإصلاح، وقيل: على الجهالة، وقيلك على السوء، لأنه في معنى المعصية. «بجهالة» حال من فاعل «عملوا» ، ثم أعاد قوله: «إن ربك من بعدها» على سبيل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 181 التأكيد، «لغَفُورٌ رَّحيمٌ» لذلك السوء الذي صدر عنه بسبب الجهالة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 182 قوله - تعالى -: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً} الآية. لما زيَّف مذاهب المشركين في مواضع من هذه السورة، وهب إتيانهم الشُّركاء والأنداد لله تعالى، وطعنهم في نبوَّة الأنبياء عليهم السلام، وقولهم: لو أرسل الله إليهم رسولاً، لكان من الملائكة، وتحليل الأشياء المحرَّمة، وتحريم الأشياء المحللة، وبالغ في إبطال مذاهبهم، وكان إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - رئيس الموحِّدين، وهو الذي دعا النَّاس إلى التوحيد والشرائع، وإبطال الشرك، وكان المشركون يفتخرون به ويعترفون بحسن طريقته، [ويقرون] بوجوب الاقتداء به، لا جرم ذكره الله تعالى في آخر هذه السورة، وحكى على طريقته بالتوحيد؛ ليصير ذلك حاملاً لهؤلاء المشركين على الإقرار بالتوحيد والرجوع عن الشرك. قوله تعالى: «أمَّةً» تطلق الأمة على الرَّجل الجامع لخصالٍ محمودة؛ قال ابن هانئ: [السريع] 3372 - ولَيْسَ عَلَى اللهِ بِمُسْتَنْكَرٍ ... أنْ يَجْمعَ العَالمَ في واحِدِ وقيل: «فُعْلَة» تدلُّ على المبالغة، «فُعْلَة» بمعنى المفعول، كالدُّخلة والنُّخبة، فالأمة: هو الذي يؤتم به؛ قال - تعالى -: {إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً} [البقرة: 124] قال مجاهد: كان مؤمناً وحده، والنَّاس كلهم كانوا كفَّاراً، فلهذا المعنى كان وحده أمَّة، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول في زيد بن عمرو بن نفيل: «يَبْعثهُ الله أمَّةً وحْدَهُ» . وقيل: إنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - هو السَّبب الذي لأجله جعلت أمَّته ممتازين عمَّن سواهم بالتَّوحيد والدِّين الحقِّ، ولما جرى مجرى السبب لحصول تلك الأمة سمَّاها الله تعالى بالأمة إطلاقاً لاسم المسبب على السَّبب. وعن شهر بن حوشب: لم تبق أرض إلاَّ وفيها أربعة عشر، يدفع الله بهم البلاء عن أهل الأرض، إلاَّ زمن إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - فإنَّه كان وحده. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 182 والأمة تطلق على الجماعة؛ لقوله - تعالى -: {أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ} [القصص: 23] وتطلق على أتباع الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -، كقولك: نحن من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وتطلق على الدِّين والملَّة؛ كقولهم: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ} [الزخرف: 23] وتطلق على الحين والزمان؛ كقوله - تعالى -: {إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} [هود: 8] وقوله - جل ذكره -: {وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ} [يوسف: 45] أي: بعد حين، وتطلق على القامة، يقال: فلانٌ حسن الأمة، أي: حسن القامة، وتطلق على الرجل المنفرد بدين لا يشرك فيه غيره؛ كقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «يُبْعَثُ زيْدُ بنُ عَمْرو بْنِ نُفيْلٍ يَوْمَ القِيامَةِ أمَّة وحْدَهُ» . وتطلق على الأم، يقال: هذه أمة فلان يعني: أمَّه، وتطلق أيضاً على كل جنس من أجناس الحيوان؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لَوْلاَ أنَّ الكِلابَ أُمَّةٌ من الأمَمِ لأمَرْتُ بِقتْلِهَا» . وقال ابن عباس: - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: خلق الله ألف أمة ستمائة في البحر، وأربعمائة في البر. قوله تعالى: {قَانِتاً لِلَّهِ} القانت: هو القائم بأمر الله تعالى. وقال ابن عبَّاس: مطيعاً لأمر الله تعالى. قوله تعالى: «حَنِيفاً» : [مائلاً] إلى ملَّة الإسلام ميلاً لا يزول عنه، وقيل حنيفاً: مستقيماً على دين الإسلام. وقيل: مخلصاً. قال ابن عباس: إنه أول من اختتن وأقام مناسك الحج، وهذه صفة الحنيفيَّة. {وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين} أي: أنَّه كان من الموحِّدين في الصِّغر والكبر، أما في حال صغره: فإنكاره بالقول للكواكب على عدم ربوبيتها، وأما في كبره: فمناظرته لملك زمانه، وكسر الأصنام حتى آل أمره أنه ألقي في النار. قوله تعالى: «شَاكِراً» يجوز أن يكون خبراً ثالثاً، أو حالاً من أحد الضميرين في «قَانِتاً» و «حَنِيفاً» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 183 قوله: «لأنْعُمِهِ» يجوز تعلقه ب «شَاكِراً» أو ب «اجْتَبَاهُ» ، و «اجْتَبَاهُ» إما حال وإما خبر آخر ل «كان» و «إلى صِراطٍ» يجوز تعلقه ب «اجْتَبَاهُ» وب «هَدَاهُ» على [قاعدة] التنازع. فإن قيل: لفظ الأنعم جمع قلَّة، ونعم الله على إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - كانت كثيرة فلم قال: «شَاكِراً لأنْعُمِهِ» ؟ . فالجواب: أنه كان شاكراً لجميع نعم الله سبحانه وتعالى القليلة، فكيف الكثيرة؟ . ومعنى «اجْتبَاهُ» : اختاره واصطفاه للنبوة، والاجتباء: هو أن يأخذ الشيء بالكليَّة، وهو «افْتِعَال» من «جَبَيْتُ» وأصله جمع الماء في الحوض، والجابية هي الحوض، {وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} إلى دين الحقِّ. {وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً} يعني: الرِّسالة والخلَّة. وقيل: لسان صدق، وقال مقاتل بن حيان: هو قول المصلي: اللَّهُمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ مُحمَّدٍ، كما صلَّيْتَ على إبْراهِيمَ. وقال قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إن الله حبَّبه إلى كل الخلق. وقيل: أولاداً أبراراً على الكبر. {وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين} : في أعلى مقامات الصَّالحين في الجنة. قوله - تعالى -: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} الآية. لما وصف إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - بهذه الصِّفات العالية الشريفة، قال - جل ذكره - {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} . قال الزمخشري في «ثُمَّ» هذه: إنها تدلُّ على تعظيم منزلة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإجلال محله، والإيذان بأن الشَّرف ما أوتي خليل الرحمن من الكرامةِ، وأجل ما أولي من النِّعمة: اتباع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ملَّته، من قبل أنَّها دلت على تباعد هذا النَّعت في المرتبة من بين سائر النعوت التي أثنى الله - سبحانه وتعالى - عليه بها. قوله تعالى: {أَنِ اتبع} يجوز أن تكون المفسرة، وأن تكون المصدرية، فتكون مع منصوبها مفعول الإيحاء. قوله تعالى: «حَنِيفاً» حال، وتقدم تحقيقه في البقرة [الآية: 135] . وقال ابن عطية: قال مكِّي: ولا يكون - يعني: «حَنِيفاً» - حالاً من «إبْراهِيمَ» عليه السلام؛ لأنه مضاف إليه. وليس كما قال؛ لأن الحال قد يعمل فيها حروف الجرِّ، إذا عملت في ذي الحال؛ كقولك: مَرَرْتُ بهِ قَائِماً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 184 وما ذكره مكِّي من امتناع الحال من المضاف إليه، فليس على إطلاقه؛ كما تقدم تفصيله في البقرة. وأما قول ابن عطية - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إن العامل الخافض، فليس كذلك؛ إنما العامل ما تعلق به الخافض، وكذلك إذا حذف الخافض، نصب مخفوضه. فصل قال قوم: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان على شريعة إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - وليس له شرعٌ معيَّن، بل المقصود من بعثته: إحياء [شرع] إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بهذه الآية، وهذا ضعيف؛ لأنه - تعالى - وصف إبراهيم - عليه السلام - في هذه الآية بأنه ما كان من المشركين، فلما قال {أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} ، كان المراد ذلك. فإن قيل: النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنما نفى الشرك وأثبت التوحيد؛ بناء على الدَّلائلِ القطعية، وإذا كان كذلك، لم يكن متابعاً له، فيمتنع حمل قوله: «أن اتَّبعْ» على هذا المعنى؛ فوجب حمله على الشَّرائع التي يصح حصول المتابعة فيها. فالجواب: أنه يحتمل أن يكون المراد بمتابعته في كيفيَّة الدَّعوة إلى التوحيد؛ وهي أن يدعو بطريق الرفق، والسهولة، وإيراد الدلائل مرَّة بعد أخرى بأنواع كثيرة على ما هو الطريقة المألوفة في القرآن. قال القرطبي: وفي هذه الآية دليل على جواز اتباع الأفضل للمفضول؛ لما يؤدِّي إلى الثواب، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أفضل الأنبياء - صلوات الله وسلامه عليهم - وقد أمر بالاقتداء بهم؛ فقال - تعالى -: {فَبِهُدَاهُمُ اقتده} [الأنعام: 90] ، وقال - تعالى - هنا: {ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 185 قوله - تعالى -: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} الآية. لما أمر محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - بمتابعة إبراهيم - عَلَيْهِ الصَّلَاة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 185 وَالسَّلَام ُ - وكان محمَّد اختار يوم الجمعة، وهذه المتابعة إنَّما تحصل إذا قلنا: إن إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - كان قد اختار في شرعه يوم الجمعة، وعند هذا القائل أن يقول: فلم اختار اليهود يوم السبت؟ . فأجاب الله - تعالى - عنه بقوله: {إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ} ، وفي الآية قولان: الأول: روى الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: «أمرهم موسى - صلوات الله وسلامه عليه - بالجمعة، وقال: تفرَّغوا لله في كل سبعة أيام يوماً واحداً، وهو يوم الجمعة لا تعملوا فيه شيئاً من أعمالكم، فأبوا أن يفعلوا ذلك، وقالوا: لا نريد إلا اليوم الذي فرغ فيه من الخلق، وهو يوم السبت، فجعل الله - تعالى - السبت لهم، وشدَّد عليهم فيه، ثمَّ جاءهم عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أيضاً بالجمعة، فقالت النصارى: لا نريد أن يكون عيدهم بعد عيدنا، واتخذوا الأحد» . وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال «إنَّ الله كَتَبَ يَوْمَ الجُمعَةِ عَلَى مَنْ قَبْلنَا، فاخْتلَفُوا فِيهِ وهَدَانَا الله إلَيْهِ، فَهُمْ لَنَا فِيهِ تَبعٌ، اليَهُود غَداً والنَّصارَى بَعد غدٍ» . واعلم أن أهل الملل اتَّفقوا على أنه - تعالى - خلق العالم في ستَّة أيام، وبدأ - تعالى - بالخلق والتكوين في يوم الأحد، وتمَّ في يوم الجمعة، وكان يوم السبت يوم الفراغ، فقالت اليهود: نحن نوافق ربنا في ترك الأعمال، فعيَّنوا يوم السبت لهذا المعنى، وقالت النصارى: مبدأ الخلق والتكوين يوم الأحد، فنجعل هذا اليوم عيداص لنا. وأما وجه جعل يوم الجمعة عيداً؛ فلأنه يوم كمال الخقل وتمامه، وحصول التَّمام والكمال يوجب الفرح الكامل والسُّرور العظيم، فجعل يوم الجمعة يوم العيد أولى. والقول الثاني: اختلافهم في السبت هو أنهم أحلُّوا الصيد فيه تارة وحرَّموه [تارة] . قوله - تعالى -: {إِنَّمَا جُعِلَ} العامة على بنائه للمفعول، وأبو حيوة على بنائه للفاعل، و «السَّبْتُ» مفعول به. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} ، أي: يحكم للمحقِّين بالثواب، وللمبطلين بالعقاب. قوله - تعالى -: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} الآية لما أمر محمداً - الجزء: 12 ¦ الصفحة: 186 صلوات الله وسلامه عليه - باتِّباع إبراهيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، بين الشيء الذي أمره بمتابعته فيه؛ فقال - عَزَّ وَجَلَّ -: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة ا} . واعلم أنه - تعالى - أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يدعو النَّاس بأحد هذه الطرق الثلاثة، وهي: {بالحكمة والموعظة الحسنة} ، والمجادلة بالطريق الأحسن، وذكر - تعالى - هذا الجدل في آية أخرى، فقال - تعالى -: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] ولمَّا ذكر الله - تعالى - هذه الطرق الثلاثة، وعطف - تعالى - بعضها على بعض وجب أن تكون طرقاً متغايرة. واعلم أن الدَّعوة إلى المذاهب لا بد وأن تكون مبنيَّة على حجة وبينة، والمقصود من ذكر تلك الحجة: إما تقرير ذلك المذهب، وذلك على قسمين: لأن تلك الحجة إما أن تكون حجة قطعية مبرَّأة عن احتمال النقيض، أو لا تكون كذلك، بل تكون حجة تفيد الظن الظاهر، والإقناع الكامل، فظهر بهذا التقسيم انحصار الحجج في هذه الأقسام الثلاثة: أولها: الحجة القطعية المفيدة للعقائد اليقينيّة، وذلك هو المسمَّى بالحكمة. وثانيها: الأمارات الظنية، والدلائل الإقناعية، وهي الموعظة الحسنة. وثالثها: الدلائل التي يكون المقصود منها: إلزام الخصوم وإقحامهم، وذلك هو الجدل، ثم هذا الجدل على قسمين: أحدهما: أن يكون دليلاً مركباً من مقدِّمات مسلمة عند الجمهور، أو من مقدمات مسلمة عند ذلك الخصم، وهذا هو الجدل الواقع على الوجه الأحسن. والقسم الثاني: أن يكون ذلك الدليل مركباً من مقدمات فاسدة باطلة، إلاَّ أن قائلها يحاول ترويجها على المستمعين، بالسَّفاهة والشَّغب، والحيل الباطلة، والطرق الفاسدة، وهذا القسم لا يليق بأهل [الفضل] ، إنما اللائق بهم القسم الأول، وهو المراد بقوله: {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} . فصل قال المفسرون: قوله: «بالحِكْمَةِ» أي: بالقرآن، «والمَوْعِظَةِ الحَسنَةِ» يعني: مواعظ القرآن. وقيل «المَوعِظَة الحَسنَة» هو الدعاء إلى الله - تعالى - ب التَّرغيب والتَّرهيب، وقيل: بالقول اللَّين من غير غِلَظٍ ولا تعنيف. {وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} ناظرهم بالخصومة، «الَّتي هِيَ أحْسَنُ» أي: أعرض عن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 187 أذاهم، أي: ولا تقصِّر في تبليغ الرسالة، والدعاء غلى الحقِّ، والآية نسختها آية القتال. {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين} ، أي: إنَّك يا محمد مكلَّف بالدعوة إلى الله، وأما حصول الهداية فلا يتعلق بك، فهو أعلم بالضَّالين وأعلم بالمهتدين. قوله - تعالى -: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ} العامة على «المُفَاعلة» وهي بمعنى: «فَعَلَ» ؛ كَسافَرَ، وابن سيرين: «عَقَّبْتُم» بالتشديد بمعنى: قَفَّيْتُمْ [بالانتصار فقفُّوا] بمثل ما فعل بكم. وقيل: تتبَّعتم، والباء معدِّية، وفي قراءة ابن سيرين إمَّا للسببية وإما مزيدة. فصل قال الواحدي رَحِمَهُ اللَّهُ: هذه الآية فيها ثلاثة أقوال: أحدها: وهو قول ابن عبَّاس في رواية عطاء وأبيّ بن كعب والشعبي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا رأى حمزة وقد مثَّلوا به، قال: «والله لأمثِّلَنَّ بِسَبْعِينَ مِنهُمْ مَكانَكَ» فنزل جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - بخواتيم سورة النحل، فكفَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأمسك عما أراد؛ وعلى هذا قالوا: سورة النحل مكيَّة إلا هذه الثلاث آيات. والقول الثاني: أن هذا كان قبل الأمر بالسَّيف والجهاد، حين كان المسلمون لا يبدءون بالقتال، ولا يقاتلون إلا من قاتلهم، ويدلُّ عليه قوله - تعالى -: {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تعتدوا} [البقرة: 190] وفي هذه الآية أمروا بأن يعاقبوا بمثل ما يصيبهم من العقوبة ولا يزيدوا، فلمَّا أعزَّ الله الإسلام وأهله، نزلت «براءة» وأمروا بالجهاد، ونسخت هذه الآية، قاله ابن عبَّاس والضحاك. والقول الثالث: أن المقصود من هذه الآية نهي المظلوم عن استيفاء الزيادة من الظالم، وهذا قول مجاهد، والنخعي، وابن سيرين. وقال ابن الخطيب: وحمل هذه الآية على قصَّة لا تعلق لها بما قبلها، يوجب حصول سوء الترتيب في كلام الله - تعالى - وهو في غاية البعد، بل الأصوب عندي أن يقال: إنه - تعالى - أمر محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بدعوة الخلق إلى الدين الحقِّ بأحد الطرق الثلاثة، وهي الحكمة، والموعظة، والجدال بالطريق الأحسن، ثم إن تلك الدعوة تتضمَّن أمرهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 188 بالرجوع عن دين آبائهم وأسلافهم، والحكم عليهم بالكفر والضلالة، وذلك مما يشوش قلوبهم، ويوحش صدورهم، ويحمل أكثرهم على قصد ذلك الدَّاعي بالقتل تارة، وبالضرب ثانياً، وبالشَّتْم ثالثاً، ثم إنَّ ذلك الدَّاعي المحقَّ إذا تسمَّع تك السَّفاهات، لا بد وأن يحمله طبعه على تأديب أولئك السفهاء؛ تارة بالقتل، وتارة بالضرب، فعند هذا أمر المحقِّين في هذا المقام برعاية العدل والإنصاف، وترك الزيادة، فهذا هو الوجه الصحيح الذي يجب حمل الآية عليه. فإن قيل: فكيف تقدحون فيما روي أنه - صلوات الله وسلامه عليه - ترك العزم على المثلة، وكفَّر عن يمينه بسبب هذه الآية؟ . قلنا: لا حاجة إلى القدح في تلك الرواية؛ لأنا نقول: تلك الواقعة داخلة في عموم هذه الآية، فيمكن التمسُّك بتلك الواقعة بعموم هذه الآية، وذلك لا يوجب سوء الترتيب في كلام الله - تعالى -. فصل في هذه الآية دليلٌ على جواز التماثل في القصاص، فمن قتل بحديدٍ قتل بمثلها، ومن قتل بحجرٍ، قتل بمثله، ولا يتعدى قدر الواجب، واختلفوا فيمن ظلمه رجل فأخذ ماله، ثم ائتمن الظالم المظلوم على مال، هل يجوز للمظلوم خيانة الظالم في القدر الذي ظلمه؟ . فقال ابن سيرين، والنخعي، وسفيان، ومجاهد: له ذلك لعموم هذه الآية. وقال مالك وجماعة: لا يجوز؛ لقول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ» رواه الدارقطني. وقال القرطبي: «ووقع في مسند ابن إسحاق: أنَّ هذا الحديث إنَّما ورد في رجل زنا بامرأة ىخر، ثم تمكَّن الآخر من زوجة الثاني بأن تركها عنده وسافر، فاستشار ذلك الرجل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الأمرِ، فقال له:» أدِّ الأمَانَة إلى من ائْتَمَنَكَ ولا تَخُنْ مَنْ خَانكَ «وعلى هذا يقوى قول مالك - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - في المال؛ لأن الخيانة لاحقة في ذلك» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 189 فصل اعلم أنه - تعالى - أمر برعاية العدل والإنصاف في هذه الآية ورتَّب ذلك على أربع مراتب: الأولى: قوله: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} يعني: إن رغبتم في استيفاء القصاص، فاقنعوا بالمثل ولا تزيدوا عليه؛ فإن استيفاء الزِّيادة ظلمٌ، والظلم ممنوع منه في عدل الله ورحمته، وفي قوله - تعالى -: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} دليل على أن الأولى ألاّ يفعل؛ كما يقول الطبيب للمريض: إن كنت تأكل الفاكهة، فكل التفاح، فإن معناه: الأولى بك ألاّ تأكله، فذكر - تعالى - بطريق الرَّمز والتعريض [على] أن الأولى تركه. والمرتبة الثانية: الانتقال من التعريض إلى التَّصريح، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} وهذا تصريح بأنَّ الأولى ترك ذلك الانتقام؛ لأن الرحمة أفضل من القسوة، والانتفاع أفضل من الإيلام. المرتبة الثالثة: وهو الأمر بالجزم بالتَّرك، وهو قوله: «واصْبِرْ» ؛ لأن في المرتبة الثانية ذكر أن التَّرك خيرٌ وأولى، وفي هذه المرتبة الثالثة صرَّح بالأمر بالصَّبر في هذا المقام، ولمَّا ك ان الصبر في هذا المقام شديداً شاقًّا، ذكر بعده ما يفيد سهولته؛ فقال - تعالى -: {واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله} أي: بتوفيقه ومعونته، وهذا هو السب الكلي الأصلي في حصول جميع أنواع الطاعات. ولما ذكر هذا السبب الكليَّ الأصلي، ذكر بعده ما هو السببُ الجزئي القريب؛ فقال - جل ذكره -: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} ؛ وذلك لأنَّ إقدام الإنسان على الانتقام، وعلى [إنزال] الضرر بالغير لا يكون إلا من هيجان الغضب، وشدَّة الغضب لا تحصل إلا لأحد أمرين: أحدهما: فوات نفع كان حاصلاً في الماضي، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} قيل: معناه: ولا تحزن على قتلى «أحدٍ» ، أي: ولا تحزن بفوات أولئك الأصدقاء وقيل: ولا تحزن عليهم في إعراضهم عنك، ويرجع حاصله إلى فوات النفع. والسبب الثاني: أن شدَّة الغضب قد تكون لتوقع ضرر في المستقبل، وإليه الإشارة بقوله: {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ} ، ومن وقف على هذه اللَّطائف، عرف أنَّه لا يمكن كلام [أدخل] في الحسن والضبط من هذا الكلام. قوله: «للصَّابِرينَ» يجوز أن يكون عامًّا، أي: الصبر خير لجنس الصَّابرين، وأن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 190 يكون من وقوع الظَّاهر موقع المضمر، أي: صبركم خير لكم. قوله: «إلاَّ بالله» أي: بمعونته، فهي للاستعانة. قوله: «في ضَيْقٍ» قرأ ابن كثير هنا وفي النَّمل: بكسر الضاد، والباقون: بالفتح، فقيل: هما لغتان بمعنًى في هذا المصدر؛ كالقول والقِيل. وقيل: المفتوح مخفَّف من «ضَيِّق» ؛ ك «مَيْت» في «مَيِّت» ، أي: في أمر ضيِّق، فهو مثل هَيْن في هيِّن، و «لَيْن» في «لَيِّن» ، قاله ابن قتيبة. وردَّه الفارسي: بأن الصفة غير خاصة بالموصوف، فلا يجوز ادِّعاء الحذف ولذلك جاز: مررت بكاتب، وامتنع بآكلٍ. وأما وجه القراءة بالفتح، قال أبو عبيدة الضيِّقُ بالكسر في قلَّة المعاش والمساكن، وما كان في القلب، فإنه الضَّيْق. وقال أبو عمرو: «الضِّيقُ بالكسر: الشدَّة، والضَّيقُ بالفتح: الغمُّ» . قوله تعالى: {مِّمَّا يَمْكُرُونَ} متعلق ب «ضَيْقٍ» و «مَا» مصدرية، أو بمعنى الذي، والعائد محذوف. فصل هذا من الكلام المقلوب؛ لأن الضَّيق صفة، والصفة تكون حاصلة في الموصوف، ولا يكون الموصوف حاصلاً في الصفة، فيكون المعنى: فلا يكن الضيق فيك؛ لأن الفائدة في قوله: {وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ} هو أنَّ الضِّيق إذا عظم وقوي، صار كالشيء المحيط بالإنسان من الجوانب، وصار كالقميص المحيط به، فكانت الفائدة في هذا اللفظ هذا المعنى. المرتبة الرابعة: قوله: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا} المناهي، {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} وهذا يجري مجرى التهديد؛ لأنه في المرتبة الأولى: رغب في ترك الانتقام على سبيل الرمز، وفي الثانية: عدل عن الرمز إلى التصريح، وهو قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} ، وفي المرتبة الثالثة: أمر بالصبر على سبيل الجزم، وفي هذه المرتبة الرابعة: كأنه ذكر الوعيد على فعل الانتقام، فقال: {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا} عن استيفاء الزيادة، {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} : في ترك أصل الانتقام؛ فكأنه قال: إن أردت أن أكون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 191 معك، فكن من المتَّقين ومن المحسنين، وهذه المعيَّة بالرحمة والفضل والتربية. وقوله - تعالى -: {الذين اتقوا} إشارة غلى التعظيم لأمر الله، وقوله - جل ذكره - {والذين هُم مُّحْسِنُونَ} إشارة إلى الشفقة على خلق الله، وذلك يدلُّ على أن كمال سعادة الإنسان في التعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله - تعالى -. قيل لهرم بن حيَّان عند قرب وفاته: أوص، فقال: إنما الوصيَّة في المال ولا مال لِي، ولكن أوصيك بخواتيم سورة النحل، قال بعضهم: إن قوله - جل ذكره -: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} منسوخ بآية السيف، وهذا في غاية البعد؛ لأن المقصود من هذه الآية تعليم حسن الأدب في كيفيَّة الدَّعوة إلى الله - سبحانه وتعالى -، وترك التَّعدي وطلب الزيادة، ولا تعلق بهذه الأشياء بآية السيف والله أعلم بمراده. روى أبو أمامة، عن أبيّ بن كعب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورَةَ النَّحل، لم يُحاسِبْه الله - تعالى - بالنَّعِيم الذي أنْعَم عليه في دَارِ الدُّنيَا، وأعْطِيَ مِنَ الأجْرِ كالذي مات فأحْسَن الوصيَّة» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 192 سورة الإسراء الجزء: 12 ¦ الصفحة: 193 روي عن ابن عباس أنها مكية غير قوله تعالى: {وإن كانوا ليستفزونك من الأرض} [آية: 76] إلى قوله: {واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا} [آية: 80] فإنها مدنيات حين جاء وفد ثقيف. وهي مائة وإحدى عشرة آية، وألف وخمسمائة وثلاث وثلاثون كلمة، وعدد حروفها ستة آلاف وأربعمائة وستون حرفا. بسم الله الرحمن الرحيم قوله تعالى: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} الآية. قال النحويُّون: «سُبْحَانَ» اسم علم للتَّسبيح يقال: سبحت تسبيحاً فالتسبيح هو المصدر، وسبحان اسم على للتسبيح؛ كقوله: «كَفَّرتُ اليمينَ تَكْفيراً وكُفْراناً» ، وتقدَّم الكلام عليه في أول البقرة، ومعناه تنزيه الله عن كلِّ سوء. والنصبُ على المصدر، كأنه وضع موضع «سبَّحت الله تسبيحاً» وهو مفرد، إذا أفرد، وفي آخره زائدتان: الألف والنون، فامتنع من الصرف؛ للتقدير والزيادتين. وعن سيبويه أنَّ من العرب من ينكِّرهُ؛ فيقول: «سُبْحَاناً» بالتنزيه. وقال أبو عبيدٍ: لا ينتصب على النِّداء، فكأنه قال: «يا سُبْحانَ الله، يا سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبدِه» . قال القرطبي: سُبْحانَ، اسم موضوع موضع المصدر، وهو غير متمكن؛ لأنَّه لا يجري بوجوه الإعراب، ولا يدخل فيه الألف واللام، ولم يجر منه فعلٌ، ولم ينصرف؛ لأنَّ في ىخره زائدتين، ومعناه التنزيهُ، والبراءة لله، فهو ذكر؛ فلا يصلح لغيره، فأمَّا قول من قال: [السريع] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 193 3373 - أقُولُ لمَّا جَاءنِي فَخرُهُ ... سُبحَانَ مِنْ عَلْقمَةَ الفَاخِرِ فإنما ذكره على طريق النَّادر. روى طلحة بن عبيد الله أنه قال للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «ما مَعْنَى سبحان لله» فقال: «تَنْزيهُ الله عن كُلِّ سُوءٍ» . وقال صاحبُ النظم: «السَّبح في اللغة التباعد؛ قال تعالى: {إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً} [المزمل: 7] أي: تباعداً طويلاً فمعنى» سَبح «: تنزيهه عمَّا لا ينبغي» . وللتَّسبيح معانٍ أخر؛ قد يكون بمعنى الصلاة؛ كقوله: {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين} [الصافات: 143] أي المصلِّين والسبحة: صلاة النافلة، وإنما قيل للمصلِّي: «مُسَبِّح» ؛ لأنه معظم لله بالصلاة، ومنزِّهٌ له عمَّا لا ينبغي. وقد يرد التسبيح بمعنى الاستثناء؛ كقوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ} [القلم: 28] أي تستثنون. وتأويله أيضاً يعود إلى تعظيم الله في الاستثناء بمشيئته، وجاء في الحديث: «لأحْرقَتْ سُبحَاتُ وجْهِه» قيل: معناه: وجهه وقيل: معناه: نور وجهه الذي إذا رآه الرّائي، قال: «سبحان الله» . ويكون «سُبْحَانَ الله» بمعنى التعجُّب. وقوله: «أسْرَى» و «سَرَى» لغتان، وتقدَّم الكلام عليهما في سورة هود [آية: 81] ، وأن بعضهم خصَّ «أسْرَى» باللَّيل. قال الزمخشريُّ هنا: فإن قلت: الإسراء لا يكون إلاَّ ليلاً؛ فما معنى ذكر الليل؟ . قلت: أراد بقوله «ليلاً» بلفظ التنكير، تقليل مدَّة الإسراءِ، وأنه أسْرِي به في بعض الجزء: 12 ¦ الصفحة: 194 الليل، من «مكَّة» إلى «الشام» مسيرة أربعين ليلة؛ وذلك أنَّ التنكير دلَّ على البعضيَّة، ويشهد لذلك قراءة عبد الله وحذيفة «من اللَّيل» ، أي: بعضه؛ كقوله: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ} [الإسراء: 79] . انتهى. فيكون «سَرَى» و «أسْرَى» ك «سَقَى» و «أسْقَى» والهمزة ليست للتعدية؛ وإنما المعدَّى الباء في «بعبده» ، وقد تقدَّم أنها لا تقتضي مصاحبة الفاعل للمفعول عند الجمهور، في البقرة، خلافاً للمبرِّد. وزعم ابن عطية أنَّ مفعول «أسْرَى» محذوف، وأن التعدية بالهمزة؛ فقال: «ويظهر أنَّ» «أسْرَى» معدَّاةٌ بالهمزة إلى مفعول محذوف، أي: أسرى الملائكة بعبده؛ لأنه يقلقُ أن يسند «أسْرَى» وهو بمعنى «سَرَى» إلى الله تعالى؛ إذ هو فعلٌ يقتضي النَّقلة؛ ك «مَشَى، وجرى، وأحضر، وانتقل» فلا يحسن إسناد شيء من هذا مع ودجود مندوحةٍ عنه، فإذا وقع في الشريعة شيء من ذلك، تأوَّلناهُ؛ نحو: أتَيْتهُ هَرْولةً «. وهذا كلُّه إنما بناهُ؛ اعتقاداً على أن التعدية بالباء تقتضي مضاحبة الفاعل للمفعول في ذلك، وتقدَّم الردُّ على هذا المذهب في أوَّل البقرة في قوله تعالى: {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} [البقرة: 20] . ثم جوَّز أن يكون» أسْرَى «بمعنى» سَرَى «على حذف مضافٍ؛ كقوله: {ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] يعني: فيكون التقدير: الذي أسْرِى ملائكته بعبده، والحامل له على ذلك ما تقدَّم من اعتقاد المصاحبة. والعبد هو محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله:» لَيْلاً «منصوب على الظرف، وقد تقدم فائدة تنكيره. و» مِنَ المسجد «» مِنْ «لابتداء الغاية. فصل في وقت الإسراء قال مقاتل:» كان قبل الهجرة بستَّة عشر شهراً «، ونقل الزمخشري عن أنس والحسين: كان قبل البعثة، واختلفوا في المكان الذي أسْرِي به منه، فقيل: هو المسجد الحرامُ بعينه؛ لظاهر القرآن، وقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» بَيْنَا أنَا في المَسْجدِ الحَرامِ عِندَ البَيْتِ بيْنَ النَّائمِ واليَقْظَانِ، إذْ أتَانِي جِبْريلُ عليه السلام بالبراقِ «. وقيل: أسري به من دار أمِّ هانئ بنت أبي طالبٍ، وعلى هذا، فالمراد بالمسجد الحرام الحرمُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 195 قال ابن عبَّاس:» الحرم كلُّه مَسْجِدٌ «، وهذا قول الأكثرين. وقوله: {إلى المسجد الأقصى} . اتفقوا على أنه بيتُ المقدس، وسمي بالأقصى؛ لبعد المسافة بينه وبين المسجد الحرام. وقوله: {بَارَكْنَا حَوْلَهُ} . قيل: بالأزهار والثمار. وقيل: لأنه مقرُّ الأنبياء، ومهبطُ الملائكةِ. واعلم أنَّ كلمة:» إلى «لانتهاء الغاية، فمدلول قوله: {إلى المسجد الأقصى} أنه وصل إلى ذلك، فأما أنه دخل المسجد أم لا، فليس في اللفظ دلالةٌ عليه، إلاَّ أنه ورد الحديثُ أنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صلَّى فيه. قوله:» حولَه «فيه وجهان: أظهرهما: أنه منصوبٌ على الظَّرفِ، وقد تقدَّم في تحقيق القول فيه أوَّل البقرة. والثاني: أنه مفعولٌ. قال أبو البقاء: «أي: طيَّبْنَا ونَمَّيْنَا» . يعني ضمَّنه معنى ما يتعدَّى بنفسه، وفيه نظرٌ؛ لأنه لا يتصرَّفُ. قوله: «لِنُريَهُ» قرأ العامة بنون العظمة؛ جرياً على «بَارَكْنَا» وفيهما التفات من الغيبة في قوله «الَّذي أسْرَى بعبده» إلى التكلُّم في «بَاركْنَا» و «لنُرِيَهُ» ، ثم التفت إلى الغيبة في قوله: «إنه هُوَ» إن أعدنا الضمير إلى الله تعالى، وهو الصحيح، ففي الكلام التفاتان. وقرأ الحسن «لِيُريَهُ» بالياء من تحت، أي: الله تعالى، وعلى هذه القراءة يكون في هذه الآية أربعةُ التفاتات: وذلك أنَّه التفت أوَّلاً من الغيبة في قوله «الَّذي اسْرَى بعبْدهِ» إلى التكلم في قوله «بَاركْنَا» ثم التفت ثانياً من التكلُّم في «باركْنَا» إلى الغيبة في «ليُرِيَهُ» على هذه القراءة، ثم التفت ثالثاً من هذه الغيبة إلى التكلم في «آيَاتِنَا» ، ثم التفت رابعاً من هذا التكلم إلى الغيبة في قوله «إنَّهُ هُو» على الصحيح في الضمير؛ أنه لله، وأمَّا على قول نقله أبو البقاء أنَّ الضمير في «إنَّه هُو» للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فلا يجيء ذلك، ويكون في قراءة العامة التفاتٌ واحدٌ، وفي قراءة الحسنِ ثلاثةٌ. وأكثر ما ورد الالتفاتُ فيه ثلاث مراتٍ على ما قاله الزمخشريُّ في قول امرئ القيس: [المتقارب] 3374 - تَطَاولَ لَيْلُكَ بالأثْمُدِ ..... ... ... ... ... ... . الأبيات. وتقدَّم النزاعُ معه في ذلك، وبعض ما يجابُ به عنه أوَّل الفاتحة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 196 ولو ادَّعى مُدَّعٍ أنَّ ها هنا خمسة التفاتاتٍ لاحتيج في دفعه إلى دليلٍ واضحٍ، والخامس: الالتفاتُ من «إنَّهُ هُوَ» إلى التكلُّم في قوله {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب} [الإسراء: 2] الآية. والرؤيةُ هنا بصرية. وقيل: قلبية، وإليه نحا ابن عطيَّة، فإنه قال: «ويحتمل أن يريد: لنُرِيَ محمداً للنَّاس آية، أي: يكون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ آية في أن يصنع الله ببشرِ هذا الصنيع» فتكون الرؤية قلبية على هذا. فصل في معنى «لِنُريَهُ» معنى الرُّؤية هو ما رأى في تلك الليلة من العجائب والآيات الدالَّة على قدرة الله تعالى. فإن قيل: قوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} يدلُّ على أنَّه تعالى ما أراه إلاَّ بعض الآيات؛ لأن كلمة «مِنْ» للتبعيض وقال في حقِّ إبراهيم: {وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض} [الأنعام: 75] فيلزم أن يكون معراج إبراهيم - عليه السلام - أفضل من معراج محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قلنا: فالجواب أن الذي رآه إبراهيم ملكوت السموات والأرض، والذي رآه محمد بعض آياتِ الله، ولا شكَّ أن آيات الله أفضلُ. ثم قال: {إِنَّهُ هُوَ السميع البصير} أي: السميعُ لأقوال محمدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أي: المجيبُ لدعائهِ البصير: أي: لأفعاله العالم بكونها خالصة عن شوائب الرياءِ، مقرونة بالصِّدق والصَّفاء. فصل في كيفية الإسراء اختلفوا في كيفيَّة ذلك الإسراء، فالأكثرون على أنه أسْرِي بجسد رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وروي عن عائشة وحذيفة: أن ذلك كان رُؤيا، قالا: ما فُقِد جَسَدُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولكنَّ الله أسْرَى برُوحهِ. فالكلامُ في هذا الباب في مقامين. الأول: في غثبات الجوازِ العقليِّ. والثاني: في الوُقوعِ. فالمقام الأول؛ وهو الجواز العقليُّ: فنقول: الحركة الواقعة في السُّرعة إلى هذا الحدِّ ممكنةٌ في نفسها، والله - تعالى - قادرٌ على جميع الممكنات، والدليل على أنَّ هذه الحركة السَّريعة ممكنة غير ممتنعةٍ تفتقر إلى مقدِّمتين: الأولى: أنَّ الحركة الواقعة إلى هذا الحدِّ يدلُّ عليها وجوهٌ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 197 الأول: أنَّ الفلك الأعظم يتحرَّك من أوَّل الليل إلى آخره ما يقرب من نصف الدَّور، وثبت في الهندسة أنَّ نسبة القطر إلى الدَّور نسبة الواحد إلى ثلاثةٍ وسبعة فيلزم أن تكون نسبة نصف القطر إلى نصف الدور نسبة الواحد إلاى ثلاثة وسبعة فبتقدير أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ارتفع من مكة إلى ما فوق الفلك الأعظم، فهو لم يتحرَّك إلا مقدار نصف القطر، فلمَّا حصل في ذلك القدر من الزمان حركة نصف الدَّور، كان حصول الحركةِ بمقدار نصفِ القطر أولى بالإمكان، فهذا برهانٌ قاطعٌ على أنَّ الارتفاع من مكَّة إلى ما فوق العرشِ في مقدار ثلث اللَّيل أمرٌ ممكنٌ في نفسه، وإذا كان كذلك، كان حصوله في كلِّ الليل أولى بالإمكان. الثاني: ثبت في الهندسة أنَّ قرص الشمس يساوي كرة الأرض مائة وستين مرَّة، وكذا وكذا وكذا، ثم إنا نشاهد أنَّ طُلوعَ القرص يحصل في زمان لطيفٍ سريعٍ، فدلَّ على أنَّ بلوغ الحركة في السُّرعة إلى هذا الحدِّ أمرٌ ممكنٌ في نفسهِ. الثالث: أنه كما يستبعدُ في العقلِ صعود الجسم الكثيف عن مركز العالم إلى ما فوق العرش، فكذلك يستبعد نزول الجسم اللَّطيف الرُّوحانِي من فوق العرش إلى مركز العالم، فإن كان القولُ بمعراج محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الليلة الواحدة ممتنعاً في العقول، فإن القول بنزول جبريل - عليه السلام - من العرشِ إلى مكَّة في اللحظة الواحدة ممتنعاً، ولو حكمنا بهذا الامتناع، كان ذلك طعناً في نُبوَّة جميع الأنبياء - عليهم السلام - والقول بثبوتِ المعراج فرعٌ على تسليم جواز أصل النبوة؛ فيلزم القائل بامتناع حصول حركةٍ سريعةٍ إلى هذا الحدِّ، القول بامتناع جبريل - عليه السلام - من الانتقال في اللَّحْظَة من العَرْشِ إلى مكة، ولمَّا كان ذلك باطلاً، كان ما ذكروا أيضاً باطلاً. فإن قالوا: نحن لا نقول: إنَّ جبريل - عليه السلام - جسمٌ ينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ، وإنما نقول: المراد من نزول جبريل - عليه السلام - هو زوالُ الحجبِ الجسمانيةَ عن جسمِ محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حتَّى يظهر في روحه من المكاشفات والمشاهدات بعض ما كان حاضراً متجلِّياً في ذات جبريل - عليه السلام -. قلنا: تفسير الوحي بهذا الوجه هو قول الحكماء، أمَّا جمهور المسلمين فيقولون: إنَّ جبريل - عليه السلام - جسمٌ، وأنَّ نزوله عبارة عن انتقاله من عالم الأفلاك [إلى مكَّ’] ، وإذا كان كذلك، كان الإلزام المذكور قويًّا. رُوِيَ أنه - عليه السلام - لما ذكر قصَّة المعراجِ كذَّبه الكلُّ، وذهبوا إلى أبي بكرٍ، وقالوا له: «إنَّ صاحبك يقول كذا وكذا» ، فقال أبو بكرٍ: «إنْ كَانَ قد قال ذلك، فهو صادقٌ» ، ثم أتى إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فذكر الرسول له تلك التفاصيل، وكلَّما ذكر شيئاً، قال أبو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 198 بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «صَدَقْتَ» ، فلمَّا تمَّ الكلام، قال أبو بكرٍ: «أشْهَدُ أنَّك رسُولُ الله حقًّا» ، فقال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «وأشْهَدُ أنَّك صدِّيقٌ حقًّا» . وحاصل الكلام أنَّ أبا بكرٍ كأنه قال: لمَّا سلمتُ رسالته فقد صدَّقتهُ فيما هُو أعْظَمُ من هذا، فكَيْفَ أكذِّبه في هذا؟! . الرابع: أكثر أرباب الملل والنِّحل يُسلِّمُونَ وجود إبليس، ويسلّمون أنه هو الذي يلقي الوسوسة في قلوب بني آدم، فلما جوَّزوا مثل هذه الحركة السريعة في حقِّ إبليس ويسلِّمون، فلأن يسلِّموا جوازها في حقِّ أكابرِ الأنبياءِ أولى، وهذا الإلزام قوي على من يسلِّم أنَّ إبليس جسمٌ ينتقل من مكانٍ إلى مكانٍ. وأمَّا من يقول: «إنه من الأرواحِ الخبيثة الشِّرِّيرة، وأنَّه ليس بجسم، ولا جسمانيٍّ، فلا يرد عليهم هذا الإلزامُ إلا أن أكثر أرباب الملل والنِّحل يوافقون على أنه جسمٌ لطيفٌ ينتقل. فإن قالوا: إنَّ الملائكة والشياطين يصحُّ في حقِّهم مثل هذه الحركة السَّريعة، إلاَّ أنهم اجسامٌ لطيفةٌ، فلا يمتنع حصُولُ مثل هذه الحركة السريعة في ذواتها، أمَّا الإنسان فإنَّه جسم كثيف، وكيف يعقل حصول مثل هذه الحركة فيه؟ قلنا: نحن إنما استدللنا بأحوال الملائكة والشَّياطين على أن حصول حركةٍ منتهية في السُّرعة إلى هذا الحدِّ ممكن في نفس الأمر. فأمَّا بيانُ أنَّ هذه الحركة، لمَّا كانت ممكنة الوجود في نفسها، كانت أيضاً ممكنة الحصول في جسم البدن الإنسانيِّ، فذاك مقام آخر يأتي تقريره إن شاء الله تعالى. الخامس: أنه جاء في القرآن أنَّ الرياح كانت تسير بسليمان - صلوات الله عليه - إلى المواضع البعيدة في الأوقات القليلة؛ قال تعالى: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] بل نقول: الحسُّ يدل على أنَّ الرياح تنتقل عند شدَّة هبوبها من مكانٍ إلى مكانٍ في غاية البعد في اللَّحظة الواحدة، وذلك أيضاً يدلُّ على أنَّ مثل هذه الحركةِ السريعة في نفسها ممكنةٌ. السادس: أن القرآن يدلُّ على أنَّ الذي عنده علمٌ من الكتاب أحضر عرش بلقيس من أقصى اليمنِ إلى أقصى الشَّام في مقدار لمحِ البصر، قال تعالى: {قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] . وإذا كان ذلك ممكناً في حقِّ بعض النَّاس، علمنا أنه في نفسه ممكنٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 199 السابع: أن من الناس من يقول: إنَّ الحيوان إنما يُبْصِرُ المرئيَّات لأجل أن الشُّعَاع يخرج من عينيه ويتَّصِل بالمرئيَّات، فإذا فتحنا العين، ونظرنا إلى شخصٍ، رأيناه، فعلى قولِ هؤلاء انتقل شعاع العين من أبصارنا إلى الشخص في تلك اللحظة اللَّطيفة، وذلك يدلُّ على أنَّ الحركة الواقعة على هذا الحدِّ من السرعة من الممكنات لا من الممتنعات، فثبت بهذه الوجوه أن حصول الحركة المنتهية في السرعة إلى هذا الحدِّ أمرٌ ممكن الوجود في نفسه. المقدمة الثانية: في بيان أنَّ هذه الحركة، لمَّا كانت ممكنة الوجود في نفسها، وجب ألاَّ يمتنع حصولها في جسم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ لأنَّه ثبت بالدَّلائل القطعيَّة أن الأجسام متماثلةٌ في تمام ماهيَّتها، فلما صحَّ حصول مثل هذه الحركة في حقِّ بعض الأجسام، وجب إمكان حصولها في سائر الأجسام، وذلك يوجب القطع بأنَّ حصول مثل هذه الحركة في جسد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أمر ممكن الوجود في نفسه. وإذا ثبت هذا فنقول: ثبت بالدَّليل أنَّ خالق العالم قادرٌ على كلِّ الممكنات، وثبت أنَّ حصول الحركة البالغة في السرعة إلى هذا الحدِّ في جسد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ممكنٌ؛ فوجب كونه تعالى قادراً عليه، فلزم من مجموع هذه المقامات: أن القول بثبوت هذا المعراج أمرٌ ممكن الوجود في نفسه، أقصى ما في الباب أنَّه يبقى التعجُّب، إلاَّ أن التعجُّب غير مخصوص بهذا المقام، بل هو حاصلٌ في جميع المعجزات، فانقلابُ العصا ثعباناً يبلع سبعين ألف حبلٍ من الحبالِ والعصيِّ، ثم تعودُ في الحال عصاً صغيرة، كما كانت أمرٌ عجيبٌ، وخروج الناقة من الجبلِ الأصمِّ أمرٌ عجيبٌ، وإظلال الجبل في الهواء أمرٌ عجيبٌ، وكذا سائر المعجزات، فإن كان مجرَّد التعجب يوجبُ الإنكار والدفع، لزم الجزم بفساد القول بنبوة كل الأنبياء عليهم السلام، لكن القول بإثبات المعجزات فرع على تسليم أصل النبوة، وإن كان مجرد التعجب لا يوجب الإنكار والإبطال، فكذا هنا. فصل في ترجيح القول بالإسراء بالجسد والروح قال المحقِّقُون: إنه تعالى أسْرَى بروح محمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وجسده من مكَّة إلى المسجد الأقصى؛ ويدلُّ عليه القرآن والخبر: أما القرآن، فهذه الآية؛ وتقرير الدليل أن العبد اسم لمجموع الجسد والرُّوح، قال تعالى: {أَرَأَيْتَ الذي ينهى عَبْداً إِذَا صلى} [العلق: 9 - 10] وقال تعالى: {وَأَنَّهُ لَّمَا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ} [الجن: 19] . وأما الخبرُ، فما روى أنس بن مالكٍ: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «فُرِجَ عَن سَقْفِ بَيْتِي وأنَا بِمكَّة، فَنزَلَ جِبْريلُ - عَليْهِ السَّلامُ - فَفُرِجَ صَدْري، ثُمَّ غَسلَهُ بِمَاءِ زَمْزَم، ثُمَّ جَاءَ بِطسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتلِئٍ حِكْمةً وإيماناً، ففرَّغهُ فِي صَدْرِي، ثمَّ أطْبَقهُ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 200 وروى مالك بن صعصعة أنَّ نبيَّ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حدثهم عن ليلة الإسراء به قال: «بَيْنَا أنَا فِي الحطِيم - ورُبَّما قال:» في الحِجْرِ - بَيْنَ النَّائمِ واليَقْظانِ، فأتيتُ بِطسْتٍ من ذَهب مَمْلُوءةٍ حِكمةً وإيماناً، فشُقَّ من النَّحْرِ إلى مراق البَطْن واسْتُخرجَ قَلْبي، فغُسِلَ، ثُمَّ حُشِيَ، ثُمَّ أعِيدَ «. وفي رواية سعيد وهشام:» ثُمّ غُسلَ البَطْنُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ مُلِئَ إيماناً وحِكْمَةً، ثُمَّ أتِيتُ بالبُراقِ، وهو دَابَّةٌ أبْيضُ طَويلٌ فوقَ الحِمارِ، ودُونَ البَغْلِ، تقَعُ حَافِرهُ عند مُنْتهَى طَرْفهِ، فَرَكبْتهُ فانْطَلقْتُ مَعَ جِبْريل عليه السلام، حتَّى أتيت البيْتَ المقدس قال: فَربَطْتهُ في الحَلْقةِ الَّتِي تَرْبطُ بِهَا الأنْبِيَاءُ «قال:» ثُمَّ دخلتُ المسجدَ، فَصلَّيْتُ فِيهِ ركْعَتينِ، ثمَّ خَرجْتُ، فجَاءَنِي جِبريلُ بإنَاءٍ مِنْ خَمْر وإنَاءٍ من لبَنٍ، فأخَذْتُ اللَّبنَ، فقال جِبْريلُ: أخَذْتَ الفِطْرَة، فانْطلقَ بِي جِبْريلُ؛ حتَّى أَتَى السَّماء الدُّنْيَا. . «الحديث. واحتجَّ المنكرون بوجوهٍ عقليَّةٍ ونقليَّةٍ: أما العقلية: فأوَّلها: أن الحركة البالغة في السُّرعة إلى هذا الحدِّ غيرُ معقولةٍ. وثانيها: أنَّ صعود الجرمِ الثقيل إلى السَّموات غير معقول. وثالثها: أنَّ صعودهُ إلى السماوات يوجب انخراق الأفلاك، وذلك محالٌ، ولأنَّ هذا المعنى، لو صحَّ، لكان أعظم من سائر معجزاته، فكان يجب أن يظهر ذلك عند اجتماع النَّاس حتَّى يستدلُّوا به على صدقه في ادعاء النبوَّة، فأما أن يحصل ذلك في وقتٍ لا يراه أحدٌ، ولا يشاهده يكون عبثاً؛ وذلك لا يليق بالحكيم. وأمَّا النقل: فقوله تعالى: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} [الإسراء: 1] وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} [الإسراء: 60] وما تلك الرؤيا إلاَّ حديث المعراج، والرؤيا لما في المنام، وإنما كانت فتنة للنَّاس؛ لأنَّ كثيراً ممَّن آمن به، لمَّا سمع هذا الكلام كذَّبهُ وكفر، وكان حديث المعراج سبب فتنة الناس. وأيضاً: فحديث المعراج اشتمل على أشياء بعيدة. منها: ما رُوِيَ من شقِّ بطنه وتطهيره بماءِ زَمْزَم، وهو بعيد؛ لأن الذي يمكن غسله بالماءِ هو النَّجاسات العينيَّة، ولا تأثير لذلك في تطهير القلب عن العقائد الباطلة، والأخلاق الذَّميمة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 201 وأيضاً: فما رُوِيَ من ركوب البُراق - وهو بعيد - لأنَّه تعالى، لمَّا سيَّره من هذا العالم إلى عالم الأفلاك، فأيُّ حاجةٍ إلى البراق. وما رُوِيَ أنه تعالى أوجب خمسين صلاة، ثم إنَّ محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا زال يتردَّد بين يدي الله، وبين موسى عليه السلام. قال القاضي: وهذا يقتضي نسخ الحكم قبل حضور وقته، فإنه يوجبُ البداء، وذلك على الله محالٌ؛ فثبت أنَّ ذلك الحديث مشتملٌ على ما لا يدوز قبوله، فكان مردوداً. فالجواب عن الوجوه العقليَّة قد سبق. وأمَّا قوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} ، فهذا كلام مجمل، وفي شرحه وجوه: الأول: أن خيرات الجنَّة عظيمة، وأهوال النَّار شديدة، فلو أنه - عليه السلام - ما شاهدهما في الدنيا، ثمَّ شاهدهما في ابتداء يوم القيامة، فربَّما رغب في خيرات الجنة، أو خاف من أهوال النَّار، أمَّا لمَّا شاهدهما في الدنيا في ليلة المعراج، فحينئذ لا يعظم وقعهما في قلبه يوم القيامة، فلا يبقى مشغول القلب بهما، وحينئذ يتفرّغ للشَّفاعة. الثاني: لا يمتنع أن تكون مشاهدته ليلة المعراج للأنبياء والملائكة سبباً لتكامل مصلحته أو مصلحتهم. الثالث: لا يبعد أنه إذا صعد الفلك، وشاهد أحوال السماوات، والكرسيِّ، والعرش، صارت مشاهدة أحوال هذا العالم وأهواله حقيرة في عينه، فيحصل له زيادة قوَّةٍ في القلب، باعتبارها يكون شروعه في الدعوةِ إلى الله تعالى أكمل، وقلَّة التفاته إلى أعداء الله أقوى، يبين ذلك أنَّ من عاين قدرة الله في هذا الباب لا يكون حاله في قوَّة النَّفسِ وثبات القلب على احتمال المكاره في الجهاد وغيره إلا أضعاف ما بكون لمن لم يعاين، فقوله: {لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ} كالدَّلالة على أن فائدة ذلك الإسراء مختصَّة به، وعائدة إليه؛ على سبيل التعيين وأما قوله: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ} [الإسراء: 60] فيأتي الجواب عند تفسير تلك الآية في هذه السورة، ونبيِّن أن تلك الرؤيا رؤيا عيانٍ لا رؤيا منامٍ. وأما حديث المعراج، فلا اعتراض على الله - تعالى - في أفعاله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد. واعلم أن العروج إلى السَّماء، وإلى ما فوق العرش، فهذه الآية لا تدلُّ عليه، ومنهم من استدلَّ عليه بأوَّل سورة النجم، ومنهم من استدل عليه بقوله: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ} [الانشقاق: 19] وسيأتي تفسيرها في موضعه إن شاء الله تعالى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 202 فصل رُوِيَ لما رجع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أسري به فكان ب «ذِي طُوًى» قال: «يا جبريل: إنَّ قَوْمِي لا يُصدِّقُونَني، قال: يُصدِّقُكَ أبو بكرٍ، وهُو الصِّدِّيقُ » . «قال ابن عبَّاس وعائشة عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» لمَّا كَانتْ لَيْلة أسْرِي بِي، فأصْبَحْتُ بِمكَّةَ، فضِقْتُ بأمْرِي، وعَرفْتُ النَّاس مُكذِّبينَ «، فروي أنه - عليه السلام - قعد مُعتزِلاً حزيناً، فمرَّ به أبو جهلِ بنُ هِشام، فجَلسَ إليْهِ، فقال كالمُستهزئ: هَل اسْتفَدت مِنْ شَيْءٍ؟ قال: نَعَمْ، أسْرِي بِي اللَّيلةَ، قَالَ: إلى أيْنَ؟ قال: إلى بَيْتِ المقْدسِ، قال: ثُمَّ أصْبَحْتَ بين ظهْرَانيْنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قال أبُو جهْلٍ: يا مَعْشرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤيٍّ هَلُمَّ، فانفَضَّتْ إليه المجَالِسُ، فَجَاءُوا حتَّى جحَلسُوا إليْهمَا قَالَ: قحَدِّثْ قوْمَكَ ما حدَّثْتَنِي، قَالَ: نَعَمْ، إنِّي أسْرِي بِي اللَّيْلةَ، قَالُوا: إلى أيْنَ؟ قَالَ: إلى بَيْتِ المقْدسِ، قالُوا: ثُمَّ أصْبَحْتَ بيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قَالَ: نعم قَالَ: فمن بَيْن مُصفِّقٍ، ومِنْ بَينِ واضعِ يدَهِ على رَأسهِ مُتعجِّباً، وارْتَدَّ ناسٌ ممَّنْ كان آمَنَ بِهِ وصَدَّقهُ، وسَعَى رجُلٌ من المُشْركينَ إلى أبِي بَكْرٍ، فقَالَ: هَلْ لَكَ في صَاحِبكَ يَزْعمُ أنَّهُ أسْرِي به إلى بَيْتِ المَقْدسِ؟ قال: أو قَدْ قَالَ؟ قَالُوا: نَعمْ، قَالَ: لَئِن قَالَ ذلِكَ، لقَدْ صَدقَ، قَالُوا: وتُصدِّقهُ أنَّه ذهَبَ إلى بَيْتِ المَقدِسِ في لَيْلةٍ، وجَاءَ قَبْلَ أنْ يُصْبحَ؟ قَالَ: نَعَمْ إنِّي لأصَدِّقهُ بِمَا هُوَ أبْعَدُ من ذلِكَ، أصَدِّقهُ بِخبَرِ السَّماءِ بغُدْوةٍ أو رَوْحَةٍ، ولِذلِكَ سُمِّي أبُو بكرٍ» الصِّديق «، قال: وفِي القوْمِ مَنْ قَدْ أتَى المَسْجدَ الأقْصَى، فقَالُوا: هَلْ تَسْتَطيعُ أنْ تَنْعَتَهُ لَنَا؟ قَالَ: نَعمْ، قَالَ: فَذهَبْتُ أنْعَتُ وأنْعَتُ وأنْعَتُ، فمَا زِلتُ أنْعَتُ حتَّى التبسَ عليَّ، فَجيءَ بالمسْجِدِ، وأنَا أنْظرُ إليْهِ، فقَالَ قَوْمٌ: أمَّا النَّعْتُ فواللهِ لَقدْ أصَابَ، ثُمَّ قالوا: يا مُحمَّد، أخبرنا عن عيرنَا، فَهِيَ أهَمُّ إلَيْنَا، هَلْ لَقيتَ مِنْهَا شَيْئاً؟ قَالَ: نَعمْ، مَررْتُ عَلى عِير بَنِي فُلانٍ، وهِيَ بالرَّوحَاءِ، وقَدْ أضلُّوا بَعِيراً لهُم، وهُمْ فِي طَلبهِ، وفي رِحَالهِمْ قَدحٌ مِنْ ماءٍ، فَعطِشْتُ فأخَذتهُ فَشربْتهُ، ثُمَّ وضَعْتهُ، فَسَلوهُمْ: هَلْ وجَدُوا المَاء فِي القَدحِ حِينَ رَجعُوا إليْهِ، قالوا: هَذهِ آيةٌ. قَالَ: ومررْتُ بِعير بَنِي فُلانٍ وفُلانٍ وفُلانٍ رِاكِبانِ قَعُوداً لهُمَأ بِذي مَوضعٍ، فنَفرَ بعَيرهُمَا منِّي فَرمَى فُلاناً، فانْكَسرَتْ يَدهُ، فسَلُوهُمَا عَنْ ذلِكَ قالوا: وهَذهِ آيةٌ. قَالُوا: فأخْبِرْنَا عَنْ عِيرنَا، قَالَ: مَررْتُ بِهَا بالتَّنعِيم، قالوا: فمَا عِدَّتُهَا وأحْمالُهَا، وهَيْئَتُهَا، ومَنْ فِيهَا؟ فقال: نعم هَيْئَتُهَا كَذَا وكذَا، وفِيهَا فُلانٌ، يَقدمُهَا جملٌ أوْرقُ، عليهِ غِرارتَان مَخِيطتَانِ، تَطْلعُ عَليْكُم عِند طُلُوعِ الشَّمْسِ، قالوا: وهذه آيةٌ أخرى، ثمَّ خَرجُوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 203 يَشْتدُّونَ نحو الثَّنيَّةِ يقولون: لقَدْ قَصَّ مُحمَّد بَيْننا وبَيْنهُ، حتَّى أتَوْا كُدًى فجلسُوا عليْهَا، فجَعلُوا يَنْتظرُون مَتَى تَطلعُ الشَّمسُ فيُكَذِّبُونَهُ، إذ قال قَائلٌ منهم:» والله «هذه الشَّمسُ قد طَلعَتْ» وقال آخرون: والله، هذه الإبلُ قد طلعتْ، يَقْدمُها بعيرٌ أورق، وفيها فلانٌ كما قال لهُم فلمْ يُؤمِنُوا، وقالوا: «إنْ هذَا إلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ» . وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لَقَدْ رَأيْتُني فِي الحِجْرِ، وقُريْشٌ تَسْألُنِي عَنْ مَسْرايَ، فَسألَتْنِي عَنْ أشْياءَ مِنْ بَيتِ المقْدسِ، لَمْ أثْبِتْهَا فَكرِبْتُ كَرَباً ما كَربْتُ مِثْلهُ قَطُّ، قَالَ: فَرفَعهُ الله إليَّ أنْظرُ إليْهِ، مَا يَسْألُونني عَنْ شَيءٍْ إلاَّ أنْبَأتُهمْ بِهِ، وقَدْ رَأيْتُني في جَماعَةٍ مِنَ الأنْبِياءِ، فإذا مُوسَى قَائمٌ يُصلِّي، فَإذا رَجلٌ بثَوْبٍ جَعْدٌ، كأنَّهُ مِنْ رِجالِ شَنُوءة، وإذَا عيسَى قائمٌ يُصلِّي، أقْربُ النَّاس بِهِ شَبَهاً عُروَةُ بنُ مسْعُودٍ الثَّقفيُّ، وإذا إبْراهيمُ قَائمٌ يصلِّي، أشبهُ النَّاس به شبهاً صَاحِبكُمْ - يَعْنِي نَفسَهُ - فحَانَتِ الصَّلاة، فأممْتُهُمْ فلمَّا فَرغْتُ مِنَ الصَّلاة، قَال لِي قَائِلٌ: هَذَا مَالكٌ صَاحبُ النَّار، فَسلِّمْ عَليْهِ، فالتَفَتُّ إليْهِ فَبَدأنِي بالسَّلام» . فصل اختلفوا في الرؤية، فقال ابن عباس: رآهُ بفؤاده مرَّتين، وأبو هريرة أطلق الرؤية، وصرَّح ابن خزيمة وآخرون بالرُّؤية بالعينين، وهو اختيار أبي الحسن الأشعريِّ والنَّوويِّ في فتاويه، واستدلَّ من منع ذلك بما روى مسلم عن أبي ذرٍّ قال: قُلت: يا رسول الله، هَلْ رَأيْتَ ربَّك قال: «نُورٌ» وفي رواية: «رأيْتُ نُوراً» . وقالوا: لم يمكن رؤية الباقي بالعين الفانية، ولهذا قال تعالى لموسى فيما رُوِيَ في الكتب الإلهية: «يا مُوسَى، إنَّه لا يَرانِي حيٌّ إلاَّ مَاتَ ولا يابس إلا تَدَهْدَهَ» . قالت عائشة وجماعة: «إنَّ ذلك كان رُؤيا منامٍ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 204 وقال غيرهما من الصحابة: إنَّ ذلك كان ف ياليقظة، فإنَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان لا يرى رؤيا إلاَّ جَاءتْ مثلَ فلقِ الصُّبْحِ. واختلف العلماءُ في أنَّ الإسراء والمعراج، هل كانا في ليلةٍ واحدةٍ، وأو كل واحدٍ في ليلةٍ؟ فمنهم من زعم أن الإسراء في اليقظة، والمعراج في المنام، وذهب آخرون إلى أنَّ الإسراء كان مرتين، مرَّة بروحه مناماً، ومرة بروحه يقظة، وذهب آخرون إلى تعدُّد الإسراء في اليثظة، وقالوا: «إنَّها أربع إسراءات» لتعدُّد الروايات في الإسراء، واختلاف ما يذكر فيها، فبعضهم يذكر شيئاً لم يذكره الآخر، وبعضهم يذكر شيئاً ذكره الآخر، وهذا لا يدلُّ على التعدُّد؛ لأنَّ بعض الرواة قد يحذف بعض الخبر؛ للعلم به، أو ينساهُ، أو يذكر ما هو الأهمُّ عنده، أو يبسطُ تارة، فيسوقه كلَّه، وتارة يحدث المخاطب بما هو الأنفع له، ومن جعل كلَّ رواية إسراء على حدةٍ، فقد أبعد هذا؛ لأنَّ كل السياقات فيها السلام على الأنبياء، وفي كلِّ منها تعريفه بهم، وفي كلِّها تفرض عليه الصلوات، فكيف يمكنُ أن يدعى تعدد ذلك؛ وما عدد ذلك؟ هذا في غاية البعد والاستحالة، والله أعلم، ذكر هذا الفصل ابن كثير. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 205 قوله تعالى: {وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب} الآية. لما ذكر الله - تعالى - في الآية الأولى إكرامه محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه أسرى به، ذكر في هذه الآية إكرام موسى - عليه السلام - قبله بالكتاب الذي آتاهُ. وفي «آتيْنَا» ثلاثة أوجه: أحدها: أن تعطف هذه الجملة على الجملة السابقة من تنزيه الربِّ تبارك وتعالى، ولا يلزمُ في عطف الجمل مشاركة في خبر ولا غيره. الثاني: قال العسكريُّ: إنه معطوف على «أسْرَى» واستبعده أبو حيَّان. ووجه الاستبعادِ: أن المعطوف على الصِّلة صلةٌ، فيؤدِّي التقدير إلى صيرورة التركيب: سبحان الذي اسْرَى وآتينا، وهو في قوة: الذي آتينا موسى، فيعود الضمير على الموصول ضمير تكلُّمٍ من غير مسوِّغٍ لذلك. والثالث: أنه معطوف على ما في قوله «أسْرَى» من تقدير الخبر، كأنه قال: أسْرَيْنا بعبدنا، أرَيْناهُ آيَاتنَا وآتَيْنَا، وهو قريبٌ من تفسير المعنى لا الإعراب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 205 قوله: «وجَعلْنَأهُ» يجوز أن يعود ضميرُ النَّصب للكتاب، وهو الظاهر، وأن يعود لموسى - عليه السلام -. وقوله: لألبَنِي إسْرائِيلَ «يجوز تعلقه بنفس» هُدًى «كقوله: {يَهْدِي لِلْحَقِّ} [يونس: 35] ، وأن يتعلق لالجعل، أي: جعلناه لأجلهم، وأن يتعلق بمحذوف نعتاً ل» هُدًى «. قوله:» ألاَّ تَتَّخِذُوا «يجوز أن تكون» أنْ «ناصبة على حذف حرف العلَّة، أي: وجعلناه هدًى لئلاَّ تتخذوا. وقيل:» لا «مزيدة، والتقدير: كراهة أن تتخذوا، وأن تكون المفسرة بمعنى» أي «و» لا «ناهية، فالفعل منصوب على الأوَّل، مجزوم على الثاني، وأن تكون مزيدة عند بعضهم، والجملة التي بعدها معمولة لقولٍ مضمرٍ، أي: مقولاً لهم: لا تتخذوا، أو قلنا لهم: لا تتخذوا، قاله الفارسيُّ. وهذا ظاهر في قراءة الخطاب. وهذا مردودٌ بأنه ليس من مواضع زيادة طأنْ» . وقرأ أبو عمرو «ألاَّ يَتَّخِذُوا» بياء الغيبة؛ جرياً على قوله «لبَنِي إسْرائِيلَ» والباقون بالخطاب التفاتاً. ومعنى الآية: {وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ} ؛ لئلاَّ يتخذوا من دوني وكيلاً أي: ربًّا يكلون إليه أمورهم. و «أنْ» في قراءة من قرأ بالياء في «ألاَّ يَتَّخِذُوا» في موضع نصب على حذف الخافض، أي: لئلاَّ يتَّخذوا، ومن قرأ بالتاء فتحتمل «أنّ» ثلاثة أوجهٍ: أن تكون لا موضع لها، وهي التفسيرية. وأن تكون زائدة، ويكون الكلام خبراً بعد خبر؛ على إضمار القول. وأن تكون في موضع نصبٍ و «لا» زائدة، وحرف الجرِّ محذوفٌ مع «أن» قاله مكيٌّ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 206 قوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} . العامَّة على نصب «ذريَّة» وفيها أوجه: أحدها: انها منصوبةٌ على الاختصاص، وبه بدأ الزمخشري. الثاني: أنَّها منصوبة على البدل من «وكيلاً» ، أي: ألاَّ تتخذوا من دوني ذرية من حملنا. الثالث: أنها منصوبة على البدل من «مُوسَى» ذكره أبو البقاء، وفيه بعدٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 206 الرابع: أنها منصوبة على المفعول الأول ل «تتخذوا» والثاني هو «وكيلاً» فقدِّم، ويكون «وكيلاً» ممَّا وقع مفرد اللفظ، والمعنيُّ به جمعٌ، أي: لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلاً كقوله: {وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً} [آل عمران: 80] . الخامس: أنها منصوبة على النداء، أي: يا ذرية من حملنا، وهو قول مجاهد وخصَّ الواحديُّ هذا الوجه بقراءة الخطاب في «تتَّخذوا» وهو واضحٌ عليها، إلا أنه لا يلزم، وإن كان مكيٌّ قد منع منه؛ فإنه قال: «فأمَّا من قرأ» لا يتخذوا «بالياء ف» ذرية «مفعول لا غير، ويبعد النداء؛ لأن الياء للغيبة، والنداء للخطاب، فلا يجتمعان إلا على بعدٍ» وليس كما زعم؛ إذ يجوز أن ينادي الإنسان شخصاً، ويخبر عن آخر، فيقول: «يَا زيْدُ، يَنلِقُ بَكْرٌ، وفعَلتَ كذا» و «يَا زَيْدُ لِيفْعَلْ عَمرٌو كَيْتَ وكَيْتَ» . السادس: قال مكيٌّ: وقيل: نصب على إضمار «أعْني» . وقرأت فرقة ذُريَّةُ «بالرفع، وفيها وجهان: أحدهما: أنها خبر مبتدأ مضمرٍ تقديره: هم ذريَّة، ذكره أبو البقاء وليس بواضحٍ. والثاني: أنها بدل من واو» تتخذوا «قال ابن عطية:» ولا يجوز ذلك في القراءة بالتاء، لأنك لا تبدل من ضمير المخاطب، لو قلت: «ضَربْتُكَ زيداً» على البدل، لم يجزْ «. وردَّ عليه أبو حيَّان هذا الإطلاق، وقال:» ينبغي التفصيل، وهو إن كان بدل بعض أو اشتمال، جاز، وإن كان كلاًّ من كلٍّ، وأفاد الإحاطة؛ نحو: «جِئْتُم كَبِيرُكم وصَغِيركُمْ» جوَّزه الأخفش والكوفيون «. قال:» وهو الصحيح «. قال شهاب الدين: وتمثيل ابن عطيَّة بقوله» ضَربْتُكَ زيْداً «قد يدفع عنه هذا الرَّد. وقال مكيٌّ:» ويجوز الرفع في الكلام على قراءة من قرأ بالياء على البدل من المضمر في «يَتَّخذوا» ولا يحسن ذلك في قراءة التاء؛ لأنَّ المخاطب لا يبدل منه الغائب، ويجوز الخفض على البدل من بني إسرائيل «. قال شهاب الدِّين: أمَّا الرفع، فقد تقدَّم أنه قرئ به، وكأنه لم يطَّلعْ عليه، وأمَّا الجرُّ فلم يقرأ به فيما علمت، ويرد عليه في قوله» لأنَّ المخاطب لا يبدل منه الغائب «ما ورد على ابن عطيَّة، بل أولى؛ لأنه لم يذكر مثالاً يبيّن مراده، كما فعل ابن عطيَّة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 207 قوله: {مَنْ حَمَلْنَا} : يجوز أن تكون موصولة، وموصوفة. قال قتادة: النَّاسُ كلُّهم ذ رية نوح - عليه السلام - لأنَّه كان معه في السَّفينةِ ثلاث بنينَ: سَام وحَام ويَافث، والناس كلُّهم من ذريَّة أولئك، فكأن قوله: يا ذرية من حَملْنَا مَع نُوحٍ قام مقام {يَاأَيُّهَا الناس} [البقرة: 21] . وهذا يدلُّ على أنه ذهب إلى أنه منصوبٌ على النداء، وقد تقدَّم نقله عن مجاهدٍ أيضاً. ثم إنه تعالى أثنى على نوح، فقال: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} أي: كثير الشُّكرِ، روي أنه - عليه السلام - كان إذا أكل قال: «الحَمْدُ للهِ الَّذي أطْعَمنِي، ولو شَاءَ لأجَاعَنِي» ، وإذَا شَرِبَ، قَالَ «الحَمْدُ للهِ الَّذي أسْقانِي ولَوْ شَاءَ لأظْمَانِي» ، وإذا اكتسى، قال: «الحَمدُ للهِ الَّذي كَسانِي، ولو شَاءَ أعْرَانِي» ، وإذا احْتَذَى، قال: «الحَمْدُ للهِ الَّذي حَذانِي، ولوْ شَاءَ أحْفَانِي» ، وإذَا قَضَى حاجَتهُ، قال: «الحَمْدُ للهِ الَّذي أخْرجَ عنِّ الأذى في عَافيةٍ، ولوْ شَاءَ حَبَسهُ» . ورُوِيَ أنه كان إذا أراد الإفطار، عرض طعامهُ على من آمن به فإن وجده محتاجاً، آثرهُ به. فإن قيل: ما وجه ملائمةِ قوله: {إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} بما قبله؟ فالجواب: التقدير: كأن قيل: لا تَتَّخذُوا من دوني وكيلاً، ولا تشركوا بي؛ لأنَّ نوحاً - عليه السلام - كان عبداً شكوراً، وإنما يكون شكوراً، إذا كان موحِّداً لا يرى حصول شيءٍ من النعم إلاَّ من فضل الله، وأنتم ذرية قومه، فاقتدوا بنوحٍ، كما أن آباءكم اقتدوا به. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 208 لما ذكر إنعامه على بني إسرائيل بإنزالِ التوراة، وبأنه جعل التوراة هدًى لهم، بيَّن أنهم ما اهتدوا بهداه، بل وقعوا في الفساد، فقال: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب} والقضاء في اللغة عبارةٌ عن وضع الأشياء عن إحكام، ومنه قوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} [فصلت: 12] . وقول الشاعر: [الكامل] 3375 - وعَليْهِمَا مَسْرُودَتانِ قَضاهُمَا ..... ... ... ... ... ... ... . . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 208 ويكون أمراً؛ كقوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] . ويكون حكماً؛ كقوله: {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ} [يونس: 93] ويكون خلقاً؛ كقوله: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} ومعناه [في] الآية: أعْلَمنَاهُم، وأخْبرنَاهُم فيما آتيْناهُم مِنَ الكُتبِ أنه سَيُفسِدُونَ. وقال ابن عباس وقتادة: «وقَضَيْنَا عليهم» . و «إلى» بمعنى «على» والمراد بالكتاب اللَّوح المحفوظ. و «قَضَى» يتعدَّى بنفسه: {فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً} [الأحزاب: 37] {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل} [القصص: 29] ، وإنما تعدَّى هنا ب «إلى» لتضمُّنه معنى: أنْفَذْنَا وأوْحَينَا، أي: وأنفذنا إليهم بالقضاء المحتومِ. ومتعلق القضاء محذوفٌ، أي: بفسادهم. وقوله «لتُفْسِدُنَّ» جواب قسمٍ محذوف تقديره: والله لتُفسدُنَّ في الأرْضِ مَرَّتينِ وهذا القسم مؤكدٌ لمتعلق القضاء. ويجوز أن يكون «لتُفْسِدُنَّ» جواباً لقوله: «وقَضيْنَا» ، لأنه ضمِّن معنى القسم، ومنه قولهم: «قضَاءُ الله لأفعلنَّ» فيجرُون القضاء والنَّذرَ مجرى القسمِ، فيُتلقَّيان بما يُتَلقَّى به القسمُ. والعامة على توحيد «الكِتابِ» مراداً به الجنس، وابن جبيرٍ وأبو العالية «في الكُتُب» جمعاً، جَاءُوا به نصًّا في الجمع. وقرأ العامة بضمِّ التاء وكسر السِّين مضارع «أفْسَدَ» ، ومفعوله محذوف تقديره: لتُفْسِدنَّ الأديان، ويجوز ألا يقدَّر مفعولٌ، أي: لتُوْقعُنَّ الفساد. وقرأ ابن عبَّاس ونصرُ بن عليٍّ وجابر بن زيد «لتُفْسَدُنَّ» ببنائه للمفعولِ، أي: ليُفْسِدنَّكُمْ غَيرُكم: إمَّا من الإضلال أو من الغلبة. وقرأ عيسى بن عمر بفتحِ التَّاء وضمِّ السين، أي: فَسدتُمْ بأنفسكم. قوله: «مرَّتينِ» منصوب على المصدر، والعامل فيه «لتُفْسِدُنَّ» لأن التقدير: مرتين من الفساد. وقوله: «عُلُوًّا» العامة على ضمِّ العين واللام مصدر علا يعلو، وقرأ زيد بن عليٍّ « الجزء: 12 ¦ الصفحة: 209 عِلياً» بكسرهما والياء، والأصل الواو، وإنما أعِلَّ على اللغة القليلة؛ وذلك أن فُعولاً المصدر، الأكثر فيه التصحيح؛ نحو: عَتَا عُتُواً، والإعلال قليلٌ؛ نحو {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً} [مريم: 69] على أحد الوجهين؛ كما سيأتي، وإن كان جمعاً، فالكثير الإعلال، نحو: «جِثِيًّا» وشذَّ: بَهْوٌ وبُهُوٌّ، ونَجْوٌ ونُجُوٌّ، وقاسه الفراء. فصل معنى {وَقَضَيْنَآ} : أوحينا {إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض} ، أي بالمعاصي وخلاف أحكام التوراة. {فِي الأرض} يعني أرض الشَّام وبيت المقدس. {وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً} أي: يكون استعلاؤكم على النَّاس بغير الحقِّ استعلاءاً عظيماً؛ لأنَّه يقال لكلِّ متكبِّر متجبِّر: قد علا وتعظَّم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 210 قوله: {وَعْدُ} أي: موعود، فهو مصدر واقع موقع مفعول، وتركه الزمخشريُّ على حاله، لكن بحذف مضافٍ، أي: وعدُ عقاب أولاهما. وقيل: الوعدُ بمعنى الوعيد، وقيل: بمعنى الموعد الذي يراد به الوقت، فهذه أربعة أوجهٍ، والضمير عائدٌ على المرَّتينِ. قوله: «‘ِبَاداً لَنَا» العامة على «عِبَاد» بزنة فِعَال، وزيد بن عليٍّ والحسن «عَبِيداً» على فعيل، وتقدَّم الكلام على ذلك. وقوله: «فَجاسُوا» عطف على «بَعثْنَا» ، أي: ترتَّب على بعثنا إياهم هذا. وجُوس بفتح الجيم وضمها مصدر جاسَ يَجُوسُ، أي: فتَّش ونقَّب، قاله أبو عبيدٍ، وقال الفراء: «قَتلُوا» قال حسان: [الطويل] 3376 - ومِنَّا الَّذي لاقَى بِسيْفِ مُحمَّدٍ ... فَجَاسَ بِهِ الأعْداءُ عَرْضَ العَساكرِ وقال أبو زيد: «الجُوسُ والجَوْسُ والحَوْسُ والهَوْسُ طلب الطَّوف باللَّيْلِ» . وقال قطربٌ: «جَاسُوا: نَزلُوا» . وأنشد: [المتقارب] 3377 - فَجُسْنَا دِيَارهُمْ عَنْوَةً ... وأبْنَا بِسَاداتِهمْ مُوثَقِينَا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 210 وقيل: «جَاسُوا بمعنى دَاسُوا» ، وأنشد: [الرجز] 3378 - إلَيْكَ جُسْنَا اللَّيْلَ بالمَطِيِّ ... وقيل: الجَوْسُ: التردُّد. ق لالليث: الجَوْس، والجوسان: التردُّد وقيل: طلب الشيءِ باستقصاءٍ، ويقال: «حَاسُوا» بالحاءِ المهملة، وبها قرأ طلحةُ وأبو السَّمَّال، وقُرِئ «فجُوِّسُوا» بالجيم، بزنة نُكِّسُوا. و «خلال الدِّيارِ» العامة على «خِلال» وهو محتملٌ لوجهين: أحدهما: أنه جمعُ خللٍ؛ كجِبال في جبل، وجمال في جَمل. والثاني: أنه اسمٌ مفردٌ بمعنى وسطٍ، ويدل له قراءة الحسن «خَلَلَ الدِّيارِ» . قوله: «وكان وعْداً» ، أي: وكان الجوسُ، أو وكان وعْدُ أولاهما، أو وكان وعدُ عقابهم. قوله تعالى: {الكرة} : مفعول «رَدَدْنَا» وهي في الأصل مصدر كرَّ يكُرُّ، اي: رجع، ثم يعبَّر بها عن الدَّولةِ والقهر. قوله: «عَليْهِم» يجوز تعلُّقه ب «رَدَدْنَا» ، أو بنفس الكرَّة؛ لأنه يقال: كرَّ عليه، فتتعدَّى ب «عَلَى» ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ على أنها حالٌ من «الكرَّة» . قوله: «نَفِيراً» منصوبٌ على التمييز، وفيه أوجهٌ: أحدها: أنه فعيلٌ بمعنى فاعل، أي: أكثر نافراً، أي: من يَنْفِرُ معكم. الثاني: أنه جمع نفرٍ؛ نحو: عَبْدٍ وعبيدٍ، قاله الزجاج؛ وهم الجماعة الصَّائرُون إلى الأعداء. الثالث: أنه مصدر، أيك أكثر خروجاً إلى الغزو؛ قال الشاعر: [المتقارب] 3379 - فَأكْرِمْ بقَحْطانَ مِنْ والِدٍ ... وحِمْيَرَ اكْرِمْ بقَوْمٍ نَفِيرَا والمفضل عليه محذوفٌ، فقدره بعضهم: أكثر نفيراً من أعدائكم، وقدَّره الزمخشريُّ: أكثر نفيراً ممَّا كنتم. فصل في معنى الآية معنى الآية: {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا} يعني أوَّل المرَّتين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 211 قال قتادة: «إفسادهم في المرَّة الأولى ما خالفوا من أحكام التوراة وركبوا المحارم» . وقال ابن إسحاق: «إفسادهم في المرَّة الأولى قتل شعيا في الشجرة، وارتكابهم المعاصي» . {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} . قال قتادة: «يعني جالوت وجنوده، وهو الذي قتلهُ داود، فذاك هو عودُ الكرَّة» . وقال سعيد بن جبيرٍ: «سنحاريب من أرض نينوى» وقال ابن إسحاق: «بُخْتَنصَّر البابليّ وأصحابه» وهو الأظهر، فقتل منهم أربعين ألفاً ممَّن يقرأ التوراة، وذهب بالبقيَّة إلى أرضه، فبقوا هناك في الذلِّ إلى أن قيَّض الله ملكاً آخر من أهل بابل، واتَّفق أن تزوَّج بامرأةٍ من بني إسرائيل، فطلبت تلك المرأةُ من ذلك الملك أن يردَّ بني غسرائيل غلى بيت المقدس، ففعل، وبعد مدة قامت فيهم الأنبياء، ورجعوا إلى أحسن ما كانوا، وهو قوله: {ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ} . وقال آخرون: يعني بقوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} هو أنه تعالى ألقى الرُّعب من بني إسرائيل في قلوب المجوس، فلما كثرت المعاصي فيهم، أزال ذلك الرعب عن قلوب المجوس، فقصدوهم، وبالغوا في قتلهم، وإفنائهم، وإهلاكهم. واعلم أنه لا يتعلق كثير غرضٍ في معرفة الأقوام بأعيانهم، بل المقصود هو أنهم لمَّا أكثروا من المعاصي، سلَّط الله عليهم أقواماً قتلوهم وأفنوهم. فصل في الاحتجاج على صحة القضاء والقدر احتجُّوا بهذه الآية على صحَّة القضاء والقدر من وجهين: الأول: أنه تعالى قال: {وَقَضَيْنَآ إلى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الكتاب لَتُفْسِدُنَّ فِي الأرض مَرَّتَيْنِ} ، وهذا القضاءُ أقلُّ احتمالاته الحكم الجزم والخبر الحتم، فثبت أنَّه تعالى أخبر عنهم أنهم سيقدمون على الفساد والمعاصي خبراً وجزماً، حتماً، لا يقبل النَّسخ؛ لأنَّ القضاء معناه الحكم الجزم، ثم إنه الله تعالى أكَّد القضاء بقوله: {وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً} . فنقول: عدم وقوع ذلك الفساد منهم يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً، وانقلاب حكمه الجازم باطلاً، وانقلاب علمه الحقِّ جهلاً، وكل ذلك محال، فكان عدم إقدامهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 212 على ذلك الفساد محالاً، وكان إقدامهم عليه واجباً ضرورياً، لا يقبل النَّسخ والرفع، مع أنَّهم كلِّفُوا بتركه، ولعنوا على فعله؛ وذلك يدل على أن الله قد يأمر بالشيء ويصدُّ عنه وقد ينهى عن الشيء ويسعى فيه. الثاني: قوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} والمراد به الذين تسلطوا على بني إسرائيل بالقتل والنَّهب والأسر، فبيَّن تعالى أنَّه هو الذي بعثهم على بعثهم على بني إسرائيل، ولا شكَّ أن قتل بني إسرائيل ونهب أموالهم وأسر أولادهم كان مشتملاً على الظلم الكبير والمعاصي العظيمة. ثم إنه تعالى أضاف كلَّ ذلك إلى نفسه بنفسه بقوله: ثم {بَعَثْنَا} وذلك يدلُّ على أن الخير والشر والطاعة والمعصية من الله تعالى. أجاب الجبائيُّ عنه من وجهين: الأول: قوله: «بَعَثْنَا» هو أنَّه تعالى أمر أولئك القوم بغزو بني إسرائيل؛ لما ظهر فيهم من الفساد، فأضيف ذلك الفعل إلى الله من حيث الأمرُ. والثاني: أنَّ المراد: خَلَّيْنَا بينهم وبين بني إسرائيل، وما ألقينا الخوف من بني إسرائيل في قلوبهم، فالمراد من هذا البعث التخليةُ وعدم المنع. والجواب الأوَّل ضعيفٌ؛ لأن الذين قصدوا تخريب بيت المقدس، وإحراق التوراة، وقتل حفَّاظ التوراة لا يجوز أن يقال: إنهم فعلوا ذلك بأمر الله. والجواب الثاني أيضاً ضعيفٌ؛ لأنَّ البعث عبارةٌ عن الإرسال، والتخلية عبارةٌ عن عدم المنع، فالأول فعلٌ، والثاني تركٌ، فتفسير البعث بالتخلية تفسير لأحد الضدَّين بالآخر، وإنه لا يجوز، فثبت صحَّة ما ذكرناه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 213 قوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} الآية لما حكى تعالى عنهم بأنَّهم لما عصوا، سلَّط الله عليهم أقواماً قصدوهم بالقتل والنَّهب، فعند ذلك ظهر أنههم أطاعوا، فقال تعالى: إن أطاعوا، فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصرُّوا على المعصية، فقد أساءوا إلى أنفسهم، وقد تقرَّر في العقول أن الإحسان إلى النَّفْس حسنٌ مطلوبٌ، وأن الإساءة إليها قبيحةٌ، فلهذا المعنى قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} . قوله تعالى: {فَلَهَا} : في اللام أوجه: أحدها: أنها بمعنى «على» أي: فعليها كقوله: [الطويل] 3380 - ... ... ... ... ... ... . ... الجزء: 12 ¦ الصفحة: 213 فَخَرَّ صَرِيعاً لليَدَيْنِ وللْفَمِ أي: على اليدين. وحروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعضٍ؛ كقوله: {بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 5] أي: إليها. والثاني: أنها بمعنى «إلى» . قال الطبريُّ: «أي: فغليها ترجعُ الإساءة» . الثالث: أنها على بابها، وإنما أتى بها دون «على» للمقابلة في قوله: «لأنْفُسكُمْ» فأتى بها ازدواجاً. وهذه اللام يجوز أن تتعلق بفعل مقدرٍ كما تقدَّم في قول الطبريِّ، وإمَّا بمحذوف على أناه خبر لمبتدأ محذوف تقديره: فلها الإساءةُ لا لغيرها. قال الواحدي: «لا بُدَّ في الآية من إضمارٍ؛ والتقدير: وقلنا:» إنْ أحسَنْتُم، أحسنتم لأنفُسِكُمْ «والمعنى: إنْ أحْسَنْتُمْ بفعل الطاعات، فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن تفعلوا تلك الطاعة يفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات وإن أسأتم بفعل المحرَّمات، أسأتم إلى أنفسكم من حيث إنَّ شُؤم تلك المعاصي يفتحُ الله عليكم أبواب العقوبة. قال أهل المعاني:» هذه الآيةُ تدلُّ على أن رحمة الله تعالى غالبةٌ على غضبه؛ بدليل أنَّه لما حكى عنهم الإحسان، أعاده مرتين؛ فقال: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} ولما حكى عنهم الإساءة، اقتصر على ذكرها مرة واحدة، فقال: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} ولولا أن جانب الرحمة غالبٌ، وإلاَّ لما كان ذلك «. قوله:» فإذا جَاءَ وعدُ الآخِرةِ «، اي: المرَّة الآخرة، فحذفت» المرَّةُ «للدلالة عليها، وجواب الشرطِ محذوفٌ، تقديره: بَعَثْناهُم، ليَسًوءوا وُجُوهَكمْ، وإنما حسُن هذا الحذف لدلالة ما تقدَّم عليه من قوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} [الإسراء: 5] والمرةُ الآخرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى - عليهما الصلاة والسلام - وقصدهم قتل عيسى حين رفع. قال الواحديُّ:» فبعث الله عليهم بختنصَّر البابليَّ المجوسيَّ، فسبى بني إسرائيل، وقتل، وخرَّب بيت المقدس، وسلَّط عليهم الفرس والرُّوم: خردوش وطيطوس؛ حتَّى قتلوهم، وسبَوْهُم، ونَفوهُمْ عن ديارهم «. قال ابن الخطيب:» والتواريخُ تشهد أنَّ يختنصر كان قبل بعث عيسى وزكريَّا بسنين متطاولةٍ، ومعلوم أنَّ الملك الذي انتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملكٌ من الرُّوم، يقال له: قُسطَنْطِينُ «. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 214 قوله: {لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ} متعلق بالجواب المقدر. يقال: سَاءَهُ يَسُوءهُ، أي: أحْزَنَهُ وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه؛ لأنَّ آثار الأعراض الفسانيَّة الحاصلة في القلب إنَّما تظهر على الوجه، فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النُّضرة والإشراق والإسفار في الوجه، وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسَّواد في الوجه، فلهذا عزيت الإساءة غلى الوجوه في هذه الآية، ونظير هذا المعنى في القرآن كثيرٌ. وقرأ ابن عامر وحمزة وأبو بكر «لِيَسًوءَ» بالياء المفتوحة وهمزة مفتوحة آخراً. والفاعل: إما الله تعالى، وإمَّا الوعد، وإمَّا البعثُ، وإمَّا النَّفيرُ، والكسائي بنون العظمة، أي: لِنَسُوء نحنُ، وهو موافقٌ لما قبله من قوله {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ} و «وَدَدْنَا» و «أمْدَدْنَا» وما بعده من قوله: «عُدْنَا» و «جَعَلْنَا» وقرأ الباقون «لِيَسًوءُوا» مسنداً إلى ضمير الجمع العائد على العباد أو أولي البأسِ، أو على النَّفير؛ لأنه اسم جمعٍ، وهو موافقٌ لما بعده من قوله {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ} وفي عود الضمير على النفير نظر؛ لأن النفير المذكور من المخاطبين، فكيف يوصف ذلك النفير بأنه يسوءُ وجوههم؟ اللهم إلا أن يريد هذا القائلُ أنه عائدٌ على لفظه، دون معناه؛ من بابِ «عِندِي دِرْهمٌ ونِصْفهُ» . وقرأ أبيٌّ «لِنَسُوءَنْ» بلام الأمر ونون التوكيد الخفيفة ونون العظمة، وهذا جواب ل «إذا» ولكن على حذف الفاء، أي: فَلِنَسُوءَنْ، ودخلت لامُ الأمر على فعل المتكلِّم؛ كقوله تعالى {وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ} [العنكبوت: 12] . وقرأ ابنُ أبي طالبٍ «لَيسُوءَنَّ» و «لَنَسُوءَنَّ» بالياء والنون التي للعظمة، ونون التوكيد الشديدة، واللام التي للقسم، وفي مصحف أبيِّ «لِيَسُوءُ» بضم الهمزة من غير واوٍ، وهذه القراءة تشبه أن تكون على لغةِ من يجتزئُ عن الواو بالضمة؛ كقوله: [الوافر] 3381 - فَلوْ أنَّ الأطبَّا كَانُ حَوْلِي ..... ... ... ... ... ... يريد: «كَانُوا حَوْلِي» وقول الآخر: [الكامل] 3382 - ... ... ... ... ... ... ... . ..... . . إذَا مَا النَّاسُ جَاعُ وأجْدَبُوا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 215 يريد «جَاعُوا» ، فكذا هذه القراءة، أي: لِيَسُوءوا، كما في القراءةِ الشهيرة، فحذف الواو. وقرئ «لِيُسِيءَ» بضمِّ الياء وكسر السين وياء بعدها، أي: ليُقَبِّحَ الله وجوهكم، أو ليقبِّح الوعد، أو البعث. وفي مصحف أنس «وَجْهَكُمْ» بالإفراد؛ كقوله: [الوافر] 3383 - كُلُوا فِي بَعْضِ بَطْنِكمُ تَعِفُّوا ..... ... ... ... ... ... ... . . وكقوله: [الرجز] 3384 - ... ... ... ... ... ... ... ..... في حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وقَدْ شَجِينَا وكقوله: 3385 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... وأمَّا جِلدُهَا فَصَلِيبُ قوله: «وليَْخُلوا» من جعل الأولى لام «كَيْ» كانت هذه أيضاً لام «كَيْ» معطوفة عليها، عطف علة على أخرى، ومن جعلها لام أمرٍ كأبيٍّ، أو لام قسم؛ كعلي بن أبي طالب، فاللام في «لِيدْخُلوا» تحتمل وجهين: الأمر والتعليل، و «كَمَا دَخلُوهُ» نعتُ مصدرٍ محذوفٍ، أو حالٌ من ضميره، كما يقول سيبويه، أي: دخولاً كما دخلوه، و «أوَّل مرَّةٍ» ظرف زمانٍ، وتقدَّم الكلام عليها في براءة. والمراد بالمسجد بيت المقدس ونواحيه. قوله: {وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً} التتبير الهلاك، يقال: تبر الشيء تبراً وتباراً وتبرية إذا هلك، وتبَّرهُ: أهلكه، وكلُّ شيء جعلته مكسَّراً مفتَّتا، فقد تبَّرتهُ، ومنه قيل: تب رالزجاج، وتبر الذَّهب لمكسره، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ} [الأعراف: 139] ، وقوله: {وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً} [نوح: 28] وقوله: «ما عَلَوْا» يجوز في «ما» أن تكون مفعولاً بها، أي: ليهلكوا الذي عَلوْهُ، أي: غلبوا عليه وظفروا وقيل: لِيهْدمُوه: كقوله: [الطويل] 3386 - ومَا النَّاسُ إلاَّ عَامِلانِ، فعَاملٌ ... يُتَبِّرُ مَا يَبْنِي وآخَرُ رَافِعُ ويحتمل: «ويُتَبِّرُوا ما داموا غالبين» أي: ما دام سلطانهم جارياً على بني إسرائيل، وعلى هذا تكون ظرفية، أي: مدَّة استعلائهم، وهذا يحوجُ إلى حذف مفعولٍ، اللهم إلا أنْ يكون القصدُ مجردَ ذِكْرِ الفعل؛ نحو: هو يعطي ويمنع. وقوله: «تَتْبيراً» ذكر للمصدر على معنى تحقيق الخبر، وإزالة الشكِّ في صدقه كما في قوله تعالى: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] أي حقًّا، والمعنى ليُدمِّرُوا ويخرّبوا ما غلبوا عليه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 216 ثم قال: {عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ} والمعنى: لعلَّ ربَّكم أن يرحمكم، ويعفُوَ عَنْكُم يا بني إسرائيل بعد انتقامهِ منكم بردِّ الدَّولة إليكم. {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} أي: إن عدتم إلى المعصية، عدنا إلى العقوبة، قال القفال: «وإنَّما حملنا هذه الآية على عذاب الدنيا؛ لقوله تعالى في سورة الأعراف خبراً عن بني إسرائيل: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب} [الأعراف: 167] ثم قال: {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا} أي وإنهم قد عادوا إلى فعل ما لا ينبغي، وهو التكذيب بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وكتمان ما ورد في التوراة والإنجيل، فعاد الله عليهم بالتعذيب على أيدي العرب، فجرى على بني النضير، وقريظة وبني قينقاع، ويهود خيبر ما جرى من القتل والجلاء، ثم الباقون منهم مقهورون بالجزية، لا ملك لهم ولا سلطان. ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً} . يجوز أن تكون» حصيراً «بمعنى فاعل، أي: حاصرة لهم، محيطة بهم، وعلى هذا: فكان ينبغي أن تؤنَّث بالتاء كجبيرة. وأجيب: بأنها على النَّسب، أي ذات حصرٍ؛ كقوله: {السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ} [المزمل: 18] ، أي ذات انفطارٍ، وقيل: الحصيرُ: الحبسُ، قال لبيد: [الكامل] 3387 - ومَقامَةٍ غُلْبٍ الرِّجالِ كَأنَّهم ... جِنٌّ لَدى بَابِ الحَصِير قِيَام وقال أبو البقاء:» لم يؤنثه؛ لأنَّ فعيلاً بمعنى فاعلٍ «وهذا منه سهوٌ؛ لأنه يؤدِّي إلى أن تكون الصفةُ التي على فعيلٍ، إذا كانت بمعنى فاعل، جاز حذف التاء منها، وليس كذلك لما تقدَّم من أن فعيلاً بمعنى فاعل يلزمُ تأنيثه، وبمعنى مفعول يجب تذكيره، وما جاء شاذًّا من النوعين يؤوَّلُ. وقيل: إنما لم يؤنَّث لأنّ تأنيث «جهنَّم» مجازيٌّ. وقيل: لأنها في معنى السِّجْن والمحبس، وقيل: لأنها بمعنى فراشٍ. ويجوز أن تكون بمعنى مفعول أي: جعلناها موضعاً محصوراً لهم، والمعنى: أنَّ عذاب الدنيا، وإن كان شديداً إلا أنه قد يتفلَّت بعض النَّاس عنه، والذي يقع فيه يتخلَّص عنه إمَّا بالموت، أو بطريق آخر، وأما عذاب الآخرة، فإنَّه يكون محيطاً به، لا رجاء في الخلاص منه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 217 قوله تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} الآية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 217 لما شرح فعله في حقِّ عباده المخلصين، وهو الإسراء برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وإيتاء التَّوراة لموسى - عليه السلام، وما فعله في حقِّ العصاة، وهو تسليطُ البلاء عليهم - كان ذلك تنبيهاً على أنَّ طاعة الله توجب كلَّ خيرٍ، ومعصيته توجب كلَّ بلية، ولا جرم أثنى على القرآن، فقال تعالى: {إِنَّ هذا القرآن يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} . قوله تعالى: {لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} : نعتٌ لموصوفٍ محذوفٍ أي: للحالةِ، أو للملَّة، أو للطريقة قال الزمخشريُّ: «وأيّتما قدَّرتَ؛ لمْ تَجِدْ مَعَ الإثباتِ ذَوْقَ البلاغة الذي تَجدهُ مع الحذفِ؛ لِما في إبهام الموصوف بحذفه من فخامةٍ تفقد مع إيضاحه» . قال ابن الخطيب: وقولنا: هذا الشَّيء أقومُ من ذاك إنما يصح في شيئين اشتركا في معنى الاستقامة، ثم كان حصول معنى الاستقامة في إحدى الصورتين، أكثر وأكمل من حصوله في الصورة الثانية، وهذا هنا محال؛ فكان وصفه بأنه أقوم مجازاً، إلا أن لفظ «أفْعَل» قد جاء بمعنى الفاعل، كقولنا: «اللهُ أكْبَرُ» ، أو يحمل هذا اللفظ على الظاهر المتعارف، ومثل هذه الكناية كثيرة الاستعمال في القرآن؛ كقوله تعالى: {ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [المؤمنون: 96] أي بالخصلة التي هي أحسنُ. ومعنى «هِيَ أقْومُ» أي: إلى الطريقة التي هي أصوبُ. وقيل: إلى الكلمة التي هي أعدلُ وهي شهادة أن لا إله إلا الله {وَيُبَشِّرُ} - يعني القرآن - {المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ} أي: بأنَّ لهم {أَجْراً كَبِيراً} وهو الجنَّة. قوله تعالى: {وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} : فيه وجهان: أحدهما: أن يكون عطفاً على «أنَّ» الأولى، أي: يُبشِّرُ المؤمنين بشيئين: بأجرٍ كبيرٍ، وبتعذيب أعدائهم، ولا شكَّ أنَّ ما يصيب عدوَّك سرورٌ لك، وقال الزمخشري: «ويحتمل أن يكون المراد: ونخبر بأنَّ الَّذينَ» . قال أبو حيّان: «فلا يكون إذ ذاك داخلاً تحت البشارةِ» . قال شهابُ الدِّين: قول الزمخشريُّ يحتمل أمرين: أحدهما: أن يكون قوله «ويحتمل أن يكون المراد: ويخبر بأنَّ» من باب الحذف، أي: حذف «ويُخْبِرُ» وأبقى معموله، وعلى هـ1ذا فيكون «أنَّ الَّذينَ» غير داخلٍ في حيِّز البشارة بلا شكٍّ، ويحتمل أن يكون قصده: أنه يريد بالبشارة مجرَّد الإخبار، سواءٌ كان بخيرٍ أم بشرٍّ، وهل هو فيهما حقيقةٌ أو في أحدهما، وحينئذ يكون جمعاً بين الحقيقة والمجاز؛ أو استعمالاً للمشترك في معنييه؛ وفي المسألتين خلافٌ مشهورٌ، وعلى هذا: فلا يكون قوله «وأنَّ الَّذينَ لا يؤمِنُونَ» غير داخلٍ في حيِّز البشارةِ، إلاَّ أنَّ الظاهر من حالِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 218 الزمخشريِّ: أنَّه لا يجيزُ الجمع بين الحقيقةِ والمجازِ، ولا استعمال المشتركِ في معنييه. فصل اعلم أن العمل الصَّالحَ، كما يوجب لفاعله النَّفع الأكمل الأعظم، كذلك تركه يوجب الضَّرر الأكمل الأعظم، فإن قيل: كيف يليقُ لفظ البشارة بالعذاب؟ . فالجواب: هذا مذكورٌ على سبيل التهكُّم، أو من باب إطلاق أحد الضِّدَّين على الآخر؛ كقوله تعالى: {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} [الشورى: 40] وتقدَّم الكلام عليه قبل الفصل، فإن قيل: هذه الآية [واردة] في شرح أحوالِ اليهود، وهم ما كانوا ينكرون الإيمان بالآخرة، فكيف يليق بهذا الموضع قوله تعالى: {وأَنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} ؟ . فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنَّ أكثر اليهود ينكرُون الثواب والعقاب الجسمانيين. والثاني: أن بعضهم قال: {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ} [آل عمران: 24] فهم بهذا القول صاروا كالمنكرينَ للآخرةِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 219 في الباءين ثلاثة أوجه: أحدها: أنهما متعلقتان بالدُّعاء على بابهما؛ نحو: «دَعوْتُ بكذا» والمعنى: أنَّ الإنسان في حال ضجره قد يدعو بالشَّر، ويلحُّ فيه، كما يدعو بالخير ويلحُّ فيه. والثاني: أنهما بمعنى «في» بمعنى أنَّ الإنسان إذا أصابه ضرٌّ، دعا وألحَّ في الدعاءِ، واستعجل الفرجَ؛ مثل الدعاءِ الذي كان يحبُّ أن يدعوهُ في حالة الخير، وعلى هذا: فالمدعوُّ به ليس الشرَّ ولا الخير، وهو بعيدٌ. الثالث: أن تكون للسَّبب، ذكره أبو البقاء، والمعنى لا يساعده، والمصدر مضافٌ لفاعله. وحذفت الواو ولفظها الاستقبال بللاَّم الساكنة؛ كقوله تعالى: {سَنَدْعُ الزبانية} [العلق: 18] وحذف في الخط أيضاً، وهي غير محذوفة في المعنى. فصل في نظم الآية وجه النَّظم: أن الإنسان بعد أن أنزل الله - تعالى - عليه هذا القرآن، وخصه بهذه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 219 النعم العظيمة، قد يعدل على التمسُّك بشرائعه، والرُّجوع إلى بيانه، ويقدم علىما لا فائدة فيه، فقال: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير} . واختلفوا في المراد من دعاء الإنسان بالشرِّ، فقيل: المراد منه النضر بن الحارث، حيث قال: اللهُم، إن كان هذا هو الحقَّ من عندكَ. فأجاب الله دعاءه، وضُربَتْ رَقَبتهُ، وكان بعضهم يقول: ائْتِنَا بعذابِ الله، وآخرون يقولون: مَتَى هذا الوعد إن كنتم صَادقِينَ، وإنَّما فعلوا ذلك؛ للجَهْلِ، ولاعتقادِ أن محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - كاذبٌ فيما يقول. وقيل: المراد أنَّ الإنسان في وقت الضجر يلعنُ نفسه، وأهله وولده، وماله؛ كدعائه ربَّه أن يهب له النعمة والعافية، ولو استجاب الله دعاءه على نفسه في الشرِّ، كما يستجيب له في الخير، لهلك، ولكنَّ الله لا يستجيبُ؛ لفضله. رُوِيَ أن النبي المصطفى - صلوات الله وسلامه عليه - «دفع إلى سودةَ بنت زَمْعةٍ أسيراً، فاقبل يَئِنُّ باللَّيْلِ، فقالت له: مَا لَكَ تَئِنُّ؟ فَشَكَى ألم القدِّ، فأرْخَتْ لهُ مِنْ كتافه، فلمَّا نَامَتْ أخرجَ يدهُ، وهَربَ فلمَّا أصْبحَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا بِهِ، فأعْلمَ بِشأنهِ، فقال صلوات الله وسلامه عليه: اللَّهُمَّ اقطعْ يَدهَا، فَرفَعتْ سَوْدَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - يَدهَا تتَوقَّعُ أن يَقْطعَ الله يَدهَا، فقَال النَّبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنِّي سَألتُ الله أنْ يَجْعلَ دُعائِي على مَنْ لا يَسْتحقُّ عَذاباً مِنْ أهْلِي رَحْمةً؛ لأنِّي بَشرٌ أغْضَبُ كَمَا تَغْضَبُونَ» . وقيل: يحتمل أن يكون المرادُ أنَّ الإنسان قد يبالغُ في الدُّعاء طلباً للشَّيء، يعتقد أنَّ خيره فيه، مع أنَّ ذلك الشيء منبع لشرِّه وضرره، وهو يبالغ في طلبه؛ لجهله بحال ذلك الشَّيء، وإنما يقدم على مثل هذا العمل؛ لكونه عجولاً مُغْتَرًّا بظواهر الأمور غير متفحِّصٍ عن حقائقها، وأسرارها. ثم قال تعالى: {وَكَانَ الإنسان عَجُولاً} . وقيل: المراد الجنس؛ لأنَّ أحداً من النَّاس لا يعرى عن عجلةٍ، ولو تركها، لكان تركها أصلح له في الدِّين والدُّنيا، ومعنى القولين واحدٌ؛ لأنَّا إذا حملنا الإنسان على آدم - صلوات الله وسلامه عليه - فهو أبُو البشر وأصلهم، فإذا وصف بالعجلة، كانت الصفة لازمةً لأولاده. وقال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «عَجُولاً» ضَجُوراً لا صبر له على سرَّاء ولا ضرَّاء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 220 قوله: {وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ} الآية. في تقرير النظم وجوهٌ: أحدها: أنه تعالى لمَّا بيَّن في الآية المتقدمة ما أوصل إلى الخلق من نعم الدِّين، وهو القرآن، أتبعه بما أوصله إليهم من نعم الدُّنيَا، فقال عزَّ وجلَّ: {وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ} فكما أنَّ القرآن ممتزجٌ من المحكم والمتشابه، فكذلك الزَّمان مشتمل على الليل والنهار، فالمحكم كالنهار، والمتشابه كاللَّيل، وكما أن المقصود من التكليف لا يتمُّ إلاَّ بذكر المحكم والمتشابه، فكذلك الوقت والزَّمان لا يكمل الانتفاع به إلاَّ باللَّيل والنَّهار. وثانيها: أنه تعالى لما بيَّن أن هذا القرآن يهدي للَّتي هي أقومُ، وليس الأقومُ إلاَّ ذكر الدَّلائلِ الدَّالة على التَّوحيد والنبوَّة، لا جرم أردفهُ بذكر دلائلِ التَّوحيد، وهو عجائبُ العالم العلويِّ والسفليِّ. وثالثها: أنه لما وصف الإنسان بكونه عجولاً، أي: متنقلاً من صفةٍ إلى صفةٍ، ومن حالةٍ غلى حالةٍ بيَّن أن أحوال كلِّ هذا الالم كذلك، وهو الانتقال من النُّورِ غلى الظلمة وبالضِّد، وانتقال نور القمر من الزيادة إلى النقصانِ. قوله تعالى: {آيَتَيْنِ} : يجوز أن يكون هو المفعول الأوَّل، و «اللَّيْلَ والنَّهارَ» ظرفان في موضع الثاني، قدِّما على الأول، والتقدير: وجعلنا آيتين في اللَّيل والنَّهار، والمراد بالآيتين: إمَّا الشمسُ والقمر، وإمَّا تكوير هذا على هذا، وهذا على هذا، ويجوز أن يكون «آيَتَيْن» هو الثاني، و «اللَّيل والنَّهار» هما الأول، ثم فيه احتمالان: أحدهما: أنه على حذف مضافٍ: إمَّا من الأول، أي: نيِّري الليل والنهار، وهما القمرُ والشمس، وإمَّا من الثاني، أي: ذوي آيتين. والثاني: أنه لا حذف، وأنهما علامتان في أنفسهما، لهما دلالة على شيء آخر. قال أبو البقاء: طفلذلك أضاف في موضعٍ، ووصف في آخر «يعني أنه أضاف الآية إليهما في قوله» آيَة اللَّيلِ «و» آيَة النَّهارِ «ووصفهما في موضع آخر بأنَّهما آيتان؛ لقوله: {وَجَعَلْنَا الليل والنهار آيَتَيْنِ} هذا كلُّه إذا جعلنا الجعل تصييراً متعدِّياً لاثنين، فإن جعلناه بمعنى» خَلَقْنَا «كان» آيَتَيْنِ «حالاً، وتكون حالاً مقدَّرة. واستشكل بعضهم أن يكون» جَعلَ «بمعنى صيَّر، قال:» لأنَّه يَستَدْعِي أن يكون الليلُ والنهارُ موجودين على حالةٍ، ثم انتقل عنها إلى أخرى «. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 221 فصل في المقصود ب:» آيتين « ومعنى» آيَتَيْنِ «أي: علامتين دالَّتيْنِ على وجودنا، ووحدانيتنا، وقُدْرتِنَا. قيل: المراد من الآيتين نفس الليل والنهار، أي أنَّه تعالى جعلهما دليلين للخلق على مصالح الدِّين والدنيا. أمَّا في الدِّين فلأنَّ كلَّ واحد منهما مضادٌّ للآخر، مغاير له، مع كونهما متعاقبين على الدَّوام من أقوى الدلائل على أنهما غير موجودتين بذاتيهما، بل لا بُدَّ لهما من فاعل يدبِّرهما، ويقدِّرهما بالمقادير المخصوصة. وأما في الدنيا؛ فلأنَّ مصالح الدنيا لا تتمُّ إلا باللَّيل والنَّهار، فلولا الليل، لما حصل السُّكون والرَّاحة، ولولا النهار، لما حصل الكسب والتَّصرُّف. ثم قال تعالى: {فَمَحَوْنَآ آيَةَ الليل} وعلى هذا تكون الإضافة في آية الليل والنهار للتبيين، والتقدير: فمحونا الآية الَّتي هي الليل، وجعلنا الآية التي هي النهارُ مبصرة، ونظيره قولنا: نفس الشيء وذاته، فكذلك آيةُ الليل هي نفس الليل، ومنه يقال: «دَخلتُ بلادَ خُراسَان» أي: دخلت البلاد الَّتي هي خُراسَانَ، فكذا ها هنا. وقيل: على حذف مضاف، أي: وجعلنا نيِّري اللَّيل والنهار، وقد تقدَّم. وفي تفسير «المَحْوِ» قولان: الأول: ما يظهر في القمر من الزيادة والنُّقصان، فيبدو في أوًّل الأمْرِ في صورة الهلالِ، ثمَّ يتزايدُ نورهُ، حتَّى يصير بدراً كاملاً، ثم ينقص قليلاً قليلاً، وذلك هو المحوُ، إلى أن يعود إلى المحاقِ. والثاني: أنَّ نور القمر هو الكلفُ الذي يظهر في وجهه، يروى أن الشمس والقمر كانا سواءً في النُّور. قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: «جَعلَ الله تعالى نُور الشَّمس سبعينَ جُزْءاً، ونُورَ القمر سبْعينَ جُزْءاً، فمحا من نور القمر تسعة وستِّين جزءاً، فجعلها مع نُور الشمس، فأرسلَ الله تعالى جبريل - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - فأمرَّ جناحه على وجه القمر، فطمس عنه الضَّوء» . ومعنى «المَحْوِ» في اللغة: إذهاب الأثرِ، تقول: مَحوْتهُ أمْحوهُ، وانْمَحَى، وامْتَحَى: إذا ذَهبَ أثره. وحمل المَحْوِ ها هنا على الوجه الأوَّل أولى؛ لأنَّ اللام في قوله: {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} متعلق بالوجه الأول، وهو محوُ آية الليل، وجعل آية الجزء: 12 ¦ الصفحة: 222 النهار مبصرة؛ لأنَّ بسبب اختلاف أحوال نور القمر تعرف السِّنون والحساب، ويبتغى فضل الله تعالى. وأهلُ التجارب بيَّنوا أنَّ اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه، مثل أحوال البحار ف يالمدِّ والجزرِ، ومثل أحوال التجربات على ما يذكره الأطباء في ك تبهم، وبسبب زيادة نُور القمر ونقصانه تحصل الشهور، وبسبب معاودة الشُّهور تحصل السِّنون العربية المبنية على رؤية الهلالِ. ويمكن أيضاً إذا حملنا المحو على الكلف أن يكون برهاناً قاهراً على صحَّة قول المسلمين في المبدأ والمعاد؛ لن جرم القمر بسيطٌ عند الفلاسفة، فحصول الأحوال المختلفة الحاصلة بسبب المحو يدلُّ على أنه ليس بسبب الطبيعة، بل لأجل أن الفاعل المختار خصَّص بعض أجزائه بالنُّور الضعيف وبعض اجزائه بالنور القوي، وذلك يدل على أن مدبِّر العالم فاعلٌ مختارٌ بالذَّات، واعتذر الفلاسفة عنه بأنَّه ارتكز في وجه القمر أجسام قليلة الضوء مثل ارتكاز وجه الكواكب في أجرام الأفلاك، فلمَّا كانت تلك الأجرام أقلَّ ضوءاً من جرم القمر، لا جرم شوهدت تلك الأجرام في وجه القمر، كالكلف في وجه الإنسان، وهذا ليس بشيء؛ لأن جرم القمر لما كان متشابه الأجزاء، فحصول تلك الأجرام الظلمانيَّة في بعض أجزاء القمر دون سائر الأجزاء ليس إلاَّ لمخصِّصٍ حكيم، وكذلك القولُ في أحوال الكواكب؛ لأنَّ الفلك جرمٌ بسيطٌ متشابه الأجزاء، فلم يكَن حصول جرم الكواكب ف يبعض جوانبه أولى من حصوله في سائر الجوانب، وذلك يدلُّ على أنَّ اختصاص ذلك الكوكب بذلك الموضع المعيَّن من الفلك لأجلِ تخصيص العالم الفاعل المختار. روي أن ابن الكواء سأل عليًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن السَّواد الذي في القمر، فقال: هو أثَرُ المَحْوِ. قوله: «مُبْصِرةً» فيه أوجه: أحدها: أنه من الإسناد المجازيِّ؛ لأنَّ الإبصار فيها لأهلها؛ كقوله: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً} [الإسراء: 59] لمَّا كانت سبباً للإبصار؛ لأن الإضاءة سببٌ لحصول الإبصار، فأطلق الإبصار على الإضاءة إطلاقاً لاسم المسبِّب على السَّبب. وقيل: «مُبْصِرة» : مضيئة، وقال أبو عبيدة: قد أبصر النهار، إذا صار الناس يبصرون فيه، فهو من باب أفعل، والمراد غير من أسند الفعل إليه؛ كقولهم: «أضْعفَ الرَّجلُ» أي: ضَعُفتْ ماشيته، و «أجْبَنَ الرَّجلُ» إذا كان أهله جبناء، فالمعنى أنَّ أهلها بصراءُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 223 وقرأ علي بن الحسين وقتادة «مَبْصَرة» بفتح الميم والصاد، وهو مصدر أقيم مقام الاسمِ، وكثر هذا في صفات الأمكنة نحو: «مَذْأبَة» . ثم قال - عَزَّ وَجَلَّ -: {لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} أي لتبصروا كيف تتصرَّفون في أعمالكم، {وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} أي لو ترك الله الشمس والقمر كما خلقهما، لم يعرف الليل من النهار؛ ولم يدر الصائم متى يفطر، ولم يدر وقت الحجِّ، ولا وقت حلول الآجالِ، ولا وقت السكون والرَّاحة. واعلم أن الحساب مبنيٌّ على أربع مراتب: الساعات، والأيام، والشُّهور، والسِّنون، فالعدد للسنين، والحساب لما دون السنين، وهي الشُّهور، والأيَّام، والسَّاعات، وبعد هذه المراتب الأربعة لا يحصل إلاَّ التكرار؛ كما أنَّهم رتَّبوا العدد على أربع مراتب: الآحاد، والعشرات، والمئات، والألوف، وليس بعدها إلا التكرار. قوله: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ} فيه وجهان: أحدهما: أنه منصوبٌ على الاشتغال، ورجَّح نصبه؛ لتقدم جملة فعلية؛ وكذلك «وكُلَّ إنسانٍ ألْزمْنَاه» . والثاني - وهو بعيد: - أنه منصوب نسقاً على «الحِسابَ» ، أي: لتعلموا كل شيء أيضاً، ويكون «فصَّلناهُ» على هذا صفة. والمعنى: أنه تعالى لمَّا ذكر أحوال آيتي اللَّيل والنَّهار، وهما من وجهٍ: دليلان قاطعان على التَّوحيد، ومن وجهٍ آخر: نعمتان عظيمتان من الله على الخلق، فلما شرح الله تعالى حالهما، وفصَّل ما فيهما من وجوه الدلالة على الخالق؛ ومن وجوه النِّعم العظيمة على الخلق، كان ذلك تفصيلاً نافعاً وبياناً كاملاً، فلا جرم قال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ} أي: فصَّلنا لكم كلَّ ما تحتاجون إليه في مصالح دينكم ودنياكم، فهو كقوله: {مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] وإنما ذكر المصدر، وهو قوله: «تَفْصِيلاً» لأجل تأكيد الكلامِ وتقريره، فكأنه قال: «وفَصَّلنَاهُ حقًّا على الوجهِ الذي لا مزيد عليه» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 224 قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} الآية. في كيفية النَّظم وجوهٌ: أولها: أنه تعالى لمَّا قال: {وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً} [الإسراء: 12] كان معناه أن ما يحتاج إليه من شرح دلائلِ التَّوحيد، والنُّبوَّة، والمعاد، فقد صار مذكوراً وأن كلَّ ما يحتاج إليه من شرح الجزء: 12 ¦ الصفحة: 224 أحوال الوعد والوعيد، والترغيب والترهيب، فقد صار مذكوراً، وإذا كان الأمر كذلك، فقد أزيحت الأعذار، وأزيلت العلل، فلا جرم: كل من ورد عرصة القيامة، ألزمناه طائره في عنقه، ونقول له: {اقرأ كَتَابَكَ كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً} . وثانيها: أنه تعالى، لمَّا بيَّن أنه أوصل إلى الخلق أصناف الأشياء النافعة لهم في الدِّين والدنيا مثل آيتي الليل والنهار، وغيرهما، كان منعماً عليهم بجميع وجوه النِّعم، وذلك يقتضي وجوب اشتغالهم بخدمته وطاعته، فلا جرم: كلُّ من ورد عرصة القيامة، فإنه يكون مسئولاً عن أعماله وأقواله. وثالثها: أنه تعالى بيَّن أنه ما خلق الخلق إلا ليشتغلوا بعبادته، كما قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فلما شرح أحوال الشمس والقمر والنهار والليل، كان المعنى: إنما خلقت هذه الأشياء لتنتفعوا بها، فتصيروا متمكِّنين من الاشتغال بطاعتي وخدمتي، وإذا كان كذلك، فكل من ورد عرصة القيامة، سألته، هل أتى بتلك الخدمة والطَّاعة، أو تمرَّد وعصى. وقرئ «في عُنْقهِ» بإسكان النون وهو تخفيف ٌ شائعٌ. فصل اختلفوا في الطائر، فقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «عمله، وما قدر عليه من خير أو شرٍّ، فهو ملازمه، أينما كان» . وقال الكلبي ومقاتل: «خيره وشره معه لا يفارقه حتَّى يحاسبه» ، وقال الحسن: يمنه وشؤمه، وعن مجاهد: «ما من مولود إلاَّ في عنقه ورقة، مكتوب فيها شقيٌّ أو سعيدٌ» . وقال أهل المعاني: أراد بالطائر ما قضى عليه أنه عامله، وما هو صائر إليه من سعادة أو شقاوة، سمِّي طائراً على عادة العرب فيما كانت تتفاءل وتتشاءم به من سوانح الطير وبوارحها، فكانوا غذا أرادوا الإقدام على عملٍ من الأعمال، وأرادوا أن يعرفوا أن ذلك العمل يسوقهم إلى خيرٍ أو إلى شرٍّ، اعتبروا أحوال الطَّير، وهو أنه يطير بنفسه، أو يحتاج إلى إزعاجه، وإذا طار، فهو يطير متيامناً أو متياسراً، أو صاعداً إلى الجوّ، أإلى غير ذلك من الأحوال التي كانوا يعتبرونها، ويستدلّون بكل واحد منها على أحوال الخير والشر بالطائر، فلما كثر ذلك منهم، سمي الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} [يس: 18] وقوله عزَّ وجلَّ: {قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ} [يس: 19] فالمعنى: أنَّ كلَّ إنسان ألزمناه عمله في عنقه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 225 وقال أبو عبيدة والقتيبيُّ: الطائر عند العرب الحظّ، وتسمِّيه الفرس البخت، فالطائر ما طار له من خيرٍ وشرٍّ من قولهم: طار سهمُ فلانٍ بكذا، وخصَّ العنق من سائر الأعضاء؛ لأنه موضع القلائد والأطواق وغيرهما مما يزينُ، أو يشينُ، فما يزين، فهو كالتطوُّق والحليِّ، وما يشين، فهو كالغُلِّ، فعمله إن كان خيراً فهو زينة كالتطوق، أو كان شرًّا، فهو شينٌ كالغلِّ في رقبته، فقوله: «في عُنقهِ» كناية عن اللُّزوم؛ كما يقال: جعلت هذا في عنقك أي: قلَّدتك هذا العمل، وألزمتك الاحتفاظ به، ويقال: قلَّدتك كذا، وطوَّقتك كذا، أي: صرفته إليك، وألزمتك إياه، ومنه «قلَّدهُ السُّلطانُ كذا» أي صارت الولاية في لزومها له في موضع القلادةِ، ومكان الطوقِ، ومنه يقال: فلانٌ يقلِّدُ فلاناً أي: جعل ذلك الاعتقاد كالقلادةِ المربوطةِ في عنقه. وهذه الآية أدلُّ دليلٍ على أنَّ كلَّ ما قدَّره الله - تعالى - على الإنسان، وحكم به عليه في سابق علمه، فهو واجب الوقوع، ممتنع العدمِ؛ لأنه تعالى بيَّن أن ذلك العمل لازمٌ له، وما كان لازماً للشيء؛ كان ممتنع الزَّوال عنه، واجب الحصول له، وأيضاً: فإن الله - تعالى - أضاف ذلك الإلزام إلى نفسه بقوله: «ألْزَمنَاهُ» ، وذلك تصريحٌ بأنَّ الإلزام إنما صدر منه كقوله تعالى: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} [الفتح: 26] وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «جفَّ القَلمُ بِمَا هُو كَائِنٌ إلى يَومِ القِيامَةِ» . قوله تعالى: {وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً} . العامة على «نُخْرِجُ» بنون العظمة مضارع «أخْرجَ» ، و «كِتاباً» فيه وجهان: أحدهما: أنه مفعول به. والثاني: أنه منصوب على الحال من المفعول المحذوف؛ إذ التقدير: ونخرجه له كتاباً، أي: ونخرج الطائر. ويُرْوَى عن أبي جعفرٍ: «ويَخْرَجُ» مبنياً للمفعول، كتاباً نصب على الحال، والقائم مقام الفاعل ضمير الطائر، وعنه أنَّه رفع «كتاباً» وخُرِّج على أنه مرفوعٌ بالفعل المبنيِّ للمفعول، والأولى قراءة قلقة. وقرأ الحسن: «ويَخْرُجُ» بفتح الياء وضمِّ الراءِ، مضارع «خَرجَ» «كتابٌ» فاعل الطائر، أي: ويخرجُ له طائره في هذا الحال، وقرئ «ويُخْرِجُ» بضمِّ الباؤ وكسر الراء، مضارع «أخرجَ» والفاعل ضمير الباري تعالى، «كتاباً» مفعولٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 226 قوله تعالى: «يَلْقاهُ» صفةٌ ل «كتاباً» ، و «مَنْشُوراً» حالٌ من هاء «يَلْقَاهُ» وجوَّز الزمخشري وأبو البقاء وأبو حيَّان أن يكون نعتاً لِ «كِتَاباً» ، وفيه نظر؛ من حيث إنه يلزم تقدم الصفة غير الصَّريحةِ، على الصَّريحةِ، وقد تقدَّم ما فيه. وقرأ ابن عامرٍ وأبو جعفر «يُلقَّاهُ» بضمِّ الياء وفتح اللام وتشديد القاف، مضارع لُقِّي بالتشديد قال تعالى: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً} [الإنسان: 11] والباقون بالفتح والسكون والتخفيف مضارع «لَقِيَ» . فصل قال الحسن: بسطنا لَكَ صحيفةً، ووُكِّل بك ملكانِ، فهما عن يمينك، وعن شمالِكَ، فأمَّا الذي عن يمينك، فيحفظ حسناتك، وأما الذي عن شمالك، فيحفظ سيِّئاتك؛ حتَّى إذا متَّ طُويَتْ صحيفتك، وجعلت معك في قبرك؛ حتى تخرج لك يوم القيامة، فقوله: {وَنُخْرِجُ لَهُ} أي: من قبره. قوله تعالى: {اقرأ كَتَابَكَ} : على إضمار القول، أي: يقال له: اقرأ، وهذا القول: إمَّا صفةٌ أو حالٌ، كما في الجملة قبله. وهذا القائل هو الله تعالى. قال الحسن: «يَقْرءُوهُ أمِّيًّا كان، أو غير أمِّيٍّ» . وقال أبو بكر بن عبد الله - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: يؤتى المؤمنُ يوم القيامةِ بصحيفته، وحسناته في ظهرها، يغبطه الناس عليها، وسيئاته في جوف صحيفته، وهو يقرؤها، حتَّى إذا ظنَّ أنها قد أوبقته، قال الله له: «قَدْ غَفَرْتُ لَكَ فِيمَا بَينِي وبَينكَ» فيعظم سروره ويصير من الَّذين قال الله - عزَّ وجلَّ - في حقهم: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ} [عبس: 38، 39] . قوله تعالى: {كفى بِنَفْسِكَ} فيه ثلاثة أوجه: المشهور عند المعربين: أنَّ «كَفَى» فعل ماضٍ، والفاعل هو المجرور بالباء، وهي فيه مزيدة، ويدلُّ عليه أنها إذا حذفت ارتفع؛ كقوله: [الطويل] 3388 - ويُخْبِرنِي عَن غَائبِ المَرْءِ هَديهُ ... كَفَى الهَدْيُ عَمَّا غَيَّبَ المَرءُ مُخْبِرا وقوله: [الطويل] 3389 - ... ... ... ... ... ..... الجزء: 12 ¦ الصفحة: 227 كَفَى الشَّيْبُ والإسلامُ للمَرْءِ نَاهِيَا وعلى هذا؛ فكان ينبغي أن يؤنَّث الفعل؛ لتأنيث فاعله، وإن كان مجروراً؛ كقوله {مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ} [المؤمنون: 6] {وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ} [الأنعام: 4] . وقد يقال: إنه جاء على أحد الجائزين؛ فإن التأنيث مجازيٌّ. والثاني: أن الفاعل ضمير المخاطب، و «كفى» على هذا اسم فعل أمر، أي: اكتفِ، وهو ضعيف؛ لقبولِ «كَفَى» علاماتِ الأفعالِ. الثالث: أن فاعل «كََفَى» ضمير يعود على الاكتفاء، وتقدَّم الكلام على هذا. و «اليَوْمَ» نصبٌ ب «كَفَى» . قوله: «حَسِيباً» فيه وجهان: أحدهما: أنه تمييزٌ، قال الزمخشريُّ: «وهو بمعنى حاسبٍ؛ كضريب القداح؛ بمعنى ضاربها، وصريم بمعنى صارم، ذكرهما سيبويه، و» على «متعلقة به من قولك: حَسِبَ عليه كذا، ويجوز أن يكون بمعنى الكافي ووضع موضع الشَّهيد، فعدِّي ب» عَلَى «لأنَّ الشاهد يكفي المدَّعي ما أهمَّه، فإن قلت: لِمَ ذكر» حَسِيباً «؟ قلت: لأنه بمنزلةِ الشاهد، والقاضي، والأمين، وهذه المور يتولاَّها الرجال؛ فكأنَّه قيل: كفى بنفسك رجلاً حسيباً، ويجوز أن تتأوَّل النفس بمعنى الشخص، كما يقال: ثلاثةُ أنفسٍ» . قلت: ومنه قول الشاعر: [الوافر] 3390 - ثَلاثةُ أنْفُسٍ وثَلاثُ ذَودٍ ... لقَد جَارَ الزَّمانُ على عِيَالِي والثاني: أنه منصوب على الحال، وذكر لما تقدم، وقيل: حسيبٌ بمعنى محاسب؛ كخليطٍ وجليسٍ بمعنى: مخالطٍ ومجالسٍ. قال الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «عَدلَ، والله، في حقّك من جعَلكَ حَسِيبَ نَفْسكَ» . وقال السديُّ: «يقول الكافر يومئذٍ: إنَّك قَضيْتَ أنَّك لست بظلام للعبيد، فاجعلني أحاسِبُ نفسِي فيقال له: اقرأ كتابك، كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 228 هذه الآية تدلُّ على أنَّ ثواب العمل الصَّالح مختصٌّ بفاعله، وعقاب الذنب مختصٌّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 228 بفاعله، لا يتعدَّى منه إلى غيره، كقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى} [النجم: 39، 40] . قال الكعبيُّ: «الآية دالةٌ على أنَّ العبد متمكِّن من الخير والشَّر، وأنه غير مجبورٍ على فعل بعينه أصلاً؛ لأنَّ قوله تعالى جلَّ ذكرهُ: {مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} إنما يليق بالقادر على الفعل المتمكِّن منه، كيف شاء وأراد، وأمَّا المجبور على أحد الطَّرفين، الممنوع من الطَّرف الثاني، فهذا لا يليق بهذه الآية» وتقدَّم الجواب. ثم إنه تعالى أعاد تقرير أنَّ كلَّ أحدٍ مختصٌّ بعمل نفسه، فقال تعالى: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} . قال الزجاج: يقال: وَزَرَ يَزرُ، فهو وَازِرٌ وَوَزِرٌ وِزْراً وَزِرَة، ومعناه: أثِمَ يَأثمُ إثماً. وقال: في تأويل الآية وجهان: الأول: أنَّ المذنب لا يؤاخذُ بذنبِ غيره، بل كلُّ أحدٍ مختصٌّ بذنب نفسه. والثاني: أنَّه لا ينبغي أن يعمل الإنسان بالإثم؛ لأنَّ غيره عمله كقول الكفَّار: {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ} [الزخرف: 23] . فصل دلَّت هذه الآية على أحكام: الأول: قال الجبائيُّ: في الآية دلالة على أنه تعالى لا يعذِّب الأطفال بكفر آبائهم، وإلاَّ لكان الطفل يؤاخذ بذنب أبيه. وذلك خلافُ ظاهر الآية. الثاني: روى ابن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إنَّ المَيِّتَ ليُعذّبُ بِبُكاءِ أهلهِ عَليْهِ» . وطعنت عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - في صحَّة هذا الخبر بهذه الآية. فإن تعذيب الميت ببكاء أهله أخذ للإنسان بجرم غيره، وهو خلاف هذه الآية. والحديث لا شكَّ في صحَّته؛ لأنَّه في الصحيحين. وفي الصحيحين أيضاً عن عمر بنِ الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ الميِّت يُعذَّبُ بِبُكاءِ الحيِّ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 229 وفي صحيح البخاريِّ: «المَيِّتُ يُعذَّبُ في قَبْره بِمَا نِيحَ عَليْهِ» . وفي الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رَضِيَ اللَّهُ عَنْه قال: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إنَّهُ مَنْ نِيحَ عليهِ يُعذَّبُ بِمَا نِيحَ عَليْهِ» . وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «الميِّتُ يُعذَّبُ بِبُكاءِ الحيِّ، إذا قَالتِ النَّائِحَةُ: واعَضُداهُ، ونَاصِراهُ، وكَاسِيَاهُ حَبَّذا الميِّتُ، قيل لهُ: أنْتَ عَضُدهَا، أنْتَ نَاصرُهَا، أنْتَ كَاسِيهَا» . وفي رواية: «مَا مِنْ مَيِّتٍ يَموتُ فَيقُومُ بَاكيهم، فيقُول: واجَبلاهُ، وسنداه وأنْسَاهُ، ونحو ذلك، إلاَّ وكِّلَ به ملكان يلهَذانهِ أهكذا كُنت» اللَّهْذُ واللَّهْزُ مثل اللَّكْز والدفع. وروى البخاريُّ عن النعمان بن بشير، قال: أغمي على عبد الله بن رواحة، فجعلت أختهُ عمرة تبكي، وتقول: واجبلاهُ واكذا واكذا، تُعدِّدُ عليه، فقال حينَ أفَاقَ: ما قُلْت شَيْئاً إلاَّ قِيل لِي: أنْتَ كذلِكَ؟ فلمَّا مَاتَ لم تَبْك عَليْهِ. فإن قيل: أنكرتْ عائشة وغيرها ذلك، وقالت لما ذكر لها حديث ابن عمر: يغفر الله لأبي عبد الرَّحمن، أما إنَّهُ لمْ يكذبْ ولكنَّه نَسِيَ أو أخطأ إنَّما مَرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على يهودية يبكى عليها، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّهُمْ لَيبْكُونَ عَليْهَا وإنَّها لتُعذَّبُ في قَبْرهَا» متَّفقٌ عليه. ولمُسْلم: إنَّما مرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على قبرِ يهوديٍّ، فقال: «إنَّه ليُعذَّبُ بِخَطيئَتِه أو بِذنْبهِ، وإنَّ أهلَهُ ليَبْكُونَ عليْهِ الآنَ» . وفي رواية متَّفق عليها: إنما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ الله ليَزيدُ الكافر عذاباً بِبُكاءِ أهْلهِ عليْهِ» وقالت: حسبكمُ القُرآنُ {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الإسراء: 15] وقال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 230 بعض العلماء: إنَّما هذا فيمن أوصى أن يناح عليه كما كان أهل الجاهليَّة. والجواب أنه يجب قبول أن الحديث لا يمكن ردُّه؛ لثبوته وإقرار أعيان الصَّحابة له على ظاهره. وعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - لم تخبر أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ نفى ذلك، وإنَّما تأوَّلتْ على ظاهر القرآن، ومن أثبت وسمع حجة على من نفى وأنكر. وظاهر القرآن لا حجَّة فيه؛ لأنَّ الله - تعالى - نفى أن يحمل أحد من ذنب غيره شيئاً، والميِّتُ لا يحمل من ذنب النائحة شيئاً، بل إثمُ النَّوح عليها، وهو قد يعذَّب من جهة أخرى بطريق نوحها، كمن سنَّ سنَّة سيئة، مع من عمل بها، ومن دعا إلى ضلالة، مع من أجابه. والحديث الذي روتهُ حديثٌ آخر لا يجوز أن يردَّ به خبر الصَّادق؛ لأنَّ القوم قد يشهدون كثيراً ممَّا لا تشهد، مع أنَّ روايتها تحقِّق ذلك الحديث؛ فإنَّ الله - تعالى - إذا جاز أن يزيد الكافر عذاباً ببكاء أهله، جاز أن يعذِّب الميت ابتداء ببكاء أهله. ثم في حديث ابن رواحة وغيره ممَّا تقدَّم ما ينصُّ على أن ذلك في المسلم؛ فإنَّ ابن رواحة كان مسلماً، ولم يوص بذلك، ثمَّ إنَّ الصحابة الذين رووه، لو فهموا منه الموصي، لما عجبوا منه، وأنكره من أنكره؛ فإنَّ من المعلوم أنَّ من أمر بمنكرٍ، كان عليه إثمه، ولو كان ذلك خاصًّا بالموصِي، لما خص بالنَّوح، دون غيره من المنكراتِ، ولا بالنَّوح على نفسه، دون غيره من الأموات. وق لبعض العلماء: لمَّا كان الغالب على النَّاس النَّوح على الميِّت، وهو من أمور الجاهليَّة التي لا يدعونها في الاسلام، ولا يتناهى عنها أكثر النَّاس خرِّج الحديث على الأعمِّ الأغلب فيمن لم ينه عن النَّائحة، وهي عادة النَّاس، فيكون تركهُ للنَّهي مع غلبةِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 231 ظنِّه بأنَّها تفعل إقراراً للمنكرِ وتركاً لإنكاره، فيعذب على ما تركه من الإنكار، ورضي به من المنكر، وأما من نهى عنه، وعصي أمره، فالله أكرم من أن يعذِّبه. قال ابن تيمية: وهذا قريبٌ. وأجود منه، إن شاء الله - تعالى - أن العذاب على قسمين: أحدهما: ألمٌ وأذى يلحقُ الميِّت بسبب غيره، وإن لم يكن من فعله؛ كما يلحق أهل القبُور من الأذى بمجاورة الجارِ السيّئ، وبالأعمال القبيحة عند القبور، والجلوس على القبر، أو التغوُّط عليه، إلى غير ذلك من الأشياء التي يتألَّم الإنسانُ بها حيًّا وميتاً، وإن لم تكن من فعله. فهذا الميِّت لما عصي الله بسببه، ونيح عليه، لحقهُ عذابٌ وألمٌ من هذه المعصية. قال القاضي: سُئِلتُ عن ميِّتٍ دفن في داره، وبقُربِ قبره أولاد يشربون ويستعملون آلة اللَّهْو، هل يتأذَّى الميِّت؟ . فأجبت: أنَّه يتأذَّى. وروى بإسناده عن عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّ المَيِّتَ يُؤذِيهِ في قَبْرهِ ما يُؤذِيهِ في بَيْتهِ» . وعن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إذا مات لأحدكم الميِّت، فأحسنوا كفنه، وعجَّلوا إنفاذ وصيته، وأعمقوا له في قبره، وجنِّبُوهُ جار السَّوءِ. قيل: يا رسُول الله: وهَلْ يَنفَعُ الجَارُ الصَّالحُ في الآخرة؟ قال: وهَلْ يَنْفَعُ في الدُّنيا؟ قالوا: نَعَمْ، قال: وكَذلِكَ يَنْفَعُهُ في الآخِرَةِ. الثاني: أنَّ طبع البشر يُحِبُّ في حياته أن يبكى عليه بعد موته؛ لما فيه من الشَّرف والذِّكر، كما يحبُّ أن يثنى عليه، ويذكر بما يحبُّ، وكما يحبُّ أن يكون المالُ والسلطان لعقبه، وإن أيقن أنَّه لا لذَّة له بذلك بعد الموت، فعوقب بنقيض هذه الإرادة من عذاب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 232 النَّوح والبكاء؛ ليعلم النَّاس بذلك، فيتناهون عن هذه أو يكرهونه، فمن لم يكره النَّوح والبكاء، فهو باقٍ على موجب طبعه، ومن كرهه، كانت تلك الكراهةُ مانعة من لُحوقِ الذمِّ به. الثالث: قال القاضي: دلَّت هذه الآية على أنَّ الوزْرَ والإثم ليس من فعل الله - تعالى -، وذلك من وجوهٍ: أحدها: أنه لو كان كذلك، لامتنع أن يؤاخذ العبد به، كما لا يؤاخذ بوزْرِ غيره. وثانيها: أنَّه كان يحبُّ ارتفاع الوِزْرِ أصلاً؛ لأنَّ الوزر إنَّما يصحُّ أن يوصف بذلك، إذا ك ان مختاراً يمكنه التحرُّز، ولهذا المعنى لا يوصف الصَّبيُّ بذلك. الرابع: أن جماعة من الفقهاء المتقدِّمين امتنعوا من ضرب الدِّية على العاقلة، قالوا: لأنَّ ذلك يفضي إلى مؤاخذة الإنسان بفعل الغير، وذلك مضادٌ لهذه الآية. ونجيب عنها بأنَّ المخطئ [غير مؤاخذٍ] على ذلك الفعل، فكيف يصير غيره مؤاخذاً بسبب ذلك الفعل، بل ذلك تكليفٌ واقعٌ ابتداءً من الله تعالى. ثم قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} . إقامة للحجَّة وقطعاً للعذر. واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّ وجوب شكر النِّعم لا يثبت بالعقل، بل بالسمع؛ كقوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} . وذلك لأنَّ الوجوب لا يتقرَّر إلاَّ بترتيب العقاب على التَّرك، ولا عقاب قبل الشَّرع بهذه الآية، وبقوله تعالى: {رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل} [النساء: 165] . وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولاا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى} [طه: 134] . ولقائل أن يقول: هذا الاستدلالُ ضعيف من وجهين: الأول: أنه لو لم يثبت الوجوب العقليُّ، لم يثبت الوجوب الشرعيُّ ألبتة، وهذا باطل. فذلك باطل، وبيان الملازمة من وجوهٍ: أنه إذا جاء الشَّارع، وادعى كونه نبيًّا من عند الله - تعالى - وأظهر المعجزة، فهل يجب على المستمع استماعُ قوله، والتأمُّل في معجزاته، أو لا يجب؟ . فإن وجب بالعقل، فقد ثبت الوجوب العقليُّ، وإن وجب بالشَّرع، فهو باطلٌ؛ لأنَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 233 ذلك الشارع إمَّا أن يكون هو ذلك المدَّعي أو غيره، والأول باطلٌ؛ لأنه يرجع حاصل الكلام إلى أنَّ ذلك الرجل يقول: الدليل على أنه يجب قبول قولي أني أقوله. وهذا إثبات للشيء بنفسه، وإن كان الشَّارع غيره، كان الكلام كما في الأول، ولزم الدَّور والتَّسلسل، وهما محالان. وثانيها: أنَّ الشَّارع، إذا جاء، وأوجب بعض الأفعال، وحرَّم بعضها، فلا معنى للإيجاب أو التَّحريم إلا أن يقول: إن تركت كذا، أو فعلت كذا، عاقبتك، فنقول: إمَّا أن يجب عليه الاحتراز عن العقاب، وذلك الاحترازُ إمَّا أن يجب بالعقل، أو بالسَّمع، فإن وجب بالعقل، فهو المقصود، وإن وجب بالسَّمع، لم يتقرَّر معنى هذا الوجوب إلاَّ بسبب ترتيب العقاب عليه، وحينئذٍ يعود التقسيمُ الأول، ويلزم التسلسل. وثالثها: أنَّ مذهب أهل السنَّة أنه يجوز من الله - تعالى - أن يعفو عن العقاب على ترك الواجب، وإذا كان كذلك ماهية الوجوب حاصلة، مع عدم العقاب، فلم يبق إلاَّ أن يقال: ماهية الوجوب إنَّما تتقرَّر بسبب حصول الخوف من الذَّم والعاقب؛ فثبت بهذه الوجوه أنَّ الوجوب العقلي لا يمكن دفعه، وإذا ثبت هذا فنقول: في الآية قولان: الأول: أن نجري الآية على ظاهرها، ونقول: العقل هو رسول الله إلى الخلق، بل هو الرسول الذي لولاه، لما تقررت رسالةُ أحدٍ من الرُّسل. فالعقل هو الرسول الأصليُّ، فكان معنى الآية: حتى نبعث رسولاً؛ أي رسول العقل. والثاني: أن نخصِّص عموم الآية، فنقول: المراد وما كنا معذِّبين حتَّى نبعث رسولاً أي رسول العقل في الأعمال التي لا سبيل إلى معرفة وجوبها إلاَّ بالشَّرع لا بعد مجيء الشرع، وتخصيص العموم وإن كان عدولاً عن الظاهر إلاَّ أنه يجب المصير إليه عند قيام الدَّلالة، وقد بينا قيام الدلائل الثلثة على أنا لو نفينا الوجوب العقلي، لزمنا نفي الوجوب الشرعيِّ. قال ابن الخطيب: والذي نذهبُ إليه: أن مجرَّد العقل يدلُّ على أنه يجب علينا فعل ما ينتفع به، وتركُ ما يتضرَّر به؛ لأنَّا مجبولون على طلب النفع، والهرب من الضَّرر، فلا جرم: كان العقل وحده كافياً في الوجوب في حقِّنا، أما مجرد العقل فلا يدل على أنه يجب على الله تعالى شيء، وذلك لأنه منزَّه عن طلب النفع، والهرب من الضَّرر، فامتنع أن يحكم العقل عليه بوجوب فعلٍ أو تركه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 234 قرأ العامَّةُ «أمَرْنَا» بالقصر والتخفيف، وفيه وجهان: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 234 أحدهما: أنه من الأمرِ الذي هو ضدُّ النهي، ثم اختلف القائلون بذلك في متعلق هذا لأمر، فعن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في آخرين: أنه أمرناهم بالطاعة، ففسقوا، وقد ردَّ هذا الزمخشريُّ ردًّا شديداً، وأنكره إنكاراً بليغاً في كلام طويل، حاصله: أنه حذف ما لا دليل عليه، وقدَّر هو متعلق الأمر: الفسق، أي: أمرناهم بالفسق، قال: «أي: أمرناهم بالفسق، فعملوا، لأنه يقال: أمَرْتهُ، فقام، وأمرته، فقرأ، وهذا لا يفهم منه إلا أنَّ المأمور به قيامٌ أو قراءة، فكذا هاهنا، لمَّا قال: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا} . وجب أن يكون المعنى: أمرناهم بالفسق، ففسقوا، ولا يقال: هذا يشكل بقوله: أمرتهُ فعصَانِي، أو فَخالفَنِي؛ فإنَّ هذا لا يفهم منه إلاَّ أنَّ المأمور به قيامٌ أو قراءةٌ، فكذا هاهنا، كما قال: {أَمَرْنَا مُتْرَفِيها، فَفَسَقُوا فِيهَا} . وجب أن يكون المعنى: أمرناهُمْ بالفسق، ففسقُوا، ولا يقال: هذا يُشكل بقوله: أمرتُهُ فعصاني، أو فخالفني؛ فإنَّ هذا لا يُفهم منه أنِّي امرتُهُ بالمعصية، والمخالفةِ؛ لأنَّ المعصية مُخَالفةٌ للأمْرِ، ومُناقِضَةٌ له، فيكونُ كونها مأموراً بها محالاً. فلهذا الضرورة تركنا هذا الظَّاهر، وقلنا: الأمر مجازٌ؛ لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، وهذا لا يكون، فبقي أن يكون مجازاً، ووجه المجازِ: أنه صبَّ عليهم النعمة صبًّا، فجعلوها ذريعة إلى المعاصي، واتِّباع الشَّهوات، فكأنَّهم مأمورون بذلك؛ لتسبُّبِ إيلاءِ النِّعمةِ فيه، وإنما خوَّلهم فيها ليشكروا» . ثم قال: «فإن قلت: فهلاَّ زعمت أنَّ معناه: أمرناهم بالطَّاعة ففسقوا؟ قلت: لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائزٍ، فكيف حذف ما الدليل قائمٌ على نقيضه؟ وذلك أنَّ المأمور به، إنَّما حذف لأنَّ» فَفَسقُوا «يدلُّ عليه، وهو كلامٌ مستفيضٌ؛ يقال:» أمَرْتُه، فقَامَ «و» أمَرتهُ فَقَرأ «لا يفهم منه إلاَّ أن المأمور به قيامٌ أو قراءةٌ، ولو ذهبت تقدِّر غيره، رمت من مخاطبك علم الغيب، ولا يلزم [على] هذا قولهم: أمَرتهُ، فعصَانِي» أو فَلمْ يَمْتثِلْ «لأنَّ ذلك منافٍ للأمر مناقضٌ له، ولا يكون ما يناقض الأمر مأموراً به، فكان محالاً أن يقصد أصلاً؛ حتّى يجعل دالاًّ على المأمور به، فكان المأمور به في هذا الكلام غير منويٍّ، ولا مراد؛ لأن من يتكلَّم بهذا الكلام لا ينوي لأمره مأموراً به؛ فكأنَّه يقول: كان منِّي أمر، فكان منه طاعة، كما أنَّ من يقول:» فلانٌ يأمر وينهى، ويعطي ويمنع «لا يقصد مفعولاً. فإن قلت: هلاَّ كان ثبوت العلم بأنَّ الله لا يأمر بالفحشاءِ دليلاً على أن المراد: أمرناهم بالخيرِ؟ . قلت: لأنَّ قوله «فَفسَقوا» يدافعه؛ فكأنك أظهرت شيئاً، وأنت تضمر خلافه، ونظير «أمَرَ» : «شاء» في أن مفعوله استفاض حذف مفعوله؛ لدلالةِ ما بعده عليه؛ تقول: لو شاء، لأحسن إليك، ولو شاء، لأساء إليك، تريد: لو شاء الإحسان، ولو شاء الإساءة، ولو ذهبت تضمر خلاف ما أظهرت، وقلت: قد دلَّتْ حال من أسندت إليه المشيئةُ أنه من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 235 أهلِ الإحسان، أو من أهل الإساءةِ، فاتركِ الظاهر المنطوق، وأضمر ما دلت عليه حالُ المسند إليه المشيئةُ، لم تكن على سدادٍ «. وتتَّبعه أبو حيَّان في هذا، فقال: أمَّا ما ارتكبه من المجاز، فبعيد جدًّا، وأما قوله:» لأنَّ حذف ما لا دليل عليه غير جائزْ «فتعليلٌ لا يصح فيما نحن بسبيله، بل ثمَّ ما يدل على حذفه، وقوله:» فكيف يحذف ما الدليل على نقيضه قائمٌ «إلى» علم الغيب «فنقول: حذف الشيء تارة يكون لدلالة موافقه عليه، ومنه ما مثَّل به في قوله» أمَرْتهُ، فقَامَ «، وتارة يكون لدلالة خلافه أو ضدِّه، أو نقيضه؛ كقوله تعالى: {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار} [الأنعام: 13] أي: ما سكن وتحرَّك، وقوله: {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} [النحل: 81] ، أي: والبرد، وقول الشاعر: [الوافر] 3391 - ومَا أدْرِي إذا يَمَّمْتُ أرْضاً ... أريدُ الخَيْرَ أيُّهُمَا يَلِينِي أألْخَيْرُ الَّذي أنَا أبْتَغيهِ ... أم الشَّرُّ الذي هُوَ يَبْتَغينِي أي: وأجْتنِبُ الشَّر، وتقول:» أمَرتهُ، فلمْ يُحْسِنْ «فليس المعنى: أمرته بعدم الإحسان، بل المعنى: أمرته بالإحسانِ، فلم يحسِن، والآية من هذا القبيل، يستدلُّ على حذف النَّقيضِ بنقيضه، كما يستدلُّ على حذلف النظير بنظيره، وكذلك:» أمَرْتهُ، فأسَاءَ إليَّ «ليس المعنى: أمَرْتهُ بالإساءة، بل أمرته بالإحسان، وقوله:» ولا يَلزَمُ هذا قولهم: أمَرْتهُ فعَصانِي «نقول: بل يلزمُ، وقوله» لأنَّ ذلك منافٍ «أي: لأنَّ العصيانَ منافٍ، وهو كلامٌ صحيح، وقوله:» فكان المأمورُ به غير مدلُولٍ عليه ولا مَنْوي «لا يسلَّم بل مدلولٌ عليه ومنويٌّ لا دلالة الموافق بل دلالة المناقض؛ كما بيَّنا، وقوله:» لا يَنوِي مأموراً به «لا يلسَّم، وقوله» لأنَّ «فَفَسقُوا» يدافعه، إلى آخره «قلنا: نعم، نوى شيئاً، ويظهر خلافه؛ لأنَّ نقيضه يدل عليه، وقوله: ونظير» أمَرَ «» شَاءَ «ليس نظيره؛ لأن مفعول» أمَرَ «كثر التصريح به. قال سبحانه جل ذكره: {إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء} [الأعراف: 28] {أَمَرَ رَبِّي بالقسط} [الأعراف: 29] {أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ} [الطور: 32] ، وقال الشاعر: [البسيط] 3392 - أمَرْتُكَ الخَيْرَ فافْعَلْ ما أمِرْتَ بِهِ ..... ... ... ... ... ... ... . قال شهاب الدين رَحِمَهُ اللَّهُ: والشيخ ردَّ عليه ردَّ مستريحٍ من النَّظرِ، ولولا خوفُ السآمةِ على الناظرِ، لكان للنظر في كلامهما مجالٌ. قال ابن الخطيب: ولقائلٍ أن يقول: كما أنَّ قوله: «أمَرْتُهُ» ، فَعصَانِي «يدلُّ على أن المأمور به شيءٌ غير المعصية من حيث إنَّ المعصية منافية للأمر مناقضةٌ له، فكذلك قوله: أمرته ففسق يدلُّ أنَّ المأمور به شيء غير الفسقِ؛ لأن الفسقَ عبارةٌ عن الإتيان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 236 بضدِّ المأمور به، فكونه فسقاً ينافي كونه مأموراً به، كما أنَّ كونها معصية ينافي كونها مأموراً بها؛ فوجب أن يدلَّ هذا اللفظ على أنَّ المأمور به ليس بفسقٍ، وهذا في غاية الظهور. الوجه الثاني: أنَّ» أمَرْنَا «بمعنى كَثَّرْنَا قال الواحديُّ: العرب تقول: أَمِرَ القومُ: إذا أكثروا. ولم يرض به الزمخشريُّ في ظاهر عبارته، فإنه قال: وفسَّر بعضهم» أمَرْنَا «ب» كَثَّرْنَا «وجعله من باب:» فعَّلتُه، فَفَعَلَ «ك» ثَبَّرْتُهُ فَثَبَر «. وفي الحديث:» خَيْرُ المَالِ سكَّة مَأبورةٌ، ومُهرةٌ مَأمُورةٌ «، أي: كثيرة النِّتاجِ. وقد حكى أبو حاتم هذه اللغة، يقال: أمِرَ القوم، وأمرهم الله، ونقله الواحديُّ عن أهل اللغة، وقال أبو عليٍّ:» الجيِّدُ في «أمَرْنَا» أن يكون بمعنى «كَثَّرْنَا» واستدلَّ أبو عبيدة بما جاء في الحديث، فذكره؛ يقال: أمر الله المهرة، أي: كثَّر ولدها، قال: «ومَنْ أنكر» أمَرَ الله القومَ «أي: كثَّرهم [لم يلتفت إليه؛ لثبوت ذلك لغة» ويكونُ ممَّا لزم وتعدى بالحركةِ المختلفة؛ إذ يقال: أمر القوم، كثروا، وأمرهم الله: كثَّرهُمْ] ، وهو من باب المطاوعة: أمرهم الله، فأتمروا، كقولك: شَتَرَ اله عينهُ، فَشتِرَتْ، وجدعَ أنْفَهُ فجَدِعَ، وثلمَ سنَّهُ، فثَلِمَتْ. وقرأ الحسن، ويحيى بن يعمر، وعكرمة «أمِرْنَا» بكسر الميم؛ بمعنى «أمَرْنَا» بالفتح، حكى أبو حاتم، عن أبي زيدٍ: أنه يقال: «أمَرَ الله [مالهُ،] وأمِره» بفتح الميم وكسرها، وقد ردَّ الفراء وهذه القراءة، ولا يلتفت لردِّه؛ لثبوتها لغة بنقل العدولِ، وقد نقلها قراءة عن ابن عبَّاس أبو جعفر، وأبو الفضل الرازيُّ في «لَوامحهِ» فكيف تردُّ؟ . وقرأ عليُّ بن أبي طالب، وابن أبي إسحاق وأبو رجاء - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم - في آخرين «آمَرْنَا» بالمدِّ، ورُويتْ هذه قراءة عن ابن كثير وأبي عمرو، وعاصم ونافع، واختارها يعقوب، والهمزة فيه للتعدية. وقرأ عليٌّ أيضاً، وابن عباس، وأبو عثمان النهديُّ: «أمَّرْنَا» بالتشديد، وفيه وجهان: أحدهما: أنَّ التضعيف للتعدية، عدَّاه تارة بالهمزة، وأخرى بتضعيف العين، كأخرجته وخرَّجته. والثاني: أنه بمعنى جعلناهم أمراء، واللازم من ذلك «أمِّرَ» ق لالفارسي: «لا وجه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 237 لكون» أمَّرنَا «من الإمارة؛ لأنَّ رئاستهم لا تكون إلاَّ لواحد بعد واحد، والإهلاكُ إنَّما يكون في مدَّة واحدةٍ» . ورُدَّ على الفارسي: بأنَّا لا نسلم أنَّ الأمير هو الملكُ؛ حتى يلزم المترف إذا ملك، ففسق، ثم كذلك، كثر الفساد، ونزل بهم على الآخر من ملوكهم العذاب، واختار أبو عبيدة قراءة العامة وقال: فإنَّ المعاني الثلاثة تجتمع فيها، يعني: المر، والإمارة، والكثير. المترف في اللغة: المُنَعَّم، والغنيُّ: الَّذي قد أبطرته النِّعمة، وسعةُ العيش. قوله تعالى: {فَفَسَقُواْ فِيهَا} أي: خرجوا عمَّا أمرهم الله. {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} : أي: وجب عليها العذاب. {فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} أي: خرَّبناها، وأهلكنا من فيها، وهذا كالتقرير، لقوله - تعالى -: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15] . وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً} [القصص: 59] . فصل في الاحتجاج لأهل السنة استدلَّ أهل السنة بهذه الآية على صحَّة مذهبهم من وجوه: الأول: أنَّ ظاهر الآية يدل على أنَّه تعالى أراد إهلاكهم ابتداء، ثم توسَّل إلى إهلاكهم بهذا الطريق؛ وهذا يدلُّ على أنَّه - تعالى - إنما خصَّ المترفين بذلك الأمر لعلمه بأنَّهم يفسقون، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى أراد منهم الفسقَ. الثالث: أنه - تعالى - قال: {فَحَقَّ عَلَيْهَا القول} أي: حقَّ عليها القول بالتَّعذيب والكفر، ومتى حقَّ عليها القول بذلك، امتنع صدور الإيمان منهم؛ لأنَّ ذلك لا يستلزم انقلاب خبر الله الصدق كذباً، وذلك محالٌ، والمفضي إلى المحال محالٌ. قال الكعبيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - إنَّ سائر الآيات دلَّت على أنَّه - تعالى - لا يبتدئ بالتعذي والإهلاك؛ لقوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] . وقوله عزَّ وجلَّ: {مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} [النساء: 147] وقوله - عز ذكره: {وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي القرى إِلاَّ وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ} [القصص: 59] . وكلُّ هذه الآيات تدل على أنَّه لا يبتدئ بالإضرار، وأيضاً: ما قبل هذه الآية يدلُّ على هذا المعنى، وهو قوله - تعالى -: {مَّنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الإسراء: 15] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 238 ومن المحال أن يقع بين آيات القرآن تناقض؛ فثبت أنَّ هذه الآيات محكمة، والآيات التي نحن في تفسيرها مجملة؛ فيجب حمل هذه الآية علىتلك الآيات. واعلم أنَّ أحسن الناس كلاماً في تأويل هذه الآية على وجه يوافق قول المعتزلة: «القَفَّالُ» - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى - فإنه ذكر وجهين: الأول: أنه - تعالى - أخبر أنَّه لا يعذِّب أحداً بما يعلمه منه، ما لم يعمل به أي: لا يجعل علمه حجَّة على من علم أنَّه إذا أمره عصاه، بل يأمره، فإذا ظهر عصيانه للنَّاس، فحينئذٍ يعاقبه. وقوله - تعالى -: {وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} . معناه: وإذا أردنا إمضاء ما سبق من القضاء بإهلاك قوم بظهور معاصيهم، فحينئذ {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} . أي: أمرنا المنعَّمينَ فيها المتعزّزين الظَّانين أن أموالهم وأولادهم وأنصارهم تردُّ عنهم بأسنا بالإيمان والعمل بشرائع ديني، على ما يبلّغهم عنّي رسولي، ففسقوا، فحينئذ يحقُّ عليهم القضاء السابق بإهلاكهم، لظهور معاصيهم، فحينئذ أدمِّرُها. والحاصل: أن المعنى: وإذا اردنا أن نهلك قرية بسبب علمنا بأنهم لا يقدمون إلا على المعصية لم نكتف [في تحقيق] ذلك الإهلاك بمجرَّد ذلك العلم، بل أمرنا مترفيها، ففسقوا، فإذا ظهر منهم ذلك الفسق، فحينئذ نوقع العذاب الموعود به. الوجه الثاني: أنَّ التأويل: وإن أردنا أن نهلك قرية بسبب ظهور المعاصي من أهلها، لم نعاجلهم بالعذاب في أوَّل ظهور المعاصي بينهم، بل أمرنا مترفيها بالرجوع عن تلك المعاصي. وإنَّما خصَّ المترفين بذلك الأمر؛ لأنَّ المترف هو المنعَّم، ومن كثرت نعمة الله عليه، كان قيامه بالشُّكر أوجب، فإذا أمرهم بالتوبة والرجوع عن المعاصي مرة بعد أخرى، مع أنه لا يقطع عنهم تلك النِّعم، بل يزيدها حالاً بعد حالٍ، فحينئذ يظهر عنادهم وتمرُّدهم وبعدهم عن الرجوع عن الباطل إلى الحقِّ، فحينئذ يصبُّ الله البلاء عليهم صباً. ثم قال القلال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهذان التأويلان راجعان إلى أنَّ الله - تعالى - أخبر عن عباده أنَّه لا يعاجل بالعقوبة أمة ظالمة؛ حتى يعذر إليهم غاية الإعذار، الذي يقع منه اليأس من إيمانهم، كما قال - تعالى - في قوم نوح - عليه السلام -: {وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً} [نوح: 27] ، وقال عزَّ وجلَّ: {أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ} [هود: 36] وقال تعالى في غيرهم: {فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ} [الأعراف: 101] فأخبر الله تعالى عنهم أولاً أنَّه لا يظهر العذاب إلاَّ بعد بعثة الرسل، ثم أخبر ثانياً في هذه الآية: أنه - تعالى - إذا بعث الرسل أيضاً، فكذِّبوا، لم يعاجلهم بالعذاب، بل يتابع عليهم النصائح والمواعظ، فإن بقوا مصرِّين، فهناك ينزل عليهم عذاب الاستئصال. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 239 وأجاب الجبائيُّ فقال: ليس المراد من الآية أنَّه تعالى يريد إهلاكهم قبل أن يعصوا ويستحقُّوا ذلك؛ لأنَّه لا يظلم، وهو على الله محالٌ، بل المراد من الإرادة قرب تلك الحالة، فكان التقدير: وإذا قرب وقت إهلاكِ قريةٍ أمرنا مترفيها، ففسقوا فيها، وهو كقول القائل: إذا أراد المريض أن يموت ازدادت أمراضه شدَّة، وإذا أراد التَّجر أن يفتقر أتاه الخسران من كلِّ جهةٍ، وليس المراد أنَّ المريض يريدُ أن يموت على الذُّنوب، والتَّاجر يريد أن يفتقر، وإنَّما يعنون أنه سيصير كذلك؛ فكذا هاهنا. واعلم أنَّ هذه الوجوه جواب عن الوجه الأوَّل من الوجوه الثلاثة المتقدمة في التمسُّك بهذه الآية، وكلها عدول عن ظاهر اللفظ، وأما الوجه الثاني والثالث فبقي سليماً عن الطَّعن. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 240 والمراد منه أنَّ الطريق الذي ذكرناه هو عادتنا مع الذين يفسقون، ويتمرَّدون فيما تقدم من القرون الذين كانوا بعد نوح؛ حادٍ وثمود، وغيرهم، ثم إنه - تعالى - خاطب رسوله - صلوات الله عليه - بما يكون خطاباً وردعاً وزجراً للكُلِّ، فقال جلَّ ذكره: {وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً} وهذا تخويف لكفَّار «مكَّة» . و «كَمْ» نصب بأهلكنا، و «مِنَ القُرونِ» تمييزٌ ل «كَمْ» و «مِن بَعدِ نُوح» : «مِنْ» لابتداء الغاية، والأولى للبيان، فلذلك اتَّحدَ متعلقهما، وقال الحوفيُّ: «الثانية بدلٌ من الأولى» ، وليس كذلك؛ لاختلاف معنييهما، والباء بعد «كَفَى» تقدم الكلام عليها، وقال ابن عطيَّة: «إنما يجاءُ بهذه الباء في موضع مدحٍ أو ذمٍّ» والباء في «بِذنُوب» متعلقة ب «خَبِيراً» وعلَّقها الحوفيُّ ب «كَفَى» . قال افراء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لو ألغيت الباء؛ من قوله: «بربِّكَ» جاز، وإنما يجوز دخول الباء في المرفوع إذا كان يمدحٌ به أو يذمُّ؛ كقولك: كفاك به، وأكرم به رجلاً، وطاب بطعامك طعاماً، وجاد بثوبك ثوباً. أما إذا لم يكن مدحاً أو ذمًّا، لم يجز دخولها، فلا يجوز أن يقال: «قَامَ بِأخيكَ» وأنت تريد: «قَامَ أخُوكَ» . فصل في مقدار القرن قال عبد الله بن أبي أوفى: القرنُ: عشرون ومائة سنة، فبعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أوَّل قرنٍ، وكان آخره يزيد بن معاوية، وقيل: مائة سنة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 240 رُوِيَ عن محمد بن القاسم عن عبد الله بن بسرٍ المازنيّ: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وضع يده على رأسه، وقال: «سَيعيشُ هذا الغُلام قَرْناً» وقال محمد بن القاسم - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: فما زلنا نعدُّ له؛ حتَّى تمت له مائة سنة، ثمَّ مات. وقال الكلبيُّ: ثمانون سنة. وقيل: أربعون سنة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 241 قوله - تعالى -: {مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ} الآية. «مَنْ» شرطية، و «عَجَّلنا» جوابها، و «ما يشاءُ» مفعولها، و «لِمنْ نُريد» بدل بعضٍ من كلٍّ، من الضمير في «لَهُ» بإعادة العامل، و «لِمَنْ نُريد» تقديره: لمن نريد تعجيله له. [قوله:] «ثُمَّ جَعلنَا لهُ جهنَّم» «جَعلَ» هنا تصييرية. وقوله: «يَصْلاهَا» الجملة حال: إمَّا من الضمير في «لَهُ» وإمَّا من «جَهَنَّم» و «مَذمُوماً» حال من فاعل «يَصْلاها» قيل: وفي الكلام حذف، وهو حذف المقابل؛ إذ الأصل: من كان يريد العاجلة، وسعى لها سعيها، وهو كافرٌ لدلالةِ ما بعده عليه، وقيل: بل الأصل: من كان يريد العاجلة بعمله للآخرة كالمنافق. ومعنى «يَصْلاهَا» : يدخلها. «مَذمُوماً» : مطروداً، «مَدْحُوراً» : مُبْعَداً. وقوله: «سَعْيَهَا» : فيه وجهان: أحدهما: أنه مفعول به؛ لأنَّ المعنى: وعمل لها عملها. والثاني: أنه مصدر، و «لهَا» أي: من أجلها. والجملة من قوله: «وهو مُؤمِنٌ» هذه الجملة حال من فاعل «سَعَى» . قوله تعالى: {كُلاًّ نُّمِدُّ} : «كُلاًّ» منصوب ب «نُمِدُّ» و «هؤلاء» بدل، «وهؤلاءِ: عطف عليه، أي: كلَّ فريق نمدُّ هؤلاء الساعين بالعاجلة، وهؤلاء الساعين للآخرة، وهذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 241 تقدير جيدٌ، وقال الزمخشري في تقديره:» كلَّ واحدٍ من الفريقين [نُمِدُّ] «. قال أبو حيان:» كذا قدَّره الزمخشري، وأعربوا «هؤلاءِ» بدلاً من «كُلاًّ» ولا يصح أن يكون بدلاً مِنْ «كل» على تقدير: كلَّ واحدٍ؛ لأنَّه إذ ذاك بدل كلٍّ من بعضٍ، فينبغي أن يكون التقدير: كل الفريقين «. و» مِنْ عطاءِ «متعلقٌ ب» نُمِدُّ «والعطاء اسم مصدر واقع موقع اسم المفعول. والمحظور: الممنوعُ، وأصله من الحظر، وهو: جمعُ الشيء في حظيرة، والحظيرة: ما يعمل من شجرٍ ونحوه؛ لتأوي إليه الغنم، والمحتظرُ: من يعمل الحظيرة. فصل قال القفال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذه الآية داخلة في معنى قوله: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] : ومعناه: أن العمَّال في الدنيا قسان: منهم من يريد بعمله الدنيا والرياسة، فهذا يأنف من الانقياد للأنبياء - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -، والدخول في طاعتهم؛ خوفاً من زوال الرِّياسة عنهم، فهذا قد جعل طائر نفسه شؤماً؛ لأنه في قبضة الله؛ فيؤتيه الله في الدنيا منها قدراً لا كما يشاء ذلك الإنسان، بل كما يشاء الله. بل إن عاقبته جهنَّم يدخلها فيصلاها بحرِّها مذموماً ملوماً، مدحوراً مطروداً من رحمة الله. وفي لفظ هذه الآية فوائد: أحدها أنَّ العقاب عبارة عن مضرَّة مقرونةٍ بالإهانة بشرط أن تكون دائمة خالية عن المنفعة. وثانيها: أن من الجهَّال من إذا ساعدته الدنيا اغترَّ بها، وظنَّ أن ذلك لأجل كرامته على الله - تعالى - فبيَّن - تعالى - بهذه الآية أن مساعدة الدنيا لا ينبغي أن يستدلَّ بها على رضا الله تعالى لأنَّ الدنيا قد تصلح مع أنَّ عاقبتها المصير إلى العذاب والإهانة، فهذا الإنسان أعماله تشبه طائر السُّوء في لزومها له، وكونها سائقة له إلى أشدِّ العذاب. وثالثها: قوله: {لِمَن نُّرِيدُ} يدلُّ على أنَّه لا يحصل الفوز بالدنيا لكلِّ أحدٍ، بل كثيرٌ من الكفَّار يعرضون عن الدِّين في طلب الدنيا، ثم يبقون محرومين عن الدنيا، وعن الدِّين، فهؤلاء هم الأخسرون أعمالاً الذي ضلَّ سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. وأما القسم الثاني: وهو قوله تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فشرط تعالى فيه ثلاثة شروطٍ « الجزء: 12 ¦ الصفحة: 242 أحدها: أن يريد بعمله الآخرة أي: ثواب الآخرة، فإنه إن لم ينو ذلك، لم ينتفع بذلك العمل؛ لقوله تعالى: {وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى} [النجم: 37] وقوله - صلوات الله وسلامه عليه -:» إنَّما الأعمَالُ بالنِّيَّاتِ «. والثاني: قوله جلَّ ذكره: {وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ} ، وذلك يقتضي أن يكون ذلك العمل من باب القرب والطَّاعات، وكثير من الضُّلال يتقرَّبون بعبادة الأوثان، ولهم فيها تأويلان: أحدهما: أنهم يقولون: إله العالم أجلُّ وأعظم من أن يقدر الواحد منَّا على إظهار عبوديته، وخدمته، ولكن غاية قدرتنا أن نشتغل بعبوديَّة بعض المقربين من عباد الله، مثل أن نشتغل بعبادة الكواكب، أو ملكٍ من الملائكةِ، ثمَّ إنَّ الملك أو الكواكب يشتغلون بعبادة الله - تعالى -. فهؤلاء يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بهذا الطريق، وهذه طريق فاسدة، فلا جرم لم ينتفع بها. والتأويل الثاني: أنَّهم قالوا: اتخذنا هذه التماثيل على صور الأنبياء والأولياء، والمراد من عبادتها أن يصير أولئك الأنبياء والأولياء شعفاءنا عند الله - تعالى -، وهذا الطريق أيضاً فاسد؛ فلا جرم لم ينتفع بها. وأيضاً: نقل عن الجنيد أنَّهم يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بقتل أنفسهم تارة، وبإحراق أنفسهم أخرى، وهذا الطريق أيضاص فاسد، فلا جرم لم ينتفع بها، وكذا القول في جميع فرق المبطلين الذين يتقرَّبون إلى الله - تعالى - بمذاهبهم الباطلة. والشرط الثالث: قوله تعالى: {وَهُوَ مُؤْمِنٌ} . وهذا الشرط معتبرٌ؛ لأنَّ الشرط في كون أعمال البرِّ موجبة للثواب هو الإيمان، فإذا لم يوجد، لم يحصل المشروط، ثمَّ إنه - تعالى - أخبر أنَّ عند حصول هذه الشرائط يصير السعي مشكوراً، والعمل مبروراً. واعلم أن الشُّكر عبارة عن مجموع أمور ثلاثة: اعتقاد كونه محسناً في تلك الأعمال، والثناء عليه بالقول، والإتيان بأفعال تدلُّ على كونه معظماً عند ذلك الشَّاكر، والله - تعالى - يعامل المطيعين بهذه الأمور الثلاثة، فإنَّه تعالى عالمٌ بكونهم محسنين في تلك الأعمال، وإنه تعالى يثني عليهم بكلامه؛ وإنَّه تعالى يعاملهم بمعاملة دالَّة على كونهم مطيعين عند الله - تعالى -. وإذا كان مجموع هذه الثلاثة حاصلاً، كانوا مشكورين على طاعتهم من قبل الله - تعالى -. يروى في كتب المعتزلة: أنَّ جعفر من حربٍ حضر عنده رجل من أهل السنَّة، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 243 وقال: الدليل على أن الإيمان حصل بخلق الله تعالى: أنا نشكر على الإيمان، ولو لم يكن الإيمان حاصلاً بإيجاده، لامتنع أن نشكره عليه؛ لأنَّ مدح الإنسان وشكره على ما ليس من عمله قبيحٌ. قال الله - تعالى -: {وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ} [آل عمران: 188] . فعجز الحاضرون على الجواب، فدخل ثمامة بن الأشرسِ، وقال: إنَّا نمدحُ الله - تعالى - ونشكره على ما أعطانا من القدرة، والعقل، وإنزال الكتب، وإيضاح الدلائل، والله - تعالى - يشكرنا على فعل الإيمان، قال الله - تعالى -: {فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً} قالوا: فضحك جعفر بن حربٍ وقال: صعبت المسألة، فسهلت. واعلم أن قولنا: مجموع القدرة مع الداعي يوجبُ الفعل كلامٌ واضح؛ لنه «تعالى» هو الذي أعطى الموجب التَّام لحصول الإيمان، فكان هو المستحقَّ للشُّكر، ولما حصل الإيمان للعبد، وكان الإيمان موجباً للسَّعادة التَّامَّة، صار العبدُ أيضاً مشكوراً، ولا منافاة بين الأمرين. فصل اعلم أنَّ كلَّ من أتى بفعلٍ، فإمَّا أن يقصد به تحصيل خيراتِ الدنيا، أو تحصيل الآخِرة، أو يقصد به مجموعهما، أو لم يقصد به واحد منهما. فإن قصد به تحصيل خيراتِ الدنيا فقط، أو تحصيل الآخرة فقط، فالله - تعالى - ذكر حكم هذين القسمين في هذه الآية، وأما القسمُ الثالث فينقسمُ ثلاثة أقسامٍ: إمَّا أن يكون طلب الآخرة راجحاً أو مرجوحاً، أو يكون الطلبان متعادلين. فإن كان طلب الآخرة راجحا، فهل يكون هذا العمل مقبولاً عند الله تعالى بحيث يحتمل أن يقال: إنه غير مقبولٍ؛ لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حاكياً عن الله - تعالى - أنه قال: «أنَا أغْنَى الأغنِيَاءِ عن الشِّركِ من عَملَ عَملاً أشْركَ فِيهِ غَيْرِي تَركْتهُ وشَريكَهُ .» وأيضاً: طلب رضوان الله - تعالى - إما أن يكون سبباً مستقلاً بكونه باعثاً على ذلك الفعل، وداعياً إليه، وإمَّا ألا يكون. فإن كان الأول امتنع أن يكون لغيره مدخلٌ في ذلك البعث والدعاء؛ لأنَّ الحكم إذا أسند إلى سبب كامل تامٍّ، امتنع أن يكون لغيره مدخل فيه، وإن كان الثاني، فيكون الدَّاعي إلى ذلك الفعل هو المجموع، وذلك المجموع ليس هو طلب الرضوان من الله - تعالى -؛ لأنَّ المجموع الحاصل من الشَّيء ومن غيره يجب أن يكون مغايراً لطلب رضوان الله؛ فوجب ألا يكون مقبولاً، ويحتمل أن يقال: لما كان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 244 طلب الآخرة راجحاً على طلب الدنيا تعارض المثلُ بالمثلِ، فيبقى القدر الزائدُ داعية خالصة لطلب الآخرة؛ فوجب كونه مقبولاً. وأمَّا إذا كان طلب الدنيا وطلب الآخرة متعادلين، أو كان طلبُ الدنيا راجحاً، فقد اتفقوا على أنه غيرُ مقبولٍ، إلاَّ أنه على كلِّ حالٍ خير مما إذا كان طلب الدنيا خالياً بالكليَّة عن طلب الآخرة. وأما القسم الرَّابع، وهو الإقدام على الفعل من غير داع، فهو مبنيٌّ على أنَّ صدور الفعل من القادر، هل يتوقَّف على حصول الدَّاعي أم لا؟ . فالذين يقولون: إنَّه متوقِّف على حصول الداعي، قالوا: هذا القسم ممتنع الحصول، والَّذين قالوا: إنَّه لا يتوقَّف، قالوا: هذا الفعل لا أثر له في الباطن، وهو محرَّم في الظاهر؛ لأنه عبثٌ. فصل في معنى الآية معنى الآية أنه تعالى يمدُّ الفريقين بالأموال، ويوسِّع عليهما في الرِّزق، والعزِّ والزينة في الدنيا؛ لأنَّ عطاءه ليس بضيِّقٍ على أحدٍ مؤمناً كان أو كافراً؛ لأنَّ الكلَّ مخلوق في دار العمل؛ فوجب إزاحةُ العذر وإزالة العلَّة عن الكلِّ. والتنوين في «كُلاًّ» عوضٌ من المضاف إليه، أي كلَّ واحد من الفريقين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 245 «كيف» نصب: إمَّا على التشبيه بالظرف، وإمَّا على الحال، وهي معلقة ل «انْظُرْ» بمعنى فكِّر، أو بمعنى أبصرْ. والمعنى: أنا أوصلنا إلى مؤمنٍ، وقبضنا عن مؤمنٍ آخر، وأوصلنا إلى كافرٍ، وقبضنا عن كافرٍ آخر، وقد ببيَّن - تعالى - وجه الحكمة في هذا التفاوت، فقال جلَّ ذكره: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الزخرف: 32] . وقال تعالى في آخر سورة الأنعام: {وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} [الأنعام: 165] الآية. ثم قال تعالى: {وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً} أي: من درجات الدنيا، ومن تفضيل الدنيا، والمعنى: أن الآخرة أعظم وأشرف من الدنيا. أي: أن المؤمنين يدخلون الجنَّة، والكافرين يدخلون النَّار، فتظهر فضيلة المؤمنين على الكافرين، ونظيره قوله - تعالى -: {أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} [الفرقان: 24] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 245 لما بيَّن تعالى أن النَّاس فريقان؛ منهم: من يريد بعمله الدنيا فقط، وهم أهل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 245 العذاب، ومنهم: من يريد طاعة الله، وهم أهل الثواب، ثم شرط في ذلك ثلاثة شروط: أن يريد الآخرة، وأن يعمل عملاً، ويسعى سعياُ موافقاً لطلب الآخرة، وأن تكون مؤمناً لا جرم فصَّل في هذه الآية تلك المجملات، فبدأ أوَّلاً بشرحِ حقيقة الإيمان، وأشرفُ أجزاء الإيمان هو التوحيد، ونفي الشِّرك، فقال عزَّ وعلا: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ} . ثم ذكر عقيبه سائر الأعمال التي يكونُ المشتغلُ بها ساعياً سعي الآخرة. قال المفسِّرون: الخطاب مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمراد غيره كقوله تعالى: {يا أيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء} [الطلاق: 1] وقيل: الخطاب للإنسان، وهذا أولى؛ لأنَّه تعالى عطف عليه قوله - تعالى -: وقيل: الخطاب للإنسان، وهذا أولى؛ لأنَّه تعالى عطف عليه قوله تعالى -: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] إلى قوله تعالى: {إمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا} [الإسراء: 23] . وهذا لا يليق بالنبي صلوات الله وسلامه عليه - لأنَّ أبويه ما بلغا الكبر عنده. الأول: أنَّ المشرك كاذب، والكاذب يستوجب الذمَّ، والخذلان. الثاني: أنَّه لما ثبت بالدَّليل: أنه لا إله ولا مدبِّر إلاَّ الواحد الأحد، فحينئذ: يكون جميع النِّعم حاصلة من الله - تعالى -، فمن أشرك بالله، فقد أضاف بعض تلك النِّعم إلى غير الله، مع أن الحقَّ أن كلَّها من الله، فحينئذ يستحقُّ الذمَّ؛ لأنَّ المستحقَّ للشُّكر على تلك النعم هو الخالقُ لها، فلمَّا جحد كونها من الله - تعالى - فقد قابل إحسان الله - تعالى - بالإساءة والجحود، فاستوجب الذمَّ، ويستحقُّ الخذلان؛ لأنَّه لما أثبت لله شريكاً، استحقَّ أن يفوض أمره إلى ذلك الشَّريك، ولمَّا كان ذلك الشريكُ معدوماً، بقي بلا ناصرٍ ولا حافظٍ ولا معينٍ، وذلك عينُ الخذلان. الثالث: أنَّ الكمال في الوحدة، والنقصان في الكثرة، فمن أثبت الشَّريك، فقد وقع في جانب النقصان. قوله تعالى: {فَتَقْعُدَ} : يجوز أن تكون على بابها، فينتصب ما بعدها على الحال، ويجوز أن تكون بمعنى «صار» فينتصب على الخبريَّة، وإليه ذهب الفراء والزمخشريُّ، وأنشدوا في ذلك. 3393 - لا يُقْنِعُ الجَارِيةَ الخِضَابُ ... ولا الوِشَاحَانِ ولا الجِلْبَابُ مِن دُون أن تَلتَقِيَ الأرْكابُ ... ويَقْعُدَ الأيْرُ لهُ لُعَابُ أي: ويصير، والبصريُّون لا يقيسون هذا، بل يقتصرون به على المثل في قولهم: «شَحَذَ شفرته؛ حتَّى قعَدتْ كأنَّها حَربَةٌ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 246 وقال الواحديُّ: «فَتَقْعد» : انتصب؛ لأنَّه وقع بعد الفاء؛ جواباً للنهي، وانتصابه بإضمار «أن» كقولك: لا تنقطع عنَّا، فنجفوك، والتقدير: لا يكن منك انقطاعٌ؛ فيحصل أن نجفوك، فما بعد الفاء متعلَّق بالجملة المتقدمة بحرف الفاء، وإنَّما سمَّاه النحويون جواباً؛ لكونه مشابهاً للجزاءِ في أنَّ الثاني مسبَّب عن الأول؛ ألا ترى أنَّ المعنى: إن انقطعت جفوتك، كذلك تقدير الآية إن جعلت مع الله إلهاً آخر، قعدت مذموماً مخذولاً. فصل في معنى القعود في الآية ذكروا في هذا القعود وجوهاً: أحدها: أن معناه المكث أي: فتمكُث في النَّاس مذموماً مخذولاً، وهذه اللفظة مستعملةٌ في لسان العرب والفرس في هذا المعنى، إذا سأل الرجلُ غيره: ما يصنعُ فلانٌ في تلك البلدة؟ فيقول المجيب: هو قاعدٌ بأسوأ حالٍ. معناه: المكث، سواء كان قائماً أو قاعداً وثانيها: أنَّ من شأن المذموم المخذول أن يقعد نادماً متفكراً على ما فرط منه. وثالثها: أنَّ المتمكن من تحصيل الخيرات يسعى في تحصيلها، والسَّعي إنما يتأتى بالقيام، وأما العاجزُ عن تحصيلها، فإنَّه لا يسعى، بل يبقى جالساً قاعداً عن الطَّلب، فلمَّا كان القيام على الرَّجلِ أحد الأمور التي يتمُّ بها الفوز بالخيرات، وكان القعود والجلوس علامة على عدم تلك المكنة والقدرة، لا جرم جعل القيام كناية عن القدرة على تحصيل الخيرات، والقعود كناية عن العجز والضعف. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 247 قوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} . لما ذكر في الآية المتقدمة ما هو الركن الأعظم في اللإيمان، أتبعه بذكر ماهو من شعائر الإيمان وشرائعه، وهي أنواع: الأول: أن يشتغل الإنسان بعبادة الله سبحانه وتعالى، ويتحرَّز عن عبادة غير الله تعالى. والقضاءُ: الحكم الجزم البتُّ الذي لا يقبل النسخ؛ لأنَّ الواحد منا، إذا أمر غيره بشيءٍ لا يقال: قضى عليه، فإذا أمره أمراً جزماً، وحكم عليه بذلك على سبيل البتِّ والقطع، فها هنا يقال: قضى عليه، وروى ميمون بن مهران عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 247 عَنْه - أنه قال في هذه الآية: كان الأصلُ: «ووصَّى ربُّكَ» ، فالتصقت إحدى الواوين بالصَّاد، فصارت قافاً فقرئ «وقَضَى ربُّكَ» . ثم قال: ولو كان على القضاء ما عصى الله أحدٌ قط؛ لأنَّ خلاف قضاء الله ممتنعٌ، هذا رواه عنه الضحاك بنُ مزاحم، وسعيد بن جبيرٍ، وهو قراءة عليٍّ وعبد الله. وهذا القول بعيدٌ جدًّا؛ لأنه يفتح باب أنَّ التحريف والتغيير قد تطرق إلى القرآن، ولو جوَّزنا ذلك، لارتفع الأمانُ عن القرآن، وذلك يخرجه عن كونه حجَّة، وذلك طعنُ عظيمٌ في الدِّين. وقرأ الجمهور «قَضَى» فعلاً ماضياً، فقيل: هي على موضوعها الأصلي؛ قال ابن عطية: «ويكون الضمير في» تَعْبدُوا «للمؤمنين من الناس إلى يوم القيامة» . وقال ابن عبَّاس وقتادة والحسن بمعنى: أمَرَ. وقال مجاهد: بمعنى: أوصى. وقال الربيع بن أنسٍ: أوجب وألزم. وقيل بمعنى: حكم. وقرأ بعض ولد معاذ بن جبل: «وقضاءُ ربِّك» اسماً مصدراً مرفوعاً بالابتداء، و «ألاَّ تَعْبدُوا» خبره. قوله تعالى: {أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} : يجوز أن تكون «أنْ» مفسرة؛ لأنها بعد ما هو بمعنى القول، و «لا» ناهية، ويجوز أن تكون الناصبة، و «لا» نافية، أي: بأن لا، ويجوز أن تكون المخففة، واسمها ضمير الشأن، و «لا» ناهية أيضاً، والجملة خبرها، وفيه إشكال؛ من حيث وقوع الطَّلب خبراً لهذا الباب، ومثله في هذا الإشكال قوله: {أَن بُورِكَ مَن فِي النار} [النمل: 8] ، وقوله: {أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ} [النور: 9] لكونه دعاء، وهو طلبٌ أيضاً، ويجوز أن تكون الناصبة، و «لا» زائدة. [قال أبو البقاء: «ويجوز أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 248 يكون في موضع نصب، [أي:] ألزم ربُّك عبادته و» لا «زائدة» ] . قال أبو حيَّان: «وهذا وهمٌ؛ لدخول» إلاَّ «على مفعول» تَعْبدُوا «فلزم أن يكون نفياً، أو نهياً» . قوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} قد تقدم نظيره في البقرة. وقال الحوفي: «الباء متعلقة ب» قَضَى «ويجوز أن تكون متعلقة بفعلٍ محذوف تقديره: وأوصى بالوالدين إحساناً، و» إحساناً «مصدر، أي: يحسنون بالوالدين إحساناً» . وقال الواحديُّ: «الباءُ من صلة الإحسان، فقدِّمت عليه؛ كما تقول: بزيدٍ فانزل» وقد منع الزمخشري هذا الوجه؛ قال: «لأنَّ المصدر لا يتقدَّم عليه معموله» . قال شهاب الدين: والذي ينبغي أن يقال: إنَّ هذا المصدر إن عنى به أنَّه ينحلُّ لحرفٍ مصدريٍّ، وفعلٍ، فالأمر على ما ذكر الزمخشريُّ، وإن كان بدلاً من اللفظ بالفعل، فالأمرُ على ما قال الواحديُّ، فالجوازُ والمنع بهذين الاعتبارين. وقال ابن عطية: «قوله {وبالوالدين إِحْسَاناً} عطف على» أنْ «الأولى، أي: أمر الله ألاَّ تعبدوا إلاَّ إيَّاه، وأن تحسنوا بالوالدين إحساناً» . واختا رأبو حيَّان أن يكون «إحْسَاناً» مصدراً واقعاً موقع الفعل، وأنَّ «أنْ» مفسرة، و «لا» ناهية، قال: فيكون قد عطف ما هو بمعنى الأمر على نهيٍ؛ كقوله: [الطويل] 3394 - ... ... ... ... ... ..... يقُولُونَ: لا تهْلِكَ أسًى وتَجمَّلِ قلت: و «أحْسنَ» و «أسَاءَ» يتعدَّيان ب «إلى» وب «الباء» . قال تعالى: {وَقَدْ أَحْسَنَ بي} [يوسف: 100] وقال كثير عزَّة: [الطويل] 3395 - أسِيئي بِنَا أو أحْسِنِي لا مَلُومَة ..... ... ... ... ... ... . . وكأنه ضُمِّن «أحْسنَ» لمعنى «لَطُفَ» فتعدَّى تعديته. فصل في نظم الآية لماأمر بعبادة نفسه أتبعه ببرِّ الوالدين، ووجه المناسبة بين الأمرين أمورٌ: أوَّلها: أنَّ السبب الحقيقيَّ لوجود الإنسان هو تخليق الله وإيجاده، والسبب الظاهريّ هو الأبوان، فأمر بتعظيم السبب الحقيقي، ثم أتبعه بالأمر بتعظيم السبب الظاهري. وثانيها: أنَّ الموجود: إما قديمٌ، وإما محدث، ويجب أن تكون معاملة الإنسان مع الإله القديم بالتعظيم والعبودية، ومع المحدث بإظهار الشفقة، وهو المراد من قوله - صلوات الله البرِّ الرَّحيم وسلامه عليه -: «والتعظيم لأمر الله، والشفقة على خلق الله» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 249 وأحقُّ الخلق بالشفقة الأبوان؛ لكثرة إنعامهما على الإنسان. فقوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} إشارة إلى التَّعظيم لأمر الله تعالى، وقوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} إشارة إلى الشَّفقة على خلق الله. وثالثها: أنَّ الاشتغال بشكر المنعم واجبٌ، ثمَّ المنعم الحقيقي هو الخالق سبحانه وتعالى جلَّ ذكره لا إله إلا هو، وقد يكون بعض المخلوقين منعماً عليك، وشكره أيضاً واجبٌ؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ لمْ يشكُر النَّاس، لمْ يشكُر الله» ، وليس لأحدٍ من الخلائق نعمةٌ على الإنسان مثل ما للوالدين، وتقريره من وجوه: أحدها: أن الولد قطعةٌ من الوالدين؛ قال - عليه السلام -: «فَاطِمةُ بضَعةٌ منِّي يُؤذِينِي ما يُؤذيها» . وأيضاً شفقة الوالدين على الولد عظيمة، وجدهما في إيصال الخير إلى الولد أمرٌ طبيعيٌّ، واحترازهما عن إيصال الضرر إليه أمر طبيعيٌّ أيضاً؛ فوجب أن تكون نعم الوالدين على الولد كثيرة، بل هي أكثر من كلِّ نعمة تصل من إنسانٍ إلى إنسانٍ. وأيضاً: حال ما يكون الإنسان في غاية الضَّعفِ ونهاية العجز يكون جميعُ أصناف نعم الأبوين في ذلك الوقت واصلة إلى الولدِ، وإذا وقع الإنعام على هذا الوجه، كان موقعه عظيماً. وأيضاً: فإيصال الخير إلى الغير قد يكون لداعية إيصال الخير إليه، وإيصال الخير إلى الولد ليس لهذا الغرض، فكان الإنعام فيه أتمَّ وأكمل، فثبت بهذه الوجوه أنه ليس لأحدٍ من المخلوقين نعمةٌ على غيره مثل ما للوالدين على الولدِ، فلهذا بدأ الله بشكر نعمة الخالق؛ فقال تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} ثم أردفه بشكر نعمة الوالدين، فقال تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} . فإن قيل: إنَّ الوالدين إنَّما طلبا تحيل اللذَّة لأنفسهما؛ فلزم منه دخول الولد في الوجود، ودخوله في عالم الآفات والمخافات، فأيُّ إنعامٍ للأبوين على الولد. يحكى أن بعض المنتسبين للحكمة كان يضربُ أباه، ويقول: هو الذي أدخلني في عالم الكون والفساد، وعرَّضني للموت، والفقر، والعمى، والزَّمانة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 250 وقيل لأبي العلاء المعرِّي: ماذا تكتب على قبرك؟ فقال اكتبوا عليه: [الكامل] 3396 - هَذَا جَناهُ أبِي عَلَيْ ... يَ وما جَنَيْتُ عَلى أحَدْ 3397 - وتَركْتُ فِيهِمْ نِعْمةَ الْ ... عدم التي سبقت نعيم العاجل ولوْ أنَّهُمْ ولَدُوا لعَانَوا شِدَّة ... تَرْمِي بِهمْ في مُوبِقاتِ الآجلِ وقيل للإسكندر: أستاذك أعظم ملَّة عليك أم والدك؟ فقال: الأستاذ أعظم منَّة؛ لأنَّه تحمَّل أنواع الشَّدائد عند تعليمي وأوقفني في نور العلم، وأمَّا الوالدُ فإنه طلب تحصيل لذة الوقاع لنفسه، فأخرجني إلى آفاتِ عالمِ الكون والفساد. ومن الكلمات المشهورة المأثورة: «خَيْرُ الآبَاءِ من عَلَّمكَ» والجواب: هبْ أنَّه في أوَّل الأمر طلب لذة الوقاع، إلاَّ أن الاهتمام بإيصال الخيراتِ إليه، ودفع الآفاتِ من أوَّل دخوله في الوجود إلى وقت بلوغه الكبر، أليس أنَّه أعظم من جميع ما يصل إليه من جهاتِ الخيرات والميرات؟ فسقطت هذه الشبهات. واعلم أن لفظ الآية يدلُّ على معانٍ كثيرة، كل واحدٍ منها يوجب المبالغة في الإحسان إلى الوالدين، منها أنه تبارك وتعالى قال في الآية المتقدمة: {وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا} [الإسراء: 19] ، ثم أردفه بهذه الآية المشتملة على الأعمال التي يحصل بها الفوز بسعادة الآخرة. وذكر من جملتها البرَّ بالوالدين، وذلك يدلُّ على أن هذه الطاعة من أصول الطَّاعات التي تفيد سعادة الآخرة. ومنها أنَّه تعالى بدأ بذكر الأمر بالتَّوحيد، وثنَّى بطاعة الله، وثلَّث ببرِّ الوالدين، وهذه درجة عالية ومبالغة عظيمة في تعظيم هذه الطَّاعة. ومنها: أنه تعالى لم يقل: «وإحْسَاناً بالوَالِديْنِ» ، بل قال: {وبالوالدين إِحْسَاناً} ، فتقديم ذكرهما يدل على شدَّة الاهتمام. ومنها: أنه تعالى قال: «إحْسَاناً» بلفظ التنكير، والتنكير يدلُّ على التعظيم، أي: إحساناً عظيماً كاملاً؛ لأنَّ إحسانهما إليك قد بلغ الغاية العظيمة؛ فوجب أن يكون إحسانك إليهما كذلك، وإن لم تحسن إليهما كذلك، فلا تحصل المكافأة؛ لأنَّ إنعامهما عليك كان على سبيل الابتداءِ، وفي الأمثال المشهورة: «إنَّ البَادِئ بالبرِّ لا يُكَافأ» . قوله تعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ} قرأ الأخوان «يَبْلغانِّ» بألف التثنية قبل نون التوكيد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 251 المشددة المكسورةِ، والباقون دون ألف وبفتحِ النون، فأمَّا القراءة الأولى، ففيها أوجه: أحدها: أن الألف ضمي رالوالدين؛ لتقدُّم ذكرهما، و «أحَدُهمَا» بدلٌ منه، و «أو كلاهما» عطف عليه، وإليه نحا الزمخشريُّ وغيره، واستشكله بعضهم بأنَّ قوله «أحَدهُمَا» بدل بعضٍ من كلٍّ، لا كل من كلٍّ؛ لأنه غير وافٍ بمعنى الأول، وقوله بعد ذلك «أو كلاهما» عطف على البدل، فيكون بدلاً، وهو من بدل الكلِّ من الكلِّ؛ لأنه مرادف لألف التثنية، لكنه لا يجوز أن يكون بدلاً؛ فعروِّه عن الفائدة؛ إذ المستفادُ من ألف التثنية هو المستفاد من «كِلاهمَا» فلم يفد البدل زيادة على المبدل منه. قال شهاب الدين: هذا معنى قول أبي حيَّان، وفيه نظر؛ إذ لقائلٍ أن يقول: مسلَّمٌ أنَّه لم يفد البدل زيادة على المبدل منه، لكنه لا يضرُّ؛ لأنه شأن التأكيد، ولو أفاد زيادة أخرى غير مفهومة من الأول كان تأسيساً لا تأكيداً، وعلى تقدير تسليم ذلك، فقد يجاب عنه بما قال ابن عطيَّة؛ فإنه قال بعد ذكره هذا الوجه: وهو بدلٌ مقسِّم؛ كقول الشاعر: [الطويل] 3398 - وكُنْتُ كَذِي رجْليْنِ رجٍلٍ صَحِيحَةٍ ... ورِجْلٍ رَمَى فيها الزَّمانُ فشَلَّتِ إلا أنَّ أبا حيَّان تعقَّب كلامه، فقال: «أمَّا قوله: بدلٌ مقسم؛ كقوله: 3399 - » وكُنْتُ ..... ... ... . . « فليس كذلك؛ لأنَّ شرطه العطف بالواو، وأيضر فشرطه: ألاَّ يصدق المبدل منه على أحد قسميه، لكن هنا يصدق على أحد قسميه؛ ألا ترى أنَّ الألف، وهي المبدل منه يصدق على أحد قسميها، وهو» كلاهما «فليس من البدلِ المقسِّم» . ومتى سلِّم له الشرطان، لزم ما قاله. الثاني: أن الألف ليست ضميراً، بل علامة تثنية، و «أحَدُهمَا» فاعل بالفعل قبله، و «أو كِلاهُمَا» عطف عليه، وقد ردَّ هذا الوجه: بأنَّ شرط الفعل الملحقِ به علامة تثنية: أن يكون مسنداً لمثنى؛ نحو: قَامَا أخواك، أو إلى مفرَّق بالعطف بالواو خاصة على خلاف فيه؛ نحو: «قَامَا زيدٌ وعمرٌو» ، لكنَّ الصحيح جوازه؛ لوروده سماعاً كقوله: [الطويل] 3400 - ... ... ... ... ... ... ... . ... وقَدْ أسْلمَاهُ مُبعدٌ وحَمِيمُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 252 والفعلُ هنا مسندٌ إلى «أحدهما» وليس مثنًّى، ولا مفرَّقاً بالعطف بالواو. الثالث: نقل عن الفارسي أن «كلاهما» توكيد، وهذا لا بد من إصلاحه بزيادة، وهو أن يجعل «أحدهما» بدل بعضٍ من كلٍّ، ويضمر بعده فعلٌ رافعٌ لضمير تثنية، ويقع «كلاهما» توكيداً لذلك الضمير تقديره: أو يبلغا كلاهما، إلا أنه فيه حذف المؤكد وإبقاء التوكيد، وفيها خلاف، أجازها الخليل وسيبويه نحو: «مَررْتُ بزَيْدٍ، ورَأيْتُ أخَاكَ أنْفُسَهُمَا» بالرفع والنصب، فالرفع على تقدير: هما أنفسهما، والنصب على تقدير أعينهما أنفسهما، ولكن في هذا نظرٌ؛ من حيث إنَّ المنقول عن الفارسي منع حذف المؤكَّد وإبقاء توكيده، فكيف يخرَّجُ قوله على أصلٍ لا يجيزه؟ . وقد نصَّ الزمخشريُّ على منع التوكيدِ، فقال: «فإن قلت: لو قيل:» إمَّا يَبْلغانِّ كلاهما «كان» كِلاهما «توكيداً لا بدلاً، فما لك زعمْتَ أنه بدلٌ؟ قلت: لأنه معطوفٌ على ما لا يصحُّ أن يكون توكيداً للاثنين، فانتظم في حكمه؛ فوجب أن يكون مثله» قلت: يعني أنَّ «أحدهما» لا يصلح أن يكون توكيداً للمثنى، ولا لغيرهما، فكذا ما عطف عليه؛ لأنه شريكه. ثم قال: «فإن قلت: ما ضرَّك لو جعلته توكيداً مع كونِ المعطوف عليه بدلاً، وعطفت التوكيد على البدل؟ قلت: لو أريد توكيد التثنية، لقيل:» كِلاهُمَا «فحسب، فلما قيل:» أحَدهُمَا أو كِلاهُمَا «علم أنَّ التوكيد غير مرادٍ، فكان بدلاً مثل الأول» . الرابع: أن يرتفع «كِلاهُمَا» بفعل مقدرٍ تقديره: أو يبلغُ كلاهما، ويكون «أحدهما» بدلاً من الفالضمير بدل بعضٍ من كلٍّ، والمعنى: إمَّا يبلغنَّ عندك أحد الوالدين أو يبلغ كلاهما. قال البغوي - رَحِمَهُ اللَّهُ - فعلى قراءة حمزة والكسائي قوله: «أحَدهُمَأ أو كِلاهُمَا» كلام مستأنف؛ كقوله تعالى: {ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [المائدة: 71] وقوله تعالى: {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] فقوله: {الذين ظَلَمُواْ} ابتداء. وأما القراءة الثانية فواضحة، و «إمَّا» هي «إنْ» الشرطية زيدتْ عليها «ما» توكيداً، فأدغم أحد المتقاربين في الآخر بعد أن قلب إليه، وهو إدغام واجب، قال الزمخشريُّ: «هي إن الشرطية زيدت عليها» ما «توكيداً لها؛ ولذلك دخلت النون، ولو أفردت» إنْ «لم يصحَّ دخولها، لا تقول: إن تُكرمنَّ زيداً، يُكرمْكَ، ولكن: إمَّا تُكرِمنَّهُ» . وهذا الذي قاله الزمخشريُّ نصَّ سيبويه على خلافه، قال سيبويه: وإنْ شِئْتَ، لم تُقْحمِ النون، كما أنك، إن شئت، لم تجئ ب «مَا» قال أبو حيَّان: «يعني مع النون وعدمها» وفي هذا نظر؛ لأنَّ سيبويه، إنما نصَّ على أنَّ نون التوكيد لا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 253 يجب الإتيان بها بعد «أمَّا» وإن كان أبو إسحاق قال بوجوب ذلك، وقوله بعد ذلك: كما أنَّك إن شِئْتَ لم تجئ ب «مَا» ليس فيه دليلٌ على جواز توكيد الشَّرط مع «إنْ» وحدها. و «عِندكَ» ظرفٌ ل «يَبْلغَنَّ» و «كِلا» مثناةٌ معنى من غير خلاف، وإنما اختلفوا في تثنيتها لفظاً: فمذهب البصريِّين: أنها مفردة لفظاً، ووزنها على فعل؛ ك «مِعَى» وألفها منقلبة عن واوٍ، بدليل قلبها تاء في «كِلْتَا» مؤنث «كِلا» هذا هو المشهور، وقيل: ألفها عن ياءٍ، وليس بشيءٍ، وقال الكوفيُّون: هي مثناة لفظاً؛ وتبعهم السهيليُّ مستدلِّين على ذلك بقوله: [الرجز] 3401 - في كِلْتِ رِجْليْهَا سُلامَى وَاحِده ..... ... ... ... ... ... فنطق بمفردها؛ ولذلك تعربُ بالألف رفعاً والياء نصباً وجراً، فألفها زائدة على ماهية الكلمة كألف «الزيدان» ÷ ولامها محذوفة عند السهيليِّ، ولم يأت عن الكوفيين نصٌّ في ذلك، فاحتمل أن يكون الأمر كما قال السهيليُّ، وأن تكون موضوعة على حرفين فقط، لأنَّ مذهبهم جواز ذلك في الأسماءِ المعربة. قال أبو الهيثن الرَّازيُّ وأبو الفتح الموصليُّ، وأبو عليٍّ الجرجانيُّ إن «كلا» اسم مفرد يفيد معنى التثنية، ووزنه فعل، ولامه معتلٌّ بمنزلة لام «حِجَى ورِضَى» وهي كلمة وضعت على هذه الخلقة يؤكد بها الاثنان خاصة، ولا تكون إلا مضافة؛ لأنَّها لو كانت تثنية، لوجب أن يقال في النَّصب والخفض: «مَرَرْتُ بِكلَي الرَّجليْنِ» بكسر الياء، كما يقال: «بَيْنَ يَدي الرَّجُل: و» مِنْ ثُلُثي اللَّيْلِ «و» يَا صَاحِبَي السِّجْنِ «و» طَرفي النَّهارِ «، ولما لم يكن كذلك، علمنا أنَّها ليست تثنية، بل هي لفظة مفردة، وضعت للدلالة على التثنية، كما أنَّ لفظة» كُل «اسمٌ واحدٌ موضوع للجماعة، فإذن أخبرت عن لفظه، كما تخبر عن الواحد؛ كقوله تعالى: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً} [مريم: 95] ، فكذا إن أخبرت عن» كِلاَ «أخبرت عن واحدٍ، فقلت: كلا أخويك كان قائماً. قال الله تعالى: {كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا} [الكهف: 33] . ولم يقل:» آتَنَا «. وحكمها: أنَّها متى أضيفت إلى مضمرٍ أعربت إعراب المثنى، أو إلى ظاهر، أعْرِبت إعراب المقصور عند جمهور العرب، وبنو كنانة يعربونها إعراب المثنى مطلقاً، فيقولون: رأيت كِلَى أخوَيْكَ، وكونها جرتْ مجرى المثنى مع المضمر، دون الظاهر يطول ذكره. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 254 ومن أحكامها: أنَّها لا تضافُ إلاَّ إلى مثنى لفظاً [ومعنى نحو:» كلا الرَّجليْنِ «] ، أو معنى لا لفظاً؛ نحو:» كِلانَا «ولا تضاف إلى مفرَّقين بالعطف نحو» كِلا زَيْدٍ وعمرٍو «إلا في ضرورةٍ؛ كقوله: [الطويل] 3402 - إنَّ للخَيْرِ وللشَّرِّ مَدًى ... وكِلاَ ذلِكَ وجْهُ وقَبَلْ والأكثر مطابقتها فيفرد خبرها وضميرها؛ نحو: كلاهما قائم، وكلاهما ضربته، ويجوز في قليل: قائمان، وضربتهما؛ اعتباراً بمعناهما، وقد جمع الشاعر بينهما في قوله: [البسيط] 3404 - كِلاهُمَأ حِينَ جَدَّ الجَرْيُ بَيْنهُمَا ... قَد أقْلعَا وكِلاَ أنْفَيهِمَا رَابِي وقد يتعيَّن اعتبارُ اللفظ؛ نحو: كلانا كفيل صاحبه، وقد يتعيَّن اعتبارُ المعنى، ويستعمل تابعاً توكيداً، وقد لا يتبع، فيقع مبتدأ، ومفعولاً به، ومجرورواً، و «كِلْتَا» في جميع ما ذكر ك «كِلا» وتاؤها بدل عنواو، وألفها للتأنيث، ووزنها فعلى؛ كذكرى، وقال يونس: ألفها أصلٌ، وتاؤها مزيدة، ووزنها فعتلٌ، وقد ردَّ عليه الناس، والنسب إليها عند سيبويه: «كِلْوِي» كمذكرها، وعند يونس: كِلْتَوِيّ؛ لئلا تلتبس، ومعنى الآية أنَّهما يبلغان إلى حالة الضَّعف والعجز، فيصيران عندك في ىخر العمر، كما كنت عندهما في أوَّل العمر. قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} قوله: أفّ: اسم فعلٍ مضارعٍ بمعنى أتضجَّر، وهو قليلٌ؛ فإنَّ أكثر باب أسماء الأفعال أوامر، وأقل منه اسم الماضي، وأقلُّ منه اسم المضارع؛ ك «أف» وأوَّه، أي: أتوجَّع، وويْ، أي: أعجبُ، وكان من حقِّها أن تعرب؛ لوقوعها موقع معربٍ، وفيها لغاتٌ كثيرة، وصلها الرُّماني إلى تسع وثلاثين، وذكر ابنُ عطيَّة لفظة، بها تمَّت الأربعون، وهي اثنتان وعشرون مع الهمزة المضمومة: أفُّ، أفَّ، أفِّ، بالتشديد مع التنوين وعدمه، أفُ، أفَ، أفِ، بالتخفيف مع التنوين وعدمه، أُفْ بالسكون والتخفيف؛ أُفّْ بالسكون والتشديد، أفُّهْ، أُفَّهْ، أفِّهْ، أفَّا من غير إمالة، وبالإمالة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 255 المحضة، وبالإمالة بين بين، أفُّو أفِّ] : بالواو والباء، وإحدى عشرة مع كسرِ الهمزة: إفَّ، إفِّ: بالتشديد مع التنوين وعدمه، أَفَ، إفِ بالتخفيف مع التنوين وعدمه، إفًّا بالإمالة، وست مع فتح الهمزة: أفَّ أفِّ؛ بالتشديد مع التنوين وعدمه، أفْ بالسكون، أفا بالألف، فهذه تسعٌ وثلاثون لغة، وتمام الأربعين «» أفاهُ «بهاء السكت، وفي استخراجها بغير هذا الضَّابط الذي ذكرته عسر ونصب، يحتاج في استخراجه من كتب اللغة، ومن كلام أهلها، إلى تتبُّعٍ كثيرٍ، وأبو حيان لم يزدْ على أن قال:» ونحنُ نسردها مضبوطة كما رأيناها «، فذكرها، والنُّسَّاخ خالفوه في ضبطه، فمن ثمَّ جاء فيه الخللُ، فعدلنا إلى هذا الضَّابط المذكور، ولله الحمد والمنة. وقد قرئ من هذه اللغات بسبعٍ: ثلاثٍ في المتواتر، وأربعٍ في الشاذ، فقرأ نافع وحفص بالكسر والتنوين، وابن كثيرٍ، وابن عامرٍ بالفتح دون تنوين، والباقون بالكسر دون تنوين، ولا خلاف بينهم في تشديد الفاء، وقرأ نافع في رواية: أفٌ بالرفع والتنوين، وأبو السًّمال بالضمِّ من غير تنوين، وزيد بن عليِّ بالنصب والتنوين، وابن عبَّاسٍ:» أفْ «بالسكون. قال ابن الخطيب: والبحث المشكل ها هنا أنا لما نقلنا أنواعاً من اللغات في هذه اللفظة، فما السَّبب في أنَّهم تركوا أكثر تلك اللُّغاتِ في قراءةِ هذه اللفظة، واقتصروا على وجوه قليلة منها؟ . فصل في تفسير هذه اللفظة وجوهٌ: أحدها: قال الفراء: تقول العرب: «لعلَّ فلاناً يَتأفَّفُ من ريحٍ وجدها» معناه: يقول: أفٍّ أفٍّ. والثاني: قال الأصمعي: الأفُّ: وسخُ الآذانِ، والتُّفُّ: وسخُ الأظفار، يقال ذلك عند استقذار الشيء، ثم كثر، حتَّى استعملوه عند محلِّ ما يتأذُّون. الثالث: قال أبو عبيدة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أصل الأفِّ والتُّفِّ: الوسخُ على الأصابع إذا فَتلْتَها. الرابع: الأفُّ: ما يكون في المغابن من الوسخِ، والتُّفُّ ما يكون في الأصابع من الوسخ. الخامس: الأفُّ: وسخ الأظافرِ، والتُّفُّ ما رفعت بيدك من الأرْضِ من شيءٍْ حقيرٍ. السادس: قيل: أفٍّ: معناه قلًّة، وهو مأخوذ من الأفيفِ، وهو الشيء القليل، وتُفّ: إتباعٌ له؛ كقولهم شيطانٌ ليطانٌ، خبيثٌ نبيثٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 256 السابع: روى يعلبٌ عن ابن الأعرابيّ: الأفُّ: الضجر. الثامن: قال القتبيُّ: أصل هذه الكلمة أنَّه إذا سقط عليك ترابٌ أو رمادٌ، نفخت فيه لتزيله؛ والصَّوْت الحاصل عند تلك النفخةِ هو قولك: أفٍّ، ثم إنَّهم توسَّعوا، فذكروا هذه اللفظة عند كلِّ مكروه يصل إليهم. قال مجاهدٌ: معنى قوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} أي: لا تتقذَّرهما: كما أنَّهما لم يتقذَّراك حين كنت تخرى وتبول. وروي عن مجاهد أيضاً: إذا وجدت منهما رائحة تؤذيك، فلا تقل لهما: أفٍّ. فصل في دلالة الأفّ قول القائل: «لا تقلْ لفلانٍ: أفٍّ» مثل يضرب للمنعِ من كل مكروهٍ وأذيَّةٍ، وإن خفَّ وقلَّ. واختلف الأصوليُّون في أنَّ دلالة هذا اللفظ على المنع من سائر أنواع الإيذاء دلالةٌ لفظيةٌ، أو دلالة مفهومة بالقياس، فقيل: إنها دلالة لفظية، لأنَّ أهل العرف، إذا قالوا: لا تقل لفلانٍ أفٍّ، عنوا به أنَّه لا يتعرض له بنوعٍ من أنواع الأذى، فهو كقوله: فلانٌ لا يملكُ نقيراً ولا قطْمِيراً فهو بحسب العرف يدلُّ على أنه لا يملك شيئاً. وقيل: إنَّ هذا اللفظ، إنَّما دلَّ على المنعِ من سائر أنواعِ الأذى بالقياس الجليِّ. وتقريره: أنَّ الشَّرع، إذا نصَّ على حكمٍ في صورةٍ، وسكت عن حكم في صورةٍ أخرى، فإذا أردنا إلحاق الصُّورة المسكوت عن حكمها بالصورة المذكور حكمها، فهذا على ثلاثة أقسام: أحدها: أن يكون ثبوت ذلك الحكم في محلِّ السكوت أولى من ثبوته في محلِّ الذِّكر كهذه الصورة؛ فإنَّ اللفظ إنما دلَّ على المنع من التأفيف، والضَّرب أولى بالمنع. وثانيها: أن يكون الحكم ف يمحلِّ السكوت مساوياً للحكم في محلِّ الذِّكر، وهذا يسمِّيه الأصوليُّون: «القياس في معنى الأصل» كقوله صلوات الله وسلامه عليه: «مَنْ أعْتقَ شِركاً لهُ في عَبْدٍ، قُوِّمَ عليه البَاقِي» فإنَّ الحكم في الأمَةِ وفي العبد سواء. وثالثها: أن يكون الحكم في محلِّ السكوت أخفى من الحكم في محلِّ الذِّكرِ، وهو أكثر القياساتِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 257 إذا عرف هذا، فالمنع من التأفيف، إنما دلَّ على المنع من الضرب بالقياس الجليِّ من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى؛ لأنَّ التأفيف غير الضرب، فالمنع من التأفيف لا يكون منعاً من الضرب، وأيضاً: المنع من التأفيف لا يستلزم المنع من الضرب عقلاً؛ لأنَّ الملك الكبير، إذا أخذ ملكاً عظيماً، كان عدُوًّا له، فقد يقول للجلاَّد: إيَّاك أن تستخفَّ به أو تشافهه بكلمة موحشةٍ، لكن اضرب رقبته، وإذا كان هذا معقولاً في الجملة، علمنا أنَّ المنع من التأفيف يغاير المنع من الضرب، وغير مستلزم للمنع من الضرب في الجملة إلاَّ أنَّا علمنا في هذه الصورة: أنَّ المقصود من هذا الكلام المبالغة في تعظيم الوالدين، لقوله تعالى: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} . فكانت دلالة المنع من التأفيف على المنع من الضرب بالقياس من باب الاستدلال بالأدنى على الأعلى. قوله: «ولا تَنْهَرْهُمَا» أي: لا تَزْجُرهما، والنَّهْرُ: الزَّجْرُ بصياحٍ وغلظة وأصله الظهور، ومنه «النَّهْر» لظهوره، وقال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: «النَّهْيُ والنَّهْرُ والنَّهْمُ أخَواتٌ» . ويقال نهرهُ وانتهره، إذا استقبله بكلامٍ يزجره، قال تعالى: {وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ} [الضحى: 10] . فإن قيل: المنع من التأفيف يدلُّ على المنع من الانتهار؛ بطريق الأولى، فلما قدم المنعه من التأفيف، كان المنع من الانتهار بعده عبثاً، ولو فرضنا أنه قدَّم المنع من الانتهار على المنع من التأفيف، كان مفيداً؛ لأنه يلزم من المنع من الانتهار المنع من التأفيف، فما السَّبب في رعاية هذا التَّرتيب؟ . فالجواب: أن المراد من قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} المنع من إظهار الضَّجر بالقليل والكثير، والمراد من قوله {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا} المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الردِّ عليه. قوله تعالى: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} لمَّا منعه من القول المؤذي، وذلك لا يكون أمراً بالقول الطَّيب، فلا جرم: أردفه بأن أمره بالقول الحسن، فقال: {وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً} . قال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هو أن يقول له: يا أبتَاهُ يا أمَّاهُ، وقال عطاء: هو أن تتكلَّم معهما بشرط ألاَّ ترفع إليهما بصرك. وقال مجاهد: لا تُسمِّهِمَا ولاتكنِّهما، فهو كقول عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 258 فإن قيل: إنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - كان أعظم النَّاس حلماً وكرماً وأدباً، فكيف قال لأبيه: «يا آزرُ» على قراءة «لأبِيهِ آزَرُ» بالضمِّ {إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 74] فخاطبه بالاسم، وهو إيذاءٌ له، ثم نسبه ونسب قومه إلى الضلال، وعو أعظم أنواع الإيذاء. فالجواب أن قوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَانا} يدلُّ على أنَّ حقَّ الله متقدِّم على حقِّ الأبوين، فإقدام إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - على ذلك الإيذاء، إنَّما كان تقديماً لحق الله تعالى على حقِّ الأبوين. قوله تعالى: {واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة} . والمقصود المبالغة في التواضع، وهذه استعارة بليغة. قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: وفي تقريره وجهان: الأول: أنَّ الطائر، إذا أراد ضمَّ فرخه إليه للتربية خفض له جناحه، فلهذا صار خفض الجناح كناية عن حسن التربية، فكأنَّه قال للولد: اكفل والديك؛ بأن تَضمَّهما إلى نفسك، كما فعلا ذلك بك حال صغرك. والثاني: أنَّ الطائر، إذا أراد الطَّيران، نَشرَ جناحيه، ورفعهما؛ ليرتفع، وإذا أراد ترك الطيران، خفض جناحيه، فجعل خفض الجناحِ كناية عن التواضع واللِّين. وقال الزمخشري: «فإن قلت: ما معنى جناح الذلِّ؟ قلت: فيه وجهان: أحدهما: أن يكون المعنى: واخفض لهما جناحك، كما قال: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] فأضافه إلى الذُّلِّ [أو الذِّلِّ] ، كما أضيف حاتم إلى الجود على معنى: واخفض لهما جناحك الذَّليل أو الذَّلول. والثاني: أن تجعل لذُلِّه أو لذِلِّه جناحاً خفيضاً؛ كما جعل لبيد للشَّمال يداً، وللقرَّة زماماً، في قوله: [الكامل] 3405 - وغَداةِ رِيح قد كَشفْتُ وقَرَّةٍ ... إذْ أصَبْحَتْ بِيدِ الشَّمالِ زِمامُهَا مبالغة في التذلُّل والتواضع لهما» انتهى، يعني أنه عبَّر عن اللين بالذلِّ، ثم استعار له جناحاً، ثم رشَّح هذه الاستعارة بأن أمره بخفض الجناح. ومن طريف ما يحكى: أن أبا تمامٍ، لمَّا نظم قوله: [الكامل] 3406 - لا تَسْقِني مَاءَ المَلامِ فإنَّني ... صبٌّ قد اسْتعذَبْتُ مَاء بُكائِي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 259 جاءه رجل بقصعةٍ، وقال له: أعطني شيئاً من ماءِ الملامِ، فقال: حتى تأتيني بريشةٍ من جناح الذلِّ؛ يريد أن هذا مجاز استعارةٍ كذاك، وقال بعضهم: [الطويل] 3407 - أرَاشُوا جَناحِي ثُمَّ بلُّوه بالنَّدى ... فلمْ أسْتطِعْ من أرْضهِمْ طَيرانَا وقرأ العامة «الذُّلِّ» بضم الذال، وابن عبَّاسٍ في آخرين بكسرها، وهي استعارةٌ؛ لأن الذلَّ في الدوابِّ؛ لأنَّه ضدُّ الصعوبة، فاستعير للأناسيِّ، كما أنَّ الذل بالضم ضدُّ العزِّ. قوله: «من الرَّحمة» فيه أربعة أوجه: أحدها: أنها للتعليل، فتتعلق ب «اخفِضْ» ، أي: اخفض من أجل الرَّحمة. والثاني: أنها لبيان الجنس؛ قال ابن عطيَّة: «أي: إنَّ هذا الخفض يكون من الرحمة المستكنَّة في النَّفس» . الثالث: أن تكون في محلِّ نصبٍ على الحال مِنْ «جَنَاح» . الرابع: أنها لابتداء الغاية. قوله: «كَمَا ربَّيانِي» في هذه الكاف قولان: أحدهما: أنها نعتٌ لمصدر محذوف، فقدَّره الحوفيُّ: «ارحمهما رحمة مثل تربيتهما [لي] » . وقدَّره أبو البقاء: «رحمة مثل رحمتهما» كأنَّه جعل التربية رحمة. والثاني: أنها للتعليل، أي: ارحمهما؛ لأجل تربيتهما؛ كقوله: {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} [البقرة: 198] . قال القرطبيُّ: ولا يختصُّ برُّ الوالدين بأن يكونا مسلمين، بل إن كانا كافرين يبرُّهما، ويحسن إليهما. قال القفال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّه لم يقتصر في تعليم البرِّ بالوالدين على تعليم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 260 الأفعال، بل أضاف إليه تعليم الأقوال، وهو أن يدعو لهما بالرَّحمة، فيقول: ربِّ ارحمهما، ولفظة الرحمة جامعة لكلِّ الخيرات في الدِّين والدنيا، ثم يقول: {كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً} يعني: ربِّ افعل بهما هذا النوع من الإحسان، كما أحسنا إليَّ في تربيتهما، والتربية هي التَّنْميَةُ من قولهم: ربَا الشَّيء، إذا انتفخ قال تعالى: {فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ} [الحج: 5] . واختلف المفسرون في هذه الآية، فقا لابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: إنها منسوخة بقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 113] فلا ينبغي للمسلم أن يستغفر لوالديه إذا كانا مشركين، ولا يقول: ربِّ ارحمهما. وقيل إنها مخصوصة بالمسلمين غير منسوخة، وهذا أولى من القول الأول؛ لأنَّ التخصيص أولى من النَّسخ. وقيل: لا نسخ، ولا تخصيص؛ لأنَّ الوالدين، إذا كانا كافرين، فله أن يدعو لهما بالهداية والإرشاد، وأن يطلب الرحمة لهما بعد حصول الإيمان. فصل في أنّ الأمر يفيد التكرار أم لا؟ قوله جلَّ ذكرهُ: {وَقُل رَّبِّ ارحمهما} أمرٌ، وظاهر الأمر لا يفيد التَّكرار، فيكفي في العمل بمقتضى هذه الآية ذكر هذا القول مرَّة واحدة. سئل سفيان: كم يدعو الإنسان لوالديه؟ أفي اليوم مرة، أو في الشهر، أو في السَّنة؟ فقال: نرجو أن يجزئه إذا دعا لهما في أواخر التشهدات؛ كما قال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} [الأحزاب: 56] فكانوا يرون أن التشهد يجزي عن الصلاة على النبيِّ - صلوات الله وسلامه عليه -. وكقوله تعالى: {واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} [البقرة: 203] فهم يكرِّرون في أدبار الصلاة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 261 قال تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ} من برِّ الوالدين وعقوقهما {إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ} ، أي: إنَّا قد أمرناكم في هذه الآية بإخلاص العبادة لله، وبالإحسان بالوالدين، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 261 ولا يخفى على الله ما تضمرونه في أنفسكم من الإخلاص وعدم الإخلاص، فالله تعالى مطلع على ما في نفوسكم. {إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ} أي: إن كنتم برآء عن جهة الفساد في أحوال قلوبكم، وكنتم أوَّابين، أي: راجعين إلى الله، فإنَّ حكم الله في الأوَّابين أنَّه غفورٌ لهم، يكفِّر عنهم سيئاتهم. والأوَّابُ: على وزن فعَّال، وهو يفيد المداومة والكثرة؛ كقولهم: قتَّال، وضرَّاب. قال سعيد بن المسيِّب - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الأوَّاب الذي يذنب، ثم يتوب. وقال سعيد بن جبيرٍ: هو الرجَّاع إلى الخير. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هو الرجَّاع إلى الله تعالى فيما ينوبه. وعنه أيضاً قال: هم المسبِّحون؛ لقوله تعالى: {ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ} [سبأ: 10] . وقال قتادة: المصلُّون. وقيل: هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه، لا يريد بذلك الخير، فإنَّه لا يؤخذ به. وقال عونٌ العقيلي: هم الذين يصلُّون صلاة الضحى؛ لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ خرج إلى أهل قباء، وهُم يُصلُّونَ الضحى، فقال: صلاةُ الأوَّابين إذا رمضت الفصال من الضحى. ورُوِيَ عن ابن عبَّاس أنه قال: إنَّ الملائكةَ لتحفُّ بالذين يصلُّون بين المغرب والعشاء، وهي صلاة الأوَّابين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 262 قيل: هذا خطاب للرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بأن يؤتي أقاربهُ الحقوق التي وجبت لهم في الفيءِ والغنيمة، وإخراج حقِّ المساكين وأبناء السَّبيل من هذين المثالين. وقال الأكثرون: إنه عامٌّ، لأنه عطفهع لى قوله تعالى: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 262 إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] والمعنى أنَّك بعد فراغك من برِّ الوالدين يجب عليك أن تشتغل ببرِّ سائر الأقاربِ، الأقرب فالأقرب، ثم بإصلاح أحوال المساكين، وأبناء السَّبيل، واعلم أنَّ قوله تعالى: {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ} مجملٌ، ليس فيه بيان أنَّ ذلك الحقَّ ما هو، فذهب الشافعيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - إلى أنَّه لا يجب الإنفاقُ إلاَّ على الولدِ والوالدين، وقال غيره: يجب الإنفاق على المحارم بقدر الحاجة، واتفقوا على أنَّ من لم يكن من المحارم كأبناء العمِّ، فلا حقَّ لهم إلاَّ الموادَّة والمؤالفة في السَّراء والضَّراء، وأما المسكين وابن السَّبيل، فتقدَّم وصفهما في سورة التوبة في آية الزَّكاة. قوله تعالى: {وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} : التَّبذِيرُ: التفريق ومنه «البَذْرُ» لأنه يفرقُ في الأرض للزِّراعة، قال: [الوافر] 3408 - تَرائِبُ يَسْتَضِيءُ الحليُ فِيهَا ... كجَمْرِ النَّار بُذِّرَ بالظَّلامِ ثم غلب في الإسراف في النَّفقة. قال مجاهد: لو أنفق الإنسان ماله كلَّه في الحقِّ، ما كان تبذيراً. وسئل ابن مسعود عن التبذير، فقال: إنفاقُ المالِ في غير حقِّه وأنشد بعضهم: [الوافر] 3409 - ذَهابُ المَالِ في حَمْدٍ وأجْرٍ ... ذَهابٌ لا يُقَالُ لهُ ذَهابُ وقال عثمان بن الأسود: كنت أطوفُ مع مجاهد حول الكعبة، فرفع رأسه إلى أبي قبيسٍ، وقال: لو أنَّ رجلاً أنفق مثل هذا في طاعة الله، لم يكن من المسرفين، ولو أنفق درهماً واحداً في معصية الله، كان من المسرفين. وعن عبد الله بن عمرو - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - مرَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بسعدٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وهو يتَوضَّأ، فقال: مَا هَذَا السَّرف يا سعدُ؟ فقال: أفِي الوَضُوءِ سرفٌ؟ قال: «نعم، وإنْ كُنْتَ على نَهْرٍ جارٍ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 263 ثم نبه تعالى على قبح التبذير بإضافته إيَّاه إلى أفعال الشياطين، فقال - جلَّ ذكره -: {إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} والمراد من هذه الأخوة التشبيه بهم في هذا الفعل القبيح؛ لأنَّ العرب يسمُّون الملازم للشيء أخاً له، فيقولون: فلانٌ أخو الكرم والجود، وأخو السَّفر، إذا كان مواظباً على هذه الأفعال. وقيل: قوله: {إِخْوَانَ الشياطين} أي: قرناءهم في الدنيا والآخرة كقوله تعالى {وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} [الزخرف: 36] . وقال تعالى: {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22] أي: قرناءهم من الشياطين، ثم قال تعالى: {وَكَانَ الشيطان لِرَبِّهِ كَفُوراً} أي: جحوداً للنِّعمة؛ لأنه يستعمل بدنه في المعاصي والإفساد في الأرض، والإضلال للنَّاس، وكذلك من رزقه الله مالاً أو جاهاً، فصرفه إلى غير مرضاة الله، كان كفوراً لنعمة الله؛ لأنَّه موافق للشياطين في الصِّفة والفعل، ثم إن الشياطين كَفُورُونَ بربهم، فكذلك المبذِّر أيضاً كفورٌ بربه. قال بعض العلماء: خرجت هذه الآية على وفقِ عادة العرب؛ لأنَّهم كانوا يجمعون الأموال بالنَّهب والغارة، ثم ينفقونها في طلب الخيلاء والتفاخر، وكان المشركون من قريشٍ وغيرهم ينفقون أموالهم ليصدُّوا عن الإسلام وتوهين أهله وإعانة أعدائه، فنزلت هذه الآية تنبيهاً على قبح أفعالهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 264 نزلت في مهجع، وبلال، وصهيب، وسالم، وخبَّاب، وكانوا يسألون النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في الأحايين ما يحتاجون إليه، ولا يجد، فيعرض عنهم حياء منهم، ويمسك ن القول، فنزلت: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ} أي: وإن أعرضت عنهم عن هؤلاء الذين أمرتك أن تؤتيهم {ابتغآء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا} انتظار رزق من الله ترجوه، أي: يأتيك {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} ليِّناً، وهو العدةُ، أي: عدهم وعداً جميلاً. قوله تعالى: {ابتغآء رَحْمَةٍ} : يجوز أن يكون مفعولاً من أجله، ناصبه «تُعرضنَّ» وهو من وضع المسبَّب موضع السبب، وذلك أنَّ الأصل: وإمَّا تعرضنَّ عنهم لإعسارك، وجعله الزمخشريُّ منصوباً بجواب الشرط، أي: فقل لهم قولاً سهلاً؛ ابتغاء رحمة، وردَّ عليه أبو حيَّان: بأنَّ ما بعد الفاء لا يعمل فيما قبلها؛ نحو: «إن يقُم زيدٌ عمراً فاضْرِبْ» فإن حذفت الفاء جاز عند سيبويه والكسائيِّ؛ نحو: «إنْ يقُمْ زيدٌ عمراُ يَضْرِبْ» فإن كان الاسمُ مرفوعاً؛ نحو «إنْ تَقُمْ زيدٌ يَقُمْ» جاز ذلك عند سيبويه على أنَّه مرفوع بفعلٍ مقدَّرٍ يفسِّره الظاهر بعده، أي: إن تقم، يَقُم زيدٌ يَقُمْ. ومنع من ذلك الفراء وشيخه. وفي الردِّ نظر؛ لأنَّه قد ثبت ذلك؛ لقوله تعالى: {فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ} [الضحى: 9] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 264 الآية؛ لأنَّ «اليتيمَ» وما بعده منصوبان با بعد فاءِ الجوابِ. وقيل: إنه في موضع الحالِ من فاعل «تُعرِضنَّ» . قوله تعالى: {مِّن رَّبِكُمْ} يجوز أن يكون صفة ل «رحمةٍ» ، وأن يكون متعلقاً ب «تَرْجُوها» أي: ترجُوهَا «يجوز أن يكون حالاً من فاعل» تُعرِضنَّ «، وأن يكون صفة ل» رَحمةٍ «. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 265 قوله تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً} الآية. لمَّا أمره بالإنفاق في الآية المتقدمة، علَّمه في هذه الآية أدب الإنفاق. واعلم أنه تعالى وصف عباده المؤمنين، فقال تعالى {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] . فها هنا أمر رسوله بمثل ذلك الوصف، فقال تعالى: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} أي لا تمسك عن الإنفاق، بحيث تضيف على نفسك وأهلك في وجوه صلة الرَّحم، أي: لا تجعل يدك في انقباضها كالمغلولة الممنوعة من الانبساط، {وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} أي: ولا تتوسَّع في الإنفاق توسُّعاً مفرطاً بحيث لا يبقى في يدك شيءٌ. والحكماءُ ذكروا في كتب الأخلاق أنَّ لكلِّ خلق طرفي إفراطٍ وتفريطٍ، وهما مذمومان، والخلق الفاضل هو العدل والوسط، فالبخل إفراطٌ في الإمساك، والتبذير إفراطٌ في الإنفاقِ، وهما مذمومان، والمعتدل الوسطُ. روى جابرٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «أتى صبي فقال: يا رسول الله، إنَّ أمِّي تَسْتَكسِيكَ دِرْعاً، ولم يكُنْ لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلاَّ قميصهُ، فقال للصبيِّ: من ساعةٍ إلى ساعةٍ يظهرُ كذا فعدِّ وقتاً آخر، فعاد إلى أمِّه فقالت: قل له: إنَّ أمِّي تَسْتكسِيكَ الدِّرع الذي عليك، فدخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دَارهُ، ونزعَ قَمِيصهُ، فأعطاهُ، فقعد عُرياناً، فأذَّنَ بلالٌ بالصَّلاةِ، فانتظره، فلم يخرج، فشغل قُلوبَ أصحابه، فدخل عليه بعضهم فَرآهُ عُرْيَاناً» ، فأنزلَ الله تعالى {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} يعني لا تمسك يدك عن النفقةِ في الحقِّ كالمغلولة يده، ولا يقدر على مدِّها، «ولا تَبْسُطهَا» بالعطاء «كُلَّ البَسْطِ» فتعطي جميع ما عندك. و {كُلَّ البسط} : نصب على المصدر؛ لإضافتها إليه، و «فَتقْعُدَ» نصب على جواب الجزء: 12 ¦ الصفحة: 265 النهي وتقدَّم الكلام عليه، و «مَلُوماً» إمَّا حالٌ، وإمَّا خبر كما تقدَّم؛ ومعنى كونه ملوماً أنه يلومُ نفسه، وأصحابه أيضاً يلومونه على تضييع المالِ وإبقاءِ الأهل في الضَّرر والمحنة، أو يلومونه بالإمساك إذا سألوه ولم يعطهم، وأمَّا كونه محسوراً، فقال الفراء: العرب تقول للبعير: محسورٌ، إذا انقطع سيره، وحسرت الدابَّة، إذا سيَّرتها حتى ينقطع سيرها، ومنه قوله تعالى: {يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ} [الملك: 4] . وقال قتادة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: محسوراً نادماً على ما فرط منك ويجمع الحسيرُ على حَسْرَى، مثل: قَتْلَى وصَرْعَى. قال الشاعرك [الطويل] 3410 - بِهَا جِيَفُ الحَسْرى، فأمَّا عِظَامُهَا ... فَبِيضٌ وأمَّا جِلدُهَا فَصلِيبُ وحسر عن كذا، كشف عنه كقوله [الطويل] 3411 - ... ... ... . يَحْسُرِ المَاءَ تَارةً ..... ... ... ... ... ... . . والمحسور: المنقطع السَّير، ومنه حسرت الدَّابة، قطعت سيرها، وحسير أي: كالٌّ: تعبان بمعنى: محسور. قال القفال: شبَّه حال من أنفق كلَّ ماله بمن انقطع في سفره بسبب انقطاع مطيته؛ لأنَّ ذلك المقدار من المال، كأنَّه مطيَّة تحمل الإنسان إلى آخر السَّفر، كما أن ذلك البعير يحمله إلى آخر منزله، فإذا انقطع ذلك البعير بقي في وسط الطَّريق عاجزاً متحيِّراً، فكذلك إذا أنفق الإنسان مقدار ما يحتاج إليه في مدَّة شهر، بقي في وسط ذلك الشهر عاجزاً متحيراً، ومن فعل هذا، لحقه اللَّوم من أهله والمحتاجين إلى إنفاقه عليهم بسبب سوء تدبيره، وترك الحزم في مهمَّات معاشه. ثم قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق} أي يوسِّعه على البعض «ويَقْدرُ» ، أي: يضيِّق على البعض بحسبِ ما يعلم من المصالح. قال تعالى: {وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرُ بَصِيرٌ} [الشورى: 27] والقدر في اللغة التَّضييقُ. قال تعالى: {وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] . {وَأَمَّآ إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ} [الفجر: 16] أي: ضيَّق. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 266 قوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} الآية في تقرير النظم وجوه: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 266 الأول: أنه لما بيَّن في الآية الأولى: أنَّه المتكفِّل بأرزاق العباد؛ حيث قال: {إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ} [الإسراء: 30] قال عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} . الثاني: أنه تعالى، لمَّا علم كيفية البرِّ بالوالدين في الآية المتقدمة، علم في هذه الآية كيفية البرِّ بالأولاد، ولهذا قيل: إنَّ الأبرار إنما سمُّوا بذلك؛ لأنهم برُّوا الآباء والأبناء؛ فوجب برُّ الآباء مكافأة على ما صدر منهم من أنواع البرِّ؛ ووجب برُّ الأولاد، لأنَّهم في غاية الضعف والاحتياج ولا كافل لهم غير الوالدين. الثالث: أنَّ امتناع الأولاد من برِّ الآباء يوجب خراب العالم؛ لأنَّ الآباء، إذا علموا ذلك، قلت رغبتهم في تربية الأولاد؛ فيلزم خراب العالم، وامتناع الآباء من البرِّ أيضاً كذلك. الرابع: أنَّ قتل الأولادِ، إن كان لخوفِ الفقر، فهو سوء الظنِّ بالله تعالى، وإن كان لأجل الغيرة على البناتِ فهو سعيٌ في تخريب العالم، فالأوَّل ضدُّ التعظيم لأمر الله تعالى، والثاني ضدُّ الشفقةِ على خلق الله، وكلاهما مذمومان. الخامس: أنَّ قرابة الأولاد قرابةُ الجزئيَّة والبعضيَّة، وهي من أعظم الموجبات للمحبَّة، فلو لم تحصل المحبَّة دلَّ ذلك على غلظٍ شديد في الرُّوح، وقسوة في القلب، وذلك من أعظم الأخلاق الذميمة، فرغَّب الله في الإحسان إلى الأولاد؛ إزالة لهذه الخصلة الذميمة. فصل قرأ العامة «تَقْتلُوا» بالتخفيف، وقرأ ابن وثاب والأعمش «تُقتِّلُوا» بالتشديد و «خِشْيَة» بكسر الخاء. قال المفسِّرون: إنَّ العرب كانوا يقتلون البنات؛ لعجز البنات عن الكسب، وقدرة البنين عليه؛ بسبب إقدامهم على النَّهب والغارة، وأيضاً: كانوا يخافون أن ينفر الأكفاء عنها، وعن الرغبة فيها، فيحتاجون إلى إنكاحها من غير الأكفاء، وفي ذلك عارٌ شديدٌ. واعلم أن قوله تعالى: {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ} عامٌّ في الذكور والإناث، أي: أنَّ الموجب للشَّفقة والرحمة هو كونه ولداً، وهذا الوصف يشترك فيه الذكور والإناث، وأما ما يخاف من الفقر في البنات، فقد يخاف أيضاً في العاجز من البنين، ثم قال تعالى: {نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم} أي أنَّ الأرزاق بيد الله، فكما يفتحُ أبواب الرِّزق على الرِّجال، فكذلك يفتح أبواب الرزق على النِّساء. قوله تعالى: {إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 267 قرأ ابن ذكوان: «خَطَأ» بفتح الخاء والطاء من غير مدٍّ، وابن كثيرٍ بكسرِ الخاءِ والمدِّ، ويلزم منه فتح الطاء، والباقون بكسر الخاء وسكون الطاء. فأمَّا قراءة ابن ذكوان، فخرَّجها الزجاج على وجهين: أحدهما: أن يكون اسم مصدر؛ من أخطأ يخطئ خطأً، أي: إخطاءً، إذا لم يصبْ. والثاني: أن يكون مصدر خطئ يَخطأ خطأ، إذا لم يصب أيضاً، وأنشد: [الكامل] 3412 - والنَّاسُ يَلحَوْنَ الأميرَ إذَا هُمُ ... خَطِئُوا الصَّوابَ ولا يُلامُ المُرشِدُ والمعنى على هذين الوجهين: أنَّ قتلهم كان غير صوابٍ، واستبعد قوم هذه القراءة قالوا: لأنَّ الخطأ ما لم يتعمَّد، فلا يصحُّ معناه. وخفي عنهم: أنه يكون بمعنى أخطأ، أو أنه يقال: «خَطِئَ» إذا لم يصب. وأمَّا قراءة ابن كثير، فهي مصدر: خَاطَأ يُخاطِئُ خطاءً؛ مثل: قاتل يُقاتلُ قتالاً، قال أبو عليٍّ: «هي مصدر خَاطَأ يُخاطِئُ، وإن كنَّا لم نجد» خَاطَأ «ولكن وجدنا تخاطأ، وهو مطاوع» خَاطَأ «فدلَّنا عليه، ومنه قول الشاعر: [المتقارب] 3413 - تَخاطَأتِ النَّبلُ أحْشاءَهُ ... وأخَّرَ يَومِي فَلمْ يَعْجلِ وقال الآخر: [الطويل] 3414 - تَخاطَأهُ القنَّاصُ حتَّى وجَدتُهُ ... وخُرطُومهُ في مَنْقعِ المَاءِ رَاسِبُ فكأنَّ هؤلاء الذين يقتلون أولادهم يخاطئون الحقَّ والعدل» . وقد طعن قومٌ على هذه القراءة حتَّى قال أبو جعفرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «لا أعرفُ لهذه القراءة وجهاً» ولذلك جعلها أبو حاتمٍ غلطاً. قال شهاب الدين: قد عرفهُ غيرهما، ولله الحمد. وأما قراءة الباقين فواضحة؛ لأنَّها من قولهم: خَطِئَ يَخطَأ خِطئاً، كأثِمَ يَأثمُ إثماً، إذا تعمَّد الكذب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 268 وقرأ الحسن: «خَطَاء» بفتح الخاء والمدِّ، وهو اسم مصدر «أخْطَأ» كالعطاءِ اسم للإعطاء. وقرأ أيضاً «خطَا» بالقصر، وأصله «خَطَأ» كقراءةِ ابن ذكوان، إلاَّ أنه سهَّل الهمزة بإبدالها ألفاً، فحذفت كعصا. وأبو رجاءٍ والزهريُّ كذلك، إلاَّ أنهما كسرا الخاء ك «زِنَى» وكلاهما من خَطِئ في الدين، وأخطأ في الرَّأي، وقد يقام كلٌّ منهما مقام الآخر. وقرأ ابن عامرٍ في رواية «خَطْئاً» بالفتح والسكون والهمز، مصدر «خَطِئ» بالكسر. قال المفسِّرون: معنى الكلِّ واحدٌ، أي: إثماً كبيراً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 269 لمَّا أمره بالأشياء الخمسة المتقدِّم ذكرها، وحاصلها يرجع إلى شيئين: التعظيم لأمر الله تعالت، والشَّفقة على خلق الله سبحانه - جلَّ ذكره - لا إله إلاَّ هو، أتبعها بالنَّهي عن أشياء أخر. أولها: أنه تعالى نهى عن الزّنا. والعامة على قصره، وهي اللغة الفاشية، وقرئ بالمدِّ، وفيه وجهان: أحدهما: أنه لغة في المقصور. والثاني: أنه مصدر زانى يُزانِي؛ كقاتل يقاتل قتالاً؛ لأنه يكون بين اثنين، وعلى المدِّ قول الفرزدق: [الطويل] 3415 - أبَا خَالدٍ من يَزْنِ يُعرَفْ زِنَاؤهُ ... ومَنْ يَشرَبِ الخُرطُومَ يُصبِكْ مُسَكَّرا وقول الآخر: [الكامل] 3416 - كَانَتْ فَريضَةُ ما تَقُولُ كَمَا ... كَانَ الزِّناءُ فَريضةَ الرَّجْمِ وليس ذلك على باب الضرورة، فثبوته قراءة في الجملة. وقوله تعالى: {وَسَآءَ سَبِيلاً} . قال ابن عطيَّة: «وسبيلاَ: نصبٌ على التمييز، أي: وسَاءَ سَبِيلاً سَبِيلهُ» . وردَّ أبو حيَّان هذا: بأنَّ قوله نصبٌ على التَّمييز يقتضي أن يكون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 269 الفاعل ضميراً مفسَّراً بما بعده من التمييز؛ فلا يصح تقديره: سَاءَ سبيلهُ سَبِيلاً؛ لأنه ليس بمضمرٍ لاسم الجنسِ. فصل قال القفال: إذا قيل للإنسان: لا تقرب هذا، فهو آكد من أن تقول: لا تفعله، ثم علَّل هذا النَّهي بكنه {فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً} . واعلم أنَّ الزِّنا اشتمل على أنواع من المفاسد. أولها: اختلاط الأنساب واشتباهها، فلا يعرف الإنسان أنَّ الولد الذي أتت به الزانية منه أو من غيره، فلا يقوم بتربيته، وذلك يوجب ضياع الأولاد، وانقطاع النَّسل، وخراب العالم. وثانيها: أنه إذا لم يوجد سبب شرعيٌّ يوجب اختصاص هذا الرجل بهذه المرأة، لم يبق إلاَّ التوائب والتقاتل، وقد وجد وقوع القتل الذَّريع بسبب زنا المرأة الواحدة. وثالثها: أنَّ المرأة، إذا زنت وتمرَّنت عليه، يستقذرها كل ذي عقل سليم، وحينئذٍ: لا تحصل الألفة والمحبَّة، ولا يتم السَّكن والازدواج، وينفر طباعُ أكثر الخلق عن مقاربتها. ورابعها: أنَّه إذا انفتح باب الزِّنا، لا يبقى لرجلٍ اختصاص بامرأةٍ، بل كل رجل يمكنه التوائب على أيِّ امرأة أرادت، وحينئذ: لا يبقى بين نوع الإنسان وسائر البهائم فرقٌ في هذا. وخامسها: أنه ليس المقصود من المرأة مجرّد قضاء الشهوة، بل أن تصير شريكة للرجل في ترتيب المنزل وإعداد مهمَّاته من المطعوم والمشروب والملبوس، وحفظ البيت، والقيام بأمُور الأولاد والخدم، وهذه المهماتُ لا تتم إلاَّ إذا كانت المرأة مقصورة الهمَّة على هذا الرجل الواحد، منقطعة الطَّمع عن سائر الرِّجال، وذلك لا يحصل إلاَّ بتحريم الزِّنا، وسدّ هذا الباب. وسادسها: أنَّ الوطس يوجب الذلَّ الشديد، ويدلُّ على ذلك وجوهٌ: الأول: أن أعظم أنواع الشَّتم عند النَّاس ذكر ألفاظ الوقاع، ولولا أن الوطء يوجبُ الذلَّ وإلاَّ لما كان الأمر كذلك. الثاني: أنَّ جميع العقلاء يستنكفُون من ذكر أزواج بناتهم وأخواتهم وأمهاتهم، ولولا أن الوطء ذلٌّ، وإلاَّ لما كان كذلك. الثالث: أن جميع العقلاء لا يقدمون على الوطء إلا خفية في الأوقات التي لا يطَّلع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 270 عليهم أحدٌ، ولولا أنه موجبٌ للذلِّ، وإلا لما كان الأمر كذلك، فلما كان الوطء ذلاًّ، كان السَّعي في تقليله موافقاً للعقول، فاقتصار المرأة الواحدة على الرجل الواحد سعيٌ في تقليل ذلك العمل، وما فيه ن الذلِّ يجبر بالمنافع الحاصلة. وأمَّا الزِّنا، فإنه فتح لباب العمل القبيح، ولا يجبر بشيءٍ من المنافع، فيبقى على أصل المنع. وإذا ثبت ذلك، فنقول: إنه تعالى وصف الزِّنا بصفاتٍ ثلاثة: كونه {فَاحِشَةً وَمَقْتاً} [النساء: 22] في آية أخرى {وَسَآءَ سَبِيلاً} أما كونه فاحشة؛ فلاشتماله على الأمور المذكورة، وأمَّا المقت فلأنَّ الزانية تصير ممقوتة مكروهة؛ لما ذكرنا. وأما كونه ساء سبيلاً: فهو ما ذكرنا من أنَّه لا يبقى فرقٌ بين الإنسان وبين البهائن في عدم اختصاص الذكران بالإناث، وبقاء الذلِّ والعيب والعارِ على المرأة من غير أن يجبر بشيءٍ من المنافع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 271 فقوله جلَّ ذكره: {إِلاَّ بالحق} أي: إلا بسبب الحقِّ، فيتعلق ب «لا تَقْتلُوا» ويجوز أن يكون حالاً من فاعل «لا تَقْتلُوا» أو من مفعوله، أي: لا تقتلوا إلا ملتبسين بالحقِّ أو إلاَّ ملتبسة بالحقِّ، ويجوز أن يكون نعتاً لمصدرٍ محذوفٍ، أي: إلاَّ قتلاً ملتبساً بالحقِّ. فصل والحقُّ المبيح للقتل هو قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «لا يحلُّ دمُ امرئ مسلم إلاَّ بإحدى ثلاثٍ: رجُلٌ كفر باللهِ بعد إيمانه، أو زنى بعد أحصانهِ، أو قَتلَ نفساً بِغيْرِ نَفْسٍ» . فإن قيل: إنَّ أكبر الكبائر بعد الكفر بالله سبحانه وتعالى هو القتل، فما السبب في أنه تعالى بدأ بالنَّهي عن الزنا، ثم نهى بعده عن القتل. فالجواب: أنَّا بيَّنا أنَّ فتح باب الزِّنا يمنعُ دخول الإنسان في الوجود، والقتل يدلُّ على إعدامه، ودخوله ف يالوجود مقدَّم على إعدامه بعد وجوده؛ فلهذا ذكر الزِّنا أولاً، ثم ذكر بعده القتل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 271 واعلم أنَّ الأصل في القتل هو التحريم، والحلُّ إنما ثبت بسببٍ عارضٍ؛ فذلك نهى عن القتل بناء على حكم الأصل، ثم استثنى منه الحالة التي يباح فيها القتل، وهو عند حصول الأسباب العرضيَّة، فقال: {إِلاَّ بالحق} ويدل على أنَّ الأصل في القتل التحريم وجوهٌ: أحدها: أن القتل ضررٌ، والأصل في المضارِّ الحرمة، قال - صلوات الله وسلم عليه -: «لا ضَررَ، ولا ضِرارَ» . وثانيها: قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الآدَمِيُّ بُنيَانُ الربِّ، مَلعُونٌ من هَدمَ بُنْيانَ الربِّ» . وثالثها: أن الآدميَّ خلق للعبادة، لقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] والعبادة لا تتمُّ إلاَّ بعدم القتل. ورابعها: أنَّ القتل إفساد، فحرم؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ} [الأعراف: 56] . وخامسها: إذا تعارض دليل تحريم القتل، ودليل إباحته، فالإجماع على أنَّ جانب الحرمة راجح، ولولا أنَّ مقتضى الأصل هو التحريمُ، وإلاَّ لكان ذلك ترجيحاً لا لمرجحٍ، وهو محالٌ. وإذا علم أنَّ الأصل في القتل هو التحريم، فقوله: «ولا تَقْتلُوا» نهيٌ وتحريمٌ. وقوله: «حَرَّمَ الله» إعادة لذكر التحريم على سبيل التاكيد، ثم استثنى عنه الأسباب العرضيَّة، فقال: إلاَّ بالحقِّ، وها هنا طريقان: الطريق الأول: أن قوله «إلاَّ بالحقِّ» مجمل ليس فيه بيان أن ذلك الحقَّ ما هو، ثم قال تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} أي: في حقِّ استيفاء القصاص؛ فوجب أن يكون المراد من الحقِّ هذه الصورة فقط، فتكون الآية نصًّا صريحاً في تحريم القتل، إلا بهذا السبب الواحد. الطريق الثاني: أن نقول: دلَّت السنة على أنَّ ذلك الحقَّ هو أحد الأمور الثلاثة المتقدَّمة في الخبر. واعلم أن الخبر من باب الآحادِ، فإن قلنا: إنَّ قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} بيان لذلك الحقِّ، كانت الآية صريحة في أنه لا يحلُّ القتل إلاَّ بهذا السبب الواحد، وحينئذٍ: يصير الخبر مخصِّصاً للآية، ويصير فرعاً لقولنا بصحَّة تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وإن قلنا بأن قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} ليس بياناً لذلك الحقِّ، فحينئذ يصير الخبر مفسِّراً للحقِّ المذكور في الآية، وعلى هذا لا يصير فرعاً على جواز تخصيص عموم القرآن بخبر الواحد، وهو تنبيهٌ حسنٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 272 فصل في ظاهر الآية ظاهر الآية يقتضي أنَّه لا سبيل لحلِّ القتل إلاَّ قتلُ المظلوم، وظاهر الخبر يقتضي ضمَّ شيئين آخرين إليه، وهو الكفر بعد الإيمان، والزِّنا بعد الإحصان، ودلَّت آية أخرى على حصول سبب رابع، وهو قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ} [المائدة: 33] ودلَّت آية أخرى على سبب خامسٍ، وهو الكفر الأصلي، قال الله تعالى: {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} [التوبة: 29] . وقال تعالى: {واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [النساء: 89] . واختلف الفقهاء في أشياء أخرى: منها: تاركُ الصلاة، فعند أبي حنيفة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - لا يقتل، وعند الشافعي وأحمد - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يقتل. وثانيها: اللاَّئط: فعند الشافعيِّ: يقتل، وعند بعضهم: لا يقتل. وثالثها: السَّاحر، إذا قال: قتلتُ بسحري فلاناً، فعند أبي حنيفة: لا يقتل، وعند بعضهم: يقتل. ورابعها: القتل بالمثقَّل عند الشافعيِّ: يوجب القصاص، وعند أبي حنيفة: لا يوجب. وخامسها: الانتماع من أداء الزَّكاة، اختلفوا فيه في زمان أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -. وسادسها: إتيانُ البهيمة أوجب فيه بعضهم القتل، ولم يوجبه الباقون، وحجَّة القائلين بعدم وجوب القتل في هذه الصورة هو أنَّ هذه الآية صريحة في تحريم القتل على الإطلاق إلاَّ لسببٍ واحدٍ، وهو قتل المظلوم، ففيما عداه يجب البقاء على أصل التحريم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 273 وأيضاً: فالخبر المذكور يوجب حصر أسباب الحلِّ في تلك الثلاثة، ففيما عداها يجبُ البقاء على أصل الحرمة، ثم قالوا: وبهذا النصِّ قد تأكَّد بالدلائل الكثيرة الموجبة لحرمة الدَّم على الإطلاق، فترك العمل بهذه الدلائل لا يكون إلا لمعارضٍ، وذلك المعارض: إمَّا أن يكون نصّاً متواتراً أو نصّاً من باب الآحادِ، أو قياساً، والنص المتواترُ مفقودٌ، وإلاَّ لما بقي الخلافُ. وأما النصُّ من باب الآحادِ، فهو مرجوحٌ بالنسبة غلى هذه النصوص الكثيرة؛ لأنَّ الظنَّ المستفاد من النصوصِ الكثيرة أعظم من الظنِّ المستفاد من خيرٍ واحدٍ. وأما القياسُ: فلا يعارض النصَّ، فثبت بمقتضى هذا الأصل القويِّ: أنَّ الأصل في الدماءِ الحرمةُ إلاَّ في الصور المعدودة. قوله سبحانه وتعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} فيه بحثان: البحث الأول: هذه الآية تدلُّ على أنَّه أثبت لوليِّ الدم سلطاناً. فأمَّا بيان هذه السلطنة فيماذا، فليس في قوله: {فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} فلا ينبغي أن يسرف ذلك القاتل الظالمُ في ذلك القتل؛ لأنَّ ذلك المقتول منصورٌ؛ لثبوت السَّلطنة لوليه. والطريق الثاني: أن تلك السلطنة مجملة، ثم فسِّرت بالآية والخبر. أما الآية: فقوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} [البقرة: 178] إلى قوله: {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} [البقرة: 178] . وقد بينَّا على أنَّها تدل على أن الواجب تخيير الوليِّ بين القصاص والدية. وأمَّا الخبر: فقوله - صلوات الله وسلامه عليه - يوم الفتح «مَن قُتِلَ لَهُ قَتيلٌ، فهو بِخَيْرِ النَّظرينِ: إمَّا أن يُقتلَ، وإمَّا أن يُفْدَى» . فعلى هذا: فمعنى قوله: {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} أنه لما حصلت له سلطنة استيفاء القصاص، وسلطنة استيفاء الدِّية، إن شاء، قال بعده {فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل} أي أنَّ الأولى ألاَّ يقتصّ، ويكتفي بأخذ الدية أو يعفو، كقوله تعالى: {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة: 237] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 274 والبحث الثاني: ذكر كونه مظلوماً بصيغة التنكير، والتنكير يدلُّ على الكمالِ، فما لم يكن المقتول كاملاً في وصف المظلوميَّة لم يدخل تحت هذا النصِّ، فالمسلمُ إذا قتل الذميَّ، لم يدخل تحت هذه الآية؛ لأنَّ الذميَّ مشركٌ، والمشرك يحلُّ دمه. ويدلُّ على أن الذمِّي مشركٌ قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً} [النساء: 116] . حكم بأنَّ ما سوى الشِّرك يغفر في حقِّ البعض، فلو كان كفر اليهوديِّ والنصرانيِّ مغايراص للشِّرك، وجب أن يغفر في حقِّ بعض الناس لهذه الآية، فلما لم يغفر في حقِّ أحد، دلَّ على أنّ كفرهم شركٌ، ولأنه تعالى قال: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73] فهذا التثليثُ الذي قال به هؤلاء: إمَّا أن يكون تثليثاً في الصفات، وهو باطلٌ؛ لأنَّ ذلك هو الحق، وهو مذهب أهل السنة والجماعة، فلا يمكنُ جعله سبباص للكفر، وإمَّا أن يكون تثليثاً في الذَّوات، وذلك هو الشرك، فثبت أن الذميَّ مشركٌ، والمشرك يجب قتله؛ لقوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ المشركين} [التوبة: 36] فاقتضى هذا الدليل إباحة دمِ الذميِّ، فإن لم تثبت الإباحة، فلا أقلَّ من حصول شبهة الإباحة. وإذا ثبت هذا، ثبت أنه ليس كاملاً في المظلوميَّة، فلم يندرج تحت قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} . وأما الحرُّ، إذا قتل عبداً، فيدخل تحت هذا، إلاَّ أنَّا بيَّنا أن قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد} [البقرة: 178] يدلُّ على المنع من قتل الحرِّ بالعبد، وتلك الآية أخص من قوله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} والخاصُّ مقدَّم على العام؛ فثبت أن هذه الآية لا يجوز التمسُّك بها في مسألة أنَّ موج بالعمد هو القصاص، ولا في وجوب قتل المسلم بالذميِّ، ولا في وجوب قتل الحرِّ بالعبد. فصل في المراد بالإسراف في معنى الإسراف وجوهٌ: الأول: أن يقتل القاتل وغير القاتل، وذلك أنَّ أولياء المقتول كانوا إذا قتل واحدٌ من قبيلة شريفةٍ، قتلوا خلقاً من القبيلة الدنيئة، فنهى الله عنه وحكم بقتل القاتل وحده. الثاني: أنَّ الإسراف هو ألا يرضى بقتل القاتل؛ فإنَّ أهل الجاهلية كانوا يقصدون أشرف القبائل، ثمَّ يقتلون منه قوماً معيَّنين، ويتركون القاتل. والثالث: الإسرافُ هو ألاَّ يكتفي بقتل القاتل، بل يقتله ثم يمثِّل به، ويقطع أعضاءه. قال القفَّال - رَحِمَهُ اللَّهُ -: ولا يبعد حمله على الكلِّ، لأنَّ جملة هذه المعاني مشتركة في كونها إسرافاً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 275 فصل قرأ حمزة والكسائي: «تُسْرِفْ» بالخطاب، وهي تحتمل وجهين: أحدهما: الخطاب للوليِّ، أي: لا تقتل الجماعة بالواحدِ، أو السلطان، رجع إلى مخاطبته بعد أن أتى به عامًّا. والثاني: أن يكون الخطابُ للمبتدئ القتل، أي: لا تسرف أيُّها الإنسان؛ لأنَّ إقدامه على ذلك القتلِ ظلمٌ محضٌ، وهو إسرافٌ. والباقون بالغيبة، وهي تحتمل ما تقدم في قراءةِ الخطاب. وقرأ أبو مسلم برفع الفعل على أنَّه خبر في معنى النهي؛ كقوله تعالى: {فَلاَ رَفَثَ} [البقرة: 197] . وقيل: «في» بمعنى الباء، أي: بسبب القتلِ. قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} . قال مجاهدٌ: الهاءُ راجعةٌ إلى المقتول في قوله: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً} أي: أنَّ المقتول منصور في الدنيا بإيجاب القودِ على قاتله، وفي الآخرة بتكفير خطاياه، وإيجاب النَّار لقاتله. وقال قتادة: الهاء راجعةٌ إلى وليِّ المقتول، أو إلى السلطان، أي أنَّه منصورٌ على القاتل باستيفاء القصاص، أو الدِّية، فلكيتفِ بهذا القدر، ولا يطمع في الزيادة. وقيل: الهاءُ راجعة إلى القاتل الظالم، أي أنَّ القاتل يكتفى منه باستيفاء القصاص، ولا يطلب منه زيادة؛ لأنَّه منصورٌ من الله تعالى في تحريم طلب الزيادة منه، أو أنَّه إذا عوقب في الدنيا، نُصِرَ في الآخرةِ. وقيل: الهاء راجعةٌ إلى الذَّم، أو قيل: إلى الحقِّ، روى ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قلت لعليِّ بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: وأيْمُ الله ليَظْهرنَّ عَليْكُم ابنُ أبي سفيان؛ لأنّ الله تعالى يقول: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} فقال الحسنُ: والله، ما نُصِرَ معاوية على عليٍّ إلاَّ بقولِ الله تعالى: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 276 قوله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} الآية. اعلم أنه تعالى نهى عن الزِّنا، وقد ذكرنا أنه يوجب اختلاط الأنساب، وذلك يوجبُ منع تربية الأولاد، ويوجب انقطاع النَّسل، وذلك مانع من دخول الناس في الوجود، فالنَّهيُ عن الزِّنا وعن القتل يرجع حاصله إلى النَّهي عن إتلاف النفوس، فلمَّا ذكره تعالى أتبعه بالنَّهي عن إتلاف الأموال؛ لأنّ أعزَّ الأشياء بعد النفوس الأموال، وأحق الناس بالنَّهي عن إتلافِ أموالهم هو اليتيمُ؛ لأنَّه لصغره، وضعفه، وكمالِ عجزه يعظم ضرره بغتلاف ماله؛ فلهذا خصَّهم الله تعالى بالنهي عن إتلاف أموالهم، فقال تعالى: {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} نظيرهُ قوله تعالى: {وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] . المراد بالأشدّ ها هنا بلوغهُ إلى حيث يمكنه بسبب عقله ورشده القيام بمصالحِ ماله، فحينئذ تزولُ ولاية غيره عنه، فإن بلغ غير كامل العقل، لم تزل الولاية عنه. قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} الآية. اعلم أنَّه تعالى أمر بخمسة أشياء أوَّلاً، ثم نهى عن ثلاثةِ أشياء، وهي الزِّنا، والقتلُ، وأكل مالِ اليتيم، ثمَّ أتبعه بهذه الأوامِرِ الثلاثة، فالأول قوله تعالى: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} . واعلم أنَّ كلَّ عقدٍ يعقد لتوثيق أمرٍ وتوكيده، فهو عهدٌ؛ كعقد البيع والشَّركة، وعقد اليمين والنَّذر، وعقد الصلح، وعقد النِّكاح، فمقتضى هذه الآية أنَّ كلَّ عهدٍ وعقدٍ يجري بين إنسانين، فإنَّه يجبُ عليهما الوفاءُ بذلك العقد والعهد، إلاَّ إذا دلَّ دليل منفصلٌ على أنه لا يجب الوفاء به، فمقتضاه الحكم بصحَّة كل بيع وقع التراضي عليه، وتأكَّد هذا النصُّ بسائر الآياتِ الدالة على الوفاء بالعهود والعقود؛ كقوله عزَّ وجلَّ: {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ} [البقرة: 177] {والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} [المؤمنون: 8] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 277 {وَأَحَلَّ الله البيع} [البقرة: 275] {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} [النساء: 29] {وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282] . {يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] . وقوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «لا يحلُّ مالُ امرئٍ مسلمٍ إلاَّ بطيبِ نَفسٍ منهُ» . وقوله: «إذَا اختلف الجِنْسَانِ، فَبِيعُوا كيف شِئتُمْ يداً بيدٍ» . وقوله: «مَن اشْتَرى مَا لَمْ يَرهُ، فلهُ الخيارُ إذا رَآهُ» . فجميع هذه الآيات والأخبار دالة على أنَّ الأصل في البياعات والعهود والعقود الصحة ووجوب الالتزام. فإذا وجدنا نصًّا أخصَّ من هذه النصوصِ يدلُّ على البطلان والفساد، قضينا به؛ تقديماً للخاصِّ على العام، وإلا قضينا بالصحة على الكلّ، وأما تخصيص النصِّ بالقياس، فباطلٌ، وبهذا الطريق تصير أبواب المعاملاتِ جميعها مضبوطة معلومة بهذه الىية الواحدة، ويكون المكلَّف مطمئن القلب والنَّفس في العمل؛ لأنَّ هذه النصوص دلَّت على الصحَّة، وليس بعد بيان الله تعالى بيانٌ. قوله تعالى: {إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً} عن الوفاء بعهده؛ كقوله عزَّ وجلَّ: {واسأل القرية} [يوسف: 82] . والثاني: أنَّ الضمير يعود على العهد، ونسب السؤال إليه مجازاً؛ كقوله تعالى: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} [التكوير: 8، 9] . أي: يقال للعهد عن صاحب العهد: لم نقضت، وهلاَّ وفَّى بك؛ تبكيتاً للنَّاكث كقوله: {أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني} [المائدة: 116] ، فالمخاطبة لعيسى - صلوات الله وسلامه عليه - والإنكار على غيره. وقال السديُّ: {كَانَ مَسْؤُولاً} ، أي مطلوباً يطلب من المعاهد ألا يضيِّعه ويفي به. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 278 وقيل: المراد بوفاء العهد: الإتيان بما أمر الله - تعالى - به، والانتهاءُ عمَّا نهى الله عنه. قوله تعالى: {وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ} الآية، لما أمر تعالى بإتمام الكيل، ذكرالوعيد الشديد في نقصانه كما في قوله تعالى: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ} [المطففين: 1 - 3] . ثم قال تعالى: {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} . وهذا هو النوع الثالث من الأوامر المذكورة ها هنا، فالآية المتقدمة في إتمام الكيل، وهذه في إتمام الوزن، ونظيره قوله عزَّ وجلَّ: {وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان} [الرحمن: 9] {وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ} [هود: 85] . قرأ الأخوان وحفص بكسر القاف ها هنا وفي سورة الشعراء، والباقون بضمها فيهما، وهما لغتان مشهورتان، فقيل: القسطاس في معنى الميزان، إلاَّ أنَّه في العرف أكبر منه، ولهذا اشتهر في ألسنة العامة أنَّه القبَّان، وقيل: إنه بلسانِ الرُّوم أو السرياني، والأصح أنه لغة العرب، وقيل أيضاً القرسطون. وقيل: هو كل ميزان، صغر أم كبر، أي: بميزان العدل. قال ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هو عربيٌّ مأخوذٌ من القسطِ، وهو العدل، أي: زنوا بالعدل المستقيم، واللفظة للمبالغة من القسط، وردَّه أبو حيَّان باختلاف المادَّتين، ثم قال: «إلاَّ أن يدَّعي زيادةَ السِّين آخراً كقدموس، وليس من مواضع زيادتها» ويقال بالسِّين والصَّاد. فصل اعلم أنَّ التفاوت الحاصل بنقصان الكيل والوزن قليل، والوعيد عليه شديد عظيم، فيجب على العاقل الاحتراز منه، وإنَّما عظم الوعيد فيه؛ لأنَّ جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء، فبالغ الشَّرع في المنع من التطفيف والنقصان؛ لأجل إبقاء الأموال؛ ومنعاً من تلطيخ النفس بسرقةِ ذلك المقدار الحقير، ثم قال: «ذلك خير» ، أي الإيفاء بالتَّمام والكمال خير من التطفيف بالقليل؛ لأنَّ الإنسان يتخلَّص بالإيفاء عن ذكر القبيح في الدنيا، والعقاب الشديد في الآخرة. {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} منصوب على التفسير، والتأويل ما يئولُ غليه الأمر؛ كقوله تعالى: {وَخَيْرٌ مَّرَدّاً} [مريم: 76] ، {وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف: 46] {وَخَيْرٌ عُقْباً} [الكهف: 44] ، وإنما حكم الله تعالى بأنَّ عاقبة هذا الأمر أحسنُ العواقب؛ لأنه إذا اشتهر في الدنيا بالاحتراز عن التطفيف، أحبَّه الناس، ومالت القلوبُ إليه، واستغنى في الزَّمنِ القليل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 279 وأمَّا في الآخرة: فيفوزُ بالجنَّة والثوابِ العظيمِ، والخلاصِ من العقاب الأليم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 280 لمَّا شرح الأوامر الثلاثة، عاد بعده إلى ذكرِ النَّواهي، فنهى عن ثلاثةِ أشياء، أولها: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} العامَّة على هذه القراءة، أي: لا تتَّبعْ، من قفاه يقفوه إذا تتبَّع أثره، قال النابغة: [الطويل] 3417 - ومِثلُ الدُّمى شمُّ العرانينِ ساكنٌ ... بِهنَّ الحياءُ لا يُشِعْنَ التَّقَافِيَا وقال الكميت: [الوافر] 3418 - فَلا أرْمِي البَرِيءَ بِغيْرِ ذَنبٍ ... ولا أقًفُو الحَواصِنَ إنْ قُفينَا وقرأ زيد بن عليٍّ: «ولا تَقْفُو» بإثبات الواو، وقد تقدَّم في قراءة قنبل في قوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ} [يوسف: 90] أن إثبات حرف العلَّة جزماً لغة قومٍ، وضرورة عند غيرهم، كقوله: 3419 - ... ... ... ... ... ... . ... مِنْ هَجْوِ زبَّان لمْ تَهْجُو ولمْ تَدعِ وقرأ معاذ القارئ «ولا تَقُفْ» بزنةِ تقلْ، من قاف يقُوفُ، أي: تتبَّع أيضاً، وفيه قولان: أحدهما: أنه مقلوبٌ؛ من قَفَا يَقْفُو. والثاني: وهو الأظهر -: أنه لغة مستقلة جيدة؛ كجبذ وجذبَ؛ لكثرة الاستعمالين؛ ومثله: قعا الفحل الناقة وقاعها. والباء في «به» متعلقةٌ بما تعلَّق به «لَكَ» ولا تتعلق ب «عِلمٌ» لأنه مصدر، إلا عند من يتوسَّع في الجارِّ. قوله تعالى: {والفؤاد} قرأ الجرَّاحُ العقيلي بفتح الفاء واوٍ خالصةٍ، وتوجيهها: أنه أبدل الهمزة واواً بعد الضمة في القراءةِ المشهورة، ثم فتح فاءَ الكلمة بعد البدل، لأنَّها لغة في الفؤاد، يقال: فؤاد وفآدٌ، وأنكر أبو حاتمٍ هذه القراءة، وهو معذور. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 280 فصل يقال: قَفَوْتُ أثر فلانٍ أقْفُو قَفْواً، إذا تتبَّعتَ أثره، وسُمِّيت قافية الشِّعر قافية؛ لأنَّ البيت يقفو البيت، وسمِّيت القبيلة المشهورة بالقافة؛ لأنَّهم يتَّبعون آثار أقدام النَّاسِ، ويستدلُّون بها على أحوال الإنسان. وقال تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا} [الحديد: 27] . وسمِّي القفا قفاً؛ لأنه مؤخر بدنِ الإنسان ووراءه، كأنه شيء يتبعه ويقفوه. فقوله: «ولا تَقْفُ» أي: لا تتَّبعْ ما لا علم لك به، من قول أو فعلٍ، فهو نهيٌ عن الحكم مبا لا يكون معلوماً، وهذه قضية كليةٌ يندرجُ تحتها أنواعٌ كثيرةٌ، وكل واحدٍ من المفسِّرين حمله على واحدٍ من تلك الأنواع، فقيل: المراد نهي المشركين عن اعتقاداتهم وتقليد أسلافهم؛ لأنَّه تعالى نسبهم في تلك العقائد إلى اتِّباع الهوى، فقال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنَزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ} [النجم: 23] . وقال في إنكارهم البعث {بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ} [النمل: 66] . وحكى عنهم أنَّهم قالوا: {إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ} [الجاثية: 32] . وقال: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله} [القصص: 50] . وقال عزَّ وجلَّ: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ} [النحل: 116] . وقال: {قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} [الأنعام: 148] . وقال محمد ابن الحنفيَّة: المراد منه شهادة الزُّور. وقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لا تشهد إلاَّ بما رأته عيناك، وسمعته أذناك، ووعاهُ قلبك. وقيل: المراد النَّهيُ عن القذف، وقيل: المراد النهي عن الكذبِ. قال قتادة: لا تقل: سمعت، ولم تسمعْ، ورأيتُ، ولم تَرَ، وعلمتُ، ولم تعلمْ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 281 وقيل: القَفْوُ: هو البهت، وأصله من القَفَا؛ كأنه يقال: خلفه، وهو في معنى الغيبة. واللفظ عامٌّ يتناولُ الكلَّ، فلا معنى للتقييد. فصل في الرد على نفاة القياس احتجَّ نفاةُ القياسِ بهذه الآية، قالوا: القياسُ لا يفيدُ إلاَّ الظنَّ، والظَّن مغاير للعلم، فالحكم في دين الله تعالى بالقياس حكمٌ بغير العلم؛ فوجب ألا يجوز لقوله تعالى {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} . وأجيب عنه بوجوه: الأول: أن الحكم في الدِّين بمجرَّد الظنِّ جائزٌ بإجماع الأمَّة في صورٍ كثيرةٍ: منها: العمل بالفتوى عملٌ بالظنّ. ومنها: العمل بالشهادة عملٌ بالظَّنِّ. ومنها: الاجتهاد في القبلة عمل بالظنِّ. ومنها: قيم المتلفات، وأروش الجنايات عملٌ بالظنِّ. ومنها: الفصدُ، والحجامةُ، وسائر المعالجات؛ بناءً على الظنِّ. ومنها: كون هذه الذَّبيحةِ ذبيحة مسلمٍ مظنون. ومنها: الحكمُ على الشَّخص المعيَّن بكونه مؤمناً مظنونٌ، ثم يبنى على هذا الظنِّ أحكام كثيرة، كالتوارث والدفن في مقابر المسلمين وغيرهما. ومنها: الأعمال المعتبرةُ في الدنيا من الأسفار، وطلب الأرباح، والمعاملات إلى الآجالِ المخصوصة، والاعتماد على صداقةِ الأصدقاء، وعداوة الأعداء كلِّها مظنونةٌ، وبناء الأمر على هذه الظنون جائزٌ، وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: «نَحْنُ نَحْكمُ بالظَّاهر والله يتولَّى السَّرائِر» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 282 وذلك تصريح بأنَّ الظنَّ معتبر في هذه الأنواع، فبطل القول بأنه لا يجوز العمل بالظنِّ. الثاني: أنَّ الظنَّ قد يسمَّى بالعلم؛ قال تعالى: {إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن الله أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار} [الممتحنة: 10] . ومن المعلوم أنَّه إنما يمكن العلم بإيمانهنَّ؛ بناء على إقرارهن، وهذا لا يفيد إلاَّ الظنَّ، وقد سمَّى الله تعالى الظنَّ ها هنا علماً. الثالث: أنَّ الدليل القاطع، لما دلَّ على وجوب العمل بالقياس، كان ذلك الدليل دليلاً على أنَّه متى حصل ظنُّ أنَّ حكم الله في هذه الصُّورة يساوي حكمه في محلِّ النصِّ، فأنتم مكلَّفُون بالعمل على وفق ذلك الظنِّ، فها هنا الظن وقع في طريق الحكم، فأمَّا الحكم، فهو معلومٌ متيقَّن. أجاب نفاةُ القياس عن الأول؛ فقالوا: قوله عزَّ وعلا: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} دخله التخصيصُ في الصُّور العشرة المذكورة، فيبقى العموم حجة فيما وراءها، ثم نقول: الفرق بين هذه الصور وبين محلِّ النِّزاع أنَّ هذه الصور العشر مشتركة في أنَّ تلك الأحكام مختصَّة بأشخاصٍ معينين في أوقات معيَّنة؛ فإنَّ الواقعة التي يرجع فيها الإنسان المعيَّن إلى الفتى المعيَّن واقعة متعلقة بذلك الشخص المعيَّن، وكذا القول في الشَّهادة وفي طلب القبلة، وفي سائر الصور؛ والتنصيص على وقائع الأشخاص المعنيين في الأوقات المعينة يجري مجرى التنصيص على ما لا نهاية له، فلهذه الضرورة؛ اكتفينا بالظنِّ، أما الأحكام المثبتة، فهي أحكامٌ كليةٌ معتبرةٌ في وقائعِ كلية، وهي مضبوطة، والتنصيص عليها مكنٌ، ولذلك فإنَّ الفقهاء الذين استخرجوا تلك الأحكام بطريق القياس ضبطوها، وذكروها في كتبهم. إذا عرف هذا، فنقول: التنصيصُ على الأحكام في الصُّور العشر التي ذكرتموها غير ممكنٍ، فلا جرم: اكتفى الشَّارع فيها بالظنِّ، أما المسائلُ المثبتة بالطرق القياسيَّة فالتنصيصُ عليها ممكنٌ، فلا يجوز الاكتفاءُ فيها بالظنِّ، فظهر الفرقُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 283 وقولهم: الظنَّ قد يسمَّى علماً، فهذا باطلٌ؛ فإنه يصحُّ أن يقال: هذا مظنونٌ، وغير معلوم، وهذا معلومٌ، وغير مظنونٍ، فدلَّ على حصول المغايرة، فيدلُّ عليه قوله تعالى: {هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن} [الأنعام: 148] نفى العلم، وأثبت الظنَّ، وذلك يدلُّ على المغايرة. وأما قوله تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10] فالمؤمن هو المقر، وذلك الإقرار معلوم. وأمَّا الجوابُ عن الثالث، فنقول: الكلام إنَّما يتمُّ لو ثبت أن القياس حجَّة بدليل قاطع، وذلك باطل؛ لأنَّ القياس وهو الذي يفيد الظنَّ لا يجب عقلاً أن يكون حجة؛ لأنه لا نزاع أنَّه يصحُّ من الشَّرع أن يقول: نهيتكم عن الرجوع إلى القياسِ، ولو كان كونه حجَّة أمراً عقلياً، لامتنع ذلك. والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ الدليل النقليَّ في كون القياس حجَّة، إنما يكون قطعيًّا؛ إذ لو كان منقولاً نقلاً متواتراً، كانت دلالته على ثبوت هذا المطلوب دلالة قطعيَّة غير محتملة للتخصيص، ولو حصل مثل هذا الدليل، لوصل إلى الكلِّ، ولعرفه الكلُّ، ولارتفع الخلاف، وحيث لم يكن كذلك، علمنا أنَّه لم يحصل في هذه المسألة دليلٌ سمعيٌّ قاطعٌ، فثبت أنَّه لم يوجد في إثبات كون القياس حجة دليل قاطعٌ ألبتة، فبطل قولكم: كون الحكم المثبتِ بالقياس حجَّة معلومٌ لا مظنونٌ. قال ابن الخطيب: وأحسن ما يمكن أن يجاب عنه أن يقال: التمسُّك بهذه الآية الَّتي عولتم عليها تمسُّك بعامٍّ مخصوص، والتمسُّك بالعامِّ المخصوصِ لا يفيد إلاَّ الظنَّ، فلو دلَّت هذه الآية على أنَّ التمسُّك بالظنِّ غير جائز، لدلَّت على أن التمسُّك بهذه الآية غير جائز، فالقول بكون هذه الآية حجَّة يفضي ثبوته إلى نفيه، فكان تناقضاً، فسقط الاستدلال به. وللمجيب أن يجيب عنه، فيقول: نعلم بالتواتر الظَّاهر من دين محمد - صلوات الله وسلامه عليه - أنَّ التمسُّك بآياتِ القرآنِ حجَّة في الشريعة، ويمكن أن يجاب عن هذا الجواب بأن كون العامِّ المخصوص حجَّة غير معلومٍ بالتواتر. قوله تعالى: {إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} . قوله تعالى: «أولئك» إشارة إلى ما تقدَّم من السمع، والبصر، والفؤاد؛ كقوله: [الكامل] 3420 - ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنْزلةِ اللِّوَى ... والعَيْشَ بعْدَ أولئِكَ الأيَّامِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 284 ف «أولئكَ» يشارُ به إلى العقلاء وغيرهم من الجموع، واعتذر ابن عطيَّة عن الإشارة به لغير العقلاءِ، فقال: وعبَّر عن السَّمعِ، والبصرِ، والفؤاد ب «أولئك» لأنها حواسٌّ لها إدراكٌ، وجعلها في هذه الآية مسئولة؛ فهي حالة من يعقل؛ ولذلك عبَّر عنها بكناية من يعقل، وقد قال سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ - في قوله تعالى: {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف: 4] إنما قال «رَأيْتهُم» في نجوم؛ لأن لمَّا وصفها بالسجود - وهو فعلُ من يعقِلُ - عبَّر عنها بكناية من يعقل، وحكى الزجاج أنَّ العرب تُعَبِّرُ عمَّن يعقلُ وعمَّن لا يعقل ب «أولئك» وأنشد هو والطبريُّ: [الكامل] 3421 - ذُمَّ المَنازِلَ بعد مَنْزلةِ اللِّوَى ... والعَيْشَ بعْدَ أولئكَ الأيَّامِ وأمَّا حكاية أبي إسحاق عن اللغة فأمر يوقف عنده، وأمَّا البيت فالرواية فيه «الأقوامِ» ولا حاجة إلى هذا الاعتذار لما عرفت، وأما قوله: «إنَّ الرواية: الأقوَامِ» فغير معرنوفةٍ والمعروفُ إنما هو «الأيَّامِ» . قوله: «كُلُّ اولئِكَ» مبتدأ، والجملة من «كَانَ» خبره، وفي اسم «كان» وجهان: أحدهما: أنه ضمير عائد على «كلُّ» باعتبار لفظها، وكذا الضمير في «عَنْهُ» و «عَنْهُ» متعلق ب «مَسْئُولاً» و «مَسْئولاً» خبرها. والثاني: أنَّ اسمها ضمير يعود على القافي، وفي «عَنْه» يعود على «كُلُّ» وهو من الالتفات؛ إذ لو جرى على ما تقدَّم، لقيل: كُنْتَ عنه مسئولاً، وقال الزمخشري: و «عَنْهُ» في موضع الرفعِ بالفاعلية، أي: كل واحدٍ كان مَسْئولاً عنه، فَمسئُول مسند إلى الجار والمجرور؛ كالمغضوب في قوله {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} [الفاتحة: 7] انتهى. وفي تسميته مفعول ما لم يسمَّ فاعله فاعلاً خلاف الاصطلاح. وقد ردَّ أبو حيَّان عليه قوله: بأنَّ القائم مقام الفاعل حكمه حكمه، فلا يتقدَّم على رافعه كأصله، وليس لقائلٍ أن يقول: يجوز على رأي الكوفيِّين؛ فإنهم يجيزون تقديم الفاعل؛ لأن النحَّاس حكى الإجماع على عدم جواز تقديم القائم مقام الفاعل، إذا كان جارًّا أو مجروراً، فليس هو نظير وله {غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم} فحينئذٍ يكون القائم مقام الفاعل الضمير المستكنَّ العائد على «كُلُّ» أو على القافي. فصل في ظاهر الآية ظاهر الآية يدلُّ على أنَّ الجوارح مسئولةً، وفيه وجوهٌ: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 285 الأول: معناه أنَّ صاحب السَّمع، والبصر، والفؤاد هو المسئُول؛ لأنَّ السؤال لا يصحُّ إلاَّ من العاقل، وهذه الجوارح ليست كذلك، بل العاقل الفاهم هو الإنسان: لم سمعت ما لا يحلُّ سماعه، ولم نظرت إلى ما لا يحلُّ لك نظره، ولم عزمت على م الا يحلُّ لك العزم عليه. والثاني: أن أولئك الأقوام كلهم مسئولون عن السمع، والبصر، والفؤاد، فيقال لهم: استعملتم السمع فيماذا، أفي الطاعة، أو في المعصية؟ وكذلك القولُ في بقيَّة الأعضاء، وذلك؛ لأنَّ الحواسَّ آلاتُ النَّفس، والنَّفسُ كالأمير لها، والمستعمل لها في مصالحها، فإن استعملها في الخيرات، استوجب الثواب، وإذا استعملها في المعاصي، استحقَّ العقاب. والثالث: أنه تعالى يخلقُ الحياة في الأعضاء، ثمَّ إنها تسألُ؛ لقوله تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [النور: 24] فكذلك لا يبعد أن يخلق العقل، والحياة، والنطق في هذه الأعضاء، ثمَّ إنَّها تسال. رُوي عن شكل بن حميدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال: «أتَيْتُ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقلت: يا رسُول الله، علِّمْنِي تعويذاً، أتعوَّذ به، فأخذ بيدي، ثم قال:» قُل اللهُمَّ؛ أعُوذُ بِكَ من شرِّ سمعي، وشرِّ بصري، وشرِّ لسَانِي، وشرِّ قلبي، وشرِّ مَنِيِّي «قال فحفظتها. قال سعيد: والمنيُّ ماؤه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 286 وهذا هو النهي الثاني. قوله تعالى: «مَرَحاً» : العامة على فتحِ الراء، وفيه أوجه: أحدها: أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحال، أي: مرحاً بكسر الراء، ويدل عليه قراءة بعضهم فميا حكاه يعقُوب «مَرِحاً» بالكسرِ. قال الزجاج: «مرَحاً» مصدر، ومرِحاً: اسم الفاعل، وكلاهما جائز، إلا أن المصدر هنا أحسن وأوكد، تقول: جاء زيد ركضاً وراكضاً، وآكد؛ لأنه يدل على توكيد الفعل. الثاني: أنه على حذف مضافٍ، أي: ذا مرحٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 286 الثالث: أنه مفعولٌ من أجله. والمَرحُ: شدَّة السرورِ والفرح؛ مَرِحَ يمْرحُ مرحاً، فهو مَرحٌ؛ كفَرِحَ يَفْرحُ فرحاً، فهو فَرِحٌ. قوله: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} الآية. قرأ أبو الجرَّاح «لن تَخرُق» بضم الراء، وأنكرها أبو حاتم وقال: لا نعرفها لغة البتَّة. والمراد من الخرقِ ها هنا نقب الأرض، وذكروا فيه وجوهاً: الأول: أنَّ الشيء إنما يتمُّ بالارتفاع والانخفاض، فكأنه قال إنَّك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها، وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رءوس الجبال، والمعنى: أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئاً، كمن يريد خرق الأرض، ومطاولة الجبال لا يحصل على شيء. والمراد التنبيهُ على كونه ضعيفاً عاجزاً، فلا يليقُ به التكبُّر. الثاني: أنَّ تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها، وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها، فأنت محاطٌ بك من فوقك، ومن تحتك بنوعين من الجماد، وأنت أضعف منهما بكثيرٍ، والضعيف المحصور لا يليق به التكبُّر، فكأنه قيل له: تواضع، ولا تتكبَّر؛ فإنَّك خلقٌ ضعيفٌ من خلق الله، محصورٌ بين حجارةٍ وترابٍ، فلا تفعل فعل القويِّ المقتدر. الثالث: أنَّ من يمشي مختالاً يمشي مرَّة على عقبيه، ومرَّة على صدور قدميه، فقيل له: إنَّك لن تنقب الأرض، إن مشيت على عقبيك، ولن تبلغ الجبال طولاً، إن مشيت على صدور قدميك. قال عليٌّ - كرَّم الله وجهه -: كَان رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا مَشَى تَكَفَّأ تَكفُّؤاً؛ كأنَّما ينحطُّ من صَبَبٍ. وروى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «ما رأيْتُ شَيْئاً أحْسنَ من رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كأنَّ الشَّمسَ تَجْري في وجْههِ، وما رأيتُ أحداً أسرعَ مِشْيةً من رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كَأنَّما الأرضُ تطوى له، إنَّا لنَجْهدُ أنْفُسنَا وهُو غَيْرُ مُكْترِثٍ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 287 قوله تعالى: «طُولاً» يجوز أن يكون حالاً من فاعل «تَبلُغ» أو من مفعوله، أو مصدراً من معنى «تبلغ» أو تمييزاً، أو مفعولاً له، وهذان ضعيفان جدًّا؛ لعدمِ المعنى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 288 قرأ ابن عامر والكوفيُّون بضمِّ الهمزة والهاء، والتذكير، وتركِ التنوين، والباقون بفتح الهمزة، وتاءِ التأنيث منصوبة منونة، فالقراءة الأولى أشير فيها بذلك غلى جميع ما تقدم، ومنه السَّيئ والحسنُ، فأضاف السيِّئ إلى ضمير ما تقدَّم، ويؤيِّدها ما قرأ به عبد الله: «كلُّ ذلك كان سيِّئاتهُ» بالجمع، مضافاً للضمير، وقراءة أبيّ «خَبِيثهُ» والمعنى: كل ما تقدم ذكره ممَّا أمِرتُمْ به ونهيتم عنه كان سيِّئهُ - وهو ما نهيتم عنه خاصة - أمراً مكروهاً، هذا أحسنُ ما يقدِّر في هذا المكانِ. وأمَّا ما استشكله بعضهم من أنَّه يصير المعنى: كل ما ذكر كان سيئة، ومن جملة كلِّ ما ذكر: المأمورُ به، فيلزمُ أن يكون فيه سيِّئٌ، فهو استشكالٌ واهْ؛ لما تقدم من تقرير معناه. و «مَكْرُوهاً» خبر «كان» وحمل الكلامُ كله على لفظ «كلُّ» فلذلك ذكَّر الضمير في «سَيِّئهُ» والخبر، وهو: مكروهٌ. وأمَّا قراءة الباقين: فيحتمل أن تقع الإشارة فيها ب «ذلِكَ» إلى مصدري النَّهيينِ المتقدِّمين قريباً، وهما: قَفْوُ ما ليس به علمٌ، والمشيُ في الأرض مرحاً. والثاني: أنه أشير به إلى جميع ما تقدَّم من المناهي. و «سيِّئةً» خبر «كان» وأنِّثَ؛ حملاً على معنى «كلُّ» ثم قال «مَكْرُوهاً» حملاً على لفظها. وقال الزمخشريُّ كلاماً حسناً، وهو: أنَّ «السَّيِّئة في حكم الأسماءِ: بمنزلة الذَّنبِ والإثم، زال عنه حكم الصفات، فلا اعتراب بتأنيثه، ولا فرق بين من قرأ» سيئة «ومن قرأ» سيِّئاً «ألا ترى أنَّك تقول: الزِّنى سيِّئةٌ، كما تقول: السَّرقة سيِّئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث» . وفي نصب «مكروهاً» أربعة أوجهٍ: أحدها: أنه خبر ثانٍ ل «كان» وتعدادُ خبرها جائز على الصَّحيح. الثاني: أنه بدلٌ من «سَيِّئةٍ» وضعف هذا؛ بأنَّ البدل بالمشتقِّ قليلٌ. الثالث: أنه حالٌ من الضمير المستتر في «عند ربِّك» لوقوعه صفة ل «سيئة» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 288 الرابع: أنه نعتٌ ل «سَيِّئةً» ، وإنما ذكر لأن «سيِّئةً» تأنيث موصوفه مجازي؛ وقد ردَّ هذا؛ بأن ذلك إنًَّما يجوز حيث أسند إلى المؤنث المجازيِّ، أمَّا إذا أسند إلى ضميره، فلا؛ نحو: «الشَّمسُ طَالعةٌ» لا يجوز: «طَالعٌ» إلا في ضرورةٍ كقوله: 3422 - ... ... ... ... ... ..... ولا أرْضَ أبْقلَ إبْقالهَا وهذا عند غير ابن كيسان، وأمَّا ابن كيسان فيجيز في الكلام: «الشَّمسُ طَلع، وطَالعٌ» . وقيل: إنما ذكَّر سيِّئةً وهي الذنب، وهو مذكر [لأن التقدير: كل ذلك كان مكروهاً وسيئة عند ربك] وقيل فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، أي كل ذلك كان مكروهاً سيئة. فصل وأمَّا قراءة عبد الله فهي ممَّا أخبر فيها عن الجمع إخبار الواحد؛ لسدِّ الواحد مسدَّه؛ كقوله: 3423 - فَإمَّا تَريْنِي ولِي لمَّةٌ ... فإنَّ الحَوادِثَ أوْدَى بِهَا لو قال: فإنَّ الحدثان، لصحَّ من حيثُ المعنى، فعدل عنه؛ ليصحَّ الوزنُ. وقرأ عبد الله أيضاً «َان سَيِّئاتٍ» بالجمع من غير إضافةٍ، وهو خبر «كان» وهي تؤيِّد قراءة الحرميَّين، وأبي عمرو. فصل قال القاضي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: دلَّت هذه الآية على أنَّ هذه الأعمال مكروهة عند الله تعالى، والمكروهُ لا يكون مراداً، فهذه الأعمال غير مرادِ الله، فبطل قول من يقول: كل ما دخل في الوجود، فهو مراد الله تعالى، وإذا ثبت أنها ليست بإرادة الله تعالى، وجب ألاَّ تكون مخلوقة - لله تعالى -؛ لأنَّها لو كانت مخلوقة لله تعالى، لكانت مرادة، لا يقال: المراد من كونها مكروهة: أنَّ الله تعالى نهى عنها. وأيضاً: معنى كونها مكروهة أن الله تعالى كره وقوعها، وعلى هذا التقدير: فهذا لا يمنع أنَّ الله تعالى أراد وجودها، لأنَّ الجواب أنه عدولٌ عن الظاهر. وأيضاً: فكونها سيِّئة عند ربِّك يدلُّ على كونها منهيًّا عنها، فلو حملت المكروه على النَّهي، لزم التَّكرار. والجواب عن الثاني أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الزجر عن هذه الأفعال، ولا يليقُ بهذا الموضع أن يقال: إنه تعالى يكرهُ وقوعها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 289 وأجيب بأنَّ المراد من المكروه المنهيُّ عنه، ولا باس بالتَّكرير، لأجل التأكيد. فصل قال القاضي دلَّت هذه الآية على أنه تعالى كما أنَّه موصوف بكونه مريداً، فكذلك أيضاً موصوفٌ بكونه كارهاً. وأجيب بأنَّ الكراهية في حقِّه تعالى محمولة إمَّا على النهي، [وإمَّا هي] إرادة العدم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 290 قوله تعالى: {ذَلِكَ مِمَّآ أوحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الحكمة} : [مبتدأ أو خبر] ، اعلم أن قوله «ذلك» إشارةٌ إلى ما تقدَّم من التكاليف، وهي خمسةٌ وعشرون نوعاً، أولها قوله تعالى: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ} [الإسراء: 22] . وقوله: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ} [الإسراء: 23] . وهذا مشتملٌ على تكليفين: الأمر بعبادةِ الله تعالى، والنهي عن عبادة غير الله، فكان المجموع [ثلاثة] . والرابع: قوله تعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] وقوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} [الإسراء: 23] وقوله {وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَقُل رَّبِّ ارحمهما} [الإسراء: 23، 24] {وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً} [الإسراء: 26] وقوله: {فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً} [الإسراء: 28] {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا} [الإسراء: 29] {وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ} [الإسراء: 31] {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس} [الإسراء: 33] {وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً} [الإسراء: 33] {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] وقوله: {وَأَوْفُوا الكيل} [الإسراء: 35] {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} [الإسراء: 35] وقوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً} [الإسراء: 37] {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ} فهذه خمسةٌ وعشرون تكليفاً، بعضها أوامر وبعضها نواهٍ، جمعها الله تعالى في هذه الآيات، وجعل فاتحتها قوله: {لاَّ تَجْعَل مَعَ الله إلها آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً} [الإسراء: 22] ، وخاتمتها قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً} وإنَّما سمَّاها حكمة؛ لوجوه: الأول: أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتَّوحيد، وأنواع الطَّاعات والخبرات والإعراض عن الدنيا، والإقبال على الآخرة، والعقول تدلُّ على صحَّتها، فالآتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان، بل الفطرة الأصليَّة تشهد بأنَّه يكون داعياً إلى دبن الرَّحمن. الثاني: أنَّ هذه الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الجزء: 12 ¦ الصفحة: 290 الأديان والملل، ولا تقبل النَّسخ والإبطال، فكانت محكمة وحكمة من هذه الاعتبارات. الثالث: أنَّ الحكمة عبارةٌ عن معرفة الحقِّ لذاته، والخير لأجلِ العمل به؛ فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأوَّل، وسائر التكاليف عبارة عن تعلُّم الخيرات؛ لأجل العمل بها. روي عن ابن عباسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ هذه التكاليف المذكورة كانت في ألواح موسى - صلوات الله عليه - أولها «لا تَجْعلْ مع الله إلهاً آخر» . قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً} [الأعراف: 145] . فكلُّ ما أمر الله به أو نهى عنه، فهو حكمةٌ. قوله تعالى: «مِنَ الحكمةِ» يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها: أن يكون حالاً من عائد الموصول المحذوف، تقديره: من الذي أوحاه حاك كونه من الحكمة، أو حال من نفس الموصول. الثاني: أنه متعلق ب «أوْحَى» ، و «مِنْ» إمَّا تبعيضيةٌ؛ لأنَّ ذلك بعض الحكمة، وإمَّا للابتداء، وإما للبيان. وحينئذٍ تتعلق بمحذوفٍ. الثالث: أنها مع مجرورها بدل من «ممَّا أوْحَى» . فصل ذكر في الآية أنَّ المشرك يكون مذموماً مخذولاً. وذكر ها هنا أنَّ المشرك يلقى في جهنَّم ملوماً مدحوراً، فاللَّوم والخذلان يحصل في الدنيا، وإلقاؤهُ في جهنَّم يحصل يوم القيامة، والفرقُ بين الملوم والمدحُور، وبين المذموم والمخذول: أنَّ معنى كونه مذموماً: أن يذكر له أنَّ الفعل الذي أقدم عليه قبيحٌ ومنكرٌ، وإذا ذكر له ذلك، فعند ذلك يقال له: لم فعلت هذا الفعل؟ وما الذي حملك عليه؟ وما استفدت من هذا العمل، إلاَّ إلحاق الضَّرر بنفسك؟ وهذا هو اللَّوم. وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور، فهو أنَّ المخذول هو الضعيف، يقال: تخاذلت أعضاؤه، أي: ضعفت، والمدحور هو المطرود، والطَّرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة، فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته، وتفويضه إلى نفسه، وكونه مدحوراً عبارةٌ عن إهانته، فيصير أوَّل الأمر مخذولاً وآخره يصير مدحوراً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 291 قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ} : ألفُ «أصْفَى» عو واوٍ؛ لأنه من «صَفَا يَصْفُو» وهو استفهام إنكارٍ وتوبيخٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 291 ويقال: أصفاهُ بالشَّيء، إذا آثرهُ به، ويقال للضِّياعِ التي يستخصُّها السلطان لخاصَّته الصَّوافِي. قال أبو عبيدة - رحنه الله - في قوله تعالى: {أَفَأَصْفَاكُمْ} : أفخصّكم وقال المفضل: أخلصكم. قال النحويون: هذه الهمزة همزة تدلُّ على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهبٍ ظاهر الفساد، لا جواب لصاحبه، إلاَّ بما فيه أعظمُ الفضيحةِ. واعلم أنَّه تعالى، لما نبَّه على فساد طريقة من أثبت لله شريكاً، أتبعه بفسادِ طريقة من أثبت الولد لله تعالى، ثم نبه على كمال جهل هذه الفرقة وهو أنَّ الولد على قسمين، فأشرف القسمين: البنون، وأخسُّها: البنات، ثمَّ إنَّهم أثبتوا البنين لأنفسهم، مع علمهم بنهاية عجزهم، وأثبتوا البنات لله تعالى مع علمهم بأنَّ الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له، وذلك يدلُّ على نهاية جهل القائلين بهذا القول؛ ونظيره قوله تعالى: {أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون} [الطور: 39] وقوله جلَّ ذكرهُ: {وَلَهُ الأنثى} [النجم: 21] . ومعنى الآية أنه اختاركم، فجعل لكم الصَّفوة، ولنفسه ما ليس بصفوة، يعني اختاركم {بالبنين واتخذ مِنَ الملاائكة إِنَاثاً} ؛ لأنَّهم كانوا يقولون: إنَّ الملائكة بنات الله تعالى. قوله تعالى: «واتَّخَذَ» يجوز أن تكون المتعدية لاثنين، فقال أبو البقاء: «إنَّ ثانيهما محذوف، أي: أولاداً، والمفعول الأوَّلُ هو إناثاً» وهذا ليس بشيءٍ، بل المفعول الثاني هو «مِنَ المَلائكةِ» قدِّم على الأوَّل، ولولا ذلك لزم أن يبتدأ بالنَّكرةِ من غير مسوغٍ؛ لأنَّ ما صلح أن يكون مبتدأ صلح أن يكون مفعولاً أوَّل في هذا الباب، وما لا، فلا، ويجوز أن تكون متعدية لواحدٍ، كقوله: {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} [البقرة: 116] ، و «مِنَ الملائكة» متعلق ب «اتَّخذ» أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من النَّكرة بعده. ثم قال تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً} وهذا خطابٌ لمشركي «مَكَّة» وبيان كون هذا القول عظيماً: أنَّ إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركَّباً من الأجزاء والأبعاض، وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجوب لذاته، وذلك عظيم من القول، وأيضاً: فبتقدير ثبوت الولد، فقد جعلوا أشرف القسمين لأنفسهم، وأخسَّ القسمين لله تعالى، وهذا جهلٌ عظيمٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 292 قوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} : العامة على تشديد الراء، وفي مفعول «صرَّفنا» وجهان: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 292 أحدهما: أنه مذكورٌ، و «في» مزيدة فيه، أي: ولقد صرفنا هذا القرآن؛ كقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ} [الفرقان: 50] ، ومثله: [الطويل] 3424 - ... ... ... ... ... ..... يَجْرَحُ في عَراقيبها نَصْلِي وقوله تعالى: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتيا} [الأحقاف: 15] أي: يجرح عراقيبها، وأصلح لي ذريتي، وردَّ هذا بأنَّ «في» لا تزاد، وما ذكر متأوَّل، وسيأتي إنْ شاء الله تعالى في الأحقاف. الثاني: أنه محذوفٌ تقديره: ولقد صرَّفنا أمثاله، ومواعظه، وقصصه، وأخباره، وأوامره. وقال الزمخشريُّ في تقدير ذلك: «ويجوز أن يراد ب» هَذَا القرآنِ «إبطال إضافتهم إلى الله البنات؛ لأنه ممَّا صرفه، وكرَّر ذكره، والمعنى: ولقد صرَّفنا القول في هذا المعنى، وأوقعنا التصريف فيه، وجعلناه مكاناً للتكرير، ويجوز أن يريد ب» هَذا القُرآنِ «التنزيل، ويريد: ولقد صرَّفناهُ، يعني هذا المعنى في مواضعَ من التنزيل، فترك الضمير؛ لأنَّه معلوم» ، وهذا التقدير الذي قدَّره الزمخشري أحسنُ؛ لأنه مناسب لما دلَّت عليه الآية وسيقت لأجله، فقدَّر المفعول خاصًّا، وهو: إمَّا القولُ، وإمَّا المعنى، وهو الضمير الذي قدَّره في «صَرَّفناه» بخلاف تقدير غيره، فإنه جعله عامًّا. وقيل: المعنى: لم نُنَزِّلهُ مرةً واحدة، بل نجوماً، والمعنى: أكثرنا صرف جبريل إليك، فالمفعول جبريل - عليه السلام -. وقرأ الحسن بتخفيفِ الرَّاء، فقيل: هي بمعنى القراءةِ الأولى، وفعَل وفعَّل قد يشتركان، وقال ابن عطيَّة: «أي: صرفنا النَّاس فيه إلى الهدى» . والصَّرْفُ في اللغة: عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة؛ نحو: تصريف الرياح، وتصريف الأمور، هذا هو الأصل في اللغة، ثم جعل لفظ التَّصريف كناية عن التَّبيين؛ لأنَّ من حاول بيان شيءٍ، فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع آخر، ومن مثالٍ إلى مثالٍ آخر؛ ليكمل الإيضاح، ويقوي البيان، فقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي: بيَّنَّا. قوله: «لِيَذَّكَّرُوا» متعلق ب «صَرَّفْنَا» وقرأ الأخوان هنا، وفي الفرقان بسكون الجزء: 12 ¦ الصفحة: 293 الذَّال، وضمِّ الكاف مخففة مضارع «ذكر» من الذّكر أو الذُّكر، والباقون بفتح الذال، والكاف مشددة، والأصل: يتذكَّروا، فأدغم التاء في الذَّال لقرب المخرج وهو من الاعتبار والتَّدبُّر. قال الواحديُّ: والتذكُّر هنا أشبه من الذِّكر؛ لأنَّ المراد منه التدبُّر والتفكُّر، وليس المراد منه الذِّكر الذي يحصل بعد النسيان، ثم قال: وأمَّا قراءة حمزة والكسائي، ففيها وجهان: الأول: أنَّ الذكر قد جاء بمعنى التَّأمُّل والتدبُّر؛ كقوله سبحانه جلَّ ذكره: {خُذُواْ مَآ آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ} [البقرة: 63] . والمعنى: وافهموا ما فيه. والثاني: أن يكون المعنى: صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن؛ لتذكروه بألسنتكم؛ فإنَّ الذكر بألسنتكم قد يؤدِّي إلى تأثر القلب بمعناه. فصل قال الجبائيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: قوله عزَّ وجلَّ: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِيَذَّكَّرُواْ} يدل على أنَّه تعالى يفعل أفعاله لأغراضٍ حكميةٍ، ويدلُّ على أنَّه تعالى أراد الإيمان من الناس، سواءٌ آمنوا، أو كفروا. قوله: {وَمَا يَزِيدُهُمْ} ، أي: التصريفُ، و «نُفوراً» مفعول ثانٍ وهذه الآية تدلُّ على أنَّه تعالى ما أراد الإيمان من الكفَّار؛ لأنَّه تعالى عالمٌ بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفوراً، فلو أراد الإيمان منهم، لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة عنه؛ لأنَّ الحكيم، إذا أراد تحصيل أمرٍ من الأمور، وعلمَ أنَّ الفعل تلفلاميَّ يصير سبباً للعسر والتعذُّر والنفرة؛ فإنَّه عند محاولة تحصيل ذلك المقصود يحترزُ عما يوجب النُّفرة، فلمَّا أخبر تعالى أنَّ هذا التصرُّف يزيدهم نفُوراً، علمنا أنَّه ما أراد الإيمان منهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 294 قوله تعالى: {كَمَا يَقُولُونَ} : الكافُ في موضع نصبٍ، وفيها وجهان: أحدهما: أنها متعلقة بما تعلَّقت به «مع» من الاستقرار، قاله الحوفيُّ. والثاني: أنها نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: كوناً كقولكم؛ قاله أبو البقاء. وقرأ ابن كثير وحفص «يقولون» بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق، وكذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 294 قوله تعد هذا {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ} [الإسراء: 43] ، قرأه بالخطاب الأخوان، والباقون بالغيبة فتحصَّل من مجموع الأمر؛ أنَّ ابن كثير وحفصاً يقرآنهما بالغيبة، وأن الأخوين قرءوا بالخطاب فيهما، وأن الباقين قرءوا بالغيبة في الأول، وبالخطاب في الثاني. فوجه قراءة الغيب فيهما أنه: حمل الأوَّل على قوله: {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً} [الإسراء: 41] ، وحمل الثاني عليه، ووجه الخطاب فيهما: أنه حمل الأوَّل على معنى: قل لهم يا محمد لو كان معه آلهةٌ كما تقولون، وحمل الثاني عليه. ووجه الغيب في الأول: أنه حمله على قوله «ومَا يَزِيدهُمْ» والثاني التفت فيه إلى خطابهم. قوله: «إذَنْ» حرف جوابٍ وجزاءٍ، قال الزمخشريُّ: وإذن دالَّة على أنَّ ما بعدها، وهو «لابتَغَوا» جواب لمقالةِ المشركين، وجزاءٌ ل «لَوْ» . وأدغم أبو عمرٍو الشين في السين، واستضعفها النحاة؛ لقوَّة الشَّين. فصل في معنى الآية المعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: {لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ} لطلبوا - يعني الآلهة - {إلى ذِي العرش سَبِيلاً} بالمغالبة والقهر؛ ليزيلوا ملكه؛ كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض، وهذا يرجع إلى دليل التمانع، وسيأتي - إن شاء الله تعالى - عند قوله - عزَّ وجلَّ - في سورة الأنبياء - صلوات الله عليهم - {لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] وقيل: المعنى: لطلبوا - يعني الآلهة - {إلى ذِي العرش سَبِيلاً} بالتقرُّب إليه، لأنَّ الكفار كانوا يقولون: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى} [الزمر: 3] . فقال تعالى: لو كانت هذه الأصنام تقربكم إلى الله زلفى، لطلبت لأنفسها أيضاً القرب غلى الله تعالى، فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله، ثم نزَّه نفسه فقال: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً} . قوله تعالى: {وتعالى} : عطف على ما تضمَّنه المصدر، تقديره: تنزَّه وتعالى. و «عن» متعلقة به، أو ب «سبحان» على الإعمال لأنَّ «عَنْ» تعلقت به في قوله {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 180] و «عُلُوًّا» مصدر واقع موقع التعالي؛ لأنَّه كان يجب أن يقال: تعالياً كبيراً، فهو على غير المصدر كقوله: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] [في كونه على غير الصدر] . والتَّسبيحُ عبارة عن تنزيه الله تعالى عمَّا لا يليقُ به. والفائدة في وصف ذلك العلوِّ بالكبر: أن المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصَّاحبة، والولد، والشُّركاء، والأضداد، والأنداد، منافاة بلغت في القوَّة والكمال غلى حيث لا تعقل الزيادة عليها؛ لأنَّ المنافاة بين الواجب لذاته، والممكن لذاته، وبين القديم والمحدث، وبين الغنيِّ والمحتاج منافاة لا يعقل الزيادة عليها، فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 295 قوله تعالى: {تُسَبِّحُ} قرأ أبو عمرو والأخوان، وحفص «تُسَبِّحُ» بالتاء، والباقون بالياء من تحت، وهما واضحتان؛ لأن التأنيث مجازي، ولوجود الفصل أيضاً بين الفعل والتأنيث. وقال ابن عطيَّة: «ثم أعاد على السَّموات والأرض ضمير من يعقل، لمَّا أسند إليها فعل العاقل، وهو التسبيح» وهذا بناءً على أنَّ «هُنَّ» مختصٌّ بالعاقلات، وليس كما زعم، وهذا نظيرُ اعتذاره عن الإشارة ب أولئك «في قوله» كُلُّ أولئكَ «وقد تقدَّم. وقرأ عبد الله والأعمش» سَبّضحَتْ «ماضياص بتاء التأنيث. فصل قال ابن عطيَّة: يقال: فَقِهَ، وفَقَهَ، وفَقُهُ؛ بكسر القاف، وفتحها، وضمها، فالكسر إذا فهم، وبالفتح إذا سبق غيره للفهم، وبالضمِّ إذا صار الفقه له سجيَّة، فيكون على وزن» فَعُلَ «بالضَّم؛ لأنَّه شأنُ أفعال السجايا الماضية نحو: ظَرُفَ فو ظريفٌ، وشرُف فهو شريفٌ، وكرُم فهو كريم، واسم الفاعل من الأوليين فاعل؛ نحو: سَمِعَ، فهو سَامعٌ، وغلب فهو غالبٌ، ومن الثالث: فعيلٌ؛ فلذلك تقول فَقُهَ فهو فَقِيهٌ. فصل روي عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: وإن من شيء حيٍّ إلا يُسبح بحمدهِ وقال قتادة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يعني الحيوانات والنَّاميات. وقال عكرمةُ: الشجرة تسبِّح، والأسطوانة تسبِّح. وعن المقدام بن معدي كرب، قال:» إنَّ التُّرابَ يُسَبِّح مَا لمْ يبْتَلَّ، فإذا ابتلَّ ترك التَّسبيحَ، وإنَّ الخرزة تُسَبِّحُ، مَا لَمْ تُرفَعْ من موضعها، فإذا رفعتْ تركت التَّسبيح، وإنَّ الورقة تُسبِّح ما دامت على الشَّجرة، فإذا سقطت، تركت التَّسبيح، وإنَّ الماء يسبِّح ما دام جارياً، فإذا أركد، ترك التَّسبيح، وإنَّ الثوب يسبِّح ما دام جديداً، فإذا وسخ، ترك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 296 التسبيح، وإن الطير والوحش تسبِّح، إذا صاحتْ، فإذا سكنت، تركت التَّسبيح. وقال إبراهيم النخعيُّ: وإن من شيءٍ جمادٍ وحيٍّ إلا يسبِّح بحمده، حتَّى صرير الباب، ونقيض السقف. وقال مجاهدٌ: كل الأشياء تسبِّح لله، حيًّا كان أو ميتاً، أو جماداً، وتسبيحها: سبحان الله وبحمده. قال أهلُ المعاني: تسبيحُ الحيِّ المكلَّف بالقول، كقول اللسان: سبحان الله، وتسبيح غير المكلَّف كالبهائم، ومن لا يكون حيًّا، كالجمادات ما دلَّت بلطيفِ تركيبها، وعجي هيئتها على خالقها؛ لأنَّ التسبيح باللسان لا يحصُل إلاَّ مع الفهم، والعلم، والإدراك، والنُّطق، وكل ذلك في الجمادات محالٌ. قالوا: فلو جوَّزنا في الجماد أن يكون عالماً متكلِّماً، لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى قادراً عالماً على كونه حيًّا، وحينئذٍ: يفسد علينا باب العلم بكونه حيًّا، وذلك كفر؛ فإنَّه إذا جاز للجمادات أن تكون عالمة بذات الله وصفاته، وتسبيحه، مع أنَّها ليست بأحياء؛ فحينئذ: لا يلزم من كون الشيءِ عالماً قادراً متكلماً أن يكون حيًّا، وذلك كفر؛ فإنَّه إذا جاز للجمادات أن تكون عالمة بذات الله وصفاته، وتسبيحه، مع أنَّها ليست بأحياء؛ فحينئذ: لا يلزم من كون الشيءِ عالماً قادراً متكلماً أن يكون حيًّا، فلم يلزم من كونه تعالى عالماً قادراً كونه حيًّا، وذلك جهلٌ وكفر، ومن المعلوم بالضَّرورة أنَّ من ليس بحيٍّ لم يكن عالماً قادراً متكلِّماً. واحتج القائلون بأنَّ الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلُّها تسبِّح لله تعالى بهذه الآية، ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته؛ لأنَّه تعالى قال: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} وهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا، ودلالتها على وجود قدرة الله تعالى وحكمته معلومةٌ لنا، فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايراً لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته سبحانه. فأجاب أهل المعاني بوجوه: أولها: أنَّك إذا أخذت تفاحة واحدة، فتلك التفاحة مركبة من أشياء كثيرة، لا تتجزَّأ، وكلُّ واحدٍ من تلك الاجزاء دليلٌ تامٌّ مستقلٌّ على وجودِ الإله، ولكلِّ واحد من تلك الأجزاء صفات مخصوصة من الطَّبع، والطَّعم، واللَّون، والرائحة، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات، ولا يحصل ذلك إلا بتخصيص مخصِّص قادر حكيم. إذا عرف هذا ظهر أنَّ كلَّ واحدٍ من أجزاء تلك التفاحة دليل تامٌّ على وجود الإله، وكل صفة من تلك الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد أيضاً دليل تامٌّ على وجود الإله، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 297 ثم عدد تلك الأجزاء غي رمعلومٍ، وأحوال تلك الصفات غير معلومة، فلهذا قال تعالى: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} . وثانيها: أن الكفَّار، وإن كانوا يقرُّون بإثبات إله العالم إلاَّ أنهم ما كانوا يتفكَّرون في أنواع الدَّلائلِ، كما قال تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] . فكان المراد من قوله: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} هذا المعنى. وثالثها: أنَّ القوم، وإن كانوا مقرِّين بألسنتهم بإثبات إله العالم، إلاَّ أنَّهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته، ولذلك استبعدوا كونه قادراً على الحشر والنشر، فكان المراد ذلكز ورابعها: قوله لمحمدٍ: «قُلْ» لهم: {لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} [الإسراء: 42] ، فهم ما كانوا عالمين بهذه الدلائل، فلما قال: {تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ} بصحَّة هذا الدليل وقوَّته، وأنتم لا تفقهون هذا الدليل، ولا تعرفونه، بل القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والنبوَّة والمعاد، فقال تعالى: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} ، فذكر الحليم الغفور ها هنا يدلُّ على كونهم لا يفقهون ذلك التَّسبيح، وذلك جرم عظيمٌ صدر عنهم، وهذا إنما يكن جرماً، إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالَّة على كمال قدرة الله وحكمته، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم، ما عرفوا وجه تلك الدلائل، ولو حملنا هذا التسبيح على تسبيح الجمادات بأنواعها، لم يكن عدم الفقه لذلك التسبيح جرماً، ولا ذنباً، وإذا لم يكن جرماً، ولا ذنباً، لم يكن قوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} لائقاً بهذا الموضع. واعلم أنَّ القائلين بأن الجمادات والحيوانات غير الناطقة تسبِّح بألفاظها، أضافوا إلى كلِّ حيوانٍ نوعاً من التسبيح، وقالوا: إنَّها غذا ذبحتْ لم تسبِّح، مع قولهم بأنَّ الجماداتِ تسبِّح، فإذا كان كونه جماداً لا يمنع من كونه مسبِّحاً، فكيف صار ذبح الحيوان مانعاً له من التَّسبيح؟! . وقالوا: إن عصا الشَّجرة إذا كسرت، لم تسبِّح، وإذا كان كونه جماداً، لم يمتنع من كونه مسبِّحاً، فكيف يمنع ذلك من تسبيحها بعد الكسر؟ وهذه كلمات ضعيفة. فصل في تسبيح السماوات والأرض دلَّت هذه الآية على أنَّ السماوات والأرض ومن فيهن يسبِّح الله تعالى، فتسبيح السماوات والأرض ليس إلاَّ بمعنى تنزيه الله، وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجازٌ، وأما تسبيح المكلَّفين فهو قول: «سُبحَانَ الله» ، وهذا حقيقة، فيلزم أن يكون قوله «تُسبِّحُ» لفظاً واحداً قد استعمل في الحقيقة والمجاز معاً، وهو باطل لم يثبت في أصول الفقه، فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على المجاز في حقِّ العقلاء وغيرهم؛ لئلاَّ يلزم هذا المحذورُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 298 لمَّا تكلَّم في الآية المتقدمة في إثبات الإلهيَّة، تكلَّم في هذه الآية في تقرير النبوَّة، وفيها قولان: الأول: أنَّ هذه الآية نزلت في قوم كانوا يؤذون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا قرأ القرآن على الناس. روي أنه - عليه السلام - كان كلما قرأ القرآن قام عن يمينه وعن يساره أحزاب من ولد قصيٍّ يصفقون، ويصفِّرون، ويخلطون عليه بالأشعار. وروى سعيد بن جبير عن أسماء رَضِيَ اللَّهُ عَنْها قالت: «كَانَ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ جالساً، ومعه أبُو بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، فنزلت سورة {تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ} [المسد: 1] فجاءت امرأة أبي لهبٍ، ومعها حجرٌ، تريد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهي تقول: [الرجز] 3425 - مُذمَّماً أبَيْنَا _ _ ودِينَهُ قَلَيْنَا_ _ _ _وأَمْرَهُ عَصَيْنَا_ _ ولم تَرهُ فقال أبو بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يا رسول الله معها حجرٌ، أخشى عليك، فتلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ هذه الآية، فقالت لأبي بكرٍ: قد علمت أنِّي ابنة سيِّد قريش، وأنَّ صاحبك هجاني، فقال ابو بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: والله، ما ينطق بالشِّعر، ولا يقوله، فرجعت، وهي تقول: قد كنتُ جئت بهذا الحجر؛ لأرضخ رأسه. فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ما رأتك يا رسول الله؟ قال: لا، لم يزل ملك بيني وبينها يسترني» . وروى ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّ أبا سفيان والنضر بن الحارث وأبا جهل وغيرهم، كانوا يجالسون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ويستمعون إلى حديثه، فقال النَّضر يوماً: ما أدري ما يقول محمجٌ، غير أنِّي أرى شَفَتيْهِ تتحركان بشيءٍ، فقال أبو سفيان: إنِّي أرى بعض ما يقوله حقًّا. وقال أبو جهلٍ: هو مجنونٌ. وقال أبو لهبٍ: كاهنٌ، وقال حويطب بن عبدِ العزَّى: هو شاعرٌ، فنزلت هذه الآية، وكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أراد تلاوة القرآن، قرأ قبلها ثلاث آياتٍ، وهي قوله في سورة الكهف {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} [الأنعام: 25] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 299 وفي النحل: {أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ} [النحل: 108] . وفي الجاثية: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الجاثية: 23] . فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات، عن عيون المشركين، فكانوا يمرُّون به، ولا يرونه. قوله تعالى: {مَّسْتُوراً} أنَّ الله تعالى يخلق حجاباً في عيونهم يمنعهم ذلك الحجاب عن رؤية النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو شيء لا يرى، فكان مستوراً من هذا الوجه. واحتجُّوا بهذه الآية على أنَّه يجوز أن تكون الحاسَّة سليمة، ويكون المرثيُّ حاضراً، مع أنَّه لا يراه الإنسان؛ لنَّ الله تعالى يخلق في عينه مانعاً يمنعه عن رؤيته، قالوا: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان حاضراً، وكانت حواس الكفَّار سليمة، ثمَّ إنهم كانوا لا يرونه، وأخبر الله تعالى أن ذلك إنما كان لأجل أن جعل بينه وبينهم حجاباً مستوراً، ولا معنى للحجاب المستور إلاَّ ما يخلقه الله في عيونهم بمنعهم من رؤيتهز وقيل: مستور على النسب، أي: ذو سترٍ، كقولهم: مكانٌ مهولٌ، وجارية مغنوجة، أي: ذو هولٍ، وذات غنج، ولا يقال فيهما: هلت المكان، ولا غنجت الجارية. وقيل: وكذلك قولهم: رجُلٌ مرطوبٌ: أي ذو رطوبةٍ، ولا يقال: رطبة، هو وصف على جهة المبالغة؛ كقولهم: «شعرٌ شاعرٌ» ورد هذا: بأنَّ ذلك إنَّما يكون في اسم الفاعل، ومن لفظ الأول. وقال الأخفش وآخرون: المستورُ ها هنا بمعنى السَّاتر والمفعول قد يرد بمعنى الفاعل؛ كقولهم: مشئوم وميمون بمعنى: شائم ويامن، وهذا كما جاء اسم الفاعل بمعنى مفعول كماءٍ دافقٍ. القول الثاني: أنَّ الحجاب هو الطَّبع الذي على قلوبهم والطبع المنع الذي منعهم عن أن يدركوا لطائف القرآن ومحاسنه وفوائده، فالمراد من الحجاب المستورِ ذلك الطبع الذي خلقه في قلوبهم. ثم قال تعالى: {وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً} وهذه الآية مذكورة بعيناه في سورة الأنعام. قوله: «وحدهُ» فيه وجهان: أحدهما: أنه منصوب على الحال، وإن كان معرفة لفظاً، لأنه في قوة النكرة غذ هو ف يمعنى منفرداً، وهل هو مصدر، أو اسم موضوع موضع المصدر الموضوع موضع الحال، فوحده وضِعَ مَوْضِعَ إيحَادٍ، وإيحادٌ وضعَ مَوْضِعَ موحدٍ. وهو مذهب سيبويه، أو هو مصدر على حذف الزوائد، إذ يقال: أوْحدهُ يُوحِدهُ إيحَاداً، أو هو مصدر بنفسه ل «وَحَد» ثُلاثِياً «. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 300 قال الزمخشري:» وحَدَ يَحِدُ وحْداً وحِدَة، نحو: وعَدَ يَعِدُ وعْداً وعِدَة، و «وحْدَهُ» من باب «رَجَعَ عودهُ على بَدْئهِ» ، و «افعله جهدك وطاقتك» في أنه مصدر سادٌّ مسدَّ الحال، أصله: يَحِدُ وحْدَهُ، بمعنى واحِداً «. قلت: وقد عرفت أنَّ هذا ليس مذهب سيبويه. والثاني: أنه منصوب على الظرف وهو قول يونس، واعلم أن هذه الحال بخصوصها، أعني لفظة» وحْدهُ «، إذا وقعت بعد فاعل ومفعول، نحو:» ضَربَ زيدٌ عمراً وحْدَهُ «، فمذهب سيبويه أنه حال من الفاعل، أي: موحداً له بالضرب، ومذهب المبرد أنه يجوز أن يكون حالاً من المفعول. قال أبو حيان:» فعلى مذهب سيبويه يكون التقدير: وإذا ذكرت ربك موحداً لله تعالى. قال المفسرون: معناه: إذا قلت: لا إله إلا الله في القرآن وأنت تتلوه. وعلى مذهب المبرد يجوز أن يكون التقدير: موحداً بالذكر «. ثم قال:» ولَّوا على أدبارهم نفوراً «وفي» نفوراً «وجهان: أحدهما: أنه مصدر على غير المصدر، لأن التولّي والنفور بمعنى. قال الزجاج رَحِمَهُ اللَّهُ: بمعنى ولوا كافرين نفوراً. والثاني: أنه حال من فاعل «ولَّوا» وهو حينئذ جمع نافرٍ، ك «قَاعدٍ» ، وقُعودٍ، وجَالسٍ، وجُلوسٍ. والضمير في «ولَّوا» الظاهر عوده على الكفار، وقيل: يعود على الشَّياطين، وإن لم يجْرِ لهُم ذِكرٌ. قال المفسرون: إن القوم كانوا في استماع القرآن على حالتين، سمعوا من القرآن ما ليس فيه ذكر لله تعالى فبقوا مبهوتين متحيرين؛ لا يفهمون منه شيئاص وإذا سمعوا آيات فيها ذكر لله تعالى، وذم المشركين ولوا نفوراً وتركوا ذلك المجلس. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 301 قوله تعالى: {بِمَا يَسْتَمِعُونَ} : الباء في «بما» متعلق ب «أعْلَمُ» . وما كان من باب العلم والجهل في أفعل التفضيل، وأفعل في التعجب تعدَّى بالباء؛ نحو: أنت أعلمُ به، وما أَعلمك به! {وهو أجهل به، وما أجهله به} ! ومن غيرهما يتعدَّى في البابين باللام؛ نحو: أنت أكسى للفقراء، و «مَا» بمعنى الذي، وهي عبارةٌ عن الاستخفاف والإعراض، فكأنه قال: نحن أعلم بالاستخفاف، والاستهزاءِ الذي يستمعون به، قاله ابن عطيَّة. قوله: «به» فيه أوجه: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 301 أحدها: أنه حال، فيتعلق بمحذوف. قال الزمخشري: «وبه في موضع الحالِ، كما تقول: يستمعون بالهزءِ، أي: هازئين» . الثاني: أنها بمعنى اللامِ، أي: بما يستمعون له. الثالث: أنها على بابها، أي: يستمعون بقلوبهم أو بظاهر أسماعهم، قالهما أبو البقاء. الرابع: قال الحوفيُّ: «لم يقلْ يستمعونه، ولا يستمعونك؛ لمَّا كان الغرضُ ليس الإخبار عن الاستماعِ فقط، وكان مضمَّناً أنَّ الاستماع كان على طريق الهزء بأن يقولوا: مجنونٌ أو مسحورٌ، جاء الاستماع بالباء وإلى، ليعلم أنَّ الاستماع ليس المراد به تفهُّم المسموعِ دون هذا المقصد» فعلى هذا ايضاً تتعلَّق الباء ب «يَسْتمِعُونَ» . قوله تعالى: {إِذْ يَسْتَمِعُونَ} فيه وجهان: أحدهما: أنه معمولٌ ل «أعْلَمُ» . قال الزمخشري: «إذ يستمعون نصب ب» أعْلَمُ «أي: أعلم وقت استماعهم بما به يستمعون، وبما يتناجون؛ إذ هم ذوو نجوى» . والثاني: أنه منصوبٌ ب «يَسْتمِعُونَ» الأولى. قال ابن عطيَّة - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «والعامل في» إذ «الأولى، وفي المعطوف» يَسْتمِعُونَ «الأولى» . وقال الحوفيُّ: و «إذ» الأولى تتعلق ب «يَسْتمِعُونَ» وكذا «وإذْ هُمْ نجْوَى» لأن المعنى: نحن أعلم بالذي يستمعون إليك، وإلى قراءتك وكلامك، إنما يستمعون لسقطك، وتتبُّع عيبك، والتماسِ ما يطعنون به عليك، يعني في زعمهم؛ ولهذا ذكر تعديتهُ بالباء و «إلى» . قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: «نَجْوَى» يجوز أن يكون مصدراً، فيكون من إطلاق المصدر على العين مبالغة، أو على حذف مضاف، أي: ذوو نجوى، كما قاله الزمخشري، ويجوز أن يكون جمع نجيِّ، كقتيلٍ وقتلى، قاله أبو البقاء. قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ} بدل من «إذ» الأولى في أحد القولين، والقول لآخر: أنَّها معمولة ل «اذْكُرْ» مقدَّراً. قوله تعالى: «مَسْحُوراً» الظاهر أنَّه اسم مفعول من «السِّحرِ» بكسر السين، أي: مخبول العقل، أو مخدوعه، وقال أبو عبيدة: معناه أنَّ له سَحْراً، أي: رئة بمعنى أنه لا يستغني عن الطَّعام والشَّراب، فهو بشرٌ مثلكم، وتقول العرب للجبان: «قد انتفخَ سَحرهُ» بفتح السين، ولكلِّ من أكل وشرب: مسحورٌ، ومسحرٌ، فمن الأول قول امرئ القيس: [الوافر] 3426 - أرَانَا مُوضَعِينَ لأمْرِ غَيْبٍ ... ونُسْحِرُ بالطَّعامِ وبالشَّرابِ أي: نُغذَّى ونُعَلَّلُ، ومن الثاني قول لبيدٍ: [الطويل] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 302 3427 - فَإنْ تَسْألِينَا فيمَ نَحْنُ فَإنَّنَا ... عَصَافِيرُ مِنْ هذا الأنَامِ المُسحَّرِ وردَّ الناس على أبي عبيدة قوله؛ لبعده لفظاً ومعنًى. قال ابن قتيبة: «لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التَّفسير المستكرهِ مع ما فسَّره السَّلف بالوجوهِ الواضحة» . قال شهاب الدين: وأيضاً فإن «السَّحْر» الذي هو الرِّئة لم يضرب له فيه مثلٌ؛ بخلاف «السِّحْر» فإنهم ضربوا له فيه المثل، فما بعد الآية من قوله {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} [الإسراء: 48] لا يناسب إلا «السِّحْر» بالكسرِ. فصل في معنى قوله: {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} . قال المفسرون: معنى الآية {نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ} أي يطلبون سماعه، {إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} وأنت تقرأ القرآن، {وَإِذْ هُمْ نجوى} يتناجون في أمرك، فبعضهم يقول: هذا مجنونٌ، وبعضهم يقول: شاعرٌ {إِذْ يَقُولُ الظالمون} يعني الوليد بن المغيرة وأصحابه: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} مطبوباً. وقال مجاهد - رَحِمَهُ اللَّهُ -: مخدوعاً؛ لأنَّ السِّحر حيلة وخديعة، وذلك لأنَّ المشركين حانوا يقولون: إنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يتعلَّم من بعض النَّاس هذه الكلمات، وأولئك النَّاس يخدعونه بهذه الكلمات، فلذلك قالوا: «مَسْحُوراً» أي: مخدوعاً. وأيضاً: كانوا يقولون: إنَّ الشيطان يتخيَّل له، فيظنُّ أنه ملكٌ، فقالوا: إنه مخدوع من قبل الشَّيطان. وقيل: مصروفاً عن الحقِّ، يقال: ما سحرك عن كذا، اي: ما صرفك، وقيل: المسحور هو الشَّيء المفسود، يقال: طعام مسحور، إذا فسد، وأرض مسحورة، إذا أصابها من المطر أكثر ممَّا ينبغي فأفسدها. فإن قيل: إنَّهم لم يتبعوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكيف يصحُّ أن يقولوا: {إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً} . فالجواب أنَّ معناه: إن اتَّبعْتُموهُ، فقد اتَّبعْتُمْ رجلاً مسحوراً. ثم قال تعالى: {انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال} ، أي: كلُّ أحد شبَّهك بشيءٍ، فقالوا: كاهنٌ، وساحرٌ، وشاعرٌ، ومعلَّمٌ، ومجنونٌ، فضلُّوا عن الحقِّ، فلا يستطيعون سبيلاً، اي: وصولاً إلى طريق الحقِّ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 303 قوله تعالى: {أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً} الآيات. لما تكلَّم أوَّلاً في الإلهيَّاتِ، ثمًَّ أتبعه بذكر شبهاتهم في النبوَّات، ذكر في هذه الآيات شبهاتهم في إنكار المعاد، والبعث، والقيامة، وقد تقدَّم أنَّ مدار القرآن على هذه الأربعة، وهي الإلهيَّات، والنبوّات، والمعاد، والقضاء والقدر، وأيضاً فالقوم وصفوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بكونه مسحوراً فاسد العقل، فذكروا أن من جملة ما يدلُّ على فساد عقله: أن يدعي أنَّ الإنسان بعدما يصير عظاماً ورفاتاً يعود حيًّا، كما كان. قوله تعالى: {أَإِذَا كُنَّا} : قد تقدم خلاف القرَّاء في مثل هذين الاستفهامين في سورة الرعد، والعامل في «إذَا» محذوفٌ [تقديره:] أنبعثُ أو أنحشر، إذا كُنَّا، دلَّ عليه «المَبْعُوثُونَ» ولا يعمل فيها «مَبعُوثُونَ» هذا؛ لأنَّ ما بعد «إنَّ» لا يعمل فيما قبلها، وكذا ما بعد الاستفهام، لا يعمل فيما قبله، وقد اجتمعا هنا، وعلى هذا التقدير: تكون «إذَا» متمحِّضة للظرفية، ويجوز أن تكون شرطية، فيقدَّر العامل فيها جوابها، تقديره: أإذا كنَّا عظاماً ورفاتاً نبعث أو نعاد، ونحو ذلك، فهذا المحذوف جواب الشَّرط عند سيبويه، والذي انصبَّ عليه الاستفهام عند يونس. والرُّفات: ما بولغَ في دقِّه، وتفْتِيتِه، وهو اسمٌ لأجزاءِ ذلك الشيء المفتت، وقال الفراء: «هو التُّرَابُ» وهو قول مجاهدٍ ويؤيِّده أنه قد تكرَّر في القرآن «تراباً وعظاماً» . يقال: رَفَتَهُ يَرْفِتُهُ بالكسرِ [أي: كسره] . وقيل: حطاماً قال الواحدي: الرفت: كسر الشيء بيدك؛ كما يرفت المدر والعظم البالي، يقال: رفت عظام الجَزُورِ رفتاً، إذا كسرها، ويقال للتبن: الرفت؛ لأنَّه دقاق الزَّرْع. قال الأخفش: رفت رفتاً، فهو مَرفُوتٌ، نحو حطم حَطْماً، فهو مَحْطُوم. والفعال يغلب في التفريق كالرُّفات والحطامِ والعظام والدقاق والفتات، والجذاذَ والرضاض. قوله تعالى: «خَلْقاً» يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه مصدرٌ من معنى الفعل، لا من لفظه، أي: نبعثُ بعثاً جديداً. والثاني: أنه في موضع الحال، أي: مخلوقين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 304 فصل تقرير شبهة القوم: هو أنَّ الإنسان، إذا جفَّت أعضاؤه، وتناثرت وتفرَّقت في جوانب العالم، واختلطت تلك الأجزاء بسائر أجزاء العالم، فالأجزاء المائيَّة تختلط بمياه العالم، والأجزاء الترابيَّة تختلط بالتُّراب، والأجزاء الهوائيَّة تختلط بالهواء، وإذا كان كذلك، فكيف يعقل اجتماعها بأعيانها مرَّة أخرى، وكيف يعقل عود الحياة إليها بأعيانها مرة أخرى؟! هذا تقرير شبهتهم. والجواب عنها: أن هذا الإشكال لا يتمُّ إلاَّ بالقدح في كمال علم الله تعالى، وفي كمال قدرته. أمَّا إذا سلَّمنا كونه تعالى عالماً بجميع الجزئيات، فحينئذٍ، هذه الأجزاء، وإن اختلطت بأجزاء العالم، إلاَّ أنها متميِّزة في علم الله تعالى، ولما سلَّم كونه - تعالى - قادراً على كلِّ الممكنات، كان قادراً على إعادة التأليف والتركيب، والحياة، والعقل، إلى تلك الأجزاء بأعيانها، فمتى سلم كمال علم الله تعالى، وكمال قدرته، زالت هذه الشبهة بالكليَّة. ثم قال تعالى: {قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً} وذلك أنَّهم استبعدوا أن يردَّهم أحياءً بعد أن صاروا عظاماً ورفاتاً، فإنَّها صفة منافية لقبول الحياة بحسب الظاهر، فقال: ولقد قدرتم أنَّ هذه الأجسام بعد الموت تصير إلى صفة أخرى أشدَّ منافاة لقبول الحياة من كونها عظاماً ورفاتاً؛ مثل أن تصير حجارة أو حديداً؛ فإنَّ المنافاة بين الحجرية والحديدية وبين قبول الحياة اشدُّ من المنافاة بين العظميَّة وبين قبول الحياة؛ لأنَّ العظم كان جزءاً من بدن الحيِّ، وأمَّا الحجارة والحديد، فما كانا ألبتَّة موصوفين بالحياة، فبتقدير أن تصير أبدان الناس حجارة أو حديداً بعد الموت، فإن الله تعالى يعيد الحياة إليها، ويجعلها حية عاقلة، كما كان، والجليل على صحَّة ذلك أن تلك الأجسام قابلة للحياة والعقل؛ إذ لو لم يكن القبول حاصلاً، لما حصل العقل والحياة لها في أوَّل الأمر، وإله العالم عالمٌ بجميع الجزئيَّات، فلا يشتبه عليه أجزاء بدنِ زيد المطيع بأجزاء بدن عمرو العاصي، وقادرٌ على كل الممكنات. وإذا ثبت أنَّ عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكنٌ في نفسه، وثبت أنَّ إله العالم عالمٌ بجميع المعلومات، قادرٌ على كلِّ الممكنات، كان عود الحياة إلى تلك الأجزاء ممكناً قطعاً سواءٌ صارت عظاماً ورفاتاً أو أشياء أبعد من العظم في قبول الحياة، مثل أن تصير حجارة أو حديداً، وهذا ليس المراد منه الأمر، بل المراد أنَّكم لو كنتم كذلك، لما أعجزتم الله تعالى عن الإعادة؛ كقول القائل للرجل: أتطمع فيَّ، وأنا ابنُ فلانٍ؟!! فيقول: كُنْ من شئت كن ابن الخليفة فسأطلب منك حقِّي. ثم قال تعالى: {أَوْ خَلْقاً مِّمَّا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 305 يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ} أي: لو فرضتم شيئاً آخر أبعد من قبولِ الحجر والحديد للحياة، بحيث يستبعد عقلكم قبوله للحياة، ولا حاجة إلى تعيين ذلك الشيء؛ لأنَّ المراد أنَّ أبدان النَّاس، وإن انتهت بعد موتها إلى أيِّ صفة فرضت، وإن كانت في غاية البعد عن قبول الحياة، فإنَّ الله قادرٌ على إعادة الحياة إليها. قال ابن عبَّاس، ومجاهد، وعكرمة، وأكثر المفسِّرين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: إنَّه الموت؛ فإنَّه ليس في نفس ابن آدم شيء أكبر من الموت، أي: لو كنتم الموت بعينه، لأميتنَّكم، ولأبعثنكم، وهذا إنَّما يحسنُ ذكره على سبيل المبالغة، أما نفس الأمر بهذا، فهو محالٌ؛ لأن أبدان النَّاس أجسامٌ، والموت عرضٌ، والجسم لا ينقلب عرضا، وبتقدير أن ينقلب عرضاً، فالموت لا يقبل الحياة؛ لأن أحد الضِّدين يمتنع اتصافه بالضدِّ الآخر. وقال بعضهم: يعني السَّماء والأرض. ثم قال تعالى: {فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا} ، أي: من الذي يقدر على إعادة الحياة، فقال تعالى: {قُلْ} يا محمد: {الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي: خلقكم أوَّل مرة، ومن قدر على الإنشاء قدر على الإعادة. قوله تعالى: {الذي فَطَرَكُمْ} : فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه مبتدأ، وخبره محذوف، أي: الذي فطركم يعيدكم، وهذا التقدير فيه مطابقة بين السؤال والجواب. والثاني: أنه خير مبتدأ محذوف، أي: معيدكم الذي فطركم. الثالث: أنه فاعل بفعل مقدَّر، أي: يعيدكم الذي فطركم، ولهذا صرِّح بالفعل في نظيره عند قوله: {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم} [الزخرف: 9] . و «أوَّل مرَّةٍ» ظرف زمانٍ ناصبه «فَطرَكُمْ» . قوله تعالى: {فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ} ، أي: يحرِّكونها استهزاء، يقال: أنغض رأسه ينغضها، أي: يحركها إلى فوق، وإلى أسفل إنغاضاً، فهو منغضٌ، قال: [الرجز] 3428 - أنْغضَ نَحْوي رَاسهُ وأقْنَعا ... كَأنَّهُ يَطلبُ شيئاً أطْمعَا وقال آخر: [الرجز] 3429 - لمَّا رَأتْنِي أنغضَتْ لِي الرَّأسَا ... وسمي الظليم نغضاً لأنه يحرك رأسه وقال أبو الهيثم: «إذا أخبر الرجلُ بشيءٍ، فحرَّك رأسه؛ إنكاراً له، فقد أنغضَ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 306 قال ذو الرُّمَّة: 3430 - ظَعائِنُ لمْ يَسْكُنَّ أكْنافَ قَرْيةٍ ... بِسيفٍ ولَمْ تَنْغُضْ بهنَّ القَناطِرُ أي: لم تحرَّك، وأمَّا نغض ثلاثيًّا، ينغَض وينغُض بالفتح والضمِّ، فبمعنى تحرَّك، لا يتعدَّى يقال: نغضتْ سنُّه، أي: تحرَّكتْ، تَنغِضُ نغضاً، ونغوضاً. قال: [الرجز] 3431 - ونَغَضتْ مِنْ هَرمٍ أسْنانُهَا ... ثم قال تعالى: {وَيَقُولُونَ متى هُوَ} ، أي: البعث والقيامة، وهذا سؤالٌ فاسدٌ؛ لأنَّهم منعوا الحشر والنشر كما تقدَّم؛ ثمَّ بين تعالى بالبرهان القاطع كونه ممكناً في نفسه، فقولهم «مَتَى هُوَ» كلام لا يتعلق بالبعث؛ فإنَّه لما ثبت بالدليل العقليِّ كونه ممكن الوجود في نفسه، وجب الاعتراف بإمكانه، فإنه متى يوجد، فذاك لا يمكن إثباته بالعقل، بل إنما يمكن إثباته بالدَّليل السمعي، فإن أخبر الله تعالى عن ذلك الوقت المعيَّن، عرف، وإلا فلا سبيل إلى معرفته. وقد بين الله تبارك وتعالى في القرآن؛ أنَّه لا يطلع أحداً من الخلق على وقته المعيَّن، فقال جلَّ ذكره: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] وقال: {إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي} [الأعراف: 187] وقال تعالى: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه: 15] فلا جرم قال تعالى: {عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً} . قال المفسِّرون: «عَسَى» من الله واجبٌ، معناه: أنه قريبٌ، فإن قيل: كيف يكون قريباً، وقد انقرض سبعمائة سنة، ولم يظهر. فالجواب: قال ابن الخطيب: إن كان معنى: «أكثر مَّا بَقِيَ» كان الباقي قليلاً، ويحتمل أن يريد بالقرب أن إتيان السَّاعة متناهٍ، وكل ما كان متناهياً من الزَّمان فهو قليلٌ، بل أقلُّ من القليل بالنسبة إلى الزَّمان الذي بعده؛ لأنَّه غير متناهٍ؛ كنسبة العدد المتناهي إلى العدد المطلقِ؛ فإنَّه لا ينسب إليه بجزءٍ من الأجزاء، ولو قلَّ. ويقال في المثل «كل آت قريب» . قوله تعالى: {عسى أَن يَكُونَ} يجوز أن تكون الناقصة، واسمها مستتر فيها يعود على البعث والحشر المدلول عليهما بقوَّة الكلام، أو لتضمُّنه في قوله «مَبُْعُوثُونَ» و «أنْ يَكُونَ» خبرها، ويجوز أن تكون التامة مسندة إلى «أنّ» وما في حيزها، واسم «يكون» ضمير البعث؛ كما تقدَّم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 307 وفي «قريباً» وجهان: أحدهما: أنه خبر «كَانَ» وهو وصفٌ على بابه. والثاني: أنه ظرف، أي: زماناً قريباً، و «أنْ يَكُونَ» على هذا تامة، أي: عسى أن يقع العود في زمانٍ قريبٍ. قوله تعالى: {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ} : فيه أوجه: أحدها: أنه بدل من «قريباً» ، إذا أعربنا «قريباً» ظرف زمان، كما تقدَّم. والمعنى: عَسَى أن يكون يوم البعث يوم يدعوكم، أي بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة، كقوله تعالى: {يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ} [ق: 41] . الثاني: أنه منصوب ب «يكُونَ» قاله أبو البقاء. وهذا عند من يجيز إعمال الناقصة في الظرف، وإذا جعلناها تامة، فهو معمولٌ لها عند الجميع. الثالث: أنه منصوب بضمير المصدر الذي هو اسم «يكُون» أي: عسى أن يكون العود يوم يدعوكم، وقد منعه أبو البقاء قال: «لأنَّ الضمير لا يعملُ» يعني عند البصريِّين، وأمَّا الكوفيون، فيعملون ضمير المصدر، كمظهره، فيقولون: «مُرُوري بزيدٍ حسنٌ، وهو بعمرٍو قبيحٌ» ف «بِعَمْرٍو» عندهم متعلق ب «هُوَ» لأنه ضمير المرور، وأنشدوا قول زهير على ذلك: [الطويل] 3432 - ومَا الحَرْبُ إلاَّ ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُم ... ومَا هُو عَنْهَا بالحدِيثِ المُرجَّمِ ف «هُوَ» ضمير المصدرِ، وقد تعلق به الجار بعده، والبصريُّون يؤوِّلونه. الرابع: أنه منصوب بفعل مقدَّر، أي: اذكر يوم يدعوكم. الخامس: أنه منصوبٌ بالبعث المقدر، قالهما أبو البقاء. قوله تعالى: «بِحَمدِه» فيه قولان: أحدهما: أنها حالٌ، أي: تستجيبون حامدين، أي: منقادين طائعين. وهذا مبالغة في انقيادهم للبعث؛ كقولك لمن تأمرهُ بعمل يشقُّ عليه: ستأتي به، وأنت حامدٌ شاكرٌ، أي: ستأتي إلى حالة تحمدُ الله وتشكر على أن اكتفى منك بذلك العمل، وهذا يذكر في معرض التهديد. والثاني: أنها متعلقة ب «يَدْعُوكُم» قاله أبو البقاء، وفيه قلقٌ. قوله تعالى: {إِن لَّبِثْتُمْ} «إنْ» نافية، وهي معلقة للظنِّ عن العمل، وقلَّ من يذكر « الجزء: 12 ¦ الصفحة: 308 إن» النافية، في أدواتِ تعليق هذا الباب، و «قليلاً» يجوز أن يكون نعت زمانٍ أو مصدرٍ محذوفٍ، أي: إلا زماناً قليلاً، أو لبثاً قليلاً. فصل في معنى النداء والإجابة المعنى: «يَوْمَ يَدْعوكم» بالنِّداء من قبوركم إلى موقف القيامة، «فتَسْتَجِيبُونَ» أي: تجيبون، والاستجابة موافقة الداعي فيما دعا إليه، وهي الإجابة، إلاَّ أنَّ الاستجابة تقتضي طلب الموافقةِ، فهي أوكد من الإجابة. وقوله «بِحَمْدهِ» قال ابن عباس: بأمره. وقال قتادة: بطاعته؛ لأنَّهم لما أجابوه بالتَّسبيح والتَّحميد، كان ذلك معرفة منهم وطاعة، ولكنَّهم لا ينفعنم ذلك في ذلك اليوم. وقيل: يُقِرُّون بأنَّه خالقهم وباعثهم، ويحمدونه حين لا ينفعهم الحمد، وهذا خطاب للكفّار. وقيل: هذا خطابٌ للمؤمنين. قال سعيد بن جبير: يخرجون من قبورهم، وينفضون التُّرابَ عن رءوسهم، ويقولون: سبحانك وبحمدك، وهو قوله: {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} . وقال أهل المعاني: أي تستجيبون حامدين؛ كما تقول: جاء بغضبه، أي: جاء غضبان، وركب الأمير بسيفه، أي: وسيفه معه، ثم قال: {وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً} أي: إن لبثتم في الدنيا، أو في القبور {إِلاَّ قَلِيلاً} لأنَّ الإنسان لو مكث ألوفاً من السِّنين في الدنيا أو في القبور، عُدَّ ذلك قليلاً في مدَّة القيامة والخلود. وقال ابن عباسٍ: يريد بين النفختين الأولى والثانية، فإنه يزال عنهم العذاب في هذا الوقت، ويدلُّ عليه قوله تعالى في سورة يس {مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا} [يس: 52] وذلك ظنُّهم بأنَّ هذا اللبث قليل، أي: لبثهم فيما بين النَّفختين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 309 وقيل: المراد استقلال لبثهم في عرصة القيامة؛ لأنَّه لما كان عاقبة أمرهم الدُّخول في النَّار، استقصروا مدة لبثهم في برزخ القيامة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 310 تقدم إعراب قوله تعالى {وَقُل لِّعِبَادِي} في سورة إبراهيم [31] . وفي العباد ها هنا قولان: الأول: المراد به المؤمنون؛ لأنَّ لفظ العباد في أكثر آيات القرآن مختصٌّ بالمؤمنين. قال تعالى: {فَبَشِّرْ عِبَادِ الذين يَسْتَمِعُونَ القول} [الزمر: 17، 18] {فادخلي فِي عِبَادِي} [الفجر: 29] {عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله} [الإنسان: 6] . وإذا عرف هذا، فإنه تعالى لمَّا ذكر الحجج القطعيَّة في صحَّة المعاد، وهو قوله تعالى: {قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [الإسراء: 51] قال ها هنا: قل، يا محمد لعبادي: إذا أردتم الاستدلال على المخالفين، فاذكروا تلك الدلائل بطريق الأحسن من غير شتم، ولا سبٍّ، ونظيره قوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125] وقوله تعالى: {وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [العنكبوت: 46] وذلك لأنَّ ذكر الحجَّة، إذا اختلط به سبٌّ أو شتمٌ، لقابلوكم بمثله، كما قال تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108] ويزداد الغضب، وتكمل النُّفرة، ويمتنع المقصود، وإذا ذكرت الحجة بالطَّريق الأحسن، أثَّر في القلب تأثيراً شديداً، ثم نبَّه تعالى على وجه المنفعة، فقال تعالى: {إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} أي: يفسد بينهم، ويغري بينهم. قال الكلبي: كان المشركون يؤذون المسلمين، فشكوا إلى النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأنزل الله تعالى: {وَقُل لِّعِبَادِي} المؤمنين يقولوا للمشركين التي هي أحسنُ، ولا يكافئوهم بسفههم. قال الحسن: يقول له: يهديك الله، وكان هذا قبل الإذن في الجهاد. وقيل: نزلت في عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - شتمة بعض الكفَّار، فأمره الله تعالى بالعفو. وقيل: أمر المؤمنين بأن يقولوا، ويفعلوا الخلَّة التي هي أحسن. وقيل: الأحسن قول: لا إله إلا الله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 310 قوله تعالى: {إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ} يجوز أن تكون هذه الجملة اعتراضاً بين المفسَّر والمفسِّر؛ وذلك أن قوله تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} [الإسراء: 54] وقع تفسيراً لقوله {بالتي هِيَ أَحْسَنُ} [الإسراء: 34] وبياناً لها، ويجوز ألاَّ تكون معترضة، بل مستأنفة. وقرأ طلحة «ينْزغُ» بكسر الزاي، وهما لغتان، كيَعْرِشُون ويَعرُشُونَ، قاله الزمخشري. قال أبو حيان: ولو مثَّل ب «يَنطَحُ» و «يَنْطِحُ» كأنَّه يعني من حيث إنَّ لامَ كلِّ منهما حرف حلقٍ، وليس بطائلٍ. والمعنى: أنَّ الشيطان يلقي العداوة بينهم {إِنَّ الشيطان كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً} ظاهر العداوة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 311 قوله تعالى: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ} يوفِّقكُمْ، فتؤمنوا {أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} يميتكم على الكفر، فيعذِّبكم، قاله ابن جريح. وقال الكلبيُّ: إن يشأ يرحمكم، فينجيكم من أهل مكَّة، وإن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم. {وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً} حفيظاً، وكفيلاً، والمقصود إظهار اللِّين والرِّفقِ لهم عند الدَّعوة؛ فإنَّ ذلك هو المؤثِّرُ في القلبِ قيل: نسختها آية القتالِ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 311 قوله تعالى: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض} : في هذه الباءِ قولان: أشهرهما: أنها تتعلق ب «أعْلَمُ» كما تعلَّقت الباء ب «أعْلَمُ» قبلها، ولا يلزمُ من ذلك تخصيص علمه بمن في السماوات والأرض فقط. والثاني: أنها متعلقة ب «يَعْلَمُ» مقدَّراً، قاله الفارسيُّ، محتجًّا بأنَّه يلزمُ من ذلك تخصيصُ علمه بمن في السماوات والأرض، وهو وهمٌ؛ لأنَّه لا يلزمُ من ذكر الشيء نفيُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 311 الحكم عمَّا عداه، وهذا هو الذي يقول الأصوليُّون: إنه مفهوم اللَّقبِ، ولم يقل به إلاَّ أبو بكرٍ الدَّقَّاق في طائفة قليلة. فصل معنى الآية أنَّ علمه غير مقصورٍ عليكم، ولا على أحوالكم، بل علمه متعلِّق بجميع الموجودات والمعدودات، وبجميع ذرَّات الأرضين، والسَّموات، فيعلم حال كلِّ أحد، ويعلم ما يليقُ به من المصالح والمفاسد، ولهذا جعلهم مختلفين في صورهم، وأحوالهم، وأخلاقهم، وفضَّل بعض النبيين على بعضٍ، وآتى موسى التوراة، وداود الزَّبُور، وعيسى الإنجيل، ولم يبعد أيضاً أن يؤتي محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ القرآن مع تفضيله على الخلق. فإن قيل: ما السَّبب في تخصيص داود بالذكر هاهنا؟ . فالجواب من وجوهٍ: الأول: أنَّه تعالى ذكر أنَّه فضَّل بعض النَّبيِّينَ على بعض، ثم قال: {وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً} يعني أنَّ داود آتاه ملكاً عظيماً، ثم إنَّه تعالى لم يذكر ما آتاه من الملك، وذكر ما آتاه من الكتب؛ تنبيهاً على أنَّ التفضيل الذي ذكره قبل ذلك المراد منه التفضيل بالعلم والدِّين، لا بالمال. والثاني: أنَّ تخصيصه بالذِّكر أنَّه تعالى كتب في الزَّبور أن محمَّداً خاتم الأنبياء، وأنَّ امَّة محمد خيرُ الأمم - صلوات الله وسلامه عليه -. قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون} [الأنبياء: 105] وهم محمد وأمته. فإن قيل: هلا عرفه كقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور} . فالجواب أن التنكير ها هنا يدل على تعظيم حاله؛ لأن الزبور عبارة عن المزبور، فكان معناه الكتاب، وكان معنى التنكير أنه كامل في كونه كتاباً. ويجوز أن يكون «زبور» علماً، فإذا دخلت عليه «أل» كقوله: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور} كانت للمْحِ الأصل كعبَّاس والعباس، وفضل والفضل. وقيل: نكَّره هنا دلالة على التبعيض، أي: زبُوراً من الزُّبر، أو زبوراً فيه ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فأطلق على القطعة منه زبورٌ، كما يطلق على بعض القرآن، قرآن. الثالث: أنَّ السَّبب في تخصيص داود - صلوات الله عليه - أنَّ كفار قريش ما كانوا أهل نظرٍ وجدلٍ، بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشُّبهات، واليهود كانوا يقولون: لا نبيَّ بعد موسى، ولا كتاب بعد التَّوراة، فنقض الله عليهم كلامهم بإنزالِ الزَّبور على داود، وتقدَّم خلافُ القراء في الزبور في آخر سورة النساء. قوله تعالى: {الذين زَعَمْتُم} : مفعولا الزَّعم محذوفان؛ لفهم المعنى، أي: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 312 زعمتموهم آلهة، وحذفهما اختصاراً جائزاٌ، واقتصاراً فيه خلاف. فصل في سبب نزول الآية قال المفسرون: إن المشركين أصابهم قحطٌ شديدٌ؛ حتَّى أكلوا الكلاب والجيفَ واستغاثوا بالنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليدعو لهم، قال الله تعالى {قُلِ} للمشركين {ادعوا الذين زَعَمْتُم} أنها آلهة من دونه. واعلم أنه ليس المراد الأصنام؛ لأنَّه تعالى قال في صفتهم: {أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 57] وابتغاءُ الوسيلة إلى الله تعالى لا يليق بالأصنام البتَّة، وإذا ثبت هذا، فنقول: إنَّ قوماً عبدوا الملائكة، فنزلت هذه الآية فيهم. وقال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه ومجاهدٌ: إنَّها نزلت في الذين عبدوا المسيح، وعزيراً، والملائكة، والشمس، والقمر، والنجوم. وقيل: إنَّ قوماً عبدوا نفراً من الجنِّ، فأسلم النَّفر، وبقي أولئك الناس متمسِّكين بعبادتهم، فنزلت فيهم الآية. قال ابن عباس: كل موضعٍ في كتاب الله ورد فيه لفظ الزعم، فهو كذبٌ. ثم إنَّه تعالى احتجَّ على فساد مذهب هؤلاء بأنَّ الإله المعبود هو القادر على إزالةِ الضرر، وإيصال النفع وهذه الأشياء التي يعبدونها، وهي الملائكة، والجنُّ، والمسيحُ، وعزيرٌ لا يقدرون على كشف الضرِّ، ولا على تحصيل النَّفع، فما الدليل على أنَّ الأمر كذلك؟ فإن قلتم: لأنَّا نرى أولئك الكفَّار يتضرَّعون إليها، ولا تحصل الإجابة. قلنا: ونرى أيضاً المسلمين يتضرَّعون إلى الله تعالى، ولا تحصل الإجابة والمسلمون يقولون بأجمعهم: إنَّ القدرة على كشف الضرِّ، وتحصيل النفع ليست إلاَّ لله تعالى، وعلى هذا التقدير، فالدليل غير تامٍّ. فالجواب: أنَّ الدليل تامٌّ كاملٌ؛ لأنَّ الكفار كانوا مقرِّين بأنَّ الملائكة عباد الله تعالى، وخالق الملائكة، وخالق العالم لا بدَّ وأن يكون أقدر من الملائكة، وأقوى منهم، وأكمل حالاً منهم. وإذا ثبت هذا، فنقول: كمال قدرة الله معلوم متفقٌ عليه، وكمال قدرة غير الله غير معلوم، ولا متفقٍ عليه، بل المتَّفق عليه أنَّ قدرتهم بالنِّسبة إلى قدرة الله تعالى قليلة حقيرةٌ، وإذا كان كذلك، وجب أن يكون الاشتغال بعبادة الله أولى من الاشتغال بعبادة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 313 الملائكة؛ لأنَّ استحقاق الله العبادة معلومٌ، وكون الملك كذلك مجهولٌ؛ والأخذ بالمعلوم أولى، وسلك المتكلِّمون من أهل السنَّة طريقة أخرى، وهو أنَّهم أقاموا الحجة العقليَّة على أنَّه لا موجد إلاَّ الله تعالى، ولا يخرج الشيء من العدم إلى الوجود إلا الله، وإذا ثبت ذلك ثبت أنه لا ضارّ ولا نافع إلا الله تعالى، فوجب القطع بأنه لا معبود إلا الله تعالى، وهذه الطريقة لا تتم للمعتزلة، لأنهم لما جوزوا كون العبد موجداً لأفعاله امتنع عليهم الاستدلال على أن الملائكة - عليهم السلام - لا قدرة لها على الإحياء والإماتة، وخلق الجسم، وإذا عجزوا عن ذلك، لا يتمُّ لهم هذا الدليلُ، فهذا هو الدليل القاطع على صحَّة قوله: {فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً} ، والتحويلُ عبارة عن النَّقل من حالٍ إلى حالٍ، ومن مكانٍ إلى مكانٍ، يقال: حوَّله، فتحوَّل. قوله تعالى : {أولئك الذين يَدْعُونَ} : «أولئك» مبتدأ، وفي خبره وجهان: أظهرهما: أنّه الجملة من «يَبْتَغُونَ» ويكون الموصولُ نعتاً، أو بياناً أو بدلاً، والمراد باسم الإشارة الأنبياء أو الملائكة الذين عبدوا من دون الله، والمراد بالواو العبَّاد لهم، ويكون العائدُ على «الَّذينَ» محذوفاً، والمعنى: أولئك الأنبياء الذين يدعونهم المشركون، لكشف ضرِّهم - أو يدعونهم آلهة، فمفعولها أو مفعولاها محذوفان - يبتغون. ويجوز أن يكون المراد بالواو ما أريد بأولئك، أي: أولئك الأنبياء الذين يدعون ربَّهم أو النَّاس إلى الهدى يبتغون، فمفعول «يَدْعُونَ» محذوف. والثاني: أن الخبر نفسُ الموصول، و «يَبْتَغُون» على هذا حالٌ من فاعل «يَدْعُون» أو بدلٌ منه. وقرأ العامة «يَدعُونَ» بالغيب، وقد تقدَّم الخلاف في الواو؛ هل تعود على الأنبياء أو على عابديهم، وزيد بن عليٍّ بالغيبة أيضاً، إلا أنه بناه للمفعول، وقتادة، وابن مسعود بتاء الخطاب، وهاتان القراءتان تقوِّيان أنَّ الواو للمشركين، لا للأنبياء في قراءة العامة. فسل إذا أعدنا «يَدْعُونَ» للعابدين، و «يَبْتَغُونَ» للمعبودين، فالمعنى: أولئك المعبودون يبتغون إلى ربِّهم الوسيلة؛ لأنَّ الملائكة يرجعون غلى الله في طلب المنافع، ودفع المضارِّ، يرجون رحمته، ويخافون عذابه، وإذا كانوا كذلك، كانوا عاجزين محتاجين، والله - تعالى أغنى الأغنياء، فكان الاشتغال [بعبادته] أولى. فإن قيل: لا نسلِّم أنَّ الملائكة محتاجون إلى رحمة الله تعالى، وخائفون من عذابه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 314 فالجواب: أنَّ الملائكة: إمَّا أن يقال: إنَّها واجبة الوجود لذواتها، أو يقال: إنَّها ممكنة الوجود لذواتها، والأول باطلٌ؛ لأن جميع الكفَّار كانوا معترفين بأن الملائكة عبادُ الله، ومحتاجون إليه. وأما الثاني: فهو يوجب القول بأنَّ الملائكة محتاجون في ذواتها، وفي كمالاتها إلى الله تعالى، فكان الاشتغالُ بعبادة الله تعالى أولى من الاشتغال بعبادةِ الملائكة. وإن أعدنا «يَدْعُونَ» إلى الأنبياء - عليهم السلام - المذكورين في قوله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ} فالمعنى هو أنَّ الذي عظمت منزلتهم - وهم الأنبياء - لا يعبدون إلا الله تعالى، ولا يبتغون الوسيلة إلاَّ إليه، فأنتم بالاقتداءِ بهم أحق، فلا تعبدوا غير الله - عزَّ وجلَّ - والمراد بالوسيلةِ: الدَّرجة العليا. وقيل: كل ما يتقرَّب إلى الله تعالى. واحتجُّوا على صحَّة هذا القول بأنَّ الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، فلا يخافون عذابه، فثبت أنَّ هذا غير لائقٍ بالملائكةِ، وإنما هو لائقٌ بالأنبياء - صلوات الله عليهم -. وأجيب بأنَّ الملائكة يخافون من عذاب الله، لو اقدموا على الذنب، قال تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] وقال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ} [النحل: 50] ثم قال عزَّ وجلَّ: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} أي من حقِّه أن يحذر، فإن لم يحذره بعض الناس لجهله، فإنَّه لا يخرج عن كونه يجب الحذر عنه. قوله تعالى: {أَيُّهُمْ أَقْرَبُ} في «أيُّ» هذه وجها: أحدهما: أنها التفهامية. والثاني: أنها موصولة بمعنى «الَّذي» وإنما كثر كلام المعربين فيها من حيث التقدير، فقال الزمخشريُّ: «وأيُّهم بدلٌ من واو» يَبْتَغُونَ «و» أيُّ «موصولة، أي: يبتغي من هو أقربُ منهم وأزلفُ، أو ضمِّن» يَبْتغُونَ الوسيلة «معنى يحرصون، فكأنه قيل: يحرصون أيهم يكون أقرب» . فجعلها في الوجه الأول موصولة، وصلتها جملة من مبتدأ وخبر، حذف المبتدأ، وهو عائدها، و «أقْرَبُ» خبرٌ. واحتملت «أيُّ» حينئذٍ أن تكون مبنية، وهو الأكثر فيها، وأن تكون معربة، وسيأتي موضعه في مريم: [69] إن شاء الله تعالى وفي الثاني جعلها استفهامية؛ بدليل أنه ضمَّن الابتغاء معنى شيء تعلق، وهو يحرصون، فيكون «أيُّهُمْ» مبتدأ و «أقربُ» خبره، والجملة في محلِّ نصب على إسقاط الخافض؛ لأنَّ «تحْرِصُ» يتعدَّى ب «على» قال تعالى: {إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ} [النحل: 37] ، {أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ} [البقرة: 96] . وقال أبو البقاء: «أيُّهُمْ» مبتدأ، و «أقْرَبُ» خبره، وهو استفهامُ في موضع نصبٍ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 315 ب «يَدْعُونَ» ، ويجوز أن يكون «أيُّهُمْ» بمعنى الذي، وهو بدلٌ من الضمير في «يَدعُونَ» . قال أبو حيان: «علَّق» يَدْعُونَ «وهو ليس فعلاً قلبيًّا، وفي الثاني فصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحاليَّة، ولا يضرُّ ذلك، لأنَّها معمولة للصِّلة» . قال شهاب الدين: أمَّا كون «يَدْعُونَ» لا يعلق، هو مذهب الجمهور، وقال يونس: يجوز تعليق الأفعال مطلقاً، القلبية وغيرها، وأمَّا قوله «فصل بالجملة الحالية» يعني بها «يَبْتَغُونَ» فصل بها بين «يَدْعُونَ» الذي هو صلة «الَّذينَ» وبين معموله، وهو «أيُّهم أقْرَبُ» لأنه معلَّقٌ عنه، كما عرفته، إلا أنَّ الشيخ لم يتقدَّم في كلامه إعرابُ «يَبْتغُونَ» حالاً، بل لم يعربها إلاَّ خبراً للموصول، وهذا قريبٌ. وجعل أبو البقاء أيًّا الموصولة بدلاً من واو «يَدْعُونَ» ، ولم أرَ أحداً وافقه على ذلك، بل كلُّهم يجعلونها من واو «يَبْتَغُونَ» وهو الظاهر. وقال الحوفي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أيُّهم أقربُ» ابتداء وخبر، والمعنى: ينظرون أيُّهم أقرب، فيتوسَّلون به، ويجوز أن يكون «أيهم أقرب» بدلاً من واو «يَبْتَغُون» . قال شهاب الدين: فقد أضمر فعلاً معلقاً، وهو ينظرون فإن كان من نظر البصرِ، تعدَّى ب «إلى» وإن كان من نظر الفكر، تعدَّى ب «في» فعلى التقديرين: الجملة الاستفهامية في موضع نصبٍ بإسقاطِ الخافض، وهذا إضمارُ ما لا حاجة إليه. وقال ابن عطية: «وأيُّهُمْ ابتداء، و» أقْرَبُ «خبره، والتقدير: نظرهم ووكدهم أيهم أقرب، ومنه قول عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -:» فبات النَّاس يدُوكُونَ أيُّهمْ يُعطَاهَا «، أي: يتبارون في القرب» . قال أبو حيان: «فَجَعلَ المحذوف» نظرُهمْ ووكْدهُمْ «وهذا مبتدأ، فإن جعلت» أيُّهمْ أقربُ «في موضع نصب ب» نَظرُهُمْ «بقي المبتدأ بلا خبر، فيحتاج إلى إضمار خبر، وإن جعلت» أيُّهم أقربُ «الخبر، لم يصحَّ؛ لأنَّ نظرهم ليس هو» أيُّهم أقربُ «وإن جعلت التقدير:» نَظرهُمْ في أيهم أقربُ «أي: كائنٌ أو حاصلٌ، لم يصحَّ ذلك؛ لأنَّ كائناً وحاصلاً ليس ممَّا يعلَّق» . فقد تحصَّل في الآية الكريمة ستَّة أوجه: أربعة حال جعل «أيّ» استفهاماً: الأول: أنها معلِّقة للوسيلة، كما قرَّره الزمخشريُّ. الثاني: أنها معلّقة ل «يَدعُونَ» كما قاله أبو البقاء. الثالث: أنها معلقة ل «يَنْظُرونَ» مقدراً، كما قاله الحوفيُّ. الرابع: أنها معلقة ل «نَظرُهمْ» كما قدَّره ابن عطيَّة. واثنان حال جعلها موصولة: الأول: البدل من واو «يَدعُونَ» كما قاله أبو البقاء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 316 الثاني: أنها بدلٌ من واو «يَبْتغُونَ» كما قاله الجمهور. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 317 قوله تعالى: {وَإِن مِّن قَرْيَةٍ} الآية. فلمَّا قال: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً} [الإسراء: 57] بيَّن أنَّ كلَّ قرية مع أهلها، فلا بدَّ وأن يرجع حالها إلى أحد أمرين: إمَّا الإهلاك، وإمَّا التَّعذيب. قال مقاتلٌ: أما الصالحة فبالموت، وأما الطالحة، فبالعذاب. وقيل: المعنى: وإن من قريةٍ من قرى الكفَّار، فلا بدَّ وأن يكون عاقبتها إمَّا بالاستئصال بالكلِّيَّة، وهو الهلاك، أو بعذاب شديدٍ من قتل كبرائهم، وتسليط المسلمين عليهم بالسَّبي، واغتنام الأموالِ، وأخذ الجزية {كَانَ ذلك فِي الكتاب مَسْطُوراً} في اللَّوح المحفوظ. قال صلوات الله وسلامه عليه: «أوَّل ما خلق الله تعالى القلم قال: أكتُبْ، قال: ما أكْتبُ؟ قال: القَدَر، وما هُو كَائِنٌ إلى الأبدِ» . و «إنْ» نافية و «مِنْ» مزيدة في المبتدأ، لاستغراق الجنس. وقال ابن عطيَّة: هي لبيان الجنس، وفيه نظر من وجهين: أحدهما: قال أبو حيَّان: «لأنَّ التي للبيان، لا بدَّ أن يتقدَّمها مبهم ما، تفسِّره؛ كقوله تعالى: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2] ، وهنا لم يتقدم شيء مبهم» ثم قال «ولعلَّ قوله» لبيان الجنس «من الناسخ، ويكون هو قد قال: لاستغراقِ الجنس؛ ألا ترى أنه قال بعد ذلك:» وقيل: المراد الخصوص «. وخبر المبتدأ الجملة المحصورة من قوله: {إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا} . والثاني: أنَّ شرط ذلك أن يسبقها محلَّى بأل الجنسيَّة، وأن يقع موقعها» الذي «كقوله: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 317 لما استدلَّ على فساد قول المشركين، وأتبعه بالوعيد، أتبعه بذكر مسألة النبوة، واعلم أنَّ الكفَّار كانوا يقترحون على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إظهار المعجزات، كما حكى الله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 317 تعالى عنهم ذلك في قولهم: {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون} [الأنبياء: 5] . وقال آخرون: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] الآيات. وقال سعيد بن جبيرٍ: إنَّهم قالوا إنَّك تزعمُ أنَّه كان قبلك أنبياءُ منهم من سخِّرت له الريحُ، ومنهم من أحيا الموتى، فأتنا بشيءٍ من هذه المعجزات، فأجابهم الله تعالى بهذه الآية. وفي تفسير هذا الجواب وجوهٌ: الأول: أن المعنى أنِّي إن أظهرتُ تلك المعجزاتِ، ثم لم يؤمنوا بها، بل بقوا مصرِّين على الكفر، فحينئذ: يصيرون مستحقين لعذاب الاستئصال، لكنَّ إنزال عذاب الاستئصال على هذه الأمَّة غير جائزٍ؛ لأن الله تعالى علم [أن] فيهم من سيؤمن أو يؤمن من أولادهم، فلهذا لم يظهر تلك المعجزات. قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - إنَّ أهل مكَّة سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أن يجعل لهم الصَّفا ذهباً، وأن يزيل عنهم الجبال، حتَّى يزرعوا تلك الأرض، فطلب الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ذلك من الله تعالى، فقال سبحانه جلَّ ذكره: إن شئت أن أستأني فعلت وإن شئت أن أوتيهم ما شاءوا فعلت لكن بشرط؛ أنهم إن لم يؤمنوا، أهلكتهم، قال: لا أريد ذلك، فنزلت هذه الآية. الثاني في تفسير هذا الجواب: أنَّا لا نظهر المعجزاتِ؛ لأن آباءكم رأوها، ولم يؤمنوا بها، وأنتم مقتدون بهم، فلو رأيتموها، لم تؤمنوا بها أيضاً. الثالث: أنَّ الأوَّلين رأوا هذه المعجزات، وكذَّبوا بها، فعلم الله منكم أيضاً: أنَّكم لو شاهدتموها، لكذَّبتم بها، فكن إظهارها عبثاً، والحكيم لا يفعل العبث. قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ} : «أن» الأولى وما في حيزها في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على اختلاف القولين؛ لأنها على حذف الجارِّ، أي: من أن نرسلَ، والثانية وما في حيِّزها في محلِّ رفع بالفاعليَّة، أي: وما منعنا من إرسال الرسل بالآيات إلا تكذيب الأوَّلين، أي: لو أرسلنا الآيات المقترحة لقريشٍ، لأهلكوا عند تكذيبهم؛ كعادة من قبلهم، لكن علم الله سبحانه أنَّه يؤمن بعضهم، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 318 ويكذِّبُ بعضهم من يؤمنُ، فلذلك لم يرسل الآيات لهذه المصلحة. وقدَّر أبو البقاء رحمة الله مضافاً قبل الفاعل، فقال: «تقديره: إلاَّ إهلاكُ التكذيب» . كأنَّه يعني أنَّ التكذيب نفسه لم يمنع من ذلك، وإنَّما منع منه ما يترتَّب على التَّكذيب، وهو الإهلاك، ولا حاجة إلى ذلك؛ لاستقلالِ المعنى بدونه. قوله تعالى: {وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً} . قرأ العامة بنصب «مُبْصِرةً» على الحال، وزيدُ بن عليٍّ يرفعها على إضمار مبتدأ، أي: هي، وهو إسناد مجازي، إذ المراد إبصار أهلها، ولكنها لمَّا كانت سبباص في الإبصار، نسب إليها، وقرأ قومٌ بفتح الصَّاد، مفعولٌ على الإسناد الحقيقيِّ، وقتادة بفتح الميم والصَّاد، أي: محل إبصارٍ، كقوله - عليه السلام -: «الولدُ مَبْخَلةٌ مَجْبَنةٌ» ، وكقوله: [الكامل] 3433 - ... ... ... ... ... ..... والكُفْرُ مَخْبَثَةٌ لنَفْسِ المُنْعمِ أجرى هذه الأشياء مجرى الأمكنة؛ نحو: أرضٌ مسبعةٌ ومذأبةٌ. قوله تعالى: {إِلاَّ تَخْوِيفاً} يجوز أن يكون مفعولاً له، وأن يكون مصدراً في موضع الحال: إمَّا من الفاعل، أي: مخوِّفين أو من المفعول، اي: مخوَّفاً [بها] . فصل المعنى أنَّ الآية التي التمسوها مثل آية ثمود، وقد آتينا ثمود النَّاقة مبصرة، اي: واضحة بيِّنة، ثم كفروا بها، فاستحقُّوا بها عذاب الاستئصال، فكيف يتمنَّاها هؤلاء على سبيل الاقتراح والتَّحكُّم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 319 قال الفراء: مبصرة: مضيئة. قال تعالى: {والنهار مُبْصِراً} [يونس: 67] أي: مضيئاً، وقيل: مبصرة أي: ذات إبصار، أي: فيها إبصارٌ لمن تأمَّلها ببصر بها رشده، ويستدلُّ بها على صدق ذلك الرسول - صلوات الله عليه -. {فَظَلَمُواْ بِهَا} أي: ظلموا أنفسهم بتكذيبها، أي: فعاجلناهم بالعقوبة. وقال ابن قتيبة: ظلموا بها، أي: جحدوا بأنَّها من الله تعالى، ثم قال تعالى {وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً} قيل: لأنه لا آية إلاَّ وتتضمَّن التخويف عند التكذيب، إمَّا من العذاب المعجَّل، أو من العذاب المؤجَّل عذاب الآخرة. فإن قيل: المقصود الأعظم من إظهار الآياتِ أن يستدلَّ بها على صدق المدَّعى؛ فكيف حصر المقصود من إظهارها في التَّخويف؟ . فالجواب: أن مدَّعي النبوّة، إذا أظهر الآية، فإذا سمع الخلق منه ذلك، فهم لا يعلمون أنَّ تلك الآية معجزةٌ، أو غير معجزةٍ، إلاَّ أنَّهم يجوزون كونها معجزة، وبتقدير أن تكون معجزة، فلو لم يتفكَّروا فيها، ولم يستدلُّوا على الصِّدق، لاستحقوا العذاب الشديد، فهذا الخوف هو الذي يحملهم على التفكُّر والتأمل في تلك المعجزات، فهذا هو المراد من قوله: {وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 320 قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس} الآية. اعلم أنَّ القوم، لمَّا طالبوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالمعجزاتِ القاهرة، وأجاب الله بأنَّ إظهارها ليس بمصلحةٍ، صار ذلك سبباً لجرأة أولئك الكفار بالطَّعن فيه، وأن يقولوا له: لو كنت رسُولاً حقًّا من عند الله تعالى، لأتيت بهذه المعجزات التي اقترحناها، كما أتى به موسى وغيره من الأنبياء - صلوات الله عليهم -، فعند هذا قوَّى الله قلبه، وبيَّن له أنَّه ينصرهُ، ويؤيِّده، فقال تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس} أي: هم في قبضته لا يقدرون على الخروج عن مشيئته، فهو حافظك منهم، فلا تهبهم، وامضِ لما أمرك به من تبليغ الرِّسالة، كقوله تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] . وقيل: المراد بالنَّاسِ أهلُ مكَّة، وإحاطة الله بهم هو أنَّه تعالى يفتحها للمؤمنين؛ فيكون المعنى: وإذ بشَّرناكَ بأنَّ الله أحَاطَ بأهل مكَّة؛ بمعنى أنَّه ينصرك، ويظهر دولتك عليهم؛ كقوله تعالى: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] وقوله: {قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 320 سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} [آل عمران: 12] ، ولما كان كلّ ما أخبر الله عنه وقوعه، فهو واجبُ الوقوع، فكان من هذا الاعتبار كالواقع، فلا جرم قال: {أَحَاطَ بالناس} . وروي أنَّه لما تزاحف الفريقانِ يوم بدرٍ، ورسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في العريشِ، مع أبي بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - كان يدعُو، ويقول: اللَّهُمَّ، إنِّي أسألك عهدك ووعدك لي، ثمَّ خرج، وعليه الدِّرْع يحرضُ النَّاس ويقول: {سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر} [القمر: 45] . ثم قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ} . والأكثرون على أنَّ المراد منه ما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ليلة المعراجِ من العجائب والآيات. قال ابن عباسٍ: هي رؤيا عين أريها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو قولُ سعيد بن جبيرٍ، والحسن، ومسروقٍ، وقتادة، ومجاهد، وعكرمة، وابن جريحٍ والأكثرين. ولا فرق بين الرُّؤية والرُّؤيا في اللغة، يقال: رأيتُ بعيني رؤية ورُؤيا. وقال بعضهم: هذا يدلُّ على أن قصَّة الإسراء إنما حصلت في المنامِ، وتقدَّم بيان ضعف هذا في أوَّل السورة، وقيل: إنَّه تعالى اراه في المنام مصارعَ قريشٍ، فحين ورد ماء بدر، قال: والله، لكَأنِّي أنظر غلى مصارع القومِ، ثمَّ أخَذ يقول: هذا مصرعُ فلانٍ، هذا مصرعُ فلانٍ، فلما سمعوا قريش ذلك، جعلوا رؤياه سخرية، وكانوا يستعجلون بما وعده رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: المراد رؤياه التي رآها؛ أنَّه يدخل مكَّة، وأخبر بذلك أصحابه، وعجل السَّير قبل الأجل إلى مكة فصدَّه المشركون، فرجع إلى المجينة، فلما منع عن البيت الحرام عام الحديبية، ورجع، كان ذلك فتنة لبعض القوم، وق لعمر لأبي بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أليس قد أخبرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّا ندخلُ البيت ونطوف به؟ فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أليس قد أخبرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّا ندخلُ البيت ونطوف به؟ فقال أبو بكرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أليس قد أخبرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّا ندخلُ البيت ونطوف به؟ فقال أبو بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: إنَّه لم يخبر بأنّا نفعل ذلك في هذه السَّنة، فسنفعل ذلك في سنةٍ أخرى، فلمَّا جاء العام المقبل، دخلها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأنزل الله تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرؤيا بالحق} [الفتح: 27] واعترضُوا على هذين القولين بأنَّ هذه السورة مكيَّة، وهاتان الواقعتان مدنيتان، وهو اعتراضٌ ضعيفٌ؛ لأن هاتين الوقعتين، وإن كانتا مدنيتين، فرؤيتهما في المنام لا تبعد أن تكون مكيَّة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 321 وقال سعيد بن المسيَّب: رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بني أميَّة ينزون على منبره، [نَزْوَ القردة] ، فساءه ذلك، وهو قول ابن عبَّاس في رواية عطاء، وفيه الاعتراض المذكور؛ لأنَّ هذه الآية مكيَّة، وما كان لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكَّة منبرٌ. ويمكنُ أن يجاب عنه بأنَّه لا يبعد أن يرى بمكة أنَّ له بالمدينة منبراً يتداوله بنُو أميَّة. قوله: «والشَّجرةَ» : العامة على نصبها نسقاً على «الرُّؤيا» و «المَلعُونَة» نعتٌ، قيل هو مجازٌ؛ إذ المراد: الملعون طاعموها؛ لأن الشجرة لا ذنب لها، وهي شجرةُ الزقُّوم، وقيل: بل على الحقيقة، ولعنها: إبعادها من رحمة الله؛ لأنَّها تخرج في أصلِ الجحيم، وقرأ زيد بن عليٍّ برفعها على الابتداء، وفي الخبر احتمالان: أحدهما: هو محذوفٌ، أي: فتنة. والثاني: - قاله أبو البقاء - أنه قوله «في القُرآنِ» وليس بذاك. فصل قال المفسِّرون: هذا على التَّقديم والتَّأخير، والتقدير: وما جعلنا الرؤيا الَّتي أريناك والشَّجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للنَّاس. وقيل: المعنى: والشجرة الملعُونة في القرآن كذلكن وهي شجرة الزقُّوم، والفتنة في الشجرة الملعونة من وجهين: الأول: أن ابا جهلٍ، قال: زعم صاحبكم أنَّ نار جهنَّم تحرق الحجر، حيث قال تعالى: {وَقُودُهَا الناس والحجارة} [البقرة: 24] ثم يقول: إنَّ في النَّار شجراً، والنَّار تأكلُ الشَّجر، فكيف تولَّد فيها الشَّجر. والثاني: قال ابنُ الزبعرى: إن محمداً يخوفنا بالزقُّوم، وما نعلم الزقُّوم إلاَّ التَّمر والزُّبد، فتزقَّموا منه، فأنزل الله تعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجر {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ} [الصافات: 63] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 322 فإن قيل: ليس في القرآنِ لعن هذه الشجرة. فالجواب من وجوهٍ: الأول: المراد لعن الكفَّار الذين يأكلونها. الثاني: أنَّ العرب تقول لكلِّ طعام ضارٍّ: إنَّه ملعونٌ. الثالث: أنَّ اللَّعن في اللغة: هو الإبعاد، فلما ك انت هذه الشجرةُ مبعدة عن صفات الخير، سمِّيت ملعونة. وقال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الشجرة الملعونةُ في القرآن: بنو أميَّة، يعني: الحكم بن أبي العاص، قال: رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في المنامِ أنَّ ولد مروان يتداولون منبرهُ، فقصَّ رؤياه على أبي بكرٍ وعمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - في خلوة من مجلسه، فلمَّا تفرَّقُوا، سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الحكم يخبر برؤيا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فاشتدَّ ذلك على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ واتَّهم عمر في إفشاء سرِّه، ثم ظهر لهُ أنَّ الحكم كان يستمعُ إليهم، فنفاهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هذه القصَّة كانت في المدينة، والسورة [مكية] ، فيبعد هذا التفسير، إلاَّ أن يقال: هذه الآية مدنية، ولم يقل به أح\ٌ، ويؤكِّد هذا التَّأويل قول عائشة - رضي الله تعالى عنها - لمروان: لعن الله أباك، وأنت في صلبه، فأنت بعض من لعنة الله. وقيل: الشجرة الملعونة في القرآن هم اليهود؛ لقوله تعالى: {لُعِنَ الذين كَفَرُواْ} [المائدة: 78] . وقيل: الشَّجرة الملعونة هي الَّتي تلتوي على الشَّجر، فتخنقه، يعني «الكشوث» . فإن قيل: إنَّ القوم طلبوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الإتيان بالمعجزاتِ القاهرة، فأجاب بأنَّه لا مصلحة في إظهارها؛ لأنَّها لو ظهرت، ولم يؤمنوا، نزل عليهم عذاب الاستئصال، وذلك غير جائزٍ، فأيُّ تعلقٍ لهذا الكلام بذكرِ الرؤيا التي صارت فتنة للنَّاس وبذكر الشجرة [التي صارت فتنة للنَّاس] . فالجواب: أنَّ التقدير كأنَّه قيل: إنَّهم لما طلبوا هذه المعجزات، ثم إنَّك لم تظهرها، صار عدم ظهورها شبهة لهم في أنَّك لست بصادق في دعوى النبوَّة، إلاَّ أنَّ وقوع هذه الشبهة لا يضيق صدرك، ولا يوهنُ أمرك، ولا يصير سبباً لضعف حالك؛ ألا ترى أنَّ تلك الرؤيا صارت سبباً لوقوع الشبهة العظيمة عندهم، ثم إنَّ قوة تلك الشبهات ما أوجبت ضعفاً في أمرك، فكذلك هذه الشبهة الحاصلة بسبب عدم ظهور هذه المعجزات لا يوجبُ فتوراً في حالك، ولا ضعفاً في أمرك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 323 ثم قال تعالى: {وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ} أي التخويف {إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} ، أي: تمرُّداً وعتُواً عظيماً، والمقصود من ذلك وجهٌ آخر في أنَّه ما أظهر المعجزات التي اقترحوها؛ لأنَّ هؤلاء خوفوا بأشياء كثيرة من الدنيا والآخرة، وبشجرة الزَّقوم، فما زادهم هذا التخويفُ إلاَّ طغياناً كببيراً؛ وذلك يدلُّ على قسوة قلوبهم، وتماديهم في الغيِّ والطُّغيان. وإذا كان كذلك فبتقدير أن يظهر الله لهم تلك المعجزات التي اقترحوها، لم ينتفعوا بها، ولم يزدادوا إلاَّ تمادياً ف يالجهل والعناد، وإذا كان كذلك، وجب في الحكمة ألاَّ يظهر الله لهم ما اقترحوه من الآيات والمعجزات. قرأ العامة «ونُخوِّفهُم» بنون العظمة، والأعمش بياء الغيبة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 324 في النظم وجوهٌ: أولها: أنه تعالى، لمَّا ذكر أنَّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - كان في محنةٍ عظيمة من قومه، بيَّن أنَّ حال جميع الأنبياءِ مع أهل زمانهم كذلك؛ ألا ترى أنَّ الأول منهم آدمُ - صلوات الله وسلامه عليه - ثمَّ إنه كان في محنة من إبليس. وثانيها: أنَّ القوم، إنَّما نازعُوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وعاندوه، واقترحوا عليه الاقتراحات الباطلة لأمرين: الكبر والحسد، فبيَّن سبحانه وتعالى أنَّ هذا الكبر والحسد هما اللذان حملا إبليس على الكفر، والخروج من الإيمان، فهذه بليَّةٌ عظيمةٌ قديمةٌ. وثالثها: أنَّهم لما وصفهم الله تعالى بقوله: {فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً} [الإسراء: 60] بيَّن ما هو السبب لحصُول هذا الطُّغيان، وهو قول إبليس «لأحتنكنَّ ذريته إلا قليلاً» فلهذا المقصود ذكر الله تعالى قصَّة آدم وإبليس. واعلم أنَّ هذه القصَّة ذكرها الله تعالى في سبع سورٍ؛ البقرةِ، والأعراف، والحجر، وهذه السورة، والكهف، وطه، وص، وقد تقدم الاستقصاء عليها في البقرة، فليلتفت إليه. وقوله: {أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً} استفهامٌ بمعنى الإنكار، معناه: أنَّ أصلي أشرفُ من أصله؛ فوجب أن أكون أشرف منه، والأشرف لا يخدم الأدنى. قوله تعالى: «طيناً» : فيه أوجه: أحدها: أنه حال من «لِمَنْ» فالعامل فيها «أأسجدُ» أو من عائد هذا الموصول، أي: خلقتهُ طيناً، فالعامل فيها «خَلقْتَ» وجاز وقوع طينٍ حالاً، وإن كان جامداً، لدلالته على الأصالة؛ كأنه قال: متأصِّلاً من طين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 324 الثاني: أنه منصوبٌ على إسقاطِ الخافض، أي: من طينٍ، كما صرَّح به في الآية الأخرى: {وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12] . الثالث: أنه منتصبٌ على التمييز، قاله الزَّجَّاجِ، وتبعه ابن عطيَّة، ولا يظهر ذلك؛ إذ لم يتقدَّم إبهامُ ذاتٍ ولا نسبةٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 325 قوله تعالى: {أَرَأَيْتَكَ} : قد تقدم مستوفى في الأنعام [الآية: 40] . وقال الزمخشريُّ: «الكافُ للخطاب، و» هذا «مفعولٌ به، والمعنى: أخبرني عن هذا الذي كرَّمته عليَّ، أي: فضَّلته، لِمَ كرَّمتهُ، وأنا خيرٌ منه؟ فاختصر الكلام» . وهذا قريبٌ من كلام الحوفيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -. قال ابن عطيَّة: «والكاف في» أرَايْتَكَ «حرف خطابٍ، لا موضع لها من الإعراب، ومعنى» أرَأيْت «أتأمَّلت ونحوه، كأنَّ المخاطب يُنبِّه المخاطب؛ ليستجمع لما ينصُّ عليه بعد. وقال سيبويه:» هي بمعنى أخبرني «، ومثل بقوله:» أرَأيْتكَ زيداً، أبو من هُوَ؟ «وقول سيبويه صحيحٌ؛ حيث يكون بعدها استفهام كمثاله، وأمَّا في الآية فهو كما قلت، وليست التي ذكر سيبويه» قلت: وهذا الذي ذكره ليس بمسلَّم، بل الآية كمثاله، غاية ما في الباب: أنَّ المفعول الثاني محذوفٌ، وهو الجملة الاستفهامية المقدَّرة؛ لانعقادِ الكلام من مبتدأ وخبر، لو قلت: هذا الذي كرَّمته عليَّ، لم كرَّمته؟ . وقال الفرَّاء: «الكاف في محلِّ نصبٍ، أي: أرَأيْتَ نفسك؛ كقولك: أتدبَّرْتَ آخِرَ أمرك، فإني صانعٌ فيه كذا، ثم ابتدأ: هذا الذي كرَّمت عليَّ» . وقال ابن الخطيب: يمكن أن يقال: «هذا» مبتدأ محذوف عنه حرفُ الاستفهام، و «الَّذي» مع صلته خبره، تقديره: أخبرني، أهذا الذي كرَّمتهُ عليَّ؛ وهذا على وجه الاستصغار، والاستحقار، وإنَّما حذف حرف الاستفهام؛ لأنَّه حصل في قوله: «أرَأيْتكَ» . فأغنى عن تكريره. وقال أبو البقاء: «والمفعول الثاني محذوفٌ، تقديره: تفضيله أو تكريمه» . قال شهاب الدين: وهذا لا يجوز؛ لنَّ المفعول الثاني في هذا الباب لا يكون إلا جملة مشتملة على استفهام. قال أبو حيَّان: «ولو ذهب ذاهبٌ غلى أنَّ الجملة القسميَّة هي المفعول الثاني، لكان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 325 حسناً» . قال شهاب الدين: يردُّ ذلك التزامُ كون المفعولِ الثاني جملة مشتملة على استفهامٍ، وقد تقرَّر جميع ذلك في الأنعام، فعليك باعتباره ههنا. قوله: {لَئِنْ أَخَّرْتَنِ} قرأ ابن كثيرٍ بإثبات ياءِ المتكلِّم وصلاً ووقفاً، ونافعٌ وأبو عمرو بإثباتها وصلاً، وحذفها وقفاً، وهذه قاعدةُ من ذكر في الياءاتِ الزائدةِ على الرَّسم، والباقون بحذفها وصلاً ووقفاً، وكل هذا في حرف هذه السورة، أمَّا الذي في المنافقين [الآية: 10] في قوله {لولاا أخرتنيا} فأثبته الكلُّ؛ لثبوتها في الرسم الكريم. قوله «لأحْتَنِكَنَّ» جواب القسم الموطَّأ له باللام، ومعنى «لأحْتَنِكَنَّ» لأستولينَّ عليهم استيلاء من جعل في حنكِ الدَّابة حبلاً يقودها به، فلا تأبى ولا [تشمسُ] عليه، يقال: حَنكَ فلانٌ الدَّابة، واحتنكها، أي: فعل بها ذلك، واحْتَنكَ الجرادُ الأرض: أكل نباتها، قال: [الرجز] 3434 - نَشْكُو إليْكَ سَنةً قَدْ أجْحَفتْ ... جَهْداً إلى جَهْدٍ بِنَا فأضْعَفتْ واحْتَنكَتْ أمَوالنَا وجلَّفَتْ وحكى سيبويه - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «أحْنَكُ الشَّاتينِ» ، أي: آكلهما، أي: أكثرهما [أكْلاً] . وذكر المفسرون في الاحتناك قولين: أحدهما: أنه عبارةٌ عن الأخذِ بالكليَّة، يقال: احتنك فلانٌ مال فلانٍ: إذا استقصاه، فأخذهُ الكلِّيَّة، واحتنك الجراد الزَّرع: إذا أكلهُ بالكليَّة. والثاني: أنه من قول العرب: حنَّك الدابَّة يحنكها، إذا جعل في حنكها الأسفل حبلاً يقودها به. فعلى الأوَّل معناه: لأستأصلنهم بالإغواء. وعلى الثاني: لأقُودنَّهم إلى المعاصي، كما تقادُ الدَّابة بحبلها. ثم قال: «إلاَّ قليلاً» وهم المعصومون الذين استثناهم الله تعالى في قوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} [الحجر: 42] . فإن قيل: كيف ظنَّ إبليسُ اللَّعين هذا الظنَّ الصَّادق بذريَّة آدم - صلوات الله عليه -؟ . قيل: فيه وجهان: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 326 الأول: أنه سمع الملائكة يقولون: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء} [البقرة: 30] فعرف ذلك. والثاني: أنه وسوس إلى آدم - صلوات الله عليه - فلم يجدْ له عزماً، فقال: الظاهر أنَّ أولاده يكونون مثله في ضعف العزم. وقيل: لأنه عرف أنه مركب من قوَّة بهيمية شهوانية، وقوَّة وهميَّة شيطانية، وقوة عقليَّة ملكيَّة، وقوَّة سبعيَّة غضبيَّة، وعرف أنَّ بعض تلك القوى تكون هي المستولية في أوَّل الخلقة، ثم غنَّ القوَّة العقلية إنما تكمل في ىخر الأمر، ومتى كان الأمر كذلك، كان ما ذكره إبليس لازماً. قوله تعالى : {اذهب فَمَن} : تقدَّم أن الباء تدغم في الفاء في ألفاظٍ منها هذه، عند أبي عمرو، والكسائي، وحمزة في رواية خلادٍ عنه؛ بخلاف في قوله تعالى: {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فأولئك} [الحجرات: 11] . وهذا ليس من الذَّهاب الذي هو ضدُّ المجيء، وإنما معناه: امضِ لشأنك الذي اخترته، والمقصود التخلية، وتفويض المر إليه، كقول موسى - صلوات الله عليه -: {فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ} [طه: 97] ثم قال عزَّ وجلَّ: {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} . فإن قيل: الأولى أن يقال: فإن جهنَّم جزاؤهم؛ ليعود الضمير إلى قوله: {فَمَن تَبِعَكَ} ؟ فالجواب من وجوهٍ: الأول: تقديره: جزاؤهم وجزاؤكم؛ لأنه تقدَّم غائب ومخاطب في قوله: {فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ} فغلَّب المخاطب على الغائب، فقيل: جزاؤكم. والثاني: يجوز أن يكون الخطاب مراداً به «مَنْ» خاصة، ويكون ذلك على طريق الالتفات. والثالث: أنه - صلوات الله وسلامه عليه - قال: «مَنْ سَنَّ سُنَّةً سيِّئةً فَعليْهِ وِزْرُهَا ووِزْرُ مِنْ عَمِلَ بِهَا إلى يَوْمِ القِيَامَةِ» فكل معصية توجد فيحصل لإبليس مثل وزْرِ ذلك العامل، فلما كان إبليس هو الأصل في كلِّ المعاصي، صار المخاطب بالوعيد هو إبليس. قوله تعالى: «جَزَاءً» في نصبه أوجهٌ: أحدها: أنّه منصوبٌ على المصدر، الناصب له المصدر قبله، وهو مصدر مبين لنوع المصدر الأول. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 327 الثاني: أنه منصوب على المصدر ايضاً، لكن بمضمرٍ، أي: يجازون جزاء. الثالث: أنه حالٌ موطئة ك «جَاءَ زيدٌ رجُلاً صَالحاً» . الرابع: أنه تمييزٌ، وهو غير متعقَّل. و «مَوفُوراً» اسم مفعولٍ، من وفرته، ووفر يستعمل متعدِّياً، ومنه قول زهير: [الطويل] 3435 - ومَنْ يَجْعَلِ المعرُوفَ من دُونِ عِرْضهِ ... يَفِرهُ ومَنْ لا يتَّقِ الشَّتمَ يُشتمِ والآية الكريمة من هذا، ويستعمل لازماً، يقال: وفرَ المالُ يَفِرُ وفُوراً، فهو وَافِرٌ، فعلى الأول: يكون المعنى جزاء موفَّراً، وعلى الثاني: يكون المعنى جزاء وافراً مكمَّلاً يقال: وفرتهُ أفرهُ وفْراً. قوله تعالى : {واستفزز } : جملة أمرية عطفت على مثلها من قوله «اذهَبْ» . و «من اسْتطَعْتَ» يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنها موصولة في محلِّ نصب مفعولاً للاستفزاز، أي: استفزز الذي استطعت استفزازه منهم. والثاني: أنها استفهامية منصوبة المحلِّ ب «استطعت» قاله أبو البقاء، وليس بظاهرٍ؛ لأن «اسْتفْزِزْ» يطلبه مفعولاً به، فلا يقطع عنه، ولو جعلناه استفهاماً، لكان معلقاً له، وليس هو بفعلٍ قلبيٍّ [فيعلقُ] . والاسْتِفْزازُ: الاستخفاف، واستفزَّني فلانٌ: استخفَّني حتى خدعني لما يريده. قال: [الطويل] 3436 - يُطِيعُ سَفيهَ القَومِ إذ يَسْتفِزُّهُ ... ويَعْصِي حَليماً شَيَّبتهُ الهَزاهِزُ ومنه سمِّي ولد البقرة «فزًّا» . قال الشاعر: [البسيط] 3437 - كَمَا اسْتغَاثَ بسَيْءٍ فَزُّ غَيْطلةٍ ... خَافَ العُيونَ ولمْ يُنْظرْ بِهِ الحَشَكُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 328 وأصل الفزِّ: القطعُ، يقال: تفزَّز الثَّوب، أي: تقطَّع. ويقال: أفزَّه الخوف، واستفزَّه، أي: أزعجه، واستخفَّه. واعلم أنَّ إبليس، لمَّا طلب من الله تعالى الإمهال إلى يوم القيامة؛ لأجل أن يحتنك ذريَّة آدم - صلوات الله وسلامه عليه - ذكر الله تعالى أشياء: أولها: قوله عزَّ وجلَّ: {اذْهَبْ} أي: أمهلتك هذه المدَّة. وثانيها: قوله تعالى: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ} . وتقدَّم أن الاستفزاز: الاستخفاف، وقيل: اسْتَنْزَلَ واستجهد. وقوله: «بِصَوْتِكَ» . قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وقتادة: بدعائك غلى معصية الله. وقال الأزهريُّ: ادعهم دعاء تستخفُّهم به إلى إجابتك. وقال مجاهدٌ: بصوتك، أي: بالغناءِ واللَّهو. وهذا أمرُ تهديد، كما يقال: اجتهد جهدك؛ فسترى ما ينزل به: وثالثها: قوله: {وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم} أي: اجمع عليهم الجموع من جندك، يقال أجلب عليه وجلب، أي: جمع عليه الجموع. قال الفرَّاء: هو من الجَلبةِ، وهو الصِّياح. وقال أبو عبيدة: أجْلبُوا وجَلبُوا: من الصِّياح. وقال الزجاج في «فَعَل، وأفْعَلَ» : أجلب على العدوِّ وجلب، إذا جمع عليه الخيل. وقال ابن السِّكيت: يقال: هم يجلبون عليه؛ لمعنى أنهم يعينون عليه. وروى ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ: أجلب الرجل على الرجل، إذا توعَّده بالشرِّ، وجمع عليه الجمع، فعلى قول الفرَّاء معنى الآية: صح عليهم بخيلك ورجلك، وعلى قول الزجاج: اجمع عليهم كلَّ ما تقدر عليه من مكائدك، وعلى هذا تكون الباء في قوله: «بخيلك» زائدة. وعلى قول ابن السِّكيت: معناه: أعن عليهم بخيلك ورجلك ومفعول الإجلاب على هذا القول محذوف، تقديره: استعن على إغوائهم بخيلك ورجلك، وهو يقرب من قول ابن الأعرابيِّ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 329 والمراد بالخيل والرجل: قال ابن عباس: كلُّ راكبٍ أو راجلٍ في معصية الله، فهو من خيل إبليس وجنوده. وقال مجاهدٌ وقتادة: إن لإبليس جنداً من الشياطين بعضهم راكبٌ، وبعضهم راجلٌ. وقيل: المراد ضرب المثل؛ كما يقال للرجل المجدِّ في الأمر: جئت بالخيل والرجل، وهذا الوجه أقرب، والخيل يقع على الفرسان، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «يا خَيْلَ الله، اركبي» . وقد يقع على الأفراس خاصة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 330 قوله: «ورجلك» قرأ حفص بكسر الجيم والباقون بسكونها، فقراءة حفص «رَجِل» فيها بمعنى «رَجُل» بالضم بمعنى: راجل، يقال: رَجِل يَرْجِل: إذا صار راجلاً، مثل: حَذِر وحَذْر، ونَدِس ونَدْس، وهو مفرد أريد به الجمع. وقال ابن عطية: هي صفة، يقال: فلان يمشي راجلاً، إذا كان غير راكب، ومنه قول الشاعر: 3438 - ... ... ... ... ....... ... ... ... ... . رجلاً إلا بأصحاب يشير إلى البيت المشهور، وهو: [البسيط] أما أقاتل عن ديني على فرس ... ولا كذا رجلاً إلا بأصحابِ اراد فارساً ولا راجلاً. وقال الزمخشري: إن «فَعِلاً» بمعنى «فاعل» ، نحو: تَعِب وتاعب، ومعناه: جمعك الرجل، وبضم جيمه أيضاص فيكون مثل: حَذِرَ وحَذُرَ ونَدِسَ ونَدُسَ، وأخوات لهما. وأما قراءة الباقين، فتحتمل أن تكون تخفيفاً من «رَجُل» بكسر الجيم أو ضمها، والمشهور: أنه اسم جمع لراجلٍ، كرَكْبٍ وصَحْبٍ في راكبٍ وصاحبٍ، والأخفش يجعل هذا النحو جمعاً صريحاً. وقرأ عكرمة «ورِجَالِكَ» جمع رجلٍ بمعنى راجل، أو جمع راجل كقائم وقيام. وقرئ «ورُجَّالِكَ» بضم الراء وتشديد الجيم، وهو جمع راجل، كضاربٍ وضُرَّاب. وقال ابن الأنباري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أخبرنا ثعلبٌ عن الفراء، قال: يقال: راجلٌ ورَجِلٌ ورَجْلٌ ورَجْلان بمعنى واحد. والباء في «بخَيْلِكَ» يجوز أن تكون الحالية، أي: مصاحباص بخيلك، وأن تكون مزيدة كما تقدم، قال: 3439 - ... ... ... ... ... ... . ..... ... . . لا يَقْرَأنَ بالسُّورِ ورابعها: قوله تعالى: {وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد} والمشاركة في الأنوال، قال الجزء: 12 ¦ الصفحة: 331 مجاهدٌ، والحسن، وسعيد بن جبيرٍ: كل ما أصيب من حرامٍ، أو أنفق في حرامٍ. وقال قتادة: هو جعلهم البحيرة والسَّائبة والوَصِيلةَ والحَامَ. وقال الضحاك: هو ما يذبحونه لآلهتهم. وقال عكرمة: هو تبكيتهم آذان الأنعام. وقيل: هو جعلهم من أموالهم شيئاً لغير الله، كقولهم: {هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا} [الأنعام: 136] والأوَّل أظهر، قاله القاضي. وأما المشاركة في الأولاد، فقال عطاء عن ابن عباسٍ: هو تسمية الأولاد ب «عَبدِ شمسٍ، وعَبْدِ العُزَّى، وعَبْدِ الحَارثِ، وعَبْد الدَّار ونحوها» . وقال الحسن وقتادة: هو أنَّهم هوَّدُوا أولادهم، ونصَّروهم ومجّسُوهم. وقيل: هو إقدامهم على قتل الأولاد. وروي عن جعفر بن محمدٍ، أن الشَّيطان يقعد على ذكر الرَّجل فإذا لم يقل: بسم الله، أصاب معه امرأته، وأنزل في فرجها كما ينزل الرَّجل وروي في بعض الأخبار «إنَّ فيكم مُغربِينَ، قيل: وما المُغرِبُونَ؟ قال: الذين يشارك فيهم الجنّ» . وروي أنَّ رجلاً قال لابن عبَّاس: إنَّ امراتِي استيقظت وفي فرجها شعلةُ نَارٍ، اقل: ذلِكَ من وطْءِ الجِنِّ. وفي الآثار: إنَّ إبليس، لمَّا أخرج إلى الأرض، قال: يا ربِّ، أخْرَجتَنِي من الجنَّة؛ لأجل آدم فسلِّطنِي عليه، وعلى ذُرِّيته، قال: أنت مسلَّطٌ، قال: لا أستطيعه إلا بكا فزدني، قال: استفزز من استطعت منهم بصوتك. قال آجم: يا ربِّ، اسلَّطت إبليس عليَّ، وعلى ذُريَّتي، وإنَّني لا أستطيعهُ إلاَّ بك، قال: لا يُولَدُ لك ولدٌ إلاَّ وكَّلتُ بِهِ مَنْ يَحْفظونهُ. قال: زِدْنِي! قال: الحسنةُ بعشرِ أمثالها، والسَّيئةُ بمثلها، قال: زدْنِي، قال: التَّوبةُ معروضةٌ ما دَامَ الرُّوحُ في الجسدِ، قال: زدْنِي، فقال: {قُلْ ياعبادي الَّذِينَ أَسْرَفُواْ} [الزمر: 53] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 332 وخامسها: قوله تعالى {وَعِدْهُمْ} . قيل: معناه: قل لهم: لا جنَّة، ولا نار، ولا بعث. وقيل: [خذ] منهم الجميل في طاعتك، أي بالأمانِي الباطلة؛ كقوله لآدم - صلوات الله عليه -: {مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الخالدين} [الأعراف: 20] . وقيل: عدهم بشفاعةِ الأصنامِ عند الله، والأنساب الشريفة، وإيثار العاجل على الآجل. واعلم أنَّ مقصود الشيطان الترغيب في اعتقاد الباطل، وعمله، والتَّنفير عن اعتقاد الحقِّ، ومعلومٌ أنَّ الترغيب في الشيء لا يمكن إلاَّ بأن يقرر عنده ألاَّ بأن يقرَّر عنده أنه لا فائدة في فعله، ومع ذلك يفيد المضارَّ العظيمة، وإذا ثبت هذا، فالشيطان إذا دعا إلى معصيةٍ، فلا بدَّ وأن يتقرَّر أولاً: أنَّه لا مضرَّة في فعله ألبتَّة، وذلك لا يمكن إلا إذا قال: لا معاد، ولا جنَّة ولا نار، ولا حياة غير هذه الحياة الدنيا، فإذا فرغ من هذا المقام، قرَّر عنده أنَّ هذا الفعل يفيد أنواعاً من اللَّذة والسُّرور، ولا حياة للإنسان في هذه الحياة الدنيا إلاَّ به، فتفويتها غبنٌ وخسران؛ كقوله: [الطويل] 3440 - خُذُوا بِنَصِيبٍ مِنْ نَعيمٍ ولَذَّةٍ ... فَكُلٌّ وإنْ طَالَ المَدَى يَتَصَرَّمُ فهذا هو طريقُ الدَّعوة إلى المعصية، وأمَّا طريقُ التنفير من الطاعات، فهو أن يقرِّر عنده أوَّلاً أنه لا فائدة فيها للعبادِ والمعبود، فكانت عبثاً، وأنَّها توجبُ التَّعب والمحنة، وذلك أعظم المضارِّ. فقوله: {وَعِدْهُمْ} يتناول جميع هذه الأقسام. قوله تعالى: {وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان} من باب الالتفات، وإقامة الظاهر مقام المضمر؛ إذ لو جرى على سننِ الكلامِ الأوَّل، لقال: وما تعدهم، بالتاء من فوق. قوله تعالى: {إِلاَّ غُرُوراً} فيه أوجهٌ: أحدها: أنه نعت مصدر محذوف وهو نفسه [مصدر] ، الأصل: إلا وعداً غروراً، فيجيء فيه ما في «رجلٌ عدلٌ» [أي] : إلاَّ وعداً ذا غرورٍ، أو على المبالغةِ، أو على: وعداً غارًّا، ونسب الغرور إليه مجازاً. الثاني: أنه مفعول من أجله، أي: ما يعدهم ممَّا يعدهم من الأماني الكاذبة إلاَّ لأجل الغرور. الثالث: أنه مفعولٌ به على الاتِّساعِ، أي: ما يعدهم إلا الغرور نفسه. والغرورُ: تزيينُ الباطل مما يظنُّ أنه حقٌّ. فإن قيل: كيف ذكر الله هذه الأشياء، وهو يقول: إنَّ الله لا يأمر بالفحشاء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 333 قيل: هذا على طريق التهديد؛ كقوله: {اعملوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: 40] وكقول القائل: اعمل ما شئت؛ فسترى. ولما قال تعالى له: افعل ما تقدر عليه، قال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} . قال الجبائي - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: المراد كلُّ عباد الله تعالى من المكلَّفين؛ [لأن الله] تعالى استثنى منه في آياتٍ كثيرةٍ من تبعه بقوله: {إِلاَّ مَنِ اتبعك} [الحجر: 42] ثم استدلَّ بهذا على أنه لا سبيل لإبليس وجنوده على تصريع النَّاس، وتخبيط عقولهم، وأنه لا قدرة له إلاَّ على الوسوسة، وأكَّد ذلك بقوله: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُمْ} [إبراهيم: 22] . وأيضاً: لو قدر على هذه الأفعال، لكان يجب أن يخبط أهل الفضل والعلم، دون سائر النَّاس؛ ليكون ضرره أتمَّ، ثم قال: وإنَّما يزولُ عقله؛ لأنَّ الشيطان يقدم عليه، فيغلب الخوف عليه، فيحدثُ ذلك المرض. وقيل: المراد بقوله تعالى: {إِنَّ عِبَادِي} أهل الفضل والإيمان؛ لما تقدَّم من أنَّ لفظة العباد في القرآن مخصوصةٌ بالمؤمنين؛ لقوله تعالى: {إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ} [النحل: 100] . ثم قال: {وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} أي: حافظاً، ومن توكل الأمور إليه، وذلك أنَّه تعالى، لمَّا وكل إبليس بأن يأتي بأقصى ما يقدر عليه من الوسوسةِ، وكان ذلك سبباً لحصول الخوف الشديد في قلب الإنسان، قال: {وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً} ، أي أنَّ الشيطان، وإن كان قادراً؛ فإنَّ الله تعالى أقدر منه، وأرحم بعباده، فهو يدفع عنهم كيد الشيطان. وهذه الآية تدلُّ على أنَّ المعصوم من عصمه الله تعالى، وأنَّ الإنسان لا يمكنه أن يحترز بنفسه عن مواقع الإضلال لأنَّه لو كان الإقدامُ على الحقِّ، والإحجام عن الباطلا إنما يحصل للإنسان من نفسه، لوجب أن يقال: وكفى للإنسان بنفسه في الاحتراز عن الشَّيطان، فلمَّا لم يقل ذلك، بل قال: {وكفى بِرَبِّكَ} علمنا أنَّ الكل من الله تعالى، ولهذا قال المحققون: لا حول عن معصية الله إلاَّ بعصمته، ولا قوة على طاعة الله إلا بتوفيقه. فصل قال ابن الخطيب: في الآية سؤالان: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 334 الأول: أن إبليس، هل كان عالماً بأن الذي تكلم معه بقوله: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ} هو إله العالم، أو لم يعلم ذلك؟ فإن علم ذلك، ثم إنه تعالى قال: {فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} [الإسراء: 63] فكيف لم يصر هذا الوعيد الشديد مانعاً له من المعصية، مع أنَّه سمعه من الله تعالى من غير واسطة؟ وإن لم يعلم أنَّ هذا القائل هو إله العالم، فكيف قال: «أرأيتك هذا الذي كرمت علي» ؟! . والجواب: لعلَّه كان شاكًّا في الكلِّ أو كان يقول في كلِّ قسم ما يخطر بباله على سبيل الظنِّ. والسؤال الثاني: ما الحكمة في كونه أنظره إلى يوم القيامة، ومكَّنه من الوسوسة، والحكيمُ إذا أراد أمراً، وعلم أنَّ شيئاً من الأشياء يمنع من حصوله، فإنَّه لا يسعى في تحصيل ذلك المانع؟ . والجوابُ: أمَّا مذهبنا، فظاهر في هذا الباب، وأمَّا المعتزلة، فقال الجبائيُّ: علم الله أن الذين كفروا عند وسوسته يكفرون، بتقدير ألا يوجد إبليس، وإذا كان كذلك، لم يكن في وجوده مزيد مفسدة. وقال أبو هاشم: لا يبعد أن يحصل من وجوده مزيد مفسدة، إلاَّ أنه تعالى أبقاه تشديداً للتَّكليف على الخلق؛ ليستحقُّوا بسبب ذلك التشديد مزيد الثَّواب، وقد تقدَّم الكلام على ذلك في الأعراف والحجر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 335 قوله: تعالى: {رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك فِي البحر} الآية. اعلم أنه تعالى عاد إلى ذكر الدلائل الدالة على قدرته وحكمته ورحمته، وقد تقدم أن المقصود في هذا الكتاب الكريم تقرير دلائل التوحيد، فإذا امتدَّ الكلام في فصل من الفصول عاد الكلام بعده إلى ذكر دلائل التوحيد، فذكر ها هنا وجوه الإنعامات في أحوال ركوب البحر، فأوَّل كيفية حركة الفلك على وجه البحر، فقال جلَّ ذكره: {رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ الفلك فِي البحر} والإزجاء سوق الشيء حالاً بعد حالٍ، وقد تقدَّم في تفسير قوله تعالى: {بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ} [يوسف: 88] أي: ربكم الذي يسير لكم الفلك على وجه البحر؛ {لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} في طلب التجارة {إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} ، والخطاب في قوله: «ربُّكُمْ» وفي قوله «بِكُمْ» للكلِّ، والمراد من الرحمة: منافع الدنيا ومصالحها. والثاني: قوله: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر} أي: خوف الغرق «ضَلَّ» ، بطل {مَن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 335 تَدْعُونَ} من الآلهة {إِلاَّ إِيَّاهُ} إلا الله، فلم تجدوا مغيثاً سواه، {فَلَمَّا نَجَّاكُمْ} من الغرق، والشدة، وأهوال البحر، وأخرجكم {إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ} عن الإيمان، والإخلاص، والطاعة؛ كفراً منكم لنعمه، {وَكَانَ الإنسان كَفُوراً} . قوله تعالى: {إِلاَّ إِيَّاهُ} : فيه وجهان: أحدهما: أنه استثناءٌ منقطعٌ؛ لأنه لم يندرج فيما ذكر، إذ المراد به آلهتهم من دون الله. والثاني: متصلٌ؛ لأنهم كانوا يلْجَئُونَ إلى آلهتهم، وإلى الله تعالى. والثالث: {أَفَأَمِنْتُمْ} بعد ذلك {أَن يَخْسِفَ بِكُم} ربُّكم يغوِّر بكم [جانب] البرِّ. قال الليث - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الخسفُ والخسوف دخُولُ الشيءِ في الشَّيء، يقال عينٌ خاسفةٌ التي غابت حدقتها في الرَّأس، وعينٌ من الماس خاسفةٌ، أي: غائرة الماءِ، وخسفتِ الشَّمس أي: احتجبت، وكأنَّها وقعت تحت حجابٍ، أو دخلت في جحر، فقوله: {يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر} أي: يغيبكم في جانب البرِّ، وهو الأرض، وإنما قال: جانب البرِّ؛ لأنَّه ذكر البحر أولاً، فهو جانب، والبر جانبٌ، فأخبر الله سبحانه وتعالى؛ أنه كما كان قادراً على أن يغيبهم في الماءِ، فهو قادر على أن يغيبهم في الأرض، فالغرق تغييبٌ تحت الماء، كما أنَّ الخسف تغييبٌ تحت التُّراب. وتقرير الكلام أنَّه تعالى ذكر أولاً أنَّهم كانوا خائفين من هول البحر، فلمَّا نجَّاهم منه آمنوا، فقال: هَبْ أنَّكم نجوتم من هول البحر، فكيف أمنتم من هو البرِّ؛ فإنَّه قادرٌ على أن يسلِّط عليكم آفاتِ البرِّ من جانب التَّحتِ، أو من جانب الفوق، فأما من جانب التَّحت، فالخسف، وأما من جانب الفوق، فإمطاركم الحجارة، وهو المراد من قوله {أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} فكما يتضرعون إلى الله تعالى عند ركوب البحر فكذا يتضرَّعون إليه في كل الأحوال، والحَصَبُ في اللغة: المرمى، يقال: خصبته أحصبه، إذا رميته والحَصْبُ: الرَّميُ ومنه قوله تعالى: {حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] ، أي: يُلقَوْنَ فيها، ومعنى قوله «حَاصِباً» أي عذاباً يحصبهم، أي: يرميهم بحجارةٍ. قال أبو عبيدة والقتيبيُّ: الحاصبُ: الرِّيحُ التي ترمي بالحصباء، وهي الحصى الصِّغار؛ قال الفرزدق: 3441 - مُسْتَقْبِلينَ شَمالَ الشَّامِ تَضْرِبُهمْ ... حَصْبَاءُ مِيْلُ نَدِيفِ القُطْنِ مَنْثُورِ ويسمَّى السَّحاب الذي يرمي بالبرد والثَّلج حاصباً، لأنه يرمي بهما رمياً، ولم يؤنثه: إمَّا لأنه مجازيٌّ، أو على النسب، أي: ذات حصبٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 336 وقال الزجاج: الحاصب التُّراب الذي فيه الحصباء، فالحاصب على هذا هو ذُو الحصباء، مثل اللاَّبن والتَّامر. {ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً} قال قتادة: مَانِعاً. قوله تعالى: {أَفَأَمِنْتُمْ} : استفهام توبيخ وتقريع، وقدَّر الزمخشريُّ على قاعدته معطوفاً عليه، أي: أنجوتم، فأمنتم. وقوله تعالى جلَّ ذكره ولا إله إلا هو: {جَانِبَ البر} فيه وجهان: أظهرهما: أنه منصوبٌ على الظرف. و «بِكُمْ» [يجوز] أن [تكون] حالية، أي مصحوباً بكم، وأن تكون للسببية. قيل: ولا يلزم من خسفه بسببهم أن يهلكوا. وأجيب بأنَّ المعنى: جانب البرِّ الذي أنتم فيه، فيلزم بخسفه هلاكهم، ولولا هذا التقدير، لم يكن في التوعُّد به فائدة. قوله: «أن نخسف» «أو نُرسِلَ» «أو نُعِيدكم» «فَنُرْسِلَ» [ «فنُغْرِقكم» ] قرأها بنون العظمة ابن كثير، وأبو عمرو، والباقون بالياء فيها على الغيبة، فالقراءة الأولى على سبيل الالتفات من الغائب في قوله «ربُّكم» إلى آخره، والقراءة الثانية على سننِ ما تقدَّم من الغيبة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 337 قوله تعالى: {أَمْ أَمِنْتُمْ} : يجوز أن تكون المتصلة، أي: أيُّ الأمرين كائن؟ ويجوز أن تكون المنقطعة، و «أن يعيدكم» مفعول به. قوله «تَارةً» بمعنى مرَّة، وكرَّة، فهي مصدرٌ، ويجمع على تيرٍ وتاراتٍ، قال الشاعر: [الطويل] 3442 - وإنْسَانُ عَيْنِي يَحْسِرُ المَاءُ تَارةً فَيَبْدُو، وتَاراتٍ يَجُمُّ فيَغْرَقُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 337 وألفها تحتمل أن تكون عن واوٍ أو ياءٍ، وقال الراغب: «وهو فيما قيل: [مِنْ] تار الجرحُ: التأمَ» . قوله تعالى: «قَاصِفاً» القاصِفُ يحتمل أن يكون من «قَصَفَ» متعدِّياً، يقال: قصفت الرِّيحُ الشجر تقصفها قصفاً؛ قال أبو تمَّام: [البسيط] 3443 - إنَّ الرِّياحَ إذَا مَا أعْصفَتْ قَصفَتْ ... عَيْدانَ نَجْدٍ ولمْ يَعْبَأنَ بالرَّتمِ فالمعنى: أناه لا تلفي شيئاً إلا قصفته، وكسرته. والثاني: أن يكون من «قَصِفَ» قاصراً، أي: صار له قصيفٌ، ياقل: قَصِفتِ الرِّيحُ، تقصفُ، أي: صوَّتتْ، و «مِنَ الرِّيحِ» نعتٌ. قوله تعالى: «قَاصِفاً» القاصِفُ يحتمل أن يكون من «قَصَفَ» متعدِّياً، ياقل: قصفت الرِّيحُ الشجر تقصفها قصفاً؛ قال أبو تمَّام: [البسيط] 3443 - إنَّ الرِّيَاحَ إذَا مَا أعْصفَتْ قَصفَتْ ... عَيْدانَ نَجْدٍ ولمْ يَعْبَأنَ بالرَّتمِ فالمعنى: أنها لا تلفي شيئاً إلا قصفته، وكسرته. والثاني: أن يكون من «قَصِفَ» قاصراً، أي: صار له قصيفٌ، يقال: قَصِفتِ الرِّيحُ، تقصفُ، أي: صوَّتتْ، و «مِنَ الرِّيحِ» نعتٌ. قوله تعالى: {بِمَا كَفَرْتُمْ} يجوز أن تكون مصدرية، وأن تكون بمعنى «الذي» والباء للسببية، أي: بسبب كفركم، أو بسبب الذي كفرتم به، ثم اتُّسعَ فيه، فحذفت الباءُ، فوصل الفعل إلى الضمير، وإنَّما احتيج إلى ذلك؛ لاختلافِ المتعلق. وقرأ أبو جعفرٍ، ومجاهدٌ: «فتُغْرِقَكُم» بالتاء من فوق أسند الفعل لضمير الرِّيح، وفي كتاب أبي حيَّان: «فتُغْرِقَكُمْ» بتاء الخطاب مسنداً إلى «الرِّيح» والحسن وأبو رجاء بياء الغيبة، وفتح الغين، وتشديد الراء، عدَّاه بالتضعيف، والمقرئ لأبي جعفر كذلك إلاَّ أنه بتاء الخطاب. قال شهاب الدين: هو إمَّا سهوٌ، وإمَّا تصحيفٌ من النساخ عليه؛ كيف يستقيم أن يقول بتاءِ الخطاب، وهو مسندٌ إلى ضمير الرِّيحِ، وكأنه أراد بتاء التأنيث، فسبقه قلمه أو صحَّف عليه غيره. وقرأ العامة «الرِّيحِ» بالإفراد، وأبو جعفرٍ: «الرِّياح» بالجمع. قوله: «به تَبِيعاً» يجوز في «بِهِ» أن يتعلَّق ب «تَجِدُوا» وأن يتعلق ب «تَبِيعاً» ، وأن يتعلق بمحذوفٍ؛ لنه حالٌ من «تبيعًا» والتَّبِيعُ: المطالب بحقِّ الملازمُ، قال الشَّماخ: [الوافر] 3444 - ... ... ... ... ... . كمَا لاذَ ... الغَريمُ مِنَ التَّبيعِ وقال آخر: [الطويل] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 338 3445 - غَدَوْا وغَدتْ غِزلانُهمْ فَكأنَّهَا ... ضَوَامِنُ مِنْ غُرْمٍ لهُنَّ تَبِيعُ فصل ومعنى الآية {أَمْ أَمِنْتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ} ، يعني في البحر {تَارَةً أخرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً} . قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: أي عاصفاً، وهي الرِّيح الشديدة وقال أبو عبيدة: هي الرِّيح التي تقصف كلَّ شيءٍ، أي: تدقٌّه وتحطمه {فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً} ناصراً ولا ثائراً، وتبيع بمعنى تابعٍ، أن تابعاً مطالباً بالثَّأر. وقال الزجاج - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: من يتبعنا بإنكارِ ما نزل بكم، ولا من يتتبّعنا بأن نصرفه عنكم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 339 وهذه نعمة أخرى عظيمة من نعم الله - تعالى - على الإنسان، وهي تفضيل الإنسان على غيره. واعلم أنه ليس المراد من الكرمِ في المالِ. وعدَّاه بالتضعيف، وهو من كرم بالضَّم ك «شَرُفَ» ، قال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: كلُّ شيءٍ يأكل بفيه إلاَّ ابن آدم يأكل بيديه. وروي عنه أنه قال: بالعقل. وقال الضحاك: بالنُّطق والتَّمييز. وقال عطاء: بتعديل القامة، وامتدادخا. وينبغي أن يشترط مع هذا شرطٌ، وهو طول العمر، مع استكمال القوَّة العقليَّة والحسيَّة والحركيَّة، وإلاَّ فالأشجار أطول قامة من الإنسانِ، والدَّوابُّ منكبَّة على وجوهها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 339 وقيل: بحسنِ الصورة؛ كقوله تعالى: {فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر: 64] ولما ذكر خلقه للإنسان، قال: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14] وقال جلَّ ذكره {صِبْغَةَ الله وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله صِبْغَةً} [البقرة: 138] . وتأمَّل عضواً واحداً من أعضاء الإنسان، وهو العين، فخلق الحدقة سوداء، ثم أحاط بذلك السَّواد بياض العين، ثم أحاط بذلك البياض سواد الأشفار، ثم أحاط بذلك السواد بياض الأجفان، ثم خلق فوق بياض الجفن سواد الحاجبين، ثم خلق فوق سواد الحاجببين بياض الجبهة، ثمَّ خلق فوق بياض الجبهة سواد الشَّعر. وقيل: الرِّجال باللحى، والنِّساء بالذَّوائب. وقيل: بأن سخَّر لهم سائر الأشياء. وقال بعضهم: من كرامات الآدميِّ أن آتاه الله الخطَّ. وتحقيق الكلام: أن العلم الذي يقدر الإنسانُ على استنباطه يكون قليلاً، فإذا أودعه في كتابٍ، جاء الإنسان الثاني، واستعان بذلك الكتاب، ضمَّ إليه من عند نفسه آخر، ثم لا يزالون يتعاقبون، ويضمُّ كلُّ متأخرٍ مباحث كثيرة إلى علم المتقدِّمين، فكثرت العلومُ، وانتهتِ المباحثُ العقليَّة، والمطالب الشرعيَّة إلى أقصى الغايات، وأكمل النهايات، وهذا لا يتأتَّى إلا بواسطةِ الخطِّ، ولهذه الفضيلة؛ قال تعالى: {اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم الذى عَلَّمَ بالقلم عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق: 3 - 5] . وقال بعضهم: إنَّ المخلوقاتِ أربعة أقسامٍ: قسم حصلت له القوَّة العقليَّة الحكميَّة، ولم تحصل له القوَّة الشهواتيَّة، وهم الملائكة - صلوات الله عليهم - وقسمٌ بالعكس، وهم البهائم، وقسم خلا عن القسمين، وهم النباتُ والجمادات، وقسم حصل النوعان فيه، وهو الإنسان، ولا شكَّ أنَّ الإنسان؛ لكونه مستجمعاً للقوَّة العقلية، والقوى الشهوانيَّة، والبهيميَّة والنفسيَّة والسبعيَّة يكون أفضل من البهيمة والسَّبع، وهو أيضاً أفضل من الخالي عن القوتين؛ كالنبات والجمادات، وإذا ثبت ذلك، ظهر أنَّ الله تعالى فضَّل الإنسان على أكثر أقسام المخلوقات. وأيضاً: الموجود: إمَّا أن يكون أزليًّا وأبدياً معاً، وهو الله تبارك وتعالى. وإمَّا ألاَّ يكون أزليًّا ولا أبديًّا، وهم عالم الدنيا مع ما فيه من المعادن، والنبات، والحيوان، وهذا أخسُّ الأقسام، وإمَّا أن يكون أزليًّا، ولا يكون أبديًّا، وهو الممتنعُ الوجود؛ لأنَّ ما ثبت قدمه، امتنع عدمهُ، وإمَّا ألاَّ يكون أزليًّا، ولكنَّه يكون أبديًّا، وهو الإنسان، والملك، وهذا القسمُ أشرف من الثاني والثالث، وذلك يقتضي كون الإنسان أشرف من أكثر المخلوقات. ثمَّ قال تعالى: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر والبحر} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 340 قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: في البرِّ على الخيل والبغالِ والحميرِ والإبلِ، وفي البحر على السُّفُن. {وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات} يعني لذيذ الطَّعام والمشارب، {وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} . واعلم أنَّه قال في أوَّل الآية {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ} . وقال في آخرها: {وَفَضَّلْنَاهُمْ} ولا بدَّ من الفرق بين التكريم والتفضيل، وإلا لزم التَّكرار، والأقرب أن يقال: إنه تعالى فضَّل الإنسان على سائرِ الحيوانات بأمور خلقيَّة طبعيَّة ذاتيَّة؛ كالعقل، والنطق، والخطِّ، والصورة الحسنة، والقامة المديدة، ثم إنه تعالى عرضه بواسطة العقل والفهم لاكتساب العقائد الحقَّة، والأخلاق الفاضلة، فالأول: هو التكريم، والثاني: هو التفضيل. فصل ظاهرُ الآية يدلُّ على أنَّه فضَّلهم على كثيرٍ من خلقه، لا على الكلِّ، فقال قومٌ: فضِّلوا على جميع الخلق، لا على الملائكة، وهذا قول ابن عباس، واختيارُ الزجاج على ما رواهُ الواحديُّ في «البسيط» . وقال الكلبيُّ: فضِّلوا على جميع الخلائف كلِّهم، إلاَّ على طائفةٍ من الملائكة: جبريل، ميكائيل، وإسرافيل، وملك الموت - صلوات الله عليهم أجمعين - وأشباههم. وقال قوم: فضِّلوا على جميع الخلق، وعلى الملائكةِ كلِّهم، وقد يوضع الأكثر موضع الكلِّ؛ كقوله سبحانه {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين} [الشعراء: 221] إلى قوله: {وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} [الشعراء: 223] أي: كلُّهم. وروى جابرٌ يرفعه: قال «لمَّا خلق الله - عزَّ وجلَّ - آدم، وذريَّته، قالت الملائكة: يا ربُّ، خلقتهم يَأكلُونَ، ويَشْرَبُونَ، ويَنكِحُونَ، فاجعلْ لهمُ الدُّنْيَا، ولنَا الآخِرةَ، فقال تعالى: لا أجعل من خلقته بيدي، ونفخت فيه من روحي، كمن قلت له: كن فكان» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 341 والأولى أن يقال: عوامُّ الملائكة أفضل من عوامِّ المؤمنين، وخواصُّ المؤمنين أفضل من خواصِّ الملائكة، قال تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك هُمْ خَيْرُ البرية} [البينة: 7] . ورُوِيَ عن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: «المُؤمِنُ أكْرَمُ على الله مِنَ المَلائِكَةِ الَّذينَ عِندَهُ» رواه البغويُّ وأورده الواحدي في «البسيط» . واحتجَّ القائلون بتفضيل الملائكة على البشر على الإطلاق بهذه الآية. قال ابن الخطيب: وهو في الحقيقة تمسُّكٌ بدليل الخطاب، وتقريره أن يقال: تخصيص الكثير بالذكر يدلُّ على أنَّ الحال في القليل بالضدِّ، وذلك تمسُّك بدليل الخطاب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 342 لما ذكر كرامات الإنسان في الدُّنيا، شرح درجات أحواله في الآخرة. قوله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُواْ} : فيه أوجه: أحدها: أنه منصوبٌ على الظرفية، والعامل «فضَّلنَاهُمْ» أي: فضَّلناهم بالثواب يوم ندعُو، قال ابن عطيَّة في تقريره: وذلك أنَّ فضل البشر على سائر الحيوان يوم القيامة بيِّنٌ، إذ هم المكلَّفون المنعَّمون المحاسبون الذين لهم القدرُ؛ إلا أنَّ هذا يردُّه أنَّ الكفار [يومئذٍ] أخسرُ مِنْ كلِّ حيوانٍ؛ لقولهم: {ياليتني كُنتُ تُرَاباً} [النبأ: 40] . الثاني: أنه منصوبٌ على الظرف، والعامل فيه «اذكُرْ» قاله الحوفيُّ وابن عطيَّة، وهذا سهوٌ؛ كيف يعمل فيه ظرفاً؟ بل هو مفعولٌ. الثالث: أنه مرفوعُ المحلِّ على الابتداء، وإنما بُنِيَ لإضافته إلى الجملة الفعلية، والخبر الجملة بعده، قال ابن عطيَّة في تقريره: ويصحُّ أن يكون «يوم» منصوباً على البناء، لمَّا أضيف إلى غير متمكِّنٍ، ويكون موضعه رفعاً بالابتداء، وخبره في التقسيم الذي أتى بعده في قوله «فَمنْ أوتِي كِتابَهُ» إلى قوله «ومَنْ كَانَ» قال أبو حيان: قولهُ «منصوبٌ على البناء» كان ينبغي أن يقول: مبنياً على الفتح، وقوله «لمَّا أضيف إلى غير متمكِّن» ليس بجيِّدٍ؛ لأنَّ المتمكِّن وغير المتمكِّن، إنما يكون في الأسماءِ، لا في الأفعالِ، وهذا أضيف إلى فعلٍ مضارع، ومذهبُ البصريين فيه أنه معربٌ، والكوفيون يجيزون بناءه، وقوله: « [والخبر] في التقسيم» إلى آخره، التقسيم عارٍ من رابطٍ يربط جملة التقسيم بالابتداء. قال شهاب الدين: الرابط محذوفٌ للعلم به، أي: فمن أوتي كتابه فيه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 342 الرابع: أنه منصوب بقوله «ثُمَّ لا تجِدُوا» قاله الزجاج. الخامس: أنه منصوب ب «يُعِيدكُمْ» مضمرة، أي: يعيدكم يوم ندعو. السادس: أنه منصوبٌ بما دلَّ عليه «ولا يُظلَمُونَ» بعده، أي: لا يظلمون يوم ندعو، قاله ابن عطية وأبو البقاء. السابع: أنه منصوب بما دلَّ عليه «متى هو» . الثامن: أنه منصوبٌ بما تقدَّمه من قوله تعالى: {فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 52] . التاسع: أنه بدلٌ من «يَوْمَ يَدْعُوكُمْ» . وهذان القولان ضعيفان جدًّا؛ لكثرة الفواصل. العاشر: أنه مفعول به بإضمار «اذكر» وهذا - وإن كان أسهل التقادير - أظهر ممَّا تقدَّم؛ إذ لا بعد فيه ولا إضمار كثيرٌ. وقرأ العامة «نَدْعُو» بنون العظمة، ومجاهدٌ «يَدعُو» بياء الغيبة، أي: الله تعالى أو الملك، و «كُلَّ» نصْبٌ مفعولاً به على القراءتين. وقرأ الحسن فميا نقله الدَّانيُّ عنه «يُدعَى» مبنيًّا للمفعول «كُلُّ» مرفوعٌ؛ لقيامه مقام الفاعل، وفيما نقله عنه غيره «يُدْعَوْ» بضم الياء، وفتح العين، بعدها واوٌ، وخرجت على وجهين: أحدهما: أن الأصل: «يُدْعَوْنَ» فحذفت نون الرفع، كما حذفت في قوله - صلوات الله وسلامه عليه -: «لا تَدْخُلُوا الجَنَّة حتَّى تُؤمِنُوا، ولا تُؤمِنُوا حتَّى تَحابُّوا» وقوله: [الرجز] 3446 - أبِيتُ أسْرِي وتَبِيتِي تَدْلُكِي ... وجْهَكِ بالعَنْبَرِ والمِسْكِ الذَّكِي و «كلُّ» مرفوع بالبدلِ من الواو التي هي ضميرٌ، أو بالفاعلية، والواو علامة على لغة «يَتعاقَبُون فِيكُمْ مَلائِكةٌ» . والتخريج الثاني: أنَّ الأصل «يُدْعَى» كما نقله عنه الدَّاني، إلاَّ أنه قلب الألف واواً وقفاً، وهي لغة قومٍ، يقولون: هذه أفْعَوْ وعَصَوْ، يريدون: أفْعى وعَصَا، ثم أجري الوصل مجرى الوقفِ. و «كُلُّ» مرفوعٌ لقيامه مقام الفاعل على هذا، ليس إلا. قوله تعالى: {بِإِمَامِهِمْ} يجوز أن تكون الباء متعلقة بالدعاء، أي: باسم إمامهم، قال مجاهدٌ: بِنَبِيِّهِمْ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 343 ورواه أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - مرفوعاً، فيقال: يا أمَّة فلانٍ، وقال أبو صالحٍ والضحاك: بِكتَابهمْ. وقال الحسنُ وأبو العاليةِ: بأعمَالِهمْ. وقال قتادة: بكتابهم الذي فيه أعمالهم؛ بدليل سياق الآية. وقوله تعالى: {أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس: 12] . وعن انب عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وسعيد بن جبيرٍ: بإمام زمانهم الذي دعاهم في الدنيا إلى ضلالٍ أو هدًى. قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} [الأنبياء: 73] وقال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار} [القصص: 41] . وقيل: بمعبودهم. وأن تكون للحالِ، فيتعلق بمحذوفٍ، أي: ندعوهم مصاحبين لكتابهم، والإمامُ: من يقتدى به، وقال الزمخشريُّ: «ومن بدعِ التفاسير: أن الإمام جمع» أمٍّ «وأنّ الناس يدعون يوم القيامة بأمهاتهم دون آبائهم، وأن الحكمة فيه رعايةُ حقِّ عيسى - صلوات الله عليه -، وإظهار شرف الحسن والحسين، وألاَّ يفضح أولادُ الزِّنى» قال: وليت شعري أيُّهما أبدعُ: أصحَّة لفظه، أم بهاءُ حكمته؟ «. وهو معذورٌ لأنَّ» أم «لا يجمع على» إمام «هذا قول من لا يعرف الصناعة، ولا لغة العرب، وأمَّا ما ذكروه من المعنى، فإنَّ الله تعالى نادى عيسى - صلوات الله عليه - باسمه مضافاً لأمِّه في عدَّة مواضع من قوله {ياعيسى ابن مَرْيَمَ} [المائدة: 110] ، وأخبر عنه عليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه وكرَّم وجهه. قوله تعالى: {فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ} يجوز أن تكون شرطية، وأن تكون موصولة، والفاء لشبهه بالشرط، وحمل على اللفظ أولاً في قوله {أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} فأفرد، وعلى المعنى ثانياً في قوله:» فأولَئِكَ «فجمع. لأن من أوتي كتابه في معنى الجمع. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 344 ثم قال: {وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً} . الفَتِيلُ: القشرة التي في شقِّ النَّواة، وسمِّي بذلك؛ لأنَّه إذا رام الإنسان إخراجهُ انفتل، وهذا مثلٌ يضرب للشَّيء الحقير التَّافهِ، ومثله: القطميرُ والنَّقير. والمعنى: لا ينقصون من الثواب بمقدار فتيلٍ ونظيره {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} [مريم: 60] وروى مجاهدٌ عن ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: الفتيلُ هو الوسخُ الذي يفتلهُ الإنسانُ بين سبَّابته وإبهامه. وهو فعيلٌ بمعنى مفعولٍ. فإن قيل: لم خصَّ أصحاب اليمين بقراءة كتابهم، مع أنَّ أهل الشِّمال يقرءونه؟! فالجواب: الفرق بينهما أنَّ أهل الشِّمال، إذا طالعوا كتابهم، وجدوه مشتملاً على المهلكاتِ العظيمة، والقبائح الكاملة، والمخازِي الشديدة، فيستولي الخوف والدهشة على قلبهم، ويثقل لسانهم، فيعجزوا عن القراءةِ الكاملة، وأما أصحاب اليمين، فعلى العكس، فلا جرم أنَّهم يقرءون كتابهم على أحسن الوجوه، ثم لا يكتفون بقراءتهم وحدهم، بل يقولون لأهل المحشر: {هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ} [الحاقة: 19] فظهر الفرق. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 345 قوله تعالى: {وَمَن كَانَ فِي هذه} : يجوز في «مَنْ» ما جاز في «مَنْ» قبلها، وأمال الأخوان وأبو بكر «أعْمَى» في الموضعين من هذه السورة، وأبو عمرو أمال الأول، دون الثاني، والباقون فتحوهما، فالإمالة؛ لكونهما من ذوات الياء، والتفخيمُ؛ لأنه الأصل، وأمَّا أبو عمرو، فأمال الأول؛ لأنه ليس أفعل تفضيلٍ، فألفه متطرفةٌ لفظاً وتقديراً، والأطرافُ محل التغيير غالباً، وأمَّا الثاني، فإنه للتفضيلِ، ولذلك عطف عليه «وأضلُّ» فألفه في حكم المتوسطة؛ لأنَّ «مِن» الجارَّة للمفضولِ، كالملفوظ بها، وهي شديدة الاتصال بأفعلِ التفضيلِ، فكأنَّ الألف وقعت حشواً، فتحصَّنتْ عن التغيير. كذا قرَّره الفارسي والزمخشري، وقد ردَّ هذا بأنهم أمالوا {وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ} [المجادلة: 7] مع التصريح ب «مِنْ» فلأن يميلوا «أعْمَى» مقدراً معه «مِنْ» أولى وأحرى. وأمَّا «أعْمَى» في طه [الآية: 124] فأماله الأخوان، وأبو عمرو، ولم يمله أبو بكر، وإن كان يميله هنا، وكأنه جمع بين الأمرين، وهو مقيَّد باتِّباع الأثر، وقد فرَّق بعضهم: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 345 بأنَّ «أعمى» في طه من عَمَى البصر، وفي الإسراء من عمى البصيرة؛ ولذلك فسَّروه هنا بالجهل فأميل هنا، ولم يملْ هناك؛ للفرق بين المعنيين، والسؤال باقٍ؛ إذ لقائلٍ أن يقول: فَلِمَ خُصِّصَتْ هذه بالإمالةِ، ولو عكسَ الأمر، لكان الفارقُ قائماً. ونقل ابن الخطيب - رَحِمَهُ اللَّهُ - عن أبي عليٍّ الفارسيِّ، قال: الوجه في تصحيح قراءة أبي عمرو أنَّ المراد بالأعمى في الكلمة الأولى كونه في نفسه أعمى، وبهذا التفسير تكون هذه الكلمة تامَّة، فتقبل الإمالة، وأما في الكلمة الثانية، فالمراد من الأعمى أفعل التفضيل، وبهذا التقدير: لا تكونُ تامة؛ فلم تقبل الإمالة. فصل قال عكرمة: جاء نفرٌ من أهل اليمن إلى ابن عبَّاس، فسأله رجلٌ عن هذه الآية، فقال: اقْرَأ ما قبلها، فقرأ {رَّبُّكُمُ الذي يُزْجِي لَكُمُ} [الإسراء: 66] إلى قوله {تَفْضِيلاً} [الإسراء: 70] . فقال ابن عباس: من كان أعمى في هذه النِّعمِ المذكورة في الآيات المتقدمة. روى الضحاك عن ابن عباس: من كان في الدنيا أعمى عما يرى من قدرة الله تعالى، وعن رؤية الحقِّ، فهو في الآخرة أعمى أشدُّ عمًى {وَأَضَلُّ سَبِيلاً} ، أي: أخطأ طريقاً وعلى هذا؛ فالإشارة ب «هذه» إلى الدنيا. وعلى هذين القولين: فالمراد من كان أعمى عن معرفة الدلائل، والنِّعمِ، فبأن يكون في الآخرة أعمى القلب عن معرفة أحوال الآخرة أولى. وقال الحسن: من كان في الدنيا ضالاً كافراً، فهو في الآخرة أعمى، وأضلُّ سبيلاً؛ لأنَّه في الدنيا؛ تقبل توبته، وفي الآخرة، لا تقبل توبته، وحمل بعضهم العمى الثاني على عمى العين والبصر، ويكون التقدير: فمن كان في هذه الدنيا أعمى القلب حشر يوم القيامة أعمى العين والبصر، كما قال تعالى: {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى قَالَ رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى} [طه: 124 - 126] . وقال جلَّ ذكره: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} [الإسراء: 97] . وهذا العمى زيادة في عقوبتهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 346 لما عدد في الآيات المتقدمة أقسام نعمه على خلقه، وأتبعها بذكر درجاتِ الخلق في الآخرة، أردفه بما يجري مجرى تحذير الناس عن الاغترار بوساوس أرباب الضلال والانخداع بكلماتهم المشتملة على المكرِ والتَّلبِيس، فقال عزَّ وجلَّ: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} . روى عطاءٌ عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في وفد ثقيفٍ أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقالوا: نبايعك على أن تعطينا ثلاث خصالٍ، قال: وما هُنَّ؟ قالوا: ألاَّ نَحني في الصَّلاة أيْ لا نَنْحَنِي ولا نكسر أصنامنا بأيدينا، وأن تُمتِّعنا باللاَّت سنة، من غير أن نعبدها، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «لا خَيْرَ في دينِ لا رُكوعَ فيه ولا سُجودَ، وأمّا أن تَكسِرُوا أصْنامَكُم بأيْدِيكُمْ فذلك لَكُم، وأمَّا الطَّاغيةُ يعني اللاَّت فإنَّني غير ممتِّعكُمْ بها» وفي رواية: «وحرِّم وادينا، كما حرَّمت مكَّة شَجرهَا، وطَيْرهَا، ووَحْشهَا، فأبى ذلكَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولَمْ يُجبْهُم، فقالوا: يا رسول الله إنَّا نُحِبُّ أنْ تَسْمعَ العربُ أنَّك أعْطَيتَنَا مَا لَمْ تُعْطِ غَيْرنَا، وإنّي خَشِيتُ أن تقُول العربُ: أعْطَيتَهُم ما لَمْ تُعْطِنا، فقل: الله أمَرنِي بذلكَ، فَسكتَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فطمع القومُ في سُكوتهِ أنْ يُعْطِيَهُمْ، فَصاحَ عليهم عليٌّ وعمرُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - وقالوا: أما تَروْنَ أنَّ رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قَدْ أمْسََ عَنِ الكلامِ؛ كَراهِيَةً لما تَذْكرُونَه، فأنْزلَ الله تعالى هذه الآية» . وقال سعيد بن جبيرٍ: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يستلم الحجر الأسود، فمنعته قريشٌ، وقالوا: لا نَدعُكَ، حتَّى تلم بآلهتنا وتمسَّها، فحدَّث نفسه؛ ما عليَّ إذا فعلتُ ذلك، والله يعلم أنِّي لها كارهٌ، بعد أن يدعوني، حتَّى أستلمَ الحجر، فأنزل الله هذه. وروى الزمخشريُّ أنَّهم جاءُوا بكتابهم، فكتب: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كِتَابٌ مِنْ محمَّد رسول الله إلى ثقيفٍ: لا يعشرون، ولا يحشرون، فسكت رسُول الله، ثم قالوا للكاتب: اكْتُبْ ولا يُجْبَون والكَاتبُ ينظرُ إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقامَ عمر بن الخطَّاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وسلَّ سيفه، وقال: أسعرتم قَلْبَ نَبيِّنا يا ثقيفُ، أسْعَر الله قُلوبَكُمْ ناراً، فقالوا: لَسْنَا نُكلِّمُك، إنَّما نكلِّم محمداً، فنزلت الآية، وهذه القصَّة إنما وقعت بالمدينة؛ فلهذا قيل: إنَّ هذه الآيات مدنيةٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 347 وروي أنَّ قريشاً قالت: اجْعَلْ آية رحمةٍ آية عذابٍ، وآية عذابٍ ىية رحمة؛ حتَّى نُؤمِنَ بك، فنزلت الآية. قال القفال: ويمكن تأويل الآية من غير تقييد بسبب يضاف إلى نزولها فيه؛ لأنَّ من المعلوم أنَّ المشركين كانوا يسعون في إبطال أمر الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - بأقصى ما يقدرون عليه، فتارة كانوا يقولون: إن عبدت آلهتنا عبدنا إلهك، فأنزل الله تعالى: {قُلْ يا أيها الكافرون لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ} [الكافرون: 1، 2] . {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم: 9] . وعرضوا عليه الأموال الكثيرة، والنِّسوان الجميلة؛ ليترك غدِّعاء النبوة، فأنزل الله - تعالى -: {وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ} [طه: 131] . ودعوه إلى طرد المؤمنين عن نفسه، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ} [الأنعام: 52] . ودعوه إلى طرد الذين يدعون ربَّهم، فيجوز أن تكون هذه الآيات نزلت في هذا الباب، وذلك أنَّهم قصدوا أن يفتنوه عن دينه، وأن يزيلوه عن منهجه، فبيَّن الله - تعالى - أنَّه يثبته على الدِّين القويمِ، والمنهج المستقيم، وعلى هذا الطريق، فلا حاجة في تفسير هذه الآيات إلى شيءٍ من تلك الرِّوايات. قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} : «إنْ» هذه فيها لمذهبان المشهوران: مذهب البصريين: أنها مخففة، واللام فارقة بينها وبين طإن «النافية، ولهذا دخلت على فعلٍ ناسخٍ، ومذهب الكوفيين أنها بمعنى» ما «النافية، واللام بمعنى» إلاَّ «وضمِّن» يَفْتِنُونَكَ «معنى» يَصْرفُونكَ «فلهذا عدِّي ب» عَنْ «تقديره: ليصرفونك بفتتنتهم، و» لِتَفْترِي «متعلق بالفتنة. قوله: {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ} » إذَنْ «حرف جواب وجزاء؛ ولهذا تقع أداةُ الشرط موقعها، و» لاتَّخذُوكَ «جواب قسمٍ محذوفٍ، تقديره: إذن، والله لاتخذوك، وهو مستقبل في المعنى؛ لأنَّ» إذَنْ «تقتضي الاستقبال؛ إذ معناها المجازاة، وهو كقوله: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ} [الروم: 51] أي: ليظلنَّ، وقول الزمخشريِّ:» أي: ولو اتَّبعتَ مرادهم، لاتَّخذوكَ «تفسير معنى، لا إعرابٍ، لا يريد بذلك أنَّ» لاتَّخَذُوك «جوابٌ ل» لو «محذوفة؛ إذ لا حاجة إليه. فصل في معنى الآية قال الزجاج: معنى الكلام: كادوا يفتنونك، ودخلت» إنْ «و» اللام «للتأكيد، و» إنْ «مخففة من الثقيلة، واللام هي الفارقة بينها وبين النافية. والمعنى: الشَّأن أنَّهم قاربوا أن يفتنوك، أي: يخدعوك فاتنين، وأصل الفتنة: الاختبار. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 348 يقال: فتن الصَّائغُ الذَّهب، إذا أدخلهُ النَّار، وأذابهُ؛ ليميِّز جيِّده من رديِّيه، ثم استعمل في كلِّ ما أزال الشيء عن حدِّه وجهته، فقالوا: فتنة، فقوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ} . أي: يزيلونك، ويصرفونك عن الذي أوحينا إليك، وهو القرآن، أي: عن حكمه؛ وذلك لأنَّ في إعطائهم ما سألوا مخالفة لحكم القرآن. وقوله: {لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ} أي غير ما أوحينا إليك، وقوله: {وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً} أي لو فعلت ذلك ما أرادوا لاتخذوك خليلا، وأظهروا للناس أنك موافق لهم على كفرهم وراضٍ بشركهم، ثم قال: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} يعني على الحق، بعصمتنا إياك {لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} أي تميل إليهم شيئاً قليلاً. قرأ العامة بفتح كاد تركن مضارع رَكِن بالكسر، وقتادة، وابن مصرف، وابن أبي إسحاق «تَرْكُن» بالضم مضارع «رَكَن» بالفتح، وهذا من التداخل، وقد تقدم تحقيقه في أواخر «هود» و «شيئاً» منصوب على المصدر، وصفته محذوفة، أي شيئاً قليلاً من الركون، أو ركوناً قليلاً. قال ابن عباس: يريد حيث سكوتك عن جوابهم. قال قتادة: لما نزلت هذه الآية قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» . ثم توعد في ذلك أشد التوعد، فقال: {إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحياة} أي ضعف عذاب الحياة وضعف عذاب الممات، يريد عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. قال الزمخشري: فإن قلت: كيف حقيقة هذا الكلام؟ قلت: أصله لأذقناك عذاب الحياة، وعذاب الممات، لأن العذاب عذابان عذاب في الممات، وهو عذاب القبر وعذاب في الحياة الآخرة، وهو عذاب النار، والضعف يوصف به نحو قوله تعالى: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار} [الأعراف: 38] يعني عذاباً مضاعفاً، فكان أصل الكلام: لأذقناك عذاباً ضعفاً عذاباً ضعفاً في الحياة، وعذاباً ضعفاً في الممات ثم حذف الموصوف، فأثبت الصفة مقامه وو الضعف، ثم أضيفت الصفة إضافة الموصوف، فقيل: ضعف الحياة، وضعف الممات، لما تقدم في القرآن من وصف العذاب بالضعف في قوله: {مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار} [ص: 61] وحاصل الكلام أنك لو مكنت خواطر الشيطان من قلبك، وعقدت على الركون إليه لاستحققت تضعيف العذاب عليك في الدنيا وفي الآخرة، وصار عذابك مثلي عذاب المشرك في الدنيا ومثلي عذابه في الآخرة، والسبب في تضعيف هذا العذاب أن أقسام نعم الله في حق الأنبياء عليهم السلام أكثر فكانت ذنوبهم أعظم، وكانت العقوبة المستحقة عليها أكثر، ونظيره قوله تعالى: {يانسآء النبي مَن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 349 يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ} [الأحزاب: 30] . فإن قيل: قال عليه السلام: «من سن سنة سيئة فعلية وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة» فموجب هذا الحديث أنه عليه السلام لو عمل بما قالوه، لكان وزره مثل وزر كل واحد من أولئك الكفار، وعلى هذا التقدير فكان عقابه زائداً على الضعف. فالجواب: إثبات الضعف لا يدل على نفي الزائد عليه إلا بالبناء على دليل الخطاب، وهو دليل ضعيف، ثم قال تعالى: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} يعني: إذا أذقناك العذاب المضاعف لم تجد أحداً يخلصك من عذابنا. فإن قيل: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ معصوماً، فكيف يجوز أن يقرب مما طلبوه، وما طلبوه كفر؟ . قيل: كان ذلك خاطر قلب لم يكن عزماً، وقد عفا الله عَزَّ وَجَلَّ عن حديث النفس. والجواب الصحيح هو أن الله تعالى قال: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} . وقد ثبته الله، فلم يركن إليهم، وهذا مثل قوله تعالى: {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان} [النساء: 83] وقد تفضل فلم يتبعوا. فصل احتج الطاعنون في عصمة الأنبياء - عليهم السلام - بهذه الآية، فقالوا: هذه الآية تدل على صدور الذنب العظيم منهم من وجوه: الأول: أن الآية دلت على أنه - عليه السلام - قرب من أن يفتري على الله الكذب، وذلك من أعظم الذنوب. الثاني: تدلُّ على أنَّه لولا أنَّ الله - تعالى - ثبَّته وعمه؛ لقرب من أن يركن إلى دينهم. الثالث: لولا أنَّه سبق جرمٍ وجناية، وإلاَّ فلا حاجة إلى ذكر هذا الوعيد الشَّديد. والجواب عن الأوَّل: أنَّ «كاد» معناه المقاربة، أي: أنه قرب وقوعه في الفتنة، وهذا لا يدلُّ على الوقوع في تلك الفتنة، بل يدلُّ على عدم الوقوع؛ كقولك: «كادَ الأميرُ أن يَضْربَ فُلاناً» لا يدلُّ على أنَّه ضربه. والجواب عن الثاني: أنَّ «لَوْلاَ» تفيد انتفاء الشيء؛ لثبوت غيره؛ تقول: لولا عليٌّ، لهلك مرٌو؛ إذ وجود عليٍّ منع من حصول الهلاك لعمرو، فكذلك ها هنا. فقوله: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ} . معناه: أنَّه لولا حصل تثبيتُ الله لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فكان حصول ذلك التَّثْبِيت معانعاً من حصول ذلك الرُّكون. والجواب عن الثالث: أنَّ التهديد على المعصية لا يدلُّ على الإقدام عليها؛ لقوله - الجزء: 12 ¦ الصفحة: 350 تعالى - {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين} [الحاقة: 44 - 46] . وقوله تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65] . وقوله: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب: 1] . فصل في ألا عصمة من المعاصي إلا بتوفيق الله تعالى احتجَّ أهلُ السنة على أنه لا عصمة من المعاصي إلاَّ بتوفيقِ الله تعالى؛ بقوله تعالى: {وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ} الآية، فبيَّن أنَّه لولا تثبيت الله تعالى له، لمال إلى طريقةِ الكفَّار، ولا شكَّ أنَّ محمَّداً - صلوات الله وسلامه عليه - كان أقوى من غيره في قوة الدِّين، وصفاء القلب واليقين، فلما بيَّن الله تعالى له أنَّ بقاءهُ معصوماً عن الكفر والضلال، لم يحصل إلاَّ بإعانة الله تعالى وتوفيقه، كان حصول هذا المعنى في حقِّ غيره أولى. قالت المعتزلة: المراد بهذا التَّثبيتِ: الألطاف الصَّارفة عن ذلك، وهي ما أخطر الله بباله من ذكر وعده ووعيده، ومن ذكر أنَّ كونه نبيًّا من عند الله يمنع من ذلك. والجواب: لا شكَّ أنَّ التثبيت عبارة عن فعل فعلهُ الله تعالى، يمنع الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - من ذلك الوقوع في ذلك المحذور، فنقول: لم يوجد المقتضي للإقدام على ذلك العمل المحذور في حقِّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - ملا كان لإيجاد هذا المنع حاجةٌ، وحيث وقعت الحاجة إلى تحصيل هذا المانع علمنا أنَّ ذلك المقتضي قد حصل في حقِّ الرسول - صلوات الله وسلامه عليه - وأنَّ هذا المانع الذي فعله الله تعالى لمنع ذلك المقتضي من العمل، وهذا لا يتمُّ إلاَّ إذا قلنا: إنَّ القدرة مع الدَّاعي توجب الفعل، فإذا حصلت داعية أخرى معارضةٌ للداعي الأوَّل، اختلَّ المؤثِّر، فامتنع الفعل، ونحن لا نريدُ إلاَّ إثبات هذا المعنى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 351 قال مجاهد، وقتادة: الأرض: أرض مكة، والآية مكيَّةٌ. هَمَّ المشركون في أن يخرجوه منها، فكفَّهم الله عنه؛ حتَّ أمره بالهجرة، فخرج بنفسه، وهذا أليق بالآية؛ لأنَّ ما قبلها خبر عن أهل مكَّة، وهذا اختيار الزجاج. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لمَّا هاجر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة حسدته اليهود، وكرهوا قربه منهم، ومقامه بالمدينة، فأتوهُ، وقالوا: يا أبا القاسم، لقد علمت ما هذه بدارِ الأنبياءِ، وأنَّ أرض الأنبياء بالشَّام، وهي الأرض المقدسة، وبها كان إبراهيم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 351 والأنبياء - صلوات الله عليهم - فإن كنت نبيًّا مثلهم، فأت الشَّام، وإنما يمنعك من الخروج إليها مخافتك الروم، وإنَّ الله يمنعك من الرُّوم، إن كنت نبيًّا، فعسكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على ثلاثة أميالٍ من المدينة، وقيل: بذي الحليفة؛ حتَّى يجتمع إليه أصحابه، ويراه النَّاس عازماً على الخُروج إلى الشَّام، فيدخلون في دين الله - سبحانه وتعالى - فأنزلت هذه الآية، وهذا قول الكلبيِّ، وعلى هذا، فالآية مدنية، والمراد بالأرض: أرض المدينة، وكثر في التنزيل ذكر الأرض، والمراد منها مكانٌ مخصوصٌ؛ كقوله تعالى: {أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض} [المائدة: 33] أي: من مواضعهم. وقوله تعالى: {فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض} [يوسف: 80] . يعني: التي كان يقصدها؛ لطلب الميرة. فإن قيل: قال الله تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ} [محمد: 13] . يعني: «مكَّة» ؟! . فالجواب: أنَّهم همُّوا بإخراجه، وهو - صلوات الله وسلامه عليه - ما خرج بسبب إخراجهم، وإنَّما خرج بأمر الله تعالى؛ فزال التَّناقضُ، والاستفزازُ: هو الإزعاج بسرعة. {وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ} : قرأ العامة برفع الفعل بعد «إذَنْ» ثابت النون، وهي مرسومةٌ في مصاحف العامة، ورفعه وعدم إعمال «إذن» فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها توسَّطت بين المعطوف، والمعطوف عليه، قال الزمخشريُّ: «فإن قلت: ما وجهُ القراءتين؟ قلت: أمَّا الشائعة - يعني برفع الفعل - فقد عطف فيها الفعل على الفعل، وهو مرفوع لوقوعه خبر» كاد «وخبر» كاد «واقعٌ موقع الاسم» قلت: فيكون «لا يَلْبَثُونَ» عطفاً على قوله «ليَيْتَفِزُّونكَ» . الثاني: أنها متوسطة بين قسم محذوف وجوابه، فألغيت لذلك، والتقدير: وواللهِ، إذن لا يلبثون. الثالث: أنها متوسطة بين مبتدأ محذوف وخبره، فألغيت لذلك، والتقدير: وهم إذن لا يلبثون. وقرأ أبيٌّ بحذف النون، فنصبه ب «إذَنْ» عند الجمهور، وب «أنْ» مضمرة بعدها عند غيرهم، وفي مصحف عبد الله «لا يَلبَثُوا» بحذفها، ووجه النصب: أنه لم يجعل الفعلُ معطوفاً على ما تقدَّم، ولا جواباً، ولا خبراً، قال الزمخشريُّ: وأمَّا قراءة أبيِّ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 352 ففيها الجملة برأسها التي هي: إذن لا يلبثوا، عطجف على جملة قوله «وإنْ كادُوا ليَسْتفزُّونكَ» . وقرأ عطاء «لا يُلبَّثُونَ» بضمِّ الياء، وفتح اللام والباء، مشددة مبنيًّا للمفعول، من «لبَّثَهُ» بالتشديد، وقرأها يعقوب كذلك، إلا أنه كسر الباء، جعله مبنياً للفاعل. قوله تعالى: «خِلافَكَ» قرأ الأخوان، وابن عامرٍ، وخفص: «خِلافكَ» بكسر الخاء، وألف بعد اللام، والباقون بفتح الخاءِ، وسكون اللام، والقراءتان بمعنى واحدٍ. قال الأخفش: خلافك: بمعنى: خلفك. وروى ذلك يونس عن عيسى، وهذا كقوله: {بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ الله} [التوبة: 81] . وأنشدوا في ذلك: [الكامل] 3447 - عَفتِ الدِّيارُ خِلافَهُم فكأنَّما ... بَسطَ الشَّواطِبُ بَينهُنَّ حَصِيرا والمعنى: بعد خروجك، وكثر إضافة «قَبْل» و «بَعْدُ» ونحوهما إلى أسماء الأعيان؛ على حذف مضاف، فيقدَّرُ من قولك: جاء زيدٌ قبل عمرو، أي: قبل مجيئه. قوله تعالى: {إِلاَّ قَلِيلاً} يجوز أن تكون صفة لمصدر، أو لزمانٍ محذوف، أي: إلا لبثاً قليلاً، أو إلاَّ زماناً قليلاً؛ أي: حتَّى يهلكوا، فالمراد بالقليل: إمَّا مدَّة حياتهم، وإما ما بين خروج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إلى المدينة إلى حين قتلهم ببدرٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 353 قوله تعالى: {سُنَّةَ} : فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن ينتصب على المصدر المؤكِّد، أي: سنَّ الله ذلك سنة، أو سننَّا ذلك سُنَّة. الثاني: - قاله الفراء - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنه على إسقاط الخافض، أي: كسُنَّةِ الله تعالى، وعلى هذا لا يوقف على قوله «إلاَّ قليلاً» . الثالث: أن ينتصبَ على المفعول به، أي: اتَّبعْ سُنَّة. فصل في سنة الله في رسله سنة الله في الرُّسل، إذا كذَّبتهم الأممُ: ألا يعذِّبهم، ما دام نبيُّهم بين أظهرهم، فإذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 353 خرج نبيهم من بين أظهرهم، عذَّبهم {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} أي: إَّ ما أجرى الله به العادة، لم يتهيَّأ لأحدٍ أن يقلب تلك العادة؛ لأنَّ اختصاص كلِّ حادثٍ بوقته المعيَّن، وصفته المعينة ليس أمراً ثابتاً له لذاته، وإلا لزم أن يدوم أبداً على تلك الحالة، وألاَّ يتميَّز الشيء عمَّا يماثلهُ في تلك الصِّفات، بل إنَّما يحصل ذلك التخصيص بتخصيص المخصِّص، وهو الله تعالى يريد تحصيله في ذلك الوقتِ، ثم تتعلق قدرته بتحصيله في ذلك الوقت، فنقول: هذه الصفات الثلاث المؤثرة في حصول ذلك الاختصاص، إن كانت حادثة، افتقر حدوثها إلى مخصِّصٍ آخر، وتسلسل؛ وهو محالٌ، وإن كانت قديمة، فالقديم يمتنع تغيُّره؛ لأنَّ ما ثبت قدمه، امتنع عدمه، ولمَّا كان التغيُّر على تلك الصِّفات المؤثِّرة في ذلك الاختصاص ممتنعاً، كان التغيُّر في تلك الأشياء المقدرة ممتنعاً، فثبت بهذا البرهان صحَّة قوله تعالى: {وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 354 في النظم وجوهٌ: أولها: أنه تعالى لمَّا قرَّر الإلهيَّات والمعاد، والنبوة، أردفها بذكر الآية بالطَّاعات، وأشرفُ الطَّاعات بعد الإيمان الصلاة، فلهذا أمر بها. وثانيها: أنه تعالى، لمَّا قال: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض} [الإسراء: 76] . أمره تعالى بالإقبال على عبادته؛ لكي ينصره الله، فكأنَّه قيل: لا تبالِ بسعيهم في إخراجك من بلدك، ولا تلتفت إليهم، واشتغل بعبادة الله، والدوام على الصلاة؛ فإنه تعالى يدفع مكرهم وشرَّهم عنك، ويجعل يدك فوق أيديهم، ودينك عالياً على أديانهم. نظيره قوله تعالى: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار لَعَلَّكَ ترضى} [طه: 130] . وقال تعالى: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} [الحجر: 97 - 99] . وثالثها: أنَّ اليهود، لمَّا قالوا له: اذهب إلى الشَّام، فإنه مسكن الأنبياء، وعزم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على الذَّهاب إليه، فكأنَّه قيل له: المعبودُ واحدٌ في كلِّ البلاد، وما النصر والقوَّة والدولة إلا بتأييده ونصرته، فدوام على الصَّلوات، وارجع إلى مقرِّك ومسكنك، فقل: {رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] في تقرير دينك، وإظهار شريعتك. قوله تعالى: {لِدُلُوكِ} : في هذه اللام وجهان: أحدهما: أنها بمعنى «بَعْدَ» أي: بعد دلوكِ الشمسِ، ومثله قولُ متمِّم بن نويرة: [الطويل] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 354 3448 - فَلمَّا تَفرَّقْنَا كأنِّي ومَالِكاً ... لطُولِ اجتِماعٍ لمْ نَبِتْ لَيْلةً مَعَا ومثله قولهم: «كَتبْتُه لثلاثٍ خَلوْنَ» . والثاني: أنها على بابها، أي: لأجل دلوك، قال الواحديُّ: «لأنَّها إنَّما تجبُ بزوالِ الشَّمسِ» . والدُّلُوك: مصدر دلكتِ الشمس، وفيه ثلاثة أقوالٍ: أشهرها: أنه الزَّوالُ، وهو نصفُ النَّهار. وهو قول ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وابن عمر، وجابر، وعطاء، وقتادة، ومجاهدٍ، والحسنِ، وأكثر التَّابعين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -. روى الواحديُّ في «البسيط» عن جابر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: طَعِمَ عندي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وأصحابه، ثم خرجوا حين زالتِ الشمس؛ فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «هذا حين دلكت الشَّمسُ» . ورُوِيَ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «أتَانِي جِبْريلُ صلوات الله عليه لدُلوكِ الشَّمسِ، حينَ زَالتِ الشَّمْسُ؛ فصّلَّى بِي الظُّهْرَ» . وقال أهل اللغة: الدُّلوكُ في كلام العرب: الزَّوال، ولذلك قيل للشمس، إذا زالت نصف النهار: دالكة، وقيل لها، إذا أفلت: دالكة؛ لأنها في الحالتين زائلة، قاله الأزهريُّ. وقال القفال: أصلُ الدُّلُوك: الميل؛ يقال: مالتِ الشمس للزَّوال، ويقال: مالت للغُروب. وإذا ثبت ذلك، وجب أن يكون المراد من الدلوك ها هنا الزَّوال عن كبد السماء، لأنَّه تعالى علَّق إقامة الصلاة بالدُّلوك، والدُّلوك عبارة عن الميل والزَّوال؛ فوجب أن يقال: إنه أوَّل ما حصل الميل والزَّوال، تعلق به هذا الحكم. وقال الأزهريُّ: الأولى حمل الدلوك على الزوال في نصف النَّهار؛ لأنَّا إذا حملناه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 355 عليه كانت الآية جامعة لمواقيت الصلاة كلِّها؛ فدلوك الشمس يتناول صلاة الظُّهر والعصر إلى غسق الليل، ثم قال: «وقُرْآن الفَجْرِ» وعلى هذا التقدير: يتناول المغرب والعشاء، وقرآن الفجر صلاة الفجر إذا حملناه على الغروب لم يدخل فيه إلا ثلاث صلوات، وهي المغرب والعشاء والفجر، وحمل كلام الله - تعالى - على ما يكون أكثر فائدة أولى، وأيضاً، فالقائلون به أكثر. القول الثاني: أنَّ الدُّلُوك: هو الغروب، وهو قول ابن مسعود، وبه قال إبراهيم النخعيُّ، ومقاتل بن حيَّان، والضحاك والسديُّ، وهو اختيار الفراء واحتج له بقول الشاعر: [الرجز] 3449 - هَذا مُقامُ قَدمَيْ رَباحِ ... ذبَّبَ حتَّى دَلكَتْ بِرَاحِ أي: غربت براحِ، وهي الشمسُ، وأنشد ابن قتيبة على ذلك قول ذي الرمَّة: [الطويل] 3450 - مَصابِيحُ ليسَتْ باللَّواتِي تقُودهَا ... نُجومٌ ولا بالآفلاتِ الدَّوالكِ أي: الغاربات. وهذا استدلالٌ ضعيفٌ؛ لأنَّ الدُّلوك عبارة عن الميل والتغيُّر، وهو حاصل في الغروب، فكان الغروب نوعاً من أنواع الدُّلوك، فكان وقوعُ لفظ الدُّلوك على الغروب لا ينافي وقوعه على الزَّوال، كما أنَّ وقوع لفظ الحيوان على الإنسان لا ينافي وقوعه على الفرس. القول الثالث: أنه من الزَّوال إلى الغروب، قال الزمخشريُّ: «واشتقاقه من الدَّلكِ» لأنَّ الإنسانَ يدلكُ عينه عند النَّظر إليها «وهذا يفهم أنه ليس بمصدرٍ؛ لأنه جعله مشتقًّا من المصدرِ؛ واستدلُّوا بهذا على أنَّ الدُّلُوك هو الغروب، قالوا: وهذا إنما يصحُّ في الوقت الذي يمكن النَّظر إليها، أما عند كونها في وسط السَّماء، ففي ذلك الوقت لا يمكن النَّظر إليها، فثبت أن الدلوك هو الغروب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 356 والجواب: أنَّ الحاجة إلى ذلك التبيين عند كونها في وسط السَّماءِ أتمُّ، فالذي ذكرتم يدلُّ على أنَّ الدُّلوك عبارةٌ عن الزَّوال من وسط السَّماء؛ بطريق الأولى. وقال الراغب:» دُلوكُ الشمسِ: ميلها للغروب، وهو من قولهم: دَلكْتُ الشَّمسَ: دفعتها بالرَّاح، ومنه: دَلكتُ الشيء في الرَّاحةِ، ودلكتُ الرَّجلَ: ماطلته، والدَّلوكُ: ما دلكته من طيبٍ، والدَّليكُ: طعامٌ يتَّخذُ من زبدٍ وتمرٍ «. قوله: {إلى غَسَقِ الليل} في هذا الجارُ وجهان: أحدهما: أنه متعلقٌ ب» أقِمْ «فهي لانتهاءِ غاية الإقامة، وكذلك اللام في» لِدُلوكِ «متعلقة به أيضاً. والثاني: أنه متعلق بمحذوف على أنه حال من» الصَّلاة «أي: أقمها ممدودة إلى غسق الليل، قاله أبو البقاء، وفيه نظر: من حيث إنه قدَّر المتعلق كوناً مقيداً، إلا أن يريد تفسير المعنى، لا الإعراب. والغسقُ: دخول أوَّل الليل، قاله ابن شميلٍ، وأنشد: [الرجز] 3451 - إنَّ هذا اللَّيلَ قد غَسقَا ... واشْتكيتُ الهَمَّ والأرقَا وقيل: هو سواد الليل، وظلمتهُ، وأصله من السَّيلان: غسقتِ العينُ، أي: سال دمعُها، فكأنَّ الظُّلمَة تنصبُّ على العالم، وتسيلُ عليهم؛ قال: [البسيط] 34352 - ظَلَّتْ تَجودُ يَداهَا وهي لاهِيَةٌ ... حتَّى إذَا هَجَمَ الإظلامُ والغَسقُ ويقال: غَسقتِ العينُ: امتلأتْ دمعاً، وغسق الجرحُ: امتلأ دماً؛ فكأنَّ الظُّلمةَ ملأتِ الوجود. وقال ابن عباس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: الغَسقُ: بُدُوُّ اللُّيْل وقال قتادة: وقتُ صلاة المغرب. وقال مجاهدٌ: غروب الشَّمس. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 357 والغاسقُ في قوله: {وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ} [الفلق: 3] قيل: المراد به: القمر، إذا كسف، واسودَّ. قال - صلوات الله وسلامه عليه - لعائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْها - حين رأتْ كسوف القمر: «اسْتعِيذِي مِنْ شرِّ الغَاسقِ إذَا وَقبَ» . وقيل: اللَّيل، والغساقُ، بالتخفيف، والتشديد: ما يسيلُ من صديد أهل النار، ويقال: غَسقَ اللَّيلُ، وأغسقَ، وظَلمَ، وأظْلمَ، ودَجَى، وغَبشَ، وأغْبشَ، نقله الفراءُ. فصل في معنى الغسق قال الأزهريُّ: غسق الليل عندي: غيبوبة الشفق عند تراكم الظلمة، واشتدادها، يقال: غسقتِ العين، إذا امتلأت دمعاً، وغسقت الجراحة: إذا امتلأت دماً. قال: لأنَّا إذا حملنا الشَّفق على هذا المعنى، دخلت الصَّلوات الأربعة فيه، وهي الظهر، والعصر، والمغرب، والعشاء، ولو حملنا الغسق على ظهور أوَّل الظُّلمة، لم يدخل فيه الظهر والعصر؛ فوجب أن يكون الأولى أولى. واعلم أنَّه يتفرَّع على هذين الوجهين بحثٌ حسنٌ؛ فإن فسَّرنا الغسق بظهور أوَّل الظلمة، كان الغسق عبارة عن أوَّل المغرب، وعلى هذا: يكون المذكور في الآية ثلاثة أوقاتٍ: وقت الزَّوال، ووقت أوَّل المغرب، ووقت الفجر، وهذا يقتضي أن يكون الزوال: وقتاً للظُّهر والعصر، فيكون هذا الوقت مشتركاً بين هاتين الصلاتين، وأن يكون أوَّل وقت المغرب وقتاً للمغرب والعشاء، فيكن هذا الوقت مشتركاً أيضاً بين هاتين الصلاتين، فهذا يقتضي جواز الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء مطلقاً، إلا أنَّه دلَّ الدليل على أن الجمع في الحضر من غير عذرٍ لا يجوز؛ فوجب أن يكون الجمع جائزاً مع العذر. وإذا فسَّرنا الغسق بالتراكم، فنقول: الظلمة المتراكمة، إنَّما تحصل عند غيبوبة الشَّفق الأبيض، وكلمة «إلى» لانتهاءِ الغاية، والحكم الممدود إلى غاية يكون مشروعاً قبل حصول تلك الغاية؛ فوجب إقامةُ الصلوات كلِّها قبل غيبوبة الشَّفق الأبيض، وهذا إنَّما يصحُّ إذا قلنا: إنَّها تجبُ عند غيبوبة الشَّفق الأحمر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 358 قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الفجر} فيه أوجه: أحدها: أنه عطف على «الصَّلاة» أي: وأقم قرآن الفجرِ، والمراد به صلاة الصبح، عبَّر عنها ببعض أركانهاز والثاني: أنه منصوبٌ على الإغراء، أي: وعليك قرآن الفجرِ، كذا قدَّره الأخفش وتبعه أبو البقاء، وأصول البصريِّين تأبى هذا؛ لأن أسماء الأفعال لا تعمل مضمرة. الثالث: انه منصوب بإضمار فعلٍ، أي: كثِّر قرآن، أو الزم قرآن الفجرِ. فصل في دلالة الآية دلَّت هذه الآية على أمور: منها: أنَّ الصلاة لا تكون إلا بقراءة؛ لقوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة} . ومنها: أنه تعالى أضاف القرآن إلى الفجر، والتقدير: وأقم الفجرِ. ومنها: أنه علَّق القراءة بحصول الفجر، وفي أوَّل طلوعه، إلاَّ أنَّ الإجماع على أنَّ هذا الوجور غير حاصل؛ فوجب أن يبقى على النَّدب؛ لأنَّ الوجوب عبارةٌ عن رجحانٍ مانعٍ من التَّرك، فإذا منع مانع من تحقُّق الوجوب، وجب أن يرتفع المنع من التَّرك، وأن يبقى أصل الرُّجحان؛ حتَّى تنقل مخالفة الدليل؛ فثبت أنَّ هذه الآية تقتضي أنَّ إقامة الفجر في أوَّل الوقت أفضل؛ وهذا يدلُّ على أن التغليس أفضل من التَّنوير. ومنها أن القراءة تكون في هذه الصلاة أطول من القراءة في سائر الصلوات؛ لأنَّ المقصود من قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} الحثُّ على طول القراءة في هذه الصلاة؛ لأن التخصيص بالذِّكر يدلُّ على أنه أكملُ من غيره. ومنها: قوله تعالى: {إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً} . ومعناه: أنَّ ملائكة الليل وملائكة النهار يجتمعون في صلاة الصُّبح خلف الإمام، تنزلُ ملائكة النَّهارعليهم، وهم في الصَّلاة؛ قبل أن تعرج ملائكة اللَّيل، وإذا فرغ الإمام من الصلاة، عرجت ملائكة الليل، ومكثت ملائكة النَّهار، ثمَّ إن ملائكة الليل إذا صعدت، قالت: يا ربِّ، إنَّا تركنا عبادك يصلُّون لك، وتقول ملائكة النَّهارِ: ربَّنا، أتينا عبادك يصلُّون لك، فيقول الله تعالى لملائكته: اشهدوا أنِّي قد غفرت لهم. وهذا يدل على أنَّ التغليس أفضل من التنوير، لأنَّ الإنسان، إذا شرع فيها من [أوَّل] الصُّبح، ففي ذلك الوقت: الظلمة باقية، فتكون ملائكة الليل حاضرين، ثمَّ إذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 359 امتدَّت الصلاة بسبب ترتيل القراءة، وتكثيرها، زالت الظلمة، وظهر الضوء، وحضرت ملائكةُ النهار، وأمَّا إذا ابتدأ بهذه الصلاة في وقت التَّنوير، فهناك لم يبق أحدٌ من ملائكة الليل؛ فلا يحصل المعنى المذكور، فقوله جلَّ ذكره: {كَانَ مَشْهُوداً} . يدلُّ على أنَّ التغليس أفضلُ. قوله تعالى: {وَمِنَ الليل} : في «مِنْ» هذه وجهان: أحدهما: أنها متعلقة ب «تَهجَّد» أي: تهجَّد بالقرآن بعض الليل. والثاني: أنها متعلقة بمحذوفٍ، تقديره: وقم قومة من الليل، أو: واسهر من الليل، ذكرهما الحوفيُّ، وقال الزمخشريُّ: «وعليك بعض الليل، فتهجَّد به» فإن كان أراد تفسير المعنى، فقريبٌ، وإن أراد تفسير الإعراب، فلا يصحُّ؛ لأنَّ المغرى به لا يكون حرفاً، وعله «مِنْ» بمعنى «بعضٍ» لا يقتضي اسميَّتها؛ بدليل أنَّ واو «مََ» ليست اسماً بإجماع، وإن كانت بمعنى اسمٍ صريحٍ وهو «مَعَ» . والضمير في «به» : الظاهر: عوده على القرآن؛ من حيث هو، لا بقيد إضافته إلى الفجر. والثاني: أنها تعود على الوقت المقدر، أي: وقُم وقتاً من الليل، فتهجَّد بذلك الوقت، فتكونُ الباء بمعنى «في» . قوله «نَافِلةً» فيها أوجه: أحدها: أنها مصدرٌ، أي: تنفَّل نافلة لك على الصَّلوات المفروضة. والثاني: أنها منصوبة ب «تهجَّد» لأنه في معنى «تنفَّل» فكأنه قيل: تنفَّل نافلة، والنَّافلةُ، مصدر؛ كالعاقبة، والعافية. الثالث: أنها منصوبة على الحال، أي: صلاة نافلةٍ، قاله أبو البقاء، وتكون حالاً من الهاء في «به» إذا جعلتها عائدة على القرآن، لا على وقتٍ مقدر. الرابع: أنها منصوبة على المفعول بها، وهو ظاهر قولِ الحوفيِّ، فإنه قال: «ويجوز أن ينتصب» نَافلةً «بتهجَّد، إذا ذهبت بذلك إلى معنى: صلِّ به نافلة، أي: صلِّ نافلة لك» . والتهَجُّدُ: ترك الهجود، وهو النُّومُ، «وتفَعَّل» يأتي للسَّلب، نحو: تحرَّج، وتأثَّم، وفي الحديث: «كَان يتحَنَّثُ بغارِ حراءٍ» وفي الهجود خلافٌ بين أهل اللغة، فقيل: هو النَّومُ؛ قال: [الطويل] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 360 3453 - وبَرْك هُجودٍ قد أثَارتْ مَخافتِي ..... ... ... ... ... ... وقال الآخر: [الطويل] 3454 - ألا طَرقَتْنَا والرِّفاقُ هُجودُ ..... ... ... ... ... ... . . وقال آخر: [الوافر] 3455 - ألا زَارتْ وأهْلُ منًى هجودُ ... وليْتَ خَيالهَا بِمِنًى يَعودُ فَهجودٌ: نيامٌ، جمع «هاجدٍ» كساجد، وسجُودٍ، وقيل: الهجود: مشتركٌ بين النَّائم والمصلِّي، قال ابن الأعرابي: «تهجَّد: صلَّى من الليل، وتهجد: نام» وهو قول أبي عبيدة والليث - رحمهما الله تعالى -. قال الواحديُّ: الهُجودُ في اللغة: النومُ، وهو كثيرٌ في الشِّعر. يقال: أهجدتُّه وهجدتُّه، أي: أنَمْتهُ ومنه قول لبيد [الرمل] 3456 - قَالَ: هَجِّدْنَا فَقدْ طَالَ السُّرَى ..... ... ... ... ... ... . كأنه قال: نوِّمنا؛ فقد طال السُّرى؛ حتى غلب علينا النَّوم، وقال الأزهري: المعروف في كلام العرب: أنَّ الهاجد هو النَّائم، ثم رأينا في الشَّرع أنَّ من قام إلى الصَّلاة من النَّوم يسمَّى هاجداً أي متهجِّداً؛ فيحمل هذا على أنَّه سمِّي متهجّداً؛ لإلقائه الهُجُود عن نفسه؛ كما ياقل للعابد: «مُتحَنِّثٌ» ؛ لإلقائه الحنث عن نفسه، وروي أن الحجَّاج بن عمرو المازنيَّ قال: أيَحسبُ أحدكم، إذا قام من اللَّيلِ، فصلَّى حتَّى يصبح أنَّه قد تهجَّد، إنَّما التهجُّد الصلاة بعد الرقاد، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، ثم صلاة أخرى بعد رقدة، هكذا كتنت صلاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دائماً عليه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 361 والنافلةُ في اللغة: الزيادة على الأصل، وقد تقدَّم في الأنفال، وفي تفسير كونها زيادة ها هنا قولان مبنيَّان على أنَّ صلاة الليل، هل كانت واجبة على النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أم لا؟ . فقيل: إنَّها واجبة عليه؛ لقوله سبحانه وتعالى: {يا أيها المزمل قُمِ الليل إِلاَّ قَلِيلاً} [المزمل: 1، 2] ثم نسخت، فصارت نافلة، أي: تطوُّعاً وزيادة على الفرائض. وذكر مجاهد والسدي في تفسير كونها نافلة وجهاً حسناً، قالا: إنَّ الله قد غفر للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما تقدَّم من ذنبه، وما تأخَّر، فكلُّ طاعةٍ يأتي بها صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سوى المكتوبةِ لا تؤثر في كفَّارة الذنب، بل تؤثر في زيادة الدَّرجاتِ، وكثرة الثَّواب؛ فكان المقصود من تلك العبادة زيادة الثواب، فلهذا سمِّي نافلة؛ بخلاف الأمة؛ فإنَّ لهم ذنوباً محتاجة إلى التكفير، فهذه الطاعة يحتاجون إليها؛ لتكفير السَّيئات عنهم؛ فثبت أنَّ هذه الطاعات إنَّما تكون زوائد ونوافل في حقِّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا في حقِّ غيره، فلهذا قال: «نَافلةً لكَ» ، فهذا معنى يخصِّصهُ. وأمَّا من قال: إنَّ صلاة الليل كانت واجبة على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقالوا: معنى كونها نافلة له على التخصيص، يعني: أنَّها فريضةٌ لك، زائدة على الصَّلوات الخمس، خصِّصت بها من دون أمَّتك؛ ويدلُّ على هذا القولِ قوله تعالى: {فَتَهَجَّدْ} والأمر للوجوب، ويرد هنا قوله: {نَافِلَةً لَّكَ] ، لأنَّه لو كان المراد الوجوب، لاقل: «نَافِلةً عليك» . واعلم أنَّ قوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ الليل وَقُرْآنَ الفجر} وإن كان ظاهر الأمر فيه مختصًّا بالرسول - صلوات الله عليه وسلامه - إلا أنَّه في المعنى عامٌّ في حقِّ الأمَّة؛ ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} بيَّن أن الأمر بالتهجد يختصُّ بالرسول - صلوات الله وسلامه عليه - والأمر بالصَّلوات الخمس غير مخصوصٍ بالرسول - صلوات عليه - وإلاَّ لم يكن لتقييد المر بالتهجُّد بهذا القيد فائدةٌ. قوله تعالى: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} في نصب «مقاماً» أربعة أوجه: أحدها: أنه منصوبٌ على الظرف، أي: يبعثك في مقام. الثاني: أن ينتصب بمعنى «يَبْعثكَ» ؛ لأنه في معنى «يُقِيمكَ» ؛ يقال: أقيم من قبره، وبعث منه، بمعنًى، فهو نحو: قعد جلوساً. الثالث: أنه منصوبٌ على الحال، أي: يبعثك ذا مقامٍ محمود. الرابع: أنه مصدر مؤكد، وناصبه مقدر، أي: فيقوم مقاماً. و «عَسَى» على الأوجه الثلاثة دون الرابع يتعيَّن فيها أن تكون التامة؛ فتكون مسندة إلى «أنْ» وما في حيِّزها؛ إذ لو كانت ناقصة على أن يكون «أنْ يَبْعثكَ» خبراً مقدَّماً، و «ربُّكَ» اسماً مؤخراً؛ لزمَ من ذلك محذورٌ: وهو الفصل بأجنبي بين صلة الموصول ومعمولها، فإنَّ «مَقاماً» على الأوجه الثلاثة الأول: منصوبٌ ب «يَبْعثكَ» ، وهو صلة ل «أنْ» ، فإذا جعلت «ربُّكَ» اسمها، كان أجنبيًّا من الصلة، فلا يفصل به، وإذا جعلته فاعلاً، لم يكن أجنبيًّا، فلا يبالي بالفصل به. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 362 وأمَّا على الوجه الرابع: فيجوز أن تكون التامة والناقصة بالتقديم والتأخير؛ لعدم المحذور؛ لأنَّ «مقاماً» معمولٌ لغير الصلة. وقوله: «محموداً» في انتصابه وجهان: أحدهما: أنه منصوب على الحال من قوله: يَبْعثكَ، أي: يبعثك محموداً. والثاني: أن يكون نعتاً للمقام. فصل في معنى «عسى» من الله اتفق المفسرون على أنَّ كلمة «عسى» من الله واجبٌ. قال أهل المعاني: لأنه لفظ يفيد الإطماع، ومن أطمع إنساناً في شيء، ثم حرمه، كان عاراً، والله تعالى أكرم من أن يطمع واحداً في شيء، ثم لا يعطيه. وفي تفسير المقام المحمود أربعة أقوالٍ: الأول: أنه الشَّفاعة. قال الواحدي: أجمع المفسرون على أنه مقام الشفاعة؛ كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في هذه الآية: «هو المقام الذي أشفعُ لأمَّتِي فيه» . قال ابن الخطيب: واللفظ مشعر به؛ لأنَّ الإنسان إنما يصير محموداً إذا حمده حامدٌ، والحمد، إنما يكون على الإنعام، فهذا المقام المحموج يجب أن يكون مقاماً أنعم فيه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على قوم، فحمدوه على ذلك الإنعام، وذلك الإنعام لا يجوز أن يكون تبليغ الدِّين، وتعليم الشرائع؛ لأنَّ ذلك كان حاصلاً في الحال، وقوله: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ} تطميعٌ، وتطميع الإنسان في الشيء الذي حصل له وعده محالٌ؛ فوجب أن يكون ذلك الإنعام الذي لأجله يصير محموداً إنعاماً يصل منه بعد ذلك إلى النَّاس، وما ذاك إلاَّ شفاعته عند الله تعالى. وأيضاً: التنكيرُ في قوله: {مَقَاماً مَّحْمُوداً} يدل على أنه يحصل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ في ذلك المقامِ حمدٌ بالغٌ عظيمٌ كاملٌ، ومن المعلوم أنَّ حمد الإنسان على سعيه في التخليص من العذاب أعظم من حمده في السَّعي في زيادة الثَّواب؛ لأنَّه لا حاجة به إليها؛ لأنَّ حاجة الإنسان في رفع الآلام العظيمة عن النَّفس فوق احتياجه إلى تحصيل المنافع الزائدة التي لا حاجة به إلى تحصيلها، وإذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 363 ثبت هذا، وجب أن يكون المراد من قوله تعالى: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} هو الشَّفاعة في إسقاط العقاب؛ على ما هو مذهب أهل السنة. ولمَّا ثبت أن لفظ الآية مشعرٌ بهذا المعنى إشعاراً قويًّا، ثم وردت الأخبار الصحيحة في تقرير هذا المعنى، وجب حمل اللفظ عليه، ومما يؤكِّد ذلك الدعاء المشهور عنه في إجابة المؤذِّن: «وابعثه المقام المحمود الذي وعدته» . واتَّفق النَّاس على أنَّ المراد منه الشَّفاعة. والقول الثاني: قال حذيفة: يجمع الناس في صعيدٍ، فلا تتكلَّم نفسٌ، فأوَّل من يتكلَّم محمدٌ - صلوات الله وسلامه عليه - فيقول: لَبَّيكَ، وسَعْديْكَ، والشَّرُّ ليس إليك، والمهديُّ من هَديْتَ، والعَبْدُ بين يَديْكَ، وبِكَ وإلَيْكَ، لا مَنْجَى ولا مَلْجَأ مِنْكَ إلاَّ إليكَ، تَباركتَ، وتَعاليْتَ، سُبحانَكَ ربَّ البيتِ «. قال: فهذا هو المراد من قوله عزَّ وجلَّ: {عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً} . والقول الأول أولى؛ لأنَّ سعيه في الشَّفاعة يفيد إقدام الناس على حمده، فيصير محموداً، وأمَّا ذكر هذا الدعاء، فلا يفيد إلا الثواب، أمَّا الحمد، فلا. فإن قالوا: لم لا يجوز أن يقال: إنَّه تعالى يحمده على هذا القول؟ . فالجواب: أنَّ الحمد في اللغة: مختصٌّ بالثناءِ المذكور ف يمقابلة الإنعام بلفظٍ، فإن ورد لفظ «الحمد» في غير هذا المعنى، فعلى سبيل المجاز. القول الثالث: المراد مقامٌ تحمد عاقبته، وهذا ضعيفٌ؛ لما ذكرنا. القول الرابع: قال الواحديُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: روي عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 364 عَنْه - أنه قال: يقعدُ الله محمداً على العرشِ، وعن مجاهد أنَّه قال: يجلسه معه على العرشِ. قال الواحدي: وهذا قولٌ رذلٌ موحشٌ فظيعٌ، ونص الكتاب يفسد هذا التفسير من وجوه: الأول: أن البعث ضدُّ الإجلاس، يقال: بعثتُ النَّاقة، وبعث الله الميت، أي: أقامه من قبله، فتفسير البعث بالإجلاس تفسير الضدِّ بالضدِّ؛ وهو فاسدٌ. والثاني: أنه تعالى، لو كان جالساً على العرشِ، بحيث يجلس عنده محمد - صلوات الله وسلامه عليه - لكان محدوداً متناهياً، ومن كان كذلك، فهو محدثٌ. الثالث: أنه تعالى قال: {مَقَاماً مَّحْمُوداً} ولم يقل: مقعداً، والمقام: موضع القيام، لا موضع القعود. الرابع: أن جلوسه مع الله على العرش ليس فيه كثير إعزازٍ؛ لأن هؤلاء الحمقاء يقولون: إنَّ أهل الجنة كلهم يجلسون معه ويرونه، وإنه تعالى يسألهم عن أحوالهم التي كانوا عليها في الدنيا، وإذا كانت هذه الحالة حاصلة عندهم لكلِّ المؤمنين، لم يكن في تخصيص محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك مزيد شرفٍ ومرتبةٍ. الخامس: أنه إذا قيل: السلطان بعث فلاناً، فهم منه أنَّه أرسله لإصلاح مهماتهم، ولا يفهم أنه أجلسه مع نفسه؛ فثبت أن هذا القول كلام رذلٌ، لا يميل إليه إلاَّ قليل العقل، عديم الدِّين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 365 قوله تعالى: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} الآية. يحتمل أن يكون «مدخل» مصدراً، وأن يكون ظرف مكانٍ، وهو الظاهر، والعامة على ضمِّ الميم فيهما؛ لسبقهما بفعل رباعيٍّ، وقرأ قتادة، وأبو حيوة، وإبراهيم بن أبي عبلة، وحمسدٌ بفتح الميم فيهما: إمَّا لأنهما [مصدران على حذف الزوائد؛ ك {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] ؛ وإمَّا لأنهما] منصوبان بمقدر موافق لهما، تقديره: فادخل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 365 مدخل، واخرج مخرج، وقد تقدَّم هذا مستوفًى في قراءةِ نافع في سورة النساء [الآية: 31] ، وأنه قرأ كذلك في سورة الحجِّ [الآية: 59] . و «مُدخلَ صِدقٍ» ، و «مُخرجَ صِدقٍ» من إضافة التبيين، وعند الكوفيين من إضافة الموصوف لصفته؛ لأنه يوصف به مبالغة. و «سلطاناً» هو المفعول الأول للجعلِ، والثاني أحدُ الجارَّين المتقدمين، والآخر متعلِّقٌ باستقراره، وقوله «نَصِيراً» يجوز أن يكون محولاً من «فاعلٍ» للمبالغة، وأن يكون بمعنى مفعول. فصل في معنى «مُدخَلَ صِدقٍ» و «مُخْرَجَ صِدْقٍ» قد تقدَّم في قوله: {وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض} [الإسراء: 76] قولان: أحدهما: أن يكون المراد منه سعي كفَّار مكَّة في إخراجه منها. والثاني: المراد منه اليهود؛ قالوا له: الأولى أن تخرج من المدينة إلى الشَّام، ثم قال: «أقم الصَّلاة» واشتغل بعبادة الله تعالى، ولا تلتفت إلى هؤلاء الجهَّال، فإنَّ الله تعالى يعينك، ثمَّ عاد بعد هذا الكلام إلى شرح تلك الواقعة من أن كفَّار مكَّة أرادوا إخراجه، فأراد الله تعالى هجرته إلى المدينة، وقال له: {وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ} ، وهو المدينة، {وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ} ، وهو مكَّة، وهذا قول ابن عبَّاس، والحسن، وقتادة. وعلى التفسير الثاني، وهو أنَّ المراد منها أن اليهود حملوه على الخروج من المدينة والذَّهاب إلى الشَّام، فخرج رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، ثمَّ أمر بأن يرجع إليها، فلمَّا عاد إلى المدينة، قال: «ربِّ أدخلْنِي مُدخلَ صدقٍ» وهي المدينة، «وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدقٍ» يعني: إلى مكة؛ [بالفتح] ، أي: افتحها. وقال الضحاك: «أدْخلنِي مُدخلَ صِدْقٍ» ظاهراً على مكة بالفتح «وأخْرِدنِي مُخرجَ صِدْقٍ» من مكة، آمناً من المشركين. وقال مجاهد: أدخلني في أمرك الذي أرسلتني به من النبوة، والقيام بمهمات أداء شريعتك، «وأخْرِجْنِي» من الدنيا، وقد قمت بما وجب عليَّ من حقِّها «مُخرجَ صِدقٍ» أي: إخراجاً لا يبقى عليَّ منها تبعةٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 366 وعن الحسن: «أدْخلنِي مُدخلَ صِدْقٍ» الجنة، «وأخْرِجنِي مُخرجَ صِدْقٍ» أي: إخراجاً لا يبقى عليَّ منها تبعةٌ من مكة. وقيل: أدخلني في طاعتك، وأخرجني من المناهي. وقيل: أدخلني القبر مدخل صدقٍ، وأخرجني منه مخرج صدقٍ، وقيل: أدخلني حيثُ ما أدخلتني بالصِّدق، وأخرجني بالصِّدق، أي: لا تجعلني ممَّن يدخل بوجهٍ، ويخرج بوجهٍ، فإنَّ ذا الوجهين لم يكن عند الله وجيهاً. ووصف الإدخال والإخراج بالصِّدقِ؛ لما يئول غليه الدُّخولُ والخروج من النصر، والعزِّ، ودولة الدِّين، كما وصف القدم بالصِّدق؛ فقال: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ} [المائدة: 67] . وقال: {أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون} [المجادلة: 22] . وقال: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] . ولما سأل الله تعالى النُّصرة، بيَّن أنَّه أجاب دعاءه؛ فقال: {وَقُلْ جَآءَ الحق} . وهو دينه وشرعه. قوله: {وَزَهَقَ الباطل} . وهو كل ما سواه من الأديان، والشَّرائع، قاله السديُّ. وقيل: جاء الحقُّ، أي: القرآن. وزهق الباطل، أي: ذهب الشيطان، قاله قتادة. وقيل: الحقُّ: عبادة الله تعالى، والباطل عبادة الأصنام. وعن ابن مسعودٍ: أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دخل مكَّة يوم الفتح، وحول البيت ثلاثمائةٍ وستُّون صنماً، فجعل يضربها بعودٍ في يده، وجعل يقول: {جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل} الجزء: 12 ¦ الصفحة: 367 [أي: ذهب الشيطان] كان الصَّنمُ ينكبُّ على وجهه. قوله: {إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً} . أي: إنَّ الباطل، وإن كان له دولةٌ، لا يبقى، بل يزول بسرعة. والزُّهوقُ: الذِّهاب، والاضمحلال؛ قال: [الكامل] 3457 - ولقَدْ شَفَى نَفْسِي وأبْرَأ سُقمهَا ... إقْدامهُ بِمزَالةٍ لمْ يَزْهقِ يقال: زهقت نفسي تزهقُ زهوقاً بالضمِّ، وأمَّا الزُّهوقُ، بالفتح، فمثال مبالغة؛ كقوله: [الطويل] 3458 - ضَرُوبٌ بِنصْلِ السَّيْفِ سُوقَ سِمانِها ..... ... ... . . قوله تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن} : في «مِنْ» هذه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها لبيان الجنس، قاله الزمخشري، وابن عطيَّة، وأبو البقاء، وردَّ عليهم أبو حيان: بأنَّ التي للبيان، لا بد وأن يتقدَّمها ما تبينه، لا أن تتقدم هي عليه، وهنا قد وجد تقدُّمها عليه. الثاني: أنها للتبعيض، وأنكره الحوفي؛ قال: «لأنه يلزم ألاَّ يكون بعضه شفاء» وأجيب عنه: بأنَّ إنزاله إنَّما هو مبعضٌ، وهذا الجواب ليس بظاهرٍ، وأجاب أبو البقاء بأنَّ منه ما يشفي من المرض. وهذا يؤيده الدَّليلُ المتقدِّم، وأجاز الكسائيُّ: «ورَحْمةً» بالنصب عطفاً على ما تظاهر وهذا قد وجد بدليل رقية بعض الصحابة سيِّد الحيِّ الذي لدغ، بالفاتحة؛ فشفي. الثالث: أنها لابتداءِ الغاية، وهو واضحٌ. والجمهور على رفع «شفاء ورحمةٌ» خبرين ل «هُوَ» ، والجملة صلة ل «مَا» وزيد بن عليٍّ بنصبهما، وخرِّجت قراءته على نصبهما على الحال، والخبر حينئذ «لِلمُؤمنينَ» وقدِّمت الحال على عاملها المعنوي، كقوله تعالى: {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ} [الزمر: 67] في قراءة من نصب «مَطْويَّاتٍ» ، وقول النابغة: 3459 - رَهْطُ ابنِ كُوزٍ مُحقِبِي أدْرَاعهُمْ ... فِيهمْ ورَهْطُ رَبيعَة بْنِ حُذارِ وقيل: منصوبان بإضمار فعلٍ، وهذا عند من يمنع تقديمها على عاملها المعنوي، وقال أبو البقاء: وأجاز الكسائي: «ورحْمَةً» بالنصب عطفاً على «مَا» فظاهر هذا أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 368 الكسائيَّ [بقَّى] «شِفاءٌ» على رفعه، ونصب «رَحْمةً» فقط عطفاً على «ما» الموصولة؛ كأه قيل: ونُنزِّل [من القرآن رحمة، وليس في نقله ما يؤذن بأنه تلاها قرآناً، وتقدَّم الخلاف في] «ونُنزِّلُ» تخفيفاً وتشديداً، والعامة على نون العظمة. ومجاهد «ويُنزِلُ» بياء الغيبة، أي: الله. فصل في المراد ب «مِنْ» في الآية قال المفسِّرون: إنَّ «من» هنا للجنسِ؛ كقوله تعالى: {فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان} [الحج: 30] . أي: ونُنزِّل من هذا الجنس الذي هو قرآنٌ ما هو شفاءٌ، فجميع القرآن شفاء للمؤمنين، أي: بيانٌ من الضلالة والجهالة يتبيَّن به المختلف، ويتَّضح به المشكل، ويستشفى به من الشُّبهة، ويهتدى به من الحيرة، وهو شفاء للقلوب بزوال الجهل عنها. واعلم أنَّ القرآن شفاء من المراض الرُّوحانيَّة، والأمراض الجسمانية. أما كونه شفاء من الأمراض الروحانية؛ لأنَّ المرض الروحانيَّ قسمان: أحدهما: الاعتقادات الباطلة، وأشدُّها فساداً الاعتقادات الفاسدة في الإلهيَّات، والنبوَّات، والمعاد، والقضاءِ، والقدر؛ والقرآن كلُّه مشتملٌ على دلائل الحقِّ في هذه المطالب. والثاني: الأخلاق المذمومة؛ والقرآن مشتمل على تفاصيلها، وتعريف ما فيها من المفاسد، والإرشاد إلى الأخلاق الفاضلة، وكان القرآن شفاء من الأمراض الروحانيَّة. وأما كونه شفاء من الأمراض الجسمانية؛ فلأنَّ التبرُّك بقراءته يدفع كثيراً من الأمراض؛ ويؤيده ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «مَنْ لَمْ يَستشْفِ بالقرآنِ، فلا شَفاهُ الله تعالى» . وما ورد في حديث الرقية بالفاتحة. ثم قال: {ولا يَزيدُ الظَّالِمِينَ إلاَّ خَسَاراً} المراد بالظالمين ها هنا: المشركون؛ لأنَّ سماع القرآن يزيدهم غضباً، وغيظاً، وحقداً، وكلَّما نزلت آيةٌ يتجدَّد تكذيبٌ؛ فتزداد خسارتهم. قال مجاهد وقتادة: لم يجالس هذا القرآن أحدٌ إلا قام عنه بزيادةٍ أو نقصان: قضاء الله الذي قضاه شفاءٌ ورحمةٌ للمؤمنين، ولا يزيد الظَّالمين إلا خساراً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 369 ثم إنه تعالى ذكر السَّبب الأصلي في وقوع هؤلاء الجهَّال في أودية الضَّلال، وهو حبُّ الدنيا، والرغبة في المال والجاه، واعتقادهم أن ذلك إنَّما يحصل بجدِّهم واجتهادهم، فقال: {وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ} . قال ابن عباس: الإنسان ها هنا هو الوليد بن المغيرة. والأوْلى أنَّ كل إنسان من شأنه إذا فاز بمقصوده، غترَّ وصار غافلاً عن عبادة الله - تعالى - وتمرَّد على طاعته؛ كما قال: {كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى أَن رَّآهُ استغنى} [العلق: 6، 7] . قوله تعالى: {وَنَأَى} : قرأ العامة بتقديم الهمزة على حرف العلة؛ من النَّأي، وهو البعدُ، وابن ذكوان - ونقلها أبو حيان وابن الخطيب عن ابن عامر وأبو جعفر: «نَاءَ» مثل «جَاءَ» بتقديم الألف على الهمزة، وفيها تخريجان: أحدهما: أنها من: نَاءَ، يَنُوء، أي: نَهضَ؛ قال: [الرجز] 3460 - حتَّى إذا مَا التَأمَتْ مَفاصِلُه ... ونَاءَ في شقِّ الشِّمالِ كَاهِلُه والثاني: أنه مقلوبٌ من «نَأى» ، ووزنه «فَلعَ» كقولهم في «رَأى» : «رَاءَ» إلى غير ذلك فيكونان بمعنى، ولكن متى أمكن عدم القلب، فهو أولى، وهذا الخلافُ أيضاً في حم السجدة [فصلت: 51] . وأمال الألف إمالة محضة الأخوان، وأبو بكرٍ، عن عاصمٍ، وبين بين؛ بخلاف عنه، السوسيُّ، وكذلك في فصِّلت، إلا أبا بكرٍ؛ فإنه لم يمله. وأمال فتحة النون في السورتين خلفٌ، وأبو الحارث والدُّوري عن الكسائيِّ. ثم قال: {وَإِذَا مَسَّهُ الشر} ، أي: الشِّدة، والضر {كَانَ يَئُوساً} أيساً قنوطاً. وقيل: معناه: أنَّه يتضرَّع، ويدعو عند الضُّرِّ والشدَّة، فإذا تأخَّرت الإجابة، أيس، ولا ينبغي للمؤمن أن يَيْئَسَ من الإجابة، وإن تأخَّرت، فيدع الدعاء. قوله تعالى: {على شَاكِلَتِهِ} : متعلق ب «يَعْمَلُ» ، والشَّاكلةُ: أحسنُ ما قيل فيها ما قاله الزمخشريُّ والزجاج: أنها مذهبه الذي يشاكلُ حاله في الهدى والضلالة؛ من قولهم: « الجزء: 12 ¦ الصفحة: 370 طريقٌ ذو شَواكلَ» ، وهي الطرقُ التي تَشعَّبتْ منه؛ والدليل عليه قوله تعالى: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً} ، وقيل: على دينه، وقيل: خلقه، وقال ابن عباسٍ: «جانبه» وقال الحسن، وقتادة: على نيَّته. وقال الفراء: «على طَريقتهِ، والمذهب الذي جبل عليه» . [وهو] من «الشَّكلِ» وهو المثل؛ يقال: لست على شكْلِي، ولا شَاكلتي، وأمَّا «الشَّكلُ» بالكسر فهو الهيئة؛ يقال: جاريةٌ حسنة الشِّكلِ، وقال امرؤ [القيس] في «الشَّكل» بالفتح: [الكامل] 3461 - حَيِّ الحُمولَ بِجانبِ العَزْلِ ... إذْ لا يُلائِمُ شَكلُهَا شَكْلِي أي: لا يلائم مثلها مثلي. قال ابن الخطيب: والذي يقوى عندي: أنَّ المراد من المشاكلة ما قاله الزجاج، والزمخشريُّ؛ لقوله بعد ذلك: {فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً} [الإسراء: 84] . وفيه وجه آخر: وهو أنَّ المراد: أن كلَّ أحد يفعل على وفق ما يشاكله جوهر نفسه، ومقتضى روحه، فإن كانت مشرقة، ظاهرة، علوية، صدرت منه أفعالٌ فاضلةٌ، وإن كانت نفسه كدرة خبيثة [مضلَّةً ظُلمانيَّة، صدرت عنه أفعال خسيسة] فاسدةٌ. وأقول: اختلف العقلاء في أنَّ النفوس الناطقة البشريَّة، هل هي مختلفةٌ بالماهيَّة، أم لا؟ . منهم من قال: إنَّها مختلفةٌ بالماهيَّة، وإنَّ اختلاف أحوالاه وأفعالها لاختلاف امزجتها. والمختار عندي: هو القسم الأوَّل، والقرآن يشعر به؛ لأنه تعالى بيَّن في الآية المتقدمة: أنَّ القرآن بالنِّسبة إلى البعض يفيد الشِّفاء، والرحمة، وبالنِّسبة إلى الآخرين يفيد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 371 الخسار، والخزي، ثم أتبعه بقوله: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ} . ومعناه: أن اللائق بتلك النُّفوس أن يظهر فيها القرآن الخير وآثار لاذكاء والكمال وبتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار، وتسوِّد وجهه، وهذا الكلام لا يتم المقصود به، إلاَّ إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة ماهيَّاتهان فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن آثار الخزي والضلال كما أن الشمس تعقد الملح وتلين الدهن وتبيض ثوب القصار، وتسوِّد وجهه، وهذا الكلام لا يتم المقصود به، إلاَّ إذا كانت الأرواح والنفوس مختلفة ماهيَّاتها، فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نورٌ على نورٍ، وبعضها كدرةٌ ظلمانية، ويظهر فيها من القرآن ضلال عل ضلالٍ، ونكالٌ على نكالٍ. قوله: «أهْدَى» يجوز أن يكون من «اهْتدَى» ؛ على حذف الزوائد، وأن يكون من «هَدَى» المتعدِّي، وأن يكون من «هَدَى» القاصر، بمعنى «اهتدى» . وقوله «سَبِيلاً» تمييزٌ. [والمعنى:] فربُّكم أعلم بمن هو أوضح طريقاً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 372 قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} الآية. رُوِثَ أن اليهود قالوا لقريشٍ: اسألوا محمداً عن ثلاثةِ أشياء، فإن أجاب عن كلِّها، أو لم يجب عن شيءٍ، فليس بنبيٍّ، وإن أجاب عن اثنين، وأمسك عن الثَّالِث، فهو نبيٌّ؛ فاسألوا عن فتيةٍ فقدوا في الزَّمنِ الأوَّل، فما كان أمرهم؛ فإنهم كان لهم حديثٌ عجيبٌ؟ وعن رجلٍ بلغ مشرق الشَّمسِ، ومغربها، ما خبره؟ وعن الرُّوحِ؛ فسأله، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «غداً أخبركم» ولم يقل: إن شَاءَ الله، فانقطع عنه الوحي. قال مجاهدٌ: اثنتي عشرة ليلة، وقيل: خمسة عشر يوماً، وقال عكرمة: أربعين يوماً، وأهل مكَّة يقولون: وعدنا محمد غداً، وقد أصبحنا لا يخبرنا بشيءٍ، حتَّى حزن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكث الوحي، وشقَّ عليه ما يقول أهل مكَّة، ثم نزل الوحي بقوله: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} [الكهف: 23، 24] . ونزل في الفتية: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} [الكهف: 9] . ونزل فيمن بلغ المشرق والمغرب: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} [الكهف: 83] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 372 ونزل في الرُّوح: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} . قال ابن الخطيب: ومن النَّاس من [طعن] في هذه الرواية؛ من وجوه: أولها: قالوا: ليس الروح أعظم شأناً، ولا أعلى درجة من الله تعالى، فإن كانت معرفة الله تعالى حاصلة ممكنة، فأي مانعٍ يمنع من معرفة الروح؟ {. وثانيها: أن اليهود قالوا: إن أجاب عن قصَّة أهل الكهف، وقصَّة ذي القرنين، ولم يجب عن الروح، فهو نبيٌّ، وهذا كلامٌ بعيد عن العقلاء؛ لأن قصَّة أصحاب الكهف، وقصَّة ذي القرنين ليست إلا حكاية، والحكاية لا تكون دليلاً على النبوة. وأيضاً: فالحكاية التي يذكرها: إما أن تعتبر قبل العلم بنبوته، أو بعد العلم بنبوته. فإن كانت قبل العلم بنبوته، كذَّبوه فيها، وإن كانت بعد العلم بنبوته، فحينئذٍ: نبوَّتهُ معلومة؛ فلا فائدة في ذكر هذه الحكاية وأما عدم الجواب عن حقيقةِ الروح، فهذا يبعد جعله دليلاً على صحَّة النبوة. وثالثها: أنَّ مسألة الروح يعرفها أصاغر الفلاسفة، وأراذل المتكلِّمين، فلو قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنِّي لا أعرفُها» لأورث ذلك ما يوجبُ التَّحقيرَ، والتَّنفيرَ؛ فإنَّ الجهل بمثل هذه المسألة يفيد تحقير أيِّ إنسانٍ كان، فكيف الرسول الذي هو أعلم العلماءِ، وأفضل الفضلاء؟} . رابعها: أنه تعالى قال في حقِّه {الرحمن عَلَّمَ القرآن} [الرحمن: 1، 2] . وقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113] . وقال: {وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} [طه: 114] . وقال في [حقِّه، أي القرآن، وصفته] : {وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [الأنعام: 59] . وكان صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «أرني الأشياء كما هي» . فمن هذا حاله وصفته، أيليق به أن يقول: أنا لا أعرف هذه المسألة، مع أنَّها من المسائل المشهورة المذكورة عند جمهور الخلق؟ {. بل المختار عندنا: أنَّهم سألوه عن الروح، وأنه - صلوات الله عليه - أجابهم على أحسن الوجوه، وتقريره أن المذكور في الآية، أنهم سألوه عن الروح، والسؤال عن الروح يقع على وجوه كثيرة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 373 أولها: أن يقال: ماهية الروح، هل هي متحيِّز أو حالٌّ في المتحيِّز. وثانيها: أن يقال: الروح قديمة، أو حادثة؟ . وثالثها: أن يقالك الروح، هل تبقى بعد الأجسام، أو تفنى؟ . ورابعها: أن يقال: ما حقيقة سعادة الأرواح، وشقاوتها؟ . وبالجملة: فالمباحثُ المتعلقة بالروح كثيرة. وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} ليس فيه ما يدلُّ على أنَّهم سألوه عن أيِّ المسائل، إلا أنه تعالى ذكر في الجواب عن هذا السؤال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} وهذا الجواب لا يليقُ إلا بمسألتين من هذه المسائل التي ذكرناها: إحداهما: السؤال عن ماهية الروح. والأخرى: عن قدمها، أو حدوثها. أما البحث الأول: فهم قالوا: ما حقيقة الروح وماهيته؟} أهو أجسامٌ موجودة داخلة في البدنِ مولدةٌ من امتزاجِ الطبائع والأخلاط؟ أو هو عبارة عن نفس هذا المزاجِ والتركيب؟ أو هو عبارة عن عرض قائم بهذه الأجسام؟ أو هو عبارة عن موجودٍ يغاير هذه الأجسام، والأعراض؟ فأجاب الله عنه بأنَّه موجودٌ مغايرُ لهذه الأجسام، ولهذه الأعراض؛ وذلك لأن لهذه الأجسام، ولهذه الأعراض أشياء تحدثُ عن امتزاجِ الأخلاط والعناصر. وأمَّا الروح، فإنه ليس كذلك، بل هو جوهرٌ، بسيطٌ، مجردٌ، ولا يحدث إلا بمحدثٍ يقول له: «كن فيكون» ، فأجاب الله عنه بأنه موجود محدث بأمر الله وتكوينه، وتأثيره في إفادة الحياة بهذا الجسدِ، ولا يلزم من عدم العلم بحقيقته المخصوصة نفيه؛ فإنَّ أكثر حقائقِ الأشياءِ، وماهيَّاتها مجهولة؛ فإنَّا نعلم أنَّ السكنجبين له خاصيةٌ في قطع الصفراء؛ فأمَّا إذا أردنا أن نعرف ماهيَّة تلك الخاصِّيَّة، وحقيقتها المخصوصة، فذلك غير معلوم؛ فثبت أنَّ أكثر الحقائق مجهولةٌ، ولم يلزم من كونها مجهولة بعينها عدمُ العلم بخاصِّيَّتها، فكذا ها هنا؛ وهذا المراد بقوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} . وأما البحثُ الثاني: فهو أنَّ لفظ الأمرِ قد جاء بمعنى الفعل؛ قال تعالى: {وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ} [هود: 97] . وقال تعالى: {فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا} [هود: 82] أي: فعلنا. فقوله تعالى: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} . أي: من فعل ربِّي. وهذا الجواب يدلُّ على أنَّهم سألوه عن الروح، قديمة أو حادثة، فقال: بل حادثة، وإنما حصلت بفعل الله وتكوينه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 374 ثم احتجَّ على حدوثِ الرُّوحِ بقوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} . ثم استدلَّ بحدوثِ الأرواح بتغيُّرها من حال إلى حالٍ، وهو المراد بقوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} . وأما أقوال المفسِّرين في الروح المذكورة ها هنا: فقيل: الروح: القرآن؛ لأن الله تعالى سمَّى القرآن في هذه الآية، وفي كثيرٍ من الآيات روحًا؛ قال تعالى: {أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا} [الشورى: 52] . {يُنَزِّلُ الملاائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ} [النحل: 2] . ولأنَّ القرآن تحصل به حياة الأرواح والعقول؛ لأنَّ به تحصل معرفة الله تعالى، ومعرفة ملائكته، وكتبه، ورسله، والأرواح إنَّما يحصلُ إحياؤها بهذه المعارف، وتقدم قوله: {وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ} [الإسراء: 82] . وقال بعده: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} [الإسراء: 86] . إلى قوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء: 88] . فلما كان ما قبل هذه الآية في وصف القرآن، وما بعدها كذلك، وجب أن يكون المراد بالروح القرآن؛ حتَّى تكون آيات القرآن كلها متناسبة؛ لأن القوم استعظموا أمر القرآن، فسألوا: هل هو من جنس الشِّعر، أو من جنس الكهانة؟ فأجابهم الله تعالى بأنه ليس من جنس كلام البشر، وإنما هو كلامٌ ظهر بأمر الله، ووحيه، وتنزيله، فقال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} ، أي: القرآن إنما ظهر بأمر الله ربِّي، وليس من جنس كلامِ البشر. ورُوِيَ عن ابن عباس: أنه جبريل، وهو قول الحسن وقتادة؛ لقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين على قَلْبِكَ} [الشعراء: 193، 194] ؛ وقوله: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} [مريم: 17] . ويؤكده: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي} . وقال جبريل: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} [مريم: 64] . فسالوا الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: كيف جبريل في نفسه؟ وكيف يأتيه؟ وكيف يبلغ الوحي إليه؟ . وقال مجاهد: الرُّوحُ: خلق ليسوا من الملائكة، على صور بني آدم يأكلون، ولهم أيدٍ، وأرجلٌ، ورءوسٌ. وقال أبو صالحٍ: يشبهون الناس، وليسوا من النَّاس. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 375 فصل قال ابن الخطيب: ولم أجِدْ في القرآن، ولا في الأخبار الصحيحة شيئاً يمكنُ التمسُّك به بهذا القول. ورُوِيَ عن عليٍّ: أنَّه ملكٌ له سبعون ألف وجهٍ، لكلِّ وجهٍ سبعون ألف لسانٍ، لكلِّ لسانٍ سبعون ألف لغةٍ، يسبِّح الله تعالى بتلك اللغات، ويخلق الله تعالى من كلِّ تسبيحةٍ ملكاً يطير مع الملائكة، قالوا: ولم يخلق الله خلقاً أعظم من الروحِ غير العرشِ، ولو شاء أن يبتلع السَّموات السَّبع، والأرضين السبع، وما فيها بلقمةٍ واحدةٍ لفعله، صورة خلقه على صورة الملائكة، وصورة وجهه على صورة الآدميين، يقوم يوم القيامة عن يمين العرش، وهو أقرب الخلق إلى الله عزَّ وجلَّ اليوم عند الحجب السَّبعين، ويقرب إلى الله يوم القيامة، وهو يشفع لأهل التوحيد، ولولا أنَّ بينه وبين الملائكة ستراً من نورٍ، لاحترق أهل السموات من نوره. فصل في ضعف هذا القول قال ابن الخطيب: ولقائلٍ أن يقول: هذا القول ضعيفٌ؛ لوجوهٍ: الأول: أنَّ هذا التفصيل، إذا عرفه عليٌّ، فالنبي أولى بأن يعرفه، ويخبر به، وأيضاً: فإنَّ الوحي لم يكن ينزل على عليٍّ؛ فهذا التفصيل ما عرفه إلا من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؛ فَلِمَ ذكر النبي هذا الشَّرح لعليٍّ، ولم يذكره لغيره؟! . الثاني: أنَّ ذلك الملك، إن كان حيواناً واحداً، وعاقلاً واحداً، فلا فائدة في تكثير تلك اللغات، وإن كان المتكلِّم بكلِّ لغةٍ ملكاً؛ فهذا مجموعُ ملائكة. الثالث: أنَّ هذا شيء مجهول الوجود، فكيف يسال عنه؟ أما الروح الذي هو سبب الحياة، فهو شيء تتوفَّر دواعي العقلاء على معرفته؛ فصرف هذا السؤال إليه أولى. وقيل: الرُّوحُ: عيسى؛ فإنَّه روح الله، وكلمته، والمعنى: أنَّه ليس كما يقوله اليهود، ولا كما يقوله النصارى. وقال قومٌ: هو الرُّوحُ المركَّب في الخلق الذي يحيا به الإنسان، وهو الأصحُّ. واختلفوا فيه؛ فقال بعضهم: هو الدم؛ ألا ترى [أنَّ الإنسان] ، إذا مات لا يفوتُ منه إلا الدمُ. وقال قومٌ: هو نفس الحيوان؛ بدليل أنَّه يموت باحتباس النفس. وقال قومٌ: هو عرضٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 376 وقال قومٌ: هو جسم لطيف. وقال بعضهم: الروح معنى اجتمع فيه النُّور، والطِّيب، والعلوُّ، والعلم، والبقاء؛ ألا ترى أنه إذا كان موجوداً، يكون الإنسان موصوفاً بهذه الصفات [جميعها] ، وإذا خرج ذهب الكلُّ؟! . فصل في شرح مذاهب القائلين بأنَّ الإنسان جسم موجود، روح في داخل البدن. قال ابن الخطيب: اعلم أن الأجسام الموجودة في هذا العالم السفليِّ: إما أن تكون أحد العناصر الأربعة، أو ما يكون متولِّداً من امتزاجها، ويمتنع أن يحصل في البدنِ الإنسانيِّ جسمٌ عنصريٌّ خالصٌ، بل لا بدَّ وأن يكون الحاصل جسماً متولِّداً من امتزاجات هذه الأربعة. فنقول: أمَّا الجسم الذي تغلب عليه الأرضية: فهو الأعضار الصُّلبة الكثيفة؛ كالعظم، والعروق، والغُضروف، والعصب، والوتر، والرِّباطاتِ لهذا الجسم، واللَّحم والجلد، ولم يقل أحد من العقلاء الذين قالوا: إنَّ الإنسان بمعنى: روح مغاير لهذا الجسد، بأنَّه عبارة عن عضوٍ معيَّن من هذه الأعضاء؛ وذلك لأنَّ هذه الأعضاء ثقيلة، كثيفة، ظلمانيَّة، لم يقل أحد من العقلاء بأنَّ الإنسان عبارةٌ عن أحد هذه الأعضاء. وأما الجسم الذي تغلب عليه المائية؛ فهو الأخلاط الأربعة ولم يُقَلْ في شيءٍ منها: إنَّه الإنسان إلاَّ في الدَّم؛ فإنَّ فيهم من قال: هو الرُّوح؛ بدليل أنَّه، إذا خرج، لزم الموت. وأمَّا الجسم الذي تغلب عليه الهوائية، والنارية؛ فهو الأرواح: وهي نوعان: أجسامٌ هوائية مخلوطة بالحرارةِ الغريزيّة، متولِّدة: إمَّا في القلب، أو في الدِّماغ، وقالوا: إنما هي الروح الإنسانيُّ، ثمَّ اختلفوا. فمنهم من يقول: هو الرُّوح الذي في القلب. ومنهم من يقول: إنَّه جزءٌ لا يتجزَّأ في الدِّماغ. ومنهم من يقول: الرُّوحُ عبارة عن أجزاءٍ ناريَّة مختلطة بهذه الأرواح القلبيَّة، والدِّماغيَّة، وتلك الأجزاء النارية: هي المسمَّاة بالحرارة الغريزيَّة، وهي الإنسان. ومن النَّاس من يقول: الروح عبارةٌ عن أجسام نورانيَّةٍ، سماويةٍ، لطيفة الجوهر، على طبيعة ضوءِ الشَّمس، وهي لا تقبلُ التحلُّل، والتبدُّل، ولا التفرُّق، والتمزُّق؛ وهو المراد بقوله: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29] نفذت تلك الأجسام الشَّريفة السماوية الإلهيَّة في داخل أعضاء البدنِ نفاذ النَّار في الفحم، ونفاذ دهن السِّمسم في السِّمسم، ونفاذ دهن الورد في جسمِ الورد؛ وهو المراد من قوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29] . ثم إنَّ البدن ما دام سليماً، قابلاً لنفاذ تلك الأجسام الشريفة، بقي حيًّا، فإذا تولَّد الجزء: 12 ¦ الصفحة: 377 في البدن أخلاطٌ غليظةٌ، منعت من سريان تلك الأجسام الشريفة فيها، فانفصلت عن هذا البدن؛ فحينئذ: يعرض الموت. قال: فأمَّا أنَّ الإنسان جنسٌ موجودٌ خارج البدن، فلا أعرف أحداً ذهب إلى هذا القول. فصل في الاحتجاج على أن الروح ليست بجسم ولا عرض احتجَّ ابن الخطيب لمسمَّى الروح بأنها ليست بجسمٍ، ولا عرضٍ، وأنها غير البدن؛ بوجوه كثيرة عقليَّة ونقليَّة. قال ابن الخطيب: منها أنَّ العلم البديهيَّ حاصل بأن أجزاء هذه الجثَّة متبدلة بالزِّيادةِ والنُّقصانِ، والمتبدل مغاير للثَّابت. ومنها: أنَّ الإنسان حال كونه مشتغلاً بفكره في شيءٍ معيَّن، فإنه في تلك الحالة يكونُ غافلاً عن جميع أجزاء بدنه، وغير غافل عن نفسه؛ فوجب أن يكون الإنسان مغايراً لبدنه. ومنها: قول الإنسان: رأسي، وبدني، وعيني، ويضيف كل عضو إلى نفسه، والمضاف غير المضاف إليهز فإن قيل: قد يقول: نفسي وذاتي فيضيف الذات والنفس إلى [نفسه] ؛ فيلزم أن يكون الشيء وذاته مغايرة لنفسه، وهو محالٌ، قلنا: قد يريد بنفس الشيء وذاته الحقيقة المخصوصة التي يشير إليها كلُّ أحدٍ بقوله: أنا فلانٌ، فغذا قال: نفسي، وذاتي، كان المراد البدن، وهو مغاير للإنسان، أمَّا إذا أريد بالنَّفس والذَّات الحقيقة المخصوصة المشار إليها بقوله: أنا فلانٌ، ثم إنَّ الإنسان يكنه أن يضيف ذلك إلى نفسه بقوله: إنَّه لي. ومنها: أنَّ الإنسان قد يكون حيًّا، حال موت البدن؛ لقوله تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ} [آل عمران: 169] . والحِسُّ يرى الجسد ميِّتاً. وقال تعالى: {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً} [غافر: 46] . وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: « [» أنبياء الله لا يموتون «] » . وقال - عليه السلام -: «إذَا حُمِلَ الميِّتُ على نعشِه، [رفرف] روحه فوق النَّعشِ، ويقول: يا أهْلِي، ويَا ولَدِي» . وقال تعالى: {ياأيتها النفس المطمئنة ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً} [الفجر، 27، 28] . ومنها: أن الإنسان، إذا قطعت يداه ورجلاه، لم ينقص من عقله، وفهمه شيء. ومنها: الذين مسخهم الله قردة وخنازير؛ فإن لم يكن ذلك الإنسان حيًّا، وإلاَّ لكان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 378 ذلك المسخُ إماتة لذلك الإنسان، وخلقاً لذلك الخنزير. ومنها: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان يرى جبريل في صورة دحية، ويرى إبليس في صورة الشَّيخِ النجديِّ. ومنها: العضو، وهذا يدل على أن الإنسان شيء غير الجسد، وأنَّ الزَّاني يزني بفرجه؛ فيضرب على ظهره؛ فيلزم أن يكون الإنسانُ شيئاً آخر، سوى الفرج، وسوى الظَّهر، وهو شيء يستعمل الظهر في عمل، والفرج في عمل؛ فيكون المتلذذ المتألم هو ذلك الشيء بواسطة ذلك العضو، وكل هذا يدل على أن الإنسان شيء غير الجسد. ثم قال: واحتج المنكر بثلاثة أوجه: الأول: لو كانت مساوية لذات الله في كونه ليس بجسم ولا عرض لكانت مساوية له في تمام الماهية، وذلك محال. الثاني: قوله تعالى: {قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 17 - 22] . وهذا تصريحٌ بأنَّ الإنسان شيء مخلوق من النُّطفة، وأنه يموت، ويدخل القبر، ثم إنَّه تعالى يخرجه من القبر، ولو لم يكن الإنسان عبارة عن هذه الجثَّة، وإلاَّ لم تكن الأحوال المذكورة في هذه الآية صحيحة. الثالث: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً} [آل عمران: 169] إلى قوله: {فَرِحِينَ} [آل عمران: 170] . وهذا يدلُّ على أنَّ الروح جسم؛ لأنّ الارتزاق والفرح من صفات الأجسام. والجواب عن الأوَّل: أنَّ المساواة في أنَّه ليس بمتحيِّز، ولا حالٍّ في المتحيِّز مساواةٌ في صفةٍ سلبيةٍ، والمساواة في الصِّفة السلبيَّة لا توجبُ المماثلة. واعلم: أنَّ جماعة من الجهَّال يظنُّون أنَّه لما كان الروح موجوداً ليس بمتحيِّز، ولا حالٍّ في المتحيز، وجب أن يكون مثلاً للإله، أو جزءاً له، وذلك جهلٌ فاحشٌ، وغلطٌ قبيحٌ. وتحقيق القولك ما ذكرناه من أنَّ المساواة في السُّلوب، لو أوجبت المماثلة، لوجب القول باستواءِ كلِّ المخالفات؛ فإنَّ كل ماهيَّتينِ مختلفتين، لا بدَّ وأن يشتركا في سلب ما عداهما عنهما، فليتفكر في هذه الدقيقة؛ فإنَّها مغلطةٌ عظيمةٌ للجهَّال. والجوابُ عن الثاني: أنه لمَّا كان الاتِّصافُ في العرف والظَّاهر عبارة عن هذه الجثَّة أطلق عليه اسم الإنسان. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 379 وأيضاً: لقائل أن يقول: هَبْ أنَّا نجعلُ اسم الإنسان عبارة عن هذه الجثَّة، إلاَّ أنَّ قد دلَّلنا أنَّ محلَّ العلم والقدرة ليس هو الجثَّة. والجواب عن الثالث: أنَّ الرِّزْقَ المذكور في الآية محمولٌ على ما يقوِّي حالهم ويكمل كمالهم، وهو معرفةُ الله ومحبَّته. بل نقول: هذا من أدلِّ الدلائلِ على صحَّة قولنا؛ لأنَّ أبدانهم قد بليت في التُّراب، والله يقول: «إنَّ أرواحهم تأوي في قناديل معلقة تحت العرش» وهذا يدلُّ على أنَّ الروح غير البدن. قوله: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} . أي: في جنب علم الله تعالى. قال المفسِّرون: هذا خطابٌ لليهود، وذلك أنَّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لمَّا قال لهم ذلك، قالوا: نحن مختصُّون بهذا الخطاب، أم أنت معنا؟ فقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «بل نحن وأنتم لم نؤت من العلم إلا قليلاً» ، فقالوا ما أعجب شأنك، يا محمد؛ ساعة تقول: {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] . وساعة تقول هذا، فنزل قوله: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ} [لقمان: 27] . وما ذكروه ليس بلازمٍ؛ لأنَّ الشيء قد يكون قليلاً بالنِّسبة إلى علم الله تعالى، وبالنسبة غلى حقائق الأشياء، ولكنَّها كثيرة بالنسبة إلى الشَّهوات الجسمانيَّة، واللذَّات الجسدانية. وقيل: هذا خطابٌ للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يعلم معنى الرُّوح، ولم يخبرْ به أحداً؛ لأنَّ ترك إخباره كان علماً لنُبوَّتهِ، وقد تقدَّم الكلام على ذلك، قال البغوي: الأصحُّ: أن الله تعالى استأثر بعلمه. قوله: {مِّن العلم} : متعلق ب «أوتيتم» ، ولا يجوز تعلُّقه بمحذوفٍ على أنه ح ال من «قَلِيلاً» ؛ لأنَّه لو تأخَّر، لكان صفة؛ لأنَّ ما في حيِّز «إلاَّ» لا يتقدَّم عليها. وقرأ عبد الله، والأعمش «ومَا أوتُوا» بضمير الغيبة. قوله تعالى: {وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بالذي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} الآية. لما ذكر أنَّه ما آتاهم من العلم إلاَّ قليلاً، قال ها هنا: إنه لو شاء أن يأخذ منهم ذلك القليل، لقدر عليه، وذلك بأن يمحو حفظه من القلوب، وكتابته من الكتب، والمراد بالذي أوحينا إليك القرآن. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 380 واحتج الكعبي بهذه الآية الكريمة بأنَّ القرآن مخلوقٌ؛ فقال: الذي يقدر على إزالته والذَّهاب به يستحيل أن يكون قديماً، بل يجب أن يكون محدثاً. وأجيب بأن يكون المراد بهذا الإذهاب إزالة العلم به عن القلوب، وإزالة النَّقش الدَّال عليه من المصحف؛ وذلك لا يوجبُ كون ذلك المصكوكِ المدلول محدثاً. فصل في كيفية رفع القرآن آخر الزمان قال عبد الله بن مسعود: اقرءوا القرآن قبل أن يرفع؛ فإنَّه لا تقوم الساعة حتَّى يرفع، قيل: هذه المصاحف ترفع، فكيف بما في صدور النَّاس؟ قال: يسري عليه ليلاً، فيرفع ما في صدورهم، فيصبحون لا يحفظون شيئاً، ولا يجدون ف يالمصاحف شيئاً، ثم يفيضون في الشِّعر. وعن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: لا تقوم السَّاعة حتَّى يرفع القرآن من حيثُ نزل، لهُ دويٌّ حول العرشِ، كدويِّ النَّحلِ؛ فيقول الربُّ: ما لك؟ فيقول: يا ربِّ، أتلى، ولا يعمل بي. ثم قال: {ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً} أي: لا تجدُ من تتوكَّل عليه في ردِّ شيءٍ منه. قوله تعالى: {إِلاَّ رَحْمَةً} : قيل: استثناء متصل؛ لأنها تندرج في قوله «وَكِيلاً» والمعنى: إلاَّ أن يرحمك ربُّك؛ فيردَّه عليك. وقيل: إنه استثناء منقطع، فتتقدر ب «لَكِنْ» عند البصريين، و «بَلْ» عند الكوفيين. والمعنى: إلا رحمة من ربِّك؛ إذ كل رحمة من ربِّك تركته غير مذهوب به، أي: لكن لا يشاء ذلك رحمة من ربِّك، وهذا امتنانٌ من الله؛ وهو نوعان: الأول: تسهيل ذلك العلم عليه. والثاني: إبقاء حفظه عليه. قوله «مِنْ ربِّكَ» يجوز أن يتعلق ب «رَحْمةً» وأن يتعلق بمحذوفٍ، صفة لها. ثم قال: {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} . بسبب إبقاء العلم والقرآنِ عليك، وقيل: بسببِ أنَّه جعلك سيِّد ولد آدم، وختم بك النَّبيِّين، وأعطاك المقَام المحمود، فلما كان كذلك، لا جرم أنعم عليك بإبقاء العلم والقرآن عليك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 381 قوله: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن} الآيات، وقد تقدَّم الكلام على مثلِ هذه الآية. فصل قال بعضهم: هب أنَّه ظهر عجز الإنسانِ عن معارضته؛ فكيف عرفتُم عجز الجنِّ؟ وأيضاً: فلم لا يجوز أن يقال: إن هذا الكلام نظم الجنِّ، ألقوهُ على محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وخصُّوه به على سبيل السَّعي في إضلال الخلق؟ فعلى هذا: إنَّما تعرفون صدق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا عرفتم أنَّ محمَّداً صادق في قوله: إنَّه ليس من كلام الجنِّ، بل من كلامِ الله تعالى؛ وحينئذٍ: يلزم الدور، وليس لأحدٍ أن يقول: كيف يعقل أن يكون هذا من قول الجنِّ؛ لأنا نقول: إنَّ هذه الآية دلَّت على وقوعِ التحدِّي من الجنِّ، وإنما يحسن وقوعُ هذا التحدِّي، لو كانوا فصحاء بلغاء، ومتى كان الأمرُ كذلك، كان الاحتمال المذكور قائماً. فالجواب عن الأوَّل: بأنَّ عجز البشر عن معارضته يكون في إثبات كونه معجزاً. وعن الثاني: أنَّ ذلك، لو وقع، لوجب في حكمة الله: أن يظهر ذلك التَّلبيسُ، وحيث لم يظهر ذلك، دلَّ على عدمه، وعلى أنَّ الله تعالى أجاب عن هذه الأسئلةِ بالأجوبة الشَّافية في آخر سورة الشعراء؛ في قوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221 - 222] وسيأتي بيانه - إن شاء الله تعالى -. قالت المعتزلة: هذه الآية تدلُّ على أنَّ القرآن مخلوقٌ؛ لأنَّ التحدِّي بالقديم محالٌ، وقد تقدَّمت هذه الآية في سورة البقرة. قوله: {لاَ يَأْتُونَ} : فيه وجهان: أظهرهما: أنه جوابٌ للقسمِ الموطَّأ له باللام. والثاني: أنه جواب الشرط، واعتذروا به عن رفعه بأنَّ الشرط ماضٍ؛ فهو كقوله: [البسيط] 3462 - وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ ... يَقولُ لا غَائبٌ مَالِي ولا حَرِم واستشهدوا عليه بقول الأعشى: [البسيط] 3463 - لَئِنْ مُنِيتَ بِنَا عَنْ غِبِّ مَعْركةٍ ... لا تُلْفِنَا مِنْ دِمَاءِ القَوْمِ نَنْتَفِلُ فأجاب الشرط مع تقدُّمِ لام التوطئة، وهو دليلٌ للفراء، ومن تبعه على ذلك، وفيه ردٌّ على البصريِّين، حيث يحتَّمون جواب القسمِ عند عدمِ تقدم ذي خبرٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 382 وأجاب بعضهم أنَّ اللام في البيت ليست للتوطئةِ، بل مزيدةٌ؛ وهذا ليس بشيء؛ لأنه لا دليل عليه، وقال الزمخشريُّ: «لولا اللام الموطِّئةُ؛ لجاز أن يكون جواباً للشرط؛ كقوله: [البسيط] 3464 - ... ... ... ... ... ... ... . ... يَقُولُ لا غَائِبٌ ... ... ... ... لأنَّ الشرط وقع ماضياً «. وناقشه أبو حيَّان: بأنَّ هذا ليس مذهب سيبويه، ولا الكوفيين والمبرِّد؛ لأنَّ مذهب سيبويه في مثله: أن النية به التقديم، ومذهب الكوفيين، والمبرِّد: أنه على حذف الفاء، وهذا مذهب ثالثٌ، قال به بعضُ الناس. قوله:» ولَوْ كَانَ «جملةٌ حاليةٌ، وتقدَّم تحقيق هذا، وأنه كقوله - عليه السلام -:» أعطُوا السَّائل، ولو جَاء على فَرسٍ «، و» لبَعْضٍ «متعلقٌ ب» ظَهِيراً «. فصل في معنى الآية والمعنى: لو كان بعضهم لبعض عوناً، ومظاهراً، نزلت حين قال الكفَّار: ولو شئنا لقلنا مثل هذا، فكذَّبهم الله - عَزَّ وَجَلَّ َّ - فالقرآن معجزٌ في النَّظم، والتَّأليف، والإخبار عن الغيوب، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة، لا يشبه كلام الخلق؛ لأنَّه غير مخلوقٍ، ولو كان مخلوقاً، لأتوا بمثله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 383 قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} الآية. {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} : مفعول محذوف، وقيل: «مِنْ» زائدة في «مِنْ كلِّ مَثلٍ» وهو المفعول، قاله ابن عطية، وهو مذهب الكوفيين والأخفش. وقرأ الحسن: «صَرَفْنَا» بتخفيف الراء، وتقدَّم نظيره. فصل في ذكر الوجوه المحتملة في هذا الكلام هذا الكلام يحتمل وجوهاً: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 383 احدها: أنه وقع التحدِّي بكلِّ القرآن؛ كما في هذه الآية، ووقع التحدِّي بسورة واحدة؛ كما في قوله: {فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} [الطور: 34] فقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ} يحتمل أن يكون المراد منه التحدِّي؛ كما شرحناه، ثم إنهم مع ظهور عجزهم عن جميع هذه المراتب، صاروا مصرِّين على كفرهم. وثانيها: أن يكون المراد من «من كُلِّ مثلٍ» : أنَّا أخبرناهم بأنَّ الذين بقوا مصرِّين على الكفر؛ مثل قوم نوحٍ، وعادٍ، وثمود - ابتلاهم الله بأنواع البلاء - وشرحنا هذه الطريقة منراراً - ثم إنَّ هؤلاء الأقوام - يعني أهل مكَّة - لم ينتفعوا بهذا البيان، بل اصرُّوا على الكفر. وثالثها: أن يكون المراد من «مِنْ كلِّ مثلٍ» : مِنْ كلِّ وجهٍ من العبر، والأحكام والوعد، والوعيد، وغيرها. ورابعها: أن يكون المراد ذكر دلائل التوحيد، ونفي الشركاء في هذا لقرآن مراراً كثيرة، وذكر شبهات منكري النبوَّة، والمعاد؛ وأجاب عنها، ثمَّ أردفها بذكر الدَّلائل القاطعة على صحَّة النبوة، والمعاد، ثم إنَّ هؤلاء الكفَّار لم ينتفعوا بسماعها، بل بقوا مصرِّين على الشِّرك، وإنكار النُّبوَّة. قوله: «إلاَّ كُفوراً» مفعول به، وهو استثناءٌ مفرَّغ؛ لأنَّه في قوة: لم يفعلوا إلاَّ الكفور. والمعنى: {فأبى أَكْثَرُ الناس} يعني: أهل مكَّة، {إِلاَّ كُفُوراً} أي: جحوداً للحقِّ. فإن قيل: كيف جاز: {فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً} ولا يجوز أن يقال: ضربتُ إلا زيداً؟ . فالجواب: إنَّ لفظة: «أبَى» تفيد النَّفي؛ كأنه قيل: فلم يؤمنوا إلا كفوراً. قوله: {وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ} الآية. قرأ الكوفيُّون [ «تَفْجُرَ» ] بفتح التَّاء، وسكون الفاء، وضم الجيم خفيفة، مضارع «فَجَرَ» واختاره أبو حاتم؛ قالوا: لأنّ الينبوع واحدٌ، والباقون، بضمِّ التاء، وفتح الفاء، وكسر الجيم شديدة، مضارع «فجَّر» ، للتكثير، ولم يختلفوا في الثانية: أنَّها بالتثقيل للتصريح بمصدرها، وقرأ الأعمش «تُفْجِرَ» بضمِّ التاء، وسكون الفاء، وكسر الجيم خفيفة، مضارع «أفْجرَ» بمعنى «فَجرَ» فليس التضعيفُ، ولا الهمزة معدِّيينِ. فمن ثقَّل، أراد كثيرة الانفجار من الينبوع، وهو وإن كان واحداً، فلكثرة الانفجار فيه سحين أن يثقَّل؛ كما تقول: ضرَّب زيدٌ، إذا كثر الضَّربُ منه؛ لكثرة فعله، وإن كان الفاعل واحداً، ومن خفَّف؛ فلأن الينبوع واحدٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 384 و «يَنْبُوعاً» مفعول به، ووزنه «يَفعُولٌ» ؛ لأنه من النَّبعِ، واليَنبُوعُ: العين تفور من الأرض. فصل فيما يثبت صدق النبوة اعلم أنَّه تعالى لمَّا بيَّن بالدليل كون القرآن معجزاً، وظهر هذا المعجز على وفق دعوى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، فحينئذٍ: تمَّ الدليل على كونه نبيًّا صدقاً؛ لأنَّا نقول: إن محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ادَّعى النبوة، وأظهر المعجزة على وفق دعواه، وكلُّ من كان كذلك، كان نبيًّا صادقاً؛ فهذا يدلُّ على أنَّ محمداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ صادقٌ، وليس من شرط كونه نبيًّا صادقاً تَواترُ المعجزات الكثيرة، وتواليها؛ لأنَّا لو فتحنا هذا الباب، للزم ألاَّ ينقطع فيه، وكلما أتى الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بمعجز، اقترحوا عليه معجزاً آخر، ولا ينتهي الأمر فيه إلى حدِّ ينقطع عنده عناد المعاندين؛ لأنَّه تعالى حكى عن الكفَّار: أنهم بعد أن ظهر كون القرآن معجزاً، التمسُوا من الرسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - ستَّة أنواعٍ من المعجزات الباهرات، كما روى عكرمة، عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «أنَّ رؤساء أهل مكَّة، سألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهم جلوسٌ عند الكعبة، فقالوا: يا محمد، إنَّ أرض مكَّة ضيقةٌ، فسير جبالها؛ لننتفع فيها، وفجِّر لنا ينبوعاً، أي: نهراً، وعيوناً نزرع فيها، فقال:» لا أقدر عليه «. فقال قائلٌ منهم: أو يكون لك جنّة من نخيل وعنبٍ فتفجّر الأنهار خلالها تفجيراً، فقال:» لا أقْدرُ عَليْهِ «فقيل: أو يكون لك بيتٌ من زخرفٍ، اي: من ذهبٍ، فيُغْنِيكَ عَنَّا، فقال:» لا أقدِرُ عَليْهِ «فقيل له: أما تَسْتطِيعُ أن تَأتي قوْمكَ بِمَأ يسْألُونكَ؟ فقال: لا أسْتطِيعُ، فقالوا: فإذا كنت لا تَسْتطِيعُ الخير، فاسْتطعِ الشَّر، فأرسل السَّماء؛ كما زَعمْتَ، عَليْنَا كِسَفاً» . قرأ العامة «تُسْقِطَ» بإسناد الفعل للمخاطب، و «السَّماء» مفعول بها، ومجاهد على إسناده إلى «السَّماء» فرفعها به. وقرأ نافع، وابن عامرٍ، وعاصم «كِسَفاً» هنا، بفتح السِّين، وفعل ذلك حفصٌ في الشعراء [الآية: 187] وفي سبأ [الآية: 9] ، والباقون يسكنونها في المواضع الثلاثة، وقرأ ابن ذكوان بسكونها في الروم [الآية: 48] ؛ بلا خلافٍ، وهشام عنه الوجهان، والباقون بفتحها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 385 فمن فتح السين، جعله جمع كسفةٍ؛ نحو: قِطعَةٍ وقِطَع، وكِسْرةٍ وكِسرٍ، ومن سكَّن، جعله جمع كسفة أيضاً على حدِّ: سِدْرةٍ وسِدْرٍ، وقِمْحَةٍ وقِمَحٍ. وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين آخرين: أحدهما: أنه جمعٌ على «فَعَلٍ» بفتح العين، وإنما سكِّن تخفيفاً، وهذا لا يجوز؛ لأنَّ الفتحة خفيفة يحتملها حرف العلة، حيث يقدر فيه غيرها، فكيف بالحرف الصحيح؟ . قال: والثاني: أنه «فَعْلٌ» بمعنى «مَفْعُولٍ» ؛ ك «الطحْن» بمعنى «مَطْحُون» ؛ فصار في السكون ثلاثة أوجهٍ. وأصل الكسفِ: القطع، يقال: كسَفْتُ الثَّوبَ قطعته؛ وفي الحديث في قصَّة سليمان مع الصَّافناتِ الجياد: أنه «كَسَفَ عَراقِيبهَا» ، أي: قطعها. فصل في معنى الكسف قال اللَّيثُ: الكسف: قطع العرقوب، قال الفرَّاء: وسمعتُ أعرابيًّا يقول لبزَّاز: أعطني كسفةً، وقال الزجاج: «كَسفَ الشيء بمعنى غَطَّاهُ» ، قيل: ولا يعرفُ هذا لغيره. وانتصابه على الحال في القراءتين فإن جعلناه جمعاً، كان على حذفِ مضاف، أي: ذات كسفٍ، وإن جعلناه «فِعْلاً» بمعنى «مَفعُول» لم يحتج إلى تقدير، وحينئذ: فإن قيل لِمَ لمْ يُؤنَّث؟ فالجواب: لأنَّ تأنيثه أعني: السَّماء غير حقيقيٍّ، أو بأنها في معنى السَّقف. قوله: «كَمَا زعَمْتَ» : نعت لمصدر محذوف، أي: إسقاطاً مثل مزعومك؛ كذا قدَّره أبو البقاء. فصل في المراد بالآية قال عكرمة: {كَمَا زَعَمْتَ} ، يا محمد: أنَّك نبيٌّ، «فأسْقِط» السماء علينا كسفاً. وقيل: كما زعمت أن ربَّك إن شاء فعل، وقيل: المراد قوله: {أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} [الإسراء: 68] . فقيل: اجعل السَّماء قطعاً متفرقة؛ كالحاصب، وأسقطها علينا. قوله: {أَوْ تَأْتِيَ بالله والملاائكة قَبِيلاً} . القَبِيلُ: بمعنى: المقابل؛ كالعشير، بمعنى: المُعاشِر. وقال ابن عباس: فوجاً بعد فوجٍ. وقال الليث: كلُّ جندٍ من الجنِّ والإنسِ قبيلٌ، وقيل: كفيلاً، أي ضامناً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 386 قال الزجاج: يقال: قبلتُ به أقبل؛ كما يقال: كفلت به أكفل، وعلى هذا: فهو واحدٌ أريد به الجمعُ؛ كقوله: {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69] ، وقال أبو عليِّ: معناه المعاينة؛ كقوله تعالى: {لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا} [الفرقان: 21] . قوله: «قَبِيلاً» [حالٌ من «الله، والمَلائِكَةِ» أو من أحدهما، والآخر محذوفة حاله، أي: بالله قبيلاً، والملائكة قبيلاً؛] كقوله: [الطويل] 3465 - ... ... ... ... . كُنْتُ مِنهُ ووالِدي ... بَرِيئاً ... ... ... ... ... وكقوله: [الطويل] 3466 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... فَإنِّي وقيَّارٌ بِهَا لغَرِيبُ ذكره الزمخشريُّ، هذا إذا جعلنا «قَبِيلاً» بمعنى كفيلاً، أي: «ضَامِناً» أو بمعنى «معاينة» كما قاله الفارسي، وإن جعلناه بمعنى «جَماعَة» كان حالاً من «المَلائِكَة» . وقرأ الأعرج «قِبَلاً» من المقابلة. قوله {ترقى} : فعل مضارع [منصوبٌ] تقديراً؛ لأنه معطوفٌ على «تَفْجُرَ» ، أي: أو حتَّى ترْقَى في السَّماء، [أي:] في معارجها، والرقيُّ: الصعود، يقال: رَقِيَ، ببالكسر، يرقى، بالفتح، رقيًّا على فعولٍ، والأصل: «رُقُوي» فأدغم بعد قلب الواو ياء، ورقياً بزنة ضربٍ، قال الراجز: [الرجز] 3467 - أنْتَ الَّذي كَلَّفتَنِي رقْيَ الدَّرجْ ... عَلى الكَلالِ والمَشِيبِ والعَرجَ قوله تعالى: {نَّقْرَؤُهُ} يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن يكون نعتاً ل «كتاباً» . والثاني: أن يكون حالاً مِنْ «نَا» في «عَليْنَا» ؛ قاله أبو البقاء، وهي حال مقدرة؛ لأنهم إنما يقرؤونه بعد إنزاله، لا في حال إنزاله. فصل في سبب نزول الآية قال المفسرون: لمّا قال المشركون: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا} الآيات، قام رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقام معهُ عبدُ الله بن أميَّة، وهو ابنُ عمَّته عاتكة بنت عبد المطلب، فقال: يا محمد، عرض عليك قومُك ما عرضُوا، فلم تقبلهُ منهم، ثمَّ سألوكَ لأنفسهم أموراً يعرفون بها منزلتك من الله تعالى، فلم تفعل، ثمَّ سألوك أن تعجِّل ما تُخوِّفهم به، فلم تفعل، فوالله لا أومن بك حتَّى تتَّخذ إلى السَّماء سلَّماً ترقى فيه، وأنا أنظر حتَّى تأتيها، وتنزل بنُسخةٍ منشورةٍ، ومعك نفرٌ من الملائكةِ يشهدون لك بما تقولُ. وأيم الله، لو فعلت ذلك، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 387 لظننتُ أنِّي لا أصدِّقك، فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسل حزيناً لما يرى من مباعدتهم. ثم قال تعالى: قل، يا محمد: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} أمره بتنزيهه، وتمجيده، أي: أنَّه لو أراد أن ينزل ما طلبوا، فلعل، ولكن لا ينزل الآيات على ما يقترحه البشر. واعلم أنَّه تعالى قد أعطى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من الآياتِ والمعجزات ما يغني عن هذا كلِّه مثل القرآن، وانشقاق القمر، وتفجير العيون من بين الأصابع، وما أشبهها، والقوم عامَّتهم كانوا متعنِّتين، لم يكن قصدهم طلب الدَّليل؛ ليؤمنوا، فردَّ الله عليهم سؤالهم. قوله: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي} قرأ ابن كثير، وابن عامرٍ «قال» فعلاً ماضياً؛ إخباراً عن الرسول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بذلك، والباقون «قُلْ» على الأمر أمراً منه تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بذلك، وهي مرسومة في مصاحف المكيين والشاميين: «قال» بألف، وفي مصاحف غيرهم «قل» بدونها، فكل وافق مصحفه. قوله: {إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} يجوز أن يكون «بَشَراً» خبر «كُنْتُ» و «رَسُولاً» صفته، ويجوز أن يكون «رَسُولاً» هو الخبر، و «بَشَراً» حال مقدمة عليه. فصل في استدلالهم بهذه الآية استدلُّوا بهذه الآية على أن المجيء على الله والذهاب محالٌ؛ لأنَّ كلمة «سبحان» للتنزيه عمَّا لا ينبغي. فقوله: {سُبْحَانَ رَبِّي} : تنزيه لله تعالى عن شيءٍ لا يليقُ به، وذلك تنزيهُ الله عما نسب إليه ممَّا تقدَّم ذكره، وليس فيما تقدَّم ذكره شيء مما لا يليقُ بالله إلا قولهم: أو تأتي بالله، فدلَّ على أنَّ قوله: «سُبحانَ ربِّي» تنزيهٌ لله تعالى أن يتحكَّم عليه المتحكِّمون في الإتيان، والمجيء؛ فدلَّ ذلك على فساد قول المشبهة. فإن قالوا: لِمَ لا يجوز أن يكون المراد تنزيه الله تعالى أن يتحكَّم عليه المتحكِّمون في اقتراح الأشياء؟ . فالجواب: أنَّ القوم لم يتحكَّموا على الله، وإنما قالوا للرسول: إن كنت نبيًّا صادقاً، فاطلب من الله أن يشرِّفك بهذه المعجزات، فالقوم إنَّما تحكَّموا على الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا على الله، فلا يليقُ حمل قوله: {سُبْحَانَ رَبِّي} على هذا المعنى، فيجب حمله على قولهم {أَوْ تَأْتِيَ بالله} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 388 فصل في تقرير هذا الجواب اعلم أنَّ تقرير هذا الجواب: أن يقال: إما أن يكون مرادكم من هذا الاقتراح أنَّكم طلبتم الإتيان من عند نفسي بهذه الأشياء، أو طلبتم منِّي أن أطلب من الله إظهارها على يديَّ؛ لتدلَّ لكم على كوني رسولاً حقًّا من عند الله. والأول باطلٌ؛ لأنِّي بشر، والبشر لا قدرة له على هذه الأشياء. والثاني أيضاً: باطل؛ لأنِّي قد أتيتكم بمعجزة واحدة، وهي القرآن، فطلب هذه المعجزات طلبٌ لما لا حاجة إليه، وكان طلبها يجري مجرى التعنُّت والتحكُّم، وأنا عبدٌ مأمورٌ ليس لي أن أتحكَّم على الله؛ فسقط هذا السؤال؛ فثبت كونُ قوله: {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً} جواباً كافياً في هذا الباب. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 389 قوله: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا} الاية. لمَّا حكى الله تعالى شبهة القوم في اقتراح المعجزات الزَّائدة، وأجاب عنها حكى شبهة أخرى وهي أنهم استبعدوا أن يبعث الله للخقل رسولاً من البشرِ، بل اعتقدوا أنَّ الله تعالى، لو أرسل رسولاً إلى الخلق، لكان ذلك الرسول من الملائكةِ، وأجاب الله تعالى عن هذه الشبهة بوجوهٍ: أحدها: قوله تعالى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى} . وتقرير هذا الجواب: أنَّ بتقدير أن يبعث الله ملكاً رسولاً إلى الخلق، فالخلق إنما يؤمنون بكونه رسولاً من عند الله؛ لأجل قيام المعجزات الدالة على صدقه؛ وذلك المعجز هو الذي يهديهم إلى معرفة صدق ذلك الملك في ادِّعاء رسالته، فالمراد من قوله: {إِذْ جَآءَهُمُ الهدى} هو المعجز، [وإذا كان كذلك، فنقول: لما كان الدليل على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 389 الصِّدق هو المعجز] فقط فهذا المعجو سواءٌ ظهر على الملكِ، أو على البشرِ، وجب الإقرارُ برسالته، فقولهم: «لا بُدَّ وأن يكون الرسول من الملائكة» : تحكم فاسد باطل. والجواب الثاني عن شبهتهم، وهي أنَّ أهل الأرض لو كانوا ملائكة، لوجب أن يكون رسولهم من الملائكة؛ لأنّ الجنس إلى الجنس أميل، فلما كان [أهل الأرض] من البشر، فوجب أن يكون رسولهم من البشر؛ وهذا هو المراد من قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِي الأرض ملاائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} [الإسراء: 95] . الجواب الثالث: قوله تعالى: {قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ} . وتقريره أنَّ الله تعالى، لمَّا أظهر المعجزة على وفق دعواى، كان ذلك شهادة من الله تعالى على كوني صادقاً، ومن شهد الله على صدقه، فهو صادق، فقولكم بأنَّ الرسول يجب أن يكون ملكاً، فذلك تحكُّم فاسدٌ؛ لا يلتفت إليه. ولمَّا ذكر الله تعالى هذه الأجوبة الثلاثة، أردفها بما يجري مجرى التهديد، والوعيد؛ فقال: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} [الإسراء: 96] . أي: يعلم ظواهرهم وبواطنهم، ويعلم أنَّهم لا يذكرون هذه الشبهات إلا لمحض الحسد، وحبِّ الرياسة. قوله: {أَن يؤمنوا} : مفعولٌ ثانٍ ل «مَنَع» ، أي: ما منعهم إيمانهم؛ و «أن قالوا» هو الفاعل، و «إذْ» ظرف ل «مَنعَ» ، والتقدير: وما منع الناس من الإيمان وقت مجيء الهدى إيَّاهم إلا قولهم: أبعث الله. وهذه الجملة المنفيَّة يحتمل أن تكون من كلام الله، فتكون مستأنفة، وأن تكون من كلام الرسول، فتكون منصوبة المحلِّ؛ لاندراجها تحت القول في كلتا القراءتينز قوله: {بَشَراً رَّسُولاً} تقدَّم في نظيره وجهان، وكذلك قوله {لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً} . قوله تعالى: {قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض} : يجوز في «كَانَ» هذه التمام، أي: لو وجد، وحصل، و «يَمشُونَ» صفة ل «مَلائِكَة» و «في الأرض» متعلِّق به، «مُطْمئنينَ» حال من فاعل «يَمشُونَ» ، ويجوز أن تكون الناقصة، وفي خبرها أوجه، أظهرها: أنه الجار، و «يَمشُون» و «مُطمَئنِّينَ» على ما تقدم. وقيل: الخبر «يمشُون» و «في الأرض» متعلق به. وقيل: الخبر «مُطمئنِّينَ» و «يمشُونَ» صفة، وهذان الوجهان ضعيفان؛ لأنَّ المعنى على الأول. فإن قيل: إنَّه تعالى لو قال: قل لو كان في الأرض ملائكة، لنزَّلنا عليهم من السَّماء ملكاً رسولاً كان كافياً في هذا المعنى. فما الحكمة في قوله: {يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} ؟! . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 390 فالجواب: أن المراد بقوله: {يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ} أي: مستوفين مقيمين. قوله: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} الآية. لما أجاب عن شبهات القوم في إنكار النبوة، وأردفها بالوعيد بقوله: {إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} على الإجمال، ذكر بعده الوعيد الشديد على التَّفصيل، فقال: {وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِهِ} . المراد تسليةُ الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وهو أنَّ الذين حكم لهم بالإسلام والهداية سابقاً، وجب أن يصيروا مؤمنين، ومن سبق لهم حكم الله بالضَّلال والجهل، استحال أن ينقلبوا عن ذلك. واحتجَّ أهل السنة بهذه الآية على صحَّة مذهبهم في الهدى والضَّلال، والمعتزلة حملوا هذا الضلال تارة على طريق الجنَّة؛ وتارة على منع الألطاف، وتارة على التَّخلية، وعدم التعرُّض لهم بالمنع. والواو مندرجة تحت القول، فيكون محلُّها نصباً، وأن يكون من كلام الله، فلا محلَّ لها؛ لاستئنافها، ويكون في الكلام التفاتٌ؛ إذ فيه خروجٌ من غيبة إلى تكلُّم في قوله: {وَنَحْشُرُهُمْ} . وحمل على لفظ «مَنْ» في قوله «فَهُوَ المُهتدِ» فأفرد، وحمل على معنى «من» الثانية في قوله «ومَن يُضلِلْ، فلنْ تَجدَ لَهُم» ، [فجمع] . ووجه المناسبة في ذلك - والله أعلم -: أنه لمَّا كان الهدي شيئاً واحداً غير متشعِّب السبل، ناسبه التوحيد، ولمَّا كان الضلال له طرقٌ متشعبةٌ؛ نحو: {وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} [الأنعام 153] ناسب الجمع الجمع، وهذا الحمل الثاني مما حمل فيه على المعنى، وإن لم يتقدمه حمل على اللفظ، قال أبو حيان: «وهو قليل في القرآن» ، يعني: بالنسبة إلى غيره، ومثله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [يونس: 42] ويمكن أن يكون المحسِّن لهذا هنا كونه تقدَّم حمل على اللفظ، وإن كان في جملة أخرى غير جملته. وقرأ نافعٌ، وأبو عمرو بإثبات ياء «المهتدي» وصلاً، وحذفها وقفاً، وكذلك في التي تحت هذه السورة، وحذفها الباقون في الحالتين. قوله: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً} يجوز أن يتعلق الجار في قوله {على وُجُوهِهِمْ} بالحشر، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من المفعول، أي: كائنين ومسحوبين على وجوههم. فإن قيل: كيف يمكنهم المشي على وجوههم؟ . فالجواب من وجهين: الأول: أنَّهم يسحبون على وجوههم، قال تعالى: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ} [القمر: 48] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 391 والثاني: قال أبو هريرة: قيل: يا رسول الله، كيف يمشون على وجوههم؟ قال: «الذي يُمشِيهمْ على أقْدامِهمْ قَادرٌ أن يُمشِيهُمْ على وُجوهِهمْ» . قوله: «عُمْياً» يجوز أن تكون حالاً ثانية من الضمير، أو بدلاً من الأولى، وفيه نظر؛ لأنه لا يظهر فيه أنواع البدل، وهي: كلٌّ من كلٍّ، ولا بعض من كلٍّ، ولا اشتمال، وأن تكون حالاً من الضمير المرفوع [في الجارِّ] لوقوعه حالاً، وأن تكون حالاً من الضمير المجرور في «وُجوهِهمْ» . فصل في توهم الاضطراب بين بعض الآيات والجواب عنه قال رجل لابن عباس: أليس أنه تعالى يقول: {وَرَأَى المجرمون النار} [الكهف: 53] . وقال: {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان: 12] . وقال: {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} [الفرقان: 13] . وقال: {يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا} [النحل: 111] . وقال حكاية عن الكفَّار: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] . وأثبت لهم الرؤية، والكلام، والسَّمع، فكيف قال ههنا: «عُمياً وبُكماً وصُماً» ؟ . فأجاب ابن عباس وتلامذته من وجوه: الأول: قال ابن عباس: «عُمْياً» : لا يرون شيئاً يسرهم، و «صُمًّا» : لا يسمعون شيئاً يسرهم، و «بُكْماً» لا ينطقون بحجَّة. والثاني: في رواية عطاء: «عُمْياً» عن النَّظر إلى ما جعله الله إلى أوليائه، و «بُكْماً» عن مخاطبة الله تعالى، ومخاطبة الملائكة المقرَّبين. الثالث: قال مقاتلٌ: حين قال لهم: {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ} [المؤمنون: 108] يصيرون صمًّا بكماً، أما قبل ذلك، فهم يرون، ويسمعون، وينطقون. الرابع: أنَّهم يكونون رائين، سامعين، ناطقين في الموقف، ولولا ذلك، لما قدروا على مطالعة كتبهم، ولا سمعوا إلزام حجة الله تعالى عليهم، إلا أنَّهم إذا ذهبوا من الموقف إلى النَّار، صاروا صمًّا، وبكماً، وعمياً. وقيل: يحشرون على هذه الصفة. قوله: {مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ} يجوز في هذه الجملة الاستئناف، والحالية إمَّا من الضمير المنصوب أو المجرور. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 392 قوله: "كُلَّما خَبتْ «يجوز فيها الاستئناف، والحالية من» جهنَّم «، والعامل فيها معنى المأوى. وخَبتِ النَّار تَخْبُوا» إذا سكن لهيبها؛ قال الواحدي: خبت سكنت، فإذا ضعف جمرها، قيل: خمدتْ، فإذا طفئت بالجملة، قيل: همدتْ؛ قال: 3468 - وَسْطهُ كاليَراعِ أوْ سُرجِ المِجْ ... دَلِ طَوْراً يَخْبُو وطَوْراً يُنِيرُ وقال آخر: [الهزج] 3469 - لمن نَارٌ قُبَيْلَ الصُّبْ ... حِ عند البَيتِ ما تَخْبُو إذا مَا أخمدَتْ ألْقِي عَليْهَا المَندلُ الرَّطْبُ وأدغم التاء في زاي «زِدْنَاهُمْ» أبو عمرو، والأخوان، وورش، وأظهرها الباقون. قوله: {زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} . قال ابن قتيبة: زدناهم تلهُّباً. فإن قيل: إنه تعالى لا يخفف عنهم العذاب. وقوله: {كُلَّمَا خَبَتْ} يدلُّ على أنَّ العذاب محققٌ في ذلك الوقت. فالجواب: أن قوله «كُلَّما خَبَتْ» يقتضي سكون لهب النار، أما أنه يدل على تخفيف العذاب، فلا؛ لأنَّ الله تعالى قال: {لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} [الزخرف: 75] . وقيل: معناه: «كلَّما خبت» [أي:] كلما أرادت أن تخبو {زِدْنَاهُمْ سَعِيراً} أي: وقوداً. وقيل: المراد من قوله: {كُلَّمَا خَبَتْ} أي: نضجت جلودهم، واحترقت، أعيدوا إلى ما كانوا عليه. قوله تعالى: {ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ} يجوز أن يكون مبتدأ وخبراً، و «بأنهم» متعلق بالجزاء، أي: «ذلك العذاب المتقدم جزاؤهم بسبب أنَّهم» ويجوز أن يكون «جَزاؤهُمْ» مبتدأ ثانياً، والجار خبره، والجملة خبر «ذلك» ، ويجوز أن يكون «جَزاؤهُمْ» بدلاً، أو بياناً، و «بِأنَّهُم» الخبر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 393 وهذه الآية تدلُّ على أنَّ العمل علَّة الجزاءِ. قوله: {وَقَالُواْ أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً} . لمَّا أجاب عن شبهات منكري النبوة، عاد إلى حكاية شبهة منكري المعاد. وتلك الشبهة: هي أنَّ الإنسان بعد أن يصير رفاتاً، ورميماً، يبعد أن يعود هو بعينه، فأجاب الله عنه: بأنَّ من بدر على خلق السموات والأرض في عظمتها وشدَّتها قادر على أن يخلق مثلهم في سغرهم، وضعفهم؛ نظيره قوله تعالى: {لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس} [غافر: 75] . وفي قوله: {قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} قولان: الأول: [معناه] قادر على أن يخلقهم ثانياً، فعبَّر عن خلقهم بلفظ «المثل» ؛ كقوله المتكلِّمين: إنَّ الإعادة مثل الابتداء. والثاني: قادر على أن يخلق عبيداً آخرين يوحِّدونه، ويقرُّون بكمال حكمته وقدرته، ويتركون هذه الشبهات الفاسدة؛ وعلى هذا، فهو كقوله تعالى: {وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} [إبراهيم: 19] وقوله: {وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ} [التوبة: 39] . قال الواحديُّ: والأول أشبه بما قبله. ولمَّا بيَّن الله تعالى بالدَّليل المذكور: أنَّ البعث يمكنُ الوجود في نفسه، أردفه بأنَّ لوقوعه ودخوله في الوجود وقتاً معلوماً عند الله تعالى؛ وهو قوله: {وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ} أي: جعل لهم وقتاً لا ريب فيه، {فأبى الظالمون إَلاَّ كُفُوراً} أي: الظالمون إلا الكفر والجحود. قوله: {وَجَعَلَ لَهُمْ} : معطوف على قوله «أو لَمْ يَروْا» ؛ لأنه في قوة: قد رأوا، فليس داخلاً في حيِّز الإنكار، بل معطوفاً على جملته برأسها. وقوله: {لاَّ رَيْبَ فِيهِ} صفة ل «أجلاً» ، أي: أجلاً غير مرتابٍ فيه، فإن أريد به يوم القيامة، فالإفرادُ واضحٌ، وإن أريد به الموت، فهو اسم جنسٍ؛ إذ لكلِّ إنسانٍ أجلٌ يخصه. وقوله: {إَلاَّ كُفُوراً} قد تقدَّم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 394 اعلم أنَّ الكفار، لما قالوا: لن نؤمن لك؛ حتَّى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً وطلبوا إجراء الأنهارِ، والعيون في بلدهم لتكثر أموالهم؛ بين أنَّهم لو ملكوا خزائن رحمة الله، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 394 لبقوا على بخلهم وشحهم، ولا أقدموا على إيصال النفع إلى أحدٍ، وعلى هذا التقدير: فلا فائدة في إسعافهم لما طلبوه. قوله: {لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} : فيه ثلاثة أوجه: أحدها: - وإليه ذهب الزمخشري، والحوفي، وابن عطيَّة، وأبو البقاء، ومكيٌّ -: أن المسألة من باب الاشتغال، ف «أنْتُمْ» مرفوع بفعلٍ مقدر يفسِّره هذا الظاهر، لأنَّ «لَوْ» لا يليها إلا الفعل، ظاهراً أو مضمراً، فهي ك «إنْ» في قوله تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين} [التوبة: 6] ، وفي قوله: 3470 - وإنْ هُوَ لمْ يَحْمِلْ على النَّفْسِ ضَيْمهَا ... فَليْسَ إلى حُسْنِ الثَّنَاءِ سَبيلُ والأصل: لو تملكون، فحذف الفعل؛ لدلالة ما بعده عليه، فانفصل الضمير، وهو الواو؛ إذ لا يمكن بقاؤه متَّصلاً بعد حذف رافعه، ومثله: «وإنْ هو لم يحمل» : الأصل: وإن لم يحمل، فلما حذف الفعل، انفصل ذلك الضميرُ المستتر، وبرز، ومثله فيما نحنُ فيه قول الشاعر: 3471 - «لوْ ذَاتُ سِوارٍ لطَمتْنِي» ... برفع «ذَاتُ» وقول المتلمِّس: 3472 - ولَوْ غَيْرُ أخْوالِي أرادُوا نَقِيصَتِي ..... ... ... ... ... ... ... ... ف «ذَاتُ سوارٍ» مرفوعةٌ بفعل مفسَّر بالظاهر بعده. الثاني: أنه مرفوع ب «كَانَ» وقد كثر حذفها بعد «لو» والتقدير: لو كنتم تملكون، فحذف «كَانَ» ، فانفصل الضمير، و «تَمْلكُونَ» في محلِّ نصبٍ ب «كَانَ» المحذوفةِ، وهو قولُ ابن الصائغ؛ وقريبٌ منه قوله: [البسيط] 3473 - أبَا خُرَاشةَ أمَّا أنْتَ ذَا نَفرٍ ..... ... ... ... ... ... ... . . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 395 فإنَّ الأصل: لأن كنت، فحذفت «كَانَ» ، فانفصل الضمير، إلا أنَّ هنا عوِّض من «كَانَ» «ما» ، وفي [ «لَوْ» ] لم يعوَّض منها. الثالث: أنَّ «أنتم» توكيدٌ لاسم «كانَ» المقدر معها، والأصل «لَوْ كُنتمْ أنْتُم تَمْلكُونَ» فحذفت «كَانَ» واسمها، وبقي المؤكِّدُ، وهو قول ابن فضالٍ المجاشعيِّ، وفيه نظرٌ؛ من حيث إنَّا نحذف ما في التَّوكيد، وإن كان سيبويه يجيزه. وإنما أحوج هذين القائلين إلى ذلك: كون مذهب البصريِّين في «لَوْ» أنَّه لا يليها إلاَّ الفعل ظاهراً، ولا يجوز عندهم أن يليها مضمراً مفسَّراً إلاَّ في ضرورة، أو ندور، كقوله: «لَو ذَات سوارٍ لطَمتْنِي» ، فإن قيل: هذان الوجهان أيضاً فيهما إذمار فعلٍ، قيل: ليس هو الإضمار المعنيَّ؛ فإنَّ الإضمار الذي أبوه هو على شريطة التفسير في غير «كان» ، وأمَّا «كان» فقد كثر حذفها بعد [ «لو» ] في مواضع كثيرة، وقد وقع الاسم الصَّريحُ بعد «لَوْ» غير مذكور بعده فعلٌ؛ وأنشد الفارسيُّ: [الرمل] 3474 - لَو بِغيْرِ المَاءِ حَلْقِي شَرقٌ ... كُنْتُ كالغصَّانِ بالمَاءِ اعْتِصَارِي إلا أنه أخرجه على أنه مرفوع بفعل مقدَّر يفسِّره الوصف من قوله «شَرِقٌ» ، وقد تقدَّم الكلام في «لَوْ» . قال أهل المعاني: إنَّ التقديم بالذكر يدل على التَّخصيص، فقوله: {لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ} دليل على أنَّهم هم المختصُّون بهذه الحالة الخسيسة، والشُّحْ الكامل. واعلم أنَّ خزائن رحمة الله غير متناهية؛ فكان المعنى أنكم لو ملكتم من النِّعم خزائن لا نهاية لها، لتقيمنَّ على الشحِّ، وهذه مبالغة عظيمة في وصفهم بهذه الصفة. قوله: «لأمْسَكْتُمْ» يجوز أن يكون لازماً؛ لتضمنه معنى «بخِلتمْ» وأن يكون متعدِّياً، ومفعوله محذوف، أي: لأمسكتم المال، ويجوز أن يكون كقوله {يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] . قوله: {خَشْيَةَ الإنفاق} فيه وجهان: أظهرهما: أنه مفعول من أجله. والثاني: أنه مصدر في موضع الحال، قاله أبو البقاء، أي: خاشين الإنفاق، وفيه نظر؛ إذ لا يقع المصدر المعرفة موقع الحال، إلا سماعاً؛ نحو: «جَهْدكَ» و «طَاقَتكَ» ، وكقوله: 3475 - وأرْسلَهَا العِراكَ ... ... ... ... ....... ... ... ... ... ... . . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 396 ولا يقاس عليه، والإنفاقُ مصدر «أنْفقَ» ، أي: أخرج المال، وقال أبو عبيدة: «هو بمعنى الافتقار، والإقتار» . قوله: {خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي} ، أي: نعمة ربِّي. {إِذاً لأمْسَكْتُمْ} لبخلتم. {خَشْيَةَ الإنفاق} : الفاقة. وقيل: خشية النفاق يقال: أنفق الرجل، أي: أملق، وذهب ماله، ونفق الشَّرُّ، أي: ذهب. وقيل: لأمسكتم عن الإنفاق؛ خشية الفقر، ومعنى «قَتُوراً» : قال قتادة: بخيلاً ممسكاً. يقال: أقْتَرَ يُقْتِرُ إقتاراً، وقتَّر تَقْتِيراً: إذا قصَّر في الإنفاق. فإن قيل: قد حصل في الإنسان الجواد، والكريم. فالجواب من وجوه: الأول: أن الأصل في الإنسان البخلُ؛ لأنَّه خلق محتاجاً، والمحتاج لا بد وأن يحبَّ ما به يدفع الحاجة، وأن يمسكه لنفسه، إلا أنَّه قد يجود به [لأسبابٍ] من خارج، فثبت أنَّ الأصل في الإنسان البخلُ. الثاني: أنَّ الإنسان إنَّما يبذلُ؛ لطلب الحمدِ، وليخرج من عهدة الواجب، ثم للتَّقرُّب إلى الله تعالى، فهو في الحقيقة إنَّما أنفق ليأخذ العوض، فهو بخيلٌ، والمراد بهذا الإنسان المعهود السَّابق، وهم الذين قالوا: {لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً} [الإسراء: 90] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 397 قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} الآيات. اعلم أنَّ المقصود من هذا الكلام هو الجواب عن قولهم: لن نؤمن لك؛ حتى تأتينا بهذه المعجزات الباهرة؛ فقال تعالى: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 397 ولقد آتينا موسى معجزات مساويات لهذه الأشياء التي طلبتموها، بل أقوى، وأعظم، فلو حصل في علمنا أنَّ جعلها في زمانكم؛ لعلمنا بأنها لا مصلحة في فعلها. واعلم: أنه [أزال] القعدة في لسانه. قال المفسرون: أذهب الأعجمية منه، وبقي فصيحاً. ومنها: انقلاب العصا حيَّة. ومنها: تلقُّف الحية حبالهم وعصيَّهم، مع كثرتها. ومنها: اليد البيضاء من غير سوء. ومنها: الطُّوفان والجراد، والقمَّل، والضَّفادع، والدَّم. ومنها: شقُّ البحر. ومنها: ضربه الحجر بالعصا، فانفجر. ومنها: إظلال الجبل. ومنها: إنزال المنِّ والسلوى عليه وعلى قومه. ومنها: قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَخَذْنَآ آلَ فِرْعَونَ بالسنين وَنَقْصٍ مِّن الثمرات} [الأعراف: 130] لأهل القرى؛ فهذه آيتان. ومنها: الطَّمس على أموالهم، فجعلها حجارة من النَّخيلِ، والدَّقيق، والأطعمة، والدَّراهم والدَّنانير. روي أن عمر بن عبد العزيز سأل محمد بن كعب، عن قوله: {تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} ، فذكر محمد بن كعب في جملة التسعة؛ حلَّ عقدة اللِّسان، والطَّمس، فقال عمر بن العزيز: هكذا يجبُ أن يكون الفقيهُ، ثم قال: يا غلامُ، أخرج ذلك الجراب، فأخرجه، فإذا فيه بيضٌ مكسورٌ؛ نصفين، وجوز مكسور، وفول، وحمص، وعدس، كلها حجارة. وإذا كان كذلك، فإنه تعالى ذكر في القرآن أنَّ هذه المعجزات لموسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال في هذه الآية: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} وتخصيص التسعة بالذِّكر لا يقدح فيه ثبوت الزائد عليه؛ لأنَّه ثبت في أصول الفقه أنَّ تخصيص العدد بالذكر لا يدلُّ على نفي الزائد؛ وهذه الآية دليل على هذه المسألة. واعلم: أن هذه التسعة قد اتَّفقوا على سبعة منها؛ وهي: العصا، واليد، والطوفان، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وبقي اثنتان اختلفت أقوال المفسرين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 398 فيهما، ولمَّا لم تكن تلك الأقوال مستندة إلى حجَّة ظنيَّة؛ فضلاً عن حجة يقينيَّة، لا جرم تركت تلك الروايات. فصل في أجود ما قيل في تفسير التسع آيات في تفسير قوله: {تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} قول هو أجود ما قيل، وهو ما روي عن صفوان بن عسَّالٍ المراديِّ: أن يهوديًّا قال لصاحبه: اذهب بنا إلى هذا النبي نسأله عن تسع الآيات، فقال الآخر: لا تقل: نبي؛ فإنه لو سمع، لصارت له أربعة أعين فأتياه، فسألاه عن هذه الآية {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} . فقال: هِيَ ألاَّ تشركوا بالله شيئاً، ولا تقتلوا النَّفس التي حرَّم الله إلاَّ بالحقِّ، ولا تَزنُوا، ولا تَأكلُوا الرِّبا، ولا تَسْحرُوا، ولا تمشُوا بالبريءِ للسلطان؛ ليقتله، ولا تسرقوا، ولا تقذفوا المحصنة، ولا تَفرُّوا من الزَّحف، وعليكم - خاصة اليهود - ألاَّ تعذوا في السَّبت، فقام اليهوديَّان يقبِّلان يده، ويقولون: نشهدُ أنَّك نبيٌّ، قال: فما يمنعكم أن تتبعوني؟ قال اليهودي: إنَّ داود دعا ربَّهُ ألاَّ يزال في ذُريَّته نبيٌّ، وإنَّا نخافُ إن اتَّبعنَاكَ أن تقْتُلنَا يهُودُ. قوله تعالى: {تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} : [يجوز في «بَيِّنات» ] النصب صفة للعدد، والجر صفة للمعدود. قوله: «إذْ جَاءهُمْ» فيه أوجهٌ: أحدها: أن يكون معمولاً ل «آتيْنا» ويكون قول÷ «فاسْألْ بَنِي إسْرائيلَ» اعتراضاً، وتقديره: ولقد آتينا موسى تسع آياتٍ بيِّناتٍ؛ إذ جاء بني إسرائيل، فسألهم، وعلى هذا التقدير: فليس المطلوبُ من سؤال بني إسرائيل أن يستفيد هذا العلم منهم، بل المقصود أن يظهر لعامة اليهود بقول علمائهم صدق ما ذكره الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فيكون هذا السؤال سؤال استشهاد. والثاني: أنه منصوب بإضمار اذكر. والثالث: أنه منصوبٌ ب «يُخْبرُونكَ» مقدراً. الرابع: أنه منصوب بقولٍ مضمرٍ؛ إذ التقدير: فقلنا له: سل بني إسرائيل حين جاءهم، ذكر هذه الأوجه الزمخشري مرتبة على مقدمة ذكرها قبلُ [قال:] فاسْأَلْ بنِي إسْرائيلَ، أي: فقلنا له: اسأل بني إسرائيل، أي: اسْألهُم عن فرعون، وقل له: أرسل معي بني إسرائيل، أو اسألهم عن إيمانهم، وحال دينهم، أو اسألهم أن يعاضدوك. ويدل عليه قراءة رسول الله «فَسَألَ» على لفظ الماضي، بغير همزٍ، وهي لغة قريشٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 399 وقيل: فَسلْ، يا رسول الله، المُؤمنَ من بني إسرائيل؛ كعبد الله بن سلام وأصحابه عن الآيات؛ ليزدادوا يقيناً وطمأنينة؛ كقوله: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] [ثم قال:] فإن قيل بم تعلق «إذْ جَاءهُمْ» ؟ فالجواب: أمَّا على الوجه الأول: فبالقول المحذوف، [أي] : فقلنا له، سلهم حين جاءهم، أو ب «سَالَ» في القراءة الثانية، وأمَّا على الآخر فب «آتَيْنَا» أو بإضمار «اذكر» أو ب «يُخْبرونَكَ» ومعنى «إذْ جَاءهُمْ» «إذ جاء آباءهم» ، انتهى. قال أبو حيان: «لا يتأتَّى تعلقه ب» اذْكُر «ولا ب» يُخْبرُونَكَ «؛ لأنه ظرف ماضٍ» . قال شهاب الدين: إذا جعله معمولاً ل «اذْكُر» ، أو ل «يُخْبرُونكَ» لم يجعله ظرفاً، بل مفعولاً به، كما تقرَّر مراراً. الوجه الخامس: أنه مفعول به، والعامل فيه «فَسلْ» . قال أبو البقاء: «فيه وجهان: أحدهما: هو مفعول به ب» اسْألْ «على المعنى إذ التقدير: اذكر لبني إسرائيل؛ إذ جاءهم، وقيل: التقدير: اذكر إذا جاءهم وهي غير» اذكُر «الذي قدَّرت به» اسْأل «» ، يعني: أن «اذكر» المقدرة غير «اذكُر» التي فسَّرت «اسألْ» بها؛ وهذا يؤيِّد ما تقدَّم من أنهم، إذا قدروا «اذكُر» جعلوا «إدْ» مفعولاً به، لا ظرفاً. إلا أنَّ أبا البقاء ذكر [حال] كونه ظرفاً، ما يقتضي أن يعمل فيه فعلٌ مستقبل، فقال: «والثاني: أن يكون ظرفاً، وفي العامل وجوه: أحدها:» آتيْنا «. والثاني:» قلنا «مضمرة. والثالث: [» قُل «] ، تقديره: قل لخصمك: سل؛ والمراد به فرعون، أي: قل، يا موسى، وكان الوجه أن يقال: إذ جئتهم بالفتح، فخرج من الخطاب، إلى الغيبة» . فظاهر الوجه الثالث: أن العامل فيه «قُلْ» وهو ظرف ماض، على أنَّ هذا المعنى الذي نحا إليه ليس بشيء؛ إذ يرجع إلى: يا موسى، قل لفرعون: يا فرعون سل بني إسرائيل، فيعود فرعون هو السائل لبني إسرائيل، وليس المراد ذلك قطعاً، وعلى التقدير الذي تقدم عن الزمخشري - وهو أن المعنى: يا موسى، سل بني إسرائيل، [أي: اطلبهم من فرعون - يكون المفعول الأول للسؤال محذوفاً، والثاني هو «بني إسْرائيلَ» ] ، والتقدير: سَلْ فرعون بني إسرائيل، وعلى هذا: فيجوز أن تكون المسألة من التنازع، وأعمل الثاني؛ إذ التقدير: سل فرعون، فقال فرعون، فأعمل الثاني، فرفع به الفاعل، وحذف المفعول من الأول، وهو المختار من المذهبين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 400 والظاهر غير ذلك كلِّه، وأن المأمور بالسؤال سيدنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبنو إسرائيل كانوا معاصريه. والضمير [في] «إذْ جَاءَهُمْ» : إمَّا للآباء، وإمَّا لهم على حذف مضافٍ، أي: جاء آباءهم. فصل في معنى «واسأل بني إسرائيل» المعنى: فسَلْ، يا محمد، بني إسرائيل؛ إذ جاءهم موسى، يجوز أن يكون الخطاب معه، والمراد غيره، ويجوز أن يكون خاطبه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وأمره بالسؤال؛ ليتبيَّن كذبهم مع قومهم، فقال له فرعون: {إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً} . وقوله «مَسْحُوراً» : وفيه وجهان: أظهرهما: أنه بمعناه الأصلي، أي: إنك سحرت، فمن ثمَّ؛ اختل كلامك، قال ذلك حين جاءه بما لا تهوى نفسه الخبيثة، قاله الكلبي. وقال ابن عباس: مخدوعاً، وقال: مصروفاً عن الحقِّ. والثاني: أنه بمعنى «فاعل» كميمون ومَشْئُوم، أي: أنت ساحرٌ؛ كقوله: {حِجَاباً مَّسْتُوراً} [الإسراء: 45] . فوضع المفعول موضع الفاعل، قاله الفراء، وأبو عبيدة، وقال ابن جرير: يعطى علم السِّحر؛ فلذلك تأتي بالأعاجيب، يشير لانقلابِ عصاه حيَّة ونحو ذلك. قوله: {لَقَدْ عَلِمْتَ} : قرأ الكسائي بضمِّ التاء أسند الفعل لضمير موسى - عليه السلام - أي: إنِّي متحققٌ أن ما جئتُ به هو منزَّلٌ من عند الله تعالى، والباقون بالفتح على إسناده لضمير فرعون، أي: أنت متحقِّقٌ أنَّ ما جئت به هو منزَّل من عند الله، وإنَّما كفرك عنادٌ، وعن عليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه أنكر الفتح، وقال: «ما عَلِمَ عدُو الله قطُّ، وإنَّما علمَ مُوسَى» ، [ولَو عَلِمَ، لآمنَ؛] فبلغ ذلك ابن عباس، فاحتجَّ بقوله تعالى: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} [النمل: 14] على أنَّ فرعون وقومه علموا بصحَّة أمر موسى. فصل في الخلاف في أجود القراءتين قال الزجاج: الأجودُ في القراءة الفتحُ؛ لأنَّ علم فرعون بأنَّها آياتٌ نازلةٌ من عند الله أوكد في الاحتجاج، واحتجاج موسى على فرعون بعلم فرعون أوكد من الاحتجاج عليه بعلم نفسه. وأجاب من نصر قراءة عليٍّ عن دليل ابن عباس، فقال قوله: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ} يدلُّ على أنهم استيقنوا أشياء، فأمَّا أنهم استيقنوا كون هذه الأشياء نازلة من عند الجزء: 12 ¦ الصفحة: 401 الله، فليس في الآية ما يدل عليه؛ ويدلُّ بأنَّ فرعون قال: {إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ} [الشعراء: 27] . قال موسى: «لقَدْ عَلْمتَ» . والمعنى: «اعلم أنِّي لستُ بمجنونٍ» ، ولم يثبت عن عليٍّ رفعُ التاء؛ لأنه يروى عن رجلٍ من مرادٍ عن عليٍّ، وذلك الرجل مجهول. واعلم: أن هذه الآيات من عند الله، ولا تشكَّ في ذلك بسبب سفاهتك والجملة المنفيَّة في محلِّ نصبٍ؛ لأنها معلقة للعلم قبلها وتقدير الآية: ما أنزل هؤلاء «الآيات» ؛ ونظيره قوله: [الكامل] 3476 - ... ... ... ... ... . ... والعَيْشَ بَعْدَ أولئك الأيَّام أي: للأمام. قوله: «بَصائِرَ» حالٌ، وفي عاملها قولان: أحدهما: أنه «أنْزلَ» هذا الملفوظ به، وصاحبُ الحال «هؤلاءِ» وإليه ذهب الحوفي، وابن عطيَّة، وأبو البقاء، وهؤلاء يجيزون أن يعمل ما قبل «إلاَّ» فيما بعدها، وإن لم يكن مستثنى، ولا مستثنى منه، ولا تابعاً له. والثاني: - وهو مذهب الجمهور -: أنَّ ما بعد «إلاَّ» لا يكون معمولاً لما قبله، فيقدر لها عامل، تقديره: أنزلها بصائر، وقد تقدَّم نظير هذه في «هود» عند قوله {إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي} [هود: 27] . ومعنى «بَصائِرَ» أي: حججاً بيِّنة؛ كأنها بصائر العقول، والمراد: الآيات التِّسع، ثم قال موسى: {وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً} . قوله: «مَثبُوراً» مفعول ثانٍ، واعترض بين المفعولين بالنِّداء، والمَثبُورُ: المهلك؛ يقال: ثبرهُ الله، أي: أهلكه، قال ابن الزبعرى: [الخفيف] 3477 - إذْ أجَارِي الشَّيطَانَ في سَننِ الغَيْ ... يِ ومَنْ مَالَ مَيلهُ مَثْبُور والثُّبورُ: الهلاكُ؛ قال تعالى: {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً} [الفرقان: 14] . وقال ابن عباس: مَثْبُوراً، أي: ملعوناً، وقال الفراء: مصروفاً ممنوعاً عن الخير، والعرب تقول: ما ثبرك عن هذا؟ أي: ما منعك عن هذا، وما صرفك عنه؟ . قال أبو زيدٍ: يقال ثبرت فلاناً عن الشيء، أثبرهُ، أي رددتُّه عنه. فصل في جواب موسى لفرعون بكونه مثبوراً واعلم أنَّ فرعون لمَّا وصف موسى - عليه السلام - بكونه مسحوراً، أجابه موسى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 402 بأنَّك مثبورٌ، أي: أنَّ هذه الآيات ظاهراتٌ، ومعجزاتٌ ظاهرةٌ؛ لا يرتاب العاقل في أنَّها من عند الله؛ وأنه أظهرها لأجل تصديقي، وأنت تنكرها حسداً، وعناداً، ومن كان كذلك، كان عاقبته الدَّمار والهلاك. ثم قال تعالى: {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض} . أي: أراد فرعون أن يخرج موسى - عليه السلام - وبني إسرائيل من الأرض أي: أرض مصر. قال الزجاج: لا يبعد أن يكون المراد من استفزازهم إخراجهم منها بالقتل، أو بالتنحية، وتقدَّم الكلام على الاستفزاز، ثم قال: {فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً} . وهو معنى ما ذكره الله في قوله: {وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] ، أي: إنَّ فرعون أراد إخراج موسى من أرض مصر؛ لتخلص له تلك البلاد، فأهلك الله فرعون، وجعل تلك الأرض خالصة لموسى ولقومه، وقال من بعد هلاك فرعون لبني إسرائيل: اسكنوا الأرض خالصة لكم، خالية من عدوِّكم، يعني: أرض مصر والشام، {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة} . يعني: القيامة {جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً} من ههنا وههنا. وفي {لَفِيفاً} : وجهان: أحدهما: أنه حال، وأن أصله مصدر لفَّ يلفُّ لفيفاً؛ نحو: النَّذير والنَّكير، أي: جئنا بكم منضماً بعضكم إلى بعض، من لفَّ الشيء يلفُّه لفًّا، والألفُّ: المتداني الفخذين، وقيل: العظيم البطن. والثاني: أنه اسم جمع، لا واحج له من لفظه، والمعنى: جئنا بكم جميعاً، فهو في قوة التَّأكيد. واللَّفيفُ: الجمع العظيم من أخلاطٍ شتَّى من الشريف، والدنيء، والمطيع، والعاصي، والقويّ، والضعيف، وكل شيءٍ خلطته بشيءٍ آخر، فقد لففته، ومنه قيل: لففتُ الجيوش: إذا ضرب بعضها ببعض. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 403 قوله: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ} الآية. لما بيَّن أن القرآن معجز قاهر دالٌّ على الصدق في قوله تعالى: {قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن} [الإسراء: 88] . ثم حكى عن الكفار أنَّهم لم يكتفوا بهذا المعجز، بل طلبوا أشياء أخر، ثم أجاب تعالى بأنَّه لا حاجة إلى إظهار معجزاتٍ أخر، وبيَّن ذلك بوجوهٍ كثيرةٍ: منها: أنَّ قوم موسى آتاهم تسع آيات بيِّناتٍ، فلما جحدوا بها أهلكهم الله، فكذا ههنا، أي: أنَّ المعجزات التي اقترحها قوم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثمَّ كفروا بها؛ فوجب إنزال عذاب الاستئصال بهم، وذلك غير جائزٍ في الحكمة؛ لعلمه تعالى أنَّ فيهم من يؤمن، أو من يظهر من نسله مؤمنٌ. لمَّا تمَّ هذا الجواب، عاد إلى حال تعظيم القرآن؛ فقال: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ وبالحق نَزَلَ} ، أي: ما أردنا بإنزاله إلاَّ إظهار الحقِّ. قوله: {وبالحق أَنْزَلْنَاهُ} : في هذا الجار ثلاثة أوجه: أحدها: أنه متعلق ب «أنْزَلْنَاهُ» ، والباء سببية، أي: أنزلناه بسبب الحقِّ. والثاني: أنه حال من مفعول «أنْزَلنَاهُ» ، أي: ومعه الحقُّ. فتكون الباء بمعنى «مَعَ» قاله الفارسي؛ كما تقول: نزل بعدَّته، وخرج بسلاحه. والثالث: أنه حال من فاعله، أي: ملتبسين بالحق، وعلى هذين الوجهين يتعلق بمحذوف. والضمير في «أنْزلْنَاهُ» الظاهر عوده للقرآن: إمَّا الملفوظ به في قوله قبل ذلك {على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن} [الإسراء: 88] ؛ ويكون ذلك جرياً على قاعدة أساليب كلامهم، وهو أن يستطرد المتكلمُ في ذكر شيءٍ لم يسبق له كلامه أولاً، ثم يعود إلى كلامه الأول. وإمَّا للقرآن غير الملفوظ أولاً؛ لدلالة الحال عليه؛ كقوله تعالى: {إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ} [الدخان: 3] وقيل: يعود على موسى؛ كقوله: {وَأَنزْلْنَا الحديد} [الحديد: 25] ، وقيل: على الوعد، وقيل: على الآيات التِّسعِ، وذكر الضمير، وأفرده؛ حملاً على معنى الدليل والبرهان. قوله: «وبالحقِّ نَزلَ» فيه الوجهان الأولان، دون الثالث؛ لعدم ضميرٍ آخر غير ضمير القرآن لاحتمال أن يكون التقدير: نزل بالحقِّ؛ كما تقول: نزلت بزيدٍ، وعلى هذا التقدير: فالحق محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وفي هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنها للتأكيد؛ وذلك أنه يقال: أنزلته، فنزل، وأنزلته فلم ينزل؛ فجيء بقوله «وبالحقِّ نَزلَ» ؛ دفعاً لهذا الوهم، وقيل: لست للتأكيد، والمغايرة تحصل بالتغاير الجزء: 12 ¦ الصفحة: 404 بين الحقَّين، فالحق الأول التوحيد، والثاني الوعد والوعيد، والمر والنهي، وقال الزمخشري: «وما أنزلنا القرآن إلاَّ بالحكمة المقتضية لإنزاله، وما نزل إلا ملتبساً بالحق والحكمة؛ لاشتماله على الهداية إلى كلِّ خيرٍ، أو ما أنزلناه من المسماء إلا بالحقِّ محفوظاً بالرَّصدِ من الملائكةِ، وما نزل على الرسول إلاَّ محفوظاً بهم من تخليط الشياطين» ، و «مبشِّراً ونذيراً» : حالان من مفعول «أرْسلْنَاكَ» مبشراً للمطيعين، ونذيراً للعاصين، فإن قبلوا الدِّين الحقَّ، انتفعوا به، وإلا فليس عليك من كفرهم [شيءٌ] . قوله تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ} الآية: في نصب «قُرْآناً» أوجه: أظهرها: أنه منصوب بفعل مقدر، أي: «وآتَيْناكَ قُرآناً» يدل عليه قوله {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى} [الإسراء: 101] . الثاني: أنه منصوبٌ؛ عطفاً على الكاف في «أرْسَلْنَاكَ» ؛ قال ابن عطية: «من حيثُ كان إرسالُ هذا، وإنزال هذا بمعنى واحدٍ» . الثالث: أنه منصوب؛ عطفاً على «مُبشِّراً ونذيراً» قال الفراء: «هو منصوبٌ ب» أرْسَلناكَ «، أي: ما أرسلناك إلا مبشِّراً ونذيراً وقرآناً؛ كما تقول: ورحمة يعني: لأن القرآن رحمةٌ» ، بمعنى أنه جعل نفس القرآن مراداً به الرحمة؛ مبالغة، ولو ادَّعى ذلك على حذفِ مضافٍ، كان أقرب، أي: «وذا قرآنٍ» وهذان الوجهان متكلَّفان. الرابع: أن ينتصب على الاشتغال، أي: وفرقنا قُرآناً فرقناه، واعتذر أبو حيان عن ذلك، أي: عن كونه لا يصحُّ الابتداء به، لو جعلناه مبتدأ؛ لعدم مسوغٍ؛ لأنه لا يجوز الاشتغال إلا حيث يجوز في ذلك الاسم الابتداء، بأنَّ ثمَّ صفة محذوفة، تقديره: وقرآناً أي قرآن، بمعنى عظيم، و «فَرقْنَاهُ» على هذا: لا محل له؛ بخلاف الأوجه المتقدمة؛ فإن محلَّه النصب؛ لأنَّه نعتٌ ل «قُرآناً» . وقرأ العامة «فَرقْناهُ» بالتخفيف، أي: بيَّنا حلاله وحرامه، أو فرقنا فيه بين الحق والباطل، وقرأ عليُّ بن أبي طالبٍ - كرَّم الله وجهه - وأبيٌّ، وعبد الله، وابن عباس والشعبي، وقتادة، وحميدٌ في آخرين بالتشديد، وفيه وجهان: أحدهما: أنَّ التضعيف فيه للتكثير، أي: فرَّقنا آياته بين أمرٍ ونهيٍ، وحكمٍ وأحكامٍ، ومواعظ وأمثال، وقصصٍ وأخبار ماضية ومستقبلة. والثاني: أنه دالٍّ على التفريق والتنجيم. قال الزمخشريُّ: «وعن ابن عباس: أنه قرأ مشدداً، وقال: لم ينزل في يومين، ولا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 405 في ثلاثة، بل كان بين أوله وآخره عشرون سنة، يعني أنَّ» فرقَ «بالتخفيف يدل على فصل متقاربٍ» . قال أبو حيان: «وقال بعضُ من اختار ذلك - يعني التنجيم - لم ينزل في يوم، ولا يومين، ولا شهرٍ، ولا شهرين، ولا سنة، ولا سنتين؛ قال ابن عبَّاس: كان بين أوله، وآخره عشرون سنة، كذا قال الزمخشريُّ، عن ابن عباس» . قال شهاب الدين: ظاهر هذا: أنَّ القول بالتنجيم: ليس مرويًّا عن ابن عباس، ولا سيما وقد فصل قوله «قَالَ ابن عبَّاسٍ» من قوله «وقال بعض من اختار ذلك» ، ومقصوده أنه لم يسنده لابن عباس؛ ليتمَّ له الردُّ على الزمخشري في أنَّ «فَعَّل» بالتشديد لا يدلُّ على التفريق، وقد تقدم له معه هذا المبحث أوَّل هذا الموضوع. قال ابن الخطيب: والاختيار عند الأئمة: «فَرقْنَاهُ» بالتخفيف، وفسَّره أبو عمرو: بيَّناه. قال ابو عبيدة: التخفيف أعجبُ غليَّ؛ لأنَّ معناه: بينَّاه، ومن قرأ بالتشديد، لم يكن له معنًى إلا أنه أنزل متفرِّقاً، [فالتفرُّق] يتضمَّن التَّبيين، ويؤكِّده ما رواه ثعلبٌ عن ابن الأعرابيِّ أنه قال: فَرقتُ، أو أفْرَقتُ بين الكلامِ، وفرَّقتُ بين الأجسامِ؛ ويدلُّ عليه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «البَيِّعانِ بالخِيَارِ، ما لمْ يتفرَّقا» ولم يقل: «يَفْترِقَا» . فصل في نزول القرآن مفرقاً قال ابن الخطيب: إنَّ القوم قالوا: هَبْ أنَّ هذا القرآن معجز، إلا أنه بتقدير أن يكون الأمر كذلك، فكان من الواجب أن ينزله الله عليك دفعة واحدة؛ ليظهر فيه وجه الإعجاز؛ فجعلوا إتيان الرسول به مفرَّقاً شبهة في أنَّه يتفكَّر في فصل فصل، ويقرؤه عليهم، فأجاب الله عن ذلك أنه إنَّما فرَّقه ليكون حفظه أسهل؛ ولتكون الإحاطة والوقوف على دلائله، وحقائقه، ودقائقه أكمل. قال سعيد بن جبير: نزل القرآن كلُّه في ليلة القدر من السَّماء العليا إلى السَّماء السفلى، ثم فصل في السِّنين التي نزل فيها، ومعنى الآية: قطَّعناه آية آية، وسورة وسورة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 406 قوله: «لتَقْرَأهُ» متعلق ب «فَرقْنَاهُ» ، وقوله «عَلَى مُكْثٍ» فيه ثلاثةُ أوجه: الأول: أنه متعلِّق بمحذوفٍ، على أنه حالٌ من الفاعل، أو المفعول في «لتَقْرَأهُ» ، أي: متمهِّلاً مترسِّلاً. الثاني: أنه بدلٌ من «عَلَى النَّاس» قاله الحوفيُّ، وهو وهمٌ؛ لأنَّ قوله «عَلى مُكثٍ» من صفاتِ القارئ، أو المقرُوءِ من وجهة المعنى، لا من صفات الناس؛ حتى يكون بدلاً منهم. الثالث: أنه متعلق ب «فَرقنَاهُ» . قال ابو حيان: «والظاهر تعلق» عَلى مُكثٍ «بقوله» لتَقْرأهُ «، ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جر من جنسٍ واحدٍ؛ لأنه اختلف معنى الحرفين؛ لأن الأول في موضع المفعول به، والثاني في موضع الحال، أي: متمهِّلاً مترسلاً» . قال شهاب الدين: قوله أولاً: إنه متعلق بقوله «لِتقْرَأهُ» : ينافي قوله في موضع الحال، لأنه متى كان حالاً، تعلق بمحذوفٍ، لا يقال: أراد التعلق المعنوي، لا الصناعي؛ لأنه قال: ولا يبالى بكون الفعل يتعلق به حرفا جرٍّ من جنسٍ واحد، وهذا تفسير إعراب، لا تفسير معنى. والمُْثُ: التَّطاولُ في المدة، وفيه ثلاثة لغات: الضمُّ، والفتح - ونقل القراءة بهما الحوفيُّ، وأبو البقاء - والكسر، ولم يقرأ به فيما علمتُ، وفي فعله الفتح والضمُّ وسيأتي بيانه، إن شاء الله تعالى في النَّمل [الآية: 22] ومعنى «عَلى مُكْثٍ» أي على تؤدةٍ، وترسُّل في ثلاثٍ وعشرين سنة {وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً} على الحدِّ المذكور. قوله: {قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا} : يخاطب الذين اقترحوا تلك المعجزات العظيمة؛ على وجه التَّهديد والإنكار، أي: أنَّه تعالى، أوضح البينات والدلائل، وأزاح الأعذار، فاختاروا ما تريدون. {إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ} أي: من قبل نزول القرآن، قال مجاهد: هم ناسٌ من أهل الكتاب، كانوا يطلبون الدِّين قبل مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ثمَّ أسلموا بعد مبعثه؛ كزيد بن عمرو بن نفيلٍ، وسلمان الفارسيِّ، وأبي ذرٍّ، وورقة بن نوفلٍ، وغيرهم. {إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ} يعني القرآن. {يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً} . يعني: يسقطون للأذقان، قال ابن عباس: أراد به الوجوه. قوله: {لِلأَذْقَانِ} : في اللام ثلاثة أوجه: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 407 أحدها: أنها بمعنى «على» ، أي: على الأذقان؛ كقولهم: خرَّ علىوجهه. والثاني: أنها للاختصاص، قال الزمخشري: فإن قيل: حرف الاستعلاءِ ظاهر المعنى، إذا قلت: خرَّ على وجهه، وعلى ذقنه، فما معنى اللام في «خرَّ لذقنه، ولوجهه» ؟ قال: [الطويل] 3478 - ... ... ... ... ... . ... فَخرَّ صَرِيعاً للْيَديْنِ وللْفَمِ قلت: معناه: جعل ذقنهُ، ووجههُ [للخرور] ، قال الزجاج: الذَّقنُ: مجمع اللَّحيين، وكلما يبتدئ الإنسان بالخرور إلى السجود، فأقرب الأشياء من الجبهة إلى الأرض الذَّقنُ. وقيل: الأذقان اللِّحى؛ فإن الإنسان، إذا بالغ في السجود، والخضوع، ربَّما مسح ليحتهُ على التُّراب؛ فإنَّ اللحية يبالغ في تنظيفها، فإذا عفَّرها بالتُّراب، فقد أتى بغايةِ التعظيم [للخُرور] . واختصَّ به؛ لأنَّ اللام للاختصاص، وقال أبو البقاء: «والثاني: هي متعلقة ب» يَخِرُّون «، واللام على بابها، أي: مذلُّون للأذقان» . والأذقانُ: جمعُ ذقنٍ، وهو مجمعُ اللَّحيين؛ قال الشاعر: [الطويل] 3479 - فَخرُّوا لأذقَانِ الوُجوهِ تَنُوشُهمْ ... سِباعٌ من الطَّيْرِ العَوادِي وتَنتِفُ و «سُجَّداً» حال، وجوَّز أبو البقاء في «للأذقانِ» أن يكون حالاً، قال: «أي: ساجدين للأذقان» وكأنه يعني به «للأذْقانِ» الثانية؛ لأنَّه يصير المعنى: ساجدين للأذقان سجداً؛ ولذلك قال: «والثالث: أنها - يعني اللام -[بمعنى] » على «؛ فعلى هذا يكون حالاً من» يَبْكُونَ «، و» يَبْكُون «حال» . فإن قيل: لم قيل: يَخرُّون للأذقان سجداً، ولم يقل يسجدون؟ والجواب: أن المقصود من هذا اللفظ مسارعتهم إلى ذلك؛ حتَّى أنهم يسقطون. ثم قال: {وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} ، أي: كان قولهم في سجودهم: «سبحان ربِّنا» ، أي: ينزِّهونه، ويعظِّمونه {إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً} أي: بإنزال القرآن، وبعث محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وهذا يدلُّ على أنَّ هؤلاء كانوا من أهل الكتاب، لأنَّ الوعد ببعثة محمد سبق في كتابهم، وهم كانوا ينتظرون إنجاز ذلك الوعد، ثم قال: {وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 408 والفائدة في هذا التكرير اختلاف الحالين، وهما: خُرورهُمْ في حال كونهم باكين، في حال استماع القرآن، ويدلُّ عليه قوله: {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} . وجاءت الحال الأولى اسماً؛ لدلالته على الاستقرار، والثانية فعلاً؛ لدلالته على التجدُّد والحدوث. ويجوز أن يكون القول دلالة على تكرير الفعل منهم. وقوله: «يَبْكُونَ» ، معناه: الحال، {وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً} ، أي: تواضعاً. قوله: {وَيَزِيدُهُمْ} : فاعل «يزيدُ» : إمَّا القرآن، أو البكاءُ، أو السُّجودُ، أو المتلوُّ، لدلالة قوله: «إذَا يُتْلَى» . قوله تعالى: {قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن} الآية. قال ابن عباس: سجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بمكَّة ذات ليلة، فجعل يبكي، ويقول في سجوده: (يا الله، يا رحمن) . فقال أبو جهلٍ: إنَّ محمداً ينهانا عن آلهتنا، وهو يدعو إلهين، فأنزل الله هذه الآية، ومعناه: أنَّهما اسمان لواحدٍ، [أي:] أيَّ هذين الاسمين سميتم، فله الأسماءُ الحسنى. قوله: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ} : [ «أيًّ» ] منصوب [ب «تَدْعُوا» ] على المفعول به، والمضاف إليه محذوف، أي: أيَّ الاسمين، و «تَدْعُوا» مجزوم بها، فهي عاملة معمولة، وكذلك الفعل، والجواب الجملة الاسمية من قوله «فلهُ الأسْماءُ الحُسنَى» . وقيل: هو محذوفٌ، تقديره: جاز، ثم استأنف، فقال: فله الأسماء الحسنى، وليس بشيءٍ. والتنوين في «أيًّا» عوض من المضاف إليه، وفي «ما» قولان: أحدهما: أنها مزيدة للتأكيد. والثاني: أنها شرطية جمع بينهما؛ تأكيداً كما جمع بين حرفي الجر؛ للتأكيد، وحسَّنه اختلافُ اللفظ؛ كثوله: [الطويل] 3480 - فأصْبَحْنَ لا يَسْألنَنِي ... عن بِمَا بِهِ ... ... ... ... . . ويؤيِّد هذا ما قرأ به طلحة بن مصرِّفٍ «أيًّا من تدعُوا» فقيل: «مَنْ» تحتمل الزيادة على رأي الكسائيِّ؛ كقوله: [الكامل] 3481 - يَا شَاةَ من قَنصٍ لمَنْ حَلَّتْ لهُ ..... ... ... ... ... . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 409 واحتمل أن تكون شرطية، وجمع بينهما؛ تأكيداً لما تقدَّم، و «تَدعُوا» هنا يحتمل أن يكون من الدعاء، وهو النداءُ، فيتعدَّى لواحدٍ، وأن يكون بمعنى التسمية، فيتعدَّى لاثنين، إلى الأول بنفسه، وإلى الثاني بحرف الجرِّ، ثم يتسع في الجارِّ فيحذف؛ كثوله: [الطويل] 3482 - دَعتْني أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو ... ... . ..... ... ... ... ... ... والتقدير: قل: ادعُوا معبودكم بالله، أو بالرَّحمن، بأيِّ الاسمين سمَّيتموه، وممَّن ذهب غلى كونها بمعنى «سمَّى» الزمخشريز ووقف الأخوان على طأيًّا «بإبدال التنوين ألفاً، ولم يقفا على» مَا «؛ تبييناً لانفصال» أيًّا «من» مَا «، ووقف غيرهما على» مَا «؛ لامتزاجها ب» أيّ «؛ ولهذا فصل بها بين» أي «، وبين ما أضيفت إليه في قوله تعالى {أَيَّمَا الأجلين} [القصص: 28] ، وقيل:» ما «شرطية عند من وقف على» ايًّا «، وجعل المعنى: أي الاسمين دعوتموه به، جاز، ثم استأنف» مَا تدعوا، فله الأسماء الحسنى «، يعني أنَّ» ما «شرطٌ ثانٍ، و» فَلهُ الأسماءُ «جوابه، وجواب الأول مقدر، وهذا مردودٌ بأنَّ» ما «لا تطلق على آحاد أولي العلم، وبأنَّ الشرط يقتضي عموماً، ولا يصحُّ هنا، وبأن فيه حذف الشرط والجزاء معاً. فصل والمعنى: أيًّا ما تدعوا، فهو حسنٌ؛ لأنه إذا حسنت أسماؤه، فقد حسن هذان الاسمان؛ لأنهما منها، ومعنى حسن أسماء الله كونها مفيدة لمعاني التَّمجيد والتَّقديس. واحتجَّ الجبائي بهذه الآية، فقال: لو كان تعالى خالقاً للظُّلم، والجور، لصحَّ أن يقال: يا ظالمُ، حينئذٍ: يبطل ما ثبت بهذه الآية من كون أسمائه بأسرها حسنة. والجواب: أنَّا لا نسلِّم أنه لو كان خالقاً لأفعال العباد، لصحَّ وصفه بأنَّه ظالمٌ، وجائرٌ، كما لا يلزم من كونه خالقاً للحركة والسكون، والسواد، والبياض أن يقال: ما متحرك، ويا ساكن، ويا أبيض، ويا أسود. فإن قيل: فيلزم أن يقال: يا خالق الظُّلم والجور. تقولون: ذلك حقٌّ في نفس الأمر، وإنَّما الأدب أن يقال: يا خالق السَّموات والأرض، فكذا قولنا ها هنا. ثمَّ قال تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 410 وروى سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبَّاس في هذه الآية، قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يرفعُ صوته بالقراءة، فإذا سمعه المشركون سبُّوا القرآن ومن أنزله، ومن جاء به، فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} ، أي: بقراءتك، أي: فيسمعك المشركون؛ ليسبُّوا القرآن، ويسبُّوا الله عدواً بغير علم. قوله: {وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} فلا يسمعك أصحابك. قوله: {وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} . روى أبو قتادة «أنّ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طاف باللَّيل على دور أصحابه؛ فكان أبو بكرٍ يخفي صوته بالقراءة، وكان عمر يرفعُ صوته، فلما جاء النَّهار، وجاء أبو بكرٍ وعمر، فقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: هِيَ لَكَ، مَررْتُ بِكَ، وأنْتَ تَقْرأ، وأنْتَ تخفضُ من صَوتِكَ، فقال: إنِّي سَمِعتُ من نَاجَيتُ، قَالَ: فَارفَعْ قليلاً، وقَالَ لِعُمرَ: مَررْتُ بِكَ، وأنْتَ تَقْرَأ، وأنْتَ تَرْفَعُ مِنْ صَوْتِكَ، فقال: إنِّي أوقظُ الوسْنانَ، وأطردُ الشَّيطَانَ، فقال: اخْفِضْ قليلاً» . وقيل: المراد (ولا تجهر بصلاتك كلها) ، ولا تخافت بها كلها (وابتغ بين ذلك سبيلا) بأن تجهر بصلاة الليل، وتخافت بصلاة النَّهار. وقيل: الآية في الدعاء، وهو قول أبي هريرة، وعائشة، والنخعيِّ، ومجاهدٍ، ومكحولٍ، وروي مرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال في هذه الآية، قال: إنَّما ذلِكَ في الدُّعاءِ والمسالة. قال عبد الله بن شدَّادٍ: كان أعرابٌ من بني تميم، إذا سلَّم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قالوا: اللهم ارزقنا مالاً وولداً يجهرون، فأنزل الله هذه الآية: {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ} . أي: لا ترفع صوتك بقراءتك، ودعائك، ولا تخافت بها. والمُخَافتَةُ: خفض الصَّوت والسُّكوتُ. يقل: خفت صوته يخفته خفوتاً، إذا ضعف وسكن، وصوتٌ خفيتٌ، أي: خفيضٌ. ومنه يقال للرجل، إذا مات: قد خفت كلامه، أي: انقطع كلامه، وخفت الزَّرعُ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 411 إذا ذبل، وخفت الرَّجل بقراءته، يتخافتُ بها، إذا لم يبيِّن قراءته برفع الصوت، وقد تخافت القوم، إذا تسارُّوا بينهم. فصل في المستحب في الدعاء واعلم أن الجهر بالدعاء منهيٌّ عنه، والمبالغة في الإسرار غير مطلوبة، والمستحبُّ التوسُّط، وهو أن يسمع نفسه؛ كما روي عن ابن مسعود: أنه قال: لم يتخافت من يسمع أذنيه. واعلم أن العدل هو رعاية الوسط؛ كما مدح الله هذه الأمَّة بقوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] . ومدح المؤمنين بقوله: {والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الفرقان: 67] . وأمر الله تعالى رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء: 29] فكذا ههنا: نهى عن الطَّرفين، وهما الجهر والمخافتة، وأمر بالتوسُّط بينهما، فقال: {وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً} . وقال بعضهم: الآية منسوخة بقوله - تعالى -: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] . وهو بعيدٌ. واعلم أنه تعالى، لمَّا أمر بأن لا يذكر، ولا ينادى، إلا بأسمائه الحسنى، علَّم كيفيَّة التمجيد؛ فقال: {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل} . فذكر ثلاثة أنواع من صفات التنزيه والجلال: الأول: أنه لم يتخذ ولداً، والسَّببُ فيه وجوهٌ: أولها: أنَّ الولد هو الشيء المتولِّد من أجزاء ذلك الشيء، فكلُّ من له ولدٌ، فهو مركبٌ من الأجزاء، والمركَّب محدثٌ، والمحدث محتاجٌ؛ لا يقدر على كمال الإنعامِ؛ فلا يستحقُّ كمال الحمدِ. وثانيها: أنَّ كل من له ولدٌ، فهو يمسك جميع النِّعم لولده، فإذا يكن له ولدٌ، أفاض كلَّ النِّعم على عبيده. وثالثها: أن الولد هو الذي يقوم مقام الوالد بعد انقضائه، فلو كان له ولد، لكان الجزء: 12 ¦ الصفحة: 412 منقضياً فانياً، ومن كان كذلك، لم يقدر على كمال الإنعام في جميع الأوقات؛ فوجب ألاَّ يستحقَّ الحمد على الإطلاق. وهذه الآية ردٌّ على اليهود في قولهم {عُزَيْرٌ ابن الله} [التوبة: 30] ، وردٌّ على النصارى في قولهم {المسيح ابن الله} [التوبة: 30] وعلى مشركي العرب في قولهم: «المَلائِكةُ بنَاتُ الله» . والنوع الثاني من الصفات السلبية قوله: {وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك} . والسَّببُ في اعتبار هذه الصفة: أنَّه لو كان له شريكٌ، فلا يعرف كونه مستحقًّا للحمد والشُّكر. والنوع الثالث: قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مَّنَ الذل} . والسببُ في اعتباره: أنه لو جاز عليه وليٌّ من الذلِّ، لم يجب شكره؛ لتجويز أن يكون غيره حمله على ذلك الإنعام. أما إذا كان منزَّهاً عن الولد، وعن الشَّريك، وعن أن يكون له وليٌّ يلي أمرهُ، كان مستوجباً لأعظم أنواع الحمد والشُّكر. قوله: {مَّنَ الذل} : فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنها صفة ل «وليّ» ، والتقدير: وليٌّ من أهل الذلِّ، والمراد بهم: اليهود والنصارى؛ لأنهم أذلُّ الناس. والثاني: أنها تبعيضية. الثالث: أنها للتعليل، أي: من أجل الذلِّ، وإلى هذين المعنيين نحا الزمخشريُّ فإنه قال: «وليٌّ من الذلِّ: ناصر من الذلِّ، ومانع له منه؛ لاعتزازه به، أو لم يوالِ أحداً لأجل مذلَّة به؛ ليدفعها بموالاته» . وقد تقدَّم الفرق بين الذُّلِّ والذِّلّ في أول هذه السورة [الآية: 24] . فصل في معنى قوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} معنى قوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} ، أي: أنَّ التمجيد يكون مقروناً بالتكبير، والمعنى: عظِّمه عن أن يكون له شريكٌ، أو وليٌّ؛ قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - «أحَبُّ الكلام إلى الله تعالى اربع: لا إله إلا الله، والله أكبر، وسبحان الله، والحمدُ لله لا يضرك بأيِّهنَّ بدأت» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 413 فصل روى أبي بن كعب، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ سُورة بني إسرائيل، فَرَقَّ قَلبهُ عِندَ ذِكْر الوالدين أعْطِيَ في الجنَّة قِنْطَاريْنِ مِنَ الأجْرِ، والقِنطَارُ ألْفُ أوقيَّةٍ، ومِائتَا أوقيَّةٍ، كلُّ أوقيَّةٍ خيرٌ من الدُّنْيَا وما فِيهَا» . وقال عمر بن الخطاب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: قول العبد: «الله أكبرُ خيرٌ من الدنيا وما فِيهَا» وهذه الآية خاتمة التَّوراة. وروى مطرفٌ، عن عبد الله بْنِ كعبٍ، قال: «افتُتِحَتِ التَّوراةُ بفَاتحةِ سُورةِ الأنعامِ، وخُتمَتْ بِخاتمَةِ هذه السُّورةِ» . وروى عمرُو بنُ شعيب، عن أبيه، عن جدِّه، قال: كان النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إذا أفْصَحَ الغلام من بني عَبْدِ المطَّلبِ، عَلَّمهُ: الحَمدُ للهِ الَّذي لَمْ يتَّخذْ ولداً الآية. وقال عبدُ الحميدِ بنُ واصلٍ: سَمعْتُ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّهُ قال: مَنْ قَرَأ: {وَقُلِ الحمد لِلَّهِ} الآية، كَتبَ الله لهُ من الأجْرِ مِثلَ الأرْض والجِبالِ؛ لأنَّ الله تعلى يَقُولُ فيمَنْ زَعمَ أنَّ لهُ ولداً: {تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً} [مريم: 90] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 414 سورة الكهف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 415 بسم الله الرحمن الرحيم سورة الكهف قال ابن عباس مكية غير أربعين آية منها، وهي مائة وعشر آيات، وألف وخمسمائة وسبع وسبعون كلمة، وعدد حروفها ستة آلاف وثلاثمائة وستون حرفا. قال ابن الخطيب: تقدم الكلام في الحمد، والذي أقوله ها هنا: إن التسبيح أينما جاء فإنما جاء مقدماً على التحميد؛ ألا ترى أنه يقال: «سبحان الله والحمد لله» . وإذا عرف هذا، فنقول: إنه تعالى - جلَّ جلاله - ذكر التسبيح عندما أخبر أنَّه أسرى بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] وذكر التحميد عندما ذكر إنزال الكتاب عليه فقال: {الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب} . ثم قال: والمشبهة استدلوا بلفظ الإسراء في السورة المتقدمة وبلفظ الإنزال في هذه السورة على أنه تعالى مختص بجهة فوق. والجواب عنه مذكور في سورة الأعراف في تفسير قوله {ثُمَّ استوى عَلَى العرش} [الأعراف: 54] . واعلم: أنه تعالى أثنى على نفسه بإنعامه على خلقه، وخصَّ رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بالذكر؛ لأنَّ إنزال الكتاب القرآن عليه كان نعمةً عليه على الخصوصِ وعلى سائر الناسِ على العمومِ. أما كونه نعمة عليه؛ فلأنه تعالى أطلعه بواسطة هذا الكتاب الكريم على أسرار علم التَّوحيد والتَّنزيه وصفات الجلال وأحوال الملائكة وأحوال الأنبياءِ وأحوالِ القضاء والقدر، وتعلُّق أحوال العالم السفليِّ بأحوال العالم العلوي، وتعلق أحوال عالم الآخرة بعالم الدنيا، وكيفية نزول القضاء من عالم الغيب، وذلك من أعظم النِّعم، وأمَّا كونه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 415 نعمة علينا؛ فلأنه مشتملٌ على التكاليفِ والأحكامِ والوعد [والوعيد] والثوابِ والعقاب، فكلُّ واحدٍ ينتفعُ به بمقدار طاقته وفهمه. قوله: {وَلَمْ يَجْعَل} : في هذه الجملة أوجهٌ، أحدها: أنها معطوفة على الصلة قبلها. والثاني: أنها اعتراضية بين الحال وهي «قَيِّما» وبين صاحبها وهو «الكتاب» . والثالث: أنها حالٌ من «الكتاب» ، ويترتب على هذه الأوجه القول في «قَيِّماً» . قوله: {قَيِّماً} : فيه أوجه: الأول: أنه حال من «الكتاب» . والجملة من قوله «ولم يجعل» اعتراض بينهما. وقد منع الزمخشري ذلك فقال: «فإن قلت: بم انتصب» قَيِّماً «؟ قلت: الأحسن أن ينتصب بمضمرٍ، ولم يجعل حالاً من» الكتاب «لأن قوله» ولم يجعل «معطوف على» أنْزلَ «فهو داخلٌ في حيِّز الصلةِ، فجاعله حالاً فاصلٌ بين الحالِ وذي الحال ببعض الصلة» ، وكذلك قال أبو البقاء. وجواب هذا ما تقدَّم من أن الجملة اعتراضٌ لا معطوفة على الصِّلة. الثاني: أنه حالٌ من الهاءِ في «لهُ» . قال أبو البقاءِ: «والحالُ مؤكدة. وقيل: منتقلة» . قال شهاب الدين: القول بالانتقالِ لا يصحُّ. الثالث: أنه منصوب بفعلٍ مقدرٍ، تقديره: جعله قيِّماً. قال الزمخشري: «تقديره: ولم يجعل له عوجاً، جعله قيِّماً، لأنه إذا نفى عنه العوج فقد أثبت له الاستقامة» . قال: «فإن قلت: ما فائدة الجمع بين نفي العوج وإثبات الاستقامةِ وفي أحدهما غِنًى عن الآخر؟ . قلت: فائدته التأكيد فرُبَّ مستقيم مشهودٌ له بالاستقامةِ، ولا يخلو من أدنى عوجٍ عند السَّيرِ والتصفُّح» . الرابع: أنه حالٌ ثانية، والجملة المنفيَّة قبله حال أيضاً، وتعدد الحال لذي حال واحد جائزٌ. والتقدير: أنزله غير جاعلٍ له عوجاً قيماً. والخامس: أنه حالٌ أيضاً، ولكنه بدلٌ من الجملة قبله لأنها حال، وإبدال المفرد من الجملة إذا كانت بتقدير مفرد جائز، وهذا كما أبدلت الجملة من المفرد في قوله: «عَرفْتُ زيداً أبو مَنْ هو» . والضمير في «لَهُ» فيه وجهان، أحدهما: أنه للكتاب، وعليه التخاريج المتقدمة. والثاني: أنه يعود على «عضبدِه» ، وليس بواضحٍ. وقرأ العامة بتشديد الياء، وأبانُ بن تغلب بفتحها خفيفة. وقد تقدَّم القولُ فيها. ووقف حفص على تنوين «عِوَجاً» يبدله ألفاً، ويسكت سكتةً لطيفة من غير قطع نفس، إشعاراً بأنَّ «قيِّماً» ليس متصلاً ب «عوجاً» ، وإنما هو من صفة الكتاب. وغيره لم يعبَأ بهذا الوهم فلم يسكت اتِّكالاً على فهم المعنى. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 416 قلت: قد يتأيَّد ما فعله حفصٌ بما في بعض مصاحف الصحابة: «ولم يَجْعلْ له عوجاً، لكن جعله قيِّماً» . وبعض القراء يطلق فيقول: يقف على «عِوَجاً» ، ولم يقولوا: يبدل التنوين ألفاً، فيحتمل ذلك، وهو أقرب لغرضه فيما ذكرت. ونقل أبو شامة عن ابن غلبون وأبي علي الأهوازيِّ، يعني الإطلاق. ثم قال: «وفي ذلك نظرٌ - أي في إبدال التووين ألفاً - فإنه لو وقف على التنوين لكان أدلَّ على غرضه، وهو أنه واقفٌ بنيَّة الوصل» . انتهى. وقال الأهوازيُّ: «ليس هو وقفاً مختاراً، لأنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، معناه: أنزل على عبده الكتاب قيِّماً ولم يجعل له عوجاً» . قال شهاب الدين: دعوى التقديم والتأخير وإن كان قال به غيره كالبغوي والواحدي وغيرهما إلاَّ أنَّها مردودةٌ لأنَّها على خلاف الأصل، وقد تقدَّم تحقيقه. وفعل حفصٌ في مواضع من القرآن مثل فعله هنا من سكتةٍ لطيفةٍ نافية لوهم مخلٍّ. فمنها: أنَّه كان يقف على «مَرْقدِنا» ، ويبتدئ: {هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن} [يس: 52] . قال: لئلاَّ يتوهَّم أنَّ «هذا» صفة ل «مَرْقدِنا» فالوقف يبين أنَّ كلام الكفار انقضى، ثم ابتدئ بكلامِ غيرهم. قيل: هم الملائكة. وقيل: المؤمنون. وسيأتي في يس ما يقتضي أن يكون «هذا» صفة ل «مَرْقدِنا» فيفوتُ ذلك. ومنها: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} [القيامة: 27] . كان يقف على نون «مَنْ» ويبتدئ «راقٍ» قال: «لئلاَّ يتوهَّم أنها كلمة واحدة على فعَّال اسم فاعل للمبالغة من مرق يمرُق فهو مرَّاق» . ومنها: {بَلْ رَانَ} [المطففين: 14] كان يقف على لام بل، ويبتدئ «ران» لما تقدَّم. قال المهدويُّ: «وكان يلزمُ حفصاً مثل ذلك، فيما شاكل هذه المواضع، وهو لا يفعله، فلم يكن لقراءته وجهٌ من الاحتجاج إلا اتباعُ الأثر في الرواية» . قال أبو شامة: «أولى من هذه المواضعِ بمراعاةِ الوقفِ عليها: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً} [يونس: 65] ، ينبغي الوقف على» قَولهُم «لئلاَّ يتوهَّم أنَّ ما بعده هو المقولُ» ، وكذا {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار الذين يَحْمِلُونَ العرش} [غافر: 6، 7] ينبغي أن يعتنى بالوقف على «النَّار» لئلا تتوهَّم الصفة. قال شهابُ الدين: وتوهُّمُ هذه الأشياء من أبعد البعيد. وقال أبو شامة أيضاً: ولو لزم الوقفُ على اللام والنون ليظهرا للزمَ ذلك في كلِّ مدغمٍ «. يعني في» بل رانَ «وفي» مَنْ راقٍ «. فصل المعنى: ولم يجعل له عوجاً [قيِّماً] ، أي مختلفاً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 417 قال تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً} [النساء: 82] . قال أهل اللغة: العوج في المعاني كالعوج في الأعيان، فالمراد منه نفيُ التَّناقضِ. وقيل: معناه لم يجعلهُ مخلوقاً. روي عن ابن عبَّاس أنَّه قال في قوله تعالى: {قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} [الزمر: 28] أي غير مخلوقٍ. وقوله:» قيماً «فيما نقل عن ابن عباسٍ أنه قال: يريد مستقيماً [قال ابن الخطيب:] وهذا عندي مشكلٌ؛ لأنَّه لا معنى لنفي الاعوجاج إلاَّ حصول الاستقامةِ، فتفسير القيّم بالمستقيم يوجبُ التكرار، بل الحق أن يقال: المرادُ من كونه قيِّماً سبباً لهداية الخلق، وأنَّه يجري بحذوِ من يكون قيّماً للأطفال، فالأرواح البشرية كالأطفالِ، والقرآن كالقيِّم المشفق القيم بمصالحهم. قوله:» ليُنْذِرَ «في هذه اللام وجهان، أظهرهما: أنها متعلقة ب» قيِّماً «قاله الحوفيُّ. والثاني: - وهو الظاهرُ - أنَّها تتعلق ب» أنْزلَ «. وفاعل» لِيُنذِرَ «يجوز أن يكون» الكتاب «وأن يكون الله، وأن يكون الرسول. و» أنْذَرَ «يتعدَّى لاثنين: {إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً} [النبأ: 40] {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً} [فصلت: 13] . ومفعوله الأول محذوف، يقدره الزمخشري:» ليُنْذِرَ الذين كفروا «، وغيره:» ليُنذِرَ العباد «، أو» ليُنذرَكم «، أو لينذر العالم. وتقديره أحسن لأنه مقابل لقوله» ويُبشِّر المؤمنين «، وهم ضدُّهم. وكما حذف المنذر وأتى بالمنذر به هنا، حذف المنذر به وأتى بالمنذرِ في قوله {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ} [الكهف: 4] فحذف الأول من الأول لدلالةِ ما في الثاني عليه، وحذف الثاني من الثاني لدلالة ما في الأول عليه، وهو في غاية البلاغة، ولمَّا لم تتكرَّر البشارة ذكر مفعوليها فقال: {وَيُبَشِّرَ المؤمنين الذين يَعْمَلُونَ الصالحات أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً} . قوله: {مِّن لَّدُنْهُ} قرأ أبو بكرٍ عن عاصم بسكون الدَّال مشمَّة الضمَّ وكسر النون والهاء موصلة بياء، فيقرأ «مِنْ لَدْنهِي» والباقون يضمون الدال، ويسكنون النون ويضمون الهاء، وهم على قواعدهم فيها: فابن كثيرٍ يصلها بواوٍ نحو: منهُو وعنهُو، وغيره لا يصلها بشيءٍ. وجه أبي بكرٍ: أنَّه سكن الدال تخفيفاً كتسكين عين «عَضُد» فالنون ساكنة، فالتقى ساكنان فكسر النون لالتقاءِ الساكنين، وكان حقُّه أن يكسر الأول على القاعدة المعروفة إلا أنه يلزم منه العودُ إلى ما فرَّ منه، وسيأتي لتحقيق هذا بيانٌ في قوله تعالى: {وَيَخْشَ الله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 418 وَيَتَّقْهِ} [النور: 52] في سورة النور، لمَّا كسر النون إتباعاً على قاعدته ووصلها بياء. وأشم الدال إشارة إلى أصلها في الحركة. والإشمامُ هنا عبارة عن ضمِّ الشفتين من غير نطقٍ، ولهذا يختصُّ به البصير دون الأعمى، هكذا قرَّرهُ القراء وفيه نظر؛ لأنَّ الإشمام المشار إليه إنما يتحقق عند الوقف على آخر الكلمة فلا يليق إلاَّ بأن يكون إشارة إلى حركة الحرفِ الآخر المرفوع إذا وقف عليه نحو: «جاء الرجل» ، وهكذا قدَّره النحويون. وأمَّا كونه يؤتى به في وسط الكلمة فلا يتصوَّر إلا أن يقفالمتكلم على ذلك الساكن ثم ينطق ب «ياء» الكلمة. وإذا جرَّبت نطقك في هذا الحرف الكريم وجدت الأمر كذلك، لا ينطقُ به بالدال الساكنة مشيراً إلى ضمها إلا حتى يقف عليها، ثم يأتي ب «ياء» في الكلمة. فإن قلت: إنَّما آتي بالإشارة إلى الضمة بعد فراغي من الكلمةِ بأسرها. قيل لك: فاتت الدلالة على تعيين ذلك الحرف المشار إلى حركته. فالجواب عن هذا بأنه ليس في الكلمة ما يصلح أن يشار إلى حركته وهو الدال. وقد تقدَّم في «يوسف» أن الإشمام في {لاَ تَأْمَنَّا} [يوسف: 11] إذا فسَّرناه بالإشارة إلى الضمة: منهم من يفعله قبل كمال الإدغام، ومنهم من يفعله بعده، وهذا نظيره. وتقدَّم أنَّ الإشمام يقع بإزاءِ معانٍ أربعةٍ تقدَّم تحقيقها. و «مِنْ لدُنه» متعلق ب «ليُنْذِرَ» . ويجوز تعلقه بمحذوفٍ نعتاً ل «بَأساً» ، ويجوز أن يكون حالاً من الضمير في «شديداً» . والبأس مأخوذ من قوله: {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف: 165] و {مِّن لَّدُنْهُ} أي: صادراً من عنده. فصل قال الزجاج: وفي «لدُن» لغات يقال: لَدُ، ولدُنْ، ولَدَى بمعنى واحدٍ، وهي لا تتمكن ممكن «عند» ؛ لأنَّك تقول هذا القول الصَّواب عندي، ولا يقال: صوابٌ لدني، ويقال: عندي مالٌ عظيمٌ، [والمال] غائب عنك، ولدني لما يليك لا غير. وقرئ «ويُبشِّرُ» بالرفع على الاستئناف. والمراد بالأجر الحسن الجنة. قوله: {مَّاكِثِينَ} : حالٌ: إمَّا من الضمير المجرور في «لهُم» ، أو المرفوع المستتر فيه، أو من «أجراً» لتخصصه بالصفة، غلاَّ أنَّ هذا لا يجيءُ إلاَّ على رأيِ الكوفيين. فإنهم لا يشترطون بروزَ الضمير في الصفة الجارية على غير من هي له إذا أمن اللَّبسُ، ولو كان حالاً منه عند البصريِّين لقال: ماكثين هم فيه. ويجوز على رأي الكوفيين أن يكون صفة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 419 ثانية ل «أجْراً» . قال أبو البقاء: وقيل: هو صفة ل «أجْراً» ، والعائد الهاء في «فيه» . ولم يتعرَّض لبروزِ الضمير ولا لعدمه بالنسبة إلى المذهبين. و «أبداً» منصوبٌ على الظرف ب «مَاكثِينَ» . فصل اعلم أنَّ المقصود من إرسالِ الرسل إنذارُ المذنبين وبشارة المطيعين، ولمَّا كان دفع الضرِّ أهمَّ عند ذوي العقول من إيصال النَّفع، لا جرم قدَّم الإنذار في اللفظ. قال الزمخشريُّ: قرئ «ويُبشِّرُ» بالتخفيف والتَّثقيل و {مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً} بمعنى خالدين. فصل قال القاضي: دلت الآية على صحَّة قوله في مسائل: أحدها: أنَّ القرىن مخلوقٌ وبيانه من وجوه: الأول: أنه تعالى وصفه بالإنزال والنزولِ، وذلك من صفاتِ المحدثات، فإنَّ القديم لا يجوز عليه التغييرُ. والثاني: أنَّه وصفه بكونه كتاباً، والكتب هو الجمع، وسمِّي كتاباً لكونه مجموعاً من الحروفِ والكلماتِ، وما صحَّ فيه [من] التركيب والتأليف فهو محدثٌ. الثالث: أنَّه تعالى أثبت الحمد لنفسه، على إنزالِ الكتاب، والحمد إنَّما يستحقُّ على النعمةِ، والنعمةُ محدثة [مخلوقة] . الرابع: أنَّه وصفهُ بأنه غير معوجٍّ وبأنَّه مستقيمٌ، والقديم لا يمكن وصفه بذلك، فثبت أنَّه محدثٌ مخلوقٌ. وثانيها: خلق الأعمال؛ فإنَّ هذه الآية تدلُّ على قولنا في هذه المسألة من وجوهٍ: الأول: نفس الأمر بالحمد؛ لأنَّه لو لم يكن للعبد فعلٌ لم ينتفع بالكتاب، إذ الانتفاع به إنما يحصل إذا قدر أن يفعل ما دلَّ الكتاب على أنه يجب فعله، ويترك ما دلَّ الكتاب على أنه يجب تركهُ، وهذا إنَّما كان يعقل لو كان مستقلاً بنفسه. أمَّا إذا لم يكن مستقلاً بنفسه لم يكن لعوج الكتاب أثرٌ في اعوجاج فعله، ولم يكن لكون الكتاب «قيِّماً» أمرٌ في استقامةِ فعله كان العبدُ قادراً على الفعل مختاراً فيه. والثاني: أنَّه تعالى لو أنزل بعض الكتاب ليكون سبباً لكفر البعض، وأنزل الباقي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 420 ليؤمن البعضُ الآخر، فمن أين أن ذلك الكتاب قيمٌ لا عوج فيه؟ لأنه لو كان فيه عوجٌ لما زاد على ذلك. والثالث: قوله: «لِيُنذِرَ» وفيه دلالة على أنَّه تعالى أراد منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ إنذارَ الكلِّ وتبشير الكلِّ، وبتقدير أن يكون خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى لم يبق للإنذارِ والتبشير فائدة؛ لأنَّه تعالى إذا خلق الإيمان حصل شاء العبدُ أو لم يشأ، وإذا خلق الكفر [حصل] شاء العبد أو لم يشأ، فيصيرُ الإنذار والتبشيرُ على الكفر والإيمان جارياً مجرى الإنذارِ والتبشير على كونه طويلاً وقصيراً وأبيض وأسود ممَّا لا قدرة للعبد عليه. الرابع: وصفه المفسرون بأنَّ المؤمنين يعملون الصالحاتِ فإن كان خلقاً لله تعالى، فلا علم لهم به ألبتة. الخامس: إيجابه لهم الأجر الحسن على ما علموا؛ فإن الله تعالى قادرٌ بخلق ذلك فيهم، فلا إيجاب ولا استحقاق. المسألة الثالثة: دلَّت الآية على أنَّه تعالى يفعل أفعاله لأغراض صحيحةٍ، وذلك يبطل قول من يقول: إنَّ فعلهُ غيرُ مُعلَّلٍ بالغرضِ. فصل واعلم أن هذه الكلمات قد تكررت في هذا الكتاب فلا فائدة في الإعادة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 421 اعلم أنَّ قوله: {وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً} معطوف على قوله: {لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْهُ} [الكهف: 2] ، والمعطوف يجب كونه مغايراً للمعطوف عليه، فالأول عام في حقِّ كلِّ من استحقَّ العذاب، والثاني خاصٌّ بمن قال: إنَّ الله اتَّخذ ولداً، والقرآن جارٍ بأنه إذا ذكر الله قضية كلية عطف عليها بعض جزئياتها؛ تنبيهاً على كون ذلك البعض المعطوف أعظم جزئيات ذلك الكلي [أيضاً] ، كقوله تعالى: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] فكذا ها هنا يدل على أن أعظم أنواعِ الكفر والمعصيةِ إثباتُ الولد لله تعالى. فصل واعلم أنَّ المثبتين لله تعالى الولد ثلاث طوائف: الأولى: كفار العرب الذين قالوا: الملائكة بناتُ الله. الثانية: النصارى قالوا: المسيحُ ابن الله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 421 الثالثة: اليهود، [حيث] قالوا: العزير ابنُ الله. واعلم أنَّ إثبات الولد لله كفرٌ عظيمٌ، وتقدَّم الكلام على ذلك في سورة الأنعام في قوله: {وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 100] وسيأتي تمامه - إن شاء الله تعالى - في سورة مريم؛ لأنَّه تعالى أنكر على القائلين بإثبات الولد من وجهين: الأول: قوله: {مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلاَ لآبَائِهِمْ} . فإن قيل: اتخاذ الله تعالى الولد محالٌ في نفسه، فكيف قيل: {مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} [الزخرف: 20] ؟ . فالجوابُ أنَّ انتفاء العلم بالشيء قد يكون للجهل بالطريق الموصل إليه؛ وقد يكون لأنَّه في نفسه محالٌ، لا يمكن تعلق العلم به، ونظيره قوله: {وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} [المؤمنون: 117] . فصل تمسَّك نفاة القياس بهذه الآية، فقالوا: دلَّت هذه الآية على أن القول في الدِّين بغير علمٍ باطل، والقول بالقياس الظنيِّ قول في الدِّين بغير علم، فيكون باطلاً. وجوابه تقدم عند قوله: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] . وقوله: {وَلاَ لآبَائِهِمْ} أي أحداً من أسلافهم، وهذه مبالغة في كون تلك المقالة فاسدة باطلاة جدًّا. قوله: {مَّا لَهُمْ بِهِ} : أي: بالولد، أو باتخاذه، أو بالقول المدلول عليه ب «اتَّخَذَ» وب «قَالُوا» ، وبالله. وهذه الجملة المنفية فيها ثلاثة أوجه: أظهرها: أناه مستأنفة، سيقت للإخبار بذلك. والثاني: أنها صفة للولد، قاله المهدويُّ، وردَّه ابن عطية: بأنه لا يصفه بذلك إلاَّ القائلون، وهم لم يقصدوا وصفه بذلك. الثالث: أنها حالٌ من فاعل «قالوا» ، أي: قالوه جاهلين. و «مِنْ عِلم» يجوز أن يكون فاعلاً، وأن يكون مبتدأ، والجارُّ هو الرافع لاعتماده أو الخبر، و «مِنْ» مزيدة على كلا القولين. قوله: «كَبُرتْ كلمة» في فاعل «كَبُرتْ» وجهان: أحدهما: أنه مضمرٌ عائد على مقالتهم المفهومة من قوله: {قَالُواْ اتخذ الله} أي: كبر مقالهم، و «كلمة» نصب على التمييز، ومعنى الكلام على التعجُّب، أي: ما أكبرها الجزء: 12 ¦ الصفحة: 422 كلمة، و «تَخرُج» الجملة صفة ل «كَلمةٌ» ويؤذنُ باستعظامها لأنَّ بعض ما يهجس في الخاطر لا يجسر الإنسان على إظهاره باللفظ. والثاني: أن الفاعل مضمر مفسر بالنكرة بعده المنصوبة على التمييز، ومعناها الذمُّ؛ ك «بِئْسَ رجلاً» فعلى هذا: المخصوصُ بالذمِّ محذوف، تقديره: كبرت هي الكلمة كلمة خارجة من أفواههم تلك المقالة الشنعاءُ. وقرأ العامة «كلمة» بالنصب، وفيها وجهان: النصبُ على التمييز تقديره كبرت الكلمة. قال الواحديُّ: ومعنى التمييز: أنَّك إذا قلت: كبرت المقالة أو الكلمة، جاز أن يتوهم أنَّها كبرت كذباً، أو جهلاً، أو افتراء، فلما قلت: «كَلِمَة» فقد ميَّزتها من محتملاتها، فانتصبت على التَّمييز، والتقدير: كبرت الكلمة كلمة، فحصل فيه الإضمار. وأمَّا من رفع «كلمةٌ» فلا يضمر شيئاً. قال النحويُّون: النصب أقوى وأبلغ. وقد تقدَّم تحقيقه في الوجهين السابقين. والثاني: النصب على الحال، وليس بظاهر وقيل: نصباً على حذف حرف الجرّ، والتقدير: «مِنْ كَلمَةٍ» فحذف «مِنْ» فانتصب. قوله: «تَخرجُ» في الجملة وجهان: أحدهما: هي صفة لكلمة. والثاني: أنها صفة للمخصوص بالذَّم المقدر، تقديره: كبرت كلمةٌ خارجةٌ كلمةً. وقرأ الحسن، وابن محيصنٍ، وابن يعمر، وابن كثير - في رواية القوَّاس عنه - «كَلمَةٌ» بالرفع على الفاعلية، و «تَخْرجُ» صفة لها أيضاً، وقرئ «كَبْرَتْ» بسكون الباء، وهي لغة تميم. قوله: «كَذِباً» فيه وجهان: أحدهما: هو مفعولٌ به؛ لأنه يتضمَّن معنى جملة. والثاني: هو نعت مصدر محذوف، أي: قولاً كذباً. فصل في المراد من الكلمة المراد من هذه الكلمة هو قولهم: {اتخذ الله وَلَداً} فصارت مضمرة في «كَبُرتْ» ، وسمِّيت: «كلمة» كما يسمُّون القصيدة كلمة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 423 وقوله: {تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ} أي: هذا الذي يقولونه، لا يحكم به عقلهم وفكرهم البتَّة؛ لكنه في غاية الفساد والبطلان، فكأنَّه يجري على لسانهم على سبيل التقليلد {إِن يَقُولُونَ} ، أي: ما يقولون إلاَّ كذباً. واختلف النَّاس في حقيقة الكذب، فقيل: هو الخبر الذي لا يطابقُ المخبر عنه. وقيل: قال بعضهم: يشترط علم قائله بأنَّه غير مطابقٍ. قال ابن الخطيب: وهذا القيد عندنا باطلٌ؛ لأنَّه تعالى وصف قولهم بإثبات الولد لله بكونه كذباً مع أن الكثير منهم يقول ذلك، ولا يعلم كونه كذباً باطلاً، فعلمنا أن كلَّ خبر لا يطابقُ المخبر عنه، فهو كذبٌ، سواءٌ علم القائل بكونه كذباً، أو لم يعلم. ويمكن أن يجاب بأنَّ الله تعالى، إنما وصف علماءهم المحرِّفين للكلم عن مواضعه، ودخل المقلِّدون على سبيل التَّبع عليه. فصل في الرد على النّظام احتجَّ النظَّام على أنَّ الكلام جسمٌ بهذه الآية، قال: لأنَّه تعالى وصف الكلمة بأنَّها تخرجُ من أفواههم، والخروجُ عبارة عن الحركةِ، والحركةُ لا تصحُّ إلاَّ على الأجسام، وأجيب: بأنَّ الحروف والأصوات إنَّما تحدث بسبب خروجِ النفس من الحلق، فلما كان خروج النَّفسِ سبباً لحدوثِ الكلمةِ، أطلق لفظ الخروج على الكلمة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 424 والمقصود منه أنَّه قيل لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: لا يعظم حزنك وأسفك؛ بسبب كفرهم، فإنَّا بعثناك منذراً ومبشّراً، فأما تحصيلُ الإيمان في قلوبهم، فلا قدرة لك عليه، والغرض منه تسلية الرَّسُول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. ومعنى: «بَاخعٌ نَفْسكَ» أي: قاتلٌ نفسك. قال الليثُ: بخع الرَّجلُ نفيه إذا قتلها غيظاً من شدَّة وجده، والفاء في قوله: (فَلعلَّكَ) قيل: جواب الشرط، وهو قوله: {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ} قدم عليه، ومعناه التأخير. وقال الجمهور: جواب الشرط محذوف لدلالة قوله: «فَلعلَّكَ» . و «لَعلَّكَ» قيل: للإشفاق على بابها. وقيل: للاستفهام، وهو رأيُ الكوفيِّين. وقيل: للنَّهي، أي: لا تَبْخَعْ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 424 والبَخْعُ: الإهلاك، يقال: بَخَع الرجل نفسه يَبخَعُهَا بَخْعاً وبُخُوعاً، أهلكها وجداً. قال ذو الرمة: [الطويل] 3483 - ألا أيُّهذا البَاخِعُ الوجْدُ نفسهُ ... لِشيءٍ نَحَتْهُ عَن يَديْهِ المَقادِرُ يريد: نحَّته بالتشديد، فخفف، قال الأصمعي: كان ينشده: «الوَجْدَ» بالنصب على المفعول له، وأبو عبيدة رواه بالرَّفع على الفاعلية ب «البَاخِع» . وقيل: البَخْعُ: أن تضعفَ الأرض بالزِّراعةِ، قاله الكسائي، وقيل: هو جهدُ الأرض وعلى هذا معنى «بَاخعٌ نَفْسكَ» أي ناهكها وجاهدها؛ حتَّى تهلكها، وقيل: هو جهد الأرض في حديث عائشة - رضي اله عنها - عن عمر: «بَخَعَ الأرض» تعني جهدها؛ حتَّى أخذ ما فيها من أموالِ ملوكها، وهذا استعارة، ولم يفسِّره الزمخشري هنا بغير القتل والإهلاك، وقال في سورة الشعراء: «البَخْع» : أن يبلغَ بالذَّبْح البِخَاع بالباء وهو عرقٌ مستبطن الفقار، وذلك أقصى حدِّ الذابح. قال شهاب الدين: وسمعت شيخنا علاء الدين القونيَّ يقول: «تَتبَّعتُ كُتبَ الطبِّ والتشريح، فلم أجد لهذا اصلاً» . فصل يحتمل أنه لما ذكروه، سمَّوه باسم آخر؛ لكونه أشهر فميا بينهم. وقال الرَّاغب: «البَخْعُ: قتلُ النفس غمًّا» ثم قال: «وبَخعَ فلانٌ بالطاعة، وبما عليه من الحق: إذا أقرَّ به، وأذعن مع كراهةٍ شديدةٍ، تجري مجرى بخعِ نفسه في شدَّته» . قوله: «عَلى آثَارِهمْ» متعلقٌ ب «بَاخِعٌ» أي: من بعد هلاكهم. يقال: مات فلانٌ على أثر فلانٍ، أي بعده، وأصل هذا أنَّ الإنسان، إذا مات، بقيت علاماتهُ، وآثارهُ بعد موته مدَّة، ثمَّ إنَّها تنمحي وتبطل بالكليَّة، فإذا كان موته قريباً من [موت] الأول، كان موته حاصلاً حال بقاءِ آثار الأول، فصحَّ أن يقال: مات فلانٌ على أثرِ فلانٍ. قوله: {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث} يعني القرآن. قال القاضي: وهذا يقتضي وصف القرآن بأنه حديثٌ، وذلك يدلُّ على فساد قول من يقول: إنه قديمٌ. وأجيب بأنه محمول على الألفاظ، وهي حادثة. قوله: {إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ} : قرأ العامة بكسر «إنْ» على أنها شرطية، والجواب محذوفٌ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 425 عند الجمهور؛ لدلالة قوله: «فَلعلَّكَ» ، وعند غيرهم هو جوابٌ متقدِّم، وقرئ: «أنْ لَمْ» بالفتح؛ على حذف الجارِّ، أي: لأنْ لم يؤمنوا. وقُرئ «بَاخِعُ نَفْسِكَ» بالإضافة، والأصل النصبُ، وقال الزمخشري «وقرئ طبَاخعُ نَفْسكَ» على الأصل، وعلى الإضافة. أي: قاتلها ومهلكها، وهو للاستقبال فيمن قرأ «إنْ لمْ يُؤمِنُوا» ، وللمضيِّ فيمن قرأ «إنْ لم تُؤمنوا» بمعنى: لأن لم تُؤمِنُوا «يعني أنَّ باخعاً للاستقبال في قراءة كسر» إنْ «فإنها شرطية، وللمضيِّ في قراءةِ فتحها، وذلك لا يأتي إلا في قراءة الإضافة؛ إذ لا يتصوَّر المضيُّ مع النصب عند البصريين، وعلى هذا يلزم ألاَّ يقرأ بالفتح، إلا من قرأ بإضافة» بَاخِع «، ويحتاج في ذلك إلى نقل وتوقيف. قوله:» أسفاً «يجوز أن يكون مفعولاً من أجله، والعامل فيه» بَاخعٌ «وأن يكون مصدراً في موضع الحال من الضمير في» بَاخعٌ «. والأسف: الحزن، وقيل: الغضب، وقد تقدَّم في الأعراف عند قوله: {غَضْبَانَ أَسِفاً} [الأعراف: 150] وفي يوسف عند قوله: {ياأسفى عَلَى يُوسُفَ وابيضت} [يوسف: 84] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 426 قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا} الآية. قال القاضي: وجه النَّظم كأنه يقول: يا محمد، إنِّي خلقتُ الأرض، وزينتها، وأخرجتُ منها أنواع المنافع والمصالح، وأيضاً، فالمقصود من خلقها بما فيها من المصالح ابتلاء الخلق بهذه التكاليف، ثم إنَّهم يكفرون ويتمرَّدون، ومع ذلك، فلا أقطع عنهم موادَّ هذه النِّعم، فأنت أيضاً يا محمد لا يهمُّك الحزن؛ بسبب كفرهم إلى أن تترك الاشتغال بدعوتهم إلى الدِّين. قوله: {زِينَةً} : يجوز أن ينتصب على المفعول له، وأن ينتصب على الحال، إن جعلت «جَعلْنَا» بمعنى «خَلقْنَا» ويجوز أن يكون مفعولاً ثانياً، إن ك انت «جَعَلَ» تصييرية، و «لها» متعلق ب «زَينةً» على العلَّة، ويجوز أن تكون اللام زائدة في المفعول، ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ صفة ل «زينةً» . وقوله: «لنَبْلُوهُمْ» متعلق ب «جَعلْنَا» بمعنييه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 426 قوله: «أيُّهمْ أحْسنُ» يجوز في «أيُّهُمْ» وجهان: أحدهما: أن تكون استفهامية مرفوعة بالابتداء، و «أحسنُ» خبرها، والجملة في محلِّ نصب متعلقة ب «نَبْلُوهُمْ» لأنه سببُ العلم، والسؤال، والنظر. والثاني: أنَّها موصولة بمعنى الذي و «أحْسَنُ» خبر مبتدأ مضمرٍ، والجملة صلة ل «أيُّهمْ» ويكون هذا الموصول في محلِّ نصبٍ بدلاً من مفعول «لنَبْلُوهُمْ» تقديره لِنَبلُو الذي هو أحسنُ؛ وحينئذٍ تحتمل الضمة في «ايُّهم» أن تكون للبناء، كهي في قوله تعالى: {لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ} [مريم: 69] على أحد الأقوالِ، وفي قوله: [المتقارب] 3484 - إذَا مَا أتَيْتَ بَنِي مالكٍ ... فَسلِّمْ عَلى أيُّهُم أفْضَلُ وشرط البناء موجودٌ، وهو الإضافة لفظاً، وحذف صدر الصلة، وهذا مذهب سيبويه، وأن تكون للإعراب؛ لأنَّ البناء جائزٌ لا واجبٌ، ومن الإعراب ما قُرِئ به شاذًّا {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن} [مريم: 69] وسيأتي إن شاء الله تعالى تحقيقه في مريم. والضمير في «لِنبلوهُمْ» و «أيُّهم» عائد على ما يفهم من السِّياق، وهم سكان الأرض. وقيل: يعود على ما على الأرض، إذا أريد بها العقلاء، وفي التفسير: المراد بذلك الرُّعاة. وقيل: العلماء والصلحاء والخلفاء. فصل في المقصود بالزينة اختلفوا في تفسير هذه الزينة، فقيل: النَّبات، والشجر، والأنهار. كما قال تعالى: {حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا وازينت} [يونس: 24] وضمَّ بعضهم إليه الذَّهب، والفضَّة، والمعادن، وضمَّ بعضهم إلى ذلك جميع الحيوان، فإن قيل: أي زينة في الحيَّات والعقارب [والشياطين] . فالجواب: فيها زينةٌ؛ بمعنى أنَّها تدلُّ على وحدانيَّة الله تعالى. وقال مجاهد: أراد الرجال خاصَّة هم زينة الأرض. وقيل: أراد به العلماء والصلحاء. وقيل: أراد به الناس. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 427 وبالجملة، فليس في الأرض إلاَّ المواليد الثلاثة، وهي المعادن، والنبات، والحيوان، وأشرف أنواع الحيوان الإنسان. قال القاضي: الأولى ألاَّ يدخل المكلَّف في هذه الزِّينة؛ لأنَّ الله تعالى قال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم} فمن يبلوهم يجب ألاَّ يدخل في ذلك. وأجيب بأن قوله: {زِينَةً لَّهَا} أي للأرض، ولا يمتنع أن يكون ما تحسن به الأرض زينة لها، كما جعل الله السَّماء مزينة بالكواكب. وقوله: {لِنَبْلُوَهُمْ} لنختبرهم {أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} ، أي: أصلح عملاً. وقيل: أيُّهم أترك للدُّنيا. فصل ذهب هشام بن الحكم إلى أنَّه تعالى لا يعلم الحوادث إلاَّ عند دخولها في الوجود، فعلى هذا: الابتلاءُ والامتحانُ على الله جائز؛ واحتجَّ بأنه تعالى لو كان عالماً بالجزئيَّات قبل وقوعها، لكان كلُّ ماعلم وقوعه واجب الوقوعِ، وكل ما علم عدمه ممتنع الوقوعِ، وإلاَّ لزم انقلابُ علمه جهلاً، وذلك محالٌ، والمفضي إلى المحال محالٌ، ولو كان ذلك واجباً، فالذي علم وقوعه يجبُ كونه فاعلاً له، ولا قدرة له على التَّرك، والذي علم عدمه يكون ممتنع الوقوع، ولا قدرة له على الفعل، وعلى هذا يلزم ألاَّ يكون الله قادراً على شيءٍ أصلاًن بل يكون موجباً بالذَّات. وأيضاً، فيلزم ألا يكون للعبد قدرة على الفعل، ولا على التركِ؛ لأنَّ ماعلم الله وقوعه، امتنع من العبد تركه، وما علم عدمه، امتنع منه فعله، فالقول بكونه تعالى عالماً بالأشياء قبل وقوعها، يقدح في الربوبيَّة، وفي العبوديَّة، وذلك باطلٌ؛ فثبت أنَّه تعالى إنما يعلم الأشياء عند وقوعها، أي عند ذلك، وعلى هذا التقدير، فالابتلاءُ والامتحانُ والختبار غي رجائز عليه، وعند هذا قال: يجرى قوله: {لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} على ظاهره. وأمَّا جمهور علماء الإسلام، فقد استبعدوا هذا القول، وقالوا: إنه تعالى من الأزل إلى الأبدِ عالمٌ بجميع الجزئيَّات، والابتلاءُ والامتحان عليه محال، وأينما وردت هذه الألفاظ فالمراد أنه تعالى يعاملهم معاملة، لو صدرت عن غيره، لكانت على سبيل الابتلاءِ والامتحانِ. فصل في تعليل أفعال الله تعالى قالت المعتزلةُ: دلَّت هذه الآية ظاهراً على أنَّ أفعال الله تعالى معلَّلة بالأغراض وقال أهل السنة: هذا محالٌ؛ لأنَّ التعليل بالغرض إنَّما يصحُّ في حقِّ من لا يصحُّ منه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 428 تحصيل ذلك الغرض، إلاَّ بتلك الواسطة، وهذا يقتضي العجز، وهو على الله تعالى محالٌ. قوله: {وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً} . والمعنى أنَّه تعالى إنما زيَّن الأرض؛ لأجل الامتحان والابتلاء، لا لأجل أن يبقى الإنسان فيها متنعِّماً بها لا زاهداً فيها أي: لجاعلون ما عليها من هذه الزِّينة {صَعِيداً جُرُزاً} . ونظيره: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ} [الرحمن: 26] . وقوله: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً} [طه: 106، 107] . وقوله: {وَإِذَا الأرض مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: 3، 4] . والمعنى أنَّه لا بدَّ من المجازاةِ بعد إفناء ما على الأرض، وتخصيص الإهلاك بما على الأرض يوهم بقاء الأرض، إلا أنَّ سائر الآيات دلَّت أيضاً على أنَّ الأرض لا تبقى، وهو قوله: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض} [إبراهيم: 48] . قوله: {صَعِيدًا} : مفعول ثانٍ؛ لأنَّ الجعل هنا تصيير ليس إلاَّ، والصعيد: التراب. وقال أبو عبيدة: الصعيد المستوي من الأرض. وقال الزجاج: هو الطَّريق الذي لا طين له، أو لا نبات فيهز وقد تقدَّم في آية التيمم. والجُرزُ: الذي لا نيات به، يقال: سَنةٌ جُرُز، وسنُونَ أجرازٌ: لا مطر فيها، وأرضٌ جُرزٌ، وأرضُونَ أجْرازٌ: لا نبات فيها قال الفراء: جَرزَتِ الأرض؛ فهي مجروزة إذا ذهب نباتها بقحطٍ أو جرازٍ يقال جرزها الجراد والشياة والإبل إذا أكل ما عليها وامرأة مجروز: إذا كانت أكولة. قال الشاعر: [الرجز] 3485 - إنَّ العَجُوزَ خَبَّةً جَرُوزا ... تَأكلُ كُلَّ لَيْلةٍ قَفِيزا وسيف جراز، إذا كان مستأصلاً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 429 قوله: {أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً} الآية. معناها: أظننت، يا محمد، أنَّ أصحاب الكهف والرَّقيم كانوا من آياتنا عجباً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 429 وقيل: معناه أنَّهم ليسوا بأعجب من آياتنا؛ فإنَّ ما خلقت من السموات والأرض وما فيهن من العجائب أعجبُ منهم، فكيف يستبعدُ من قدرته ورحمته حفظ طائفة مدة ثلاثمائة سنةٍ وأكثر؟ هذا وجه النظم. وقد تقدَّم سببُ نزولِ قصَّة أصحاب الكهف عند قوله: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} [الإسراء: 85] . والكهف هو الغار في الجبل وقيل: مطلق الغار، وقيل: هو ما اتسع ف يالجبل، فإن لم يتَّسِعْ، فهو غارٌ، والجمع «كُهُوف» في الكثرة، و «أكْهُفٌ» في القِلَّةِ. والرَّقيم: قيل: بمعنى مرقوم. وعلى هذا قال أهل المعاني: الرَّقيمُ الكتاب. ومنه قوله: {كِتَابٌ مَّرْقُومٌ} [المطففين: 9] أي: مكتوب. قال الفراء: الرقيم لوحٌ كان فيه أسماؤهم وصفاتهم، وسمِّي رقيماً؛ لأنَّ أسماءهم كانت مرقومة فيه. قال سعيد بن جبيرٍ، ومجاهدٌ: كان لوحاً من حجارةٍ، وقيل: من رصاصٍ، كتبنا فيه أسماءهم وصفاتهم، وشدَّ ذلك اللَّوح على باب الكهف، وهو أظهر الأقوال. وقيل: بمعنى راقم، وقيل: هو اسم الكلب الذي لأصحاب الكهفِ، وأنشدوا لأمية بن أبي الصَّلت: [الطّويل] 3486 - وليْسَ بِهَا إلاَّ الرَّقيمُ مُجاوِراً ... وصِيدَهُمُ، والقَوْمُ بالكهْفِ هُمَّدُ وروى عكرمة عن ابن عبَّاس أنَّه قال: كلُّ القرآن معلومٌ إلا أربعة: غسلين، وحناناً، والأوَّاه، والرَّقيم. وروى عكرمة عن ابن عبَّاس أنه سئل عن الرَّقيم فقال: زعم كعبٌ أنَّها القرية التي خرجوا منها، وهو قول السديِّ. وحكي عن ابن عباس: أنَّه اسمٌ للوادي الذي فيه أصحاب الكهف، وعلى هذا هو من رقمة الوادي، وهو جانبه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 430 وقيل: اسم للجبلِ الذي فيه الكهف. قوله: {أَمْ حَسِبْتَ} : «أم» هذه منقطعة، فتقدَّر ب «بل» التي للانتقال، لا للإبطال، وبهمزة الاستفهام عند جمهور النحاة، و «بل» وحدها أو بالهمزة وحدها عند غيرهم، وتقدَّم تحقيق القولِ فيها. و «أنَّ» وما في حيِّزها سادَّةٌ مسدَّ المفعولين، أو أحدهما، على الخلافِ المشهور. قوله: «عَجَباً» يجوز أن تكون خبراً، و «مِنْ آيَاتِنَا» حالٌ منه، وأن يكون خبراً ثانياً، و «مِنْ آيَاتِنَا» خبراً أوَّل، وأن يكون «عجباً» حالاً من الضمير المستتر في «من آيَاتِنَا» لوقوعه خبراً، ووحَّد، وإن كان صفة في المعنى لجماعة؛ لأن أصله المصدر قال ابن الخطيب: عجباً، و «العجب» ها هنا مصدر، سمِّي المفعول به، والتقدير: «كانوا معجوباً منهم» فسمُّوا بالمصدر. وقالوا: «عَجَباً» في الأصل صفة لمحذوفٍ، تقديره: آية عجباً، وقيل: على حذف مضافٍ، أي: آية ذات عجبٍ. قوله: {إِذْ أَوَى} : يجوز أن ينتصب ب «عَجَباً» وأن ينتصب ب «اذْكُرْ» ؛ لأنه لا يجوز أن يكون «إذْ» ههنا متعلقاً بما قبله على تقدير «أمْ حَسِبْتَ» ؛ لأنَّه كان بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وبينهم مدة طويلة، فلم يتعلق الحسبان بذلك الوقت الذي أووا فيه إلى الكهف، بل يتعلق بمحذوفٍ. والتقدير: اذكر إذ أوى الفتيةُ إلى الكهف، والمعنى صاروا إليه، وجعلوهُ مأواهم، فقالوا: {رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً} أي من خزائن رحمتك. قوله: «وهَيِّئ» : العامة على همزة بعد الياء المشددة، وأبو جعفر وشيبة والزهريُّ بياءين: الثانية خفيفة، وكأنَّه أبدل الهمزة ياء، وإن كان سكونها عارضاً، ورُوِيَ عن عاصم «وهيِّ» بياءٍ مشددة فقط، فيحتمل أن يكون حذف الهمزة من أول وهلةٍ تخفيفاً، وأن يكون أبدلها؛ كما فعل أبو جعفرٍ، ثم أجرى الياء مجرى حرفِ العلَّة الأصليِّ، فحذفه، وإن كان الكثير خلافه، ومنه: 3487 - جَرِيءٍ مَتَى يُظلمْ يُعَاقِبْ بظُلمهِ سَرِيعاً وإلاَّ يُبْدَ بالظُّلمِ يَظلِمِ معنى «هيِّئ لنا» أصلخ من قولك «هيَّأت الأمرَ، فتهيَّأ» . وقرأ أبو رجاء «رُشداً» ها هنا بضم الراء وسكون الشين، وتقدم تحقيق ذلك في الأعراف، وقراءة العامة هنا أليق؛ لتوافق الفواصل. والتقدير: هيِّئ لنا أمراً ذا رشدٍ؛ حتَّى نكون بسببه راشدين مهتدين. وقيل: اجعل أمرنا رشداً كلَّهُ؛ كقولك: رَأيتُ منه رشداً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 431 قوله: {فَضَرَبْنَا} : مفعوله محذوف، أي: ضربنا الحجاب المانع، و «عَلَى آذانِهم» استعارة للزوم النوم؛ كقول الأسود: [الكامل] 3488 - ضَربتْ عَليْكَ العَنْكبُوتَ بِنَسْجِهَا ... وقضَى عَليْكَ بشهِ الكِتابُ المُنزَلُ ونصَّ على الآذان؛ لأنَّ بالضَّرب عليها خصوصاً يحصل النُّومُ. وأمال «آذانهم» . قوله: {فِي الكهف} وهو ظرف المكان، ومعنى الكلام: إنَّما هم في الكهف، واسمه خيرم، واسم الجبل الذي هو فيه [مخلوس] . وقوله: «سِنينَ» ظرف «زمان» ل «ضَربْنَا» و «عَدداً» يجوز فيه أن يكون مصدراً، وأن يكون «فعلاً» بمعنى مفعول، أي من باب تسمية المفعول باسم المصدر، كالقبض والنَّقض. فعلى الأول: يجوز نصبه من وجهين: احدهما: النعت ل «سنين» على حذف مضافٍ، اي: ذوات عدد، أو على المبالغة على سبيل التأكيد والنصب بفعلٍ مقدرٍ، أي: تعدُّ عدداً. وعلى الثاني: نعتٌ ليس إلا، أي: معدودة. فصل [اذكر العدد هنا على سبيل التأكيد] قال الزجاج: ذكر العدد ها هنا يفيد كثرة السِّنين، وكذلك كل شيءٍ ممَّا يعدُّ إذا ذكر فيه العددُ، ووصف به، اريد كثرته؛ لأنَّه إذا قلَّ، فهم مقداره بدون التعديد، أمَّا إذا ذكر فيه العددُ، ووصف به، أريد كثرته؛ لأنَّه إذا قلَّ، فهم مقداره بدون التعديد، أمَّا إذا كثر فهناك يحتاج إلى التعديد، فإذا قلت: أقمتُ أيَّاماً عدداً، أردتَّ به الكثرة. قوله: {ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ} . اللام لامُ الغرض؛ فيدل على أن أفعال الله تعالى معلَّلة بالأغراض، وقد تقدم الكلام فيه، ونظير هذه الآية في القرآن كثير، منها ما سبق في هذه السورة، وفي سورة البقرة: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ} [البقرة: 143] وفي آل عمران: {وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ} [آل عمران: 142] وقوله: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ} [محمد: 31] . فصل وقال بعض العلماء: «لِنعلمَ» أي: علم المشاهدة. وقوله: {لِنَعْلَمَ} : متعلق بالبعث، والعامة على نون العظمة؛ جرياً على ما تقدم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 432 وقرأ الزهريُّ «ليَعْلم» بياء الغيبة، والفاعل الله تعالى، وفيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة، ويجوز أن يكون الفاعل «أيُّ الحِزبينِ» إذا جعلناها موصولة، كما سيأتي. وقرئ «ليُعلمَ» مبنيًّا للمفعول، والقائم مقام الفاعل، قال الزمخشريُّ: «مضمون الجملة، كما أنه مفعول العلم» . وردَّه أبو حيان بأنه ليس مذهب البصريين، وتقدم تحقيق هذا أول البقرة. وللكوفيين في قيام الجملة مقام الفاعل أو المفعولِ الذي لم يسمَّ فاعله: الجواز مطلقاً، والتفصيل بين ما تعلق به؛ كهذه الآية فيجوز، فالزمخشريُّ نحا نحوهم على قوليهم، وإذا جعلنا «أيُّ الحزبَينِ» موصولة، جاز أن يكون الفعل مسنداً إليه في هذه القراءة أيضاً؛ كما جاز إسناده إليه في القراءة قبلها. وقرئ «ليُعْلِمَ» بضم الياء، والفاعل الله تعالى، والمفعول الأول محذوف، تقديره: ليعلم الله الناس، و «أيُّ الحِزْبيْنِ» في موضع الثاني فقط، إن كانت عرفانية، وفي موضع المفعولين إن كانت يقينيَّة. وفي هذه القراءة فائدتان: إحداهما: أنَّ على هذا التقدير: لا يلزم إثبات العلم المتجدَّد لله، بل المقصود أنَّا بعثناهم؛ ليحصل هذا العلمُ لبعض الخالقِ. والثانية: أنَّ على هذا لتقدير: يجب ظهور النَّصب في قوله «أيُّ» لكن لقائلٍ أن يقول الإشكال باقٍ؛ لأنَّ ارتفاع لفظة «أيُّ» بالابتداء لا بإسناده «ليُعْلِمَ» إليه. ولمجيبٍ بأن يجيب؛ فيقول: لا يمتنعُ اجتماعُ عاملين على معمولٍ واحدٍ؛ لأنَّ العوامل النحوية علاماتٌ ومعرفاتٌ، ولا يمتنع اجتماع معرفاتٍ كثيرة على شيءٍ واحد. قوله: «أحْصَى» يجوز فيه وجهان: أحدهما: أنه أفعلُ تفضيلٍ، وهو خبر ل «أيُّهُم» و «أيُّهُم» استفهامية، وهذه الجملة معلقة للعلم قبلها، و «لِمَا لَبثُوا» حال من «أمَداً» ، لأنه لو تأخَّر عنه، لكان نعتاً له، ويجوز أن تكون اللامُ على بابها من العلَّة، أي: لأجل، قاله أبو البقاء، ويجوز أن تكون زائدة، و «ما» مفعولة: إمَّا ب «أحْصَى» على رأي من يعمل أفعل التفضيل في المفعول به، وإما بإذمار فعلٍ، و «أمداً» مفول «لبثُوا» أو منصوبٌ بفعلٍ مقدرٍ يدلُّ عليه أفعل عند الجمهور، أو منصوب بنفس أفعل عند من يرى ذلك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 433 والوجه الثاني: أن يكون «أحْصَى» فعلاً ماضياً [أي: أيهم ضبط أمداً لأوقات لبثهم] و «أمداً» مفعوله، و «لما لبثُوا» متعلق به، أو حال من «أمداً» أو اللام فيه مزيدة، وعلى هذا: ف طأمداً «منصوب ب» لبثُوا «و» ما «مصدريَّة، أو بمعنى» الذي «واختار الأول - أعني كون» أحْصى «للتفضيل - الزجاج والتبريزيُّ، واختار الثاني أبو عليٍّ والزمخشري وابن عطية، قال الزمخشري:» فإن قلت: فما تقول فيمن جعله من أفعل التفضيل؟ قلت: ليس بالوجه السديد، وذلك أن بناءه من غير الثلاثيِّ ليس بقياسٍ، ونحو «أعْدَى من الجَربِ» و «أفلسُ من ابنِ المُذلَّقِ» شادٌّ، والقياس على الشاذِّ في غير القرآن ممتنعٌ، فكيف به؟ ولأنَّ «أمَداً» : إمَّا أن ينتصب بأفعل، وأفعلُ لا يعمل، وإمَّا أن ينتصب ب «لَبِثُوا» فلا يسدُّ عليه المعنى، فإن زعمت أني أنصبه بفعلٍ مضمرٍ، كما أضمر في قوله: 3490 - ... ... ... ... ... ..... وأضْرَبَ منَّا بالسُّيُوفِ القَوانِسَا فقد أبعدتَّ المتناول؛ حيث أبَيْتَ أن يكون «أحْصَى» فعلاً، ثم رجعت مضطراً إلى تقديره «. وناقشه أبو حيان فقال:» أمَّا دعواه أنَّه شاذٌّ، فمذهب سيبويه خلافه، وذلك أنَّ أفعل فيه ثلاثةُ مذاهب: الجواز مطلقاً، ويعزى لسيبويه، والمنع مطلقاً، وهو مذهبُ الفارسيِّ، والتفصيل: بين أن يكون همزته للتعديةِ، فيمتنع، وبين ألاَّ تكون، فيجوز، وهذا ليست الهمزة فيه للتعدية، وأما قوله: «أفْعَلُ لا يَعْملُ» فليس بصحيح؛ لأنه يعمل في التمييز، و «أمَداً» تمييزٌ لا مفعولٌ به، كما تقول: زيدٌ أقطع النَّاس سيفاً، وزيدٌ أقطع للْهَامِ سَيْفاً «. فصل قال شهاب الدين: الذي أحوج الزمخشريَّ إلى عدمِ جعله تمييزاً، مع ظهوره في بادئ الرأي عدم صحَّة معناه، وذلك: أنَّ التمييز شرطه في هذا الباب: أن تصحَّ نسبةُ ذلك الوصفِ الذي قبله إليه، ويتَّصف به؛ ألا ترى إلى مثاله في قوله: زَيْدٌ أقطعُ النَّاس سَيْفاً» كيف يصحُّ أن يسند إليه، فيقال: زيدٌ قطع سيفه، وسيفه قاطعٌ، إلى غير ذلك، وهنا ليس الإحصاء من صفة الأمدِ، ولا تصحُّ نسبته إليه، وإنَّما هو من صفات الحزبين، وهو دقيق. وكان أبو حيان نقل عن ابي البقاء نصبه على التمييز، وأبو البقاء لم يذكر نصبه على التمييز حال جعله «أحْصَى» أفعل تفضيلٍ، وإنما ذكر ذلك حين ذكر أنه فعل ماضٍ، قال أبو البقاء: في أحصى وجهان: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 434 أحدهما: هو فعلٌ ماضٍ، و «أمَداً» مفعوله. و «لما لبثُوا» نعتُ له، قدِّم، فصار حالاً، أو مفعولاً له، أي: لأجل لبثهم، وقيل: اللام زائدة و «ما» بمعنى «الذي» و «أمداً» مفعول «لَبِثُوا» وهو خطأ، وإنما الوجه أن يكون تمييزاً، والتقدير: لما لبثوهُ. والوجه الثاني: هو اسم، و «أمداً» منصوب بفعلٍ دلَّ عليه الاسم انتهى، فهذا تصريح بأنَّ «أمَداً» حال جعله «أحْصَى» اسماً، ليس بتمييز بل مفعول به بفعل مقدر، وأنه جعله تمييزاً عن طلبثُوا «كما رأيت. ثم قال أبو حيَّان:» وأمَّا قوله «وإمَّا أن ينصب ب» لبثُوا «فلا يسدُّ عليه المعنى، أي: لا يكون معناه سديداً، فقد ذهب الطبريُّ إلى أنه منصوب ب» لبِثوا «قال ابن عطيَّة:» وهو غير متَّجهٍ «انتهى، وقد يتَّجه: وذلك أنَّ الأمد هو الغاية، ويكون عبارة عن المدَّة من حيث إنَّ المدَّة غاية هي أمد المدَّة على الحقيقة، و» ما «بمعنى» الذي «و» أمداً «منصوب على إسقاط الحرف، وتقديره: لما لبثوا من أمدٍ، أي: من مدة، ويصير» مِنْ أمدٍ «تفسيراً لما أبهم من لفظ» ما «كقوله: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ} [البقرة: 106] {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ} [فاطر: 2] ولمَّا سقط الحرف، وصل إليه الفعل» . قال شهاب الدين: يكفيه أنَّ مثل ابن عطيَّة جعله غير متَّجهٍ، وعلى تقدير ذلك، فلا نسلِّم أن الطبري عنى نصبه ب «لَبِثُوا» مفعولاً به، بل يجوز أن يكون عنى نصبه تمييزاً؛ كما قاله أبو البقاء. ثم قال: وأمَّا قوله: فإنْ زَعَمْتَ إلى آخره، فنقول: لا يحتاج إلى ذلك؛ لأنَّ لقائل ذلك أن يذهب مذهب الكوفيين في أنَّه ينصب «القَوانِسَ» بنفس «أضْرَبُ» ولذلك جعل بعض النحاة أنَّ «أعْلَمُ» ناصب ل «مَنْ» في قوله: {أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ} [الأنعام: 117] ، وذلك لأنَّ أفعل مضمَّن لمعنى المصدر؛ إذ التقدير: «يزيدُ ضَرْبنَا القَوانِسَ على ضَرْبِ غَيْرنا» . قال شهاب الدين: هذا مذهبٌ مرجوحٌ، وأفعل التفضيل ضعيف، ولذلك قصر عن الصفةِ المشبهة باسم الفاعل؛ حيث لم يؤنَّث، ولم يثنَّ، ولم يجمع. وإذا جعلنا «أحْصَى» اسماً فجوَّز أبو حيان في «اي» أن تكون الموصولة، و «أحْصَى» خبر لمبتدأ محذوف، هو عائدها، وأنَّ الضمة للبناء على مذهب سيبويه لوجود شرط البناء، وهو إضافتها لفظاً، وحذف صدر صلتها، وهذا إنما يكون على جعل العلم بمعنى العرفان؛ لأنَّه ليس في الكلام إلا مفعولٌ واحدٌ، وتقدير آخر لا حاجة إليه، إلا أنَّ في إسناد «عَلِمَ» بمعنى عرف إلى الله تعالى إشكالاً تقدَّم تحريره في الأنفالِ وغيرها، وإذا جعلناه فعلاً، امتنع أن تكون موصولة؛ إذ لا وجه لبنائها حينئذ، وهو حسن. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 435 فصل في المراد بالحزبين روى عطاءٌ عن ابن عبَّاس أنَّ المراد بالحزبين الملوك الذين تداولوا المدينة ملكاً بعد ملك، فأصحاب الكهف حزبٌ، والملوك حزبٌ. وقال مجاهدٌ: «الحزبين» من قوم الفتية؛ لأنَّهم لما انتبهوا، اختلفوا في أنَّهم كم ناموا؛ لقوله تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَم لَبِثْتُمْ قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} [الكهف: 19] . وكأنَّ الذين قالوا: «ربُّكُمْ أعلم بِمَا لَبثْتُم» هم الذين علمُوا بطول مكثهم. وقال الفراء: هم طائفتان من المسلمين في زمان أصحاب الكهف اختلفوا في مدَّة لبثهم. وقولهم: {أحصى لِمَا لَبِثُواْ} أي: أ؛ فظ لما مكثُوا في كهفهم نياماً {أَمَدًا} أي: غاية. وقال مجاهد: عدداً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 436 قوله: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق} [أي: نقص عليك نبأهم] على وجه الصدق. قوله: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ} شبَّان {آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} إيماناً وبصيرة. وقوله: {آمَنُواْ بِرَبِّهِمْ} : فيه التفاتٌ من التكلم إلى الغيبة؛ إذ لو جاء على نسقِ الكلامِ، لقيل: إنَّهم فتيةٌ آمنوا بنا، وقوله: «وَزِدْنَاهُم» التفات من هذه الغيبة إلى التكلم أيضاً. ومعنى قوله: «ورَبَطْنَا» وشددنا «عَلى قُلوبِهمْ» بالصَّبْر والتثبت، وقوَّيناهم بنور الإيمان، حتَّى صبروا على هجران ديار قومهم، ومفارقة ما كانوا فيه من خفض العيش، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 436 وفرُّوا بدينهم إلى الكهف، والرَّبطُ: استعارةٌ لتقوية كلمة في ذلك المكان الدَّحض. قوله: {إِذْ قَامُواْ} : منصوب ب «رَبَطْنَا» . وفي هذا لقيام أقوالٌ: أحدها: قال مجاهدٌ: كانوا عظماء مدينتهم، فخرجوا، فاجتمعوا وراء المدينة من غير ميعادٍ، فقال أكبرهم: إنِّي لأجد في نفسي شيئاً، إنَّ ربِّي ربُّ السموات والأرض، فقالوا: نحن كذلك نجد في أنفسنا، فقاموا جميعاً، فقالوا: {رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض} . والثاني: أنَّهم قاموا بين يدي ملكهم دقيانوس، حين عاتبهم على ترك عبادة الصَّنم، {فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها} فثبت الله هؤلاء الفتية وعصمهم، حتَّى عصوا ذلك الجبَّار، وأقرُّوا بربوبيَّة الله تعالى. الثالث: قال عطاءٌ ومقاتلٌ: إنهم قالوا ذلك عند قيامهم من النَّوم، وهذا بعيدٌ؛ لأنَّ الله تعالى استأنف قصَّتهم فقال: {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم} . قوله: {لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً} . «إذن» جواب وجزاء، أي: لقد قلنا قولاً شططاً، إن دعونا من دونه إلهاً، و «شططاً» في الأصل مصدر، يقال: شطَّ شططاً وشُطُوطاً، أي: جار وتجاوز حدَّه، ومنه: شطَّ في السَّوم، وأشطَّ، أي: جاوز القدر حكاه الزجاج وغيره، ومن قوله: «ولا تشطط» وشطَّ المنزلُ: أي بعد، [من ذلك] وشطَّت الجارية شطاطاً أي: طالت، من ذلك. فصل قال الفراء: ولم أسمع إلا «أشطَّ يُشطُّ إشطاطاً» فالشطُّ البعد عن الحقِّ. قال ابن عباس: «شَطَطاً» أي: جوراً. وقال قتادة: كذباً. وفي انتصابه ثلاثة أوجه: الأول: مذهب سيبويه النصب على الحال، من ضمير مصدر «قُلْنَا» . الثاني: نعت لمصدر، أي: قولاً ذا شططٍ، أو هو الشَّططُ نفسه؛ مبالغة. الثالث: أنه مفعول ب «قُلنا» لتضمُّنه معنى الجملة. قوله: {هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا} : يجوز في «قَوْمنَا» أن يكون بدلاً، أو بياناً، و «اتَّخذُوا» هو خبر «هؤلاء» ويجوز أن يكون «قَوْمُنا» هو الخبر، و «اتَّخذوا» حالاً، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 437 و «اتَّخذ» يجوز أن يتعدى لواحد؛ بمعنى «عملوا» لأنهم نحتوها بأيديهم، ويجوز أن تكون متعدية لاثنين؛ بمعنى «صيَّروا» و «مِن دونه» هو الثاني قدِّم، و «آلهة» هو الأول، وعلى الوجه الأول يجوز في «من دونه» أن يتعلق ب «اتَّخذُوا» وأن يتعلق بمحذوفٍ حالاً من «ىلهة» إذ لو تأخَّر، لجاز أن يكون صفة ل «آلهة» . قوله: «لَوْلاَ يَأتُونَ» تحضيض فيه معنى الإنكار، و «عَليْهِمْ» أي: على عبادتهم، أو على اتخاذهم، فحذف المضاف للعلم به، ولا يجوز أن تكون هذه الجملة التحضيضية صفة ل «آلهة» لفساده؛ معنى وصناعة؛ لأنها جملة طلبية. فإن قلت: أضمر قولاً؛ كقوله: [الرجز] 3491 - جَاءُوا بمَذْقٍ هل رَأيْتَ الذِّئْبَ قَطْ ... هذا قول أصِحاب الكهف يعنون أهل بلدهم هم الذين كانوا في زمن دقيانوس، عبدوا الأصنام {لَّوْلاَ يَأْتُونَ} هلا يأتون «عَليْهِمْ» على عبادتهم «بسُلْطَانٍ» بحجَّة بينة واضحة، ومعنى الكلام أن عدم البينة بعدم الدَّليل لا يدلُّ على عدم المدلول، وهذه الآية تدلُّ على صحَّة هذه الطريقة؛ لأنَّه تعالى استدلَّ على عدم الشركاء والأضداد؛ لعدمِ الدَّليل عليه، ثم قال: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً} فزعم أ، َّ له شريكاً، وولداً، يعني أنَّ الحكم بثبوت الشيء مع عدم الدليل عليه ظلمٌ وافتراءٌ على الله وكذبٌ، وهذا من أعظم الدلائل على فساد القول بالتَّقليد. قوله: {وَإِذِ اعتزلتموهم} : «إذْ» منصوب بمحذوف، أي: وقال بعضهم لبعض وقت اعتزالهم، وجوَّز بعضهم أن تكون «إذ» للتعليل، أي: فأووا إلى الكهف؛ لاعتزالكم إيَّاهم، ولا يصحُّ. قوله: «ومَا يَعبُدُونَ» يجوز في «مَا» ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أن تكون بمعنى «الذي» والعائد مقدر، أي: واعتزلتم الذي يعبدونه وهذا واضح. و «إلاَّ الله» يجوز فيه أن يكون استثناء متصلاً، فقد روي أنَّهم كانوا يعبدون الله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 438 ويشركون به غيره، ومنقطعاً؛ فقد روي أنهم كانوا يعبدون الأصنام فقط، والمستثنى منه يجوز أن يكون الموصول، وأن يكون عائدهُ، والمعنى واحد. والثاني: أن تكون مصدرية، أي: واعتزلتم عبادتهم، أي: تركتموها، و «إلاَّ الله» على حذف مضافٍ، أي: إلاَّ عبادة الله، وفي الاستثناء الوجهان المتقدمان. الثالث: أنها نافية، وأنه من كلام الله تعالى، وعلى هذا، فهذه الجملة معترضة بين أثناء القصَّة، وإليه ذهب الزمخشريُّ، و «إلاَّ الله» استثناء مفرَّغٌ، أخبر الله عن الفتيةِ أنهم لا يعبدون غيره، وقال ابو البقاء: «والثالث: أنها حرف نفيٍ، فيخرج في الاستثناء وجهان: أحدهما: هو منقطعٌ، والثاني: هو متصل، والمعنى: وإذ اعتزلتموهم إلا الله وما يعبدون إلا الله» . فظاهر هذا الكلام: أن الانقطاع والاتصال في الاستثناء مترتِّبان على القول يكون «ما» نافية، وليس الأمر كذلك. فصل في كلام أهل الكهف قال المفسِّرون: إنَّ أهل الكهف قال بعضهم لبعض: {وَإِذِ اعتزلتموهم} يعني قومكم {وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} ، أي: اعتزلتموهم، وجميع ما يعبدون إلا الله، فإنَّكم لم تعتزلوا عبادته، فإنَّهم كانوا يعبدون الله ويعبدون معه الأوثان. وقرأ أبو مسعود: «ومَا يعبدون من دون الله، فأووا إلى الكهف» . قال الفراء: هو جواب «إذْ» كما تقولُ: إذ فعلت كذا فافعل كذا، والمعنى اذهبوا إليه، واجعلوه مأواكم. {يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ} أي يبسطها عليكم، {وَيُهَيِّىءْ لَكُمْ} يسهِّل لكم {مِّنْ أَمْرِكُمْ مِّرْفَقاً} ما يعود إليه رفقكم. قوله: «مرفقاً» قرأ الجمهور بكسر الميم، وفتح الفاءِ. وقرأ نافع وابن عامر وعاصم في رواية البرجمي وأبو جعفر بالعكس، وفيها خلاف عند أهل اللغة؛ فقيل: هما بمعنى واحد، وهو ما يرتفق به، وليس بمصدر، وقيل: هو بكسر الميم لليد، وبفتحها للأمر، وقد يستعمل كل واحدٍ منهما موضع الآخر، حكاه الأزهريُّ عن ثعلب، وأنشد الفراء جمعاً بين اللغتين في الجارحة: [الرجز] 3492 - بِتُّ أجَافِي مِرْفقاً عن مَرْفقِ ... الجزء: 12 ¦ الصفحة: 439 و [قد] يستعملان معاً في الأمرِ، وفي الجارحة، حكاه الزجاج. وحكى مكيٌّ، عن الفرَّاء أنه قال: «لا أعرفُ في الأمر، ولا في اليد، ولا في كلِّ شيء إلا كسر الميم» . قلت: وتواترُ قراءة نافعٍ والشاميين يردُّ عليه، وأنكر الكسائي كسر الميم في الجارحة، وقال: لا أعرفُ فيه إلا الفتح، وهو عكس قول تلميذه، ولكن خالفه أبو حاتم، وقال: «هو بفتح الميم: الموضع كالمسجد، وقال أبو زيد: هو بفتح الميم مصدر جاء على مفعلٍ» وقال بعضهم: هما لغتان فيما يرتفق به، فأمَّا الجارحةُ، فبكسر الميم فقط، وحكي عن الفراء أنه قال: «أهل الحجاز يقولون:» مرفقاً «بفتح الميم وكسر الفاء فيما ارتفقت به، ويكسرون مرفق الإنسان، والعرب بعد يكسرون الميم منهما جميعاً» وأجاز معاذٌ فتح الميم والفاء، وهو مصدر كالمضرب والمقتل. و «مِنْ أمْرِكُم» متعلق بالفعل قبله، و «مِنْ» لابتداء الغاية، أو للتبعيض. وقيل: هي بمعنى بدلٍ، قاله ابن الأنباري، وأنشد: [الطويل] 3493 - فَليْتَ لَنَا مِنْ مَاءِ زَمْزمَ شَرْبةً ... مُبرَّدةً باتتْ على طَهيَانِ أي: بدلاً. ويجوز أن يكون حالاً من «مِرْفقاً» فيتعلق بمحذوفٍ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 440 قوله: {وَتَرَى الشمس} أي: أنت أيُّها المخاطب، وليس المراد أنَّ من خوطب بهذا يرى هذا المعنى، ولكنَّ العادة في المخاطبة تكون على هذا النحو. قوله: {إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ} . قرأ ابن عامر ويعقوب «تَزْوَرُّ» بسكون الزاي بزنة تَحْمَرُّ. والكوفيون «تَزاوَرُ» بتخفيف الزاي، والباقون بتثقيلها، ف «تَزْورُّ» بمعنى «تميلُ» من الزَّورِ، وهو الميل، و «زاره» بمعنى «مال إليه» وقول الزُّور: ميلٌ عن الحق، ومنه الأزورُ، وهو المائلُ بعينه وبغيرها، قال عمر بن أبي ربيعة: [الطويل] 3494 - ... ... ... ... ... . ... وجَنْبِي خِيفَةَ القَوْمِ أزْوَرُ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 440 وقيل: تَزورُّ بمعنى تنقبضُ من «ازْوَرَّ» أي: انقبض، ومنه قول عنترة: [الكامل] 3495 - فَازْوَرَّ من وقْع القَنا بِلبَانهِ ... وشَكَا إليَّ بِعبْرةٍ وتَحمْحُمِ وقيل: مال، ومثله قول بشر بن أبي خازم: [الوافر] 3496 - يُؤمُّ بِهَا الحُداةُ مِياهَ نَخْلٍ ... وفِيهَا عن أبَانيْنِ ازْوِرَارُ أي: ميلٌ. وأما «تَزاوَرُ» و «تزَّاوَرُ» فأصلهما «تَتزاورُ» بتاءين، فالكوفيون حذفوا إحدى التاءين، وبعضهم أدغم، وقد تقدَّم نظائر هذا في {تَظَاهَرُونَ} [الآية: 85 من البقرة] و {تَسَآءَلُونَ} [النساء: 1] ونحوهما، ومعنى ذلك الميل أيضاً. وقرأ أبو رجاء، والجحدريُّ، وابن أبي عبلة، وأيوبُ السَّختيانيُّ «تَزوَارُّ» بزنة «تحْمَارُّ» وعبد الله، وأبو المتوكل «تَزوَئِرُّ» بهمزة مكسورة قبل راء مشددة، وأصلها «تَزوَارُّ» كقراءة أبي رجاء، ومن معه، وإنما كرهَ الجمع بين الساكنين، فأبدل الألف همزة على حدِّ إبدالها في {الجآن} [الرحمن: 15] و {الضآلين} [الفاتحة: 7] . وقد تقدم تحقيقه آخر الفاتحة. و «إذا طلعت» معمول ل «ترى» أو ل «تَزاوَرُ» وكذا «إذا غَربَتْ» معمولٌ للأول، أو للثاني، وهو «تَقْرِضُهمْ» والظاهر تمحّضهُ للظرفيةِ، ويجوز أن تكون شرطية. ومعنى «تَقْرضُهمْ» : تقطعهم، لا تقربهم؛ إذ القرض القطع؛ من القطيعة والصَّرم، قال ذو الرمَّة: [الطويل] 3497 - إلى ظُعنٍ يَقْرضْن أقْوازَ مُشرِفٍ ... شِمَالاً، وعنْ أيْمانِهنَّ الفَوارِسُ والقَرْضُ: القطعُ، وتقدم تحقيقه في البقرة، وق لالفارسي: «معنى تقرضهم: تعطيهم من ضوئها شيئاً، ثم تزول سريعاً، كالقرض يستردُّ» وقد ضعِّف قوله؛ بأنه كان ينبغي أن يقرأ «تُقرضُهمْ» بضمِّ التاء، لأنه من أقرضَ. وقرئ «يَقْرضُهمْ» بالياء من تحت، أي: الكهف، وفيه مخالفةٌ بين الفعلين الجزء: 12 ¦ الصفحة: 441 وفاعلهما، فالأولى أن يعود على الشمس، ويكون كقوله: [المتقارب] 3498 - ... ... ... ... ... . ... ولا أرْضَ أبْقلَ إبْقَالهَا وهو قول ابن كيسان. و «ذات اليمينِ» و «ذاتَ الشِّمالِ» ظرفا مكانٍ بمعنى جهة اليمين، وجهة الشِّمال. فصل قال المفسرون: «تَزاوَرُ» بمعنى «تَمِيلُ» وتعدل عن كهفهم {ذَاتَ اليمين} ، أي: جهة ذات اليمين، وأصله أنَّ ذات اليمين صفة أقيمت مقام الموصوف؛ لأنَّها تأنيث «ذو» في قولهم: «رجلٌ ذُو مالٍ، وامرأةٌ ذات مالٍ» ؛ فكأنَّه قال: تَزاورُ عن كهفهم جهة ذات اليمين، {وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال} . قال الكسائيُّ: قرضت المكان، أي: عدلتُ عنه. وقال أبو عبيدة: القرض في أشياء، منها القطع، وكذلك السَّير في البلاد، إذا قطعتها؛ تقول لصاحبك: هل وردتَّ [موضع] كذا؟ فيقول المجيب: إنما قرضتهُ. فقوله: {تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال} ، أي: تعدل عن سمت رؤوسهم إلى جهة الشِّمال. ثم ها هنا قولان: الأول: قال ابن قتيبة وغيره: كان كهفهم مستقبل بناتِ نعشٍ، لا تقع فيه الشمس عند الطُّلوع، ولا عند الغروب، ولا فيما بين ذلك وكان الهواء الطيِّب والنَّسيم الموافقُ يصل إليهم، فلا جرم بقيتْ أجسادهم مصونة عن العفونة والفساد. والثاني: أن الله تعالى منع ضوء الشمس من الوقوع عليهم عند طلوعها، وكذا عند غروبها، وكان ذلك فعلاً خارقاً للعادة، وكرامة عظيمة، خصَّ الله بها أصحاب الكهف، قاله الزجاج، واحتجَّ على صحَّته بقوله: {ذلك مِنْ آيَاتِ الله} ولو كان الأمر كما ذكره أصحاب القول الأول، لكان ذلك أمراص معتاداً مألوفاً، ولم يكن من آيات الله تعالى. ثم قال تعالى: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} أي متَّسعٍ من الكهف، وجمعها فجواتٌ. قال أبو عبيدة: ومنه الحديث: فإذا وجد فجوة نصَّ. وقال غيره: الفجوة المتَّسع من الفجاء، وهو تباعد ما بين الفخذين، يقال: رجل أفجأ، وامرأةٌ فجواء، وجمع الفجوة فجاء كقصعة وقصاع. وقوله: {وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ} جملة حالية، أي: نفعل هذا مع اتساع مكانهم، وهو أعجب لحالهم؛ إذ كان ينبغي أن تصيبهم الشمس لاتساع مكانهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 442 فصل قال المفسرون: اختار الله تعالى لهم مضجعاً في مقناة لا تدخل عليهم الشمس، فتؤذيهم بحرِّها، وتغيِّر ألوانهم، وهم في متَّسع ينالهم بردُ الرِّيح، ويدفع عنهم كرب الغار. قوله: «ذلِكَ» مبتدأ أشأر به إلى جميع ما تقدم من قصَّتهم. وقيل: «ذلِكَ» إشارةٌ إلى الحفظ الذي حفظهم الله تعالى في ذلك الغار تلك المدَّة الطويلة. قوله: {مِنْ آيَاتِ الله} العجيبة الدَّالة على قدرته، وبدائع حكمته، و {مِنْ آيَاتِ الله} الخبر، ويجوز أن يكون «ذلك» خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر ذلك، و {مِنْ آيَاتِ الله} حال. ثم بين تعالى أنه كما أبقاهم هذه المدَّة الطويلة مصونينعن الموت والهلاك من لطفه وكرمه، فكذلك رجوعهم أوَّلاً عن الكفر، ورغبتهم في الإيمان كان بإعانة الله ولطفه؛ فقال: {مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد} مثل أصحاب الكهف «ومن يُضْلِل» ، أي: يضلله الله، ولم يرشده؛ ك «دقيانُوس» وأصحابه {فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً} معيناً «مُرْشِداً» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 443 قوله: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً} أي: لو رأيتهم، لحسبتهم. وقال شهبا الدِّين: لا حاجة إلى هذا التقدير. {أَيْقَاظاً} : جمع «يَقُظٍ» بضم القاف، وبجمع على يقاظٍ، ويقظ وأيقاظ، كعضدٍ وأعضادٍ، ويقظ ويقاظ، كرجلٍ ورجالٍ، وظاهرُ كلام الزمخشريِّ أنه يقال: «يقظٌ» بالكسر؛ لأنه قال: وأيقاظٌ جمع «يقظٍ» كأنكاد في «نكدٍ» . وقال الخفش، وأبو عبيدة، والزجاج: أيقاظٌ جمع يقظٍ ويقظان. وأنشدوا [لرؤبة] : [الرجز] 3499 - ووَجدُوا إخْوانَهُم أيْقَاظا ..... ... ... ... . . وقال البغوي: أيقاظاً جمع يقيظ ويقظ، واليقظة: الانتباه عند النَّوم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 443 قال الواحديُّ: وإنما يحسبون أيقاظاً؛ لأنَّ أعينهم مفتحةٌ، وهم نيامٌ. وقال الزجاج: لكثرة تقلبهم يظنُّ أنهم أيقاظٌ؛ لقوله تعالى: {وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال} والرقود جمع راقدٍ، كقاعدٍ وقعود. فصل في مدة تقليبهم اختلفوا في مقدار مدَّة التَّقليب: فعن أبي هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: «أنَّ لهم في كلِّ عام تَقْليبَتَيْنِ» وعن مجاهدٍ: يمكثون رقوداً على أيمانهم تسع سنينَ، ثم ينقلبون على شمائلهم، فيمكثون رقوداً تسع سنين. وقيل: لهم تقليبة واحدة في يوم عاشوراء. وقال ابن الخطيب: وهذه التقديرات لا سبيل للعقل إليها، والقرآن لا يدل عليها، وما جاء فيه خبر صحيح، فكيف يعرف؟ وقال ابن عباس: فائدة تقليبهم؛ لئلا تأكل الأرض لحومهم وتبليهم. قال ابن الخطيب: عجبت من ذلك؛ لأنَّ الله تعالى قدر على أن يمسك حياتهم ثلاثمائة سنة وأكثر، فلم لا يقدر على حفظ أجسامهم من غير تقليب؟! . قوله: «ونُقلِّبهُم» قرأ العامة «نُقلِّبهُم» مضارعاً مسنداً للمعظِّم نفسه. وقرئ أيضاً بالياء من تحت، أي: الله أو الملك، وقرأ الحسن: «يُقلِبُهمْ» بالياء من تحت ساكن القاف، مخفف اللام، وفاعله، إمَّا الله أو الملكُ. وقرأ أيضاً «وتَقَلُّبَهُم» بفتح التاء، وضمِّ اللام مشددة مصدر تقلَّب كقوله: {وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين} [الشعراء: 219] ونصب الباء، وخرَّجه أبو الفتح على إضمار فعل، أي: ونرى تقلُّبهم، أو نشاهد تقلُّبهم، وروي عنه أيضاً رفع الباء على الابتداءِ، والخبر الظرف بعده، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 444 ويجوز أن يكون محذوفاً، أي: آية عظيمة. وقرأ عكرمة «وتقلبُهمْ» بتاء التأنيث مضارع «قَلبَ» مخفَّفاً، وفاعله ضمير الملائكةِ المدلولِ عليهم بالسِّياق. وقوله: «ذَاتَ» منصوب على الظَّرف، لأنَّ المعنى: ونُقلِّبُهمْ من ناحية اليمين أو على ناحية «اليمين» كما تقدَّم في قوله: {تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ ذَاتَ اليمين} [الكهف: 17] . وقوله: {وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد} . قرأ العامة «وكَلْبُهمْ» وقرأ جعفر الصادق «كَالبُهمْ» أي: صاحب كلبهم كلابنٍ وتامر، ونقل أبو عمر الزاهدُ غلامُ ثعلبٍ «وكَالِئُهُمْ» بهمزة مضمومة اسم فاعل من كَلأ يَْلأُ أي: حفظ يحفظُ. و «باسطٌ» اسم فاعل ماض، وإنما عمل على حكاية الحال، الكسائي يعمله، ويستشهد بالآية. والوَصِيدُ: الباب؛ قاله ابن عبَّاس والسديُّ. وقيل: العَتبَةُ. والكهفُ لا يكون له بابٌ، ولا عتبة، وإنما أراد موضع الباب. وقال الزجاج: الوصيد فناءُ البيت، وفناء الدَّار. وقيل: الصَّعيدُ والتُّراب. قال الشاعر: [الطويل] 3500 - بأرْضِ فَضاءٍ لا يسدُّ وصيدُها ... عَليَّ ومَعرُوفِي بها غَيْرُ مُنْكرِ وجمعه: وصائد ووصدٌ. وقيل: الوصيدُ: الصَّعيدُ والتراب. قال يونس، والأخفش، والفراء: الأصيدُ والوصيدُ لغتان؛ مثل: الوكاف والإكاف. وقال مجاهدٌ، والضحاك: «الوَصِيدُ» : الكهف. وأكثر المفسرين على أنَّ الكلب كان من جنس الكلاب. وروي عن ابن جريج: أنه كان أسداً، وسمِّي الأسد كلباً، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ دعا على عتبة بن أبي لهبٍ، فقال: «اللَّهُم سلِّط عليه كلباً من كِلابِكَ» فافترسه الأسدُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 445 قال ابن عباس: كان كلباً أغرَّ، واسمه قطميرٌ، وعن عليِّ: اسمه «ريَّان» . وقال الأوزاعي: يشور قال السدي: يور. وقال كعبٌ: صهباً. وقال مقاتل: كان كلباً أصفر. وقال الكلبيُّ: لونه كالحليج، وقيل غير ذلك. قال خالد بن معدان: ليس في الجنَّة من الدوابِّ إلاَّ كلب أصحاب الكهف، وحمار بلعام. قال ابن عباس وأكثر المفسرين: هربوا من ملكهم فمرُّوا براعٍ، معه كلبٌ، فتبعهم على دينهم، ومعه كلبه. وقال الكلبيُّ: مرُّوا بكلبٍ فنبح عليهم، فطردوه، فعاد، ففعلوا ذلك مراراً، فقال لهم الكلب: لا تخشوا جانبي؛ فإنِّي أحبُّ أحبَّاء الله، فناموا؛ حتَّى أحرسكم. فصل قال عبيد بن عميرٍ: كان ذلك كلب صيدهم، ومعنى {بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ} ، أي: ألقاها على الأرض مبسوطتين، غي رمقبوضتين. ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «اعتدلوا في السُّجودِ، ولا يَبْسُط أحدكم ذِرَاعيْهِ انْبسَاطَ الكلْبِ» . قال المفسرون: كان الكلب بسط ذراعيه، وجعل وجهه عليهما. قوله: {لَوِ اطلعت} العامَّة على كسر الواو من «لَو اطَّلعْتَ» على أصل التقاء الساكنين، وقرأها مضمومة أبو جعفرٍ، وشيبة، ونافع، وابن وثَّاب، والأعمش؛ تشبيهاً بواوِ الضمير، وتقدَّم تحقيقه. قوله: {لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً} لما ألبسهم الله من الهيبة؛ حتَّى لا يصل إليهم أحدٌ؛ حتى يبلغ الكتاب أجله، فيوقظهم الله من رقدتهم. «فِرَاراً» يجوز أن يكون منصوباً على المصدر من معنى الفعل قبله؛ لأنَّ التولِّي الجزء: 12 ¦ الصفحة: 446 والفرارَ من وادٍ واحدٍ، ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحالِ، أي: فارًّا، ويكون حالاً مؤكدة، ويجوز أن يكون مفعولاً له. قوله: {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً} قرأ ابن كثير، ونافع «لمُلِّئْتَ» بالتشديد على التكثير. وأبو جعفرٍ، وشيبة كذلك، إلا أنه بإبدال الهمزة ياء، والزهري بتخفيف اللام والإبدال، وهو إبدال قياسي والباقون بتخفيف اللام، و «رُعباً» مفعول ثانٍ: وقيل: تمييزٌ. قال الأخفش: الخفيفة أجود في كلام العربِ. يقولون: ملأتنِي رعباً، ولا يكادون يعرفون ملأتنِي؛ ويدل على هذا أكثر استعمالهم؛ كقوله: [الوافر] 3501 - فَتَمْلأ بَيْتنَا أقِطاً وسَمْنَا ..... ... ... ... ... . . وقول الآخر: [الطويل] 3502 - أ - ومن مالِئٍ عَيْنَيْهِ مِنْ شيءِ غَيْرِهِ ... إذَا رَاحَ نحو الجمْرَةِ البِيضُ كالدُّمَى وقال الآخر: [الرجز] 3502 - ب - لا تَمْلأ الدَّلءو وعَرِّقْ فيها وقال الاخر: [الرجز] 3503 - امْتَلأ الحَوضُ وقَالَ قَطْنِي ... وقد جاء التثقيل أيضاً، أنشدوا للمخبَّل السعديِّ: [الطويل] 3504 - وإذْ قتل النُّعْمانُ بالنَّاسِ مُحرِمَا ..... ... ... ... ... . . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 447 وقرأ ابن عامر والكسائي «رُعباً» بضمِّ العين في جميع القرآن، والباقون بالإسكان. فصل في سبب الرعب اختلفوا في ذلك الرُّعب كان لماذا؟ فقيل: من وحشة المكان، وقال الكلبي: لأنَّ أعينهم مفتَّحة، كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلَّم، وهم نيامٌ. وقيل: لكثرة شعورهم، وطول أظفارهم، وتقلُّبهم من غير حسٍّ، كالمستيقظ. وقيل: إنَّ الله تعالى، منعهم بالرُّعب؛ لئلاَّ يراهم أحدٌ. ورُوِيَ عن سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبَّاس، قال: غزونا مع مُعاويةَ نحو الرُّوم، فمَررْنَا بالكَهْفِ الذي فِيهِ أصْحابُ الكهفِ، فقال مُعاوِيةُ: لو كُشِفَ لنَا عنْ هؤلاءِ، لنَظَرْنَا إليْهِمْ، فقَال ابْنُ عبَّاسٍ: قَدْ مَنَعَ الله ذلِكَ مَنْ هُو خَيْرٌ مِنْكَ: {لو اطَّلعْتَ عَليْهِم لولَّيتَ مِنهُم فراراً} ، فبعث معاوية ناساً، فقال: اذهبوا، فانظروا، فلمَّا دخلوا الكهف، بعث الله عليهم ريحاً، أخرجتهم. قوله : {وكذلك بَعَثْنَاهُمْ} : الكاف نعت لمصدر محذوف، أي: كما أنمناهم تلك النَّومةَ، كذلك بعثناهم؛ ادِّكاراً بقدرته، والإشارة ب «ذلِكَ» إلى المصدر المفهوم من قوله «فَضرَبْنَا» ، أي: مثل جعلنا إنامتهم هذه المدة المتطاولة آية، جعلنا بعثهم آية، قاله الزجاج والزمخشريُّ. قوله: {لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} متعلقة بالبعث، وقيل: هي للصَّيرورة؛ لأن البعث لم يكن للتساؤل، قاله ابن عطيَّة، والصحيح أنَّها على بابها من السببية. قوله: {كَم لَبِثْتُمْ} «كم» منصوبة على الظرف، والمميز محذوف، تقديره: كم يوماً؛ لدلالةِ الجواب عليه، و «أوْ» في قوله: {أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} للشكِّ منه، وقيل: للتفصيل، أي: قال بعضهم كذا، وبعضهم كذا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 448 فصل المعنى كما أنمناهم في الكهف، وحفظنا أجسامهم من البلى، طول الزمان، فكذلك بعثناهم من النَّوم الذي يشبه الموت؛ {لِيَتَسَآءَلُوا بَيْنَهُمْ} ليسأل بعضهم بعضاً، واللام لام العاقبة؛ لأنَّهم لم يبعثوا للسُّؤال. فإن قيل: هل يجوز أن يكون الغرض من بعثهم أن يتساءلوا ويتنازعوا؟ . فالجواب: لا يبعد ذلك؛ لأنَّهم إذا تساءلوا، انكشف لهم من قدرة الله أمورٌ عجيبةٌ، وذلك أمرٌ مطلوبٌ. قاله ابن الخطيب. ثم قال تعالى: {قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ} وهو رئيسهم، واسمه مكسلمينا: {كَم لَبِثْتُمْ} في نومكم، أي: كم مقدار لبثنا في هذا الكهف {قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} . قال المفسرون: إنهم دخلوا الكهف غدوة وبعثهم الله في آخر النَّهار؛ فلذلك قالوا: يوماً، فلما رأوا الشمس، قالوا: أو بعض يوم، فلما نظروا إلى شعورهم وأظفارهم «قَالُوا» أي: علموا أنَّهم لبثوا أكثر من يوم: {قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} . قيل: إنَّ رئيسهم مكسلمينا، لما [رأى] الاختلاف بينهم قال: دعوا الخلاف. قوله: {فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه} يعني يمليخا، قاله ابن عباس. قوله: «بورِقكُمْ» حال من «أحَدكُمْ» ، أي: مصاحباً لها، وملتبساً بها، وقرأ أبو عمرو، وحمزة، وأبو بكر بفتح الواو وسكون الراء والفكِّ، وباقي السبعة بكسر الراء، والكسر هو الأصل، والتسكين [تخفيف] ك «نَبْق» في نَبِق، وحكى الزجاج كسر الواو، وسكون الراء، وهو نقلٌ، وهذا كما يقال: كَبِدٌ وكَبْدٌ وكِبْدٌ. وقرأ أبو رجاء، وابن محيصن كذلك، إلاَّ أنه بإدغام الفاق، واستضعفوها من حيث الجمع بين ساكنين على غير حدَّيهما، وقد تقدَّم ذلك في المتواتر ما يشبهُ هذه من نحو {تُسْأَلُونَ عَمَّا} [في الآية: 134 من البقرة] و {لاَ تَعْدُواْ فِي السبت} [النساء: 154] و {الخُلْدِ جَزَآءً} [فصلت: 38] و {فِي المهد صَبِيّاً} [مريم: 29] وروي عن ابن محيصن؛ أنَّه لمَّا أدغم كسر الراء فراراً ممَّا ذكرنا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 449 وقرأ أمير المؤمنين «بوارقكم» اسم فاعلٍ، أي: صاحب ورقٍ، ك «لابنٍ» وقيل: هو اسم جمع كجاملٍ وباقرٍ. والوَرِقُ: الفضَّة المضروبة، وقيل: الفضَّة مطلقاً مضروبة كانت، أو غير مضروبة؛ ويدلُّ عليه ما رُوي أنَّ عرفجة اتَّخذَ أنفاً من ورقٍ. فصل في لغات «الوَرِق» قال الفراء والزجاج: فيه ثلاثُ لغاتٍ: وَرِقٌ، ووَرْقٌ، ووِرْقٌ، ك «كَبِدٍ وكَبْدٍ وكِبْدٍ» وكسر الواو أردؤها يقال لها: «الرِّقةُ» بحذف الواو، وفي الحديث: «في الرِّقةِ ربعُ العُشْرِ» وجمعت شذوذاً جمع المذكر السالم. فصل قال المفسرون: كان معهم دراهم عليها صورة الملكِ الذي كان في زمانهم، ثم قال تعالى: {إلى المدينة} وهي الَّتي يقال لها اليوم (طرسوس) ، وكان اسمها في الجاهلية «أفسوس» ، وهذه الآية تدل على أنَّ السَّعي في إمساك الزَّاد أمرٌ مشروعٌ. قوله: {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً} [يجوز في «أي» أن تكون استفهامية، وأن تكون موصولة. قال الزجاج: إنها رفع بالابتداء و «أزكى» خبرها، وتقدم الكلام على نظيره في قوله: {أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف: 7] ، ولا بد ها هنا من حذف «أيُّ» أي: أيّ أهلها أزكى و «طعاماً» ] تمييزٌ، أي: لا يكون من غصبٍ، أي: سببٍ حرام. وقيل: لا حذف، والضميرُ عائدٌ على الأطعمة المدلول عليها من السِّياق. قيل: أمروهُ أن يطلب ذبيحة مؤمنٍ، ولا يكون من ذبيحة من يذبح لغير الله، وكان فيهم مؤمنون ينكرون إيمانهم. فصل في معنى «أزكى» قال الضحاك: أزكى طعاماً، أي: أطيب. وقال مقاتلٌ: أجود. وقال عكرمة: أكثر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 450 وأصل الزَّكاة النُّمو والزيادة. وقيل: أرخص طعاماً {فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِّنْهُ} أي: قوتٍ وطعامٍ تأكلونه. قوله: «ولْيَتلَطَّفْ» قرأ العامة بسكون لام الأمر، والحسنُ بكسرها على الأصل، [وقتيبة الميَّال] «وليُتَلَطَّفْ» مبنياً للمفعول، وأبو جعفر وأبو صالحٍ، وقتيبة «ولا يشعُرنَّ» بفتح الياء وضمِّ العين. فإن قيل: «بكُمْ» «أحدٌ» فاعل به. فالجواب: معنى «وليَتَلطَّفْ» أي: يكون في سترة، وكتمانٍ في دخول المدينة، قاله الزمخشريُّ، ويجوز أن يعود على قومهم؛ لدلالة السِّياق عليهم. وقرأ زيدُ بن عليٍّ «يُظْهرُوا» مبنيًّا للمفعول. فصل {يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} ، أي: يطَّلعوا عليكم، ويعلموا مكانكم. وقيل: أو يشرفوا على مكانكم أو على أنفسكم من قولهم: ظهرتُ على فلانٍ، إذا علوتهُ، وظهرتُ على السَّطح، إذا صرت فوقه، ومنه قوله تعالى: {فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ} [الصف: 14] أي عالين. وقوله: {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} [التوبة: 33] أي: ليعليه. قوله: {يَرْجُمُوكُمْ} . قال ابن جريج: يَشْتموكُمْ، ويُؤذُوكم بالقول، وقيل: يقتلوكم بالحجارة، والرجمُ بمعنى القتل كثيرٌ. قال تعالى: {وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} [هود: 91] وقوله: {أَن تَرْجُمُونِ} [الدخان: 20] والرجم أخبث القتل، قاله الزجاج. {أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ} أي يردُّوكم إلى دينهم. قوله: {وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً} أي إن رجعتم إلى دينهم، لم تسعدوا في الدنيا، ولا في الآخرة، ف «إذاً» جوابٌ وجزاءٌ، أي: إن يظهروا، فلن تفلحوا. وقال الزجاج: لن تُفْلِحُوا، إذا رجعتم إلى ملتهم أبداً، فإن قيل: أليس أنَّهم لو أكرهوا على الكفر، حتى أظهروا الكفر، لم يكن عليهم مضرَّة، فكيف قالوا: {وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً} ؟ . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 451 فالجواب: يحتمل أن يكون المراد أنَّهم لو ردُّوا إلى الكفر، وبقوا مظهرين له، فقد يميل بهم ذلك غلى الكفر، ويصيروا كافرين حقيقة، فكان تخوُّفهم من هذا الاحتمال. قوله : {وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ} : أي: وكما أنمناهم، وبعثناهم، لما فيه من الحكم الظاهرة؛ أعثرنا، أي: أطلعنا. وتقدَّم الكلام على مادَّة «عثر» في المائدة. يقال: عثرتُ على كذا، أي: علمته، وأصله أن من كان غافلاً عن شيءٍ فعثر به، نظر إليه، فعرفه، وكان العثارُ سبباً لحصول العلم، فأطلق اسم السَّببِ على المسبَّب «ليَعْلَمُوا» متعلق ب «أعْثرْنَا» والضمير: قيل: يعود على مفعول «أعْثَرنَا» المحذوف، تقديره: أعثرنا النَّاس، وقيل: يعود على أهل الكهف. فصل في سبب تعرف الناس عليهم اختلفوا في السَّبب الذي عرف الناس به واقعة أصحاب الكهف، فقيل: لطول شعورهم، وأظفارهم؛ بخلاف العادة، وظهرت في بشرة وجوههم آثار عجيبةٌ يستدلُّ بها على أن مدَّتهم طالت طولاً بخلاف العادة. وقيل: لأن أحدهم لما ذهب إلى المدينةِ؛ ليشتري الطَّعام، أخرج الدراهم لثمن الطَّعام، فقال صاحب الطعام: هذه النُّقود غير موجودة في هذا الزَّمان، وإنها كانت موجودة قبل هذا الوقت بمدَّة مديدة؛ [فلعلك] وجدتَّ كنزاً، فحملوه إلى ملك تلك المدينة، فقال له الملك: أين وجدتَّ تلك الدَّراهم؟ فقال: بعتُ بها أمس تمراً، وخرجنا فراراً من الملك دقيانوس، فعرف الملك أنَّه ما وجد كنزاً، وأنَّ الله تعالى بعثه بعد موته. ومعنى قوله: {ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ} أي: إنما أطلعنا القوم على أحوالهم؛ ليعلم القوم أنَّ وعد الله حقٌّ بالبعث والنَّشر؛ فإنَّ ملكَ ذلك الزَّمان كان منكر البعث، فجعل الله أمر الفتية دليلاً للملكِ. وقيل: اختلف أهلُ ذلك الزَّمانِ، فقال بعضهم: الرُّوحُ والجسد يبعثان جميعاً. وقال آخرون: إنَّما يبعثُ الرُّوح فقط، فكان الملك يتضرَّع إلى الله تعالى أن يظهر له آية يستدلُّ بها على الحقِّ في هذه المسالة، فأطلعه الله تعالى على أصحاب الكهف، فاستدلَّ بهم على صحَّة بعث الأجساد؛ لأنَّ انتباههم بعد ذلك النَّوم الطويل يشبه من يموت، ثم يبعث. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 452 قوله: «إذ يَتنازعُونَ» يجوز أن يعمل فيه «أعْثَرنا» أو «لِيعْلمُوا» أو لمعنى «حقٌّ» أو ل «وَعْد» عند من يتَّسعُ في الظرف، وأمَّا من لا يتَّسعُ، فلا يجوز عنده الإخبار عن الموصول قبل تمامِ صلته. واختلف في هذا التَّنازع، فقيل: كانوا يتنازعون في صحَّة البعث، فاستدلَّ القائلون بصحَّة هذه الواقعةِ، وقالوا: كما قدر الله على حفظ أجسادهم مدَّة ثلاثمائةٍ وتسع سنين، فكذلك يقدر على حشر الأجساد بعد موتها. وقيل: إنَّ الملك وقومه، لما رأوا أصحاب الكهف، ووقفوا على أحوالهم، عاد القوم إلى كهفهم، فأماتهم الله، فعند هذا اختلف الناس، فقال قومٌ: إنَّ بعضهم قال: إنهم نيامٌ، كالكرَّة الأولى. وقال آخرون: بل الآن ماتوا. وقيل: إن بعضهم، قال: سدّوا عليهم باب الكهف مسجدٌ، وهذا القول يدلُّ على أنَّ هؤلاء القوم كانوا عارفين بالله تعالى، ويعترفون بالعبادة والصلاة. وقيل: إنَّ الكفار قالوا: إنهم على ديننا، فنتخذ عليهم بنياناً، وقال المسلمون [إنهم] على ديننا، فنتخذ عليهم مسجداً. وقيل: تنازعوا في مقدار مكثهم. وقيل: تنازعوا في عددهم، وأسمائهم. قوله: «بُنْياناً» يجوز أن يكون مفعولاً به، جمع بنيانةٍ، وأن يكون مصدراً. قوله: {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} يجوز أن يكون من كلام الله تعالى، وأن يكون من كلامِ المتنازعين فيهم، ثم قال {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ} قيل: هو الملك المسلم، واسمه بيدروس وقيل: رؤساء البلد. قوله «غلبوا» قرأ عيسى الثقفيُّ، والحسن بضمِّ الغين، وكسر اللام. قوله: {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً} يعبد الله فيه، ونستبقي آثار اصحاب الكهف بسبب ذلك المسجد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 453 قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} : قيل: إنَّما أتي بالسِّين في هذا؛ لأنَّ في الكلام طيًّا وإدماجاً، تقديره: فإذا أجبتهم عن سؤالهم عن قصَّة أهل الكهف، فسلهم عن عددهم، فإنهم سيقولون. ولم يأت بها في باقية الأفعال؛ لأنها معطوفة على ما فيه السين، فأعطيت حكمه من الاستقبال. وقرأ ابن محيصن «ثلاثٌ» بإدغام الثاء المثلثة في تاء التأنيث؛ لقرب مخرجيهما، ولأنهما مهموسان، ولأنهما بعد ساكن معتل. {رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} الجملة في محل رفع صفة ل «ثَلاثَة» . قوله: {وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ} قرأ ابن كثير في رواية بفتح الميم، وهي لغة كعشرةٍ، وقرأ ابن محيصن بكسر الخاء والميم، وبإدغام التاء في السين، يعني تاء «خمسةٌ» في سين «سادسهم» وهي قراءة ثقيلة جداً؛ لتوالي كسرتين وثلاث سيناتٍ، قال شهاب الدين ولا أظن مثل هذا إلا غلطاً على مثله، وروي عنه إدغام التنوين في السين من غيرغنَّة. و «ثَلاثةٌ» و «خَمسةٌ» و «سَبعةٌ» إخبار المبتدأ محذوف مضمرٍ، أي: هم ثلاثة، وهم خمسة، وهم سبعة، وما بعد «ثلاثة» و «خمسة» من الجملة صفة لهما، كما تقدَّم، ولا يجوز أن تكون الجملة حالاً، لعدم عامل فيها، ولا يجوز أن يكون التقدير: هؤلاء ثرثة، وهؤلاء خمسةٌ، ويكون العامل اسم الإشارة أو التنبيه، قال أبو البقاء: لأنَّها إشارةٌ إلى حاضر، ولم يشيروا إلى حاضر «. قوله: {رَجْماً بالغيب} فيه أربعة أوجهٍ: أحدها: أنه مفعولٌ من أجله؛ يقولون ذلك لأجل الرمي بالغيب. والثاني: أنه في موضع الحال، أي: ظانِّين. والثالث: أنه منصوب ب» يَقُولونَ «لأنه بمعناه. والرابع: أنه منصوب بمقدر من لفظه، أي: يرجمون بذلك رجماً. والرَّجمُ في الأصل: الرَّميُ بالرِّجامِ، وهي الحجارة الصِّغارُ، ثم عبِّر به عن الظنِّ، قال زهير: [الطويل] 3505 - ومَا الحَربُ إلاَّ ما عَلِمْتُمْ وذُقْتُم ... ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرجَّمِ أي: المظنون. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 454 قوله:» وثامنُهم «في هذه الواو أوجهٌ: أحدها: أنها عاطفة، عطفت هذه الجملة على جملة قوله» هُم سَبْعةٌ «فيكونون قد أخبروا بخبرين، الأول: أنهم سبعة رجالٍ على البتِّ. والثاني أنَّ ثامنهم كلبهم، وهذا يؤذنُ بأن جملة قوله {وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} من كلام المتنازعين فيهم. الثاني: أن الواو للاستئناف، وأنه من كلام الله تعالى أخبر عنهم بذلك، قال هذا القائل: وجيء بالواو؛ لتعطي انقطاع هذا ممَّا قبله. الثالث: أنها الواو الداخلة على الصفة؛ تأكيداً، ودلالة على لصق الصفة بالموصوف، وإليه ذهب الزمخشري، ونظره بقوله: {مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] . وردَّ أبو حيَّان عليه: بأنَّ أحداً من النحاة لم يقله، وقد تقدَّم الكلام عليه في ذلك. الرابع: أنَّ هذه تسمَّى واو الثمانية، وأنَّ لغة قريشٍ، إذا عدُّوا يقولون: خمسةٌ ستَّة سبعة، وثمانية تسْعةٌ، فيدخلون الواو على عقد الثمانية خاصة، ذكر ذلك ابن خالويه، وأبو بكر راوي عاصم، قلت: وقد قال ذلك بعضهم في قوله تعالى: {وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَ} [الزمر: 73] في الزمر، فقال: دخلت في أبواب الجنة؛ لأنها ثمانية، ولذلك لم يجأ بها في أبواب جهنَّم؛ لأنها سبعة، وسيأتي هذا، إن شاء الله. قال أصحاب هذا القول: إنَّ السبعة عند العرب أمثل في المبالغة في العدد؛ قال تعالى: {إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً} [التوبة: 80] . ولما كان كذلك، فلما وصلوا إلى الثَّمانية، ذكروا لفظاً يدلُّ على الاستئناف فقالوا: وثمانية، فجاء هذا الكلام على هذا القانون، قالوا: ويدلُّ عليه قوله تعالى: {والناهون عَنِ المنكر} [التوبة: 112] ؛ لأن هذا هو العدد الثامن من الأعداد المتقدمة. وقوله: {حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} [الزمر: 73] لأن أبواب الجنة ثمانيةٌ، وأبواب النَّار سبعة، فلم يأتِ بالواو فيها. وقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً} [التحريم: 5] هو العدد الثامن مما تقدَّم. قال القفال: وهذا ليس بشيء؛ لقوله تعالى: {هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر} [الحشر: 23] ولم يذكر الواو في النَّعت الثامن. وقرئ: «كَالبُهمْ» أي: صاحب كلبهم، ولهذه القراءةِ قدَّر بعضهم في قراءة العامة: وثامنهم صاحب كلبهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 455 وثلاثةٌ وخمسةٌ وسبعةٌ: مضافة لمعدودٍ محذوف، فقدَّره أبو حيان: ثلاثة اشخاص، قال: «وإنَّما قدَّرنا أشخاصاً؛ لأنَّ رابعهم اسم فاعل أضيف إلى الضمير، والمعنى: أنه ربعهم، أي: جعلهم أربعة، وصيَّرهم إلى هذا العدد، فلو قدَّرناه رجالاً، استحال أن يصيِّر ثلاثة رجالٍ أربعة؛ لاختلافِ الجنسين» وهو كلامٌ حسنٌ. فصل وقال أبو البقاء: «ولا يعمل اسم الفاعل هنا؛ لأنه ماض» قلت: يعني أنَّ رابعهم فيما مضى، فلا يعمل النصب تقديراً، والإضافة محضة، وليس كما زعم، فإنَّ المعنى على: يصير الكلب لهم أربعة، فهو ناصبٌ تقديراً، وإنما عمل، وهو ماضٍ؛ لحكاية الحال ك «بَاسِطٌ» . فصل روي أن السيِّد والعاقب وأصحابهما من نصارى نجران، كانوا عند النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فجرى ذكر أصحاب الكهف، فقال السيِّد - وكان يعقوبياً -: كانوا ثلاثة رابعهم كلبهم. وقال العاقبُ - وكان نُسطوريًّا -: كانوا خمسة سادسهم كلبهم. وقال المسلمون: ك انوا سبعة، وثامنهم كلبهم، فحقَّق الله قول المسلمين بعدما حكى قول النصارى، فقال: «سَيقُولونَ ثَلاثةٌ رابعهُم كَلْبهُم، ويَقُولونَ خَمسَةٌ سَادسهُمْ كَلبُهمْ رجماً بالغيب ويَقُولونَ: سَبْعةٌ وثَامنهُمْ كَلبُهمْ» . قوله: {رَجْماً بالغيب} أي: ظنًّا وحدساً من غير يقينٍ، ولم يقل هذا في السبعة، فقال: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} . فصل قال أكثر المفسرين: هذا هو الحقُّ؛ ويدلُّ عليه وجوهُ: الأول: أنَّ الواو في قوله: {وَثَامِنُهُمْ} هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنَّكرة، كما تدخل ع لى الجملة الواقعة حالاً عن المعرفة في قولك: «جَاءنِي رجلٌ، ومَعهُ آخَرُ» ومررت بزيدٍ، ومعه سيفٌ، ومنه قوله: {وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ} [الحجر: 4] . وفائدتها: تأكيد لصوق الصفة بالموصوف، والدلالة على أنَّ اتصافه به أمرٌ ثابتٌ مستقرٌّ، فكانت هذه الواو دالة على أنَّ الذين كانوا في الكهف كانوا سبعة وثامنهم كلبهم. الثاني: أنه تعالى خصَّ هذا الموضع بهذا الحرف الزَّائد وهو الواو؛ فوجب أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 456 يحصل به فائدة زائدة؛ صوناً للفظ عن التعطيل، وليس الفائدة إلاَّ تخصيص هذا القول بالإثبات والتَّصحيح. الثالث: أنه تعالى أتبع القولين بقوله: {رَجْماً بالغيب} ولم يقله في السَّبعة، وتخصيص الشيء بالوصف يدلُّ على أنَّ الحال في الباقي بخلافه، وأنه مخالف لهما في كونه «رجْماً بالغَيْب» . الرابع: أنه قال بعده: {رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} فدلَّ على أن هذا القول ممتازٌ عن القولين الأوَّلين بمزيد القوَّة والصَّحة. الخامس: أنه تعالى قال: {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} فدلَّ على أنَّه حصل العلم بعدتهم لذلك القليل، وكلُّ من قال من المسلمين قولاً في هذا الباب، قال: إنهم كانوا سبعة، وثامنهم كلبهم؛ فوجب أن يكون المراد من ذلك القليل هؤلاء الذين قالوا هذا القول، وكان عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - يقول: كانوا سبعة، وثامنهم كلبهم، وأسماؤهم: ميليخا، مكسلمينا، مسلثينا وهؤلاء الثلاثة كانوا أصحاب يمين الملك، وعن يساره: مرنوس، ديرنوس، سادنوس، وكان الملكُ يستشير هؤلاء الستَّة، يتصرَّفون في مهمَّاته، والسَّابع هو الرَّاعي الذي وافقهم، لمَّا هربوا من ملكهم، واسم كلبهم قطميرٌ، وروي عن ابن عباس أنه قال: مكسلمينا، ويلميخا، ومرطوس وبينويس، وسارينوس، وذونوانس، وكشفيطيطونونس وهو الراعي، وكان ابن عباس يقول: أنا من أولئك العدد القليل. السادس: أنه تعالى، لما قال: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} قال: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} . والظاهر أنَّه لما حكى الأقوال، فقد حكى كلَّ ما قيل من الحقِّ والباطل، ويبعد أنَّه تعالى ذكر الأقوال الباطلة، ولم يذكر ما هو الحقُّ، فثبت أن جملة الأقوال الحقَّة والباطلة ليست إلاَّ هذه الثَّلاثة، ثم خصَّ الأولين بأنه رجمٌ بالغيب؛ فوجب أن يكون الحق هو الثالث. السابع: أنه قال لرسوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: {فَلا تُمارِ فِيهمْ إلاَّ مِراءً ظَاهِراً، ولا تَسْتفْتِ فِيهم مِنهُمْ أحَداً} فمنعه من المناظرة معهم في هذا الباب، وهذا إنما يكون، لو علم حكم هذه الواقعة، ويبعد أن يحصل العلم بذلك لغير النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ولا يحصل للنبيِّ - عليه السلام - فعلمنا أنَّ العلم بهذه الواقعة حصل للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والظاهر أنه لم يحصل ذلك إلاَّ بهذا الوحي؛ لأنَّ الأصل فيما سواهُ العدم، فيكون الأمر كذلك، ويكون الحقُّ قوله: {سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ} وهذه الوجوه، وإن كان فيها بعض الضعف إلاَّ أنه لما تقوَّى بعضها ببعضٍ، حصل فيها تمامٌ وكمالٌ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 457 فصل في هذه الآية محذوفٌ، وتقديره: سيقولون: هم ثلاثة، فحذف المبتدأ؛ لدلالة الكلام عليه، ثم قال تعالى: {قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم} أي: بعددهم {مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ} ، وهذا هو الحق؛ لأن العلم بتفاصيل كائنات العالم، وحوادثه في الماضي والمستقبل، لا يحصل إلاَّ عند الله، أو عند من أخبره الله تعالى، ثم لمَّا ذكر تعالى هذه القصَّة، نهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن المراءِ والاستفتاء، فقال: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} ، أي لا تجادل، ولا تقل في عددهم وشأنهم إلاَّ مراء ظاهراً إلا بظاهر ما قصصنا عليك، فقف عنده، {وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً} أي من أهل الكتاب، أي: لا ترجع إلى قولهم بعد أن أخبرناك؛ لأنَّه ليس عندهم علمٌ في هذا الباب إلاَّ رجماً بالغيب. فصل واعلم أنَّ نفاة القياس تمسَّكوا بهذه الآية، قالوا: لأن قوله: {رَجْماً بالغيب} قيل: كان ظنًّا بالغيب؛ لأنَّهم أكثروا أن يقولوا رجماً بالظنِّ، مكان قولهم: «ظنَّ» حتى لم يبق عندهم فرقٌ بين العبارتين، كما قال: [الطويل] 3506 - ... ... ... ... ..... ومَا هُوَ عَنْهَا بالحَديثِ المُرجَّمِ أي: المظنون، ثم إنه تعالى، لمَّا ذم هذه الطريقة، رتَّب عليها المنع من استفتاء هؤلاء الظانِّين، فدلَّ على أن الفتوى بالمظنون غير جائزٍ عند الله تعالى، وتقدَّم جوابهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 458 وذلك أن أهل مكَّة سألوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، فقال: أخبركم غداً، ولم يقل: إن شاء الله، فلبث الوحيُ أيَّاماً، ثم نزلت هذه الآية. فصل اعترض القاضي على هذا الكلام من وجهين: الأول: أنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ كان عالماً بأنَّه إذا أخبر أنه سيفعل الفعل الفلانيَّ غداً، فربَّما جاءته الوفاة قبل الغد، وربما عاقه عائقٌ عن ذلك الفعل غداً، وإذا كانت هذه الأمور محتملة، فلو لم يقل: إن شاء الله، خرج الكلام مخالفاً لما عليه، وذلك يوجب التنفير عنه. أما إذا قال: «إن شاء الله تعالى» كان محترزاً عن هذا المحذور المذكور، وإذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 458 كان كذلك، كان من البعيد أن يعد بشيءٍ، ولم يقل: إن شاء الله. الثاني: أن هذه الآية مشتملةٌ على قواعد كثيرةٍ، وأحكام جمَّة، فيبعد قصرها على هذا السبب، إذ يمكن أن يجاب عن الأول بأنه لا يمتنع أن الأولى أن يقول: «إن شاء الله تعالى» ، إلاَّ أنه ربَّما اتَّفق له نسيان قول «إن شاء الله» لسبب من الأسباب، وكان ذلك من باب ترك الأولى والأفضل، وأنه يجاب عن الثاني بأنَّ اشتماله على الفوائد الكثيرةِ لا يمتنع أن يكون نزوله بسببٍ واحدٍ منها. قوله: {إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله} : قال أبو البقاء: في المستثنى منه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: هو من النَّهي. والمعنى: لا تقولنَّ: افعلُ غداً، إلاَّ أن يؤذن لك في القول. الثاني: هو من «فاعلٌ» ، أي: لا تقولنَّ إني فاعل غداً؛ حتَّى تقرن به قول «إن شاء الله» . والثالث: أنه منقطعٌ، وموضع «أن يشاء الله» نصب على وجهين: أحدهما: على الاستثناء، والتقدير: لا تقولنَّ ذلك في وقتٍ إلاَّ وقت أن يشاء الله، أي: يأذن، فحذف الوقت، وهو المراد. الثاني: هو حالٌ، والتقدير: لا تقولنَّ: أفعل غداً إلا قائلاً: «إن شاء الله» وحذف القول كثير، وقيل: التقدير إلاَّ بأن يشاء الله، أي: إلاَّ ملتبساً بقول: «إن شاء الله» . وقد ردَّ الزمخشريُّ الوجه الثاني، فقال: «إلاَّ أن يشاءَ» متعلقٌ بالنهي، لا بقوله «إنِّي فاعلٌ» لأنه لو قال: إني فاعل كذا إلا أن يشاء الله، كان معناه: إلا أن تعترض مشيئة الله دون فعله، وذلك ممَّا لا مدخل فيه للنهي. معناه أنَّ النهي عن مثل هذا المعنى، لا يحسن. ثم قال: «وتعلُّقهُ بالنهي من وجهين: أحدهما: ولا تقولنَّ ذلك القول، إلا أن يشاء الله أن تقوله بأن يأذن لك فيه. والثاني: ولا تقولنَّه إلاَّ بأن يشاء الله، أي: إلاَّ بمشيئته، وهو في موضع الحال، أي: ملتبساً بمشيئة الله، قائلاً إن شاء الله. وفيه وجه ثالثٌ: وهو أن يكون «إلاَّ أن يشاء» في معنى كلمة تأبيدٍ، كأنَّه قيل: ولا تقولنَّه أبداً، ونحوه: {وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا} [الأعراف: 89] لأن عودهم في ملتهم ممَّا لم يشأ الله «. وهذا الذي ذكره الزمخشري قد ردَّه ابن عطيَّة بعد أن حكاه عن الطبري وغيره، ولم يوضِّح وجه الفساد. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 459 وقال أبو حيان:» وإلا أن يشاء الله، استثناء لا يمكن حمله على ظاهره؛ لأنه يكون داخلاً تحت القول، فيكونُ من المقول، ولا ينهاه الله أن يقول: إني فاعلٌ ذلك غداً إلا أن يشاء الله؛ لأنه قول صحيحٌ في نفسه، لا يمكن أن ينهى عنه، فاحتيج في تأويل هذا الظاهر إلى تقديرٍ، فقال ابن عطيَّة: في الكلام حذف يقتضيه الظاهر، ويحسِّنهُ الإيجاز، تقديره: إلاَّ أن يقول: إلا أن يشاء الله، أو إلاَّ أن تقول: إن شاء الله، والمعنى: إلاَّ أن تذكر مشيئة الله، فليس «إلاَّ أن يشاء الله» من القول الذي نهي عنه «. فصل قال كثيرٌ من الفقهاء: إذا قال الرَّجل لزوجته:» أنْتِ طالقٌ، إن شاء الله «لم يقع الطَّلاق؛ لأنه لما علَّق وقوع الطَّلاق على مشيئة الله، لم يقعِ الطَّلاق إلا إذا علمنا حصول المشيئة، ومشيئةُ الله غيبٌ لا سبيل لنا إلى العلم بحصولها، إلا إذا علمنا أن متعلَّق المشيئة وقع وحصل، وهو هذا الطلاق، وعلى هذا لا يعرف حصول المشيئة، إلاَّ إذا وقع الطلاق، ولا يعرف وقوع الطلاق، إلاَّ إذا عرفنا المشيئة، فيوقف كلُّ واحدٍ منهما على العلم بالآخرِ، وهو دورٌ؛ فلهذا لم يقع الطَّلاق. فصل احتجوا بهذه الآية على أنَّ المعدوم شيءٌ، قالوا: لأنَّ الشيء الذي سيفعله غداً سمَّاه الله تعالى في الحال شيئاً، وهو معدومٌ في الحال. [وأجيب] بأنَّ هذا الاستدلال لا يفيدُ إلاَّ أنَّ المعدوم مسمى بكونه شيئاً، والسبب فيه أنَّ الذي يصير شيئاً يجوز تسميته بكونه شيئاً في الحال تسمية للشيء بما يئولُ إليه؛ لقوله تعالى: {أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] والمراد سيأتي أمر الله. ثم قال تعالى: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} قال ابن عباس، ومجاهد، والحسن: معناه: إذا نسيت الاستثناء، ثم ذكرت، فاستثنِ. وقيَّده الحسن وطاوس بالمجلس. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 460 وعن سعيد بن جبيرٍ: بعد سنة، أو شهرٍ، أو أسبوعٍ، أو يوم. وعن عطاءٍ: بمقدار حلب ناقةٍ غزيرةٍ. وعند عامة الفقهاء: لا أثر له في الأحكام ما لم يكن موصولاً، وقالوا: لأنا لو جوَّزنا ذلك، لزم ألاَّ يستقرَّ شيءٌ من العهود والإيمان. [يحكى] أنه بلغ المنصور أنّ أبا حنيفة خالف ابن عبَّاس في الاستثناء المنفصل، فاستحضره؛ لينكر عليه، فقال له أبو حنيفة: هذا يرجع عليك؛ فإنك تأخذ البيعة بالأيمان، أترضى أن يخرجوا من عندك، فيستثنوا، فيخرجوا عليك، فاستحسن المنصور كلامه، ورضي عنه. واعلم أن هذا تخصيص النصِّ بالقياس، وفيه ما فيه. وأيضاً فلو قال: «إنْ شَاءَ الله» خفية؛ بحيث لا يسمع، كان دافعاً للحنث بالإجماع، مع أنَّ المحضور باقٍ، فما عوَّلوا عليه ليس بقويٍّ، [والأولى] أن يحتجَّ في وجوب كون الاستثناء متَّصلاً بالآيات الكثيرة الدالة على وجوب الوفىءِ بالعقد والعهد؛ كقوله: {أَوْفُواْ بالعقود} [المائدة: 1] {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] ، فإذا أتى بعهدٍ، وجب عليه الوفاء بمقتضاه بهذه الآيات. خالفنا الدليل فيما إذا كان متَّصلاً؛ لأن الاستثناء مع المستثنى منه كالكلام الواحد؛ بدليل أنَّ الاستثناء وحده لا يفيد شيئاً، فهو جارٍ مجرى بعض الكلمة الواحدة، فجملة الكلام كالكلمة الواحدة المفيدة، وإذا كان كذلك، فإن لم يكن منفصلاً، حصل الالتزام التَّامُّ بالكلام؛ فوجب عليه الوفاء بذلك المتلزم. وقيل: إن قوله: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} كلامٌ مستأنفٌ لا تعلّق له بما قبله. فصل قال عكرمة: واذكر ربَّك، إذا غضبت. وقال وهبٌ: مكتوب في الإنجيل «ابن آدمَ، اذكُرنِي حين تغضبُ، أذكرك حينَ أغْضَبُ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 461 وقال الضحاك، والسديُّ: هذا في الصَّلاة المنسيَّة. قال ابن الخطيب: وتعلق هذا الكلام بما قبله يفيد إتمام الكلام في هذه القضيَّة، وجعله مستأنفاً يصير الكلام مبتدأ منقطعاً، وذلك لا يجوز. ثم قال: {وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً} وفيه وجوهٌ: الأول: أن ترك قوله: «إنْ شَاءَ اللهُ» ليس بحسن، وذكره أحسن من تركه، وهو قوله: {لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً} المراد منه ذكر هذه الجملة. الثاني: أنَّه لمَّا وعدهم بشيءٍ، وقال معه (إن شاء الله تعالى) فيقول: عسى أن يهديني ربِّي لشيءٍ أحسن وأكمل مما وعدتُّكم به. الثالث: أن قوله: {عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً} إشارة إلى قصَّة أصحاب الكهف، أي: لعلَّ الله يؤتيني من البيِّنات والدلائل على صحَّة نبوَّتي وصدقي في ادِّعاء النبوة ما هو أعظم في الدلالة، وأقرب رشداً من قصَّة أصحاب الكهف، وقد فعل الله ذلك حين آتاهُ من قصص الأنبياء، والإخبار بالغيوب ما هو أعظم من ذلك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 462 قوله: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وازدادوا تِسْعاً} . قال قتادة: هذا من كلام القوم؛ لأنَّه تعالى قال: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] إلى أن قال: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ} أي: إنَّ أولئك الأقوام، قالوا ذلك، ويؤيِّده قوله تعالى بعده {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} وهذا يشبهُ الردَّ على الكلام المذكور قبله. ويؤيِّده أيضاً ما ورد في مصحف عبد الله: (وقالوا ولبثوا في كهفهم) . وقال آخرون: هو كلام الله تعالى أخبر عن كميَّة هذه المدَّة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 462 وأما قوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} فهو كلامٌ تقدَّم، وقد تخلَّل بينه وبين هذه الآية ما يوجبُ انقطاع أحدهما عن الآخر، وهو قوله: {فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً} [الكهف: 22] . وقوله تعالى: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} لا يوجب أنَّ ما قبله حكاية؛ لأنَّه تعالى أراد بل الله أعلم بما لبثوا، فارجعوا إلى خبر الله دون ما يقوله أهل الكتاب، والمعنى أن الأمر في مدَّة لبثهم، كما ذكرنا، فإن نازعوك فيها، فأجبهم فقل: {الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} أي: فهو أعلم منكم، وقد أخبر بمدَّة لبثهم. وقيل: إنَّ أهل الكتاب قالوا: إنَّ المدَّة من لدن دخلوا الكهف إلى يومنا ثلاثمائة وتسع سنين، فردَّ الله عليهم، وقال: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} يعني بعد قبض أرواحهم إلى يومنا هذا، لا يعلمه إلاَّ الله. قوله: {ثَلاثَ مِئَةٍ سِنِينَ} : قرأ الأخوان بإضافة «مِئةِ» إلى «سنين» والباقون بتنوين «مِئةٍ» . فأمَّا الأولى: فأوقع فيها الجمع موقع المفرد؛ كقوله: {بالأخسرين أَعْمَالاً} [الكهف: 103] . قاله الزمخشريُّ يعني أنه أوقع «أعْمَالاً» موقع «عملاً» وقد أنحى أبو حاتمٍ على هذه القراءة ولا يلتفت إليه، وفي مصحف عبد الله «سنة» بالإفراد، وبها قرأ أبيّ، وقرأ الضحاك «سِنُونَ» بالواو على أنها خبر مبتدأ مضمرٍ، أي: هي سنُونَ. وأمَّا الباقون، فلما لم يروا إضافة «مِئَة» إلى جمعٍ، نَوَّنُوا، وجعلوا «سِنينَ» بدلاً من «ثَلاثمائةٍ» أو عطف بيان. قال البغويُّ: فإن قيل لِمَ قال: «ثلاثمائة سنين» ولم يقل سنة؟ فالجواب، لمَّا نزل قوله تعالى: {وَلَبِثُواْ فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِئَةٍ} فقالوا: أيَّاماً، أو شهوراً، أو سنين، فنزلت «سنين» . وقال الفراء: من العرب من يضع «سنين» موضع سنة. ونقل أبو البقاء أنها بدل من «مِئَةٍ» لأنها في معنى الجمع. ولا يجوز أن يكون «سِنينَ» في هذه القراءة تمييزاً؛ لأنَّ ذلك إنما يجيء في ضرورةٍ مع إفرادِ التمييز؛ كقوله: 3507 - أ - إذَا عَاشَ الفَتَى مِئَتيْنِ عَاماً ... فَقدْ ذَهبَ اللَّذاذَةُ والفَتَاءُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 463 فصل قيل: المعنى: ولبثوا في كهفهم سنين ثلاثمائة {وازدادوا تِسْعاً} . قال الكلبيُّ: قالت نصارى نجران: أما الثلاثمائة، فقد عرفناها، وأما التسع، فلا علم لنا بها، فنزلت: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} . روي عن عليٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه قال: عند أهل الكتاب: أنَّهم لبثُوا ثَلاثمائَةٍ شَمْسيَّة، والله تعالى ذَكرَ ثَلاثمَائةِ سنةٍ قمريَّة، والتَّفاوتُ بين الشَّمسية والقمريَّة في كلِّ مائةِ سنةٍ ثلاث سنين، فيكونُ ثَلاثمائَةٍ، وتِسْع سنينَ، فَلذلِكَ قال: «وازْدَادُوا تِسْعاً» . قال ابن الخطيب: وهذا مشكلٌ؛ لأنه لا يصحُّ بالحساب، فإن قيل: لِمَ لا قيل: ثلاثمائة، وتسع سنين؟ . وما الفائدة في قوله: «وازْدَادُوا تِسْعاً» ؟ . فالجواب: أن يقال: لعلَّهم لما استكمل لهم ثلاثمائة سنة، قرب أمرهم من الانتباه، ثمَّ اتفق ما أوجب [بقاءهم في النَّوم] تسع سنين. قوله: «تِسْعاً» أي: تسع سنين، حذف المميِّز؛ لدلالةِ ما تقدَّم عليه؛ إذ لا يقال: عندي ثلاثمائة درهم وتسعة، إلا وأنت تعني: تسعة دراهم، ولو أردتَّ ثياباً ونحوها، لم يجزْ؛ لأنه إلغازٌ، و «تِسْعاً» مفعولٌ به، وازداد: افتعل، أبدلت التاء دالاً بعد الزاي، وكان متعدِّياً لاثنين؛ نحو: {وَزِدْنَاهُمْ هُدًى} [الكهف: 13] ، فلما بني على الافتعال، نقص واحداً. وقرأ الحسن وأبو عمرو في رواية «تسعاً» بفتح التاء كعشرٍ. قوله: {قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ} أنه تعالى أعلم بمقدار هذه المدَّة من الناس الذين اختلفوا فيها؛ لأنَّه إله السموات والأرض ومدبِّر العالم له غيبُ السَّموات والأرض. والغَيْبُ: ما يغيب عن إدراكك، والله - تعالى - لا يغيبُ عن إدراكه شيءٌ، ومن كان عالماً بغيب السموات والأرض، يكون عالماً بهذه الواقعة، لا محالة. قوله: {أَبْصِرْ بِهِ} : صيغة تعجُّب بمعنى «مَا أبْصرَهُ» على سبيل المجاز، والهاء لله تعالى، وفي مثل هذا ثلاثة مذاهب: الأصح: أنه بلفظ الأمر، ومعناه الخبر، والباء مزيدة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 464 في الفاعل؛ إصلاحاً للفظ أي ما أبصر الله بكلِّ موجودٍ، وأسمعه بكلِّ مسموعٍ. والثاني: أنَّ الفاعل ضمير المصدر. والثالث: أنه ضمير المخاطب، أي: أوقع أيُّها المخاطب، وقيل: هو أمر حقيقة لا تعجب، وأن الهاء تعود على الهدى المفهوم من الكلام. وقرأ عيسى: «أسْمعَ» و «أبْصرَ» فعلاً ماضياً، والفاعل الله تعالى، وكذلك الهاء في «به» ، أي: أبصر عباده وأسمعهم. وتقدَّم الكلام على هذه الكلمة عند قوله: {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} [البقرة: 175] . قوله: {مَا لَهُم} أي: ما لأهلِ السموات والأرض. قوله: «مِنْ دُونهِ» أي: من دون الله. قوله: «مِنْ وليٍّ» أي من ناصرٍ. و «مِنْ وليٍّ» يجوز أن يكون فاعلاً، وأن يكون مبتدأ. قوله: «ولا يُشْرِكُ» قرأ ابن عامر بالتاء والجزم [عطفاً على قوله: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ} [الكهف: 23] وقوله: {واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عسى} ] أي: ولا تشركْ أنت أيها الإنسانُ، والباقون بالياء من تحت، ورفع الفعل، أي: ولا يشرك الله في حكمه أحداً، فهو نفيٌ محضٌ. فصل في المراد بالحكم في الآية قيل: الحكم ها هنا علم الغيب، أي: لا يشركُ في علم غيبه أحداً. وقرأ مجاهد وقتادة: «ولا يُشرِكْ» بالياء من تحت والجزم. قال يعقوب: «لا أعرف وجهه» . قال شهاب الدين: وجهه أنَّ الفاعل ضميرُ الإنسان، أضمر للعلم به. والضمير في قوله «مَا لهُمْ» يعود على معاصري رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، قال ابن عطية: «وتكون الآية اعتراضاً بتهديد» كأنَّه يعني بالاعتراض: أنهم ليسوا ممَّن سيق الكلام لأجلهم، ولا يريد الاعتراض الصِّناعي. فصل قوله: {مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 465 قيل: ما لأصحاب الكهف من دون الله وليٌّ؛ فإنَّه هو الذي يتولَّى حفظهم في ذلك النَّوم الطَّويل. وقيل: ليس لهؤلاءِ القوم المختلفين في مدَّة لبث أصحاب الكهف وليٌّ من دون الله، يتولَّى أمرهم، ويقيم لهم تدبير أنفسهم، فإذا كانوا محتاجين إلى تدبير الله وحفظه، فكيف يعلمون هذه الواقعة من غير إعلامه؟! . فصل واختلفوا في زمن أصحاب الكهف وفي مكانهم، فقيل: كانوا قبل موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وأنَّ موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذكرهم في التَّوراة، فلهذا سأل اليهودُ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قصَّتهم. وقيل: دخلوا الكهف قبل المسيح، وأخبر المسيحُ بخبرهم، ثم بعثوا في الوقت الذي بين عيسى، وبين محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وقيل: إنَّهم دخلوا الكهف بعد الميسح، حكى هذا القول القفَّال عن محمد بن إسحاق، وذكر أنهم لم يموتوا، ولا يموتون إلى يوم القيامة. وأمَّا مكان الكهف، فحكى القفَّال عن محمد بن موسى الخُوارزميِّ المنجم: أن الواثق أنفذه؛ ليعرف حال أصحاب الكهف من ملك الرُّوم، قال: فوجَّه ملكُ الرُّوم معي أقواماً إلى الموضع الذي يقال إنهم فيه. وقيل: إنَّ الرجل قال: إنَّ الرجل الموكَّل بذلك الموضع فزَّعني من الدُّخول عليهم، قال: فدخلت فرأيت الشُّعور على صدورهم. قال: وعرفت أنَّ ذلك تمويهٌ واحتيالٌ، وأنَّ الناس كانوا قد عالجوا تلك الجثث بالأدوية المجففة؛ لتصونها عن البلاء؛ كالتلطيخ بالصَّبر وغيره. قال القفَّال: والذي عندنا أنَّ موضع أصحاب الكهف لا يعرف، ولا عبرة بقول أهل الرُّوم، وذكر الزمخشري عن معاوية «أنَّه لما غزا الرُّومَ، فمرَّ بالكهف، فقال: لو كشف عن هؤلاء، ننظر إليهم، فقال له ابن عباس: أيُّ شيءٍ لك في ذلك؟ قد منع الله من هو خيرٌ منك، فقال: {لَو اطَّلعتَ عَليْهِمْ، لولَّيتَ مِنهُمْ فِراراً، ولمُلِئْتَ مِنهُمْ رُعْباً} . فقال: لا أنتهي عن ذلك، حتَّى أعلم حالهم، فبعث أناساً، فقال: اذهبوا، فانظروا، فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحاً، [فأخرجتهم] » . فصل قال ابن الخطيب: والعلم بذلك الزَّمان، وذلك المكان، ليس للعقل فيه مجالٌ، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 466 وإنما يستفاد ذلك من نصٍّ، وهو مفقودٌ؛ فثبت أنَّه لا سبيل إليه. قال ابن الخطيب: هذه السورة الثلاث اشتملت كلُّ واحدة منها على حصول حالةٍ غريبةٍ عجيبةٍ نادرةٍ في هذا العالم: سورة بني إسرائيل اشتملت على الإسراء بالجسد الشريف صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ من مكة إلى الشَّام، وهي حالة عجيبة، وهذه السورة اشتملت على بقاء القوم في النوم مدَّة ثلاثمائة سنةٍ، وأزيد، وهي أيضاً حالة عجيبة وسورة مريم اشتملت على حدوث الولد لا من الأب، وهي أيضاً حاله غريبة والمعتمد في بيان هذه العجائب، والغرائب المذكورة: أنَّه تعالى قادر على كلِّ الممكنات، عالمٌ بجميع المعلومات من الجزئيات والكليَّات، فإنَّ كلَّ ما كان ممكن الحصول في بعض الأوقات كان ممكن الحصول في سائر الأوقات. وإذا ثبتت هذه الأصول الثلاثة ثبت القول بإمكان البعث، ولما كان قادراً على الكل وثبت أن بقاء الإنسان حياً في النوم مدة يوم ممكن، فكذلك بقاؤهُ مدة ثلاثمائة سنةٍ، يوجب أن يكون ممكناً، بمعنى: أن إله العالم يحفظه عن الآفةِ. وأما الفلاسفةُ فإنهم يقولون: لا يبعد وقوع أشكالٍ فلكية غريبة توجب في عالم الكون والفساد حصول أحوالٍ غريبة نادرة، وذكر أبو علي بن سفيان في «باب الزَّمان» من كتاب «الشِّفا» أن أرسطاطاليس الحكيم ذكر أنه عرض لقوم من المباطيل حالةٌ شبيهة بأصحاب الكهف. قال ابن سينا: ويدلُّ التاريخ على أنهم قبل أصحاب الكهف. قوله تعالى: {واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ} الآية. اعلم أن كفَّار قريش اجتمعوا، وقالوا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن أردت أن نؤمن بك فاطرد هؤلاء الذين آمنوا بك، فنهاهُ الله عن ذلك، وبيّن في هذه الآيات أنَّ الذي اقترحوه والتمسوه مطلوب فاسد، ثم إنه تعالى جعل الأصل في هذا الباب شيئاً واحداً، وهو أن يواظب على تلاوة الكتاب الذي أوحاه الله إليه، ولا يلتفت إلى اقتراح المقترحين وتعنتهم، فقال: {واتل مَآ أُوْحِيَ إِلَيْكَ} أي التزم قراءة الكتاب الذي أوحي إليك والزم العمل به {لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ} أي: لا مغيِّر للقرآن، وهذه آية تدل على أنه لا يجوز تخصيص النصِّ بالقياس؛ لأن معنى الكلام: الزم العمل بمقتضى هذا الكتاب، وذلك يقتضي وجوب العمل بمقتضى ظاهره. فإن قيل: فيجب ألا يتطرَّق النسخ إليه أيضاً. فالجواب: أن هذا مذهبُ أبي مسلم الأصفهاني، وليس ببعيد، وأيضاً فالنسخ في الحقيقة ليس بتبديلٍ؛ لأن المنسوخ ثابت في وقته إلى وقت طريان الناسخ، فالناسخ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 467 كالمغاير، فكيف يكون تبديلاً؟ ثم قال: {ولن تَجدِ مِنْ دُونهِ مُلتحداً} أي: ملجأ، قال أهل اللغة: هو من لحد وألحد: إذا مال، ومنه قوله {الذين يُلْحِدُونَ} [فصلت: 40] والملحدُ: الماثل عن الدِّين. قال ابن عباس: حرزاً. وقال الحسن: مدخلاً. وقال مجاهد: ملجأ. وقيل: ولن تجد من دونه ملتحداً في البيان والإرشاد. قوله: {واصبر نَفْسَكَ} أي: احبسها وثبتها قال أبو ذؤيب: [الكامل] 3507 - ب - فَصَبرْتُ نَفْساً عِنْدَ ذلِكَ حُرَّة ... تَرْسُو إذَا نَفْسُ الجَبانِ تَطلَّعُ وقوله: «بالغَداةِ» تقدَّم الكلام عليها في الأنعام. فصل في نزول الآية نزلت في عيينة بن حصن الفزاريِّ، أتى النَّبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قبل أن يسلم، وعنده جماعةٌ من الفقراءِ فيهم سلمان، وعليه شملةٌ قد عرق فيها، وبيده خوصةٌ يشقها، ثم ينسجها؛ فقال عيينة للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: أما يؤذيكَ ريحُ هؤلاء؟ ونحن سادات مضر وأشرافها فإن أسلمنا، أسلم الناس، وما يمنعنا من اتِّباعِكَ إلاَّ هؤلاء، حتى نتبعك، واجعل لنا مجلساً، ولهم مجلساً، فأنزل الله تعالى: {واصبر نَفْسَكَ} ، أي: احبسْ يا محمد نفسك {مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي} طرفي النَّهار، {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} أي: يريدون الله، لا يريدون به عرضاً من الدنيا. وقال قتادة: نزلت في أصحاب الصُّفة، وكانوا سبعمائة رجلٍ فقراء في مسجد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ لا يرجعون إلى تجارة، ولا إلى زرع، يصلُّون صلاة، وينتظرون أخرى، فلما نزلت هذه الآية، قال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «الحمد لله الذي جعل في أمَّتي من أمرتُ أن أصبر نفسي معهم» . وهذه القصة منقطعة عما قبلها، وكلامٌ مفيدٌ مستقلٌّ، وتقدم نظير هذه الآية في سورة الأنعام، وهو قوله تعالى: {وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي} [الأنعام: 52] ففي تلك الآية نهى الرسول - عليه السلام - عن طردهم، وفي هذه الآية أمرهُ بمجالستهم والمصابرة معهم. فصل في قراءات الآية قرأ ابن عامر بالغداة والعشيّ، بضمِّ الغين، والباقون بالغَداة، وهما لغتان، فقيل: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 468 المراد كونهم مواظبين على هذا العمل في كلِّ الأوقاتِ كقول القائل: ليس لفلانٍ عمل بالغداة والعشيِّ إلاَّ شتم الناس، وقيل: المراد صلاة الفجر والعصر. وقيل: المراد الغداة هي الوقت الذي ينتقل الإنسان فيه من النَّوم إلى اليقظة، ومن اليقظة إلى النَّوم. قوله: {وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ} فيه وجهان: أحدهما: أن مفعوله محذوف، تقديره: ولا تعد عيناك النظر. والثاني: أ، هـ ضمِّن معنى ما يتعدَّى ب «عَنْ» قال الزمخشريُّ: «يقال: عدَّاه، أي: جاوزه فإنما عدِّي ب» عَنْ «لتضمين» عَدا «معنى نبا وعلا في قولك: نَبتْ عنه عينه، وعلتْ عنه عينه، إذا اقتحمته، ولم تعلق به، فإن قيل: أي غرضٍ في هذا التضمين؟ وهلاَّ قيل: ولا تعدهم عيناك، أو: ولا تعل عيناك عنهم؟ فالجواب: الغرض منه إعطاءُ مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى [فذٍّ] ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك متجاوزتين إلى غيرهم، ونحوه {وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ} [النساء: 2] ، أي: لا تضمُّوها إليها آكلين لها «. وردَّه أبو حيان: بأنَّ مذهب البصريين أن التضمين لا ينقاس، وإنما يصار إليه عند الضرورة، فإذا أمكن الخروج عنه، فلا يصار إليه. وقرأ لحسن» ولا تُعدِ عَينَيْكَ «من أعدى رباعيًّا، وقرأ هو، وعيسى، والأعمش» ولا تُعدِّ «بالتشديد، من عدَّى يعدِّي مضعفاً، عدَّاه في الأولى بالهمزة، وفي الثانية بالتثقيل؛ كقول النابغة: [البسيط] 3508 - فَعدِّ عَمَّا تَرَى إذْ لا ارتِجاعَ لهُ ... وانْمِ القُتودَ على عَيْرانةٍ أجُدِ كذا قال الزمخشري، وأبو الفضل، وردَّ عليهما أبو حيان: بأنه لو كان تعدِّيه في هاتين القراءتين بالهمزة، أو التضعيف، لتعدَّى لاثنين؛ لأنه قبل ذلك متعد لواحد بنفسه، وقد أقرَّ الزمخشري بذلك؛ حيث قال:» يقال: عداهُ إذا جاوزه، وإنَّما عدِّي ب «عن» لتضمنه معنى علا، ونبا «فحينئذٍ يكون» أفْعلَ «و» فعَّل «ممَّا وافقا المجرَّد وهو اعتراضٌ حسنٌ. فصل يقال: عدَّاه، إذا جاوزه، ومنه قولهم: عدا طورهُ، وجاءني القومُ عدا زيداً؛ لأنَّها تفيد المباعدة، فكأنَّه تعالى نهى نبيَّه عن مباعدتهم، والمعنى: لا تزدري فقراء المؤمنين، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 469 ولا تثني عينيك عنهم؛ لأجل مجالسته الأغنياء. ثم قال:» تُريدُ «جملة حالية، ويجوز أن يكون فاعل» تريدُ «المخاطب، أي: تريد أنت، ويجوز أن يكون ضمير العينين، وإنما وحِّد؛ لأنهما متلازمان يجوز أن يخبرَ عنهما خبر الواحد، ومنه قول امرئ القيس: [الهزج] 3509 - لِمَنْ زُحلوفَةٌ زُلُّ ... بِهَا العَيْنانِ تَنهَلُّ وقول الاخر: [الكامل] 3510 - وكَأنَّ في العَيْنينِ حبَّ قَنْفُلٍ ... أو سُنْبُلاً كُحلَْ بِهِ فانهَلَّتِ وفيه غير ذلك، ونسبة الإرادة إلى العينين مجازٌ، وقال الزمخشري:» الجملة في موضع الحال «قال أبو حيان:» وصاحبُ الحال، إن قدِّر «عَيْناكَ» فكان يكون التركيبُ: يريدان «. قال شهاب الدين: غفل عن القاعدة المتقدِّمة: من أنَّ الشيئين المتلازمين يجوز أن يخبر عنهما إخبار الواحد، ثم قال:» وإن قدَّر الكاف، فمجيءُ الحال من المجرورِ بالإضافة نحو هذا فيه إشكالٌ؛ لاختلاف العامل في الحال، وذي الحال، وقد أجاز ذلك بعضهم، إذا كان المضاف جزءاً أو كالجزءِ، وحسَّن ذلك أنَّ المقصود هو نهيه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وإنما جيء بقوله «عَيْناكَ» والمقصود هو؛ لأنَّهما بهما تكونُ المراعاة للشخص والتلفُّتُ له «. قال شهاب الدين: وقد ظهر لي وجهٌ حسنٌ، لم أر غيري ذكره: وهو أن يكون» تَعْدُ «مسنداً لضمير المخاطب صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، و» عَيْناَ «بدلا من الضمير، بدل بعض من كل، و» تُرِيدُ «على وجهيها من كونها حالاً من» عَيْناكَ «أو من الضمير في» تَعْدُ «إلا أن في جعلها حالاً من الضمير في» ولا تعدُ «ضعفاً؛ من حيث إنَّ مراعاة المبدل منه بعد ذكر البدل قليلٌ جدًّا، تقول:» الجاريةُ حسنها فاتنٌ «ولا يجوز» فَاتِنةٌ «إلاَّ قليلاً، كقوله: 3511 - أ - فَكَأنَّهُ لَهِقُ السَّراة كأنَّهُ ... مَا حَاجِبَيْهِ مُعيَّنٌ بِسوَادِ فقال: «مُعيَّنٌ» مراعاة للهاء في «كَأنَّه» وكان الفصيحُ أن يقول: «مُعيَّنانِ» مراعاة لحاجبيه الذي هو البدل. فصل {تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا} ، أي تطلب مجالسة الأغنياء، والأشراف، وصحبة أهل الدنيا، ولما جاء أمره بمجالسة الفقراء من المسلمين، نهاه عن الالتفات إلى قول الأغنياء والمتكبرين، فقال: {وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} يعني عيينة بن حصين، وقيل: أميَّة بن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 470 خلف، {واتبع هَوَاهُ} في طلب الشَّهوات {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً} قال قتادة ومجاهد: ضياعاً. وقيل: ندماً، وقال مقاتلٌ: سرفاً. وقال الفراء: متروكاً. وقيل: باطلاً. وقال الأخفش: مجاوزاً للحدِّ. قوله: «أغْفَلنَا قَلبَهُ» العامة على إسناد الفعل ل «ن» و «قلبهُ» مفعول به. وقرأ عمرو بن عبيد، وعمرو بن فائد، وموسى الأسواري بفتح اللام، ورفع «قَلبهُ» أسندوا الإغفال إلى القلب، وفيه أوجهٌ، قال ابن جنِّي: من ظنَّنا غافلين عنه. وقال الزمخشريُّ: «من حَسِبنَا قلبُه غافلينَ، من أغفلته، إذا وجدته غافلاً» . وقال أبو البقاء: فيه وجهان: أحدهما: وجدها قلبه معرضين عنه. والثاني: أهمل أمرنا عن تذكُّرنا. قوله: «فرطاً» يحتمل أن يكون وصفاً على «فعل» كقولهم: «فَرسٌ فرط» ، أي: متقدِّمٌ على الخيل، وكذلك هذا، أي: متقدِّماً للحقِّ، وأن يكون مصدراً بمعنى التفريط، أو الإفراط، قال ابن عطيَّة: الفرط: يحتمل أن يكون بمعنى التفريط والتَّضييع، أي: أمرهُ الذي يجب أن يلزم، ويحتمل أن يكون بمعنى الإفراط والإسراف. قال الليث: الفرط: الأمرُ الذي يفرط فيه، يقال: كلُّ أمر فلانٍ فرطٌ، وأنشد: [الهزج] 3511 - ب - لَقدْ كَلَّفْتنِي شَطَطَا ... وأمْراً خائباً فُرُطا فصل دلَّت هذه الآية على أنذَه تعالى هو الذي يخلق الجهل والغفلة في قلوب الجهَّال. قالت المعتزلة: المراد بقوله: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا} : وجدنا قلبه غافلاً، وليس المراد منه: خلق الغفلة. ويدلُّ عليه ما روي عن عمرو بن معدي كرب الزبيديِّ أنَّه قال لبني سليم: «قَاتَلنَاكُمْ فَما أجَبْنَاكُمْ، وسَألناكُمْ فَما أبْخَلْناكُمْ، وهَجرْنَاكُمْ فمَا أفْحَمناكُمْ» أي ما وجدناكم جبناء، ولا بخلاء، ولا مفحمين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 471 وحمل اللفظ على هذا المعنى أولى؛ لوجوه: الأول: لو كان كذلك، لما استحقُّوا الذمَّ. الثاني: أنه قال بعد هذه الآية {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} ولو كان تعالى خلق الغفلة في قلبه، لما صحَّ ذلك. الثالث: أنه لو خلق الغفلة في قلبه، لوجب أن يقال: ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا، فاتبع هواهُ؛ لأن على هذا التقدير: يكون ذلك من أفعالش المطاوعة، وهي إنما تعطف بالفاءِ، لا بالواو، يقال: كسرتهُ، فانكسر، ودفعته فاندفع، ولا يقال: وانكسر، واندفع. الرابع: قوله: {واتبع هَوَاهُ} فلو أغفل قلبهم في الحقيقة، لم يجز أن يضاف ذلك إلى {واتبع هَوَاهُ} . والجواب عن الأول من وجهين: الأول: أن الاشتراك خلاف الأصل، فوجب أن يكون حقيقة في أحدهما مجازاً في الآخر، وجعله حقيقة ف يالتكوين، مجازاً في الوجدان أولى من العكس؛ لوجوه: أحدها: مجيءُ بناءِ الأفعال بمعنى التَّكوين أكثر من مجيئه بمعنى الوجدان، والكثرة دليلٌ على الرُّجحان. وثانيها: أن مبادرة الفهم من هذا البناءِ إلى التَّكوين أكثر من مبادرته إلى الوجدان، ومبادرة الفهم دليل الرجحان. وثالثها: إنَّ جَعْلَنا إيَّاه حقيقة في التكوين أمكن من جعله مجازاً عن الوجدان؛ لأنَّ العلم بالشيء تابعٌ لحصول المعلوم، فجعل اللفظ حقيقة في المتبوعِ مجازاً في التَّبع موافقٌ للمعقول، أمَّا لو جعلناه حقيقة ف يالوجدان، مجازاً في الإيجاد، لزم جعله حقيقة في التَّبع مجازاً في الأصل، وهو عكسُ المعقول. والوجه الثاني من الجواب: سلَّمنا كون اللفظ مشتركاً بالنسبة إلى الإيجاد وإلى الوجدان، إلاَّ أنَّا نقول: يجب حمل قوله: «أغْفَلْنَا» على إيجاد الغفلة؛ لأنَّ الدليل دلَّ على أنَّه يمتنع كون العبدُ موجداً للغفلة في نفسه؛ لأنَّه إذا حاول إيجاد الغفلة، فإمَّا أن يحاول إيجاد مطلق الغفلة، أو يحاول إيجاد الغفلة عن شيء معيَّن، والأول باطلٌ، وإلاَّ لم يكن حصول الغفلة عن هذا الشيء أولى بأن يحصل له الغفلة عن شيءٍ آخر؛ لأنَّ الطبيعة المشتركة فيها بين الأنواعِ الكثيرةِ تكون نسبتها إلى كلِّ تلك [الأنواع] على السويَّة. والثاني أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ الغفلة عبارةٌ عن غفلة لا تمتاز عن سائر الأقسام، إلاَّ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 472 بكونها منتسبة غلى ذلك الشيء المعيَّن بعينه، فعلى هذا: لا يمكن أن يقصد إلى إيجاد الغفلة عن كذا، إلاَّ إذا تصوَّر العلم أن كون تلك الغفلة غفلة عن كذا، ولا يمكنه أن يتصوَّر تلك الغفلة غفلة عن كذا إلاَّ إذا تصوَّر كذا؛ لأنَّ العلم بنسبة أمر إلى أمر آخر مشروطٌ بتصوُّر كلِّ واحد من المنتسبين؛ فثبت أنَّه لا يمكنه القصد إلى إيجاد الغفلة، إلاَّ عند الشعور بكذا، لكن الغفلة عن كذا ضدُّ الشعور بكذا؛ فثبت أن العبد لا يمكنه إيجاد هذه الغفلة إلاَّ عند اجتماع الضدين، وذلك محالٌ، والموقوف على المحال محالٌ، فثبت أنَّ العبد غير قادرٍ على إيجاد الغفلة؛ فوجب أن يكون خالقُ الغفلة وموجدها في العباد هو الله تعالى، وأما المدحُ والذمُّ فمعارضٌ بالعلم والدَّاعي، وقد تقدَّم. وأما قوله: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: 29] فسيأتي الكلام عليه، إن شاء الله تعالى. وأما قولهم: لو كان المراد إيجاد الغفلة، لوجب ذكر الفاء، فهذا إنَّما يلزم لو كان خلق الغفلة في القلب من لوازمه حصول اتِّباع الشَّهوة والهوة، كما أن الكسر من لوازمه حصول الانكسار، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّه لا يلزم من حصول الغفلة عن الله حصول متابعة الهوى؛ لاحتمال أن يصير غافلاً عن ذكر الله، ولا يتَّبع الهوى، بل يبقى متوقِّفاً حيراناً مدهوشاً خائفاً. وذكر القفَّال في تأويل الآية على مذهب المعتزلة وجوهاً: أحدها: أنه تعالى، لما صبَّ عليهم الدنيا صبًّا، وأدَّى ذلك إلى حصول الغفلة في قلوبهم، صحَّ أن يقال: إنه تعالى حصل الغفلة في قلوبهم، كقوله تعالى: {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَارا} [نوح: 6] . وثانيها: أن معنى {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} أي: تركناه، فلم نسمهُ بسمةِ أهل الطَّهارة والتقوى. وثالثها: {أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ} أي خلاَّه مع الشيطان، ولم يمنعه منه. والجواب عن الأول: أنَّ فتح أبواب لذَّات الدنيا عليه، هل يؤثِّر في حصول الغفلة في قلبه أو لا يؤثر؟ فإن أثر، كان أثر إيصال اللذَّات إليه سبباً لحصول الغفلة في قلبه، وذلك عينُ القول بأنه فعل الله، أي: فعل ما يوجب الغفلة في قلبه، وإن لم يؤثِّر في حصول الغفلة، فبطل إسناده غليه، وعلى الثاني وهو أنَّه بمعنى تركناه فهو لا يفيدُ إلاَّ ما ذكرناه. وعن الثالث: إن كانت للتَّخلية؛ بمعنى حصول تلك الغفلة، فهو قولنا، وإلاَّ بطل إسناد تلك الغفلة إلى الله تعالى. قوله تعالى: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ} الآية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 473 في تقرير النَّظم وجوهٌ: الأول: أنه تعالى، لمَّا أمر رسوله ألا يلتفت إلى قول الأغنياء، قال: {وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ} الآية أي: قل لهؤلاء: هذا الدِّين الحق من عند الله تعالى، فإن قبلتموه، عاد النَّفع عليكم، وإن لم تقبلوهُ، عاد الضَّرر إليكم، ولا تعلق لذلك بالفقر والغنى. والثاني: أنَّ المراد أنَّ الحقَّ ما جاء من عند الله، والحقَّ الذي جاءنا من عنده أن أصير نفسي مع هؤلاء الفقراء، ولا أطردهم، ولا ألتفت إلى الرؤساء، [ولا أنظر إلى] أهل الدنيا. والثالث: أن يكون المراد هو أنَّ الحقَّ الذي جاء من عند الله {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} وأنَّ الله تعالى لم يأذن في طرد أحدٍ ممَّن آمن وعمل صالحاً؛ لأجل أن يدخل في الإيمان جمع من الكفار. فإن قيل: أليس أن العقل يقتضي ترجيح الأهمِّ، وطرد أولئك الفقراء لا يوجب إلاَّ سقوط حرمتهم، وهذا ضررٌ قليلٌ. وأما عدم طردهم، فإنَّه يوجبُ بقاء الكفَّار على الكفر] ، لكن من ترك الإيمان؛ حذراً من مجالسة الفقراء، فإنَّ إيمانهُ ليس بإيمان، بل هو نفاقٌ؛ فيجب على العاقل ألاَّ يلتفت إلى من هذا حاله. الرابع: قل يا محمد للَّذين أغفلنا قلوبهم عن ذكرنا: يا أيُّها الناس، من ربكم الحقُّ، وإليه التوفيق والخذلان، وبيده الهدى والضَّلال، ليس إليَّ من ذلك شيءٌ، وقد بعثتُ إلى الفقراءِ والأغنياء {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ} وهذا على طريق التهديد والوعيد، كقوله {اعملوا مَا شِئْتُم} [فصلت: 40] والمعنى: لست بطارد المؤمنين لهواكم، فإن شئتم، فآمنوا، وإن شئتم، فاكفروا. قال ابن عبَّاس: معنى الآية: من شاء الله له الإيمان، آمن، ومن شاء له الكفر، كفر. فصل قالت المعتزلة: هذه الآية صريحةٌ في أنَّ الإيمان والكفر والطاعة والمعصية باختيار العبد. قال ابن الخطيب: وهذه الآية من أقوى الدَّلائلِ على صحَّة مذهب أهل السُّنَّة؛ لأنَّ الآية صريحةٌ في أنَّ حصول الإيمان، وحصول الكفر موقوفان على حصول مشيئة الإيمان وحصول مشيئة الكفر، وصريح العقل يدلُّ على أنَّ الفعل الاختياريَّ يمتنع حصوله بدون القصد إليه، وبدون الاختيار. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 474 وإذا عرفت هذا، فنقول: حصول ذلك القصد والاختيار، إن كان بقصدٍ آخر يتقدَّمه، لزم أن يكون كلُّ قصدٍ واختيارٍ مسبوقاً بقصدٍ آخر، واختيارٍ آخر إلى غير نهاية، وهو محالٌ؛ فوجب انتهاء ذلك القصد والاختيار إلى قصد واختيار يخلقه الله تعالى في العبد على سبيل الضرورة، وعند حصول ذلك القصد الضروريِّ، والاختيار الضروريِّ، يجب الفعل؛ فالإنسان شاء أو لم يشأ، فإنه تحصل في قلبه تلك المشيئة الجازمة الخالية عن المعاصي، وإذا حصلت تلك المشيئةُ الجازمةُ، فشاء أو لم يشأ، يجب حصول الفعل، فالإنسان مضطرٌّ في صورة مختار. فصل دلَّت الآية على أنَّ صدور الفعل عن الفاعل بدون القصد والدَّاعي محالٌ، وعلى أنَّ صيغة الأمر لا لمعنى الطَّلب في كتاب الله كثيرةٌ. قال عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: هذه الصيغة تهديدٌ ووعيدٌ، وليست تخييراً. ودلَّت أيضاً على أنَّه تعالى لا ينتفع بإيمان المؤمنين، ولا يتضرر بكفر الكافرين، بل نفع الإيمان يعود عليهم، وضرر الكفر يعود عليهم؛ لقوله تعالى: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَ} [الإسراء: 7] . قوله: {وَقُلِ الحق} : يجوز فيه ثلاثة أوجه: الأول: أنه خبر لمبتدأ مضمرٍ، أي: هذا، [أي] القرآن، أو ما سمعتم الحقُّ. الثاني: أنه فاعل بفعلٍ مقدرٍ، دلَّ عليه السياقُ، أي: جاء الحق، كما صرَّح به في موضع آخر [في الآية 81 من الإسراء] ، إلاَّ أنَّ الفعل لا يضمر إلاَّ في مواضع تقدَّم التنبيه عليها، منها: أن يجاب به استفهام، أو يردَّ به نفي، أو يقع بعد فعلٍ مبني للمفعول، لا يصلح إسناده لما بعده؛ كقراءة: {يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال} [النور: 36] كما سيأتي تحقيقه إن شاء الله تعالى. الثالث: أنه مبتدأ، وخبره الجار بعده. وقرأ أبو السمال قعنب: «وقُلُ الحقَّ» بضم اللام؛ حيث وقع، كأنه إتباعٌ لحركة القاف، وقرأ أيضاً بنصب «الحقَّ» قال صاحب «اللَّوامح» : «هو على صفة المصدر المقدَّر؛ لأنَّ الفعل يدلُّ على مصدره، وإن لم يذكر، فينصبه معرفة، كما ينصبه نكرة، وتقديره: وقل القول الحقَّ، وتعلق» مِنْ «بمضمرٍ على ذلك، أي: جاء من ربكم» انتهى. وقرأ الحسن والثقفي بكسر لامي الأمر، في قوله: «فليُؤمِنْ» و «فَليَكْفُرْ» وهو الأصل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 475 قوله: {فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن} يجوز في «مَنْ» أن تكون شرطية، وهو الظاهر، وأن تكون موصولة، والفاء لشبهه بالشرط، وفاعل «شَاءَ» : الظاهر أنه ضمير يعود على «مَنْ» وقيل: ضمير يعود على الله، وبه فسَّر ابن عباس، والجمهور على خلافه. قوله: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً} أعددنا وهيَّأنا، من العتاد، ومن العدَّة {لِلظَّالِمِينَ} للكافرين، أي: لمن ظلم نفسه، ووضع العبادة في غير موضعها. واعلم أنَّه تعالى، لمَّا وصف الكفر والإيمان، والباطل والحق، أتبعه بذكر الوعيد على الكفر، وبذكر الوعد على الإيمان، والعمل الصَّالح. قوله: {أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} في محل نصبٍ، صفة ل «ناراً» والسُّرادِقُ: قيل: ما أحاط بشيءٍ، كالمضرب والخباءِ، وقيل للحائط المشتمل على شيء: سُرادق، قاله الهوريّ، وقيل: هو الحجرة تكون حول الفسطاطِ، وقيل: هو ما يمدُّ على صحنِ الدار، وقيل: كل بيتٍ من كرسفٍ، فهو سرادق، قال رؤبة: [الرجز - السريع] 3512 - يَا حكمُ بْنَ المُنذِرِ بْنِ الجَارُودْ ... سُرَادِقُ المَجْدِ عَليْكَ مَمدُودْ ويقال: بيت مسردقٌ، قال الشاعر: [الطويل] 3513 - هو المُدخِلُ النُّعْمانَ بيْتاً سَماؤهُ ... صُدورُ الفُيولِ بعد بيتِ مُسرْدَقِ وكان أبرويز ملك الفرس قد قتل النعمان بن المنذر تحت أرجُلِ الفيلةِ، والفيول: جمع فيلٍ، وقيل: السُّرادقُ: الدِّهليزُ، قال الفرزدق: [الطويل] 3514 - تَمنَّيْتهُمْ حتَّى إذا مَا لَقِيتَهُم ... تَركْتَ لَهُم قَبْلَ الضِّرابِ السُّرادِقَا والسُّرادِقُ: فارسي معرب، أصله: سرادة، قاله الجواليقيُّ، وقال الراغب: «السُّرادِقُ فارسيٌّ معربٌ، وليس في كلامهم اسم مفرد، ثالث حروفه ألفٌ بعدها حرفان» . فصل أثبت تعالى للنَّار شيئاً شبيهاً بالسرادقِ تحيط بهم من سائرِ الجهاتِ، والمراد: أنهم لا مخلص لهم فيها، ولا فُرجة، بل هي محيطة بهم من كلِّ الجوانب. وقيل: المراد بهذا السُّرادق الدخان الذي وصفه الله تعالى في قوله: {انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَب} [المرسلات: 30] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 476 وقالوا: هذه الإحاطة بهم إنَّما تكون قبل دخولهم، فيحيط بهم هذا الدخان كالسرادق حول الفسطاط. وروى أبو سعيد الخدريُّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «سُرادِقُ النَّارِ أربعةُ جُدُرٍ، كِثفُ كلِّ جدارٍ مَسِيرةُ أرْبعِينَ سنةً» . وقال ابن عبَّاس: السُّرادِقُ حائط. قوله: {وَإِن يَسْتَغِيثُواْ} ، أي: يطلبوا الغوث، والياء عن واوٍ؛ إذ الأصل: يستغوثوا، فقلبت الواو ياء كما تقدم في قوله: {نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 2] وهذا الكلام من المشاكلة والتَّجانس، وإلاَّ فأيُّ إغاثةٍ لهم في ذلك؟ أو من باب التهكُّم؛ كقوله: [الوافر] 3515 - ... ... ... ... ... ... تَحِيَّةُ بينهم ضَرْبٌ وجيعُ وهو كثيرٌ. وقوله: «كالمُهْل» صفة ل «ماء» والمهلُ: دُرْدِيُّ الزيت، وقيل: ما أذيب من الجواهر كالنحاس والرصاص والذهب والفضة. وعن ابن مسعود أنَّه دخل بيت المال، وأخرج ذهباً وفضة كانت فيه، وأوقد عليها، حتَّى تلألأتْ، وقال: هذا هو المهل. وقيل: هو الصَّديد والقيح. وقيل: ضرب من القطران، والمَهَل بفتحتين: التُّؤدَةُ والوَقارُ، قال: {فَمَهِّلِ الكافرين} [الطارق: 17] . قوله: «يَشوي الوجوه» يجوز أن تكون الجملة صفة ثانية، وأن تكون حالاً من «ماء» لأنه تخصَّص [بالوصف] ، ويجوز أن تكون حالاً من الجارِّ، وهو الكاف. والشَّيءُ: الإنضاجُ بالنار من غير مرقةٍ، تكون مع ذلك الشيء المشويِّ. فصل روى أبو سعيد الخدري عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «بِماءِ كالمُهْلِ» قال: كعكر الزَّيت، فإذا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 477 قرِّب إليه، سقطت فروة وجهه فيه. وسئل ابن مسعود عن المهل، فدعا بذهب وفضة، فأوقد عليهما النَّار، حتَّى ذابا، ثم قال: هذا أشبه شيءٍ بالمهل. قيل: إذا طلبوا ماء للشُّرب، فيعطون هذا المهل. قال تعالى: {تصلى نَاراً حَامِيَةً تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ} [الغاشية: 4، 5] . وقيل: إنَّهم يستغيثون من حرِّ جهنَّم، فيطلبون ماء يصبونه على وجوههم للتبريد، فيعطون هذا الماء؛ كما حكى عنهم قولهم: {أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء} [الأعراف: 50] . قوله: {بِئْسَ الشراب} المخصوص محذوف، تقديره: هو، أي: ذلك الماء المستغاث به. قوله: {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} «ساءت» هنا متصرفة على بابها، وفاعلها ضمير النار، ومرتفقاً تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية، أي: ساء، وقبح مرتفقها. والمُرتَفقُ: المُتَّكأ ومنه سمي المرفق مرفقاً؛ لأنه يتكأ عليه، وقيل: المنزل قاله ابن عبَّاس. وقال مجاهد: مجتمعاً للرُّفقة؛ لأنَّ أهل النَّار يجتمعون رفقاء، كما يجتمع أهل الجنَّة رفقاء. فأمَّا رفقاء أهل الجنَّة، فهم الأنبياءُ والصِّديقُون والشُّهداء والصالحون {وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً} [النساء: 69] . وأما رفقاء النَّار، فهم الكفَّار والشَّياطين، أي: بئسَ الرفقاءُ هؤلاءِ، وبئس موضعُ الترافق النَّار، كما أنه نعم الرفقاءُ أهل الجنَّة، ونعم موضع الرفقاء الجنَّة، قاله ابن عباس وقيل: هو مصدر بمعنى الارتفاق، وقيل: هو من باب المقابلة أيضاً؛ كقوله في وصف الجنة بعد: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 31] ، وإلاَّ فأيُّ ارتفاقٍ في النار؟ قال الزمخشري: إلا أن يكون من قوله: [البسيط] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 478 3516 - إنِّي أرِقْتُ قَبِتُّ اللَّيْلَ مُرتفِقاً ... كَأنَّ عينيَّ فيها الصَّابُ مَذْبُوحُ فهو يعني من باب التَّهكُّم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 479 قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية. لما ذكر وعيد المبطلين، أردفه بوعد المحقِّين، وهذه الآية تدل على أنَّ العمل الصالح مغايرٌ للإيمان؛ لأنَّ العطف يوجب المغايرة. قوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} : يجوز أن يكون خبر «إنَّ الَّذينَ» والرابط: إمَّا تكرر الظاهر بمعناه، وهو قول الأخفش، ومثله في الصلة جائزٌ، ويجوز أن يكون الرابط محذوفاً، أي: منهم، ويجوز أن يكون الرابط العموم، ويجوز أن يكون الخبر قوله: {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ} ويكون قوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} اعتراضاً، قال ابن عطية: ونحوه في الاعتراض قوله: [البسيط] 3517 - إنَّ الخَلِيفَةَ إنَّ الله ألبَسهُ ... سِربَالَ مُلكٍ بهِ تُزْجَى الخَواتِيمُ قال أبو حيَّان: ولا يتعيَّنُ أن يكون «إنَّ الله ألبسَهُ» اعتراضاً؛ لجواز أن يكون خبراً عن «إنَّ الخليفة» . قال شهاب الدين: وابن عطيَّة لم يجعل ذلك معيَّناً بل ذكر أحد الجائزين فيه، ويجوز أن تكون الجملتان - أعني قوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} وقوله {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ} - خبرين ل «إنَّ» عند من يرى جواز تعدد الخبر، وإن لم يكونا في معنى خبر واحد. وقرأ الثقفيُّ «لا نُضيِّعُ» بالتشديد، عدَّاه بالتشديد، كما عدَّاه الجمهور بالهمزة. وقيل: ولك أن تجعل «أولئك» كلاماً مستأنفاً بياناً للأجرِ المبهمِ. فصل قال ابن الخطيب: قوله: {إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} ظاهره يقتضي أنَّه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 479 استوجب المؤمن على الله بحسن عمله أجراً، وعندنا الاستيجاب حصل بحكم الوعد. وعند المعتزلة: بذات الفعل، وهو باطلٌ؛ لأنَّ نعم الله كثيرةٌ، وهي موجبةٌ للشكر والعبوديَّة، فلا يصير الشُّكر والعبودية بموجبٍ لثوابٍ آخر؛ لنَّ أداء الواجب لا يوجبُ شيئاً آخر. واعلم أنَّه تعالى، لمَّا أثبت الأجر المبهم، أردفه بالتفصيل، فبيَّن أولاً صفة مكانهم، فقال: {أولئك لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ} والعدنُ في اللغة عبارة عن الإقامة، يقال: عدن بالمكان، إذا أقام به، فيجوز أن يكون المعنى: أولئك لهم جنات إقامة [كما يقال: دار إقامة] ويجوز أن يكون العدن اسماً [الموضع] معيَّن في الجنَّة، وهو وسطها. وقوله: «جنَّاتُ» اسم مع، فيمكن أن يكون المراد ما قاله تعالى {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] ثم قال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] ويمكن أ، يكون المراد نصيب كلِّ واحدٍ من المكلَّفين جنَّة على حدةٍ، ثم ذكر أنَّ من صفات تلك الجنات أنَّ الأنهار تجري من تحتها، وذلك لأنَّ أحسن مساكن الدنيا البساتين التي تجري فيها الأنهار، ثمَّ ذكر ثانياً أنَّ لباسهم فيها ينقسم قسمين: لباسُ التستُّر، ولباس التحلِّي. فأمَّا لباس التحلِّي فقال: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ} فقيل: على كلِّ واحد منهم ثلاثة أسورة: سوارٌ من ذهبٍ لهذه الآية، وسوار من فضَّة؛ لقوله: {وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ} [الإنسان: 21] ، وسوار من لؤلؤ؛ لقوله {وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23] . وأمَّا لباسُ التستُّر، فلقوله: {وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} . فالأول: هو الدِّيباجُ الرَّقيق. والثاني: هو الديباجُ الصَّفيق. وقيل: أصله فارسيٌّ معرَّبٌ، وهو «إستبره» : أي غليظٌ. قوله: {مِنْ أَسَاوِرَ} : في «مِنْ» هذه أربعة أوجه: الأوّل: أنها للابتداءِ. والثاني: أنها للتبعيض. والثالث: أنها لبيان الجنس، أي: أشياء من أساور. والرابع: أنها زائدة عند الأخفش؛ ويدلُّ عليه قوله: {وحلوا أَسَاوِرَ} [الإنسان: 21] . [ذكر هذه الثلاثة الأخيرة أبو البقاء] . وأساور جمع أسورةٍ، [وأسْوِرَة] جمع سِوار، كحِمار وأحْمِرة، فهو جمع الجمع. وقيل: جمع إسوارٍ، وأنشد: [الرجز] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 480 3518 - واللهِ لَوْلاَ صِبْيَةٌ صِغَارُ ... كَأنَّمَا وجُوهُهمْ أقْمَارُ أخَافُ أنْ يُصِيبَهُمْ إقْتَارُ ... أو لاطِمٌ ليْسَ لهُ إسْوَارُ لمَّا رَآنِي مَلِكٌ جَبَّارُ ... بِبَابهِ مَا طَلَعَ النَّهارُ وقال أبو عبيدة: هو جمع «إسوارٍ» على حذف الزيادة، وأصله أساوِيرُ. وقرأ أبان، عن عاصم «أسْوِرَة» جمع سوارٍ، وستأتي إن شاء الله تعالى في الزخرف [الزخرف: 30] هاتان القراءتان في المتواتر، وهناك يذكر الفرق إن شاء الله تعالى. والسِّوارُ يجمع في القلَّة على «أسْوِرَةٍ» وف يالكثرة على «سُورٍ» بسكون الواو، وأصلها كقُذلٍ وحُمرٍ، وإنما سكنت؛ لأجل حرف العلَّة، وقد يضمُّ في الضرورة، قال: [السريع] 3519 - عَنْ مُبرِقاتٍ بالبُرِينِ وتَبْ ... دُو في الأكُفِّ اللامعاتِ سُورْ وقال أهل اللغة: السِّوارُ: ما جعل في الذِّراعِ من ذهبٍ، أو فضَّة، أو نحاسٍ، فإن كان من عاج، فهو قلبٌ. قوله: «مِنْ ذهبٍ» يجوز أن تكون للبيان، أو للتبعيض، ويجوز أن تتعلق بمحذوفٍ؛ صفة لأساور، فموضعه جرٌّ، وأن تتعلق بنفس «يُحلَّوْنَ» فموضعها نصبٌ. قوله: «ويَلْبَسُونَ» عطف على «يُحلَّوْن» وبني الفعل في التحليةِ للمفعول؛ إيذاناً بكرامتهم، وأنَّ غيرهم يفعل بهم ذلك ويزيِّنهم به، كقول امرئ القيس: [الطويل] 3520 - عَرائِسُ في كِنٍّ وصَوْنٍ ونَعْمَةٍ ... يُحلَّيْنَ يَاقُوتاً وشَذْراً مُفقَّرا اللِّبس، فإنَّ الإنسان يتعاطاه بنفسه، وقدِّم التَّحلِّي على اللباس؛ لأنه أشهى للنَّفس. وقرأ أبان عن عاصم «ويَلْبِسُونَ» بكسر الباء. {مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} «مِنْ» لبيانِ الجنس، وهي نعتٌ لثياب. والسُّندسُ: ما رقَّ من الدِّيباج، والإستبرق: ما غلظ منه وعن أبي عمران الجونيِّ اقل: السُّندسُ: هو الديباجُ المنسوج بالذَّهب، وهما جمعُ سندسةٍ وإستَبْرقةٍ، وقيل: ليسا جمعين، وهل «إسْتَبْرق» عربيُّ الأصل، مشتقٌّ من البريق، أو معرب أصله إستبره؟ خلاف بين اللغويين. وقيل: الإستبرق اسم للحرير وأنشد للمرقش: [الطويل] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 481 3521 - تَراهُنَّ يَلبَسْنَ المشَاعِر مرَّةً ... وإسْتَبْرَقُ الدِّيباجِ طَوراً لِباسُهَا وهو صالحٌ لما تقدَّم، وقال ابن حجرٍ: «الإستبرقُ: ما نسج بالذَّهب» . ووزن سُنْدسٍ: فُعْلُلٌ، ونونه أصليةٌ. وقرأ ابن محيصن «واستبرق» بوصل الهمزة وفتح القافِ غير منونة، فقال ابن جنِّي: «هذا سهوٌ، أو كالسَّهو» قال شهاب الدين: كأنه زعم أنَّه منعه الصَّرف، ولا وجه لمنعه؛ لأنَّ شرط منع الاسم الأعجمي: أن يكون علماً، وهذا اسم جنسٍ، وقد وجَّهها غيره على أنه جعلها فعلاً ماضياً من «البريق» و «استَفْعَلَ» بمعنى «فعل» المجرد؛ نحو: قرَّ، واستقرَّ. وقال الأهوازيُّ في «الإقناعِ» : «واسْتَبْرَقَ بالوصل وفتح القاف حيث كان لا يصرفه» وظاهر هذا أنه اسم، وليس بفعلٍ، وليس لمنعه وجه؛ كما تقدَّم عن ابن جنِّي، وصاحب «اللوامح» لمَّا ذكر وصل الهمزة، لم يزد على ذلك، بل نصَّ على بقائه منصرفاً، ولم يذكر فتح القاف أيضاً، وقال ابنُ محيصنٍ: «واسْتَبْرَق» بوصل الهمزة في جميع القرآن، فيجوز أنه حذف الهمزة تخفيفاً؛ على غير قياسٍ، ويجوز أنَّه جعله عربيًّا من بَرِق يبرقُ بريقاً، ووزنه استفعل، فلمَّا سمِّي به، عامله معاملة الفعل في وصل الهمزة، ومعاملة التمكين من الأسماء في الصَّرف والتنوين، وأكثر التفاسير على أنَّه عربية، وليس بمستعربٍ، دخل في كلامهم، فأعربوه «. قوله:» مُتَّكئين «حالٌ، والأرائِكُ: جمع أريكةٍ، وهي الأسرَّة، بشرط أن تكون في الحجالِ، فإن لم تكن لم تسمَّ أريكة، وقيل: الأرائكُ: الفرشُ في الحجالِ أيضاً، وقال الراغب:» الأريكةُ: حجلة على سريرٍ، فتسميتها بذلك: إمَّا لكونها في الأرض متَّخذة من أراك، أو من كونها مكاناً للإقامة؛ من قولهم: أَرَكَ بالمكانِ أروكاً، وأصل الأروكِ الإقامة على رعي الأرَاكِ، ثم تجوز به في غيره من الإقامات «. وقرأ ابن محيصن» عَلَّرائِكِ «وذلك: أنه نقل حركة الهمزة إلى لام التعريف، فالتقى مثلان: لام» على «- فإنَّ ألفها حذفت؛ لالتقاء الساكنين - ولام التعريف، واعتدَّ بحركة النقل، فأدغم اللام في اللام؛ فصار اللفظ كما ترى، ومثله قول الشاعر: [الطويل] 3522 - فَمَا أصْبحَتْ عَلَّرْضِ نفسٌ بَريئةٌ ... ولا غَيْرُهَا إلاَّ سُليْمَانُ نَالهَا يريد» عَلَى الأرض «وقد تقدَّم قراءة قريبة من هذه أوَّل البقرة:» بما أنزِلَّيكَ «، أي: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 482 قوله: نعم الثواب» أي: نعم الجزاء. قوله: {وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً} مجلساً، ومقرّاً، وهذا في مقابلة قوله: {وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً} [الكهف: 29] . قوله تعالى : {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ} الآية. وجه النَّظم أن الكفار، لمَّا افتخرُوا بأموالهم وأنصارهم على فقراء المسلمين، بيَّن الله تعالى أنَّ ذلك ممَّا لا يوجب الافتخار، لاحتمال أن يصير الغنيُّ فقيراً، والفقير غنيًّا، وأما الذي تجبُ المفاخرةُ به فطاعة الله وعبادته، وهي حاصلةٌ لفقراءِ المسلمين، وبيَّن ذلك بضرب هذا المثل؛ فقال: {واضرب لهُمْ مَّثَلاً رَّجُلَيْنِ} أي: مثل حال الكافرين والمؤمنين كحال رجلين، وكانا أخوين في بني إسرائيل: أحدهما: كافرٌ، واسمه [براطوس] ، والآخر: مؤمنٌ، اسمه يهوذا، قاله ابن عباس. وقال مقاتل: اسم المؤمن تمليخا، واسم الكافر قطروس. وقيل: قطفر، وهما المذكوران في سورة «الصافات» في قوله تعالى: {إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين} [الصافات: 51، 52] على ما رواه عبد الله بن المبارك عن معمَّرٍ عن عطاءٍ الخراسانيِّ، قال: كانا رجلين شريكين، لهما ثمانية آلافِ دينارٍ. وقيل: كانا أخوين، وورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينارٍ، فأخذ كلُّ واحدٍ منهما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 483 أربعة آلاف دينارٍ، فاشترى الكافر أرضاً بألفٍ، فقال المؤمن: اللَّهم، إنَّ أخي اشترى أرضاً بألف، وإنِّي أشتري منك أرضاً بألف في الجنَّة، فتصدَّق به. ثم [بنى] أخوه داراً بألف، فقال المؤمن: اللَّهم، إني أشتري منك داراً بألف في الجنَّة، فتصدق به. ثم تزوج أخوه امرأة بألف، فقال المؤمن: اللَّهم، إني جعلت ألفاً صداقاً للحور العين، وتصدَّق به. ثم اشترى أخوه خدماً ومتاعاً بألف دينار، فقال المؤمن: اللهم، إنِّي اشتريتُ منك الولدان بألف، فتصدَّق به، ثم أحاجه، أي: أصابه حاجةٌ، فجلس لأخيه على طريقه، فمرَّ به في خدمه وحشمه، فتعرَّض له، فقال: فلانٌ؟! قال: نعم، قال: ما شأنك؟ قال: أصابتني حاجةٌ بعدك، فأتيتك لتصيبني بخير، قال: ما فعل مالك، وقد اقتسمنا المال [سويَّة] ، فأخذت شطره؟ فقصَّ عليه قصَّتهُ، قال: إنَّك لمن المصدِّقين، اذهب، فلا أعطيك شيئاً. وقيل: نزلتْ في أخوين من أهل مكَّة من بني مخزوم، أحدهما: مؤمنٌ، وهو أبو سلمة عبد الله بن عبد الأسد بن عبد ياليل، وكان زوج أمِّ سلمة قبل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والآخر كافرٌ، وهو الأسود بن عبد الأسد بن عبد ياليل. قوله: {رَّجُلَيْنِ} : قد تقدم أنَّ «ضرب» مع المثل، يجوز أن يتعدى لاثنين في سورة البقرة، وقال أبو البقاء: التقدير: مثلاً مثل رجلين، و «جَعلْنَا» تفسير ل «مَثَل» فلا موضع له، ويجوز أن يكون موضعه نصباً نعتاً ل «رَجُليْنِ» كقولك: مررتُ برجلين، جعل لأحدهما جنَّةٌ. قوله: {وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ} يقال: حفَّ بالشيء: طاف به من جميع جوانبه، قال النابغة: [البسيط] 3523 - يَحُفُّهُ جَانِبَا نِيقٍ وتُتْبِعُهُ ... مِثلُ الزُّجاجةِ لمْ تُكْحَلْ من الرَّمدِ وحفَّ به القوم: صاروا طائفين بجوانبه وحافَّته، وحففته به، أي: جعلته مطيفاً به. والحِفاف: الجانبُ، وجمعه أحِفَّةٌ، والمعنى: جعلنا حول الأعناب النَّخْل. قال الزمخشريُّ: وهذه الصفة ممَّا يؤثرها الدَّهاقين في كرومهم، وهو أن يجعلوها محفوفة بالأشجار المثمرة، وهو أيضاً حسنٌ في [المنظر] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 484 قوله: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعاً} قيل: كان الزَّرع في وسط الأعناب، وقيل: كان الزَّرْع بين الجنَّتين، أي: لم يكن بين الجنتين موضعٌ خالٍ. والمقصود منه أمورق: الأول: أن تكون تلك الأرض جامعة للأقوات والفواكه. والثاني: أن تكون متَّسعة الأطراف، متباعدة الأكناف، ومع ذلك، لم يتوسَّطها ما يقطع بعضها عن بعض. والثالث: أنَّ مثل هذه الأرض تأتي كلَّ [يوم] بمنفعةٍ أخرى، وثمرة أخرى فكانت منافعها دارّة متواصفة. قوله: {كِلْتَا الجنتين} : قد تقدَّم في السورة قبلها [الإسراء: 23] حكم «كلتا» وهي مبتدأ، و «آتتْ» خبرها، وجاء هنا على [الكثير: وهو] مراعاةُ لفظها، دون معناها. وقرأ عبد الله - وكذلك في مصحفه - «كِلا الجنَّتَيْنِ» بالتذكير؛ لأنَّ التأنيث مجازي، ثم قرأ «آتتْ» بالتأنيث؛ اعتباراً بلفظ «الجَنَّتين» فهو نظير «طَلعَ الشَّمسُ، وأشْرقَتْ» . وروى الفراء عنه قراءة أخرى: «كُلُّ الجنَّتينِ أتَى أكُلَهُ» أعاد الضمير على اللفظ «أكل» . واعلم أنَّ لفظ «كل» اسمٌ مفردٌ معرفة يؤكَّد به مذكَّران معرفتان، و «كِلْتَا» اسمٌ مفردٌ معرفة يؤكَّد به مؤنثان معرفتان، وإذا أضيفا إلى المظهر كانا بالألف في الأحوال الثلاثة؛ كقولك: «جَاءنِي كِلاَ أخَويْكَ، ورَأيْتُ كِلاَ أخَويْكَ، ومَررْتُ بِكلا أخَويْكَ، وجَاءنِي كِلْتَا أخْتَيْكَ، ورأيْتُ كِلْتَا أخْتَيْكَ، ومَرَرْتُ بِكلْتَا أخْتيْكَ» ، وإذا أضيفا إلى المضمر، كانا في الرَّفع بالألف، وفي الجر والنَّصب بالياءِ، وبعضهم يقول مع المضمر بالألف في الأحوال الثلاثة أيضاً. فصل ومعنى {آتَتْ أُكُلَهَا} أعطت كلُّ واحدةٍ من الجنتين {أُكُلَهَا} ثمرها تامًّا، {وَلَمْ تَظْلِمِ} لم تنقص، {مِّنْهُ شَيْئاً} والظُّلم: النقصان، يقول الرَّجُل: ظلمنِي حقِّي، أي: نقصنِي. قوله: «وفجَّرنَا» العامة على التشديد، وإنما كان كذلك، وهو نهرٌ واحدٌ مبالغة فيه، وقرأ يعقوب، وعيسى بن عمر بالتخفيف، وهي قراءة الأعمش في سورة القمر [القمر: 12] ، والتشديد هناك أظهر لقوله «عُيُوناً» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 485 والعامة على فتح هاء «نهر» وأبو السَّمال والفيَّاض بسكونها. قوله: {وَكَانَ لَهُ} أي: لصاحب البستان. قوله: {وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ} : قد تقدَّم الكلام فيه في الأنعام [الأنعام: 99] ، وتقدَّم أنَّ «الثُّمُرَ» بالضمِّ المال، فقال ابن عباس: جميع المال من ذهبٍ، وفضةٍ، وحيوانٍ، وغير ذلك، قال النابغة: [البسيط] 3524 - مَهْلاً فِداءً لَكَ الأقْوامُ كُلُّهمُ ... ومَا أثمِّرُ من مالٍ ومِنْ وَلدِ وقال مجاهد: هو الذهبُ والفضَّة خاصة. «فقال» يعني صاحب البستان «لصاحبه» أي المؤمن. «وهو يُحَاوِرهُ» أي: يخاطبه وهذه جملة حاليَّة مبيِّنةٌ؛ إذ لا يلزم من القول المحاورةُ؛ إذ لمحاورة مراجعة الكلام من حار، أي: رجع، قال تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ} [الإنشقاق: 14] . وقال امرؤ القيس: [الطويل] 3525 - ومَا المَرْءُ إلاَّ كالشِّهابِ وضَوْئهِ ... يَحُورُ رَماداً بَعْدَ إذْ هُوَ سَاطِعُ ويجوز أن تكون حالاً من الفاعل، أو من المفعول. قوله: {أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً} . والنَّفَرُ: العشيرة الذين يذبُّون عن الرجل، وينفرون معه، وقال قتادة: حشماً، وخدماً. وقال مقاتلٌ: ولداً تصديقه قوله: {أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} [الكهف: 39] . قوله: {جَنَّتَهُ} : إنما أفرد بعد ذكر التثنية؛ اكتفاء بالواحد للعلمِ بالحال، قال أبو البقاء: كما اكتفى بالواحد عن الجمع في قول الهذليِّ: [الكامل] 3526 - فَالعيْنُ بَعدهُم كَأنَّ حِداقهَا ... سُمِلتْ بِشوْكِ فهي عُورٌ تَدْمَعُ ولقائلٍ أن يقول: إنما يجوز ذلك؛ لأنَّ جمع التكسير يجري مجرى المؤنَّثة، فالضمير في «سُمِلَتْ» وفي «فهي» يعود على الحداقِ، لا على حدقةٍ واحدة، كما يوهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 486 وقال الزمخشري: «فإن قلت: لم أفرد الجنَّة، بعد التثنية؟ قلت: معناه: ودخل ما هو جنَّتهُ، ما له جنة غيرها، بمعنى: أنه ليس له نصيب في الجنة الَّتي وعد المتَّقون، فما ملكه في الدنيا، فهو جنَّته، لا غير، ولم يقصد الجنتين، ولا واحدة منهما» . فصل قال أبو حيان: «ولا يتصوَّر ما قال؛ لأنَّ قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} إخبار من الله تعالى بأنَّ هذا الكافر دخل جنَّته، فلا بدَّ أن قصد في الإخبار: أنه دخل إحدى جنتيه؛ إذ لا يمكن أن يدخلهما معاً في وقتٍ واحدٍ» . قال شهاب الدين: من ادَّعى دخولهما في وقتٍ واحدٍ، حتَّى يلزمه بهذا المستحيلِ في البداية؟ وأمَّا قوله «ولم يقصد الجنَّتين، ولا واحدة» معناه: لم يقصد تعيين مفردٍ، ولا مثنى، لا أنه لم يقصد الإخبار بالدخول. وقال أبو البقاء: «إنما أفرد؛ لأنَّهما جميعاً ملكهُ، فصارا كالشيء الواحد» . قوله: «وهُو ظَالِمٌ» حال من فاعل «دَخلَ» ، وقوله «لنَفْسهِ» مفعول «ظَالِمٌ» واللام مزيدة فيه؛ لكون العامل فرعاً. قوله: « {مَآ أَظُنُّ} فيه وجهان: أحدهما: ان يكون مستأنفاً بياناً لسبب الظلم. والثاني: أن يكون حالاً من الضَّمير في» ظَالِمٌ «، أي: وهو ظالمٌ في حال كونه قائلاً. قوله:» أنْ تَبِيدَ «أي: تهلك، قال: [المقتضب] 3527 - فَلئِنْ بَادَ أهْلهُ ... لبِما كَانَ يُوهَلُ ويقال: بَادَ يَبيدُ بُيُوداً وبَيْدُودة، مثل» كَيْنُونة «والعمل فيها معروفٌ، وهو أنه حذفت إحدى الياءين، ووزنها فيعلولة. قوله: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ} يعني الكافر آخذاً بيد صاحبه المسلم يطوف به فيها، ويريه بهجتها وحسنها، وأخبره بصنوف ما يملكه من المال {وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ} بكفره، وهذا اعتراضٌ وقع في أثناء الكلام، والمعنى أنه لمَّا اغترَّ بتلك النِّعم، وتوسَّل بها إلى الكفران والجحود؛ لقدرته على البعث، كان واضعاً لتلك النِّعم في غير موضعها، {قَالَ مَآ أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هذه أَبَداً} . قال أهل المعاني: لما أذاقه حسنها وزهوتها، توهَّم أنها لا تفنى أبداً مطلقاً، {وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً} فجمع بين كفرين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 487 الأول: قطعه بأنَّ تلك الأشياء لا تبيدُ أبداً. والثاني: إنكار البعث. فإن قيل: هب أنَّه شكَّ في القيامة، فكيف قال: ما أظنُّ أن تبيد هذه أبداً، مع أنَّ الحسَّ يدلُّ على أنَّ أحوال الدنيا بأسرها ذاهبةٌ غير باقية؟ . فالجواب: مراده أنَّها لا تبيد مدَّة حياته، ثم قال: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً} أي مرجعاً وعاقبة، وانتصابه على التَّمييز، ونظيره قوله تعالى: {وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50] . وقوله: {لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً} [مريم: 77] . فإن قيل: كيف قال: ولَئِنْ رددت إلى ربي وهو ينكرُ البعث؟ . فالجواب: معناه: ولئنْ رددتُّ إلى ربِّي على زعمكَ، يعطيني هنالك خيراً منها. والسَّبب في وقوعه في هذه الشُّبهة أنَّه تعالى لمَّا أعطاه المال والجاه في الدنيا، ظنَّ أنه إنَّما أعطاه ذلك؛ لكونه مستحقًّا له، والاستحقاقُ باقٍ بعد الموت؛ فوجب حصول الإعطاء، والمقدِّمة الأولى كاذبةٌ؛ فإن فتح باب الدنيا على الإنسان، يكون في أكثر الأمر للاستدراج. وقرأ أبو عمرو والكوفيون «مِنْهَا» بالإفراد؛ نظراً إلى أقرب مذكورٍ، وهو قوله: «جنَّتهُ» وهي في مصاحف العراق، دون ميم، والباقون «مِنْهُما» بالتثنية؛ نظراً إلى الأصل في قوله: «جَنَّتيْنِ» و «كِلتَا الجنَّتيْنِ» ورُسِمَتْ في مصاحفِ الحرمينِ والشَّام بالميم، فكل قد وافق رسم مصحفه. قوله: {قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ} أي المسلم. قوله: {وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ} أي: خلق أصلك من تراب، وهذا يدلُّ على أنَّ الشاكَّ في البعث كافرٌ. ووجه الاستدلال أنَّه، لمَّا قدر على [الابتداء] ، وجب أن يقدر على الإعادة. وأيضاً: فإنَّه تعالى، لمَّا خلقك هكذا، فلم يخلقك عبثاً، وإنَّما خلقك لهذا المعنى، وجب أن يحصل للمطيع ثوابٌ، وللمذنب عقابٌ؛ ويدلُّ على هذا قوله: {ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً} أي: هيَّأك تهيئة تعقل وتصلح أنت للتكليف، فهل يحصل للعاقل مع هذه الآية إهمال أمرك؟! . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 488 قوله: {مِن نُّطْفَةٍ} النُّطفة في الأصل: القطرة من الماء الصافي، يقال: نَظفَ يَنطفُ، أي: قطرَ يَقطُر، وفي الحديث: «فَخرجَ، ورَأسهُ يَنطفُ» وفي رواية: يَقطرُ، وهي مفسِّرةٌ، وأطلق على المنيِّ «نُطفَةٌ» تشبيهاً بذلك. قوله: «رجُلاً» فيه وجهان: أحدهما: أنه حالٌ، وجاز ذلك، وإن كان غير منتقلٍ، ولا مشتقٍّ؛ لأنه جاء بعد «سوَّاك» إذ كان من الجائز: أن يسوِّيهُ غير رجل، وهو كقولهم: «خَلقَ الله الزَّرافةَ يَديْهَا أطْولَ من رِجْلَيْهَا» وقول الآخر: [الطويل] 3528 - فَجاءَتْ بِهِ سَبْطَ العِظامِ كأنَّما ... عِمامَتهُ بيْنَ الرِّجالِ لِوَاءُ والثاني: أنه مفعول ثانٍ ل «سَوَّاكَ» لتضمُّنه معنى خلقك، وصيَّرك وجعلك، وهو ظاهر قول الحوفيِّ. قوله: {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي} : قرأ ابن عامر، ويعقوب، ونافع في رواية بإثبات الألف وصلاً ووقفاً، والباقون بحذفها وصلاً، وبإثباتها وقفاً وهي رواية عن نافعٍ، فالوقفُ وفاقٌ. والأصل في هذه الكلمة: «لكن أنّا» فنقل حركة همزة «أنَا» إلى نون «لكِنْ» وحذف الهمزة، فالتقى مثلان، فأدغم، وهذا أحسنُ الوجهين في تخريج هذا، وقيل: حذف همزة «أنا» [اعتباطاً] ، فالتقى مثلان، فأدغم، وليس بشيءٍ؛ لجري الأول على القواعد، فالجماعة جروا على مقتضى قواعدهم في حذف ألف «أنّا» وصلاً، وإثباتها وقفاً، وقد تقدم لك: أنَّ نافعاً يثبت ألفه وصلاً قبل همزة مضمومة، أو مكسورة، أو مفتوحة؛ بتفصيلٍ مذكورٍ في البقرة، وهنا لم يصادف همزة، فهو على أصله أيضاً، ولو أثبت الألف هنا، لكان أقرب من إثبات غيره؛ لأنه أثبتها في الوصلِ جملة. وأمَّا ابن عامرٍ، فإنه خرج عن أصله في الجملة؛ إذ ليس من مذهبه إثبات هذه الألف وصلاً في موضع [ما] ، وإنما اتَّبع الرسم. وقد تقدَّم أنها لغة تميمٍ أيضاً. وإعراب ذلك: أن يكون «أنَا» مبتدأ، و «هو» مبتدأ ثانٍ، و «هو» ضمير الشأن، و «اللهُ» مبتدأ ثالث و «ربِّي» خبر الثالث، والثالث وخبره خبر الثاني، والثاني وخبره خبر الأول، والرابط [بين الأول] وبين خبره الياء في «ربِّي» ويجوز أن تكون الجلالة بدلاً من «هُوَ» أو نعتاً، أو بياناً، إذا جعل «هو» عائداً على ما تقدَّم من قوله «بالذي خلقك من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 489 تراب» لا على أنَّه ضمير الشأن، وإن كان أبو البقاء أطلق ذلك، وليس بالبيِّن. وخرَّجه الفارسي على وجهٍ غريب: وهو أن تكون «لكِنَّا» «لكنَّ» واسمها وهو «ن» والأصل: «لكنَّنا» فحذف إحدى النونات؛ نحو: {إنَّا نَحْنُ} [الحجر: 9] وكان حق التركيب أن يكون «ربُّنا» «ولا نُشرِكُ بربِّنا» قال: «ولكنه اعتبر المعنى، فأفرد» وهو غريبٌ جدًّا. قال الكسائي: فيه تقديمٌ وتأخيرٌ، تقديره: «لكنَّ الله هُوَ ربِّي» . وقرأ أبو عمرو «لكنَّهْ» بهاء السَّكت وقفاً؛ لأنَّ القصد بيان حركة نون «أنَا» فتارة تبيَّن بالألف، وتارة بهاء السكت، وعن حاتم الطائي: [الرمل المجزوء] 3529 - هَكذَا فَرْدِي أَنَهْ ... وقال ابن عطية عن أبي عمرو: روى عنه هارون «لكنَّه هو الله» بضمير لحق «لكن» قال شهاب الدين: فظاهر هذا أنه ليس بهاء السَّكت، بل تكون الهاءُ ضميراً اسماً ل «لكِنْ» وما بعدها الخبر ويجوز أن يكون «هو» مبتدأ، وما بعده خبره، وهو وخبره خبر «لكنَّ» ويجوز أن يكون تأكيداً للاسم، وأن يكون فصلاً، ولا يجوز أن يكون ضمير شأنٍ؛ لأنه حينئذ لا عائد على اسم «لكنَّ» من هذه الجملة الواقعة خبراً. وأمَّا في قراءة العامة: فلا يجوز أن تكون «لكنَّ» مشددة عاملة؛ لوقوع الضمير بعدها بصيغة المرفوع. وقرأ عبد الله «لكنْ أنَا هُوَ» على الأصل من غير نقل، ولا إدغامٍ، وروى عنه ابنُ خالويه «لكنْ هُو الله» بغير «أنا» . وقرئ أيضاً «لكننا» . وقال الزمخشريُّ: «وحسَّن ذلك - يعني إثبات الألف في الوصل - وقوع الألف عوضاً عن حذف الهمزة» ونحوه - يعني إدغام نون «لكن» في نون «نَا» بعد حذف الهمزة - قول القائل: 3530 - وتَرْمِينَنِي بالطَّرْفِ أيْ أنْتَ مُذنِبٌ ... وتَقْلِيننِي لكنَّ إيَّاكِ لا أقْلِي الأصل: لكن أنا، فنقل، وحذف، وأدغم، قال أبو حيان: «ولا يتعيَّن ما قاله في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 490 البيت؛ لجواز أن يكون حذف اسم» لكنَّ « [وحذفه] لدليلٍ كثيرٌ، وعليه قوله: 3531 - فَلوْ كُنْتَ ضَبيًّا عَرفْتَ قَرابتِي ... ولكنَّ زَنْجِيٌّ عَظِيمُ المَشافرِ أي: ولكنَّك، وكذا ها هنا: ولكنَّني إيَّاك» قال شهاب الدين: لم يدَّع الزمخشري تعين ذلك في البيت؛ حتَّى يردَّ عليه بما ذكره. ويقرب من هذا ما خرَّجه البصريُّون في بيت استدلَّ به الكوفيون عليهم في جواز دخولِ لام الابتداء في خبر «لكنَّ» وهو: [الطويل] 3533 - ... ... ... ... ..... ولكنَّني من حُبِّهَا لعَمِيدُ فأدخل اللام في خبر «لكنَّ» وخرَّجه البصريون على أن الأصل: «ولكن من حُبِّها» في قوله: «ولكنَّني من حُبِّها لعمِيدُ» ، فأدغم اللام في خبر «لكنَّ» ، وجوَّزه البصريُّون، وخرَّجه طائفة من البصريِّين على أنَّ الأصل ولكن إنِّي من حُبِّها، ثم نقل حركة همزة «إنِّي» إلى نون «لكن» بعد حذف الهمزة، وأدغم على ما تقدَّم، فلم تدخل اللام إلا في خبر «إنَّ» ، هذا على تقدير تسليم صحة الرواية، وإلا فقالوا: إنَّ البيت مصنوعٌ، ولا يعرف له قائلٌ. والاستدراك من قوله «أكَفرْتَ» كأنَّه قال لأخيه: أنت كافرٌ؛ لأنَّه استفهام تقرير، لكنَّني أنَّا مؤمنٌ؛ نحو قولك: «زَيْجٌ غَائبٌ، لكنَّ عمراً حاضرٌ» لأنه قد يتوهَّم غيبةُ عمرو أيضاً. فصل في المقصود بالشرك في الآية معنى {وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} . ذكر القفال فيه وجهين: الأول: أنِّي لا أرى الفقر والغنى إلاَّ منه؛ فأحمده إذا أعطى، وأصبر، إذا ابتلى، ولا أتكبَّر عندما ينعم عليَّ، ولا أرى كثرة [المال] ، والأعوان من نفسي، وذلك لأنَّ الكافر، لمَّا [اعتزَّ] بكثرة المال والجاه، فكأنه قد أثبت لله شريكاً في إعطاء العزِّ والغنى. الثاني: أنَّ هذا الكافر، لمَّا أعجز الله عن البعث والحشر، فقد جعله مساوياً للخلق في هذا العجز، وإذا أثبت المساواة، فقد أثبت الشَّريك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 491 قوله: {ولولاا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله} : «لولا» تحضيضيَّةٌ داخلة على «قلت» و «إذْ دَخلْتَ» منصوب ب «قُلْتَ» فصل به بين «لوْلاَ» وما دخلت عليه، ولم يبال بذلك؛ لأنه ليس بأجنبيٍّ، وقد عرفت أنَّ حرف التحضيضِ، إذا دخل على الماضي، كان للتَّوبيخ. ومعنى الكلام: هلاَّ إذا دخلت جنَّتك، قلت: ما شَاءَ الله، أي: الأمر ما شاء الله، وقيل: جوابه مضمرٌ، أي: ما شاء الله كان. {مَا شَآءَ الله} يجوز في «مَا» وجهان: الأول: أن تكون شرطية؛ فتكون في محلِّ نصبٍ مفعولاً مقدماً وجوباً ب «شاء» أي: أيَّ شيء شاء الله، والجواب محذوف، أي: ما شاء الله، كان ووقع كما تقدم. والثاني: أنها موصولة بمعنى «الذي» وفيها حينئذ وجهان: أحدهما: أن تكون مبتدأة، وخبرها محذوف، أي: الذي شاء الله كائنٌ وواقعٌ. والثاني: أنها موصولة بمعنى «الذي» وفيها حينئذ وجهان: أحدهما: أن تكون مبتدأة، وخبرها محذوف، أي: الذي شاءه الله، وعلى كل تقدير: [فهذه الجملة] في محل نصبٍ بالقول. قوله: «إلاَّ الله» خبر «لا» التبرئةِ، والجملة أيضاً منصوبة بالقولِ، أي: هلاَّ قلت هاتين الجملتين. فإن قيل: معنى {لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله} أي: لا أقدرُ على حفظ مالي، ولا دفع شيءٍ عنه إلاَّ بالله. روى هشامُ بن عروة عن أبيه: «أنَّهُ كان إذَا رأى مِنْ مَالهِ شَيْئاً يُعْجبهُ، أو دَخَلَ حَائِطاً من حِيطانِه قال: مَا شَاءَ الله لا قُوَّة إلاَّ بالله» . فالجواب: احتجَّ أهل السنَّة بقوله: {مَا شَآءَ الله} على أنَّ كلَّ ما أراده الله واقعٌ، وكلَّ ما لم يقع، لم يرده الله تعالى؛ وهذا يدلُّ على أن الله ما أراد الإيمان من الكافر، وهو صريحٌ في إبطال قول المعتزلة. فصل في الرد على استدلال المعتزلة بالآية [ذكر الجبائيُّ] والكعبيُّ بأنَّ تأويل قولهم: «مَا شَاءَ الله» ممَّا تولَّى فعله، لا ما هو فعل العباد، كما قالوا: لا مردَّ لأمر الله، لم يرد ما أمر به العباد، ثم قال: لا يمتنع أن يحصل في سلطانه ما لا يريد، كما يحصل فيه ما ينهى عنه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 492 واعلم أنَّ الذي ذكره الكعبيُّ ليس جواباً عن الاستدلال، بل هو التزامٌ لمخالفة ظاهر النصِّ، وقياس الإرادة على الأمر باطلٌ؛ لأنَّ هذا النصَّ دالٌّ على أنَّه لا يوجد إلاَّ ما أراده الله، وليس في النصوص ما يدلُّ على أنَّه لا يدخل في الوجود إلاَّ ما أمر به، فظهر الفرق. وأجاب القفَّال عنه بأن قال: هلاَّ إذا دخلت [جنَّتك] ، قلت: ما شاء الله، أي: هذه الأشياء الموجودةُ في هذا البستان: ما شاء الله؛ كقول الإنسان، إذا نظر غلى شيءٍ عمله زيدٌ: عمل زيدٍ، أي: هذا عمل زيدٍ. ومثله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ} [الكهف: 22] ، أي: قالوا: ثلاثةٌ، وقوله: {وَقُولُواْ حِطَّةٌ} [الأعراف: 161] أي: وقولوا: هذه حطَّة، وإذا كان كذلك، كان [المراد أن] هذا الشيء الموجود في البستان شيءٌ شاء الله تكوينه، وعلى هذا التقدير: لم يلزم أن يقال: وقع كلُّ ما شاء الله؛ لأنَّ هذا الحكم غير عامٍّ في الكلِّ، بل يختصُّ بالأشياء المشاهدة في البستان، وهذا التأويلُ الذي ذكره القفَّال أحسن مما ذكره الجبائيُّ والكعبيُّ. فصل قال ابن الخطيب: وأقول: إنَّه على جوابه لا يندفع الإشكال عن المعتزلة؛ لأنَّ عمارة ذلك البستان، ربَّما حصلت بالغصوب، وبالظُّلم الشديد؛ فلا يصحُّ أيضاً على قول المعتزلة أن يقال: هذا واقعٌ بمشيئةِ الله، اللهم، إلاَّ أن يقال: المراد أنَّ هذه الثمار حصلت بمشيئة الله إلاَّ أنَّ هذا تخصيص لظاهر النصِّ من غير دليل. وأمَّا أمر المؤمن الكافر بأن يقول: لا قُوَّة إلاَّ بالله، أي: لا قُوَّة لأحدٍ على أمر من الأمور إلاَّ بإعانة الله وإقداره. ثُمَّ إن المؤمن، لما علَّم الكافر الإيمان، أجابه عن الافتخار بالمال والنَّفر، فقال: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً} . واعلم أن ذكر الولد ها هنا يدلُّ على أنَّ المراد بالنَّفر المذكور في قوله: {وَأَعَزُّ نَفَراً} الأعوان والأولاد. وقوله: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ} يجوز في «أنا» وجهان: أحدهما: أن يكون مؤكِّداً لياء المتكلم. والثاني: أنه ضمير الفصل بين المفعولين، و «أقلَّ» مفعول ثانٍ، أو حال بحسب الوجهين في الرؤية، هل هي بصرية أو علمية؟ إلا أنَّك إذا جعلتها بصرية، تعيَّن في «أنَا» أن تكون توكيداً، لا فصلاً؛ لأنَّ شرطه أن يقع بين مبتدأ وخبر، أو ما أصله المبتدأ والخبر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 493 وقرأ عيسى بن عمر «أقلُّ» بالرفع، ويتعيَّن أن يكون «أنا» مبتدأ، و «أقلُّ» خبره، والجملة: إمَّا في موضع المفعول الثاني، أو في موضع الحال على ما تقدَّم في الرؤية. و «مَالاً وولداً» تمييزٌ، وجواب الشرط قوله «فعَسَى ربِّي» . قوله: {حُسْبَانًا} : الحسبان مصدر حسب الشيء يحسبه، أي: أحصاهُ، قال الزجاج: «أي عذاب حسبان، أي: حساب ما كسبت يداك» وهو حسن. فصل في معنى الحسبان قال الراغب: «قيل: معناه ناراً، وعذاباً، وإنما هو في الحقيقة ما يحاسبُ عليه، فيجازى بحسبه» وهذا موافق لما قاله أبو إسحاق، والزمخشريُّ نحا إليه أيضاً، فقال: «والحُسْبان مصدر؛ كالغفران والبطلان بمعنى الحساب، أي: مقداراً حسبه الله وقدَّره، وهو الحكم بتخريبها» . وهو قول ابن عباس وقيل: جمع حسبانةٍ، وهي السَّهمُ. وقال ابن قتيبة: مرامي من السَّماء، وهي مثل الصَّاعقة، أي: قطع من النَّار. قوله: {أَوْ يُصْبِحَ} : عطف على «يُرْسلَ» قال أبو حيَّان: و «أوْ يُصْبِحَ» عطفٌ على قوله: «ويُرْسِلَ» لأن غُؤورَ الماءِ لا يتَسبَّبُ عن الآفةِ السماوية، إلا إن عنى بالحسبان القضاء [الإلهيَّ] ؛ فحينئذ يتسبَّب عنه إصباحُ الجنة صعيداً زلقاً، أو إصباح مائها غوراً. والزَّلقُ والغَوْرُ في الأصل: مصدران وصف بهما للمبالغة. والعامة على فتح الغين، غَارَ المَاءُ يَغورُ غَوراً: غَاضَ وذهب ف يالأرض، وقرأ البرجميُّ بضم الغين لغة في المصدر، وقرأت طائفة «غُؤوراً» بضمِّ الغين، والهمزة، وواوٍ ساكنة، وهو مصدر أيضاً، يقال: غار الماء غؤوراً مثل: جلس جلوساً. فصل في معنى قوله: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} معنى قوله: {فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً} أرضاً جرداء ملساء لا نبات فيها، وقيل: تزلق فيها الأقدام. وقال مجاهد: رملاً هائلاً، والصعيد وجه الأرض. {أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً} أي: غائراً منقطعاً ذاهباً لا تناله الأيدي، ولا الدِّلاءُ، والغور: مصدر وقع موقع الاسم، مثل زور وعدل. قوله: {فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً} أي: فيصير بحيثُ لا تقدر على ردِّه إلى موضعه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 494 ثمَّ أخبر الله تعالى أنَّه حقَّق ما قدره هذا المؤمن، فقال: {وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ} اي: أحاط العذاب بثمر جنته، وهو عبارة عن إهلاكه بالكليَّة، وأصله من إحاطة العدوِّ؛ لأنَّه إذا أحاط به، فقد استولى عليه، ثمَّ استعمل في كلِّ إهلاكٍ، ومنه قوله تعالى: {إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ} [يوسف: 66] . قوله: {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} : قُرئ «تَقلَّبُ كفَّاهُ» ، أي: تتقلَّب كفَّاه، و «أصْبحَ» : يجوز أن تكون على بابها، وأن تكون بمعنى «صار» وهذا كناية عن الندم؛ لأنَّ النادم يفعل ذلك. قوله: {عَلَى مَآ أَنْفَقَ} يجوز أن يتعلق ب «يُقلِّبُ» وإنما عدِّي ب «عَلَى» لأنه ضمِّن معنى «يَندَمُ» . وقوله: «فيها» ، أي: في عمارتها، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من فاعل «يُقلِّبُ» أي: متحسِّراً، كذا قدَّره أبو البقاس، وهو تفسير معنى، والتقدير الصناعي؛ إنما هو كونٌ مطلقٌ. قوله: «ويَقُولُ» يجوز أن يكون معطوفاً على «يُقلِّبُ» ويجوز أن يكون حالاً. فصل في كيفية الإحاطة قال المفسرون: إنَّ الله تعالى أرسل عليها ناراً، فأهلكتها وغار ماؤها، {فَأَصْبَحَ} صاحبها الكافر {يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} ، أي: يصفِّق بيديه، إحداهما على الأخرى، ويلقِّب كفَّيه ظهراً لبطن؛ تأسُّفاً وتلهُّفاً {عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ} ساقطة {على عُرُوشِهَا} سقوفها، فتسقَّطت سقوفها، ثمَّ سقطت الجدران عليها. ويمكن أنَّ يكون المراد بالعروشِ عروش الكرم، فتسقط العروش، ثم تسقط الجدران عليها. قوله: {وَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} . والمعنى: أن المؤمن، لمَّا قال: {لَّكِنَّ هُوَ الله رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً} قال الكافر: يا ليتني قلت كذلك. فإن قيل: هذا الكلام يوهم أنه إنما هلكت جنَّته؛ لشؤم شركه، وليس الأمر كذلك؛ لأنَّ أنواع البلاء أكثرها إنَّما تقع للمؤمنين، قال تعالى: {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} [الزخرف: 33] . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «خُصَّ البَلاءُ بالأنْبِياءِ، ثمَّ الأوْلياءِ، ثُمَّ الأمثلِ فالأمثَلِ» . وأيضاً: فلما قال: {ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} فقدم ندم على الشِّرك، ورغب في الجزء: 12 ¦ الصفحة: 495 التوحيد؛ فوجب أن يصير مؤمناً، فلم قال بعده: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله} ؟ . فالجواب عن الأوَّل: أنه لمَّا عظمت حسراته لأجل أنه أنفق عمره في تحصيل الدنيا، وكان معرضاً في عمره كلِّه عن طلب الدِّين، فلما ضاعت الدنيا بالكليَّة، بقي محروماً عن الدنيا والدِّين. والجواب عن الثاني: أنَّه إنَّما نَدِمَ على الشِّرك؛ لاعتقاده أنَّه لو كان موحِّداً غير مشركٍ، لبقيت عليه جنَّته، فهو إنَّما رغب في التوحيد والردَّة عن الشِّرك؛ لأجل [طلب] الدنيا؛ فلهذا لم يقبل الله توحيده. قوله: {وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ} : قرأ الأخوان [ «يَكُنْ» ] بالياء من تحت، والباقون من فوق، وهما واضحتان؛ إذ التأنيث مجازيٌّ، وحسن التذكير للفصل. قوله: «يَنْصُرونَهُ» يجوز أن تكون هذه الجملة خبراً، وهو الظاهر، وأن تكون حالية، والخبر الجار المتقدم، وسوَّغ مجيء الحال من النَّكرة تقدم النفي، ويجوز أن تكون صفة ل «فئةٍ» إذا جعلنا الخبر الجارَّ. وقال: «يَنْصُرونَهُ» حملاً على معنى «فِئةٍ» لأنَّهم في قوَّة القوم والنَّاس، ولو حمل على لفظها، لأفرد؛ كقوله تعالى: {فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13] . وقرأ ابن أبي عبلة: «تَنْصرُهُ» على اللفظ، قال أبو البقاء: «ولو كان» تَنْصرهُ «لكان على اللفظ» . قال شهاب الدين: قد قرئ بذلك، كما عرفت. [قال بعضهم] : ومعنى «يَنْصُرونَهُ» يقدرون على نصرته، ويمنعونه من عذاب الله {وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} ممتنعاً متنعماً، أي: لا يقدر على الانتصار لنفسه، وقيل: لا يقدر على ردِّ ما ذهب عنه. قوله: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ} : يجوز أن يكون الكلام تمَّ على قوله «مُنْتَصِراً» وهذه جملة منقطعة عمَّا قبلها، وعلى هذا: فيجوز في الكلام أوجه: الأول: أن يكون «هنالك الولايةُ» مقدَّراً بجملة فعلية، فالولاية فاعل بالظرف قبلها، أي: استقرَّت الولاية الله، و «لله» متعلق بالاستقرار، أو بنفس الظرف؛ لقيامه مقام العامل، أو بنفسِ الولاية، أو يمحذوفٍ على أنه حال من «الوَلاية» وهذا إنما يتأتَّى على الجزء: 12 ¦ الصفحة: 496 رأي الأخفش من حيث إنَّ الظرف يرفع الفاعل من غير اعتمادٍ. والثاني: أن يكون «هُنالِكَ» منصوباً على الظرف متعلقاً بخبر «الولاية» وهو «لله» أو بما تعلق به «لله» أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ منها، والعامل الاستقرارُ في «لله» عند من يجيز تقدم الحال على عاملها المعنوي، أو يتعلق بنفس «الولايةِ» . والثالث: أن يجعل «هُنالِكَ» هو الخبر، و «لله» فضلةٌ، والعامل فيه ما تقدَّم في الوجه الأول. ويجوز أن يكون «هُنالِكَ» من تتمَّة ما قبلها، فلم يتمَّ الكلام دونه، وهو معمولٌ ل «مُنْتَصِراً» ، أي: وما كان منتصراً في الدار الآخرة، و «هُنالِكَ» إشارة غليها، وإليه نحا أبو إسحاق. وعلى هذا فيكون الوقف على «هُنالِكَ» تامًّا، والابتداء بقوله «الوَلايَةُ لله» فتكون جملة من مبتدأ وخبر. والظاهر في «هُنالِكَ» : أنه على موضوعه من ظرفية المكان، كما تقدَّم، وتقدَّم أنَّ الأخوين يقرآن بالكسر، والفرق بينهما وبين قراءة الباقين بالفتح في سورة الأنفال، فلا معنى لإعادته. وحكي عن أبي عمرو والأصمعي أن كسر الواو هنا لحنٌ، قالا: لأنَّ «فعالة» إنما تجيء فيما كان صنعة أو ممعنى متقلَّداً، وليس هنالك تولِّي أمورٍ. فصل في لغات الولاية ومعانيها قال الزمخشري: الولاية بالفتح: النصر، والتولِّي، وبالكسر: السلطان والملك. وقيل: بالفتح: الربوبيَّة، وبالكسر: الإمارة. قوله: «الحَقِّ» قرأ أبو عمرو، والكسائي برفع «الحقُّ» والباقون بجرِّه، فالرفع من ثلاثة أوجه: الأول: أنه صفة للولاية وتصديقه قراءة أبيٍّ «هُنالك الوَلايةُ الحق للهِ» . والثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هو ما أوحيناه إليك. الثالث: أنه مبتدأ، وخبره مضمر، أي: الحق ذلك، وهو ما قلناه. والجر على أنه صفة للجلالة الكريمة؛ كقوله «ثُمَّ ردُّوا إلى الله مَولاهُم الحقِّ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 497 وقرأ زيد بن عليٍّ، وأبو حيوة، وعمرو بن عبيد، ويعقوب «الحقَّ» نصباً على المصدر المؤكِّد لمضمون الجملة؛ كقولك «هذَا قَوْلُ الله الحق» وهذا عبد الله الحقَّ، لا الباطل. قوله: «عُقباً» قرأ عاصم وحمزة بسكون القاف، والباقون بضمِّها، فقيل: لغتان؛ كالقُدُسِ والقُدْس، وقيل: الأصل الضمَّ، والسكون تخفيف، وقيل بالعكس؛ كالعُسْر واليُسْر، وهو عكس معهود اللغة، ونصبها ونصب «ثَواباً» و {أَمَلاً} [الكهف: 46] على التمييز لأفعل التفضيل قبلها، ونقل الزمخشريُّ أنه قرئ «عُقْبَى» بالألف، وهي مصدر أيضاً؛ كبُشْرَى، وتروى عن عاصم. فصل في نظم الآية اعلم أنَّه تعالى لمَّا ذكر من قصّة الرجلين ما ذكر علمنا أن النُّصرة والعاقبة المحمودة كانت للمؤمن على الكافر، وعرفنا أن الأمر هكذا يكون في حقِّ كل مؤمنٍ وكافرٍ، فقال: {هُنالِكَ الوَلايةُ للهِ الحَقِّ} أي: في مثل ذلك الوقت وفي مثل ذلك المقام، تكون الولاية لله يوالي أولياءه؛ فيعليهم على أعدائه، ويفوِّض أمر الكفار إليهم. فقوله: «هُنالِكَ» إشارةٌ إلى الموضع، والوقت الذي يريد إظهار كرامة أوليائه، وإذلال أعدائه. وقيل: المعنى في مثل تلك الحالة الشديدة يتولَّى الله، ويلتجئ إليه كلُّ محتاجٍ مضطرٍّ، يعني أن قوله: {ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً} فكأنه ألجَ إليها ذلك الكافر، فقالها جزعاً ممَّا ساقهُ إليه شؤمُ كفره، ولولا ذلك، لم يقلها. وقيل: المعنى: هنالك الولاية لله ينصرُ فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة، وينتقم لهم ويشفي صدورهم من [أعدائهم] ، يعني أنَّه تعالى نصر المؤمنين على الكفرة، وينتقم لهم ويشفي صدورهم من [أعدائهم] ، يعني أنَّه تعالى نصر المؤمن بما فعل [بأخيه الكافر و] بصدق قوله: {فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السمآء} . ويعضده قوله: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً} أي: لأوليائه، وقيل: «هُنالِكَ» إشارةٌ إلى الدَّار الآخرةِ، أي: في تلك الدَّار الآخرة الولاية لله كقوله: {لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار} [غافر: 16] . وقوله: {هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً} أي: خيرٌ في الآخرة لمن آمن به، والتجأ إليه، {وَخَيْرٌ عُقْباً} أي: هو خيرٌ عاقبة لمن رجاهُ، وعمل لوجهه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 498 قوله تعالى: {واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا} الآية. أي: واضرب، يا محمد، لهؤلاء الذين افتخروا بأموالهم، وأنصارهم على فقراء المسلمين {مَّثَلَ الحياة الدنيا} ثم ذكر المثل فقال: {كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} . قوله: {كَمَآءٍ} : فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أن تكون خبر مبتدأ محذوف، فقدَّره ابن عطيَّة هي، أي: الحياة الدنيا. والثاني: أنه متعلق بمعنى المصدر، أي: ضرباً كماء، قاله الحوفيُّ. وهذا بناء منهما على أن «ضرب» هذه متعدية لواحدٍ فقط. والثالث: أنه في موضع المفعول الثاني ل «اضْرِبْ» لأنها بمعنى طصَيِّرْ «وقد تقدم. قال أبو حيان بعدما نقل قولي ابن عطيَّة والحوفيِّ:» وأقول: إنَّ «كماءٍ» في موضع المفعول الثاني لقوله «واضْرِبْ» ، أي: وصيِّر لهم مثل الحياة، أي: صفتها شبه ماء «. قال شهاب الدين: وهذا قد سبقه إليه أبو البقاء. و» أنْزَلنَاهُ «صفة ل» مَاءٍ «. قوله:» فاخْتلَطَ به «يجوز في هذه الباء وجهان: أحدهما: أن تكون سببية. الثاني: أن تكون متعدِّية، قال الزخشري:» فالتفَّ بسببه، وتكاثف حتى خالط بعضه بعضاً، وقيل: تجمع الماء في النبات؛ حتى روي ورَفَّ رفيفاً، وكان حق اللفظ على هذا التفسير: فاختلط بنباتِ الأرض، ووجه صحته: أنَّ كلَّ مختلطين موصوف كل واحدٍ منهما بصفةِ الآخر «. قوله: {فَأَصْبَحَ هَشِيماً} » أصْبَحَ «يجوز أن تكون على بابها؛ فإنَّ أكثر ما يطرقُ من الآفاتِ صباحاً؛ كقوله: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ} [الكهف: 42] ويجوز أن تكون بمعنى» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 499 صار «من غير تقييدٍ بصباحٍ؛ كقوله: [المنسرح] 3533 - أصْبَحَتُ لا أحْمِلُ السِّلاحَ ولاَ ... أمْلِكُ رَأسَ البعيرِ إنْ نَفرَا والهشيمُ: واحده هشيمة، وهو اليابس، وقال الزجاج وابن قتيبة: كل ما كان رطباً، فيَبِسَ، ومنه {كَهَشِيمِ المحتظر} [القمر: 31] ومنه: حشمتُ الفتَّ والهشيم: المتفتِّت المتكسِّر، ومنه هشمت أنفه، وهشَمَ الثَّريدَ: إذا فتَّه. قال: [الكامل] 3534 - عَمْرُو الَّذي هَشمَ الثَّريدَ لقَومهِ ... ورِجَالُ مَكَّةَ مُسنتُونَ عِجَاف قوله:» تَذرُوهُ «صفة ل» هَشِيماً «والذَّرْوُ: التفريق، وقيل: الرفع. والعامة» تَذْروهُ «بالواو، وقرأ عبد الله» تَذْريه «من الذَّري، ففي لامه لغتان: الواو والياء، وقرأ ابن عبَّاس» تُذْريهِ «بضمِّ التاء من الإذراءِ، وهذه تحتمل أن تكون من الذَّرْوِ، وأن تكون من الذَّري، والعامة على» الرَّياحِ «جمعاً، وزيد بن عليِّ، والحسنُ، والنخعيُّ في آخرين» الرِّيحُ «بالإفراد. فصل في معنى ألفاظ الآية و» مَثَل «معنى المثل، قال ابن عباسٍ: يعني بالماءِ المطر، نزل من السماء {فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض} خرج من كل لون وزهرة،» فأصْبحَ «عن قريب» هَشِيماً «يابساً. وقال الضحاك: كسيراً. «تَذْروهُ الرِّياحُ» : قال ابن عباس: تذريه. وقال أبو عبيدة: تفرّقه. وقال القتبي: تنسفه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 500 قوله: {وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً} قادراً بتكوينه أولاً، وتنميته وسطاً، وإبطاله آخراً، فأحوال الدنيا كذلك تظهرُ أولاً في غاية الحسن والنَّضارة، ثم تتزايد قليلاً قليلاً، ثم تأخذ في الانحطاط إلى أن تنتهي إلى الفناء والذَّهاب، ومثل هذا الشيء ليس للعاقل أن يبتهج به. فصل في حسن ترتيب الآيات قوله تعالى: {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا} الآية. لما بيّن تعالى أنَّ الدنيا سريعة الانقراض والانقضاء مشرفة على الزَّوال والبوار والفناء، بيَّن تعالى أنَّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا، والمقصود منه إدخال هذا الجزئيِّ تحت ذلك الكليِّ، فينعقد به قياسٌ بيِّن الإنتاج، وهو أنَّ المال والبنين زينة الحياة الدنيا، وكل ما كان زينة الحياة الدنيا، فهو سريعُ الانقضاءِ والانقراضِ، ومن اليقين البديهيِّ، أن ما كان كذلك، فإنه يقبح بالعاقل أن يفتخر به، أو يقيم له في نظره وزناً، فهذا برهان باهرٌ على فساد قول المشركين الذين افتخروا بكثرة الأموال والولاد على فقراء [المؤمنين] . قوله: {زِينَةُ الحياة الدنيا} على التثنية، وسقطت ألفها لفظاً لالتقاء الساكنين، فيتوهم أنه قرئ بنصب «زينة الحياة» . فصل في بيان رجحان فقراء المؤمنين على أغنياء الكفار لما أقام البرهان على فساد قول المشركين، ذكر ما يدلُّ على رجحان أولئك الفقراء على أغنياء الكفَّار، فقال: {والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ} . وبيان هذا الدليل: أنَّ خيرات الدنيا [منقرضة] ، وخبرات الآخرة باقيةٌ دائمةٌ، والدائم الباقي خيرٌ من المنقرضِ الزائل، وهذا معلومٌ بالضَّرورة. قال علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: المال والبنون حرث الحياة الدنيا، والأعمال الصالحة حرث الآخرة، وقد يجمعها الله لأقوامٍ وقال ابن عبَّاس وعكرمة ومجاهد: الباقيات الصالحات هي قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 501 وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «أفْضَلُ الكلامِ أربعٌ: سُبْحانَ الله، والحَمدُ لله، ولا إله إلا الله، والله أكبرْ» . وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «أكثروا من البَاقيَاتِ الصَّالحاتِ قيل: وما هُنَّ يَا رسُول الله؟ قال: الملة. قيل: وما هي يا رسول الله؟ قال: التَّكبيرُ، والتَّهليلُ، والتَّسبيحُ، والتَّحميدُ، ولا حول ولا قوَّة إلاَّ بالله العلِّ العظيم» . وقال سعيد بن جبير ومسروق وإبراهيم ويروى أيضاً عن ابن عباس: البَاقيَاتُ الصَّالحاتُ: الصلوات الخَمْسُ. وقال قتادة: ويروى أيضاً عن ابن عبَّاس أنَّها الأعمال الصالحة {خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً} جزاء {وَخَيْرٌ أَمَلاً} أي: ما يؤمِّله الإنسان. قوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال} الآية. لما بيَّن خساسة الدُّنيا، وشرف القيامة، أراد أن يعيِّن أحوال القيامةِ. قوله: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ} : «يَوْمَ» منصوب بقولٍ مضمرٍ بعده، تقديره: نقول لهم يوم نسيِّر الجبالك لقد جئتمونا، وقيل: بإضمار «اذْكُرْ» وقيل: هو معطوف على «عِنْدَ ربِّكَ» فيكون معمولاً لقوله «خَيْرٌ» . وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، وابن عامر بضمِّ التاء، وفتح الياء مبنياً للمفعول، «الجِبَالُ» بالرفع؛ لقيامه مقام الفاعل، وحذف الفاعل؛ للعلم به، وهو الله، أو من يأمره من الملائكة، وهذه القراءة موافقةٌ لما اتُّفقَ عليه في قوله {وَسُيِّرَتِ الجبال} [النبأ: 20] ، ويؤيِّدها قراءة عبد الله هنا {وَسُيِّرَتِ الجبال} فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول. والباقون «نُسيِّرُ» بنون العظمة، والياء مكسورة من «سَيَّرَ» بالتشديد؛ «الجبالَ» بالنصب على المفعول به، وهذه القراءة مناسبة لما بعدها من قوله {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} . وقرأ الحسن كقراءة ابن كثير، ومن ذكر معه إلاَّ أنه بالياء من تحت؛ لأنَّ التأنيث مجازيٌّ وقرأ ابن محيصن، ورواها محبوب عن أبي عمرو: [ «تسير» ] بفتح التاء من فوق الجزء: 12 ¦ الصفحة: 502 ساكن الياء، من سارت تسير، و «الجِبَالُ» بالرفع على الفاعلية. قوله: {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} «بَارِزَةً» حالٌ؛ إذ الرؤية بصرية، وقرأ عيسى {وتُرَى الأرضُ} مبنيًّا للمفعول، و «الأرضُ» قائمة مقام الفاعل. قوله: {وَحَشَرْنَاهُمْ} فيه ثلاثة أوجه: الأول: أنه ماضٍ، يراد به المستقبل، أي: ونحشرهم، وكذلك {وَعُرِضُوا} [الكهف: 48] و {وَوُضِعَ الكتاب} [الكهف: 49] . والثاني: أن تكون الواو للحالِ، والجملة في محلِّ النصب، أي: نفعل التسيير في حال حشرهم؛ ليشاهدوا تلك الأهوال. والثالث: قال الزمخشري: «فإن قلت: لِمَ جيء ب» حَشرْنَاهُمْ «ماضياً بعد» نُسيِّرُ «و» ترى «؟ قلت: للدلالة على أنَّ حشرهم قبل التسيير، وقيل البروز؛ ليعاينوا تلك الأهوال العظام؛ كأنَّه قيل: وحَشرنَاهُم قبل ذلكَ» . فصل قال أبو البقاء، وأبو حيان: «والأولى أن تكون الواو للحال» فذكر نحواً ممَّا قدَّمته. قوله: «فَلمْ نُغادِرْ» عطل على «حَشَرنَاهُمْ» فإنه ماضٍ معنى، والمغادرة هنا: بمعنى «الغَدْر» وهو الترك، أي: فلم نترك، والمفاعلة هنا ليس فيها مشاركة، وسمي الغدر غدراً؛ لأنَّ به ترك الوفاءُ، وغدير الماء من ذلك؛ لأنَّ السيل غادره، أي: تركه، فلم يجئه أو ترك فيه الماء، ويجمع على «غدر» و «غُدرَان» كرغيف ورغفان، واستغدر الغَديرُ: صار فيه الماء، والغديرة: الشَّعرُ الذي ترك حتى طال، والجمع غدائرُ. قال امرؤ القيس: [الطويل] 3535 - غَدائِرُهُ مُسْتشْزِرَاتٌ إلى العُلا ..... ... ... ... ... ... ... ... . وقرأ قتادة «فَلمْ تُغادِرْ» بالتاء من فوقُ، والفاعل ضمير الأرض، أو الغدرة المفهومة من السياق، وأبان: «يُغادَرْ» مبنياً للمفعول، «أحدٌ» بالرفع، والضحاك: «نُغْدِرْ» بضم النون، وسكون العين، وكسر الدال، من «أغْدرَ» بمعنى «غَدرَ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 503 فصل في المراد بالتسيير ليس في الآية ما يدلُّ على أنَّ الأرض إلى أين تسير، فيحتمل أن الله يسيِّرها إلى موضع يريده، ولم يبيِّن ذلك الموضع لخلقه. والحقُّ أنَّ المراد أنَّه يسيِّرها إلى العدم؛ لقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً} [طه: 105 - 107] {وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً} [الواقعة: 5، 6] {وَتَرَى الأرض بَارِزَةً} [الكهف: 47] ، أي: لم يبق عليها شيء من الجبال، والعمران، والشَّجر «بَارِزةً» ظاهرة ليس عليها ما يسترها؛ كما قال: {فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولاا أَمْتاً} [طه: 106، 107] . وقال عطاء: «بَارِزةً» أبرزت ما في بطنها، وقذفت الموتى المقبورين فيها، أي بارزة البطن والجوف، فحذف ذكر الجوف، ودليله قوله تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الإنشقاق: 4] {وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا} [الزلزلة: 2] وقال: {وَبَرَزُواْ للَّهِ جَمِيعاً} [إبراهيم: 21] . {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً} أي: وحشرناهم أي: وجمعناهم للحساب، فلم نترك من الأوَّلين والآخرين أحداً، إلاَّ وجمعناهم لذلك اليوم. قوله: {وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً} . {صَفًّا} : حال من مرفوع «عرضوا» وأصله المصدرية، يقال منه: صفَّ يصفُّ صفًّا، ثم يطلق على الجماعة المصطفِّين، واختلف هنا في «صفًّا» : هل هو مفرد وقع موقع الجمع؛ إذ المراد صفوفاً؛ ويدل عليه الحديث الصحيح: «يجمعُ الله الأوَّلين والآخرينَ في صعيدٍ واحدٍ صفوفاً» وفي حديث آخر: «اهلُ الجنَّة مائةٌ وعشرون صفًّا، أنتم منها ثمانون» . ويؤيده قوله تعالى: {يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} [غافر: 67] أي أطفالاً. وقيل: ثَمَّ حذف، أي: صفًّا صفًّا، ونظيره قوله في موضع: {وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22] . وقال في آخر: {يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً} [النبأ: 38] يريد: صفًّا صفًّا؛ بدليل الآية الأخرى، فكذلك هنا، وقيل: بل كل الخلائق تكون صفًّا [واحداً] ، وهو أبلغ في القدرة، وأمَّا الحديثان فيحملان على اختلاف أحوالٍ؛ لأنه يوم طويل، كما شهد له بقوله {كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فتارة يكونون فيه صفًّا واحداً، وتارة صفوفاً. وقيل: صفًّا أي: قياماً؛ لقوله تعالى: {فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ} [الحج: 36] أي قياماً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 504 قوله: {لَّقَدْ جِئْتُمُونَا} على إضمار قول، أي: وقلنا لهم كيت وكيت. وتقدَّم أن هذا القول هو العامل في قوله {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال} [الكهف: 47] . ويجوز أن يضمر هذا القول حالاً من مرفوع «عُرِضُوا» ، أي: عرضوا مقولاً لهم كذا وكذا. قوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ} : أي: مجيئاً مشبهاً لخلقكم الأول حفاة، عراة غرلاً، لا مال، ولا ولد معكم، وقال الزمخشري: «لقَدْ بَعثْنَاكُم كَمَأ أنْشَأناكُمْ أوَّل مرَّة» فعلى هذين التقديرين، يكون نعتاً للمصدر المحذوف، وعلى رأي سيبويه: يكون حالاً من ضميره. قوله: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} . ليس المراد حصول المساواة من كل الوجوه؛ لأنهم خلقوا صغاراً، ولا عقل لهم، ولا تكليف عليهم، بل المراد أنَّه قال للمشركين المنكرين للبعث المفتخرين على فقراء المؤمنين بالأموال والأنصار: {كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي حفاة، عراة، بغير أموال، ولا أعوانٍ، ونظيره قوله تعالى: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ} [الأنعام: 94] . ثم قال تعالى: {بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} أي كنتم مع التعزُّز على المؤمنين بالأموال والأنصار، تنكرون البعث، فالآن قد تركتم الأموال والأنصار في الدنيا، وشاهدتم أنَّ البعث والقيامة حقٌّ. قوله: {أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً} «أنْ» هي المخففة، وفصل بينها وبين خبرها؛ لكونه جملة فعلية متصرفة غير دعاءٍ بحرف النفي، و «لكم» يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً للجعل بمعنى التصيير، و «مَوْعداً» هو الأول، ويجوز أن يكون معلَّقاً بالجعل، أو يكون حالاً من «مَوعِداً» إذا لم يجعل الجعل تصييراً، بل لمجرد الإيجادِ. و «بَلْ» في قوله: «بَل زَعَمتُمْ» لمجرَّد الانتقالِ، من غير إبطالٍ. قوله: {وَوُضِعَ الكتاب} : العامة على بنائه للمفعول، وزيد بن عليٍّ على بنائه للفاعل، وهو الله، أو الملك، و «الكِتاب» منصوب مفعولاً به، و «الكتابُ» جنس للكتب؛ إذ من المعلوم أنَّ لكلِّ إنسانٍ كتاباً بخصُّه، وقد تقدَّم الوقف على «مَا لهذا الكتابِ» وكيف فصلت لام الجرِّ من مجرورها خطًّا في سورة النساء عند {فَمَا لهؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً} [النساء: 78] . و «لا يُغَادِرُ» جملة حالية من «الكتاب» . والعامل الجار والمجرور؛ لقيامه مقام الفعل، أو الاستقرار الذي تعلق به الحال. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 505 قوله: «إلاَّ أحْصَاهَا» في محل نصب نعتاً لصغيرة وكبيرة، ويجوز أن تكون الجملة في موضع المفعول الثاني؛ لأنَّ «يُغَادِرُ» بمعنى «يترك» و «يتركُ» قد يتعدَّى لاثنين؛ كقوله: [البسيط] 3536 - ... ... ... ... ... ..... فَقدْ تَركْتُكَ ذَا مَالٍ وذَا نَشبِ في أحد الوجهين. روى أبو هريرة عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يُحشَرُ النَّاس على ثلاثِ طرائقَ رَاغبينَ رَاهبينَ، فاثْنانِ على بَعيرٍ، وثَلاثةٌ على بَعيرٍ، وأرْبعةٌ على بَعيرٍ، وعَشرةٌ على بَعيرٍ، وتَحشُرَ بقيَّتهُم النَّارُ، تَقيلُ مَعهُمْ، حَيْثُ قَالُوا، وتَبِيتُ معهم؛ حيث باتوا، وتُصْبِحُ معهم، حيث أصبحُوا، وتمسي معهم، حيث أمسوا» . وعن عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْها، قالت: «قلت: يا رسول الله كيف يُحْشَر النَّاسُ يوم القِيامة؟ قال: حُفاةً عُراةً، قالت: قلتُ: والنِّساء؟ قال: والنِّساء، قالت: قلت: يا رسول الله، أستحي، قال: يا عائشة، الأمر اشدُّ من ذلك؛ أن يهمهم أن ينظر بعضهم لبعض» . وقيل: توضعُ بين يدي الله عزَّ وجلَّ، {فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ} خائفين {مِمَّا فِيهِ} في الكتاب من الأعمال الخبيثة، كيف تظهر لأهل الموقف، فيفتضحون {وَيَقُولُونَ} إذا رأوها: {ياويلتنا} يا هلاكنا، والويلُ والويلة: الهلكة، وكأنَّ كلَّ من وقع في مهلكة، دعا بالويل، ومعنى النِّداء تنبيه المخاطبين. {مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً} من ذنوبنا. قال ابن عباس: الصَّغيرة: التبسُّم، والكبيرة: القهقهة. قال سعيد بن جبير: الصغيرة: اللَّمم، [والمسُّ، والقبلة] ، والكبيرة: الزِّنا. {إِلاَّ أَحْصَاهَا} وهو عبارة عن الإحاطة، أي: ضبطها وحصرها، وإدخال تاء التأنيث في الصغيرة والكبيرة، على تقدير أنَّ المراد الفعلة الصغيرة والكبيرة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 506 قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «إيَّاكُم ومحقِّرات الذنوب؛ فإنَّما مثلُ محقِّرات الذنوب؛ فإنَّما مثلُ محقِّراتِ الذُّنوب مثل قوم نزلوا ببطنِ وادٍ، فجاء هذا بعودٍ، وجاء هذا بعودٍ، وجاء هذا بعودٍ، حتَّى أنضجوا خبزتهم، وإنَّ محقِّراتِ الذنوب لموبقاتٌ» . {وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً} مكتوباً في الصَّحيفة. {وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً} لا ينقص ثواب أحدٍ عمل خيراً. وقال الضحاك: لم يؤاخذ أحداً بجرم لم يعمله. فصل في الرد على المجبرة قال الجبائي: هذه الآية تدلُّ على فساد قول المجبرة في مسائل: أحدها: أنه لو عذَّب عباده من غير ذنب صدر منهم، لكان ظالماً. وثانيها: أنه لا يعذِّب الأطفال بغير ذنب. وثالثها: بطلان قولهم: لله أن يفعل ما شاء، ويعذِّب من غير جرم؛ لأنَّ الخلق خلقه، إذ لو كان كذلك، لما كان لنفي الظلم عنه معنى؛ لأنَّ بتقدير أنه إذا فعل أي شيءٍ، لم يكن ظلماً منه؛ لم يكن لقوله: «إنَّه لا يظلمُ» فائدة. فإن قيل: أيُّ فائدة في ذلك؟ . فالجواب عن الأوَّل بمعارضة العلم والدَّاعي. وعن الثاني: أنَّه تعالى، قال: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} [مريم: 35] ولم يدلَّ هذا على أنَّ اتخاذ الولد يصحُّ عليه، فكذلك ها هنا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 507 قوله: {وَإِذَا قُلْنَا للملاائكة اسجدوا لآدَمَ} الآية. اعلم أنَّ المقصود في الآياتِ المتقدِّمة الردُّ على الذين افتخروا بأموالهم، وأعوانهم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 507 على فقراء المسلمين، وهذه الآية المقصود من ذكرها عين هذا المعنى؛ وذلك: أنَّ إبليس، إنما تكبَّر على آدم؛ لأنَّه افتخر بأصله ونسبه، فقال: {خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 13] فأنا أشرف منه أصلاً ونسباً، فكيف أسجد له، وكيف أتواضع له؟ وهؤلاء المشركون عاملوا فقراء المؤمنين بهذه المعاملة، فقالوا: كيف نجالسُ هؤلاء الفقراء، مع أنَّا من أنساب شريفة، وهم من أنساب نازلة، ونحن أغنياء، وهم فقراء؟ فذكر الله هذه القصة؛ تنبيهاً على أنَّ هذه الطريقة بعينها طريقة إبليس، ثم إنه تعالى حذَّر عنها، وعن الاقتضاء بها في قوله: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ} ، وهذا وجه النظم. قوله: {وَإِذَا قُلْنَا} : أي: اذكر. قوله: {كَانَ مِنَ الجن} فيه وجهان: أحدهما: أنه استئناف يفيد التعليل؛ جواباً لسؤال مقدَّر. والثاني: أن الجملة حالية، و «قَدْ» معها مرادة، قاله أبو البقاء. قوله: «فَفسَقَ» السببية في الفاء ظاهرة، تسبَّب عن كونه من الجنِّ الفسقُ، قال أبو البقاء: إنما أدخل الفاء هنا؛ لأنَّ المعنى: «إلاَّ إبليس امتنع ففسق» . قال شهاب الدين. إن عنى أنَّ قوله «كان من الجنِّ» وضع موضع قوله «امْتنعَ» فيحتمل مع بُعده، وإن عنى أنه حذف فعلٌ عطف عليه هذا، فليس بصحيحٍ؛ للاتغناء عنه. قوله: «عَنْ أمْر» «عَنْ» على بابها من المجاوزة، وهذ متعلقة ب «فَسقَ» ، أي: خرج مجاوزاً أمر ربِّه، وقيل: هي بمعنى الباء، أي: بسبب أمره؛ فإنه فعَّالٌ لما يريدُ. قوله: «وذُرِّيتهُ» يجوز في الواو أن تكون عاطفة، وهو الظاهر، وأن تكون بمعنى «مع» و «مِنْ دُونِي» يجوز تعلقه بالاتِّخاذ، وبمحذوف على أنَّه صفة لأولياء. قوله: {وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} جملة حالية من مفعول الاتخاذ أو فاعله، لأن فيها مصححاً لكلٍّ من الوجهين، وهو الرابط. قوله: «بِئْسَ» فاعلها مضمرٌ مفسَّر بتمييزه، والمخصوص بالذمِّ محذوف، تقديره: بِئْسَ البدل إبليس وذرِّيتهُ. وقوله «للظَّالمينَ» متعلق بمحذوفٍ حالاً من «بَدلاً» وقيل: متعلق بفعل الذمِّ. فصل في الخلاف في أصل إبليس اعلم أنه تعالى بيَّن في هذه الآية أنَّ إبليس كان من الجنِّ، وللنَّاس في الآية أقوالٌ: الأول: قال ابن عبَّاس: كان من حيٍّ من الملائكةِ، يقال لهم الحنُّ، خلقوا من الجزء: 12 ¦ الصفحة: 508 نار السَّموم، وكونه من الملائكة لا ينافي كونه من الجنِّ، لقوله: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً} [الصافات: 158] وقوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن} [الأنعام: 100] وسمِّي الجن جنًّا؛ لاستتارهم، والملائكة داخلون في ذلك. وأيضاً: فإنه كان خازن الجنة، فنسب إلى الجنَّة؛ كقولهم: كوفيٌّ، وبصريٌّ. وعن سعيد بن جبير، قال: كان من الجنَّانين الذين يعملون في الجنان، وهم حيٌّ من الملائكة، يصوغون حلية أهل الجنة منذ خلقوا. رواه القاضي في تفسيره عن هشام عن سعيد بن جبيرٍ. وقال الحسن: كان من الجنِّ، ولم يكن من الملائكةِ، فهو أصل الجنِّ، كما أنَّ آدم أصل الإنس. وقيل: كان من الملائكة، فمسخ وغيَّر، وكما يدلُّ على أنه ليس من الملائكة قوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي} والملائكة ليس لهم نسلٌ، ولا ذرِّيَّة. بقي أن يقال: لو لم يكن من الملائكة، لما تناوله الأمر بالسجود، فكيف يصحُّ استثناؤه منهم؟ . تقدَّم الكلام على ذلك في البقرة. ثم قال تعالى: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} . قال الفراء: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} ، أي: خرج من طاعته، تقول العرب: فسقتِ الرطبة عن قشرها، أي خرجت، وسميت الفأرة فويسقة؛ لخروجها من جحرها. قال رؤبة: [الرجز] 3537 - يَهْويْنَ في نَجْدٍ وغَوْراً غَائِرَا ... فَواسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوائِرَا وحكى الزجاج عن الخليل وسيبويه، أنه قال: لما أمر فعصَى، كان سبب فسقه هو ذلك الأمر، والمعنى: أنه لولا ذلك الأمر السابق، لما حصل ذلك الفسق، فلهذا حسن أن يقال: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} كقوله: {واسأل القرية التي كُنَّا فِيهَا} [يوسف: 82] . ثم قال: «أفَتَتَّخِذُونَهُ» يعني: يا بني آدم {وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} ، أي: أعداء. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 509 روى مجاهد عن الشعبيِّ قال: إنِّي قاعدٌ يوماً؛ إذ أقبل رجل فقال: أخبرني، هل لإبليس زوجة؟ قال: إنَّه لعرسٌ ما شَهدتُّه، ثُم ذكرتُ قول الله عزَّ وجلَّ: {أفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي} فعلمت أنَّه لا يكون ذريَّة إلا من زوجة، فقلت، نعم. وقال قتادة: يتوالدون، كما يتوالد بنو آدم. وقيل: إنَّه يدخل ذنبه في دبره، فيبيض، فتنفلق البيضة عن جماعة من الشَّياطين. ثم قال: {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} . قال قتادة: بئس ما استبدلوا طاعة إبليس، وذريته بعبادة ربِّهم. قوله: {مَّآ أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السماوات} : أي: إبليس وذريته، أو ما أشهدت الملائكة، فكيف يعبدونهم؟ أو ما أشهدت الكفار، فكيف ينسبون إليَّ ما لا يليق بجلالي؟ أو ما أشهدت جميع الخلقِ. وقرأ أبو جعفر، [وشيبة] والسختياني في آخرين: «ما أشهدناهم» على التعظيم. والمعنى: ما أحضرناهم {خَلْقَ السماوات والأرض وَلاَ خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ} أي: ولا أشهدت بعضهم خلق بعض، يعني: ما اشهدتهم؛ لأعتضد بهم. قوله: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} أي: ما كنت متَّخذهم، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ بياناً لإضلالهم؛ وذمًّا لهم وقوله: «عَضُدًا» أي: ما كنت متَّخذهم، فوضع الظاهر موضع المضمر؛ بياناً لإضلالهم؛ وذمَّا لهم وقوله: «عَضُداً» أي: أعواناً. قال ابن الخطيب: والأقرب عندي أنه الضمير الرَّاجع على الكفَّار الذين قالوا للرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إن لم تطرد عن مجلسك هؤلاء الفقراء، لم نؤمن بك، فكأنه - تعالى - قال: إنَّ هؤلاء الذين أتوا بالاقتراح الفاسد، والتعنُّت الباطل، ما كانوا شركاء في تدبير العالم؛ لأنِّي ما أشهدتهم خلق السموات والأرض، ولا خلق أنفسهم، ولا أعتذد بهم في تدبير الدنيا والآخرة، بل هم كسائر الخلق، فلم أقدموا على هذا الاقتراح الفاسد؟ . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 510 ويؤكِّد هذا أن الضمير يجب عوده على أقرب مذكور، وهو هنا {بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً} . قوله: {وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً} وضع الظاهر موضع المضمر؛ إذ المراد ب «المُضلِّينَ» من نفى عنهم إشهاد خلق السموات، وإنما نبَّه بذلك على وصفهم القبيح. وقرأ العامة «كُنْتُ» بضمِّ التاء؛ إخباراً عنه تعالى وقرأ الحسن، والجحدري، وأبو جعفر بفتحها؛ خطاباً لنبيِّنا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقرأ علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - {مُتَّخِذاً المضلين} نوَّن اسم الفاعل، ونصب به، إذ المراد به الحال، أو الاستقبال. وقرأ عيسى «عَضْداً» بفتح العين، وسكون الضاد، وهو تخفيف سائغ، كقول تميمٍ: سبْع ورجْل في: سبُعٍ ورجُلٍ وقرأ الحسن «عُضداً» بالضم والسكون؛ وذلك أنه نقل حركة الضاد إلى العين بعد سلب العين حركتها، وعنه أيضاً «عضداً» بفتحتين، و «عضداً» بضمتين، والضحاك «عضداً» بكسر العين، وفتح الضاد، وهذه لغات في هذا الحرف. والعضدُ من الإنسان وغيره معروف، ويعبِّر به عن العون والنصير؛ يقال: فلان عضدي، ومنه {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ} [القصص: 35] أي: سنقوِّي نصرتك ومعونتك. قوله: {وَيَوْمَ يَقُولُ} : معمول ل «اذْكُرْ» أي: ويوم نقول، يجري كيت وكيت وقرأ حمزة «نقُول» بنون العظمة؛ مراعاة للتكلُّم في قوله: «مَا أشْهدتهُمْ» إلى آخره، والباقون بياء الغيبة؛ لتقدم اسمه الشريف العظيم الظاهر. أي: يقول الله يوم القيامة: {نَادُواْ شُرَكَآئِيَ} يعني الأوثان. وقيل: للجنِّ، ولم يذكر تعالى أنَّهم كيف دعوهم في هذه الآية الكريمة، بيَّن ذلك في آية أخرى، وهو أنَّهم قالوا: {إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ} [إبراهيم: 21] . {الذين زَعَمْتُمْ} أنهم شركاء {فَدَعَوْهُمْ} فاستغاثوا بهم، {فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ} ، أي: لم يجيبوهم، ولم ينصروهم، ولم يدفعوا عنهم ضرراً، ثم قال: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً} أي: مهلكاً. قاله عطاء والضحاك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 511 فصل في بيان الموبق قال الزمخشري وغيره: والمَوْبِقُ: المهلك، يقال: وَبِقَ يَوبِقُ وَبَقاً، أي: هَلَكَ ووَبَقَ يَبِقُ وُبُوقاً أيضاً: هلك وأوبقه ذنبه، وعن الفراء: «جعَل اللهُ تواصُلهمْ هَلاكاً» فجعل البين بمعنى الوصل، وليس بظرفٍ؛ كقوله: {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] على قراءة من قرأ بالرفع، فعلى الأول يكون «موبقاً» مفعولاً أول للجعل، والثاني الظرف المتقدِّم، ويجوز أن تكون متعدية لواحدٍ، فيتعلق الظرف بالجعلِ أو بمحذوفٍ على الحال من «مَوْبِقاً» . وعلى قول الفراء ليكون «بينهم» مفعولاً أول و «مَوبقاً» مفعولاً ثانياً، والمَوْبِقُ هنا: يجوز أن يكون مصدراً، وهو الظاهر، ويجوز أن يكون مكاناً. قال ابن عباس: وهو وادٍ في النَّار. وقال ابن الأعربيِّ: كل حاجزٍ بين الشيئين يكون المَوبِقَ. وقال الحسن: «مَوْبقاً» أي: عداوة، هي في شدَّتها هلاك؛ كقولهم: لا يكن حُبك كلفاً. وقيل: الموبقُ: البَرْزَخُ البعيد. وجعلنا بين هؤلاء الكفَّار وبين الملائكة وعيسى برزخاً بعيداً، يهلك فيه النصارى؛ لفرط بعده؛ لأنَّهم في قاع جهنَّم، وهو في أعلى الجنا. قوله: روَرَأَى المجرمون النار} الآية. {وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا} ، في هذا الظنِّ قولان: الأول: أنه بمعنى العلم واليقين. والثاني: قال ابن الخطيب: الأقرب إلى المعنى: أن هؤلاء الكفار يرون النَّاس من مكانٍ بعيدٍ، فيظنُّون أنهم مواقعوها في تلك السَّاعة، من غير تأخير من شدَّة ما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 512 يسمعون من تغيُّظها وزفيرها، كقوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} [الفرقان: 12] . وقوله: {مُّوَاقِعُوهَا} أي: مخالطوها؛ فإنَّ مخالطة الشيء لغيره، إذا كان تامَّة قويَّة، يقال لها: مواقعة. قوله: «مَصْرِفاً» المصرف المعدل، اي: لم يجدوا عنها معدلاً. قال الهذليُّ: [الكامل] 3538 - أزُهَيْرُ هَلْ عَن شَيْبةٍ مِنْ مصْرفِ ... أمْ لا خُلودَ لبَاذلٍ مُتكلِّفِ والمصرف يجوز أن يكون اسم مكانٍ، أو زمانٍ، وقال أبو البقاء: «مَصْرِفاً: أي انصرافاً، ويجوز أن يكون مكاناً» . قال شهاب الدين: وهذا سهوٌ، فإنه جعل المفعل بكسر العين مصدراً لما مضارعه يفعل بالكسر من الصحيح، وقد نصُّوا على أنَّ اسم مصدر هذا النوع مفتوح العين، واسم زمانه ومكانه مكسوراً، نحو: المَضْرَبُ والمَضْرِبُ. وقرأ زيد بن عليٍّ «مَصْرَفاً» بفتح الراء جعله مصدراً؛ لأنه مكسور العين في المضارع، فهو كالمضرب بمعنى الضَّرب، وليت أبا البقاء ذكر هذه القراءة ووجَّهه بما ذكره قبل. قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} بينَّا {فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} . اعلم أن الكفَّار، لما افتخروا على فقراء المسلمين بكثرة أموالهم وأتباعهم، وأبطل الله أقوالهم الفاسدة، وذكر المثلين المتقدِّمين، ذكر بعده: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرآن لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} وهو إشارة إلى ما سبق، والتصريف يقتضي التكرير، والأمر كذلك؛ لأنه تعالى أجاب عن شبهتهم التي ذكروها من وجوهٍ كثيرةٍ، والكفار مع تلك الجوابات الصَّافية، والأمثلة المطابقة لا يتركون المجادلة الباطلة؛ فقال: {وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} . قوله: {مِن كُلِّ مَثَلٍ} : يجوز أن تكون «مِنْ كلِّ» صفة لموصوف محذوف، وهو مفعول «صرَّفنا» ، أي: صرَّفنا مثلاً من كلِّ مثلٍ، ويجوز أن تكون «مِنْ» مزيدة على رأي الأخفش والكوفيين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 513 قوله: «جَدَلاً» منصوب على التمييز، وقوله: {أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً} أي: أكثر الأشياء التي يتأتَّى منها الجدالُ، إن فصَّلتها واحداً واحداً، يعني أنَّ الإنسان أكثر جدلاً من كلِّ شيء يجادلُ، فوضع «شيءٍ» موضع الأشياء، وهل يجوز أن يكون جدلاً منقولاً عن اسم كان؛ إذ الأصل: وكان جدلُ الإنسان أكثر شيء؟ فيه نظر، وكلام أبي البقاء يشعر بجوازه؛ فإنه قال: «فيه وجهان: أحدهما: أنًَّ شيئاً ههنا في معنى فجادل، لأنَّ أفعل يضاف إلى ما هو بعضٌ له، وتمييزه ب» جدلاً «يقتضي أن يكون الأكثر مجادلاً، وهذا من وضع العام موضع الخاص. والثاني: أن في الكلام محذوفاً، تقديره: وكان جدل الإنسان أكثر شيءٍ، ثم ميَّزه» . فقوله: «تقديره: وكان جدل الإنسان» يفيد أنَّ إسناد «كان» إلى الجدلِ جائز في الجملة، إلا أنه لا بدَّ من تتميم لذلك: وهو أن تتجوَّز، فتجعل للجدلِ جدلاً؛ كقولهم: «شِعرٌ شَاعرٌ» يعني أنَّ لجدل الإنسان جدلاً هو أكثر من جدلِ سائر الأشياءِ. وهذه الآية دالَّة على أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - جادلوهم في الدِّين حتَّى صاروا مجادلين؛ لأنَّ المجادلة لا تحصل إلاَّ من الطرفين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 514 قوله: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى} الآية. تقدم إعراب نظيرها في آخر السورة قبلها. فإن قلت: قالت المعتزلةُ: الآية دالةٌ على أنَّه لم يوجد ما يمنع عن الإقدام على الإيمانِ، وذلك يدلُّ على فساد قول من يقول: إنه حصل المانعُ. [فالجواب] بأن العلم بأنه لا يؤمنُ مضادٌّ لوجود الإيمان، وإذا كان ذلك العلم قائماً، كان المانعُ قائماً. وأيضاً: قول الداعي إلى الكفر مانعٌ من حصول الإيمان. وإذا ثبت هذا، ظهر أن المراد مقدار الموانع المحسوسة. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 514 فصل في معنى الآية المعنى: {وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى} : القرآن والإسلام والبيان من الله عزَّ وجلَّ. وقيل: إنه الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله: {وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ} ويتوبوا. قوله: {إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين} وهو عذاب الاستئصال وقيل: إلا طلب أن يأتيهم سنَّة الأولين من معاينة العذاب، كما قالوا: {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء} [الأنفال: 32] . قوله: {أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً} . قال ابن عباس: أي عياناً من المقابلة. وقال مجاهد: فجأة. قرأ حمزة، والكسائي، وعاصم، وأبو جعفر بضمِّ القاف والباء، جمع قبيل: أي أصناف العذاب نوعاً نوعاً، والباقون بكسر القاف، وفتح الباء، أي عياناً. وروى الزمخشري: «قَبَلاً» بفتحتين، أي: [مستقبلاً، والمعنى:] أنهم لا يقدمون على الإيمان إلا عند نُزُول العذاب. واعلم أنَّهم لا يوقفون الإقدام على الإيمان على أحد هذين الشرطين؛ لأنَّ العاقل لا يرضى بحُصُول الأمرين إلا أنَّ حالهم بحال من وقف العمل على أحد هذين الشَّرطين. ثم بيَّن تعالى أنه إنما أرسل الرُّسُل مبشِّرين ومُنْذرين بالعقاب على المعصية؛ لكي يؤمنوا طوعاً، ومع هذه الأحوال يوجد من الكُفَّار المجادلة بالباطل؛ لغرض دحض الحقِّ؛ وهذا يدُلُّ على أنَّ الأنبياء ك انوا يجادِلُونهم، كما تقدَّم من أنَّ المجادلة إنَّما تحصُلُ من الجانبين، ومجادلتُهُمْ قولهم: {أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً} [الإسراء: 94] ، وقوله: {لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ} [الزخرف: 31] . قوله: {ليُدْحِضُوا} : متعلِّقٌ ب «يُجادِلُ» والإدْحاض: الإزلاقُ، يقال: أدحض قدمه، أي: أزلقها، وأزلَّها من موضعها. والحجَّة الداحضة الَّتي لا ثبات لها لزلزلة قدمها، والدَّحضُ: الطِّين؛ لأنه يُزلقُ فيه، قال: [الطويل] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 515 3539 - أبَا مُنْذِرٍ رُمْتَ الوَفَاءَ وَهِبْتَهُ ... وَحِدْتَ كَمَا حَادَ البَعِيرُ عَنِ الدَّحْضِ وقال آخر: [الطويل] 3540 - [وَرَدْتُ وَنَجَّى اليَشْكُرِيّ حِذَارُهُ ... وَحَادَ كَمَا حَادَ البَعيرُ عَنِ الدَّحْضِ] و «مكانٌ دَحْضٌ» مِنْ هذا. قوله: «وَمَا أُنْذِرُوا» يجوزُ في «مَا» هذه أَنْ تكون مصدريَّةً، وأَنْ تكون بمعنى «الَّذي» والعائد محذوف، وعلى التقديرين، فهي عطفٌ على «آياتي» . و «هُزُواً» مفعولٌ ثانٍ أو حالٌ، وتقدَّم الخلافُ في «هُزُواً» في قوله {وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً} وفيه إضمار أي وما أنذروا به، وهو القرآن «هُزُواً» أي استهزاء. قوله تعالى: {وَمَنْ أظْلَمُ} الآية. تقدم إعراب نظيرها في الأنعام، واعلم أنَّه تعالى لمَّا حكى عن الكفَّار جدالهم بالباطل، وصفهم بالصِّفات الموجبة للخزي والخذلان، فقال: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ} . أي: لا ظلم أعظم من كفر من ترد عليه الآيات، فيعرض عنها، ويتركها، ولم يرمن بها ونسي ما قدَّمت يداه، أي: مع إعراضه عن التأمُّل في الدلائلِ والبيِّنات يتناسى ما قدمت يداه من الأعمال المنكرة، والمراد [بالنِّسيان] التَّشاغل والتغافل عن كفره المتقدِّم. قوله: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً} أي: أغطية. قوله: {أَن يَفْقَهُوهُ} لئلاَّ يفقهوه. قوله: {وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً} صمماً وثقلاً. قوله: {وَإِن تَدْعُهُمْ} يا محمد {إلى الهدى} إلى الدين. قوله: {فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً} وهذا في أقوام، علم الله منهم أنهم لا يؤمنون. وتقدَّم الكلام على هذه الآية في سورة الأنعام. والعجب أنَّ قوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيِاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} متمسَّكُ القدريَّة. وقوله: {إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} متمسَّك الجبرية، وقلما تجد آية في القرآن لأحد هذين الفريقين إلا ومعها آية للفريق الآخر، والتجربة تكشف عن صدق هذا، وما الجزء: 12 ¦ الصفحة: 516 ذاك إلا امتحانٌ من الله ألقاه على عباده، ليتميَّز العلماء الراسخُون عن المقلِّدين. ثم قال: {وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة} . «الغَفورُ» : البليغ المغفرة، وهو إشارة غلى دفع المضارِّ {ذُو الرحمة} : الموصوف بالرحمة، وإنَّما ذكر لفظ المبالغة في المغفرة، لا في الرحمة؛ لأنَّ [المغفرة] ترك [الإضراب] . قوله: {بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ} : يجوز في «المَوعِد» أن يكون مصدراً أو زماناً أو مكاناً. والمَوئِلُ: المرجعُ، من وأل يَئِلُ، أي: رجع، وهو من التأويل، وقال الفراء: «المَوْئِلُ: المنجى، وألَتْ نفسه، أي: نَجَتْ» قال الأعشى: [البسيط] 3541 - وقَدْ أخَالِسُ ربَّ البيتِ غَفْلتهُ ... وقَدْ يُحَاذِرُ منِّي ثمَّ ما يَئِلُ أي: ما ينجو، وقال ابن قتيبة: «المَوْئِلُ: الملجأ» . يقال: وأل فلانٌ إلى فلانٍ يئلُ وألاً، وَوُءُولاً، إذا لجأ إليه، وهو هنا مصدر. و «مِنء دُونهِ» متعلق بالوجدان؛ لنه متعدٍّ لواحدٍ، أو بمحذوف على أنه حال من «مَوْئِلاً» . وقرأ أبو جعفر «مَوِلاً» بواو مكسورة فقط، والزهري: بواو مشددة فقط، والأولى أقيس تخفيفاً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 517 قوله: {وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ} أي قرى الأوَّلين: قوم نوح وعاد وغيرهم، وتلك مبتدأ، والقرى خبره. و «أهْلكْنَاهُمْ» حينئذ: إمَّا خبر ثانٍ، أو حال، ويجوز أن تكون «تِلْكَ» مبتدأ، و «القرى» صفتها لأنَّ أسماء الإشارة توصف بأسماء الأجنس أو بيان لها، أو بدلٌ منها، و «أهْلَكنَاهَا» الخبر، ويجوز أن يكون «تِلْكَ» منصوب المحلِّ بفعلٍ مقدَّر على الاشتغال. والإضمار في «أهْلَكنَاهُمْ» عائد على «أهْل» المضاف إلى القرى، إذ التقدير: وأهل تلك القرى، فراعى المحذوف، فأعاد عليه الضمير، وتقدَّم ذلك في أول الأعراف [الآية: 4] . و «لمَّا ظلموا» يجوز أن يكون حرفاً، وأن يكون ظرفاً، وقد تقدَّم. قوله: «وجعلنا لمهلكهم موعداً» قرأ عاصم «مَهْلَك» بفتح الميم، والباقون بضمها، وحفص بكسر اللام، والباقون بفتحها، فتحصَّل من ذلك ثلاث قراءاتٍ، لعاصم قراءتان؛ فتح الميم مع فتح اللام، وهي رواية أبي بكرٍ عنه، والثانية فتح الميم، مع كسر اللام، وهي رواية حفص عنه، والثالثة: ضم الميم، وفتح اللام، وهي قراءة الباقين. وأمَّا قراءة أبي بكرٍ، ف «مَهْلَك» فيها مصدرٌ مضاف لفاعله، وجوَّز أبو عليٍّ أن الجزء: 12 ¦ الصفحة: 518 يكون مضافاً لمفعوله، وقال: إنَّ «هَلَكَ» يتعدَّى دون همز، وأنشد: [الرجز] 2542 - ومَهْمَهٍ هَالكِ مَنْ تعرَّجا ... ف «مَنْ» معمول ل «هالكٍ» وقد منع النَّاسُ ذلك، وقالوا: لا دليلَ في البيت؛ لجواز أن يكون ذلك من باب الصفةِ المشبهة، والأصل: هالك من تعرَّجا. ف «مَنْ تعرَّج» فاعل الهالك، ثم أضمر في «هَالِك» ضمير «مهمه» ونصب «من تعرَّج» نصب «الوجه» في قولك: «مررتُ برجلٍ حسنٍ الوجهَ» ثم أضاف الصفة، وهي «هَالِك» إلى معمولها، فالإضافة من نصبٍ، والنصب من رفعٍ، فهو كقولك: «زيدٌ منطلقُ اللسان، ومنبسطُ الكفِّ» ولولا تقدير النصبِ، لامتنعتِ الإضافة؛ إذ اسم الفاعل لا يضاف إلى مرفوعه، وقد يقال: لا حاجة إلى تقدير النصب؛ إذ هذا جارٍ مجرى الصفة المشبهة، والصفة المشبهة تضاف إلى مرفوعها، إلا أنَّ هذا مبنيٌّ على خلافٍ آخر، وهو: هل يفع الموصول في باب الصفة أم لا؟ والصحيح جوازه، قال الشاعر: [البسيط] 3543 - فَعُجْتُهَا قِبلَ الأخْيار مَنْزلةً ... والطَّيبِي كُلِّ ما التَاثَتْ به الأزُرُ وقال الهذليُّ: [الطويل] 3544 - أسِيلاتُ أبْدانٍ دِقَاقٌ خُصورُهَا ... وثِيرَاتُ ما التفَّت عليها المَلاحِفُ وقال أبو حيَّان في قراءة أبي بكرٍ هذه: «إنَّه زمانٌ» ولم يذكر غيره، وجوَّز غيره فيه الزمان والمصدر، وهو عجيبٌ؛ فإنَّ الفعل متى كسرت عينُ مضارعه، فتحت في المفعل مراداً به المصدر، وكسرت فيه مراداً به الزمان والمكان، وكأنَّه اشتبهت عليه بقراءة حفص؛ فإنَّه بكسر اللام، كما تقدَّم، فالمفعل منه للزَّمان والمكان. وجوَّز أبو البقاء في قراءته أن يكون المفعل فيها مصدراً، قال: «وشذَّ فيه الكسر كالمرجع» وإذا قلنا: إنَّه مصدر، فهل هو مضافٌ لفاعله، أو مفعوله؟ يجيء ما تقدَّم في قراءة رفيقه، وتخريجُ ابي عليٍّ، واستشهاده بالبيت، والردُّ عليه، كل ذلك عائد هنا. وأمَّا قراءة الباقين، فواضحةٌ، و «مُهْلكٌ» فيها يجوز أن يكون مصدراً مضافاً لمفعوله أي لإهلاكهم، وأن يكون زماناً، ويبعد أن يراد به المفعول، أي: وجعلنا للشخصِ، أو للفريقِ المهلكِ منهم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 519 والمَوْعِدُ: مصدر، أو زمان. قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَ موسى لِفَتَاهُ} الآية: «إذْ» منصوب ب «اذْكُرْ» أو وقت قال لفتاه: جرى ما قصصنا عليك من خبره. قال عامة أهل العلم: إنَّه موسى بن عمران. وقال بعضهم: إنَّه موسى بن ميشا من أولاد يوسف، والأول أصحُّ، لما روى عمرو بن دينارٍ، قال: أخبرني سعيد بن جبيرٍ، قال: قلت لابن عبَّاسٍ: إنَّ نوفاً لابكاليَّ يزعم أنَّ موسى صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، فقال ابن عبَّاس: كذب عدوُّ الله، حدَّثنا أبيّ بن كعبٍ أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول: «إنَّ موسى قَامَ خطيباً في بني إسرائيل، فسُئِلَ: أيُّ النَّاس أعلمُ؟ فقال: أنَا، فَعَتبَ الله عليه؛ إذْ لم يردَّ العِلْمَ إليه، فأوحَى إليه: إنَّ لِي عَبْداً بمَجْمَع البَحْرينِ، هو أعلم منك، فقال موسى: يا ربِّ، فكيف لي به؟ قال: تأخذُ معك حوتاً، فتجعلهُ في مكتلٍ، فحيثما فقدتَّ الحوت، فهو ثمَّ؛ فأخذ حوتاً، فجعلهُ في مكتلٍ، ثمَّ انطلق، وانطلق معه فتاهُ يُوشعُ بن نونٍ، حتَّى أتيا الصَّخرةَ، ووضعَا رُءُوسَهُمَا، فنَامَا، واضطرب الحُوتُ في المكْتَلِ، فخرج منهُ، فسَقطَ في البَحْرِ، فاتَّخذَ سَبيلهُ في البَحْرِ سَرَباً، وأمْسَكَ الله عن الحُوت جَرية الماءِ، فصَارَ عَليْهِ كالطَّاقِ، فلمَّا اسْتيقظَ، نَسِيَ صَاحبهُ أنْ يُخْبِرَهُ بالحُوتِ، فانْطلقَا بقيَّة يَوْمهِمَا وليْلتِهمَا، حتَّى إذا كان من الغَداةِ، قَالَ مُوسَى لفتاهُ: آتِنَا غَداءَنَا، لقَدْ لقينا من سَفرنَا هذا نصباً، قال: ولمْ يَجِدْ مُوسى النَّصب، حتَّى جَاوزَ المكان الذي أمرهُ الله تعالى، فقال له فتاهُ: أرَأيْتَ إذْ أوَيْنَا إلى الصَّخرةِ، فإنِّي نَسيتُ الحُوتَ ومَا أنْسانيه إلاَّ الشَّيطانُ أنْ أذكرهُ، واتَّخذَ سبيلهُ في البحر عجباً، قال: وكَانَ للحُوتِ سرباً ولمُوسَى وفتاهُ عجباً، قال موسى: ذلكَ ما كُنَّا نبغي فَارتدّا على آثارهما قصصاً، رجعا يقُصَّانِ آثارهما، حتى [انتهيا] إلى الصَّخرة، فإذا رجلٌ مُسَجَّى ثوباً، فسلَّم عليه مُوسى، فقال الخَضِرُ: وأنَّى بأرضِكَ السَّلامُ؟ فقال: أنَا مُوسَى، قال: مُوسى بني إسرائيل؟ قال: نَعمْ، أتَيْتُك، لتُعَلِّمَنِي ممَّا علِّمتَ رُشداً [وذكر باقي] القصة» . واعلم أنَّه كان ليوسف - عليه السلام - ولدان: أفرائيم وميشا، فولد أفرائيم نون وولد نون يوشع بن نون، وهو فتى موسى، ووليُّ عهده بعد وفاته، وأما ولد ميشا، فقيل: إنه جاءته النُّبوَّة قبل موسى بن عمران، وأهل التَّوراة يزعمون أنَّهُ هو الذي طلب هذا العالم ليتعلَّم منه، وهو العالمُ الذي خرق السَّفينة، وقتل الغلام، وبنى الجدار، وموسى بن ميشا معه، هذا قول جمهور اليهود. واحتجَّ القفال على صحَّة قول الجمهور بأنه موسى صاحب التَّوراة، قال: إنَّ الله الجزء: 12 ¦ الصفحة: 520 تعالى ما ذكر موسى في كتابه إلاَّ وأراد به موسى صاحب التوراة، فإطلاق هذا الاسم يوجب الانصراف إليه، ولو كان المرادِ شحصاً آخر يسمَّىموسى غيره، لعرّفه بصفةٍ تميِّزه وتزيل الشبهة كما أنَّه لما كان المشهور في العرف أنَّ ابا حنيفة هو الرجل المفتي، فلو ذكرنا هذا الاسم، وأردنا به غيره، لقيَّدناهُ، كما نقول: أبو حنيفة الدِّينوريُّ. فصل في حجة القائلين بأنه موسى بن ميشا واحتج القائلون بأنَّ موسى بن ميشا بأنَّ الله تعالى بعد أن أنزل عليه التوراة، وكلَّمه بلا واسطة، وخصَّه بالمعجزات الباهرة العظيمة التي لم يتَّفق مثلها لأكثر أكابر الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يبعد أن يبعثه بعد ذلك إلى التَّعليمِ والاستفادة. [فالجواب] عنه: بأنَّه ليس ببعيدٍ أن يكون العالم العامل الكامل في أكثر العلوم يجهل بعض الأشياء؛ فيحتاج إلى تعلُّمها إلى من هو دونه، وهو أمرٌ متعارفٌ. فصل في اختلافهم في فتى موسى واختلفوا في فتى موسى، فالصحيح أنه يوشعُ بن نونٍ؛ كما روي في الحديث المتقدِّم، وقيل: كان أخا يوشع. وروى عمرو بن عبيدٍ عن الحسن أنَّه عبدٌ لموسى. قال القفَّال والكعبي: يحتمل ذلك. قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «لا يقُولنَّ أحَدُكمْ: عَبْدِي وأمَتِي، وليقُلْ: فَتَايَ وفَتَاتِي» . وهذا يدلُّ على أنهم كانوا يسمُّون العبد فتًى، والأمة فتاةً. قوله: «لا أبْرَحُ» يجوز فيها وجهان: أحدهما: أن تكون ناقصة، فتحتاج إلى خبر. والثاني: أن تكون تامة، فلا تحتاج إليه، فإن كانت الناقصة، ففيها تخريجان: أحدهما: أن يكون الخبر محذوفاً؛ للدلالة عليه تقديره: لا أبرح أسيرُ حتَّى ابلغ، إلاَّ أن حذف الخبر في هذا الباب نصَّ بعض النحويِّين على أنه لا يجوز ولو بدليلٍ، إلا في ضرورة؛ كقوله: [الكامل] 3545 - لَهفِي عَليْكَ للَهْفةٍ مِنْ خَائفٍ ... يَبْغِي جِوارَكَ حِينَ ليْسَ مُجِيرُ أي: حين ليس في الدنيا مجيرٌ. والثاني: أنَّ في الكلام حذف مضافٍ، تقديره: لا يبرحُ مسيري، حتَّى أبلغ، ثم الجزء: 12 ¦ الصفحة: 521 حذف «مسير» وأقيمت الياء مقامه، فانقلبت مرفوعة مستترة بعد أن كانت مخفوضة المحلِّ بارزة، وبقي «حتَّى أبلغ» على حاله هو الخبر. وقد خلط الزمخشري هذين الوجهين، فجعلهما وجهاً واحداً، ولكن في عبارة حسنة جدًّا، فقال: «فإن قلت:» لا أبْرَحُ «إن كان بمعنى» لا أزولُ «من برح المكان، فقد دلَّ على الإقامةِ، لا على السَّفر، وإن كان بمعنى» لا أزَالُ «فلا بدَّ من خبر، قلت: هي بمعنى» لا أزَالُ «وقد حذف الخبر؛ لأنَّ الحال والكلام معاً يدلان عليه؛ أمَّا الحال، فلأنها كانت حال سفرٍ، وأمَّا الكلام، فلأن قوله» حتَّى أبلغ «غاية مضروبة تستدعي ما هي غاية له، فلا بدَّ أن يكون المعنى: لا أبرحُ أسير حتَّى أبلغَ، ووجه آخرُ: وهو أن يكون المعنى: لا يبرحُ مسيري، حتَّى أبلغ على أنَّ» حتَّى أبلغَ «هو الخبر، فلمَّا حذف المضافُ، أقيم المضافُ إليه مقامهُ، وهو ضمير المتكلِّم، فانقلب الفعل من ضمير الغائب إلى لفظ المتكلِّم، وهو وجهٌ لطيفٌ» . قال شهاب الدين: وهذا على حسنه فيه نظرٌ لا يخفى، وهو: خلوُّ الجملة الواقعة خبراً عن «مسيري» في الأصل من رابطٍ يربطها به؛ ألا ترى أنه ليس في قوله «حتَّى أبلغ» ضمير يعود على «مسيري» إنما يعود على المضاف إليه المستتر، ومثل ذلك لا يكتفى به. ويمكن أن يجاب عنه: بأن العائد محذوفٌ، تقديره: حتى أبلغ به، أي: بمسيري. وإن كانت التامة، كان المعنى: لا أبرح ما أنا عليه، بمعنى: ألزمُ المسير والطَّلبَ، ولا أفارقه، ولا أتركه؛ حتَّى أبلغ؛ كما تقول: لا أبرح المكان، فعلى هذا: يحتاجُ أيضاً إلى حذف مفعول به، كما تقدَّم تقريره فالحذف لا بدَّ منه على تقديري التَّمامِ والنقصان [في أحد وجهي النقصان] . وقرأ العامة «مجمع» بفتح الميم، وهو مكان الاجتماع، وقيل: مصدر، وقرأ الضحاك وعبد الله بن مسلم بن يسارٍ بكسرها، وهو شاذٌّ؛ لفتح عين مضارعة. قوله: «حُقُباً» منصوبٌ على الظرف، وهو بمعنى الدَّهر. وقيل: ثمانون سنة، وقيل: سنةٌ واحدةٌ بلغة قريش، وقيل: سبعون، وقرأ الحسن: «حُقْباً» بإسكان القاف، فيجوز أن يكون تخفيفاً، وأن يكون لغة مستقلة، ويجمع على «أحقابٍ» كعنقٍ وأعناقٍ، وفي معناه: الحقبةُ بالكسر، قال امرؤُ القيس: 3546 - فَإن تَنْأ عَنْهَا حِقْبةً لا تُلاقِهَا ... فإنَّكَ ممَّا أحْدَثَتْ بالمُجرِّبِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 522 والحقبة بالضمِّ أيضاً، وتجمع الأولى على حقبٍ، بكسر الحاء كقربٍ، والثانية على حقبٍ، بضمِّها؛ كقربٍ. فإن قيل قوله: «أوْ أمْضِيَ» فيه وجهان: أظهرهما: أنه منسوق على «أبْلُغَ» يعني بأحد أمرين: إمَّا ببلوغه المجمع، أو بمضيِّه حقباً. والثاني: أنه تغييةٌ لقوله «لا أبْرَحُ» فيكون منصوباً بإضمار «أنْ» بعد «أو» بمعنى «إلى نحو» لألزَمنَّكَ أو تَقضِيَنِي حقِّي «. فالجواب قال أبو حيان: «فالمعنى: لا أبرحُ حتى أبلغ مجمع البحرين، إلى أن أمضي زماناً، أتيقَّنُ معه فوات مجمع البحرين» قال شهاب الدين: فيكون الفعل المنفيُّ قد غيِّي بغايتين مكاناً وزماناً؛ فلا بدَّ من حصولهما معاً، نحو: «لأسيرنَّ إلى بيتك إلى الظَّهر» فلا بدَّ من حصولِ الغايتين؛ والمعنى الذي ذكره الشيخ يقتضي أنه يمضي زماناً يتيقَّن فيه فوات مجمع البحرين. وجعل أبو البقاء «أو» هنا بمعنى «إلاَّ» في أحد الوجهين: قال: «والثاني: أنها بمعنى: إلاَّ أن أمضي زماناً؛ أتيقَّن معه فوات مجمع البحرين» وهذا الذي ذكره أبو البقاء معنى صحيحٌ، فأخذ الشيخ هذا المعنى، ركَّبهُ مع القول بأنَّها بمعنى «إلى» المقتضيةِ للغاية، فمن ثمَّ جاء الإشكالُ. فصل في المراد بمجمع البحرين قوله: «مجمعُ البَحريْنِ» ؛ الذي وعد فيه موسى لقاء الخضر - عليه السلام -: هو ملتقى بحرين فارس والرُّوم ممَّا يلي المشرق، قاله قتادة، [وقال محمد بن كعب: طنجة] وقال أبي بن كعبٍ: إفريقيَّة. وقيل: البحران موسى والخضر؛ لأنَّهما كانا بحري علمٍ. وليس في اللفظ ما يدل على تعيين هذين البحرين؛ فإن صحَّ بالخبر الصحيح شيء فذاك، وإلاَّ فالأولى السُّكوت عنه. ثم قال: «أوْ أمضيَ حُقباً» : أو أسير زماناً طويلاً. واعلم أنَّ الله تعالى كان أعلم موسى حال هذا العالم، وما أعلمه بموضعه بعينه، فقال موسى: لا أزالُ أمشي؛ حتَّى يجتمع البحرانِ، فيصيرا بحراً واحداً، أو أمضي دهراً طويلاً؛ حتى أجد هذا العالم، وهذا إخبارٌ من موسى أنَّه وطن نفسه على تحمُّل التَّعب الشَّديد، والعناء العظيم في السَّفر؛ لأجل طلب العلم، وذلك تنبيهٌ على أنَّ المتعلِّم، لو سار من المشرق إلى المغرب؛ لأجل مسألة واحدة، حقَّ له ذلك. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 523 ثم قال: {فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا} . أي: انطلقا إلى أن بلغا مجمع بينهما، والضمير في قوله: «بينهما» إلى ماذا يعود؟ . فقيل: لمجمع البحرين. وقيل: بلغا الموضع الذي وقع فيه نسيانُ الحوت، وهذا الموضع الذي كان يسكنه الخضر - عليه السلام - أي: يسكن بقربه، ولأجل هذا المعنى، لمَّا رجع موسى وفتاه بعد أن ذكر الحوت، صار إليه، وهو معنى حسنٌ، والمفسِّرون على القول الأوَّل. قوله: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} : الظاهر نسبةُ النِّسيانِ إلى موسى وفتاه، يعني نسيا تفقُّد أمره، فإنه كان علامة لهما على ما يطلبانه، وقيل: نسيَ موسى أن يأمرهُ بالإتيان به، ونسي يوشعُ أن يفكِّره بأمره، وقيل: النَّاسِي يوشع فقط، وهو على حذف مضاف، أي: نسي أحدهما؛ كقوله: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ} [الرحمن: 22] . قوله: «في البَحْرِ سرباً» مفعول ثانٍ ل «اتَّخذَ» و «فِي البَحْرِ» يجوز أن يتعلق ب «اتَّخذ» وأن يتعلق بمحذوفٍ على أنه محالٌ من المفعول الأول أو الثاني. والهاء في «سبيلهُ» تعود على الحوت، وكذا المرفوع في «اتَّخذَ» . قوله: {جَاوَزَا} : مفعوله محذوف، أي: جاوزا الموعد، وقيل: جاوزا مجمع البحرين. قوله: «هَذَا» إشارة إلى السَّفر الذي وقع بعد تجاوزهما الموعد، أو مجمع البحرين، و «نَصباً» هو المفعول ب «لَلِينَا» والعامة على فتح النون والصاد، وعبد الله بن عبيد بن عمير بضمِّهما، وهما لغتان من لغاتٍ أربعٍ في هذه اللفظة، كذا قال أبو الفضل الرازيُّ في «لَوامحِهِ» . قوله: {أَرَأَيْتَ} : تقدم الكلام عليها مشبعاً في الأنعام، وقال أبو الحسن الأخفش هنا فيها كلاماً حسناً، وهو: أنَّ العرب أخرجتها عن معناها بالكليَّة، فقالوا: أرَأيْتكَ، وأرَيْتكَ بحذف الهمزة، إذا كانت بمعنى: أخْبِرْنِي «وإذا كانت بمعنى» أبْصَرْتَ «لم تحذف همزتها، وشذَّت أيضاً، فألزمها الخطاب على هذا المعنى، ولا يقال فيها أيضاً:» أرَانِي زيداً عمراً ما صَنعَ «ويقال على معنى» اعْلَمْ «وشذَّت أيضاً، فأخرجتها عن موضعها بالكليَّة؛ بدليل دخول الفاء؛ ألا ترى قوله: {أرَأيْتَ إذ أوينا إلى الصَّخرةِ فإني} فمَا دخلت الفاء إلاَّ وقد أخرجت إلى معنى:» أمَّا «أو» تنبَّه «، والمعنى: أمَّا إذ أوينا إلى الصَّخرة، فإنِّي نسيتُ الحوت، وقد أخرجتها أيضاً إلى معنى» أخبرني «كما قدَّمنا، وإذا كانت بمعنى» أخبرني «فلا بدَّ بعدها من الاسم المستخبر عنه، وتلزم [الجملة] التي بعدها الاستفهام، وقد تخرج لمعنى» أمَّا «ويكون أبداً بعدها الشرط، وظروف الزمان، فقوله» فإنِّي نسيتُ « الجزء: 12 ¦ الصفحة: 524 معناه: أمَّا إذ أوينا فإنِّ] ، أو تنبَّه إذْ أويْنَا، وليست الفاءُ إلاَّ جواباً ل» أرَأيْتَ «لأنَّ» إذْ «لا يجوز أن يجازى بها إلاَّ مقرونة ب» ما «بلا خلافٍ» . قال الزمخشري: «أرأيت» بمعنى «أخْبرنِي» فإن قلت: ما وجه التئامِ هذا الكلام، فإنَّ كلَّ واحد من «أرَأيْتَ» ومن «إذْ أويْنَا» ومن {فإنِّي نسيتُ الحوت} لا متعلق له. قلت: لمَّا طلب موسى الحوت، ذكر يوشع ما رأى منه، وما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية، ودهش، فطفق يسأل موسى عن سبب ذلك، كأنه قال: أرأيت ما دهاني، إذ أوينا إلى الصخرة، فإنّي نسيتُ الحوت، فحذف ذلك. قال أبو حيَّان: وهذان مفقودان في تقدير الزمخشريِّ: «أرَأيْتَ بمعنى أخبرني» يعني بهذين ما تقدَّم في كلام الأخفش من أنَّه لا بدَّ بعدها من الاسم المستخبر عنه، ولزومِ الاستفهام الجملة التي بعدها. قال النوويُّ في «التهذيب» يقال: أوى زيدٌ بالقصر: إذا كان فعلاً لازماً، وآوى غيره بالمدِّ: إذا كان متعدِّياً، فمن الأول هذه الآية قوله: {إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف} [الكهف: 10] . ومن المتعدِّي قوله تعالى: {وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ} [المؤمنون: 50] . وقوله: {أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى} [الضحى: 6] . هذا هو الفصيح المشهور، ويقال في كلِّ واحدٍ بالمدِّ والقصر، لكن بالقصر في اللازمِ أفصح، والمدُّ في المتعدِّي أفصحُ وأكثر. قوله: «ومَا أنْسَانيهُ» قرأ حفص بضم الهاء، وكذا في قوله: «عَلَيْهُ الله» في سورة الفتح [آية: 10] ، قيل: لأنَّ الياء هنا أصلها الفتح، والهاء بعد الفتحة مضمومة، فنظر هنا إلى الأصل، وأمَّا في سورة الفتح؛ فلأنَّ الياء عارضة؛ إذ أصلها الألف، والهاء بعد الألف مضمومة، فنظر إلى الأصل أيضاً. والباقون بالكسر نظراً إلى اللفظ، فإنَّها بعد ياءٍ ساكنة، وقد جمع حفص في قراءته بين اللغات في هاء الكناية: فإنه ضمَّ الهاء في «أنسانيه» في غير صلة، ووصلها بياءٍ في قوله: {فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان: 69] على ما سيأتي، إن شاء الله تعالى، وقرأ كأكثر القراء فيما سوى ذلك. وقرأ الكسائي «أنسانيه» بالإمالة. قوله: «أنْ أذكرهُ» في محلِّ نصبٍ على البدل من هاء «أنسانيه» بدل اشتمال، أي: أنساني ذكرهُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 525 وقرأ عبد الله: «أن أذكركه» ، وقرأ أبو حيوة: «واتِّخاذَ سبيلهِ» عطف هذا المصدر على مفعول «أذكرهُ» . قوله: «عَجَباً» فيه أوجهٌ: أحدها: أنه مفعول ثانٍ ل «اتَّخذَ» و «في البحْرِ» يجوز أن يتعلق بالاتخاذِ، أو بمحذوفٍ على أنه حالٌ من المفعول الأول أو الثاني. وفي فاعل «اتَّخذ» وجهان: أحدهما: هو الحوتُ، كما تقدَّم في «اتَّخذ» الأولى. والثاني: هو موسى. الوجه الثاني من وجهي «عَجَباً» أنه مفعول به، والعامل فيه محذوف، فقال الزمخشريُّ: «أو قال: عجباً في آخر كلامه تعجباً من حاله، وقوله: {وما أنسانيه إلاَّ الشيطان} اعتراضٌ بين المعطوف والمعطوف عليه» . فظاهر هذا أنَّه مفعول ب «قال» ، أي: قال هذا اللفظ، والسبب في وقوع هذا الاعتراض ما يجري مجرى القدر والعلة لوقوع ذلك النسيان. الثالث: أنه مصدر، والعامل فيه مقدَّر، تقديره: فتعجَّب من ذلك عجباً. الرابع: أنه نعت لمصدر محذوف، ناصبه «اتَّخذَ» أي: اتخذ سبيله في البحر اتِّخاذاً عجباً، وعلى هذه الأقوال الثلاثة: يكون «في البَحْرِ» مفعولا ثانياً ل «اتَّخذَ» إن عدَّيناها لمفعولين. فصل دلَّت الرواياتُ على أنَّه تعالى بيَّن لموسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّ هذا العالم موضعه مجمع البحرين، إلا أنَّه ما عيَّن موضعاً، إلا أنَّه جعل انقلاب الحوت حيًّا علامة على مسكنه المعيَّن، كمن يطلب إنساناً، فيقال له: إنَّ موضعه محل! َة كذا من كذا، فإذا انتهيت إلى المحلَّة، فسل فلاناً عن داره، فأينما ذهب بك، فاتبعه؛ فإنَّك تصل إليه، فكذا هنا قيل له: إنَّ موضعه مجمع البحرين، فإذا وصلت إليه، ورأيت انقلاب الحوت حيًّا وطفر إلى البحر، فيحتمل أنَّه قيل له: فهناك موضعه، ويحتمل أنَّه قيل له: فاذهب على موافقة ذلك الحوت؛ غفإنَّك تجدهُ. وإذا عرفت هذا فنقول: إن موسى وفتاه، لمَّا بلغا مجمع بينهما، طفرت السَّمكةُ إلى البحر، وسارت، وفي كيفيَّة طفرها روايات. فقيل: إن الفتى غسل السَّمكة، لأنها كانت مملحة، فطفرت وسارت. وقيل: إنَّ يوشع توضَّأ في ذلك المكان من عينٍ تسمَّى «مَاءَ الحياةِ» لا يصيبُ ذلك الماءُ شيئاً إلاَّ حيي، فانتضح الماء على الحوت المالح، فعاش ووثب في الماء. وقيل: انفجر هناك عينٌ من الجنَّة، ووصلت قطراتٌ من تلك العين إلى السَّمكة، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 526 وهي في المكتل، فاضطربت، وعاشت، فوثبت في البحر. ثم قال تعالى: {نَسِيَا حُوتَهُمَا} أي: نسيا كيفيَّة الاستدلال بهذه الحالة المخصوصة على الوصول إلى المطلوب، فإن قيل: انقلاب السَّمكة المالحة حيَّة [حالة] عجيبة [فلما] جعل الله تعالى حصول هذه الحالة العجيبة دليلاً على الوصول إلى المطلوب، فكيف يعقل حصول النِّسيان في هذا المعنى؟ . فالجواب أنَّ يوشع كان قد شاهد المعجزات الباهرات من موسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كثيراً، فلم يبق لهذه المعجزات عنده وقعٌ عظيم، فجاز حصول النِّسيان. وهذا الجواب فيه نظرٌ. قال ابن زيدٍ: أي شيءٍ أعجبُ من حوتٍ يؤكل منه دهراً، ثم صار حيًّا بعدما أكلَ بعضه. فصل في ذكر جوابٍ آخر لابن الخطيب قال ابن الخطيب: وعندي فيه جوابٌ آخر، وهو أنَّ موسى - عليه السلام - لما استعظم علم نفسه، أزال الله عن قلب صاحبه هذا العلم الضروريَّ؛ تنبيهاً لموسى عليه السلام - على أنَّ العلم لا يحصل ألبتَّة إلا بتعليم الله تعالى، وحفظه على القلب. وقال البغويُّ: «نَسيَا» تركا «حُوتَهُمَا» ، وإنما كان الحوت مع يوشع، وهو الذي نسيه، وأضاف النِّسيان إليهما؛ لأنهما جميعاً لمَّا تزوَّداه لسفرهما، كما يقال: خرج القوم إلى موضع كذا، وحملوا من الزَّاد كذا [وإنما حملهُ واحد منهم. ثم قال: «واتخذ سبيله في البحر سرباً» قيل: تقديره سرب في البحر سرباً «] إلاَّ أنه أقيم قوله:» فاتّخذ «مقام قوله:» سرباً «، والسَّرب هو الذهاب ومنه قوله تعالى: {وَسَارِبٌ بالنهار} [الرعد: 10] . وقيل: إن الله تعالى أمسك الماء عن الجري، وجعله كالطاق والكوَّة؛ حتَّى سرب الحوت فيه، وذلك معجزةٌ لموسى أو الخضر - عليهما السلام -. روي عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال:» انجاب الماءُ عن مسلكِ الحوت، فصار كوَّة، لم يلتئمْ، فدخل موسى الكوَّة على إثر الحوت، فإذا هو بالخضر «. وقوله: {فَلَمَّا جَاوَزَا} أي: موسى وفتاه الموعد المعين، وهو الوصول إلى الصخرة بسبب النِّسيان المذكور، وذهبا كثيراً، وتعبا، وجاعا. {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا} والغداءُ: ما يعدُّ للأكل غدوة، والعشاء: ما يعدُّ للأكل الجزء: 12 ¦ الصفحة: 527 عشية {لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً} أي: تعباً وشدَّة، وذلك أنَّه ألقى على موسى الجوع بعد مجاوزة الصَّخرة؛ ليتذكَّر الحوت، ويرجع إلى مطلبه، فقال له فتاه وتذكَّر: {أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة} الهمزة في «أرَأيْتَ» همزة الاستفهام، و «رَأيْتَ» على معناه الأصليِّ، وجاء الكلام هذا على المتعارفِ بين النَّاس؛ فإنه إذَا حدث لأحدهم أمرٌ عجيبٌ، قال لصاحبه: أرأيت ما حدث لي، كذلك هنا، كأنه قال: أرأيت ما وقع لي، إذا أوينا إلى الصَّخرة، فحذف مفعول «أرَأيْتَ» لأنَّه - أي لأنَّ قوله: «فإنِّي نسيتُ الحوت» - يدل عليه، أي: فقدته. {وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} أي أذكر لك أمر الحوت. {واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً} ووجه كونه عجباً انقلابه من المكتل، وصيرورته حيًّا، وإلقاء نفسه في البحر على غفلةٍ منهما، ويكون المراد منه ما ذكرنا أنه تعالى جعل الماء عليه كالطَّاق والسَّرب، وقيل: تمّ الكلام عند قوله: {واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر} ، ثم قال: «عَجَباً» أي أنَّه يعجب من رؤية تلك العجيبة، ومن نسيانه لها. وقيل: إنَّ قوله «عَجَباً» حكايةٌ لتعجُّب موسى. ثم قال موسى: {ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ} أي: نطلبه؛ لأنَّه أمارة الظَّفر بالمطلوب، وهو لقاء الخضر. قوله: {نَبْغِى} : حذف نافع وأبو عمرو والكسائي ياء «نَبْغِي» وقفاً، وأثبتوها وصلاً، وابن كثير أثبتها في الحالين، والباقون حذفوها في الحالين؛ اتِّباعاً للرسم، وكان من حقِّها الثبوتُ، وإنما حذفت تشبيهاً بالفواصل، أو لأنَّ الحذف يؤنس بالحذف، فإن «ما» موصولة حذف عائدها، وهذه بخلاف التي في يوسف [الآية: 65] ، فإنها ثابتة عند الجميع، كما تقدَّم. قوله: «قصصاً» فيه ثلاثة أوجه: الأول: أنه مصدر في موضع الحال، أي: قاصِّين. الثاني: أنه مصدر منصوب بفعل من لفظه مقدر، أي: يقصَّان قصصاً. الثالث: أنه منصوبٌ ب «ارْتدَّا» لأنه في معنى «فقَصَّا» . قوله: { {فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ} الآية. قيل: كان ملكاً من الملائكة، والصحيح ما ثبت في التَّواريخ، وصحَّ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه الخضر، واسمه بليا بن ملكان. وقيل: كان من نسل بني إسرائيل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 528 وقيل: كان من أبناء الملوك الذين زهدُوا في الدنيا، والخضر لقبٌ له، سمِّي بذلك؛ لما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «إنَّما سمِّي خضراً؛ لأنَّه جلس على فَرْوةٍ بيْضاءَ، فإذا هِيَ تهتزُّ تَحْتَهُ خَضِراً» . وقال مجاهد: إنما سمِّي خضراً؛ لأنَّه كان إذا صلَّى، اخضرَّ ما حوله. روي في الحديث أنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا رأى الخضر - عليه السلام - سلَّم عليه، فقال الخضر: وأنَّى بأرضك السلام؟ قال: أنا موسى، قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم، أتيتك؛ لتعلِّمنِي ممَّا علِّمت رشداً. فصل في بيان أن الخضر كان نبياً قال أكثر المفسرين: إنَّه كان نبيًّا، واحتجوا بوجوهٍ: الأول: قوله: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا} والرحمة: هي النبوة؛ لقوله تعال {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ} [الزخرف: 32] . وقوله: {وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ} [القصص: 86] . والمراد من هذه الرحمة النبوة، ولقائلٍ أن يقول: سلَّمنا أن النبوَّة رحمة، ولكن لا يلزمُ بكلِّ رحمةٍ نبوةٌ. الثاني: قوله تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} وهذا يدل على أنه علمه لا بواسطة، ومن علَّمه الله شيئاً، لا بواسطة البشر، يجب أن يكون نبيًّا، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّ العلوم الضرورية تحصل ابتداء من عند الله، وذلك لا يدلُّ على النبوَّة. الثالث: قول موسى - عليه السلام -: «هل أتَّبِعُك على أن تعلِّمنِي ممَّا علِّمتَ رُشداً» والنبي لا يتَّبع غير النبي في التعلُّم. وهذا أيضاً ضعيفٌ؛ لأنَّ النبي لا يتبع غير النبي في العلوم التي باعتبارها صار نبيًّا، [أما في غير تلك العلوم فلا] . الرابع: أنَّ ذلك العبد أظهر الترفُّع على موسى، فقال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} فأما موسى، فإنه أظهر التواضع له؛ حيث قال: {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} وذلك يدلُّ على أنَّ ذلك العالم كان فوق موسى، ومن لا يكون نبيًّا، لا يكون فوق النبيِّ، وذلك أيضاً ضعيفٌ؛ لأنه يجوز أن يكون غير النبيِّ فوق النبي في علومٍ لا تتوقَّف نبوته عليها. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 529 فإن قيل: إنه يوجبُ تنفيراً. فالجواب: وتكليمه بغير واسطة يوجب التَّنفير. فإن قالوا: هذا لا يوجبُ التنفير، فكذلك فيما ذكروه. الخامس: احتجَّ الأصم بقوله: «وما فعلتهُ عن أمْرِي» أي: فعلته بوحي الله تعالى، وذلك يدلُّ على النبوة، وهذا ضعيف أيضاً. روي أنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا وصل غليه، فقال: السلام عليك، فقال: وعليك السلام، يا نبيَّ بني إسرائيل، فقال موسى: من عرَّفك هذا؟ قال: الذي بعثك إليَّ؛ وهذا يدلُّ على أنَّه إنما عرف ذلك بالوحي، والوحي لا يكون إلا إلى النبيِّ. ولقائلٍ أن يوقل: لم لا يجوز أن يكون ذلك من باب الكرامات؟ . قال البغوي: ولم يكن الخضرُ نبيًّا عند أكثر أهل العلم. قوله: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً} أي: علم الباطن إلهاماً. و «عِلْماً» : مفعول ثان ل «عَلَّمْناهُ» قال أبو البقاء: «ولو كان مصدراً، لكان تعليماً» يعني: لأنَّ فعله على «فعَّل» بالتشديد، وقياس مصدره «التَّفعيلُ» . و «مِنْ لدُنَّا» يجوز أن يتعلق بالفعل قبله، أو بمحذوف على أنه حالٌ من «عِلْماً» . قوله: (على أن تعلمني) : في موضع الحال من الكاف في «أتَّبِعُكَ» أي: أتَّبِعك [باذلاً لي علمكَ «. قوله:» رُشْداً «مفعول ثان ل» تُعلِّمَنِي «لا لقوله:» ممَّا عُلِّمتَ «قال أبو البقاء:» لأنَّه لا عائد إذن على الذي «يعني أنه إذا تعدَّى لمفعول ثان غير ضمير الموصول، لم يجز أن يتعدَّى لضمير الموصول؛ لئلا يتعدَّى إلى ثلاثة، ولكن لا بدَّ من عائدٍ على الموصول. وقد تقدَّم خلاف القراء في» رُشداً «في سورة الأعراف [الآية: 146] ، وهل هما بمعنى واحد أم لا؟ . وقوله: رشداً» أي: علماً ذا رشدٍ. قال القفَّال: قوله «رُشْداً» يحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون «الرُّشْدُ» راجعاً إلى الخضرِ، أي: ممَّا علمك الله، وأرشدك به. والثاني: أن يرجع إلى موسى، أي: على أن تعلِّمني، وتُرشِدني ممَّا علِّمت. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 530 فصل في أدب موسة - عليه السلام - في تعلُّمه من الخضرِ دلَّت هذه الآية على أنَّ موسى - عليه السلام - راعى أنواعاً كثيرة من الأدب واللطف عندما أراد أن يتعلَّم من الخضر. منها: أنه جعل لنفسه تبعاً له في قوله: «هَلْ أتَّبعكَ» . ومنها: أنَّه استأذن في إثباتِ هذه التبعيَّة؛ كأنَّه قال: تأذنُ لي على أن أجعل نفسي تبعاً لك، وهذه مبالغةٌ عظيمةٌ في التواضعِ. ومنها: قوله «على أن تعلمني» وهذا إقرارٌ منه على نفسه بالجهل، وعلى أستاذه بالعلم. ومنها: قوله: «ممَّا علِّمتَ» وصيغة «مِنْ» للتبعيض، فطلب منه تعليم بعض ما علِّم، وهذا أيضاً إقرارٌ بالتواضع، كأنه يقول: لا أطلب منك أن تجعلني مساوياً لك في العلم، بل أطلب منك أن تعطيني جزءاً من الجزء، ممَّا علِّمت. ومنها: أن قوله: «مِمَّا علِّمتَ» اعترافٌ بأنَّ الله تعالى علَّمهُ ذلك العلم. ومنها: قوله «رُشْداً» طلب منه الإرشاد والهداية. ومنها أنَّ قوله: {تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ} طلب منه أن يعامله بمثل ما عامله الله به، أي: يكون إنعامك عليَّ عند تعليمك إيَّاي شبيهاً بإنعام الله عليك في هذا التعليم. ومنها: قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ} يدل على طلب متابعته مطلقاً في جميع الأمور غير مقيَّد بشيءٍ دون شيءٍ. ومنها: أنه ثبت [في الأخبار] أنَّ الخضر عرف أولاً أنَّه موسى صاحب التَّوراةِ، وهو الرجل الذي كلَّمه الله من غير واسطة، وخصَّه بالمعجزات القاهرة الباهرة، ثم إنَّه - عليه السلام - مع هذه المناصب الرفيعة والدَّرجاتِ العالية الشَّريفة أتى بهذه الأنواع الكثيرة من التواضع؛ وذلك يدلُّ على كونه - عليه السلام - آتياً في طلب العلم أعظم أبواب المبالغةِ في التواضع، وهذا هو اللائقُ به؛ لأنَّ كلَّ من كانت إحاطتهُ بالعلوم التي علم ما فيها من البهجة والسعادة أكثر، كان طلبه له أشدَّ، وكان تعظيمه لأربابِ العلم أكمل وأشدَّ. ومنها: قوله: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ} فأثبت أوَّلاً كونه تبعاً، ثم طلب منه ثانياً أن يعلِّمه، وهذا منه ابتداءٌ بالخدمة، ثم في المرتبة الثانية، طلب منه التَّعليم. ومنها: قوله: {هَلْ أتَّبِعُكَ} لم يطلب على المتابعة إلاَّ التعليم، كأنه قال: لا أطلب منك على هذه المتابعة المال والجاه، ولا عوض لي إلاَّ طلب العلم. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 531 فصل روي أنه لمَّا قال موسى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ على أَن تُعَلِّمَنِ} ، قال له الخضرُ: كفى بالتَّوراة علماً، وببني إسرائيل شغلاً، فقال له موسى: إنَّ الله أمرني بهذا، فحينئذ قال له: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} ، وإنَّما قال ذلك؛ لأنَّه علم أنَّه يرى معه أموراً كثيرة منكرة، بحسب الظاهر، ولا يجوز للأنبياء أن يصبروا على المنكرات، ثمَّ بيَّن عذره في ترك الصَّبر، فقال: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} ، أي: علماً. واعلم أنَّ المتعلِّم على قسمين: متعلِّم ليس عنده شيءٌ من المعلوم، ولم يمارس الاستدلال، ولم يتعوَّد التقرير، والاعتراض، ومتعلِّم حصَّل العلوم الكثيرة، ومارس الاستدلال والاعتراض، ثم إنَّه يريد أن يخالط إنساناً أكمل منه؛ ليبلغ درجة الكمال، فالتعلم في حقِّ هذا القسم الثاني شاقٌّ شديدٌ؛ لأنه إذا رأى شيئاً، أو سمع كلاماً، فربَّما يكون ذلك منكراً بحسب الظاهر، إلاَّ أنه في الحقيقة صوابٌ حقٌّ، فهذا المتعلم لأجل أنه ألف الكلام والجدال، يغترُّ بظاهره، ولأجل عدم كماله، لا يقف على سرِّه وحقيقته، فيقدم على النِّزاع، والاعتراض، والمجادلة، وذلك مما يثقل سماعه على [الأستاذ] المتبحِّر، فإذا اتَّفق مثل هذه الواقعة مرتين أو ثلاثة، حصلت النُّفرة التامَّة والكراهة الشديدة العظيمة، وإلى هذا، أشر الخضر بقوله: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي أنَّه ألف الإثبات والإبطال، والاستدلال والاعتراض. وقوله: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} إشارةٌ إلى كونه غير عالمٍ بالحقائقِ، وقد تقدم أنه متى حصل الأمران، [عسر] السُّكوت، وعسر التعلم، وانتهى الأمر بالآخرة إلى النُّفرة التامة، وحصول التقاطع. قوله: «خُبْراً» : فيه وجهان: الأول: أنه تمييزٌ لقوله «تُحِطْ» وهو منقول من الفاعلية؛ إذ الأصل: مما لم يحطْ به خبرك. والثاني: أنه مصدر لمعنى لم تحط؛ إذ هو في قوَّة: لم يخبره خبراً، وقرأ الحسن «خُبُراً» بضمتين. فصل في أن الاستطاعة تحصل قبل الفعل قال ابن الخطيب: احتجَّ أصحابنا بقوله: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} على أن الاستطاعة تحصل قبل الفعل. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 532 وقالوا: لو كانت الاستطاعة على الفعل حاصلة قبل [حصول الفعل] ، لكانت الاستطاعة على الصَّبْر حاصلة لموسى قبل حصول الصَّبر، فيلزم أن يكون قوله: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} كذباً، ولمَّا بطل ذلك، علمنا أنَّ الاستطاعة لا توجد قبل الفعل. أجاب الجبائيُّ بأنَّ المراد من هذا القول: أنَّه يثقل عليه الصَّبر؛ لا أنه لا يستطيعه، يقال في العرف: «إنَّ فلاناً لا يستطيع أن يرى فلاناً، ولا أن يجالسه» إذا كان يثقل عليه ذلك. ونظيره قوله تعالى: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} [هود: 20] أي كان يشقُّ عليهم الاستماع. وأجيب بأنَّ هذا عدولٌ عن الظاهر من غير دليل، وأنه لا يجوز، ومما يؤكد استدلال الأصحاب قوله تعالى: {وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً} استبعد حصول الصبر على ما لا يقف الإنسان على حقيقته، ولو كانت الاستطاعة قبل الفعل لكانت القدرة على الفعل حاصلة قبل حصول ذلك العلم، ولو كان كذلك لما كان حصول الصبر عند عدم ذلك العلم مستبعداً؛ لأن القادر على الفعل لا يبعد منه إقدامه على ذلك الفعل ولما حكم الله تعالى باستبعاده، علمنا أن الاستطاعة، تحصل قبل الفعل. قوله: {ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} . قال ابن الخطيب: احتج الطاعنون في عصمةِ الأنبياء بهذه الآية؛ فقالوا إن الخضر قال لموسى: إنَّك لنْ تستطيعَ معي صبراً، وقال موسى: ستجدني إن شاء الله صابراً، وكلُّ واحدٍ من هذين القولين مكذبٌ للآخر، فيلزمُ إلحاقُ الكذب بأحدهما، وعلى التَّقديرين، فيلزم صدور الكذب عن الأنبياء - عليهم السلام -. وأجيب بأنَّه يحمل قوله: {إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} على الأكثر والأغلب، وعلى هذا، فلا يلزم ما ذكروه، وقد يجاب بجواب آخر، وهو أن موسى - عليه السلام - استثنى في جوابه، فقال: {ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً} وعلى هذا، فلا يلزمُ ما ذكروه. قوله: {وَلاَ أَعْصِي} فيه أربعة أوجهٍ: أحدها: أنَّها لا محلَّ لها من الإعراب لاستئنافها، وفيه بعدٌ. الثاني: أنها في محلِّ نصبٍ؛ عطفاً على ستجدني؛ لأنها منصوبة المحلِّ بالقول. وقال أبو حيَّان: ويجوز أن يكون معطوفاً على «ستجدني» فلا يكون لهُ محلٌّ من الإعراب، وهذا سهوٌ؛ فإنَّ «سَتجِدُنِي» منصوب المحلِّ؛ لأنه منصوب بالقول، فكذلك ما عطف عليه، ولكنَّ الشيخ رأى كلام الزمخشريِّ كذلك، ولم يتأمَّله، فتبعه في ذلك، فمن ثمَّ جاء السَّهوُ قال الزمخشري: «ولا إعْصِي» في محلِّ النصب عطفاً على «صَابِراً» الجزء: 12 ¦ الصفحة: 533 أي: ستجدني صابراً، وغير عاصٍ أو «لا» في محل رفع عطفاً على «سَتجدُنِي» . الثالث: أنه في محلِّ نصب على «صَابِراً» كما تقدَّم تقريره. فصل دلَّ قوله: {وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً} على أنَّ ظاهر الأمر للوجوب، وأن تارك المأمور به عاصٍ، والعاصي يستحقُّ العقاب؛ كقوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] . فصل قوله الخضر لموسى: «وكيف تصبر على ما لم تحط به خبراً» نسبه إلى قلة العلم، فقول موسى: ستجدني إن شاء الله صابراً ولا أعصي لك أمراً تواضعٌ شديد، وإظهار للتَّحمل التَّام، وذلك يدلُّ على أنَّ الواجب على المتعلِّم إظهار التواضع بكلِّ الغايات، وأمَّا المعلم فإن رأى أنَّ في التغليظ على المتعلِّم ما يفيده نفعاً وإرشاداً إلى الخير، فالواجب عليه ذكره، فإنَّ السُّكوت عنه يوقع المتعلِّم في الغرور، وذلك يمنع من التعلُّم. قوله: «فإن اتَّبْعتَنِي» أي صحبتني، ولم يقل: اتَّبعني، ولكن جعل الاختيار إليه، إلاَّ أنَّه شرط عليه شرطاً، فقال: «فلا تَسْالنِي» تقدَّم خلاف القرَّاء في هذا الحرفِ، في سورة «هود» . وقرأ أبو جعفر وابن عامر - هنا - بفتح السِّين، واللام، وتشديد النون من غير همزٍ، وبغير ياءٍ، وروي عن ابن عامرٍ، ونافع كذلك مع الياء، والمعنى: لا تسألني: لا تستخبرني حين ترى منِّي ما لم تعلمْ وجههُ حتَّى أكون أنا المبتدئ بتعليمك إيَّاه، وإخبارك به، وهذا معنى قوله: {حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً} أي: أبتدئ بذكره، فأبين لك شأنهُ. قوله: {فانطلقا حتى إِذَا رَكِبَا فِي السفينة خَرَقَهَا} الآية. اعلم أنَّ موسى - عليه السلام - وذلك العالم، لمَّا تشارطا على الشرط المذكور، سار فانتهيا إلى موضع، احتاجا فيه إلى ركوب السَّفينة، فوجدا سفينة، فكلموهم أن يحملوهم، فعرفوا الخضر، [فحملوهم] من غير نول، فلما لجُّوا البحر، أقدم ذلك العالم على خرق السَّفينة. قال ابن الخطيب: لعلَّه أقدم على إخراق مكانٍ في السفينة؛ لتصير السفينة بذلك السبب معيبة ظاهرة العيب، فلا يتسارع به إلى أهلها الغرق فعند ذلك قال له موسى: {أخَرقْتهَا لتُغْرِقَ أهْلهَا} [لمَّا رأى موسى - عليه السلام - ذلك الأمر المنكر بحسبِ الظَّاهر نسيَ الشرط المتقدم؛ فلهذا قال ما قال] . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 534 وفي اللام وجهان: أحدهما: هي لام العلة. والثاني: هي لام الصَّيرورة، وقرأ الأخوان: «ليَغرَقَ» بفتح الياء من تحت، وسكون الغين، وفتح الراء، «أهْلُهَا» بالرفع فاعلاً، والباقون بضمِّ التاء من فوق، وكسر الراء، أي: لتغرق أنت أهلها، بالنصب مفعولاً به، والحسن وأبو رجاء كذلك، غلا أنَّهما شدَّدا الراء. والسَّفينة معروفة، وتجمع على سفنٍ وسفائن، نحو: صحيفة وصحف وصحائف، وتحذف منها التاء مراداً بها الجمع، فتكون اسم جنسٍ؛ نحو: ثمر [وقمح] ، إلا أنه هذا في المصن وع قليلٌ جدًّا، نحو: جَرَّة وجر، وعمامة وعمام، قال الشاعر: [الوافر] 3547 - مَتَى تَأتيهِ تَأتِي لُجَّ بَحْرٍ ... تَقاذفُ في غَوارِبهِ السَّفِينُ واشتقاقها من السَّفن، وهو القشر؛ لأنَّها تقشر الماء، كما سميت «بِنْتَ مخرٍ» لأنها تمخرُ الماء، أي: تشقُّه. قوله: «إمْراً» أي شيئاً عظيماً، يقال: أمِرَ الأمْرُ، أي: عظم وتفاقم، قال: [الرجز] 3548 - دَاهِيَةً دَهْيَاءَ إدًّا إمْرا ... والإمرُ في كلام العرب: الدَّاهيةُ، وأصله كل شيءٍ شديدٌ كثيرٌ، يقال: أمر القوم: إذا كثروا، واشتدَّ أمرهم. ومعنى الآية: لقد جئت شيئاً منكراً. وقال القتيبيُّ: «إمْراً» أي عظيماً عجيباً منكراً. روي أنَّ الخضر، لمَّا [خرق] السَّفينة لم يخلها الماءِ. وروي أن موسى لمَّا رأى ذلكَ أخذ ثوبه، وحشا به الخرق قوله: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} أي: قال ذلك الخضر، قال موسى {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 535 قال ابن عبَّاس: إنَّه لم ينس، ولكنًَّه من معاريض الكلام، فكأنَّه نسي شيئاً آخر. وقيل: معناه: بما تركت من عهدك، والنِّسيان التَّرك. وروي عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنه قال: «كانت الأولى من موسى نسياناً، والوسطى شرطاً، والثالثة عمداً» . فصل في الرد على الطاعنين في عصمة الأنبياء قال ابن الخطيب: احتجَّ الطَّاعنون في عصمة الأنبياءِ بهذه الآية من وجهين: أحدهما: أنه ثبت بالدليل أن ذلك العالم كان نبيًّا، ثم قال موسى: «أخَرقتهَا، لتُغْرِقَ أهْلهَا» ، فإن صدق موصى في هذا القول، دلَّ ذلك على صدور الذَّنْب العظيم من ذلك النبيِّ، وإن كذب، دلَّ ذلك على صدور الذنب [العظيم] من موسى. والثاني: أنه التزم أنَّه لا يعترض على ذلك العالمِ، وجرت العهود المذكورة بذلك، ثم إنَّه خالف تلك العهود، وذلك ذنبٌ. فالجواب عن الأول: أن موسى، لما شاهد منه الأمر الخارج عن العادةِ، قال هذا لكلام، لا لأجل أنه اعتقد فيه أنه فعل قبيحاً، بل إنَّه أحبَّ أن يقف على وجهه وسببه، وقد يقال في الشيء العجيب الذي لا يعرف سببه: إنَّه إمرٌ. وعن الثاني: أنَّه إنما خالف الشَّرط؛ بناءً على النِّسيان، ثم إنه تعالى حكى عن ذلك العالم أنَّه [لما خالف الشرط] لم يزد على أن قال: {أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} ، فعندها اعتذر موسى بقوله: {لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ} أراد أنه نسي وصيَّته، ولا مؤاخذة على الناسي، {وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً} أي: لا تكلِّفني مشقَّة، يقال: أرهقهُ عسراً وأرهقته عسراً، أي: كلَّفتهُ ذلك. لا تضيِّق عليَّ أمري، لا تعسِّر متابعتك [ويسرها عليّ] بالإغضاء، وترك المناقشة، وعاملني باليسر، ولا تعاملني بالعسر. و «عُسْراً» : مفعول ثانٍ ل «تُرهِقْنِي» من أرهقه كذا، إذا حمَّله إيَّاه، وغشَّاه به، و «ما» في «بِمَأ نسيتُ» مصدرية، أو بمعنى «الذي» والعائد محذوف. وقرأ أبو جعفر: «عُسُراً» بضمِّ السين، حيث وقع. قوله: {فانطلقا حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ} الآية. اعلم أنَّ لفظ الغلام قد يتناول الشابَّ البالغ، وأصله من الاغتلامِ، وهو شدَّة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 536 الشَّبقِ، وذلك إنما يكون في الشَّباب، وقد يتناولُ هذا اللفظُ الصبي الصغير، وليس في القرآن كيف لقياه: هل كان يلعبُ مع الغلمان، أو كان منفرداً؟ أو هل كان مسلماً، أو كان كافراً؟ أو هل كان بالغاً، أو صغيراً؟ لكن اسم الغلام بالصَّغير أليقُ، وإن احتمل الكبير، إلاَّ أن قوله: «بغير نفسٍ» أليق بالبالغ منه بالصبيِّ؛ لأن الصبيِّ لا [يقتل] . قال ابن عباس: لم يكن نبي الله يقول: أقتلت نفساً زكيَّة بغير نفس إلاَّ وهو صبيٌّ لم يبلغ. وكيفيَّة قتله، هل كان بحزِّ رأسه، أو بضرب رأسه بالجدار، أو بطريق آخر؟ فليس في لفظ القرآن ما يدلُّ على شيءٍ من هذه الأقسام، لكنَّه روي في الحديث عن ابن عباس عن أبيِّ بن كعب قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إنَّ الغلام الذي قتله الخضرُ، طبع كافراً، ولو عاش، لأرهق والديه طغياناً وكفراً» . فإن قيل: إنَّ موسى استبعد أن يقتل النَّفس إلاَّ لأجل القصاصِ، وليس الأمر كذلك، لأنه قد يحلُّ دمه بسبب آخر. فالجواب: أنَّ السَّبب الأقوى هو ذاك. قوله: {زَكِيَّةً} : قرأ «زَاكِية» بألف وتخفيف الياء: نافع، وابن كثير، وأبو عمرو، وبدون الألف وتشديد الياء: الباقون، فمن قرأ «زاكيةً» فهو اسمُ فاعلٍ على أصله، ومَنْ قرأ «زَكِيَّةً» فقد أخرجه إلى فعيلة للمبالغة. قال الكسائيُّ والفراء: معناهما واحدٌ؛ مثل القاسيةِ والقسيَّة، وقال أبو عمرو بن العلاء: الزَّاكيةُ: التي لم تذنبْ قطُّ، والزكيَّة: التي أذنبت ثم تابت. [والغلام: من لم يبلغْ] . وقد يطلق على البالغ الكبير. فقيل مجازاً باعتبار ما كان. ومنه قول ليلى: [الطويل] 3549 - شَفاهَا مِنَ الدَّاءِ الذي قَدْ أصَابهَا ... غُلامٌ إذَا هزَّ القَناةَ شَفاهَا وقول الآخر: [الطويل] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 537 3550 - تَلقَّ ذُبَابَ السَّيفِ عنِّي فإنَّني ... غُلامٌ إذا هو جيتُ لستُ بِشاعرِ وقيل: بل هو حقيقة، لأنه من الاغتلام وهو الشَّبق، وذلك إنما يكون في الشاب المحتلمِ، والذي يظهرُ أنه حقيقةٌ فيهما عند الاطلاق، فإذا أريد أحدهما، قيد كقوله: «لغُلامَيْنِ يَتيمينِ» وقد تقدَّم ترتيب أسماءِ الآدميِّ من لدن هو جنينٌ إلى أن يصير شيخاً، ولله الحمد، في آل عمران. قال الزمخشري: «فإن قلت: لم قال:» حتى إذا ركبا في السفينة خرقها «بغير فاءٍ، و» حتَّى إذا لقيا غلاماً، فقتله «بالفاء؟ قلت: جعل» خَرقهَا «جزاء للشرط، وجعل» قتلهُ «من جملة الشرط معطوفاً عليه، والجزاء» قال: أقتلت «فإن قلت: لم خولف بينهما؟ قلت: لأنَّ الخرق لم يتعقَّب الركوب، وقد تعقَّب القتل لقاء الغلام» . قوله: بغَيْرِ نفسٍ «فيه ثلاثة أوجه: الأول: أنها متعلقة ب» قَتلْتَ «. الثاني: أنها متعلقة بمحذوف، على أنها حال من الفاعل، أو من المفعول، أي: قتلته ظالماً، أو مظلوماً، كذا قدَّره أبو البقاء، وهو بعيد جدًّا. الثالث: أنها صفة لمصدر محذوف، أي: قتلاً بغير نفسٍ. قوله:» نُكْراً «قرأ نافع، وأبو بكر، وابن ذكوان بضمَّتين، والباقون بضمة وسكون، وهما لغتان، أو أحدهما أصلٌ، و» شَيْئاً «: يجوز أن يراد به المصدر، أي: مجيئاً نكراً، وأن يراد به المفعول به، أي: جئت أمراً منكراً، وهل النكر أبلغ من الإمر، أو بالعكس؟ فقيل: الإمرُ أبلغُ؛ لأنَّ قتل أنفسٍ بسبب الخرقِ اعظم من قتل نفسٍ واحدة وأيضاً: فالإمر هو الداهية العظيمة فهو أبلغ من النكر، وقيل: النُّكر أبلغ، لأن معه القتل الحتم، بخلاف خرق السفينة، فإنه يمكن تداركه؛ ولذلك قال:» ألَمْ أقُلْ لَكَ «ولم يأتِ ب» لَكَ «مع» إمْراً «؛ لأن هذه اللفظة تؤكِّد التَّوبيخ. وقيل: زاد ذلك، لأنَّه نقض العهد مرَّتين، فقال الخضرُ لموسى - عليهما السلام -: {ألَمْ أقُل لكَ إنَّكَ لنْ تَسْتطيعَ معي صَبْراً} فعند ذلك قال موسى: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي} وهذا كلام نادمٍ. قوله:» فَلاَ تُصَاحِبْنِي «: العامة على» تُصاحِبُني «من المفاعلة، وعيسى ويعقوب:» فلا تَصْحبنِّ] «من صحبه يصحبه. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 538 وأبو عمرو في رواية، وأبيٌّ بضمِّ التاءِ من فوق، وكسر الحاء، من أصحب يصحب، ومفعوله محذوف، تقديره: فلا تصحبني نفسك، وقرأ أبيٌّ» فلا تصحبني علمك «فأظهر المفعول. قوله:» مِنْ لدُنِّي «العامة على ضمِّ الدال، وتشديد النون، وذلك أنَّهم أدخلوا نون الزيادة أعني الوقاية على» لَدُن «لتقيها من الكسر؛ محافظة على سكونها، حوفظ على سكون نون» مِنْ «و» عَنْ «فألحقت بهما نون الوقايةِ، فيقولون: منِّي وعنِّي بالتشديد. ونافع بتخفيف النون، والوجه فيه: أنَّه لم يلحقُ نون الوقاية ل» لَدُن «إلا أن سيبويه منع من ذلك وقال:» لا يجوز أن تأتي ب «لَدُنْ» مع ياء المتكلم، دون نون وقاية «وهذه القراءة حجة عليه، فإن قيل: لم لا يقال: إن هذه النون نون الوقاية، وإنَّما اتصلت ب» لَدُ «لغة في» لَدُنْ «حتى يتوافق قول سيبويه، مع هذه القراءة؟ قيل: لا يصحُّ ذلك من وجهين: أحدهما: أنَّ نون الوقاية، إنما جيء بها؛ لتقيَ الكلمة الكسر؛ محافظة على سكونها، ودون النون لا سكون؛ لأنَّ الدال مضمومة، فلا حاجة إلى النُّون. الثاني: أن سيبويه يمنع أن يقال: «لَدُنِي» بالتخفيف. وقد حذفت النون من «عَنْ» و «مِنْ» في قوله: [الرمل] 3551 - أيُّهَا السَّائلُ عنهم وعنِي ... لستُ من قَيْسٍ ولا قَيْسُ مني وقرأ أبو بكر بسكون الدَّال، وتخفيف النون، لكنَّه ألزم الدال الضمة منبهة على الأصل. ولكن تحتمل هذه القراءة أن تكون النون فيها أصليَّة، وأن تكون للوقاية على أنها دخلت على «لد» الساكنة الدال، لغة في «لدُنْ» فالتقى ساكنان، فكسرت نون الوقاية على أصلها، وإذا قلنا بأنَّ النون أصلية، فالسكون تخفيف؛ كتسكين ضاد «عضدٍ» وبابه واختلف القراء في هذا الإشمام، فقائل: هو إشارة بالعضو من غير صوتٍ، كالإشمام الذي في الوقف، وهذا هو المعروف، وقائل: هو إشارة للحركة المدركة بالحسِّ، فهو الجزء: 12 ¦ الصفحة: 539 كالرَّوْم في المعنى، يعني: أنه إتيان ببعض الحركة، وقد تقدَّم هذا محرَّراً في يوسف عند قوله {لاَ تَأْمَنَّا} [يوسف: 11] ، وفي قوله في هذه السورة «من لدنه» في قراءة شعبة أيضاً، وتقدَّم بحثٌ يعود مثله هنا. وقرأ عيسى وأبو عمرو في رواية «عُذُراً» بضمتين، وعن أبي عمرو أيضاً «عذري» مضافاً لياءِ المتكلم. و «مِنْ لدُنَّي» متعلق ب «بَلغْتَ» أو بمحذوف على أنَّه حال من «عُذْراً» . فصل في معنى الآية قال ابن عباس: معناه: أعذرت فيما بيني وبينك. وقيل: حذَّرتني أنِّي لا أستطيع معك صبراً. وقيل: اتَّضح لك العذر في مفارقتي. والمراد أنَّه مدحه بهذه الطريقة من حيث إنَّه احتمله مرَّتين أولاً وثانياً. روى ابن عبَّاس عن أبيِّ بن كعب، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «رَحْمَةُ الله عليْنَا، وعلى مُوسَى» وكان إذا ذكر أحداً من الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - بدأ بنفسه «لولا أنَّه عجَّل، لرأى العجب، ولكنَّه أخذته من صاحبه ذمامة، قال:» إنْ سألتُكَ عَن شيءٍ بعدها، فلا تُصَاحِبنِي، قَدْ بلغْتَ من لدُنِّي عُذْراً؛ فلو صبر، لرأي العجب «. قوله: {فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا} الآية. قال ابن عباس: هي أنطاكية. وقال ابن سيرين: هي [الأبلة] ، وهي أبعد الأرض من السَّماء وقيل: بَرْقَة. وعن أبي هريرة: بلدة بالأندلس. {استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا} قال أبي بن كعبٍ عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: حتَّى إذا أتيا أهل قريةٍ لئاماً، فطافَا في المجلسِ فاستطعما أهلها، فأبوا أن يضيفوهما. وروي أنَّهما طافا في القرية، فاستطعماهم، فلم يطعموهما، فاستضافاهم، فلم يضيِّفوهما. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 540 قال قتادة: شرُّ القرى التي لا تضيِّف الضَّيف. وروي عن أبي هريرة:» أطعمتهما امرأةٌ من أهل بربر بعد أن طلبا من الرِّجال، فلم يطعموهما؛ فدعوا لنسائهم، ولعنا رجالهم «. قوله : {استطعمآ أَهْلَهَا} : جواب «إذا» أي: سألاهم الطام، وفي تكرير «أهلها» وجهان: أحدهما: أنه توكيد من باب إقامة الظاهر مقام المضمر؛ كقوله: [الخفيف] 3552 - لا أرَى المَوْتَ يَسْبِقُ الموتَ شَيءٌ ... نَغَّص المَوْتُ ذَا الغِنَى والفَقِيرَا وقول الآخر: [الكامل] 3553 - لَيْتَ الغُرابَ غَداةَ يَنْعُبُ دائماً ... كَانَ الغُرابُ مُقطَّعَ الأوْدَاجِ والثاني: أنَّه للتأسيس؛ وذلك أنَّ الأهل المأتيِّين ليسوا جميع الأهل، إنما هم البعض؛ إذ لا يمكن أن يأتينا جميع الأهل في العادة في وقتٍ واحدٍ، فلما ذكر الاستطعام، ذكره بالنسبة غلى جميع الأهل، كأنهما تتبعا الأهل واحداً واحداً، فلو قيل: استطعماهم، لاحتمل أنَّ الضمير يعودُ على ذلك البعضِ المأتيِّ، دون غيره، فكرَّر الأهل لذلك. فإن قيل: الاستطعام ليس من عادة الكرام، فكيف أقدم عليه موسى، مع أنَّ موسى كان من عادته طلبُ الطعام من الله تعالى، كما حكى عنه قوله: {إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص: 24] . فالجواب: أنَّ إقدام الجائع على الاستطعام أمرٌ مباحٌ في كلِّ الشرائع، بل ربَّما وجب عند خوف الضَّرر الشديد. فإن قيل: إنَّ الضيافة من المندوبات، فتركها ترك المندوب، وذلك أمرٌ غير منكرِ، فكيف يجوز من موسى - عليه السلام - مع علوِّ منصبه أن يغضب عليهم الغضب الشديد الذي لأجله ترك العهد الذي التزمه مع ذلك العالم في قوله: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي} . وأيضاً مثل هذا الغضب لأجل ترك الأكل في ليلةٍ واحدةٍ، لا يليقُ بأدونِ الناس فضلاً عن كليم الله؟ . فالجواب: أنَّ الضيافة قد تكون من الواجبات، بأن كان الضيف قد بلغ في الجوع إلى حيث لو لم يأكل، لهلك، وإذا كان كذلك، لم يكن الغضب الشديد لأجل ترك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 541 الأكل [ليلة] ، بل كان لأجل تركهم الواجب عليهم. فإن قيل: إنه ما بلغ في الجوع إلى حدِّ الهلاك؛ بدليل أنَّه قال: {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} ، ولو كان بلغ في الجوع إلى حدِّ الهلاك، لما قدر على ذلك العمل، فكيف يصحُّ منه طلب الأجرة؟ . فالجواب: لعلَّ ذلك الجوع كان شديداً، إلاَّ أنه ما بلغ حدَّ الهلاك. قوله: «أنْ يُضيِّفُوهمَا» مفعولٌ به لقوله «أبَوْا» والعامة على التشديد من ضيَّفه يضيِّفه. والحسن وأبو رجاء وأبو رزين بالتخفيف من: أضافه يضيفه وهما مثل: ميَّله وأماله. رُوِيَ أنَّ أهل تلك القرية، لمَّا سمعوا نزول هذه الآية، استحيوا، وجاءوا إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بحمل من الذَّهب، وقالوا: يا رسول الله، نشتري بهذا الذَّهب أن تجعل الباء تاء؛ حتى تصير القراءة «فأتوا أن يضيفوهما» ، أي: أتوا [لأجل أن] يضيِّفوهما، أي كان إتيانهم لأجل الضِّيافة، وقالوا: غرضنا منه أن يندفع عنَّا هذا اللُّؤم، فامتنع النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ وقال: «تغير هذه النُّقطة يوجب دخول الكذب في كلام الله تعالى، وذلك يوجب القدح في الإلهيَّة. قوله: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ} أي: فرأيا في القرية حائطاً مائلاً. وقوله: «أنْ ينْقَضَّ» مفعول للإرادة، و «انقضَّ» يحتمل أن يكون وزنه «انفعل» من انقضاضِ الطائر، أو من القضَّة، وهي الحصى الصِّغار، والمعنى: يريد أن يتفتَّت، كالحصى، ومنه طعام قَضَضٌ، إذا كان فيه حصى صغارٌ، وأن يكون وزنه «افْعَلَّ» ك «احمَرَّ» من النقض، يقال: نقض البناء ينقضه، إذا هدمه، ويؤيد هذا ما في حرف عبد الله وقراءة الأعمش «يُرِيدُ ليُنْقَضَ» مبنيًّا للمفعول؛ واللام كهي في قوله {يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً} [النساء: 28] . وما قرأ به أبيٌّ «يُرِيدُ أن ينقض» بغير لامِ كيْ. وقرأ الزهريُّ «أن ينقاضَ» بألف بعد القاف. قال الفارسي: «هو من قولهم قضته فانقاضَ» أي: هدمته، فانهدم. قال شهاب الدين: فعلى هذا يكون وزنه ينفعلُ، والأصل: «انْقيضَ» فأبدلت الياء ألفاً، ولمَّا نقل أبو البقاء هذه القراءة قال: «مثل: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 542 يَحمارُّ» ومقتضى هذا التشبيه: أن يكون وزنه «يفعالَّ» ونقل أبو البقاء: أنه قُرئ كذلك بتخفيف الضاد، قال: «هو من قولك: انقاضَ البناءُ، إذا تهدَّم» . وقرأ عليٌّ أمير المؤمنين - كرَّم الله وجهه -، وعكرمة في آخرين «يَنقَاصُ» بالصاد مهملة، وهو من قاصه يقيصه، أي: كسره، قال ابن خالويه: «وتقول العرب: انقاصتِ السِّنُّ: إذا انشقَّت طولاً» وأنشد لذي الرّمّة: 3554 - ... ... ... ... ... . ..... ... ... . مُنقاصٌ ومُنْكثِبُ وقيل: إذا تصدَّعتْ، كيف كان وأنشد لأبي ذؤيبٍ: [الطويل] 3555 - فراقٌ كقَيْصِ السنِّ، فالصَّبْرَ إنَّه ... لكلِّ أنَاسٍ عَثْرةٌ وجُبورُ ونسبة الإرادة إلى الجدار مجازٌ، وهو شائع جدًّا. وقد ورد في النَّثر والنَّظم، قال الشاعر: [الوافر] 3556 - يُرِيدُ الرُّمح صَدرَ أبِي بَراءٍ ... ويَرْغَبُ عنْ دِمَاءِ بنِي عَقيلٍ والآية من هذا القبيل. وكذا قوله: {وَلَماَّ سَكَتَ عَن مُّوسَى الغضب} [الأعراف: 154] وقوله: {أَتَيْنَا طَآئِعِينَ} [فصلت: 11] ومن أنكر [المجاز] مطلقاً أو في القرآن خاصة، تأوَّل ذلك على أنه خُلق للجدارِ حياةٌ وإرادةٌ؛ كالحيوانات، أو أنَّ الإرادة صدرت من الخضرِ؛ ليحصل له، ولموسى ما ذكره من العجب. وهو تعسفٌ كبيرٌ، وقد أنحى الزمخشري على هذا القائل إنحاءً بليغاً جدًّا. قوله: «فأقَامهُ» قيل: [نقضه] ، ثم بناه، قاله ابن عبَّاس. وقيل: مسحه بيده، فقام، واستوى، وذلك من معجزاته، هكذا ورد في الحديث. وهو قول سعيد بن جبير. واعلم أن ذلك العالم، لمَّا فعل ذلك، كانت الحالة حالة اضطرارٍ إلى الطعام، فلذلك نسيَ موسى قوله: {إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي} فلا جرم قال: {لَوْ شِئْتَ لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} ، أي: طلبت على إصلاحك الجدار جعلاً، أي لصرفه في تحصيل المطعوم؛ فإنك قد علمت أنَّا جياعٌ، وأنَّ أهل القرية لم يطعمونا، فعند ذلك قال الخضر: «هذا فراقُ بَيْنِي وبيْنكَ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 543 قوله: {لاَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً} قرأ ابن كثير، وأبو عمرو «لتخِذْتَ» بفتح التاء، وكسر الخاء مِنْ تَخِذَ يتْخذُ ك «تَعِبَ يَتْعَبُ» . والباقون «لاتَّخذتَ» بهمزة الوصل، وتشديد التاءِ، وفتح الخاء من الاتِّخاذ، واختلف: هل هما من الأخذ، والتاء بدلٌ من الهمزة، ثم تخذف التاء الأولى فيقال: تَخِذَ، كتَقِيَ من «اتَّقَى» نحو قوله: [الطويل] 3557 - ... ... ... ... ... ... تَقِ الله فِينَا والكِتابَ الَّذي تَتْلُو أم هما من تخذَ، والتاء أصيلةٌ، ووزنهما فعل وافتعل؟ قولان تقدَّم تحقيقهما في هذا الموضوع، والفعل هنا على القراءتين متعدٍّ لواحدٍ؛ لأنَّه بمعنى الكسب. قوله: {فِرَاقُ بَيْنِي} : العامة على الإضافة؛ اتِّساعاً في الظرف، وقيل: هو بمعنى الوصل. كقوله: [الطويل] 3558 - ... ... ... ... ... ..... وجِلْدَةُ بين العيْنِ والأنْفِ سَالِمُ وحكى القفال عن بعض أهل العربيَّة أنَّ البين هو الوصل؛ لقوله {لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ} [الأنعام: 94] ، فيكون المعنى هذا فراقُ اتصالنا، كثول القائل: أخزى الله الكاذب بيني وبينك، أي: أحدنا هكذا. قاله الزجاج. وقرأ ابن أبي عبلة «فِراقُ» بالتنوين على الأصل، وتكرير المضاف إليه عطفاً بالواو هو الذي سوَّغ إضافة «بين» إلى غير متعددٍ؛ ألا ترى أنَّك لو اقتصرت على قولك: «المَالُ بيني» لم يكن كلاماً؛ حتى تقول: بيننا أو بيني وبين فلانٍ. وقوله: «هذا» أي: هذا الإنكار على ترك الأجر هو المفرَّق بيننا. وقيل: إنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا شرط أنَّه إنْ سأله بعد ذلك سؤالاً ىخر، حصل الفراق بقوله: [ {إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني} فلما ذكر هذا السؤال فارقه ذلك العالم، وقال] : {هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ} أي: هذا الفراق [الموعود] ، ثم قال: {سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً} . قرأ ابن وثَّاب «سَانْبِيكَ» بإخلاص الياء بدل الهمزة. قوله تعالى: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ} : العامة على تخفيف السين، جمع « الجزء: 12 ¦ الصفحة: 544 مِسْكين» . وقرأ عليٌّ أميرالمؤمنين - كرَّم الله وجهه - بتشديدها جمع «مسَّاك» وفيه قولان: أحدهما: أنه الذي يمسكُ سكَّان السفينة، وفيه بعض مناسبة. والثاني: أنَّه الذي يدبغُ المُسوكَ جمع «مَسْكٍ» بفتح الميم، وهي الجلود، وهذا بعيدٌ؛ لقوله: {يَعْمَلُونَ فِي البحر} قال شهاب الدين ولا أظنُّها إلا تحريفاً على أمير المؤمنين، و «يَعْملُونَ» صفة لمساكين. قوله: {وَرَآءَهُم مَّلِكٌ} «وَرَاء» هنا بمعنى المكان. وقيل: «وَراءَهُمْ» بمعنى «أمَامَهُمْ» ؛ كقوله: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16] وقيل: «وَراءَهُمْ» خلفهم، وكان رجوعهم في طريقهم عليه. والأول أصحُّ؛ لقوله: {مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ} [إبراهيم: 16] ويؤيِّده قراءة ابن عباس: وكان أمامهم ملكٌ يأخذ كلَّ سفينةٍ غصباً وقال سوارُ بن المضرِّب السعديُّ: [الطويل] 3559 - أيَرْجُو بنُو مَرْوانَ سَمْعِي وطَاعتِي ... وقَوْمِي تَميمٌ والفَلاةُ وَرائِيَا وقال تعالى: {وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً} [الإنسان: 27] وتحقيقه: أنَّ كلَّ ما غاب عنك، فقد توارى عنك وتواريت عنه، وقيل: إنَّ تحقيقه أنَّ ما غاب عنك، فقد توارى عنك، وأنت متوارٍ عنه، فكلُّ ما غاب عنك، فهو وراءك، وأمام الشيء وقدامه، إذا كان غائباً عنك، متوارياً عنك، فلم يبعد إطلاق لفظة «وراء» عليه، ويراد بها الزَّمان؛ قال الشاعر: [الطويل] 3560 - ألَيْسَ وَرائِي أنْ أدبَّ على العَصَا ... فَيأمَنَ أعْدائِي ويَسْأمنِي أهْلِي وقال لبيد: [الطويل] 3561 - أليْسَ ورَائِي إنْ تَراخَتْ منيَّتِي ... لُزومُ العَصَا تُحْنَى عليْهَا الأصَابِعُ قوله: «غَصْباً» فيه أوجه: الأول: أنه مصدر في موضع الحال، أو منصوب على المصدر المبين لنوع الأخذ، أو منصوب على المفعول له، وهو بعيد عن المعنى، وادَّعى الزمخشري أنَّ في الكلام تقديماً وتأخيراً، فقال: «فإن قلت: قوله:» فأردتُّ أن أعيبها «مسبَّبٌ عن خوفه الغصب عليها، فكان حقه أن يتأخَّر عن السبب؛ فلمَ قُدِّم عليه؟ قلتُ: النيةُ به التأخيرُ؛ وإنما قدِّم للعناية به، ولأنَّ خوف الغصب ليس هو السبب وحده، ولكن مع كونها للمساكين، فكان بمنزلةِ قولك: زيدٌ ظنِّي مقيمٌ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 545 قوله: {فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ} : التثنية للتغليب، يريد: أباه وأمَّه، فغلَّب المذكَّر، وهو شائع، ومثله: القمران والعمران، وقد تقدَّم [في يوسف] : أنَّ الأبوين يراد بهما الأب والخالة، فهذا أقربُ. والعامة على «مُؤمنين» بالياء، وأبو سعيدٍ الخدريُّ، والجحدريُّ «مُؤمنانِ» بالألف، وفيه ثلاثة أوجه: الأول: أنه على لغة بني الحارث، وغيرهم. الثاني: أن في «كان» ضمير الشَّأن، و «أبواهُ مُؤمِنانِ» مبتدأ وخبر في محل النصب؛ كقوله: [الطويل] 3562 - إذَا مِتُّ كان النَّاسُ صِنفَانِ شَامتٌ ..... ... ... ... ... . فهذا أيضاً محتمل للوجهين. الثالث: أن في «كان» ضمير الغلام، أي: فكان الغلامُ، والجملة بعده الخبر، وهو أحسن الوجوه. قوله: {فَخَشِينَآ} أي: فعلمنا {أَن يُرْهِقَهُمَا} يفتنهما. وقال الكلبيُّ: يكلِّفهما طغياناً وكفراً. وقال سعيد بن جبيرٍ: فخشينا أن يحملهما حبُّه على أن يتابعاه على دينه. قيل: إنَّ ذلك الغلام كان بالغاً، وكان يقطع الطريق، ويقدم على الأفعال المنكرة، وكان يصير ذلك سبباً لوقوعهما في الفسق، وربما يؤدِّي ذلك الفسق إلى الكفر. وقيل: كان صبيًّا إلا أن الله تعالى علم منه أنَّه لو صار بالغاً، لحصلت منه تلك المفاسد. وقيل: الخشية بمعنى الخوف، وغلبة الظنِّ، والله تعالى قد أباح له قتل من غلب على ظنِّه تولُّد المفاسد منه. فإن قيل: هل يجوز الإقدام على قتل الإنسان لمثل هذا الظنِّ؟ فالجواب: أنَّه إذا تأكَّد ذلك الظنُّ بوحي الله تعالى إليه، جاز. قوله: {فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا} : قرأ نافع، وأبو عمرو بفتح الباء، وتشديد الدال من « الجزء: 12 ¦ الصفحة: 546 بدَّل» هنا، وفي التحريم [الآية: 5] {أَن يُبْدِلَهُ} وفي القلم [الآية: 32] {أَن يُبْدِلَنَا} والباقون بسكون الباء، وتخفيف الدال من «أبْدلَ» في المواضع الثلاثة، فقيل: هما لغتان بمعنى واحد، وقال ثعلبٌ: الإبدال تنحيةُ جوهرةٍ، واستئناف أخرى؛ وأنشد: [الرجز] 3563 - عَزْلَ الأميرِ للأمِيرِ المُبدَلِ ... قال: ألا تراه نحَّى جسماً، وجعل مكانه آخر، والتبديل: تغيير الصورة إلى غيرها، والجوهرة باقية بعينها؛ واحتجَّ الفراء بقوله تعالى: {يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} [الفرقان: 70] قال: والذي قال ثعلبٌ حسنٌ، إلاَّ أنَّهم يجعلون «أبدلتُ» بمعنى «بدَّلتُ» قال شهاب الدين: ومن ثم، اختلف الناس في قوله تعالى: {يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض} [إبراهيم: 48] : هل يتغير الجسمُ والصفة، أو الصفة دون الجسم؟ . قوله: {يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً} أي: يرزقهما الله ولداً خيراً من هذا الغلام «زَكَاةً» أي: ديناً، وصلاحاً. وقيل: ذكر الزكاة تنبيهاً على مقابلة قول موسى - عليه السلام - «أقتَلْتَ نفساً زكيَّة بغيرِ نفسٍ» فقال العالم: أردنا أن يرزق الله هذين الأبوين خيراً، بدلاً عن ابنهما هذا ولداً يكون خيراً منه بما ذكره من الزَّكاة، ويكون المراد من الزَّكاة الطهارة، وكان قول موسى: «أقَتَلْتَ نَفْساً زكيَّة» ، أي: طاهرة، لأنَّها ما وصلت إلى حدِّ البلوغ، فكانت زاكية طاهرة من المعاصي، فقال العالم: إن تلك النفس، وإن كانت طاهرة زاكية في الحال، إلاَّ أنه تعالى علمَ منها أنَّها إذا بلغتْ، أقدمت على الطغيان، والكفر، فأردنا أن يحصل لهما ولدٌ عظيمٌ، أي: أعظم زكاة وطهارة منه، وهو الذي يعلمُ الله منه أنَّه عند البلوغ لا يقدم على شيءٍ من هذه المحظورات. ومن قال: إنَّ ذلك الغلام كان بالغاً، قال: المراد من وصف نفسه بكونها زاكية أنه لم يظهر عليه ما يوجب قتله. قوله: «رُحْماً» قرأ ابن عامر «رُحُماً» بضمتين، والباقون بضة وسكون، وهما بمعنى الرحمة؛ قال رؤبة: [الرجز] 3564 - يَا مُنْزِلَ الرُّحْمِ على إدْريسَا ... ومُنْزِلَ اللَّعْنِ على إبْليسَا وقيل: الرُّحُم بمعنى الرَّحم، وهو لائِقٌ هنا من أجلِ القرابةِ بالولادة؛ ويؤيِّده قراءة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 547 ابن عباس «رَحِماً» بفتح الراءِ، وكسر الحاء، و «زَكاةً ورُحْماً» منصوبان على التمييز. والمعنى: هذا البدل يكون [أقرب] عطفاً ورحمة بأبويه، وأشفق عليهما. فصل في المبدل به قال الكلبيُّ: أبدلهما الله جارية تزوَّجها نبيٌّ من الأنبياء، فولدت له نبيًّا، فهدى الله على يديه أمَّة من الأمم. قوله: {وَأَمَّا الجدار فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَّهُمَا} وكان اسمهما «أصْرَم» و «صَرِيم» . واعلم أنه سمَّى القرية في قوله: {أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ} وسمَّى القرية هنا مدينة بقوله: «يَتيميْنِ في المدينةِ» فدلَّ على جواز [تسمية] إحداهما بالأخرى، ثم قال: «وكَان تحته كنزٌ لهُمَا» . روى أبو الدرداء عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «كَانَ ذهباً، وقضَّة» . وقال عكرمة: كان مالاً، ويدلُّ على ذلك أنّ المفهوم من لفظ الكنز هو المالُ. وعن ابن عباس قال: «كَانَ لوحاً من ذهبٍ مكتوباً فيه: عجباً لمن أيقن بالموتِ، كيف يفرحُ، عجباً لمن أيقن بالقدر كيف ينصبُ، عجباً لمن أيقن بالرزقِ كيف يتعب، عجباً لمن يؤمنُ بالحساب كيف يغفل، عجباً لمن أيقن بزوالِ الدُّنيا، وتقلبها بأهلها كيف يطمئنُ إليها، لا إله إلا الله، محمدُ رسول الله، وفي الخطاب الجانب الآخر: أنا الله، لا إله إلا أنا، وحدي لا شريك لي، خلقت الخير والشرَّ فطوبى [لمن] خلقته للخير، وأجريته على يديه، والويل لمن خلقته للشرِّ، وأجريته على يديه» . وهذا قول أكثر المفسِّرين وروي أيضاً مرفوعاً، قال الزجاج: والكنزُ إذا أطلق إنما ينصرفُ إلى كنز المال، ويجوز عند التَّقييد لكنز العلم، يقال: عنده كنز علم. وهذا اللوح كان جامعاً لهما. «وكان أبُوهمَا صالحاً» قيل: كان [اسمه] «كَاشِحٌ» وكان من الأنبياء، قال ابن عباس: حفظا بصلاح أبيهما، ولهذا قيل: إنَّ الرجل الصالح يكون كنزه العلم لا المال، قيل: كان بينهما وبين الأب الصَّالح سبعة آباء وهذا يدل على أنَّ صلاح الإنسان يفيد العناية بأحوال أبنائه، فإن قيل: اليتيمان، هل أحد منهما عرف حصول الكنز تحت ذلك الجدار، أو ما عرف أحد منهما ذلك؟ فإن كان الأول امتنع أن يتركوا سقوط ذلك الجدار، وإن كان الثاني فكيف الجزء: 12 ¦ الصفحة: 548 يمكنه بعد البلوغ استخراج ذلك الكنز ومعرفته والانتفاع به؟ . الجواب: لعل اليتيمين كانا جاهلين به إلاَّ أن وصيَّهما كان عالماً به، إما أن ذلك الوصيَّ غاب، وأشرف ذلك الجدار في غيبته على السُّقوطِ، ثم قال: «فأرادَ ربُّك أن يبلغا أشدَّهُما» أي: يبلغا ويعقلا، وقيل: يدركا شدَّتهما وقوتهما. وقيل: ثماني عشرة سنة، ويستخرجا حينئذ كنزهما «رحْمةً من ربِّك» أي: نعمة من ربِّك. وفي نصب «رَحْمَةً» ثلاثة أوجه: أظهرها: أنه مفعول له. الثاني: أن يكون في موضع الحال من الفاعل، أي: أراد ذلك راحماً، وهي حالٌ لازمة. الثالث: أن ينتصب انتصاب المصدر؛ لنَّ معنى «فاراد ربُّك أن يبلغا» معنى: «فرحمهما» ثم قال: وما فعلتهُ عن أمْرِي «أي: ما فعلته باختيارِي ورأيي، بل فعلتهُ بأمر الله وإلهامه، بأنَّ الإقدامَ على تنقيص أموالِ النَّاسِ وإراقةِ دمائهم، لا يجوز إلاَّ بالوحي والنفي القاطع،» وذلِكَ تأويلُ ما لمْ تَسْطِع عليه صبراً «أي: لم تطقْ عليه صبراً. قوله: «تَسْطِعْ» قيل أصله «اسْتطاعَ» فحذفت تاء الافتعال، وقيل: المحذوف الطاء الأصلية، ثم أبدلت تاءُ الافتعال طاء بعد السِّين، وهذا تكلف بعيدٌ. وقيل: السِّين مزيدة عوضاً من قلب الواو ألفاً، والأصل: أطاع، ولتحقيق القول فيه موضعٌ غير هذا، ويقال: استتاع - بتاءين، واستاع - بتاء واحدة، فهذه أربع لغاتٍ حكاها ابن السِّكيتِ. فصل اعلم أنَّ أحكام الأنبياء - عليهم السلام - مبنيةٌ على الظواهر؛ كما قال - عليه السلام -: «نَحْنُ نحكمُ بالظَّاهرِ والله يتولَّى السَّرائرَ» وهذا العالم ما كانت أحكامه مبنية على ظواهر الجزء: 12 ¦ الصفحة: 549 الأمور، بل كانت مبنية على الأسباب الحقيقية الواقعة في نفس الأمر، وذلك لنَّ الظاهر في أموال النَّاس، وفي أرواحهم في المسالة الأولى والثانية من غير سببٍ ظاهرٍ لا يبيح ذلك التصرف؛ لأن تخريق السفينة تنقيصٌ لملك الغير من غير سبب ظاهر يبيحُ ذلك التصرُّف، والإقدام على قتل الغلامِ إلحاقٌ بضررِ القتل به من غير سبب ظاهر والإقدامُ على إقامةِ الجدار المائل تحملٌ للتَّعَب والمشقَّة من غير سبب ظاهر، فهذه المسائل الثلاثة ليس حكم ذلك العالم فيها مبنيًّا على الأسباب الظاهرة، بل كان مبنياً على أسباب معتبرة في نفس الأمر، وهذا يدلُّ على أنَّ ذلك العالم كان قد آتاهُ الله قوة عقلية يقدر بها أن يشرفَ على بواطن الأمور، ويطَّلع بها على حقائق الأشياء، فكانت مرتبة موسى - عليه السلام - في معرفةِ شرائع الأحكام بناء على الظواهر، وهذا العالم مرتبته الوقوف على بواطن الأشياء وحقائقها، فلهذا كانت مرتبته في العلم فوق مرتبة موسى. إذا عرف هذا؛ فنقول: هذه المسائل الثلاثة مبنيةٌ على حرف واحد، وهو أنه: إذا تعارض ضرران يجب تحمل الأولى، لدفع الأعرى، فهذا هو الأصل المعتبر في المسائل الثلاثة، أمَّا الأولى: فلأنَّ ذلك العالم علم أنَّه لو لم يعب السفينة بالتخريقِ، فغصبها ذلك الملك، وفاتت منافعها بالكليَّة على ملاَّكها، فوقع التعارضُ بين أن يخرقها ويعيبها، ويبقى مع ذلك العيب على ملاَّاكها وبين ألاَّ يخرقها، فيغصبها الملك، وتفوت منافعها على ملاكها بالكلِّية، ولا شكَّ أن الضرر الأوَّل أقلُّ؛ فوجب تحمُّله؛ لدفع الضرر الثاني؛ لكونه أعظم ضرراً. وأمَّا المسألة الثانية فكذلك؛ لأنَّ بقاء ذلك الغلام كان مفسدة للوالدين في دينهم، وفي أبنائهم، ولعلَّه علم بالوحي أن المضار الناشئة من قتل ذلك الغلام أقل من المضار الناشئة بسبب حصول تلك المفاسدِ للأبوين؛ فلهذا السَّبب أقدم على قتله. والمسألة الثالثة - أيضاً - كذلك؛ لأنَّ المشقة الحاصلة بسبب الإقدام على بناء الجدار المائل أسهل من المضارِّ الحاصلة بسبب ترك إقامته، لأنَّ ذلك الجدار لو سقط، لضاع مال أولئك الأيتام، وفيه ضررٌ شديدٌ، فالحاصل أنَّ ذلك العالم كان مخصوصاً الجزء: 12 ¦ الصفحة: 550 بالوقوف على حقائق الأشياء وببناء الأحكام على حقائقها، وأنّ موسى - عليه السلام - كانت أحكامه مبنية على ظواهر الأمور، فبهذا ظهر التفاوتُ بينهما في علمه. فإن قيل: فحاصل الكلام أنَّه تعالى أطلعه على حقائق الأشياء، وهذا النَّوعُ من العلم ما يمكنُ تعلُّمه، وموسى - عليه السلام - إنما ذهب إليه ليتعلم منه العلم، فكان الواجب على ذلك العالم أن يظهر له علماً يمكنُ تعلُّمه، وهذه المسائل علمها لا يمكن تقاسمه، فما الفائدة في إظهارها؟ فالجواب: أنَّ العلم بظواهر الأشياء يمكن تحصيله بناء على معرفة الشرائع الظاهرة، وأمَّا العلم بحقائق الأشياء، فإنَّه لا يمكن تحصيله إلاّ بناءً على تصفية الباطن، وتطهير القلب ع نالعلائق الجسمانية، ولهذا قال تعالى في صفة علم ذلك العالم: {وعلَّمناهُ من لدُنَّا علماً} ثم إن موسى - عليه السلام - لمَّا كملت مرتبته في علم الشريعة بعثه الله تعالى إلى ذلك العالم، ليعلِّم موسى أنَّ كمال الدرجة في أن ينتقل الإنسان من علوم الشريعة المبنية على الظَّواهر إلى علوم البواطنِ المبنية على الإشراف على حقيقة الأمور. فصل احتجُّوا بهذه الآية على أن الفقير أشدُّ حاجة من المسكين؛ لأنَّه تعالى سمَّاهم مساكين مع أنهم كانوا يملكون السفينة. واعلم أن العالم بيَّن مراده من تخريق السفينة، وأنه لم يكن مقصوده تغريق أهلها؛ بل كان مقصوده تعييبها، لئلاَّ يأخذها ذلك الملك الظَّالم؛ لأنه كان من عادته أخذ السفن الخالية من العيوب، وضرر هذا التخريق أسهل من ضرر الغصب. فإن قيل: هل يجوز للأجنبيِّ أن يتصرَّف في ملك الغير لمثل هذا الغرض؟ . فالجواب: هذا مما تختلف أحواله بسبب اختلاف الشرائع، فلعلَّ هذا كان جائزاً في تلك الشريعة، وأما في شريعتنا فهذا الحكم غير بعيدٍ، فإنَّا إذا علمنا أن الذين يقطعون الطريق يأخذون جميع مال الإنسان، فإن دفعنا إلى قاطع الطَّريق بعض ذلك المال سلم الباقي، فحينئذ يحسنُ منَّا أن ندفع بعض مال ذلك افنسان إلى قاطع الطريق؛ ليسلم الباقي، وكان هذا إحساناً منا لذلك المالك. كذلك قيل في السفينة المشحونة إذا خيف عليها الغرق، وأنه إذا ألقي منها شيءٌ في البحر خفَّت وسلم ما فيها جاز الإلقاء، بل يجب كذلك، وكذلك مسالة التترُّس بالمسلمين. واعلم بأنَّ هذا التخريق يجب أن يكون على وجه لا يبطل منافع تلك السفينة بالكلِّية، إذ لو ك ان كذلك، لم يكن الضَّررُ الحاصل من غصبها أعظم من الضَّرر الحاصل من تخريقها، وحينئذ لم يكن تخريقها جائزاً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 551 فصل اعلم أنَّه قال: {فأردتُّ أن أعيبها} وقال: {فأردْنَا أن يبدلهما ربُّهما خيراً منهُ} ، وقال: {فأرَادَ ربُّك أن يبلُغا أشدَّهما} فاختلفت الإضافة في هذه الإرادات الثلاثة، وهي كلها قضيَّة واحدة، وفائدة ذلك أنه لما ذكر العيب أضافه إلى إرادة نفسه، فقال: {فأرَدْتُ أن أعيبها} ولمَّا ذكر القتل، عبَّر عن نفسه بلفظِ الجمع تنبيهاً على أنَّه من العظماء في علوم الحكمة، فلم يقدم على هذا القتل إلاَّ لحكمةٍ عاليةٍ، ولمَّا ذكر رعاية صالح اليتيمين لأجل صلاح أبيهما اضافه إلى الله تعالى، لأنَّ المتكفِّل بمصالح الأبناء برعاية حقِّ الآباء ليس إلاَّ الله تعالى. فصل اختلفوا: هل الخضر حيٌّ أم لا؟ فقيل: إنَّ الخضر وإلياس حيَّان يلتقيان كلَّ سنةٍ بالموسم، قيل: وسبب حياته أنَّ ذا القَرنَيْنِ دخل الظلمات، لطلب عين الحياة، وكان الخضر على مقدِّمته، فوقع الخضر على عين الحياة، فنزل، واغتسل، وشرب، وقيل: وأخطأ ذو القرنين الطريق، فعاد. وقيل: إنه ميتٌ، لقول الله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد} [الأنبياء: 34] وقال عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ بعدما صلى العشاءَ ليلة: «أرَأيْتكُمْ ليْلتَكُم هذه، فإنه على رأس مائة سنةٍ لا يبقى ممَّن هو اليوم على ظهر الأرضِ أحدٌ» ولو كان الخضر حيًّا، لكان لا يعيش بعده. رُويَ أنَّ موسى لمَّا اراد أن يفارقه قال: أوصني، قال: لا تطلب العلم لتحدِّث به، واطلبه لتعمل به. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 552 قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} الآية. قد تقدَّم في أول هذه السورة أن اليهود أمروا المشركين أن يسألوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن أصحاب الكهف، وعن ذي القرنين، وعن الرُّوح، فقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي القرنين} هو ذلك السؤال، واختلفوا في ذي القرنين، فقيل: هو الإسكندر بن فيلبوس اليونانيُّ، وقيل: كان اسمه مرزبان بن مرزبة من ولد يونان بن ثافث بن نوحٍ، وكان اسود، قال بعضهم: كان نبيًّا، لقوله تعالى: {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض} والأولى حمله على التمكين في الدِّين، والتَّمكين الكامل في الدِّين هو النبوة، ولقوله تعالى: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} ومن جملة الأسباب النبوة، فمقتضى العموم أنه آتاهُ من النبوة سبباً، ولقوله تعالى: {ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} والذي يتكلَّم الله معه لا بد وأن يكون نبياً. قال ابو الطفيل، وسئل عن ذي القرنين: أكان نبيًّا أم ملكاً؟ قال: لم يكن نبياً، ولا ملكاً، ولكن كان عبداً أحبَّ الله، فأحبَّه الله، وناصح الله فناصحه. روي أنَّ عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - سمع رجلاً يقول لآخر: «يَا ذَا القرنين» فقال: تسمَّيتم بأسماء النبيين، فلم ترضوا حتى تسمّيتم بأسماء الملائكة. والأكثرون على أنه كان ملكاً عادلاً صالحاً، واختلفوا في سبب تسميته بذي القرنين قيل: لأنه بلغ قرني الشمس: مشرقها ومغربها، وأيضاً: بلغ ملكه أقصى الشمال، لأنَّ «يأُجوجَ ومأجُوجَ» قومٌ من التركِ يسكنون في أقصى الشمالِ، فهذا المسمَّى بذي القرنين قد دلَّ القرآن على أنَّ ملكه بلغ أقصى المغرب والمشرق والشمال، وهذا نهاية المعمور من الأرض، ومثل هذا الملك البسيط على خلاف العادات، فيجب أن يبقى ذكره مخلّداً على وجه الدهر لا يخفى، والذي اشتهر في كتب التواريخ أن الذي بلغ ملكه إلى هذا الحد ليس إلا الإسكندر، وذلك أنه لمَّا مات أبوه جمع ملك الروم بعد أن كان طوائف، ثم قصد ملوك العرب وقهرهم، وأمعن حتى انتهى إلى البحر الأخضر، ثم عاد إلى مصر، فبنى الإسكندرية، وسمَّاها باسم نفسه، ثم دخل الشَّام، وقصد بني إسرائيل، وورد «بيت المقدس» ، وذبح في مذبحه، ثم انعطف إلى «أرمينيَّة» و «باب الأبواب» ودان له العراقيُّون، والقبط، والبربر، ثم توجه نحو دارا بن دارا، وهزمه مرات إلى أن قتله صاحب حرسه، واستولى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 553 الإسكندر على ممالك الفرس، وقصد الهند والصِّين، وغزا الأمم البعيدة، ورجع إلى «خراسان» وبنى المدن الكثيرة، ورجع إلى العراق، ومرض ب «شهرزور» ومات، فلما ثبت بالقرآن أن ذا القرنين كان رجلاً ملك الأرض أو ما يقرب منها، وثبت من التَّواريخ أن من هذا شأنه ماكان إلاَّ الإسكندر وجب القطعُ بأنَّ المراد بذي القرنين هو الإسكندر بن فيلبوس اليوناني. قيل: وسمِّي بذي القرنين، لأنه ملك الرُّوم وفارس، وقيل: لأنه دخل النور والظلمة، وقيل: لأنه رأى في المنام كأنه أخذ بقرني الشَّمس، وقيل: لأنه كانت له ذؤابتان حسنتان، وقيل: لأنه كان له قرنان تواليهما العمامة. وروى أبو الفضلِ عن عليّ أنه أمر قومهُ بتقوى الله، فضربوه على قرنه الأيمن، فمات، فبعثه الله، فأمرهم بتقوى الله، فضربوه على قرنه الأيسر، فمات فأحياه الله. وقيل: كان لتاجه قرنان، وقيل: لأنه انقرض في وقته قرنان من الناس، وقيل: لأن الله سخر له النُّور والظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه، وتمتد الظلمة من ورائه. فروي أن ذا القرنين أمر ببناء مدنٍ كثيرةٍ منها: «الدبوسية» و «حمدان» و «برج الحجارة» ، ولما بلغ «الهند» بنى مدينة «سرنديب» وأن أرباب الحساب قالوا له: إنَّك لا تموتُ إلا على أرض من حديدٍ، وسماه من خشب، وكان يدفن كنوز كلِّ بلدٍ فيها، ويكتب ذلك معه بصفته وموضعه، فبلغ «بابل» ، فرعف، فسقط عن دابَّته، فبسطت له دروع فنام عليها، فآذته الشمس، فأظلوه بتُرسٍ، فنظر وقال: هذه أرضٌ من حديدٍ وسماء من خشبٍ، فأيقن بالموت، فمات وهو ابنُ ألف سنة وثلاثمائة سنة. وقال أبو الرَّيحان البيروني في كتابه المسمَّى ب «الآثار الباقية عن القرون الخالية» : قيل: إنَّ ذا القرنين هو أبو كربٍ سُمَيُّ بن عبرين بن أقريقيش الحميريّ، وأنَّ ملكهُ بلغ مشارق الأرض ومغاربها، وهو الذي افتخر به أحد الشعراء من حمير: [الكامل] قَدْ كَانَ ذُو القَرنيْنِ قَبْلي مُسْلِماً ... مَلِكاً عَلا فِي الأرْضِ غير مُفَنَّدِ بلغَ المشارِقَ والمغارِبَ يَبتَغِي ... أسْبابَ ملكٍ من كَرِيم سيِّدِ ثم قال أبو الريحان: ويشبهُ أن يكون هذا القول أقرب، لأن الأذواء كانوا من اليمن، وهم الذين لا يخلون أساميهم من «ذي كذا» المنار، و «ذي نواس» ، و «ذي النُّون» ، و «ذي رعين» والقول الأول أظهر، لما تقدم من الدليل، ولأنه روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 554 أنه قال: «سمِّي ذا القرنَيْنِ لأنَّه طاف قرنَي الدُّنيا شرقها وغربها» . قال ابن الخطيب: إلاَّ أنَّ فيه إشكالاً قويًّا، وهو أن الإسكندر كان تلميذ أرسطاطاليس الحكيم، وكان على مذهبه، فتعظيم الله إيَّاه يُوجِبُ الحكم بأنَّ مذهب أرسطاطاليس حقٌّ وصدقٌ، وذلك ممَّا لا سبيل إليه. قال ابن كثير: روي عن ابن عباسٍ: أنَّ اسم ذي القرنين عبد الله بن الضحاك. وقيل: مصعبُ بن عبد الله بن قينان بن منصور بن عبد الله بن الآزر بن عون بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ بن قحطان. وروي أنَّه كان من حمير، وأمُّه روميَّة، وأنه كان يقال له الفيلسوفُ؛ لعقله. وقال السهيلي: قيل: كان اسمه مرزبي بن مرذبة ذكره ابن هشام، وهو أول التَّبابعة. وقيل: إنه أفريدون بن أثفيان الذي قتل الضحاك ويروى في خطبة قيس بن ساعدة التي خطبها بسوق عكاظ، أنه قال فيها يا معشر إياد أين الصعب ذو القرنين ملك الخافقين، وأوّل المسلمين، وعمر ألفين، ثم كان ذلك كطرفة عين، وأنشد ابن هشام: [الكامل] والصَّعبُ ذُو القرنيْنِ أصْبحَ ثَاوِياً ... بالحِنْوِ حيث أميم مقيم أمَّا ذو القرنين الثاني فهو الإسكندر بن فيلبس بن مصريم بن هرمس بن هردوس ابن ميطون بن رومي بن نويط بن نوفيل بن ليطى بن يونان بن يافث بن نوح بن سرحون بن رومي بن قريط بن نوفيل بن رومي بن الأصفر بن اليغز بن العيص بن إسحاق بن إبراهيم الخليل - عليه السلام - كذا نسبه ابن عساكر المقدوني اليوناني المصري باني الإسكندرية الذي يؤرِّخ بأيَّامه الروم، وكان متأخِّراً عن الأول بدهر طويل، وكان هذا قبل المسيح بنحوٍ من ثلاثمائة سنة، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف، وهو قتل دارا بن دارا [ملك] ملوكِ الفرس. وإنما نبهنا على هذا؛ لأنَّ كثيراً من الناس يعتقد أنهما واحدٌ، وأن المذكور في القرىن هو الذي كان أرسطاطاليس وزيرهُ، فيقع بذلك خطأ كثير؛ فإنَّ الأول كان مؤمناً عبداً صالحاً، وملكاً عادلاً، وكان وزيره الخضر - عليهما السلام - وكان نبيًّا، وأمَّا الثاني فكان مشركاً، وكان وزيره فيلسوفاً، وكان بين زمانيهما أزيد من ألفي [سنة] فأين هذا من هذا؟ . قوله: «سَأتلُو» : دخلت السين ها هنا؛ لأن المعنى أني سأفعل هذا إن وفَّقني الله عليه، وأنزل عليَّ وحياً، وأخبرني عن كيفية تلك الحال. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 555 قوله «مِنْهُ ذِكْراً» أي: من أخباره وقصصه. قوله: «إنَّا مكَّنا له» . ومعنى «مكنَّا لهُ» : أوطأنا، والتمكينُ: تمهيد الأسباب قال عليٌّ: سخَّر له السَّحاب، فحمله عليه، ومدَّ له في الأسباب، وبسط له في النُّورِ، وكان اللَّيلُ والنهار عليه سواء، فهذا معنى تمكنيه في الأرض؛ وأنه سهَّل عليه السير فيها، وذلل له طريقها. وهذا التَّمكينُ بسبب النبوة، ويحتمل أن يكون المراد التمكين بسبب الملكِ من حيث إنه ملك مشارق العالم ومغاربه، والأول أولى؛ لأنَّ التمكينَ بسبب النبوّة أعلى من التمكين بسبب الملك، وحمل كلام الله تعالى على الوجه الأكمل الأفضل أولى، ثم قال: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} قالوا: السبب في أصل اللغة عبارة عن الحبل، ثم استعير لكل ما يتوصل به إلى المقصود، وهو يتناول العلم والقدرة والآلة، فلذلك قيل: «وآتيناه من كل شيء» ما يستعين به الملوك على فتح المدن، ومحاربة الأعداء «سبباً» أي: علماً يتسبب به إلى كل ما يريد ويسير به في أقطار الأرض، وقيل: قرَّبنا له أقطار الأرض. واستدلوا بعموم قوله: {وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً} على أنه كان نبيًّا كما تقدَّم، ومن أنكر نبوته قال: المعنى: وآتيناه من كلِّ شيءٍ يحتاجُ إلى إصلاح ملكه إلاَّ أن تخصيص العموم خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلاَّ بدليلٍ. قوله: {فَأَتْبَعَ سَبَباً} . قرأ نافع، وابن كثيرٍ، وأبو عمرو «فَاتَّبعَ» و «ثمَّ اتَّبعَ» في الموضعين بهمزة وصل، وتشديد التاء. والباقون بهمزة القطع في المواضع الثلاثة وسكون التاء. فقيل: هما بمعنى واحدٍ فيتعدَّيان لمفعولٍ واحدٍ. وقيل: «أتْبَعَ» بالقطع متعدٍّ لاثنين حذف أحدهما تقديره: فأتْبع سبباً سبباً آخر، أو فأتبع أمره سبباً آخر، ومنه {وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً} [القصص: 42] فعدَّاه لاثنين ومن حذف أحد المفعولين: قوله تعالى: {فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ} [الشعراء: 60] ، أي: أتبعوهم جنودهم. واختار أبو عبيد «اتَّبعَ» بالوصل، قال: «لأنَّه من المسيرِ» قال: تقول: تبعتُ القوم واتَّبعتُهم. فأمَّا الإتباعُ بالقطع فمعناه اللحاقُ، كقوله تعالى: {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} [الصافات: 10] . وقال يونس، وأبو زيدٍ: «أتْبعَ» بالقطع عبارة عن المجدِّ المسرعِ الحثيثِ الطلب. وبالوصلِ إنَّما يتضمَّن الاقتفاء دون هذه الصفات. قال البغويُّ: والصحيح الفرق بينهما، فمن قطع الألف، فمعناه: أدرك ولحق، ومن قرأ بالتشديد فمعناه: سار، يقال: ما زلتُ أتَّبعه حتى اتبعته، أي: ما زلتُ أسير خلفهُ حتى لحقته، ومعنى الآية: أنه تعالى لمَّا أعطاهُ من كل شيءٍ سببه، فإذا أراد سبباً أتبع سبباً يوصله إليه {حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 556 عن أبي ذرٍّ قال: كنت رديف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ على جملٍ، فرأى الشمس حين غابت، فقال: أتدري يا أبا ذرٍّ، أتدري أين تغربُ هذه؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: «فإنَّها تغربُ في عينٍ حاميةٍ» وهي قراءة ابن مسعود، وطلحة، وابن عمر، واختارها أبو عبيدة، قال: لأنَّ عليها جماعة من الصحابة. وأما القراءة الثانية، فهي من الحمأةِ، وهي الطِّين، وهي قراءة ابن عبَّاس. فصل ثبت بالدَّليل أنَّ الأرض كرة، وأنَّ السماء محيطة، وأنَّ الشمس في الفلك الرابع، وكيف يعقل دخولها في عينٍ؟ وأيضاً قال: «وجد عِنْدهَا قوماً» ومعلومٌ أن جلوس القوم قرب الشَّمسِ غير موجودٍ، وأيضاً فالشمس أكبر من الأرض بمراتٍ كثيرةٍ، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ وإذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله تعالى: {تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ} من وجوه: الأول: أنَّ ذا القرنين لما بلغ موضعاً من المغرب، لم يبق بعدهُ شيءٌ من العماراتِ، وجد الشَّمس كأنَّها تغربُ في عينٍ مظلمةٍ، وإن لم يكن كذلك في الحقيقة كما أنَّ راكب البحر يرى الشمس كأنَّها تغيبُ في البحر إذا لم يرَ الشطَّ، وهي في الحقيقة تغيبُ وراء البحر، ذكر هذا التأويل الجبائيُّ في تفسيره. الثاني: أنَّ للجانب الغربيّ من الأرض مساكنَ يحيطُ البحر بها، فالناظرُ إلى الشَّمْسِ يتخيلُ كأنَّها تغيب في تلك البحار، ولا شكَّ أنَّ البحار الغربية قويةٌ السخونة، فهي حاميةٌ، وهي أيضاً حمئة لكثرة ما فيها من الماء ومن الحمأةِ السَّوداءِ، فقوله: {تَغْربُ في عينٍ حمئةٍ} إشارةٌ إلى أن الجانب الغربي منالأرض قد أحاط البحر به، وهو موضعٌ شديدُ السخونة، قال اهل الأخبار: إنَّ الشمس تغيب في عينٍ كثيرة الماءِ والحمأةِ، وهذا في غاية البعد؛ وذلك لأنَّا إذا رصدنا كسوفاً قمريًّا، فإذا اعتبرناه، ورأينا أنَّ المغربيين قالوا: حصل هذا الكسوف في أوَّل الليل، ورأينا المشرقين، قالوا: حصل في أوَّل النَّهار علمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق، بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا هو وقت العصر في بلد، ووقت الظُّهر في بلدٍ آخر، ووقت الضَّحوة في بلد ثالثٍ، ووقت طلوع الشمس في بلدٍ رابع، ونصف الليل في بلد خامسٍ، وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بالاستقراء والأخبار وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال: إنَّها تغيبُ في الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين؛ وكلام الله تعالى مبرَّأ عن هذه التهمة، فلم يبق إلاَّ أن يصار غلى التَّأويل المذكور ثم قال: «ووجد عندها قوماً» أي: عند العين أمة، وقيل: الضمير [عائد] إلى الشمس. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 557 قال ابن جريج: مدينة لها اثنا عشر ألف باب، لولا ضجيج أهلها لسمعت وجبة الشمس حين تجبُ. قوله: {قُلْنَا ياذا القرنين} يدل على أنه تعالى كلمه من غير واسطة، وذلك يدل على أنه كان نبيًّا، فإن قيل: خوطب على ألسنة بعض الأنبياء، فهو عدولٌ عن الظاهر. وقال بعضهم: المراد منه الإلهام. قوله: {إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ} . يجوز فيه الرفع على الابتداء، والخبر محذوف، أي: إمَّا تعذيبك واقعٌ، والرفع على خبر مضمرٍ، أي: هو تعذيبك، والنصب اي: إمَّا أن تفعل أن تعذِّب. وهذا يدلُّ على أنَّ سكَّان آخر المغرب، كانوا كفاراً، فخيَّر الله ذا القرنين فيهم بين التعذيب، إن أقاموا على الكفر، وبين المنِّ عليهم، والعفو عنهم، وهذا التخيير على معنى الاجتهاد في أصلح المرين، كما خيَّر نبيه - محمداً عليه الصلاة والسلام - بين المنِّ على المشركين، وبين قتلهم. وقال الكثرون: هذا التعذيب هو القتل، وأمَّا اتِّخاذ الحسنى فيهم، فهو تركهم أحياء. ثم قال ذو القرنين: {أَمَّا مَن ظَلَمَ} أي: ظلم نفسه؛ بمعنى «كفر» لأنَّه ذكر في مقابلته: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ} ثم قال: {فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} أي بقتله {ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ} في الآخرة {عَذَاباً نُّكْرا} أي: منكراً فظيعاً. وهو النار، والنار أنكر من القتل. قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} . {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى} الآية. قوله: {جَزَآءً الحسنى} قرأ الأخوان، وحفص بنصب «جزاءً» وتنوينه، والباقون برفعه مضافاً، فالنصب على المصدر المؤكِّد لمضمون الجملة، أو بنصب بمضمرٍ، أو مؤكدٍ لعامل من لفظه مقدَّر، أي: يجزي جزاء، وتكون الجملة معترضة بين المبتدأ وخبره المقدَّم عليه، وقد يعترض على الأول: بأنَّ المصدر المؤكِّد لمضمون جملة لا يتقدَّم عليها، فكذا لا يتوسَّطُ، وفيه نظر يحتمل الجواز والمنع، وهو إلى الجواز أقرب. الثالث: أنه في موضع الحال. الرابع: نصبه على التفسير، قاله الفراء؛ يعني التمييز، وهو بعيد. وقرأ ابن عباس، ومسروق بالنصب والإضافة، وفيها تخريجان: الجزء: 12 ¦ الصفحة: 558 أحدهما: أن المبتدأ محذوف، وهو العامل في «جزاءَ الحُسْنى» التقدير: فله الجزاء جزاء الحسنى. والثاني: أنه حذف التنوين لالتقاء الساكنين؛ كقوله: [المتقارب] 3565 - ... ... ... ... ... ..... ولا ذَاكِرَ الله إلاَّ قَلِيلا ذكره المهدويُّ. والقراءة الثانية رفعه فيها على الابتداء، والخبر الجار قبله، و «الحُسْنَى» مضاف إليها، والمراد بالحسنى الجنَّة، وقيل: الفعلة الحسنى. وقرأ عبد الله، وابن أبي إسحاق «جزاءٌ» مرفوعاً منوناً على الابتداء، و «الحُسْنَى» بدلٌ، أو بيان، أو منصوبة بإضمار «أعْنِي» أو خبر مبتدأ مضمرٍ. و «يُسْراً» نعت مصدر محذوف، أي: قولاً ذا يسرٍ، وقرأ أبو جعفر بضم السين في اليُسُر حيث ورد. فصل في اختلاف معنى الآية باختلاف القراءة قال المفسرون: المعنى على قراءة النصب: فله الحسنى جزاء؛ كما يقال: لك هذا الثوب هبةً. وعلى قراءة الرفع، فيه وجهان: أحدهما: فله الجزاءُ الحسنى، والفعلةُ الحسنى: هي الإيمانُ، والعمل الصَّالح. والثاني: فلهُ جزاء المثوبة الحسنى، وإضافة الموصوف إلى الصِّفة مشهورةٌ؛ كقوله: {وَلَدَارُ الآخرة} [يوسف: 109] . و {حَقُّ اليقين} [الواقعة: 95] . وقوله: {وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً} الآية، أي: لا نأمرهُ بالصَّعب الشَّاق، ولكن بالسَّهل الميسَّر من الزَّكاة، والخراج وغيرهما، وتقديره: ذا يسر؛ كقوله: {قَوْلاً مَّيْسُوراً} [الإسراء: 28] . قوله: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشمس} . أي: سلك طرقاً ومنازل {حتى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ} أي: موضع طلوعها {وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً} . قال الحسنُ وقتادة: لم يكن بينهم وبين الشمس ستراً، وليس هناك شجرٌ، ولا الجزء: 12 ¦ الصفحة: 559 جبلٌ، ولا أبنيةٌ، تمنع [طلوع] الشمس عليهم؛ لأنَّهم كانوا في مكان لا يستقرُّ عليهم بناءٌ، وكانوا يكونون في أسراب لهم، حتَّى إذا زالت الشمس عنهم، خرجوا إلى معايشهم وحروثهم. وقال الحسن: كانوا إذا طلعت الشمس، يدخلون الماء، فإذا ارتفعت عنهم، خرجوا فرعوا؛ كأنَّهم بهائمُ. قال الكلبيُّ: هم قومٌ عراةٌ؛ كسائر الحيوان، يفترشُ أحدهم أذنيه؛ أحدهما تحته، ويلتحفُ بالأخرى. فصل فيما يروى عن السد ذكروا في بعض كتب التفسير: أن بعضهم، قال: سافرت، حتَّى جاوزت الصِّين، فسألت عن هؤلاء القوم، فقيل: بينك وبينهم مسيرة يوم وليلةٍ، فبلغتهم، فإذا أحدهم يفترش إحدى أذنبه، ويلبس الأخرى، فلما قرب طلوع الشمس، سمعت صوتاً كهيئة الصَّلصلة، فغُشي عليَّ، ثم أفقتُ، فلمَّا طلعت الشمس؛ إذ هي فوق الماءِ؛ كهيئة الزيت، فأدخلونا سرباً لهم، فلما ارتفع النَّهار، جعلوا يصطادون السَّمك فيطرحونه في الشمس؛ فينضج. قوله: {مَطْلِعَ الشمس} . العامَّة على كسر اللام من «مَطْلِع» والمضارعُ «يَطلُع» بالضم، فكان القياس فتح اللام في المفعل مطلقاً، ولكنَّها مع أخواتٍ لها سمع فيها الكسر، وقياسها الفتح، وقد قرأ به الحسن، وعيسى، وابن محيصن، ورويت عن ابن كثيرٍ، وأهل مكة، قال الكسائي: «هذه اللغة قد ماتت» يعني: أي: بكسر اللام من المضارع، والمفعل، وهذا يشعرُ أنَّ من العرب من كان يقول: طَلَع يَطلِعُ، بالكسر في المضارع. قوله: {كَذَلِكَ} : الكاف: إمَّا مرفوعة المحلِّ، أي: الأمر كذلك، أو منصوبته، أي: فعلنا مثل ذلك. ومعنى الكلام: كذلك فعل ذو القرنينِ، أتبع هذه الأسباب، حتى بلغ، وقد علمنا حين ملَّكناه ما عنده من الصلاحية لذلك الملك. وقيل: كذلك جعل الله أمر هؤلاء القوم على ما قد أعلم رسول الله - عليه السلام - في هذا الذِّكر. وقيل: كذلك كانت حاأهل المطلع؛ كما كانت حاله مع أهل المغرب، قضى الجزء: 12 ¦ الصفحة: 560 في هؤلاء، كما قضى في أولئك؛ من تعذيب الظالمين، والإحسان إلى المؤمنين. وقيل: تمَّ الكلام عند قوله: {كَذَلِكَ} . والمعنى: أنه تعالى قال: أمر هؤلاء القوم، كما وجدهم عليه ذو القرنين، ثم قال بعده: {وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً} أي: كنَّا عالمين بأنَّ الأمر كذلك. قوله: {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً حتى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} الآية. و {بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ} «بين» هنا يجوز أن يكون ظرفاً، والمفعول محذوف، أي: بلغ غرضه ومقصوده، وأن يكون مفعولاً به على الاتِّساع، أي: بلغ المكان الحاجز بينهما. وقرأ ابن كثير، وأبو عمرو، بفتح سين «السَّدَّين» و «سَدًّا» في هذه السورة، وحفصٌ فتح الجميع، أعني موضعي هذه السورة، وموضعي سورة يس [الآية: 9] ، وقرأ الأخوان بالفتح في «سدًّا» في سورتيه، وبالضمِّ في «السُّدَّين» والباقون بالضمِّ في الجميع، فقيل: هما بمعنى واحدٍ، وقيل: لمضمومُ: ما كان من فعل الله تعالى، والمفتوحُ ما كان من فعل النَّاس، وهذا مرويٌّ عن عكرمة، والكسائي، وأبي عبيد وابن الأنباريِّ. قال الزمخشري: لأنَّ السُّدَّ، بالضمِّ: «فُعْل» بمعنى «مفْعُول» أي: هو مما فعله الله، وخلقه، والسَّدُّ، بالفتح: مصدر حدث يحدثه الناس. وهو مردودٌ: بأنَّ السدَّين في هذه السورة جبلان، سدَّ ذو القرنين بينهما بسدٍّ، فهما من فعلِ الله، والسدُّ الذي فعله ذو القرنين من فعل المخلوق، و «سدًّا» في يس من فعلِ الله تعالى؛ لقوله: «وجعلنا» ومع ذلك قرئ في الجميع، بالفتح، والضمِّ، فعلم أنَّهما لغتان؛ كالضَّعف، والضُّعف، والفَقر، والفُقر، وقال الخليل: المضموم اسمٌ، والمفتوح مصدر، وهذا هو الاختيار. فصل في مكان السد الأظهرُ: أنَّ موضع السدَّين في ناحية الشَّمال، وقيل: جبلان بين أرمينيَّة، وأذربيجان. وقيل: هذا المكان في مقطع أرض التُّرك. وحكى محمد بن جرير الطبريُّ في تاريخه: أنَّ صاحب أذربيجان أيَّام فتحها، وجَّه إنساناً إليه من ناحية الخزر، فشاهده، ووصف أنَّه بنيانٌ رفيعٌ وراء خندقٍ وثيقٍ منيعٍ، وذكر ابن خرداذبة في كتابه «المسالك والممالك» أن الواثق بالله رأى في المنام كأنَّه فتح هذا الردم، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه، فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه، فبعث بعض الخدم إليه ليعاينوه، فخرجوا من باب الأبواب حتى وصلوا إليه وشاهدوه، فوصفوا أنه بنيانٌ من لبنٍ من حديد مشدود بالنُّحاس المذاب، وعليه بابٌ مقفلٌ، ثم إنَّ ذلك الجزء: 12 ¦ الصفحة: 561 الإنسان لمَّا حاول الرُّجوع، أخرجهم الدليل إلى البقاع المحاذية لسمرقند. فصل في مقتضى هذا الخبر قال أبو الرَّيحان البيرونيُّ: مقتضى هذا الخبر أنَّ موضعه في الربع الشماليِّ الغربيِّ من المعمورة. قوله: {يَفْقَهُونَ} : قرأ الأخوان بضمِّ الياء، وكسر القاف، من أفقه غيره، فالمفعول محذوف، أي: لا يفقهون غيرهم قولاً، والباقون بفتحهما، أي: لا يفهمون كلام غيرهم، وهو بمعنى الأول، وقيل: ليس بمتلازمٍ؛ إذ قد يفقه الإنسان كلام غيره، ولا يفقه قوله غيره، وبالعكس. فصل في كيفية فهم ذي القرنين كلام أولئك القوم لمَّا بلغ ذو القرنين ما بين السَّدين {وَجَدَ مِن دُونِهِمَا} [أي] من ورائهما مجاوزاً عنهما «قوماً» ، أي: أمَّة من الناس {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} . فإن قيل: كيف فهم ذو القرنين منهم هذا الكلام، بعد أن وصفهم الله تعالى بقوله: {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} ؟ . فالجواب من وجوه: أحدهما: قيل: كلّم عنهم مترجمٌ؛ ويدل عليه قراءة ابن مسعودٍ: لا يكادون يفقهون قولاً، قال الذين من دونهم: يا ذا القرنين {إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوج} . وثانيها: أن قوله: {لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً} يدلُّ على أنَّهم قد يفقهون بمشقَّة وصعوبة [من إشارة ونحوها] . وثالثها: أنَّ «كاد» معناه المقاربة؛ وعلى هذا، فلا بدَّ من غضمارٍ، تقديره: لا يكادون يفقهون إلاَّ بمشقةٍ؛ من إشارة ونحوها. قوله: {يَأْجُوجَ وَمَأْجُوج} : قرأ عاصم بالهمزة الساكنة، والباقون بألف صريحة، واختلف في ذلك؛ فقيل: هما أعجميَّان، لا اشتقاق لهما، ومنعا من الصرف؛ للعلميَّة الجزء: 12 ¦ الصفحة: 562 والعجمة، ويحتمل أن تكون الهمزة أصلاً، والألف بدلاً منها، أو بالعكس؛ لأنَّ العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية، وقيل: بل هما عربيَّان، واختلف في اشتقاقهما. فقال الكسائي: يأجوجُ: مأخوذٌ من تأجُّج النار، ولهبها أو شدَّة توقُّدها؛ فلسرعتهم في الحركة سمُّوا بذلك، ومأجوج من موج البحر. وقيل من الأجِّ، وهو الاختلاط أو شدَّة الحرِّ. وقيل من الأجِّ، وهو الاختلاط أو شدَّة الحرِّ. وقال القتيبيُّ: من الأجِّ، وهو سرعة العدو، ومنه قوله: [الطويل] 3566 - ... ... ... ... ... ..... تَؤجُّ كمَا أجَّ الظَّلِيم المُنفَّرُ وقيل: من الأجاجِ، وهو الماءُ المالح الزُّعاقُ. وقال الخليلُ: الأجُّ: حبٌّ؛ كالعدس، والمجُّ: مجُّ الرِّيق، فيحتمل أن يكونا مأخوذين منهما، ووزنهما يفعولُ، ومفعول، وهذا ظاهر على قراءة عاصم، وأمَّا قراءة الباقين، فيحتمل أن تكون الألف بدلاً من الهمزة الساكنة، إلا أنَّ فيه أنَّ من هؤلاء من ليس أصله قلب الهمزة الساكنة، وهم الأكثر، ولا ضير في ذلك، ويحتمل أن تكون ألفهما زائدتين، ووزنهما «فَاعُول» من يجَّ، ومجَّ. ويحتمل أن يكون ماجوج من «مَاجَ، يَمُوجُ» أي: اضطرب، ومنه الموجُ، فوزنه مفعول، وأصله: مَوجُوج، قاله أبو حاتم، وفيه نظر؛ من حيث ادِّعاءُ قلب حرف العلة، وهو ساكنٌ، وشذوذه كشذوذ «طائي» في النَّسب إلى طيِّئ. وعلى القول بكونهما عربيَّين مشتقَّين، فمنع صرفهما؛ للعلميَّة والتأنيث؛ بمعنى القبيلة؛ كما تقدَّم في سورة هود، ومثل هذا الخلاف والتعليل جارٍ في سورة الأنبياء [الآية: 93]- عليهم السلام - والهمزة في يأجوج ومأجوج لغة بني أسدٍ، وقرأ رؤبة وأبوه العجاج «آجُوج» . فصل في اصل يأجوج ومأجوج اختلفوا في أنَّهم من أيِّ الأقوام، فقال الضحاك: هم جيلٌ من التُّرك. وقال السديُّ: التُّرك: سريَّة من يأجُوج ومأجوج، خرجت، فضرب ذو القرنين السدَّ، فبقيت خارجة، فجميع الترك منهم. وعن قتادة: أنَّهم اثنان وعشرون قبيلة، بنى ذو القرنين السدَّ على إحدى وعشرين قبيلة، وبقيت قبيلة واحدة، وهم التُّركُ، سمُّوا بذلك؛ لأنَّهم [تركوا] خارجين. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 563 فصل في أجناس البشر قال أهل التَّاريخ: أولاد نوحٍ ثلاثة: سام، وحام، ويافث. فسام أبو العرب، والعجم، والرُّوم. وحام: أبو الحبشة، والزَّنج، والنُّوبة. ويافث: أبو التُّرك، والخزر، والصقالبة، ويأجوج ومأجوج. واختلفوا في صفاتهم: فمن النَّاس من وصفهم بقصر القامة، وصغر الجثَّة بكون طول أحدهم شبراً، ومنهم من يصفهم بطُول القامة، وكبر الجثَّة، فقيل: طول أحدهم مائةُ وعشرون ذراعاً، ومنهم من طوله وعرضه كذلك، وأثبتوا لهم مخالب في الأظفار وأضراساً كأضراسِ السِّباع، ومنهم من يفترش إحدى أذنيه، ويلتحفُ بالأخرى. فصل في إفسادهم واختلفوا في كيفية إفسادهم: فقيل: كانوا يقتلون الناس. وقيل: كانوا يأكلوه لحوم النَّاس، وقيل: كانوا يخرجون أيَّام الربيع ولا يتركون لهم شيئاً أخضر. وبالجملة: فلفظ الفساد يحتمل هذه الأقسام. ثمَّ إنَّه تعالى حكى عن أهل ما بين السَّديْن أنَّهم قالوا لذي القرنين: {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً} الآية. قوله: «خَرْجاً» قرأ ابن عامر «خَرْجاً» هنا وفي المؤمنين [الآية: 72] بسكون الراء، والأخوان «خَرَاجاً» «فَخَراج» في السورتين بالألف، والباقون كقراءة ابن عامر في هذه السورة، والأول في المؤمنين، وفي الثاني، وهو «فَخرَاج» كقراءة الأخوين، فقيل: هما بمعنى واحد كالقول والقوال، والنّوْل والنَّوال، وقيل: «الخَراجُ» بالألف ما ضرب على الأرض من الإتاوةِ كلَّ عامٍ، وبغير الألف بمعنى الجعل، أي: نُعطيكَ من أموالنا مرَّة واحدة ما تستعينُ به على ذلك، وقال أبو عمر: الخرج: ما تبرَّعت به، والخراج ما لزمك أداؤهُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 564 قال مكيٌّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: واختيار تركُ الألف؛ لأنَّهم إنما عرضوا عليه: أن يعطوه عطيَّة واحدة على بنائه، لا أن يضرب ذلك عليهم كلَّ عامٍ، وقيل: الخرجُ: ما كان على الرءوس، والخراج: ما كان على الأرض، قاله قطرب يقال: أدِّ خرج رأسك، وخراج أرضك، قاله ابن الأعرابيِّ، وقيل: الخرجُ أخصُّ، والخَراجُ أعمُّ، قاله ثعلبٌ، وقيل: الخرجُ مصدر، والخراجُ: اسم لما يعطى، ثم قد يطلق على المفعول المصدر؛ كالخلقِ؛ بمعنى المخلوق. ثم قال: {على أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً} أي: حاجزاً، فلا يصلون إلينا. قوله: {مَا مَكَّنِّي} : «ما» بمعنى «الذي» وقرأ ابن كثيرٍ: «مكَّنني» بإظهار النون، والباقون بإدغامها في نون الوقاية؛ للتخفيف. وهي مرسومةٌ في مصاحف غير مكَّة بنون واحدة، وفي مصاحف مكَّة بنونين، فكلٌّ وافق مصحفه. ومعنى الكلام: ما قوَّاني عليه ربِّي خيرٌ من جعلكم، أي: ما جعلني مكيناً من المال الكثير، خيرٌ ممَّا تبذلُون لي من الخراج؛ فلا حاجة بي إليه، كقول سليمان - عليه السلام -: {فَمَآ آتَانِي الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ} [النمل: 36] . قوله: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ} أي: لا أريد المال، ولكن أعينوني بأيديكم، وقوَّتكم {أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً} . والرَّدْم: هو السدُّ، يقال: ردمت الباب، أي: سددتُّه، وردمتُ الثوب: رقعته؛ لأنه يسدُّ موضع الخرق بالرَّقع، والرَّدم أكثر من السدِّ؛ من قولهم: ثوبٌ مردم، أي: وضعت عليه رقاعٌ. قالوا: وما تلك القوة؟ . قال: فعلةٌ وصنَّاعٌ يحسنون البناء والعمل، والآلة. قالوا: وما تلك الآلة؟ . قال: {آتُونِي} : قرأ أبو بكرٍ «ايتُونِي» بهمزة وصلٍ؛ من أتى يأتي في الموضعين من هذه السورة؛ بخلاف عنه في الثاني، ووافقه حمزة على الثاني، من غير خلافٍ عنه، والباقون بهمزة القطع فيهما. ف «زُبرَ» على قراءة همزة الوصل منصوبة على إسقاط الخافض، أي: جيئُوني بزُبرِ الجزء: 12 ¦ الصفحة: 565 الحديد، وفي قراءة قطعها على المفعول الثاني؛ لأنه يتعدَّى بالهمزة إلى اثنين، وعلى قراءة أبي بكرٍ يحتاج إلى كسر التنوين من «رَدْماً» لالتقاءِ الساكنين؛ لنَّ همزة الوصل، تسقط درجاً، فيقرأ له بكسر التنوين، وبعده همزة ساكنة هي فاءُ الكلمة، وإذا ابتدأت بكلمتي «ائتُونِي» في قراءته، وقراءة حمزة، تبدأ بهمزة مكسورة للوصلِ، ثم ياءٍ صريحة، هي بدلٌ من همزة فاء الكلمة، وفي الدَّرج تسقط همزة الوصل، فتعود الهمزة؛ لزوالِ موجب إبدالها. والباقون يبتدئون، ويصلون بهمزة مفتوحة؛ لأنَّها همزة قطعٍ، ويتركون تنوين «رَدْماً» على حاله من السكون، وهذا كله ظاهر لأهل النحو، خفيٌّ على القراء. والزُّبَرُ: جمع زُبْرَة، كغُرفَةٍ وغُرَفٍ. و «زُبَرَ الحَديدِ» قطعه. قال الخليل: الزُّبرة من الحديد: القطعة الضخمة. وقرأ الحسن بضمِّ الباء. قوله: «سَاوَى» هذه قراءة الجمهور، وقتادة «سوَّى» بالتضعيف، وعاصم في رواية طسُوِّيَ «مبنيًّا للمفعول. وفيه إضمارٌ، أي: فأتوهُ بها، فوضع تلك الزُّبرَ بعضها على بعض {حتى إِذَا ساوى} أي سدت ما بين الجبلين إلى أعلاهما. قوله:» الصَّدفَيْنِ «قرأ أبو بكرٍ بضم الصاد، وسكون الدَّال، وابن كثيرٍ، وأبو عمرو، وابن عامر بضمهما، والباقون بفتحهما، وهذه لغاتٌ قرئ بها في السَّبع، وأبو جعفرٍ، وشيبة، وحميد بالفتح والإسكان، والماجشونُ بالفتح والضمِّ، وعاصم في رواية بالعكس. والصَّدفانِ: ناحيتا الجبلين، وقيل: أن يتقابل جبلان، وبينهما طريقٌ، والناحيتان صدفان؛ لتقابلهما، وتصادفهما، من صادفت الرجل، أي: لاقيته وقابلته، وقال أبو عبيد:» الصَّدفُ: كل بناءٍ مرتفعٍ، وقيل: ليس بمعروفٍ، والفتحُ لغة تميمٍ، والضمُّ لغة حميرٍ «. فصل في بناء السد لما أتوهُ بزبر الحديد، وضع بعضها على بعض؛ حتى ساوتْ، وسدَّت ما بين الجبلينِ، ووضع المنافخ عليها، والحطب، حتَّى إذا صارت كالنَّار، صبَّ النُّحاس المذاب على الحديدِ المحمَّى، فالتصق بعضه ببعض، فصار جبلاً صَلْداً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 566 وهذه معجزةٌ تامَّةٌ؛ لأنَّ هذه الزُّبَر الكثيرة، إذا نفخ عليها؛ حتَّى تصير كالنَّار، لم يقدر الحيوان على القرب منها، والنَّفخُ عليها لا يكون إلا بالقرب منها، فكأنَّه تعالى صرف تأثير تلك الحرارة العظيمة عن أبدان أولئك النَّافخين عليها. قيل: إنَّه وضع الحديد على الحطب، والحطب على الحديد؛ فصار الحطب في خلال الحديد، ثمَّ نفخُوا عليه؛ حتَّى صار ناراً، أفرغ عليه النُّحاس المذاب؛ فدخل في خلال الحديد مكان الحطب؛ لأنَّ النَّار أكلت الحطب؛ فصار النحاسُ مكان الحطب؛ حتَّى لزم الحديدُ النُّحاس. قال قتادة: صار كالبُرد المحبَّر طريقة سوداء وطريقة حمراء. فصل فيما بين السدين قال الزمخشريُّ: قيل: بعد ما بين السَّدين مائة فرسخٍ. وروي: عرضهُ كان خمسين ذراعاً، وارتفاعه مائتي ذراعٍ. قوله:» قِطْراً «هو المتنازع فيه، وهذه الآية أشهر أمثلةِ النحاةِ في باب التنازع، وهي من إعمال الثاني؛ للحذف من الأول، والقِطرُ: النُّحاس، أو الرَّصاصُ المذاب؛ لأنه يقطر. قوله : {فَمَا اسطاعوا } : قرأ حمزة بتشديد الطاء، والباقون بتخفيفها، والوجه في الإدغام، كما قال أبو عليٍّ: «لمَّا لم يمكنْ إلقاء حركة [التَّاء] على السِّين؛ لئلاَّ يحرَّك ما لا يتحرَّك» - يعني: أنَّ سين «اسْتَفْعَلَ» لا تتحرَّك - أدغم مع السَّاكن، وإن لم يكن حرف لين، وقد قرأت القراء غير حرفٍ من هذا النحو؛ وقد أنشد سيبويه «ومَسْحي» يعني في قول الشاعر: [الرجز] 3567 - كَأنَّهُ بَعْدَ كَلالِ الزَّاجرِ ... ومَسْحِي مرُّ عُقابٍ كَاسرِ [يريد «ومَسْحِه» ] فأدغم الحاء في الهاء بعد أن قلب الهاء حاء، وهو عكس قاعدة الإدغام في المتقاربين، وهذه القراءة قد لحَّنها بعض النُّحاة، قال الزجاج: «من قرأ بذلك، فهو لاحِنٌ مخطئٌ» وقال أبو عليٍّ: «هي غيرُ جائزةٍ» . وقرأ الأعشى، عن أبي بكر «اصْطاعُوا» بإبدال السِّين صاداً، والأعمش «استطاعوا» كالثانية. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 567 فصل حذفت تاء «اسْتطَاعُوا» للخفَّة؛ لأنَّ التاء قريبة المخرجِ من الطَّاء، ومعنى «يَظْهَرُوهُ» أي: يعلونه من فوق ظهره؛ لطوله، وملاسته، وصلابته، وثخانته، ثم قال ذو القرنين: «هَذَا» إشارةٌ غلى السدِّ «رَحْمَةٌ» أي: نعمة من الله، ورحمة على عباده {فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي} أي: القيامة. وقيل: وقت خروجهم {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} أي: جعل السدَّ مدكوكاً مستوياً، مع وجه الأرض. قوله: {جَعَلَهُ دَكَّآءَ} : الظاهر أنَّ «الجَعْلَ» هنا بمعنى «التَّصْيير» فتكون «دكَّاء» مفعولاً ثانياً، وجوَّو ابن عطيَّة: أن يكون حالاً، و «جَعَلَ» بمعنى «خَلَقَ» وفيه بعدٌ؛ لأنه إذ ذاك موجود، وتقدَّم خلاف القراء في «دكَّاء» في الأعراف. قوله: {وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} الوعْدُ هنا مصدر بمعنى «المَوعُود» أو على بابه. فصل فيما روي عن يأجوج ومأجوج روى قتادة، عن أبي رافعٍ، عن أبي هريرة، يرفعه: أنَّ يأجُوج ومأجُوجَ يحفرونه كلَّ يوم، حتَّى إذا كادوا يرون شُعاعَ الشَّمسِ، قال الذي عليهم: ارجعوا؛ فسَتحْفُرونهُ غداً، فيُعيدهُ الله كما كان، حتَّى إذا بَلغَتْ مُدَّتهُمْ، حفروا؛ حتَّى كادوا يرون شعاع الشَّمسِ، قال الذي عليهم: ارْجِعُوا، فسَتحْفرُونَهُ، إن شاء الله تعالى غداً، واستثنى، فيَعُودُونَ إليه، وهو كهيئته حين تركوهُ، فيحفرونه، فيخرجون على النَّاس [فَيَشْرَبُونَ] المياهَ، ويتحَصَّنُ النَّاس في حصونهم، فيرمون بسهامهم إلى السَّماءِ، فتَرجِعُ فيها كهيئةِ الدَّم، فيقولون: قهرنا أهْلَ الأرْضِ، وعلونا أهل السَّماء، فيَبعَثُ الله عليهم نغفاً في أقفائهم، فَيهلكُونَ، وإنَّ دوابَّ الأرضِ لتسمنُ وتشكرُ من لحومهم. وعن النَّواس بن سمعان، قال: ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الدَّجَّال ذات غداةٍ، فخفَّض فيه ورفَّع حتَّى ظننَّاهُ في طائفةِ النَّخل، فلمَّا رحنا إليه، عرف ذلك فينا، فقال: ما شَأنكم؟ قلنا: يا رسول الله، ذكرتَ الدَّجالِ أخْوفني عليكم، إنْ يخرجْ وأنا فيكم، فأنا حَجيجُهُ دونكم، وإن يخرج، ولستُ فيكم، فكلُّ امرئٍ حَجِيجُ نفسه، والله خليفتي على كلِّ مسلم؛ إنَّهُ شابٌّ قططٌ، عينه طافيةٌ؛ كأنِّي أشبِّهه بعبد العُزَّى بن قطنٍ، فمن أدركه منكم، فليقرأ عليه الجزء: 12 ¦ الصفحة: 568 فواتح سورة الكهف، إنَّه خارجٌ خلَّة بين الشَّام والعراق، فعاث يميناً، وعاث شمالاً؛ يا عباد الله فاثبتوا قلنا: يا رسول الله، وما لبثهُ في الأرض؟ قال: أربعون يوماً؛ يومٌ كسنةٍ، ويومٌ كشهرٍ، ويومٌ كجمعةٍ، وسَائ~رُ أيَّامه كأيَّامكُمْ، قلنا: يا رسول الله، فذلك اليومُ الذي كسنةٍ، يكْفِينَا فيه صلاةُ يوم؟ قال: لا، اقدرُوا لهُ قدرهُ، قلنا: يا رسول الله، وما إسراعهُ في الأرض؟ قال: كالغَيْثِ اسْتدْبَرَتهُ الرِّيحث، فيأتي على القومِ، فيَدعُوهُمْ، فيُؤمِنُونَ به، ويسْتَجيبُونَ له، فيَأمُر السَّماءَ، فتُمْطِرُ، والأرض فتُنْبِتُ، وتَروحُ عليهم سارحتهم، أطول ماكانت ذُرًى، وأسبغهُ ضُرُوعاً، وأمدَّهُ خَواصِرَ، ثمَّ يأتي القوم، فيَدعُوهُمْ، فيَردُّونَ عليه قوله، قال: فيَنْصرِفُ عنهم، فيُصْبِحُونَ مُمْحلين، ليس بايديهم شيءٌ من أموالهم، ويمرُّ بالخربة، فيقول لها: أخرجي كنُوزكِ، فتَتْبَعُهُ كنُوزهَا؛ كيعَاسيب النَّحلِ، ثمَّ يدعو رجلاً مُمتلِئاً شباباً، فيَضْرِبُهُ بالسَّيفِ، فيَقْطعُه جزلتين رمية الغرض، ثمَّ يدعوهُ، فيُقْبلُ، يتهلَّلُ وجههُ؛ يضحك، فبينما هو كذلك؛ إذْ بعثَ الله عيسى ابن مريم المسيح - عليه السلام - فينزلُ عند المنارةِ البيضاءِ شرقيَّ دمشق، بين مهرُودتين واضعاً كفَّيه على أجْنحَةِ ملكين، إذا طأطأ رأسهُ، قطر، وإذا رفعه؛ تحدَّر منه مثل جمان اللؤلؤِ، فلا يحلُّ للكافر يجدُ ريحَ نفسه غلاَّ مات، ونفسه ينتهي حيثُ ينتهي طرفه حتَّى يدركه ببابِ لدٍّ، فيقتلهُ، ثمَّ يأتي عيسى قومٌ قد عصمهمُ الله منهُ، فيَمْسحُ عن وجوههم، ويحدِّثهُمْ بدرجاتهم في الجنَّة، فبينما هو كذلك إذْ أوحى الله تعالى غلى عيسى: إنِّي قَدْ أخرجتُ عباداً لي لا يدان لأحدٍ بقتالهم، فحرِّزْ عبادي إلى الطُّور، ويبعثُ الله يأجُوج ومأجُوجَ، وهُمْ من كلِّ حدبٍ ينسلون، فيمُرُّ أوائلهُم على بحيرة «طبَريَّة» فيَشْربُونَ ما فيها، ويمرُّ آخرهم، فيقولون: لقد كان بهذه مرَّة ماءٌ، ويحصر نبي الله وأصحابه حتى يكون رأسُ الثَّور لأحدهم خيراً من مائة دينارٍ لأحدكم اليْومَ، فيرغب نبيُّ الله عيسى وأصحابه إلى الله، فيُرسِلُ الله تعالى عليهم النَّغف في رقابهم، فيُصْبِحُون فَرْسَى كموتِ نفسٍ واحدةٍ ثمَّ يهبطُ نبيُّ الله وأصحابه إلى الأرض، فلا يجدُونَ في الأرض موضع شبر إلا ملأهُ زَهمهُمْ ونتنهُمْ، فيَرْغبُ نبيُّ الله عيسى وأصحابهُ إلى الله، فيُرسِلُ الله عليهم طيراً؛ كأعناقِ البُخْتِ، فتَحْملهُمْ، فتَطْرَحهُمْ حيثُ شَاءَ الله، ثمَّ يرسلُ الله مطراً، لا يكنُّ منهُ بيتٌ مَدَرٌ، ولا وبرٌ، فيَغْسِلُ الأرض، حتَّى يَتركهَا كالزَّلقة، ثمَّ يقال للأرض: أنْبتِي ثَمرتك، ورُدِّي بَركتَكِ، فيَومئذٍ: تَأكلُ العَصابةُ الرُّمانَة، ويَسْتظلُّونَ بِقحْفِهَا، ويبارك في الرِّسلِ، حتَّى إنَّ اللقحة من الإبل، لتكفي الفئامَ من النَّاس، وبينما هم كذلك؛ إذْ بعث الله ريحاً طيبة، فتَأخُذهُمْ تحت آباطهم، فتَقْبِضُ رُوح كلِّ مؤمنٍ، وكلِّ مسلمٍ، ويبقى شِرارُ النَّاس يَتهارَجُونَ فيها تَهارُجَ الحُمُر، فعليهم تَقومُ السَّاعةُ. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 569 قوله: {وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ} الآية. قيل: هذا عند فتح السَّد، وتركنا يأجوج ومأجوج يموجُ بعضهم في بعضٍ، أي: يزدحمون كموج الماء، ويختلط بعضهم في بعضٍ؛ لكثرتهم. وقيل: هذا عند قيام السَّاعة يدخل الخلق بعضهم في بعض، ويختلط إنسيُّهم بِجنِّيِّهِمْ حَيَارَى. قوله: «يَوْمئِذٍ» التنوين عوضٌ من جملةٍ محذوفة، تقديرها: يوم إذ جاء وعدُ ربِّي، أو إذ حجز السدُّ بينهم. قوله: {يَمُوجُ} : مفعول ثانٍ ل «تَركْنَا» والضمير في «بَعْضهُمْ» يعود على «يَأجُوج ومأجُوج» أو على سائر الخلق. قوله: {وَنُفِخَ فِي الصور} . لأن خروج يأجوج ومأجوج من علامات قرب السَّاعة، وتقدَّم الكلام في الصور، {فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً} في صعيدٍ واحدٍ. «وعَرضْنَا» : أبْرَزْنَا. {جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِّلْكَافِرِينَ عَرْضاً} حتَّى يشاهدوها عياناً. قوله: {الذين كَانَتْ} : يجوز أن يكون مجروراً بدلاً من «لِلْكافِرينَ» أو بياناً، أو نعتاً، وأن يكون منصوباً بإضمار «أذمُّ» وأن يكون مرفوعاً خبر ابتداءٍ مضمرٍ. ومعنى {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ} : أي: [غشاءٍ، والغطاء: ما يغطِّي الشيء ويسترهُ {عَن ذِكْرِي} : عن الإيمان والقرآن، والمراد منه: شدَّة انصرافهم عن قَبُول الحقِّ، وعن الهدى والبيان، وقيل: عن رؤية الدلائل: {وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} . أي: سمع الصَّوت، أي: القبول والإيمان؛ لغلبةِ الشَّقاء عليهم. وقيل: لا يعقلون، وهذا قوله: {فَعَمُواْ وَصَمُّواْ} [المائدة: 71] . أما العمى، فهو قوله: {كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي} وأما الصّمم فقوله: {لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً} . أي: لا يقدرون [أن يَسْمَعُوا] من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ما يتلوه عليهم؛ لشدَّة عداوتهم له. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 570 قوله تعالى: {أَفَحَسِبَ الذين كفروا} الآية. لما بيَّن إعراض الكافرين عن الذِّكر، وعن سماع ما جاء به رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أتبعه بقوله: {أَفَحَسِبَ الذين كفروا} الجزء: 12 ¦ الصفحة: 570 والمعنى: أفظنَّ الذين كفروا أن ينتفعوا بما عبدوه. والمراد بقوله: {أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَآءَ} : أرباباً، يريد بالعباد: عيسى، والملائكة. وقيل: هم الشياطين يتولَّونهم ويطيعُونَهُم. وقيل: هم الأصنام، سمَّاها عباداً؛ كقوله: {عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ} [الأعراف: 194] . وهو استفهام توبيخ. قوله: {أَفَحَسِبَ} : العامة على كسر السين، وفتح الباء؛ فعلاً ماضياً، و {أَن يَتَّخِذُواْ} سادٌّ مسدَّ المفعولين، وقرأ أميرُ المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالب، وزيد بن عليٍّ، وابن كثيرٍ، ويحيى بن يعمر في آخرين، بسكون السين، ورفع الباء على الابتداء، والخبر «أنْ» وما في حيِّزها. والمعنى: أفكافيهم، وحسيبهم أن يتَّخذوا كذا وكذا. وقال الزمخشريُّ: «أو على الفعل والفاعل؛ لأن اسم الفاعل، إذا اعتمد على الهمزة، ساوى الفعل في العمل؛ كقولك:» أقَائمٌ الزَّيدانِ «وهي قراءة محكيَّةٌ جيِّدةُ» . قال أبو حيَّان: «والذي يظهر أنَّ هذا الإعراب لا يجوزُ؛ لأنَّ حسباً ليس باسم فاعلٍ، فيعمل، ولا يلزم من تفسير شيءٍ بشيء: أن يجرى عليه أحكامه، وقد ذكر سيبويه اشياء من الصِّفات التي تجري مجرى الأسماء، وأنَّ الوجه فيها الرفع، ثم قال: وذلك نحو: مرَرْتُ برجلٍ خير منه أبوهُ، ومررتُ برجلٍ سواءٍ عليه الخير والشر، ومررت برجلٍ اب لهُ صاحبه، ومررتُ برجلٍ حسبك من رجلٍ هو، ومررتُ برجلٍ أيِّما رجلٍ هو» . ثم قال ابو حيان: «ولا يبعُد أن يرفع به الظاهر، فقد أجازوا في» مررتُ برجلٍ أبي عشرةٍ أبوه «أن يرتفع» أبوهُ «ب» أبِي عشرةٍ «لأنه في معنى والدِ عشرةٍ» . قوله: «نُزُلاً» فيه أوجهٌ: أحدها: أنه منصوب على الحال، جمع «نَازِلٍ» نحو شارفٍ، وشُرفٍ. الثاني: أنه اسم موضع النُّزولِ. قال ابن عباس: «مَثوَاهُمْ» وهو قول الزجاج. الثالث: أنَّه اسمُ ما يعدُّ للنازلين من الضُّيوف، أي: معدة لهم؛ كالمنزلِ للضَّيف، ويكون على سبيل التهكُّم بهم، كقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [آل عمران: 21] وقوله: [الوافر] 3568 - ... ... ... ... ..... الجزء: 12 ¦ الصفحة: 571 تَحيَّةُ بينهم ضَرْبٌ وجِيعُ ونصبه على هذين الوجهين مفعولاً به، أي: صيَّرنا. وأبو حيوة «نُزْلاً» بسكون الزاي، وهو تخفيف الشَّهيرة. قوله: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً} . يعني: الَّذينَ أتعبوا أنفسهم في عملٍ يرجون به فضلاً ونوالاً، فنالُوا هلاكاً وبواراً. قال ابن عباس، وسعد بن أبي وقَّاصٍ: هم اليهود والنَّصارى. وهو قول مجاهدٍ. وقيل: هم الرهبانُ الذين حبسوا أنفسهم في الصَّوامع؛ كقوله تعالى: {عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ} [الغاشية: 3] . وقال عليُّ بن أبي طالبٍ: هم أهلُ حروراء. قوله: {أَعْمَالاً} : تمييزٌ للأخسرين؛ وجمع لاختلاف الأنواع. قوله: {الذين ضَلَّ} : يجوز فيه الجر نعتاً، وبدلاً، وبياناً، والنصب على الذَّم، والرفع على خبر ابتداء مضمرٍ. ومعنى خُسْرانهِم أن مثلهم كمن يشتري سلعة يرجُو منها ربحاً، فخسر وخاب سعيهُ، كذلك أعمالُ هؤلاء الذين أتعبُوا أنفسهم مع ضلالهم، فبطل جدُّهم واجتهادهم في الحياة الدنيا، {وَهُمْ يَحْسَبُونَ} يظنون {أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً} أي: عملاً. قوله: {يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ} يسمَّى في البديع «تَجْنيسَ التَّصحيف» وتجنيس الخطِّ، وهذا من أحسنه، وقال البحتريُّ: [الطويل] 3569 - ولَمْ يَكُنِ المُغْتَرُّ بالله إذْ شَرَى ... ليُعْجِزَ والمُعْتَزُّ بالله طَالِبُهْ فالأول: من الغُرورِ، والثاني: من العزِّ، ومن أحسن ما جاء في تجنيس التصحيف قوله: [السريع] الجزء: 12 ¦ الصفحة: 572 3570 - سَقَيْنَنِي ريِّي وغَنَّيْنَنِي ... بُحْتُ بِحُبِّي حينَ بِنَّ الخُرُذ يصحف بنحو: [السريع] شَقَيْتَنِي ربِّي وعَنَّيْتَنِي ... بِحُبِّ يَحْيَى خَتنِ ابنِ الجُرُذ وفي بعض رسائل الفصحاء: قِيلَ قَبْلَ نَداكَ ثَرَاكَ، عَبْدٌ عِنْدَ رَجَاكَ رَجَاكَ، آمِلٌ أمِّكَ. قوله تعالى: {أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ} . لقاء اللع عبارة عن رؤيته؛ لأنَّه يقال: لقيتُ فلاناً، أي: رأيته. فإن قيل: اللُّقيا عبارةٌ عن الوصول؛ قال الله تعالى: {فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ} [القمر: 12] . وذلك في حقِّ الله محالٌ؛ فوجب حمله على ثواب الله. فالجواب: أن لفظ اللقاء، وإن كان في الأصل عبارة عن الوصول إلاَّ أنَّ استعماله في الرؤية مجازٌ ظاهرٌ مشهورٌ، ومن قال بأنَّ المراد منه: لقاء ثواب الله، فذلك لا يتمُّ إلا بالإضمار، وحمل اللفظ على المجاز المتعارفِ المشهور أولى من حمله على ما يحتاج إلى الإضمار. واستدلَّت المعتزلة بقوله تعالى: {فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} على أن الإحباط حقٌّ، وقد تقدَّم ذلك في البقرة وقرأ ابن عباس «فَحبَطَتْ» بفتح الباء والعامة بكسرها. قوله: {فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً} . قرأ العامة «نُقِيمُ» بنون العظمة، من «أقَامَ» ومجاهدٌ وعبيد بن عميرٍ: «فَلا يُقِيمُ» بياءِ الغيبة، لتقدُّم قوله: «بآيَاتِ ربِّهِمْ» فالضمير يعود عليه، ومجاهدٌ أيضاً «فلا يقُومُ لَهُمْ» مضارع «قَامَ» متعدٍّ، كذا قال أبو حيَّان، والأحسن من هذا: أن تعرب هذه القراءة على ما قاله أبو البقاء: أن يجعل فاعل «يَقومُ» «صنيعُهمْ» أو «سَعْيهُم» وينتصب حينئذٍ « الجزء: 12 ¦ الصفحة: 573 وزْناً» على أحد وجهين: إمَّا على الحال، وإمَّا على التَّمييز. فصل في معنى الآية المعنى: أنَّا نزدري بهم، وليس لهم عندنا وزنٌ ومقدارٌ، تقول العرب: ما لفلانٍ عندي وزنٌ، أي: قدرٌ؛ لخسَّتهِ، وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «إنَّهُ ليَأتِي يَومَ القيامةِ الرَّجلُ العَظيمُ السَّمينُ، فلا يَزنُ عند الله جَناحَ بَعُوضةٍ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 574 الرابع: أن يكون " ذلك " مبتدأ أيضا، و" جزاؤهم " خبره، و" جهنم " بدل، أو بيان، أو خبر ابتداء مضمر. الخامس: أن يجعل " ذلك " مبتدأ، و" جزاؤهم " بدل، أو بيان، و" جهنم " خبر ابتداء مضمر، و" بما كفروا " خبر الأول، والجملة اعتراض. السادس: أن يكون " ذلك " مبتدأ، والجار: الخبر، و" جزاؤهم جهنم " جملة معترضة، وفيه بعد: السابع: أن يكون " ذلك " إشارة إلى جماعة، وهم مذكورون في قوله: " بالأخسرين "، وأشير إلى الجمع؛ كإشارة الواحد؛ كأنه قيل: أولئك جزاؤهم جهنم، والإعراب المتقدم يعود على هذا التقدير. ومعنى الكلام: أن ذلك الجزاء جزاء على مجموع أمرين: كفرهم، واتخاذهم آيات الله ورسله هزوا، فلم يقتصروا على الرد عليهم وتكذيبهم، حتى استهزءوا بهم. قوله: " واتخذوا " فيه وجهان: أحدهما: أنه عطف على " كفروا " فيكون محله الرفع؛ لعطفه على خبر " إن ". الثاني: أنه مستأنف، فلا محل له، والباء في قوله: " بما كفروا " لا يجوز تعلقها ب " جزاؤهم " للفصل بين المصدر ومعموله. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 575 قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} الآية. لما ذكر وعيد الكفَّار، ونزلهم، أتبعه بوعيدِ المؤمنين ونزلهم. قال قتادة: الفِرْدَوس: وسطُ الجنَّة، وأفضلها. وعن كعبٍ: ليس في الجنانِ أعلى من جنَّة الفردوس، وفيها الآمرون بالمعروف، والنَّاهون عن المنكر. وعن مجاهدٍ: الفردوسُ: هو البستان، بالرومية. وقال عكرمة: هو الجنَّة بلسان الحبش. وقال الزجاج: هو بالروميَّة منقولٌ إلى لفظ العربيَّة. وقال الضحاك: هي الجنَّة الملتفَّة الأشجارِ. وقيل: هي التي تنتبت ضروباً من النَّبات. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 575 وقيل: الفردوس: الجنَّة من الكرم خاصَّة. وقيل: ما كان عاليها كرماً. وقيل: كلُّ ما حُوِّط عليه، فهو فردوس. وقال المبرِّد: الفردوس فيما سمعتُ من العرب: الشَّجرُ الملتفُّ، والأغلب عليه: أن يكون من العنب، واختلفوا فيه: فقيل: هو عربيٌّ، وقيل: هو أعجميٌّ، وقيل: هو روميٌّ، أو فارسيٌّ، أو سرياني، قيل: ولم يسمعْ في كلام العرب إلاَّ في قوله حسَّان: [الطويل] 3572 - وإنَّ ثَوابَ الله كُلَّ مُوحِّدٍ ... جِنَانٌ من الفِرْدوس فيهَا يُخُلَّدُ وهذا ليس بصحيح؛ لأنَّه سمع في شعر أميَّة بن أبي الصَّلت: [البسيط] 3573 - كَانَتْ مَنازِلهُمْ إذ ذَاكَ ظَاهِرةً ... فيهَا الفَراديسُ ثمَّ الثُّومُ والبَصَلُ ويقال: كرمٌ مفردسٌ، أي: معرِّش، ولهذا سمِّيت الروضة التي دون اليمامةِ فردوساً. وإضافة جنَّاتٍ إلى الفردوس إضافة تبيينٍ، وجمعه فراديسُ؛ قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «في الجنَّة مائةُ درجةٍ ما بَيْنَ كلِّ درجةٍ مسيرةُ مائة عام، والفِردوسُ أعلاها درجةً، وفيها الأنهارُ الأربعة، والفِرْدَوسُ من فَوْقِهَا، فإذا سَألتمُ الله تعالى، فاسْألُوهُ الفِرْدوسَ؛ فإنَّ فوقها عَرْشُ الرَّحمنِ، ومِنْهَا تُفجَّرُ أنهارُ الجنَّة» . قوله: «نُزُلاً» : فيه ما تقدَّم: من كونه اسم مكان النزول، أو ما يعدُّ للضَّيف، وفي نصبه وجهان: أحدهما: أنه خبر «كَانَتْ» و «لهُمْ» متعلقٌ بمحذوفٍ على أنَّه حالق من «نُزلاً» أو على البيان، أو ب «كَانَتْ» عند من يرى ذلك. والثاني: أنه حالٌ من «جنَّات» أي: ذوات نُزُلٍ، والخبر الجارُّ. وإذا قلنا بأنَّ النُّزل هو ما يهيَّأ للنَّازل، فالمعنى: كانت لهم ثمارٌ جنَّات الفردوس، ونعيمها نزلاً، ومعنى «كَانتْ لَهُمْ» أي: في علم الله قبل أن يخلقوا. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 576 قوله: {لاَ يَبْغُونَ} : الجملة حال: إمَّا من صاحب «خَالِدينَ» وإمَّا من الضمير في «خَالِدِينَ» فتكون حالاً متداخلة. والحِوَلُ: قيل: مصدر بمعنى «التَّحَوُّل» يقال: حال عن مكانه حِوَلاً؛ فهو مصدر؛ كالعِوَج، والعِوَد، والصِّغر؛ قال: [الرجز] 3574 - لِكُلِّ دَولةٍ أجَلْ ... ثم يُتَاحُ لهَا حِوَلْ والمعنى: لا يطلبون عنها تحوُّلاً إلى غيرهاز وقال الزجاج: «هو عند قومٍ بمعنى الحيلة في التنقُّل» وقال ابن عطيَّة: «والحِوَلُ: بمعنى التَّحول؛ قال مجاهد: مُتحوَّلاً» وأنشد الرَّجز المتقدم، ثم قال: «وكأنَّه اسمُ جمعٍ، وكأنَّ واحده حوالةٌ» قال شهاب الدين: وهذا غريبٌ، والمشهور الأول، والتصحيح في «فِعَلٍ» هو الكثير، إن كان مفرداً؛ نحو: «الحِوَلِ» وإن كان جمعاً، فالعكس؛ نحو: «ثِيرَة» و «كِبَرة» . قوله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} الآية. لما ذكر في هذه السورة أنواع الدَّلائل والبيِّنات، وشرح فيها أقاصيص الأوَّلين، نبَّه على كمال حال القرآن، فقال: {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي} . قال ابن عباس: قالت اليهود: يا محمد، تزعمُ أنّك قد أوتينا الحكمة، وفي كتابك {وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} [البقرة: 269] . ثم تقول: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85] . فأنزل الله هذه الآية. وقيل: لمَّا نزلت: {وَمَآ أُوتِيتُم مِّن العلم إِلاَّ قَلِيلاً} قالت اليهود: أوتينا التوراة، وفيها علمُ كلِّ شيءٍ، فأنزل الله تعالى: {قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} . والمِدَادُ: اسمٌ لما تمدُّ به الدَّواة من الحبرِ، ولما يمدُّ به السِّراجُ من السَّليط، وسمي المدادُ مداداً؛ لإمداده الكاتب، وأصله من الزيادة. وقال مجاهدٌ: لو كان البحر مداداً للقلم والقلم يكتب «لنفِد البَحْرُ» أي: ماؤهُ. قوله: «تنفد» : قرأ الأخوان «يَنْفدَ» بالياء من تحت؛ لأنَّ التأنيث مجازي، الجزء: 12 ¦ الصفحة: 577 والباقون بالتاء من فوق؛ لتأنيث اللفظ، وقرأ السلميُّ - ورويت عن أبي عمرو وعاصم - «تنفَّد» بتشديد الفاء، وهو مطاوع «نفَّد» بالتشديد؛ نحو: كسَّرته، فتكسَّر، وقراءة الباقين مطاوع «أنْفَدتُّهُ» . قوله: «ولَوْ جِئْنَا» جوابها محذوفٌ لفهم المعنى، تقديره: لَنفِدَ، والعامة على «مَدداً» بفتح الميم، والأعمش قرأ بكسرها، ونصبه على التمييز كقوله: [الطويل] 3575 - ... ... ... ... ... . ... فإنَّ اله! وَى يَكْفِيكهُ مثلهُ صَبْرا وقرأ ابن مسعود، وابن عبَّاس «مِداداً» كالأول، ونصبه على التَّمييز ايضاً عند أبي البقاء، وقال غيره - كأبي الفضل الرازيِّ -: إنه منصوب على المصدر، بمعنى الإمداد؛ نحو: {أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17] قال: والمعنى: ولو أمددناهُ بمثله إمداداً. فصل في معنى الآية المعنى: ولو كان الخلائقُ بكتبون، والبَحْرُ يمدُّهم، لنفد ما في البحر، ولم تنفدْ كلماتُ ربِّي {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ} أي بمثل ماء البحر في كثرته. قوله: {مََدداً} نظيره قوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله} [لقمان: 27] . واستدلُّوا بهذه الآية على أنَّها صريحةٌ في إثباتِ كلماتٍ كثيرة لله تعالى. قال ابن الخطيب: وأصحابنا حملوا الكلماتِ على متعلِّقات علم الله تعالى. قال الجبائيُّ: وأيضاً قوله: {قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي} يدلُّ على أنَّ كلمات الله تعالى، قد تنفدُ في الجملة، وما ثبت عدمهُ، امتنع قدمهُ. وأيضاً قال: {وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} . وهذا يدلُّ على أنه تعالى قادر على أن يجيء بمثل كلامه، والذي يجيءُ به يكون محدثاً، والذي يكون المحدثُ كلامهُ فهو أيضاً محْدَثٌ. فالجوابُ: بأنَّ المراد به الألفاظ الدَّالَّة على تعلُّقات تلك الصِّفاتِ الأزليَّة. ولمَّا بيَّن تعالى تمام كلامه أمر محمَّداً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ بأن يسلك طريقة التَّواضع، فقال: {قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ} . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 578 أي: لا امتياز بيني وبينكم في شيء من الصفات إلاَّ في أنَّ الله تعالى، أوحى إليّ أنَّه لا إله غلاَّ هو الواحد الأحد. قال ابن عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: علَّم الله - عزَّ وجلَّ - رسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ التواضع، فأمره أن يُقرَّ، فيقول: أنا آدميٌّ مثلكم إلاَّ أنِّي خُصِصْتُ بالوحي. قوله: {أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ} وهو يدلُّ على مطلوبين: أحدهما: أن كلمة «أنَّما» تفيد الحصر. والثاني: كون الإله واحداً. قوله: {أَنَّمَآ إلهكم} : «أنَّ» هذه مصدرية، وإن كانت مكفوفة ب «ما» وهذا المصدر فائمٌ مقام الفاعل؛ كأنَّه قيل: إنَّما يوحى إليَّ التوحيد. قوله: {فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ} . الرَّجاء: هو ظنُّ المنافع الواصلة، والخوفُ: ظنُّ المضارِّ الواصلة إليه، فالرَّجاءُ هو الأملُ. وقيل: معنى «يَرْجُو لقاءَ ربِّه» أي: يخاف المصير إليه، فالرجاء يكون بمعنى الخوف، والمل جميعاً؛ قال الشاعر: [الطويل] 3576 - فَلاَ كُلُّ مَا تَرجُو مِنَ الخَيْرِ كَائِنٌ ... ولا كَلُّ مَا تَرْجُو من الشَّرِ واقِعُ فجمع بين المعنيين، وأهل السُّنة حملوا لقاء الربِّ على رؤيته. والمعتزلة حملوه على لقاء ثواب الله. قوله تعالى: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً} . قرأ العامة: «ولا يُشْرِكْ» بالياء من تحتُ، عطف نهي على أمرٍ، ورُويَ عن أبي عمرو «ولا تُشْرِكْ» بالتاءِ من فوق؛ خطاباً على الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، ثم التفت في قوله «بِعبادَةِ ربِّهِ» إلى الأول، ولو جيء على الالتفات الثاني، لقيل: «ربِّك» والباء سببيةٌ، أي: بسبب. وقيل: بمعنى «في» . فصل في ورود لفظ الشرك في «القرآن الكريم» قال أبو العبَّاس المقري: ورد لفظ الشِّرْك «في القرآن بإزاء معنيين: الأول: بمعنى الشِّرك في العمل؛ كهذه الآية. الثاني: بمعنى العَدْل؛ قال تعالى: {واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} [النساء: 36] . أي: ولا تعدلوا به شيئاً. الجزء: 12 ¦ الصفحة: 579 فصل في بيان الشرك الأصغر قال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» أخْوَفُ مَا أخَافُ عَليْكُمُ الشِّركُ الأصْغَرُ، قَالُوا: وما الشِّركُ الأصغر؟ قال: الرِّياءُ «. وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -:» إنَّ الله تَعالَى يَقُولُ: أنَا أغْنَى الشُّركاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمنْ عَمِلَ عملاً أشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي، فَأنَا مِنْهُ بَرِيءٌ، وهُوَ للَّذي عَمِلهُ «. وعن أبي الدَّرداء عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ حَفِظَ عَشْرَ آيَاتٍ مِنْ أوَّلِ سُورةِ الكَهْفِ عُصِمَ مِن فِتْنَةِ الدَّجالِ» . وعن أبي الدرداء عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «مَنْ قَرَأ أوَّلَ سُورةِ الكَهْفِ، كَانَتْ لَهُ نُوراً مِنْ قَدمَيْهِ إلى رأسِِ، ومَنْ قَرَأهَا، كَانَتْ لَهُ نُوراً مِنَ الأرْضِ إلى السَّماءِ» . وعن سمرة بن جُنْدبٍ، عن أبيه قال: قال النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «مَنْ قَرَأ عَشْرَ آياتٍ مِنَ الكهْفِ حِفْظاً، لَمْ يَضرَّهُ فِتْنَةُ الدَّجالِ، ومن قَرَأ السُّورة كُلَّهَا، دَخلَ الجنَّة» . وعن عبد الله بن أبي فروة، قال: إنَّ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «ألا أدُلُّكمْ على سُورةٍ شيَّعها سَبْعُونَ ألفَ ملكٍ، حِينَ نَزلَتْ، ملأَ عِظَمُهَا مَا بَيْنَ السَّماءِ والأرْضِ، ولتَالِيهَا مِثْلُ ذلِكَ؟ قالوا: بَلَى يا رسُول الله، قَالَ: سُورَةُ الكَهْفِ مَنْ قَرَأها يَوْمَ الجُمعةِ، غُفِرَ لهُ إلى الجُمعةِ الأخرى، وزِيَادةِ ثَلاثةِ أيَّامٍ، وأعْطِي نُوراً يَبْلغُ السَّماءَ، وَوُقِيَ فِتْنةَ الدَّجالِ» . الجزء: 12 ¦ الصفحة: 580 سورة مريم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 اعلم أنَّ حروف المُعْجمِ على نوعين: ثُنائي، وثُلاثي، وقد جرت العادةُ - عادةُ العرب - أن ينطقُوا بالثنائيَّات المقطوعة ممالة، فيقولوا: بَا، تَا، ثَا، وكذلك أمثالها، وأن ينطقوا بالثلاثيَّات التي في وسطها الألف مفتوحة مشبعة، فيقولون: دال ذال، صاد، ضاد، وكذلك أشكالها. أما الرَّازي وحدُه من بين حُروف المعجم، فمعتادٌ فيه الأمران،؛ فإنَّ من أظهر ياءَه في النُّطْق حتَّى يصير ثلاثيَّا، لم يُملُه، ومن لم يظهر ياءه في النطق؛ حتَّى يشبه الثنائيَّ، أماله. واعلم أنَّ إشباع الفتحة في جميع المواضع أصلٌ، والإمالة فرعٌ عليه؛ ولذلك يجوزُ إشباعُ كُلِّ ممالٍ، ولا يجوز كُلُّ مُشْبَعٍ من المفتوحات. والعامَّة على تسكين أواخر هذه الأحرفُ المقطعة، لذلك كان بعضُ القرَّاء يقفُ على كُلِّ حرفٍ منها وقفة يسيرة كبالغة في تمييز بعضها من بعض. وقرأ [الحسن] «كافُ» [و «ها» ] وتفخيمهما، وبعضهم يُعبِّر عن التفخيم بالضمِّ، كما يعبِّر عن الإمالةِ بالكسر، وإنما ذكرته؛ لأنَّ عبارتهم في ذلك مُوهمةٌ. وأزهر دال «صاد» قبل ذالِ «ذكرُ» نافعٌ، وابن كثير، واعاصم؛ لن الأصل، وأدغمها فيها الباقون. والمشهورُ إخفاء نون «عَيْن» قبل الصَّاد؛ لأنها تقاربها، ويشتركان في الفمِ، وبعضها يظهرها؛ لأنها حروفٌ مقطعةٌ يقصدون تمييز بعضها من بعض. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 3 قوله: {ذِكْرُ} : فيه ثلاثة أوجه: الأول: أنه مبتدأ محذوف الخبر، تقديره: فيما يتلى عليكم ذكر. الثاني: أنه خبر محذوف المبتدأ، تقديره: أو هذا ذكر. الثالث: أنه خبر الحروف المقطَّعة، وهو قول يحيى بن زياد، قال أبو البقاء «وفيه بعدٌ؛ لأنَّ الخبر هو المبتدأ في المعنى، وليس في الحروف المقطَّعة ذكرُ الرحمة، ولا في ذكر الرحمة معناها» . و «ذِكْرُ» مصدرٌ مضافٌ؛ قيل: إلى مفعوله، وهو الرحمة في نفسها مصدرٌ أيضاً مضافٌ إلى فاعله، و «عَبدَهُ» مفعولٌ به، والناصبُ له نفسُ الرحمةِ، ويكون فاعلُ الذِّكرِ غير مذكورٍ لفظاً، والتقدير: أن ذكر الله ورحمته عبدهُ، وقيل: بل «ذِكْرُ» مضافٌ إلى فاعله على الاتِّساع، ويكون «عبدهُ» منصوباً بنفس الذِكْر، والتقدير: أن ذكرت الرحمة عبدُه، فجعل الرحمة ذاكرةً له مجازاً. و «زكَرِيَّا» بدلٌ، أو عطفُ بيانٍ، أو منصوبٌ بإضمار «أعْنِي» . وقرأ يحيى بن يعمر - ونقلها الزمخشريّ عن الحسن - «ذَكَّرَ» فعلاً ماضياً مشدداً، و «رحمة» بالنصب على أنها مفعولٌ ثانٍ، قدمت على الأول، وهو «عَبْدُهُ» والفاعلُ: إما ضمير القرآن، أو ضمير الباري تعالى، والتقدير: أن ذكَّر القرآنُ المتلُوُّ - أو ذكَّر الله - عبده رحمتُه، أي: جعل العبد يذكرُ رحمته، ويجوز على المجازِ المتقدِّم أن «رحمةَ ربِّك» هو المفعول الأول، والمعنى: أنَّ الله جعل الرحمة ذاكرةً للعبد، وقيل: الأصلُ: ذكَّر برحمةِ، فلما انتزع الجارُّ نصب مجروره، ولا حاجة إليه. وقرأ الكلبيُّ «ذكر» بالتخفيف ماضياً «رَحْمَةَ» بالنصب على المفعول به، «عَبْدُهُ» بالرفع فاعلاً بالفعل قبله، «زَكريَّا» بالرفع على البيان، أو البدل، أو على إضمار مبتدأ، وهو نظيرُ إضمار الناصب في القراءة الأولى. وقرأ يحيى بن يعمر - فيما نقله عنه الدَّاني - «ذَكَّرْ» فعل أمرٍ، «رَحْمَةَ» و «عَبْدهُ» الجزء: 13 ¦ الصفحة: 4 بالنصب فيهما على أنهما مفعولان، وهما على ما تقدَّم من كون كلِّ واحدٍ، يجوز أن يكون المفعول الأول، أو الثاني، بالتأويلِ المتقدّم في جعل الرحمة ذاكرةً مجازاً. فصل في تأويل هذه الحروف المقطعة قال ابنُ عباسٍ: هذه الحروف اسم من أسماء الله تعالى، وقال قتادةُ: اسمٌ من أسماء القرآن. وقيل: اسمٌ للسُّورة. وقيل: هو قسمٌ أقسم الله به ويروى عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عباس في قوله {كهيعص} قال: الكافُ من كريم وكبير، والماء من هاد، والياء من رحيم والعين من عليهم، وعظيم، والصاد من صادق. وعن ابن عبَّاس أيضاً أنَّه حمل الياء على الكريم مرَّة، وعلى الحكيم أخرى. وعن ابن عباس في العين أنَّه من عزيز من عدل. قال ابنُ الخطيب: وهذه أقوالٌ ليست قويَِّة؛ لأنَّه لا يجوزُ من الله تعالى أن يودعَ كتابهُ ما لا تدلُّ عليه اللغةُ، لا بالحقيقةِ، ولا بالمجازِ، لأنَّا إن جوَّزنا ذلك، فتح علينا بابُ قول من يزعم أنَّ لكلِّ أولي من دلالته على الكريم، والكبير، أو على اسم آخر من أسماء الرَّسُول - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - أو الملائكة، أو الجنَّة، أو النَّار، فيكون حملها على بعضها دون البعض تَحَكُّماً. فصل في المراد بقوله تعالى: {رَحْمَةِ رَبِّكَ} يحتملُ أن يكون المراد من قوله {رَحْمَةِ رَبِّكَ} أنه عنى عبدهُ زكريَّا، ثم في كونه رحمة وجهان: أحدهما: أن يكون «رحْمة» على أمَّته؛ لأنَّه هداهُم إلى الإيمان والطَّاعة. والثاني: أن يكون رحمة على نبيِّنا محمد - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - وعلى أمَّته؛ لأنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 5 الله تعالى، لمَّا شرع لمحمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ طريقتهُ في الإخلاص والابتهال في جميع الأمور إلى الله تعالى، وصار ذلك لطفاً داعياً له، ولأمَّته إلى تلك الطريقة زكريَّا رحمة. ويحتمل أن يكون المرادُ أنَّ هذه السُّورة فيها ذكرُ الرحمة التي يرحمُ بها عبدُه زكريَّا. قوله: {إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً} . في ناصب إذ ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّهُ «ذِكْرُ» ، ولم يذكُر الحوفيُّ غيره. والثاني: أنَّه «رَحْمَة» وقد ذكر الوجهين أبو البقاء. والثالث: أنَّه بدلٌ من «زكريَّا» بدل ُ اشتمالٍ؛ لأنَّ الوقت مشتملٌ عليه، وسيأتي مثلُ هذا عند قوله {واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ} [مريم: 16] ونحوه. فصل في أدب زكريا في دعائه راعى سُنَّة الله في إخفاء دعوته؛ لأنَّ الجهر والإخفاء عند الله سيَّان، وكان الإخفاء أولى؛ لأنَّه أبعد عن الرِّياء، وأدخلُ في الإخلاص. وقيل: أخفاه؛ لئلاَّ يلامُ على طلبِ الولدِ في زمان الشيخوخة وقيل: أسرَّهُ من مواليه الذين خافهم. وقيل: خِفْتُ صوتهُ؛ لضعفه، وهرمه، كما جاء في صفةِ الشَّيْخ: صوتهُ خفاتٌ، وسمعهُ تارات. فإن قيل: من شرط النِّداء الجهر، فكيف الجمع بين كونه نداء وخفيًّ؟ . فالجوابُ من وجهين: الأول: أنَّه أتى بأقصى ما قدر عليه من رفع الصوت؛ إلا أنَّ صوته كان ضعيفاً؛ لنهايةِ ضعفه بسببِ الكبر، فكان نداءً؛ نظراً إلى القصد، خفيًّا نظراً إلى الواقع. الثاني: أنَّه دعاه في الصَّلاة؛ لأنَّ الله تعالى، أجابه في الصَّلاة؛ لقوله تعالى: {فَنَادَتْهُ الملاائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ} [آل عمران: 39] فتكُون الإجابةُ في الصَّلاة تدلُّ على كون الدُّعاء في الصّلاة؛ فوجب أن يكون النداءُ فيها خفيًّا. وفي التفسير: «إذْ نَادَى» : دعا «ربَّه» في محرابِهِ. قوله: {نِدَآءً خَفِيّاً} دعا سرًّا من قومه في جوف الليل. قوله: {قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي} الآية. قوله: {قَالَ رَبِّ} : لا محلَّ لهذه الجملةِ؛ لأنها تفسير لقوله «نَادَى ربَّهُ» وبيانٌ، ولذلك ترك العاطف بينهما؛ لشدَّة الوصل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 6 قوله: «وهَنَ» العامَّةُ على فتحِ الهاء، وقرأ الأعمشُ بكسرها، وقُرئ بضمِّها، وهذه لغاتٌ في هذه اللفظة، ووحَّد العظم لإرادة الجنس؛ يعني: أنَّ هذا الجنسَ الذي هو عمودُ البدنِ، وأشدُّ ما فيه، وأصلبه، قد أصابه الوهنُ، ولو جمع، لكان قصداً آخر: وهو أنه لم يهن منه بعضُ عظامه، ولكن كلُّها، قاله الزمخشريُّ، وقيل: أطلقَ المفردُ، والمرادُ به الجمعُ؛ كقوله: [الطويل] 3577 - بِهَا جِيفَ الحَسْرَى فأمَّا عِظَامُهَا ... فبِيضٌ وأمَّا جِلْدُها فصليبُ أي: جلودُها، ومثله: [الوافر] 3578 - كُلُوا في بعضِ بَطْنكمُ تَعِفُّوا ... فإنَّ زمانَكُم زمنٌ خَمِيصُ أي: بُطُونكُمْ. و «مِنِّي» حالٌ من «العَظْم» وفيه ردٌّ على من يقول: إنَّ الألف واللام تكونُ عوضاً من الضمير المضافِ إليه؛ لأنه قد جمع بينهما هنا، وإن كان الأصل: وهن عظمي، ومثله في الدَّلالةِ على ذلك ما «أنشد شاهداً على ما ذكرتُ: [الطويل] 3579 - رَحِيبٌ قِطَابُ الجَيْبِ مِنْهَا رفيقةٌ ... بجَسِّ النَّدامَى بضَّةُ المُتَجَرِّدِ ومعنى {وَهَنَ العظم مِنِّي} : ضعف، ورقَّ العظم من الكبر. فصل قال قتادة: اشتكى سُقُوط الأضراس. قوله: {واشتعل الرأس شَيْباً} أي: ابْيَضَّ شعر الرَّأس شيباً. وفي نصب» شَيْباً «ثلاثةُ أوجهٍ: أحدها - وهو المشهور -: أنه تمييزٌ منقولٌ من الفاعلية؛ إذ الأصل: اشتعل شيبُ الرَّأسِ، قال الزمخشريُّ:» شبَّه الشَّيب بشُواظِ النَّار في بياضهِ، وانتشاره في الشَّعْر، وفُشُوِّه فيه، وأخذه منه كُلُّ مأخذٍ باشتعالِ النَّار، ثم أخرجه مخرج الاستعارةِ، ثم أسند الاشتعال إلى مكانِ الشِّعْر، ومنبته، وهو الرَّأسُ، وأخرج الشَّيب مُمَيَّزاً، ولم يَضفِ لها بالبلاغةِ «انتهى، وهذا من استعارة محسُوسٍ لمحسُوسٍ، ووجه الجمع: الانبسَاطُ والانتشَارُ. والثاني: أنه مصدرٌ على غيرِ الصَّدْرِ، فإنَّ» اشْتَعَلَ الرَّأسُ «معناه» شَابَ «. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 7 الثالث: أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الحالِ، شاَئِباً، أو ذا شيب. وأدغم السِّين في الشِّين أبو عمرٍ. وقوله:» بِدُعائِكَ «فيه وجهان: أحدهما: أنَّ المصدر مضافٌ لمفعوله، أي: بُدعائي إيَّاك. والمعنى: عوَّدتني الإجابة فيما مضى، ولم تُخَيِّبْنِي. والثاني: أنه مضافٌ لفاعله، أي: لم أكن بدعائك لي إلى الإيمان شقيَّا، أي: لما دعوتني إلى الإيمان، آمنتُ، ولم أشق. قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي} : العامَّةُ على» خِفْتُ «بكسر الخاء، وسكون الفاء، وهو ماضٍ مسندٌ لتاءِ المتكلِّم، و» الموالِي «مفعولٌ به؛ بمعنى: أنَّ مواليهُ كانُوا شِرَارَ بني إسرائيل، فخافهم على الدِّين، قاله الزمخشريٌُّ. قال أبو البقاء:» لا بُدَّ من حذفِ مضافٍ، أي: عدم الموالي، أو جَوْرَ الموالي «. وقال الزهريُّ كذلك، إلا انه سكَّن ياء» المَوالِي «وقد تقدّضمَ أنَّه قد تُقدَّر الفتحةُ في الياء، والواو، وعليه قراءة زيد بن عليٍّ {تُطْعِمُونَ أَهالِيكُمْ} [المائدة: 89] . وتقدَّم إيضاحُ هذا. وقرأ عثمانُ بنُ عفَّان، وزيدُ بن ثابت، وابن عبَّاس، وسعيد بن جبير، وسعيد بن العاص، ويحيى بنُ يعمر، وعليُّ بنُ الحسبن في آخرين: «خَفَّتِ» بفتحِ الخاءِ، والفاءِ مشددةً، وتاء تأنيثٍ، كُسرتْ؛ لالتقاءِ السَّاكنين، و «المَوالِي» فاعلٌ به؛ بمعنى: دَرَجُوا، وانقرضُوا بالموتِ. قوله: «مِنْ وَرَائِي» هذا متعلِّقٌ في قراءة الجمهور بما تضمَّنَهُ الموالي من معنى الفعلِ، أي: الذين يلون الأمْرَ بعدي، ولا يتعلَّق ب «خَفَّتِ» بالتشديد، فيتعلَّق يُرَادَ ب «وَرَائِي» معنى: خَلْفِي، وبَعْدِي، وأمَّا في قراءةِ «خَفَّتِْ» بالتشديد، فيتعلَّق الظَّرْفُ بنفس الفعل، ويكونُ «وَرَائِي» بمعنى قُدَّامي، والمعنى: أنهم خفُّوا قدَّامهُ، ودرجُوا، ولم يبق منهم من به تقوٍّ واعتضادٌ، ذكر هذين المعنيين الزمخشريُّ. والمَوالِي: بنُو العمِّ يدلُّ على ذلك تفسيرُ الشَّاعر لهم بذلك في قوله: [البسيط] 3580 - مَهْلاً، بَنِي عمِّنَا؛ مَهْلاً موالينَا ... لا تَنْبُشُوا بَيْننا ما كان مَدْفُوناً الجزء: 13 ¦ الصفحة: 8 وقال آخر: [الوافر] 3581 - ومَوْلى قد دفعتُ الضَّيْمَ عَنْهُ ... وقَدْ أمْسَى بمنزلةِ المَضِيمِ وهو قولُ الأصمِّ. وقال مجاهدٌ: العَصَبَة. وقال أبو صالحٍ: الكلالة. وقال ابنُ عبَّاس والحسن والكلبيُّ: الورثة. وعن أبي مسلمٍ: المولى يرادُ به النَّاصرُ، وابن العمِّ، والممالك، والصَّاحب، وهو هنا من يقُوم بميراثه مقام الولد، والمختار، أنَّ المراد من الموالي الذين يخلفُون بعده، إما في السِّياسة، أو في المال، أو في القيام بأمر الدِّين؛ وهو يدلُّ على معنى القُرْبِ والدُّنوِّ، ويقالُ: وليته اليه ولْياً، أي: دَنَوتُ منهُ، وأوليْتُهُ إيَّاهُ، وكُل ممَّا يليكَ، وجلستُ ممَّا يليهِ، ومنهُ الوَلْيُ، وهو المطرُ الذي يلي الوسميَّ، والوليَّة: البرذعةُ [الَّتي] تلي ظهْر الدَّابَّة، ووليُّ اليتيم، ووليُّ القتيل؛ لأنَّ من تولَّى أمراً، فقد قرُبَ منه. وقوله تعالى: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} [البقرة: 144] من قولهم: ولاه بركنه، أي جعله ما يليه، وأما ولَّى عنِّي، إذا أدبر، فهو من باب تثقيل الحشو للسلْب، وقولهم: فلان أولى من فلان، أي: أحق؛ أفعل التفضيل من الوالي أو الولي، كالأدنى، والأقرب من الدَّاني، والقريب، وفيه معنى القرب أيضاً؛ لأنَّ من كان أحقَّ بالشيء، كان أقرب إليه، والمولى: اسمٌ لموضعِ الولي، مالمرمى والمبنى: اسمٌ لموضعِ الرَّمي والبناءِ. والجمهورُ على «وَرَائِي» بالمدِّ، وقرأ ابنُ كثير - في رواية عنه - «وَرَايَ» بالقصر، ولا يبعدُ ذلك عنه، فإنه قد قصر {شُرَكَايَ} [النحل: 27] في النَّحل؛ كما تقدَّم، وسيأتي أنَّه قرأ {أَن رَّآهُ استغنى} في العلق [الآية: 7] ؛ كأنه كان يُؤْثِرُ القصْر على المدِّ؛ لخفَّته، ولكنَّه عند البصريين لا يجوزُ سعةً. قوله: {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً} أي: لا تَلِدُ، والعَقْرُ في البدن: الجُرح، وعقرتُ الفرس بالسَّيف، ضربتُ قوائِمهُ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 9 قوله «مِنْ لدُنْكَ» يجوز أن يتعلق ب «هَب» ويجوزُ أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حال من «وليًّا» لأنه في الأصل صفةٌ للنكِرةِ، فقُدِّم عليها. {يَرِثُنِي وَيَرِثُ} : قرأ أبو عمرو، والكسائيُّ بجزم الفعلين على أنَّهما جوابٌ للأمر؛ إذ تقديره: إن يهبْ، والباقون برفعهما؛ على انَّهما صفةٌ ل «وليًّا» . وقرأ عليٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وابنُ عبَّاسٍ، والحسن، ويحيى بن يعمر، والجحدريُّ، وقتادةُ في آخرين: «يَرِثُنِي» بياء الغيبة، والرَّفع، وأرثُ مسنداً لضمير المتكلِّم. فصل فيما قرئ به من قوله: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ} قال صاحب «اللَّوامح» : «في الكلام تقديم وتأخيرٌ؛ يرثُ نُبُوَّتِي، إنْ منُّ قبلهُ وأرِثُ مالهُ، إن مات قبلي» . ونُقِلَ هذا عن الحسن. وقرأ عليٌّ أيضاً، وابنُ عبَّاس، والجحدريُّ «يَرِثُني وارثٌ» جعلوه اسم فاعلٍٍ، أي: يَرثُنِي به وارثٌ، ويُسَمَّى هذا «التجريد» في علم البيان. وقرأ مجاهدٌ «أوَيْرِثٌ» وهو تصغيرُ «وارِثٍ» والأصل: «وُوَيْرِثٌ» بواوين، وجب قلبُ أولاهما همزة؛ لاجتماعهما متحركين أول كلمةٍ، ونحو «أوَيْصِلٍ» تصغير «واصلٍ» والواوُ الثانيةُ بدلٌ عن ألفِ «فاعلٍ» و «أوَيْرِثٌ» مصروفٌ؛ لا يقال: ينبغي أن يكون غير مصروفٍ؛ لأنَّ فيه علتين: الوصفيَّة، ووزن الفعل، فإنه بزنة «أبَيْطِر» مضارع «بَيْطَرَ» وهذا ممَّا يكون الاسم فيه منصرفاً في التكبير ممتنعاً في التصغير، لا يقالُ ذلك لأنه غلطٌ بيِّنٌ؛ لأنَّ «أوَيْرِثاً» وزنه فُويْعِلٌ، لا أفَيْعلٌ؛ بخلاف «أحَيْمِر» تصغير «أحْمَرَ» . وقرأ الزهريُّ: «وارثٌ» بكسر الواو، ويعنون بها الإمالة. قوله: «رَضِيًّا» مفعولٌ ثانٍ، وهو فعيلٌ بمعنى فاعلٍ، وأصله «رَضِيوٌ» لأنه من الرِّضوان. فصل معنى قوله: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} أعطني من أبناء. واعلم أنَّ زكريَّا - عليه السلام - قدَّم السؤال؛ لأمور ثلاثة: الأول: كونه ضعيفاً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 10 والثاني: أن الله تعالى ما ردَّ دعاءه. والثالث: كونُ المطلُوب سبباً للمنفعة في الدِّين، ثم بعد ذلك صرَّح بالسُّؤال. أمَّا كونه ضعيفاً، فالضَّعيف: إمَّا أن يكون في الباطن، أو في الظَّاهر، والضَّعْف في الباطن أقوى من ضعف الظَّاهر، فلهذا ابتدأ ببيان ضعف الباطن، فقال: {وَهَنَ العظم مِنِّي} وذلك لأنَّ العظم أصلبُ أعضاء البدن، وجعل كذلك المنتفعين: الأولى: ليكون أساساً وعمداً يعتمد عليها بقيَّة الأعضاء؛ لأنَّها موضوعة على العظام، والحاملُ يجبُ أن يكون أقوى من المحمول عليه. الثاني: أنَّها في بعض المواضع وقاية لغيرها. واحتج أصحابُ القول الأوَّل أنَّه إذا ... أوّلاً، ثم ردَّ بأنها تكونُ كغيرها من الأعضاء كعظام الصَّلف وقحف الرأس، وما كان كذلك، فيجبُ أن يكون صلباً؛ ليصبر على ملاقاة الآفاتِ، ومتى كان العظم حاملٌ لسائر الأعضاء، فوصولُ الضعف إلى الحامل موجبٌ لوصوله إلى المحمول، فلهذا خصَّ العظم بالوهْنِ من بين سائر الأعضاء. وأما ضعف الظاهر، فلاستيلاء ضعف الباطن عليه، وذلك ممَّا يزيدُ الدُّعاء تأكيداً؛ لما فيه من الارتكان على حول الله وقوته. وأما كونهُ غير مردُود الدُّعاءِ، فوجه توسله به من وجهين: الأول: أنَّه إذا قبله أوَّلاً، فلو ردَّه ثانياً، لكان الردُّ محبطاً للإنعام الأول، والمنعم لا يسعى في إحباط إنعامه. والثاني: أنَّ مخالفة العادةِ تشقُّ على النَّفس، فإذا تعوَّد الإنسانُ إجابة الدُّعاء، فلو ردَّ بعد ذلك، لكان ذلك في غاية المشقَّة، والجفاء ممن يتوقع منه الإنعام يكون أشقَّ، فكأنَّ زكريَّا - عليه السلام - قال: إنك إن رددَتَّنِي بعدما عودتَّني القُبول مع نهايةِ ضعفي، كان ذلك بالغاً إلى النِّهاية القصوى في [ألم] القلب، فقال: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} . تقولُ العربُ: سعد فلانٌ بحاجته: إذا ظَفِر بها، وشَقِي بها: إذا خَابَ، ولم [يَبْلُغْهَا] . وأمَّا كون المطلُوب منتفعاً به في الدِّين، فهو قوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي} . فصل في اختلافهم في المراد من قوله: {خِفْتُ الموالي} قال ابن عباس والحسن: الموالي: الورثة وقد تقدم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 11 واختلفوا في خوفه من الموالي، فقيل: خافهم على إفساد الدِّين. وقيل: خاف أن ينتهي أمرُه إليهم بعد موته في مالٍ، وغيره، مع أنَّه عرف من حالهم قصورهم في العلم والقدرة عن القيام ببعضه. وقيل: يحتمل أن يكون الله قد أعلمه أنَّه لم يبقَ من أنبياء إسرائيل نبيٌّ له أبٌ إلاَّ نبيٌّ واحدٌ، فخاف أن يكون ذلك الواحدُ من بَني عمِّه، إذا لم يكن له ولدٌ، فسأل الله أن يهب له ولداً، يكونُ هو ذلك النبيِّ، والظاهرُ يقتضي أن يكون خائفاً في أمر يهتمُّ بمثله الأنبياء ولا يمتنع أن يكون زكريَّا كان إليه مع النبوة الربانيَّة من جهة الملك؛ فخاف منهم بعده على أحدهما أو عليهما. وقوله: «خِفْتُ» خرج على لفظ أصل الماضي، لكنه يفيد أنه في المستقبل أيضاً؛ كقول الرجل: قد خفتُ أن يكون كذا، أي: «أنَا خَائِفٌ» لا يريدُ أنه قد زال الخوف عنه. قوله: {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً} أي: أنَّها عاقرٌ في الحال؛ لأنَّ العاقر لا يجوزُ [أن تحبل في العادة] ، ففي الإخبار عنه بلفظ الماضي إعلامٌ بتقادُمِ العهد في ذلكَ، والغرضُ من هذا بيانُ استبعاد حصول الولدِ، فكان إيرادهُ بلفظ الماضِي أقوى، وأيضاً: فقد يوضعُ الماضي، أي: مكان المستقبل، وبالعكس؛ قال الله تعالى: {وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين} [المائدة: 116] . وقوله: {مِن وَرَآئِي} قال أبو عبيدة: من قُدَّامي، وبين يديَّ. وقال آخرون: بعد موتي. فإن قيل: كيف علم حالهم من بعده، وكيف علم أنَّهُمْ يقون بعده، فضلاً عن أن يخاف شرَّهم؟ . فالجوابُ: أنه قد يعرفُ ذلك بالأمارات والظنّ في حصول الخوف، وربما عرف ببعض الأمارات استمرارهم على عادتهم في الفساد. وقوله: {فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً} الأكثر على أنه طلب الولد، وقيل: بل طلب من يقُوم مقامه، ولداً كان، أو غيره. والأول أقربُ؛ لقوله تعالى في سورة آل عمران؛ حكاية عنه {رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً} [آل عمران: 38] . وأيضاً: فقوله ها هنا «يَرُثُنِي» يؤيِّده. وأيضاً: يؤيِّده قوله تعالى في سورة الأنبياء: {وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً} [الأنبياء: 89] فدلَّ على أنَّه سأل الولد؛ لأنَّه أخبر ها هنا أنَّ له مواليَ، وأنَّه غيرُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 12 منفردٍ عن الورثةِ، وهذا إن أمكن حمله على وارثٍ يصلح أن يقوم مقامه، لكنَّ حمله على الولد اظهرُ. واحتجَّ أصحابُ القول [الثالث] بأنَّه لما بشِّر بالولد، استعظمه على سبيل التعجُّب؛ وقال «أنَّى يكونُ لِي غلامٌ» ولو كان دعاؤُه لطلب الولد، ما استعظم ذلك. وأجيبَ بأنَّه - عليه السلام - سأل عمَّا يوهب له، أيوهبُ له هو وامرأتهُ على هيئتهما؟ أو يوهبُ له بأن يُحَوَّلا شابَّيْن، يُولد لمثلهما؟! وهذا يُحْكَى عن الحسن. وقيل: إنَّ قول زكريَّا - عليه السلام - في الدُّعاء «وكَانتِ امْرَاتِي عاقراً» إنما سأل ولداً من غيرها أو منها؛ بأن يصلحها الله تعالى للولدِ، فكأنَّه - عليه السلام - قال: أيسْتُ أن يكون لي منها ولدٌ، فهبْ لي من لدنك وليًّا، كيف شئت: إمَّا بأن تصلحها للولادةِ، وإمَّا أن تهبهُ لي من غيرها، فلمَّا بُشِّر بالغلام، سأل أن يرزق منها، أو من غيرها، فأخبر بأنه يرزقه منها. فصل في المراد بالميراث في الآية واختلفُوا ما المرادُ بالميراثِ، فقال ابنُ عبَّاس، والحسنُ، والضحاك: وراثةُ المالِ في الموضعين. وقال أبو صالح: وراثةُ النبوَّةِ. وقال السديُّ، ومجاهدٌ، والشعبيُّ: يَرِثُنِي المال، ويرثُ من آل يعقوب النبوّة. وهو مرويٌّ أيضاً عن ابن عباس، والحسن، والضحاك. وقال مجاهدٌ: يرِثُنِي العلم، ويرثُ من آل يعقُوب النبوَّة. واعلم انَّ لفظ الإرث يستعملُ في جميعها: أمَّا في المال فلقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب} [غافر: 53] . وقال - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «العُلماءُ ورثةُ الأنبياءِ، وإنَّ الأنبياءَ لم يُوَرِّثُوا ديناراً ولا دِرْهَماً، وإنَّما ورَّثُوا العِلْمَ» . وقال تعالى: {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ} [النمل: 16] وهذا يحتملُ وراثة الملك، ووارثة النبوَّة، وقد يقال: أورثَنِي هذا غمًّا وحزناً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 13 فصل في أولي ما تحمل عليه الآية قال الزَّجاج: الأولى أن يحمل على ميراث غير المال؛ لقوله - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -: «نَحْنُ معاشِرَ الأنبياءِ - لا نُورَثُ، مَا تَرَكْنَا صدقةٌ» ولأنه يبعدُ أن يشفق زكريَّا - وهو نبيٌّ من الأنبياء - أن يرث بنُو عمِّه مالهُ. والمعنى: أنه خاف تضييع بني عمِّه دين الله، وتغيير أحكامه على ما كان شاهدُه من بني إسرائيل من تبديل الدِّين، وقتل من قُتل من الأنبياء، فسأل ربَّه وليًّا صالحاً يأمنُه على أمَّته، ويرثُ نُبوَّته وعلمه؛ لئلاَّ يضيع الدِّين. قوله: {وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ} ؛ الآلُ: خاصَّةُ الرجل الذي يئول أمرهم إليه، ثم قد يئوُل أمرهم إليه لقرابةِ المقربين تارةً؛ وبالصحابة أخرى؛ كآل فرعون، وللموافقة في الدِّين؛ كآل النبيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ -. وأكثر المفسِّرين على أنَّ يعقوب هنا: هو يعقوبُ بنُ إسحاق بن إبراهيم - عليه السلام - لأنَّ زوجة زكريَّا - عليه السلام - هي أختُ مريم، وكانت من ولد سليمان بن داود من ولد يهوذا بن يعقوب، وأمَّا زكريا - عليه السلام - فهو من ولد هارون أخي موسى، وهارون وموسى من ولد لاوي بن يعقوب بن إسحاق، وكانت النبوة في سِبْط يعقوب؛ لأنَّه هو إسرائيلُ - عليه السلام -. وقال بعضُ المفسِّرين: ليس المرادُ من يعقوب هاهنا ولد إسحاق بن إبراهيم، بل يعقُوب بن ماثان، [أخو عمران بن ماثان] ، وكان آلُ يعقوب أخوال يحيى بن زكريَّا، وهذا قولُ الكلبيِّ ومقاتل. وقال الكلبيُّ: كان بنُو ماثان رُءوس بني إسرائيل ومُلُوكهُم، وكان زكريَّا رئيس الأحبار يومئذٍ، فأراد أن يرثه حُبُورته، ويرث بنو ماثان ملكهم. فصل في تفسير «رضيًّا» اختلفوا في تفسير «رَضِيًّا» فقيل: برًّا تقيًّا مرضيًّا. وقيل: مرضيًّا من الأنبياء، ولذلك استجاب الله له؛ فوهب له يحيى سيِّداً، وحصُوراً، ونبيًّا من الصَّالحين، لم يعصِ، ولم يهم بمعصية. وقيل: «رَضِيًّا» في أمَّته لا يتلقَّى بالتَّكذيب، ولا يواجهُ بالرَّدِّ. فصل في الاحتجاج على خلق الأفعال احتجوا بهذه الآية على مسألة خلق الأفعال؛ لأنَّ زكريَّا - عليه السلام - سأل الله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 14 تعالى أن يجعله رضيًّا؛ فدلَّ على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى. فإن قيل: المرادُ: أن يلطف به بضُرُوب الألطاف فيختار ما يصير به رضيًّا عنده، فنسب ذلك إلى الله تعالى. فالجوابُ من وجهين: الأول: لو حملناه على جعل الألطاف، وعندها يصير إليه المرء باختياره رضيًّا؛ لكان ذلك مجازاً، وهو خلافُ الأصل. الثاني: أنَّ جعل تلك الألطاف واجبةً على الله تعالى، لا يجوزُ الإخلال به، وما كان واجباً لا يجوزُ طلبهُ بالدُّعاء والتضرُّع. قوله : {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ} . اختلفُوا في المنادي، فالأكثرون على أنَّه هو الله تعالى؛ لأنَّ زكريَّا إنَّما كان يخاطبُ الله تعالى، ويسأله بقوله: {رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي} ، وبقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} وبقوله: «فهب لي» ، وبقوله بعده: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} ، فوجب أن يكون هذا النداءُ من الله تعالى، وإلاّ لفسد [المعنى و] النَّظْم، وقيل: هذا النداءُ من الملكِ؛ لقوله: {فَنَادَتْهُ الملاائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى} [آل عمران: 39] . وأيضاً: فإنه لمَّا قال: {عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} [مريم: 8، 9] . وهذا لا يجوزُ أن يكونَ كلام الله؛ فزجب أن يكون كلام الملكِ. ويمكنُ أن يجاب بأنه يحتملُ أنَّه يحصل النداءان: نداءُ الله تعالى، ونداءُ الملائكة. ويمكنُ أن يكون قوله: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ} من كلام الله تعالى، كما سيأتي ببيانه - إن شاء الله تعالى -. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 15 فصل [في] الكلام اختصار، تقديره: استجاب الله دعاءهُ، فقال: {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ} : بولدٍ، ويقال: زكريَّا «بالمد والقصر» ، ويقال: زكرَى أيضاً، نقله ابن كثيرٍ. فإن قيل: كان دعاؤهُ بإذنٍ، فما معنى البشارة؟ وإن كان بغير إذنٍ؛ فلماذا أقدم عليه؟ . فالجوابُ: يجوز أن يسأل بغير إذن، ويحتمل أنَّه أذن له فيه، ولم يعلمْ وقته، فبُشِّر به. قوله: «يَحْيَى» : فيه قولان: أحدهما: أنه اسمٌ أعجميٌّ، لا اشتقاق له، وهذا هو الظاهرُ، ومنعهُ من الصَّرف؛ للعلميَّة والعجمةِ، وقيل: بل هو منقولٌ من الفعلِ المضارعِ، كما سمَّوا ب «يَعْمُرَ» و «يعيشَ» و «يَمُوتَ» وهو يموت بنُ المُزرَّع. والجملة من قوله: «اسْمُهُ يَحْيى» في محلِّ جرِّ صفة ل «غُلام» وكذلك «لم نجعلْ» و «سَمِيًّا» كقوله: «رَضيًّا» إعراباً وتصريفاً، لأنَّه من السُّمُوِّ، وفيه دلالةٌ لقول البصريين: أن الاسم من السموِّ، ولو كان من الوسم، لقيل: وسيماً. فصل قال ابن عباسٍ، والحسنُ، وسعيدُ بنُ جبيرٍ، وعكرمةُ، وقتادةُ: إنَّه لم يسمَّ أحدٌ قبله بهذا الاسم. وقال سعيدُ بنُ جبيرٍ، وعطاء: لم نجعل له شبهاً ومثلاً؛ لقوله تعالى: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65] أي: مثلاً. والمعنى: أنه لم يكن له مثلٌ؛ لأنَّهُ لم يعصِ، ولم يهُمَّ بمعصية قط؛ كأنَّه جواب لقوله {واجعله رَبِّ رَضِيّاً} فقيل له: إنَّا نُبشِّرُكَ بغلامٍ، لم نجْعل له شبيهاً في الدِّين، ومنْ كان كذلك، كان في غايةِ الرضا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 16 وفي هذا نظرٌ؛ لأنَّه يقتضي تفضيلُه على الأنبياءِ قبله؛ كآدَمَ، ونوحٍ، وإبراهيم، وموسى، [وعيسى] ؛ وذلك باطلٌ. وقيل: لم يكن له مثلٌ في أمر النِّساء؛ لأنَّه كان سيِّداً وحصوراً. وقال عليٌّ بنُ أبي طلحة، عن ابن عبَّاس: لم تَلدِ العواقرُ مثلهُ ولداً. وقيل: لأنَّ كُلَّ الناس، إنما يُسمُّونهم آباؤهم وأمهاتهم بعد دخولهم في الوجود، وأما يحيى فإنَّ الله سمَّاه قبل دخوله في الوجود، فكان ذلك من خواصِّه. وقيل: لأنَّه ولدُ شيخٍ، وعجوزٍ عاقرٍ. فصل في سبب تسميته بيحيى واختلفُوا في سبب تسميته بيحيى، فعن ابن عبَّاس: لأنَّ الله أحيا به عقر أمه، ويرد على هذا قصَّة إبراهيم، وزوجته، قالت: {ياويلتا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً} [هود: 72] فينبغي أن يكون اسمُ ولدهم يحيى. وعن قتادة: لأنَّ الله تعالى أحيا قلبهُ بالإيمانِ والطَّاعة، والله تعالى سمَّى المطيعَ حيًّا، والعاصِيَ ميِّتاً؛ بقوله: {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ} [الأنعام: 122] . وقال: {إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ} [الأنفال: 24] . وقيل: لأنَّ الله تعالى أحياه بالطَّاعة؛ حتى لم يعص، ولم يهُمَّ بمعصيةٍ. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ «ما مِنْ أحدٍ إلاَّ وقد عَصَى، أو هَمَّ إلاَّ يحيى بنُ زكريَّا، فإنَّه لَمْ يهُمَّ ولَمْ يَعْملهَا» وفي هذا نظر؛ لأنه كان ينبغي أن تسمى النبياء كلهم والأولياء ب «يحيى» . وقال ابن القاسم بن حبيب: لأنه استشهد، والشهداء أحياء عند ربهم، قال تعالى: {بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ} [آل عمران: 169] وفي ذلك نظر؛ لأنه كان يلزم منه أن يُسَمَّى الشهداءُ كلُّهم بيَحْيَى. وقال عمرو بنُ المقدسيِّ: أوحى الله تعالى، إلى إبراهيم - عليه السلام - أنه قُلْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 17 لسارَّة بأنِّي مخرجٌ منها عبداً، لا يَهُمُّ بمعصيةٍ اسمه حيى، فقال: هَبِي لهُ من اسمكِ حرفاً، فوهبته حرفاً من اسمها، فصار يَحْيَى، وكان اسمُها يسارة، فصار اسمها سارة. وقيل: لأنَّ يحيى أوَّلُ من آمن بعيسى، فصار قلبه حبًّا بذلك الإيمانِ. وقيل: إنَّ أمَّ يحيى كانت حاملاً به، فاستقبلتها مريم، وقد حملت بعيسى، فقالت لها أمُّ يحيى: يا مريمُ، أحاملٌ أنت؟ فقالت: لم تقولين؟ فقالت: أرى ما في بطني يسجُد لما في بطنك. قوله: {قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} أي: مِنْ أين يكُون لي غرمٌ، والغلامُ: هو الإنسانُ الذكر في ابتداءِ شهوته في الجماع، ويكونُ في التلميذ، يقال: غلامُ ثعلبٍ. {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً} . أي: وامرأتي عاقرٌ، ولم يقل: عاقرةٌ؛ لأنَّ من كان على «فاعل» من صفة المؤنَّث ممَّا لم يكن للمذكَّر، فإنَّه لا تدخل فيه الهاءُ، كامرأةٍ عاقرٍ وحائضٍ. قال الخليلُ: هذه صفاتُ المذكَّر، وصف بها المؤنَّث، كما وصف المذكَّر بالمؤنَّث؛ حيث قال: رجُلٌ نكَحةٌ، ورُبَعَةٌ، وغلامٌ نُفَعَةٌ. قوله: «عِتيًّا» : فيه أربعةُ أوجه: أظهرها: أنه مفعولٌ به، أي: بلغتُ عتيًّا من الكبرِ، فعلى هذا «مِنَ الكِبرِ» يجوز أن يتعلَّق ب «بَلغْتُ» ويجوز أن يتعلق بمحذوفٍ؛ على أنه حالٌ من «عِتيًّا» لأنه في الأصلِ صفةٌ له؛ كما قدرته لك. الثاني: أن يكون مصدراً مؤكَّداً من معنى الفعل؛ لأنَّ بلوغَ الكبر في معناه. الثالث: أنَّه مصدر واقعٌ موقع الحالِ من فاعل «بَلَغْتُ» أي: عاتياً، ذا عتيٍّ. الرابع: أنه تمييزٌ، وعلى هذه الأوجه الثلاثة «مِنْ» مزيدةٌ، ذكره أبو البقاء، والأولُ هو الوجهُ. والعُتُوُّ: بزنة فعولٍ، وهو مصدر «عَتَا، يَعْتُو» أي: يَبِسَ، وصلُبَ، قال الزمخشريُّ: «وهو اليُبْسُ والجساوةُ في المفاصلِ، والعظام؛ كالعُودِ القاحل؛ يقال: عَتَا العُودُ وجسَا، أو بلغتُ من مدارج الكِبرِ، ومراتبه ما يسمَّى عِتيًّا» يريد بقوله: «أوْ بلغْتُ» أنه يجوزُ أن يكون مِنْ «عَتَا يَعْتُو» أي: فسد. والأصلُ: «عُتُووٌ» بواوين، فاستثقل واوان بعد ضمتين، فكسرتِ التاءُ؛ تخفيفاً، فانقلبت الواو الأولى ياءً؛ لسكونها وانكسار ما قبلها، فاجتمع ياءٌ وواوٌ، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواوُ ياءً، وأدغمت فيها الأولى، وهذا الإعلالُ جارٍ في المفرد هكذا، والجمع: نحو: «عِصِيّ» إلا أنَّ الكثير في المفرد التصحيح؛ كقوله: {وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} [ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 18 الفرقان: 21] وقد يعلُّ كهذه الآية، والكثيرُ في الجمع الإعلالُ، وقد يصحَّحُ؛ نحو: «إنَّكُمْ لتنظرُونَ في نحوٍّ كثيرةٍ» وقالوا: فُتِيٌّ وفُتُوٌّ. وقرأ الأخوان «عتيًّا» و {صِلِيّاً} [مريم: 70] و «بِكِيّاً» [مريم: 58] و {جِثِيّاً} [مريم: 72] بكسر الفاء للاتباع، والباقون بالضمِّ على الأصلِ. وقرأ عبدُ الله بن مسعودٍ بفتح الأوَّل من «عتيًّا» و «صَليًّا» جعلهما مصدرين على زنة «فعيلٍ» كالعجيجِ والرَّحيلِ. وقرأ عبد الله وأبي بم كعبٍ «عُسِيًّا» بضم العين، وكسر السينِ المهملة، وتقدم اشتقاقُ هذه اللفظة في الأعراف، وتصريفها. والعُتِيُّ والعُسِيُّ: واحدٌ. يقال: عَتَا يَعْتُو عُتُوًّا، وعتيًّا، فهو عاتٍ، وعَسَا يَعْسُو عُسُوًّا وعسيًّا فهو عَاسٍ، والعَاسي: هو الذي غيرُه طولُ الزمانِ إلى حال البُؤس. وليل عاتٍ: طويل، وقيل: شديدُ الظلمة. فصل في هذه الآية سؤالان: أحدهما: لم تعجب زكريَّا - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - بقوله: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} مع أنَّه هو الذي طلب الغلام؟ . والسؤال الثاني: قوله: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} هذا التعجُّب يدل على الشك في قدرة الله تعالى على ذلك، وذلك كفر، وهو غير جائز على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام -؟ . فالجوابُ عن الأول: أمَّا على قول من قال: ما طلب الولد، فالإشكال زائلٌ، وأمَّا على قول من قال: إنَّه طلب الولد، فالجوابُ أن المقصود من قوله: {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ} هو البحث على أنه تعالى يجعلهما شابين، ثم يرزقهما، أو يتركهما شيخين، ويرزقهما الولد، مع الشيخوخة؟ ويدلُّ عليه قوله تعالى: {وَزَكَرِيَّآ إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} [الأنبياء: 89، 90] . وما هذا الإصلاحُ إلاَّ أنَّه تعالى أعاد قُوَّة الولادة. وذكر السديُّ في الجواب وجهاً آخر، فقال: إنَّه لمَّا سمع النداء بالبشارة جاءهُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 19 الشيطان، فقال: إنَّ هذا الصَّوت ليس من الله تعالى، بل من الشيطانِ يسخر منك، فلمَّا شكَّ زكريَّا قال: «ربّ، أني يكُون لي غلامٌ» ، وغرض السدي من هذا أن زكريا - عليه السلام - لو علم أن المبشَّر بذلك هو الله تعالى، لما جاز له أن يقول ذلك، فارتكب هذا. وقال بعضُ المتكلِّمين: هذا باطلٌ باتِّفاق؛ إذ لو جوَّز الأنبياءُ في بعض ما يردُ عن الله تعالى أنَّه من الشيطان، لجوَّزوا في سائره، ولزالتِ الثقة عنهم في الوحي، وعنَّا فيما يوردُونه إلينا. ويمكنُ أن يجاب عنه: بأنَّ هذا الاحتمال قائمٌ في أوَّل الأمر، وإنَّما يزولُ بالمعجزةِ، فلعلَّ المعجزةَ لم تكُن حاصلةً في هذه الصور، فحصل الشَّك هنا فيه دون ما عداها. والجوابُ عن السؤال الثاني من وجوه: الأول: أن قوله: {إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى} . ليس نصًّا في كون ذلك الغلام ولداً له، بل يحتمل أن يكون زكريَّا - عيله الصلاة والسلام - راعى الأدب، ولم يقل: هذا الغلام، هل يكون ولداً لي، أم لا، بل ذكر أسباب حُصُول الولدِ في العادة؛ حتى أنَّ تلك البشارة، إنْ كانت بالولد، فإن الله تعالى يزيلُ الإبهام، ويجعل الكلام صريحاً، فلمَّا ذكر ذلك، صرَّح الله تعالى بكون الولد منه، فكان الغرضُ من كلام زكريَّا هذا، لا شك أنه شاكًّا في قُدرة الله تعالى عليه. الثاني: أنه ما ذكر ذلك للشك، لكنْ على وجه التعظيم لقدرته، وهذا كالرجل الذي يَرَى صاحبه قد وهب الكثير الخطير، فيقول: أنَّى سمحت نفسك بإخراج مثل هذا من ملكك! تعظيماً وتعجُّباً. الثالث: أن من شأن من بُشِّرَ بما يتمناه؛ أن يتولد له فرط السرور به عند أوَّل ما يرد عليه استثباتُ ذلك الكلام؛ إما لأن شدة فرحه به توجبُ ذهوله عن مقتضيات العقل والفكر، وهذا كما أن امرأة إبراهيم عليه السلام بعد أن بشرت بإسحاق قالت {قَالَتْ ياويلتا أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ} [هود: 72] فأزيل تعجبها بقوله: {أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله} [هود: 73] ، وإما طلباً لالتذاذ بسماع ذلك الكلام مرة أخرى، وإما مبالغةً في تأكيد التفسير. قوله: «كَذِلكَ» : في محلِّ هذه الكاف وجهان: أحدهما: أنه رفع على خبر ابتداءٍ مضمرٍ، أي: الأمرُ كذلك، ويكون الوقفُ على: «كَذَلِكَ» ، ثم يبتدأ بجملةٍ أخرى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 20 والثاني: أنها منصوبةُ المحلِّ، فقدَّرهُ أبو البقاء ب «أفْعَلُ» مثل ما طلبتَ، وهو كنايةٌ عن مطلوبه، فجعل ناصبه مقدَّراً، وظاهره أنه مفعولٌ به. وقال الزمخشريُّ: «أو نصب ب» قَالَ «و» ذَلِكَ «إشارةٌ إلى مُبْهم يفسره» هُو عليَّ هيِّنٌ «، ونحوه: {وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ} [الحجر: 66] . وقرأ الحسن «وهُوَ عليَّ هيِّنٌ» ، ولا يخرَّج هذا إلا على الوجه الأول، أي: الأمرُ كما قلت، وهو على ذلك يُهونُ عليَّ. وجهٌ آخرُ: وهو أن يُشارَ ب «ذَلِكَ» إلى ما تقدَّم من وعد الله، لا إلى قولِ زكريَّا، و «قَالَ» محذوفٌ في كلتا القراءتين. يعني قراءة العامَّة وقراءة الحسنِ - أي: قال: هُوَ عليَّ هيِّنٌ، قال: وهُوَ عليَّ هيِّنٌ، وإن شئت لمْ تنوهِ؛ لأنَّ الله هو المخاطب، والمعنى أنه قال ذلك، ووعدهُ وقوله الحقُّ «. وفي هذا الكلام قلقٌ؛ وحاصله يرجع إلى أنَّ» قال «الثانية هي الناصبةُ للكاف. وقوله:» وقَالَ محذوفٌ «يعني تفريعاً على أنَّ الكلام قد تمَّ عند» قال ربُّك «ويبتدأ بقوله:» هُوَ عليَّ هيِّنٌ «. وقوله:» وإنْ شِئْتَ لمْ تَنْوهِ «، أي: لم تَنْوِ القول المقدَّر؛ لأنَّ الله هو المتكلِّمُ بذلك. وظاهرُ كلام الطبريُّ:» ومعنى قوله «قال كذلكَ» أي: الأمران اللذان ذكرت من المرأةِ العاقر والكبرِ هو كذلك، ولكن قال ربُّك، والمعنى عندي: قال الملكُ: كذلك، أي: على هذه الحال، قال ربُّك، هو عليَّ هيِّنٌ «انتهى. وقرأ الحسن البصري» عَلَيَّ «بكسر ياء المتكلم؛ كقوله [الطويل] 3582 - أ - عَليِّ لعمرٍو نِعْمَةٍ ... لِوَالِدِهِ ليْسَتْ بذاتِ عقَارِبِ أنشدوه بالكسر. وتقدم الكلام على هذه المسألة في قراءة حمزة» بمُصْرِخيِّ « [إبراهيم: 22] . قوله:» وقَدْ خلقْتُكَ «هذه الجملة مستأنفةٌ، وقرأ الأخوان» خَلقْنَاكَ «أسنده إلى الواحد المعظِّمِ نفسهُ، والباقون» خلقْتُك «بتاء المتكلِّم. وقوله:» ولَمْ يَكُ شَيْئاً «جملةٌ حاليةٌ، ومعنى نفي كونه شيئاً، أي: شيئاً يعتدُّ به؛ كقوله: [البسيط] الجزء: 13 ¦ الصفحة: 21 3582 - ب - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... . ... إذا رَأى غيْر شيءٍ ظنَّهُ رَجُلا وقالوا: عجبتُ من لا شيءٍ، ويجوز أن يكون قال ذلكَ؛ لأنَّ المعدومَ ليس بشيءٍ. فصل قيل: إطلاق لفظ» الهَيِّن «في حق الله تعالى مجاز؛ لأن ذلك إنما يجوزُ في حقِّ من يجوز أن يصعب عليه شيء، ولكن المراد؛ أنه إذا أراد شيئاً كان. ووجه الاستدلال بقوله تعالى {وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} فنقول: إنه لما خلقه من العدم الصَِّرف والنفي المحضِ، كان قادراً على خلق الذوات والصفات والآثار، وأما الآن، فخلق الولد من الشيخ والشيخة لا يحتاج فيه إلا إلى تبديل الصفات، وإذا أوجده عن العدم، فكذا يرزقه الولد بأن يعيد إليه وإلى صاحبته القوَّة التي عنها يتولَّد الماءان اللذان من اجتماعهما يُخلقُ الولد. فصل الجمهورُ على أنَّ قوله:» قال: كذلِكَ قال ربُّكَ «يقتضي أن القائلَ لذلك ملك مع الاعتراف بأن قوله {يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ} قول الله تعالى، وقوله {هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} قول الله تعالى، وهذا بعيدٌ؛ لأنه إذا كان ما قبل هذا الكلام وما بعده قول الله تعالى، فكيف يصحُّ إدرتجُ هذه الألفاظ فيما بين هذين القولين، والأولى أن يقال: قائلُ هذا القول أيضاً هو الله تعالى؛ كما أن الملك العظيم، إذا وعد عبده شيئاً عظيماً، فيقول العبد: من أين يحصلُ لي هذا، فيقول: إن سلطانكَ ضمِنَ لك ذلك؛ كأنه ينبه بذلك على أن كونه سلطاناً ممَّا يوجب عليه الوفاء بالوعد، فكذا ههنا. قوله: {قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} . أي: اجعل لي علامة ودلالة على حمل امرأتي. فصل قال بعضُ المفسِّرين: طلب الآية لتحقيق البشارة، وهذا بعيدٌ؛ لأن بقول الله تعالى قد تحقَّقت البشارةُ، فلا يكون إظهار الآية أقوى في ذلك من صريح القول، وقال آخرون: البشارةُ بالولدِ وقعت مطلقة، فلا يعرف وقتها بمجرَّد البشارة، فطلب الآية ليعرف بها وقت الوقوعِ، وهذا هو الحق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 22 واتفقوا على أن تلك الآية هي تعذرُ الكلام عليه، فإن مجرَّد السكوتِ مع القدرةِ على الكلام لا يكونُ معجزةً، ثم اختلفوا على قولين: أحدهما: أنه اعتقل لسانه أصلاً. والثاني: أنه امتنع عليه الكلامُ مع القوم على وجه المخاطبة، مع أنه كان متمكناً من ذكر الله، ومن قراءة التوراة، وهذا القولُ عندي أصحُّ؛ لأن اعتقال اللسان مطلقاً قد يكون لمرضٍ، وقد يكون من فعل الله، فلا يعرف زكريا عليه السلام أن ذلك الاعتقال معجزٌ إلا إذا عرف أنه ليس لمرض، بل لمحضِ فعل الله تعالى مع سلامة الآلات، وهذا مما لا يعرف إلا بدليل آخر، فتفتقر تلك الدلالة إلى دلالة أخرى، أما لو اعتقل لسانه عن الكلام، مع القوم، مع اقتداره على التكلم بذكر الله تعالى وقراءةِ التوراةِ، علم بالضرورة؛ أن ذلك الاعتقال ليس لعلَّةٍ ومرضٍ، بل هو لمحض فعل الله، فيتحقق كونه آية ومعجزة، ومما يقوي ذلك قوله تعالى: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} خص ذلك بالتكلم مع الناس؛ وهذا يدلُّ بطريق المفهوم؛ أنه كان قادراً على التكلم مع غير الناس. قوله: «سَوِيًّا» : حالٌ من فاعل «تُكَلِّمَ» ، وعنابن عباس: أنَّ «سويًّا» من صفةِ الليالي بمعنى «كاملات» ، فيكونُ نصبه على النعت للظرف، والجمهورُ على نصب ميم «تُكَلِّم» جعلوها الناصبة. وابن أبي عبلة بالرفع، جعلها المخففة من الثقيلة، واسمها ضميرُ شأنٍ محذوف، و «لا» فاصلةٌ، وتقدَّم تحقيقه. وقوله: «أنْ سَبَّحُوا» : يجوز في «أنْ» أن تكون مفسِّرة ل «أوْحَى» ، وأن تكون مصدرية مفعولة بالإيحاء، و «بُكْرَةً وعشِيًّا» ظرفا زمانٍ للتسبيح، وانصرفت «بُكْرَةً» ؛ لأنه لم يقصدْ بها العلميَّةُ، فلو قُصِدَ بها العلميةُ امتنعت من الصَّرف، وسواءٌ قصد بها وقتٌ بعينه؛ نحو: لأسيرنَّ الليلة إلى بكرة، أم لم يقصد؛ نحو: بكرةُ وقتُ نشاطٍ؛ لأنَّ علميَّتها جنسيَّةٌ؛ كأسامة، ومثلها في ذلك كله «غُدوة» . وقرأ طلحة «سَبِّحُوه» بهاءِ الكناية، وعنه أيضاً: «سَبِّحُنَّ» بإسناد الفعل إلى ضمير الجماعة مؤكِّداً بالثقيلة، وهو كقوله: {لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ} [هود: 8] ، وقد تقدَّم تصريفه. قوله تعالى: {فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب} ، وكان الناس من وراء المحراب ينتظرونه؛ أن يفتح لهم الباب، فيدخلون ويصلون؛ إذ خرج عليهم زكريا متغيِّراً لونه، فانكروه، فقالوا: ما لك يا زكريا {فأوحى إِلَيْهِمْ} . قال مجاهدٌ: كتب لهم الأرض، {أَن سَبِّحُواْ} ، أي صلوا لله، {بُكْرَةً} ، غدوة، {وَعَشِيّاً} ، معنا أنه كان يخرج على قومه بكرة وعشياً، فيأمرهم بالصلاة، فلما كان وقتُ حمل امرأته، ومنع الكلام خرج إليهم، فأمرهم بالصلاة إشارة. قوله عَزَّ وَجَلَّ: {يايحيى} ، قيل: فيه حذف معناه: وهبنا له يحيى، وقلنا له: يا يحيى، {خُذِ الكتاب} ، يعني التوراة، وقيل يحتمل أن يكون كتابتً خصَّ الله به يحيى، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 23 كما خص الله تعالى الكثير من الأنبياء بذلك، والأولى أولى؛ لأن حمل الكلام ههنا على المعهود السابق أولى، ولا معهود إلا التوراة. وقوله {يايحيى خُذِ الكتاب} يدلُّ على أن الله تعالى بلغ بيحيى المبلغ الذي يجوز أن يخاطبه بذلك، فحذف ذكره؛ لدلالة الكلام عليه. قوله: «بقُوَّة» حالٌ من الفاعل أو المفعول، أي: ملتبساً أنت، أو ملتبساً هو بقوَّة؛ وليس المراد بالقوة القدرة على الأخذ؛ لأن ذلك معلوم لكلَّ أحد، فيجب حمله على معنى يفيد المدح، وهو الجد والصبر على القيام بأمر النبوة، وحاصلها يرجع إلى حصول ملكة تقتضي سهولة الإقدام على المأمُور به، والإحجام عن المنهيِّ عنه. قوله: {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} . قال ابن عبَّاس: الحكم: النُّبوة «صَبِيًّا» ؛ وهوابن ثلاث سنين وقيل: الحكمُ فهم الكتاب، فقرأ التوراة وهو صغيرٌ. وقيل: هوالعَقْل، وهو قولُ مُعَمَّر. وروي أنه قال: ما للَّعبِ خُلِقْنا. والأوَّل أولى؛ لأنَّ الله تعالى أحكم عقلهُ في صباه، وأوحى إليه، فإنَّ الله تعالى بعث عيسى ويحيى - عليهما الصلاة والسلام - وهما صبيَّانِ، لا كما بعض موسى ومحمَّداً - عليهما الصلاة والسلام - وقد بلغا الأشُدَّ. فإن قيل: كيف يعقلُ حصولُ العقل والفطنة والنُّبُوَّة حال الصِّبَا. فالجوابُ: هذا السَّائِلُ إمَّا أن يمنع خرق العاداتِ، أو لا يمنع منه، فإن منع منه، فقد سدَّ باب النبوات؛ لأنَّ الأمر فيها على المعجزات، ولا معنى لها إلا خرق العاداتِ، وإن لم يمنع منه، فقد زال هذا الاستبعادُ؛ فإنَّه ليس استبعاد صيرورةِ الصَّبيِّ عاقلاً أشدَّ من استبعاد انشقاقِ القمر، وانفلاق البحر، و «صبيًّا» : حال من «هاء» آتيناه. قوله «وحَنَاناً» : يجوز أن يكون مفعولاً به، نسقاً على «الحُكْمَ» أي: وآتَيْنَاهُ تَحَنُّناً. والحنانُ: الرحمةُ واللّينُ، وأنشد أبو عبيدة قول الحطيئةِ لعمر بن الخطَّاب: [المتقارب] 3583 - أ - تَحَنَّنْ عَليَّ هدَاكَ المَلِيكُ ... فإنَّ لِكُلِّ مقامٍ مقَالا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 24 قال: وأكثر استعماله مُثَنَّى؛ كقولهم: حَنَانَيْكَ، وقوله: 3583 - ب - ... ... ... ... ... ... ... ... . ... حَنانَيْكَ بَعْضُ الشَّرِّ أهْوَنُ من بعضِ [وجوَّز] فيه أبو البقاء أن يكون مصدراً، كأنَّه يريدُ به المصدر الواقع في الدعاء؛ نحو: سَقْياً ورَعْياً، فنصبه بإضمار فعلٍ [كأخواته] ، ويجوز أن يرتفع على خبر ابتداءٍ مضمر؛ نحو: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [يوسف: 18] و {سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} [الأعراف: 46] في أحد الوجهين، وأنشد سيبويه: [الطويل] 3584 - وقَالَتْ حنانٌ مَا أتى بِكَ هَهُنَا ... اذُو نسبٍ أمْ أنْتَ بالحَيِّ عارفُ وقيل لله تعالى: حنَّّانٌ، كما يقال له «رَحِيمٌ» قال الزمخشريُّ: «وذلك على سبيل الاستعارةِ» . فصل في المراد ب «حَنَاناً» اعلم أن الحنان: أصله من الحنينن، وهو الارتياحُ، والجزع للفراق كما يقال: حنينُ النَّاقة، وهو صوتها، إذا اشتاقت إلى ولدها، ذكره الخليل. وفي الحديث: أنَّه - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كان يُصلِّي إلى جذع في المسجد، فلمَّا اتَّخذ المنبر، وتحوَّل إليه، حنَّت تلك الخشبةُ، حتَّى سُمِعَ حنينُها، وهذا هو الأصل، ثُمَّ يقال: تَحَنَّنَ فلانٌ على فلانٍ، إذا [تعطَّف] عليه ورحمهُ. واختلف الناس في وصف الله تعالى بالحنان، فأجازه بعضهم، وجعلهُ بمعنى الرَّؤُوف الرَّحيم، ومنهم من أباه؛ لما يرجع إليه أصلُ الكلمة. قالوا: ولم يصحُّ الخبر بهذه اللفظة في أسماء الله تعالى. وإذا عرف هذا، فنقولُ: في الحنانِ ها هنا وجهانِ: الأول: أن نجعله صفةً لله تعالى. والثاني: أن نجعله صفةُ ل «يحيى» ، فإن جعلناه صفة لله تعالى، فيكونُ التقديرُ: وآتيناهُ الحكم حناناً، أي: رحمةً منَّا. ثم هاهنا احتمالات: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 25 الأول: أن يكون الحنانُ من الله تعالى ل «يحيى» ، والمعنى: وآتيناه الحكم صبيًّا حناناً [منَّا] عليه، أي: رحمة عليه، «وزكَاةً» أي: وتزكيةً، وتشريفاً له. والثاني: أن يكون الحنانُ من الله تعالى لزكريَّا، والمعنى: أنا استجبنا لزكريَّا دعوته بأن أعطيناه ولداً ثم آتيناه الحكم صبيًّا وحناناً من لدُنَّا على زكريا فعلنا ذلك «وزَكَاةً» أي: تزكيةُ له عن أن يصير مردود الدُّعاء. الثالث: أن يكُون الحنانُ من الله تعالى لأمَّة يحيى - عليه السلام - والمعنى: آتيناه الحكم صبيًّا حناناً على أمَّته؛ لعظيم انتفاعهم بهدايته وإرشاده. وإن جعلناه صفةً ليحيى - عليه السلام - ففيه وجوهٌ: الأول: آتيناهُ الحكم والحنان على عبادنا، أي والتعطُّف عليهم وحسن النَّظر لهم، كما وصف محمَّداً - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - بقوله: {حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128] وقوله: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ} [آل عمران: 159] وقوله: «وزَكَاةً» أي: شفقةً، ليست داعيةً إلى الإخلال بالواجب؛ لأنَّ الرأفة واللِّين ربَّما أورثا ترك الواجب؛ ألا ترى إلى قوله: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله} [النور: 2] وقال: {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلِيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً} [التوبة: 123] وقال: {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاائم} [المائدة: 54] . والمعنى: أنَّا جمعنا له التعطُّف على عباد الله، مع الطَّهارة عن الإخلال بالواجبات، ويحتمل أنَّا آتيناه التعطُّف على الخلق، والطَّهارة [عن المعاصي] ، فلم يَعْص، ولم يَهُمَّ بمعصية. الثاني: قال عطاءُ بنُ أبي رباحٍ: {وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا} : تعظيماً من لدنا. والمعنى: آتيناهُ الحكم صبيًّا؛ تعظيماً إذ جعلناه نبيًّا وهو صبيٌّ، ولا تعظيم أكثر من هذا؛ ويدلُّ عليه ما رُوِيَ أنَّ ورقة بن نوفل مرَّ على بلالٍ، وهو يعذب، قد ألصقَ ظهرهُ برمضاء البطحاء، وهو يقول: أحدٌ، أحدٌ، فقال: والذي نفسي بيده، لئنْ قتلْتُمُوه، لاتَّخذنَّهُ حناناً، أي: مُعَظَّماً. قوله: «مِنْ لَدُنَّا» صفةٌ له. قوله: «وَزَكاةً» . قال ابن عباس: هي الطَّاعة، والإخلاص. وقال قتادةُ والضحاك: هو العملُ الصَّالح. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 26 والمعنى: آتيناهُ رحمةً من عندنا، وتحنُّناً على العبادِ؛ ليدعوهم إلى طاعة ربِّهم، وعملاً صالحاً في إخلاص. وقال الكلبيُّ: صدقة تصدَّق الله بها على أبويه، وقيل: زكَّيناه بحُسْن الثَّناء، أي كما يزكِّي الشهودُ الإنسان. وهذه الآيةُ تدلُّ على أن فعل العبد خلقٌ لله تعالى لأنه جعل طهارتهُ وزكاتهُ من الله تعالى، وحملهُ على الألطاف بعيدٌ؛ لأنَّه عدولٌ عن الظَّاهرِ. قوله: {وَكَانَ تَقِيّاً} مُخْلِصاً مُطِيعاً، والتَّقيُّ: هو الذي يتقي ما نهى الله عنه [فيجتنبه] ، ويتقي مخالفة أمر الله، فلا يهمله، وأولى النَّاس بهذا الوصف من لم يعْصِ الله، ولا همَّ بمعصيةٍ، وكان يحيى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - كذلك. فإن قيل: ما معنى قوله {وَكَانَ تَقِيّاً} وهذا حين ابتداء تكليفه. فالجوابُ: إنَّما خاطب الله تعالى الرسُول بذلك وأخبر عن حاله حيث كان كما أخبر عن نعم الله تعالى عليه. قوله: «وبَرًّا» : يجوز أن يكون نسقاً على خبر «كان» أي: كان تقيًّا برًّا. ويجوز أن يكون منصوباً بفعل مقدَّر، أي: وجعلناه برًّا، وقرأ الحسن «بِرًّا» بكسر الباء في الموضعين، وتأويله واضحٌ، كقوله: {ولكن البر مَنْ آمَنَ} [البقرة: 177] وتقدَّم تأويله، و «بِوالِدَيْهَ» متعلقٌ ب «بَرًّا» . و «عَصِيًّا» يجوز أن يكون وزنه «فَعُولاً» والأصل: «عَصُويٌ» ففعل فيه ما يفعل في نظائره، و «فَعُولٌ» للمبالغة ك «صَبُور» ويجوز أن يكون وزنه فعيلاً، وهو للمبالغة أيضاً. فصل في معنى الآية قوله: {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ} أي: بارًّا لطيفاً بهما محسناً إليهما، «ولمْ يكُن جبَّاراً عصيًّا» . الجبَّار المتكبِّر. وقال سفيان: الجبَّار الذي يضرب ويقتل على الغضب؛ لقوله تعالى: {أَتُرِيدُ أَن تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْساً بالأمس إِن تُرِيدُ إِلاَّ أَن تَكُونَ جَبَّاراً فِي الأرض} [القصص: 19] ؛ ولقوله تعالى: {وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ} [الشعراء: 130] والجبَّارُ أيضاً: القهار، قال تعالى {العزيز الجبار} [الحشر: 23] . والعَصِيُّ: العاصِي، والمراد: وصفة بالتواضع، ولين الجانب، وذلك من صفات المؤمنين؛ كقوله تعالى: {واخفض جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ} [الحجر: 88] وقوله تعالى: {وَلَوْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 27 كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159] . وقيل: الجبَّار: هو الذي لا يرى لأحدٍ على نفسه حقًّا. وقيل غير [ذلك] وقوله: «عصيا» وهو أبلغُ من العاصي، كما أن العليمَ أبلغُ من العالم. قوله: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} . قال محمد بن جرير الطبريُّ {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} أي: أمانٌ من الله يوم ولد من أن تتناوله الشياطين، كما تناولُ سائر بني آدم {وَيَوْمَ يَمُوتُ} أي: وأمانٌ عليه من عذاب القبر، {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} ي: ومن عذاب يوم القيامة. وقال سفيان بن عيينة: أوحشُ ما يكونُ الإنسان في هذه الأحوال [الثلاثة يوم يُولَدُ] ، فيرى نفسه خارجاً [مما كان فيه، ويوم يموتُ، فيرى يوماً، لم يكن عاينهُ، ويوم يبعثُ، فيرى نفسهُ] في محشرٍ عظيمٍ، لم ير مثله، فأكرم الله يحيى - عليه السلام - فخصَّه بالسلامة في هذه المواطن الثلاثة. قال عبدُ الله بن نفطويه: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ} أي: أوَّل ما رأى الدُّنيا، {وَيَوْمَ يَمُوتُ} أي: أول يوم يرى فيه أمْرً الآخرة {وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} أوَّل يومٍ يرى فيه الجنَّة والنَّار. فصل في مزية السلام على يحيى السلام يمكن أن يكون من الله، وأن يكون من الملائكة، وعلى التقديرين، فيدلُّ على شرفه وفضله؛ لأنَّ الملائكة لا يسَلَِّمون إلا عن أمر الله. ويدلُّ على أن ليحيى مزية في هذا السلام على ما لسائر الأنبياء؛ كقوله تعالى: {سَلاَمٌ على نُوحٍ} [الصافات: 79] {سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ} [الصافات: 109] . وقال ليحيى: {يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً} . وليس لسائر الأنبياء. ورُوِي أن عيسى - عليه السلام - قال ليحيى - عليه السلام -: أنت أفضلُ منِّي؛ لأنَّ الله تعالى قال: سلامٌ عليك وأنا سلَّمتُ على عيسى؛ لأن عيسى معصومٌ، لا يفعل إلا ما أمره الله به. واعلم: أنَّ السَّلام عليه يوم ولد يكون تفضُّلاً من الله تعالى؛ لأنه لم يتقدَّمه عملٌ يكونُ ذلك السلام جزاءً له، وأمَّا السَّلام عليه يوم يموتُ، ويوم يبعثُ حيَّاً، عملٌ يكونُ ذلك السلام جزاءً له، وأمَّا السَّلام عليه يوم يموتُ، ويوم يبعثُ حيًّا فيجوزُ أن يكُون ثواباً؛ كالمَدْح والتَّعْظِيم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 28 فصل في فوائد هذه القصة في فوائد هذه القصَّة [أمورٌ] منها: تعليمُ آداب الدعاء، وهو قوله: «نِدَاءً خفيًّا» يدلُّ على أفضل الدعاء خفيةً ويؤكِّدهُ قوله تعالى: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً} [الأعراف: 55] ؛ ولأنَّ رفع الصوت مشعرٌ بالقوَّة والجلادةِ، وإخفاءُ الصوت مشعرٌ بالضعف والانكسار، وعمدة الدُّعاء الانكسار والتبرِّي عن حول النَّفس وقوَّتها، والاعتمادُ على فضل الله تعالى وإحسانه. ويستحبُّ أن يذكر في مقدِّمة الدعاء عجز النَّفس وضعفها؛ كقوله: {وَهَنَ العظم مِنِّي واشتعل الرأس شَيْباً} ثم يذكر نعم الله تعالى؛ كقوله: {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} ويكون الدعاء لما يتعلق بالدين لا لمحض الدنيا، كقوله: {وَإِنِّي خِفْتُ الموالي} وأن يكون الدُّعاء بلفظ: يا ربِّ. كما ذكر فيها بيان فضل زكريَّا، ويحيى - عليهما السلام - أما زكريَّا؛ فلتضرُّعه وانقطاعه إلى الله تعالى بالكليَّة، وإجابة الله تعالى دعاءه، وأن الله تعالى بشَّره، وبشَّرته الملاشكةُ، واعتقالُ لسانه عن الكلام دُون التَّسبيح. وأمَّا يحيى؛ فلأنَّه لم يجعل له من قبلُ سميًّا، وقوله {يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً} ، وكونه رحيماً حناناً وطاهراً، وتقيًّا، وبرًّا بوالديه، ولم يكن جبَّاراً، ولم يعص قطٌّ، ولا همَّ بمعصية، ثم سلَّم عليه يوم ولد، ويوم يموتُ، ويوم يبعثُ حيًّا. ومنها: كونُه تعالى قادراً على خلق الولد، وإن كان الأبوان في نهاية الشيخوخة ردًّا على أهل الطَّبائع. ومنها: أن المعدوم ليس بشيءٍ؛ لقوله: {وَلَمْ تَكُ شَيْئاً} . فإن قيل: المرادُ «ولم تَكُ شيئاً مَذْكُوراً» كما في قوله: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً} [الإنسان: 1] . فالجوابُ: أنَّ الإضمار خلافُ الأصل، وللخصم أن يقول: الآيةُ تدلُّ على أن الإنسان لم يكُن شيئاً مذكوراً، ونحنُ نقولُ به؛ لأنَّ الإنسانَ عبارة عن جواهر متألِّفة قامت بها أعراضٌ مخصوصةٌ، والجواهرُ المتألِّفة الموصوفة بالأغراض المخصوصة ليس ثابتة في العدمِ، وإنَّما الثابتُ هو [أعيانُ] تلك الجواهر مفردة غير مركَّبة، وهي ليست بالإنسان، فظهر أن الآية لا دلالة فيها على المطلوب. ومنها أن الله تعالى ذكر هذه القصة في «آل عمران» ، وذكرها في هذه السورة، فلنعتبر حالها في الموضعين، فنقول: إن الله تعالى بيَّن في هذه السورة أنه دعا ربه، ولم يبين الوقت، وبينه في «آل عمران» بقوله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 29 تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً} [آل عمران: 78] إلى أن قال: «هنالك دعا زكريا ربه قال: ربِّ هب لي من لدنك ذرية طيبة إنك سميع الدعاء» ، والمعنى أن زكريا - عليه السلام - لما رأى خرق العادة في حق مريم، دمع في حق نفسه، فدعا ربه، وصرح في «آل عمران» بأن المنادي هوالملائكة، بقوله: {فَنَادَتْهُ الملاائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب} [آل عمران: 39] ، والأظهر أن المنادي ههنا بقوله: «يا زكريا إنما نبشرك» هو الله تعالى، وقد تقدم أنه لا منافاة بينهما. وقال في آل عمران {أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ} [آل عمران: 40] فذكر أولاً كبر نفسه، ثم عقر المرأة وهاهنا قال: {وَكَانَتِ امرأتي عَاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} وجوابه: أنَّ الواو لا تقتضي الترتيب. وقال في «آل عمران» : {وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر} [آل عمران: 40] وقال هاهنا: {وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الكبر عِتِيّاً} وجوابه: أن ما بلغك فقد بلغته. وقال في آل عمران: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً واذكر} [آل عمران: 41] . وقال هاهنا {ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} . وجوابه: أنَّه دلَّت الآيتان على أنَّ المراد ثلاثة أيَّام ولياليهنَّ. والله أعلم. قوله تعالى : {واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ} القصة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 30 اعلم أن الله تعالى إنَّما قدَّم قصَّة يحيى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - على قصَّة عيسى - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - لأنَّ الولد أعني: لأن خلق الولد من شيخين فانيين أقربُ إلى مناهج العاداتِ من خلق الولد من الأب ألبتَّة، وأحسنُ طُرُق التعليم والتفهيم الترقِّي من الأقرب فالأقرب، وإلى الأصعب فالأصعب. قوله: {إِذِ انتبذت} : في «إذ» أوجهٌ: أحدها: أنَّها منصوبةٌ ب «اذْكُر» على أنَّها خرجت على الظرفية؛ إن يستحيلُ أن تكون باقيةً على [مُضِيِّها] ، والعاملُ فيها ما هو نصٌّ في الاستقبال. الثاني: أنَّه منصوبٌ بمحذوفٍ مضافٍ لمريم، تقديره: واذكر خبر مريم، أو نبأها؛ إذا انتبذت، ف «إذْ» منصوبٌ بذلك الخبر، أو النبأ. والثالث: أنه منصوبٌ بفعلٍ محذوفٍ، تقديره: وبيَّن، أي: الله تعالى، فهو كلامٌ آخرُ، وهذا كما قال سيبويه في قوله: {انتهوا خَيْراً لَّكُمْ} [النساء: 171] وهو في الظرف أقوى، وإن كان مفعولاً به. والرابع: أن يكون منصوباً من «مريمَ» بدلُ اشتمال، قال الزمخشريُّ: «لأنَّ الأحيان مشتملةٌ على ما فيها، وفيه: أن المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا؛ لوقوع هذه القصَّةِ العجيبةِ فيه» . قال أبو البقاء - بعد أن حكى عن الزمخشريِّ هذا الوجه -: «وهو بعيدٌ؛ لأنَّ الزمان إذا لم يكن حالاً من الجثَّة، ولا خبراً عنها، ولا صفة لها لم يكن بدلاً منها» انتهى. وفيه نظرٌ؛ لأنه لا يلزمُ من عدم صحَّةِ ما ذكر عدمُ صحَّة البدلية؛ ألا ترى نحو «» سُلِبَ زيدٌ ثوبُهُ «لا يصحُّ جعله عن» زَيْد «ولا حالاً منه، ولا وصفاً له، ومع ذلك، فهو بدل اشتمالٍ. السادس: أنَّ» إذ «بمعنى» أن «المصدرية؛ كقولك:» لا أكْرِمُكَ إذ لم تُكْرِمْنِي «أي: لأنَّك لا تُكْرِمُني، فعلى هذا يحسنُ بدلُ الاشتمال، أي: واذكُرْ مريم انتباذهَا، ذكره أبو البقاء. وهو في الضعف غايةٌ. و» مكاناً «: يجوزُ ان يكون ظرفاً، وهو الظاهرُ وأن يكون مفعولاً به على معنى: إذ أتتْ مكاناً. قوله: {انتبذت} الانتباذُ: افتعالٌ من النَّبْذ، وهو الطَّرْح، والإلقاء، ونُبْذَة: بضمِّ النون، وفتحها أي: ناحيةٌ، وهذا إذا جلس قريباً منك؛ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 31 حتى لو نبذتَ إليه شيئاً، وصل إليه، ونبذتُ الشيء: رَمَيْتُهُ، ومنه النَّبِيذُ؛ لأنَّه يطرح في الإنَاءِ. ومنه المَنْبُوذ، وهو أصله، فصرف إلى» فعيل «، ومنه قيل للَّقيطِ: منبوذٌ؛ لأنه رُمِيَ به. ومنه النهيُ عن المُنَابذةِ في البيع، وهو أن يقول: إذا نبذتُ إيلك الثَّوب، أو الحَصَاة، فقد وجب البَيْعُ فقوله: {انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً} : تباعدتْ واعتزلتْ عن أهلها مكاناً في الدار، ممَّا يلي المشرق، ثم إنَّها مع ذلك اتَّخذت من دُون أهلها حِجاباً. قال ابنُ عباسٍ: سِتْراً، وقيل: جلست وراء جدارِ، وقال نقاتلٌ: وراء جبل. فصل اختلف المفسِّرون في سبب احتجابها، فقيل «إنها لمَّا رأت الحيضَ، تباعدت عن مكان عبادتها تنتظرُ الطُّهْرَ لتغتسلَ، وتعودَ، فلما طهرتْ، جاءها جبريل - عليه السلام -. وقيل: طلبت الخلوة للعبادة. وقيل: تبادعتْ لتغتسِل من الحيضِ، مُحْتجِبة بشيءٍ يستُرها. وقيل: كانت في منزلِ زَوْجِ أختها زكريَّا، وفيه محراب تسكنه على حدةٍ، وكان زكريَّا إذا خرج يغلقُ عليها، فتمنَّت أن تجد خلوةً في الجبل؛ لتُفلِّي رأسها، فانفرج السَّقفُ لها، فخرجت في المشرقة وراء الجبل، فأتاها الملكُ. وقيل: عطِشَتْ؛ فخرجت إلى المفازةِ لتستسقي، وكل هذه الوجوه محتملة. واعلم أن المكان الشرقيَّ هو الذي يلي شرقيَّ بيت المقدس، أو شرقيَّ دارها. قال ابنُ عبَّاسٍ - رضيالله عنهما -: إنِّي لأعلمُ خلق الله، لأيِّ شيءٍ اتَّخذت النصارى المشرق قبلةٌ؛ لقوله: {مَكَاناً شَرْقِياً} فاتَّخذُوا ميلاد عيسى قبلةً، وهو قول الحسنِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -. قوله تعالى: {فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا} . الجمهورُ على ضمِّ الراءِ من» رُوحِنَا «وهو ما يَحْيون به، وقرأ أة حيوة، وسهلٌ بفتحها، أي: ما فيه راحةٌ للعبادِ، كقوله تعالى: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ} [الواقعة: 89] وحكى النقاس: أنه قُرِئ» رُوحنَّا «بتشديد النُّون، وقال: هو اسمُ ملكٍ من الملائكة. قوله:» بَشَراً سويًّا «حالٌ من فاعل» تمَثَّل «وسوَّغ وُقُوعَ الحالِ جامدة وصفها، فلمَّا وصفت النكرةُ وقعت حالاً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 32 فصل في المراد بالروح اختلفوا في هذا الرُّوح، فالأكثرون على أنَّه جبريل - صلوات الله عليه - لقوله تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الأمين} [الشعراء: 193] وسُمِّي روحاً؛ لأنَّ الدِّين يحيى به. وقيل: سُمِّي رُوحاً على المجازِ؛ لمحبته، وتقريبه، كما تقول لحبيبك: رُوحِي. وقيل: المرادُ من الرُّوح: عيسى - صلوات الله عليه - جاء في صورة بشرٍ، فحملت به، والأول أصحُّ، وهو أنَّ جبريل عرض لها في صُورةِ شابٍّ أمرد، حسن الوجه، جعد الشَّعْر، سويِّ الخلق وقيل: في صُورة تربٍ لها، اسمه يوسفُ، من خدم بيت المقدس. قيل: إنما تمثَّل لها في صورة بشر؛ لكي لا تنفر منه، ولو ظهر في صورةِ الملائكة، لنفرت عنه، ولم تقدر على استماع كلامه، وهاهنا إشكالات: الأول: أنَّه لو جاز أن يظهر الملكُ في صورة الإنسان المعيَّن، فحينئذ؛ لا يمكُننا القطع بأنَّ هذا الشخص الذي نراه في الحال هو زيدٌ الذي رأينا بالأمْس؛ لاحتمالِ أن الملك، أو الجنِّي تمثَّل بصورته، وفتحُ هذا الباب يؤدِّي إلى السَّفْسَطةِ، ولا يقال: هذا إنَّما يجوز في زمانِ [جواز] البعثة، فأما في زماننا فلا يجوز. لنا أن نقول: هذا الفرقُ إنَّما يعلمُ بالدليل، فالجاهلُ بذلك الدَّليل يجبُ ألا يقطع بأنَّ هذا الشخص الذي رآه الآن هو الذي رآه بالأمْسِ. الثاني: أنه جاء في الأخبار أنَّ جبريل - صلوات الله عليه - شخصٌُ عظيمٌ جدًّا، فذلك الشخصُ - كيف صار بدنهُ في مقدارِ جثَّة الإنسان، وذلك يوجبُ تداخل الأجزاء، وهو محالٌ. الثالث: أنَّا لو جوَّزنا أن يتمثَّل جبريل - صلوات الله عليه - في صورة الآدمي، فلم لا يجوز تمثُّله في صورة أصغر من الآدميِّ؛ كالذُّباب، والبقِّ، والبعُوضِ، ومعلومٌ أن كلَّ مذهب جرَّ إلى هذا، وهو باطلٌ. الرابع: أن تجويزهُ يفضي إلى القدحِ في خبر التَّواتُر، فلعلَّ الشخص الذي حارب يوم بدرٍ، لم يكُن محمَّداً - صلوات الله عليه وسلامه - بل كان شخصاً يشبهه، وكذا القولُ في الكُلِّ. والجوابُ عن الأوَّل: أن ذلك التجويز لازمٌ على الكُلِّ؛ لأنَّ من اعترف بافتقار العالم إلى الصَّانع المُختار، فقد قطع بكونه قادراً على أن يخلُق شخصاً آخر؛ مثل زيدٍ في خلقه وتخطيطه، وإذا جوَّزنا ذلك، فقد لزم الشكُّ في أنَّ زيداً المشاهد الآن هو الذي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 33 شاهدناه بالأمْسِ، أم لا، ومن أنكر الصَّانع المختار، وأسند الحوادث إلى اتصالات الكواكب، وتشكُّلات الفلك، لزمه [تجويزُ] أن يحدث اتصالٌ غريبٌ في الأفلاك يقتضي حدوث شخصٍ، مثل زيدٍ في كُلِّ الأمور، وحينئذٍ يعود التجويزُ المذكُور. وعن الثاني: أنَّه لا يمتنعُ أن يكون جبريلُ - عليه السلام - له أجزاءٌ أصليَّةٌ، وأجزاءٌ فاضلةٌ، فالأجزاءُ الأصليَّة قليلةٌ جدًّا؛ فحينئذ: يكون متمكِّناً من التشبُّه بصُورة الإنسان، هذا إذا جعلناه جسمانيًّا، فإذا جعلناهُ روحانيًّا، فأيُّ استبعادٍ في أن يتنوَّع بالهَيْكَل العظيم، وأخرى بالهيكل الصَّغير. وعن الثالث: أنَّ أصل التجويز قائمٌ في العقل، وإنما عرف فسادهُ بدلائل السَّمع، وهو الجوابُ عن السؤال الرابع. قوله: {قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً} . أي: إن كان يرجى منك أن تتقي الله، فإنِّي عائذةٌ به منك؛ لأنَّها علمتْ أن الاستعاذة لا تؤثِّرُ في التُّقى، فهو كقول القائل: إن كنت مُسْلماً، فلا تظلمني، أي: ينبغي أن تكُون تقواك مانعاً لك من الفُجُور. كقوله تعالى: {وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة: 278] . أي: أنَّ شرط الإيمان يُوجب هذا؛ لا أنَّ الله تعالى يُخْشَى في حالٍ دون حالٍ. وقيل: كان في ذلك الزَّمانِ إنسانٌ فاجرٌ يتبعُ النِّساء، اسمه تقيٌّ، فظنَّت مريمُ انَّ ذلك الشخص المشاهد هُو ذاك، والأول أصحُّ. قوله: {إِن كُنتَ تَقِيّاً} جوابه محذوفٌ، أو متقدِّم. قوله تعالى: {لاًّهَبَ} : قرأ نافعٌ، وأبو عمرو «ليَهَبَ» بالياء والباقون «لأهَبَ» بالهمزة، فالأولى: الظاهرُ فيها أنَّ الضمير للرَّبِّ، أي: ليهبَ الرَّبُّ، وقيل: الأصلُ: لأهَبَ، بالهمز، وإنما قلبتِ الهمزةُ ياءً تخفيفاً؛ لأنها مفتوحةٌ بعد كسرةٍ، فتتفِقُ القراءتان، وفيه بعدٌ، وأمَّا الثانية، فالضميرُ للمتكلِّم، والمراد به الملكُ، وأسنده لنفسه؛ لأنه سببٌ فيه ويؤيده: أن في بعض المصاحف: «أمرني أن أهب لك» ؛ ويجوز أن يكون الضمير لله تعالى، ويكون على الحكاية بقولٍ محذوف. قوله تعالى: {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً} . فصل لما علم جبريلُ - صلوات الله عليه - خوفها، قال: {إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ} ليزول الجزء: 13 ¦ الصفحة: 34 عنها ذلك الخوف، ولكن الخوف لا يزولُ بمجرَّدِ هذا القول، بل لا بدَّ من دلالةٍ تدلُّ على أنه كان جبريل - صلوات الله عليه -، فيحتمل أن يكون قد ظهر معجزٌ، عرفت به أنَِّه جبريلُ - صلوات الله عليه -، ويحتمل أنَّها عرفت صفة الملائكة من جهة زكريَّا - صلوات الله عليه - فلمَّا قال لها: {إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ} أظهر لها من جسده ما عرفت به أنَّه ملكٌ؛ فيكونُ ذلك هو العلمَ، والذي يظهر أنَّها كانت تعرفُ صفة الملك بالأمارات، حين كان يأتيها بالرِّزْق في المحراب، وقال لها زكريَّا: {يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله} [آل عمران: 37] . قوله: {غُلاَماً زَكِيّاً} ولداً صالحاً طاهراً من الذُّنوب. {قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} إنما تعجبت مما بشَّرها جبريلُ؛ لأنَّها قد عرفت بالعادة أنَّ الولادة لا تكونُ إلاَّ من رجُلٍ، والعاداتُ عند أهل المعرفةِ معتبرةٌ في الأمُور، وإن جوَّزنا خلاف ذلك في القدرة، فليس في قولها هذا دلالةٌ على أنَّها لم تعلمْ أنَّه تعالى قادرٌ على خلق الولد ابتداءً، وكيف، وقد عرفت أنَّه تعالى خلق أبا البشر على هذا الحدِّ؛ ولأنَّها كانت منفردةً بالعبادة، ومن يكونُ كذلك، لا بُدَّ أن يعرف قدرة الله تعالى على ذلك. فإن قيل: قولها {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ} كافٍ في المعنى، فلم قالت: {وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً} فالجوابُ من وجهين: أحدهما: أنها جعلت المسَّ عبارة عن النِّكاح الحلال؛ لأنَّه كنايةٌ عنه قال تعالى: {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] والزِّنَا، إنما يقال فيه: فجر بها، أو ما أشبهه. والثاني: أن إعادتها؛ لتعظيم حالها؛ كقوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى} [البقرة: 238] وقوله تعالى: {وملاائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ} [البقرة: 98] . فكذا هاهنا: إن من لم تعرف من النِّساء بزوجٍ، فأغلظ أحوالها، إذا أتت بولدٍ: أن تكُون زانيةً، فأفردت ذلك البغْي بعد دخوله في الكرم؛ لأنَّه أعظُم ما في بابه. قوله تعالى: «بَغْيًّا» : في وزنه قولان: أحدهما - وهو قولُ المبرِّد - أنَّ وزنه «فُعُولٌ» والأصل «بَغُويٌ» فاجتمعت الياء، والواو، [ففعل فيه ما هو معروفٌ] ، قال أبو البقاء: «ولذلك لم تلحق تاءُ التأنيث؛ كما لم تلحقْ في صبُور وشكور» ونقل الزمخشريُّ عن أبي الفتح في كتابه «التمام» أنها فعيلٌ، قال: «ولو كانت فُعولاً، لقيل: بغُوٌّ، كما يقال: فلان نهُوٌّ عن المنكر» ولم يعقبه بنكير، ومن قال: إنها «فَعِيْلٌ» فهل هي بمعنى «فَاعِل» أو بمعنى «مَفْعُول» ؟ فإن كانت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 35 بمعنى «فاعل» فينبغي أن تكون بتاء التأنيث؛ نحو: امرأةٌ قديرةٌ وبصيرةٌ، وقد أجيب عن ذلك: بأنها معنى النَّسب؛ كحائضٍ وطالقٍ، أي ذات بغي، وقال أبو البقاء، حين جعلها بمعنى «فَاعِل» : «ولم تلحقِ التاءُ أيضاً؛ لأنها للمبالغةِ» فجعل العلة في عدم اللحاقِ كون للمبالغة؛ وليس بشيءٍ، وإن قيل بأنَّها بمعنى «مَفْعُول» فعدمُ الياءِ واضحٌ. وتقدم الكلامُ على قوله: {قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ} وهو كقوله في آل عمران {كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [آل عمران: 47] لا يمتنعُ عليه ما يريدُ خلقه، ولا يحتاجُ في إنشائه إلى الآلاتِ والموادِّ. قوله: «ولنَجْعَلهُ» يجوز أن يكُون علَّةً، ومُعَلَّلُهُ محذوفٌ، تقديره: لنجعله آيةٌ للنَّاسِ فعلنا ذلك، ويجوز أن يكون نسقاً على علةٍ محذوفةٍ، تقديره: لنُبَيِّنَ به قدرتنا، ولنجعله آيةً، والضميرُ عائدٌ على الغلام، واسم «كان» مضمرٌ فيها، أي: وكان الغلام، أي: خلقه وإيجاده أمراً مقضياً: أي لا بُدَّ منه. والمرادُ ب «الآية» العلامةُ، أي: علامة للنَّاسِ، ودلالةً على قُدْرتنا على أنواع الخلق؛ فإنه تعالى خلق آدم - صلوات الله عليه وسلامه - من غير ذكر ولا أنثى، وخلق حوَّاءمن ذكر بلا أنثى، وخلق عيسى - صلوات الله عليه - من أنثى بلا ذكرٍ، وخلق بقيَّة النَّاسِ من ذكرٍ وأنْثَى. {وَرَحْمَةً مِّنَّا} أي: ونعمةً لمنْ تبعه على دينه، {وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً} محكوماً مفروغاً منه، لا يُرَدُّ، ولا يُبَدَّلُ. قوله تعالى: {فَحَمَلَتْهُ فانتبذت} . قيل: إنَّ جبريل - صلوات الله عليه وسلامه - رفع درعها، فنفخ في جيبه، فحملتْ حين لبستْ. وقيل: نفخ جبريلُ من بعيدٍ، فوصل الرِّيح إليها، فحملت بعيسى في الحالِ. وقيل: إنَّ النَّفْخة كانت في فيها، فوصلت إلى بطنها. وقيل: كان النَّافخُ هو الله تعالى؛ لقوله عزَّ وجلَّ: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 12] . وظاهرهُ؛ يفيدُ أنَّ النافخَ هو الله تعالى؛ ولأنه تعالى قال: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] . ومقتضى التشبيه حُصُول المُشابهة إلاَّ فيما أخرجه الدَّليل، وفي حقِّ آدم النَّافخُ هو الله تعالى؛ لقوله عزَّ وجلَّ: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} [الحجر: 29] فكذا هاهنا، وإذا عرفت هذا، ظهر أن في الكلام حذفاً، تقديره: «فَنَفخَ فيها، فحملتهُ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 36 قيل: حملتْ، وهي بنتُ [ثلاثَ عشرة سنةً] . وقيل: بنتُ عشرين، وقد كانت حاضتْ حيضتين قبل أن تحمل، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيء من هذه الأحوال. قوله تعالى: {فانتبذت بِهِ} : الجارُّ والمجرورُ في محلِّ نصب على الحال، أي: انتبذتْ، وهو مصاحبٌ لها؛ كقوله: [الوافر] 3585 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... تَدُوسُ بِنَا الجَمَاجِمَ والتَّرِيبا والمعنى: اعتزلت، وهو في بطنها؛ كقوله: {تَنبُتُ بالدهن} [المؤمنون: 20] أي: تنبتُ، والدُّهْنُ فيها. {مَكَاناً قَصِيّاً} : بعيداً من أهلها. قال ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: أقصى أقصى الوادي، وهو وادي بيت لحم؛ فراراً من قومها أن يُعَيِّروها بولادتها من غير زوج. واختلفوا في علَّة الانتباذِ؛ فروى الثعلبيُّ في «العَرَائِسِ» عن وهب قال: إنَّ مريم لمَّا حملتْ بعيسى - صلوات الله عليه - كان معها ابن عمٍّ لها يُسمَّى «يُوسُفَ النَّجَّار» ، وكانا منطلقين إلى المسجد الذي عند «جَبَلِ صُهْيُون» ، وكانت مريمُ ويوسفُ يخدمان ذلك المسجدَ، ولا يعلمُ من أهل زمانهما أحدٌ أشدُّ اجتهاداً منهما، وأوَّلُ من عرف حمل مريم يوسفُ، فتحير في أمرها، فكلَّما أراد أن يتَّهمها، ذكر صلاحها، وعبادتها، وأنَّها لم تغبْ عنه ساعةً قطُّ؛ فقال: إنَّه قد وقع في نفسي من أمرِك شيءٌ، وقد حرصتُ على كتمانِهِ، فغلبني ذلك، فرأيتُ أنَّ الكلام فيه أشفى لصدْرِي فقالت: قُلْ قَوْلاً جَمِيلاً. قال: أخبرني يا مريمُ، هَلْ يَنْبُتُ زَرْعٌ بِغَيْرِ بِذْرٍ؟ وهلْ تَنْبُتُ شَجَرةٌ من غَيْرِ غَيْثٍ؟ وهَلْ يَكُونُ ولدق من غَيْرِ ذكرٍ؟ قالتْ: نَعَمْ، ألَمْ تَعْلَمْ أنَّ الله تعالى أنْبَتَ الزَّرْعَ يوْمَ خلقهُ مِنْ غَيْرِ بَذْرٍ، وهذا البَذْرُ إنَّما حصل مِنَ الذي أنْبَتَهُ من غَيْرِ بَذْرٍ. ألم تعلم أنَّ الله أنْبتَ الشَّجَرَةَ بغير غَيْثٍ، وبالقُدْرَةِ جعل الغَيْثَ حياةُ الشَّجرةِ، بعدمَا خَلَقَ الله كُلَّ واحدٍ مِنْها على حدةٍ؟ أو تقُول: إنَّ الله لا يقدرُ على أنْ يُنْبِتَ الشَّجرة حتَّى استعان بالماءِ، ولوْلاَ ذلكَ، لَمْ يَقْدِرْ على إنباتها؟! . قال يُوسفُ: لا أقُولُ هذا، ولكنِّي أقُولُ: إنَّ الله تعالى قادرٌ على مَا يَشَاءُ، فيقُول: كُنْ فَيَكُونَ، فقالت لهُ مريمُ: أو لَمْ تعلمْ أنَّ خلق آدَمَ وامْرأتهُ حوَّاء من غير ذكرٍ، ولا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 37 أنثى، فعندهُ زالتِ التُّهْمَةُ عن قلبهِ، وكان ينُوبُ عنها في خدمةِ المسجدِ؛ لاستيلاءِ الضَّعْف عليها؛ بسبب الحَمْلِ، وضيق القَلْبِ، فلمَّا قرُبَ نفاسُها، أوحى الله تعالى إليها أن اخْرُجي من أرض قومكِ؛ لئلاَّ يقتُلُوا ولدكِ، فاحتملها يوسفُ إلى أرْضِ مِصْر على حمار لهُ، فلمَّا بلغتْ تلك البلادَ، وأدْركهَا النِّفاسُ، فألجأها إلى أصلِ نخلةٍ، وذلك في زمانِ بردٍ، فاحتضنتها، [فوضعت] عندها. وقيل: إنَّها استحيت من زكريَّا، فذهبت إلى مكانٍ بعيدٍ، لئلاَّ يعلم بها زكريَّا، صلوات الله عليه -. وقيل: لأنَّها كانَتْ مشهورةً في بني إسرائيل بالزُّهدِ؛ لنذْرِ أمِّهَا، وتشاجَّ النبياءِ في تربيتها، وتكفُّل زكريَّا بِهَا، وكان الرِّزْقُ يأتيها من عند الله تعالى، فلمَّا كانت في نهايةِ الشُّهرةِ اسْتَحيتْ من هذه الواقعةِ، فذهَبتْ إلى مكانٍ بعيدٍ. وقيل: ثمانية أشهر، وكان ذلك آية أخرى؛ لأنَّه لم يعش ولدٌ لثمانية أشهر إلاَّ - عيسى - صلوات الله عليه -. وقيل: لأنَّها كانَتْ مشهورةً في بني إسرائيل بالزُّهدِ؛ لنذْرِ أمِّهَا، وتشاحَّ النبياءِ في تربيتها، وتكفُّل زكريَّا بِهَا، وكان الرِّزْقُ يأتيها من عند الله تعالى، فلمَّا كانت في نهايةِ الشُّهرةِ اسْتَحْيتْ من هذه الواقعةِ، فذهَبتْ إلى مكانٍ بعيدٍ. وقيل: خافت على ولدها من القَتْل، لو ولدته بين أظهرهم. وكلُّ هذه الوجُوهِ محتملةٌ، وليس في القرآن ما يدلُّ على شيءٍ منها. فصل في بيان حمل مريم اختلفُول في مدَّة حملها، فرُوي عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - أنَّها تسعة أشهر؛ كسائر النسِّاء في الغالب. وقيل: ثمانية أشهر، وكان ذلك آية أخرى؛ لأنَّه لم يعش ولدٌ يولدُ لثمانية أشهر إلاَّ عيسى «صلوات الله عليه -. وقال عطاءٌ، وأبو العالية، والضحاك: سبعةُ أشهر وقيل: ستَّةُ أشهر. وقال مقاتلُ بنُ سليمان: ثلاثُ ساعاتٍ، حملت به في ساعةٍ، وصُوِّر في ساعةٍ، ووضعته حين زالتِ الشَّمْسِ من يومها. وقال ابنُ عبَّاس: كان الحَمْل والولادةُ في ساعةٍ واحدة، ويدلُّ عليه وجهان: الأول: قوله: {فَحَمَلَتْهُ فانتبذت بِهِ} {فَأَجَآءَهَا المخاض} {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ} ، والفاء: للتعقيب؛ فدلَّت هذه الفاءاتُ على أنَّ كلَّ واحدٍ من هذه الأحوال حصل عقيبَ الآخَرِ من غير فصْلٍ؛ وذلك يوجبُ كون مدَّة الحَمْل ساعةً واحدة لا يقال: انتباذها مكاناً قصيًّا كيف يحصُل في ساعةٍ واحدةٍ؛ لأنَّا نقول: السُّدي فسَّر بأنَّها ذهبت إلى أقصى موضع في جانب محرابها. الثاني: أنَّ الله تعالى قال في وصفه {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 38 ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [آل عمران: 59] ، فثبت أن عيسى - صلواتُ الله عليه - كما قال الله تعالى:» كُنْ «فكان، وهذا مما لا يتصوَّر فيه مدَّةُ الحمل، إنَّما يتصوَّر مُدَّة الحمل في المتولِّد عن النُّطفة. والقَصيُّ: البعيدُ. يقال: مكانٌ قاصٍ، وقَصِيٌّ بمعنى واحدٍ؛ مثل: عاصٍ وعَصِيٍّ. قوله تعالى: {فَأَجَآءَهَا} : الأصلُ في» جَاءَ «: أنْ يتعدَّى لواحدٍ بنفسه، فإذا دلت عليه الهمزة، كان القياسُ يقتضي تعدِّه لاثنين، قال الزمخشريُّ:» إلاَّ أنَّ استعماله قد تغيَّر بعد النَّقْل إلى معنى الإلجاء، ألا تراك لا تقول: جئتُ المكانَ، وأجاءنيه زيدٌ؛ كما تقولُ: بلغتهُ وأبلغنيه، ونظيرهُ «آتى» حيثُ لم يستعمل إلا في الإعطاء، ولم تقل: أتيتُ المكان وآتانيه فلانٌ «. وقال أبو البقاء: الأصلُ» جَاءَهَا «ثم عُدِّي بالهمزة إلى مفعولٍ ثانٍ، واستعمل بمعنى» ألْجَأها «. قال أبو حيَّان: قوله: إنَّ» أجَاءَهَا « [استعمل] بمعنى» ألْجَأهَا «يحتاجُ إلى نقل أئمةِ اللغة المستقرئين لذلك من لسانِ العرب، والإجاءةُ تدلُّ على المُطلقِ، فتصلحُ لما هو بمعنى» الإلْجَاءِ «ولما هو بمعنى» الاختيار «كما تقول:» أقَمْتُ زَيْداً «فإنه يصلحُ أن تكون إقامتك لهُ قَسْراً أو اختياراً، وأمَّا قوله:» ألا تراكَ لا تقُولُ «إلى آخره، فمن رأى أنَّ التعدية بالهمزة قاسٌ، أجاز ذلك، وإن لم يسمعْ، ومن منع، فقد سمع ذلك في» جَاءَ «فيجيزُ ذلك، وأمَّا تنظيهُ ذلك ب» أتى «فليس تنظيراً صحيحاً؛ لأنَّه بناهُ على أنَّ همزته للتعدية، وأنَّ أصله» آتى «بل» آتى «ممَّا بُنِي على» أفْعَل «ولو كان منقولاً من» أتى «المتعدِّي لواحد، لكان ذلك الواحدُ هو المفعول الثاني، والفاعل هو الأوَّل، إذا عدَّيته بالهمزة، تقولُ:» أتى المالُ زيداً «و» آتى عمروٌ زيداً المالَ «فيختلفُ التركيبُ بالتعدية؛ لأنَّ» زَيْداً «عند النحويِّين هو المفعول الأول، و» المال «هو المفعولُ الثاني، وعلى ما ذكره الزمخشريُّ، كان يكون العكس، فدلَّ على أنَّه ليس ما قاله، وأيضاً، ف» أتى «مرادفٌ ل» أعْطَى «، فهو مخالفٌ من حيثُ الدلالة في المعنى، وقوله:» ولمْ تَقُل: أتَيْتُ المكانَ، وآتانيه «هذا غيرُ مسلمٍ، بل تقول:: أتَيْتُ المَكَانَ» كما تقول: «جِئْتُ المكانَ» وقال الشاعر: [الوافر] 3586 - أتَوْا نَارِي فَقُلْتُ منُونَ أنتُمْ ... فقالُوا الجِنُّ قُلتُ عَمُوا ظَلامَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 39 ومن رأى التعدية بالهمزةِ قياساً، قال: «آتانيه» قال شهاب الدين: وهذه الأبحاثُ التي ذكرها الشيخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - معه ظاهرةُ الأجوبة، فلا نُطَوِّلُ بذكرها. وقرأ الجمهورُ «فأجَاءَهَا» أي: ألْجَأهَا وساقها، ومنه قوله: [الوافر] 3587 - وجَارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إليْكُمْ ... أجَاءَتْهُ المخَافَةُ والرَّجَاءُ وقرأ حمَّادُ بن سلمة «فاجَأهَا» أي: ألْجَأهَا وساقها، ومنه قوله: [الوافر] 3587 - وجَارٍ سَارَ مُعْتَمِداً إليْكُم ... أجَأءَتْهُ المخَافَةُ والرَّجَاءُ وقرأ حمَّادُ بن سلمة «فاجَأهَا» بألفٍ بعد الفاء، وهمزة بعد الجيم، من المفاجأة، بزنة «قابلها» ويقرأ بألفين صريحتين؛ كأنهم خَفَّفُوا الهمزة بعد الجيمِ، وبذلك رُويتْ بَيْنَ بَيْنَ. والجمهورُ على فتح الميم من «المَخَاض» وهو وجعُ الولادةِ، ورُوِيَ عن ابن كثير بكسر الميم، فقيل: هما بمعنى، وقيل: المفتوجُ: اسمُ مصدر؛ كالعطاءِ والسلامِ، والمكسورُ مصدرٌ؛ كالقتال واللِّقاء، والفعالُ: قد جاء من واحد؛ كالعقابِ والطِّرَاقِ، قاله أبو البقاء، والميم أصليةٌ؛ لأنه من «تَمخَّضتِ الحامِلُ تَتَمخَّضُ» . و «إلى جذْعِ» يتعلق في قراءة العامَّة ب «أجَاءَهَا» أي: ساقها إليه. وفي قراءة حمَّاد بمحذوفٍ، لأنه حالٌ من المفعول، أي: فاجأها مستندةً إلى جذْع النَّخْلةِ. فصل في معنى الآية المعنى: ألْجَأهَا المخاض، وهو وجعُ الولادةِ إلى جذْعِ النَّخْلَة؛ لتستند إليها، وتتمسَّك بها عمد وجع الولادة، وكانت نخلة يابسةً في الصحراء في شدَّة الشِّتاء، ولم يكُن لها سعفٌ، ولا خُضْرة، والتعريف فيها: إمَّا أن يكون من تعريف الأسماء الغالبة؛ كتعريف النّضجم [والصَّعق] أو كانت تلك الصَّحراء كان فيها جذْع نخلة مشهورٌ عند النَّاس. فإن قيل: جذعُ النَّخْلة فهم منه ذلك دون سائره، وإمَّا يكون تعريف الجنْسِ، أي: إلى جذْعِ هذه الشَّجرة خاصَّةً؛ كأنَّ الله تعالى أرشدها إلى النَّخْلة؛ ليُطعمَها منها الرُّطب الذي هو أشبه الأشياء موافقة للنُّفساء، ولأنَّ النخلة أشدُّ الأشياء صَبْراً على البَرْد، ولا تُثْمِرُ إلاَّ عند اللِّقاح، وإذا قُطِعَ رأسُها، لم تُثْمِرْ، فكأنَّ الله تعالى قال: كما أنَّ الأنثى لا تلدُ إلاَّ مع الذَّكر، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 40 فكذا النَّخلة لا تُثْمِر إلا باللِّقاح، ثم إنَّه أظهر الرُّطب من غيْر اللِّقَاح؛ ليدلَّ ذلك على جواز ظُهُور الولد من غير ذكر. {قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا } تمنَّت الموت. فإن قيل: كيف تمنَّت الموت مع أنها كانت تعلم أنَّ الله تعالى بعث جبريل - صلوات الله عليه - ووعدها بأنْ يجعلها وولدها آيةً للعالمين. فالجوابُ من وجوه: الأول: تمنَّت الموت استحياءً من النَّاس، فأنْسَاها الاستحياء بشارة الملائكة بعيسى - صلوات الله عليه -. الثاني: أنَّ عادة الصَّالحين - رضي الله تعالى عنهم - إذا وقعُوا في بلاءٍ: أن يقُولُوا ذلك، كما رُوِيَ عن أبي بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنه [نظر إلى طائرٍ] على شجرة، فقال: طُوبى لَكَ، يا طَائِر؛ تقعُ على الشَّجرِ، وتأكُلُ من الثَّمَر، وددت أنِّي ثمرةٌ يَنْقُرهَا الطَّائِرُ. وعن عُمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه أخذ تبنة من الأرض، فقال: يا لَيْتَنِي هذه التَّبْنَةُ، يا بَيْتَنِي لم أكُنْ شيئاً. وعن عليٍّ كُرِّم وجهه يوم الجمل: لَيْتَنِي مِتُّ قبل هذا اليومِ بعشرين سنة. وعن بلالٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: ليت بلالاً لم تلدهُ أمهُ. فثبت أنَّ هذا الكلام يذكُرُه الصَّالحون عند اشتداد الأمْرِ عليهم. الثالث: - لعلَّها قالت ذلك؛ لئلاَّ تقع المعصيةُ ممن يتكلَّم فيها، وإلاَّ فهي راضيةٌ بما بُشِّرَتْ به. قوله تعالى: «نَسْياً» الجمهور على النون وسكون السين، وبصريح الياء بعدها، وقرأ حمزة وحفص وجماعة بفتح النون، فالمكسور «فِعْل» بمعنى «مَفْعُولٍ» كالذَّبح والطَّحن، ومعناه الشيء الحقيرُ الذي من شأنه أن ينسى؛ كالوتد، والحبلِ، وخرقةِ الطَّمْثِ، ونحوها. تمنت لو كانت شيئاً تافهاً لا يؤبه له من حقّه أن ينسى عادة. قال ابن الأنباري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «من كسر فهو اسمٌ لما يُنسى، كالنَّقص؛ اسمٌ لما ينقصُ، والمفتوحُ: مصدرٌ يسدُّ مسدَّ الوصف» وقال في الفرَّاء: هما لغتان؛ كالوَتْر والوِتْر، والكسرُ أحَبُّ إليَّ «. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 41 وقرأ محمدُ بنُ كعب القرظيُّ» نِسْئاً «بكسر النون، والهمزةُ بدل الياء، وروي عنه أيضاً، وعن بكر بن حبيب السهميِّ فتحُ النون مع الهمزة، قالوا: وهو من نسأتُ اللَّبن، إذا صببت فيه ماءً، فاستهلك فيه، فالمكسورُ أيضاً كذلك الشيء المستهلك، والمفتوحُ مصدرٌ؛ كما كان ذلك من النِّسيانِ. ونقل ابن عطيَّة عن بكر بن حبيبٍ» نَساً «بفتح النون، والسين، والقصر؛ ك» عَصاً «، كأنه جعل فعلاً بمعنى مفعولٍ؛ كالقبضِ بمعنى المقبوض. و «منْسِيًّا» نعتٌ على المبالغة، وأصله «مَنْسُويٌ» فأدغم، وقرأ أبو جعفرٍ، والأعمشُ «مِنْسيًّا» بكسر الميم؛ للاتباع لكسرة السين، ولم يعتدُّوا بالساكن؛ لأنه حاجزٌ غير حصينٍ؛ كقولهم: «مِنْتِنٌ» و «مِنْخِرٌ» ، والمقبرة والمحبرة. قوله تعالى: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ} : قرأ الأخوان، ونافع، وحفص بكسر ميم «مِنْ» وجرِّ «تحتها» على الجار والمجرور، والباقون بفتحها، ونصب «تحتها» فالقراءةُ الأولى تقتضي أن يكون الفاعلُ في «نَادَى» مَكراً، وفيه تأويلان: أحدهما: هو جبريلُ، ومعنى كونه «مِنْ تحتها، أنه في مكانٍ أسفل منها؛ ويدلُّ على ذلك قراءةُ ابن عبَّاس» فناداها ملكٌ من تحتها «فصرَّح به. ومعنى كونه أسفل منها: إما أن يكونا معاً في مكانٍ مستوٍ، وهناك مبدأ معيَّنٌ، وهو عند النَّخْلة، وجبريلُ بعيدٌ عنها، فكل من كان أقرب، كان فوق، وكُلُّ من كان أبعد، كان تحت، وبهذا فَسَّر الكلبيُّ قوله تعالى: {إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ} [الأحزاب: 10] . ولهذا قال بعضهم: ناداها من أقصى الوادي. وقيل: كانت مريم على أكمةٍ عاليةٍ، وجبريل أسفل؛ قاله عكرمة. ورُوِيَ عن عكرمة: أنَّ جبريل ناداها من تحتِ النخْلَة. و» مِنْ تَحْتهَا «على هذا فيه وجهان: أحدهما: أنه متعلِّقق بالنداء، أي: جاء النداء من هذه الجهة. والثاني: أنه حالٌ من الفاعل، أي: فناداها، وهو تحتها. وثاني التأويلين: أنَّ الضمير لعيسى، أيك فناداها المولودُ من تحتِ ذيلها، والجارُّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 42 فيه الوجهان: من كونه متعلَّقاً بالنداء، أو بمحذوفٍ على انه حالٌ، والثاني أوضحُ. والقراءة الثانية: تكونُ فيها» مَنْ «موصولةً، والظرفُ صلتها، والمرادُ بالموصول: إمَّا جبريلُ، وإمَّا عيسى. وقرأ زئرٌّ، وعلقمةُ:» فَخَاطَبَهَا «مكان» فَنَادَاها «. فصل في اختلافهم في المنادي قال الحسنُ وسعيدُ بن جبيرٍ: إنَّ المنادي هو عيسى - صلوات الله عليه - وقال ابنُ عبَّاسٍ والسديُّ، وقتادةُ، والضحاكُ، وجماعةٌ: إنَّه جبريل - صلوات الله عليه - وكانت مريمُ على أكمة [وجبريل] وراء الأكمةِ تحتها. وقال ابن عيينة، وعاصمٌ: المنادي على القراءة بالفتح وهو عيسى، وعلى القراءة بالكسر هو الملكُ، والأوَّل أقربُ لوجوهٍ: الأول: أن قوله: {فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ} بفتح الميم إنَِّما يستعملُ إذا كان قد عُلِم قبل ذلك أنَّ تحتها أحداً، والذي عُلِمَ كونه تحتها هو عيسى - صلوات الله عليه - فوجب حملُ اللفظ عليه، وأما قراءة كسر الميم، فلا تقتضي كون المنادي» جبريل «صلواتُ الله عليه. الثاني: أنَّ ذلك الموضع موضعُ اللَّوْث والنَّظر إلى العورة، وذلك لا يليقُ بالملائكةِ. الثالث: ان قوله» فَنَدَاهَا «فعلٌ، ولا بُدَّ أن يكون فاعله قد تقدَّم ذكره، والذي تقدَّم ذكره هو جبرائيل، وعيسى - صلوات الله عليهما -، إلا أنَّ ذكر عيسى أقربُ؛ لقوله عزَّ وجلَّ: {فَحَمَلَتْهُ فانتبذت} والضمير عائدٌ إلى المسيح، فكان حمله عيله أولى. الرابع: أنَّ عيسى - صلوات الله عليه - لو لم يكُن كلَّمها، لما علمتْ أنه ينطقُ، ولما كانت تُشيرُ إلى عيسى بالكلام. فصل في معنى الآية على القولين من قال: المُنادِي: هو عيسى، فالمعنى: أنَّ الله تعالى أنطفه لها حين وضعتهُ تطبيباً لقلبها، وإزالةً للوحشة عنها؛ حتى تشاهد في أوَّل الأمْر ما بشَرها به جبريل - صلوات الله عليه - من عُلُوِّ شأن ذلك الولد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 43 ومن قال: المنادي هو جبريلُ - صلوات الله عليه - قال: إنه أرسل إليها؛ ليناديها بهذه الكلمات؛ كما أرسل إليها في أوَّل الأمْر؛ تذكيراً للبشارات المتقدمة. قوله: «ألاَّ تَحْزَنِي» يجوز في «أنْ» أن تكون مفسرةً؛ لتقدُّمها ما هو بمعنى القول، و «لا» على هذا: ناهيةٌ، حذف النون للجزم؛ وأن تكون الناصبة، و «لا» حينئذٍ نافيةٌ، وحذفُ النُّون للنَّصْب، ومحلُّ «أنْ» إمَّا نصب، أو جرٌّ؛ لأنها على حذفِ حرفِ الجرِّ، أي: فَنَادَاهَا بكذا، والضميرُ في «تحتها» : إمَّا لمريم - صلوات الله عليها - وإمَّا للنَّخلة، والأول أولى؛ لتوافق الضميرين. قوله تعالى: [ «سَرِيًّا» ] يجوز أن يكون مفعولاً أوَّل، و «تَحْتك» مفعولٌ ثان؛ لأنها بمعنى صيَّر «ويجوز أن تكون بمعنى» خلق «فتكون» تَحْتَكِ «لغواً. والسَّرِيُّ: فيه قولان: أحدهما: إنه الرَّجُلُ المرتفع القدر، من» سَرُوَ يَسْرُو «ك» شَرُفَ، يَشْرَفُ «فهو سريٌّ، وأصله سَرِيوٌ؛ فأعلَّ سيِّدٍ، فلامهُ واوٌ، والمراد به في الآية عيسى ابنُ مريم - صلوات الله عيله -، ويجمعُ» سريٌّ «على» سراة «بفتح السين، وسُرَواء؛ كظرفاء، وهما جمعان شاذَّان، بل قياسُ جمعه» أسْرِيَاء «كغَنِيِّ، وأغنياء، وقيل: السَّرِيُّ: من» سَرَوْتُ الثَّوبَ «أي: نزعتهُ، وسروتُ الجُلَّ عن الفرس، أي: نزعتهُ؛ كأنَّ السريَّ سرى ثوبه؛ بخلاف المُدَّثِّر، والمُتزمِّل، قاله الراغب. والثاني: أنه النَّهْر الصغير، ويناسبه» فكُلِي واشْرَبِي «واستقاقه من» سَرَى، يَسْرِي «لأن الماء يَسْري فيه، فلامه عهلىىهذا ياء؛ وأنشدوا للبيدٍ: [الرجز] 3588 - فَتَوسَّطَا عُرْضَ السَّريِّ فصَدَّعا ... مَسْجُورةً مُتَجَاوِزاً قُلاَّمُهَا فصل قال الحسن، وابن زيدٍ: السَّريُّ هو عيسى، والسَّريُّ: هو النَّبيلُ الجليلُ. يقال: فلانٌ من سرواتِ قومه، أي: من أشرافهم، وروي أن الحسن رجع عنه. وروي عن قتادة وغيره: أن الحسن تلا هذه الآية وإلى جنبه حُمَيْد بن عبد الرَّحمن الحَميريُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} . فقال: إن كان لسربًّا، وإن كان لكريماً، فقال له حميدٌ: يا أبا سعيد، إنما هو الجزء: 13 ¦ الصفحة: 44 الجدول، فقال له الحسنُ» مِنْ ثمَّ [تُعْجِبُنِي مُجَالستُكَ «] . واحتجَّ من قال: هو النَّهر «بأنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سُئِلَ عن السَّريِّ، فقال - صلوات الله عليه وسلامه - هو الجدولُ» وبقوله سبحانه وتعالى: {فَكُلِي واشربي} فدلَّ على أنَّه على أنَّه النَّهر؛ حتى ينضاف الماءُ إلى الرُّطب، فتأكل وتشرب. واحتجَّ من قال: إنَّه عيسى بأنَّ النهر لا يكون تحتها، بل إلى جنبها، ولا يجوزُ أن يكون يُجابُ عنه بأن المراد أنَّه جعل النَّهر تحت أمرها يجري بأمرها، ويقف بأمرها؛ لقوله: {وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتيا} [الزخرف: 51] لأنَّ هذا حمل اللفظ على مجازه، ولو حملناه على عيسى، لم يحتج إلى هذا المجاز. وأيضاً: فإنَّه موافقٌ لقوله: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] . وأجيب: بما تقدَّم أن المكان المستوي، إذا كان فيه مبدأٌ معيَّنٌ، فكلُّ من كان أقرب منه، كان فوق، وكل من كان أبعد منه، كان تحت. فصل في التفريع على القول بأن السريّ النهر إذا قيل: إنَّ السَّرِيَّ: هو النَّهْر، ففيه وجهان: الأول: قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: إنَّ جبرائيل - صلواتُ الله عليه وسلامه - ضرب برجله الأرض. وقيل: عيسى؛ فظهرت عينُ ماءٍ عذبٍ، وجرى. وقيل: كان هناك ماءٌ جارٍ؛ والأول اقربُ؛ لأن قوله {قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً} يدلُّ على الحدوث في ذلك الوقت؛ ولأنَّ الله تعالى ذكرهُ تعظيماً لشأنها، وذلك لا يدلُّ إلا على الوجه الذي قلناه. وقيل: كان هناك نهرٌ يابسٌ أجرى الله فيه الماء، وحيث النخلة اليابسة، فأورقتْ، وأثمرتْ، وأرطبتْ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 45 قال أبو عبيدة والفَّراء: السَّريُّ: هو النَّهْرُ مطلقاً. وقال الأخفشُ: هو النَّهْرُ الصَّغير. قوله تعالى: {وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة} : يجوز أن تكون الباءُ في «بِجِذْعٍ» زائدة، كهي في قوله تعالى: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} [البقرة: 195] [وقوله] : 3589 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... ... ... . . لا يَقْرَأْنَ بالسُّوَرِ وأنشد الطبريُّ - رحمة الله تعالى -: [الطويل] 3590 - بِوَادٍ يمانٍ يُنْبِتُ السِّدْرَ صدْرُهُ ... وأسْفَلُهُ بالمَرْخِ والشَّبَهَانِ أي: ينبت المرخ أي: هُزِّي جذْعَ النَّخلةِ. أو حركي جذْعَ النَّخلة. قال الفرَّاء: العربُ تقول: هزَّهُ، وهزَّ به، وأخذ الخطام وأخذ بالخطام، وزوَّجتُك فلانة، وبفُلانةٍ ويجوز أن يكون المفعول محذوفاً، والجارُّ حالٌ من ذلك المحذوف، تقديره: وهُزِّي إليك رُطباً كائناً بجذع النخلة، ويجوز أن يكون هذا محمولاً على المعنى؛ إذ التقدير: هُزِّي الثمرةَ بسبب هزِّ الجِذْع، أي: انفُضِي الجِذْع، وإليه نحا الزمخشريُّ؛ فإنه قال: «أو افْعَلِي الهَزَّ» ؛ مقوله: [الطويل] 3591 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ..... يَجْرَحْ فِي عَراقِيبِهَا نَصْلِي قال أبو حيَّان: وفي هذه الآية، وفي قوله تعالى: {واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ} [القصص: 32] ما يردُّ على القاعدة المقرَّرةِ في علم النَّحو: من أنَّه لا يتعدَّى فعلُ المضمرِ المتَّصل إلى ضميره المتَّصلِ، إلاَّ في باب «ظنَّ» وفي لَفْظَتَيْ «فَقَدَ، وعدِمَ» لا يقالُ: ضربْتُكَ، ولا ضَرَبْتُني، أي: ضَربْتَ أنْتَ نَفْسَكَ، وضَربْتُ أنَا نفسي، وإنما يؤتى في هذا بالنَّفْسِ، وحكمُ المجرور بالحرف المنصوب؛ فلا يقال: هَزَزْتَ إليك، ولا زيدٌ هزَّ إليه؛ ولذلك جعل النحويُّون «عَنْ» و «عَلَى» اسمين في قول امرئ القيس: [الطويل] 3592 - دَعْ عَنْكَ نَهْباً صيحَ في حُجُراتِهِ ... ولكِنْ حدياً ما حَدِيثُ الرَّواحِلِ وقول الآخر: [المتقارب] 3593 - هَوِّنْ عليمَ فإنَّ الأمُورَ ... بكَفِّ الإلهِ مقاديرُهَا وقد ثبت بذلك كونهما اسمين؛ لدُخُولِ حرفِ الجرِّ عليهما في قوله: [الطويل] الجزء: 13 ¦ الصفحة: 46 3594 - غَدَتْ من عليْهِ بعدما تمَّ ظمؤهَا ... تَصِلُ وعن قَيْضٍ بِبَيْدَاءَ مَجْهَلِ وقول الآخر: [البسيط] 3595 - فَقُلْتُ للرَّكْبِ لمَّا أن عَلا بِهِمُ ... مِنْ عَنْ يمينِ الحُبَيَّا نظرةٌ قَبْلُ وأمَّا «إلى» فحرفٌ بلا خلافٍ، فلا يمكنُ فيها أن تكون اسماً؛ ك «عَنْ» و «عَلَى» ثم أجاب: بأنَّ «إليكِ» في الآيتين لا تتعلقُ بالفعل قبله، إنما تتعلَّقُ بمحذوفٍ على جهةِ البيان، تقديره: «أعني إليك» قال: «كما تأولوا ذلك في قوله: {إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين} [الأعراف: 21] في أحد الأوجه» . قال شهاب الدين - رضي الله تعالى عنه -: وفيه ذلك جوابان آخران: أحدهما: أن الفعل الممنوع إلى الضمير المتصل، إنما هو من حيث يكون الفعلُ واقعاً بذلك الضمير، والضمير محلٌّ له؛ نحو: «دَعْ عنْكَ» و «هوِّنْ عليْكَ» وأمَّا الهزُّ والضمُّ، فليسا واقعين بالكاف، فلا محذور. والثاني: أنَّ الكلام على حذف مضافٍ، تقديره: هُزِّي إلى جهتك ونحوك واضمم إلى جهتك ونحوك. فصل في المراد بجذع النخلة قال [القفال] : الجِذْعُ من النَّخلة: هو الأسفل، وما دُون الرَّأس الذيىعليه الثَّمرة. وقال قطربٌ: كُلُّ خشبة في أصل شجرة، فهي جذعٌ. قوله: «تُسَاقِطْ» قرأ حمزةُ «تَسَاقَطْ» بفتح التاء، وتخفيف السين، وفتح القاف، والباقون - غير حفص - كذلك إلا أنَّهم شدَّدُوا السِّين، وحفصٌ، بضم التاء، وتخفيف السين، وكسر القاف. فأصلُ قراءةِ غير حفص «تتساقطْ» بتاءين، مضارع «تَساقَطَ» فحذف حمزة إحدى التاءين تخفيفاً؛ نحو: {تَنَزَّلُ} [القدر: 4] و {تَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 152] ، والباقون أدغمُوا في السِّين، وقراءة حفص مضارعُ «سَاقَطَ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 47 وقرأ الأعمش، والبراء [بنُ عازبٍ] «يَسَّاقَطْ» كالجماعة، إلا أنه بالياء من تحتُ، أدغم التاء في السِّين؛ إذ الأصلُ: «يتساقَط» فهو مضارعُ «اسَّاقَطَ» وأصله «يَتَساقَطُ» فأدغمَ، واجتلبتْ همزة الوصل؛ ك «ادَّارَأ» في «تَدَارَأ» . ونْقل عن أبي حيوة ثلاثُ قراءاتٍ: وافقهُ مسروقٌ في الأولى، وهي «تُسْقِطْ» بضم التاء، وسكون السين، وكسر القاف من «أسْقَطَ» . والثانية: كذلك إلا أنه بالياء من تحتُ. الثالثةُ كذلك إلاّض أنه رفع «رُطَباً جَنِيًّا» بالفاعلية. وقُرِئَ «تَتَسَاقَط» بتاءين من فوقُ، وهو أصل قراءة الجماعة، وتَسْقُط ويَسْقُط، بفتح التاء والياء، وسكون السين، وضمِّ القاف، فرفعُ الرطب بالفاعلية، وتعطي من الأفعال ما يوافقه في القراءات المتقدمة، ومن قرأ بالتاء من فوق، فالفعل مسندٌ: إمَّا للنَّخلة، وإمَّا للثمرةِ المفهومة من السياق، وإمَّا للجذْعِ، وجاز تأنيثُ فعله؛ لإضافته إلى مؤنَّث؛ فهو كقوله: [الطويل] 3596 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... كَمَا شَرقَتْ صَدْرُ القناةِ مِن الدَّمِ وكقراءة {يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة} [يوسف: 10] ومن قرأ بالياء من تحت، فالضميرُ للجذْعِ، وقيل: للثَّمر المدلول عليه بالسيِّاق. وأمَّا نصب «رُطَباً» فلا يخرجُ عن كونه تمييزاً، أو حالاً موطِّئة، إن كان الفعل قبله لازماً، أو مفعولاً به، إن كان الفعل متعدِّياً، [والذَّكِيُّ] يردُّ كلَّ شيءٍ إلى ما يليقُ به من القراءات، وجوَّز المبرِّد في نصبه وجهاً غريباً: وهو أن يكون مفعولاً به ب «هُزِّي» وعلى هذا، فتكون المسألةُ من باب التنازع في بعض القراءات: وهي أن يكون الفعل فيها متعدِّياً، وتكون المسألةُ من إعمال الثاني، للحذف من الأوَّل. وقرأ طلحة بن سليمان «جنيًّا» بكسرِ الجيم إتباعاً لكسرةِ النون. والرُّطبُ: اسم جنسٍ برطبة؛ بخلاف «تُخَم» فإنَّه جمعٌ لتخمة، والفرقُ: أنهم لزمُوا تذكيرهُ، فقالوا: هو الرطبُ، وتأنيث ذاك، فقالوا: هي التُّخَمُ، فذكَّرُوا «الرُّطَب» باعتبار الجنس، وأنَّثُوا «التُّخَمَ» باعتبار الجمعيَّة، وهو فرقٌ لطيفٌ، ويجمعُ على «أرطابٍِ» شذوذاً كربع وأرباع، والرُّطب: ما قطع قبل يبسه وجفافه، وخصَّ الرُّطب بالرُّطبِ من التَّمر، وأرطبَ النَّخْلُ؛ نحو: أتْمَرَ وأجْنَى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 48 والجَنِيُّ: ما طاب، وصلح للاجتناء، وهو «فَعِيلٌ» بمعنى مفعول أي رُطَباً مَجنيًّا، وقيل: بمعنى فاعلٍ، أي: طريًّا، والجنى والجنيُّ أيضاً: المُجْتَنَى من العسلِ، وأجْنَى الشَّجَرُ: أدْرَكَ ثمرهُ، وأجنتِ الأرضُ: كَثُرَ جناها، واستعير من ذلك «جنى فلانٌ جنايةً» كما استعير «اجْتَرَمَ جَريمَةً» . فصل في معنى الآية المعنى جمعنا لك بين الشُّرب والأكل. قال عمروُ بنُ ميمُون: ليس شيءٌ خيرٌ من الثَّمر والرُّطب، ثم تلا هذه الآية. وقال بعضُ العلماءِ: أكْلُ الرُّطبِ والثَّمرةِ للمرأةِ الَّتي ضربها الطَّلق يُسَهِّل عليها الولادة. قال الرَّبيعُ بنُ خيثمٍ «ما للنُّفساءِ عندي خيرٌ من الرُّطب، ولا للمرضِ خيرٌ من العسل. قالت المعتزلةُ: هذه الأفعال الخارقةُ للعادةِ كانت معجزة لزكريَّا وغيره من الأنبياء؛ وهذا باطلٌ؛ لأنَّ زكريَّا - صلوات الله عليه وسلامه - ما كان له علمٌ بحالها ومكانها، فكيف بتلك المعجزات؟ بل الحقُّ أنها كانت كراماتٍ لمريم، أو إرهاصاً لعيسى - صلوات الله عليهما -، لأنَّ النَّخلة لم تكُن مثمرةً، إذا ذاك؛ لأن ميلادهُ كان في زمان الشتاء، وليس ذاك وقت ثَمر. قوله تعالى: {وَقَرِّي عَيْناً} : نصب» عًيْناً «على التمييز منقولٌ من الفاعل؛ إذ الأصل: لتقرَّ عينُك، والعامَّة على فتح القاف من» قَرِّي «أمراً من قرَّت عينهُ تَقَرَّ، بكسر العين في الماضي، وفتحها في المضارع. وقُرئ بكسر القاف، وهي لغةُ نجدٍ؛ يقولون: قرَّت عينهُ تقرُّ، بفتح العين في الماضي، وكسرها في المضارع، والمشهورُ: أن مكسور العين في الماضي ل «العَيْنِ» ، والمفتوحها في «المَكَان» يقال: قررتُ بالمكانِ اقرُّ به، وقد يقال: قررتُ بالمكانِ بالكسر، وسيأتي ذلك في قوله تعالى {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] . وفي وصف العين بذلك تأويلان « أحدهما: أنَّه مأخوذٌ من» القُرّ «وهو البردُ: وذلك أنَّ العين، إذا فرح صاحبها، كان دمُعها قارًّا، بارداً، وإذا حزن، كان حارًّا؛ ولذلك قالوا في الدعاء عليه:» أسْخَنَ اللهُ عيْنَهُ «وفي الدعاء له:» أقر اللهُ عيْنه «وما أحلى قول أبي تمَّام - رَحِمَهُ اللَّهُ تعالى -: [الطويل] الجزء: 13 ¦ الصفحة: 49 3597 - فأمَّا عُيُونُ العاشِقينَ فأسْخِنَتْ ... وأمَّا عُيونُ الشَّامتينَ فقرَّتِ والثاني: أنه مأخوذٌ من الاستقرار، والمعنى: أعطاه الله ما يسكِّنُ عينه فلا تطمحُ إلى غيره. المعنى: فكلي من الرطب واشربي من النهر» وقرّي عيناً «وطيبي نفساً، وقدَّم الأكل على الشرب؛ لأن حاجة النُّفساء، إلى الرُّطب أشدُّ من احتياجها إلى شرب الماء؛ لكثرة ما سال منها من الدَّم، قيل:» قَرِّي عيْناً «بولدك عيسى، وتقدَّم معناه. فإن قيل: إن مضرَّة الخوف أشدُّ من مضرَّة الجُوع والعطشِ؛ لأنَّ الخَوْفَ ألمُ الرُّوح، والجُوع ألمُ البدنِ، وألم الرُّوح أقوى من ألم البدنِ، يروى أنَّه أجيعتْ شاةٌ، فقُدِّم إليها علفٌ، وعندها ذئبٌ، فبقيت الشَّاة مدَّة مديدة لا تتناول العلف، مع جوعها؛ خوفاً من الذئب، ثم كسر رجلها، وقدم العلفُ إليها، فتناولت العلف، مع ألم البدن؛ فدلَّ ذلك على أنَّ ألم الخوف أشدُّ من ألم البدنِ، وإذا كان كذلك، فلم قدَّم دفع ضرر الجُوع والعطش على دفع ضرر الخوف؟ . فالجوابُ: لأنَّ هذا الخوف كان قليلاً؛ لأنَّ بشارة جبريل - صلوات الله عليه - كانت قد تقدَّمت، فما كانت تحتاجُ إلى التَّذكرة مرَّة أخرى. قوله تعالى: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ} دخلت» إن «الشرطيةُ على» ما «الزائدةِ للتوكيد، فأدغمتْ فيها، وكتبتْ متَّصلة، و» تَرَينَّ «تقدَّم تصريفه. أي:» أن تري «، فدخلت عليه نونُ التَّوكيد، فكسرتِ الياءُ، لالتقاء الساكنين. معناه: فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً، فسألك عن ولدكِ والعامَّةُ على صريح الياء المكسورة، وقرأ أبو عمروٍ في رواية» ترَئِنَّ «بهمزة مكسورة بدل الياء، وكذلك رُوي عنه» لتَرؤنَّ «بإبدالِ الواو همزةً، قال الزمخشري:» هذا من لٌغةِ من يقولُ: لبَأتُ بالحَجِّ، وحلأتُ الَّسويقَ «- يعني بالهمز - وذلك لتآخ بين الهمز وحروف اللِّين» وتجَرَّأ ابنُ خالويه على أبي عمروٍ؛ فقال: «هو لَحْنٌ عند أكْثَرِ النَّحويِّين» . وقرأ أبو جعفر قارئُ المدينةِ، وشيبةُ، وطلحةُ «تَرَيْنَ» بياءٍ ساكنة، ونون خفيفة، قال أبن جني: «وهي شاذَّةٌ» . قال شهاب الدين: لأنَّه كان ينبغي أن يؤثِّر الجازمُ، فيحذف نون الرفع؛ كقُول الأفوهِ: [السريع] 3598 - إمَّا تَرَيْ رَأسِي أزْرَى بِهِ ... ماسُ زمانٍ ذِ انتِكاثٍ مَئُوس الجزء: 13 ¦ الصفحة: 50 ولم يؤُثِّر هنا شذوذاً، وهذا نظيرُ قول الآخر: [البسيط] 3599 - لولا فَوارِسُ مِنْ نُعْمٍ وأسْرتِهِمْ ... يَوْمَ الصُّليْفاءِ لمْ يُوفونَ بالجَارِ فلم يعمل «لَمْ» وأبقى نون الرَّفع. و «من البشر» حالٌ من «أحَداً» لأنه لو تأخَّر، لكان وصفاً، وقال أبو البقاء: «أو مفعول» يعني متعلِّق بنفس الفعل قبله. قوله تعالى: «فَقُولِي» بين هذا الجواب، وشرطه جملةٌ محذوفةٌ، تقديره: فإمَّا ترينَّ من البشر أحداً، فسألك الكلام، فقُولي، وبهذا المقدَّر نخلصُ من إشكالٍ: وهو أنَّ قولها «فَلَنْ أكَلِّمَ اليومَ إنسيًّا» كلامٌ؛ فيكون ذلك تناقضاً؛ لأنها قد كلَّمت إنسيًّا بهذا الكلامِ، وجوابه ما تقدَّم. ولذلك قال بعضهم: إنَّها ما نذرتْ في الحال، بل صبرتْ؛ حتَّى أتاها القَوْمَ، فذكرت لهم: {إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً} . وقيل: المرادُ بقوله «فقٌولي» إلى لآخره، أنه بالإشارة، وليس بشيء؛ بل المعنى: فلن أكلِّم اليوم إنسيًّا بعد هذا الكلامِ. وقرأ زيدُ بن عليٍّ «صِيَاماً» بدل «صوماً» وهما مصدران. فصل في معنى صوماً معنى قوله تعالى: «صَوْماً» : أي صمتاً، وكذلك كان يقرأ ابن مسعُود - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -، والصَّوم في اللُّغة، الإمْسَاك عن الطَّعام والكلام. قال السديُّ: كان في بني إسرائيل من إذا أراد أن يجتهد، صام عن الكلام، كما يصوم عن الطَّعام، فلا يتكلَّم حتَّى يُمْسِيَ. قيل: كانت تُكَلِّمُ الملائكة، ولا تكلِّم الإنْسَ. قيل: أمرها الله تعالى بنذر الصَّمْت؛ لئلاَّ تشرع مه من اتَّهَمَهَا في الكلام؛ لمعنيين: أحدهما: أن كلام عيسى - صلوات الله عليه - أقوى في إزالةِ التُّهمَة من كلامهما، وفيه دلالةٌ على أنَّ تفويض [الأمر] إلى الأفضلِ أولى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 51 الثانية: كراهةُ مجادلة السُّفهاء، وفيه أنَّ السُّكُوت عن السَّفيه واجبٌ، ومن أذلِّ الناس سفيهٌ لم يجد مسافهاً. قوله تعالى: {فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ} : «به» في محلِّ نصبٍ على الحال من فاعل «أتَتْ» ، [أي: أتَتْ] مصاحبة له؛ نحو: جاء بثيابه، أيك ملتبساً بها، ويجوز أن تكون الباءُ متعلقة بالإتيان، وأمَّا «تَحْملُه» فيجوز أن يكون حالاً ثانية من فاعل «أتَتْ» ويجوز أن يكون حالاً من الهاء في «به» وظاهر كلام أبي البقاء: أنَّها حالٌ من ضمير مريم وعيسى معاً؛ وفيه نظرٌ. قوله تعالى: شَيْئاً «مفعولٌ به، أي: فعلِت شيئاً، أو مصدرٌ، أي: نوعاً من المجيءِ غريباً، والفَرِيُّ: العظيمُ من الأمر؛ يقال في الخَيْر والشرِّ، وقيل: الفَرِيُّ: العجيبُ، وقيل: المُفْتَعَلُ، ومن الأول، الحديثُ في وصف عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -:» فَلَمْ أرَ عَبْقرِيًّا يَفْرِي فريَّهُ «والفَرِيُ: قطعُ الجلد للخَرْزِ والإصلاح، والإفْرَاء: إفساده، وفي المثل: جاء يَفْرِي الفَرِيَّ، أي: يعمل العمل العظيم؛ وقال: [الكامل] 3600 - فلأنْتَ تَفْرِي ما خَلقْتَ وبَعْ ... ضُ القَوْمِ يَخْلقُ يَخْلقُ ثُمَّ لا يَفْري وقرأ أبو حيوة فيما نقل عنه ابنُ خالويه «فَرِيئاً» بالهمز، وفيما نقل ابن عطية «فَرْياً» بسكون الراء. وقرأ عمر بن لجأ «ما كَانَ أباَك امْرُؤ سَوْءٍ» جعل النكرة الاسم، والمعرفة الخبر؛ كقوله: [الوافر] 3601 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... يَكُونُ مِزاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ وقوله: [الوافر] 3062 - ... ... ... ... ... ... ... ... ... ولا يَكُ مَوْقفٌ مِنْكِ الوَداعَا وهنا أحسنُ لوجودِ الإضافةِ في الاسم. فصل في كيفية ولادة مريم وكلام عيسى لها ولقومه قيل: إنَّها ولدته ثم حملته في الحال إلى قومها. وقال ابنُ عباس، والكلبيُّ: احتمل يوسفُ النَّجَّار مريم، [وابنها] عيسى إلى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 52 غارٍ، ومكثَ أربعين يوماً؛ حتَّى طهرتْ من نفاسها، ثم حملته مريمُ إلى قومها، فكلَّمها عيسى في الطَّريق؛ فقال: يا أمَّاه، أبشري؛ فإنِّي عبد الله، ومسيحه، فلما دخلت على أهلها ومعها الصَّبِيُّ، بكَوْا، وحَزِنُوا، وكانُوا أهل بيت صالحين؛ فقالوا {يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً} عظيماً مُكراً. قال أبو عبيدة: كُلُّ أمرٍ فائق من عجب، أو عملٍ، فهو فَرِيٌّ؛ وهذا منهم على وجه الذَّمِّ، والتوبيخ؛ لقولهم بعده: {ياأخت هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً} . قوله تعالى: {ياأخت هَارُونَ} يريدون: يا شبيهة هارون، قال قتادةُ، وكعبٌ، وابنُ زيدٍ، والمغيرة بنُ شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم -: كان هارُون رجلاً صالحاً مقدِّماً في بني إسرائيل، رُوِيَ أنَّهُ تبعَ جنازتهُ يوم مات أربعُون ألفاً، كلُّهم يسمَّى هارون من بني إسرائيل سوى سائر النّاس، شبَّهُوها به على معنى أنَّنا ظننَّا أنَّك مثلهُ في الصَّلاح، وليس المرادُ منه الأخُوَّة في النَّسب؛ كقوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين} [الإسراء: 27] . روى المغيرةُ بنُ شعبة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: لما قدمتُ [خراسان] سالُوني، فقالوا: إنَّكم تقرءون: {ياأخت هَارُونَ} وموسى قبل عيسى بكذا وكذا، فلمَّا قدمتُ على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ سألتهُ عن ذلك، فقال: إنَّهم كانُوا يُسمَّون بأنبيائهم والصَّالحين قبلهم. قال ابن كثيرٍ: وأخطأ محمَّد بن كعبٍ القرظيُّ في زعمه أنَّها أختُ موسى وهارون نسباً؛ فإنَّ بينهما من الدُّهُور الطَّويلة ما لا يخفى على من عندهُ أدنى علم، وكأنَّه غرَّه أنَّ في التَّوراة أن مريم - أخت موسى، وهارون - ضربت بالدُّفِّ يوم نجَّى الله موسى وقومه، وغرقَ فرعونُ وجُنودُه، فاعتقد أنَّ هذه هي تلك، وهذا في غاية البُطلان ومخالفةٌ للحديث الصحيح المتقدِّم. وقال الكلبيُّ: كان هارونُ أخا مريم من أبيها، وكان أمثل رجُل في بني إسرائيل. وقال السُّديُّ: إنَّما عنوا به هارُون أخا موسى، لأنَّها كانت من نسله، كم يقال الجزء: 13 ¦ الصفحة: 53 للتميميِّ: يا أخا تميمٍ، ويا أخا همدان، أي: يا واحداً منهم. وقيل: كان هاروُن فاسقاً في بني إسرائيل مُعْلِناً بالفِسْقُ، فشبَّهوها به. وقول الكلبيّ أقربُ؛ لوجهين: الأول: أن الأصل في الكلام الحقيقةُ؛ فيحملُ الكلامُ على أخيها المسمَّى ب «هارُونَ» . الثاني: أنها أضيفت إليه، ووُصف أبواها بالصَّلاح؛ وحينئذ يصيرُ لتوبيخُ أشدَّ، لأنَّ من كان حال أبويه وأخيه هذا الحال، يكونُ صدور الذَّنْبِ منه أفحش. ثم قالوا: {مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ} . قال ابن عبَّاس: أي: زانياً، «وما كانَتْ أمُّك» حنَّة «بغيَّا» أي: زانية، فمن أين لك هذا الولدُ. قوله تعالى: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ} : الإشارةُ معروفةٌ تكون باليد والعين وغير ذلك، وألفها عن ياءٍ، وأنشدوا لكثيرٍ: [الطويل] 3603 - فقُلْتُ وفي الأحشاءِ داءٌ مُخامِرٌ ... ألا حبَّذا يا عزُّ ذَاكَ التَّشايرُ قوله تعالى: {مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} في «كَانَ» هذه أقوالٌ: أحدها: أنها زائدةٌ، وهو قولُ أبي عبيدٍ، أي: كيف نُكَلِّمُ من في المهد، و «صَبِيَّا» على هذا: نصبٌ على الحالِ من الضمير المستتر في الجارُ والمجرورِ الواقع صلة، وقد ردَّ أبو بكرٍ هذا القول - أعني كونها زائدة - بأنها لو كانت زائدة، لما نصبت الخبر، وهذه قد نصبْ «صَبيَّا» وهذا الردُّ مرودٌ بما ذكرتُه من نصبه على الحال، لا الخبر. الثاني: أنها تامَّةٌ بمعنى حدوث ووجد، والتقدير: كيف نكلمُ من وجد صبيَّا، و «صبيَّا» حال من الضمير في «كان» . الثالث: أنها بمعنى ضار، أي: كيف نكلِّم من صار في المهد صبيَّا، و «صَبِيَّا» على هذا: خبرها؛ فهو كقوله: [الطويل] 3604 - ... ... ... ... ... ... ... ..... قَطَا الحَزْنِ قد كَانَتْ فِرَاخَاً بُيُوضُهَا الرابع: أنها النَّاقضةُ على بابها من دلالتها على اقتران مضمونِ الجملة بالزمان الماضي، من غير تعرُّضٍ للانقطاع؛ كقوله تعالى: {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء: 96] ولذلك يعبَّر عنها بأنَّها ترادفُ «لَمْ تَزلْ» قال الزمخشريُّ: «كان» لإيقاع مضمون الجملة في زمانٍ ماض مبهمٍ صالح للقريبِ والبعيد، وهو هنا لقريبة خاصَّة، والدَّالُّ عليه معنى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 54 الكلام، وأنه مسوقٌ للتعجُّب، ووجه آخر: وهو أن يكون «نُكَلِّمُ» حكاية حالٍ ماضيةٍ، أي: كيف عُهِدَ قبل عيسى أن يكلم النَّاس في المهد حتى نُكلمه نحنُ؟ وأمَّا «مَنْ» فالظاهرُ أنَّها موصولةٌ بعني الذي، وضعفٌ جعلها نكرة موصوفة، أي: كيف نكلِّم شخصاً، أو مولوداً، وجوَّز الفرَّاء والزجاج فيها أن تكون شرطيَّة، و «كان» بمعنى «يَكُنْ» وجوابُ الشرطِ: إمَّا متقدِّمٌ، وهو «كَيْفَ نُكَلِّمُ» أو محذوفٌ، لدلالةِ هذا عليه، أي: من يكن في المهدِ صبياً، فكيف نُكلِّمُهُ؟ فهي على هذا: مرفوعة المحلِّ بالابتداءِ، وعلى ما قبله: منصوبته ب «نُكَلِّمُ» وإذا قيل بأنَّ «كان» زائدةٌ؛ هل تتحمَّلُ ضميراً، أم لا؟ فيه خلافٌ، ومن جوَّز، استدلَّ بقوله: [الوافر] 3605 - فكَيْفَ إذا مررْت بدارِ قومٍ ... وجيرانٍ لنَا كَانُوا كِراَم فرفع بها الواو، ومن منع، تأوَّل البيت، بأنَّها غيرُ زائدةٍ، وأنَّ خبرها هو «لنا» قُدِّم عليها، وفصل بالجملة بين الصفة، والموصوف. وأبو عمرو يدغمُ الدال في الصاد، والأكثرون على أنه إخفاء. فصل في مناظرة مريم لقومها لمَّا بالغوا في توبيخ مريم سكتت، وأشارت إلى عيسى، أن كلِّمُوه. قال ابنُ مسعود: لمَّا لم يكُن لها حجَّةٌ، أشارتْ إليه؛ ليكون كلامهُ حُجَّةً لها، أي: هو الذي يُجيبُكُم، إذا ناطَقْتُمُوه. قال السديُّ: لما أشارتْ إليه؛ ليكون كلامُه حجَّة، غضبُوا، وقالوا: لسُخْريتُهَا بنا أشدُّ من زناها، و {قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً} ، والمهدُ: هو حجرها. وقيل: هو المهدُ بعينه. والمعنى: كيف نكلِّم صبيِّا سبيلهُ أن ينام في المهد؟! قال السديُّ: فلما سمعَ عيسى - صلوات الله عليه - كلامهم، وكان يرضعُ، ترك الرَّضاع، وأقبل عليهم بوجهه، واتَّكأ على يساره، وأشار بسبَّابة يمينه، فقال: {إِنِّي عَبْدُ الله} . وقيل: كلَّمهم بذلك، ثم لم يتكلَّم؛ حتى بلغ مبلغاً يتكلَّم فيه الصبانُ، وقال وهبّ: أتاها زكريَّا - عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام ُ - عند مناظرتها اليهُود، فقال لعيس: انْطِقْ بحُجَّتِكَ، إن كنت أمرتَ بها، فقال عيسى عند ذلك وهو ابنُ أربعين يوماً - وقال مقاتلٌ: بل هو يوم ولد -: إنَّي عبد الله، أقرَّ على نفسه بالعُبوديَّة لله - عزَّ وجلَّ - أول ما تكلَّم لئلا يتَّخذ إلهاً، وفيه فوائد: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 55 الأولى: أن ذلك الكلام في ذلك الوقت: كان سبباً لإزالةِ الوَهْم الذي ذهب إليه النَّصارى؛ فلا جرم: أوَّل ما تكلَّم، قال: {إِنِّي عَبْدُ الله} . الثانية: أن الحاجة في ذلك الوقت، إنَّما هو نفي تُهْمة الزِّنا عن مريم، ثم إنَّ عيسى - صلوات الله عليه - لم ينصَّ على ذلك، وإنَّما نصَّ على إثبات عبوديَّة نفسه، كأنَّه جعل إزالة التُّهْمَة عن الله تعالى أولى من إزالة التُّهمة عن الأمِّ؛ فلهذا: أوَّلُ ما تكلَّم إنما تكلَّم بقوله: {إِنِّي عَبْدُ الله} . الثالثة: أنَّ التكلُّم بإزالة التُّهْمَة عن [الله تعالى] يفيد إزالةَ التُّهمة عن الأمِّ؛ لأنَّ الله تعالى لا يخص الفاجرة بولدٍ في هذه الدرجة العالية، والمرتبة العظيمة، أمَّا التكلُّم بإزالةِ التُّهْمَة عن الأمِّ، فلا يفيدُ إزالة التُّهْمَة عن [الله تعالى] ، فكان الاشتغالُ بذلك هاهنا أولى. فصل في إبطال قول النصارى في إبطال قول النصارى وجوه: الأول: أنَّهُم وافقونا على أنَّ ذاته - سبحانه وتعالى - لم تحلَّ في ناسُوت عيسى، بل قالوا: الكلمةُ حلَّت فيه، والمرادُ من الكلمة العلمُ، فنقول: العلمُ، لما حصل لعيسى، ففي تلك الحالةِ: إمَّا أن يقال: إنَّه بقيَ في ذاتِ الله تعالى، أو ما بقي. فإن كان الأوَّل، لزِمَ حُصُول الصِّفَة الواحدة في مَحَلَّيْنِ، وذلك غير معقول، ولأنَّه لو جاز أن يقال: العلمُ الحاصلُ في ذات عيسى هو العلمُ الحاصلُ في ذاتِ الله بعينه، فلم لا يجوزُ في حقِّ كلِّ واحدٍ ذلك حتى يكون العلمُ الحاصلُ لكُلِّ واحدٍ هو العلمُ الحاصلُ لذات الله تعالى؟ وإن كان الثاني، لزم أن يقال: إنَّ الله تعالى لا يبقى عالماً بعد حلول علمه في عيسى، وذلك ممَّا لا يقوله عاقلٌ. قال ابنُ الخطيب: وثانيها: مناظرة جرت بيني وبين بعض النَّصارى، فقلتُ له: هل تُسلِّم أنَّ عدم الدَّليل لا يدُلُّ على عدم المدلول، أمْ لا؟ فإن أنكرت، لزمكَ لا يكون الله قديماً؛ لأنَّ دليل وجُودِهِ هو العامُ، فإذا لَزِمَ من عدمِ الدَّليل عدمُ المدلول، لزِمَ من عدم العالم في الأزل عدم الصانع في الأزل، وإن سلَّمت أنَّه لا يلزمُ من عدم الدَّليل عدمُ المدلول، فنقولُ: إذا جوَّزْتَ اتحادَ كلمة الله بعيسى أو حُلولها فيه، فكيف عرفت أنََّ كلمة الله تعالى م حلَّتْ في زيْدٍ وعمرٍ؟ بل كيف عرفتَ أنَّها ما حلّت في هذه الهرَّة، وفي هذا الكلب؟ فقال: إنَّ هذا السُّؤال لا يليقُ بك؛ لأنَّا إنَّما أثبتنا ذلك الاتحاد، أو الحلول، بناءً على ما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 56 ظهر على يد عيسى من إحياء الموتى، وإبراءِ الأكمه، والأبرصِ، فإذا لم نجدْ شيئاً من ذلك ظهر على يد غيره، فكيف نثبت الاتحادَ، أو الحُلُول؟ فقلتُ له: إنِّي عرفتُ بهذا الكلام أنَّكَ ما عرفتَ أوَّل الكلامِ؛ لأنَّك سلَّمْتَ لي أنَّ عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلُول، وإذا كان هذا الحُلولُ غير ممتنعٍ في الجملة، فأكثر ما في هذا الباب أنَّه وُجِدَ ما يدلُّ على حصُوله في حقّ عيسى، ولم يوجد ذلك الدَّليلُ في حقِّ زيدٍ وعمرو، ولكن عدم الدليل لا يدلُّ على عدم المدلول لا يدلُّ على عدم المدلُول؛ فلا يلزمُ من عدم ظهورِ هذه الخوارق على يد زيدٍ وعمرٍو، وعلى السِّنَّوْرِ والكلبِ عدمُ ذلك الحُلُول، فثبت أنَّك مهما جوَّزْت القول بالاتِّحاد، والحلول، لزمك تجويزُ حُصُول ذلك الاتحادِ، والحُلُُول، فثبت أنَّك مهما جوَّزْت القول بالاتِّحاد، والحلول، لزمك تجويزُ حُصُولُ ذلك الاتحادِ، والحُلُول في حقِّ كلِّ أحد، بل في حق كل حيوان ونباتٍ، ولكنَّ المذهب الذي يسُوقُ [قائلهُ] إلى مثل هذا [القول] الركيك، يكُون باطلاً قطعاً، ثم قلتُ [له] وكيف دلَّ إحياءُ الموتى، وإبراءُ الأكمهِ، والأبرصِ على ما قلت؟ أليس انقلابُ العصا ثعباناً أبعد من انقلاب الميِّت حيًّا، فإذا ظهر على يد مُوسى، ولم يدلُّ على إلهيته، فبأن لا يدلَّ هذا على إلهيَّة عيسى أولى. وثالثها: أن دلالة أحوال عيسى على العبوديَّة أقوى من دلالتها على الربوبيَّة؛ لأنَّه كان مجتهداً في العبادة، والعبادةُ لا تليقُ إلا بالعبد، وأنَّه كان في نهاية البُعْد عن الدُّنْيَا، والاحترازِ عن أهلها حتى قالت النصارى: إنَّ اليهُود قتلُوه، ومن كان في الضعف هكذا، فكيف يليقُ به الرُّبُوبيِّة؟ . ورابعها: أن المسيح: إمَّا أن يكون قديماً، أو محدثاً، والقولُ بقدمه باطلٌ؛ لأنَّا نعلمُ بالضَّرورةِ أنَّه وُلدَ، وكان طفلاً، ثم صار شابًّا، وكان يأكُل ويَشْرب، ويعرضُ له ما يعْرِضُ لسائر البشر، وإنْ كان مُحْدِثاً، كان مخلوقاً، ولا معنى للعبوديَّة إلاَّ ذلك. فإن قيل: المعنيُّ بالالهيَّة أنَّه حلَّت فيه صفةُ [الإلهيَّة، قلنا:] هب أنَّه كان كذلك، لكنَّ الحالَّ هو صفة الإلهِ، والمسيح هو المحل، والمحلُّ محدثٌ مخلوقٌ، فالمسيحُ عبدٌ محدثٌ، فكيف يمكنُ وصفه بالإلهيَّة؟ . وخامسها: أنَّ الولد لا بُدَّ وأن يكون من جنس الوالد، فإن كان لله تعالى ولدٌ، فلا بُدَّ أن يكُون من جنسه، فإذاً قد اشتركا في بعض الوجوه، فإن يتميَّز أحدهما عن الآخر بأمر مَّا، فكلُّ واحدٍ منهما هو الآخر، وإن حصل الامتيازُ، فما به الامتيازُ غيرُ ما به الاشتراكُ؛ فيلزمُ وقوعُ التَّركيب في ذاتِ الله تعالى، وكلُّ مركَّب مُمْكِنٌ، [فالواجب] ممكنٌ؛ هذا خلفٌ، هذا على الاتِّحاد، والحلول. فإن قيل: قالوا: معنى كونه إلهاً أنَّه سبحانهُ خصَّ نفسه أو بدنهُ بالقُدرة على خلق الأجسام، والتصرُّف في هذا العالمِ، فهذا أيضاً باطلٌ؛ لأنَّ النصارى نقلُوا عنه الضَّعف الجزء: 13 ¦ الصفحة: 57 والعَجْز، وأنَّ اليهود قتلُوه، فلو كان قادراً على خَلْق الأجسام، لما قَدَرُوا على قَتْله، بل كان هو يقْتُلُهم ويَخْلَقُ لنفسه عَسْكَراً يذُبُّون عنه. فإن قيل: قالُوا: معنى كونه إلهاً أنَّه اتَّخذه ابناً لنفسه؛ على سبيل التشريف، وهو قد قال به قومٌ من النصارى، يقال لهم الآريوسية، وليس فيه كثير خطأ إلاَّ في اللفظ. قوله تعالى: {آتَانِيَ الكتاب} قيل: معناه: سيُؤتيني الكتاب، ويجعلني نبيًّا. روى عكرمةُ عن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما - «أنَّ هذا إخبارٌ عمَّا كتبَ له في اللَِّوْح المحفُوظ؛ كما قيل للنبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: متى كُنْتَ نبيًّا؟ قال:» كُنْتُ نبيًّا، وآدمُ بَيْنَ الرُّوحِ والجسدِ «وعن الحسن - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّه ألهمَ التوراة، وهو في بطن أمِّه. وقال الأكثرون: إنه أوتيَ الإنجيل، وهو صغيرٌ طفلٌ، وكان يعقلُ عقل الرِّجال. فمن قال: الكتابُ: هو التَّوراة، قال: لأنَّ الألف واللاَّم للعهد، ولا معهود حينئذٍ إلاَّ التوراة، ومن قال: الإنجيلُ، قال» الألفُ واللاَّم للاستغراق، وظاهرُ كلام عيسى - صلوات الله عليه - أنَّ الله تعالى آتاه الكتاب، وجعله نبيًّا، وأمره بالصَّلاة والزَّكاة، وأن يدعو إلى الله تعالى، وإلى دينه، وشريعته من قبل أن يكلِّمهم، وأنه تكلَّم مع أمَّه وأخبرها بحاله، وأخبرها بأنَّه يكلِّمهم بما يدلُّ على براءتها، فلهذا أشارتْ إليه بالكلامِ. قال بعضهم: أخبر أنَّه نبيٌّ، ولكَّنه ما كان رسولاً؛ لأنَّه في ذلك الوقت ما جاء بالشَّريعة، ومعنى كونه نبيَّا: رفيعُ القدر عالي الدرجة؛ وهذا ضعيف لأنَّ النَّبيَّ في عرف الشَّرع هو الذي خصَّه الله بالنبوَّة وبالرِّسالة، خصوصاً إذا قرن إليه ذكر الشَّرع، وهو قوله: {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة} ثم قال: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ} . وقال مجاهدٌ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - معلِّماً للخَيْر. وقال عطاءٌ: أدعُو إلى الله، وإلى توحيده وعبادته. وقيل: مُباركاً على من اتَّبعني. روى قتادةُ أنَّ امرأةً رأتهُ، وهو يحيى الموتى، ويُبْرِئ الأكمه والأبرص، فقالت: طُوبَى لبطن حملك، وثدي أرضعت به، فقال عيسى مجيباً لها: طُوبَى لمن تلا كتابَ اللهِ واتبعَ ما فِيهِ، وعملَ بِهِ، ولمْ يَكُنْ جبَّاراً شَقِيَّاً. قوله تعالى: {أَيْنَ مَا كُنتُ} يدلُّ على أن حاله لم يتغيَّر كما قيل: إنَّه عاد إلى حالِ الصِّغَر، وزوالِ التَّكْلِيف. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 58 قوله: {أين ما كنت} : هذه شرطيةٌ , وجوابها: إمَّا محذوفٌ مدلولٌ عليه بما تقدَّم: أي: أينما كُنْتُ , جعلني مباركاً , وإمَّا متقدِّمٌ عند من يرى ذلك , ولا جائزٌ أن تكون استفهاميةٌ؛ لأنَّه يلومُ أن يعمل فيها ما قبلها , وأسماءُ الاستفهامِ لها صدرُ الكلامِ , فيتعيَّنُ أن تكون شرطيةٌ؛ لأنها منحصرةٌ في هذين المعنيين. ثم قال: ثم قال: {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة} أي، أمرني بهما. فإن قيل: لم يكُن لعيسى مالٌ، فكيف يؤمرُ بالزَّكاة؟ قيل: معناه: بالزَّكاة، لو كان له مالٌ. فإن قيل: كيف يُؤمَرُ بالصَّلاة والزَّكاة، مع أنَّه كان طفلاً صغيراً، والفلمُ مرفوعٌ عن الصَّغير؛ لقوله - صلوات الله عليه وسلامه -: «رُفِعَ القَلَمُ عَنْ ثَلاثٍ» الحديث. فالجوابُ من وجهين: الأول: أنَّ قوله: {وَأَوْصَانِي بالصلاة والزكاة} لا يدلُّ على أنَّه تعالى أوصاهُ بأدائهما في الحالِ، بل بعد البُلُوغِ، فيكونُ المعنى على أنَّه تعالى أوصَانِي بأدائهما في وَقْت وجوبهما عليَّ، وهو وقتُ البُلُوغِ. الثاني: لعلَّ الله تعالى، لمَّا انفصل عيسى عن أمِّه - صلوات الله عليه - صيَّرهُ بالغاً، عاقلاً، تامَّ الخلقة؛ ويدلُّ عيه قوله تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] فكما أنَّه تعالى خلق آدم - صلواتُ الله عليه وسلامه - تامَّا كاملاً دفعةً، فكذا القولُ في عيسى صلوات الله عليه وهذا أقربُ إلى ظاهر اللَّفْظ، لقوله: {مَا دُمْتُ حَيّاً} فإنَّه يفيدُ أنَّ هذا التَّكليف متوجِّه عليه في جميع زمانِ حياته، ولكن لقائل أن يقول: لو كان الأمرُ كذلك، لكان القومُ حين رأوهُ، فقد رأوه شخصاً كامل الأعضاء، تامَّ الخِلْقَة، وصدورُ الكلام عن مثل هذا الشخص لا يكونُ عجباً؛ فكان ينبغي ألاَّ يَعْجَبُوا. والجوابُ أن يقال: إنَّه تعالى جعله مع صِغَرِ جثَّته قويَّ التركيب، كامِلَ العَقْلِ، بحيثُ كان يمكنه أداءُ الصَّلاة والزَّكاة، والآيةُ دالَّة على أنَّ تكليفه لم يتغيَّر حين كان في الأرض، وحين رُفع إلى السَّماء، وحين ينزل مرَّة أخرى؛ لقوله {مَا دُمْتُ حَيّاً} . قوله تعالى: {مَا دُمْتُ حَيّاً} «ما» مصدريةٌ ظرفيةٌ، وتقدمُ «ما» على «دام» شرطٌ في إعمالها، والتقدير: مُدَّة دوامِي حيَّاً، ونقل ابن عطيَّة عن عاصم، وجماعةٍ: أنهم قرءُوا «دُمْنُ» بضم الدَّالِ، وعن ابن كثيرٍ، وأبي عمرو، وأهْلِ المدينة: «دِمْتُ» بكسرها، وهذا لم نره لغيره، وليس هو موجوداً في كتب القراءات المتواترة والشاذَّة الموجودة الآن، فيجوزُ أن يكون اطَّلَعَ عليه في مصنف غريبِ، ولا شكَّ أنَّ في «دَامَ» لغتين، يقالُ: دمت الجزء: 13 ¦ الصفحة: 59 تدوُمُ، وهي اللغةُ الغاليةُ، ودمتَ تدامُ؛ كخِفْتَ تخَافُ، وتقدم نظيرُ هذا في مَاتَ يَمُوتُ ومَاتَ يَمَاتُ. قوله تعالى: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} : العامَّةُ على فتح الباء، وفيه تأويلان: أحدهما: أنه منصوبٌ نسقاً على «مباركاً» أي: وجعلني برَّا. والثاني: أنَّه منصوبٌ بإضمارِ فعلٍ، واختير هذا على الأوَّلِ؛ لأنَّ فيه فصلاُ كثيراً بجملةِ الوصيَّةِ ومتعلَّقها. قال الزمخشريُّ: جعل ذاتهُ برَّا؛ لفَرْط برِّه، ونصبه بفعل في معنى «أوْصَانِي» وهو «كَلَّفَنِي» لأنَّ أوْصَانِي بالصَّلاة، وكلَّفَنِي بها واحدٌ. وقُرئ «برَّا» بكسر الباء: إمَّا على حذفِ مضافٍ، وإمَّا على المبالغة في جعله نفس المصدر، وقد تقدَّم في البقرة: أنه يجوز أن يكون وصفاً على فعلِ، وحكى الزَّهْراوِيُّ، وأبو البقاء أنه قُرِئَ يكسر الباء، والراء، وتوجيهه: أنه نسقٌ على «الصَّلاة» أي: وأوصاني بالصَّلاة وبالزَّكَاة، وبالبرِّ، أو البرّ. فصل فيما يشير إليه قوله «وبرَّا بوالدتي» قوله: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي} إشارةٌ إلى تنزيه أمِّه عن الزِّنا؛ إذ لو كانت زانيةٌ، لما كان الرسُول المعصومُ مأمُوراً بتعظيمها وبرِّها؛ لأنه تأكَّد حقَّها عليه؛ لتمحض إذ حقها لا والد له سواها. قوله تعالى: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} يدلُّ على أنَّ فعل العبد مخلوقٌ لله تعالى؛ لأنَّه لما أخبر أنه تعالى، جعله برًّا، وما جعله جبَّاراً، إنما يحسن لو أنَّ الله تعالى جعل غيره جبَّاراً، وجعله [غير] برٍّ بأمِّه؛ فإن الله تعالى، لو فعل ذلك بكلِّ أحدٍ، لم يكُن لعيسى مزيَّةً تخصيصٍ بذلك، ومعلومٌ أنه - صلواتُ الله عليه وسلامهُ - إنما ذكر ذلك في معرضِ التخصيصِ، ومعنى قوله: {وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً} أي ما جعلني جبَّاراً متكبرِّاً، بل أنا خاضعٌ لأمِّي، متواضعٌ لها، ولو كنتُ جبَّاراً متكبِّراً، بل أنا خاضعٌ لأمِّي، متواضعٌ لها، ولو كنتُ جبَّاراً، كنتُ عاصياً شقياً. قال بعضُ العلماء: لا تجد العاق إلا جباراً شقياً، وتلا: {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً} ولا تجد سيّئ الملكة إلا مختالاً فخُوراً، وقرأ: {وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً} [النساء: 36] . قوله تعالى: {والسلام عَلَيَّ} : الألف واللام في «السَّلام» للعهدِ؛ لأنه قد تقدم لفظه في قوله - عزَّ وجلَّ -: {وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ} [الآية: 15] فهو كقوله: {كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً الجزء: 13 ¦ الصفحة: 60 فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15، 16] أي: ذلك السلامُ الموجَّه إلى يحيى مُوجَّهٌ إليَّ، وقال الزمخشريُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «والصحيحُ أن يكون هذا التعريفُ تعريضاً باللعنةِ على متَّهِمِي مريم - عليها السلام - وأعدائها من اليهُود، وتحقيقه: أنَّ اللاَّم لاستغراق الجنس، فإذا قال: وجنسُ السَّلام عليَّ خاصَّة، فقد عرَّض بأنَّ ضدَّه عليكم، ونظيره قول موسى - صلوات الله عليه وسلامه -: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} [طه: 47] . يعني: أنَّ العذاب على من كذَّب، وتولَّى، وكان المقام مقام اللَّجاج والعِنَاد، فيليق به هذا التعريضُ» . فصل في الفرق بين السلام على يحيى، والسلام على عيسى رُوِيَ أن عيسى - صلواتُ الله عليه وسلامه - قال ليحيى: أنت خيرٌ منِّي؛ سلِّم الله عليك، وسلَّمتُ على نفسي. وأجاب الحسنُ، فقال: إن تسليمهُ على نفسه تسليمُ الله؛ لأنَّه إنَّما فعله بإذن الله. قال القاضي: السَّلام عبارةٌ عمَّا يحصُل به الأمانُ، ومنه السَّلامةُ في النِّعم، وزوال الآفاتِ، فكأنَّه سأل ربَّه ما أخبر الله تعالى أنه فعل بيحيى، وأعظمُ احتياجِ الإنسانِ إلى السَّلامة في هذه الأحْوالِ الثلاثة، وهي يومُ الولادةِ، أي: السَّلامة عند الولادة من طَعْن الشَّيطان، ويومُ الموت، أي: عند الموت من الشَِّرك، ويومُ البعث من الأهوال. قال المفسِّرون: لمَّا كلَّمهم عيسى بهذا، علمُوا براءةَ مريم، ثم سكت عيسى - صلوات الله عليه وسلامه -، فلَم يتكلَّم بعد ذلك حتّى بلغ المدَّة التي يتكلَّم فيها الصِّبْيَان. قوله: «يومَ ولدتُ» منصوبٌ بما تضمنَّه «عَليَّ» من الاستقرار، ولا يجوزُ نصبه ب «السَّلام للفَصْلِ بين المصدرِ ومعمولهِ، وقرأ ويدُ بنُ عليٍّ» وَلَدَتْ «جعله فعلاً ماضياً مسنداً لضمير مريم، والتاءُ للتأنيث، و» حَيَّا «حالٌ مؤكِّدةٌ. فصل في الرد على اليهود والنصارى اعلم أن اليهُود والنَّصارى يُنْكِرُونَ أنَّ عيسى - صلوات الله عليه - تكلَّم في زمانِ الطفوليَّة؛ واحتجُّوا بأنَّ هذا من الوقائعِ العجيبة، التي تتوافرُ الدَّواعِي على نقلها، فلو وجدت، لنُقلتْ بالتَّواتر، ولو كان كذلكَ، لعرفهُ النَّصارى، لا سيَّما وهم أشدُّ النَّاسِ بحثاً عن أحواله، وأشدُّ النَّاسِ غُلُوَّا فيه؛ حتَّى ادعوا كونهُ إلهاً، ولا شكَّ أنَّ الكلام في الطفوليَّة من المناقب العظيمة، فلمَّا لم يعرفه النصارى مع شدَّة الحبِّ، وكمالِ البَحْثِ عنه، علمنا أنَّه لم يُوجَدْ؛ ولأنَّ اليهود أظهرُوا عداوتهُ حين ادَّعى النُّبُوَّة والرسالة، فلو أنَّه - صلوات الله عليه - تكلَّم في المَهْدِ، لكانت عداوتهم معه أشدَّ، ولكان قصدهم قتله أعظم، فحيثُ لم يحصُل شيءٌ من ذلك، علمنا أنَّه ما تكلَّم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 61 وأمَّا المسلمُون، فاحتجُّوا بالعَقْل على أنه تكلَّم، فقالوا: لولا كلامه الذي دلَّهم على براءة أمِّه عن الزِّنا، لما تركُوا إقامة الحدِّ عليها، ففي تَرْكِهِمْ لذلك دلالةٌ على أنَّه - صلوات الله عليه - تكلَّم في المَهْدِ. وأجابُوا عن الشُّبْهة الأولى بأنَّه ربَّما كان الحاضرُون عند كلامه قليلين؛ فلذلك لم يشتهر. وعن الثاني: لعلَّ اليهُود ما حَضَرُوا هناك، وما سَمِعُوا كلامهُ، وإنَّما سَمِعَ كلامهُ أقاربهُ؛ لإظهارِ براءَة أمّه؛ فلذلك لم يَشْتَغِلُوا بقَتْلِه. قوله تعالى : {ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ} : يجوز أن يكون «عِيسَى» خبراً ل «ذلك» ويجوز أن يكون بدلاً، أو عطف بيان، و «قَوْلُ الحقِّ» خبره، ويجوز أن يكون «قَوْلُ الحقِّ» خبر مبتدأ مضمرْ، أي: هو قولُ، و «ابْنُ مَرْيَم» يجوز أن يكُونَ نعتاً، أو بدلاً، أو بياناً، أو خبراً ثابتاً. وقرأ عاصمٌ، وحمزةُ، وابنُ عامر «قَوْلَ الحقِّ» بالنَّصب، والباقون بالرفع، فالرفع على ما تقدَّم، قال الزمخشري - رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وارتفاعه على أنَّه خبرٌ، بعد خبرٍ، أو بدلٌ» . قال أبو حيَّان: «وهذا الذي ذكرُهُ لا يكُونُ إلاَّ على المجازِ في قولِ: وهو أن يراد به كلمةٌ اللهِ، لأنَّ اللفظ لا يكُونُ الذَّات» . والنَّصْبُ: يجوزُ فيه أن يكون مصدراً مؤكَّداً لمضمُون الجملة؛ كقولك: «هُوَ عَبْدُ الله الحقَّ، لا الباطِلَ» أي: أقولُ قول الحقِّ، فالحقُّ الصِّدقُ، وهو من إضافةِ الموصوف إلى صفته، أي: القول الحقَّ؛ كقوله: {وَعْدَ الصدق} [الأحقاف: 16] أي: الوعد الصِّدق، ويجوز أن يكون منصوباً على المَدْحِ، إن أريد بالحقِّ الباري تعالى، و «الَّذِي» نعتٌ للقول، إن أريد به عيسى، وسُمِّي قولاً كما سُمّي كلمةً، لأنه عنها نشأ. وذلك أنَّ الحق هو اسمُ الله تعالى، فلا فرق بين أن نقول: عيسى هو كلمة الله، وبين أن نقول: عيسى قولُ الحقِّ. وقيل: هو منصوبٌ بإضمار «أعْنِي» وقيل: هو منصوبٌ على الحالِ من «عيسَى» ويؤيِّد هذا ما نُقِلَ عن الكسائيَّ في توجيهِ الرفعِ: أنه صفةٌ لعيسى. وقرأ الأعمشُ «قالُ» برفع اللاَّم، وهي قراءةُ ابن مسعودٍ أيضاً، وقرأ الحسن «قُولُ» بضم القاف، ورفع اللام وكذلك في الأنعام {قَوْلُهُ الحق} [الأنعام: 73] ، وهي مصادر لِ « الجزء: 13 ¦ الصفحة: 62 قالَ» يقالُ يَقُولُ قَوْلاً وقُولاً؛ كالرَّهْبِ، والرُّهْب، وقال أبو البقاء: «والقَالُ: اسمٌ للمصدر؛ مثلُ: القِيلِ، وحُكِيَ» قُولُ الحقِّ «بضمّ القاف؛ مثل» الرُّوحِ «وهي لغةٌ فيه» . قال شهاب الدين: الظاهرُ أنَّ هذه مصادرُ كلُّها، ليس بعضها اسماً للمصدر، كما تقدَّم تقريره في الرَّهْبِ والرَّهَبِ والرُّهْبِ. وقرأ طلحةُ والأعمشُ «قالَ الحقُّ» جعل «» قَالَ «فعلاً ماضياً، و» الحَقُّ «فاعلٌ، والمرادُ به الباري تعالى، أي: قَالَ الهُ الحَقُّ: إنَّ عيسى هو كلمةُ الله، ويكونُ قوله» الَّذِي فيهِ يَمْتُرُونَ «خبراً لمبتدأ محذوف. وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب - كرم الله وجهه - والسلميُّ، وداودُ بنُ أبي هندٍ، ونافعٌ، والكسائيُّ في رواية عنهما [» تَمْتَرُونَ «بتاء] الخطاب، والباقون بياءِ الغيبة، وتَمْتَرُون: تَفْتَعِلُون: إمَّا من المريةِ، وهي الشَّكُّ، وإمَّا من المراء، وهو الجدالُ. وتقدَّم الكلامُ على نصب «فَيَكُونَ» . فصل فيما تشير إليه «ذلك» «ذَلِكَ» إشارةٌ إلى ما تقدَّم. قال الزَّجَّّاج - رَحِمَهُ اللَّهُ -، أي: ذلك الذي قال: {إِنِّي عَبْدُ الله} [مريم: 30] عيسى ابن مريم إشارةٌ إلى أنَّه ولدُ هذه المرأة، لا أنَّه ابنُ الله [كما زعمت النصارى] . وقوله: {الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ} ، أي: يختلفوُن، وأما امتراؤهُم في عيسى، فقائلٌ يقُولُ: هو ابنُ الله، وقائلٌ يقولُ: هو الله، وقائل يقُولُ: هو ساحرٌ كاذبٌ، وتقدَّم الكلامُ على ذلك في آل عمران. ورُوِيَ أن عيسى - صلوات الله عليه - لمَّا رفع، حضر أربعةٌ من [أكابر] علمائهم، فقيل للأوَّل: ما تُقولُ في عيسى؟ قال: هو الله هبط إلى الأرض، خلق، وأحيى، ثم صعد إلى السَّماء، فتبعهُ على ذلك خلقٌ، وهم اليَعْقُوبيَّةُ، وقيل للثاني: ما تقوُلُ؟ قال: هو ابنُ الله، فتابعهُ على ذلك ناسٌ، وهم النسطورية، [وقيل للثالث: ما تقول؟ قال: هو غله، والله إله، فتابعه على ذلك أناس، وهم الاسرائيلية] ، وقيل للرابع: ما تقولُ. فقال: عبدُ الله ورسولهُ، وهو المؤمنُ المُسْلم، وقال: أما تعلمُونَ أنَّ عيسى كان يطعمُ، ونيام، وأنَّ الله تعالى لا يجُوزُ ذلك عليه، فخصمهم. قوله تعالى: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} نفى عن نفسه الولد، أي: ما كان من نعته اتخاذ الولد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 63 والمعنى: أن ثبوت الولد له محالٌ، فقوله: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} كقولنا: ما كان للهِ أن يكون له ثانٍ وشريكٌ، أي: لا يصحُّ ذلك، ولا ينبغي، بل يستحيلُ؛ فلا يكونُ نفياً على الحقيقةِ، وإن كان بصُورة النَّفِي. وقيل: اللاَّم منقولةٌ، أي: ما كان من ولدٍ، والمرادُ: ما كان الله أن يقُول لأحدٍ، إنَّه ولدي؛ لأنَّ مثل [هذا] الخبر كذبٌ، والكذبُ لا يليقُ بحكمةِ الله تعالى وكماله، فقوله: {مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ} كقولنا: ما كان لله أن يظلم، أي: لا يلِيقُ بحكمته، وكمالِ إلهِيَّتِهِ. قوله تعالى: {إِذَا قضى أَمْراً} إذا أراد أن يحدث أمْراً، {فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} ، وهذا كالحُجَّة على تَنْزيهه عن الولدِ، وبيانهُ: أن الَّذي يجعلُ للهِ ولداً، إما أن يكون الولدُ قديماً أزليَّا، فهو محالٌ؛ لأنَّه [لو كان واجباً لذاته، لكان واجبُ الوجودِ أكثر من واحدٍ،] ولو كان [مُمْكِناً] لذاته، لافتقر في وجوده إلى الواجب لذاته؛ لأنَّ الواجب لذاته غنيٌّ لذاته، فلو كان مفتقراً في وجودِهِ إلى الواجِبِ لذاتِه، كان ممكناً لذاته، والممكنُ لذاته محتاجٌ لذاته، فيكُون عبداً له؛ لأنَّهُ لا معنى للعبُوديَّة إلاَّ ذلك. وإن كان الولدُ مُحْدَثاً، فيكون وجوده بعد عدمه بخلق ذلك القديم، وإيجاده، وهو المرادُ من قوله تعالى: {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} . فيكونُ عَبْداً، لا ولداً؛ فثبت أنه يستحيلُ أن يكون لله ولدٌ. فصل في قدم كلام الله تعالى دلَّت هذه الآية على قدم كلام الله تعالى؛ لأنَّه إذا أراد إحداث شيءٍ، قال له: {كُن فَيَكُونُ} فلو كان بقوله: «كُنْ» مُحْدَثاً، لافتقر حدوثُه إلى قولٍ آخر، ولزمَ التَّسَلْسُل؛ وهو محال؛ فثبت أنَّ قول الله تعالى، قديمٌ، لا مُحْدَث. واحتج المعتزلةُ بالآية على حُدُوثِ كلامِ الله تعالى من وجوه: أحدها: أنه تعالى أدخل كلمة «إذَا» وهي دالَّة على الاستقبال؛ فوجب ألاَّ يحصُلَ ذلك القولُ إلاَّ في الاستقبال. ثانيها: أنَّ «الفاء» للتعقيب، و «الفاءُ» في قوله: «فإنَّمَا يَقُولُ» يدلُّ على تأخير ذلك القول عن ذلك القضاء والمتأخِّر عن غيره مُحدثٌ. وثالثها: «الفاءُ» في قوله «فَيَكُونُ» يدلُّ على حصول ذلك الشيء عقيب ذلك القول من غير فصلٍ، فيكون قولُ اللهِ تعالى متقدِّمَّاً على حُدُوث الحادث تقديماً بلا فَصْلٍ، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 64 والمتقدم على المحدثِ تقديماً بلا فصل يكونُ مُحْدَثاً، فقولُ الله محدثٌ. قال ابنُ الخطيبِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - واستدلالُ الفريقين ضعيفٌ. أمَّا الأوَّل؛ فلأنَّه يقتضي أن يكون قوله «كُنْ» قديماً، وذلك باطلٌ بالاتِّفاق. وأمَّا الاستدلالُ المعتزلة؛ فلأنَّه يقتضي أن يكون قولُ الله تعالى الذي هو مركَّبٌ من الحروف، والأصوات مُحْدَثاً؛ وذلك لا نزاع فيه، [لأن] المدَّعى قدمُه شيءٌ آخرُ. فصل في أقوال الناس في قوله «كُنْ» من النَّاس من أجْرَى الآيةَ على ظاهرها، وزعم أنَّه تعالى، إذا أحدث شيئاً، قال له: كُنْ، وهذا ضعيفٌ؛ لأنَّه إما أن يقُول له: كُنْ قبل حدوثه، أو حلب حُدُثه، فإن كان الأوَّل، كان خطاباً مع المعدُوم، وهو عبثٌ، وإن كان حال حدوثه، فقد وُجِدَ بالقُدْرَة، والإرادة، لا بقوله «كُنْ» ومن النَّاس من زعم أنَّ المراد من قوله: «كُنْ» هو التخليقُ والتكوينُ؛ لأنَّ القُدْرَة على الشَّيء غير، وتكوين الشيء غيرٌ فإنَّ الله تعالى قادرٌ في الأزل، وغير مُكَوِّن في الأول؛ ولأنَّه الآن قادرٌ على عالم سوى هذا العالم، وغير مكوِّن له، فالقادريَّة غير المكنونيَّة، والتكوينُ ليس هو نفس المكوَّن؛ لأنَّ المكوَّن إنما حدث؛ لأنَّ الله تعالى كونه، وأوجده، فلو كان التَّكوين نفس المكوَّن؛ لكان قولنا: «المُكَوَّن إنَّما وجد بتكوين الله» بمنزلةِ قولنا: «المُكَوَّنُ إنَّما وجد بنَفْسِه» وذلك محالٌ؛ فثبت أنَّ التكوين غير المُكَوَّن، فقوله «كُنْ» إشارةٌ إلى الصفة [المسمَّاة] بالتكوين. وقال آخرون: قوله سبحانه وتعالى: «كُنْ» عبارةٌ عن نفاذ قُدرة الله تعالى ومشيئته في المُمْكِنَات؛ فإنَّ وقوعها بتلك القُدْرة والإرادة من غير امتناع واندفاع يجري مُجْرَى العَبْد المُطِيع المُنْقَاد لأوامر الله تعالى، فعبر الله تعالى عن ذلك المعنى بهذه العبرةِ على سبيلِ الاستعارة. قوله: {وَإِنَّ الله} : قرأ ابن عامرٍ، والكوفيُّون «وإنَّ» بكسر «الهمزة» على الاستئناف، ويؤيِّدها قراءةُ أبيِّ «إن الله» بالكسر، دون واو، وقرأ الباقون بفتحها، وفيها أوجهٌ: أحدها: أنها على حذف حرف الجرِّ متعلقاً بما بعده، والتقدير: وأنَّ الله ربِّي وربُّكم فاعبُدُوه؛ كقوله تعالى: {وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً} [الجن: 18] والمعنى: لوحدانيَّته أطيعوه، وإليه ذهب الزمخشريُّ تابعاً للخيل وسيبويه - رحمة الله عليهم -. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 65 الثاني: أنها عطفٌ على «الصلاةِ» والتقديرُ: وأوصاني بالصلاةِ، وبأنَّ الله، وإليه ذهب الفراء، ولم يذكر مكِّي غيره؛ ويريِّده ما في مصحف أبيِّ «وبأنَّ الله ربِّي» بإظهاره الباءِ الجارَّة، وقد استُبْعِد هذا القولُ؛ لكثرةِ الفواصل بين المتعاطفين، وأمَّا ظهورُ الباءِ في مصحفِ أبيٍّ؛ فلا يُرجِّحُ هذا؛ لأنها باءُ السببيةِ، والمعنى: بسببِ أنَّ اله ربِّي وربُّكم فاعبدُوهُ، فهي كاللاَّم. الثالث: أن تكون «أنَّ» وما بعدها نسقاً على «أمْراً» المنصُوب ب «قَضَى» والتقديرُ: وإذا قضى أمراً، وقضى أنَّ الله ربِّي وربُّكم، ذلك أبو عبيدة عن أبي عمرو بن العلاءِ، واستبعد الناسُ صحَّة هذا النقلِ عن أبي عمرو؛ لأنَّه من الجلالةِ في العلم والمعرفة بمنزلٍ يمنعهُ من هذا القولِ؛ وذلك لأنَّه إذا عطف على «أمْراً» لزم أن يكون داخلاً في حيِّز الشرطِ ب «إذَا» وكونهُ تبارك وتعالى ربنا لا يتقيَّد بشرطٍ ألبتَّة، بل هو ربُّنا على الإطلاق، ونسبوا هذا الوهم أبي عبيدة؛ لأنَّه كان ضعيفاً في النَّحو، وعدُّوا له غلطاتٍ، ولعلَّ ذلك منها. الرابع: أن يكون في محلِّ رفع خبر ابتداءٍ مضمرٍ، تقديره: والأمرُ أنَّ الله ربِّي وربُّكم، ذكر ذلك عن الكسائيِّ، ولا حاجة إلى هذا الإضمارِ. الخامس: أن يكون في محلِّ نصبٍ نسقاً على «الكتاب» في قوله «قال إني عبدُ الله آتاني الكتابَ» على أن يكونَ المخاطبُ بذلك مُعاصِري عيسى - عله صلوات الله - والقائلُ لهم ذلك عيسى، وعن وهبٍ، عهد إليهم عيسى: أنَّ الله ربي وربُّكم، قال هذا القائل: ومن كسر الهمزة يكون قد عطف «إنَّ الله» على قوله «إنِّي عبد الله» فهو داخلٌ في حيِّز القولِ، وتكون الجملُ من قوله «ذلك عيسى ابْنُ مريمَ» إلى آخرها جمل اعتراضٍ. وهذا من البعد بمكان كأنَّه قال: إنَّي عبد الله، والله ربِّي وربُّكم، فاعبدوه، وهذا قول أبي مسلمٍ، الأصفهانيِّ، وهو بعيدٌ. فصل في دلالة الآية قوله: {وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} يدلُّ على أنَّ مدبِّر العالمِ، ومصلح أمورهم هو الله سبحانه وتعالى [على] خلافِ قول المُنَجَّمين: أنَّ المدبِّر للنَّاسِ، ومُصلحَ أمورهم في السَّعادةِ والشَّقاوةِ هي الكواكبُ، ويدلُّ أيضاً على أنَّ الإله واحدٌ؛ لأنَّ لفظ «الله» اسمٌ علمٌ له سبحانه، لا إله إلا هو، فلمَّا قال: {وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} ، أي: لا ربِّ للمخلوقاتِ سوى الله؛ وذلك يدلُّ على التَّوحيد. وقوله «فاعْبُدُوهُ» قد ثبت في أصُول الفقهِ أنَّ ترتيب الحكم على الوصف المناسب الجزء: 13 ¦ الصفحة: 66 مُشْعِرٌ بالعليَّة، فها هنا وقه الأمر بالعبادة مُرتبَّا على ذكر وصف الربوبيَّة، فدلَّ على أنَّه إنَّما يلزمنا عبادته سبحانه؛ لكونه ربَّا لنا؛ وذلك يدلُّ على أنه تعالى إنَّما تجبُ عيادتهُ لكونُهُ منعماً على الخلائق بأنواع النِّعم؛ ولذلك فإنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - لمَّا منع أباه من عبادة الأوثان، قال: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} [مريم: 42] أي: إنَّها لما لم تكن منعمة على العبادِ، لم تجزِ عيادتها، وبيّن ها هنا أنَّه لما ثبت أن الله تعالى لمَّا كلن ربَّا ومُربَّياً، وجبتْ عبادتهُ، فقد ثبت طرداً وعكساً تعلُّق العبادة والصاحبة صراط مُنْعِماً، ثم قال: {هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ} [يعني القول بالتوحيد ونفي الولد والصاحبة صراط مستقيم، وسمي هذا القول صراطاً مستقيماً] تشبيهاً بالطَّريق؛ لأنَّه المؤدِّي إلى الجنة. قوله تعالى : {فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ} . قيل: المرادُ النَّصارى، سُمُّوا أحزاباً؛ لأنهم تحزَّبُوا ثلاث فرق في أمر عيسى: النَّسْطُوريَّة، والملكانيَّة [واليعقوبيَّة] وقيل: المراد بالأحزاب الكفَّار بحيثُ يدخلُ فيهم اليهودُ، والنصارى، والكفَّار الذين كانوا في زمان محمَّد - صلوات الله وسلامه عليه - وهذا هو الظاهرُ؛ لأنَّه تخصيصٌ فيه، ويريِّدهُ قوله تعالى: {فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ} . قوله: {مِن مَّشْهِدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ} : «مَشْهَد» مفعل: إمَّا من الشَّهادة، وإمَّا من الشُّهود، وهو الحضورُ، و «مَشْهَدا» هنا: يجوز أن يراد به الزمانُ، أو المكان، أو المصدر: فإذا كان من الشهادة، والمرادُ به الزمانُ، فتقديرهُ: من وقتٍ شهادة، وإن أريد به المكانُ، فتقديره: من مكانِ شهادةِ يومٍ، وإن أريد المصدرُ، فتقديره: من شهادة ذلك اليومِ، وأن تشهد عليهم ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم، والملائكة ُ، والأنبياءُ، وإذا كان من الشهود فيه، وهو الموقفُ، أو من وقت الشُّهود، وإذا كان مصدراً بحاليته المتقدمتين، فتكونُ إضافتهُ إلى الظرف من باب الاتِّساع؛ كقوله {مالك يَوْمِ الدين} [الفاتحة: 4] . ويجوز أن يكون المصدر مضافاً لفاعله على أن يجعل اليوم شاهداً عليهم: إمَّا حقيقة، وإمَّا مجازاً. ووصف ذلك المشهد بأنَّه عظيمٌ؛ لأنَّه لا شيء أعظم ممَّا يشاهدُ ذلك اليوم من أهواله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 67 قوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} : هذا لفظ أمرٍ، ومعناه: التعجُّب، وأصحُّ الأعاريب فيه، كما تقرَّر في علم النَّحو: أنَّ فاعله هو المجرور بالباءِ، والباءُ زائدة، وزيادتها لازمةٌ؛ إصلاحاً للفظ؛ لأنَّ «أفْعِلْ» أمراً لا يكون إلاَّ ضميراً مستتراً، ولا يجوز حذفُ الباءِ إلاَّ مع أنْ وأنَّ؛ كقوله: [الطويل] 3606 - تَرَدَّدَ فيها ضَوْؤُهَا وشُعَاعُهَا ... فأحْصِنْ وأزْيِنْ لامرئٍ أنْ تَسَرْبَلا أي: بأنْ تسربل، فالمجرورُ مرفوعُ المحلِّ، ولا ضمير في «أفْعِلْ» ولنا قولٌ ثانٍ: أن الفاعل مضمرٌ، والمراد به المتكلِّمُ؛ كأنَّ المتكلم يأمر نفسه بذلك، والمجرورُ بعده في محلِّ نصبٍ، ويعزى هذا للزَّجَّاجِ. ولنا قولٌ ثالثٌ: أن الفاعل ضمير المصدرِ، والمجرور منصوبُ المحلِّ أيضاً، والتقدير: أحسن، يا حُسْنُ، بزيدٍ، ولشبه هذا الفاعل عند الجمهور بالفضلة لفظاً، جاز حذفه للدَّلالةِ عليه كهذه الآية، فإنَّ تقديره: وأبْصِرْ بهم، وفيه أبحاثٌ موضوعها كتبُ النَّحْو. فصل في التعجب قالوا: التعجُّب استعظام الشيء، مع الجهل؛ بسبب عظمه، ثم يجوز استعمالُ لفظ التعجُّب عند مجرَّد الاستعظام من غير خفاءِ السَّبب، أو من غير أن تكون العظمةُ سبب حصوله. قال الفرَّاء: قال سفيانُ: قرأتُ عن شريحٍ: {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ} [الصافات: 12] فقال: إنَّ الله لا يعجبُ من شيء، إنما يعجبُ من لا يعلم، قال: فذكرتُ ذلك لإبراهيم النخعيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - فقال: إنَّ شريحاً شاعر يعجبه علمهن وعبد الله أعلمُ بذلك منه قرأها {بَلْ عَجِبْتُ وَيَسْخُرُونَ} . ومعناه: أنَّه صدر من الله تعالى فعلٌ، لو صدر مثله عن الخلق، لدلَّ على حصول التعجُّب في قلوبهم، وبهذا التأويل يضافُ المكرُ والاستهزاءُ إلى الله تعالى، وإذا عرفت هذا، فللتعجُّب صيغتان: إحداهما: ما أفعلهُ، والثانيةُ أفعل به. كقوله تعالى: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} والنحويُّون ذكروا له تأويلان: الأول: قالوا: أكْرِمْ بزيدٍ، أصل «أكرم زيدٌ» أيك صار ذا كرمٍ، ك «أغَدَّ البَعِيرُ» أي: صار ذا غُدَّة، إلاَّ أنه خرج على لفظ الأمْر، ومعناه الخبرُ، كما أخرج على لفظ الأمر ما معناه الخبر، كما أخرج لفظ الخبر ما معناه الأمر؛ كقوله سبحانه وتعالى: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 68 {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} [البقرة: 228] ، {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} [البقرة: 233] ، {قُلْ مَن كَانَ فِي الضلالة فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً} [مريم: 75] أي: يمُدُّ له الرحمنُ، والباء زائدةٌ. الثاني: أن يقال: إنَّه أمرٌ لكُلِّ أحدٍ بأن يجعل زيداً كريماً، أي: بأن يصفه بالكرمِ، والباء زائدةٌ؛ كما في قوله: {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة: 195] . قال ابن الخطيبِ: وسمعتُ لبعضِ الأدباء فيه تأويلاً ثالثاً؛ وهو أن قولك: أكرم بزيدٍ، يفيدُ أنَّ زيداً بلغ في الكرمِ إلى حيثُ كأنَّه في ذاته صار كرماً؛ حتَّى لو أردتَّ جعل غيره كريماً، فهو الذي يلصقك بمقصودك ويحصِّلُ بك غرضك. فصل في معنى الآية المشهورُ أنَّ معنى قوله: {أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ} «ما أسمعهُمْ، وما أبْصَرهُم» والتعجُّب على الله تعالى محالٌ، وإنَّما المرادُ أنَّ أسماعهم وأبصارهُم يومئذٍ جديرةٌ بأن يتعجَّب منها بعدما كانُوا صُمًّا عُمياً في الدُّنيا. وقيل: معناه التَّهديدُ مما يسمعُون وسيبصرُون ما يَسُوءهُمْ، ويصدعُ قلوبهم. وقال القاضي: ويحتملُ أن يكون المرادُ: أسمع هؤلاء وأبصرهم، أيك عرِّفهم حال القوم الذين يأتوننا؛ ليعتبروا وينزجروا. وقال الجُبَّائيُّ: ويجوز: أسمع النَّاسَ بهؤلاء، ليعرفُوا أمرهُم، وسُوء عاقبتهم، فينزجروا عن الإتيان بمثل فعلهم. قوله تعالى: {يَوْمَ يَأْتُونَنَا} معمولٌ ل «أبْصِرْ» . [ولا يجوز أن يكون معمولاً ل «أسْمِعْ» لأنه لا يفصلُ بين فعلِ التعجُّب، ومعموله؛ ولذلك كان الصحيح أنه] لا يجوز أن تكون المسألةُ من التنازع، وقد جوَّزه بعضهم ملتزماً إعمال الثاني، وهو خلافُ قاعدةِ الإعمال، وقيل: بل هو أمرٌ حقيقة، والمأمورُ به رسولُ الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمعنى: أسمعِ النَّاس، وأبصرهم بهم وبحديثهم ماذا يصنعُ بهم من العذاب؟ وهو منقولٌ عن أبي العالية. قوله تعالى: {لكن الظالمون اليوم} . نصب «اليَوْمَ» بما تضمَّنه الجار من قوله «في ضلالٍ مُبينٍ» أي: لكن الظالمُون استقرُّوا في ضلالٍ مبينٍ اليوم، ولا يجوز أن يكون هذا الظرفُ هو الخبرَ، والجارُّ لغوٌ؛ لئلا يخبر عن الجثة [بالزَّمان؛ بخلاف] قولك: القتالُ اليوم في دارِ زيدٍ؛ فإنه يجوز الاعتباران. فصل في معنى الآية المعنى: {لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ} أي: خطأ بيِّنٍ، وفي الآخرةِ يعرفُون الحقَّ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 69 وقيل: لكن الظَّالمُون اليوم في الآخرة في ضلال عن الجنَّة؛ بخلاف المؤمنين. وقوله {لكن الظالمون} من إيقاع الظَّاهر موقع المضمر. قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة} هذا أمرٌ لمحمَّد - صلوات الله عليه وسلم - بأن ينذر من في زمانه، والإنذار: التخويفُ من العذاب، لكي يحذروا ترك عبادةِ الله تعالى، ويوم الحسرة: هو يوم القيامة؛ لأنَّه يكثر التحسُّر من أهل النَّار. وقيل: يتحسَّر أيضاً في الجنَّة، إذا لم يكن من السابقين إلى الدَّرجات العالية؛ لقول رسول الله - صلوات الله عليه وسلامه -: «مَا مِنْ أحدٍ يمُوتُ إلاَّ ندمَ، قالوا: فَما ندمهُ يا رسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ؟ قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: إنَّ كان مُحْسناً، ندم ألاَّ يكون ازداد، وإن كان مسيئاً ندم ألاَّ يكون نزَعَ» والأول أصحُّ؛ لأن الحسرة [هَمٌّ] ، ولا تليقُ بأهْل الجنَّة. قوله: {إِذْ قُضِيَ الأمر} : يجوز أن يكون منصوباً بالحسرةِ، والمصدرُ المعرَّفُ ب «ألْ» يعملُ في المفعولِ الصَّريح عند بعضهم، فكيف بالظَّرف؟ ويجوز أن يكون بدلاً من «يَوْم» فيكون معمولاً ل «أنْذِرْ» كذا قال أبو البقاء، والزمخشريُّ وتبعهما أبو حيان، ولم يذكر غير البدل، وهذا لا يجوز إن كان الظَّرف باقياً على حقيقته؛ إذ يستحيلُ أن يعمل المستقبلُ في الماضي، فإن جعلت «اليوم» مفعولاً به، أي: خوِّفهُم نفس اليوم، أي: إنَّهُم يخافُون اليوم نفسهُ، صحَّ ذلك لخُرُوجِ الظَّرف إلى حيِّز المفاعيل الصريحة. فصل في قوله تعالى {إِذْ قُضِيَ الأمر} في قوله تعالى: {إِذْ قُضِيَ الأمر} وجوه: أحدها: قُضِيَ الأمرُ ببيان الدَّلائل، وشرح أمر الثَّواب والعقاب. وثانيها: [إذ قضي الأمرُ يوم الحسرة بفناء الدُّنيا، وزوالِ التَّكليف، والأول أقرب؛ لقوله: {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} . وثالثها:] «إذْ قُضِيَ الأمْرُ» فُرِغَ من الحساب، وأدخل أهل الجنَّة الجنَّة، وأهلُ النَّار النَّار، وذُبح الموتُ؛ كما روي أنَّه سُئل النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ عن قوله: {إِذْ قُضِيَ الأمر} فقال: «حِينَ يَجاءُ بالموتِ على صُورة كبشٍ أمْلَحَ، فيذبحُ، والفريقان ينظران؛ فيزداد أهل الجنة فرحاً إلى فرحٍ، وأهلُ النَّار غمَّا إلى غمِّ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 70 قوله تعالى: {وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} جملتان حاليتان، وفيهما قولان: أحدهما: أنهما حالان من مفعول «أنذِرْهُم» [أي: أنذرهُم على هذه الحالِ، وما بعدها، وعلى الأول يكون قوله «وأنْذِرْهُم» ] اعتراضاً. والمعنى: وهم في غفلةٍ عمَّا يفعلُ بهم في الآخرة {وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} ولا يصدقون بذلك اليومِ. قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا} أي: نُميتُ سُكَّان الأرض، ونُهلِكُهم جميعاً، ويبقى الرَّبُّ وحده، فيرثُهُم {وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} ، فنجزيهم بأعمالهم. [وقرأ العامَّةُ «يُرْجَعُون» بالياء من تحت مبنيًّا للمفعول، والسُّلمي، وابن أبي إسحاق، وعيسى مبنيًّا للفاعل، والأعرج بالتاء من فوقُ مبنيًّا للمفعول على الخطاب، ويجوز أن يكون التفاتاً، وألا يكون] . قوله تعالى : {واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ} اعلم أنَّ منكرِي التوحيد الذين اثْبَتُوا معبُوداً سوى الله تعالى فريقان: منهم: من أثبت معبُوداً غير الله تعالى حيًّا، عاقلاً، فاهماً، وهم النصارى. ومنهم: من أثبت معبُوداً غير الله، جماداً ليس بحيّ ولا عاقلٍ، وهم عبدةُ الأوثان. والفريقان، وإن اشتركا في الضَّلال، إلاَّ أنَّ ضلال عبدة الأوثان أعظم، فلمّا بيَّن الله تعالى ضلال الفريق الأوَّل، تكلَّم في ضلال الفريق الثاني، وهم عبدةُ الأوثان؛ فقال: {واذكر فِي الكتاب} والواو في قوله: {واذكر} عطف على قوله {ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ} [مريم: 2] كأنَّه لمَّا انتهت قصَّةُ زكريَّا ويحيى، وعيسى - صلوات الله عليهم - قال: قد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 71 ذكرتُ حال زكريَّا، فتذكر حال إبراهيم - صلواتُ الله عليه - وإنَّما أمره بالذِّكر لأنَّه - صلوات الله عليه - ما كان هُو، ولا قومُه، ولا أهل بلده مشتغلين بالتَّعليم، ومطالعةِ الكتب، فإذا أخبر عن هذه القصَّة، كما كانت من غير زيادةٍ، ولا نقصانٍ، كان ذلك إخباراً عن الغَيْب، ومُعْجِزاً [قاهراً] دالاَّ على نُبُوَّته، وإنَّما ذكر الاعتبار بقصَّة إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لوجوه: الأول: أنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - كان أبا العرب، وكانُوا مقرّين بعُلُوِّ شانه، وطهارةِ دينه على ما قال تعالى {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] ، وقال تعالى: {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة: 130] فكأنه تعالى قال للعرب: إنَّ كنتم مقلِّدين لآبائكم على قولكم {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ} [الزخرف: 23] فأشرفُ آبائكم وأعلاهُم قدراً هو إبراهيم - صلوات الله عليه - فقلِّدوه في ترك عبادةِ الأوثان، وإن كُنتم [مستدلين] ، فانظروا في هذه الدَّلائل التي ذكرها إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - لتعرفُوا فساد عبادةِ الأوثان، وبالجملةُ: فاتَّبِعُوا إبراهيم، إمَّا تقليداً، أو استدلالاً. الثاني: أنَّ كثيراً من الكُفَّار في زمان رسُول الله - صلوات الله عليه وسلامه - كانوا يقولون: نتركُ دين آبائنا، وأجدادنا؟ فذكر الله تعالى قصَّة إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - و [بيَّن] أنه ترك دين أبيه، وأبطل قوله بالدليل، ورجَّح متابعة الدَّليل على متابعة أبيه. الثالث: أنَّ كثيراً من الكُفَّار كانُوا يتمسَّكُون بالتقليد، [وينكِرُون] الاستدلال؛ كما حكى الله تعالى عنهم {قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 53] فحكى الله عن إبراهيم التَّمَسُّكَ بطريقة الاستدلال؛ تنبيهاً للكُفَّار على سُقُوط طريقتهم، ثُمَّ قال تعالى في صفة الصِّدق، القائم عليه، يقال: رجلٌ خميرٌ، وسكِّيرٌ للمولعِ بهذه الأفعال. وقيل: هو الذي يكون كثير التصديق بالحقِّ؛ حتَّى يصير مشهُوراً به، والأول أولى؛ لأنَِّ المصدِّق بالشيء لا يوصفُ بكونه صديقاً إلاَّ إذا كان صادقاً في ذلك التَّصديق، فيعودُ الأمْرُ إلى الأوّل. فإن قيل: أليس قد قال الله تعالى {والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أولئك هُمُ الصديقون} [الحديد: 19] فالجوابُ: المؤمنون بالله [ورسله] صادقُون في ذلك التَّصديق. واعلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يجب أن يكون صادقاً في كُلِّ ما أخبر؛ لأنَّ الله تعالى صدَّقه، ومُصدَّق الله صادقٌ؛ فلزم من هذا كونُ الرَّسُول صادقاً فيما يقوله، ولأنَّ الرُّسُل شهداءُ الله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 72 على النَّاسِ؛ لقوله تعالى: {وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً} [النساء: 41] والشَّهيد: إنَّما يقبلُ قوله، إذا لم يكن كاذباً؛ فإن قيل: فما قولكم في قول إبراهيم {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} [الأنبياء: 63] و {إِنِّي سَقِيمٌ} [الصافات: 89] . فالجوابُ مشروحٌ في هذه الآياتِ، وبينَّا أن شيئاً من ذلك ليس بكذبٍ، ولمَّا ثبت أنَّ كُلَّ نبيٍّ يجب أن يكون صديقاً، ولا يجبُ في كلِّ صدِّيقٍ أن يكون نبيًّا؛ ظهر بهذا قربُ مرتبة الصِّدِّيق من مرتبة النبيِّ، فلهذا انتقل من ذكر كونه صديقاً إلى ذكر كونه نبيًّا. وأما النبيُّ: فمعناه: كونهُ رفيع القدر عند الله، وعند النَّاس، وأيُّ رفعةٍ أعلى من رفعةِ من جعله الله واسطةً بينه، وبين عباده، وقوله: {كَانَ صِدِّيقاً} معناه: صار، وقيل: وجد صدِّيقاً نبيًّا، أي: كان من أوَّل وجوده إلى انتهائه موصوفاً بالصدق والصِّيانة. قوله تعالى: {إِذْ قَالَ لاًّبِيهِ} : يجوز أن يكون بدلاً من «إبْراهيمَ» بدل اشتمال؛ كما تقدَّم في {إِذِ انتبذت} [الآية: 16] وعلى هذا، فقد فصل بين البدل، والمبدل منه؛ بقوله: {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً} نحو: «رأيتُ زيْداً - ونِعْمَ الرَّجُل أخَاكَ» وقال الزمخشريُّ: ويجوز أن تتعلق «إذْ» ب «كَانَ» أو ب «صدِّيقاً نبيًّا» ، أي: كان جامعاً لخصائص الصديقين، والأنبياء، حين خاطب أباه بتلك المخاطبات ولذلك جوَّز أبُو البقاء أن يعمل فيه «صدِّيقاً نبيًّا» أو معناه. قال أبو حيان: «الإعرابُ الأوَّلُ - يعني البدلية - يقتضي تصرُّف» إذْ «وهي لا تتصرَّفُ، والثاني فيه إعمالُ» كان «في الظرف، وفيه خلافٌ، والثالث لا يكون العامل مركَّباً من مجموعِ لفظين، بل يكون العملُ منسوباً للفظٍ واحدٍ، ولا جائز أن يكون معمولاً ل» صدِّيقاً «لأنَّه قد وصف، إلا عند الكوفيِّين، ويبعدُ أن يكون معمولاً ل» نبيَّا «لأنه يقتضي أنَّ التَّنْبِئَة كانت في وقتِ هذه المقالة» . قال شهاب الدين: العاملُ فيه ما لخَّصَهُ أبو القاسم، ونضَّدهُ بحسن صناعته من مجموع اللفظين في قوله: «أي: كان جامعاً لخصائص الصِّدِّيقين والأنبياء حين خاطب أباه» . وقد تقدَّمت قراءةُ ابن عامرٍ «يَا أبَتَ» وفي مصحف عبد الله «وا أبتِ» ب «وا» التي للندبة. والتاءُ عوضٌ من ياءِ الإضافةِ، ولا يقال: يا أبتي، لئلاَّ يجمع بين العوض، والمعوَّض منه، وقد يقال: يا أبتا لكون الألف بدلاً من الياء. قوله تعالى: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} وصف الأوثان بصفاتٍ ثلاثٍ، كُلّ واحدةٍ منها فادحةٌ في الإلهيَّة وبيانُ ذلك من وجوه: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 73 أحدها: أن العبادة غايةُ التَّعظيم، فلا يستحقُّها إلاَّ من له غايةُ الإنعام، وهو الإله الذي منه أصُولُ النِّعَم، وفروعها على [ما تقدم] في تفسير قوله تعالى: {إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ} [آل عمران: 51] ، وقوله: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ} [البقرة: 28] ، وكما أنَّه لا يجوز الاشتغالُ بشكرها، لمَّا لم يكُن مُنْعِمَة، وجب ألاَّ يجوز الاشتغالُ بعبادتها. وثانيها: أنَّها إذا لم تسمع، ولم تُبْصر، ولم تُمَيِّز من يطيعها عمَّن يعصيها، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها، وهذا تنبيهٌ على أن الإله يجبُ أن يكون عالماً بكُلِّ المعلومات. وثالثها: أنَّ الدُّعاء مُخُّ العبادةِ، فإذا لم يسمع الوثنُ دعاءَ الدَّاعي، فأيُّ منفعةٍ في عبادته؟ وإذا لم يبصرْ تقرُّبَ من يتقرَّب إليه، فأيُّ منفعةٍ في ذلك التَّقَرُّب؟ . ورابعها: أنَّ السَّامع المُبصر الضَّار النَّافع أفضلُ ممن كان عَارِياً عن كُلِّ ذلك، والإنسان موصوفٌ بهذه الصِّفات؛ فيكون أفضل، وأكمل من الوثنِ، فكيف يليقُ بالأفضل عبوديَّةُ الأخسِّ؟ . وخامسها: إذا كانت لا تنفعُ، ولا تضرُّ، فلا يرجى منها منفعةٌ، ولا يخافُ من ضررها، فأيُّ فائدةٍ في عبادتها؟! . وسادسها: إذا كانت لا تحفظ نفسها من الكسر والإفساد، حين جعلها إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - جُذاذاً، فأيُّ رجاءٍ فيها للغير؟ َ، فكأنَّه - صلوات الله وسلامه عليه - قال: ليست الإلهيَّة إلاَّ لربِّ يسمعُ ويبصر، ويجيبُ دعوة الدَّاعي، إذا دعاه. فإن قيل: إمَّا أن يقال: إنَّ أبا إبراهيم - صلوات الله عليه - كان يعتقدُ في تلك الأوثان أنَّها آلهةٌ قادرةٌ، مختارةٌ، خالقة. أو يقال: إنَّه ما كان يعتقدُ ذلك؛ بل كان يعتقدُ أنَّها تماثيلُ للكواكب، والكواكبُ هي الآلهة المدبِّرة للعالم؛ فتعظيم تماثيل الكواكب يوجب تعظيم الكواكب. أو كان يعتقدُ أن تلك الأوثان تماثيلُ أشخاصٍ معظَّمة عند الله من البشر، فتعظيمُها يقتضي كون أولئك الأشخاص شُفعاء لهم عند الله. أو كان يعتقدُ أن تلك الأوثان طلَّسْمَاتٌ ركَّبَتْ بحسب اتِّصالاتٍ مخصُوصةٍ للكواكب، قلَّما يتَّفِقُ مثلها، أو لغير ذلك. فإن كان أبو إبراهيم من القسم الأوَّل، كان في نهاية الجُنُونِ؛ لأنَّ العلم بأنَّ هذا الخشب المنحُوت في هذه السَّاعة ليس خالقاً للسَّموات والأرض من أجلى العلوم الضروريَّة، فالشَّاكُّ فيه يكونهُ مجنوناً، والمجنونُ لا يناظرُ، ولا يُوردُ عليه الحُجَّة، وإن كان من القسم الثاني، فهذه الدلائلُ لا تقدحُ في شيءٍ من ذلك؛ لأنَّ ذلك المذهب إنما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 74 يبطلُ بإقامةِ الدَّلائل على أنَّ الكواكبَ ليست أحياء، ولا قادرة، والدليلُ المذكور هنا لا يفيدُ ذلك. فالجوابُ: لا نزاع في أنَّه لا يخفى على العاقلِ: أنَّ الخشب المنحوت لا يصلح لخلق العالمِ، وإنَّما مذهبهم هذا على الوجه الثاني، وإنَّما أورد إبراهيمُ - صلوات الله وسلامه عليه - هذه [الدلائل] عليهم؛ لأنَّهم كانوا يعتقدُون أنَّ عبادتها تفيدُ نفعاً؛ إما على سبيل الخاصِّيَّة الحاصلةِ من الطَّلَّمسات، أو على سبيل أن الكواكب تنفع، وتضُرُّ، فبيَّن إبراهيم - صلواتُ الله عليه وسلامه - أنه لا منفعة في طاعتها، ولا مضرَّة في الإعراض عنها؛ فوجب أن تجتنب عبادتها. قوله : {ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم} بالله، والمعرفة {مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني} على ديني {أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً} مستقيماً. {ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان} أي: لا تطعهُ فيما يزيِّن لك من الكُفر والشِّرك؛ لأنَّهم ما كانُوا يعبدُون الشيطان؛ فوجب حملُه على الطَّاعة {لشَّيْطَانَ إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً} أي: عاصياً، و «كَانَ» بمعنى الحالِ، أي: هو كذلك. فإن قيل: إثباتُ الصَّانع. وثانيها: إثباتُ الشيطان. وثالثها: أن الشيطان عاصٍ [لله] . ورابعها: أنَّه لما كان عاصياً، لم تَجُزْ طاعتهُ في شيءٍ من الأشياء. وخامسها: أن الاعتقاد الذي كان عليه آزرُ مُستفادٌ من طاعة الشيطان، ومن شأنِ الدَّلالة التي تُورَدُ على الخصم: أن تكون مركبة من مقدِّمات معلومةٍ، يسلِمها الخصمُ، ولعلَّ أبا إبراهيم كان منازعاً في كُلِّ هذه المقدِّمات، وكيف، والمحكيُّ عنه: أنه ما كان يُثْبِتُ إلهاً سوى نُمْرُوذَ؛ فكيف يسلِّم وجود الرَّحمن؟ وإذا لم يسلِّم وجوده، فكيف يسلَّم أنَّ الشيطان عاص في الرحمن؟ وبتقدير تسليم ذلك؛ فكيف يسلِّم الخصمُ بمجرَّد هذا الكلامِ أنَّ مذهبهُ مقتبسٌ من الشيطان، بل لعلَّه يقلب ذلك على خصمه. فالجوابُ: أنَّ الحجَّة المعوِّل عليها في إبطالِ مذهب «آزَرَ» هو قوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يَبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً} وهذا الكلامُ يجري مَجْرَى التَّخويف والتَّحذير الذي يحمله على النظر في تلك الدَّلالة، فسقط السُّؤال. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 75 قوله تعالى: {يا أبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ} . قال الفرَّاء - رَحِمَهُ اللَّهُ -: أخافُ: أعلمُ، والأكثرون على أنَّه محمول على ظاهره، والقول الأوَّل إنَّما يصحُّ، لو كان إبراهيمُ - صلواتُ الله وسلامه عليه - عالماً بأنَّ أباه سيموتُ على الكفر، وذلك لم يثبتْ؛ فوجب إجراؤه على ظاهره؛ فإنَّه كان يجوزُ أن يؤمنَ؛ فيصير من أهْلِ الثَّواب، ويجوز أن يدُوم على الكفر؛ فيكون من أهل العقاب، ومن كان كذلك، كان خائفاً لا قاطعاً، والأوَّلُون فسَّروا الآية، فقالوا: أخافُ، بمعنى أعلمُ ب «أن يسمِّك عذابٌ» يصيبك عذابٌ من الرحمن، إن أقمت على الكفر، «فتكُون للشيطانِ وليَّا» قريناً؛ لأنَّ الولاية سببُ المعيَّة، فأطلق اسم السَّبب على المُسبب مجازاً. وقيل: المرادُ بالعذابِ هنا: الخِذْلانُ، والتقدير: إنَّي أخاف أن يمسِّك خذلانٌ من الله، فتصير موالياً للشيطان، ويتبرأ الله منك. فصل في نظم الآية أعلمْ أنَّ إبراهيم - صلوات الله وسلامه عليه - رتِّب هذا الكلام في غاية الحسن؛ لأنَّه ذكر أولاً ما يدلُّ على المنع من عبادة الأوثان، ثُمَّ أمره باتَّباعه في النَّظر، والاستدلال، وترك التقليد، ثُمَّ ذكر أن طاعة الشَّيطان غير جائزة في العُقُول، ثم ختم الكلام بالوعيد الزَّاجر عن الإقدام على ما ينبغي، ثم إنَّه - صلوات الله عليه - أورد هذا الكلام الحسن مقروناً باللُّطف والرِّفق؛ فإن قوله في مقدِّمة كل كلامه: «يا أبت» دليلٌ على شدَّة الحبِّ، والرغبة في صونه عن العقاب، وإرشاده إلى الصَّواب، وختم الكلام بقوله: {ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ} وذلك يدلُّ على شدَّة تعلُّق فيه بمصالحِه، وإنَّما فعل ذلك لوجوهٍ: الأول: لقضاءِ حقِّا لأبُوَّة على ما قال سبحانه وتعالى: {وبالوالدين إِحْسَاناً} [الإسراء: 23] والإرشادُ إلى الدِّين من أعظم أنواع الإحسان، فإذا انضم إليه رعايةُ الأدب والرِّفق، كان نُوراً على نُور. والثاني: أنَّ الهادي إلى الحقِّ لا بُدَّ وأن يكون رفيقاً لطيفاً لا يُورِدُ الكلام على سبيل العُنْفِ؛ لأنَّ إيرادهُ على سبيل العُنْفِ يصيرُ كالسَّبب في أعراض المُستمع؛ فيكون ذلك في الحقيقةِ سَعْياً في الإغواء. وثالثها: - ما روى أبو هريرة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - قال: قال صلوات الله عليه وسلامه -: «أوْحَى اللهُ - تبارك وتعالى - إلى إبراهيمَ أنَّك خليلي فحسِّنْ خُلقكَ ولو مع الكُفَّار تدخُلْ مداخلَ الأبْرارِ؛ فإن كلمتي سبقت لمن حسَّن خلقهُ، أنْ أظلَّهُ تحت عرشي، وأسْكِنهُ حظيرةَ القُدْسِ، وأدينه من جواري» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 76 قوله: {أَرَاغِبٌ أَنتَ} : يجوز فيه وجهان: أحدهما: أن يكون «راغبٌ» مبتدأ؛ لاعتماده على همزةِ الاستفهام، و «أنْتَ» فاعلٌ سدَّ مسدَّ الخبر. والثاني: أنه خبر مقدمٌ، و «أنْتَ» مبتدأ مؤخَّر، ورُجِّح الأول بوجهين: أحدهما: أنه ليس فيه تقديمٌ، ولا تأخير؛ إذ رتبهُ الفاعل التأخير عن رافعه. والثاني: أنه لا يلزمُ منه الفصلُ بين العامل ومعموله بما ليس معمولاً للعامل؛ وذلك أنَّ «عَنْ آلهتي» متعلقٌ ب «رَاغِبٌ» فإذا جعل «أنْتَ» فاعلاً قد فُصِل بما هو كالجزء من العامل؛ بخلاف جعله خبراً؛ فإنه أجنبيٌّ؛ إذ ليس معمولاً ل «راغبٌ» . فصل فيما قابل به آزر دعوة إبراهيم اعلم أنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه - لمَّا دعا أباهُ إلى التوحيد، وذكر الدَّلالة على فساد عبادة الأوثان، وأردف ذلك بالوعظ البليغِ، مقروناً باللُّطف والرِّفْق قابله أبُوه بجواب [مضاد] لذلك، فقابل حُجَّته بالتَّقليد بقوله: {أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي} فأصرَّ على ادعاء إلهيتها جهلاً وتقليداً، وقابل وعظهُ بالسَّفاهة؛ حيثُ هدَّده بالضَّرْب والشَّتْم، وقابل رفقه في قوله «يا أبَتِ» بالعنف، فلم يَقُلْ له: يا بنيَّ، بل قال له: يا إبراهيمُ، وإنَّما حكى الله تبارك وتعالى ذلك لمحمَّدٍ - صلواتُ الله وسلامه عليه - تخفيفاً على قلبه ما كان يصلُ إليه من أذى المشركين، ويعلمُ أنَّ الجُهَّال منذُ كانوا على هذه السِّيرة المذمومة، ثم قال: {لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ} . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 77 قال الكلبيُّ: ومقاتلٌ، والضحاكُ، لأشتنمَّك، ولأبعدنَّك عنِّي بالقول القبيح، ومنه قوله سبحانه وتعالى: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] ؛ أي: بالشَّتْم، ومنه: الرَّجيمُ، أي: المرميُّ باللَّعْن. قال مجاهدٌ: كلُّ رجمٍ في القرآن بمعنى الشَّتم، وهذا ينتقضُ بقوله تعالى: {رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ} [الملك: 5] . وقال ابنُ عبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه -: لأضربنَّك. وقال الحسنُ: لأرجمنَّك بالحجارة وهو قولُ أبي مسلم؛ لأنَّ أصله الرمي بالرِّجام، فحمله عليه أولى. وقال المروِّج: «أقْتُلَنَّكَ» بلغة قريش، وممَّا يدلُّ على أنه أراد الطَّرْد، والإبْعاد قوله: {واهجرني مَلِيّاً} . قوله تعالى: «مَلِيَّاً» في نصبه ثلاثة أوجهٍ: أحدها: أنه منصوبٌ على الظرفِ الزمانيِّ، أي: زمناً طويلاً، ومنه «الملوانِ» للَّيلِ والنهار، وملاوةُ الدَّهر، بتثليث الميم قال: [الطويل] 3607 - فَعُسْنَا بِهَا مِنَ الشَّبابِ ملاوةً ... فَلَلْحَجَّ آيَاتُ الرَّسُولِ المُحَبِّبِ وأنشد السدى على ذلك لمهَلْهَلٍ قال: [الكامل] 3608 - فَتَصَدَّعَتْ صُمُّ الجبالِ لمَوْتِهِ ... وبَكَتْ عليْه المُرْمِلاتُ مَلِيَّا أي: أبداً. والثاني: أنه منصوبٌ على الحال، معناه: سالماً سويَّا، قال ابن عباس: [اعتزلني سالماً؛ لا يصيبك مني معرة] فهو حالٌ من فاعل «اهْجُرْنِي» وكذلك فسَّره ابن عطيَّة؛ قال: «معناه: مستبدَّا، أي: غنيَّا عني من قولهم: هو مليٌّ بكذا وكذا» قال الزمخشريُّ: «أي: مُطِيقاً» . والمعنى: مليَّا بالذِّهَابِ عنِّي، والهجران، قيل: أن أثخنك بالضَّربِ؛ حتى لا تقدر أن تبرح. والثالث: أنه نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، أي: هجراً مليَّا، يعني: واسعاً متطاولاً؛ كتطاول الزمان الممتدِّ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 78 قال الكلبيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اجتنبني طويلاً. والمراد بقوله: واهجرني، أي: بالمفارقة من الدَّار والبلدِ، وهي كهجرة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ والمؤمنين، أي: تباعد عنِّي؛ لكي لا أراك. وقيل: اهجرني [بالقول، وعطف «واهجرني» على معطوف عليه محذوف عليه محذوف يدل عليه: «لأرجمنك» أي: فاحذرني، واهجرني] ؛ لئلا أرجمنك، فلما سمع إبراهيمُ - صلوات الله وسلامه عليه - كلام أبيه، أجاب بأمرين: أحدهما: أنه وعدُه بالتَّباعُد منه؛ موافقة وانقياداً لأمْرِ أبيه. والثاني: قوله: {سَلاَمٌ عَلَيْكَ} توديعٌ، ومتاركةٌ، أي: سلمتَ منِّي لا أصيبُك بمكروهٍ، وذلك لأنَّه لم يؤمر بقتاله على كفره؛ كقوله تعالى: {لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين} [القصص: 55] ، {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] . وهذا يدلُّ على جواز متاركة المنصُوح، إذا ظهر منه اللَّجاج، وعلى أنَّه تحسُن مقابلةُ الإساءةِ بالإحسان، ويجوزُ أن يكون دعا لهُ بالسَّلامة؛ استمالة له. ألا ترى أنَّه وعدُه بالاستغفار؛ فيكون سلام برٍّ ولطفٍ، وهو جوابُ الحليمِ للسَّفيه؟ كقوله سبحانه: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً} [الفرقان: 63] . وقرأ أبو البرهسم «سلاماً» بالنصب، [وتوجيهها] واضحٌ ممَّا تقدَّم. قوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} ، أي: لمَّا أعياه أمرُه، وعدهُ أن يراجع الله فيه، فيسألهُ أن يرزقه التَّوحيد، ويغفر له، والمعنى: سأسأل الله لك توبةٌ تنالُ بها المغفرة: {إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً} برَّا لطيفاً. واحتجَّ بهذه الآية من طعن في عصمة الأنبياءِ - صلوات الله عليهم - وذلك أنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه وسلامه - استغفر لأبيه، وأبُوه كافراً، والاستغفارُ للكُفَّار غيرُ جائزٍ؛ فثبت أنَّ إبراهيم - صلوات الله عليه - فعل ما لا يجوزُ. أما استغفارهُ أبيه؛ فلقوله: {سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي} وقوله: {واغفر لأبي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضآلين} [الشعراء: 86] وأما كون أبيه كافراً؛ فبالإجماع، ونصِّ القرآن. وأمَّا أن الاستغفار [للكافر] لا يجوزُ؛ فلقوله تعالى: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 79 يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى} [التوبة: 113] ولقوله - عزَّ وجلَّ - في سورة الممتحنة {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ} إلى قوله: {إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ} [الممتحنة: 4] . والجوابُ: أن الآية تدلُّ على أنَّه لا يجوزُ لنا التأَّسِّي به في ذلك؛ لكنَّ المنع من التَّأسِّي به في ذلك لا يدلُّ على أنَّ ذلك كان معصيةٌ؛ فإن كثيراً من الأشياء هي من خواصِّ رسُول الله - صلوات الله عليه وسلامه - ولا يجُوزُ لنا التَّأسِّي به فيها، مع أنَّها كانت مباحةٌ له. وأيضاً: لعلَّ هذا الاستغفار كان من باب ترك الأولى، وحسناتُ الأبْرارِ سيِّئاتُ المقرَّبينَ. قوله: {اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} . قال مقاتلٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: كان اعتزالُه إيَّاهُمْ أنَّه فارقهُم من «كوثى» ، فهاجر منها إلى الأرض المقدسة، والاعتزالُ عن الشيء هو التَّباعدُ عنه، «وأدعُو ربِّي» أعبد ربي الذي يَضُرُّ وينفعُ، والذي خلقني، وأنعم عليَّ {رَبِّي عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّا} ، أي: عسى ألاَّ أشْقَى بدُعائه وعبادته؛ كما تشقون أنتمُ بعبادةِ الأصنام، ذكر ذلك على سبيل التواضُع؛ كقوله تعالى: {والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين} [الشعراء: 82] . وقوله: «شَقِيَّا» فيه تعريضٌ لشقاوتهم في دعاء آلهِتْهمْ. وقيل: عسى أن يجيبني، إن دعوتُه. قوله تعالى: {فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله} . ذهب مهاجراً إلى ربِّه، فعوَّضه أولاداً أنبياء بعد هجرته، ولا حالة في الدِّين والدُّنيا للبشر أرفعُ من أن يجعله الله رسولاً إلى خلقه، ويُلزم الخلق طاعتهُ، والانقياد لهُ مع ما يحصلُ له من عظيم المنزلةِ في الآخرةِ. قوله تعالى: {وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً} : «كُلاَّ» مفعولٌ مقدَّم هو الأول، و «نبيَّا» هو الثاني. ثم إنَّه مع ذلك وهب لهم من رحمته، قال الكلبيُّ: المال والولد، وهو قول الأكثرين، قالوا: هو ما بسط لهم في الدَّنيا من سعة الرِّزق. وقيل: الكتاب والنبوَّة. {وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً} : يعني: ثناءٌ حسناً رفيعاً في كُلِّ أهل الأديان، وعبَّر باللسان عما يُوجد باللِّسان، منا عُبِّر باليد عمَّا يوجدُ باليدِ، وهو العطيَّة، فاستجاب الله دعوته في قوله: {واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين} [الشعراء: 84] ، فصيَّره قُدوةً، حتى ادَّعاه أعلُ الأديان كلهم. فقال سبحانه وتعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} [الحج: 78] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 80 قوله تعالى: {واذكر فِي الكتاب موسى} قرأ أهلُ الكوفة مخلصاً، بفتح اللام، أي: مختاراً اختاره الله تعالى، واصطفاه. وقيل: أخلصه الله من الدَّنس. والباقون بالكسر، ومعناه: أخلص التَّوحيد لله والعبادة، ومتى ورد القرآنُ بقراءتين، فكلٌّ منهما ثابتٌ مقطوعٌ به، فجعل الله تعالى من صفة موسى - صلوات الله عليه - كلا الأمرين. ثم قال عزَّ وجلَّ: {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} وهذان وصفان مختلفان، لكنَّ المعتزلة زعمُوا كونهما متلازمين؛ فكلُّ رسول نبيٌّ، وكلُّ نبيٍّ رسولٌ، ومن الناس من أمرك ذلك، ويأتي الكلامُ عليه - إن شاء الله تعالى - في سورة الحج عند قوله تعالى {وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ} [الحج: 52] ثم قال: {وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور} يعني: يمين موسى، والظاهر أنَّ الأيمن صفة للجانب؛ بدليل أنه تبعه في قوله تعالى: {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطور الأيمن} [طه: 80] وقيل: إنه صفة للطُّور، إذا اشتقاقهُ من اليُمْن والبركة، والطُّور: جبلٌ بين مصر ومدين، ويقالُ: إنَّ اسمه الزُّبير، وذلك حين أبل من مدين، ورأى النَّار، فنودي {ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين} [القصص: 30] قوله تعالى: {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً} ، أي: مناجياً، والنجيُّ: المناجي؛ كما يقالُ: جليسٌ ونديمٌ، و «نجيَّا» حالٌ من مفعول «قرَّبناهُ» وأصله «نجيوا» لأنه من نجل يَنْجُو قال ابنُ عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - معناهُ: قرَّبه وكلَّمه. وقيل: أنجيناه من أعدائه، ومعنى التقريب: إسماعه كلامهُ. وقيل: رفعه على الحُجُب؛ حتَّى سمع صرير القلم؛ حيث تكتبُ التوراةُ في الألواح، وهو قولُ أبي العالية. قال القاضي: المرادُ بالقرب: أنَّه رفع قدره، وشرَّفه بالمُنَاجاة؛ لأنَّ استعمال القُرْب في الله، قد صار في التعارف لا يرادُ به إلا المنزلةُ؛ كما يقالُ في العبادة: تقرُّب، وفي الملائكة - عليهم السلام -: إنَّهم مقرَّبُون. قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ} : في «مِنْ» هذه وجهان: أحدهما: أنها تعليليةٌ، أي: من أجل رحمتنا، و «أخَاهُ» على هذا مفعولٌ به، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 81 و «هارُون» بدلٌ، أو عطف بيانٍ، أو منصوبٌ بإضمار أعني، و «نبيًّا» حالٌ. والثاني: أنها تبعيضيةٌ، أي: بعض رحمتنا، قال الزمخشريُّ: «وأخاه» على هذا بدلٌ، و «هَارُون» عطف بيان. قال أبو حيان: «الظاهرُ أنَّ» أخَاهُ «مفعولُ» وَهَبْنَا «ولا ترادفُ» مِنْ «فتبدل» أخاه «منها» . فصل في نبوة هارون قال ابن عبَّاس رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: كان هارونُ أكبر من موسى - صلوات الله عليه - وإنما وهب الله تعالى له نُبُوَّته، لا شخصه وأخُوّته، وذلك إجابة لدعائه في قوله: {واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي اشدد بِهِ أَزْرِي} [طه: 29 - 31] فاجابه الله تعالى بقوله: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} [طه: 36] وقوله: {سَنَشُدُّ عَضُدَكَ} [القصص: 35] . قوله تعالى: {واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ} . وهو إسماعيلُ بن إبراهيم جدِّ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد} . قال مجاهدٌ لم يعد شيئاً إلاَّ وفَّى به. ورُوِيَ عن ابن عبَّاسٍ أنه [واعد] صاحباً له أن ينتظره في مكانٍ، فانتظره سنة. وأيضاً: وعد من نفسه الصَّبْرَ على الذَّبْح، فوفَّى حيث قال: {ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين} [الصافات: 102] ويُروى أنَّ عيسى - صلوات الله عليه - قال له رجلٌ: انتظرني؛ حتى آتيك، فقال عيسى: نعم، وانطلق الرجلُ، ونَسِيَ الميعاد، فجاء إلى حاجته إلى ذلك المكان، وعيسى - صلوات الله عليه - هناك للميعاد. وعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّهُ واعد رجُلاً، و [ونَسِيَ ذلك الرَّجلُ] ، فانتزهرٌ من الضُّحى إلى قريبٍ [مِنْ] غروب الشمس، وسُئِلَ الشعبيُّ عن الرجل يعدُ ميعاداً: إلى أيِّ وقتٍ ينتظر؟ قال: إن واعدهُ نهاراً، فكُلَّ النَّهارِ، وإن واعدهُ ليلاً، فكُلَّ اللَّيْلِ. وسُئِلَ إبراهيمُ بنُ زيدٍ عن ذلك، فقال: إذا وعدتهُ في وقتِ الصَّلاةِ، فانتنظرهُ إلى وقت صلاةِ أخرى، ثم قال: {وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً} وقد مرَّ تفسيرهُ، {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة} ، والمرادُ بالأهل: قومهُ. وقيل: أهله جميع أمَّتِهِ. قال المفسِّرون: إنه كان رسولاً إلى «جُرْهُم» . والمراد بالصلاة هناك [قال] ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما -: يريد التي افترضها الله عليهم، وهي الحنيفية التي افترضها علينا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 82 قيل: كان يبدأ بأهله في الأمر للعبادة، ليجعلهم قٌدوة لمن سواهُم؛ كما قال تعالى: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين} [الشعراء: 214] {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة} [طه: 132] {قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} [التحريم: 6] ، أمَّا الزكاةُ، فعن ابن عبَّاس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - أنَّها طاعةُ الله، والإخلاصُ؛ فكأنَّه تأوَّله على ما يزكُو به الفاعلُ عند ربِّه، والظاهرُ: أنَّه إذا قُرنتِ الصَّلاة بالزَّكاة: أن يُرَاد بها [الصدقات] الواجبةُ. قوله تعالى: {وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً} قائماً بطاعته. وقيل: رضيه لنبوته ورسالته. والعامَّةُ على قراءته كذلك معتلاًّ وأصله مَرْضُووٌ، بواوين: الأولى زائدةٌ؛ كهي في مضروبٍ: والثانية: لام الكلمة؛ لأنه من الرِّضوان، فأعلَّ بقلب الواو [ياءً، وأدغمت] الأخيرةُ ياءً، واجتمعت الياءُ والواوُ ياءً، وأدغمت، ويجوز النطقُ بالإصلِ، وقد تقدَّم تحريرُ هذا. وقرأ ابن أبي عبلة بهذا الأصل، وهوالأكثرُ؛ ومن الإعلالِ قوله: [الطويل] 3609 - لقَدْ عَلِمَتْ عرسِي مُلَيْكَةُ أنَّنِي ... أنَا المرءُ مَعْدِيًّا عليْهِ وعَاديَا وقالوا: أرضٌ مسنيَّةٌ، ومسنُوَّةٌ، أي: مسقاة بالسَّانيةِ. قوله تعالى: {واذكر فِي الكتاب إِدْرِيسَ} الآية إدريسُ هو جدُّ أبي نوحٍ - صلوات الله عيله وسلامه - وهو نوحُ بنُ لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، وهو إدريس - عليه السلام -. قيل: سُمِّي «إدريسَ» لكثرة دراسة الكُتُب، وكان خيَّاطاً، وهو أوَّلُ من خطَّ بالقلم، وخاط الثِّياب، ولبس المخيطَ، وكان قبلهُ يلبسُون الجُلُود، وأوَّل من اتَّخذ السِّلاح، وقاتل الكُفَّار، وأوَّلُ من نظر في علم الحساب {إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيَّاً} . {وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً} . قيل: يعني في الجنَّةِ، وقيل: هي الرِّفعة بعُلُوِّ الرُّتْبَة في الدُّنيا؛ كقوبه تعالى {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: 4] وقيل: إنَّه رفع إلى السماءِ؛ روى أنسُ بن مالكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - عن مالك بن صعصعة، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أنَّه رأى إدريسَ - صلوات الله عليه - في السماءِ الرَّابعةِ، ليلة المعراج وكان سببُ رفع إدريس على ما قاله «كَعْبٌ» وغيره - أنَّهُ [ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 83 سَارَ] ذات يومٍ في حاجةٍ، فأصابه وهج الشمس؛ فقال: يا ربِّ، أنا مشيتُ يوماً فيها؛ فأصابني المشقةُ الشديدة من وهج الشمس، وأضرَّني حرُّها ضرراً بليغاً - فكيف يحملُها مسيرة خمسمائةِ عامٍ في يومٍ واحدٍ؟! اللَّهُمَّ، خفِّف عنه من ثقلها، وحرِّها، فلمَّا أصبح الملكُ، وجد من خفَّة الشَّمس، وحرها ما لا يعرف؛ فقال: يا ربِّ، ما الذي قضيت فيه؟ قال: إنَّ عبدي إدريس سألني أنَّ أخفِّفق عنك حملها، وحرِّها؛ فأجبته، فقال: ربِّ، اجعل بيني وبينه خُلَّة، فأذن له؛ حتى أتى إدريسَ، فكان يسألُه إدريسُ، فقال له: إنِّي أخبرتُ أنَّك أكرمُ الملائكةِ، وأمكنُهم عن ملكِ الموتِ؛ فاسشفعْ لي إليه؛ ليُؤخِّر أجلِي؛ فأزداد شكراً وعبادة، فقال الملكُ: يؤخِّرُ الله نفساً، إذا جاء أجلهان وأنا مُكَلِّمُهُ، فرقعهُ إلى السَّماءِ، ووضعهُ عند مطلع الشَّمس، ثُمَّ أتى ملك الموتِ، فقال: حاجةٌ لي إليك؛ صديقٌ لي مِنْ بني آدم، تشفَّع بي إليك؛ تُؤخِّر أجله، قال: ليس ذلك إليّ، ولكت إن أحببت، أعلمته أجله؛ فيتقدَّمُ في نفسه، قال: نَعَم، فنظر في ديوانه، فقال: إنَّك كلَّمتني في إنسانٍ، ما أراه أن يموت أبداً، قال: وكيف؟ قال: لا أجده يموتُ إلا عند مطلع الشَّمس، قال: فإني أتَيْتُكَ، وتركته هناك: قال: انطللقْ، فلا أرَاكَ تجده إلاَّ وقد مات؛ فواللهِ، ما بقي من أجلِ إدريسَ شيءٌ؛ فرجع الملكُ، فوجده ميتاً. واحتلفُوا في أنَّه حيٌّ في السماء، أم ميِّتٌ؛ فقيل: هو ميتٌ، وقيل: حيٌّ، وقيل: أربعةٌ من الأنبياء أحياءٌ، اثنان في الأرض؛ «الخَضِرُ، وإلياسُ» واثنان في السماءِ «إدريسُ، وعيسَى» صلواتُ الله عليهم. قوله تعالى : {أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين} الآية. «مِنْ» الأولى؛ للبيان؛ لأنَّ كلَّ الأنبياء منَعَّمٌ عليهم، فالتبعيضُ محالٌ؛ والثانيةُ للتبعيض؛ فمجرورها بدلٌ مما قبله بإعادة العاملِ، بدلُ بعضٍ من كلٍّ. وقوله: «وإسرائيلَ» عطفٌ على [ «إبْراهيمَ» . قوله: «وممَّنْ هديْنَا» يحتملُ أن يكون عطفاً على «مِنَ النبييِّينَ» وأنْ يكون عطفاً على] «مِنْ ذرَّية آدمَ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 84 فصل اعلم أنَّه تعالى أثنى على كل واحدٍ ممَّن تقدم ذكرهُ [من الأنبياء] ، بما يخُصُّه من الثناء، ثمَّ جمعهم آخراً؛ فقال تعالى: {أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم} أي: بالنبوَّةِ، وغيرها، و «أولئِكَ» إشارةٌ إلى المذكورين في هذه السورة من «زكريَّا» إلى «إدريس» - صلوات الله عليهم - ثمَّ جمعهُم في كونهم من ذرية آدم. ثُمَّ خصَّ بعضهم بأنهم من ذريَّةِ آدمَ، ممَّن حمله مع نُوحِ، ومنهم من هو من ذرية آدم، دثون من حمله مع نوحٍ؛ وهو إدريسُ - عليه السلام - فقد كان سابقاً على نُوحٍ. والذين هم من ذُريَّة من حمل مع نوحٍ، وهو «إبراهيمُ» ؛ لأنَّه [ولدُ] سام بن نُوح، وإسماعيلُ، وإسحاقُ، ويعقوبُ من ذريةِ إبراهيم. ثم خصَّ بعضهم أنه من ولد إسرائيل، أي: يعقوب، وهم: مُوسَى، وهارونُ، وزكريَّا، ويحيى، وعيسى؛ من قبل الأمِّ. فرتَّب الله تعالى أحوال الأنبياء الذين ذكرهم على هذا الترتيب؛ منبهاً بذلك على أنَّهم كما فُضِّلُوا بأعمالهم، فلهم منزلةٌ في الفضل بولادتهم من هؤلاء الأنبياء. ثُمَّ بيَّن أنَّهم ممَّن هدينا، واجتبينا؛ منبِّهاً بذلك على أنَّهُم خُصُّوا بهذه المنازِلِ؛ لهداية الله تعالى لهمُ، ولأنَّهم اختارهم للرسالةِ. قوله: «إذا تُتْلى» جملةٌ شرطيةٌ فيها قولان: أظهرهما: أنها لا محلَّ لها؛ لاستئنافها. والثاني: أنها خبرُ «أولئكَ» والموصولُ قبلها صفةٌ لاسم الإشارة، وعلى الأول؛ يكونُ الموصول نفس الخبر. وقرأ العامَّةُ «تُتْلَى» بتاءين من فوق، وقرأ عبدُ الله، وشيبةُ، وأبو جعفرٍ، وابنُ كثير، وابن عامرٍ، وورشٌ عن نافعٍ في رواياتٍ شاذةٍ: بالياء أوَّلاً من تحت، والتأنيثُ مجازيٌّ؛ فلذلك جاز في الفعل الوجهان. قوله تعالى: «سُجَّداً» حالٌ مقدرةٌ؛ قال الزجاج: «لأنهم وقت الخُرُورِ ليسُوا سُجَّداً» . و «بُكِيًّا» فيها وجهان « أظهرهما: أنه جمعُ باكٍ، وليس بقياس، بل قياسُ جمعه على فعلة؛ كقاضٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 85 وقُضاة، ولم يسمع فيه هذا الأصلُ، وقد تقدَّم أنَّ الأخوين يكسران فاءهُ على الإتباع. والثاني: أنه مصدرٌ على فعولٍ؛ نحو: جلس جُلُوساً، وقَعَد قُعُوداً؛ والصلُ فيه على كلا القولين» بكُويٌ «بواو وياء، فأعلَّ الإعلال المشهور في مثله، وقال ابن عطيَّة:» وبكيًّا بكسر الباء، وهون مصدرٌ لا يحتمل غير ذلك «قال أبو حيَّان:» وليس بسديدٍ، بل الإتباعُ جائزٌ فيه «وهو جمعٌ؛ كقولهم: عُصِيٌّ ودُلِيٌّ، جمع عصا ودلو، وعلى هذا؛ فيكون» بكيًّا «: إمَّا مصدراً مؤكِّداً لفعل محذوفٍ، أي: وبكَوا بُكِيًّا، أي: بكاء، وإمَّا مصدراً واقعاً موقع الحال، أي باكينَ، أو ذوي بكاء، أو جعلُوا نفس البكاءِ مبالغةً. قال الزجاج: «بُكِيًّا» جمع باكٍ؛ مثل شاهدٍ وشُهوجٍ، وقاعدٍ وقُعُودٍ، ثمَّ قال: الإنسانُ في حال خُرُوره لا يكن ساجداً، والمرادُ: خرُّوا مقدِّمين للسُّجُودِ، ومن قال في «بُكِيًّا» : إنَّه مصدرٌ، فقد أخطأ؛ لأنَّ سُجَّداً جمع ساجدٍ، وبكياً معطوف عليه. فصل قال المفسِّرون: إنَّ الأنبياء - عليهم السلام - كانُوا إذا سمعُوا آيات الله؛ والمرادُ: الآياتُ التي تتضمنُ الوعد والوعيد، والتَّرغيبَ والتَّرهيب خروا سُجداً جمع ساجدٍ، وبكيًّا: جمع باكٍ خشُوعاً وخُضُوعاً، وحذراً وخوفاً. قال بعضهم: المراد بالسُّجود: الصَّلاة. وقال بعضهم: المراد: سجودُ التِّلاوة. وقل: المرادُ بالسُّجود: الخضوعُ والخشُوع عند التِّلاوة. قال - صلوات الله وسلامه عليه -: «اتلُوا القُرآنَ، وابْكُوا، فإنْ لَمْ تَبْكُوا، فَتَبَاكَوْا» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 86 قوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} الآية. لما وصف الأنبياء بالمدح ترغيباً لنا في التأسي بهم ذرك بعدهم من بالضد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 86 منهم، فقال: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ} أي من بعد هؤلاء الأنبياء «خَلْفٌ» من أولادهم، يقال: خلفه إذا عقبه خلف سوء - بإسكان اللام - والخَلَف - بفتح اللام - الصالح، كما قالوا: وعد في ضمان الخير، ووعيد في ضمان الشر، وفي الحديث: «في الله خلفٌ من كل هالك» وفي الشعر: 3610 - ذَهَبَ الذِينَ يُعَاشُ في أكْنَافِهِمْ ... وبَقيتُ في خَلْفٍ كَجِلْدِ الأجْرَبِ قال السديُّ: أراد بهم اليهود ومن لحق بهم. وقال مجاهد وقتادة: هم في هذه الأمة. «أضاعُوا الصَّلاة» تركوا الصلاة المفروضة. وقال ابن مسعود وإبراهيم: أخروها عن وقتها. وقال سعيد بن المسيب: هو أن لا يصلي الظهر حتى يأتي العصر، ولا يصلي العصر حتى تغرب الشمس. «واتَّبعُوا الشَّهواتِ» قال ابن عباس: هم اليهود تركوا الصلاة وشربوا الخمور، واستحلوا نكاح الأخت من الأب. وقال مجاهد: هؤلاء قوم يظهرون في آخر الزمان ينزو بعضهم على بعض في الأسواق والأزقة. «فَسَوْفَ يقَوْنَ غيًّا» قال وهب وابن عباس وعطاء الجزء: 13 ¦ الصفحة: 87 وكعب: هو وادٍ في جهنم بعيد قعره. وقال أبو أمامة: مجازاة الآثام. وقال الضحاك: «غَيًّا» : خسراناً. وقيل: هلاكاً وقيل: عذاباً، ونقل الأخفش أنه قرئ «يُلَقَّوْنَ» بضم الياء وفتح اللام وتشديد القاف من لقَّاه مضاعفاً. وقوله: «يَلْقَوْنَ» ليس معناه «يرون» فقط بل معناه الاجتماع والملابسة مع الرؤية. قوله: «إلاَّ من تَابَ» فيه وجهان: أظهرهما: أنه استثناء متصل. وقال الزجاج: هو منقطع. وهذا بناء منه على أن المضيع للصلاة من الكفار. وقرأ عبد الله والحسن والضحاك وجماعة «الصلوات» جمعاً. وقرأ الحسن هنا وجميع ما في القرآن «يُدْخَلُونَ» مبنيًّا للمفعول. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 88 فصل «احتجوا» بقوله: {إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} على أن الإيمان غير العمل، لأنه عطف العمل على الإيمان، والمعطوف غير المعطوف عليه. أجاب الكعبي: بأنه تعالى فرق بين التوبة والإيمان، والتوبة من الإيمان فكذلك العمل الصالح يكون من الإيمان وإن فرق بينهما. وهذا الجواب ضعيف، لأن عطف الإيمان على التوبة يقتضي المغايرة بينهما، لأن التوبة عزم على الترك، والإيمان إقرار بالله، وهما متغايران، فكذلك في هذه الصورة. ولما بيَّن وعيد من لم يتب بيَّن أن من تاب وآمن وعمل صالحاً فلهم الجنة ولا يلحقهم ظلم. وهنا سؤالان: السؤال الأول: الاستثناء دل على أنه لا بُدَّ من التوبة والإيمان والعمل الصالح، وليس الأمر كذلك، لأن من تاب عن الكفر ولم يدخل وقت الصلاة أو كانت المرأة حائضاً فإن الصلاة لا تجب عليه، وكذلك الصوم والزكاة فلو مات في ذلك الوقت كان من أهل النجاة مع أنه لم يصدر عنه عمل، فلم يجز توقف الأجر على العمل الصالح. والجواب: ان هذه الصورة نادرة، والأحكام إنما تناط بالأعم الأغلب. السؤال الثاني: قوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} يدل على أن الثواب مستحق بالعمل لا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 89 بالتفضّل، لأنه لو كان بالتفضل، لاستحال حصول الظلم، لكن من مذهبكم أنه لا استحقاق للعبد بعمله إلا بالوعد. وأجيب بأنه لما أشبهه أجري على حكمه. قوله: {جَنَّاتِ عَدْنٍ} العامة على كسر التاء نصباً على أنها بدل من «الجنة» . وعلى هذه القراءة يكون قوله: {وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً} فيه وجهان: أحدهما: أنه اعتراض بين البدل والمبدل منه. والثاني: أنه حال. كذا قال أبو حيان. وفيه نظرٌ من حيث إن المضارع المنفي ب «لا» كالمثبت في أنه لا تباشره واو الحال. وقرأ أبو حيوة، وعيسى بن عمر، والحسن، والأعمش: « الجزء: 13 ¦ الصفحة: 90 جنَّات» بالرفع وفيه وجهان: أحدهما: أنه خبر مبتدأ مضمر، تقديره: تلك أو هي جنات عدن. والثاني: وبه قال الزمخشري: أنها مبتدأ، يعني ويكون خبرها «الَّتي وَعدَ» . وقرأ الحسن بن حيّ، وعلي بن صالح، والأعمش في رواية «جنَّة عدنٍ» نصباً مفرداً. واليماني، والحسن، والأزرق عن حمزة، «جَنَّةُ» رفعاً «مفرداً» . وتخريجها واضح مما تقدم. قال الزمخشري: لما كانت مشتملة على جنات عدن أبدلت منها، كقولك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 91 أبصرت دارك القاعة والعلالي، و «عَدْن» معرفة بمعنى العدن، وهو الإقامة كما جعلوا فينة، وسحر، وأمس فيمن لم يصرفه أعلاماً لمعاني الفينة والسحر والأمس، فجرى مجرى العجن لذلك، أو هو أعلم لأرض الجنة، لكونها دار إقامة، ولولا ذلك لما ساغ الإبدال، لأنَّ النكرة لا تبدل من المعرفة إلا موصوفة، ولما ساغ وصفها ب «التي» . قال أبو حيان: وما ذكره متعقب، أما دعواه: إن عدناً علم لمعنى العدن. فيحتاج إلى توقيف وسماع من العرب، وكذا دعواه العلمية الشخصية فيه، وأما قوله: ولولا ذلك، إلى قوله: موصوفة؛ فليس مذهب البصريين، لأن مذهبهم جواز إبدال النكرة من المعرفة إن لم تكن موصوفة، وإنما ذلك شيء قاله البغداديون، وهم محجوجون بالسماع على ما بيناه، وملازمته فاسدة. وأما قوله: ولما ساغ وصفها ب « الجزء: 13 ¦ الصفحة: 92 التي» ، فلا يتعين كون «التي» صفة، وقد ذكرنا أنه يجوز إعرابه بدلاً. قال شهاب الدين: إن «التي» صفة، والتمسك بهذا الظاهر كافٍ وأيضاً: فإن الموصول في قوة المشتقات، وقد نصوا على أن البدل بالمشتق، ضعيف، فكذلك ما في معناه. قوله: «بالغَيْبِ» فيه وجهان: أحدهما: ان الباء حالية، وفي صاحب الحال احتمالان: أحدهما: ضمير الجنة، وهو عائد الموصول، أي: وعدها وهي غائبة عنهم لا يشاهدونها. والثاني: أن يكون هو «عِبَادَهُ» ، أي: وهم غائبون عنها لا يرونها، إنما آمنوا بها بمجرد الإخبار عنه. والوجه الثاني: أن الباء سببية، أي: بسبب تصديقه الغيب، وبسبب الإيمان «به» . قوله: «إنَّهُ كَانَ» . يجوز في هذا الضمير وجهان: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 93 أحدهما: أنه ضمير الباري تعالى يعود على «الرحمن» أي: إن الرحمن كان وعده مأتياً. والثاني: أنه ضمير الأمر والشأن، لأن مقام تعظيم وتفخيم. وعلى الأول يجوز أن يكون في «كان» ضمير هو اسمها يعود على الله - تعالى - و «وَعْدُهُ» بدل من ذلك الضمير بدل اشتمال، و «مَأتِيًّا» خبرها. ويجوز أن لا يكون فيها ضمير، بل هي رافعة ل «وعده» و «مأتياً» الخبر أيضاً. وهو نظير: إن زيداً كان أبوه منطلقاً. و «مأتيًّا» فيه وجهان: أحدهما: أنه مفعول على بابه، والمراد بالوعد: الجنة، أطلق عليها المصدر، أي: موعود، نحو درهم ضرب الأمير. وقيل: الوعد مصدر على بابه، و «مأتيا» مفعول بمعنى فاعل. ولم يرتضه الزمخشري فإنه قال: قيل في «مأتيا» مفعول بمعنى فاعل، والوجه أن الوعد هو الجنة، وهم يأتونها، أوهو من قولك: أتى إليه إحساناً، أي: كان وعده مفعولاً منجزاً. وقال الزجاج: كل ما وصل إليك فقد وصلت إليه، وما أتاك فقد أتيته. والمقصود من قوله: {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً} بيان أن وعده تعالى - وإن كان بأمر غائب - فهو كأنه مشاهد حاصل، والمراد تقرير ذلك في القلوب. قوله: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً} . اللغو من الكلام: ما يلقى ويطرح، وهو المنكر من القول كقوله: {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} [الغاشية: 11] . وقال مقاتل: هي اليمين الكاذبة وفيه دلالة على وجوب اجتناب اللغو، لأن الله - تعالى - نزه عنه الدار التي لا تكليف فيها، ولقوله: {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً} [الفرقان: 72] ، وقوله: {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [القصص: 55] الآية. أبدى الزمخشري فيه ثلاثة أوجه: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 94 أحدها: أن يكون معناه: إن كان تسليم بعضهم على بعض، أو تسليم الملائكة عليهم لغواً، فلا يسمعون لغواً إلا ذلك، فهو من وادي قوله: 3611 - وَلا عَيْبَ فِيهِمْ غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهُمْ ... بِهِنَّ فلولٌ مِنْ قِراعِ الكَتائِبِ الثاني: أنهم لا يسمعون فيها إلا قولاً يسلمون فيه من العيب والنقصان على الاستثناء المنقطع. الثالث: أن معنى السلام هو الدعاء بالسلامة، ودار السلامة هي دار السلامة، وأهلها أغنياء عن الدعاء بالسلامة، فكان ظاهره من باب اللغو وفضول الحديث، لولا ما فيه من فائدة الإكرام. وظاهر هذا أن الاستثناء على الأول والأخير متصل، فإنه صرح بالمنقطع في الثاني وأما اتصال الثالث فواضح، لأنه أطلق اللغو على السلام بالاعتبار الذي ذكره. وأما الاتصال في الأول فعسر، إذ لا يعدُّ ذلك عيباً، فليس من جنس الأول وسيأتي تحقيق هذا إن شاء الله - تعالى - عند قوله: {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 56] . قوله: {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} فيه سؤالان: السؤال الأول: أن المقصود من هذه الآيات وصف الجنة بآيات مستعظمة ووصول الرزق إليهم بكرة وعشياً ليس من الأمور المستعظمة. والجواب من وجهين: الأول: قال الحسن: أراد تعالى أن يرغب كل قوم بما أحبوه في الدنيا، فلذلك ذكر أساور الذهب والفضة، ولبس الحرير التي كانت عادة العجم، والأرائك التي هي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 95 الحجال المضروبة على الأسرَّة، وكانت عادة أشراف اليمن، ولا شيء كان أحب إلى العرب من الغداء والعشاء فوعدهم بذلك. الثاني: المراد دوام الرزق، تقول: أنا عند فلان صباحاً ومساء، تريد الدوام، ولا تقصد الوقتين المعلومين. السؤال الثاني: قال تعالى: {لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً} وقال عليه السلام: «لا صباح عند ربك ولا مساء بل هم في نور أبداً» . والبكرة والعشيّ لا يوجدان إلا عند وجود الصباح والمساء. والجواب: أنهم يأكلون على مقدار الغداة والعشي، لا أن في الجنة غدوة ولا عشياً، إذ لا ليل فيها. وقيل: إنهم يغرقون النهار برفع الحجب، ووقت الليل بإرخاء الحجب. وقيل: المراد رفاهية العيش، وسعة الرزق، أي: لهم رزقهم متى شاءوا. قوله: {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ} صحت الإشارة ب «تِلْكَ» إلى «الجَنَّة» لأنها غائبة. وقرأ الأعمش: «نورثها» بإبراز عائد الموصول. وقرأ الحسن، والأعرج، وقتادة: «نُوَرِّثُ» بفتح الواو وتشديد الراء من ورَّث مضعفاً، وقوله: «نُورث» استعارة، أي: نبقي عيله الجنة كما نبقي على الوارث مال الموروث، وقيل: معناه: ننقل تلك المنازل ممن لو أطاع لكانت له إلى عبادنا الذين اتقوا ربهم، فجعل هذا النقل إرثاً، قاله الحسن. المتقي: هو من اتقى المعاصي؛ واتقى ترك الواجبات. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 96 قال القاضي: هذه الآية دالة على أن الجنة يدخلها من كان تقياً، والفاسق المرتكب للكبائر لم يوصف بذلك. وأجيب بأن هذه الآية تدل على أن المتقي يدخلها، وليس فيها دلالة على أن غير المتقي لا يدخلها؛ وأيضاً: فصاحب الكبيرة متقٍ عن الكفر، ومن صدق عليه أنه متقٍ (عن الكفر، فقد صدق عليه أنه متق) ، لأن المتقي جزء مفهوم قولنا: المتقي عن الكفر، وإذا كان صاحب الكبيرة (يصدق عليه أنه متقٍ، وجب أنه) يدخل الجنة، (فالآية بأن تدل على أن صاحب الكبيرة يدخل الجنة) أولى من أن تدل على أنه لا يدخلها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 97 قوله تعالى: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآية. قال ابن عطية: الواو عاطفة جملة كلام على أخرى، واصلة بين القولين، وإن لم يكن معناهما واحداً. وقد أغرب النقاش في حكاية قول: وهو أن قوله: «وما نَتَنَزَّلُ» متصل بقوله: {قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ لاًّهَبَ لَكِ} [مريم: 19] . وقال أبو البقاء: «وما نَتَنَزَّلُ» أي: وتقول الملائكة. فجعله معمولاً لقول مضمر. وقيل: هو من كلام أهل الجنة. وهو أقرب مما قبله. و «نَتَنَزَّلُ» مطاوع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 97 نزَّل - بالتشديد - ويقتضي العمل في مهلة وقد لا يقتضيها. قال الزمخشري: التنزل على معنيين: معنى النزول على مهل، ومعنى النزول على الإطلاق، كقوله: 3612 - فَلَسْتُ لإنْسِيّ ولكن لملأكٍ ... تَنَزَّلَ من جَوِّ السَّمَاءِ يصُوبُ لأنه مطاوع نزل، ونزل يكون بمعنى أنزل، ويكون بمعنى التدرج، واللائق بهذا الموضع هو النزول على مهل، والمراد: أن نزولنا في الأحايين وقتاً بعد وقت. ثال شهاب الدين: وقد تقدم أنه يفرق بين نزَّل وأنزل في أول هذا الموضوع. وقرأ العامة «نَتَنَزَّلُ» بنون الجمع. وقرأ الأعرج «يتنزَّلُ» بياء الغيبة، وفي الفاعل حينئذ قولان: أحدهما: أنه ضمير جبريل - عليه السلام -. قال ابن عطية: ويرده قوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} ، لأنه لا يطرد معه، وإنما يتجه أن يكون خبراً عن جبريل أي: القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها. وقد يجاب ابن عطية بأنه على إضمار القول، أي: قائلاً ما بين أيدينا. والثاني: أنه يعود على الوحي، وكذا قال الزمخشري على الحكاية عن جبريل، والضمير للوحي. ولا بد من إضمار هذا القول أيضاً. قوله: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا} . استدل بعض النحاة على أن الأزمنة ثلاثة: ماض، وحاضر، ومستقبل بهذه الآية وهو كقول زهير: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 98 3613 - واعْلَمُ عِلْمَ اليَوْمِ والأمْسِ قَبْلَهُ ... ولكِنَّنِي عن عِلْمِ ما فِي غدٍ عَمِ فصل روى ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ قال: «يا جبريل ما منعك أن تزورنا» فنزلت {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} الآية. وقال عكرمة والضحاك وقتادة ومقاتل، والكلبي: «احتبس جبريل - عليه السلام - عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ حين سأل قومه عن أصحاب الكهف، وذي القرنين، والروح فقال:» أخبركم غداً «، ولم يقل: إن شاء الله حتى شق على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ فقال المشركون ودَّعهُ ربه وقلاه، ثم نزل بعد أيام، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» أبطأت علي حتى ساء ظني، واشتقت إليك «فقال له جبريل - عليه السلام - إني كنت إليك أشوق، ولكنني عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست» فنزل قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} ، وقوله: {وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذلك غَداً إِلاَّ أَن يَشَآءَ} [الكهف: 23، 24] وسورة الضحى وفي هذه الآية سؤال: وهو أن قوله: {تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً} [مريم: 63] كلام الله، وقوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ} كلام غير الله، فكيف جاز هذا على ما قبله من غير فصل؟ . وأجيب: بأنه إذا كانت القرينة لم يقبح كقوله - تعالى -: {إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} [مريم: 35] ، (وهذا كلام الله تعالى، ثم عطف عليه) {وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه} [مريم: 36] . واعلم أنَّ ظاهر قوله: {وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ} خطاب جماعة لواحد، وذلك لا يليق بالذين ينزلون على الرسول، فلذلك ذكروا في سبب النزول ما تقدم. ثم قال: {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا} أي: علم ما بين أيدينا قال سعيد بن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 99 جبير وقتادة، ومقاتل: «ما بَيْنَ» أيدِينَا «من أمر الآخرة، والثواب والعقاب،» ومَا خَلْفَنَا «من أمر الدنيا،» ومَا بَيْنَ ذلِكَ «ما يكون في هذا الوقت إلى قيام الساعة. وقيل:» مَا بَيْنَ أيْدِينَا «من أمر الآخرة،» ومَا خَلْفَنَا «من أمر الدنيا،» ومَا بَيْنَ ذلِكَ «أي: بين النفختين، وبينهما أربعون سنة. وقيل:» مَا بَيْنَ أدينَا «ما بقي من أمر الدنيا،» ومَا خَلْفَنَا «ما مضى منها،» ومَا بَيْنَ ذَلِكَ «هذه حياتنا. وقيل:: مَا بَيْنَ أيْدِينَا» بعد أن نموت، «ومَا بَيْن ذلكَ» مدة الحياة. وقيل: «مَا بَيْنَ أيدِينَا» الأرض إذا أردنا النزول إليها، «ومَا خَلْفَنَا» السماء وما أنزل منها، «ومَا بَيْنَ ذلِكَ» الهواء، يريد أن ذلك كله لله - عَزَّ وَجَلَّ - فلا يقدر على شيء إلاَّ بأمره. ثم قال: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً} أي: ناسياً، أي: ما نسيك ربك بمعنى تركك، والناسي التارك، كقوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى} [الضحى: 3] أي: ما كان امتناع النزول لترك الله لك وتوديعه إياك. قوله: {رَّبُّ السماوات} فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنه بدل من «ربُّكَ» . الثاني: أنه خبر مبتدأ مضمر، أي: هُو ربُّ. الثالث: كونه مبتدأ والخبر الجملة الأمرية بعده. وهذا ماشٍ رأي الأخفش، إذ يجوِّز زيادة الفاء في خبر المبتدأ مطلقاً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 100 قوله: «لِعبادَتِهِ» متعلق ب «اصْطَبَرْ» فإن قيل: لِمَ لَمْ يقُلْ: واصطبر على عبادته، لأنها صلته، فكان حقه تعديه ب «على» ؟ . فالجواب: أنَّه ضمن معنى الثبات، لأنَّ العبادة ذات تكاليف قل من يصبر لها، فكأنَّه قيل: واثبت لها مصطبرا. واستدلوا بهذه الآية على أنَّ فعل العبد خلق لله - تعالى -، لأنَّ فعل العبدِ حاصل بين السموات والأرض، وهو رب لكل شيء حاصل بينهما. قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} أدغم الأخوان، وهشام، وجماع لام «هَلْ» في «التاء» . وأنشدوا على ذلك بيت مُزَاحِم العُقيليّ: 3614 - فَذَرْ ذَا ولكِن هَتُّعِينُ مُتَيَّماً ... عَلى ضَوْءِ برْقِ آخِرِ اللَّيْلِ نَاصِبِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 101 فصل دلَّ ظاهر الآية على أنَّه - تعالى - رتب الأمر بالعبادة والأمر بالمصابرة عليها أنه لا سميّ له، والأقرب أنه ذكر الاسم وأراد هل تعلم له نظيراً فيما يقتضي العبادة والتي يقتضيها كونه منعماً بأصول (النعم وفروعها، وهي خلق الأجسام، والحياة والعقل، وغيرها، فإنه لا يقدر على ذلك) أحد سواه - سبحانه وتعالى - وإذا كان قد أنعم عليك بغاية الإنعام، وجب أن تعظمه بغاية التعظيم، وهي العبادة. قال ابن عباس: هل تعلم له مثلاً. وقال الكلبي: ليس له شريك في اسمه. وذلك لأنهم وإن كانوا يطلقون لفظ الإله على الوثن فما أطلقوا لفظ الله - تعالى - على شيء. قال ابن عباس: لا يسمة بالرحمن غيره. وأيضاً: هل تعلم من سمي باسمه على الحق دون الباطل، لأنَّ التسمية على الباطل كلا تسمية، لأنها غير معتد بها، والقول الأول أقرب. قوله تعالى: {وَيَقُولُ الإنسان أَإِذَا مَا مِتُّ} الآية. «إذَا» منصوب بفعل مقدر مدلول عليه بقوله تعالى: {لَسَوْفَ أُخْرَجُ} ، تقديره: إذا مت أبعث أو أحياً، ولا يجوز أن يكون العامل فيه «أخْرَجُ» لانَّ ما بعد لام الابتداء لا يعمل ما قبلها قال أبو البقاء: لأن ما بعد اللام وسوف لا يعمل فيما قبلها ك «إنَّ» قال شعاب الدين: قد جعل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 102 المانع مجموع الحرفين، أما اللام فمسلم وأما حرف التنفيس فلا مدخل له في المنع، لأن حرف التنفيس يعمل كا بعده فيما قبله، تقول: زَيْداً سأضَرِبُ وسوف أضرب، ولكن فيه خلاف ضعيف، والصحيح الجواز، وأنشدوا عليه: 3615 - فَلَمَّا رَأتْهُ آمَناً هَانَ وجْدُهَا ... وقَالَتْ أبُونَا سَوْفَ يَفْعَلُ ف «هَكَذَا» منصوب ب «يَفْعَلُ» بعد (حرف التنفيس) ، (وقال ابن عطية) : واللام في قوله: «لَسَوْفَ» مجلوبة على الحكاية لكلام تقدم بهذا المعنى، كأن قائلاً قال للكافر: (إذا متُّ) يا فلان لسوف تخرج حيًّا، فقرر الكلام على الكلام على جهة الاستبعاد، وكرر اللام حكاية للقول الأول. قال أبو حيان: ولا يحتاج إلى هذا التقدير، ولا أن هذا حكاية للقول الأول. قال أبو حيان: ولا يحتاج إلى هذا التقدير، ولا أن هذا حكاية لكلام تقدم بل هو من كلام الكافر، وهو استفهام فيه معنى الجحد والاستبعاد. وقال الزمخشري: فإن قيل: لام الابتداء الداخلة على المضارع تعطي معنى الحال، فكيف جامعت حرف الاستقبال؟ قلتُ: لم تجامعها إلاَّ مخلصة للتوكيد كما أخلصت الهمزة في يا الله للتعويض، واضْمَحَلَّ عنها معنى التعريف. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 103 قال أبو حيان: وما ذكر من أن اللام تعطي «معنى» الحال مخالف فيه، فعلى مذهب من لا يرى ذلك يسقط السؤال، وأما قوله: كما أخلصت الهمزة. فليس ذلك إلاَّ على مذهب من يزعم أن أصله: إله، وأما من يزعم أن أصله: لاه. فلا تكون الهمزة فيه للتعويض «إذْ لم يحذف منه شيء، ولو قلنا: إنَّ أصله إله، وحذفت فاء الكلمة لم يتعين أن الهمزة فيه في النداء للتعويض» ، إذ لو كانت عوضاً من المحذوف لثبتت دائماً في النداء وغيره، ولما جاز حذفها في النداء، قالوا: يا الله بحذفها، وقد نصوا على أن «قطع» همزة الوصل في النداء شاذ. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 104 وقرأ الجمهور: «أءِذَا» بالاستفهام، وهو استبعاد كما تقدم. وقرأ أبو ذكوان بخلاف عنه، وجماعة «إذَا» بهمزة واحدة على الخبر أو الاستفهام وحذف أداته للعلم بها، ولدلالة القراءة الأخرى عليها. وقرأ طلحة بن مصرِّف «لسَأخرجُ» بالسين دون سوف. هذا نقل الزمخشري عنه. وغيره نقل «سَأخْرَجُ» دون لام الابتداء، وعلى هذه القراءة يكون العامل في الظرف نفس «أخْرَجُ» ، ولا يمنع حرف التنفيس على الصحيح. وقرأ العامة «أخْرَجُ» مبنياً للمفعول. والحسن، وأبو حيوة «أخْرُجُ» مبنياً للفاعل. و «حيًّا» حال مؤكدة، لأنَّ من لازم خروجه أن يكون حيًّا، وهو كقوله: {أُبْعَثُ حَيّاً} [مريم: 33] . فصل لما أمر بالعبادة والمصابرة عليها، فكأنَّ سائلاً سأل وقال: هذه العبادات لا منفعة فيها في الدنيا، وأمَّا في الاخرة فقد أنكرها قوم، فلا بُدَّ من ذكر الدلالة على القول بالحشر حتى تظهر فائدة الاشتغال بالعيادة، فلهذا حكى الله - تعالى - قول منكري الحشر، فقال: {وَيَقُولُ الإنسان} الآية: قالوا ذلك على سبيل افنكار والاستبعاد وذكروا في الإنسان وجهين: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 105 أحدها: أن يكون المراد الجنس كقوله: {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} [الإنسان: 1] . فإن قيل: كلهم غير قائلين بذلك، فكيف يصح هذا القول؟ . فالجواب من وجهين: الأول: أنَّ هذه المقولة لمَّا كانت موجودة في جنسهم صحَّ اسنادها إلى جميعهم، كما يقال: بنو فلان قتلوا فلاناًَ، وإنما القاتل رجل منهم. الثاني: أنَّ هذا الاستبعاد موجود ابتداء في طبع كل أحد إلاَّ أنَّ بعضهم تركه للدلالة القاطعة على صحة القول به. القول الثاني: أنَّ المراد بالإنسان شخص معين، فقيل: أبيُّ بن خلف الجمحي. وقيل: أبو جهل. وقيل: المراد جنس الكفار القائلين بعدم البعث. ثم إن الله - تعالى - أقام للدلالة على صحة البعث فقال: {أَوَلاَ يَذْكُرُ إلإِنْسَانُ} الآية قرأ نافع، وابن عامر، وعاصم، وجماعة: «يَذْكُرُ» مضارع ذكر. والباقون بالتشديد مضارع تذكَّر. والأصل: يتذكر، فأدغمت التاء في الذال. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 106 وقد قرأ بهذا الأصل وهو «يتذكَّر» أبيٌّ. والهمزة في قوله: «أو لا يذكُرُ مؤخرة على حرف العطف تقديراً كما هو قول الجمهور وقد رجع الزمخشري إلى قول الجمهور هنا فقال: الواو عطفت» لا يذكُرُ «على» يَقُولُ «ووسطت همزة الإنكار بين المعطوف» عليه «وحرف العطف. ومذهبه: أن يقدر بين حرف العطف وهمزة الاستفهام جملة يعطف عليها ما بعدها. وقد فعل هذا أعني الرجوع إلى قول الجمهور في سورة الأعراف كما نبَّه عليه في موضعه. قوله: «مِنْ قَبْلُ» أي: من قبل بعضه، وقدره الزمخشري: من قبل الحالة التي هو فيها، «وهي حالة» بقائه. فصل قال بعض العلماء: لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 107 الاختصار ما قدروا عليه، إذ لا شك أنَّ اعادة ثانياً أهون من الإيجاد أولاً، ونظيره قوله تعالى {قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ} [يس: 79] ، وقوله: {وَهُوَ الذي يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] واحتجوا بهذه الآية على أنَّ المعدوم ليس بشيء، وهو ضعيف؛ لأن الإنسان عبارة عن مجموع جواهر متألفة قامت بها أعراض، وهذا المجموع ما كان شيئاً، ولكن لم قلت: إن كل واحد من تلك الأجزاء ما كان شيئاً قبل كونه موجوداً فإن قيل: كيف أمر الله - تعالى - الإنسان بالتذكر مع أنَّ التذكر هو العلم بما علمه من قبل ثم تخللهما سهو؟ . فالجواب: المراد أو لا يتفكر فيعلم خصوصاً إذا قرئ «أو لا يذَّكَّرُ» مشدداً، أما إذا قرئ «أو لا يذكُرُ» مخففاً، فالمراد أو لا يعلم ذلك من حال نفسه لأنَّ كل أحد يعلم أنه لم يكن حيًّا في الدنيا ثم صار حيًّا. ثم إنه تعالى لما قرر المطلوب بالدليل أردفه بالتشديد فقال {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين} أي: لنجمعنهم في المعاد، يعني المشركين المنكرين للبعث مع الشياطين، وذلك أنه يحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة. وفائدة القسم أمران: أحدهما: أنَّ العادة جارية بتأكيد الخبر باليمين. والثاني: أنَّ في قسام الله - تعالى - باسمه مضافاً إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ رفعاً منه لشأنه كما رفع من شأن السماء والأرض في قوله: {فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ} [الذاريات: 23] . والواو في «والشَّياطين» يجوز أن تكون للعطف، وبمعنى «مع» وهي بمعنى «مع» أوقع. والمعنى، أنهم يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الذين أغروهم. {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ} أي: نحضرهم على أذل صورة لقوله: «جِثِيًّا» لأنَّ البارك على ركبتيه صورته الذليل، أو صورة العاجز. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 108 فإن قيل: هذا المعنى حاصل للكل لقوله: {وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً} [الجاثية: 28] ، ولأنَّ العادة جارية بأنَّ الناس في مواقف مطالبات الملوك يتجاثون على ركبهم لما في ذلك من القلق، أة لما يدهمهم من شدة الأمر التي لا يطيقون معه القيام على أرجلهم وإذا كان حاصلاً للكل، فكيف يدل على مزيد ذل الكفار. فالجواب: لعل المراد أنهم يكونون من وقت الحشر إلى وقت الحضور في الموقف على هذه الحال، وذلك يوجب مزيد ذلهم. قوله: «جِثِيًّا» حال مقدرة من مفعول «لنُحْضرنَّهُمْ» . و «جِثِيًّا» جمع جاثٍ جمع على فعول، نحو قَاعد وقُعُود، وجَالس وجُلوس، وفي لامه لغتان: أحدهما: الواو. والأخرى: الياء. يقال: جَثَا يَجْثُو جُثُوًّا، وجَثَا يَجْثِي جِثِيًّا. فعلى التقدير الأول: يكون أصله جُثُوو. بواوين الأولى زائدة علامة للجمع والثانية لام الكلمة، ثم أعلت إعلال عِصِيّ ودليّ، وتقدم تحقيقه في «عِتيًّا» . وعلى الثاني يكون الأصل: جُثُوياً، فأعل إعلال هيِّن وميِّت. وعن ابن عباس: أنه بمعنى جماعات جماعات، جمع جثْوة، وهوالمجموع من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 109 التراب والحجارة، وفي صحته عنه نظر من حيث إنَّ فعلهُ لا يجمع على فعول. ويجوز في «جِثِيًّا» أن يكون مصدراً على فعول، وأصله كما تقدم في حال كونه جمعاً، إمَّا جُثُوو، وإمَّا جُثُوي. وقد تقدم أنَّ الأخوين يكسران فاءه، والباقون يضمونها. والجثوّ: القعود على الركب. قوله: {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ} أي: ليخرجن من كل أمة وأهل دين من الكفار والشيعة فعلة كفرقة: ومنه الطائفة التي شاعت، أي: تبعت غاوياً من الغواة. قال تعالى: {إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً} [الأنعام: 159] . والمعنى: أنه - تعالى - يحضرهم أولاً حول جهنم، ثم يميز البعض من البعض، فمن كان منهم أشد تمرداً في كفره خص بعذاب عظيم، لأنَّ عذاب الضال المضل يجب أن يكون فوق عذاب من يضل تبعاً لغيره، وليس عذاب من يتمرد ويتجبر كعذاب المقلد، ومعنى الآية: أنه ينزع من كل فرقة من كان أشد عتياًّ وتمرداً ليعلم أنَّ عذابه أشد وفائدة هذا التمييز التخصيص «بشدة العذاب لا التخصيص» بأصل العذاب، فلذلك قال في جميعهم: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} ولا يقال: «أوْلَى» إلا مع اشتراكهم في العذاب. قوله: {أَيُّهُمْ أَشَدُّ} فيه أقوال كثيرة، أظهرها عند جمهور المعربين، وهو مذهب سيبويه: أنَّ «أيُّهُمْ» موصولة بمعنى «الذي» ، وأنَّ حركتها حركة بناء، بنيت عند سيبويه لخروجها عن النظائر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 110 و «أشَدُّ» خبر مبتدأ مضمر، والجملة صلة ل «أيُّهُمْ» ، و «أيُّّهُمْ» وصلتها في محل نصب مفعولاً بها بقوله: «لنَنْزِعَنَّ» . ول «أيّ» أحوال الأربعة: إحداها تبني فيها، وهي كما في هذه الآية أن تضاف ويحذف صدر صلتها، ومثله قول الآخر: 3616 - إذَا ما أتَيْتَ بَنِي مَالِكٍ ... فَسَلِّمْ عَلَى أيُّهثمْ أفْضَلُ بضم «أيُّهُمْ» . وتفاصيلها مقررة في كتب النحو. وزعم الخليل - رَحِمَهُ اللَّهُ - أنَّ «أيُّهُمْ» هنا مبتدأ، و «أشدُّ» خبره، وهس استفهامية، والجملة محكية بالقول مقدراً، والتقدير: لنَنْزِعَنَّ من كُل شيعةٍ المقول فيهم أيُّهُم. وقوى الخليل تخريجه بقول الشاعر: 3617 - ولقَدْ أبِيتُ مِنَ الفتاةِ بِمَنْزِلٍ ... فأبِيتُ لا حَرِجٌ ولا مَحْرُوم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 111 قال: فأبيتُ يقالُ فيَّ: لا حرجٌ ولا محْرُوم. وذهب يونس إلى أنَّها استفهامية مبتدأ، وما بعدها خبرها كقول الخليل إلاَّ أنَّه زعم أنها متعلقة ل «نَنْزِعَنَّ» ، فهي في محل نصب، لأنَّه يجوز التعليق في سائر الفعال، ولا يخصه «بأفعال القلوب كما يخصه» بها الجمهور. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون النزع واقعاً على {مِن كُلِّ شِيعَةٍ} كقوله: {وَوَهَبْنَا لَهْمْ مِّن رَّحْمَتِنَا} [مريم: 50] ، أي: لننزعنَّ بعض كل شيعة، فكأنَّ قائلاً قال: مَنْ هُمْ؟ فقيل: أيهم أشدّ عِتِيًّا. فجعل «أيُّهُمْ» موصولة أيضاً، ولكن هي في قوله خبر مبتدأ محذوف أي: هم الذين هم أشد. قال أبو حيان: وهذا تكلف ما لا حاجة إليه، وادعاء إضمار غير محتاج إليه، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 112 وجعل ما ظاهره أنه جملة واحدة جملتين. وحكى أبو البقاء عن الأخفش والكسائي أن مفعول «نَنْزعنَّ» : «مِنْ كُلِّ شيعةٍ» و «مِنْ» مزيدة، قال: وهما يجيزان زيادة «مِنْ» «في الواجب» ، و «أيُّهُم» استفهام أي: لنَنْزِعَنَّ كُلَّ شيعةٍ. وهذا مخالف في المعنى تخريج الجمهور، فإنَّ تخريجهم يؤدي إلى التبعيض، وهذا يؤدي إلى العموم، إلاَّ أن يجعل «مِنْ» لابتداء الغاية لا للتبعيض فيتفق التخريجان، وذهب الكسائي إلى أنَّ معنى «لنَنْزِعَنَّ» لنُنَادِينَّ، فعومل معاملته، فلم يعمل في «أيّ» . قال المهدوي: «ونادى» يعلق إذا كان بعده جملة نصب، فيعمل في المعنى ولا يعمل في اللفظ. وقال المبرد: «أيُّهُمْ» متعلق ب «شيعةٍ» فلذلك ارتفع، والمعنى من الذين تسايعوا أيهم أشد، كأنهم يتبادرون إلى هذا. «ويلزمه على هذا» أن يقدر مفعولاً ل «ننزعنَّ» محذوفاً وقدر بعضهم في قول المبرد: من الذين تعاونوا فنظروا أيهم. قال النحاس وهذا قول حسن. وقد حكى الكسائي تشايعوا بمعنى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 113 تعاونوا قال شهاب الدين: وفي هذه العبارة المنسوبة للمبرد قلق، ولا بيَّن الناقل عنه وجه الرفع عن ماذا يكون، وبيَّنه أبو البقاء، لكن جعل «أيهم» فاعلاً لما تضمنه «شِيعَةٍ» «من معنى الفعل، قال: التقدير: لننزعن من كل» فريق يشيع أيهم. وهي على هذا بمعنى «الذي» ونقل الكوفيون أنَّ «أيُّهُم» في الآية بمعنى الشرط، والتقدير: إن اشتدَّ عتوهم أو لم يشتد، كما تقول: ضرب القوم أيهم غضب. المعنى: إن غضبوا أو لم يغضبوا. وقرأ طلحة بن مصرِّف «ومعاذ بن مسلم الهراء أستاذ الفراء، وزائدة» عن الأعمش «أيُّهُمْ» نصباً. فعلى هذه القراءة والتي قبلها ينبغي أن يكون مذهب سيبويه جواز إعرابها وبنائها، وهو المشهور عند النقلة عنه، «وقد نقل عنه» أنَّه يحتم بناءها. قال النحاس: ما علمتُ أحداً من النحويين إلاَّ وقد خطَّأ سيبويه، «قال: وسمعت أبا إسحاق الزجاج يقول: ما يبين لي أنَّ سيبويه» غلط في كتابه إلاَّ في موضعين هذا أحدهما. قال: وقد أعرب سيبويه «أيًّا» وهي مفردة، لأنَّها تضاف فكيف يبينها مضافة. وقال الجرميّ: خرجت من البصرة فلم أسمع منذ فارقت الخندق إلى مكة أحداً يقول: لأضربن أيهم قائم، بالضم بل ينصب. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 114 قوله: «على الرَّحمنِ» متعلق ب «أشَدُّ» ، و «عِتِيًّا» منصوب على التمييز وهو محول عن المبتدأ، «إذ التقدير» : أيُّهُم هو عتوه أشد. ولا بدَّ من محذوف يتم به الكلام، التقدير: فيلقيه في العذاب، أو فنبدأ بعذابه. قال الزمخشري: فإن قلت: بم يتعلق «عَلَى» ، و «البَاء» ، فإن تعلقهما بالمصدرين لا سبيل إليه. قلتُ: هما للبيان لا للصلة، أو يتعلقان بأفعل، أي: عتوهم أشد على الرحمن، وصليهم أولى بالنار، كقولهم: هو أشد على خصمه، وهو أولى بكذا. يعني ب «عَلَى» قوله:: على الرَّحمنِ «، وب» الباء «قوله:» بالَّذِينَ هُمْ «وقوله: بالمصدرين. يعني بهما» عتِيًّا «و» صِلِيًّا «. » وأما كونه لا سبيل إليه «، فلأن المصدر في نية الموصول، ولا يتقدم معمول الموصول عليه» وجوَّز بعضهم «أن يكون» عِتِيًّا «، و» صليًّا «في هذه الآية مصدرين كما تقدم وجوَّز أن يكون جمع عاتٍ وصالٍ فانتصابهما على هذا الحال. وعلى هذا يجوز أن يتعلق» عَلَى «و» الباء «بهما لزوال المحذوف المذكور. قال المفسرون: معنى قوله: {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً} أي أحق بدخول النار. يقال: صَلِيَ يَصْلَى صُليًّا مثل لَقِيَ يَلْقَى لُقْيًّا، وصَلَى يَصْلِي صُليًّا مثل مَضَى يَمْضِي مُضيًّا، إذا دخل النار، وقَاسَى حرَّها. قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} الآية. الواو في» وإنْ «فيها وجهان: أحدهما: أنها عاطفة لهذه الجملة على ما قبلها. وقال ابن عطية: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قسم، والواو تقتضيه، ويفسره قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» من مات له ثلاث من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 115 الولد لم تمسه النار إلا تحله القسم «وأراد بالقسم قوله تعالى: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} . قال أبو حيان:» وذهل عن «قول النحويين: إنه لا يستغنى عن القسم بالجواب لدلالة المعنى إلا إذا كان الجواب باللام أو ب» إنَّ «، والجواب هنا على زعمه ب» إنْ «النافية، فلا يجوز حذف القسم على ما نصوا. وقوله: والواو تقتضيه. يدلُّ على أنها عنده واو القسم، ولا يذهب نَحْوِي إلى أنَّ مثل هذه الواو واو القسم، لأنَّهُ يلزم عن ذلك حذف المجرور وإبقاء الجاء، ولا يجوز بذلك إلا أن وقع في شعر أو نادر كلام بشرط أن تقوم صفة المحذوف مقامه، كما أولوا في قولهم: نِعْمَ السًّيْرُ على بِئْسَ العيرُ. أي: على عير بئس العير، وقول الشاعر: 3618 - واللهِ مَا لَيْلِي بِنَامَ صَاحِبُهْ ... أي: بِلَيْل نام صاحبه، وهذه الآية ليست من هذا الضرب، إذ لم يحذف المقسم «به» وقامت صفته مقامه. و «إنْ» حرف نفي، «و» مِنْكُم «صفة لمحذوف تقديره: وإن أحد منكم» ويجوز أن يكون التقدير: وإن منكم إلاَّ من هو واردها وقد تقدم لذلك نظائر. والخطاب في قوله:: مِنْكُمْ «يحتمل الالتفات وعدمه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 116 قال الزمخشري: التفات إلى الإنسان، ويعضده قراءة ابن مسعود وعكرمة،» وإنْ مِنْهُمْ «أو خطاب للناس من غير التفات إلى المذكور. والحَتْمُ: القضاءُ، والوجوب حَتْم، أي: أوجبه حتماص، ثم يطلق الحتم على الأمر المحتوم كقوله تعالى: {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] ، وهذا درهمٌ ضرب الأمير. و» على ربِّك «متعلق ب» حَتْم «، لأنَّه في معنى اسم المفعول ولذلك وصفه ب» مَقْضِيًّا «. فصل المعنى: وما منكم إلا واردها، والورود هو موافاة المكان. وقيل القسم فيه مضمر، أي: والله ما منكم من أحد إلا واردها. واختلفوا في معنى الورود هنا فقال ابن عباس والأكثرون: الورود ههنا هو الدخول، والكناية راجعة إلى النار، وقالوا: يدخلها البر والفاجر، ثم ينجي الله المتقين فيخرجهم منها، ويدلُّ على أنَّ الورود هو الدخول قوله تعالى: {يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار} [هود: 98] . روى ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنَّ نافع بن الأزرق مارى ابن عباس في الورود فقال ابن عباس: هو الدخول. وقال نافع: ليس الورود الدخول، فتلى ابن عباس {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} أدخلها هؤلاء أم لا؟ ثم قال: يا نافع أما والله أنا وأنت سنردها، وأنا أرجو أن يخرجني الله، وما أرى أن يخرجك منها بتكذيبك. ويدلُّ عليه أيضاً قوله تعالى» ثُمَّ نُنَجِّي الذينَ اتَّقَوْا «، أي: ننجي من الواردين من اتقى، ولا يجوز أن يقول» ثُمَّ نُنجي الذين اتقول ونذر الظالمين فيها جثياً «إلاَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 117 والكل واردون. والأخبار المروية دل على هذا القول، وهو ما «روي عن عبد الله بن رواحة قال: أخبر الله تعالى عن الورود ولم يخبر بالصد، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» يا ابن رواحة «اقرأ ما بعدها» ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا «فدلَّ على أنَّ ابن رواحة فهم من الورود الدخول، ولم ينكر عليه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ ذلك وعن جابر أنَّه سُئِلَ عن هذه الآية، فقال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ يقول:» الورودُ الدخولُ، ولا يبقى بردٌّ ولا فاجرٌ إلا دخلها، فتكون على المؤمنين برداً وسلاماً، حتى إن للنار ضجيجاً من بردها «. وقيل: المراد من تقدم ذكره من الكفار، فكنى عنهم أولاً كناية الغيبة ثم خاطب خطاب المشافهة. قالوا: ولا يجوز أن يدخل الناء مؤمن أبداً لقوله تعالى: {إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيَسَهَا} والمبعد عنها لا يوصف بأنه واردها، ولو وردوا جهنم لسمعوا حسيسها. وقوله: {وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ} [النمل: 89] . والمراد في قوله: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} الحضور والرؤية لا الدخول، كقوله: {وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ} [القصص: 23] أراد به الحضور. وقال عكرمة: الآية في الكفار يدخلونها ولا يخرجون منها. وقال ابن مسعود: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} يعني القيامة والكناية راجعة إليها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 118 وقال البغوي: والأول أصح، وعليه أهل السنة أنهم جميعاً يدخلون النار، ثم يخرج الله منها أهل الإيمان، لقوله تعالى: {ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا} أي: الشرك، وهم المؤمنون، والنجاة إنما تكون مما دخلت فيه. قوله: {كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً} أي: كان ورودكم جهنم حتماً لازماً مقضياً قضاه الله عليكم. قوله:» ثُمَّ نُنَجِّي «. قرأ العامة: ثُمَّ نُنَجِّي» بضم «ثُمَّ» على أنَّها العاطفة. وقرأ علي بن أبي طالب - رَضِيَ اللَّهُ عَنْه - وابن مسعود، وابن عباس، وأبي، والجحدري ويعقوب «ثَمَّ» بفتحها على أنَّها الظرفية، ويكون منصوباً بما بعده، أي: هُناك نُنَجِّي الذين اتََّقَوا. وقرأ الجمهور «نُنَجِّي» بضم النون الأولى وفتح الثانية وتشديد الجيم من نجَّى مضعفاً. وقرأ الكسائي والأعمش وابن محيصن «نُنَجِي» من أنْجَى. والفعل على هاتين القراءتين مضارع. وقرأت فرقة «نُجِّي» بنون واحدة مضمومة وجيم مشددة، وهو على هذه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 119 القراءة ماض مبني للمفعول، وكان من حق قارئها أن يفتح الياء، ولكنه سكنه تخفيفاً. وتحتمل هذه القراءة توجيهاً آخر سيأتي في قراءة متواترة في آخر سورة الأنبياء. وقرأ علي بن أبي طالب - أيضاً - «نُنَحِّي» بحاء مهملة من التنحية. ومفعول «اتَّقَوْا» محذوف مراد للعلم به، أي: اتقوا الشرك والظلم. قوله: «جِثِيًّا» إمَّا مفعول ثان إن كان «نَذَرُ» يتعدى لاثنين بمعنى أن «نترك ونصير» . وإمَّا حال إن جعلت «نَذَرُ» بمعنى نخليهم. و «جَثِيًّا» على ما تقدم. و «فيها» يجوز أن يتعلق ب «نَذَرُ» ، وأن يتعلق ب «جِثِيًّا» إن كان حالاً ولا يجوز ذلك فيه إن كان مصدراً، ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه حال من «جِثِيًّا» ، لأنه في الأصل صفة لنكرة قدم عليها فنصب حالاً. فصل اختلفوا في أنَّه كيف يندفع عن المتقين ضرر النار إذا ورودها بأنَّ القول هو الدخول. فقيل: «البقعة بجهنم لا يمتنع أن يكون في خلالها ما لا نار فيه، وإذا كان كذلك لا يمتنع» أن يدخل الكل في جهنم، ويكون المؤمنون في تلك المواضع الخالية عن النار والكفار في وسط النار، وعن جابر أنَِّ رسول الله صلى الله عيله وسلم قال «إذا دخل أهل الجنة الجنة يقول بعضهم لبعض: أليس ربنا أن نرد النار؟ فيقال لهم: قد دخلتموها وهي خامدة» . وقيل: إنَّ الله - تعالى - يخمد النار فيعبرها المؤمنون، وتنهار بالكافرين. قال ابن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 120 عباس: يردونها كأنَّها إهالة. وقيل: إنَّ الله - تعالى - يجعل النار الملاصقة لأبدان المؤمنين برداً وسلاماً كما جاء في الحديث المتقدم، وكما في حق إبراهيم - عليه السلام -، وكما في حق الكوز الواحد من الماء يشربه القبطي فيكون دماً، ويشربه الإسرائيلي فيكون ماء عذباً، وفي الحديث: «تقول النار للمؤمن جُزْ يا مؤمن فقد أطفأ نورك لهبي» وعن مجاهد في قوله تعالى « {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا} قال: من حُمَّ من المسلمين فقد وردها. وفي الخبر» الحمى كنز من جهنم، وهي حظ المؤمن من النار «واعلم أنه لا بُدَّ من أحد هذه الوجوه في الملائكة الموكلين بالعذاب حتى يكونوا في النار مع المعاقبين. فإن قيل: إذا لم يكن على المؤمنين عذاب في دخولهم فما الفائدة في ذلك الدخول؟ فالجواب: أنَّ ذلك مما يزيدهم سروراً إذا علموا الخلاص منه. وأيضاً: فيه مزيد غم على أهل النار حيث تظهر فضيحتهم عند من كان يخوفهم من النار فما كانوا يلتفتون إيله وأيضاً: إن المؤمنين إذا كانوا معهم في النار يبكتونهم فيزداد غم الكفار وسرور المؤمنين. وأيضاً: فإن المؤمنين كانوا يخوفونهم بالحشر والنشر، ويستدلون على ذلك، فما كانوا يقبلون تلك الدلائل، فإذا دخلوا جهنم معهم أظهروا لهم أنهم كانوا صادقين فيما قالوه، وأنَّ المكذِّبين بالحشر والنشر كانوا كاذبين. وأيضاً: إنهم إذا شاهدوا ذلك العذاب صار سبباً لمزيد التذاذهم بنعيم الجنة على ما قيل: وبضدها تتبين الأشياء. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 121 قوله تعالى: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بِيِّنَاتٍ} الآية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 121 لما أقام الحجة، على مشركي قريش المنكرين للبعض، وأتبعه بالوعيد حكى عنهم أنهم عارضوا حجة الله بكلام، فقالوا: لو كنتم انتم على الحق وكنا على الباطل لكان حالكم في الدنيا أحسن من حالنا، لأنَّ الحكيمَ لا يليق به أن يوقع أولياءه المخلصين في الذل وأعداءه المعرضين عن خدمته في العز والراحة، وإنما كان الأمر بالعكس، فإنَّ الكفار في النعمة والراحة والاستعلاء، والمؤمنين كانوا في ذلك الوقت في الخوف والقلة، فدل على أنَّ الحق ليس من المؤمنين، هذا حاصل شبهتهم. وقوله: {آيَاتُنَا بِيِّنَاتٍ} أي: واضحات، وقيل: مرتلات، وقيل: ظاهرات الإعجاز. {قَالَ الذين كَفَرُواْ} يعني النضر بن الحارث وذويه من قريش {لِلَّذِينَ آمنوا} يعني فقراء أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ، وكانت فيهم قشافة، وفي عيشهم خشونةٌ، وفي ثيابهم رثاثةٌ، وكان المشركون يرجلون شعورهم، ويلبسون خير ثيابهم، فقالوا للمؤمنين {أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً} منزلاً ومسكناً، وهو موضع الإقامة، «وأحْسَنُ نديًّا» أي: مجلساً، ومثله النادي. قوله: «مَقَاماً» . قرأ ابن كثير «مُقَاماً» بالضم. ورُوِيَتْ عن أبي عمرو، وهي قراءة ابن محيصن وهو موضع الإقامة والمنزل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 122 والباقون بالفتح وفي كلتا القراءتين يحتمل أن يكون اسم مكان «أو اسم مصدر من قَامَ ثلاثياً، أو من أقَامَ أي: خير مكان» قياماً أو إقاَمَة. فصل قالوا: زيْدٌ خيرٌ من عمروٍ، وشرٌّ من بكر، ولم يقولوا: أخير منه، ولا أشرّ منه، لأنَّ هاتين اللفظتين كثر استعمالهما فحذفت همزتاهما، ولم يثبتا إلا في فعل التعجب، «فقالوا: أخير بزيدٍ وأشرر بعمرو، وما أخْيَر زيْداً ومَا أشرَّ عَمْراً. والعلة في إثباتها في فعلي التعجب أنَّ» استعمال هاتين اللفظتين اسماً أكثرُ من استعمالهما فعلاً، فحذفت الهمزةُ في موضع «الكثرة، وبقيتْ على أصلها في موضع» القلة ثابتة. والنَّديّ فعيل، أصله: نَدِيو، لأنَّ لامه واو، يقال: ندوتُهُمْ أندوهم، أي: أتَيْتُ نَاديَهُمْ والنَّادِي، مثله، ومنه: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} أي: أهل ناديه. والنَّدِيِّ والنَّادي مجلس القوم ومحدثهم. وقيل: هو مشتق من النَّدى، وهو الكرم، لأنَّ الكرماء يجتمعون فيه. وانْتَديْتُ المكان والمنتدى كذلك، «وقال حاتم» : الجزء: 13 ¦ الصفحة: 123 3619 - ودُعِيتُ في أولَى النَّديِّ ولَمْ ... يُنْظَر «إليّ بأ» عْيُنٍ خُرْزِ والمصدر النَّدو. و «مَقَاماً» و «نَدِيًّا» منصوبان على التمييز من أفعل. وقرأ أبو حيوة والأعرج وابن محيصن «يُتْلَى» بالياء من تحت، والباقون بالتاء من فوق. واللام في «اللَّذينَ» يحتمل أن تكون للتبليغ، وهو الظاهر، وأن تكون للتعليل. قوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا} . «كَم» مفعول مقدم، واجب التقديم، لأنَّ له مصدر الكلام، لأنها إمَّا استفهامية أو خبرية، وهي محمولة على الاستفهامية. و «أهْلَكْنَا» متسلط على «كَمْ» ، أي: كثير من القرون أهلكنا. و «مِنْ قَرْنٍ» تمييز ل «كَمْ» مبين لها. قوله: «هُمْ أحْسَنُ» في هذه الجملة وجهان: أحدهما: وإليه ذهب الزمخشري وأبو البقاء: أنَّه في محل نصب صفة ل «كَمْ» قال الزمخشري: ألا ترى أنك لو أسقطت «هُمْ» لم يكن بُدّ من نصب «أحْسَنُ» على الوصفية. وفي هذا نظرٌ، لأنَّ النحويين نصوا على أنَّ «كَمْ» الاستفهامية والخبرية لا تُوصف ولا يُوصف بها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 124 الثاني: أنها في محل جرّ صفة ل «قَرْن» ، ولا محذور في هذا. وإنما جمع في قوله: «هُمْ» ، لأنَّ «قَرْنٍ» وإنْ كَانَ لَفظهُ «مفرداً فمعناه جمع، ف» قَرْن «كلفظ» جَمِيع «، و» جَمِيع «يجوز مراعاة لفظه تارة فيفرد كقوله تعالى {نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ} [القمر: 44] ، ومراعاة معناه أخرى فيجمع كقوله: {لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ} [يس: 32] . فصل لمَّا ذكروا شبهتهم أجاب الله عنها بقوله: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً} أي: متاعاً وأموالاً. قوله:» ورئيا «الجمهور على» رِئْياً «بهمزة ساكنة بعدها ياء صريحة وصلاً ووقفاً. وحمزة إذا وقف يبدل هذه الهمزة ياء على أصله في تخفيف الهمز، ثم له بعد ذلك وجهان: الإظهار اعتباراً بالأصل، والإدغام اعتباراً باللفظ. وفي الإظهار صعوبة لا تَخْفَى، وفي الإدغام إيهام أنَّها مادة أخرى، وهو الريُّ الذي هو بمعنى الامتلاء والنضارة، ولذلك ترك أبو عمرو وأصله في تخفيف الهمزة. وقرأ قالون عن نافع، وابن ذكوان عن ابن عامر» ورِيًّا «بياء مشددة بعد الراء. فقيل: هي مهموزة الأصل، ثم أبدلتِ الهمزةُ ياء، وأدغمتْ. والرِّئْيُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 125 بالهمز وقيل: من رؤية العين، وفعلٌ فيه معنى مفعول أي: مَرْئِيٌّ. وقيل: من الرواء وحسن المنظر. وقيل: بل هو من الريّ ضد العطش، وليس مهموز الأصل، والمعنى: أحسن منظراً، لأنَّ الريّ والامتلاء أحسن من ضديهما، ومعناه الارتواء من النعمة، فإنَّ المُنْعم يظهر فيه ارتواء النعمة، والفقير يظهر عليه ذبول الفقر. وقرأ حميد وأبو بكر عن عاصم في رواية الأعمش: وَرِيْئَا» بياء ساكنة بعدها همزة وهو مقلوب من «رِئْياً» في قراءة العامة، ووزنه «فِلْع» ، وهو من وراءه يراؤه كقول الشاعر: 3620 - وكُلُّ خليلٍ رَاءَنِي فَهُوَ قَائِلٌ ... من أجْلِكِ هذا هامةُ اليَوْمِ أوْ غَدِ وفي القلب من القلب ما فيه. وروى اليزيدي قراءة «ورَيَاء» بياء بعدها ألف «بعدها همزة» ، وهي المراءاة، أي: يرى بعضهم حسن بعض، ثم خفف الجزء: 13 ¦ الصفحة: 126 الهمزة الأولى بقلبها ياء، وهو تخفيف قياسي. «وقرأ ابنُ عباس أيضاً في رواية طلحة» وَرِياً «بياء فقط مخففة، ولها وجهان: أحدهما: أن يكون» أصلها كقراءة قالون، ثم خففت الكلمة بحذف إحدى الياءين، وهي الثانية، لأنَّ بها حصل الثقل، ولأنها لام الكلمة، والأواخر أحرى بالتغيير. والثاني: أن يكون أصلها كقراءة حميد «وَرَيْئاً» بالقلب، ثم نقل حركة الهمزة إلى الياء قبلها، وحذف الهمزة على قاعدة تخفيف الهمزة بالنقل، فصار «وَرِياً» كما ترى. وتجاسر بعضهم فجعل هذه القراءة لحناً، وليس اللاحن غيره، لخفاء توجيهها عليه. وقرأ ابن عباس - أيضاً - وابن جبير وجماعة «وَزِياً» بزاي وياء مشددة. والزِّيّ: البِزَّةُ الحسنة والآلات المجتمعة، لأنه من زَوَى كذا يَزْوِيهِ، أي: يجمعه، والمتزين يجمع الأشياء التي تزينه وتظهر زيَّه. قوله: {مَن كَانَ فِي الضلالة} . «مَنْ» يجوز أن تكون شرطية، وهو الظاهر، وأن تكون موصولة، ودخلت الفاء في الخبر، لما تضمنه الموصول من معنى الشرط. وقوله «: فَلْيَمْدُدْ» فيه وجهان: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 127 أحدهما: أنه طلب على بابه، ومعناه الدعاء. والثاني: لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر. قال الزمخشري: أي: مدَّ له الرحمن بمعنى أمهلهُ «وأمْلَى له في العمر» فأخرج على لفظ الأمر إيذاناً بوجوب ذلك ... أو فيمد له في معنى الدعاء بأن يمهله الله وينفس في مدة حياته. قوله: «حتَّى إذَا» في «حتَّى» هذه ما تقدم في نظائرها من كونها حرف جر أو حرف ابتداء، وإنَّما الشأن فيما هي غاية له في كلا القولين. فقال الزمخشري: وفي هذه الآية وجهان: الأول: أن تكون متصلة بالآية التي هي رابعتها، والآيتان اعتراض بينهما، أي: قالوا: «أي الفَريقِيْنِ خيرٌ مقَاماً وأحْسَنُ نديًّا» ، «حتَّى إذَا رَأوْا ما يُوعَدُون» ، أي: لا يبرحون يقولون هذا القول، ويتولعون به لا يتكافون عنه إلى أن يشاهدوا الموعد رأي العين. فقوله: {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً} مذكور في مقابلة قوله «خَيْرٌ مَقَاماً» ، وأضْعَفُ جُنْداً «في مقابلة قولهم:» وأحْسَنُ نَدِيًّا «. فبين تعالى أنَّهم عن ظنوا في الحال أنَّ مَنزلتهم أفضل من حيث فضلهم الله بالمقام والندي، فسيعلمون من بعد أنَّ المر بالضد من ذلك وأنَّهم شر مكاناً، فإنَّه لا مكان شر من النار والمناقشة في الحساب،» وأضْعَفُ جُنْداً «فقد كانوا يظنون وهم في الدنيا أنَّ اجتماعهم ينفع، فإذا رأوا أن لا ناصر لهم في الآخرة عرفوا عند ذلك أنهم كانوا في الدنيا مبطلين فيما ادعوه. » ثم قال: «والثاني: أن تتصل بما يليها، والمعنى أنَّ الذين في الضلالة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 128 ممدود لهم، ثم ذكر كلاماً كثيراً، ثم قال: إلى أن يعاينوا نصرة الله المؤمنين، أو يشاهدوا الساعة ومقدماتها، فإن قلت:» حتَّى «هذه ما هي؟ قلتُ: هي التي تُحْكى بعدها الجمل، ألا ترى أنَّ الجملة الشرطية واقعة بعدها، وهي» إذَا رَأوْا ما يُوعَدُون فَسَيَعْلمُونَ «قال أبو حيان: مستبعداً الوجه الأول، وهو في غاية البعد، لطول الفصل بين قوله:: أيُّ الفَرِيقَيْنِ» وبين الغاية، وفيه الفصل بجملتي اعتراض، ولا يجيزه أبو علي. وهذا الاستبعاد قريب. وقال أبو البقاء: «حتَّى» تَحكي ما بعدها ههنا، وليست متعلقة بفعل. قوله: {إِمَّا العذاب وَإِمَّا الساعة} تقدم الكلام في «إمَّا» من كونها حرف عطف أو لا، ولا خلاف أنَّ أحد معانيها التفصيل كما في الآية الكريمة. و «العَذَابَ» و «السَّاعَةَ» بدلاً من قوله: «مَا يُوعَدُون» المنصوبة ب «رَأوا» ، و «فَسَيعْلَمُونِ» جواب الشرط. «مَنْ هُو شرٌّ مكاناً» يجوز أن تكون «مَنْ» موصولة بمعنى «الَّذي» ، ويكون مفعولاً ل «يَعْلَمُونَ» ويجوز أن تكون استفهامية في محل رفع بالابتداء، و «هُوَ» مبتدأ ثان، و «شرٌّ» خبره، والمبتدأ والخبر خبر الأول، ويجوز أن تكون الجملة معلقة لفعل الرؤية، فالجملة في محل نصب على التعليق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 129 فصل قال المفسرون: مَدَّ له الرحمن، أي: أمهله، وأملى له في الأمر، فأخرج على لفظ الأمر ومعناه الخبر، أي: يدعه في طغيانه، ويمهله في كفره {حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ إِمَّا العذاب} وهو الأسر، والقتل في الدنيا، و «إمَّا السَّاعةَ» يعني القيامة، فيدخلون النار. وقوله: «وإمَّا السَّاعة» يدلُّ على أنَّ المراد بالعذاب عذاب يحصل قبل يوم القيامة، فيحتمل أن يكون المراد به الأسر والقتل كما تقدم، ويحتمل أن يكون عذاب القبر، ويمكن أن يكون تغير أحوالهم من العز إلى الذُّل، ومن الغنى إلى الفقر، ومن الصحة إلى المرض، ومن الأمن إلى الخوف. «فَسَيَعْلمُونَ» عند ذلك «مَنْ هُو شرٌّ مكاناً» منزلاً، «وأضْعَفُ جُنْداً» أقل ناصراً، لأنَّهم في النار والمؤمنون في الجنة، وهذا ردٌّ عليهم في قولهم: «أيُّ الفريقَيْن خيرٌ مَقَاماً وأحْسَنُ نَدِيًّا» . قوله: " ويزيد الله " في هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنها لا محل لها، لاستئنافها، فإنها سيقت للإخبار بذلك. وقال الزمخشري: إنها معطوفة على موضع " فليمدد "، لأنه واقع موقع الخبر، تقديره من كل في الضلالة يمد له الرحمن مدا ويزيد، أي: في ضلالهم بذلك المد. قال أبو حيان: ولا يصح أن يكون " ويزيد " معطوفا على " فليمدد " سواء كان دعاء أو خبرا بصورة الأمر؛ لأنه في موضع الخبر إن كانت " من " موصولة، أو في موضع الجواب إن كانت " من " شرطية وعلى كلا التقديرين فالجملة من قوله " ويزيد الله الذين اهتدوا هدى " عارية من ضمير يعود على " من " يربط جملة الخبر بالمبتدأ، أو جملة الشرط بالجزاء، " الذي هو " فليمدد "، وما عطف عليه، لأن المعطوف على الخبر خبر، والمعطوف على جملة الجزاء " جزاء، وإذا كانت أداة الشرط اسما لا ظرفا تعين أن يكون في جملة الجزاء ضميره أو ما يقوم مقامه، وكذا في الجملة المعطوفة عليها. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 130 وذكره أبو البقاء - أيضا - كما ذكر الزمخشري. قال شهاب الدين: وقد يجاب عما قالاه بأنا نختار على هذا التقدير أن تكون " من " شرطية. وقوله: " ولا بد من ضمير يعود على اسم الشرط غير الظرف " ممنوع، لان فيه خلافا تقدم تحقيقه، ودليله في سورة البقرة فيكون الزمخشري وأبو البقاء من القائلين بأنه لا يشترط. (فصل) اعلم أنه - تعالى - لما بين أنه يعامل الكفار " بعد ذلك " بما ذكره، فكذلك يزيد المؤمنين المهتدين هدى، أي إيمانا وإيقانا على يقينهم. ومن الناس من حمل زيادة الهدى على الثواب، أي: يزيدهم ثوابا على ذلك الاهتداء ومنهم من فسر الزيادة بالعبادة المرتبة على الإيمان. ثم قال: {والباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا} . قال المحققون: هي الإيمان، والأعمال الصالحة تبقى لصاحبها وبعضهم قال: الصلوات، وبعضهم قال: التسبيح وقد تقدم. ثم قال: " خير عند ربك ثوابا وخير مردا " عاقبة ومرجعا، ولا يجوز أن يقال: هذا خير إلا والمراد أنه خير من غيره، فالمراد إذا: أنه خير مما ظنه الكفار بقولهم: " خير مقاما وأحسن نديا ". الجزء: 13 ¦ الصفحة: 131 قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} الآية. «أفَرَأيْتَ» عطف بالفاء إيذاناً بإفادة التعقيب، كأنه قيل: أخبر أيضاً بقصة هذا الكافر الجزء: 13 ¦ الصفحة: 131 عقيب أولئك. وأرأيت بمعنى: أخبرني كما تقدم، والموصول هو المفعول الأول، والثاني هو الجملة الاستفهامية من قوله: «أطَّلع الغَيْبَ» . و «لأوتَينَّ» جواب قسمٍ مضمر، والجملة القسمية كلها في محل نصب بالقول. وقوله هنا «وولداً» ، وفي آخر السورة: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} [مريم: 88] موضعان وفي الزخرف {إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ} [الآية: 81] ، وفي نوح {مَالُهُ وَوَلَدُهُ} [الآية: 21] . وقرأ الأخوان الأربعة بضم الواو وسكون اللام، ووافقهما ابن كثير وأبو عمرو على الذي في نوح دون السورتين، والباقون وهم نافع وابن عامر وعاصم قرأوا ذلك كلَّه بفتح اللام والواو. فأمَّا القراءةُ بفتحتين فواضحة، وهو اسم مفرد قائم مقام الجمع. وأما قراءة الضم والإسكان، فقيل: هي كالتي قبلها في المعنى، يقال: وَلَدٌ ووُلْدٌ كما يقال: عَربٌ وعُرْبٌ، وعدمٌ وعُدْمَ. وقيل: بل هي جمع ل «ولد» نحو أسَدٌ وأسْدٌ، «وأنشدوا على ذلك: 3621 - ولقَد رَأيْتُ مَعَاشِراً ... قَدْ ثَمَّرُوا مالاً ووُلدا» وأنشدوا شاهداً على أن الوَلَد والوُلْدَ مترادفان قول الآخر: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 132 3622 - فَلَيْتَ فُلاناً كان في بَطْنِ أمِّهِ ... وليْتَ فُلاناً كانَ وُلْدَ حمارِ وقرأ عبد الله ويحيى بن يعمر «ووِلْدا» بكسر الواو، وهي لغة الولد، ولا يبعد أن يكون هذا من باب الذبح والرئي، فيكون ولد بمعنى مولود، وكذلك في الذي بفتحتين نحو القبض بمعنى المقبوض. قوله: «اطَّلَعَ» هذه همزة استفهام سقط من أجلها همزة وصل، وقد قُرئ بسقوطها درجاً، وكسرها ابتداء على أن همزة الاستفهام قد حذفت لدلالة «أمْ» عليها، كقوله: 3623 - لَعمركَ مَا أدْرِي وإنْ كُنْتَ دَارياً ... بسَبْعٍ رمَيْنَ الجَمْرَ أمْ «بِثَمَانِ» و «أطَّلعَ» من قولهم: اطلع فلان الجبل، أي: ارتقى أعلاه. 3624 - لاقَيْتَ مُطَّلِعَ الجِبَالِ «وعُوراً» ... الجزء: 13 ¦ الصفحة: 133 و «الغَيْبَ» مفعول به، لا على إسقاط حرف الجر، أي: على الغيب، كما زعم بعضهم. فصل لمَّا استدل على صحة البعث، وأورد شبهة المنكرين، وأجاب عنها ذكر عنهم ما قالوه استهزاء طعناً بالقول في الحشر فقال: {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا} . قال الحسن: نزلت في الوليد بن المغيرة والمشهور أنها نزلت في العاص بن وائل، قال خباب بن الأرت: كان لي عليه دين، فأتيت أتقاضاه، فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد. فقلت: لا والله لا أكفر بمحمدٍ حيًّا ولا ميتاً. وفي رواية: حتى تموت ثم تبعث. فقال: وإنّي لميتٌ ثم مبعوثٌ؟ قلت: نعم. قال: إنكم تزعمون أنكم تبعثون، وأن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً فأنا أقضيك ثمَّ، فإنه سيكون لي مالٌ وولد. ثم قال تعالى: {أَطَّلَعَ الغيب} . «قال ابن عباس: أنظر في اللوح المحفوظ» . وقال مجاهد: أعلمَ علن الغيب حتى يعلم افي الجنة هو أم لا؟ . والمعنى: أنَّ الذي ادعى حصوله لا يتوصل إلاَّ بأحد هذين الطريقين: إمَّا علم الغيب، وإمَّا عهدٌ من عالم الغيب، فبأيهما توصل إليه. قيل: العهد كلمة الشهادة. وقال قتادة: عملاً صالحاً قدَّمه، فهو يرجو بذلك ما يقول. وقال الكلبي: عهد إليه أن يدخله الجنة. «كَلاَّ» للنحويين في هذه اللفظة ستة مذاهب: أحدها: وهو مذهب جمهور البصريين كالخليل وسيبويه وأبي الحسن الأخفش وأبي العباس أنها حرف ردع وزجر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 134 وهذا معنى لائق بها حيث وقعت في القرآن، وما أحسن ما جاءت في هذه الآية حيث زجرت وردعت ذلك القائل. والثاني: وهو مذهب النضر بن شميل أنها حرف تصديق بمعنى نعم، فيكون جواباً، ولا بد حينئذ من أن يتقدمها شيء لفظاً أو تقديراً، وقد تستعمل في القسم. والثالث: وهو مذهب الكسائي، وأبي بكر بن الأنباري، «ونصر بن يوسف» وابن واصل أنها بمعنى حقًّا. والرابع: وهو مذهب أبي عبد الله محمد بن الباهلي أنها رد لما قبلها. وهذا قريب من معنى الردع. الخامس: أنها صلة في الكلام بمعنى «إي» كذا قيل. وفيه نظر، فإن «إي» حرف جواب، ولكنه مختص بالقسم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 135 السادس: أنها حرف استفتاح، وهو قول «أبي حاتم ولتقرير هذه المذاهب موضع يليق به. وقد قرئ هنا بالفتح والتنوين في كَلاَّ» هذه، وتروى عن ابن نهيك وحكى الزمخشري هذه القراءة، وعزاها لابن نهيك في قوله: {كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ} كما سيأتي ويحكى أيضاً قراءةٌ بضم الكاف والتنوين، ويعزيها لابن نهيك أيضاً «. فأما قولهم: ابن نهيك، فليس لهم ابن نهيك، إنما لهم أبو نهبك بالكنية. وفي قراءة الفتح» والتنوين أربعة أوجه: أحدها: أنَّه منصوبٌ على المصدر بفعل مقدر من لفظها تقديره «: كَلُّوا كَلاًّ، أي: أعيُوا عن الحقِّ إعياء، أو كلُّوا عن عبادة الله، لتهاونهم بها من قول العرب: كَلَّ السَّيْفُ، إذا نبا عن الضرب، وكلَّ زيدٌ، أي تعِبَ. وقيل: المعنى: كلُّوا في دعواهم وانقطعوا. والثاني: أنه مفعولٌ به بفعل مقدر من معنى الكلام، تقديره: حُمِّلُوا كلاًّ. والكلُّ أيضاً: الثقل: تقول: فلان كلٌّ على الناس، ومنه قوله تعالى: {وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ} [النحل: 76] . والثالث: أن» التنوين بدل من ألف «» كلاَّ «، وهي التي يراد بها الردع والزجر، فتكون حرفاً أيضاً. قال الزمخشري: ولقائل أن يقول: غن صحت هذه الرواية، فهي» كلاَّ «التي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 136 للردع» قلب الواقف عليها ألفها نوناً كما في قوله: «قوارِيرا» . قال أبو حيان: وهذا ليس بجيد، لأنه قال: التي للردع، «والتي للردع» حرف، وجه لقلب ألفها نوناً، وتشبيهه ب «قَوَارِيراً» ليس بجيد، لنَّ «قَوَارِيرَ» اسم يرجع به إلى أصله، فالنون ليس بدلاً من ألف بل هو تنوين الصرف، وهذا اجمع مختلف فيه أيتحتَّمُ منع صرفه أم يجوز؟ قولان. ومنقول أيضاً: أن بعض لغة العرب يصرفون ما لا ينصرف، فهذا القول، إما على قول من لا يرى بالتحتم، أو على تلك اللغة. والرابع: أنه نعتٌ ل «آلهة» ، قاله ابن عطية. وفيه نظر، إذ ليس المعنى على ذلك، وقد يظهر له وجه، «أن يكون وصف» الآلهة بالكلِّ الذي هو المصدر بمعنى الإعياء والعجز، كأنه قيل: آلهةٌ كالِّين، أي: عاجزين منقطعين. ولمَّا وصفهم وصفهم بالمصدر وحده. وروى ابن عطية والداني وغيره عن أبي نهيك أنه قرأ «كُلاًّ» بضم الكاف والتنوين، وفيها تأويلان: أحدهما: أن ينتصب على الحال، أي: سيكفرون جميعاً؛ كذا قدره أبو البقاء، واستبعده. والثاني: أنه منصوبٌ بفعلٍ مقدر، يرفضون، أي: يجحدون، أو يتركون كلاًّ، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 137 قاله ابن عطية. وحكى ابن جرير أن أبنا نهيك قرأ «كُلُّ» بضم الكاف ورفع اللام منونة على أنه مبتدأ والجملة الفعلية بعده خبره. وظاهر عبارة هؤلاء أنه لم يقرأ بذلك إلا في «كلاًّ» الثانية. وقرأ عليُّ بنُ أبي طالب «ونُمِدُّ» من أمدَّ، وقد تقدم القول في مدَّهُ وأمدَّهُ. قوله:: ونَرثهُ ما يقُولُ «. يجوز في» مَا «وجهان: أحدهما: أن يكون مفعولاً بها، والضمير في» نَرِثُهُ «منصوب على إسقاط الخافض تقديره: ونرثُ منه» ما يقوله «. والثاني: أن يكون بدلاً من الضمير في» نَرِثُهُ «بدل اشتمال. وقدَّر بعضهم مضافاً قبل الموصول، أي: نرثه معنى ما يقول: أو مسمَّى ما يقول، وهو المال والولد، لأن نفس القول لا يورث.» و «فَرْداً» حال إمَّا مقدرة نحو {فادخلوها خَالِدِينَ} [الزمر: 73] ، أو مقارنة، وذلك مبنيٌّ على اختلاف معنى الآية «. قوله تعالى:» سَنَكْتبُ «سنحفظ» ما يقُولُ «فنُجازيه في الآخرة. وقيل: نأمر الملائكة حتى يكتبوا ما يقول. {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً} أي: نزيده عذاباً فوق العذاب، وقيل: نطيل عذابه. و» نَرِثهُ ما يقُولُ «» أي: ما عنده من المال والولد بإهلاكنا إياه وإبطال قوله، وقوله «مَا يَقُولُ» ، لأنه زعم أنَّ له مالاً وولداً، أي: لا نعطيه ونعطي غيره، فيكون الإرث راجعاً إلى ما تحت القول لا إلى نفس القول. وقيل: معنى قوله «ونَرِثهُ ما يقُولُ» أي: نحفظ ما يقول حتى نجازيه به «ويَأتِينَا فَرْداً» يوم القيامة بلا مالٍ ولا ولد «. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 138 قوله تعالى: {واتخذوا مِن دُونِ الله} الآية. لمَّا تكلَّم في مسألة الحشر والنشر تكلَّم الآن في الرد على عُبَّاد الأصنام فقال: {واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً} يعني كفار قريش اتخذوا الأصنام آلهة يعبدونها «ليكُونُوا لَهُمْ عِزًّا» أي منعة بحيث يكونون لهم شفعاء وأنصاراً ينقذونهم من الهلاك. ثم أجاب الله - تعالى - بقوله: «كَلاَّ» ليس الأمر كما زعموا {سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ} أي: «كُلُّهم سيكفُرُون بعبادِة» هذه الأوثان. قوله: «سَيَكْفرُونَ» يجوز أن يعود الضمير على الالهة، لأنه أقرب مذكور، ولأن الضمير في «يَكونُونَ» أيضاً عائد عليهم فقط، ومثله {وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ} [النحل: 86] ثم قال {فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ} [النحل: 86] . قيل: أراد بذلك الملائكة، لأنهم يكفرون بعبادتهم «ويتبرءون منهم» ويخاصمونهم وهو المراد بقوله: {أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ} [سبأ: 40] . وقيل: إن الله - تعالى - يحيي الأصنام يوم القيامة حتى يوبِّخوا عبَّادها ويتبرءوا منهم فيكون ذلك أعظم لحسرتهم. وقيل: الضمير يعود على المشركين، ومثله قوله: {والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} إلا أنَّ فيه عدم توافق الضمائر، إذ الضمير في «يَكُونُونَ» عائد إلى الآلهة. و «بِعبَادتهِمْ» مصدر مضاف إلى فاعله، إن عاد الضمير في عبادتهم على الجزء: 13 ¦ الصفحة: 139 المشركين العابدين، وإلى المفعول إن عاد على الالهة. قوله: «ضِدًّا» إنما وحَّده وإن كان خبراً عن جمع لأحد وجهين: إما لأنه مصدر في الأصل، «والمصادر موحَّدة مذكَّرة، وإمَّا لأنه مفرد في معنى الجمع. قال الزمخشري» : والضِّدُّ: العَوْن، وحِّد توحيد قوله عليه السلام: «وهُم يَدٌ على مِنْ سِوَاهُم» لاتفاق كلمتهم، وأنَّهم كشيء واحد لفرط تضامنهم وتوافقهم. والضَّدُّ: العونُ والمعاونة، ويقال: من أضدادكم، أي: أعوانكم. قيل: سمي العونُ ضدًّا، لأنه يضاد من يعاديك وينافيه بإعانته لك عليه. وفي التفسير: إنَّ الضِّدَّ هنا الأعداء. وقل: القرن. وقيل: البلاء. وهذه تناسب معنى الآية. قيل: ذكر ذلك في مقابلة قولهم «عِزًّا» ، والمراد ضد العِزّ، وهو الذُّلُّ والهوان، أي: يكونون عليهم ضِدًّا لما قصدوا وأرادوه. كأنه قيل: ويكون عليهم ذلاًّ لهُم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 140 قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا} الآية. لمَّا ذكر حال هؤلاء الكفار مع الأصنام في الآخرة ذكر بعده حالهم مع الشياطين في الدنيا، وأنهم يتولونهم وينقادون لهم، فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين} احتج أهل السنة بهذه الآية على أنَّ الله - تعالى - سلَّ طه م عليهم لإرادة أن يستولوا عليهم، ويتأكد هذا بقوله «تؤزُّهُم أزًّا» فإن معناه لتؤزُّهُم أزاً، ويتأكد بقوله: {واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ} [الإسراء: 64] . قال القاضي: حقيقة اللفظ توجب أنه تعالى أرسل الشياطين إلى الكفار كما أرسل الأنبياء، بأن حملهم رسالة يؤدونها إليهم، ولا يجوز في تلك الرسالة إلا ما أرسل عيله الشياطين من الإغواء، فكان يجب في الكفار أن يكونوا بقبولهم من الشياطين مطيعين، وذلك كفر من قائله، ولأن من العجب تعلق المجبرة بذلك، لأن عندهم أن ضلالهم من قبله - تعلاى - خلق فيهم الكفر وقدر الكفر، فلا تأثير لما لا يكون من الشياطين. وإذا بطل حمل اللفظ على ظاهره فلا بد من التأويل، فنحمله على أنه - تعالى - خلَّى بين الشياطين وبين الكفار، وما منعهم من إغوائهم، وهذه التخلية تسمى إرسالاً في سعة اللغة، كما إذا لم يمنع الرجل كلبه من دخول بيت جيرانه يقال: أرسل كلبه علينا، وإن لم يرد أذى الناس. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 141 وهذه التخلية وإن لم يكن فيها تشديد للمحنة عليهم فهم متمكنون بأن لا يقبوا منهم، ويكون ثوابهم على ترك القبول أعظم، والدليل عليه قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي فَلاَ تَلُومُونِي ولوموا أَنفُسَكُمْ} قال ابن الخطيب: وهذا لا يمكن حمله على ظاهره، فإنَّ قوله: الشياطين لو أرسلهم الله - تعالى - إلى الكفار «لكان الكفار مطيعين له بقبول قول الشياطين. قلنا: الله - تعالى - ما أرسل الشياطين إلى الكفار» بل أرسلهم عليهم، والإرسال عليهم هو التسليط لإرادة أن يصير مستولياً عليه، فأين هذا من الإرسال إليهم. وقوله: ضلال الكافر من قبل الله - تعالى -، فأي تأثير للشياطين فيه. قلنا: لِمَ لا يجوز أن سماع الشياطين إياه تلك الوسوسة بوجب في قلبه الضلال بشرط سلامة فهم السامع، لأن كلام الشياطين «من خلق الله - تعالى - فيكون ذلك الضلال الحاصل في قلب الكافر منتسباً إلى الشيطان، وإلى الله - تعالى - من هذين الوجهين. وقوله: لِمَ لا يجوز أن يكن الإرسال التخلية. قلنا: كما خلَّى بين الشياطين والكفرة» فقد خلَّى بينهم وبين الأنبياء، ثم إنه - تعالى - خص الكافر بأنه أرسل الشياطين عليه، فلا بد من فائدة زائدة ههنا. ولأن قوله «تؤزُّهُمْ أزًّا» أي: تحركهم تحريكاً شديداً، فالغرض من ذلك الإرسال موجب أن يكون ذلك الأزُّ مراداً لله - تعالى - إذ يحصل المقصود منه. قوله: «أزًّا» مصدر مؤكد. والأزُّ، والأزيزُ، والاستفزاز. قال الزمخشري: أخوات وهو التهيج وشدة الإزعاج، أي: تغريهم على المعاصي، وتهيجهم لها بالوساوس. قال ابن عباس: «تَؤزُّهُمْ أزًّا» أي: تزعجهم في المعاصي إزعاجاً من الطاعة إلى المعصية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 142 والأزُّ أيضاً: شدة الصوت، ومنه: أزَّ المِرْجَلُ أزًّا وأزيزاً، أي: غلا واشتد غليانه حتى سمع له صوت، وفي الحديث «فكَان له أزيزٌ» أي للجذع حين فارقه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. قوله: {فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ} أي: لا تعجل بطلب عقوبتهم، يقال: عجلت عيله بكذا إذا استعجلت منه «إنَّا نعدُّ لهُمْ عدًّا» . قال الكلبي: يعني الليالي والأيام والشهور والأعوام. وقيل: الأنفاس التي يتنفّسون بها في الدنيا إلى الأجل الذي أجِّل لعذابهم. وقيل: نَعُدُّ أنفاسهم وأعمالهم فنجازيهم على قليلها وكثيرها. وقيل: نَعُدُّ الأوقات، أي: الوقت الأجل المعين «لكل أحد» الذي لا يتطرق إليه الزيادة والنقصان. قوله: «يَوْمَ نَحشُرُ» منصوب ب «سَيَكْفُرون» ، أو ب «يَكونُونَ» عليْهِمْ ضدًّا «أو ب» نَعُد «لأن» نَعُدُّ «تضمن معنى المجازاة، أو بقوله:» لا يَمْلِكُونَ «الذي بعده، أو بمضمر وهو» اذكُرْ «أو» احْذَرْ «. وقيل: هو معمول لجواب سؤال مقدر كأنه قيل:» متى يكون ذلك؟ فقيل «: يكون يوم نحشر. وقيل: تقديره: يوم نحشر ونسوق: نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف. قوله:» وفداً «نصب على الحال، وكذا» ورْداً «. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 143 والوَفْدُ: الجماعة الوافدون، يقال: وَفَدَ يَفِدُ وَفْداً ووفوداً وفَادَةً، أي: قدم على سبيل التكرمة، فهو في الأصل مصدر ثم أطلق على الأشخاص كالضيف. وقال أبو البقاء: وفد جمع وافد مثل راكب ورَكْب، وصاحب وصَحْب. وهذا الذي قاله ليس مذهب سيبويه، لأن فاعلاً لا يجمع على فعل عند سيبويه. وأجازه الأخفش. فأمَّا رَكْب وصَحْب فاسما جمع لا جمع بدليل تصغيرها على ألفاظها، قال: 3625 - أخْْشَى رجَيْلاً وَرُكَيْباً عَاديَا ... فإن قيل: لعل أبا البقاء أراد الجمع اللغوي. فالجواب: أنه قال بعد قوله هذا: والوِرْد اسم لجمع وارد. فدل على أنه قصد الجمع صناعة المقابل لاسم الجمع. والوِرْد اسم للجماعة العطاش الواردين للماء، وهو أيضاً في الأصل مصدر أطلق على الأشخاص، يقال: وَرَد الماء يردُه وِرْداً وورُوداً، قال الشاعر: 3626 - رِدِي رِدِي وِرْدَ قَطَاةٍ صَمًّا ... كَدريَّةٍ أعْجَبْهَا بَرْدَ الْمَا وقال أبو البقاء: هو اسم لجمع وارد،» وقيل: هو بمعنى وارد «وقيل: هو محذوف من وراد، وهو بعيد. يعني أنه يجوز أن يكون صفة على فَعْل. وقرأ الحسن والجحدري» يُحْشَرُ المتَّقُونَ «» ويُسَاقُُ المُجْرِمُون «على ما لم يسم فاعله. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 144 فصل قال المفسرون: اذكر لهم يا محمد اليوم الذي يجمع فيه من اتقى الله في الدنيا بطاعته إلى الرحمن إلى جنته وفْداً، أي جماعات، جمع وافد مثل راكب ورَكْب وصاحب وصَحْب. وقال ابن عباس: رُكْبَاناً: وقال أبو هريرة: على الإبل. وقال علي بن أبي طالب - «رَضِيَ اللَّهُ عَنْه» -: ما يُحْشَرون والله على أرجلهم، ولكن على نوق رجالها الذهب، ونجائب سروجها ياقوت إن هموا بها سارت وإنْ همُّوا طارت. {وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً} أي: مُشاة، وقيل: عطاشاً قد تقطعت أعناقهم من العطش. وقوله «ونَسُوق المجرمينَ» يدل على أنهم يساقون إلى النار بإهانة واستخفاف كأنهم عطاش تساق إلى الماء، والوِرْدُ للعطاش وحقيقة الوِرْد الميسرُ إلى الماء، فسمي به «الواردون» . فصل طعن الملاحدة في قوله: {يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن} فقالوا: هذا إنما يستقيم أن لو كان الحشر عند غير الرحمن، أما إذا كان الحشر عند الرحمن، فهذا الكلام لا ينتظم. وأجاب المسلمون: بأنَّ التقدير: يوم نحشرُ المتقِّين إلى محلِّ كرامةِ الرحمن. قوله: «لا يَمْلِكُون» في هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنها مستأنفة سيقت للإخبار بذلك. والثاني: أنَّها في محل نصب على الحال مما تقدم. وفي هذه الواو قولان: أحدهما: أنها علامة للجمع ليست ضميراً ألبتة، وإنما هي علامة، كهي في لغة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 145 أكلُوني البراغيثُ والفاعل «من اتَّخَذَ» لأنه في معنى الجمع قاله الزمخشري وفيه بعدٌ، وكأنه قيل: لا يملكُون الشفاعةَ إلاَّ المتَّخِذُون عَهْداً. قال أبو حيَّان: ولا ينبغي حملُ القرآن على هذه اللغة القليلة، مع وضوح جعل الواو ضميراً. وقد قال الأستاذ أبو الحسن بن عصفور: إنَّها لغةٌ ضعيفة. قال شهابُ الدين: قد قالوا ذلك في قوله: {عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ} [المائدة: 71] {وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ} [الأنبياء: 3] فلهذا الموضع بهما أسوة. ثم قال أبو حيان: وأيضاً فالألف، والواو، والنون التي تكون علامات لا ضمائر لا يحفظ ما يجيء بعدها فاعلاً إلا بصريح الجمع، وصريح التثنية، «أو العطف» ، أما أن يأتي بلفظ مفرد ويطلق على جمع أو مثنى، فيحتاج في إثبات مثل ذلك إلى نقل، وأما عودُ الضمائر مثناة أو مجموعة على مفرد في اللفظ يراد به المثنى والمجموع فمسموع معروف في لسان العرب، على أنه يمكن قياس هذه العلامات على تلك الضمائر ولكن الأحوط أن لا يقال إلا بسماع. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 146 والثاني: أن الواو ضميرٌ، وفيما يعود عليه حينئذ أربعة أوجه: أحدها: أنها تعود على الخلق جميعهم، لدلالة ذكر الفريقين المتقين والمجرمين عليهم، إذ هما قسماه. والثاني: أنه يعود على المتقين والمجرمين، وهذا لا يظهر مخالفته للأول أصلاً. لأن هذين القسمين الخلقُ كلُّه. والثالث: أنَّه يعوج على المتقين فقط، أو المجرمين فقط، وهو تحكُّم. قوله: «إلاَّ من اتَّخَذَ» هذا الاستثناء يترتب على عود الواو على ماذا؟ فإن قيل بأنها تعود على الخلق، أو على الفريقين المذكورين «أو على المتقين فقط» . فالاستثناء حينئذ متصل، وفي محل المستثنى الوجهان المشهوران إما الرفع على البدا، وإما النصب على أصل الاستثناء. وإن قيل: إنه يعود على المجرمين فقط كان استثناء منقطعاً، وفيه حينئذ اللغتان المشهورتان: لغةُ الحجاز التزام النصب، ولغةُ تميم جوازه مع جواز البدل «كالمتصل» . وجعل الزمخشري هذا الاستثناء الجزء: 13 ¦ الصفحة: 147 من الشفاعة على وجهي البدل وأصل الاستثناء نحو: ما رأيت أحداً إلا زَيْداً. وقال بعضهم: إن المستثنى منه محذوف، والتقدير: لا يملكون الشفاعة لأحدٍ إلاَّ اتَّخذ عن الرحمن عهداً، فحذف المستثنى «منه للعلم» به، فهو كقول الأخرِ: 3627 - نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشدقهِ ... ولَمْ يَنْجُ إلاَّ جَفْنَ سَيْفِ ومِئزَرا أي: ولَمْ يَنْجُ بشيءٍ. وجعل ابنُ عطية الاستثناء متصلاً، وإن عاد الضمير في «لا يَمْلِكُون» على المجرمين فقط على أن يراد بالمجرمين الكفرة والعصاة من المسلمين. قال أبو حيان: وحمل المجرمين على الكفار والعصاة بعيد. قال شهاب الدين: ولا بعد فيه، وكما استبعد إطلاق المجرمين على العصاة كذلك يستبعد غيره إطلاق المتقين على العصاة، بل إطلاق المجرم على العاصي أشهر من إطلاق المتقي عليه. فصل قال بعضهم: لا يملكون أن يشفعوا لغيرهم كما يملك المؤمنون. وقال آخرون: لا يملك غيرهم أن يشفع لهم. وهذا أولى، أن الأول يجري مجرى إيضاح الواضح. وإذا ثبت ذلك دلت الآية على حصول الشفاعة أهل الكبائر. لأنه قال عقيبه «إلاَّ من اتَّخذَ عندَ الرَّحمن عَهْداً» ، والتقدير: لا يشفع الشافعون إلا لمن اتَّخذَ عند الرَّحمن عهداً، يعني للمؤمنين «، كقوله: {وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى} [الأنبياء: 28] فكل من اتخذ عند الرحمن عهداً وجب دخوله فيه، وصاحب الكبيرة اتخذ عند الرحمن عهداً، وهو التوحيد، فوجب دخوله تحته، ويؤكده ما روى ابن مسعود أنه - عليه السلام -» قال لأأصحابه يوماً: «أيَعْجَزُ أحدكُمْ أن يتَّخذ عندَ كُلِّ صباح ومساء» عند الرَّحمن عهداً «قالوا: وكيف ذلك؟ قال:» يقُولُ عِنْدَ كُلِّ صباحٍ ومساء «: اللَّهُمَّ فاطرَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 148 السَّمواتِ والأرضِ عالمِ الغَيْبِ والشَّهادة إنِّي أعْهَدُ إليكَ بأنِّي أشْهَدُ أنَّ لا إله إلاَّ أنتَ وحْدَكَ لا شرِيكَ لَكَ، وأنَّ مُحَدَّداً عبدُكَ ورسُولَك، فإنَّك إنْ تكلني إلى نفسي تُقرَّبِنْي من الشَّر، وتُباعدني من الخَيْرِ، وإنَّي لا أثقُ إلاَّ برحمتكَ، فاجْعَل لي عهداً تُوفنيه يَوْمَ القيامة إنَّك لا تُخْلِفُ الميعَاد. فإذا قال ذلِكَ طُبِعَ عليه بطابع وَوُضع تحت العرش، فإذا كان يومُ القيامةِ نادَى مُنَادٍ: أيْنَ الذين لهُم عِندَ الرَّحمن عهد؟ فيَدْخُلونَ الجنَّة» . فظهر أن المراد من العد كلمة الشهادة، وظهر وجه الدلالة على ثبوت الشفاعة أهل الكبائر. قوله تعالى: {وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً} تقدم خلافُ القراء في قوله «ولداً» بفتح اللام وسكونها، وأنهما لغتان مثل العَرَبِ والعُرْبِ والعَجَم والعُجْم. واعلم أنَّه لمَّا ردَّ على عبدة الأوثان عاد إلى الرَّد على من أثبت له ولداً. فقالت اليهود: عزيزٌ ابنُ الله، وقالت النصارى: المسيحُ ابن الله، وقالت العرب: الملائكة بناتُ الله. وههنا الرد على الذين قالوا: الملائكة بنات الله، وهم العرب الذين يعبدون الأوثان، لأن الرد على النصارى تقدم أول السورة. قوله: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً} . العامة على كسر الهمزة من «إدَّا» ، وهو الأمر العظيم المنكر المتعجب منه. قاله ابن عباس. «وقال مجاهد: عظيماً» وقرأ أمير المؤمنين والسلمي بفتحها. وخرَّجوه على حذف مضاف، أي شيئاً أدَّ «لأنَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 149 الأدَّ - بالفتح - يقال: أدَّ الأمر وأدَّني يؤدِّنِي أدَّا. أي: أثقلني. وكان أبو حيان ذكر: أنَّ الأدَّ والإد - بفتح الهمزة وكسرها - هو العجب، وقيل:» هو العظيم المنكر، والإدَّة: الشدَّة. وعلى قوله: إنَّ الأدّ والإدّ بمعنى واحد ينبغي أن لا يحتاج إلى حذف مضاف «إلا أن يريد أنَّه أراد بكونهما بمعنى العجب في المعنى لا في المصدرية وعدمها، والإدَد في كلام العرب الدواهي. قوله:» تَكَادُ «. قرأ نافع والكسائي بالياء من تحت. والباقون بالتاء من فوق وهما واضحتان، إذ التأنيث مجازي. وكذا في سورة الشورى. وقرأ أبو عمرو: وابن عامر، وأبو بكر عن عاصم، وحمزة» يَنْفَطْرن «مضارع انفطرَ، لقوله تعالى: {إِذَا السمآء انفطرت} والباقون:» يتفَطّرْن «» مضارع تفطَّر «بالتشديد في هذه السورة، وأما التي في الشورى فقرأها حمزة وابن عامر بالياء والتاء وتشديد الطاء. والباقون على أصولهم في هذه السورة. فتلخص من ذلك أن أبا بكر وأبا عمرو يقرآن بالياء والنون في السورتين. وأن نافعاً وابن كثير والكسائي وحفصاً عن عاصم يقرءون بالياء والتاء وتشديد الطاء فيهما، وأن حمزة وابن عامر في هذه السورة بالياء والنون، وفي الشورى بالياء وتشديد الطاء» فالانفطار من فطرهُ إذا شقه، «والتفطُّر إذا شقَّقهُ» ، وكرر فيه الفعل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 150 قال أبو البقاء: وهو هنا أشبه بالمعنى، أي: التشديد. و «يَتَفَطَّرْنَ» في محل نصب «خبراً ل» كَانَ «وزعم الأخفش أنها هنا بمعنى الإرادة، وأنشد: 3628 - كَادَتْ وكِدْتُ وتِلْكَ خَيْرُ إرَادةٍ ... لَوْ عَادَ مِنْ زمنٍ الصِّبابةِ مَا مَضَى فصل يقال: انفطر الشيء وتفطَّر أي تشقَّق. وقرأ ابن مسعود» يتصَدَّعْنَ «. و» تَنْشَقُّ الأرْضُ «أي تخسفُ بهم، والانفطار في السماء، أي: تسقط عليهم. » وتخُرُّ الجِبَالُ هدَّاً «أي: تُهَدُّ هَداً، بمعنى» تنطبق عليهم. فإن قيل من أين يؤثر القول بإثبات الولد لله في انفطار السموات وانشقاق الأرض وخرور الجبال؟ فالجوابُ من وجوه: «الأول: أنَّ الله - تعالى - يقول: كدت أفعل هذا بالسموات والأرض والجبال عند وجود» هذه الكلمة غضباً منِّي على من تفوَّه بها، لولا حلمي، وإني لا أعجِّل بالعقوبة، كقوله - تعالى -: {إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} [فاطر: 41] . الثاني: أن يكون استعظاماً للكلمة، وتهويلاً من فظاعتها، وهدمها لأركان الدين وقواعده. الثالث: أنَّ السمواتِ والأرضِ والجبال تكاد أن تفعل ذلك لو كانت تعقل من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 151 غلظ هذا القول، وهذا تأويل أبي مسلم. الرابع: أنَّ السموات والأرض والجبال كانت سليمة من كل العيوب، فلما تكلم بنو آدم بهذا القول ظهرت العيوب فيها. قوله: «هدَّا» فيه ثلاثة أوجه: أحدها: أنَّه مصدر وفي مضع الحال، أبي: مهدودة، وذلك على أن يكون هذا المصدر من هدَّ زيدٌ الحائط يهدُّه هدَّا، أي: «هدمهُ» . والثاني: وهو قول أبي جعفر: أنه مصدر على غير المصدر لما كان في معناه، لأن الخرور: السقوطُ والهدمُ، وهذا على أن يكون من هدَّ الحائطُ يَهِدُّ - بالكسر - انهدم، فيكون لازماً. الثالث: أن يكون مفعولاً من أجله، قال الزمخشري: أي: لأنها تهد. قوله: «أنْ دَعَواْ» في محله همسة أوجه: أحدها: أنه في محل نصب على المفعول من أجله، قاله أبو البقاء، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 152 والحوفي، ولم يُبيِّنَا ما العامل فيه، ويجوز أن يكون العامل «تَكَادُ» ، أو «تَخُرُّ» ، أو «هَدَّا» ، أي: تَهُدُّ لأن دعوا، ولكن شرطُ النصب هنا مفقود، وهو اتحاد «الفاعل في المفعول له والعامل فيه، فإن عنيا على أنه على إسقاط اللام مطرد في» أنْ «فقريب» . وقال الزمخشري: وأن يكون منصوباً بتقدير سقوط اللام «وإفضاء الفعل، أي هدَّا أن دعوا» ، علل الخرور بالهدِّ، والهدُّ بدعاء الولد للرحمن. فهذا تصريح منه على أنه بإسقاط الخافض. «وليس مفعولاً له صريحاً» . الوجه الثاني: أن يكون مجروراً بعد إسقاط الخافض «كما هو مذهب الخليل والكسائي. والثالث: أنه بدل من الضمير في» مِنْهُ «كقوله: 3629 - عَلَى حَالةٍ لوْ أنَّ في القَوْمِ حَاتِماً ... عَلى جُودهِ لضن بالمَاءِ حاتمِ » الجزء: 13 ¦ الصفحة: 153 بجر «حاتم» الأخير بدلاً من الهاء في «جوده» . قال أبو حيان: وهو بعيد لكثرة الفصل بين البدل والمبدل منه بجملتين. الوجه الرابع: أن يكون مرفوعاً ب «هَدَّا» . قال الزمخشري: أي هدَّهَا دعاءُ الولدِ للرحمن. قال أبو حيان: وفيه بعدٌ، لأن الظاهر في «هَدَّا» أن يكون مصدراً توكيدياً، والمصدر التوكيدي لا يعمل، ولو فرضناه غير توكيدي لم يعمل بقياس إلا إذا كان أمراً، أو مستفهماً عنه نحو ضرباً زيداً، وأضربا زيداً؟ على خلاف فيه، وأما إن كان خبراً كما قدَّره الزمخشري، أي: هدَّها دعاء الولد للرحمن. فلا ينقاس، بل ما جاء من ذلك هو نادر كقول امرئ القيس: 3630 - وقُوفاً بِهَا صَحْبِي عَليَّ مَطِيُّهُمْ ... يقُولونَ لا تَهْلَكْ أسّى وتجمَّلِ أي: وقَفَ صَحْبِي. الخامس: أنَّه خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره: الموجب لذلك دعاؤهم. كذا قدره أبو البقاء. و «دَعَا» يجوز أن يكون بمعنى سمَّى، فيتعدى لاثنين، ويجوز جر ثانيهما بالباء، قال الشاعر: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 154 3631 - دَعَتْنِي أخَاهَا أمُّ عَمْرٍو ولمْ أكُنْ ... أخَاهَا ولَمْ أرْضَعْ لهَا بِلبَانِ دَعَتْنِي أخَاهَا «بَعْدَمَا كَانَ بَيْنَنَا ... مِنَ الفِعْلِ ما لا يفعلُ الأخوانِ» وقول الآخر: 3632 - ألا رُبَّ مَنْ يُدْعَى نَصِيحاً وإن تَغِبْ ... تَجِدْهُ بِغَيْبٍِ مِنْكَ غَيْرَ نَصِيحِ وأولهما في الآية محذوف، قال الزمخشري: طلباً للعموم والإحاطة بكل ما يدعى له ولد، ويجوز أن يكون من «دَعَا» بمعنى نسب الذي مطاوعه ما في قوله - عليه السلام -: «مَنِ ادَّعى إلى غَيْرِ موالِيهِ» ، وقول الشاعر: 3633 - إنَّا بَنِي نَهْشَلٍ لا نَدَّعِي لأب ... عَنْهُ ولا هُوَ بالأبْنَاءِ يَشْرِينَا لأي: لا ننتَسِبُ إليه. «يَنْبَغِي» مضارع انْبَغَى، وانْبَغَى مطاوعٌ لبغى، أي: طلب، و «أنْ يتَّخِذَ» فاعله. وقد عد ابن مالك «يَنْبَغِي» في الأفعال التي لا تتصرف. وهو مردودٌ عليه، لأنه قد سُمِعَ فيه الماضي قالوا: انْبَغَى. وكرَّر لفظ «الرَّحْمَنِ» تنبيهاً على أنه - تعالى - هو الرحمنُ وحدهُ، لأن أصول النعم وفروعها ليست إلا منه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 155 فصل قال ابن عباس وكعب: فَزِعَت السَّمواتُ والأرضُ والجبالُ وجميعُ الخلائق إلا الثقلين، وكادت أن تزول، وغضبت الملائكةُ، واستعرت جهنم حين قالوا: لله ولدٌ، ثم نفى الله - تعالى - عن نفسه فقال: «وما يَنْبَغِي للرَّحمنِ أن يتَّخذَ ولداً» أي: ما يليق به «اتِّخاذُ الولد» ، لأنة ذلك محال؛ أما الولادة المعروفة فلا مقالة في امتناعها، وأما التبني، فلأن الولد لا بد وأن يكون شبيهاً بالوالد، ولا شبيه لله - تعالى -، ولأن اتخاذ الولد إنَّما يكون لأغراض إما لسرور، أو استعانةٍ، أو ذكرٍ جميلٍ، وكلُّ ذلك لا يصح في الله - تعالى -. قوله: {إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض} . يجوز في «مَنْ» أن تكون نكرة موصوفة، وصفتها الجار بعدها، ولم يذكر أبو البقاء غير ذلك، وكذا الزمخشري إلا أن ظاهر عبارته تقتضي أنه لا يجوز غير ذلك، فإنه قال: «مَنْ» موصوفة فإنها وقعت بعد «كُل» «نكرة أشبهت وقوعها بعد» رُبَّ «في قوله: 3634 - ربَّ مَنْ أنْضِجَتْ غَيْظاً صَدْرَهُ ... انتهى «. ويجوز أن تكون موصولة. قال أبو حيان: ما كُل الذي في السموات، و» كلُّ «تدخل على الذي، لأنها تأتي للجنس كقوله - تعالى -: {والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ} [الزمر: 33] ونحوه: 3635 - » الجزء: 13 ¦ الصفحة: 156 وكُلُّ الذي «حَمَّلْتَنِي أتحَمَّلُ ... يعني أنه لا بد» من تأويل «الموصول بالعموم حتى تصح إضافة» كُل «إليه، ومتى أريد به معهود بعينه لشخص استحال إضافة» كُلّ «إليه. و» آتِ الرَّحْمَنِ «خبر» كل «جعل مفرداً حملاً على لفظها، ولو جمع لجاز، وقد تقدم أول الكتاب: أنها متى أضيفت لمعرفة جاز الوجهان. وقد تكلم السهيلي في ذلك فقال:» كُلُّ «إذا ابتدئت وكانت مضافة لفظاً يعني لمعرفة فلا يحسن إلا أفراد الخبر حملاً على المعنى، تقول: كُلكم ذاهب، أي: كل واحد» منكم ذاهب، هكذا هذه المسألة في القرآن والحديث والكلام الفصيح. فإن قلت في قوله: {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} : إنما هو حمل على اللفظ، لأنه اسم مفرد. قلنا: بل هو اسم للجمع، واسم الجمع لا يخبر عنه بإفراد، تقول: القوم ذاهبُون، ولا تقول: ذاهب، وإن كان لفظ «القَوْم» لفظ المفرد، وإنما حسن «كُلكُم ذاهِبٌ» لأنهم يقولون: كل واحد منكم ذاهب، فكان الإفراد مراعاة لهذا المعنى. قال أبو حيان: ويحتاج «كُلكُم ذاهِبُون» ونحوه إلى سماع ونقل عن العرب. قال شهاب الدين: وتسمية الإفراد حملاً على المعنى غير الاصطلاح بل ذلك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 157 حمل على اللفظ والجمع هو الحمل على المعنى. وقال أبو البقاء: ووحد «آتِي» حملاً على لفظ «كُل» ، وقد جمع في موضع آخر حملاً على معناها. قال شهاب الدين: قوله: في موضع آخر. إن عني في القرآن فلم يأت الجمع إلا و «كُل» مقطوعة عن الإضافة نحو {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] {وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ} [النمل: 87] ، وإن عني في فيحتاج إلى سماع عن العرب كما تقدم. والجمهور على إضافة «آتي» إلى «الرَّحمَن» . وقرأ عبد الله بن الزبير وأبو حيوة وطلحة وجماعة بتنويه ونصب «الرَّحْمَن» وانتصب «عَبْداً» و «فَرْداً» على الحال. فصل المعنى: أن كل معبود من الملائكة في السموات وفي الأرض من الناس إلا ياتي الرحمن يلتجئ إلى ربوبيته عبداً منقاداً مطيعاً ذليلاً خاضعاً كما يفعل العبيد. ومنهم من حمله على يوم القيامة خاصة. والأول أولى، لأنه لا تخصيص فيه. {لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً} أي: عدَّ أنفاسهم وأيامهم وآثارهم، فكلهم تحت تدبيره وقهره محيط بهم لا يخفى عليه شيء من أمورهم، {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ} أي: كل واحد منهم يأتيه {يَوْمَ القيامة فَرْداً} وحيداً ليس معه من الدنيا شيء «ويبرأ المشركون منهم» . قوله تعالى: {إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} إلى آخر السورة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 158 لمَّا ردَّ على الكفرة، وشرح أقوالهم في الدنيا والآخرة ختم السورة بذكر أحوال المؤمنين. قوله: «وُدَّا» العامة على ضم الواو. وقرأ أبو الحارث الحنفي بفتحها، وجناح بن حبيش بكسرها. فيحتمل أن يكون المفتوح مصدراً، والمكسور والمضموم اسمين. قال المفسرون: سَيَجْعَلُ لهُم الرَّحمنُ محبةً، قال مجاهد: يحبهم الله ويحببهم إلى عباده المؤمنين. قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إذَا أحبَّ اللهُ العبد قال لجبريل - عليه السلام -:» قَدْ أحبَّ فلاناً فأحبُّوه، فيحبه أهلُ السَّماء، ثُمَّ يوضعُ لهُ القبُولُ في الأرضِ، وإذا أبغضَ العبد «قال مالك: لا أحسبه إلا قال في البغض مثل ذلك. والسِّين في» سَيَجِعَلُ «إما لأن السورة مكية، وكان المؤمنون حينئذ ممقوتين بين الكفرة، فوعدهم الله ذلك إذا جاء الإسلام. والمعنى: سَيُحْدِثُ لهم في القلوب مودة. وإمَّا أن يكون ذلك يوم القيامة يحببهم إلى خلقه بما يظهر من حسناتهم. روي عن كعب قال: مكتوب في التوراة لا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 159 محبَّة في الأرض حتى يكون ابتداؤها من الله - تعالى - ينزلها على أهل السماء، ثم على أهل الأرض. وتصديق ذلك في القرآن قوله: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} . وقال أبو مسلم: معناه يهبُ لهم ما يحبون. والوُدُّ والمحبَّةُ سواء، يقال: آتيتُ فلاناً محبته، وجعلت له ودَّه، ومن كلامهم: يَوَدُّ لو كان كذا،» وودتُ أن لو كان كذا أي أحببتُ «، فالمعنى: سيعطيهم الرحمن ودَّهم، أي: محبوبهم في الجنة. والقول الأول أولى، لتفسير الرسول - عليه السلام -، ولأن حمل المحبة على المحبوب مجاز،» ولأن رسول الله قرأ هذه الآية وفسَّرها بذلك فكانت أولى «. قال أبو مسلم: القول الثاني أولى لوجوه: أحدها: كيف يصح القول الأول مع علمنا بأن المسلم التقي يبغضه الكفار، وقد يبغضه كثير من المسلمين. وثانيها: أنَّ مثل هذه المحبة قد تحصل للكفار والفساق أكثر، فكيف يمكن جعله إنعاماً في حق المؤمنين؟ وثالثها: أن محبتهم في قلوبهم من فعلهم لا أنَّ الله - تعالى - فعله، فكان حمل الآية على إعطاء المنافع الأخروية أولى. وأجيب عن الأول: بأن المراد يجعل له محبة عند الملائكة والأنبياء. وعن الثاني: ما روي عنه - عليه السلام -: أنه حكى عن ربه - سبحانه وتعالى - أنه قال:» وإذا ذكرني عَبْدي في نفسه ذكرتُهُ «في نَفْسِي، وإنْ ذَكَرنِي) في ملأ ذكرتهُ في ملأ أطيب منهم وأفضل» والكافر والفاسق ليسا كذلك. وعن الثالث: أنه محمول على فعل الألطاف، وخلق داعية إكرامه في قلوبهم. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 160 قوله: «بِلِسَانِكَ» يجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال، واللسان هنا اللغة، أي: أنزلناه كائناً بلسانِكَ. وقيل: هي بمعنى «على» ، وهذا لا حاجة إليه، بل لا يظهر له معنى، «ولُدَّا» جمع «ألَدَّ» ، وهو الشديد الخصومة كالحُمْر جمع أحْمَرٍ. قال أهل اللغة: اللُّدُّ جمع الألَدّ، وهو المعوج في المناظرة الرواغ من الحق الميال عنه، وفي الحديث «إنَّ أبغضَ الرِّجال إلى الله الخَصْمُ الألَدُّ» أي المعوج «قوله:» يَسَرْنَاهُ «سهلناهُ يعني القرآن» بِلِسَانِكَ «يا محمد» لِنُبَشِّر به المتَّقِين «يعني المؤمنين، وهذا كلام مستأنف» بيَّن به عظيم «موقع هذه السورة لما فيها من ذكر التوحيد والنبوة والحشر، والرد على فرق المبطلين، فبين - تعالى - أنَّه يسَّر ذلك بلسانه، ليبشر وينذر، ولولا أنه - تعالى - نقل قصصهم إلى اللغة العربية لما تيسَّر لك على الرسول. وكما ذكر أنه يبشر به المتقين ذكر في مقابلته من هو في مخالفة التقوى أبلغ، وهو الألد الذي يتمسك بالباطل ويجادل فيه فقال:» ويُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدَّا «، وهو جمع الألد،» وهو الشديد الخصومة. وقال مجاهد: هو الظالم الذي لا يستقيم. وقال أبو عبيدة الألد «الذي لا يقبل الحقَّ ويدَّعي الباطل. وق الحسن: الألد الأصم عن الحق. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 161 ثم ختم السورة بموعظةٍ بليغة فقال:» وكمْ أهْلَكٍنَا قبلهُمْ مِنْ قرنٍ «لأنهم إذا تأملوا وعلموا أنه لا بد من زوال الدنيا، وأنه لا بد فيها من الموت خافوا سوء العاقبة في الآخرة فكانوا إلى الحذر من المعاصي أقرب، ثم أكد تعالى ذلك فقال: {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ} . قرأ الناس بضم التاء وكسر الحاء من أحسَّ. وقرأ أبو حيوة، وأبو جعفر، وابن أبي عبلة» نَحُسُّ «» بفتح التاء وضم الحاء «وقرأ بعضهم:» تَحِس «بالفتح والكسر، من حسَّه: أي شعر به، ومنه الحواس الخمس. و» مِنْهُم «حال من» أحَد «، إذ هو في الأصل صفة له. و» مِنْ أحَد «مفعول زيدت فيه» مِنْ. وقرأ حنظلة «تُسْمَعُ» بضم التاء وفتح الميم مبنياً للمفعول. و «رِكْزاً» مفعول على كلتا القارءتين، إلا أنه مفعول ثان في القراءة «الشاذة» . والرَِّكْزُ: الصوت الخفي دون نطق بحروف ولا فم، «ومنه ركز الرمح أي غيب طرفه في الأرض وأخفاه، ومنه الرِّكاز، وهو المال المدفون لخفائه واستتاره، وأنشدوا: 3636 - فَتَوجَّسَتْ رَكْزَ الأنيسِ فَراعَها ... عَنْ ظَهْرِ غَيْبٍ، والأنيسُ سَقامُهَا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 162 فصل قال المفسرون:» هّلْ تُحِسُّ «، وقيل: هل تجد. » مِنْهُم مِنْ أحَدٍ «، لأنَّ الرسول - عليه السلام - إذا لم يحسّ منهم أحداً برؤية وإدراك ووجدان، ولا يسمع لهم ركزاً، أي: صوتاً خفياً دلَّ ذلك على انقراضهم وفنائهم بالكلية. قال الحسن: بادوا جميعاً، يبق عين ولا أثر. روى الثعلبي عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ» من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر بعدد من صدق بزكريا، ويحيى، وعيسى، وموسى، وهارون، وإبراهيم، وإسحاق، ويعقوب، وإسماعيل عشر حسنات، وبعدد من دعا لله ولداً، وبعدد من لم يدع له ولداً «. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 163 سورة طه (مكية وهي مائة وخمس وثلاثون آية، وعدد كلماتها ألف وثلاثمائة وإحدى وأربعون كلمة، وعدد حروفها خمسة آلاف ومائتان واثنان وأربعون حرفا) الجزء: 13 ¦ الصفحة: 164 عن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: " أعطيت السورة التي ذكرت فيها البقرة من الذكر الأول، وأعطيت طه والطواسين (من ألواح موسى، وأعطيت فواتح القرآن وخواتم السورة التي ذكرت فيها البقرة من تحت العرش، وأعطيت المفصل نافلة ") . (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَتِ الرَّحِيمِ) . قوله تعالى: «طَهَ» قرأ أبو عرمو بفتح الطاء وكسر الهاء، وكسرهما جميعاً حمزة والكسائي وأبو بكر والباقون بفتحهما. قال الزجاج: وتقرأ «طَهْ» بفتح الطاء وسكون الهاء، وكلها لغات. قال الزجاج: من فتح الجزء: 13 ¦ الصفحة: 164 الطاء والهاء، فأن ما قبل الألف مفتوح. ومن كسر الطاء والهاء أمال إلى الكسر، لأن الحرف مقصور، والمقصور يغلب عليه الإمالة إلى الكسر. فصل قد تقدم الكلام في الحروف المقطعة أول الكتاب، وفي هذه، وفي هنا قولان، الصحيح أنها من ذلك. وقيل: إنه مفيد. فقال الثعلبي: «طَا» شجرة طوبى «والهاء» الهاوية. فكأنه أقسم بالجنة والنار. وقال سعيد بن جبير: هو افتتاح اسمه الطيب الطاهر الهادي. وقيل: يا مطمع الشفاعة للأمة، ويا هادي الخلق إلى الملة. وقيل: (الطاء) تسعة في الحساب، و (الهاء) خمسة يكون أربعة عشر، ومعناه يا أيها البدر، وقيل غير ذلك. فصل قيل: كعنى (طَهَ) يا رَجُل، وهو مرويّ عن ابن عباس والحسن ومجاهد وسعيد ابن جبير، وقتادة، وعكرمة، والكلبي، ثم قال سعيد بن جبير: بالنبطية، وقال قتادة: بالسريانية، (وقال عكرمة) : بالحبشية، وقال الكلبي: بلغة عك، وقيل: عُكْلٌ، وهي لغة يمانية. وقال الكلبي: إنك لو قلت في عَك، يا رَجُل لم تجب حتى تقول: طَهَ. وقال الطَّبَري: طَهَ في عك بمعنى يا رجل، وأنشد قولَ شاعرهم: 3637 - دَعَوْتُ بِطَهَ في القِتَالِ فَلَمْ يُجِبْ ... فَخِفْتُ عَلَيْهِ أَنْ يَكُونَ مَوَائِلاَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 165 وقول الآخر: 3638 - إنَّ السَّفَاهَةَ طَهَ فِي خَلائِقِكُمْ ... لاَ قَدَّسَ اللهُ أرْوَاحَ المَلاَعِينِ قال الزمخشري: وأثر الصنعة ظاهر في البيت المستشهد به. وقال السُّدِّي: معناه يا فلان. وقال الزمخشري أيضاً: ولعل عكَّا تصرفوا في «يَا هَذَا» كأنهم في لغتهم قالبون الياء طاء، فقالوا في (يَا هَذَا) : طَا هَذَا، واختصروا (هذا) (فاقْتَصَرُوا عَلَى هَا) . فكأنَّه قيل في الآية الكريمة: يَا هَذَا، وفيه بُعْدٌ كبير. واعترض عليه بعضهم فقال: لو كان كذلك لوجب أن يكتب أربعة أحرف طَاهَا. قال أبُو حيَّان: ثم تخرص وحرز على عَكَّ ما لم يقله نحوي، وهو أنهم يقلبون «ياء» التي للنداء (طاء) ، ويحذفون اسم الإشارة ويقتصرون منه على (ها) التي للتنبيه وقيل: (طَهَ) أصله: طأها بهمزة، (طَأْ) أمر، من وطئ يطأ، و (ها) ضمير مفعول يعوج على الرض، ثم أبدل الهمزة لسكونها ألفاً ولم يحذفها في الأمر نظراً إلى أصلها، أي: طأ الأرض بقدميْكَ، وقد جاء في الحديث: «أنَّهُ قَامَ حَتَّى تَوَرَّمَتْ قَدَمَاه» وقرأ الحسن، وعكرمة، وأبو حنيفة، وورش في اختياره « الجزء: 13 ¦ الصفحة: 166 طه» بإسقاط الألف بعد الطاء، و (هاء) ساكنة وفيها وجهان: أحدهما: أن الأصل (طأ) بالهمزة، أمراً أيضاً من وَطِئ يَطَأ، ثم أبدلت الهمزة هاء كإبدالهم لها في: هرقت، وهرحت، وهنرت، والأصل: أرقت، وأرحت، وأنرت. والثاني: أنه أبدل الهمزة ألفاً، كأنه أخذه من وطئ يطأ بالبدل كقوله: 3639 - ... ... ... ... ... ... ... ... ....... ... ... . . لاَ هَنَاكِ المَرْتَعُ ثم حذف الألف حملاً للأمر على المجزوم، وتناسباً لأصل الهمز ثم ألحق هاء السكت، وأجرى الوصل مجرى الوقف وقد تقدم في أول يونس الكلام على إمالة «طا» و «ها» . قوله: «أنْزَلْنَا» هذه قراءة العامة. وقرأ طلحة: «مَا نُزِّلَ» مبنياً للمفعول «القُرْآن» رفع لقيامه مقام فاعله. وهذه الجملة يجوز أن تكون مستأنفة إن جعلت «طَهَ» تعديداً لأسماء الحروف. ويجوز أن تكون خبراً ل (طَهَ) إن جعلتها اسماً للسورة، ويكون القرآن ظاهراً واقعاً موقع المضمر؛ لأنَّ (طه) قرآن أيضاً، ويجوز أن تكون (جواب قسم) إنْ جعلت (طَهَ) مقسماً به. وقد تقدَّم تفصيل ذلك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 167 فصل قال الكلبي: لمَّا أنزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الوحي بمكة اجتهد في العبادة حتى كان بين قدميه في الصلاة لطول قيامه، وكان يصلي الليل كله، فأنزل الله هذه الآية، وأمره أن يخفف على نفسه فقال: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} [طه: 2] . وقيل: لما رأى المشركون اجتهاده في العبادة قالوا: إنَّك لتشقى حين تركت دين آبائك أي: لتتعنَّى وتَتْعَب وما أنزل عليك القرآن يا محمد لشقائك، فنزلت: «مَا أنْزَلْنَا عَلَيْكَ القُرْآنَ لِتَشْقَى» . وأصلُ الشقاء في اللغة العناء. وقيل المعنى: إنَّك لاَ ترم على كفر قومك كقوله: «لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» وقوله {وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ} [الأنعام: 106] ، أي: إنك لا تؤاخذ بذنبهم. وقيل: إنَّ هذه السورة من أوائل ما نزل بمكة، وكان عليه السلام في ذلك الوقت مقهوراً تحت ذل الأعداء، فكأنه تعالى قال: لا تظن أنَّك تبقى أبداً على هذه الحالة، بل يعلو أمرك ويظهر قدرك فإنا ما أنزلنا عليك مثل هذا القرآن لتبقى شقيًّا فيما بينهم بل لتصير معظماً مكرماً. قوله: «إِلاَّ تَذْكِرَةً» في نصبه أوجه: أحدها: أن يكون مفعولاً من أجله، والعامل فيه فعل الإنزال، وكذلك «لِتَشْقَى» علة له أيضاً، ووجب مجيئ الأول مع اللام، لأنه ليس لفاعل الفعل المعلل ففاته شريطة الانتصاب على الفمعولية. والثاني: جاز قطع اللام عنه ونصبه، لاستجماعه الشرائط هذا كلام الجزء: 13 ¦ الصفحة: 168 الزمخشري، ثم قال: فإن قلت: هل يجوز أن تقول: «مَا أنْزَلْنَا أنْ تَشْقَى» ، كقوله: «أنْ تَحْبَطَ أعْمَالُكُم» قلت: بلى ولكنها نصبة طارئة كالنصبة في «وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَه» ، وأما النصبةُ في «تَذْكِرَةً» فهي كالتي في ضربت زيداً، لأنه أحد المفاعيل الخمسة التي هي أصول وقوانين لغيرها. قال شهاب الدين: قد منع أبو البقاء أن يكون «تَذْكِرَةً» ، مفعولاً له ل «أنْزَلْنَا» المذكورة لأنها قد تعدت إلى مفعول له وهو «لِتَشْقَى» فلا تتعدى إلى آخر من جنسه. وهذا المنع ليس بشيء، لأنه يجوز أن يعلل الفعل بعلتين فأكثر، وإنما هذا بناءً منه على أنه لا يقتضي العامل من هذه الفضلات إلا شيئاً واحداً إلا بالبدلية أو العطف. الثاني: أن تكون «تَذْكِرَةٌ» بدلاً من محل «لِتَشْقَى» وهو رأي الزجاج، وتبعه ابن عطية، واستبعده أبو جعفر، ورده الفارسي، بأن التذكرة ليست بشقاء وهو الجزء: 13 ¦ الصفحة: 169 رد واضح. وقد أوضح الزمخشري هذا فقال: فإن قلت هل يجوز أن تكون «تَذْكِرَةً» بدلاً من محل «لِتَشْقَى» ؟ قلت: لا لاختلاف الجنسين ولكنها نصب على الاستثناء المنقطع الذي (إلاَّ) إلا بمعنى (لكن) . قال أبو حيان: يعني باختلاف الجنسين أن نصبه «تَذْكِرَةُ» نصبة صحيحة ليست بعارضة، والنصبة التي تكون في «لِتَشْقَى» بعد نزع الخافض نصبة عارضة، والذي نقول إنه ليس له محل ألبتة فيتوهم البدل منه. قال شهاب الدين: ليس مراد الزمخشري باختلاف الجنسين إلا ما نقل عن الفارسي رداً على الزجاج، وأي أثر لاختلاف النصبتين في ذلك. الثالث: أن يكون نصباً على الاستثناء المنقطع أي: لَكِنْ أَنْزَلْنَا تَذْكِرَةً. الرابع: أنه مصدر مؤكد لفاعل مقدر، أي: لكن ذكرنا، أو تذكرتَه أنت تذكرةً. وقيل التقدير: مَا أنْزَلْنَا عَلَيكَ القرآن لتحملَ متاعب التبليغ إلا ليكون تذكرة، كما يقال: (مَا شَافَهْنَاكَ بِهَذَا الكلامَ لِتَتَأَذَّى إِلاَّ ليَعْتَبِر بكَ غَيْركَ) . الخامس: أنه مصدر في موضع الحال، أي إلا مُذَكِّراً. السادس: أنه بدل من القرآن، ويكون القرآن هو التذكرة. قاله الحوفي. السابع: أنه مفعول له أيضاً، ولكن العامل فيه «لِتَشْقَى» ، ويكون المعنى كما قال الجزء: 13 ¦ الصفحة: 170 الزمخشري: إنَّا أنْزَلْنَا عَلَيْكَ القرآنَ لِتتحمَّلَ متاعب التبليغ، ومقاومة العتاة من أعداء الإسلام ومقابلتهم، وغير ذلك من أنواع المشاق، وتكاليف النبوة وما أنزلنا هذا الْمُتْعِب الشاق إلاَّ ليكون تَذْكِرَةً. وعلى هذا الوجه يجوز أن تكون تَذْكِرَةً حالاً ومفعولاً له. انتهى. فإن قيل: من أين أخذت أنه لمَّا جعله حالاً ومفعولاً له أن العامل فيه «لِتَشْقَى» ، وما المانع أن يريد بالعامل فيه فعل الإنزال؟ فالجواب: أن هذا الوجه قد تقدَّم له في قوله: وكل واحد من «لِتَشْقَى» ، و «تَذْكِرَةً» علة للفعل، وأيضاً فإن تفسيره للمعنى المذكور منصَبٌّ على تسلط «لِتَشْقَى» على «تَذْكِرَةً» إلا أنَّ أبا البقاء لما لم يظهر له هذا المعنى الذي ظهر للزمخشري منع من عمل «لِتَشْقَى» في «تَذْكِرَةً» ، فقال: ولا يصح أن يعمل فيها «لِتَشْقَى» لفساد المعنى وجوابه: ما تقدَّم. (ولا غرو في تسمية التعب شقاءً) ، قال الزمخشري: والشقاء يجيء في معنى التعب، ومنه المثل: أتْعَبُ مِنْ رَائِضِ مُهْرٍ، وأشْقَى من رائضِ مُهْرٍ. و «لِمَنْ يَخْشَى» متصل ب «تَذْكِرَةًُ» وزيدت اللام في المفعول، تقوية للعامل لكونه فعلاً. ويجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ل «تَذْكِرة» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 171 وخصَّ مَنْ يَخْشَى بالتذكر، لأنهم المنتفعون بها، كقوله: «هُدًى لِلْمُتَّقين» . قوله: «تَنْزِيلاً» في نصبه أوجه: أحدها: أن يكون بدلاً من «تَذْكِرَةً» إذا جعل حالاً لا إذا كان مفعولاً، لأن الشيء لا يعلِّلُ بنفسه، لأنه يصير التقدير: مَا أنْزَلْنَا القرآنَ إِلاَّ لِلتَّنْزِيل. الثاني: أن ينتصب ب «نزل» مضمراً. الثالث: أن ينتصب ب «أنْزَلْنَا» ، لأن معنى ما أنْزَلْنَا إلاَّ تذكرة: أنْزَلْنَاهُ تَذْكِرَةً. الرابع: أن ينتصب على المدح والاختصاص. الخامس: أن ينتصب ب «يَخْشَى» مفعولاً به، أي أنزلناه للتذكرة لِمَنْ يَخْشَى تنزيلَ الله، وهو معنى حسن وإعراب بيِّن. قال أبو حيان: والأحسن ما قدَّمناه أولاً من أنَّه منصوب ب «نَزَل» مضمرةً، وما ذكره الزمخشري من نصبه على غيره فمتكلف: أما الأول ففيه جعل «تَذْكِرَةً» و «تَنْزِيلاً» حالين وهما مصدران، وجعل المصدر حالاً لا ينقاس. وأيضاً فمدلول «تَذْكِرَةً» ليس مدلولاً «تَنْزِيلاً» ، ولا «تَنْزِيلاً» بعض «تّذْكِرَةً» فإن كان بدلاً فيكون بدلَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 172 اشتمال على مذهب من يرى أن الثاني مشتمل على الأول؛ لأن التنزيل مشتمل على التذكرة، وغيرها. وأما قوله: لأن معنى ما أنزلناه إلا تذكرةً أنْزَلناهُ تَذْكِرَةً، فليس كذلك، لأن معنى الحصر يفوت في قوله: «أنزلناه تذكرةً. وأما نصبه على المدح فبعيد. وأمَّا نصبه على» يَخشَى «ففي غاية البُعد، لأن» يَخْشَى «رأس آية وفاصلة فلا يناسب أن يكون» تَنْزِيلاً «منصوباً ب» يَخْشَى «، وقوله: وهو معنى حسن وإعراب بيِّن عجمة وبُعْدٌ عن إدراك الفصاحة. قال شهاب الدين: ويكفيه رد الشيء الواضح من غير دليل ونسبة هذا الرجل إلى عدم الفصاحة ووجود العجمة. قوله:» مِمَّنْ خَلَقَ «. يجوز في (مِنْ) أن يتعلق ب» تَنْزِيلاً «، وأن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل» تَنْزِيلاً «. وفي» خَلَقَ « (التفات) من تكلُّم في قوله:» مَا أنْزَلْنَا «إلى الغيبة وجوز الزمخشري أن يكون» مَا أنْزَلْنَا «حكاية لكلام جبريل عليه السلام وبعض الملائكة فلا التفات على هذا. قوله:» العُلَى «جمع عُلْيَا، نحو دُنْيَا ودُنًى، ونظيره في الصحيح كُبْرَى وَكُبَر، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 173 وفُضْلَى وفُضَل، يقال سماء عُلْيَا وسموات عُلَى. ومعنى الآية: «تَنْزِيلاً مَمَّنْ خَلَقَ» أي: (مِنَ الله الذي خلق الأرضَ والسَّمَواتِ العُلَى) يعني العالية الرفيعة. وفائدة وصف السَّوات بالعُلَى: الدلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوها (وبعد مرتقاها) . قوله: «الرَّحْمنُ» العامة على رفعه، وفيه أوجه: أحدها: أنه بدل من الضمير المستكن في «خَلَقَ» ذكره ابن عطية، ورده أبو حيان بأن البدل يحل محل المبدل منه، ولو حل محله لم يجز لخلو الجملة الموصولة بها من رابط يربطها. الثاني: أن يرتفع على الابتداء مشاراً إلى «مَنْ خَلَقَ» والجملة بعده خبر. وقرأ جناح بن حُبَيش: «الرَّحْمنِ» مجروراً، وفيه وجهان: أحدهما: أنه بدل من الموصول. لا يقال: إنه يؤدي إلى البدل بالمشتق وهو قليل، لأن (الرحمن) يجري مجرى الجوامد لكثرة إيلائه العوامل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 174 والثاني: أن يكون صفة للموصول أيضاً. قال أبو حيان: ومذهب الكوفيين أن الأسماء النواقص ك «مَنْ» و «مَا» لا يوصف منها إلاَّ الذي وحده، فعلى مذهبهم لا يجوز أن يكون صفة. قال ذلك كالراد على الزمخشري. والجملة في قوله: «عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى» خَبَر لقوله «الرَّحْمنُ» على القول: بأنه مبتدأ، أو خبر مبتدأ مضمر، إن قيل: إنه مرفوع على خبر مبتدأ مضمر، وكذلك في قراءة مَنْ جرَّه. وفاعل «اسْتَوَى» ضمير يعود على «الرَّحْمنُ» . وقيل: بل فاعله «مَا» الموصولة بعده، أي: استوى الذي له ما في السموات قال أبو البقاء: وقال بعضُ الغلاةِ: «مَا» فاعل «اسْتَوَى» ، وهذا بعيد، ثم هو غير نافع له في التأويل، إذ يبقى قوله: «الرَّحْمنُ عَلَى العَرشِ اسْتَوَى» كلاماً تامّاً ومنه هرب. قال شهابُ الدين: هذا يُروى عن ابن عبَّاس، وأنَّه كان يقفُ على لفظ «العَرْشِ» ثم يبتدئ ب «اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَواتِ» ، وهذا لا يصح عنه. قوله: الثَّرَى: هو التراب النَّدِي، ولامه ياء بدليل تثنيته على ثَرَيَيْن وقولهم: ثَرِيَتْ الرضُ تَثْرَى ثَرًى. والثَّرَى في انقطاع المودة، قال جرير: 3640 - فَلاَ تَنْبِشُوا بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الثَّرَى ... فَإنَّ الَّذِي بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ مُثْرِي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 175 والثَّراء بِالمَد: كثرة المال، قال: 3641 - أَمَاوِيَّ مَا يُغْنِي الثَّراءُ عَنِ الفَتَى ... إذَا حَشْرجَتْ يَوْماً وضَاقَ بِهَا الصَّدْرُ وَما أَحسن قولَ ابن دُرَيد في قصيدته التي جمع فيها بن الممدود والمقصور باختلاف معنى. فصل قال المفسرون: معنى «لَهُ مَا فِي السَّمواتِ وَمَا فِي الأرْضِ» لما شرح ملكه بقوله: «الرَّحْمنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى» ، والملك لا ينتظم إلا بالقدوة والعلم لا جرم عقبه بالقدرة ثم بالعلم. أما القدرة فهي هذه الآية، والمعنى: أنه تعالى مالك لهذه الأقسام الأربعة فهو مالك لما في السموات من مَلَكٍ ونَجْم وغيرهما، ومالك لما في الأرض من المعادن والفلزات، ومالك لما بينهما من الهواء، ومالك لما تحت الثرى. قال الضحاك: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 176 يعني ما روى الثرى من شيء. وقال ابن عباس: إن الأَرضينَ على ظهر النون، والنون على بحر ورأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش، والبحر على صخرة خضراء اخضرت السموات منها. وهي الصخرة التي ذكر الله تعالى في قصة لقمان «فَتَطُنْ فِي صَخْرَةٍ» ، والصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى، و «مَا تَحْتَ الثَّرَى» لا يعلمه إلا الله تعالى. وذلك الثور فاتح فاه، فإذا جعل الله البحار بحراً واحداً سالت في جوف الثور فإذا وقعت في جوفه يبست. وأما العلم فقوله: «وَإنْ تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإنَّهُ يَعْلَمُ الشِّرَّ وَأَخْفَى» قال الحسن السر: ما أسر الرجل إلى غيره، وأخفى من ذلك ما أسر في نفسه. وعن ابن عباس وسعيد بن جبير: السر ما تسر في نفسك، وأخفى من السر: ما يلقيه الله في قلبك من بعد، ولا تعلم أنك ستحدث به نفسَك لأنك تعلم ما تسر اليوم ولا تعلم اليوم ولا تعلم ما تسر إذا، والله يعلم ما أسررت اليوم وما تسر غدا. وقال عليّ بن أبي طلحة عن ابن عباس: السِّرُّ ما أٍر ابن آدم في نفسه، وأخفى: ما خفي عليه مما هو فاعله قبل أن يعلمه. وقل مجاهد: السِّرُّ العمل الذي يُسِرُّ من الناس وأخفى: الوسوسة وقيل: السِّرُّ هو العزيمة (وأخفى: ما يخطر على القلب ولم يعزم عليه. وقال زيد بن أسلم: «يَعْلَمُ السِّرَّ» وأخْفَى «أي: يعلم أسرار العباد، وأخفى سره من عباده فلا يعلمه أحد. قوله:» وَأخْفَى «جوزوا فيه وجهين: أحدهما: أنه أفعل تفضيل، أي: وأخفى من السر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 177 والثاني: أنه فعل ماض، أي: وأخفى عن عباده غيبه كقوله:» وَلاَ يُحيطُونَ بِهِ عِلْماً «. قوله:» اللهُ لاَ إلهَ إِلاَّ هُوَ «الجلالة إما مبتدأ والجملة المنفية خبرها، وإما خبر لمبتدأ محذوف، أي هو الله. والحسنى تأنيثُ الحسنِ، وقد تقدم أن جمع التكسير في غير العقلاء يعامل معاملة المؤنثة الواحدة. ولما ذكر صفاته وحَّدَ نَفْسَه فقال:» اللهُ لاَ إلهَ إلاَّ هوَ لَهُ الأسْمَاءُ الحُسْنَى «. فصل قالوا: كلمة» لا «ههنا دخلت على الماهية، فانتفت الماهية، وإذا انتفت الماهية تنتفي كل أفرادها. وإنما» اللهُ «اسم علم للذات المعينة، إذ لو كان كان اسم معنى لكان كلها محتملاً للكثرة فلم تكن هذه الكلمة مفيدة للتوحيد. وقالوا:» لاَ «استحقت عمل» إِنَّ «لمشابهتها لها من وجهين: الأول: ملازمة الأسماء. والآخر: تناقضهما. فإن أحدهما لتأكيد الثبوت، والآخر لتأكيد النفي، ومن عادتهم تشبيه أحد الضدين بالآخر في الحكم، وإذا كان كذلك، فنقول: لمَّا قالوا: إنَّ زيداً ذاهبٌ كان يجب أن يقولوا: (لا رجلاً ذاهب) إلاَّ أنهم بنوا «لا» مع ما دخل عليه من الاسم مفرداً واحداً فلأنهم قصدوا البناء على الحركة المستحقة توقيفاً الجزء: 13 ¦ الصفحة: 178 بين الدليل الموجب للإعراب، والدليل الموجب للبناء. وخبره محذوف تقديره: لاَ إِله في الوجود، ولا حول ولا قوةَ لنا، وهذا يدل على أن الوجود زائدة على الماهية. فإن قيل: تصور الثبوت مقدم على تصور السلب، فإنَّ السلب ما لم يضف إلى الثبوت لا يمكن تصوره، فكيف قدم هنا السلب على الثبوت؟ فالجواب: لما كان هذا السلب من مؤكدات الثبوت لا جرم قدم عليه. فصل ينبغي لأهل لاَ إله إلاَّ الله أنْ يحصلوا أربعة أشياء حتى يكونوا من أهل لا إلهَ إلا الله: التصديق، والتعظيم والحلاوة والحرية، فمن ليس له التصديق فهو منافق، ومَن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 179 ليس له التعظيم فهو مبتدع، ومَن ليس له الحلاوة فهو من مراء ومَنْ ليس له الحرية فهو فاجر. فصل (قال بعضهم) قوله تعالى: «ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ» أنَّه لا إله إلاَّ الله. «إلَيْهِ يَصْعَدُ الكَلِمُ الطَّيِّبُ» لا إله إلاَّ الله «وَتَواصُّوْا بالحَقِّ» لا إله إلاَّ الله. «قُلْ إنَّمَا أعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ» بلا إله إلاَّ الله. «وَقِفُوهُمْ إنَّهُمْ مَسْئولُون» عن قول لا إله إلاَّ الله. «بَلْ جَاءَ بالحَقِّ وَصَدَّقَ المُرْسَلِين» هو لا إله إلاَّ الله. «يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بالقَوْلِ الثَّابِتِ فشي الحَيَاةِ الدُّنْيَا» هو لاَ إله إلاَّ الله. «وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمينَ» عن قول: لا إله إلاَّ الله. فصل قال عليه السلام: «أفضل الذكر لاَ إله إلاَّ الله، وأفضل الدعاء أستغفر الله» ، ثمّ تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «فاعْلَم أنَّه لا إلهُ إلاَّ اللهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤمِنينَ والمُؤْمِنَاتِ» وقال عليه السلام: «إنَّ الله تَعَالَى خَلَقَ مَلَكاً من الملائكة قبل أن خلق السموات والأرض وهو يقول: أشهد أن لا إله إلاَّ الله مادًّا بها صوته لا يقطعها، ولا يتنفس الجزء: 13 ¦ الصفحة: 180 فيها، ولا يتمها، فإذَا أتمَّها أمر إسرافيل بالنفخ في الصور وقامت القيامة تعظيماً لله تعالى» . وعن أنس قال عليه السلام: «ما زلت أشفع إلى ربي ويشفعني، وأشفع إليه ويشفعني، حتى قلت: يا رب فيمن قال: لا إله إلا الله. قال: يا محمد هذه ليست لك ولا لأحد وعزتي وجلالي، لا أدع أحداً في النار قال لا إله إلا الله» وقال سفيان الثوري: سألت جعفر بن محمد عن «حم عسق» فقال: الحاء حُكمه، والميم ملكه، والعين عظمته، والسين سناؤُه والقاف قدرتُه، يقول الله عَزَّ وَجَلَّ: بحكمي وملكي وعظمتي وسنائي ولا قدرتي لا أعذب بالنار من قال: لاَ إله إلاَّ الله محمد رسول الله. وعن ابن عرم قال عليه السلام: «من قال في الشوق: لا إله إلا الله وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ لهُ المُلْكُ ولَهُ الحَمْدُ يُحْيي ويُميتُ وَهُوَ حيٌّ لا يَمُوتُ بيدِهِ الخَيْرُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شيءٍ قدِير، كَتَبَ الله لهُ أَلفَ حَسَنةٍ ومَحَا عَنْهُ ألفَ سيئةٍ وبَنَى لَهُ بَيْتاً في الجَنَّةِ» وروي عن موسى بن عمران عليه السلام قال: يا رب علمني شيئاً أذكرك به قال: قل: لا إله إلاَّ الله، قال: كل عبادك يقول: لا إله إلاَّ الله. فقال: قل: لا إله إلاَّ الله. قال: إنما أردت شيئاً تخصني به. قال يا موسى: لو أن السموات السبع ومن فوقهن في كفة ولا إله إلاَّ الله في كفة لماتْ بهِنَّ لاَ إله إلاَّ الله. فصل قيل: إنَّ الله تعالى أربعة آلاف اسم لا يعلمها إلا الله والأنبياء أما الألف الرابعة فإن المؤمنين يعلمونها، فثلثمائة في التوراة، وثلثمائة في الإنجيل، وثلثمائة في الزبور ومائة في القرآنه تسعة وتسعون ظاهرة وواحد مكنون فمن أحصاها دخل الجنة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 181 واعلم أن الأسماء الواردة في القرآن منها ما ليس بانفراده ثناءً ومدحاً، كقوله: جاعل، وفالق، وصانع. فإذا قيل: «فَالِقُ الإصْبَاحِ وَجَاعِلُ اللَّيْلِ سَكَناً» صار مدحاً وأما الاسم الذي يكون مدحاً فمنه ما إذا قُرِنَ بغيره أبلغ نحو قولنا: حيّ، فإذا قيل: الحَيُّ القَيُّومُ، أو الحَيُّ الَّذِي لا يَمُوتُ. كان أبلغ. وأيضاً بديع. فإذن قلت: بَديعُ السَّمواتِ والأرضِ، ازداد المدح. ومن هذا الباب ما كان اسم مدح ولكن لا يجوز إفراده، كقولنا: دَلِيلٌ، وكَاشِفٌ، فإذا قيل: يا دليلَ المتحيرين، يا كاشفَ الضُرِّ والبلوى جاز. ومنه ما يكون اسم مدح مفرداً ومقروناً كقولنا: الرَّحيم الكريمُ (ومن الأسماء ما يكون تقارنُها أحسنَ كقولك: الأول الآخر، المبدئ المعيد، الظاهر الباطن، العزيز الحكيم) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 182 قوله تعالى: {وَهَلْ أتَاكَ حَديثُ مُوسَى: إذْ رَأَى نَاراً} ... الآية: لما عظم حال القرآن، وحال الرسول عليه السلام بما كلَّفه أتبع ذلك بما يقوي قلبَ رسوله من ذكر أحوال الأنبياء تقوية لقلبه في الإبلاغ، كقوله تعالى: {وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرسل مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ} [هود: 120] . وبدأ بموسى لأن فتنته كانت أعظم «ليتسلَّى قلبُ الرسول عليه السلام بذلك، ويصبر على تحمل المكاره. قوله:» وَهَلْ أتَاكَ «يحتمل أن يكون هذا أول ما أخبر به من أمر موسى فقال:» وَهَلْ أتَاكَ «أي لم يأتك إلى الآن) وقد أتاك الآن فتنبه له، وهذا قول الكلبي. ويحتمل أن يكون قد أتاه ذلك في الزمان المتقدم فكأنه قال: أليس قد أتاك، وهذا قول مقاتل والضحاك عن ابن عباس، وهذا وإن كان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 182 على لفظ الاستفهام الذي لا يجوز على الله على لكن المقصود منه تقرير الخبر في قلبه، وهذه الصورة أبلغ في ذلك كقولك لصاحبك: هَلْ بلغكَ عني كذا؟ فيتطلع السامع إلى معرفة ما يرمي إليه، ولو كان المقصود هو الاستفهام لكان الجواب يصدر من قِبَل موسى لا من قِبَل الله (تعالى) . قوله:» إذْ رَأَى «يجوز أن يكون منصوباً بالحديث وهو الظاهر ويجوز أن ينتصب ب (اذكر) مقدراً قاله أبو البقاء. أو بمحذوف بعده، أي إذا رأى ناراً كان كيت وكيت كما قاله الزمخشري. و» هَلْ «على بابها من كونها استفهام تقرير. وقيل: بمعنى قد. وقيل: بمعنى النفي. وقرأ» لإِهْلِهُ امْكُثُوا «بضم الهاء حمزة، وقد تقدم أنه الأصل وهو لغة الحجاز. وقاله أبو البقاء: إن الضم (للإتباع) . قوله:» آنَسْتُ «أي أبصرت، والإيناس: الإبصار والتبيُّن ومنه إنسان العين، لأنه يبصر به الأشياء، والإنس لظهورهم كما قيل: الجن لاستتارهم. وقيل: هو الوجدان. وقيل: هو الإحساس فهو أعم من الإبصار. وأنشدوا للحارث بن حلزة: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 183 3642 - آنَسْتُ نَبْأَةً وَأَفْزَعَهَا القُن ... نَاصُ عَصْراً وَقَدْ دَنَا الإمْسَاءُ والقَبَس: الجَذْوَةُ من النار، وهي الشعلة في رأس عود أو قصبة ونحوها وهو فعلٌ بمعنى مفعول كالقَبَض والنَّفَض بمعنى المقبوض والمنفوض. ويقال: إن فعل وأَفْعَل يقالان في المعنيين فيقال: قَبَسْتُه ناراً وعِلماً وأَقْبَستُهُ أيضاً (ناراً وعلماً) وقوله:» مِنْهَا «يجوز أن يتعلق (ب» آتِيكُمْ «أو) بمحذوف على أنه حال من» قَبَس «وأما بعضهم ألف» هُدًى «وقفاً، والجيد أن لا تُمال، لأن الأشهر أنها بدل من التنوين. فصل قال المفسرون: استأذن موسى شعيباً في الرجوع من مَدْيَنَ إلى مصر لزيارة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 184 والدته وأخته، فأذن له، فخرج بأهله، وأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام. فولدت امرأته في ليلة شاتية، وكانت ليلة الجمعة فألجأه السير إلى جانب الطور الغربي الأيمن، فقدح زنده فلم يورِهِ، فبينما هو في مزاولة ذلك إذ أبصر ناراً من بعيد على يسار الطريق من جانب الطور. قال السُّدي: فظن أنها نارٌ من نيران الرعاة. وقال آخرون: إنه عليه السلام رآها في شجرة وليس في القرآن ما يدل على ذلك. وقال بعضهم: الذي رآه لم يكن ناراً (بل تخيله ناراً) والصحيح أنه رأى ناراً ليكون صادقاً في خبره، إذا الكذب لا يجوز على الأنبياء. قيل: النار أربعة أقسام: نارٌ تأكل ولا تشرب، وهي نار الدنيا. ونارٌ تشرب ولا تأكل وهي نار الشجر لقوله تعالى: {جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً} [يس: 80] . ونار تأكل وتشرب وهي نار المعدة. ونارٌ لا تأكل ولا تشرب، وهي نار موسى عليه السلام. وقيل أيضاً: النار أربعة: أحدها: نارٌ لها نور بلا حرقة، وهي نار موسى عليه السلام. ونارٌ لها حرقة بلا نور، وهي نار جهنم. ونارٌ لها حرقة ونور، وهي نار الدنيا. ونار لا حرقة لها ولا نور وهي نار الأشجار. فلما أبصر النار «قَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا» يجوز أن يكون هذا الخطاب للمرأة وولدها والخادم. ويجوز أن يكون للمرأة وحدها خرج على ظاهر لفظ الأهل فإن الأهل يقع على الجمع وأيضاً فقد يخاطب الواحد بلفظ الجمع تفخيماً، أي: أقيموا في مكانكم. «إنِّي آنَسْتُ نَاراً» . أي أبصرتُ ناراً، والإيناس: الإبصار وقيل: إبصار ما يُؤنَسُ بِهِ ولما وجد الإيناس - وكان منتفياً - حقيقة لهم أتى بكلمة «إنِّي» ليوطن أنفسهم. ولما كان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 185 الإتيان بالقَبَس ووجود الهدى مترقبين متوقعين بنى الأمر فيهما على الرجاء والطمع، فقال: «لَعَلِّي» ولم يقطع فيقول: إنِّي آتيكُمْ، لئلا يعد ما لم يتيقن الوفاء به، والنكتة فيه أن قوماً قالوا: كَذَبَ إبراهيمُ للمصلحة وهو محال، لأن موسى عليه السلام قبل نبوته احترز فلم يقل: إِنِّي آتِيكُمْ، بل قال «لَعَلِّي آتِيكُمْ» . والقَبَسُ: النارُ المقتبسةُ في رأس عودٍ أو فتيلةٍ أو غيرهما. «أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى» أي ما يهتدي به وهو اسم مصدر، فكأنه قال: أجِدُ على النار ما أهتدي به من دليل أو علامة. ومعنى الاستعلاء على النار « (أنَّ أهلَ النارِ) يستعلون المكان القريب منها، ولأن المصطلين بها إذا أحاطوا مشرفين عليها، فكأنه قال: أُجِدُ على النارِ مَنْ يَدُلُّنِي.» فَلَمَّا أتَاهَا «أي النار، قال ابن عباس: رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها أطافت بها نار بيضاء تتّقد كأضوأ ما يكون فوقف متعجباً من شدة ضوء تلك النار وشدة خضرة تلك الشجرة، فلا النار تغير خضرتها، ولا كثرة ماء الشجرة تغير ضوء النار. قال ابن مسعود: كانت الشجرة سمرة خضراء. وقال قتادة ومقاتل والكلبي: كانت من العَوْسَج. وقال وهب: كانت من العُلِّيْق. وقيل: كانت من العِنَّاب. قال أكثر المفسرين: إنَّ الذي رآه موسى لم يكن ناراً بل كان نورَ الربِّ (تبارك الجزء: 13 ¦ الصفحة: 186 وَتَعالى) ذُكِرَ بلفظ النار، لأن موسى عليه السلام حسبه ناراً فلما دَنَا مِنْهَا سمع تسبيح الملائكة ورأى نوراً عظيماً. قال وهب: ظن موسى أنها نار أوقدت، فأخذ من دقاق الحطب وهو الحشيش اليابس ليقتبس من لهبها فمالت إليه كأنها تريده، فتأخر عنها وهابَها، ثم لم تزل تطعمه، ويطمع فيها، ثم لم يكن بأسرع من خمودها كأنها لم تكن ثم رمى موسى ببصره إلى فروعها، فإذا خضرتها ساطعة في السماء، وإذا نور بين السماء والأرض له شعاع تكل عنه الأبصار، فلما رأى موسى ذلك وضع يديه على عينيه، فنودي يا موسى. قال القاضي: الذي يروى من أن الزند ما كان يروى فجائز، وما رُوِي من أن النار كانت تتأخر عنه، فإن كانت النبوة قد تقدمت له جاز ذلك وإلا فهو ممنوع إلاَّ أن يكون معجزة لغيره من الأنبياء، لأن قوله: «وَأنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى» دليل على أنه إنما أوحي إليه في هذه الحالة، وجعله نبيًّا. وعلى هذا يبعدُ ما ذكروه من تأخر النار عنه وبيَّنَ فسادَ ذلك، قوله تعالى: «فَلَمَّا أتَاهَا نُودِيَ» ولو كانت تتأخر عنه حالاً بعد حالٍ لَمَا صحَّ ذلك، ولَمَا بقي لفاء التعقيب. قوله: «نودي: القائم مقام الفاعل ضمير موسى. وقيل: ضميرُ المصدر، أي نُودِي النداء، وهو ضعيف. ومنعُوا أنْ يكون القائم مقامه الجملة من» يا مُوسَى «، لأن الجملَةَ لا تكونُ فاعلاً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 187 قوله: «إِنِّي» قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح على تقدير الباء أي: بأِنِّي، لأن النداء يوصل بها. تقول: ناديتُه بكذا، وأنشد الفارسيُّ قول الشاعر: 3643 - نَادَيْتُ باسْمِ رَبيعَةَ بنِ مُكْدَّمٍ ... إنَّ المُنَوَّه باسْمِهِ المَوْثُوقُ وجوز ابن عطية أن تكون بمعنى: لأجل، وليس بظاهر. والباقون بالكسر إمَّا على إضمار القول عند الكوفيين. وقوله: «أَنَّا» يجوز أن يكون مبتدأ وما بعده خبر والجملة خبر (إنَّ) ويجوز أن يكون توكيداً للضمير المنصوب. ويجوز أن يكون (فصلاً) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 188 فصل قال المفسرون: لمَّا نُودِي يَا مُوسَى أجاب سريعاً ما يدري من دعاه، فقال: إنِّي أسمع صوتك ولا أرَى مكانَك، فأين أنت؟ فقال: أنا فوقَكَ، وَعَكَ، وأمَامَكَ، وخلفَكَ، وأقربُ إليكَ منْ نفسِك. فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا الله عزّ وجلّ فأيقن به. «فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ» روى ابن مسعود مرفوعاً في قوله: «اخْلَعْ نَعْلَيْكَ» قيل: كانَتَا من جلد حمار ميت. ويروى غير مدبوغ. وقال عكرمة ومجاهد: ليباشر بقَدَمَيْه تراب الأرض المقدسة، فيناله بركتها، لأنه قُدِّسَتْ مرتين، فخلعهما وأَلقاهُما من وراء الوادي. قيل: إنه عرف أن المنادي هو الله تعالى، لأنه رأى النار في الشجرة الخضراء بحيث أن الخُضْرة ما كانت تطفئ تلك النار، وتلك النار ما كانت تنضر بتلك الخُضْرة، وهذا لا يقدر عليه أحد إلا الله تعالى. قوله: «طُوَى» قرأ الكوفيون وابنُ عامر «طُوًى» بضم الطاء والتنوين. وقرأ الباقون: بضمها من غير تنوين. وقرأ الأعمش والحسن وأبو حيوة وابن محيصن بكسر الطاء منوناً، وأبو زيد عن أبي عمرو بكسرها غير منون. فمن ضمَّ ونوَّنَ فإنه صرف: لأنَّه أوَّله بالمكان. ومن منعه فيحتمل أوجهاً: أحدها: أنه منعه للتأنيث باعتبار والعلمية. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 189 الثاني: أنَّه منعه للعدل إلى فُعَل، وإن لم يعرف اللفظ المعدول عنه وجعله كُعَمر وزُفَر. الثالث: أنه اسم أعجميٌّ فمَنْعُهُ للعلمية والعجمة. ومن كَسَر ولم يُنوّن فباعتبار البقعة أيضاً. فإن كان اسماً فهو نظير عِنَب، وإن كان صفة فهو نظير عِدَى وسِوَى. ومن نَوَّنه فباعتبار المكان. وعن الحسن البصري: أنه بمعنى الثناء بالكسر والقصر، والثناء المتكرر مرتين فيكون معنى هذه القراءة: أنه طهر مرتين، فيكن مصدراً منصوباً بلفظ (المقدس) ، لأنه بمعناه، كأنه قيل: المقدس مرتين من التقديس. وقرأ عيسى بن عمر والضَّحَّاك «طَاوِيْ اذْهِب» . وطُوَى: إما بدل من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 190 الوادي أو عطف بيان له. أو مرفوع على إضمار مبتدأ، أو منصوب على إضمار أعْنِي. فصل استدلت المعتزلة بقوله: «اخْلَعْ نَعْلَيْكَ» على أن كلام الله تعالى ليس بقديم، إذ لو كان قديماً لكان الله قائلاً قبل وجود موسى: اخْلَعْ نَعْلَيْكَ يَا مُوسَى، ومعلوم أن ذلك سفه، فإن الرجل في الدار الخالية إذا قال يا يزيد افعل، ويا عمرو لا تفعل مع أن زيداً وعمراً لا يكونان حاضرين يعد ذلك جنوناً وسفهاُ. فكيف يليق ذلك بالإله سبحانه وتعالى؟ وأجيب عن ذلك بوجهين: الأول: أن كلامه تعالى وإن كان قديماً إلا أنه في الأزل لم يكن أمراً ولا نهياً. الثاني: أنه كان أمراً بمعنى أنه وجد في الأزل شيء لما استمر إلى ما يزال صار الشخص به مأموراً من غير وقوع التغير في ذلك الشيء، كما أن القدرة تقتضي صحة الفعل، ثم إنها كانت موجودة في الأزل من غير هذه الصحة، فلما استمرت إلى ما لا يزال حصلت الصحة، فكذا ههنا، وهذا كلام فيه غموض وبحث دقيق. فصل قال بعضهم: في الآية دلالة على كراهة الصلاة والطواف في النعل، والصحيح عدم الكراهة، لأنا عللنا الأمر بخلع النعلين لتعظيم الوادي، وتعظيم كلام الله تعالى كان الأمر مقصوراً على تلك الصورة. وإن عللناه بأن النعليْن كانتا من جلد حمار ميِّت، فجائز أن يكون محظوراً لبس جلد الحمار الميت، وإن كان مدبوغاً، فإنْ كان ذلك فهو منسوخ بقوله عليه السلام: «أَيُّمَا إِهَابٍ دُبغَ طَهُرَ» «وقد صلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - في نعليْه ثم خلعهما في الصلاة، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 191 فخلع الناس نعالهم فلما سلم قال: ما لكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: خلعتَ فخلعنا قال:» فإنَّ جِبريلَ عليه السَّلامُ أخبرَنِي أنَّ فيهِمَا قذراً «فلم يكره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ الصلاة في النعل، وأنكر على الخالعين خلعها، وأخبرهم أنه إنما خلعهما لما فيهما من القذر. فصل قال عكرمة وابن زيد: طُوَى: اسم للوادي. قال الضَّحاك: طُوَى: واد مستدير عميق الطويّ في استدارته. وقيل: طُوَى معناه مرتين نحو ثنى. أي: قدِّس الوادي مرتين أي: نُودِيَ موسَى نِدَاءَيْن يقال: ناديته طُوًى أي: مثنى. وقيل: طُوى أي؛ طيًّا. قال ابن عباس: إنه مرَّ بذلك الوادي ليلاً فطواه، فكان المعنى بالوادي الذي طويته طيًّا أي: قطعته حتى ارتفعت إلى أعلاه، ومن ذهب إلى هذا قال: طُوًى مصدر أخرج عن لفظه كأنه قال: طويتُه أطوِي طُوًى كما يقال: هدى يهدي هُدًى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 192 قوله تعالى: «وَأنَا اخْتَرْتُكَ» أي للرسالة والكلام. قرأ حمزة «وَ» أنَّا اخْتَرْنَاكَ «بفتح الهمزة فضمير المتكلم المعظم نفسه. وقرأ السلمي والأعمش وابن هرمز كذلك إلا أنهم كسروا الهمزة. والباقون:» وَأنَا اخْتَرْتُكَ «بضمير المتكلم وحده. وقرئ» أَنِّي اخْتَرْتُكَ «بفتح الهمزة. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 192 فأما قراءة حمزة فعطف على قوله» أنِّي رَبُّكَ أَنَا رَبُّكَ «وذلك أنه يفتح الهمزة هناك ففعل ذلك لما عطف غيرها عليها. وجوز أبو البقاء أن يكون الفتح على تقدير: وَلأنّا اخْتَرْنَاكَ فَاسْتَمِعْ، فعلقه باسْتَمِعْ. والأول أولى. ومن كسرها فلأنه يقرأ» إنِّي أنَا رَبُّكَ «بالكسر. وقراءة أُبي كقراءة حمزة بالنسبة للعطف. ومفعول» اخْتَرْتُكَ «الثاني محذوف، أي اخترتك من قومك. قوله:» لِمَا يُوحَى «الظاهر تعلقه ب» اسْتَمِع «ويجوز أن تكونَ اللام مزيدة في المفعول على حد قوله تعالى» رَدِفَ لَكُمْ «وجوَّز الزمخشري وغيره أن تكون المسألة من باب التنازع بين» اخْتَرْتُكَ «وبين» اسْتَمِعْ «كأنه قيل:» اخْتَرْتُكَ لِمَا يُوحَى فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى «. قال الزمخشري: فعلق اللام باسْتَمِعْ أو باخْتَرْتُكَ وقد رد أبو حيان هذا بأن قال: ولا يجوز التعليق باخْتَرْتُكَ لأنه من باب الإعمال فكان يجب أو يختار إعادة الضمير مع الثاني، فكان يكون: فاسْتَمِعْ لَهُ لِمَا يُوحَى، فدل على أنه من باب إعمال الثاني. قال شهاب الدين: والزمخشري عنى التعليق المعنوي من حيث الصلاحية وأما تقدير الصناعة فلم يَعْنِهِ. (و» ما «) يجوز أن تكون مصدرية وبمعنى الذي، أي فاسْتَمِعْ للوحي أو للذي يوحى) . فصل هذهالآية تدل على النبوة لا تحصل بالاستحقاق، لأن قوله:» وَأَنَا اخْتَرْتُكَ «يدل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 193 على أن ذلك المنصب العالي إنما حَصَل لأنه تعالى اختاره له ابتداء لا أنه يستحقه على الله تعالى. وقوله:» فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى «أي: إليك فيه نهاية الهيبة والجلالة كأنه قال: لَقَدْ جَاءَك أمْرٌ فتأهَّبْ له، واجعَلْ كلَّ عقلك وخاطرِك مصروفاً إليه. ثم قال:» إنَّنِي أَنَا لاَ إلَه إلاَ أَنَأ فَأعْبُدْنِي «ولا تعبد غيري، وهذا يدل على أن علم الأصول مقدم على علم الفروع: لأن التوحيد من علم الأصول والعبادة من علم الفروع. وأيضاً فالفاء في قوله:» فَاعْبُدْنِي «تدل على أن عبادته إنما لزمت لإلهِيَّتِهِ. فصل احتجُّوا بهذه الآية على أنه يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة من وجهين: الأولك أنه تعالى بعد أن أمره بالتوحيد أمره بالعبادة، ولم يذكر كيفية العبادة فثبت أنه يجوز ورود المجمل منفكاً عن البيان. الثاني: أنه قال:» أَقِم الصَّلاَةَ لِذِكْرِي «ولم يبين كيفية الصلاة. قال القاضي: لا يمتنع أن موسى عليه السلام - قد عرف الصلاة إلى تعبُّدَ الله تعالى - بها شُعَيْباً - عليه السلام - وغيره من الأنبياء، فتوجه الخطاب إلى ذلك، ويحتمل أنه تعالى بيَّن له في الحال، وإن كان المنقول في القرآن لم يذكر فه إلا هذا القول. وأجيب عن الأول: بأنه لا يتوجه في قوله تعالى: «فَاعْبُدْنِي» وأيضاً فحَمْلُ مثل هذا الخطاب العظيم على فائدة جديدة أولى من حمله على أمر معلوم، لأن موسى - عليه السلام - ما كان يشك في وجوب الصلاة التي جاء بها شعيب - عليه السلام -، فلو حملنا قوله: «وَأَقِمْ الصَّلاَةَ لِذِكْرِي» على ذلك لم يحصل من هذا الخطاب العظيم فائدة زائدة، أما لو حملناه على صلاة أخرى لحصلت فائدة زائدة. وقوله: لعلَّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 194 اللهَ بيَّنه في ذلك الموضع، وإن لم يحكه في القرآن قلنا: لا شك أن البيان (أكثر فائدة) من المجمل، فلو كان مذكوراً لكان أولى بالحكاية. قوله: «لِذِكْرِي» يجوز أن يكون المصدرُ مضافاً لفاعله، أي: لأنِّي ذكرتُها في الكتب، أو لأني أذكرك. (ويجوز أن يكون مضافاً لمفعوله، أي: لأنْ تَذْكُرْنِي) وقل: معناه ذكر الصَّلاة بعد نسيانها، لقوله - عليه السلام -: «مَنْ أقَامَ عَنْ صَلاَةٍ أوْ نَسِيَهَا فَلْيُصلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا» . قال الزمخشري: وكان حق العبارة لِذِكْرِهَا ثم قال: ومَنْ يَتمحّل له أن يقول إذا ذكر الصلاة فقد ذكر الله أو على حذف مضاف أي لِذِكِر صلاتي، أو لأن الذكر والنسيان من الله تعالى في الحقيقة وقرأ أبو رجاء والسلمي «لِلْذِكْرَى» بلام التعريف وألف التأنيث. وبعضهم: «لِذِكْرِي» منكَّرة وبعضهم: «لِلْذِّكْرِ» بالتعريف والتذكير. فصل ذكرُوا في قوله تعالى: «لِذِكْرِي» وجوهاً: أحدها: لِذِكْرِي بمعنى لِتَذْكُرَنِي، فإنَّ ذِكْرِي أنْ أُعْبَدَ ويُصَلَّى لِي. والثاني: لتَذْكُرني منها لاشتمال الصلاة على الأذكار؛ وعن مجاهد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 195 وثالثها: لأني ذكرتها في الكتب وأمرت بها. ورابعها: لأن أَذْكُرَك بالمدح والثناء. وخامسها: لِذِكْرِي خاصة لا يشوبه ذكرُ غيري. وسادسها: لتكون لي ذاكراً غير ناس فعل المخلصين، كقوله: {لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} [النور: 37] . وسابعها: لأوقات ذِكْرِي، وهي مواقيت الصلاة، لقوله: {إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً} [النساء: 103] . وثامنها: أقِم الصَّلاة حين تذكرها أي: إنَّكَ إذَا نسيتَ صلاةً فاقْضها إذا ذكرتَها، قال عليه السلام: «مَنْ نَسِيَ صَلاَةَ فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا ولاَ كَفَّارَةَ لهَا إلاَّ ذلِك» ثم قرأ «أقِم الصَّلاَةَ (لِذِكْرِي) . قال الخطَّابي هذا الحديث يحتمل وجهين: أحدهما: لا يكفرها غير قضائها. والآخر: أنه لا يلزمه فغي نسيانها غرامة، ولا كفارة، كما تلزم الكفارة في ترك صوم رمضان من غير عذر، وكما يلزم المحرم إذا ترك شيئاً فدية من دم أو طعام إنما يصلّي ما ترك فقط. فإن قيل: حق العبادة أن يقول: صَلِّ الصَّلاةَ لذكرِها، كما قال عليه السلام: «إذَا ذَكَرَهَا» فالجواب: قوله: «لِذِكْرِي» معناه: للذِّكْر الحاصل بِخَلْقِي. أو بتقدير حذف مضاف أي: لذكر صلاتي. (فصل) لو فاتته صلاة يستحب أن يقضيها على ترتيب الأداء، فلو ترك الترتيب في الجزء: 13 ¦ الصفحة: 196 قضائها جاز عند الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -، ولو دخل عليه وقت فريضة وتذكر فائتة، فإن كان في الوقت سعة استحب أن يبدأ بالفائتة، ولو بدأ بصلاة الوقت جاز، وأن ضاق الوقت بحيث لو بدأ بالفائتة فاتت صلاة الوقت فيجب البداءة بصلاة الوقت لئلا تفوت الأخرى. ولو تذكر الفائتة بعد ما شرع في صلاة الوقت أتمّها ثم قضى الفائتة. ويستحبّ أن يعيد صلاة الوقت بعدها، ولا يجب. وقال أبو حنيفة رَحِمَهُ اللَّهُ: يجب الترتيب في قضاء الفوائت ما لم تزد على صلاة يوم الجمعة حتى قال: ولو تذكر في صلاة الوقت فائتة تركها اليوم يبطل فرض الوقت، فيقضي الفائتى، ثم يعيد صلاة الوقت إلا أن يكون الوقت ضيِّقاً فلا يبطل، واستدل بالآية والخبر والقياس والأثر. أما الآية فقوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] أي عند دلوك الشمس، فالمعنى: أَقِم الصَّلاَةَ عِنْدَ تَذْكرها، وذلك يقتضي وجوب الترتيب. وأما الخبر فقوله عليه السلام: «مَنْ نَسِيَ صَلاَةً فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَها» والفاء للتعقيب. وروي في الصحيحين «أنَّ عُمَرَ بن الخطاب جاء إلى النَّبيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - يومَ الخندق فجعَلَ يَسُبُّ كفارَ قريش ويقول: والله يا رسول الله ما صلَّيْتُ العصرَ حتَّى كادت الشَّمْسُ تغربَ. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ:» وَأنَا والله ما صلَّيْتُهَا بعد «قال: فنزل إلى بُطْحَان فَصلى العصرَ (بَعْدَ ما غَرَبَت الشمسُ) ثم صلى بعدها المغرب» والاستدلال به من وجهين: أحدهما: أنه قال: «صَلُّوا كَمَا رَأيْتُمُونِي أُصَلِّي» وقد صلى الفوائت على الولاء فيجب علينا اتباعه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 197 والثاني: أن فعلَ النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إذا خرج مخرج البيان للمجمل كان حجة، وهذا الفعل خرج بياناً لمجمل قوله: «أَقِيمُوا الصَّلاةَ» ولهذا قالوا: إن الفوائت إذا كانت قليلة يجب مراعاة الترتيب فيها، فإذا كثرت سقط الترتيب للمشقة. وأما الأثر: فرُوِي عن ابن عمر أنه قال: «مَنْ فاتَهُ صلاةٌ فَلَمْ يَذْكُرْهَا إلا في صَلاةِ الإمام فليمض في صلاته، فإذَا قَضَى صلاتَه مع الإمَام يُصَلِّي ما فاته، ثم ليعُد التي صلاها مع الإمام» وروي ذلك مرفوعاً إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ. وأما القياس: فإنهما صلاتا فرض جمعهما وقت واحد في اليوم والليلة، فأشبهتا صلاتي عرفةٍ والمزدلفة، فلما لم يجب إسقاط الترتيب فيهما، وجي أن يكون حكم الفوائت فيما دون اليوم والليلة كذلك. واحتج الشافعي رَحِمَهُ اللَّهُ بما روى أبو قتادة: «أنَّهُمْ لَمَّا نَامُوا عَنْ صَلاَةِ الفَجْرِ ثُمَّ انْتَبَهُوا بَعْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ أَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ أَنْ يقُودُوا رَوَاحِلَهُم ثُمَّ صَلاَّهَا» ولو كان وقت التذكير معيناً للصلاة لما جاز ذلك، فعلمنا أن ذلك الوقت وقت لتقرر الوجوب عليه، لكن لا على سبيل التضييق بل على سبيل التوسع، وإذا ثبت هذا فنقول: إيجاب قضاء الفوائت، وإيجاب أداء فرض الوقت الحاضر يجري مجرى التخيير بين الواجبين، فوجب أن يكون المكلف مخيراً في تقديم أيهما شاء، ولأنه لو كان الترتيب واجباً في الفوائت لما سقط بالنسيان، ألا ترى أنه إذا صلى الظهر والعصر بعرفة في يوم غيْم، ثم تبين أنه صلى الظهر قبل الزوال (والعصر بعد الزوال) فإنه يعيدهما جميعاً، ولم يسقط الترتيب بالنسيان لما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 198 كان شرطاً فيهما، فها هنا أيضاً لو كلن الترتيب شرطاً فيهما لما كان يسقط بالنسيان. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 199 قوله تعالى: {إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} . (لمَّا خاطب موسى عليه السلام بقوله: «فَاعْبُدْنِي وَأَقِم الصَّلاَةَ لِذِكْرِي» أتبعُه بقوله: «إنَّ السَّاعَة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيَها» ، وما أليق هذا بتأويل من تأوّل قوله: «لِذِكْرِي» أي لأذكرك بالإثابة والكرامة فقال عقيب ذلك «إنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ» لأنها وقت الإثابة ووقت المجازاة، ثم قال: «أَكَادُ أُخْفِيَهَا» . العامة على ضم الهمزة من «أَخْفِيَها» . وفيها تأويلات: أحدها: أن الهمزة في «أُخْفِيهَا» للسلب والإزالة، أي: أزيل خفاءها نحو: أَعْجَمْتُ الكتابَ أي: أزلت عجمتَه، وأشكيتُه أي أزلت شكواه، ثم في ذلك معينان: أحدهما: أن الخفاءَ بمعنى (الستر) ، ومتى أزال سترها فقد أظهرها، والمعنى: أنها لتحقّق وقوعها وقربها أكاد أظهرها لولا ما تقتضيه الحكمة من التأخير. والثاني: أن الخفاءَ هو الظهور كما سيأتي، والمعنى: أزيل ظهورها، وإذا أزال ظهورها فقد استترت، والمعنى: أن لشدّة إبهامها أكادُ أخفيهَا فلا أظهرها ألبتة وإن كان لا بد من إظهارها، ولذلك يوجد في بعض المصاحف كمصحف أُبَيّ: «أَكَادُ أُخْفِيَهَا من نفسي فكيف أظهركم عليها» وهو على عادة العرب في المبالغة في الإخفاء، قال الشاعر: 3644 - أَيَّامَ تَصْحَبُنِي هِنْدٌ وَأُخْبِرُهَا ... مَا كِدْتُ أَكْتُمُهُ عَنِّي مِنَ الخَبَرِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 199 وكيف يتصوّر كتمانه من نفسه؟ قال القاضي: هذا بعيد، لأن الإخفاء إنما يصح ممن يصح له الإظهار، وذلك مستحيل عليه تعالى، لأن كلَّ معلومٍ له، فالإظهار والإسرار فيه مستحيل. ويمكن أن يُجاب بأن ذلك واقع على التقدير، بمعنى لو صح مني إخفاؤه عن نفس أخفيته عني، والإخفاء وإن كان محالاً في نفسه إلا أنه يمتنع أن يذكر على هذا التقدير، مبالغة في عدم إطلاع الغير عليه. والتأويل الثاني: أن (كَادَ) زائدة قاله ابن جبير، وأنشد غيره شاهداً عليه قول زيد الخيل: 3645 - سَريعٌ إلَى الهَيْجَاءِ شَاكٍ سِلاَحَهُ ... فَمَا إنْ يَكَادُ قِرْنُهُ يَتَنَفَّسُ وقول الآخر: 3646 - وَأَنْ لا أَلُومُ النَّفْسَ مِمَّا أَصَابَنِي ... وَأَنْ لاَ أَكَادُ بالَّذِي نِلْتُ أنْجَحُ ولا حجة في شيء منه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 200 والتأويل الثالث: أنَّ الكيدَ ورد بمعنى الإرادة، قاله الأخفش وجماعة، وهو قول إبِي مسلم، فهو كقوله: «كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ» ومن أمثالهم المتداولة «لا أفْعَلُ ذَلِكَ وَلا أَكَادُ. أي: لا أُريد أَنْ أفعله، وهذا) لا ينفع فيما قصدوه. التأويل الرابع: أنَّ خبرها محذوف، تقديره: أكادُ آتِي بها لقُرْبِها، وأنشدوا قول ضابئ البرجمي: 3647 - هَمسْتُ وَلَمْ أفْعَلْ وكِدْتُ وَلَيْتَنِي ... تَرَكْتُ عَلى عُثْمَانَ تَبْكِي حَلاَئِلُهُ أي: وكدت أفعل. فالوقف على» أَكَادُ «والابتداء ب» أُخْفِيَها «، واستحسنه أبو جعفر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 201 وذكر ابن الخطيب هنا سؤالاً: فقال: إنَّ (كادَ) نفيه إثبات وإثباته نفي، قال تعالى:» وَمَا كَادُوا يَفْعَلُون «، أي: ففعلوا ذلك، فقوله:» أكَادَ أُخْفِيَها «يقتضي أنه ما أخفاها. وذلك باطل لوجهين: أحدهما: لقوله تعالى: {إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة} [لقمان: 34] الثاني: إنَّ قوله: {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار. ثم أجاب بوجوه: الأول: أنَّ «كَادَ» موضوع للمقاربة فقط من غير بيان النفي والإثبات، فقوله: «أَكَادُ أُخْفِيها» معناه: قرب الأمر فيه من الإخفاء. وأمَّا أنَّه هل حصل ذلك أو ما حصل فهو غير مستفاد من اللفظ بل بقرينة قوله: {لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} فإن ذلك إنما يليق بالإخفاء لا بالإظهار. الثاني: أنَّ «كَادَ» من الله: وجب، فمعنى قوله: أَكَادُ أُخْفِيَها «أي: أنا أُخْفِيها عن الخلق، كقوله: {عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً} [الإسراء: 51] أي هو قريبٌ قاله الحسن. وذكر باقي التأويلات المتقدمة. وقرأ أبُو الدرداء وابن جبير والحسن ومجاهد وحميد:» أَخْفِيَها «بفتح الهمزة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 202 والمعنى: أظهرها بالتأويل المتقدم، يقال: خَفَيْتُ الشيء: أظهرتُه وأخفيتُه سترتُه هذا هو المشهور وقد نقل عن أبي الخطاب أنَّ خَفَيْتُ وأَخْفَيْتُ بمعنى. وحكى عن أبي عبيد أَنَّ أخْفَى من الأضداد يكون بمعنى أظْهَرَ وبمعنى سَتَرَ. وعلى هذا تتخذ (القراءتان) . ومن مجِئ خَفَيْتُ بمعنى أظهرت قول امرئ القيس: 3648 - خَفَاهُنَّ مِنْ أَنْفَاقِهِنَّ كَأَنَّمَا ... خَفَاهُنَّ وَدْقٌ مِنْ عِشِيٍّ مُجْلِّبِ (وقول الآخر: 3649 - فَإنْ تَدْفِنُوا الدَّاءَ لاَ نُخْفِهِ ... وَإنْ تُوقِدُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدِ) قال الزجاج: وهذه القراءة أبْيَنُ، لأن معناها: أكادُ أَظْهِرُها (فيفيد أنه قد أخفاها) . والحكمة في إخفاء الساعة وإخفاء وقت الموت: أنَّ الله تعالى وعد قبلها التوبة عند قربهما، فلو عرف وقت الموت لاشتغل بالمعصية إلى وقت قرب ذلك الوقت ثم يتوب فيتخلص من عقاب المعصية، فتعريف وقت الموت كالإغراء بفعل معصية وهو لا يجوز. قوله:» لِتُجْزَى «هذه لام كي، وليست بمعنى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 203 القسم أي: لِتُجْزَيَّن كما نقله أبو البقاء عن بعضهم، وتتعلق هذه اللامِ بأُخْفِيها. وجعلها بعضهم متعلقة ب (آتِيَةٌ) ، وهذا لا يتم إلا إذا قدرت أن» أكَادُ أُخْفِيِهَا «معترضة بين المتعلق والمتعلق به، أما إذا جعلتها صفة (آتِيَةٌ) فلا يتم على مذهب البصريين، لأن اسم الفاعل متى وصف لم يعمل فإن عمل ثم وصف جاز. وقال أبو البقاء: وقيل: ب (آتِيَةٌ) ، ولذلك وقف بعضهم على ذلك وقفة يسيرة إيذاناً بانفصالها عن (أخفيها) . قوله:» بِمَا تَسْعَى «متعلق ب» لِتُجْزَى «. و» مَا «يجوز أن تكون مصدرية أو موصولة اسمية، ولا بد من مضاف، أي: لِتُجْزَى بعقاب سعيها، أو: بعقاب ما سعته. فصل لمَّا حكم بمجيء الساعة ذكرَ الدليلَ عليه، وهو أنه لولا القيامة لما تميز المطيع من العاصي، وهو المعنيُّ بقوله: {أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار} [ص: 28] . واحتجت المعتزلة بهذه الآية على أن الثواب مستحق على العمل، لأن (الباءَ) للإلصاق، فقوله: «بِمَا تَسْعَى» يدل على أن المؤثر في ذلك الجزاء هو ذلك السعي واحتجوا بها أيضاً على أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى، لأن الآية صريحة في إثبات الجزء: 13 ¦ الصفحة: 204 سعي العبد، ولو كان الفعل مخلوقاً لله تعالى لم يكن للعبد سعي ألبتة «. قوله:» فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا «من لا يؤمن هو المنهي صورة، والمراد غيره، فهو من باب: لا أريَنَّك هَهُنَا. وقيل: إن صدَّ الكافرِين عن التصديق بها سبب للتكذيب، فذكر السبب ليدل على المسبب. والضميران في» عَنْهَا «و» بِهَا «للسَّاعة قاله ابن عباس: وذلك أنه يجب عود الضمير إلى أقرب مذكور وهو هنا الساعة. وقيل: للصلاة. وقال أبو مسلم: الضمير في (عَنْهَا) للصَّلاة، وفي (بِهَا) للسَّاعة، قال: وهذا جائز في اللغة، فالعرب تلف الخبرين ثم ترمي بجوابهما جملة ليرد السامع إلى كل خبر حقه. وأجيب بأنَّ هذا إنما يصار إليه عند الضرورة ولا ضرورة (ههنا) . قوله:» فَتَرْدَى «يجوز فيه أن ينتصب في جواب النهي بإضمار» أَنْ) وأن يرتفع على خبر ابتداء مضمر تقديره: فَأَنْتَ تَرْدَى. وقرأ يحيى: «تَرْدَى» بكسر التاء، وقد تقدم أنها لغة والرَّدَى الهلاك يقال: رَدِيَ يَرْدَى رَدّى، قال دُرَيْد (بن الصمة) : الجزء: 13 ¦ الصفحة: 205 3650 - تَنَادَوْا فَقَالُوا أَرْدَتِ الخَيْلُ فَارِسَاً ... فَقُلْتُ أَعْبُدَ اللهِ ذَلِكُمُ الرَّدِي فصل الخطابُ في قوله: «فَلاَ يَصُدَّنَّكَ» يحتمل أن يكون مع موسى، وأن يكون مع محمد - عليهما السلام -. والأقرب أنه مع موسى - عليه السلام -، لأنَّ جميع الكلام خطاب له. وعلى كلا الوجهين فلا معنى لقول الزجاج: إنَّه ليس بمراد وإنما أريد به غيره، وذلك لأنه ظن أن النبيَّ - عليه السلام - لما لم يجز عليه مع النُّبَوَّة أن يصده أحد عن الإيمان بالساعة لم يجز أن يكون مخاطباً بذلك، وليس الأمر كما ظن، لأنه إذا كانَ مكلَّفاً بأنْ لا يقبلَ الكفر بالساعة من أحد وكان قادراً على ذلك جاز أن يخاطب به، (ويكون المراد) هو وغيره. ويحتمل أيضاً أن يكون المراد بقوله: «فَلا يَصُدنَّكَ عَنْهَا» النهي عن الميل إليهم ومقاربتهم. فصل المقصودُ نَهْيُ موسى - عليه السلام - عن التكذيب بالبعث، ولكن الظاهر اللفظ يقتضي نهيَ منْ لم يؤمن عن صدِّ موسَى - عليه السلام - وفيه وجهان: أحدهما: أن صدَّ الكافر عن التصديق بها سببٌ للتكذيب، فذكر السبب ليدل على المسبب. (ذلك أن صد الكافر مسبب عن رخاوة الرَّجُل في الدِّين، فذكر المسبب ليدل حمله على السبب) كقولهم: لاَ أضرَيَنَّكَ هَهُنَا. المراد نهيه عن مشاهدته والكون بحضرته فهكذا ههنا، كأنه قيل: لا تكن رخواً بل كن في الدين شهيداً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 206 فصل دلَّت الآية على وجوب تعلم علم الأصول، لأن قوله: «فَلاَ يَصُدَّنَّكَ» يرجع معناه إلى صلابته في الدين، وتلك الصلابة إن كان المراد بها التقليد لم يتميز المبطل فيه عن المحق، فلا بد وأن يكون المراد بهذه الصلابة كونه قوياً في تقرير الدلائل، وإزالة الشبهات حتى لا يتمكن الخصم من إزالته عن الدين بل يكون هو متمكناً من إزالة المبطل عن بطلانِهِ. (فصل) قوله: «فَلاَ يَصُدَّنَّكَ» يدل على أن العبادَ هُمُ الذين يصدون، ولو كان تعالى هو الخالق لأفعالهم لكان هو الصَّاد دونهم، فدل ذلك على بطلان القول بالجبر. وأجيب بالمعارضة بمسألة العلم (والداعي) . ثم قال تعالى: «واتَّبَعَ هَوَاهُ» والمعنى أن منكر البعث إنَّما أنكره اتباعاً للهوى لا للدليل، وهذا من أعظم الدلائل على فساد التقليد، لأن المقلّد متبعٌ للهوى (لا للحجة) ثم قال: «فَتَرْدَى» أي: فتهلك. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 207 قوله تعالى: {واذكر فِي الكتاب} الآية. (مَا) مبتدأة استفهامية و «تِلْكَ) خبره، و» بِيَمِينِكَ «متعلق بمحذوف، لأنه حال كقوله:» وَهَذَا بَعْلِي شَيْخَاً «، والعامل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 207 في الحال المقدرة معنى الإشارةَ وجوَّز الزمخشري أن تكون (تِلْكَ) موصولة بمعنى (التي) و (بِيَمِينِكَ) صلتها. ولم يذكر ابنُ عطية غيره. وهذا ليس مذهب البصريين أنهم لم يجعلوا (من أسماء) الإشارة موصولاً (إذَا) بشروط تقدمت. وأما الكوفيون فيجيزون ذلك جميعها، ومنه هذه الآية عندهم أي: وَمَا التي بيمينك وأنشدوا: 3651 - نَجَوْتَ وَهَذَا تَحْمِلِينَ طَلِيقُ ... أي والذي تحملين. وقال الفراء معناه: وَمَا هذِهِ التي فِي يمينِكَ. فصل السؤال إنما يكون لطلب العلم، وهو على الله تعالى محال. فما فائدة قوله:» وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ «؟ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 208 والجواب فيه فوائد، الأولَى: حكمةُ هذا السؤال تنبيهُهُ وتَوْقيفُه على أنها عصا، حتى إذا قلبها حية عَلِمَ أنها معجزةٌ عظيمةٌ، وهذا على عادة العرب يقول الرجل لغيره: هَلْ تَعْرِف هَذَا؟ وهو لا يشك أنه يعرفه، ويريد أن ينضم إقراره بلسانه إلى معرفته بقلبه. الثانية: أن يقرِّرُ عنده أنها خشبة حتى إذا قلبها ثعباناً لا يخافُها. الثالثة: أنه تعالى لمَّا أراه الأنوار المتصاعدة من الشجرة إلى السماء، وأسْمَعَهُ كلام نفسه، ثم أورد عليه التكليف الشاق، وذكر له المعاد، وختم ذلك بالتهديد العظيم، فتحيَّر موسى - عليه السلام - ودُهِشَ، (فقيل له:» وَمَا تِلْكَ بِيَمِينكَ «، وتكلم معه بكلام البشر إزالةٌ لتلك الدهشة والحيرة) . فصل هذا خطاب من الله مع موسى بلا واسطة، ولم يحصل ذلك لمحمد عليه السلام فيلزم أن يكون موسى أفضَل من محمد عليهما السلام. فالجوابُ: أنَّه تعالى كما خاطبَ موسَى فقد خاطب محمداً في قوله:» فَأَوْحَى إلَى عِبْدِهِ مَا أَوْحَى «إلا أن الفرق أنَّ الذي ذكره مع محمد كان سراً لم يستأهل له أحداً من الخلق. وأيضاً إن كان موسى تكلم معه فأمةُ محمد يخاطبون الله تعالى في كل يوم مرات على ما قاله عليه السلام:» المُصَلَّى يُنَاجَي رَبَّهُ «والرَّبُ يتكلم مع آحاد أمة محمد يوم القيامة بالتسليم والتكريم لقوله: {سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ} قوله:» هِيَ عَصَايَ «هِيَ يعودُ على المستفهم عنه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 209 وقرأ العامة» عَصَايَ «بفتح الياء. والجَعْفَرِيّ وابنُ أبي إسحاق» عَصِيَّ «بالقلب والإدغام. وقد تقدَّم توجيه ذلك أوّل البقرة، ولِمَنْ تنسب هذه اللغة والشعر المروي في ذلك. وروي عن أبي عمرو ابن أبي إسحاق أيضاً (والحسن» عِصَاي «بكسر الياء لالتقاء الساكنين، وعن أبي إسحاق) » عِصَايْ «بسكونها وصلاً وقد فعل ذلك نافع مثل ذلك في» مَحْيَايَ «فجمع بين ساكنين وصلاً، وقد تقدم الكلام هناك. قوله: «أَتَوَكَّأُ» يجوز أن يكون خبراً ثانياً ل «هِيَ» ويجوز أنْ يكونَ حالاً إمَّا مِنْ «عَصَايَ» وإمَّا مِنْ «الياء» وفيه بُعدٌ، لأن مجيء الحال من المضاف إليه قليل، وله مع ذلك شروط ليس فيه شيء منها هنا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 210 ويجوز أن تكون مستأنفة. وجوَّز أبو البقاء نقلاً عن غيره: أن يكون «عَصَايَ» منصوبة بفعل مقدر، و «أَتَوَكَّأُ» هو الخبر. ولا ينبغي أن يقال ذلك. والتَّوكّؤُ: التحامُلُ على الشيء، وهو بمعنى الاتِّكاء، وقد تقدم تفسيره في يوسف فهما من مادة واحدة، وذكر هنا، لاختلاف وزنيها. والهَشُّ بالمعجمية: الخَبْطُ، يقال: هَشَشْتُ الوَرَقَ أَهُشُّهُ أي: خبطته ليسقط، والمعنى: أَخْبِطُ بِهَا وَاَضْرِبُ أغصانَ الشجر ليسقط ورقُهَا على غنمي لتأكله وأما هَشَّ يَهِشُّ - بكسر العين في المضارع، فبمعنى البشاشة وقد قرأ النخعي بذلك، فقيل: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 211 هو بمعنى: أَهُشُّ - بالضم - والمفعول محذوف في القراءتين أي: أهُشُّ الورقَ أو الشجرَ وقيل: هو في هذه القراءة من هَشَّ هشاشةً إذا مال. وقرأ وقرأ الحسن وعكرمة: «وأَهُسُّ» بضم الهاء والسين المهملة وهو السُّوْقُ، ومنه الهَسُّ (والهَسَّاسُ) وعلى هذا فكان ينبغي أن يتعدى بنفسه، ولكنه ضمَّن معنى ما يتعدى بعلى وهو أقوم (وَأَهْوَنُ) . ونقل ابن خالوية عن النخعي أنه قرأ «وأُهِسُّ» بضم الهمزة وكسر الهاء من (أَهَسَّ) رباعياً بالمهملة. ونقلها عنه الزمخشري بالمعجمة، فيكون عنه قراءتان ونقل صاحب اللوائحِ عن مجاهد وعكرمة «وأهُشُ» بضم الهاء وتخفيف الشين، قال ولا أعرف لها وجهاً إلا أن يكون قد استثقل التضعيف مع تفشي الشين فخفف، وهي بمعنى قراءة العامة. وقرأ بعضهم: «غَنَمِي» (بسكون النون) ، وقرئ «عَلَيَّ» بتشديد الياء والمْآرِبُ: جمع مَأْرُبَة، وهي الحاجة وكذلك الإرْبَة أيضاً. وفي (راء) المَأرُبَة الحركات الثلاث. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 212 وإنما قال: «مَآرِب» في معنى جماعة، فكأنه قال جماعة من الحاجات أخرى، ولم يقل أخر لرؤوس الآي (و «أُخْرَى» ) كقوله: «الأسْمَاءُ الحُسْنَى» وقد تقدَّم قريباً. قال أبو البقاء: ولو قال: أخر لكان على اللفظ. يعني أُخَر كقوله: «فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَر» بضم الهمزة وفتح الخاء واللفظ لفظ الجمع. ونقل الأهوازيّ عن شيبة والزهري: مَارِبُ «قال: بغير همز كذا أطلق والمراد بغير همز محقق بل مسهل بَيْنَ بَيْن وإلا فالحذف بالكلية شاذ. فصل قيل: كما قال:» هِيَ عَصَايَ «فقد تم الجواب إلا أنه عليه السلام ذكر الوجوه الآخر، لأنه كان يجب المكالمة مع ربه تعالى، فجعل ذلك كوسيلة إلى تحصيل هذا الغرض. » الجزء: 13 ¦ الصفحة: 213 أتَوكَّأُ عَلَيْهَا «التوَكُّؤْ والاتِّكَاءُ واحد كالتوقي والاتقاء، أي أعتمد عليها إذا عييت، أو وقفت على رأس القطيع» وأهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي «أي: أضرب أغصان الشجر ليسقط ورقها على الغنم (فتأكله) . «وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرَى» أي حوائج ومنافع، وإنما أجمل في المآرب رجاء أن يسأله ربه عن تلك المآرب، فيسمع كلام الله مرة أخرى، ويطول أمر المكالمة بسبب (ذلك) . قال وهب: كانت ذا شعبتين (ومحجن، فإذا طلبَ ثمرَ الشجرة جناه بالمحجن، فإذا حاول كسره لواه بالشعبتين) . فإذا سارَ وضعهَا على عاتقه يعلق عليها أداته من القوس والكنانة والثياب، وإذا كان في البرية ركزها وألقى عليها كساء فكان ظلاً. وقيل: كانَ فيها من المعجزات أنه كان يستقي بها فتطولُ طولَ البئر، وتصير شعبتاها دلواً، ويصيران شمعتين في الليل وإذا ظهر عدو حاربت عنه، وإذا اشتهى ثمرة ركزها فأورقت وأثمرت، وكان يحمل عليها زاده وماءه وكانت يابسة ويركزها فينبع الماء، وإذا رفعها نضب، وكان تقيه الهوام قال مقاتل: كان اسمها نبعة. وروي عن ابن عبَّاس: أنها كانت تماشيه وتحدثه. قال الله تعالى: «ألْقِهَا يَا مُوسَى» أي انبذها. قال وهب ظن موسى أنه يقول أرفُضْهَا «فَألْقَاهَا» على وجه الأرض ثم ينظر إليها «فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى» صفراء أعظم ما تكون من الحيات تمشي بسرعة لها عرف الجزء: 13 ¦ الصفحة: 214 كعرف الفرَس، وكان بين لحييها أربعون ذراعاً، صارت شدقين لها والمِحجن عنقاً يهتز، وعيناها متقدان كالنار، وتمر بالصخرة العظيمة مثل الخلفة من الإبل فتلتقمها، وتقصف الشجرة العظيمة بأنيابها، ويسمع لأسنانها (صريف عظيم) . وهذا خارق عظيم وبرهان قاطع على أن الذي يكلمه هو الذي يقول للشيء كُنْ فيكون. فصل والحكمة في قلب العصا حيَّةً في ذلك الوقت من وجوه: أحدها: لتكون معجزةً لموسى - عليه السلام - يعرف بها نبوة نفسه، لأنه عليه السلام - إلى هذا الوقت ما سمع إلا النداء. والنداء وإن كان مخالفاً للعادات إلا انه لم يكن معجزاً، لاحتمال أن يكون ذلك من عادات الملائكة أو الجن، فقلب العصا حيَّةً ليكون دليلاً قاهِراً على الممعجزة. الثاني: أنه تعالى عرضَها عليه ليشاهدوها أولاً، فإذا شاهدها عند فرعون لا يخافها. وثالثها: أنه كان راعياً فقيراً ثم نُصِّب للمِنْصبِ العظيمِ فلعله بقي يتعجب من ذلك، فقلب العصا حيَّةً تنبيًّا على أني لما قدرت على ذلك، فكيف يستبعد مني نصرة مثلك في إظهار الدين. فإنْ قيل: كيف قال ههنا «حَيَّة» وفي موضع آخر «جَان» وهو الحية الخفية الصغيرة، وقال في موضع «ثُعْبَانٌ» وهو أكبر ما يكون من الحيات؟ فالجواب: أن الحيَّة اسم جنس يقع على الذكر والأنثى والصغير والكبير وأما الجزء: 13 ¦ الصفحة: 215 الجَانَّ فقيل: عبارة عن ابتداء حالها فإنها كانت حيَّةً على قدر العصا ثم تورمت وتزايدت وانتفخت حتى صارت ثعباناً. وقيل: كانت في عظم الثعبان وسرعة الجانِّ لقوله تعالى: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ} [النمل: 10، القصص: 31] . (و «تسعى» ) يجوز أن تكون خبراً ثانياً عند من يجوز ذلك ويجوز أن تكون صفة ل «حَيَّةً» فلما عاين موسى ذلك «وَلَّى مُدْبِراً» ، وهرب ثم ذكر ربه فوقف استحياءً فنودي: «خُذْهَا فَلاَ تَخَفْ سُنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا» (وهيبتها) «الأُولَى» أي نردها عصا كما كانت. قوله: «سِيرَتَهَا» في نصبها أوجه: أحدها: أن تكون منصوبةً على الظرف، أي في سيرتها أي: طريقتها. الثاني: أن تكونَ منصوبة على البدل من «ها» «سَنُعِيدُهَا» بدل اشتمال لأن السيرة الصفة، أي سنعيدها صفتها وشكلها. الثالث: أنها منصوبةٌ على إسقاط الخافض أي: إلى سيرتها. قال الزمخشري: ويجوز أن يكون مفعولاً من عَادَ أي عادَ إليه، فيتعدى لمفعولين، ومنه بيت زهير: 3652 - وَعَادَكَ أَنْ تُلاَقِيهَا عَدَاءُ ... الجزء: 13 ¦ الصفحة: 216 وهذا هو (معنى قول من قال: إنه على إسقاط (إلى) و) كان قد جوَّز أن يكون ظرفاً كما تقدَّم، إلا أن أبا حيَّان ردَّه بأنّه ظرف مختص فلا يصل إليه الفعل إلا بواسطة (في) إلا فيما (شذ. والسيرَةُ) فِعْلَة تدل على الهيئة من السَّيْر كالركبة من الرُّكُوب، ثم اتسع فعبر بها عن المذهب والطريقة، قال خالد الهذلي: 3653 - فَلاَ تغْضَبَنْ مِنْ سِيرَةٍِ أَنْتَ سِرْتَهَا ... فَأوَّلَ رَاضٍ سِيرَةً مَنْ يَسِيرُهَا وجوَّز أيضاً أن ينتصب بفعل مضمر، أي: يسير سيرتها الأولى، وتكون هذه الجملة المقدرة في محل نصب على الحال؛ أي: سَنُعيدُهات سائرةً سيرتَهَا. فإن قيل: لمَّا نوديَ يا موسَى، وخصَّ بتلك الكرامات العظيمة وعلم أنه مبعوث من عند الله تعالى فلماذا خاف؟ فالجواب من وجوه: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 217 أحدها: أن ذلك الخوف كان من نفرة الطبع لأنه - عليه السلام - ما شاهد مثل ذلك قط، وهذا معلوم بدلائل العقول. قال أبو القاسم الأنصاري: وذلك الخوف من أقوى الدلائل على صدقه في النبوة، لأن الساحر يعلم أن الذي أتى به تمويه فلا يخافه البتة. وثانيها: خاف لأنه عليه السلام عرف ما لقي آدم منها. وثالثها: أن مجرد قوله «وَلاَ تَخَفْ» لا يدل على حصول الخوف كقوله: {وَلاَ تُطِعِ الكافرين} [الأحزاب: 1، 48] لا يدل على وجود تلك الطاعة، لكن قوله: {فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً} [النمل: 10، القصص: 31] يدل عليه. فصل قال المفسرون: كانَ علَى موسى مَدْرَعة من صوف قد خللها بعيدان. فلما قال له: «خُذْهَا» لف طرف المَدْرَعَةِ على يده، فأمره الله أن يكشف يده، فكشف. وقيل: إن مَلَكاً قال: أرأيت لو أذن الله بما تحاذره أكانت المدْرعة تغني عنك شيئاً؟ فقال: لا ولكني ضعيف، ومِنْ ضَعْفٍ خُلِقَتُ، فكشف يده، ثم وضعهَا في فم الحية فإذا هي عصا كما كانت، ويده في شعبتيها في الموضع الذي يضعها إذا تَوَكَّأَ. واعلم أن إدخاله يده في فم الحية من غير ضرر معجزة وانقلابها خشباً معجز آخر، وانقلاب العصا حيَّة معجز آخر، ففيها توالي معجزات المآرب التي تقدمت. قوله : {واضمم يَدَكَ إلى جناحكواضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} لا بد هنا من حذف والتقدير: واضمم يَدَك تنضم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 218 وأخرجها تخرج، فحذف من الأول والثاني وأبقى مقابلهما ليدلان على ذلك إيجازاً واختصاراً وإنما احتيج إلى هذا، لأنه لا يترتب على مجرد الضم الخروج. وقوله: «بَيْضَاءَ» حال من فاعل تخرج. قوله: «مِنْ غَيْرِ سُوءٍ» يجوز أن يكون متعلقاً ب «تَخْرُج» وأن يكون متعلقاً ب «بَيْضَاءَ» لما فيها من معنى الفعل حو ابيضت من غير سوء. (ويجوز) أن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير في «بَيْضَاء» . وقوله:: مِنْ غَيْرِ سُوءٍ «يسمى عند أهل البيان الاحتراس، وهو أن يؤتى بشيء يرفع توهم مَنْ يتوهم غير المراد، وذلك أن البياض قد يراد به البَرَص والبَهَق فأتى بقوله:» مِنْ غَيْرِ سُوءٍ «نفياً لذلك. قوله:» آيَةً «فيها أوجه: أحدها: أن يكون حالاً، أعني أنها بدل من ب» بَيْضَاءَ «الواقعة حالاً. الثاني: أنها حالٌ من الضمير في» بَيْضَاء «. الثالث: أنها حالٌ من (الضمير في) الجار والمجرور. والرابع: أنها منصوبة بفعل محذوف، فقدره أبو البقاء: جعلنَاهَا آيَةً، (أو آتيناك) آيةً. وقدره الزمخشري: خُذْ آيَةً، وقدر أيضاً: دونك آية. ورد أبو الجزء: 13 ¦ الصفحة: 219 حيان هذا، لأن ذلك من باب الإغراء، ولا يجوز إضمار الظروف في الإغراء. قال: لأن العامل حُذِف وناب هذا مكانه، فلا يجوز أن يحذف النائب أيضاً، وأيضاً فإن أحكامها تخالف العامل الصريح، فلا يجوز إضمارها وإن جاز إضمارها وإن جاز إضمار الأفعال. فصل يقال لكل ناحيتين، جَنَاحان كجناحي العسكر لطرفيه، وجناحا الإنسان جانباه والصل المستعار منه جناحا الطائر، لأنه يجنحها عند الطيران. وجناحا الإنسان عَضُدَاه أي: اضمم يدّك إلى إبْطِكَ تخرج بيضاء نيرة مشرقة من غير سوء وعن ابن عباس:» إلى جَنَاحِكَ «أي إلى صدرك. والأول أولى، لأن يدي الإنسان يشبهان جناحي الطائر، ولأنه قال:» تَخْرُج بَيْضَاءَ «ولو كان المراد بالجناح الصدر لم يكن لقوله» تَخْرُج «معنى. ومعنى ضم اليد إلى الجناح ما قاله في آية أخرى» وَأدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ «، لأنه إذا أدخل يده في جيبه كان كأنه قد ضم يده إلى حناحه. والسوءُ: الرداءة والقبح في كل شيء، وكنّى عن البَرَص كما كنّى عن العورة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 220 بالسَّوْأَة، والبرَص أبغضُ شيء إلى العرب، فكان جديراً بأن يُكْنَى عنه بالسُّوء، وكان عليه السلام شديد الأدمة فكان إذا أدخل يده اليمنى في جيبه، وأدخلها تحت إبطه الأيسر وأخرجها فكانت تبرق مثل البرق، وقيل: مثل الشمس، من غير برص، ثم إذا ردَّها عادت إلى لونها الأول. «آيَةً أُخْرَى» دلالة على صدقك سوى العصا. قوله: «لِنُريََكَ» متعلق بما دلَّت عليه «آيَةً» أي: دللنا بها لُنِرِيَكَ، أو ب (جَعَلْنَاهَا) ، أو ب (أتَيْنَاكَ) المقدر. وقدره الزمخشري: لِنُرِيَكَ فِعْلَنا ذلك، وجوَّز الحوفي أن يتعلق ب «اضْمُمْ» . وجوَّز غيرُه أن يتعلق (بتَخْرُج) . ولا يجوز أن يتعلق بلفظ آية، لأنها قد وصفت. وقدره الزمخشري أيضاتً: لِنُرِيَكَ خُذْ هذه الآيةَ أيضاً. قوله: «مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى» . يجوز أن يتعلق «مِنْ آيَاتِنَا» بمحذوف على أنه حال من «الكُبْرَى» حال كونها من آياتنا، على هاذ مفعولاً ثانياً «لُنِريَكَ» والتقدير: «لُنِريَكَ المُبْرَى» حال كونها من آياتنا، أي: بعض آياتنا ويجوز أن يكون المفعول الثاني نفس «مِنْ آيَاتِنَا» فيتعلق بمحذوف أيضاً، و «الكُبْرَى» على هذه صفة ل «آيَاتِنَا» ووصف الجمع المؤنث غير العاقل وصف الواحد على حد «مَآربَ أُخْرَى» و «الأَسْمَاءُ الحُسْنَى» . وهذان الوجهان قد نقلهما الزمخشري والحوفي (وأبو البقاء) واختار الجزء: 13 ¦ الصفحة: 221 أبو حيَّان الثاني قال: لأنه يلزم من ذلك أن تكون آياته كلها هي الكبرى، لأن ما كان بعض الآيات الكُبَر صدق عليه آية الكبرى، لأنها هي المتصفة بأفْعَل التفضيل، وأيضاً إذا جُعِلت «الكبرى» مفعولاً فلا يمكن أن يكون صفة للعصا واليد معاً، إذ كان يلزم التثنية، ولا جائز أن يخصَّ أحدهما بالوصف جون الأخرى، لأن التفضيل في كل منهما. فصل قال المفسرون: قال: «لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى» ولم يقل: الكُبَر لرؤوس الآي. وقيل: فيه إضمار معناه: لُنِرِيَكَ من آياتنا الآية الكبرى ويدل عليه قول ابن عباس: كانت يد موسى أكبر آياته وهو قول الحسن قال: اليد أعظم في الإعجاز من العصا، فإنه جعل «الكُبْرَى» مفعولاً ثانياً لنريك وجعل ذلك (راجعاً للآية القريبة، وقد) ضُعِّفَ ذلك بأنه ليس في اليد إلا تغير اللون، (وأما العصا ففيها تغير اللون) وخلق الزيادة في الجسم وخلق الحياة والقدرة والإعضاء المختلفة، وابتلاع الشجر والحجر، ثم عاجت عصا بعد ذلك، فقد وقع التغير مرة أخرى في كل هذه الأمور فكانت العصا أعظم. وأما قوله: «لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكُبْرَى» فقد ثبت أنه عائد إلى الكلام، وأنه غير مختص باليد. قوله تعالى : {اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} لما أظهر له الآيات عقبها بأنْ أرمه بالذهاب إلى فرعون، وبيَّن العلة في ذلك، وهو أنه طغى، وإنما خص فرعون بالذكر مع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 222 أنه بُعِثَ موسى إلى الكل لأنه ادعى الإلهية وتكبًّر، وكان متبوعاً فكان ذكره أولى. ومعنى «طَغَى» جاوز الحد في العصيان والتمرد، فبلِّغْهُ رسالتي وادْعُهُ إلى عبادتي وحذِّرْهُ نِقْمتي. قال موسى: «رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي» وسّعه للحق. (قال ابن عباس) : يريد حتى لا أخاف غيرك. والسبب في هذا السؤال ما حكى الله تعالى عنه في موضع آخر {وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي} [الشعراء: 13] وذلك أن موسى كان يخاف فرعون خوفاً شديداً، لشدة شوكته وكثرة جنوده، وكان يضيق صدراً (بما كُلِّفَ) من مقاومة فرعون فسأل الله تعالى أن يوسع قلبه حتى يعلم أن أحداً لا يقدر على مضرته إلا بإذن الله تعالى، وإذا علم ذلك لم يَخَفْ فرعون وشدة شوكته وكثرة جنوده. (قوله: «لي) صَدْرِي» متعلق ب «اشْرَحْ» ، قال الزمخشري: فإن قلت: (لي) في قوله: «اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي» ما جدواه والأمر مستتب بدونه. قلت: قد أبهم الكلام أولاً فقال: «اشْرَحْ لِي» «وَيَسِّرْ لِي» فعلم أن ثَمَّ مشروحاً وميسراً، ثم بين ورفه الإبهام بذكرهما، فكان ىكد لطلب الشرح لصده، والتيسير لأمره. ويقال: يَسَّرْتُهُ لكذا، ومنه «فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى» ويسرت له كذا، ومنه هذه الآية. قوله: «وَيَسِّرْ لِي أمْرِي» أي سَهِّل عليَّ ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون. وذلك لأن كل ما يصدر من العبد من الأفعال، والأقوال والحركات، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 223 والسكنات فما لم يصر العبد مريداً له استحال أن يصير فاعلاً له، فهذه الإرادة صفة محدثة، ولا بد لها من فاعل، وفاعلها إن كان هو العبد افتقر في تحصيل تلك الإرادة إلى إرادة أخرى ولزم التسلسل بل لا بد من الانتهاء إلى إرادة يخلقها مدبر العالم ففي الحقيقة هو الميسر للأمور. قوله: «واحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي» ، وذلك أن موسى كان في حجر فرعون ذات يوم في صغره، فلطم فرعون لطمةً، وأخذ بلحيته، فقال فرعون لآسية امرأته: إن هذا عدوِّي وأراد أن يقتلهن فقالت آسية: إنه صبي لا يَعْقِل ولا يميز جَرِّبْه إن شئت، فجاء بطشتين في أحدهما جمر، والآخر جوهر، فوضعهما بين يدي موسى، فأراد أن يأخذ الجوهر، فأخذ جبريل عيله السلام يد موسى فوضعها على النار، فأخذ جمرة فوضعها في فيه، فاحترق لسانه، (وصارت عليه عقدة) . وقيل: قرَّبا إليه ثمرةً وجمرة، فأخذ الجمرة فوضعها في فيه فاحترق لسانه. [قالوا] : ولم تحترق اليد، لأنها آلة أخذ العصا. وقيل: كان ذلك التعقد خلقة فسأل الله تعالى إزالته. واختلفوا في أنه لِمَ طلب حل العقدة؟ فقيل: لئلا يقع في خلل في أداء الوحي. وقيل: لئلا يستخف بكلامه فينفروا عنه ولا يلتفتوا إليه. وقيل: لإظهار المعجزة كما أن حبس لسان زكريا عن الكلام كان معجزاً في حقه، فكذا إطلاق لسان موسى - عليه السلام - معجز في حقه. فصل قال الحسن: إن تلك العقدة زالت بالكلية، لقوله تعالى: «قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 224 يَا مُوسَى» ، وقيل: هذا ضعيف، لأنه عليه السلام لم يقل: واحْلُلْ العقدة من لساني بل قال: «واحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي» ، فإذا حل عقدة واحدة فقد آتاه الله سؤله، والحق أنه انحل أكثر العقد وبقي منها شيء لقوله حكاية عن فرعون «أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِين» مع بقاء قدر من الانعقاد في لسانه وأجيب عنه بوجهين: أحدهما: أن المراد بقوله: «وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ» أي لا يأتي ببيان وحجة. والثاني: أن (كَادَ) بمعنى قَرُبَ. فلو كَانَ المراد هو البيان اللساني، لكان معناه: أنه لا يقارب البيان، فكان فيه نفي البيان بالكلية، وذلك باطل، لأنه خاطب فرعون وقومه، وكانوا يفهموزن، فكيف يمكن نفي البيان، بل إنما قالوا ذلك تمويهاً ليصرفوا الوجوه عنه. واعلم أن النطق فضيلة عظيمة، ويدل عليه وجوه: الأول: قوله تعالى: {خَلَقَ الإنسان عَلَّمَهُ البيان} [الرحمن: 3، 4] ، ولهذا قيل للإنسان: هو الحيوان الناطق. الثاني: اتفاق العقلاء على تعظيم أمر اللسان قال زهير: 3654 - لِسَانُ الفَتَى نِصْفَ وَنصْفٌ فؤاده ... فَلَمْ يَبْقَ إلاَّ صُورَةُ اللَّّحْمِ وَالدَّمِ وقالوا: ما الإنسان لولا اللسان إلا بهيمة مرسلة. أي لو ذهب النطق اللساني لم يبق من الإنسان إلا القدر الحاصل في البهائم. وقالوا: المَرْءُ بأصغريه أي قلبِه ولسانِه. وقالوا: «المَرْءُ مَخْبُوءٌ تَحْتَ لِسَانِهِ» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 225 الثالث: أن في مناظرة آدم - عليه السلام - مع الملائكة ما ظهرت الفضيلة إلا بالنطق حيث قال: {يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض} [البقرة: 33] . قوله: «مِنْ لِسَانِي» يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه صفة ل «عُقْدَة» أي: من عقد لساني، ولم يذكر الزمخشري غيره. ويجوز أن يتعلق بنفس «احلُلْ» ، والأول أولى. قوله: «واجْعَلْ لِي وَزِيراً» يجوز أن يكون مفعولاً ثانياً مقدِّماً و «وَزِيراً» ويجوز أن يكون متعلقاً بالجعل، و «هَارونَ» بدل من «وَزِيراً» وجوَّز أبو البقاء أن يكون «هَارُونَ» عطف بيان ل «وَزيراَ» . ولم يذكر الزمخشري غيره. ولما حكى أبو حيان هذا لم يعقبه بتنكير، وهو عجب منه فإنَّ عطفَ البيان يُشترط فيه التوافق تعريفاً وتنكيراً، وقد عرفت أن وزيراً نكرة، وهارون معرفة. والزمخشري قد تقدَّم له مثل ذلك في قوله تعالى: {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ} [آل عمران: 97] ، وتقدم الكلام معه هناك، وهو عائد هنا. ويجوز أن يكون «هارون» منصوباً بفعل محذوف كأنه قال: «أخصُّ من بينهم هارون الجزء: 13 ¦ الصفحة: 226 من بين أهلي ويجوز أن يكون» وَزيراً «مفعولاً ثانياً و» هارُونَ «هو الأول، وقدم الثاني عليه اعتناء بأمر الوزارة. وعلى هذا فقوله:» لِي «يجوز أن يتعلق بنفس الجعل، وأن يتعلق بمحذوف على أنه حال من» وَزِيراً «مفعولاً أول، و» مِنْ أهْلِي «هو الثاني. وقوله:» لِي «مثل قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] يعنون أنه به يتم المعنى. ذكر ذلك أبو البقاء. ولما حكاه أبو حيان لم يعقبه بنكير، وهو عجب، لأن شرط المفعولين في باب النواسخ صحة انعقاد الجملة الاسمية، وأنت لو ابتدأت بوزيرٍ وأخبرت عنه ب (مِنْ أَهْلِي) لم يجز، إذ لا مسوِّغ للابتداء به. و» أَخشي «بدل أو عطف بيان ل» هَارُونَ «. وقال الزمخشري: وإن جعل عطف بيان آخر جازِ وحَسُن. قال أبو حيَّان: ويبعُدُ فيه عطفُ البيان، لأن عطف البيانِ الأكثر فيه أن يكون الأول دونه في الشهرة، وهذا بالعكس. قال شهاب الدين: لم يُرِد الزمخشري أنَّ» أَخِيط عطفُ بيان ل «هَارُونَ» حتى يقول الشيخ: إن الأول وهو «هَاروُنَ» أشهر من الثاني وهو «أخِي» ، إنما عنى الزمخشري أنه عطفٌ بيان أيضاً ل «وزيراً» ، ولذلك قال: آخر، ولا بد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 227 من الإتيان بلفظه ليعرف أنه لم يرد إلا ما ذكرته. قال: «وَزيراً» وهَارُونَ «مفعولاً قوله:: اجْعَلْ» ، أوْ «لي وَزِيراً: معفولاه، و» هَارونَ «عطفُ بيان للوزير، و» أخِي «في الوجهين بدل من» هَاروُنَ «، وإن جعل عطف بيان آخر جازَ وحَسُنَ فقوله: (آخر) يُعَينُ أن يكون عطفَ بيان لما جُعِل عنه عطف بيان قبل ذلك. وجوَّز الزمخشري (في» أَخِي «) أن يرتفع بالابتداء، ويكون خبره الجملة من قوله:» اشْدُدْ بِهِ «، وذلك على قراءة الجمهور له بصيغة الدعاء، وعلى هذا فالوقف على» هَارُونَ «. وقرأ ابن عامر» أَشْدُد «للمضارعة، وجزم الفعل جواباً للأمر،» وَأُشْرِكْهُ «بضم الهمزة للمضارعة، وجزم الفعل نسقاً على ما قبله حكاية عن موسى: أنا أفعل ذلك. وقرأ الباقون بحذف همزة الوصل من الأول، وفتح همزة القطع في الثاني على أنهما دعاء من موسى لربه بذلك، وعلى هذه الجملة قد ترك فيها العطف خاصة دون ما تقدمها من جمل الدعاء وقرأ الحسن» أَشْدُدْ «مضارع شدد بالتشديد. والوزير: قيل: مشتق من الوِزْر، وهو الحبل الذي يحتضن به وهو الملجأ لقوله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 228 تعالى: «كَلاَّ لاَ وِزْرَاً» قال: 3655 - مِنَ السِّبَاعِ الضَّوَارِي دُونَهَا وَزَرٌ ... وَالنَّاسُ شَرُّهُمُ مَا دُونَهُ وَزَرُ كَمْ مَعْشَرٍ سَلِمُوا لَمْ يُؤذِهِمْ سَبْعٌ ... وَلاَ تَرَى بَشَراً لَمْ يُؤْذِهِم بَشَرُ وقيل: من المُؤَازَرَةِ، وهي المعاونة، نقله الزمخشري عن الأصمعي قال: وكان القياس أَزيراً يعني بالهمزة، لأن المادة كذلك، قال الزمخشري: (فقلبت) : الهمزة إلى الواو، ووجع قبلها إليها أنَّ فَعِيلاً جاء بمعنى مُفَاعِل مجيئا صالحاً كقولهم: عَشِيرِ، وجَلِيسِ، وخَلِيط وصَدِيق، وخَلِيل، ونَدِيم فلما قلبت فيه، وحمل الشيء على نظيره ليس بعزيز، ونظر إلى يؤازر وإخوته وإلى المؤازرة. يعني أن وزيراً بمعنى مُؤَازر، ومُؤازر تقلب فيه الهمزة واواً قليلة قياساً، لأنها همزة مفتوحة بعد ضمة فهو نظير مُؤَجَّل ويُؤاخذكم وشبهه، فَحُمِلَ أَزير عليه في القلب، وإنْ لم يكن فيه سبب القلب. والمُؤازرة مأخوذةٌ من إزار الرجل، وهو الموضع الذي يشده الرجل إذا استعد لعمل متعب. فصل اعلم أن طلبَ الوزير إما أنه خاف على نفسه العجزَ عن القيام بذلك الأمر فطلب المُعين، أو لآنه رأى أنَّ التعاونَ على الدين والتظاهرَ عليه مع مخالصة الود وزوال التهمة قربةٌ عظيمة في الدعاء إلى الله تعالى، ولذلك قال عيسى ابن مريم: {مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله} [آل عمران: 52] ، وقال لمحمد عليه السلام {يا الجزء: 13 ¦ الصفحة: 229 أيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين} [الأنفال: 64] وقال عليه السلام: «إنَّ لِي في السَّمَاءِ وَزِيرَيْنِ، وَفِي الأَرْضِ وَزِيرَيْن فاللَّذانَ فِي السَّماءِ جِبْريلُ وميكائيلُ (عليهما السلام) وّاللَّذانِ في الأرض أبو بكرٍ وَعمَرُ (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهما» ) «. وقال عليه السلام:» إذَا أَرَادَ اللهُ بِمَلِكٍ خيراً قَيَّضَ اللهُ لَُ وَزِيراً صَالِحاً إنْ نَسِيَ ذكَّره، وإنْ نَوَى خَيْراً أعانَه، وإنْ أَرَادَ شَرَّاً كَفَّهُ «وقال أنوشروان: لاَ يَسْتَغْنِي أجودُ السيوف عن الصقي، ولا أكرمُ الدوابَّ عن السَّوْط (ولا أعلمُ الملوك عن الوزير) . وأراد موسى - عليه السلام - أن يكون ذلك الوزير من أهله أي من أقاربه، وأن يكون أخاه هارون، والسببُ فيه إما لأن التعاونَ على الدين منفعة عظيمة فأراد أن لا تحصل هذه الدرجة إلا بأهله، أو لأن كل واحد منهما كان في غاية المحبة لصاحبه. وكان هارونُ أكبرَ سناً من موسى بأربع سنين، وكان أفصحَ منه لساناً، وأجملَ وأوسمَ أبيض اللون، وكان موسى آدم اللون أقْنَى جَعْداً. و» اشْدُدْ بِهِ (أزري) قَوِّ) ظَهْري، «وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي» في النبوة. والأَزْرُ القوة، وَآزَرَهُ: قَوَّاه. وقال أبو عبيدة: أَزْرِي: ظَهْرِي. وفي كتاب الخليل: الأَزْرُ الظَّهرُ. ثم إنه تعالى حكى عنه ما لأجله دعا بهذا الدعاء فقال: «كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثيراًط قال الكلبي: نُصَلِّي لكَ كثيراً، ونحمدكُ، ونثني عليك. والتَّسبيحُ: تنزيهُ اللهِ تعالى في ذاته وصفاته عمَّا لا يليق به.» وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً «أي: نصفُك بصفاتِ الجَلالِ والكِبْرِيَاء. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 230 قوله:» كَثِيراً «نعت لمصدر محذوف، أو حال من ضمير المصدر كما هو رأي سيبويه. وجوَّز أبو البقاء: أن يكون نعتاً لزمان محذوف، أي: زماناً كثيراً. قوله:» إنَّك كُنْتَ بِنَا بَصيراً «أي عالِماً بأنَّا لا نريد بهذه الطاعات إلا وجهَك ورضاك، أو بصيراً بأنَّ الاستعانةَ بهذه الأشياء لأجل حاجتي في النبوة إليه، أو بصيراً بوجوه مصالحنا فأَعْطِنَا ما هو أصلح لنا. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 231 قوله تعالى: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى} فُعْل بمعنى مَفْعُول كقولك: خُبْزٌ بمعنى مَخْبُوز وأُكْلٌ بمعنى مَأْكُول، ولا ينقاس و «مَرَّةً» مصدر، و «أُخْرَى» تأنيث آخر بمعنى: غير، وزعم بعضهم أنها بمعنى آخرة فتكون مقابلة للأولى، وتخيَّلَ لذلك بأن قال سمَّها أخرَى وهي أولَى، لأنها أخرى في الذكر. فصل إن موسى عليه السلام لما سأل ربه تلك الأمور الثمانية، وكان في المعلوم أن قيامه بما كلفه (لا يتم إلا بإجابته إليها، لا جرم أجابه الله تعالى إليها ليكون أقدر على إبلاغ ما كلف به) فقال: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى} فنبه بذلك على أمور: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 231 أحدها: كأنه تعالى قال: إني رَاعَيْتُ مَصْلَحَتَكَ قبل سؤالك فكيف لا أُعطيك مرادك بعد السؤال. وثانيها: إني كنت ربيتُك فلو منعتك الآن كان ذلك رداً بعد القبول وإساءة بعد الإحسان، فكيف يليق بكرمي. وثالثها: إنا أعطيناك في الأزمنةِ السالفةِ كلَّ ما احتجتَ إليه، ورقَّيْنَاكَ إلى الدرجة العالية، وهي درجة النبوة، فكيف يليق بمثل هذه الرتبة المنع عن المطلوب. ومعنى «مَنَنَّا عَلَيْكَ» أَنْعَمْنَا عَلَيْكَ «مَرَّةً أُخْرَى» فإن قيل: لِمَ ذكر تلك النِّعَم بلفظ المنّة مع أن هذه اللفظة مؤذية والمقامُ مقامُ التلطف؟ فالجواب: إنما ذكر ذلك ليعرف موسى عليه السلام أن هذه النعم التي وصل إليها ما كان مستحقاً لشيء منها، بل إنما خصَّه الله بها لمحض التفضل والإحسان. فإن قيل: لم ثال: «مَرَّةٌ أُخْرَى» مع أنه تعالى ذكر «مِنَنَاً» كثيرة؟ فالجواب: لَمْ يُعْنِ ب «مَرَّةٌ أُخْرَى» مرة واحدة من المنن، لأن ذلك قد يقال في القليل والكثير. قوله: «إذْ أَوْحَيْنَا» العامل في «إذِ مَنَنا» أي مننا عليك في وقت إيحائنا إلى أمك، وأبهَمَ في قوله: «مَا يُوحَى» للتعظيم كقوله تعالى: {فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78] وهذا وحي إلهام، لأن الأكثرين على أن أم موسى - عليه السلام - ما كانت من الأنبياء، وذلك لأن المرأة لا تصلح للقضاء والإمامة، ولا تمكن عند أكثر العلماء من تزويج نفسها، ويدل على ذلك قوله تعالى: {وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ} [الأنبياء: 7] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 232 والوحي قد جاء في القرآن لا بمعنى النبوة قال تعالى: {وأوحى رَبُّكَ إلى النحل} [النحل: 68] {وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين} [المائدة: 11] ثم اختلفوا في المراد بهذا الوحي على وجوه: الأول: أنه رؤيا رأتها أم موسى، وكان تأويلها وضع موسى عليه السلام في التابوت، وقذفه في البحر، وأن الله تعالى يرده إليها. الثاني: أنه عزيمة جازمة وقعت في قلبها دفعة واحدة. الثالث: المراد منه خطور البال وغلبته على القلب. فإن قيل: الإلقاء في البحر قريب من الإهلاك، وهو مساوٍ للخوف الحاصل من القتل المعتاد من فرعونَ، فكيف يجوز الإقدام على أحدهما لأجل الصيانَة عن الثاني؟ فالجواب لعلَّها عرفت بالاستقراء صدقَ رؤياها، فكان الإلقاء في البحر إلى السلامة أغلب على ظنها من وقع الولد في يد فرعون، أو لعله أوْحَى إلى بعض الأنبياء في ذلك الزمان كشُعَيْب أو غيره، ثم أن ذلك النبي عرفها إمّا مشافهة، أو مراسلة. واعترض عليه بأن الأمر لو كان كذلك لما لحجقها الخوف. وأجيب: ذلك الخوف كان من لوازم البشرية، كما أن موسى - عليه السلام - كان يخاف من فرعون مع أن الله - تعالى - كان أمره بالذهاب إليه مروراً. الرابع من الأوجه: لعل بعض الأنبياء المتقدمين كإبراهيم وإسحاق ويعقوب - عليهم السلام - أخبروا بذلك الخبر، وانتهى ذلك الخبر إلى أمه. أو لعل الله بَعَثَ إليها مَلَكَاً لا على وجه النبوة كما بعث إلى مريم في قوله: {فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً} [مريم: 17] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 233 وأما قوله: «مَا يُوحى» معناه: أوحينا إلى أمِّكَ ما يجب أن يُوحى، وإنما وجب ذلك الوحي، لأن الواقعة عظيمة، ولا سبيل إلى معرفة المصلحة فيها إلا بالوحي، فكان الوحي فيها واجباً. قوله: «أَن اقْذِفِيهِ» يجوز أن تكون «أَنْ» مفسِّرة، لأن الوحي بمعنى القول، ولم يذكر الزمخشري غيره. وجوز غيره أن تكون مصدرية، ومحلها حينئذ النصب بدلاً من «مَا يُوحَى» والضمائر في (قوله: «أن) اقْذِفِيه إلى آخِرِهَا عائدة على موسى - عليه السلام - لأنه المحدِّث عنه. وجوَّز بعضهم أن يعود الضمير في قوله: {فاقذفيه فِي اليم} للتابوت، وما بعده وما قبله لموسى - عليه السلام - وعَابَه الزمخشري وجعله تنافراً ومُخْرِجَاً للقرآن عن إعجازه فإنه قال: والضمائر كلها راجعة إلى موسى، ورجوع بعضها إليه وبعضها إلى التابوت فيه هجنة لما يؤدي إليه من تنافر النظم، فإن قلت: المقذُوفُ في البحر هو التابوتُ، وكذلك الملقى إلى الساحل قلت: ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل قلت: ما ضرك لو جعلت المقذوف والملقى إلى الساحل هو موسى في جوف التابوت حتى لا تفرق الضمائر، فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي، ومراعاته أهم ما يجب على المفسِّر. قال أبو حيَّان: ولقائلٍ أن يقول: إن الضمير إذا كانَ صالحاً لأن يعود على الجزء: 13 ¦ الصفحة: 234 الأقرب وعلى الأبعد، كان عوده على الأقرب راجحاً، وقد نص النحويون على هذا، فعوده على التابوت في قوله: {فاقذفيه فِي اليم فَلْيُلْقِهِ اليم} راجح، والجواب: أن أحدهما إذا كان محدِّثاً عنه والآخر فضلة كان عوده على المحدِّث عنه أرجح، ولا يلتفت إلى القرب ولهذا رددنا على أبي محمد بن جزم في دعواه أن الضمير في قوله تعالى:» فَإنَّه رِجْسٌ «عائد على (خِنْزِير) لا على (لَحْم) ، لكونه أقرب مذكور، فيحرم بذلك شحمه، وغضروفه وعظمه وجلده، فإن المحدِّث عنه هو لحم خنزير لا خنزير. وقد تقدمت هذه المسألة في الأنعام. قوله: «فَلْيُلْقِهِ اليَمُّ» هذا أمر معناه الخبر، ولكونه أمراً لفظاً جُزم جوابُه في قوله «يَأْخُذُه» ، وإنما خرج بصيغة الأمر مبالغة إذ الأمر أقطعُ الأفعال ولآكدها، قال الزمخشري: لما كانت مشيئةُ الله وإرادته أن يجري ماءُ اليَمِّ، ويلقى بذلك التابوت إلى الساحل سلك في ذلك سبيل المجاز، وجعل اليَمَّ كأنَّه ذو تمييزٍ أمر بلك ليطيع الأمر، ويتمثل رسمه فقيل: {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} . و «بالسَّاحِلِ» يحتمل أن يتعلق بمحذوف على أن الباء للحال. أي: ملتبساً بالسَّاحل. وأن يتعلق ينفس الفعل على أن الباء ظرفية بمعنى ( الجزء: 13 ¦ الصفحة: 235 في) والقذفُ يستعمل بمعنى الإلقاء والوضع، ومنه قوله: {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب} [الأحزاب: 26] واليَمُّ البحر، والمراد به ههنا نيلُ مصرَ (في قول الجميع) واليَمُّ: اسم يقع على النهر والبحر العظيم. قال الكسائي: والسَّاحِلُ فاعل بمعنى مَفْعُول، سمي بذلك لأن الماءَ يسحله أي: يغمره إلى أعره «. فصل روي أنها اتخذت تابوتاً. قال مقاتل: إن الذي صنع التابوت حُزَيْقِيل مؤمن آل فرعون وجَعَلت في التابوت قطناً ملحوجاً، ووضعت فيه موسى، وقيرت رأسه وشقوقه بالقير، ثم ألقته في النيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فبينما فرعون جالس على رأس البركة مع امرأته آسيةَ إذا بتابوت يجيء به الماء، فأمر الغلمان والجواري بإخراجه، فأخرجوه، وفتحوا رأسَه، فإذا صبيٌّ من أصبح الناس وجهاً، فلما رآه فرعون أحبه بحيث لم يتمالك، فذلك قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} قال ابن عباس: أَحّبَّه وحبَّبَهُ إلى خَلْقِه. وقال عكرمة: ما رآه أحد إلا أحبه. فإن قيل: قوله: {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} ولم يكن موسى في ذلك الوقت معادياً له. فالجواب: من وجهين: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 236 الأول: كونُه كافراً عدواً لله، وكونه عدواً لموسى - عليه السلام -، فإنه بحيث أو ظهر له على حاله لقتله. والثاني: عدواً بحيث يؤول أمره إلى عداوته. قوله:» مِنِّي «فيه وجهان: قال الزمخشري:» مِنِّي «لا يخلو إما أن يتعلق ب» أَلْقَيْتُ «فيكون المعنى: على أني أحببتك، ومن أحبه الله أحبته القلوب. وإما أن يتعلق بمحذوف هو صفة ل» مَحَبَّةٌ «أي: محبة حاصلة وواقعة مِني قد ركزتها أنا في القلوب، وزرعتها فيها، فلذلك أحبتك امرأة فرعون حتى قالت: {قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لاَ تَقْتُلُوهُ} [القصص: 9] . روي أنه كان على وجهه مسحة جمال، وفي عينيه ملاحة، لا يكاد يصبر عنه من رآه، وهو كقوله - تعالى -: {سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً} [مريم: 96] قال القاضي: هذا الوجه أقرب، لأنه حال صغره لا يكاد يوصف بمحبة الله تعالى التي ظاهرها من جهة الدين؛ لأن ذلك إنما حال صغره لا يكاد يوصف بمحبة الله تعالى التي ظاهرها من جهة الدين؛ لأن ذلك إنما يستعمل في المكلف من حيث استحقاق الثواب. فالمراد أول ما ذكر في كيفيته في الخلقة يستحلى ويغتبط به، وكذلك كانت حاله مع فرعون وامرأته. (ويمكن أن يقال) بل الاحتمال الأول أرجح لأن الاحتمال الثاني يحوج إلى الإضمار، وهو أن يقال: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةٌ حاصلةٌ مِنِّي وواقعة بتخليقي، وعلى الأول لا حاجة إلى الإضمار. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 237 وأما قوله: إنه حال صباه لا يحصل له محبة الله. فممنوع، لأن معنى الله هو اتصال النفع إلى عباده، وهذا المعنى كان حاصلاً ي حقه في زمان صباه، وعلم الله أن ذلك يستمر إلى آخر عمره، فلا جرم أطلق عليه لفظ المحبة. قوله: «وَلِتُصْنَع» قرأ العامة بكسر اللام وضم التاء وفتح النون على البناء للمفعول، ونصب الفعل بإضمار (أنْ) بعد لام (كي) ، وفيه وجهان: أحدهما: أن هذه العلة معطوفة على علة مقدرة قبلها. والتقدير: ليتلطف بك ولتصنع، (أو ليعطف عليك) . وترأم ولتصنع، وتلك العلة المقدرة متعلقة بقوله: «وَأَلْقِيْتُ» أي: ألقيت عليك المحبة (ليعطف عليك ولتصنع، ففي الحقيقة هو متعلق بما قبله من إلقاء المَحَبَّةِ) . والثاني: أن هذه اللام تتعلق بمضمر بعدها، تقديره: ولتصنع على عيني فعلت ذلك، أي: ألقيت عليكَ محبةً مِنِّي، أو كان كيت وكيت. ومعنى «وَلِتُصْنَعَ» أي لِتُرَبِّى ويُحْسِن إلَيْكَ، وأنا مراعيك، ومراقبك كما يراعى الإنسان الشيء بعينه إذا اعتنى به. قال الزمخشري. ومجاز هذا أنَّ مَنْ صنعَ للإنسانِ شيئاً وهو حاضر ينظر إليه صنعه كما يُحِبُّ، ولا يمكنه أن يخالف غرضه فكذا هنا. وفي كيفية المجاز قولان: الأول: المراد من العَيْنِ العلم، أي تُرَبَّى على علم مِنِّي، ولما كان العالم بالشيء يحرسه عن الآفات أطلق لفظ العَيْن على العلم (لاشتباههما) من هذا الوجه. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 238 الثاني: المراد من العَيْنِ الحراسة، لأن الناظر إلى الشيء يحرسه عما لا يريده، فالعين كأنها سبب الحراسة، فأطلق اسم السبب على المسبب مجازاً وهو كقوله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} [طه: 46] . ويقال: عَيْنُ الله عليك، إذا دعا له بالحفظ (والحياطة) . وقرأ الحسن وأبو نهيك: «وَلِتصْنَعَ» بفتح التاء. (قال ثعلب) : معناه لتكون حركتك وتصرفك على عينٍ مني. وقال قريباً منه الزمخشري. وقال أبو البقاء: أي: لتفعل ما آمرك بمرأى مني. وقرأ أبو جعفر وشيبة «وَلْتُصْنَعْ» بسكون اللام والعين وضم التاء، (وهو أمر معناه: لتُربِّ وليُحْسَن إليك) . وروي عن أبي جعفر في هذه القراءة كسر لام الأمر. ويحتمل مع كسر اللام أو سكونها حال تسكين العين أن تكون لام كي، وإنما سكنت تشبيهاً بكَتْف وكَبد، والفعل منصوب، والتسكين في العين لأجل الجزء: 13 ¦ الصفحة: 239 الإدغام لأنه لا يقرأ في الوصل إلا بإدغام فقط. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 240 قوله: «إذ تَمْشِي» (في عامل هذا الظرف أوجه: أحدها: أنَّ العامل فيه «أَلْقِيَتُ» ، أي: ألقيتُ عليكَ محبَّةٌ منِّي وقت مشي أختِك. الثاني: أنه منصوب بقوله: «وَلِتُصْنَع» ، أي: لتربَّى ويُحسنَ إليك في هذا الوقت: قال الزمخشري: والعامل في «إذ تَمْشِي» «أَلْقَيْتُ» أو «لِتُصْنَعَ» وقال أبو البقاء: «إذْ تَمْشِي» يجوز أن يتعلق بأحد الفعلين. يعني بالفعلين ما تقدم من «أَلْقِيْتُ» أو «لِتُصْنَعَ» ) . وعلى هذا فيجوز أن تكون المسألة من باب التنازع لأن كلاًّ من هذين العاملين يطلب هذا الظرف من حيث المعنى، ويكون من إعمال الثاني للحذف من الأول، وهذا إنما يتجه كل الاتجاه إذا جعلت «وَلِتُصْنَعَ» معطوفاً على علة محذوفة متعلقة ب «أُلْقِيْتُ» . أما إذا جعلته متعلقاً بفعلٍ مضمرٍ بعده فيبعد ذلك، أو يمتنع لكون الثاني صار من جملة أخرى. الثالث: أن يكون «إذْ تَمْشِي» بدلاً من «إذْ أَوْحَيْنَا» . قال الزمخشري: فإن قلت: كيف يصح البدل والوقتان مختلفان متباعدان؟ قلت: كما يصح وإن اتسع الوقت وتباعد طرفاه أن يقول لك الرجل: لَقيتُ فَلاناً سَنَةَ كذا، فتقول: وَأَنَا لَقيتهُ إذْ ذاك، وربما لقيه هو في أولها وأنت في آخرها. قال أبو الجزء: 13 ¦ الصفحة: 240 حيان: وليس كما ذكره، لأن السنة تقبل الاتساع، فإذا وقع لقيهما فيها بخلاف هذين الطرفين، فإن كل واحد منهما ضيق ليس بمتسع لتخصيصهما بما أضيفا إليه، فلا يمكن أن يقع الثاني في الطرف الذي وقع فيه الأول، إذ الأول ليس متسعاً لوقوع الوحي فيه ووقع مشي الأخت، فليس وقت وقوع الوحي مشتملاً على أجزاء وقع في بعضها المشي بخلاف السنة. قال شهاب الدين: وهذا تحامل منه عليه، فإن زمن اللقاء أيضاً ضيق لا يسع فعليهما، وإنما ذلك مبني على التساهل، إذ المراد أن الزمان مشتملٌ على فعليهما. وقال أبو البقاء: ويجوز أن يكون بدلاً من (إذ) الأولى: لأنَّ مشيْ أختِه كان مِنَّةً عليه. يعني أن قوله: «إذْ أَوْحَيْنَا» منصوب بقوله: ( «مَنَنَّ» ) فإذا جُعِلَ «إذْ تَمْشِي» بدلاً منه كان أيضاً ممتناً به عليه. الرابع: أن يكون العامل فيه مضمراً تقديره: اذكر إذ تَمْشِي، وهو على هذا مفعول به (لفساد المعنى على الظرفية) . قوله: {إِذْ تمشي أُخْتُكَ} (اسمها مريم) . يروي أنه فشا الخبر بمصر أن آل فرعون أخذوا غلاماً في النيل، وكان لا يرتضع من ثدي كل امرأة يؤتى بها، لأن الله - تعالى - حرَّم عليه المراضع غير أمه الجزء: 13 ¦ الصفحة: 241 واضطروا إلى تتبع النساء فخرجت أخته متعرفة خبره، فجاءت إليهم متنكرة فقالت: {هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} أي على امرأة ترضعه؟ قالوا نعم: فجاءت الأم، فَقَِبِلَ ثديها، فذلك قوله: {فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} بلقائك. قوله: {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} . قرأ العامة «تَقَرَّ» بفتح التاء والقاف وقرأت فرقة: «تَقِرَّ» بكسر القاف، وقد تقدم في سورة مريم أنهما لغتان. وقرأ جناح بن حبيش «تُقَرَّ» بضم التاء وفتح القاف على البناء للمفعول «عَيْنُها» رفعاً لما لم يسم فاعله. فإن قيل: (لو قال) : كي لا تحزن وتقرَّ عينُها كان الكلام مفيداً لأنه لا يلزم من عدم حصول الحزن حصول السرور لها، فلما قال أولاً {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} كان قوله «وَلاَ تَحزَن» فضلاً، لأنه متى حصل السرور وجب زوالُ الغمِّ لا محالة. فالجواب: المراد تقرَّ عينُها بسبب وصولك إليها، ويزول عنها الحزن بسبب عدم وصول لبن غيرها إلى باطنك. قوله: {وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم} ، وهذه المنّة الخامسة. قال ابن عباس: هو الرجل القبطي الذي قتله خطأ بأن (وكزه) حيث استغاثه الإسرائيلي إليه، فحصل له الغم من وجهين: الأول: من عقاب الدنيا، وهو اقتصاص فرعون منه على ما حكى الله تعالى عنه {فَأَصْبَحَ فِي المدينة خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ} [القصص: 18] . والثاني: من عقاب الله حيث قتله لا بأمر الله. فنجاه الله - تعالى - من الغمين، أما من فرعون فوفق له المهاجرة إلى مدين، وأما من عقاب الآخرة (فلأن الله تعالى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 242 غفر له ذلك) . (قال كعب الأحبار: كان عمره إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة) . قوله: «فُتُوناً» فيه وجهان: أحدهما: أنه مصدر على فُعُول كالقُعُود والجُلُوس، إلا أنَّ فُعُولاً قليل في المتعدي ومنه الشُّكُور والكُفُور والثُّبُور واللُّزُوم قال تعالى: {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62] وهذا على مذهبهم في تأكيد الأخبار بالمصادر، كقوله تعالى: {وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً} [النساء: 164] . والثاني: أنه جمع فِتْن أو فِتْنَة على ترك الاعتداء بتاء التأنيث كحُجُوزٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 243 وبُدُورٍ في حُجْرَةٍ وبَدْرَة، أي: فَتناكَ ضروباً من الفتن. عن ابن عباس أنه ولُِدَ في عام يُقْتَل فيه الولدان، وألقته أنه في البحر، وقَتَل البطيَّ، وأجَّرَ نفسه عشر سنين، وضلَّ عن الطريق وتفرقت غنمه في ليلة مظلمة. ولما سأل سعيد بن جبير عن ذلك أجاب بما تقدم، وصار يقول عند كل واحدة: فهذه فتنة يا ابن جبير، قال معناه الزمخشري. وقال غيره: بفُتُونٍ من الفِتَن أي المِحَن مختبر بها. وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الفتون وقوعه في محنة خلصه الله منها، أولها أنَّ أمه حملت في السنة التي كان فرعون يذبح فيها الأطفال، ثم إلقاؤه في البحر في التابوت، ثم مَنْعُه من الرضاع إلا من ثدي أمه، ثم أَخَذُه بحليةٍ فرعونَ حتى همَّ بقتلهِ، ثمو تناولت الجملة بدل الجوهرة ثم قَتْلُه القبطيَّ، وخروجه إلى مدين خائفاً. فعلى هذا معنى: فتناك أخلصناك من تلك المِحَن كما يُفْتَن الذهب بالنار فيتخلص من كل خبث فيه. فإن قيل: إنه تعالى عدَّد أنواع مِنَنِهِ على موسى في هذا المقام، فكيف يليق بهذا قوله: «وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً» ؟ فالجواب من وجهين: الأول: ما تقدم من أنَّ «فَتَنَّاكَ» بمعنى خلصناك تخليصاً. والثاني: أن الفتنة تشديد المحنة يقال: فُتِن فلانٌ عن دينه إذا اشتدت عليه المحنة حتى رجع عن دينه. قال تعالى: {فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت: 10] ، وقال: {أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} [العنكبوت: 2] الجزء: 13 ¦ الصفحة: 244 وقال: {وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} [العنكبوت: 3] ، ولما كان التشديد في المحنة مما يوجب كثرة الثواب عدَّه الله من جملة النِّعَم. فإن قيل: هل يَصلح إطلاق الفَتَّان عليه سبحانه اشتقاقاً من قوله: «وفَتَنَّاكَ فُتُوناً» ؟ فالجواب: لا لأنه صفة ذمٍّ في العرب، وأسماء الله تعالى توقيفية لا سيما فيما يوهم ما لا ينبغي. قوله: {فَلَبِثْتَ سِنِينَ في أَهْلِ مَدْيَنَ} والتقدير: «وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً» فخرجت خائفاً إلى أهل مدين فلبثت سنين فيهم وهي إمَّا عشراً وَثَمان لقوله تعالى: {على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ} [القصص: 27] وقال وهب: لَبِثَ مُوسَى عند شعيب عليهما السلام ثمانياً وعشرين سنة منها عشر سنين مهر امرأته. ويرده قوله تعالى: {فَلَمَّا قضى مُوسَى الأجل (وَسَارَ بِأَهْلِهِ} [القصص: 29] الأجل المشروط عيله في تزويجه. ومَدْيَن: بَلْدَةُ شُعَيْبٍ على ثَمَان مراحل من مصر. قوله: {ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى} هذا الجار متعلق بمحذوف على أنه حال من فاعل «جِئْتَ» أي جئت موافقاً لما قُدِّر لك، كذا قدره أبو البقاء، وهو تفسير معنى، والتفسير الصناعي: ثم جئت مستقراً أو كائناً على مقدار معين، كقول الآخر: 3656 - نَالَ الخِلاَفَةَ أَوْ جَاءَتْ عَلَى قَدَرٍ ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرٍ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 245 ولا بد من حذف في الكلام، أي: على قدر أمر من الأمور. وقال محمد بن كعب: جئتَ على القدر الذي قدرت أنك تجيء فيه وقال مقاتل: كان موعداً (في تقدير الله. وقال عبد الرحمن بن كيسان: كان على رأس أربعين سنة، وهو القدر الذي) يوحي فيه إلى الأنبياء. وهذا قول أكثر المفسرين، أي على الوعد الذي وعده الله وقدَّر أنه يوحي إليه بالرسالة، وهو أربعون سنة. قوله : {واصطنعتك لِنَفْسِي} (أي اخترتُك واصطفيتُك افتعال من الصنع لوحيي ورسالتي. وأبدلت التاء طاء) ، لأجل حرف الاستعلاء. وهذا مجازٌ عن قرب منزلته، ودنوه من ربه، لأن أحداً لا يصطنع إلا من يختاره. قال القفال: واصطنعتُكَ أصله من قولهم: اصطنع فلانٌ فلاناً إذا أحسن إليه حتى الجزء: 13 ¦ الصفحة: 246 يضاف إليه فيقال: هذا صنيعُ فلانٍ وجريحُ فلانٍ. وقوله: «لِنَفْسِي» أي: لأصرفك في أوامري لئلا تشتغل إلا بما أمرتك به، وهو إقامة حجتي وتبليغ رسالتي، وأن تكون في حركاتك وسكناتك لي لا لنفسك ولا لغيرك. وقال الزجاج: اخترُكَ لأمري، وجعلتك القائم بحجتي، والمخاطب بيني وبين خلقي: كأني الذي أقمت عليهم الحجة وخاطبتهم. قوله: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلاَ تَنِيَا} لما قال: {واصطنعتك لِنَفْسِي} عقبه بذكر ما له اصطنعته، وهو الإبلاغ والأداء، و «الياء» في «بِآيَاتِي» بمعنى (مع) ، لأنهما لو ذهبا إليه بدون آيةٍ معهما لم يلزمه الإيمان، وذلك من أقوى الدلائل على فساد التقليد. قال ابن عباس: يعني الآيات التسع التي بعث الله بها موسى. وقيل: إنها العصا واليد، لأنهما اللذان جرى دكرهما في هذا الموضع، ولم يذكر أنه - عليه السلام - أوتي قبل مجيئه إلى فرعون، لا بعد مجيئه حتى لقي فرعون فالتمس منه آية غير هاتين الآيتين، قال تعالى حكاية عن فرعون {إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ} [الأعراف: 106 - 108] ، وقال: {فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} [القصص: 32] . فإن قيل: كيف يطلق لفظ الجمع على الاثنين؟ فالجواب من وجوه: أحدها: أن العصا كانت آيات، انقلابُها حيواناً، ثم إنها كانت في أول الأمر صغيرة، لقوله تعالى: {تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ} [النمل: 10، القصص: 31] ثم كانت تعظم وهذه آية أخرى، ثم إنه كان عليه السلام يدخل في يده في فمها قلم تضره وهذه آية أخرى، ثم الجزء: 13 ¦ الصفحة: 247 كانت تنقلب عصا وهذه آية أخرى، وكذلك اليد فإن بياضها آية، وشُعَاعَها آية أخرى، ثم زوالهما بعد ذلك آية أخرى، فدل ذلك على أنهما كانتا آيات كثيرة. وثانيها: هَبْ أن العصا أمرٌ واحدٌ ولكن فيها آيات، لأن انقلابها حيةً يدل على وجود إله قادر على الكل عالم بالكل حكيم، ويدل على نبوة موسى، ويدل على جواز الحشر حيث انقلب الجماد حيواناً، فهذه آيات كثيرة، ولذلك قال: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ} [آل عمران: 96] ... إلى قوله ... {فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً} [آل عمران: 97] فهاهنا أولى. وثالثها: قال بعضهم: أقل الجمع اثنان. وقيل: معنى قوله: «بِآيَاتِي» أمُدكُّما بآياتي، وأظهر على أيديكما من الآيات ما تزاح به العلل من فرعون وقومه، والمعنى: فإن آياتي معكما كما يقال: اذهب فإن جندي معك أي: إنِّي أمدك بهم من احتجت. وقيل: الآيات: العصا، واليد، وحل العقدة من لسانه، وذلك أيضاً معجزة. قوله: «وَلاَ تَنِيَا» يقال: «وَنَى يَنِيَ وَنْيَاً كَوَعَد يَعِدُ وَعْداً، إذا فَتَرَ. والوَنْيُ الفُتُور، ومنه: امرَأةٌ أَنَاةٌ، وصفوها بفتور القيام كناية عن ضخامتها. قال زهير: 3657 - مَنَّا الأَنَاةُ وَبَعْضُ القَوْمِ يَحْسَبُنَا ... أَنَّا بِطَاءٌ وفي إبْطَائِنَا سِرْعُ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 248 بكسر السين وفتح الراء مصدر (سَرُع) بفتح السين وضم الراء. تقول: سَرُعَ سِرَعاً كصَغُرَ صِغَراً. والأصل: ونَاةٌ، فأبدلوا الهمزة من الواو كأحَد وليس بالقياس، وفي الحديث:» إنَّ فِيكَ لَخَصْلَتَيْنِ يُحِبُّهُمَا اللهُ الحِلْمُ والأَنَاةُ «. والوَانِي: المقصِّر في أمره، قال الشاعر: 3658 - فَمَا اَنَا بالوَانِي وَلاَ الضَّرْع الغُمْرِ ... ووَنَى فعلٌ لازم يتَعَدى وزعم بعضهم أنه يكون من أخوات (زال الجزء: 13 ¦ الصفحة: 249 وانفك) فيعمل بشرط النفي أو شبهه عمل (كان) ، فيقال:» مَا وَنِيَ زيدٌ قائماً، وأنشد ابن مالك شاهداً على ذلك قوله: 3659 - لاَ يَنشي الحُبُّ شِيمَةَ الحُبِّ مَا دَا ... مَ فَلاَ يَحْسَبَنَّهُ ذَا ارْعِوَاءِ أي: لا يزال الحُبُّ بضم الحاء شيمةَ الحِبِّ أي: بكسرها وهو المحب. ومن منع ذلك يتأول البيت على حذف حرف الجر، لأنَّ هذا الفعل يتعدى تارة ب (عَنْ) وتارة ب (في) يقال: ما ونَيْتُ عن حاجتك، أو: في حاجتك فالتقدير: لا يفتر الحب في شيمة المحب، وفيه مجاز بليغ وقد عدي في الآية الكريمة ب (في) . قرأ يحيى بن وثَّاب «وَلاَ تِنِيَا» بكسر التاء إتباعاً لحركة النون، وسكن الياء في «ذِكْرِي» . وقرأ أهل الحجاز وأبو عمرو «لِنَفْسِيَ اذْهَبْ» ذِكْرِي اذْهَبَا «و {إِنَّ قَوْمِيَ اتخذوا} و {مِن بَعْدِيَ اسمه} بفتح الياء فيهن وافقهم أبو بكر في {مِن بَعْدِيَ اسمه} . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 250 وقرأ الآخرون بإسكانها. والمراد بالذكر تبليغ الرسالة. وقيل: لا تفترا عن ذكر الله. (والحكمة فيه) أنَّ مَنْ ذكر جلالَ الله استخف غيره، فلا يخاف أحداً، ويقوى روحه بذلك الذكر فلا يضعف في مقصوده، ومن ذكر الله فلا بد وأن يكون ذاكراً إحسانه (وذاكرُ إحسانه) لا يفتر في أداء أوامره. وقيل: لاَ تَنِيَا في ذِكْرِي عند فرعون، وكيفية الذكر أن يذكرا لفرعون وقومه أنَّ الله تعالى لا يرضى منهم الكفر، ويذكرا لهم أمر الثواب والعقاب، والترغيب والترهيب. قوله : {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} ذكر المذهوب إليه في قوله: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ} وحذفه في الأول في قوله: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ} [طه: 42] اختصاراً في الكلام. وقال القفال: فيه وجهان: أحدهما: أن قوله: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ} [طه: 42] يحتمل أن يكون كل واحد منهما مأموراً بالذهاب على الانفراد، فقيل مرة أخرى: «اذْهَبَا» ليعرفا أن المراد منه أن يشتغلا بذلك جميعاً لا أن ينفرد به أحدهما دون الآخر. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 251 والثاني: أن قوله: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} [طه: 42] أمر بالذهاب إلى كل الناس من بني إسرائيل وقوم فرعون، ثم قوله: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ} أمر بالذهاب إلى فرعون وحده. قيل: وهذا فيه بُعْدٌ، بل الذهابان متوجهان لشيء واحد وهو فرعون، وقد حذف من كل الذهابين ما أثبته في الآخر، وذلك أنه حذف المذهوب إليه من الأول وأثبته في الثاني، وحذف المذهوب به، وهو «بِآيَاتِي» من الثاني وأثبته في الأول. فإن قيل: قوله: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ} خطاب من موسى وهارون، (وهارون عليه السلام) لم يكن حاضراً هناك، وكذا في قوله تعالى: {قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى} [طه: 45] وأجاب القفال بوجوه: أحدها: أن الكلام كام مع موسى إلا انه كان متبوع هارون، فجعل الخطاب معه خطاباً مع هارون، (وكلام هارون) على سبيل التقدير بالخطاب في تلك الحالة، وإن كان مع موسى - عليه السلام - وحده، إلا أنه تعالى أضافه إليهما كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا} [البقرة: 72] وقوله: {لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل} [المنافقون: 8] روي أن القائل هو عبد الله ابن أُبَيِّ وحده. وثانيها: يحتمل أن الله تعالى لمَّا قال: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} [طه: 36] سكت حتى لقي أخاه، ثم إن الله - تعالى - خاطبهما بقوله: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ} . وثالثها: حكي في مصحف ابن مسعود «قال رَبَّنَا إنَّنَا نَخَافُُ» أي أنَا وأخي. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 252 قوله: {فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} قرأ أبو معاذ «قَوْلاً لَيْناً» وهو تخفيف من لَيِّن كَمَيْت في ميِّت. وقوله: «لَعَلَّهُ» فيه أوجه: أحدها: أن «لَعَلَّ» على بابها للترجي، وذلك بالنسبة إلى المرسل وهو موسى وهارون، أي اذهبا على رجائكماوطمعكما في إيمانه أي اذهبا مترجَيْن طامعَيْن، وهذا معنى قول الزمخشري ولا يستفقيم أن يرد ذلك في حق الله تعالى، إذ هو عالم بعواقب الأمور. وعن سيبويه: كل ما ورد في القرآن من (لَعَلَّ، وَعَسَى) فهو من عند الله واجب. يعني أنه يستحيل بقاء معناه في حق الله تعالى. والثاني: أنَّ «لَعَلَّ» بمعنى (كَيْ) فتفيد العلية، وهذا قول الفراء قال: كما تقول: اعْمَلْ لَعَلَّكَ تأخذُ أجرَكَ، أي: كي تأخذَ. والثالث: أنها استفهامية، أي: هل يتذكر أو يخشى؟ وهذا قول ساقط، وذلك أنه يستحيل الاستفهام في حق الله تعالى كما يستحيل الترجي، فإذا كان لا بد من التأويل فجَعْلُ اللفظ على مدلوله باقياً أولى من إخراجه عنه. فإن قيل: لِمَ أمر الله تعالى باللين مع الكافر الجاحد؟ فالجواب من وجهين: أحدهما: أنه قد ربَّى موسى - عليه السلام - فأمره أن يخاطبه بالرفق رعاية لتلك الحقوق، وهاذ تنبيه على نهاية تعظيم حق الأبوين. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 253 والثاني: أنَّ من عادة الجبابرة إذا غُلِّظ لهم في الوعظ أن يزدادوا عتواً وتكبُّراً. والمقصود من البعثة حصول النفع لا حصول زيادة الضرر، فلهذا أمر الله تعالى بالرفق. قوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} أي يتعظ ويخاف. فصل اختلفوا في ذلك القول اللين، فقال ابن عباس: لا تعنِّفا في قولكما. وقال السُّدِّي وعكرمة: كَنَّياه، فقولا: يا أبا العباس. وقيل: يا أبا الوليد. وقال مقاتل: القول الليِّن: {هَل لَّكَ إلى أَن تزكى وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ فتخشى} [النازعات: 18 - 19] ، وقولهما: {فقولاا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} [طه: 47] إلى قوله: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} [طه: 47] . وقال السدي: القول اللِّين ان موسى اتاه ووعده على قبول الإيمان شباباً لا يهرم، ومُلْكاً لا ينزعُ منه إلا بالموت، وتبقى عليه لذة المطعم، والمشرب، والمنكح إلى حين موته، وإذا مات دخل الجنة. فأعجبه ذلك، وكان لا يقطع أمراً دون هامان، وكان غائباً، فلما قَدِم أخبره بالذي دعاه إليه موسى، قال: أردتُ أنْ أقبل مِنْه. فقال له هامان: كنت أرى عقلاً ورأياً، أنت ربٌّ تريد أن تكون مربوباً، وأنت تُعْبَدُ تريدُ أن تَعْبُدَ، فقلبه عن رأيه. فصل قال ابن الخطيب: هذا التكليف لا يعلم سره إلا الله تعالى لما علم أنه لا يؤمن قط كان إيمانه ضداً لذلك العلم الذي يمتنع زواله، فيكون سبحانه عالماً بامتناع ذلك الإيمان، وإذا كان عالماً بذلك، فكيف أمر موسى بذلك الرفق، وكيف بالغ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 254 في الأمر بتلطف دعوته إلى الله - تعالى - مع علمه باستحالة حصول ذلك منه؟ ثم هَبْ أن المعتزلة ينازعون في هذا الانتناع من غير أن يذكروا شبهة قادحة في هذا السؤال، ولكنهم سلموا أنه كان عالماً بأن لا يحصل ذلك الإيمان، وسلموا أن فرعون لا يستفيد ببعثة موسى - عليه السلام - إلا استحقاق العذاب، والرحيم الكريم كيف يليق به أن يدفع سكيناً من عَلِمَ قَطعاً أنه يمزق به بطن نفسه، ثم يقول: إني ما أردت بدفع السكين إليه إلا الإحسان إليه؟ يا أخي: العقولُ قاصرةٌ عن معرفة هذه الأسرار، ولا سبيل فيها إلا التسليم، وترك الاعتراض والسكوت بالقلب واللسان، ويروى عن كعب أنه قال: والذي يحلف به كعب إنه لمكتوب في التوراة «فَقُولاَ لَهُ قََوْلاً لَيِّناً وسَأقْسي قلبَه فلا يؤمن» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 255 قوله: {قَالاَ رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى} قد تقدم أن هارون لم يكن حاضراً هناك، فكيف قال: {قَالاَ رَبَّنَآ} وتقدم جوابه. فإن قيل: إن موسى - عليه السلام - قال: {قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} [طه: 25] وأجابه (الله تعالى) بقوله: {قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} [طه: 36] وهذا يدل أنه شرح صدره، ويسر، وعيّن له ذلك الأمر، فكيف قال بعده: «إنَّنَا نَخَافُ» ، فإن حصول الخوف يمنع من حصول شرح الصدر، فالجواب: أن شرح الصدر عبارة عن قوته على ضبط تلك الأوامر والنواهي وحفظ تلك الشرائع على وجه لا يتطرق إليها السَّهو تلك والتحريف، وذلك شيء آخر غير زوال الخوف. فإن قيل: أما علم موسى وهارون - عليهما السلام - وقد حمَّلهما الله تعالى الرسالة أنه تعالى يؤمنهما من القتل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 255 فالجواب قد أمِنا ذلك وإن جوزا أن ينالهما من قبل الأداء أو بعده، وأيضاً فإنهما استظهرا بأن سألا ربهما ما يزيد في ثبات قلبهما على دعائه، وذلك بأن ينضاف الدليل النقلي إلى العقلي زيادة في الطمأنينة كما في قوله تعالى: {وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] . فإن قيل: لمَّا تكرر الأمر من الله - تعالى - بالذهاب، فعدم الذهاب والتعلل بالخوف هل يدل على المعصية؟ فالجواب: إن اقتضى الأمر الفور كان كذلك من أقوى الدلائل على المعصية، لا سيما وقد أكثر الله - تعالى - من أنواع التشريف، وتقوية القلب، وإزالة الغم، ولكن الأمر ليس على الفور، فزال السؤال، وهذا من أقوى الدلائل على أن الأمر لا يقتضي الفور إذا ضممت إليه ما يدل على أن المعصية غير جائزة على الرسل. قوله: «أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ» مفعول «يَخَافُ» ، ويقال: فَرَطَ يَفْرُط سبق وتقدم، ومنه الفارط وهو الذي يتقدم الواردة إلى الماء، وفرس فرط تسبق الخيل، أي: نَخَاف أن يعجل علينا بالعقوبة ويبادرنا بها. قاله الزمخشري. ومن ورود الفارط بمعنى المتقدم على الواردة قول الشاعر: 3660 - وَاسْتَعْجَلُونَا وَكَانُوا مِنْ صَحَابَتِنَا ... كمَا تَقَدَّم فُرَّاطٌ لِوُرَّادِ وفي الحديث: «أنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الحَوْضِ» أي سابقكم ومتقدمكم. وقرأ يحيى بن وثاب وابن محيصن وأبو نوفل «يُفْرَط» بضم حرف المضارعة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 256 وفتح الراء على البناء للمفعول، والمعنى: خافَا أن يسبق في العقوبة أي يحمله حامل عليها وعلى المعاجلة بها إما قومه وإما الشيطان وإما حبه الرياسة، وإما ادعاؤه الإلهية. وقرأ ابن محيصن في رواية الزعفراني: «أن يُفْرِط» بضم المضارعة وكسر الراء من أفرط. قال الزمخشري: من افرَطَهُ غيره، إذا حمله على العجلة خَافَا ان يحمله حامل على المعاجلة بالعقاب. وقال كعب بن زهير: 3661 - تَنْفِي الرِّيَاحُ القَذَى عضنْهُ وَأفْرَطَهُ ... مِنْ صَوْبِ سَارِيَةٍ بِيضٌ يَعَالِيلُ أي سبقت هذه البيض لتملاه. وفاعل يفرط ضمير فرعون، وهذا هو الظاهر الذي ينبغي أن لا يعدل عنه، وجعله أبو البقاء مضمراً لدلالة الكلام عليهن فقال: فيجوز أن يكون التقدير: أن يَفْرُط علينا منه قولٌ فأضمر القول لدلالة الحال عليه كما تقول: فَرَط منِّي قول، وأن يكون الفاعل ضمير فرعون كما كان في «يَطْغَى» . فصل قال ابن عباس: «يَفْرُطَ عَلَيْنَآ» يعجل علينا بالقتل والعقوبة. يقال: فَرَطَ عَلَيْنَا فلان إذا عجل بمكروه، وفَرَط منه أي بدر وسبق {أَوْ أَن يطغى} يجاوز الحد بالتخطي إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي لجرأته عليك. واعلم أن من أمر بشيء فحاول دفعه لأعذار يذكرها فلا بد أن يختم كلامه بما هو الأقوى، كما أن الهُدْهُدَ ختم عذره الجزء: 13 ¦ الصفحة: 257 بقوله: {وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله} [النمل: 24] ، فكذا هاهنا بدأ موسى بقوله {أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ} ، وختم بقوله {أَوْ أَن يطغى} لما كان طغيانه في حق الله - تعالى - أعظم من إفراطه في حق موسى وهارون. قوله: {قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى} لا تخافا مما عرض في قلبكما من الإفراط والطغيان، لأن ذلك هو المفهوم من الكلام، لأنه - تعالى - لم يؤمنهما من الرد، ولا من التكذيب بالآيات ومعارضة السحرة وقوله: «إِنَّنِي مَعَكُمَآ» أي: بالحراسة والحفظ وقوله: «أَسْمَعُ وأرى» قال ابن عباس: اسمع دعاءكما فأجيبه، وأرى ما يراد بكما فأمنع لست بغافل عنكما فلا تهتما. وقال القفال: (قوله: أَسْمَعُ وَأَرَى) قال ابن عباس: اسمع دعاءكما فأجيبه، وأرى ما يراد بكما فأمنع لست بغافل عنكما فلا تهتما. وقال القفال: (قوله: «أسْمَعُ وَأرَى» يحتمل أن يكون مقابلاً لقوله {يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى} {أَوْ أَن يطغى} بأن لا يسمع منّا «يَفْرُطَ عَلَيْنَآ» بأن يقتلنا، فقال الله تعالى: {إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ} كلامكما فأسخّره للاستماع منكما، «وَأَرَى» أفعاله فلا أتركه حتى يفعل بكما ما تكرهانه واعلم أن مفعول) (أسْمَعُ وَأَرَى) محذوف، فقيل: تقديره: أسمع أقوالكما وأرى أفعالكما. وعن ابن عباس: أسمع جوابه لكما (وَأَرَى مَا يُفْعَل بِكُمَا) . أو يكون من حذف الاقتصار، نحو «يحيي ويُميت» . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 258 قوله: «فَأتِيَاهُ» أعاد التكليف المتقدم فقال: {فأتِيَاهُ فَقُولاَ لَهُ} وذلك أنه تعالى قال أولاًَ {اذهب إلى فِرْعَوْنَ} [طه: 24] وثانياً قال: {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ} [طه: 42] الجزء: 13 ¦ الصفحة: 258 وقال ثالثاً: {اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ} [طه: 43] . ورابعاً (قال هاهنا «فَأتِيَاهُ» ) . فإن قيل: إنه تعالى أمرهما بأن يقولا له «قَوْلاً لَيِّناً» ، وهاهنا أمرهما بأن يقولا {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ} وفي هذا تغليظ من وجوه: الأول: «إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ» ) وهذا يقتضي انقياده لهما والتزامه لطاعتهما، وذلك يعظم على الملك المتبوع. والثاني: قوله: {فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} فيه إدخال النقص على ملكه، لأنه كان محتاجاً إليهم فيما يريده من الأعمال وأيضا: أمرهم بالإرسال يقتضي وجوب الطاعة والانقياد فيصير تحت أمرهم. والثالث: نهيهم له بقولهم: «وَلاَ تُعَذِّبهُمْ» . والرابع: قوله: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} . فما الفائدة في القول اللين أولاً والتغليظ ثانياً؟ فالجواب: أن الإنسان إذا أظهر اللجاجة فلا بد له من التغليظ. فإن قيل: أليس أن الأولى أن يقولا إنا رَسُولاَ رَبِّكَ قَدْ جئنَاكَ بآيةٍ فأرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إسرائيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُم، فإن ذكر المعجز مقروناً بادعاء الرسالة أولى من تأخيره عنه؟ فالجواب: بل هذا أولى، لأنهم ذكروا مجموع الدعاوى ثم استدلوا على ذلك المجموع بالمعجز. قوله: {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} قال الزمخشري: هذه الجملة جارية من الجملة الأولى وهي {إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ} مجرى البيان والتفسير، لأن دعوى الرسالة لا تثبت إلا بينتهما التي هي مجيء الآية. فإن قيل: إن الله تعالى أعطاه آيتين، وهما العصا واليد ثم قال: {اذهب أَنتَ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 259 وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} [طه: 42] ، وذلك يدل على ثلاث آيات وقال هاهنا {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ} ، وذلك يدل على أنها كانت واحدة (فكيف الجمع) ؟ أجال القفال: بأن معنى الآية هاهنا الإشارة إلى جنس الآيات كأنه قال: جئْنَاك ببيان من عند الله. ثم يجوز أن يكون ذلك حجة واحدة أو حججاً كثيرة. وقال غيره: المراد في هذا الموضوع تثبيت الدعوى ببرهانها فكأنه قال: قد جئناك بمعجزة وبرهان وحجة على ما ادعينا من الرسالة كقوله: {قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: 105] ، وقوله: {فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأعراف: 106] وقوله: {أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ} [الشعراء: 30] . وتقدم الجواب عن التثنية والجمع، وأن في العصا واليد آيات. قوله: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} يحتمل أن يكون تسليماً منهما ولم يؤمرا به، فتكون الجملة مستأنفة لا محل لها من الإعراب قال بعضهم: إنَّ (عَلَى) بمعنى (اللام) أي والسلام لمن اتبع الهدى كقوله تعالى: {لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار} [الرعد: 25] أي: عليهم اللعنة، وقال تعالى: {مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا} [فصلت: 46] وقال: {إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} [الإسراء: 7] . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 260 وهذا وعد منهما لمن آمن وصدق بالسلامة له من عقوبات الدنيا والآخرة والسلام والسلام بمعنى السلامة، كما يقال: رضاع ورضاعة. وقيل: هذا من كلام الله تعالى كأنه قال: «فَقُولاَ إنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ وَقُولاَ لَهُ والسَّلاَمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى» ، وليس المراد منه التحية إنما معناه سَلِم من عذاب الله من أسلم. قوله: «أرسِلْ مَعَنَا بَنِي إسْرَائيلَ» خلِّ عنهم وأطلقهم عن أعمالك «وَلاَ تُعَذِّبهُم» لا تتعبهم في العمل، وكان فرعون يستعملهم في الأعمال الشاقة. قوله تعالى: {لْعَذَابَ على مَن كَذَّبَ وتولى} هذه الآية من أقوى الدلائل على أن عقاب المؤمن لا يدوم، لأن الألف واللام للاستغراق، أو الإفادة (الماهية، وعلى) التقديرين يقتضي انحصار هذا الجنس في «من كذب وتولى) فوجب أن لا تحصل لغير المكذب المتولي. وظاهر هذه الآية يقتضي بأنه لا يعاقب أحداً من المؤمنين بترك العمل به في بعض الأوقات، فجب أن يبقى على أصله في نفي الدوام، ولأن العقاب المتناهي إذا حصل بعد السلامة مدة غير متناهية صار ذلك العقاب كأنه لا عقاب فلذلك يجسن مع حصول ذلك القجر أن يقال: إنه لا عقاب. وأيضاً فقوله: {والسلام على مَنِ اتبع الهدى} يقتضي حصول السلامة لكل من اتبع الهدى، إذا فسَّرنا السلام بالسلامة. والعارف بالله قد اتبع الهدى، فوجب أن يكون صاحب السلامة. ومعنى الآية: إنما يعذب الله من كذب بما جئنا به وأعرض عنه. قوله:» أنَّ العَذَابَ «» أنَّ «وما في خبرها في محل رفع لقيامه الفاعل الذي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 261 حذف في» أُوْحِيَ إِلَيْنَا «بنائه للمفعول (خوفاً أن يبدر من فرعون بادرة لمن أوحي لو سمياه فطويا ذكره تعظيماً له واستهانة بالمخاطب) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 262 قوله: {قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} وحده بعد مخاطبته لهما معاً إمَّا لأنَّ موسى هو الأصل في الرسالة وهارون تبع وردء ووزير وإما لأن فرعون كان لخبثه يعلم الرُّتَّة التي في لسان موسى، ويعلم فصاحة هارون بدليل قوله: {وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً} [القصص: 34] وقوله: {وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف: 52] فأراد استنطاقه دون أخيه. وإما لأنه حذف المعطوف للعلم به أي: يا موسى وهارون وقاله أبو البقاء وبدأ به. وقد يقال: حَسَّنَ الحذف كون موسى فاصلة، لا يقال: كان يغني في ذلك أن يقدم هارون ويؤخر موسى فيقال: يا هارون وموسى فتحصل مجانسة الفواصل من غير حذف، لأن نداء موسى أهم فهو المبدوء به. واعلم أن في الكلام حذف، لأنه لما قال {فَأْتِيَاهُ فقولاا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ} [طه: 47] إلى قوله: {أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} [طه: 48] أمر من الله تعالى لموسى بأن يقول لفرعون ذلك الكلام والتقدير: فَذَهبا إلى فرعون فقالا له ذلك فقال مجيباً لهما من رَبُّكما؟ قوله: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} في هذه الآية وجهان: أحدهما: أن يكون «كُلُّ شَيْءٍ» مفعول أول و «خَلْقَهُ» مفعولاً ثانياً على معنى أعطى كل شيء شكله وصورتَه التي تطابق المنفعو المنوطة به كما أعطى العين الهيئة الجزء: 13 ¦ الصفحة: 262 التي تطابق الإبصار، والأذن الهيئة التي تطابق الاستماع وتوافقه، وكذلك اليد والرجل واللسان. قاله مجاهد. أو أعطى كل حيوان نظيره في الخلق والصورة حيث جعل الحصان والحَجْر زوجين، والناقة والبعير، والرجل والمرأة، ولم يزاوج شيئاً منها غير جنسه، ولا ما هو مخالف لخلقه. (وقيل: المعنى أَعْطَى كلَّ شيءٍ مخلوقٍ خلقهُ، أي هو الذي ابتدعه) . وقيل: المعنى أعطى كُلَّ شيءٍ مما خلق خلقته وصورته على ما يناسبه من الإتقان، لم يجعل خلق الإنسان في خلق البهائم، ولا بالعكس، بل خلق كلَّ شيءٍ فقدَّره تقديراً. الثاني: أن يكون «كُلَّ شَيْءٍ» مفعولاً ثانياً و «خَلْقَه» هو الأول فقدَّم الثاني عليه، والمعنى: أعطى خليقَتَه كلَّ شيء يحتاجُون إليه ويرتفقون به. وقرأ عبد الله والحسن والأعمش وأبو نُهَيْك وابن أبي إسحاق ونصرٌ عن الكسائيِّ وجماعةٌ من أصحاب رسول الله «خَلَقَهُ» بفتح اللام فعلاً ماضياً، وهذه الجملة في هذه القراءة تحتمل أن تكون منصوبة المحلِّ لكلِّ أو في محل جرّ صفة لشيء. وهذا معنى قول الزمخشري: صفة المضاف يعني «كُلّ» (أو للمضاف إليه يعني «شَيْء» ) ، والمفعول الثاني على هذه القراءة محذوف، فيحتمل أن يكون حذفه حذف اختصار للدلالة عليه. أي: أعطى كل شيء خلقه ما يحتاج إليه ويصلحه أو كماله، ويحتمل أن يكون حذفه حذف اقتصار) ، والمعنى أنَّ كلَّ شيءٍ خلقه الله الجزء: 13 ¦ الصفحة: 263 تعالى لم يُخْلِهِ من إنعامه وعطائه. فصل اعلم أن فرعون كان شديد القوة عظيم الغلبة كثير العسكر، ثم إن موسى لما دعاه إلى ربه لم يبطش به، ولم يؤذه، فاستنكف من ذلك وشرع في المناظرة، وذلك يدل على السفاهة من غير حجة شيء لم يرضه فرعون مع كمال جهله وكفره فكيف يليق ذلك بمن يدعي الإسلام والعلم؟ ثم إن فرعون لما سأل موسى - عليه السلام - عن ذلك قبل موسى ذلك السؤال، واشتغل بإقامة الدلالة على وجود الصانع، وذلك يدل على فساد التقليد، ويدل أيضاً على قول التعليمية الذين يقولون: نستفيد معرفة الإله من قول الرسول، لأن موسى - عليه السلام - اعترف هاهنا بأن معرفة الله تجب أن تكون مقدمة على معرفة الرسول. ودلت الآية أيضاً على أنه يجوز حكاية كلام المبطِل، لأنه تعالى حكى كلام فرعون في إنكاره الإله، وحكى شبهات منكري النبوة، وشبهات منكري الحشر إلا أنه يجب أن يذكر الجواب مقروناً بالسؤال (كما فعل الله تعالى في هذه المواضع لئلا يبقى الشك) . ودلت الآية على ان المحق يجب عليه استماع كلام المبطِل عنه من غير إيذاء ولا إيحاش، كما فعل موسى عليه السلام بفرعون هاهنا، ولقوله تعالى: {ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة} [النحل: 125] ، وقال: {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين استجارك فَأَجِرْهُ حتى يَسْمَعَ كَلاَمَ الله} [التوبة: 6] . فصل قال بعضهم: إنَّ فرعون كان عارفاً بالله تعالى إلا أنه كانَ يُظْهِرُ الإنكار تكبراً الجزء: 13 ¦ الصفحة: 264 وتجبراً، لقوله تعالى: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض} [الإسراء: 102] فيمن نصب التاء في «عَلِمْتَ» كان ذلك خطاباً لموسى - عليه السلام - مع فرعون، وذلك يدل على أن فرعون كان عالماً بذلك، وقوله: {وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14] . ولأنه لو لم يكن عاقلاً لم يجز تكليفه، والعاقل بعلم بالضرورة أنه وجد بعد العدم، ويعلم أن من كان كذلك افتقر إلى مدبَِّر، وهذان العلمان الضروريان يستلزمان العلم بوجود المدبِّر، ولأن قول موسى - عليه السلام - {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} يقتضي ذلك، لأن كلمة «الَّذِي» تقتضي وصف المعرفة بجملةٍ معلومةٍ عند المخاطب. وأيضاً فإن مُلْك فرعون لم يتجاوز القبطَ، ولم يبلغ الشام، ولما هرب موسى إلى مَدْيَنَ قال له شعيبٌ: {لاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين} [القصص: 31] ، فمع هذا يعتقد أنَّه إله العالم؟ وقال آخرون: إنَّه كانَ جاهلاً بربِّه. واتفقوا على أنَّ العاقل لا يَجُوزُ أن يعتقد في نفسه أنه خالق هذه السموات والأرض والشمس والقمر، وأنه خالقُ نفسه، لأنه يعلم بالضرورة عجزه عنها، ويعلم بالضرورة أنها كانت موجودة قبله، فَحَصَلَ له العلم الضروري بأنه ليس موجداً لها ولا خالقاً لها. واختلفوا في كيفية جَهْلِه بالله تعالى، فيحتمل أنه كان دهرياً نافياً للمدبِّر، ويحتمل أنه كان فلسفياً قائلاً بالعلة الموجبة، وبحتمل أنه كان من عبدة الكواكب، ويحتمل أنه كان من الحلوليَّة، وأما ادعاؤه الربوبية لنفسه فبمعنى أنه يجب عليهم طاعته والانقياد له. فصل قال هاهنا: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} ، وقال في سورة الشعراء: {وَمَا رَبُّ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 265 العالمين} [23] ، وهو سؤال عن الماهية، فهما سؤالان مختلفان، والواقعة واحدة، والأقرب أن يقال: سؤال «مَنْ» كان مقدماً على سؤال «مَا» ، لأنه كان يقول: أنا اللهُ والرَّبُّ، فقال: «فَمَنْ رَبُّكُما» ، فلما أقام موسى الدلالة على الوجود، وعرف أنه لا يمكنه أن يقاومه في هذا المقام، لظهوره وجلائه، عدل إلى طلب الماهية، وهذا ينبه على أنه كان عالماً بالله، لأنه ترك المنازعة في هذا المقام لعلمه بغاية ظهوره؛ وشرع في المقام الصعب، لأن العلم بماهية الله تعالى غير حاصل للبشر. قوله: «قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا» ولم يقل: «فَمَن إلَهُكُمَا» لأنه أثبت نفسه رباً في قوله: {أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً} [الشعراء: 18] ، فذكر ذلك على سبيل التعجب كأنه قال: أنَا رَبُّكَ فَلِمَ تدعي رَبًّا آخر، وهذا يشبه كلام نمروذ حين قال له إبراهيم {رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ} [البقرة: 258] قال نمروذ: {أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258] ولم يكن الإحياء والإماتة التي ذكرها إبراهيم هي التي عارضه نمروذ بها إلا في اللفظ، فكذا هاهنا لما ادعى موسى - عليه السلام - ربوبية الله تعالى ذكر فرعون هذا الكلام، أي: أنا الرَّبُّ الذي ربيتك، ومعلوم أن الربوبية التي ادعاها موسى لله تعالى غير هذه الربوبية في المعنى وأنه لا مشاركة بينهما إلا في اللفظ. فصل استدل موسى عليه السلام - على إثبات الصانع بأحوال المخلوقات، وهو قوله: {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} ، وهذه الدلالة هي التي ذكرها الله تعالى لمحمد - عليه السلام - في قوله: {سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى الذي خَلَقَ فسوى والذي قَدَّرَ فهدى} [الأعلى: 1، 2، 3] وقال إبراهيم - عليه السلام -: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين الجزء: 13 ¦ الصفحة: 266 الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء: 77، 78] . واعلم أن الخلق عبارة عن تركيب القوالب والأبدان، والهدايةُ عبارة عن إيداع القُوَى المدركة والحركة في تلك الأجسام، فالخلق مقدم على الهداية كما قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ} [المؤمنون: 12] إلى أن قال: {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ} [المؤمنون: 14] . واعلم أن عجائب حكمة الله تعالى في الخلق والهداية بحر لا ساحل له ولنذكر منه أمثلة: أحدها: أنَّ الطبيعي يقول: الثقيل هابط، والخفيف صاعد، وأثقل الأشياء الأرض ثم الماء، وأخفها النار ثم الهواء، فلذلك وجب أن تكون النار أعلى العنصريات والأرض أسفلها، ثم إنه تعالى قلب هذا في خلقة الإنسان؛ فجعل أعلى الأشياء منه العظم والشعر، وهما أيْبَسُ ما في البدن، وهما بمنزلة الأرض، ثم جعل تحته الدماغ الذي هو بمنزلة الماء، وجعل تحته النفس التي هو بمنزلة الهواء، وجعل تحته الحرارة الغريزية التي في القلب، وهي بمنزلة النار، فجعل مكان الأرض من البدن الأعلى، وجعل مكان النار من البدن الأسفل ليعلم أن ذلك بتدبير القادر الحكيم لا باقتضاء العلة والطبيعة. وثانيها: أنَّك إذا نظرت إلى عجائب النحل في تركيب البيوت المسدسة وقسمتها، وعجائب أحوال البق والبعوض والنمل في اهتدائها إلى مصالح أنفسها لعرفت أن ذلك لا يمكن إلا بإلهام مدبر عالم بجميع المعلومات. وثالثها: أنه تعالى هو الذي أنعم على الخلائق بما به قوامهم من المطعوم، والمشروب، والملبوس، والمنكوح، ثم هداهم إلى كيفية الانتفاع بها فيستخرجون المعادن من الجبال، واللآلئ من البحار، ويركبون الأدوية والدرياقات النافعة، ويجمعون بين الأشياء المختلفة، ويستخرجون لذائذ الأطعمة، فدل ذلك على أنه تعالى هو الذي خلق الأشياء ثم أعطاهم العقول التي بها يتوصلون إلى كيفية الانتفاع بها، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 267 وليس هذا مختص بالإنسان بل عام في جميع الحيوان، فأعطى الإنسان إنسانةً، والحمار حمارةً، والبعير ناقةً هداه لها ليدوم التناسل، وهدى الأولاد لثدي الأمهات، بل هذا غيب مختص بالحيوانات، بل هو حاصل في أعضائها، فخلق اليد على تركيب خاص، وأودع فيها قوة الأخذ، وخلق الرِّجل على تركيب خاص، فخلق اليد على تركيب خاص، وأودع فيه قوة الأخذ، وخلق الرَّجل على تركيب خاص، وأودع فيها قوَّة المشي، وكذا العين، والأذن، وجميع الأعضاء، ثم ربط البعض بالبعض على وجه يحصل من ارتباطها مجموع واحد هو الإنسان. وإنما دلت هذه الأشياء على وجود الصانع، لأن اتصاف كلِّ جسمٍ من هذه الأجسام بتلك الصفة أعني التركيب والقوة الهادية إما أن يكون واجباً أو جائزاً، والأول باطل لأنا نشاهد تلك الأجسام بعد الموت منفكة عن ذلك التركيب والقوى، فدل على أن ذلك جائز، والجائز لا بد له من مرجِّح، وليس ذلك المرجِّح هو الإنسان، ولا قواه، لأنَّ فعل ذلك يستدعي قدرةً عليه، وعلماً بما فيه من المصالح والمفاسد، والأمران نائيان عن الإنسان، لأنه بعد كمال عقله يعجز عن تغيير شعرة واحدة، وبعد البحث الشديد عن كتب التشريح لا يعرف من منافع الأعضاء ومصالحها إلا القدر القليل؛ فلا بد وأن يكون المتولي لتدبيرها وترتيبها موجوداً آخر، وذلك الموجود لا يجوز أن يكون جسماً، لأن الأجسام متساوية في الجسمية، واختصاص ذلك الجسم بتلك المؤثرية لا بد وأن يكون جائزاً فيفتقر إلى سبب آخر، والدور والتسلسل محالان، فلا بد من الانتهاء في سلسلة الحاجة إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني، ثم تأثير ذلك المؤثر إما أن يكون بالذات أو بالاختيار، والأول محال لأن الموجب لا يميز مثلاً عن مثل، وهذه الأجسام متساوية في الجسمية فَلِمَ اختص بعضها بالصورة الفلكية وبعضها بالصورة العنصرية وبعضها بالنباتية، وبعضها بالحيوانية؟ فثبت أن المؤثر والمدبر قادر، والقادر لا يمكنه مثل هذه الأفعال العجيبة إلا إذا كان عالماً، ثم إن هذا المدبر الذي ليس بجسم ولا جسماني ولا بد وأن يكون واجب الوجود في ذاته وصفاته، وإلا لافتقر إلى مدبر آخر، ولزم التسلسل، وهو محال، وإن كان واجب الوجود في قادريته وعالميتهن والواجب لذاته لا يتخصص ببعض الجزء: 13 ¦ الصفحة: 268 الممكنات دون البعض، فوجب أن يكون عالماً بكل ما صح أن يكون معلوماً، وقادراً على كل ما صح أن يكون مقدوراً، فظهر بهذه الدلالة التي تمسك بها موسى وقررها احتياج العالم إلى مدبر ليس بجسم ولا جسماني، وهو واجب الوجود في ذاته وصفاته عالم بكل المعلومات، قادر على كل المقدورات، وذلك هو الله سبحانه وتعالى. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 269 قوله: {قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى} البال: الفكر، يقال: خطر بباله كذا، ولا يثنى ولا يجمعن وشذ جمعه على بالات، ويقال للحال المكترث بها، وكذلك يقال: ما بَالَيتُ بالة، والأصل بالية كعافية فحذفت لامه تخفيفاً. فصل قال المفسرون: البَالُ، الحالُ، أي ما حال القرون الماضية والأمم الخالية كقوم نوح وعاد وثمود. وفي ارتباط هذا الكلام بما قبله وجوه: الأول: أنَّ موسى - عليه السلام - لمَّا قرر أمر المبدأ قال فرعون: إن كان إثبات المبدأ ظاهراً إلى هذا الحد {قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى} ما أثبتوه بل تركوه، فكأن موسى - عليه السلام - لما استدل على إثبات الصانع بالدلالة القاطعة قَدَح فرعونُ في تلك الدلالة بقوله: إنْ كانَ الأمرُ على ما ذكرت من قوة الدلالة وجب على أهل القرون الماضية أن لا يغفلوا عنها. فعارض الحجة بالتقليد. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 269 الثاني: أنَّ موسى - عليه السلام - لما هدده بالعذاب في قوله: {أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى} [طه: 48] قال فرعون: {قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى} فإنها كذبت ولم يعذبوا؟ الثالث: وهو الأظهر، وأن فرعون لما قال: {فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} [طه: 49] فذكر موسى - عليه السلام - دليلاً ظاهراً على صحة دعواه فقال: {رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] خاف فرعون أن يزيد في تلك الحجة، فيظهر للناس صدقه، وفساد طريق فرعون، فأراد أن يصرفه عن ذلك الكلام، ويشغله بالحكايات فقال: {فَمَا بَالُ القرون الأولى} فلم يلتفت موسى - عليه السلام - إلى ذلك الحديث وقال: عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ «ولا يتعلق غرضي بأحوالهم، ولا أشتغل بها، ثم عاد إلى تتميم كلامه الأول، وإبراز الدلائل الظاهرة على الوحدانية فقال {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} ، وهذا الوجه هو المعتمد في صحة النظم. فإن قيل: العلمُ الذي عند الرب، كيف يكون في الكتاب؟ وذلك أن علم الله صفة قائمة به، فكون صفة الشيء حاصلة في كتاب غير معقول، فذكروا في الجواب وجهين: الأول: معناه: أنه تعالى أثبت تلك الأحكام في كتاب عنده ليكون ما كتبه فيه ظاهراً للملائكة، فيكون ذلك زيادة لهم في الاستدلال على أنه تعالى عالم بكل المعلومات ينزه عن السهو والغفلة، ولقائل أن يقول: قوله:» فِي كِتَابٍ «يوهم احتياجه سبحانه في العلم إلى ذلك الكتاب، وهذا وإن كان غير واجب لا محالة ولكنه لا أقل من أن يوهمه في أولالأمر لا سيما للكافر، فكيف يحسن ذكره مع معاندٍ مثل فرعون في وقت الدعوة؟ الوجه الثاني: أن يفسِّر ذلك بأن بقاء تلك المعلومات في علمه سبحانه كبقاء المكتوب في الكتاب، فيكون الغرض من هذا الكلام تأكيد القول بأن أسرارها مغلومة لله تعالى بحيث لا يزول منها شيء عن علمه، ويؤكد هذا التفسير قوله بعد ذلك: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 270 وقيل: إنما ردَّ موسى علم ذلك إلى الله، لأنه لم يعلم ذلك فإن التوراة أنزلت بعد هلاك فرعون والمراد بالكتاب: اللوحُ المحفوظ. قوله: {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي} في خبر هذا المبتدأ وجوه: أحدها: أنَّه «عِندَ رَبِّي» وعلى هذا فقوله: «فِي كِتَابٍ» متعلق بما تعلق به الظرف من الاستقرار، أو متعلق بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في الظرف، أو خبر ثان. الثاني: أن الخبر قوله: {عِندَ رَبِّي} ، فَعَلى هذا قوله: {فِي كِتَابٍ} معمول للاستقرار الذي تعلق به «في كتاب» كما تقدم في عكسه، أو يكون حالاً من الضمير المستتر في الجار الواقع خبراً، وفيه خلاف أعني تقديم الحال على عاملها المعنوي، والأخفش يجيزه ويستدل بقراءة: {والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67] وقوله: 3662 - رَهْطُ ابْنِ كُوزٍ مُحْقِبي أَدْرَاعِهِمْ ... فِيِهِمْ وَرَهْطُ رَبِيعَةَ بن حُذَارِ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 271 وقال بعض النحويين: إنه إذا كان العامل معنوياً والحال ظرف أو عديله حَسُنَ التقديم عندالأخفش وغيره، وهذا منه، أو يكون ظرفاً للعلم نفسه، أو يكون حالاً من المضاف إليه، وهو الضمير في «عِلْمُهَا» ولا يجوز أن يكون «فِي كِتَابٍ» متعلقاً ب «عِلْمُهَا» على قولنا: إنَّ «عِنْدَ رَبِّي» الخبر، كما جاز تعلق «عِنْدَ» بِهِ، لئلا يلزم الفصل بين المصدر ومعموله بأجنبي وقد تقدم أنه لا يخبر عن الموصول إلا بعد تمام صلته. الثالث: أن يكون الظرف وحرف الجر معاً خبراً واحداً في المعنى فيكون بمنزلة: هذا حلوٌ حامضٌ، قاله أبو البقاء. وفيه نظر إذ كل منهما يستقل بفائدة الخبرية بخلاف هذا حُلْوٌ حامِضٌ. والضمير في «عِلْمُهَا» فيه وجهان: أظهرهما: عوده على «القُرُونِ» والثاني: عوده على القيام لدلالة ذكر «القُرُونِ» على ذلك لأنه سأله عن بعث الأمم، والبعث يدل على يوم القيامة. قوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي} في هذه الجملة وجهان: أحدهما: أنَّها في محل جر صفة ل «كِتَاب» ، والعائد محذوف تقديره: فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّه رَبِّي، أو لا يضل حفظَه رَبِّي، ف «رَبِّي» ، فاعل «يَضِلُّ» على هذا التقدير. وقيل: تقديره: لا يَضِلُّ الكتابُ رَبِّي، فيكون في «يَضِلُّ» ضمير يعود على الكتاب، و «رَبِّي» منصوب على التعظيم، وكان الأصل عن ربي، فحذف الرحف اتساعاً. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 272 يقال: ضَلِلْتُ كذا وضَلِلْتُه بفتح اللام وكسرها لغتان مشهورتان وأشهرهما الفتح. والثاني: أنها مستأنفة لا محل لها من الإعراب - ساقها الله - تعالى - لمجرد الإخبار بذلك حكاية عن موسى. وقرأ الحسن وقتادة والجحدري وعيسى الثقفي وابن محيصن وحماد بن سلمة «لا يَضِلُّ» بضم الياء، أي لا يُضِلُّ رَبِّي الكِتَابَ، أي: لا يضيعُه، يقال: أضْلَلْتُ الشيء أي أضعته و «رَبِّي» فاعل على هذا التقدير. وقيل: تقديره: لا يُضِلُّ أحدٌ رَبِّي عن علمه، أي من علم الكتاب، فيكون الربُّ منصوباً على التعظيم. وفرِّق بعضهم بين ضَلَلْت وأَضْلَلْتُ، فقال: ضَلَلْتُ منزلي بغير ألف، وأضْلَلْتُ بعيري ونحوه من الحيوان بالألف، نقل ذلك الرماني عن العرب. وقال الفراء: يقال: ضَلَلْتُ الشيْءَ إذا أخطأت في مكانه، وَضَلِلْتُ لغتان، فلم تهتد له كقوله: ضلَلْتُ الطريقَ والمنزلَ، ولا يقال: أَضْلَلْتُه إلا إذا ضاع منك كالدابة انفلتت وشبهها. قوله: «وَلاَ يَنْسَى» في فاعل «يَنْسَى» قولان: الجزء: 13 ¦ الصفحة: 273 أحدهما: أنه عائد على «رَبِّي» أي: ولا يَنْسَى رَبِّي ما أثبته في الكتاب. والثاني: أن الفاعل ضمير عائد على «الكِتَابِ» على سبيل المجاز كما أسند إليه الإحصاء مجازاً في قوله: «إلا أحْصَاهَا» لما كان محلاً للإحصاء. فصل قال مجاهد في قوله: {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} : إن معنى اللفظين واحد أي: لا يذهب عليه شيء ولا يخفى عنه. وفرق الأكثرون بينهما، فقال القفال: لا يَضِلُّ عن الأشياء ومعرفتها، وما عُلِم من ذلك لم ينسه، فاللفظ الأول إشارة إلى كونه عالماً بكل المعلومات، وقوله: «وَلاَ يَنْسَى» دليلٌ على بقاء ذلك العلم أبد الآباد، وهو إشارة إلى نفي التغير. وقال مقاتل: لا يخطئ ذلك الكتاب رَبِّي، ولا يَنْسَى ما فيه. (وقال الحسن: لا يخطئ وقت البعث ولا ينساه. وقال أبو عمرو: وأصل الضلال الغيبوبة، والمعنى: لا يغيب عن شيء ولا يغيب عنه شيء. وقال ابن جرير: لا يُخطئ في التدبير، فيعتقد فيما ليس بصواب كونه صواباً، وإذا عرفه لا ينساه) . وكلها متقاربة، والتحقيق هو الأول. واعلم أن فرعون لمَّا سال موسى عن الإله فقال: «فَمَنْ رَبُّكُمَا» وكان ذلك ممّا سبيله الاستدلال، أجاب بالصواب بأوجز عبارة، وأحسن معنى، ولما سأله عن القُرون الأولى، وكان ذلك مما سبيله الإخبار لم يأته خبرمن ذلك، وكلها إلى عالم الغُيوب. قوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ} في هذا الموصول وجهان: أحدهما: أنه خبر مبتدأ مضمر، أو منصوب بإضمار أمدح، وهو على هذين التقديرين من كلام الله تعالى لا من كلام موسى، وإنما احتجنا إلى ذلك، لأن الجزء: 13 ¦ الصفحة: 274 قوله: «فَأَخْرَجْنَا بِهِ» وقوله: {كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ} وقوله: «مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ» إلى قوله: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ} لا يتأتى أن يكون من كلام موسى يعني: أنه وصف ربَّه تعالى بذلك، ثم التفت إلى الإخبار عن الله - تعالى - بلفظ التكلم؟ قيل: إنما جعلناه التفاتاً في الوجه الأول، لأت المتكلم واحد بخلاف هذا فإنه لا يتأتى فيه الالفتات المذكور وأخواته من كلام الله. والثاني: أن «الَّذِي» صفة ل «رَبِّي» ، فيكون في محل رفع أو نصب على حسب ما تقدم من إعراب «رَبِّي» . وفيه ما تقدم من الإشكال في نظم الكلام من قوله: «فَأخْرَجْنَا» وأخواته من عدم جواز الالتفات، وإن كان قد قال بذلك الزمخشريي والحوفي. وقال ابن عطية: إن كلام موسى تم عند قوله: {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} وأن قوله: «فَأخْرَجْنَا» إلى آخره من كلام الله تعالى. وفيه وقرأ الكوفيون « الجزء: 13 ¦ الصفحة: 275 مَهْداً» بفتح الميم وسكون الهاء من غير ألف. والباقون: «مَهَاداً» بكسر الميم وفتح الحاء وألف بعدها. وفيه وجهان: أحدهما: ثال المفضل: إنَّهما مصدران بمعنى واحد يقال: مَهَّدْتُهُ مَهْدًا ومِهَاداً. والثاني: أنهما مخلفان، فالمِهَادُ هو الاسم، والمَهْد هو الفعل كالفرش والفراش، فالفَرْش المصدر، والفراش اسم لما يُفْرَش. أو أن مِهَاداً جمع مَهْد نحو فَرْخ وفرَاخ وكَعْب وكِعَاب. ووصف الأرض بالمَهْد إما مبالغة، وإما على حذف مضاف أي ذات مَهْدِ. قال أبو عبيد: الذي اختاره مِهَاداً وهو اسم والمَهْد الفعل. وقال غيره: المَهْد الاسم والمِهَادُ الجمع كالفَرْش والفِرَاشِ. أجاب أبو عبيد: بأن الفَرْشَ والفِرَاشَ فعل. قوله: «شَتَّى» فَعْلَى، وألفه للتأنيث، وهو جمع الشَّتيت نحو مَرْضَى في جميع مَرِيض، وجَرْحَى في جمع جَرِيح، وقتلى في جمع قتيل. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 276 يقال: شَتَّ الأمرُ يَشِتُّ شَتًّا وَشَتَاتاً فهو شَتٌّ أي تفرق، وشَتَّان اسم فعل ماض بمعنى: افْتَرَقَ، ولذلك لا يكتفي بواحد. وفي «شَتَّى» أوجه: أحدها: أنَّها منصوبةٌ نعتاً لأزواج، أي أزواجاً متفرقة، بمعنى مختلفة الألوان (والطعوم) . والثاني: أنَّها منصوبةٌ على الحال من أزواج، وجاز مجيء الحال من النكرة لتخصصها بالصفة، وهي «مِنْ نَبَاتٍ» . الثالث: أن تنتصب على الحال أيضاً من فاعل الجار، لأنه لما وقع وصفاً وقع ضميراً فاعلاً. الرابع: أنه في محل جر نعتاً لنبات، قال الزمخشري: يجوز أن يكون صفة لنبات، ونبات مصدر سمي به النبات كما سمي بالنبت، واستوى فيه الواحد والجمع، يعني: أنها شَتَّى مختلفة النفع والطعم واللون والرائحة والشكل، بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم ووافقه أبو البقاء أيضاً، والظاهر الأول. قوله: «كُلُوا» منصوب بقول محذوف، وذلك القول منصوب على الحال من فاعل «أخْرَجْنَا» تقديره: فأخرَجْنَا كَذَا قائلينَ كُلُوا. وترك مفعول الأكل على حد تركه في قوله تعالى: «وَكُلُوا واشْرَبُوا» «وارْعُوا» ( الجزء: 13 ¦ الصفحة: 277 رعى) يكون لازماً ومتعدياً، يقال: رَعَى دابَّته رعياً فهو راع، ورعى الدابة تَرْعَى رعياً فهي راعية، وَجَاء في الآية متعدياً، و «النُّهَى» فيه قولان: أحدهما أنه جمع نُهْيَة كغُرَف جمع غرفة. والثاني: أنَّها اسمٌ مفرد، وهو مصدر كالهُدَى والسُّرى، قاله أبو عليّ وقد تقدم أول الكتاب أنهم قالوا لم يأت مصدر على «فُعَلٍ» من المعتل اللام إلا سُرَى وهُدَى وبُكَى، وأن بعضهم زاد لُقَى، وأنشد عليه بيتاً. وهذا لفظ فيكون خامساً. والنُّهَى: العقل سُمِّي لعقل به، لأنه صاحبه عن ارتكاب القبائح. فصل لما ذكر موسى - عليه السلام - الدلالة الأولى، وهي (دِلاَلَةٌ عامَّة «تتناول جميع المخلوقات من الحيوان والنبات والجماد ذكر بعده دلائل خاصة فقال:» الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأرضَ مِهَاداً «أي جعلها بحيث يتصرف العباد، وغيرهم عليها من النوم، والقُعُود، والقِيَام، والزراعة، وجميع المنافع المذكورة في تفسير قوله تعالى: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً} [البقرة: 22] . {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} السَّلْكُ: إدخال الشيء في الشيء، أي: أدْخَلَ فِي الأرْضِ لأجلكم طُرُقاً تسلكونها. قال ابن عباس: سَهَّل لكم فيها طرقاً. {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً} تقدم الكلام فيه في البقرة» فَأخْرَجْنَا بِهِ أزْوَاجَاً «تقدَّم أنّ هذا من كلام موسى تقديره: يقول ربِّي الذي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 278 جعل كذا وكذا» فأخْرَجْنَا «نحن معاشر عباده بذلك الماء بالحراسة» أزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ «. وتقدم أنَّ الصحيح أنه من كلام الله تعالى، لأنَّ ما بعده لا يليق بموسى - عليه السلام -، ولأن أكثر ما في قدرته صرف المياه إلا سَقْي الأراضي والحراسة، فأما إخراج لنبات على أصناف طبائعه وألوانه وأشكاله فليس من موسى عليه السلام، فثبت أنه كلام الله تعالى. وقوله:» أزْوَاجاً «أي أصنافاً سميت بذلك، لأنها مزدوجة مقترنة بعضها ببعض.» شَتَّى «مختلفة الألوان والطعوم والمنافع بعضها يصلح للناس وبعضها للبهائم. » كُلُوا «أمر إباحة.» وَارْعَوْا أنْعَامَكُمْ «تقول العرب: رَعَيْتُ الغنمِ فَرَعَت أي أسِيموا أنْعَامَكُمْ تَرْعَى.» إنَّ في ذَلِكَ «أي فيما أنزلت لكم من هذه النعم» لآيَاتٍ «لعبرة ودلالات.» لأُولِي النُّهَى «لذوي العقول. (قال الضحَّاك) » لأُولِي النُّهَى «الذي ينتهون عما حرم الله عليهم. وقال قتادة: لذَوِي الورع. قوله تعالى:» مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ «الآية، لما ذكر منافع الأرض السماء بيَّن أنَّها غير مخلوقة لذواتها، بل بكونها وسائل إلى منافع الآخرة، فقال:» مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ «أي من الأرض. فإن قيل: إنَّما خَلَقَنَا من النُّطْفَةِ على ما بَيَّنَ في سائر الآيات. فالجواب من وجوه: الأول: أنَّه لمَّا خَلَق أصلنا وهو آدم - عليه السلام - من تُرابٍ كما قال تعالى: {كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ} [آل عمران: 59] حسن إطلاق ذلك علينا. الثاني: أنَّ تَوَلُّدَ الإنسان إنَّما هو من النطفة ودم الطمث، وهما يتولدَّان من الجزء: 13 ¦ الصفحة: 279 الأغذية، والغذاء إما حيواني أو نباتي، والحيواني ينتهي إلى النباتي، والنبات إنما يحدث من المتزاج الماء والتراب، فصح أنه سبحانه خَلَقَنا مِنْهَا، وذلك لا ينافي كوننا مخلوقين من النطفة. الثالث: روى ابن مسعود أن مَلَكَ الأرحام يأتي إلى الرَّحيم حين يكتب أجل المولود ورزقَه، والأرض التي يُدْفَن فيها، وأنه يأخذ من تراب تلك البقعة وينثره على النطفة، ثم يدخلها في الرحم. ثم قال: {وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أي عند الموت، {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى} عند البعث. الجزء: 13 ¦ الصفحة: 280 قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا} الآية. هذه الرؤية بصرية فلما دخلت همزة النقل تعدت بها إلى اثنين أولهما الهاء والثاني «آيَاتِنَا» . والمعنى: أبْصَرْنَاه، والإضافة هنا قائمة مقام التعريف العهدي، أي: الآيات المعروفة كالعصا واليد ونحوهما. وإلا فَلَم يُرِ الله تعالى فرعون جميع آياته. وجوَّز الزمخشري أن يراد بها الآيات على العموم، بمعنى أن موسى - عليه السلام - أراه الآية التي بعث بها وعدد عليه الآيات التي جاءت بها الرسل قبله عليهم السلام وهو نبيٌّ صادق لا فرق بين ما يخبر عنه وبين ما يشاهد به. قال أبو حيان: وفيه بُعد، لأن الإخبار بالشيء لا يسمَّى رؤية له إلا بمجاز بعيد الجزء: 13 ¦ الصفحة: 280 وقيل: بل الرؤية هنا قلبية، فالمعنى: أعْلَمْنَاهُ، وأيَّد ذلك أنه لم يُرِه إلا العصا واليد فقط. ومن جوَّز استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه، أو إعمال المشترك في معنييه يجيز أن يراد المعنيان جميعاً. وتأكيد الآيات ب «كُلَّها» يدل على إرادة العموم، لأنهم قالوا: فائدة التوكيد بكلٍّ واخواتها رفع توهم وضع الأخص موضع الأعم فلا يُدَّعى أنه أراد بالآيات آيات مخصوصة، وهذا يتمشى على أن الرؤية قلبية. ويراد بالآيات ما يدل على وحدانية الله تعالى وصدق المبلِّغ، فأما الآيات الدالة على الوحدانية فقوله: {الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى} [طه: 50] ، وقوله: {الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} [طه: 53] إلى آخره. وما ذكره في سورة الشعراء: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ} [الشعراء: 23 - 24] الآيات. وأما الآيات الدالة على صدق المبلِّغ فهي الآيات التسع المختصة بموسى - عليه السلام -، وهي العَصَا، واليَد، وفلقُ البرح، والحجرُ، والجرَادُ، والقملُ، والضَّفَادِع، والدَّم، ونَتْقُ الجَبَلِ. ومعنى «أَرَيْنَاهُ» عرَّفنا صحتها، وأوضحنا له وجه الدلالة فيها. وإنا أضاف نفخَ الروح إلى نفسه فقال: {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا} [الأنبياء: 91] مع أن النفخَ كان من جبريل (عليه السلام) - ولم يذكر مفعول التكذيب والإباء تعظيماً له، وهو معلوم. قوله: {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا} يعني الآيات التسع «فَكَذَّب» بها وزعم أنها سِحْرٌ «وَأبَى» أن يسلم. فإن قيل: قوله: «كُلَّهَا» يفيد العموم، والله - تعالى - ما أراه جميع الجزء: 13 ¦ الصفحة: 281 الآيات، لأن من جملة الآيات ما أظهرها على أيدي الأنبياء قبل موسى - عليه السلام وبعده. فالجواب: لفظ الكُلِّ وإنْ كانَ للعموم لكن قج يستعمل في الخصوص مع القرينة، كما يقال: دَخَلْتُ السوق فاشتريت كلَّ شيء، أو يقال إن موسى - عليه السلام - أراه آياته، وعدد عليه آيات غيره من الأنبياء، فكذَّب فرعونُ بالكُلِّ، أو يقالأ: تكذيب بعض المعجزات يقتضي تكذيب الكل، فحكى الله - تعالى - ذلك على الوجه الذي يلزم. قال القاضي: الإباء الامتناع، وإنه لا يوصف به إلا من كَذَّبَ بتمكنٍ من الفعل والترك، ولأنه تعالى ذمَّه بأنه كذَّب، وبأنه أبَى، وإن لم يقدر على ما هو فيه لم يصح. وهذا السؤال وجوابه تقدم ذمَّه بأنه كذَّب، وبأنه أبَى، وإن لم يقدر على ما هو فيه لم يصح. وهذا السؤال وجوابه تقدم في سورة البقرة في {إِبْلِيسَ أبى واستكبر} [34] . قوله: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} يعني مصر {بِسِحْرِكَ ياموسى} وتركيب هذه الشبهة عجيب، وذلك لأنه ألقى في مسامعهم ما يصيرون مبغضين له جداً بقوله: {أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا} ، لأن هذا مما يشق على الإنسان في النهاية، ولذلك جعله الله تعالى مساوياً للقتل في قوله {اقتلوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ} [النساء: 66] ، ثم لما صاروا في نهاية البغض له أورد الشبهة الطاعنة في نبوته - عليه السلام - وهي أنَّ ما جئتنا به سِحْرٌ لا معجز، ولمَّا علم أنَّ المعجز إنما يتميز عن السحر، لكون المعجز مما يتعذر بمعارضته قال: {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ} . قوله: «فَلَنَأتِيَنََّكَ» جواب قسم محذوف تقديره: والله لنأتينَّكَ. وقوله «بِسِحْرٍ» يجوز أن يتعلق بالإتيان وهذا هو الظاهر. ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنَّه حال من فاعل الإتيان أي ملتبسين بسحرٍ. قوله: «مَوْعِداً» يجوز أن يكون زماناً كقوله: {إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح} [هود: 81] ويرجحه قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} ، (والمعنى: عَيَّن لنا وَقْتَ اجتماعنا، ولذبك أجابهم بقوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} وضعَّفوا هذا بأنه ينبو عنه قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 282 وبقوله: «لاَ نُخْلِفُه» . وأجاب عن قوله: «لاَ نُخْلِفُهُ» بأن المعنى: لا نخلف الوقت في الإجماع فيه. ويجوز أن يكون مكاناً. والمعنى: بَيِّنْ لنا مكاناً معلوماً نعرفه نحن وأنت فنأتيه، ويؤيد بقوله: «مَكَاناً سُوًى» . قال فهذا يدل على أنه مكان، وهذا يَنْبُو عنه قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} ، ويجوز أن يكون مصدراً أي اجعل بيننا وبينك وعداً لا نخلِفه، ويؤيد هذا قوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ} ، لأن الموعد هو الذي يصح وصفه بالخلف وعدمه، وإلى هذا نحا جماعة مختارين له ويُرَدُّ عليهم بقوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} (فإنه لا يطابقه) . وقال الزمخشري: إن جعلته زماناً نظراً في أن قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} مطابق له، لزمك شيئان: أن تجعل الزمان مخلفاً، وأن يعضل عليك ناصب مكاناً، (وإن جعلته مكاناً) لقوله: «مَكَاناً سُوى» لزمك أيضاً أن توقع الإخلاف على المكان، وأن لا يطابق قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} ، وقراءة الحسن غير مطابقة له زماناً ومكاناً جميعاً، لأنه قرأ «يَوْمَ الزِّينَةِ» بالنصب، فقي أن يُجْعَل مصدراً يعني الوعد، ويقدِّر مضاف محذوف أي: مكان الوعد، ويجعل الضمير في «تُخْلِفُه» للموعد، و «مكاناً» بدل من المكان المحذوف. فإن قلت: فكيف طابقه قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} ولا بد من أن تجعله زماناً والسؤال واقع عن المكان لا عن الزمان؟ قلت: هو مطابق معنى وإن لم يطابقه لفظاً، لأنهم لا بدَّ لهم أن يجتمعوا يوم الزينة في مكان بعينه مشتهر باجتماعهم فيه في ذلك الزمان، فبذكر الزمان علم المكان الجزء: 13 ¦ الصفحة: 283 وأما قراءة الحسن فالموعد فيها مصدر لا غير، والمعنى: إنجاز وَعْدِكم يوم الزينة، وطابق هذا أيضاً من طريق المعنى، ويجوز أن لا يقدر مضاف محذوف ويكون المعنى: اجْعَلْ بينَنَا وبينَك وَعْداً لا نُخْلِفُه. وقال أبو البقاء: هو هنا مصدر لقوله: {لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ} والجعل هنا بمعنى التصير و «مَوْعِداً» مفعول أول، والظرف هو الثاني، والجملة من قوله: «لاَ نُخْلِفُهُ» صفة لموعد، و «نَحْنُ» توكيدٌ مصحِّحٌ للعطف على الضمير المرفوع المستتر في «نُخْلِفُه» و «مكاناً» بدل من المكان المحذوف كما قدره الزمخشري. وجوز أبو علي الفارسي وأبو البقاء أن ينتصب «مَكَاناً» على المفعول الثاني ل «اجْعَلْ» قال: و «مَوْعِداً» على هذا مكان أيضاً، ولا ينتصب بموعد لأنه مصدر قد وصف. يعني أنه يصح «نصبه مفعولاً ثانياً، ولكن بشرط أن يكون الموعد بمعنى المكان ليطابق المبتدأ الخبر) في الأصل. وقوله: ولا ينتصب بالمصدر يعني أنه لا يجوز أن يدعي انتصاب» مَكَاناً «بموعد، والمراد بالموعد المصدر، وإن كان جائزاً من جهة المعنى، لأن الصناعة تأباه (وهو وصف المصدر. والمصدر شرط إعماله: عدم وصفه قبل العمل عند الجمهور) . الجزء: 13 ¦ الصفحة: 284 وهذا الذي منعه الفارسي وأبو البقاء جوزه الزمخشري وبدأ به فقال: فإن قلت: فيم ينتصب» مكاناً «؟ قلت» بالمصدر أو بما يدل عليه المصدر. فإن قلت: كيف يطابقه (فالجواب) : فقلت: أما على قراءة الحسن فظاهر، وأما على قراءة العامة فعلى تقدير: (وَعْدَكم وَعْدَ يوم زينة. قال أبو حيان: وقوله: إنَّ «مكاناً» ينتصب بالمصدر) ليس بجائز، لأنه قد وصف قبل العمل بقوله: «لاَ نُخْلِفُه» ، وهو موصول، والمصدر إذا وصف قبل العمل لم يجز أن يعمل عندهم. قال شهاب الدين: الظروف والمجرورات يتسع فيها ما لا يتسع في غيرها، وفي المسألة خلاف مشهور. وأبو القاسم نحا إلى جواز ذلك. وجعل الحوفيُّ انتصاب «مكاناً» على الظرف زانتصابه ب «اجْعَل» فتحصل في نصب «مكاناً» خمسة أوجه: أحدها: أنه بدلٌ من (مكاناً) المحذوف. الثاني: أنَّه مفعول ثانٍ للجَعْل. الثالث: أنّضهُ نُصبَ بإضمار فعل. الرابع: أنَّه منصوبٌ بنفس المصدر. الخامس: أنَّه منصوبٌ على الظرف بنفس «اجْعِلْ» . وقرأ أبو جعفر وشيبة: «لا نُخْلِفْه» بالجزم على جواب الأمر والعامى بالرفع على الصفة لموعدكم كما تقدم. وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم والحسن: «سُوًى» بضم السين منوناً وصلاً. والباقون: بكسرها. وهما لغتان مثل: عِدًى وعُدًى وطِوًى وطُوًى، الجزء: 13 ¦ الصفحة: 285 فالكسر والضم على أنها صفة بمعنى مكان عدلٍ إلاَّ أنَّ الصفة على فُعَل كثيرة نحو لُبَد وحُطَم (وقليلة على فِعَل. ولم ينوِّن الحسن «سُوَى» أجرى الوصل مجرى الوقف ولا جائز أن يكون منع صرفه للعدل وعلى فُعَل كعُمَر، لأن ذلك في الأعلام، وأما فُعَل في الصفات فمصروفة نحو حُطَم، ولُبد) . وقرأ عيسى بن عمر «سِوَى» بالكسر من غير تنوين وهي كقراءة الحسن في التأويل. (وسوى معناه: عدلاً ونصفة. قال الفارسي: كأنه قال قربهُ منكُم قِرْبَةً منَّا. قال الأخفش) : «سوى» مقصور إن كسرت سينه أو ضممت، وممدود إن فتحتها، ثلاث لغات، ويكون فيها جميعاً بمعنى غَيْر، وبمعنى عدل ووسط بين الفريقين، قال الشاعر: 3663 - وَإنَّ أبَانَا كَانَ حَلَّ بِبَلْدَةٍ ... سِوًى بَيْنَ قَيْسٍ قَيْسِ عَيْلاَنَ والفِزَرْ الجزء: 13 ¦ الصفحة: 286 قال: وتقول: مررتُ برجل سِواك وسُواك وسَوائِك أي غيرك، ويكون للجميع وأعلى هذه اللغات الكسر. قاله النحاس. وزعم بعض أهل اللغة والتفسير أنَّ معنى: «مَكَاناً سوًى» مستوٍ من الأرض ولا وعر فيه ولا جبل. فصل قال مقاتل وقتادة: مكاناً وعدلاً بيننا وبينك. وعن ابن عباس نصفاً أي: يستوى مسافة الفريقين إليه. وقال مجاهد: منصفاً بيننا. قال الكلبي: مكاناً سوى هذا المكان الذي نحن فيه. وقال ابن زيد: مستوٍ لا يحجب العين ما فيه من الارتفاع والانخفاض حتى يشاهد كل الحاضرين كل ما يجري. وقيل: «سِوَى» أي يستوي حالنا في الرضا به. قوله: {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة} العامة على رفع «يَوْمُ الزينة» خبراً ل «مَوْعِدِكُمْ» ، فإن جعلت «مَوْعِدُكُم» زماناً لم يحتج إلى حذف مضاف، إذى التقدير: زمانُ الوعدِ يَوْمَ الزينة. (وإنْ جعلتَه مصدراً احتجت إلى حذف مضاف تقديره: وَعْدُكُمْ وَعْدَ يومِ الزينة) . وقرأ الحسن والعمش وعيسى وعاصم في بعض طرقه وأبو حيوة وابن أبي عبلة وقتادة والجحدري (وهبيرة) «يَوْمَ» بالنصب، وفيه أوجه: أحدها: أن يكون خبراً لمَوْعِدُكم أن المراد بالموعد المصدر، أي الجزء: 13 ¦ الصفحة: 287